الوعد الحق الكون ُّ ات ِ حولك، يوم، ُ كله دار ٌ سيأتي ٌ ِ شطرك، "الشرق والغرب" يولّي الوج َه خلت تنبعث، ساعتَها، ُ أجداث عصور ْ حتما ستبزغ أيام اهلل وع ًدا.. ً ال تتخلف.. ***
35
أرباب المستوى
حضور معرفي في فكر األستاذ فتح اهلل كولن د .محمد باباعمي معمقة في فكر “فتح اهلل كولن” •دراسة علمية َّ •موسوعة شاملة لحاضر هذا الفكر ومستقبله
•مقارنات ومقاربات بين رجال الفكر اإلسالمي المعاصر •خارطة آلفاق المستوى الفكري كما يرسمها “فتح اهلل كولن” •استقراء وتحليل لمعضالت الفكر والحلول التي يقترحها “فتح اهلل كولن”
مركز التوزيع فرع القاهرة 7 :ش البرامكة ،الحي السابع ،مدينة نصر -القاهرة /مصر
تليفون وفاكس +20226134402-5 :
الهاتف الجوال +201004871038 :
w w w. d a r a l n i l e . c o m
التصور العام
• حراء جملة علمية فكرية ثقافية تعىن بالعلوم الطبيعية واإلنسانية واالجتماعية وحتاور أسرار النفس البشرية وآفاق الكون الشاسعة باملنظور القرآين اإلمياين يف تآلف وتناسب بني العلم واإلميان ،والعقل والقلب ،والفكر والواقع. • جتمع بني األصالة واملعاصرة وتعتمد الوسطية يف فهم اإلسالم وفهم الواقع ،مع البعد عن اإلفراط والتفريط. • تؤمن باالنفتاح على اآلخر ،واحلوار البناء واهلادئ فيما يصب لصاحل اإلنسانية. • تسعى إىل املوازنة بني العلمية يف املضمون واجلمالية يف الشكل وأسلوب العرض ،ومن مث تدعو إىل معاجلة املواد مبهنية عالية مع التبسيط ومراعاة اجلوانب األدبية واجلمالية يف الكتابة.
شروط النشر
• أن يكون النص املرسل جديدا مل يسبق نشره. • أال يزيد حجم النص على 2000كلمة كحد أقصى ،وللمجلة أن تلخص أو ختتصر النصوص اليت تتجاوز احلد املطلوب. • يرجى من الكاتب الذي مل يسبق له النشر يف اجمللة إرسال نبذة خمتصرة عن سريته الذاتية. • ختضع األعمال املعروضة للنشر ملوافقة هيئة التحرير ،وهليئة التحرير أن تطلب من الكاتب إجراء أي تعديل على املادة املقدمة قبل إجازهتا للنشر. • اجمللة غري ملزمة بإعادة النصوص إىل أصحاهبا نشرت أم مل تنشر ،وتلتزم بإبالغ أصحاهبا بقبول النشر ،وال تلتزم بإبداء أسباب عدم النشر. • حتتفظ اجمللة حبقها يف نشر النصوص وفق خطة التحرير وحسب التوقيت الذي تراه مناسبا. تعب بالضرورة عن رأي اجمللة. تعب عن آراء ُكتَّاهبا ،وال رِّ • النصوص اليت تنشر يف اجمللة رِّ مجا إىل أي لغة أخرى، • للمجلة حق إعادة نشر النص منفصلاً أو ضمن جمموعة من البحوث ،بلغته األصلية أو مرت ً دون حاجة إىل استئذان صاحب النص. • جملة حراء ال متانع يف النقل أو االقتباس عنها شريطة ذكر املصدر. يرجى إرسال مجيع املشاركات إىل هيئة حترير اجمللة على العنوان اآليت:
hira@hiramagazine.com
YEMEN دار النشر للجامعات الجمهورية اليمنية ،صنعاء ،الخط الدائري الغربي، أمام الجامعة القديمة Phone: +967 1 440144 GSM: +967 711518611 ALGERIA Bois des Cars 1 Villa Nº68 Dely Brahim GSM: +213 770 26 00 27 SUDAN مركز دار النيل ،مكتب اخلرطوم أركويت مربع 48منـزل رقم - 31اخلرطوم -السودان Phone: 0024 999 559 92 26 - 0024 915 522 24 69 hirasudan@hotmail.com JORDAN شركة زوزك/مشيساين شارع عبد احلميد شرف ،بناية رقم61: عمان/األردن. Phone: +962 656 064 44 GSM: +962 775 935 756 hirajordan@hotmail.com UNITED ARAB EMIRATES دار الفقيه للنشر والتوزيع ص.ب 6677 .أبو ظبي Phone: +971 266 789920 MAURITANIA Phone: +2223014264
USA Tughra Books 345 Clifton Ave., Clifton, NJ, 07011, USA Phone:+1 732 868 0210 Fax:+1 732 868 0211 SAUDI ARABIA الوطنية للتوزيع Phone: +966 1 4871414 املكتب الرئيسي :شارع التخصصي مع تقاطع شارع األمري سلطان بن عبد العزيز عمارة فيصل السيار ص.ب 68761 :الرياض11537 : اجلوال00966504358213 : saudia@hiramagazine.com abdallahi7@hotmail.com Phone-Fax: +966 1 2815226 MOROCCO الدار البيضاء 70زنقة سجلماسة Société Arabo-Africaine de Distribution, )d'Edition et de Presse (Sapress 70, rue de Sijilmassa, 20300 Casablanca / Morocco Phone: +212 22 24 92 00 SYRIA GSM: +963 955 411 990
جملة علمية فكرية ثقافية تصدر كل شهرين عن: Işık Yayıncılık Ticaret A.Ş İstanbul / Türkiye
صاحب االمتياز
مصطفى طلعت قاطريجي أوغلو
املشرف العام نوزاد صواش
nsavas@hiramagazine.com
رئيس التحرير هانئ رسالن
مدير التحرير أجري أشيوك
املخرج الفين مراد عرباجي
املركز الرئيس HIRA MAGAZINE Kısıklı Mah. Meltem Sok. No:5 34676 Üsküdar İstanbul / Turkey Phone: +902163186011 Fax: +902164224140 hira@hiramagazine.com
مركز التوزيع 7ش الربامكة -احلي السابع -م.نصر/القاهرة تليفون وفاكس+20226134402-5 : اهلاتف اجلوال +201004871038 : مجهورية مصر العربية
نوع النشر جملة دورية دولية
Yayın Türü Yaygın Süreli
الطباعة
رقم اإليداع
1879-1306
لالشرتاك من كل أحناء العامل pr@hiramagazine.com
محطات علمية
في الماء وال يتبلل أفالم���ا وثائقي���ة مثيرة ع���ن عالم كثي���را م���ا نش���اهد على شاش���ة التلف���از ً ً ال���دور الذي تقوم به هذه الحيوانات في التوازن البيئي الحي���وان ،ونرى َ والطبيع���ي ...نش���اهد الطي���ور -على س���بيل المث���ال -الت���ي تغوص في البحار لتلتقط بمنقارها سمكة أو سمكتين ثم لتنطلق من تحت الماء نحو األجواء بقوة وتواصل طيرانها محلّقة في الهواء وكأن ما قامت به ش���يء طبيعي عادي! مش���هد مثير ، يوما بالس���بب الذي يش���جع هذا الطائر بريش���ه الناعم على القيام بهذه ولكن هل َ فكرت ً العملية الخطيرة تحت الماء دون أن يخشى الغرق والموت؟! ق���ام باحث���ون في عالم الحيوان بدراس���ة هذا األمر ليعرفوا الس���ر الكام���ن فيه .أجروا بحوثهم على طائر الفرقاطة ،والنورس ،والرفراف ،وبط الغطاس ،وغيرها من الطيور... وعندم���ا اكتش���فوا الحقيق���ة وقف���وا مذهولين مندهش���ين؛ إذ وجدوا أن ه���ذه المخلوقات مكسوة بريش غير قابل للبلل ،أو باألحرى بريش مغ ّلف بدهن يمنع نفوذ الماء إليه؛ يتم ضعت تحت ذيولها لتفرز مادة دهنية أو زيتية باستمرار ...حيث إنتاجه من خالل غدد ُو ْ مستخدما منقاره أو رجليه .وبذلك وفرك ريشه بها يقوم الطائر ّ ً باالدهان من هذه المادة ْ ابتل .وقد يوفر يتمك���ن من الحصول على معطف ريش���ي طبيع���ي ال يتأثر من الماء مهما ّ ويمكنه من الغطس ه���ذا الري���ش المدهون لهذا الطائر ،قدرة الس���باحة بس���رعة ومرون���ة، ّ تحت الماء لمسافات عميقة الصطياد فريسته من األسماك .ومن جهة أخرى فإن وجود وإن هذه الخاصية في هذه الطيور تساعد على الحفاظ على بريق الريش واصطفافه حتى ْ انسكبت الماء عليه بغزارة. ال ش���ك أن طريق اإلنس���ان في تحصيل العلم طويلة ،ويبدو أنه س���يظل يحاكي غيره من الكائنات ليكتشف األسرار المخفية فيها مدى الحياة. (*) كاتب وباحث تركي.
63
السنة الثامنة -العدد (2013 )35
محطات حضارية
نور الدين صواش*
م ا أ م ن ا سلطا ل ق
ض ا ء
بع���د فت���ح إس���طنبول ،أمر الس���لطان محم���د الفاتح ببناء مس���جد فخم ال يضاه���ى ...وض���ع بين ي���دي رئي���س المعماريي���ن عمودي���ن طويلين من الرخام ،إلقامة قبة المسجد عليهما لتكون أعلى وأوسع من قبة أياصوفيا. وعند االنتهاء قام السلطان بزيارة المسجد ،ولكنه فوجئ عندما رأى بأن مقاييس القبة لم وقصرهما خش���ية انهيار المس���جد قص المعماري العمودين ّ تكن وف ًقا لما أراد وأمر؛ إذ ّ ش���ديدا ،وأمر بأن يوقع على المعماري غضبا إثر زلزال ...غضب الس���لطان لهذا األمر ً ً عقوب���ة مغ َّلظ���ة أدت إلى إتالف جزء من بدنه ...وبعد فت���رة من الزمن ،ذهب المعماري إل���ى القاضي ورفع ش���كاية ضد الس���لطان محم���د الفاتح ...خلص األم���ر بعد التحقيق، إلى حضور الس���لطان إلى المحكمة ...وعندم���ا حضر محمد الفاتح إلى قاعة المحكمة ال" :ي���ا صاحب الجاللة ،قف إلى جانب ه���م بالقع���ود ،ولكن القاضي منعه من ذلك قائ ً ّ خصمك ،إنك أمام محكمة العدل"! وفي نهاية األمر أصدر القاضي حكمه بمعاقبة الس���لطان محمد الفاتح باالقتصاص من���ه .أبدى فاتح إس���طنبول العظيم ،إذعا ًن���ا لهذا الحكم ورضاء بهذا القرار ولم تبدر منه ش���ديدا ،إذ ال يكاد يصدق تأثرا ً ّأي���ة ب���ادرة ضد ذلك ...تأثر المعماري من هذا الموقف ً عينه ،بالقصاص؟! عندئذ سارع على الفور إلى ما يراه بعينيه؛ ٍ قاض يحكم على سلطان ّ سحب شكايته والتنازل عن حقه ...فقامت المحكمة بتحويل القرار إلى تعويض نقدي، حيث حكمت على الس���لطان الفاتح ،بدفع تعويض للمعماري مقداره عش���ر قطع ذهبية من ملكه الخاص ...كما رفع الس���لطان مقدار هذا التعويض إلى عش���رين قطعة ذهبية، قادرا عليه(.)1 شكرا هلل لخالصه من القصاص ،وامتنا ًنا للمعماري للعفو عنه بعدما كان ً ً "سياحت نامه" للمؤرخ والرحالة العثماني "أوليا شلبي". ( )1وردت هذه الرواية في كتاب ْ
السنة الثامنة -العدد (2013 )35
62
محمدا، بنبرات ٍ حنين حفيف ،ونغمات أنين خفيف ،وهو يناغي خير البرية َّ
أعظم من قال ،وأفضل من ُذكر ...سمعت ذا المناجي وهو يترنم ويشدو: َ والصوت الجهوري لحقيقة لب الوجود ونواتها ،ويا ثمرة شجرة الخلق َ "يا َّ
التوحي���د ،لوالك ما كان لن���ا وال للكائنات معنى .ولقد قرأنا ذواتنا ،ووقف
كلٌّ منا حس���ب موقعه -إن اس���تطاع -في الصف الصواب ،بفضلك أنت". جميعا: ثم واصل العاشق الولهان عنا َ ووصل ،إلى أن قال معتر ًفا نيابة َّ ً
"وإن ظلك -يا حبيب اهلل -على رؤوس���نا -ولو من بعيد -صار نفخ َة َّ وإن والدتك الحقيقية ستطفئ الشموع الشيطانية ك ّلها، انبعاث من الموتَّ . منبع ن���ورٍ ال يخبو ...قد وتح ِّف���ز األرواح المدفوع���ة إل���ى الظلمات نح���و ِ َ الد َنى رب���ط اهلل النور الذي يض���يء العوالم بك .وزِ ُّر نبع النور الذي يضيء ُّ تحت لمسة يدك .ولئن سألت فاهلل مريد مجيب ...ولئن قلت فإ َّنا سماعون ()10 س���م َع مطيع���ون ...فاس���أل ...حتى تتجلى المش���يئة اإللهية ،وقل حتى َت َ ال سديد ًا". اآلذان قو ً
بعض نع���م ،يا حبيب القلوب، وجودنا اليوم ظلٌّ لوجودك ...وس���ؤالنا ٌ ُ رهين باتباعك واقتفاء آثارك... وغدنا ومس���تقب ُلنا من س���ؤالك... ومصيرنا ُ ٌ ُ لك وحدك ،وأننا أن والءنا َ فها نحن اليوم من أرض السودان ِّ نذكر العالمين َّ
وموعدنا بحول اهلل رب الجالل، الصف وراءك ،وِ جهتنا نق���ف ف���ي ِّ ُ جميع���ا ُّ ً ان ِم َن ا ِ هلل َأ ْك َب ُر﴾(التوبة،)72: ﴿ورِ ْض َو ٌ يوم السؤال ...ثم موعدنا الرفيق األعلىَ ، ين ين َو ُّ ب���ل وفي الفردوس األعلى مع َّ الصا ِل ِح َ الص ِّدي ِق َ ﴿الن ِب ِّي َ الش َ ين َو ِّ ���ه َدا ِء َو َّ َو َح ُس َن ُأو َل ِئ َك َر ِفي ًقا﴾(النساء.)69: (*) مدير معهد المناهج ،الجزائر العاصمة /الجزائر.
الهوامش
( )1الخرطوم العاصمة ،تنقسم إلى ثالث واليات :الخرطوم ،والبحري ،وأم درمان.
()2 اليوم في أكثر من 160دولة عبر العالم ،وفي أكثر من 30دولة إفريقية. تنتشر مدارس "الخدمة" َ
( )3تالحظ المناسبة بين هذه العبارة ،وموضوع الندوة األولى في مركز التنوير المعرفي. ( )4تالحظ المناسبة كذلك مع موضوع ندوة الجزيرة.
( )5ف���ي الس���ودان مرك���زان لحراء :مرك���ز الخرطوم ،ومرك���ز الجزيرة .تقوم هذه المراكز بنش���ر المجل���ة ،ونش���ر الكت���ب الص���ادرة من دار الني���ل ،باإلضافة إل���ى دروس تقوية ف���ي اللغات
ومختلف التخصصات.
( )6يوم الثالثاء 26صفر 1434هـ 8/يناير 2013م.
( )7نسبة إلى مدينة "مدني" ،وليس بمعناه االجتماعي المقابل للمجتمع الرسمي.
( )8تالحظ المناسبة بين النص وموضوع الندوة ،ويبدو أن تقابل الفكر بالحركية أبلغ من تقابل العقل بالفعل ،كما في عنوان الندوة.
( )9وذلك يوم الخميس ،مساء 28 ،صفر 1424هـ 10/يناير 2013م.
( )10الحظ المناس���بة بين هذه المناجاة مع موضوع ندوة التنوير المعرفي" :مس���اءالت في بناء ذاتنا الحضارية".
61
السنة الثامنة -العدد (2013 )35
ال بعنوان "إنس���ان الفكر والحركية"(،)8 ولقد كتب األس���تاذ "فتح اهلل" مقا ً
دبجه بقوله" :إنس���ان الفك���ر والحركية ...هو في خط عال���ج في���ه هذا البعدَّ ،
الحي���اة الممت���د عل���ى م���دى فصولها م���ن الحس إل���ى الفكر ثم إل���ى الحياة
ولي دوما ،وينش���غل بحس البناء واإلنش���اء ً العملية ،يتنفس النظام ً أبدا .إنه ُّ الحق اللدني الذي ِيع ُّد قادة أركان الروح ،ومهندسي العقل ،وعمال الفكر ال ع���ن اس���تخدام القوة المادية لفت���ح البالد ودحر الجي���وش ،وينفخ بال ب���د ً
كل���ل ،ن َفس البن���اء واإلعمار فيمن حوله ،ويرش���د أعوانه إلى س���بل عمران
ولي للحق جياش بالش���وق والشكر ،استطاع أن يوحد إرادته مع الخرائبٌّ . المشيئة المطلقة ،وأن يحول فقره إلى الغنى ،وعجزه إلى القدرة عينها .إنه
أبدا ما دام يستخدم مصادر قوته هذه كما ينبغي وبحس اإلخالص ال يقهر ً والوفاء لصاحبها .وحتى حين الظن بأنه قد ُهزم ،فس���تجده على رأس فوج آخر للنصر والظفر".
مسك الختام في ضيافة المصطفى قالئل "ي���وم أو بع���ض يوم" ...هذا عن العمر ك ِّله ،فكيف يمكن وصف أيام َ معدودات ،مشحونات بالنشاط والسعي الحثيث، "وأيام الهنا تمر ِعجاال"؟! ُ
نع���م، ال كلم���ح البصر أو هو أقرب .ولقد ش���حنت بزيارات م���رت عجا ً َّ لمراك���ز وش���خصيات علمي���ة وسياس���ية ،منه���ا زي���ارة مباركة "لمج���ع الفقه اإلسالمي" الذي كان يديره المرحوم "األستاذ الدكتور أحمد علي اإلمام"،
واليوم يقف على رأس���ه المفكر العالمي "عصام البش���ير" ...فكانت جلس���ة ٍ ود وتبادل لألفكار ،وإبدا ِء االستعداد للتعاون المفتوح في جميع الجوانب ٍّ والمجاالت.
ثم كان مس���ك الختام ،ش���هود جلس���ة االفتتاح "للمؤتمر الدولي األول
للس���يرة النبوية الش���ريفة" ،من تنظيم "جامعة إفريقيا العالمية" تحت ش���عار:
"تنزيل مقاصد الش���ريعة ،وتعميق محبة الرس���ول )9("بقاعة المحاضرات
داخل حرم الجامعة.
ولقد كان من بين المش���اركين العش���رات من األساتذة من مختلف بالد
معلنا والءه للحبي���ب المصطفى عليه أفضل العالم اإلس�ل�امي ،كلُّه���م جاء ً اليوم إلى مس���توى "النصرة"، األمة َ الصالة وأزكى التس���ليمِّ ، مؤمال أن ترقى َّ بحق جدي���رة بإعالن الحبيب" :يا وأن َّ ترش���ح لمق���ام "خير َّأمة" ،وأن تكون ٍّ رب َّأمتي َّأمتي". ِّ بينم���ا طائرتنا تح ِّلق فوق األجواء وتخترق الس���حب الكثيفة... القلوب ُ من���ا تهف���و للق���اء الحبيب ،وتس���يل األذكار المأثورة عنه من بين ش���فاهنا َّ
أصخ���ت أذني، بح���ارا ووديا ًن���ا... يهتز وس���معت صو ًتا ً ُ ُ خافتا في الس���حرّ ، ً َّ السنة الثامنة -العدد (2013 )35
60
وزينها المكان جملها الحضور المتينَّ ، لق���د كانت الندوة مو َّفقة بديعةَّ ، علماء وأروع ما فيها أنها شهدت عناية خاصة من ِقبل وجوه البلد، المكين، ُ َ
ومثقفين ،سياس���يين وإداريين ،من مختلف األلوان واألطياف ...كلُّهم جاء
ليعب من معين تجربة "الخدمة" ،وليعترف بالجميل الذي أسدته هذه الحركية َّ
نال الجزيرة منه ٌّ ال فطلٌّ . لألمة اإلسالمية مشر ًقا ومغرباَ ، حظ ،إن لم يكن واب ً ً َّ يند عن الوصف ،ويسمو ولقد كان للنساء اهتمام بالغ وحضور مكثفُّ ،
أدل على ذلك من التنش���يط ال���ذي تو َّلته أديبة عل���ى مرات���ب األلفاظ ...وال َّ
مصطفى أوزجان ،مستشار مجلة حراء/تركيا.
فتشد ألباب المستمعين ررا، ُّ تنح ُت األلفاظ ً شاعرةَ ، نحتا ،وتستمطر الشعر ُد ً شدا خفي ًفا ،وهي الدكتورة "عواطف سر الختم". ًّ
ث���م كان لعمي���د جامعة الجزيرة كلمة ترحيب بالوفود ،وش���كر للعاملين
المجتهدين ،وبعدها خاطب مصطفى أوزجان "المجتمع المدني"( )7وشعب
الس���ودان األغر ،بتحيات طيبة وبحكم ودرر غالية ،أمث ُلها وجوب االرتباط
ووجوب الخروج الذاتي من س���جن التبعي���ة والتخلُّف، ب���ه "هو" س���بحانه، ُ بمجاه���دة النف���س ،وزرع الخ ُلق الحس���ن ،والهج���رة الدائم���ة ،والمجاهدة
د .محمد باباعمي/الجزائر.
الدائبة.
ث���م كان���ت الكلمة لوزي���ر الثقاف���ة واإلعالم األس���تاذ الدكت���ور "إبراهيم
رحب بضيوف الس���ودان ،ثم عرج إلى أصالة اللغة العامية القرش���ي " الذي َّ
الس���ودانية ،وكونه���ا ضارب���ة جذورها في الفصحى ،حت���ى وإن صعب على
الكثيرين فهمها.
ولقد أجاد األحمدي أبو النور في كلماته ونصائحه وهو أس���تاذ للكثير
ورئيس���ا لقس���م م���ن الحض���ور في القاعة ،إذ كان في الس���بعينيات محاضرا ً ً
أ.د .األحمدي أبو النور ،عضو هيئة كبار العلماء/مصر.
الحدي���ث ف���ي "جامعة أم درمان" ،يومها بذر هذه البذرة الطيبة فأثمرت هذه
وفخرا. وأجرا ،ومثوبة دعاء الثلة النيرة ،وها اليوم يقطف آثارها ً ً ً
َّأما الندوتان ،فكانتا من تنشيط األساتذة الوافدين وهي على التوالي:
-1األس���تاذ ن���وزاد صواش بعن���وان "مفاهيم جوهرية ف���ي حركية الفكر
والفعل".
-2الدكت���ور محم���د باباعم���ي بعن���وان "م���ن س���ؤال األزمة إل���ى الفعل
نموذجا". الحضاري ،الخدمة ً
أ.د .إبراهيم القرشي ،وزير الثقافة واإلعالم/والية الجزيرة.
-3الدكت���ور فؤاد البنا بعنوان "أجنحة اإلقالع الذاتي عند األس���تاذ فتح
اهلل كولن ".
-4الدكتور عبد المجيد بوشبكة بعنوان "حركة الخدمة والتجديد".
وعرض الطيِبة، ِ القيِمة ،وتعليقاتهم ّ ولم يبخل المستمعون بمالحظاتهم ّ ال ،وفي آماله���م الطويل���ة ،وتفائلهم المش���روع ف���ي "الخدمة" نموذج���ا ومثا ً ً وتخطيطا. منهجا الحركية وبناء إنسان العقل والقلب ً ً
أ.د .محمد بابكر العوض ،رئيس جامعة الجزيرة/السودان.
59
السنة الثامنة -العدد (2013 )35
مصطفى الياقوت؛ وكذا األستاذ الدكتور األحمدي أبو النور ،وزير األوقاف
السابق ،من مصر الحبيبة.
ولق���د ح���رص مصطفى أوزجان عل���ى التنبيه إلى ض���رورة االعتناء ببناء
وضرب على وتر "مقام الجمع" بين الجهادين األكبر واألصغر، ال، الذات أو ً َ
د .خوجلي أحمد صديق/السودان.
وق���ال" :إن ه���ذه المرحلة تفرض علينا التركي���ز على مجاهدة النفس وتزكية األم���ة ووحداته���ا ك ِّلها .وهذا ال���ذات ،وعل���ى بلوغ ِّ ح���د التوافق بي���ن أفراد َّ وصمام أمانها". لألمة لعمري صميم بناء الذات الحضارية َّ َّ ثم إن المفكر عصام البشير ،قال فيما قال" :ما أحوجنا إلى فتح حضاري
على شاكلة ُصلح الحديبية ،الذي لم ُت َرق فيه قطرة دم واحدة ،ولم ُيشهر فيه
س���يف ،ولقد سئل رس���ول اهلل : نفس محمد ٌ "أفتح هو؟ قال :نعم ،والذي ُ
لفت���ح" ...نعم ،إنـه فتح العقول بالفكر ،وفتح القلوب بالهداية ،فما بي���ده إنه ٌ
أحوجنا إلى أن نبني هذه الذات الحضارية من هذا األفق الرحيب". وكتاب ح���راء ِمن مختل���ف البالد ولق���د ش���ارك ف���ي الندوة ،وفد ح���راء َّ
العربية ،بمحاضرات ثرة ثرية هي على التوالي:
د .فؤاد البنا/اليمن.
-1األستاذ نوزاد صواش من تركيا ،كانت ورقته تحت عنوان" :مفاهيم
أساسية في بناء ذاتنا الحضارية".
-2الدكت���ور محمد باباعمي من الجزائر ،بورقة تحت عنوان" :الس���ؤال
وهمة ،قراءة مختلفة في فكر األستاذ فتح اهلل كولن". ًّ هما َّ
-3الدكت���ور ف���ؤاد البن���ا من اليم���ن ،بمحاض���رة تحت عنوان" :جس���ور
األستاذ فتح اهلل كولن بين األفكار واألفعال".
-4الدكتور عبد المجيد بوشبكة من المغرب ،عنوان محاضرته" :حركة
د .عبد المجيد بوشبكة/المغرب.
الخدمة والتجديد".
ث���م كان به���اء الختام بحوار ونقاش علم���ي ،أداره الدكتور طارق محمد ُ
مفيدا. نور بعناية وحنكة ،فكان ألجل ذلك مثمرا هاد ًفا ً ً
بين أحضان جامعة الجزيرة ومعهد إسالم المعرفة
نوزاد صواش ،المشرف العام على مجلة حراء/تركيا.
وتأهبت الجموع للس���فر ،وجهة أرض ُبعيد الصبح مباش���رة ُز َّمت الحقائب َّ "م َدني" عاصم ِة والية الجزيرة. الجم���ال والجاللً ، بعيدا هنالك ،ف���ي مدينة َ
وقد تم االس���تقبال البهيج بين ثنايا "جامعة الجزيرة" بجلس���ة س���ريعة وكلمة ترحي���ب من ِقبل رئيس الجامعة األس���تاذ الدكتور محمد بابكر العوض ،ثم ب���ادل الدكتور مصطفى أوزج���ان التحية بالتحية ،وبعدها ُس��� ِّلمت للحضور مذك���رة تع���اون بين "مركز إس�ل�ام المعرفة" الهداي���ا والتش���ريفات ،وو ِّقع���ت ِّ
و"مجلة حراء".
توا ،كانت الوجهة "قاعة مجلس والية الجزيرة التشريعي" ،لشهود ومنها ًّ
فعاليات ندوة "إنسان العقل والفعل عند فتح اهلل كولن".
د .عواطف سر الختم/السودان. السنة الثامنة -العدد (2013 )35
58
"إما أن المهترئة المضطربة ،وما ذلك إال ألنك في السودان َّ ش���اعرا ،أو ال تكون" .والحال أني لس���ت بشاعر وإن تكون ً كان جمال الشعر ُيسبيني ويضنيني...
يوما، ألم تنش���د الشاعرة الس���ودانية "منى حسن محمد" ً اج ِسي ِ قائلةَ :و َه ِ الش ْع ُر، ُي ْغ ِر ِي ِني َف َأ ْت َب ُع ُه س َي ْت َب ُع ِني ِفي َد ْر ِب ِه َو َل ْي َ َز َل ُل ال َي ْس َت ِري ُِح َد ِمي ال َع َلى ُج َم ٍل َي ْه ِوي َش ُغو ًَفا َل َها ِإ َّ الج َب ُل ِم ْن ُس ْك ِر ِه َ اف َو ِل ْلبحورِ ِض َف ٌ ِحي َِن َأ ْه ُج ُر َها َت َظلُّ ِم ْن ِش ْق َو ٍة َت ْب ِكي َو َت ْب َتهِ ُل َو ِ الش ْع ُر َي ْم ِل ُك ِني كن ُت ْأم ِل ُك ُه لو ْ َف ِحي َِن َي ْك ُت ُب ِني ُأ ْص ِغي، َو َي ْم َت ِث ُل؟!
آخرا المدرسة أو ًال والمدرسة ً
كان لوفد "حراء" زيارتان خاطفتان إلى "المدارس السودانية التركي���ة" ف���ي منطق���ة البح���ري إح���دى والي���ات الخرط���وم
الث�ل�اث()1؛ زي���ارة ي���وم القدوم ،وأخ���رى يوم ال���وداع .ولقد جمله���ا -وا ِ الدرية ،يصط ّفون غ���ب كالكواكب هلل- ٌ فلذات ُز ٌ َّ َّ وردا أحمر ،عن���وان وفاء ف���ي مدخ���ل المدرس���ةُ ،يهدون���ك ً كرم ودليل والء ،ال لش���خص القادمي���ن الزائرين -وإن كان ُ
وها نحن اليوم ،نشهد "مهرجان مسح الدموع" ،ونشاهد
مدارس ومحاضن للمعرفة والعرفان، "خطط إيقاف البكاء"، ُ َ
وعرضها( ،)2واحد ٌة َ تب���ذر و ُتزرع على طول القارة الس���مراء ُ منه���ا تقف ش���امخة على بوابة إفريقية الس���وداء :الس���ودان، س���يرفع أن الخير س���يعم البالد بحول اهللَّ ، معلنة َّ ُّ وأن الجهل ُ
ع���ن العب���اد بفضل اهلل ،ولو بعد حين؛ بقدرة الحكيم القادر، ِ يم ِ إ َّن َما وبمشيئة الخ َّ الق اآلمرَ ... ﴿ب َلى َو ُه َو ا ْل َخلاَّ ُق ا ْل َعل ُ ون﴾(يس.)82-81: َأ ْم ُر ُه ِإ َذا َأ َر َاد َش ْي ًئا َأ ْن َي ُق َ ول َل ُه ُك ْن َف َي ُك ُ "إن المدرس���ة بقدر م���ا تكون يوم���اَّ : أل���م يق���ل األس���تاذ ً مطارا ومتسمة بالعمقُ ،تصبح ميناء أو متوجهة نحو الهدف َّ ِّ ً لألم���ة ،بش���رط أن ُت ْص َه���ر مكتس���باتها ف���ي بوتقة أو منطل ًق���ا َّ
الثقافة الذاتية"(.)3
ِ "فيضان تبن���ي ث���م إن األس���تاذ دع���ا بإلحاح ش���ديد إل���ى ِّ التبش���ير وت���رك التنفير ...وإنه���ا ِء العقم المزم���ن منذ قرون،
ق���وة العل���م والتفكر إلمرة اإلس�ل�ام وتفس���يره(...)4 بتس���ليم َّ مس���كنا، ش���ارعا أم معبدا، وتحوي���ل ِّ كل مكان ،مدرس��� ًة أم ً ً ً
ترصد الحقيقة الكامنة خل���ف الوجود والحياة إل���ى مراصد ُ المتأملة ف���ي الالنهاية، واإلنس���ان ...وتش���غيل مناف���ذ الرؤية ِّ والت���ي يمت���د زمان تعطُّ لها إلى ق���رون ،بل إلى ردح أبعد من
ق���رون ...وتقديم أجندة حضور اإلس�ل�ام ف���ي مراتب النظر دوما وفي وحدات الحياة ك ِّلها". ً الهبة وه���ا نح���ن بفضل اهلل نرى رأي العين ب���ركات هذه َّ ِ ات اآلنية الهب ُ الثقافي���ة الم ّلي���ة الحضارية المباركة ،أين منه���ا َّ وتعمر األيديولوجي���ة والسياس���وية ،التي تمأل الدني���ا هرجا، ُ العالم مرجا ،ثم بعد ذلك "نسمع جعجعة وال نرى طحينا"؟!
طبعا لديهم -لكن���ه وفاء للفك���رة والمنهج ،ووالء في رحاب منتدى التنوير المعرفي الضي���ف ً للش���خصية المعنوية ،تلك التي َت ِخذت المدرس��� َة محطة لها
بدع���وة كريم���ة من "مرك���ز التنوي���ر المعرفي" نظَّ م���ت حراء
المف���دى "فت���ح اهلل كولن" ألج���ل ذل���ك كت���ب األس���تاذ َّ
علمي���ة( )6اخت���ارت له���ا عنوا ًنا من وح���ي واقعنا ومن صلب
ي���ا ولدي ،سنمس���ح دموعك ،ي���ا ولدي" ...ثم بع���د أعوام،
كانت الجلس���ة االفتتاحية رس���مية ،أداره���ا المدير العام
وخبرا. لحركيتها ومطارا ،وارتضتها مبتدأ ً ً َّ
أواخر الس���بعينيات ،تعلي ًقا على صورة طفل يبكي" :ال تبك نحيبا، ُعرض���ت عليه صورة طفل إفريق���ي أصيل وهو يبكي ً نضمك إلى صدورنا... فكتب األستاذ مع ِّلقا" :إلى حين ْ أن َّ أيضا يا ولدي."... وضعنا في الخطة أن نوقف بكاءك ً لقد َ
المجلَّة ،وحراء المرك���ز( ،)5ثم حراء المعنى ...نظَّ مت ندوة أزمتنا ،وهو "مساءالت في بناء ذاتنا الحضارية".
للتنوير المعرفي األس���تاذ الدكتور محم���د عبد اهلل النقرابي،
ونش���طها كلٌّ م���ن األس���اتذة :مصطف���ى أوزج���ان ،والدكتور َّ عصام البش���ير ،ثم وزير اإلرش���اد واألوقاف األس���تاذ محمد
57
السنة الثامنة -العدد (2013 )35
أنشطة ثقافية
د .محمد باباعمي*
السودان
محاورات على ضفاف النيلين وأن الس���ودان ه���ي اليوم مجمع ش���اعرا أو ال ف���ي الس���ودان َّإم���ا أن تك���ون وأن المفت���رق " ِمن هاهنا"َّ ، َّ ً الغد المش���رق للناصحين الخي ِِري���ن ومثابة المحبِي���ن ،وهي ُ ّ ّ
تكون...
يخبره إال الذي آنس الصادقين الصابرين ...ليت يعقل ذلك العاقلون... وللسودان حسن ليس ُ
ه���ي أيام كش���عاعات الصبح زارت وأه َّل���ت ،ثم كالبرق
ووجدا... ال القمر وص ً ً
بهية ،ومن المتعب وللسودان شموخ أبدي في سويداء القلب َّ المعنى ،الخاط���ف َّ ودع���ت فأدمعت ،ذلك أنها م���ن ْ َ روح َّ زكية ،تلك التي كتبها اهلل "للخدمة" على س���فوح أرض س���ائ ً ال عن الحقيقة ،عاش��� ًقا لفحمة الليلِّ ، مؤمال على إثرها ريح َّ األبية... السودان َّ
بزوغ فجر جديد وسطوع أمل وليد... ِ حصنك يا مدينة األسرار... السحر ،اقتحمنا وقت َ َ
بهية زكية بشيبها وشبابهاَّ ، أرض ،أبية برجالها ونس���ائهاَّ ،
أن "الملتقى هاهنا"، دموعنا بالني َلين ،معترفين أمام األش���هاد َّ
خط هذه األسطر المهتزة ال في ِّ دت طوي ً ترد ُ أعترف أني َّ
ود ِ عناك ك���ي ُنخفي ضعفنا ،وكيم���ا نصل هاطل بفتيانها وفتياتها... س���ح ًرا َّ َ
السنة الثامنة -العدد (2013 )35
56
محتوى دروس الحضرة السلطانية
المق���رر ،ثم تحض���ر الهيئ���ة المخت���ارة إل���ى ال���درس يتقدمه���م ِّ
المخاطبون حس���ب القدم .يتم اس���تقبال الهيئة والس���لطان مع
يبين مدى االحت���رام والتقدير مرافقي���ه وقو ًف���ا ،وهذا الس���لوك ّ
ألهل العلم في الدولة العثمانية ،ويندر رؤيته في دول أخرى. جميعا، بعد مراس���م االس���تقبال ،يجلس الس���لطان والحض���ور ً والمخاطبون المق���رر كلٌّ ف���ي مجلس���ه المح���دد ل���ه .يجل���س َ ِّ خصيصا ،كما يجلس السالطين لفرش أعدت لهم والحضور ٍ ً
كالمستمعين اآلخرين على ركبهم ال على عروشهم ،وينصتون وأيديهم على ركبهم.
تتم العناية بإعداد دروس الحضرة السلطانية بشكل خاص
ج���زءا م���ن تقالي���د القص���ر ،فالف���رش المخيط���ة من باعتباره���ا ً أقمش���ة خاصة ،ومناضد القراءة المحفورة ،واأللبس���ة الخاصة
للحض���ور ،وكل التفاصي���ل الدقيق���ة ،يت���م الوق���وف عندها في
عرض رائع للمدنية العثمانية بكل صفائها.
المقرر بتالوة تب���دأ دروس الحضرة بدرس التفس���ير؛ فيبدأ ِّ
اآلي���ات ،ث���م يتم تفس���ير اآليات من قب���ل المقرر ،ث���م يتناوب ِّ
المخاطبون بعرض أفكارهم حول اآليات .ويجتنبون الجدال واالس���تطرادات غي���ر الضروري���ة في ه���ذه المجال���س العلمية
والدروس التي تجري في حضرة الس���لطان .ومن جانب آخر تتركز العناية لتأمين الوسط الذي يبدي فيه المشاركون آراءهم
ف���ي راح���ة تام���ة ،حي���ث كان في عهد الس���لطان س���ليم الثالث
(1807م) كان يتكلم بنفس���ه مع العلماء المش���اركين ،ويطلب يعبروا عن آرائهم في راحة تامة .يبلغ الدرس نهايته منه���م أن ّ المقرر دعاء الختام .هذا وقد جرت بإشارة من السلطان ،فيتلو ِّ للمقرر والمخاطبين. العادة أن يمنح السلطان عطية ِّ
كان���ت دروس التفس���ير تقرأ عادة من كت���اب "أنوار التنزيل
وأس���رار التأويل" لـ"القاضي البيض���اوي" (توفي عام 1285م)،
وتدري���س هذا الكتاب الموجز المتوس���ط ف���ي حجمه ألعوام طويلة في المدارس العثمانية ،يدل على قيمة هذا الكتاب. آم ُنوا ﴿يا َأ ُّي َها ا َّل ِذ َ ين َ كان تفسير قوله تعالى من سورة النساءَ :
ين بِا ْل ِق ْس ِط ُش َه َد َاء لهلِ ِ َو َل ْو َع َلى َأ ْن ُف ِس ُك ْم َأوِ ا ْل َوا ِل َد ْي ِن ُكو ُنوا َق َّوا ِم َ َوا َ �ل�ا َت َّتب ُِعوا هلل َأ ْو َلى بِهِ َما َف َ ���ن َغ ِن ًّي���ا َأ ْو َف ِق ًيرا َف���ا ُ أل ْق َرب َ ِي���ن إ ِْن َي ُك ْ ون ا ْل َه َوى أ َْن َت ْع ِد ُلوا َوإ ِْن َت ْل ُووا َأ ْو ُت ْع ِر ُضوا َفإ َِّن ا َ ان ب َِما َت ْع َم ُل َ هلل َك َ ِي���را﴾ ال���درس األول ف���ي عهد الس���لطان مصطف���ى الثالث. َخب ً
ترتيبا لم تكن دروس الحضرة السلطانية تلتزم في التفسير ً
معين���ا آلي���ات القرآن الكري���م حتى إذا كان ش���هر رمضان عام ً
1785م ،ب���دأ التفس���ير بس���ورة الفاتح���ة واس���تمر وف���ق ترتيب
السور في القرآن الكريم .فعلى سبيل المثال ،بدأ تفسير سورة اإلس���راء المكونة من 111آية في ش���هر رمضان المبارك عام 1755م واس���تمر حت���ى عام 1778م ،وس���ورة الفت���ح المكونة
م���ن 29آية اكتمل تفس���يرها ما بين عام���ي (1784-1779م)، وسورة الفاتحة في عامي (1785م) و(1786م) ،وابتدأ تفسير
سورة البقرة من عام 1787م واستمر تفسير 30آية منها طيلة خم���س س���نوات حت���ى رمض���ان 1791م .واس���تمرت دروس التفس���ير المرتب���ة حتى ش���هر رمض���ان م���ن 1923م ،وتوقفت
عند تفس���ير اآلية 31من س���ورة النحل في الجزء الرابع عشر: ���ن َت ْح ِت َها ا َ ���ار َل ُه ْم ِف َيها ���ات َع ْ ﴿ج َّن ُ ���د ٍن َي ْد ُخ ُلو َن َها َت ْج ِري ِم ْ َ أل ْن َه ُ ِ ِ ين﴾ ،وبتفس���ير هذه اآلية ق ت م ل ا هلل ا ي ���ز ج ي ك ل ذ ك ون ���اء ش ي َم���ا َ َ ُ َ َ َ َ َ ْ ِ ُ ْ ُ َّ َ تماما. توقفت دروس الحضرة السلطانية الرمضانية ً لم تقتص���ر الدروس في المجتمعات العثمانية على قصور
الس�ل�اطين ،فق���د اس���تلهم وجه���اء المجتم���ع العثماني دروس
الحضرة الس���لطانية التي يعقدها الس���لطان ف���ي قصره ،فنظموا أمث���ال هذه ال���دروس في قصورهم وبيوتهم ،بل وفي المقاهي
أيضا ،وأقيمت دروس الفقه ،يتعلم الناس فيها أمور دينهم. ً
وكان الخليفة السلطان عبد المجيد ،آخر من نظم دروس
الحضرة السلطانية في قصره في "دولمه بقجه" في شهر رمضان
ع���ام 1923م ،وبإزال���ة الخالف���ة ف���ي 3آذار 1924م اختف���ت دروس الحض���رة الس���لطانية وغاب���ت ع���ن مس���رح التاريخ.
(*)
كاتب وباحث تركي .الترجمة عن التركية :مصطفى حمزة.
55
السنة الثامنة -العدد (2013 )35
المفصل���ة والكافي���ة -س���واء من حي���ث محتواه���ا أو من حيث
انطلقت هذه "المخاطب". يسمون بـ َ ْ ِّ يوجهون األس���ئلة فكانوا ّ
في الحياة الثقافية العثمانية.
وبم���رور األي���ام واألزمن���ة بل���غ عدد هؤالء إلى خمس���ة عش���ر
قيمتها المعنوية والروحية ،فإنها كانت بال ش���ك صفحة مهمة
مقرر، ال���دروس في عهودها األولى ،بخمس���ة مخاطبي���ن لكل ِّ
اس���تمرت دروس الحضرة الس���لطانية حتى منتصف القرن
مخاطب���ا .وفي أول درس م���ن دروس الحضرة الذي تم عقده ً
العلمي���ة الت���ي كان يحضره���ا الس���لطان محمد الفاتح بنفس���ه،
المقرر هو أمين الفتوى "أبو بكر أفندي" ،وكان 1759م ،كان ِّ
الثامن عشر عبر مراحل عدة ،فلئن كانت هناك بعض المجالس والدروس التي يحضرها الس���لطان محم���د الرابع بين صالتي
المغرب والعش���اء ،ويلقيها ش���يخه "أحمد واني أفندي" وشيخ اإلس�ل�ام "يحي���ى أفندي" ،فإنه���ا لم تكن مس���تمرة بانتظام ولم
ف���ي عهد الس���لطان مصطفى الثالث في ش���هر رمضان من عام "نبي���ل محمد أفندي" وش���يخ القصر "حمي���دي محمد أفندي" و"م َز َّلف محمد أفندي" ومفتش شيخ اإلسالم "إدريس أفندي" ُ و"إسماعيل أفندي القونوي" هم المخاطبون.
تكتس���ب البداية النموذجي���ة المنتظمة ل���دروس الحضرة حتى اختيار أعضاء دروس الحضرة السلطانية
عهد الس���لطان أحمد الثالث ،حيث قام الصدر األعظم "داماد
قب���ل ش���هر رمضان المب���ارك كان يجري حصر أس���ماء العلماء
إذ ب���دأ يدع���و في ش���هر رمض���ان المب���ارك إلى قص���ره العلماء
درس هيئ���ة خاصة .وقد كان عدد العلماء المختارين لدروس ٍ
الس���لطان ع���ام 1728م حضر إحدى هذه الدروس الرمضانية ُ "أحمد الثالث" ونجله الش���اهزادة "مصطف���ى الثالث" ،ويروى
عالما .يتم اختيار هذه الهيئات من قبل ف���ي 1767م إلى ً 126
وش���هِ ْرلي" ع���ام 1724م بتنظيمها من جديد، الن َ إبراهي���م باش���ا َّ
المش���هورين إللقاء الدروس في تفس���ير الق���رآن الكريم .وفي
أنه جرى إحداث دروس الحضرة بحضورهما وتأثرهما.
المرشحين للدروس وتوزيعهم في مجموعات ،ويتشكل لكل عالما ،بينما وصل هذا العدد الحضرة في عام 1775م سبعين ً
شيوخ اإلسالم ،حيث يتم اختيار والمخاطبين بعناية المقررين َ ِّ
فائق���ة ،ث���م تظهر في األوامر والمذكرات الس���لطانية المرس���لة
زام���ن هذه الدروس التي رتبها "إبراهيم باش���ا" مع وربم���ا َت ُ
إلى المش���يخة اإلس�ل�امية ،فيتم التأكيد على اللياقة والمراتب
التاريخية -كان عهد ترف وبذخ ،إذ بدأت تضعف فيه معنويات
متمتعا مخاط ًبا ما لم يكن مقر ًرا أو يعين َ ً ً اإلس�ل�ام أن ّ ش���خصا ِّ
اللة" له داللته ومغزاه ،فه���ذا العهد -كما تذكره كتبنا "عه���د ال ّ رجال الدولة التي كانت عند سابقيهم ،ولذلك دخلت دروس
بدءا من شهر رمضان الحضرة في بنية البرامج الرسمية للدولة ً الثاني ( 28نيسان )1759بعد تولي السلطان مصطفى الثالث
الع���رش ( .)1774-1757وكان الس���لطان مصطف���ى الثال���ث مش���هورا بالزهد والورع ،كما كان يبدي حساس���ية ش���ديدة في ً
قرارا من القرارات التي األم���ور التي تخ���ص الدين؛ فإذا أدرك ً ِ ويعدله ���ذت أنه مخال ًفا للش���رع ،فس���رعان ما كان يس���حبه ّ اتخ ْ
حريصا على تجسيد وف ًقا لألوامر الدينية ،أو بعبارة أخرى كان ً الص���واب ف���ي الحي���اة .وتتحدث الوثيق���ة التي س���جلها كاتب
س���ره ،أن السلطان مصطفى الثالث كان يحرص على صلوات ّ
الجماع���ة وعل���ى األخص صالة الفج���ر ،وكان يحضر دروس
العلمية والمميزات الش���خصية .وال يستطيع السلطان أو شيخ
به���ذه األوصاف .وبع���د اختيار هذه الهيئات يت���م تقديمها إلى السلطان من أجل التصديق.
أوقات دروس الحضرة السلطانية وأماكنها
يعيِ���ن بنفس���ه األماك���ن التي س���تقام فيها دروس كان الس���لطان ّ
الحض���رة .وق���د ُعقدت هذه الدروس لفت���رة طويلة في "طوب قابي" في أقسام؛ قصر َس َب ْت ِجيالر ،وقصر صوفا ،وقصر روان، وقص���ر ِإ ْن ِجيلي ،قصر يالي ،وقاع���ة الختان .وفيما بعد انتقلت دروس الحض���رة الس���لطانية في عهود الس�ل�اطين عبد العزيز، ومحم���د رش���اد ،وعبد المجي���د إلى قصر "دولم���ه بقجه" وفي عهد السلطان عبد الحميد الثاني ،إلى قصر " ِي ْل ِدز". أم���ا أوق���ات ال���دروس ف���ي ش���هر رمض���ان المب���ارك ،فقد
التفسير التي تعقد بعدها في قصره بانتظام.
تبعا الختالف الس�ل�اطين؛ فكان���ت تجري في بعض اختلف���ت ً
العالم الذي يقدم الدرس في دروس الحضرة الس���لطانية كان
والمغرب ،وكانت على العموم تمتد لساعتين ،وال تتوقف إال
َمن يحضر دروس الحضرة السلطانية؟
بـ"المق���رر" ،أم���ا العلماء الذي���ن يس���تمعون الدرس ثم يس���مى ِّ السنة الثامنة -العدد (2013 )35
54
األحي���ان بين الظهر والعصر ،وفي بع���ض األحيان بين العصر يوم الجمعة من العشر األول.
تاريخ وحضارة متين رئيس*
دروس الحضرة السلطانية
عندم���ا كان الس�ل�اطين العثماني���ون من���ذ قي���ام والمتوس���طة والمرحلة التحضيرية .فه���ي بمثابة التعليم العالي
الدولة العثمانية ينتشرون في األرض فاتحين ،والجامعات في يومنا الحالي .وقد اس���تند الس���لطان الفاتح في
ال ُخ ْس َر ْو" و"علي كان���وا يول���ون "م ّ كبيرا لألنش���طة العلمية ذلك ،على أفكار علماء عصره المرموقين ُ ً اهتمام���ا ً ���جو" اللذين وضعا مف���ردات مناهجه���ا التعليمية .وبقيت والثقافية ،ففتحوا المدارس ،واس���تقطبوا كب���ار علماء العصور ُق ْ وش ُ
المتتابعة إلى إس���طنبول ،وأنش���أوا المكتبات ،وهيأوا األوساط هذه المؤسسة (الصحن الثماني) من أشهر المراكز العلمية في عصر الفاتح وما تاله من العصور العثمانية. تخرج العلماء وتنتج العلوم. التي ِّ رت���ب الس�ل�اطين العثمانيون في قصوره���م مجالس العلم التطور التاريخي لدروس الحضرة السلطانية
يتعرف���ون من خاللها إلى دني���ا العلوم ،ويظهرون بها احترامهم كانت الدولة العثمانية تقوم بتنظيم فعاليات كثيرة خالل ش���هر للعلماء ...وبفضل هذه المجالس ،تهيأت أرضية حوار جميل رمض���ان المبارك ،الكتس���اب المزيد من فيوضات هذا الش���هر
بين العلماء والسالطين ،وعلى هذه األرضية قامت مشروعات وبركاته .والسالطين بدورهم كانوا يستغلون أيام شهر رمضان إيجابية عظيمة على مس���توى الدولة .فقد أمر الس���لطان محمد وينظمون ال���دروس الخاصة بها للعلماء .ومن األمور الطريفة دت في الفاتح -على س���بيل المثال -بإنشاء مدارس "الصحن الثماني" والمثيرة لالهتمام "دروس الحضرة السلطانية" التي ُع ِق ْ
وهي ثمانية مدارس ،أربع ٌة في شمال جامع الفاتح ،وأربع ٌة في ش���هر رمضان المبارك بش���كل خاص بين العلماء والسالطين.جنوبه -ينتس���ب إليه الطالب بع���د إتمامهم المراحل االبتدائية وه���ذه ال���دروس -وإن ل���م يحم���ل عنه���ا تاريخن���ا المعلومات ُ
53
السنة الثامنة -العدد (2013 )35
ف َطا ِئ َف��� ًة ِم ْن ُه ْم ُي َذ ِّب ُح أ َْب َن َاء ُه ْم َو َي ْس َ���ت ْحيِي َأ ْه َل َها ِش َ���ي ًعا َي ْس َ���ت ْض ِع ُ ���ن ا ْلم ْف ِس ِ ���ه َك َ ِ ين﴾(القصص ،)4:ولإلصالح في ���اء ُه ْم ِإ َّن ُ ���د َ ِن َس َ ان م َ ُ ال قال هذا الوضع كان البد من ترس���يخ المفهوم العقائدي أو ً ال تعال���ى وس���ى َ ق َ مخبرا عن فرعونَ ﴿ :ق َ ال َف َم ْن َر ُّب ُك َما َيا ُم َ ً َر ُّب َن���ا ا َّل ِذي َأ ْع َطى ُك َّل َش���ي ٍء َخ ْل َق ُه ُث َّم َه َدى﴾(ط���ه ،)50-49:وفي ْ ال َر ُّب ين َ ق َ آي���ة أخرى قالَ ﴿ :ق َ ���ال ِف ْر َع ْو ُن َو َم���ا َر ُّب ا ْل َعا َل ِم َ
او ِ ات َوا َ ال ِل َم ْن ين َ ق َ أل ْر ِ ���م ُمو ِق ِن َ ���م َ الس َ ض َو َم���ا َب ْي َن ُه َما إ ِْن ُك ْن ُت ْ َّ ِ ِ ِ َ َ ال َح ْو َل ُه أ َ ين َق َ ون َق َ ال َت ْس َ���تم ُع َ ال َر ُّب ُك ْم َو َر ُّب َآبائ ُك ُم األ َّول َ
ال َر ُّب ا ْل َم ْش ِر ِق ون َ ق َ إ َِّن َر ُس���و َل ُك ُم ا َّل ِذي ُأ ْر ِس َ ���ل ِإ َل ْي ُك ْم َل َم ْج ُن ٌ ون﴾(الشعراء.)28-23: َوا ْل َم ْغ ِر ِب َو َما َب ْي َن ُه َما إ ِْن ُك ْن ُت ْم َت ْع ِق ُل َ والمعل���وم أن تصحي���ح المفهوم العقائدي لبني إس���رائيل، كافي���ا ليخوض بهم البحر ،وليجادل بهم س���حرة فرعون، كان ً
وليخلص���وا للفك���رة أيم���ا إخ�ل�اص إل���ى أن قال���وا لفرع���ون: ات َوا َّل ِ ِ ﴿ َقا ُل���وا َل ْ ِ ���ن ا ْلب ِي َن ِ ���ذي َف َط َر َنا ���ركَ َع َلى َم���ا َج َاء َنا م َ َ ّ ���ن ُن ْؤث َ اض ِإ َّنما َت ْق ِضي َه ِ آم َّنا َفا ْق ِ ���ذ ِه ا ْل َح َيا َة ُّ ���ض َما َأ ْن َ الد ْن َي���اِ ،إ َّنا َ ���ت َق ٍ َ ِ ِ ِ ِ ِ َ هلل َخ ْي ٌر ���ح ِر َوا ُ الس ْ ب َِر ِّب َن���ا ل َي ْغف َر َل َنا َخ َط َايا َنا َو َما أ ْك َر ْه َت َنا َع َل ْيه م َن ّ
مهددا: َو َأ ْب َقى﴾(ط���ه .)72-73:وذل���ك بع���د أن ق���ال لهم فرع���ون ً ﴿ َفلأَ ُ َق ِّط َع َّ َ ِ َ �ل�ا ٍف َولأَ ُ َص ِّل َب َّن ُك ْم ِفي ���ن ِخ َ ���م ِم ْ ���م َوأ ْر ُج َل ُك ْ ���ن أ ْيد َي ُك ْ الن ْخ ِل َو َل َت ْع َل ُم َّن َأ ُّي َنا َأ َش ُّد َع َذ ًابا َو َأ ْب َقى﴾(طه.)71: ُج ُذ ِ وع َّ مرفوض���ا بع���د وهك���ذ أصب���ح الوض���ع السياس���ي القائ���م، ً وضوح البناء العقائدي الس���ليم ،فكانت التربية اإلسالمية التي
تركز مفاهيم األلوهية والربوبية هلل تعالى ،تعلم العالم والناس
أن الحكم المطلق هو هلل تعالى ،وأن من واله اهلل ش���أن الناس
وف ًقا لمبادئ الشورى والبيعة ال يعدو أن يكون مكل ًفا بحماية
القان���ون اإلله���ي وتطبيقه ،وه���ذا كله كفيل ب���أن يجتث جذور الدكتاتورية واالستغالل من المجتمع اإلنساني.
(*) رئيس المركز المغربي للدراسات واألبحاث التربوية اإلسالمية /المغرب.
الهوامش
( )1منهاج التربية ،لمحمد قطب ،ج ،2ص.7:
( )2الجانب العاطفي من اإلس�ل�ام ،لمحمد الغزالي ،ص ،6:دار الدعوة ،ط،1 .1990
( )3مجلة الحوار ،السنة األولى ،ص 21:وما بعدها. ( )4مجلة الحوار ،السنة األولى ،ص.22: السنة الثامنة -العدد (2013 )35
52
كعبة الروح األرواح َّ المعذبةِ ، بك تلوذ، والنفوس الضالةِ ، إليك تعود، يا منارة الهدى، وشمس الدجى ،ومصباح الكون، من قلب النور تنـ ّز ِ لت، ومن "ماورائيات" هذا العالم ق ِد ِ مت، ِ فصرت صلة الوصل بين األرض والسماء... ***
جام���دا ال يتج���اوز ح���دود القناع���ات ً الخاص���ة الداخلي���ة غي���ر المؤث���رة ف���ي الس���لوك العمل���ي ،لذل���ك قال الرس���ول
" :اإليم���ان ما وقر في القلب وصدقه
العمل"(رواه البيهقي).
وبقراءة بسيطة لبعض نماذج الدعوة
في الق���رآن الكريم ،ن���رى كيف وظفت
العقي���دة كفلس���فة تربوي���ة متكامل���ة ف���ي
إص�ل�اح ما فس���د م���ن أح���وال اقتصادية واجتماعية وسياس���ية ،ومؤصل���ة لتنمية
بديلة ،ومن أمثلة ذلك:
نب � � ��ي اهلل ش � � ��عيب وإصالح الفس � � ��اد االقتصادي
�إن فل�سفة الرتبية الإ�سالمية ،قائمة على االرتب��اط باجلانب العقائدي الذي يخلق الرقابة الذاتية ،ومببد إ� اال�س��تخالف ال��ذي ي�أخ��ذ بعني االعتبار فل�س��فة اجل��زاء كموجه ان�سجاما �أ�سا�سي ،ومببد�إ التوازن ً م��ع مكون��ات الإن�س��ان ،تبني لنا �أن �أخالقيات التنمية يف امل�رشوع الإ�سالمي ،مرتبطة مبا هو �أبعد من حتقيق امل�ص��لحة الذاتي��ة الفردية.
���ع ْي ًبا ﴿و ِإ َلى َم ْد َي َن َأ َخ ُ قال تعالىَ : اه ْم ُش َ هلل َما َل ُك ْم ِم ْن ِإ َل ٍه َغ ْي ُر ُه﴾(هود ،)84:حيث ركز َق َ ال َيا َق ْو ِم ْاع ُب ُدوا ا َ ال ،ألنها صمام األمان وأس���اس عل���ى العقيدة ف���ي النفوس أو ً ال ﴿و َ ال َت ْن ُق ُص���وا ا ْل ِم ْك َي َ اإلص�ل�اح والبن���اء .ثم بعد ذلك ق���الَ : ي���ز َ ِ َ اب َي ْو ٍم ���اف َع َل ْي ُك ْم َع َ ���م ب َِخ ْي���رٍ َو ِإ ِّني َأ َخ ُ َوا ْل ِم َ ���ذ َ ان ِإ ّن���ي أ َر ُاك ْ ُم ِح ٍ ال َت ْب َخ ُسوا ان بِا ْل ِق ْس ِط َو َ يط َ و َيا َق ْو ِم َأ ْو ُفوا ا ْل ِم ْك َي َ ال َوا ْل ِم َيز َ ين َ ب ِقي ُة ا ِ ال َت ْع َث ْوا ِفي ا َ هلل َخ ْي ٌر اس َأ ْش َي َاء ُه ْم َو َ أل ْر ِ َّ ض ُم ْف ِس ِد َ الن َ َّ ين َو َما َأ َنا َع َلي ُكم ب َِح ِف ٍ يظ﴾(هود.)86-84: َل ُك ْم إ ِْن ُك ْن ُت ْم ُم ْؤ ِم ِن َ ْ ْ لك���ن اخت�ل�ال الموازين عند بعض الق���وم ،أو ما يمكن أن نصطلح عليه في واقعنا الحالي "التفكير العلماني" أو "الفصل
بين الدين والدولة" ،اس���تحكم في العقول فلم يستس���يغوا هذا
الرب���ط بي���ن مفاهي���م العقي���دة والفع���ل االقتص���اديَ ﴿ :قا ُلوا َيا اؤ َنا َأ ْو َأ ْن َن ْف َع َل ِفي ُش َع ْي ُب َأ َص َ ال ُت َك َت ْأ ُم ُركَ َأ ْن َن ْت ُركَ َما َي ْع ُب ُد َآب ُ يد﴾(هود.)87: َأموا ِلنا ما نشاء إنك لأَ َ نت الح ِليم الر ِش ُ ْ َ َ َ َ َ ُ ِ َّ َ ْ َ ْ َ ُ َّ ش���عيبا وج���ه اهتمامه���م إل���ى الجان���ب العقائدي، ولك���ن ً لضم���ان اس���تمرار الفك���رة م���ن أن يك���ون أتب���اع كث���ر .فالعبرة
بالكي���ف ال بالك���م في المنظ���ور التربوي اإلس�ل�امي ،والعبرة ���و ِم َأ َر ْه ِطي َأ َع ُّز بترس���يخ المفاهي���م ال بكثرة الرهطَ ﴿ :ق َ ال َيا َق ْ َع َلي ُك���م ِم َن ا ِ ون وه َو َر َاء ُك ْم ِظ ْه ِر ًّيا إ َِّن َر ِّبي ب َِما َت ْع َم ُل َ هلل َو َّات َخ ْذ ُت ُم ُ ْ ْ يط﴾(هود.)92: ُم ِح ٌ
نبي اهلل لوط وإصالح الفساد االجتماعي
���ت َق���و ُم ُل ٍ ���م ين إ ِْذ َق َ ق���ال تعال���ىَ : ���وط ا ْل ُم ْر َس��� ِل َ ﴿ك َّذ َب ْ ْ ���ال َل ُه ْ
ال َت َّت ُق َ ِ ���م ���وط َأ َ ���م ُل ٌ َأ ُخ ُ ���ون ِإ ّن���ي َل ُك ْ وه ْ ون هلل َو َأ ِط ُيع ِ َر ُس ٌ ي���ن َ ف َّات ُق���وا ا َ ���ول َأ ِم ٌ ال َو َما َأ ْس��� َأ ُل ُك ْم َع َل ْي ِه ِم ْن َأ ْجرٍ إ ِْن َأ ْج ِر َي ِإ َّ ان ���ون الذُّ ْك َر َ ي���ن َ أ َت ْأ ُت َ َع َل���ى َر ِّب ا ْل َعا َل ِم َ ���ق ي���ن َ و َت َ ���ذ ُر َ ون َم���ا َخ َل َ ���ن ا ْل َعا َل ِم َ ِم َ ���ن َأ ْز َو ِ ���ل َأ ْن ُت ْم َق ْو ٌم اج ُك ْم َب ْ ���م َر ُّب ُك ْم ِم ْ َل ُك ْ ون﴾(الشعراء .)166-160:والمالحظ أن َع ُاد َ
الفس���اد االجتماعي كس���لوك عملي ،لم يكن يتم دون إرساء فلسفة تربوية تنطلق
ون﴾، من الجان���ب العقائ���ديَ ﴿ :أ َ ال َت َّت ُق َ يع ِ ���ر َي ���ون﴾﴿ ،إ ِْن َأ ْج ِ ﴿ َف َّات ُق���وا ا َ هلل َو َأ ِط ُ
ين﴾ .قال ابن كثير: ِإ َّ ال َع َل���ى َر ِّب ا ْل َعا َل ِم َ
"فدعاهم لوط إلى عبادة اهلل تعالى وحده
ال ش���ريك له ،ونهاهم عن تعاطي هذه المحرمات والفواحش
المنك���رات واألفاعي���ل والمس���تقبحات ،فتم���ادوا في ضاللهم
وطغيانهم ،واس���تمروا في فجورهم وكفرانهم ،فأحل اهلل بهم
م���ن الب���أس الذي ال يرد م���ا لم يكن في خلدهم وحس���بانهم، وجعله���م مثل���ة ف���ي العالمي���ن"( .)5والمالحظ في عال���م اليوم
أن القي���م التربوية اللبرالية ال تستس���يغ وض���ع قيود على حرية التص���رف إلى ح���د أدى إلى هتك العالق���ات االجتماعية ،وال
يمكن بأي حال من األحوال أن تحد حمالت التوعية بأخطار جنسيا ،ومؤسسات حماية األسرة والطفل، األمراض المتنقلة ًّ
والمظاهرات ضد العنف واالغتصاب ،من حدة هذا الدمار ما
دامت الفلس���فة التربوية قائمة باألس���اس على "دعه يعمل دعه يم���ر" .وقد أضحت مظاه���ر الخلل االجتماع���ي القائمة عائ ًقا حقيقي���ا أم���ام التنمية على الم���دى البعيد ،فيكفي أن تس���تنطق ًّ الميزاني���ات المخصص���ة لمؤسس���ات إعادة التأهي���ل ومحاربة
المخ���درات العيادات النفس���ية لنقف أم���ام ماليين الدوالرات التي تحتاج إليها مؤسسات التنمية التي تهدف إلى البناء.
موسى عليه السالم وإصالح الفساد السياسي
ال ينف���ك اإلص�ل�اح السياس���ي والتنمي���ة في ه���ذا المجال عن التص���ور العقائدي في المنظور اإلس�ل�امي ،ومما يجس���د هذه الرؤي���ة عل���ى مس���توى القص���ص القرآن���ي قوله تعال���ى واص ًفا ال ِفي ا َ ض َو َج َع َل أل ْر ِ الفس���اد السياس���ي القائم﴿ :إ َِّن ِف ْر َع ْو َن َع َ
51
السنة الثامنة -العدد (2013 )35
﴿و ْاب َت ِ ِ ال���دار ِ يما آ َتاكَ ا ُ اآلخ َر َة َو َال دور العقيدة في توجيه حركة التنمية والنفس���ية والروحي���ةَ : هلل َّ َ ���غ ف َ
ال َت ْب ِغ هلل ِإ َل ْي َك َو َ ���ن ا ُ س َن ِص َيب َك ِم َن ُّ ���ن َك َما َأ ْح َس َ الد ْن َيا َو َأ ْح ِس ْ َت ْن َ ال ُي ِح ُّب ا ْلم ْف ِس ِ ���اد ِف���ي ا َ ين﴾(القصص.)77: هلل َ أل ْر ِ ض إ َِّن ا َ ا ْل َف َس َ ���د َ ُ
عقالني���ة نفعي���ة صرف���ة ،فكان اإلخ�ل�اص في العم���ل ،والوفاء
اإلبداعية إلى تحقيق العبودية هلل تعالى ،والتخلص من عبودية
واإلدارة تأخ���ذ بعي���ن االعتبار عدم فق���دان الزبون ،وفي كتاب
وبه���ذا تكون التربية اإلس�ل�امية ه���ي "توجيه طاقات اإلنس���ان المكون���ات المادي���ة الت���ي تعتبر في فلس���فة التربية اإلس�ل�امية
وسيلة ال هد ًفا" .وفي هذا الصدد يقول الشيخ محمد الغزالي:
أحكام���ا جاف���ة وأوام���ر ميت���ة ،إنه قل���ب يتحرك "لي���س الدي���ن ً بالش���وق والرغبة ،يحمل صاحبه على المسارعة إلى طاعة اهلل ﴿و َع ِج ْل ُت ِإ َل ْي َك َر ِّب ِل َت ْر َضى﴾(طه.)2(")84: وهو يقولَ :
مفهوم التنمية في بعدها الحضاري
م���ن الخطإ أن نعتبر التنمية مج���رد عملية اقتصادية ،فنحصرها
ف���ي مناصب الش���غل مع إغف���ال مؤش���رات التق���دم والتخلف المرتبطي���ن بالقيم ،التي تحكم المس���ار الثقاف���ي واالجتماعي
والسياسي.
وفي هذا الصدد يقول األس���تاذ عادل حس���ين في مقال له
تح���ت عنوان "التراث ومس���تقبل التنمية"" :غن���ي عن البيان أن
حديثنا عن التطورات المقبلة خالل عقدين كاملين ،هو حديث عن تنمية مركبة تش���مل المجتمع كل���ه ،وتصيب مكوناته كلها
-سياس���ية وثقافية واجتماعية إلى جانب المكون االقتصادي-
لق���د ترك���زت األخ�ل�اق االقتصادي���ة ف���ي الغرب على أس���س
بالعه���د ،وع���دم الغ���ش وغيرها ،م���ن مبادئ حس���ن التصرف. ث���روة األم���م يعلن منظ���ر الليبرالية "آدم س���ميث" :إننا ال نعتبر
قوتن���ا منة من القصاب أو الخباز ،ب���ل إن عملهما يعود بفائدة عليهما ،إننا ال نخاطب إنس���انيتهما ،بل أنانيتهما فال نكلمهما
عن حاجياتنا بل عن مصالحهما . ()4
يدل هذا التحليل على االرتباط الصرف بالمصالح اآلنية،
وتختلف الوس���يلة باختالف نسبة ما يتحقق من هذه المصالح المادية الظرفية .ولعل هذا ما يفسر طغيان المصالح المركزية للغرب ،حيث ترتبط التصرفات بفلسفة تربوية تعتمد المذهب
الف���ردي .ويتجل���ى ذلك بوضوح ،حينما يرتب���ط األمر بحقوق اإلنس���ان والح���وار الحض���اري والرؤي���ة الجيوسياس���ية للعالم
المقب���ل ،ف�ل�ا ت���كاد تحض���ر القي���م الحضارية لكافة الش���عوب
في أي مش���روع تغيي���ري ،وال تتحدد المضامي���ن المصطلحية للثواب���ت الحضارية "حقوق اإلنس���ان -العدالة االجتماعية - الس���لم -الح���وار" ،إال وف���ق ما تنس���جه مصلح���ة الغرب ولو
على حساب المفهوم الحضاري لإلنسانية .وهذا ال ينفك عن الفلسفة التربوية التي ذكرنا.
ال منس ًقا ...ويالحظ في السنوات بشكل ينبغي أن يكون متكام ً
ولهذا يهبط المشروع الحضاري الغربي من محاور بالفكر
يتناولونه���ا باعتبارها عملية أوس���ع من أن تك���ون مجرد عملية
وإذا رجعنا بذاكرتنا إلى ما س���بق وأن قررناه من أن فلسفة
جميعا األخي���رة أن المتحدثي���ن ع���ن التنمية العربية ،أصبح���وا ً
إلى ملوح بالعصا كلما هددت مصالحه.
اقتصادي���ة ،ولذا يتابعون باعتناء وتحفظ ،مؤش���رات التقدم في
التربية اإلسالمية قائمة على االرتباط بالجانب العقائدي الذي
وم���ن هن���ا نق���ول ،إن مهم���ة التربي���ة اإلس�ل�امية ال تنف���ك
االعتب���ار فلس���فة الج���زاء (ثواب -عق���اب) كموجه أساس���ي،
إنت���اج أس���اتذة الم���ادة بق���در م���ا توج���ه وترب���ي كل الطاق���ات
أخالقي���ات التنمية في المش���روع اإلس�ل�امي ،مرتبط���ة بما هو
واإلعالمي���ون وتقني���و الفالح���ة ومالح���و الفض���اء والبح���ر
ورقاب���ة اهلل تعال���ى ومبدأ التقوى ،بوص�ل�ات موجهة ألي فعل
الذي���ن يرون أن مادة التربية اإلس�ل�امية ال ترتبط بإس���تراتيجية
بمدى االس���تجابة ألمر اهلل وحقوق المكلفين -كما يقول علم
مختلف القطاعات وليس في القطاع االقتصادي وحده"(.)3
يخل���ق الرقاب���ة الذاتية ،وبمبدإ االس���تخالف ال���ذي يأخذ بعين
ع���ن المنظ���ور الش���امل للتنمي���ة ،بحي���ث ال تنحصر ف���ي إعادة
انس���جاما مع مكونات اإلنس���ان ،تبي���ن لنا أن وبمب���دإ الت���وازن ً
الفاعل���ة ف���ي س���احة التنمي���ة ،س���واء ف���ي ذل���ك المهندس���ون
أبع���د من تحقي���ق المصلحة الذاتي���ة الفردية ،إذ تعتب���ر العقيدة
وغيره���م .فه���ي مك���ون ال ينفص���ل ع���ن أي مج���ال ،ولع���ل
اقتص���ادي أو اجتماع���ي أو سياس���ي ،فيق���اس النف���ع والض���رر
التنمي���ة ،يعان���ون م���ن فه���م المدل���ول الش���امل لها ،في���رون أن
األص���ول -والتع���ارض بينهما قائم على درء المفاس���د وجلب
فائض���ا م���ن األس���اتذة المتخصصين يقتضي وق���ف آلة اإلنتاج ً الت���ي يتحكم فيها الس���وق بن���اء على قانون الع���رض والطلب. السنة الثامنة -العدد (2013 )35
50
المصالح العامة ،هو الموجه المتحكم.
متح���ركا ،وليس���ت إيما ًن���ا عنص���را وبه���ذا تك���ون العقي���دة ً ً
تربية
د .خالد الصمدي*
رحيم بك ،غفور لك ،عطوف عليك ،لطيف بك ..هكذا الحقُّ تعاىل يعاملك ..أفال ينبغي أن تعامل خلقَ الله مبا يعاملك به الله؟ وكام تكون معه تعاىل يف خاصية نفسك هكذا ينبغي أن تكون معه إذا كنت مع الناس ..فال وحشة وال وحدة وال غربة وال اغرتاب إذا ما ّ رش َ قت أو غ ّر َ بت ،ألن الحق تعاىل معك يف كل أحوالك وجميع شؤونك. (املوازين) ***
يقول الكاتب اإلس�ل�امي محم���د قطب" :لقد
التوجيهات التي ترسم الطريق لإلنسان ،وتتلخص في:
توجيهات تربوية كثيرة ،وأن لهذه التوجيهات
بالرقابة الذاتية النابعة من الجانب العقائدي الذي يربط األرض
أحسس���ت بطبيع���ة الح���ال ،أن ف���ي الق���رآن
أث���را في النفس ،وأن اإلنس���ان حين يتدبره���ا ويتأثر بها يصبح ً ل���ه س���لوك معين وش���عور معين أقرب إلى الص�ل�اح والتقوى،
ويصبح اإلنسان أكثر شفافية وأكثر إنسانية"( .)1لقد خلق اهلل في البشر مجموعة من األحاسيس ،وهذه األساليب والطاقات
﴿و َما محكومة بهوى النفس ،ألنه تعالى خلق اإلنسان لهدفَ : ال ِلي ْعب ُد ِ ون﴾(الذاريات .)56:فكان البد أن َخ َل ْق ُت ا ْل ِج َّن َوا ِ إل ْن َ س ِإ َّ َ ُ توجه هذه الطاقات إلى االنسجام التام مع الغرض من الخلق.
وفي هذا الصدد ترتبط التربية اإلس�ل�امية مع نمط متكامل من
تربوي���ا ،االرتب���اط -1اإليم���ان ،أو م���ا يمكنن���ا أن نس���ميه ًّ
بالس���ماء ،وعمل اإلنسان بفلس���فة الجزاء "الثواب والعقاب"،
الش���يء الذي تعجز عن���ه القوانين الوضعي���ة الرتباطها بالرقابة الخارجية وتوفر أدلة اإلثبات.
هلل ���د ا ُ ﴿و َع َ -2الرب���ط بي���ن التربي���ة ومب���دإ االس���تخالفَ : ِ الصا ِل َح ِ ���ات َل َي ْس َ���ت ْخ ِل َف َّن ُه ْم ِف���ي ا َّل ِذ َ ���م َو َع ِم ُل���وا َّ ي���ن َ آم ُن���وا م ْن ُك ْ ا َ ض﴾(الن���ور ،)55:وه���ذا الرب���ط يش���كل جوه���ر المنظ���ور أل ْر ِ الحضاري في التصور اإلسالمي.
-3الت���وازن والتكام���ل بي���ن الجوان���ب العقلي���ة والمادي���ة
49
السنة الثامنة -العدد (2013 )35
فض�ل�ا عن محب���ة غيرها .ب���ل فقدت ه���ذه القيمة لب لنفس���ها ً مفهومه���ا وطبيع���ة وجودها ،وانحرفت إلى مس���ارب الش���هوة
والمصلح���ة .ول���م تع���د تعبر ع���ن مفهومها الكون���ي من حيث هي تجربة وجدانية تس���اعد اإلنس���ان على نسج عالقات رائعة اس الن ِ ﴿و ِم َن َّ ينع���م في ظلها باألمان واالس���تقرار والتس���اكنَ :
هلل َأ ْن َد ًادا ُي ِحبو َن ُهم َك ُح ِّب ا ِ ون ا ِ ���ذ ِم ْن ُد ِ آم ُنوا ���ن َي َّت ِخ ُ هلل َوا َّل ِذ َ َم ْ ين َ ُّ ْ اب َأ َّن ا ْل ُق َّو َة َأ َش ُّ ���د ُح ًّب���ا لهلِ ِ َو َل ْو َي َرى ا َّل ِذ َ ين َظ َل ُم���وا إ ِْذ َي َر ْو َن ا ْل َع َذ َ هلل َش ِ اب﴾(البق���رة .)165:وقد آن األوان يد ا ْل َع َذ ِ لهلِ ِ َج ِم ًيع���ا َو َأ َّن ا َ ���د ُ لتنقي���ة هذا المفهوم ،والعودة به إلى مجرى ينابيعه ،كي تش���تد
وتي���رة اإليمان ،و ُترقق القلوب ويجلى صدؤها .آن األوان أن يعتصم المؤمن بحب اهلل ،وأن يجعل هذا الحب مش���كاة تنير
ناجعا لعلل الروح والجسد. فكره وعقله ووجدانه ،ودواء ً
كيف يتغلغل الحب في سويداء القلوب؟
وهن���ا نس���أل :أال نح���ب اهلل ونح���ن نتوج���ه إليه خم���س مرات ف���ي الي���وم ،ونمن���ع النفس ع���ن الطعام والش���راب ف���ي الصيام ال آخر يفرض نفسه على المؤمن: ونتصدق ونحج؟ لكن سؤا ً نديا في هل يتغلغل هذا الحب في س���ويداء القلوب ،ويس���ري ًّ ش���رايين الممارس���ة والس���لوك ،ويرقى بالعالق���ات في مدارج السمو الالئق باإلنسانية؟ رغ���م الهجم���ات الشرس���ة التي تتع���رض لها األمة ،س���واء بطريق���ة مباش���رة من خ�ل�ال االحتالل ،أم بطريقة غير مباش���رة م���ن خ�ل�ال المحاوالت المس���تمرة للتش���كيك ف���ي مرجعيتها عددا من المبش���رات وقيمه���ا وأصالته���ا وثقافته���ا ،فإن هن���اك ً الت���ي بدأت تهل على األمة ،وتقدم له���ا بعض التوازن والثقة، واس���ترجاع القدرة على المواجه���ة والصمود والتحدي .وهي مبش���رات تكشف أن األمة بدأت تس���تيقظ من سباتها ،وتدرك الس���بيل الصحيح المؤدي إلى النهض���ة والعزة .ولكي ال يظل ه���ذا اإلدراك واق ًفا على ح���دود المعرفة فقط ،يجب أن يمس الممارس���ة الس���لوكية للف���رد .وبمعن���ى آخر ،هذه المبش���رات حاف���زا عل���ى نب���ذ أس���باب اله���وان والوهن، يج���ب أن تك���ون ً وتتح���ول معانيها إلى س���لوك فاعل في حياة المس���لم اليومية، بحيث تصبح نفسه تحاسبه على التفريط في مقومات المضي في سبيل النهوض والعزة والكرامة وفرض الحق واالحترام. ولع���ل قيم���ة الح���ب ،من أب���رز القي���م التي فق���دت معانيها في حياة اإلنس���ان بصفة عامة ،وتش���وهت مفاهيمها في العقل والوج���دان ،وارتبطت بكل ما يؤدي إلى اإلس���فاف واالبتذال السنة الثامنة -العدد (2013 )35
48
والزي���ف واآلث���ام ...وكان م���ن نتيج���ة ذلك أن فق���دت الحياة س ﴿و َما َخ َل ْق ُت ا ْل ِج َّن َوا ِ مغزى وجودها كله ،يقول تعالىَ : إل ْن َ ال ِلي ْعب ُد ِ ون﴾(الذاريات .)56:ولن يتحقق مفهوم العبادة ،إال برابط ِإ َّ َ ُ واختيارا الحب بين العبد ومواله ،وتس���ليمه ناصيته له طواعية ً متغلغ�ل�ا في الف���ؤاد والوجدان وحب���ا ،وإنم���ا يج���ب أن يكون ً ًّ ليفيض في شرايين الممارسة والسلوك ،ويرقى بالعالقات في مدارج السمو الالئق باإلنسانية. ونظ���رة عاب���رة إلى اإلنس���ان ف���ي المجتمعات اإلس�ل�امية، تكش���ف الفص���ل المه���ول بي���ن إعالن���ه الح���ب هلل -من خالل تنفي���ذ ش���عائره الديني���ة الت���ي يقوم به���ا كل يوم -وبي���ن تفعيل مقاصد تلك الش���عائر في حياته وسلوكه وعالقاته ،ليطفو إلى السطح الجفاف والغلظة والتباغض والتحاسد ...وتغرق تلك المجتمع���ات في التنافر بدل التآلف ،والقس���وة ب���دل الرحمة، والبخل ب���دل البذل واإلنفاق المعنوي قب���ل المادي .وبالتالي ال يس���تطيع المسلم التبش���ير -من خالل نفسه -بالقيم الحقيقة والفاعل���ة ،س���واء ف���ي مجتمع���ه أو ف���ي أي مجتمع آخ���ر ،كما يفق���د مصداقيت���ه وعوامل تأثيره .وإذا عدن���ا إلى القيمة األولى الت���ي قام عليها المجتمع اإلس�ل�امي األول على عهد رس���ول اهلل ،نج���د أنه قام بالمحب���ة الخالصة والمؤ ِّلفة بين القلوب، والمس���عفة على التآخي والعطاء .ذلك أن رس���ول اهلل ربى أصحاب���ه عل���ى قيمة الح���ب ،وحثهم على إش���اعتها وتحقيقها عبر وس���ائل وممارسات مختلفة ،ألهميتها في تحقيق السعادة للف���رد واألس���رة والمجتم���ع واألم���ة واإلنس���انية وف���ي توحيد القلوب وتآلفها ،أو تعارفها وتعايشها وتفاهمها ،ولدورها في إعط���اء األم���ة قوتها وصالبتها؛ فال تهون وال تتفتت وال تعبث بها الفتن والدسائس ،وتقوم كل العالقات والممارسات على أس���اس م���ن الحب؛ ح���ب اهلل ،ح���ب نبيه ،ح���ب الخير ،حب ال حبا ورحمة ،مث ً الناس ...وكانت ش���خصيته الت���ي تفيض ًّ أعل���ى يهدي المجتم���ع الوليد إلى تنـزيل القيم اإلنس���انية التي جاء بها أو رس���خها في واقعه وس���لوكه .كما كانت األحاديث م���ن مث���ل قول���ه " :مث���ل المؤمنين ف���ي تواده���م وتعاطفهم وتراحمهم كم َثل الجسد الواحد ،إذا اشتكى منه عضو تداعى له س���ائر الجسد بالسهر والحمى" (رواه البخاري) ،تسري ندية في حياته ،ليش���تد البناء ويقوى وترتف���ع هامته .فأين نحن من هذا الحب في مجتمعاتنا؟! (*) جامعة عبد المالك السعدي ،تطوان /المغرب.
أدب
د .سعاد الناصر*
صدأ القلوب
أتى على األمة حين من الدهر لم تعد فيه شي ًئا مذكورا ،وأصبح اإلنس���ان فيها -إال من رحم ً رب���ي -يعي���ش جفا ًف���ا ملحوظً ا وقس���وة بارزة. ق���د تدم���ع العين على صورة دامي���ة أو يخفق القلب على حال س���ائب ،لك���ن ه���ل هذا إال إحس���اس عابر من ه���ول اللحظة، تموه لينج���رف الجمي���ع في دوام���ة من الغثائي���ة والعبثية الت���ي ِّ مجموعة من الحقائ���ق واألنظمة والقواعد ،وتتحكم الفوضى والاله���دف والجحود في مفردات الحي���اة الفردية والجماعية للمس���لم ،تثقل ظهره وتحرف س���لوكه وتوجه���ه إلى مزيد من الس���قوط والتردي .ويظل البحث عن أسباب الغوص في هذه الهاوية المريعة يس���كن كل مهموم بما يلمس���ه من معاناة األمة م���ن جه���ل عميق بأساس���يات دينها ال���ذي قامت علي���ه ،وببعد مهول عن تمثيله وفهم رسالته ،وتخلف عن االنضباط بمنهجه
الش���رعي واألخالقي ،وتفاوت بين الممارس���ة والسلوك وبين القيم اإلنس���انية ،وما يراه من ارتفاع وتيرة التحديات بمختلف توجهاته���ا ،وعلى اختالف أنواعها ،وشراس���ة الحرب المعلنة عليه ،ومن استمراء الهوان واالستسالم. ولع���ل افتقاد اإلنس���ان بصف���ة عامة في ه���ذا الوجود لقيمة لباس���ا ال يمت م���ن أرقى القيم اإلنس���انية ،وتمييعها وإلباس���ها ً بصل���ة إلى معانيها ودالالتها ،جعلت الحياة برمتها تفقد معنى وجوده���ا ومغزى خلقها .ه���ذه القيمة هي الحب .فالحب من القيم السامية التي جعل اهلل فطرة اإلنسان تهفو إليها ،وجعلها س���بحانه أس���اس العالقة الت���ي تربط بينه وبين عب���ده من جهة، وبي���ن األفراد والجماعات من جهة أخرى .لكن لألس���ف فقد جف���ت ينابيع المحبة م���ن القلوب ،وامتألت بأعش���اب الغفلة والنفور والقس���وة والحقد الكراهية ،والعجز عن محبة الذات
47
السنة الثامنة -العدد (2013 )35
قادت لصناعة الصورة النهائية ...ولو نظرنا للحضارة الغربية، لوجدن���ا من القرن العاش���ر الميالدي ب���دأت نذر تحوالت في أوروبا آتت ثمارها في القرن الثاني عش���ر ،بإنش���اء الجامعات الت���ي تعل���م علوما غير عل���وم الالهوت .ثم ظهرت مس���ارات ً متع���ددة للتط���ور لو تابعنا منها المس���ار العلم���ي ،فمن صرخة "روجر بيكون" في القرن الثالث عشر ،حتى إبداع المطبعة في القرن الخامس عش���ر ،حتى صرخة "كوبرينكس" وهزه لخيمة الق���رون الوس���طى ،لصرخ���ة "جاليلي���و" بمنظاره التي كس���رت عم���ود الخيم���ة التي تقوم بها القرون الوس���طى بأنه ال علم إال في الكتاب المقدس ،ثم يعطي "ديكارت" صك الوفاة للقرون الوس���طى ،ثم تتوال���ى اإلبداعات حتى تصن���ع الحداثة الغربية وعصر الصناعة وما تاله ...مس���ار طويل ليس له خطة مركزية تضافرت فيه طفرات أحدثها المبدعون في كل مس���ار أنتجت الصورة التي نشاهدها اليوم. باختص���ار ،ه���و مس���ار غير مخط���ط على الم���دى الطويل، نقط���ة االنطالق فيه ه���ي المبدعون الذين يس���تجيبون لصوت اللحظ���ة ،ومع كل فكرة جديدة يتولد ش���عاع م���ن النور يكون الفجر القادم.
مشروع التحوالت التي تقودها الدولة
مركزي���ا ،وتنحته نح ًتا وهن���اك مس���ار قصير تخط���ط له الدول���ة ًّ مث���ل التجرب���ة الصيني���ة والهندي���ة واإليراني���ة والماليزي���ة ،وهو مس���ار تح���رق فيه المراح���ل ،يعتمد على وج���ود رؤية محددة لدى القيادة في دخول الس���باق الحضاري ،ودافع نفس���ي كبير لحدوث التحوالت الكبرى. وهنا يبرز السؤال الكبير ،كيف تتحرر ممكنات البعض في بيئات ال يوجد فيها دور مركزي تخطيطي للدولة ،ويساهمون ف���ي صنع الحضارة؟ والتمهيد لبروز مس���ار الدولة الموعود... لو استطعنا أن نجيب على هذا السؤال ،لتجاوزنا عنق الزجاجة في المعضل المطروح على العقل العربي اليوم. فالعق���ل العرب���ي اليوم ،يط���رح معادلته كالتال���ي :كلنا نريد النهض���ة ،وال يعجبن���ا ما هو قائ���م ،والنهضة تحتاج لمش���روع دول���ة ،والدول���ة غي���ر مس���تجيبة لمطل���ب االنط�ل�اق ،فإلى أن تستجيب ال حيلة لنا! وهو غير مدرك بأن مس���ار النهضة -ليس بالضرورة -يمر عب���ر بوابة التخطيط المركزي للدول���ة ،فقد عبرت النهضة من بواب���ات أخرى كما رأين���ا في الحضارة اإلس�ل�امية والحضارة السنة الثامنة -العدد (2013 )35
46
مس���ارا الغربي���ة .وهن���ا يط���رح العقل س���ؤاله التالي :أليس هذا ً
ال ال قبل لنا به ...فمن سينتظر كل هذه القرون؟ طوي ً
وهو سؤال مشروع يغيب عنه ممكنات اللحظة التاريخية...
لق���د حدث في عصرنا ما يس���مى بتس���ارع التاريخ .فاألحداث الكب���رى ل���م تع���د تحت���اج لق���رون ،والتخطيط ال���ذي ال تقوده
ثمارا كبيرة بما توف���ره التقنية اليوم من أدوات الدول���ة قد يثمر ً
التواص���ل والتأثي���ر .لقد أصب���ح للفرد أثر كبير ف���ي التحوالت بسبب التقنية وأدوات االتصال ،فربما شخص واحد مثل "بيل
جيت���س" ف���ي عصرنا ،له من التأثير عل���ى واقعنا ما يتعدى دور أكب���ر الحكوم���ات اليوم .فهن���اك زلزال معرف���ي عمالق يتدفق
ف���ي فضاء العالم اليوم ،تس���تطيع فيه فئ���ة قليلة واعية أن تصنع تحوالت معرفية كبرى في مس���ار الوعي الحضاري ،حتى في غياب مشروع للتخطيط المركزي.
-4التمكين
ومصطلح التمكين ،مصطلح يعني زيادة القوة للفرد والمجتمع
والدول���ة ،بش���كل ينعك���س عل���ى ق���درة الفعل وعل���ى ديمومة الفع���ل ...وقوة المجتمعات اليوم تتمرك���ز في قدراتها العقلية
ومعارفه���ا ،وتنعك���س عل���ى اقتصاده���ا وصناعته���ا وزراعته���ا وخدماتها وقدراته���ا الدفاعية ومعنوياته���ا ...والتمكين عملية
مس���تمرة م���ن زيادة الق���وة ،وكلما زادت الق���وة زادت الثقة في
الذات ،وزادت القدرة على استمرارية الفعل.
-5الشهود
والش���هود في المعنى الذي ننحت���ه هنا ،هو الحضور المعياري الفاعل ،هو مكانة األس���تاذية الحضاري���ة ،هو واقع األمة حين تنحت لنفس���ها مكا ًنا بين األمم .ورغم أن التفاس���ير المتداولة أخرويا في تعريف الش���هود ،فه���و حدث متعلق تنح���ى منحى ًّ بيوم القيامة في ما هو متداول ...إال أن السقف القرآني أعلى م���ن ذلك بكثير ،هو يحتم���ل المعنى الدنيوي واألخروي ،هي
حالة مكتس���بة ناتجة ع���ن جهد كبير لتكون األم���ة معيارا لبقية ً األم���م، وش���اهدا عل���ى مخالفته���ا للمعايير الكب���رى للمطالب ً
الربانية الس���امية ،والش���اهد حاض���ر للوقائع عال���م بها ،فهو ال ٌ يشهد إال على ما علم.
(*) خبير في التخطيط اإلستراتيجي واإلدارة اإلستراتيجية /قطر.
صعوب���ة الواق���ع المعاش؟ أم ف���ي القيود اإلدراك المكافئ لمش���روع إعادة إنتاج الت���ي تفرضه���ا األوض���اع السياس���ية حضارتنا ،أو استعادة الدورة الحضارية حني ندر�س امل�س��ارات الطويلة واالجتماعي���ة عل���ى الفع���ل؟ ..ف���ي كل لمجتمعاتن���ا .وف���ي ه���ذا الس���ياق ،تبرز الت��ي قطعته��ا احل�ض��ارات يف األح���وال نحت���اج أن نكتش���ف موض���وع الحاج���ة لمعرف���ة المناف���س الحض���اري غياب التخطيط املركزي طويل الفاعلي���ة ،وكيف س���رت ف���ي مجتمعات أين وصل في تقدمه الفكري والسياسي الأم��د ،نر�ص��د جه��و ًدا نوعية كانت تعيش ظرو ًفا قريبة من مجتمعاتنا. واالقتص���ادي واالجتماع���ي والتقن���ي ال�ص��ورة أثم��رت � ومف�ص��لية والزراع���ي والقيم���ي؟ وأن ننظ���ر ف���ي فم���ا ال���ذي أخ���رج الجزيرة م���ن ركودها العظم��ى، إجن��ازات ل ل الكلي��ة مخزوننا الحضاري أين توقف في هذه ف���ي عص���ر الرس���الة؟! وما ال���ذي أخرج نقاط تراك��م ع�بر ت�س�ير وهي المس���ارات!؟ فبمعنى من المعاني ،كل أوروب���ا م���ن ركوده���ا الذي اس���تمر ألف م�ض��يئة يف ف�ض��ائها ،وم��ن حضارة تنظر لنفس���ها م���ن خالل النظر س���نة؟! وما ال���ذي أخرج الصي���ن والهند جمموعها ت�ش��كل احلالة الكلية ف���ي م���رآة اآلخر الحض���اري بصورة أو م���ن ركودهم���ا؟! ه���ل ه���و مس���ار واحد بأخ���رى ،لي���س لتتماه���ى مع���ه ،ولك���ن أم مس���ارات متع���ددة؟! وم���ا س���ر فاعلية للح�ضارة. لتنظر في أمر الفجوة التي يراد س���دها، اإلنس���ان وانطالقته؟ إننا حين نتحول من وتضع إس���تراتجية التح���رك الحضاري التحلي���ل اللغوي للفظ الفاعلية لألس���ئلة المناس���ب .بمعنى آخر ،الوعي الحضاري يطرح أس���ئلة قراءة العملية المتعلقة بالفاعلية ،نضع أيدينا على أسرار كثيرة تعيننا وتكتيكي���ا وه���ي المنطق���ة ف���ي مقاربة موضوع الفاعلية .ويمكن النظر إلى الموضوع من الواق���ع والتخطي���ط ل���ه إس���تراتيجيا ًّ ًّ األكثر صعوبة بعد التحليل والتنوير .وفي هذا الس���ياق ،بدت زاويتين ،األولى :زاوية النطالقة المش���روع في غيبة المشروع كلم���ات مثل الفاعلي���ة والتمكين والش���هود ،كمراحل تقطعها المركزي للدولة .والثاني :انطالقة المشروع من خالل الدولة وهما المس���اران المحتمالن للح���راك ،ونحتاج أن ننظر فيهما اإلستراتيجية للوصول إلى المطلوب النهائي فلنقترب منها. لمقارب���ة الموض���وع م���ن زاويت���ه العملي���ة .ولكن س���نقف عند -3الفاعلية الفاعلي���ة هي بمعنى م���ن المعاني ،مقاربة النش���اط المنتج من األول منهما ،ألنه جوهر الس���ؤال المطروح لحين تبني الدولة مشروعا الستعادة الفاعلية الحضارية. خ�ل�ال الجهد البش���ري ،والمنتج هنا تعن���ي المنتج للحضارة .المعاصرة العربية ً فهناك في جانب ،مطلب كلي هو إنش���اء الحضارة واس���تعادة دور األمة في الحضور على مس���رح الفعل اإلنس���اني ال مجرد الوجود الفيزيائي .هي اإلسهام المفيد للذات وللبشرية والذي مبررا للوجود. يعطي ً فه���و م���ن جان���ب ،مطلب إنس���اني ،ومن جان���ب آخر ،هو مطل���ب ربان���ي ،باعتب���ار خصوصي���ة األمة اإلس�ل�امية ودورها المناط بها في الكون من خالل خاتم الرساالت السماوية. والس���ؤال العملي :كيف نطلق ممكنات اإلنس���ان المسلم حتى يمارس دوره في صناعة الحضارة؟ وأين تكمن معوقات هذه الفاعلية؟ فس���ؤال المعوقات ،وس���ؤال كيفية تجاوزها ،ومن سيقوم بح���ل لغزها ،هل تكمن أس���رار عدم الفاعلية ف���ي عدم معرفة الحاج���ة للفاعلي���ة؟ أم تكم���ن في الي���أس من إمكاني���ة الفعل؟ أم تكم���ن ف���ي نوعية الغ���ذاء الفكري المت���داول؟ أم تكمن في
مشروع التحوالت التي يقودها األبطال المنفردون
حين ندرس المس���ارات الطويلة الت���ي قطعتها الحضارات في جهودا نوعية غي���اب التخطيط المركزي طويل األمد ،نرص���د ً ومفصلي���ة أثم���رت الصورة الكلية لإلنج���ازات العظمى ،وهي تس���ير عب���ر تراكم نق���اط مضيئة ف���ي فضائها ،وم���ن مجموعها تش���كل الحال���ة الكلية للحضارة .فلو أخذن���ا نموذج الحضارة ابت���داء -لوجدن���ا أنفس���نا أم���ام تراك���م يس���ير فياإلس�ل�امية ً مس���ارات متع���ددة ،فهناك تراكم علمي معرف���ي ،وهناك تراكم سياس���ي ،وهناك تراكم عس���كري ،وهك���ذا ...وللنظر للتراكم العلم���ي من فت���رة الوحي والبذور الحية ،لفت���رة جمع القرآن، لفت���رة حص���ره في مصحف عثمان ،لفترة تقني���ن اللغة العربية، لفت���رة تقني���ن الفق���ه وأصوله ،لفت���رة جمع الحدي���ث وعلومه، لفت���رة الترجم���ة ،لفترة إنتاج المنهج العلم���ي ...لن نجد خطة مركزي���ة انطلق���ت منه���ا كل هذه الجه���ود ،بل إبداع���ات أفراد
45
السنة الثامنة -العدد (2013 )35
علي���ه الحض���ارة اإلنس���انية المعاص���رة ،وبين حاض���ر تبدو فيه
المدرس���ية ،حيث تس���عى هذه المناهج لطرح اإلس�ل�ام وتنوير ليكون المجتمع���ات الجديدة ...فلم���اذا لم يتم الجي���ل ونقل���ه ّ التنوي���ر رغ���م أن نس���بة التعليم ف���ي المنطقة العربي���ة تصل في المتوس���ط ،%55وف���ي بع���ض الب�ل�اد تص���ل %80م���ن الكتلة الجماهيرية!؟ فما هي الحلقة المفقودة؟. ما الذي عطل حركة الوعي رغم كل هذا الضجيج حولها!؟ ه���ل هو غي���اب المادة المعرفية؟ أو افتق���اد المهارة ،أو نقصان الكثافة ،أو غياب التطبيق ،أو عدم الوصول للشريحة الفاعلة، أو افتق���اد محاولة االنتقال من التنظير للتطبيق بما يخلقه ذلك من تحد عملي؟ إن فكرة الوعي تتركنا حول أسئلة عملية ،مثل الوعي بماذا؟ والوع���ي لمن؟ وأس���ئلة الكيفيات كاملة ،وأس���ئلة المؤش���رات جميعا تش���كل حلق���ة الوصل بين عل���ى حدوث الوعي ،وهي ً النظري والعملي.
في رحلة البحث عن اإلجابات.
-2الحضارة
علما وعمالً ،أرضها وسماؤها األمة خارج السباق الحضاري ً
وبشرها مكشوفون أمام العالم.
ومن هنا ولد باستمرار سؤال المرحلة في صيغه المختلفة
وبعناوينه المختلفة :النهضة ،اليقظة ،الصحوة ،التقدم ،البعث، الش���هود الحضاري ...مفردات كثي���رة جوهرها وباعثها واحد ه���و غياب األمة عن المش���هد الكون���ي المعاصر وانطالق أمم
األرض .فبعد األوروبيين واليابانيين ،برزت النمور اآلس���يوية والصي���ن والهند ثم إي���ران وتركيا ...وفي قلب المنطقة ولدت
المكون���ة من خمس���ة ماليين من األف���راد ،والتي دول���ة اليه���ود ّ ألجم���ت أم���ة يبل���غ تعداده���ا المليار وني���ف ...عص���ر لم يعد في���ه العدد هو س���يد الموقف ،بل المعرفة والنوع واالس���تعداد
للتدافع الحضاري بكل أشكاله ...حالة جديدة طرحت نفسها
-وال زالت -على العقل المس���لم وعلى الواقع المسلم ونحن
مقاربة المفاهيم
حين نقترب من عنوان المقال ،سنجد أنفسنا أمام فكرة الوعي، وفك���رة الحض���ارة ،وفك���رة الفاعلي���ة ،وفكرة التمكي���ن وفكرة
الشهود ...ونحتاج أن نقترب من هذه المفاهيم المشتبكة شي ًئا ما ،حتى يمكننا أن نتحدث عن موضوعنا بشيء من الوضوح.
-1الوعي
حي���ن نتح���دث ع���ن الوعي نجد أنفس���نا أم���ام كلم���ة اإلدراك،
واإلدراك هنا -وفي هذا السياق -سنستعمله لعدد من األبعاد؛ إدراك ال���ذات وممكناته���ا ،وإدراك اآلخ���ر وممكناته ،وإدراك
الزم���ان والمكان .وبالتالي نحن نبحث عن وعي عام ،يس���مح لنا باتخاذ القرارات في موضوع صناعة الحضارة ،أو استعادة
ال���دورة الحضارية لألمة ف���ي ضوء معرفتها بقدراتها وبقدرات
اآلخ���ر ،وبالزم���ان والم���كان ال���ذي تت���م في���ه عملي���ة التداف���ع
الحضاري.
إن م���ا نبح���ث عنه بهذا المعنى ،حالة من الرش���د تصاحب
ال���روح والحماس ،معادل���ة تقوم على أولي األيدي واألبصار.
وهنا يطرح الس���ؤال نفس���ه ،ما هي المع���ارف الضرورية لخلق حال���ة الوع���ي؟ وك���م حج���م م���ا يل���زم منه���ا؟ وكي���ف س���تصل واس���عا من للمس���تهدفين بالوع���ي؟ األم���ر ال���ذي يخل���ق طي ًفا ً
اإلجاب���ات ،وس���نجد مقارب���ة واس���عة للموضوع ف���ي المناهج السنة الثامنة -العدد (2013 )35
44
كلم���ة الحض���ارة ومنه���ا كلم���ة الحض���اري الواردة ف���ي عنوان المق���ال بإضاف���ة ي���اء النس���بة ،مصطلح ف���ي الت���داول المعرفي يس���تخدم بثالث���ة معاني ،أولها :اس���تخدامه للتعبي���ر عن انتقال مجتم���ع ما من الطور البس���يط إلى الط���ور المركب ،فمن حياة الصياد البدائي أو الراعي المتنقل لطلب الكَ أل والماء للسكنى مثالً -حول األنهار واالستقرار ،ونشوء المجتمعات المركبةالت���ي تظه���ر فيها آثار االس���تقرار والتوس���ع في النظ���م ،وبروز الظاه���رة السياس���ية واالقتصادي���ة والدينية والقانوني���ة والكتابة والعل���وم المعمارية والفلك والطب ،ونظم المعمار المختلفة، وبروز الصناعات وشق الطرق وبناء الكباري والجسور ...كل يعب���ر عنه باالنتقال من البس���يط للمرك���ب ،وهو المعنى ذل���ك َّ األول ف���ي ت���داول كلم���ة حض���ارة ف���ي الحق���ل المعرف���ي .أما االس���تخدام الثان���ي :فهو اس���تخدام كلمة حض���ارة بالتبادل مع مجتمعا ما من ظهور أنماط الفنون كلمة ثقافة ،بمعنى ما يميز ً والمالبس وأنماط الحياة والمعتقدات والقيم والمنتجات التي تعطي كل شكل اجتماعي خصوصيته وهويته .أما االستخدام الثال���ث :فه���و اس���تخدام عنص���ري للمقارنة بي���ن المجتمعات غي���ر المتحض���رة أو البدائية .ويركز بع���ض الباحثين في تقويم الحض���ارات على الجانب القيمي فيها ،ويفضل آخرون تقويم الجانب القيمي والمادي في الحضارة. أم���ا حي���ن نتكلم عن الوع���ي الحضاري فنح���ن نتكلم عن
قضايا فكرية
د .جاسم سلطان*
الوعي الحضاري
فاعلية وتمكين وشهود يعي���ش الف���رد المس���لم المعاصر بي���ن ضغوط عل���ى خطاه يس���يرون ،ومع هذه المهم���ة تاريخ من اإلنجازات مفارقتي���ن كبيرتي���ن؛ قرآن من���زل يحتوي على الحضاري���ة الكب���رى ،حيث افتتحت العصور البش���رية الجديدة
أس���رار العظم���ة الرباني���ة وتوجيهاته���ا الفريدة لإلنس���انية قاطبة ،بإبداع المنهج التجريب���ي الذي أتم الحلقتين
وم���ا أناطت���ه بالمس���لم م���ن تكالي���ف تتع���دى الش���أن الف���ردي ،الكبيرتي���ن الس���ابقتين للبش���رية؛ حلق���ة المنه���ج العمل���ي (ف���ي
وتنق���ل هذا اإلنس���ان لمهم���ة كونية كبرى هي هداية اإلنس���انية الحض���ارات م���ا قب���ل اليوناني���ة) ،والمنهج التجري���دي النظري الحائ���رةُ ﴿ :ق ْل َهذِ ِه َس��� ِبيلِي َأ ْد ُعو ِإلَى ا ِ هلل َعلَ���ى َب ِص َير ٍة َأ َنا َو َم ِن الذي أبدعته الحضارة اليونانية .وهكذا تكامل للبشرية المنهج ا َّت َب َعنِي﴾(يوسف .)108:فأتباع الرسول محملون بمهمة كبرى ،العمل���ي ،والمنهج النظ���ري ،والمنهج التجريب���ي ،الذي قامت
43
السنة الثامنة -العدد (2013 )35
أن أغلب غير المس���لمين ال يعرفون عن اإلس�ل�ام إال الصورة
اإلنسان عامة للصورة ،لدرجة أن مسلمين من قوم موسى
ص���ورة اإلس�ل�ام في أذه���ان ش���باب أوروبا حت���ى ال يدخلون
ناس���ا عاكفين عل���ى أصنام لهم أن رأوا ف���ي الش���اطئ اآلخ���ر ُأ ً ﴿اج َع ْل َل َن���ا ِإ َل ًها َك َما َل ُه ْم آ ِل َه ٌة﴾(األع���راف ،)138:بل وقال قال���واْ : اهلل صفوة هؤالء وهم مع موس���ى في جبل الطور﴿ :أَرِ َنا َ َج ْه َر ًة﴾(النس���اء ،)153:مما يؤك���د خطورة الصورة ،وأهمية التقنية
المشوهة التي رسمها مستشرقون في القرون الوسطى؛ لتشويه أفرادا فيه ،وتعززها الممارس���ات الس���يئة لكثير من المس���لمين ً
ال في هذا الزمن! وجماعات ودو ً
أصل القرآن لموضوع صناع���ة "القول" بصورة عامة وق���د َّ
ال -ب���أن يكون وف���ي مش���اهد عدة م���ن الحياة ،حي���ث أمر -مث ً معرو ًفا﴾(البق���رة ،235:النس���اء،8-5:
األح���زاب.)32:
���و ً الق���ولَ ﴿ :ق ْ ال َ ْ ُ ال َب ِل ًيغا﴾(النس���اء.)63: يدا﴾(النس���اء ،9:األح���زابَ ﴿ .)80:ق ْو ً ���و ً ال َس ِد ً ﴿ َق ْ
ال ورا﴾(اإلس���راءَ ﴿ .)28:ق ْو ً يما﴾(اإلس���راءَ ﴿ .)23:ق ْو ً ﴿ َق ْو ً ال َم ْي ُس ً ال َك ِر ً َل ِّي ًنا﴾(طه.)44: ﴿و ِإ َذا َس ِم ُعوا ال َّل ْغ َو َأ ْع َر ُضوا وجعل من صفات المؤمنينَ : َع ْن ُه﴾(القص���ص ،)55:ونالح���ظ أن اإلع���راض يك���ون ع���ن اللغ���و وليس عن الشخص ،وهذا ينقلنا إلى نقطة جديدة.
-6الموضوعية واالنضباط المصطلحي :ونبدأ من حيث انتهينا
في النقطة السابقة ،فإن إعراض المسلم يكون عن اللغو وليس عن الش���خص ،أي ع���ن العمل الخاطئ ال���ذي ينبغي أن تتجه
إليه وحده الكراهة ،كما قال تعالى على لس���ان لوط وهو
يخاط���ب قومه الذي���ن جمعوا بين الكفر والش���ذوذ الجنس���ي: ﴿ َق َ ِ ِ ِ ين﴾(الش���عراء)168:؛ فالمس���لم ���ن ا ْل َقا ِل َ ���م ِم َ ���ال ِإ ّن���ي ل َع َمل ُك ْ موضوعي ،يتجه بحبه أو كرهه إلى القول ال إلى قائله ،كما في ون َأ ْح َس َن ُه﴾(الزمر،)18: ون ا ْل َق ْو َل َف َي َّتب ُِع َ ين َي ْس َت ِم ُع َ قوله تعالى﴿ :ا َّل ِذ َ مما يتيح له أن يكون منص ًفا ،حيث يستطيع رؤية محاسن من
يكره ومس���اوئ من يحب ،إضافة إلى اس���تفادته من إيجابيات ون َأ ْح َس َن ُه﴾. خصومهَ ﴿ :ف َي َّتب ُِع َ ﴿و ِإ َذا وألهمي���ة هذا األمر ،أمر الق���رآن بالعدل في القولَ : ان َذا ُق ْر َبى﴾(األنعام.)152: اع ِد ُلوا َو َل ْو َك َ ُق ْل ُت ْم َف ْ وأم���ا االنضب���اط ف���ي اس���تخدام المصطلح���ات فيقلل من
فخ ويبع���د اإلنس���ان عن الوق���وع في ّ الخط���أ ،ويزي���ل اللب���سُ ، معتزا بثقافة أمته ،كما فعل القرآن عندما نهى التعميم ،ويجعله ًّ ين ﴿يا َأ ُّي َها ا َّل ِذ َ عن اتباع المصطلحات المتش���ابهة ق���ال تعالىَ : ِ اس َم ُعوا﴾(البقرة.)104: آم ُنوا َ َ ال َت ُقو ُلوا َراع َنا َو ُقو ُلوا ا ْن ُظ ْر َنا َو ْ تمكن -7معرف � � ��ة طبائع الناس وحقائق الحياة :إن هذه المعرفة ِّ المس���لم من التأثير على اآلخرين ،واالستفادة من نقاط قوتهم كأفراد وكمجتمعات.
ومم���ا يج���ب معرفت���ه ف���ي س���ياق وس���ائل اإلع�ل�ام ،حب السنة الثامنة -العدد (2013 )35
42
بع���د نجاته���م من فرع���ون وتجاوزه���م للبحر بمعج���زة ،وبعد
فيها إليجاد إعالم رس���الي راقي ،كما يفع���ل أبناء تيار الخدمة
في تركيا اليوم.
-8تحلية المجتمع بشتى أنواع الخيرات :إن استزراع المعروف
ف���ي أي مجتمع ،واتس���اع دائرة الخير فيه ،يس���اعد الناس على
فه���م الحقائ���ق ،ويقل���ل م���ن الش���بهات ويجفف مناب���ع الفتن،
ويساعدهم على وضع النقاط على الحروف ،ولهذا قال تعالى عن المنافقين﴿ :و َلو َع ِلم ا ُ هلل ِفيهِ ْم َخ ْي ًرا لأَ َ ْس َم َع ُه ْم﴾(األنفال،)23: َ ْ َ الط ِّي ِب ِم َن ﴿و ُه ُدوا ِإ َلى َّ وع���ن المؤمنين في المقابل ق���ال َ : اط ا ْل َح ِم ِ ا ْل َق���و ِل َو ُه ُدوا ِإ َلى ِص���ر ِ يد﴾(الح���ج .)24:وهذا ما ينبغي ْ َ أن يجند نفس���ه من أجل تحقيقه اإلعالم اإلسالمي ،حتى تعم الفائدة أبناء المجتمعات اإلسالمية جمعاء.
-9استش� � � �راف المس � � ��تقبل ومعرف � � ��ة الم � � ��آالت :كان رس���ول راقيا بكل اهلل كقائ���د جماع���ة وزعي���م دول���ة ،يم���ارس ً إعالم���ا ً
ش���روطه وضوابطه ،ومن ذلك قدرته على فهم الناس وطبيعة
المجتمع���ات ،والتنب���ؤ بم���ا يمك���ن أن ينش���أ من إع�ل�ام مضاد يش���وه الرس���الة في أذه���ان البعض .ولذلك -وعلى س���بيل قد ِّ
المث���ال -ل���م يقت���ل عبد اهلل بن أب���ي رغم أنه اقترف ما تس���مى
ف���ي هذا العصر بجريمة الخيانة العظمى ،وقاد خامس���ا طابورا ً ً لإلرج���اف ت���ارة ،والتآمر مع أع���داء األمة تارة أخ���رى ،وع َّلل
"د ْع ُه ،ال االمتن���اع ع���ن قتله بقول���ه لعمر بن الخط���اب َ : يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه" (رواه البخاري). ً
ومن ثم ينبغي على اإلعالمي المس���لم أن يراعي ذلك في
عمل���ه كله ،والس���يما في التعامل مع اآلخ���ر .وبهذا كله يرتفع المس���لم من دركات "الس���ماع" ذات األبواب المخلوعة ،إلى
درج���ات "االس���تماع" ذات األب���واب اآللي���ة التي تع���رف متى تنفتح ومتى تنغلق.
(*) أستاذ مشارك للفكر اإلسالمي السياسي بجامعة تعز /اليمن.
القرآنية ،ويمكن إجمال أهمها في النقاط اآلتية:
المصطلح���ات الجميل���ة التي تطلق على أم���ور قبيحة ،كالغزو
-1التّ ِّ لق � � ��ي العقلي واالس � � ��تماع بجارحة العقل :أك���د القرآن أن
اس���تعمارا ،والخمور التي تس���مى مشروبات الذي يطلق عليه ً
لنبي���ه محم���د الذي أرهق نفس���ه ف���ي محاول���ة هداية بعض الن���اس م���ن دون جدوىَ ﴿ :أ َف َأ ْن َت ُتس ِ ال ���و َكا ُنوا َ ���م ُع ُّ الص َّم َو َل ْ ْ ِ ِ ال ُت ْس���م ُع ال ُت ْس���م ُع ا ْل َم ْو َتى َو َ ون﴾(يونس ،)42:وقالِ ﴿ :إ َّن َك َ َي ْع ِق ُل َ ين﴾(النمل.)80: الص َّم ُّ ُّ الد َع َاء ِإ َذا َو َّل ْوا ُم ْدب ِِر َ حذر اهلل المؤمنين من هذا الداء الوبيل فقال تعالى: ولهذا ّ ون﴾(األنفال،)21: ين َقا ُلوا َس ِم ْع َنا َو ُه ْم َ ﴿و َ ال َي ْس َم ُع َ ال َت ُكو ُنوا َكا َّل ِذ َ َ أيا كانت -إال من فتح سمعهاآليات من يستفيد ال بأنه وأكد ًّ ان َل ُه َق ْل ٌب َأ ْو ََ الس ْم َع ى ق ل أ ك ْ وقلبه﴿ :إ َِّن ِفي َذ ِل َك َل ِذ ْك َرى ِل َم ْن َ َ َّ يد﴾(ق.)37: َو ُه َو َشهِ ٌ
ومن المهم في هذا السياق أن يتم تفكيك الضالالت وتفنيد
الس���مع النافع هو الذي يقترن بالعق���ل الواعي ،كما قال تعالى
ويتضح هذا االقتران بين الس���مع والعقل حتى في حديث
الكافرين يوم القيامة عن أنفسهم ،إذ يتندمون قائلينَ ﴿ :ل ْو ُك َّنا الس ِع ِير﴾(الملك.)10: َن ْس َم ُع َأ ْو َن ْع ِق ُل َما ُك َّنا ِفي َأ ْص َح ِ اب َّ وعندم���ا اش���ترك ع���دد من المس���لمين ف���ي تناق���ل حديث اإلف���ك الذي رم���اه المنافقون كقذيفة لتمزيق عرض الرس���ول
َّ ،بي���ن الق���رآن مكم���ن الخلل في ه���ؤالء فق���ال﴿ :إ ِْذ َت َل َّق ْو َن ُه ِ ِ ف���ورا إل���ى ِب َأ ْلس َ���نت ُك ْم﴾(النور)15:؛ فق���د تلق���وه ب���اآلذان ونقل���وه ً األلس���نة فكأنهم تلقوه بألس���نتهم مباشرة .ولو نقلوه إلى العقل
روحية ،والتغريب الذي ُيطلق عليه تحدي ًثا ،وهكذا.
الش���بهات الت���ي يطلقها األع���داء دون البقاء في خان���ة الردود،
وأس���لوبا. زمن���ا ،ومكا ًنا، ومقدارا، بحي���ث يتم ال���رد الحكيمً : ً ً لق���د اهت���م الق���رآن بال���رد عل���ى الش���كوك والش���بهات
والض�ل�االت ،وله���ذا وردت كلم���ة "قل" في الق���رآن ثالثمائة واثنتي���ن وثالثي���ن مرة ،وهي ُتل ِّقن النب���ي ماذا يقول للناس، وأكثرها وردت في مثل هذه السياقات.
-3اإلع � � ��ادة إلى المنهج النب � � ��وي وأصحاب التخصصات :عند انعدام العلم في مس���ألة ما من المس���ائل التي يقع بها الهجوم والتح���دي واالته���ام م���ن قب���ل اآلخري���ن ،ال ينبغ���ي االرتجال
والتخب���ط ،ب���ل العودة إل���ى المنه���ج النبوي وأصح���اب العلم ﴿و ِإ َذا َج َاء ُهم َأ ْمر ِم َن ا َ أل ْم ِن َأوِ ا ْل َخ ْو ِف والدراي���ة ،قال تعالىَ : ْ ٌ ���ول َو ِإ َلى ُأو ِلي ا َ وه ِإ َلى الر ُس ِ أل ْم ِر ِم ْن ُه ْم َل َع ِل َم ُه َأ َذ ُاعوا ِب ِه َو َل ْو َر ُّد ُ َّ ين َي ْس َت ْنب ُِطو َن ُه ِم ْن ُه ْم﴾(النساء.)83: ا َّل ِذ َ وق���د ع َّظ���م اهلل أصحاب الخبرة بص���ورة عامة فقال تعالى: ���ك ِم ْث ُل َخبِيرٍ ﴾(فاط���ر)14:؛ ألنهم أصحاب دراية وافية ﴿و َ ال ُي َن ِّب ُئ َ َ بتخصصاتهم.
ال -القي���اس العقلي على كمرحل���ة وس���يطة ،واس���تخدموا -مث ً ال إ ِْذ َس ِ وه ذواتهم؛ لرفضوه وردوه ،كما قال تعالىَ ﴿ :ل ْو َ ���م ْع ُت ُم ُ ���ذا ِإ ْف ٌك ���ات ِب َأ ْن ُف ِس���هِ ْم َخ ْي ًرا َو َقا ُلوا َه َ ���ن ا ْل ُم ْؤ ِم ُن َ ���ون َوا ْل ُم ْؤ ِم َن ُ َظ َّ ِين﴾(النور ،)12:فكيف لو اس���تخدموا سائر اإلمكانات العقلية ُمب ٌ في ضوء الواقع الوضيء للصحابة الكرام ،وأمهات المؤمنين، الص ِّديق رضي اهلل عنهما. الص ِّديقة بنت ِّ والسيما عائشة َّ
-4إب� � � �راز تهافت الدعايات المض � � ��ادة :في الح���روب الثقافية
اآلنف الذكر ،وقع بعض المسلمين في شراك المنافقين بسبب
الثقافات األخرى ،تمتلئ أفكارهم ودعاياتهم بتناقضات كثيرة،
ِّ -2التحلي بالعلم والتس � � � ُّ�لح بالبراهين :في مثال حديث اإلفك
والتقول بدون علم ،كما قال تعالى: التلقي باللسان ال بالعقل، ُّ ���ه ِب َأ ْل ِس َ���ن ِت ُكم َو َت ُقو ُل َ َ ِ ���س َل ُك ْم ِب ِه ﴿إ ِْذ َت َل َّق ْو َن ُ ���ون ِبأ ْف َواه ُك ْ ْ ���م َم���ا َل ْي َ ِع ْل ٌم﴾(النور.)15:
وله���ذا الب���د من توفي���ر المعلوم���ات ،وتوضي���ح الحقائق،
وإب���راز الوثائق واألدلة والبراهين؛ حتى ال تتش���ابه على الناس يذر الرماد في عيونهم! البقر ،وحتى ال يستطيع أحد أن ّ
والب���د م���ن إذابة مس���احيق التجمي���ل عن األوج���ه القميئة
والمضامي���ن القبيح���ة؛ حت���ى ال يق���ع العام���ة ضحية له���ا ،مثل
ويش���تد هذا األمر في اإلع�ل�ام ،ألن الغرب يمتلك صناعة
إعالمي���ة ضخم���ة تتربع على خب���رات دقيقة ووفي���رة في علوم
ع���دة تتج���اوز اإلعالم إلى عل���وم النفس واالجتم���اع والتاريخ مكنهم م���ن التعرف على ثغرات المس���لمين وغيره���ا ...مم���ا ُي ِّ
ِ وخاللهم ،والتسلل منها إلى الداخل.
والنفس���ية التي يتعرض لها المس���لمون من قبل متطرفي بعض
ينبغ���ي أن يركز عليها الذين يتصدون لها بعلم ،إلثبات تهافتها م���ن خالل هذا األس���لوب العقلي الذي يجع���ل بعضها ينقض
البع���ض اآلخر ،وكع���ادة المبطلين في كل زمان ومكان ،فإنهم ي���ج﴾(ق ،)5:أو كما كم���ا ق���ال عنهم الق���رآنَ ﴿ :ف ُه ْم ِف���ي َأ ْمرٍ َم ِر ٍ خاطبهم مباش���رة بقولهِ ﴿ :إ َّن ُكم َل ِفي َقو ٍل ُم ْخ َت ِل ٍ ف﴾(الذاريات.)8: ْ ْ وما علينا إال اكتشاف هذه التناقضات وإبرازها للعيان. -5االرتقاء بالردود في المبنى والمعنى :في الرد على إس���فاف اآلخري���ن ،ينبغي أن تكون الردود حكيمة وحصيفة ،والس���يما
41
السنة الثامنة -العدد (2013 )35
ساحر ،حتى استقر ذلك في عقول الناس من كثرة التكرار.
وحت���ى بعد أن رأى هؤالء ،المعجزات الباهرة الدالة على
نب���وة موس���ى ،بم���ا فيها آي���ات العقوبة له���م كالج���راد والقمل والضف���ادع وال���دم ،فق���د ظلت عقوله���م غير الواعي���ة مزروعة بمس���ألة الس���حر المتهم بها موس���ى .وله���ذا فإنهم عندما
وادعوا قبولهم دعوته، أرادوا اس���تعطافه ليرفع عنهم الع���ذاب َّ ﴿يا َأ ُّي َها الس ِ اح ُر ْاد ُع َل َنا َر َّب َك قالوا له كما سجل القرآن ذلكَ : َّ ون﴾(الزخرف ،)49:وهذا يبين خطورة ب َِما َعهِ َد ِع ْن َدكَ ِإ َّن َن���ا َل ُم ْه َت ُد َ اإلعالم والدعاية واإلش���اعة ،حي���ث يمكن أن يصل األمر إلى حد تجريف العقول!
سماع األذى
م���ن المؤكد أن اآلخ���ر الديني أو الحضاري ليس قطعة واحدة متجانس���ة في كل ش���يء ،بل ه���و عوالم متع���ددة مختلفة .وإذا
عد اليهود أش���د الناس عداوة للذين آمنوا ،فإنه كان القرآن قد ّ ���و ًاء﴾(آل عمران ،)113:ومن باب أولى قد قال عنهم﴿ :ل َْي ُس���وا َس َ
غيرهم ،والسيما النصارى الذين هم أقرب مودة للذين آمنوا،
وخاص���ة في ه���ذا العصر الذي برزت فيه الكثي���ر من التيارات
اإلنسانية والمؤسسات المدنية.
اب لقد قرر القرآن ّ ﴿و َل َت ْس َم ُع َّن ِم َن ا َّل ِذ َ ين ُأو ُتوا ا ْل ِك َت َ وأكدَ : ِ ِ َ ���ن َقب ِل ُك���م َو ِم َن ا َّل ِذ َ َ ي���را﴾(آل عم���ران.)186: م ْ ْ ْ ���ر ُكوا أ ًذى َكث ً ي���ن أ ْش َ كثيرا يط���ال كلياتهم وقد س���مع المس���لمون وسيس���معون ً أذى ً الخمس :دينهم ،نفوسهم ،أعراضهم ،أموالهم ،عقولهم.
تقولوا عل���ى اهلل بغير وقب���ل ذل���ك وبع���ده ،ف���إن منهم م���ن َّ
علم ،فزعموا أنه أمرهم بالفحشاء وقالوا "إن اهلل فقير" ،ورموه ﴿س ْب َحا َن ُه بالبخل ،وزعموا أنه اتخذ ً ولدا ،ورموه بكل نقيصةُ : ِيرا﴾(اإلسراء.)43: َو َت َعا َلى َع َّما َي ُقو ُل َ ون ُع ُل ًّوا َكب ً أما األنبياء فقد اتهموهم بالسحر والكهانة والشعر ،وبأنهم
المس���حرين ،واتهموه���م باالفتراء والك���ذب على اهلل ،بل م���ن ّ
ورموه���م بالزنا، وتطيروا بهم ،وتقاس���موا ب���اهلل على إيذائهم، َّ
وحاربوهم بكل صنوف الحرب واإليذاء.
ولك���ن هل كل ما جاء من اآلخر ه���و إيذاء وحرب؟ وهل ْ
نتعامل مع مخرجات إعالمه بذات الطريقة؟
"استماع"؟ "س َم ٌاع" أم ٌ المسلم َ
وف���ي ه���ذا الزم���ن يتك���رر األذى ويتكث���ف ض���د مقدس���ات
المسلمين ،ويتولى اإلعالم الغربي كِ َب َر ذلك تحت مبرر حرية السنة الثامنة -العدد (2013 )35
40
ال���رأي ت���ارة ،ومحاربة التخلف تارة ثاني���ة ،ومحاربة اإلرهاب تارة أخرى. ولك���ن الواقع يق���ول ،إن إعالم اآلخر -والس���يما اإلعالم الغربي -يحتوي على مساحة واسعة للحرية والحوار ،واحترام حقوق المس���لمين ،والدفاع عن حرياتهم ومقدساتهم ،إضافة إلى وجود ما يمكن التعاون عليه من مش���تركات إنس���انية ،وما يمكن اقتباس���ه واالنتفاع به مم���ا تزخر به الحضارة الغربية من جواهر نفيسة وثمار يانعة. إن أكث���ر المس���لمين المعاصرين ،منقس���مون بين من يغلق كل األبواب والنوافذ بحجة عدم س���ماع األذى وعدم السماح للغ���زو الثقاف���ي بالتس���لل إل���ى حص���ون المس���لمين ،وبين من يفتحون األب���واب على مصارعها والنوافذ على آخرها ،بمبرر االقتباس والتفاعل الحضاري ،فانغلق القس���م األول وانجرف القسم اآلخر. له���ذا فإننا بحاجة ماس���ة إلى العودة المتدب���رة للقرآن ،فإنه وحده من يمتلك الرؤية العقلية المتوازنة التي يمكن أن ُتنقذنا م���ن تقليد اآلخر والذوبان في���ه أو االنغالق عنه وعدم اقتباس النافع المفيد منه. إن المسلم أشد ما يكون حاج ًة لتربية عقلية تمنحه الميزان راكدا من بقايا الس���لف أو الذي يزن به كل ش���يء ،س���واء كان ً واف���دا من الحض���ارة الغربية ،فيأخذ ما هو حس���ن ويتجنب ما ً ه���و قبيح ،وتعطيه الغربال الذي ُيفرز الغث ويس���تبقي الثمين، َّ بل يميز بواس���طته بين أفضل الخيرين وأس���وإ الش���رين ،فيأخذ األفضل ويرفض األسوأ. ولهذا جعل المولى من أهم صفات المؤمنين "القولية": ون َأ ْح َس َن ُه﴾(الزمر)18:؛ وهذا يعني ون ا ْل َق ْو َل َف َي َّتب ُِع َ ين َي ْس َت ِم ُع َ ﴿ا َّل ِذ َ "سماعين"، أن الفكر اإلس�ل�امي معني بإيجاد "مس���تمعين" ،ال َّ ٌّ هلل ﴿و ِف ُ ون َل ُه ْم َوا ُ اع َ يك ْم َس َّم ُ كما قال تعالى عن الصنف اآلخرَ : ِ ين﴾(التوبة.)47: يم ب َّ ِالظا ِل ِم َ َعل ٌ فاالس���تماع العقل���ي إ ًذا ه���و طبيع���ة المؤمني���ن ،والس���ماع الجارح���ي هو دي���دن المنافقين ومن ال َح َّظ له���م من المعرفة المفيدة والوعي النافع.
وسائل وأساليب صناعة "االستماع"
يزخ���ر إعالم اآلخ���ر بجبال ضخمة م���ن المعلومات واألخبار والش���ائعات تتراوح بين النفع والض���ر ،والبد من غربلتها عبر ع���دد من الوس���ائل واألس���اليب ،كما توحي بذل���ك النصوص
قضايا فكرية د .فؤاد البنا*
المسلم وإعالم اآلخر بين "السماع" و"االستماع"
رغ���م أن اللغ���ة العربي���ة أغن���ى لغ���ات العال���م
رباه���م اهلل على عينه ،واصطنعهم لنفس���ه، فصاح���ة وبيانَّ ،
على ما يسمى بـ"الترادف" .فمع وجود كلمات
محمد خاتم المرسلين فقد كان ملك الفصاحة الذي أدهش
بالمفردات ،إال أنها ال تحتوي -في الراجح- ُيق���ال إنها مترادفة ،إال أن هن���اك فرو ًقا دقيقة بينها ،مثل كلمتي
"السماع" و"االستماع" الواردتين في عنوان هذه المقالة.
فمع التشابه في المعنى العام بينهما ،إال أن "السماع" يتجه
إل���ى الفعل الذي تق���وم به جارحة األذن ،وبجانب هذا المعنى يضي���ف "االس���تماع" حضور العق���ل وإصغاء القل���ب .ولذلك
وس��� َّلحهم بكالمه البليغ ووحيه الفصيح .ولما كان المصطفى
أرباب البيان ،وصار كتابه الكريم أبلغ الكتب ،ونزله اهلل باللغة
العربي���ة لفصاحته���ا ،فمن معان���ي العروبة :اإلبان���ة والفصاحة. وقد نزل القرآن بالعربية حتى يسهل فهمه وعقلهِ ﴿ :إ َّنا َأ ْن َز ْل َن ُاه ون﴾(يوس���فِ ،)2: ���اب ُف ِّص َل ْت َآيا ُت ُه ُق ْرآ ًن���ا َع َرب ًِّي���ا َل َع َّل ُك ْم َت ْع ِق ُل َ ﴿ك َت ٌ ون﴾(فصلت.)3: ُق ْرآ ًنا َع َرب ًِّيا ِل َق ْو ٍم َي ْع َل ُم َ ولم���ا كان موس���ى ق���د أصي���ب بلثغ���ة في لس���انه أثناء
﴿و ِإ َذا ُق ِر َئ طالب اهلل المؤمنين بـ"االس���تماع" إل���ى القرآنَ : آن َف ْ ِ َ ِ ون﴾(األعراف،)204: ���م ُت ْر َح ُم َ ا ْل ُق ْر ُ اس َ���تم ُعوا َل ُه َوأ ْنص ُتوا َل َع َّل ُك ْ اس َت ِم ْع ﴿و َأ َنا ْ كليمه موسى بقولهَ : اخ َت ْر ُت َك َف ْ وخاطب اهلل َ وحى﴾(طه .)13:وتمتاز العربية بأن زيادة المبنى يدل على ِل َم���ا ُي َ زيادة المعنى؛ فـ"االستماع" أكبر مبنى وأهم معنى من "السماع". ً ً
وفي هذا إشارة بليغة إلى أهمية اإلعالم في الدعوة وخطورته
مع أن القرآن كتاب هداية لكل زمان ومكان ،إال أنه احتوى على
وتغيي���ر القناع���ات ،بل ونف���خ الروح في األوه���ام واألكاذيب.
فقد كان كل الرسل أصحاب بالغ مبين ،إذ كانوا أصحاب
ذاته؛ فقد س��� َّلط فرعون أجهزة دعايته للقول بأن موس���ى
خطورة اإلعالم
مبادئ كثيرة من العلوم واآلداب والفنون ،ومن ذلك اإلعالم.
���ر ه���ذا النق���ص بأخي���ه صغ���ره ،فق���د ألهم���ه اهلل أن يطل���ب َج ْب َ ه���ارون ،كما قال تعالى على لس���انهِ َ : ون ُه َو ار ُ ﴿و َأخي َه ُ اف َأ ْن ���ح ِم ِّني ِل َس���ا ًنا َف َأ ْر ِس��� ْل ُه َم ِع َي رِ ْد ًءا ُي َص ِّد ُق ِن���ي ِإ ِّني َأ َخ ُ َأ ْف َص ُ ُي َك ِّذ ُب ِ ون﴾(القصص.)34: البالغة ،حيث يمكن أن يصل إلى حد التجريف وقلب الحقائق بارزا في هذا السياق في قصة موسى ويسجل القرآن مثا ً ال ً
39
السنة الثامنة -العدد (2013 )35
تراعي النسق وال السياق.
مصطلح "الترشيد" :نموذج تطبيقي
ف���ي ه���ذا الس���ياق يعال���ج الدكت���ور عب���د الوه���اب المس���يري إش���كالية توظي���ف مصطل���ح "الترش���يد" دون النظ���ر إل���ى
مصطلح���ا مث���ل التحي���زات والمنطلق���ات فيق���ول" :ولْنأخ���ذ ً " "Rationalisationوه���و ترجم���ة لمصطل���ح ألمان���ي اس���تخدمه ويترجم مصطلح الترش���يد أو العقلنة ،إذ المفك���ر ماكس فيبر؛ ُ
وتعرف المعاجم اشتق من كلمة " "Raisonوالتي تعني "العقل"، ّ
عملي���ة الترش���يد بأنه���ا عملي���ة اس���تيعاب الغيب والس���حر من
المعرفة ،وتطبيق المناهج العلمية البيروقراطية غير الش���خصية
عرف الترشيد على إدارة المجتمع .حس��� ًنا ،ولكن "فيبر" نفسه ّ بأن���ه تحوي���ل العال���م إلى حال���ة المصنع ،كما ق���ال" :إن عملية
الترش���يد س���تؤدي ال إلى مزيد من الحرية لإلنس���ان ،وإنما إلى القفص الحديدي وإلى أزمة المعنى" .ويرى كثير من دارس���ي
كثيرا من نبوءات "فيبر" قد المجتمع���ات المتقدمة الحديث���ة أن ً تحققت ،وأن ظهور نظم ش���مولية منهجية رش���يدة مثل النظام الن���ازي ،ه���و تعبير متط���رف عن عملي���ة الترش���يد ،وأن تنميط
الوج���ود في المجتمعات الديموقراطي���ة هو تعبير عادي عنها،
وأنها مجتمعات لم تعد تسأل لماذا؟ وإنما تسأل كيف؟ وتركز عل���ى اإلج���راءات دون الغايات ،ولذا فه���ي مجتمعات تنغلق
داخل المرئي والمحسوس.
نصر على بع���د نب���وءات فيبر ،وبعد تحقق معظمها ،ما زلنا ّ
ترش���يدا ...ألم يحن الوقت أن نسمي األشياء تس���مية الظاهرة ً
بأسمائها؟ وإذا كانت الظاهرة بدأت بالترشيد وانتهت بالسجن، ف ِل���م ال نس���ميها بمصطلح آخ���ر لنبين الجوان���ب المظلمة فيها والت���ي ظهرت م���ن خ�ل�ال الممارس���ة التاريخي���ة؟ أحيا ًنا يبلغ التردي منتهاه فال نترجم المصطلح ،وإنما نكتفي بتعريبه(.)5
(*) كاتب وصحفي ومدير تنفيذي ،معهد المناهج /الجزئر.
الهوامش
( )1انظر ،الفكر اليوناني والثقافة العربية ،لدمتري كوتاس.
( )2انظر ،األقانيم الثالثة وآلهة من الحلوى :الطفل ،المرأة ،الحاكم.
(" )3غوغل���ة" ،نس���بة إلى ش���ركة المعلوماتية األمريكي���ة ( ،)Googleوالمراد هو التعبي���ر ع���ن تحوي���ل الترجمة إل���ى حرفة آلية ذري���ة غير ق���ادرة على توليد
المعاني المركبة المتماسكة.
( )4يمتلك مصطلح ( )Sensباللغة الفرنسية خاصية تركيبية عالية ،حيث يحمل داللة الوجهة/المعنى.
( )5اللغة والمجاز ،لعبد الوهاب المسيري ،ص.207: السنة الثامنة -العدد (2013 )35
38
كيف يصل عيناك مظلمتان، للنور ظامئتان، وللجمال مشوقتان... أتحسب يا مسكين، أنّك قادر على قطع الطريق بعينيك المطفأتين، ِ والوصول إلى خاتمة المسير؟! وأنَّى للقلب أن يَحيى إذا تاه عن مواله؟! ***
رِي بعد َعي ،وفيض بعد غيض. تاريخ الترجمة الذي يروي قصة ّ ّ
...محفوفة بالمخاطر
ومحاطة بالمحاذِر؛ مهمة الترجمة الفكرية محفوفة بالمخاطرُ ، محايدا لمجموع المعلومات ال بري ًئ���ا فترجمة الفكر ليس���ت نق ً ً والمع���ارف والخب���رات الت���ي أفرزتها حضارة إنس���انية ما ،بعد اتباعه���ا األس���باب الكونية ،حيث تتطاب���ق المعارف مع الكون ّرادا .فترجمة "الفكر" تعني ترجمة "النسق" الفكري الكامن اط ً وتبني���ه بوع���ي أو بدونه ،ويعن���ي انتقال الخصيص���ة مع الفكرة والمعرف���ة؛ س���ريان األمالح المعدنية في "نس���غ نباتي ناقص"، نهائيا ،بل يمكن تجاوزه باكتش���اف إال ّ أن النس���ق الكامن ليس ًّ كليات���ه الخفي���ة ،ومواقف���ه الكوني���ة المضمرة غي���ر المعلنة .إن ترجمة الفكر تعني ترجمة النسق ،والتصدي لعملية زرع دقيقة وحساس���ة لرقعة معرفي���ة ومعنوية ضمن نس���يج فكري جديد، يحرص فاتلُه على التناغم في اللون ،والتماس���ك في اللحمة، والتآلف في المبنى ،والتكاتف في المعنى. نعدد في اللغة ولعل���ي أض���رب مثا ً ال غاية في البس���اطة؛ إذ ّ اإلنجليزي���ة ضمائر الغائب المفردة ثالث��� ًة ،وهي للمذكر "هو" ويطل���ق عل���ى عالم ( ،)Heوللمؤن���ث "ه���ي" ( ،)Sheوللمحاي���د ُ األشياء والحيوان ( ،)Itإال أن المرء يقع في المفارقة اآلتية: • فتجد أن الطبيعة ( )Natureفي اللغة اإلنجليزية -التي هي يعبر عنه باعتب���ار رؤيتنا الكونية -مخلو ًقا غير عاقل وال مريدَّ ، بضمير التأنيث العاقل المريد ( ،)Sheفهل هذه التركيبة اللفظية كونيا كامنا ،وتعلن محايدة وبريئة؟ أم إنها تحمل نس��� ًقا ً ً تحيزا ًّ فاضحا في مس���توى الرؤية الكوني���ة؟ وهل نحن ملزمون بتبني ً اللف���ظ رغم كراهة رائحة داللته الفكري���ة والكونية؟ أم أن هذا الكالم ك ّله حذلقة وثرثرة؟ ال آخ���ر؛ ينوب ع���ن لفظة الصب���ي ()Baby • و ْلنض���رب مث���ا ً يعبر به عن "عالم األش���ياء" و"عالم الحيوان"، ضمير ( )Itالذي َّ فهل س���ترى وأنت تتأمل في ابنك الطفل؛ فترى إلى ابتس���امته "دمي���ة" ،أم بس���مة "طفل/إنس���ان" ،أم أنك عل���ى أنه���ا ابتس���امة ُ تع َّده "أقنوما"(- )2في أحسن األحوال! -حين س���تضطر إلى أن ُ تحدثه تحدث���ه باإلنجليزي���ة ،و ُتعي���د إلي���ه إنس���انيته فجأة حي���ن ّ ّ بلس���ان عربي مبين؟ فهل الترجمة تحويل ُلبنيات لغوية صماء من لغة إلى أخرى ،أم أن األمر أدق وأخطر؟
النسغ الكامل
االنتق���ال بالفك���رة من لغ���ة إلى أخرىَ ،ت َح ُّول في النس���ق ال في
اللف���ظ ،وانتقال من عالم مصطب���غ بخصائص موضوعية وذاتي ٍة تبدلت ال تنف���ك عن���ه ،إلى عالم جديد يحمل ذات النس���ق وإن ّ البني���ة .فالترجمة الفكرية عالم يتالح���م فيه المؤلف بالمترجم، ومفس���را ومؤل ًفا وينصه���ر المترجم في ذات الفكر فيصير قار ًئا ً في الوقت نفس���ه ،ليحمل مع صاحب النس���ق جذوة فكره التي تلفح صفحات لفظه ،ويقاسمه همومه وآالمه التي تؤجج سهاد ليل���ه ،فيميز بين اللفظ الذي ُيصافي���ه المفكر؛ فيبوح له بأوار ما ِ واللفظ الذي يج ّنده ليعبر به تارة عن رضاه وتارة اتقد في عقله، عن سخطه .ترجمة الفكر ليست معادلة رياضية صارمة صامتة صماء باهتة ال تفقه لغة ال تعرف الضحك وال البكاء ،وال ُبنية ّ األلوان وس���حر األذواق وفتنة الحكم���ة الحوراء ...إنها ترجمة الجوهر والروح ،ال ترديد الصدى و"غوغلة"( )3المعنى والمبنى، حمل خصائص الفكر فال يصلح لترجمة النسق ً ابتداء -إال من َوح ًّبا. فهما ُ ولبا ،وتالحمت ذاته بذات الفكر ً قلبا ًّ الذي يترجمه ً
الترجمة ترجمة السياق
()Sens
()4
عدا أسمق وأعلى ،فباإلضافة إلى كونها تكتسي ترجم ُة الفكر ُب ً ترجمة "نسق" فهي كذلك ترجمة "سياق" ،إذ بؤرة التركيز في الترجم���ة ليس���ت تقليص المس���افة اللفظية الفاصل���ة بين الدال تغير المناخ الفكري ومدلول���ه بين اللغتي���ن ،بل المقصد اعتبار ّ والمعنوي واللفظي. والميس���رة لهذا لع���ل من أوض���ح األمثلة وأكثره���ا طرافة، ّ المعنى؛ تباين التعبير بين الرجل العربي والرجل الفرنسي عن وحبورا. كلمة طيبة أفاضت قلبه بهجة ،ورفلت بمهجته سعادة ً طيب أو ك ِلم حس���ن يقول: فالرج���ل العربي حين يس���ره لف���ظ ّ "لق���د أثلج���ت ص���دري" ،لكن ترجمة ه���ذه الداللة إل���ى اللغة ال -ستكون على النحو اآلتيça m’a réchauffé le( : الفرنسية -مث ً دافئا بحسن كالمك ...والمراد )cœurبمعنى :لقد جعلت قلبي ً م���ن القول إن الترجم���ة هنا لم تكن البؤرة فيه���ا ترجمة درجة موضوعي���ا من اللغة "أ" إلى اللغ���ة "ب" ،بل المقصد الح���رارة ًّ ترجم���ة الس���ياق ال اللف���ظ ،ألن بيئ���ة الرجل العرب���ي والرجل محددة في البيان؛ فيصير المعنى المراد إبالغه أن أثر الفرنسي ِّ الكلم���ة الطيب���ة على المرء كحالوة العث���ور على مكان للدفء الح���ر .إن الترجمة الحرفية الق���ر ،أو إث�ل�اج الصدر أوان أوان ّ ّ لهاتين العبارتين ستجعالن "العربي" يستشهد لفرط االحتباس الح���راري! والفرنس���ي يموت لدخوله العص���ر الجليدي (دون س���ابق إنذار)! هذه فات���ورة الترجمة الحرفي���ة األيقونية التي ال
37
السنة الثامنة -العدد (2013 )35
قضايا فكرية طه كوزي*
ترجمة الفكر من "بيت الحكمة" إلى "غوغل" ال ري���ب أن ترجم���ة الفك���ر ليس���ت مج���رد نق���ل ش���تات أف���كار نزيه���ة ومحاي���دة م���ن لغ���ة إل���ى أخ���رى ال تحم���ل في ثناياه���ا تحي���زات صاحبه���ا ومواقف���ه ...ففع���ل الترجم���ة لي���س ميكانيكي���ا فوتوغرافي���ا يح���رص في���ه صاحب���ه عل���ى نق���ل المبان���ي م���ن بائع���ا م���ن باعة اللف���ظ في ُس ِ ���وق ِنخاس���ة المعاني لس���ان إل���ى لس���ان ،ولي���س ً واألف���كار ...إن���ه خالص���ة اإليم���ان بس���نة "التداول" بي���ن األمم ف���ي االنتصار واالنكس���ار ،وعصارة حس���ن التدبير في البناء الحضاري واإلعمار اإلنساني.
الترجمة رحلة صدق
(مترجم لها) الترجم���ة مؤش���ر على ارتفاع منس���وب الفك���ر والمعرفة عند أم���ة َ وانكس���ار أخ���رى (مترجم إليها) ،لي���روي بذلك تاريخ الترجم���ة قصة التدافع الحض���اري بين بني اإلنس���ان؛ أم��� ٍة تعيش ذروة الحضارة وت���ؤذن بما بعدها علما ومعرفة وخبرة ...وأم��� ٍة أخرى تعصرها (م���ا بعد الحضارة) ،أنتج���ت ً أزم��� ٌة معرفي���ة؛ أفاقت للتو م���ن ُدوار حضاري ،وانتكاس نفس���ي ،تعيش فانكبت بين أقدام المنتصر متتلمذة ناقل ًة مالم���ح "ما قبل الحضارة"، ّ محرك االنطالق ،ووقود االنعتاق من جاذبية المعارف ،ع ّلها تكون ّ التخلف والجهل واالسترخاء الحضاري. إنه���ا ش���ريحة زمنية تتآلف مش���اهدها كلما ازددت استكش���ا ًفا ألغوار سائحا ،ابتداء من الحضارة الصينية الشرقية إلى اإلغريقية سابحا الماضي ً ً الغربية ،ومن ثم إلى الحضارة اإلسالمية في مح ّطاتها التاريخية المختلفة حينا آخر ،لتجد نفس���ك بين يدي "هارون الرش���يد" حينا ومتتلمذة ً مع ِّلمة ً (809-786م) ،و"المأم���ون" (833-813م) م���ن بعده ،وهما يؤسس���ان لجهود الترجمة من الفكر اليوناني إلى اللغة العربية( )1من خالل ترجمة فنون وصنوف شتى ،ابتداء من كتاب "األخالق الكبرى" ألفالطون ،وكتاب "مواضع الجدل" ( )Topiqueألرس���طو ،إلى كتابات بطليموس بعنوان "تيترابيبلوس" (�Tetrabib ���ج خول رج ً ال اس���مه "الخوارزمي" من ُ نس َ ...)losهذا الحراك المعرفي ّ بعدْ ، أول كت���اب ف���ي "الجب���ر والمقابلة" .وتقف بك عجلة الزم���ن فجأة عند "الرجل الغربي" وهو يسابق الدقائق والثواني في ترجمة ما انتهت إليه حضارة المسلمين في "بالد األندلس" يوم سقطت "غرناطة" سنة 1422م ،حين آذنت كلمات "أم المعتمد" بانحدار "حضارة األندلس" قائلة البنها الخليفة "أبي عبد اهلل الصغير" حين أضاع الملك" :ابك كالنساء على ُملك لم تحافظ عليه كالرجال" .إنه السنة الثامنة -العدد (2013 )35
36
الطرق وإعدادها من مواقع الحديـد ،ومواقع النحاس ،وأفران صهره ،حتى موقع الردم .كذا المعاونة فيما تستلزمه المساواة بين الصدفـين ،والذي يتواله ذو القرنين. -3فري���ق إليقاد الني���ران ،وهذا الفريق يتول���ى إعداد مواد وخامات االشتعال ،كذا أدوات النفخ والبـدء في النفخ إلشعال النيران عندما يطلب ذلك ذو القرنين في الوقت المحدد. -4فريــق إلعداد النحــاس المــذاب ،وهذا الفريق يتـولى؛ اكتشاف خام النحاس ،ونقله إلى أفران صهره ،والتي يقيمونها، ثم صهر النحاس ونقله إلى موقع الردم عندما يطلبه ذو القرنين. ال ،دون الدخول وهذا كله قد وضح من قول ذي القرنين إجما ً ���ر ْغ َع َل ْي��� ِه ِق ْط ًرا﴾. ف���ي ه���ذه التفاصيل بقول���ه ﴿ :آ ُتو ِن���ي ُأ ْف ِ ه���ذه بعض الف���رق التي نس���تطيع أن نجزم أن ه���ذا العمل ق���د تطلبه���ا -وأكثر من تصورنا هذا قد حدث -لما يتطلبه هذا العم���ل الضخ���م من فرق لتنفيذه ،حتى إنن���ا نتخيل أنه البد أن الشعب كـله قد عمل فيه ،وذلك للحاجة إلى كثير من األيـدي العامـلة لتنفيذه .وال نس���تطيع أن نتخيل كيف شرح ذو القرنين وبي���ن لكـ���ل فريق عمل���ه وواجباته وأن ي���ؤدي كل فريق عمله ّ على أكمل وأتم وجه. ال ،وكي���ف وال ننس���ى أن الق���وم ال ي���كادون يفقه���ون ق���و ً تاب���ع ذو القرني���ن المراحل البعيدة ع���ن موقع الردم عندما كان بعيدا عنه في الكش���ف يس���اوي بين الصدفين وهناك من يعمل ً ع���ن عنصري الحدي���د والنحاس وتصنيعهم���ا ،ونقل الكميات المطلوب���ة منهم���ا ،كذا خامات ومواد االش���تعال ...وكان البد لهذه ال ِف َرق أن تتولى إدارة أنفسهم بأنفسهم. بعضا من مهامه اإلش���رافية وكأن���ي بذي القرنين قد فوض ً ألف���راد من الش���عب .وه���ذا ما نطل���ق عليه ف���ي إدارة األعمال "التفويض" ،ولقد نجحوا في هذا .وتلك ما تنادي به النظريات الحديثة في "القيـادة" ،و"إدارة األعمال".
-12القادة يجب أن يكونوا قادة تغيير إلى األفضل
أراد ذلك ذو القرنين فحول هذه األمة ،من أمـة تشتري سالمتها إلى أمـة تصنع س�ل�امتها .ومن ش���عب متكاسل إلى ِف َرق عمـل بجد لتحقيق أمنهـم ،من خالل إنجـاز مشروعهم متعاونة تسعى ٍّ قيما جديـدة تمثلت في حب العمل ،الثقـــــة الضخـم .فأكسبهم ً في النفس ،إدارة أنفسهم وأعمالهم ذاتيا ،الكشف عن مصادر ثرواتهم ،اكتساب مهارات جديـدة ،معرفة تكنولوجيـا جديـدة، تقدي���ر قيمــــ���ة الوق���ت ،ب���ث روح التعـــ���اون بينه���م ،اكتس���اب
قي���م وأخالقي���ات جديـدة تنب���ع من إيمان ه���ذا القائـد العظيـم.
-13إنكــار الـــذات والتــــواضــــــع
القادة يجب أن يعظموا أهداف المنظمة ،وينكروا ذاتهم في سبيل
الجماع���ة لينالوا ثقة اآلخرين واحتـرام مرؤوس���يهم لهم .ولقد
ضرب لنا ذو القرنين المثل األعلى في هذا بقولهَ ﴿ :قالَ َما َمكَّ ِّني فِي ِه َر ِّبي َخ ْي ٌر َف َأعِ ي ُنونِي ِب ُق َّو ٍة َأ ْج َع ْل َب ْي َنكُ ْم َو َب ْي َن ُه ْم َر ْد ًما﴾(الكهف.)95: وكأني به يقول لهم :لم آت إليكم من أجل المغنـم ،ولكن متطوعا ،أطلب العون منكم بقـوة ،ساعدوني جئت من أجلكم ً
ردم���ا ،يحميكم ويحم���ي ذرياتكم من ألجعـ���ل بينك���م وبينهم ً بعدكم .ثم انظر إلى تواضعه الجم؛ وبعد أن أتم العمل الخالد ال َه َذا َر ْح َم ٌة ِم ْن َر ِّبي َف ِإ َذا والمعجز ،رد األمر إلى اهلل َ ﴿ :ق َ ان َو ْع ُد َر ِّبي َح ًّقا﴾(الكهف .)98:إنه َج َاء َو ْع ُد َر ِّبي َج َع َل ُه َد َّك َاء َو َك َ
الممك���ن في األرض ،يطل���ب العون ليبني الردم ،وينصهر معه ّ تواضعا هلل . الشعب ،ثم ال يغتر بعمله ً
-14وضع معايير عالية لتقويم األداء
اعوا ل َُه َن ْق ًبا﴾(الكهف.)97: اس��� َتطَ ُ اس���طَ ُ اعوا َأ ْن َيظْ َه ُر ُ وه َو َما ْ ﴿ َف َما ْ
إن القرآن الكريم ،يعلمنا أن كل عمل يعمله اإلنسان ،البد أن
مؤديا للغرض الذي أقيم من أجله .فالردم الذي تم بنـاؤه يكون ً بي���ن يأجوج ومأج���وج ،والقوم المس���تضعفين ،البد أن يحقق هدفي���ن؛ األول ،أن يك���ون من المتانة والق���وة بحيث ال يمكن
جدا يصعب ثقبا ينفذون منه .والثاني ،أنه عال ًّ أن يحدث���وا فيه ً
عليه���م أن يتس���لقوه ،ولقد حق���ق تنفيذ الردم هذي���ن الهدفين.
فعل���ى القادة حين يخطط���ون لتنفيذ األه���داف ،أن يضعوا
نص���ب أعينهم أعل���ى المعايير لجـ���ودة األداء ،ليصلـوا ب ِف َرقهم
قيموا ما أتمـوه من عمـل على إلى أفضـل النتائـج ،وعليهم أن ُي ّ
المعايير المطلوبة للعمل ،فها هو ذو القرنين ،وبعد أن تماسك الردم وتماس���ك معه الش���عب وت���م العمل ،ينتق���ل إلى مرحلة
اختب���ار العمل وكأن���ه يقول لهم :حاولوا أن َتظهروه ...حاولوا
وه َو َما اس���طَ ُ اعوا َأ ْن َيظْ َه ُر ُ أن تنقبوه ...فلم يس���تطيعواَ ﴿ ...ف َما ْ اعوا ل َُه َن ْق ًبا َ قالَ َهذَ ا َر ْح َم ٌة م ِْن َر ِّبي َف ِإذَا َج َاء َو ْع ُد َر ِّبي اس َتطَ ُ ْ ان َو ْع ُد َر ِّبي َح ًّقا﴾(الكهف.)98-97: َج َعل َُه َد َّك َاء َو َك َ
(*) باحث في مجال اإلعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة المطهرة /مصر.
35
السنة الثامنة -العدد (2013 )35
المتكاسلة إلى قوة بشريـة هائلة تنفذ أكبر مشروع على األرض.
-9القدرة على اتخاذ القرارات
وتلك القدرة تس���تلزم في فكر القائد مراحل مدروسة ومنطقية لصناعتها ،وهي على النحو التالي كما تصورناها: • تحديد المش � � ��كلة :في حالتنـ���ا تلك هي إغـ���ارة يأجوج ومأجوج على القوم واإلفس���ـاد فيهم ،والقوم ال يملكون سبل استثمار طاقتهم البشرية وثرواتهم ،كما ظهر من حديث القوم لذي القرنين. • جمع البيانات حول المش � � ��كلة :وفي هذه القصة القرآنية الجليلة ،نرى -واهلل أعلى وأعلم -أنها جاءت من مصدرين: المصدر األول :قد يكون ِعلم ذي القرنين بإفس���اد يأجوج ومأج���وج في هذه المنطقة قد جـ���اءه من قبل اهلل ،وبكيفية ال نعلمها ،فانطلق إليهـا. المص���در الثان���ي :علم���ه به���ا ج���اء بمعاينته إفس���اد يأجوج ال ،قب���ل أن يلتقي بالقوم ومأج���وج عندم���ا بلغ بين الس���دين أو ً ﴿ح َّت���ى ِإ َذا دونهم���ا وم���ا يدلن���ا عل���ى ق���ول الح���ق س���بحانهَ : ون ���د ْي ِن َو َج َد ِم ْن ُدو ِنهِ َم���ا َق ْو ًما َ ال َي َ ون َي ْف َق ُه َ ���ك ُاد َ َب َل َ الس َّ ���غ َب ْي َ ���ن َّ ال﴾(الكه���ف .)93:والس���ياق القرآني في غاي���ة البالغة والدقة، َق ْو ً بحورا من المعرفة والحكمة .فمن هذه اآليـة وفي تدبره يعطي ً ال، الكريم���ة يظه���ر لنا بجالء أن ذا القرنين بلغ بين الس���دين أو ً فعاين إفس���اد يأج���وج ومأجوج ،ثم انتقل إل���ى منطقة دونهما، ���د ْي ِن الس َّ أي بالق���رب منهما ،قال س���بحانهَ : ﴿ح َّتى ِإ َذا َب َل َغ َب ْي َن َّ َو َج َد ِم ْن ُدو ِنهِ َما َق ْو ًما﴾(الكهف)93:؛ هناك التقى بالقوم ،فأخذوا يعرض���ون علي���ه أزمتهم ،األم���ر الذي وافق ما لدي���ه من معرفة مس���بقة "عن إفس���اد يأج���وج ومأجوج" ما تح���دث القوم عنهم وعن إفس���ادهم ،لذا اتخذ القرار بإقامة ردم ضخم بينهم وبين يأجوج ومأجوج. المص���در الثال���ث :من الق���وم أنفس���هم -كما ذكرن���ا آنفا- ون ���د َ وج ُم ْف ِس ُ وقوله���مَ ﴿ :قا ُلوا َي���ا َذا ا ْل َق ْر َن ْي ِن إ َِّن َي ْأ ُج َ وج َو َم ْأ ُج َ ِفي ا َ ض﴾. أل ْر ِ • الحكم � � ��ة في االختيار بي � � ��ن البدائل المتاحة :إن أحس���ن البدائـ���ل ف���ي ه���ذه األزمة ،ه���و إقامة مـان���ع حصي���ن بالموارد المتاحة ،بين القوم وبين يأجوج ومأجوج. • رسم خطط التنفيذ :وهذه البد أن يكون لها تصور كامـل ف���ي فك���ر القـائد؛ كيف يخط���ط ،وكيف تك���ون البداية ،وكيف يس���تثمر كل اإلمكاني���ات ،وما ه���ي مع���دالت األداء المطلوبة السنة الثامنة -العدد (2013 )35
34
إلنهاء العمل على الوجه األكمل وفي الموعد المحدد.
• مرحلة صياغ � � ��ة القرارات وإصدارها :وهي القرارات التي
أصدره���ا ذو القرني���ن ،والتي جاءت بقوة عل���ى النحـو التالي: ﴿آ ُتو ِن���ي ُز َب���ر ا ْل َح ِد ِ ���ر ْغ َع َل ْي��� ِه ي���د﴾﴿ ،ا ْن ُف ُخ���وا﴾﴿ ،آ ُتو ِن���ي ُأ ْف ِ َ ِق ْط ًرا﴾(الكهف.)96: • متابعة تنفيذ القرارات :فلق���د كان ذو القرنين بينهـم ،يده بيده���م وهم يقيم���ون الردم ،لهم مهام وله مه���ام ينفذها ،وهو
متواج���د بينه���م ،ويتاب���ع مراح���ل التنفي���ذ وهو بالق���رب منهم.
فاالتصاالت الفعالة بين القائـد والتابعين ،من أساس���يات إدارة األزمات ،فال هناك وقت يضاع.
-10إدارة الـوقت
المقولة تقول" :الوقت = نقود" ،وفي األزمات" :الوقت = حيـاة".
والس���ياق القرآن���ي الجليـل في هذه القص���ة ،يلفت أنظارنـا إلى أهمية عامل الوقت واالس���تخـدام األمثـل له ،وذلك من خالل إشـارات لطيفـة في أثناء تنفيـذ الردم .فبعد عرض فكرتـه عليهم
بـ���دأ في التنفيـذ على الف���ور بقوله﴿ :آ ُتونِي ُز َب َر ال َْحدِ يدِ ﴾ .فإذا ﴿ح َّتى ِإذَا انتهت مرحلة ،بدأ بالمرحلة التي بعدها على الفورَ :
ارا َقالَ آ ُتونِي اوى َب ْي َن َّ َس َ الص َد َف ْي ِن َقالَ ا ْن ُف ُخوا َح َّتى ِإذَا َج َعل َُه َن ً ُأ ْف ِرغْ َعل َْي ِه قِطْ ًرا﴾. وبدراس���ة مراح���ل تنفيذ "مش���روع ال���ردم" ال���ذي أقامـه ذو معا القرنين بمعاونتهم له ،نرى أن هناك عدة أنش���طة قد بدأت ً
اس���تثمارا للوق���ت وعدم إضاعت���ه؛ حتى إننا نس���تطيع أن نؤكد ً
أن الش���عب كله كان في حالة استنفار ،وتوزعت المسؤوليات
وأدى جميع أفراد المجتمع دوره بإتقـان وفي تسلس���ل متتـابع لمراحـل تنفيذ الردم.
-11القدرة على تكوين ِف َرق العمل
الق���رآن الكري���م أش���ار في ه���ذه القص���ة الرائعة عل���ى أن هناك
ِ���رق عمـل تكونت لتنفيذ ه���ذا العمل المعجـز ،ولقد وزع ذو ف َ أدوارا ومراحل للعمـل عليهم ونسق بينهم .ولقد ظهر القرنين ً جليا من اآليات الكريمـة ،فتكونت ف َِرق العمل اآلتية: هذا ًّ
-1فري���ق إلحضار الحديد وتكون فور قولـه ﴿ :آ ُتو ِني ُز َب���ر ا ْل َح ِد ِ يد﴾ ،وما يس���تلزم هذه المهم���ة من التنقيب عن خام َ الحدي���د ،والكش���ف عن مناجم���ه وإعداده عل���ى الصورة التي طلبها ذو القرنين ،و َن ْقله إليه عندما يطلبه.
-2فريـق للتجهيزات والمعاونة ،وهذا الفريق يتولى تعبيد
ال للثقة ،وأهال للخبرة. القصة ،إلى أن القائد البد أن يكون أه ً ال للثق���ة جاءت في قول���ه ُ ﴿ :ق ْل َنا َيا َذا واإلش���ـارة لكون���ه أه ً ���ن إ َِّم���ا َأ ْن ُت َع ِّذ َب َوإ َِّما َأ ْن َت َّت ِخ َذ ِفيهِ ْم ُح ْس ً���نا﴾(الكهف.)86: ا ْل َق ْر َن ْي ِ أه�ل�ا للخب���رة ما ذكرن���اه آنفا ف���ي قوله : واإلش���ارة لكون���ه ً َ ِ ِ َ خبرا﴾(الكهف)91: ﴿ك َذل َك َو َق ْد أ َح ْط َنا ب َِما َل َد ْيه ُ ْ ً ولقد س���اق الذكر الحكيم اإلش���ارة إلى خبرة ذي القرنين ﴿خ ْب ًرا﴾ ،أي إن الخبرة لدي���ه تتعدد وتتنوع ما بصيغ���ة النك���رة ُ بين الخبرة اإلدارية ،والخبرة في فنون القيـادة ،والخبرة العلمية والمهني���ة في مختل���ف المجاالت ،والقدرة عل���ى التعامـل مع مختل���ف األجناس في ظ���ل متغيرات متباينة ...وهذا ما وضح في قيادته لش���عوب األرض ،مما يدل على الخبرات المتعددة لدي���ه ...ولقد بلغت تلك الخب���رات واإلمكانيات من العظمة، وتعظيما بشأنها. أن يذكر الحق سبحانه إحاطته بها تشري ًفا ً وه���ذه الخبرات الزمة لقيادة التابعين ،حيث تس���اعد على اتخ���اذ القائ���د أو المدي���ر ،للق���رار المناس���ب إزاء كل موق���ف حسبما تقتضيه ظروفه.
-6الثـــــقة فــي اآلخـــــرين
إن إنج���از أي عم���ل ال يت���م عل���ى الوج���ه األكم���ل ،إال بالثق���ة المتبادلة بين القادة ومرؤوسيهم .فالبد للقادة أن يمنحوا الثقة ذكوا فيهم قدراتهم الذاتية وثقتهم وي ُ لتابعيهم ويشعروهم بهاُ ، في أنفسهم .تلك الحقيقة أعلنها ذو القرنين وهو يتحدث إلى هذا الش���عب المتكاس���ـل الذي ال يجيد إال دفع الخراج بقوله: َِ ِ ���و ٍة﴾ .وكأن���ي به يق���ول :ليس بالخراج ُي ْش���ترى ﴿ َفأع ُينون���ي ِب ُق َّ أمنكـم ،ولكن بقوة أبدانكـم ،وبفكركم تصنعون أمنكـم. الممكن ف���ي األرض ،والتي دانت له ،مش���ارقهـا فهـ���ا ه���و ّ ومغاربها ،وحكم ش���عوبها يطلب العـون منهم .لقد نفخ فيهم وذكى قدرتهم الذاتية فأكس���بهم ثقة في أنفس���هم، م���ن روحهّ ، فتحولوا إلى طاقات بشرية هائلة ن ّفذت أكبر ردم.
-7الرؤيـــة المستقبلية وبراعة التخطيط
القادة البد أن يكون لهم "رؤية مس���تقبلية" ،كي يستش���عروا بها األحداث المستقبلية برؤى مدروسة ومنطقية ،ويقيمون عليها المتطلب���ات الالزم���ة لتحقيقها ،لذا قال له���مَ ﴿ :ف َأ ِع ُينو ِني ِب ُق َّو ٍة َأ ْج َع ْل َب ْي َن ُك ْم َو َب ْي َن ُه ْم َر ْد ًما﴾. فس���ادا إن يأج���وج ومأجوج بكثرتهم ،س���يعيثون في القوم ً طيلـ���ة حياتهم وحي���اة ذرياتهم من بعدهم ...تل���ك هي الرؤية جيــدا ،وضح المس���تقبلية الت���ي رآهـا ذو القرنين ،وبدراس���تهــا ً
اله���دف ومتطلب���ات تنفيذه .فاألمر يس���تلزم إقام���ة ردم ضـخم
علـ���ى أعلـى تقنيـة ،يمنع هجمات قـ���وم يأجوج ومأجوج على
هؤالء القوم والبشر في كل زمان ويبقى أبـد الدهـر ،لذا هتف الَ ﴿ :ف َأ ِع ُينو ِني ِب ُق َّو ٍة َأ ْج َع ْل َب ْي َن ُك ْم َو َب ْي َن ُه ْم َر ْد ًما﴾. فيهم قائ ً
-8القـــدرة على إدارة االجتـماعــات
ش���ـعــب خـائــ���ف ال يكـ���اد يفقــ���ه قــ���والً ،ع���دو ال طاقـة ألحـد عليــ���ه ...إنهـ���ا أزمــة بحـق ...فكيـ���ف أدار ذو القرنين اجتمــاع
شعـب في أزمــة؟ فلنرى كيف سارت األمور...
ال وهم يعرضـون عليه أزمتهـم. • لقد اس���تمع إلى القوم أو ً ���وج ه���م الذي���ن تحدث���وا أو ً الَ ﴿ :قا ُل���وا َي���ا َذا ا ْل َق ْر َن ْي ِ ���ن إ َِّن َي ْأ ُج َ ون ِفي ا َ ض َف َه ْل َن ْج َع ُل َل َك َخ ْر ًجا َع َلى َأ ْن أل ْر ِ وج ُم ْف ِس ُد َ َو َم ْأ ُج َ َت ْج َع َل َب ْي َن َنا َو َب ْي َن ُه ْم َس ًّدا﴾(الكهف.)94: • الموقف يس���تلزم تهدئ���ة الحضور والس���يطرة على زمـام الموق���ف ،حت���ى يتهيأ الجميع لتلقي المه���ام .فما كان من ذي من عليه من القرنين ،إال أن بدأ حديثه بالثناء على اهلل وما َّ ال َما َم َّك ِّني ِفي ِه إمكانيات كثيرة ،فأشاع جـوا من الطمـأنينةَ ﴿ :ق َ
َر ِّبي َخ ْي ٌر﴾.
نقدا فيما أبدوه من • احترام رأي اآلخرين ،فلم يوجـه إليهم ً
حل ألزمتهم ،حتى لـو كان فيه ما يثير حفيظتـه بقولهم لهَ ﴿ :ف َه ْل الممكن َن ْج َع ُل َل َك َخ ْر ًجا َع َلى َأ ْن َت ْج َع َل َب ْي َن َنا َو َب ْي َن ُه ْم َس ًّدا﴾ .إنه ّ في األرض ،ذو الجاه والس���لطان ،وهاهم يش���ترطون عليه أن
يدفعوا له نظير قيامه بعمل لهم ،ورغم ذلك لم يس���تدع ثورته ﴿ما َم َّك ِّني ِفي ِه َر ِّبي َخ ْي ٌر﴾. ولم ينفعل ،ولكن بهدوء قال لهمَ : • ث���م ب���دأ في ج���ذب اهتمام الحضـ���ور واس���تثـار عقولهـم فهتف فيهمَ ﴿ :ف َأ ِع ُينو ِني ِب ُق َّو ٍة﴾. • القـ���درة عل���ى إيجـاد حـل لمـا يعرض عليه من مش���اكـل،
واط�ل�اع الحض���ور عل���ى المهم���ة المطلـ���وب منه���م تنفيذها: ﴿ َف َأ ِع ُينو ِني ِب ُق َّو ٍة َأ ْج َع ْل َب ْي َن ُك ْم َو َب ْي َن ُه ْم َر ْد ًما﴾. ال ،وكان • إجــادة التخاطــب؛ فالقوم ال يكادون يفقهون قو ً له في هذا عذر في عدم مساعدتهم ،ولكن البد أنه اجتهد في الوصول إلى وسيلة للتخاطب معهم والتأثير فيهم ببالغـة منطقه مبينا لهم ما س���يكون له���م من ثـمرة جهدهم أال وقـ���وة حجتهً ،
وهـو صنـاعة أمنهـم .وكان ذلك من خالل رسالة قويـة وبليغـة
ليحولهـم إلى قوة بش���رية هائلة ومختصرة ،جمع بها ش���تاتهـم ّ متحف���زة ،تنتظـ���ر األوامر الصادرة له���ا لتعمل بجد خلف قيادة
مؤمنة وحكيمة .تلك هي القيادة التحويلية التي تحول الجموع
33
السنة الثامنة -العدد (2013 )35
وضعها اهلل لصالح البشرية وعمارة األرض .فذو القرنين، عب���د م���ن عب���اد اهلل الصالحين ،مكنه اهلل ف���ي األرض وآتاه من سببا .رسالته وتنقالته في أنحاء المعمورة كل شيء ً سببا فأتبع ً كانت للدعوة في سبيل اهلل والعمل الصالح ،وقيادة األمم لم���ا في���ه صالحه���ا .وه���ذا م���ا وضح م���ن رحلته إل���ى "مغرب الش���مس" ،كذا إلى "مطلع الش���مس" ،وإل���ى بقعـة من األرض دائما يس���ميها القرآن الكريم "بين السدين" .ولقد اتسم حديثه ً بذكر اهلل والثناء عليه س���بحانه ،فلقد بدأ حديثه إلى ش���عب ال َما َم َّك ِّني ِفي ِه َر ِّبي َخ ْي ٌر﴾(الكهف،)95: "دون السدين" بقولهَ ﴿ :ق َ ال وق���ال عندما انتهى م���ن إقامة الردم بضخامتـه وإعجـازهَ ﴿ :ق َ ���ن َر ِّبي﴾(الكه���ف .)98:وفي هذا ما يش���ير إلى قوة َه َ ���ذا َر ْح َم��� ٌة ِم ْ إيمانه باهلل سبحانه وإرجاع كل أمره إلى اهلل العليم الحكيم.
ل َُه م ِْن َأ ْم ِر َنا ُي ْس ًرا﴾(الكهف .)88-87:إن دستور عمل ذي القرنين، والذي أوضحه في هاتين اآليتين الكريمتين يتلخص في وضع نظام للعقوبات والحوافز... دنيويا عقابا ًّ • ويتمث���ل ف���ي معاقب���ة الظالم ،بأن يوقع علي���ه ً تسول له نفسه فعل يظهر للجميع ،حتى يكون ً رادعا لكل من ِّ المحرمات أو التقصير واإلفساد في األرض والظلم. • مكاف���أة األف���راد المتميزي���ن ف���ي أخالقياته���م وأعمالهم والحوافز عند ذي القرنين تنقسم إلى حوافز مادية وتمثلت في قولهَ ﴿ :ف َل ُه َج َز ًاء ا ْل ُح ْس َنى﴾ .وحوافز معنوية وجاءت في قوله: ول َل ُه ِم ْن َأ ْم ِر َنا ُي ْس ًرا﴾ ،أي سنثني عليه بالقول ،ونكرمه ﴿و َس َن ُق ُ َ ونعلي من شأنه .وهذه الحوافز الزمة لألفراد ،فهي تقوي وتزيد الدعامات النفسية لديهم وتحفزهم لمزيد من الجهد والعطاء.
-2أمانة القائد
-4المهارات في التعامل مع مختلف الجنسيات
األمان���ة س���مة أساس���ية يج���ب أن تتوافر ف���ي القائ���د أو المدير الناج���ح .فلقد ُو ِكل إل���ى ذي القرنين ،أمانة التعامل والتصرف مع القوم عند مغرب الشمس من ِق َبل اهلل ،وال يكون ذلك إال لقدرته على تحمل المسؤولية وأمانة ما وكل إليه ،قال اهلل تعال���ىُ ﴿ :ق ْل َن���ا َي���ا َذا ا ْل َق ْر َن ْي ِن إ َِّما َأ ْن ُت َع ِّذ َب َوإ َِّم���ا َأ ْن َت َّت ِخ َذ ِفيهِ ْم أمينـا ُح ْس ً���نا﴾(الكهف .)86:كذلك عندما شرع في بناء الردم كان ً على ما في أيدي القوم من ثروات ،فعندما عرضوا عليه َج ْع َل س���دا لهم ،ل���م يطمع فيما بأيديهم ،ولكن نظير إقامته ًّ َخ ْر ٍج له َ ﴿ما َم َّك ِّني ِفي ِه َر ِّبي َخ ْي ٌر َف َأ ِع ُينو ِني ِب ُق َّو ٍة﴾(الكهف.)95: معقباَ : قال ً أمينا على ما في أراضيهـم من ثروات ومعـادن ،فرغم وكان ً أن معـه الجند الكثير إال أنه أرادهم أن يكتشفوا بأنفسهم ما في أرضه���م من ثروات معدنية وخام���ات ،فقال لهم﴿ :آ ُتو ِني ُز َب َر ا ْل َح ِد ِ ال آ ُتو ِني ُأ ْف ِر ْغ َع َل ْي ِه ِق ْط ًرا﴾(الكهف.)96: يد﴾(الكهف ،)96:و﴿ َق َ وكأن���ي أراه يحثه���م بقول���ه :اذهب���وا إل���ى أرضك���م ..ثيروا األرض ..اكتشفوا ما في باطن أرضكـم من ثروات ومعـادن.. أحد غيركم... وال َّ يطلع عليهـا ٌ ردما وكان ً أمينا على أرواحهم ،فشرع على الفور يقيم لهم ً يحميه���م من قوم يأجوج ومأجوج ،وذلك بمعاونتهم له بقوة. تل���ك ه���ي األمانة الت���ي هي روح القي���ادة واإلدارة وأساس���ها، والتي يرضاهـا اهلل فيمن يلي أمر الجماعة.
-3التطبيق الفعلي لقوانين الجزاء والعقاب
لق���د ورد ف���ي قص���ة ذي القرني���ن ،أنه ذهب إلى ع���دة بقاع من األرض؛ وه���ي مغ���رب الش���مس ،ومطل���ع الش���مس ،وبي���ن السدين ،األمر الذي يلفت انتباهنا إلى أن ذا القرنين قد تعامـل مع جنس���يات مختلفة ،في بقاع متباعدة على كوكب األرض. وفي هذا إشارة إلى أن المدير أو القائد الناجح ،البد أن تكون ل���ه الق���درة على التعام���ل والتكيف مع أنماط عدة من البش���ر، وفي بيئات مختلفة ،ويتكيف بسرعة مع الظروف غير العادية، والتعايش مع كافة الظروف والبيئات. كذا ضرورة أن يجي���د التخاطب والتفاهم بلغات مختلفة. فعندما ذهب ذو القرنين إلى مغرب الشمس ،تحدث مع القوم بلغتهم ،كذلك عند مطلع الش���مس ،وعندما التقى بالقوم عند
ال -اس���تطاع أن "بي���ن الس���دين" -وهم ال ي���كادون يفقهون قـو ً يقودهم بمهارة فائقة ،وتعامل معهم بوسيلة للتخاطب ،فهموا كل خططه وتوجيهاته حتى أتم بناء الردم الضخم لهم. وفي هذا إش���ارة إلى أن القائـد الذي تتطلب ظروف عملـه التنق���ل بي���ن أقطـ���ار مختلفة (القائ���د العالمي) ،يج���ب عليه أن يجيد التخاطب بأكثر من لغـة. وتوفر وس���ائل االتصال بين القادة والمرؤوس���ين ،ضرورة حتمي���ة لقيادته���م وتحقيق األهداف المرج���وة .ومن أهم هذه الوس���ائل ،تواجد القائد أو ولي األمر بينهم ،والتحدث إليهم ّ بلغة يفهمونها.
﴿ َقالَ َأ َّما َم ْن ظَ ل ََم َف َس ْ���و َف ُن َع ِّذ ُب ُه ُث َّم ُي َر ُّد ِإلَى َر ِّب ِه َف ُي َع ِّذ ُب ُه َعذَ ًابا -5القدرات الذاتية والخبرات للقائد
آم َن َو َعمِ َل َصال ًِحا َفل َُه َج َز ًاء ال ُْح ْس َنى َو َس َن ُقولُ ُنكْ ًرا َ و َأ َّما َم ْن َ السنة الثامنة -العدد (2013 )35
32
لق���د أش���ار القرآن الكريم في س���ياق اآلي���ات الكريمة في هذه
قضايا فكرية
د .السيد حامد السيد*
أسس القيادة واإلدارة
في ضوء قصة ذي القرنين نس���تعرض فيم���ا يل���ي ،األس���س والمه���ارات الواجب توفره���ا في القائد أو المدير الناجح ،في ضوء أحداث قصة "ذي القرنين" في القرآن الكريم.
-1اإليمان باهلل القائد الناجح ،هو الذي تنبع قوته من إيمانه باهلل العزيز الحكيم .وإيمانه ب���اهلل ،هو الذي يرس���م لـه منهجه في العم���ل وتعاملـه مع اآلخرين .فهو صاحب رسالة نابعة من منهج اهلل ،يعمل على تحقيقها على أسس
31
السنة الثامنة -العدد (2013 )35
أدب
أديب إبراهيم الدباغ*
عرض حال على نفس���ي بكت نفسي ..وروحي إلى روحي اشتكت ..وعلى بعضي بكى ك ِّلي ..وك ِّلي على بعض���ي بكى ..ولظ���ى قلبي في قلب���ي حريق.. ض روحي في روحي َلهيب... َو َو ْم ُ وجعا، تلوى ً أنا؟ َم ْن أنا؟ حرقة واحتراقَ ،ل َه ٌب واشتياقَ ..أ َّ صارخاَ ..أ َظلُّ ،وعن وعيي ُأ َشلُّ ... صائحا.. ألما.. ً ً وأتق َّلب ً ي���ا رف���اق العش���ق ،إل���ى "دجل��� َة" خذون���ي ،واغمس���وني لع���ل نيران���ي تنكف���ئ، واغمرون���ي ،وم���ن رحيقه���ا اس���قونيَّ .. متس���كعا أمضي.. وحرائق���ي تهم���د ..وإل���ى مملكة العش���اق، ً أطرق األبواب ،وأنقر على الشبابيك... ووجدا مذاب���ا، ً افتح���وا له���ذا المس���كين ،الذي غ���دا ً روحا ً وقلبا َش ّو َا ًقا... َح َّرا ًقاً ، وم َع ٍّز س���واكم ..فها أن���ذا بين أيديكم ���ن ل���ه ٍ َم ْ آس غيركمُ ، أضع نفس���ي ..فبعطفكم اكنفوني ،وبنفح���ات ألطافكم َأطفئوا ال ال تتركوني... نيراني.. إلي التفتوا ..ارمقوني ،وهم ً َّ رافعا عقيرت���ه ينادي.. عاش���ق من أعم���اق ضريح يصي���حً ، زل���ت ..على القي���ام أعينوني ،ومن تحت ت���راب القبر حي���ا ال ُ ًّ انتشلوني... ���ث الرياحي���ن، أن س���ماءكم تمط���ر ال���ورود ،و َت ُن ُّ أع���رف َّ وأن ناديكم بالحياة مترع.. وتس���كب النقاء ،و َت ُص ُّب الصفاءَّ .. دخلت... جئت ،وأرضكم لذلك ،مملكتكم ُ ُ لعل نظرة من الحبيب تتلمحني ،فتحييني ،وتطفئ نيراني، َّ وتهدهد أشجاني... في سلس���ال من دم���ع ودم ذابت روحي ،ومات جس���دي، ���ت أوصالي ..والليل مطبق الجناح ،وصراخ عظيم من و َت َق َّط َع ْ السنة الثامنة -العدد (2013 )35
30
مجلج�ل�ا من أعماق الغاب ،وهو ينادي.. روح جري���ح ..يأتي ً ه���ذه الس���بيل ،وتلك الطريق ،إلى الحبي���ب ..من التيه البد أن تنج���و ..موعدنا الت َّل���ة الخضراء ،في الليلة القم���راء ..حتى إذا جئت الم���كان، جلس���ت أنتظر ..وطال والوق���ت واألوان، َ م���ا ُ ُ االنتظ���ار وط���ال ..وإذا بالس���ماء تس���تهلُّ ،بمزي���ج م���ن الدمع والمطر ..وعلى عجل وانس��� َل ْل ُت من الزمان.. ُ تركت المكانَ ، وصورا تتلبس ..وتتحول إلى طائر عظيم فإذا بآالمي تتجمع، ً الجن���اح ،ناص���ع البي���اض ..وإذا به يحلق ب���كل جراحاتي ،في سماء من الحرير األزرق ..يحلق ويحلق ،حتى اختفى وضاع في س���حب الغموض ..وأنا أخلد إلى صمت مهيب ،مصدوع بدأت ألمس من نفس���ي الف���ؤاد ،نازف الروح ..ولكنني دالئل َ ُ أن يوقفه أو يخنقه... تبدل روحي ،ما من شيء يستطيع ْ نورا هاد ًئا يغشى الطريق ،ويشير ْ وش���رعت روحي ترس���ل ً إل���ى معالمه ..فس���ارت قدماي وهما تغتس�ل�ان بأن���وار القمر، فوق العش���ب األخضر ..فامتأل قلبي شو ًقا وشغ ًفا ،و َأ ْح َس ْس ُت جدي���دا انبع���ث من داخلي يق���ول :متى في صالتك أن إنس���ا ًنا َّ ً كنت وال تكون؟! تتالشى وتذوب وكأنك ما َ ش���ربت من نب���ع روح محمد عليه الس�ل�ام؟! متى ه���ل مر ًة َ الس���ماء ،بل الخليق��� َة ُك َّل َهاُ ..ق ْل لي متى كان هززت بصالتك َ َ ذلك منك؟! فاهتزت مش���اعري َه ًّزا، ومددت ي���دي إلى أعماقي َأ ُر ُّجها ُ وطنينا، َر ًّج���ا ..ف���إذا بي أس���مع دوي ذلك ف���ي ُأ ُذني وشوش���ة ً َّ وأ َّن ِ ات أنينُ ..ث َّم ..ال جواب ..ال جواب! (*) كاتب وأديب عراقي.
إنن���ا نحت���اج ف���ي ب�ل�اد اإلس�ل�ام كلها،
إل���ى أن نقوم بحملة إس�ل�امية ش���املة عبر مخط���ط حض���اري معاص���ر ،تش���ترك فيها
الدول والمؤسس���ات الرس���مية والش���عبية
جميع���ا ،ألن والجمعي���ات واألح���زاب ً مواجهة العولـمة من الخطورة بحيث يجب أن نتعامل معها من مواقع قوية تشهد على
وحدة األمة وغاياتها النبيلة في هذه الحالة
جميعا. لخيرها ولخير البشرية ً
إن إس���تراتيجية إع���ادة بن���اء ثقاف���ة
الوس���طية مرتبط���ة كل االرتباط بمفهومي الهوي���ة والحوار .والس���ؤال :كيف يمكن أن نبن���ي ثقاف���ة وس���طية إن لم تك���ن بيننا
�إن الو�س��طية ،ه��ي املوق��ع ال��ذي ميك��ن مل�س��لم ه��ذا الزمان �أن ينطلق منه وين�شئ متح��ررا م��ن ا تاريخيًّ��ا فع�ل ً ً الت�شويهات العنفية .الو�سطية كموق��ع روح��ي ،كقيم��ة ت�أ�سي�س��ية لكينونة الإن�سان، كمب��د�إ ت�أ�سي�س��ي للأم��ة الإ�س�لامية ،هي الأفق الذي ينبغي �أن تتحرك نحوه الأمة.
نق���اط مش���تركة نتح���اور فيه���ا؟ ألن���ه وفي
ظل غياب منهج الوس���ط في تقييم القواس���م المشتركة ،يكون مجتمعي���ا ،وتأت���ي االتفاق���ات بي���ن وخداع���ا الح���وار أكذوب���ة ً ًّ
وج���ود "ثال���ث مش���مول" ،ه���و منه���ج
وس���طي بين اإلنساني والمقدس الذي يستحيل اختزاله في كل إنسان.
المطل���وب إذن ،تبن���ي مش���روع
تربوي خ���اص بالتربي���ة والتعليم يو ِّفق
-من���ذ الب���دء -بي���ن المناه���ج العلمي���ة
والمناه���ج األ َن ِس���ية والفن والش���عر... أي لخلق أش���خاص وسطيين معتدلين مرنين في عالم عدواني ،أي عالم يقود
سريعا إلى البطالة ،إلى االستبعاد ،إلى ً االس���تهالك ،إلى االتكالي���ة ،االنهزامية
االنح���راف،
العن���ف،
التهمي���ش،
اإلقص���اء ...عال���م يق���ول بالتكنولوجيا
الحديثة لجيلنا" :أنت غير جدير بالتقدير" يس���معها الجيل جيدا .وهنا المش���كلة في ّلبِه���ا ،بناء ثقافة وي���درك معناه���ا ً
هش���ة .فم���ن الضروري التش���كيالت واالنتم���اءات المختلف���ة َّ
ال عن إجابة ش���افية لهذا الوس���ط ينبغ���ي أن تبدأ بالب���ث أو ً
بنوع من العالمية اليوتوبية؛ فالمسألة ليست على هذه الصورة.
التمكين المعرفي والعلمي والتكنولوجي؟ اإلنسان إنسان،
تبشيرا تأصيل منهج وسطية القواسم المشتركة .وال يعني هذا ً
الس���ؤال المحرج همش اإلنسان في جيل والمحير ،لماذا ُي َّ ّ
القضي���ة الجوهرية ه���ي :كيف يمكننا أن نتبن���ى نهج االعتدال
لكل منا موهبته ،لكن بش���رط تأمين ول���ه قدراته وموهبتهٍّ .
وال���رأي والدين والسياس���ة ،من غير نقاط متش���ابهة ومش���تركة
ف�ل�ا يس���عى إلى خلق تل���ك الظروف المالئم���ة ،ألنه عالم
والوس���ط للحوار والتفاه���م مع األط���راف المخالفة في الفكر
الظ���روف المالئمة لطاقات���ه ومواهبه .أم���ا عالمنا الحاضر
تؤهلن���ا للخروج بنتائ���ج عملية للمش���اركة الحقيقية على تنوع
نوده عبر مش���روع منهج الوسطية التربوي، تكنولوجي .ما ُّ
الوسائل واآلليات في صنع الحضارة العالمية.
هن���ا يبرز دور علم التربية الخاص بالوس���طية قبل الحوار،
ألن الح���وار ل���ن يتحقق من دون إيمان بمنهج وس���طي يحضر
العقل لقبول الحوار.
ولبناء ثقافة الوس���طية ،ينبغي تحديد ماهية الهوية ،هل هي
وحيدا في الكون ،هل يعقل مبني���ة على أحادية؟ إذا كان المرء ً ال ،يج���ب أن يكون ثمة تفاعل مع حتما ك ّ أن تك���ون ل���ه هوية؟ ً اآلخ���ر لخل���ق هوية .ولكن هل التفاع���ل أو الحوار مع اآلخر،
يكفي لتشكيل هوية؟ األكيد أنه ال يكفي .لماذا؟ ألنه منذ البدء
دوما ،واآلخ���ر هو "الغري���ب" بطريقة أو كان اآلخ���ر ً موج���ودا ً
ه���و أن نثب���ت عبر الوس���ائل التربوي���ة أن الك���ون أكثر ثراء بكثي���ر مم���ا نعتقد .وهن���ا يمكن للعل���م إذا أعدن���اه للدين،
وفصلن���ا القطيعة التي أحدثناها مع���ه -ولعقود -يمكن أن دورا تحديدا ،وأن كبي���را على المس���توى الترب���وي ً يلع���ب ً ً ال ومستويات مختلفة تتكامل يبيِن أن في الطبيعة غنى هائ ً ّ
وتتوحد في أصغر ذرة حتى أكبر ما فيها .أعتقد أن الطبيعة َّ
تنط���وي على تل���ك الصورة التي هي مهم���ة لعالمنا ،أعني عالمن���ا المبني على مس���تويات مختلفة ،وثقافات مختلفة، ولغات مختلفة ،وتقاليد وعادات مختلفة.
بأخرى .لذا كانت الحروب والتدمير على امتداد التاريخ وفي كل زم���ن .ما الس���بب؟ لعل أحد األجوب���ة المفاتيح ،أنه ينبغي
(*) كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية ،جامعة ابن طفيل بـ"القنيطرة" /المغرب.
29
السنة الثامنة -العدد (2013 )35
في االقتصاد اإلسالمي ،سنتمكن من االستفادة من إمكانيات
• التركي���ز على وس���طية اإلس�ل�ام في بناء نواة األس���رة في
واالس���تثمار والمعادن والزراعة ،وس���نواجه العولـمة المركزية
والعف���اف والب���ر واإليثار والتكاف���ل ،واالبتعاد ع���ن األمراض
المس���لمين االقتصادي���ة الضخمة المتنوعة في جانب التش���ييد
بعالمية عربية وإس�ل�امية وشرقية .إن المنهج الوسطي سيؤهل كوادرن���ا بخب���رات التعام���ل مع االقتص���اد العالم���ي من خالل
المجتم���ع اإلس�ل�امي عل���ى القواعد اإلس�ل�امية؛ ف���ي الطهارة االجتماعي���ة والفوض���ى الجنس���ية واالجتماعي���ة ،وخ���رق نظم ومبادئ األخالق التي يقرها اإلسالم.
تب���ادل المناف���ع ،والتخطي���ط للتنمية ذاتيا ً ً تخطيط���ا ًّ جي���دا ،مع -5بناء ثقافة الوسطية في الفكر التربوي واالعالمي االس���تفادة من خب���رات وتنظيمات الحض���ارة الغربية واقتحام
المنافس���ة الحضارية بإقامة س���وق إسالمية مش���تركة ،تنقل من خاللها األرصدة العربية واإلسالمية الضخمة إلى العالم ،بعد
إعادة الثقة في وحدة األمة.
-4بناء ثقافة وسطية الفكر االجتماعي اإلسالمي
أمام هجم���ة الفضائيات العولمية ،وتخطيطه���ا العلمي والفني
الذك���ي في ع���رض أفكارها بطرق متنوعة مؤث���رة عبر األنماط الفني���ة من المسلس�ل�ات واألف�ل�ام والتعليق���ات والتقارير التي
يوميا مئ���ات الماليين ،من أجه���زة التلفزيون واإلذاعة تدخ���ل ًّ واإلنترن���ت على وج���ه األرض ،ال يمكن الحفاظ على الذات
الب���د م���ن تأصي���ل منه���ج الوس���طية ف���ي النظ���ام االجتماع���ي
واألصال���ة والخصوصية الدينية والفكرية ،إال بتربية أبناء األمة تربي���ة مخطط���ةُ ،ت ِ ش���عرهم بأنهم أبن���اء أمة التوحي���د واإليمان،
الف���رص ف���ي المجتمع اإلس�ل�امي الموزع بين جه���ود الرجال
واقتصادي���ا ،بحي���ث يعلم���ون بيقي���ن كام���ل أنه���م واجتماعي���ا ًّ ًّ
اإلسالمي ،وذلك من خالل األمور اآلتية:
• نش���ر ثقافة الوس���طية في تدويل ونش���ر قيم���ة مبدإ تكافؤ
بعض���ا ،ب���دون مفاضل���ة ف���ي أصول والنس���اء يكم���ل بعضه���م ً
الخلق���ة ،وال مفاضل���ة لجنس على آخر ف���ي أصل الخلقة ،بل كل جانب يفضل اآلخر فيما كلف به من واجبات شرعية.
وسياسيا وأخالقيا فكريا وتحصنهم وتنش���ئتهم نشأة إس�ل�امية، ًّ ّ ًّ ًّ متميزون عما يشاهدون .ويكون ذلك:
• باالهتم���ام بتربي���ة األس���رة المس���لمة وتثقي���ف أفراده���ا،
وتوجيهه���م م���ن خالل أجه���زة اإلع�ل�ام المرئية والمس���موعة
• إقرار المنهج الوس���طي اإلس�ل�امي في تشريعاته الخاصة
والمق���روءة ،ومن خ�ل�ال المناهج الرصينة ف���ي التربية الدينية،
والعب���ادة ،وإق���رار ح���ق المبايع���ة له���ا كالرج���ل ،ودعوتها إلى
العربي���ة والوطني���ة العامة ،وإع���ادة االعتبار للعالق���ة بين الدين
أه�ل�ا للتدين بإنس���انية المرأة ،واس���تقالل ش���خصيتها ،وعدها ً
المشاركة في النشاط االجتماعي المنضبط بضوابط األخالق، وق���د س���مح له���ا باألعمال التي تتف���ق مع طبيعتها ،وش���رع لها
نصيبها في الميراث وإش���راكها في إدارة شؤون األسرة وتربية األوالد ،وأوج���ب معاملتها بالمعروف واحت���رام آدميتها ،كما أنه س���اوى بينها وبين الرجال في الوالية على المال والعقود،
وأقر لها شخصيتها القضائية المستقلة.
وكت���ب اللغ���ة العربي���ة ،وكت���ب التاري���خ والجغرافي���ة والثقافة والعل���م من خالل الكت���ب والمجالت والجرائ���د والدوريات الخاصة والعامة ،والمخيمات والدورات التدريبية الشبابية في
األقطار العربية أو اإلسالمية.
• وبإع���ادة بن���اء ثقاف���ة وس���طية إعالمي���ة هادف���ة ،تس���تثمر
العرض العروض المس���رحية واألفالم الدرامية ُ ودور َ نصوص ُ
الس���ينمائية في إيصال الرسالة األخالقية والقيمية ،التي تمكن
وم���ن ه���ذا المنطلق ،البد م���ن إعادة النظر في مش���كالتها
من تأهيل وتكوين أجيال تش���عر بانتمائها اإلسالمي وانتسابها
ومقاصده���ا الحكيمة وغاياتها في الحياة ،لتحديد مس���ؤوليتها
• وم���ن خ�ل�ال وح���دة المعرف���ة الت���ي قامت عليه���ا التربية
االجتماعي���ة ف���ي ض���وء أح���كام الش���ريعة اإلس�ل�امية العام���ة، األسرية واالجتماعية.
الحضاري لألمة العربية واإلسالمية.
اإلس�ل�امية التي تبغي صياغة الفرد صياغة إس�ل�امية حضارية،
• وسطية اإلسالم في تحقيق العدل والسلم وحفظ حقوق
ال م���ن حيث العقي���دة والذوق وإع���داد ش���خصيته إع���دادا كام ً ً
المس���لمين ،إال فيم���ا يخ���ص القضايا التش���ريعية الخاصة بكل
ال تبق���ى فيه���ا ثغرة تتس���لل منها اإلغ���راءات العولمية الالدينية
جميع���ا ،لهم م���ا للمس���لمين ،وعليه���م ما على أه���ل األدي���ان ً
طرف في إطار المجتمع اإلنساني. السنة الثامنة -العدد (2013 )35
28
والفك���ر والم���ادة ،حتى تتكون األمة الواح���دة المتحضرة التي الجنسية اإلباحية.
• استقراء وتفكيك وتحليل مختبري
للعوامل المؤدية لمظاهر الخرافة والبدع والتواكلي���ة واالنهزامي���ة والالإرادي���ة
اإلنج���از والعن���ف واالنح���راف ،ال القتص���ار عل���ى تدوي���ل ثقاف���ة ال���ردع
واالستنكار والمحاربة.
• تأس���يس مراكز دراسات وأبحاث
إس���تراتيجية ،وتأهي���ل أط���ر وك���وادر وإعالمي���ا ومعرفي���ا علمي���ا وسياس���يا ًّ ًّ ًّ ًّ وتكنولوجي���ا ،لل���رد ا وسوس���يولوجي ًّ ًّ عل���ى الغزو الثقاف���ي العولمي من خالل المنه���ج الس���ابق ف���ي الفكر اإلس�ل�امي
االقتص���ادي اإلس�ل�امي المعاص���ر م���ن
ثقافة و�س��طية الأم��ة ،هي عن�رص ه��ام يف عملي��ة التنمية ال�ش��املة والبن��اء احل�ض��اري ،فبمق��دار �شمولية ثقافة الو�سطية وتوازنها وا�س��تقرارها و�ص��حة متبنياتها، يرتفع عمود احل�ض��ارة وترت�سخ �أركانه��ا يف املجتم��ع ،ولي���س لق��وة مهم��ا بلغت� ،أن ته��زم �أو تهدم ح�ض��ارة قائم��ة على ثقافة و َك َذ ِل َك َج َعلْنَاك ُْم �أُ َّم ًة َو َ�سطً ا. َ
بجمي���ع الوس���ائل الت���ي يعتم���د عليه���ا،
س���واء م���ن خالل األنماط الفكري���ة ،أم الفني���ة ،أم األدبية التي يعرضونها من خالل أفكارهم المناقضة لإلسالم.
-2بناء وسطية الفكـر السياسـي
البد من تأصيل منهج وسطي كفيل بنقد تاريخي شامل لنظام
الحكم في المجتمعات اإلسالمية من بعد معركة صفين وإلى الي���وم ،وإثبات أن بعض التطبيقات االس���تبدادية التي س���ادت في بعض تاريخنا مخالف لنظام الحكم الشورِ ي في اإلسالم،
وأن���ه جل���ب عل���ى األم���ة اإلس�ل�امية -عب���ر العصور -مآس���ي
كتاب اهلل وس���نة رس���وله واجتهادات
الفقه���اء المجتهدي���ن عب���ر العصور ،مع التعم���ق ف���ي اس���تنباط فق���ه الواق���ع م���ع
م���ا اس���تجد م���ن قضاي���ا االقتصادي���ات المعاص���رة ،والت���ي تت�ل�اءم م���ع روح
اإلسالم .ولعل المنهج الوسطي في بناء
االقتص���اد ،كفيل بالقضاء على التفاوت في توزيع الث���روات ،ويعيد التوازن إلى
المجتم���ع اإلس�ل�امي ،ويح���دد وظيف���ة الدولة االقتصادية ،وذلك من خالل:
• وضع مناهج دراس���ية في وس���طية
االقتص���اد اإلس�ل�امي ،وبي���ان مرونت���ه
ف���ي من���ع االس���تغالل وع���دم التركي���ز
عل���ى معالج���ة واح���دة في كل حال���ة زماني���ة أو مكاني���ة ،وأنه يق���رر األص���ول ويفتح حري���ة الحركة أم���ام االقتصاديين لحل
المشكالت االقتصادية حسب الظروف المختلفة.
• قراءة قيمية للمنهج الوس���طي االقتصادي في مش���روعية
التمل���ك ،م���ع إحاطت���ه بس���ياج من القي���ود حتى ال ي���ؤدي إلى
التعس���ف ف���ي اس���تعمال ح���ق الملكية ،ويش���رع اإلس�ل�ام مع الملكية الفردية الملكية العامة وملكية الدولة.
• توسيع مجال الدراسات في وسطية االقتصاد االسالمي،
ال ،وأنه من أعظم أس���باب سقوط المجتمع جمة وخرابا ش���ام ً ً ّ
في احترام قيمة العمل المس���تخلصة من مفهوم االس���تخالف،
طبقه الرسول وخلفاؤه إن نظام الشورى في اإلسالم كما ّ
لتحقي���ق التنمية الش���املة م���ن منطلق القاعدة الش���رعية "حيثما
قديما وحدي ًثا. اإلسالمي وأزماته ً
الراشدون ،وكما يمكن أن يلجأ اليوم إلى اآلليات واألساليب المعاص���رة المنس���جمة م���ع روح اإلس�ل�ام لتحقي���ق مقاص���د
الش���ورى ،هو الذي يحقق كرامة اإلنس���ان المسلم ،ويعيد إليه حقه في المعارضة والتعبير عن آرائه بحرية أخالقية منضبطة.
وما لم تس���اهم الحكومات العربية اليوم ،مع النخب السياسية
والفكري���ة ،ف���ي إع���ادة بناء وس���طية الفكر السياس���ي واإليمان بالديموقراطي���ة والتعددي���ة والحري���ة الفكرية والسياس���ية ،فإن النتيجة س���تؤدي إلى المزيد من العن���ف الداخلي والخارجي.
-3بناء ثقافة الوسطية في الفكـر االقتصـادي
اس���تنباط المنه���ج الوس���طي ف���ي الفك���ر االقتص���ادي والنظ���ام
وتكاف���ؤ الف���رص وتغلي���ب التوازن ف���ي التكاف���ل االجتماعي،
كانت مصالح العباد فثمة شرع اهلل".
هذه هي بعض المالمح العامة لبناء ثقافة وسطية لالقتصاد
اإلس�ل�امي ،المتمي���ز ع���ن باق���ي األنظم���ة االقتصادي���ة بإعطاء األولوي���ة لمحورية اإلنس���ان في الكون وليس الم���ادة والربح
والق���وة والتمكي���ن ،الب���د أن ي���ؤدي عن���د تطبيقه ،إل���ى طريق ٍ آليا جدي���د للتنمية في المجتمع اإلنس���اني ،طريقٍ وس���ط ليس ًّ يبغ���ي الرب���ح وح���ده أو الكفاي���ة االقتصادية وحده���ا ،إنما هو طري���ق إنتاج اقتصادي أخالقي إنس���اني ،يفي بحاجة اإلنس���ان
وضروراته وشيء من كمالياته ،إن أمكن ذلك. ف���إذا أعطينا األولوية إلعادة قراء ِة وصياغة منهج وس���طي
27
السنة الثامنة -العدد (2013 )35
الالمفكر اإلطار الدفاعي الضيق ،الذي يحكمه رد الفعل اآلني َّ
الدال على قوة مبادئ ومعتقدات وحضارات الشعوب في بناء
تاريخيا واإلس�ل�امي ،علين���ا أن نعيد بناء موقع الوس���طية بن���اء ًّ
الحضاري ،فبمقدار شمولية ثقافة الوسطية وتوازنها واستقرارها
فيه ،والذي بسببه تم استهداف موقع الوسطية في عالمنا العربي متينا .واليوم ليس صدفة وال اعتبا ًطا أن يغلب الفكر ملموس���ا ً ً
الحضارات ،وهي عنصر هام في عملية التنمية الش���املة والبناء وصح���ة متبنياتها ،يرتف���ع عمود الحضارة وتترس���خ أركانها في
الدفاع���ي بآليات���ه االنكماش���ية والتبريري���ة األيديولوجية داخل
المجتمع ،وليس لقوة -مهما بلغت -أن تهزم أو تهدم حضارة ���طا﴾(البقرة.)143: ���م ُأ َّم ًة َو َس ً ﴿و َك َذ ِل َك َج َع ْل َن ُ قائم���ة على ثقاف��� ِة َ اك ْ فعال ينتقل باإلنسان إلى وضع أفضل، ألن الوسطية هي جهاز ّ ووضع يواكب المشاكل والظروف الخاصة التي تواجه اإلنسان
المس���لم على العالم وعلى الناس ،ويتمكن من خالله كس���ب
األساسية .وعودتنا إلى بناء ثقافة الوسطية ،واالنطالق منها إلى
المجتمع���ات اإلس�ل�امية ،وأن يضمر إنتاج المعرف���ة الحقيقية
أبوابا جديدة للعمل ،وأن تحدث منعط ًفا الت���ي يمكن أن تفتح ً
حقيقيا في واقع المسلمين وفي حاضر البشرية. ًّ
نعم ،إن تدمير الموقع الروحي الذي يمكن أن يشرف منه
ف���ي ه���ذا المجتم���ع أو ذاك في بيئته وفي س���ياق تلبيته لحاجاته
مفاتي���ح تس���ريع التغيي���ر وبناء الحض���ارة والوص���ول إلى أفئدة
المشاركة والمنافسة الحضارية الفاعلة ،يقتضي منا إعادة النظر
األمم األخرى ،يبدأ بتغييب س���ؤال الهوية :من نحن؟ ويمكننا
في صياغة جديدة لألمور اآلتية:
أن نجيب على هذا السؤال بكيفيتين :من جهة المعنى اإلرادي -1بناء ثقافة وسطية الفكر اإلسالمي للهوية ،ومن هذه الزاوية لسنا ما نحن عليه ،ولكننا ما نريد أن
الب���د لنا أن نؤكد على أصول العقيدة الثابتة القطعية في كتاب
أمامن���ا .ويمكنن���ا أن ننظر للهوية نظرة سوس���يولوجية ،أي من
األص���ول وترك الف���روع التي اختلف حوله���ا العلماء ،حتى ال
نك���ون علي���ه وأن نصير إليه ،فالهوية هن���ا إمكانية وأفق للتطلع
اهلل تعال���ى وس���نة نبي���ه وفصلها من فروعه���ا ،والتأكيد على
جه���ة ما نحت���ه الزمن واآلخرون فينا ،فنحن لس���نا مجرد فاعل
نتمزق من جديد.
أيضا مفعول به .ومن هذه الزاوية يمكن تاريخ���ي حر ،ولكنن���ا ً
تؤصل: فثقافة الوسطية ينبغي أن ِّ
أن نطرح الس���ؤال السوس���يولوجي :ما هي القوى التي تخترقنا
• لمنهج في التعامل مع تيارات الفكر اإلس�ل�امي القديم،
سنكتش���ف أننا لس���نا س���ادة أنفس���نا في كثير مما نفعل ،وأن ما
الفكري���ة ف���ي زمانها فأصابت وأخط���أت ،وليس من المصلحة
وتحددنا على ما نحن عليه؟ وحين نطرح هذا السؤال بجدية،
واعتباره���ا تي���ارات اجتهادي���ة جابه���ت الفلس���فات والتيارات
تعرضت وتتعرض له األمة وطالئعها من هجمات ضارية ،قد َّ أحدث تش���ويهات هام���ة في وعينا الذاتي ،وحس���نا التاريخي.
إحياؤها اليوم وإدارة صراعات جديدة عليها.
لتقب���ل مواجه���ة األفكار الجديدة بأس���لوب جديد ومادة • ُّ
سوس���يولوجيا أن العنف الش���ديد الطويل ،له وم���ن المعروف ًّ
معرفية جديدة ،منطلقين من كتاب اهلل وسنة رسوله .
إال باالعتص���ام المعرفي والعملي بالمقام الروحي للوس���طية.
بين العقيدة والشريعة والسلوك والحركة والبناء الحضاري من
آثار تش���ويهية في الغالب ،وال يمكن أن نفلت من هذه اآلثار
فالوس���طية هن���ا قيم���ة تحرري���ة ومالذ م���ن التش���ويهات العنيفة
للهوية وللوعي الذاتي.
• تبن���ي المنهج الش���مولي في فهم اإلس�ل�ام ال���ذي يجمع
خالل منهج عقلي أصولي سليم.
• اإليم���ان بأن الفقه اإلس�ل�امي فقه متج���دد ،ال يقف عند
بهذا المعنى فإن الوسطية ،هي الموقع الذي يمكن لمسلم
زمن معين وال مذهب معين ،ومواجهة مش���كالت العصر من
التش���ويهات العنفية .الوس���طية كموقع روحي ،كقيمة تأسيسية
• دراس���ة األنظم���ة العام���ة والمب���ادئ الكلي���ة في الش���ريعة
متحررا من تاريخي���ا فع�ل�ا ه���ذا الزم���ان أن ينطلق منه وينش���ئ ً ً ًّ لكينونة اإلنس���ان ،كمبدإ تأسيس���ي لألمة اإلسالمية ،هي األفق
ال���ذي ينبغ���ي أن تتحرك نح���وه األمة ،ألن األم���ة اآلن ال ترى
كثيرا مما ينبغي أن تراه. ً
أي���ة أم���ة -هي المظه���ر األبرزوألن ثقاف���ة وس���طية األم���ة ّ السنة الثامنة -العدد (2013 )35
26
خالل مقاصد الشريعة وقاعدة األيسر وليس األحوط.
اإلس�ل�امية ،بمواجه���ة م���ا عن���د الغرب م���ن مب���ادئ ونظريات
قانونية كلية.
• دراسة السنن الكونية دراسة علمية موضوعية ،واالستفادة
منها في الدخول إلى العصر الحضاري اإلسالمي الجديد.
قضايا فكرية
د .مريم آيت أحمد*
آليات بناء
ثقافة الوسطية كي���ف يمكنن���ا بن���اء ثقافة الوس���طية في ظل
غي���اب نقطة لقاء وتقابل ووف���اق بين ثقافة األبي���ض واألس���ود ،االس���تتباع المطل���ق
والرفض المطلق ،الحوار واإلقصاء "الش���ح" و"اإلس���راف" ّ البن���اء والهدم ،الهوية والالهوية ،العنف والتس���امح ،الظلم والع���دل ...ثقاف���ة الغال���ب أو المغل���وب ،ثقاف���ة الوس���ط
المعاص���رة والعولم���ة ،ثقاف���ة المادة و ال���روح ،وغيرها من
الثقاف���ات التي كان لها حضورها وقوة دفعها وتأثيرها على س���لبا المجتمع البش���ري وإيجابا ،مما يميزه���ا بصفة الحياة ً ً والديموم���ة بي���ن ثقافات كثيرة ماتت واندث���رت عبر الزمن. وبعي���دا عن برمجة وعينا الذات���ي وتموقعنا داخل دائرة ً
25
السنة الثامنة -العدد (2013 )35
الغواص المحمي من صدمات الشلل
جيدا أن أخطر تهديد يمكن أن يواجهوه في يع���رف الغواصون ً الغط���س ،هو تح���ول األزوت -المنحل في ال���دم عند الصعود الس���ريع المفاجئ من األعماق -إل���ى فقاعات غازية تؤدي إلى احتش���اءات ف���ي األوعي���ة الدموية لألعض���اء الحيوي���ة كالقلب والدم���اغ .يمكن أن نرى ذلك ببس���اطة ،عندم���ا نفتح (الكازوز) بش���كل آني س���ريع ،كيف تتحول كربونات األسيد المنحلة إلى فقاعات (كربونديوكسيتين) .وأنا أمضي حياتي بالغطس الفوري الس���ريع إل���ى مئ���ات األمتار ،والعودة الس���ريعة كذل���ك دون أن مجهز بشكل خاص .فالرئتان أتعرض لصدمات الش���لل ،ألني َّ لدي تعمالن بشكل أسرع في التبادل الغازي ،وأقوم باستعمال ّ %80م���ن طاقتهما اإلنتاجية ،في حين تس���تخدم الثديات البرية %30م���ن طاقتهما في التب���ادل الغازي .ولذلك أس���تطيع البقاء تحت س���طح الماء لمدة س���اعة كاملة مقابل دقيقتين من تنفس اله���واء .ودمائ���ي تحم���ل ِضع َفي م���ا عندكم -أنتم البش���ر -من الكريات الحمر ،ولذلك أحمل كميات كافية من األوكسجين. ّ وبس���بب زي���ادة "الميوجلوبين" ( )Myoglobinفي جس���مي، يك���ون لحم���ي أس���ود الل���ون ،بينم���ا لح���وم الحيوان���ات البرية لدي موهب���ة لتخفيض ضربات تك���ون حم���راء اللون .كم���ا أن ّ قلبي وتضييق ش���راييني وتقليل مصروفي من األوكس���جين في آليا ب���دون إرادة أو األعم���اق .ولك���ن كل ذل���ك يحصل ل���دي ًّ وعي مني ،بعناية القدرة اإللهية وفيض كرمه. ش���يئا ،كيف أفعل ذل���ك بغاز األزوت، وإن ْ كن���ت ال أعلم ً ُ إال أن الدراس���ات الت���ي أقامه���ا الفيزيولوجي���ون تق���ول بوجود ه���واء قليل في ثغرات جهازي التنفس���ي ،عالوة على أن رئتي َّ ٍ كميات وافرة م���ن المواد تحم�ل�ان ف���ي داخلهم���ا ومحيطهم���ا المخاطي���ة الدهني���ة تعمل على امتص���اص األزوت من الهواء، ف�ل�ا يبقى أي غاز آزوتي حر ،وال أتعرض لالحتش���اءات أثناء والعوم ،حيث أطرح ه���ذه المواد المخاطية المحملة الغط���س َ ب���اآلزوت الموجودة في المجاري التنفس���ية عب���ر فتحتي أنفي مع التنفس المحمل ببخار الماء .ويمكنكم أن تروا هذا الزفير ال���ذي يبلغ تس���عة أمتار عندم���ا تخرجون للس���ياحة في البحار والمحيطات ،ويمكنكم أن تروا ذلك بوضوح أكبر ،مع أعمدة البخار المتكاثف الذي يخرج مع الزفير في األجواء الباردة. أضطر إلى ش���رب المياه المالحة ،لك���ن الكلى لدي كبيرة ومصممة لتطرح هذه األمالح الفائضة عن حاجتي ،عن طريق بول���ي الكثي���ف .والحقيقة أن���ي ال أحتاج إل���ى الكثير من الماء السنة الثامنة -العدد (2013 )35
24
ألنني ال أتعرق. فرخا يبلغ 2,5 ���د م���ر ًة كل عامين أو ثالثة أعوام ،أو أل���د ً َأ ِل ُ ش���هرا .وأتلقى مس���اعدة اإلناث في طن���ا بع���د حمل ي���دوم 12 ًّ ً هذه المرحلة ،فالصغير الذي يبلغ ضعف وزنه خالل أس���بوع، يوميا .مع���دل الدهون في يرض���ع من���ي 600لتر م���ن الحلي���ب ًّ حليب���ي ( %40مقاب���ل %2معدل الدهون ف���ي حليبكم) ،ولذلك أقلل من شرب المياه أثناء اإلرضاع حتى يكون في كثافة أعلى. وحت���ى ال تتس���رب المي���اه المالحة م���ع الحليب أثن���اء الرضاع، أودع اهلل الرحي���م بخلق���ه في الصغير قابلي���ة الرضاع وعضالت خاصة تمكنه من الرضاع ،وجعل ثديي بشكل يطبق على الفم بش���كل جيد ،وجعل فيهما ق���درة على ضخ الحليب من خالل عضالت تتقلص وتتمدد ،وبذلك يبقى صغيري ملتص ًقا بثديي طيل���ة ثمانية أش���هر أضخ في فمه الحليب .فه���ل يع َقل أن ننظر إل���ى ه���ذا النظام المذهل بأنه صدفة كم���ا ادعى أصحاب نظرية التط���ور؟! أحت���اج خ�ل�ال اإلرض���اع أن أتناول أربع���ة أطنان من أس���ماك القريدس والسردين واألسماك الصغيرة األخرى .وإذا اس���تطعت التخلص من اإلنس���ان ومن اصطياده لي ،فيمكن أن ُ أواصل العيش ( )100-80س���نة .على الرغم من أن عددنا كان يبلغ ( )300,000حوت في القرن التاسع عشر ،فإن هذا العدد يقدر ب���ـ( )10,000-6000حوت ،وذلك بس���بب الصيد الي���وم ّ الجائر .س���رعتي في الس���باحة الطبيعية تبل���غ ( 13-11كم) في الس���اعة ،كما أس���تطيع أن أرفع هذه الس���رعة إلى ( 35-30كم) ف���ي الس���اعة عند الط���وارئ ولفترات قصيرة .وبالتالي أس���تطيع وبكل س���هولة البقاء في عمق يبلغ ( )150متر ولمدة تس���تغرق تخصني أنا فقط ،ويمكنكم 20دقيق���ة ،وهذه األرقام قياس���ات ّ أرقاما خاصة أخرى ،وتكتشفوا خاصيات أخرى عند أن تقيسوا ً بقية أنواع الحيتان .ومهما يكن من اختالف في الخاصيات من ن���وع إلى آخ���ر ،فإنها كلها م���ن مظاهر تجليات الق���درة والعلم المحيط والرحمة المطلقة لخالقنا وبارئنا جل وعال. تعجز كلماتي عن توجيه أي خطاب ألولئك الذين يزعمون تعرضت لطفرات وراثية بأني في خلقتي هذه التي تفوق الخيال، ُ أثناء انتقالي من البر إلى البحار والمحيطات ...قولوا ما شئتم، مسبحا لخالقي، حامدا فأنا س���أمضي اآلن إلى محيطي شاكرا ً ً ً مج���ددا ألجد ما ألن���ي أش���عر بالجوع ،والب���د لي من الغطس ً أقتات عليه من رزق اهلل تعالى ...أستودعكم اهلل أيها البشر. (*) جامعة 9أيلول /تركيا .الترجمة عن التركية :مصطفى حمزة.
معترضا ولست أبدا من رؤية األشياء مسطحة، ً فلست أش���كو ً ُ ُ ِ ُ لدي .ألني أومن بأن اهلل تعالى ّ قط لعدم وجود حاسة التذوق ّ خلقني على هذا الشكل ،ألنه يناسب خلقتي ويو ّفر لي الحياة المريح���ة والحرك���ة الس���هلة .وليس من عادت���ي أن أبحث عن خلل في ما خلقه ربي. ٍ عيب أو ٍ
سمع قوي وصوت شديد
هن���اك فرق كبير بين كثافة الهواء وكثاف���ة الحيوانات البرية في الع���ادة .ولذا ف���إن وصول الموجات الصوتي���ة إلى األذنين في زمني���ن مختلفي���ن متعاقبين بس���بب المس���افة الفاصل���ة بينهما، يوف���ر لألذني���ن القدرة على تحديد مصدر األصوات بس���هولة. ف���ي حي���ن تقل الف���روق بين كثاف���ة الماء وكثافة جس���م حيوان بح���ري مثل���ي ،كما أن الموج���ات الصوتية الت���ي تنقلها المياه، تنتش���ر إلى كل الجهات في سرعة واحدة ،وتصل إلى األذنين تزامن ال يس���مح بتحديد جهة المنب���ع الصوتي .والجتياز ف���ي ٍ هذه المش���كلة ،وضع ربي فجوة في الجزء الخلفي من رأسي كيس���ا تفصل منطقة الس���مع ّ لدي ،ووضع وراء أ ُذني الداخلية ً جيوبا تفصل رجراج���ا .وبالتالي جعل لنا نحن الحيتان هوائي���ا ً ً ًّ بي���ن األذنين الداخليتين تدع���ى " ،"Periblar Sinusوجعل كذلك األكي���اس الهوائي���ة خل���ف األذني���ن ،تهتز بش���كل مس���تقل عن يمكنن���ا من تحديد جهة الصوت في يس���ر األخ���رى ،وه���ذا ما ّ وس���هولة .أثن���اء الغطس في أعماق البح���ار يزداد ضغط الكتل المائية الهائلة بس���رع ٍة كبير ٍة على أذني ،يقوم الدم الذي يندفع إل���ى فجوات الهواء أثناء الغطس بدور التوازن ،وبذلك يكون قد حماها ربي الذي أحسن خلقي من االنفجار. عل���ى الرغم م���ن أن ُأ ُذ َني ال تملكان أذ ًن���ا خارجية مثلكم، َّ ج���دا لألص���وات ،حي���ث تس���تطيع التق���اط فإنهم���ا حساس���تان ًّ االهت���زازات م���ن 12,5هرتز إل���ى 32000هرت���ز ،بينما يبلغ
الحد األعلى من هذه االهتزازات عند إناثنا 200ألف هرتز. إن ق���وة الس���مع عندي تعن���ي في المقابل وج���ود آلية قوية إلصدار األصوات .إذ نس���تعمل الذبذبات المختلفة ألغراض مختلف���ة .فاألص���وات المنخفض���ة ( 200–12,5هرت���ز) تش���كل لغتنا الخاصة التي نس���تعملها فيما بيننا ،كما نس���تعمل الذبذب���ات العالي���ة ( )32000-21000كال���رادارات ،للداللة التم ْوضع والمكان ،إذ من خاللها نحدد أماكن أس���راب عل���ى َ القري���دس واألس���ماك الت���ي نقت���ات عليها .صوتي هو األش���د ذك���ر أني أصدرت -في واألق���وى بي���ن أصوات الحيوانات ،و َأ ُ إح���دى الم���رات -صو ًت���ا أقوى م���ن صوت طائ���رة أقلعت من مطار "تش���يلي" .وبفض���ل هذه القدرة في الس���مع والتصويت، جدا .فالصوت نتمك���ن من مراقبة بعضنا على مس���افات بعيدة ًّ هرت���زا ،يمكن التقاطه الخاف���ت ال���ذي أصدره بذبذبة تبلغ 20 ً من قبل حوت آخر على مسافة 75كم بكل وضوح ،بل ربما يمكننا التواصل فيما بيننا على مس���افة 300كم ،بل ويمكنني أن أرس���ل الراس���ائل وأتواصل مع أصدقائي على مس���افة 10 آالف كيلومتر إذا توافق الصوت الذي أصدر ُته مع موج البحر ولم تشوش عليه أصوات محركات البواخر.
لكي ال أتجمد من شدة البرد
تعلم���ون أن البحار ب���ارد ٌة ،وإذا علمتم أن بعض أنواعنا تلتمس حياته���ا في المحيط���ات القريبة من القطب ،فإنكم س���تتخيلون أن حياتن���ا مليئ���ة بالصعوبات والمعاناة .ربم���ا كان األمر كذلك بالنس���بة لكم ،لكن ربي -بعلمه المحي���ط -جعل تحت جلدي طبقة دهنية بسماكة تتراوح من 25سم إلى 50سم .هذه الطبقة الدهنية تعمل كعازل حراري لتحفظ حرارة الجسم وتخفف من الفاقد الحراري إلى أدنى مستوى .كما يغطى جلدي بطبقة دهنية زلقة وليس فيه مسامات التعرق .تتحكم شبكة العروق الدموية الكثيف���ة في زعانف���ي ،في حرارة جس���مي؛ ففي البح���ار الدافئة تتمدد عضالت هذه العروق وتتوسع ليزداد الفاقد الحراري بما يناسب حرارة الوسط الذي أسبح فيه ،بينما تتقلص في البحار عروق الزعانف لتنخفض كمي���ة الدماء الواردة الب���اردة وتضيق ُ إليها ،وبالتالي لينخفض الفاقد الحراري .توجد الش���رايين التي تحم���ل الدماء م���ن القلب إلى الزعانف ،متالصق���ة مع األوردة التي تعود بالدماء إلى القلب ،فتعمل حرارة الدماء في الشرايين عل���ى تدفئ���ة الدم���اء ف���ي األوردة ،وتأمين عودتها إلى الجس���م، وتخفيض الفاقد الحراري.
23
السنة الثامنة -العدد (2013 )35
اللذي���ن يتجلي���ان ف���ي آالف الخاصيات المعج���زة التي زودها لمخلوق مثلي ،ليتمكن من العيش في البحار الواسعة ...هذه الخاصيات التي يكتش���فها علماء المورفولوجيا والفيزيولوجيا والتش���ريح ،والت���ي ال ت���دل إال على كمال اإلتق���ان .يا لك من ٍ تدعي بأني إنس���ان تائ���ه حائر، عجول في إطالق األح���كام؛ إذ ّ رت عبر تطو ُ ُ كن���ت في الماضي الغابر حيوا ًنا َب ّر ًّي���ا كالفيل ،ثم ّ سلس���لة م���ن الطفرات الوراثي���ة التصادفية إل���ى حوت بحري، وأنت تدرك الفروق الجوهرية بين الحياتين البرية والبحرية... فه���ل كل ذل���ك م���ن أج���ل إن���كار وج���ود اهلل الخال���ق المطلق والتهرب من عبوديته؟! ّ جيدا بأني نوع من األس���ماك بس���بب ال من يعتق���د يعرفني ً عيش���ي في البحار ،ولكن ال تربطني باألس���ماك عالقة س���وى اشتراكي معها في الوسط البحري الذي أعيش فيه .فاألسماك مخلوق���ات تتألف قلوبها من ُح َجير َتين ،تتنفس األوكس���يجين ح���ل ف���ي الم���اء ع���ن طريق الغالص���م ،تغطي الحراش���ف المن ّ ْ العظمي���ة جس���مها ،وتتكاثر بالبي���وض التي تضعها ف���ي الماء، كم���ا أنها من ذوات الدم الب���ارد .أما قلبي فيتألف مثل قلوبكم أنتم البش���ر -م���ن ُح َجي ٍ���رات أربعة وال يمكنني اس���تخالص ْ المنحل في الماء ،فأنا مزود مثلكم برئتين أستطيع األوكسجين ّ من خاللها تن ّفس الهواء .ولعل الفرق الجوهري الذي يميزني عن األس���ماك ويضعني في نوع الثدييات ،هو اإلنجاب نتيجة ديي الممتلئة باللبن. الحمل وإرضاع صغاري من ث ُ َّ جنس���ا .فكما نوعا تفت���رق الحيت���ان إلى ً 92 منتميا إلى ً 38 ً أنواع���ا مختلف���ة األحج���ام واألط���وال -كالدالفين- أن هن���اك ً مترا ووزن 190 فكذل���ك هن���اك أنواع مثلي ،تتمتع بط���ول ً 34 طن���ا ،مما يكس���بها لقب أضخم حيوان في العالم .وس���أحاول ًّ أق���دم لكم بإيج���از ،قدراتي الخاصة التي وهبنيها ربي اآلن أن ّ وخالقي ألقدر على العيش في وسط المحيطات ،وجعلني بها أتمي���ز عن باقي الحيوانات الحية األخرى ،وأترك تقدير ما إذا بلغت هذه الحال عبر سلس���لة من الطفرات الوراثية كن���ت قد ُ ُ التصادفية أم بخلقٍ وتقديرٍ وتدبيرٍ إلهي معجز؟!
هيكل عظمي مدهش
كما تعلمون أنتم البشر ،ينبغي أن ال تكون كثافة جسمي أعلى م���ن كثافة الماء أو ينبغي أن يتم تعزيز قوة رفع الماء بفجوات الع ْوم في المحيطات والغوص هواء إضافية حت���ى أتمكن من َ ف���ي أعماقه���ا .لذل���ك ،فالعظام التي تش���كل الهي���كل العظمي السنة الثامنة -العدد (2013 )35
22
إس���فنجية تختلف ل���دي ما عدا عظام الرأس ،تتركب من مواد َّ يش���كل النخاع الدهني ع���ن عظامكم وعظام س���ائر الثدييات. ّ نس���بة %50م���ن عظام���ي ،كما أن ه���ذه العظ���ام الدهنية تؤدي ٍ يكون نس���بة إل���ى تخفي���ف كبيرٍ في وزن هيكلي العظمي الذي ّ %17م���ن جس���مي .إضاف ًة إل���ى أن هيكلي العظم���ي لم ُيخلق أيضا لحم���ل جس���مي الضخم وتأمين س���يري فقط ،ب���ل يعمل ً على تأمين المرونة العالية في دعم عضالت جسمي وتمكيني من السباحة .فهيكلكم العظمي -أنتم البشر- صلب ،وهذا ما ٌ يمكنك���م من الوقوف على األرض ومقاوم ِة الجاذبية األرضية ّ وبالتال���ي الس���ير عليه���ا .وم���ن هن���ا يمكنك���م أن تتخيلوا مدى الصعوب���ات التي واجهها أصحاب نظرية التطور حتى يجدوا طريق���ة يقنع���ون بها الناس حول كيفي���ة انتقالي من حيوان ّبري إلى حيوان مائي! إذ زعموا أني سئمت من الحياة على اليابسة ُ أتمكن من العيش في الماء والمحيطات! فغيرت جسمي لكي ّ ّ فتتغير رأس���ي، لعظام النمو س���رعة ل معد أما مفاجئا ا تغير ّ ً ً عن���د المرحلة األخي���رة من نمو الجني���ن ،إذ تنزلق عظمة أنفي ال ،وبذلك تنتقل فتحة أنفي فكي طو ً نحو األعلى وتمتد عظام ّ ألتمكن من تنفس الهواء. إلى أعلى نقطة في رأسي ّ وإن كانت حاسة الشم لدينا لديْ ، السمع من أهم الحواس ّ فإن كنا ال نملك نحن الحيتان ضعيفة ،فإن حاسة البصر قويةْ . موزعة حاس���ة الت���ذوق ،فإن حاس���ة اللم���س لدينا جيدة وه���ي ّ على جسمي كله ،كما أن الشعيرات القليلة على أطراف فمي أيضا .أنتم بني البش���ر تتمتع���ون برؤية ثالثية عالية الحساس���ية ً األبعاد ،فترون بها األش���ياء مجس���مة ،ولكن الرؤية لدي ثنائية األبع���اد ،حيث أرى األش���ياء مس���طحة ،ألن ِكال عين���ي يرتبط َّ بالدماغ من خالل عصب بصري مستقل ...ال أقول لكم ذلك ش���كاية أو اعتراض���ا ،بل أقوله بيا ًنا لروع���ة الخلق والكمال... ً
علوم
أ.د .عرفان يلماز*
الحوت األزرق عمالق البحار والميحطات
وتدبيره سبحانه،
فه���و يتصرف ف���ي ملكه
مرحب���ا أيه���ا اإلنس���ان ..أن���ا الح���وت األزرق ً
( ،)Balaenoptera Musculusأضخ���م مخلوق بين
الحيوان���ات الموجودة في عالمن���ا اليوم .بداية أحدثك عن نفسي ،و َأ ُر َّد بالتالي على بعض االدعاءات أحب أن ّ ف���ي ح ّق���ي .ربما ُوجد ف���ي الماضي بعض الديناص���ورات التي
كبرن���ي حجم���ا ولكنه���ا اليوم غير موج���ودة .فالق���وي الخالق ً َت ُ المدبر سبحانه ،خلق مخلوقات كثيرة ،وأ ِذن لها أن تعيش على حينا من الدهر، هذه األرض الس���ابحة في فلك الفضاء الواسع ً
ثم انقرضت بعض هذه المخلوقات وغابت عن مسرح الحياة،
وظ ّلت بعضها اليوم مهددة باالنقراض ،ولعل نسلي في المستقبل خلق آخ���ر ..وكل ذلك بأم���ره وتقديره ينق���رض ويكون هن���اك ٌ
كيف يش���اء ..وال ش���ك أن َخ ْلق حيوان
كخ ْلق جرثومة صغيرة بالنس���بة له س���بحانه ،يخلق ضخم مثلي َ ول َل ُه ُك ْن كما يشاء وكيفما يشاء ،و﴿ ِإ َّن َما َأ ْم ُر ُه ِإ َذا َأ َر َاد َش ْي ًئا َأ ْن َي ُق َ ون﴾(يس ،:تعالى س���بحانه عن العجز الذي هو شأننا نحن َف َي ُك ُ المخلوقين .إال أن بعض الناس يسلكون في تفسير الخلق طر ًقا ملتوية وينحرفون إلى اإللحاد ،ألنهم ال يرون العلم والقدرة في
خ َلقه ،وتأتي نظرية التطو ر (�Evo َخ ْلق اهلل الذي أتقن كل شيء َ
)lutionعلى رأس هذه الطرق الملتوية التي تسوق إلى اإللحاد. اإلنس���ان الذي يلجأ إل���ى الطفرات الفجائية وإنه ليحزنني ُ ِ والتكي���ف المجرد عن واالصطف���اء الطبيع���ي الذي ال َيرح���م
الوع���ي واإلدراك ،ويتوس���ل إلى تلك النظري���ات القائمة على
الصدفة ،للتهرب من إثبات علم اهلل المحيط وقدرته المطلقة،
21
السنة الثامنة -العدد (2013 )35
متعددة ،ترتب عنه وضع نفسي عويص.
-2الكذب :وهو أنواع كثيرة ومراتب متفاوتة.
-3العدواني � � ��ة والتباغض :وه���ي ظاهرة نفس���ية تدل على
فقدان التوازن على مستوى شبكة العالقات االجتماعية.
-4الجهل :بما عند المسلمين من روابط نورانية ،وخاصة
تلك التي تربطهم باآلخرة أو بالحياة األخرى.
-5االستبداد :وهو حالة نفسية قبل أن تكون سياسية.
-6الذاتية :أو حب الذات والظهور.
فموق���ع ه���ذه الرس���ائل يظهر ف���ي كونه���ا متفتق���ة وصادرة
ع���ن واق���ع مص���دوم ،حيث إن صدمت���ه أتته من تكرار الفش���ل في تس���مية األش���ياء بأس���اميها الحقيقية ،ومن الفشل في إعادة
رد اإلنس���ان اإلس�ل�امي إلى موضعه األصلي .فمثل���ت من ثم ّ حول الف���رد إلى أمة ،حيث ظه���رت نتيجة ذلك في فع���ل ّبن���اء ّ المجتمع التركي المعاصر. رد فعل ّبن���اء حول الفك���رة إلى تجربة ودل���ت ً أيض���ا عل���ى ّ
ناجح���ة من ناحي���ة الكيف ،وذلك من خالل الس���لوك العملي
لطلبة النور في واقع تركيا االجتماعي.
وخالص���ة الخالصة أن كاتب الرس���ائل عاش بين األفكار
الخادع���ة واألف���كار المخدوعة بح ًثا ع���ن -وأمال في تحقيق- قاع���دة مجتمعي���ة ش���رعية ثابت���ة ،ال ينخرم فيها أي ش���رط من
الشروط التي تحقق الحياة الكريمة واألخرى السعيدة ،وذلك عنص���ري األمن والع���دل ،ألجل رد الظل���م ودفعه عن بتوفي���ر َ
تذكيرا اإلنسان وخاصة المسلم .ونجد في ثنايا هذا الحديث، ً
ال" :ال تحسبن الظلم بما ذهب إليه ابن خلدون في مقدمته قائ ً أخذ المال أو الملك من يد مالكه من غير عوض وال إنما هو ْ س���بب كم���ا هو المقص���ود ،بل الظلم أعم م���ن ذلك .وكل من
أخذ ملك أحد أو غصبه في عمله أو طالبه بغير حق أو فرض
عليه ح ًّقا لم يفرضه الشرع فقد ظلمه".
(*) أستاذ الفكر والحضارة بكلية اآلداب والعلوم اإلنسانية-تطوان /المغرب.
المراجع
( )1المالحق ،لبديع الزمان س���عيد النورسي ،ترجمة :إحسان قاسم الصالحي، دار النيل للطباعة والنشر ،القاهرة.
( )2صيق���ل اإلس�ل�ام ،لبديع الزمان س���عيد النورس���ي ،ترجمة :إحس���ان قاس���م الصالحي ،دار النيل للطباعة والنشر ،القاهرة.
( )3مق���ال "أص���ول التفك���ر في رس���ائل الن���ور" ،لـ"أميد شمش���ك" ف���ي المؤتمر العالمي 3لبديع الزمان سعيد النورسي. السنة الثامنة -العدد (2013 )35
20
معرفة اهلل مفعما، ْ إن َ كنت بمعرفة اهلل ً فما أعظم ّ حظك! إذ ترى في كل شيء معنًى، وفكرًة وجماالً، وحتى الطبيعة ،تغدو أمامك وكأنها لـحن تتناغم فيه األصوات، وتلتئم األلوان، وكأنها قد َسكبت كل جمالها، في وردة حسناء واحدة!.. ***
ذل���ك النم���وذج الص���ادق ،وف���ي ذل���ك النور من خالل األحداث السياسية التي المي���زان الصغي���ر ،وف���ي ذل���ك الش���عور واكبت االنقالب ،وحاول تطبيق ما رآه �ش ّقت ر�س��ائل النور طريقها �إىل باألناني���ة ،فإن���ه يص���دق تل���ك األس���ماء من نور على واقع الحال من دون تعبير احلقيقة يف مو�ضع العبادة �ضمن والصف���ات بإيم���ان واطمئن���ان ووجدان وال تأوي���ل ،إال أن���ه لم يوف���ق في التعبير ال �إىل حقيقة العلم ،وفتحت �سبي ً ج���ازم ش���هودي وإذعان���ي وبس���هولة ال ،كأننا برس���ائل عن بش���راه توفي ًقا كام ً احلقائ��ق يف مو�ض��ع ال�س��لوك ويسر". النور -على لسان مؤلفها -في التجارب والأوراد �ض��من براهني منطقية وهك���ذا مهما حاولنا ضب���ط تعريفنا أمرا لم يحن أوانه بعد( .تأييده تستعجل ً ا ق طري وك�شفت علمية، وحجج ً لرس���ائل الن���ور ،فإننا لن نصي���ب إذا لم للجيش وجمعية االتحاد والترقي). يف الك�برى الوالي��ة إىل � ا مبا��شر ً نتتب���ع وحداته���ا أو فقراته���ا بالبحث في ولك���ن بحل���ول الح���رب العالمي���ة مو�ض��ع علم الت�صوف والطريقة ضوء األح���داث والظ���روف التي كانت وخضه���ا للمجتمع التركي ،وخاصة منه �ض��من عل��م ال��كالم والعقي��دة تم���ر به���ا تركي���ا عندئ���ذ .فق���راءة ه���ذه تلك العناصر التي كان النورس���ي يعول و�أ�صول الدين. الرس���ائل في ذاكرة الفكر اإلسالمي في عليه���ا في تدش���ين فجر جدي���د ،تبين له عموميت���ه ،أمر في���ه مغالطة كبيرة .بل إن األمر فعاد "سعيد الجديد" إلى االستمرار االحتف���اظ بالخصوصية الكاملة والتامة "س���عيدا القدي���م". ف���ي مهام���ه وخال���ف ً لفك���ر ه���ذه المكتوب���ات ،هو الش���رط األس���اس لوض���ع أقدام وال أرى ه���ذه المخالف���ة إال في وجهة واحدة هي الوجهة ال القارئ على الس���بيل الصحيح (المواضيع تكاد تكون واحدة ،السياس���ية ،أما فيما عدا ذلك ،فنهج رس���ائل النور بقي حام ً لكن أس���لوب المعالجة واألولويات في ترتيب العناصر وغير للروح المبشرة والمؤمنة بغد أفضل ،بثقة كبيرة وعزم أكيد.
واح���دا) .فجمي���ع المفكرين في إص�ل�اح أوضاع ذل���ك لي���س ً العال���م اإلس�ل�امي تطرق���وا لمواضي���ع االس���تبداد ،والتعلي���م عما قاله والع���دل ،والتنمية ...ولكن ما قاله محمد عبده يتميز ّ محم���د إقبال وعما قاله غيرهما ،إذ لكل واحد في إطار بيئته، اصطالحاته الشارحة والباحثة عن الحلول. وتفك ٌر في آيات وعليه أقول ،إنها محاول ٌة لتفس���ير القرآن، ّ اآلف���اق واألنف���س ،أي نع���م ،لكن م���ع إيقاع أو ج���رس الزمن االجتماعي والسياس���ي والحض���اري لتركيا الحديث���ة بهدوئها وضجيجها ،بمدها وجزرها.
"إنن���ي أقس���م بم���ا آتاني اهلل من ق���وة ،بل ل���و كان لي ما ال يعد وال يحصى من األلسنة ،ألقسمت بها جميعا بالذي خلق ّ العال���م بهذا النظام األكمل ،وخل���ق الكون في منتهى الحكمة واالنتظ���ام من ال���ذرات إلى الس���يارات الس���ابحات في أجواء الفض���اء .ومن جناح البعوضة إلى قناديل النجوم المتأللئة في السماوات ...ال يمكن أن يخرج البشر على سنة اهلل الجارية في الكون ،ويخالف بقية إخوانه من طوائف المخلوقات بشروره قطعا". الكلية ويقضي بغلبة الشر على الخير ...فهذا ال يمكن ً وتقرير مثل هذا ،مسند بقسم غليظ ال يمكن أن يصدر إال ممن يعرف موطئ أقدامه ونتيجة منطوقه.
وخير ما يعكس هذه الصورة ِسفر صيقل اإلسالم في مواضع متنوع���ة ،حي���ث يق���ول األس���تاذ س���عيد النورس���ي ف���ي إحدى الفق���رات" :لق���د ألقيت نظرة إلى رس���الة "المناظرات" ،وذلك بعد مرور خمس وثالثين س���نة على تأليفها ،فرأيت فيها وفي مؤلفات "س���عيد القديم" أخطاء وهفوات .إذ ألف تلك اآلثار في حالة روحية و ّلدها االنقالب السياس���ي وأنش���أتها مؤثرات خارجية وعوامل محيطة به". فلق���د أحس بإحس���اس مس���بق أن "رس���ائل النور" س���تنقذ إيمان كثير من المؤمنين وستش���د أزرهم ،إال أنه نظر إلى هذا
المسألة الحضارية
صيقل اإلسالم
والش���يء نفس���ه نلحظه ف���ي كيفية تعليل���ه للمس���ألة الحضارية حيث يطرح السؤل التالي: "ما الش���ر الذي جعل العالم اإلس�ل�امي يقف على أعتاب القرون الوسطى ،بينما طار األجانب واألوربيون بخاصة نحو المستقبل؟!". األم���ر ف���ي تمثله ،راج���ع إلى مجموع���ة م���ن األدواء التي يعاني منها المسلمون في عهده -وإلى يومنا هذا -من مثل: -1اليأس :يأس الفرد بالتراكم مركبا) عبر س���نين (=يأس���ا ً ً
19
السنة الثامنة -العدد (2013 )35
ج���اءت الدع���وة إلى تحقي���ق الذات اإلس�ل�امية التي غاب حضوره���ا الفعل���ي بش���كل مري���ب؛ وذل���ك قص���د التخل���ص م���ن حالة نفس���ية عويصة للغاية تصور فيها اإلنس���ان المس���لم باهتا ،وإع���داد وضع صحي تغيب ذات���ه ش���بحا مخي ًفا أو ظ�ل� ًّ ا ً ً في���ه الدوني���ة واالنفص���ام ،وذلك بإكس���اب اإلنس���ان المس���لم ش���جاعة كافي���ة ،ك���ي يتقدم إل���ى العالم كل���ه باس���مه الحقيقي وش���كله األصل���ي وانتمائ���ه األصي���ل وه���و عين المب���دإ الثاني نظ���را ال���ذي س���ميته بترس���يخ الهوي���ة ع���وض البح���ث عنه���ا، ً ألن أصال���ة العال���م اإلس�ل�امي ل���م تض���ع من���ه ك���ي يبح���ث ال. قس���را عنه���ا ،ب���ل إن���ه كتمه���ا إم���ا وقه���را ،أو ضع ًفا وت���واك ً ً ً
الصراع الفكري
وهن���ا تظه���ر مس���ألة الص���راع الفك���ري عل���ى مس���رح أح���داث العالم اإلس�ل�امي ،بإثارة مبدإ ثالث هو ضرورة التقدم وكيفية تحقيقه في غياب وصاية اآلخر المذمومة والمحبطة للطاقات اإلسالمية. إذا ثبت هذا عند حديثنا عن الفكر اإلس�ل�امي بصفة عامة نوعا من الفكر في هذا المجال ،فإن هناك عناصر خاصة تميز ً اإلس�ل�امي عن نوع آخر ،وذلك بحس���ب التنوع البيئي بما فيه السياسي واالجتماعي ...والعالئقي في الداخل والخارج. ولنا في "رس���ائل النور" التي ألفها األستاذ سعيد النورسي أنم���وذج وش���اهد ف���ي هذا المق���ام .إذ هي عب���ارة عن مفص���ل ٌ ٌ ٌ م���ادة مكثفة م���ن المقاالت والخطب والخواط���ر والتحليالت والتفسيرات التي انصب جزء كبير منها -إن لم أقل جلها -في تفسير القرآن الكريم .وما تسميتها بـ"رسائل النور" إال لكونها تطمح إلى االقتباس من نورانية هذا الكتاب بدورانها في فلكه وقربه���ا منه .فقد "ش���قت رس���ائل الن���ور طريقها إل���ى الحقيقة ال إلى حقيقة ف���ي موضع العب���ادة ضمن العل���م ،وفتحت س���بي ً الحقائق في موضع الس���لوك واألوراد ضم���ن براهين منطقية، مباش���را إلى الوالية الكبرى في حجج علمية ،وكش���فت طري ًقا ً موض���ع علم التص���وف والطريقة ضمن علم ال���كالم والعقيدة وأصول الدين". والق���ارئ قد يح���ار تجاه التعريف للرس���ائل .م���ا هي هذه المادة بالضبط؟ أهي تصوف أم كالم ،خاصة حينما يطلع على كالم صاحبه���ا" :لق���د كنت أق���ول ،إن هذا الزم���ان ليس زمان مفك���را في حقائق اإليمان الطريق���ة ،فالبدع تحول دون ذلك، ً وحدها .ولكن الزمان أظهر أنه يلزم لكل صاحب طريقة -بل السنة الثامنة -العدد (2013 )35
18
األلزم له -أن يدخل دائرة رسائل النور التي هي أوسع الطرق، وتضم خالصة الطرق االثنتي عشرة المهمة ضمن دائرة السنة النبوية الشريفة .حيث إن الذي غرق في الخطايا والذنوب من أهل الطريقة ،ال يلج في اإللحاد بسهولة وال يقهر قلبه .ولهذا أبدا ،فيمكنهم إذن أن يكونوا طالب رسائل فهم ال يتزعزعون ً النور ح ًّقا ،بش���رط أال يدخلوا -حس���ب المس���تطاع -في البدع وال يرتكبوا اآلثام التي تحول دون التقوى وتجرحها". ش���يئا م���ن هذا ،بل إنه���ا هذا كله .فقد توس���ل إنها ليس���ت ً الخطاب في رسائل النور بإمكانيات منهجية ومعرفية إسالمية كثيرة ،خاصة منها منهج الجدل ومنهج الذوق .إذ إن االستفادة م���ن القدام���ى في هذين البابي���ن واردة ال محالة .بل إن مؤلف الرسائل األستاذ سعيد النورسي ،يعطيها أكثر من حظ القدامى أيض���ا حي���ن يدعو أه���ل التصوف إل���ى االنضواء والمحدثي���ن ً تحت ظالل رسائل النور ،إيما ًنا منه بكون الرسائل أقرب إلى محورا لها الحقيق���ة القرآني���ة والربانية من غيرها .فق���د جعلت ً التفكر في اآلفاق وفي األنفس وفق ما ورد في القرآن الكريم.
األسماء الحسنى
وع���ن ه���ذا التفك���ر ي���رى النورس���ي أن رس���ائل الن���ور تبين أن الموجودات قاطبة ،إنما هي مظاهر األس���ماء الحسنى ،بحيث ال للغفلة قط ،فال شيء يكون حائال دون السكينة ال تدع مجا ً واالطمئنان .لذا تكس���ب قارئها مرتبة واس���عة -من االطمئنان س���عة الكون كله ،وتفتح أمامه دائرة عبودية واس���عة ودائمةأيضا .كما أنه -أي النورس���ي -يؤيد التفصيل في س���عة الكون ً التفكر في األنفس ،ويرى أن هذا الطريق هو أقصر من التفكر يعرف النتيجة التي ف���ي اآلف���اق وقطعي ً أيضا ،حتى إنه عندم���ا ّ يتم التوصل إليها بالتفكر النفسي ،يعرفها بـ"مرتبة حق اليقين". وقد قام المؤلف بإضافة قسم بعنوان "شهادة الماهية اإلنسانية" إل���ى خالصة الخالصة ،التي هي بمثابة خالصة بالعربية لآلية ال في التفكر اآلفاقي ،ويبين أس���باب الكبرى التي تش���كل مث���ا ً هذه اإلضافة في أحد "مكاتيب أميرداغ" على الشكل التالي: "نع���م إن الكون العظيم ،يكون أمامي بمثابة حلقة ذكر في أثناء قراءتي لـ"خالصة" ،ولكن ألن لس���ان كل نوع من األنواع كثي���را كي يذعن ج���دا ،يتحرك العق���ل عن طريق الفكر واس���ع ًّ ً باألس���ماء اإللهية وصفاتها بعلم اليقين ،وبعد ذلك يتمكن أن يبص���ر ذل���ك بوضوح .وعندما ينظر إلى الحقيقة اإلنس���انية في ذل���ك المقي���اس الجامع ،وف���ي تلك الخريط���ة المصغرة ،وفي
قضايا فكرية
د .مهدية أمنوح*
موقع رسائل النور
من الفكر اإلسالمي الحديث لق���د مثلت الفترة المعروف���ة بالحديثة -وهي المبتدئة
من القرن التاسع عش���ر إلى أواسط القرن العشرين-
فترة مصيرية في حياة الشعوب اإلسالمية؛ إذ تراكمت
إبانه���ا تج���ارب عديدة ومتنوعة ف���ي كافة الميادين يمكن أن نس���ميها
ال عملية بعد. نظرا لكونها لم تجد لها حلو ً "المشكالت الحضارية"ً ، وأه���م م���ا مي���ز الفك���ر اإلس�ل�امي الحديث ف���ي هذه اآلون���ة ،هو
االلتفاف حول مائدة عامة من القضايا التي كانت تؤرق أعالمه وتجد
صدى في تجاوب عوامه.
وق���د كان لمب���ادئ االنعت���اق والتحرر م���ن الت���واكل والتحرر من
اآلخر ،مساحة كبيرة في برامج هذا الفكر .إذ كان هذان العنصران في توافقهما واجتماعهما ،بمثابة المكبلين لإلنس���ان المس���لم والمعيقين ل���ه ع���ن الحركة .فنش���أ من ث���م ما يمك���ن أن نطلق عليه -وف���ق تعبير ع���م حضوره كل البالد "صراعا أح���د الباحثين اإلس�ل�اميين- ً ًّ فكريا" ّ
اإلس�ل�امية بدون اس���تثناء ،أس���فر عن ظهور مبادئ موازي���ة للمبدأين األولين من مثل :تحقيق الذات اإلس�ل�امية أو ترسيخ الهوية -عوض
البحث عنها -والتقدم.
17
السنة الثامنة -العدد (2013 )35
ننتج العمران بالمعنى االس���مي ،ولكي نقوم بالعمران بالمعنى المصدري ،فنحن نحتاج إلى القرآن ،والبد لهذا ،من القرآن. إن الذي���ن عمروا األرض حقيق���ة ،فإنما بهذا المعنى الذي أتح���دث عن���ه ،وإال فبمعن���ى اإلقام���ة والوج���ود ف���ي األرض عمروها" وهو معنى آخ���ر .فهناك معنيان ّ "عمروه���ا أكثر مم���ا َ عن���د ابن فارس صاحب "المقاييس" ،حيث جعل المادة تدور عل���ى أصلي���ن :أصل له ارتباط بالصالح وه���و نقيض الخراب ونقيض الفس���اد وهذا الذي أقص���د ،وهذا هو الوارد في اآلية: اس َ���ت ْع َم َر ُك ْم ِف َيها﴾(ه���ود .)61:وهن���اك معن���ى مرتبط بهذا ،هو َ ﴿و ْ معن���ى البق���اء ف���ي الزم���ان ،واالس���تمرار والوجود بش���كل من األشكال وهو عمران .فإذن البد من القرآن إلنشاء العمران. نحن في زمننا هذا ،قد ضعف عمراننا -إن لم نقل قد زال- حيث إن إس���هام المس���لمين اليوم في عمران األرض ضعيف جدا ،وحاجة البشرية جملة إلى من يعمر ،بالغة األهمية. ًّ لماذا نكتش���ف ما نكتش���ف، نسخر من طاقات ّ ونس���خر ما ّ ف���ي ه���ذا الكون؟ الغاية أساس���ية ،وهي التي تف���رق بين العمل المقب���ول والعمل المردود ،بين العم���ل النافع والعمل الضار، ِ بي���ن العم���ل المعم���ر والعم���ل المدم���ر ...تفرق بينهم���ا تفري ًقا ِّ ّ ال .وكذلك الوسيلة التي يتوصل بها إلى تلك الغاية مهمة كام ً أيض���ا ،هل هي وس���يلة مش���روعة؟ هل هي مم���ا أذن اهلل فيه أو ً أم���ر به ،أم ليس���ت كذلك؟ نجد اآلن في مج���ال الوراثة -على مهما ،لكن ما الطريق إلى اكتش���افه ،وما س���بيل المثالً - كالما ًّ أيضا كالم عريض طويل ،لذلك فإن الهدف الغاية منه؟ هاهنا ً والغاية والوس���يلة كل ذلك مهم .ونستطيع القول ،إن المنهاج أيضا في الذي يس���لك بوسائل معينة للوصول إلى غاية معينةً ، غاي���ة األهمي���ة .ه���ل يراعي الفط���رة التي هي الدي���ن ،التي هي ين َح ِني ًفا ِف ْطر َة ا ِ اس لد ِ َ الخل���قَ ﴿ :ف َأ ِق ْم َو ْج َه َك ِل ِّ هلل ا َّل ِتي َف َط َر َّ الن َ َ يل ِل َخ ْلقِ ا ِ ﴿ولآَ ُم َر َّن ُه ْم َف َل ُي َغ ِّي ُر َّن َخ ْل َق َع َل ْي َها َ ال َت ْب ِد َ هلل﴾(الرومَ ،)30: ا ِ الخل���ق إذن ه���و الفط���رة ،الكيفي���ة التي عليها هلل﴾(النس���اءَ .)119: أي الكيفية التي فطرة اهلل .والفطرة في العربية؛ اس���م هيئةْ ، تم عليها ال َفطر ،وهذه الكيفية هي التي تمثل الخلق كما سواه اهلل تعال���ى بجمي���ع جزئيات���ه وكلياته ،وتلك التس���وية هي حالة غي َر أفس���د ،ولذلك كان تخصص الش���يطان هو َ الصالح .ومن ّ يغير الخلق ،فيبتدئ ذلك صغيرا ثم يكبر حتى إنا لنستطيع أن ّ ً القول ،بالخرص ال بالدرس .إنه حين يصل تغيير الشيطان في الخل���ق إلى درج���ة يختل فيها توازنه الع���ام ،يدمر الكون ،ألنه إذ ذاك ت���كاد تكون الس���يادة للش���يطان تامة ،وال تقوم الس���اعة السنة الثامنة -العدد (2013 )35
16
إال عل���ى لك���ع ابن لكع .ال���ذي نراه بأم أعينن���ا ،أن هذا التغيير مس���تمر في الخلق ،الهندس���ة الوراثية ،التل���وث واالختالالت الت���ي تحدث ف���ي طبقة األزون وغيرهم���ا ،االختالالت العامة في النظام العام ...هناك نصوص صريحة بأن الساعة لن تقوم حت���ى تصي���ر الجزيرة العربي���ة جنات خضراء ،وذلك س���يكون نتيج���ة اخت�ل�االت معين���ة تصل إلى درجة جع���ل الوضع الذي وضعا آخر. قبل يصير كان ُ ً إذن ،اله���دف والوس���يلة والمنه���اج كل أولئ���ك ض���روري ليصح بناء العمران ح ًّقا بميزان القرآن ،لتسعد البشرية وتبتعد ال َي ْش َقى﴾(طه،)123: ال َي ِضلُّ َو َ اي َف َ عن الش���قاءَ ﴿ :ف َم ِن َّات َب َع ُه َد َ ال َي ِضلُّ وعكس الهدى الضالل ،وعكس الس���عادة الشقاءَ ﴿ .ف َ ال َي ْش��� َقى﴾ ،يعني أن اإلنسان يهتدي ويسعد إذا حدثت هذه َو َ التحوالت التاريخية. ونظام الس���ير بصفة عامة في الحياة البش���رية وفي التاريخ، وجي؛ في���ه الصعود والهب���وط ،لكن هذا ه���و أش���به بالس���ير َ الم ُّ معا يتجه إلى ع���روج ،عندما يكون الهبوط الصع���ود والهبوط ً فبش���ر الناس بالغ���ا ،يبت���دئ الصعود .ولذلك إذا اش���تد الظالم ّ ً قطعا ،ألنه س���يحدث التح���ول ،وذلك محض بانب�ل�اج الفج���ر ً رحمة من اهلل ال نتيجة أعمال صالحة لدى الناس .اهلل يمن م���ن اهلل علينا عل���ى عباده بما ش���اء وقت ما ش���اء ،وفع ً ال حين َّ بمحم���د وبالق���رآن ،هل كن���ا َف َعلنا -في الجزي���رة العربية أو في الكرة األرضية -ما به نس���تحق محمدا أو نس���تحق القرآن؟ ً أبدا ...ومثله قبل ذلك ،ومثله في المصلحين بعد ذلك ،فإنما ً ه���ي رحم���ة من اهلل ،ونس���أله بتل���ك الرحمة أن ين���زل علينا الرحم���ة لينقذن���ا مم���ا نحن في���ه ،ويرفعنا من ه���ذه الوهدة إلى حيث نهتدي ونغدو بفضله تعالى. ه���ذا القرآن الذي الب���د منه لبناء العم���ران .و َف ْهم العمران ج���دا عن���ه ،وال ن���دري ك���م المس���افة وقياس���ه نح���ن بعي���دون ًّ الت���ي تفصلن���ا اآلن عن���ه ،ولك���ن بفض���ل اهلل تعال���ى يمك���ن أن نقت���رب بس���رعة م���ن ه���ذا الق���رآن ﴿إ َِّن ر ْحم��� َة ا ِ ي���ب ِم َن هلل َق ِر ٌ َ َ ين﴾(األعراف)56:؛ ومعن���ى ذل���ك أن ل���و اس���تجمعنا ا ْل ُم ْح ِس��� ِن َ الش���روط الضروري���ة الالزمة ،فإنا بس���رعة س���نقفز ،ويمكن أن نصعد صعودا أس���رع من الصاروخ في اتج���اه القرآن الكريم، ً ونكتس���ب بس���رعة تلك الصفات الالزمة لإلنسان الذي يفعل بالقرآن ،إنشاء العمران. (*) األمين العام لمؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع) /المغرب.
قضايا فكرية
أ.د .الشاهد البوشيخي*
من القرآن إلى العمران "العمران" هو مصدر من عمر األرض يعمرها عم���ارة وعمرا ًن���ا .وتطل���ق عل���ى االس���م كم���ا تطل���ق على المصدر .وإن كن���ا نأخذه بالمعنى المص���دري ،فه���و قاب���ل ألن يؤخ���ذ بالمعنى االس���مي كذلك. ونح���ن حي���ن نأخ���ذه بالمعن���ى االس���مي ،فإنه يص���دق على ما تحق���ق نتيجة المعن���ى المصدري .ف���كل اإلنش���اءات المعنوية والحس���ية الت���ي بها يق���وم اإلنس���ان فيعبد به���ا اهلل تعالى ويقوم بوظيفة الخالفة ...كل ذلك هو العمران. مص���درا هو األفضل ،ألن���ه أبعد في ولع���ل النظ���ر إلي���ه هنا ً المعن���ى من "العم���ارة" ،إذ "األلف" و"النون" ف���ي العربية تفيد المبالغة ،وهو عمارة جيدة كبيرة ،فهي من مصدر عمر األرض يعمرها ،وحين توجد عمارة جيدة ممتازة -ألنها إما واسعة أو غير ذلك -تكون عمرا ًنا. لكنها ال تكون كذلك إال على أساس القرآن ...وقد يسأل سائل :هل هذا الذي أنتجه البشر من إنشاءات مادية ومعنوية، ليس عمرا ًنا؟ أي كل ما يقوم به أناس ،ال ينطلقون من القرآن؟ أقول في الجواب :يجوز الزعم -في نظري -أنه ليس بعمران،
ألن العم���ران ضد الخراب .وأول م���ا قاله الراغب األصفهاني ف���ي المف���ردات :العم���ارة نقيض الخ���راب ،فكل ما في���ه تدمير للبش���رية بشكل من األشكال -س���واء على مستوى األفكار أو على مس���توى اإلنش���اءات المادية -ال يمكن أن يسمى عمرا ًنا، وكذل���ك إذا كان ف���ي الظاهر يفيد اإلنس���ان ،لك���ن لم ُيقصد به عرضا لمقصد آخر ال يعتب���ر عمرا ًنا ،كفعل ذل���ك ،وإنما ج���اء ً ���ن َأر َاد ِ ���عى َل َها الكاف���ر إذا ل���م يكن له إيمانَ : اآلخ َر َة َو َس َ ﴿و َم ْ َ ���ع َي َها َو ُه َو ُم ْؤ ِم ٌن﴾(اإلس���راء ،)19:فقد يريد اآلخرة ويس���عى لها َس ْ مؤمنا ،فال فائدة حينئذ ،قال تعالىَ ﴿ :أ ْع َما ُل ُه ْم سعيها لكنه ليس ً ِ اص ٍ يح ِفي َي ْو ٍم َع ِ ون ِم َّما َك َس ُبوا ف َ َك َر َما ٍد ْ ال َي ْق ِد ُر َ الر ُ اش َت َّد ْت ِبه ِّ َع َلى َش���ي ٍء﴾(إبراهيم .)18:فارتب���اط العمران بالقرآن إذن ،ارتباط ْ السبب بالمسبب ،بحيث ال يمكن أن يكون عمران في األرض إال إذا ُوج���د القرآن ،ألن الذي ينش���ئ العم���ران هو القرآن ،إذ العمران مرتبط بالوظيفة األصلية آلدم وبنيه ،التي هي الخالفة والتي حددت في ش���يء اس���مه "عبادة اهلل وحده ال شريك له"، التي تقررها اآلية: ال ِلي ْعب ُد ِ ون﴾(الذاريات .)56:إذن لكي ﴿و َما َخ َل ْق ُت ا ْل ِج َّن َوا ِ َ إل ْن َ س ِإ َّ َ ُ
15
السنة الثامنة -العدد (2013 )35
والنق���ش ،أو أل���وان وأوراق ،أو توفي���ر الم���كان المناس���ب... وق���د وصلَنا العديد من اإلش���ارات التاريخية حول دور رعاية الفنون في مسيرة الفن اإلسالمي ،وخاصة الحكام والسالطين وال���وزراء واألم���راء ،الذي���ن حكم���وا الدول���ة اإلس�ل�امية ف���ي
عصروها المختلفة.
وال ش���ك أن اهتم���ام ح���كام الدول���ة األموي���ة بالخ���روج
إل���ى الصحراء ،أدى إلى فكرة إنش���اء االس���تراحات والقصور
الصحراوي���ة ،وأن مجموع���ة ه���ذه األبنية كان���ت تخضع لعدد
م���ن األفكار التي فرضها الرعاة القائمون على تنفيذ العمليات
الفني���ة .فجاءت هذه األبني���ة تعكس ذوق رعاة الفن ،باإلضافة
إلى كونها تؤدي وظيفة محددة .من هنا نالحظ أن ذوق رعاة الفن ،كان يظهر من خالل توجيهاته للفنان أثناء أداء واجبات العم���ل الفن���ي أو قب���ل قيام���ه به .فل���وال حرص ه���ؤالء الرعاة ورغبته���م ف���ي البناء ،لما وج���دت هذه المباني وبهذا الش���كل
باب من أبوابها ،أن يرى جميع ما بها من األعمدة واألكتاف،
تماما ،أو ما كان في الجهة المقابلة. سواء فيها ما كان أمامه ً
المدارس والخانات في العمارة اإلسالمية
أم���ا المدارس كمنش���آت معمارية ،فلم تنتش���ر في بالد الش���ام إال من���ذ النصف الثاني للقرن الحادي عش���ر ،وإن ما بقي منها
إنم���ا يرج���ع إلى عهد الس�ل�اجقة أنفس���هم ،وخاصة المدرس���ة النظامية التي أنش���أها نظام الملك ف���ي بغداد ،التي تكاد تكون
أشبه بالجامعة ،وتخضع لنظام معماري مختلف عما ظهر في دمش���ق .إن ترتيب المدارس الش���امية على اختالف أش���كالها متقارب���ا ،فه���ي مؤلفة من قاع���ات للتدري���س وحجرات يبق���ي ً
لألساتذة والطالب ،ومن مصلى وميضآت ،وقد تتضمن مدف ًنا مقببا لمنش���ئ المدرس���ة ،كما تتضمن إيوا ًنا لممارسة التدريس ً
في الهواء الطلق أيام الصيف.
ال���ذي وج���دت عليه ،إضاف���ة لتأثير العقي���دة الديني���ة التي كان
ولقد ظهرت في بالد الشام وفي العهد المملوكي -وألول
الفنان في العصور الس���ابقة على اإلس�ل�ام .وق���د حاول الفنان
على صحن المدرس���ة الداخلي ،لتسهيل تدريس الفقه حسب
يعتنقه���ا ه���ؤالء في تغيي���ب العناصر الفنية الت���ي ميزت أعمال
أن يتخلص من الرموز العالقة بفنه ،التي لها عالقة بمعتقدات
دينية أو فكرية غير ما يعـتقـده راعي الفـن الجديد؛ نضرب أمثلة عل���ى ذل���ك بمنتجات الخ���زف ذي البريق المعدن���ي ،وكذلك
رموزا المنس���وجات اإلسالمية التي كانت تحوي قبل اإلسالم ً دينية ما لبثت أن اختفت بعد اإلسالم.
ولق���د أقام عبد المل���ك بن مروان عام (72ه���ـ669/م) قبة
الصخ���رة المقدس���ة ،ورصد لبنائها خراج مصر لس���بع س���نين. وتعتب���ر "قب���ة الصخ���رة" عن���د معظ���م مؤرخ���ي الفن���ون ،أعظم
العمائ���ر اإلس�ل�امية ف���ي الجم���ال والفخامة وإب���داع الزخرفة، كما تمتاز عنها ببس���اطة التصميم وتناسق األجزاء .وقد روعي
مالئما ليحيط بالصخرة المقدس���ة في ف���ي تصميمها أن يكون ً الحرم الش���ريف ،وهي تتكون من مبنى حجري مثمن الشكل، قوام���ه تثمينة خارجية ،وبداخلها تثمين���ة داخلية ،وبين التثمينة الداخلي���ة والدائرة المق���ام عليها القب���ة ،رواق ،وقد خصصت
هذه األروقة للصالة ولمرور الناس حول الصخرة.
ومن آيات اإلعجاز المعماري في تصميم بناء قبة الصخرة،
أن���ه روعي في���ه أن يكون في دائرة دعامات القبة لفت بس���يط، حتى ال تحجب األعمد ُة الواقفة أمام الرائي األعمد َة األخرى
المقابلة في الطرف اآلخر .ولذلك يتس���نى لمن يدخل في أي السنة الثامنة -العدد (2013 )35
14
م���رة -نظام الم���دارس المصلبة ،وذلك بانفت���اح أربعة أواوين
المذاهب األربعة .ولقد انتشر هذا الشكل المصلب فيما بعد،
كمس���اكن قبل في المدارس المصرية التي كانت تس���تعمل من ُ َ تحول إلى مدارس. خاصة، وكثيرا ما كانت ّ ً ولعل أقدم خان أنش���ئ في العهد اإلس�ل�امي ،هو الخان
ال���ذي بن���اه هش���ام بن عبد المل���ك عام 728م عل���ى مقربة من قصر الحير الغربي ،ولم يبق من هذا الخان إال بوابته الحجرية
الضخمة التي أعيد بناؤها في متحف دمش���ق ،وقد نقش على
س���اكفها ( )Architraveكتاب���ة بالخط الكوفي تبين اس���م المعمار
"ثاب���ت ب���ن أبي ثاب���ت" .وتاري���خ اإلنش���اء ،رجب تس���ع مائة. ولي���س بإمكاننا تحديد الوصف المعماري لهذا الخان ،ولكن
الخانات الشامية تجد أشكالها المطابقة واضحة في األندلس، حيث نراها مجرد فنادق مؤلفة من نزل وسوق وصحن محاط
باألروقة ،وتنفتح تحت األروقة غرف ،ومدخل الفندق مفتوح في وس���ط أحد الجهات بباب عريض .وثمة بوابة ذات قوس كبي���ر ودهليز يس���بق المدخل ،ومن أمثلة ه���ذه الفنادق ،فندق
التطوانيين في فاس ،وفندق مخزن الفحم في غرناطة.
(*) رئيس قسم الفلسفة واالجتماع ،كلية التربية ،جامعة عين شمس /مصر.
غالب األحيان ووفق الظروف المناخية القصور في العمارة اإلسالمية القاسية وبالمواد المتاحة المنسجمة مع اتسمت المنش���آت المعمارية اإلسالمية لق��د �أك�س��ب الف��ن الإ�س�لامي متفننا هذه الظروف والتقاليد ،واس���تعار معب���رة ع���ن طاب���ع الحي���اة ً العمائر ،م�سحة جمالية مرموقة، بالضخام���ةّ ، ف���ي عمارته بما انتقاه من تقاليد زخرفية الحربية الخشنة ،وخير مثال على ذلك، تظ��ل �أ�ش��كالها اجلوهري��ة م��ن ومعمارية شائعة ،رومانية أو ساسانية أو عمائر مدينة "سامرا" التي اتخذت نمطً ا �أخ�ص خ�صائ�ص��ه و�أبرز �صفاته. بيزنطية. خاص���ا تأث���رت به المدن العس���كرية في ًّ و�إذا كان��ت روح الإ�س�لام ق��د ويج���ب أن نالح���ظ أن الخلف���اء خصوص���ا في مصر العال���م اإلس�ل�امي، ً ا فك��ر العمائ��ر تل��ك أعط��ت � ً الذي���ن ج���اؤوا بع���د الولي���د ،ل���م يقيموا والش���ام .كذا مدن الثغ���ور على الحدود جماليًّا ذا م�س��حة روحي��ة ،ف�إن في دمش���ق بصف���ة متواصلة ،ب���ل أقاموا م���ع بيزنطة ،وف���ي األندلس في المناطق النكهة عنها تنزع مل امل�سحة تلك قريبا المتاخم���ة للمال���ك النصراني���ة ،حي���ث ف���ي قصور تقع على تخ���وم البادية ً أمل � للت إث��ارة ل وا احلي��ة احل�س��ية م���ن األراض���ي الزراعي���ة ،لع���دم ألفتهم خص���ت باألس���وار العتي���دة واألب���راج والتخيل. التام���ة لحي���اة المدينة ،ولتوال���ي األوبئة خصوصا في مدن المغرب. والمزاغل، ً واألمراض على دمشق .وكذلك لقربهم وق���د كان معاوي���ة ب���ن أبي س���فيان، م���ن القبائل العربية التي تس���كن البادية، قص���را منذ أن أول من أنش���أ في دمش���ق ً ال عن أن فض بوالئها. لالحتفاظ يومئ���ذ الخلفاء يس���عى والتي ً واليا على الش���ام ،واس���تمر قصر معاوي���ة يتوارثه الخلفاء كان ً هذه البوادي كانت مدرسة لألمراء األمويين ،يتكلمون العربية األمويون... تق���وم القص���ور األموي���ة ،وف���ق مخط���ط متش���ابه وش���كل الخالصة من الهجنة أو الرطانة اآلرامية كما يقول ابن عبد ربه معماري موحد ،على مبدإ الس���ور المحيط والصحن الداخلي في "العقد الفريد". لذلك فإن المنشآت األموية في البادية ،والتي يطـلـق عليها الذي تش���رف عليه أروقة ،بعضه���ا غرف في طابق أو طابقين، ويأخ���ذ الس���ور الخارج���ي طابعا حصين���ا بعيدا ع���ن الفتحات اس���ـــم "البوادي" ،لم تكن على مس���توى واح���د من االكتمال. ً ً ً والزخ���ارف .ومع ذلك فإن األبراج ل���م تكن ضرورية لوظيفة فلق���د ابت���دأت -حس���ب رأي المن���س -على ش���كل س���رادق، ومس���جدا ،ث���م ال تلبث حماما الدف���اع والتحصن ،إذ البادية كانت آمنة دائما ،بل إن س���كانها ث���م تط���ورت فأصبح���ت تضم ً ً ً قص���را يليق بالخليفة ،ويس���تتبع كان���وا موالي���ن وأنص���ارا لألمويي���ن ،وم���ن الممك���ن أن تكون أحيا ًن���ا أن تتوس���ع لك���ي تضم ً ً األب���راج لتدعي���م األس���وار م���ن جه���ة ،وإلظهار البن���اء بمظهر ذلك اس���تغالل الماء في االستحمام والزراعة ،وإنشاء األقنية، وإقام���ة المنش���آت للمزارعين والحيوان���ات ،كما هو األمر في المنعة والقوة. وس���وف تك���ون الغلب���ة للطابع العس���كري بع���د ذلك على قصر الحير الغربي. وال ننس���ى أن المهرة م���ن الفنانين العرب المس���لمين ،قد قص���ور الخلف���اء واألمراء ،كما هو حال قص���ر "بلكوارا" الذي أقامه الخليفة المتوكل قرب سامرا ،والذي تأثر في تصميماته بلغ���وا الغاي���ة في التفنن وفي التعقيد الزخرفي في مزج المنظر الطبيع���ي بالبناء ،وإحداث تأثير جمالي يحرك المش���اعر ويهز بإيوان كسرى. ريفي���ا لبن���ي عباد ،يش���تمل كان الزين���ة ف���دار النف���وس؛ ا قص���ر ًّ هذا وقد اختلفت اآلراء في تحديد مصادر استيحاء الشكل ً المعماري للقصور األموية ،فمن قائل إنها قريبة الشبه بالطراز باألش���جار ،وتكتنفه األزهار ،وتحيط به البساتين النضرة ذات الهلينس���تي والبيزنطي الذي تجلى في دير الكهف وقلعة عنتر الزهور العطرة واأللوان الزاهية. واألندرين ،أو الطراز الساساني ،أو إنها مستمدة من المنشآت الت���ي أقامه���ا العرب األوائل ف���ي الحيرة وهم المن���اذرة الذين
أقاموا الخورنق والسدير.
وم���ن هن���ا فف���ن العم���ارة األموي ،ه���و فن أصيل نش���أ في
رعاية الفنون في مسيرة الفن اإلسالمي
ويجب أن ال ننسى دور المهتمين برعاية الفنون اإلسالمية في تق���دم وازدهار هذه الفن���ون ،خاصة وأنهم قد وفروا إمكانيات العم���ل ،منه���ا األموال على ش���كل رواتب ،أو أدوات الرس���م
13
السنة الثامنة -العدد (2013 )35
نلتمس أسباب تطور العمارة اإلسالمية في عدد من الخصائص
مدببة .فقد خلف لنا المعماريون المس���لمون ،بوابات حجرية مثقلة بالزخارف في مساجد سمرقند وطشقند وبخارى وغزنة وأزربيج���ان ،ولج���ؤوا أحيا ًنا إلى تزيين األبواب بإنش���اء مآذن عالية على جانبي المدخل أو على أركان جدار المدخل. وجدران المساجد عالية كأنها األسوار ،تتوسطها األبواب وتزينه���ا -أحيا ًن���ا -فتحات في ش���كل نوافذ ذات عق���ود .فإذا دخل���ت م���ن الب���اب ،وجدت نفس���ك في صحن واس���ع ش���بيه بالفن���اء ،تحيط به البوائك ذوات العقود المدببة .أما مآذن هذا الطراز فغالبها مس���تدير ،ومنها ما هو مضلع ذو س���تة أضالع، وأحيا ًن���ا يتفنن المعماري في التضلي���ع ،وال يكون للمئذنة في معظم األحيان إال شرفة أذان واحدة في نهايتها.
لمس���جد "الصحن" ذي األعمدة كانت ل���ه داللة أخرى ،ذلك
وتعتب���ر المئذن���ة من عناص���ر اإلبهار ف���ي العمارة اإلس�ل�امية، وذلك في جمال نس���بها المعمارية ورشاقة تكوينها ،باإلضافة إل���ى أن أش���كال المآذن قد تع���ددت وتباين���ت واختلفت مواد البن���اء فيها باختالف موطنها؛ ففي بالد الش���ام نش���أت الفكرة، واحتف���ظ المغ���رب واألندلس بصورتها األول���ى المربعة ،وفي طابعا جديدا ف���ي عصر دول���ة المماليك قوامه ً مص���ر اتخ���ذت ً ثالث���ة طواب���ق ،وال يخلو طابق م���ن هذه الطواب���ق الثالثة ،من الزخارف الهندسية المحفورة على الحجر ،من خطوط متعرجة أو دوائ���ر متقاطعة أو نجوم متش���ابكة ،كم���ا يفصل بين الطابق واآلخر ،ش���رفة تحملها مقرنصات على ش���كل خاليا النحل. واتخ���ذت المآذن في العراق النظام اللولبي أو المخروطي ال���ذي ت���دور حوله مراق حلزونية .وفي إي���ران والهند اتخذت ال أسطوانية تضيق أقطارها كلما ارتفعت إلى أعلى، المآذن أشكا ً كمئذنة قطب منار بدهلي ومئذنة ضريح تاج محل في "أجرا". أعطت هذه المآذن -كما عند محمد عبد السالم العمري- صفة فاحصة لهذه المساجد اإلسالمية بجمال وشكل وسحر، وهي ترتفع كالس���هم "المسلة الفرعونية" في الفضاء السماوي الربان���ي خلفه���ا ،كأنه���ا أذرع ممتدة إل���ى اهلل تطلب المزيد من الرحمة. نحتا أخضعت ويكاد تصميم المئذنة المعماري ،أن يكون ً فيه التقنية اإلنش���ائية للتعبير الفني المعماري الذي يهدف إلى الصعود والتس���امي ،فل���م يأبه المعماري المس���لم بالمصاعب اإلنش���ائية العويصة التي صادفته في سبيل تحقيق فكرته الفنية التعبيرية ،فقد ذلل له اإليمان المصاعب وحقق المعجزات.
االجتماعية والدينية التي يتميز بها العالم اإلسالمي ،كاألهمية
الت���ي أضفاها اإلس�ل�ام على العم���ل إلى جان���ب اإليمان ،مما ش���جع الناس على القيام بنشاط اجتماعي ،وكذلك القوة التي
وصلت إليها طبقات المياسير في المدن اإلسالمية بما لها من ذوق ومن حاجات خاصة.
كم���ا يؤكد في م���كان آخر ،عل���ى أن الق���درة الفريدة لدى
المسلمين على تحويل عناصر شكلية أو وظيفية عديدة أخرى
إلى ش���يء إس�ل�امي ،م���ع االعتراف بأن ه���ذه التوليفات كانت
تأثيرا. أول أمثلة هذه القدرة الفريدة وأقواها ً
وال أدل عل���ى عبقرية المس���لمين في العم���ارة من قدرتهم
عل���ى توفير المرونة الالزمة .فباإلضاف���ة إلى المعنى التاريخي المئذنة في العمارة اإلسالمية ألن المس���لمين عندما رك���زوا جهودهم على تنظيم المس���احة
الداخلية للمس���جد بحيث تناسب الحاجات المتغيرة لجماعة ف���ي ط���ور التوس���ع ،جعلوا م���ن المس���جد منش���أة ذات مرونة
ظاه���رة ،وذل���ك بفض���ل بس���اطة تكوينه الت���ي أتاح���ت إمكانية توسيعه أو تضييقه.
ال -أضيفت ث�ل�اث زيادات إل���ى الجامع فف���ي قرطب���ة -مث ً
أيضا ف���ي جوام���ع الكوفة األصل���ي .وتوج���د ه���ذه الزي���ادات ً
والبصرة وبغداد والقاهرة .أما المثال الوحيد الذي يمكن إثباته لحالة التضييق بين المباني الكبرى على األقل ،فهو المس���جد األقصى في القدس .ومن الناحية النظرية ،تعتبر إمكانية تعديل
الش���كل بم���ا يتفق وحاج���ات الجماعة ،ظاه���رة حديثة بصورة
ملحوظة لم تكن معروفة في العمائر السابقة أو المعاصرة.
وف���ي البالد اإلس�ل�امية الت���ي يمي���ل أهلها إل���ى المحافظة
-كالمغ���رب األقصى -نجد البهو ذا األعمدة ،ظل لعدة قرون
الش���كل المعماري الوحــيد المس���تعمل في إنش���اء المس���اجد، بينم���ا نج���د في الغالب بالنس���بة للبالد التي فتحها المس���لمون
بعد مث���ل األناضول حدي ًث���ا -أو تحول���ت إل���ى اإلس�ل�ام فيم���ا ُ والهن���د -أن البه���و ذا األعمدة ،كان الص���ورة األولى التي بني عليها المس���جد ،وأن ه���ذه الصورة ترمز -دون ش���ك -ألنقى
خصائ���ص اإلس�ل�ام ،ولكنها كانت من البس���اطة بحيث يمكن
فيما بعد تطويعها ألي تقليد معماري.
وف���ي الجمهوري���ات اإلس�ل�امية في آس���يا الوس���طى ،نجد
منش���آت معماري���ة ذات بواب���ات ضخم���ة وذات عق���ود عالي���ة السنة الثامنة -العدد (2013 )35
12
ثقافة وفن
أ.د .بركات محمد مراد*
التمثل واإلبداع في العمارة اإلسالمية
تتجل���ى عبقرية المس���لمين الفنية ف���ي المباني والعمائ���ر المدني���ة مث���ل تجليها في المس���اجد واألبني���ة الديني���ة ،بل لق���د أضفى المس���لمون طابع الفخامة على كثير من المنش���آت ذات األغراض المدنية العادي���ة ،كالم���دارس ،والدكاكين ،والفنادق ،والمارس���تانات، ومواضع االس���تراحة أو الخان���ات على طول الطرق التجارية، والحمام���ات ،وأس���بلة المي���اه ف���ي الش���وارع ،وحت���ى مخ���ازن البضائع الكبيرة المعروفة بـ"الوكائل". لقد أكسب الفن اإلسالمي تلك العمائر -كما يشير "إيتان س���وريو" في "الجمالية عبر العصور" -مسحة جمالية مرموقة، تظ���ل أش���كالها الجوهرية من أخص خصائص���ه وأبرز صفاته. جماليا فكرا ًّ وإذا كانت روح اإلس�ل�ام قد أعطت تلك العمائر ً ذا مس���حة روحي���ة ،ف���إن تلك المس���حة ل���م تنزع عنه���ا النكهة الحسية الحية واإلثارة للتأمل والتخيل. ويش���ير الباحث الفرنسي "أوليج جرابار" إلى أنه ينبغي أن
11
السنة الثامنة -العدد (2013 )35
جدا لنظافة العين وتشحيمها ...وإن اختالج الجفون ضرورية ًّ
وأك���دت تجارب "ف���ري" أن الدموع تخلص اإلنس���ان من
يعم���ل على توزيع الدمعة بالتس���اوي على قرنية عين اإلنس���ان
تبعا لمسبباته ولألشخاص الدراسة أن تركيب الدموع يختلف ً
الذي يحدث ما بين عشر مرات إلى خمس عشرة مرة في الدقيقة، الطبيع���ي الذى يبكي حينما يش���عر بذل���ك وال يحبس الدموع. وم���ن المؤك���د أن الدموع لم تعد ُتوزع كم���ا يجب منذ أن
أصيب اإلنسان بحالة مرضية سميت بـ"مرض التمساح" ،وهو البكاء بغزارة كلما جرى المضغ.
م���واد س���امة يصنعه���ا الجس���م كل���ه في حال���ة توتر .وكش���فت ال -تحتوي على أيضا .فقد تبين أن دم���وع الفرح -مث ً الباكي���ن ً
نسبة كبيرة من الزالل تزيد بحوالي %25عن الدموع األخرى.
كما اتضح أن نوبات البكاء تحدث بشكل أساسي بين السابعة مس���اء ،وأن احتمال البكاء أثناء مش���اهدة فيلم مؤثر والعاش���رة ً أكثر في المساء عنه في الصباح.
ابك بدون خجل
الدم���وع هي إهداء النفس للنف���س ،وعندما تبكي بدون خجل من فوائد الدموع
فق���د وصل���ت إلى قم���ة النض���ج النفس���ي والذهن���ي .فالدموع
• تساعد على مرونة حركة الجفون العلوية والسفلية.
ثابت حوالي نصف لتر من الدموع في العام ،أي بمقدار 1.5
مستمرة.
البشرية تروي النفس وتغذيها ،إذ يفرز اإلنسان العادي بمعدل
أيض���ا عل���ى حمايته���ا كأداة لتطهيره���ا بص���ورة • تس���اعد ً
سم مكعب في اليوم.
• تساعد على حمايتها من اإلصابة بالجفاف.
ومن هنا يجيء التساؤل عما إذا كانت هناك عالقة بين عدم
ذرف الدم���وع واإلصابة بالم���رض .واإلجابة بالطبع كما يقول
العال���م األمريكي "وليم ف���ري"" :فالدموع تعم���ل على إخراج المواد الس���امة التي تولدها بعض ح���االت االنفعال ،ولذا فإن
• كما تساعد على طرد أي مواد مهيجة للعين ،مثل الفلفل
والدخان أو مواد صلبه كاألتربة.
• وتق���وم عن طريق الغ���دة الدمعية ب���إدرار الدموع ،وطرد
هذه األجسام الغريبة ،لتعود إلى شفافيتها وتنظيفها.
حبس الدموع ُيعرض اإلنسان لإلصابة بالتسمم البطيء".
• كم���ا تق���وم الدم���وع على ش���فافية القرني���ة وحمايتها عن
أج���رى الكيميائ���ي "ولي���م ف���ري" ع���دة دراس���ات وأبحاث مع
• تساعد على وضوح الرؤية وقوة االبصار ودقتها.
البكاء بين الرجل والمرأة
الجفاف.
متطوعا من الجنسين فريق من زمالئه ،منها دراسة على 331 ً
• تخلص الجس���م من الم���واد الكيماوية المتعلقة بالضغط
يوم���ا .وقد أظهرت تس���جيل يومياته ع���ن البكاء لم���دة ثالثين ً
ِ فاب���ك عزي���زي القارئ كم���ا تريدِ ، ابك ب���دون خجل ،ففي
انفعالي خالل هذه المدة ،على حين س���جل الرجال متوس���ط
ولتكن لنا مع أنفس���نا وقفات ووقفات ،نتأمل فيها ونبحث
تت���راوح أعماره���م بي���ن 75-18س���نة ،وقد طلب م���ن متطوع النتائج أن الس���يدات س���جلن 5.4حالة بكاء كاس���تجابة لجهد
1.4حال���ة .واتضح من الدراس���ة أن %73م���ن الرجال و%85 من السيدات بصفة عامة ،شعروا بارتياح بعد البكاء.
م���ن بين أفراد تلك المجموعة ،ل���م يبك %45من الرجال
و %6من السيدات الذين يتمتعون بصحة جيدة.
أما أس���باب البكاء الرئيس���ية للمرأة فق���د تضمنت عالقات
م���ع الن���اس، وغالب���ا النفصالها عن ش���خصية محبوبة .وكانت ً االنفعاالت األساس���ية هي الحزن بنس���بة %49والفرح بنس���بة
%21والغض���ب %10وبينم���ا عب���رت معظ���م الس���يدات ع���ن غضبهن بالدموع ،فإن الرجال لم يفعلوا ذلك. السنة الثامنة -العدد (2013 )35
10
النفسي.
البكاء شفاء وعالج لكثير من األمراض.
ع���ن كوامن وأس���رار خل���ق اهلل لإلنس���ان ،لنقف خاش���عين خاضعين متذللين للخالق جل شأنه ،نقر بوحدانيته ونذعن له
باالستسالم والطاعة.
فاهلل سبحانه لم يخلق أي عضو -في أجسامنا -إال بإحكام
وتقدي���ر ،لك���ي يالئم طبيع���ة وظيفته .فس���بحان المبدع الخالق ال ﴿و ِفي َأ ْن ُف ِس ُ ���ك ْم َأ َف َ ج���ل ش���أنه ،وص���دق اهلل العظيم القائ���لَ : ون﴾(الذاريات.)21: ُت ْب ِص ُر َ (*) استشاري في طب وجراحة العيون ،وعضو الجمعية الرمدية المصرية.
مك���ن الدمع من االنتش���ار على القرني���ة ،وهي تأتي من خاليا ُت ِّ
الطبقة الدهنية
على سطح العين.
• طبقة مائية متوس � � ��طة ( :)Midlle Aqueous Layerوهي التي
الطبقة الدمعية
ال والرؤية سليمة. تحفظ سطح العين مبل ً
• الطبق � � ��ة الثالثة ( :)Outer Lipid Layerوه���ي طبقة خارجية
المعتقد أنها تعيق التبخر ،وهي ُتفرز عن طريق غدد زيتية من ُ صغيرة على حواف الجفن.
وكما أن الدموع طبقات من الناحية التشريحية فهي كذلك
طبق���ات من الناحية الفلس���فية؛ فالنس���اء تملك نس���بة %67من مج���ال إمكانية تس���اقط الدموع في كل األوقات والمناس���بات
طبقة القاع القرنية
مكونات الدموع
إذا حلَّل���ت الدموع هذا الس���ائل ،فإنك س���تجد مكونات راقية
جدا هي األكس���جين ،والصوديوم ،والبوتاسيوم ،والكالسيوم، ًّ والماغنسيوم ،واألمونيا ،واآلزوت ،وفيتامين ب ،12وفيتامين
(ج) ،واألحم���اض األميني���ة ،والحدي���د ،والنح���اس ،والزنك،
حت���ى الس���عيدة منه���ا ،كم���ا أن نس���بة %62مم���ن يعمل���ون في
الزراعة واألرض ال يعرفون الدموع.
أم���ا أصحاب المراكز العليا ،فنس���بة صف���ر ( %)0إلى %23
فقط هم الذين يمكن أن تنزل دموعهم ألسباب هامة وخاصة ج���دا .والدراس���ة الت���ي أثبت���ت ذل���ك ،تؤك���د أن بتلك النس���ب ًّ سيعاني البشر في نهاية هذا القرن "من األمية في المشاعر".
والمنغنيز ،والكلورين ،والفس���فور ،والبيكروبونات ،وحمض آخر الدراسات النفسية عن الدموع نوعا من البروتينات. البوليك ،واألنزيمات ،وس ّتين ً
• ويؤل���ف الماء %99-98من الس���ائل الدمعي ،أما التوتر
الس���طحي فيبلغ 0.7-0.6من توتر الماء السطحي ،والمشعر
االنكساري يبلغ .1.337
ال نحو القلوية. • ويميل الدمع قلي ً
ه���ذه المكون���ات ت���زداد تعقي���دا عند مالمس���تها لألغش���ية ً
المخاطي���ة ف���ي القن���اة الدمعي���ة ،فيض���اف إليه���ا الدهني���ات
والس���كريات واألحماض األمينية ،كذلك اإلف���رازات الدهنية الغنية بالكولسترول وثالثي الجلسرين ...وكل هذه اإلفرازات تغذي العين بأكملها وتحميها من االلتهابات عند البكاء.
طبقـات الدمـوع
خلصت هذه الدراس���ات إلى بعض الحقائق الهامة التي تهمنا والتي سنورد منها ما يلي:
• يتج���دد فيل���م الدموع داخ���ل عينيك " 13أل���ف مرة" في
أبدا وال تتساقط دموعه ،فإنه اليوم الواحد ،لذلك من ال يبكي ً يعاني ح ًّقا من ظاهرة مرضية غير طبيعية.
كثيرا ،حيث أثبتت الدراسات أن • هناك ش���عوب ال تبكي ً
نسبة البكاء عند الشعب الفرنسي .%8
• ال���ذي يبكي ،هو ال���ذي ُيمزق كل األقنع���ة واالعتبارات
وكل األدوار االجتماعية.
• إذا أحبب���ت ه���ذا النبع الغامض (الدموع) ،فإنك تمس���ح
قس���وة نفس���ك على نفس���ها ،وبالتالي على بقية البشر ...لذلك
دائم���ا يقول���ون" :إن من ال يعرف الدم���وع ال يعرف الرحمة". ً
الدم���وع من أهم الوظائف الفس���يولوجية للعي���ن .وقد وضعها
وإن ال���ذي ال يبك���ي فعندما يتأل���م فإنه يتألم أكثر ،ألنه يش���عر
بالتال���ي تصنيفه���ا إل���ى ثالث طبقات م���ن الناحية التش���ريحية،
• االنفع���االت المؤلم���ة والعنيفة البد وأن تظهر من خالل
العلم���اء والباحث���ون موضوع دراس���تهم وبحثهم ،واس���تطاعوا
باأللم مرتين.
األم���ر الذي س���هل عليهم معرفة األم���راض التي تصيب بعض
دائما ما تكون أقوى من أي حوار صادق ،ألنها العينين ،وهي ً
أجزاء العين وطرق معالجتها.
• طبقة ميكوي � � ��د ( :)İnner Mucin Layer) (Mucoidوهي التي
عبارة عن عبارات تترجم نبضات القلب تجاه الموقف.
يوميا وبطريقة آلية، إن نقطة الدموع التي تنساب من العين ًّ
9
السنة الثامنة -العدد (2013 )35
المغطي لفص الجفن السفلي. • الغدد الدمعية المس���اعدة يبلغ عددها 48غدة 40 ،منها في الجزء العلوي من العين ،و 8تسكن في الجزء السفلي.
-2الجزء المصرف للدموع (:)Drainge Part
ويتك���ون من النقطة الدمعية ،والقن���وات الدمعية ،والكيس الدمعي ،والوصلة الدمعية األنفية.
البكاء بين القرآن والسنة النبوية
البكاء في القرآن الكريم :وردت مادة البكاء في القرآن الكريم ﴿و َأ َّن ُه ُه َو َأ ْض َح َك َو َأ ْبكَ ى﴾(النجمَ ﴿ ،)43:ف َما َبكَ ْت ّ ست مراتَ :
َعلَي ِه ُم الس َم ُاء َوا َ ين﴾(الدخان،)29: أل ْر ُ ض َو َما َكا ُنوا ُم ْنظَ ِر َ ْ َّ هِ خروا س���ج ًدا وب ِكيا﴾(مريم)58: ن م ح الر ات آي م ي ل ع ى ل ت ت ا ذ ﴿ ِإ َ ُ ْ َ َ َ ْ ْ َ ُ َّ ْ َ ِ َ ُّ ُ َّ َ ُ ًّ ون ِللأْ َْذ َق ِ وعا﴾(اإلسراء،)109: ﴿و َي ِخ ُّر َ ان َي ْب ُك َ ون َو َي ِز ُ يد ُه ْم ُخ ُش ً {س}َ ، ِ ���ز ًاء ب َِم���ا َكا ُن���وا ﴿ َف ْل َي ْض َح ُك���وا َق ِلي�ل� ً ي���را َج َ ا َو ْل َي ْب ُك���وا َكث ً ِ ون﴾(يوسف.)16: اه ْم ِع َش ًاء َي ْب ُك َ ���ب َ ﴿و َج ُاءوا َأ َب ُ ون﴾(التوبةَ ،)82: َي ْكس ُ ووردت م���ادة الدمع في الق���رآن "مرتين"َ ﴿ :ت َو َّل ْوا َو َأ ْع ُي ُن ُه ْم ﴿و ِإ َذا َس ِ ���م ُعوا َما ُأ ْن ِز َل ِإ َلى َت ِف ُ ي���ض ِم َن َّ الد ْم ِع َح َز ًنا﴾(التوبةَ ،)92: الر ُس ِ الد ْم ِع﴾(المائدة.)83: ول َت َرى َأ ْع ُي َن ُه ْم َت ِف ُ يض ِم َن َّ َّ البكاء في السنة النبوية الشريفة :في حديث ابن عباس ع���ن النبي أنه قال" :عينان ال تمس���هما النار ،عين بكت في جوف الليل من خش���ية اهلل ،وعين باتت تحرس في س���بيل اهلل تعالى" (رواه الترمذي). وعن أبي هريرة قال :قال رس���ول اهلل " :ال يلج النار رج���ل بك���ى من خش���ية اهلل حتى يع���ود اللبن ف���ي الضرع ،وال يجتمع غبار في سبيل اهلل ودخان جهنم" (رواه الترمذي). وال ننس���ى ب���كاء النبي الكريم لوفاة ابن���ه إبراهيم ،مما يدل نقص���ا ف���ي الرج���ل -كما يظن عيب���ا أو ً عل���ى أن الب���كاء لي���س ً البعض -إنما هو عبادة نتقرب بها إلى اهلل تعالى. وهذا هو أستاذنا العالم الرباني محمد فتح اهلل كولن -أحد أشهر علماء اإلسالم المصلحين ودعاته المعاصرين -يكشف بعضا من تل���ك المعاني فيقول في مقال له في مجلة حراء لن���ا ً العدد ،15:بعنوان "هذا موسم البكاء": "إن قط���رات الدم���ع التي تنهمر لوج���ه اهلل ،هي أصدق وإن َمن تأججت موراّ . أنات القلب الذي يمور بالحب اإللهي ً أضالع���ه بنيران الوجد ،تألألت عيناه بالدموع ،أما من أقفرت عيناه وتصحرت ،فال أثر للحياة في جوانحه. إن الح���زن والب���كاء م���ن أب���رز الخص���ال الت���ي اتس���م به���ا السنة الثامنة -العدد (2013 )35
8
األنبي���اء الك���رام ،فقد كان آلدم أني���ن متصل مدى الحياة،
وه���ا هي دم���وع نوح قد تحولت إلى طوفان غمر س���طح األرض .أما مفخرة بني اإلنس���ان عليه أفضل الصالة والسالم فق���د نظم قصيدة لواعجه وأحزانه بالدم���وع ،ولذلك فلعلنا ال
نخطئ إذا س���ميناه "نبي الدموع واألحزان" .أال تذكر يوم بكى ّ تاليا اآليتين الكريمتي���ن مرة بعد أخرى: بحرق���ة حت���ى الصباح ً ِ نت ا ْل َع ِز ُيز ���ادكَ َوإِن َت ْغ ِف ْر َل ُه ْم َف ِإ َّن َ ���ك َأ َ ���م ِع َب ُ ���م َف ِإ َّن ُه ْ ﴿إ ِْن ُت َع ّذ ْب ُه ْ ِ اس َف َم ْن الن ِ ﴿ر ِّب ِإ َّن ُه َّن َأ ْض َل ْل َن َك ِث ًيرا ِم َن َّ يم﴾(المائدةَ ،)118: ا ْل َحك ُ َتب َِع ِن���ي َف ِإ َّن ُ ِ ِ ِ ِ يم﴾(إبراهيم.)36: ���ه م ّني َو َم ْن َع َصاني َف ِإ َّن َك َغ ُف ٌ ���ور َرح ٌ رب العزة بسبب بكائه -وهو أعلم- فلما أخبر ُ جبريل َّ زف إليه بش���رى أثلجت صدره، وس���كنت خفق���ان قلبه وأنين ّ ّ وجدانه" :يا جبريل ،اذهب إلى محمد وقل :إنا سنرضيك في أمتك وال نسوءك( .صحيح مسلم)".
حط " ...إن البلبل ال ينقطع عن النواح واألنين حتى وإن ّ عل���ى الورد ،فكأنه قد خلق لك���ي يصدح بنغمات الهم الدفين والحزن المتصل .أما الغربان فال يحمل نعيقها أدنى معنى من
ذل���ك الهم والح���زن ،وأما نعيب البوم فه���و أبعد ما يكون عن مثل هذه المعاني النبيلة".
نهب ويختتم األس���تاذ كولن مقاله بقوله" :ناشدتكم اهلل أن ّ دموع في هذه الصحراء المترامية األطراف، معا لنكون س ّقائي ٍ ً
المتآكلة من الجفاف ،فنقيم موائد زاهية حديثة العهد بالسماء،
طرية نضيرة ،كلماتها شبوب تقدم للرائح والغادي فواكه ّ غضة ّ
شوق ولهيب أشجان ،ونغماتها أنين قلب ونحيب وجدان".
أنواع الدموع
يوجد نوعان أساس���يان من الدم���وع ينبثق منهما جميع األنواع
األخرى هما:
الصحية :وهي دموع إجبارية وثابتة أ-الدموع األساسية أو ِّ
في نوعيتها وكميتها .وهي التي تفيض من عيون جميع البشر،
أيضا عن طريق تفرزها الغدة الدمعية بانتظام ،وتصرف من العين ً مجرى الدموع ،وهي تتسلل إلى داخل األنف والحلق .وليس هن���اك أدنى خوف من هذه الدم���وع التي تذرفها العين بغزارة. بـ-الدم � � ��وع االنعكاس � � ��ية :وهي تح���دث إما نتيج���ة انفعال
فيتحكم في الجهاز العصبي ،أو نتيجة تعرض العين لزيادة في تهيج العين مثل النشادر أو البصل، الضوء أو لمادة تؤدي إلى ّ
أو بعض الغازات أو الكيماويات ...إلخ.
الغدة الدمعية
السائل لفهم تركيبه ومحتوياته ،ومازال العلم يخبئ في جعبته
الكثير والكثير عنه مما ال نعرفه.
النقطة الدمعية
ه���ذه القط���رات المتأللئ���ة الت���ي تترق���رق في العي���ن عندما
لقت عب ًثا؟ لماذا نبكي تجيش النفس بشتى االنفعاالت ،هل ُخ ْ
ومتى نبكي؟ أمور ال نعرفها عن الدموع.
وقب���ل الحديث ع���ن الدموع ،يجب أن نص���ف العين التي
ه���ي م���ن نع���م اهلل علينا ،لك���ي نرى عجائ���ب الخالق وهي
الغدد الجفنية
الكيس الدمعي
إحدى الحواس الخمس لإلنسان.
طبقات جدار كرة العين
يتك���ون جدار كرة العين ،الذي ال يتجاوز س���مكه الملليمترين
من ثالث طبقات:
الطبقة الخارجية (الليفية) :وتتكون من جزء أمامي يس���مى
ويك���ون ُخم���س ج���دار العي���ن ،وج���زء خلف���ي وهو "القرني���ة" ّ
ويكون أربعة أخماسها .والجزءان ملتحمان أحدهما "الصلبة" ّ باألخر ،بحيث يتداخل الجزء األمامي في الجزء الخلفي كما
تتداخل الساعة في اإلطار المعد لها.
أساسا من الطبقة المتوسطة :وهي المغذية للعين ،وتتكون ً
أوعي���ة دموية تحمل الغذاء إلى أج���زاء العين المختلفة ،ومنها تأتي س���وائل العين التي تغذي القرنية وعدسة العين ،وتحافظ على وجود ضغط طبيعي في العين.
الطبقة الحساسة :وهي شبكية العين ( ،)Retinaوهذه الطبقة
شفافة بالرغم من أنها تتكون من عشر طبقات .وتحتوي على
الفتحة الدمعية العلوية
الفتحة الدمعية العلوية القناة الدمعية العلوية الكيس الدمعي
نهايات عصبية حساسة للضوء ،وتتجمع هذه النهايات العصبية
لتك���ون العص���ب البص���ري ( ،)Optic Nerveوهي الغالف مع���ا ً ّ
الداخلي الحساس للضوء والذي ترتسم عليه صورة األجسام.
القناة الدمعية السفلية
الجهاز الدمعي
يتكون الجهاز الدمعي ( )Lacrimal Apparatusمن جزئين:
الفتحة الدمعية السفلية
القناة الدمعية األنفية الفتحة األنفية
-1الجزء المفرز للدموع (:)Secretory Part
• ويش���تمل عل���ى الغ���دة الدمعي���ة التي توجد ف���ي تجويف
مخصص لها في عظمة الجبهة الموجودة في س���قف الحجاج
( )Orbitعند الناحية العلوية الطرفية .وتتكون من فصين علوي
الشبكية الجسم الهدبي
المشيمة
القرنية
وسفلي ،وهما عبارة عن مجموعة فصيصات صغيرة بها غدد
متكيسة (ُ )Aciniousتفتح مباشرة على قناة إلفراز الدموع.
الجسم الزجاجي العصب البصري
القزحية عدسة العين
توج���د حوال���ي 15-10قن���اة صغي���رة إلف���راز الدموع تقع
الجسم الهدبي
بي���ن الفصين العلوي والس���فلي ،وتفتح على س���طح الملتحمة
الصلبة ُ
7
السنة الثامنة -العدد (2013 )35
علوم
د .محمد السقا عيد*
وس يف أثره ..ال تنس لحظة واحدة أنك معه ،يقود خطاك ،ويحث روحك ْ تتبع خطاه ،رِ ْ إىل العال ...وال تتعرث بأصحاب الخواء الروحي من ذوي النفوس املقفرة والقلوب املجدبة. *** (املوازين)
أسرار الدموع العي���ن ك���رة صغي���رة تس���كن ف���ي تجويف في
المادة الزيتية التي تفرزها الغدة في غضروف الجفن ...حركة
أكثرها في هذا المحجر فال يظهر منها س���وى
لم تكن الدموع في يوم من األيام دليل ضعف وال استكانة،
الجمجمة المس���مى "محجر العين" ،ويختفي
ذل���ك الج���زء الصغي���ر ال���ذي ُي���رى في الوج���وه .وه���ذا الجزء
متسلسلة ال يكاد يشعر بها اإلنسان.
رمزا للنبل اإلنساني في أرقى مشاعره دائما ً وأبدا تظل ً ولكنها ً
الصغي���ر الظاه���ر ق���د يوحي ببس���اطة التركيب ،وه���و في واقع
والتعبير عنه.
يفوق كل تصور.
جميل���ة ،وم���ن ال تدمع عيون���ه يصاب بجفاف العي���ن وبالتالي
الحال يخفي وراءه -من روعة التصميم ومحكم النس���يج -ما نظرت إلى التراكيب المختلفة التي يحويها هذا الحيز هل َ
تأملت ذلك التناس���ق في عمل تل���ك األجزاء الصغي���ر ،وه���ل َ المختلفة؟ وهل تأملت إبداع الصانع الذي لم ي ُف ْته شيء ،فكل شيء عنده بمقدار؟
تأمل كيف تنزلق الجفون فوق العين ،دون احتكاك ،بفضل السنة الثامنة -العدد (2013 )35
6
فالدم���وع تحمي القرني���ة وتعالج االكتئ���اب وتجعل العين
يحتاج إلى العالج.
تأم���ل ه���ذه الس���وائل التي تخرج م���ن مآقينا حينم���ا ُتلم بنا
األف���راح واألت���راح ...ما كنهها وم���ا حقيقتها؟ إنها ليس���ت إال
غامضا يجعل البريق في عيوننا يس���تمر ...إنها الدموع. ال س���ائ ً ً وما أدراك ما الدموع! لقد أجريت األبحاث الحديثة على هذا
"اللوثي���ات" ...فتراهم يثيرون البوهيمية أو لفه���م أن يجت���از م���ن أب���واب ه���ذه ���د "بي���وت الحرم" ويصبون دخان النار على ف���ي األرواح، المؤسس���ات الت���ي ُت َع ّ يجب علينا اليوم ّ بالمقوم���ات والمعايير لألمة م���ا لم ُي َق ّيم البصائر ،بأقوالهم وكتاباتهم ورسومهم ِّ جنه��ز الأبط��ال الذي��ن �أن ّ الذاتي���ة .ودع عن���ك أن يأذن���وا بذل���ك، وبرامجه���م ف���ي وس���ائل اإلع�ل�ام. أنف�س��هم � تلقي��ح يجي��دون فه���م ل���م ييأس���وا حت���ى حين انس���حابهم وف���ي مث���ل هذه المرحل���ة ،ال تحفز ب�أم�صال الوقاية امل�ستخرجة جانب���ا وقد أثخنته���م الج���راح ،مغلوبين م���آوي العلم وفك���ر العلم عش���ق العلم َ ً َ إلى م���دة ،بعد حرب ضروس مع العالم من ذات �أرواحهم. ف���ي األرواح ...ويلع���ب أصح���اب كل���ه ولك���ن مع بري���ق األم���ل ،مهزومين أيديولوجي���ات معين���ة بالذي���ن يمثل���ون ولك���ن مع اإليمان .فلم يتوانوا عن إلقاء الق���وة وكأنهم دم���ى ،يفت���رس بعضهم بعض���ا ...ويضط���ر المنط���ق والمحاكمة واإللهام إلى المس���ير أيديه���م إلى التهلك���ة لحماية أصل حياته���م الذاتية ،وتراكموا ً في الممرات الضيقة للرموز واإلش���ارات ...وبدهي أن الحياة حول الش���عور التاريخي ،وعضوا عليه بالنواجذ -حسب إفادة بذاته���ا تكون تعذيبا للحياة في مجتم���ع كهذا ،عامرٍ بالنقائض الحدي���ث النب���وي -عل���ى المقوم���ات التي يدين���ون بوجودهم ً له���ا ...فكانت نواصيهم عالية ،وقراءاتهم حول الدنيا والعقبى مقد ٍم للرغبات واألهواء على الفكر. والمخالفاتّ ، موزونة ،وأنفاسهم حرى ،ماضين نحو "إحياء" جديد.
فلسفة الحياة
والح���ال أن نظ���ام الفكر وفلس���فة الحياة عندن���ا رحيبة ،تتناول فتقيم عوال���م الوج���ود ،وما ع���دا الوجود ،وم���ا قبل الوج���ودّ ، وتعين معالم نمط الحياة في األشياء وما عدا األشياء في كليةّ ، تكام���ل وإحاطة .فهو نظ���ام يحقق العدالة الكونية المرتقبة في األرض كلها بتحويل السلوك األخالقي إلى حال السيولة في المجتمع وأجزائه األفراد ،ويس���تجيب للمتطلبات اإلنس���انية، فيص���ل المجتم���ع في ظل ذلك إلى القدرة على تجديد نفس���ه ذاتي���ا بالتربي���ة على ال���روح واألخالق والفضيل���ة والتفكر .ثم ًّ يك���ون فكرن���ا الحضاري وغنانا الثقافي كس���لعة رائجة في كل ِ ارتياح أقطار األرض ،فنغدو اليد المعطاء التي تقدم في هبات ٍ فكرنا اإلنساني وفلسفتنا األخالقية وفهمنا للفضيلة ومتلقياتنا أيض���ا ،تنبج���س للعدال���ة .وبفض���ل ه���ذا الوض���ع والمس���توى ً الحركي���ات اإلداري���ة واألص���ول االجتماعي���ة واالقتصادي���ة ف���ي الدول���ة -كما في مصادره���ا األخرى -من ال���روح الذاتية لألم���ة ،فتتح���رر من أنواع "القيود" كله���ا .إن "القيود" الضمنية ٍ كالنير ،بس���بب نقاط ضعف المضروب���ة عل���ى رقابنا حتى اآلن ِّ فين���ا أو مديونيات علينا ،ومهما كانت خفية غير جليةَ ،عرض َّ نظامن���ا اإلداري وأنظمتنا االقتصادية والسياس���ية والعدلية إلى َ العط���ل والفش���ل وأصابها بالش���لل .إن أبن���اء أرومتن���ا الذهبية الذين جعلوا األناضول أرقى بالد األرض عمرا ًنا ،قد نس���جوا أو أنش���أوا أنظمتهم اإلدارية والسياس���ية وتشكيالتهم العدلية، بمس���تلزمات ال���روح الذاتية .فلم يس���محوا لفكر أو لمؤسس���ة
ترقب الفجر
وقد نستطيع أن نكون مثلهم -وقد نتقدم عليهم ونحن نترقب فجرا في هذا الزمن -إذا ّقيمنا الدنيا التي نعيش فيها فجرا يتبع ً ً صحيحا من وجهة أفق الحكمة الذاتية ،ففسرنا األشياء ا تقييم ً ً وش���خصنا المتطلبات األساسية صحيحا، تفس���يرا والحوادث ّ ً ً لبناء إنساننا الداخلي ،وانشددنا بفكرة التواجد والحضور إلى األب���د .وما الذي يعيق األجيال البصيرة عن تقدم الصفوف ما دام���ت قادرة عل���ى تقييم الماضي والحاضر والمس���تقبل على صعي���د واحد ،وحامية ألع���راف المجتمع وتقاليده وحركيات تاريخه ،وماهرة في تفسير تكرر التاريخ باتجاه تجديد الذات!؟ ومن المفيد أن نذكر مرة أخرى ،بأن مس���ؤوليتنا األساسية اليوم ،هي إش���عار وجدان األجي���ال بمؤثرات الكدح المبذول من���ذ عصور مديدة ،والعقائد اإليمانية المتش���ربة في النفوس، والثقاف���ات المتأصل���ة الجذور على قدر أعماقه���ا في ذاتها... وذل���ك بتطوي���ر حس التاري���خ في األمة .ف���إذا نجحنا في هذا، فلن يخطر على بال أحد بعد جيلين أو ثالثة أجيال ،أن يعيش فوق تراب هذه البالد ،ثم يستعير لمؤسسات الشعب المتنوعة مصادر أجنبية عن حركيات روحنا ومعنانا. نع���م ،نح���ن نجلب عناص���ر حياة المس���تقبل م���ن ماضينا، فإن اس���تطعنا أن نعجنها في معاج���ن ثقافتنا الذاتية بنور الدين جهزنا خمير َة أبديتنا. وضوء العلم ،فقد ّ (*) الترجمة عن التركية :عوني عمر لطفي أوغلو.
5
السنة الثامنة -العدد (2013 )35
غياب المنظومة الفكرية
زوايا اختالف الشعور
لقد غابت عن واقعنا منذ قرون منظومة فكرية ذاتية ،وفلس���فة
وأش���ير هن���ا إل���ى أن آراءنا س���تتناقض م���ع بعضها باس���تمرار،
شتتنا شذر مذر نحن وعالم جذور المعنى لثقافتنا "الذاتية"َ ،ف َت َّ
االختالف في زوايا الش���عور واإلحساس بالكائنات وتفسيرها م���ا ل���م ُن ِقم ما نبني���ه ،على قاعدة فكرية راس���خة كهذه ،وما لم
حي���اة ذاتي���ة ،تعتم���د عل���ى الحركيات اإلس�ل�امية التي تش���كل كبير مرتبط بنا .ومن الضروري أن نميز بين النس���ق الفلس���في والفك���ري لمترجم���ي نظ���ام الفلس���فة اليوناني���ة المتجمع���ة في
الحوض الفكري ألرس���طو ،من أمثال الكندي والفارابي وابن رش���د ،وإلى حد معين ابن سينا ،وبين نسقنا الفكري وفلسفتنا
في الحي���اة ،الموصولة الجذور بالس���موات ،القديمة كاألزل، لك���ن الجدي���د ِة ،ب���ل األكث���ر جدة من الج���دة ذاته���ا إلى درجة ْ الق���درة على اس���تيعاب كل العصور ،والمنض���ود ِة من الحكمة ِ والح َكم .فموضوع نس���قنا الفكري قائم على تفس���يرٍ ذي تنـ ُّز ٍل
بعضا في فخ "التعارض والتس���اقط" ،بسبب وس���ينهش بعضنا ً
فلسفيا كهذا .فيجب تحقيق عائدية مستقبلنا إلينا نظاما نمتلك ً ًّ
مثلما حاضرنا -بهذه األصول وبهذا النظام ،وبفيض أسلوبجميعا .فإذا لم تتحقق الوحدة في مش���اعرنا تتقاس���مه األجيال ً
وفكرن���ا ونم���ط حياتنا ،فس���تظل الوحدة "الوطني���ة" والتضامن "الوطني" ُأمنية حماسية .فالمنطلق "الوطني" والفكر "الوطني"،
والتعقل الوطني ،وواردات الروح ،أمور بالغة األهمية في أي
نظ���ام م���ن األنظمة .ف���إن أي نظام فكري ال يس���تطيع أن يحقق وحدة الح���س ،ووحدة المنطق ،ووحدة المحاكمة ،وس���هولة
ومعلوم م���ن الالهوت والجب���روت والملك���وت والناس���وت، ِ ِ ومن���ورٍ ومعتم ٍد عل���ى حقيقة الخلق .فإذا اس���تطعنا أن المنش���إ ّ
معا لش���عب من الشعوب ،إال بالمقياس والقدر الذي التعايش ً
افتتاح طرق إبراز نظامنا الفكري ،وهذا يعني في الوقت نفسه َ
الضد إذا تصادمت المش���ـاعر واألفكار والتفاس���ـير واألساليب
نتفهم هذا التفس���ير والتأويل بنكاته الذاتية ،نكون قادرين على واسعة تؤدي إلى تجديد جاد على مستوى العالم كله. ٍ مرات كثير ًة لقد ُبذلت الجهود في سبيل نظام فكري كهذا
منذ عهد محمد الفاتح -جعل اهلل مثواه الجنة -لكنها لم تبلغ
الغاي���ات المرجوة منها .هذه المالحظة يمكن أن تتعرض إلى عموما .لقد المناقش���ة من بعض جوانبها ،لكن الحال هو هذا ً
���د الكثي���رون ف���ي أن يس���تجيبوا لمثل هذا البح���ث والترقب َج ّ
ف���ي الوجدان االجتماعي الع���ام ،كأمثال "خوجه زاده" و"المال زي���رك" ،أو "مصطفى رش���يد باش���ا" ومهندس���ي "المش���روطية"
يس���تمد من عقل الش���عب ووجدانه وعالم أحاسيسه ...وعلى
فإن تزاحم الحركة في هذه األحوال، وتناقضت المحاكماتّ ،
ول ال يعن���ي كث���رة البركة البتة ،ودع عنك البرك���ة، فكثيرا ما َي ُؤ ُ ً المصي���ر إل���ى االضمحالل في ه���ذه األوض���اع .إن كل حملة
وجهد في المجتمع الذي يعاني من فوضى في الفهم والتفسير، وتنصب دوما، ّ يشبه أمواج البحر المرتطمة ببعضها؛ إذ تتكاسر ً إلى حوض عطالتها ،وتلف وتدور في فراغ الدور والتسلس���ل الفاس���د .ولعلن���ا نج���د بالتمحي���ص حكم��� ًة في تكاس���ر أمواج
البح���ر باالرتطام مع بعضها .لك���ن أمثال هذه المصادمات في
(الحك���م الدس���توري) ،ومنه���م إل���ى كثيرين من عم���ال الفكر ف���ي المرحلة الحديث���ة ،الخالص ِة نيا ُتهم وغي���ر الخالصة .لكن
ذئب���ا يفترس اآلخر، فف���ي مثل ه���ذا المجتمع ،يك���ون كل فرد ً
وبعضه���م غ���رق ف���ي دوام���ات الث���ورة الفرنس���ية وأوغوس���ت
مث���ل هذا العال���م ،لكن الهيئ���ة االجتماعية تبق���ى تحت تهديد
وتوقف عند "تهافت" ابن رش���د واإلمام الغزالي، بعضهم تع َّث َر َ
الن َفس. المجتم���ع ،ال تخ ّل���ف إال التعف���ن واالنحالل وإه���دار َّ برنامجا للموت .ومع أن الس���ماء تمطر رحمة على وكل فكر ً
تكل كومت ،وبعضهم تلهى وانش���غل بهذيان دركهايم ...ولم ّ حينا ،أو تراكضوا الحركة ً أبدا ،لكن لم يحسبوا حساب العصر ً
والتمزق ،وتبقى المقدس���ات مه���ددة بالتبدد .وال محل للوفاء
ميراث ألف س���نة من القيم دون اهلل فتبدد في الحيرة والضياع ُ
عند ش���بابهم .فالقوى الفتية والحركية المأمول منها أن تس���مو
األهواء والرغبات آلهة من وراء األح�ل�ام وحدها ،أو ا ُّتخذت ُ
"الذاتية" .ويا ليتنا اس���تطعنا اآلن أن نتجاوز هذه الس���لبيات... هيه���ات هيهات! فلس���نا ندع���ي أننا ننظر بعي���ن الرضا إلى هذا الجانب من واقعنا .فكم أتمنى أن نتجاوز السلبيات كلها ،وأن فكريا وفلسفة "وطنية" تتغذى من مصادرنا الذاتية! نظاما ًّ نطور ً السنة الثامنة -العدد (2013 )35
4
ُع ّثتها .وكذلك تبقى القيم التاريخية فيها معرضة إلى االنخراق عند الكهول في الركام البشري لهذا المجتمع ،وال مكان للفتوة
بالمس���تقبل كس���ارية العلم على هاماتها ،هي التي تحتقر الراية وتش���تم الماضي من جهة ،وتحس���ب المس���تقبل ساحة جنون إلجراء رذائلها من جهة أخرى ...أما الكهول والمثقفون الذين
س ّلموا أنفسهم لالمباالة المفزعة ،فيتصرفون كمشجعين لفكر
مزارع ألشجار الفكرَ ،س ُّموهم إن شئتم الفخ���اخ القاتل���ة ،ويذبح���ون أرواحه���م نح��ن جنل��ب عنا��صر حياة مرات بسكين أرذل أنواع الموت. أه���ل الحكمة ،أو أبطال الفلس���فة ذوي امل�س��تقبل من ما�ض��ينا ،ف�إن م���اض وال ولي���س ألمث���ال ه���ؤالء وعرفوهم كما تش���اؤون ،لكن ٍ اله���دىِّ ، مس���تقبل م���ا دام���وا ي���رددون ق���ول عمر اعلموا ب���أن رجال النور الذين يحيكون ا�س��تطعنا �أن نعجنه��ا يف البال بماضي الزمان/ التاري���خ برق��� ِة نس���يج الحري���ر وظرافته، معاجن ثقافتن��ا الذاتية بنور الخيام" :ال َتشغل َ قب���ل األوان/واغنم ِمن وال بآت���ي العيش َ دائما من بين ه���ذه األرواح ق���د ظه���روا ً الدين و�ض��وء العل��م ،فقد طب���ع ال َّليالي /فلي���س في لذات ِه ِ الحاض���ر ّ العالي���ة ،عل���ى م���ر الزم���ان الممت���د من ِ َ أبديتنا. � ة خمري زنا جه َ ّ األم���ان" ،ويتبعون غرائزه���م الحيوانية، العوال���م القديمة إلى عصرن���ا الحاضر. عش���با ومرع���ى ،ويحيون وي���رون الدنيا وحت���ى أنظم���ة البراهمي���ة والبوذي���ة ً وم َلكاتهم اإلنس���انية ،فال ينفكون من والكونفوشية والطاوية والزرادشتية ،التي تشبه النظم الفلسفية راغمين أنف مش���اعرهم َ التقلب المضطرب في المستنقع و"اللوثيات". وليس األديان ،هي هدايا أبطال الروح إلى اإلنسانية. دوما في خرير تيار توليد األفكار فإن ألحان صروح الفكر هؤالءُ ،تسمع ً أم���ا الذي���ن يعيش���ون حياته���م مفكري���ن ،ويجعل���ون -حس���ب الفك���ر المدي���د إلى الماضي .إن ال���رؤى المختلفة إلى الحياة، درجاتهم -كل يوم أو كل ساعة من حياتهم ،ميناء أو مرسى أو وأنم���اط الحي���اة المتنوع���ة ،وأح���واض الحض���ارات العالمية، ً طري ًقا لألفكار المبتكرة ،فهؤالء يمضون أعمارهم في خوارق والثراء الثقافي في الجهات األربع من العالم القديم والجديد، دائما م���ن نتاج بي���ادر الفكر لهؤالء األبط���ال .فمع كل العيش ما فوق الزمان ومفاجآته وس���حره ،فيتجرعون الماضي كان���ت ً كماء نبع مبارك ،ويتنفسونه نفح َة رائح ٍة في رئاتهم ،ويطالعونه ه���ذا التبديل والتحريف واإلبعاد عن األصل ،يمكننا أن نقول ككت���اب ،ويس���يرون إلى المس���تقبل بهذه الع���دة ...ويحضنون باطمئنان تام :إن القسم األعظم من البشر في األرض ال زالوا ُ الزم���ن اآلتي بحرارة قلوبه���م ،ويلونونه بآماله���م ،ويصورونه يتبع���ون آثار ذل���ك المحتوى والمعنى وال���روح القديم -مهما ّ ّ مرك���زا تعس���ر التأليف بين الحياة المعاص���رة وبين هذا القول -وأظن بعزمه���م وإرادته���م ...ويحتس���بون الزم���ن الحاض���ر ً إس���تراتيجيا لتنفيذ أفكاره���م المثالية ،ومصنعا إلنتاج التقنيات أن الض���رورة قائم���ة لكي نتقبل اس���تمرارية األخط���اء -كحالة ً ًّ الضروري���ة في هذا الس���بيل ،وجس���را للعبور م���ن النظري إلى طبيعي���ة -بحس���ن الظن وحس���ن التأويل ،وذلك إل���ى أن يجد ً األبط���ال "الممثل���ون" األم���ور التي لم تتعرض إل���ى التحريف المكان. وفوق الزمان فوق دوما كي يكونوا العمليَ ...و َي ّ َ جدون ً فه���م م���ن وجه���ة يطالع���ون الوج���ود والزم���ان ف���ي ه���ذا والتبديل من تلك المرجعيات. ُ وبن���اء عل���ى ذل���ك ،ما يج���ب علين���ا اليوم -ونحن نس���تعد الحياة ضي���ق من ينس���لخون أخ���رى وجه���ة وم���ن المس���توى، ً الجس���مانية وينفس���حون ف���ي رحاب عال���م الفكر ويس���يحون للتجدي���د مرتبطين بأوثق الروابط بج���ذور معانينا الذاتية -هو نجهز األبطال الذين يجيدون تلقيح أنفسهم بأمصال الوقاية وه���م ف���ي هذه الحي���اة الفانية الموقوتة -على س���فوح ممتدة أن ّإل���ى الالنهاي���ة ف���ي عال���م آخ���ر ذي ُب ْع ٍ الم ْن ِشدين القادرين ���د أب���دي ...يس���يحون المستخرجة من ذات أرواحهم ...األبطال ُ ويدفع���ون عرب���ون الالنهاية بأفكارهم وأحاسيس���هم وآمالهم ،اليوم على أداء الكلمات ألناش���يد ماضينا من غير تعثر بش���يء ويتعايش���ون مع مش���اعر الالنهاية ،ويتطلعون إلى ثراء الكينونة أو بعائق ،وعلى استش���عار توقد الحماس في قلوبنا المتجددة اإلنسانية في أغوار الرحاب ال َّل ُد ّنية التي حفروها في مغاوص كل مرة بتلون آخر. ويج���دون ف���ي اصطي���اد أن���واع الفج���اءات ِ صناع والواقع أننا س���وف يطالنا خ���راب عظيم على أيدي بالش���باك قلوبه���م، ٍ ّ الت���ي نش���روها ف���ي قلوبهم مم���ا ال تبصره األعين وال تس���تمع إلي���ه اآلذان وال يتص���وره خيال اإلنس���ان .فترش���دهم علومهم ومعارفه���م ومكتس���باتهم العالية فوق المس���تويات ،إلى ما هو قابا أعل���ى ،بل أعل���ى المعالي، ويؤم���ل ّ ّ كل منهم أن يك���ون ُع ً سماويا .فهؤالء الذين يحيون حياة كهذه ،ويجعلون أعمارهم ًّ
وإبان أجان���ب أغرارٍ ،لحين إعدادنا وتجهيزنا لهؤالء األبطالّ . أيضا بصب أساطيرها القديمة ذلك ،ستشتغل اإلنسانية جمعاء ً لملء فراغ القيم األزلية الكونية التي تبحث عنها بوجدانها فال تعث���ر عليه���ا بعقلها ...فتتقل���ب من فقدان الطمأنين���ة إلى دوار األزمة ،ومن دوار األزمة إلى تخريبات جديدة.
3
السنة الثامنة -العدد (2013 )35
المقال الرئيس فتح اهلل كولن
فلسفة الحياة عندنا
يعيش قسم من البشر ،من غير ممارسة للفكر، وقس���م آخر منهم يفكر ولكن ال يعكس فكره عل���ى واقع الحياة ق���ط .أما ما ينبغ���ي ،فهو أن يعي���ش اإلنس���ان وهو يفك���ر ،وأن يبتكر أنما ًط���ا فكرية جديدة ركب���ات فكرية مختلف���ة .والذين للعي���ش فيتفت���ح على آف���اق ُم ّ يعيش���ون من غي���ر فكرُ ،هم ُدمى ُتم ّثل فلس���فة حياة لآلخرين. ه���ؤالء يلهثون للتغير من ش���كل إلى ش���كل وال يم ّلون تبديل قوالبه���م ،ويضطرب���ون ما عاش���وا ف���ي االنحراف بين الش���عور والتمس���ح بي���ن الصورة والفك���ر ،واالنـ���زالق في الش���خصية، ّ حظوظا حصل عليها المجتمع، حينا ً والسيرة .وقد يتقاسمون ً حينا من توافق مجرى األمور -وكأنها تترتب حسب ويستفيدون ً تفكيرهم وحسهم وإرادتهم -لكنهم لن يريحوا أرواحهم البتة شبوا بها إلى العلى ،ولن بالمحاسن والفضائل اإلرادية ،ولن َي ّ يوجهوه���ا إل���ى الالنهاي���ة .هؤالء يش���بهون ب َِرك الم���اء العقيمة والمحروم���ة م���ن البرك���ة والخام���دة والمعرضة إلى ا ُ ألس���ون. ََ السنة الثامنة -العدد (2013 )35
2
فال يبعد أن يتحولوا -بمرور الزمان -إلى مجمع للفيروس���ات وم���أوى للمكروب���اتَ ،ب ْل���ه أن يفي���دوا بش���يء باس���م الحيوية. ضح���ال وه���م رأي���ا ،إلى درج���ة أطفال ٌ فك���را وس���طحيون ً ً وينج���رون وراء الطغام هنا يقل���دون كل م���ا يرون ويس���معون، ّ وهناك ،وال يجدون س���انحة لإلحس���اس بأنفس���هم واإلنصات إلى دواخلهم وتمحيص قيمهم الذاتية ...بل ال يش���عرون البتة بوج���ود قي���م تخصهم بأنفس���هم .فيحيون كعبيد ألحاسيس���هم ���خرون كل وي َس ِّ الجس���مانية والبدني���ة عبودي���ة ال انعت���اق منهاُ . شيء حصلوا عليه ،ويحصلون ،لخدمة الجسمانية في إطارها ويغي���رون أعظ���م األلط���اف التي وهبها اهلل لإلنس���ان، الضي���قّ ، كالقل���ب واإلرادة والح���س والش���عور ،إل���ى وس���ائل رخيص���ة لملذاته���م البدني���ة ،ويقض���ون أعماره���م في بوهيمي���ة .المقام والمنصب والش���هرة والمنفعة والحرص على الحياة ،من أهم عين حرك���ة هؤالء وفعالياتهم .وس���واء َأ َعرفوا العوام���ل التي ُت ّ أم ل���م يعرف���وا ،فهم يقعون كل يوم ف���ي واحد أو أكثر من هذه
المحتويات فلسفة الحياة عندنا /فتح اهلل كولن (املقال الرئيس) أسرار الدموع /د .حممد السقا عيد (علوم) التمثل واإلبداع في العمارة اإلسالمية /أ.د .بركات حممد مراد (ثقافة وفن) من القرآن إلى العمران /أ.د .الشاهد البوشيخي (قضايا فكرية) موقع رسائل النور من الفكر اإلسالمي الحديث /د .مهدية أمنوح (قضايا فكرية) معرفة اهلل /حراء (ألوان وظالل) الحوت األزرق ..عمالق البحار والميحطات /أ.د .عرفان يلماز (علوم) آليات بناء ثقافة الوسطية /د .مرمي آيت أمحد (قضايا فكرية ) عرض حال /أديب إبراهيم الدباغ (أدب) أسس القيادة واإلدارة في ضوء قصة ذي القرنين /د .السيد حامد السيد (قضايا فكرية) ترجمة الفكر ..من "بيت الحكمة" إلى "غوغل" /طه كوزي (قضايا فكرية) كيف يصل /حراء (ألوان وظالل) المسلم وإعالم اآلخر بين "السماع" و"االستماع" /د .فؤاد البنا (قضايا فكرية) الوعي الحضاري ..فاعلية وتمكين وشهود /د .جاسم سلطان (قضايا فكرية) صدأ القلوب /د .سعاد الناصر (أدب) التربية اإلسالمية والبعد اإلستراتيجي لقضايا التنمية /د .خالد الصمدي (تربية) كعبة الروح /حراء (ألوان وظالل) دروس الحضرة السلطانية /متني رئيس (تاريخ وحضارة) السودان ..محاورات على ضفاف النيلين /د .حممد باباعمي (أنشطة ثقافية ) سلطان أمام القضاء /نور الدين صواش (حمطات حضارية) في الماء وال يتبلل /نور الدين صواش (حمطات علمية)
2 6 11 15 17 20 21 25 30 31 36 38 39 43 47 49 52 53 56 62 63
االفتتاحية جوهر الحياة
يمد عجلة الحي���اة بالدوران ،ومن التفكي���ر جوه���ر الحياة ،بل ه���و "الداينمو" الذي ُّ
دونه تغدو الحياة ش���احبة باهتة ،باردة برودة الموت ،وس���اكنة سكونه وصامتة صمته.. وف���ي مقال���ه القيم "فلس���فة الحي���اة عندنا" يجلي "فت���ح اهلل كولن" هذا المعن���ى ويتناوله مبي ًن���ا أن حاجاتنا إلى "التفكير تضاهي حاجتن���ا إلى الهواء الذي م���ن جوان���ب مختلفةّ ،
نتنفس���ه" ،وأن األمة التي ال تفكر ،فإنها في الحقيقة ال تحيا ،أو تحيا ولكن على فتات
العدد35: السنة الثامنة (مارس -أبريل) 2013
أف���كار اآلخري���ن .وهذا الفتات ربما يك���ون قد تع ّفن منذ زمن بعي���د ،فنحن إذا تناولناه فإنما نتناول ما يزيد في أمراضنا الفكرية والروحية وال يعمل على ش���فائنا منها ،وهذا
األمر معلوم ومحس���وس ،فبها نحش���ي عقول أجيالنا من أف���كار هي خليط عجيب من
ثقافات وأفكار ليس فيها من التجانس ما يجعلها سائغة القبول عند الكثير من األذهان كثيرا ما يؤلم ويبكي "األستاذ" ويؤلمنا ويبكينا على إثره ،فنذرف المتفتحة ،وهذا األمر ً
مدرارا. الدمع ونسكبه ً
ف���إذا بـ"محم���د الس���قا عيد" يحدثنا حديث العلم عن "أس���رار الدم���وع" التي تذرفها
عيونن���ا إذا ما حزنا أو فرحنا س���واء ،ويجلي لنا الكثير من أس���رار ه���ذه الدموع التي قد ال ألمراض كثيرة تنتاب العين في أوقات مختلفة .وإذا تكون في بعض األحايين غس���ي ً
ال غاية ف���ي اإلمتاع عن م���ا كففن���ا دموعن���ا رأينا "بركات محم���د مراد" وهو يكت���ب مقا ً "التمثل واإلبداع في العمارة اإلس�ل�امية" التي تش���كل أعظم معالم الحضارة اإلسالمية وإبداعاتها في األدب والفكر والفن .وكأن مقال البوش���يخي "من القرآن إلى العمران"
متمم وموضح فلسفة هذا اإلبداع الفني وجذوره األولى في كتاب اهلل القرآن الكريم؛ فيتحدث عن "الفكر العمراني" في القرآن الكريم إذا صح التعبير.
و"مريم آيت أحمد" ،تتحدث عن "آليات بناء ثقافة الوس���طية" ،وهو مقال يش���كل
لبنة من لبنات البناء الثقافي الوسطي الذي تسعى الكثير من األقالم إلى تناوله وتناول
آليات���ه وطرائ���ق بنائ���ه .أم���ا "الس���يد حامد الس���يد" ،فف���ي مقال���ه المبتكر "أس���س القيادة واإلدارة" يستقرئ معطيات قصة ذي القرنين المليئة باالستنهاضات والتحفيزات ،لكي
يفيد من مدلوالتها أولئك المتصدون للقيادة واإلدارة في كل ش���أن من ش���ؤون الحياة. و"جاس���م س���لطان" يتحدث عن مقاربة المفاهيم وعن الوعي وعن الحضارة وعن
الفاعلية والتمكين .ويأتي بعد ذلك كله مقال "خالد الصمدي" عن "التربية اإلس�ل�امية
يصب كذلك في المنحى الحضاري نفس���ه والبعد اإلس���تراتيجي لقضايا التنمية" ،وهو ّ الذي س���بق الحديث عنه .وفي حقل "األنش���طة الثقافية" يس���تعرض لنا محمد باباعمي نش���اط مجلة حراء في الس���ودان ،فيتحدث عن الملتقيات والندوات التي أقيمت هناك
لتعري���ف رج���ال الفكر والرأي بمجلة "حراء" وبخطها الفكري الوس���طي ،وهو مس���ك
الختام في هذا االستعراض.
العدد / 35 :السنة الثامنة ( /مارس -أبريل) 2013 مجلة علمية فكرية ثقافية تصدر كل شهرين من إسطنبول
w w w. h i r a m a g a z i n e . c o m
حرقة ورواء مكتوي الفؤاد، بجميعه ..يتحدى اللظى، وإن المشهد ..مضبَّبًا للعين بدا، ْ فمن أجل إرواء الظامئين.. في النيران اصطلى.. ***
فلسفة الحياة عندنا
الوعي الحضاري
محاورات على ضفاف النيلين