Hira Magazine 35

Page 1

‫الوعد الحق‬ ‫الكون ُّ‬ ‫ات ِ‬ ‫حولك‪،‬‬ ‫يوم‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫كله دار ٌ‬ ‫سيأتي ٌ‬ ‫ِ‬ ‫شطرك‪،‬‬ ‫"الشرق والغرب" يولّي الوج َه‬ ‫خلت تنبعث‪،‬‬ ‫ساعتَها‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫أجداث عصور ْ‬ ‫حتما ستبزغ أيام اهلل وع ًدا‪..‬‬ ‫ً‬ ‫ال تتخلف‪..‬‬ ‫***‬

‫‪35‬‬


‫أرباب المستوى‬

‫حضور معرفي في فكر األستاذ فتح اهلل كولن‬ ‫د‪ .‬محمد باباعمي‬ ‫معمقة في فكر “فتح اهلل كولن”‬ ‫ •دراسة علمية َّ‬ ‫ •موسوعة شاملة لحاضر هذا الفكر ومستقبله‬

‫ •مقارنات ومقاربات بين رجال الفكر اإلسالمي المعاصر‬ ‫ •خارطة آلفاق المستوى الفكري كما يرسمها “فتح اهلل كولن”‬ ‫ •استقراء وتحليل لمعضالت الفكر والحلول التي يقترحها “فتح اهلل كولن”‬

‫مركز التوزيع فرع القاهرة ‪ 7 :‬ش البرامكة‪ ،‬الحي السابع‪ ،‬مدينة نصر ‪ -‬القاهرة ‪ /‬مصر‬

‫تليفون وفاكس ‪+20226134402-5 :‬‬

‫الهاتف الجوال ‪+201004871038 :‬‬

‫‪w w w. d a r a l n i l e . c o m‬‬


‫التصور العام‬

‫• حراء جملة علمية فكرية ثقافية تعىن بالعلوم الطبيعية واإلنسانية واالجتماعية وحتاور أسرار النفس البشرية وآفاق‬ ‫الكون الشاسعة باملنظور القرآين اإلمياين يف تآلف وتناسب بني العلم واإلميان‪ ،‬والعقل والقلب‪ ،‬والفكر والواقع‪.‬‬ ‫• جتمع بني األصالة واملعاصرة وتعتمد الوسطية يف فهم اإلسالم وفهم الواقع‪ ،‬مع البعد عن اإلفراط والتفريط‪.‬‬ ‫• تؤمن باالنفتاح على اآلخر‪ ،‬واحلوار البناء واهلادئ فيما يصب لصاحل اإلنسانية‪.‬‬ ‫• تسعى إىل املوازنة بني العلمية يف املضمون واجلمالية يف الشكل وأسلوب العرض‪ ،‬ومن مث تدعو إىل معاجلة املواد‬ ‫مبهنية عالية مع التبسيط ومراعاة اجلوانب األدبية واجلمالية يف الكتابة‪.‬‬

‫شروط النشر‬

‫• أن يكون النص املرسل جديدا مل يسبق نشره‪.‬‬ ‫• أال يزيد حجم النص على ‪ 2000‬كلمة كحد أقصى‪ ،‬وللمجلة أن تلخص أو ختتصر النصوص اليت تتجاوز احلد‬ ‫املطلوب‪.‬‬ ‫• يرجى من الكاتب الذي مل يسبق له النشر يف اجمللة إرسال نبذة خمتصرة عن سريته الذاتية‪.‬‬ ‫• ختضع األعمال املعروضة للنشر ملوافقة هيئة التحرير‪ ،‬وهليئة التحرير أن تطلب من الكاتب إجراء أي تعديل على‬ ‫املادة املقدمة قبل إجازهتا للنشر‪.‬‬ ‫• اجمللة غري ملزمة بإعادة النصوص إىل أصحاهبا نشرت أم مل تنشر‪ ،‬وتلتزم بإبالغ أصحاهبا بقبول النشر‪ ،‬وال تلتزم‬ ‫بإبداء أسباب عدم النشر‪.‬‬ ‫• حتتفظ اجمللة حبقها يف نشر النصوص وفق خطة التحرير وحسب التوقيت الذي تراه مناسبا‪.‬‬ ‫تعب بالضرورة عن رأي اجمللة‪.‬‬ ‫تعب عن آراء ُكتَّاهبا‪ ،‬وال رِّ‬ ‫• النصوص اليت تنشر يف اجمللة رِّ‬ ‫مجا إىل أي لغة أخرى‪،‬‬ ‫• للمجلة حق إعادة نشر النص منفصلاً أو ضمن جمموعة من البحوث‪ ،‬بلغته األصلية أو مرت ً‬ ‫دون حاجة إىل استئذان صاحب النص‪.‬‬ ‫ • جملة حراء ال متانع يف النقل أو االقتباس عنها شريطة ذكر املصدر‪.‬‬ ‫ يرجى إرسال مجيع املشاركات إىل هيئة حترير اجمللة على العنوان اآليت‪:‬‬

‫‪hira@hiramagazine.com‬‬

‫‪YEMEN‬‬ ‫دار النشر للجامعات‬ ‫الجمهورية اليمنية‪ ،‬صنعاء‪ ،‬الخط الدائري الغربي‪،‬‬ ‫أمام الجامعة القديمة‬ ‫‪Phone: +967 1 440144‬‬ ‫‪GSM: +967 711518611‬‬ ‫‪ALGERIA‬‬ ‫‪Bois des Cars 1 Villa Nº68 Dely Brahim‬‬ ‫‪GSM: +213 770 26 00 27‬‬ ‫‪SUDAN‬‬ ‫مركز دار النيل‪ ،‬مكتب اخلرطوم‬ ‫أركويت مربع ‪ 48‬منـزل رقم ‪ - 31‬اخلرطوم ‪ -‬السودان‬ ‫‪Phone: 0024 999 559 92 26 - 0024 915 522 24 69‬‬ ‫‪hirasudan@hotmail.com‬‬ ‫‪JORDAN‬‬ ‫شركة زوزك‪/‬مشيساين شارع عبد احلميد شرف‪ ،‬بناية رقم‪61:‬‬ ‫عمان‪/‬األردن‪.‬‬ ‫‪Phone: +962 656 064 44‬‬ ‫‪GSM: +962 775 935 756‬‬ ‫‪hirajordan@hotmail.com‬‬ ‫‪UNITED ARAB EMIRATES‬‬ ‫دار الفقيه للنشر والتوزيع‬ ‫ص‪.‬ب‪ 6677 .‬أبو ظبي‬ ‫‪Phone: +971 266 789920‬‬ ‫‪MAURITANIA‬‬ ‫‪Phone: +2223014264‬‬

‫‪USA‬‬ ‫‪Tughra Books‬‬ ‫‪345 Clifton Ave., Clifton,‬‬ ‫‪NJ, 07011, USA‬‬ ‫‪Phone:+1 732 868 0210‬‬ ‫‪Fax:+1 732 868 0211‬‬ ‫‪SAUDI ARABIA‬‬ ‫الوطنية للتوزيع‬ ‫‪Phone: +966 1 4871414‬‬ ‫املكتب الرئيسي‪ :‬شارع التخصصي مع تقاطع شارع‬ ‫األمري سلطان بن عبد العزيز عمارة فيصل السيار‬ ‫ص‪.‬ب‪ 68761 :‬الرياض‪11537 :‬‬ ‫اجلوال‪00966504358213 :‬‬ ‫‪saudia@hiramagazine.com‬‬ ‫‪abdallahi7@hotmail.com‬‬ ‫‪Phone-Fax: +966 1 2815226‬‬ ‫‪MOROCCO‬‬ ‫الدار البيضاء ‪ 70‬زنقة سجلماسة‬ ‫‪Société Arabo-Africaine de Distribution,‬‬ ‫)‪d'Edition et de Presse (Sapress‬‬ ‫‪70, rue de Sijilmassa, 20300 Casablanca / Morocco‬‬ ‫‪Phone: ‎+212 22 24 92 00‬‬ ‫‪SYRIA‬‬ ‫‪GSM: ‎+963 955 411 990‬‬

‫جملة علمية فكرية ثقافية تصدر كل‬ ‫شهرين عن‪:‬‬ ‫‪Işık Yayıncılık Ticaret A.Ş‬‬ ‫‪İstanbul / Türkiye‬‬

‫صاحب االمتياز ‬

‫مصطفى طلعت قاطريجي أوغلو‬

‫املشرف العام‬ ‫نوزاد صواش‬

‫‪nsavas@hiramagazine.com‬‬

‫رئيس التحرير‬ ‫هانئ رسالن‬

‫مدير التحرير‬ ‫أجري أشيوك‬

‫املخرج الفين‬ ‫مراد عرباجي‬

‫املركز الرئيس‬ ‫‪HIRA MAGAZINE‬‬ ‫‪Kısıklı Mah. Meltem Sok.‬‬ ‫‪No:5 34676‬‬ ‫‪Üsküdar‬‬ ‫‪İstanbul / Turkey‬‬ ‫‪Phone: +902163186011‬‬ ‫‪Fax: +902164224140‬‬ ‫‪hira@hiramagazine.com‬‬

‫مركز التوزيع‬ ‫‪ 7‬ش الربامكة ‪ -‬احلي السابع ‪ -‬م‪.‬نصر‪/‬القاهرة‬ ‫تليفون وفاكس‪+20226134402-5 :‬‬ ‫اهلاتف اجلوال ‪+201004871038 :‬‬ ‫مجهورية مصر العربية‬

‫نوع النشر‬ ‫جملة دورية دولية‬

‫‪Yayın Türü‬‬ ‫‪Yaygın Süreli‬‬

‫الطباعة‬

‫رقم اإليداع‬

‫‪1879-1306‬‬

‫لالشرتاك من كل أحناء العامل‬ ‫‪pr@hiramagazine.com‬‬


‫محطات علمية‬

‫في الماء وال يتبلل‬ ‫أفالم���ا وثائقي���ة مثيرة ع���ن عالم‬ ‫كثي���را م���ا نش���اهد على شاش���ة التلف���از‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ال���دور الذي تقوم به هذه الحيوانات في التوازن البيئي‬ ‫الحي���وان‪ ،‬ونرى‬ ‫َ‬ ‫والطبيع���ي‪ ...‬نش���اهد الطي���ور ‪-‬على س���بيل المث���ال‪ -‬الت���ي تغوص في‬ ‫البحار لتلتقط بمنقارها سمكة أو سمكتين ثم لتنطلق من تحت الماء نحو األجواء بقوة‬ ‫وتواصل طيرانها محلّقة في الهواء وكأن ما قامت به ش���يء طبيعي عادي! مش���هد مثير ‪،‬‬ ‫يوما بالس���بب الذي يش���جع هذا الطائر بريش���ه الناعم على القيام بهذه‬ ‫ولكن هل‬ ‫َ‬ ‫فكرت ً‬ ‫العملية الخطيرة تحت الماء دون أن يخشى الغرق والموت؟!‬ ‫ق���ام باحث���ون في عالم الحيوان بدراس���ة هذا األمر ليعرفوا الس���ر الكام���ن فيه‪ .‬أجروا‬ ‫بحوثهم على طائر الفرقاطة‪ ،‬والنورس‪ ،‬والرفراف‪ ،‬وبط الغطاس‪ ،‬وغيرها من الطيور‪...‬‬ ‫وعندم���ا اكتش���فوا الحقيق���ة وقف���وا مذهولين مندهش���ين؛ إذ وجدوا أن ه���ذه المخلوقات‬ ‫مكسوة بريش غير قابل للبلل‪ ،‬أو باألحرى بريش مغ ّلف بدهن يمنع نفوذ الماء إليه؛ يتم‬ ‫ضعت تحت ذيولها لتفرز مادة دهنية أو زيتية باستمرار‪ ...‬حيث‬ ‫إنتاجه من خالل غدد ُو‬ ‫ْ‬ ‫مستخدما منقاره أو رجليه‪ .‬وبذلك‬ ‫وفرك ريشه بها‬ ‫يقوم الطائر‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫باالدهان من هذه المادة ْ‬ ‫ابتل‪ .‬وقد يوفر‬ ‫يتمك���ن من الحصول على معطف ريش���ي طبيع���ي ال يتأثر من الماء مهما ّ‬ ‫ويمكنه من الغطس‬ ‫ه���ذا الري���ش المدهون لهذا الطائر‪ ،‬قدرة الس���باحة بس���رعة ومرون���ة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫تحت الماء لمسافات عميقة الصطياد فريسته من األسماك‪ .‬ومن جهة أخرى فإن وجود‬ ‫وإن‬ ‫هذه الخاصية في هذه الطيور تساعد على الحفاظ على بريق الريش واصطفافه حتى ْ‬ ‫انسكبت الماء عليه بغزارة‪.‬‬ ‫ال ش���ك أن طريق اإلنس���ان في تحصيل العلم طويلة‪ ،‬ويبدو أنه س���يظل يحاكي غيره‬ ‫من الكائنات ليكتشف األسرار المخفية فيها مدى الحياة‪.‬‬ ‫(*) كاتب وباحث تركي‪.‬‬

‫‪63‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )35‬‬


‫محطات حضارية‬

‫نور الدين صواش*‬

‫م‬ ‫ا‬ ‫أ‬ ‫م‬ ‫ن‬ ‫ا‬ ‫سلطا‬ ‫ل‬ ‫ق‬

‫ض‬ ‫ا‬ ‫ء‬

‫بع���د فت���ح إس���طنبول‪ ،‬أمر الس���لطان محم���د الفاتح ببناء مس���جد فخم ال‬ ‫يضاه���ى‪ ...‬وض���ع بين ي���دي رئي���س المعماريي���ن عمودي���ن طويلين من‬ ‫الرخام‪ ،‬إلقامة قبة المسجد عليهما لتكون أعلى وأوسع من قبة أياصوفيا‪.‬‬ ‫وعند االنتهاء قام السلطان بزيارة المسجد‪ ،‬ولكنه فوجئ عندما رأى بأن مقاييس القبة لم‬ ‫وقصرهما خش���ية انهيار المس���جد‬ ‫قص المعماري العمودين ّ‬ ‫تكن وف ًقا لما أراد وأمر؛ إذ ّ‬ ‫ش���ديدا‪ ،‬وأمر بأن يوقع على المعماري‬ ‫غضبا‬ ‫إثر زلزال‪ ...‬غضب الس���لطان لهذا األمر‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫عقوب���ة مغ َّلظ���ة أدت إلى إتالف جزء من بدنه‪ ...‬وبعد فت���رة من الزمن‪ ،‬ذهب المعماري‬ ‫إل���ى القاضي ورفع ش���كاية ضد الس���لطان محم���د الفاتح‪ ...‬خلص األم���ر بعد التحقيق‪،‬‬ ‫إلى حضور الس���لطان إلى المحكمة‪ ...‬وعندم���ا حضر محمد الفاتح إلى قاعة المحكمة‬ ‫ال‪" :‬ي���ا صاحب الجاللة‪ ،‬قف إلى جانب‬ ‫ه���م بالقع���ود‪ ،‬ولكن القاضي منعه من ذلك قائ ً‬ ‫ّ‬ ‫خصمك‪ ،‬إنك أمام محكمة العدل"!‬ ‫وفي نهاية األمر أصدر القاضي حكمه بمعاقبة الس���لطان محمد الفاتح باالقتصاص‬ ‫من���ه‪ .‬أبدى فاتح إس���طنبول العظيم‪ ،‬إذعا ًن���ا لهذا الحكم ورضاء بهذا القرار ولم تبدر منه‬ ‫ش���ديدا‪ ،‬إذ ال يكاد يصدق‬ ‫تأثرا‬ ‫ً‬ ‫ّأي���ة ب���ادرة ضد ذلك‪ ...‬تأثر المعماري من هذا الموقف ً‬ ‫عينه‪ ،‬بالقصاص؟! عندئذ سارع على الفور إلى‬ ‫ما يراه بعينيه؛ ٍ‬ ‫قاض يحكم على سلطان ّ‬ ‫سحب شكايته والتنازل عن حقه‪ ...‬فقامت المحكمة بتحويل القرار إلى تعويض نقدي‪،‬‬ ‫حيث حكمت على الس���لطان الفاتح‪ ،‬بدفع تعويض للمعماري مقداره عش���ر قطع ذهبية‬ ‫من ملكه الخاص‪ ...‬كما رفع الس���لطان مقدار هذا التعويض إلى عش���رين قطعة ذهبية‪،‬‬ ‫قادرا عليه(‪.)1‬‬ ‫شكرا هلل لخالصه من القصاص‪ ،‬وامتنا ًنا للمعماري للعفو عنه بعدما كان ً‬ ‫ً‬ ‫"سياحت نامه" للمؤرخ والرحالة العثماني "أوليا شلبي"‪.‬‬ ‫(‪ )1‬وردت هذه الرواية في كتاب‬ ‫ْ‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )35‬‬

‫‪62‬‬


‫محمدا‪،‬‬ ‫بنبرات‬ ‫ٍ‬ ‫حنين حفيف‪ ،‬ونغمات أنين خفيف‪ ،‬وهو يناغي خير البرية َّ‬

‫أعظم من قال‪ ،‬وأفضل من ُذكر‪ ...‬سمعت ذا المناجي وهو يترنم ويشدو‪:‬‬ ‫َ‬ ‫والصوت الجهوري لحقيقة‬ ‫لب الوجود ونواتها‪ ،‬ويا ثمرة شجرة الخلق‬ ‫َ‬ ‫"يا َّ‬

‫التوحي���د‪ ،‬لوالك ما كان لن���ا وال للكائنات معنى‪ .‬ولقد قرأنا ذواتنا‪ ،‬ووقف‬

‫كلٌّ منا حس���ب موقعه ‪-‬إن اس���تطاع‪ -‬في الصف الصواب‪ ،‬بفضلك أنت"‪.‬‬ ‫جميعا‪:‬‬ ‫ثم واصل العاشق الولهان‬ ‫عنا‬ ‫َ‬ ‫ووصل‪ ،‬إلى أن قال معتر ًفا نيابة َّ‬ ‫ً‬

‫"وإن ظلك ‪-‬يا حبيب اهلل‪ -‬على رؤوس���نا ‪-‬ولو من بعيد‪ -‬صار نفخ َة‬ ‫َّ‬ ‫وإن والدتك الحقيقية ستطفئ الشموع الشيطانية ك ّلها‪،‬‬ ‫انبعاث من الموت‪َّ .‬‬ ‫منبع ن���ورٍ ال يخبو‪ ...‬قد‬ ‫وتح ِّف���ز األرواح المدفوع���ة إل���ى الظلمات‬ ‫نح���و ِ‬ ‫َ‬ ‫الد َنى‬ ‫رب���ط اهلل النور الذي يض���يء العوالم بك‪ .‬وزِ ُّر نبع النور الذي يضيء ُّ‬ ‫تحت لمسة يدك‪ .‬ولئن سألت فاهلل مريد مجيب‪ ...‬ولئن قلت فإ َّنا سماعون‬ ‫(‪)10‬‬ ‫س���م َع‬ ‫مطيع���ون‪ ...‬فاس���أل ‪ ...‬حتى تتجلى المش���يئة اإللهية‪ ،‬وقل حتى َت َ‬ ‫ال سديد ًا"‪.‬‬ ‫اآلذان قو ً‬

‫بعض‬ ‫نع���م‪ ،‬يا حبيب القلوب‪،‬‬ ‫وجودنا اليوم ظلٌّ لوجودك‪ ...‬وس���ؤالنا ٌ‬ ‫ُ‬ ‫رهين باتباعك واقتفاء آثارك‪...‬‬ ‫وغدنا ومس���تقب ُلنا‬ ‫من س���ؤالك‪...‬‬ ‫ومصيرنا ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫لك وحدك‪ ،‬وأننا‬ ‫أن والءنا َ‬ ‫فها نحن اليوم من أرض السودان ِّ‬ ‫نذكر العالمين َّ‬

‫وموعدنا بحول اهلل‬ ‫رب الجالل‪،‬‬ ‫الصف وراءك‪ ،‬وِ جهتنا‬ ‫نق���ف ف���ي‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫جميع���ا ُّ‬ ‫ً‬ ‫ان ِم َن ا ِ‬ ‫هلل َأ ْك َب ُر﴾(التوبة‪،)72:‬‬ ‫﴿ورِ ْض َو ٌ‬ ‫يوم السؤال‪ ...‬ثم موعدنا الرفيق األعلى‪َ ،‬‬ ‫ين‬ ‫ين َو ُّ‬ ‫ب���ل وفي الفردوس األعلى مع َّ‬ ‫الصا ِل ِح َ‬ ‫الص ِّدي ِق َ‬ ‫﴿الن ِب ِّي َ‬ ‫الش َ‬ ‫ين َو ِّ‬ ‫���ه َدا ِء َو َّ‬ ‫َو َح ُس َن ُأو َل ِئ َك َر ِفي ًقا﴾(النساء‪.)69:‬‬ ‫(*) مدير معهد المناهج‪ ،‬الجزائر العاصمة ‪ /‬الجزائر‪.‬‬

‫الهوامش‬

‫(‪ )1‬الخرطوم العاصمة‪ ،‬تنقسم إلى ثالث واليات‪ :‬الخرطوم‪ ،‬والبحري‪ ،‬وأم درمان‪.‬‬

‫(‪)2‬‬ ‫اليوم في أكثر من ‪ 160‬دولة عبر العالم‪ ،‬وفي أكثر من ‪ 30‬دولة إفريقية‪.‬‬ ‫تنتشر مدارس "الخدمة" َ‬

‫(‪ )3‬تالحظ المناسبة بين هذه العبارة‪ ،‬وموضوع الندوة األولى في مركز التنوير المعرفي‪.‬‬ ‫(‪ )4‬تالحظ المناسبة كذلك مع موضوع ندوة الجزيرة‪.‬‬

‫(‪ )5‬ف���ي الس���ودان مرك���زان لحراء‪ :‬مرك���ز الخرطوم‪ ،‬ومرك���ز الجزيرة‪ .‬تقوم هذه المراكز بنش���ر‬ ‫المجل���ة‪ ،‬ونش���ر الكت���ب الص���ادرة من دار الني���ل‪ ،‬باإلضافة إل���ى دروس تقوية ف���ي اللغات‬

‫ومختلف التخصصات‪.‬‬

‫(‪ )6‬يوم الثالثاء ‪ 26‬صفر ‪1434‬هـ‪ 8/‬يناير ‪2013‬م‪.‬‬

‫(‪ )7‬نسبة إلى مدينة "مدني"‪ ،‬وليس بمعناه االجتماعي المقابل للمجتمع الرسمي‪.‬‬

‫(‪ )8‬تالحظ المناسبة بين النص وموضوع الندوة‪ ،‬ويبدو أن تقابل الفكر بالحركية أبلغ من تقابل‬ ‫العقل بالفعل‪ ،‬كما في عنوان الندوة‪.‬‬

‫(‪ )9‬وذلك يوم الخميس‪ ،‬مساء‪ 28 ،‬صفر ‪1424‬هـ‪ 10/‬يناير ‪2013‬م‪.‬‬

‫(‪ )10‬الحظ المناس���بة بين هذه المناجاة مع موضوع ندوة التنوير المعرفي‪" :‬مس���اءالت في بناء‬ ‫ذاتنا الحضارية"‪.‬‬

‫‪61‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )35‬‬


‫ال بعنوان "إنس���ان الفكر والحركية"(‪،)8‬‬ ‫ولقد كتب األس���تاذ "فتح اهلل" مقا ً‬

‫دبجه بقوله‪" :‬إنس���ان الفك���ر والحركية‪ ...‬هو في خط‬ ‫عال���ج في���ه هذا البعد‪َّ ،‬‬

‫الحي���اة الممت���د عل���ى م���دى فصولها م���ن الحس إل���ى الفكر ثم إل���ى الحياة‬

‫ولي‬ ‫دوما‪ ،‬وينش���غل بحس البناء واإلنش���اء ً‬ ‫العملية‪ ،‬يتنفس النظام ً‬ ‫أبدا‪ .‬إنه ُّ‬ ‫الحق اللدني الذي ِيع ُّد قادة أركان الروح‪ ،‬ومهندسي العقل‪ ،‬وعمال الفكر‬ ‫ال ع���ن اس���تخدام القوة المادية لفت���ح البالد ودحر الجي���وش‪ ،‬وينفخ بال‬ ‫ب���د ً‬

‫كل���ل‪ ،‬ن َفس البن���اء واإلعمار فيمن حوله‪ ،‬ويرش���د أعوانه إلى س���بل عمران‬

‫ولي للحق جياش بالش���وق والشكر‪ ،‬استطاع أن يوحد إرادته مع‬ ‫الخرائب‪ٌّ .‬‬ ‫المشيئة المطلقة‪ ،‬وأن يحول فقره إلى الغنى‪ ،‬وعجزه إلى القدرة عينها‪ .‬إنه‬

‫أبدا ما دام يستخدم مصادر قوته هذه كما ينبغي وبحس اإلخالص‬ ‫ال يقهر ً‬ ‫والوفاء لصاحبها‪ .‬وحتى حين الظن بأنه قد ُهزم‪ ،‬فس���تجده على رأس فوج‬ ‫آخر للنصر والظفر"‪.‬‬

‫مسك الختام في ضيافة المصطفى ‪‬‬ ‫قالئل‬ ‫"ي���وم أو بع���ض يوم"‪ ...‬هذا عن العمر ك ِّله‪ ،‬فكيف يمكن وصف أيام‬ ‫َ‬ ‫معدودات‪ ،‬مشحونات بالنشاط والسعي الحثيث‪،‬‬ ‫"وأيام الهنا تمر ِعجاال"؟!‬ ‫ُ‬

‫نع���م‪،‬‬ ‫ال كلم���ح البصر أو هو أقرب‪ .‬ولقد ش���حنت بزيارات‬ ‫م���رت عجا ً‬ ‫َّ‬ ‫لمراك���ز وش���خصيات علمي���ة وسياس���ية‪ ،‬منه���ا زي���ارة مباركة "لمج���ع الفقه‬ ‫اإلسالمي" الذي كان يديره المرحوم "األستاذ الدكتور أحمد علي اإلمام"‪،‬‬

‫واليوم يقف على رأس���ه المفكر العالمي "عصام البش���ير"‪ ...‬فكانت جلس���ة‬ ‫ٍ‬ ‫ود‬ ‫وتبادل لألفكار‪ ،‬وإبدا ِء االستعداد للتعاون المفتوح في جميع الجوانب‬ ‫ٍّ‬ ‫والمجاالت‪.‬‬

‫ثم كان مس���ك الختام‪ ،‬ش���هود جلس���ة االفتتاح "للمؤتمر الدولي األول‬

‫للس���يرة النبوية الش���ريفة"‪ ،‬من تنظيم "جامعة إفريقيا العالمية" تحت ش���عار‪:‬‬

‫"تنزيل مقاصد الش���ريعة‪ ،‬وتعميق محبة الرس���ول ‪ )9("‬بقاعة المحاضرات‬

‫داخل حرم الجامعة‪.‬‬

‫ولقد كان من بين المش���اركين العش���رات من األساتذة من مختلف بالد‬

‫معلنا والءه للحبي���ب المصطفى عليه أفضل‬ ‫العالم اإلس�ل�امي‪ ،‬كلُّه���م جاء ً‬ ‫اليوم إلى مس���توى "النصرة"‪،‬‬ ‫األمة‬ ‫َ‬ ‫الصالة وأزكى التس���ليم‪ِّ ،‬‬ ‫مؤمال أن ترقى َّ‬ ‫بحق جدي���رة بإعالن الحبيب‪" :‬يا‬ ‫وأن َّ‬ ‫ترش���ح لمق���ام "خير َّأمة"‪ ،‬وأن تكون ٍّ‬ ‫رب َّأمتي َّأمتي"‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫بينم���ا طائرتنا تح ِّلق فوق األجواء وتخترق الس���حب الكثيفة‪...‬‬ ‫القلوب‬ ‫ُ‬ ‫من���ا تهف���و للق���اء الحبيب‪ ،‬وتس���يل األذكار المأثورة عنه ‪ ‬من بين ش���فاهنا‬ ‫َّ‬

‫أصخ���ت أذني‪،‬‬ ‫بح���ارا ووديا ًن���ا‪...‬‬ ‫يهتز‬ ‫وس���معت صو ًتا ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫خافتا في الس���حر‪ّ ،‬‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )35‬‬

‫‪60‬‬


‫وزينها المكان‬ ‫جملها الحضور المتين‪َّ ،‬‬ ‫لق���د كانت الندوة مو َّفقة بديعة‪َّ ،‬‬ ‫علماء‬ ‫وأروع ما فيها أنها شهدت عناية خاصة من ِقبل وجوه البلد‪،‬‬ ‫المكين‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫َ‬

‫ومثقفين‪ ،‬سياس���يين وإداريين‪ ،‬من مختلف األلوان واألطياف‪ ...‬كلُّهم جاء‬

‫ليعب من معين تجربة "الخدمة"‪ ،‬وليعترف بالجميل الذي أسدته هذه الحركية‬ ‫َّ‬

‫نال الجزيرة منه ٌّ‬ ‫ال فطلٌّ ‪.‬‬ ‫لألمة اإلسالمية مشر ًقا‬ ‫ومغربا‪َ ،‬‬ ‫حظ‪ ،‬إن لم يكن واب ً‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫يند عن الوصف‪ ،‬ويسمو‬ ‫ولقد كان للنساء اهتمام بالغ وحضور مكثف‪ُّ ،‬‬

‫أدل على ذلك من التنش���يط ال���ذي تو َّلته أديبة‬ ‫عل���ى مرات���ب األلفاظ‪ ...‬وال َّ‬

‫مصطفى أوزجان‪ ،‬مستشار مجلة حراء‪/‬تركيا‪.‬‬

‫فتشد ألباب المستمعين‬ ‫ررا‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫تنح ُت األلفاظ ً‬ ‫شاعرة‪َ ،‬‬ ‫نحتا‪ ،‬وتستمطر الشعر ُد ً‬ ‫شدا خفي ًفا‪ ،‬وهي الدكتورة "عواطف سر الختم"‪.‬‬ ‫ًّ‬

‫ث���م كان لعمي���د جامعة الجزيرة كلمة ترحيب بالوفود‪ ،‬وش���كر للعاملين‬

‫المجتهدين‪ ،‬وبعدها خاطب مصطفى أوزجان "المجتمع المدني"(‪ )7‬وشعب‬

‫الس���ودان األغر‪ ،‬بتحيات طيبة وبحكم ودرر غالية‪ ،‬أمث ُلها وجوب االرتباط‬

‫ووجوب الخروج الذاتي من س���جن التبعي���ة والتخلُّف‪،‬‬ ‫ب���ه "هو" س���بحانه‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫بمجاه���دة النف���س‪ ،‬وزرع الخ ُلق الحس���ن‪ ،‬والهج���رة الدائم���ة‪ ،‬والمجاهدة‬

‫د‪ .‬محمد باباعمي‪/‬الجزائر‪.‬‬

‫الدائبة‪.‬‬

‫ث���م كان���ت الكلمة لوزي���ر الثقاف���ة واإلعالم األس���تاذ الدكت���ور "إبراهيم‬

‫رحب بضيوف الس���ودان‪ ،‬ثم عرج إلى أصالة اللغة العامية‬ ‫القرش���ي " الذي َّ‬

‫الس���ودانية‪ ،‬وكونه���ا ضارب���ة جذورها في الفصحى‪ ،‬حت���ى وإن صعب على‬

‫الكثيرين فهمها‪.‬‬

‫ولقد أجاد األحمدي أبو النور في كلماته ونصائحه وهو أس���تاذ للكثير‬

‫ورئيس���ا لقس���م‬ ‫م���ن الحض���ور في القاعة‪ ،‬إذ كان في الس���بعينيات‬ ‫محاضرا‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫أ‪.‬د‪ .‬األحمدي أبو النور‪ ،‬عضو هيئة كبار العلماء‪/‬مصر‪.‬‬

‫الحدي���ث ف���ي "جامعة أم درمان"‪ ،‬يومها بذر هذه البذرة الطيبة فأثمرت هذه‬

‫وفخرا‪.‬‬ ‫وأجرا‪ ،‬ومثوبة‬ ‫دعاء‬ ‫الثلة النيرة‪ ،‬وها اليوم يقطف آثارها‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫َّأما الندوتان‪ ،‬فكانتا من تنشيط األساتذة الوافدين وهي على التوالي‪:‬‬

‫‪ -1‬األس���تاذ ن���وزاد صواش بعن���وان "مفاهيم جوهرية ف���ي حركية الفكر‬

‫والفعل"‪.‬‬

‫‪ -2‬الدكت���ور محم���د باباعم���ي بعن���وان "م���ن س���ؤال األزمة إل���ى الفعل‬

‫نموذجا"‪.‬‬ ‫الحضاري‪ ،‬الخدمة‬ ‫ً‬

‫أ‪.‬د‪ .‬إبراهيم القرشي‪ ،‬وزير الثقافة واإلعالم‪/‬والية الجزيرة‪.‬‬

‫‪ -3‬الدكت���ور فؤاد البنا بعنوان "أجنحة اإلقالع الذاتي عند األس���تاذ فتح‬

‫اهلل كولن "‪.‬‬

‫‪ -4‬الدكتور عبد المجيد بوشبكة بعنوان "حركة الخدمة والتجديد"‪.‬‬

‫وعرض‬ ‫الطيِبة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫القيِمة‪ ،‬وتعليقاتهم ّ‬ ‫ولم يبخل المستمعون بمالحظاتهم ّ‬ ‫ال‪ ،‬وفي‬ ‫آماله���م الطويل���ة‪ ،‬وتفائلهم المش���روع ف���ي "الخدمة"‬ ‫نموذج���ا ومثا ً‬ ‫ً‬ ‫وتخطيطا‪.‬‬ ‫منهجا‬ ‫الحركية وبناء إنسان العقل والقلب‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫أ‪.‬د‪ .‬محمد بابكر العوض‪ ،‬رئيس جامعة الجزيرة‪/‬السودان‪.‬‬

‫‪59‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )35‬‬


‫مصطفى الياقوت؛ وكذا األستاذ الدكتور األحمدي أبو النور‪ ،‬وزير األوقاف‬

‫السابق‪ ،‬من مصر الحبيبة‪.‬‬

‫ولق���د ح���رص مصطفى أوزجان عل���ى التنبيه إلى ض���رورة االعتناء ببناء‬

‫وضرب على وتر "مقام الجمع" بين الجهادين األكبر واألصغر‪،‬‬ ‫ال‪،‬‬ ‫الذات أو ً‬ ‫َ‬

‫د‪ .‬خوجلي أحمد صديق‪/‬السودان‪.‬‬

‫وق���ال‪" :‬إن ه���ذه المرحلة تفرض علينا التركي���ز على مجاهدة النفس وتزكية‬ ‫األم���ة ووحداته���ا ك ِّلها‪ .‬وهذا‬ ‫ال���ذات‪ ،‬وعل���ى بلوغ ِّ‬ ‫ح���د التوافق بي���ن أفراد َّ‬ ‫وصمام أمانها"‪.‬‬ ‫لألمة‬ ‫لعمري صميم بناء الذات الحضارية َّ‬ ‫َّ‬ ‫ثم إن المفكر عصام البشير‪ ،‬قال فيما قال‪" :‬ما أحوجنا إلى فتح حضاري‬

‫على شاكلة ُصلح الحديبية‪ ،‬الذي لم ُت َرق فيه قطرة دم واحدة‪ ،‬ولم ُيشهر فيه‬

‫س���يف‪ ،‬ولقد سئل رس���ول اهلل ‪:‬‬ ‫نفس محمد‬ ‫ٌ‬ ‫"أفتح هو؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬والذي ُ‬

‫لفت���ح"‪ ...‬نعم‪ ،‬إنـه فتح العقول بالفكر‪ ،‬وفتح القلوب بالهداية‪ ،‬فما‬ ‫بي���ده إنه‬ ‫ٌ‬

‫أحوجنا إلى أن نبني هذه الذات الحضارية من هذا األفق الرحيب"‪.‬‬ ‫وكتاب ح���راء ِمن مختل���ف البالد‬ ‫ولق���د ش���ارك ف���ي الندوة‪ ،‬وفد ح���راء َّ‬

‫العربية‪ ،‬بمحاضرات ثرة ثرية هي على التوالي‪:‬‬

‫د‪ .‬فؤاد البنا‪/‬اليمن‪.‬‬

‫‪ -1‬األستاذ نوزاد صواش من تركيا‪ ،‬كانت ورقته تحت عنوان‪" :‬مفاهيم‬

‫أساسية في بناء ذاتنا الحضارية"‪.‬‬

‫‪ -2‬الدكت���ور محمد باباعمي من الجزائر‪ ،‬بورقة تحت عنوان‪" :‬الس���ؤال‬

‫وهمة‪ ،‬قراءة مختلفة في فكر األستاذ فتح اهلل كولن"‪.‬‬ ‫ًّ‬ ‫هما َّ‬

‫‪ -3‬الدكت���ور ف���ؤاد البن���ا من اليم���ن‪ ،‬بمحاض���رة تحت عنوان‪" :‬جس���ور‬

‫األستاذ فتح اهلل كولن بين األفكار واألفعال"‪.‬‬

‫‪ -4‬الدكتور عبد المجيد بوشبكة من المغرب‪ ،‬عنوان محاضرته‪" :‬حركة‬

‫د‪ .‬عبد المجيد بوشبكة‪/‬المغرب‪.‬‬

‫الخدمة والتجديد"‪.‬‬

‫ث���م كان‬ ‫به���اء الختام بحوار ونقاش علم���ي‪ ،‬أداره الدكتور طارق محمد‬ ‫ُ‬

‫مفيدا‪.‬‬ ‫نور بعناية وحنكة‪ ،‬فكان ألجل ذلك‬ ‫مثمرا هاد ًفا ً‬ ‫ً‬

‫بين أحضان جامعة الجزيرة ومعهد إسالم المعرفة‬

‫نوزاد صواش‪ ،‬المشرف العام على مجلة حراء‪/‬تركيا‪.‬‬

‫وتأهبت الجموع للس���فر‪ ،‬وجهة أرض‬ ‫ُبعيد الصبح مباش���رة ُز َّمت الحقائب َّ‬ ‫"م َدني" عاصم ِة والية الجزيرة‪.‬‬ ‫الجم���ال والجالل‪ً ،‬‬ ‫بعيدا هنالك‪ ،‬ف���ي مدينة َ‬

‫وقد تم االس���تقبال البهيج بين ثنايا "جامعة الجزيرة" بجلس���ة س���ريعة وكلمة‬ ‫ترحي���ب من ِقبل رئيس الجامعة األس���تاذ الدكتور محمد بابكر العوض‪ ،‬ثم‬ ‫ب���ادل الدكتور مصطفى أوزج���ان التحية بالتحية‪ ،‬وبعدها ُس��� ِّلمت للحضور‬ ‫مذك���رة تع���اون بين "مركز إس�ل�ام المعرفة"‬ ‫الهداي���ا والتش���ريفات‪ ،‬وو ِّقع���ت ِّ‬

‫و"مجلة حراء"‪.‬‬

‫توا‪ ،‬كانت الوجهة "قاعة مجلس والية الجزيرة التشريعي"‪ ،‬لشهود‬ ‫ومنها ًّ‬

‫فعاليات ندوة "إنسان العقل والفعل عند فتح اهلل كولن"‪.‬‬

‫د‪ .‬عواطف سر الختم‪/‬السودان‪.‬‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )35‬‬

‫‪58‬‬


‫"إما أن‬ ‫المهترئة المضطربة‪ ،‬وما ذلك إال ألنك في السودان َّ‬ ‫ش���اعرا‪ ،‬أو ال تكون"‪ .‬والحال أني لس���ت بشاعر وإن‬ ‫تكون‬ ‫ً‬ ‫كان جمال الشعر ُيسبيني ويضنيني‪...‬‬

‫يوما‪،‬‬ ‫ألم تنش���د الشاعرة الس���ودانية "منى حسن محمد" ً‬ ‫اج ِسي ِ‬ ‫قائلة‪َ :‬و َه ِ‬ ‫الش ْع ُر‪،‬‬ ‫ُي ْغ ِر ِي ِني َف َأ ْت َب ُع ُه‬ ‫س َي ْت َب ُع ِني ِفي َد ْر ِب ِه‬ ‫َو َل ْي َ‬ ‫َز َل ُل‬ ‫ال َي ْس َت ِري ُِح َد ِمي‬ ‫ال َع َلى ُج َم ٍل َي ْه ِوي َش ُغو ًَفا َل َها‬ ‫ِإ َّ‬ ‫الج َب ُل‬ ‫ِم ْن ُس ْك ِر ِه َ‬ ‫اف‬ ‫َو ِل ْلبحورِ ِض َف ٌ‬ ‫ِحي َِن َأ ْه ُج ُر َها َت َظلُّ ِم ْن ِش ْق َو ٍة َت ْب ِكي‬ ‫َو َت ْب َتهِ ُل‬ ‫َو ِ‬ ‫الش ْع ُر َي ْم ِل ُك ِني‬ ‫كن ُت ْأم ِل ُك ُه‬ ‫لو ْ‬ ‫َف ِحي َِن َي ْك ُت ُب ِني ُأ ْص ِغي‪،‬‬ ‫َو َي ْم َت ِث ُل؟!‬

‫آخرا‬ ‫المدرسة أو ًال والمدرسة ً‬

‫كان لوفد "حراء" زيارتان خاطفتان إلى "المدارس السودانية‬ ‫التركي���ة" ف���ي منطق���ة البح���ري إح���دى والي���ات الخرط���وم‬

‫الث�ل�اث(‪)1‬؛ زي���ارة ي���وم القدوم‪ ،‬وأخ���رى يوم ال���وداع‪ .‬ولقد‬ ‫جمله���ا ‪-‬وا ِ‬ ‫الدرية‪ ،‬يصط ّفون‬ ‫غ���ب كالكواكب‬ ‫هلل‪-‬‬ ‫ٌ‬ ‫فلذات ُز ٌ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫وردا أحمر‪ ،‬عن���وان وفاء‬ ‫ف���ي مدخ���ل المدرس���ة‪ُ ،‬يهدون���ك ً‬ ‫كرم‬ ‫ودليل والء‪ ،‬ال لش���خص القادمي���ن الزائرين ‪-‬وإن كان ُ‬

‫وها نحن اليوم‪ ،‬نشهد "مهرجان مسح الدموع"‪ ،‬ونشاهد‬

‫مدارس ومحاضن للمعرفة والعرفان‪،‬‬ ‫"خطط إيقاف البكاء"‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫َ‬

‫وعرضها(‪ ،)2‬واحد ٌة‬ ‫َ‬ ‫تب���ذر و ُتزرع على طول القارة الس���مراء ُ‬ ‫منه���ا تقف ش���امخة على بوابة إفريقية الس���وداء‪ :‬الس���ودان‪،‬‬ ‫س���يرفع‬ ‫أن الخير‬ ‫س���يعم البالد بحول اهلل‪َّ ،‬‬ ‫معلنة َّ‬ ‫ُّ‬ ‫وأن الجهل ُ‬

‫ع���ن العب���اد بفضل اهلل‪ ،‬ولو بعد حين؛ بقدرة الحكيم القادر‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫يم ‪ِ ‬إ َّن َما‬ ‫وبمشيئة الخ َّ‬ ‫الق اآلمر‪َ ...‬‬ ‫﴿ب َلى َو ُه َو ا ْل َخلاَّ ُق ا ْل َعل ُ‬ ‫ون﴾(يس‪.)82-81:‬‬ ‫َأ ْم ُر ُه ِإ َذا َأ َر َاد َش ْي ًئا َأ ْن َي ُق َ‬ ‫ول َل ُه ُك ْن َف َي ُك ُ‬ ‫"إن المدرس���ة بقدر م���ا تكون‬ ‫يوم���ا‪َّ :‬‬ ‫أل���م يق���ل األس���تاذ ً‬ ‫مطارا‬ ‫ومتسمة بالعمق‪ُ ،‬تصبح ميناء أو‬ ‫متوجهة نحو الهدف َّ‬ ‫ِّ‬ ‫ً‬ ‫لألم���ة‪ ،‬بش���رط أن ُت ْص َه���ر مكتس���باتها ف���ي بوتقة‬ ‫أو منطل ًق���ا َّ‬

‫الثقافة الذاتية"(‪.)3‬‬

‫ِ‬ ‫"فيضان‬ ‫تبن���ي‬ ‫ث���م إن األس���تاذ دع���ا بإلحاح ش���ديد إل���ى ِّ‬ ‫التبش���ير وت���رك التنفير‪ ...‬وإنه���ا ِء العقم المزم���ن منذ قرون‪،‬‬

‫ق���وة العل���م والتفكر إلمرة اإلس�ل�ام وتفس���يره(‪...)4‬‬ ‫بتس���ليم َّ‬ ‫مس���كنا‪،‬‬ ‫ش���ارعا أم‬ ‫معبدا‪،‬‬ ‫وتحوي���ل ِّ‬ ‫كل مكان‪ ،‬مدرس��� ًة أم ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫ترصد الحقيقة الكامنة خل���ف الوجود والحياة‬ ‫إل���ى مراصد ُ‬ ‫المتأملة ف���ي الالنهاية‪،‬‬ ‫واإلنس���ان‪ ...‬وتش���غيل مناف���ذ الرؤية‬ ‫ِّ‬ ‫والت���ي يمت���د زمان تعطُّ لها إلى ق���رون‪ ،‬بل إلى ردح أبعد من‬

‫ق���رون‪ ...‬وتقديم أجندة حضور اإلس�ل�ام ف���ي مراتب النظر‬ ‫دوما وفي وحدات الحياة ك ِّلها"‪.‬‬ ‫ً‬ ‫الهبة‬ ‫وه���ا نح���ن بفضل اهلل نرى رأي العين ب���ركات هذه َّ‬ ‫ِ‬ ‫ات اآلنية‬ ‫الهب ُ‬ ‫الثقافي���ة الم ّلي���ة الحضارية المباركة‪ ،‬أين منه���ا َّ‬ ‫وتعمر‬ ‫األيديولوجي���ة والسياس���وية‪ ،‬التي تمأل الدني���ا هرجا‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫العالم مرجا‪ ،‬ثم بعد ذلك "نسمع جعجعة وال نرى طحينا"؟!‬

‫طبعا لديهم‪ -‬لكن���ه وفاء للفك���رة والمنهج‪ ،‬ووالء في رحاب منتدى التنوير المعرفي‬ ‫الضي���ف ً‬ ‫للش���خصية المعنوية‪ ،‬تلك التي َت ِخذت المدرس��� َة محطة لها‬

‫بدع���وة كريم���ة من "مرك���ز التنوي���ر المعرفي" نظَّ م���ت حراء‬

‫المف���دى "فت���ح اهلل كولن"‬ ‫ألج���ل ذل���ك كت���ب األس���تاذ‬ ‫َّ‬

‫علمي���ة(‪ )6‬اخت���ارت له���ا عنوا ًنا من وح���ي واقعنا ومن صلب‬

‫ي���ا ولدي‪ ،‬سنمس���ح دموعك‪ ،‬ي���ا ولدي"‪ ...‬ثم بع���د أعوام‪،‬‬

‫كانت الجلس���ة االفتتاحية رس���مية‪ ،‬أداره���ا المدير العام‬

‫وخبرا‪.‬‬ ‫لحركيتها‬ ‫ومطارا‪ ،‬وارتضتها مبتدأ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫َّ‬

‫أواخر الس���بعينيات‪ ،‬تعلي ًقا على صورة طفل يبكي‪" :‬ال تبك‬ ‫نحيبا‪،‬‬ ‫ُعرض���ت عليه صورة طفل إفريق���ي أصيل وهو يبكي ً‬ ‫نضمك إلى صدورنا‪...‬‬ ‫فكتب األستاذ مع ِّلقا‪" :‬إلى حين ْ‬ ‫أن َّ‬ ‫أيضا يا ولدي‪."...‬‬ ‫وضعنا في الخطة أن نوقف بكاءك ً‬ ‫لقد َ‬

‫المجلَّة‪ ،‬وحراء المرك���ز(‪ ،)5‬ثم حراء المعنى‪ ...‬نظَّ مت ندوة‬ ‫أزمتنا‪ ،‬وهو "مساءالت في بناء ذاتنا الحضارية"‪.‬‬

‫للتنوير المعرفي األس���تاذ الدكتور محم���د عبد اهلل النقرابي‪،‬‬

‫ونش���طها كلٌّ م���ن األس���اتذة‪ :‬مصطف���ى أوزج���ان‪ ،‬والدكتور‬ ‫َّ‬ ‫عصام البش���ير‪ ،‬ثم وزير اإلرش���اد واألوقاف األس���تاذ محمد‬

‫‪57‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )35‬‬


‫أنشطة ثقافية‬

‫د‪ .‬محمد باباعمي*‬

‫السودان‬

‫محاورات على ضفاف النيلين‬ ‫وأن الس���ودان ه���ي اليوم مجمع‬ ‫ش���اعرا أو ال‬ ‫ف���ي الس���ودان َّإم���ا أن تك���ون‬ ‫وأن المفت���رق " ِمن هاهنا"‪َّ ،‬‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫الغد المش���رق للناصحين‬ ‫الخي ِ​ِري���ن ومثابة‬ ‫المحبِي���ن‪ ،‬وهي ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫تكون‪...‬‬

‫يخبره إال الذي آنس الصادقين الصابرين‪ ...‬ليت يعقل ذلك العاقلون‪...‬‬ ‫وللسودان حسن ليس ُ‬

‫ه���ي أيام كش���عاعات الصبح زارت وأه َّل���ت‪ ،‬ثم كالبرق‬

‫ووجدا‪...‬‬ ‫ال‬ ‫القمر وص ً‬ ‫ً‬

‫بهية‪ ،‬ومن‬ ‫المتعب‬ ‫وللسودان شموخ أبدي في سويداء القلب‬ ‫َّ‬ ‫المعنى‪ ،‬الخاط���ف َّ‬ ‫ودع���ت فأدمعت‪ ،‬ذلك أنها م���ن ْ‬ ‫َ‬ ‫روح َّ‬ ‫زكية‪ ،‬تلك التي كتبها اهلل "للخدمة" على س���فوح أرض‬ ‫س���ائ ً‬ ‫ال عن الحقيقة‪ ،‬عاش��� ًقا لفحمة الليل‪ِّ ،‬‬ ‫مؤمال على إثرها ريح َّ‬ ‫األبية‪...‬‬ ‫السودان َّ‬

‫بزوغ فجر جديد وسطوع أمل وليد‪...‬‬ ‫ِ‬ ‫حصنك يا مدينة األسرار‪...‬‬ ‫السحر‪ ،‬اقتحمنا‬ ‫وقت‬ ‫َ‬ ‫َ‬

‫بهية‬ ‫زكية بشيبها وشبابها‪َّ ،‬‬ ‫أرض‪ ،‬أبية برجالها ونس���ائها‪َّ ،‬‬

‫أن "الملتقى هاهنا"‪،‬‬ ‫دموعنا بالني َلين‪ ،‬معترفين أمام األش���هاد َّ‬

‫خط هذه األسطر المهتزة‬ ‫ال في ِّ‬ ‫دت طوي ً‬ ‫ترد ُ‬ ‫أعترف أني َّ‬

‫ود ِ‬ ‫عناك ك���ي ُنخفي ضعفنا‪ ،‬وكيم���ا نصل هاطل بفتيانها وفتياتها‪...‬‬ ‫س���ح ًرا َّ‬ ‫َ‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )35‬‬

‫‪56‬‬


‫محتوى دروس الحضرة السلطانية‬

‫المق���رر‪ ،‬ثم‬ ‫تحض���ر الهيئ���ة المخت���ارة إل���ى ال���درس يتقدمه���م‬ ‫ِّ‬

‫المخاطبون حس���ب القدم‪ .‬يتم اس���تقبال الهيئة والس���لطان مع‬

‫يبين مدى االحت���رام والتقدير‬ ‫مرافقي���ه وقو ًف���ا‪ ،‬وهذا الس���لوك ّ‬

‫ألهل العلم في الدولة العثمانية‪ ،‬ويندر رؤيته في دول أخرى‪.‬‬ ‫جميعا‪،‬‬ ‫بعد مراس���م االس���تقبال‪ ،‬يجلس الس���لطان والحض���ور‬ ‫ً‬ ‫والمخاطبون‬ ‫المق���رر‬ ‫كلٌّ ف���ي مجلس���ه المح���دد ل���ه‪ .‬يجل���س‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫خصيصا‪ ،‬كما يجلس السالطين‬ ‫لفرش أعدت لهم‬ ‫والحضور‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬

‫كالمستمعين اآلخرين على ركبهم ال على عروشهم‪ ،‬وينصتون‬ ‫وأيديهم على ركبهم‪.‬‬

‫تتم العناية بإعداد دروس الحضرة السلطانية بشكل خاص‬

‫ج���زءا م���ن تقالي���د القص���ر‪ ،‬فالف���رش المخيط���ة من‬ ‫باعتباره���ا‬ ‫ً‬ ‫أقمش���ة خاصة‪ ،‬ومناضد القراءة المحفورة‪ ،‬واأللبس���ة الخاصة‬

‫للحض���ور‪ ،‬وكل التفاصي���ل الدقيق���ة‪ ،‬يت���م الوق���وف عندها في‬

‫عرض رائع للمدنية العثمانية بكل صفائها‪.‬‬

‫المقرر بتالوة‬ ‫تب���دأ دروس الحضرة بدرس التفس���ير؛ فيبدأ‬ ‫ِّ‬

‫اآلي���ات‪ ،‬ث���م يتم تفس���ير اآليات من قب���ل‬ ‫المقرر‪ ،‬ث���م يتناوب‬ ‫ِّ‬

‫المخاطبون بعرض أفكارهم حول اآليات‪ .‬ويجتنبون الجدال‬ ‫واالس���تطرادات غي���ر الضروري���ة في ه���ذه المجال���س العلمية‬

‫والدروس التي تجري في حضرة الس���لطان‪ .‬ومن جانب آخر‬ ‫تتركز العناية لتأمين الوسط الذي يبدي فيه المشاركون آراءهم‬

‫ف���ي راح���ة تام���ة‪ ،‬حي���ث كان في عهد الس���لطان س���ليم الثالث‬

‫(‪1807‬م) كان يتكلم بنفس���ه مع العلماء المش���اركين‪ ،‬ويطلب‬ ‫يعبروا عن آرائهم في راحة تامة‪ .‬يبلغ الدرس نهايته‬ ‫منه���م أن ّ‬ ‫المقرر دعاء الختام‪ .‬هذا وقد جرت‬ ‫بإشارة من السلطان‪ ،‬فيتلو‬ ‫ِّ‬ ‫للمقرر والمخاطبين‪.‬‬ ‫العادة أن يمنح السلطان عطية‬ ‫ِّ‬

‫كان���ت دروس التفس���ير تقرأ عادة من كت���اب "أنوار التنزيل‬

‫وأس���رار التأويل" لـ"القاضي البيض���اوي" (توفي عام ‪1285‬م)‪،‬‬

‫وتدري���س هذا الكتاب الموجز المتوس���ط ف���ي حجمه ألعوام‬ ‫طويلة في المدارس العثمانية‪ ،‬يدل على قيمة هذا الكتاب‪.‬‬ ‫آم ُنوا‬ ‫﴿يا َأ ُّي َها ا َّل ِذ َ‬ ‫ين َ‬ ‫كان تفسير قوله تعالى من سورة النساء‪َ :‬‬

‫ين بِا ْل ِق ْس ِط ُش َه َد َاء لهلِ ِ َو َل ْو َع َلى َأ ْن ُف ِس ُك ْم َأوِ ا ْل َوا ِل َد ْي ِن‬ ‫ُكو ُنوا َق َّوا ِم َ‬ ‫َوا َ‬ ‫�ل�ا َت َّتب ُِعوا‬ ‫هلل َأ ْو َلى بِهِ َما َف َ‬ ‫���ن َغ ِن ًّي���ا َأ ْو َف ِق ًيرا َف���ا ُ‬ ‫أل ْق َرب َ‬ ‫ِي���ن إ ِْن َي ُك ْ‬ ‫ون‬ ‫ا ْل َه َوى أ َْن َت ْع ِد ُلوا َوإ ِْن َت ْل ُووا َأ ْو ُت ْع ِر ُضوا َفإ َِّن ا َ‬ ‫ان ب َِما َت ْع َم ُل َ‬ ‫هلل َك َ‬ ‫ِي���را﴾ ال���درس األول ف���ي عهد الس���لطان مصطف���ى الثالث‪.‬‬ ‫َخب ً‬

‫ترتيبا‬ ‫لم تكن دروس الحضرة السلطانية تلتزم في التفسير ً‬

‫معين���ا آلي���ات القرآن الكري���م حتى إذا كان ش���هر رمضان عام‬ ‫ً‬

‫‪1785‬م‪ ،‬ب���دأ التفس���ير بس���ورة الفاتح���ة واس���تمر وف���ق ترتيب‬

‫السور في القرآن الكريم‪ .‬فعلى سبيل المثال‪ ،‬بدأ تفسير سورة‬ ‫اإلس���راء المكونة من ‪ 111‬آية في ش���هر رمضان المبارك عام‬ ‫‪1755‬م واس���تمر حت���ى عام ‪1778‬م‪ ،‬وس���ورة الفت���ح المكونة‬

‫م���ن ‪ 29‬آية اكتمل تفس���يرها ما بين عام���ي (‪1784-1779‬م)‪،‬‬ ‫وسورة الفاتحة في عامي (‪1785‬م) و(‪1786‬م)‪ ،‬وابتدأ تفسير‬

‫سورة البقرة من عام ‪1787‬م واستمر تفسير ‪ 30‬آية منها طيلة‬ ‫خم���س س���نوات حت���ى رمض���ان ‪1791‬م‪ .‬واس���تمرت دروس‬ ‫التفس���ير المرتب���ة حتى ش���هر رمض���ان م���ن ‪1923‬م‪ ،‬وتوقفت‬

‫عند تفس���ير اآلية ‪ 31‬من س���ورة النحل في الجزء الرابع عشر‪:‬‬ ‫���ن َت ْح ِت َها ا َ‬ ‫���ار َل ُه ْم ِف َيها‬ ‫���ات َع ْ‬ ‫﴿ج َّن ُ‬ ‫���د ٍن َي ْد ُخ ُلو َن َها َت ْج ِري ِم ْ‬ ‫َ‬ ‫أل ْن َه ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ين﴾‪ ،‬وبتفس���ير هذه اآلية‬ ‫ق‬ ‫ت‬ ‫م‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫هلل‬ ‫ا‬ ‫ي‬ ‫���ز‬ ‫ج‬ ‫ي‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ذ‬ ‫ك‬ ‫ون‬ ‫���اء‬ ‫ش‬ ‫ي‬ ‫َم���ا َ َ ُ َ َ َ َ َ ْ ِ‬ ‫ُ ْ ُ َّ َ‬ ‫تماما‪.‬‬ ‫توقفت دروس الحضرة السلطانية الرمضانية ً‬ ‫لم تقتص���ر الدروس في المجتمعات العثمانية على قصور‬

‫الس�ل�اطين‪ ،‬فق���د اس���تلهم وجه���اء المجتم���ع العثماني دروس‬

‫الحضرة الس���لطانية التي يعقدها الس���لطان ف���ي قصره‪ ،‬فنظموا‬ ‫أمث���ال هذه ال���دروس في قصورهم وبيوتهم‪ ،‬بل وفي المقاهي‬

‫أيضا‪ ،‬وأقيمت دروس الفقه‪ ،‬يتعلم الناس فيها أمور دينهم‪.‬‬ ‫ً‬

‫وكان الخليفة السلطان عبد المجيد‪ ،‬آخر من نظم دروس‬

‫الحضرة السلطانية في قصره في "دولمه بقجه" في شهر رمضان‬

‫ع���ام ‪1923‬م‪ ،‬وبإزال���ة الخالف���ة ف���ي ‪ 3‬آذار ‪1924‬م اختف���ت‬ ‫دروس الحض���رة الس���لطانية وغاب���ت ع���ن مس���رح التاريخ‪.‬‬

‫(*)‬

‫كاتب وباحث تركي‪ .‬الترجمة عن التركية‪ :‬مصطفى حمزة‪.‬‬

‫‪55‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )35‬‬


‫المفصل���ة والكافي���ة‪ -‬س���واء من حي���ث محتواه���ا أو من حيث‬

‫انطلقت هذه‬ ‫"المخاطب"‪.‬‬ ‫يسمون بـ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ِّ‬ ‫يوجهون األس���ئلة فكانوا ّ‬

‫في الحياة الثقافية العثمانية‪.‬‬

‫وبم���رور األي���ام واألزمن���ة بل���غ عدد هؤالء إلى خمس���ة عش���ر‬

‫قيمتها المعنوية والروحية‪ ،‬فإنها كانت بال ش���ك صفحة مهمة‬

‫مقرر‪،‬‬ ‫ال���دروس في عهودها األولى‪ ،‬بخمس���ة مخاطبي���ن لكل ِّ‬

‫اس���تمرت دروس الحضرة الس���لطانية حتى منتصف القرن‬

‫مخاطب���ا‪ .‬وفي أول درس م���ن دروس الحضرة الذي تم عقده‬ ‫ً‬

‫العلمي���ة الت���ي كان يحضره���ا الس���لطان محمد الفاتح بنفس���ه‪،‬‬

‫المقرر هو أمين الفتوى "أبو بكر أفندي"‪ ،‬وكان‬ ‫‪1759‬م‪ ،‬كان‬ ‫ِّ‬

‫الثامن عشر عبر مراحل عدة‪ ،‬فلئن كانت هناك بعض المجالس‬ ‫والدروس التي يحضرها الس���لطان محم���د الرابع بين صالتي‬

‫المغرب والعش���اء‪ ،‬ويلقيها ش���يخه "أحمد واني أفندي" وشيخ‬ ‫اإلس�ل�ام "يحي���ى أفندي"‪ ،‬فإنه���ا لم تكن مس���تمرة بانتظام ولم‬

‫ف���ي عهد الس���لطان مصطفى الثالث في ش���هر رمضان من عام‬ ‫"نبي���ل محمد أفندي" وش���يخ القصر "حمي���دي محمد أفندي"‬ ‫و"م َز َّلف محمد أفندي"‬ ‫ومفتش شيخ اإلسالم "إدريس أفندي" ُ‬ ‫و"إسماعيل أفندي القونوي" هم المخاطبون‪.‬‬

‫تكتس���ب البداية النموذجي���ة المنتظمة ل���دروس الحضرة حتى اختيار أعضاء دروس الحضرة السلطانية‬

‫عهد الس���لطان أحمد الثالث‪ ،‬حيث قام الصدر األعظم "داماد‬

‫قب���ل ش���هر رمضان المب���ارك كان يجري حصر أس���ماء العلماء‬

‫إذ ب���دأ يدع���و في ش���هر رمض���ان المب���ارك إلى قص���ره العلماء‬

‫درس هيئ���ة خاصة‪ .‬وقد كان عدد العلماء المختارين لدروس‬ ‫ٍ‬

‫الس���لطان‬ ‫ع���ام ‪1728‬م حضر إحدى هذه الدروس الرمضانية‬ ‫ُ‬ ‫"أحمد الثالث" ونجله الش���اهزادة "مصطف���ى الثالث"‪ ،‬ويروى‬

‫عالما‪ .‬يتم اختيار هذه الهيئات من قبل‬ ‫ف���ي ‪1767‬م إلى ‪ً 126‬‬

‫وش���هِ ْرلي" ع���ام ‪1724‬م بتنظيمها من جديد‪،‬‬ ‫الن َ‬ ‫إبراهي���م باش���ا َّ‬

‫المش���هورين إللقاء الدروس في تفس���ير الق���رآن الكريم‪ .‬وفي‬

‫أنه جرى إحداث دروس الحضرة بحضورهما وتأثرهما‪.‬‬

‫المرشحين للدروس وتوزيعهم في مجموعات‪ ،‬ويتشكل لكل‬ ‫عالما‪ ،‬بينما وصل هذا العدد‬ ‫الحضرة في عام ‪1775‬م سبعين ً‬

‫شيوخ اإلسالم‪ ،‬حيث يتم اختيار‬ ‫والمخاطبين بعناية‬ ‫المقررين‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬

‫فائق���ة‪ ،‬ث���م تظهر في األوامر والمذكرات الس���لطانية المرس���لة‬

‫زام���ن هذه الدروس التي رتبها "إبراهيم باش���ا" مع‬ ‫وربم���ا َت ُ‬

‫إلى المش���يخة اإلس�ل�امية‪ ،‬فيتم التأكيد على اللياقة والمراتب‬

‫التاريخية‪ -‬كان عهد ترف وبذخ‪ ،‬إذ بدأت تضعف فيه معنويات‬

‫متمتعا‬ ‫مخاط ًبا ما لم يكن‬ ‫مقر ًرا أو‬ ‫يعين‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫اإلس�ل�ام أن ّ‬ ‫ش���خصا ِّ‬

‫اللة" له داللته ومغزاه‪ ،‬فه���ذا العهد ‪-‬كما تذكره كتبنا‬ ‫"عه���د ال ّ‬ ‫رجال الدولة التي كانت عند سابقيهم‪ ،‬ولذلك دخلت دروس‬

‫بدءا من شهر رمضان‬ ‫الحضرة في بنية البرامج الرسمية للدولة ً‬ ‫الثاني (‪ 28‬نيسان ‪ )1759‬بعد تولي السلطان مصطفى الثالث‬

‫الع���رش (‪ .)1774-1757‬وكان الس���لطان مصطف���ى الثال���ث‬ ‫مش���هورا بالزهد والورع‪ ،‬كما كان يبدي حساس���ية ش���ديدة في‬ ‫ً‬

‫قرارا من القرارات التي‬ ‫األم���ور التي تخ���ص الدين؛ فإذا أدرك ً‬ ‫ِ‬ ‫ويعدله‬ ‫���ذت أنه مخال ًفا للش���رع‪ ،‬فس���رعان ما كان يس���حبه‬ ‫ّ‬ ‫اتخ ْ‬

‫حريصا على تجسيد‬ ‫وف ًقا لألوامر الدينية‪ ،‬أو بعبارة أخرى كان‬ ‫ً‬ ‫الص���واب ف���ي الحي���اة‪ .‬وتتحدث الوثيق���ة التي س���جلها كاتب‬

‫س���ره‪ ،‬أن السلطان مصطفى الثالث كان يحرص على صلوات‬ ‫ّ‬

‫الجماع���ة وعل���ى األخص صالة الفج���ر‪ ،‬وكان يحضر دروس‬

‫العلمية والمميزات الش���خصية‪ .‬وال يستطيع السلطان أو شيخ‬

‫به���ذه األوصاف‪ .‬وبع���د اختيار هذه الهيئات يت���م تقديمها إلى‬ ‫السلطان من أجل التصديق‪.‬‬

‫أوقات دروس الحضرة السلطانية وأماكنها‬

‫يعيِ���ن بنفس���ه األماك���ن التي س���تقام فيها دروس‬ ‫كان الس���لطان ّ‬

‫الحض���رة‪ .‬وق���د ُعقدت هذه الدروس لفت���رة طويلة في "طوب‬ ‫قابي" في أقسام؛ قصر َس َب ْت ِجيالر‪ ،‬وقصر صوفا‪ ،‬وقصر روان‪،‬‬ ‫وقص���ر ِإ ْن ِجيلي‪ ،‬قصر يالي‪ ،‬وقاع���ة الختان‪ .‬وفيما بعد انتقلت‬ ‫دروس الحض���رة الس���لطانية في عهود الس�ل�اطين عبد العزيز‪،‬‬ ‫ومحم���د رش���اد‪ ،‬وعبد المجي���د إلى قصر "دولم���ه بقجه" وفي‬ ‫عهد السلطان عبد الحميد الثاني‪ ،‬إلى قصر " ِي ْل ِدز"‪.‬‬ ‫أم���ا أوق���ات ال���دروس ف���ي ش���هر رمض���ان المب���ارك‪ ،‬فقد‬

‫التفسير التي تعقد بعدها في قصره بانتظام‪.‬‬

‫تبعا الختالف الس�ل�اطين؛ فكان���ت تجري في بعض‬ ‫اختلف���ت ً‬

‫العالم الذي يقدم الدرس في دروس الحضرة الس���لطانية كان‬

‫والمغرب‪ ،‬وكانت على العموم تمتد لساعتين‪ ،‬وال تتوقف إال‬

‫َمن يحضر دروس الحضرة السلطانية؟‬

‫بـ"المق���رر"‪ ،‬أم���ا العلماء الذي���ن يس���تمعون الدرس ثم‬ ‫يس���مى‬ ‫ِّ‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )35‬‬

‫‪54‬‬

‫األحي���ان بين الظهر والعصر‪ ،‬وفي بع���ض األحيان بين العصر‬ ‫يوم الجمعة من العشر األول‪.‬‬


‫تاريخ وحضارة‬ ‫متين رئيس*‬

‫دروس الحضرة السلطانية‬

‫عندم���ا كان الس�ل�اطين العثماني���ون من���ذ قي���ام والمتوس���طة والمرحلة التحضيرية‪ .‬فه���ي بمثابة التعليم العالي‬

‫الدولة العثمانية ينتشرون في األرض فاتحين‪ ،‬والجامعات في يومنا الحالي‪ .‬وقد اس���تند الس���لطان الفاتح في‬

‫ال ُخ ْس َر ْو" و"علي‬ ‫كان���وا يول���ون‬ ‫"م ّ‬ ‫كبيرا لألنش���طة العلمية ذلك‪ ،‬على أفكار علماء عصره المرموقين ُ‬ ‫ً‬ ‫اهتمام���ا ً‬ ‫���جو" اللذين وضعا مف���ردات مناهجه���ا التعليمية‪ .‬وبقيت‬ ‫والثقافية‪ ،‬ففتحوا المدارس‪ ،‬واس���تقطبوا كب���ار علماء العصور ُق ْ‬ ‫وش ُ‬

‫المتتابعة إلى إس���طنبول‪ ،‬وأنش���أوا المكتبات‪ ،‬وهيأوا األوساط هذه المؤسسة (الصحن الثماني) من أشهر المراكز العلمية في‬ ‫عصر الفاتح وما تاله من العصور العثمانية‪.‬‬ ‫تخرج العلماء وتنتج العلوم‪.‬‬ ‫التي ِّ‬ ‫رت���ب الس�ل�اطين العثمانيون في قصوره���م مجالس العلم التطور التاريخي لدروس الحضرة السلطانية‬

‫يتعرف���ون من خاللها إلى دني���ا العلوم‪ ،‬ويظهرون بها احترامهم كانت الدولة العثمانية تقوم بتنظيم فعاليات كثيرة خالل ش���هر‬ ‫للعلماء‪ ...‬وبفضل هذه المجالس‪ ،‬تهيأت أرضية حوار جميل رمض���ان المبارك‪ ،‬الكتس���اب المزيد من فيوضات هذا الش���هر‬

‫بين العلماء والسالطين‪ ،‬وعلى هذه األرضية قامت مشروعات وبركاته‪ .‬والسالطين بدورهم كانوا يستغلون أيام شهر رمضان‬ ‫إيجابية عظيمة على مس���توى الدولة‪ .‬فقد أمر الس���لطان محمد وينظمون ال���دروس الخاصة بها للعلماء‪ .‬ومن األمور الطريفة‬ ‫دت في‬ ‫الفاتح ‪-‬على س���بيل المثال‪ -‬بإنشاء مدارس "الصحن الثماني" والمثيرة لالهتمام "دروس الحضرة السلطانية" التي ُع ِق ْ‬

‫وهي ثمانية مدارس‪ ،‬أربع ٌة في شمال جامع الفاتح‪ ،‬وأربع ٌة في ش���هر رمضان المبارك بش���كل خاص بين العلماء والسالطين‪.‬‬‫جنوبه‪ -‬ينتس���ب إليه الطالب بع���د إتمامهم المراحل االبتدائية وه���ذه ال���دروس ‪-‬وإن ل���م يحم���ل عنه���ا‬ ‫تاريخن���ا المعلومات‬ ‫ُ‬

‫‪53‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )35‬‬


‫ف َطا ِئ َف��� ًة ِم ْن ُه ْم ُي َذ ِّب ُح أ َْب َن َاء ُه ْم َو َي ْس َ���ت ْحيِي‬ ‫َأ ْه َل َها ِش َ���ي ًعا َي ْس َ���ت ْض ِع ُ‬ ‫���ن ا ْلم ْف ِس ِ‬ ‫���ه َك َ ِ‬ ‫ين﴾(القصص‪ ،)4:‬ولإلصالح في‬ ‫���اء ُه ْم ِإ َّن ُ‬ ‫���د َ‬ ‫ِن َس َ‬ ‫ان م َ ُ‬ ‫ال قال‬ ‫هذا الوضع كان البد من ترس���يخ المفهوم العقائدي أو ً‬ ‫ال‬ ‫تعال���ى‬ ‫وس���ى ‪َ ‬ق َ‬ ‫مخبرا عن فرعون‪َ ﴿ :‬ق َ‬ ‫ال َف َم ْن َر ُّب ُك َما َيا ُم َ‬ ‫ً‬ ‫َر ُّب َن���ا ا َّل ِذي َأ ْع َطى ُك َّل َش���ي ٍء َخ ْل َق ُه ُث َّم َه َدى﴾(ط���ه‪ ،)50-49:‬وفي‬ ‫ْ‬ ‫ال َر ُّب‬ ‫ين ‪َ ‬ق َ‬ ‫آي���ة أخرى قال‪َ ﴿ :‬ق َ‬ ‫���ال ِف ْر َع ْو ُن َو َم���ا َر ُّب ا ْل َعا َل ِم َ‬

‫او ِ‬ ‫ات َوا َ‬ ‫ال ِل َم ْن‬ ‫ين ‪َ ‬ق َ‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫���م ُمو ِق ِن َ‬ ‫���م َ‬ ‫الس َ‬ ‫ض َو َم���ا َب ْي َن ُه َما إ ِْن ُك ْن ُت ْ‬ ‫َّ‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ال‬ ‫َح ْو َل ُه أ َ‬ ‫ين َق َ‬ ‫ون َق َ‬ ‫ال َت ْس َ���تم ُع َ‬ ‫ال َر ُّب ُك ْم َو َر ُّب َآبائ ُك ُم األ َّول َ‬

‫ال َر ُّب ا ْل َم ْش ِر ِق‬ ‫ون ‪َ ‬ق َ‬ ‫إ َِّن َر ُس���و َل ُك ُم ا َّل ِذي ُأ ْر ِس َ‬ ‫���ل ِإ َل ْي ُك ْم َل َم ْج ُن ٌ‬ ‫ون﴾(الشعراء‪.)28-23:‬‬ ‫َوا ْل َم ْغ ِر ِب َو َما َب ْي َن ُه َما إ ِْن ُك ْن ُت ْم َت ْع ِق ُل َ‬ ‫والمعل���وم أن تصحي���ح المفهوم العقائدي لبني إس���رائيل‪،‬‬ ‫كافي���ا ليخوض بهم البحر‪ ،‬وليجادل بهم س���حرة فرعون‪،‬‬ ‫كان ً‬

‫وليخلص���وا للفك���رة أيم���ا إخ�ل�اص إل���ى أن قال���وا لفرع���ون‪:‬‬ ‫ات َوا َّل ِ‬ ‫ِ‬ ‫﴿ َقا ُل���وا َل ْ ِ‬ ‫���ن ا ْلب ِي َن ِ‬ ‫���ذي َف َط َر َنا‬ ‫���ركَ َع َلى َم���ا َج َاء َنا م َ َ ّ‬ ‫���ن ُن ْؤث َ‬ ‫اض ِإ َّنما َت ْق ِضي َه ِ‬ ‫آم َّنا‬ ‫َفا ْق ِ‬ ‫���ذ ِه ا ْل َح َيا َة ُّ‬ ‫���ض َما َأ ْن َ‬ ‫الد ْن َي���ا‪ِ ،‬إ َّنا َ‬ ‫���ت َق ٍ َ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫هلل َخ ْي ٌر‬ ‫���ح ِر َوا ُ‬ ‫الس ْ‬ ‫ب َِر ِّب َن���ا ل َي ْغف َر َل َنا َخ َط َايا َنا َو َما أ ْك َر ْه َت َنا َع َل ْيه م َن ّ‬

‫مهددا‪:‬‬ ‫َو َأ ْب َقى﴾(ط���ه‪ .)72-73:‬وذل���ك بع���د أن ق���ال لهم فرع���ون‬ ‫ً‬ ‫﴿ َفلأَ ُ َق ِّط َع َّ َ ِ‬ ‫َ‬ ‫�ل�ا ٍف َولأَ ُ َص ِّل َب َّن ُك ْم ِفي‬ ‫���ن ِخ َ‬ ‫���م ِم ْ‬ ‫���م َوأ ْر ُج َل ُك ْ‬ ‫���ن أ ْيد َي ُك ْ‬ ‫الن ْخ ِل َو َل َت ْع َل ُم َّن َأ ُّي َنا َأ َش ُّد َع َذ ًابا َو َأ ْب َقى﴾(طه‪.)71:‬‬ ‫ُج ُذ ِ‬ ‫وع َّ‬ ‫مرفوض���ا بع���د‬ ‫وهك���ذ أصب���ح الوض���ع السياس���ي القائ���م‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وضوح البناء العقائدي الس���ليم‪ ،‬فكانت التربية اإلسالمية التي‬

‫تركز مفاهيم األلوهية والربوبية هلل تعالى‪ ،‬تعلم العالم والناس‬

‫أن الحكم المطلق هو هلل تعالى‪ ،‬وأن من واله اهلل ش���أن الناس‬

‫وف ًقا لمبادئ الشورى والبيعة ال يعدو أن يكون مكل ًفا بحماية‬

‫القان���ون اإلله���ي وتطبيقه‪ ،‬وه���ذا كله كفيل ب���أن يجتث جذور‬ ‫الدكتاتورية واالستغالل من المجتمع اإلنساني‪.‬‬

‫(*) رئيس المركز المغربي للدراسات واألبحاث التربوية اإلسالمية ‪ /‬المغرب‪.‬‬

‫الهوامش‬

‫(‪ )1‬منهاج التربية‪ ،‬لمحمد قطب‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.7:‬‬

‫(‪ )2‬الجانب العاطفي من اإلس�ل�ام‪ ،‬لمحمد الغزالي‪ ،‬ص‪ ،6:‬دار الدعوة‪ ،‬ط‪،1‬‬ ‫‪.1990‬‬

‫(‪ )3‬مجلة الحوار‪ ،‬السنة األولى‪ ،‬ص‪ 21:‬وما بعدها‪.‬‬ ‫(‪ )4‬مجلة الحوار‪ ،‬السنة األولى‪ ،‬ص‪.22:‬‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )35‬‬

‫‪52‬‬

‫كعبة الروح‬ ‫األرواح َّ‬ ‫المعذبة‪ِ ،‬‬ ‫بك تلوذ‪،‬‬ ‫والنفوس الضالة‪ِ ،‬‬ ‫إليك تعود‪،‬‬ ‫يا منارة الهدى‪،‬‬ ‫وشمس الدجى‪ ،‬ومصباح الكون‪،‬‬ ‫من قلب النور تنـ ّز ِ‬ ‫لت‪،‬‬ ‫ومن "ماورائيات" هذا العالم ق ِد ِ‬ ‫مت‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫فصرت صلة الوصل بين األرض والسماء‪...‬‬ ‫***‬


‫جام���دا ال يتج���اوز ح���دود القناع���ات‬ ‫ً‬ ‫الخاص���ة الداخلي���ة غي���ر المؤث���رة ف���ي‬ ‫الس���لوك العمل���ي‪ ،‬لذل���ك قال الرس���ول‬

‫‪" :‬اإليم���ان ما وقر في القلب وصدقه‬

‫العمل"(رواه البيهقي)‪.‬‬

‫وبقراءة بسيطة لبعض نماذج الدعوة‬

‫في الق���رآن الكريم‪ ،‬ن���رى كيف وظفت‬

‫العقي���دة كفلس���فة تربوي���ة متكامل���ة ف���ي‬

‫إص�ل�اح ما فس���د م���ن أح���وال اقتصادية‬ ‫واجتماعية وسياس���ية‪ ،‬ومؤصل���ة لتنمية‬

‫بديلة‪ ،‬ومن أمثلة ذلك‪:‬‬

‫نب � � ��ي اهلل ش � � ��عيب وإصالح الفس � � ��اد‬ ‫االقتصادي‬

‫�إن فل�سفة الرتبية الإ�سالمية‪ ،‬قائمة‬ ‫على االرتب��اط باجلانب العقائدي‬ ‫الذي يخلق الرقابة الذاتية‪ ،‬ومببد إ�‬ ‫اال�س��تخالف ال��ذي ي�أخ��ذ بعني‬ ‫االعتبار فل�س��فة اجل��زاء كموجه‬ ‫ان�سجاما‬ ‫�أ�سا�سي‪ ،‬ومببد�إ التوازن‬ ‫ً‬ ‫م��ع مكون��ات الإن�س��ان‪ ،‬تبني لنا‬ ‫�أن �أخالقيات التنمية يف امل�رشوع‬ ‫الإ�سالمي‪ ،‬مرتبطة مبا هو �أبعد من‬ ‫حتقيق امل�ص��لحة الذاتي��ة الفردية‪.‬‬

‫���ع ْي ًبا‬ ‫﴿و ِإ َلى َم ْد َي َن َأ َخ ُ‬ ‫قال تعالى‪َ :‬‬ ‫اه ْم ُش َ‬ ‫هلل َما َل ُك ْم ِم ْن ِإ َل ٍه َغ ْي ُر ُه﴾(هود‪ ،)84:‬حيث ركز‬ ‫َق َ‬ ‫ال َيا َق ْو ِم ْاع ُب ُدوا ا َ‬ ‫ال‪ ،‬ألنها صمام األمان وأس���اس‬ ‫عل���ى العقيدة ف���ي النفوس أو ً‬ ‫ال‬ ‫﴿و َ‬ ‫ال َت ْن ُق ُص���وا ا ْل ِم ْك َي َ‬ ‫اإلص�ل�اح والبن���اء‪ .‬ثم بعد ذلك ق���ال‪َ :‬‬ ‫ي���ز َ ِ َ‬ ‫اب َي ْو ٍم‬ ‫���اف َع َل ْي ُك ْم َع َ‬ ‫���م ب َِخ ْي���رٍ َو ِإ ِّني َأ َخ ُ‬ ‫َوا ْل ِم َ‬ ‫���ذ َ‬ ‫ان ِإ ّن���ي أ َر ُاك ْ‬ ‫ُم ِح ٍ‬ ‫ال َت ْب َخ ُسوا‬ ‫ان بِا ْل ِق ْس ِط َو َ‬ ‫يط ‪َ ‬و َيا َق ْو ِم َأ ْو ُفوا ا ْل ِم ْك َي َ‬ ‫ال َوا ْل ِم َيز َ‬ ‫ين ‪َ ‬ب ِقي ُة ا ِ‬ ‫ال َت ْع َث ْوا ِفي ا َ‬ ‫هلل َخ ْي ٌر‬ ‫اس َأ ْش َي َاء ُه ْم َو َ‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫َّ‬ ‫ض ُم ْف ِس ِد َ‬ ‫الن َ‬ ‫َّ‬ ‫ين َو َما َأ َنا َع َلي ُكم ب َِح ِف ٍ‬ ‫يظ﴾(هود‪.)86-84:‬‬ ‫َل ُك ْم إ ِْن ُك ْن ُت ْم ُم ْؤ ِم ِن َ‬ ‫ْ ْ‬ ‫لك���ن اخت�ل�ال الموازين عند بعض الق���وم‪ ،‬أو ما يمكن أن‬ ‫نصطلح عليه في واقعنا الحالي "التفكير العلماني" أو "الفصل‬

‫بين الدين والدولة"‪ ،‬اس���تحكم في العقول فلم يستس���يغوا هذا‬

‫الرب���ط بي���ن مفاهي���م العقي���دة والفع���ل االقتص���ادي‪َ ﴿ :‬قا ُلوا َيا‬ ‫اؤ َنا َأ ْو َأ ْن َن ْف َع َل ِفي‬ ‫ُش َع ْي ُب َأ َص َ‬ ‫ال ُت َك َت ْأ ُم ُركَ َأ ْن َن ْت ُركَ َما َي ْع ُب ُد َآب ُ‬ ‫يد﴾(هود‪.)87:‬‬ ‫َأموا ِلنا ما نشاء إنك لأَ َ نت الح ِليم‬ ‫الر ِش ُ‬ ‫ْ َ َ َ َ َ ُ ِ َّ َ ْ َ ْ َ ُ َّ‬ ‫ش���عيبا وج���ه اهتمامه���م إل���ى الجان���ب العقائدي‪،‬‬ ‫ولك���ن‬ ‫ً‬ ‫لضم���ان اس���تمرار الفك���رة م���ن أن يك���ون أتب���اع كث���ر‪ .‬فالعبرة‬

‫بالكي���ف ال بالك���م في المنظ���ور التربوي اإلس�ل�امي‪ ،‬والعبرة‬ ‫���و ِم َأ َر ْه ِطي َأ َع ُّز‬ ‫بترس���يخ المفاهي���م ال بكثرة الرهط‪َ ﴿ :‬ق َ‬ ‫ال َيا َق ْ‬ ‫َع َلي ُك���م ِم َن ا ِ‬ ‫ون‬ ‫وه َو َر َاء ُك ْم ِظ ْه ِر ًّيا إ َِّن َر ِّبي ب َِما َت ْع َم ُل َ‬ ‫هلل َو َّات َخ ْذ ُت ُم ُ‬ ‫ْ ْ‬ ‫يط﴾(هود‪.)92:‬‬ ‫ُم ِح ٌ‬

‫نبي اهلل لوط وإصالح الفساد االجتماعي‬

‫���ت َق���و ُم ُل ٍ‬ ‫���م‬ ‫ين ‪ ‬إ ِْذ َق َ‬ ‫ق���ال تعال���ى‪َ :‬‬ ‫���وط ا ْل ُم ْر َس��� ِل َ‬ ‫﴿ك َّذ َب ْ ْ‬ ‫���ال َل ُه ْ‬

‫ال َت َّت ُق َ ‪ِ ‬‬ ‫���م‬ ‫���وط َأ َ‬ ‫���م ُل ٌ‬ ‫َأ ُخ ُ‬ ‫���ون ِإ ّن���ي َل ُك ْ‬ ‫وه ْ‬ ‫ون ‪‬‬ ‫هلل َو َأ ِط ُيع ِ‬ ‫َر ُس ٌ‬ ‫ي���ن ‪َ ‬ف َّات ُق���وا ا َ‬ ‫���ول َأ ِم ٌ‬ ‫ال‬ ‫َو َما َأ ْس��� َأ ُل ُك ْم َع َل ْي ِه ِم ْن َأ ْجرٍ إ ِْن َأ ْج ِر َي ِإ َّ‬ ‫ان‬ ‫���ون الذُّ ْك َر َ‬ ‫ي���ن ‪َ ‬أ َت ْأ ُت َ‬ ‫َع َل���ى َر ِّب ا ْل َعا َل ِم َ‬ ‫���ق‬ ‫ي���ن ‪َ ‬و َت َ‬ ‫���ذ ُر َ‬ ‫ون َم���ا َخ َل َ‬ ‫���ن ا ْل َعا َل ِم َ‬ ‫ِم َ‬ ‫���ن َأ ْز َو ِ‬ ‫���ل َأ ْن ُت ْم َق ْو ٌم‬ ‫اج ُك ْم َب ْ‬ ‫���م َر ُّب ُك ْم ِم ْ‬ ‫َل ُك ْ‬ ‫ون﴾(الشعراء‪ .)166-160:‬والمالحظ أن‬ ‫َع ُاد َ‬

‫الفس���اد االجتماعي كس���لوك عملي‪ ،‬لم‬ ‫يكن يتم دون إرساء فلسفة تربوية تنطلق‬

‫ون﴾‪،‬‬ ‫من الجان���ب العقائ���دي‪َ ﴿ :‬أ َ‬ ‫ال َت َّت ُق َ‬ ‫يع ِ‬ ‫���ر َي‬ ‫���ون﴾‪﴿ ،‬إ ِْن َأ ْج ِ‬ ‫﴿ َف َّات ُق���وا ا َ‬ ‫هلل َو َأ ِط ُ‬

‫ين﴾‪ .‬قال ابن كثير‪:‬‬ ‫ِإ َّ‬ ‫ال َع َل���ى َر ِّب ا ْل َعا َل ِم َ‬

‫"فدعاهم لوط إلى عبادة اهلل تعالى وحده‬

‫ال ش���ريك له‪ ،‬ونهاهم عن تعاطي هذه المحرمات والفواحش‬

‫المنك���رات واألفاعي���ل والمس���تقبحات‪ ،‬فتم���ادوا في ضاللهم‬

‫وطغيانهم‪ ،‬واس���تمروا في فجورهم وكفرانهم‪ ،‬فأحل اهلل بهم‬

‫م���ن الب���أس الذي ال يرد م���ا لم يكن في خلدهم وحس���بانهم‪،‬‬ ‫وجعله���م مثل���ة ف���ي العالمي���ن"(‪ .)5‬والمالحظ في عال���م اليوم‬

‫أن القي���م التربوية اللبرالية ال تستس���يغ وض���ع قيود على حرية‬ ‫التص���رف إلى ح���د أدى إلى هتك العالق���ات االجتماعية‪ ،‬وال‬

‫يمكن بأي حال من األحوال أن تحد حمالت التوعية بأخطار‬ ‫جنسيا‪ ،‬ومؤسسات حماية األسرة والطفل‪،‬‬ ‫األمراض المتنقلة‬ ‫ًّ‬

‫والمظاهرات ضد العنف واالغتصاب‪ ،‬من حدة هذا الدمار ما‬

‫دامت الفلس���فة التربوية قائمة باألس���اس على "دعه يعمل دعه‬ ‫يم���ر"‪ .‬وقد أضحت مظاه���ر الخلل االجتماع���ي القائمة عائ ًقا‬ ‫حقيقي���ا أم���ام التنمية على الم���دى البعيد‪ ،‬فيكفي أن تس���تنطق‬ ‫ًّ‬ ‫الميزاني���ات المخصص���ة لمؤسس���ات إعادة التأهي���ل ومحاربة‬

‫المخ���درات العيادات النفس���ية لنقف أم���ام ماليين الدوالرات‬ ‫التي تحتاج إليها مؤسسات التنمية التي تهدف إلى البناء‪.‬‬

‫موسى عليه السالم وإصالح الفساد السياسي‬

‫ال ينف���ك اإلص�ل�اح السياس���ي والتنمي���ة في ه���ذا المجال عن‬ ‫التص���ور العقائدي في المنظور اإلس�ل�امي‪ ،‬ومما يجس���د هذه‬ ‫الرؤي���ة عل���ى مس���توى القص���ص القرآن���ي قوله تعال���ى واص ًفا‬ ‫ال ِفي ا َ‬ ‫ض َو َج َع َل‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫الفس���اد السياس���ي القائم‪﴿ :‬إ َِّن ِف ْر َع ْو َن َع َ‬

‫‪51‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )35‬‬


‫﴿و ْاب َت ِ ِ‬ ‫ال���دار ِ‬ ‫يما آ َتاكَ ا ُ‬ ‫اآلخ َر َة َو َال دور العقيدة في توجيه حركة التنمية‬ ‫والنفس���ية والروحي���ة‪َ :‬‬ ‫هلل َّ َ‬ ‫���غ ف َ‬

‫ال َت ْب ِغ‬ ‫هلل ِإ َل ْي َك َو َ‬ ‫���ن ا ُ‬ ‫س َن ِص َيب َك ِم َن ُّ‬ ‫���ن َك َما َأ ْح َس َ‬ ‫الد ْن َيا َو َأ ْح ِس ْ‬ ‫َت ْن َ‬ ‫ال ُي ِح ُّب ا ْلم ْف ِس ِ‬ ‫���اد ِف���ي ا َ‬ ‫ين﴾(القصص‪.)77:‬‬ ‫هلل َ‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫ض إ َِّن ا َ‬ ‫ا ْل َف َس َ‬ ‫���د َ‬ ‫ُ‬

‫عقالني���ة نفعي���ة صرف���ة‪ ،‬فكان اإلخ�ل�اص في العم���ل‪ ،‬والوفاء‬

‫اإلبداعية إلى تحقيق العبودية هلل تعالى‪ ،‬والتخلص من عبودية‬

‫واإلدارة تأخ���ذ بعي���ن االعتبار عدم فق���دان الزبون‪ ،‬وفي كتاب‬

‫وبه���ذا تكون التربية اإلس�ل�امية ه���ي "توجيه طاقات اإلنس���ان‬ ‫المكون���ات المادي���ة الت���ي تعتبر في فلس���فة التربية اإلس�ل�امية‬

‫وسيلة ال هد ًفا"‪ .‬وفي هذا الصدد يقول الشيخ محمد الغزالي‪:‬‬

‫أحكام���ا جاف���ة وأوام���ر ميت���ة‪ ،‬إنه قل���ب يتحرك‬ ‫"لي���س الدي���ن‬ ‫ً‬ ‫بالش���وق والرغبة‪ ،‬يحمل صاحبه على المسارعة إلى طاعة اهلل‬ ‫﴿و َع ِج ْل ُت ِإ َل ْي َك َر ِّب ِل َت ْر َضى﴾(طه‪.)2(")84:‬‬ ‫وهو يقول‪َ :‬‬

‫مفهوم التنمية في بعدها الحضاري‬

‫م���ن الخطإ أن نعتبر التنمية مج���رد عملية اقتصادية‪ ،‬فنحصرها‬

‫ف���ي مناصب الش���غل مع إغف���ال مؤش���رات التق���دم والتخلف‬ ‫المرتبطي���ن بالقيم‪ ،‬التي تحكم المس���ار الثقاف���ي واالجتماعي‬

‫والسياسي‪.‬‬

‫وفي هذا الصدد يقول األس���تاذ عادل حس���ين في مقال له‬

‫تح���ت عنوان "التراث ومس���تقبل التنمية"‪" :‬غن���ي عن البيان أن‬

‫حديثنا عن التطورات المقبلة خالل عقدين كاملين‪ ،‬هو حديث‬ ‫عن تنمية مركبة تش���مل المجتمع كل���ه‪ ،‬وتصيب مكوناته كلها‬

‫‪-‬سياس���ية وثقافية واجتماعية إلى جانب المكون االقتصادي‪-‬‬

‫لق���د ترك���زت األخ�ل�اق االقتصادي���ة ف���ي الغرب على أس���س‬

‫بالعه���د‪ ،‬وع���دم الغ���ش وغيرها‪ ،‬م���ن مبادئ حس���ن التصرف‪.‬‬ ‫ث���روة األم���م يعلن منظ���ر الليبرالية "آدم س���ميث"‪ :‬إننا ال نعتبر‬

‫قوتن���ا منة من القصاب أو الخباز‪ ،‬ب���ل إن عملهما يعود بفائدة‬ ‫عليهما‪ ،‬إننا ال نخاطب إنس���انيتهما‪ ،‬بل أنانيتهما فال نكلمهما‬

‫عن حاجياتنا بل عن مصالحهما ‪.‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫يدل هذا التحليل على االرتباط الصرف بالمصالح اآلنية‪،‬‬

‫وتختلف الوس���يلة باختالف نسبة ما يتحقق من هذه المصالح‬ ‫المادية الظرفية‪ .‬ولعل هذا ما يفسر طغيان المصالح المركزية‬ ‫للغرب‪ ،‬حيث ترتبط التصرفات بفلسفة تربوية تعتمد المذهب‬

‫الف���ردي‪ .‬ويتجل���ى ذلك بوضوح‪ ،‬حينما يرتب���ط األمر بحقوق‬ ‫اإلنس���ان والح���وار الحض���اري والرؤي���ة الجيوسياس���ية للعالم‬

‫المقب���ل‪ ،‬ف�ل�ا ت���كاد تحض���ر القي���م الحضارية لكافة الش���عوب‬

‫في أي مش���روع تغيي���ري‪ ،‬وال تتحدد المضامي���ن المصطلحية‬ ‫للثواب���ت الحضارية "حقوق اإلنس���ان ‪ -‬العدالة االجتماعية ‪-‬‬ ‫الس���لم ‪ -‬الح���وار"‪ ،‬إال وف���ق ما تنس���جه مصلح���ة الغرب ولو‬

‫على حساب المفهوم الحضاري لإلنسانية‪ .‬وهذا ال ينفك عن‬ ‫الفلسفة التربوية التي ذكرنا‪.‬‬

‫ال منس ًقا‪ ...‬ويالحظ في السنوات‬ ‫بشكل ينبغي أن يكون متكام ً‬

‫ولهذا يهبط المشروع الحضاري الغربي من محاور بالفكر‬

‫يتناولونه���ا باعتبارها عملية أوس���ع من أن تك���ون مجرد عملية‬

‫وإذا رجعنا بذاكرتنا إلى ما س���بق وأن قررناه من أن فلسفة‬

‫جميعا‬ ‫األخي���رة أن المتحدثي���ن ع���ن التنمية العربية‪ ،‬أصبح���وا‬ ‫ً‬

‫إلى ملوح بالعصا كلما هددت مصالحه‪.‬‬

‫اقتصادي���ة‪ ،‬ولذا يتابعون باعتناء وتحفظ‪ ،‬مؤش���رات التقدم في‬

‫التربية اإلسالمية قائمة على االرتباط بالجانب العقائدي الذي‬

‫وم���ن هن���ا نق���ول‪ ،‬إن مهم���ة التربي���ة اإلس�ل�امية ال تنف���ك‬

‫االعتب���ار فلس���فة الج���زاء (ثواب ‪ -‬عق���اب) كموجه أساس���ي‪،‬‬

‫إنت���اج أس���اتذة الم���ادة بق���در م���ا توج���ه وترب���ي كل الطاق���ات‬

‫أخالقي���ات التنمية في المش���روع اإلس�ل�امي‪ ،‬مرتبط���ة بما هو‬

‫واإلعالمي���ون وتقني���و الفالح���ة ومالح���و الفض���اء والبح���ر‬

‫ورقاب���ة اهلل تعال���ى ومبدأ التقوى‪ ،‬بوص�ل�ات موجهة ألي فعل‬

‫الذي���ن يرون أن مادة التربية اإلس�ل�امية ال ترتبط بإس���تراتيجية‬

‫بمدى االس���تجابة ألمر اهلل وحقوق المكلفين ‪-‬كما يقول علم‬

‫مختلف القطاعات وليس في القطاع االقتصادي وحده"(‪.)3‬‬

‫يخل���ق الرقاب���ة الذاتية‪ ،‬وبمبدإ االس���تخالف ال���ذي يأخذ بعين‬

‫ع���ن المنظ���ور الش���امل للتنمي���ة‪ ،‬بحي���ث ال تنحصر ف���ي إعادة‬

‫انس���جاما مع مكونات اإلنس���ان‪ ،‬تبي���ن لنا أن‬ ‫وبمب���دإ الت���وازن‬ ‫ً‬

‫الفاعل���ة ف���ي س���احة التنمي���ة‪ ،‬س���واء ف���ي ذل���ك المهندس���ون‬

‫أبع���د من تحقي���ق المصلحة الذاتي���ة الفردية‪ ،‬إذ تعتب���ر العقيدة‬

‫وغيره���م‪ .‬فه���ي مك���ون ال ينفص���ل ع���ن أي مج���ال‪ ،‬ولع���ل‬

‫اقتص���ادي أو اجتماع���ي أو سياس���ي‪ ،‬فيق���اس النف���ع والض���رر‬

‫التنمي���ة‪ ،‬يعان���ون م���ن فه���م المدل���ول الش���امل لها‪ ،‬في���رون أن‬

‫األص���ول‪ -‬والتع���ارض بينهما قائم على درء المفاس���د وجلب‬

‫فائض���ا م���ن األس���اتذة المتخصصين يقتضي وق���ف آلة اإلنتاج‬ ‫ً‬ ‫الت���ي يتحكم فيها الس���وق بن���اء على قانون الع���رض والطلب‪.‬‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )35‬‬

‫‪50‬‬

‫المصالح العامة‪ ،‬هو الموجه المتحكم‪.‬‬

‫متح���ركا‪ ،‬وليس���ت إيما ًن���ا‬ ‫عنص���را‬ ‫وبه���ذا تك���ون العقي���دة‬ ‫ً‬ ‫ً‬


‫تربية‬

‫د‪ .‬خالد الصمدي*‬

‫رحيم بك‪ ،‬غفور لك‪ ،‬عطوف عليك‪ ،‬لطيف بك‪ ..‬هكذا الحقُّ تعاىل يعاملك‪ ..‬أفال ينبغي أن‬ ‫تعامل خلقَ الله مبا يعاملك به الله؟ وكام تكون معه تعاىل يف خاصية نفسك هكذا ينبغي‬ ‫أن تكون معه إذا كنت مع الناس‪ ..‬فال وحشة وال وحدة وال غربة وال اغرتاب إذا ما ّ‬ ‫رش َ‬ ‫قت‬ ‫أو غ ّر َ‬ ‫بت‪ ،‬ألن الحق تعاىل معك يف كل أحوالك وجميع شؤونك‪.‬‬ ‫(املوازين)‬ ‫***‬

‫يقول الكاتب اإلس�ل�امي محم���د قطب‪" :‬لقد‬

‫التوجيهات التي ترسم الطريق لإلنسان‪ ،‬وتتلخص في‪:‬‬

‫توجيهات تربوية كثيرة‪ ،‬وأن لهذه التوجيهات‬

‫بالرقابة الذاتية النابعة من الجانب العقائدي الذي يربط األرض‬

‫أحسس���ت بطبيع���ة الح���ال‪ ،‬أن ف���ي الق���رآن‬

‫أث���را في النفس‪ ،‬وأن اإلنس���ان حين يتدبره���ا ويتأثر بها يصبح‬ ‫ً‬ ‫ل���ه س���لوك معين وش���عور معين أقرب إلى الص�ل�اح والتقوى‪،‬‬

‫ويصبح اإلنسان أكثر شفافية وأكثر إنسانية"(‪ .)1‬لقد خلق اهلل ‪‬‬ ‫في البشر مجموعة من األحاسيس‪ ،‬وهذه األساليب والطاقات‬

‫﴿و َما‬ ‫محكومة بهوى النفس‪ ،‬ألنه تعالى خلق اإلنسان لهدف‪َ :‬‬ ‫ال ِلي ْعب ُد ِ‬ ‫ون﴾(الذاريات‪ .)56:‬فكان البد أن‬ ‫َخ َل ْق ُت ا ْل ِج َّن َوا ِ‬ ‫إل ْن َ‬ ‫س ِإ َّ َ ُ‬ ‫توجه هذه الطاقات إلى االنسجام التام مع الغرض من الخلق‪.‬‬

‫وفي هذا الصدد ترتبط التربية اإلس�ل�امية مع نمط متكامل من‬

‫تربوي���ا‪ ،‬االرتب���اط‬ ‫‪ -1‬اإليم���ان‪ ،‬أو م���ا يمكنن���ا أن نس���ميه‬ ‫ًّ‬

‫بالس���ماء‪ ،‬وعمل اإلنسان بفلس���فة الجزاء "الثواب والعقاب"‪،‬‬

‫الش���يء الذي تعجز عن���ه القوانين الوضعي���ة الرتباطها بالرقابة‬ ‫الخارجية وتوفر أدلة اإلثبات‪.‬‬

‫هلل‬ ‫���د ا ُ‬ ‫﴿و َع َ‬ ‫‪ -2‬الرب���ط بي���ن التربي���ة ومب���دإ االس���تخالف‪َ :‬‬ ‫ِ‬ ‫الصا ِل َح ِ‬ ‫���ات َل َي ْس َ���ت ْخ ِل َف َّن ُه ْم ِف���ي‬ ‫ا َّل ِذ َ‬ ‫���م َو َع ِم ُل���وا َّ‬ ‫ي���ن َ‬ ‫آم ُن���وا م ْن ُك ْ‬ ‫ا َ‬ ‫ض﴾(الن���ور‪ ،)55:‬وه���ذا الرب���ط يش���كل جوه���ر المنظ���ور‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫الحضاري في التصور اإلسالمي‪.‬‬

‫‪ -3‬الت���وازن والتكام���ل بي���ن الجوان���ب العقلي���ة والمادي���ة‬

‫‪49‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )35‬‬


‫فض�ل�ا عن محب���ة غيرها‪ .‬ب���ل فقدت ه���ذه القيمة لب‬ ‫لنفس���ها‬ ‫ً‬ ‫مفهومه���ا وطبيع���ة وجودها‪ ،‬وانحرفت إلى مس���ارب الش���هوة‬

‫والمصلح���ة‪ .‬ول���م تع���د تعبر ع���ن مفهومها الكون���ي من حيث‬ ‫هي تجربة وجدانية تس���اعد اإلنس���ان على نسج عالقات رائعة‬ ‫اس‬ ‫الن ِ‬ ‫﴿و ِم َن َّ‬ ‫ينع���م في ظلها باألمان واالس���تقرار والتس���اكن‪َ :‬‬

‫هلل َأ ْن َد ًادا ُي ِحبو َن ُهم َك ُح ِّب ا ِ‬ ‫ون ا ِ‬ ‫���ذ ِم ْن ُد ِ‬ ‫آم ُنوا‬ ‫���ن َي َّت ِخ ُ‬ ‫هلل َوا َّل ِذ َ‬ ‫َم ْ‬ ‫ين َ‬ ‫ُّ ْ‬ ‫اب َأ َّن ا ْل ُق َّو َة‬ ‫َأ َش ُّ‬ ‫���د ُح ًّب���ا لهلِ ِ َو َل ْو َي َرى ا َّل ِذ َ‬ ‫ين َظ َل ُم���وا إ ِْذ َي َر ْو َن ا ْل َع َذ َ‬ ‫هلل َش ِ‬ ‫اب﴾(البق���رة‪ .)165:‬وقد آن األوان‬ ‫يد ا ْل َع َذ ِ‬ ‫لهلِ ِ َج ِم ًيع���ا َو َأ َّن ا َ‬ ‫���د ُ‬ ‫لتنقي���ة هذا المفهوم‪ ،‬والعودة به إلى مجرى ينابيعه‪ ،‬كي تش���تد‬

‫وتي���رة اإليمان‪ ،‬و ُترقق القلوب ويجلى صدؤها‪ .‬آن األوان أن‬ ‫يعتصم المؤمن بحب اهلل‪ ،‬وأن يجعل هذا الحب مش���كاة تنير‬

‫ناجعا لعلل الروح والجسد‪.‬‬ ‫فكره وعقله ووجدانه‪ ،‬ودواء‬ ‫ً‬

‫كيف يتغلغل الحب في سويداء القلوب؟‬

‫وهن���ا نس���أل‪ :‬أال نح���ب اهلل ونح���ن نتوج���ه إليه خم���س مرات‬ ‫ف���ي الي���وم‪ ،‬ونمن���ع النفس ع���ن الطعام والش���راب ف���ي الصيام‬ ‫ال آخر يفرض نفسه على المؤمن‪:‬‬ ‫ونتصدق ونحج؟ لكن سؤا ً‬ ‫نديا في‬ ‫هل يتغلغل هذا الحب في س���ويداء القلوب‪ ،‬ويس���ري ًّ‬ ‫ش���رايين الممارس���ة والس���لوك‪ ،‬ويرقى بالعالق���ات في مدارج‬ ‫السمو الالئق باإلنسانية؟‬ ‫رغ���م الهجم���ات الشرس���ة التي تتع���رض لها األمة‪ ،‬س���واء‬ ‫بطريق���ة مباش���رة من خ�ل�ال االحتالل‪ ،‬أم بطريقة غير مباش���رة‬ ‫م���ن خ�ل�ال المحاوالت المس���تمرة للتش���كيك ف���ي مرجعيتها‬ ‫عددا من المبش���رات‬ ‫وقيمه���ا وأصالته���ا وثقافته���ا‪ ،‬فإن هن���اك ً‬ ‫الت���ي بدأت تهل على األمة‪ ،‬وتقدم له���ا بعض التوازن والثقة‪،‬‬ ‫واس���ترجاع القدرة على المواجه���ة والصمود والتحدي‪ .‬وهي‬ ‫مبش���رات تكشف أن األمة بدأت تس���تيقظ من سباتها‪ ،‬وتدرك‬ ‫الس���بيل الصحيح المؤدي إلى النهض���ة والعزة‪ .‬ولكي ال يظل‬ ‫ه���ذا اإلدراك واق ًفا على ح���دود المعرفة فقط‪ ،‬يجب أن يمس‬ ‫الممارس���ة الس���لوكية للف���رد‪ .‬وبمعن���ى آخر‪ ،‬هذه المبش���رات‬ ‫حاف���زا عل���ى نب���ذ أس���باب اله���وان والوهن‪،‬‬ ‫يج���ب أن تك���ون‬ ‫ً‬ ‫وتتح���ول معانيها إلى س���لوك فاعل في حياة المس���لم اليومية‪،‬‬ ‫بحيث تصبح نفسه تحاسبه على التفريط في مقومات المضي‬ ‫في سبيل النهوض والعزة والكرامة وفرض الحق واالحترام‪.‬‬ ‫ولع���ل قيم���ة الح���ب‪ ،‬من أب���رز القي���م التي فق���دت معانيها‬ ‫في حياة اإلنس���ان بصفة عامة‪ ،‬وتش���وهت مفاهيمها في العقل‬ ‫والوج���دان‪ ،‬وارتبطت بكل ما يؤدي إلى اإلس���فاف واالبتذال‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )35‬‬

‫‪48‬‬

‫والزي���ف واآلث���ام‪ ...‬وكان م���ن نتيج���ة ذلك أن فق���دت الحياة‬ ‫س‬ ‫﴿و َما َخ َل ْق ُت ا ْل ِج َّن َوا ِ‬ ‫مغزى وجودها كله‪ ،‬يقول تعالى‪َ :‬‬ ‫إل ْن َ‬ ‫ال ِلي ْعب ُد ِ‬ ‫ون﴾(الذاريات‪ .)56:‬ولن يتحقق مفهوم العبادة‪ ،‬إال برابط‬ ‫ِإ َّ َ ُ‬ ‫واختيارا‬ ‫الحب بين العبد ومواله‪ ،‬وتس���ليمه ناصيته له طواعية‬ ‫ً‬ ‫متغلغ�ل�ا في الف���ؤاد والوجدان‬ ‫وحب���ا‪ ،‬وإنم���ا يج���ب أن يكون‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫ليفيض في شرايين الممارسة والسلوك‪ ،‬ويرقى بالعالقات في‬ ‫مدارج السمو الالئق باإلنسانية‪.‬‬ ‫ونظ���رة عاب���رة إلى اإلنس���ان ف���ي المجتمعات اإلس�ل�امية‪،‬‬ ‫تكش���ف الفص���ل المه���ول بي���ن إعالن���ه الح���ب هلل ‪-‬من خالل‬ ‫تنفي���ذ ش���عائره الديني���ة الت���ي يقوم به���ا كل يوم‪ -‬وبي���ن تفعيل‬ ‫مقاصد تلك الش���عائر في حياته وسلوكه وعالقاته‪ ،‬ليطفو إلى‬ ‫السطح الجفاف والغلظة والتباغض والتحاسد‪ ...‬وتغرق تلك‬ ‫المجتمع���ات في التنافر بدل التآلف‪ ،‬والقس���وة ب���دل الرحمة‪،‬‬ ‫والبخل ب���دل البذل واإلنفاق المعنوي قب���ل المادي‪ .‬وبالتالي‬ ‫ال يس���تطيع المسلم التبش���ير ‪-‬من خالل نفسه‪ -‬بالقيم الحقيقة‬ ‫والفاعل���ة‪ ،‬س���واء ف���ي مجتمع���ه أو ف���ي أي مجتمع آخ���ر‪ ،‬كما‬ ‫يفق���د مصداقيت���ه وعوامل تأثيره‪ .‬وإذا عدن���ا إلى القيمة األولى‬ ‫الت���ي قام عليها المجتمع اإلس�ل�امي األول على عهد رس���ول‬ ‫اهلل ‪ ،‬نج���د أنه قام بالمحب���ة الخالصة والمؤ ِّلفة بين القلوب‪،‬‬ ‫والمس���عفة على التآخي والعطاء‪ .‬ذلك أن رس���ول اهلل ‪ ‬ربى‬ ‫أصحاب���ه عل���ى قيمة الح���ب‪ ،‬وحثهم على إش���اعتها وتحقيقها‬ ‫عبر وس���ائل وممارسات مختلفة‪ ،‬ألهميتها في تحقيق السعادة‬ ‫للف���رد واألس���رة والمجتم���ع واألم���ة واإلنس���انية وف���ي توحيد‬ ‫القلوب وتآلفها‪ ،‬أو تعارفها وتعايشها وتفاهمها‪ ،‬ولدورها في‬ ‫إعط���اء األم���ة قوتها وصالبتها؛ فال تهون وال تتفتت وال تعبث‬ ‫بها الفتن والدسائس‪ ،‬وتقوم كل العالقات والممارسات على‬ ‫أس���اس م���ن الحب؛ ح���ب اهلل‪ ،‬ح���ب نبيه‪ ،‬ح���ب الخير‪ ،‬حب‬ ‫ال‬ ‫حبا ورحمة‪ ،‬مث ً‬ ‫الناس‪ ...‬وكانت ش���خصيته ‪ ‬الت���ي تفيض ًّ‬ ‫أعل���ى يهدي المجتم���ع الوليد إلى تنـزيل القيم اإلنس���انية التي‬ ‫جاء بها أو رس���خها في واقعه وس���لوكه‪ .‬كما كانت األحاديث‬ ‫م���ن مث���ل قول���ه ‪" :‬مث���ل المؤمنين ف���ي تواده���م وتعاطفهم‬ ‫وتراحمهم كم َثل الجسد الواحد‪ ،‬إذا اشتكى منه عضو تداعى‬ ‫له س���ائر الجسد بالسهر والحمى" (رواه البخاري)‪ ،‬تسري ندية في‬ ‫حياته‪ ،‬ليش���تد البناء ويقوى وترتف���ع هامته‪ .‬فأين نحن من هذا‬ ‫الحب في مجتمعاتنا؟!‬ ‫(*) جامعة عبد المالك السعدي‪ ،‬تطوان‪ /‬المغرب‪.‬‬


‫أدب‬

‫د‪ .‬سعاد الناصر*‬

‫صدأ القلوب‬

‫أتى على األمة حين من الدهر لم تعد فيه شي ًئا‬ ‫مذكورا‪ ،‬وأصبح اإلنس���ان فيها ‪-‬إال من رحم‬ ‫ً‬ ‫رب���ي‪ -‬يعي���ش جفا ًف���ا ملحوظً ا وقس���وة بارزة‪.‬‬ ‫ق���د تدم���ع العين على صورة دامي���ة أو يخفق القلب على حال‬ ‫س���ائب‪ ،‬لك���ن ه���ل هذا إال إحس���اس عابر من ه���ول اللحظة‪،‬‬ ‫تموه‬ ‫لينج���رف الجمي���ع في دوام���ة من الغثائي���ة والعبثية الت���ي ِّ‬ ‫مجموعة من الحقائ���ق واألنظمة والقواعد‪ ،‬وتتحكم الفوضى‬ ‫والاله���دف والجحود في مفردات الحي���اة الفردية والجماعية‬ ‫للمس���لم‪ ،‬تثقل ظهره وتحرف س���لوكه وتوجه���ه إلى مزيد من‬ ‫الس���قوط والتردي‪ .‬ويظل البحث عن أسباب الغوص في هذه‬ ‫الهاوية المريعة يس���كن كل مهموم بما يلمس���ه من معاناة األمة‬ ‫م���ن جه���ل عميق بأساس���يات دينها ال���ذي قامت علي���ه‪ ،‬وببعد‬ ‫مهول عن تمثيله وفهم رسالته‪ ،‬وتخلف عن االنضباط بمنهجه‬

‫الش���رعي واألخالقي‪ ،‬وتفاوت بين الممارس���ة والسلوك وبين‬ ‫القيم اإلنس���انية‪ ،‬وما يراه من ارتفاع وتيرة التحديات بمختلف‬ ‫توجهاته���ا‪ ،‬وعلى اختالف أنواعها‪ ،‬وشراس���ة الحرب المعلنة‬ ‫عليه‪ ،‬ومن استمراء الهوان واالستسالم‪.‬‬ ‫ولع���ل افتقاد اإلنس���ان بصف���ة عامة في ه���ذا الوجود لقيمة‬ ‫لباس���ا ال يمت‬ ‫م���ن أرقى القيم اإلنس���انية‪ ،‬وتمييعها وإلباس���ها ً‬ ‫بصل���ة إلى معانيها ودالالتها‪ ،‬جعلت الحياة برمتها تفقد معنى‬ ‫وجوده���ا ومغزى خلقها‪ .‬ه���ذه القيمة هي الحب‪ .‬فالحب من‬ ‫القيم السامية التي جعل اهلل فطرة اإلنسان تهفو إليها‪ ،‬وجعلها‬ ‫س���بحانه أس���اس العالقة الت���ي تربط بينه وبين عب���ده من جهة‪،‬‬ ‫وبي���ن األفراد والجماعات من جهة أخرى‪ .‬لكن لألس���ف فقد‬ ‫جف���ت ينابيع المحبة م���ن القلوب‪ ،‬وامتألت بأعش���اب الغفلة‬ ‫والنفور والقس���وة والحقد الكراهية‪ ،‬والعجز عن محبة الذات‬

‫‪47‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )35‬‬


‫قادت لصناعة الصورة النهائية‪ ...‬ولو نظرنا للحضارة الغربية‪،‬‬ ‫لوجدن���ا من القرن العاش���ر الميالدي ب���دأت نذر تحوالت في‬ ‫أوروبا آتت ثمارها في القرن الثاني عش���ر‪ ،‬بإنش���اء الجامعات‬ ‫الت���ي تعل���م‬ ‫علوما غير عل���وم الالهوت‪ .‬ثم ظهرت مس���ارات‬ ‫ً‬ ‫متع���ددة للتط���ور لو تابعنا منها المس���ار العلم���ي‪ ،‬فمن صرخة‬ ‫"روجر بيكون" في القرن الثالث عشر‪ ،‬حتى إبداع المطبعة في‬ ‫القرن الخامس عش���ر‪ ،‬حتى صرخة "كوبرينكس" وهزه لخيمة‬ ‫الق���رون الوس���طى‪ ،‬لصرخ���ة "جاليلي���و" بمنظاره التي كس���رت‬ ‫عم���ود الخيم���ة التي تقوم بها القرون الوس���طى بأنه ال علم إال‬ ‫في الكتاب المقدس‪ ،‬ثم يعطي "ديكارت" صك الوفاة للقرون‬ ‫الوس���طى‪ ،‬ثم تتوال���ى اإلبداعات حتى تصن���ع الحداثة الغربية‬ ‫وعصر الصناعة وما تاله‪ ...‬مس���ار طويل ليس له خطة مركزية‬ ‫تضافرت فيه طفرات أحدثها المبدعون في كل مس���ار أنتجت‬ ‫الصورة التي نشاهدها اليوم‪.‬‬ ‫باختص���ار‪ ،‬ه���و مس���ار غير مخط���ط على الم���دى الطويل‪،‬‬ ‫نقط���ة االنطالق فيه ه���ي المبدعون الذين يس���تجيبون لصوت‬ ‫اللحظ���ة‪ ،‬ومع كل فكرة جديدة يتولد ش���عاع م���ن النور يكون‬ ‫الفجر القادم‪.‬‬

‫مشروع التحوالت التي تقودها الدولة‬

‫مركزي���ا‪ ،‬وتنحته نح ًتا‬ ‫وهن���اك مس���ار قصير تخط���ط له الدول���ة‬ ‫ًّ‬ ‫مث���ل التجرب���ة الصيني���ة والهندي���ة واإليراني���ة والماليزي���ة‪ ،‬وهو‬ ‫مس���ار تح���رق فيه المراح���ل‪ ،‬يعتمد على وج���ود رؤية محددة‬ ‫لدى القيادة في دخول الس���باق الحضاري‪ ،‬ودافع نفس���ي كبير‬ ‫لحدوث التحوالت الكبرى‪.‬‬ ‫وهنا يبرز السؤال الكبير‪ ،‬كيف تتحرر ممكنات البعض في‬ ‫بيئات ال يوجد فيها دور مركزي تخطيطي للدولة‪ ،‬ويساهمون‬ ‫ف���ي صنع الحضارة؟ والتمهيد لبروز مس���ار الدولة الموعود‪...‬‬ ‫لو استطعنا أن نجيب على هذا السؤال‪ ،‬لتجاوزنا عنق الزجاجة‬ ‫في المعضل المطروح على العقل العربي اليوم‪.‬‬ ‫فالعق���ل العرب���ي اليوم‪ ،‬يط���رح معادلته كالتال���ي‪ :‬كلنا نريد‬ ‫النهض���ة‪ ،‬وال يعجبن���ا ما هو قائ���م‪ ،‬والنهضة تحتاج لمش���روع‬ ‫دول���ة‪ ،‬والدول���ة غي���ر مس���تجيبة لمطل���ب االنط�ل�اق‪ ،‬فإلى أن‬ ‫تستجيب ال حيلة لنا!‬ ‫وهو غير مدرك بأن مس���ار النهضة ‪-‬ليس بالضرورة‪ -‬يمر‬ ‫عب���ر بوابة التخطيط المركزي للدول���ة‪ ،‬فقد عبرت النهضة من‬ ‫بواب���ات أخرى كما رأين���ا في الحضارة اإلس�ل�امية والحضارة‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )35‬‬

‫‪46‬‬

‫مس���ارا‬ ‫الغربي���ة‪ .‬وهن���ا يط���رح العقل س���ؤاله التالي‪ :‬أليس هذا‬ ‫ً‬

‫ال ال قبل لنا به‪ ...‬فمن سينتظر كل هذه القرون؟‬ ‫طوي ً‬

‫وهو سؤال مشروع يغيب عنه ممكنات اللحظة التاريخية‪...‬‬

‫لق���د حدث في عصرنا ما يس���مى بتس���ارع التاريخ‪ .‬فاألحداث‬ ‫الكب���رى ل���م تع���د تحت���اج لق���رون‪ ،‬والتخطيط ال���ذي ال تقوده‬

‫ثمارا كبيرة بما توف���ره التقنية اليوم من أدوات‬ ‫الدول���ة قد يثمر ً‬

‫التواص���ل والتأثي���ر‪ .‬لقد أصب���ح للفرد أثر كبير ف���ي التحوالت‬ ‫بسبب التقنية وأدوات االتصال‪ ،‬فربما شخص واحد مثل "بيل‬

‫جيت���س" ف���ي عصرنا‪ ،‬له من التأثير عل���ى واقعنا ما يتعدى دور‬ ‫أكب���ر الحكوم���ات اليوم‪ .‬فهن���اك زلزال معرف���ي عمالق يتدفق‬

‫ف���ي فضاء العالم اليوم‪ ،‬تس���تطيع فيه فئ���ة قليلة واعية أن تصنع‬ ‫تحوالت معرفية كبرى في مس���ار الوعي الحضاري‪ ،‬حتى في‬ ‫غياب مشروع للتخطيط المركزي‪.‬‬

‫‪ -4‬التمكين‬

‫ومصطلح التمكين‪ ،‬مصطلح يعني زيادة القوة للفرد والمجتمع‬

‫والدول���ة‪ ،‬بش���كل ينعك���س عل���ى ق���درة الفعل وعل���ى ديمومة‬ ‫الفع���ل‪ ...‬وقوة المجتمعات اليوم تتمرك���ز في قدراتها العقلية‬

‫ومعارفه���ا‪ ،‬وتنعك���س عل���ى اقتصاده���ا وصناعته���ا وزراعته���ا‬ ‫وخدماتها وقدراته���ا الدفاعية ومعنوياته���ا‪ ...‬والتمكين عملية‬

‫مس���تمرة م���ن زيادة الق���وة‪ ،‬وكلما زادت الق���وة زادت الثقة في‬

‫الذات‪ ،‬وزادت القدرة على استمرارية الفعل‪.‬‬

‫‪ -5‬الشهود‬

‫والش���هود في المعنى الذي ننحت���ه هنا‪ ،‬هو الحضور المعياري‬ ‫الفاعل‪ ،‬هو مكانة األس���تاذية الحضاري���ة‪ ،‬هو واقع األمة حين‬ ‫تنحت لنفس���ها مكا ًنا بين األمم‪ .‬ورغم أن التفاس���ير المتداولة‬ ‫أخرويا في تعريف الش���هود‪ ،‬فه���و حدث متعلق‬ ‫تنح���ى منحى‬ ‫ًّ‬ ‫بيوم القيامة في ما هو متداول‪ ...‬إال أن السقف القرآني أعلى‬ ‫م���ن ذلك بكثير‪ ،‬هو يحتم���ل المعنى الدنيوي واألخروي‪ ،‬هي‬

‫حالة مكتس���بة ناتجة ع���ن جهد كبير لتكون األم���ة‬ ‫معيارا لبقية‬ ‫ً‬ ‫األم���م‪،‬‬ ‫وش���اهدا عل���ى مخالفته���ا للمعايير الكب���رى للمطالب‬ ‫ً‬

‫الربانية الس���امية‪ ،‬والش���اهد حاض���ر للوقائع‬ ‫عال���م بها‪ ،‬فهو ال‬ ‫ٌ‬ ‫يشهد إال على ما علم‪.‬‬

‫(*) خبير في التخطيط اإلستراتيجي واإلدارة اإلستراتيجية ‪ /‬قطر‪.‬‬


‫صعوب���ة الواق���ع المعاش؟ أم ف���ي القيود‬ ‫اإلدراك المكافئ لمش���روع إعادة إنتاج‬ ‫الت���ي تفرضه���ا األوض���اع السياس���ية‬ ‫حضارتنا‪ ،‬أو استعادة الدورة الحضارية‬ ‫حني ندر�س امل�س��ارات الطويلة‬ ‫واالجتماعي���ة عل���ى الفع���ل؟‪ ..‬ف���ي كل‬ ‫لمجتمعاتن���ا‪ .‬وف���ي ه���ذا الس���ياق‪ ،‬تبرز‬ ‫الت��ي قطعته��ا احل�ض��ارات يف‬ ‫األح���وال نحت���اج أن نكتش���ف موض���وع‬ ‫الحاج���ة لمعرف���ة المناف���س الحض���اري‬ ‫غياب التخطيط املركزي طويل‬ ‫الفاعلي���ة‪ ،‬وكيف س���رت ف���ي مجتمعات‬ ‫أين وصل في تقدمه الفكري والسياسي‬ ‫الأم��د‪ ،‬نر�ص��د جه��و ًدا نوعية‬ ‫كانت تعيش ظرو ًفا قريبة من مجتمعاتنا‪.‬‬ ‫واالقتص���ادي واالجتماع���ي والتقن���ي‬ ‫ال�ص��ورة‬ ‫أثم��رت‬ ‫�‬ ‫ومف�ص��لية‬ ‫والزراع���ي والقيم���ي؟ وأن ننظ���ر ف���ي‬ ‫فم���ا ال���ذي أخ���رج الجزيرة م���ن ركودها‬ ‫العظم��ى‪،‬‬ ‫إجن��ازات‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫الكلي��ة‬ ‫مخزوننا الحضاري أين توقف في هذه‬ ‫ف���ي عص���ر الرس���الة؟! وما ال���ذي أخرج‬ ‫نقاط‬ ‫تراك��م‬ ‫ع�بر‬ ‫ت�س�ير‬ ‫وهي‬ ‫المس���ارات!؟ فبمعنى من المعاني‪ ،‬كل‬ ‫أوروب���ا م���ن ركوده���ا الذي اس���تمر ألف‬ ‫م�ض��يئة يف ف�ض��ائها‪ ،‬وم��ن‬ ‫حضارة تنظر لنفس���ها م���ن خالل النظر‬ ‫س���نة؟! وما ال���ذي أخرج الصي���ن والهند‬ ‫جمموعها ت�ش��كل احلالة الكلية‬ ‫ف���ي م���رآة اآلخر الحض���اري بصورة أو‬ ‫م���ن ركودهم���ا؟! ه���ل ه���و مس���ار واحد‬ ‫بأخ���رى‪ ،‬لي���س لتتماه���ى مع���ه‪ ،‬ولك���ن‬ ‫أم مس���ارات متع���ددة؟! وم���ا س���ر فاعلية‬ ‫للح�ضارة‪.‬‬ ‫لتنظر في أمر الفجوة التي يراد س���دها‪،‬‬ ‫اإلنس���ان وانطالقته؟ إننا حين نتحول من‬ ‫وتضع إس���تراتجية التح���رك الحضاري‬ ‫التحلي���ل اللغوي للفظ الفاعلية لألس���ئلة‬ ‫المناس���ب‪ .‬بمعنى آخر‪ ،‬الوعي الحضاري يطرح أس���ئلة قراءة العملية المتعلقة بالفاعلية‪ ،‬نضع أيدينا على أسرار كثيرة تعيننا‬ ‫وتكتيكي���ا وه���ي المنطق���ة ف���ي مقاربة موضوع الفاعلية‪ .‬ويمكن النظر إلى الموضوع من‬ ‫الواق���ع والتخطي���ط ل���ه‬ ‫إس���تراتيجيا‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬ ‫األكثر صعوبة بعد التحليل والتنوير‪ .‬وفي هذا الس���ياق‪ ،‬بدت زاويتين‪ ،‬األولى‪ :‬زاوية النطالقة المش���روع في غيبة المشروع‬ ‫كلم���ات مثل الفاعلي���ة والتمكين والش���هود‪ ،‬كمراحل تقطعها المركزي للدولة‪ .‬والثاني‪ :‬انطالقة المشروع من خالل الدولة‬ ‫وهما المس���اران المحتمالن للح���راك‪ ،‬ونحتاج أن ننظر فيهما‬ ‫اإلستراتيجية للوصول إلى المطلوب النهائي فلنقترب منها‪.‬‬ ‫لمقارب���ة الموض���وع م���ن زاويت���ه العملي���ة‪ .‬ولكن س���نقف عند‬ ‫‪ -3‬الفاعلية‬ ‫الفاعلي���ة هي بمعنى م���ن المعاني‪ ،‬مقاربة النش���اط المنتج من األول منهما‪ ،‬ألنه جوهر الس���ؤال المطروح لحين تبني الدولة‬ ‫مشروعا الستعادة الفاعلية الحضارية‪.‬‬ ‫خ�ل�ال الجهد البش���ري‪ ،‬والمنتج هنا تعن���ي المنتج للحضارة‪ .‬المعاصرة العربية‬ ‫ً‬ ‫فهناك في جانب‪ ،‬مطلب كلي هو إنش���اء الحضارة واس���تعادة‬ ‫دور األمة في الحضور على مس���رح الفعل اإلنس���اني ال مجرد‬ ‫الوجود الفيزيائي‪ .‬هي اإلسهام المفيد للذات وللبشرية والذي‬ ‫مبررا للوجود‪.‬‬ ‫يعطي ً‬ ‫فه���و م���ن جان���ب‪ ،‬مطلب إنس���اني‪ ،‬ومن جان���ب آخر‪ ،‬هو‬ ‫مطل���ب ربان���ي‪ ،‬باعتب���ار خصوصي���ة األمة اإلس�ل�امية ودورها‬ ‫المناط بها في الكون من خالل خاتم الرساالت السماوية‪.‬‬ ‫والس���ؤال العملي‪ :‬كيف نطلق ممكنات اإلنس���ان المسلم‬ ‫حتى يمارس دوره في صناعة الحضارة؟ وأين تكمن معوقات‬ ‫هذه الفاعلية؟‬ ‫فس���ؤال المعوقات‪ ،‬وس���ؤال كيفية تجاوزها‪ ،‬ومن سيقوم‬ ‫بح���ل لغزها‪ ،‬هل تكمن أس���رار عدم الفاعلية ف���ي عدم معرفة‬ ‫الحاج���ة للفاعلي���ة؟ أم تكم���ن في الي���أس من إمكاني���ة الفعل؟‬ ‫أم تكم���ن ف���ي نوعية الغ���ذاء الفكري المت���داول؟ أم تكمن في‬

‫مشروع التحوالت التي يقودها األبطال المنفردون‬

‫حين ندرس المس���ارات الطويلة الت���ي قطعتها الحضارات في‬ ‫جهودا نوعية‬ ‫غي���اب التخطيط المركزي طويل األمد‪ ،‬نرص���د‬ ‫ً‬ ‫ومفصلي���ة أثم���رت الصورة الكلية لإلنج���ازات العظمى‪ ،‬وهي‬ ‫تس���ير عب���ر تراكم نق���اط مضيئة ف���ي فضائها‪ ،‬وم���ن مجموعها‬ ‫تش���كل الحال���ة الكلية للحضارة‪ .‬فلو أخذن���ا نموذج الحضارة‬ ‫ابت���داء‪ -‬لوجدن���ا أنفس���نا أم���ام تراك���م يس���ير في‬‫اإلس�ل�امية‬ ‫ً‬ ‫مس���ارات متع���ددة‪ ،‬فهناك تراكم علمي معرف���ي‪ ،‬وهناك تراكم‬ ‫سياس���ي‪ ،‬وهناك تراكم عس���كري‪ ،‬وهك���ذا‪ ...‬وللنظر للتراكم‬ ‫العلم���ي من فت���رة الوحي والبذور الحية‪ ،‬لفت���رة جمع القرآن‪،‬‬ ‫لفت���رة حص���ره في مصحف عثمان‪ ،‬لفترة تقني���ن اللغة العربية‪،‬‬ ‫لفت���رة تقني���ن الفق���ه وأصوله‪ ،‬لفت���رة جمع الحدي���ث وعلومه‪،‬‬ ‫لفت���رة الترجم���ة‪ ،‬لفترة إنتاج المنهج العلم���ي‪ ...‬لن نجد خطة‬ ‫مركزي���ة انطلق���ت منه���ا كل هذه الجه���ود‪ ،‬بل إبداع���ات أفراد‬

‫‪45‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )35‬‬


‫علي���ه الحض���ارة اإلنس���انية المعاص���رة‪ ،‬وبين حاض���ر تبدو فيه‬

‫المدرس���ية‪ ،‬حيث تس���عى هذه المناهج لطرح اإلس�ل�ام وتنوير‬ ‫ليكون المجتمع���ات الجديدة‪ ...‬فلم���اذا لم يتم‬ ‫الجي���ل ونقل���ه ّ‬ ‫التنوي���ر رغ���م أن نس���بة التعليم ف���ي المنطقة العربي���ة تصل في‬ ‫المتوس���ط ‪ ،%55‬وف���ي بع���ض الب�ل�اد تص���ل ‪ %80‬م���ن الكتلة‬ ‫الجماهيرية!؟ فما هي الحلقة المفقودة؟‪.‬‬ ‫ما الذي عطل حركة الوعي رغم كل هذا الضجيج حولها!؟‬ ‫ه���ل هو غي���اب المادة المعرفية؟ أو افتق���اد المهارة‪ ،‬أو نقصان‬ ‫الكثافة‪ ،‬أو غياب التطبيق‪ ،‬أو عدم الوصول للشريحة الفاعلة‪،‬‬ ‫أو افتق���اد محاولة االنتقال من التنظير للتطبيق بما يخلقه ذلك‬ ‫من تحد عملي؟‬ ‫إن فكرة الوعي تتركنا حول أسئلة عملية‪ ،‬مثل الوعي بماذا؟‬ ‫والوع���ي لمن؟ وأس���ئلة الكيفيات كاملة‪ ،‬وأس���ئلة المؤش���رات‬ ‫جميعا تش���كل حلق���ة الوصل بين‬ ‫عل���ى حدوث الوعي‪ ،‬وهي‬ ‫ً‬ ‫النظري والعملي‪.‬‬

‫في رحلة البحث عن اإلجابات‪.‬‬

‫‪ -2‬الحضارة‬

‫علما وعمالً‪ ،‬أرضها وسماؤها‬ ‫األمة خارج السباق الحضاري ً‬

‫وبشرها مكشوفون أمام العالم‪.‬‬

‫ومن هنا ولد باستمرار سؤال المرحلة في صيغه المختلفة‬

‫وبعناوينه المختلفة‪ :‬النهضة‪ ،‬اليقظة‪ ،‬الصحوة‪ ،‬التقدم‪ ،‬البعث‪،‬‬ ‫الش���هود الحضاري‪ ...‬مفردات كثي���رة جوهرها وباعثها واحد‬ ‫ه���و غياب األمة عن المش���هد الكون���ي المعاصر وانطالق أمم‬

‫األرض‪ .‬فبعد األوروبيين واليابانيين‪ ،‬برزت النمور اآلس���يوية‬ ‫والصي���ن والهند ثم إي���ران وتركيا‪ ...‬وفي قلب المنطقة ولدت‬

‫المكون���ة من خمس���ة ماليين من األف���راد‪ ،‬والتي‬ ‫دول���ة اليه���ود‬ ‫ّ‬ ‫ألجم���ت أم���ة يبل���غ تعداده���ا المليار وني���ف‪ ...‬عص���ر لم يعد‬ ‫في���ه العدد هو س���يد الموقف‪ ،‬بل المعرفة والنوع واالس���تعداد‬

‫للتدافع الحضاري بكل أشكاله‪ ...‬حالة جديدة طرحت نفسها‬

‫‪-‬وال زالت‪ -‬على العقل المس���لم وعلى الواقع المسلم ونحن‬

‫مقاربة المفاهيم‬

‫حين نقترب من عنوان المقال‪ ،‬سنجد أنفسنا أمام فكرة الوعي‪،‬‬ ‫وفك���رة الحض���ارة‪ ،‬وفك���رة الفاعلي���ة‪ ،‬وفكرة التمكي���ن وفكرة‬

‫الشهود‪ ...‬ونحتاج أن نقترب من هذه المفاهيم المشتبكة شي ًئا‬ ‫ما‪ ،‬حتى يمكننا أن نتحدث عن موضوعنا بشيء من الوضوح‪.‬‬

‫‪ -1‬الوعي‬

‫حي���ن نتح���دث ع���ن الوعي نجد أنفس���نا أم���ام كلم���ة اإلدراك‪،‬‬

‫واإلدراك هنا ‪-‬وفي هذا السياق‪ -‬سنستعمله لعدد من األبعاد؛‬ ‫إدراك ال���ذات وممكناته���ا‪ ،‬وإدراك اآلخ���ر وممكناته‪ ،‬وإدراك‬

‫الزم���ان والمكان‪ .‬وبالتالي نحن نبحث عن وعي عام‪ ،‬يس���مح‬ ‫لنا باتخاذ القرارات في موضوع صناعة الحضارة‪ ،‬أو استعادة‬

‫ال���دورة الحضارية لألمة ف���ي ضوء معرفتها بقدراتها وبقدرات‬

‫اآلخ���ر‪ ،‬وبالزم���ان والم���كان ال���ذي تت���م في���ه عملي���ة التداف���ع‬

‫الحضاري‪.‬‬

‫إن م���ا نبح���ث عنه بهذا المعنى‪ ،‬حالة من الرش���د تصاحب‬

‫ال���روح والحماس‪ ،‬معادل���ة تقوم على أولي األيدي واألبصار‪.‬‬

‫وهنا يطرح الس���ؤال نفس���ه‪ ،‬ما هي المع���ارف الضرورية لخلق‬ ‫حال���ة الوع���ي؟ وك���م حج���م م���ا يل���زم منه���ا؟ وكي���ف س���تصل‬ ‫واس���عا من‬ ‫للمس���تهدفين بالوع���ي؟ األم���ر ال���ذي يخل���ق طي ًفا‬ ‫ً‬

‫اإلجاب���ات‪ ،‬وس���نجد مقارب���ة واس���عة للموضوع ف���ي المناهج‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )35‬‬

‫‪44‬‬

‫كلم���ة الحض���ارة ومنه���ا كلم���ة الحض���اري الواردة ف���ي عنوان‬ ‫المق���ال بإضاف���ة ي���اء النس���بة‪ ،‬مصطلح ف���ي الت���داول المعرفي‬ ‫يس���تخدم بثالث���ة معاني‪ ،‬أولها‪ :‬اس���تخدامه للتعبي���ر عن انتقال‬ ‫مجتم���ع ما من الطور البس���يط إلى الط���ور المركب‪ ،‬فمن حياة‬ ‫الصياد البدائي أو الراعي المتنقل لطلب الكَ أل والماء للسكنى‬ ‫مثالً‪ -‬حول األنهار واالستقرار‪ ،‬ونشوء المجتمعات المركبة‬‫الت���ي تظه���ر فيها آثار االس���تقرار والتوس���ع في النظ���م‪ ،‬وبروز‬ ‫الظاه���رة السياس���ية واالقتصادي���ة والدينية والقانوني���ة والكتابة‬ ‫والعل���وم المعمارية والفلك والطب‪ ،‬ونظم المعمار المختلفة‪،‬‬ ‫وبروز الصناعات وشق الطرق وبناء الكباري والجسور‪ ...‬كل‬ ‫يعب���ر عنه باالنتقال من البس���يط للمرك���ب‪ ،‬وهو المعنى‬ ‫ذل���ك َّ‬ ‫األول ف���ي ت���داول كلم���ة حض���ارة ف���ي الحق���ل المعرف���ي‪ .‬أما‬ ‫االس���تخدام الثان���ي‪ :‬فهو اس���تخدام كلمة حض���ارة بالتبادل مع‬ ‫مجتمعا ما من ظهور أنماط الفنون‬ ‫كلمة ثقافة‪ ،‬بمعنى ما يميز‬ ‫ً‬ ‫والمالبس وأنماط الحياة والمعتقدات والقيم والمنتجات التي‬ ‫تعطي كل شكل اجتماعي خصوصيته وهويته‪ .‬أما االستخدام‬ ‫الثال���ث‪ :‬فه���و اس���تخدام عنص���ري للمقارنة بي���ن المجتمعات‬ ‫غي���ر المتحض���رة أو البدائية‪ .‬ويركز بع���ض الباحثين في تقويم‬ ‫الحض���ارات على الجانب القيمي فيها‪ ،‬ويفضل آخرون تقويم‬ ‫الجانب القيمي والمادي في الحضارة‪.‬‬ ‫أم���ا حي���ن نتكلم عن الوع���ي الحضاري فنح���ن نتكلم عن‬


‫قضايا فكرية‬

‫د‪ .‬جاسم سلطان*‬

‫الوعي الحضاري‬

‫فاعلية وتمكين وشهود‬ ‫يعي���ش الف���رد المس���لم المعاصر بي���ن ضغوط عل���ى خطاه يس���يرون‪ ،‬ومع هذه المهم���ة تاريخ من اإلنجازات‬ ‫مفارقتي���ن كبيرتي���ن؛ قرآن من���زل يحتوي على الحضاري���ة الكب���رى‪ ،‬حيث افتتحت العصور البش���رية الجديدة‬

‫أس���رار العظم���ة الرباني���ة وتوجيهاته���ا الفريدة لإلنس���انية قاطبة‪ ،‬بإبداع المنهج التجريب���ي الذي أتم الحلقتين‬

‫وم���ا أناطت���ه بالمس���لم م���ن تكالي���ف تتع���دى الش���أن الف���ردي‪ ،‬الكبيرتي���ن الس���ابقتين للبش���رية؛ حلق���ة المنه���ج العمل���ي (ف���ي‬

‫وتنق���ل هذا اإلنس���ان لمهم���ة كونية كبرى هي هداية اإلنس���انية الحض���ارات م���ا قب���ل اليوناني���ة)‪ ،‬والمنهج التجري���دي النظري‬ ‫الحائ���رة‪ُ ﴿ :‬ق ْل َهذِ ِه َس��� ِبيلِي َأ ْد ُعو ِإلَى ا ِ‬ ‫هلل َعلَ���ى َب ِص َير ٍة َأ َنا َو َم ِن الذي أبدعته الحضارة اليونانية‪ .‬وهكذا تكامل للبشرية المنهج‬ ‫ا َّت َب َعنِي﴾(يوسف‪ .)108:‬فأتباع الرسول ‪ ‬محملون بمهمة كبرى‪ ،‬العمل���ي‪ ،‬والمنهج النظ���ري‪ ،‬والمنهج التجريب���ي‪ ،‬الذي قامت‬

‫‪43‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )35‬‬


‫أن أغلب غير المس���لمين ال يعرفون عن اإلس�ل�ام إال الصورة‬

‫اإلنسان عامة للصورة‪ ،‬لدرجة أن مسلمين من قوم موسى‪‬‬

‫ص���ورة اإلس�ل�ام في أذه���ان ش���باب أوروبا حت���ى ال يدخلون‬

‫ناس���ا عاكفين عل���ى أصنام لهم‬ ‫أن رأوا ف���ي الش���اطئ اآلخ���ر ُأ ً‬ ‫﴿اج َع ْل َل َن���ا ِإ َل ًها َك َما َل ُه ْم آ ِل َه ٌة﴾(األع���راف‪ ،)138:‬بل وقال‬ ‫قال���وا‪ْ :‬‬ ‫اهلل‬ ‫صفوة هؤالء وهم مع موس���ى ‪ ‬في جبل الطور‪﴿ :‬أَرِ َنا َ‬ ‫َج ْه َر ًة﴾(النس���اء‪ ،)153:‬مما يؤك���د خطورة الصورة‪ ،‬وأهمية التقنية‬

‫المشوهة التي رسمها مستشرقون في القرون الوسطى؛ لتشويه‬ ‫أفرادا‬ ‫فيه‪ ،‬وتعززها الممارس���ات الس���يئة لكثير من المس���لمين‬ ‫ً‬

‫ال في هذا الزمن!‬ ‫وجماعات ودو ً‬

‫أصل القرآن لموضوع صناع���ة "القول" بصورة عامة‬ ‫وق���د َّ‬

‫ال‪ -‬ب���أن يكون‬ ‫وف���ي مش���اهد عدة م���ن الحياة‪ ،‬حي���ث أمر ‪-‬مث ً‬ ‫معرو ًفا﴾(البق���رة‪ ،235:‬النس���اء‪،8-5:‬‬

‫األح���زاب‪.)32:‬‬

‫���و ً‬ ‫الق���ول‪َ ﴿ :‬ق ْ‬ ‫ال َ ْ ُ‬ ‫ال َب ِل ًيغا﴾(النس���اء‪.)63:‬‬ ‫يدا﴾(النس���اء‪ ،9:‬األح���زاب‪َ ﴿ .)80:‬ق ْو ً‬ ‫���و ً‬ ‫ال َس ِد ً‬ ‫﴿ َق ْ‬

‫ال‬ ‫ورا﴾(اإلس���راء‪َ ﴿ .)28:‬ق ْو ً‬ ‫يما﴾(اإلس���راء‪َ ﴿ .)23:‬ق ْو ً‬ ‫﴿ َق ْو ً‬ ‫ال َم ْي ُس ً‬ ‫ال َك ِر ً‬ ‫َل ِّي ًنا﴾(طه‪.)44:‬‬ ‫﴿و ِإ َذا َس ِم ُعوا ال َّل ْغ َو َأ ْع َر ُضوا‬ ‫وجعل من صفات المؤمنين‪َ :‬‬ ‫َع ْن ُه﴾(القص���ص‪ ،)55:‬ونالح���ظ أن اإلع���راض يك���ون ع���ن اللغ���و‬ ‫وليس عن الشخص‪ ،‬وهذا ينقلنا إلى نقطة جديدة‪.‬‬

‫‪-6‬الموضوعية واالنضباط المصطلحي‪ :‬ونبدأ من حيث انتهينا‬

‫في النقطة السابقة‪ ،‬فإن إعراض المسلم يكون عن اللغو وليس‬ ‫عن الش���خص‪ ،‬أي ع���ن العمل الخاطئ ال���ذي ينبغي أن تتجه‬

‫إليه وحده الكراهة‪ ،‬كما قال تعالى على لس���ان لوط ‪ ‬وهو‬

‫يخاط���ب قومه الذي���ن جمعوا بين الكفر والش���ذوذ الجنس���ي‪:‬‬ ‫﴿ َق َ ِ ِ ِ‬ ‫ين﴾(الش���عراء‪)168:‬؛ فالمس���لم‬ ‫���ن ا ْل َقا ِل َ‬ ‫���م ِم َ‬ ‫���ال ِإ ّن���ي ل َع َمل ُك ْ‬ ‫موضوعي‪ ،‬يتجه بحبه أو كرهه إلى القول ال إلى قائله‪ ،‬كما في‬ ‫ون َأ ْح َس َن ُه﴾(الزمر‪،)18:‬‬ ‫ون ا ْل َق ْو َل َف َي َّتب ُِع َ‬ ‫ين َي ْس َت ِم ُع َ‬ ‫قوله تعالى‪﴿ :‬ا َّل ِذ َ‬ ‫مما يتيح له أن يكون منص ًفا‪ ،‬حيث يستطيع رؤية محاسن من‬

‫يكره ومس���اوئ من يحب‪ ،‬إضافة إلى اس���تفادته من إيجابيات‬ ‫ون َأ ْح َس َن ُه﴾‪.‬‬ ‫خصومه‪َ ﴿ :‬ف َي َّتب ُِع َ‬ ‫﴿و ِإ َذا‬ ‫وألهمي���ة هذا األمر‪ ،‬أمر الق���رآن بالعدل في القول‪َ :‬‬ ‫ان َذا ُق ْر َبى﴾(األنعام‪.)152:‬‬ ‫اع ِد ُلوا َو َل ْو َك َ‬ ‫ُق ْل ُت ْم َف ْ‬ ‫وأم���ا االنضب���اط ف���ي اس���تخدام المصطلح���ات فيقلل من‬

‫فخ‬ ‫ويبع���د اإلنس���ان عن الوق���وع في ّ‬ ‫الخط���أ‪ ،‬ويزي���ل اللب���س‪ُ ،‬‬ ‫معتزا بثقافة أمته‪ ،‬كما فعل القرآن عندما نهى‬ ‫التعميم‪ ،‬ويجعله ًّ‬ ‫ين‬ ‫﴿يا َأ ُّي َها ا َّل ِذ َ‬ ‫عن اتباع المصطلحات المتش���ابهة ق���ال تعالى‪َ :‬‬ ‫ِ‬ ‫اس َم ُعوا﴾(البقرة‪.)104:‬‬ ‫آم ُنوا َ‬ ‫َ‬ ‫ال َت ُقو ُلوا َراع َنا َو ُقو ُلوا ا ْن ُظ ْر َنا َو ْ‬ ‫تمكن‬ ‫‪-7‬معرف � � ��ة طبائع الناس وحقائق الحياة‪ :‬إن هذه المعرفة ِّ‬ ‫المس���لم من التأثير على اآلخرين‪ ،‬واالستفادة من نقاط قوتهم‬ ‫كأفراد وكمجتمعات‪.‬‬

‫ومم���ا يج���ب معرفت���ه ف���ي س���ياق وس���ائل اإلع�ل�ام‪ ،‬حب‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )35‬‬

‫‪42‬‬

‫بع���د نجاته���م من فرع���ون وتجاوزه���م للبحر بمعج���زة‪ ،‬وبعد‬

‫فيها إليجاد إعالم رس���الي راقي‪ ،‬كما يفع���ل أبناء تيار الخدمة‬

‫في تركيا اليوم‪.‬‬

‫‪-8‬تحلية المجتمع بشتى أنواع الخيرات‪ :‬إن استزراع المعروف‬

‫ف���ي أي مجتمع‪ ،‬واتس���اع دائرة الخير فيه‪ ،‬يس���اعد الناس على‬

‫فه���م الحقائ���ق‪ ،‬ويقل���ل م���ن الش���بهات ويجفف مناب���ع الفتن‪،‬‬

‫ويساعدهم على وضع النقاط على الحروف‪ ،‬ولهذا قال تعالى‬ ‫عن المنافقين‪﴿ :‬و َلو َع ِلم ا ُ‬ ‫هلل ِفيهِ ْم َخ ْي ًرا لأَ َ ْس َم َع ُه ْم﴾(األنفال‪،)23:‬‬ ‫َ ْ َ‬ ‫الط ِّي ِب ِم َن‬ ‫﴿و ُه ُدوا ِإ َلى َّ‬ ‫وع���ن المؤمنين في المقابل ق���ال ‪َ :‬‬ ‫اط ا ْل َح ِم ِ‬ ‫ا ْل َق���و ِل َو ُه ُدوا ِإ َلى ِص���ر ِ‬ ‫يد﴾(الح���ج‪ .)24:‬وهذا ما ينبغي‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫أن يجند نفس���ه من أجل تحقيقه اإلعالم اإلسالمي‪ ،‬حتى تعم‬ ‫الفائدة أبناء المجتمعات اإلسالمية جمعاء‪.‬‬

‫‪-9‬استش� � � �راف المس � � ��تقبل ومعرف � � ��ة الم � � ��آالت‪ :‬كان رس���ول‬ ‫راقيا بكل‬ ‫اهلل كقائ���د جماع���ة وزعي���م دول���ة‪ ،‬يم���ارس‬ ‫ً‬ ‫إعالم���ا ً‬

‫ش���روطه وضوابطه‪ ،‬ومن ذلك قدرته على فهم الناس وطبيعة‬

‫المجتمع���ات‪ ،‬والتنب���ؤ بم���ا يمك���ن أن ينش���أ من إع�ل�ام مضاد‬ ‫يش���وه الرس���الة في أذه���ان البعض‪ .‬ولذلك ‪-‬وعلى س���بيل‬ ‫قد‬ ‫ِّ‬

‫المث���ال‪ -‬ل���م يقت���ل عبد اهلل بن أب���ي رغم أنه اقترف ما تس���مى‬

‫ف���ي هذا العصر بجريمة الخيانة العظمى‪ ،‬وقاد‬ ‫خامس���ا‬ ‫طابورا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫لإلرج���اف ت���ارة‪ ،‬والتآمر مع أع���داء األمة تارة أخ���رى‪ ،‬وع َّلل‬

‫"د ْع ُه‪ ،‬ال‬ ‫‪ ‬االمتن���اع ع���ن قتله بقول���ه لعمر بن الخط���اب ‪َ :‬‬ ‫يتحدث الناس أن‬ ‫محمدا يقتل أصحابه" (رواه البخاري)‪.‬‬ ‫ً‬

‫ومن ثم ينبغي على اإلعالمي المس���لم أن يراعي ذلك في‬

‫عمل���ه كله‪ ،‬والس���يما في التعامل مع اآلخ���ر‪ .‬وبهذا كله يرتفع‬ ‫المس���لم من دركات "الس���ماع" ذات األبواب المخلوعة‪ ،‬إلى‬

‫درج���ات "االس���تماع" ذات األب���واب اآللي���ة التي تع���رف متى‬ ‫تنفتح ومتى تنغلق‪.‬‬

‫(*) أستاذ مشارك للفكر اإلسالمي السياسي بجامعة تعز ‪ /‬اليمن‪.‬‬


‫القرآنية‪ ،‬ويمكن إجمال أهمها في النقاط اآلتية‪:‬‬

‫المصطلح���ات الجميل���ة التي تطلق على أم���ور قبيحة‪ ،‬كالغزو‬

‫‪-1‬التّ ِّ‬ ‫لق � � ��ي العقلي واالس � � ��تماع بجارحة العقل‪ :‬أك���د القرآن أن‬

‫اس���تعمارا‪ ،‬والخمور التي تس���مى مشروبات‬ ‫الذي يطلق عليه‬ ‫ً‬

‫لنبي���ه محم���د ‪ ‬الذي أرهق نفس���ه ف���ي محاول���ة هداية بعض‬ ‫الن���اس م���ن دون جدوى‪َ ﴿ :‬أ َف َأ ْن َت ُتس ِ‬ ‫ال‬ ‫���و َكا ُنوا َ‬ ‫���م ُع ُّ‬ ‫الص َّم َو َل ْ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ال ُت ْس���م ُع‬ ‫ال ُت ْس���م ُع ا ْل َم ْو َتى َو َ‬ ‫ون﴾(يونس‪ ،)42:‬وقال‪ِ ﴿ :‬إ َّن َك َ‬ ‫َي ْع ِق ُل َ‬ ‫ين﴾(النمل‪.)80:‬‬ ‫الص َّم ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫الد َع َاء ِإ َذا َو َّل ْوا ُم ْدب ِ​ِر َ‬ ‫حذر اهلل المؤمنين من هذا الداء الوبيل فقال تعالى‪:‬‬ ‫ولهذا ّ‬ ‫ون﴾(األنفال‪،)21:‬‬ ‫ين َقا ُلوا َس ِم ْع َنا َو ُه ْم َ‬ ‫﴿و َ‬ ‫ال َي ْس َم ُع َ‬ ‫ال َت ُكو ُنوا َكا َّل ِذ َ‬ ‫َ‬ ‫أيا كانت‪ -‬إال من فتح سمعه‬‫اآليات‬ ‫من‬ ‫يستفيد‬ ‫ال‬ ‫بأنه‬ ‫وأكد‬ ‫ًّ‬ ‫ان َل ُه َق ْل ٌب َأ ْو َ​َ‬ ‫الس ْم َع‬ ‫ى‬ ‫ق‬ ‫ل‬ ‫أ‬ ‫ك‬ ‫ْ‬ ‫وقلبه‪﴿ :‬إ َِّن ِفي َذ ِل َك َل ِذ ْك َرى ِل َم ْن َ َ‬ ‫َّ‬ ‫يد﴾(ق‪.)37:‬‬ ‫َو ُه َو َشهِ ٌ‬

‫ومن المهم في هذا السياق أن يتم تفكيك الضالالت وتفنيد‬

‫الس���مع النافع هو الذي يقترن بالعق���ل الواعي‪ ،‬كما قال تعالى‬

‫ويتضح هذا االقتران بين الس���مع والعقل حتى في حديث‬

‫الكافرين يوم القيامة عن أنفسهم‪ ،‬إذ يتندمون قائلين‪َ ﴿ :‬ل ْو ُك َّنا‬ ‫الس ِع ِير﴾(الملك‪.)10:‬‬ ‫َن ْس َم ُع َأ ْو َن ْع ِق ُل َما ُك َّنا ِفي َأ ْص َح ِ‬ ‫اب َّ‬ ‫وعندم���ا اش���ترك ع���دد من المس���لمين ف���ي تناق���ل حديث‬ ‫اإلف���ك الذي رم���اه المنافقون كقذيفة لتمزيق عرض الرس���ول‬

‫‪َّ ،‬بي���ن الق���رآن مكم���ن الخلل في ه���ؤالء فق���ال‪﴿ :‬إ ِْذ َت َل َّق ْو َن ُه‬ ‫ِ ِ‬ ‫ف���ورا إل���ى‬ ‫ِب َأ ْلس َ���نت ُك ْم﴾(النور‪)15:‬؛ فق���د تلق���وه ب���اآلذان ونقل���وه ً‬ ‫األلس���نة فكأنهم تلقوه بألس���نتهم مباشرة‪ .‬ولو نقلوه إلى العقل‬

‫روحية‪ ،‬والتغريب الذي ُيطلق عليه تحدي ًثا‪ ،‬وهكذا‪.‬‬

‫الش���بهات الت���ي يطلقها األع���داء دون البقاء في خان���ة الردود‪،‬‬

‫وأس���لوبا‪.‬‬ ‫زمن���ا‪ ،‬ومكا ًنا‪،‬‬ ‫ومقدارا‪،‬‬ ‫بحي���ث يتم ال���رد الحكيم‪ً :‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫لق���د اهت���م الق���رآن بال���رد عل���ى الش���كوك والش���بهات‬

‫والض�ل�االت‪ ،‬وله���ذا وردت كلم���ة "قل" في الق���رآن ثالثمائة‬ ‫واثنتي���ن وثالثي���ن مرة‪ ،‬وهي ُتل ِّقن النب���ي ‪ ‬ماذا يقول للناس‪،‬‬ ‫وأكثرها وردت في مثل هذه السياقات‪.‬‬

‫‪-3‬اإلع � � ��ادة إلى المنهج النب � � ��وي وأصحاب التخصصات‪ :‬عند‬ ‫انعدام العلم في مس���ألة ما من المس���ائل التي يقع بها الهجوم‬ ‫والتح���دي واالته���ام م���ن قب���ل اآلخري���ن‪ ،‬ال ينبغ���ي االرتجال‬

‫والتخب���ط‪ ،‬ب���ل العودة إل���ى المنه���ج النبوي وأصح���اب العلم‬ ‫﴿و ِإ َذا َج َاء ُهم َأ ْمر ِم َن ا َ‬ ‫أل ْم ِن َأوِ ا ْل َخ ْو ِف‬ ‫والدراي���ة‪ ،‬قال تعالى‪َ :‬‬ ‫ْ ٌ‬ ‫���ول َو ِإ َلى ُأو ِلي ا َ‬ ‫وه ِإ َلى الر ُس ِ‬ ‫أل ْم ِر ِم ْن ُه ْم َل َع ِل َم ُه‬ ‫َأ َذ ُاعوا ِب ِه َو َل ْو َر ُّد ُ‬ ‫َّ‬ ‫ين َي ْس َت ْنب ُِطو َن ُه ِم ْن ُه ْم﴾(النساء‪.)83:‬‬ ‫ا َّل ِذ َ‬ ‫وق���د ع َّظ���م اهلل أصحاب الخبرة بص���ورة عامة فقال تعالى‪:‬‬ ‫���ك ِم ْث ُل َخبِيرٍ ﴾(فاط���ر‪)14:‬؛ ألنهم أصحاب دراية وافية‬ ‫﴿و َ‬ ‫ال ُي َن ِّب ُئ َ‬ ‫َ‬ ‫بتخصصاتهم‪.‬‬

‫ال‪ -‬القي���اس العقلي على‬ ‫كمرحل���ة وس���يطة‪ ،‬واس���تخدموا ‪-‬مث ً‬ ‫ال إ ِْذ َس ِ‬ ‫وه‬ ‫ذواتهم؛ لرفضوه وردوه‪ ،‬كما قال تعالى‪َ ﴿ :‬ل ْو َ‬ ‫���م ْع ُت ُم ُ‬ ‫���ذا ِإ ْف ٌك‬ ‫���ات ِب َأ ْن ُف ِس���هِ ْم َخ ْي ًرا َو َقا ُلوا َه َ‬ ‫���ن ا ْل ُم ْؤ ِم ُن َ‬ ‫���ون َوا ْل ُم ْؤ ِم َن ُ‬ ‫َظ َّ‬ ‫ِين﴾(النور‪ ،)12:‬فكيف لو اس���تخدموا سائر اإلمكانات العقلية‬ ‫ُمب ٌ‬ ‫في ضوء الواقع الوضيء للصحابة الكرام‪ ،‬وأمهات المؤمنين‪،‬‬ ‫الص ِّديق رضي اهلل عنهما‪.‬‬ ‫الص ِّديقة بنت ِّ‬ ‫والسيما عائشة َّ‬

‫‪-4‬إب� � � �راز تهافت الدعايات المض � � ��ادة‪ :‬في الح���روب الثقافية‬

‫اآلنف الذكر‪ ،‬وقع بعض المسلمين في شراك المنافقين بسبب‬

‫الثقافات األخرى‪ ،‬تمتلئ أفكارهم ودعاياتهم بتناقضات كثيرة‪،‬‬

‫ِّ‬ ‫‪-2‬التحلي بالعلم والتس � � � ُّ�لح بالبراهين‪ :‬في مثال حديث اإلفك‬

‫والتقول بدون علم‪ ،‬كما قال تعالى‪:‬‬ ‫التلقي باللسان ال بالعقل‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫���ه ِب َأ ْل ِس َ���ن ِت ُكم َو َت ُقو ُل َ َ ِ‬ ‫���س َل ُك ْم ِب ِه‬ ‫﴿إ ِْذ َت َل َّق ْو َن ُ‬ ‫���ون ِبأ ْف َواه ُك ْ‬ ‫ْ‬ ‫���م َم���ا َل ْي َ‬ ‫ِع ْل ٌم﴾(النور‪.)15:‬‬

‫وله���ذا الب���د من توفي���ر المعلوم���ات‪ ،‬وتوضي���ح الحقائق‪،‬‬

‫وإب���راز الوثائق واألدلة والبراهين؛ حتى ال تتش���ابه على الناس‬ ‫يذر الرماد في عيونهم!‬ ‫البقر‪ ،‬وحتى ال يستطيع أحد أن ّ‬

‫والب���د م���ن إذابة مس���احيق التجمي���ل عن األوج���ه القميئة‬

‫والمضامي���ن القبيح���ة؛ حت���ى ال يق���ع العام���ة ضحية له���ا‪ ،‬مثل‬

‫ويش���تد هذا األمر في اإلع�ل�ام‪ ،‬ألن الغرب يمتلك صناعة‬

‫إعالمي���ة ضخم���ة تتربع على خب���رات دقيقة ووفي���رة في علوم‬

‫ع���دة تتج���اوز اإلعالم إلى عل���وم النفس واالجتم���اع والتاريخ‬ ‫مكنهم م���ن التعرف على ثغرات المس���لمين‬ ‫وغيره���ا‪ ...‬مم���ا ُي ِّ‬

‫ِ‬ ‫وخاللهم‪ ،‬والتسلل منها إلى الداخل‪.‬‬

‫والنفس���ية التي يتعرض لها المس���لمون من قبل متطرفي بعض‬

‫ينبغ���ي أن يركز عليها الذين يتصدون لها بعلم‪ ،‬إلثبات تهافتها‬ ‫م���ن خالل هذا األس���لوب العقلي الذي يجع���ل بعضها ينقض‬

‫البع���ض اآلخر‪ ،‬وكع���ادة المبطلين في كل زمان ومكان‪ ،‬فإنهم‬ ‫ي���ج﴾(ق‪ ،)5:‬أو كما‬ ‫كم���ا ق���ال عنهم الق���رآن‪َ ﴿ :‬ف ُه ْم ِف���ي َأ ْمرٍ َم ِر ٍ‬ ‫خاطبهم مباش���رة بقوله‪ِ ﴿ :‬إ َّن ُكم َل ِفي َقو ٍل ُم ْخ َت ِل ٍ‬ ‫ف﴾(الذاريات‪.)8:‬‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫وما علينا إال اكتشاف هذه التناقضات وإبرازها للعيان‪.‬‬ ‫‪-5‬االرتقاء بالردود في المبنى والمعنى‪ :‬في الرد على إس���فاف‬ ‫اآلخري���ن‪ ،‬ينبغي أن تكون الردود حكيمة وحصيفة‪ ،‬والس���يما‬

‫‪41‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )35‬‬


‫ساحر‪ ،‬حتى استقر ذلك في عقول الناس من كثرة التكرار‪.‬‬

‫وحت���ى بعد أن رأى هؤالء‪ ،‬المعجزات الباهرة الدالة على‬

‫نب���وة موس���ى‪ ،‬بم���ا فيها آي���ات العقوبة له���م كالج���راد والقمل‬ ‫والضف���ادع وال���دم‪ ،‬فق���د ظلت عقوله���م غير الواعي���ة مزروعة‬ ‫بمس���ألة الس���حر المتهم بها موس���ى ‪ .‬وله���ذا فإنهم عندما‬

‫وادعوا قبولهم دعوته‪،‬‬ ‫أرادوا اس���تعطافه ليرفع عنهم الع���ذاب َّ‬ ‫﴿يا َأ ُّي َها الس ِ‬ ‫اح ُر ْاد ُع َل َنا َر َّب َك‬ ‫قالوا له كما سجل القرآن ذلك‪َ :‬‬ ‫َّ‬ ‫ون﴾(الزخرف‪ ،)49:‬وهذا يبين خطورة‬ ‫ب َِما َعهِ َد ِع ْن َدكَ ِإ َّن َن���ا َل ُم ْه َت ُد َ‬ ‫اإلعالم والدعاية واإلش���اعة‪ ،‬حي���ث يمكن أن يصل األمر إلى‬ ‫حد تجريف العقول!‬

‫سماع األذى‬

‫م���ن المؤكد أن اآلخ���ر الديني أو الحضاري ليس قطعة واحدة‬ ‫متجانس���ة في كل ش���يء‪ ،‬بل ه���و عوالم متع���ددة مختلفة‪ .‬وإذا‬

‫عد اليهود أش���د الناس عداوة للذين آمنوا‪ ،‬فإنه‬ ‫كان القرآن قد ّ‬ ‫���و ًاء﴾(آل عمران‪ ،)113:‬ومن باب أولى‬ ‫قد قال عنهم‪﴿ :‬ل َْي ُس���وا َس َ‬

‫غيرهم‪ ،‬والسيما النصارى الذين هم أقرب مودة للذين آمنوا‪،‬‬

‫وخاص���ة في ه���ذا العصر الذي برزت فيه الكثي���ر من التيارات‬

‫اإلنسانية والمؤسسات المدنية‪.‬‬

‫اب‬ ‫لقد قرر القرآن ّ‬ ‫﴿و َل َت ْس َم ُع َّن ِم َن ا َّل ِذ َ‬ ‫ين ُأو ُتوا ا ْل ِك َت َ‬ ‫وأكد‪َ :‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫���ن َقب ِل ُك���م َو ِم َن ا َّل ِذ َ َ‬ ‫ي���را﴾(آل عم���ران‪.)186:‬‬ ‫م ْ ْ ْ‬ ‫���ر ُكوا أ ًذى َكث ً‬ ‫ي���ن أ ْش َ‬ ‫كثيرا يط���ال كلياتهم‬ ‫وقد س���مع المس���لمون وسيس���معون ً‬ ‫أذى ً‬ ‫الخمس‪ :‬دينهم‪ ،‬نفوسهم‪ ،‬أعراضهم‪ ،‬أموالهم‪ ،‬عقولهم‪.‬‬

‫تقولوا عل���ى اهلل بغير‬ ‫وقب���ل ذل���ك وبع���ده‪ ،‬ف���إن منهم م���ن َّ‬

‫علم‪ ،‬فزعموا أنه أمرهم بالفحشاء وقالوا "إن اهلل فقير"‪ ،‬ورموه‬ ‫﴿س ْب َحا َن ُه‬ ‫بالبخل‪ ،‬وزعموا أنه اتخذ ً‬ ‫ولدا‪ ،‬ورموه بكل نقيصة‪ُ :‬‬ ‫ِيرا﴾(اإلسراء‪.)43:‬‬ ‫َو َت َعا َلى َع َّما َي ُقو ُل َ‬ ‫ون ُع ُل ًّوا َكب ً‬ ‫أما األنبياء فقد اتهموهم بالسحر والكهانة والشعر‪ ،‬وبأنهم‬

‫المس���حرين‪ ،‬واتهموه���م باالفتراء والك���ذب على اهلل‪ ،‬بل‬ ‫م���ن‬ ‫ّ‬

‫ورموه���م بالزنا‪،‬‬ ‫وتطيروا بهم‪ ،‬وتقاس���موا ب���اهلل على إيذائهم‪،‬‬ ‫َّ‬

‫وحاربوهم بكل صنوف الحرب واإليذاء‪.‬‬

‫ولك���ن هل كل ما جاء من اآلخر ه���و إيذاء وحرب؟ وهل‬ ‫ْ‬

‫نتعامل مع مخرجات إعالمه بذات الطريقة؟‬

‫"استماع"؟‬ ‫"س َم ٌاع" أم‬ ‫ٌ‬ ‫المسلم َ‬

‫وف���ي ه���ذا الزم���ن يتك���رر األذى ويتكث���ف ض���د مقدس���ات‬

‫المسلمين‪ ،‬ويتولى اإلعالم الغربي كِ َب َر ذلك تحت مبرر حرية‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )35‬‬

‫‪40‬‬

‫ال���رأي ت���ارة‪ ،‬ومحاربة التخلف تارة ثاني���ة‪ ،‬ومحاربة اإلرهاب‬ ‫تارة أخرى‪.‬‬ ‫ولك���ن الواقع يق���ول‪ ،‬إن إعالم اآلخر ‪-‬والس���يما اإلعالم‬ ‫الغربي‪ -‬يحتوي على مساحة واسعة للحرية والحوار‪ ،‬واحترام‬ ‫حقوق المس���لمين‪ ،‬والدفاع عن حرياتهم ومقدساتهم‪ ،‬إضافة‬ ‫إلى وجود ما يمكن التعاون عليه من مش���تركات إنس���انية‪ ،‬وما‬ ‫يمكن اقتباس���ه واالنتفاع به مم���ا تزخر به الحضارة الغربية من‬ ‫جواهر نفيسة وثمار يانعة‪.‬‬ ‫إن أكث���ر المس���لمين المعاصرين‪ ،‬منقس���مون بين من يغلق‬ ‫كل األبواب والنوافذ بحجة عدم س���ماع األذى وعدم السماح‬ ‫للغ���زو الثقاف���ي بالتس���لل إل���ى حص���ون المس���لمين‪ ،‬وبين من‬ ‫يفتحون األب���واب على مصارعها والنوافذ على آخرها‪ ،‬بمبرر‬ ‫االقتباس والتفاعل الحضاري‪ ،‬فانغلق القس���م األول وانجرف‬ ‫القسم اآلخر‪.‬‬ ‫له���ذا فإننا بحاجة ماس���ة إلى العودة المتدب���رة للقرآن‪ ،‬فإنه‬ ‫وحده من يمتلك الرؤية العقلية المتوازنة التي يمكن أن ُتنقذنا‬ ‫م���ن تقليد اآلخر والذوبان في���ه أو االنغالق عنه وعدم اقتباس‬ ‫النافع المفيد منه‪.‬‬ ‫إن المسلم أشد ما يكون حاج ًة لتربية عقلية تمنحه الميزان‬ ‫راكدا من بقايا الس���لف أو‬ ‫الذي يزن به كل ش���يء‪ ،‬س���واء كان ً‬ ‫واف���دا من الحض���ارة الغربية‪ ،‬فيأخذ ما هو حس���ن ويتجنب ما‬ ‫ً‬ ‫ه���و قبيح‪ ،‬وتعطيه الغربال الذي ُيفرز‬ ‫الغث ويس���تبقي الثمين‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫بل يميز بواس���طته بين أفضل الخيرين وأس���وإ الش���رين‪ ،‬فيأخذ‬ ‫األفضل ويرفض األسوأ‪.‬‬ ‫ولهذا جعل المولى ‪ ‬من أهم صفات المؤمنين "القولية"‪:‬‬ ‫ون َأ ْح َس َن ُه﴾(الزمر‪)18:‬؛ وهذا يعني‬ ‫ون ا ْل َق ْو َل َف َي َّتب ُِع َ‬ ‫ين َي ْس َت ِم ُع َ‬ ‫﴿ا َّل ِذ َ‬ ‫"سماعين"‪،‬‬ ‫أن الفكر اإلس�ل�امي‬ ‫معني بإيجاد "مس���تمعين"‪ ،‬ال َّ‬ ‫ٌّ‬ ‫هلل‬ ‫﴿و ِف ُ‬ ‫ون َل ُه ْم َوا ُ‬ ‫اع َ‬ ‫يك ْم َس َّم ُ‬ ‫كما قال تعالى عن الصنف اآلخر‪َ :‬‬ ‫ِ‬ ‫ين﴾(التوبة‪.)47:‬‬ ‫يم ب َّ‬ ‫ِالظا ِل ِم َ‬ ‫َعل ٌ‬ ‫فاالس���تماع العقل���ي إ ًذا ه���و طبيع���ة المؤمني���ن‪ ،‬والس���ماع‬ ‫الجارح���ي هو دي���دن المنافقين ومن ال َح َّظ له���م من المعرفة‬ ‫المفيدة والوعي النافع‪.‬‬

‫وسائل وأساليب صناعة "االستماع"‬

‫يزخ���ر إعالم اآلخ���ر بجبال ضخمة م���ن المعلومات واألخبار‬ ‫والش���ائعات تتراوح بين النفع والض���ر‪ ،‬والبد من غربلتها عبر‬ ‫ع���دد من الوس���ائل واألس���اليب‪ ،‬كما توحي بذل���ك النصوص‬


‫قضايا فكرية‬ ‫د‪ .‬فؤاد البنا*‬

‫المسلم وإعالم اآلخر‬ ‫بين "السماع" و"االستماع"‬

‫رغ���م أن اللغ���ة العربي���ة أغن���ى لغ���ات العال���م‬

‫رباه���م اهلل ‪ ‬على عينه‪ ،‬واصطنعهم لنفس���ه‪،‬‬ ‫فصاح���ة وبيان‪َّ ،‬‬

‫على ما يسمى بـ"الترادف"‪ .‬فمع وجود كلمات‬

‫محمد ‪ ‬خاتم المرسلين فقد كان ملك الفصاحة الذي أدهش‬

‫بالمفردات‪ ،‬إال أنها ال تحتوي ‪-‬في الراجح‪-‬‬ ‫ُيق���ال إنها مترادفة‪ ،‬إال أن هن���اك فرو ًقا دقيقة بينها‪ ،‬مثل كلمتي‬

‫"السماع" و"االستماع" الواردتين في عنوان هذه المقالة‪.‬‬

‫فمع التشابه في المعنى العام بينهما‪ ،‬إال أن "السماع" يتجه‬

‫إل���ى الفعل الذي تق���وم به جارحة األذن‪ ،‬وبجانب هذا المعنى‬ ‫يضي���ف "االس���تماع" حضور العق���ل وإصغاء القل���ب‪ .‬ولذلك‬

‫وس��� َّلحهم بكالمه البليغ ووحيه الفصيح‪ .‬ولما كان المصطفى‬

‫أرباب البيان‪ ،‬وصار كتابه الكريم أبلغ الكتب‪ ،‬ونزله اهلل باللغة‬

‫العربي���ة لفصاحته���ا‪ ،‬فمن معان���ي العروبة‪ :‬اإلبان���ة والفصاحة‪.‬‬ ‫وقد نزل القرآن بالعربية حتى يسهل فهمه وعقله‪ِ ﴿ :‬إ َّنا َأ ْن َز ْل َن ُاه‬ ‫ون﴾(يوس���ف‪ِ ،)2:‬‬ ‫���اب ُف ِّص َل ْت َآيا ُت ُه‬ ‫ُق ْرآ ًن���ا َع َرب ًِّي���ا َل َع َّل ُك ْم َت ْع ِق ُل َ‬ ‫﴿ك َت ٌ‬ ‫ون﴾(فصلت‪.)3:‬‬ ‫ُق ْرآ ًنا َع َرب ًِّيا ِل َق ْو ٍم َي ْع َل ُم َ‬ ‫ولم���ا كان موس���ى ‪ ‬ق���د أصي���ب بلثغ���ة في لس���انه أثناء‬

‫﴿و ِإ َذا ُق ِر َئ‬ ‫طالب اهلل ‪ ‬المؤمنين بـ"االس���تماع" إل���ى القرآن‪َ :‬‬ ‫آن َف ْ ِ‬ ‫َ ِ‬ ‫ون﴾(األعراف‪،)204:‬‬ ‫���م ُت ْر َح ُم َ‬ ‫ا ْل ُق ْر ُ‬ ‫اس َ���تم ُعوا َل ُه َوأ ْنص ُتوا َل َع َّل ُك ْ‬ ‫اس َت ِم ْع‬ ‫﴿و َأ َنا ْ‬ ‫كليمه موسى ‪ ‬بقوله‪َ :‬‬ ‫اخ َت ْر ُت َك َف ْ‬ ‫وخاطب اهلل َ‬ ‫وحى﴾(طه‪ .)13:‬وتمتاز العربية بأن زيادة المبنى يدل على‬ ‫ِل َم���ا ُي َ‬ ‫زيادة المعنى؛ فـ"االستماع" أكبر مبنى وأهم معنى من "السماع"‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫وفي هذا إشارة بليغة إلى أهمية اإلعالم في الدعوة وخطورته‬

‫مع أن القرآن كتاب هداية لكل زمان ومكان‪ ،‬إال أنه احتوى على‬

‫وتغيي���ر القناع���ات‪ ،‬بل ونف���خ الروح في األوه���ام واألكاذيب‪.‬‬

‫فقد كان كل الرسل أصحاب بالغ مبين‪ ،‬إذ كانوا أصحاب‬

‫‪ ‬ذاته؛ فقد س��� َّلط فرعون أجهزة دعايته للقول بأن موس���ى‬

‫خطورة اإلعالم‬

‫مبادئ كثيرة من العلوم واآلداب والفنون‪ ،‬ومن ذلك اإلعالم‪.‬‬

‫���ر ه���ذا النق���ص بأخي���ه‬ ‫صغ���ره‪ ،‬فق���د ألهم���ه اهلل أن يطل���ب َج ْب َ‬ ‫ه���ارون ‪ ،‬كما قال تعالى على لس���انه‪ِ َ :‬‬ ‫ون ُه َو‬ ‫ار ُ‬ ‫﴿و َأخي َه ُ‬ ‫اف َأ ْن‬ ‫���ح ِم ِّني ِل َس���ا ًنا َف َأ ْر ِس��� ْل ُه َم ِع َي رِ ْد ًءا ُي َص ِّد ُق ِن���ي ِإ ِّني َأ َخ ُ‬ ‫َأ ْف َص ُ‬ ‫ُي َك ِّذ ُب ِ‬ ‫ون﴾(القصص‪.)34:‬‬ ‫البالغة‪ ،‬حيث يمكن أن يصل إلى حد التجريف وقلب الحقائق‬ ‫بارزا في هذا السياق في قصة موسى‬ ‫ويسجل القرآن مثا ً‬ ‫ال ً‬

‫‪39‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )35‬‬


‫تراعي النسق وال السياق‪.‬‬

‫مصطلح "الترشيد"‪ :‬نموذج تطبيقي‬

‫ف���ي ه���ذا الس���ياق يعال���ج الدكت���ور عب���د الوه���اب المس���يري‬ ‫إش���كالية توظي���ف مصطل���ح "الترش���يد" دون النظ���ر إل���ى‬

‫مصطلح���ا مث���ل‬ ‫التحي���زات والمنطلق���ات فيق���ول‪" :‬ولْنأخ���ذ‬ ‫ً‬ ‫"‪ "Rationalisation‬وه���و ترجم���ة لمصطل���ح ألمان���ي اس���تخدمه‬ ‫ويترجم مصطلح الترش���يد أو العقلنة‪ ،‬إذ‬ ‫المفك���ر ماكس فيبر؛ ُ‬

‫وتعرف المعاجم‬ ‫اشتق من كلمة "‪ "Raison‬والتي تعني "العقل"‪،‬‬ ‫ّ‬

‫عملي���ة الترش���يد بأنه���ا عملي���ة اس���تيعاب الغيب والس���حر من‬

‫المعرفة‪ ،‬وتطبيق المناهج العلمية البيروقراطية غير الش���خصية‬

‫عرف الترشيد‬ ‫على إدارة المجتمع‪ .‬حس��� ًنا‪ ،‬ولكن "فيبر" نفسه ّ‬ ‫بأن���ه تحوي���ل العال���م إلى حال���ة المصنع‪ ،‬كما ق���ال‪" :‬إن عملية‬

‫الترش���يد س���تؤدي ال إلى مزيد من الحرية لإلنس���ان‪ ،‬وإنما إلى‬ ‫القفص الحديدي وإلى أزمة المعنى"‪ .‬ويرى كثير من دارس���ي‬

‫كثيرا من نبوءات "فيبر" قد‬ ‫المجتمع���ات المتقدمة الحديث���ة أن ً‬ ‫تحققت‪ ،‬وأن ظهور نظم ش���مولية منهجية رش���يدة مثل النظام‬ ‫الن���ازي‪ ،‬ه���و تعبير متط���رف عن عملي���ة الترش���يد‪ ،‬وأن تنميط‬

‫الوج���ود في المجتمعات الديموقراطي���ة هو تعبير عادي عنها‪،‬‬

‫وأنها مجتمعات لم تعد تسأل لماذا؟ وإنما تسأل كيف؟ وتركز‬ ‫عل���ى اإلج���راءات دون الغايات‪ ،‬ولذا فه���ي مجتمعات تنغلق‬

‫داخل المرئي والمحسوس‪.‬‬

‫نصر على‬ ‫بع���د نب���وءات فيبر‪ ،‬وبعد تحقق معظمها‪ ،‬ما زلنا ّ‬

‫ترش���يدا‪ ...‬ألم يحن الوقت أن نسمي األشياء‬ ‫تس���مية الظاهرة‬ ‫ً‬

‫بأسمائها؟ وإذا كانت الظاهرة بدأت بالترشيد وانتهت بالسجن‪،‬‬ ‫ف ِل���م ال نس���ميها بمصطلح آخ���ر لنبين الجوان���ب المظلمة فيها‬ ‫والت���ي ظهرت م���ن خ�ل�ال الممارس���ة التاريخي���ة؟ أحيا ًنا يبلغ‬ ‫التردي منتهاه فال نترجم المصطلح‪ ،‬وإنما نكتفي بتعريبه(‪.)5‬‬

‫(*) كاتب وصحفي ومدير تنفيذي‪ ،‬معهد المناهج ‪ /‬الجزئر‪.‬‬

‫الهوامش‬

‫(‪ )1‬انظر‪ ،‬الفكر اليوناني والثقافة العربية‪ ،‬لدمتري كوتاس‪.‬‬

‫(‪ )2‬انظر‪ ،‬األقانيم الثالثة وآلهة من الحلوى‪ :‬الطفل‪ ،‬المرأة‪ ،‬الحاكم‪.‬‬

‫(‪" )3‬غوغل���ة"‪ ،‬نس���بة إلى ش���ركة المعلوماتية األمريكي���ة (‪ ،)Google‬والمراد هو‬ ‫التعبي���ر ع���ن تحوي���ل الترجمة إل���ى حرفة آلية ذري���ة غير ق���ادرة على توليد‬

‫المعاني المركبة المتماسكة‪.‬‬

‫(‪ )4‬يمتلك مصطلح (‪ )Sens‬باللغة الفرنسية خاصية تركيبية عالية‪ ،‬حيث يحمل‬ ‫داللة الوجهة‪/‬المعنى‪.‬‬

‫(‪ )5‬اللغة والمجاز‪ ،‬لعبد الوهاب المسيري‪ ،‬ص‪.207:‬‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )35‬‬

‫‪38‬‬

‫كيف يصل‬ ‫عيناك مظلمتان‪،‬‬ ‫للنور ظامئتان‪،‬‬ ‫وللجمال مشوقتان‪...‬‬ ‫أتحسب يا مسكين‪،‬‬ ‫أنّك قادر على قطع الطريق بعينيك المطفأتين‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫والوصول إلى خاتمة المسير؟!‬ ‫وأنَّى للقلب أن يَحيى إذا تاه عن مواله؟!‬ ‫***‬


‫رِي بعد َعي‪ ،‬وفيض بعد غيض‪.‬‬ ‫تاريخ الترجمة الذي يروي قصة ّ‬ ‫ّ‬

‫‪ ...‬محفوفة بالمخاطر‬

‫ومحاطة بالمحاذِر؛‬ ‫مهمة الترجمة الفكرية محفوفة بالمخاطر‪ُ ،‬‬ ‫محايدا لمجموع المعلومات‬ ‫ال بري ًئ���ا‬ ‫فترجمة الفكر ليس���ت نق ً‬ ‫ً‬ ‫والمع���ارف والخب���رات الت���ي أفرزتها حضارة إنس���انية ما‪ ،‬بعد‬ ‫اتباعه���ا األس���باب الكونية‪ ،‬حيث تتطاب���ق المعارف مع الكون‬ ‫ّرادا‪ .‬فترجمة "الفكر" تعني ترجمة "النسق" الفكري الكامن‬ ‫اط ً‬ ‫وتبني���ه بوع���ي أو بدونه‪ ،‬ويعن���ي انتقال الخصيص���ة مع الفكرة‬ ‫والمعرف���ة؛ س���ريان األمالح المعدنية في "نس���غ نباتي ناقص"‪،‬‬ ‫نهائيا‪ ،‬بل يمكن تجاوزه باكتش���اف‬ ‫إال ّ‬ ‫أن النس���ق الكامن ليس ًّ‬ ‫كليات���ه الخفي���ة‪ ،‬ومواقف���ه الكوني���ة المضمرة غي���ر المعلنة‪ .‬إن‬ ‫ترجمة الفكر تعني ترجمة النسق‪ ،‬والتصدي لعملية زرع دقيقة‬ ‫وحساس���ة لرقعة معرفي���ة ومعنوية ضمن نس���يج فكري جديد‪،‬‬ ‫يحرص فاتلُه على التناغم في اللون‪ ،‬والتماس���ك في اللحمة‪،‬‬ ‫والتآلف في المبنى‪ ،‬والتكاتف في المعنى‪.‬‬ ‫نعدد في اللغة‬ ‫ولعل���ي أض���رب مثا ً‬ ‫ال غاية في البس���اطة؛ إذ ّ‬ ‫اإلنجليزي���ة ضمائر الغائب المفردة ثالث��� ًة‪ ،‬وهي للمذكر "هو"‬ ‫ويطل���ق عل���ى عالم‬ ‫(‪ ،)He‬وللمؤن���ث "ه���ي" (‪ ،)She‬وللمحاي���د ُ‬ ‫األشياء والحيوان (‪ ،)It‬إال أن المرء يقع في المفارقة اآلتية‪:‬‬ ‫• فتجد أن الطبيعة (‪ )Nature‬في اللغة اإلنجليزية ‪-‬التي هي‬ ‫يعبر عنه‬ ‫باعتب���ار رؤيتنا الكونية‪ -‬مخلو ًقا غير عاقل وال مريد‪َّ ،‬‬ ‫بضمير التأنيث العاقل المريد (‪ ،)She‬فهل هذه التركيبة اللفظية‬ ‫كونيا‬ ‫كامنا‪ ،‬وتعلن‬ ‫محايدة وبريئة؟ أم إنها تحمل نس��� ًقا ً‬ ‫ً‬ ‫تحيزا ًّ‬ ‫فاضحا في مس���توى الرؤية الكوني���ة؟ وهل نحن ملزمون بتبني‬ ‫ً‬ ‫اللف���ظ رغم كراهة رائحة داللته الفكري���ة والكونية؟ أم أن هذا‬ ‫الكالم ك ّله حذلقة وثرثرة؟‬ ‫ال آخ���ر؛ ينوب ع���ن لفظة الصب���ي (‪)Baby‬‬ ‫• و ْلنض���رب مث���ا ً‬ ‫يعبر به عن "عالم األش���ياء" و"عالم الحيوان"‪،‬‬ ‫ضمير (‪ )It‬الذي َّ‬ ‫فهل س���ترى وأنت تتأمل في ابنك الطفل؛ فترى إلى ابتس���امته‬ ‫"دمي���ة"‪ ،‬أم بس���مة "طفل‪/‬إنس���ان"‪ ،‬أم أنك‬ ‫عل���ى أنه���ا ابتس���امة ُ‬ ‫تع َّده "أقنوما"(‪- )2‬في أحسن األحوال!‪ -‬حين‬ ‫س���تضطر إلى أن ُ‬ ‫تحدثه‬ ‫تحدث���ه باإلنجليزي���ة‪ ،‬و ُتعي���د إلي���ه إنس���انيته فجأة حي���ن ّ‬ ‫ّ‬ ‫بلس���ان عربي مبين؟ فهل الترجمة تحويل ُلبنيات لغوية صماء‬ ‫من لغة إلى أخرى‪ ،‬أم أن األمر أدق وأخطر؟‬

‫النسغ الكامل‬

‫االنتق���ال بالفك���رة من لغ���ة إلى أخرى‪َ ،‬ت َح ُّول في النس���ق ال في‬

‫اللف���ظ‪ ،‬وانتقال من عالم مصطب���غ بخصائص موضوعية وذاتي ٍة‬ ‫تبدلت‬ ‫ال تنف���ك عن���ه‪ ،‬إلى عالم جديد يحمل ذات النس���ق وإن ّ‬ ‫البني���ة‪ .‬فالترجمة الفكرية عالم يتالح���م فيه المؤلف بالمترجم‪،‬‬ ‫ومفس���را ومؤل ًفا‬ ‫وينصه���ر المترجم في ذات الفكر فيصير قار ًئا‬ ‫ً‬ ‫في الوقت نفس���ه‪ ،‬ليحمل مع صاحب النس���ق جذوة فكره التي‬ ‫تلفح صفحات لفظه‪ ،‬ويقاسمه همومه وآالمه التي تؤجج سهاد‬ ‫ليل���ه‪ ،‬فيميز بين اللفظ الذي ُيصافي���ه المفكر؛ فيبوح له بأوار ما‬ ‫ِ‬ ‫واللفظ الذي يج ّنده ليعبر به تارة عن رضاه وتارة‬ ‫اتقد في عقله‪،‬‬ ‫عن سخطه‪ .‬ترجمة الفكر ليست معادلة رياضية صارمة صامتة‬ ‫صماء باهتة ال تفقه لغة‬ ‫ال تعرف الضحك وال البكاء‪ ،‬وال ُبنية ّ‬ ‫األلوان وس���حر األذواق وفتنة الحكم���ة الحوراء‪ ...‬إنها ترجمة‬ ‫الجوهر والروح‪ ،‬ال ترديد الصدى و"غوغلة"(‪ )3‬المعنى والمبنى‪،‬‬ ‫حمل خصائص الفكر‬ ‫فال يصلح لترجمة النسق‬ ‫ً‬ ‫ابتداء‪ -‬إال من َ‬‫وح ًّبا‪.‬‬ ‫فهما ُ‬ ‫ولبا‪ ،‬وتالحمت ذاته بذات الفكر ً‬ ‫قلبا ًّ‬ ‫الذي يترجمه ً‬

‫الترجمة ترجمة السياق‬

‫(‪)Sens‬‬

‫(‪)4‬‬

‫عدا أسمق وأعلى‪ ،‬فباإلضافة إلى كونها‬ ‫تكتسي ترجم ُة الفكر ُب ً‬ ‫ترجمة "نسق" فهي كذلك ترجمة "سياق"‪ ،‬إذ بؤرة التركيز في‬ ‫الترجم���ة ليس���ت تقليص المس���افة اللفظية الفاصل���ة بين الدال‬ ‫تغير المناخ الفكري‬ ‫ومدلول���ه بين اللغتي���ن‪ ،‬بل المقصد اعتبار ّ‬ ‫والمعنوي واللفظي‪.‬‬ ‫والميس���رة لهذا‬ ‫لع���ل من أوض���ح األمثلة وأكثره���ا طرافة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫المعنى؛ تباين التعبير بين الرجل العربي والرجل الفرنسي عن‬ ‫وحبورا‪.‬‬ ‫كلمة طيبة أفاضت قلبه بهجة‪ ،‬ورفلت بمهجته سعادة‬ ‫ً‬ ‫طيب أو ك ِلم حس���ن يقول‪:‬‬ ‫فالرج���ل العربي حين يس���ره لف���ظ ّ‬ ‫"لق���د أثلج���ت ص���دري"‪ ،‬لكن ترجمة ه���ذه الداللة إل���ى اللغة‬ ‫ال‪ -‬ستكون على النحو اآلتي‪ça m’a réchauffé le( :‬‬ ‫الفرنسية ‪-‬مث ً‬ ‫دافئا بحسن كالمك‪ ...‬والمراد‬ ‫‪ )cœur‬بمعنى‪ :‬لقد جعلت قلبي ً‬ ‫م���ن القول إن الترجم���ة هنا لم تكن البؤرة فيه���ا ترجمة درجة‬ ‫موضوعي���ا من اللغة "أ" إلى اللغ���ة "ب"‪ ،‬بل المقصد‬ ‫الح���رارة‬ ‫ًّ‬ ‫ترجم���ة الس���ياق ال اللف���ظ‪ ،‬ألن بيئ���ة الرجل العرب���ي والرجل‬ ‫محددة في البيان؛ فيصير المعنى المراد إبالغه أن أثر‬ ‫الفرنسي ِّ‬ ‫الكلم���ة الطيب���ة على المرء كحالوة العث���ور على مكان للدفء‬ ‫الح���ر‪ .‬إن الترجمة الحرفية‬ ‫الق���ر‪ ،‬أو إث�ل�اج الصدر أوان‬ ‫أوان‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫لهاتين العبارتين ستجعالن "العربي" يستشهد لفرط االحتباس‬ ‫الح���راري! والفرنس���ي يموت لدخوله العص���ر الجليدي (دون‬ ‫س���ابق إنذار)! هذه فات���ورة الترجمة الحرفي���ة األيقونية التي ال‬

‫‪37‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )35‬‬


‫قضايا فكرية‬ ‫طه كوزي*‬

‫ترجمة الفكر‬ ‫من "بيت الحكمة" إلى "غوغل"‬ ‫ال ري���ب أن ترجم���ة الفك���ر ليس���ت مج���رد نق���ل ش���تات‬ ‫أف���كار نزيه���ة ومحاي���دة م���ن لغ���ة إل���ى أخ���رى ال تحم���ل في‬ ‫ثناياه���ا تحي���زات صاحبه���ا ومواقف���ه‪ ...‬ففع���ل الترجم���ة‬ ‫لي���س ميكانيكي���ا فوتوغرافي���ا يح���رص في���ه صاحب���ه عل���ى نق���ل المبان���ي م���ن‬ ‫بائع���ا م���ن باعة اللف���ظ في ُس ِ‬ ‫���وق ِنخاس���ة المعاني‬ ‫لس���ان إل���ى لس���ان‪ ،‬ولي���س ً‬ ‫واألف���كار‪ ...‬إن���ه خالص���ة اإليم���ان بس���نة "التداول" بي���ن األمم ف���ي االنتصار‬ ‫واالنكس���ار‪ ،‬وعصارة حس���ن التدبير في البناء الحضاري واإلعمار اإلنساني‪.‬‬

‫الترجمة رحلة صدق‬

‫(مترجم لها)‬ ‫الترجم���ة مؤش���ر على ارتفاع منس���وب الفك���ر والمعرفة عند أم���ة‬ ‫َ‬ ‫وانكس���ار أخ���رى (مترجم إليها)‪ ،‬لي���روي بذلك تاريخ الترجم���ة قصة التدافع‬ ‫الحض���اري بين بني اإلنس���ان؛ أم��� ٍة تعيش ذروة الحضارة وت���ؤذن بما بعدها‬ ‫علما ومعرفة وخبرة‪ ...‬وأم��� ٍة أخرى تعصرها‬ ‫(م���ا بعد الحضارة)‪ ،‬أنتج���ت ً‬ ‫أزم��� ٌة معرفي���ة؛ أفاقت للتو م���ن ُدوار حضاري‪ ،‬وانتكاس نفس���ي‪ ،‬تعيش‬ ‫فانكبت بين أقدام المنتصر متتلمذة ناقل ًة‬ ‫مالم���ح "ما قبل الحضارة"‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫محرك االنطالق‪ ،‬ووقود االنعتاق من جاذبية‬ ‫المعارف‪ ،‬ع ّلها تكون ّ‬ ‫التخلف والجهل واالسترخاء الحضاري‪.‬‬ ‫إنه���ا ش���ريحة زمنية تتآلف مش���اهدها كلما ازددت استكش���ا ًفا ألغوار‬ ‫سائحا‪ ،‬ابتداء من الحضارة الصينية الشرقية إلى اإلغريقية‬ ‫سابحا‬ ‫الماضي‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫الغربية‪ ،‬ومن ثم إلى الحضارة اإلسالمية في مح ّطاتها التاريخية المختلفة‬ ‫حينا آخر‪ ،‬لتجد نفس���ك بين يدي "هارون الرش���يد"‬ ‫حينا ومتتلمذة ً‬ ‫مع ِّلمة ً‬ ‫(‪809-786‬م)‪ ،‬و"المأم���ون" (‪833-813‬م) م���ن بعده‪ ،‬وهما يؤسس���ان لجهود‬ ‫الترجمة من الفكر اليوناني إلى اللغة العربية(‪ )1‬من خالل ترجمة فنون وصنوف‬ ‫شتى‪ ،‬ابتداء من كتاب "األخالق الكبرى" ألفالطون‪ ،‬وكتاب "مواضع الجدل"‬ ‫(‪ )Topique‬ألرس���طو‪ ،‬إلى كتابات بطليموس بعنوان "تيترابيبلوس" (�‪Tetrabib‬‬ ‫���ج‬ ‫خول رج ً‬ ‫ال اس���مه "الخوارزمي" من ُ‬ ‫نس َ‬ ‫‪ ...)los‬هذا الحراك المعرفي ّ‬ ‫بعد‪ْ ،‬‬ ‫أول كت���اب ف���ي "الجب���ر والمقابلة"‪ .‬وتقف بك عجلة الزم���ن فجأة عند "الرجل‬ ‫الغربي" وهو يسابق الدقائق والثواني في ترجمة ما انتهت إليه حضارة المسلمين‬ ‫في "بالد األندلس" يوم سقطت "غرناطة" سنة ‪1422‬م‪ ،‬حين آذنت كلمات "أم‬ ‫المعتمد" بانحدار "حضارة األندلس" قائلة البنها الخليفة "أبي عبد اهلل الصغير"‬ ‫حين أضاع الملك‪" :‬ابك كالنساء على ُملك لم تحافظ عليه كالرجال"‪ .‬إنه‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )35‬‬

‫‪36‬‬


‫الطرق وإعدادها من مواقع الحديـد‪ ،‬ومواقع النحاس‪ ،‬وأفران‬ ‫صهره‪ ،‬حتى موقع الردم‪ .‬كذا المعاونة فيما تستلزمه المساواة‬ ‫بين الصدفـين‪ ،‬والذي يتواله ذو القرنين‪.‬‬ ‫‪ -3‬فري���ق إليقاد الني���ران‪ ،‬وهذا الفريق يتول���ى إعداد مواد‬ ‫وخامات االشتعال‪ ،‬كذا أدوات النفخ والبـدء في النفخ إلشعال‬ ‫النيران عندما يطلب ذلك ذو القرنين في الوقت المحدد‪.‬‬ ‫‪ -4‬فريــق إلعداد النحــاس المــذاب‪ ،‬وهذا الفريق يتـولى؛‬ ‫اكتشاف خام النحاس‪ ،‬ونقله إلى أفران صهره‪ ،‬والتي يقيمونها‪،‬‬ ‫ثم صهر النحاس ونقله إلى موقع الردم عندما يطلبه ذو القرنين‪.‬‬ ‫ال‪ ،‬دون الدخول‬ ‫وهذا كله قد وضح من قول ذي القرنين إجما ً‬ ‫���ر ْغ َع َل ْي��� ِه ِق ْط ًرا﴾‪.‬‬ ‫ف���ي ه���ذه التفاصيل بقول���ه ‪﴿ :‬آ ُتو ِن���ي ُأ ْف ِ‬ ‫ه���ذه بعض الف���رق التي نس���تطيع أن نجزم أن ه���ذا العمل‬ ‫ق���د تطلبه���ا ‪-‬وأكثر من تصورنا هذا قد حدث‪ -‬لما يتطلبه هذا‬ ‫العم���ل الضخ���م من فرق لتنفيذه‪ ،‬حتى إنن���ا نتخيل أنه البد أن‬ ‫الشعب كـله قد عمل فيه‪ ،‬وذلك للحاجة إلى كثير من األيـدي‬ ‫العامـلة لتنفيذه‪ .‬وال نس���تطيع أن نتخيل كيف شرح ذو القرنين‬ ‫وبي���ن لكـ���ل فريق عمل���ه وواجباته وأن ي���ؤدي كل فريق عمله‬ ‫ّ‬ ‫على أكمل وأتم وجه‪.‬‬ ‫ال‪ ،‬وكي���ف‬ ‫وال ننس���ى أن الق���وم ال ي���كادون يفقه���ون ق���و ً‬ ‫تاب���ع ذو القرني���ن المراحل البعيدة ع���ن موقع الردم عندما كان‬ ‫بعيدا عنه في الكش���ف‬ ‫يس���اوي بين الصدفين وهناك من يعمل ً‬ ‫ع���ن عنصري الحدي���د والنحاس وتصنيعهم���ا‪ ،‬ونقل الكميات‬ ‫المطلوب���ة منهم���ا‪ ،‬كذا خامات ومواد االش���تعال‪ ...‬وكان البد‬ ‫لهذه ال ِف َرق أن تتولى إدارة أنفسهم بأنفسهم‪.‬‬ ‫بعضا من مهامه اإلش���رافية‬ ‫وكأن���ي بذي القرنين قد فوض ً‬ ‫ألف���راد من الش���عب‪ .‬وه���ذا ما نطل���ق عليه ف���ي إدارة األعمال‬ ‫"التفويض"‪ ،‬ولقد نجحوا في هذا‪ .‬وتلك ما تنادي به النظريات‬ ‫الحديثة في "القيـادة"‪ ،‬و"إدارة األعمال"‪.‬‬

‫‪ -12‬القادة يجب أن يكونوا قادة تغيير إلى األفضل‬

‫أراد ذلك ذو القرنين فحول هذه األمة‪ ،‬من أمـة تشتري سالمتها‬ ‫إلى أمـة تصنع س�ل�امتها‪ .‬ومن ش���عب متكاسل إلى ِف َرق عمـل‬ ‫بجد لتحقيق أمنهـم‪ ،‬من خالل إنجـاز مشروعهم‬ ‫متعاونة تسعى ٍّ‬ ‫قيما جديـدة تمثلت في حب العمل‪ ،‬الثقـــــة‬ ‫الضخـم‪ .‬فأكسبهم ً‬ ‫في النفس‪ ،‬إدارة أنفسهم وأعمالهم ذاتيا‪ ،‬الكشف عن مصادر‬ ‫ثرواتهم‪ ،‬اكتساب مهارات جديـدة‪ ،‬معرفة تكنولوجيـا جديـدة‪،‬‬ ‫تقدي���ر قيمــــ���ة الوق���ت‪ ،‬ب���ث روح التعـــ���اون بينه���م‪ ،‬اكتس���اب‬

‫قي���م وأخالقي���ات جديـدة تنب���ع من إيمان ه���ذا القائـد العظيـم‪.‬‬

‫‪ -13‬إنكــار الـــذات والتــــواضــــــع‬

‫القادة يجب أن يعظموا أهداف المنظمة‪ ،‬وينكروا ذاتهم في سبيل‬

‫الجماع���ة لينالوا ثقة اآلخرين واحتـرام مرؤوس���يهم لهم‪ .‬ولقد‬

‫ضرب لنا ذو القرنين المثل األعلى في هذا بقوله‪َ ﴿ :‬قالَ َما َمكَّ ِّني‬ ‫فِي ِه َر ِّبي َخ ْي ٌر َف َأعِ ي ُنونِي ِب ُق َّو ٍة َأ ْج َع ْل َب ْي َنكُ ْم َو َب ْي َن ُه ْم َر ْد ًما﴾(الكهف‪.)95:‬‬ ‫وكأني به يقول لهم‪ :‬لم آت إليكم من أجل المغنـم‪ ،‬ولكن‬ ‫متطوعا‪ ،‬أطلب العون منكم بقـوة‪ ،‬ساعدوني‬ ‫جئت من أجلكم‬ ‫ً‬

‫ردم���ا‪ ،‬يحميكم ويحم���ي ذرياتكم من‬ ‫ألجعـ���ل بينك���م وبينهم ً‬ ‫بعدكم‪ .‬ثم انظر إلى تواضعه الجم؛ وبعد أن أتم العمل الخالد‬ ‫ال َه َذا َر ْح َم ٌة ِم ْن َر ِّبي َف ِإ َذا‬ ‫والمعجز‪ ،‬رد األمر إلى اهلل ‪َ ﴿ :‬ق َ‬ ‫ان َو ْع ُد َر ِّبي َح ًّقا﴾(الكهف‪ .)98:‬إنه‬ ‫َج َاء َو ْع ُد َر ِّبي َج َع َل ُه َد َّك َاء َو َك َ‬

‫الممك���ن في األرض‪ ،‬يطل���ب العون ليبني الردم‪ ،‬وينصهر معه‬ ‫ّ‬ ‫تواضعا هلل ‪.‬‬ ‫الشعب‪ ،‬ثم ال يغتر بعمله‬ ‫ً‬

‫‪ -14‬وضع معايير عالية لتقويم األداء‬

‫اعوا ل َُه َن ْق ًبا﴾(الكهف‪.)97:‬‬ ‫اس��� َتطَ ُ‬ ‫اس���طَ ُ‬ ‫اعوا َأ ْن َيظْ َه ُر ُ‬ ‫وه َو َما ْ‬ ‫﴿ َف َما ْ‬

‫إن القرآن الكريم‪ ،‬يعلمنا أن كل عمل يعمله اإلنسان‪ ،‬البد أن‬

‫مؤديا للغرض الذي أقيم من أجله‪ .‬فالردم الذي تم بنـاؤه‬ ‫يكون ً‬ ‫بي���ن يأجوج ومأج���وج‪ ،‬والقوم المس���تضعفين‪ ،‬البد أن يحقق‬ ‫هدفي���ن؛ األول‪ ،‬أن يك���ون من المتانة والق���وة بحيث ال يمكن‬

‫جدا يصعب‬ ‫ثقبا ينفذون منه‪ .‬والثاني‪ ،‬أنه عال ًّ‬ ‫أن يحدث���وا فيه ً‬

‫عليه���م أن يتس���لقوه‪ ،‬ولقد حق���ق تنفيذ الردم هذي���ن الهدفين‪.‬‬

‫فعل���ى القادة حين يخطط���ون لتنفيذ األه���داف‪ ،‬أن يضعوا‬

‫نص���ب أعينهم أعل���ى المعايير لجـ���ودة األداء‪ ،‬ليصلـوا ب ِف َرقهم‬

‫قيموا ما أتمـوه من عمـل على‬ ‫إلى أفضـل النتائـج‪ ،‬وعليهم أن ُي ّ‬

‫المعايير المطلوبة للعمل‪ ،‬فها هو ذو القرنين‪ ،‬وبعد أن تماسك‬ ‫الردم وتماس���ك معه الش���عب وت���م العمل‪ ،‬ينتق���ل إلى مرحلة‬

‫اختب���ار العمل وكأن���ه يقول لهم‪ :‬حاولوا أن َتظهروه‪ ...‬حاولوا‬

‫وه َو َما‬ ‫اس���طَ ُ‬ ‫اعوا َأ ْن َيظْ َه ُر ُ‬ ‫أن تنقبوه‪ ...‬فلم يس���تطيعوا‪َ ﴿ ...‬ف َما ْ‬ ‫اعوا ل َُه َن ْق ًبا ‪َ ‬قالَ َهذَ ا َر ْح َم ٌة م ِْن َر ِّبي َف ِإذَا َج َاء َو ْع ُد َر ِّبي‬ ‫اس َتطَ ُ‬ ‫ْ‬ ‫ان َو ْع ُد َر ِّبي َح ًّقا﴾(الكهف‪.)98-97:‬‬ ‫َج َعل َُه َد َّك َاء َو َك َ‬

‫(*) باحث في مجال اإلعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة المطهرة ‪ /‬مصر‪.‬‬

‫‪35‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )35‬‬


‫المتكاسلة إلى قوة بشريـة هائلة تنفذ أكبر مشروع على األرض‪.‬‬

‫‪ -9‬القدرة على اتخاذ القرارات‬

‫وتلك القدرة تس���تلزم في فكر القائد مراحل مدروسة ومنطقية‬ ‫لصناعتها‪ ،‬وهي على النحو التالي كما تصورناها‪:‬‬ ‫• تحديد المش � � ��كلة‪ :‬في حالتنـ���ا تلك هي إغـ���ارة يأجوج‬ ‫ومأجوج على القوم واإلفس���ـاد فيهم‪ ،‬والقوم ال يملكون سبل‬ ‫استثمار طاقتهم البشرية وثرواتهم‪ ،‬كما ظهر من حديث القوم‬ ‫لذي القرنين‪.‬‬ ‫• جمع البيانات حول المش � � ��كلة‪ :‬وفي هذه القصة القرآنية‬ ‫الجليلة‪ ،‬نرى ‪-‬واهلل أعلى وأعلم‪ -‬أنها جاءت من مصدرين‪:‬‬ ‫المصدر األول‪ :‬قد يكون ِعلم ذي القرنين بإفس���اد يأجوج‬ ‫ومأج���وج في هذه المنطقة قد جـ���اءه من قبل اهلل ‪ ،‬وبكيفية‬ ‫ال نعلمها‪ ،‬فانطلق إليهـا‪.‬‬ ‫المص���در الثان���ي‪ :‬علم���ه به���ا ج���اء بمعاينته إفس���اد يأجوج‬ ‫ال‪ ،‬قب���ل أن يلتقي بالقوم‬ ‫ومأج���وج عندم���ا بلغ بين الس���دين أو ً‬ ‫﴿ح َّت���ى ِإ َذا‬ ‫دونهم���ا وم���ا يدلن���ا عل���ى ق���ول الح���ق س���بحانه‪َ :‬‬ ‫ون‬ ‫���د ْي ِن َو َج َد ِم ْن ُدو ِنهِ َم���ا َق ْو ًما َ‬ ‫ال َي َ‬ ‫ون َي ْف َق ُه َ‬ ‫���ك ُاد َ‬ ‫َب َل َ‬ ‫الس َّ‬ ‫���غ َب ْي َ‬ ‫���ن َّ‬ ‫ال﴾(الكه���ف‪ .)93:‬والس���ياق القرآني في غاي���ة البالغة والدقة‪،‬‬ ‫َق ْو ً‬ ‫بحورا من المعرفة والحكمة‪ .‬فمن هذه اآليـة‬ ‫وفي تدبره يعطي‬ ‫ً‬ ‫ال‪،‬‬ ‫الكريم���ة يظه���ر لنا بجالء أن ذا القرنين بلغ بين الس���دين أو ً‬ ‫فعاين إفس���اد يأج���وج ومأجوج‪ ،‬ثم انتقل إل���ى منطقة دونهما‪،‬‬ ‫���د ْي ِن‬ ‫الس َّ‬ ‫أي بالق���رب منهما‪ ،‬قال س���بحانه‪َ :‬‬ ‫﴿ح َّتى ِإ َذا َب َل َغ َب ْي َن َّ‬ ‫َو َج َد ِم ْن ُدو ِنهِ َما َق ْو ًما﴾(الكهف‪)93:‬؛ هناك التقى بالقوم‪ ،‬فأخذوا‬ ‫يعرض���ون علي���ه أزمتهم‪ ،‬األم���ر الذي وافق ما لدي���ه من معرفة‬ ‫مس���بقة "عن إفس���اد يأج���وج ومأجوج" ما تح���دث القوم عنهم‬ ‫وعن إفس���ادهم‪ ،‬لذا اتخذ القرار بإقامة ردم ضخم بينهم وبين‬ ‫يأجوج ومأجوج‪.‬‬ ‫المص���در الثال���ث‪ :‬من الق���وم أنفس���هم ‪-‬كما ذكرن���ا آنفا‪-‬‬ ‫ون‬ ‫���د َ‬ ‫وج ُم ْف ِس ُ‬ ‫وقوله���م‪َ ﴿ :‬قا ُلوا َي���ا َذا ا ْل َق ْر َن ْي ِن إ َِّن َي ْأ ُج َ‬ ‫وج َو َم ْأ ُج َ‬ ‫ِفي ا َ‬ ‫ض﴾‪.‬‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫• الحكم � � ��ة في االختيار بي � � ��ن البدائل المتاحة‪ :‬إن أحس���ن‬ ‫البدائـ���ل ف���ي ه���ذه األزمة‪ ،‬ه���و إقامة مـان���ع حصي���ن بالموارد‬ ‫المتاحة‪ ،‬بين القوم وبين يأجوج ومأجوج‪.‬‬ ‫• رسم خطط التنفيذ‪ :‬وهذه البد أن يكون لها تصور كامـل‬ ‫ف���ي فك���ر القـائد؛ كيف يخط���ط‪ ،‬وكيف تك���ون البداية‪ ،‬وكيف‬ ‫يس���تثمر كل اإلمكاني���ات‪ ،‬وما ه���ي مع���دالت األداء المطلوبة‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )35‬‬

‫‪34‬‬

‫إلنهاء العمل على الوجه األكمل وفي الموعد المحدد‪.‬‬

‫• مرحلة صياغ � � ��ة القرارات وإصدارها‪ :‬وهي القرارات التي‬

‫أصدره���ا ذو القرني���ن‪ ،‬والتي جاءت بقوة عل���ى النحـو التالي‪:‬‬ ‫﴿آ ُتو ِن���ي ُز َب���ر ا ْل َح ِد ِ‬ ‫���ر ْغ َع َل ْي��� ِه‬ ‫ي���د﴾‪﴿ ،‬ا ْن ُف ُخ���وا﴾‪﴿ ،‬آ ُتو ِن���ي ُأ ْف ِ‬ ‫َ‬ ‫ِق ْط ًرا﴾(الكهف‪.)96:‬‬ ‫• متابعة تنفيذ القرارات‪ :‬فلق���د كان ذو القرنين بينهـم‪ ،‬يده‬ ‫بيده���م وهم يقيم���ون الردم‪ ،‬لهم مهام وله مه���ام ينفذها‪ ،‬وهو‬

‫متواج���د بينه���م‪ ،‬ويتاب���ع مراح���ل التنفي���ذ وهو بالق���رب منهم‪.‬‬

‫فاالتصاالت الفعالة بين القائـد والتابعين‪ ،‬من أساس���يات إدارة‬ ‫األزمات‪ ،‬فال هناك وقت يضاع‪.‬‬

‫‪ -10‬إدارة الـوقت‬

‫المقولة تقول‪" :‬الوقت = نقود"‪ ،‬وفي األزمات‪" :‬الوقت = حيـاة"‪.‬‬

‫والس���ياق القرآن���ي الجليـل في هذه القص���ة‪ ،‬يلفت أنظارنـا إلى‬ ‫أهمية عامل الوقت واالس���تخـدام األمثـل له‪ ،‬وذلك من خالل‬ ‫إشـارات لطيفـة في أثناء تنفيـذ الردم‪ .‬فبعد عرض فكرتـه عليهم‬

‫بـ���دأ في التنفيـذ على الف���ور بقوله‪﴿ :‬آ ُتونِي ُز َب َر ال َْحدِ يدِ ﴾‪ .‬فإذا‬ ‫﴿ح َّتى ِإذَا‬ ‫انتهت مرحلة‪ ،‬بدأ بالمرحلة التي بعدها على الفور‪َ :‬‬

‫ارا َقالَ آ ُتونِي‬ ‫اوى َب ْي َن َّ‬ ‫َس َ‬ ‫الص َد َف ْي ِن َقالَ ا ْن ُف ُخوا َح َّتى ِإذَا َج َعل َُه َن ً‬ ‫ُأ ْف ِرغْ َعل َْي ِه قِطْ ًرا﴾‪.‬‬ ‫وبدراس���ة مراح���ل تنفيذ "مش���روع ال���ردم" ال���ذي أقامـه ذو‬ ‫معا‬ ‫القرنين بمعاونتهم له‪ ،‬نرى أن هناك عدة أنش���طة قد بدأت ً‬

‫اس���تثمارا للوق���ت وعدم إضاعت���ه؛ حتى إننا نس���تطيع أن نؤكد‬ ‫ً‬

‫أن الش���عب كله كان في حالة استنفار‪ ،‬وتوزعت المسؤوليات‬

‫وأدى جميع أفراد المجتمع دوره بإتقـان وفي تسلس���ل متتـابع‬ ‫لمراحـل تنفيذ الردم‪.‬‬

‫‪ -11‬القدرة على تكوين ِف َرق العمل‬

‫الق���رآن الكري���م أش���ار في ه���ذه القص���ة الرائعة عل���ى أن هناك‬

‫ِ���رق عمـل تكونت لتنفيذ ه���ذا العمل المعجـز‪ ،‬ولقد وزع ذو‬ ‫ف َ‬ ‫أدوارا ومراحل للعمـل عليهم ونسق بينهم‪ .‬ولقد ظهر‬ ‫القرنين‬ ‫ً‬ ‫جليا من اآليات الكريمـة‪ ،‬فتكونت ف َِرق العمل اآلتية‪:‬‬ ‫هذا ًّ‬

‫‪ -1‬فري���ق إلحضار الحديد وتكون فور قولـه ‪﴿ :‬آ ُتو ِني‬ ‫ُز َب���ر ا ْل َح ِد ِ‬ ‫يد﴾‪ ،‬وما يس���تلزم هذه المهم���ة من التنقيب عن خام‬ ‫َ‬ ‫الحدي���د‪ ،‬والكش���ف عن مناجم���ه وإعداده عل���ى الصورة التي‬ ‫طلبها ذو القرنين‪ ،‬و َن ْقله إليه عندما يطلبه‪.‬‬

‫‪ -2‬فريـق للتجهيزات والمعاونة‪ ،‬وهذا الفريق يتولى تعبيد‬


‫ال للثقة‪ ،‬وأهال للخبرة‪.‬‬ ‫القصة‪ ،‬إلى أن القائد البد أن يكون أه ً‬ ‫ال للثق���ة جاءت في قول���ه ‪ُ ﴿ :‬ق ْل َنا َيا َذا‬ ‫واإلش���ـارة لكون���ه أه ً‬ ‫���ن إ َِّم���ا َأ ْن ُت َع ِّذ َب َوإ َِّما َأ ْن َت َّت ِخ َذ ِفيهِ ْم ُح ْس ً���نا﴾(الكهف‪.)86:‬‬ ‫ا ْل َق ْر َن ْي ِ‬ ‫أه�ل�ا للخب���رة ما ذكرن���اه آنفا ف���ي قوله ‪:‬‬ ‫واإلش���ارة لكون���ه‬ ‫ً‬ ‫َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫خبرا﴾(الكهف‪)91:‬‬ ‫﴿ك َذل َك َو َق ْد أ َح ْط َنا ب َِما َل َد ْيه ُ ْ ً‬ ‫ولقد س���اق الذكر الحكيم اإلش���ارة إلى خبرة ذي القرنين‬ ‫﴿خ ْب ًرا﴾‪ ،‬أي إن الخبرة لدي���ه تتعدد وتتنوع ما‬ ‫بصيغ���ة النك���رة ُ‬ ‫بين الخبرة اإلدارية‪ ،‬والخبرة في فنون القيـادة‪ ،‬والخبرة العلمية‬ ‫والمهني���ة في مختل���ف المجاالت‪ ،‬والقدرة عل���ى التعامـل مع‬ ‫مختل���ف األجناس في ظ���ل متغيرات متباينة‪ ...‬وهذا ما وضح‬ ‫في قيادته لش���عوب األرض‪ ،‬مما يدل على الخبرات المتعددة‬ ‫لدي���ه‪ ...‬ولقد بلغت تلك الخب���رات واإلمكانيات من العظمة‪،‬‬ ‫وتعظيما بشأنها‪.‬‬ ‫أن يذكر الحق سبحانه إحاطته بها تشري ًفا‬ ‫ً‬ ‫وه���ذه الخبرات الزمة لقيادة التابعين‪ ،‬حيث تس���اعد على‬ ‫اتخ���اذ القائ���د أو المدي���ر‪ ،‬للق���رار المناس���ب إزاء كل موق���ف‬ ‫حسبما تقتضيه ظروفه‪.‬‬

‫‪ -6‬الثـــــقة فــي اآلخـــــرين‬

‫إن إنج���از أي عم���ل ال يت���م عل���ى الوج���ه األكم���ل‪ ،‬إال بالثق���ة‬ ‫المتبادلة بين القادة ومرؤوسيهم‪ .‬فالبد للقادة أن يمنحوا الثقة‬ ‫ذكوا فيهم قدراتهم الذاتية وثقتهم‬ ‫وي ُ‬ ‫لتابعيهم ويشعروهم بها‪ُ ،‬‬ ‫في أنفسهم‪ .‬تلك الحقيقة أعلنها ذو القرنين وهو يتحدث إلى‬ ‫هذا الش���عب المتكاس���ـل الذي ال يجيد إال دفع الخراج بقوله‪:‬‬ ‫َِ ِ‬ ‫���و ٍة﴾‪ .‬وكأن���ي به يق���ول‪ :‬ليس بالخراج ُي ْش���ترى‬ ‫﴿ َفأع ُينون���ي ِب ُق َّ‬ ‫أمنكـم‪ ،‬ولكن بقوة أبدانكـم‪ ،‬وبفكركم تصنعون أمنكـم‪.‬‬ ‫الممكن ف���ي األرض‪ ،‬والتي دانت له‪ ،‬مش���ارقهـا‬ ‫فهـ���ا ه���و‬ ‫ّ‬ ‫ومغاربها‪ ،‬وحكم ش���عوبها يطلب العـون منهم‪ .‬لقد نفخ فيهم‬ ‫وذكى قدرتهم الذاتية فأكس���بهم ثقة في أنفس���هم‪،‬‬ ‫م���ن روحه‪ّ ،‬‬ ‫فتحولوا إلى طاقات بشرية هائلة ن ّفذت أكبر ردم‪.‬‬

‫‪ -7‬الرؤيـــة المستقبلية وبراعة التخطيط‬

‫القادة البد أن يكون لهم "رؤية مس���تقبلية"‪ ،‬كي يستش���عروا بها‬ ‫األحداث المستقبلية برؤى مدروسة ومنطقية‪ ،‬ويقيمون عليها‬ ‫المتطلب���ات الالزم���ة لتحقيقها‪ ،‬لذا قال له���م‪َ ﴿ :‬ف َأ ِع ُينو ِني ِب ُق َّو ٍة‬ ‫َأ ْج َع ْل َب ْي َن ُك ْم َو َب ْي َن ُه ْم َر ْد ًما﴾‪.‬‬ ‫فس���ادا‬ ‫إن يأج���وج ومأجوج بكثرتهم‪ ،‬س���يعيثون في القوم‬ ‫ً‬ ‫طيلـ���ة حياتهم وحي���اة ذرياتهم من بعدهم‪ ...‬تل���ك هي الرؤية‬ ‫جيــدا‪ ،‬وضح‬ ‫المس���تقبلية الت���ي رآهـا ذو القرنين‪ ،‬وبدراس���تهــا‬ ‫ً‬

‫اله���دف ومتطلب���ات تنفيذه‪ .‬فاألمر يس���تلزم إقام���ة ردم ضـخم‬

‫علـ���ى أعلـى تقنيـة‪ ،‬يمنع هجمات قـ���وم يأجوج ومأجوج على‬

‫هؤالء القوم والبشر في كل زمان ويبقى أبـد الدهـر‪ ،‬لذا هتف‬ ‫ال‪َ ﴿ :‬ف َأ ِع ُينو ِني ِب ُق َّو ٍة َأ ْج َع ْل َب ْي َن ُك ْم َو َب ْي َن ُه ْم َر ْد ًما﴾‪.‬‬ ‫فيهم قائ ً‬

‫‪ -8‬القـــدرة على إدارة االجتـماعــات‬

‫ش���ـعــب خـائــ���ف ال يكـ���اد يفقــ���ه قــ���والً‪ ،‬ع���دو ال طاقـة ألحـد‬ ‫عليــ���ه‪ ...‬إنهـ���ا أزمــة بحـق‪ ...‬فكيـ���ف أدار ذو القرنين اجتمــاع‬

‫شعـب في أزمــة؟ فلنرى كيف سارت األمور‪...‬‬

‫ال وهم يعرضـون عليه أزمتهـم‪.‬‬ ‫• لقد اس���تمع إلى القوم أو ً‬ ‫���وج‬ ‫ه���م الذي���ن تحدث���وا أو ً‬ ‫ال‪َ ﴿ :‬قا ُل���وا َي���ا َذا ا ْل َق ْر َن ْي ِ‬ ‫���ن إ َِّن َي ْأ ُج َ‬ ‫ون ِفي ا َ‬ ‫ض َف َه ْل َن ْج َع ُل َل َك َخ ْر ًجا َع َلى َأ ْن‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫وج ُم ْف ِس ُد َ‬ ‫َو َم ْأ ُج َ‬ ‫َت ْج َع َل َب ْي َن َنا َو َب ْي َن ُه ْم َس ًّدا﴾(الكهف‪.)94:‬‬ ‫• الموقف يس���تلزم تهدئ���ة الحضور والس���يطرة على زمـام‬ ‫الموق���ف‪ ،‬حت���ى يتهيأ الجميع لتلقي المه���ام‪ .‬فما كان من ذي‬ ‫من عليه من‬ ‫القرنين‪ ،‬إال أن بدأ حديثه بالثناء على اهلل ‪ ‬وما َّ‬ ‫ال َما َم َّك ِّني ِفي ِه‬ ‫إمكانيات كثيرة‪ ،‬فأشاع جـوا من الطمـأنينة‪َ ﴿ :‬ق َ‬

‫َر ِّبي َخ ْي ٌر﴾‪.‬‬

‫نقدا فيما أبدوه من‬ ‫• احترام رأي اآلخرين‪ ،‬فلم يوجـه إليهم ً‬

‫حل ألزمتهم‪ ،‬حتى لـو كان فيه ما يثير حفيظتـه بقولهم له‪َ ﴿ :‬ف َه ْل‬ ‫الممكن‬ ‫َن ْج َع ُل َل َك َخ ْر ًجا َع َلى َأ ْن َت ْج َع َل َب ْي َن َنا َو َب ْي َن ُه ْم َس ًّدا﴾‪ .‬إنه‬ ‫ّ‬ ‫في األرض‪ ،‬ذو الجاه والس���لطان‪ ،‬وهاهم يش���ترطون عليه أن‬

‫يدفعوا له نظير قيامه بعمل لهم‪ ،‬ورغم ذلك لم يس���تدع ثورته‬ ‫﴿ما َم َّك ِّني ِفي ِه َر ِّبي َخ ْي ٌر﴾‪.‬‬ ‫ولم ينفعل‪ ،‬ولكن بهدوء قال لهم‪َ :‬‬ ‫• ث���م ب���دأ في ج���ذب اهتمام الحضـ���ور واس���تثـار عقولهـم‬ ‫فهتف فيهم‪َ ﴿ :‬ف َأ ِع ُينو ِني ِب ُق َّو ٍة﴾‪.‬‬ ‫• القـ���درة عل���ى إيجـاد حـل لمـا يعرض عليه من مش���اكـل‪،‬‬

‫واط�ل�اع الحض���ور عل���ى المهم���ة المطلـ���وب منه���م تنفيذها‪:‬‬ ‫﴿ َف َأ ِع ُينو ِني ِب ُق َّو ٍة َأ ْج َع ْل َب ْي َن ُك ْم َو َب ْي َن ُه ْم َر ْد ًما﴾‪.‬‬ ‫ال‪ ،‬وكان‬ ‫• إجــادة التخاطــب؛ فالقوم ال يكادون يفقهون قو ً‬ ‫له في هذا عذر في عدم مساعدتهم‪ ،‬ولكن البد أنه اجتهد في‬ ‫الوصول إلى وسيلة للتخاطب معهم والتأثير فيهم ببالغـة منطقه‬ ‫مبينا لهم ما س���يكون له���م من ثـمرة جهدهم أال‬ ‫وقـ���وة حجته‪ً ،‬‬

‫وهـو صنـاعة أمنهـم‪ .‬وكان ذلك من خالل رسالة قويـة وبليغـة‬

‫ليحولهـم إلى قوة بش���رية هائلة‬ ‫ومختصرة‪ ،‬جمع بها ش���تاتهـم‬ ‫ّ‬ ‫متحف���زة‪ ،‬تنتظـ���ر األوامر الصادرة له���ا لتعمل بجد خلف قيادة‬

‫مؤمنة وحكيمة‪ .‬تلك هي القيادة التحويلية التي تحول الجموع‬

‫‪33‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )35‬‬


‫وضعها اهلل ‪ ‬لصالح البشرية وعمارة األرض‪ .‬فذو القرنين‪،‬‬ ‫عب���د م���ن عب���اد اهلل الصالحين‪ ،‬مكنه اهلل ف���ي األرض وآتاه من‬ ‫سببا‪ .‬رسالته وتنقالته في أنحاء المعمورة‬ ‫كل شيء ً‬ ‫سببا فأتبع ً‬ ‫كانت للدعوة في سبيل اهلل ‪ ‬والعمل الصالح‪ ،‬وقيادة األمم‬ ‫لم���ا في���ه صالحه���ا‪ .‬وه���ذا م���ا وضح م���ن رحلته إل���ى "مغرب‬ ‫الش���مس"‪ ،‬كذا إلى "مطلع الش���مس"‪ ،‬وإل���ى بقعـة من األرض‬ ‫دائما‬ ‫يس���ميها القرآن الكريم "بين السدين"‪ .‬ولقد اتسم حديثه ً‬ ‫بذكر اهلل ‪ ‬والثناء عليه س���بحانه‪ ،‬فلقد بدأ حديثه إلى ش���عب‬ ‫ال َما َم َّك ِّني ِفي ِه َر ِّبي َخ ْي ٌر﴾(الكهف‪،)95:‬‬ ‫"دون السدين" بقوله‪َ ﴿ :‬ق َ‬ ‫ال‬ ‫وق���ال عندما انتهى م���ن إقامة الردم بضخامتـه وإعجـازه‪َ ﴿ :‬ق َ‬ ‫���ن َر ِّبي﴾(الكه���ف‪ .)98:‬وفي هذا ما يش���ير إلى قوة‬ ‫َه َ‬ ‫���ذا َر ْح َم��� ٌة ِم ْ‬ ‫إيمانه باهلل سبحانه وإرجاع كل أمره إلى اهلل العليم الحكيم‪.‬‬

‫ل َُه م ِْن َأ ْم ِر َنا ُي ْس ًرا﴾(الكهف‪ .)88-87:‬إن دستور عمل ذي القرنين‪،‬‬ ‫والذي أوضحه في هاتين اآليتين الكريمتين يتلخص في وضع‬ ‫نظام للعقوبات والحوافز‪...‬‬ ‫دنيويا‬ ‫عقابا‬ ‫ًّ‬ ‫• ويتمث���ل ف���ي معاقب���ة الظالم‪ ،‬بأن يوقع علي���ه ً‬ ‫تسول له نفسه فعل‬ ‫يظهر للجميع‪ ،‬حتى يكون ً‬ ‫رادعا لكل من ِّ‬ ‫المحرمات أو التقصير واإلفساد في األرض والظلم‪.‬‬ ‫• مكاف���أة األف���راد المتميزي���ن ف���ي أخالقياته���م وأعمالهم‬ ‫والحوافز عند ذي القرنين تنقسم إلى حوافز مادية وتمثلت في‬ ‫قوله‪َ ﴿ :‬ف َل ُه َج َز ًاء ا ْل ُح ْس َنى﴾‪ .‬وحوافز معنوية وجاءت في قوله‪:‬‬ ‫ول َل ُه ِم ْن َأ ْم ِر َنا ُي ْس ًرا﴾‪ ،‬أي سنثني عليه بالقول‪ ،‬ونكرمه‬ ‫﴿و َس َن ُق ُ‬ ‫َ‬ ‫ونعلي من شأنه‪ .‬وهذه الحوافز الزمة لألفراد‪ ،‬فهي تقوي وتزيد‬ ‫الدعامات النفسية لديهم وتحفزهم لمزيد من الجهد والعطاء‪.‬‬

‫‪ -2‬أمانة القائد‬

‫‪ -4‬المهارات في التعامل مع مختلف الجنسيات‬

‫األمان���ة س���مة أساس���ية يج���ب أن تتوافر ف���ي القائ���د أو المدير‬ ‫الناج���ح‪ .‬فلقد ُو ِكل إل���ى ذي القرنين‪ ،‬أمانة التعامل والتصرف‬ ‫مع القوم عند مغرب الشمس من ِق َبل اهلل ‪ ،‬وال يكون ذلك‬ ‫إال لقدرته على تحمل المسؤولية وأمانة ما وكل إليه‪ ،‬قال اهلل‬ ‫تعال���ى‪ُ ﴿ :‬ق ْل َن���ا َي���ا َذا ا ْل َق ْر َن ْي ِن إ َِّما َأ ْن ُت َع ِّذ َب َوإ َِّم���ا َأ ْن َت َّت ِخ َذ ِفيهِ ْم‬ ‫أمينـا‬ ‫ُح ْس ً���نا﴾(الكهف‪ .)86:‬كذلك عندما شرع في بناء الردم كان ً‬ ‫على ما في أيدي القوم من ثروات‪ ،‬فعندما عرضوا عليه َج ْع َل‬ ‫س���دا لهم‪ ،‬ل���م يطمع فيما بأيديهم‪ ،‬ولكن‬ ‫نظير إقامته ًّ‬ ‫َخ ْر ٍج له َ‬ ‫﴿ما َم َّك ِّني ِفي ِه َر ِّبي َخ ْي ٌر َف َأ ِع ُينو ِني ِب ُق َّو ٍة﴾(الكهف‪.)95:‬‬ ‫معقبا‪َ :‬‬ ‫قال ً‬ ‫أمينا على ما في أراضيهـم من ثروات ومعـادن‪ ،‬فرغم‬ ‫وكان ً‬ ‫أن معـه الجند الكثير إال أنه أرادهم أن يكتشفوا بأنفسهم ما في‬ ‫أرضه���م من ثروات معدنية وخام���ات‪ ،‬فقال لهم‪﴿ :‬آ ُتو ِني ُز َب َر‬ ‫ا ْل َح ِد ِ‬ ‫ال آ ُتو ِني ُأ ْف ِر ْغ َع َل ْي ِه ِق ْط ًرا﴾(الكهف‪.)96:‬‬ ‫يد﴾(الكهف‪ ،)96:‬و﴿ َق َ‬ ‫وكأن���ي أراه يحثه���م بقول���ه‪ :‬اذهب���وا إل���ى أرضك���م‪ ..‬ثيروا‬ ‫األرض‪ ..‬اكتشفوا ما في باطن أرضكـم من ثروات ومعـادن‪..‬‬ ‫أحد غيركم‪...‬‬ ‫وال َّ‬ ‫يطلع عليهـا ٌ‬ ‫ردما‬ ‫وكان ً‬ ‫أمينا على أرواحهم‪ ،‬فشرع على الفور يقيم لهم ً‬ ‫يحميه���م من قوم يأجوج ومأجوج‪ ،‬وذلك بمعاونتهم له بقوة‪.‬‬ ‫تل���ك ه���ي األمانة الت���ي هي روح القي���ادة واإلدارة وأساس���ها‪،‬‬ ‫والتي يرضاهـا اهلل ‪ ‬فيمن يلي أمر الجماعة‪.‬‬

‫‪ -3‬التطبيق الفعلي لقوانين الجزاء والعقاب‬

‫لق���د ورد ف���ي قص���ة ذي القرني���ن‪ ،‬أنه ذهب إلى ع���دة بقاع من‬ ‫األرض؛ وه���ي مغ���رب الش���مس‪ ،‬ومطل���ع الش���مس‪ ،‬وبي���ن‬ ‫السدين‪ ،‬األمر الذي يلفت انتباهنا إلى أن ذا القرنين قد تعامـل‬ ‫مع جنس���يات مختلفة‪ ،‬في بقاع متباعدة على كوكب األرض‪.‬‬ ‫وفي هذا إشارة إلى أن المدير أو القائد الناجح‪ ،‬البد أن تكون‬ ‫ل���ه الق���درة على التعام���ل والتكيف مع أنماط عدة من البش���ر‪،‬‬ ‫وفي بيئات مختلفة‪ ،‬ويتكيف بسرعة مع الظروف غير العادية‪،‬‬ ‫والتعايش مع كافة الظروف والبيئات‪.‬‬ ‫كذا ضرورة أن يجي���د التخاطب والتفاهم بلغات مختلفة‪.‬‬ ‫فعندما ذهب ذو القرنين إلى مغرب الشمس‪ ،‬تحدث مع القوم‬ ‫بلغتهم‪ ،‬كذلك عند مطلع الش���مس‪ ،‬وعندما التقى بالقوم عند‬

‫ال‪ -‬اس���تطاع أن‬ ‫"بي���ن الس���دين" ‪-‬وهم ال ي���كادون يفقهون قـو ً‬ ‫يقودهم بمهارة فائقة‪ ،‬وتعامل معهم بوسيلة للتخاطب‪ ،‬فهموا‬ ‫كل خططه وتوجيهاته حتى أتم بناء الردم الضخم لهم‪.‬‬ ‫وفي هذا إش���ارة إلى أن القائـد الذي تتطلب ظروف عملـه‬ ‫التنق���ل بي���ن أقطـ���ار مختلفة (القائ���د العالمي)‪ ،‬يج���ب عليه أن‬ ‫يجيد التخاطب بأكثر من لغـة‪.‬‬ ‫وتوفر وس���ائل االتصال بين القادة والمرؤوس���ين‪ ،‬ضرورة‬ ‫حتمي���ة لقيادته���م وتحقيق األهداف المرج���وة‪ .‬ومن أهم هذه‬ ‫الوس���ائل‪ ،‬تواجد القائد أو ولي األمر بينهم‪ ،‬والتحدث إليهم‬ ‫ّ‬ ‫بلغة يفهمونها‪.‬‬

‫﴿ َقالَ َأ َّما َم ْن ظَ ل َ​َم َف َس ْ���و َف ُن َع ِّذ ُب ُه ُث َّم ُي َر ُّد ِإلَى َر ِّب ِه َف ُي َع ِّذ ُب ُه َعذَ ًابا ‪ -5‬القدرات الذاتية والخبرات للقائد‬

‫آم َن َو َعمِ َل َصال ًِحا َفل َُه َج َز ًاء ال ُْح ْس َنى َو َس َن ُقولُ‬ ‫ُنكْ ًرا ‪َ ‬و َأ َّما َم ْن َ‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )35‬‬

‫‪32‬‬

‫لق���د أش���ار القرآن الكريم في س���ياق اآلي���ات الكريمة في هذه‬


‫قضايا فكرية‬

‫د‪ .‬السيد حامد السيد*‬

‫أسس القيادة واإلدارة‬

‫في ضوء قصة ذي القرنين‬ ‫نس���تعرض فيم���ا يل���ي‪ ،‬األس���س والمه���ارات الواجب‬ ‫توفره���ا في القائد أو المدير الناجح‪ ،‬في ضوء أحداث‬ ‫قصة "ذي القرنين" في القرآن الكريم‪.‬‬

‫‪ -1‬اإليمان باهلل‬ ‫القائد الناجح‪ ،‬هو الذي تنبع قوته من إيمانه باهلل العزيز الحكيم‪ .‬وإيمانه‬ ‫ب���اهلل‪ ،‬هو الذي يرس���م لـه منهجه في العم���ل وتعاملـه مع اآلخرين‪ .‬فهو‬ ‫صاحب رسالة نابعة من منهج اهلل ‪ ،‬يعمل على تحقيقها على أسس‬

‫‪31‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )35‬‬


‫أدب‬

‫أديب إبراهيم الدباغ*‬

‫عرض حال‬ ‫على نفس���ي بكت نفسي‪ ..‬وروحي إلى روحي‬ ‫اشتكت‪ ..‬وعلى بعضي بكى ك ِّلي‪ ..‬وك ِّلي على‬ ‫بعض���ي بكى‪ ..‬ولظ���ى قلبي في قلب���ي حريق‪..‬‬ ‫ض روحي في روحي َلهيب‪...‬‬ ‫َو َو ْم ُ‬ ‫وجعا‪،‬‬ ‫تلوى ً‬ ‫أنا؟ َم ْن أنا؟ حرقة واحتراق‪َ ،‬ل َه ٌب واشتياق‪َ ..‬أ َّ‬ ‫صارخا‪َ ..‬أ َظلُّ ‪ ،‬وعن وعيي ُأ َشلُّ ‪...‬‬ ‫صائحا‪..‬‬ ‫ألما‪..‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وأتق َّلب ً‬ ‫ي���ا رف���اق العش���ق‪ ،‬إل���ى "دجل��� َة" خذون���ي‪ ،‬واغمس���وني‬ ‫لع���ل نيران���ي تنكف���ئ‪،‬‬ ‫واغمرون���ي‪ ،‬وم���ن رحيقه���ا اس���قوني‪َّ ..‬‬ ‫متس���كعا أمضي‪..‬‬ ‫وحرائق���ي تهم���د‪ ..‬وإل���ى مملكة العش���اق‪،‬‬ ‫ً‬ ‫أطرق األبواب‪ ،‬وأنقر على الشبابيك‪...‬‬ ‫ووجدا‬ ‫مذاب���ا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫افتح���وا له���ذا المس���كين‪ ،‬الذي غ���دا ً‬ ‫روحا ً‬ ‫وقلبا َش ّو َا ًقا‪...‬‬ ‫َح َّرا ًقا‪ً ،‬‬ ‫وم َع ٍّز س���واكم‪ ..‬فها أن���ذا بين أيديكم‬ ‫���ن ل���ه ٍ‬ ‫َم ْ‬ ‫آس غيركم‪ُ ،‬‬ ‫أضع نفس���ي‪ ..‬فبعطفكم اكنفوني‪ ،‬وبنفح���ات ألطافكم َأطفئوا‬ ‫ال ال تتركوني‪...‬‬ ‫نيراني‪..‬‬ ‫إلي التفتوا‪ ..‬ارمقوني‪ ،‬وهم ً‬ ‫َّ‬ ‫رافعا عقيرت���ه ينادي‪..‬‬ ‫عاش���ق من أعم���اق ضريح يصي���ح‪ً ،‬‬ ‫زل���ت‪ ..‬على القي���ام أعينوني‪ ،‬ومن تحت ت���راب القبر‬ ‫حي���ا ال‬ ‫ُ‬ ‫ًّ‬ ‫انتشلوني‪...‬‬ ‫���ث الرياحي���ن‪،‬‬ ‫أن س���ماءكم تمط���ر ال���ورود‪ ،‬و َت ُن ُّ‬ ‫أع���رف َّ‬ ‫وأن ناديكم بالحياة مترع‪..‬‬ ‫وتس���كب النقاء‪ ،‬و َت ُص ُّب الصفاء‪َّ ..‬‬ ‫دخلت‪...‬‬ ‫جئت‪ ،‬وأرضكم‬ ‫لذلك‪ ،‬مملكتكم‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫لعل نظرة من الحبيب تتلمحني‪ ،‬فتحييني‪ ،‬وتطفئ نيراني‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫وتهدهد أشجاني‪...‬‬ ‫في سلس���ال من دم���ع ودم ذابت روحي‪ ،‬ومات جس���دي‪،‬‬ ‫���ت أوصالي‪ ..‬والليل مطبق الجناح‪ ،‬وصراخ عظيم من‬ ‫و َت َق َّط َع ْ‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )35‬‬

‫‪30‬‬

‫مجلج�ل�ا من أعماق الغاب‪ ،‬وهو ينادي‪..‬‬ ‫روح جري���ح‪ ..‬يأتي‬ ‫ً‬ ‫ه���ذه الس���بيل‪ ،‬وتلك الطريق‪ ،‬إلى الحبي���ب‪ ..‬من التيه البد أن‬ ‫تنج���و‪ ..‬موعدنا الت َّل���ة الخضراء‪ ،‬في الليلة القم���راء‪ ..‬حتى إذا‬ ‫جئت الم���كان‪،‬‬ ‫جلس���ت أنتظر‪ ..‬وطال‬ ‫والوق���ت واألوان‪،‬‬ ‫َ‬ ‫م���ا ُ‬ ‫ُ‬ ‫االنتظ���ار وط���ال‪ ..‬وإذا بالس���ماء تس���تهلُّ ‪ ،‬بمزي���ج م���ن الدمع‬ ‫والمطر‪ ..‬وعلى عجل‬ ‫وانس��� َل ْل ُت من الزمان‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫تركت المكان‪َ ،‬‬ ‫وصورا تتلبس‪ ..‬وتتحول إلى طائر عظيم‬ ‫فإذا بآالمي تتجمع‪،‬‬ ‫ً‬ ‫الجن���اح‪ ،‬ناص���ع البي���اض‪ ..‬وإذا به يحلق ب���كل جراحاتي‪ ،‬في‬ ‫سماء من الحرير األزرق‪ ..‬يحلق ويحلق‪ ،‬حتى اختفى وضاع‬ ‫في س���حب الغموض‪ ..‬وأنا أخلد إلى صمت مهيب‪ ،‬مصدوع‬ ‫بدأت ألمس من نفس���ي‬ ‫الف���ؤاد‪ ،‬نازف الروح‪ ..‬ولكنني‬ ‫دالئل‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫أن يوقفه أو يخنقه‪...‬‬ ‫تبدل روحي‪ ،‬ما من شيء يستطيع ْ‬ ‫نورا هاد ًئا يغشى الطريق‪ ،‬ويشير‬ ‫ْ‬ ‫وش���رعت روحي ترس���ل ً‬ ‫إل���ى معالمه‪ ..‬فس���ارت قدماي وهما تغتس�ل�ان بأن���وار القمر‪،‬‬ ‫فوق العش���ب األخضر‪ ..‬فامتأل قلبي شو ًقا وشغ ًفا‪ ،‬و َأ ْح َس ْس ُت‬ ‫جدي���دا انبع���ث من داخلي يق���ول‪ :‬متى في صالتك‬ ‫أن إنس���ا ًنا‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫كنت وال تكون؟!‬ ‫تتالشى وتذوب وكأنك ما َ‬ ‫ش���ربت من نب���ع روح محمد عليه الس�ل�ام؟! متى‬ ‫ه���ل مر ًة‬ ‫َ‬ ‫الس���ماء‪ ،‬بل الخليق��� َة ُك َّل َها‪ُ ..‬ق ْل لي متى كان‬ ‫هززت بصالتك‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ذلك منك؟!‬ ‫فاهتزت مش���اعري َه ًّزا‪،‬‬ ‫ومددت ي���دي إلى أعماقي َأ ُر ُّجها‬ ‫ُ‬ ‫وطنينا‪،‬‬ ‫َر ًّج���ا‪ ..‬ف���إذا بي أس���مع دوي ذلك ف���ي ُأ ُذني وشوش���ة‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫وأ َّن ِ‬ ‫ات أنين‪ُ ..‬ث َّم‪ ..‬ال جواب‪ ..‬ال جواب!‬ ‫(*) كاتب وأديب عراقي‪.‬‬


‫إنن���ا نحت���اج ف���ي ب�ل�اد اإلس�ل�ام كلها‪،‬‬

‫إل���ى أن نقوم بحملة إس�ل�امية ش���املة عبر‬ ‫مخط���ط حض���اري معاص���ر‪ ،‬تش���ترك فيها‬

‫الدول والمؤسس���ات الرس���مية والش���عبية‬

‫جميع���ا‪ ،‬ألن‬ ‫والجمعي���ات واألح���زاب‬ ‫ً‬ ‫مواجهة العولـمة من الخطورة بحيث يجب‬ ‫أن نتعامل معها من مواقع قوية تشهد على‬

‫وحدة األمة وغاياتها النبيلة في هذه الحالة‬

‫جميعا‪.‬‬ ‫لخيرها ولخير البشرية‬ ‫ً‬

‫إن إس���تراتيجية إع���ادة بن���اء ثقاف���ة‬

‫الوس���طية مرتبط���ة كل االرتباط بمفهومي‬ ‫الهوي���ة والحوار‪ .‬والس���ؤال‪ :‬كيف يمكن‬ ‫أن نبن���ي ثقاف���ة وس���طية إن لم تك���ن بيننا‬

‫�إن الو�س��طية‪ ،‬ه��ي املوق��ع‬ ‫ال��ذي ميك��ن مل�س��لم ه��ذا‬ ‫الزمان �أن ينطلق منه وين�شئ‬ ‫متح��ررا م��ن‬ ‫ا تاريخيًّ��ا‬ ‫فع�ل ً‬ ‫ً‬ ‫الت�شويهات العنفية‪ .‬الو�سطية‬ ‫كموق��ع روح��ي‪ ،‬كقيم��ة‬ ‫ت�أ�سي�س��ية لكينونة الإن�سان‪،‬‬ ‫كمب��د�إ ت�أ�سي�س��ي للأم��ة‬ ‫الإ�س�لامية‪ ،‬هي الأفق الذي‬ ‫ينبغي �أن تتحرك نحوه الأمة‪.‬‬

‫نق���اط مش���تركة نتح���اور فيه���ا؟ ألن���ه وفي‬

‫ظل غياب منهج الوس���ط في تقييم القواس���م المشتركة‪ ،‬يكون‬ ‫مجتمعي���ا‪ ،‬وتأت���ي االتفاق���ات بي���ن‬ ‫وخداع���ا‬ ‫الح���وار أكذوب���ة‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬

‫وج���ود "ثال���ث مش���مول"‪ ،‬ه���و منه���ج‬

‫وس���طي بين اإلنساني والمقدس الذي‬ ‫يستحيل اختزاله في كل إنسان‪.‬‬

‫المطل���وب إذن‪ ،‬تبن���ي مش���روع‬

‫تربوي خ���اص بالتربي���ة والتعليم يو ِّفق‬

‫‪-‬من���ذ الب���دء‪ -‬بي���ن المناه���ج العلمي���ة‬

‫والمناه���ج األ َن ِس���ية والفن والش���عر‪...‬‬ ‫أي لخلق أش���خاص وسطيين معتدلين‬ ‫مرنين في عالم عدواني‪ ،‬أي عالم يقود‬

‫سريعا إلى البطالة‪ ،‬إلى االستبعاد‪ ،‬إلى‬ ‫ً‬ ‫االس���تهالك‪ ،‬إلى االتكالي���ة‪ ،‬االنهزامية‬

‫االنح���راف‪،‬‬

‫العن���ف‪،‬‬

‫التهمي���ش‪،‬‬

‫اإلقص���اء‪ ...‬عال���م يق���ول بالتكنولوجيا‬

‫الحديثة لجيلنا‪" :‬أنت غير جدير بالتقدير" يس���معها الجيل‬ ‫جيدا‪ .‬وهنا المش���كلة في ّلبِه���ا‪ ،‬بناء ثقافة‬ ‫وي���درك معناه���ا ً‬

‫هش���ة‪ .‬فم���ن الضروري‬ ‫التش���كيالت واالنتم���اءات المختلف���ة َّ‬

‫ال عن إجابة ش���افية لهذا‬ ‫الوس���ط ينبغ���ي أن تبدأ بالب���ث أو ً‬

‫بنوع من العالمية اليوتوبية؛ فالمسألة ليست على هذه الصورة‪.‬‬

‫التمكين المعرفي والعلمي والتكنولوجي؟ اإلنسان إنسان‪،‬‬

‫تبشيرا‬ ‫تأصيل منهج وسطية القواسم المشتركة‪ .‬وال يعني هذا‬ ‫ً‬

‫الس���ؤال المحرج‬ ‫همش اإلنسان في جيل‬ ‫والمحير‪ ،‬لماذا ُي َّ‬ ‫ّ‬

‫القضي���ة الجوهرية ه���ي‪ :‬كيف يمكننا أن نتبن���ى نهج االعتدال‬

‫لكل منا موهبته‪ ،‬لكن بش���رط تأمين‬ ‫ول���ه قدراته وموهبته‪ٍّ .‬‬

‫وال���رأي والدين والسياس���ة‪ ،‬من غير نقاط متش���ابهة ومش���تركة‬

‫ف�ل�ا يس���عى إلى خلق تل���ك الظروف المالئم���ة‪ ،‬ألنه عالم‬

‫والوس���ط للحوار والتفاه���م مع األط���راف المخالفة في الفكر‬

‫الظ���روف المالئمة لطاقات���ه ومواهبه‪ .‬أم���ا عالمنا الحاضر‬

‫تؤهلن���ا للخروج بنتائ���ج عملية للمش���اركة الحقيقية على تنوع‬

‫نوده عبر مش���روع منهج الوسطية التربوي‪،‬‬ ‫تكنولوجي‪ .‬ما ُّ‬

‫الوسائل واآلليات في صنع الحضارة العالمية‪.‬‬

‫هن���ا يبرز دور علم التربية الخاص بالوس���طية قبل الحوار‪،‬‬

‫ألن الح���وار ل���ن يتحقق من دون إيمان بمنهج وس���طي يحضر‬

‫العقل لقبول الحوار‪.‬‬

‫ولبناء ثقافة الوس���طية‪ ،‬ينبغي تحديد ماهية الهوية‪ ،‬هل هي‬

‫وحيدا في الكون‪ ،‬هل يعقل‬ ‫مبني���ة على أحادية؟ إذا كان المرء‬ ‫ً‬ ‫ال‪ ،‬يج���ب أن يكون ثمة تفاعل مع‬ ‫حتما ك ّ‬ ‫أن تك���ون ل���ه هوية؟ ً‬ ‫اآلخ���ر لخل���ق هوية‪ .‬ولكن هل التفاع���ل أو الحوار مع اآلخر‪،‬‬

‫يكفي لتشكيل هوية؟ األكيد أنه ال يكفي‪ .‬لماذا؟ ألنه منذ البدء‬

‫دوما‪ ،‬واآلخ���ر هو "الغري���ب" بطريقة أو‬ ‫كان اآلخ���ر‬ ‫ً‬ ‫موج���ودا ً‬

‫ه���و أن نثب���ت عبر الوس���ائل التربوي���ة أن الك���ون أكثر ثراء‬ ‫بكثي���ر مم���ا نعتقد‪ .‬وهن���ا يمكن للعل���م إذا أعدن���اه للدين‪،‬‬

‫وفصلن���ا القطيعة التي أحدثناها مع���ه ‪-‬ولعقود‪ -‬يمكن أن‬ ‫دورا‬ ‫تحديدا‪ ،‬وأن‬ ‫كبي���را على المس���توى الترب���وي‬ ‫ً‬ ‫يلع���ب ً‬ ‫ً‬ ‫ال ومستويات مختلفة تتكامل‬ ‫يبيِن أن في الطبيعة غنى هائ ً‬ ‫ّ‬

‫وتتوحد في أصغر ذرة حتى أكبر ما فيها‪ .‬أعتقد أن الطبيعة‬ ‫َّ‬

‫تنط���وي على تل���ك الصورة التي هي مهم���ة لعالمنا‪ ،‬أعني‬ ‫عالمن���ا المبني على مس���تويات مختلفة‪ ،‬وثقافات مختلفة‪،‬‬ ‫ولغات مختلفة‪ ،‬وتقاليد وعادات مختلفة‪.‬‬

‫بأخرى‪ .‬لذا كانت الحروب والتدمير على امتداد التاريخ وفي‬ ‫كل زم���ن‪ .‬ما الس���بب؟ لعل أحد األجوب���ة المفاتيح‪ ،‬أنه ينبغي‬

‫(*) كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‪ ،‬جامعة ابن طفيل بـ"القنيطرة" ‪ /‬المغرب‪.‬‬

‫‪29‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )35‬‬


‫في االقتصاد اإلسالمي‪ ،‬سنتمكن من االستفادة من إمكانيات‬

‫• التركي���ز على وس���طية اإلس�ل�ام في بناء نواة األس���رة في‬

‫واالس���تثمار والمعادن والزراعة‪ ،‬وس���نواجه العولـمة المركزية‬

‫والعف���اف والب���ر واإليثار والتكاف���ل‪ ،‬واالبتعاد ع���ن األمراض‬

‫المس���لمين االقتصادي���ة الضخمة المتنوعة في جانب التش���ييد‬

‫بعالمية عربية وإس�ل�امية وشرقية‪ .‬إن المنهج الوسطي سيؤهل‬ ‫كوادرن���ا بخب���رات التعام���ل مع االقتص���اد العالم���ي من خالل‬

‫المجتم���ع اإلس�ل�امي عل���ى القواعد اإلس�ل�امية؛ ف���ي الطهارة‬ ‫االجتماعي���ة والفوض���ى الجنس���ية واالجتماعي���ة‪ ،‬وخ���رق نظم‬ ‫ومبادئ األخالق التي يقرها اإلسالم‪.‬‬

‫تب���ادل المناف���ع‪ ،‬والتخطي���ط للتنمية‬ ‫ذاتيا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫تخطيط���ا ًّ‬ ‫جي���دا‪ ،‬مع ‪ -5‬بناء ثقافة الوسطية في الفكر التربوي واالعالمي‬ ‫االس���تفادة من خب���رات وتنظيمات الحض���ارة الغربية واقتحام‬

‫المنافس���ة الحضارية بإقامة س���وق إسالمية مش���تركة‪ ،‬تنقل من‬ ‫خاللها األرصدة العربية واإلسالمية الضخمة إلى العالم‪ ،‬بعد‬

‫إعادة الثقة في وحدة األمة‪.‬‬

‫‪ -4‬بناء ثقافة وسطية الفكر االجتماعي اإلسالمي‬

‫أمام هجم���ة الفضائيات العولمية‪ ،‬وتخطيطه���ا العلمي والفني‬

‫الذك���ي في ع���رض أفكارها بطرق متنوعة مؤث���رة عبر األنماط‬ ‫الفني���ة من المسلس�ل�ات واألف�ل�ام والتعليق���ات والتقارير التي‬

‫يوميا مئ���ات الماليين‪ ،‬من أجه���زة التلفزيون واإلذاعة‬ ‫تدخ���ل ًّ‬ ‫واإلنترن���ت على وج���ه األرض‪ ،‬ال يمكن الحفاظ على الذات‬

‫الب���د م���ن تأصي���ل منه���ج الوس���طية ف���ي النظ���ام االجتماع���ي‬

‫واألصال���ة والخصوصية الدينية والفكرية‪ ،‬إال بتربية أبناء األمة‬ ‫تربي���ة مخطط���ة‪ُ ،‬ت ِ‬ ‫ش���عرهم بأنهم أبن���اء أمة التوحي���د واإليمان‪،‬‬

‫الف���رص ف���ي المجتمع اإلس�ل�امي الموزع بين جه���ود الرجال‬

‫واقتصادي���ا‪ ،‬بحي���ث يعلم���ون بيقي���ن كام���ل أنه���م‬ ‫واجتماعي���ا‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬

‫اإلسالمي‪ ،‬وذلك من خالل األمور اآلتية‪:‬‬

‫• نش���ر ثقافة الوس���طية في تدويل ونش���ر قيم���ة مبدإ تكافؤ‬

‫بعض���ا‪ ،‬ب���دون مفاضل���ة ف���ي أصول‬ ‫والنس���اء يكم���ل بعضه���م ً‬

‫الخلق���ة‪ ،‬وال مفاضل���ة لجنس على آخر ف���ي أصل الخلقة‪ ،‬بل‬ ‫كل جانب يفضل اآلخر فيما كلف به من واجبات شرعية‪.‬‬

‫وسياسيا‬ ‫وأخالقيا‬ ‫فكريا‬ ‫وتحصنهم‬ ‫وتنش���ئتهم نشأة إس�ل�امية‪،‬‬ ‫ًّ‬ ‫ّ‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬ ‫متميزون عما يشاهدون‪ .‬ويكون ذلك‪:‬‬

‫• باالهتم���ام بتربي���ة األس���رة المس���لمة وتثقي���ف أفراده���ا‪،‬‬

‫وتوجيهه���م م���ن خالل أجه���زة اإلع�ل�ام المرئية والمس���موعة‬

‫• إقرار المنهج الوس���طي اإلس�ل�امي في تشريعاته الخاصة‬

‫والمق���روءة‪ ،‬ومن خ�ل�ال المناهج الرصينة ف���ي التربية الدينية‪،‬‬

‫والعب���ادة‪ ،‬وإق���رار ح���ق المبايع���ة له���ا كالرج���ل‪ ،‬ودعوتها إلى‬

‫العربي���ة والوطني���ة العامة‪ ،‬وإع���ادة االعتبار للعالق���ة بين الدين‬

‫أه�ل�ا للتدين‬ ‫بإنس���انية المرأة‪ ،‬واس���تقالل ش���خصيتها‪ ،‬وعدها‬ ‫ً‬

‫المشاركة في النشاط االجتماعي المنضبط بضوابط األخالق‪،‬‬ ‫وق���د س���مح له���ا باألعمال التي تتف���ق مع طبيعتها‪ ،‬وش���رع لها‬

‫نصيبها في الميراث وإش���راكها في إدارة شؤون األسرة وتربية‬ ‫األوالد‪ ،‬وأوج���ب معاملتها بالمعروف واحت���رام آدميتها‪ ،‬كما‬ ‫أنه س���اوى بينها وبين الرجال في الوالية على المال والعقود‪،‬‬

‫وأقر لها شخصيتها القضائية المستقلة‪.‬‬

‫وكت���ب اللغ���ة العربي���ة‪ ،‬وكت���ب التاري���خ والجغرافي���ة والثقافة‬ ‫والعل���م من خالل الكت���ب والمجالت والجرائ���د والدوريات‬ ‫الخاصة والعامة‪ ،‬والمخيمات والدورات التدريبية الشبابية في‬

‫األقطار العربية أو اإلسالمية‪.‬‬

‫• وبإع���ادة بن���اء ثقاف���ة وس���طية إعالمي���ة هادف���ة‪ ،‬تس���تثمر‬

‫العرض‬ ‫العروض المس���رحية واألفالم الدرامية ُ‬ ‫ودور َ‬ ‫نصوص ُ‬

‫الس���ينمائية في إيصال الرسالة األخالقية والقيمية‪ ،‬التي تمكن‬

‫وم���ن ه���ذا المنطلق‪ ،‬البد م���ن إعادة النظر في مش���كالتها‬

‫من تأهيل وتكوين أجيال تش���عر بانتمائها اإلسالمي وانتسابها‬

‫ومقاصده���ا الحكيمة وغاياتها في الحياة‪ ،‬لتحديد مس���ؤوليتها‬

‫• وم���ن خ�ل�ال وح���دة المعرف���ة الت���ي قامت عليه���ا التربية‬

‫االجتماعي���ة ف���ي ض���وء أح���كام الش���ريعة اإلس�ل�امية العام���ة‪،‬‬ ‫األسرية واالجتماعية‪.‬‬

‫الحضاري لألمة العربية واإلسالمية‪.‬‬

‫اإلس�ل�امية التي تبغي صياغة الفرد صياغة إس�ل�امية حضارية‪،‬‬

‫• وسطية اإلسالم في تحقيق العدل والسلم وحفظ حقوق‬

‫ال م���ن حيث العقي���دة والذوق‬ ‫وإع���داد ش���خصيته‬ ‫إع���دادا كام ً‬ ‫ً‬

‫المس���لمين‪ ،‬إال فيم���ا يخ���ص القضايا التش���ريعية الخاصة بكل‬

‫ال تبق���ى فيه���ا ثغرة تتس���لل منها اإلغ���راءات العولمية الالدينية‬

‫جميع���ا‪ ،‬لهم م���ا للمس���لمين‪ ،‬وعليه���م ما على‬ ‫أه���ل األدي���ان‬ ‫ً‬

‫طرف في إطار المجتمع اإلنساني‪.‬‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )35‬‬

‫‪28‬‬

‫والفك���ر والم���ادة‪ ،‬حتى تتكون األمة الواح���دة المتحضرة التي‬ ‫الجنسية اإلباحية‪.‬‬


‫• استقراء وتفكيك وتحليل مختبري‬

‫للعوامل المؤدية لمظاهر الخرافة والبدع‬ ‫والتواكلي���ة واالنهزامي���ة والالإرادي���ة‬

‫اإلنج���از والعن���ف واالنح���راف‪ ،‬ال‬ ‫القتص���ار عل���ى تدوي���ل ثقاف���ة ال���ردع‬

‫واالستنكار والمحاربة‪.‬‬

‫• تأس���يس مراكز دراسات وأبحاث‬

‫إس���تراتيجية‪ ،‬وتأهي���ل أط���ر وك���وادر‬ ‫وإعالمي���ا‬ ‫ومعرفي���ا‬ ‫علمي���ا‬ ‫وسياس���يا‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬ ‫وتكنولوجي���ا‪ ،‬لل���رد‬ ‫ا‬ ‫وسوس���يولوجي‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬ ‫عل���ى الغزو الثقاف���ي العولمي من خالل‬ ‫المنه���ج الس���ابق ف���ي الفكر اإلس�ل�امي‬

‫االقتص���ادي اإلس�ل�امي المعاص���ر م���ن‬

‫ثقافة و�س��طية الأم��ة‪ ،‬هي عن�رص‬ ‫ه��ام يف عملي��ة التنمية ال�ش��املة‬ ‫والبن��اء احل�ض��اري‪ ،‬فبمق��دار‬ ‫�شمولية ثقافة الو�سطية وتوازنها‬ ‫وا�س��تقرارها و�ص��حة متبنياتها‪،‬‬ ‫يرتفع عمود احل�ض��ارة وترت�سخ‬ ‫�أركانه��ا يف املجتم��ع‪ ،‬ولي���س‬ ‫لق��وة مهم��ا بلغت‪� ،‬أن ته��زم �أو‬ ‫تهدم ح�ض��ارة قائم��ة على ثقافة‬ ‫‪‬و َك َذ ِل َك َج َعلْنَاك ُْم �أُ َّم ًة َو َ�سطً ا‪.‬‬ ‫َ‬

‫بجمي���ع الوس���ائل الت���ي يعتم���د عليه���ا‪،‬‬

‫س���واء م���ن خالل األنماط الفكري���ة‪ ،‬أم الفني���ة‪ ،‬أم األدبية التي‬ ‫يعرضونها من خالل أفكارهم المناقضة لإلسالم‪.‬‬

‫‪ -2‬بناء وسطية الفكـر السياسـي‬

‫البد من تأصيل منهج وسطي كفيل بنقد تاريخي شامل لنظام‬

‫الحكم في المجتمعات اإلسالمية من بعد معركة صفين وإلى‬ ‫الي���وم‪ ،‬وإثبات أن بعض التطبيقات االس���تبدادية التي س���ادت‬ ‫في بعض تاريخنا مخالف لنظام الحكم الشورِ ي في اإلسالم‪،‬‬

‫وأن���ه جل���ب عل���ى األم���ة اإلس�ل�امية ‪-‬عب���ر العصور‪ -‬مآس���ي‬

‫كتاب اهلل وس���نة رس���وله ‪ ‬واجتهادات‬

‫الفقه���اء المجتهدي���ن عب���ر العصور‪ ،‬مع‬ ‫التعم���ق ف���ي اس���تنباط فق���ه الواق���ع م���ع‬

‫م���ا اس���تجد م���ن قضاي���ا االقتصادي���ات‬ ‫المعاص���رة‪ ،‬والت���ي تت�ل�اءم م���ع روح‬

‫اإلسالم‪ .‬ولعل المنهج الوسطي في بناء‬

‫االقتص���اد‪ ،‬كفيل بالقضاء على التفاوت‬ ‫في توزيع الث���روات‪ ،‬ويعيد التوازن إلى‬

‫المجتم���ع اإلس�ل�امي‪ ،‬ويح���دد وظيف���ة‬ ‫الدولة االقتصادية‪ ،‬وذلك من خالل‪:‬‬

‫• وضع مناهج دراس���ية في وس���طية‬

‫االقتص���اد اإلس�ل�امي‪ ،‬وبي���ان مرونت���ه‬

‫ف���ي من���ع االس���تغالل وع���دم التركي���ز‬

‫عل���ى معالج���ة واح���دة في كل حال���ة زماني���ة أو مكاني���ة‪ ،‬وأنه‬ ‫يق���رر األص���ول ويفتح حري���ة الحركة أم���ام االقتصاديين لحل‬

‫المشكالت االقتصادية حسب الظروف المختلفة‪.‬‬

‫• قراءة قيمية للمنهج الوس���طي االقتصادي في مش���روعية‬

‫التمل���ك‪ ،‬م���ع إحاطت���ه بس���ياج من القي���ود حتى ال ي���ؤدي إلى‬

‫التعس���ف ف���ي اس���تعمال ح���ق الملكية‪ ،‬ويش���رع اإلس�ل�ام مع‬ ‫الملكية الفردية الملكية العامة وملكية الدولة‪.‬‬

‫• توسيع مجال الدراسات في وسطية االقتصاد االسالمي‪،‬‬

‫ال‪ ،‬وأنه من أعظم أس���باب سقوط المجتمع‬ ‫جمة‬ ‫وخرابا ش���ام ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬

‫في احترام قيمة العمل المس���تخلصة من مفهوم االس���تخالف‪،‬‬

‫طبقه الرسول ‪ ‬وخلفاؤه‬ ‫إن نظام الشورى في اإلسالم كما ّ‬

‫لتحقي���ق التنمية الش���املة م���ن منطلق القاعدة الش���رعية "حيثما‬

‫قديما وحدي ًثا‪.‬‬ ‫اإلسالمي وأزماته ً‬

‫الراشدون‪ ،‬وكما يمكن أن يلجأ اليوم إلى اآلليات واألساليب‬ ‫المعاص���رة المنس���جمة م���ع روح اإلس�ل�ام لتحقي���ق مقاص���د‬

‫الش���ورى‪ ،‬هو الذي يحقق كرامة اإلنس���ان المسلم‪ ،‬ويعيد إليه‬ ‫حقه في المعارضة والتعبير عن آرائه بحرية أخالقية منضبطة‪.‬‬

‫وما لم تس���اهم الحكومات العربية اليوم‪ ،‬مع النخب السياسية‬

‫والفكري���ة‪ ،‬ف���ي إع���ادة بناء وس���طية الفكر السياس���ي واإليمان‬ ‫بالديموقراطي���ة والتعددي���ة والحري���ة الفكرية والسياس���ية‪ ،‬فإن‬ ‫النتيجة س���تؤدي إلى المزيد من العن���ف الداخلي والخارجي‪.‬‬

‫‪ -3‬بناء ثقافة الوسطية في الفكـر االقتصـادي‬

‫اس���تنباط المنه���ج الوس���طي ف���ي الفك���ر االقتص���ادي والنظ���ام‬

‫وتكاف���ؤ الف���رص وتغلي���ب التوازن ف���ي التكاف���ل االجتماعي‪،‬‬

‫كانت مصالح العباد فثمة شرع اهلل"‪.‬‬

‫هذه هي بعض المالمح العامة لبناء ثقافة وسطية لالقتصاد‬

‫اإلس�ل�امي‪ ،‬المتمي���ز ع���ن باق���ي األنظم���ة االقتصادي���ة بإعطاء‬ ‫األولوي���ة لمحورية اإلنس���ان في الكون وليس الم���ادة والربح‬

‫والق���وة والتمكي���ن‪ ،‬الب���د أن ي���ؤدي عن���د تطبيقه‪ ،‬إل���ى طريق‬ ‫ٍ‬ ‫آليا‬ ‫جدي���د للتنمية في المجتمع اإلنس���اني‪ ،‬طريقٍ وس���ط ليس ًّ‬ ‫يبغ���ي الرب���ح وح���ده أو الكفاي���ة االقتصادية وحده���ا‪ ،‬إنما هو‬ ‫طري���ق إنتاج اقتصادي أخالقي إنس���اني‪ ،‬يفي بحاجة اإلنس���ان‬

‫وضروراته وشيء من كمالياته‪ ،‬إن أمكن ذلك‪.‬‬ ‫ف���إذا أعطينا األولوية إلعادة قراء ِة وصياغة منهج وس���طي‬

‫‪27‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )35‬‬


‫الالمفكر‬ ‫اإلطار الدفاعي الضيق‪ ،‬الذي يحكمه رد الفعل اآلني‬ ‫َّ‬

‫الدال على قوة مبادئ ومعتقدات وحضارات الشعوب في بناء‬

‫تاريخيا‬ ‫واإلس�ل�امي‪ ،‬علين���ا أن نعيد بناء موقع الوس���طية بن���اء‬ ‫ًّ‬

‫الحضاري‪ ،‬فبمقدار شمولية ثقافة الوسطية وتوازنها واستقرارها‬

‫فيه‪ ،‬والذي بسببه تم استهداف موقع الوسطية في عالمنا العربي‬ ‫متينا‪ .‬واليوم ليس صدفة وال اعتبا ًطا أن يغلب الفكر‬ ‫ملموس���ا ً‬ ‫ً‬

‫الحضارات‪ ،‬وهي عنصر هام في عملية التنمية الش���املة والبناء‬ ‫وصح���ة متبنياتها‪ ،‬يرتف���ع عمود الحضارة وتترس���خ أركانها في‬

‫الدفاع���ي بآليات���ه االنكماش���ية والتبريري���ة األيديولوجية داخل‬

‫المجتمع‪ ،‬وليس لقوة ‪-‬مهما بلغت‪ -‬أن تهزم أو تهدم حضارة‬ ‫���طا﴾(البقرة‪.)143:‬‬ ‫���م ُأ َّم ًة َو َس ً‬ ‫﴿و َك َذ ِل َك َج َع ْل َن ُ‬ ‫قائم���ة على ثقاف��� ِة َ‬ ‫اك ْ‬ ‫فعال ينتقل باإلنسان إلى وضع أفضل‪،‬‬ ‫ألن الوسطية هي جهاز ّ‬ ‫ووضع يواكب المشاكل والظروف الخاصة التي تواجه اإلنسان‬

‫المس���لم على العالم وعلى الناس‪ ،‬ويتمكن من خالله كس���ب‬

‫األساسية‪ .‬وعودتنا إلى بناء ثقافة الوسطية‪ ،‬واالنطالق منها إلى‬

‫المجتمع���ات اإلس�ل�امية‪ ،‬وأن يضمر إنتاج المعرف���ة الحقيقية‬

‫أبوابا جديدة للعمل‪ ،‬وأن تحدث منعط ًفا‬ ‫الت���ي يمكن أن تفتح ً‬

‫حقيقيا في واقع المسلمين وفي حاضر البشرية‪.‬‬ ‫ًّ‬

‫نعم‪ ،‬إن تدمير الموقع الروحي الذي يمكن أن يشرف منه‬

‫ف���ي ه���ذا المجتم���ع أو ذاك في بيئته وفي س���ياق تلبيته لحاجاته‬

‫مفاتي���ح تس���ريع التغيي���ر وبناء الحض���ارة والوص���ول إلى أفئدة‬

‫المشاركة والمنافسة الحضارية الفاعلة‪ ،‬يقتضي منا إعادة النظر‬

‫األمم األخرى‪ ،‬يبدأ بتغييب س���ؤال الهوية‪ :‬من نحن؟ ويمكننا‬

‫في صياغة جديدة لألمور اآلتية‪:‬‬

‫أن نجيب على هذا السؤال بكيفيتين‪ :‬من جهة المعنى اإلرادي ‪ -1‬بناء ثقافة وسطية الفكر اإلسالمي‬ ‫للهوية‪ ،‬ومن هذه الزاوية لسنا ما نحن عليه‪ ،‬ولكننا ما نريد أن‬

‫الب���د لنا أن نؤكد على أصول العقيدة الثابتة القطعية في كتاب‬

‫أمامن���ا‪ .‬ويمكنن���ا أن ننظر للهوية نظرة سوس���يولوجية‪ ،‬أي من‬

‫األص���ول وترك الف���روع التي اختلف حوله���ا العلماء‪ ،‬حتى ال‬

‫نك���ون علي���ه وأن نصير إليه‪ ،‬فالهوية هن���ا إمكانية وأفق للتطلع‬

‫اهلل تعال���ى وس���نة نبي���ه ‪ ‬وفصلها من فروعه���ا‪ ،‬والتأكيد على‬

‫جه���ة ما نحت���ه الزمن واآلخرون فينا‪ ،‬فنحن لس���نا مجرد فاعل‬

‫نتمزق من جديد‪.‬‬

‫أيضا مفعول به‪ .‬ومن هذه الزاوية يمكن‬ ‫تاريخ���ي حر‪ ،‬ولكنن���ا ً‬

‫تؤصل‪:‬‬ ‫فثقافة الوسطية ينبغي أن ِّ‬

‫أن نطرح الس���ؤال السوس���يولوجي‪ :‬ما هي القوى التي تخترقنا‬

‫• لمنهج في التعامل مع تيارات الفكر اإلس�ل�امي القديم‪،‬‬

‫سنكتش���ف أننا لس���نا س���ادة أنفس���نا في كثير مما نفعل‪ ،‬وأن ما‬

‫الفكري���ة ف���ي زمانها فأصابت وأخط���أت‪ ،‬وليس من المصلحة‬

‫وتحددنا على ما نحن عليه؟ وحين نطرح هذا السؤال بجدية‪،‬‬

‫واعتباره���ا تي���ارات اجتهادي���ة جابه���ت الفلس���فات والتيارات‬

‫تعرضت وتتعرض له األمة وطالئعها من هجمات ضارية‪ ،‬قد‬ ‫َّ‬ ‫أحدث تش���ويهات هام���ة في وعينا الذاتي‪ ،‬وحس���نا التاريخي‪.‬‬

‫إحياؤها اليوم وإدارة صراعات جديدة عليها‪.‬‬

‫لتقب���ل مواجه���ة األفكار الجديدة بأس���لوب جديد ومادة‬ ‫• ُّ‬

‫سوس���يولوجيا أن العنف الش���ديد الطويل‪ ،‬له‬ ‫وم���ن المعروف‬ ‫ًّ‬

‫معرفية جديدة‪ ،‬منطلقين من كتاب اهلل وسنة رسوله ‪.‬‬

‫إال باالعتص���ام المعرفي والعملي بالمقام الروحي للوس���طية‪.‬‬

‫بين العقيدة والشريعة والسلوك والحركة والبناء الحضاري من‬

‫آثار تش���ويهية في الغالب‪ ،‬وال يمكن أن نفلت من هذه اآلثار‬

‫فالوس���طية هن���ا قيم���ة تحرري���ة ومالذ م���ن التش���ويهات العنيفة‬

‫للهوية وللوعي الذاتي‪.‬‬

‫• تبن���ي المنهج الش���مولي في فهم اإلس�ل�ام ال���ذي يجمع‬

‫خالل منهج عقلي أصولي سليم‪.‬‬

‫• اإليم���ان بأن الفقه اإلس�ل�امي فقه متج���دد‪ ،‬ال يقف عند‬

‫بهذا المعنى فإن الوسطية‪ ،‬هي الموقع الذي يمكن لمسلم‬

‫زمن معين وال مذهب معين‪ ،‬ومواجهة مش���كالت العصر من‬

‫التش���ويهات العنفية‪ .‬الوس���طية كموقع روحي‪ ،‬كقيمة تأسيسية‬

‫• دراس���ة األنظم���ة العام���ة والمب���ادئ الكلي���ة في الش���ريعة‬

‫متحررا من‬ ‫تاريخي���ا‬ ‫فع�ل�ا‬ ‫ه���ذا الزم���ان أن ينطلق منه وينش���ئ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫لكينونة اإلنس���ان‪ ،‬كمبدإ تأسيس���ي لألمة اإلسالمية‪ ،‬هي األفق‬

‫ال���ذي ينبغ���ي أن تتحرك نح���وه األمة‪ ،‬ألن األم���ة اآلن ال ترى‬

‫كثيرا مما ينبغي أن تراه‪.‬‬ ‫ً‬

‫أي���ة أم���ة‪ -‬هي المظه���ر األبرز‬‫وألن ثقاف���ة وس���طية األم���ة ّ‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )35‬‬

‫‪26‬‬

‫خالل مقاصد الشريعة وقاعدة األيسر وليس األحوط‪.‬‬

‫اإلس�ل�امية‪ ،‬بمواجه���ة م���ا عن���د الغرب م���ن مب���ادئ ونظريات‬

‫قانونية كلية‪.‬‬

‫• دراسة السنن الكونية دراسة علمية موضوعية‪ ،‬واالستفادة‬

‫منها في الدخول إلى العصر الحضاري اإلسالمي الجديد‪.‬‬


‫قضايا فكرية‬

‫د‪ .‬مريم آيت أحمد*‬

‫آليات بناء‬

‫ثقافة الوسطية‬ ‫كي���ف يمكنن���ا بن���اء ثقافة الوس���طية في ظل‬

‫غي���اب نقطة لقاء وتقابل ووف���اق بين ثقافة‬ ‫األبي���ض واألس���ود‪ ،‬االس���تتباع المطل���ق‬

‫والرفض المطلق‪ ،‬الحوار واإلقصاء‬ ‫"الش���ح" و"اإلس���راف"‬ ‫ّ‬ ‫البن���اء والهدم‪ ،‬الهوية والالهوية‪ ،‬العنف والتس���امح‪ ،‬الظلم‬ ‫والع���دل‪ ...‬ثقاف���ة الغال���ب أو المغل���وب‪ ،‬ثقاف���ة الوس���ط‬

‫المعاص���رة والعولم���ة ‪ ،‬ثقاف���ة المادة و ال���روح‪ ،‬وغيرها من‬

‫الثقاف���ات التي كان لها حضورها وقوة دفعها وتأثيرها على‬ ‫س���لبا‬ ‫المجتمع البش���ري‬ ‫وإيجابا‪ ،‬مما يميزه���ا بصفة الحياة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫والديموم���ة بي���ن ثقافات كثيرة ماتت واندث���رت عبر الزمن‪.‬‬ ‫وبعي���دا عن برمجة وعينا الذات���ي وتموقعنا داخل دائرة‬ ‫ً‬

‫‪25‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )35‬‬


‫الغواص المحمي من صدمات الشلل‬

‫جيدا أن أخطر تهديد يمكن أن يواجهوه في‬ ‫يع���رف الغواصون ً‬ ‫الغط���س‪ ،‬هو تح���ول األزوت ‪-‬المنحل في ال���دم عند الصعود‬ ‫الس���ريع المفاجئ من األعماق‪ -‬إل���ى فقاعات غازية تؤدي إلى‬ ‫احتش���اءات ف���ي األوعي���ة الدموية لألعض���اء الحيوي���ة كالقلب‬ ‫والدم���اغ‪ .‬يمكن أن نرى ذلك ببس���اطة‪ ،‬عندم���ا نفتح (الكازوز)‬ ‫بش���كل آني س���ريع‪ ،‬كيف تتحول كربونات األسيد المنحلة إلى‬ ‫فقاعات (كربونديوكسيتين)‪ .‬وأنا أمضي حياتي بالغطس الفوري‬ ‫الس���ريع إل���ى مئ���ات األمتار‪ ،‬والعودة الس���ريعة كذل���ك دون أن‬ ‫مجهز بشكل خاص‪ .‬فالرئتان‬ ‫أتعرض لصدمات الش���لل‪ ،‬ألني َّ‬ ‫لدي تعمالن بشكل أسرع في التبادل الغازي‪ ،‬وأقوم باستعمال‬ ‫ّ‬ ‫‪ %80‬م���ن طاقتهما اإلنتاجية‪ ،‬في حين تس���تخدم الثديات البرية‬ ‫‪ %30‬م���ن طاقتهما في التب���ادل الغازي‪ .‬ولذلك أس���تطيع البقاء‬ ‫تحت س���طح الماء لمدة س���اعة كاملة مقابل دقيقتين من تنفس‬ ‫اله���واء‪ .‬ودمائ���ي تحم���ل ِضع َفي م���ا عندكم ‪-‬أنتم البش���ر‪ -‬من‬ ‫الكريات الحمر‪ ،‬ولذلك أحمل كميات كافية من األوكسجين‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وبس���بب زي���ادة "الميوجلوبين" (‪ )Myoglobin‬في جس���مي‪،‬‬ ‫يك���ون لحم���ي أس���ود الل���ون‪ ،‬بينم���ا لح���وم الحيوان���ات البرية‬ ‫لدي موهب���ة لتخفيض ضربات‬ ‫تك���ون حم���راء اللون‪ .‬كم���ا أن ّ‬ ‫قلبي وتضييق ش���راييني وتقليل مصروفي من األوكس���جين في‬ ‫آليا ب���دون إرادة أو‬ ‫األعم���اق‪ .‬ولك���ن كل ذل���ك يحصل ل���دي ًّ‬ ‫وعي مني‪ ،‬بعناية القدرة اإللهية وفيض كرمه‪.‬‬ ‫ش���يئا‪ ،‬كيف أفعل ذل���ك بغاز األزوت‪،‬‬ ‫وإن‬ ‫ْ‬ ‫كن���ت ال أعلم ً‬ ‫ُ‬ ‫إال أن الدراس���ات الت���ي أقامه���ا الفيزيولوجي���ون تق���ول بوجود‬ ‫ه���واء قليل في ثغرات جهازي التنفس���ي‪ ،‬عالوة على أن رئتي‬ ‫َّ‬ ‫ٍ‬ ‫كميات وافرة م���ن المواد‬ ‫تحم�ل�ان ف���ي داخلهم���ا ومحيطهم���ا‬ ‫المخاطي���ة الدهني���ة تعمل على امتص���اص األزوت من الهواء‪،‬‬ ‫ف�ل�ا يبقى أي غاز آزوتي حر‪ ،‬وال أتعرض لالحتش���اءات أثناء‬ ‫والعوم‪ ،‬حيث أطرح ه���ذه المواد المخاطية المحملة‬ ‫الغط���س َ‬ ‫ب���اآلزوت الموجودة في المجاري التنفس���ية عب���ر فتحتي أنفي‬ ‫مع التنفس المحمل ببخار الماء‪ .‬ويمكنكم أن تروا هذا الزفير‬ ‫ال���ذي يبلغ تس���عة أمتار عندم���ا تخرجون للس���ياحة في البحار‬ ‫والمحيطات‪ ،‬ويمكنكم أن تروا ذلك بوضوح أكبر‪ ،‬مع أعمدة‬ ‫البخار المتكاثف الذي يخرج مع الزفير في األجواء الباردة‪.‬‬ ‫أضطر إلى ش���رب المياه المالحة‪ ،‬لك���ن الكلى لدي كبيرة‬ ‫ومصممة لتطرح هذه األمالح الفائضة عن حاجتي‪ ،‬عن طريق‬ ‫بول���ي الكثي���ف‪ .‬والحقيقة أن���ي ال أحتاج إل���ى الكثير من الماء‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )35‬‬

‫‪24‬‬

‫ألنني ال أتعرق‪.‬‬ ‫فرخا يبلغ ‪2,5‬‬ ‫���د م���ر ًة كل عامين أو ثالثة أعوام‪ ،‬أو أل���د ً‬ ‫َأ ِل ُ‬ ‫ش���هرا‪ .‬وأتلقى مس���اعدة اإلناث في‬ ‫طن���ا بع���د حمل ي���دوم ‪12‬‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬ ‫هذه المرحلة‪ ،‬فالصغير الذي يبلغ ضعف وزنه خالل أس���بوع‪،‬‬ ‫يوميا‪ .‬مع���دل الدهون في‬ ‫يرض���ع من���ي ‪ 600‬لتر م���ن الحلي���ب ًّ‬ ‫حليب���ي ‪( %40‬مقاب���ل ‪ %2‬معدل الدهون ف���ي حليبكم)‪ ،‬ولذلك‬ ‫أقلل من شرب المياه أثناء اإلرضاع حتى يكون في كثافة أعلى‪.‬‬ ‫وحت���ى ال تتس���رب المي���اه المالحة م���ع الحليب أثن���اء الرضاع‪،‬‬ ‫أودع اهلل الرحي���م بخلق���ه في الصغير قابلي���ة الرضاع وعضالت‬ ‫خاصة تمكنه من الرضاع‪ ،‬وجعل ثديي بشكل يطبق على الفم‬ ‫بش���كل جيد‪ ،‬وجعل فيهما ق���درة على ضخ الحليب من خالل‬ ‫عضالت تتقلص وتتمدد‪ ،‬وبذلك يبقى صغيري ملتص ًقا بثديي‬ ‫طيل���ة ثمانية أش���هر أضخ في فمه الحليب‪ .‬فه���ل يع َقل أن ننظر‬ ‫إل���ى ه���ذا النظام المذهل بأنه صدفة كم���ا ادعى أصحاب نظرية‬ ‫التط���ور؟! أحت���اج خ�ل�ال اإلرض���اع أن أتناول أربع���ة أطنان من‬ ‫أس���ماك القريدس والسردين واألسماك الصغيرة األخرى‪ .‬وإذا‬ ‫اس���تطعت التخلص من اإلنس���ان ومن اصطياده لي‪ ،‬فيمكن أن‬ ‫ُ‬ ‫أواصل العيش (‪ )100-80‬س���نة‪ .‬على الرغم من أن عددنا كان‬ ‫يبلغ (‪ )300,000‬حوت في القرن التاسع عشر‪ ،‬فإن هذا العدد‬ ‫يقدر ب���ـ(‪ )10,000-6000‬حوت‪ ،‬وذلك بس���بب الصيد‬ ‫الي���وم ّ‬ ‫الجائر‪ .‬س���رعتي في الس���باحة الطبيعية تبل���غ (‪ 13-11‬كم) في‬ ‫الس���اعة‪ ،‬كما أس���تطيع أن أرفع هذه الس���رعة إلى (‪ 35-30‬كم)‬ ‫ف���ي الس���اعة عند الط���وارئ ولفترات قصيرة‪ .‬وبالتالي أس���تطيع‬ ‫وبكل س���هولة البقاء في عمق يبلغ (‪ )150‬متر ولمدة تس���تغرق‬ ‫تخصني أنا فقط‪ ،‬ويمكنكم‬ ‫‪ 20‬دقيق���ة‪ ،‬وهذه األرقام قياس���ات ّ‬ ‫أرقاما خاصة أخرى‪ ،‬وتكتشفوا خاصيات أخرى عند‬ ‫أن تقيسوا‬ ‫ً‬ ‫بقية أنواع الحيتان‪ .‬ومهما يكن من اختالف في الخاصيات من‬ ‫ن���وع إلى آخ���ر‪ ،‬فإنها كلها م���ن مظاهر تجليات الق���درة والعلم‬ ‫المحيط والرحمة المطلقة لخالقنا وبارئنا جل وعال‪.‬‬ ‫تعجز كلماتي عن توجيه أي خطاب ألولئك الذين يزعمون‬ ‫تعرضت لطفرات وراثية‬ ‫بأني في خلقتي هذه التي تفوق الخيال‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫أثناء انتقالي من البر إلى البحار والمحيطات‪ ...‬قولوا ما شئتم‪،‬‬ ‫مسبحا لخالقي‪،‬‬ ‫حامدا‬ ‫فأنا س���أمضي اآلن إلى محيطي‬ ‫شاكرا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مج���ددا ألجد ما‬ ‫ألن���ي أش���عر بالجوع‪ ،‬والب���د لي من الغطس‬ ‫ً‬ ‫أقتات عليه من رزق اهلل تعالى‪ ...‬أستودعكم اهلل أيها البشر‪.‬‬ ‫(*) جامعة ‪ 9‬أيلول ‪ /‬تركيا‪ .‬الترجمة عن التركية‪ :‬مصطفى حمزة‪.‬‬


‫معترضا‬ ‫ولست‬ ‫أبدا من رؤية األشياء مسطحة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫فلست أش���كو ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫لدي‪ .‬ألني أومن بأن اهلل تعالى‬ ‫ّ‬ ‫قط لعدم وجود حاسة التذوق ّ‬ ‫خلقني على هذا الشكل‪ ،‬ألنه يناسب خلقتي ويو ّفر لي الحياة‬ ‫المريح���ة والحرك���ة الس���هلة‪ .‬وليس من عادت���ي أن أبحث عن‬ ‫خلل في ما خلقه ربي‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫عيب أو ٍ‬

‫سمع قوي وصوت شديد‬

‫هن���اك فرق كبير بين كثافة الهواء وكثاف���ة الحيوانات البرية في‬ ‫الع���ادة‪ .‬ولذا ف���إن وصول الموجات الصوتي���ة إلى األذنين في‬ ‫زمني���ن مختلفي���ن متعاقبين بس���بب المس���افة الفاصل���ة بينهما‪،‬‬ ‫يوف���ر لألذني���ن القدرة على تحديد مصدر األصوات بس���هولة‪.‬‬ ‫ف���ي حي���ن تقل الف���روق بين كثاف���ة الماء وكثافة جس���م حيوان‬ ‫بح���ري مثل���ي‪ ،‬كما أن الموج���ات الصوتية الت���ي تنقلها المياه‪،‬‬ ‫تنتش���ر إلى كل الجهات في سرعة واحدة‪ ،‬وتصل إلى األذنين‬ ‫تزامن ال يس���مح بتحديد جهة المنب���ع الصوتي‪ .‬والجتياز‬ ‫ف���ي‬ ‫ٍ‬ ‫هذه المش���كلة‪ ،‬وضع ربي فجوة في الجزء الخلفي من رأسي‬ ‫كيس���ا‬ ‫تفصل منطقة الس���مع ّ‬ ‫لدي‪ ،‬ووضع وراء أ ُذني الداخلية ً‬ ‫جيوبا تفصل‬ ‫رجراج���ا‪ .‬وبالتالي جعل لنا نحن الحيتان‬ ‫هوائي���ا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫بي���ن األذنين الداخليتين تدع���ى "‪ ،"Periblar Sinus‬وجعل كذلك‬ ‫األكي���اس الهوائي���ة خل���ف األذني���ن‪ ،‬تهتز بش���كل مس���تقل عن‬ ‫يمكنن���ا من تحديد جهة الصوت في يس���ر‬ ‫األخ���رى‪ ،‬وه���ذا ما ّ‬ ‫وس���هولة‪ .‬أثن���اء الغطس في أعماق البح���ار يزداد ضغط الكتل‬ ‫المائية الهائلة بس���رع ٍة كبير ٍة على أذني‪ ،‬يقوم الدم الذي يندفع‬ ‫إل���ى فجوات الهواء أثناء الغطس بدور التوازن‪ ،‬وبذلك يكون‬ ‫قد حماها ربي الذي أحسن خلقي من االنفجار‪.‬‬ ‫عل���ى الرغم م���ن أن ُأ ُذ َني ال تملكان أذ ًن���ا خارجية مثلكم‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ج���دا لألص���وات‪ ،‬حي���ث تس���تطيع التق���اط‬ ‫فإنهم���ا حساس���تان ًّ‬ ‫االهت���زازات م���ن ‪ 12,5‬هرتز إل���ى ‪ 32000‬هرت���ز‪ ،‬بينما يبلغ‬

‫الحد األعلى من هذه االهتزازات عند إناثنا ‪ 200‬ألف هرتز‪.‬‬ ‫إن ق���وة الس���مع عندي تعن���ي في المقابل وج���ود آلية قوية‬ ‫إلصدار األصوات‪ .‬إذ نس���تعمل الذبذبات المختلفة ألغراض‬ ‫مختلف���ة‪ .‬فاألص���وات المنخفض���ة (‪ 200–12,5‬هرت���ز)‬ ‫تش���كل لغتنا الخاصة التي نس���تعملها فيما بيننا‪ ،‬كما نس���تعمل‬ ‫الذبذب���ات العالي���ة (‪ )32000-21000‬كال���رادارات‪ ،‬للداللة‬ ‫التم ْوضع والمكان‪ ،‬إذ من خاللها نحدد أماكن أس���راب‬ ‫عل���ى َ‬ ‫القري���دس واألس���ماك الت���ي نقت���ات عليها‪ .‬صوتي هو األش���د‬ ‫ذك���ر أني أصدرت ‪-‬في‬ ‫واألق���وى بي���ن أصوات الحيوانات‪ ،‬و َأ ُ‬ ‫إح���دى الم���رات‪ -‬صو ًت���ا أقوى م���ن صوت طائ���رة أقلعت من‬ ‫مطار "تش���يلي"‪ .‬وبفض���ل هذه القدرة في الس���مع والتصويت‪،‬‬ ‫جدا‪ .‬فالصوت‬ ‫نتمك���ن من مراقبة بعضنا على مس���افات بعيدة ًّ‬ ‫هرت���زا‪ ،‬يمكن التقاطه‬ ‫الخاف���ت ال���ذي أصدره بذبذبة تبلغ ‪20‬‬ ‫ً‬ ‫من قبل حوت آخر على مسافة ‪ 75‬كم بكل وضوح‪ ،‬بل ربما‬ ‫يمكننا التواصل فيما بيننا على مس���افة ‪ 300‬كم‪ ،‬بل ويمكنني‬ ‫أن أرس���ل الراس���ائل وأتواصل مع أصدقائي على مس���افة ‪10‬‬ ‫آالف كيلومتر إذا توافق الصوت الذي أصدر ُته مع موج البحر‬ ‫ولم تشوش عليه أصوات محركات البواخر‪.‬‬

‫لكي ال أتجمد من شدة البرد‬

‫تعلم���ون أن البحار ب���ارد ٌة‪ ،‬وإذا علمتم أن بعض أنواعنا تلتمس‬ ‫حياته���ا في المحيط���ات القريبة من القطب‪ ،‬فإنكم س���تتخيلون‬ ‫أن حياتن���ا مليئ���ة بالصعوبات والمعاناة‪ .‬ربم���ا كان األمر كذلك‬ ‫بالنس���بة لكم‪ ،‬لكن ربي ‪-‬بعلمه المحي���ط‪ -‬جعل تحت جلدي‬ ‫طبقة دهنية بسماكة تتراوح من ‪ 25‬سم إلى ‪ 50‬سم‪ .‬هذه الطبقة‬ ‫الدهنية تعمل كعازل حراري لتحفظ حرارة الجسم وتخفف من‬ ‫الفاقد الحراري إلى أدنى مستوى‪ .‬كما يغطى جلدي بطبقة دهنية‬ ‫زلقة وليس فيه مسامات التعرق‪ .‬تتحكم شبكة العروق الدموية‬ ‫الكثيف���ة في زعانف���ي‪ ،‬في حرارة جس���مي؛ ففي البح���ار الدافئة‬ ‫تتمدد عضالت هذه العروق وتتوسع ليزداد الفاقد الحراري بما‬ ‫يناسب حرارة الوسط الذي أسبح فيه‪ ،‬بينما تتقلص في البحار‬ ‫عروق الزعانف لتنخفض كمي���ة الدماء الواردة‬ ‫الب���اردة وتضيق‬ ‫ُ‬ ‫إليها‪ ،‬وبالتالي لينخفض الفاقد الحراري‪ .‬توجد الش���رايين التي‬ ‫تحم���ل الدماء م���ن القلب إلى الزعانف‪ ،‬متالصق���ة مع األوردة‬ ‫التي تعود بالدماء إلى القلب‪ ،‬فتعمل حرارة الدماء في الشرايين‬ ‫عل���ى تدفئ���ة الدم���اء ف���ي األوردة‪ ،‬وتأمين عودتها إلى الجس���م‪،‬‬ ‫وتخفيض الفاقد الحراري‪.‬‬

‫‪23‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )35‬‬


‫اللذي���ن يتجلي���ان ف���ي آالف الخاصيات المعج���زة التي زودها‬ ‫لمخلوق مثلي‪ ،‬ليتمكن من العيش في البحار الواسعة‪ ...‬هذه‬ ‫الخاصيات التي يكتش���فها علماء المورفولوجيا والفيزيولوجيا‬ ‫والتش���ريح‪ ،‬والت���ي ال ت���دل إال على كمال اإلتق���ان‪ .‬يا لك من‬ ‫ٍ‬ ‫تدعي بأني‬ ‫إنس���ان تائ���ه حائر‪،‬‬ ‫عجول في إطالق األح���كام؛ إذ ّ‬ ‫رت عبر‬ ‫تطو ُ‬ ‫ُ‬ ‫كن���ت في الماضي الغابر حيوا ًنا َب ّر ًّي���ا كالفيل‪ ،‬ثم ّ‬ ‫سلس���لة م���ن الطفرات الوراثي���ة التصادفية إل���ى حوت بحري‪،‬‬ ‫وأنت تدرك الفروق الجوهرية بين الحياتين البرية والبحرية‪...‬‬ ‫فه���ل كل ذل���ك م���ن أج���ل إن���كار وج���ود اهلل الخال���ق المطلق‬ ‫والتهرب من عبوديته؟!‬ ‫ّ‬ ‫جيدا بأني نوع من األس���ماك بس���بب‬ ‫ال‬ ‫من‬ ‫يعتق���د‬ ‫يعرفني‬ ‫ً‬ ‫عيش���ي في البحار‪ ،‬ولكن ال تربطني باألس���ماك عالقة س���وى‬ ‫اشتراكي معها في الوسط البحري الذي أعيش فيه‪ .‬فاألسماك‬ ‫مخلوق���ات تتألف قلوبها من ُح َجير َتين‪ ،‬تتنفس األوكس���يجين‬ ‫ح���ل ف���ي الم���اء ع���ن طريق الغالص���م‪ ،‬تغطي الحراش���ف‬ ‫المن ّ‬ ‫ْ‬ ‫العظمي���ة جس���مها‪ ،‬وتتكاثر بالبي���وض التي تضعها ف���ي الماء‪،‬‬ ‫كم���ا أنها من ذوات الدم الب���ارد‪ .‬أما قلبي فيتألف مثل قلوبكم‬ ‫أنتم البش���ر‪ -‬م���ن ُح َجي ٍ‬‫���رات أربعة وال يمكنني اس���تخالص‬ ‫ْ‬ ‫المنحل في الماء‪ ،‬فأنا مزود مثلكم برئتين أستطيع‬ ‫األوكسجين‬ ‫ّ‬ ‫من خاللها تن ّفس الهواء‪ .‬ولعل الفرق الجوهري الذي يميزني‬ ‫عن األس���ماك ويضعني في نوع الثدييات‪ ،‬هو اإلنجاب نتيجة‬ ‫ديي الممتلئة باللبن‪.‬‬ ‫الحمل وإرضاع صغاري من ث‬ ‫ُ َّ‬ ‫جنس���ا‪ .‬فكما‬ ‫نوعا‬ ‫تفت���رق الحيت���ان إلى ‪ً 92‬‬ ‫منتميا إلى ‪ً 38‬‬ ‫ً‬ ‫أنواع���ا مختلف���ة األحج���ام واألط���وال ‪-‬كالدالفين‪-‬‬ ‫أن هن���اك‬ ‫ً‬ ‫مترا ووزن ‪190‬‬ ‫فكذل���ك هن���اك أنواع مثلي‪ ،‬تتمتع بط���ول ‪ً 34‬‬ ‫طن���ا‪ ،‬مما يكس���بها لقب أضخم حيوان في العالم‪ .‬وس���أحاول‬ ‫ًّ‬ ‫أق���دم لكم بإيج���از‪ ،‬قدراتي الخاصة التي وهبنيها ربي‬ ‫اآلن أن ّ‬ ‫وخالقي ألقدر على العيش في وسط المحيطات‪ ،‬وجعلني بها‬ ‫أتمي���ز عن باقي الحيوانات الحية األخرى‪ ،‬وأترك تقدير ما إذا‬ ‫بلغت هذه الحال عبر سلس���لة من الطفرات الوراثية‬ ‫كن���ت قد‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫التصادفية أم بخلقٍ وتقديرٍ وتدبيرٍ إلهي معجز؟!‬

‫هيكل عظمي مدهش‬

‫كما تعلمون أنتم البشر‪ ،‬ينبغي أن ال تكون كثافة جسمي أعلى‬ ‫م���ن كثافة الماء أو ينبغي أن يتم تعزيز قوة رفع الماء بفجوات‬ ‫الع ْوم في المحيطات والغوص‬ ‫هواء إضافية حت���ى أتمكن من َ‬ ‫ف���ي أعماقه���ا‪ .‬لذل���ك‪ ،‬فالعظام التي تش���كل الهي���كل العظمي‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )35‬‬

‫‪22‬‬

‫إس���فنجية تختلف‬ ‫ل���دي ما عدا عظام الرأس‪ ،‬تتركب من مواد‬ ‫َّ‬ ‫يش���كل النخاع الدهني‬ ‫ع���ن عظامكم وعظام س���ائر الثدييات‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫نس���بة ‪ %50‬م���ن عظام���ي‪ ،‬كما أن ه���ذه العظ���ام الدهنية تؤدي‬ ‫ٍ‬ ‫يكون نس���بة‬ ‫إل���ى تخفي���ف كبيرٍ في وزن هيكلي العظمي الذي ّ‬ ‫‪ %17‬م���ن جس���مي‪ .‬إضاف ًة إل���ى أن هيكلي العظم���ي لم ُيخلق‬ ‫أيضا‬ ‫لحم���ل جس���مي الضخم وتأمين س���يري فقط‪ ،‬ب���ل يعمل ً‬ ‫على تأمين المرونة العالية في دعم عضالت جسمي وتمكيني‬ ‫من السباحة‪ .‬فهيكلكم العظمي ‪-‬أنتم البشر‪-‬‬ ‫صلب‪ ،‬وهذا ما‬ ‫ٌ‬ ‫يمكنك���م من الوقوف على األرض ومقاوم ِة الجاذبية األرضية‬ ‫ّ‬ ‫وبالتال���ي الس���ير عليه���ا‪ .‬وم���ن هن���ا يمكنك���م أن تتخيلوا مدى‬ ‫الصعوب���ات التي واجهها أصحاب نظرية التطور حتى يجدوا‬ ‫طريق���ة يقنع���ون بها الناس حول كيفي���ة انتقالي من حيوان ّبري‬ ‫إلى حيوان مائي! إذ زعموا أني‬ ‫سئمت من الحياة على اليابسة‬ ‫ُ‬ ‫أتمكن من العيش في الماء والمحيطات!‬ ‫فغيرت جسمي لكي ّ‬ ‫ّ‬ ‫فتتغير‬ ‫رأس���ي‪،‬‬ ‫لعظام‬ ‫النمو‬ ‫س���رعة‬ ‫ل‬ ‫معد‬ ‫أما‬ ‫مفاجئا‬ ‫ا‬ ‫تغير‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫عن���د المرحلة األخي���رة من نمو الجني���ن‪ ،‬إذ تنزلق عظمة أنفي‬ ‫ال‪ ،‬وبذلك تنتقل فتحة أنفي‬ ‫فكي طو ً‬ ‫نحو األعلى وتمتد عظام ّ‬ ‫ألتمكن من تنفس الهواء‪.‬‬ ‫إلى أعلى نقطة في رأسي‬ ‫ّ‬ ‫وإن كانت حاسة الشم لدينا‬ ‫لدي‪ْ ،‬‬ ‫السمع من أهم الحواس ّ‬ ‫فإن كنا ال نملك‬ ‫نحن الحيتان ضعيفة‪ ،‬فإن حاسة البصر قوية‪ْ .‬‬ ‫موزعة‬ ‫حاس���ة الت���ذوق‪ ،‬فإن حاس���ة اللم���س لدينا جيدة وه���ي ّ‬ ‫على جسمي كله‪ ،‬كما أن الشعيرات القليلة على أطراف فمي‬ ‫أيضا‪ .‬أنتم بني البش���ر تتمتع���ون برؤية ثالثية‬ ‫عالية الحساس���ية ً‬ ‫األبعاد‪ ،‬فترون بها األش���ياء مجس���مة‪ ،‬ولكن الرؤية لدي ثنائية‬ ‫األبع���اد‪ ،‬حيث أرى األش���ياء مس���طحة‪ ،‬ألن ِكال عين���ي يرتبط‬ ‫َّ‬ ‫بالدماغ من خالل عصب بصري مستقل‪ ...‬ال أقول لكم ذلك‬ ‫ش���كاية أو‬ ‫اعتراض���ا‪ ،‬بل أقوله بيا ًنا لروع���ة الخلق والكمال‪...‬‬ ‫ً‬


‫علوم‬

‫أ‪.‬د‪ .‬عرفان يلماز*‬

‫الحوت األزرق‬ ‫عمالق البحار والميحطات‬

‫وتدبيره سبحانه‪،‬‬

‫فه���و يتصرف ف���ي ملكه‬

‫مرحب���ا أيه���ا اإلنس���ان‪ ..‬أن���ا الح���وت األزرق‬ ‫ً‬

‫(‪ ،)Balaenoptera Musculus‬أضخ���م مخلوق بين‬

‫الحيوان���ات الموجودة في عالمن���ا اليوم‪ .‬بداية‬ ‫أحدثك عن نفسي‪ ،‬و َأ ُر َّد بالتالي على بعض االدعاءات‬ ‫أحب أن ّ‬ ‫ف���ي ح ّق���ي‪ .‬ربما ُوجد ف���ي الماضي بعض الديناص���ورات التي‬

‫كبرن���ي‬ ‫حجم���ا ولكنه���ا اليوم غير موج���ودة‪ .‬فالق���وي الخالق‬ ‫ً‬ ‫َت ُ‬ ‫المدبر سبحانه‪ ،‬خلق مخلوقات كثيرة‪ ،‬وأ ِذن لها أن تعيش على‬ ‫حينا من الدهر‪،‬‬ ‫هذه األرض الس���ابحة في فلك الفضاء الواسع ً‬

‫ثم انقرضت بعض هذه المخلوقات وغابت عن مسرح الحياة‪،‬‬

‫وظ ّلت بعضها اليوم مهددة باالنقراض‪ ،‬ولعل نسلي في المستقبل‬ ‫خلق آخ���ر‪ ..‬وكل ذلك بأم���ره وتقديره‬ ‫ينق���رض ويكون هن���اك ٌ‬

‫كيف يش���اء‪ ..‬وال ش���ك أن َخ ْلق حيوان‬

‫كخ ْلق جرثومة صغيرة بالنس���بة له س���بحانه‪ ،‬يخلق‬ ‫ضخم مثلي َ‬ ‫ول َل ُه ُك ْن‬ ‫كما يشاء وكيفما يشاء‪ ،‬و﴿ ِإ َّن َما َأ ْم ُر ُه ِإ َذا َأ َر َاد َش ْي ًئا َأ ْن َي ُق َ‬ ‫ون﴾(يس‪ ،:‬تعالى س���بحانه عن العجز الذي هو شأننا نحن‬ ‫َف َي ُك ُ‬ ‫المخلوقين‪ .‬إال أن بعض الناس يسلكون في تفسير الخلق طر ًقا‬ ‫ملتوية وينحرفون إلى اإللحاد‪ ،‬ألنهم ال يرون العلم والقدرة في‬

‫خ َلقه‪ ،‬وتأتي نظرية التطو ر (�‪Evo‬‬ ‫َخ ْلق اهلل الذي أتقن كل شيء َ‬

‫‪ )lution‬على رأس هذه الطرق الملتوية التي تسوق إلى اإللحاد‪.‬‬ ‫اإلنس���ان الذي يلجأ إل���ى الطفرات الفجائية‬ ‫وإنه ليحزنني‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫والتكي���ف المجرد عن‬ ‫واالصطف���اء الطبيع���ي الذي ال َيرح���م‬

‫الوع���ي واإلدراك‪ ،‬ويتوس���ل إلى تلك النظري���ات القائمة على‬

‫الصدفة‪ ،‬للتهرب من إثبات علم اهلل المحيط وقدرته المطلقة‪،‬‬

‫‪21‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )35‬‬


‫متعددة‪ ،‬ترتب عنه وضع نفسي عويص‪.‬‬

‫‪ -2‬الكذب‪ :‬وهو أنواع كثيرة ومراتب متفاوتة‪.‬‬

‫‪ -3‬العدواني � � ��ة والتباغض‪ :‬وه���ي ظاهرة نفس���ية تدل على‬

‫فقدان التوازن على مستوى شبكة العالقات االجتماعية‪.‬‬

‫‪ -4‬الجهل‪ :‬بما عند المسلمين من روابط نورانية‪ ،‬وخاصة‬

‫تلك التي تربطهم باآلخرة أو بالحياة األخرى‪.‬‬

‫‪ -5‬االستبداد‪ :‬وهو حالة نفسية قبل أن تكون سياسية‪.‬‬

‫‪ -6‬الذاتية‪ :‬أو حب الذات والظهور‪.‬‬

‫فموق���ع ه���ذه الرس���ائل يظهر ف���ي كونه���ا متفتق���ة وصادرة‬

‫ع���ن واق���ع مص���دوم‪ ،‬حيث إن صدمت���ه أتته من تكرار الفش���ل‬ ‫في تس���مية األش���ياء بأس���اميها الحقيقية‪ ،‬ومن الفشل في إعادة‬

‫رد‬ ‫اإلنس���ان اإلس�ل�امي إلى موضعه األصلي‪ .‬فمثل���ت من ثم ّ‬ ‫حول الف���رد إلى أمة‪ ،‬حيث ظه���رت نتيجة ذلك في‬ ‫فع���ل ّبن���اء ّ‬ ‫المجتمع التركي المعاصر‪.‬‬ ‫رد فعل ّبن���اء حول الفك���رة إلى تجربة‬ ‫ودل���ت ً‬ ‫أيض���ا عل���ى ّ‬

‫ناجح���ة من ناحي���ة الكيف‪ ،‬وذلك من خالل الس���لوك العملي‬

‫لطلبة النور في واقع تركيا االجتماعي‪.‬‬

‫وخالص���ة الخالصة أن كاتب الرس���ائل عاش بين األفكار‬

‫الخادع���ة واألف���كار المخدوعة بح ًثا ع���ن ‪-‬وأمال في تحقيق‪-‬‬ ‫قاع���دة مجتمعي���ة ش���رعية ثابت���ة‪ ،‬ال ينخرم فيها أي ش���رط من‬

‫الشروط التي تحقق الحياة الكريمة واألخرى السعيدة‪ ،‬وذلك‬ ‫عنص���ري األمن والع���دل‪ ،‬ألجل رد الظل���م ودفعه عن‬ ‫بتوفي���ر‬ ‫َ‬

‫تذكيرا‬ ‫اإلنسان وخاصة المسلم‪ .‬ونجد في ثنايا هذا الحديث‪،‬‬ ‫ً‬

‫ال‪" :‬ال تحسبن الظلم‬ ‫بما ذهب إليه ابن خلدون في مقدمته قائ ً‬ ‫أخذ المال أو الملك من يد مالكه من غير عوض وال‬ ‫إنما هو ْ‬ ‫س���بب كم���ا هو المقص���ود‪ ،‬بل الظلم أعم م���ن ذلك‪ .‬وكل من‬

‫أخذ ملك أحد أو غصبه في عمله أو طالبه بغير حق أو فرض‬

‫عليه ح ًّقا لم يفرضه الشرع فقد ظلمه"‪.‬‬

‫(*) أستاذ الفكر والحضارة بكلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‪-‬تطوان ‪ /‬المغرب‪.‬‬

‫المراجع‬

‫(‪ )1‬المالحق‪ ،‬لبديع الزمان س���عيد النورسي‪ ،‬ترجمة‪ :‬إحسان قاسم الصالحي‪،‬‬ ‫دار النيل للطباعة والنشر‪ ،‬القاهرة‪.‬‬

‫(‪ )2‬صيق���ل اإلس�ل�ام‪ ،‬لبديع الزمان س���عيد النورس���ي‪ ،‬ترجمة‪ :‬إحس���ان قاس���م‬ ‫الصالحي‪ ،‬دار النيل للطباعة والنشر‪ ،‬القاهرة‪.‬‬

‫(‪ )3‬مق���ال "أص���ول التفك���ر في رس���ائل الن���ور"‪ ،‬لـ"أميد شمش���ك" ف���ي المؤتمر‬ ‫العالمي ‪ 3‬لبديع الزمان سعيد النورسي‪.‬‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )35‬‬

‫‪20‬‬

‫معرفة اهلل‬ ‫مفعما‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫إن َ‬ ‫كنت بمعرفة اهلل ً‬ ‫فما أعظم ّ‬ ‫حظك!‬ ‫إذ ترى في كل شيء معنًى‪،‬‬ ‫وفكرًة وجماالً‪،‬‬ ‫وحتى الطبيعة‪ ،‬تغدو أمامك‬ ‫وكأنها لـحن تتناغم فيه األصوات‪،‬‬ ‫وتلتئم األلوان‪،‬‬ ‫وكأنها قد َسكبت كل جمالها‪،‬‬ ‫في وردة حسناء واحدة‪!..‬‬ ‫***‬


‫ذل���ك النم���وذج الص���ادق‪ ،‬وف���ي ذل���ك‬ ‫النور من خالل األحداث السياسية التي‬ ‫المي���زان الصغي���ر‪ ،‬وف���ي ذل���ك الش���عور‬ ‫واكبت االنقالب‪ ،‬وحاول تطبيق ما رآه‬ ‫�ش ّقت ر�س��ائل النور طريقها �إىل‬ ‫باألناني���ة‪ ،‬فإن���ه يص���دق تل���ك األس���ماء‬ ‫من نور على واقع الحال من دون تعبير‬ ‫احلقيقة يف مو�ضع العبادة �ضمن‬ ‫والصف���ات بإيم���ان واطمئن���ان ووجدان‬ ‫وال تأوي���ل‪ ،‬إال أن���ه لم يوف���ق في التعبير‬ ‫ال �إىل حقيقة‬ ‫العلم‪ ،‬وفتحت �سبي ً‬ ‫ج���ازم ش���هودي وإذعان���ي وبس���هولة‬ ‫ال‪ ،‬كأننا برس���ائل‬ ‫عن بش���راه توفي ًقا كام ً‬ ‫احلقائ��ق يف مو�ض��ع ال�س��لوك‬ ‫ويسر"‪.‬‬ ‫النور ‪-‬على لسان مؤلفها‪ -‬في التجارب‬ ‫والأوراد �ض��من براهني منطقية‬ ‫وهك���ذا مهما حاولنا ضب���ط تعريفنا‬ ‫أمرا لم يحن أوانه بعد‪( .‬تأييده‬ ‫تستعجل ً‬ ‫ا‬ ‫ق‬ ‫طري‬ ‫وك�شفت‬ ‫علمية‪،‬‬ ‫وحجج‬ ‫ً‬ ‫لرس���ائل الن���ور‪ ،‬فإننا لن نصي���ب إذا لم‬ ‫للجيش وجمعية االتحاد والترقي)‪.‬‬ ‫يف‬ ‫الك�برى‬ ‫الوالي��ة‬ ‫إىل‬ ‫�‬ ‫ا‬ ‫مبا��شر‬ ‫ً‬ ‫نتتب���ع وحداته���ا أو فقراته���ا بالبحث في‬ ‫ولك���ن بحل���ول الح���رب العالمي���ة‬ ‫مو�ض��ع علم الت�صوف والطريقة‬ ‫ضوء األح���داث والظ���روف التي كانت‬ ‫وخضه���ا للمجتمع التركي‪ ،‬وخاصة منه‬ ‫�ض��من عل��م ال��كالم والعقي��دة‬ ‫تم���ر به���ا تركي���ا عندئ���ذ‪ .‬فق���راءة ه���ذه‬ ‫تلك العناصر التي كان النورس���ي يعول‬ ‫و�أ�صول الدين‪.‬‬ ‫الرس���ائل في ذاكرة الفكر اإلسالمي في‬ ‫عليه���ا في تدش���ين فجر جدي���د‪ ،‬تبين له‬ ‫عموميت���ه‪ ،‬أمر في���ه مغالطة كبيرة‪ .‬بل إن‬ ‫األمر فعاد "سعيد الجديد" إلى االستمرار‬ ‫االحتف���اظ بالخصوصية الكاملة والتامة‬ ‫"س���عيدا القدي���م"‪.‬‬ ‫ف���ي مهام���ه وخال���ف‬ ‫ً‬ ‫لفك���ر ه���ذه المكتوب���ات‪ ،‬هو الش���رط األس���اس لوض���ع أقدام‬ ‫وال أرى ه���ذه المخالف���ة إال في وجهة واحدة هي الوجهة‬ ‫ال‬ ‫القارئ على الس���بيل الصحيح (المواضيع تكاد تكون واحدة‪ ،‬السياس���ية‪ ،‬أما فيما عدا ذلك‪ ،‬فنهج رس���ائل النور بقي حام ً‬ ‫لكن أس���لوب المعالجة واألولويات في ترتيب العناصر وغير للروح المبشرة والمؤمنة بغد أفضل‪ ،‬بثقة كبيرة وعزم أكيد‪.‬‬

‫واح���دا)‪ .‬فجمي���ع المفكرين في إص�ل�اح أوضاع‬ ‫ذل���ك لي���س‬ ‫ً‬ ‫العال���م اإلس�ل�امي تطرق���وا لمواضي���ع االس���تبداد‪ ،‬والتعلي���م‬ ‫عما قاله‬ ‫والع���دل‪ ،‬والتنمية‪ ...‬ولكن ما قاله محمد عبده يتميز ّ‬ ‫محم���د إقبال وعما قاله غيرهما‪ ،‬إذ لكل واحد في إطار بيئته‪،‬‬ ‫اصطالحاته الشارحة والباحثة عن الحلول‪.‬‬ ‫وتفك ٌر في آيات‬ ‫وعليه أقول‪ ،‬إنها محاول ٌة لتفس���ير القرآن‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫اآلف���اق واألنف���س‪ ،‬أي نع���م‪ ،‬لكن م���ع إيقاع أو ج���رس الزمن‬ ‫االجتماعي والسياس���ي والحض���اري لتركيا الحديث���ة بهدوئها‬ ‫وضجيجها‪ ،‬بمدها وجزرها‪.‬‬

‫"إنن���ي أقس���م بم���ا آتاني اهلل من ق���وة‪ ،‬بل ل���و كان لي ما ال‬ ‫يعد وال يحصى من األلسنة‪ ،‬ألقسمت بها جميعا بالذي خلق‬ ‫ّ‬ ‫العال���م بهذا النظام األكمل‪ ،‬وخل���ق الكون في منتهى الحكمة‬ ‫واالنتظ���ام من ال���ذرات إلى الس���يارات الس���ابحات في أجواء‬ ‫الفض���اء‪ .‬ومن جناح البعوضة إلى قناديل النجوم المتأللئة في‬ ‫السماوات‪ ...‬ال يمكن أن يخرج البشر على سنة اهلل الجارية في‬ ‫الكون‪ ،‬ويخالف بقية إخوانه من طوائف المخلوقات بشروره‬ ‫قطعا"‪.‬‬ ‫الكلية ويقضي بغلبة الشر على الخير‪ ...‬فهذا ال يمكن ً‬ ‫وتقرير مثل هذا‪ ،‬مسند بقسم غليظ ال يمكن أن يصدر إال‬ ‫ممن يعرف موطئ أقدامه ونتيجة منطوقه‪.‬‬

‫وخير ما يعكس هذه الصورة ِسفر صيقل اإلسالم في مواضع‬ ‫متنوع���ة‪ ،‬حي���ث يق���ول األس���تاذ س���عيد النورس���ي ف���ي إحدى‬ ‫الفق���رات‪" :‬لق���د ألقيت نظرة إلى رس���الة "المناظرات"‪ ،‬وذلك‬ ‫بعد مرور خمس وثالثين س���نة على تأليفها‪ ،‬فرأيت فيها وفي‬ ‫مؤلفات "س���عيد القديم" أخطاء وهفوات‪ .‬إذ ألف تلك اآلثار‬ ‫في حالة روحية و ّلدها االنقالب السياس���ي وأنش���أتها مؤثرات‬ ‫خارجية وعوامل محيطة به"‪.‬‬ ‫فلق���د أحس بإحس���اس مس���بق أن "رس���ائل النور" س���تنقذ‬ ‫إيمان كثير من المؤمنين وستش���د أزرهم‪ ،‬إال أنه نظر إلى هذا‬

‫المسألة الحضارية‬

‫صيقل اإلسالم‬

‫والش���يء نفس���ه نلحظه ف���ي كيفية تعليل���ه للمس���ألة الحضارية‬ ‫حيث يطرح السؤل التالي‪:‬‬ ‫"ما الش���ر الذي جعل العالم اإلس�ل�امي يقف على أعتاب‬ ‫القرون الوسطى‪ ،‬بينما طار األجانب واألوربيون بخاصة نحو‬ ‫المستقبل؟!"‪.‬‬ ‫األم���ر ف���ي تمثله‪ ،‬راج���ع إلى مجموع���ة م���ن األدواء التي‬ ‫يعاني منها المسلمون في عهده ‪-‬وإلى يومنا هذا‪ -‬من مثل‪:‬‬ ‫‪ -1‬اليأس‪ :‬يأس الفرد بالتراكم‬ ‫مركبا) عبر س���نين‬ ‫(=يأس���ا‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫‪19‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )35‬‬


‫ج���اءت الدع���وة إلى تحقي���ق الذات اإلس�ل�امية التي غاب‬ ‫حضوره���ا الفعل���ي بش���كل مري���ب؛ وذل���ك قص���د التخل���ص‬ ‫م���ن حالة نفس���ية عويصة للغاية تصور فيها اإلنس���ان المس���لم‬ ‫باهتا‪ ،‬وإع���داد وضع صحي تغيب‬ ‫ذات���ه‬ ‫ش���بحا مخي ًفا أو ظ�ل� ًّ‬ ‫ا ً‬ ‫ً‬ ‫في���ه الدوني���ة واالنفص���ام‪ ،‬وذلك بإكس���اب اإلنس���ان المس���لم‬ ‫ش���جاعة كافي���ة‪ ،‬ك���ي يتقدم إل���ى العالم كل���ه باس���مه الحقيقي‬ ‫وش���كله األصل���ي وانتمائ���ه األصي���ل وه���و عين المب���دإ الثاني‬ ‫نظ���را‬ ‫ال���ذي س���ميته بترس���يخ الهوي���ة ع���وض البح���ث عنه���ا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ألن أصال���ة العال���م اإلس�ل�امي ل���م تض���ع من���ه ك���ي يبح���ث‬ ‫ال‪.‬‬ ‫قس���را‬ ‫عنه���ا‪ ،‬ب���ل إن���ه كتمه���ا إم���ا‬ ‫وقه���را‪ ،‬أو ضع ًفا وت���واك ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫الصراع الفكري‬

‫وهن���ا تظه���ر مس���ألة الص���راع الفك���ري عل���ى مس���رح أح���داث‬ ‫العالم اإلس�ل�امي‪ ،‬بإثارة مبدإ ثالث هو ضرورة التقدم وكيفية‬ ‫تحقيقه في غياب وصاية اآلخر المذمومة والمحبطة للطاقات‬ ‫اإلسالمية‪.‬‬ ‫إذا ثبت هذا عند حديثنا عن الفكر اإلس�ل�امي بصفة عامة‬ ‫نوعا من الفكر‬ ‫في هذا المجال‪ ،‬فإن هناك عناصر خاصة تميز ً‬ ‫اإلس�ل�امي عن نوع آخر‪ ،‬وذلك بحس���ب التنوع البيئي بما فيه‬ ‫السياسي واالجتماعي‪ ...‬والعالئقي في الداخل والخارج‪.‬‬ ‫ولنا في "رس���ائل النور" التي ألفها األستاذ سعيد النورسي‬ ‫أنم���وذج‬ ‫وش���اهد ف���ي هذا المق���ام‪ .‬إذ هي عب���ارة عن‬ ‫مفص���ل‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫م���ادة مكثفة م���ن المقاالت والخطب والخواط���ر والتحليالت‬ ‫والتفسيرات التي انصب جزء كبير منها ‪-‬إن لم أقل جلها‪ -‬في‬ ‫تفسير القرآن الكريم‪ .‬وما تسميتها بـ"رسائل النور" إال لكونها‬ ‫تطمح إلى االقتباس من نورانية هذا الكتاب بدورانها في فلكه‬ ‫وقربه���ا منه‪ .‬فقد "ش���قت رس���ائل الن���ور طريقها إل���ى الحقيقة‬ ‫ال إلى حقيقة‬ ‫ف���ي موضع العب���ادة ضمن العل���م‪ ،‬وفتحت س���بي ً‬ ‫الحقائق في موضع الس���لوك واألوراد ضم���ن براهين منطقية‪،‬‬ ‫مباش���را إلى الوالية الكبرى في‬ ‫حجج علمية‪ ،‬وكش���فت طري ًقا‬ ‫ً‬ ‫موض���ع علم التص���وف والطريقة ضمن علم ال���كالم والعقيدة‬ ‫وأصول الدين"‪.‬‬ ‫والق���ارئ قد يح���ار تجاه التعريف للرس���ائل‪ .‬م���ا هي هذه‬ ‫المادة بالضبط؟ أهي تصوف أم كالم‪ ،‬خاصة حينما يطلع على‬ ‫كالم صاحبه���ا‪" :‬لق���د كنت أق���ول‪ ،‬إن هذا الزم���ان ليس زمان‬ ‫مفك���را في حقائق اإليمان‬ ‫الطريق���ة‪ ،‬فالبدع تحول دون ذلك‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وحدها‪ .‬ولكن الزمان أظهر أنه يلزم لكل صاحب طريقة ‪-‬بل‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )35‬‬

‫‪18‬‬

‫األلزم له‪ -‬أن يدخل دائرة رسائل النور التي هي أوسع الطرق‪،‬‬ ‫وتضم خالصة الطرق االثنتي عشرة المهمة ضمن دائرة السنة‬ ‫النبوية الشريفة‪ .‬حيث إن الذي غرق في الخطايا والذنوب من‬ ‫أهل الطريقة‪ ،‬ال يلج في اإللحاد بسهولة وال يقهر قلبه‪ .‬ولهذا‬ ‫أبدا‪ ،‬فيمكنهم إذن أن يكونوا طالب رسائل‬ ‫فهم ال يتزعزعون ً‬ ‫النور ح ًّقا‪ ،‬بش���رط أال يدخلوا ‪-‬حس���ب المس���تطاع‪ -‬في البدع‬ ‫وال يرتكبوا اآلثام التي تحول دون التقوى وتجرحها"‪.‬‬ ‫ش���يئا م���ن هذا‪ ،‬بل إنه���ا هذا كله‪ .‬فقد توس���ل‬ ‫إنها ليس���ت ً‬ ‫الخطاب في رسائل النور بإمكانيات منهجية ومعرفية إسالمية‬ ‫كثيرة‪ ،‬خاصة منها منهج الجدل ومنهج الذوق‪ .‬إذ إن االستفادة‬ ‫م���ن القدام���ى في هذين البابي���ن واردة ال محالة‪ .‬بل إن مؤلف‬ ‫الرسائل األستاذ سعيد النورسي‪ ،‬يعطيها أكثر من حظ القدامى‬ ‫أيض���ا حي���ن يدعو أه���ل التصوف إل���ى االنضواء‬ ‫والمحدثي���ن ً‬ ‫تحت ظالل رسائل النور‪ ،‬إيما ًنا منه بكون الرسائل أقرب إلى‬ ‫محورا لها‬ ‫الحقيق���ة القرآني���ة والربانية من غيرها‪ .‬فق���د جعلت‬ ‫ً‬ ‫التفكر في اآلفاق وفي األنفس وفق ما ورد في القرآن الكريم‪.‬‬

‫األسماء الحسنى‬

‫وع���ن ه���ذا التفك���ر ي���رى النورس���ي أن رس���ائل الن���ور تبين أن‬ ‫الموجودات قاطبة‪ ،‬إنما هي مظاهر األس���ماء الحسنى‪ ،‬بحيث‬ ‫ال للغفلة قط‪ ،‬فال شيء يكون حائال دون السكينة‬ ‫ال تدع مجا ً‬ ‫واالطمئنان‪ .‬لذا تكس���ب قارئها مرتبة واس���عة ‪-‬من االطمئنان‬ ‫ س���عة الكون كله‪ ،‬وتفتح أمامه دائرة عبودية واس���عة ودائمة‬‫أيضا‪ .‬كما أنه ‪-‬أي النورس���ي‪ -‬يؤيد التفصيل في‬ ‫س���عة الكون ً‬ ‫التفكر في األنفس‪ ،‬ويرى أن هذا الطريق هو أقصر من التفكر‬ ‫يعرف النتيجة التي‬ ‫ف���ي اآلف���اق وقطعي ً‬ ‫أيضا‪ ،‬حتى إنه عندم���ا ّ‬ ‫يتم التوصل إليها بالتفكر النفسي‪ ،‬يعرفها بـ"مرتبة حق اليقين"‪.‬‬ ‫وقد قام المؤلف بإضافة قسم بعنوان "شهادة الماهية اإلنسانية"‬ ‫إل���ى خالصة الخالصة‪ ،‬التي هي بمثابة خالصة بالعربية لآلية‬ ‫ال في التفكر اآلفاقي‪ ،‬ويبين أس���باب‬ ‫الكبرى التي تش���كل مث���ا ً‬ ‫هذه اإلضافة في أحد "مكاتيب أميرداغ" على الشكل التالي‪:‬‬ ‫"نع���م إن الكون العظيم‪ ،‬يكون أمامي بمثابة حلقة ذكر في‬ ‫أثناء قراءتي لـ"خالصة"‪ ،‬ولكن ألن لس���ان كل نوع من األنواع‬ ‫كثي���را كي يذعن‬ ‫ج���دا‪ ،‬يتحرك العق���ل عن طريق الفكر‬ ‫واس���ع ًّ‬ ‫ً‬ ‫باألس���ماء اإللهية وصفاتها بعلم اليقين‪ ،‬وبعد ذلك يتمكن أن‬ ‫يبص���ر ذل���ك بوضوح‪ .‬وعندما ينظر إلى الحقيقة اإلنس���انية في‬ ‫ذل���ك المقي���اس الجامع‪ ،‬وف���ي تلك الخريط���ة المصغرة‪ ،‬وفي‬


‫قضايا فكرية‬

‫د‪ .‬مهدية أمنوح*‬

‫موقع رسائل النور‬

‫من الفكر اإلسالمي الحديث‬ ‫لق���د مثلت الفترة المعروف���ة بالحديثة ‪-‬وهي المبتدئة‬

‫من القرن التاسع عش���ر إلى أواسط القرن العشرين‪-‬‬

‫فترة مصيرية في حياة الشعوب اإلسالمية؛ إذ تراكمت‬

‫إبانه���ا تج���ارب عديدة ومتنوعة ف���ي كافة الميادين يمكن أن نس���ميها‬

‫ال عملية بعد‪.‬‬ ‫نظرا لكونها لم تجد لها حلو ً‬ ‫"المشكالت الحضارية"‪ً ،‬‬ ‫وأه���م م���ا مي���ز الفك���ر اإلس�ل�امي الحديث ف���ي هذه اآلون���ة‪ ،‬هو‬

‫االلتفاف حول مائدة عامة من القضايا التي كانت تؤرق أعالمه وتجد‬

‫صدى في تجاوب عوامه‪.‬‬

‫وق���د كان لمب���ادئ االنعت���اق والتحرر م���ن الت���واكل والتحرر من‬

‫اآلخر‪ ،‬مساحة كبيرة في برامج هذا الفكر‪ .‬إذ كان هذان العنصران في‬ ‫توافقهما واجتماعهما‪ ،‬بمثابة المكبلين لإلنس���ان المس���لم والمعيقين‬ ‫ل���ه ع���ن الحركة‪ .‬فنش���أ من ث���م ما يمك���ن أن نطلق عليه ‪-‬وف���ق تعبير‬ ‫ع���م حضوره كل البالد‬ ‫"صراعا‬ ‫أح���د الباحثين اإلس�ل�اميين‪-‬‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫فكريا" ّ‬

‫اإلس�ل�امية بدون اس���تثناء‪ ،‬أس���فر عن ظهور مبادئ موازي���ة للمبدأين‬ ‫األولين من مثل‪ :‬تحقيق الذات اإلس�ل�امية أو ترسيخ الهوية ‪-‬عوض‬

‫البحث عنها‪ -‬والتقدم‪.‬‬

‫‪17‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )35‬‬


‫ننتج العمران بالمعنى االس���مي‪ ،‬ولكي نقوم بالعمران بالمعنى‬ ‫المصدري‪ ،‬فنحن نحتاج إلى القرآن‪ ،‬والبد لهذا‪ ،‬من القرآن‪.‬‬ ‫إن الذي���ن عمروا األرض حقيق���ة‪ ،‬فإنما بهذا المعنى الذي‬ ‫أتح���دث عن���ه‪ ،‬وإال فبمعن���ى اإلقام���ة والوج���ود ف���ي األرض‬ ‫عمروها" وهو معنى آخ���ر‪ .‬فهناك معنيان‬ ‫ّ‬ ‫"عمروه���ا أكثر مم���ا َ‬ ‫عن���د ابن فارس صاحب "المقاييس"‪ ،‬حيث جعل المادة تدور‬ ‫عل���ى أصلي���ن‪ :‬أصل له ارتباط بالصالح وه���و نقيض الخراب‬ ‫ونقيض الفس���اد وهذا الذي أقص���د‪ ،‬وهذا هو الوارد في اآلية‪:‬‬ ‫اس َ���ت ْع َم َر ُك ْم ِف َيها﴾(ه���ود‪ .)61:‬وهن���اك معن���ى مرتبط بهذا‪ ،‬هو‬ ‫َ‬ ‫﴿و ْ‬ ‫معن���ى البق���اء ف���ي الزم���ان‪ ،‬واالس���تمرار والوجود بش���كل من‬ ‫األشكال وهو عمران‪ .‬فإذن البد من القرآن إلنشاء العمران‪.‬‬ ‫نحن في زمننا هذا‪ ،‬قد ضعف عمراننا ‪-‬إن لم نقل قد زال‪-‬‬ ‫حيث إن إس���هام المس���لمين اليوم في عمران األرض ضعيف‬ ‫جدا‪ ،‬وحاجة البشرية جملة إلى من يعمر‪ ،‬بالغة األهمية‪.‬‬ ‫ًّ‬ ‫لماذا نكتش���ف ما نكتش���ف‪،‬‬ ‫نسخر من طاقات‬ ‫ّ‬ ‫ونس���خر ما ّ‬ ‫ف���ي ه���ذا الكون؟ الغاية أساس���ية‪ ،‬وهي التي تف���رق بين العمل‬ ‫المقب���ول والعمل المردود‪ ،‬بين العم���ل النافع والعمل الضار‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫بي���ن العم���ل‬ ‫المعم���ر والعم���ل‬ ‫المدم���ر‪ ...‬تفرق بينهم���ا تفري ًقا‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫ال‪ .‬وكذلك الوسيلة التي يتوصل بها إلى تلك الغاية مهمة‬ ‫كام ً‬ ‫أيض���ا‪ ،‬هل هي وس���يلة مش���روعة؟ هل هي مم���ا أذن اهلل فيه أو‬ ‫ً‬ ‫أم���ر به‪ ،‬أم ليس���ت كذلك؟ نجد اآلن في مج���ال الوراثة ‪-‬على‬ ‫مهما‪ ،‬لكن ما الطريق إلى اكتش���افه‪ ،‬وما‬ ‫س���بيل المثال‪ً -‬‬ ‫كالما ًّ‬ ‫أيضا كالم عريض طويل‪ ،‬لذلك فإن الهدف‬ ‫الغاية منه؟ هاهنا ً‬ ‫والغاية والوس���يلة كل ذلك مهم‪ .‬ونستطيع القول‪ ،‬إن المنهاج‬ ‫أيضا في‬ ‫الذي يس���لك بوسائل معينة للوصول إلى غاية معينة‪ً ،‬‬ ‫غاي���ة األهمي���ة‪ .‬ه���ل يراعي الفط���رة التي هي الدي���ن‪ ،‬التي هي‬ ‫ين َح ِني ًفا ِف ْطر َة ا ِ‬ ‫اس‬ ‫لد ِ‬ ‫َ‬ ‫الخل���ق‪َ ﴿ :‬ف َأ ِق ْم َو ْج َه َك ِل ِّ‬ ‫هلل ا َّل ِتي َف َط َر َّ‬ ‫الن َ‬ ‫َ‬ ‫يل ِل َخ ْلقِ ا ِ‬ ‫﴿ولآَ ُم َر َّن ُه ْم َف َل ُي َغ ِّي ُر َّن َخ ْل َق‬ ‫َع َل ْي َها َ‬ ‫ال َت ْب ِد َ‬ ‫هلل﴾(الروم‪َ ،)30:‬‬ ‫ا ِ‬ ‫الخل���ق إذن ه���و الفط���رة‪ ،‬الكيفي���ة التي عليها‬ ‫هلل﴾(النس���اء‪َ .)119:‬‬ ‫أي الكيفية التي‬ ‫فطرة اهلل ‪ .‬والفطرة في العربية؛ اس���م هيئة‪ْ ،‬‬ ‫تم عليها ال َفطر‪ ،‬وهذه الكيفية هي التي تمثل الخلق كما سواه‬ ‫اهلل تعال���ى بجمي���ع جزئيات���ه وكلياته‪ ،‬وتلك التس���وية هي حالة‬ ‫غي َر‬ ‫أفس���د‪ ،‬ولذلك كان تخصص الش���يطان هو‬ ‫َ‬ ‫الصالح‪ .‬ومن ّ‬ ‫يغير الخلق‪ ،‬فيبتدئ ذلك‬ ‫صغيرا ثم يكبر حتى إنا لنستطيع‬ ‫أن ّ‬ ‫ً‬ ‫القول‪ ،‬بالخرص ال بالدرس‪ .‬إنه حين يصل تغيير الشيطان في‬ ‫الخل���ق إلى درج���ة يختل فيها توازنه الع���ام‪ ،‬يدمر الكون‪ ،‬ألنه‬ ‫إذ ذاك ت���كاد تكون الس���يادة للش���يطان تامة‪ ،‬وال تقوم الس���اعة‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )35‬‬

‫‪16‬‬

‫إال عل���ى لك���ع ابن لكع‪ .‬ال���ذي نراه بأم أعينن���ا‪ ،‬أن هذا التغيير‬ ‫مس���تمر في الخلق‪ ،‬الهندس���ة الوراثية‪ ،‬التل���وث واالختالالت‬ ‫الت���ي تحدث ف���ي طبقة األزون وغيرهم���ا‪ ،‬االختالالت العامة‬ ‫في النظام العام‪ ...‬هناك نصوص صريحة بأن الساعة لن تقوم‬ ‫حت���ى تصي���ر الجزيرة العربي���ة جنات خضراء‪ ،‬وذلك س���يكون‬ ‫نتيج���ة اخت�ل�االت معين���ة تصل إلى درجة جع���ل الوضع الذي‬ ‫وضعا آخر‪.‬‬ ‫قبل يصير‬ ‫كان ُ‬ ‫ً‬ ‫إذن‪ ،‬اله���دف والوس���يلة والمنه���اج كل أولئ���ك ض���روري‬ ‫ليصح بناء العمران ح ًّقا بميزان القرآن‪ ،‬لتسعد البشرية وتبتعد‬ ‫ال َي ْش َقى﴾(طه‪،)123:‬‬ ‫ال َي ِضلُّ َو َ‬ ‫اي َف َ‬ ‫عن الش���قاء‪َ ﴿ :‬ف َم ِن َّات َب َع ُه َد َ‬ ‫ال َي ِضلُّ‬ ‫وعكس الهدى الضالل‪ ،‬وعكس الس���عادة الشقاء‪َ ﴿ .‬ف َ‬ ‫ال َي ْش��� َقى﴾‪ ،‬يعني أن اإلنسان يهتدي ويسعد إذا حدثت هذه‬ ‫َو َ‬ ‫التحوالت التاريخية‪.‬‬ ‫ونظام الس���ير بصفة عامة في الحياة البش���رية وفي التاريخ‪،‬‬ ‫وجي؛ في���ه الصعود والهب���وط‪ ،‬لكن هذا‬ ‫ه���و أش���به بالس���ير َ‬ ‫الم ُّ‬ ‫معا يتجه إلى ع���روج‪ ،‬عندما يكون الهبوط‬ ‫الصع���ود والهبوط ً‬ ‫فبش���ر الناس‬ ‫بالغ���ا‪ ،‬يبت���دئ الصعود‪ .‬ولذلك إذا اش���تد الظالم ّ‬ ‫ً‬ ‫قطعا‪ ،‬ألنه س���يحدث التح���ول‪ ،‬وذلك محض‬ ‫بانب�ل�اج الفج���ر ً‬ ‫رحمة من اهلل ‪ ‬ال نتيجة أعمال صالحة لدى الناس‪ .‬اهلل يمن‬ ‫م���ن اهلل علينا‬ ‫عل���ى عباده بما ش���اء وقت ما ش���اء‪ ،‬وفع ً‬ ‫ال حين َّ‬ ‫بمحم���د ‪ ‬وبالق���رآن‪ ،‬هل كن���ا َف َعلنا ‪-‬في الجزي���رة العربية أو‬ ‫في الكرة األرضية‪ -‬ما به نس���تحق‬ ‫محمدا أو نس���تحق القرآن؟‬ ‫ً‬ ‫أبدا‪ ...‬ومثله قبل ذلك‪ ،‬ومثله في المصلحين بعد ذلك‪ ،‬فإنما‬ ‫ً‬ ‫ه���ي رحم���ة من اهلل ‪ ،‬ونس���أله بتل���ك الرحمة أن ين���زل علينا‬ ‫الرحم���ة لينقذن���ا مم���ا نحن في���ه‪ ،‬ويرفعنا من ه���ذه الوهدة إلى‬ ‫حيث نهتدي ونغدو بفضله تعالى‪.‬‬ ‫ه���ذا القرآن الذي الب���د منه لبناء العم���ران‪ .‬و َف ْهم العمران‬ ‫ج���دا عن���ه‪ ،‬وال ن���دري ك���م المس���افة‬ ‫وقياس���ه نح���ن بعي���دون ًّ‬ ‫الت���ي تفصلن���ا اآلن عن���ه‪ ،‬ولك���ن بفض���ل اهلل تعال���ى يمك���ن أن‬ ‫نقت���رب بس���رعة م���ن ه���ذا الق���رآن ﴿إ َِّن ر ْحم��� َة ا ِ‬ ‫ي���ب ِم َن‬ ‫هلل َق ِر ٌ‬ ‫َ َ‬ ‫ين﴾(األعراف‪)56:‬؛ ومعن���ى ذل���ك أن ل���و اس���تجمعنا‬ ‫ا ْل ُم ْح ِس��� ِن َ‬ ‫الش���روط الضروري���ة الالزمة‪ ،‬فإنا بس���رعة س���نقفز‪ ،‬ويمكن أن‬ ‫نصعد‬ ‫صعودا أس���رع من الصاروخ في اتج���اه القرآن الكريم‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ونكتس���ب بس���رعة تلك الصفات الالزمة لإلنسان الذي يفعل‬ ‫بالقرآن‪ ،‬إنشاء العمران‪.‬‬ ‫(*) األمين العام لمؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع) ‪ /‬المغرب‪.‬‬


‫قضايا فكرية‬

‫أ‪.‬د‪ .‬الشاهد البوشيخي*‬

‫من القرآن إلى العمران‬ ‫"العمران" هو مصدر من عمر األرض يعمرها‬ ‫عم���ارة وعمرا ًن���ا‪ .‬وتطل���ق عل���ى االس���م كم���ا‬ ‫تطل���ق على المصدر‪ .‬وإن كن���ا نأخذه بالمعنى‬ ‫المص���دري‪ ،‬فه���و قاب���ل ألن يؤخ���ذ بالمعنى االس���مي كذلك‪.‬‬ ‫ونح���ن حي���ن نأخ���ذه بالمعن���ى االس���مي‪ ،‬فإنه يص���دق على ما‬ ‫تحق���ق نتيجة المعن���ى المصدري‪ .‬ف���كل اإلنش���اءات المعنوية‬ ‫والحس���ية الت���ي بها يق���وم اإلنس���ان فيعبد به���ا اهلل تعالى ويقوم‬ ‫بوظيفة الخالفة‪ ...‬كل ذلك هو العمران‪.‬‬ ‫مص���درا هو األفضل‪ ،‬ألن���ه أبعد في‬ ‫ولع���ل النظ���ر إلي���ه هنا‬ ‫ً‬ ‫المعن���ى من "العم���ارة"‪ ،‬إذ "األلف" و"النون" ف���ي العربية تفيد‬ ‫المبالغة‪ ،‬وهو عمارة جيدة كبيرة‪ ،‬فهي من مصدر عمر األرض‬ ‫يعمرها‪ ،‬وحين توجد عمارة جيدة ممتازة ‪-‬ألنها إما واسعة أو‬ ‫غير ذلك‪ -‬تكون عمرا ًنا‪.‬‬ ‫لكنها ال تكون كذلك إال على أساس القرآن‪ ...‬وقد يسأل‬ ‫سائل‪ :‬هل هذا الذي أنتجه البشر من إنشاءات مادية ومعنوية‪،‬‬ ‫ليس عمرا ًنا؟ أي كل ما يقوم به أناس‪ ،‬ال ينطلقون من القرآن؟‬ ‫أقول في الجواب‪ :‬يجوز الزعم ‪-‬في نظري‪ -‬أنه ليس بعمران‪،‬‬

‫ألن العم���ران ضد الخراب‪ .‬وأول م���ا قاله الراغب األصفهاني‬ ‫ف���ي المف���ردات‪ :‬العم���ارة نقيض الخ���راب‪ ،‬فكل ما في���ه تدمير‬ ‫للبش���رية بشكل من األشكال ‪-‬س���واء على مستوى األفكار أو‬ ‫على مس���توى اإلنش���اءات المادية‪ -‬ال يمكن أن يسمى عمرا ًنا‪،‬‬ ‫وكذل���ك إذا كان ف���ي الظاهر يفيد اإلنس���ان‪ ،‬لك���ن لم ُيقصد به‬ ‫عرضا لمقصد آخر ال يعتب���ر عمرا ًنا‪ ،‬كفعل‬ ‫ذل���ك‪ ،‬وإنما ج���اء ً‬ ‫���ن َأر َاد ِ‬ ‫���عى َل َها‬ ‫الكاف���ر إذا ل���م يكن له إيمان‪َ :‬‬ ‫اآلخ َر َة َو َس َ‬ ‫﴿و َم ْ َ‬ ‫���ع َي َها َو ُه َو ُم ْؤ ِم ٌن﴾(اإلس���راء‪ ،)19:‬فقد يريد اآلخرة ويس���عى لها‬ ‫َس ْ‬ ‫مؤمنا‪ ،‬فال فائدة حينئذ‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿ :‬أ ْع َما ُل ُه ْم‬ ‫سعيها لكنه ليس‬ ‫ً‬ ‫ِ‬ ‫اص ٍ‬ ‫يح ِفي َي ْو ٍم َع ِ‬ ‫ون ِم َّما َك َس ُبوا‬ ‫ف َ‬ ‫َك َر َما ٍد ْ‬ ‫ال َي ْق ِد ُر َ‬ ‫الر ُ‬ ‫اش َت َّد ْت ِبه ِّ‬ ‫َع َلى َش���ي ٍء﴾(إبراهيم‪ .)18:‬فارتب���اط العمران بالقرآن إذن‪ ،‬ارتباط‬ ‫ْ‬ ‫السبب بالمسبب‪ ،‬بحيث ال يمكن أن يكون عمران في األرض‬ ‫إال إذا ُوج���د القرآن‪ ،‬ألن الذي ينش���ئ العم���ران هو القرآن‪ ،‬إذ‬ ‫العمران مرتبط بالوظيفة األصلية آلدم وبنيه‪ ،‬التي هي الخالفة‬ ‫والتي حددت في ش���يء اس���مه "عبادة اهلل وحده ال شريك له"‪،‬‬ ‫التي تقررها اآلية‪:‬‬ ‫ال ِلي ْعب ُد ِ‬ ‫ون﴾(الذاريات‪ .)56:‬إذن لكي‬ ‫﴿و َما َخ َل ْق ُت ا ْل ِج َّن َوا ِ‬ ‫َ‬ ‫إل ْن َ‬ ‫س ِإ َّ َ ُ‬

‫‪15‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )35‬‬


‫والنق���ش‪ ،‬أو أل���وان وأوراق‪ ،‬أو توفي���ر الم���كان المناس���ب‪...‬‬ ‫وق���د وصلَنا العديد من اإلش���ارات التاريخية حول دور رعاية‬ ‫الفنون في مسيرة الفن اإلسالمي‪ ،‬وخاصة الحكام والسالطين‬ ‫وال���وزراء واألم���راء‪ ،‬الذي���ن حكم���وا الدول���ة اإلس�ل�امية ف���ي‬

‫عصروها المختلفة‪.‬‬

‫وال ش���ك أن اهتم���ام ح���كام الدول���ة األموي���ة بالخ���روج‬

‫إل���ى الصحراء‪ ،‬أدى إلى فكرة إنش���اء االس���تراحات والقصور‬

‫الصحراوي���ة‪ ،‬وأن مجموع���ة ه���ذه األبنية كان���ت تخضع لعدد‬

‫م���ن األفكار التي فرضها الرعاة القائمون على تنفيذ العمليات‬

‫الفني���ة‪ .‬فجاءت هذه األبني���ة تعكس ذوق رعاة الفن‪ ،‬باإلضافة‬

‫إلى كونها تؤدي وظيفة محددة‪ .‬من هنا نالحظ أن ذوق رعاة‬ ‫الفن‪ ،‬كان يظهر من خالل توجيهاته للفنان أثناء أداء واجبات‬ ‫العم���ل الفن���ي أو قب���ل قيام���ه به‪ .‬فل���وال حرص ه���ؤالء الرعاة‬ ‫ورغبته���م ف���ي البناء‪ ،‬لما وج���دت هذه المباني وبهذا الش���كل‬

‫باب من أبوابها‪ ،‬أن يرى جميع ما بها من األعمدة واألكتاف‪،‬‬

‫تماما‪ ،‬أو ما كان في الجهة المقابلة‪.‬‬ ‫سواء فيها ما كان أمامه ً‬

‫المدارس والخانات في العمارة اإلسالمية‬

‫أم���ا المدارس كمنش���آت معمارية‪ ،‬فلم تنتش���ر في بالد الش���ام‬ ‫إال من���ذ النصف الثاني للقرن الحادي عش���ر‪ ،‬وإن ما بقي منها‬

‫إنم���ا يرج���ع إلى عهد الس�ل�اجقة أنفس���هم‪ ،‬وخاصة المدرس���ة‬ ‫النظامية التي أنش���أها نظام الملك ف���ي بغداد‪ ،‬التي تكاد تكون‬

‫أشبه بالجامعة‪ ،‬وتخضع لنظام معماري مختلف عما ظهر في‬ ‫دمش���ق‪ .‬إن ترتيب المدارس الش���امية على اختالف أش���كالها‬ ‫متقارب���ا‪ ،‬فه���ي مؤلفة من قاع���ات للتدري���س وحجرات‬ ‫يبق���ي‬ ‫ً‬

‫لألساتذة والطالب‪ ،‬ومن مصلى وميضآت‪ ،‬وقد تتضمن مدف ًنا‬ ‫مقببا لمنش���ئ المدرس���ة‪ ،‬كما تتضمن إيوا ًنا لممارسة التدريس‬ ‫ً‬

‫في الهواء الطلق أيام الصيف‪.‬‬

‫ال���ذي وج���دت عليه‪ ،‬إضاف���ة لتأثير العقي���دة الديني���ة التي كان‬

‫ولقد ظهرت في بالد الشام وفي العهد المملوكي ‪-‬وألول‬

‫الفنان في العصور الس���ابقة على اإلس�ل�ام‪ .‬وق���د حاول الفنان‬

‫على صحن المدرس���ة الداخلي‪ ،‬لتسهيل تدريس الفقه حسب‬

‫يعتنقه���ا ه���ؤالء في تغيي���ب العناصر الفنية الت���ي ميزت أعمال‬

‫أن يتخلص من الرموز العالقة بفنه‪ ،‬التي لها عالقة بمعتقدات‬

‫دينية أو فكرية غير ما يعـتقـده راعي الفـن الجديد؛ نضرب أمثلة‬ ‫عل���ى ذل���ك بمنتجات الخ���زف ذي البريق المعدن���ي‪ ،‬وكذلك‬

‫رموزا‬ ‫المنس���وجات اإلسالمية التي كانت تحوي قبل اإلسالم‬ ‫ً‬ ‫دينية ما لبثت أن اختفت بعد اإلسالم‪.‬‬

‫ولق���د أقام عبد المل���ك بن مروان عام (‪72‬ه���ـ‪669/‬م) قبة‬

‫الصخ���رة المقدس���ة‪ ،‬ورصد لبنائها خراج مصر لس���بع س���نين‪.‬‬ ‫وتعتب���ر "قب���ة الصخ���رة" عن���د معظ���م مؤرخ���ي الفن���ون‪ ،‬أعظم‬

‫العمائ���ر اإلس�ل�امية ف���ي الجم���ال والفخامة وإب���داع الزخرفة‪،‬‬ ‫كما تمتاز عنها ببس���اطة التصميم وتناسق األجزاء‪ .‬وقد روعي‬

‫مالئما ليحيط بالصخرة المقدس���ة في‬ ‫ف���ي تصميمها أن يكون‬ ‫ً‬ ‫الحرم الش���ريف‪ ،‬وهي تتكون من مبنى حجري مثمن الشكل‪،‬‬ ‫قوام���ه تثمينة خارجية‪ ،‬وبداخلها تثمين���ة داخلية‪ ،‬وبين التثمينة‬ ‫الداخلي���ة والدائرة المق���ام عليها القب���ة‪ ،‬رواق‪ ،‬وقد خصصت‬

‫هذه األروقة للصالة ولمرور الناس حول الصخرة‪.‬‬

‫ومن آيات اإلعجاز المعماري في تصميم بناء قبة الصخرة‪،‬‬

‫أن���ه روعي في���ه أن يكون في دائرة دعامات القبة لفت بس���يط‪،‬‬ ‫حتى ال تحجب األعمد ُة الواقفة أمام الرائي األعمد َة األخرى‬

‫المقابلة في الطرف اآلخر‪ .‬ولذلك يتس���نى لمن يدخل في أي‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )35‬‬

‫‪14‬‬

‫م���رة‪ -‬نظام الم���دارس المصلبة‪ ،‬وذلك بانفت���اح أربعة أواوين‬

‫المذاهب األربعة‪ .‬ولقد انتشر هذا الشكل المصلب فيما بعد‪،‬‬

‫كمس���اكن‬ ‫قبل‬ ‫في المدارس المصرية التي كانت تس���تعمل من ُ‬ ‫َ‬ ‫تحول إلى مدارس‪.‬‬ ‫خاصة‪،‬‬ ‫وكثيرا ما كانت ّ‬ ‫ً‬ ‫ولعل أقدم خان أنش���ئ في العهد اإلس�ل�امي‪ ،‬هو الخان‬

‫ال���ذي بن���اه هش���ام بن عبد المل���ك عام ‪728‬م عل���ى مقربة من‬ ‫قصر الحير الغربي‪ ،‬ولم يبق من هذا الخان إال بوابته الحجرية‬

‫الضخمة التي أعيد بناؤها في متحف دمش���ق‪ ،‬وقد نقش على‬

‫س���اكفها (‪ )Architrave‬كتاب���ة بالخط الكوفي تبين اس���م المعمار‬

‫"ثاب���ت ب���ن أبي ثاب���ت"‪ .‬وتاري���خ اإلنش���اء‪ ،‬رجب تس���ع مائة‪.‬‬ ‫ولي���س بإمكاننا تحديد الوصف المعماري لهذا الخان‪ ،‬ولكن‬

‫الخانات الشامية تجد أشكالها المطابقة واضحة في األندلس‪،‬‬ ‫حيث نراها مجرد فنادق مؤلفة من نزل وسوق وصحن محاط‬

‫باألروقة‪ ،‬وتنفتح تحت األروقة غرف‪ ،‬ومدخل الفندق مفتوح‬ ‫في وس���ط أحد الجهات بباب عريض‪ .‬وثمة بوابة ذات قوس‬ ‫كبي���ر ودهليز يس���بق المدخل‪ ،‬ومن أمثلة ه���ذه الفنادق‪ ،‬فندق‬

‫التطوانيين في فاس‪ ،‬وفندق مخزن الفحم في غرناطة‪.‬‬

‫(*) رئيس قسم الفلسفة واالجتماع‪ ،‬كلية التربية‪ ،‬جامعة عين شمس ‪ /‬مصر‪.‬‬


‫غالب األحيان ووفق الظروف المناخية‬ ‫القصور في العمارة اإلسالمية‬ ‫القاسية وبالمواد المتاحة المنسجمة مع‬ ‫اتسمت المنش���آت المعمارية اإلسالمية‬ ‫لق��د �أك�س��ب الف��ن الإ�س�لامي‬ ‫متفننا‬ ‫هذه الظروف والتقاليد‪ ،‬واس���تعار‬ ‫معب���رة ع���ن طاب���ع الحي���اة‬ ‫ً‬ ‫العمائر‪ ،‬م�سحة جمالية مرموقة‪،‬‬ ‫بالضخام���ة‪ّ ،‬‬ ‫ف���ي عمارته بما انتقاه من تقاليد زخرفية‬ ‫الحربية الخشنة‪ ،‬وخير مثال على ذلك‪،‬‬ ‫تظ��ل �أ�ش��كالها اجلوهري��ة م��ن‬ ‫ومعمارية شائعة‪ ،‬رومانية أو ساسانية أو‬ ‫عمائر مدينة "سامرا" التي اتخذت نمطً ا‬ ‫�أخ�ص خ�صائ�ص��ه و�أبرز �صفاته‪.‬‬ ‫بيزنطية‪.‬‬ ‫خاص���ا تأث���رت به المدن العس���كرية في‬ ‫ًّ‬ ‫و�إذا كان��ت روح الإ�س�لام ق��د‬ ‫ويج���ب أن نالح���ظ أن الخلف���اء‬ ‫خصوص���ا في مصر‬ ‫العال���م اإلس�ل�امي‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ا‬ ‫فك��ر‬ ‫العمائ��ر‬ ‫تل��ك‬ ‫أعط��ت‬ ‫�‬ ‫ً‬ ‫الذي���ن ج���اؤوا بع���د الولي���د‪ ،‬ل���م يقيموا‬ ‫والش���ام‪ .‬كذا مدن الثغ���ور على الحدود‬ ‫جماليًّا ذا م�س��حة روحي��ة‪ ،‬ف�إن‬ ‫في دمش���ق بصف���ة متواصلة‪ ،‬ب���ل أقاموا‬ ‫م���ع بيزنطة‪ ،‬وف���ي األندلس في المناطق‬ ‫النكهة‬ ‫عنها‬ ‫تنزع‬ ‫مل‬ ‫امل�سحة‬ ‫تلك‬ ‫قريبا‬ ‫المتاخم���ة للمال���ك النصراني���ة‪ ،‬حي���ث‬ ‫ف���ي قصور تقع على تخ���وم البادية ً‬ ‫أمل‬ ‫�‬ ‫للت‬ ‫إث��ارة‬ ‫ل‬ ‫وا‬ ‫احلي��ة‬ ‫احل�س��ية‬ ‫م���ن األراض���ي الزراعي���ة‪ ،‬لع���دم ألفتهم‬ ‫خص���ت باألس���وار العتي���دة واألب���راج‬ ‫والتخيل‪.‬‬ ‫التام���ة لحي���اة المدينة‪ ،‬ولتوال���ي األوبئة‬ ‫خصوصا في مدن المغرب‪.‬‬ ‫والمزاغل‪،‬‬ ‫ً‬ ‫واألمراض على دمشق‪ .‬وكذلك لقربهم‬ ‫وق���د كان معاوي���ة ب���ن أبي س���فيان‪،‬‬ ‫م���ن القبائل العربية التي تس���كن البادية‪،‬‬ ‫قص���را منذ أن‬ ‫أول من أنش���أ في دمش���ق‬ ‫ً‬ ‫ال عن أن‬ ‫فض‬ ‫بوالئها‪.‬‬ ‫لالحتفاظ‬ ‫يومئ���ذ‬ ‫الخلفاء‬ ‫يس���عى‬ ‫والتي‬ ‫ً‬ ‫واليا على الش���ام‪ ،‬واس���تمر قصر معاوي���ة يتوارثه الخلفاء‬ ‫كان ً‬ ‫هذه البوادي كانت مدرسة لألمراء األمويين‪ ،‬يتكلمون العربية‬ ‫األمويون‪...‬‬ ‫تق���وم القص���ور األموي���ة‪ ،‬وف���ق مخط���ط متش���ابه وش���كل الخالصة من الهجنة أو الرطانة اآلرامية كما يقول ابن عبد ربه‬ ‫معماري موحد‪ ،‬على مبدإ الس���ور المحيط والصحن الداخلي في "العقد الفريد"‪.‬‬ ‫لذلك فإن المنشآت األموية في البادية‪ ،‬والتي يطـلـق عليها‬ ‫الذي تش���رف عليه أروقة‪ ،‬بعضه���ا غرف في طابق أو طابقين‪،‬‬ ‫ويأخ���ذ الس���ور الخارج���ي طابعا حصين���ا بعيدا ع���ن الفتحات اس���ـــم "البوادي"‪ ،‬لم تكن على مس���توى واح���د من االكتمال‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫والزخ���ارف‪ .‬ومع ذلك فإن األبراج ل���م تكن ضرورية لوظيفة فلق���د ابت���دأت ‪-‬حس���ب رأي المن���س‪ -‬على ش���كل س���رادق‪،‬‬ ‫ومس���جدا‪ ،‬ث���م ال تلبث‬ ‫حماما‬ ‫الدف���اع والتحصن‪ ،‬إذ البادية كانت آمنة دائما‪ ،‬بل إن س���كانها ث���م تط���ورت فأصبح���ت تضم‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫قص���را يليق بالخليفة‪ ،‬ويس���تتبع‬ ‫كان���وا موالي���ن وأنص���ارا لألمويي���ن‪ ،‬وم���ن الممك���ن أن تكون أحيا ًن���ا أن تتوس���ع لك���ي تضم‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫األب���راج لتدعي���م األس���وار م���ن جه���ة‪ ،‬وإلظهار البن���اء بمظهر ذلك اس���تغالل الماء في االستحمام والزراعة‪ ،‬وإنشاء األقنية‪،‬‬ ‫وإقام���ة المنش���آت للمزارعين والحيوان���ات‪ ،‬كما هو األمر في‬ ‫المنعة والقوة‪.‬‬ ‫وس���وف تك���ون الغلب���ة للطابع العس���كري بع���د ذلك على قصر الحير الغربي‪.‬‬ ‫وال ننس���ى أن المهرة م���ن الفنانين العرب المس���لمين‪ ،‬قد‬ ‫قص���ور الخلف���اء واألمراء‪ ،‬كما هو حال قص���ر "بلكوارا" الذي‬ ‫أقامه الخليفة المتوكل قرب سامرا‪ ،‬والذي تأثر في تصميماته بلغ���وا الغاي���ة في التفنن وفي التعقيد الزخرفي في مزج المنظر‬ ‫الطبيع���ي بالبناء‪ ،‬وإحداث تأثير جمالي يحرك المش���اعر ويهز‬ ‫بإيوان كسرى‪.‬‬ ‫ريفي���ا لبن���ي عباد‪ ،‬يش���تمل‬ ‫كان‬ ‫الزين���ة‬ ‫ف���دار‬ ‫النف���وس؛‬ ‫ا‬ ‫قص���ر‬ ‫ًّ‬ ‫هذا وقد اختلفت اآلراء في تحديد مصادر استيحاء الشكل‬ ‫ً‬ ‫المعماري للقصور األموية‪ ،‬فمن قائل إنها قريبة الشبه بالطراز باألش���جار‪ ،‬وتكتنفه األزهار‪ ،‬وتحيط به البساتين النضرة ذات‬ ‫الهلينس���تي والبيزنطي الذي تجلى في دير الكهف وقلعة عنتر الزهور العطرة واأللوان الزاهية‪.‬‬ ‫واألندرين‪ ،‬أو الطراز الساساني‪ ،‬أو إنها مستمدة من المنشآت‬ ‫الت���ي أقامه���ا العرب األوائل ف���ي الحيرة وهم المن���اذرة الذين‬

‫أقاموا الخورنق والسدير‪.‬‬

‫وم���ن هن���ا فف���ن العم���ارة األموي‪ ،‬ه���و فن أصيل نش���أ في‬

‫رعاية الفنون في مسيرة الفن اإلسالمي‬

‫ويجب أن ال ننسى دور المهتمين برعاية الفنون اإلسالمية في‬ ‫تق���دم وازدهار هذه الفن���ون‪ ،‬خاصة وأنهم قد وفروا إمكانيات‬ ‫العم���ل‪ ،‬منه���ا األموال على ش���كل رواتب‪ ،‬أو أدوات الرس���م‬

‫‪13‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )35‬‬


‫نلتمس أسباب تطور العمارة اإلسالمية في عدد من الخصائص‬

‫مدببة‪ .‬فقد خلف لنا المعماريون المس���لمون‪ ،‬بوابات حجرية‬ ‫مثقلة بالزخارف في مساجد سمرقند وطشقند وبخارى وغزنة‬ ‫وأزربيج���ان‪ ،‬ولج���ؤوا أحيا ًنا إلى تزيين األبواب بإنش���اء مآذن‬ ‫عالية على جانبي المدخل أو على أركان جدار المدخل‪.‬‬ ‫وجدران المساجد عالية كأنها األسوار‪ ،‬تتوسطها األبواب‬ ‫وتزينه���ا ‪-‬أحيا ًن���ا‪ -‬فتحات في ش���كل نوافذ ذات عق���ود‪ .‬فإذا‬ ‫دخل���ت م���ن الب���اب‪ ،‬وجدت نفس���ك في صحن واس���ع ش���بيه‬ ‫بالفن���اء‪ ،‬تحيط به البوائك ذوات العقود المدببة‪ .‬أما مآذن هذا‬ ‫الطراز فغالبها مس���تدير‪ ،‬ومنها ما هو مضلع ذو س���تة أضالع‪،‬‬ ‫وأحيا ًن���ا يتفنن المعماري في التضلي���ع‪ ،‬وال يكون للمئذنة في‬ ‫معظم األحيان إال شرفة أذان واحدة في نهايتها‪.‬‬

‫لمس���جد "الصحن" ذي األعمدة كانت ل���ه داللة أخرى‪ ،‬ذلك‬

‫وتعتب���ر المئذن���ة من عناص���ر اإلبهار ف���ي العمارة اإلس�ل�امية‪،‬‬ ‫وذلك في جمال نس���بها المعمارية ورشاقة تكوينها‪ ،‬باإلضافة‬ ‫إل���ى أن أش���كال المآذن قد تع���ددت وتباين���ت واختلفت مواد‬ ‫البن���اء فيها باختالف موطنها؛ ففي بالد الش���ام نش���أت الفكرة‪،‬‬ ‫واحتف���ظ المغ���رب واألندلس بصورتها األول���ى المربعة‪ ،‬وفي‬ ‫طابعا‬ ‫جديدا ف���ي عصر دول���ة المماليك قوامه‬ ‫ً‬ ‫مص���ر اتخ���ذت ً‬ ‫ثالث���ة طواب���ق‪ ،‬وال يخلو طابق م���ن هذه الطواب���ق الثالثة‪ ،‬من‬ ‫الزخارف الهندسية المحفورة على الحجر‪ ،‬من خطوط متعرجة‬ ‫أو دوائ���ر متقاطعة أو نجوم متش���ابكة‪ ،‬كم���ا يفصل بين الطابق‬ ‫واآلخر‪ ،‬ش���رفة تحملها مقرنصات على ش���كل خاليا النحل‪.‬‬ ‫واتخ���ذت المآذن في العراق النظام اللولبي أو المخروطي‬ ‫ال���ذي ت���دور حوله مراق حلزونية‪ .‬وفي إي���ران والهند اتخذت‬ ‫ال أسطوانية تضيق أقطارها كلما ارتفعت إلى أعلى‪،‬‬ ‫المآذن أشكا ً‬ ‫كمئذنة قطب منار بدهلي ومئذنة ضريح تاج محل في "أجرا"‪.‬‬ ‫أعطت هذه المآذن ‪-‬كما عند محمد عبد السالم العمري‪-‬‬ ‫صفة فاحصة لهذه المساجد اإلسالمية بجمال وشكل وسحر‪،‬‬ ‫وهي ترتفع كالس���هم "المسلة الفرعونية" في الفضاء السماوي‬ ‫الربان���ي خلفه���ا‪ ،‬كأنه���ا أذرع ممتدة إل���ى اهلل ‪ ‬تطلب المزيد‬ ‫من الرحمة‪.‬‬ ‫نحتا أخضعت‬ ‫ويكاد تصميم المئذنة المعماري‪ ،‬أن يكون ً‬ ‫فيه التقنية اإلنش���ائية للتعبير الفني المعماري الذي يهدف إلى‬ ‫الصعود والتس���امي‪ ،‬فل���م يأبه المعماري المس���لم بالمصاعب‬ ‫اإلنش���ائية العويصة التي صادفته في سبيل تحقيق فكرته الفنية‬ ‫التعبيرية‪ ،‬فقد ذلل له اإليمان المصاعب وحقق المعجزات‪.‬‬

‫االجتماعية والدينية التي يتميز بها العالم اإلسالمي‪ ،‬كاألهمية‬

‫الت���ي أضفاها اإلس�ل�ام على العم���ل إلى جان���ب اإليمان‪ ،‬مما‬ ‫ش���جع الناس على القيام بنشاط اجتماعي‪ ،‬وكذلك القوة التي‬

‫وصلت إليها طبقات المياسير في المدن اإلسالمية بما لها من‬ ‫ذوق ومن حاجات خاصة‪.‬‬

‫كم���ا يؤكد في م���كان آخر‪ ،‬عل���ى أن الق���درة الفريدة لدى‬

‫المسلمين على تحويل عناصر شكلية أو وظيفية عديدة أخرى‬

‫إلى ش���يء إس�ل�امي‪ ،‬م���ع االعتراف بأن ه���ذه التوليفات كانت‬

‫تأثيرا‪.‬‬ ‫أول أمثلة هذه القدرة الفريدة وأقواها ً‬

‫وال أدل عل���ى عبقرية المس���لمين في العم���ارة من قدرتهم‬

‫عل���ى توفير المرونة الالزمة‪ .‬فباإلضاف���ة إلى المعنى التاريخي المئذنة في العمارة اإلسالمية‬ ‫ألن المس���لمين عندما رك���زوا جهودهم على تنظيم المس���احة‬

‫الداخلية للمس���جد بحيث تناسب الحاجات المتغيرة لجماعة‬ ‫ف���ي ط���ور التوس���ع‪ ،‬جعلوا م���ن المس���جد منش���أة ذات مرونة‬

‫ظاه���رة‪ ،‬وذل���ك بفض���ل بس���اطة تكوينه الت���ي أتاح���ت إمكانية‬ ‫توسيعه أو تضييقه‪.‬‬

‫ال‪ -‬أضيفت ث�ل�اث زيادات إل���ى الجامع‬ ‫فف���ي قرطب���ة ‪-‬مث ً‬

‫أيضا ف���ي جوام���ع الكوفة‬ ‫األصل���ي‪ .‬وتوج���د ه���ذه الزي���ادات ً‬

‫والبصرة وبغداد والقاهرة‪ .‬أما المثال الوحيد الذي يمكن إثباته‬ ‫لحالة التضييق بين المباني الكبرى على األقل‪ ،‬فهو المس���جد‬ ‫األقصى في القدس‪ .‬ومن الناحية النظرية‪ ،‬تعتبر إمكانية تعديل‬

‫الش���كل بم���ا يتفق وحاج���ات الجماعة‪ ،‬ظاه���رة حديثة بصورة‬

‫ملحوظة لم تكن معروفة في العمائر السابقة أو المعاصرة‪.‬‬

‫وف���ي البالد اإلس�ل�امية الت���ي يمي���ل أهلها إل���ى المحافظة‬

‫‪-‬كالمغ���رب األقصى‪ -‬نجد البهو ذا األعمدة‪ ،‬ظل لعدة قرون‬

‫الش���كل المعماري الوحــيد المس���تعمل في إنش���اء المس���اجد‪،‬‬ ‫بينم���ا نج���د في الغالب بالنس���بة للبالد التي فتحها المس���لمون‬

‫بعد مث���ل األناضول‬ ‫حدي ًث���ا ‪-‬أو تحول���ت إل���ى اإلس�ل�ام فيم���ا ُ‬ ‫والهن���د‪ -‬أن البه���و ذا األعمدة‪ ،‬كان الص���ورة األولى التي بني‬ ‫عليها المس���جد‪ ،‬وأن ه���ذه الصورة ترمز ‪-‬دون ش���ك‪ -‬ألنقى‬

‫خصائ���ص اإلس�ل�ام‪ ،‬ولكنها كانت من البس���اطة بحيث يمكن‬

‫فيما بعد تطويعها ألي تقليد معماري‪.‬‬

‫وف���ي الجمهوري���ات اإلس�ل�امية في آس���يا الوس���طى‪ ،‬نجد‬

‫منش���آت معماري���ة ذات بواب���ات ضخم���ة وذات عق���ود عالي���ة‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )35‬‬

‫‪12‬‬


‫ثقافة وفن‬

‫أ‪.‬د‪ .‬بركات محمد مراد*‬

‫التمثل واإلبداع‬ ‫في العمارة اإلسالمية‬

‫تتجل���ى عبقرية المس���لمين الفنية ف���ي المباني‬ ‫والعمائ���ر المدني���ة مث���ل تجليها في المس���اجد‬ ‫واألبني���ة الديني���ة‪ ،‬بل لق���د أضفى المس���لمون‬ ‫طابع الفخامة على كثير من المنش���آت ذات األغراض المدنية‬ ‫العادي���ة‪ ،‬كالم���دارس‪ ،‬والدكاكين‪ ،‬والفنادق‪ ،‬والمارس���تانات‪،‬‬ ‫ومواضع االس���تراحة أو الخان���ات على طول الطرق التجارية‪،‬‬ ‫والحمام���ات‪ ،‬وأس���بلة المي���اه ف���ي الش���وارع‪ ،‬وحت���ى مخ���ازن‬ ‫البضائع الكبيرة المعروفة بـ"الوكائل"‪.‬‬ ‫لقد أكسب الفن اإلسالمي تلك العمائر ‪-‬كما يشير "إيتان‬ ‫س���وريو" في "الجمالية عبر العصور"‪ -‬مسحة جمالية مرموقة‪،‬‬ ‫تظ���ل أش���كالها الجوهرية من أخص خصائص���ه وأبرز صفاته‪.‬‬ ‫جماليا‬ ‫فكرا‬ ‫ًّ‬ ‫وإذا كانت روح اإلس�ل�ام قد أعطت تلك العمائر ً‬ ‫ذا مس���حة روحي���ة‪ ،‬ف���إن تلك المس���حة ل���م تنزع عنه���ا النكهة‬ ‫الحسية الحية واإلثارة للتأمل والتخيل‪.‬‬ ‫ويش���ير الباحث الفرنسي "أوليج جرابار" إلى أنه ينبغي أن‬

‫‪11‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )35‬‬


‫جدا لنظافة العين وتشحيمها‪ ...‬وإن اختالج الجفون‬ ‫ضرورية ًّ‬

‫وأك���دت تجارب "ف���ري" أن الدموع تخلص اإلنس���ان من‬

‫يعم���ل على توزيع الدمعة بالتس���اوي على قرنية عين اإلنس���ان‬

‫تبعا لمسبباته ولألشخاص‬ ‫الدراسة أن تركيب الدموع يختلف ً‬

‫الذي يحدث ما بين عشر مرات إلى خمس عشرة مرة في الدقيقة‪،‬‬ ‫الطبيع���ي الذى يبكي حينما يش���عر بذل���ك وال يحبس الدموع‪.‬‬ ‫وم���ن المؤك���د أن الدموع لم تعد ُتوزع كم���ا يجب منذ أن‬

‫أصيب اإلنسان بحالة مرضية سميت بـ"مرض التمساح"‪ ،‬وهو‬ ‫البكاء بغزارة كلما جرى المضغ‪.‬‬

‫م���واد س���امة يصنعه���ا الجس���م كل���ه في حال���ة توتر‪ .‬وكش���فت‬ ‫ال‪ -‬تحتوي على‬ ‫أيضا‪ .‬فقد تبين أن دم���وع الفرح ‪-‬مث ً‬ ‫الباكي���ن ً‬

‫نسبة كبيرة من الزالل تزيد بحوالي ‪ %25‬عن الدموع األخرى‪.‬‬

‫كما اتضح أن نوبات البكاء تحدث بشكل أساسي بين السابعة‬ ‫مس���اء‪ ،‬وأن احتمال البكاء أثناء مش���اهدة فيلم مؤثر‬ ‫والعاش���رة‬ ‫ً‬ ‫أكثر في المساء عنه في الصباح‪.‬‬

‫ابك بدون خجل‬

‫الدم���وع هي إهداء النفس للنف���س‪ ،‬وعندما تبكي بدون خجل من فوائد الدموع‬

‫فق���د وصل���ت إلى قم���ة النض���ج النفس���ي والذهن���ي‪ .‬فالدموع‬

‫• تساعد على مرونة حركة الجفون العلوية والسفلية‪.‬‬

‫ثابت حوالي نصف لتر من الدموع في العام‪ ،‬أي بمقدار ‪1.5‬‬

‫مستمرة‪.‬‬

‫البشرية تروي النفس وتغذيها‪ ،‬إذ يفرز اإلنسان العادي بمعدل‬

‫أيض���ا عل���ى حمايته���ا كأداة لتطهيره���ا بص���ورة‬ ‫• تس���اعد ً‬

‫سم مكعب في اليوم‪.‬‬

‫• تساعد على حمايتها من اإلصابة بالجفاف‪.‬‬

‫ومن هنا يجيء التساؤل عما إذا كانت هناك عالقة بين عدم‬

‫ذرف الدم���وع واإلصابة بالم���رض‪ .‬واإلجابة بالطبع كما يقول‬

‫العال���م األمريكي "وليم ف���ري"‪" :‬فالدموع تعم���ل على إخراج‬ ‫المواد الس���امة التي تولدها بعض ح���االت االنفعال‪ ،‬ولذا فإن‬

‫• كما تساعد على طرد أي مواد مهيجة للعين‪ ،‬مثل الفلفل‬

‫والدخان أو مواد صلبه كاألتربة‪.‬‬

‫• وتق���وم عن طريق الغ���دة الدمعية ب���إدرار الدموع‪ ،‬وطرد‬

‫هذه األجسام الغريبة‪ ،‬لتعود إلى شفافيتها وتنظيفها‪.‬‬

‫حبس الدموع ُيعرض اإلنسان لإلصابة بالتسمم البطيء"‪.‬‬

‫• كم���ا تق���وم الدم���وع على ش���فافية القرني���ة وحمايتها عن‬

‫أج���رى الكيميائ���ي "ولي���م ف���ري" ع���دة دراس���ات وأبحاث مع‬

‫• تساعد على وضوح الرؤية وقوة االبصار ودقتها‪.‬‬

‫البكاء بين الرجل والمرأة‬

‫الجفاف‪.‬‬

‫متطوعا من الجنسين‬ ‫فريق من زمالئه‪ ،‬منها دراسة على ‪331‬‬ ‫ً‬

‫• تخلص الجس���م من الم���واد الكيماوية المتعلقة بالضغط‬

‫يوم���ا‪ .‬وقد أظهرت‬ ‫تس���جيل يومياته ع���ن البكاء لم���دة ثالثين ً‬

‫ِ‬ ‫فاب���ك عزي���زي القارئ كم���ا تريد‪ِ ،‬‬ ‫ابك ب���دون خجل‪ ،‬ففي‬

‫انفعالي خالل هذه المدة‪ ،‬على حين س���جل الرجال متوس���ط‬

‫ولتكن لنا مع أنفس���نا وقفات ووقفات‪ ،‬نتأمل فيها ونبحث‬

‫تت���راوح أعماره���م بي���ن ‪ 75-18‬س���نة‪ ،‬وقد طلب م���ن متطوع‬ ‫النتائج أن الس���يدات س���جلن ‪ 5.4‬حالة بكاء كاس���تجابة لجهد‬

‫‪ 1.4‬حال���ة‪ .‬واتضح من الدراس���ة أن ‪ %73‬م���ن الرجال و‪%85‬‬ ‫من السيدات بصفة عامة‪ ،‬شعروا بارتياح بعد البكاء‪.‬‬

‫م���ن بين أفراد تلك المجموعة‪ ،‬ل���م يبك ‪ %45‬من الرجال‬

‫و‪ %6‬من السيدات الذين يتمتعون بصحة جيدة‪.‬‬

‫أما أس���باب البكاء الرئيس���ية للمرأة فق���د تضمنت عالقات‬

‫م���ع الن���اس‪،‬‬ ‫وغالب���ا النفصالها عن ش���خصية محبوبة‪ .‬وكانت‬ ‫ً‬ ‫االنفعاالت األساس���ية هي الحزن بنس���بة ‪ %49‬والفرح بنس���بة‬

‫‪ %21‬والغض���ب ‪ %10‬وبينم���ا عب���رت معظ���م الس���يدات ع���ن‬ ‫غضبهن بالدموع‪ ،‬فإن الرجال لم يفعلوا ذلك‪.‬‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )35‬‬

‫‪10‬‬

‫النفسي‪.‬‬

‫البكاء شفاء وعالج لكثير من األمراض‪.‬‬

‫ع���ن كوامن وأس���رار خل���ق اهلل ‪ ‬لإلنس���ان‪ ،‬لنقف خاش���عين‬ ‫خاضعين متذللين للخالق جل شأنه‪ ،‬نقر بوحدانيته ونذعن له‬

‫باالستسالم والطاعة‪.‬‬

‫فاهلل سبحانه لم يخلق أي عضو ‪-‬في أجسامنا‪ -‬إال بإحكام‬

‫وتقدي���ر‪ ،‬لك���ي يالئم طبيع���ة وظيفته‪ .‬فس���بحان المبدع الخالق‬ ‫ال‬ ‫﴿و ِفي َأ ْن ُف ِس ُ‬ ‫���ك ْم َأ َف َ‬ ‫ج���ل ش���أنه‪ ،‬وص���دق اهلل العظيم القائ���ل‪َ :‬‬ ‫ون﴾(الذاريات‪.)21:‬‬ ‫ُت ْب ِص ُر َ‬ ‫(*) استشاري في طب وجراحة العيون‪ ،‬وعضو الجمعية الرمدية المصرية‪.‬‬


‫مك���ن الدمع من االنتش���ار على القرني���ة‪ ،‬وهي تأتي من خاليا‬ ‫ُت ِّ‬

‫الطبقة الدهنية‬

‫على سطح العين‪.‬‬

‫• طبقة مائية متوس � � ��طة (‪ :)Midlle Aqueous Layer‬وهي التي‬

‫الطبقة الدمعية‬

‫ال والرؤية سليمة‪.‬‬ ‫تحفظ سطح العين مبل ً‬

‫• الطبق � � ��ة الثالثة (‪ :)Outer Lipid Layer‬وه���ي طبقة خارجية‬

‫المعتقد أنها تعيق التبخر‪ ،‬وهي ُتفرز عن طريق غدد‬ ‫زيتية من ُ‬ ‫صغيرة على حواف الجفن‪.‬‬

‫وكما أن الدموع طبقات من الناحية التشريحية فهي كذلك‬

‫طبق���ات من الناحية الفلس���فية؛ فالنس���اء تملك نس���بة ‪ %67‬من‬ ‫مج���ال إمكانية تس���اقط الدموع في كل األوقات والمناس���بات‬

‫طبقة القاع‬ ‫القرنية‬

‫مكونات الدموع‬

‫إذا حلَّل���ت الدموع هذا الس���ائل‪ ،‬فإنك س���تجد مكونات راقية‬

‫جدا هي األكس���جين‪ ،‬والصوديوم‪ ،‬والبوتاسيوم‪ ،‬والكالسيوم‪،‬‬ ‫ًّ‬ ‫والماغنسيوم‪ ،‬واألمونيا‪ ،‬واآلزوت‪ ،‬وفيتامين ب‪ ،12‬وفيتامين‬

‫(ج)‪ ،‬واألحم���اض األميني���ة‪ ،‬والحدي���د‪ ،‬والنح���اس‪ ،‬والزنك‪،‬‬

‫حت���ى الس���عيدة منه���ا‪ ،‬كم���ا أن نس���بة ‪ %62‬مم���ن يعمل���ون في‬

‫الزراعة واألرض ال يعرفون الدموع‪.‬‬

‫أم���ا أصحاب المراكز العليا‪ ،‬فنس���بة صف���ر (‪ %)0‬إلى ‪%23‬‬

‫فقط هم الذين يمكن أن تنزل دموعهم ألسباب هامة وخاصة‬ ‫ج���دا‪ .‬والدراس���ة الت���ي أثبت���ت ذل���ك‪ ،‬تؤك���د أن بتلك النس���ب‬ ‫ًّ‬ ‫سيعاني البشر في نهاية هذا القرن "من األمية في المشاعر"‪.‬‬

‫والمنغنيز‪ ،‬والكلورين‪ ،‬والفس���فور‪ ،‬والبيكروبونات‪ ،‬وحمض آخر الدراسات النفسية عن الدموع‬ ‫نوعا من البروتينات‪.‬‬ ‫البوليك‪ ،‬واألنزيمات‪ ،‬وس ّتين ً‬

‫• ويؤل���ف الماء ‪ %99-98‬من الس���ائل الدمعي‪ ،‬أما التوتر‬

‫الس���طحي فيبلغ ‪ 0.7-0.6‬من توتر الماء السطحي‪ ،‬والمشعر‬

‫االنكساري يبلغ ‪.1.337‬‬

‫ال نحو القلوية‪.‬‬ ‫• ويميل الدمع قلي ً‬

‫ه���ذه المكون���ات ت���زداد‬ ‫تعقي���دا عند مالمس���تها لألغش���ية‬ ‫ً‬

‫المخاطي���ة ف���ي القن���اة الدمعي���ة‪ ،‬فيض���اف إليه���ا الدهني���ات‬

‫والس���كريات واألحماض األمينية‪ ،‬كذلك اإلف���رازات الدهنية‬ ‫الغنية بالكولسترول وثالثي الجلسرين‪ ...‬وكل هذه اإلفرازات‬ ‫تغذي العين بأكملها وتحميها من االلتهابات عند البكاء‪.‬‬

‫طبقـات الدمـوع‬

‫خلصت هذه الدراس���ات إلى بعض الحقائق الهامة التي تهمنا‬ ‫والتي سنورد منها ما يلي‪:‬‬

‫• يتج���دد فيل���م الدموع داخ���ل عينيك "‪ 13‬أل���ف مرة" في‬

‫أبدا وال تتساقط دموعه‪ ،‬فإنه‬ ‫اليوم الواحد‪ ،‬لذلك من ال يبكي ً‬ ‫يعاني ح ًّقا من ظاهرة مرضية غير طبيعية‪.‬‬

‫كثيرا‪ ،‬حيث أثبتت الدراسات أن‬ ‫• هناك ش���عوب ال تبكي ً‬

‫نسبة البكاء عند الشعب الفرنسي ‪.%8‬‬

‫• ال���ذي يبكي‪ ،‬هو ال���ذي ُيمزق كل األقنع���ة واالعتبارات‬

‫وكل األدوار االجتماعية‪.‬‬

‫• إذا أحبب���ت ه���ذا النبع الغامض (الدموع)‪ ،‬فإنك تمس���ح‬

‫قس���وة نفس���ك على نفس���ها‪ ،‬وبالتالي على بقية البشر‪ ...‬لذلك‬

‫دائم���ا يقول���ون‪" :‬إن من ال يعرف الدم���وع ال يعرف الرحمة"‪.‬‬ ‫ً‬

‫الدم���وع من أهم الوظائف الفس���يولوجية للعي���ن‪ .‬وقد وضعها‬

‫وإن ال���ذي ال يبك���ي فعندما يتأل���م فإنه يتألم أكثر‪ ،‬ألنه يش���عر‬

‫بالتال���ي تصنيفه���ا إل���ى ثالث طبقات م���ن الناحية التش���ريحية‪،‬‬

‫• االنفع���االت المؤلم���ة والعنيفة البد وأن تظهر من خالل‬

‫العلم���اء والباحث���ون موضوع دراس���تهم وبحثهم‪ ،‬واس���تطاعوا‬

‫باأللم مرتين‪.‬‬

‫األم���ر الذي س���هل عليهم معرفة األم���راض التي تصيب بعض‬

‫دائما ما تكون أقوى من أي حوار صادق‪ ،‬ألنها‬ ‫العينين‪ ،‬وهي ً‬

‫أجزاء العين وطرق معالجتها‪.‬‬

‫• طبقة ميكوي � � ��د (‪ :)İnner Mucin Layer) (Mucoid‬وهي التي‬

‫عبارة عن عبارات تترجم نبضات القلب تجاه الموقف‪.‬‬

‫يوميا وبطريقة آلية‪،‬‬ ‫إن نقطة الدموع التي تنساب من العين ًّ‬

‫‪9‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )35‬‬


‫المغطي لفص الجفن السفلي‪.‬‬ ‫• الغدد الدمعية المس���اعدة يبلغ عددها ‪ 48‬غدة‪ 40 ،‬منها‬ ‫في الجزء العلوي من العين‪ ،‬و ‪ 8‬تسكن في الجزء السفلي‪.‬‬

‫‪-2‬الجزء المصرف للدموع (‪:)Drainge Part‬‬

‫ويتك���ون من النقطة الدمعية‪ ،‬والقن���وات الدمعية‪ ،‬والكيس‬ ‫الدمعي‪ ،‬والوصلة الدمعية األنفية‪.‬‬

‫البكاء بين القرآن والسنة النبوية‬

‫البكاء في القرآن الكريم‪ :‬وردت مادة البكاء في القرآن الكريم‬ ‫﴿و َأ َّن ُه ُه َو َأ ْض َح َك َو َأ ْبكَ ى﴾(النجم‪َ ﴿ ،)43:‬ف َما َبكَ ْت‬ ‫ّ‬ ‫ست مرات‪َ :‬‬

‫َعلَي ِه ُم الس َم ُاء َوا َ‬ ‫ين﴾(الدخان‪،)29:‬‬ ‫أل ْر ُ‬ ‫ض َو َما َكا ُنوا ُم ْنظَ ِر َ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫هِ‬ ‫خروا س���ج ًدا وب ِكيا﴾(مريم‪)58:‬‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ح‬ ‫الر‬ ‫ات‬ ‫آي‬ ‫م‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫ى‬ ‫ل‬ ‫ت‬ ‫ت‬ ‫ا‬ ‫ذ‬ ‫﴿ ِإ َ ُ ْ َ َ َ ْ ْ َ ُ َّ ْ َ ِ َ ُّ ُ َّ َ ُ ًّ‬ ‫ون ِللأْ َْذ َق ِ‬ ‫وعا﴾(اإلسراء‪،)109:‬‬ ‫﴿و َي ِخ ُّر َ‬ ‫ان َي ْب ُك َ‬ ‫ون َو َي ِز ُ‬ ‫يد ُه ْم ُخ ُش ً‬ ‫{س}‪َ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫���ز ًاء ب َِم���ا َكا ُن���وا‬ ‫﴿ َف ْل َي ْض َح ُك���وا َق ِلي�ل� ً‬ ‫ي���را َج َ‬ ‫ا َو ْل َي ْب ُك���وا َكث ً‬ ‫ِ‬ ‫ون﴾(يوسف‪.)16:‬‬ ‫اه ْم ِع َش ًاء َي ْب ُك َ‬ ‫���ب َ‬ ‫﴿و َج ُاءوا َأ َب ُ‬ ‫ون﴾(التوبة‪َ ،)82:‬‬ ‫َي ْكس ُ‬ ‫ووردت م���ادة الدمع في الق���رآن "مرتين"‪َ ﴿ :‬ت َو َّل ْوا َو َأ ْع ُي ُن ُه ْم‬ ‫﴿و ِإ َذا َس ِ‬ ‫���م ُعوا َما ُأ ْن ِز َل ِإ َلى‬ ‫َت ِف ُ‬ ‫ي���ض ِم َن َّ‬ ‫الد ْم ِع َح َز ًنا﴾(التوبة‪َ ،)92:‬‬ ‫الر ُس ِ‬ ‫الد ْم ِع﴾(المائدة‪.)83:‬‬ ‫ول َت َرى َأ ْع ُي َن ُه ْم َت ِف ُ‬ ‫يض ِم َن َّ‬ ‫َّ‬ ‫البكاء في السنة النبوية الشريفة‪ :‬في حديث ابن عباس ‪‬‬ ‫ع���ن النبي ‪ ‬أنه قال‪" :‬عينان ال تمس���هما النار‪ ،‬عين بكت في‬ ‫جوف الليل من خش���ية اهلل‪ ،‬وعين باتت تحرس في س���بيل اهلل‬ ‫تعالى" (رواه الترمذي)‪.‬‬ ‫وعن أبي هريرة ‪ ‬قال‪ :‬قال رس���ول اهلل ‪" :‬ال يلج النار‬ ‫رج���ل بك���ى من خش���ية اهلل حتى يع���ود اللبن ف���ي الضرع‪ ،‬وال‬ ‫يجتمع غبار في سبيل اهلل ودخان جهنم" (رواه الترمذي)‪.‬‬ ‫وال ننس���ى ب���كاء النبي الكريم لوفاة ابن���ه إبراهيم‪ ،‬مما يدل‬ ‫نقص���ا ف���ي الرج���ل ‪-‬كما يظن‬ ‫عيب���ا أو ً‬ ‫عل���ى أن الب���كاء لي���س ً‬ ‫البعض‪ -‬إنما هو عبادة نتقرب بها إلى اهلل تعالى‪.‬‬ ‫وهذا هو أستاذنا العالم الرباني محمد فتح اهلل كولن ‪-‬أحد‬ ‫أشهر علماء اإلسالم المصلحين ودعاته المعاصرين‪ -‬يكشف‬ ‫بعضا من تل���ك المعاني فيقول في مقال له في مجلة حراء‬ ‫لن���ا ً‬ ‫العدد‪ ،15:‬بعنوان "هذا موسم البكاء"‪:‬‬ ‫"إن قط���رات الدم���ع التي تنهمر لوج���ه اهلل ‪ ،‬هي أصدق‬ ‫وإن َمن تأججت‬ ‫مورا‪ّ .‬‬ ‫أنات القلب الذي يمور بالحب اإللهي ً‬ ‫أضالع���ه بنيران الوجد‪ ،‬تألألت عيناه بالدموع‪ ،‬أما من أقفرت‬ ‫عيناه وتصحرت‪ ،‬فال أثر للحياة في جوانحه‪.‬‬ ‫إن الح���زن والب���كاء م���ن أب���رز الخص���ال الت���ي اتس���م به���ا‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )35‬‬

‫‪8‬‬

‫األنبي���اء الك���رام‪ ،‬فقد كان آلدم ‪ ‬أني���ن متصل مدى الحياة‪،‬‬

‫وه���ا هي دم���وع نوح ‪ ‬قد تحولت إلى طوفان غمر س���طح‬ ‫األرض‪ .‬أما مفخرة بني اإلنس���ان عليه أفضل الصالة والسالم‬ ‫فق���د نظم قصيدة لواعجه وأحزانه بالدم���وع‪ ،‬ولذلك فلعلنا ال‬

‫نخطئ إذا س���ميناه "نبي الدموع واألحزان"‪ .‬أال تذكر يوم بكى‬ ‫ّ‬ ‫تاليا اآليتين الكريمتي���ن مرة بعد أخرى‪:‬‬ ‫بحرق���ة حت���ى الصباح ً‬ ‫ِ‬ ‫نت ا ْل َع ِز ُيز‬ ‫���ادكَ َوإِن َت ْغ ِف ْر َل ُه ْم َف ِإ َّن َ‬ ‫���ك َأ َ‬ ‫���م ِع َب ُ‬ ‫���م َف ِإ َّن ُه ْ‬ ‫﴿إ ِْن ُت َع ّذ ْب ُه ْ‬ ‫ِ‬ ‫اس َف َم ْن‬ ‫الن ِ‬ ‫﴿ر ِّب ِإ َّن ُه َّن َأ ْض َل ْل َن َك ِث ًيرا ِم َن َّ‬ ‫يم﴾(المائدة‪َ ،)118:‬‬ ‫ا ْل َحك ُ‬ ‫َتب َِع ِن���ي َف ِإ َّن ُ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫يم﴾(إبراهيم‪.)36:‬‬ ‫���ه م ّني َو َم ْن َع َصاني َف ِإ َّن َك َغ ُف ٌ‬ ‫���ور َرح ٌ‬ ‫رب العزة ‪ ‬بسبب بكائه ‪-‬وهو أعلم‪-‬‬ ‫فلما أخبر‬ ‫ُ‬ ‫جبريل ‪َّ ‬‬ ‫زف إليه بش���رى أثلجت صدره‪،‬‬ ‫وس���كنت خفق���ان قلبه وأنين‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وجدانه‪" :‬يا جبريل‪ ،‬اذهب إلى محمد وقل‪ :‬إنا سنرضيك في‬ ‫أمتك وال نسوءك‪( .‬صحيح مسلم)"‪.‬‬

‫حط‬ ‫"‪ ...‬إن البلبل ال ينقطع عن النواح واألنين حتى وإن ّ‬ ‫عل���ى الورد‪ ،‬فكأنه قد خلق لك���ي يصدح بنغمات الهم الدفين‬ ‫والحزن المتصل‪ .‬أما الغربان فال يحمل نعيقها أدنى معنى من‬

‫ذل���ك الهم والح���زن‪ ،‬وأما نعيب البوم فه���و أبعد ما يكون عن‬ ‫مثل هذه المعاني النبيلة"‪.‬‬

‫نهب‬ ‫ويختتم األس���تاذ كولن مقاله بقوله‪" :‬ناشدتكم اهلل أن ّ‬ ‫دموع في هذه الصحراء المترامية األطراف‪،‬‬ ‫معا لنكون س ّقائي‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬

‫المتآكلة من الجفاف‪ ،‬فنقيم موائد زاهية حديثة العهد بالسماء‪،‬‬

‫طرية نضيرة‪ ،‬كلماتها شبوب‬ ‫تقدم للرائح والغادي فواكه ّ‬ ‫غضة ّ‬

‫شوق ولهيب أشجان‪ ،‬ونغماتها أنين قلب ونحيب وجدان"‪.‬‬

‫أنواع الدموع‬

‫يوجد نوعان أساس���يان من الدم���وع ينبثق منهما جميع األنواع‬

‫األخرى هما‪:‬‬

‫الصحية‪ :‬وهي دموع إجبارية وثابتة‬ ‫أ‪-‬الدموع األساسية أو ِّ‬

‫في نوعيتها وكميتها‪ .‬وهي التي تفيض من عيون جميع البشر‪،‬‬

‫أيضا عن طريق‬ ‫تفرزها الغدة الدمعية بانتظام‪ ،‬وتصرف من العين ً‬ ‫مجرى الدموع‪ ،‬وهي تتسلل إلى داخل األنف والحلق‪ .‬وليس‬ ‫هن���اك أدنى خوف من هذه الدم���وع التي تذرفها العين بغزارة‪.‬‬ ‫بـ‪-‬الدم � � ��وع االنعكاس � � ��ية‪ :‬وهي تح���دث إما نتيج���ة انفعال‬

‫فيتحكم في الجهاز العصبي‪ ،‬أو نتيجة تعرض العين لزيادة في‬ ‫تهيج العين مثل النشادر أو البصل‪،‬‬ ‫الضوء أو لمادة تؤدي إلى ّ‬

‫أو بعض الغازات أو الكيماويات‪ ...‬إلخ‪.‬‬


‫الغدة الدمعية‬

‫السائل لفهم تركيبه ومحتوياته‪ ،‬ومازال العلم يخبئ في جعبته‬

‫الكثير والكثير عنه مما ال نعرفه‪.‬‬

‫النقطة الدمعية‬

‫ه���ذه القط���رات المتأللئ���ة الت���ي تترق���رق في العي���ن عندما‬

‫لقت عب ًثا؟ لماذا نبكي‬ ‫تجيش النفس بشتى االنفعاالت‪ ،‬هل ُخ ْ‬

‫ومتى نبكي؟ أمور ال نعرفها عن الدموع‪.‬‬

‫وقب���ل الحديث ع���ن الدموع‪ ،‬يجب أن نص���ف العين التي‬

‫ه���ي م���ن نع���م اهلل ‪ ‬علينا‪ ،‬لك���ي نرى عجائ���ب الخالق وهي‬

‫الغدد الجفنية‬

‫الكيس الدمعي‬

‫إحدى الحواس الخمس لإلنسان‪.‬‬

‫طبقات جدار كرة العين‬

‫يتك���ون جدار كرة العين‪ ،‬الذي ال يتجاوز س���مكه الملليمترين‬

‫من ثالث طبقات‪:‬‬

‫الطبقة الخارجية (الليفية)‪ :‬وتتكون من جزء أمامي يس���مى‬

‫ويك���ون ُخم���س ج���دار العي���ن‪ ،‬وج���زء خلف���ي وهو‬ ‫"القرني���ة"‬ ‫ّ‬

‫ويكون أربعة أخماسها‪ .‬والجزءان ملتحمان أحدهما‬ ‫"الصلبة"‬ ‫ّ‬ ‫باألخر‪ ،‬بحيث يتداخل الجزء األمامي في الجزء الخلفي كما‬

‫تتداخل الساعة في اإلطار المعد لها‪.‬‬

‫أساسا من‬ ‫الطبقة المتوسطة‪ :‬وهي المغذية للعين‪ ،‬وتتكون‬ ‫ً‬

‫أوعي���ة دموية تحمل الغذاء إلى أج���زاء العين المختلفة‪ ،‬ومنها‬ ‫تأتي س���وائل العين التي تغذي القرنية وعدسة العين‪ ،‬وتحافظ‬ ‫على وجود ضغط طبيعي في العين‪.‬‬

‫الطبقة الحساسة‪ :‬وهي شبكية العين (‪ ،)Retina‬وهذه الطبقة‬

‫شفافة بالرغم من أنها تتكون من عشر طبقات‪ .‬وتحتوي على‬

‫الفتحة الدمعية العلوية‬

‫الفتحة الدمعية العلوية‬ ‫القناة الدمعية العلوية‬ ‫الكيس الدمعي‬

‫نهايات عصبية حساسة للضوء‪ ،‬وتتجمع هذه النهايات العصبية‬

‫لتك���ون العص���ب البص���ري (‪ ،)Optic Nerve‬وهي الغالف‬ ‫مع���ا‬ ‫ً‬ ‫ّ‬

‫الداخلي الحساس للضوء والذي ترتسم عليه صورة األجسام‪.‬‬

‫القناة الدمعية السفلية‬

‫الجهاز الدمعي‬

‫يتكون الجهاز الدمعي (‪ )Lacrimal Apparatus‬من جزئين‪:‬‬

‫الفتحة الدمعية السفلية‬

‫القناة الدمعية األنفية‬ ‫الفتحة األنفية‬

‫‪-1‬الجزء المفرز للدموع (‪:)Secretory Part‬‬

‫• ويش���تمل عل���ى الغ���دة الدمعي���ة التي توجد ف���ي تجويف‬

‫مخصص لها في عظمة الجبهة الموجودة في س���قف الحجاج‬

‫(‪ )Orbit‬عند الناحية العلوية الطرفية‪ .‬وتتكون من فصين علوي‬

‫الشبكية‬ ‫الجسم الهدبي‬

‫المشيمة‬

‫القرنية‬

‫وسفلي‪ ،‬وهما عبارة عن مجموعة فصيصات صغيرة بها غدد‬

‫متكيسة (‪ُ )Acinious‬تفتح مباشرة على قناة إلفراز الدموع‪.‬‬

‫الجسم الزجاجي‬ ‫العصب البصري‬

‫القزحية‬ ‫عدسة العين‬

‫توج���د حوال���ي ‪ 15-10‬قن���اة صغي���رة إلف���راز الدموع تقع‬

‫الجسم الهدبي‬

‫بي���ن الفصين العلوي والس���فلي‪ ،‬وتفتح على س���طح الملتحمة‬

‫الصلبة‬ ‫ُ‬

‫‪7‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )35‬‬


‫علوم‬

‫د‪ .‬محمد السقا عيد*‬

‫وس يف أثره‪ ..‬ال تنس لحظة واحدة أنك معه‪ ،‬يقود خطاك‪ ،‬ويحث روحك‬ ‫ْ‬ ‫تتبع خطاه ‪ ،‬رِ ْ‬ ‫إىل العال‪ ...‬وال تتعرث بأصحاب الخواء الروحي من ذوي النفوس املقفرة والقلوب املجدبة‪.‬‬ ‫***‬ ‫(املوازين)‬

‫أسرار الدموع‬ ‫العي���ن ك���رة صغي���رة تس���كن ف���ي تجويف في‬

‫المادة الزيتية التي تفرزها الغدة في غضروف الجفن‪ ...‬حركة‬

‫أكثرها في هذا المحجر فال يظهر منها س���وى‬

‫لم تكن الدموع في يوم من األيام دليل ضعف وال استكانة‪،‬‬

‫الجمجمة المس���مى "محجر العين"‪ ،‬ويختفي‬

‫ذل���ك الج���زء الصغي���ر ال���ذي ُي���رى في الوج���وه‪ .‬وه���ذا الجزء‬

‫متسلسلة ال يكاد يشعر بها اإلنسان‪.‬‬

‫رمزا للنبل اإلنساني في أرقى مشاعره‬ ‫دائما ً‬ ‫وأبدا تظل ً‬ ‫ولكنها ً‬

‫الصغي���ر الظاه���ر ق���د يوحي ببس���اطة التركيب‪ ،‬وه���و في واقع‬

‫والتعبير عنه‪.‬‬

‫يفوق كل تصور‪.‬‬

‫جميل���ة‪ ،‬وم���ن ال تدمع عيون���ه يصاب بجفاف العي���ن وبالتالي‬

‫الحال يخفي وراءه ‪-‬من روعة التصميم ومحكم النس���يج‪ -‬ما‬ ‫نظرت إلى التراكيب المختلفة التي يحويها هذا الحيز‬ ‫هل‬ ‫َ‬

‫تأملت ذلك التناس���ق في عمل تل���ك األجزاء‬ ‫الصغي���ر‪ ،‬وه���ل‬ ‫َ‬ ‫المختلفة؟ وهل تأملت إبداع الصانع الذي لم ي ُف ْته شيء‪ ،‬فكل‬ ‫شيء عنده بمقدار؟‬

‫تأمل كيف تنزلق الجفون فوق العين‪ ،‬دون احتكاك‪ ،‬بفضل‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )35‬‬

‫‪6‬‬

‫فالدم���وع تحمي القرني���ة وتعالج االكتئ���اب وتجعل العين‬

‫يحتاج إلى العالج‪.‬‬

‫تأم���ل ه���ذه الس���وائل التي تخرج م���ن مآقينا حينم���ا ُتلم بنا‬

‫األف���راح واألت���راح‪ ...‬ما كنهها وم���ا حقيقتها؟ إنها ليس���ت إال‬

‫غامضا يجعل البريق في عيوننا يس���تمر‪ ...‬إنها الدموع‪.‬‬ ‫ال‬ ‫س���ائ ً‬ ‫ً‬ ‫وما أدراك ما الدموع! لقد أجريت األبحاث الحديثة على هذا‬


‫"اللوثي���ات"‪ ...‬فتراهم يثيرون البوهيمية‬ ‫أو لفه���م أن يجت���از م���ن أب���واب ه���ذه‬ ‫���د "بي���وت الحرم"‬ ‫ويصبون دخان النار على‬ ‫ف���ي األرواح‪،‬‬ ‫المؤسس���ات الت���ي ُت َع ّ‬ ‫يجب علينا اليوم‬ ‫ّ‬ ‫بالمقوم���ات والمعايير‬ ‫لألمة م���ا لم ُي َق ّيم‬ ‫البصائر‪ ،‬بأقوالهم وكتاباتهم ورسومهم‬ ‫ِّ‬ ‫جنه��ز الأبط��ال الذي��ن‬ ‫�أن‬ ‫ّ‬ ‫الذاتي���ة‪ .‬ودع عن���ك أن يأذن���وا بذل���ك‪،‬‬ ‫وبرامجه���م ف���ي وس���ائل اإلع�ل�ام‪.‬‬ ‫أنف�س��هم‬ ‫�‬ ‫تلقي��ح‬ ‫يجي��دون‬ ‫فه���م ل���م ييأس���وا حت���ى حين انس���حابهم‬ ‫وف���ي مث���ل هذه المرحل���ة‪ ،‬ال تحفز‬ ‫ب�أم�صال الوقاية امل�ستخرجة‬ ‫جانب���ا وقد أثخنته���م الج���راح‪ ،‬مغلوبين‬ ‫م���آوي العلم‬ ‫وفك���ر العلم‬ ‫عش���ق العلم‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫إلى م���دة‪ ،‬بعد حرب ضروس مع العالم‬ ‫من ذات �أرواحهم‪.‬‬ ‫ف���ي األرواح‪ ...‬ويلع���ب أصح���اب‬ ‫كل���ه ولك���ن مع بري���ق األم���ل‪ ،‬مهزومين‬ ‫أيديولوجي���ات معين���ة بالذي���ن يمثل���ون‬ ‫ولك���ن مع اإليمان‪ .‬فلم يتوانوا عن إلقاء‬ ‫الق���وة وكأنهم دم���ى‪ ،‬يفت���رس بعضهم‬ ‫بعض���ا‪ ...‬ويضط���ر المنط���ق والمحاكمة واإللهام إلى المس���ير أيديه���م إلى التهلك���ة لحماية أصل حياته���م الذاتية‪ ،‬وتراكموا‬ ‫ً‬ ‫في الممرات الضيقة للرموز واإلش���ارات‪ ...‬وبدهي أن الحياة حول الش���عور التاريخي‪ ،‬وعضوا عليه بالنواجذ ‪-‬حسب إفادة‬ ‫بذاته���ا تكون تعذيبا للحياة في مجتم���ع كهذا‪ ،‬عامرٍ بالنقائض الحدي���ث النب���وي‪ -‬عل���ى المقوم���ات التي يدين���ون بوجودهم‬ ‫ً‬ ‫له���ا‪ ...‬فكانت نواصيهم عالية‪ ،‬وقراءاتهم حول الدنيا والعقبى‬ ‫مقد ٍم للرغبات واألهواء على الفكر‪.‬‬ ‫والمخالفات‪ّ ،‬‬ ‫موزونة‪ ،‬وأنفاسهم حرى‪ ،‬ماضين نحو "إحياء" جديد‪.‬‬

‫فلسفة الحياة‬

‫والح���ال أن نظ���ام الفكر وفلس���فة الحياة عندن���ا رحيبة‪ ،‬تتناول‬ ‫فتقيم‬ ‫عوال���م الوج���ود‪ ،‬وما ع���دا الوجود‪ ،‬وم���ا قبل الوج���ود‪ّ ،‬‬ ‫وتعين معالم نمط الحياة في‬ ‫األشياء وما عدا األشياء في كلية‪ّ ،‬‬ ‫تكام���ل وإحاطة‪ .‬فهو نظ���ام يحقق العدالة الكونية المرتقبة في‬ ‫األرض كلها بتحويل السلوك األخالقي إلى حال السيولة في‬ ‫المجتمع وأجزائه األفراد‪ ،‬ويس���تجيب للمتطلبات اإلنس���انية‪،‬‬ ‫فيص���ل المجتم���ع في ظل ذلك إلى القدرة على تجديد نفس���ه‬ ‫ذاتي���ا بالتربي���ة على ال���روح واألخالق والفضيل���ة والتفكر‪ .‬ثم‬ ‫ًّ‬ ‫يك���ون فكرن���ا الحضاري وغنانا الثقافي كس���لعة رائجة في كل‬ ‫ِ‬ ‫ارتياح‬ ‫أقطار األرض‪ ،‬فنغدو اليد المعطاء التي تقدم في‬ ‫هبات‬ ‫ٍ‬ ‫فكرنا اإلنساني وفلسفتنا األخالقية وفهمنا للفضيلة ومتلقياتنا‬ ‫أيض���ا‪ ،‬تنبج���س‬ ‫للعدال���ة‪ .‬وبفض���ل ه���ذا الوض���ع والمس���توى ً‬ ‫الحركي���ات اإلداري���ة واألص���ول االجتماعي���ة واالقتصادي���ة‬ ‫ف���ي الدول���ة ‪-‬كما في مصادره���ا األخرى‪ -‬من ال���روح الذاتية‬ ‫لألم���ة‪ ،‬فتتح���رر من أنواع "القيود" كله���ا‪ .‬إن "القيود" الضمنية‬ ‫ٍ‬ ‫كالنير‪ ،‬بس���بب نقاط‬ ‫ضعف‬ ‫المضروب���ة عل���ى رقابنا حتى اآلن ِّ‬ ‫فين���ا أو مديونيات علينا‪ ،‬ومهما كانت خفية غير جلية‪َ ،‬عرض‬ ‫َّ‬ ‫نظامن���ا اإلداري وأنظمتنا االقتصادية والسياس���ية والعدلية إلى‬ ‫َ‬ ‫العط���ل والفش���ل وأصابها بالش���لل‪ .‬إن أبن���اء أرومتن���ا الذهبية‬ ‫الذين جعلوا األناضول أرقى بالد األرض عمرا ًنا‪ ،‬قد نس���جوا‬ ‫أو أنش���أوا أنظمتهم اإلدارية والسياس���ية وتشكيالتهم العدلية‪،‬‬ ‫بمس���تلزمات ال���روح الذاتية‪ .‬فلم يس���محوا لفكر أو لمؤسس���ة‬

‫ترقب الفجر‬

‫وقد نستطيع أن نكون مثلهم ‪-‬وقد نتقدم عليهم ونحن نترقب‬ ‫فجرا في هذا الزمن‪ -‬إذا ّقيمنا الدنيا التي نعيش فيها‬ ‫فجرا يتبع ً‬ ‫ً‬ ‫صحيحا من وجهة أفق الحكمة الذاتية‪ ،‬ففسرنا األشياء‬ ‫ا‬ ‫تقييم‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وش���خصنا المتطلبات األساسية‬ ‫صحيحا‪،‬‬ ‫تفس���يرا‬ ‫والحوادث‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫لبناء إنساننا الداخلي‪ ،‬وانشددنا بفكرة التواجد والحضور إلى‬ ‫األب���د‪ .‬وما الذي يعيق األجيال البصيرة عن تقدم الصفوف ما‬ ‫دام���ت قادرة عل���ى تقييم الماضي والحاضر والمس���تقبل على‬ ‫صعي���د واحد‪ ،‬وحامية ألع���راف المجتمع وتقاليده وحركيات‬ ‫تاريخه‪ ،‬وماهرة في تفسير تكرر التاريخ باتجاه تجديد الذات!؟‬ ‫ومن المفيد أن نذكر مرة أخرى‪ ،‬بأن مس���ؤوليتنا األساسية‬ ‫اليوم‪ ،‬هي إش���عار وجدان األجي���ال بمؤثرات الكدح المبذول‬ ‫من���ذ عصور مديدة‪ ،‬والعقائد اإليمانية المتش���ربة في النفوس‪،‬‬ ‫والثقاف���ات المتأصل���ة الجذور على قدر أعماقه���ا في ذاتها‪...‬‬ ‫وذل���ك بتطوي���ر حس التاري���خ في األمة‪ .‬ف���إذا نجحنا في هذا‪،‬‬ ‫فلن يخطر على بال أحد بعد جيلين أو ثالثة أجيال‪ ،‬أن يعيش‬ ‫فوق تراب هذه البالد‪ ،‬ثم يستعير لمؤسسات الشعب المتنوعة‬ ‫مصادر أجنبية عن حركيات روحنا ومعنانا‪.‬‬ ‫نع���م‪ ،‬نح���ن نجلب عناص���ر حياة المس���تقبل م���ن ماضينا‪،‬‬ ‫فإن اس���تطعنا أن نعجنها في معاج���ن ثقافتنا الذاتية بنور الدين‬ ‫جهزنا خمير َة أبديتنا‪.‬‬ ‫وضوء العلم‪ ،‬فقد ّ‬ ‫(*) الترجمة عن التركية‪ :‬عوني عمر لطفي أوغلو‪.‬‬

‫‪5‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )35‬‬


‫غياب المنظومة الفكرية‬

‫زوايا اختالف الشعور‬

‫لقد غابت عن واقعنا منذ قرون منظومة فكرية ذاتية‪ ،‬وفلس���فة‬

‫وأش���ير هن���ا إل���ى أن آراءنا س���تتناقض م���ع بعضها باس���تمرار‪،‬‬

‫شتتنا شذر مذر نحن وعالم‬ ‫جذور المعنى لثقافتنا "الذاتية"‪َ ،‬ف َت َّ‬

‫االختالف في زوايا الش���عور واإلحساس بالكائنات وتفسيرها‬ ‫م���ا ل���م ُن ِقم ما نبني���ه‪ ،‬على قاعدة فكرية راس���خة كهذه‪ ،‬وما لم‬

‫حي���اة ذاتي���ة‪ ،‬تعتم���د عل���ى الحركيات اإلس�ل�امية التي تش���كل‬ ‫كبير مرتبط بنا‪ .‬ومن الضروري أن نميز بين النس���ق الفلس���في‬ ‫والفك���ري لمترجم���ي نظ���ام الفلس���فة اليوناني���ة المتجمع���ة في‬

‫الحوض الفكري ألرس���طو‪ ،‬من أمثال الكندي والفارابي وابن‬ ‫رش���د‪ ،‬وإلى حد معين ابن سينا‪ ،‬وبين نسقنا الفكري وفلسفتنا‬

‫في الحي���اة‪ ،‬الموصولة الجذور بالس���موات‪ ،‬القديمة كاألزل‪،‬‬ ‫لك���ن الجدي���د ِة‪ ،‬ب���ل األكث���ر جدة من الج���دة ذاته���ا إلى درجة‬ ‫ْ‬ ‫الق���درة على اس���تيعاب كل العصور‪ ،‬والمنض���ود ِة من الحكمة‬ ‫ِ‬ ‫والح َكم‪ .‬فموضوع نس���قنا الفكري قائم على تفس���يرٍ ذي تنـ ُّز ٍل‬

‫بعضا في فخ "التعارض والتس���اقط"‪ ،‬بسبب‬ ‫وس���ينهش بعضنا ً‬

‫فلسفيا كهذا‪ .‬فيجب تحقيق عائدية مستقبلنا إلينا‬ ‫نظاما‬ ‫نمتلك ً‬ ‫ًّ‬

‫مثلما حاضرنا‪ -‬بهذه األصول وبهذا النظام‪ ،‬وبفيض أسلوب‬‫جميعا‪ .‬فإذا لم تتحقق الوحدة في مش���اعرنا‬ ‫تتقاس���مه األجيال‬ ‫ً‬

‫وفكرن���ا ونم���ط حياتنا‪ ،‬فس���تظل الوحدة "الوطني���ة" والتضامن‬ ‫"الوطني" ُأمنية حماسية‪ .‬فالمنطلق "الوطني" والفكر "الوطني"‪،‬‬

‫والتعقل الوطني‪ ،‬وواردات الروح‪ ،‬أمور بالغة األهمية في أي‬

‫نظ���ام م���ن األنظمة‪ .‬ف���إن أي نظام فكري ال يس���تطيع أن يحقق‬ ‫وحدة الح���س‪ ،‬ووحدة المنطق‪ ،‬ووحدة المحاكمة‪ ،‬وس���هولة‬

‫ومعلوم‬ ‫م���ن الالهوت والجب���روت والملك���وت والناس���وت‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ومن���ورٍ‬ ‫ومعتم ٍد عل���ى حقيقة الخلق‪ .‬فإذا اس���تطعنا أن‬ ‫المنش���إ‬ ‫ّ‬

‫معا لش���عب من الشعوب‪ ،‬إال بالمقياس والقدر الذي‬ ‫التعايش ً‬

‫افتتاح طرق‬ ‫إبراز نظامنا الفكري‪ ،‬وهذا يعني في الوقت نفسه‬ ‫َ‬

‫الضد إذا تصادمت المش���ـاعر واألفكار والتفاس���ـير واألساليب‬

‫نتفهم هذا التفس���ير والتأويل بنكاته الذاتية‪ ،‬نكون قادرين على‬ ‫واسعة تؤدي إلى تجديد جاد على مستوى العالم كله‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫مرات كثير ًة‬ ‫لقد ُبذلت الجهود في سبيل نظام فكري كهذا‬

‫منذ عهد محمد الفاتح ‪-‬جعل اهلل مثواه الجنة‪ -‬لكنها لم تبلغ‬

‫الغاي���ات المرجوة منها‪ .‬هذه المالحظة يمكن أن تتعرض إلى‬ ‫عموما‪ .‬لقد‬ ‫المناقش���ة من بعض جوانبها‪ ،‬لكن الحال هو هذا‬ ‫ً‬

‫���د الكثي���رون ف���ي أن يس���تجيبوا لمثل هذا البح���ث والترقب‬ ‫َج ّ‬

‫ف���ي الوجدان االجتماعي الع���ام‪ ،‬كأمثال "خوجه زاده" و"المال‬ ‫زي���رك"‪ ،‬أو "مصطفى رش���يد باش���ا" ومهندس���ي "المش���روطية"‬

‫يس���تمد من عقل الش���عب ووجدانه وعالم أحاسيسه‪ ...‬وعلى‬

‫فإن تزاحم الحركة في هذه األحوال‪،‬‬ ‫وتناقضت المحاكمات‪ّ ،‬‬

‫ول‬ ‫ال يعن���ي كث���رة البركة البتة‪ ،‬ودع عنك البرك���ة‪،‬‬ ‫فكثيرا ما َي ُؤ ُ‬ ‫ً‬ ‫المصي���ر إل���ى االضمحالل في ه���ذه األوض���اع‪ .‬إن كل حملة‬

‫وجهد في المجتمع الذي يعاني من فوضى في الفهم والتفسير‪،‬‬ ‫وتنصب‬ ‫دوما‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫يشبه أمواج البحر المرتطمة ببعضها؛ إذ تتكاسر ً‬ ‫إلى حوض عطالتها‪ ،‬وتلف وتدور في فراغ الدور والتسلس���ل‬ ‫الفاس���د‪ .‬ولعلن���ا نج���د بالتمحي���ص حكم��� ًة في تكاس���ر أمواج‬

‫البح���ر باالرتطام مع بعضها‪ .‬لك���ن أمثال هذه المصادمات في‬

‫(الحك���م الدس���توري)‪ ،‬ومنه���م إل���ى كثيرين من عم���ال الفكر‬ ‫ف���ي المرحلة الحديث���ة‪ ،‬الخالص ِة نيا ُتهم وغي���ر الخالصة‪ .‬لكن‬

‫ذئب���ا يفترس اآلخر‪،‬‬ ‫فف���ي مثل ه���ذا المجتمع‪ ،‬يك���ون كل فرد ً‬

‫وبعضه���م غ���رق ف���ي دوام���ات الث���ورة الفرنس���ية وأوغوس���ت‬

‫مث���ل هذا العال���م‪ ،‬لكن الهيئ���ة االجتماعية تبق���ى تحت تهديد‬

‫وتوقف عند "تهافت" ابن رش���د واإلمام الغزالي‪،‬‬ ‫بعضهم تع َّث َر‬ ‫َ‬

‫الن َفس‪.‬‬ ‫المجتم���ع‪ ،‬ال تخ ّل���ف إال التعف���ن واالنحالل وإه���دار َّ‬ ‫برنامجا للموت‪ .‬ومع أن الس���ماء تمطر رحمة على‬ ‫وكل فكر‬ ‫ً‬

‫تكل‬ ‫كومت‪ ،‬وبعضهم تلهى وانش���غل بهذيان دركهايم‪ ...‬ولم ّ‬ ‫حينا‪ ،‬أو تراكضوا‬ ‫الحركة ً‬ ‫أبدا‪ ،‬لكن لم يحسبوا حساب العصر ً‬

‫والتمزق‪ ،‬وتبقى المقدس���ات مه���ددة بالتبدد‪ .‬وال محل للوفاء‬

‫ميراث ألف س���نة من القيم‬ ‫دون اهلل فتبدد في الحيرة والضياع‬ ‫ُ‬

‫عند ش���بابهم‪ .‬فالقوى الفتية والحركية المأمول منها أن تس���مو‬

‫األهواء والرغبات آلهة من‬ ‫وراء األح�ل�ام وحدها‪ ،‬أو ا ُّتخذت‬ ‫ُ‬

‫"الذاتية"‪ .‬ويا ليتنا اس���تطعنا اآلن أن نتجاوز هذه الس���لبيات‪...‬‬ ‫هيه���ات هيهات! فلس���نا ندع���ي أننا ننظر بعي���ن الرضا إلى هذا‬ ‫الجانب من واقعنا‪ .‬فكم أتمنى أن نتجاوز السلبيات كلها‪ ،‬وأن‬ ‫فكريا وفلسفة "وطنية" تتغذى من مصادرنا الذاتية!‬ ‫نظاما‬ ‫ًّ‬ ‫نطور ً‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )35‬‬

‫‪4‬‬

‫ُع ّثتها‪ .‬وكذلك تبقى القيم التاريخية فيها معرضة إلى االنخراق‬ ‫عند الكهول في الركام البشري لهذا المجتمع‪ ،‬وال مكان للفتوة‬

‫بالمس���تقبل كس���ارية العلم على هاماتها‪ ،‬هي التي تحتقر الراية‬ ‫وتش���تم الماضي من جهة‪ ،‬وتحس���ب المس���تقبل ساحة جنون‬ ‫إلجراء رذائلها من جهة أخرى‪ ...‬أما الكهول والمثقفون الذين‬

‫س ّلموا أنفسهم لالمباالة المفزعة‪ ،‬فيتصرفون كمشجعين لفكر‬


‫مزارع ألشجار الفكر‪َ ،‬س ُّموهم إن شئتم‬ ‫الفخ���اخ القاتل���ة‪ ،‬ويذبح���ون أرواحه���م‬ ‫نح��ن جنل��ب عنا��صر حياة‬ ‫مرات بسكين أرذل أنواع الموت‪.‬‬ ‫أه���ل الحكمة‪ ،‬أو أبطال الفلس���فة ذوي‬ ‫امل�س��تقبل من ما�ض��ينا‪ ،‬ف�إن‬ ‫م���اض وال‬ ‫ولي���س ألمث���ال ه���ؤالء‬ ‫وعرفوهم كما تش���اؤون‪ ،‬لكن‬ ‫ٍ‬ ‫اله���دى‪ِّ ،‬‬ ‫مس���تقبل م���ا دام���وا ي���رددون ق���ول عمر‬ ‫اعلموا ب���أن رجال النور الذين يحيكون‬ ‫ا�س��تطعنا �أن نعجنه��ا يف‬ ‫البال بماضي الزمان‪/‬‬ ‫التاري���خ برق��� ِة نس���يج الحري���ر وظرافته‪،‬‬ ‫معاجن ثقافتن��ا الذاتية بنور‬ ‫الخيام‪" :‬ال َتشغل َ‬ ‫قب���ل األوان‪/‬واغنم ِمن‬ ‫وال بآت���ي العيش َ‬ ‫دائما من بين ه���ذه األرواح‬ ‫ق���د ظه���روا ً‬ ‫الدين و�ض��وء العل��م‪ ،‬فقد‬ ‫طب���ع ال َّليالي‬ ‫‪/‬فلي���س في‬ ‫لذات ِه‬ ‫ِ‬ ‫الحاض���ر ّ‬ ‫العالي���ة‪ ،‬عل���ى م���ر الزم���ان الممت���د من‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫أبديتنا‪.‬‬ ‫�‬ ‫ة‬ ‫خمري‬ ‫زنا‬ ‫جه‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫األم���ان"‪ ،‬ويتبعون غرائزه���م الحيوانية‪،‬‬ ‫العوال���م القديمة إلى عصرن���ا الحاضر‪.‬‬ ‫عش���با ومرع���ى‪ ،‬ويحيون‬ ‫وي���رون الدنيا‬ ‫وحت���ى أنظم���ة البراهمي���ة والبوذي���ة‬ ‫ً‬ ‫وم َلكاتهم اإلنس���انية‪ ،‬فال ينفكون من والكونفوشية والطاوية والزرادشتية‪ ،‬التي تشبه النظم الفلسفية‬ ‫راغمين أنف مش���اعرهم َ‬ ‫التقلب المضطرب في المستنقع و"اللوثيات"‪.‬‬ ‫وليس األديان‪ ،‬هي هدايا أبطال الروح إلى اإلنسانية‪.‬‬ ‫دوما في خرير تيار‬ ‫توليد األفكار‬ ‫فإن ألحان صروح الفكر هؤالء‪ُ ،‬تسمع ً‬ ‫أم���ا الذي���ن يعيش���ون حياته���م مفكري���ن‪ ،‬ويجعل���ون ‪-‬حس���ب الفك���ر المدي���د إلى الماضي‪ .‬إن ال���رؤى المختلفة إلى الحياة‪،‬‬ ‫درجاتهم‪ -‬كل يوم أو كل ساعة من حياتهم‪ ،‬ميناء أو مرسى أو وأنم���اط الحي���اة المتنوع���ة‪ ،‬وأح���واض الحض���ارات العالمية‪،‬‬ ‫ً‬ ‫طري ًقا لألفكار المبتكرة‪ ،‬فهؤالء يمضون أعمارهم في خوارق والثراء الثقافي في الجهات األربع من العالم القديم والجديد‪،‬‬ ‫دائما م���ن نتاج بي���ادر الفكر لهؤالء األبط���ال‪ .‬فمع كل‬ ‫العيش ما فوق الزمان ومفاجآته وس���حره‪ ،‬فيتجرعون الماضي كان���ت ً‬ ‫كماء نبع مبارك‪ ،‬ويتنفسونه نفح َة رائح ٍة في رئاتهم‪ ،‬ويطالعونه ه���ذا التبديل والتحريف واإلبعاد عن األصل‪ ،‬يمكننا أن نقول‬ ‫ككت���اب‪ ،‬ويس���يرون إلى المس���تقبل بهذه الع���دة‪ ...‬ويحضنون باطمئنان تام‪ :‬إن القسم األعظم من البشر في األرض ال زالوا‬ ‫ُ‬ ‫الزم���ن اآلتي بحرارة قلوبه���م‪ ،‬ويلونونه بآماله���م‪ ،‬ويصورونه يتبع���ون آثار ذل���ك المحتوى والمعنى وال���روح القديم ‪-‬مهما‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫مرك���زا تعس���ر التأليف بين الحياة المعاص���رة وبين هذا القول‪ -‬وأظن‬ ‫بعزمه���م وإرادته���م‪ ...‬ويحتس���بون الزم���ن الحاض���ر‬ ‫ً‬ ‫إس���تراتيجيا لتنفيذ أفكاره���م المثالية‪ ،‬ومصنعا إلنتاج التقنيات أن الض���رورة قائم���ة لكي نتقبل اس���تمرارية األخط���اء ‪-‬كحالة‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫الضروري���ة في هذا الس���بيل‪ ،‬وجس���را للعبور م���ن النظري إلى طبيعي���ة‪ -‬بحس���ن الظن وحس���ن التأويل‪ ،‬وذلك إل���ى أن يجد‬ ‫ً‬ ‫األبط���ال‬ ‫"الممثل���ون"‬ ‫األم���ور التي لم تتعرض إل���ى التحريف‬ ‫المكان‪.‬‬ ‫وفوق‬ ‫الزمان‬ ‫فوق‬ ‫دوما كي يكونوا‬ ‫العملي‪َ ...‬و َي ّ‬ ‫َ‬ ‫جدون ً‬ ‫فه���م م���ن وجه���ة يطالع���ون الوج���ود والزم���ان ف���ي ه���ذا والتبديل من تلك المرجعيات‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫وبن���اء عل���ى ذل���ك‪ ،‬ما يج���ب علين���ا اليوم ‪-‬ونحن نس���تعد‬ ‫الحياة‬ ‫ضي���ق‬ ‫من‬ ‫ينس���لخون‬ ‫أخ���رى‬ ‫وجه���ة‬ ‫وم���ن‬ ‫المس���توى‪،‬‬ ‫ً‬ ‫الجس���مانية وينفس���حون ف���ي رحاب عال���م الفكر ويس���يحون للتجدي���د مرتبطين بأوثق الروابط بج���ذور معانينا الذاتية‪ -‬هو‬ ‫نجهز األبطال الذين يجيدون تلقيح أنفسهم بأمصال الوقاية‬ ‫وه���م ف���ي هذه الحي���اة الفانية الموقوتة‪ -‬على س���فوح ممتدة أن ّ‬‫إل���ى الالنهاي���ة ف���ي عال���م آخ���ر ذي ُب ْع ٍ‬ ‫الم ْن ِشدين القادرين‬ ‫���د أب���دي‪ ...‬يس���يحون المستخرجة من ذات أرواحهم‪ ...‬األبطال ُ‬ ‫ويدفع���ون عرب���ون الالنهاية بأفكارهم وأحاسيس���هم وآمالهم‪ ،‬اليوم على أداء الكلمات ألناش���يد ماضينا من غير تعثر بش���يء‬ ‫ويتعايش���ون مع مش���اعر الالنهاية‪ ،‬ويتطلعون إلى ثراء الكينونة أو بعائق‪ ،‬وعلى استش���عار توقد الحماس في قلوبنا المتجددة‬ ‫اإلنسانية في أغوار الرحاب ال َّل ُد ّنية التي حفروها في مغاوص كل مرة بتلون آخر‪.‬‬ ‫ويج���دون ف���ي اصطي���اد أن���واع الفج���اءات ِ‬ ‫صناع‬ ‫والواقع أننا س���وف يطالنا خ���راب عظيم على أيدي‬ ‫بالش���باك‬ ‫قلوبه���م‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫الت���ي نش���روها ف���ي قلوبهم مم���ا ال تبصره األعين وال تس���تمع‬ ‫إلي���ه اآلذان وال يتص���وره خيال اإلنس���ان‪ .‬فترش���دهم علومهم‬ ‫ومعارفه���م ومكتس���باتهم العالية فوق المس���تويات‪ ،‬إلى ما هو‬ ‫قابا‬ ‫أعل���ى‪ ،‬بل أعل���ى المعالي‪،‬‬ ‫ويؤم���ل ّ‬ ‫ّ‬ ‫كل منهم أن يك���ون ُع ً‬ ‫سماويا‪ .‬فهؤالء الذين يحيون حياة كهذه‪ ،‬ويجعلون أعمارهم‬ ‫ًّ‬

‫وإبان‬ ‫أجان���ب أغرارٍ ‪ ،‬لحين إعدادنا وتجهيزنا لهؤالء األبطال‪ّ .‬‬ ‫أيضا بصب أساطيرها القديمة‬ ‫ذلك‪ ،‬ستشتغل اإلنسانية جمعاء ً‬ ‫لملء فراغ القيم األزلية الكونية التي تبحث عنها بوجدانها فال‬ ‫تعث���ر عليه���ا بعقلها‪ ...‬فتتقل���ب من فقدان الطمأنين���ة إلى دوار‬ ‫األزمة‪ ،‬ومن دوار األزمة إلى تخريبات جديدة‪.‬‬

‫‪3‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )35‬‬


‫المقال الرئيس‬ ‫فتح اهلل كولن‬

‫فلسفة الحياة عندنا‬

‫يعيش قسم من البشر‪ ،‬من غير ممارسة للفكر‪،‬‬ ‫وقس���م آخر منهم يفكر ولكن ال يعكس فكره‬ ‫عل���ى واقع الحياة ق���ط‪ .‬أما ما ينبغ���ي‪ ،‬فهو أن‬ ‫يعي���ش اإلنس���ان وهو يفك���ر‪ ،‬وأن يبتكر أنما ًط���ا فكرية جديدة‬ ‫ركب���ات فكرية مختلف���ة‪ .‬والذين‬ ‫للعي���ش فيتفت���ح على آف���اق ُم ّ‬ ‫يعيش���ون من غي���ر فكر‪ُ ،‬هم ُدمى ُتم ّثل فلس���فة حياة لآلخرين‪.‬‬ ‫ه���ؤالء يلهثون للتغير من ش���كل إلى ش���كل وال يم ّلون تبديل‬ ‫قوالبه���م‪ ،‬ويضطرب���ون ما عاش���وا ف���ي االنحراف بين الش���عور‬ ‫والتمس���ح بي���ن الصورة‬ ‫والفك���ر‪ ،‬واالنـ���زالق في الش���خصية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫حظوظا حصل عليها المجتمع‪،‬‬ ‫حينا‬ ‫ً‬ ‫والسيرة‪ .‬وقد يتقاسمون ً‬ ‫حينا من توافق مجرى األمور ‪-‬وكأنها تترتب حسب‬ ‫ويستفيدون ً‬ ‫تفكيرهم وحسهم وإرادتهم‪ -‬لكنهم لن يريحوا أرواحهم البتة‬ ‫شبوا بها إلى العلى‪ ،‬ولن‬ ‫بالمحاسن والفضائل اإلرادية‪ ،‬ولن َي ّ‬ ‫يوجهوه���ا إل���ى الالنهاي���ة‪ .‬هؤالء يش���بهون ب َِرك الم���اء العقيمة‬ ‫والمحروم���ة م���ن البرك���ة والخام���دة والمعرضة إلى ا ُ‬ ‫ألس���ون‪.‬‬ ‫َ​َ‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )35‬‬

‫‪2‬‬

‫فال يبعد أن يتحولوا ‪-‬بمرور الزمان‪ -‬إلى مجمع للفيروس���ات‬ ‫وم���أوى للمكروب���ات‪َ ،‬ب ْل���ه أن يفي���دوا بش���يء باس���م الحيوية‪.‬‬ ‫ضح���ال‬ ‫وه���م‬ ‫رأي���ا‪ ،‬إلى درج���ة أطفال‬ ‫ٌ‬ ‫فك���را وس���طحيون ً‬ ‫ً‬ ‫وينج���رون وراء الطغام هنا‬ ‫يقل���دون كل م���ا يرون ويس���معون‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وهناك‪ ،‬وال يجدون س���انحة لإلحس���اس بأنفس���هم واإلنصات‬ ‫إلى دواخلهم وتمحيص قيمهم الذاتية‪ ...‬بل ال يش���عرون البتة‬ ‫بوج���ود قي���م تخصهم بأنفس���هم‪ .‬فيحيون كعبيد ألحاسيس���هم‬ ‫���خرون كل‬ ‫وي َس ِّ‬ ‫الجس���مانية والبدني���ة عبودي���ة ال انعت���اق منها‪ُ .‬‬ ‫شيء حصلوا عليه‪ ،‬ويحصلون‪ ،‬لخدمة الجسمانية في إطارها‬ ‫ويغي���رون أعظ���م األلط���اف التي وهبها اهلل لإلنس���ان‪،‬‬ ‫الضي���ق‪ّ ،‬‬ ‫كالقل���ب واإلرادة والح���س والش���عور‪ ،‬إل���ى وس���ائل رخيص���ة‬ ‫لملذاته���م البدني���ة‪ ،‬ويقض���ون أعماره���م في بوهيمي���ة‪ .‬المقام‬ ‫والمنصب والش���هرة والمنفعة والحرص على الحياة‪ ،‬من أهم‬ ‫عين حرك���ة هؤالء وفعالياتهم‪ .‬وس���واء َأ َعرفوا‬ ‫العوام���ل التي ُت ّ‬ ‫أم ل���م يعرف���وا‪ ،‬فهم يقعون كل يوم ف���ي واحد أو أكثر من هذه‬


‫المحتويات‬ ‫ فلسفة الحياة عندنا  ‪ /‬فتح اهلل كولن (املقال الرئيس) ‬ ‫أسرار الدموع  ‪ /‬د‪ .‬حممد السقا عيد (علوم) ‬ ‫ التمثل واإلبداع في العمارة اإلسالمية  ‪ /‬أ‪.‬د‪ .‬بركات حممد مراد (ثقافة وفن) ‬ ‫من القرآن إلى العمران  ‪ /‬أ‪.‬د‪ .‬الشاهد البوشيخي (قضايا فكرية) ‬ ‫ موقع رسائل النور من الفكر اإلسالمي الحديث  ‪ /‬د‪ .‬مهدية أمنوح (قضايا فكرية) ‬ ‫معرفة اهلل  ‪ /‬حراء (ألوان وظالل) ‬ ‫ الحوت األزرق‪ ..‬عمالق البحار والميحطات ‪ /‬أ‪.‬د‪ .‬عرفان يلماز (علوم) ‬ ‫آليات بناء ثقافة الوسطية  ‪ /‬د‪ .‬مرمي آيت أمحد (قضايا فكرية )‬ ‫ عرض حال  ‪ /‬أديب إبراهيم الدباغ (أدب) ‬ ‫أسس القيادة واإلدارة في ضوء قصة ذي القرنين ‪ /‬د‪ .‬السيد حامد السيد (قضايا فكرية) ‬ ‫ ترجمة الفكر‪ ..‬من "بيت الحكمة" إلى "غوغل"  ‪ /‬طه كوزي (قضايا فكرية) ‬ ‫كيف يصل  ‪ /‬حراء (ألوان وظالل) ‬ ‫المسلم وإعالم اآلخر بين "السماع" و"االستماع" ‪ /‬د‪ .‬فؤاد البنا (قضايا فكرية) ‬ ‫الوعي الحضاري‪ ..‬فاعلية وتمكين وشهود  ‪ /‬د‪ .‬جاسم سلطان (قضايا فكرية) ‬ ‫صدأ القلوب ‪ /‬د‪ .‬سعاد الناصر (أدب) ‬ ‫التربية اإلسالمية والبعد اإلستراتيجي لقضايا التنمية  ‪ /‬د‪ .‬خالد الصمدي (تربية) ‬ ‫كعبة الروح ‪ /‬حراء (ألوان وظالل) ‬ ‫دروس الحضرة السلطانية  ‪ /‬متني رئيس (تاريخ وحضارة) ‬ ‫السودان‪ ..‬محاورات على ضفاف النيلين  ‪ /‬د‪ .‬حممد باباعمي (أنشطة ثقافية )‬ ‫سلطان أمام القضاء  ‪ /‬نور الدين صواش (حمطات حضارية) ‬ ‫في الماء وال يتبلل  ‪ /‬نور الدين صواش (حمطات علمية) ‬

‫‪2‬‬ ‫‪6‬‬ ‫‪11‬‬ ‫‪15‬‬ ‫‪17‬‬ ‫‪20‬‬ ‫‪21‬‬ ‫‪25‬‬ ‫‪30‬‬ ‫‪31‬‬ ‫‪36‬‬ ‫‪38‬‬ ‫‪39‬‬ ‫‪43‬‬ ‫‪47‬‬ ‫‪49‬‬ ‫‪52‬‬ ‫‪53‬‬ ‫‪56‬‬ ‫‪62‬‬ ‫‪63‬‬


‫االفتتاحية‬ ‫جوهر الحياة‬

‫يمد عجلة الحي���اة بالدوران‪ ،‬ومن‬ ‫التفكي���ر جوه���ر الحياة‪ ،‬بل ه���و "الداينمو" الذي ُّ‬

‫دونه تغدو الحياة ش���احبة باهتة‪ ،‬باردة برودة الموت‪ ،‬وس���اكنة سكونه وصامتة صمته‪..‬‬ ‫وف���ي مقال���ه القيم "فلس���فة الحي���اة عندنا" يجلي "فت���ح اهلل كولن" هذا المعن���ى ويتناوله‬ ‫مبي ًن���ا أن حاجاتنا إلى "التفكير تضاهي حاجتن���ا إلى الهواء الذي‬ ‫م���ن جوان���ب مختلفة‪ّ ،‬‬

‫نتنفس���ه"‪ ،‬وأن األمة التي ال تفكر‪ ،‬فإنها في الحقيقة ال تحيا‪ ،‬أو تحيا ولكن على فتات‬

‫العدد‪35:‬‬ ‫السنة الثامنة‬ ‫(مارس ‪ -‬أبريل) ‪2013‬‬

‫أف���كار اآلخري���ن‪ .‬وهذا الفتات ربما يك���ون قد تع ّفن منذ زمن بعي���د‪ ،‬فنحن إذا تناولناه‬ ‫فإنما نتناول ما يزيد في أمراضنا الفكرية والروحية وال يعمل على ش���فائنا منها‪ ،‬وهذا‬

‫األمر معلوم ومحس���وس‪ ،‬فبها نحش���ي عقول أجيالنا من أف���كار هي خليط عجيب من‬

‫ثقافات وأفكار ليس فيها من التجانس ما يجعلها سائغة القبول عند الكثير من األذهان‬ ‫كثيرا ما يؤلم ويبكي "األستاذ" ويؤلمنا ويبكينا على إثره‪ ،‬فنذرف‬ ‫المتفتحة‪ ،‬وهذا األمر ً‬

‫مدرارا‪.‬‬ ‫الدمع ونسكبه‬ ‫ً‬

‫ف���إذا بـ"محم���د الس���قا عيد" يحدثنا حديث العلم عن "أس���رار الدم���وع" التي تذرفها‬

‫عيونن���ا إذا ما حزنا أو فرحنا س���واء‪ ،‬ويجلي لنا الكثير من أس���رار ه���ذه الدموع التي قد‬ ‫ال ألمراض كثيرة تنتاب العين في أوقات مختلفة‪ .‬وإذا‬ ‫تكون في بعض األحايين غس���ي ً‬

‫ال غاية ف���ي اإلمتاع عن‬ ‫م���ا كففن���ا دموعن���ا رأينا "بركات محم���د مراد" وهو يكت���ب مقا ً‬ ‫"التمثل واإلبداع في العمارة اإلس�ل�امية" التي تش���كل أعظم معالم الحضارة اإلسالمية‬ ‫وإبداعاتها في األدب والفكر والفن‪ .‬وكأن مقال البوش���يخي "من القرآن إلى العمران"‬

‫متمم وموضح فلسفة هذا اإلبداع الفني وجذوره األولى في كتاب اهلل القرآن الكريم؛‬ ‫فيتحدث عن "الفكر العمراني" في القرآن الكريم إذا صح التعبير‪.‬‬

‫و"مريم آيت أحمد"‪ ،‬تتحدث عن "آليات بناء ثقافة الوس���طية"‪ ،‬وهو مقال يش���كل‬

‫لبنة من لبنات البناء الثقافي الوسطي الذي تسعى الكثير من األقالم إلى تناوله وتناول‬

‫آليات���ه وطرائ���ق بنائ���ه‪ .‬أم���ا "الس���يد حامد الس���يد"‪ ،‬فف���ي مقال���ه المبتكر "أس���س القيادة‬ ‫واإلدارة" يستقرئ معطيات قصة ذي القرنين المليئة باالستنهاضات والتحفيزات‪ ،‬لكي‬

‫يفيد من مدلوالتها أولئك المتصدون للقيادة واإلدارة في كل ش���أن من ش���ؤون الحياة‪.‬‬ ‫و"جاس���م س���لطان" يتحدث عن مقاربة المفاهيم وعن الوعي وعن الحضارة وعن‬

‫الفاعلية والتمكين‪ .‬ويأتي بعد ذلك كله مقال "خالد الصمدي" عن "التربية اإلس�ل�امية‬

‫يصب كذلك في المنحى الحضاري نفس���ه‬ ‫والبعد اإلس���تراتيجي لقضايا التنمية"‪ ،‬وهو‬ ‫ّ‬ ‫الذي س���بق الحديث عنه‪ .‬وفي حقل "األنش���طة الثقافية" يس���تعرض لنا محمد باباعمي‬ ‫نش���اط مجلة حراء في الس���ودان‪ ،‬فيتحدث عن الملتقيات والندوات التي أقيمت هناك‬

‫لتعري���ف رج���ال الفكر والرأي بمجلة "حراء" وبخطها الفكري الوس���طي‪ ،‬وهو مس���ك‬

‫الختام في هذا االستعراض‪.‬‬


‫العدد‪ / 35 :‬السنة الثامنة ‪( /‬مارس ‪ -‬أبريل) ‪2013‬‬ ‫مجلة علمية فكرية ثقافية تصدر كل شهرين من إسطنبول‬

‫‪w w w. h i r a m a g a z i n e . c o m‬‬

‫حرقة ورواء‬ ‫مكتوي الفؤاد‪،‬‬ ‫بجميعه‪ ..‬يتحدى اللظى‪،‬‬ ‫وإن المشهد‪ ..‬مضبَّبًا للعين بدا‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫فمن أجل إرواء الظامئين‪..‬‬ ‫في النيران اصطلى‪..‬‬ ‫***‬

‫فلسفة الحياة عندنا‬

‫الوعي الحضاري‬

‫محاورات على ضفاف النيلين‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.