Hira Magazine 37

Page 1

‫ُحلم ومكابدات‬ ‫أن تضيّعوا نورا ملكناه‪ ..‬حذارِ!‪..‬‬ ‫حلم جميل قرونا انتظرناه‪،‬‬ ‫حذارِ‪ٌ ..‬‬ ‫الشيطان منا مذ سنين وسنين‪،‬‬ ‫اِستلّه‬ ‫ُ‬ ‫مرنا ِضيا ُه‪،‬‬ ‫حلم المستقبل هو‪َ ...‬غ َ‬ ‫حذارِ! حذا ِر أن تُط ِفئوا َسنا ُه‪...‬‬ ‫***‬

‫‪37‬‬


‫ • عصارات فكر‪ ..‬وتنزالت روح‪...‬‬ ‫• رؤى أعماقية‪ ..‬وأبعادً ا آفاقية‪...‬‬ ‫• المسلم في آماله وآالمه‪..‬‬

‫ • في خريفه الشجي‪ ..‬وربيعه المعطاء السخي‪...‬‬ ‫• حزمة أشجان‪ ..‬مع باقة أفكار‪...‬‬

‫ • ذات المسلم‪ ..‬تاريخها‪ ..‬تشكالتها‪...‬‬

‫سر حياته‪ ..‬وما سرّ سرمديته‪..‬؟!‬ ‫ • التاريخ‪ ..‬ما ُّ‬

‫مركز التوزيع فرع القاهرة ‪ 7 :‬ش البرامكة‪ ،‬الحي السابع‪ ،‬مدينة نصر ‪ -‬القاهرة ‪ /‬مصر‬

‫تليفون وفاكس ‪+20226134402-5 :‬‬

‫الهاتف الجوال ‪+201004871038 :‬‬

‫‪w w w. d a r a l n i l e . c o m‬‬


‫التصور العام‬

‫جملة علمية فكرية ثقافية تصدر كل‬ ‫شهرين عن‪:‬‬

‫• حراء جملة علمية فكرية ثقافية تعىن بالعلوم الطبيعية واإلنسانية واالجتماعية وحتاور أسرار النفس البشرية وآفاق‬ ‫الكون الشاسعة باملنظور القرآين اإلمياين يف تآلف وتناسب بني العلم واإلميان‪ ،‬والعقل والقلب‪ ،‬والفكر والواقع‪.‬‬ ‫• جتمع بني األصالة واملعاصرة وتعتمد الوسطية يف فهم اإلسالم وفهم الواقع‪ ،‬مع البعد عن اإلفراط والتفريط‪.‬‬ ‫• تؤمن باالنفتاح على اآلخر‪ ،‬واحلوار البناء واهلادئ فيما يصب لصاحل اإلنسانية‪.‬‬ ‫• تسعى إىل املوازنة بني العلمية يف املضمون واجلمالية يف الشكل وأسلوب العرض‪ ،‬ومن مث تدعو إىل معاجلة املواد‬ ‫مبهنية عالية مع التبسيط ومراعاة اجلوانب األدبية واجلمالية يف الكتابة‪.‬‬

‫صاحب االمتياز‬

‫شروط النشر‬

‫املشرف العام‬

‫• أن يكون النص املرسل جديدا مل يسبق نشره‪.‬‬ ‫• أال يزيد حجم النص على ‪ 2000‬كلمة كحد أقصى‪ ،‬وللمجلة أن تلخص أو ختتصر النصوص اليت تتجاوز احلد‬ ‫املطلوب‪.‬‬ ‫• يرجى من الكاتب الذي مل يسبق له النشر يف اجمللة إرسال نبذة خمتصرة عن سريته الذاتية‪.‬‬ ‫• ختضع األعمال املعروضة للنشر ملوافقة هيئة التحرير‪ ،‬وهليئة التحرير أن تطلب من الكاتب إجراء أي تعديل على‬ ‫املادة املقدمة قبل إجازهتا للنشر‪.‬‬ ‫• اجمللة غري ملزمة بإعادة النصوص إىل أصحاهبا نشرت أم مل تنشر‪ ،‬وتلتزم بإبالغ أصحاهبا بقبول النشر‪ ،‬وال تلتزم‬ ‫بإبداء أسباب عدم النشر‪.‬‬ ‫• حتتفظ اجمللة حبقها يف نشر النصوص وفق خطة التحرير وحسب التوقيت الذي تراه مناسبا‪.‬‬ ‫تعب بالضرورة عن رأي اجمللة‪.‬‬ ‫تعب عن آراء ُكتَّاهبا‪ ،‬وال رِّ‬ ‫• النصوص اليت تنشر يف اجمللة رِّ‬ ‫مجا إىل أي لغة أخرى‪،‬‬ ‫• للمجلة حق إعادة نشر النص منفصلاً أو ضمن جمموعة من البحوث‪ ،‬بلغته األصلية أو مرت ً‬ ‫دون حاجة إىل استئذان صاحب النص‪.‬‬ ‫• جملة حراء ال متانع يف النقل أو االقتباس عنها شريطة ذكر املصدر‪.‬‬ ‫ يرجى إرسال مجيع املشاركات إىل هيئة حترير اجمللة على العنوان اآليت‪:‬‬

‫‪hira@hiramagazine.com‬‬ ‫‪YEMEN‬‬ ‫دار النشر للجامعات‬ ‫الجمهورية اليمنية‪ ،‬صنعاء‪ ،‬الخط الدائري الغربي‪،‬‬ ‫أمام الجامعة القديمة‬ ‫‪Phone: +967 1 440144‬‬ ‫‪GSM: +967 711518611‬‬ ‫‪ALGERIA‬‬ ‫‪Bois des Cars 1 Villa Nº68 Dely Brahim‬‬ ‫‪GSM: +213 770 26 00 27‬‬ ‫‪SUDAN‬‬ ‫مركز دار النيل‪ ،‬مكتب اخلرطوم‬ ‫أركويت مربع ‪ 48‬منـزل رقم ‪ - 31‬اخلرطوم ‪ -‬السودان‬ ‫‪Phone: 0024 999 559 92 26 - 0024 915 522 24 69‬‬ ‫‪hirasudan@hotmail.com‬‬ ‫‪JORDAN‬‬ ‫شركة زوزك‪/‬مشيساين شارع عبد احلميد شرف‪ ،‬بناية رقم‪61:‬‬ ‫عمان‪/‬األردن‪.‬‬ ‫‪Phone: +962 656 064 44‬‬ ‫‪GSM: +962 775 935 756‬‬ ‫‪hirajordan@woxmail.com‬‬ ‫‪UNITED ARAB EMIRATES‬‬ ‫دار الفقيه للنشر والتوزيع‬ ‫ص‪.‬ب‪ 6677 .‬أبو ظبي‬ ‫‪Phone: +971 266 789920‬‬ ‫‪MAURITANIA‬‬ ‫‪Phone: +2223014264‬‬

‫‪USA‬‬ ‫‪Tughra Books‬‬ ‫‪345 Clifton Ave., Clifton,‬‬ ‫‪NJ, 07011, USA‬‬ ‫‪Phone:+1 732 868 0210‬‬ ‫‪Fax:+1 732 868 0211‬‬ ‫‪SAUDI ARABIA‬‬ ‫الوطنية للتوزيع‬ ‫‪Phone: +966 1 4871414‬‬ ‫املكتب الرئيسي‪ :‬شارع التخصصي مع تقاطع شارع‬ ‫األمري سلطان بن عبد العزيز عمارة فيصل السيار‬ ‫ص‪.‬ب‪ 68761 :‬الرياض‪11537 :‬‬ ‫اجلوال‪00966504358213 :‬‬ ‫‪saudia@hiramagazine.com‬‬ ‫‪abdallahi7@hotmail.com‬‬ ‫‪Phone-Fax: +966 1 2815226‬‬ ‫‪MOROCCO‬‬ ‫الدار البيضاء ‪ 70‬زنقة سجلماسة‬ ‫‪Société Arabo-Africaine de Distribution,‬‬ ‫)‪d'Edition et de Presse (Sapress‬‬ ‫‪70, rue de Sijilmassa, 20300 Casablanca / Morocco‬‬ ‫‪Phone: ‎+212 22 24 92 00‬‬ ‫‪EGYPT‬‬ ‫‪ 37‬شارع د‪ .‬عبد الشافي محمد ‪ -‬الحي السابع‪ ،‬مدينة نصر ‪ -‬القاهرة‪.‬‬ ‫هاتف‪+201119482609 - +201065523089 :‬‬ ‫‪hiraegypt@gmail.com‬‬ ‫‪SYRIA‬‬ ‫‪GSM: ‎+963 955 411 990‬‬

‫‪Işık Yayıncılık Ticaret A.Ş‬‬ ‫‪İstanbul / Türkiye‬‬

‫مصطفى طلعت قاطريجي أوغلو‬

‫نوزاد صواش‬

‫‪nsavas@hiramagazine.com‬‬

‫رئيس التحرير‬ ‫هانئ رسالن‬

‫مدير التحرير‬ ‫أجري أشيوك‬

‫املخرج الفين‬ ‫مراد عرباجي‬

‫املركز الرئيس‬ ‫‪HIRA MAGAZINE‬‬ ‫‪Kısıklı Mah. Meltem Sok.‬‬ ‫‪No:5 34676‬‬ ‫‪Üsküdar‬‬ ‫‪İstanbul / Turkey‬‬ ‫‪Phone: +902163186011‬‬ ‫‪Fax: +902164224140‬‬ ‫‪hira@hiramagazine.com‬‬

‫مركز التوزيع‬ ‫‪ 7‬ش الربامكة ‪ -‬احلي السابع ‪ -‬م‪.‬نصر‪/‬القاهرة‬ ‫تليفون وفاكس‪+20226134402-5 :‬‬ ‫اهلاتف اجلوال ‪+201004871038 :‬‬ ‫مجهورية مصر العربية‬

‫نوع النشر‬ ‫جملة دورية دولية‬

‫‪Yayın Türü‬‬ ‫‪Yaygın Süreli‬‬

‫الطباعة‬

‫رقم اإليداع‬

‫‪1879-1306‬‬

‫لالشرتاك من كل أحناء العامل‬ ‫‪pr@hiramagazine.com‬‬


‫محطات علمية‬

‫سمك القرش‪ ..‬تصميم عجيب‬ ‫قرأت في إحدى الجرائد‪ ،‬أن إحدى ش���ركات‬

‫عل���ى كمي���ة أكبر من األكس���يجين؛ وذلك من خالل خياش���يمه‬

‫وأن ه���ذا الكس���اء متع���دد الوظائ���ف؛ يقل���ل‬

‫الش���قوق الطويل���ة أو األخادي���د الدقيقة في جل���ده على جانبي‬

‫الطيران "تكسو طائراتها بجلد سمك القرش"‬ ‫االحتكاك بالهواء ويزيد السرعة"(‪.)1‬‬

‫الت���ي تمت���ص األكس���جين م���ن فقاع���ات الم���اء ال���ذي يمر من‬

‫رأس���ه‪ ...‬واكتش���فوا كذلك أن س���مك القرش‪ ،‬ال يملك كيس‬

‫معمقة حول "سمك القرش" ليعرفوا‬ ‫أجرى العلماء دراس���ات ّ‬

‫ع���وم هوائي ‪-‬وهو كيس يس���اعد معظم األس���ماك عل���ى البقاء‬ ‫ٍ‬ ‫بكب���د يمتلئ بالزيت‪،‬‬ ‫ف���ي عمق معي���ن دون غرق‪ -‬إنما ُع ّوض‬ ‫والزيت بطبيعته أخف من الماء‪ ،‬وال شك أن هذا األمر‪ ،‬يسهل‬

‫له‪ ...‬فذهلوا بالتصميم العجيب المتكامل لهذا المخلوق‪ ...‬إذ‬ ‫ٍ‬ ‫رصي ِة الشكل تؤدي‬ ‫وجدوا أن جس���مه مكسو بقشورٍ صغيرة ُق ّ‬ ‫إلى تقس���ية الجلد وإكس���ابه الجفاف على الدوام‪ ...‬ثم انتبهوا‬

‫يريده‪ .‬ولكن الملفت للنظر أن على هذا المخلوق‪ ،‬أن يس���بح‬

‫ُترى ما السبب في اختيار سمك القرش لهذا الغرض؟!‬

‫تحركه السريع في الماء‪ ،‬والسر في مقاومته‬ ‫السر الكامن وراء ّ‬

‫ذي�ل�ا هاللي‬ ‫إل���ى أن ه���ذا الق���رش الش���بيه بالص���اروخ‪ ،‬يملك ً‬ ‫َّ‬ ‫الش���كل ج���زؤه األعل���ى أطول من جزئ���ه األس���فل‪ ...‬وانتبهوا‬ ‫كذل���ك إل���ى تمتع ه���ذا المخلوق بزعان���ف جانبي���ة تحفظ له‬

‫التوازن خالل السير السريع‪.‬‬

‫ويمكن���ه ‪-‬بالتالي‪ -‬م���ن البقاء ف���ي العمق الذي‬ ‫علي���ه الس���باحة‬ ‫ّ‬ ‫بش���كل متواص���ل ليقي نفس���ه من فق���دان التوازن وم���ن ثم من‬

‫الغرق والهالك‪.‬‬

‫وه���ل إكس���اء الطائرات برقائ���ق صناعية‪ ،‬أو تصاميم س���يارات‬

‫الفورموال ‪ 1‬لتسير بس���رعة تتجاوز سرعة السيارات األخرى‪،‬‬ ‫إال محاكاة للقرش ومحاكاة لتصميمه العجيب؟!‬

‫تمد هذا المخلوق بالقوة الفائقة‬ ‫هذه وغيرها من العوامل‪ّ ،‬‬

‫(*) كاتب وباحث تركي‪.‬‬

‫كما أن س���مك القرش كلما أس���رع في الس���ير كلما حصل‬

‫فبراير ‪2013‬م‪.‬‬

‫والسرعة التي تصل إلى ‪ 80‬كلم في الساعة الواحدة‪.‬‬

‫(‪ )1‬جري���دة الش���رق األوس���ط‪ ،‬الع���دد‪ 5 ،12499 :‬ربيـع الثانـ���ي ‪1434‬هـ‪16-‬‬

‫‪63‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )37‬‬


‫محطات حضارية‬ ‫نور الدين صواش*‬

‫"نادر آغا" مرافق الس���لطان عبد الحميد الثاني‬

‫يحكي لنا هذه القصة التي عاشها بنفسه‪ .‬يقول‪:‬‬ ‫موظ���ف يعم���ل برات���ب ضئيل في مؤسس���ات‬

‫قرش���ا‪ ،‬إذ ل���م يكن ه���ذا الرات���ب يكفيه‬ ‫الدول���ة مق���داره ‪ً 500‬‬

‫إلعاشته وإعاشة أهله‪ ...‬زوجته حامل ووشيكة على الوالدة‪...‬‬ ‫وفي ليل ِة شتا ٍء قارس تبدأ فجأة آالم المخاض والتوجعات‪...‬‬ ‫يرتب���ك الرج���ل ول���م يعرف م���اذا يفع���ل‪ ،‬إذ لم يك���ن لحظتها‬

‫واح���دا‪ ...‬كيف س���يحضر الطبي���ب؟ ومن‬ ‫درهم���ا‬ ‫يمل���ك وال‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أي���ن س���يأتي ل���ه بالنقود؟ وهو يدور في وس���ط الغرف���ة بانفعال‬

‫وقلق‪ ،‬يهديه تفكيره إلى االتصال بقصر السلطان‪ُ ...‬يسرع إلى‬ ‫البريد ويرسل برقية إلى السلطان يعرض فيها حالته المأساوية‬

‫ويطلب منه اإلعانة والنصرة العاجلة‪.‬‬

‫وف���ي الليلة نفس���ها تصل البرقية إلى القص���ر‪ ،‬ويتم عرضها‬

‫إلى السلطان مباشرة‪ .‬يقول "نادر آغا"‪:‬‬

‫شديدا مما سمع‪ ،‬فلم‬ ‫تأثرا‬ ‫ً‬ ‫تأ ّثر السلطان عبد الحميد الثاني ً‬

‫فشد الرسالة من يد القارئ وبدأ يمرر نظره عليها‬ ‫يعد يتحمل‪ّ ،‬‬

‫واصفر لونه من شدة الخطب‪...‬‬ ‫تغيرت مالمحه‬ ‫بحزن ّ‬ ‫وغم‪ّ ...‬‬ ‫ّ‬

‫أعني‬ ‫رب���اه‪ّ ...‬‬ ‫أط���رق رأس���ه ثم قال وعيون���ه مغرورقة بالدموع‪ّ :‬‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )37‬‬

‫‪62‬‬

‫على مؤازرة هؤالء المساكين‪ ،‬وال تجعلني من الرعاة الذين ال‬ ‫رباه‪...‬‬ ‫رباه‪ّ ...‬‬ ‫يبالون برعيتهم‪ ،‬وال يهتمون بأمورهم‪ّ ...‬‬ ‫أجهز س���يارة إس���عاف القصر على الفور‪ ،‬وأن‬ ‫ثم أمرني أن ّ‬ ‫آخ���ذ طبيب القصر الخاص به‪ ،‬وبعض الممرضات والدايات‪،‬‬ ‫تلبي���ة لنج���دة ذلك المس���كين‪ ...‬وطلب من���ي أن أخبره بكل ما‬ ‫يحدث بالسرعة القصوى‪.‬‬ ‫فأخ���ذت معي ِ‬ ‫"باس���م عمر" طبيب القصر‪ ،‬و"جميل باش���ا"‬ ‫ُ‬ ‫جميع���ا نحو بيت‬ ‫مس���ير ش���ؤون القص���ر‪ ،‬والداي���ات‪ ،‬واتجهنا‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫الرجل مسرعين‪.‬‬ ‫وجدت السلطان عبد‬ ‫عدت إلى القصر قبيل الفجر‪،‬‬ ‫وعندما‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫الحمي���د ينتظرني بفارغ الصب���ر‪ ،‬كان اإلرهاق والتعب باد عليه‬ ‫بس���بب التفكير بحال الرجل الفقير ومصي���ر زوجته الحامل‪...‬‬ ‫ذكرا وجهه كالب���در ليلة التمام‪ ،‬وأن‬ ‫ّ‬ ‫فبش���رته ب���أن المرأة َو ْ‬ ‫لدت ً‬ ‫س���ماه عبد الحمي���د‪ ،‬وأن المرأة بكمال الصح���ة والعافية‪،‬‬ ‫أب���اه ّ‬ ‫لك بالخير وطول العمر‪ ...‬عندها أشرق وجهه‬ ‫وأنهما يدعوان َ‬ ‫بابتس���امة‪...‬حمد اهلل وأثن���ى عليه على م���ا أواله من نعمة‪ ...‬ثم‬ ‫بهدوء دخل إلى غرفته لالستراحة‪.‬‬ ‫(*) نشرت في جريدة "ترجمات" في ‪ 9‬يناير ‪.1975‬‬


‫ف���ي الجلس���ة العلمي���ة الختامية الت���ي أدارها األس���تاذ "نوزاد‬

‫ص���واش"‪ ،‬أح���ال الكلم���ة ف���ي مس���تهلها إل���ى الدكت���ور "محمد‬

‫المس���تيري" رئي���س تحري���ر مجل���ة "رؤى"؛ حي���ث ّنب���ه األس���تاذ‬

‫المحاض���ر إل���ى أن أزمة عال���م المس���لمين اليوم "أزمة إنس���ان"‪،‬‬ ‫والت���ي تجعلنا أمام تحديات جوهرية‪ ،‬وهي تحرير اإلنس���ان من‬ ‫أي���ة عبودي���ة مادية أو جس���مانية أو اس���تهالكية أو إيديولوجية‪...‬‬

‫تكمن في استعباد الرأسمال اإلنساني‬ ‫وأشار إلى أن هذه األزمة ْ‬

‫لحس���اب الرأس���مال الم���ادي‪ ،‬ويع���د ه���ذا التح���دي م���ن أخطر‬ ‫التحدي���ات الت���ي تعترض مس���يرة حركات التجدي���د واالنبعاث‪.‬‬

‫أ‪.‬د‪ .‬أحمد قعلول‪ ،‬تونس‪.‬‬

‫بعده���ا ّنب���ه األس���تاذ "نوزاد" إل���ى مالحظة مفرقية وه���ي أن أكثر‬ ‫الخير لمش���روع‬ ‫م���ا يضير األس���تاذ "فت���ح اهلل كولن" نس���بة األثر ّ‬

‫ش���ركا باهلل‪ ...‬فاألنسب‬ ‫ويعتبر هذا الفعل‬ ‫ً‬ ‫الخدمة إلى ش���خصه‪َ ،‬‬ ‫حس���ب رؤية األس���تاذ "فتح اهلل" نس���بة الخير إلى ما أس���مى اهلل‬

‫ب���ه عب���اده "ه���و الذي س���ماكم المس���لمين م���ن قبل"‪ .‬بع���د ذلك‬

‫تص���در الدكت���ور "محم���د باباعم���ي" مدي���ر معه���د المناه���ج في‬ ‫ّ‬ ‫الجزائ���ر متحد ًثا عن المس���ؤولية األخالقية التي ينبغي للمس���لم‬ ‫مفرغا من‬ ‫ويركب‪ ،‬فإن كان‬ ‫ويف���كك‬ ‫أن يتحل���ى بها وهو يح ّلل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬

‫حصيدا بع���د ذلك‪ ،‬أما إن‬ ‫والهم الحض���اري صار الفعل‬ ‫التوت���ر‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫متوت���را انطلق الفعل وأثمر‪ ...‬وأبان‬ ‫كان القل���ب محتر ًقا والعقل‬ ‫ً‬ ‫األس���تاذ المحاضر ع���ن أن المنظومة المهيمنة قائمة على إغراق‬ ‫العق���ل والقلب في الجزئيات والتفاصيل‪ ،‬وأن العقل والوجدان‬

‫المس���لم ال يمكن���ه بن���اء الفع���ل إال م���ن خ�ل�ال بناء قواع���د كلية‬ ‫عددا من القواعد‬ ‫ود ّلل على ذلك ً‬ ‫الس���ير‪َ ...‬‬ ‫تؤطر النظر وتوجه َ‬

‫الكلي���ة م���ن جن���س "الخيرية رهين���ة بصفاته���ا"‪" ،‬تصفي���ر الذات‬ ‫ونكران الذات"‪ ...‬وختم اللقاء األستاذ "جمال ترك" مدير مركز‬

‫الدراس���ات األكاديمية‪ ،‬بطلب من األستاذ "نوزاد"‪ ،‬برواية حادثة‬ ‫ه���و الش���اهد الوحيد عليها حي���ن دخل مكتبة األس���تاذ "فتح اهلل‬

‫كتابا قرأه‪ :‬فنظر إليه "األس���تاذ" بنظرة مدققة‬ ‫ليص َّ‬ ‫كول���ن" ُ‬ ‫ف به���ا ً‬ ‫ثاقبة‪ ،‬ثم أخذ األستاذ الكتاب بيده ‪-‬وكان الكتاب عنوانه‪ :‬حياة‬ ‫الصحابة‪ -‬وخاطب األس���تاذ "جمال"‪" :‬يا جمال‪ ،‬لطالما وددت‬ ‫أن أق���ول ل���ك وإلخوانك‪ :‬كونوا مثل ه���ؤالء أو موتوا"‪ .‬وع ّقب‬

‫ال‪ :‬فلم نستطع أن نكون وال أن‬ ‫األستاذ "جمال" بعد الحادثة قائ ً‬

‫ال‪ ،‬وعلى قارئ هذه‬ ‫نموت"‪ ،‬ولعل الس���ؤال يطرح نفسه علي أو ً‬ ‫َّ‬ ‫ثانيا‪ :‬فهل ُك َّنا؟ وإن لم نكن فهلاَّ فعلنا؟ وإال فهل‪...‬‬ ‫األسطر ً‬ ‫(*) كاتب وصحفي ومدير تنفيذي‪ ،‬معهد المناهج ‪ /‬الجزائر‪.‬‬

‫‪61‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )37‬‬


‫التنبه إلى أن الث���ورة الداخلية‬ ‫أن دع���اة اإلص�ل�اح ينبغي عليه���م ُّ‬ ‫عل���و البنيان الحض���اري‪ .‬بعد ذلك‬ ‫التربوي���ة الهادئ���ة ه���ي مقدمة‬ ‫ّ‬ ‫تصدر الكلمة الدكتور "عبد الرزاق قسوم" رئيس جمعية العلماء‬

‫نحت‬ ‫لينبه إلى قضايا محورية منها منهج ْ‬ ‫المسلمين الجزائريين‪ّ ،‬‬ ‫المصطلح عند األستاذ "فتح اهلل كولن" وكيف يو ّلد منها األستاذ‬

‫أ‪.‬د‪ .‬علي مبارك‪ ،‬تونس‪.‬‬

‫مفاهي���م تلي���دة؛ ومنه���ا "الجي���ل الذهب���ي"‪ ،‬و"الجه���اد األبيض"‪،‬‬ ‫وتش���ر ٍب‬ ‫ينبئ عن صفا ٍء للذهن‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫وأضاف أن مفهوم "المعقولية" ّ‬ ‫لمعان���ي القرآن الكري���م الذي ُيعد المنطلق ف���ي بنائه الحضاري‬ ‫وال���ذي يتس���م بـ"الفعالي���ة"‪ ،‬و"اإليجابي���ة"‪ ،‬و"الش���مولية"‪ .‬تل���ت‬

‫ه���ذه اإلطاللة مداخل���ة للدكتور "علي مبارك" ح���ول نماذج من‬ ‫اإلص�ل�اح في تونس خالل القرن التاس���ع عش���ر‪ ،‬حيث ّنبه إلى‬ ‫بعضا‪،‬‬ ‫معضل���ة حقيقي���ة هي جهل المس���لمين بتج���ارب بعضهم ً‬ ‫ولعل من حس���نات ن���دوة اليوم‪ ،‬ربط أواص���ر األمة وفتل حبائل‬

‫تواصله���ا من جديد‪ ...‬وقد عالج الدكتور في مداخلته إش���كالية‬

‫خيمت على المجتمعات اإلس�ل�امية‪ ،‬وزادت‬ ‫"المرجعي���ة" التي ّ‬ ‫مش���اريع التجدي���د واالنبع���اث "غربة"‪ ...‬وفي خت���ام حديثه أكد‬

‫أ‪.‬د‪ .‬صفوت خليلوفيتش‪ ،‬البوسنة والهرسك‪.‬‬

‫عل���ى مباح���ث محورية تس���تحق التدقيق والبت فيه���ا والتفعيل‪،‬‬ ‫منها "ش���مولية المشروع اإلصالحي وحضوره في شتى مفاصل‬

‫الحياة"‪ ،‬و"االستناد إلى المقاصد والكليات"‪ ،‬و"محورية القرآن‬ ‫ف���ي البناء الحض���اري"‪ ،‬و"تزكية النفس وتهذيبها"‪ .‬من جهته ّأكد‬ ‫الدكت���ور "عمار جيدل" أس���تاذ العقيدة ومقارن���ة األديان بجامعة‬

‫الجزائ���ر أثن���اء مداخلته‪ ،‬عل���ى داللة "التلطف" التي يس���تند إليها‬ ‫فكر األس���تاذ "فتح اهلل كولن"‪ ،‬ويتوقف عليها مش���روع الخدمة‪،‬‬ ‫ف���ي تجاوز "الص���دام" والج���دل ح���ول "الجزئي���ات"‪ ،‬واالرتقاء‬

‫إل���ى التضل���ع ب���أداء أكثر فعالية ف���ي مختلف مفاص���ل الحياة‪...‬‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬محمد باباعمي‪ ،‬الجزائر‪.‬‬

‫ونب���ه الدكت���ور إلى قضية هام���ة جوهرها أن م���ن خصائص رائد‬ ‫ّ‬ ‫���ل خصائ���ص األمة‬ ‫"اإلص�ل�اح" و"التجدي���د" و"االنبع���اث" تم ُّث َ‬

‫لتجتمع حوله األمة‪ ...‬كما أشار األستاذ إلى داللة "تجنين الزمن"‬ ‫عن���د األس���تاذ "فتح اهلل"‪ ،‬الت���ي تدفع فاتورتها األم���ة إن خال َفت‬

‫خي���ارات "رواد اإلص�ل�اح" إحداثيات الزم���ان ودواعي المكان‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫وف���ي ش���هادة حية له ع���ن واق���ع "الخدمة" والخط���وات األولى‬ ‫تح���دث الدكتور "صفوت‬ ‫التي خطاها في البوس���نة والهرس���ك‪.‬‬ ‫ّ‬

‫خليلوفيت���ش" عن الش���باب األربعة الذين تخط���وا الممر الوحيد‬ ‫في مدينة "سراييفو" المتصل بالمطار أوان حرب البوسنة‪ ،‬حيث‬

‫أ‪.‬د‪ .‬سليمان الشواشي‪ ،‬تونس‪.‬‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )37‬‬

‫‪60‬‬

‫كان مرامه���م األول واألخي���ر فت���ح القل���وب وإنش���اء المدارس‪،‬‬

‫مشهدا من مشاهد صحابته ‪.‬‬ ‫فتجاوزوا بذلك الزمن ورس���موا‬ ‫ً‬


‫في افتتاح اليوم الثاني ترأس الجلسة العلمية األولى الدكتور‬

‫"محم���د الش���تيوي" (تونس)‪ ،‬حيث أح���ال الكلمة إل���ى الدكتور‬ ‫"ب�ل�ال حس���ن الت���ل" (األردن) رئي���س تحري���ر "جري���دة الل���واء"‬

‫ورئي���س "رابطة علماء بالد الش���ام" س���اب ًقا‪ ...‬واس���تهل مداخلته‬ ‫بس���ؤال مح���وري َم ْت ُنه أن دع���اة اإلصالح في العالم اإلس�ل�امي‬ ‫ق���د بلغ���وا ُس���دة القرار الي���وم‪ ،‬والتحدي الذي يطرح نفس���ه هو‪:‬‬ ‫ه���ل البيئ���ة العام���ة قابلة للتغيي���ر‪ ،‬أم أن نخب���ة اإلصالح أخطأت‬

‫المس���لك الذي ُتع���د أولى خطوات���ه "التربية" و"بناء المدرس���ة"؛‬ ‫وبقراءة "منهج األنبياء" في "الدعوة" و"الترش���يد" نجدها مرتبطة‬

‫أ‪.‬د‪ .‬سمير بودينار‪ ،‬المغرب‪.‬‬

‫أساس��� ًا بالتعليم والتربية‪ ...‬وفي هذا الس���ياق نقرأ فكر األس���تاذ‬ ‫"فت���ح اهلل كول���ن" وواقع مش���روع الخدمة الذي اتخ���ذ "الجهل‬

‫أعداء‪ ،‬واستلهم من سيرة المصطفى ‪ ‬منهج‬ ‫والفقر والتخلف"‬ ‫ً‬ ‫التجدي���د من فكرة "دار األرقم ب���ن أبي األرقم" قبل بناء الدولة‪،‬‬

‫فو ّلد بذلك نماذج لبناء اإلنس���ان من بيوت الطلبة إلى المدارس‬

‫تصدر الكلمة الدكتور "س���ليمان الشواشي"‬ ‫والجامعات‪ .‬بعدها‬ ‫َّ‬

‫أستاذ العقيدة بجامعة الزيتونة ساب ًقا‪ ،‬متحد ًثا عن جهود "الشيخ‬ ‫الطاه���ر بن عاش���ور" في إص�ل�اح المنظوم���ة التربوي���ة وتحريك‬

‫ونبه األس���تاذ المحاضر إلى‬ ‫مؤسس���ات التربية لبناء اإلنس���ان‪َّ ...‬‬

‫أ‪.‬د‪ .‬سليمان الدقور‪ ،‬األردن‪.‬‬

‫أن أزه���ى مرحل���ة عاش���تها "الزيتونة"‪ ،‬كانت حقبة إدارة الش���يخ‬

‫"محم���د الطاه���ر بن عاش���ور"؛ حيث بل���غ عدد المنتس���بين إليها‬

‫عش���رة آالف طالب علم‪ ...‬وقد تميزت المدرسة بجمع العلوم‬ ‫العقلي���ة والقلبي���ة ف���ي مقرراته���ا ومناهجها‪ ...‬فق���د كانت جهود‬

‫"الشيخ الطاهر" "الجندي المجهول" في بناء تونس اليوم‪ .‬أحال‬ ‫رئي���س الجلس���ة بعد ذلك الكلمة إلى الدكتور "حس���ن المناعي"‬ ‫أستاذ التفسير والدراسات القرآنية بجامعة تونس‪ ،‬حيث تحدث‬ ‫ع���ن الجذور المعنوية للمدرس���ة الزيتوني���ة المفتولة حبائلها مع‬ ‫أقطاب المدرسة اإلصالحية من جمال الدين األفغاني‪ ،‬ومحمد‬

‫أ‪.‬د‪ .‬حسن الم ّناعي‪ ،‬تونس‪.‬‬

‫عب���ده‪ ،‬ومحم���د رش���يد رضا‪ ...‬وأوض���ح المحاضر ب���أن النقطة‬ ‫الع َلمين أن جهودهم���ا كانت ت ِتمة ولم‬ ‫المحوري���ة المأتلفة بي���ن َ‬ ‫تش���كل حال���ة "قطيع���ة" في البن���اء الحضاري‪ ،‬ب���ل نهجت منهج‬ ‫التكام���ل واإلس���هام‪ ،‬وإتم���ام مكارم األخ�ل�اق متجاوزين بذلك‬

‫الصدام والشنآن‪.‬‬

‫افتتح الجلس���ة العلمية الثانية الدكتور "صفوت خليلوفيتش"‬

‫(البوس���نة والهرس���ك)‪ ،‬حي���ث أح���ال الكلم���ة للدكت���ور "خلي���ل‬ ‫النحوي" ليؤكد على محورية المقاصد الش���رعية في "فقه البناء"‬

‫مؤكدا على‬ ‫لدى الع َلمين "الطاهر بن عاشور" و"فتح اهلل كولن"‪،‬‬ ‫ً‬

‫أ‪.‬د‪ .‬علي المحجوبي‪ ،‬تونس‪.‬‬

‫‪59‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )37‬‬


‫الجدي���دة (المغرب)‪ ،‬متحد ًثا عن "أح�ل�ام االنبعاث بين النظرية‬ ‫مؤكدا على أن الخيار السياس���ي في تاريخ األمة لن‬ ‫والتطبي���ق"‪،‬‬ ‫ً‬ ‫تجدد حقيقي‪ ،‬ما لم يسبقه فعل تربوي روحي ّبناء‪...‬‬ ‫ُيفضي إلى ُّ‬

‫تحركه���ا "األخذ" ومزالقها‬ ‫فالسياس���ة مهما تفان���ت‪ ،‬إال أن بؤرة ُّ‬

‫"الفرق���ة" و"الش���نآن"‪ ،‬إال أن الخدمة اإليماني���ة والعمل التربوي‪،‬‬ ‫مرك���ز ثق ِله "العطاء" و"نكران ال���ذات" و"نبذ الفرقة" و"الصدام"‪.‬‬ ‫ُ‬

‫بع���د هذه المداخلة ع���رج بنا الدكتور "علي المحجوبي" أس���تاذ‬

‫أ‪.‬د‪ .‬عبد الرزاق قسوم‪ ،‬الجزائر‪.‬‬

‫التاري���خ اإلس�ل�امي بجامع���ة "تون���س" إل���ى محط���ات تاريخي���ة‬

‫متحد ًثا عن الش���يخ خير الدين باش���ا التونس���ي‬ ‫حاس���مة لألم���ة‪،‬‬ ‫ّ‬

‫(‪ )1890-1822‬وثم���رات جه���ده الفك���ري‪ .‬فبالرغ���م م���ن أن���ه‬ ‫قدم إضاف���ات تربوية‬ ‫حضاري���ا‬ ‫عاي���ش س���يا ًقا‬ ‫"متأزم���ا"‪ ،‬إال أن���ه ّ‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬

‫تصدر الدكتور "أحمد قعلول" أس���تاذ "فلس���فة‬ ‫ــم َّ‬ ‫جليلة‪ .‬ومن ثــــ َ َّ‬ ‫مشيرا إلى‬ ‫اللغة" والدراسات اإلسالمية بجامعة "لندن" الكلمة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫لمحاضن‬ ‫تأسيس���ه‬ ‫أن م���ن أفضال الش���يخ "الطاهر بن عاش���ور"‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ونفخه الروح لمؤسسات أخرى عبث بها‬ ‫تربوية لبناء اإلنس���ان‪،‬‬ ‫َ‬ ‫وأكد المحاضر على أن ما تش���هده جهات من العالم‬ ‫الزم���ان‪ّ ...‬‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬خليل النحوي‪ ،‬موريتانيا‪.‬‬

‫وتحول في تاريخها‪،‬‬ ‫اإلس�ل�امي من ثورات‪ُ ،‬ت َع ّد نقط���ة انعطاف‬ ‫ُّ‬ ‫تحد جوه���ري ومفارقة دقيقة‪،‬‬ ‫إال أن الش���عوب المتح���ررة أم���ام ٍّ‬ ‫���ون نم���وذج الدولة الحديث���ة الموروث من األنظمة المس���تبدة‬ ‫َك ْ‬

‫مصم ًما لتكري���س الهيمنة واالس���تبداد‪ ،‬والذي‬ ‫متأزم���ا‬ ‫نموذج���ا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫ال للتحرر واالنعتاق‪ ،‬ويبقى‬ ‫تس���عى النخب الثورية لتوظيفه س���بي ً‬

‫ستس���عف اآللة (نم���وذج الدول���ة) نوايا‬ ‫الس���ؤال‬ ‫مطروح���ا‪ :‬ه���ل ُ‬ ‫ً‬ ‫المحدد مسب ًقا؟‬ ‫صاحبها‪ ،‬أم أنها ستقوم بدورها‬ ‫ّ‬

‫في الجلس���ة العلمية الموالية تصدر الدكتور "سمير بودينار"‬

‫البعد العالمي اإلنس���اني لفكر األستاذ "فتح‬ ‫الكلمة‪ ،‬متحد ًثا عن ُ‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬محمد جكيب‪ ،‬المغرب‪.‬‬

‫اهلل كولن" ومشروع الخدمة‪ ،‬حيث ُتعد سمة "الرحمة للعالمين"‬

‫"النبوة"‪،‬‬ ‫ف���ي الخطاب والعمل صبغ���ة العالم الوارث لخصائص‬ ‫ّ‬

‫وبي���ن الدكتور كيف أن مش���روع الخدمة جعل من التعليم قضية‬ ‫ّ‬ ‫"أم���ة" تتحملها بنفس���ها فكانت مؤسس���ة التربي���ة محركة حضور‬ ‫"الخدم���ة" في مختلف مفاصل الحياة‪ .‬وأبان الدكتور "س���ليمان‬

‫الدقور" أس���تاذ التفسير والدراسات القرآنية (األردن) عن اهتمام‬ ‫األستاذ "فتح اهلل" "بالعقل الجمعي" و"العمل الجماعي"‪ ...‬وفي‬

‫هذا الس���ياق أوضح األس���تاذ المحاضر أن القضية المحورية في‬ ‫فكر األستاذ "فتح اهلل"‪ ،‬اهتمامه "بمحو الذات" ومواجهة تأ ُّلهها‪،‬‬

‫أ‪.‬د‪ .‬عمار جيدل‪ ،‬الجزائر‪.‬‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )37‬‬

‫‪58‬‬

‫وتعليمها "االنمحاء" و"تصفير األنا"‪ ،‬و ُت َعد هذه‪ ،‬الخاصية الميزة‬ ‫المعيارية لورثة األرض وبناة الحضارة‪.‬‬


‫مدارس وجامعات ومصحات‬ ‫خالل تشييد "سلطنة للقلوب" من‬ ‫َ‬ ‫ومصان���ع‪ ...‬وبناء لـ"جن���د اإلدراك" و"أطباء المعن���ى"‪ ...‬بعدها‬ ‫تحدث األستاذ "سامي إبراهم" مدير مركز "الفاضل بن عاشور"‬ ‫ع���ن مقاصد ه���ذا اللقاء الفك���ري الذي فتل النس���يج الحضاري‬ ‫لألم���ة م���ن خالل فك���ر "الش���يخ الطاهر بن عاش���ور" واألس���تاذ‬

‫"فت���ح اهلل كول���ن"؛ فأول���ى المقاص���د‪ ،‬واالس���تفادة م���ن تجرب���ة‬ ‫نموذج���ا لإلس�ل�ام المدني‪ ،‬بديال‬ ‫مش���روع الخدم���ة ال���ذي يمثل‬ ‫ً‬

‫عن اإلس�ل�ام السياس���ي‪ ،‬وثانيهما‪ ،‬أن للشيخ الطاهر بن عاشور‬ ‫فضل التتم���ة واكتمال البناء‪،‬‬ ‫فضل الس���بق‪ ،‬ولألس���تاذ "فتح اهلل"‬ ‫َ‬ ‫َ‬

‫وبدراس���تهما نكتس���ب رؤية ش���مولية في فلس���فة اإلعمار والبناء‬

‫أ‪.‬د مهدي المبروك‪ ،‬السيد وزير الثقافة‪ ،‬تونس‪.‬‬

‫توج���ه الدكتور "عب���د الرزاق قس���وم" رئيس جمعية‬ ‫الحض���اري‪ّ .‬‬ ‫مهن ًئ���ا هذا المس���عى‬ ‫العلم���اء المس���لمين الجزائريي���ن بالكلم���ة‪ّ ،‬‬

‫الفك���ري الس���ديد‪ ،‬واللُّحمة اإليمانية التي تس���د ُثلمة في جس���د‬ ‫األم���ة‪ ،‬وتنس���ج ما ت ِلف من ش���بكة عالقاتها وصالته���ا الفكرية‪.‬‬ ‫تصدر فضيلة األس���تاذ "مصطفى أوزجان" مستش���ار مجلة‬ ‫بعدها ّ‬ ‫ح���راء‪ ،‬ليؤك���د أن الس���مة المفرقي���ة للمش���اريع اإلصالحي���ة في‬ ‫العال���م اإلس�ل�امي‪ ،‬هي حركي���ة اإليمان والعم���ل الصالح‪ ،‬وأن‬ ‫عصر الس���عادة س���يبقى النموذج األكمل للبش���رية جمعاء؛ إذ لم‬

‫نوزاد صواش‪ ،‬المشرف العام على مجلة حراء‪ ،‬تركيا‪.‬‬

‫وب ْع ُد‬ ‫تك���ن الفوضى لتعم األمة لوال انفص���ام القلب عن العقل‪ُ ،‬‬ ‫وتتلم ُذهم بين يدي‬ ‫المس���لمين عن جذورهم المعنوية الذاتي���ة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫المنظوم���ة الفكرية المادية‪ ...‬كما أوضح األس���تاذ "أوزجان" أن‬

‫مش���روع األس���تاذ "فتح اهلل" متجاوز لعالم األشخاص‪ ،‬رافل في‬ ‫المنهج المؤسس���اتي‪،‬‬ ‫مش���روع الخدمة‬ ‫عال���م األفكار‪ ،‬لذا َنهج‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫مذك ًرا أن مس���ؤوليتنا اليوم هي في اإلجابة‬ ‫ليختم األس���تاذ كلمته ِّ‬ ‫ركب الحي���ارى وهمومه ال���ذي يبلغ تعداده س���بع‬ ‫ع���ن أس���ئلة ْ‬ ‫ماليير من البشر‪ .‬وختم فضيلة الدكتور "خليل النحوي" مؤسس‬ ‫ال‬ ‫جامع���ة المن���ارة بموريتانيا الجلس���ة االفتتاحية‪،‬‬ ‫مؤك���دا أن آما ً‬ ‫ً‬ ‫ومنب ًها إلى أن الس���مة األساس���ية‬ ‫كبي���رة معلق���ة بتونس الجديدة‪ّ ،‬‬

‫مصطفى أوزجان‪ ،‬مستشار مجلة حراء‪ ،‬تركيا‪.‬‬

‫لفكر الرجلين الش���يخ "الطاهر بن عاش���ور" واألس���تاذ "فتح اهلل‬

‫كول���ن" هي اش���تراكهما ف���ي رؤية حضارية متناغم���ة‪ ،‬هي تحرير‬ ‫العق���ول وتنوي���ر القلوب وإقامة صرح ال���روح‪ ،‬من خالل عملية‬

‫تربوية هادئة هادفة مركز ثقلها "اإلنسان"‪.‬‬

‫افتتح الدكتور "سمير بودينار" أستاذ علم االجتماع السياسي‬

‫بجامع���ة محم���د الخام���س بوج���دة (المغ���رب) الجلس���ة العلمية‬ ‫محي�ل�ا الكلمة إل���ى الدكتور‬ ‫األول���ى‪ ،‬بع���د أداء ص�ل�اة الجمعة‪،‬‬ ‫ً‬

‫"محمد جكيب" أس���تاذ بكلية اآلداب والعلوم اإلنس���انية بمدينة‬

‫سامي إبراهيم‪ ،‬مدير مركز الفاضل بن عاشور‪ ،‬تونس‪.‬‬

‫‪57‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )37‬‬


‫أنشطة ثقافية‬ ‫طه كوزي*‬

‫"حراء المعنى"‬

‫تعزف "سمفونية البناء" بتونس الخضراء‬ ‫وتحدى‬ ‫تجاوز الزمان‬ ‫إن���ه لقاء األحبة‪ ...‬لقاء‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ش���عث األم���ة بع���د‬ ‫فل���م َ‬ ‫ع���وارض الم���كان‪َّ ،‬‬

‫الش���تات‪ ،‬وأذكى ج���ذوة األمل ف���ي النفوس‪،‬‬

‫تصرمه‪،‬‬ ‫وأنك���ر الـ"أنا" وتأليه الذات‪ ...‬هنا اس���تدار الزمن بعد ُّ‬ ‫فع���ادت اللُّحم���ة اإليمانية والوش���يجة الفكرية لس���ابق عهدها‪،‬‬ ‫موصول���ة مفتول���ة بين العق���ول والقلوب بع���د أن ُن ِقض غز ُلها‪،‬‬

‫اإلمكان‪.‬‬ ‫و ُف َّكت من ِعقالها‪ ،‬وفتك بها الزمان‪ ،‬وضيق ْ‬ ‫ه���ا هن���ا لق���اء رجلي���ن‬ ‫مؤمني���ن عا ِل َمي���ن عا ِم َلي���ن؛ َت ِخ���ذا‬ ‫َ‬ ‫"المؤاخ���اة" قاع���دة ومنطل ًق���ا‪ ،‬و َف ِقها أن األم���ة ال يتبدل حالها‬ ‫أو ُده���ا إال بتخصي���ب الفك���رة وبن���اء اإلنس���ان‪...‬‬ ‫وال يس���تقيم َ‬

‫قدحا زناد "الفعل الحضاري" في صمت وأناة‪،‬‬ ‫إنهما رج�ل�ان َ‬ ‫صب���ر "الطائ���ر الحض���ون" ف���ي التربية وبن���اء العقول‬ ‫صب���وران ْ‬

‫ومح���ط‬ ‫تبدل األحوال‬ ‫التجدد‪ ،‬ال يولد‬ ‫َّ‬ ‫آمن���ا بأن ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫والقل���وب‪َ ...‬‬

‫وبناة اإلنس���ان‪ّ ،‬أم���ا إن أخطأ‬ ‫إال م���ن رحم‬ ‫الرواد هذا‬ ‫ُ‬ ‫المربين ُ‬ ‫ّ‬

‫األمة فاتورة "تجنين الزمان"‬ ‫"التدبير" و"حسن التخيير"‪ ،‬دفعت ّ‬

‫وتباعد "المقصد والمرام"‪.‬‬ ‫َ‬

‫ف���ي‬ ‫ويعبق‬ ‫ح���ي ُتط���ل عليه "صومع���ة الزيتون���ة" ش���امخة‪ُ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫علي���ه أريجه���ا‪ ،‬تعانق رجال "الفكر القاصد" و"الفعل الراش���د"‬

‫وتس���اندا‪ ،‬وتعارف أبناؤهما فتآلفا‪ ،‬وبهذه اللطائف والنس���ائم‪،‬‬ ‫ركب "ندوة الثقافة‬ ‫وعل���ى إثر تلكم المعاني والمعالم‪ ،‬س���رى ْ‬ ‫والفك���ر اإلصالح���ي بي���ن تون���س وتركي���ا؛ الج���ذور التاريخية‬

‫واألس���ئلة الراهنة الش���يخ الطاهر بن عاشور واألستاذ فتح اهلل‬

‫كول���ن‬ ‫تجدد اإليم���ان وتو ُّفز العزائم‬ ‫نموذجا"‪ .‬فكان���ت لحظة ُّ‬ ‫ً‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )37‬‬

‫‪56‬‬

‫يمم ش���طر "تونس‬ ‫ممن ّ‬ ‫بتالق���ي اإلخوان والعلماء والباحثين‪َّ ،‬‬ ‫الخضراء" من كل َم ْصر و ُق ْطر؛ من "تركيا الشامخة"‪ ،‬ومن "شامة‬ ‫اإلس�ل�ام" و"اختبار المسلمين الفاعلين" "البوسنة والهرسك"‪،‬‬ ‫ومن "موريتانيا" "مربع العلماء والش���عراء"‪ ،‬ومن"مصر" سحر‬ ‫البي���ان‪ ،‬ومن "المغ���رب" الحبيب موطن الحل���م والعلم‪ ،‬ومن‬ ‫"الجزائر" عطر المكان وموقد اإليمان‪.‬‬ ‫افتتح الندوة الفكرية "معالي وزير الثقافة" الدكتور "مهدي‬ ‫مبروك"‬ ‫مهن ًئا "مركز‬ ‫مستبش���را بأمثال هذه المجام���ع العلمية‪ّ ،‬‬ ‫ً‬ ‫الفاضل بن عاش���ور" على هذه االس���تضافة والش���راكة العلمية‬ ‫م���ع مجل���ة "حراء"‪ .‬وأكد معالي الوزير عل���ى ِع َوزِ األمة اليوم‬ ‫إل���ى "العقل الجمعي" و"الذكاء الجماعي"‪ ،‬لتجاوز ما يعصف‬ ‫باألمة من ِمحن و ِفتن‪،‬‬ ‫مرس���خا فكرة االس���تفادة من التجارب‬ ‫ً‬ ‫اإلنس���انية مهما تنوعت‪ ،‬على أن تأخذ بعين االعتبار ضواغط‬ ‫عرج بنا‬ ‫الس���ياق‪ُّ ،‬‬ ‫وتبدل إحداثيات الزمان والم���كان‪ ...‬بعدها ّ‬ ‫أخذنا األستاذ‬ ‫المش���رف العام على مجلة "حراء" وأس���رى‪ ،‬إذ َ‬ ‫"نوزاد صواش" في سياحة فكرية بين األقطار من "جاوة" إلى‬ ‫"جاكرتا" مما وطئته أقدام "حراء" هذه السنة‪،‬‬ ‫مؤكدا أن رسالة‬ ‫ً‬ ‫وأصح���اب‬ ‫ش���مل المفكرين‬ ‫جم���ع‬ ‫"اله���م الواحد"‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫"ح���راء" ْ‬ ‫ّ‬ ‫وأبان األس���تاذ داللة "الش���خصية المعنوية" لألس���تاذ "فتح اهلل‬ ‫كول���ن" ومش���روع الخدمة في اإلجابة ع���ن الثنائيات المختزلة‬ ‫التي يرزح فيها عالم المسلمين ‪-‬وال يزال‪ -‬من جنس "العقل‬ ‫أو القل���ب"‪" ،‬العل���م أو العم���ل"‪" ،‬الم���ادة أو ال���روح"‪ .‬فكانت‬ ‫إجاب���ة "األس���تاذ فت���ح اهلل" تجديدي���ة متج���اوزة لالخت���زال من‬


‫���اب َع ْقده وإيمانه‪ .‬ولذلك‪ ،‬كان برنامج اإلس�ل�ام العقدي‬ ‫و ُل َب َ‬

‫كما ُجبل عليها‪ ،‬مما ال يس���مح بأي ش���كل من أشكال تدجينه‬

‫الطغي���ان واالس���تضعاف الموس���وم بـ"االس���تقامة"‪ ،‬وهو عبارة‬ ‫معا ‪-‬يعني الطغاة‬ ‫ع���ن ِّ‬ ‫خ���ط العدل الذي ُي ِّ‬ ‫حتم على الفريقي���ن ً‬

‫اإلنس���ان في ظل التوحيد َيم ِلك وال ُيم َلك؛ إنه ليس ش���خصية‬

‫االلتزام بالخط الوسط بين‬ ‫والثقافي واالجتماعي والسياس���ي‪،‬‬ ‫َ‬ ‫الع ْو َد إلى طاعة اهلل واالعتراف له بالخضوع‬ ‫والمس���تضعفين‪َ -‬‬ ‫ِ‬ ‫والملكية الحقيقية والتصرف‪.‬‬ ‫ش���يء‬ ‫الخضوع‬ ‫يس���تحق‬ ‫وم���ن َث ّم‪َ ،‬عرفوا التوحيد بأنه "ال‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫َّ‬ ‫يتجس���د ف���ي وع���ي المكلفي���ن وعقيدته���م‪،‬‬ ‫وه���و‬ ‫س���وى اهلل"؛‬ ‫ّ‬

‫ويتج ّل���ى في أوضاع األمة الفردية والمجتمعية وتربية ناش���ئتها‬ ‫وأجياله���ا‪ ،‬وصياغ���ة نظ���م حياته���ا وثقافتها ورموزه���ا وفنونها‬ ‫ف���كل مخلوق‬ ‫عل���ى ع���دم اإلذع���ان واالنقياد لغي���ر اهلل تعالى‪ُ .‬‬ ‫وي���رد‪ ،‬و ُتناقش‬ ‫‪-‬ع���دا النب���ي المعصوم ‪ -‬يؤخ���ذ من كالمه ُ‬

‫نتق���د أفعاله وتصرفاته‪ ...‬بمعنى أن‬ ‫أوام���ره‪ ،‬و ُت ْعرف و ُت َ‬ ‫نكر‪ ،‬و ُت ُ‬

‫أوتس���خيره أو َتش���يي ِئه‪ ،‬بمعن���ى تحويله إلى مت���اع ُي ْم َلك‪ ...‬ألن‬ ‫استدالليا"‬ ‫"رقما‬ ‫تسويقية قابلة للتبادل والمقايضة‪ ،‬كما أنه ليس ً‬ ‫ًّ‬ ‫عل���ى نحو ما تصطلح عليه المؤسس���ات المالية‪ ،‬كما أنه ليس‬

‫مسمارا في آل ٍة‪ ...‬وإنما هو‬ ‫ويشترى‪ ،‬وال‬ ‫"صو ًتا‬ ‫انتخابيا" ُيباع ُ‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫المكرم وحسب‪.‬‬ ‫اإلنسان‬ ‫ُ َّ‬

‫المرء‬ ‫‪ -3‬نعمة المس�������اواة مع الغير؛ فإن الحرية إنما ينالها‬ ‫ُ‬ ‫بع���د ش���عوره بوج���وب مس���اواته م���ع غي���ره فيه���ا‪ ،‬وإال كانت‬ ‫االستعباد الذي ُن ِّف َر منه‪.‬‬ ‫َ‬

‫فالتوحي���د يحق���ق للم���رء المس���اواة مع غيره ف���ي ضرورة‬

‫تصريف ش���ؤونه ومصالحه‪ ،‬وتقرير مصيره ومس���تقبله‪ ...‬وهو‬

‫القطب المناقض بالضرورة لثقافة التقديس وثقافة‬ ‫التوحيد هو‬ ‫ُ‬

‫ال���ذي ُيش���عره بذات���ه المس���تقلة التي تأب���ى الفناء ف���ي اآلخرين‬

‫الصمت والخضوع المطلق‪.‬‬ ‫المكرسة لترويض أتباعها على ّ‬

‫ومفاوضتهم‪ ،‬وقول "ال" حيث يجب أن تقال‪.‬‬

‫التبعية‪ ،‬والطاعة العمياء التي ُتفرزها اإليديولوجيات المختلفة‬ ‫تتب���دل أش���كا ُلها‬ ‫الصنمي���ة الت���ي‬ ‫ّ‬ ‫إنه���ا ثقاف���ة التش���ريك أو ّ‬

‫و َل ُبوس���ا ُتها ف���ي التجربة اإلنس���انية التاريخي���ة‪ ،‬ولكن جوهرها‬ ‫واحد يتكرر في المظاهر الثالثة اآلتية‪:‬‬

‫واالنمي���اع فيه���م‪ ،‬ويمنحه القدرة على مراجعتهم ومس���اءلتهم‬ ‫والخالص���ة‪ ،‬إن التوحي���د ه���و القطب اإليجاب���ي المؤتمن‬

‫على حفظ إنس���انية اإلنس���ان من الوقوع أو التورط في َم َصارِ ع‬

‫• س���لبه ممتلكات���ه‪ ،‬واالس���تئثار بفرص العي���ش دونه وكذا‬

‫جميع‬ ‫الطغيان أو طبائع االس���تضعاف‪ .‬واإلس�ل�ام إنم���ا أدار‬ ‫َ‬ ‫وشدد على نبذ كل‬ ‫القطب‪،‬‬ ‫أصوله وفروعه على هذا المحور ْ‬ ‫َّ‬ ‫عظيما‬ ‫ظلما‬ ‫ً‬ ‫المفاهي���م والقيم واألوضاع التش���ريكية‪ ،‬وعده���ا ً‬

‫• تش���كيل وع���ي الضعف���اء وإرادتهم وثقافته���م وإعالمهم‬

‫رهيبة في حياة اإلنس���ان ووجوده وتوازنه‪ ،‬وثقافته ونظرته إلى‬

‫• س���يطرة القوي على الضعيف‪ ،‬وس���لبه حريته في الرأي‪،‬‬

‫والتصرف‪.‬‬ ‫وحريته في التعبير‪ ،‬وحريته في الحركة‬ ‫ّ‬ ‫بموارد الثروة العامة‪.‬‬

‫جزءا‬ ‫والسلب والجبر‬ ‫القهر‬ ‫وتعليمهم‪ ،‬ليصبح‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫واالستضعاف ً‬ ‫ُ‬ ‫من عقيدتهم ولغتهم اليومية‪ ،‬وقيمهم الفكرية واالجتماعية‪.‬‬ ‫وبالمقابل‪ ،‬يح ّقق التوحيد لإلنسان ثالثة أمور أساسية‪:‬‬

‫‪ -1‬نعم�������ة الحرية؛ حرية اإلنس���ان الحقيقي���ة والكاملة في‬

‫توحي���د اهلل تعال���ى‪ ،‬حيث ال وس���يط بينه وبي���ن اهلل تعالى‪ ،‬وال‬ ‫أح���د أن يحك���م علي���ه أو يقرر مصي���ره نيابة عن اهلل‪،‬‬ ‫يس���تطيع‬ ‫ٌ‬

‫حق الس���يطرة عل���ى إيمان أحد أو‬ ‫وال يس���وغ ألح���د أن َي َّدعي َّ‬

‫لرب���ه‪ ،‬أو ينازِ َع���ه في طري���ق نظره واجته���اده‪ ...‬كما ال‬ ‫عبادت���ه ّ‬ ‫متشوف‬ ‫الشارع‬ ‫يسوغ ألحد أن يسترق إنسا ًنا أو يستعبده‪ ،‬ألن‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫إل���ى الحرية‪ ،‬وق���د عبر عمر ‪ ‬عن هذا المبدأ األصيل بقوله‪:‬‬

‫أحرارا"‪.‬‬ ‫"متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم‬ ‫ً‬

‫‪ -2‬نعمة التسامي؛ وهي وعي اإلنس���ان بإنسانيته الفطرية‬

‫مبين���ا‪ ...‬ألن خ���رق س���ياج التوحيد يفضي إلى مفاس���د‬ ‫وإثم���ا ً‬ ‫ً‬ ‫نفسه وعالقته باآلخرين‪.‬‬

‫إن مغزى التكليف التوحيدي‪ ،‬أن تتحقق إنس���انية اإلنسان‬

‫عوام���ل الفتنة‬ ‫عل���ى الفط���رة التي فط���ره اهلل عليه���ا‪ ،‬وأن تنتفي‬ ‫ُ‬ ‫س���لبها أو تشويهها أو‬ ‫وعوارض التبديل والتحريف التي َتروم‬ ‫َ‬ ‫إعاقة نموها الطبيعي‪.‬‬

‫ِ‬ ‫ِ َ‬ ‫���ما ِء‬ ‫‪‬و َم ْن ُي ْش ِ‬ ‫ق���ال اهلل تعالى‪َ :‬‬ ‫الس َ‬ ‫���ر ْك بِاهلل َف َكأ َّن َما َخ َّر م َن َّ‬ ‫ٍ‬ ‫ان س ِ‬ ‫الر ُ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َف َت ْخ َط ُف ُه َّ َ‬ ‫���حيقٍ ‪(‬الحج‪،)31:‬‬ ‫يح في َم َك َ‬ ‫الط ْي ُر أ ْو َت ْه ِوي ِبه ِّ‬ ‫ون َذ ِل َك‬ ‫هلل َ‬ ‫وقال جل شأنه‪ :‬إ َِّن ا َ‬ ‫ال َي ْغ ِف ُر أ َْن ُي ْش َركَ ِب ِه َو َي ْغ ِف ُر َما ُد َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫يما‪(‬النساء‪.)48:‬‬ ‫ل َم ْن َي َش ُاء َو َم ْن ُي ْش ِر ْك بِاهلل َف َقد ا ْف َت َرى ِإ ْث ًما َعظ ً‬

‫(*) عضو المجلس األكاديمي للرابطة المحمدية للعلماء ‪ /‬المغرب‪.‬‬

‫‪55‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )37‬‬


‫قضايا فكرية‬ ‫د‪ .‬عبد الحميد عشاق*‬

‫التوحيد واإلنسان‬ ‫وقطب رحى اإلسالم‪،‬‬ ‫جوهر الدين‪،‬‬ ‫التوحيد‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫والم ْق ِصد األس���نى لرس���الة القرآن؛ وال يخلو‬ ‫َ‬ ‫موط���ن أو موض���ع ف���ي الق���رآن م���ن تقري���ره‬ ‫وتوكيده والتنويه به‪.‬‬ ‫تبوأ‬ ‫التوحيد هذه المنزل َة العظيمة الخطيرة‬ ‫ُ‬ ‫والسؤال‪ :‬لماذا َّ‬ ‫في اإلسالم؟ لماذا ال يغفر اهلل أن يشرك به‪ ،‬ويغفر ما دون ذلك‬ ‫لمن يش���اء؟ وم���ا عالقة التوحي���د بحركة اإلنس���ان في األرض‬ ‫ومعاشه ونشاطه التاريخي‪ ،‬وسائر أحواله وعالقاته ومؤسساته؟‬ ‫الجواب عن هذا السؤال ذو شجون‪ ،‬ربما ال يتسع‬ ‫المقام‬ ‫ُ‬ ‫لبس���طه وتفصيله‪ ،‬ولكن لنقل بإجمال؛ إن التوحيد هو‬ ‫ناموس‬ ‫ُ‬ ‫النظ���ام الكوني‪،‬‬ ‫ومناط االجتماع اإلنس���اني‪ .‬ومن جهة أخرى‬ ‫ُ‬ ‫صمام األم���ان واإلط���ار األمثل لتحقي���ق مفهوم‬ ‫التوحي���د ه���و َّ‬ ‫اإلنسان الكامل بأبعاده الفردية واالجتماعية والحضارية‪.‬‬ ‫إن المقصد من رسالة التوحيد في اإلسالم‪،‬‬ ‫حفظ اإلنسان‬ ‫ُ‬ ‫وص���ون حقوق���ه وممتلكات���ه‪ ،‬وحرمت���ه وكرامت���ه المعنوية من‬ ‫ُ‬ ‫والعس ِ‬ ‫جمي���ع أش���كال الخ���رق َ ِ‬ ‫���ف الت���ي تحصل في‬ ‫واله ْتك َ ْ‬ ‫الواقع نتيجة لباعثين اثنين هما‪ :‬الطغيان واالستضعاف‪.‬‬ ‫ض نفس���ي يصيب النخب���ة‬ ‫اغترارا‬ ‫مر ٌ‬ ‫ً‬ ‫‪ -1‬الطغي�������ان‪ :‬وه���و َ‬ ‫بس���لطة القوة أو سلطة الثروة؛ فتطغى وتعدو قدرها‪ ،‬وتتجاوز‬ ‫طورها اإلنس���اني إلى درجة التألُّه‪ ،‬أي ادعاء ملكية "األشياء"‪،‬‬ ‫ضربا من‬ ‫وتقري���ر مصي���ر "األش���خاص"‪ .‬وقد يك���ون الطغي���ان ً‬ ‫الغرور العقدي‪ ،‬وادعاء القداسة واستغاللها بحيث يتوهم المرء‬ ‫أنه يس���تطيع أن ُي َص ِّنف الناس إلى س���عداء وأشقياء‪ ،‬ومقبولين‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )37‬‬

‫‪54‬‬

‫الصكوك‪.‬‬ ‫وي ُص َّك له���م ّ‬ ‫ومردودي���ن‪ ،‬ويحكم عل���ى مصيرهم‪َ ،‬‬ ‫ال قال وا ِ‬ ‫وفي صحيح مس���لم‬ ‫هلل‬ ‫مرفوعا أن رج ً‬ ‫هلل ال يغفر ا ُ‬ ‫ً‬ ‫ال‬ ‫"م ْن هذا الذي َي َت َأ َّلى‬ ‫أغفر‬ ‫علي أ َّ‬ ‫لفالن‪ ،‬وإن ا َ‬ ‫هلل تعالى قال‪َ :‬‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ٍ‬ ‫وأحبط���ت عم َلك"‪ .‬وفي موطأ‬ ‫لفالن‬ ‫غفرت‬ ‫لف�ل�ان‪ ،‬فإن���ي قد‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫هلم إلى‬ ‫مال���ك أن أب���ا الدرداء كتب إلى س���لمان الفارس���ي أن ّ‬ ‫األرض المقدس���ة‪ ،‬فكت���ب إليه س���لمان‪ :‬إن األرض ال تقدس‬ ‫أحدا‪ ،‬وإنما يقدس‬ ‫ان ِل َب َشرٍ‬ ‫‪‬ما َك َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫اإلنسان عم ُله‪ ،‬وفي التنزيل‪َ :‬‬ ‫اس ُكو ُنوا‬ ‫���م َوال ُّن ُب َّو َة ُث َّم َي ُق َ‬ ‫���ول ِل َّلن ِ‬ ‫���ه ا ُ‬ ‫َأ ْن ُي ْؤ ِت َي ُ‬ ‫هلل ا ْل ِك َت َ‬ ‫���اب َوا ْل ُح ْك َ‬ ‫ون ا ِ‬ ‫ِعب ًادا ِلي ِم ْن ُد ِ‬ ‫هلل‪(‬آل عمران‪.)79:‬‬ ‫َ‬ ‫أثر‬ ‫عظيم في وقاية‬ ‫ٌ‬ ‫ولقد كان للمعنى التوحيدي اإلسالمي ٌ‬ ‫ه���ذه األمة م���ن غائلة االس���تبداد الدين���ي‪ ،‬والتظاهر بالقداس���ة‬ ‫واس���تغاللها وتس���خيرها‪ ،‬ومنع نظ���ام اإلكلي���روس‪ ،‬واإلغرا ِء‬ ‫بمناقشة مشروعيته ووجوده في األديان األخرى‪.‬‬ ‫مرض نفسي يصيب‬ ‫‪ -2‬االستضعاف‪ :‬وهو كذلك‬ ‫السواد‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫ٍ‬ ‫قطعان‬ ‫فيفقدها إنس���انيتها‪ ،‬ويحيله���ا إلى‬ ‫األعظ���م من البش���ر‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫مدجن���ة ال تس���تطيع أن ُتعبر ع���ن رأي‪ ،‬وال َت ِ‬ ‫قدر على‬ ‫بش���رية َّ‬ ‫ّ‬ ‫ش���يء‪ ،‬وال تش���اركُ في تقرير مصيرها ومستقبلها‪ ،‬وإنما حالها‬ ‫ال‬ ‫هلل َم َث ً‬ ‫‪‬و َض َر َب ا ُ‬ ‫الم َو ِّحد‪َ :‬‬ ‫كما أخبر سبحانه عن اإلنسان غير ُ‬ ‫رجلين َأحدهما َأبكم ال يق ِدر على ش‬ ‫ال ُه‬ ‫���ي ٍء َو ُه َو َكلٌّ َع َلى َم ْو َ‬ ‫َ ُ َْ ِ َ ُ ُ َ ْ َ ُ َ َْ ُ َ َ َ ْ‬ ‫���ن َي ْأ ُم ُر بِا ْل َع ْد ِل‬ ‫أ َْي َن َم���ا ُي َو ِّج ْه ُه َ‬ ‫ال َي ْأ ِت ب َِخ ْيرٍ َه ْل َي ْس َ���ت ِوي ُه َو َو َم ْ‬ ‫َو ُهو َع َلى ِصر ٍ‬ ‫يم‪(‬النحل‪.)76:‬‬ ‫اط ُم ْس َت ِق ٍ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫فاإلنس���ان حي���ن يطغى أو ُي���ذ ّل َن ْف َس���ه أو ُي َع ِّرضها للصغار‬ ‫والمهان���ة‪ ،‬فإن���ه َي ْلبِ���س إيما َن���ه بظل���م‪،‬‬ ‫وح توحيده‬ ‫ُ‬ ‫ويناق���ض ُر َ‬


‫اس���تطعت أن أحقق قائمة أدركت بعد االنتهاء منها أن القرآن‬ ‫ال يحتوي على أي مقولة قابلة للنقد من وجهة نظر العلم في‬ ‫العص���ر الحدي���ث (‪ )...‬وال عج���ب في هذا إذ إن اإلس�ل�ام قد‬

‫دائم���ا أن الدين والعل���م توأمان متالزم���ان‪ .‬فمنذ البداية‬ ‫اعتب���ر ً‬ ‫ج���زءا ال يتجزأ من الواجب���ات التي أمر‬ ‫كان���ت العناي���ة بالعلم‬ ‫ً‬

‫به���ا اإلس�ل�ام‪ .‬وأن تطبيق هذا األمر‪ ،‬هو ال���ذي أدى إلى ذلك‬

‫االزده���ار العظيم للعلوم في عصر الحضارة اإلس�ل�امية‪ .‬تلك‬ ‫التي اقتات منها الغرب نفسه قبل عصر النهضة في أوروبا"‪.‬‬

‫العلم التجريبي واألمن الفكري‬

‫جدا في‬ ‫به���ذا يمك���ن الق���ول‪ ،‬إن العل���م التجريب���ي أداة فعال���ة ًّ‬

‫تحقي���ق األم���ن الفكري والعق���دي لدى الفرد المس���لم‪ ،‬وهذه‬

‫التربية القرآنية الداعية للتفكر والتدبر العقلي بقصد االستدالل‬ ‫على مس���بب األس���باب والخالق الفعلي لألك���وان‪ ،‬إنما يضع‬

‫مهما‪ ،‬وهو عدم‬ ‫له���ا الوحي النب���وي‬ ‫المبين للكتاب‪ -‬ضابطً ا ًّ‬‫ّ‬ ‫تج���اوز ه���ذا التفكر العقل���ي والتأمل ليصل إل���ى إعمال العقل‬ ‫والتفكر في الذات اإللهية وماهيتها البتغاء معرفة كنهها‪.‬‬

‫تصو ًرا لجانب من علم اهلل‬ ‫لق���د حوى القرآن فيما ح���وى‪ُّ ،‬‬

‫الش���امل‪ ،‬ليهتدي العقل البشري به فيرتاد آفاق العالم المعلوم‬

‫فتت ِس���ع الم���دارك‪ ،‬ويس���طع ن���ور اإليمان‬ ‫منه���ا والمجه���ول‪َّ ،‬‬

‫المطلق بوحدانية اهلل ‪‬؛ الذي بيده مفاتيح العلوم كلها‪ .‬ففي‬

‫الوق���ت الذي كانت دراس���ة العلوم الكوني���ة والطبيعية في نظر‬ ‫أمرا محر ًما في العصور الماضية‪،‬‬ ‫بعض الش���رائع الس���ماوية‪ً ،‬‬ ‫َّ‬ ‫ج���اء اإلس�ل�ام ليك���ون أج���رأ َم ْن كش���ف الحجب ع���ن العقل‬

‫البش���ري‪ -‬ذلك الكنز الهائل الذي يحمله اإلنس���ان في رأسه‪-‬‬ ‫الب���ر والبحر‪ ،‬والتفكر في النفس‬ ‫فأمره بالبحث والدراس���ة في ّ‬ ‫تن���م عن عظم���ة خالقه‪،‬‬ ‫البش���رية إلدراك عظم���ة الك���ون الت���ي ُّ‬

‫وليستفيد من بديع صنع اهلل ‪ ‬وينتفع به‪.‬‬

‫يتبين لنا أن النتيجة النهائية لإلعجاز العلمي هي‬ ‫مما سبق‪ّ ،‬‬

‫هلل َع َلى ُك ِّل َش���ي ٍء‬ ‫األم���ن العق���دي والفكري‪َ  :‬ق َ‬ ‫���ال َأ ْع َل ُم َأ َّن ا َ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫هلل َع ِز ٌ ِ‬ ‫يم‪(‬البقرة‪.)260:‬‬ ‫‪‬و ْاع َل ْم َأ َّن ا َ‬ ‫ير‪(‬البقرة‪َ ،)259:‬‬ ‫يز َحك ٌ‬ ‫َقد ٌ‬ ‫(*) رئيس جمعية الفيزياء بجامعة وادي النيل ‪ /‬السودان‪.‬‬

‫لغة العزم‬ ‫ائم ‪-‬يا رَّ�بنَا‪ -‬أَ ِ‬ ‫عطنَا‪،‬‬ ‫العز َ‬ ‫وال ِه َم َم ُصبَّها فينا‪...‬‬ ‫فال ترانا ‪-‬يا ُّ‬ ‫رب‪ -‬إالّ َ‬ ‫فوق ال ِق َمم‪،‬‬ ‫وال تجدنا إالَّ حيث يُ ْمتَ َح ُن الرجال؛‬ ‫فيصمدون لالمتحان‪،‬‬ ‫بهم يفرح الكون‪ ،‬ولهم الوجود يص ّفق‪...‬‬ ‫وال تجعلنا ‪-‬يا ُّ‬ ‫رب‪َ -‬خ َّوارين قانعين‪،‬‬ ‫وعن عظائم األمور ناكصين‪،‬‬ ‫ومع هوام األرض سارحين‪...‬‬ ‫***‬

‫‪53‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )37‬‬


‫تعبر عنه‬ ‫وخش���يته من اهلل ‪ ،‬وهذا ما ّ‬ ‫معرفي���ا‪،‬‬ ‫تعام�ل�ا‬ ‫يتعام���ل م���ع الواق���ع‬ ‫ً‬ ‫اآلية الكريمة‪َ :‬‬ ‫ًّ‬ ‫﴿ك َذ ِل َك ِإ َّن َما َي ْخ َش���ى ا َهلل لق��د جع��ل الإ�س�لام الإمي��ان‬ ‫ِم ْن ِع َبا ِد ِه ا ْل ُع َل َم ُاء﴾(فاطر‪.)28:‬‬ ‫ولك���ن باس���تخالف اهلل له في���ه‪ ،‬يقبل ما‬ ‫هام��ا للإن�سان‬ ‫��ا‬ ‫ودافع‬ ‫ا‬ ‫ز‬ ‫حاف��‬ ‫ً‬ ‫ً ًّ‬ ‫والناظ���ر الي���وم إلى تخب���ط المناهج‬ ‫يقب���ل ويرفض ما يرفض بمفهوم العبادة‬ ‫العلمية في الغرب‪ ،‬يعرف مدى خسارة الكت�ش��اف خالق��ه م��ن خالل‬ ‫معا‪،‬‬ ‫الش���املة هلل ‪ .‬والح���س والعق���ل ً‬ ‫الغ���رب بإبع���اده النم���وذج اإلس�ل�امي اكت�شافه لعظمة خلقه‪ .‬وهذا ما‬ ‫محكوم���ان ف���ي أداء دورهم���ا العب���ادي‬ ‫ف���ي المعرفة بالمص���در الموثوق اليقيني‬ ‫للتفكي���ر العلم���ي‪ ،‬واس���تحداث مناهج يعرف بدليل الأثر على وجود‬ ‫والرباني وهو الوحي‪ .‬ذلك أن اإلنس���ان‬ ‫أصبح���ت تتفل���ت وتنهار على نفس���ها‪ .‬امل�ؤث��ر‪ .‬وهكذا فكلم��ا ازداد‬ ‫ال يمكن���ه اإليم���ان بالح���س دون وجود‬ ‫علما ازداد معرفة باهلل‪،‬‬ ‫والي���وم ت���كاد المعرفة الغربي���ة الحداثية الإن�سان‬ ‫ً‬ ‫تس���تنفد طاقتها‪ .‬فكل ما أنتجته الحداثة‬ ‫عقل يحكم بصدق اإلحس���اس‪ ،‬كما أن‬ ‫بات اآلن ماضيا في نسق معرفي ثابت‪ ،‬وكلم��ا ازدادت معرفته ازداد‬ ‫العقل ‪-‬وإن كان يستند إلى الحس‪ -‬فال‬ ‫ً‬ ‫‪.‬‬ ‫اهلل‬ ‫م��ن‬ ‫وخ�شيت��ه‬ ‫تدين��ه‬ ‫بحي���ث أصب���ح ثم���ة إدراك عمي���ق لدى‬ ‫يمك���ن أن يكون الحس هو الذي يحكم‬ ‫علم���اء العل���وم الطبيعي���ة الحديثة ‪-‬كما‬ ‫علي���ه بمحدوديت���ه‪ .‬والح���س والعق���ل‬ ‫يش���ير الدكتور عبد الوهاب المس���يري‪-‬‬ ‫وهما ملك اإلنس���ان المخلوق العاجز‬‫بأن المعرفة الكلية أو حتى ش���به الكلية‪ ،‬مس���تحيلة‪ ،‬وأن رقعة الذي يبتدئ علمه وينتهي ويفني‪ -‬ال يمكن أن يكونا المصدر‬ ‫المجه���ول تتزايد بنس���بة أكبر من تزايد المعل���وم‪ ،‬وأن معرفتنا الوحي���د للمعرفة‪ ،‬وإنم���ا البد من مصدر ال ينضب وال يحكم‬ ‫العلمي���ة المادية عن الواقع ليس���ت يقينية‪ ،‬وإنما احتمالية إلى علي���ه بالمحدودي���ة والفناء‪ ،‬وه���و المصدر الربان���ي عن طريق‬ ‫كليا‬ ‫اعتمادا الوح���ي‪ .‬ثم يأتي دور العل���م والعقل في الحفاظ على العقيدة‬ ‫ً‬ ‫حد كبير‪ ...‬وذلك بس���بب استحالة تفسير الواقع ًّ‬ ‫على التفسير المادي‪.‬‬ ‫عب���ر النظ���ر والتأمل في الكون‪ ،‬اللتماس الحج���ة العقلية التي‬ ‫فالمنهج اإلسالمي‪ ،‬يجعل اإلنسان‬

‫بين العلم والدين‬

‫من المعلوم أن المعرفة الغربية قد تأسست على موقف عدائي‬ ‫من "الدين" والمعرفة الدينية‪ ،‬بعكس الحضارة اإلسالمية التي‬ ‫قامت على مصالحة وتس���وية معه���ا تجعل كل المقوالت بين‬ ‫العل���م والدين‪ ،‬المنقولة من الس���ياق الغرب���ي وتاريخه الديني‪،‬‬ ‫أمرا ال معنى له في سياق الحضارة اإلسالمية‪.‬‬ ‫ً‬ ‫يقول البروفسور محجوب عبيد طه‪" :‬ليس هنالك تخوف‬ ‫عل���ى الدي���ن م���ن العلم‪ ،‬هذه ه���ي عقيدة المس���لم الصحيحة‪.‬‬ ‫كثير من الناس ‪-‬من المس���لمين وسواهم من أهل المعتقدات‬ ‫وتناقض���ا‬ ‫أساس���يا‬ ‫حرجا‬ ‫الغيبي���ة‪ -‬يظ���ن أن ف���ي األمر‬ ‫واضحا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫ويحس���ن أن يغض عن���ه الطرف‪ .‬وهذا في‬ ‫ال س���بيل لمعالجته َ‬ ‫وهم كبير‪ ،‬وفيه سوء ظن بالعقيدة أو بالعلوم الطبيعية‬ ‫الحقيقة ٌ‬ ‫معا وم���ع الكون والحياة‬ ‫أو باإلنس���ان وص���دق تعامله معهما ً‬ ‫بصفة عامة‪ ،‬ذلك أن الصدق وإخالص النية وتطهير الس���ريرة‬ ‫وتنقيته���ا‪ ،‬هي من صفات اإلنس���ان الس���وي وم���ن الخصائص‬ ‫أب���دا أن يجم���ع المؤم���ن في‬ ‫الالزم���ة للمؤمني���ن‪ ،‬وال يتس���ق ً‬ ‫بعضا"‪.‬‬ ‫عقيدته ومنهج حياته‪ ،‬بين متناقضات ينكر بعضها ً‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )37‬‬

‫‪52‬‬

‫تعضد عقائد اإليمان‪.‬‬

‫يقول أينشتاين "دين بال علم أعرج‪ ،‬وعلم بال دين أعمى"‪.‬‬

‫تبني وجهة النظر القائلة إن االعتقاد بصحة العلم‬ ‫لهذا يمكننا ّ‬

‫الطبيع���ي ج���زء من الدين‪ .‬ألن العلم الطبيع���ي يتعلق بالظاهر‪،‬‬

‫وتصدي���ق الظاه���ر دليل العق���ل والحكمة‪ ،‬وم���ن ال يقف عند‬

‫الظاه���ر ويتأمل���ه ويربط بي���ن أحوال���ه بالتس���بيب والتعليل‪ ،‬ال‬ ‫ينتظر منه أن يحسن االعتقاد بوجود الغيبيات وبحقيقة تأثيرها‬

‫واردا أن نس���حب الثق���ة من العلم‬ ‫ف���ي الحي���اة‪ .‬ولذلك فليس ً‬ ‫الطبيع���ي‪ ،‬ألن اإليمان بالثابت من العلم الطبيعي‪ ،‬هو مقتضى‬

‫العق���ل وجزء من اإليمان بصدق الدين‪ .‬بل إن صريح القرآن‬ ‫الكري���م‪ ،‬حث على تدب���ر الكون والكائنات‪ ،‬وعلى تأمل خلق‬

‫اهلل وإدراك سننه في سلوك المخلوقات‪ ،‬وفضل العالمين بهذا‬ ‫على من جهلوه‪ ،‬وهو من جوهر العلم الطبيعي ويتم بوسائله‬

‫ويحقق أهدافه‪.‬‬

‫وفي هذا الس���ياق يقول "موريس بوكاي" في مقدمة كتابه‪:‬‬

‫أنواعا كثيرة م���ن الظاهرات الطبيعية‪ ،‬ولكن‬ ‫"إن الق���رآن يذكر‬ ‫ً‬ ‫معرفتي كانت وجيزة‪ .‬وبفضل الدراسة الواعية للنص العربي‪،‬‬


‫قضايا فكرية‬

‫محمد هاشم البشير*‬

‫العلم التجريبي الحديث‬ ‫وأثرة على عقيدة المسلم‬ ‫كل اآلي���ات القرآني���ة الداعي���ة إل���ى التفكير ف���ي مخلوقات اهلل ‪‬‬ ‫يدع���ي أن العلم‬ ‫وحس���ن تدبي���ره في الك���ون‪ ،‬حجة عل���ى كل من ّ‬ ‫البعد عن اهلل ‪ ،‬وأن إعمال العق���ل ُيبعد عن الدين‪،‬‬ ‫ي���ؤدي إل���ى ُ‬ ‫وأن الباح���ث ف���ي العل���وم الكوني���ة بعيد عن الدي���ن‪ ،‬وأن الدين ُيبع���د الموضوعية‬ ‫والعقالنية والتفكير العلمي عن الحياة‪.‬‬ ‫إن حي���اة اإلنس���ان كلها في اإلس�ل�ام تمر عب���ر الدين بما في ذل���ك العلم‪ .‬فقد‬ ‫هاما لإلنس���ان الكتش���اف خالقه من خالل‬ ‫حاف���زا‬ ‫جع���ل اإلس�ل�ام اإليمان‬ ‫ً‬ ‫ودافعا ًّ‬ ‫ً‬ ‫اكتش���افه لعظم���ة خلقه‪ .‬وه���ذا ما يعرف بدلي���ل األثر على وج���ود المؤثر‪ .‬وهكذا‬ ‫علم���ا ازداد معرفة ب���اهلل‪ ،‬وكلما ازدادت معرفت���ه ازداد تدينه‬ ‫فكلم���ا ازداد اإلنس���ان ً‬

‫‪51‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )37‬‬


‫واكتس���ابا وفعالي���ة‪.‬‬ ‫علم���ا‬ ‫ً‬ ‫العلمي���ة‪ ،‬يح���اول فيه���ا أن ي���زداد ً‬

‫بعض اإلشكاالت في القراءة الفكرية‬

‫ال لمسؤولية أخالقية إيمانية علمية يسير وفقها‪.‬‬ ‫أن يكون حام ً‬

‫• الحركي�������ة بين الفك�������ر والفعل‪ :‬وفي تعبير متفرد لألس���تاذ‬

‫‪ -1‬القراءة دون اعتبار الس�������ياق الزماني والمكاني‪ :‬هي من‬

‫يبين أن انتفاء هذه الحركية بين الفكر‬ ‫علي عزت بيوجوفيتش‪ّ ،‬‬

‫أعراضه���ا ف���ي التحلي�ل�ات النظرية البعيدة ع���ن الواقع‪ ،‬والتي‬

‫• امتالك ش�������خصية المربي‪ :‬إن البعد الترب���وي في خطاب‬

‫األم���راض الخطيرة التي تصيب المش���تغلين بالفكر‪ ،‬إذ تتجلى‬ ‫واقعي���ا‪ ،‬ألنها أخلت‬ ‫يصع���ب ‪-‬بل يس���تحيل أحيا ًن���ا‪ -‬تطبيقها‬ ‫ًّ‬

‫بأمر مهم وهو "وجوب اعتبار اإلحداثيات الزمانية والمكانية"‬ ‫للظاهرة المدروسة‪.‬‬

‫‪ -2‬إش�������كالية "غوغل" (البعد عن الكتاب)‪ :‬هي إش���كالية‬

‫حاليا‪ ،‬إذ إن طريقة‬ ‫عام���ة‪ ،‬يعاني منها ّ‬ ‫جل المش���تغلين بالعل���م ًّ‬ ‫التعام���ل م���ع مح���رك البحث "غوغ���ل" تعكس وبصف���ة كبيرة‬

‫الفوض���ى المنهجي���ة‪ ،‬والتش���وش الفكري ال���ذي يعانيه مرتادو‬ ‫الشبكة العنكبوتية عبر العالم‪ .‬ودليل ذلك انقطاع حبل التفكير‬

‫ف���ي فه���م الكثير مما يحيط بن���ا من ظواهر وأح���داث‪ ،‬وغياب‬ ‫الحفر المعرفي الحقيقي في المؤسسات التربوية‪ ...‬إذ نجد أن‬

‫موقف إنسان واحد‪ ،‬قد ينتشر ويصبح ‪-‬بدون تمحيص علمي‬ ‫معرفي‪ -‬موق ًفا للكثيرين‪ ،‬بدافع التقليد أو بدافع الفوتوغرافية‬ ‫المتلقية ‪-‬كما يصطلح عليها الدكتور عبد الوهاب المسيري‪.‬‬

‫‪ -3‬القراءة االنطباعية‪ :‬وتتمثل في قراءة القرآن الكريم‪ ،‬أو‬

‫الكت���ب الفكرية‪ ،‬أو الش���رعية أو غيره���ا‪ ،‬من أجل البحث عما‬

‫يالئم هوى القارئ وميوالته‪ ،‬وأفكاره الشخصية‪ ،‬فينتهي بفعل‬

‫هذه القراءة االنطباعية إلى مجموعة أحكام مجتزئة مختزلة‪.‬‬

‫من هو "المفكر"؟‬

‫حي���ن يجهل اإلنس���ان تعريف ش���يء م���ا وال يعلم كنه���ه‪ ،‬فإنه‬ ‫سليما‪.‬‬ ‫بطبيعة الحال‪ ،‬ال يستطيع أن يوظفه في حياته توظي ًفا‬ ‫ً‬

‫من هذا نالحظ أن الكثيرين يطلقون صفة المفكر على من‬

‫ال يتصف بها‪ ،‬أو يس���حبونها عن من يتمثل صفاتها‪ .‬من أجل‬

‫هذا سنوضح فيما يلي أهم صفات المفكر‪.‬‬

‫والفعل‪ ،‬هو بالضرورة انتفاء لصفة أساسية من صفات اإلسالم‪.‬‬

‫جدا‪ ،‬ألنه يصبغ‬ ‫المفك���ر أو ف���ي أبحاثه وأعماله العلمية‪ ،‬مهم ًّ‬ ‫أعمال المفكر بالمسؤولية التربوية والحضارية‪.‬‬

‫وف���ي كل هذا وج���ب اعتبار المركب الحضاري الذي ولد‬

‫فيه وعاش ونش���أ هذا المفكر‪ ،‬واعتبار الوعاء الحضاري الذي‬ ‫يميزه عن غيره‪.‬‬

‫ثنائية الروح والمادة بمنظار "بيوجوفيتش"‬

‫تاه���ت اإلنس���انية ‪-‬وال زالت‪ -‬بي���ن ثنائية ال���روح والمادة‪ ،‬أو‬ ‫العقل والقلب‪ .‬فكثير ممن كان يظن أن اقتصار العيش وإقامة‬

‫الحضارة على أحدهما‪ ،‬دون اعتبار اآلخر‪ ،‬أنتج نتائج مشوهة‬ ‫غي���ر كامل���ة‪ ،‬فإما أن تكون مادية بحتة ال تعتبر لإلنس���ان مكان‬

‫وال قيم���ة‪ ،‬وإما أن تك���ون روحية مغرقة في البعد عن الواقع‪،‬‬ ‫س���ابحة في فضاءات عالم خيالي‪ ،‬ال يعتبر الس���نن الكونية وال‬

‫ال ُّنظم العلمية‪.‬‬

‫لك���ن المفك���ر عل���ي ع���زت بيوجوفيت���ش يؤكد م���ن خالل‬

‫كتابه "اإلس�ل�ام بين الشرق والغرب"‪ ،‬أن اإلسالم أتى ليجمع‬ ‫بي���ن الروح والقلب‪ ،‬من أجل إنس���ان يعي���ش حياة متوازنة غير‬

‫مختلة‪ .‬فيقول المفكر بيوجوفيتش أنه " ال يمكن في اإلسالم‪،‬‬ ‫متسخا"‪.‬‬ ‫نفس مطمئنة‪ ،‬بد ًنا‬ ‫ً‬ ‫أن تحمل ٌ‬

‫وفي حديث األس���تاذ المربي عل���ي عزت بيوجوفيتش عن‬

‫المعايي���ر األساس���ية ف���ي بقاء األم���ة حية تنب���ض عروقها بدماء‬

‫معيارا على ش���كل مصطلح منحوت‬ ‫الفعالي���ة والتوازن‪ ،‬يورد‬ ‫ً‬ ‫وهو "المسجد مدرسة"؛ أي التحام المسجد بالمدرسة وهو ما‬

‫• امتالك النس�������ق‪ :‬إذ إن المفر هو الباحث الممتلك لنسق‬

‫يحيلنا إلى ما يذكره في كتابه "اإلس�ل�ام بين الش���رق والغرب"‬

‫وأعماله العلمية‪ ،‬بإش���كاالته األساسية والمحورية التي يسعى‬

‫اإليماني���ة عند المس���لم‪ ،‬والمدرس���ة تغرس فيه ح���ب المعرفة‬

‫معرف���ي فكري متواصل غير منقط���ع‪ ،‬ظاهر في جميع أبحاثه‬

‫المفك���ر م���ن خالل أعمال���ه أن يجي���ب عنها من ش���تى الزوايا‬

‫والمجاالت‪.‬‬

‫• القلق المعرفي الحضاري‪ :‬أي أن الباحث يعيش في قلق‬

‫وه ّم حضاري تدور كل أبحاثه حولهما‪ ،‬فوجب بهذا‬ ‫معرفي‪َ ،‬‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )37‬‬

‫‪50‬‬

‫مرارا وهو التوازن بين العقل والقلب‪ .‬فالمسجد يذكي الروح‬ ‫ً‬ ‫والس���عي الكتس���ابها‪ ،‬والجم���ع بينهم���ا ف���ي كل آن‪ ،‬وفي كل‬

‫حركة وسكنه من تمام اإليمان‪.‬‬ ‫(*) كاتب وصحافي جزائري‪.‬‬


‫قضايا فكرية‬

‫عبد العزيز بن عمر*‬

‫بين القلب والعقل‬ ‫التوازن الصعب‬

‫ق���د يغ���وص الباحث ف���ي أعماق الفك���ر‪ ،‬وقد‬

‫األخالقية‪ ،‬والعلمية‪ ،‬والش���رعية‪ ،‬والحضارية‪ ،‬ودراسة القابلية‬

‫ف���ك أعقد المس���ائل‬ ‫أيض���ا إل���ى ّ‬ ‫وق���د يس���عى ً‬

‫فالق���رآن الكري���م كمنهج حياة‪ ،‬مركز على القابلية الذهنية عند‬

‫يتج���ول في أضي���ق أزقة العلم ويحي���ط بها‪...‬‬ ‫مس���تعينا ف���ي كل ه���ذا بقدرات���ه العقلي���ة‪ ،‬وإمكاناته‬ ‫المؤرق���ة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫المادي���ة المتوف���رة‪ ،‬والمراج���ع العلمية المتاح���ة‪ ...‬لكنه وفي‬ ‫نهاي���ة مطاف���ه قد ينتج نتائج جافة‪ ،‬باهت���ة‪ ،‬قصيرة األمد‪ ،‬وغير‬ ‫مؤث���رة ف���ي اإلنس���ان إال قليال‪ .‬إن انطفاء ج���ذوة االحتراق من‬

‫أجل قضية أو من أجل أمة أو وطن أو دين‪ ،‬من أهم األسباب‬ ‫التي تجعل المعرفة اإلنسانية مسطحة غير دافعة للفعل‪ ...‬هنا‬ ‫ملزما بإعادة دراسة موقفه تجاه ما يقرأ‪ ،‬من الناحية‬ ‫يغدو المرء ً‬

‫الذهني���ة تج���اه ما يق���رأه‪ ،‬وإال فإنه يلعق اإلناء م���ن الخارج‪...‬‬ ‫اإلنسان (السمع‪ ،‬البصر‪ ،‬الفؤاد‪ ...‬إلخ) من أجل إعادتها إلى‬

‫صحوتها‪ ،‬ومن أجل استعادة نشاطها اإليماني‪.‬‬

‫فلطال���ب العلم ‪-‬مثال‪ -‬مس���ؤوليتان ال يمك���ن تجاوزهما‪،‬‬

‫األول���ى مس���ؤولية ش���رعية إيماني���ة ال يمك���ن التغاف���ل عنه���ا‬

‫وإهماله���ا‪ ،‬تفادي���ا ألن ت���ؤول كل الجه���ود إل���ى إضاف���ة لحبر‬ ‫جدي���د‪ ،‬وأعم���ال أخ���رى بعي���دة كل البع���د عن حقيق���ة الحياة‬

‫وحقيق���ة اإلنس���ان‪ .‬أم���ا الثاني���ة فه���ي المس���ؤولية المعرفي���ة‬

‫‪49‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )37‬‬


‫أدب‬

‫د‪ .‬رشيد كهوس*‬

‫يتيم القدر‬

‫عاد الطفل من المدرس���ة‪ ..‬وجد كل شيء‬ ‫خي���م على‬ ‫ف���ي البي���ت ق���د تغي���ر‪..‬‬ ‫ٌ‬ ‫ح���زن ّ‬

‫سمائه‪ ..‬ودموع أحزان تناثرت بين جنباته‪..‬‬

‫ه���رول الطف���ل إلى بي���ت أبيه فوج���ده‬ ‫مم���ددا واألم تضع‬ ‫ً‬

‫الح ّناء على قدميه‪ ..‬س���أل في دهش���ة‪" :‬م���ا الخطب أمي؟!‬ ‫تتفاجأ األم بسؤال طفلها‪ ،‬وفي حيرة مذهلة بين ابتالع‬

‫دموعها وارتباك جوابها‪" :‬إنه أباك نائم"‪.‬‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫يم‬ ‫علي؟! ل َم نسي هؤالء الناس تعاليم السماء‪َ ﴿ :‬فأ َّما ا ْل َيت َ‬ ‫ال َت ْق َه ْر﴾؟ ووصية خاتم األنبياء ‪ ‬للرجل الذي ش���كا‬ ‫َف َ‬

‫إليه قس���وة قلبه‪" :‬ارحم اليتيم‪ ،‬وامس���ح رأس���ه‪ ،‬وأطعمه‬

‫من طعامك‪ ،‬يلين قلبك وتدرك حاجتك"‪ ..‬تكاد ال تنزل‬

‫على رأسه إال الصفعات‪.‬‬

‫ش���ابا‬ ‫وتمض���ي األي���ام ويجد الجمي���ع الطفل اليتيم‬ ‫ً‬

‫يجلس الطفل يتوس���د قدمي أبيه‪ ،‬واألم تنهمر الدموع‬

‫راش���دا‪ ،‬يصع���د المنبر ليخاط���ب الناس في‬ ‫ال‬ ‫يافع���ا عاق ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫ملحا لقدرها‪ ،‬لكن‬ ‫في تركة األب لعلها تجد ما تشتري به ً‬

‫أهان���وه في صباه‪ ..‬يحنون رؤوس���هم وينظ���رون بنظرات‬

‫م���ن عيونها‪ ،‬واألبناء والبن���ات يلتفون حولها‪ ..‬تبحث األم‬ ‫لم تجد‬ ‫ش���يئا‪َ ..‬من يش���تري لها‪ ..‬األطفال صغار‪ ،‬ونفسها‬ ‫ً‬

‫عفيفة ال تمد اليد إال لباريها‪ ..‬س ّلمت األمر لربها ورضيت‬ ‫بقضائه‪ُ ..‬ش���يعت الجنازة‪ ،‬وانتهت مراس���يم العزاء‪ ،‬و ُنعي‬ ‫إل���ى الطفل وفاة أبيه‪ ،‬فجرت من عينيه الدموع‬ ‫أنهارا‪ ..‬لم‬ ‫ً‬ ‫يجد الطفل أمامه إال حضن أمه يأوي إليه‪.‬‬

‫ال علي���ه‪ ..‬فالطفل ف���ي ربيعه‬ ‫ل���م يك���ن وفاة والده س���ه ً‬

‫الس���ادس‪ ..‬ولك���ن هلل ما أخذ وما أعط���ى وكل نفس ذائقة‬

‫غدا‪.‬‬ ‫اليوم إما اليوم أو ً‬

‫ي���وم الجمعة‪ ..‬ينظر أمامه فيجد أصحاب الصفعات وما‬

‫تذكرهم الماضي‪.‬‬ ‫ّ‬

‫لكن���ه اس���تهل خطبته بنث���ر ابتس���اماته عل���ى الجميع‬

‫المسيئين والمحس���نين‪ ..‬لم يرد اإلساءة باإلساءة‪ ،‬وإنما‬ ‫رد اإلس���اءة باإلحس���ان كما أنش���أته أمه التي كانت تبكي‬

‫الخير‬ ‫من ش���دة الفرح كلما س���معت عن طفلها الش���اب‬ ‫َ‬ ‫لق الحس���ن‪ ،‬فتس���جد هلل سجدة شكر أن جهدها لم‬ ‫ُ‬ ‫والخ َ‬

‫بارا بها‬ ‫يذهب أدراج الرياح‪ ..‬وأن اهلل بارك ابنها‪ ،‬وجعله ًّ‬

‫وظ���ل الطف���ل العاق���ل‬ ‫صاب���را‪ ،‬واألم تحيط���ه برعايتها‬ ‫ً‬

‫شابا خلو ًقا عفيف النفس‪،‬‬ ‫وبأهل قريته الصغيرة‪ ..‬جعله ًّ‬

‫وصعوبة العيش وبؤسه وحالة الفقر ونكده ومرارة األسى‬

‫محبوبا عند الجميع حتى عند مسيئين‬ ‫اهلل أن جعل ابنها‬ ‫ً‬

‫وترع���اه ف���ي كنفه���ا‪ ،‬وتخوض ب���ه لجج الحي���اة ومتاعبها‪،‬‬ ‫واألح���زان‪ ..‬وتنش���ئه عل���ى خص���ال الس���ماحة والرحم���ة‬

‫واألدب‪ ،‬وعف���ة النف���س واحت���رام اآلخري���ن‪ ،‬واالهتم���ام‬ ‫تقصر قط‪ ،‬ولم تغفل عنه طرفة عين‪.‬‬ ‫بالمحتاجين‪ ..‬لم ّ‬

‫أخ���ذ منه الق���در أباه‪ ،‬وجع���ل حياته حياة فق���ر‪ ..‬ينهره‬

‫بع���ض الن���اس ب�ل�ا س���بب‪ ،‬وينظ���رون إلي���ه بنظرة حس���د‪..‬‬ ‫يستغرب الطفل البريء! ِل َم ُأحسد؟! وعلى ماذا؟! َألفقري‪،‬‬ ‫أم لمتاعب حياتي‪ ،‬أم لفقداني والدي‪ ،‬أم لتمزق قلب أمي‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )37‬‬

‫‪48‬‬

‫الخلق‪ ،‬كثير األدب مع الصغير والكبير‪ ..‬حمدت‬ ‫حسن ُ‬

‫له في الماضي‪.‬‬

‫خيرا‪..‬‬ ‫هن���ا أدرك الطفل الش���اب أن اهلل ال يفع���ل إال ً‬

‫فحمد‬ ‫يأتي بالفرج بعد الش���دة‪ ،‬وبالمخرج بعد الضيق‪َ ..‬‬

‫اهلل وأثن���ى علي���ه‪ ،‬ودع���ا بالخي���ر والبرك���ة والرفع���ة ألمه‬

‫المباركة‪ ..‬وبالرحمة والغفران لوالده المرحوم‪.‬‬ ‫(*) جامعة محمد األول ‪ /‬المغرب‪.‬‬


‫شعر‬

‫عبد اهلل صدقي*‬

‫يا رسول اهلل‬ ‫زادك م�������ن زاد الصب�������ر بالطب�������ع أجلـ ـ ـ ـ�������د‬ ‫ك�������ذا الخلق بالصب�������ر يبق�������ى صـ ـ ــبورهـ ـ ــم‬ ‫وع�������دت وعدك وف�������ي الوع�������د م ــنصــب‬ ‫ونبل�������ك من األكرمي�������ن أقوى س�������ـ ـ ـمـاحة‬ ‫وإن يطلب�������وا الطه�������ر ظاه�������را وس�������ـ ــلوكه‬ ‫إذا س�������لكت فجاج الن�������اس فالنور أقـرب‬ ‫وع�������زك الطه�������ر وش������� ـ ـ ـ ـ ــاحا تواضع�������ا‬ ‫يغش�������اك ن�������ور العل�������م بهـ ــدي�������ه م ـ ــعالم�������ا‬ ‫بالس���ل���ام بادلت الجاهلين ي�������وم خاطبوا‬ ‫حمل�������ت على الش�������رك لم�������ا ب ـ ـ�������دا خطبه‬ ‫اس�������تترت بعف�������و رب�������ك طاع�������ة الم ـ ــتدلل‬ ‫أدرك�������ت ع�������زم األم�������ور فقم ـ ـ ـ�������ت للدين‬ ‫واتبعت س�������بيل الهدى متوجس�������ا الخطو‬ ‫فبس�������طت خدك للرحمان حم�������دا وطاعة‬ ‫جالل�������ك الحي�������اء هب�������ة تناجـ ـ ـ ـ�������ي الله به‬ ‫طه�������ر اليدي�������ن تس�������مو كالن ـ ـ�������ور قد عال‬ ‫ل�������م يزعجك مك�������ر م�������ن ع ـ ـ ــ���ل���ا تجبرا‬ ‫بالتس�������بيح هلل�������ت طوي���ل���ا ذكـ ـ ـ�������ر ربك‬ ‫قم�������ت اللي�������ل بالق�������رآن تبتــ���ل���ا تدعو به‬ ‫ت���ل���أأل الم�������اء منس�������كبا عـل�������ى الوجنتين‬ ‫بالن�������ذر وفيت‪ ،‬وح�������ق الس�������ائل أعطيت‬

‫وحظ�������ك م�������ن العز ف�������ي العي�������ون يطلب‬ ‫ويذه�������ب عنهم ش�������أنهم ذاك حين ينضب‬ ‫لحس�������نك معل�������وم وف�������ي العه�������د مطلب‬ ‫وأفصح بيانا في نفوس الخلق وأكس�������ب‬ ‫فبس�������طك له وللحب بع�������د ذاك أعـذب‬ ‫وإن عب�������رت فهون�������ا ف�������ي الس�������ير م ـ ــأرب‬ ‫وشمس�������ك العفو ضـ ـي�������اء بالرفق أصــوب‬ ‫ويرقي�������ك حبق اليقين م�������ا حييت ويصلب‬ ‫وبالرف�������ق حضن�������ت الضال وه�������و يتأهـب‬ ‫وسلكت سبيل المنيبين إلى الله فما أقرب‬ ‫لما علمت الجرم آت يوم الجزاء ال مهرب‬ ‫صالة ودع�������وة إلى الحق وأن�������ت صائـ ــب‬ ‫تحدوه�������ا كما حدته�������ا بالع�������زم الكتائــب‬ ‫كذا قصدك في األمور ما ش�������ابها ش�������ائب‬ ‫وتركن إلى الس�������جود شوقا فالواحد واهب‬ ‫ج�������وا حت�������ى ت�������درك بفضل�������ه المطال ـ�������ب‬ ‫دس�������ا بالنفس فجورا هك�������ذا األكاذي ــب‬ ‫وبالصبر هاج�������رت ‪،‬وهجرك جميل ثاقب‬ ‫لما وطئت األس�������حار ها قد رضي الراقب‬ ‫وضاء عن�������د الوضوء ص���ل���اة وأنت آئـب‬ ‫فأبدلت العطاء متوسال والمتوسل راغ ـ ـ ـ ـ ــب‬

‫(*) شاعر مغربي‪.‬‬

‫‪47‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )37‬‬


‫وأخالقي���ة كم���ا يرى أبو بك���ر العزاوي‪ ،‬حيث يق���ول‪" :‬وهناك‬

‫هي الوصول إلى الحق‪ ،‬فهنا االختالف يقتضي الحوار والنقاش‪.‬‬

‫نظري���ات ونم���اذج حواري���ة عدي���دة طرحت في ه���ذا المجال‪ ،‬خاتمة‬ ‫نذك���ر منها نظرية التع���اون الحواري لـ"ب���ول غرايس" ومفادها‬ ‫أن الح���وار ال يت���م بين ش���خصين إال إذا تعاونا عل���ى إنجازه‪،‬‬

‫بكم‬ ‫وقد ركزت بالخصوص على القواعد اللغوية التي تتعلق ّ‬ ‫أيض���ا نظريات كل من‬ ‫الخب���ر وكيفه وجهته ومناس���بته‪ ،‬وهناك ً‬ ‫"روبين اليكوف"‪ ،‬و"ليتش"‪ ،‬و"براون" و"لفنسن"‪ ،‬التي أبرزت‬ ‫كثيرا من القواع���د التأدبية األخالقية‪ .‬ثم إن التراث العربي‬ ‫لن���ا ً‬ ‫اإلس�ل�امي زاخر بالمباحث والمصنف���ات التي تعالج ضوابط‬

‫الحوار وآدابه"‪.‬‬

‫بينا أن األصل في ال���كالم‪ ،‬الحوار‪ ،‬ونقول‬ ‫لقد س���بق وأن ّ‬

‫اآلن إن األص���ل ف���ي الحوار‪ ،‬االختالف‪ ،‬فل���وال االختالف ما‬

‫كان الحوار‪ ،‬ولوال الحوار ما كان الكالم‪ .‬ومعنى هذا أن ثمة‬ ‫عالق���ة وثيقة بين الحوار واالختالف‪ ،‬ونحن نلجأ إلى الحوار‬

‫واإلقناع لرفع الخالف وتدبير االختالف وتحقيق االتفاق‪.‬‬

‫ومما جاء في قول س���عيد النورس���ي انطال ًق���ا من الحديث‬

‫النب���وي المع���روف‪" :‬اختالف أمتي رحمة" قول���ه‪" :‬االختالف‬ ‫يقتض���ي التف���رق والتح���زب واالعت���داد بال���رأي‪ ،‬ولك���ن داء‬

‫التف���رق واالختالف هذا‪ ،‬في���ه وجه من الرحمة لضعفاء الناس‬ ‫م���ن الع���وام؛ إذ ينقذه���م من تس���لط الخ���واص والظلمة الذين‬

‫إذا حص���ل بينه���م اتف���اق في قري���ة أو قصبة اضطه���دوا هؤالء‬ ‫الضعف���اء‪ ،‬ولك���ن إذا كانت ثمة تفرقة بينهم فس���يجد المظلوم‬

‫ملجأ في جهة فينقذ نفسه"‪.‬‬

‫يبين النورسي في هذا النص قضية من القضايا الهامة التي‬ ‫ّ‬

‫ينتم���ي إليها الح���وار‪ ،‬وهي قضي���ة "رفض االختالف الس���لبي‬ ‫اله���دام ال���ذي ال فائ���دة من���ه وال يس���اعد عل���ى الوص���ول إلى‬

‫الحقيقة‪ ،‬واالختالف يصبح هنا خال ًفا‪ .‬فكل خالف اختالف‪،‬‬

‫ولي���س كل اختالف خال ًفا‪ ،‬ألن الخ�ل�اف أقرب ما يكون إلى‬

‫الصراع والنزاع"‪.‬‬

‫أم���ا االخت�ل�اف اإليجاب���ي الذي يس���اعدنا عل���ى الوصول‬

‫إل���ى الح���ق وإدراك الحقيقة فه���و مطل���وب‪ ،‬ألن الحقيقة إنما‬ ‫تظهر لنا جلية واضحة عند مناقش���ة اآلراء‪ ،‬ودراسة المواقف‪،‬‬ ‫وتص���ادم األفكار‪ ،‬وتخالف العقول‪ ...‬يبين النورس���ي في هذا‬

‫النص‪ ،‬العالقة القائمة بين الحوار واالختالف‪ ،‬سواء أكان هذا‬ ‫سياسيا‪ ،‬لكن بشرط أن تكون الغاية‬ ‫عقديا أم‬ ‫فكريا أم‬ ‫ًّ‬ ‫االختالف ًّ‬ ‫ًّ‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )37‬‬

‫‪46‬‬

‫م���ن خالل م���ا عرضناه‪ ،‬نجد أن س���عيد النورس���ي بي���ن الفرق‬ ‫أيضا أن‬ ‫وبين ً‬ ‫بي���ن االخت�ل�اف اإليجابي واالختالف الس���لبي‪ّ .‬‬

‫االخت�ل�اف اإليجابي يقتض���ي الحوار والنق���اش‪ ،‬ألنه ضرورة‬ ‫حتمي���ة حت���ى يمكنن���ا إقن���اع المتلق���ي‪ .‬وبذلك تك���ون العملية‬ ‫الحوارية مس���توفاة الشروط حتى وإن كان أمر االختالف كائ ًنا‬ ‫ضم���ن العملي���ة الحواري���ة‪ .‬وم���ن خالل م���ا بينه النورس���ي من‬

‫إشارات واضحة المعالم حول الحوار الداخلي أو الحوار مع‬ ‫اآلخر‪ ،‬فإنه أدرك مغزى الحوار من خالل إثباته لتفوق القرآن‬ ‫وحضارته‪ ،‬وأنه ال يمكن للبش���ر‬ ‫أفرادا أو جماعات‪ -‬تحقي ًقا‬‫ً‬ ‫يصبون إليه من رضا وسعادة إال من خالل القرآن‪.‬‬

‫لق���د أس���همت تل���ك الس���مات وغيرها ف���ي تهيئ���ة كتابات‬ ‫النورس���ي للوص���ول ل���كل فئ���ات الش���عب‪ ،‬بغ���ض النظ���ر عن‬ ‫مس���توى فهمهم‪ ،‬فهي بذلك تفس���ر ش���عبية رس���ائل النور ‪-‬ال‬ ‫س���يما الحواري���ة ومخاطب���ة العام���ة‪ -‬محاول���ة منه ف���ي إيصال‬ ‫رسالته لكافة الناس‪ ،‬حتى يفهم الناس طبيعة الحوار االقناعي‬ ‫ل���دى المتلقي وهو ال���دور الذي لعبته رس���ائل النور في حفظ‬ ‫معالم الرمزية الدينية واألخالقية التي تحويها‪.‬‬ ‫وهنا تبرز رمزية رس���ائل النور وأهدافها التربوية؛ وقداس���ة‬ ‫الق���رآن الكري���م المتجس���دة‬ ‫أساس���ا في فكر س���عيد النورس���ي‬ ‫ً‬

‫الترب���وي‪ ،‬ويبدو ذل���ك‬ ‫واضحا من خالل رس���ائله ومكتوباته‪.‬‬ ‫ً‬ ‫تلكم هي باختصار الظاهرة النورسية التي حاولت تغيير العالم‬

‫أجمع‪.‬‬ ‫(*) قسم التاريخ وعلم اآلثار‪ ،‬جامعة وهران ‪ /‬الجزائر‪.‬‬

‫المصادر‬ ‫(‪ )1‬كلي���ات رس���ائل النور (المكتوب���ات‪ ،‬الكلمات‪ ،‬المالحق)‪ ،‬ترجمة إحس���ان‬ ‫قاسم الصالحي‪ ،‬دار النيل للطباعة والنشر‪ ،‬القاهرة‪.‬‬ ‫(‪ )2‬الحوار والحجاج وقبول االختالف أس���اس التربية على حقوق اإلنس���ان"‪،‬‬ ‫ألبي بكر العزاوي‪ ،‬مجلة عالم التربية‪ ،‬عدد‪.2004 ،15:‬‬ ‫(‪ )3‬اإلس�ل�ام ف���ي تركي���ا الحديثة‪ ،‬بديع الزمان النورس���ي‪ ،‬لـ"ش���كران واحدة"‪،‬‬ ‫ترجمة محمد فاضل‪.‬‬


‫ه���ذه المالحق عبارة ع���ن مجموعة‬ ‫أن يرجم���وا بقذائ���ف كالجب���ال‪ ،‬وأنت���م‬ ‫مكاتيب ومراس�ل�ات جرت بين األستاذ‬ ‫بكفرا ِنك���م هذا إنما تتمردون في مملكة‬ ‫ُ‬ ‫تُعترب "كليات ر�سائل النور"‬ ‫َّ‬ ‫النورسي وطالبه األوائل‪ ،‬وطابعها العام‬ ‫مال���ك عظي���م جلي���ل‪ ،‬ل���ه جن���ود ِعظ���ام‬ ‫تف�س�يرا للق��ر�آن الك��رمي لهذا‬ ‫ً‬ ‫يبي���ن أهمية رس���ائل‬ ‫يستطيعون أن يقصفوا أعداء ك َف َرة ‪-‬ولو‬ ‫توجيه���ي إرش���ادي ّ‬ ‫وناجعا‬ ‫مهما‬ ‫وم�ص��درا‬ ‫الع�رص‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫الن���ور‪ ،‬ومنهجها ف���ي الدعوة إلى اهلل في‬ ‫كان���وا ف���ي َضخام���ة األرض والجب���ال‪-‬‬ ‫يف ح��ل م�ش��كالت الع��صر‪،‬‬ ‫هذا العص���ر‪ ،‬تكتنفها مكاتيب ودية يبين‬ ‫وش���ظايا م���ن لهي���ب‬ ‫بقذائ���ف ُم َلتهب���ة‪َ ،‬‬ ‫إمي��ان‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫إىل‬ ‫�‬ ‫بالرج��وع‬ ‫وه��ذا‬ ‫فيها الطالب مدى اس���تفاضتهم الروحية‬ ‫مزقونك���م‬ ‫كأمث���ال األرض والجب���ال‪ُ ،‬في ِّ‬ ‫احلقيقي‬ ‫والعلم‬ ‫الرتبوي‬ ‫العملي‬ ‫م���ن رس���ائل الن���ور واس���تفادتهم العقلية‬ ‫ش���تتونكم‪ ،‬فكيف بمخلوقات ضعيفة‬ ‫وي ِّ‬ ‫ُ‬ ‫امل�شكالت‪،‬‬ ‫تل��ك‬ ‫كنه‬ ‫لتف�س�ير‬ ‫منها‪ ،‬وكيف أنها حولت مجرى حياتهم‬ ‫أمثالك���م؟ وأنتم ُتخالف���ون قانو ًنا‬ ‫صارما‬ ‫ً‬ ‫ٍ‬ ‫وفقه منهج �أخالقي راق يرتكز‬ ‫وفتحت أمامهم آفا ًقا معرفية واسعة‪.‬‬ ‫يرتب���ط ب���ه َمن له القدرة ‪-‬ب���إذن اهلل‪ -‬أن‬ ‫أ�سا�س��ا عل��ى الق��ر�آن الك��رمي‬ ‫ثم إن نظر س���عيد النورس���ي يتوقف‬ ‫ُيمط���ر عليكم قذائ���ف وراجمات أمثال‬ ‫� ً‬ ‫أساس���ا عل���ى أخ���ذه بمنط���ق األولويات‬ ‫وال�سنة النبوية ال�رشيفة‪.‬‬ ‫قوة‬ ‫ً‬ ‫النجوم"‪" ،‬قس في ضوء هذا المثال َّ‬ ‫وبمب���دأ الس���ياق‪ .‬فنج���ده ف���ي األمثل���ة‬ ‫ِ‬ ‫ورصانة بالغتها‪،‬‬ ‫معاني س���ائر اآلي���ات‪َ ،‬‬ ‫الس���ابقة ح���اور أورب���ا النافع���ة‪ ،‬وح���اور‬ ‫وسمو إفادتها"‪.‬‬ ‫مس���تندا‬ ‫إن المتمع���ن في رس���ائل النور‪ ،‬يلح���ظ أن تلك الحوارات النصرانية الحقة‪ ،‬وحاور المدنيين من غير المس���لمين‬ ‫ً‬ ‫ومستندا إلى الحجاج وقوة اإلقناع‪.‬‬ ‫التي اش���تملت عليها‪ ،‬ال تكاد تخلو منها وبدالالتها التعريفية‪ .‬إلى الدليل العقلي والنقلي‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ومن هذا المنطلق‪ ،‬نجد أن سعيد النورسي يورد لنا قواعد‬ ‫ث���م إن تل���ك الحوارات التي كان يجريها باس���تمرار مع طلبته‬ ‫والتي تضمنها المجلد السابع من رسائل النور "المالحق في الحوار والمناقشة وضوابطهما‪ ،‬بعد أن أثير نقاش وجدال حول‬ ‫فق���ه دع���وة النور"‪ ،‬وحوارات���ه مع اآلخر‪ .‬وهي التي س���يكتب صحة أحد األحاديث يقول‪" :‬إن الشرط األول في مناقشة هذه‬ ‫له���ا االس���تمرارية كم���ا كتب النورس���ي؛ يقول بأن���ه على يقين المسائل وأمثالها هو أن تكون المذاكرة في جو من اإلنصاف‬ ‫بني���ة الوص���ول إل���ى الح���ق‪ ...‬وبصورة ال تتس���م‬ ‫من اس���تمرارها في المس���تقبل‪ ،‬وكان يشعر باليقين اتجاه هذا‪ .‬وأن تج���ري ّ‬ ‫فالنس���اء واألطف���ال ق���د ردوا بحم���اس على رس���ائل النور في بالعناد‪ ...‬وبين من هم أهل للمناقشة‪ ...‬دون أن تكون وسيلة‬ ‫ّ‬ ‫منطقت���ي "إس���بارطة" و"قس���طموني"‪ ،‬بل وكان هن���اك من يقرأ لس���وء الفه���م وس���وء التلقي‪ .‬فضم���ن هذه الش���روط قد تكون‬ ‫رس���ائل الن���ور من بين ط�ل�اب المدارس في قس���طموني‪ .‬وقد مناقش���ة هذه المس���ألة وما ش���ابهها جائزة‪ .‬أما الدليل على أن‬ ‫أش���ار إل���ى هذا في ع���دد من رس���ائله معبرا عن بالغ س���عادته المناقش���ة هي في س���بيل الوصول إلى الحق‪ ،‬فهو أن ال يحمل‬ ‫ًّ‬ ‫ش���يئا في قلبه‪ ،‬وال يتألم وال ينفعل إذا ما ظهر الحق‬ ‫لكتاب���ة أع���داد كثي���رة ألج���زاء رس���ائل النور على ي���د األطفال المناقش‬ ‫ً‬ ‫على لسان الطرف المخالف له‪ ،‬بل عليه الرضى واالطمئنان‪،‬‬ ‫والنساء والشيوخ‪ ،‬ففي إحدى رسائله كتب يقول‪:‬‬ ‫"اإلخوة األعزاء األوفياء! ُأرس���لت إلينا نسخ كتبها ما بين إذ قد تعلم ما كان يجهله‪ ،‬فلو ظهر الحق على لسانه لما ازداد‬ ‫ٌ َ​َ‬ ‫ثاني���ا إن كان موضوع المناقش���ة‬ ‫الغرور‪.‬‬ ‫أصاب���ه‬ ‫وربم���ا‬ ‫���ا‬ ‫علم‬ ‫ً‬ ‫خمس���ين إلى ستين من طالب رس���ائل النور الصغار األبرياء‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وقد جمعناها في ثالثة مجلدات‪ ،‬وننوه بأسماء بعضهم‪ :‬عمر‪ ،‬حدي ًث���ا ش���ري ًفا‪ ،‬فينبغ���ي معرف���ة مرات���ب الحدي���ث‪ ،‬واإلحاطة‬ ‫وله خمس���ة عش���ر عاما‪ ،‬بكر‪ ،‬وله تس���عة أعوام‪ ،‬حس���ين‪ ،‬وله بدرجات الوحي الضمني وأقس���ام ال���كالم النبوي‪ .‬وال يجوز‬ ‫ً‬ ‫أح���د عش���ر عاما‪ .‬وتوضح جهودهم الجليل���ة في هذا الوقت‪ ،‬ألحد مناقش���ة مش���كالت الحديث بين العوام من الناس‪ ،‬وال‬ ‫ً‬ ‫إظهارا للتف���وق على اآلخري���ن‪ ،‬وال البحث‬ ‫رأيه‬ ‫ع���ن‬ ‫الدف���اع‬ ‫ً‬ ‫أن رس���ائل الن���ور تتمتع بجاذبية وش���غف وإمت���اع تفوق أوان‬ ‫التس���لية والحوافز المختلفة الت���ي يحاولون إغراء األطفال بها ع���ن أدل���ة ترجح رأيه وتنمي غروره عل���ى الحق واإلنصاف"‪.‬‬ ‫للحض���ور ف���ي الم���دارس الحديثة‪ ،‬وإن ش���اء اهلل لن يس���تطيع‬ ‫شيء أن يمحو ذلك‪ ،‬ولسوف تستمر عبر األجيال"‪.‬‬

‫الحوار واالختالف اإليجابي‬

‫وكما هو معلوم‪ ،‬فإن الحوار له قواعد وضوابط لغوية وتأدبية‬

‫‪45‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )37‬‬


‫رس���ائل النور ج ّلها يؤدي وظيفة حوارية في كثير منها؛ فهناك‬ ‫مجموع���ة م���ن العب���ارات والتي تعتب���ر كعناوي���ن جزئية ضمن‬ ‫تلك المكاتيب والرس���ائل‪ ،‬فت���ارة ترد في بداية بعض الفقرات‬ ‫أو المباح���ث لت���ؤدي وظيفة معينة؛ مثل ح���وار في رؤيا‪ ،‬حوار‬ ‫مع الش���خصية المعنوية ألورب���ا‪ ،‬حوار مع المؤمنات أخوات‬ ‫اآلخ���رة‪ ،‬ح���وار م���ع النفس‪ ،‬ح���وار م���ع فريق من الش���باب‪،‬‬ ‫مح���اورة مع النفس‪ ،‬محاورة مع وزير العدل والحكام الذين‬ ‫لهم عالقة برسائل النور‪ ،‬خطاب إلى أوربا‪ ،‬خطاب إلى الذين‬ ‫يغالون في العنصرية‪ ...‬إلخ‪.‬‬ ‫وإن العب���ارات اإلش���ارية‪ ،‬أي الضمائ���ر وظ���روف الزم���ان‬ ‫وأيضا لفظ���ة القول بمش���تقاتها‪ ،‬وألفاظ أخرى من‬ ‫والم���كان‪،‬‬ ‫ً‬ ‫قبي���ل اعلموا‪ ،‬تعلم���ون‪ ...‬وتعابير مثل إخوت���ي األعزاء‪ ،‬أخي‬ ‫العزيز المحترم‪ ،‬أيها اإلنس���ان ويا نفس���ي‪ ...‬إلخ‪ ،‬وهي تعابير‬ ‫يراد من خاللها إقناع المتلقي بما يجب إقناعه به‪.‬‬

‫من حوارات النورسي‬

‫ال ب���أس م���ن أن نورد نماذج من هذه الحوارات التي تزخر بها‬ ‫رسائل النور‪ .‬ونبدأ بهذا النموذج الذي يخاطب فيه البشرية ال‬ ‫سيما الش���خصية المعنوية ألوربا‪ ،‬حيث نجده يقول‪" :‬يا أوربا‬ ‫جي ًدا أنك قد أخذت بيمينك الفلس���فة المضلة‬ ‫الثاني���ة‪ ،‬اعلمي ّ‬ ‫الس���قيمة‪ ،‬وبش���مالك المدنية المضرة الس���فيهة‪ ،‬ثم تدعين أن‬ ‫س���عادة اإلنسان بهما‪ .‬أال ش ّلت يداك‪ ،‬وبئست الهدية هديتك‪،‬‬ ‫ولتكن وباال عليك وس���تكون‪ .‬أيتها الروح الخبيثة التي تنش���ر‬ ‫الكفر وتبث الجحود‪ ،‬ترى هل يمكن أن يسعد إنسان بمجرد‬ ‫تملكه ثروة طائلة‪ ،‬وترفله في زينة ظاهرة خادعة وهو المصاب‬ ‫ف���ي روحه وفي وجدانه وفي عقله وف���ي قلبه بمصائب هائلة؟‬ ‫وهل يمكن أن نطلق عليه أنه سعيد؟ (‪ )...‬فأي سعادة يمكنك‬ ‫أن تضمني لمثل هذا المس���كين الش���قي؟ وهل يمكن أن يطلق‬ ‫لم���ن روح���ه وقلب���ه يعذبان في جهنم‪ ،‬وجس���مه فق���ط في جنة‬ ‫كاذبة زائلة أنه سعيد؟"‪.‬‬ ‫نجد س���عيد النورس���ي في ه���ذا الحوار الموج���ه إلى أوربا‬ ‫ال نقدها بأس���لوب قويم ورش���يد‪ ،‬حتى تجنح لس���عادة‬ ‫مح���او ً‬ ‫اإلنس���ان وجعل���ه المث���ل األعل���ى لمن خلف���ه‪ .‬وبذل���ك تكون‬ ‫رس���الة س���عيد النورس���ي هادفة في ُبعدها التوعوي‪ ،‬بأس���لوب‬ ‫أساس���ا في عملية الحوار؛ إل���ى جانب الحوار‬ ‫مجس���د‬ ‫إقناعي‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫الذي أجراه مع بطريرك الروم "آش���نو كراس" سنة ‪ 1953‬في‬ ‫االحتفال الذي أقيم بإس���طنبول بمناس���بة مرور خمسمائة عام‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )37‬‬

‫‪44‬‬

‫على فتحها‪ .‬هو التالي‪:‬‬

‫سعيد النورسي‪ :‬يمكن أن تكونوا من أهل النجاة يوم القيامة‬

‫إذا آمنتم بالدين النصراني الحق‪ ،‬بشرط االعتراف بنبوة سيدنا‬ ‫كتابا من عند اهلل‪.‬‬ ‫محمد ‪ ‬وباالعتراف بالقرآن الكريم ً‬ ‫البطريرك‪ :‬إنني أعترف بذلك‪.‬‬

‫حس���نا‪ ،‬فهل تعلنون ذلك أمام الرؤساء‬ ‫س�������عيد النورس�������ي‪:‬‬ ‫ً‬

‫الروحانيين اآلخرين؟‬

‫البطريرك‪ :‬أجل إنني أقول ذلك ولكنهم ال يقبلون‪.‬‬

‫إن ه���ذا الح���وار ه���و ف���ي الحقيق���ة ض���رورة ملح���ة ف���ي‬

‫التح���اورات الخطابي���ة قص���د التأثير واس���تمالة اآلخ���ر؛ وهذه‬

‫الفك���رة الت���ي لطالم���ا كان���ت‬ ‫محل قناعة النورس���ي كأس���لوب‬ ‫ّ‬ ‫ف���ي الحي���اة للتواصل م���ع الغير‪ ،‬وحل المش���اكل والخالفات‬ ‫جل حواراته موجهة نحو‬ ‫الجدلية بينه وبين اآلخرين‪ .‬وكانت ّ‬ ‫كل الفئات ومختلف المتلقين حس���ب قدراتهم العقلية‪ ،‬مثلما‬

‫نجده في حواراته مع أصحاب الديانات المختلفة‪.‬‬

‫وف���ي ه���ذا المقطع من ح���واره مع بطريرك ال���روم‪ ،‬نجده‬

‫يرك���ز عل���ى عناصر الوح���دة واالتفاق‪ ،‬حيث إننا يس���تلهم من‬ ‫ِ ٍ‬ ‫���وا ٍء َب ْي َن َنا‬ ‫قول���ه تعال���ى‪ُ ﴿ :‬ق ْل َيا َأ ْه َل ا ْل ِك َت ِ‬ ‫اب َت َعا َل ْوا ِإ َلى َكل َمة َس َ‬ ‫ال َي َّت ِخ َذ َب ْع ُض َنا‬ ‫���ركَ ِب ِه َش ْ���ي ًئا َو َ‬ ‫هلل َو َ‬ ‫ال ُن ْش ِ‬ ‫���د ِإ َّ‬ ‫���م َأ َّ‬ ‫ال ا َ‬ ‫ال َن ْع ُب َ‬ ‫َو َب ْي َن ُك ْ‬ ‫ون ا ِ‬ ‫���ن ُد ِ‬ ‫ال‬ ‫﴿و َ‬ ‫َب ْع ًض���ا َأ ْر َب ًاب���ا ِم ْ‬ ‫هلل﴾(آل عمران‪ ،)64:‬وقول���ه تعالى‪َ :‬‬ ‫ال بِا َّل ِتي ِهي َأ ْح َس ُن﴾(العنكبوت‪.)46:‬‬ ‫ُت َجا ِد ُلوا َأ ْه َل ا ْل ِك َت ِ‬ ‫اب ِإ َّ‬ ‫َ‬ ‫وفي مثال آخر نجد س���عيد النورسي ُي ِثير النظر إلى المثال‬ ‫اس َت َط ْع ُت ْم‬ ‫﴿يا َم ْع َش َر ا ْل ِج ِّن َوا ِ‬ ‫إل ْن ِ‬ ‫المنبثق عن قوله تعالى‪َ :‬‬ ‫س إ ِ​ِن ْ‬ ‫او ِ‬ ‫ات َوا َ‬ ‫���ذوا ِم ْ َ‬ ‫ون‬ ‫ض َفا ْن ُف ُذوا َ‬ ‫َأ ْن َت ْن ُف ُ‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫ال َت ْن ُف ُذ َ‬ ‫���م َ‬ ‫الس َ‬ ‫���ن أ ْق َطارِ َّ‬ ‫ال بِس ْل َط ٍ‬ ‫ال ِء َر ِّب ُك َما ُت َك ِّذ َب ِ‬ ‫ان﴾(الرحمن‪ .)34-33:‬وقوله‬ ‫ان ‪َ ‬ف ِب َأ ِّي آ َ‬ ‫ِإ َّ ُ‬ ‫وما‬ ‫���م َاء ُّ‬ ‫﴿و َل َق ْ‬ ‫ِي���ح َو َج َع ْل َن َ‬ ‫‪َ :‬‬ ‫اها ُر ُج ً‬ ‫الد ْن َي���ا ب َِم َصاب َ‬ ‫الس َ‬ ‫���د َز َّي َّن���ا َّ‬ ‫ِ‬ ‫لشي ِ‬ ‫الس ِع ِير﴾(الملك‪.)5:‬‬ ‫اط ِ‬ ‫ين َو َأ ْع َت ْد َنا َل ُه ْم َع َذ َ‬ ‫ل َّ َ‬ ‫اب َّ‬ ‫"اس���ت ِمع له���ذه اآلي���ات‬ ‫يقول س���عيد النورس���ي‪:‬‬ ‫وتدبر ما‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫تق���ول‪ ...‬إنه���ا تق���ول‪ُّ :‬أيه���ا اإلنس والج���ان‪ُّ ،‬أيه���ا المغرورون‬ ‫المعا ِندون‬ ‫المتم���ردون‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫المتوحلون بعجزهم وضعفه���م‪ُّ ،‬أيها ُ‬ ‫ِّ‬ ‫الجا ِمح���ون‬ ‫المتمرغ���ون ف���ي فقرهم وضعفه���م‪ ...‬إنكم إن لم‬ ‫ِّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫فهيا اخرجوا من حدود ملكي وس���لطاني إن‬ ‫ُتطيع���وا أوامري‪َّ ،‬‬ ‫اس���تطعتم‪ ،‬فكي���ف تتج���رؤون إ ًذا على أوامر س���لطان عظيم؟!‬ ‫َّ‬ ‫النج���وم واألقم���ار والش���موس ف���ي قبضت���ه‪ ،‬تأ َت ِم���ر بأوام���ره‪،‬‬ ‫كأنه���ا‬ ‫أهب���ة‪ ...‬فأنت���م بطغيانك���م ه���ذا إنما ُتب���ارِ زون‬ ‫ٌ‬ ‫جن���ود ُم َت ِّ‬ ‫ِ‬ ‫حاك ًم���ا‬ ‫ال له جن���ود ُم ِطيعون َمهِ يبون‪ ،‬يس���تطيعون‬ ‫عظيم���ا جلي ً‬ ‫ً‬


‫قضايا فكرية‬

‫د‪ .‬حمدادو بن عمر*‬

‫الحوار اإلقناعي‬

‫والمحاججة التربوية عند النورسي‬ ‫ُتعتبر "كليات رسائل النور" لبديع الزمان سعيد‬

‫المباش���رة أو غير المباش���رة‪ ،‬والصريحة أو المضمرة‪ ،‬المنجزة‬

‫وناجعا في حل مشكالت‬ ‫مهما‬ ‫العصر‪،‬‬ ‫مصدرا ًّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫الحوار في رسائل النور له أشكال عديدة وأنماط متنوعة‪،‬‬

‫النورس���ي التي هي تفسير للقرآن الكريم لهذا‬

‫العص���ر‪ ،‬وهذا بالرج���وع إلى اإليمان العمل���ي التربوي والعلم‬

‫الحقيقي لتفس���ير كنه تلك المش���كالت‪ ،‬وفق���ه منهج أخالقي‬ ‫ٍ‬ ‫أساس���ا على القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة‪.‬‬ ‫راق يرتكز‬ ‫ً‬ ‫ال‬ ‫ونظرا لعناية القرآن الكريم عناية كبيرة بالحوار‪ ،‬مس���تعم ً‬ ‫ً‬ ‫أساس���ا على المحاججة أو‬ ‫ف���ي ذلك القوة اإلقناعية المعتمدة‬ ‫ً‬

‫الفعلية أو المفترضة المتخيلة حسب نظر أبي بكر العزاوي‪.‬‬

‫فق���د جاء ت���ارة على ش���كل حوار داخل���ي‪ ،‬وجاء ت���ارة أخرى‬ ‫على شكل مراسالت مع الطالب‪ .‬كما جاء أيضا على شكل‬

‫مناظرة أو مناقشة أو نقد أو جوابا عن أسئلة‪.‬‬

‫لق���د اش���تملت رس���ائل الن���ور عل���ى معجم ح���واري غني؛‬

‫فنج���د فيها بع���ض المصطلحات التي ت���كاد ال تخلو من تلك‬

‫الحجاج؛ كان من البديهي أن يكون س���عيد النورس���ي ‪-‬رحمه‬

‫المكاتي���ب أو المراس�ل�ات‪ ...‬فعل���ى عل���ى س���بيل المثال نجد‬

‫األسلوب األفضل لإلقناع‪.‬‬

‫المذاك���رة‪ ،‬اإلقن���اع‪ ،‬االقتن���اع‪ ،‬المناجاة‪ ،‬التش���اور‪ ،‬الرس���ائل‪،‬‬

‫اهلل‪ -‬رج���ل ح���وار مقن���ع لكاف���ة المس���لمين ممن حول���ه‪ ،‬ألنه‬ ‫وأثناء قراءة الباحث لرسائل النور فإنه يلحظ أنها ذات داللة‬

‫حوارية واضحة‪ ،‬وهي بذلك نوع من الحوارات الممتزجة بين‬

‫الح���وار‪ ،‬المح���اورة‪ ،‬النقاش‪ ،‬الج���دال‪ ،‬المناقش���ة‪ ،‬المناظرة‪،‬‬ ‫المكاتيب‪ ،‬األسئلة واألجوبة‪ ،‬الخطاب إلى غير ذلك‪.‬‬

‫ث���م إن الدالالت الحواري���ة والتي توحي داللة صريحة أن‬

‫‪43‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )37‬‬


‫الشمس���ية‪ ،‬بأنصاف ُكرات خش���بية تتناس���ب في أحجامها مع‬

‫السكينة واالس���ترخاء داخل نفوس المصلّين‪ ،‬كما يعمل على‬

‫اختيار أماكنها أن تكون المسافات بينها متناسبة مع المسافات‬

‫جان���ب اس���تخدام هذا الماء ف���ي الوضوء والطه���ارة‪ ،‬فتجتمع‬

‫األحجام الحقيقية للش���مس وتل���ك الكواكب‪ ،‬كما ُروعي في‬ ‫أيضا‪ .‬وبذلك‬ ‫الحقيقة التي تفصل الشمس عن تلك الكواكب ً‬

‫اجتمع في المس���جد الكبير بـ"بورصة"‪ ،‬كتابة آيات قرآنية من‬ ‫الكتاب المس���طور وبعض آيات الك���ون المنظور المتمثلة في‬

‫ه���ذا العم���ل الفني والعلم���ي البديع في آن واحد‪ ،‬في إش���ارة‬

‫هامة إلى التكامل بين اإليمان والعلم في اإلسالم‪.‬‬ ‫إن ه���ذا التعبير الفني المدهش عن طريق تلك‬

‫األطب���اق النجمي���ة الس���ابحة على‬

‫امتص���اص جزيئ���ات الغب���ار والدخ���ان بصحن المس���جد‪ ،‬إلى‬ ‫سكينة الباطن مع طهارة الظاهر‪.‬‬

‫ولتل���ك الناف���ورة وظيف���ة بيئي���ة هام���ة؛ حي���ث تق���وم بدور‬

‫التكيي���ف الطبيع���ي لهواء المس���جد عن طريق ترطي���ب الهواء‬ ‫الداخل من القبة المفتوحة بال نوافذ والتى تعلو تلك النافورة‬ ‫تمام���ا‪ .‬إل���ى جان���ب أن���ه ف���ي الماض���ي‬ ‫ً‬ ‫حي���ث كان���ت تس���تخدم الش���موع‬ ‫والمصابي���ح التقليدية‪ ،‬فكان الماء‬

‫جانب���ي المنب���ر‪ ،‬تعك���س م���دى‬

‫يق���وم بامتصاص نوات���ج دخان‬

‫التق���دم العلم���ي عن���د علم���اء‬

‫م���ا يق���رب م���ن ‪700‬‬

‫المس���لمين األوائ���ل ف���ي تل���ك‬

‫مصب���اح وش���معة كان���ت‬

‫العص���ور الزاه���رة‪ ،‬حيث إن‬ ‫صناعة وابت���كار فكر ِة هذا‬

‫تس���تخدم ف���ي إض���اءة‬

‫المس���جد قب���ل اس���تخدام‬

‫المنب���ر‪ ،‬كانت قب���ل ‪231‬‬

‫عام���ا م���ن اكتش���اف العالم‬ ‫ً‬

‫الثريات والمصابيح الكهربائية‬

‫روية‬ ‫األوروبي "جاليلي���و" لحقيقة ُك ّ‬

‫الحديثة‪.‬‬

‫األرض ودورانه���ا ح���ول الش���مس‪،‬‬

‫كما تس���بق فكرة اكتش���اف األمريكان‬

‫لكوك���ب "بلوت���و" ع���ام ‪1953‬م‪ ،‬حي���ث‬

‫عاما‬ ‫نفاجأ بوجوده على جناح هذا المنبر قبل حوالي ‪ً 631‬‬

‫مضت قبل هذا االكتشاف‪.‬‬

‫خاطفة لبع���ض ما رأيته بالمس���جد‬

‫الكبي���ر بـ"بورصة"‪ ،‬هذا المس���جد الذي جمع بين‬

‫روعة وضخامة البناء‪ ،‬وروحانيات التعبير عن اآليات‬

‫القرآني���ة واألحاديث النبوية والحك���م المأثورة‪ ،‬والتي جعلت‬

‫قصة النافورة بصحن المسجد‬

‫يتوس���ط صحن المس���جد ناف���ورة بديع���ة من الرخ���ام األبيض‬

‫وضع���ت بعد بناء المس���جد بحوالي ‪ 220‬س���نة‪ ،‬وهي تحتوي‬

‫على ثالثة وثالثين‬ ‫مخرجا للماء‪ ،‬موزعة على ثالثة مستويات‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وعن���د خروج الماء م���ن تلك الفتحات‪ ،‬فإن صوته يبعث على‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )37‬‬

‫تل���ك لمح���ات وتأم�ل�ات‬

‫‪42‬‬

‫حوائط وأعمدة المسجد تنطق بال لسان بروائع البيان‪ ،‬لتجعل‬

‫صرحا‬ ‫من هذا البنيان ليس فقط مكا ًنا للصالة‪ ،‬ولكن‬ ‫معماريا‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬ ‫للتفك���ر والتأم���ل ف���ي آي���ات الرحم���ن وعجائب األك���وان‪.‬‬

‫(*) كلية اآلثار‪ ،‬جامعة القاهرة ‪ /‬مصر‪.‬‬


‫أي زاوي���ة‪ ،‬وكأنها تدعوه‬ ‫الح���رام متجهة إل���ى الناظر إليها من ِّ‬

‫إلى زيارتها كلما َو َّلى وجهه شطر تلك اللوحة الرائعة‪.‬‬

‫أم���ا اآليات القرآني���ة الكريمة فلها نصيب األس���د في تلك‬

‫الكتاب���ات‪ .‬فق���د علق���ت لوحة ف���وق الباب الموج���ود بالجدار‬

‫الش���رقي لقاع���ة الصالة‪ ،‬مكت���وب عليها قوله تعال���ى‪" :‬بل هو‬ ‫ل���وح محف���وظ"‪ ،‬وعل���ى يمين الب���اب لوحة‬ ‫مجي���د ف���ي‬ ‫ق���رآن‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٍ‬

‫مكت���وب عليه���ا قول���ه تعال���ى‪" :‬إن الصالة تنهى عن الفحش���اء‬

‫والمنكر ولذكر اهلل أكبر"‪ ،‬وعلى يسار الباب‪ ،‬الحديث النبوي‬ ‫الشريف‪" :‬أكمل المؤمنين إيما ًنا َأ ْح َسنهم ُخ ُل ًقا"‪.‬‬ ‫ومن نم���اذج اللوحات الثابتة بنفس الجدار الس���ابق والتي‬ ‫التعبير عن روع���ة المعاني القرآنية عن‬ ‫اس���تطاع فيه���ا الخطاط‬ ‫َ‬ ‫طري���ق اختالف مقياس الخط وكذلك حرف "الواو"‪ ،‬ما َيظهر‬

‫في اللوحة التي احتوت على قوله تعالى‪" :‬وهلل العزة ولرسوله‬

‫وللمؤمني���ن‪ ،‬ولك���ن المنافقي���ن ال يعلم���ون"؛ فاآلي���ة الكريمة‬ ‫تك���رر فيها حرف "الواو" أربعة م���رات‪ ،‬اختار الخطاط المبدع‬ ‫حجم���ا أكبر وه���ي التي تس���بق لفظ الجالل���ة‪ ،‬ثم بدأ‬ ‫لألول���ى‬ ‫ً‬ ‫حج���م "الواوات" األخ���رى يتناقص حتى الوص���ول إلى الواو‬

‫الرابع���ة وه���ي أصغرها وهي التي تس���بق قوله تعال���ى‪" :‬ولكن‬ ‫عبر عن قدرِ وقيم��� ِة كل مذكور‬ ‫المنافقي���ن"‪ ...‬فالخط���اط هن���ا ّ‬ ‫في تلك اآلية بما يتناس���ب معه‪ ،‬فـ"الواو" الكبرى تتناسب مع‬ ‫الذات اإللهية‪ ،‬واألصغر مع الرس���ول عليه الصالة والس�ل�ام‪،‬‬

‫صغرا مع المؤمنين‪ ،‬أما "الواو" الصغرى واألخيرة‬ ‫فالتي تليها‬ ‫ً‬ ‫فهي التي تسبق ذكر عدم علم المنافقين‪ .‬روعة في التعبير عن‬ ‫المعنى العميق الوارد في تلك اآلية الكريمة‪ ،‬والتي تمثل عمق‬

‫الفه���م والتدب���ر لتلك المعاني والتعبير عنه���ا من خالل الكتابة‬

‫والخط العربي‪.‬‬

‫وم���ن اللوح���ات الخطي���ة المدهش���ة ف���ي مبناه���ا ومعناها‪،‬‬

‫بالجدار الش���مالي للمس���جد‪ ،‬ج���زء من آية قرآني���ة وردت في‬

‫مختلف���ة ومبتك���رة ف���ي وق���ت واح���د ف���ي العديد م���ن لوحات‬ ‫تعبي���را ع���ن ذل���ك‪ ،‬لوحت���ان ثابتتان‪،‬‬ ‫المس���جد‪ ،‬وم���ن أكثره���ا‬ ‫ً‬ ‫إحداهم���ا على الجدار الغربي للمس���جد‪ ،‬وه���ي ترى من بعيد‬ ‫عل���ى هيئ���ة كتاب��� ٍة دائري��� ٍة لعدد تس���عة أحرف متك���ررة لحرف‬ ‫رب َت منها وقرأ َتها‪ ،‬وجد َتها هي آيات آخر‬ ‫"السين"‪ .‬وإذا ما َ‬ ‫اقت ْ‬ ‫سورِ المصحف وهي سورة "الناس"‪ ،‬والتي تنتهي كل آية فيها‬ ‫بحرف "السين" والذي يحتضن بداخله باقي اآلية‪ .‬أما اللوحة‬ ‫الثانية فمكتوبة على أحد أعمدة المس���جد والحرف األس���اس‬ ‫فيها هو "الواو"‪ ،‬حيث يتكرر ثمانية منها على هيئة كتابة دائرية‬ ‫تحتضن بداخلها اآليات األولى من سورة "الشمس"‪.‬‬ ‫غيضا م���ن في���ض‪ ...‬فاللوحات‬ ‫إن م���ا ذكرن���اه هن���ا يعتب���ر ً‬ ‫الخطية الكثيرة األخرى الموجودة في المسجد‪ ،‬ال تقل روعة‬ ‫ال عم���ا أش���رنا إليه آن ًفا‪ ،‬وهو ما يحت���اج إلى مقاالت‬ ‫وال جم���ا ً‬ ‫أخ���رى ال تحص���ى‪ ،‬حت���ى يمك���ن أن نو ّف���ي تل���ك اإلبداعات‬ ‫الخطية حقها من الذكر والتأمل واالستمتاع‪.‬‬

‫فج عميق"‪ ،‬حيث تم المجموعة الشمسية على جناحى المنبر‬ ‫س���ورة الحج وهي قوله تعالى‪" :‬من كل ٍّ‬

‫مع���ا وتبدو وكأنها كلمة‬ ‫كتاب���ة الكلمات األربع بحيث ترتبط ً‬

‫واح���دة‪ ،‬ترتبط وتتطابق عند الحروف األخيرة لتلك الكلمات‬ ‫األربع (النون‪ ،‬الالم‪ ،‬الجيم‪ ،‬القاف)‪ ،‬الحروف األربعة وكأنها‬

‫إحساس���ا بالعمق والبعد‬ ‫تراكمت فوق بعضها البعض‪ ،‬لتعطي‬ ‫ً‬

‫المذك���ور في معنى اآلية القرآنية‪ ،‬حي���ث إن كلمة "عميق" في‬ ‫البعيد إلى أسفل‪.‬‬ ‫اللغة العربية معناها َ‬

‫وتظه���ر أهمي���ة الحرف وأس���لوب اس���تخدامه بط���رق فنية‬

‫إذا كانت حوائط المسجد وأعمدته قد ازدانت بتلك الكتابات‬ ‫عب���رت عن العديد م���ن المعاني القرآنية‬ ‫الخطي���ة الرائع���ة التي ّ‬ ‫العميق���ة المس���طورة ف���ي الق���رآن الكريم‪ ،‬ف���إن جانب���ي المنبر‬ ‫الخشبي للمسجد‪ ،‬قد ازدانتا بزخارف خشبية على هيئة أطباق‬ ‫نجمي���ة ذات حش���وات خش���بية‪ ،‬يتوس���ط بعض تل���ك األطباق‬ ‫أنصاف ُكرات خشبية بارزة تم ّثل المجموعة الشمسية‪.‬‬ ‫فق���د ت���م التعبي���ر ع���ن الش���مس وكل كواك���ب المجموعة‬

‫‪41‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )37‬‬


‫وصد هجوم ملك المج���ر وحلفائه‪ .‬ونذر‬ ‫للدف���اع ع���ن القلعة‬ ‫ّ‬

‫على كل تلك اللوحات الخطية العربية المميزة‪ ،‬والتي أعطت‬

‫‪ ‬لهزيمة أعدائه واالنتصار عليهم‪.‬‬

‫يغذي األرواح والنفوس التي تقرأها‪ ،‬إلى‬ ‫تلك الكتابات‪ ،‬كما ّ‬

‫"بيازيد" في دعائه بعد الصالة أن يبني ‪20‬‬ ‫مسجدا إذا و ّفقه اهلل‬ ‫ً‬ ‫وبع���د أن انتص���ر "بيازي���د" ف���ي المعرك���ة وعاد إل���ى مدينة‬

‫بورص���ة‪ ،‬اقت���رح علي���ه ش���يخه ومستش���اره "أمير س���لطان"‪ ،‬أن‬

‫مس���جدا‬ ‫يبني‬ ‫كبيرا له عش���رون قبة يس���تخدم في صالة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫واحدا ً‬

‫مسجدا‬ ‫ال من بناء عش���رين‬ ‫صغيرا‪،‬‬ ‫الجمعة‪ ،‬بد ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وف���اء لنذره‪ .‬وراق���ت الفكرة لـ"بيازي���د" وقبِلها‬ ‫ً‬ ‫ث���م ش���رع ف���ي بن���اء ه���ذ الجام���ع‬

‫الكبي���ر ف���ي بورص���ة‪ ،‬بحي���ث‬

‫أصبح���ت كل قب���ة م���ن قباب���ه‬

‫جانب المتعة البصرية الناتجة عن تتبع أس���لوب الكتابة الفني‬ ‫والزخرفي‪ ،‬وال���ذي ُيبرز المعاني اإليمانية العميقة في اآليات‬ ‫القرآنية واألحاديث النبوية المختارة‪.‬‬

‫رك���زت تلك الكتاب���ات على فكر ِة‬ ‫لقد ّ‬ ‫وحداني ِة المولى ‪ ‬وهي الغاية الكبرى‬ ‫لإلس�ل�ام‪ .‬فنج���د عل���ى ج���دار القبل���ة‬ ‫(الجدار الجنوبي للمس���جد)‬ ‫لوح ًة معلق���ة‬ ‫مكتوب عليها‬ ‫ٌ‬

‫مس���جدا‬ ‫وكأنها تكافئ‬ ‫صغيرا‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫"ه���و اهلل" ت���ارة م���ن اليمي���ن‬

‫وتارة أخرى بطريقة معكوسة‬

‫الكتابات الخطية بالمسجد‬

‫م���ن اليس���ار‪ ،‬بحي���ث تلتق���ي‬

‫يلفت نظ���ر الزائر فور ولوجه‬

‫اللفظت���ان في منتصف اللوحة‬

‫إل���ى قاع���ة الص�ل�اة‪ ،‬وج���ود‬

‫عند "هو" الضمير الدال على‬

‫‪ 132‬لوحة خطية معلقة وثابتة‬

‫تزي���ن ج���دران وأعم���دة المس���جد‪،‬‬

‫وق���د بقي���ت من أص���ل ‪ 192‬لوحة خطية‬

‫كان���ت موجودة بالمس���جد‪ .‬ويرجع تاريخ‬

‫عاما خلت‪،‬‬ ‫اللوح���ات المعلقة إلى حوالي ‪ً 150‬‬

‫عاما مضت‪.‬‬ ‫واللوحات الثابتة يرجع تاريخها من ‪ 100‬إلى ‪ً 150‬‬

‫وبذل���ك يتميز هذا الجامع المهي���ب بأنه بمثابة متحف أو‬

‫صال���ة ع���رض للخطوط العربي���ة المختلف���ة‪ ،‬وبخاصة أن تلك‬

‫اللوح���ات الخطي���ة‪ ،‬ترك���ز على موضوع���ات ذات صبغة دينية‬

‫يأتى على رأسها لفظ الجاللة "اهلل"‪ ،‬مع بعض اآليات القرآنية‬ ‫واألحاديث النبوية إلى جانب بعض الحكم المأثورة‪.‬‬

‫تو مسجد في العالم االسالمي‬ ‫وعلى حد علمي‪ ،‬فإنه لم َي ْح ِ‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )37‬‬

‫خاصا ُيدخل الس���كينة والصفاء على من يرى‬ ‫للمس���جد رون ًقا ً‬

‫‪40‬‬

‫الذات اإللهية‪.‬‬

‫وغالب���ا م���ا تم كتابة ح���رف "الواو"‬ ‫ً‬

‫عل���ى كل حوائ���ط المس���جد‪ ،‬ولك���ن أجملها‬

‫وأكثره���ا‬ ‫تعبي���را ع���ن وحداني���ة اهلل‪ ،‬لوحة خطية‬ ‫ً‬

‫أيضا يطلق عليها "الواو الخضراء"‪ ،‬وأهم ما‬ ‫ثابتة بجدار القبلة ً‬

‫يميزه���ا‪ ،‬انتهاء حرف ال���واو واتصالها بزهرة التيوليب (‪.)Tulip‬‬ ‫و"التيولي���ب" أو "اللاَّ َلة" عند العثمانيين‪ ،‬ترمز إلى وحدانية اهلل‬ ‫الواحد األحد‪.‬‬ ‫وعلى نفس الجدار وضعت لوحت معلقة‪ ،‬مرس���وم عليها‬

‫المس���جد الحرام تتوس���طه الكعبة المشرفة‪ .‬ويتميز هذا الرسم‬ ‫الثالث���ي األبع���اد‪ ،‬بإمكاني���ة رؤية باب الكعبة وقباب المس���جد‬


‫ثقافة وفن‬

‫د‪ .‬يحيى وزيري*‬

‫تأمالت معمارية في‬

‫المسجد الكبير بـ"بورصة"‬ ‫العبارة من مدينة إس���طنبول انطال ًقا إلى‬ ‫ركبن���ا ّ‬

‫مصل‪ .‬ويمتاز‬ ‫مربعا‪ ،‬ويتسع لما يقرب من ‪4500‬‬ ‫ّ‬ ‫مترا ً‬ ‫‪ً 3165‬‬

‫مجموع���ة م���ن اإلخ���وة األت���راك والمصريين‪.‬‬

‫كم���ا يحتوي على ‪ 211‬ناف���ذة؛ ‪ 152‬منها موجودة على قباب‬

‫مدين���ة بورص���ة العريق���ة َع ْبر بح���ر مرمرة‪ ،‬مع‬

‫وكن���ت في ش���وق لزي���ارة مدينة‬ ‫مشمس���ا‪...‬‬ ‫جمي�ل�ا‬ ‫يوم���ا‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫كان ً‬ ‫ً‬

‫بورصة العريقة‪ ،‬ورؤية ش���وارعها ومبانيه���ا التاريخية‪ ،‬وجبلها‬ ‫الشاهق األشم‪.‬‬

‫هذا المس���جد باحتوائه على عش���رين قبة مميزة في تفاصيلها‪،‬‬

‫المس���جد المختلف���ة‪ .‬وللمس���جد ثالثة مداخ���ل باإلضافة إلى‬ ‫مدخ���ل خ���اص كان‬ ‫مخصصا لدخول الس���لطان ألداء الصالة‬ ‫ً‬

‫في مقصورة خاصة به‪.‬‬

‫وبعد تناول الغداء في أحد المطاعم األنيقة الذي استمتعنا لماذا عشرون قبة؟‬

‫في���ه بتن���اول وجبة ش���هية من "كباب اإلس���كندر" كم���ا يطلقون‬

‫ف���ي ع���ام ‪1396‬م ق���ام مل���ك المج���ر وحلف���اؤه األوروبي���ون‬

‫يع���د أول جام���ع كبير بن���اه العثمانيون ع���ام ‪1399‬م‪،‬‬ ‫وال���ذي ّ‬

‫تلك القلعة تابعة للعثمانيين في ذلك الوقت‪ .‬وبناء على طلب‬

‫علي���ه ف���ي بورصة‪ ،‬انطلقنا إلى المس���جد الكبي���ر ( ُأ ْو ُلو جامع)‬

‫وال���ذي ق���ام بتصميم���ه المعم���اري "علي نصار" على مس���احة‬

‫بمهاجمة قلع���ة "نيكوبوليس" (‪ )Nicopolis‬بجيش كبير‪ ،‬وكانت‬

‫قائ���د القلع���ة قام الس���لطان العثمان���ي "بيازيد" بتجهيز جيش���ه‪،‬‬

‫‪39‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )37‬‬


‫(‪ )7‬ومنهج التشريع اإلسالمي لرعاية هذه المصالح يسلك طريقين أساسين‪:‬‬

‫(‪ )14‬قال الشاطبي‪" :‬القيام بهذا الفرض ‪-‬يقصد الفرض الكفائي‪ -‬قيام بمصلحة‬

‫تؤمن تكوين هذه المصالح وتوفر وجودها‪.‬‬ ‫األول‪ :‬تش���ريع األحكام التي ّ‬

‫عامة‪ ،‬فهم مطلوبون بسدها على الجملة‪ ،‬فبعضهم هو قادر عليها مباشرة‪،‬‬

‫وتؤمن الضم���ان والتعويض عنها‬ ‫وتمن���ع االعتداء عليه���ا أو اإلخالل بها‪،‬‬ ‫ّ‬

‫قادرا على الوالية‪ ،‬فهو مطلوب بإقامتها‪ ،‬ومن ال‬ ‫إقامة القادرين‪ ،‬فمن كان ً‬

‫الثان���ي‪ :‬تش���ريع األح���كام التي تحفظ ه���ذه المصالح وترعاه���ا وتصونها‪،‬‬ ‫عند إتالفها أو االعتداء عليها‪ ،‬وبذلك تصان حقوق اإلنسان وتحفظ‪ ،‬عن‬

‫طريق إقرارها بما يلزم‪ .‬الموافقات ‪.5/2‬‬

‫(‪ )8‬أخرجه البيهقى في سننه ‪ ،267/6‬وابن سعد في الطبقات الكبرى ‪-128/1‬‬ ‫‪.129‬‬

‫(‪ )9‬أخرج���ه البخاري‪ ،‬كت���اب األحكام‪ ،‬باب من قضي له بحق أخيه فال يأخذه‬ ‫حراما وال يحرم حالالً‪ ،‬رقم ‪.6759‬‬ ‫فإن قضاء الحاكم ال يحل‬ ‫ً‬

‫(‪ )10‬ومما يشهد له ما رواه اإلمام البيهقي‪ :‬أن النبي ‪ ‬لما أراد أن يبعث معا ًذا‬

‫لك قضاء؟" ق���ال‪ :‬أقضي بكتاب‬ ‫إل���ى اليم���ن قال‪" :‬كي���ف تقضي إن عرض َ‬

‫"فإن‬ ‫اهلل‪ ،‬ق���ال‪:‬‬ ‫���نة رس���ول اهلل‪ ،‬قال‪ْ :‬‬ ‫ْ‬ ‫فبس َّ‬ ‫"ف���إن لم تجد في كتاب اهلل؟" قال‪ُ :‬‬ ‫���نة رس���ول اهلل وال في كتاب اهلل؟" قال‪ :‬أجتهد رأيي وال آلو‪،‬‬ ‫س‬ ‫في‬ ‫تجد‬ ‫لم ْ‬ ‫ُ َّ‬ ‫ِ‬ ‫رس���ول‬ ‫فضرب رس���ول اهلل ‪ ‬صدره وقال‪" :‬الحمد هلل الذي وفق رس���ولَ‬

‫اهلل لم���ا ُي ْرضي رس���ولَ اهلل"‪ ،‬أخرجه البيهقي في "الس���نن الكبرى"‪( ،‬ج‪،10‬‬ ‫ص‪ ،)150:‬والدارقطني في س���ننه‪( ،‬ج‪ ،4‬ص‪ ،)206:‬و"إعالم الموقعين"‪،‬‬ ‫(ج‪ ،1‬ص‪ ،)92:‬و"أخبار القضاة"‪( ،‬ج‪ ،1‬ص‪.)72:‬‬

‫ وم���ا رواه عمرو بن العاص ‪ ‬أنه س���مع رس���ول اهلل ‪ ‬يق���ول‪" :‬إذا حكم‬ ‫الحاك���م فاجتهد ثم أص���اب‪ ،‬فله أجران‪ ،‬وإن حك���م فاجتهد ثم أخطأ‪ ،‬فله‬ ‫أج���ر"‪ .‬أخرج���ه البخاري في صحيحه (كتاب االعتصام)‪ ،‬باب أجر الحاكم‬ ‫إذا اجته���د فأص���اب وأخطأ (ج‪ ،8‬ص‪ ،)157:‬ومس���لم في صحيحه (كتاب‬

‫األقضية)‪ ،‬باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ (ج‪ ،2‬ص‪.)56:‬‬ ‫ وكت���ب الفق���ه طافحة ِ‬ ‫فعل الصحابة ‪ ‬ومنهم‬ ‫بذ ْكر األمثلة على ذلك م���ن ْ‬

‫ُحك���م عم���ر بن الخط���اب ‪ ‬في المش���ركة‪ ،‬حيث حكم بإس���قاط اإلخوة‬ ‫َّ‬ ‫فع���ت إليه‪،‬‬ ‫األش���قاء ث���م‬ ‫ش���رك بينهم وبي���ن اإلخوة ٍّ‬ ‫ألم ف���ي قضية أخرى ُر ْ‬ ‫َّ َّ‬ ‫قضين���ا‪ ،‬وهذه على‬ ‫ما‬ ‫على‬ ‫"تل���ك‬ ‫قال‪:‬‬ ‫وإنما‬ ‫األول‪،‬‬ ‫حكم���ه‬ ‫ينق���ض‬ ‫ول���م‬ ‫ْ‬ ‫م���ا نقض���ي"‪ ،‬أخرجه البيهقي في الس���نن الكب���رى (كت���اب الفرائض)‪ ،‬باب‬

‫المش���ركة (ج‪ ،6‬ص‪ ،)255:‬وعب���د ال���رزاق ف���ي مصنفه (كت���اب الفرائض)‬ ‫ّ‬

‫أمير‬ ‫(ج‪ ،10‬ص‪ ،)250-249:‬ق���ال اب���ن القي���م رحم���ه اهلل تعال���ى‪" :‬فأخذ ُ‬ ‫االجتهادي���ن بما ظهر ل���ه أ َّنه الحق‪ ،‬ول���م يمنعه القضاء‬ ‫ال‬ ‫المؤمني���ن ف���ي ك َ‬ ‫َ‬ ‫���رى أئمة‬ ‫األول م���ن الرج���وع إل���ى الثاني‪ ،‬ول���م ينق���ض األول بالثاني‪َ ،‬‬ ‫َّ‬ ‫فج َ‬ ‫اإلسالم بعده على هذين األصلين"‪ ،‬إعالم الموقعين ‪.111/1‬‬

‫(‪)11‬‬ ‫أيضا‪ ،‬وقد أخرج سعيد بن منصور أصل هذه‬ ‫القاعدة نص عليها الشافعي ً‬

‫القاعدة في سننه‪.‬‬

‫(‪ )12‬وم���ن ص���ور ه���ذا المبدأ‪ :‬المس���اواة في ال ُف���رص‪ ،‬والمس���اواة في الحقوق‬ ‫والواجبات‪.‬‬

‫أه�ل�ا لها‪ ،‬والباق���ون‪ ،‬وإن لم يقدروا عليه���ا‪ ،‬قادرون على‬ ‫وذل���ك م���ن كان‬ ‫ً‬ ‫يقدر عليها‪ ،‬مطلوب بأمر آخر‪ ،‬وهو إقامة ذلك القادر‪ ،‬وإجباره على القيام‬

‫به���ا‪ ..‬فالقادر إذن‪ ،‬مطل���وب بإقامة الفرض‪ ،‬وغير الق���ادر‪ ،‬مطلوب بتقديم‬ ‫ذلك القادر‪ ،‬إذ ال يتوصل إلى قيام القادر‪ ،‬إال باإلقامة‪ ،‬من باب‪ ،‬ما ال يتم‬

‫الواجب إال به‪ ،‬فهو واجب"‪ ،‬الموافقات ‪.353/8‬‬

‫(‪ )15‬واألص���ل ف���ي ه���ذه القاعدة وغيره���ا من قواعد رفع الض���رر قوله ‪" :‬ال‬ ‫ضرر وال ضرار" (رواه ابن ماجه والدارقطني)‪.‬‬

‫(‪)16‬‬ ‫���ح َف َأ ْج���ر ُه َع َل���ى ا ِ‬ ‫ال ُي ِح ُّب‬ ‫���ه َ‬ ‫هلل ِإ َّن ُ‬ ‫منه���ا قول���ه تعال���ى‪َ  :‬ف َم ْ‬ ‫���ن َع َف���ا َو َأ ْص َل َ‬ ‫ُ‬ ‫ار َو َما‬ ‫‪‬و َ‬ ‫َّ‬ ‫ين ظَ َل ُموا َف َت َم َّس ُك ُم َّ‬ ‫ال َت ْر َك ُنوا ِإلَى ا َّل ِذ َ‬ ‫الظا ِل ِم َ‬ ‫ين‪(‬الش���ورى‪َ ،)40:‬‬ ‫الن ُ‬ ‫ون ا ِ‬ ‫لَكُ ���م ِم ْن ُد ِ‬ ‫ين‬ ‫هلل ِم ْن َأ ْو ِل َي َاء ُث َّم َ‬ ‫ال ُت ْن َص ُر َ‬ ‫﴿و َس َ���ي ْع َل ُم ا َّل ِذ َ‬ ‫ون‪(‬هود‪َ ،)113:‬‬ ‫ْ‬ ‫ون﴾(الش���عراء‪ ،)227:‬وغيرها من اآليات المحذرة‬ ‫ظَ َل ُم���وا َأ َّي ُم ْن َق َل ٍ‬ ‫���ب َي ْن َق ِل ُب َ‬ ‫من الظلم‪ ،‬والمذكرة بجزاء الظالمين‪.‬‬

‫ وف���ي الحدي���ث ع���ن اب���ن عم���ر رض���ي اهلل عنهم���ا‪ ،‬أن رس���ول اهلل ‪ ‬قال‪:‬‬

‫يظلمه‪ ،‬وال ُي ْس��� ِلمه"‪ ،‬رواه البخ���اري في كتاب‬ ‫"المس���لم أخو المس���لم‪ ،‬ال‬ ‫ُ‬ ‫المظالم‪ ،‬باب ال يظام الميلم الميلم وال يسلمه‪ ،‬رقم ‪.2442‬‬

‫بس ْب ٍع‪ ،‬و َن َهانا عن َس ْب ٍع‪،‬‬ ‫البراء بن َعازِ ب ‪ ‬قال‪" :‬أمرنا رسول اهلل ‪َ ‬‬ ‫ وعن َ‬ ‫اع الجنائز‪ ،‬و َت ْش ِ‬ ‫ورد الس�ل�ام‪،‬‬ ‫فذك���ر عي���اد َة المري���ض‪ ،‬وا ِّت َب َ‬ ‫���ميت العاطس‪َّ ،‬‬ ‫الداعي‪ ،‬وإبرار ال َق َس���م"‪ ،‬رواه البخاري في كتاب‬ ‫ونص���ر المظلوم‪ ،‬وإجابة َّ‬

‫المظالم‪ ،‬باب نصر المظلوم‪ ،‬حديث رقم ‪.2445‬‬

‫ وع���ن أب���ي موس���ى ‪ ‬قال‪ :‬قال رس���ول اهلل ‪" :‬إن اهلل ليمل���ي للظالم فإذا‬ ‫﴿و َك َذ ِل َك َأ ْخ ُذ َر ِّب َك ِإ َذا َأ َخ َذ ا ْل ُق َرى َو ِهي ظَ ا ِل َم ٌة إ َِّن‬ ‫أخذه لم يفلته" ثم قرأ‪َ :‬‬ ‫َ‬ ‫َِ‬ ‫َ‬ ‫يد﴾(هود‪.)102:‬‬ ‫يم َش ِد ٌ‬ ‫أ ْخ َذ ُه أل ٌ‬ ‫ وفي الحديث‪" :‬اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة" (رواه مس���لم)‪.‬‬ ‫وعن عائش���ة رضي اهلل عنها أنها قالت ألبي س���لمة بن عبد الرحمن‪ ،‬وكان‬

‫بين���ه وبي���ن الناس خصومة‪ :‬يا أبا س���لمة اجتنب األرض‪ ،‬فإن النبي ‪ ‬قال‪:‬‬ ‫"م���ن ظل���م قيد ش���بر من األرض طوق���ه من س���بع أرضي���ن" (رواه البخاري‬

‫ومسلم)‪ .‬وعن حذيفة ‪ ‬قال‪ :‬قال رسول اهلل ‪" :‬ال تكونوا ّإمعة‪ ،‬تقولون‪:‬‬ ‫إن‬ ‫���نا‪ ،‬وإن ظلموا ظلمن���ا‪ ،‬ولكن َو ِّط ُنوا أنفس���كم‪ْ ،‬‬ ‫ْ‬ ‫���ن الن���اس َأ ْح َس ّ‬ ‫إن َأ ْح َس َ‬ ‫���ن الناس أن ُت ِ‬ ‫حس���نوا‪ ،‬وإن أس���اءوا فال َتظلموا" (رواه الترمذي)‪ .‬وأثر‬ ‫َأ ْح َس َ‬ ‫ع���ن عب���د الرحمن األوزاع���ي قولته ألبي جعفر المنص���ور‪ :‬أنت راعي اهلل‪،‬‬ ‫ين ا ْل ِق ْس َط ِل َي ْو ِم ا ْل ِق َي َام ِة‬ ‫‪‬و َن َض ُع ال َْم َوازِ َ‬ ‫واهلل تعالى فوقك‪ ،‬ومس���توف منك‪َ ،‬‬

‫(‪ )13‬والية الحسبة من الواليات الشرعية العامة الخاضعة لسلطة الدولة‪ ،‬حيث‬

‫ٍ ِ‬ ‫�ل�ا ُت ْظ َل���م َن ْف���س َش���ي ًئا َوإ ِْن َك َ ِ‬ ‫���ر َد ٍل َأ َت ْي َنا ب َِه���ا َو َك َفى ب َِنا‬ ‫َف َ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ْ‬ ‫ان م ْث َق���الَ َح َّبة م ْن َخ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِين‪(‬األنبياء‪.)47:‬‬ ‫َحاسب َ‬

‫خاص ُي ْع َرف بالمحتسب‪ ،‬و ُأعطي من الصالحيات و األعوان بحيث يقوم‬

‫(‪ )18‬قال ابن حجر العسقالني في شرحه لحديث"المومن للمومن كالبنيان يشد‬

‫تج���ب على اإلم���ام بحكم وظيفته ف���ي حفظ الدين على أصوله المس���تقرة‬ ‫وتنفيذ أحكامه‪ ،‬ورعاية حقوق الناس ومصالحهم‪ .‬ولذلك كان الخلفاء في‬ ‫العصور األولى لإلس�ل�ام‪ ،‬يباش���رونها بأنفسهم‪ ،‬ثم أس���ندوا أمرها إلى ٍ‬ ‫وال‬ ‫بها خير قيام‪ ،‬فيمش���ي في األسواق والش���وارع ويقتحم أبواب المؤسسات‬ ‫العامة والدوائر الحكومية‪ ،‬ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر‪ ،‬سواء تعلق‬

‫ذلك بقيمة من قيم اإلسالم معطلة أو بحق من حقوق الناس مهدر‪.‬‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )37‬‬

‫‪38‬‬

‫(‪ )17‬أخرجه مسلم‪ ،‬كتاب البر والصلة واآلداب‪ ،‬باب تحريم الظلم‪.)2577( ،‬‬

‫بعضه بعضا"‪" :‬نصر المظلوم فرض على الكفاية‪ ،‬وهو عام في المظلومين‪،‬‬ ‫وك���ذا في الناصرين‪ ،‬بناء على أن ف���رض الكفاية مخاطب به الجميع وهو‬ ‫الراجح" فتح الباري ‪.99/5‬‬


‫َر ِق ًيبا‪(‬النساء‪.)12()1:‬‬

‫ُتحص���ى(‪ )16‬في هذا المقام‪ ...‬والمتعامل معها‪ ،‬يالحظ‪ ،‬أن في‬

‫د‪ -‬الحسبة العامة والخاصة‬

‫(‪)13‬‬

‫ال‬ ‫ال في اآلية‪َ  :‬‬ ‫ال َخ ْي َر ِفي َك ِثيرٍ ِم ْن َن ْج َو ُاه ْم ِإ َّ‬ ‫ونجد للحسبة أص ً‬ ‫َم ْن َأ َمر ب َِص َد َق ٍة َأ ْو َم ْعر ٍ‬ ‫اس‪(‬النس���اء‪،)114:‬‬ ‫الن ِ‬ ‫وف َأ ْو إ ِْص َ‬ ‫ال ٍح َب ْي َن َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ي���ن ا ْق َت َت ُل���وا َفأ ْصل ُحوا‬ ‫���ن ا ْل ُم ْؤمن َ‬ ‫‪‬وإ ِْن َطائ َف َت���ان م َ‬ ‫وف���ي اآلي���ة‪َ :‬‬ ‫َب ْي َن ُه َما‪(‬الحجرات‪.)9:‬‬ ‫ين َص َب ُروا ْاب ِت َغ َاء َو ْج ِه َر ِّبهِ ْم‬ ‫‪‬وا َّل ِذ َ‬ ‫ويؤيد ذلك قوله تعالى‪َ :‬‬ ‫�ل�ا َة َو َأ ْن َف ُقوا ِمما ر َز ْق َن ُ ِ‬ ‫ون‬ ‫���را َو َع َ‬ ‫الص َ‬ ‫ال ِن َي ًة َو َي ْد َر ُء َ‬ ‫َو َأ َق ُام���وا َّ‬ ‫َّ َ‬ ‫اه ْم س ًّ‬ ‫ِ‬ ‫الدارِ ‪(‬الرعد‪.)22:‬‬ ‫الس ِّي َئ َة ُأو َل ِئ َك َل ُه ْم ُع ْق َبى َّ‬ ‫بِا ْل َح َس َنة َّ‬ ‫وال تقتص���ر ه���ذه الفعالي���ة على الف���رد‪ ،‬وإنم���ا تتعدى إلى‬

‫الجماعة والدولة‪ .‬فإذا كان األمر بالمعروف واجب على الفرد‬

‫المسلم‪ ،‬فإنه واجب على الجماعة‪ ،‬حيث يتعاون عليه األفراد‬ ‫‪‬و ْل َت ُك ْن ِم ْن ُك ْم‬ ‫ف���ي الجماعات ويتش���اورون فيه لقولـه تعال���ى‪َ :‬‬ ‫ون بِا ْلم ْعر ِ‬ ‫ْ‬ ‫وف َو َي ْن َه ْو َن َع ِن ا ْل ُم ْن َك ِر‬ ‫ُأ َّم ٌة َي ْد ُع َ‬ ‫ون ِإ َلى ا ْل َخ ْي ِر َو َيأ ُم ُر َ َ ُ‬ ‫او ُنوا‬ ‫َو ُأو َل ِئ َك ُه ُم ا ْل ُم ْف ِل ُح َ‬ ‫‪‬و َت َع َ‬ ‫ون‪(‬آل عمران‪ ،)104:‬وقال تعالى‪َ :‬‬ ‫إل ْث ِم َوا ْل ُع ْد َو ِ‬ ‫ان‪(‬المائدة‪.)2:‬‬ ‫الت ْق َوى َو َ‬ ‫او ُنوا َع َلى ا ِ‬ ‫َع َلى ا ْلب ِِّر َو َّ‬ ‫ال َت َع َ‬ ‫وه���ذا واج���ب عل���ى كل مس���لم ق���ادر‪ ،‬وه���و ف���رض على‬ ‫الكفاي���ة‪ ،‬ويصير فرض عين على القادر الذي لم يقم به غيره‪.‬‬ ‫خصوصا األوائل‪ -‬لها بالفروض‬‫وفي تسمية علماء األصول‬ ‫ً‬ ‫الكفائي���ة‪ ،‬إيح���اء‪ ،‬بأن القيام به���ا من لدن القادري���ن‪ ،‬ينبغي أن‬ ‫كافي���ا لألم���ة‪ ،‬وإال فإنها ال تس���قط‪ ،‬ويبقى اإلث���م عال ًقا‬ ‫يك���ون ً‬

‫بعموم األمة‪.‬‬

‫إال أن غي���ر القادري���ن‪ ،‬ال يبق���ون ‪-‬بخص���وص الف���روض‬ ‫الكفائي���ة‪ -‬ب���دون مس���ؤولية‪ ،‬فالش���رع ُير ِّتب عليهم مس���ؤولية‬

‫السعي‪ ،‬إلقامة القادرين(‪.)14‬‬

‫هـ‪ -‬ال ضرر وال ضرار‬

‫(‪)15‬‬

‫ونف���ي الض���رر ورفع���ه‪ ،‬مقص���د عل���ي م���ن مقاص���د الش���ريعة‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫اإلسالمية‪ .‬فال يقبل كل فعل فيه ضرر على الفرد أو المجتمع‬ ‫تماما مع مبدأ التيس���ير‬ ‫ف���ي الح���ال والم���آل‪ .‬وهو ما يتس���اوق ً‬

‫أساس���ا م���ن مقاصد‬ ‫ورف���ع المش���قة ال���ذي يعد بدوره مقصدا‬ ‫ً‬

‫يد ب ُِك ُم‬ ‫���ر َو َ‬ ‫يد ا ُ‬ ‫ال ُي ِر ُ‬ ‫‪‬ي ِر ُ‬ ‫التش���ريع ف���ي اإلس�ل�ام‪ُ :‬‬ ‫هلل ب ُِك ُ‬ ‫���م ا ْل ُي ْس َ‬ ‫ا ْل ُع ْس َر‪(‬البقرة‪.)185:‬‬

‫و‪ -‬تحريم الظلم‬

‫إن النص���وص الت���ي تح���ث المس���لمين عل���ى تحري���م الظل���م‪،‬‬ ‫وترغب في ذل���ك‪ ،‬أكثر من أن‬ ‫والس���عي إل���ى ضمان حقوقهم‬ ‫ِّ‬

‫ال‪ ،‬إلقامة العالقات االجتماعية بين الناس‪،‬‬ ‫نظاما كام ً‬ ‫اإلسالم ً‬ ‫كل األدواء الت���ي َت ْنخ���ر ِك َي���ان المجتمعات‬ ‫���د َّ‬ ‫عل���ى وج���ه ُي ِبع ُ‬ ‫ع���ن المجتمع اإلس�ل�امي‪ ...‬وهو نظام حري ب���أن ُيبحث فيه‬

‫معالمه‪ ،‬في دراسة جادة موضوعية مستقلة‪.‬‬ ‫و ُت َو َّضح‬ ‫ُ‬

‫وبذل���ك ف���إن هذا المقصد‪ ،‬تحريم الظل���م‪ ،‬يمكن أن يعتبر‬

‫من المقاصد المركزية في الش���ريعة اإلس�ل�امية‪ .‬ومن ش���واهد‬ ‫هلل‬ ‫‪‬و َ‬ ‫‪‬وا ُ‬ ‫ال َي ْظ ِل ُم َر ُّب َك َأ َح ًدا‪(‬الكه���ف‪َ ،)49:‬‬ ‫ذل���ك قوله تعال���ى‪َ :‬‬ ‫ين‪(‬آل عمران‪ ،)57:‬وفي الحديث القدس���ي‪" :‬يا‬ ‫َ‬ ‫���ب َّ‬ ‫ال ُي ِح ُّ‬ ‫الظا ِل ِم َ‬ ‫محر ًما‬ ‫عب���ادي إني حرمت الظلم على نفس���ي وجعلت���ه بينكم ّ‬ ‫فال تظالموا"(‪.)17‬‬ ‫وهو ما تجلى في س���نة رس���ول اهلل ‪ ‬الت���ي تزخر بحرصه‬

‫أفرادا وجماعات‬ ‫عليه الصالة والسالم على إيفاء أهل الحقوق ً‬

‫حقوقهم(‪.)18‬‬

‫(*) األمين العام للرابطة المحمدية للعلماء ‪ /‬المغرب‪.‬‬

‫الهوامش‬

‫تعبيرا عن المقصد الكلي لإلس�ل�ام في جوابه لرس���تم‬ ‫(‪ )1‬ق���ال ربع���ي بن عامر‬ ‫ً‬ ‫"ابت ِعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد‬ ‫بعد أن سأله‪" :‬لم جئتم؟" قال ‪ُ :‬‬ ‫إلى عبادة اهلل وحده"‪ ،‬ابن جرير الطبري‪ ،‬تاريخ األمم والملوك‪ ،‬دار الفكر‪،‬‬

‫ط‪1979‬م‪ 23/3 ،‬فما بعدها‪ ،‬أحداث سنة ‪ 14‬هجرية‪.‬‬

‫(‪ )2‬أحكام القرآن‪ ،‬ابن العربي‪.460-409/1 ،‬‬

‫(‪)3‬‬ ‫مسلما"‪( .‬أخرجه البيهقي)‬ ‫روع‬ ‫قال ‪" :‬ليس منا من ّ‬ ‫ً‬

‫(‪)4‬‬ ‫‪‬و َأ ِع ُّدوا ل َُه ْم َما‬ ‫وهنا يش���ار إلى مفهوم اإلعداد المس���تفاد من قوله تعالى‪َ :‬‬ ‫اس َ���تطَ ْع ُتم ِم ْن ُقو ٍة َو ِم ْن رِ َب ِ‬ ‫ون ِب ِه َع ُد َّو ا ِ‬ ‫ين‬ ‫اط ال َْخ ْي ِل ُت ْر ِه ُب َ‬ ‫هلل َو َع ُد َّو ُك ْم َو َ‬ ‫آخرِ َ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫هلل َي ْع َل ُم ُه ْم‪(‬األنفال‪ .)60:‬فالسلم في اإلسالم ليس‬ ‫ِم ْن ُدو ِنهِ ْم َ‬ ‫ال َت ْع َل ُمو َن ُه ُم ا ُ‬ ‫مقص���ده األصل ه���و القتال‪ ،‬وإنما اإلرهاب للعدو قصد ثنيه عن االنخراط‬

‫فيم���ا يوج���ب مواجهته‪ ،‬مما قد يؤدي إلى إه���راق الدماء وإزهاق األرواح‪.‬‬

‫واالس���تطاعة‪ ،‬الم���راد به���ا تلك المنضبط���ة بالموازنة بي���ن الحاجات وعدم‬

‫ال‪.‬‬ ‫تجاوزها باإلنفاق على السالح وتجويع الناس مث ً‬

‫(‪)5‬‬ ‫بن الخطاب رضي اهلل عنهما‬ ‫عمر ِ‬ ‫حر َ‬ ‫س مع َ‬ ‫عن عبد الرحمن بن عوف‪ ،‬أنه َ‬ ‫راج في ٍ‬ ‫ؤمونه‬ ‫بيت‪ ،‬فانطلقوا َي ُّ‬ ‫ليل ًة بالمدينة‪ ،‬فبينما ُه ْم يمشون َش َّب لهم ِس ٌ‬ ‫ِ‬ ‫قوم لهم فيه‬ ‫أصوات ُمرتفع ٌة ول َ​َغ ٌط‪،‬‬ ‫باب ُم ٌ‬ ‫جاف على ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫حتى إذا َد َن ْوا منه إذا ٌ‬ ‫َ‬ ‫فق���ال‬ ‫بيت َمن هذا؟ قلت‪:‬‬ ‫عم���ر ‪ ‬وأخذ ب َِيد عبد الرحمن‪ ،‬فق���ال‪ :‬أ َت ْدري َ‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫‪،‬‬ ‫ف‬ ‫ل‬ ‫خ‬ ‫بن‬ ‫ة‬ ‫ي‬ ‫م‬ ‫أ‬ ‫بن‬ ‫ة‬ ‫ربيع‬ ‫بيت‬ ‫هذا‬ ‫قال‪:‬‬ ‫ال‪،‬‬ ‫وه ُم اآلن ُشر ٌب‪ ،‬فما َترى؟ قال‬ ‫َ ِ َ َ ِ َ َ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ال َت َج َّس ُسوا‪(‬الحجرات‪،)12:‬‬ ‫‪‬و َ‬ ‫ُ‬ ‫عبد الرحمن‪َ :‬أ َرى قد أتينا ما نهى اهلل عنه‪َ :‬‬ ‫عنهم‬ ‫ف‬ ‫فانصر‬ ‫س���نا‪،‬‬ ‫تجس‬ ‫فقد‬ ‫عمر ‪ ‬وتركهم"‪ ،‬الس���نن الكبرى‪ ،‬للبيهقي‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬

‫(‪.)17625( )579/8‬‬

‫(‪)6‬‬ ‫علما بأن كل ما سلف أعاله من مفردات‪ ،‬عليها شواهد تفصيلية في القرآن‬ ‫ً‬

‫والس���نة وكس���ب الصحابة والتابعين وأعالم األمة ف���ي مختلف أجيالها‪ ،‬ال‬ ‫يتسع المقام الستقرائها‪.‬‬

‫‪37‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )37‬‬


‫كانت هذه المظالم أم معنوية(‪.)6‬‬ ‫ومنها اإلعالن العالمي لحقوق اإلنسان‪.‬‬ ‫‪ .3‬العدال�������ة التصحيحي�������ة‪ :‬واألصل‬ ‫د‪ .‬حفظ المال‪:‬‬ ‫�صناعة الإن�سان يف الإ�سالم تتغيّا‬ ‫ان‬ ‫• تحريم السرقة‪.‬‬ ‫ود َو ُس��� َل ْي َم َ‬ ‫‪‬و َد ُاو َ‬ ‫فيها قول���ه تعال���ى‪َ :‬‬ ‫�إخراج �إن�س��ان متحرر‪ ،‬لي�س يف‬ ‫إ ِْذ َي ْح ُك َم ِ‬ ‫���ت ِفي ِه‬ ‫• حماي���ة الملكي���ة العام���ة والملكية‬ ‫���ان ِف���ي ا ْل َح ْر ِث إ ِْذ َن َف َش ْ‬ ‫�ضم�يره �أو ج�س��ده فح�س��ب‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫الخاص���ة (مادي���ة كان���ت أم فكري���ة أم‬ ‫���اه ِدين ‪‬‬ ‫���و ِم َو ُك َّنا ل ُح ْك ِمهِ ْم َش ِ َ‬ ‫���م ا ْل َق ْ‬ ‫َغ َن ُ‬ ‫أي�ضا يف ر�أيه‪ ،‬ويف‬ ‫و�إمنا متح��رر � ً‬ ‫اختراعية أم تجارية أم صناعية أم مهنية)‪.‬‬ ‫ان َو ُكلاًّ آ َت ْي َن���ا ُح ْك ًم���ا‬ ‫اه���ا ُس��� َل ْي َم َ‬ ‫َف َف َّه ْم َن َ‬ ‫�أ�سل��وب تعبريه عن��ه‪ .‬فالإن�سان‬ ‫• سالمة واستقرار التبادل التجاري‪.‬‬ ‫َو ِع ْل ًما‪(‬األنبي���اء‪ ،)79-78:‬حي���ث ت���روي‬ ‫يف الإ�س�لام يُتغيّ��ا �أن يك��ون‬ ‫• حماي���ة المس���تهلك م���ن أن ينف���ق‬ ‫كتب التفسير مراجعة سليمان ‪ ‬ألبيه‬ ‫إن‬ ‫�‬ ‫و‬ ‫العباد‪.‬‬ ‫�سلطان‬ ‫من‬ ‫ا‬ ‫متح��رر‬ ‫ً‬ ‫ماله فيما يضره أو يضر غيره‪.‬‬ ‫نبي اهلل داوود ‪ ‬في الحكم‪ ،‬مما يعد‬ ‫جوهر اال�ستخالف والأمانة هو‬ ‫(أج���ورا‬ ‫• حماي���ة حق���وق العم���ال‬ ‫نواة مقدرة للعدالة التصحيحية‪.‬‬ ‫ً‬ ‫الق��درة عل��ى �أداء الواجب��ات‪،‬‬ ‫وحس���ن معاملة) س���واء كانوا أبناء البلد‬ ‫قال ‪" :‬إنما أنا بشر‪ ،‬إنما أنا أقضي‬ ‫وانت��زاع التمت��ع باحلق��وق‪.‬‬ ‫أو من الوافدين‪.‬‬ ‫بينكم بما أس���مع منك���م‪ ،‬ولعل أحدكم‬ ‫• منع الربح غير المش���روع‪ ،‬ومنع‬ ‫أن يك���ون ألح���ن بحجته م���ن أخيه فمن‬ ‫االستغالل بس���ائر أنواعه وأشكاله (ربا‪،‬‬ ‫قضي���ت ل���ه من ح���ق أخي���ه‬ ‫ش���يئا‪ ،‬فإنما‬ ‫ً‬ ‫ميسر‪ ،‬رشوة‪.)...‬‬ ‫أقطع له قطعة من النار"(‪.)9‬‬ ‫وبشريا‪.‬‬ ‫اقتصاديا‬ ‫• إشراف الدولة على التنمية المستدامة‬ ‫ويدلُّ عل���ى رجوع القاضي عن ُحكمه في هذه الحاالت‪،‬‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬ ‫• حماي���ة الس���وق م���ن المضارب���ات التي ت���ؤدي إلى غالء م���ا ورد ف���ي كت���اب عم���ر ب���ن الخط���اب ‪ ‬إل���ى أبي موس���ى‬ ‫األثمان غير المشروع‪.‬‬ ‫قض���اء‬ ‫األش���عري ‪ ‬حيث ق���ال فيه‪" :‬وال يمنعك‬ ‫قضيت فيه‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫هذه هي المصالح الكلية التي جاءت الش���ريعة اإلسالمية اليوم‬ ‫فهديت فيه لرش���دك‪ ،‬أن ُتراجع فيه‬ ‫َ‬ ‫فراجعت فيه رأيك‪ُ ،‬‬ ‫خير من‬ ‫نصت على كل منها‪ ،‬وبينت أهميتها‪ ،‬وخطورتها الحق‪َّ ،‬‬ ‫لتأمينه���ا بأن ّ‬ ‫فإن الحق قديم ال ُيبطله شيء‪ ،‬ومراجعة الحق ٌ‬ ‫(‪)10‬‬ ‫ومكانتها‪ ،‬في تحقيق الس���عادة لإلنس���ان‪ ،‬ث���م ك ّلفت باألحكام التمادي في الباطل"‬ ‫الوظيفية لضمان تحقيقها‪.‬‬ ‫‪ -4‬العدالة السياس�������ية‪ :‬ومن ركائزها مبدأ الش���ورى لقوله‬ ‫‪‬و َش���اوِ ْر ُهم ِفي ا َ‬ ‫أل ْم ِر‪(‬آل عم���ران‪ ،)159:‬وقوله سبحانه‪:‬‬ ‫ويدل االستقراء والبحث والدراسة والتأمل على أن الشرع تعالى‪َ :‬‬ ‫ْ‬ ‫الحني���ف ج���اء لتحقي���ق مصالح الن���اس الضروري���ة والحاجية‬ ‫���ورى َب ْي َن ُه ْم‪(‬الش���ورى‪ ،)38:‬ومبدأ شفافية الحكامة‬ ‫َ‬ ‫‪‬و َأ ْم ُر ُه ْم ُش َ‬ ‫والتحس���ينية‪ ،‬وأن األحكام الشرعية كلها إنما شرعت لتحقيق ‪ ،Tranparency of governance‬ومب���دأ فص���ل الس���لط‪ ،‬وكل ذلك‬ ‫هذه المصالح‪.‬‬ ‫مؤط���ر بض���رورة رعاي���ة مصال���ح الن���اس‪ ،‬وه���و ما أش���ار إليه‬ ‫ومعل���وم أن ضم���ان الحقوق لإلنس���ان‪ ،‬م���ن أعظم األمور علم���اء األص���ول بقولهم‪" :‬تص���رف اإلمام على ال���رأي منوط‬ ‫التي تحصل بها سعادته(‪.)7‬‬ ‫بالمصلحة"(‪.)11‬‬

‫بـ‪ -‬العدالة‬

‫‪ .1‬العدالة في التوزيع‪( :‬مفهوم ال َق ْس���م) بين المسلمين‪ ،‬ومثال‬ ‫أراض���ي س���واد الع���راق الرائ���ع‪ ،‬حي���ث ل���م يوزعه���ا عمر بن‬ ‫الخطاب ‪ ‬بين الفاتحين‪ ،‬وإنما وزعها على أهل العراق‪.‬‬ ‫‪ .2‬العدال�������ة الكونية‪ :‬حلف الفضول "لقد ش���هدت في دار‬ ‫عب���د اهلل ب���ن جدعان حل ًفا ما أح���ب أن لي به حمر النعم‪ ،‬ولو‬ ‫أدع���ى به ف���ي اإلس�ل�ام ألجب���ت"(‪ .)8‬ويدخل في ه���ذا‪ :‬الوفاء‬ ‫بالعهود (اآلليات وااللتزام���ات والعقود بعد المصادقة عليها)‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )37‬‬

‫‪36‬‬

‫جـ‪ -‬المساواة تحت القانون‬

‫ات َب ْع ُض ُه ْم‬ ‫‪‬وا ْل ُم ْؤ ِم ُن َ‬ ‫ون َوا ْل ُم ْؤ ِم َن ُ‬ ‫ومما يشهد لهذا المحدد آية‪َ :‬‬ ‫ون بِا ْلم ْعر ِ‬ ‫َأ ْو ِلي ُاء َب ْع ٍ ْ‬ ‫وف َو َي ْن َه ْو َن َع ِن ا ْل ُم ْن َك ِر‪(‬التوبة‪.)71:‬‬ ‫َ‬ ‫ض َيأ ُم ُر َ َ ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫م‬ ‫ا‬ ‫ح‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ص‬ ‫���ل‬ ‫م‬ ‫ع‬ ‫ن‬ ‫‪‬م‬ ‫تعال���ى‪:‬‬ ‫وق���ال‬ ‫���ن َذ َك���رٍ َأ ْو ُأ ْن َثى َو ُه َو‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ َ َ َ ً‬ ‫���ن َما َكا ُنوا‬ ‫ُم ْؤ ِم ٌن َف َل ُن ْحي َِي َّن ُه َح َيا ًة َط ِّي َب ًة َو َل َن ْج ِز َي َّن ُه ْم َأ ْج َر ُه ْم ِب َأ ْح َس ِ‬ ‫اس َّات ُقوا َر َّب ُك ُم ا َّل ِذي َخ َل َق ُك ْم‬ ‫َي ْع َم ُل َ‬ ‫‪‬ي���ا َأ ُّي َها َّ‬ ‫ون‪(‬النح���ل‪َ ،)97:‬‬ ‫الن ُ‬ ‫س َو ِ‬ ‫ال َك ِث ًيرا‬ ‫اح َد ٍة َو َخ َل َق ِم ْن َها َز ْو َج َه���ا َو َب َّث ِم ْن ُه َما رِ َجا ً‬ ‫���ن َن ْف ٍ‬ ‫ِم ْ‬ ‫ون ِب ِه َوا َ‬ ‫ان َع َل ْي ُك ْم‬ ‫ام إ َِّن ا َ‬ ‫َو ِن َس ًاء َو َّات ُقوا ا َ‬ ‫هلل َك َ‬ ‫هلل ا َّل ِذي َت َس َاء ُل َ‬ ‫أل ْر َح َ‬


‫ينشئون بناتهم تنشئة تعجزهن عن‬ ‫لوما للذين ِّ‬ ‫وقال تعالى ً‬ ‫المطالب���ة بحقوقهن‪ ،‬وبع���د ذلك تظل وجوههم مس���ودة وهم‬ ‫‪‬و ِإ َذا ُب ِّش َ‬ ‫���م ب َِما َض َر َب‬ ‫كظيم���ون إذا بش���روا باألنثى‪َ :‬‬ ‫���ر أ َح ُد ُه ْ‬ ‫َ‬

‫ِ‬ ‫يم ‪َ ‬أ َو َم ْن ُي َن َّش��� ُأ ِفي‬ ‫ِل‬ ‫لر ْح َم ِن َم َث ً‬ ‫ال َظ َّل َو ْج ُه ُه ُم ْس َ���و ًّدا َو ُه َو َكظ ٌ‬ ‫َّ‬ ‫ِين‪(‬الزخرف‪.)18-17:‬‬ ‫ام َغ ْي ُر ُمب ٍ‬ ‫ا ْل ِح ْل َي ِة َو ُه َو ِفي ا ْل ِخ َص ِ‬ ‫���كلة‬ ‫المش ِّ‬ ‫ويمك���ن رص���د ع���دد من المركب���ات التش���ريعية َ‬ ‫لصرح مقصد ضمان حقوق اإلنسان‪:‬‬

‫أ‪ -‬الحفظ‬

‫ونقص���د ب���ه حف���ظ الحق���وق والمصال���ح الضرورية الت���ي بها‬ ‫تتحص���ل الس���عادة في العاج���ل واآلجل‪ .‬وه���ذا الحفظ يكون‬ ‫بأحد أمرين‪ :‬األول من جانب الوجود؛ وذلك بما يقيم أركانها‬ ‫ويثب���ت قواعده���ا‪ .‬واآلخر م���ن جانب العدم؛ وذل���ك بما يدرأ‬ ‫الخلل الواقع أو المتوقع فيها‪.‬‬ ‫‪ -1‬حفظ الدين‪ :‬وذلك من خالل‪:‬‬ ‫• التشريع وتوفير أماكن العبادة المرعية‪ ،‬وتنظيم المساجد‬ ‫والقيمي���ن عليه���ا‪ ،‬وتنظي���م ال���زكاة والصي���ام والح���ج‪ ،‬وتنظيم‬ ‫الوقف وحمايته‪.‬‬ ‫• التربية السليمة والممنهجة‪.‬‬ ‫• حماية وتيسير وتوطين القيم المعنوية والروحية للدين‪.‬‬ ‫• حرية التدين وعدم اإلكراه‪.‬‬ ‫• تقني���ن وهيكل���ة األم���ر بالمع���روف والنهي ع���ن المنكر‪،‬‬ ‫بتجلي���ة ش���روطه وموانع���ه‪ ،‬ومناهج���ه وعقوبات���ه‪ ،‬وزج���ر من‬ ‫يترامون بغير حق وال مستحق للقيام به‪.‬‬ ‫• التشجيع على االجتهاد الكفء‪.‬‬ ‫‪ -2‬حفظ النفس‪ :‬وذلك عبر‪:‬‬ ‫• ضمان الحق في الحياة‪.‬‬ ‫المحرمة للقتل واألذى‪.‬‬ ‫• احترام التشريعات‬ ‫ِّ‬ ‫• الحماية من العدوان‪ ،‬وهو ما يظهر جليا في حد الحرابة‪.‬‬ ‫• الحماية من التعذيب‪ ،‬والحماية من اإلخافة والترويع(‪.)3‬‬ ‫• حماية البيئة (مناخيا ونباتيا وحيوانيا)‪،‬‬ ‫• ضم���ان ح���ق العي���ش‪ ،‬والصحة‪ ،‬والحرك���ة‪ ،‬والتنقل مع‬ ‫الحماية من االتجار بالبشر‪.‬‬ ‫• االس���تثمار ف���ي األم���ن الع���ام والدف���اع الوطن���ي‪ ،‬وأم���ن‬ ‫الدولة(‪.)4‬‬ ‫‪ -3‬حفظ العرض‪ :‬وذلك من خالل حفظ قسميه‪:‬‬ ‫أ‪ .‬الكرامة‪ ،‬عبر تحريم القذف والرمي‪.‬‬

‫• رعاية وحماية كرامة وس���معة اإلنسان الفرد والمجتمع‪،‬‬

‫بالتنشئة على الكرامة‪ ،‬وزرع قيم عدم االعتداء عليها‪.‬‬

‫• حماي���ة الحق في الخصوصية وعدم االجتراء عليها وإن‬

‫قامت حولها شكوك (مثال عمر حين اقتحم على من بلغه أنه‬ ‫فز ِجر وقبِل الزجر وانصرف)(‪.)5‬‬ ‫يشرب الخمر ُ‬

‫• الحيلول���ة دون االس���تعمال غي���ر المش���روع للس���لطة‪،‬‬ ‫للمساس بكرامة الفرد أو األسرة أو الجماعة أو المنظمة‪.‬‬ ‫بـ‪ .‬النس�������ل واألسرة‪ ،‬عبر ضمان أن يكون التناسل في إطار‬

‫ال���زواج‪ ،‬حيث المس���ؤولية‪ ،‬وحفظ األنس���اب‪ ،‬وإم���كان تلقي‬

‫الرعاي���ة والدع���م المنظمي���ن والمنضبطي���ن من الدول���ة‪ ،‬وكافة‬ ‫الجهات المختصة؛‬

‫• حماي���ة األس���رة ورعايتها وتوفي���ر حاجياتها األساس���ية‪،‬‬

‫وقيميا‪.‬‬ ‫وتربويا‪،‬‬ ‫وصحيا‪،‬‬ ‫وإيوائيا‪،‬‬ ‫غذائيا‪،‬‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬

‫• رعاي���ة الطفول���ة والن���شء (أيت���ام‪ ،‬ذوي االحتياج���ات‬ ‫الخاصة)‪.‬‬ ‫• رعاية الشيخوخة‪.‬‬

‫• الح���رص عل���ى توطين المس���اواة بين الرجال والنس���اء‪،‬‬

‫كل بمسؤوليته لحفظ األسرة وتنميتها‪.‬‬ ‫حتى يضطلع ٌّ‬

‫جـ‪ .‬حفظ العقل‪:‬‬

‫• تحريم الشرك‪ ،‬والخرافة‪ ،‬والسحر‪ ،‬والطيرة‪ ،‬والمخدرات‪،‬‬

‫والمس���كرات‪ ،‬والمفت���رات التي ت���ؤدي إل���ى مختلف أضرب‬ ‫اإلدمان الضارة بالعقل وبالفرد وبالمجتمع‪.‬‬

‫• إش���اعة الموضوعي���ة في التمثل والتفكير‪ ،‬وإش���اعة رؤية‬

‫علمية موضوعية للذات والموضوع والعالم‪ ،‬وذلك من خالل‬ ‫الس���هر عل���ى أن تضطلع نظ���م التربية والتكوي���ن اإللزامية في‬

‫المدرس���ة والتطوعية في المسجد واإلعالم ووسائل االتصال‬ ‫بذلك دون الس���قوط في التقنين الدوالني الحاد من الحريات‬

‫المشروعة‪.‬‬

‫• إشاعة العلوم والمنتوجات الثقافية المغذية للعقل‪.‬‬ ‫لغرافية‪.‬‬ ‫• ضمان الحقوق الثقافية واللغوية َ‬ ‫والك ْ‬

‫• تشجيع وحماية البحث العلمي والتكنولوجي‪.‬‬ ‫• ضمان الولوج إلى المعلومة‪.‬‬

‫• السعي إلى بناء مجتمع المعرفة‪.‬‬

‫• ضمان وحماية حرية التعبير‪ ،‬في حماية للفرد والمجتمع‬

‫م���ن الظلم بهذا الصدد‪ ،‬من القذف والرمي غير المش���روعين‪،‬‬ ‫مم���ا تك���ون له آثار على ضياع مصالح الف���رد والجماعة مادية‬

‫‪35‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )37‬‬


‫قضايا فكرية‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬أحمد عبادي*‬

‫المسلمون‬

‫وحقوق اإلنسان‪2-‬‬ ‫قراءة في المستلزمات المعرفية‬

‫تتغيا إخراج إنسان‬ ‫صناعة اإلنسان في اإلسالم ّ‬

‫متحرر‪ ،‬ليس في ضميره أو جس���ده فحس���ب‪،‬‬

‫أيضا في رأيه‪ ،‬وفي أسلوب تعبيره‬ ‫وإنما متحرر ً‬

‫متحررا من سلطان‬ ‫تغيا أن يكون‬ ‫ً‬ ‫عنه‪ .‬فاإلنس���ان في اإلس�ل�ام ُي ّ‬

‫َف ُأو َل ِئ َك َم ْأ َو ُاه ْم َج َه َّن ُم َو َس َاء ْت َم ِص ًيرا‪(‬النساء‪.)97:‬‬ ‫ِيل ا ِ‬ ‫هلل‬ ‫���م َ‬ ‫���ون ِف���ي َس���ب ِ‬ ‫ال ُت َقا ِت ُل َ‬ ‫وق���ال س���بحانه‪َ :‬‬ ‫‪‬و َم���ا َل ُك ْ‬ ‫���د ِ‬ ‫الر َج ِ‬ ‫ون‬ ‫ين َي ُقو ُل َ‬ ‫ال َوال ِّن َس���ا ِء َوا ْل ِو ْل َ‬ ‫ان ا َّل ِذ َ‬ ‫ين ِم َ‬ ‫َوا ْل ُم ْس َ���ت ْض َع ِف َ‬ ‫���ن ِّ‬ ‫اج َعل َل َنا ِم ْن َل ُد ْن َك‬ ‫َر َّب َن���ا َأ ْخ ِر ْج َنا ِم ْن َه ِذ ِه ا ْل َق ْر َي ِة َّ‬ ‫الظا ِل ِم َأ ْه ُل َها َو ْ‬ ‫اج َعل َل َنا ِم ْن َل ُد ْن َك َن ِص ًيرا‪(‬النساء‪.)75:‬‬ ‫َو ِل ًّيا َو ْ‬ ‫وق���د اس���تنبط اإلمام مال���ك من ه���ذه اآلية أن ب���راءة الذمة‬

‫العب���اد(‪ .)1‬وإن جوه���ر االس���تخالف واألمانة ه���و القدرة على‬ ‫اه ُم‬ ‫ين َت َو َّف ُ‬ ‫أداء الواجب���ات‪ ،‬وانتزاع التمتع بالحق���وق‪ :‬إ َِّن ا َّل ِذ َ‬ ‫ِ‬ ‫ا ْلم َ ِ‬ ‫ِ​ِ َ ِ‬ ‫ين بخصوص المس���تضعفين‪ ،‬معقودة بالنصر بالبدن إن كان العدد‬ ‫يم ُك ْن ُت ْم َقا ُلوا ُك َّنا ُم ْس َ���ت ْض َع ِف َ‬ ‫َ‬ ‫الئ َك ُة َظالمي أ ْن ُفس���هِ ْم َقا ُلوا ف َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫���ع ًة َف ُت َه ِ‬ ‫���روا ِف َيها يحتمل‪ ،‬وإال فال سبيل إال ببذل جميع األموال(‪.)2‬‬ ‫اج‬ ‫اس‬ ‫و‬ ‫هلل‬ ‫ا‬ ‫ض‬ ‫ر‬ ‫أ‬ ‫ن‬ ‫ك‬ ‫ت‬ ‫���م‬ ‫ل‬ ‫أ‬ ‫���وا‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ق‬ ‫ض‬ ‫ر‬ ‫أل‬ ‫ا‬ ‫���ي‬ ‫ِف‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ ْ ْ ُ‬ ‫َ َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )37‬‬

‫‪34‬‬


‫بالفعل‪ ،‬نقطة يمكن أن تنطلق من ممكناتنا كمجتمعات‪ .‬وماذا‬

‫ولتفعي���ل طري���ق التراكم‪ ،‬يلزم اس���تحضار مفهوم المس���اهمة‪.‬‬

‫أن الكتلة النوعية البشرية ال تزيد عن ‪ %1‬لحدوث التحوالت‬

‫أو المؤسس���ة وممكناتها‪ .‬وحينها يسأل اإلنسان عن الجدوى‪.‬‬

‫راحل���ة" (متفق عليه)‪ .‬وفي مش���روع الوعي الحض���اري نحتاج أن‬

‫الفرد أمام‬ ‫سحق‬ ‫ُ‬ ‫أكوام من القمامة كل يوم في الطرقات‪ .‬هنا ُي َ‬

‫تحتاج المجتمعات إلطالق ممكناتها؟ يشير حديث الرسول ‪‬‬ ‫الكب���رى فيه���ا‪" :‬إنم���ا الناس كاإلب���ل المائة ال ت���كاد تجد فيها‬ ‫نصل لهذه الكتلة البش���رية النوعية‪ ،‬وتحميلها بمشروع الوعي‬

‫وعيا يطلق طاقات هذه الكتلة البش���رية لتعمل على‬ ‫الحضاري ً‬ ‫تكوين مؤسس���ات االنط�ل�اق وتمأل الفراغ���ات‪ ،‬فمنها تتغذى‬

‫ش���ريحة المفكري���ن والنخب���ة السياس���ية‪ ،‬ومنه���ا تول���د ش���بكة‬ ‫الفنانين واألدباء والكتاب والمس���رحيين والوعاظ‪ ،‬ومنها تبدأ‬ ‫معالج���ة الملف���ات الكبرى‪ ،‬جي���ل جديد قادر عل���ى أن يغذي‬ ‫يمكن‬ ‫مفاص���ل الفع���ل‪ ،‬ويص���ل الفك���رة بالجماهير‪ ،‬وبالتال���ي ّ‬

‫الطابع���ة من االس���تجابة لم���ا يكتب على الكمبيوت���ر‪ .‬فالتحول‬ ‫م���ن نداء الموتى‪ ،‬أو طل���ب المعجزة‪ ،‬أو مناداة الثالث الغائب‬ ‫لتحدي���د محتوى الوعي الحضاري المطلوب‪ ،‬وتحديد آليات‬

‫نق���ل الوعي ومؤش���رات قي���اس التأثير‪ ،‬وتحدي���د الزمن الالزم‬

‫إلنج���از مش���روع "نقطة التحول"‪ ،‬س���يكون نقطة تحول كبرى‪.‬‬

‫والمس���اهمة تعتمد في ما يقع تحت دائرة فعل اإلنس���ان الفرد‬

‫ماذا يعني التقاط ورقة من الطريق في ظل وضع يسمح بإلقاء‬ ‫المش���هد الكبير الضاغ���ط‪ ،‬ويدخل مرحلة الالمب���االة‪ .‬فليفعل‬

‫كما يفعل غيره "وحشر مع الناس عيد" كما هو المثل الدارج‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫مع���ان لعالج ه���ذه الحالة‬ ‫لك���ن م���اذا يضيف لنا اإلس�ل�ام من‬

‫يقدم لنا "فسيلة وتمرة وثوب"‪ ...‬لست أمزح‪.‬‬ ‫المستشرية؟ إنه ّ‬ ‫فمهموم الفس���يلة جوهري في الفعل النهضوي‪" ،‬لو كانت‬

‫بي���د أحدكم فس���يلة وقام���ت القيام���ة فليغرس���ها"‪ .‬إنها تعرض‬

‫علين���ا الح���د األقصى م���ن اليأس ف���ي النتائج‪ ،‬وتدع���و للفعل‬ ‫ع قد قرب‬ ‫ف���ي األوض���اع التي ليس بعده���ا عمل‪ ...‬في وض��� ٍ‬

‫صفحات اإلنس���ان‪ ،‬ولكن فس���يلته األخيرة التي‬ ‫أن تطوى فيه‬ ‫ُ‬ ‫زرعها قد تكون مرجح نجاته يوم القيامة فتأمل‪.‬‬

‫ومفه���وم التم���رة مفه���وم مح���وري ف���ي طري���ق النهضة (ال‬

‫كل ذلك م���ن الممكنات في ظل التطورات التقنية المعاصرة‪،‬‬

‫ِشق تمرة) فالسيدة‬ ‫صد َق ب ّ‬ ‫تحقرن من المعروف ش���يئا ولو أن َت َّ‬

‫الحاج���ز بي���ن النظري���ة والتطبيق‪ .‬وهذه ه���ي النقطة األولى في‬

‫ال���در من تراب الجن���ة عمل صغير من المداومة عليه مع النية‬

‫عبر‬ ‫ول���و تضاف���رت الجه���ود للقي���ام بهذا األم���ر‪ ،‬ألمكنن���ا أن َن ُ‬

‫حرك���ة المش���روع التي يمكن أن تجعل أح�ل�ام األمة بالتمكين‬ ‫والشهود الحضاري ممكنة‪.‬‬

‫إن التح���رك إليجاد نقطة انطالق حقيقية لمش���روع الوعي‬

‫الحض���اري‪ ،‬يكتس���ب أهمي���ة قصوى اليوم للخ���روج من دائرة‬

‫الشلل التحليلي واالنطالق لفضاء الممكنات العملية‪.‬‬

‫مفاهيم ضرورية لمن يتلقى المشروع (فسيلة وتمرة وثوب‬

‫تلك هي القصة)‪.‬‬

‫مفتوحا لو أغلق طريق‬ ‫عندم���ا نقول إن طريق التراكم يظل‬ ‫ً‬

‫االحتش���اد‪ ،‬وإن طريق التراكم في المنطقة العربية‪ ،‬هو الطريق‬ ‫المتاح اليوم بالنس���بة للقوى الفاعلة ف���ي المجتمع‪ ،‬لمختلف‬ ‫ِ‬ ‫الس ّنية‪ ،‬ولمختلف أنواع الطاقات‪ ...‬فنحن ‪-‬ببساطة‪-‬‬ ‫األعمار ّ‬ ‫ندعو لتحرير ممكنات الفرد وإعادته لدائرة الفعل‪ .‬ونعتقد أن‬ ‫طريق االحتشاد‪.‬‬ ‫يوما ليس ببعيد‬ ‫ُ‬ ‫طريق التراكم سيتقاطع معه ً‬

‫الت���ي كان���ت تلق���ط الحصى من مس���جد الرس���ول‪ ،‬وهي تلقط‬ ‫الصالح���ة يمك���ن أن يك���ون نصيبك من إطالق مش���روع األمة‬ ‫الناهضة فتنبه‪.‬‬

‫ومفهوم الثوب؛ "لقد كان َحلُّ الرسول ‪ ‬ألهل مكة لرفع‬ ‫الحجر األسود‪ ،‬أن ُي ِ‬ ‫مسك كل منهم بطرف من الثوب ُفير َف َع‬ ‫وضع في مكانه"‪ .‬هكذا يرتفع حجر النهضة ويعلو‬ ‫وي َ‬ ‫الحجر ُ‬ ‫ُ‬ ‫ليقدم‬ ‫بناؤه���ا‪ .‬فليرف���ع كل فرد من زاويته طر ًفا م���ن الثوب‪ّ ...‬‬ ‫يقف مكتوف األيدي‪.‬‬ ‫كل شخص جهده ‪-‬وإن قل‪ -‬وال ْ‬

‫إن المهمة الكبيرة حين يريد الشخص أن يقوم بها كلها أو‬

‫ال يق���وم بش���يء منها‪ ،‬يقع في معادلة العج���ز‪ .‬فالمهام الكبيرة‬

‫كنهضة أمة ‪-‬وهي موضوعنا‪ -‬غير قابلة للتحقق بفعل شخص‬ ‫حاكما‪ .‬فإن كان م���ا يقابل القيام بها كاملة هو‬ ‫واح���د ولو كان‬ ‫ً‬

‫عدم القيام بأي ش���يء فهو العجز بعينه‪ .‬والفيل ال يمكن أكله‬

‫فكلم���ا زادت الخيري���ة في المجتمع كلم���ا كان نهر الحياة من‬

‫قطعة واحدة‪.‬‬

‫ليحول أحالم أمته لوقائع‪.‬‬ ‫أن يلتق���ط الخيط َمن بيده الق���رار‪،‬‬ ‫ّ‬

‫(*) خبير في التخطيط اإلستراتيجي واإلدارة اإلستراتيجية ‪ /‬قطر‪.‬‬

‫كثيرا‬ ‫األفكار والعالقات والمش���اريع أش���د فاعلي���ة‪ .‬وال يبعد ً‬

‫‪33‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )37‬‬


‫النخبة‪ ،‬وهو األمر الذي يعيد طرح السؤال في صيغته العملية‪ :‬مضمون الوعي الحضاري‬

‫كي���ف نوج���د الوع���ي الحض���اري ال���ذي يش���مل النخب���ة‬ ‫والحساسية الجماهيرية‪ ،‬والذي يحرر فاعلية المجتمع وينقله‬ ‫للتمكين والشهود الحضاري؟‬

‫المناف���س‪ ،‬ووع���ي بمتطلب���ات التق���دم ف���ي طريق الف���وز بأقل‬

‫كان مش���هد المطالبي���ن بالحري���ة والعدال���ة ف���ي أحد الش���وارع‬

‫الق���رار المناس���ب ف���ي إط���ار التدافع اإلنس���اني‪ ،‬قرار يس���مح‬

‫اإلعالم‪ ...‬فهناك هتافات وشعارات تطالب بالخبز للجماهير‪،‬‬

‫به���ذا المعن���ى يصب���ح أمامن���ا رؤي���ة للمضم���ون تتك���ون‬

‫نقطة ُّ‬ ‫تفكر‬

‫ملف ًت���ا للنظر‪ ،‬وهو منظر بدا مألو ًفا في هذا العصر في وس���ائل‬

‫تطالب بالتعليم والصحة للجميع‪ ،‬وحول هؤالء يلتف شرطة‬ ‫الشغب متأهبين لالنقضاض عليهم عند أول إشارة‪ ،‬وهو منظر‬

‫أيضا من كثرة تكراره‪ ...‬ولكن على أطراف المش���هد‬ ‫مأل���وف ً‬ ‫كانت تمر جموع من الناس تنظر للمشهد وتبتسم‪ ،‬أو تمارس‬ ‫هوايتها في التصوير‪ ،‬أو تمر غير عابئة بكل هذا الصخب‪ .‬شيء‬ ‫ما هناك‪ ،‬أعاد لذاكرتي مش���اهد أخرى التقت فيها الحساس���ية‬

‫الجماهيري���ة بالمطالب الكبرى للنخ���ب‪ ،‬أو التقت فيها حركة‬

‫النخ���ب بالمطال���ب الكبرى للش���عوب‪ ،‬أو حت���ى حركة النخبة‬

‫السياسية مترجمة لمطالب الشعوب وأحالمها كما في ماليزيا‬ ‫أو تركي���ا في عصرنا‪ .‬ش���يء ما في المش���هد ال���ذي بدأنا به غير‬

‫لقد قلنا إن الوعي الحضاري هو وعي يكفي إلطالق الفاعلية‬ ‫الحضاري���ة ف���ي مجتمع ما‪ ،‬ه���و وعي بال���ذات ووعي باآلخر‬

‫التكالي���ف وف���ي أقص���ر وقت‪ .‬إن���ه باختصار ق���درة على اتخاذ‬ ‫بتحقيق الفوز بالنقاط بدل الضربة القاضية‪.‬‬

‫م���ن معرف���ة ال���ذات‪ .‬والذات تتش���كل م���ن صورة ع���ن الذات‬ ‫الحضارية "والمتكونة عبر التاريخ"‪ ،‬وصورة ألسباب التخلف‬

‫وبنيته وجذوره‪ ،‬وصورة عن المس���تقبل المنشود‪ ،‬وصورة عن‬ ‫الطري���ق للعبور له‪ ،‬وصورة عن الواق���ع المحيط بالتدافع في‬ ‫ص���ورة السياس���ة المحلية والدولية‪ ،‬وص���ورة لالقتصاد ودوره‬ ‫ف���ي صناعة األم���م‪ ،‬وصورة للدي���ن كرافعة للتق���دم أو ككابح‬

‫للتقدم‪ ،‬ثم صورة عن أفضل الممارسات اإلدارية لهذا الواقع‬ ‫وأدوات التعامل معه‪ .‬بهذا تتكون قاعدة س���وية أولية للتعامل‬

‫م���ع الواق���ع وإدارته ف���ي اتجاه صناعة الحض���ارة‪ ،‬وعلى هذه‬ ‫األسس يتكون المضمون‪.‬‬

‫طبيع���ي‪ ...‬ال يكفي فيه أن يق���ال إن الجماهير مطحونة بحركة الشرائح الثالث‬ ‫الحي���اة وال وق���ت عنده���ا للنظر ف���ي أحوالها‪ .‬فهناك ش���عوب‬

‫عندم���ا ننظ���ر للواق���ع‪ ،‬س���نجد أن���ه مك���ون من ش���رائح ثالث‬

‫ويحضرني كتاب قرأته في الصغر وهو "البؤس���اء" الذي صور‬

‫وهي ش���ريحة تصنع القرار والفكر‪ .‬وأمامنا ش���ريحة وس���يطة‬

‫الث���ورات والتحوالت‪ ،‬والب���د أن نبحث عن حلقة مفقودة في‬

‫والسينمائيين والوعاظ‪ .‬والشريحة الثالثة هي عموم الجمهور‪.‬‬

‫عصية على القراءة للوهلة األولى‪.‬‬

‫وتنقله���ا للقاعدة العريضة‪ ،‬وش���ريحة تس���تقبل ه���ذه القرارات‬

‫ال للتشبيه‪ ،‬لقلت إن الجماهير هي الطابعة‬ ‫لو كان الموضوع قاب ً‬

‫لتفاع���ل الش���رائح الثالث‪ ،‬فالحاس���وب في هذه الش���رائح هو‬

‫مطحون���ة بأكثر م���ن ذلك التفتت ألحواله���ا وطالبت بتغييرها‪.‬‬

‫متفاوتة الحجم والدور‪ ،‬فأمامنا ش���ريحة الساس���ة وأهل الفكر‬

‫أحوال فرنس���ا في ما قبل الثورة الفرنس���ية‪ ،‬فالبؤس���اء هم أصل‬

‫في غاية األهمية‪ ،‬وهي ش���ريحة الفنانين واألدباء والمسرحيين‬

‫معادلتنا أعمق من ما هو منظور‪ ،‬حلقة مكتوبة بالحبر الس���ري‬

‫فش���ريحة تصن���ع الق���رار وتصن���ع الفكرة‪ ،‬وش���ريحة تبس���طها‬

‫لماذا ال تطبع الطابعة؟‬

‫واألفكار وتتفاعل معها‪ .‬وصناعة التقدم نحو الحضارة تحتاج‬

‫والنخب هي الكمبيوتر‪ ...‬ش���يء ما لم يس���مح بأن تس���تجيب‬ ‫الطابع���ة لما يكتب عل���ى لوحة مفاتيح الكمبيوتر‪ ...‬ش���يء ما‬

‫لم يؤهل الطابعة للتعرف على ما يكتب على لوحة المفاتيح‪.‬‬ ‫ه���ل نط���رح هن���ا موض���وع الوع���ي الحض���اري‪ ،‬وم���ا ه���و‬

‫مضمونه؟ ومن هي الشرائح التي تحتاجه؟ وكيف يصل إليها؟‬

‫الش���ريحة األولى وإنها النخ���ب‪ ،‬والطابعة هي الجمهور الذي‬ ‫يتفاع���ل مع ما تكتبه الطابعة‪ ،‬والوس���يط بينهما هي الش���ريحة‬

‫الثاني���ة التي تق���وم بوصل حلقة النخ���ب بالجمهور‪ ،‬وهي التي‬

‫تحول الفكرة المستعلية لحديث في المقهى والشارع وتوصله‬

‫للبيت والمدرسة‪.‬‬

‫ما هي اآللية التي يمكن بها أن تسود فكرة حية في مجتمع إطالق الفاعلية‬

‫ما‪ ،‬بشكل يسمح لها أن تساهم في حدوث تحوالت حقيقية؟‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )37‬‬

‫‪32‬‬

‫واآلن‪ ،‬كيف يمكن أن نبدأ من نقطة ال نحتاج فيها لقرار علوي‬


‫قضايا فكرية‬ ‫د‪ .‬جاسم سلطان*‬

‫الوعي الحضاري‬

‫واالنتقال إلى الفاعلية‬ ‫مش���روع الوع���ي الحض���اري واالنتق���ال إل���ى‬

‫هكذا مضت فترات الخمس���ينيات والس���تينيات والس���بعينيات‬

‫ال من التحليل‪ ،‬ولكنه فيما نرى‪ ،‬لم يأخذ‬ ‫طوي ً‬

‫الثورية في بعض أصقاع الوطن العربي‪ ،‬لنرى أن هناك مشكلة‬

‫مس���ارا‬ ‫الفاعلي���ة‪ ،‬والتمكي���ن والش���هود‪ ،‬أخذ‬ ‫ً‬

‫حظ���ه في مس���ار التنزي���ل‪ ...‬االنتقال من س���ؤال لماذا لس���ؤال‬

‫كي���ف؟ أو أنه عندما انتقل لس���ؤال "كي���ف؟" في أغلب أحواله‪،‬‬

‫متجها لفكرة محوري���ة هي "الس���لطة" باعتبار أن‬ ‫مس���ارا‬ ‫أخ���ذ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫تحقي���ق التقدم المنش���ود في الدولة المعاص���رة‪ ،‬ال يتم إال عبر‬

‫طابعا‬ ‫بواب���ة تب ّن���ي الدولة لمش���روع التق���دم‪ .‬وهذا ب���دوره أخذ ً‬

‫طابعا‬ ‫مطلبي���ا‬ ‫مس���تمرا للدولة المعاصرة بأن تق���وم بدورها‪ ،‬أو ً‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬

‫الفتكاك الدولة من أيدي ش���ريحة معينه وتحويله لفئة أخرى‪.‬‬

‫بعد نتيجة مرضية‪ .‬ولنا أن ننظر لألحالم‬ ‫وإلى يومنا‪ ،‬ولم تثمر ُ‬

‫تتجاوز الس���لطة‪ ،‬مشكلة تتعلق بالوعي‪ ،‬سواء عند من نجحوا‬ ‫بمعنى آخر‪ ،‬إن الوعي‬ ‫أو أخفقوا في الحصول على الس���لطة‪.‬‬ ‫ً‬

‫المكافئ إلنش���اء كيان سياس���ي واجتماعي ق���ادر على اللحاق‬ ‫بالعص���ر‪ ،‬يتعدى فكرة الس���لطة بش���كل واض���ح‪ ،‬ويصل لعمق‬ ‫حض���اري دفي���ن‪ ،‬عمق فكري أعم���ق من مجال الق���وة المادية‬

‫لمج���ال الق���وة الروحية والفكري���ة‪ ،‬يتعدى فك���ر النخبة ‪-‬وهنا‬ ‫مربط الفرس‪ -‬آللية تجعل الحساسية الجماهيرية متقبلة لفكر‬

‫‪31‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )37‬‬


‫قيما ديني���ة أم أخالقية أم‬ ‫نري���د تقديم���ه لألطف���ال‪ ،‬س���واء أكان ً‬

‫المتناف���رة م���ع ثقافتنا وقيمنا‪ ،‬إنما يج���ب أن يتخذوا نماذجهم‬

‫ف���ي أدب األطف���ال‪ .‬ولقد أثبت���ت معظم الدراس���ات أن القصة‬

‫ثري���ة لألطف���ال يمكن أن ت���روى لهم بصورة مبس���طة‪ .‬وكذلك‬

‫توجيهات سلوكية أو اجتماعية‪ .‬وتحتل القصة المرتبة األولى‬

‫م���ن النماذج اإلس�ل�امية‪ .‬وإن في قصص الق���رآن الكريم مادة‬

‫ه���ي األكثر‬ ‫انتش���ارا بي���ن األطفال وأن لها الق���درة على جذب‬ ‫ً‬

‫ف���ي الس���يرة النبوي���ة ومواقف الصحاب���ة‪ ،‬والخلف���اء‪ ،‬والرحالة‬

‫أحداثه���ا بمتع���ة وتركي���ز وانفع���ال‪ ،‬وينخرط���ون م���ع أبطاله���ا‬

‫ديزن���ي" وغي���ره من تجار أدب األطفال ف���ي العالم‪ .‬ولو نظرنا‬

‫والقصة من الفنون األدبية التي عرفها اإلنس���ان منذ القدم‪.‬‬

‫التربية اإلس�ل�امية بجوانبها الروحي���ة واألخالقية واالجتماعية‬

‫قاصرا عن تفس���ير مظاهر الطبيعة‪ ،‬كالجبال والرياح والشمس‬ ‫ً‬

‫القرآنية عن س���واها بثبوت الوقائع المس���رودة‪ ،‬وعظمة األداء‬

‫انتباههم؛ فهم يقرؤونها أو يس���تمعون إليها بش���غف‪ ،‬ويتابعون‬ ‫ويتعاطفون معهم‪ ،‬ويبقى أثرها في نفوسهم لفترة طويلة‪.‬‬

‫عالم كله ألغاز‪ ،‬وكان عقله‬ ‫فلقد كان اإلنسان األول يعيش في ٍ‬ ‫والبراكي���ن‪ ،‬ولذل���ك وق���ف أمامها وقف���ة الحائ���ر الخائف‪ ،‬ثم‬ ‫حل قنع به واطمأن إليه‪ ،‬فمنح الجماد‬ ‫اهت���دى بع���د ذلك إلى ٍّ‬

‫روحا كروحه‪ ،‬وتخيله يعيش كما يعيش‪ ،‬وفي سبيل ذلك أنشأ‬ ‫ً‬

‫األساطير‪ ،‬وما األسطورة سوى القصة الخرافية‪.‬‬

‫وعالق���ة الطفل المس���لم بالقصة ليس���ت حديث���ة‪ ،‬فالتراث‬

‫اإلس�ل�امي يمتل���ئ بالكثير من القصص الت���ي تصلح أن تروى‬ ‫الج���دات ف���ي كل زم���ان عندم���ا يحاول���ن‬ ‫لألطف���ال‪ ،‬كم���ا أن‬ ‫ّ‬ ‫تس���لية األحف���اد والترفيه عنهم‪ ،‬يقصصن عليهم‬ ‫قصصا س���واء‬ ‫ً‬

‫"الج ّدة‬ ‫أكان���ت خيالي���ة أم واقعية‪ ،‬حتى صار يطلق على َ‬ ‫الج ّدة َ‬ ‫الحكاءة"‪ .‬ولكن ما موقف اإلس�ل�ام من اس���تخدام القصة في‬ ‫تربية األطفال؟ وهل تصلح القصة لتربية الطفل المسلم؟‬

‫إن اإلس�ل�ام ل���م يهمل القصة كوس���يلة تربوي���ة‪ ،‬وقد أدرك‬

‫المسلمون ما للقصة من تأثير ساحر على القلوب‪ ،‬فاستغلوها‬ ‫لتك���ون وس���يلة من وس���ائل التربية والتقويم‪ ،‬واس���تخدموا كل‬

‫أن���واع القصص؛ القصة التاريخي���ة الواقعية المقصودة بأماكنها‬

‫وأش���خاصها وحوادثها‪ ،‬والقصة الواقعية التي تعرض‬ ‫نموذجا‬ ‫ً‬ ‫لحالة بش���رية‪ ،‬فيس���توي أن تكون بأشخاصها الواقعيين أو بأي‬

‫شخص يتمثل فيه ذلك النموذج‪.‬‬

‫والقص���ة التمثيلي���ة الت���ي ال تحم���ل واقع���ة بذاته���ا؛ ولكنها‬

‫الكتاب عن اس���تيراد أفكارهم من "والت‬ ‫المس���لمين ما يغن���ي ّ‬ ‫نظ���رة متفحصة لقصص القرآن‪ ،‬لوجدنا فيها ما يحقق أهداف‬

‫واالقتصادي���ة والسياس���ية والعلمي���ة‪ ...‬إل���خ‪ .‬وتتمي���ز القص���ة‬ ‫المعجز‪ ،‬واألس���لوب الذي ال يباري‪ ،‬كما تتميز بإقرار النتيجة‬ ‫أو العب���رة صراح���ة‪ .‬كم���ا أن في س���يرة الرس���ول ‪ ‬م���ا يكفي‬ ‫لتحقيق الغايات التربوية المنشودة لتربية الطفل المسلم‪.‬‬

‫وأس���تطيع أن أش���ير إل���ى بع���ض األمثل���ة واالس���تنتاجات‬

‫التربوية للقصص الديني في تربية الطفل المس���لم على س���بيل‬

‫المثال ال الحصر‪:‬‬

‫• إذا كانت التربية تهدف إلى إكساب الطفل قيمة األمانة‪،‬‬

‫ف���إن في قص���ة تجارة الرس���ول ‪ ‬ف���ي أموال الس���يدة خديجة‬ ‫رضي اهلل عنها لعبرة وعظة‪.‬‬

‫• إذا كان���ت التربي���ة تهدف إلى إكس���اب الطفل قيمة العفو‬

‫والتسامح‪ ،‬فإن في موقف الرسول ‪ ‬من أهل مكة يوم الفتح‪،‬‬ ‫مادة ثرية تصلح لغرس هذه القيمة في نفوس األطفال‪.‬‬

‫• إذا كان���ت التربي���ة ته���دف إل���ى تربي���ة الطف���ل على حب‬

‫العمل‪ ،‬فإن في قصة سفينة نوح ‪ ‬مادة تصلح لغرس قيمة‬

‫العمل في نفوس األطفال‪.‬‬

‫• إذا كان���ت التربي���ة ته���دف إلى تربية الطف���ل على التفكير‬

‫العلم���ي وإعمال العقل‪ ،‬فإن في قصة إبراهيم ‪ ‬ما يكس���ب‬ ‫الطفل هذه السمة‪.‬‬

‫يمك���ن أن تق���ع في أي لحظة من اللحظات وفي أي عصر من‬

‫م���ا أش���رنا إلي���ه‪ ،‬مج���رد أمثل���ة‪ ،‬والمتوفر من م���ادة تصلح‬

‫والقي���م والمث���ل العلي���ا والس���لوك القوي���م في عق���ول األطفال‬

‫النبوي���ة المطهرة‪ ،‬وحياة الصحابة‪ ،‬وقصص البطوالت الحربية‬

‫العص���ور‪ .‬وحيث إنه عن طريق القص���ة يمكن غرس الفضائل‬

‫ونفوس���هم‪ ،‬ف���إن القص���ة تصب���ح أداة صالح���ة لتربي���ة الطف���ل‬

‫المسلم‪ .‬ولكن من أين نستقي القصص لألطفال؟‬

‫كت���اب األطفال إلى النم���اذج الغريبة عنا‪،‬‬ ‫ينبغ���ي أال يلج���أ ّ‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )37‬‬

‫‪30‬‬

‫لقص���ص لتربي���ة الطف���ل المس���لم في الق���رآن الكريم‪ ،‬والس���نة‬ ‫للقادة المسلمين الكثير والكثير‪.‬‬

‫(*) أستاذ مساعد في كلية التربية‪ ،‬بجامعة تعز ‪ /‬اليمن‪.‬‬


‫تربية‬

‫د‪ .‬أحمد مختار مكي*‬

‫فص ْنه‪ ،‬ووطنَك فادفع عنه‪ ،‬ويف‬ ‫شه ًام يف املحبة فلتكنْ ‪ ...‬دينَك أحِ َّبه واحفظه‪ ،‬و ِع ْر َضك ُ‬ ‫أمتِك ُم ْت‪ ...‬وغيوراً عليها فكنْ ‪ ...‬وأما املحرومون من هذه املشاعر‪ ،‬فهم يف األسفلني من‬ ‫قاع األمة مدفونون‪ ،‬ومبوتهم قانعون‪.‬‬ ‫(املوازين)‬ ‫***‬

‫القصة وغرس القيم‬ ‫إن القصة وس���يلة من الوسائل التربوية إلعداد‬

‫النشء‪ ،‬بل تعد من أقدم هذه الوس���ائل‪ .‬ولقد‬

‫اس ُتخدِ مت القصة في التربية على مر العصور‬

‫اإلنس���انية‪ .‬واس���تقر رأي رجال التربية وعلماء النفس على أن‬

‫األس���لوب القصص���ي‪ ،‬هو أفضل وس���يلة نقدم ع���ن طريقها ما‬

‫‪29‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )37‬‬


‫الميعاد‪ ...‬رحلة كونية نحن فيها نسجد ونقترب‪.‬‬ ‫انظر لمآذن جامع الس���لطان أحمد والس���ليمانية بإسطنبول في صعودها المستمر‬ ‫دائما كانت تشغل أرواح المسلمين؛ الصعود‬ ‫ومعراجها الصامت‪ ...‬إن فكرة الصعود ً‬ ‫إلى الالمتناهي‪ ،‬إلى األعالي‪ ...‬وهذا ال يأتي إال بارتقاء الروح وعلوها‪.‬‬ ‫دائم���ا أن الطراز العثماني‬ ‫وفني���ا وبالنظر إلى مراحل تنوع أش���كال المآذن‪ ،‬أش���عر ً‬ ‫ًّ‬ ‫أكثره���ا‬ ‫التاريخي���ة‪،‬‬ ‫الط���رز‬ ‫تلك‬ ‫أح���دث‬ ‫وه���و‬ ‫نضجا وبس���اطة‪ .‬فبينما ينتق���د البعض‬ ‫ً‬ ‫المآذن العثمانية الطراز مقارنة بالمآذن األخرى‪ ،‬مرددين‪ :‬إنها أبسط في شكلها‪ ،‬وال‬ ‫ال؛ أنا أرى‬ ‫تحتوي على التفاصيل العديدة‪ ،‬والثراء الذي تحمله المآذن المملوكية مث ً‬ ‫العكس‪ ...‬ألن بساطة المآذن العثمانية هو ميزتها وتفردها على مآذن العصور السابقة‬ ‫لها‪ ...‬فهي أقرب إلى بس���اطة الدين اإلس�ل�امي بال تعقيد واس���تغراق في التفاصيل‪...‬‬ ‫شكل مئذن ٍة يمكن تنفيذه في وقتنا الحاضر‪.‬‬ ‫أسهل‬ ‫لذلك هي‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ولذلك أرى فلس���فة تعميم بناء المآذن على الطراز العثماني الذي تنتهي فيه قمم‬ ‫المآذن بمخروط (شبيهه بالقلم الرصاص) مطلوبة لألسباب التالية‪:‬‬ ‫ال)‪.‬‬ ‫ماديا (مقارنة بالمآذن المملوكية مث ً‬ ‫• بساطة تنفيذها وقلة التكلفة ًّ‬ ‫• يسهل تنفيذها في أحجام صغيرة مع عدم إخاللها بالشكل الجمالي‪ .‬فالمآذن‬ ‫المملوكي���ة ‪-‬على س���بيل المث���ال‪ -‬ال يصلح تصميمها إال في المقاس���ات الكبيرة من‬ ‫المآذن‪.‬‬ ‫• بساطة شكل المآذن العثمانية‪ ،‬وهي أقرب لمفهوم التجريد اإلسالمي البسيط‪،‬‬ ‫ال تحتاج إلى الكثير من الزخرفة‪.‬‬ ‫• الش���كل األس���طواني لبدن المئذنة ‪-‬وهو الغالب على النمط العثماني‪ -‬يجعلها‬ ‫ال تعت���رض التي���ارات الهوائية‪ ،‬وكأن الهواء ينزلق من عليها وال يصطدم بها‪ ،‬وبالتالي‬ ‫تكون أكثر مالءمة وثبا ًتا‪ .‬لذلك ترى الكثير منها نحيلة وفارعة في الطول بال خش���ية‬ ‫من عوامل الرياح وتيارات الهواء البيئية‪.‬‬ ‫• الش���كل المخروط���ي الذي تنتهي به قم���م تلك المآذن الرش���يقة العثمانية‪ ،‬أكثر‬ ‫ووضوح���ا لفك���رة الع���روج إلى الس���ماء‪ ،‬واإلش���ارة إل���ى الواحد‪ .‬فاألش���كال‬ ‫تأكي���دا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫األخ���رى م���ن قمم المآذن‪ ،‬مثل الخ���وذة المتكئة على عنق‪ ،‬ال يتضح وال ينجلي فيها‬ ‫معنى اإلشارة كالشكل المخروطي العثماني البسيط‪.‬‬ ‫دين‬ ‫• إن الم���آذن العثماني���ة الج���ادة‪ ،‬الواقف���ة كالحراس الس���اهرين عل���ى حماية ِ‬ ‫وثقاف ِة إمبراطورية‪َ ،‬ورِ ثت خالف َة أكبر عقيدة حكمت أركان المعمورة‪ .‬وبهذا الشكل‬ ‫المثلث أو النهايات الهرمية لتلك المآذن ‪-‬وهي تصعد إلى الس���ماء‪ -‬كانت رس���ائل‬ ‫أيضا‪.‬‬ ‫صامتة بالغة االحترام والمهابة ً‬ ‫إن فكرة الصعود وااللتقاء في نقطة إلى أعلى‪ ،‬لهي أكبر معنى إس�ل�امي ش���كلي‬ ‫يمكن أن يجس���ده الفن‪ .‬فالمآذن مثل الس���ارية أو العلم‪ ،‬فهي إش���هار للبناء وتمييز له‬ ‫ستخدم للتأذين في العصر الحالي‪ ،‬مع وجود مكبرات الصوت‪.‬‬ ‫حتى ولو لم ُت‬ ‫َ‬ ‫(*) عضو نقابة الفنانين التشكيليين ‪ /‬مصر‪.‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )37‬‬

‫‪28‬‬


‫ثقافة وفن‬

‫محمد حسن فخري*‬

‫كل موجود يف هذا العامل ما مل يتخذ من الصرب عدّته فلن يربح مكانه‪ ،‬ولن يتقدم إىل‬ ‫األمام خطو ًة واحدة‪ ..‬فبالصرب تتواىل الخطوات‪ ..‬وتتحقق األهداف‪.‬‬ ‫***‬ ‫(املوازين)‬

‫المآذن العثمانية‬

‫رشاقة وبساطة وسموق‬ ‫وتش���رئب إلى الس���ماء‪،‬‬ ‫المئذن���ة تعلن التوحيد‬ ‫ّ‬ ‫تري���د االنعت���اق م���ن األرض إل���ى الس���ماء‪ ،‬من‬ ‫المادة إلى المطلق‪ ...‬فالمئذنة تعطي الس���موق‬ ‫وترتفع إلى أعلى لتأكيد هذا الرمز‪.‬‬ ‫في هندسة المئذنة قمة التجريد‪ ،‬وكأنها تبغي‬ ‫بالتم���اس مع الس���ماء‪ -‬الوص���ل واالقتراب‪.‬‬‫فالمئذن���ة عنص���ر معم���اري مرتب���ط بالزمان‬ ‫والم���كان‪ ...‬فس���موق المئذن���ة مس���توحى م���ن‬ ‫سموق النخيل ‪-‬أروع األشجار وأكثرها ثبا ًتا‪-‬‬ ‫وه���ذا الس���موق مؤث���ر إلمكانية س���ماع صوت‬ ‫المؤذن في الفضاء الكوني‪.‬‬ ‫األذان‬ ‫س���معيا مرتب���ط بالعم���ارة‪ ...‬ويتآلف‬ ‫ًّ‬ ‫االثنان من أجل رسالة التوحيد مرتبطين برحلة‬ ‫الش���مس اليومية ما بين مش���رق ومغيب‪ ،‬وفجر‬ ‫وغس���ق‪ ،‬وس���حر وش���فق‪ ...‬وبالتال���ي مواقيت‬ ‫الص�ل�اة ه���ي لحظ���ات كوني���ة م���ن األزل إل���ى‬

‫‪27‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )37‬‬


‫العص���ور الوس���طى‪ -‬س���يادة اقتصادي���ة على الش���رق والغرب‪،‬‬ ‫فثرواته���م الزراعي���ة منه���ا والصناعي���ة وما تميزت ب���ه من تنوع‬ ‫وج���ودة وس���معة عالمي���ة‪ ،‬جعل التجار المس���لمين يمس���كون‬ ‫بأيديه���م معظ���م التج���ارة الدولي���ة آن���ذاك‪ .‬فقد غ���دت الطرق‬ ‫التجاري���ة الكب���رى ‪-‬البري���ة منه���ا والبحرية‪ -‬بأيده���م أو تحت‬ ‫إمرتهم‪ .‬ويضاف إلى ذلك كله أن البحر األبيض المتوسط قد‬ ‫تحول منذ مس���تهل القرن التاسع الميالدي (الثالث الهجري)‬ ‫ّ‬ ‫إلى بحيرة إسالمية‪.‬‬ ‫وأضحت النقود اإلس�ل�امية خير سفير لعقيدة التوحيد بما‬ ‫تحمل���ه من كتاب���ات عربية وآي���ات قرآنية‪ ،‬اكتس���بت الثقة بين‬ ‫ش���عوب أوربا التي أطلقت عليها لفظ "المنقوشة" كما وردت‬ ‫ف���ي النص���وص الالتيني���ة‪ ،‬بل إن بع���ض ملوك إنجلت���را ‪-‬وهو‬ ‫المل���ك أوف���ا‪ -‬لم يقبل ش���عبه غير النق���ود التي ضربه���ا‬ ‫تقليدا‬ ‫ً‬ ‫للنقود العربية المنقوشة‪ .‬وال زال بالمتحف البريطاني واحد من‬ ‫دنانير الملك "أوفا" وعليها شهادة التوحيد والرسالة المحمدية‬ ‫والتاري���خ الهج���ري ع���ام (‪157‬ه���ـ) واس���م المل���ك بالالتينية‪.‬‬ ‫وأخ���ذت النق���ود األوربية المقلدة للنقود اإلس�ل�امية يزداد‬ ‫ضربها حتى القرن الثالث عشر الميالدي‪ ،‬ولم يمنع ذلك من‬ ‫تعامل أوربا بالنقود العربية اإلسالمية‪ .‬وقد استعارت أوربا في‬ ‫معامالتها التجارية كلمة "سكة" لتصبح في الفرنسية (‪،)Seguin‬‬ ‫وفي اإليطالية (‪ ،)Zecca‬كما استعيرت من العربية كلمة "صك"‬ ‫لتصبح (‪.)Cheque‬‬

‫الخط العربي والزخرفة‬

‫وم���ن ناحية أخرى‪ ،‬ف���إن أثر الخط العرب���ي والكتابات العربية‬ ‫المنقوش���ة عل���ى النقود اإلس�ل�امية‪ ،‬كان له تأثي���ره على النقود‬ ‫األوربي���ة‪ .‬وه���و موض���وع قد حظ���ي بكثير من عناي���ة الباحثين‬ ‫األوربيين‪.‬‬ ‫وقد أفادت صناعة العملة وصكها‪ ،‬من تقدم فنون الزخرفة‬ ‫اإلسالمية‪ .‬فقد تميز فن العمالت اإلسالمية بالمزج بين الخط‬ ‫والتجري���د‪ .‬وقد حافظ التيار الرئيس���ي للعملة اإلس�ل�امية على‬ ‫نهج القرن الرابع الهجري الذي يعرض عن الصور‪ ،‬باستثناء‬ ‫قطع قليلة تأثرت بمصدر غير إسالمي‪.‬‬ ‫إن إلقاء نظرة عابرة على الدنانير األموية والعباس���ية‪ ،‬يترك‬ ‫انطباعا بأنه لم يطرأ أي تغيير على شكل الدينار اإلسالمي لمدة‬ ‫ً‬ ‫تناه���ز قر ًنا م���ن الزمان‪ .‬لكن في أوائل الق���رن الثالث الهجري‬ ‫(التاس���ع الميالدي) ظهر طراز جديد من العملة العباس���ية فيه‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )37‬‬

‫‪26‬‬

‫مي���ل متزايد إلى النقش الزخرفي‪ .‬واس���تمر ه���ذا االتجاه حتى‬

‫جديدا من النقود‪ ،‬يختلف عن الطراز‬ ‫طرازا‬ ‫أصدر الفاطميون‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫الذي اس���تعملوه عن األغالب���ة‪ .‬ويتميز الط���راز الفاطمي‪ ،‬برقة‬ ‫خط���ه وأناقت���ه وب���روز النقوش الدائري���ة‪ .‬وقد أدى االس���تقرار‬

‫ال���ذي تمتع���ت به العمل���ة الفاطمية إلى تقليده���ا ليس فقط من‬ ‫قب���ل األيوبيين‪ ،‬ب���ل ومن قبل بعض الدويالت المعاصرة‪ ،‬مثل‬

‫الصليبيين والسالجقة‪.‬‬

‫الجدير بالذكر أن النقود الذهبية بعد التعريب‪ ،‬لم يس���مح‬

‫الخليفة األموي بضربها في غير مصر وسوريا‪ ،‬فانحصر إنتاج‬ ‫الدناني���ر العربية في دار الس���ك بدمش���ق والفس���طاط‪ ،‬وأصبح‬

‫م���ن الصع���ب في نقود العصر األموي التمييز بين تلك الدنانير‬

‫السورية أو المصرية بعد أن وحد بينهما المظهر العربي العام‪،‬‬ ‫ال���ذي ح���دده إصالح عبد المل���ك للنقود وخاصة ف���ي الكتابة‬ ‫العربية المنقوشة‪.‬‬

‫وإذا كان م���ن الصع���ب علين���ا التميي���ز بين النق���ود الذهبية‬

‫الت���ي ضرب���ت في مصر وبين تلك التي ضربت في س���وريا في‬

‫العص���ر األم���وي‪ ،‬فإن األمر لم يكن كذلك بالنس���بة للنقود من‬ ‫الفلوس التي كان يس���جل عليها أس���م الوالي أو عامل الخراج‬

‫الذي ضرب النقد على يديه وتحت إش���رافه‪ ،‬كما يحمل اس���م‬ ‫م���كان الس���ك أحيانا‪ .‬ولذل���ك يمكن اعتبار ه���ذا الفلس نقطة‬

‫التحول إلى الفلوس العربية؛ فقد ظهرت بعد ذلك سلسلة من‬ ‫النقود البرونزية في مصر األموية ‪-‬بوجه خاص‪ -‬كشفت عنها‬

‫حفائر الفسطاط‪ ،‬وتزدان بها مجموعة متحف الفن اإلسالمي‪،‬‬ ‫وتحمل هذه النقود أسماء الوالة أو عمال الخراج الذين تولوا‬

‫أعمالهم في مصر‪.‬‬

‫وق���د تمي���زت الدراهم األموية بجمال خطه���ا ودقة وإتقان‬

‫ضربه���ا‪ ،‬باإلضافة إلى صفاء ونق���اء معدن الفضة التي ضربت‬ ‫من���ه‪ .‬وإن دل هذا على ش���يء‪ ،‬فإنما ي���دل على وفرة المعادن‪.‬‬

‫ونظ���را التس���اع رقع���ة الدول���ة وترام���ي أطرافها‪ ،‬نج���د أن دور‬ ‫ً‬

‫الس���ك بالنس���بة للدرهم‪ ،‬بلغت ما بين "دراسك" من األندلس‬

‫غربا إلى "كاشغر" في الصين شر ًقا‪.‬‬ ‫ً‬

‫(*) رئيس قسم الفلسفة واالجتماع‪ ،‬كلية التربية‪ ،‬جامعة عين شمس ‪ /‬مصر‪.‬‬


‫النق���ود األجنبي���ة المتداول���ة‬ ‫اإلمبراط���ور أن عب���د المل���ك‬ ‫ف���ي العالم اإلس�ل�امي آنذاك‪،‬‬ ‫ه���دده‬ ‫مصم���م عل���ى موقف���ه‪ّ ،‬‬ ‫ت�ؤك��د لن��ا النق��ود‪ ،‬م��ا جاء يف‬ ‫نقش���ا‬ ‫الدنانير منها والدراهم‪ ،‬نتيجة‬ ‫بأن يصدر دنانير تحمل ً‬ ‫امل�ص��ادر التاريخي��ة‪� ،‬أن اخلليفة‬ ‫تنوعه���ا واخت�ل�اف أوزانه���ا‬ ‫هين���ا لإلس�ل�ام والمس���لمين‪.‬‬ ‫ُم ً‬ ‫الأم��وي عبد امللك ب��ن مروان‬ ‫وعيارها‪ ،‬وم���ا كان على تلك‬ ‫فاستش���ار الخليف���ة أصحاب���ه‪،‬‬ ‫ع��رب ال�سك��ة‬ ‫م��ن‬ ‫أول‬ ‫�‬ ‫كان‬ ‫ّ‬ ‫الفوض���ى م���ن أض���رار مالي���ة‬ ‫واتخ���ذ في ضوء ذل���ك قراره‬ ‫أ‬ ‫�‬ ‫بد‬ ‫حني‬ ‫ال‬ ‫كام‬ ‫ا‬ ‫تعريب‬ ‫إ�سالمية‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫واقتصادي���ة تلح���ق بالدول���ة‬ ‫التاريخ���ي بس���ك الدين���ار‬ ‫وجد‬ ‫حيث‬ ‫الدواوين؛‬ ‫بتعريب‬ ‫والرعي���ة عل���ى الس���واء‪ .‬ه���ذا‬ ‫الذهب���ي اإلس�ل�امي‪ ،‬وتحريم‬ ‫اال�ستق��رار‬ ‫��ضرورات‬ ‫م��ن‬ ‫أن‬ ‫�‬ ‫فض�ل�ا ع���ن رغب���ة الخليفة في‬ ‫ت���داول الدناني���ر البيزنطي���ة‬ ‫ً‬ ‫ال�سيا�سي واالقت�صادي‪� ،‬إ�ضفاء‬ ‫التخل���ص م���ن الغ���ش ال���ذي‬ ‫كام�ل�ا‪ .‬وبذلك انتزع‬ ‫تحريما‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫جميع‬ ‫عل��ى‬ ‫إ�سالمي‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫الطاب��ع‬ ‫انتش���ر في تل���ك النقود‪ ،‬وأدى‬ ‫من جس���تنيان الورقة التي كان‬ ‫امليادين الإدارية واملالية‪.‬‬ ‫بالتال���ي إلى انخف���اض قيمتها‬ ‫يهدد بها‪.‬‬ ‫الش���رائية وارتف���اع األس���عار‬ ‫ولق���د أزال عب���د المل���ك‬ ‫وانعدام ثقة الناس بها‪.‬‬ ‫عن النقود اإلس�ل�امية رس���وم‬ ‫وج���اء ش���كل الدين���ار الذهب���ي اإلس�ل�امي الذي‬ ‫األباطرة البيزنطيين والشارات المسيحية من الدنانير‪،‬‬ ‫وكذلك ألغى رس���وم الملوك الساس���انيين وش���ارات س���كه عبد المل���ك عام (‪77‬ه���ـ) على النح���و التالي‪:‬‬ ‫مس���تعيضا عنه���ا بآي���ات م���ن الق���رآن نق���ش على أحد الوجهين "اهلل أح���د‪ ،‬اهلل الصمد‪ ،‬لم‬ ‫معاب���د الن���ار‪،‬‬ ‫ً‬ ‫الكري���م ومأثورات إس�ل�امية خالصة‪ ،‬ب���ل نجد على يلد ولم يولد"‪ ،‬ونقش على مدار الوجه نفس���ه "بسم‬ ‫الوج���ه الثاني للعملة تاريخ الضرب واس���م المدينة‪ .‬اهلل‪ ،‬ضرب هذا الدينار في س���نة س���بع وسبعين"‪ ،‬أما‬ ‫عل���ى الوج���ه اآلخر فق���د نقش "ال إل���ه إال اهلل وحده‬ ‫االستقالل المالي‬ ‫وانته���ى الن���زاع باش���تعال الح���رب م���ن جدي���د بي���ن ال ش���ريك ل���ه"‪ ،‬ونقش عل���ى مداره "محمد رس���ول‬ ‫المسلمين والبيزنطيين‪ ،‬تلك الحرب التي كان النصر اهلل‪ ،‬أرس���له بالهدى ودين الح���ق ليظهره على الدين‬ ‫جراما‬ ‫كل���ه"‪ .‬أم���ا وزن هذا الدين���ار فق���د كان ‪25،4‬‬ ‫ً‬ ‫فيها للدولة اإلسالمية‪.‬‬ ‫ومما ال جدال فيه أن هذه الحرب لم تكن مجرد وه���و الوزن الش���رعي للدينار‪ .‬وكانت نس���بة الذهب‬ ‫ص���دام بي���ن حاكمين‪ ،‬ولكنها كان���ت تحديا وصراعا فيه نحو ‪.%96‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وقد أخذ الدينار اإلسالمي باالنتشار التدريجي‪،‬‬ ‫بي���ن حضارة قديم���ة تفتخر بتراثها الديني وس���لطتها‬ ‫العالمي���ة م���ن ناحية‪ ،‬وبين دولة فتي���ة تحتم عليها أن وغدا العملة الذهبية الوحيدة في العالم اإلس�ل�امي؛‬ ‫غربا‪ ،‬ووضعت‬ ‫تفسح مكان لعقيدتها الدينية الخاصة بها‪ ،‬ولحقوقها من حدود الصين شر ًقا إلى األندلس ً‬ ‫الدولة اإلس�ل�امية النظم والقواع���د لدعمه وحمايته‪.‬‬ ‫الخالفية من ناحية أخرى‪.‬‬ ‫وي���رى الباح���ث "ع���ادل زيت���ون"‪ ،‬أن���ه إذا كانت ولك���ن لم يقتصر انتش���ار ه���ذا الدين���ار داخل حدود‬ ‫"مش���كلة القراطيس" هي الس���بب المباشر لقرار عبد العال���م اإلس�ل�امي فق���ط‪ ،‬وإنم���ا اجتازه���ا إل���ى مدن‬ ‫أيضا‪.‬‬ ‫المل���ك في س���ك النق���ود اإلس�ل�امية ‪-‬الدناني���ر منها العالم القديم وأسواقه ً‬

‫أسبابا أخرى ربما تفوق في السيادة االقتصادية‬ ‫والدراهم‪ -‬إال أن هناك‬ ‫ً‬

‫أهميتها تلك المشكلة‪ ...‬وفي مقدمتها رغبة الخليفة وال ننسى أن قوة اقتصاد العالم اإلسالمي وازدهاره‪،‬‬ ‫في تحقيق االس���تقالل المالي ع���ن الدولة البيزنطية‪ ،‬م���ن أهم العوامل التي س���اعدت الدينار على تحقيق‬ ‫جميعا ‪-‬في‬ ‫وف���ي التخل���ص م���ن الفوضى التي كانت س���ائدة في مكانته العالمية‪ .‬فقد أصبح للمس���لمين‬ ‫ً‬

‫‪25‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )37‬‬


‫بداية على الخريطة النقدية التي كانت سائدة في‬

‫"السكة"‪.‬‬ ‫لفظ ّ‬ ‫ولم���ا اس���تخلف أبو بكر الصدي���ق ‪ ،‬عمل‬ ‫بسنة النبي ‪ ‬في إقرار التعامل بتلك النقود ذات‬ ‫الص���ور اآلدمية والش���ارات غير اإلس�ل�امية‪ ،‬ولم‬ ‫شيئا‪ .‬ولكن ما لبث المسلمون في عهد‬ ‫يغير منها ً‬ ‫عم���ر بن الخط���اب ‪ ‬أن أصبحوا س���ادة فارس‬ ‫وما بين النهرين والشام ومصر‪ ،‬فأبقوا على نقود‬ ‫كانت مألوفة لديهم‪ .‬ثم ضرب عمر بن الخطاب‬ ‫‪ ‬بعض الدراهم على نقش الكسروية وشكلها‪،‬‬ ‫وغي���ر في بعضها "الحمد هلل" وفي بعضها "ال إله‬ ‫ّ‬ ‫إال اهلل"‪ .‬وكذل���ك فعل عثمان ب���ن عفان ومعاوية‬ ‫بن أبي سفيان رضي اهلل عنهما‪.‬‬

‫رئيسي‪ ،‬الدينار البيزنطي والدرهم الفارسي‪ ،‬ولم‬

‫وتؤك���د لنا النقود ما جاء في المصادر التاريخية‪،‬‬ ‫أن الخليف���ة األموي عبد الملك بن مروان (‪-65‬‬ ‫تعريبا‬ ‫عرب السكة اإلسالمية‬ ‫ً‬ ‫‪76‬هـ) كان أول من ّ‬ ‫ال حين بدأ بتعريب الدواوين؛ حيث وجد أن‬ ‫كام ً‬ ‫من ضرورات االس���تقرار السياسي واالقتصادي‪،‬‬ ‫إضفاء الطابع اإلس�ل�امي عل���ى جميع الميادين‬ ‫اإلدارية والمالية‪.‬‬ ‫ويق���ف كذلك وراء قرار عبد الملك بتعريب‬ ‫العمل���ة‪ ،‬جمل���ة م���ن األس���باب‪ ،‬ولك���ن الس���بب‬ ‫المباش���ر ه���و م���ا ُع���رف‬ ‫تاريخيا باس���م "مش���كلة‬ ‫ًّ‬ ‫القراطي���س"‪ ،‬أي ورق الب���ردي‪ .‬وخالصته���ا أن‬ ‫مصانع الب���ردي في مصر اعتادت أن تبعث بهذا‬ ‫الورق إلى بيزنطية‪ ،‬وقد كتبت عليه بسملة التثليث‬ ‫(اآلب واالب���ن وروح الق���دس) باللغ���ة اليونانية‪.‬‬ ‫قائم���ا بع���د فتح مصر‬ ‫واس���تمر ه���ذا التقلي���د ً‬ ‫عل���ى ي���د المس���لمين‪ ،‬وال س���يما أن أصح���اب‬ ‫أقباطا‪،‬‬ ‫ه���ذه المصان���ع كان���وا‬ ‫وق���در اهلل أن يتنبه‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫عب���د المل���ك إل���ى هذا األم���ر‪ ،‬فطلب م���ن عامله‬ ‫عل���ى مص���ر ب���أن يلغي ه���ذا التقلي���د‪ ،‬وأن يكتب‬ ‫���د﴾‪ .‬وعندما علم‬ ‫عل���ى البردي‪ُ ﴿ :‬ق ْل ُه َو ا ُ‬ ‫هلل َأ َح ٌ‬ ‫اإلمبراطور البيزنطي جستنيان الثاني (ت ‪711‬م)‬ ‫بذلك‪ ،‬استش���اط‬ ‫غضبا وبعث إل���ى الخليفة أكثر‬ ‫ً‬ ‫من مرة يطلب منه س���حب ق���راره‪ .‬وعندما أدرك‬

‫العالم عش���ية ظهور اإلس�ل�ام في مس���تهل القرن‬

‫الس���ابع المي�ل�ادي‪ .‬فق���د أجمعت المص���ادر أن‬ ‫اإلمبراطوري���ة البيزنطي���ة كان���ت الدول���ة الوحيدة‬

‫التي تصدر العملة الذهبية وهي المعروفة باس���م‬

‫"الصول���دي"‪ .‬والدول���ة الفارس���ية كان���ت تص���در‬ ‫العمل���ة الفضي���ة وهي الدرهم الفضي الفارس���ي‪.‬‬ ‫أم���ا الممالي���ك الجرمانية البربري���ة التي كانت قد‬ ‫قام���ت على أنق���اض اإلمبراطوري���ة الرومانية في‬

‫الغ���رب األوربي منذ الق���رن الخامس الميالدي‪،‬‬

‫فقد كانت ال تسك إال عمالت فضية‪.‬‬

‫وق���د اس���تخدم ع���رب الجزيرة ف���ي تجارتهم‬

‫مع الش���ام وفارس واليمن قبل اإلس�ل�ام بش���كل تعريب السكة اإلسالمية‬ ‫يكن أمام الدولة اإلس�ل�امية الناش���ئة خيار سوى‬ ‫اس���تخدام النقود المتداولة من بيزنطية وفارسية؛‬ ‫وحرصا‬ ‫خدم���ة لش���ؤونها المالي���ة واالقتصادي���ة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫منه���ا عل���ى مصال���ح الن���اس عامة‪ ،‬وال س���يما أن‬

‫اله���م األول للمس���لمين في تل���ك المرحلة‪ ،‬كان‬ ‫نجاح الدعوة اإلس�ل�امية وتثبي���ت أركان الدولة‪،‬‬

‫ونشر اإلسالم في الجزيرة وخارجها‪ .‬ولهذا فإن‬ ‫لحا آنذاك‪ ،‬كما‬ ‫س���ك نقد جديد لم يكن‬ ‫مطلبا ُم ًّ‬ ‫ً‬

‫أن الشروط الالزمة لنجاح مثل هذا المشروع لم‬ ‫بعد‪.‬‬ ‫تكن قد توفرت ُ‬

‫ولكن على الرغم من ذلك فقد حاول بعض‬

‫الخلف���اء واألم���راء المس���لمين قب���ل عب���د الملك‬

‫س���ك بعض النق���ود‪ ،‬ولكنها ج���اءت في معظمها‬

‫على ط���راز النقود الفارس���ية والبيزنطية‪ ،‬ولم يتم‬ ‫رس���ميا‪ .‬وعل���ى أي حال‪ ،‬فقد ش���كلت‬ ‫تداوله���ا‬ ‫ًّ‬

‫هذه المح���اوالت إرهاصات أولية لظهور النقود‬

‫اإلسالمية‪.‬‬

‫الكتاب المسلمون إلى علم النقود‬ ‫وقد أشار ّ‬

‫أو "عل���م النمي���ات" (‪ ،)Numismatic‬ولكن في ُنبذ‬ ‫عرضي���ة أو فصول خاصة ‪-‬فيما عدا "المقريزي"‬

‫كتي ًبا أس���ماه "ش���ذور العقود في‬ ‫ال���ذي خص���ص ّ‬

‫ذك���ر النق���ود"‪ -‬وأطلقوا عل���ى النقود اإلس�ل�امية‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )37‬‬

‫‪24‬‬


‫تاريخ وحضارة‬

‫أ‪.‬د‪ .‬بركات محمد مراد*‬

‫سك العملة‬

‫في الحضارة اإلسالمية‬

‫ُتعد النقود اإلسالمية من أهم المصادر وأدقها‬

‫خاصا بها‬ ‫معجما‬ ‫ومدن‪ ،‬وشعارات تستوعب دراسة كل منها‬ ‫ًّ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬

‫ألنها تصدر من جهة رسمية‪.‬‬

‫الدينار اإلسالمي‬

‫في إعادة كتابة التاريخ‪ ،‬كونها ال تقبل الخطأ‪،‬‬

‫كبيرا في المكتبة العربية واإلسالمية‪.‬‬ ‫تسد ً‬ ‫فراغا ً‬

‫وأهمية النقود تبرز في كونها إحدى أركان الدولة‪ ،‬وشارة من‬

‫إذا كان الدين���ار الذهبي الذي أصدرت���ه اإلمبراطورية البيزنطية‬

‫أوضاعها وعالقاتها بالدول المجاورة والمعاصرة لها‪.‬‬

‫ف���إن الدينار الذهبي اإلس�ل�امي الذي أص���دره الخليفة األموي‬

‫شاراتها‪ ،‬وعنوان مجدها‪ ،‬تتصل باقتصادياتها وتشريعها وسائر‬

‫قد اكتس���ب تلك المكانة الدولية في صدر العصور الوس���طى‪،‬‬

‫ويعتقد الدارسون أن النقود العربية اإلسالمية منذ ظهورها‪،‬‬

‫عب���د الملك ب���ن م���روان (‪86-65‬ه���ـ‪705-685/‬م) قد حظي‬

‫بأي ح���ال من األح���وال إلى أغ���راض أخرى‪.‬‬ ‫ذل���ك الض���رب ّ‬

‫العالم القديم دون أن ينازعه في ذلك منازع‪ ،‬منذ أوائل القرن‬

‫أهمي���ة عن ال���دور التجاري‪ ،‬أال وهو ال���دور اإلعالمي‪ ،‬حيث‬

‫عشر الميالدي (السابع الهجري)‪.‬‬

‫اقتص���ر ضربها على التعام���ل والتبادل التج���اري‪ ،‬ولم يتجاوز‬

‫ال في أرجاء‬ ‫بمكان���ة عالمية‪ ،‬واكتس���ب بج���دارة‬ ‫احتراما وقب���و ً‬ ‫ً‬

‫دورا آخر ال يقل‬ ‫إال أن الدراس���ات العلمية‪ ،‬أثبت���ت أن للنقود ً‬

‫الثام���ن الميالدي (الثان���ي الهجري) حتى أوائ���ل القرن الثالث‬

‫ش���بيها بالدور الذي تلعبه الصحافة‬ ‫كان هذا النوع من النقود‪،‬‬ ‫ً‬

‫إن إلقاء بعض الضوء على قصة "عالمية" الدينار اإلسالمي‪،‬‬

‫كم���ا ُتعد النقود مدرس���ة للتصوير ف���ي مراحلها المختلفة‪،‬‬

‫للنقود اإلس�ل�امية (الدينار الذهب���ي والدرهم الفضي) من أهم‬

‫أيض���ا مدرس���ة للخ���ط العرب���ي‬ ‫والخاص���ة له���ا‪ .‬و ُتع���د النق���ود ً‬

‫األهمية اقتصادية وسياس���ية‪ ،‬محلية وعالمية‪ ،‬بل يمكن القول‬

‫واإلذاعة والتلفزيون والمؤتمرات في الوقت الحاضر‪.‬‬

‫كام�ل�ا لمميزاتها العامة‬ ‫تص���ورا‬ ‫إذ تعطين���ا ف���ي كل فت���رة زمنية‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وتطوره بأنواعه المختلفة‪ ،‬ومدرسة لدراسة العناصر الزخرفية‬

‫بأش���كالها المختلفة الهندس���ية والفلكي���ة والنباتي���ة والحيوانية‬ ‫واآلدمية‪ ...‬وال ننسى ما تضم دراسة النقود من ُكنى‪ ،‬وألقاب‬

‫وممتعا‪ .‬كان س���ك الخليفة عبد الملك‬ ‫مهما‬ ‫يش���كل‬ ‫ً‬ ‫موضوعا ًّ‬ ‫ً‬ ‫نظرا لما ترتب عليه من نتائج بالغة‬ ‫أحداث التاريخ اإلسالمي ً‬

‫إن هذا اإلنجاز كان إيذا ًنا بـ"انقالب" جذري في النظم المالية‬ ‫واالقتصادية التي كانت سائدة في عالم العصور الوسطى‪.‬‬

‫ولك���ي ندرك هذا اإلنج���از على حقيقت���ه‪ ،‬علينا أن نتعرف‬

‫‪23‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )37‬‬


‫العالي���ة وبصرنا الحاد‪ .‬فإذا رأيت مجموعة منا (من ‪ 5‬إلى ‪10‬‬ ‫عدوا ما‬ ‫َزراف���ات) تنظر باتجاه واحدٍ مش��� ّنِفة آذانها‪ ،‬فاعلم أن ًّ‬ ‫وغ���در‪ .‬حينها نأخذ‬ ‫خبث‬ ‫وضعية االس���تعداد‬ ‫ْ‬ ‫يقت���رب من���ا في ْ‬ ‫َّ‬ ‫لل���ركل والقت���ال‪ ،‬أو نلج���أ إلى ِح ْرزٍ مناس���ب‪ .‬يحاول األس���د‬ ‫عدون���ا األكبر‪ -‬مطاردتن���ا إلى بقعة وع���رة وأرض غير‬ ‫وه���و ّ‬‫دب ُّ‬ ‫الذ ْع ُر في صفوفنا وبدأنا بالفرار ثم صادفتنا‬ ‫مستوية‪ ،‬فإذا َّ‬ ‫أرض وع���رة‪ ،‬فقدنا ميزة ارتفاعنا عن متناول األس���د‪ ،‬أو فقدنا‬ ‫الت���وازن وتدحرجن���ا‪ ،‬وأصبحت أعناقنا في قبضة األس���د وكنا‬ ‫دوما نحو الواحات‬ ‫صيدا سه ً‬ ‫ً‬ ‫ال له‪ .‬هذا ما يدفعنا إلى االتجاه ً‬ ‫قد ُرنا‬ ‫جميعا‬ ‫السهلة المنبسطة لنجري فيها بسهولة وتوازن‪ .‬إنه َ‬ ‫ً‬ ‫نح���ن الكائنات الحي���ة‪ ،‬لنا أماكننا المحددة في الدورة الغذائية‬ ‫ودورة الحياة‪...‬‬ ‫يؤمِن‬ ‫تكاثر متوازن في عالم الكائنات الحية‪ّ ،‬‬ ‫ٌ‬ ‫للصياد غذاءه وللفريس���ة اس���تمرار نس���لها في الحياة‪ ...‬حكمة‬ ‫ّ‬ ‫ا‬ ‫ن‬ ‫ترجما‬ ‫الحياة‬ ‫ظاللها‬ ‫في‬ ‫تمضي‬ ‫بالغة‬ ‫رائعا ألسمائه الحسنى‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫حلقة أخرى في حياتي‬

‫الس���مع والش���م ونتميز بحدة البصر‪ .‬حيث نس���تطيع به تمييز‬ ‫أس���د متقدم من مسافة كيلو مترٍ واحد ما لم يقم بإخفاء نفسه‪،‬‬ ‫بيد إني أنام ساعتين فقط في اليوم الواحد‪.‬‬ ‫وإذا كان الص���راع يكثر بين الذكور من ذوات الحوافر من‬ ‫الحيوان���ات في مواس���م التكاثر‪ ،‬فإنه يندر بينن���ا‪ .‬فإذا ما دخلنا‬ ‫في صراع‪ ،‬فإن رؤوس���نا تش���تبك بضربات تبلغ قوتها ‪1500‬‬ ‫تحطم القرون أو الفكين أو تؤدي إلى‬ ‫ك���غ‪ ،‬وربم���ا ينتج عنها ّ‬ ‫فق���دان العيون‪ .‬فماذا نفعل؟ إنه���ا فطرتنا التي فطرنا اهلل عليها‪.‬‬ ‫ولذل���ك ف���إن عظام الرؤوس عن���د ذكورنا تك���ون غليظة قوية‪،‬‬ ‫ووزن ال���رأس ي���زداد بمعدل واح���د كغ كل ع���ام‪ ،‬حتى يبلغ‬ ‫قرابة ‪ 30‬كغ لذكرٍ في العشرين من عمره‪.‬‬

‫أثناء فراري من األسد‬

‫عموما بالحركات واإلش���ارات‪ ،‬فإذا‬ ‫تج���ري االتصاالت بينن���ا‬ ‫ً‬ ‫أحسس���نا بخطر قادم‪ ،‬نبهنا بعضنا باألصوات‪ .‬وبالتالي يمكننا‬ ‫االتصال فيما بيننا على مسافات بعيدة‪ ،‬معتمدين على أطوالنا‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )37‬‬

‫‪22‬‬

‫جدا تربطني بش���جرة األكاس���يا التي هي طعامي‬ ‫عالقة خاصة ًّ‬ ‫المفض���ل‪ .‬أتناول من أوراقها العالية الغضة وبراعمها الجديدة‬ ‫الطرية دون تعريض هذه الشجرة للجفاف والهالك‪ .‬ال أعرف‬ ‫كيف ينظّ م ربي هذا األمر‪ ،‬حيث يجعل الش���جرة ‪-‬بعد فترة‪-‬‬ ‫تف���رز م���رارة في أوراقه���ا مما يمنعني من اس���تمرار األكل‪ ،‬فال‬ ‫يك���ون طعام���ي عندئ���ذ‪ ،‬إال بمثاب���ة تقليم تحتاجه الش���جرة في‬ ‫نموها‪ .‬ولكن البد أن ننوه إلى المنفعة التي تحدث بيني وبين‬ ‫تلك الشجرة‪.‬‬ ‫عندما أمد رأسي ألتناول الطعام من قمم األشجار العالية‪،‬‬ ‫الط ْلع من أزهارها‪ ،‬وأثناء تن ّقلي‬ ‫غبار َّ‬ ‫ْيع َلق في شعيرات عنقي ُ‬ ‫من شجرة ألخرى يتم عن طريق هذا الغبار التلقيح بين أزهار‬ ‫هذه األشجار‪ .‬ففي اليوم الواحد أقوم بتلقيح ما يزيد على مئة‬ ‫تماما كما‬ ‫ش���جر ٍة تنتش���ر على امتداد عش���رين كيلومتر مربع‪ً ،‬‬ ‫تس���اهم الحش���رات في تلقي���ح األزهار‪ .‬والبد م���ن أن أعترف‬ ‫علم من���ي‪ ،‬بل أقوم بذلك في ظل‬ ‫لك���م‪ ،‬بأن���ي أفعل ذلك دون ٍ‬ ‫تقدير إلهي (ويس���ميه بعضكم غريزة)‪ ،‬ف ُأش���بع بطني وأساهم‬ ‫ف���ي تلقي���ح األش���جار وتكاثرها‪ .‬أش���كر ربي وأحم���ده‬ ‫حمدا‬ ‫ً‬ ‫أن منحن���ي فرصة إظه���ار قدرته وتقدي���م صنعته البديعة‬ ‫كثي���را ْ‬ ‫ً‬ ‫في خلقتي‪.‬‬ ‫(*) جامعة ‪ 9‬أيلول ‪ /‬تركيا‪ .‬الترجمة عن التركية‪ :‬مصطفى حمزة‪.‬‬


‫يناسب طول عنقي‪ ،‬فالقصبات التي تصل فتحتي الفم واألنف‬ ‫مترا ونصف متر‪ ،‬وقطر مقطعها ‪ 5‬س���م‪،‬‬ ‫بالرئتي���ن يبلغ طولها ً‬ ‫كبيرا يكثر‬ ‫وهذا يجعل الفراغ في القصبات والش���عب الرئوية ً‬ ‫فيه الهواء (العادم) المستعمل في التنفس الناتج عن الزفير مع‬ ‫أم���ر غير‬ ‫مالئم للتنفس‪ ،‬لكن‬ ‫ٍ‬ ‫الهواء اآلتي من الش���هيق‪ ،‬وهذا ٌ‬ ‫رب���ي ‪-‬جلت حكمت���ه‪ -‬زودني بقدرة عالية على التنفس‪ .‬فأنتم‬ ‫تتنفسون ما بين ‪ 15-12‬نفسا في الدقيقة‪ ،‬وأتنفس أنا أكثر من‬ ‫نفسا يلبي حاجة جسمي إلى الهواء‪.‬‬ ‫عشرين ً‬

‫طعامي المفضل‬

‫أعيش في المناطق االس���توائية وش���به االس���توائية م���ن إفريقيا‪،‬‬ ‫حيث تنتش���ر الواحات الخضراء من أعش���اب السافانا الطويلة‬ ‫واألش���جار العالي���ة‪ .‬أتغذى على النبات���ات الفلقية‪ .‬وإن أفضل‬ ‫طع���ام عن���دي‪ ،‬ه���و أزهار أش���جار األكاس���يا وأوراقه���ا الغضة‬ ‫الطرية‪ .‬كما أني آكل األماكن المناس���بة من البناتات الخش���بية‬ ‫الت���ي يت���راوح ع���دد أنواعها في ه���ذه المنطقة م���ا بين ‪60-40‬‬ ‫مهي ٌؤ لتن���اول هذه األن���واع النباتية‪ ،‬حيث تقوم‬ ‫ً‬ ‫نوع���ا‪ .‬إن فم���ي َّ‬ ‫المزودة بالمرونة والعضالت القوية‪ ،‬ولس���اني القوي‬ ‫ش���فتاي‬ ‫ّ‬ ‫الذي يبلغ طوله ‪ 46‬س���م؛ وهذا يمكنني من تجريد األغصان‬ ‫الش���وكية من أوراقها بس���رعة وحساس���ية عاليتي���ن‪ .‬فالنتوءات‬ ‫الطبيعية المصنوعة من الكرياتين والتي تغطي س���طح لس���اني‪،‬‬ ‫تق���وم ب���دور المش���ط وتحميه م���ن األش���واك الض���ارة‪ .‬تتناول‬ ‫اإلن���اث من النبات���ات كميات أزيد من الذك���ور‪ ،‬وهي مضطرة‬ ‫إلى ذلك‪ ،‬ألنها المسؤولة عن تربية صغارها وتلبية قوتهم من‬ ‫حليب وغيره من الغذاء‪.‬‬

‫حياتي األسرية‬

‫لنؤمن ما‬ ‫إنن���ا نتن���اول بي���ن الحين واآلخ���ر الت���راب والعظ���ام‪ّ ،‬‬ ‫تحتاجه أجسامنا من العناصر المعدنية كالكالسيوم‪.‬‬ ‫آباءا وهم أبن���اء ثمانية أعوام‪،‬‬ ‫يمك���ن لذكورن���ا أن يصبحوا ً‬ ‫خمس‪ .‬وإذا‬ ‫بن���ات‬ ‫تك���ن أمهات وهم‬ ‫كم���ا يمك���ن لإلناث أن‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫كانت مدة الحمل عندكم تمتد إلى تس���عة أش���هر‪ ،‬فإن الجنين‬ ‫ش���هرا‪ .‬ولما كان الحمل‬ ‫عندنا ُي ِتم في بطن أمه خمس���ة عش���ر‬ ‫ً‬ ‫يتج���اوز الع���ام‪ ،‬لم يكن لدينا موس���م مح���دد للتكاثر‪ ،‬ألن في‬ ‫المناط���ق االس���توائية ال يحدث فرق موس���مي كبي���ر‪ ،‬بل يبقى‬ ‫كالربي���ع والصيف عندكم‪ ...‬كما تكون األنثى جاهزة للحمل‬ ‫من جديد بعد خمسة أشهر من وضعها‪ .‬ويمكن لها أن تحمل‬ ‫عاما‪.‬‬ ‫من ‪ 5‬إلى ‪ 10‬مرات طيلة عمرها الذي يبلغ‬ ‫وسطيا ‪ً 25‬‬ ‫ًّ‬ ‫تلد األنثى صغارها وهي واقفة على قدميها‪ ،‬وعلى الرغم‬ ‫من سقوط المولود من ارتفاع يبلغ مترين‪ ،‬فإنه يبدأ بعد دقائق‬ ‫م���ن ال���والدة‪ ،‬بالتر ّنح البس���يط ث���م الجري على قدميه بش���كل‬ ‫ال بمعدل ‪ 8‬سم في الشهر‪ ،‬ويرضع من أمه‬ ‫طبيعي‪ .‬يزداد طو ً‬ ‫شهرا‪ .‬وعلى الرغم من أننا نبدي حساسية بالغة في الدفاع‬ ‫‪ً 18‬‬ ‫عن صغارنا‪ ،‬فإننا مع األس���ف نفقد ‪ %50‬منها فريسة لألسود‬ ‫والنم���ور والضب���اع وغيره���ا م���ن الحيوانات الوحش���ية‪ .‬لذلك‬ ‫تتج���ول الصغ���ار برفقة اثني���ن أو ثالثة م���ن الزراف���ات البالغة‪.‬‬ ‫وبالتال���ي نعتمد ف���ي توقع الهجوم على حواس���نا المرهفة من‬

‫‪21‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )37‬‬


‫م‬

‫حّو‬

‫لا‬ ‫لض‬

‫غط‬

‫َتف‬ ‫ّ رع‬

‫شري‬

‫ا‬

‫نا‬

‫ل‬ ‫ّسبات‬

‫ي‬

‫الشبكة الرائعة‬

‫الدماغ‬

‫من الخط الرئيسي إلى عدد كبير من البيوت‪.‬‬ ‫زود رِ‬ ‫تطبقونها‬ ‫إن بديع الصنعة ّ‬ ‫جلي بآلية مختلفة متميزة‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫طياري الطائرة النفاثة وعلى مرضى الدوالي‪.‬‬ ‫أنتم البش���ر على ّ‬ ‫فالطي���ارون ‪-‬إضافة إلى الجاذبية األرضية‪ -‬يتعرضون لجاذبي ٍة‬ ‫جدا نتيجة اإلقالع الس���ريع لطائراتهم النفاثة؛ حيث يتم‬ ‫كبيرة ًّ‬ ‫اندف���اع الدم الذي يجري في العروق نحو أقدامهم بقوة هائلة‬ ‫يمك���ن أن تتس���بب بانتفاخات في ع���روق القدمين أو تمزقات‬ ‫فيها‪ .‬ألجل حمايتهم من ذلك‪ ،‬يلبس الطيارون مالبس خاصة‬ ‫مصنوعة من أقمش���ة قاسية محكمة تمسك سيقانهم بقوة‪ .‬كما‬ ‫أن الذي���ن يضط���رون إل���ى الوق���وف الطوي���ل دون حركة ومن‬ ‫ضمنهم مرضى الدوالي‪ ،‬يلبسون جوارب خاصة تضغط على‬ ‫أوردة أقدامه���م‪ .‬لعلك���م عرفت���م كل هذه األم���ور بعد تجارب‬ ‫عدي���دة ودراس���ات طويلة‪ ،‬لكن ربي‪ ،‬بحكمت���ه وعلمه‪ ،‬عندما‬ ‫قويا يحافظ‬ ‫جلدا‬ ‫ً‬ ‫خلقني جعل لسا َق ّي أسفل الركبتين‪ً ،‬‬ ‫سميكا ًّ‬ ‫على أوردتي من آثار ضغط الدم العالي‪.‬‬ ‫ارتف���اع كبيرٍ لضغط الدم في رأس���ي أثناء‬ ‫وللحيلول���ة دون‬ ‫ٍ‬ ‫قدم���ي حتى يتد ّنى مس���توى قلبي‪،‬‬ ‫َميل���ي به نح���و الماء‪ ،‬أفتح‬ ‫ُ َ ّ‬ ‫مس���توى يتحمله رأسي‪ .‬وبما أنني أكون في‬ ‫فيبقى الضغط في‬ ‫ً‬ ‫ال‪ ،‬تجدني في حذرٍ ش���ديد عند شربي‬ ‫صيدا س���ه ً‬ ‫هذا الوضع ً‬ ‫أص�ل�ا؛ حيث تحوي‬ ‫الم���اء‪ .‬كم���ا أن حاجت���ي إلى الم���اء قليلة‬ ‫ً‬ ‫األوراق الطري���ة ف���ي أغصان األش���جار العالي���ة على ‪ %70‬من‬ ‫عث���رت على ماء نقي‬ ‫الم���اء الذي يحتاجه جس���مي‪ .‬ولكن إذا‬ ‫ُ‬ ‫قدمي وأحني‬ ‫ف���ي م���كان يخلو من الخطر‪ ،‬عندها فق���ط‪ ،‬أفتح‬ ‫َ ّ‬ ‫رأسي لتناوله‪.‬‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )37‬‬

‫‪20‬‬

‫وكما هو عند معظم الثدييات‪ ،‬تتش���كل رقبتي الطويلة من‬ ‫ٍ‬ ‫فقرات‪ ،‬كما هو الحال عند الفأرة والقطة وذوات الرقاب‬ ‫سبع‬ ‫القصيرة‪ .‬ربما كنتم تعتقدون أنه إذا كانت الفأرة تتمتع بسبع‬ ‫فقرات في رقبتها‪ ،‬فإن هذا العدد لدى الزرافة‪ ،‬ينبغي أن يكون‬ ‫ال م���ن أنواع الثدييات‪،‬‬ ‫عددا قلي ً‬ ‫أكث���ر بكثير‪ .‬لكننا إذا اس���تثنينا ً‬ ‫جميعا تحتوي على س���بع فقرات‪ .‬وهذا يدل على‬ ‫فإن رقابها‬ ‫ً‬ ‫الوحدة والتش���ابه ف���ي التصميم المعماري ف���ي خلق الثدييات‬ ‫عل���ى تنوعه���ا‪ ،‬ويدل على وح���دة الخالق‬ ‫المتف���رد في خلقها‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫عددا غير متناه‬ ‫ومع هذا التش���ابه َّ‬ ‫قدر الب���اري ‪ ‬في كل نوع ً‬ ‫بدائع صنعة الخالق الواحد الخبير‪،‬‬ ‫من الخاصيات التي ُتظهر‬ ‫َ‬ ‫وعلمه الالمتناهي‪ .‬تتك���ون الفقرات في رقبتي‬ ‫وعظي���م قدرته‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫من عظام كبيرة مترابطة ببعضها البعض ذات ثقوب متس���اوية‪،‬‬ ‫وبذلك يتم وقاية أنبوب الجهاز التنفسي وجهاز األكل‪.‬‬ ‫بط���ول عنقي الذي يقارب س���تة أمتارٍ‬ ‫تقريب���ا‪ ،‬أكون أطول‬ ‫ً‬ ‫مخلوق يقوم باالجترار ذات الحوافر المزدوجة وذات القرنين‬ ‫بي���ن الثديي���ات‪ .‬أم���ا قروني بالنس���بة إلى الحيوان���ات األخرى‪،‬‬ ‫ومكس���وة بجلد مخمل���ي‪ .‬كما أن هذين القرنين‬ ‫جدا‬ ‫فقصيرة ًّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يوج���دان ف���ي ذكورن���ا وإناثن���ا‪ .‬مج���رى التنفس عن���دي طويل‬


‫علوم‬

‫ذات الرقبة الطويلة‬ ‫الجو‬ ‫مرحب���ا عزي���زي اإلنس���ان‪ ...‬كيف ح���ال‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫عندك؟ فعندي الريح ينسم بلين‪ ...‬ها قد جاء‬ ‫دوري للدردشة معك‪ ...‬أريد أن أبدأ بالحديث‬ ‫عن إتقانِ الصنعة التي أبدعها خالقي في رقبتي الطويلة‪ .‬ولكن‬ ‫أريد قبل ذلك أن أضعك أمام صور من االدعاءات التي قيلت‬ ‫حول اس���تطالة رقبتي‪ ...‬في الحقيقة إن "المارك" هو أول من‬ ‫مستخدما‬ ‫قدم نظرية عامة في التطور العضوي‪ ،‬وجاء َمن بعده‬ ‫ً‬ ‫ال بين ع���دة أمثال‬ ‫ه���ذه النظري���ة ف���ي اإللح���اد‪ ...‬وجعلني مث���ا ً‬ ‫ٍ‬ ‫حيوان���ات صغيرة تش���به الماعز‪،‬‬ ‫ضربه���ا؛ حي���ث زع���م أننا كنا‬ ‫ث���م اس���تطالت ونمت رقابن���ا وأيدين���ا نتيجة محاول���ة أجدادي‬ ‫المس���تمرة من أج���ل الوصول إل���ى غذائها من أوراق الش���جر‬ ‫أكل أوراق الفروع األدنى منها(!) تلك هي قصتي‬ ‫العالية‪ ،‬بعد ِ‬ ‫المزعوم���ة‪ .‬فالقول بـ"تطور األعضاء باالس���تعمال‪ ،‬وضمورها‬ ‫نس���بيا‪ ،‬ولكن هؤالء لم‬ ‫باإلهم���ال" وفق هذه الرواية صحيحة‬ ‫ًّ‬ ‫يكتف���وا بذلك وقاموا بتحريف الحقيقة وأسس���وا قانو ًنا يجعل‬ ‫نس���بيا هو‬ ‫نش���وء األنواع عن بعضها بالتطور(!)‪ .‬وس���بب قولي‬ ‫ًّ‬ ‫ح���ي ويعتمد عليها في‬ ‫أن األعض���اء التي يس���تخدمها أي ٍ‬ ‫كائن ٍّ‬ ‫حياته‪ ،‬تنمو أكثر من غيرها وتكون أقوى من األعضاء المقابلة‬ ‫ح���ي آخر ال يس���تعملها‪ .‬إال أن ه���ذا التغيير ال‬ ‫له���ا عن���د ٍ‬ ‫كائن ٍّ‬ ‫المورث���ات الجينية‪ .‬فابن حام���ل األثقال‪ ،‬لن يغدو‬ ‫ينتق���ل إلى‬ ‫ُ‬ ‫ِّ‬ ‫بالجد والتدريب‪.‬‬ ‫اعا مثل أبيه بالكسل والتهاون‪ ،‬بل‬ ‫ّ‬ ‫رب ً‬ ‫َّ‬ ‫ُترى لماذا لم يتغير ‪-‬حتى اآلن‪ -‬طول أجداد المواعز التي‬ ‫عاشت مع الزرافات في تلك اآلونة‪ ،‬وبقيت على حالها رغم‬ ‫يوما عن تطاولها على األش���جار والش���جيرات‬ ‫أنها لم تتوقف ً‬ ‫ظل هذا السؤال وأمثاله دون‬ ‫نهشا؟ لقد ّ‬ ‫العالية وتنهش أغصانها ً‬ ‫جواب‪ .‬كما أن الدراس���ات والبحوث المختبرية التي أجريت‬ ‫بعد‪ ،‬دحضت كل االدعاءات حول هذه الوراثات‪ ..‬وبعد‬ ‫فيما ُ‬ ‫أن الخصائص التي يتحلى بها كل كائن حي قد‬ ‫ظه���ور حقيقة ّ‬ ‫ٍ‬ ‫شيفرات جينية في الخاليا من ِقبل عا ِل ٍم‬ ‫تم وضعها على شكل‬ ‫ِ‬ ‫تبين أنه ال يمكن‬ ‫ال يح���اط علمه‪ ،‬وقدرة خبيرٍ ال ُت َح ُّد قدرته؛ َّ‬ ‫رقبتي بإرادتي‪ ،‬أو بمحاولتي المستمرة للوصول إلى‬ ‫أن تطول َ‬ ‫األغصان العالية‪.‬‬ ‫ال‬ ‫قدم‬ ‫وال يوج���د أي‬ ‫ط���ول عنقي مثا ً‬ ‫َ‬ ‫ٍ‬ ‫دلي���ل يؤكد قول َمن َّ‬

‫أ‪.‬د‪ .‬عرفان يلماز*‬

‫تفوق���ت عل���ى أقران���ي من‬ ‫للتكي���ف البيولوج���ي وادع���ى أن���ي ّ‬ ‫ّ‬ ‫الحيوانات بالتغذية الخاصة بي فقط‪ .‬وبالتالي فكل الحيوانات‬ ‫النباتية تتغذى حس���ب الخصوصي���ات التي ُخلقت عليها‪ .‬وقد‬

‫ميزن���ي خالق���ي عن غيري من الحيوان���ات‪ ،‬بنعمة الطول الذي‬ ‫ّ‬

‫يس���هل عل���ي الوص���ول إل���ى أعالي األش���جار وتن���اول ثمارها‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وأوراقها الطازجة الطرية‪ .‬لذلك بلس���ان حالي أش���كره وأذكره‬ ‫ٍ‬ ‫مخل���وق ميزة خاصة‬ ‫كل‬ ‫عل���ى ال���دوام‪ ...‬فهو س���بحانه أعطى َّ‬

‫ميس���ر لما ُخلق‬ ‫ب���ه‪ ،‬ف�ل�ا داعي ألن َيغ���ار مني أح���د‪ ...‬فالكل َّ‬ ‫كائن ب���كل التدابير التي تلزمه في‬ ‫جهز كل ٍ‬ ‫ل���ه‪ ،‬وربي س���بحانه ّ‬ ‫مواجهة الحياة والمعيشة‪.‬‬

‫تزويد وفق الحاجة‬

‫قلبا يساعدني في تغذية دماغي الذي يعلو عن‬ ‫أعطاني خالقي ً‬ ‫تقريب���ا‪ .‬وإذا كان ضغط الدم‬ ‫األرض بخمس���ة أمت���ار ونص���ف‬ ‫ً‬ ‫ف���ي األوعية الدموية لديكم يبلغ ‪ 120‬مم من الزئبق (الضغط‬

‫زودني رب���ي بقلب يضغط الدم في األوعية بقوة‬ ‫العال���ي)‪ ،‬فقد ّ‬

‫تبل���غ ‪ 215‬م���م من الزئب���ق‪ .‬وإذا قارنا المس���افة العمودية بين‬ ‫القل���ب والم���خ عند الزرافة ‪-‬وهي حوال���ي ثالثة أمتار‪ -‬فالبد‬ ‫جدا لكي يصل الدم إلى‬ ‫قويا ًّ‬ ‫وأن يك���ون الضغط في األوعي���ة ًّ‬

‫خطر‬ ‫الدم���اغ‪ .‬وال ننس���ى أن ه���ذا الضغط العالي ف���ي األوعية‬ ‫ٌ‬ ‫يمك���ن أن يؤدي إلى تمزق الش���رايين ونزف الدماء في الدماغ‬

‫ث���م الم���وت‪ ،‬وقد يمك���ن أن يرتفع ضغ���ط الدم ف���ي القدمين‬ ‫إل���ى مس���تويات أعلى تح���ت تأثير الجاذبية األرضية ويتس���بب‬ ‫بانتفاخ���ات الش���عيرات الدموية ثم انفجاره���ا‪ .‬لكن لم يحدث‬

‫قدر كل شيء بعلمه المحيط فأحسن‬ ‫كل ذلك‪ ،‬ألن اهلل سبحانه َّ‬ ‫خلقه وتدبيره‪ .‬فالشريان األبهر الذي يحمل الدم من قلبي إلى‬

‫سباتيا عبر العنق نحو األعلى حتى يروي‬ ‫جسمي‪ ،‬يفتح شريا ًنا‬ ‫ًّ‬

‫المخ بالدم الكافي‪ .‬فالدماء التي تجري في الش���ريان الس���باتي‬ ‫نتيجة الضغ���ط العالي‪ ،‬تجري ‪-‬قبل وصولها إلى دماغي‪ -‬في‬

‫ٍ‬ ‫تصريف معقد ٍة تسبب انخفاظ ضغط‬ ‫نظام عجيب عبر ش���بك ِة‬ ‫ال���دم في دماغي إلى ‪ 90‬مم م���ن الزئبق‪ ،‬وبذلك أتقي النزيف‬

‫تفجر الش���عيرات الدموية في األذن والعين‪ .‬وهذه‬ ‫الدماغي أو ُّ‬

‫العملية تش���به ضخ المياه في ش���بكة المدينة من أجل توزيعها‬

‫‪19‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )37‬‬


‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )37‬‬

‫‪18‬‬


‫خلي�ل�ا‪ ...‬تب���د ُأ معي س���اعات‬ ‫كي���ف ال نفصم بين ه���ذا وذاك‪ ،‬وكيف نجمع بين هذه فتتخذن���ي ألج���ل ذل���ك‬ ‫ً‬ ‫وتلك‪ ...‬في سالسة وانسياب‪ ...‬بال جدل وال ارتياب‪ .‬عمرك‪ ،‬لتختم بجواري ثمالة أنفاسك‪.‬‬ ‫فأنت ِ‬ ‫محملة بالصدق والصفاء والوفاء‪،‬‬ ‫وهنالك‪ ،‬في ِ‬ ‫الجنان‪ ،‬س���نلتقي‪ ،‬بإذن اهلل سنلتقي‪...‬‬ ‫أنت‪ً ،‬‬ ‫دوما َّ‬ ‫للخالق المبدع الملهم‪ ،‬بال جفاء‪َّ ...‬أما نحن‪ ،‬ففينا ومنا‪،‬‬ ‫القد‬ ‫َّ حينها‪ ،‬س���ترى أني خالدة بجمالي وبهائي؛ رش���يق َة ِّ‬ ‫ٍ‬ ‫منا‪ ،‬له وعليه‪ ،‬س���اع ًة وس���اعة؛ فساع ًة نسمو‬ ‫وكلُّ‬ ‫واحد َّ‬ ‫أنك خالد‬ ‫حوراء نجالء‪ ...‬حينها‪ ،‬س���تعلم علم اليقين‪َ ،‬‬ ‫وأخ���رى نخبو‪ ،‬وس���اعة نقترب وس���اعة نضطرب‪ ...‬ال‬ ‫بقرب���ك م���ن الواه���ب الكري���م ذي الج�ل�ال الحلي���م‪...‬‬ ‫َ‬ ‫نعرف االس���تقرار على حال‪ ،‬وال نصبر على الحادثات‬ ‫فكالنا يومها‪ ،‬في المقام والحسن سواء‪ ،‬يا جميل"‪.‬‬ ‫وعسر المآل‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫أال م���ا أروع���ك ي���ا زه���رة "الالل���ه"‪ ،‬لي���ت القل���وب‬ ‫ِ‬ ‫الكرماء‪ ،‬يا م���ن‬ ‫أدمت‬ ‫ي���ا زه���ر ًة ِمعط���اء‪ ،‬ويا ربيب���ة ُ‬ ‫كل فجر‪ ،‬وتناغيك‬ ‫الس���جود والقع���ود والقي���ام‪ ...‬ب���ك الدني���ا تش���بهت‪ ،‬القحطة تدركُ وتس���تدركُ ؛ فتناجيك َّ‬ ‫َّ‬ ‫تمام���ا‪ ،‬فهل ِ‬ ‫مثل���ي‬ ‫غ���روب‪...‬‬ ‫كل‬ ‫أنت تس���معين‪ ،‬وهل‬ ‫لنبيه‬ ‫الجليل‬ ‫قصرت‪ ...‬فيك نتلو قول‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫ومث ُل���ك األعمار ُ‬ ‫اجا‬ ‫ِ‬ ‫﴿و َ‬ ‫���د َّن َع ْي َن ْي َ‬ ‫سالما‪ ،‬يا حبيبتي إلى يوم الدين‪.‬‬ ‫أنت تدركين؟!‬ ‫ال َت ُم َّ‬ ‫���ك ِإ َلى َما َم َّت ْع َنا بِ��� ِه َأ ْز َو ً‬ ‫الفضي���ل‪َ :‬‬ ‫ً‬ ‫ِ‬ ‫الد ْن َيا ِل َن ْف ِت َن ُه ْم ِفي��� ِه َورِ ْز ُق َر ِّب َك َخ ْي ٌر‬ ‫���م َز ْه َر َة ا ْل َح َي���ا ِة ُّ‬ ‫م ْن ُه ْ‬ ‫(*) مدير معهد المناهج‪ ،‬الجزائر العاصمة ‪ /‬الجزائر‪.‬‬ ‫َو َأ ْب َقى﴾(طه‪.)131:‬‬ ‫ِ‬ ‫فم���ا‬ ‫عاب���ك اهلل س���بحانه وال ش���انك‪ ،‬لكن���ه ‪-‬تعالى الهوامش‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫فأديت ما‬ ‫ش���أنه‪-‬‬ ‫الل���ه"‪ :‬نبات م���ن الفصيل���ة الزنبقية‪،‬‬ ‫علي���ك خير األداء‪ )1( ،‬زه���رة التولي���ب وبالتركي���ة "ال َّ‬ ‫جعل���ك أمارة لنا‪َّ ،‬‬ ‫موطنه���ا األصلي تركيا‪ .‬يطلقون عليها اس���م زه���رة العمامة‪ ،‬ألنها‬ ‫إذ ك َّلم���ا ج َفت قلوبنا‪ ،‬وطغت ذواتنا‪ ،‬وطفت أنانيتنا‪...‬‬ ‫تتك���ون م���ن عدة طبق���ات من البت�ل�ات الملونة تش���به العمامة التي‬ ‫وك َّلم���ا َّأم ْلن���ا في الدني���ا‪ ،‬واطمأننا إل���ى الفانيات‪ ،‬وظننا‬ ‫يلفه���ا الرجال في تركيا حول رؤوس���هم‪ .‬ولق���د انتقلت إلى أوروبا‬ ‫أبدا‪ ...‬ك َّلما ظلمنا‬ ‫وتجبرنا‪ ،‬وغفلنا ونسينا‪،‬‬ ‫أ َّنا س���نخلد ً‬ ‫َّ‬ ‫منذ ‪ 400‬س���نة وانتش���رت فيها‪ ،‬فوجدت عناية خاصة بزراعتها في‬ ‫بعض من‬ ‫وجحدن���ا وكفرن���ا؛ ك َّلم���ا كان من���ا ذل���ك‪ ،‬أو ٌ‬ ‫أصبحت‬ ‫التي‬ ‫هولندا‪،‬‬ ‫رمزا لها ومصدر دخل كبير‪ .‬وتركيا تحتفل‬ ‫ً‬ ‫وقفت لنا بالمرصاد‪ ،‬في ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ذلك‪،‬‬ ‫تذكرين‬ ‫وتهددين‪:‬‬ ‫لطف ِّ‬ ‫ّ‬ ‫"ي���ا هذا‪ ،‬انظر إل���ي‪،‬‬ ‫أنك‬ ‫تدعي َ‬ ‫َّ‬ ‫وتمل جمالي‪ ،‬فهل َّ‬ ‫َّ‬ ‫بلغته‪ ،‬وهل تقدر أن تنافسني فيه؟‬ ‫ثم انظر إلى‬ ‫قصر عمري‪ ،‬وإلى هرولة أيامي وِ جهة‬ ‫َ‬ ‫تذك���ر واعتب���ر‪ ،‬واعم���ل وجاه���د‪ ،‬ثم اصبر‬ ‫االمح���اء‪َّ ...‬‬ ‫ِّ‬ ‫وثابر‪...‬‬ ‫منيبا‪،‬‬ ‫وبه���ذا أك���ون لك‬ ‫ً‬ ‫دلي�ل�ا‪ ،‬لتكون َ‬ ‫أن���ت َّ‬ ‫أو ًاه���ا ً‬

‫كل عام ِبعيدٍ لـ"الالله" في شهر أبريل‪.‬‬

‫(‪ )2‬لزه���رة التولي���ب حيات���ان‪ :‬حياة فوق األرض تنته���ي باألزهار ذات‬ ‫األل���وان الجميلة الحمراء والصفراء والوردية‪ ،‬وحياة ُأخرى تنتهي‬

‫بتكوي���ن األبص���ال الجديدة تح���ت األرض‪ .‬وهولندا‬ ‫تص���در منها‬ ‫ِّ‬

‫سنويا بليوني بصلة‪.‬‬ ‫ًّ‬

‫ألن‬ ‫(‪" )3‬الل���ه" (‪ ،)lâle‬ه���ي رمز الحب اإللهي في الحضارة العثمانية‪َّ ،‬‬ ‫حروفها هي نفس حروف اسم الجاللة "اهلل"‪.‬‬

‫‪17‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )37‬‬


‫أدب‬

‫د‪ .‬محمد باباعمي*‬

‫(‪)1‬‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫كنهك‪ ،‬فلقد‬ ‫حقيقت���ك‪ ،‬وال أدرك‬ ‫أن���ا ال أعرف‬ ‫ِ‬ ‫ولما أكن‪ ،‬وستبقين بعد رحيلي‪.‬‬ ‫كنت َّ‬ ‫الفتوة‪ ،‬وفي‬ ‫ف���ي ر َّقتك ‪-‬يا عزيزت���ي‪ -‬معاني َّ‬ ‫األخوة‪.‬‬ ‫ألوانك دالئل‬ ‫َّ‬ ‫توجهك أمارات القرب‬ ‫التح���م الجمال بالخيال‪ ،‬وفي ُّ‬ ‫فيك َ‬ ‫ِ‬ ‫خالقك‪ ،‬والسؤال‪.‬‬ ‫من‬ ‫ومن‬ ‫أن عيد ميالدك هو ذات عيد ميالدي‪ ،‬لكن شتان‬ ‫ٍ‬ ‫عجب َّ‬ ‫بين عيد وعيد؛ إذ بينما ِ‬ ‫أنت تشبهين العمامة على رأس األمراء‬ ‫والعلماء‪ ،‬أنا ال أشبه إال نفسي‪ ،‬وال أتمرغ إال في ضحضاحي‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫كنت من صن���ف األمراء‪ ،‬وال انتظمت بين س���لك العلماء‪.‬‬ ‫ف�ل�ا ُ‬ ‫ِ‬ ‫وأنت تفوقين في الش���أو‬ ‫أن���ت ‪-‬ي���ا حبيبتي‪ -‬أمير ٌة على األمراء‪،‬‬ ‫كثيرا من العلماء‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ِ‬ ‫يد مبس���وطة نحو السماء تستمطرين البهاء‪ ،‬فتنالين منه‬ ‫أنت‬ ‫ٌ‬ ‫فتحظين منه بالمكان األخطر‪.‬‬ ‫الحظ األوفر‪ ...‬وتستسقين الوصال‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫أن���ت كأس ش���اي منعن���ع أو فنج���ان قهوة رقراق���ة‪ُ ،‬تكرمين‬ ‫ِ‬ ‫جمي���ع الناظرين إليك‪ ،‬المتم ِّلين‬ ‫به���اءك‪ ،‬بال تمييز وال إقصاء‪،‬‬ ‫ال تبغين األجرة وال األجر إال ممن يعطي ويجزل العطاء‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫أن���ت جرس مقل���وب‪ ،‬توقظين فين���ا القلوب‪ ،‬فتغ���دو ذوا ُتنا‬ ‫ِ‬ ‫دونك هو مجرد نس���خ ٍة‬ ‫ضارع���ة هفهاف���ة رفراف���ة‪ ...‬كلُّ جرس‬ ‫َّ‬ ‫ٍ‬ ‫مجاف في حقيقته لمقاصد الوصل‪.‬‬ ‫طبق األصل‪ ،‬وهو‬

‫ي���ا زهرة التولي���ب‪ ،‬يا حمراء‪ ،‬يا صفراء‪ ،‬ي���ا بيضاء‪ ،‬يا زاهية‬ ‫كنا‪ ،‬ع ِّلمينا أن نحس���ن كيف‬ ‫األل���وان‪ ...‬ع ِّلمين���ا أن نكون‪ ،‬وإذا َّ‬ ‫نكون‪ ،‬وإذا أحسنا‪ ،‬ع ِّلمينا كيف بعد ٍ‬ ‫أمد أن ال نخون‪.‬‬ ‫ع ِّلمين���ا ‪-‬كم���ا ِ‬ ‫أن���ت‪ -‬أن تكون لن���ا حياتان‪ :‬حي���ا ٌة لما فوق‬ ‫األرض‪ ،‬وحي���ا ٌة لم���ا تح���ت األرض(‪ ،)2‬حي���ا ٌة لآلن���ي والزماني‬ ‫والحض���اري وللعنف���وان‪ ،‬وحي���ا ٌة للماورائ���ي واإليمان���ي‬ ‫ِّ‬ ‫(‪)3‬‬ ‫والربان���ي ‪ ،‬أي للرض���وان؛ لك���ن ‪-‬ي���ا حبيبت���ي‪ -‬ع ِّلمين���ا‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )37‬‬

‫‪16‬‬


‫كان "الدس�ل�اس" مل���ك المج���ر‪ ،‬ق���د و َّقع م���ع "مراد‬

‫صلح أقس���م فيها‬ ‫الثاني" س���لطان الدولة العثمانية معاهدة‬ ‫ٍ‬ ‫حيا‪ .‬إذ كانت المعاهدة‬ ‫باإلنجيل على حفظ بنودها ما دام ًّ‬

‫تنص على وقف القتال لمدة عش���ر س���نوات‪ ،‬وذلك‬ ‫ابتداء‬ ‫ً‬ ‫من الثالث عشر من يوليو عام ‪1444‬م‪ .‬إال أن "الدسالس"‬

‫انته���ز فرص���ة تخ ّلي الس���لطان "م���راد الثاني" ع���ن العرش‪،‬‬ ‫لالنقض���اض عل���ى الس���لطان الصبي الذي ل���م يكن يملك‬ ‫الخب���رة الكافية في إدارة الدول���ة‪ .‬فجهز التحالف األوربي‬

‫وزحف نحو السلطنة العثمانية‪.‬‬ ‫‪...‬‬

‫متكئا على‬ ‫عبر السلطان "مراد الثاني" مضيق البوسفور ً‬

‫كت���ف ولي عهده الصبي‪ ،‬وزحف‬ ‫قاص���دا قوات التحالف‬ ‫ً‬

‫المتهجمة عليه‪ .‬وصل "فارنا" ليلة الس���ابع والعش���رين من‬

‫رجب س���نة ‪848‬هـ‪ .‬واندلعت في اليوم التالي (العاشر من‬

‫نوفمبر عام ‪1444‬م) معركة ضارية حرص السلطان "مراد‬ ‫الثان���ي" على أن يرفع خالله���ا وثيقة المعاهدة التي وقعها‬

‫م���ع مل���ك المجر "الدس�ل�اس" على س���ن رمح‪ُ ،‬ليش���هد‬

‫الجيش���ين ويذكرهما بنقض ملك المج���ر واألوربيين لها‪.‬‬ ‫جر ْت مبارزة بينه وبين "الدس�ل�اس"‪ُ ،‬ق ِتل فيها األخير‪.‬‬ ‫ثم َ‬ ‫فر قائد جي���وش التحالف األوربي���ة "هونياد"‬ ‫وم���ا لب���ث ان ّ‬ ‫تاركا خلفه ُج َّل جيشه أسرى‪.‬‬ ‫ً‬

‫ع���اد "هوني���اد" بع���د أرب���ع س���نوات بحمل���ة عس���كرية‬

‫أوروبية جديدة على العثمانيين‪ ،‬قوامها مائة ألف جندي‪.‬‬

‫وحفاظ���ا ألبن���اء وطنه‪.‬‬ ‫وأش���هد ولي عهده كي���ف يعتني‬ ‫ً‬ ‫َ َّ‬ ‫ولي األمر بش���ؤون دولته؛ فش���يد المس���اجد والجوامع‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫والم���دارس والتكايا والزواي���ا‪ ،‬ودور الضيافة والخانات‬ ‫وأعد الجيوش‪ ،‬وأرس���ل‬ ‫ومهد الطرقات‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫والجس���ور‪ّ ...‬‬ ‫الس���فارات والرس���ل للممالك واإلم���ارات المجاورة‪...‬‬ ‫ع ّلم���ه كيف َي ِ‬ ‫عدل بين رعيته ليضمن والء الجميع على‬ ‫تع���دد مش���اربهم وعقائدهم‪ ...‬ع ّلمه كي���ف يفي بعهوده‪،‬‬ ‫وكيف ينتقم ممن يخونون عهده‪.‬‬ ‫ع ّلم���ه كيف يجنح للس���لم وال يت���ردد في الحرب ما‬ ‫دامت لصالح دولته وأمته‪ ...‬وجاء يوم الثالث من فبراير‬ ‫ش���ب ُح الموت يطوف في س���ماء "بورصة"‬ ‫عام ‪1451‬م‪َ ،‬‬ ‫الس���لطان مراد في عمره التاسع واألربعين‪...‬‬ ‫حتى لقي‬ ‫َ‬ ‫���ن مراد الثاني حس���ب وصيته ف���ي مدينة "بورصة" في‬ ‫ُد ِف َ‬ ‫قبر بسيط مكشوف ال تعلوه قبة‪.‬‬ ‫مات الس���لطان الزاه���د في الحكم والحي���اة‪ ...‬وعاد‬ ‫واح���دا من أكبر‬ ‫ول���ي عهده لعرش���ه من جدي���د‪ ،‬ليصبح‬ ‫ً‬ ‫ومن ذا الذي يستطيع أن يربي‬ ‫وأهم س�ل�اطين العالم‪َ ...‬‬ ‫ول���دا غير "م���راد الثان���ي"‪ ،‬كــ"محمد الفات���ح" الذي فتح‬ ‫ً‬ ‫القس���طنطينية (إسطنبول) ‪-‬بإذن‬ ‫ربه‪ -‬ونال بش���رى رسول اهلل ‪‬‬ ‫بعد وفاة أبيه بعامين؟!‬ ‫(*) كاتبة وأديبة مصرية‪.‬‬

‫اصطحب السلطان "مراد الثاني" مرة أخرى ولي عهده‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ش���ابا‪،‬‬ ‫الذي أصبح‬ ‫متوجها نحو سهل " َق ْو ُص َوة" المعروفة‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫اآلن باس���م "كوس���وفو"‪ .‬وص���ل جي���ش العثمانيي���ن إل���ى‬ ‫"قوص���وة"‪ ،‬واحتدم���ت المعركة لثالثة أي���ام متواصلة (من‬ ‫‪ 19-17‬نوفمب���ر ‪ )1448‬حس���مها العثماني���ون لصالحهم‪،‬‬

‫تاركا خلفه س���بعة عش���ر أل���ف قتيل‬ ‫وف���ر "هوني���اد" ثاني���ة‪ً ،‬‬ ‫ّ‬ ‫وعشرات اآلالف من األسرى‪.‬‬

‫دفاعا عن دولته‬ ‫تعددت معارك السلطان "مراد الثاني" ً‬

‫‪15‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )37‬‬


‫تاريخ وحضارة‬ ‫نجالء محرم*‬

‫أب وابن‬

‫وتم���رد‬ ‫نق���ض المعاه���دون معاهداته���م‪،‬‬ ‫َّ‬

‫عنده���ا كتب الس���لطان محمد الثان���ي البالغ من العمر‬

‫دولته‬ ‫الصبي‬ ‫الخاضعون‪ ...‬رأى‬ ‫ُ‬ ‫السلطان َ‬ ‫ُّ‬

‫كنت أنت‬ ‫أحد عش���رة س���نة رس���الة وجيزة قائ ً‬ ‫ال فيها‪" :‬إن َ‬

‫فأرسل ألبيه ‪-‬الذي تخلى عن العرش‪ -‬يطلب منه العودة‬

‫كنت أنا الس���لطان‪ ،‬فآمرك أن تعود وتجلس على عرش���ك‬ ‫ُ‬

‫أمت���ه‪ ،‬إال أن األب الزاه���د‪،‬‬

‫لم يستطع السلطان العثماني "مراد الثاني" أن يخالف‬

‫يتنازعها أعداؤها وتنهش���ها ذئاب الطمع‪.‬‬

‫مدافعا عن أوطان‬ ‫راجيا أن يقف‬ ‫لمواجه���ة الخطر القادم‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫فع ْد واجلس على عرشك و ُق ْد جيشك‪ ،‬ولكن إن‬ ‫السلطان ُ‬ ‫وتقود جيشك"‪.‬‬

‫أرس���ل لول���ده رس���الة يقول‬

‫جي���ش قوامه‬ ‫نجل���ه‪ ...‬ل���م يس���تطع أن يغ���ض الطرف عن‬ ‫ٍ‬

‫من واجبات السلطان"‪.‬‬

‫تجاه���ل نقض العه���ود واالرت���داد والنكوص واالس���تهانة‬

‫فيها‪" :‬الدف���اع عن األوطان‬

‫تس���عون أل���ف مقاتل يزحف نحو الس���لطنة‪ ...‬لم يس���تطع‬

‫بدولته‪ .‬كما أدرك أن صناعة الس�ل�اطين ال تتحقق بمجرد‬ ‫تمكينهم من العروش‪.‬‬

‫عاد ثانية إلى العرش وتولى ش���ؤون الدولة‪ .‬وس���رعان‬

‫ما ش���رع يتدبر أمور رعيته وجيش���ه‪ ،‬ويع���د العدة لمواجهة‬

‫اصطحب ولي عهده الذي كان‬ ‫زح���ف الغدر القادم عليه‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫س���لطا ًنا باألم���س‪ ،‬وو ّل���ى نحو جي���وش التحال���ف القادمة‬ ‫بقيادة "الدسالس" من المجر‪ ،‬وبولونيا‪ ،‬وألمانيا‪ ،‬وفرنسا‪،‬‬ ‫والبندقية‪ ،‬وبيزنطة‪ ،‬وبروجنديا‪.‬‬ ‫‪...‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )37‬‬

‫‪14‬‬


‫أدب‬

‫أديب إبراهيم الدباغ*‬

‫ال يغر ّنك جامل الطريق‪ ...‬فزه ُره املزدان وعش ُبه رَّ‬ ‫املخض وشج ُره املور ُِق‪ ،‬رمبا قادك ‪-‬دون‬ ‫َ‬ ‫تتجاف عن طريق مهام أ ْدمتك أشوا ُكه‪ ،‬وأعنتتك‬ ‫أن تشعر‪ -‬إىل أجدب صحارى العامل‪ .‬وال‬ ‫املنعطف العظيم حيث يلتقي الرص ُ‬ ‫ِ‬ ‫اط والجن ُة م ًعا‪.‬‬ ‫وعوره وصخوره إذا قادك إىل ذلك‬ ‫(املوازين)‬ ‫***‬

‫األزمنة الثالثة‬ ‫حي���ن ي���ذوي ربي���ع قلوبن���ا‪ ،‬وتذب���ل أزاهي���ر‬

‫جف س���واقي عيونن���ا‪ ،‬وتقفر أيام‬ ‫أرواحن���ا‪ ،‬و َت ُّ‬ ‫ض سامرنا‪،‬‬ ‫وي ْن َف ُّ‬ ‫حاضرنا‪ ،‬وتكثف ظلمة ليلنا‪َ ،‬‬

‫سجاد ُتنا‪...‬‬ ‫و ُتطوى َّ‬

‫���د أيادين���ا أليام ماضينا‪ ،‬نقتطف منه���ا الذكريات‪ ،‬ننعش‬ ‫َن ُم ُّ‬

‫به���ا خيا َل َنا‪ ..‬نش���رب من ينابيعه���ا‪َ ..‬ن ْث ُم ُل‪ ..‬ننتش���ي‪ ..‬نطرب‪..‬‬ ‫الها‪ ..‬نجتلي جمالها‪ ،‬نحياها من جديد‪َ ..‬ن ْس َت ْن ِشق عبيرها‪،‬‬ ‫نتم َّ‬ ‫ِ‬ ‫أرواح َن���ا‪ ،‬نضاحكها‪ ،‬نمازحها‪..‬‬ ‫���ر بها‬ ‫َ‬ ‫نعانقها‪ ،‬نحتضنها‪ُ ..‬نس ُّ‬ ‫وأيامنا في أيامها‪ ..‬ثم ننظر في مرآة الزمن‪،‬‬ ‫نولج ذاتنا في ذاتها‪،‬‬ ‫َ‬ ‫فتلت���اث علين���ا الص���ور‪ ..‬فال ن���دري أنحن ه���ي؟ أم هي نحن؟‬ ‫غاب وغام‪ ،‬وفي‬ ‫َأ َّما حاضرنا‪ ،‬في موج ماضينا اندثر‪ ..‬ثم َ‬ ‫مدافن "الذات" ثوى‪ ،‬وكأنه ما كان‪ ،‬ال يعرفنا وال نعرفه‪َ ..‬ب ُع َد‬ ‫م���ن حاضر بائ���س بئيس‪ ،‬قفر يباب‪ ،‬فقر وج���وع‪ ،‬قتل وقتول‪،‬‬

‫أيامى وثكالى‪ ،‬يتم‬ ‫موتى وقبور‪ ،‬وأيام س���ود‪ ،‬دموع َ‬ ‫وع َبرات‪َ ،‬‬ ‫دما ُي َح ِّرم‪ ،‬وال ِع ْر ًضا يصون‪..‬‬ ‫دمعا يكفكف‪ ،‬وال ً‬ ‫وأيت���ام‪ ..‬ال ً‬ ‫كس���يرا يجبر‪ ،‬وال‬ ‫عاثرا يقيل‪ ،‬وال‬ ‫ً‬ ‫ال يواس���ي وال يع���زي‪ ،‬وال ً‬ ‫خائ ًفا يجير‪...‬‬

‫ولكن النفس هي النفس‪ ..‬ال تتآكلها األزمنة وال تتقاضمها‬ ‫ّ‬

‫وتئن‪ ،‬تش���تعل نيرا ًنا‪،‬‬ ‫األمكنة‪ ..‬هي اليوم تغلي وتفور‪ ،‬تصرخ ّ‬ ‫تتأصل حكمة‪ ..‬تغالب اليأس‪ ،‬تبتعث‬ ‫لهبا‪ ..‬تزداد معرفة‪َّ ،‬‬ ‫تتقد ً‬

‫الرج���اء‪ ..‬يتق���وى نضالها‪ ،‬تش���تد عزيمته���ا‪ ..‬وإذا األخطار بها‬ ‫ونادت‬ ‫وتوهجت أ َل ًقا‪..‬‬ ‫حاق���ت ومنها اقتربت‪ ،‬انتفض���ت حيا ًة‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫وقال���ت‪ :‬أن���ا ْابن���ة العليي���ن اآلتي���ن من ِق َم���م الغي���وب‪ ..‬خارقة‬ ‫ْ‬ ‫األزم���ان‪ ،‬صانع���ة المس���تقبل‪ ..‬أس���رع إلي���ه‪ ..‬أصوغ���ه‪ ..‬إلهي‬ ‫َّ‬ ‫عبق���ري البني���ان‪ ..‬ش���امخي الصرح‪ ،‬س���ماوي األفق‪،‬‬ ‫النش���أة‪،‬‬ ‫َّ‬

‫خلودي الزمان‪...‬‬

‫ي���ا أحب���اب‪ ،‬افتح���وا للمس���تقبل األب���واب‪ ..‬ال توصدوها‪،‬‬ ‫مفتحة‪ ..‬فقد يأتي في كل س���اعة‪ ،‬س���اعة ليل أو ساعة‬ ‫ا ْتركوها َّ‬ ‫نه���ار‪ ..‬فهاج���س ذهن���ي ال يك���ذب‪ ،‬وحلم روح���ي ال يخيب‪،‬‬

‫ورؤيا خيالي ال تخدع‪...‬‬ ‫(*) كاتب وأديب عراقي‪.‬‬

‫‪13‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )37‬‬


‫وس���لوكا‪ -‬لتك���ون األجيال الناش���ئة‬ ‫ال‬ ‫عقي���دة وش���ريعة‪ ،‬عم ً‬‫ً‬ ‫مؤهلة لحمل األمانة وإبالغ الرسالة إلى العالمين‪.‬‬

‫خاتمة‬

‫قب���ل س���نوات‪ ،‬تس���اءل المفكر الفرنس���ي "روجيه ج���ارودي"‪:‬‬

‫كيف نفتح أف ًقا‬ ‫ال ذا وجه إنساني وراء ساحات‬ ‫جديدا ومستقب ً‬ ‫ً‬ ‫وبعيدا عن "ح َّفاري القبور"؟!‬ ‫الدمار‪،‬‬ ‫ً‬

‫ونحسب أن الجواب عن هذا ال يكون إال بعد اإلقناع بأن‬

‫آليات "العولمة" دون مضامينها‪ ،‬عبارة عن إمكانات ‪-‬بحسب‬ ‫الفيلس���وف المغرب���ي الدكت���ور ط���ه عب���د الرحم���ن‪ -‬وبالتال���ي‬

‫واقعيا‬ ‫"بدي�ل�ا‬ ‫فواج���ب كل أم���ة أن تدعو إلى كتابه���ا‪ ،‬طارح ًة‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫وعمليا" إلمكان الحداثة والعولمة المهيمنة‪.‬‬ ‫ًّ‬

‫تعينا؛ أن تب���ادر إلى‬ ‫أم���ا األم���ة المس���لمة‪ ،‬فالواجب أكث���ر ً‬

‫تقدم نموذج "الرؤية‬ ‫اجتراح مغامرة طرح البدائل العملية‪ ،‬وأن ّ‬ ‫العملية اإلس�ل�امية واإلنس���انية" متخطي ًة مرحلة االستكانة إلى‬

‫أفكار "اضمحالل الغرب" و"تدهوره" و"سقوطه"‪.‬‬

‫يعزز م���ن فرادة البديل الذي يمك���ن أن تقدمه أمتنا‪،‬‬ ‫ومم���ا ِّ‬

‫أن التجربة اإلسالمية في مجال تربية الشباب‪ ،‬تطرح‬ ‫أنموذجا‬ ‫ً‬ ‫متكام�ل�ا ف���ي هذه الس���بيل‪ ،‬حيث قدم الق���رآن الكريم أنموذج‬ ‫ً‬ ‫التح���ري والبحث ع���ن الحقيقة واستش���راف غوامض الوجود‬

‫ممث�ل�ا ف���ي س���يدنا إبراهي���م ‪ ،‬وأنم���وذج العف���ة والطه���ارة‬ ‫ً‬

‫ال في سيدنا يوسف ‪ ،‬وأنموذج القوة‬ ‫والحفظ والعلم ممث ً‬ ‫واألمان���ة والبس���الة‬ ‫ممث�ل�ا في س���يدنا موس���ى ‪ ،‬وأنموذج‬ ‫ً‬

‫حرصا على هدايتهم إلى‬ ‫الرحم���ة بالخلق والصبر على أذاهم‬ ‫ً‬

‫ال في سيدنا عيسى ‪ ،‬وأنموذج التماسك‬ ‫ما فيه خيرهم ممث ً‬

‫ال في فتية الكهف‪ ،‬وسوى‬ ‫والشخصية المستقلة المتوازنة ممث ً‬

‫ه���ذا م���ن النم���اذج الرفيعة الت���ي انتهت إل���ى الرس���ول الخاتم‬

‫سيدنا محمد ‪ ،‬لتلتقي عنده معالم النبوة‪ ،‬وخصائص الهداة‬ ‫والمصلحي���ن‪ ،‬وخالص���ة التجرب���ة اإلنس���انية من ل���دن آدم ‪‬‬

‫ان‬ ‫ليكون خير أنموج للش���باب في األس���وة والق���دوة‪َ  :‬ل َق ْد َك َ‬ ‫َل ُكم ِفي رس ِ ِ‬ ‫هلل َوا ْل َي ْو َم‬ ‫ان َي ْر ُج���و ا َ‬ ‫���ن َك َ‬ ‫���و ٌة َح َس َ���ن ٌة ِل َم ْ‬ ‫َ ُ‬ ‫���ول اهلل ُأ ْس َ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫هلل َك ِث ًيرا‪(‬األحزاب‪.)21:‬‬ ‫ا‬ ‫ر‬ ‫ك‬ ‫ذ‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫اآلخ‬ ‫َ َ​َ​َ​َ َ‬ ‫(*) رئيس مجمع الفقه اإلسالمي ‪ /‬السودان‪.‬‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )37‬‬

‫‪12‬‬

‫في انتظار قدومك‬ ‫شجرٌة خضراء ِ‬ ‫أنت؛‬ ‫ظاللك وارفة‪،‬‬ ‫وأغصانك رائقة‪...‬‬ ‫ِ‬ ‫انبثقت‪،‬‬ ‫الصماء‬ ‫من قلْب الصخرة َّ‬ ‫تنع ِ‬ ‫مت‪...‬‬ ‫وبالنَّماء والحياة ّ‬ ‫ِ‬ ‫لست وحيدة وال غريبة‪،‬‬ ‫إذا ما بذورك نث ِ‬ ‫ـرت‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫سعيت‪..‬‬ ‫وإلى االنتشار‬ ‫اقضي على عهد االغتـراب‪،‬‬ ‫تشبعي باإليمان‪ ،‬فلن يخيبك‪،‬‬ ‫فأنت في عين اهلل‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫يكلؤك‬ ‫ويرعاك‪...‬‬ ‫***‬


‫إرادة التغيير والعمل‪.‬‬

‫ه���ي اس���تقراءات واس���تنباطات ذات‬

‫منهجي���ة علمية مقنع���ة ودقيقة‪ ،‬تولد من‬ ‫الماض���ي وتترع���رع في الحاض���ر وتنمو‬

‫في المستقبل‪.‬‬

‫س���لبا في صحة مثل هذه‬ ‫ومما يؤثر‬ ‫ً‬

‫ضع���ف المعلوم���ات حول‬ ‫الدراس���ات‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫المس���تقبل‪ ،‬والتنب���ؤ بص���ورة واضح���ة‬

‫ودقيق���ة‪ .‬وهن���ا تتأكد ثانية ‪-‬كما س���لف‬ ‫التنبي���ه‪ -‬أهمية أن نعرف الواقع ونصفه‬

‫س���وءا‪ .‬ف���أول معرفة‬ ‫كم���ا هو مهما بلغ‬ ‫ً‬

‫ال���دواء‪ ،‬وض���ع الي���د على مح���ل الداء‬ ‫مؤلما‪.‬‬ ‫مهما يكن هذا‬ ‫ً‬

‫�أمتن��ا يف م�سي���س احلاج��ة‬ ‫�إىل �إع��ادة النظ��ر يف جمم��ل‬ ‫ال�سيا�سات وامل�شاريع الراهنة‪،‬‬ ‫وت�صحي��ح البني��ة التحتي��ة‪،‬‬ ‫وترتيب الأولويات‪ ،‬وال�سعي‬ ‫اجل��اد لالرتق��اء يف �سبي��ل‬ ‫امل�شاري��ع التنموية التي تك ُفل‬ ‫بخط��ى واثقة‪.‬‬ ‫النهو���ض‬ ‫لها‬ ‫َ‬ ‫ً‬

‫‪ -2‬أمتن���ا ف���ي مس���يس الحاج���ة إلى‬

‫إع���ادة النظ���ر ف���ي مجم���ل السياس���ات‬

‫والمش���اريع الراهن���ة‪ ،‬وتصحي���ح البنية‬ ‫التحتي���ة‪ ،‬وترتيب األولويات‪ ،‬والس���عي‬

‫الج���اد لالرتق���اء ف���ي س���بيل المش���اريع‬

‫التنموي���ة التي تك ُفل لها‬ ‫النهوض بخطى‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫واثق���ة‪ .‬وال ب���د ‪-‬ف���ي هذا الس���ياق‪ -‬من‬ ‫التضام���ن بي���ن دول األم���ة المس���لمة‬

‫والتع���اون المش���ترك‪ ،‬إليج���اد تكت���ل‬

‫يس���تطيع الصم���ود ‪-‬بل المنافس���ة‪ -‬بين‬ ‫التكتالت العالمية السائدة والمتوقع أن‬

‫ال‪.‬‬ ‫تسود مستقب ً‬

‫من األمن القومي إلى اإلنساني‬

‫ومما يتصل باستشراف المستقبل ويسهم فيه كصورة واضحة‬

‫‪ -3‬يج���ب االعتماد عل���ى التخطيط‬

‫أو أم���ة)‪ .‬فم���ن الخط���أ والخط���ر‪ ،‬قص���ره على حماي���ة التراب‬

‫كلم���ا وقعت‬ ‫زالت وأخطاء‪ ،‬كما يجب وضع خطوط تنموية‬ ‫ٌ‬

‫ل���ه‪ ،‬التأكيد على اتس���اع مفهوم األم���ن القومي (قدس أية دولة‬ ‫الوطن���ي وكيان الدولة ومواردها من األخطار الخارجية‪ ،‬فهذا‬ ‫ه���و الح���د األدني من���ه‪ ،‬وهو يمتد من هذه النقط���ة إلى الجبهة‬

‫الداخلية وحماية ُهوية المجتمع وقيمه‪ ،‬وتأمين المواطن ضد‬ ‫الفق���ر والجهل والم���رض‪ ،‬وضمان الحد األدن���ى من الرفاهة‬

‫والمشاركة السياسية‪.‬‬

‫ويتعلق األمن القومي بهذه المحاور‪:‬‬

‫‪ -1‬تنمية المجتمعات المحلية األصغر‪.‬‬

‫‪ -2‬تنمية الثقافة وإعالء قيم مجتمع الرشد والتراحم‪.‬‬

‫‪ -3‬حماية حقوق اإلنس���ان وإش���باع الحاجات األساسية‪،‬‬

‫السليم والتنفيذ الجيد والمتابعة والتقويم‪ ،‬لتصحيح المسارات‬ ‫تضع الزمن في حسابها‪.‬‬

‫‪ -4‬ض���رورة االعتم���اد على العل���م والتكنولوجيا والبحث‬

‫العلم���ي‪ ،‬كما يجب الحفاظ على الكف���اءات العلمية وتحقيق‬

‫ونوعا‪ ،‬فهي الثروة الحقيقية ألية أمة‪.‬‬ ‫كما‬ ‫ً‬ ‫طموحاتها ًّ‬

‫‪ -5‬االرتق���اء بالحال���ة االجتماعية للش���باب وتأمين حقهم‬

‫في الحياة الكريمة‪ ،‬وذلك بتوفير حاجاتهم المادية والروحية‪،‬‬ ‫وتلبي���ة ضروراته���م األساس���ية والس���يما المس���كن وال���زواج‬

‫وفرص التعليم والعمل والصحة‪.‬‬

‫‪ -6‬يتعي���ن االهتم���ام الخ���اص بالطفولة ورعايته���ا وتأمين‬

‫لالنتق���ال بالمجتمع من مجتمع الكفاف إلى مجتمع الكفاية‬

‫حقوقها وحاجاتها‪ ،‬وتش���جيع األطفال على اللعب وممارسة‬

‫موجهات هادية‬ ‫ّ‬

‫شبابا مبدعين‪.‬‬ ‫على التعبير عن الذات‪ ...‬فهذا ما يصنع منهم ً‬

‫إلى مجتمع الكفاءة والرفاهة‪.‬‬

‫اللهو واإلبداع‪ ،‬وتفجير الطاقات الخالقة لديهم‪ ،‬وتش���جيعهم‬

‫وبن���اء على ه���ذا التصور الس���ليم لمفه���وم " األم���ن القومي"‪،‬‬

‫ومس���موعا‬ ‫(مرئيا‬ ‫‪ -7‬إيالء اإلعالم‬ ‫ومقروءا) أهمية بالغة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬

‫أبرز المآزق التي تعوق مسيرة األمة نحو مستقبلها‪ ،‬فإننا ‪-‬ومن‬

‫منهم‪ -‬وتس���ليط األض���واء على التحديات الت���ي تواجه األمة‪،‬‬

‫قدمنا آن ًفا‬ ‫وإدراك قيم���ة تعزي���زه في طريق بناء المس���تقبل‪ ،‬وإذ ّ‬ ‫خالل التأمل العكس���ي‪ -‬يمكننا استشراف آفاق المستقبل بما‬ ‫جميعا ‪-‬وال س���يما‬ ‫يتضمنه من تحديات ينبغي أن نتصدى لها‬ ‫ً‬

‫غدا كما يلي‪:‬‬ ‫شبابنا‪ -‬اآلن وليس ً‬

‫‪ -1‬أمتنا أحوج ما تكون إلى الوعي بما يتربص بها‪ ،‬وإلى‬

‫دورا‬ ‫إيجابيا في نوعية الحاصلين ‪-‬ال س���يما الش���باب‬ ‫لي���ؤدي ً‬ ‫ًّ‬ ‫وتحصي���ن األجي���ال الناش���ئة ض���د التضلي���ل والغ���زو الثقاف���ي‬

‫واإلعالمي‪.‬‬

‫‪ -8‬وقب���ل ه���ذا كل���ه‪ ،‬وبموازات���ه ومعيته‪ ،‬يج���ب النهوض‬

‫بالجان���ب الروح���ي نح���و الفهم األش���مل واألعمق لإلس�ل�ام‬

‫‪11‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )37‬‬


‫‪ -3‬أزم���ة ص���راع األجي���ال؛ حي���ث‬

‫مآزق الحاضر‬

‫إذا اتفقن���ا على أن على كواهل الش���باب‬ ‫عبء صناعة‬ ‫ ُفرادى وجماعات‪ -‬يقع‬‫ُ‬ ‫المس���تقبل والنه���وض بـ"نوس���تالجيا"‬

‫الماض���ي واألح�ل�ام الت���ي ل���م يحققه���ا‬ ‫جي���ل اآلباء‪ ،‬وأن عليه���م مواجهة واقع‬ ‫ٍ‬ ‫مختلف واالضط�ل�اع بأعبائه وهمومه‪،‬‬ ‫ف���إن من الواج���ب أن نربي ش���بابنا على‬ ‫التحل���ي بالواقعي���ة ف���ي مواجه���ة أزماته‬

‫الحاض���رة‪ ،‬والب���د ‪-‬م���ن ث���م‪ -‬م���ن أن‬

‫يجابه الش���باب الحقيق���ة ‪-‬حقيقة األزمة‬ ‫والمش���كالت التي تمر به���ا األمة‪ -‬كما‬

‫ال ريب يف �أن ق��درة ال�شباب‬ ‫عل��ى حتوي��ل الأح�لام �إىل‬ ‫حقائ��ق‪ ،‬والطموح��ات �إىل‬ ‫�إجن��ازات على �أر���ض الواقع‪،‬‬ ‫تتطل��ب �أن تمُ َّه��د ال�سبل لهم‬ ‫كي تنطلق هذه الطاقات‪ ،‬و�أن‬ ‫واملعوقات‬ ‫تُرف��ع كل القي��ود‬ ‫ِّ‬ ‫كي ت�ستمر هذه ال�سواعد‪.‬‬

‫هي‪ ،‬ليستش���عر عظم التحدي‪ ،‬وليستنفر‬ ‫همت���ه ويش���حذ طاقت���ه‪ .‬كم���ا يج���ب أن‬

‫يدرب الشباب على استخالص الدروس والعبر حتى ال يكرر‬

‫الغال���ب أن اآلب���اء الذي���ن يملك���ون‬ ‫زم���ام الس���لطة والمب���ادرة‪ ،‬ال يتفهم���ون‬

‫فض�ل�ا ع���ن إتاحة‬ ‫مش���كالت الش���باب‪،‬‬ ‫ً‬

‫الف���رص له���م ليتول���وا بأنفس���هم عملي���ة‬ ‫التغيير واإلصالح وتنفيذ الطموحات‪.‬‬

‫‪ -4‬أزم���ة الوصولية واختالل س��� َّلم‬

‫القيم‪.‬‬

‫‪ -5‬أزم���ة البطال���ة ‪-‬الصريح���ة‬

‫والمقنعة‪ -‬والالمسؤولية‪.‬‬

‫‪ -6‬األزم���ة االجتماعي���ة بش���كل‬

‫ع���ام ‪-‬المادية والمعنوي���ة‪ -‬المؤدية إلى‬

‫الضياع واإلدمان وضعف الثقة بالنفس‪.‬‬

‫مصادر األزمات‬

‫‪ -1‬غي���اب القي���ادة الحكيم���ة والق���دوة الصالح���ة (الفس���اد‬

‫���د َخ َل ْت‬ ‫أخط���اء األجي���ال الس���الفة وال يبدأ م���ن "الصفر"‪َ  :‬ق ْ‬ ‫ِم ْن َقب ِل ُكم ُس َ���ن ٌن َف ِس���يروا ِفي ا َ‬ ‫ان َعا ِق َب ُة‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫ض َفا ْن ُظروا َك ْي َ‬ ‫ف َك َ‬ ‫ْ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ِين‪(‬آل عمران‪.)137:‬‬ ‫ا ْل ُم َك ِّذب َ‬ ‫ومن هنا‪ ،‬فالواجب على قادة الرأي ورائدي الفكر وأولياء‬

‫‪ -3‬ع���دم اس���تثمار أوق���ات الش���باب وطاقاته���م (اإلخفاق‬

‫وموجعة‪ ،‬وهذا هو بداية طريق العالج الناجح‪.‬‬

‫‪ -4‬س���يطرة وس���ائل اإلع�ل�ام الالهي���ة‪ ،‬وش���يوع النم���ط‬

‫عموم���ا‪ ،‬أن يبين���وا الحقائ���ق كم���ا هي مهما تك���ن أليمة‬ ‫األم���ر‬ ‫ً‬

‫األزمات القاتلة‬

‫االجتماعي والخلل القيمي)‪.‬‬

‫الصعد كافة (الفس���اد‬ ‫‪ -2‬غياب الممارس���ة الش���ورية على‬ ‫ُ‬

‫السياسي واالقتصادي)‪.‬‬ ‫التنموي)‪.‬‬

‫االستهالكي (الخواء الثقافي والحضاري)‪.‬‬

‫وس���وف نح���اول ف���ي عجال���ة‪ ،‬رص���د أه���م وأخط���ر األزمات‬

‫آفاق المستقبل‬

‫وبغض النظر عن بعض االستثناءات هنا وهناك‪.‬‬

‫على درجة عالية من المنطقية‪ ،‬من خالل طرائق يفترض منها‬

‫والمآزق الراهنة التي تس���م حاضر األمة اإلسالمية بوجه عام‪،‬‬

‫ال يمكن دراس���ته والتعام���ل معه بكيفية‬ ‫أصب���ح المس���تقبل حق ً‬

‫منى العالم‬ ‫‪ -1‬أزم���ة التعلي���م واألمي���ة الحضارية؛ حي���ث ُي َ‬

‫أن تك���ون محكم���ة أو ش���به محكمة‪ ،‬ولها م���ن القدرة على أن‬

‫"التربي���ة" ع���ن "التعلي���م" في أحي���ان كثيرة‪ ،‬وذلك ي���ؤدي إلى‬

‫وبدائل واستش���راف و"سيناريوهات" يستفاد منها في مجاالت‬

‫اإلس�ل�امي بأعلى معدالت األمية ف���ي العالم‪ ،‬وحيث تنفصل‬ ‫القيمة‪ ،‬وحيث صار هدف الش���باب ‪-‬في‬ ‫فقدان العلم وداللته ّ‬ ‫ظ���ل الفراغ التربوي‪ -‬هو الحصول على الش���هادات الرس���مية‬ ‫بوصفه���ا غاي���ة ف���ي ح���د ذاته���ا‪ ،‬ال وس���يل ًة لمراكم���ة المعرفة‬

‫وحضاريا‪.‬‬ ‫ماديا‬ ‫ًّ‬ ‫والترقي ًّ‬

‫‪ -2‬أزم���ة االغتراب الثقافي واهتزاز الهوية؛ حيث يتعرض‬

‫الدين واللغة واإلثمار إلى ما يهز التمس���ك بها‪ ،‬وهو ما يؤدي‬ ‫بالضرورة إلى المسخ والتقليد‪.‬‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )37‬‬

‫‪10‬‬

‫تعط���ي من النتائج م���ا هو مهم وضروري عل���ى هيئة خيارات‬ ‫الس���كان والبيئ���ة والصح���ة والتعليم‪ ...‬وباختص���ار‪ ،‬في مجال‬ ‫النهضة الشاملة المنشودة لكل أمة‪.‬‬

‫والدراس���ات المس���تقبلية‪ ،‬تقوم على فحص منطقي علمي‬

‫تكون ممتد في الماض���ي‪ ،‬ومبنية على‬ ‫لظواه���ر حاض���رة ذات ُّ‬

‫واس���تنادا‬ ‫العق���ل والمنط���ق والحس‪ ،‬وعل���ى العل���م وقوانينه‪،‬‬ ‫ً‬ ‫إل���ى التجارب البش���رية المتراكمة على م���ر العصور‪ .‬فهي إذن‬

‫تس���ور الغيب‪ ،‬بل‬ ‫ضربا م���ن الكهانة‪ ،‬وال من محاولة‬ ‫ليس���ت‬ ‫ُّ‬ ‫ً‬


‫قضايا فكرية‬

‫أ‪.‬د‪ .‬عصام أحمد البشير*‬

‫الشباب وصناعة المستقبل‬ ‫مآزق وآفاق‬

‫ال ُينظ���ر اليوم إلى الش���باب باعتبارهم صانعي‬

‫إلى حقائ���ق‪ ،‬والطموحات إلى إنج���ازات على أرض الواقع‪،‬‬

‫االجتماع���ي األهم ف���ي الواق���ع‪ ،‬والمؤثر في‬

‫والمعوقات كي تس���تمر هذه الس���واعد‪ .‬كما‬ ‫ُترف���ع كل القيود‬ ‫ِّ‬

‫المس���تقبل وحس���ب‪ ،‬ب���ل عل���ى أنه���م الفاعل‬

‫س���لبا‬ ‫الحاض���ر وإن تع���ددت وتراوح���ت تقويمات هذا التأثير‬ ‫ً‬

‫وإيجابا‪.‬‬ ‫ً‬

‫ويش���ير التاريخ اإلنس���اني بكل إنجازات���ه العلمية والفكرية‬

‫إل���ى اإلمكانيات غير المحدودة للش���باب في صنع الحضارة‪،‬‬

‫كما أن مقولة "الش���اب عماد األمة" ت���كاد تتواتر ‪-‬بمقابالتها‪-‬‬ ‫في جميع لغات العالم‪.‬‬

‫وال ري���ب ف���ي أن ق���درة الش���باب عل���ى تحوي���ل األح�ل�ام‬

‫مه���د الس���بل لهم ك���ي تنطلق ه���ذه الطاقات‪ ،‬وأن‬ ‫تتطل���ب أن ُت َّ‬ ‫أيضا‪ ،‬دعم اآلليات التي تس���اعد الش���باب على‬ ‫أن هذا يتطلب ً‬ ‫العمل واإلنجازات وتبادل الخبرة والتعاون المشترك‪.‬‬

‫وال يخفى على أحد ‪-‬في ظل التكاشف اإلعالمي الراهن‪-‬‬ ‫ِ‬ ‫المرتبط به اس���تعاد ُة أية‬ ‫أن دون تحقي���ق ذل���ك الطموح البعيد‪،‬‬

‫وأيضا‬ ‫تضيق من آفاق المس���تقبل‪،‬‬ ‫عوائق‬ ‫نهضتها‪،‬‬ ‫أمة‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ومآزق ّ‬

‫تحديات تس���تلزم المواجهة الصادق���ة والمعالجة الناجحة قبل‬ ‫استئناف المسير‪.‬‬

‫‪9‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )37‬‬


‫"الط���ارق"‪ .‬وقال تعالى‪َ ﴿ :‬ف َ ُ ِ‬ ‫س ‪ ‬ا ْل َج َوارِ‬ ‫���م بِا ْل ُخ َّن ِ‬ ‫ال أ ْقس ُ‬

‫س﴾(التكوير‪ .)16-15:‬ما نش���ر عن "الخنس" في موقع‬ ‫ا ْل ُك َّن ِ‬

‫وكالة ناس���ا الفضائية‪ ،‬أن هذا النجم ال يرى (أي ُخنس)‬

‫أي ش���يء في‬ ‫ويج���ري بس���رعات كبيرة (جوار) ويجذب ّ‬

‫(كنس) وهي الصفات التي تناولها القرآن الكريم‪.‬‬ ‫طريقه ُ‬

‫الن ْج ُم‬ ‫الط���ارِ ِق ‪َ ‬و َما َأ ْد َراكَ َما َّ‬ ‫���ما ِء َو َّ‬ ‫الط���ارِ ُق ‪َّ ‬‬ ‫َ‬ ‫الس َ‬ ‫﴿و َّ‬ ‫ِ‬ ‫ال َّثاق ُب﴾(الط���ارق‪ .)3-1:‬وكم���ا ذكر في كت���اب اهلل ‪ ،‬فإن‬

‫النج���م الطارق يحقق نتيجتين‪ :‬األولى أنه يعطي طرقات‬ ‫منتظمة (طارق)‪ ،‬والثانية أنه ُيصدر إش���عاعات تس���تطيع‬

‫ثقب أي شيء يصادفها (ثاقب)‪.‬‬

‫النهاية‬

‫الحس���ابات الرياضي���ة تش���ير إل���ى أن مع���دالت التم���دد‬ ‫الكون���ي عق���ب عملي���ة االنفج���ار العظي���م‪ ،‬كان���ت أعلى‬ ‫بكثي���ر من معدالتها الحالية‪ ،‬ومع تباطؤ س���رعة توس���ع‬

‫الك���ون‪ ،‬تتف���وق ق���وى الجاذبي���ة فتأخ���ذ المج���رات ف���ي‬ ‫االندف���اع نح���و مرك���ز الك���ون بس���رعات متزاي���دة‪ ،‬فيبدأ‬

‫الك���ون ف���ي االنكماش والتك���دس على ذات���ه‪ ،‬وتتجمع‬ ‫كل ص���ور الم���ادة والطاقة المنتش���رة في أرج���اء الكون‪،‬‬ ‫حت���ى تتكدس ف���ي نقط���ة متناهية في الضآل���ة تكاد تصل‬ ‫إل���ى الصف���ر أو العدم‪ ،‬ومتناهية في الكثاف���ة والطاقة إلى‬ ‫الح���د الذي تتوقف عنده كل قواني���ن الفيزياء المعروفة‪،‬‬

‫أي يعود إلى حالته األولى (مرحلة الرتق)‪ ،‬ويس���مى هذا‬

‫بـ"الكون المغلق" (‪ ،)The Closed Universe‬وتس���مى عملية‬

‫تجميع الكون باس���م "نظرية االنس���حاق الش���ديد"‬

‫(‪The‬‬

‫‪ )Big Crunch‬وهي معاكسة لعملية االنفجار الكبير‪ .‬وهذا‬

‫الس َم َاء َكطَ ِّي‬ ‫تفس���ير علمي لقول الحق ‪َ :‬‬ ‫﴿ي ْو َم َنطْ ِوي َّ‬ ‫السِّ ِ‬ ‫يد ُه َو ْع ًدا َعل َْي َنا ِإ َّنا‬ ‫���ج ِّل ِللْكُ ُت ِب َك َما َب َد ْأ َنا َأ َّولَ َخل ٍْق ُنعِ ُ‬ ‫ِين﴾(األنبياء‪.)104:‬‬ ‫ُك َّنا َفاعِ ل َ‬ ‫(*) باحث في مجال اإلعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة المطهرة‬ ‫‪ /‬مصر‪.‬‬

‫الهوامش‬

‫‪1. www.map.gsfc.nasa.gov/universe/bb_theory‬‬ ‫‪2. www.nasa.gov‬‬ ‫‪3. www.science.nasa.gov/newhome/headlines/ast25may99_1.htm‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )37‬‬

‫‪8‬‬


‫صغي���را في الكون المبكر"‪ .‬ثم‬ ‫األول���ى‪ -‬نرى هناك خيطً ا‬ ‫ً‬

‫يقول���ون بعد ذل���ك بالحرف الواحد‪" :‬نح���ن نراه (أي هذا‬ ‫الخي���ط) ف���ي زم���ن عندما كان عم���ر الكون ‪ 2‬بليون س���نة‬

‫فقط"‪.‬‬

‫���م َاء ب َِن ًاء﴾(البقرة‪ .)22:‬وهذا م���ا أثبتته الوكالة في‬ ‫َ‬ ‫الس َ‬ ‫﴿و َّ‬

‫مقالة نش���رتها بعنوان‪" :‬كيف تكش���ل البناء ف���ي الكون؟"‪.‬‬

‫ويحصي علماء الفلك في الجزء المدرك من السماء الدنيا‬ ‫‪ 200‬أل���ف مليون مج���رة ‪-‬على األق���ل‪ -‬بعضها أكبر من‬

‫مجرتن���ا بكثير‪ ،‬وبعضها اآلخر أصغ���ر بقليل‪ .‬والمجرات‬ ‫عب���ارة عن تجمعات نجمية مذهلة ف���ي أعدادها‪ ،‬يتخللها‬ ‫الدخان الكوني بتركيز متفاوت في داخل المجرة الواحدة‪،‬‬ ‫والتي قد تضم عش���رات الباليي���ن إلى باليين الباليين من‬

‫النج���وم‪ .‬وباإلضافة إلى النجوم وتوابعها المختلفة‪ ،‬هناك‬

‫الس���دم ‪-‬على تعدد أشكالها وأنواعها‪ -‬وهناك المادة بين‬ ‫النج���وم (‪ ،)The Inter-stellar Matter‬وهن���اك الم���ادة الداكنة‬

‫(‪ )The Dark Matter‬وغي���ر ذل���ك من صور الم���ادة والطاقة‬ ‫المبثوثة في ظلمة الكون‪.‬‬

‫اه���ا ِب َأ ْي ٍ‬ ‫���د َو ِإ َّن���ا‬ ‫ق���ال تعال���ى‪:‬‬ ‫���م َاء َب َن ْي َن َ‬ ‫َ‬ ‫الس َ‬ ‫﴿و َّ‬ ‫َلم ِ‬ ‫ون﴾(الذاريات‪ ،)47:‬حقيقة قرآنية أثبتتها وكالة ناس���ا‬ ‫���ع َ‬ ‫وس ُ‬ ‫ُ‬

‫الفضائي���ة‪ .‬عل���ى س���بيل المث���ال‪ ،‬ما نش���ر ف���ي موقعها بأن‬ ‫المعدل القياس���ي لقيمة التوسع هو من ‪ 50‬إلى ‪ 100‬كم‬

‫ف���ي الثانية‪ ،‬لكل مس���افة بين مجرتين تبل���غ ‪ 3.26‬مليون‬

‫س���نة ضوئية‪ ،‬وما نش���ر على موقعها بحث بعنوان "هوبل‬ ‫يقي���س تم���دد الك���ون"‬

‫(‪Hubble Measures the Expanding‬‬

‫‪.)3()Universe‬‬

‫���م ِإ َذا َه َوى﴾(النج���م‪.)1:‬‬ ‫الن ْج ِ‬ ‫﴿و َّ‬ ‫يق���ول المول���ى ‪َ :‬‬ ‫أثب���ت العلم الحديث أن النجم عندما يتهاوى على نفس���ه‬

‫وينغل���ق‪ ،‬حينئ���ذ يبلغ أضعاف وزن الش���مس‪ .‬ف���إذا بلغ‬

‫وزنه أكثر من عشرين ضعف وزن الشمس سمي بـ"الثقب‬ ‫األس���ود"‪ ،‬أي "النجم الخنس"‪ ،‬أما إذا بلغ من ‪ 1.4‬حتى‬

‫تكون النجم الطارق وهو نجم‬ ‫‪ 5‬أضعاف وزن الش���مس‪ّ ،‬‬ ‫نيوترون���ي‪ .‬لذا كان َق َس���م المول���ى ‪ ‬بـ"الخنس" بمبالغة‬ ‫ف���ي ال َقس���م‪َ ﴿ :‬ف َ ُ ِ‬ ‫س﴾(التكوير‪ )15:‬عن َق َس���مه‬ ‫���م بِا ْل ُخ َّن ِ‬ ‫ال أ ْقس ُ‬ ‫َ‬ ‫س���بحانه بـ"الطارق"‪ ،‬لك���ون "الخنس" أضخ���م من النجم‬

‫‪7‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )37‬‬


‫الج���رم االبتدائ���ي فانفت���ق (مرحل���ة الفت���ق)‪ ،‬وتحول إلى‬

‫س���حابة م���ن الدخان (مرحل���ة الدخان)‪ ،‬حي���ث خلق اهلل‬

‫ال من األرض والس���ماوات بما‬ ‫تعالى من هذا الدخان ك ًّ‬ ‫"فتق" وليس‬ ‫فيهما‪ .‬والقرآن ُّ‬ ‫أدق في تقرير الحقيقة‪ ،‬فهو ٌ‬

‫"انفج���ار"‪ ،‬ألن االنفج���ار يؤدي إلى تفت���ت األجزاء‪ ،‬أما‬ ‫ٌ‬ ‫"الفتق" فهو انفصال مع المحافظة على المكونات(‪.)1‬‬

‫بدايات الكون‬

‫���ان‬ ‫���ي ُد َخ ٌ‬ ‫���م ْ‬ ‫الس َ‬ ‫ق���ال تعال���ى‪ُ ﴿ :‬ث َّ‬ ‫اس��� َت َوى ِإلَ���ى َّ‬ ‫���ما ِء َوهِ َ‬ ‫ض ِا ْئت َِي���ا طَ ْو ًع���ا َأ ْو َك ْر ًه���ا َقا َل َت���ا َأ َت ْي َن���ا‬ ‫َف َق���الَ ل َ​َه���ا َو ِل�ْل�أْ َ ْر ِ‬ ‫ين﴾(فصل���ت‪ .)11:‬وق���د أثب���ت العل���م الحدي���ث أن‬ ‫طَ ائِعِ َ‬ ‫الس���ماء بدايته���ا الدخان؛ ففي ‪ 8‬نوفمب���ر ‪ 1989‬أطلقت‬ ‫وكالة ناس���ا مركبة باس���م "مكتش���ف الخلفية اإلش���عاعية‬

‫للك���ون" (‪ ،)Comic Background Explorer‬وق���ام هذا القمر‬

‫بإرس���ال قدر هائل من المعلومات وماليين الصور آلثار‬

‫الدخ���ان الكون���ي األول‪ .‬وما نش���رته الوكالة بالنص هو‪:‬‬

‫"‪Smoking Supernovae Solve A Ten Billion Year-Old‬‬

‫‪"Mystery‬؛ ومعناه أن المس���تعرات الدخانية العظمى تحل‬ ‫سر ‪ 10‬باليين سنة‪ ،‬وهو عمر الكون التقريبي‪ .‬واستطاع‬

‫العلماء إحضار جزيئات من الدخان الكوني إلى األرض‬ ‫وأخضعوه���ا للتحليل المخب���ري‪ ،‬فماذا كان���ت النتيجة؟‬ ‫يق���ول العالم الذي أش���رف على ه���ذا التحليل‪" :‬إن هذه‬

‫الجزيئات التي كنا نس���ميها‬ ‫كونيا" ال تش���به الغبار‬ ‫ً‬ ‫"غبارا ًّ‬ ‫أب���دا‪ ،‬وإذا أردن���ا أن نصفها بدقة فائق���ة‪ ،‬فإن أفضل كلمة‬ ‫ً‬ ‫هي كلمة "دخان" وباللغة اإلنكليزية تعني "‪.)2("Smoke‬‬

‫الس َما ِء ذ ِ‬ ‫َات الْ ُحبُ ِك﴾‬ ‫﴿ َو َّ‬

‫"الح ُبك" هي النسيج المحبوك والشديد والمحكم‪.‬‬ ‫كلمة ُ‬ ‫���ما ِء ذ ِ‬ ‫َات ال ُْح ُب ِك﴾ يعني‬ ‫وقال���وا بأن قوله تعالى‪َ :‬‬ ‫الس َ‬ ‫﴿و َّ‬

‫ذات الشكل الحسن‪ ،‬وذات الشدة‪ ،‬وذات الزينة‪ ،‬وذات‬ ‫الطُ رق‪ .‬ولقد بث المرصد األوروبي الجنوبي (‪European‬‬

‫ُ‬ ‫‪ )Southern Observatory‬م���ن خالل موقعه على اإلنترنت‪،‬‬

‫اكتش���ا ًفا عنوان���ه "‪،"A glimpse of the very early universal‬‬ ‫جدا"‬ ‫تأكيدا على‬ ‫أي‪" ،‬لمحة عن النسيج الكوني المبكر ًّ‬ ‫ً‬

‫لس���ان العلماء الذين اكتش���فوا هذا النس���يج ورأوه للمرة‬

‫األول���ى‪ ،‬يق���ول في���ه‪" :‬إننا ال نكاد نش���ك بأنن���ا ‪-‬وللمرة‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )37‬‬

‫‪6‬‬


‫علوم‬

‫د‪ .‬السيد حامد السيد*‬

‫القرآن والحقائق العلمية‬ ‫محطات من التناغم العجيب‬

‫في س���نة ‪ ،1989‬أرس���لت وكالة الفض���اء األمريكية‬ ‫ناس���ا قمره���ا االصطناع���ي‬

‫"‪"Cobe Explorer‬‬

‫ال���ذي‬

‫قام ‪-‬بعد ثالث س���نوات‪ -‬بإرس���ال معلومات دقيقة‬

‫إل���ى األرض تؤك���د نظري���ة "االنفجار العظي���م" (‪Big‬‬

‫‪ .)Bang‬وه���ذه الحقيقة العلمية ذكرها القرآن الكريم‬ ‫من���ذ أكث���ر من أربعة عش���ر قر ًن���ا حيث ق���ال‪َ ﴿ :‬أ َول َْم‬

‫ات َوا َ‬ ‫َ‬ ‫او ِ‬ ‫ض َكا َن َتا َر ْت ًقا‬ ‫أل ْر َ‬ ‫���ر الَّذِ َ‬ ‫���م َ‬ ‫الس َ‬ ‫ين َك َف ُ‬ ‫َي َ‬ ‫���روا أ َّن َّ‬ ‫اه َما﴾(األنبي���اء‪ ،)30:‬أي إن الس���ماوات واألرض‬ ‫َف َف َت ْق َن ُ‬

‫كانتا في األصل عبارة عن كتلة واحدة (جرم ابتدائي‬ ‫واحد) في مرحلة الرتق‪ ،‬ثم أمر اهلل تعالى بفتق هذا‬

‫‪5‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )37‬‬


‫انخداع���ا‪ .‬ومهم���ا كانت األس���ماء واألش���كال‪ ،‬ف���إن األمل‬ ‫إال‬ ‫ً‬ ‫في الحصول على ش���يء باس���م اإلدارة واألمن في خضم هذا‬

‫الركام البش���ري المعزول عن الس�ل�اح أمام حظه األس���ود‪ ،‬ال‬ ‫يزيد على أن يكون محض خيال‪ .‬وأما انتظار الدولة والسلطة‬ ‫منه فهو سلوان كاذب ال يقوم على سند‪ .‬فال يمكن أن تتحقق‬ ‫سام يمنحهما الحياة في‬ ‫الدولة والس���لطة إال بالقصد إلى فكر ٍ‬ ‫المجتم���ع‪ ،‬ويغذيهما‪ ،‬وببرمجة كل ش���يء بموجبه وااللتفاف‬

‫كخي���وط المغزل حوله‪.‬‬ ‫وتلخيصا‪ ،‬احتس���اب "الواحد األحد"‬ ‫ً‬

‫في كل حملة‪ ،‬وفي كل جهد‪.‬‬

‫نع���م‪ ،‬ينبغي أن يجهز ويبرم���ج كل فرد وكل وحدة حياتية‬ ‫حس���ب مقص���ود رف���ع األم���ة إل���ى ال���ذرى‪ ...‬حتى ال تفس���د‬ ‫وئام‬ ‫الحس���ابات والمنافع الضئيلة المنعقدة على األش���خاص َ‬ ‫االنس���جام العام‪ ،‬وحت���ى ال تتموج الجموع البش���رية المتنوعة‬ ‫رغم���ا عن ذاتها كأمواج البحر فترتط���م ببعضها وتتبعثر‪ .‬ولقد‬ ‫ً‬

‫تح���ددت ه���ذه الغاي���ة المأمولة بص���ورة رائعة في زمن س���ابق‬ ‫المس���ير إلى‬ ‫بفض���ل هيمنة روح اإلس�ل�ام على الحياة‪َ .‬فتح َّق َق‬ ‫ُ‬

‫ال���ذرى وكأن���ه فع���ل طبيعي ف���ي الحياة‪ ،‬وذلك بجع���ل األفراد‬

‫ٍ‬ ‫ومستندات للنظام‪.‬‬ ‫المكونة للمجتمع أركا ًنا‬ ‫والوحدات‬ ‫ِّ‬

‫إن إع���ادة النظر ف���ي تصوراتنا عن النظام‪ ،‬وتجديد اإليمان‬

‫بأن إرادتنا هي التي ستحمل االنسجام اإللهي في الوجود إلى‬ ‫عالم اإلنس���انية‪ ،‬وس���حب التوازن الدولي إلى هذا ال َف َلك‪ ،‬هو‬ ‫���ل هدي���ة تقدمها األجي���ال المعاصرة إلى عوالم المس���تقبل‬ ‫َأ َج ّ‬ ‫اآلت���ي‪ .‬وأظ���ن أن لدينا ما يكفينا لهذه الرس���الة المهمة‪ ،‬إذا ما‬

‫وعي ّنا‬ ‫ّ‬ ‫محصن���ا إرادتن���ا ّ‬ ‫ك���رة أخرى‪ ،‬وفحصن���ا مقامنا عن���د اهلل‪َّ ،‬‬

‫ورص ّن���ا اس���تراتيجيات وسياس���ات مكين���ة‪،‬‬ ‫غاياتن���ا "الم ّل ّي���ة"‪َّ ،‬‬ ‫وشغ ْلنا حركيات موفورة في أيدينا‪.‬‬ ‫َّ‬

‫(*) الترجمة عن التركية‪ :‬عوني عمر لطفي أوغلو‪.‬‬

‫الهوامش‬ ‫(‪ )1‬المقص���ود م���ن الق���وة هنا حال اإلمكان والكمون‪ .‬ف���إذا تحرك من اإلمكان‬ ‫أو الكمون أو المكنون إلى الحدوث أو الظهور‪ ،‬فقد تحول من القوة إلى‬ ‫الفعل‪( .‬المترجم)‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )37‬‬

‫‪4‬‬

‫سفينة اإلنسانية‬ ‫راكبون‪..‬‬ ‫على ظهر الدنيا مسافرون‪...‬‬ ‫يتقاذفنا الموج‪،‬‬ ‫ثائرا مرًة‪ ،‬ورخيًّا أخرى‪...‬‬ ‫ً‬ ‫ونحن مرعوبون إذا ثار‪ ،‬وخائفون إذا سكن‪...‬‬ ‫ولكننا تواقون‪ ،‬وإلى الطمأنينة مشتاقون‪...‬‬ ‫والقلب في دواخلنا ينادي‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫"أال بذكر اهلل تطمئن القلوب"‪...‬‬ ‫فيا مسافر! إلى وطنك األول ُع ْد‪،‬‬ ‫وإلى مستقر روحك اُ ْس ُم‪،‬‬ ‫تطمئن نفسك‪ ،‬وتسكن روحك‪...‬‬ ‫***‬


‫وعواطف‪ ،‬والمعاني المنسوجة خمائل‬ ‫عل���ى األغص���ان واألوراق واألزه���ار‪،‬‬ ‫وأنف���اس الروح في الحي���اة‪ ...‬نظام فتان‬

‫يتحكم في كل مكان وكل شيء‪.‬‬

‫الوجدان لحظ ًة واحدة‬ ‫تأم َل‬ ‫ُ‬ ‫نعم‪ْ ،‬‬ ‫إن ّ‬

‫فأب َصر‪ ،‬لشهد في كل‬ ‫في كتاب الوجود ْ‬ ‫ٍ‬ ‫احا‪ ،‬وغنى‬ ‫م���كان‬ ‫فو ً‬ ‫َ‬ ‫النظام واالنس���جام ّ‬ ‫ً‬ ‫مدهشا‪ .‬وال تمس‬ ‫في الجمال والمعاني‬ ‫ً‬ ‫الحاج���ة إل���ى تحس���س ش���ديد الرهافة‪،‬‬ ‫فالقلب المش���حون بش���يء من المشاعر‬

‫يح���س كل لون وصورة وصوت و َن َفس‬

‫ونغما متلو ًنا بألوان الالنهاية‪ ،‬في‬ ‫ش���عرا‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫والفرح والحـزن‪ ،‬والحـق والحرية‪ ،‬مع‬

‫�إن �إعادة النظ��ر يف ت�صوراتنا‬ ‫عن النظ��ام‪ ،‬وجتدي��د الإميان‬ ‫ب���أن �إرادتنا هي التي �ستحمل‬ ‫االن�سجام الإلهي يف الوجود‬ ‫�إىل ع��امل الإن�ساني��ة‪ ،‬و�سحب‬ ‫الت��وازن ال��دويل �إىل ه��ذا‬ ‫ال َفلَ��ك‪ ،‬ه��و �أَ َج��لّ هدي��ة‬ ‫تقدمه��ا الأجي��ال املعا��صرة‬ ‫�إىل ع��وامل امل�ستقب��ل الآت��ي‪.‬‬

‫الرع���د المهيب كم���ا في تغري���د الطيور‬ ‫وزقزق���ة العصافير‪ ،‬وف���ي وجوه األزهار‬

‫احتساب وجود اآلخرين‪.‬‬

‫والبد أن تكون التربية التي تسمو به‬

‫من درجة إنس���ان "بالقوة"(‪ )1‬إلى إنس���ان‬ ‫"بالفع���ل"‪ ،‬ذات أف���قٍ الهوت���ي ومح���ورٍ‬

‫وهب���ي‪ .‬فينبغي أن تغ���ذى ثقافتنا الذاتية‬

‫بورود حدائقنا وعصارات جذور معانينا‬ ‫وأرواحنا‪ ،‬لكيال ُتر َفض من ِق َبل الوجدان‬ ‫االجتماعي العام والش���عور التاريخي‪...‬‬

‫وينبغي أن يتحقق العقد االجتماعي في‬

‫أرفع درجة حس���ب ظ���روف العصر في‬ ‫إط���ار مالحظ���ات الحق���وق والحريات‪،‬‬

‫لكي�ل�ا تفق���د قوته���ا وش���دتها‪ ،‬وتوقيرها‬ ‫وقيمتها‪ ،‬في ِش���باك التعارض والتساقط‬

‫الفاتن���ة كم���ا في أضواء صفحة الس���ماء الس���احرة‪ .‬ومن يدري‬

‫ال���ذي تعيش���ه مختلف القطاع���ات االجتماعي���ة‪ ،‬أو في الدائرة‬

‫وكيميائه وحياتياته وفضائياته‪.‬‬

‫مختوما بتواقي���ع الرضاء المتقابل‬ ‫اجتماعيا‬ ‫س���ندا‬ ‫العق���د هنا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬

‫ما يش���هده الذين يتقدمون خطوة إلى األمام في فيزياء الوجود‬ ‫فكل شيء يقول‪ :‬النظام‪ ...‬االنسجام‪ ...‬وكل شيء ينادي‬

‫بالمعاني الرحيبة في روح الوجود‪ .‬كل األش���ياء من همهمات‬ ‫البح���ر إلى ضرب���ات القفار الموحش���ة على أوتار أحاسيس���نا‪،‬‬

‫ومن الس���كون الوقور للتالل إلى ش���واهق ذرى الجبال‪ ،‬ومن‬ ‫دوي البح���ار الدائ���م إلى نعومة خمائ���ل الالنهاية المرفرفة في‬ ‫أعماق السماء‪.‬‬

‫الفاس���دة للتحيي���د الناجم م���ن التناقض‪ .‬ولي���س المقصود من‬ ‫في أس���فله‪ ،‬ب���ل المقصود‪ ،‬تعاقد الوج���دان المتيقظ إزاء القيم‬ ‫ومح���دد باحترام مفاهي���م الحق‬ ‫اإلنس���انية عل���ى عق���د مرتب���ط‬ ‫ّ‬

‫والحرية وحب الحقيقة‪.‬‬

‫وإن البناء القلب���ي والرحابة الروحية للفرد‪ ،‬وتحول إيمانه‬

‫عين حدود هذا العقد وإطاره‪.‬‬ ‫ومعتقداته إلى جزء من طبيعته‪ُ ،‬ي ّ‬

‫ال لمستواه اإلنساني‪.‬‬ ‫وبهذا الوجـه يكون العقد الوجداني معاد ً‬

‫فكي���ف ط���رأ الالنظ���ام ‪-‬ال���ذي نس���ميه الفوض���ى‪ -‬عل���ى‬

‫والمجتم���ع ال���ذي أف���راده قد تج���اوزوا ح���دود جس���مانيتهم‬

‫عرف���ت األرض الفوض���ى‪ ،‬ومن خلفه���ا الالأخالقية‪ ،‬مع بني‬

‫ه���ذا النظ���ام في عالم اإلنس���ان يتصف بالديموم���ة واألمل في‬

‫األرض‪ ،‬والنظ���ام ينبج���س في كل مكان وفي كل ش���يء؟ لقد‬ ‫البش���ر الذيـن لم يسلموا طوع عقولهم هلل‪ ،‬ولم يكبحوا جماح‬

‫إراداته���م نحو الش���ر‪ ،‬ولم يغنوا فيض مش���اعرهم نحو الخير‪.‬‬ ‫أنواع رغبات��� ِه مفتوحة‪ ،‬وثغرا ُته واس���عة ال‬ ‫مخل���وق‪،‬‬ ‫اإلنس���ان‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬

‫وعاشوا حياتهم القلبية والروحية‪ ،‬هو مجتمع أنموذج للنظام‪.‬‬ ‫عد من االنسجام الكوني المحيط بالوجود كله‪.‬‬ ‫المستقبل‪ ،‬ألنه ُب ٌ‬ ‫كربان س���فينة مهيمن عل���ى القيادة في‬ ‫الدول���ة ف���ي عالمنا‪ّ ،‬‬

‫أه���م المراكز الحيوية لل���كل المتكون من أج���زاء توحي بهذه‬

‫تق���ارن بم���ا ف���ي حي آخر‪ .‬فم���ن المعلوم أن ف���ي كل ثغرة من‬

‫وواج���ب قبط���ان كهذا‪ ،‬هو أن يس���تفيد‬ ‫األخ�ل�اق والفضائ���ل‪.‬‬ ‫ُ‬

‫عد موجي مختلف القوة من نـزعات التخريب وميول العبث‬ ‫ُب ٌ‬

‫إل���ى اله���دف م���ن غير اصط���دام بدوالي���ب الح���وادث‪ ،‬وذلك‬

‫ثغراته‪ ،‬كالحرص والحقد والكره والغضب والعنف والشهوة‪،‬‬ ‫ودوامات الفوضى‪ .‬وال مفر من س���ـقوطه في براثن نتائج غير‬ ‫قيد رغباتـه الس���ـيئة هذه بتربية حس���نة‪،‬‬ ‫مرضي���ة ما لم َيضبِط ُ‬ ‫وي ّ‬ ‫فيس���مو بأحاسـيس���ه اإلنس���انية‪ ،‬ويس���تجيب للعقد االجتماعي‬

‫الضمن���ي المكن���ون ف���ي وجدان���ه بخواط���ر الرغب���ة والطل���ب‪،‬‬

‫ويقيم العناصر التي تحت تصرفه بأحسن وجه‪ ،‬وأن يوصلهم‬ ‫ّ‬

‫بالتألي���ف بينه���م وبي���ن نظ���ام الكائن���ات‪ .‬وال يتص���ور مجتمع‬ ‫س���ليم ودول���ة راقية من أف���راد ُحرموا الفضيل���ة وجموع تحت‬

‫إغ���واء الالأخالقي���ة‪ .‬وكذلك‪ ،‬األم���ل في المس���تقبل من ركام‬ ‫الفوضويي���ن المعت ّلي���ن بأم���راض عدي���دة م���ن كل جانب ليس‬

‫‪3‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )37‬‬


‫المقال الرئيس‬ ‫فتح اهلل كولن‬

‫من الفوضى إلى النظام‪2-‬‬ ‫إن االنس���جام بين األش���ـياء والحوادث جبري‬

‫ال لم َي ْد ُخل ف���ي طاعة الروح‪ ،‬ولم‬ ‫والعق���ل المج���رد‪ .‬لكن عق ً‬

‫ومص���دره األعظم هو مخاف���ة اهلل ‪ ‬ومهابته‪.‬‬

‫كثيرا ما ينحرف إلى الفوضى‪.‬‬ ‫عنان السماء‪ً ،‬‬

‫واضط���راري‪ ،‬والنظ���ام بي���ن البش���ر إرادي‪،‬‬ ‫والنظام اسم جامع لألمان واالطمئنان واالنسجام االجتماعي‪،‬‬

‫ورج���اء المس���تقبل الزاه���ر‪ .‬فال ُينتظ���ر األمان واالنس���جام من‬ ‫الفوضى‪ ،‬وال المستقبل والعطاء من اختالط الحابل بالنابل‪.‬‬

‫ق���د يبدو ألول وهلة أن النظام أثر من آثار اإلرادة البديهية‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )37‬‬

‫‪2‬‬

‫جذور االلتفات إلى الشر‪ ،‬ولم ُي ْع ِل ميول الخير فيه إلى‬ ‫يجتث‬ ‫َ‬ ‫دائما ومنذ خلق العالم فيما عـدا اإلنسان من‬ ‫النظام يسـود ً‬

‫الكائنات‪ .‬االنس���جام ف���ي حركة ال���ذرات‪ ،‬والرونق في وجوه‬ ‫الزهور‪ ،‬والتآلف والتوازن بين الموجودات الحية وغير الحية‪،‬‬ ‫ش���ـعرا‬ ‫وغمزات النجوم في صفحة الس���ماء الفائضة في قلوبنا‬ ‫ً‬


‫المحتويات‬

‫ من الفوضى إلى النظام‪ /  2-‬فتح اهلل كولن (املقال الرئيس) ‬ ‫سفينة اإلنسانية  ‪ /‬حراء (ألوان وظالل) ‬

‫ القرآن والحقائق العلمية‪ ..‬محطات من التناغم العجيب  ‪ /‬د‪ .‬السيد حامد السيد (علوم) ‬ ‫الشباب وصناعة المستقبل‪ ..‬مآزق وآفاق  ‪ /‬أ‪.‬د‪ .‬عصام أمحد البشري (قضايا فكرية) ‬

‫ في انتظار قدومك  ‪ /‬حراء (ألوان وظالل) ‬ ‫األزمنة الثالثة  ‪ /‬أديب إبراهيم الدباغ (أدب) ‬

‫ أب وابن  ‪ /‬جنالء حمرم (تايخ وحضارة) ‬ ‫حبيبتي يا زهرة َّ‬ ‫"الاللَه"  ‪ /‬د‪ .‬حممد باباعمي (أدب) ‬

‫ ذات الرقبة الطويلة  ‪ /‬أ‪.‬د‪ .‬عرفان يلماز (علوم) ‬ ‫سك العملة في الحضارة اإلسالمية  ‪ /‬أ‪.‬د‪ .‬بركات حممد مراد (تاريخ وحضارة) ‬

‫ المآذن العثمانية‪ ..‬رشاقة وبساطة وسموق  ‪ /‬حممد حسن فخري (ثقافة وفن) ‬ ‫القصة وغرس القيم  ‪ /‬د‪ .‬أمحد خمتار مكي (تربية) ‬

‫ الوعي الحضاري واالنتقال إلى الفاعلية  ‪ /‬د‪ .‬جاسم سلطان (قضايا فكرية) ‬ ‫المسلمون وحقوق اإلنسان‪ /  2-‬أ‪.‬د‪ .‬أمحد عبادي (قضايا فكرية) ‬

‫ تأمالت معمارية في المسجد الكبير بـ"بورصة"  ‪ /‬د‪ .‬حيىي وزيري (ثقافة وفن) ‬ ‫الحوار اإلقناعي والمحاججة التربوية عند النورسي  ‪ /‬د‪ .‬محدادو بن عمر (قضايا فكرية) ‬

‫ يا رسول اهلل  ‪ /‬عبد اهلل صدقي (شعر) ‬ ‫يتيم القدر  ‪ /‬د‪ .‬رشيد كهوس (أدب) ‬

‫بين القلب والعقل‪ ..‬التوازن الصعب  ‪ /‬عبد العزيز بن عمر (قضايا فكرية) ‬ ‫العلم التجريبي الحديث وأثره على عقيدة المسلم  ‪ /‬حممد هاشم البشري (قضايا فكرية) ‬

‫ لغة العزم  ‪ /‬حراء (ألوان وظالل) ‬ ‫التوحيد واإلنسان  ‪ /‬د‪ .‬عبد احلميد عشاق (قضايا فكرية) ‬

‫ "حراء المعنى" تعزف "سمفونية البناء" بتونس الخضراء  ‪ /‬طه كوزي (أنشطة ثقافية) ‬ ‫السلطان عبد الحميد الثاني  ‪ /‬نور الدين صواش (حمطات علمية وحضارية) ‬

‫‪2‬‬ ‫‪4‬‬ ‫‪5‬‬ ‫‪9‬‬ ‫‪12‬‬ ‫‪13‬‬ ‫‪14‬‬ ‫‪16‬‬ ‫‪18‬‬ ‫‪23‬‬ ‫‪27‬‬ ‫‪29‬‬ ‫‪31‬‬ ‫‪34‬‬ ‫‪39‬‬ ‫‪43‬‬ ‫‪47‬‬ ‫‪48‬‬ ‫‪49‬‬ ‫‪51‬‬ ‫‪53‬‬ ‫‪54‬‬ ‫‪56‬‬ ‫‪62‬‬


‫االفتتاحية‬ ‫نصف الجنون‬

‫العالم في فوضوية فكرية‬ ‫منذ أن تفاقمت الحيرة الذهنية أو "نصف الجنون" الذي أدخل‬ ‫َ‬

‫عارمة وس���لوكية أخالقية هابطة‪ ،‬منذ ذلك الوقت والمفكرون اإلصالحيون يحاولون جهد‬

‫إمكانهم إعادة البشرية إلى شيء من الموازنة واالتزان‪ ،‬وذلك بإيقاظ قواها الذهنية الراقدة‪،‬‬

‫وحفز قواها الروحية الساكنة‪ ،‬وإعادة اإلنسان إلى الوسطية واالعتدالية‪ .‬هذا اإلنسان الذي‬ ‫بعيدا في ش���طط من القول وش���طط من الفع���ل‪ ،‬والموازنة بين‬ ‫تعتص���ره الحيرة‪ ،‬وتذهب به ً‬

‫العدد‪37:‬‬ ‫السنة التاسعة‬ ‫(يوليو ‪ -‬أغسطس) ‪2013‬‬

‫ويش���د‬ ‫جانبي���ه الم���ادي واإللهي‪ ،‬فالك���ون الذي نحن جزؤه األهم واألعظم‪ ،‬يضبطه النظام‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬ ‫���ره المي���زان‪ .‬وهذا هو ما يعالجه األس���تاذ "فتح اهلل كولن" ف���ي مقاله االفتتاحي المعنون‬ ‫أ ْص َ‬ ‫بـ"من الفوضى إلى النظام"‪.‬‬ ‫ثم ونحن نق ِّلب صفحات "حراء"‪ ،‬يطالعنا "عصام أحمد البشير" في مقاله القيم عن أثر‬ ‫يذكرنا ببعض األزمات‬ ‫الش���باب الناهض في صناعة مس���تقبل أممهم‪ ،‬غير أنه ال ينس���ى أن ّ‬

‫كثيرا ما تعترض طريقهم في مش���اريعهم النهضوية‪ ،‬ثم يعود ليربط ذلك‬ ‫والمعوق���ات الت���ي ً‬

‫كل���ه بمفه���وم " األمن القومي"‪ ،‬الذي يرى الكاتب أن الش���باب يمثل���ون الجانب األكبر من‬

‫يس���طرها قلم "محمد‬ ‫جوانب هذا األمن‪ ...‬صفحة مترعة بالمش���اعر ومفعمة باألحاس���يس‬ ‫ّ‬

‫حسسه لمكامن‬ ‫باباعمي" في "حبيبتي يا زهرة ال ّ‬ ‫الله"‪ ،‬وهي ّ‬ ‫تنم عن جمالية نفس الكاتب و َت ّ‬ ‫الجمال في الحياة والطبيعة‪.‬‬

‫علميا عن رقبة "الزرافة" وطولها‪،‬‬ ‫وعن" ذات الرقبة الطويلة" يكتب "عرفان يلماز" بح ًثا‬ ‫ًّ‬

‫سر ذلك وأهميته في إعانتها على التأقلم مع الحياة الطبيعية التي تعيش فيها‪ ...‬وإذا‬ ‫وعن ِّ‬ ‫ال على قوة هذه الدولة ومكانتها بين الدول‪ ،‬فـ"بركات محمد‬ ‫كان���ت ق���وة ُعملة أي دولة دلي ً‬

‫"س ّك العملة في الحضارة اإلسالمية" ومدلوالت ذلك من الناحية الثقافية‬ ‫مراد" يكتب عن َ‬

‫يذكرنا بأهمية‬ ‫والحضارية والسياسية ألمم اإلسالم‪ ...‬وأما "أحمد مختار مكي"‪ ،‬فقد كتب ّ‬

‫القصص الهادفة في ترسيخ القيم والمثل األخالقية والسلوكية عند األطفال‪ ،‬وأهمية ذلك‬ ‫في غرس هذه القيم في نفوسهم بشكل قصصي ممتع‪.‬‬

‫وع���ن الوع���ي الحضاري واالنتقال به من مرحلة الوعي الفكري إلى مرحلة الفاعلية في‬

‫مبي ًنا أسس هذا الوعي وطريقة تكوينه‬ ‫النباء الحضاري‪ ،‬فقد كتب عن ذلك "جاسم سلطان" ّ‬

‫ثم تفعيله في المجتمع واألمة‪.‬‬

‫وف���ي بحثه الش���يق يكت���ب "أحمد عب���ادي"‪" ،‬المس���لمون وحقوق اإلنس���ان"‪ ،‬وهو تتمة‬

‫قراء "حراء"‬ ‫للج���زء األول م���ن ه���ذا المقال‪ ،‬وهو بحث جي���د ككل أبحاثه التي يتحف به���ا ّ‬

‫بين وقت وآخر‪ ...‬وعن صفحة من صفحات فكر "النورسي" رحمه اهلل‪ ،‬يتحدث "حمدادو‬ ‫ب���ن عم���ر" عن اعتم���اد الحوار اإلقناع���ي في فكر "النورس���ي"‪ ،‬مع إيراد أمثل���ة ونماذج من‬

‫دائم���ا‪ ،‬يكتب عن إحدى َم َب ّرات‬ ‫ه���ذه الح���وارات‪ ...‬و"نور الدين صواش" وكما هي عادته ً‬

‫السلطان "عبد الحميد الثاني" في بعض رعاياه‪.‬‬

‫ونبعا للروح‬ ‫وختاما نسأل اهلل تعالى أن يجعل هذا العدد من "حراء" بمقاالته ً‬ ‫ً‬ ‫زادا للفكر ً‬

‫والوجدان‪.‬‬


‫العدد‪ / 37 :‬السنة التاسعة ‪( /‬يوليو ‪ -‬أغسطس) ‪2013‬‬ ‫مجلة علمية فكرية ثقافية تصدر كل شهرين من إسطنبول‬

‫‪w w w. h i r a m a g a z i n e . c o m‬‬

‫النبوءة الصادقة‬ ‫يم في لهبها نقيم‪ ..‬كاويات حارقات‪ ،‬جمرات لظى‪..‬‬ ‫ِق ٌ‬ ‫وقبضا عليها نزيد‬ ‫أيدينا عليها قابضات‪ ..‬عنها ال نتخلّى‪ً ..‬‬ ‫أرواحنا لها فداء‪ ..‬فيها النجاة والفوز والفالح‪..‬‬ ‫بشرى األمين‪ ..‬الصادق المصدوق‪..‬‬ ‫به آمنا‪ ..‬وإلى بشراه اطمأننّا‪...‬‬ ‫***‬

‫من الفوضى إلى النظام‪2-‬‬

‫المسلمون وحقوق اإلنسان‪2-‬‬

‫"حراء المعنى" بتونس الخضراء‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.