الصبر المعطاء صبرا يا صاحبي ..ال َ حال يدوم، صبرا ً ً شتاء وجلي َد سيبقى.. وال َ إنما هي دورة حياة ..فإذا بالربيع قُبالتَك، عطرا، يفوح ورًدا ،ويضوع ً ويتألق جماالً ،ويشيع دفئًا.. ***
38
• سياحة مضنية في قلب حزين ..وروح جريح..
• فكر مِ ن ر َِحم المعاناة مولود ..قرآني المنبع ..إنساني التطلع..
تجديدي في المفاهيم واإلدراكات!..
مركز التوزيع فرع القاهرة 7 :ش البرامكة ،الحي السابع ،مدينة نصر -القاهرة /مصر
تليفون وفاكس +20226134402-5 :
الهاتف الجوال +201000780841 :
w w w. d a r a l n i l e . c o m
التصور العام
جملة علمية فكرية ثقافية تصدر كل شهرين عن:
• حراء جملة علمية فكرية ثقافية تعىن بالعلوم الطبيعية واإلنسانية واالجتماعية وحتاور أسرار النفس البشرية وآفاق الكون الشاسعة باملنظور القرآين اإلمياين يف تآلف وتناسب بني العلم واإلميان ،والعقل والقلب ،والفكر والواقع. • جتمع بني األصالة واملعاصرة وتعتمد الوسطية يف فهم اإلسالم وفهم الواقع ،مع البعد عن اإلفراط والتفريط. • تؤمن باالنفتاح على اآلخر ،واحلوار البناء واهلادئ فيما يصب لصاحل اإلنسانية. • تسعى إىل املوازنة بني العلمية يف املضمون واجلمالية يف الشكل وأسلوب العرض ،ومن مث تدعو إىل معاجلة املواد مبهنية عالية مع التبسيط ومراعاة اجلوانب األدبية واجلمالية يف الكتابة.
صاحب االمتياز
شروط النشر
املشرف العام
• أن يكون النص املرسل جديدا مل يسبق نشره. • أال يزيد حجم النص على 2000كلمة كحد أقصى ،وللمجلة أن تلخص أو ختتصر النصوص اليت تتجاوز احلد املطلوب. • يرجى من الكاتب الذي مل يسبق له النشر يف اجمللة إرسال نبذة خمتصرة عن سريته الذاتية. • ختضع األعمال املعروضة للنشر ملوافقة هيئة التحرير ،وهليئة التحرير أن تطلب من الكاتب إجراء أي تعديل على املادة املقدمة قبل إجازهتا للنشر. • اجمللة غري ملزمة بإعادة النصوص إىل أصحاهبا نشرت أم مل تنشر ،وتلتزم بإبالغ أصحاهبا بقبول النشر ،وال تلتزم بإبداء أسباب عدم النشر. • حتتفظ اجمللة حبقها يف نشر النصوص وفق خطة التحرير وحسب التوقيت الذي تراه مناسبا. تعب بالضرورة عن رأي اجمللة. تعب عن آراء ُكتَّاهبا ،وال رِّ • النصوص اليت تنشر يف اجمللة رِّ مجا إىل أي لغة أخرى، • للمجلة حق إعادة نشر النص منفصلاً أو ضمن جمموعة من البحوث ،بلغته األصلية أو مرت ً دون حاجة إىل استئذان صاحب النص. • جملة حراء ال متانع يف النقل أو االقتباس عنها شريطة ذكر املصدر. يرجى إرسال مجيع املشاركات إىل هيئة حترير اجمللة على العنوان اآليت:
hira@hiramagazine.com YEMEN دار النشر للجامعات الجمهورية اليمنية ،صنعاء ،الخط الدائري الغربي، أمام الجامعة القديمة Phone: +967 1 440144 GSM: +967 711518611 ALGERIA Bois des Cars 1 Villa Nº68 Dely Brahim GSM: +213 770 26 00 27 SUDAN مركز دار النيل ،مكتب اخلرطوم أركويت مربع 48منـزل رقم - 31اخلرطوم -السودان Phone: 0024 999 559 92 26 - 0024 915 522 24 69 hirasudan@hotmail.com JORDAN شركة زوزك/مشيساين شارع عبد احلميد شرف ،بناية رقم61: عمان/األردن. Phone: +962 656 064 44 GSM: +962 775 935 756 hirajordan@woxmail.com UNITED ARAB EMIRATES دار الفقيه للنشر والتوزيع ص.ب 6677 .أبو ظبي Phone: +971 266 789920 MAURITANIA Phone: +2223014264
USA Tughra Books 345 Clifton Ave., Clifton, NJ, 07011, USA Phone:+1 732 868 0210 Fax:+1 732 868 0211 SAUDI ARABIA الوطنية للتوزيع Phone: +966 1 4871414 املكتب الرئيسي :شارع التخصصي مع تقاطع شارع األمري سلطان بن عبد العزيز عمارة فيصل السيار ص.ب 68761 :الرياض11537 : اجلوال00966504358213 : saudia@hiramagazine.com abdallahi7@hotmail.com Phone-Fax: +966 1 2815226 MOROCCO الدار البيضاء 70زنقة سجلماسة Société Arabo-Africaine de Distribution, )d'Edition et de Presse (Sapress 70, rue de Sijilmassa, 20300 Casablanca / Morocco Phone: +212 22 24 92 00 EGYPT 37شارع د .عبد الشافي محمد -الحي السابع ،مدينة نصر -القاهرة. هاتف+201119482609 - +201065523089 : hiraegypt@gmail.com SYRIA GSM: +963 955 411 990
Işık Yayıncılık Ticaret A.Ş İstanbul / Türkiye
مصطفى طلعت قاطريجي أوغلو
نوزاد صواش
nsavas@hiramagazine.com
رئيس التحرير هانئ رسالن
مدير التحرير أجري أشيوك
املخرج الفين مراد عرباجي
املركز الرئيس HIRA MAGAZINE Kısıklı Mah. Meltem Sok. No:5 34676 Üsküdar İstanbul / Turkey Phone: +902163186011 Fax: +902164224140 hira@hiramagazine.com
مركز التوزيع 7ش الربامكة -احلي السابع -م.نصر/القاهرة تليفون وفاكس+20226134402-5 : اهلاتف اجلوال +201004871038 : مجهورية مصر العربية
نوع النشر جملة دورية دولية
Yayın Türü Yaygın Süreli
الطباعة
رقم اإليداع
1879-1306
لالشرتاك من كل أحناء العامل pr@hiramagazine.com
نداء إسطنبول إن العلماء واألساتذة والباحثين القادمين من أكثر من 80دولة ،والمجتمعين في إسطنبول خالل يومي السبت
واألح���د 17و 18م���ن جم���ادى اآلخرة 1434هـ الموافق لـ 27و 28م���ن أبريل 2013م في إطار المؤتمر الدولي
الذي نظمته مجلة "حراء" ومجلة "يني أميت" بعنوان "اإلجماع والوعي الجمعي" ،والذي جاء انعقاده نتيجة لعدد نظ���را ألهمية هذا األصل العظي���م ومركزيته في حياة األم���ة ،وبعد أن تباحثوا م���ن اللق���اءات التحضيري���ة من قبلً ،
أص���ل اإلجم���اع الركين ،وتجلياته العلمية والعملية بمختلف مراحلها عبر تاريخها الحافل ،واس���تبانوا اإلمكانات الهائلة التي يكتنزها إعماله في المناحي الحضارية ،والثقافية ،والتش���ريعية ،والتنظيمية ،واالجتماعية ،والسياس���ية، والحياتية ،ينادون بما يلي:
-1تأس���يس تنس���يقية بإس���طنبول ،تعن���ى بتعمي���ق البحث والنظر في قضاي���ا اإلجماع في األم���ة ،وتتواصل مع
مختلف المؤسس���ات والمراكز العلمية ،والفقهية ،والبحثية ،والحضارية ،والجامعية في العالم اإلسالمي ،وتكون لها قوة اقتراحية إجماعية حول مختلف قضايا األمة.
-2أن تش���رف ه���ذه التنس���يقية على تحضير سلس���لة من المؤتمرات الس���نوية المتكاملة ،التي يت���م فيها تدقيق
ال خالل هذا المؤتمر المبارك. وتعميق القضايا التي جاء ذكرها إجما ً
-3أن تشرف هذه التنسيقية على تحقيق المخطوط من أمهات الكتب عن أصل اإلجماع وحوله ،وإعادة طبع
المطبوع منها ،مرفقة بدراسات إضافية ترصد اإلضافات النوعية التي في كل منها.
-4إصدار بحوث ودراسات جديدة حول أصل اإلجماع ،وفي مقدمتها أعمال هذا المؤتمر المبارك .وكذلك
جميعا كفكرة عبقرية تجمع بين فوائد اإلجماع األصولي والحاجة الملحة ألداة الوعي الجمعي الذي نحتاج إليه ً
معاصرة في جميع المجاالت.
-5تجديد ما انفصل من وصل في فهومنا وممارستنا بين اإلجماع وأصوله في القرآن الكريم والسنة النبوية
ال. عدة عملية وظيفية لتناول مشكالت األمة حاضرا ومستقب ً الشريفة وممارسات الراشدين ،واتخاذ هذا األصل ُّ ً
واهلل ولي التوفيق
63
السنة التاسعة -العدد (2013 )38
باإلضاف���ة إل���ى الدكت���ورة "نادية مصطف���ى" أس���تاذة العالقات
عنوان "نحو جيل اإلجماع".
من وحدة المصدر إلى وحدة التنوع".
الفرقة الدينية ،تهديد لهذا األصل العظيم في الشريعة اإلسالمية، ف َأ ْم���ر الرس���ول بالتزام الجماع���ة ال يعني اجتم���اع األبدان،
الدولية بجامعة القاهرة في مصر ،بمحاضرة عنونتها بـ"اإلجماع إذ تن���اول الدكت���ور "أحم���د عب���ادي" العالق���ة م���ع القرآن
الكريم بالتحليل والنقد ،إذ ّبين أنها ال يجب أن تكون سطحية
فبين الدكتور "عبد الحميد مدكور" ،أن التعصب المذهبي و ّ
ب���ل االلتزام بالنس���ق الحضاري الموح���د ذو الهدف الواضح.
فعالة ،بل محص���ورة ف���ي مقص���د التبرك به ،ألنه���ا عالقة غي���ر ّ
وتطرق الدكتور "عبد المجيد النجار" إلى أس���س التشريع
آيات���ه وأحكام���ه وضوابطه واضحة في حياة المس���لمين ،وهذا
وجب أن تصطبغ بصبغة األحكام الشرعية الشاملة ،ألن الحياة
حضاريا تتجلى ال وجب أن يكون التعامل مع كتاب اهلل ،تعام ً ًّ
ركنا فوضح أنها أساسيا فيهاّ .. عتبر اإلجماع ً وسن القوانين ،التي َت َ ًّ
لن يتأتى إال بثني الركب وتقويس الظهور ،من أجل استخراج
تؤخ���ذ في كلياته���ا ،ال تجزيء فيها وال تفريق بين المجاالت.
وشفقة ال بإقصاء وغرور.
له ّم األمة، وس���اع م���ن أجل اجتماعه���ا وتوافقها.. ٍ كل حام���ل َ
كن���وز الق���رآن ،لتنوي���ر اإلنس���انية به���ا ،بفكر ش���مولي وبرحمة
وعرج الدكتور "محمد باباعمي" من الجزائر ،إلى ما يرومه
وواصل���ت الدكتورة "نادية مصطفى" في نفس الس���ياق ،إذ
فرسم مالمح جيل اإلجماع المستقبلي؛ فال مفر وال مناص من
ال ّبينت أن القرآن الكريم يورد التعدد واالختالف باعتباره أص ً ف���ي الكون وفي البش���رية ،ل���ذا فإن االجته���اد والمرونة ،أمران تابعان لذلك بل وحتميان.
وبع���د اس���تراحة قصي���رة ،تواصل���ت أش���غال المؤتم���ر في
جلس���ته العلمية الثانية التي ترأستها الدكتورة "نادية مصطفى"،
وش���ارك فيه���ا كل م���ن األس���اتذة؛ الدكتور "س���يف الدين عبد الفت���اح" م���ن مص���ر ،بمحاض���رة عنوانه���ا "مؤسس���ة اإلجماع:
الش���ورى والديمقراطية" ،والدكتور "سمير بودينار" مدير مركز
الدراس���ات اإلنسانية واالجتماعية بوجدة المغرب ،بمحاضرة
ع���ن "منظومة القيم والبناء المجتمع���ي لإلجماع" ،ثم الدكتور وجه" عميد جامعة ج�ل�ال بيار كلية اإللهيات "عب���د الحكيم ُي َ تركيا ،بمحاضرة عن "ثقافة اإلجماع والبعد العرفاني". فاتف���ق المحاض���رون عل���ى أن األم���ة بحاج���ة للخ���روج
باإلجم���اع من الضيق الفقهي ،إلى رحابة التفس���ير الش���مولي، عل���ى أن يعالج الموضوع في إطاري���ن :مقاصدي وقيمي كما
يوضح الدكتور "سمير بودينار".
هذا وقد ترأس الجلس���ة العلمية األخيرة الدكتور "حمدي
ونش���طها دون���دورن" من جامعة الفات���ح كلية اإللهيات تركياّ ،
الدكت���ور عب���د الحمي���د مدكور م���ن جامع���ة القاه���رة كلية دار
العل���وم مصر ،متحد ًثا عن "فقه االئتالف في ظل واقع متعدد المرجعي���ات" ،والدكت���ور عب���د المجي���د النجار" األمي���ن العام للمجل���س األوروب���ي لإلفتاء ،بموضوع تحت عن���وان "مراعاة وأخي���را الدكتور "محمد الس���ياق وأثره في فاعلي���ة اإلجماع"، ً باباعم���ي" مدي���ر معه���د المناه���ج بالجزائ���ر ،بمحاضرة تحت السنة التاسعة -العدد (2013 )38
62
ال االهتمام بالجيل الناشئ ،الذي وسلوكا سيطبق اإلجماع فع ً ً ّ
كالم���ا يئن تحت فم���ن غيرنا يمس���ح دمعة طف���ل ّ ال ً وتنظي���راَ ، ً ومن س���وانا ُيعلي راية المحبة والمودة وطأة الجوع والحربَ ،
والتواف���ق ..إنن���ا إن لم نفعل ،ال معن���ى لحديثنا عن اإلجماع.. سببا في مستقبل التمكين لهذا الدين، فلنحرص على أن نكون ً
سديدا. ال تفاديا للعذاب األليم ،ولنتق اهلل ولنقل قو ً ً ً
بالدع���وة القلبي���ة الخالص���ة لتقوى اهلل ،وابتغاء الس���داد في
القول والعمل ،اختتمت الجلس���ات العلمية لمؤتمر "اإلجماع والوع���ي الجمعي" ،وآنت لحظات انتهاء رحلة الفهم والوعي والت���داول العلم���ي ،والجلس���ات العلمي���ة الفكري���ة ،توجته���ا
الجلسة الختامية التي ُتلي فيها البيان الختامي للمؤتمر ،الذي ضم خطوات وتوصيات عملية ت َف ّعل موضوع المؤتمر ميدانيا، ًّ
إذ يس���عى القائم���ون على تحقيقها إلى وض���ع اللبنات األولى
لترس���يخ ثقافة اإلجماع تنش���ئ ًة وتربي ًة ودعو ًة وسلوكا ،وتكون ً نقط���ة التق���اء آراء المفكرين واجتهادات العلم���اء والفقهاء من شتى أقطار العالم اإلسالمي.
التض���رع إلى اهلل ،وبــأنفاس الح���ب التي ترافق كل بدم���وع ّ
ش���هقات وزفرات الداعين ،وبعزائم الس���ائرين في سبيل رفع ال -على أن راي���ة الس�ل�ام في العالمي���ن ،اختتم المؤتمر -ش���ك ً شعاعا ال -يتجسد تبقى معانيه وروحه تسري في النفوس -فع ً ً
يرشد األمة ،وينقذها من ربقة االنشقاق إلى آفاق االتفاق. (*) كاتب وصحافي جزائري.
فضيلة الشيخ بدر الدين أحمد بن حمد الخليلي ،المفتي العام لسلطنة عمان.
أ.د .محمد كورمز ،رئيس الشؤون الدينية /تركيا.
بع���د اس���تراحة للتواص���ل والتع���ارف والتالق���ي -فالمش���اريع
اإلس�ل�امية بمؤسس���ة قطر ،بمحاضرة ح���ول "إجماع الصحابة ِ مؤسسا لإلجماع المنشود اليوم". ّ إذ غ���اص كل من الحاضرين في هذه الجلس���ة العلمية في
الديني���ة الس���ابق م���ن تركي���ا ،ويش���ارك فيها كل من األس���اتذة
إس���قاطها وتكييفه���ا ،بم���ا يتواف���ق نظري���ا عل���ى األق���ل -معًّ
الحضاري���ة تولد من رح���م العالقات الوطيدة ،والمحبة القلبية
الصافي���ة -ع���اد المش���اركون ،ليش���هدوا بداية الجلس���ة العلمية
األول���ى برئاس���ة الدكتور "علي بارداك أوغلو" رئيس الش���ؤون
األفاض���ل؛ الدكت���ور "إبراهيم كافي ُدو ْن َم���ز" رئيس جامعة 29
ماي���و بإس���طنبول ،بمحاض���رة تحمل عن���وان "أص���ل اإلجماع
ومكانت���ه بين األدلة الش���رعية" .والدكتور "محم���د كمال إمام"
من جامعة اإلس���كندرية بمصر ،بمحاضرة حول "عصمة األمة ِ مؤسس���ة لثقافة اإلجم���اع" .والدكتور "يونس أبايدن" باعتبارها ّ م���ن جامع���ة َأ ْرجياس كلي���ة اإللهي���ات بتركي���ا ،بمحاضرة عن "اإلجماع باعتباره آلية للرقابة الشرعية".
حي���اة الصحابة ،واس���تخرجوا منه���ا المعاني والعب���ر محاولين
مقتضي���ات العص���ر ،إذ أورد الدكت���ور "طال���ب ُت ْرج���ان" أن "اإلجم���اع" ه���و وض���ع لمعايي���ر َح ّدي���ة ف���ي فه���م المص���ادر
األساس���ية من قرآن وس���نة ،إذ ال يمكن تجاوزها أو تجاهلها. وبي���ن الدكت���ور "بش���ير كوزوب ْن ِلي" أن عصر عم���ر بن الخطاب َ ّ ،تميز بالشورى واإلجماع ،إذ كان َيعتبر استشارة الصحابة ف���ي القضاي���ا األساس���ية والمصيري���ة لألمة اإلس�ل�امية .ولفت الدكتور "محمد الشنقيطي" انتباه الحاضرين إلى أنه تم التركيز
وتمحورت محاضرات الجلسة العلمية األولى على أهمية
كثيرا -في الدراس���ات التي تتناول "اإلجماع" موضوعا -على ً ً
ج���زء م���ن البنيان الحضاري لألمة اإلس�ل�امية ..فال يمكن بناء
بـ"التأمر"، وموض ًحا أن من صفات المجتمع الراش���د ما سماه ّ ُّ
اإلجماع ومدى تأثيره حتى في تفاصيل حياة المس���لمين ،ألنه
حضارة متكاملة ،إال إذا كان لإلجماع مكانة كبرى في نفوس
مبي ًنا الخليفة الراش���د ،لكن ً غالبا ما ُيتناسى المجتمع الراشدّ ، التحكم في خيارات األمير والمساهمة في صنعها. أي ّ
علماء األمة وفي أفعالهم ،وأنه ال مناص من التمكين لإلجماع مؤس ِس ًّيا ،فعصرنا هذا عصر مؤسسات وعمل جماعي ال عصر َّ العبقرية الفردية والرجال الخارقين.
أصوله ومبادئه ،مبتغين تحقيق أفعال حضارية ولودة ،تس���اهم
الرئيس السابق للهيئة العليا للشؤون الدينية في تركيا ،وحاضر
من شأنه أن يوقد شمعة األمل في نفوس بشر حائرين.
ثم ترأس الجلس���ة العلمي���ة الثانية الدكت���ور "حمزة آكتان"
فيه���ا كل من األس���اتذة؛ الدكت���ور "طالب ُت ْرج���ان" من جامعة
س���ليمان دمي���رل كلية اإللهي���ات بتركي���ا ،بمحاضرة موس���ومة كوزوب ْن ِلي" بـ"أهمية ومكانة إجماع الصحابة" .والدكتور "بشير َ من جامعة أتاتورك كلية اإللهيات بتركيا ،في محاضرة بعنوان
الع ْمري". وأخيرا "تطبيقات الش���ورى واإلجماع في النم���وذج ُ ً الدكت���ور "محم���د المخت���ار الش���نقيطي" م���ن كلية الدراس���ات
انقضى اليوم األول من المؤتمر ،فافترق الجمع حاصدين
حب���ا ومودة، وفك���را متواف ًقا في م���ن ثم���ار التوافق واإلجماعًّ ، ً في رأب ما باألمة اإلسالمية من صدع ،و تضيء بصيص أمل أش���رقت ش���مس اليوم الثاني من المؤتمر ،مؤذنة بتواصل
الرحل���ة نح���و إدراك "اإلجم���اع" وتحقيق "الوع���ي الجمعي"،
اس���تهلت بالجلس���ة العلمية األولى برئاس���ة الدكتور "س���عاد إذ ُ ِي ْلدري���م" م���ن جامعة الفاتح كلية اإللهيات بتركيا ،وبمش���اركة
كل م���ن األس���اتذة؛ الدكت���ور "أحمد عبادي" م���ن المغرب ،إذ ِ مؤس ًسا إلجماع األمة اليوم" عنوا ًنا لمحاضرته، اختار "القرآن ّ
61
السنة التاسعة -العدد (2013 )38
أ.د .عصام البشير ،رئيس مجمع الفقه اإلسالمي /السودان.
د .محمد باباعمي ،مدير معهد المناهج ،الجزائر العاصمة /الجزائر.
أساس���يا للوصول إلى مجتمع إس�ل�امي تس���وده روح مدخ�ل�ا ً ًّ ���د عل���ى ي���ده الش���يخ العالم "راش���د التواف���ق واإلجم���اعَ . وش ّ الغنوش���ي" م���ن تونس ،في رس���الة بعثه���ا للحاضري���ن -قرأها بالنياب���ة عن���ه الدكتور عب���د الحميد النجار -إذ ّبي���ن فيها أهمية حبيس توس���يع المس���احة الداللي���ة لـ"اإلجماع" لك���ي ال يبقى َ ونوه إلى أن الجهود التفس���يرات والدالالت الفقهية فحس���بّ ، المبارك���ة التي س���يبذلها العلماء في المؤتم���ر وبعده ،هي التي س���تعيد األمل لألمة اإلس�ل�امية ،وتبعد الفرقة عنها والتشتت، بل وتدفع بها إلى الفعل الحضاري إن شاء اهلل. من الهند إلى س���لطنة عمان ومن ثم إلى أفغانس���تان ،انتقل الحاض���رون بانتباهه���م وتركيزه���م بي���ن كلم���ات العلم���اء ،إذ تحدث الش���يخ الدكتور "أبو القاسم النعماني" رئيس الجامعة اإلس�ل�امية دار العلوم في الهن���د ،عن أهمية اإلجماع في حياة مقد ًما أمثلة من عصر الخلف���اء وحياة الصحابة ..وأكد األم���ةّ ، الش���يخ "أحم���د بن حم���د الخليلي" مفتي س���لطنة عمان ،على وج���وب التكام���ل والتع���اون ول���و أوان االخت�ل�اف ،وأن���ه ال مج���ال وال وقت اليوم للتنافر والتناحر والتش���تت ،فعلى األمة أن تح���رص عل���ى الوحدة كحرصها عل���ى التوحيد ،وأن تلتزم األم���ر بالمع���روف والنهي عن المنك���ر ،فذلك الت���زام بالهدى والوح���دة ..ثم تبع���ه الدكتور "يوس���ف نيازي" وزير اإلرش���اد والح���ج واألوق���اف م���ن أفغانس���تان ،بكلمة أكد فيه���ا على أن األم���ة اإلس�ل�امية إذا اجتم���ع علماؤها ،فإنه���م يجتمعون بغية الخير والسداد ال للغي والضالل. وبع���د جول���ة فكري���ة جابت الب�ل�اد العربية ممثل���ة في أكبر ���دت الرحال عود ًة إلى تركيا ،لتس���تقر عند كلمات علمائهاُ ،ش ّ فحمد الدكتور "محمد كورمز" رئيس الشؤون الدينية التركيةَ ، اهلل وأثن���ى عليه ،ثم طاف بالحضور بين معاني عنوان المؤتمر
"اإلجم���اع والوع���ي الجمعي" من خالل حياة صحابة رس���ول فبين أن إجماع الصحابة ،فيه الكثير مما يمكن دراسته اهلل ّ ، نموذجا ،فمرجع أمور المس���لمين في عصر الصحابة واتخاذه ً كان لإلجم���اع ،إذ كان���وا رض���ي اهلل عنه���م أجمعين ،يعيش���ون اك ْم و َك َذ ِل َ ���ك َج َع ْل َن ُ المقص���د والمبتغى م���ن قول اهلل تعال���ىَ : ���طا(البقرة ،)143:أي األمة "المركز" ،األمة التي تش���كل ُأ َّم ًة َو َس ً
السنة التاسعة -العدد (2013 )38
60
وبي���ن للحاضرين أن نقط���ة توازن دول���ي بين جميع األم���مّ .. يمكنهم من دراسة الكثير من القضايا التح ّلي بالوعي الجمعي ّ الحساسة في حياة البشر اليوم. تبين للحاضري���ن أثناء تجوالهم من كلمة افتتاحية إل���ى هنا ّ إل���ى أخرى ،المعاني العامة لمفهوم "اإلجماع" وأبعاد "الوعي الجمعي" ،لتأتي المحاض���رة االفتتاحية للدكتور "علي جمعة" مفت���ي الدي���ار المصري���ة الس���ابق ،لتزيح الغم���وض عن بعض القضايا المحورية المتعلقة بموضوع المؤتمر ،من حيث داللة المصطل���ح وأبع���اد توظيف���ه وتفعيله ،فأورد فيه���ا أن اإلجماع ممتل���ك للحجية والمصدري���ة ما دام محت���واه متص ًفا باالتفاق الت���ام بي���ن المجتهدي���ن ،أم���ا إن ش���ابه بع���ض االخت�ل�اف من بعضهم ،فإنه يتحول من المصدرية إلى االس���تئناس ،والشرط مبنيا على العلم األساس���ي في ه���ذا االعتبار ،أن يكون ال���رأي ًّ واالجتهاد ال عن جهل وادعاء. ث���م رك���ز الدكتور "علي جمعة" عل���ى أنه ليس من الحكمة حصر "اإلجماع" على أمور الشريعة ،إذ من خصائصه أنه عام وبين عل���ى أم���ور الحياة كله���ا بمختلف علومه���ا ومجاالتهاّ .. أن مس���ائل اإلجم���اع معدودة ،ومس���ائل اختالف ال���رأي كثيرة وعدي���دة ،فللحف���اظ على وح���دة األمة ،وجب احت���رام الرأي غالبا ما يك���ون االختالف في األمور المتغيرة المخال���ف ،ألنه ً ال في الثابت منها.
والمربين ،فعليهم أن ينش���ئوا -4الداع�������ي التربوي :وهو دور العلماء ّ ظية األجيال القادمة على اإلخاء والود والمحبة ،وعليهم َك ْب ُح ِجماح َ الت ْش َ وي ِح ّلوا محلها معاني الوئام واالجتماع. َّ والت َش ْر ُنق ُ ملبين وتوالت كلمات السادة العلماء القادمين من كل حدب وصوبّ ، نداء الجمع واإلجماع ..فمن السودان قدم الدكتور "عصام البشير" الذي أك���د بحرقة في كلمته ،على أن كلمة "الوعي" الواردة في عنوان المؤتمر،
ت���دل عل���ى االنتباه واليقظة بعد الغفلة ،وبالتالي فإن الوعي باإلجماع يأتي تحقي ًق���ا لمفه���وم األمة "الش���املة" التي تنش���د "الوح���دة" وتعتب���ر التعددية والتنوع من منطلق قاعدتين ،هما وحدة الخالق وتعدد الخلق.
أ.د .سيف الدين عبد الفتاح ،جامعة القاهرة /مصر.
وم���ن الوالي���ات المتح���دة األمريكية جاءت رس���الة األس���تاذ "فتح اهلل
الش���مل ،وحا ّثة على حمل كول���ن" ،عابق���ة بأريج الوف���اق ،وداعية إلى َل ّم َّ هم األمةِ ، فم َّما جاء فيها: ّ ال بديلة "وال���كل يأمل أن يقدم علماؤنا في هذا االجتماع البالغ ،حلو ً
لمعضالتن���ا المزمنة ،مس���تقاة من مصادرنا األساس���ية" ،وفي س���ياق َت ْبيِين وتجلي���ة موط���ن ال���داء ،ومكمن معاناة اإلنس���انية عبر التاري���خ ،ثم تحديد مالم���ح الح���ل واالنعتاق يقول األس���تاذ فتح اهلل" :وكما ه���و معلوم لدى ّ
جمعك���م الكريم ،فإن النظم المفروضة على اإلنس���انية قاطبة ،خالل قرن ش���يئا ول���م تزدها إال اضطرابا وش���قاء.. أو قرني���ن أخيري���ن ،ل���م ُت ْغ ِن عنها ً ً
د .سمير بودينار ،مدير مركز الدراسات والبحوث اإلنسانية واالجتماعية /المغرب.
فلذل���ك نعتق���د جازمي���ن أن���ه إن كان هن���اك جو يس���مح لبني اإلنس���ان أن
يتن ّفس���وا منتعش���ين ،فما هو إال جو اإلس�ل�ام ..وهذا الجو لم يزل كالبحر
قط باألدران ال���ذي ال تس���كن أمواجه، يتكدر ّ نديا عمي ًق���ا ،ال ّ طاه���را ً أبداًّ ، ً
الفكري���ة ألي زم���ان أو م���كان .لكن الوص���ول إليه وتمام االس���تفادة منه، وتس���ديدا لزاوي���ة النظر، تثبيتا ِل ّلن ّية، الهمة ً دائم���ا يتطل���ب ً ًّ ظ���ل ً وعل���وا في ّ وثبا ًت���ا في المثابرة ،وصد ًقا في التوجه ،وثقة باألس���س واألصول" ..وعن التناول األمثل للمصادر األساس���ية في التش���ريع اإلس�ل�امي ،واالس���تفادة منه���ا وتفعيلها في حياة اإلنس���ان المس���لم ،يقول األس���تاذ فتح اهلل" :وإني
ش���خصيا أعتقد جازما بأننا إذا تناولنا مصادرنا األصلية والفرعية لثقافتنا، ً ًّ
الشيخ محمد سعد أبو بكر ،رئيس المجلس األعلى للشؤون اإلسالمية /نيجيريا.
من القرآن والس���نة واإلجماع والقياس واالستحس���ان وغيرها ،واس���تفدنا
منها على غرار المخاطبين بها في القرون األولى ،فإننا سنتغ ّلب على كثير من معضالت عصرنا المس���تعصية على الحل ،وستنكس���ر كثير من أمواج
األزم���ات والدواهي المتالطمة التي تنتظرنا في المس���تقبل ،أو ستتالش���ى
أضرارها في أقل تقدير".
بعده���ا تحدث الش���يخ "محمد س���عد أب���و بكر" من نيجيري���ا ،عن أحد
األه���داف الس���امية المتوخاة من هذا المؤتم���ر ،وهي وضع خارطة طريق ّ مش���تركة ترس���م مالم���ح "اإلجم���اع" بين المس���لمين ،وأك���د على وجوب
االهتم���ام بالتربي���ة والتعليم وجمي���ع الظروف المحيطة بهم���ا ،باعتبارهما
أ.د .علي جمعة ،مفتي الديار المصرية السابق.
59
السنة التاسعة -العدد (2013 )38
ف���ي التاريخ وقطع المس���افات ،بهدف الغوص ف���ي حياة الصحابة الكرام
وحياة العلماء األفذاذ والفقهاء المخلصين ،الستخراج المعايير األساسية في تأسيس فكر وثقافة اإلجماع في األمة.
وغردت على لس���ان وف���ي نف���س س���ياق "يني أميت" س���ارت "ح���راء" ّ
ع���زف عل���ى أوت���ار قلوب ُم ِ ش���رفها الع���ام األس���تاذ "ن���وزاد ص���واش" ،إذ َ
الحاضرين حين رحب بهم أجمل ترحيب ،ونثر عبارات الشكر واالمتنان د .محمد مصطفى الياقوتي ،وزير الدولة في وزارة اإلرشاد واألوقاف /السودان.
َو ْر ًدا فوق رؤوسهم.
اس���تعرض األس���تاذ "ن���وزاد" ف���ي بداية كلمت���ه ،حال األمة اإلس�ل�امية
ال ع���ن الحلول التي من واألزم���ات المتعددة التي ترس���م مالمحه ،متس���ائ ً تغي���ر حاله إلى األحس���ن ..فأكد على أن اإلجم���اع واالجتماع، ش���أنها أن ّ
حل ال بديل عنه ،فلتجتمع ألسنة هذه األمة وقلوبها والتوافق واالنسجامّ ، على الدعاء ،ولتتناغم جهودها في اإلصالح ،فالربيع ال يتج ّلى في وردة
واحدة ،وإنما في زهور وورود متجاورة متناسقة. وفي إش���ارة إلى أن هذا المؤتمر ِ بك َبر حجمه وعمق معانيه وأصالتها، ال عن ما سبقه ،فله ما قبله وله ما بعده ..فمن خالل اللقاءات ليس مفصو ً وترس���خت والن���دوات العلمي���ة والفكرية المنظمة من قبل ،زادت األلفة، ّ
أ.د .نادية مصطفى ،جامعة القاهرة /مصر.
أس���س المحب���ة في نف���وس كل المش���اركين فيها ،فهذا ه���و األصل ،وهذا ُ هو المنبع الذي منه تنبثق الجهود الس���ديدة ،وبه تنبت األصول الخيرة.. فاإلنسانية بحاجة إلى قلوب ّلينة رحيمة ،وأيا ٍد تخفف معاناتها وتأخذ بها إلى دوحة اإلخاء والتآلف. وف���ي أول���ى المداخالت للعلماء الحاضرينُ ،منح���ت الكلمة للدكتور
"أحمد عبادي" األمين العام للرابطة المحمدية للعلماء بالمملكة المغربية، فش َكر ا َ الحدث المشهود ،الذي وحمده ،وأثنى على منظمي هذا هلل تعالى َ َ َ ثابتا في أصول الش���ريعة اإلس�ل�امية إلى حياة م���ن ش���أنه أن ُيخرج ً أص�ل�ا ً فرقة واخت�ل�اف ،فجذوره األص���ل تبدأ من الن���اسُ ،لينه���ي م���ا بينهم م���ن ْ أ.د .سعاد يلدريم ،جامعة الفاتح /تركيا.
وتزكت ،لتثمر ثمار التوافق والمحبة. تطهرت ّ القلوب إذا ّ
وتن���اول الدكتور"عب���ادي" بالش���رح ُجمل��� ًة م���ن الدواع���ي الت���ي ُت َف ِّعل ِ وترسخ "الوعي الجمعي" وهي أربعة: "اإلجماع" ّ -1الداع�������ي البرهاني :فكي���ف ألمة متفرق���ة متش���رذمة أن تقنع الغير يوحدوا كلمتهم ،ليكون بخيريته���ا وأفضليتها!؟ فعلى المس���لمين اليوم أن ّ ّ ّ ِل َص ْوتهم صدى في اآلفاق وفي قلوب الناس. -2الداع�������ي التش�������ريعي :يفيد الوج���وب ،ألن اآلي���ات القرآني���ة تأمر
باإلجماع وتدعوا إليه في أكثر من موضع.
-3الداعي الواقعي :فهناك على رقاب األمة سيوف مس ّلطة ،تتمثل في
أ.د .أحمد عبادي ،األمين العام للرابطة المحمدية للعلماء /المغرب.
السنة التاسعة -العدد (2013 )38
58
قضاي���ا اجتماعية وحضارية حارقة البد من تفكيكها وتحليلها ،والوصول
تخمد لهيبها المتواصل. إلى حلول عملية ّ
أنشطة ثقافية
عبد العزيز بن عمر*
مؤتمر "اإلجماع والوعي الجمعي" يؤكد على روح التوافق واإلخاء ظل���ت األم���ة اإلس�ل�امية من���ذ ق���رون خل���ت،
تنظيم مجلتي "حراء" و"يني ُأ ِميت".
التي تنامت وتكاثرت وتكالبت عليها ،فغدت
خشوع صدى آيات اهلل تعالى الداعية إلى الوحدة و َل ّم الشمل، ٍ
تبح���ث في ش���غف عن ما يبرئها من أس���قامها
كجمع من الناس تائه بين الفيافي والقفار ،يغدو يمنة ويس���رة شرب َة ماء تنهي ظمأه وتبعث روحه ،فال السراب ينجيه، ً مبتغيا ْ
وال القط���رات المتناثرة تكفيه ..تكاد األنفاس تنقطع والعزائم
منشودا ،وتضافر الجهود تخور ،فما له غير تآلف القلوب هد ًفا ً وتوجه بالدعاء المخلص للرحمن الودود. دؤوبا ال عم ً ّ ً
بصوت ش���جي ن���ادى من���ادي التوافق واإلجم���اع من بالد
فه���ب أه���ل اله���م الواح���د م���ن مش���ارق األرض األناض���ول، ّ
ملبينَ ..ل َّبيك نداء المحب���ةَ ..ل َّبيك نداء ومغاربه���ا مستبش���رين ّ
المودةَ ..ل َّبيك نداء اإلخاء.
م���ن ثمانين دولة جاؤوا ،يتقدم الركب أكثر من س���ت مائة
عال���م ،يتبعه���م أزيد م���ن أربعة آالف مش���تاق قاصدين حضن تركي���ا الداف���ئ ،ليش���هدوا منافع له���م ،ويذكروا اهلل ويس���رعوا
الخط���ى إلي���ه .إذ احتضن مركز المؤتمرات بإس���طنبول ،يومي
عالميا حول موضوع دولي���ا 27و 28أبري���ل 2013م، ًّ مؤتمرا ًّ ً
وسلوكا" من وروحا وثقافة فقها ً "اإلجماع والوعي الجمعيً .. ً
ج���و مهيب وجم���ع غفير ،ي���ردد في افتت���ح المؤتم���ر ف���ي ّ
الناهي���ة ع���ن التفرق والتش���تت والتنازع ،تاله���ا المقرئ "رضا
كوناي" بنفس خاشعة ودموع حارقة.
وف���ي مس���تهل الكلم���ات االفتتاحي���ة لمنظم���ي وضي���وف المؤتم���ر ،اعتال المنصة الدكتور " َأ ْرك���ون جابان" مدير تحرير ليركز ف���ي كلمته عل���ى أن التحدث عن مجل���ة "ين���ي ُأ ِمي���ت"ّ ، اإلجم���اع الي���وم يأتي في س���ياق م���ا أورده اهلل تعال���ى في كتابه
ك ْن ُت ْم َخ ْي َر الكري���م ف���ي وصفه لخيرية األمة ،إذ يقول تعال���ىُ : ِ ُأ َّم��� ٍة ُأ ْخ ِر َج ْت ِل َّلن ِ ْ ���و َن َع ِن ا ْل ُم ْن َك ِر ���ر َ ون بِا ْل َم ْع ُروف َو َت ْن َه ْ اس َتأ ُم ُ ون بِا ِ هلل(آل عمران)110:؛ فاإلجماع هنا ،إجماع األمة على َو ُت ْؤ ِم ُن َ األمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ويضي���ف الدكت���ور "جاب���ان" ،أن لإلجم���اع قيمة في حياة
المس���لم، ودورا في تحديد هويته .فالمس���لمون بحاجة ماس���ة ً
ال ،وفي أوساطهم اليوم إلى زرع ثقافة اإلجماع في نفوسهم أو ً ثاني���ا ..ث���م اختت���م المتحدث باس���م مجلة "يني أمي���ت" كلمته ً
مذك ًرا ومؤكدا على وجوب الس���فر متوجه���ا إل���ى الحاضرينّ ، ً ً
57
السنة التاسعة -العدد (2013 )38
ألس���اس الدي���ن في نف���وس أبناء وطن���ه ،فجعل إنق���اذ اإليمان
التغيير ،وما أوصلت إليه من مآزق ،إال دليل واضح على ذلك.
موس���وعته التفس���يرية الش���هيرة "كليات رس���ائل النور" ،والتي
ِ���ن عل���ى تل���ك األزمة .أم���ا االعتم���اد عليها الحديث���ة، ٌ مث���ال ّبي ٌ
ومع َلم مش���روعه المبثوث في أس���اس رس���الته ولحمة أفكاره َ حافظ���ت بتأثير من طالبه الكثر ،على معاني اإليمان واالنتماء حية في نفوس فئات واسعة من أبناء تركيا.
التح���ول األه���م التجاه اإلصالح الش���امل غي���ر أن بداي���ة ّ
والبن���اء المجتمع���ي المنطلق من ذات األس���س ،كان في نهاية
ولع���ل مش���كلة أدوات العم���ل السياس���ي ف���ي ظ���ل الدولة
طري ًق���ا للبناء ف���ي دولة ما بعد االس���تقالالت الوطنية في عالم
المس���لمين ،فتل���ك معضلة أخرى ال تق���ل نتائجها خطورة وال انسدادا. أفقها ً
إذ بالرغ���م م���ن أن حركات التغيير ف���ي المجال العام اليوم
الستينيات من القرن الماضي ،حين انطلقت "حركة مجتمعية"
وخاصة تلك التي تصدر عن اإلس�ل�ام مرجعية ،تمثل استعادة
جديدا هو نموذج���ا الم���دارس التربوي���ة والفكري���ة ،فأبدع���ت ً ً نم���وذج "الخدم���ة" .كان ذل���ك بتأثي���ر م���ن العا ِل���م والمفك���ر
الحدي���ث ،ومحاول���ة اس���تثماره ف���ي التغيير المطل���وب .إال أن
جدي���دة ،اس���تفادت م���ن تراث رس���ائل الن���ور ،وم���ن غيره من
"محم���د فت���ح اهلل كول���ن" ،الذي جم���ع في ه���ذه التجربة بين
التربية الش���املة لإلنس���ان ،وإطالق مقومات فعاليته الحضارية
في عصره ،ليس���تأنف إنتاج النموذج المثالي لـ"عصر السعادة"
(عص���ر النب���وة والصحابة) عل���ى جميع المس���تويات ،بل وفي بعيدا عن العمل السياسي المباشر، س���احات العالم المختلفةً ، لكن في عمق الفعل المجتمعي والحضاري.
واس���عا في العال���م العربي بدأ يتبلور في اهتماما ورغم أن ً ً
الدوائ���ر العلمية والفكرية بهذه التجرب���ة وفكر صاحبها خالل خصوصا ،إال أن رس���ائل الح���راك الراهن ،ربما العق���د األخير ً قويا لمزيد من التفاعل معها .ذلك أن مس���ؤولية دافع���ا ًّ كان���ت ً اللحظ���ة الراهن���ة ،بمخاطره���ا وتحدياته���ا واأله���م م���ن ذلك
بدروس���ها المس���تفادة ،تلق���ي على النخ���ب الفكرية مس���ؤولية
يمكن وصفها بأنها "أمانة اللحظة" ،وهي بناء قواعد ما يسميه المفكر المصري حامد ربيع "التدبر اإلس���تراتيجي" ،ومنطلقه
ق���راءة متأني���ة للخالص���ات المتأتي���ة إل���ى اآلن م���ن واقع هذا
الح���راك وما أوقع���ه من أحداث متتالي���ة ،لتلمس الخطى على
طريق المستقبل.
إن المالح���ظ المتفحص في األزمات التي يعيش���ها عالمنا
الي���وم ،وه���ذا المجال الحض���اري العربي اإلس�ل�امي منه على وج���ه التحدي���د ،ي���درك أن جوهر تل���ك األزم���ات الماثلة إنما ه���و الضعف الش���ديد ف���ي األدوات الراهنة للتعام���ل مع هذه
األزمات ،أو التي يعتقد أنها ال زالت قادرة على إحداث التغيير ف���ي واقع المجتم���ع وبناء نموذج���ه الحض���اري الفاعل .وما المح���اوالت الدؤوبة والمتكررة باس���تخدام ذات األدوات في السنة التاسعة -العدد (2013 )38
56
واعي���ة أو غي���ر واعية -لتراث الفك���ر اإلصالحي والنهضويصورة الواقع االجتماعي والسياسي المعقدة من جهة ،وعدم وجود نموذج تطبيقي يصلح البناء على خبراته من جهة ثانية،
أصبحا مؤذنين بحالة من االنس���داد في أفق التغيير ،ما لم نلق
الس���مع لتج���ارب أخرى ونم���اذج عملية س���ابقة نجحت على ذات المسعى.
وال���ذي يب���دو أن اتح���اد مش���كالت مجتمع���ات عالمنا في
الن���وع ،بما يتجاوز القدرة على التعامل معها وفق رؤية محلية وخاص���ة ،وبش���كل منفصل عن س���ياقها الكون���ي ،ومحدودية التأثير من خالل مؤسس���ات الدول���ة الحديثة ،أصبحا يوجهان إلينا رسائل ُم ِل ّحة تتعلق بالبدأ من حيث ينبغي أن يكون البدأ:
صحيحا يؤهله ليك���ون مفتاح التغيير ومادته بناء ً بناء اإلنس���ان ً
وموضوعه ،وذلك من خالل وجوده في كافة مؤسسات مجتمعه
التغير في عالمنا الذي وأمته .بل ليكون مثا ً ال يتحقق به نموذج ّ
طالما افتقد الوجهة والمعنى ،وذلك حين يتأتى لهذا اإلنس���ان
مي���راث األرض ال���ذي ل���م يكتب���ه اهلل إال لعب���اده الصالحي���ن. تلك���م ه���ي مهمة القيام بأمانة الش���هادة تج���اه واقع عالمنا
عالم المسلمين الذي ُتعلمنا خبراته التاريخية والواقعية الذاتيِ ، طريق على الس���واء أال نستعظم المهمة أو نس���تطول الطريق.. َ المؤهل لخدمة أمته وعالمه. بناء اإلنسان ّ
(*) مدير مركز الدراسات والبحوث اإلنسانية واالجتماعية -وجدة /المغرب.
الهوامش
( )1المالم���ح العامة للفكر السياس���ي اإلس�ل�امي في التاري���خ المعاصر ،لطارق البشري.
ال م���ن الضع���ف المس���لمين يعي���ش ح���ا ً
والتراجع الش���ديد في حيويت���ه الفكرية
وبنائه الحضاري .في حين كان النموذج شكله تضافر عوامل الوافد يعرف صعودا َّ ً تبدت في ش���كل ق���وة حضارية، متعددة ّ مندفع���ة بق���وة األف���كار واالقتص���اد
اختصارا في والس�ل�اح أو م���ا يرمز إلي���ه ً اللغ���ة الفرنس���ية (لغة رواد االس���تعمار) بـ"الميم���ات الث�ل�اث" :
(�Les trois M: Mis
.)sionaires, Militaires,Marchands
أما الس���بب اآلخر في اس���تمرار آثار
الصدم���ة إل���ى الي���وم ،فه���و أن فعلها لم
مرجعية في هذا السعي.
احت��اد م�شكالت جمتمع��ات عاملنا يف الن��وع ،وحمدودي��ة الت�أثري من خالل م�ؤ�س�سات الدولة احلديثة، �أ�صبح��ا يوجه��ان �إلين��ا ر�سائ��ل ُم ِل ّحة تتعلق بالبد�أ من حيث ينبغي بناء �أن يك��ون البد�أ :بناء الإن�سان ً �صحيح��ا ي�ؤهل��ه ليك��ون مفتاح ً التغي�ير ومادت��ه ومو�ضوع��ه، وذلك من خالل وجوده يف كافة م�ؤ�س�سات جمتمعه و�أمته.
يقتص���ر على لحظة اللق���اء االضطراري نفس���ه ،سواء تجلت في انطالق الحملة
وفي الحالتين اللتين مثلتا المحطتين
البارزتي���ن له���ذا الص���دام األلي���م كان���ت المحاوالت المؤسس���ة له���ذا االنبعاث. وألن الس���ياق التاريخ���ي بظروف���ه
وموازين���ه حاكم ف���ي هذا الس���ياق ،فقد
انطلق���ت الحركة النهضوية منذ أزيد من ق���رن ونص���ف في الش���رق م���ع العلماء
المس���لمين اإلصالحيي���ن ،م���ن أمث���ال
جم���ال الدي���ن األفغاني وعب���د الرحمن الكواكبي ،ومحمد عبده ورش���يد رضا..
فكان لهؤالء النصيب األوفى من التأثير
فيما ش���هدته مصر من انطالق الحركات اإلس�ل�امية ف���ي نهاي���ة العش���رينات م���ن
الفرنسية على المشرق ومركزه مصر عام 1798والتي وطأت
القرن الماضي ،في مس���ار من االنتقال في األهداف المرحلية
المخطط الطويل والممتد لتفكيك اإلطار الجامع لمجتمعات
م���ؤرخ مه���م له���ذه التجربة بقول���ه" :قد أرس���ى األفغاني فكرة
خالله���ا خيل "نابليون بونابارت" باحات األزهر ،أو في نجاح
المس���لمين بس���قوط الدول���ة العثمانية ،وقبل ذل���ك في احتالل
الحلف���اء -بعد الحرب العالمية األولى- عاصمتها التي مثلت َ
جميعا. موشوما في الذاكرة الجماعية للمسلمين رمزا ً ً ً
طبع���ه التأثير والتأثر المتبادل بي���ن المراحل المتعاقبة ،يلخصه اإلس�ل�ام المجاه���د ،وأض���اف محمد عبده فك���رة التجديد في الفقه والتفس���ير ،وتابع محمد رش���يد رضا الربط بين التجديد
والس���لفية والتفاعل مع السياس���ات الوطنية ،وأضاف حس���ن
بعب���ارة أخ���رى ،إن أخطر آثار صدم���ة االحتالل األجنبي،
البنا ش���مولية اإلس�ل�ام والترابط الوثيق بين العقيدة والش���ريعة
واالجتماعي لعالم المسلمين .وهكذا بدأ التشوه في اإلدراك،
كان ذل���ك هو اإلطار النظ���ري والحركي الذي تراكم عبره
أنه عبث باألس���س التي ش���كلت النموذج الثقاف���ي والمعنوي والهزيم���ة النفس���ية ،واالس���تتباع في الفكر المنت���ج للتقليد في
أسلوب التفكير ونمط الحياة ..فكأنما انتقل المسلمون ليبدأوا رحلة قس���رية عاش���وا خالله���ا غي���ر تاريخهم ،فخرجوا ً تاريخا ْ
بذلك من مس���ارهم الحضاري الخاص إلى مس���ارات ال تزال مفتوحة على األزمات المتتابعة.
والسياسة وبين الفكر والتنظيم الحركي"(.)1
التراث الفكري والرؤية الحركية لإلصالح والتغيير التي أ ّثثت
ف���ي الغال���ب -الفض���اء العربي واإلس�ل�امي .ولع���ل الحراكالذي يشهده اآلن هذا المجال ،هو حصيلة ساهمت فيها تلك تجليا جميع���ا ،فكانت األف���كار واآلراء واقعي���ا لنتاج أزيد من ً ً ً
قرن ونصف قرن من المحاوالت.
كان ه���ذا الواقع الجديد مؤذ ًنا بانبعاث الفكر اإلصالحي
ف���ي نف���س المرحل���ة الت���ي انطلق فيه���ا ما أضحى يس���مى
اس���تئناف حياتهم على أس���س من ذاتيتهم المعنوية والفكرية،
الواقع (س���قوط الدول���ة العثمانية) ونفس األس���باب التاريخية
والنهض���وي التجدي���دي ف���ي عالم المس���لمين ،في س���عي إلى
ليستطيعوا إعادة إنتاج نموذجهم الثقافي والمجتمعي الخاص، فيتخط���وا وه���دة الخض���وع لس���لطة النم���وذج الواف���د بالق���وة
العسكرية والعلمية ،ويؤسسوا من جديد عمرانهم الحضاري، مرتبطي���ن في ذلك كله بنموذجه���م التاريخي المضيء كعالمة
عل���ى نط���اق واس���ع "اإلس�ل�ام الحرك���ي" ،وبدافع م���ن ذات والحضاري���ة ،ظه���رت ف���ي تركي���ا مدرس���ة موازية لتل���ك التي
جسدتها النهضوية اإلصالحية وامتدادها مع االتجاه الحركي ف���ي المج���ال العرب���ي .كان رائ���د تلك المدرس���ة هو األس���تاذ
بديع الزمان "سعيد النورسي" الذي بدا أمامه الزحف المهدد
55
السنة التاسعة -العدد (2013 )38
قضايا فكرية د .سمير بودينار*
ما ال���ذي يحدث في عالمنا؟ ما الكامن خلف
عالم المس���لمين ،وكأنها إيذان بالدخول في طور جديد ،لكن
م���ا يقع م���ن أحداث جارف���ة لمعال���م المعتاد
جوانب المشهد ،وأكثرها استدعاء للتوقف والتأمل والبحث. ً
ه���ذه المش���اهد والتحوالت الجاري���ة فيه؟ هل
ه���و بداي���ة أم نهاي���ة؛ نهاية صورة واقع عش���ناه خالل أزيد من
ق���رن من الزم���ان مض���ى ،تفاعلت في���ه الطموح���ات واألفكار باألح���داث؟ أم بداي���ة مرحلة جديدة نس���تفيد فيه���ا من دروس
هذا الماضي فتتأس���س معالم جديدة لالهتداء؛ اهتداء اإلنسان ف���ي نظره الفكري وس���عيه الواقعي ،واهت���داء المجتمعات إلى
طوي�ل�ا ،ثم أتت عليه تج���اوز معضالت الواق���ع الذي كابدته ً
رياح االقتالع والتغيير العاصفة التي ال ُتعرف وجهتها وال إلى أين مستقرها وقرارها.
تب���دو ص���ورة المش���هد الماث���ل لعالمن���ا ،المل���يء بالقل���ق
واالضطراب ،وخاصة ظالل هذا المش���هد على مجتمعاتنا في السنة التاسعة -العدد (2013 )38
54
أحدا ال يعرف طبيعته أو يتصور شكله ومعالمه ...وهذا أخطر ً تحو ٌل بحجم ما يحدث حولنا ،وما يصاحبه من لقد أنتج ّ
أحداث ضاغطة على الوعي ضغطها على المش���اعر ،وارتفاع
لص���وت العواطف والمطال���ب، إنحيازا له���ذه الجهة أو تلك، ً
واقعا جدي���دا ،ملتهبا ...وهو ً أو ه���ذا المطل���ب أو ذاك؛ أنت���ج ً ينبغي أن يكون ُم ِ ال إلرادة أداء األمانة الخطيرة ،أمانة التدبر شع ً قياما بأمانة الشهادة. فيما حولنا ،والتفكير في مآالته وعواقبهً ، ال يختل���ف اثن���ان أن صدم���ة اللق���اء بي���ن منظوم���ة الغرب
الحدي���ث وبين عالم المس���لمين ،كانت صدم���ة مدوية ال تزال رجا ُته���ا تت���ردد في فضائه .ولعل الس���بب األول ف���ي ذلك ،أن َّ
الصدم���ة تم���ت ف���ي أصع���ب لحظة ممكن���ة ،عندم���ا كان عالم
في مركزيتها ولبابها ،وما اإلسالم ببدع من هذه النظم.
ممنوعا على حس���ب قدره من العلم؛ فالمصلحة بعد النص القطعي يكون ً
خصبا كثير اإلثمار .أبو هي :قطب الرحى في المذهب المالكي ،وبها كان ً
-4وق���د تبين من البحث أن الش���ريعة اإلس�ل�امية ليس���ت
فق���ط غير متعارض���ة مع اإلع�ل�ان العالمي لحقوق اإلنس���ان،
وإنما تكتنز قوة اقتراحية من شأنها ،إغناؤه وتزويده بجملة من
زهرة ،مالك عصره وآراؤه الفقهية ،ص.352:
()4 ون ا ِ ون ِم ْن ُد ِ هلل و َ ين َي ْد ُع َ ���بوا ا َّل ِذ َ وم���ن أدل���ة هذا األصل قوله تعالىَ : ال َت ُس ُّ
هلل َع ْد ًوا ب َِغ ْيرِ ِع ْل ٍم(األنعام ،)108:فحرم اهلل سب آلهة المشركين ،مع َف َي ُس ُّبوا ا َ غليظا ،وإهانة آللهتم ،وما ذلك إال لكونه ذريعة إلى س���بهم هلل كون الس���ب ً
آليات التفعيل واإلجراء ،وال س���يما في مجال القرن الوظيفي
الممق���در " "Doséللح���ق بالواجب ،كما تبين أثناء الحديث عن
تعالى ،فكان مصلحة ترك مسبته تعالى أرجح من مصلحة سبنا آللهتهم.
الجيل الثالث من حقوق اإلنس���ان .وال ش���ك أن هذه المقاربة م���ن ش���أنها تجاوز الكليش���يه المعتاد الذي مف���اده ،وكما يقول
الباح���ث "" :"Jason Morgan Fosterإن بع���ض الثقافات تتلكؤ في
تبناها معظ���م عالمنا باعتبارها أساس���ية، قب���ول الحق���وق الت���ي ّ
فإن���ه يتبي���ن في هذه الحالة -للعبرة -أنه على العكس من ذلك وراء ،بل هي رائدة ،حيث تماما ،فإن الثقافة اإلسالمية ليست ً ً إن خطابه���ا التش���ريعي ومقتدى بهذا الص���دد ،مما من ّ مق���د ٌرُ ،
منظورا ش���أنه أن يمن���ح منعش���ا للت���داول ح���ول كونية حقوق ً ً اإلنسان"(.)15
(*) األمين العام للرابطة المحمدية للعلماء /المغرب.
الهوامش
( )1مقاص���د الش���ريعة في اصطالح العلم���اء هي :الغايات واأله���داف والنتائج والمعاني التي أتت بها الشريعة ،وأثبتتها في األحكام ،وسعت إلى تحقيقها
وإيجاده���ا والوص���ول إليه���ا ف���ي كل زمان وم���كان .انظر مقاصد الش���ريعة
اإلسالمية ،الطاهر بن عاشور ،ص.13:
ق���ال الش���اطبي رحم���ه اهلل" :وس���د الذرائع مطلوب مش���روع وهو أصل من األصول القطعية" ،انظر الموافقات .61/3
()5
شرح تنقيح الفصول ،ص ،449:والفروق .63/2
( )6نظ���م مراق���ي الس���عود ،نظم في موض���وع أصول الفقه ،للش���يخ عبد اهلل بن الحاج إبراهيم العلوي الشنقيطي (ت 1233هـ).
( )7مختصر ابن الحاجب ،244/1شرح الكوكب المنير .357/1
()8 وجل���ب المصالح ودر ِء المفاس���د ،ما وس���د الذرائ���ع في���ه اعتبار للم���آالت ِ ُّ
أمك���ن الدفع والجل���ب؛ فإنه لما كان مقصود الش���ريعة إقامة مصالح الدنيا عل���ى طريق��� ٍة ُتحكَ م فيها بحكم الدين المس���يطر على الوج���دان والضمير،
ودفع الفس���اد ومنع األذى حيثما كان؛ فكل ما يؤدي إلى ذلك من الذرائع واألس���باب يكون له حكم ذلك المقصد األصلي ،وهو الطلب للمصلحة، والمنع للفساد واألذى.
( )9الموفقات .194/3
( )10يقصد اإلمام الش���اطبي "العلم بقصد الش���ارع باالستقراء الكلي لألدلة في إجمالها وتفصيلها" ،كما هو مبين في كتابه الموافقات.
( )11الموافقات.207/4
( )12الموافقات ،225/2وقال في الموازنة بين المصالح الكلية" :وكل واحدة
()2 حدد العلماء مقاصد الشريعة بأنها تحقيق مصالح الناس في الدنيا واآلخرة، ّ
لم���ا كانت مختلف���ة في تأك���د االعتب���ار -فالضروريات م���ن ه���ذه المراتب ّ
حكما من أحكامه إال لمصلحة عاجلة أو آجلة، أن اهلل س���بحانه لم يش���رع ً
األخ���ف ،ج���رأ ٌة عل���ى ما هو آك���د منه ،ومدخ���ل لإلخالل كان ف���ي إبط���ال ِّ
أو في العاجل واآلجل ،يقول العز بن عبد الس�ل�ام رحمه اهلل تعالى" :اعلم
ال منه على عباده" ،ثـم قال" :وليس من آثار اللطف أو عاجلة وآجلة ،تفض ً
والرحمة واليسر والحكمة ،أن يكلف عباده المشاق بغيـر فائدة عاجلة وال آجـل���ة ،لكن���ه دعاهم إلى كل ما يقربه���م إليه ...ومصالح الن���اس في الدنيا ه���ي كل ما فيه نفعهم وفائدتهم وصالحهم وس���عادتهم وراحتهم ،وكل ما ال". ال أو آج ً يس���اعدهم على تجنب األذى والضرر ودفع الفس���اد ،إن عاج ً
انظر شجرة المعارف واألحوار ،ص.401:
وق���ال اإلم���ام الش���اطبي" :إن وض���ع الش���رائع إنم���ا هو لمصال���ح العباد في العاج���ل واآلج���ل" إما بجلب النفع له���م ،أو لدفع الضرر والفس���اد عنهم.
الموافقات .9/2
()3 أهم المذاهب القائلة به .واعتبار أصل الذرائع يعتبر المذهب المالكي من ّ عد من وج ٍه توثي ًقا لمبدأ المصلحة الذي استمس���ك مالك بالس���د أو الفتح ُي ُّ
بعروته؛ فهو اعتبر المصلحة الثمرة التي أقرها الشارع واعتبرها ودعا إليها َّ وح���ث عليه���ا؛ َف ْج ُلبها مطل���وب ،وضدها -وهو الفس���اد -ممنوع؛ فكل ما مطلوبا بقدره من ي���ؤدي إل���ى المصلحة بطريق القطع أو بغلب���ة الظن يكون ً العل���م أو الظن ،وكل ما يؤدي إلى الفس���اد عل���ى وجه اليقين أو غلبة الظن
آكده���ا ثم تليها الحاجيات ث���م التحس���ينيات -وكان مرتبطً ا بعضها ببعض األخف كأنه حم���ى لآلك���د ،والراعي حول الحمى يوش���ك أن ب���ه ،فص���ار ُّ
مكم���ل ،كالمخ���ل بالمكَ َّمل من ه���ذا الوجه" يرت���ع في���ه، ّ فالمخ���ل بم���ا هو ّ
الموافقات.30/1
( )13الدين في الديمقراطية ،لـ"مارس���ل غوش���يه" ،ص ،114:يعني غوشيه هذه
ال":إن إطار هذه التح���والت التي تجري في المجتمع المدني، المس���ألة قائ ً ونم���ط تركيب���ه وديناميكيته ،هو الذي يج���ب أن يتم خالله فهم التحوالت، حت���ى تل���ك المتعلق���ة بالمعتق���د ،وهي تح���والت متعلقة بطبيعت���ه وموقعه،
وفي الوقت نفس���ه ،بأوضاعه الخاصة وحالته العامة .فالمعتقدات تحولت إل���ى هوي���ات ،مما يعني في الوق���ت ذاته ،طريقة أخ���رى لالندماج فيها من الداخل ،وطريقة أخرى لالنتماء إليها من الخارج" ،الدين في الديمقراطية
لـ"مارسيل غوشيه" ،ص.113:
( )14الدين في الديمقراطية ،لـ"مارسل غوشيه" ،ص.129: Jason Morgan Foster, Yale University, Human Rights And
)(15
Development L.G, Vol 8, pp 116.
53
السنة التاسعة -العدد (2013 )38
واألح���كام العادي���ة ت���دور معه���ا حي���ث دارت ،فترى الش���يء الواح���د يمن���ع في ح���ال ال تكون في���ه مصلحة ،ف���إذا كان فيه مصلحة جاز"(.)12 ومف���اد ذلك ،وج���وب الموازنة بي���ن االحتماالت الممكنة ترجيحا وموازنة بين ما تحققه في غير المحكم من األحكام، ً تنزيالتها في إطار الش���رع الحنيف ،وبمقاييس���ه وموازينه ،من المصلح���ة في الظ���رف الواقعي المعين ،ث���م اعتماد االحتمال يرج���ح أنه أكثر تحقي ًق���ا للمصلحة بضوابطها الش���رعية ال���ذي ُ المبينة في أماكنها ،واعتبار ذلك هو الحكم الش���رعي في تلك مرد األحكام فيه إلى النظر. الحالة ،وهذا مناط االجتهاد ،فيما ّ وم���ن تداعيات الوع���ي العميق عند علمائن���ا بهذه اآلليات في النظر ،كونهم درجوا على أال يسقطوا من اعتبارهم اآلراء المرجوحة في تراثنا الفقهي ،إذ هي ذخيرة اجتماعية قد تمس إليه���ا الحاج���ة في أوض���اع الحقة مختلفة ،فما ل���م يرجح في نظرا لمالبِس���ات وس���ياقات معينة ،قد واق���ع عيني مش���خص ً يضحى راجحا ضمن مالبس���ات وس���ياقات أخرى ،وفقه إمام ً دار الهج���رة إمامن���ا مال���ك -رض���ي اهلل عن���ه -يحض���ر فيه هذا الوع���ي العميق بش���دة ،النبنائه على قواع���د واقعية كعمل أهل المدينة ،واالستحسان ،والمصلحة المرسلة ،وسد الذرائع. وفق���ه الموازن���ات فقه دقي���ق يقتضي أن يك���ون الم ِ عمل له ُ ريا ًنا من علوم النص وعلوم الس���ياق، ً ف���ردا كان أم جماعةّ -وعل���ى دراي���ة بالعواق���ب والمآالت ،مم���ا ينتج عن���ه ملكة في الترجي���ح والتغليب بعد القيام بالتس���ديد والتقريب ،وجلي أن ّ ذلك من معضدات ضمان حقوق اإلنسان في المجتمعات.
الخاتمة
-1رامت هذه الدراس���ة ،االنخراط في العكوف الكوني على معالج���ة جملة من القضايا واإلش���كاالت ذات العالقة بتنزيل كونيا مختلف أجيال حقوق اإلنس���ان ،كما هي متعارف عليها ًّ عل���ى أرض عالمن���ا المعولم ،ف���ي مراعاة لمقتضياته الس���ياقية المختلفة والمتداخلة ،وكذا في مراعاة للمس���تلزمات المعرفية والثقافية والتشريعية. -2كم���ا رام���ت هذه الدراس���ة ،اإلس���هام في بل���ورة نظرية ) "R.M.R" (Reverse Moderate Relativismف���ي مج���ال حق���وق اإلنس���ان ،والتي تعنى بالنظ���ر التعارفي المنفتح ،إلى ما يمكن أن تغن���ي به المنظومات التش���ريعية المختلف���ة ،منظومة حقوق اإلنس���ان الكونية .وق���د انكببنا في مقامنا ه���ذا على النظر فيما السنة التاسعة -العدد (2013 )38
52
يمك���ن أن تغن���ي ب���ه المنظوم���ة التش���ريعية اإلس�ل�امية منظومة كونيا. حقوق اإلنسان كما هي متعارف عليها ًّ
ووعي���ا ب���أن ح���ال الف���رد المس���تهدف بضم���ان حقوق���ه ً واالس���تنهاض للقي���ام بواجبات���ه -وعل���ى ح���د تعبير مارس���يل غوش���يه -ال يتغي���ر م���ن الخ���ارج فحس���ب ،وإنما م���ن الداخل
أيض���ا ،حي���ث إن هذا الفرد -في الوقت نفس���ه -الذي يجد فيه ً
أن تحديده يعاد ،س���واء تعلق األمر بحقوقه أم بمصالحه ،فإن عناص���ر عالقته بنفس���ه تتغير بش���كل أساس���ي ،وينقلب إدراكه
رأس���ا على عقب ،وإنها ظاهرة الداخلي لمكونات ش���خصيته ً
ذات تأثي���ر بالغ يعي���د فكرة الذاتية المتعلق���ة بصورة المواطن المطروحة منذ القرن الثامن عش���ر إلى بس���اط البحث( ،)13مما
متج���ددا ،بخصوص موقع واجته���ادا نظرا مس���تأن ًفا، ً ً يس���تلزم ً
الفرد ،والتش���اكس السياس���ي ،والتس���ويقي الش���رس لالستئثار
ومقدرات���ه ،وال ش���ك أن م���ن آك���د حقوق باهتمام���ه وطاقات���ه ّ
اإلنس���ان ،الحق في قدر نس���بي من التوقير حتى ال تضيع منه ِّأزمة ذاته َف َي ِتيه عنها وعن محيطه. ضمنيا ،كون مكتسب -3وقد اس���تحضرت هذه الدراس���ة ًّ الديمقراطي���ة في عالمن���ا المعاصر ،قد نما في تمظهرات كثيرة ل���ه عل���ى التصادم م���ع "المقدس" ،مم���ا أص���اب الديمقراطية
عن طريق العدوى بش���يء من "القداس���ة"! جعلتها تسمو فوق الذاتيات والمكتسبات الشخصية ،فاستحثت اإلنسان للخروج من حالة "القصور" مما سربل الديمقراطية بـ"وقار" جعل منها
"دعوة" وخدمة على حد تعبير غوشيه "شبه كهنوتية"( )14ومادة
للتفان���ي غير المش���روط ،ف���ي مفارق���ة ألن تصبح "المش���روع الش���امل" الذي يحيط بالوضع البش���ري بأكمل���ه ،مما كان من
نتائجه استدعاء األديان إلى المجال العام ،فأعطى الديمقراطية هيئته���ا الجدي���دة ف���ي منطقتن���ا وما حوله���ا ،مما ُيل���زم باجتهاد يتغيا تعميق محيط الفعل الحقوقي والسياسي ،وحتى متجددّ ،
االقتصادي.
وإذ إن تم ّل���ك اإلع�ل�ان العالم���ي لحق���وق اإلنس���ان
والمعاهدات المنبثقة منه ،أمر ضروري في االلتزام بمقتضياته،
فإن���ه م���ن الالزم تفعي���ل مقارب���ة ،R.M.Rببرهاني���ة ترفع وهم
التناق���ض م���ع ثقافتن���ا المحلية ب���كل مرتكزاتها ،وم���ن أهمها
الدين اإلس�ل�امي ،وذلك بفتح نواف���ذ االجتهاد والتجديد غير
روحا مع اإلعالن العالمي ،وال مع فحوى النظم المتعارضين ً
االعتقادية والتشريعية في العالم والتي جميعها تجعل اإلنسان
االنحس���ار في ظواهر األدلة الجزئي���ة ،دون وصلها مع األدلة
الش���اطبي" :النظ���ر ف���ي مآالت األفع���ال ،معتبر مقصود ش���رعا ً
مقاصد التش���ريع اإلس�ل�امي ،الرتكازها على مبادئ كلية من
يحك���م على فعل من األفع���ال الصادرة عن المكلفين باإلقدام
مقصدا الكلي���ة .م���ن هن���ا كانت حق���وق اإلنس���ان أساس���يا من ً ًّ
قبيل التكريم ،واالس���تخالف ،والمس���اواة ،والعدل ،والحرية،
والكرامة لهذا اإلنس���ان الذي خلقه اهلل في أحس���ن تقويم ،مع االلتزام بالس���بل والوسائل التي تحقق هذه المقاصد ،وتحافظ
عليه���ا وتمنع من إهدارها أو ضياعها .وإذ إن مصلحة ضمان حقوق اإلنسان ،من أعظم المصالح ،فال خالف يمكن أن يثور حول محورية هذا المقصد في توجيه األحكام واالجتهاد.
-2إعمال أصل سد الذرائع
"أص���ل س���د الذرائ���ع"( )3وجه آخر م���ن وجوه رعاي���ة مقصود
الش���ارع في حفظ حقوق اإلنسان ورعايتها ،هذا باإلضافة إلى
أص���ول أخرى وقواع���د تميز به���ا المذهب المالك���ي ،وكانت
السبب المباشر في ولوع علمائه بالمقاصد(.)4
-3إعمال أصل"فتح الذرائع"
بم���ا أن الم���راد بالذريع���ة؛ م���ا يتوصل ب���ه إلى مفس���دة فتكون ممنوعة ،أو إلى مصلحة فتكون مطلوبة .فإن الذريعة ال يكون
دائما ،بل يكون سدها أو فتحها خاضعا لحكم ً المطلوب سدها ً م���ا أفض���ت إلي���ه ،وبمعنى آخر ،فس���دها أو فتحه���ا ،منوط بما
-كان���ت األفع���ال موافق���ة أو مخالف���ة -وذل���ك أن المجتهد ال
مشروعا واإلحجام إال بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، ً إل���ى مصلحة فيه تس���تجلب ،أو لمفس���دة ت���درأ ،ولكن له مآل
عل���ى خ�ل�اف ما قص���د فيه؛ وقد يكون غير مش���روع لمفس���دة
تنش���أ عن���ه ،أو مصلحة تندفع به ،ولكن ل���ه مآل خالف ذلك، فإذا أطلق القول في األول بالمشروعية ،فربما أدى استجالب
المصلح���ة فيه إلى مفس���دة تس���اوي المصلح���ة أو تزيد عليها،
مانعا من إطالق القول بالمشروعية. فيكون هذا ً
وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المش���روعية ،ربما
أدى اس���تدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد؛ فال يصح
إط�ل�اق القول بعدم المش���روعية .وهو مجال للمجتهد صعب المورد ،إال أنه عذب المذاق ،محمود الغب جارٍ على مقصد
الشريعة"(.)9
والنظ���ر إلى مآل المجتم���ع الضامن لحقوق إنس���انه ،كما
النظر إلى مآل المجتمع المهدر لها ،يفرض تقديم القياس���ات
الضامن���ة لحقوق اإلنس���ان ،وإن خفيت ،على القياس���ات كلها وإن كانت جلية ،وهذا يقودنا إلى آلية االستحسان.
تفض���ي إليه من المقاص���د والحكم .قال اإلمام القرافي" :اعلم -5إعمال أصل االستحسان
س���دها ،يجب فتحها ،ويك���ره ويندب أن الذريع���ة كم���ا يجب ّ
أخذ َّبين اإلمام الش���اطبي بعض معاني االستحس���ان الذي هو ٌ ال" :االستحسان في مذهب مالك: بالمصلحة عند المالكية قائ ً األخ���ذ بمصلح���ة جزئية في مقابل دليل ك ِّل���ي؛ ألنه يقوم على
ويب���اح ،ف���إن الذريعة ه���ي الوس���يلة ،فكما أن وس���يلة المحرم َّ محرمة ،فوس���يلة الواجب واجبة كالسعي للجمعة والحج"(.)5 َّ وأشار صاحب المراقي( )6إلى فتح الذرائع بقوله: ِ المحرم سد الذرائع إلى المنحتم ّ حتم كفتحها إلى ُ ٌ ّ وبخص���وص ما قررناه في هذه الفق���رات من ضرورة فتح
وتشهيه، القياس؛ فإن من استحسن لم يرجع إلى مجرد ذوقه ّ
في قواعد محكمة ،من قبيل قاعدة "ما ال يتم المأمور إال به"،
تلك األش���ياء المفروضة ،كالمس���ائل الت���ي يقتضي القياس
الذرائ���ع الجالب���ة للمصالح ،فإننا نجد علم���اء األمة قد قرروه أو "م���ا ال يت���م الواجب إال به فهو واجب" ( .)7فتس���د الذرائع
دون م���ا يمن���ع تحقق مقص���د ضمان حقوق اإلنس���ان ،وتفتح
أمام ما ييسر ذلك ويسهم فيه.
وأصل سد الذرائع أو فتحها ،يحيلنا على أصل ٍ مكمل ثان ّ
هو أصل اعتبار المآل(.)8
-4إعمال أصل اعتبار المآل
اعتب���ار م���آل األفع���ال من المقاص���د المهمة من الش���ريعة ،قال
التيسير ودفع المشقة ورفع الحرج عن الناس.
المرس���ل على ومقتض���اه :الرج���وع إلى تقديم االس���تدالل َ
وإنما رجع إلى ما علم من قصد الشارع في الجملة ،في أمثال ()10
أمرا ،إال أن ذلك األمر يؤدي إلى فوت مصلحة من جهة فيها ً أخرى ،أو جلب مفسدة كذلك"(.)11
اعتبارا لمآل إهدار حقوق فآلية إعمال أصل االستحس���ان، ً
يمكن من القيام بترجيح���ات معتبرة بهذا اإلنس���ان وضمانه���اّ ،
ويسد ذريعة الظلم. الخصوص ،مما يفتح ذريعة العدالة، ّ
-6إعمال فقه الموازنات
قاص���دا لمصالح العباد، ق���ال الش���اطبي" :وإنا وجدنا الش���ارع ً
51
السنة التاسعة -العدد (2013 )38
قضايا فكرية
أ.د .أحمد عبادي*
املدنية ليست ثرا ًء خاد ًعا ،ومظاهر فاتنة ،وإشبا ًعا للنزوات، وانغامسا يف الشهوات ..إمنا هي غنى يف النفس ،وسمو يف الروح، ً وعمق يف النظر ،واعرتاف بحق العيش الكريم لآلخرين. *** (املوازين)
المسلمون وحقوق اإلنسان3- قراءة في آليات التعاطي
جل المصالح التي تقوم عليها حياة حي���ث إن َّ
ل���ب ذل���ك ضمان األم���م وارتفاقاته���ا -وف���ي ّ ٍ حقوق الخلق -تحتاج إلى اجتهادات مستأنف ًة
جلبا االستحسان ،والموازنة الدقيقة بين المصالح والمفاسدً ،
تس���ديدا ودفعا للثانية إن غلبت، لألُول���ى إن رجحت، وتقريبا ً ً ً وتغليبا .ومن آكد هذه اآلليات: ً
ف���ي كل حين قصد َت ُّبي ِنه���اَ ، وم ْق َد َرتها ،وتقعيدها ،وتقنينها ،من -1إعمال أصل المصلحة المعتبرة
أج���ل ���ز ٍن لها على أرض الواقع ،كان البد من آليات تنزيل ُم َّت ِ ٍ
مقاص���د الش���ريعة( )1عل���ى اخت�ل�اف أقس���امها ووس���ائل إثباتها
نظرا في المعتبر م���ن هذه المصالح، في س���ياقاتها المختلف���ةً ،
ت���ارة بـ"جل���ب المصال���ح ودرء المفاس���د" ،وت���ارة بـ"تحصي���ل
بمب���دأ س���د الذرائ���ع وفتحها عل���ى الس���واء، واعتب���ارا ألصل ً
م���ن أب���رز ميزات الفك���ر المقاصدي ،كونه كليا يأبى فك���را ًّ ً
تمك���ن م���ن جلب هذه المصالح ،ودرء ما يهددها من مفاس���د ّ وتنقيحا لها، واعتب���ارا للم���آالت ،وتحقي ًقا للمناط���ات، وأخذا ً ً ً السنة التاسعة -العدد (2013 )38
50
ومس���توياتها ،تتركز ف���ي مقصد ك ّلي جامع ج���رى التعبير عنه المصالح وتكميلها ،وتعطيل المفاسد وتقليلها"(.)2
أيضا، والجدي���د الذي أضاف���ه ابن الهيثم لعل���م البصريات ً
المزدوجة (بالعينين) ،وأول استعمال ُع ِرف للغرفة المظلمة.
أن���ه اس���تدل على أن الع ّلة األساس���ية في اإلبص���ار ،هي وجود بعض إنجازاته العلمية الم ْب َصر مع توافر هذه الش���روط ،يق���ول" :إن البصر إذا أحس ُ
بالم ْب َصر بعد أن كان ال يحس به ،فقد حدث منه شيء ما بعد ُ
إن ل���م يك���ن ،وليس يحدث ش���يء بع���د إن لم يك���ن إال لعلة، الم ْب َصر إذا قابل البصر ،أحس به البصر ،وإذا أزال عن ونج���د ُ الم ْب َصر إلى مقابلة مقابلة البصر ،لم يحس به البصر ،وإذا عاد ُ
بالم ْب َصر البصر ،عاد اإلحساس .وكذلك نجد البصر إذا أحس ُ
ثم أطبق أجفانهَ ،ب ُط َل ذلك اإلحساس ،وإذا فتح أجفانهَ ،ب ُط َل والم ْب َصر مقابله ،عاد ذلك ذلك اإلحس���اس ،وإذا فتح أجفانه ُ ���ل المعلول ،وإذا اإلحس���اس .والعلة ه���ي الت���ي إذا َب ُط َل ْت َب ُط َ
عادت عاد المعلول .فالعلة إذن ،التي ُتحدث ذلك الشيء في
الم ْب َصر". البصر ،هو ُ
كان اب���ن الهيث���م -ف���ي كتابه "في طبيعة إلق���اء الظل" -أول من
أج���رى تجارب بواس���طة نوع م���ن "آلة الثق���ب" التي هي -في
الواق���ع -صورة أولى آلل���ة التصوير فيما بع���د ،والتي برهنت يصدق عينيه له تمدد أش���عة الضوء بخط مس���تقيم .كما أنه لم ّ رأسا على عقب لدى انعكاسها حين رأى صورة العالم مقلوبة ً
بعد ولق���د لج���أ إل���ى نف���س التج���ارب الت���ي لج���أ إليها فيم���ا ُال لكثافة مختلف الطبقات ليوناردو دافنش���ي -واكتش���ف تعلي ً كالم���اء والهواء ،واختالف مدى انكس���ار الضوء في كل منها،
عل���و الطبق���ة الهوائية ث���م حس���ب -باالس���تناد إل���ى ما س���بق- ّ
كيلومترا ،وهكذا يكون المحيطة باألرض وهي خمس���ة عش���ر ً
مزيدا من الش���رح والتحلي���ل لنظريته يقدم اب���ن الهيثم ً ث���م ّ
خ���رج بنتيج���ة غاية في الدقة والصحة لم يس���بق إليها أحد من
والحديث���ة لكيفي���ة اإلبص���ار اآلن .هذا وقد اس���تعان ابن الهيثم
علميا الفيلسوف أرسطو ذاته .وتوسع التي عجز عن ش���رحها ًّ
تماما م���ع الرؤية العلمية الصحيحة ف���ي اإلبصار ،والتي تتفق ً بالجب���ر والمثلث���ات والهندس���ة بنوعيه���ا ف���ي ح���ل كثي���ر م���ن
قب���ل .ث���م اهتم بتحليل ظه���ور الهالل ،والغس���ق وقوس قزح، فيم���ا بع���د بأبحاثه فش���مل اهتمام���ه اآلالت البصري���ة .فدرس
وصيغ ال معض�ل�ات الضوء ،ووض���ع كل ذلك في عب���ارات َ
وحس���ب درج���ة االنع���كاس ف���ي المراي���ا المس���تديرة والمرايا
من خالل وس���ط ش���فاف كالماء والهواء ،ومن خالل أجس���ام
معرف���ة قان���ون تأثي���ر "العاكس���ات الضوئي���ة" ( .)Progecteursثم
حرقة ،فقد وصل -أو الم ِ األحج���ام والتقاء الضوء في المراي���ا ُ
كبرة" ( ،)Lupeواخترع المحرق���ة فقط ،بل "الزجاجة ُ المرآة ُ الم ِّ
ليفصله عنها سوى خطوة واحدة ،والتي ُصنعت بإيطاليا بعده
إنه "عندما قام يوهانس كبلر في ألمانيا خالل القرن الس���ادس
تعقي���د فيه���ا وال إبهام .وبفضل تجاربه في انعكاس���ات الضوء
حرق���ة بالدوائ���ر ( ،)Kegels Chnittbrennspieigelوتوصل إلى الم ِ ُ
المطردة بين تكبير كروية كاآلنية الزجاجية ،ودراس���ته للعالقة ّ
حق���ق في تأثير التقاء األش���عة وتكبير األحجام ،ليس بواس���طة
الم َك ّبِ���رة الت���ي لم يكن كاد -إل���ى اكتش���اف نظري���ة العدس���ات ُ
أيضا أول نظارات للقراءة .ومن هنا تقول المستش���رقة هونكة ً
بثالثة قرون.
كتاب البصريات في العصر وقد اعتمد "روجر بيكون" وكل ّ
الوسيط في الغرب على أعمال ابن الهيثم في البصريات ،كما
واضحا في ليوناردو دافنش���ي ،وفي تأثيرا أ ّث���رت أعمال���ه ً ً أيضا ً
يوحنا كبلر .ولذلك تقول المستشرقة هونكة" :إن دراسات ابن والمعضلة المعروفة الهيثم لنظرية انعكاس الضوء ،والعدسات ُ
(معضلة ابن الهيثم) ،وكذلك وصفه الدقيق للعين ،كل باسمه ُ قرن اس���مه باس���م العالمين ذل���ك جعل اب���ن الهيثم جديرا أن ُي َ ً
"روج���ر بيكون" و"وتيلو" .وما تذهب إليه المستش���رقة ،يطابق
وإدراكا الحقيق���ة؛ فإننا نجد في كتاب "المناظ���ر" وص ًفا للعين ً
تحديدا من جميع من تقدموه .ونجد كثيرا ،وأكثر ً للرؤية أدق ً
فحص���ا لظاهرة االنكس���ار الجوي ،ومحاوالت لتفس���ير الرؤية ً
تمك���ن غاليليو (1642-1564م) عش���ر ،ببحث القوانين التي َّ
باالس���تناد إليه���ا م���ن رؤي���ة نج���وم مجهول���ة من خ�ل�ال منظار
كبي���ر ،كان ظل ابن الهيث���م الكبير يجثم خلفه" .وما تزال حتى يومنا هذا ،المس���ألة الفيزيائية الرياضية الصعبة ،التي حلها أبو الحس���ن بن الهيثم بواس���طة معادلة من الدرجة الرابعةُ ،مبره ًنا
بهذا عن تضلّعه البالغ من علم الجبر .نقول ،ما تزال المسألة
القائمة على حس���اب نقطة التقاء الصورة التي تعكس���ها المرآة
المحرقة بالدوائر على مس���افة منها ،ما تزال تس���مى "بالمسألة ُ الهيثمية" ،نسبة إلى ابن الهيثم نفسه.
(*) رئيس قسم الفلسفة واالجتماع ،كلية التربية ،جامعة عين شمس /مصر.
49
السنة التاسعة -العدد (2013 )38
أيضا ،ضوء القمر ،وضوء الكواكب، وق���د تناولت تجاربه ً
كان يقوم عليه علم الضوء القديم ،أس���اس خاطئ يجب على ِ رأسا على عقب. ابن الهيثم أن يعيد النظر فيه ويقلبه ً والجديد الذي يقدمه ابن الهيثم ،يتضح من ذلك الموقف النقدي الذي يتخذه من كل العلماء والفالس���فة الس���ابقين في تأسيس���ه لهذا العلم ،وتقديمه لرؤيته الجديدة؛ فهو ينقد نظرية أرس���طو واألبيقوريين وغيرهما من الفالسفة الطبيعيين ،الذين اختلف���وا فيم���ا بينهم في كيفية ورود الص���ورة إلى العين .وهي نظرية "اإلرس���ال الداخلي" ( ،)Intromissionأي دخول ش���يء ما إل���ى العين وال���ذي يمثل الش���يء المرئي ،ونظري���ة "اإلصدار" ( ،)Emissionواإلبص���ار فيه���ا يك���ون بخروج ش���عاع م���ن البصر الم ْب َصر ،والتي يمثلها أفالط���ون والرواقيون ،ثم أقليدس إل���ى ُ وبطليموس وغيرهم من الفالس���فة وأصحاب التعاليم .ويأخذ ف���ي كتاب���ه "المناظ���ر" بتوضي���ح كل ه���ذه اآلراء المتعارض���ة والمتناقضة ،ويأخذ في نقدها عن طريق التحليل والتفنيد مع ح���د كبير في تجارب االلت���زام بالموضوعي���ة الت���ي تتحقق إلى ٍّ يق���وم بإجرائه���ا لتأكي���د رؤيت���ه الجدي���دة، مس���تخدما معارف���ه ً الرياضي���ة ومعلومات���ه الطبيعية في مزاوجة م���ا بين الرياضيات والطبيعيات في منهجية علمية جديدة. إن أعظ���م مآثر اب���ن الهيثم أنه أبطل عل���م المناظر القديم، وأنشأ علم الضوء بالمعنى الحديث .وإذا كانت دائرة المعارف البريطانية تقول إنه بعد بطليموس لم يظهر من يجاريه في علم الض���وء إال ابن الهيثم ،فإن بحوثه ودراس���اته ومقاالته ليس���ت مجرد زيادة كمية اتس���عت بها ثروتنا العلمية ،وإنما هي -قبل ّ تحول كيفي في المفاهيم واألسس ،أو ُق ْل هي أحداث ذلكّ - ب���ت أوض���اع هذا العل���م وصححت مج���راه ،ودفعت به في ق َل ْ علما ثابت األركان راسخ البناء. الطريق السليم ،وأقامته ً
به���ا .فإن أقليدس وبطليم���وس وغيرهما من أصحاب التعاليم
وبع���د أن يح���دد ابن الهيث���م كيفية البحث في عل���م البصريات في كتابه "المناظر" ،يس���تأنف البحث عن الش���روط التي يجب توافرها عند اإلبصار ،وهي التي يس���ميها "المعاني التي ال يتم اإلبصار إال بها". فقد أوضح أن الضوء له وجود مستقل في ذاته ،والبد من أن يك���ون بين���ه وبين العي���ن ُبعد ،وأن يكون بي���ن كل نقطة من س���طح البصر وبين العين خط مستقيم غير مقطع بكثيف ،أي الم ْب َصر، أن يكون الجس���م المتوس���ط بين س���طح البصر وبين ُ وهو ما يطلق عليه الدكتور مصطفي نظيف "الوسط".
والض���وء المنبع���ث من ض���وء أبيض يس���تضيء بض���وء القمر،
واس���تقصى أحوال اإلضاءة الشديدة واإلضاءة الضعيفة .وهو أخيرا في مقدمة علماء الطبيعة التطبيقية ،بما أجرى من تجارب ً وأوج���د من أجه���زة .ولقد ع���رض األس���تاذ "مصطفي نظيف"
في كتابه "الحس���ن ابن الهيثم" لنظريات اإلبصار في الفلس���فة اليوناني���ة ،من فيثاغورس إلى أمبيدوقليس ،ومن أفالطون إلى فككة متناثرة ،ال تقوم أرس���طو وأبيقور ،فلم يجد سوى آراء ُم َّ
عل���ى أس���اس علمي ،ث���م عرض للنظري���ات الت���ي ظهرت في العصر الهلينس���تي اإلس���كندري ،من أقليدس وبطليموس إلى
أس���اس هي���رون وثاون ،فوجد أبحا ًثا علمية رصينة قائمة على ٍ منهجي .كما عرض آراء اإلس�ل�اميين الذين س���بقوا ابن الهيثم كالكندي ،والرازي ،وقسطا بن لوقا ،فانتهى إلى هذه النتيجة؛ أحدا من اإلسالميين المتقدمين وهي أنه ليس معرو ًفا اآلن أن ً ش���يئا ذا بال لم عل���ى اب���ن الهيثم ،قد أضاف���وا إلى علم الضوء ً
يكن معرو ًفا من قبل.
ث���م عرض األس���تاذ "نظي���ف" آراء ابن الهيثم ف���ي الضوء،
وقارنها باآلراء الس���ائدة في عصره .فش���رح آراءه في األضواء "المنكس���رة" (،)Refraction والمنعطف���ة ،أي ُ الذاتي���ة والعرضية ُ
والفجر والش���فق والتقازيح ،أي امتزاج الضوء بالظلمة بنسب
مختلف���ة ،واألل���وان والخ���داع البص���ري والهال���ة وق���وس قزح
والكسوف والخسوف وما إلى ذلك.
لق���د كانت أص���ول الميكانيكا مبعثرة كذل���ك قبل "نيوتن"،
إل���ى أن جاء ه���ذا األخير فأدرك حقائقه���ا وأضاف إليها وربط بينها ،حتى أضحت على يديه وحدة شاملة هي التي قام عليها
علم الميكانيكا .وكذلك علم الضوء ،فإنه حتى الفكرة البسيطة
م���ن أن للض���وء المس��� َّلم شروط اإلبصار ً وجودا في ذات���ه ،لم تكن من األمور ُ
ممن سبقوا ابن الهيثم ،على اختالف طبقاتهم وتباعد أزمانهم وتف���رق آرائه���م ،متفقون عل���ى أن اإلبصار إنما يكون بش���عاع الم ْب َصر ،وعلى أن الش���عاع يمتد على يخ���رج م���ن البصر إل���ى ُ
س���موت خطوط مس���تقيمة أطرافها مجتمعة عند مركز البصر، الم ْب َصرات ،فشكل جملته وعلى أن الشعاع ُي َ درك به ُم ْب َصر من ُ
شكل مخروط رأسه مركز البصر ،وقاعدته سطح البصر .و َل َّما كان ذلك كذلك ،فقد رأى ابن الهيثم أن يصرف االهتمام إلى هذا المعنى ويضع كتابه "المناظر" .وإذن فإن األس���اس الذي السنة التاسعة -العدد (2013 )38
48
ذل���ك اس���تعمال العدل ال اتب���اع الهوى ،ويتحرى في س���ائر ما الصدر ،حتى يصل طلب الحق الذي ب���ه َيث ُلج يمي���زه وينتق���ده َ ُ بالتدري���ج واللطف إلى الغاي���ة التي عندها يقع اليقين ،وتظهر الحقيقة التي يزول معها الخالف وتنحسم الشبهات. ُولد ابن الهيثم في العراق بالبصرة عام (354هـ965/م) ،أما وفاته فيقول "القفطي" إنها تقع في حدود عام(430هـ1039/م). وتنقس���م حيات���ه إلى مرحلتي���ن ،األولى نش���أته بالبصرة؛ وكان يعمل موظ ًفا في دواوين الحكومة بالعراق .ثم المرحلة الثانية وهي قدومه إلى مصر في أوائل القرن الحادي عشر الميالدي.
مؤلفاته
زاخرا ضخم���ا ملي ًئا باالبت���كار، لق���د ت���رك لنا ابن الهيث���م ترا ًثا ً ً بالموضوع���ات الجدي���دة والبح���وث الفري���دة .فه���و لم يكتف نظرا جديدا لم يسبقه ً بالنقل عن كتب القدماء ،بل لقد نظر فيها ً أيضا، إلي���ه أحد من قب���ل ،واتجه في هذا النظر وجه���ة جديدة ً فأصلح الخطأ وأتم النقص وابتكر المستحدث من األبحاث، وأض���اف الجدي���د من الكش���وف ،وس���بق ف���ي غير ع���دد قليل ال والعصور ،واس���توفى البح���ث إجما ً م���ن الح���االت األجيالَ َ وتفصي�ل�ا ،حت���ى لقد كان���ت مؤلفاته عمدة العلم���اء في أوربا، ً ال ينهلون منه حتى عهد قريب .وفي مجال التأليف تميز ومنه ً ابن الهيثم ،حيث كان غزيرا في كتاباته ورسائله ومؤلفاته؛ فقد ً كان نادرة عصره ف���ي علمه وذكائه .وتصاني ُفه تقارب المائتين م���ن المصنف���ات أو تزي���د بي���ن مط���ول ومختصر ورس���الة في المج���ال العلمي بفروعه المختلفة ،أو الفلس���في بتعدد مناحيه وتجليات���ه .وال أدلّ عل���ى ذلك من أن علم البصريات َتك ُثر فيه مؤلفات���ه ،مثل كتابه "المناظر" ،ورس���الته ف���ي الضوء ،ومقاالته حرقة بالدائرة ،أو مقاالته الم ِ الم ِ ف���ي المرايا ُ حرقة بالقطوع ،أو ُ ف���ي ضوء القم���ر ...وفي مجال الرياضي���ات تصل مؤلفاته إلى أكث���ر من خمس���ين مؤل ًفا ما بين كتاب ورس���الة ومقالة ،تتوزع عل���ى األبحاث الرياضية البحتة ،وعلوم الحس���اب والهندس���ة والجبر... وأيضا تعليقات لمؤلفات السابقين عليه من اليونان ً مثل كتابه في "حل شكوك أقليدس" الذي يصفه الدكتور "علي مش���رفة" بقول���ه" :إن المطّ ل���ع على كتاب اب���ن الهيثم في "حل شكوك أقليدس" ،يلمس دقته في التفكير وتعمقه في البحث، واس���تقالله ف���ي الحكم ،كم���ا ي ّتضح له صحة مكانة الهندس���ة األقليدية من العلوم الرياضية؛ فهو كتاب رياضى بأدق ما يدل عليه الوصف من معنى".
وه���ذا يع���ود في رأي بعض العلماء إل���ى أن ابن الهيثم ،قد س���لك في أبحاثه الرياضية الواضحة ،وفي مؤلفاته بصفة عامة ف���ي باقي العلوم ،وفي علم الرياضيات بصفة خاصةُ ،طر ًقا لم يسلكها المتقدمون ،وأساليب جديدة كل الجدة في البراهين، ّ مما يدل على استقالل تفكيره وبعد نظره وقوة إبداعه. كثيرا من الرسائل والمقاالت في علم كما أ ّلف ابن الهيثم ً علما من العل���وم الرياضيةْ ،تر ُبو على الفل���ك وال���ذي كان ُيعد ً أربعة وعش���رين مؤل ًف���اُ ،ف ِقد بعضها ووصل إلين���ا منها حوالي عش���رين مقال���ة مثل ارتف���اع القط���ب ،ومقالة في هيئ���ة العالم، وارتفاعات الكواكب ،وحركة القمر ،وأبعاد األجرام السماوية، وص���ورة الكس���وف ،وتصحي���ح األعم���ال النجومي���ة ...إلخ. وعل���ى الرغم من أنه لم يمارس مهن���ة الطب ،إال أنه اهتم بالتألي���ف ف���ي ه���ذا المجال .ولق���د كان ح���د كبير متأث���را إلى ٍّ ً بـ"جالين���وس" وكتبه ومؤلفات���ه الطبية .فوضع لنا مؤلفات ْتر ُبو على العش���رين رس���الة مثل تقويم الصناعة الطبية ،وكتاب آراء أبق���راط وأفالط���ون ،وكتاب في العلل واألع���راض ،وأصناف ِ المفردة ،وقوى األدوية الحمي���ات ،والبحران ،وقوى األدوي���ة ُ فض�ل�ا عن مؤلفاته المركب���ة ،وفي حف���ظ الصحة ...إلخ .هذا ً ّ في المجال الفلس���في؛ حيث كتب مؤلفات عميقة في الفلسفة والمنط���ق ،وعل���م النفس ،واألخ�ل�اق ،واإللهي���ات تربو على أربعين مؤل ًفا ،أشهرها رسالة "المكان" ومقالة "ثمرة الحكمة".
كتاب "المناظر" وتأسيس علم البصريات
كتاب ع���د أهم ٍ وق���د وض���ع ابن الهيثم كتاب���ه "المناظر" الذي ُي ّ ظه���ر ف���ي القرون الوس���طى كله���ا ،وأكثره���ا اس���تيفاء لبحوث ً الض���وء .فق���د عال���ج ف���ي ه���ذا الكت���اب ،القواني���ن األساس���ية لالنعكاس واالنكسار أو االنعطاف ،كما سبق "كبلر" إلى كثير م���ن قضاي���اه .حتى ليق���ول البعض إن هذا األخير إنما اس���تمد معلوماته في الضوء -وال س���يما ما يتعلق بانكساره في الجو- م���ن ه���ذا الكتاب وس���ائر كتب���ه األخ���رى .فابن الهيث���م هو في مقدمة علماء الطبيعة النظرية بما وضع في ظواهر الضوء من نظريات في اإلبصار وقوس قزح وانعكاس الضوء وانكساره. أيضا في المقدمة من علم���اء الطبيعة التجريبية بما وه���و يأت���ي ً أجرى من تجارب في كيفية امتداد األضواء الذاتية التي تنطلق من الجرم المضيء؛ كضوء الش���مس ،واألضواء العرضية التي تنعك���س عن س���طوح األجس���ام الكثيفة بع���د أن كانت أضواء ذاتية أو عرضية.
47
السنة التاسعة -العدد (2013 )38
تاريخ وحضارة
أ.د .بركات محمد مراد*
ابن الهيثم
مؤسس علم الطبيعة في العصور الوسطى
عرفته أوربا باس���م " ،"Alhazenأي الحس���ن بن
ال من أعظم الرياضيين أوائل القرن الحادي عشر الميالدي رج ً
"بأم���ر اهلل" ،وعرف بالزهد والبعد عن ش���رف
الحس���ن بن الهيثم" .ويصفه "سارتون" بأنه" :أكبر عالم طبيعي
الهيثم الذي دخل في خدمة الخليفة الفاطمي
والطبيعيي���ن ف���ي العص���ور الوس���طى ،ه���و أبو عل���ي محمد بن
الدني���ا وجاهها ،حتى إن الخليفة ولاّ ه بعض الدواوين ،فضاق
مسلم ومن أكبر المشتغلين بعلم المناظر في جميع األزمان".
حياة العزلة وكفاف العيش والتجرد عن الش���واغل التي تمنعه
البح���ث العلمي .فق���د امتازت بحوث���ه بالمالحظ���ة والتجربة،
ذرعا ولم يحتم���ل فتنة الحكم وفتنة الحاك���م ،وآثر عليها به���ا ً من النظر في العلم واالنكباب على تحصيله وتحقيقه.
وقد وصفه "البيهقي" بـ"الحكيم بطليموس الثاني" ،ويقول
متفن ًنا في العلوم ،ولم يماثله أحد من "ابن أبي أصيبعة"" :كان ّ أهل زمانه في العلم الرياضي وال يقرب منه".
المحدث���ون فنج���د عل���ى رأس���هم "دي بور" ف���ي كتابه أم���ا َ
"تاري���خ الفلس���فة في اإلس�ل�ام" يقول" :وتجد ف���ي القاهرة في السنة التاسعة -العدد (2013 )38
46
المثلى في وتأت���ي عظمة اب���ن الهيثم م���ن إدراكه للطريق���ة ُ
وأخ���ذ باالس���تقراء والقياس والتمثيل. ورائ���ده في ذلك منهج َ ُ األصوليي���ن ال���ذي كان قد نض���ج قبله .فق���د كان يبتدئ -كما يق���ول ه���و نفس���ه -باس���تقراء الموج���ودات ،وتصف���ح أحوال
بص���رات ،وتمييز خواص الجزئي���ات ،ثم يتر ّقى في البحث الم َ ُ
والمقايي���س عل���ى الت���درج والترتي���ب ،م���ع انتق���اد المقدمات والتحف���ظ م���ن الغلط في النتائ���ج .وكان يجعل غرضه في كل
عملية إنبات أفقية ومائلة بزاوية 30درجة.
عملية إنبات عدس في وسط اصطناعي عمودي وأفقي ومائل.
(*) جامع���ة محم���د األول ،كلي���ة العل���وم -وج���دة /المغ���رب .ت���م إع���داد ه���ذا البح���ث م���ن قبل أ.د .عب���د المجيد بلعاب���د ،والطلبة :بوش���فرة حنان، والجوهري يزيد ،ومالكي حورية.
45
السنة التاسعة -العدد (2013 )38
الخط���أ الجاذب���ي وبالتال���ي تصحيح���ه .عندم���ا نق���وم بعمليات ِق َطع أفقية لنس���يج جذور وضعت في وس���ط اصطناعي أفقي عمودي���ا على (األرض) ،ونقارنه���ا بج���ذور نبات���ات وضع���ت ًّ شاسعا بين موضع بعض العضيات الطريقة العادية ،نجد فر ًقا ً والجزيئات داخل الس���يتوبالزما عند الخاليا الجذرية للنباتات أفقيا ،أي بدون جاذبية( .الصور رقم 2و)3 التي وضعت ًّ خالي���ا الجه���ة العلوية لجذور نبات���ات أفقية تنم���و بطريقة س���ريعة مقارن��� ًة مع نف���س الخاليا الس���فلية ،مما يعط���ي فر ًقا شاس���عا بين النمو العلوي والس���فلي ،والنتيجة هي الميل إلى ً األسفل في اتجاه الجاذبية األرضية .من بين العوامل الكيميائية المصاحبة لتصحيح زاوية الميل عند النباتات بعد االستشعار الجاذبي ،يمكن أن نس���تدرج هرمون األكس���ين ،وهو الهرمون كلي���ا ع���ن تكوين الج���ذور ،وحتى طريق���ة االتجاه المس���ؤول ًّ نحو األرض بالنس���بة للجذور واالتجاه نحو الس���ماء بالنس���بة للج���ذوع ،مما يمكن اس���تحضاره من اآلية القرآني���ةَ :أ َل ْم َت َر ِت هلل َم َث ً َك ْي َ ���ف َض َر َب ا ُ ���ج َر ٍة َط ِّي َب��� ٍة َأ ْص ُل َها َثاب ٌ �ل�ا َك ِل َم ًة َط ِّي َب ًة َك َش َ ِ الس َما ِء(إبراهيم.)24: َو َف ْر ُع َها في َّ أيضا عن النمو وتمدد الخاليا هذا الهرمون هو المس���ؤول ً النباتي���ة ،وهذا عبر ثالث���ة مراحل؛ هي التمدد فدخول الماء ثم النم���و .ه���ذه المراح���ل تتم بالتتاب���ع ،ولها خاصي���ة أنها بدون رجعة .الرسم أسفله يبين هذه المراحل.
إن وج���ود اس���تجابة الجاذبية عند النبات���ات ،والتي تتطابق مع النمو الموجهة في بعض األعضاء في اتجاه قوة الجاذبية، نظام���ا أو أنظمة يمكن أن تتجاوب بش���كل يفت���رض أن هن���اك ً فوري مع الجاذبية داخل النبات. ضغطا يب���دو أن هن���اك كبي���را بواس���طة البروتوبالزما ،وهو ً ً غير متس���اوٍ في جميع مناطق الخلية الحساسة .هذه الخاصية قاب�ل�ا إلعط���اء إش���ارة تجع���ل مج���ال اإلدراك عن���د الج���ذور، ً أقل التصحي���ح ،وتك���ون ه���ذه الخاصي���ة آلية أخرى ل�ل�إدراك ّ أهمية من الترسيب المرتبطة بجزيئات النشا. وجود الجاذبية أمر أساسي لبقاء األصناف خالل اإلنبات، بيئي���ا ،يب���دو أن العديد من ق���دم باس���تمرار ً والجاذبي���ة ُت ِّ عام�ل�ا ًّ اكتسبت أثناء التطور ،مما أدى إلى وجود عدة نظم العمليات ُ داخل الخلية نفسها.
عملية اإلنبات عمودية وعادية.
ه���ذا الف���رق ف���ي تركيز األكس���ين بي���ن الجهتين ،مس���ؤول ع���ن تمدد الخاليا العلوية بس���رعة نمو كبي���رة مقارنة للخاليا لتكون استجابة الخاليا للتعديل الس���فلية (ّ )Differential Growth الجاذبي. السنة التاسعة -العدد (2013 )38
44
عملية اإلنبات عمودية عكس الجاذبية.
و ُتبي���ن الدراس���ات أن هن���اك آلية تحد من انحن���اء الجذور عل���ى األرض ،ف���ي حي���ن أنها تتوق���ف عن العمل م���ع انعدام الجاذبي���ة .وه���ذا يفترض أن درجة انحن���اء الجذور ،هي نتيجة قوتي���ن متعارضتي���ن ومتتاليتي���ن؛ إحداهم���ا تح���رض رد فع���ل االنحناء الجاذبي ،واألخرى تعدمه( .الصورة رقم)4 أك���د البح���ث أن هن���اك عالق���ة بي���ن الجاذبي���ة األرضي���ة والنبات���ات ،يجعل لديها القدرة على االنتصاب في حالة ميلها بس���بب الرياح والح���وادث األرضية األخ���رى ،حيث إن لديها ذاتيا بالوضع والحركات والتوازن. تقب ً ال ًّ ّ
الصورة رقم :6أطوار تصحيح أثر الجاذبية عند الجذع .من 1إلى .4
أفقيا باتجاه الساق إلى األعلى. الصورة رقم :7وضع نبتة الجلبان ًّ
االستجابة لعامل الجاذبية
الصورة رقم :5الجذع في اتجاه الجاذبية.
وق���د أجري���ت تج���ارب م���ع فريق م���ن الطلبة بجامع���ة محمد األول ،كلي���ة العل���وم ،وج���دة ،المغ���رب ،على ع���دة أنواع من فتبين من النبات���ات؛ منه���ا العدس ،وعباد الش���مس ،والجلبانّ ، الحس���ابات أن النبات لديه اإلحس���اس بالميل واالنحناء ،مما يجعله يرجع إلى الش���كل والوضع الطبيعي مرة أخرى ،وأن ذل���ك يمر من خ�ل�ال الخاليا الموجودة ف���ي الكوع الخارجي للس���اق الذي يقوم بتصحيح وضعه ،وفي حالة وجود ضعف ف���ي هذه الخاليا ،يك���ون من الصعب على النب���ات االنتصاب م���رة أخرى .وما زالت األبحاث مس���تمرة لمعرف���ة المزيد من المعلومات. عن���د وض���ع نبتة في وض���ع أفقي ،يتجه الس���اق إلى أعلى والج���ذر إل���ى أس���فل (الصورة رقم .)5وتس���مى عملي���ة اتجاه الجذر إلى أس���فل بـ"االنتحاء األرضي" الذي يظهر حالما تبدأ عملي���ة إنب���ات البذور .ويعود ذلك إلى وج���ود زيادة في تركيز األكسين عند ذلك الطرف ،ويمنع التركيز العالي لألكسين في الجانب اآلخر المواجه لألول ،مما يعطي استطالة الخاليا في الجذور ،ويبطء النمو عند ذلك الجانب ،ويزداد انقسام الخاليا عل���ى الجان���ب العل���وي ،مما يس���بب انحن���اء النهائ���ي للجذر.
جد حساس���ة للجاذبية ،وهي د ّلت بعض التجارب أن الجذور ُّ ذير ،بواس���طة تؤث���ر على خاليا ال���رأس الموجودة في قمة ُ الج ْ حب���وب نش���وية تتجم���ع ويس���بب وزنه���ا ف���ي أس���فل الخلي���ة بتصحيح وضعها وإدراك الوضع الطبيعي الذي ذكر في اآلية ِت ،وتنمو ف���ي االتجاه الصحيح نحو الكريم���ة؛ َ أ ْص ُل َها َثاب ٌ األسفل في داخل األرض. نموها، تف���رز جمي���ع النباتات بعض الم���واد التي ّ تنش���ط َّ ومن بينها األوكسين ( )Acetic Indolyl Acidوهي هرمونات نمو النباتات .فهي تؤثر في بعض أقس���ام النبتة ،وتس���بب الجاذبية تركيز األوكسين فيها كما كانت الحال ساب ًقا في حبوب النشا. وتحتوي خاليا الساق الحديث العهد والتي تقع في األسفل، على كمية أكبر من األوكس���ين .فهي تنمو إ ًذا وتتكاثر بس���رعة متجها نحو األعلى .فالخاليا القريبة أكث���ر ،ويكون رأس النبتة ً جدا م���ن ال���رأس ،هي التي تحتوي على نس���ب مئوي���ة مرتفعة ًّ من األوكس���ينات ،وعندم���ا تتواجد األوكس���ينات بكثرة ،تفقد فعاليته���ا وال تعود تنش���ط النمو والتكاث���ر .وبالمقابل ،تحتوي بعي���دا ع���ن رأس الج���ذور كمي���ات أق���ل من الخالي���ا الواقع���ة ً االوكسينات ،إال أنها كافية لتوجيه الجذر نحو األسفل. استش���عار الجاذبية يكمن عند النباتات في انحناء الجذور في اتجاه األرض ،وهذا بزاوية ميل مصححة بطريقة رياضية، تس���تعمل فيه���ا النبت���ة عمليات حس���ابية معقدة لتبي���ان مكامن
43
السنة التاسعة -العدد (2013 )38
نش���ط وق���د أثبتت بع���ض التج���ارب أن االنحناء الجاذبي َي ُ بانتق���ال كابح للنمو من رأس الجذر باتجاه منطقة االس���تطالة والنم���و .في هات���ه الحالة تكون العضويات الجاذبة -واس���مها أميلوبالس���ت -متموضع���ة ق���رب الجدار الخل���وي األبعد عن النس���يج اإلنش���ائي في مؤخ���رة رأس الج���ذر ( . )Coiffeوهكذا يفت���رض وجود ضغط على بنية حساس���ة على الجدار الطولي لخاليا مسؤولة عن تمثل االنحناء الجاذبي.
الصورة رقم :1رأس الجذر مع الغطاء الخارجي الحساس
وق���د الحظ بعض العلماء ف���ي القرن الماضي بعد حصيلة م���ن التج���ارب ف���ي المحط���ة الفضائية الس���وفياتية س���يوز ،أن الخاليا الحساس���ة التي توجد برأس الج���ذع ( )Coiffeهي التي توج���ه جواب الجذوع لتأثير الجاذبي���ة ،خاصة بعد مقارنة بين ّ تموض���ع الجذوع تحت تأثي���ر الجاذبية وأخرى تحت ظروف انع���دام الجاذبي���ة ،فتبين أن هناك ترس���ب عضوي���ا ت (�Amylo )plastesكبي���رة في الخاليا الحساس���ة بفع���ل الجاذبية ،وتبين أن النم���و الجذري يكون أضعف في حال انعدام الجاذبية .وهذه النظري���ة تبي���ن التأثر بالجاذبية من خالل تغير في قدرة التوجه، ونق���ل هذه المعلوم���ات إلى منطقة يتم فيها االنحناء الجذري. ويت���م ذلك عبر ع���دة مراحل ،أولها إدراك الج���ذر لتغير اتجاه الجاذبي���ة ،ث���م ترجم���ة اإلش���ارة ،أي تحويل الفع���ل اآللي إلى إنت���اج وتوزي���ع كيميائي حي���وي .وهنا يكون الم���زج المعجز بي���ن نظامين متباعدين ،األول فيزيائ���ي وهي الجاذبية ،والثاني كميائي وهي مواد تفرز في النبات .وتنتقل اإلشارة القادمة من رأس الج���ذر ،حيث يت���م اإلدراك والترجمة إل���ى موقع التأثر ال���ذي يبع���د بمليمترين عن الرأس ،ثم ينش���أ االنحناء الجاذبي في نمو األجزاء العليا (الصورة رقم )2والدنيا (الصورة رقم)3 من الجذور ،حيث يمكن مالحظة طول الخاليا في المواضع القريبة من الرأس بواسطة المجهر.
الصورة رقم3 خاليا سفلية جذرية غير ممددة لجذور نبات الجلبان. السنة التاسعة -العدد (2013 )38
الصورة رقم2 خاليا علوية جذرية متمددة لجذور نبات الجلبان.
42
عملية اإلنبات بزاوية ميل 60= αدرجة.
الصورة رقم :4قوة االنحناء وتصحيح القوة الجاذبية.
علوم
أ.د .عبد المجيد بلعابد*
استشعار الجاذبية عند النبات ِ الس َما ِء(إبراهيم.)24: هلل َم َث ً َ أ َل ْم َت َر َك ْي َ ف َض َر َب ا ُ ال َك ِل َم ًة َط ِّي َب ًة َك َش َج َر ٍة َط ِّي َب ٍة َأ ْص ُل َها َثاب ٌ ِت َو َف ْر ُع َها في َّ تعتب���ر الجاذبي���ة م���ن أه���م العوام���ل الفيزيائية
���د دقيق���ة ومتنوع���ة ومع ّقدة ف���ي الزم���ان والموقع فيزيائي���ة ِج ُّ
الس���ماوات واألرض .وه���ي َمع َلم���ة فيزيائي���ة
اهلل ه���ذه المخلوقات أعضاء يمكنها أن تحلل النظم الخارجية
تأثي���را عل���ى الكائن���ات الحي���ة من���ذ خل���ق اهلل ً كالض���وء والح���رارة والرطوب���ة والضغط الخارج���ي واالرتفاع
فوق س���طح البحر .وقد تكون هذه العوامل مجتمعة في تأثير ِ ���ر ِد ا ُ َ ���ر ْح واح���د كم���ا ف���ي قوله تعال���ىَ :ف َم ْن ُي ِ هلل أ ْن َيهد َي ُه َي ْش َ �ل�ا ِم َو َم ْن ُي ِر ْد َأ ْن ُي ِض َّل ُه َي ْج َع ْل َص ْد َر ُه َض ِّي ًقا َح َر ًجا إل ْس َ َص ْد َر ُه ِل ِ ِ َ ين الس َ���ما ِء َك َذ ِل َك َي ْج َع ُل ا ُ س َع َلى ا َّل ِذ َ الر ْج َ هلل ِّ َكأ َّن َما َي َّص َّع ُد في َّ ون(األنعام ،)125:هنا يجمع اهلل تعالى بين معلمتين هما َ ال ُي ْؤ ِم ُن َ االرتف���اع عن س���طح األرض ،ونقص األكس���يجين في الهواء عبر الضغط الخارجي ،وقد يضاف إليهما عامل الجاذبية.
والنبات���ات م���ن بي���ن مخلوق���ات اهلل الت���ي تؤث���ر ب���كل هذه
المعالم ،ليس لها وسط داخلي ( )Milieu İntérieurكالحيوانات،
مباش���را .وهذا الوس���ط النباتي هو وس���ط مم���ا يجع���ل التأثي���ر ً
طبيع���ي خارجي يتق ّل���ب بتقلبات الج���و ،ويخضع لمعامالت
الجغراف���ي .وللجاذبي���ة تأثي���ر مذهل على النبات���ات ،وقد منح المحيطة بها بدقة عالية ومعجزة .إن األعضاء الحساسة لعامل
َ ف َض َر َب ���م َت َر َك ْي َ الجاذبي���ة ،قد ذكرت في اآلية الكريمة :أ َل ْ ِ���ت َو َف ْر ُع َها ِفي ا ُ هلل َم َث�ل� ً ���ج َر ٍة َط ِّي َب��� ٍة َأ ْص ُل َها َثاب ٌ ا َك ِل َم��� ًة َط ِّي َب��� ًة َك َش َ ���ما ِء(إبراهيم )24:أن األص���ل ثابت وهي الج���ذوع والفروع الس َ َّ تأث���را بالجاذبية. ف���ي الس���ماء .فه���ذان العض���وان هم���ا األكث���ر ً
وال���دارس له���ذه الظاهرة يمكنه أن يس���لط الض���وء على عمل
الخالي���ا الحساس���ة المكون���ة له���ذه األعضاء .فعندم���ا يوضع أفقيا في حق���ل الجاذبية األرضية ،فإن طرفه ينحني نحو ج���ذر ًّ األسفل ليعود إلى اتجاه نموه الطبيعي .وهذا ما يدعى بـ"النمو
الجاذب���ي" .وهذا النم���و يتوقف إذا اجت���ث رأس الجذر حيث تتموضع الخاليا الحساسة للجاذبية( .الصورة رقم)1
41
السنة التاسعة -العدد (2013 )38
شعر
سعود الصاعدي*
يا حادي الركب م�������ا ه������� ّز قلب�������ي ال وج������� ٌد وال َغ������� َز ُل ذاك ام�������رؤ القيس يبكي ف�������ي الثّرى ِدمنًا منمق������� ٌة م�������ا الح ُّ �������ب إال أحادي ٌ �������ث ّ �������ات إال خ ُّ �������د فاتن������� ٍة وال الصباب ُ �������ل غاني ٍة ُس�������حقًا لم�������ن مجده ف�������ي وص ِ أض ُلع�������ي ش�������وقًا أكاب�������د ُه لك�������ن ف�������ي ْ فت �������ر ْ ي�������ا حادي الركب في درب العال ش ُ ل�������م يُث ِ ��������ي َرك ف�������ي البي�������داء ذو ظفر �������ن َس ْ �������ر فالمطاي�������ا به�������ا ش ٌ �������وق يس�������يّرها ِس ْ �������ر في ٍ بقيت رحاب إل�������ى الرحمن م�������ا ْ ِس ْ ِس�������ر واطّ�������رح َّ كل أرزاء اله�������وى ،فلن�������ا ْ ال تُهم�������ل العي�������س دعه�������ا فه�������ي جامح ٌة وإن تب������� ّدت ل�������ك األض�������واء ف�������ي بل������� ٍد �������ت ش�������عاع البي ِ �������ت مؤتلقً�������ا وإن رأي َ ِ كرم�������ا فاقص�������د بن�������ا البي�������ت وارِو غ ّلت�������ي ً ِ �������عاب ن�������ام س ُ �������ر بن�������ا ف�������ي ش ٍ �������الكها وس ْ ائمنا ي�������ا ح�������ادي الرك�������ب م�������ا ك ّل�������ت عز ُ فلي�������س إال ه�������دى الرحم�������ن غايتن�������ا جئن�������ا نلبّ�������ي ن�������داء الح�������ق تس�������بقنا جئن�������ا فأرواحن�������ا ق�������د ح ّلق�������ت ش�������رفًا نفس�������ا برؤيت ِه ي�������ا قاص�������د البي�������ت ِط ْ �������ب ً ّ �������ت لغ�������ة األق�������وال فانهم�������ري تعطل ْ
َ�������ل رمت������� ُه بألح�������اظ اله�������وى ُمق ُ وال ْ وتل�������ك أفئ�������دة العش�������اق ي�������ا َط َل�������ل ق�������د حاكها م�������ن قميص اللي�������ل من غفلوا تصوغه�������ا ع�������ن أحادي�������ث اله�������وى القُبَ ُل �������ل والح َل ُ تكس�������و مفاتنَه�������ا األث ُ �������واب ُ �������ل الج َم ُ �������اعر ُ ولي�������س تُس������� ِع ُف إال الش َ �������ل ب�������ك المعال�������ي ودرب الدي�������ن متص ُ ُ �������ل �������أس وال َم َل ُ وال َ�ثنَ�������ى الع َ �������زم ال ي ٌ وف�������ي النف ِ �������تعل �������وس أزي�������ز الش�������وق يش ُ ب�������ك الس�������نون وم�������ا أبق�������ى ب�������ك األجل �������ل �������وح ف�������ي سبس�������ب الديج�������ورة األم ُ يل ُ والكلل �������ن ُ م�������ا َص ّدها في المس�������ير الوه ُ مل ب�������ه الحطي�������م فق�������ل :يكفي�������ك ي�������ا َج ُ �������ل يفي�������ض بالن�������ور واألرواح تبته ُ ُ �������ل �������ر الزل ُ م�������ن م�������اء زم�������زم فه�������و الطاه ُ �������ل لع�������ل عين�������ي ب�������أرض الطه�������ر تكتح ُ �������ل وال تولّ�������ت بن�������ا األه�������واء والمل ُ �������ل ولي�������س إال ال�������ذي قال�������ت لن�������ا الرس ُ �������ل قلوبُن�������ا فه�������ي للرحم�������ن تمتث ُ �������ل �������در وال ُز َح ُ إل�������ى الس�������ماء ف���ل���ا ب ٌ وي�������ا حجي�������ج ب���ل���اد الل�������ه فابتهل�������وا َ�������ل بالدم�������ع عن�������د مق�������ام الرك�������ن ي�������ا ُمق ُ (*) شاعر سعودي.
السنة التاسعة -العدد (2013 )38
40
امتداده���ا في أرجاء البحر الكاس���ح عند ب���دء التكوين :خاصة "الخ ْش���عة" كم���ا ج���اء ف���ي نف���س المص���در تعن���يَ " :أ َكمة وأن ُ ِ ���ع ،وقيل هو م���ا غلبت عليه الطئ��� ٌة ب���األرض ،والجم���ع ُخ َش ٌ
الس���هولة ،أي لي���س بحجر وال طين" .وفي ه���ذه المواصفات علميا في س���ندا "خ ْش���عة" التي كما س���نرى ،نج���د لها لكلم���ة ُ ً ًّ التصني���ف الجيولوج���ي لميكانيزم���ات نش���وء وتبل���ور قش���رة تلميح���ا إل���ى أن الكعب���ة قد تك���ون أول أكمة األرض ،نلم���س ً انبثق���ت من باط���ن األرض المنصهر ،حت���ى إذا ما برزت على س���طح األرض المغم���ور بالمياه وه���ي في مرحلته���ا الجنينية َل ِز َجةُ ،د ِحيت منها اليابس���ة فانتش���رت القارات .وهو المش���هد ���ع ال���ذي يع���ززه تفس���ير القرطب���ي لقول���ه تعال���ىَ : وإ ِْذ َي ْر َف ُ ���ت َوإِس���م ِ إ ِْبر ِاهي���م ا ْل َقو ِاع َ ِ ���ن ا ْلبي ِ يل(البقرة ،)127:حيث اع ُ ْ َ ُ َ ���د م َ َ ْ َ مجاه���دا قال" :خل���ق اهلل موضع البيت أن اهلل- رحم���هق���ال ً ش���يئا من األرض بألفي س���نة ،وأن قواعده لفي قبل أن يخلق ً السفلى" .ذلك التفسير الذي يتصل بما سبق األرض الس���ابعة ُّ أن قلن���اه ح���ول انبث���اق الكعب���ة كأول أكمة م���ن باطن األرض المنصه���ر عل���ى س���طحها المغم���ور بالمياه عند ب���دء التكوين؛ مم���ا جعل أرض مكة تس���مى ف���ي كتاب اهلل ب���ـ"أم القرى" ،أي األص���ل الذي تفرعت من���ه كل البراري على س���طح األرض. علما بأنها تقابل فإذا أقررنا بأن الكعبة في وس���ط األرضً ، في السماء البيت المعمور كما دل على ذلك البيان الوارد في حديث رس���ول اهلل ،الذي جاء في معرض تفس���ير ابن كثير وا ْل َب ْي ِت ا ْل َم ْع ُمورِ (الط���ور ،)4:حيث قال رحمه لقول���ه تعالىَ : ���د ّيُ :ذكر لنا أن رس���ول والس ِّ اهلل" :قال قتادة والربيع بن أنس ُّ يوما ألصحابه " :هل تدرون ما البيت المعمور؟" اهلل قال ً قالوا :اهلل ورس���وله أعلم .قال" :فإنه مس���جد في السماء بحيال لخ���ر عليها يصل���ي فيه كل يوم س���بعون ألف خر ّ الكعب���ة ،ل���و ّ مل���ك ،إذا خرج���وا منه لم يعودوا آخر ما عليهم" .فذلك يعني أن الكعبة توجد في محور التواصل مع البيت المعمور ،ذلك المحور الذي حوله تتماثل منظومة الكون في سجود وتسبيح معج���زا في وصفه���ا ،وجاء حديث لخالقه���ا ال���ذي ج���اء كتابه ً رس���وله صاد ًق���ا ف���ي تثبي���ت صحتها ،حتى تع���ي األمة بكل المعايير العلمية ومن خالل موقعها الوسط الذي خصها اهلل به ���طا(البقرة )143:ما اك ْم ُأ َّم ًة َو َس ً و َك َذ ِل َك َج َع ْل َن ُ في قوله تعالىَ : ترمز إليه معالم الزوجية من أسرار حقيقة التوحيد ،التي يشهد بها للموجد كل شيء في هذا الوجود. وهذا يدل على أن ما تحمله الزوجية من أسرار ودالالت،
تلتق���ي معانيه في حقيقة واحدة تدل على صفة الوحدانية التي تف���رد به���ا موجد الوج���ود المنزه ع���ن التش���بيه والتمثيل الذي ق���ال في ح���ق ذاته العلي���ةَ ﴿ :ليس َك ِم ْث ِل ِه َش���ي ٌء َو ُهو الس ِ يع ���م ُ ْ َ َ َّ ْ ا ْل َب ِص ُير﴾(الش���ورى .)11:م���ن أج���ل ذل���ك ج���اءت ف���ي عب���ادات كثير من المش���اهد التي ترمز إلى انس���جامه الفطري المس���لمٌ ، م���ع نظ���ام الزوجي���ة في الك���ون ،بحي���ث إذا تأملنا في مش���هد الس���جود من محفل الس���اجدين حول الكعبة ،فسنجده يجسد تزاوجيا ح���ول محور التواصل بين الس���ماء واألرض، تماث�ل�ا ً ًّ يذكر بذاك الذي يسري في كل مكونات الكون ،من الذرة التي ّ تتماث���ل فيها اإللكترونات حول النواة إلى المجرة التي تتماثل فيه���ا الكواكب حول الش���مس في إش���ارة إلى وحدة الس���جود التي عمت كل الوجود .كما أننا إذا تأملنا في مش���هد الطواف تجس���يدا م���ن موك���ب الطائفين ح���ول الكعبة ،فس���نجده يمثل ً للجذب واالستقطاب الذي يحصل لكل شيء حول أصله. فالكعب���ة بموقعها الجذاب الذي يجعل أفئدة الناس تهوي مس���تقطبة نحوها ،ألنها إليه���ا ،يطوف حولها الطائفون بقلوب َ تماما كما تشكل األصل الذي منه تفرعت األرض ّأم اإلنسانً ، ش���كل الن���وا ُة التي حولها تح���وم اإللكترونات في نفس اتجاه ُت ِّ شكل األرض الطواف األصل الذي تشكلت منه الذرة ،وكما ُت ِّ َ األصل منجذبا إليها الت���ي حولها يدور القمر في نفس االتجاه َ ً ال���ذي من���ه انفصل ،وكما تش���كل الش���مس الت���ي حولها تدور األرض ف���ي نفس االتجاه األصل الذي منه انبثقت األرض... إلى غير ذلك من المشاهد التي تعبر عن أن اإلنسان في لحظة الس���جود والط���واف وغيرهم���ا م���ن العب���ادات ،يترجم أس���مى عب���ارات االرتب���اط باألصل ،م���ن خالل طلبه التح���رر من رق الذات والعروج في شوارق الصفات .تلك الصفات الموصلة إلى اهلل التي ِس ّرها من أصل تلك النفخة اإللهية ،التي بثها سويا. س���بحانه من روحه في كيان اإلنس���ان من يوم خلق آدم ًّ ف���كان أن ُأتبِعت اآلي ُة محور هذا الفصل بقوله تعالىَ :ف ِف ُّروا هلل ِإ ِّن���ي َل ُك ِ ِ ���ع ا ِ ِإ َل���ى ا ِ هلل ِإ َل ًها ِي���ن َ و َ ير ُمب ٌ ال َت ْج َع ُلوا َم َ ْ ���م م ْن ُه َنذ ٌ ِ ِ آخ ِ ِين(الذاري���ات )51-50:في تلميح إلى ي���ر ُمب ٌ ���ر ِإ ّني َل ُك ْم م ْن ُه َنذ ٌ َ َ أن���ه س���بحانه ،الواح���د األحد الذي ال مفر من���ه وال منجى وال ينش���ل ملج���أ إال إلي���ه؛ إذ ال ِن ّد له وال مثيل وال نظير يمكن أن ُ العب���د من أوحال نفس���ه ،وذلك ما ترم���ز إليه دالالت الزوجية َ في هذا الكون. (*) كلية العلوم ،جامعة ابن طفيل /المغرب.
39
السنة التاسعة -العدد (2013 )38
ف���ي البل���ورة ،إنما صدر ع���ن تماثل الذرات في بن���اء الجزيء ِ المؤس���س للبلورة ،ذلك التماثل الذي يسري في الحجر ومنه ّ إل���ى الجب���ل فاألرض الت���ي تتماثل ح���ول مركزه���ا األطراف. ُ
كمل فيه البناء بمماثلة األرض للس���ماء ف���إذا رأيت الكون ُ هلل ا َّل ِذي َخ َل َق َس ْ���ب َع كما نستش���ف ذلك من قول اهلل تعالى :ا ُ س���مو ٍ ���ن ا َ ض ِم ْث َل ُه َّن(الطالق ،)12:وهي إش���ارة إلى أل ْر ِ ات َو ِم َ َ َ َ تقاب���ل كتلتي األرض والس���ماوات ،فاعل���م أن ذلك من وحي ِ ���ما ٍء اهلل إل���ى الك���ون بحك���م قول���ه َ : و َأ ْو َح���ى ف���ي ُك ِّل َس َ
َ ِيح(فصل���ت .)12:وإذا رأيت ���م َاء ُّ الد ْن َيا ب َِم َصاب َ الس َ أ ْم َر َه���ا َو َز َّي َّنا َّ
األرض ُفرش���ت حجارة أساسها البلورة التي هي سر الزوجية
تحدث به أس���رارها هو م���ن وحي اهلل إليها فيه���ا ،فاعلم أن ما ّ ار َها ِ ب َأ َّن َر َّب َك َأ ْو َحى ي ْو َم ِئ ٍذ ُت َح ِّ القائ���ل في حقهاَ : ���د ُث َأ ْخ َب َ َل َها(الزلزل���ة .)5:وإذا رأي���ت هذه الحج���ارة أخرجت نبا ًتا ينمو في زوجية عجيبة الحس���ن متألقة الجمال ،فاعلم أن ذلك من و َت���رى ا َ ض َها ِم َد ًة أل ْر َ وح���ي اهلل إليه���ا الذي قال ف���ي حقهاَ َ : ���ن ُك ِّل َز ْو ٍج َف��� ِإ َذا َأ ْن َز ْل َن���ا َع َل ْي َه���ا ا ْل َم َاء ْاه َت َّز ْت َو َر َب ْ ���ت َو َأ ْن َب َت ْت ِم ْ يج(الح���ج .)5:وإذا رأي���ت النحلة تمتص رحيق هذا النبات َبهِ ٍ يذكر بذاك فتبني خليتها على أس���اس من التماث���ل االزدواجي ّ ال���ذي تتأل���ق به هيئة البل���ورة ،فاعلم أن ذلك مم���ا أوحى إليها الن ْح ِل(النحل.)68: و َأ ْو َحى َر ُّب َك ِإ َلى َّ ربها القائل في حقهاَ :
مما يدل على أن هذه الزوجية المتجلية في كل شيء ،إنما
هي صفة بثها اهلل بوحي منه سبحانه في كيان كل مخلوق حتى تشهد المخلوقات بإفراد الوحدانية للخالق .فكان من أجل ذلك
أن ُجعلت الكعبة مهبط الوحي في وسط من األرض ،تتماثل رمزا لهذه الزوجية في المكانة والمكان. حوله األقطار لتكون ً
الكعبة رمز الزوجية في األرض
القاري لألرض ،ورس���منا إذا رجعنا إلى مختلف مراحل المد ّ السنة التاسعة -العدد (2013 )38
38
دائ���رة على خريطتها نجم���ع فيها كل القارات ،وجدنا مركزها ف���ي الكعب���ة .كم���ا أنن���ا إذا عالجن���ا ه���ذا المعط���ى من ش���كلها المكع���ب ،فس���نجده دا ًّ ال على نفس المعن���ى .فنحن نعرف أن المكع���ب ه���و أصل النظ���ام البلوري المكون ل���كل مادة صلبة عل���ى وجه األرض ،ألن فيه تتس���اوى كل المحاور المتقاطعة يخول للمكعب في جميع االتجاهات الكونية ،الش���يء الذي ِّ صف���ة الكم���ال في التماث���ل ( .)Perfect Symetryوالكعبة بش���كلها المكعب ،تجسد هذا المعطى بستة أضلع متماثلة ،كل ضلع متج���ه إلى جه���ة معينة من جهات الكون :األول إلى الس���ماء، واآلخ���ر المقابل ل���ه إلى األرض ،واألربع���ة الباقية يتقابل فيها الش���مال الش���رقي مع الجن���وب الغربي والش���مال الغربي مع الجن���وب الش���رقي ،بينم���ا تتج���ه األركان العمودي���ة الت���ي فيها تتقاط���ع خط���وط ه���ذه األضلع نح���و االتجاه���ات الجغرافية األربع���ة األصلي���ة لألرض ،مش���كّ لة م���ن الكعبة نقط���ة تحديد لمطل���ق االتجاهات الكوني���ة .وتلك ذروة الكمال في الزوجية يعب���ر عنه���ا التماثل القائم في الكعب���ة بين أضلعها وكذلك بين ع���د في الك���ون إال وتوجه���ت إليه. أركانه���ا ،إذ لي���س هن���اك ُب ٌ فكان���ت من أجل ذلك ه���دى للعالمين كما وصفها اهلل في ار ًكا َو ُه ًدى ِلن ِ قول���هِ :إ َّن َأ َّولَ َب ْي ٍت ُو ِض َع ل َّ اس َل َّل���ذِ ي ِب َبكَّ َة ُم َب َ ين(آل عمران.)96: ِلل َْعالَمِ َ وه���ذا المش���هد يتضح أكثر إذا ما عالجن���اه من زاوية البعد الزمني لنشوء األرض وامتدادها المستمد من كشوفات العلم، تلك الكشوفات التي جاءت نتائجها موافقة لنصوص الوحي. فق���د ج���اء ف���ي "النهاية" في غري���ب األثر ،قول رس���ول اهلل : األرض". يت منها ُ "كانت الكعبة ُخ ْشع ًة على الماء ُ فد ِح ْ ه���ذا الحدي���ث إذا تلمس���نا فهم���ه م���ن خ�ل�ال المعطي���ات ال بالح���س والمعن���ى على الجيولوجي���ة الحديث���ة ،فس���نجده دا ًّ أن الكعب���ة تبق���ى النقطة األولى المرش���حة لبزوغ اليابس���ة ،ثم
باستمرار مع متغيرات محيطه .ويمكنك تتناظ���ر أطرافها ح���ول مركزه���ا الكائن أن تلمس هذا التجاوب في الهيئة البلورية ف���ي نواته���ا الباطني���ة .وكل كائ���ن ح���ي كل يف املتجلي��ة الزوجي��ة إن � التي يكشفها لك تحليله المجهري؛ تلك من النب���ات إلى الحيوان إلى اإلنس���ان، �ش��يء� ،إمن��ا ه��ي �صف��ة بثه��ا اهلل الهيئة التي تتألق أشكالها وتتألأل أنوارها إنم���ا تأصل���ت مادت���ه من طين���ة األرض بوح��ي منه �سبحان��ه يف كيان كل وف ًقا للتش���كيالت المعدني���ة المنبثقة من التي تبل���ورت مركباتها من تب ّلر معدنها خملوق حت��ى ت�شه��د املخلوقات النس���ق الكيميائية عل���ى تلك الهيئ���ة البديعة م���ن التماثل، تفاع�ل�ات الحجر مع ُ الناش���ئة ف���ي الوس���ط ال���ذي يتبل���ور فيه، ب�إف��راد الوحدانية للخالق .فكان بل ونج���د أن هذا النظام البلوري الذي بحي���ث إذا أخضع���ت ه���ذا الحج���ر من �أجل ذل��ك �أن ُجعلت الكعبة أساس���ا عل���ى خاصي���ة التماث���ل، يق���وم ً للفحص المجه���ري وظهرت لك معالم يتأسس على سبعة أشكال رئيسية يمثل مهب��ط الوح��ي يف و�س��ط م��ن هذه الهيئة البلورية في األشكال العجيبة المكع���ب األصل ال���ذي تتقاطع فيه���ا الأر���ض ،تتماثل حول��ه الأقطار ّ واأللوان الزاهي���ة التي تختلف باختالف في���ه المح���اور ف���ي جمي���ع االتجاهات لتكون رم�� ًزا له��ذه الزوجية يف تركيباته المعدنية المتبلورة مع متغيرات الكوني���ة .والكعب���ة المش���رفة بش���كلها املكانة واملكان. محيط���ه ،اتض���ح ل���ك أن الن���ور ال���ذي تجس���د أس���مى تعبير عن هذا ّ المكعب ّ تت�ل�أأل ب���ه البلورة إنما هو انعكاس لس���ر النظ���ام بس���تة أضل���ع متناظ���رة تتماث���ل الذري الذي من تش���كيلته نظامها يخفيه ّ حولها مطلق االتجاهات الكونية. حدث به الحجارة التي الكيميائي���ة انبثق���ت تركيبتها المعدنية .فإن أنت س���برت أغوار وذلك سر من أسرار هذا الكونُ ،ت ِّ المكون في داللة على تفرد ه���ذا النظ���ام الذي تآلفت ذراته في جزيئات "النس���ق البلوري" تمثل بلورا ُتها مرآة عاكس���ة لن���ور ِّ الخالق س���بحانه بإف���راد الوحدانية وكم���ال األحدية له وحده ،المنس���جم م���ع ق���رار الحجارة ،تحدث���ت إلي���ك مكونا ُته بنور او ِ ات مكونه���ا ،فتنبه���ت إل���ى معنى قول���ه :ا ُ ���م َ هلل ُن ُ الس َ ّ ور َّ وإضفاء صفة الزوجية على كل ما س���واه ،حتى يش���كل الكون َوا َ ض(النور ،)35:وتحيرت في إدراك معنى قوله س���بحانه: أل ْر ِ تجريبيا لتأس���يس النماذج التفسيرية الموصلة إلى فهم مرجعا ً ًّ ٍ ٍ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ورِ اج ُة ج ز ال ة اج ج ز ي ف اح ب ص م ل ا اح ب ص م ا يه ف ة ا ك ش م ك ه ن ل ث م َ ْ ُ َ ُ ْ ُ َ ُّ َ َ َ َ َ ْ َ ُ َ ْ َ ٌ حقيق���ة الوج���ود ،فكان من أج���ل ذلك أن ُختم���ت اآلية بقوله ���ب ُدرِ ٌّي ُيو َق ُد ِم ْن َش َ ٍ ���ر ِق َّي ٍة ار َك ٍة َز ْي ُتو َن ٍة َ ���ج َرة ُم َب َ َك َأ َّن َه���ا َك ْو َك ٌ ّ ال َش ْ ون(الذاريات.)49: تعالىَ :ل َع َّل ُك ْم َت َذ َّك ُر َ ٍ ِ ار(النور )35:بما ن ه س س م ت م ل و ل و يء ض ي ا ه ت ي ز اد ك ي ة ِي ب ر غ ال و َ َ َ َ َ َ َ َ َ ْ َّ َ ُ ْ ُ َ ُ ُ َ ْ ْ ْ َ ْ ُ ٌ البلورة مرآة الزوجية والذرة سر نظامها يوحي���ه إليك الوص���ف القرآني من مع���ان إعجازية بخصوص تركيب���ا ش���كل الحج���ار ُة ف���ي ع���رف الجيولوجيين، ُت ِّ معدنيا أو المغ���زى من ذك���ر الزيت ال���ذي يضيء ولم تمسس���ه نار ،وما ًّ ً عضوي���ا أو ًّ مزدوج���ا لم���ادة نش���أت ق���ي القش���رة األرضي���ة ثم دالل���ة ذلك عل���ى أثر الفاعلي���ة الخفية التي أودعه���ا اهلل تعالى ً طرأت التي والكيميائي���ة الفيزيائية التح���والت بفعل تبل���ورت المكون���ات الت���ي منها يس���ري الن���ور الذي به ف���ي كي���ان ه���ذه ّ تعرض يت�ل�أأل الك���ون دون أن تمد بطاقة خارجية .فهذا التش���بيه إذن، عليه���ا خالل مراحل تطورها .وبم���ا أن تعريف المادة ّ بع���د ظه���ور نظري���ة النس���بية التي وضعه���ا الفيزيائ���ي األلماني ه���و دالل���ة على أن مص���در النور الذي يضيء بل���ورة الوجود، "أينش���تاين" إلى تغي���ر جدلي حيث صار مفهوم الم���ادة مقتر ًنا إنما هو من س���ر فاعلية خفية ب ّثها اهلل س���بحانه في كل موجود. بالطاق���ة ،أي بفاعليته���ا ،ف���إن مادة الحجارة بفع���ل تغيرها مع ولتأكي���د ه���ذا المعن���ى ،دعن���ا نتأمل ف���ي بلورات النس���يج أن���وارا .ه���ذا الزم���ان والمكان ،بات���ت أكثر داللة على هذا المعنى بحكم ما الصخ���ري ال���ذي ب���ه تزده���ي األرض وتنبس���ط ً أساس���ا على تنط���وي عليه تفاعالتها مع المحيط من تجليات ألثر الفاعلية النس���يج إذا تفحص���ت بلورات���ه ،فس���تجدها تقوم ً الباطني���ة التي تس���ري ف���ي كيانها ،والتي ت���ؤدي في األخير إلى ميزة التماثل؛ وهي صفة تدل على تقابل وجيهات البلورة في حصول توازن ديناميكي مع المحيط الحاضن لها بفعل تبادل ت���زاوج عجيب مع بعضها عب���ر مركز أو محور البلورة .وهذا المادة والطاقة بينهما. التقابل إنما هو انعكاس لثنائية التركيب الحاصلة بين الذرات فالحج���ر مهم���ا كان أصله وظروف تكوين���ه ،هو متجاوب ف���ي بن���اء النس���ق البل���وري ،مم���ا يدل عل���ى أن نظ���ام الزوجية
37
السنة التاسعة -العدد (2013 )38
علوم
د .عبد اإلله بن مصباح*
دالالت الزوجية في الكون
إذا كان مبدأ الزوجية يشكل القانون المؤسس و ِم ْن لنظام الك���ون مصدا ًقا لقول اهلل تعالىَ :
ُك ِّل َش���ي ٍء َخ َل ْق َن���ا َز ْو َج ْي ِن(الذاري���ات ،)49:فإن ْ تجليات���ه عل���ى مكونات األرض التي هي جزء من هذا الكون، تظهر على كل المستويات انطال ًقا من بلوراتها الصخرية التي
من معدنها ُتبعث الحياة.
فالحج���ر ال���ذي ه���و أص���ل تكوي���ن األرض إذا وقفنا على
تحليل���ه المعدن���ي م���ن خ�ل�ال الفح���ص المجه���ري لمركباته،
أساس���ا على خاصية التب ّلر ()Cristallisation؛ وهي فسنجده يقوم ً ���و َرة في زوجي���ة دقيقة الب ْل َ صف���ة ت���دل عل���ى تقاب���ل وجيه���ات َ
التصميم ،عجيبة التماثل ،تتجلى من جميع الزوايا عبر محور
البلورة أو مركزها.
ِ المؤسس���ة لمعدن ف���إذا علمن���ا ب���أن ه���ذه الهيئ���ة البلوري���ة ّ
الذري ،فس���نقف على مشهد نرى الصخر هي انعكاس لنظامه ّ أيضا متماثل ،وأن من خالله أن الترتيب األساسي للذرات هو ً
التماث���ل البل���وري إنما صدر من تناظر ال���ذرات الذي بموجبه ِ المؤس���س لمختلف األشكال البلورية حدد المظهر الجزيئي َت َّ ّ المؤصلة للمادة الصخرية لكوكبنا. ِّ عمت وهذا يضفي على ّ مركبات الحجر صفة الزوجية التي ّ كل شيء؛ من الذرة إلى البلورة إلى الصخرة إلى األرض التي السنة التاسعة -العدد (2013 )38
36
نفس���ية ف���ي أمريكا تعال���ج مرضاه���ا باإلنفاق .وه���ذا يعني أن يغي���رون أف���كار األخذ إل���ى أفكار العط���اء ،مما يؤدي األطب���اء ّ بأصحابها إلى الشعور بالسعادة. وقب���ل أش���هر قليلة كان أغنى رجل ف���ي أمريكا وفي العالم الملياردير "بيل جيتس" ،قد تبنى هذه الدعوة ،ونجح في إقناع خمس���ين ملياردي���را بإنفاق ثرواتهم عل���ى العمل الخيري حتى ً يتذوقوا طعم السعادة وبهجة الحياة. وم���ن خالل نقاش���ي مع عدد م���ن أثرياء تي���ار الخدمة في تركي���ا ،أدركت أنهم يعيش���ون ف���ي بحبوحة الس���عادة المتولدة ع���ن الب���ذل والعطاء ،أكثر من تمتعه���م بالمباهج التي تمكنهم أمواله���م م���ن الحصول عليه���ا .ولفت نظ���ري أن أحدهم َذ َكر أن���ه في أول م���رة أنفق فيها عش���رة آالف دوالر تحت الضغط العاطفي الش���ديد لخطاب أس���تاذه "فتح اهلل كولن" ،وأنه شعر أثن���اء ذل���ك كأن قطع���ة لح���م قد ُق ّدت م���ن س���اعده ،لكنه بعد تذوق طعم الس���عادة حتى صار يس���تمتع باإلنفاق ،ولو ذل���ك َّ أن أستاذه "كولن" دعاه إلنفاق ماله كله لما تردد طرفة عين.
اإلسالم يؤيد تأثير التصور على الصورة
تأييدا م���ن يقرأ نصوص الق���رآن بتدبر ويعي مقاصده ،س���يجد ً كبي���را ألث���ر تصور اإلنس���ان على صورته ،ومن ثم على س���ائر ً مواقفه وتصرفاته وأفعاله ..ولذلك كانت بداية أوامر اإلس�ل�ام برس���م ه���ذه الصورة الكلية م���ن خالل األمر "اقرأ" في س���ورة العل���ق ،كأن ه���ذا التص���ور ه���و أول مرحل���ة م���ن مراح���ل بناء الحضارة ،وهي مرحلة "العلق" الحضاري. واهت���م الق���رآن بتوضيح أث���ر اإلرادة على تحقي���ق النجاح والس���عادة والصحة .وهذه الثالثية هي األجر الدنيوي بجانب الد ْن َي���ا ُن ْؤ ِت ِه و َم ْن ُي ِ اب ُّ ���ر ْد َث َو َ األج���ر األخ���روي ،قال تعال���ىَ : ِم ْن َه���ا(آل عم���ران .)145:والصح���ة ه���ي م���ن ث���واب الدني���ا ،فهي
مقترن بتصميم، اعتقاد مش���روطة باإلرادة ،واإلرادة ومتس���لح ٌ ٌ ٌ باألسباب التي ال تعمى عن رؤية مالك األسباب. ���ن َذ َك���رٍ َأ ْو ُأ ْن َثى َو ُه َو م ْن َع ِم َ ���ل َصا ِل ًحا ِم ْ وق���ال تعال���ىَ : ���ه َح َي���ا ًة َط ِّي َب ًة(النح���ل .)97:واإليم���ان هن���ا ه���و ���ن َف َل ُن ْحي َِي َّن ُ ُم ْؤ ِم ٌ االعتقاد الراس���خ باهلل الذي يملك القدرة على إعطاء اإلنسان الس���عادة والصحة والنجاح ،وهو مس���خر األس���باب الموصلة إليها ،والحياة الطيبة ال تكون بدون سعادة وصحة ونجاح. وفي مثال عملي ،أورد القرآن في قصة يعقوب إشارة إلى تأثير الحزن على الجس���م ،الذي قد يصل إلى حد تعطيل
وظيفة من وظائف الجسم ،كإصابة العين بالعمى ،قال تعالى:
و ْاب َي َّض ْت َع ْي َن ُاه ِم َن ا ْل ُح ْز ِن(يوسف.)84: َ
ولخط���ورة الح���زن والقل���ق عل���ى صحة اإلنس���ان ،وضح
بالقدر ه���ي تجنيب اإلنس���ان الق���رآن أن الغاي���ة م���ن اإليم���ان َ
اب ِم ْن ُم ِص َيب ٍة م���ا َأ َص َ الس���قوط في هذه الهاوية ،قال تعالىَ :
ِف���ي ا َ ���ن َق ْب ِل َأ ْن َن ْب َر َأ َها ض َو َ ال ِفي َأ ْن ُف ِس ُ ال ِفي ِك َت ٍ ���ك ْم ِإ َّ أل ْر ِ اب ِم ْ ِ ِ ال ���وا َع َلى َم���ا َفا َت ُك ْم َو َ ���ير ِ ل َك ْي َ إ َِّن َذ ِل َ ال َت ْأ َس ْ ���ك َع َلى اهلل َيس ٌ اك ْم(الحدي���د)23-22:؛ وكأن اإليم���ان بالقدر هو َت ْف َر ُح���وا ب َِم���ا آ َت ُ حج���ر الزاوية في بن���اء اإلرادة الحديدية .واإلرادة تقوي جهاز
المناعة الذي يقاوم سائر األمراض.
ول���و انتقلن���ا إل���ى الس���نة النبوي���ة لوجدن���ا إش���ارات عديدة
تؤي���د ه���ذا األمر ،من مث���ل قوله " :تفاءل���وا بالخير تجدوه"، وقول���ه " :داووا مرضاك���م بالصدق���ة" (رواه البيهق���ي)؛ ذل���ك أن
الصدقة تكس���ب اإلنس���ان الشعور بالس���عادة ،والسعادة تقضي
على الهموم واألكدار واألحزان ،و ُتكس���ب اإلنس���ان الش���عور بالرض���ا ،مما يؤدي إل���ى تقوية جهاز المناع���ة ومن ثم التمنع
شفاء للناس. عسل معنوي فيها على األمراض .فكأن الصدقة ٌ ٌ ونختم بالحديث القدسي الذي ورد فيه" :إنما هي أعمالكم
خيرا فليحمد اهلل عز أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها ،فمن وجد ً
وج���ل ،وم���ن وجد غير ذلك فال يلومن إال نفس���ه" (رواه مس���لم)؛
وكلم���ة الخي���ر الواردة ف���ي النص ،جاءت نك���رة لتعم كل خير تثمرها س���ائر الش���عب اإليمانية ،س���واء كان ذلك في الدنيا أم في اآلخرة .وال ش���ك أن الصحة والنجاح والسعادة من الخير
العميم الذي جاء به هذا الدين العظيم.
وهكذا ،يتبين لنا أن تصور اإلنس���ان ومعتقده هو المقدمة،
دائما من جنس ونتائج���ه هي المش���اعر واألعمال ..والنتائ���ج ً
المقدم���ات؛ فم���ن يب���ذر الي���أس والتش���اؤم والحق���د والقل���ق والحزن ،ال يمكن أن يحصد النجاح والصحة والسعادة.
ويمكنني تشبيه أجسام البشر بأنها "أغنام" ،و ُتمثل األفكار
الطيب���ة دور الراع���ي ،أما األفكار الخبيثة فهي الذئاب ،فلنحذر
على أجسامنا من ذئاب أفكارنا.
(*) أستاذ الفكر اإلسالمي السياسي بجامعة تعز /اليمن.
35
السنة التاسعة -العدد (2013 )38
ويؤكد "جم���س آالن" على خطورة س���عداء إن طلبتم الس���عادة من أنفس���كم ال مم���ا حولك���م" .وأض���اف" :ويمرض األف���كار ،وكأن���ه يش���بهها بالحص���ان، ت�ص��ور الإن�س��ان ومعتق��ده الرجالن المتعادالن في الجسم المرض واإلنس���ان بالعربة ،إذ يقول" :أنت اليوم الواحد ،فيتش���اءم ه���ذا ويخاف ويتصور غدا أوصلتك حيث ه��و املقدم��ة ،ونتائج��ه أفكارك ،وس���تكون ً ْ ُ الم���وت فيكون مع المرض على نفس���ه أيضا: حي���ث تأخ���ذك أفكارك" .ويق���ول ً ه��ي امل�شاع��ر والأعم��ال. ف�ل�ا ينج���و من���ه ،ويصب���ر ه���ذا ويتفاءل غيِر اتجاه أفكاره ،وس���وف "دع إنس���ا ًنا ُي ّ دائم��ا م��ن جن�س والنتائ��ج ً ويتخيل الصحة فتسرع إليه ويسرع إليها". تتملكه الدهش���ة لس���رعة التح���ول الذي ّ أ�س � الي يبذر فم��ن املقدمات؛ وكان الش���اعر العرب���ي قد فطن لهذه التغير ف���ي جوان���ب حياته يحدث���ه ه���ذا ُّ والقل��ق واحلق��د ؤم � والت�ش��ا الحقيقة فقال: المتعددة .إن القدرة اإللهية التي تكيف واحل��زن ،ال ميكن �أن يح�صد دواؤك فيك وما تبصر مصايرن���ا مودع���ة ف���ي أنفس���نا ،ب���ل هي وداؤك منك وما تشعر النجاح وال�صحة وال�سعادة . أنفس���نا ذاتها .وكل ما يصنعه المرء ،هو ونخت���م ه���ذه الجول���ة الخاطف���ة في نتيجة مباش���رة لما يدور في فكره ،فكما ٍ بمس���ك تركي ،من آف���اق حكماء العالم أن الم���رء ينه���ض على قدميه وينش���ط، صنع المفك���ر الداعية "فت���ح اهلل كولن" وينتج بدافع من أفكاره ،كذلك يمرض الذي أكثر من إيراد مفردات هذه القضية في عدد من كتبه. أيضا". ويشقى بدافع من أفكاره ً فق���د كتب عن القلق وكيف أنه يس���بب األمراض ،كالقلق ونع���ود إل���ى نقط���ة الوس���ط بي���ن الش���رق والغ���رب ،حيث المرتع الخصيب للوس���طية في العال���م العربي ،لنجد المفكر عل���ى المصي���ر والعاقب���ة ،حيث ق���ال عن الذي���ن ال يحبون اهلل الجزائري "مالك بن نبي" يعيد س���ائر المشاكل وشتى الحلول بأنه���م" :س���يبقون على ال���دوام في قلق عل���ى مصيرهم وعلى إلى الفكر ،سواء بالنسبة للفرد أو لألمة ،ولهذا فإنه يحذر من عاقبتهم المجهولة وعلى خوف". وأوضح كيف تدمر المش���اعر الس���لبية أصحابها ،كالحقد خط���ورة األفكار ،وبالذات ما يس���ميها بـ"األفكار الميتة" وهي الموروث���ة ع���ن الس���لف ،و"األف���كار المميت���ة" أو القاتلة وهي والحس���د والكراهي���ة" :إن ص���رف اإلنس���ان عم���ره ف���ي غمار المس���توردة من الغرب ،وقد اس���تفاض في شرحها وحذر من المش���اعر الس���لبية والس���يئة ،عذاب ال يطاق من جهة ،ودناءة "انتق���ام األف���كار المخذولة" في كتابه الرائع "مش���كلة األفكار من جهة أخرى". وم���ا فت���ئ يؤك���د عل���ى أن الس���عادة أو الش���قاء ،نابعان من في العالم اإلس�ل�امي" ،واستفاد في هذا اإلطار من الدراسات عظم القلب ،حيث قال داخل اإلنس���ان ال من خارجه ،ولهذا َّ االجتماعية والنفسية والتاريخية. وقد تزعم مدرس���ة عريضة في الفكر اإلسالمي المعاصر ،عن���ه في كتابه "الت�ل�ال الزمردية"" :فالقل���ب يحمل الفيوضات َّ ت���رى أن أزم���ة األمة أزمة فكري���ة ،وأن المخرج منها ليس غير التي أخذها بوس���اطة عالم األرواح إلى البدن والجس���م ،فيثير تغيي���ر األف���كار ..وم���ن أفراد هذه المدرس���ة المفكر الس���وري فيه نس���ائم الس���كينة واالطمئن���ان" ،وأضاف" :القل���ب كالقلعة "ج���ودت س���عيد" ال���ذي أ َّلف كتاب���ه الرائ���ع "حتى يغي���روا ما الحصينة لصحة الفكر واستقامته ،وصحة التصور ووضوحه، بأنفس���هم" ،وق���دم له "مالك ب���ن نبي" ..واليوم يس���ير في ذات وصحة الروح ونقائها ،بل حتى لصحة البدن وسالمته". َّ وله���ذا فإن اإلس�ل�ام عنده هو ال���دواء ،والفه���م الصحيح المعه���د العالمي للفكر اإلس�ل�امي ،وآخرون كثيرون ال���درب ُ ل���ه هو المخرج" :الذين يعيش���ون اإلس�ل�ام كم���ا أنزل ،يحيون من أعالم الفكر اإلسالمي. وق���د خاطب العا ِلم واألديب الس���وري "عل���ي الطنطاوي" بقلوبه���م ف���ي هذه الدني���ا وكأنهم َي ُع ُّبون من ك���ؤوس اللذة في المسلمين قبل ستة عقود فقال رحمه اهلل" :إنكم سعداء ولكن جنة الفردوس". ال تدرون؛ س���عداء إن عرفتم قدر النعم التي تس���تمتعون بها.. س���عداء إن عرفت���م نفوس���كم وانتفعتم بالمخزون م���ن قواها.. السنة التاسعة -العدد (2013 )38
34
العطاء طريق السعادة والصحة
أورد الدكتور "إبراهيم الفقي" في أحد كتبه ،أن هناك عيادات
م���وردا من عل���ى صح���ة اإلنس���ان ،حيث تؤدي إل���ى اعتاللها، ً
النفس���ية والعضوي���ة ،وكان���ت النتيج���ة أن %95م���ن األمراض سببها العقل. عددا م���ن القواعد في وله���ذا صاغ علماء التنمية البش���رية ً هذا المضمار ،ومنها :كل ما تعتقده تجده .كل ما َتكر َر َت َقر َر. ُ َّ َّ
ف���ي الغرب ،حيث وصل���ت العلوم إلى الذروة ،وحيث يعمل؛
ظ���ن بع���ض الق���راء أن ه���ذا األمر من ش���ذوذ بعض حت���ى ال َي ّ العلم���اء والمفكري���ن ،فقد قمت بجمع عدد هائل من األقوال ف���ي هذا الس���ياق لعلماء وحكماء ومصلحي���ن وأطباء وخبراء، م���ن مختلف األع���راق والديانات والم���دارس والتخصصات، لكن سأكتفي بذكر بعضها. ونبدأ من مطلع الش���مس في أقصى شرق الكرة األرضية، حي���ث تق���ول الحكم���ة اليابانية" :اح���ذر ما تفكر في���ه ،ألنه من تماما مع المحتم���ل أن تحص���ل عليه" ،وه���ذه الحكمة تتف���ق ً األثر الذي يقول" :تفاءلوا بالخير تجدوه" ومع نهي اإلس�ل�ام التطير والتشاؤم. عن ُّ وم���ن اليابان إلى ج���اره العمالق ،حي���ث خاطبك الحكيم "تذكر أن أف���كارك من صنعك أنت ،لن الصين���ي "زينو" قائ ً الَّ : غيِرها لك ،ولكنك يس���تطيع أي إنسان على وجه األرض أن ُي ّ غيِره���ا وتجعله���ا تخدمك أن���ت الوحي���د ال���ذي تس���تطيع أن ُت ّ وتساعدك على االتزان والسعادة". ومن الشرق إلى الغرب نقفز وعلى سندباد الحكمة نطير، قديما" :بالفكرة يس���تطيع فهذا الفيلس���وف "س���قراط" ،يق���ول ً اإلنس���ان أن يجع���ل عالمه م���ن الورود أو من الش���وك" .ولهذا أطل���ق صيحته التي ُكتبت على باب معبد أثينة" :أيها اإلنس���ان كتابا بعنوانه السافر ْ اعرف نفسك" .وهذا "جيمس آلن" يؤلف ً "ما يفكر فيه اإلنسان يصبحه". وانطال ًق���ا م���ن هذه الفلس���فةُ ،وجد في فرنس���ا فن���دق كبير اش���تهر ب���أن معظم نزالئ���ه من رج���ال األعمال ،قام���ت إدارته بتعليق الفتة في كل ُغ َرفه تقول" :إذا لم تتمكنوا من النوم فال ال". تبدؤوا بإلقاء اللوم على السرير ،بل حاسبوا ضمائركم أو ً أما الطبيب النفس���ي "أريك ريكس���ون" ،فقد قال من خالل خبرت���ه العريض���ة" :إن وظيفة الطبيب النفس���ي ه���ي إعادة بناء حالة الثقة واإليمان في نفس المريض". وأ َّل���ف الدكت���ور "وي���ن داي���ر" كت���اب "الحكمة ف���ي حياتنا اليومي���ة" ،قال في���ه" :ما يفكر فيه الن���اس ويتحدثون عنه يتزايد ال". ويصبح أفعا ً
األدلة والبراهين على ذلك ما ال يحصى من قصصه ومعالجاته كمعالج نفس���ي ومدرب عالمي في البرمجة العصبية والطاقة،
إضافة إلى عش���رات الدراسات والبحوث واألقوال التي نقلها
عن أساطين الطب النفسي ،وفالسفة ومفكري العالم وخاصة عقلُك يؤثِّر على جسمك إذ إنه كان يعمل في كندا.
لق���د ارتقى الدكتور "إبراهيم الفق���ي" في هذا العلم مرتقى
فقيها اسما صعبا حتى صار ً وخبيرا فيه ،ومن ثم صار (الفقي) ً ً ً
ومسمى ،فهو فقيه التنمية البشرية والصحة النفسية. ً ويبدو أن أهم كتبه في هذا المضمار كتاب "قوة التفكير".
ولق���د ق���رر في ه���ذا الكت���اب الثمي���ن أن "العقل عن���ده القدرة -بإذن اهلل -على عالج الجس���م ومس���اعدته على التخلص من
اآلالم" ،وأورد فيه الكثير من الحقائق والقصص والمعلومات المؤيدة لذلك؛ ومن ذلك أن المستش���فى الرئيس���ي في "س���ان
فرانسيس���كو" بالوالي���ات المتح���دة األمريكي���ة ،يعالج مرضاه بالضح���ك وباألخب���ار اإليجابي���ة ،حي���ث رفعت ه���ذه الطريقة
نس���بة الشفاء فوق " .%35فعندما يفكر المريض أفكارا إيجابية ً
ويبتسم ويتفاءل ويضحك ،ترتفع نسبة األندورفين في جسمه أيضا إثبات أن العقل والجسد مما يس���اعده على الشفاء .وهنا ً
يؤثر كل منهما على اآلخر".
ونقل عن دراس���ات علمية لجامع���ات عالمية أن %75من
ال في العقل ع���ن طريق الفكر، األم���راض النفس���ية تح���دث أو ً
وأورد أن الدكتور "هربرت سبنسر" في كتابه "العالج بالطاقة" أثبت أن %90من األمراض الجسمية سببها الفكر.
وذك���ر أن جامع���ة "يي���ل" األمريكية أجرت بح ًث���ا أثبتت فيه
ال الذين يعيش���ون حياتهم "أن أق���ل من %3ف���ي العالم ،هم فع ً باتزان وسعادة ،أما النسبة الباقية فهم فقط يتمنون ذلك ولكن بالق���ول فقط وليس بالفعل؛ ألن أفكارهم الس���لبية تمنعهم من
تحقيق أهدافهم".
وعن اآلثار الخطيرة لألفكار الس���لبية ،أورد أن كلية الطب
في "س���ان فرانسيسكو" أجرت بح ًثا س���نة 1985أثبتت فيه أن
التفكير الس���لبي يس���بب أكثر من %75من األمراض العضوية،
كالقلب وارتفاع ضغط الدم والصداع والسرطان.
وأورد أن نفس الكلية أجرت بح ًثا س���نة 1986عن عالقة
العقل بالجس���د ودور األفكار الس���لبية في اإلصابة باألمراض
33
السنة التاسعة -العدد (2013 )38
المحيطة باإلنس���ان هي التي تزعجه ،بل وكان عن���وان الفص���ل الثان���ي عش���ر م���ن هذا الكتاب ه���و "حياتك من صنع أفكاره عن هذه األشياء". القلب يحمل الفيو�ضات التي كبيرا من أقوال الدكتور بدري دراس���ا ُته وأوصل���ت أفكارك" .أورد فيه ً َ عددا ً أرواح ل ا عامل بو�ساطة أخذه��ا � وعددا من القصص الفالسفة والعلماء، وتجارب���ه إل���ى أن���ه ليس "العقل الس���ليم ً �إىل البدن واجل�س��م ،فيثري فيه والمواق���ف والخب���رات الت���ي تؤكد قوة في الجس���م السليم" فحسب -كما يؤكد ن�سائم ال�سكينة واالطمئنان.. تأثي���ر الفك���ر على الجس���م؛ ف���إن أفكار المثل المشهور -بل كذلك فإن "الجسم الس���عد تس���عده ،وأفكار الش���قاء تشقيه، السليم في العقل السليم" .وعنه اقتبسنا القل��ب كالقلع��ة احل�صين��ة وأفكار الصحة تش���فيه ،وأفكار المرض عنوان هذه المقالة ،غير أننا نشير إلى أن ل�صح��ة الفك��ر وا�ستقامت��ه، تس���قمه ،وأفكار الضعف توهنه ،وأفكار ال. هذه المقولة حكمة يونانية وليست مث ً و�صحة الت�ص��ور وو�ضوحه، القوة تقويه ،وهكذا. ومن خالل تتبعه الحثيث لما ينش���ر بل ونقائها، ال��روح و�صح��ة وكان الش���يخ محمد الغزالي رحمه ف���ي الغرب حول ه���ذه الظاه���رة ،وجد حتى ل�صحة البدن و�سالمته. اهلل ،ق���د أعج���ب به���ذا الكت���اب أيم���ا أن هن���اك مئ���ات الدراس���ات واألبحاث إعج���اب ،واعتب���ره م���ن الكت���ب الرائعة والكتب التي أجريت في اآلونة األخيرة التي ُتبرز وحدة الفطرة البش���رية ،الفطرةِ لتأكيد قيم���ة التأمل االرتقائ���ي والعامل كتابا الت���ي تتفق مع اإلس�ل�ام جمل���ة وتفصي ً الروحي واإليماني في عالج سائر األمراض. ال .ولذل���ك أ َّلف ً بـ"جد ْد وع ْنون���ه ً ِّ "إن الدراس���ات الحديثة في ميدان الطب السيكوس���وماتي كام�ل�ا للتعليق عل���ى كتاب "كارنيج���ي" هذاَ ، أصل لكثير م���ن الحقائق والقصص واألقوال "النفسجسمي" ،تؤكد بأن التفكير والنشاط المعرفي لإلنسان ،حيات���ك"؛ حيث َّ ل���ه دور فعال بالنس���بة إلصابة اإلنس���ان بش���تى األمراض ،كما التي أوردها "كارنيجي" ،من خالل إيراد عدد كبير من اآليات ّ أن تغيير هذا التفكير وهذا النش���اط المعرفي الذي تس���بب في القرآنية ،واألحاديث النبوية ،وقصص الصحابة ،وسلف األمة إحداث هذه األمراض واالضطرابات ،يس���اعد كثيرا في شفاء إضافة إلى خبراته (رحمه اهلل) ،ليؤكد -الشيخ الغزالي -بذلك ً عموما ومن ذلك اإلنس���ان حياة على األفكار وخطورة أهمية مصداق وه���ذا الف���رد أو تحس���ين حالت���ه الصحية بق���در كبير، ً لألثر المش���هور "ال تتمارضوا فتمرض���وا فتموتوا" .وأورد في صحته أو س���قمه ،إذ إن األفكار س�ل�اح ذو حدين ،فيمكن أن كتابه هذا ،الكثير من الحقائق والبحوث والنصوص التي تبرز تكون أداة للعمار ،ويمكن أن تكون وسيلة للدمار. ُ وفي كتاب آخر للش���يخ الغزالي -رحمه اهلل -نجده يؤكد خطورة الفكر على الصحة وعلى الشعور بطعم السعادة. ومن أش���هر الكتب الغربية التي ُطبعت عشرات الطبعات ،عل���ى ه���ذه القضية فيقول" :بعض األطعمة ي���ورث من يتناوله وانقباضا عن صداع���ا ف���ي ال���رأس واس���ترخاء ف���ي األعض���اء ً ً و ُترجم���ت إلى عدد من لغ���ات العالم الحية ،كتاب "دع القلق التطير من النفوس في يترك المعرفة ألوان وبعض األعم���ال.. واب���دأ الحياة" للكات���ب األمريكي "دايل كارنيج���ي" .أورد فيه ُّ مؤلف���ه حقائق مثيرة عن القلق وآثاره وتداعياته ،وعن الس���بل والخم���ول مثلم���ا تترك���ه ه���ذه األغذي���ة الرديئة في األجس���ام. وحقيق بنا أن نفحص مصادر المعرفة التي توجهنا ،وأن نتدبر ٌ المهمة في تحليل القلق وفي تحطيمه قبل أن يصل إلى الفرد، وع���ن القاع���دة الذهبية لقه���ر القلق ،وكذا س���ائر الطرائق لقهر فعلها في مشاعرنا وأفكارنا". التعب والقلق.
وم���ن خالل خبرته بالحي���اة وقراءاته المتع���ددة ،ركز على
أهمية الفكر في صنع القلق أو في التغلب عليه ،ولذلك فقد جزءا من كتاب���ه لهذا الموضوع ،وه���و الجزء الرابع خص���ص ً
ال���ذي َع ْنو َن���ه بـ"س���بع ط���رق لخلق اتج���اه ذهن���ي يجلب لك الطمأنينة والسعادة".
السنة التاسعة -العدد (2013 )38
32
"فقيه" الصحة النفسية والتنمية البشرية
ظهر في العقدين األخيرين َع َل ٌم برز في الصحة النفسية ،وهو العال���م المصري الدكت���ور "إبراهيم الفقي" رحمه اهلل ،فقد ظل عالميا ُيس���تدعى خبي���را يترق���ى ف���ي هذا المضم���ار حتى صار ًّ ً كبيرا من الكتب. إلقامة الدورات التدريبية ،وأ َّلف ً عددا ً وم���ا فت���ئ في كل كتبه يؤكد على خط���ورة األفكار المعتلة
قضايا فكرية د .فؤاد البنا*
الجسم السليم في العقل السليم ظل���ت الحكم���ة اليوناني���ة الت���ي تق���ول "العقل
النفس���ية ،كاالكتئ���اب والقل���ق واإلحس���اس بالوح���دة القاتل���ة
كثي���رة .واليوم وف���ي ظل التط���ورات المعرفية
جديد هو "علم المقاومة النفس���ية والعصبية" الذي يجمع بين
الس���ليم في الجسم الس���ليم" تتردد طيلة قرون
الرهيب���ة ف���ي الطب وفي عل���وم التنمي���ة البش���رية ،انقلبت هذه
رأس���ا عل���ى عقب؛ حيث أثبتت الدراس���ات والوقائع المقولة ً والقرائن ،أن للعقل تاثيرات رهيبة على الجسم ،وأن ما يقوله
سلبا أو إيجابا ،مرض ًا أو صحة، ً العقل ويعتقده ،يتمثله الجسم ً ضع ًفا أو قوة ..وهذا ما ستحاول تجليته هذه المقالة.
احذر من أفكارك على صحتك
وفقدان الثقة بالذات ،أدت جميعها إلى ظهور تخصص علمي
األخصائيي���ن ف���ي مي���دان العل���وم االجتماعية ،وعل���م النفس، وميدان دراسة كيمياء جهاز المقاومة في اإلنسان .كما ظهرت
مئات المؤلفات التي تدعو لتحس���ين صحة اإلنس���ان الجسمية بتغيير أفكاره ومشاعره وانفعاالته ،حتى وصف بعض العلماء
ه���ذه الظاه���رة بـ"الث���ورة الثالثة" ف���ي الطب الغرب���ي الحديث،
التي كانت أوالها تطور الجراحة ،وثانيها اكتش���اف البنس���لين والمض���ادات الحيوي���ة .ذلك ألن الذي يش���كل فكر اإلنس���ان
ح���ول أهمي���ة التفكر من زاوية علم النف���س ،أ َّلف عالم النفس
ونشاطه المعرفي ،ليس هو األحداث والمثيرات التي يتعرض
إسالمية" ،ذكر فيه أن كثرة األبحاث في الغرب حول األمراض
رومان���ي ف���ي القرن الميالدي األول أنه قال" :ليس���ت األش���ياء
الس���وداني الدكتور "مالك بدري" كتابه الصغير بحجمه والقيِم ّ بمكانت���ه "التفكر من المش���اهدة إلى الش���هود ..دراس���ة نفس���ية
له���ا في بيئته بش���كل مباش���ر ،بل الذي يؤثر بالفع���ل هو تقييمه وتصورات���ه له���ذه األحداث والمثيرات .فقد ُأثر عن فيلس���وف
31
السنة التاسعة -العدد (2013 )38
ش���باب يأخ���ذ زم���ام المب���ادرة للتغيير ،ويس���مح للكبار أن
يقودوا المرحلة ليأخذ هو دور الرقيب والمحاسب.
الروتين المألوف يقتل الروح ويئد الطموح، وبدوامته تذبل ّ
الملكات اإلبداعية والطاقات الروحية ،و ُت َنت َقص إنسانية اإلنسان
صاح���ب األش���واق واألحالم ،لصالح اآلل���ة الصماء الخاوية. حي���ن تأخذ الن���اس باألنظمة الصارمة واألوامر العس���كرية
والعقوبات التأديبية ،تحصل على استسالم مؤقت مذعن ،ولكن يخي���م عليها اليأس ويأكلها الحق���د ،وأرواح ذابلة م���ع نفوس ّ ال تع���رف معنى الحب ،وال معنى الصداقة ،وال معنى الوالء. ضي���ق الف���رص ف���ي مجتمع���ات ش���ابة مرتفع ِة النس���بة في ُ
مواليده���ا ،منخفض ِة النس���بة في إفس���احها واحتوائه���ا ووعيها
بمتطلب العيش الكريم ،هو س���بب وجيه للتحاقد والتحاس���د، ٌ ومدعاة أن ينشغل الفارغ بمالحقة َم ْن حوله.
���درب القل���ب كم���ا العقل كما الب���دن ،أن يكون عصيا أن ُت ّ ًّ
على االس���تفزاز واإليذاء، قبل الحقد والكراهية، ًّ عصيا عل���ى َت ّ
محافظ���ا على صفائيته ،فذلك معناه أن نكون ذا جاهزية عالية ً لتقبل اإللهام. ّ
اإلله���ام ال يح���رم الحالل ،وال يحل���ل الحرام ..هو ومضة ّ
لتعبر عن كلمة موحية تنضح بالحكمة، إشراق تلمع في النفس ّ
رت عب َ وتتش���ح بالجمال ،وتحصد القبول حتى يقول سامعهاّ : عما في نفس���ي ،وكأنما أنا الذي قلتها .إنها كلمة النجاح التي يدعيها آباء كثيرون.
دون أن تعرف الس���بب ،قد يحملك اإللهام على شيء ما،
كم���ا عمل ذلك اإلطفائي الذي ش���ارك في إخماد حريق ،وتم
إنقاذ جميع المس���تهدفين ،وجد نفسه مضطرا بغير إرادته إلى ًّ دخ���ول المنزل -والنار ال تزال تش���تعل -لينتقل من مكان إلى صبيا قد غمره الدخان، م���كان ،وصو ً ال إلى غرفة حي���ث وجد ًّ يح���اول أن يل���وذ بالس���رير ،ويرتج���ف م���ن الرع���ب والخوف
سريعا ،وبعد دقائق سقط سقف الغرفة. والحيرة ،فأخذه ً
أبدا-ش���خصا مري���ض القلب ل���ن يك���ون ه���ذا الجن���دي ً ً
بالبغض���اء ،وال إنس���ا ًنا أنانيا ..فالش���يء من ً حق���ودا ،وال ًّ ماديا ًّ معدن���ه ال ُيس���تغرب ..ك���ن أنت ذل���ك الجن���دي ،وابحث عن الطف���ل الذي نجات���ه على يدك بإذن اهلل ،قد تج���ده على مقربة
أعد إليه بسمته. منك أو حتى في داخلك يئنْ .. (*) عالم ومفكر وداعية /المملكة العربية السعودية. السنة التاسعة -العدد (2013 )38
30
ِا ْ ُ وانج نهض قدميك، لو تَزلزلت األرض من تحت َ
وح َم ًما، نارا ُ وثارت براكين الدنيا ،وأمطرتك ً
وتحول كل شيء إلى رماد ْتذروه الرياح: فال تيأس وال تقنط! وش ِّم ْر عن ساعديك، ُم من جديدَ ، بل ق ْ جسورا، وأقم من األمل ً وابدأْ البِناءْ ،
ومن العزم طرقًا ،ومن اإلرادة مركبًا... ***
عن ذاته ومعاناته.
الح���ب مصدر لإلله���ام ..فالتج���اذب الروح���ي والعاطفي
يمن���ح التأل���ق والدافعي���ة ،وينش���ط االس���تعداد لتل ّق���ي اإللهام.
والم���رأة ذات القلب النابض والعاطفة الحية ،تس���تقبل اإللهام وتمل���ك الح���دس أكث���ر م���ن الرج���ل ،فهي أق���در عل���ى قراءة
المجهول واكتشاف المستور ..قلب األم يلهث وراء "جنينها"
جنين���ا ولو بلغ الس���بعين ..وقلب الزوج���ة دليلها ال���ذي يظ���ل ً الذي ال يكاد يخطئ حين يجيب على األسئلة والمخاوف ،أو
الليالي ذوات العدد.
ال في أم���ر دون َظفرٍ بطائ���ل ،في لحظة أيام���ا ط���وا ً ّ فك���رت ً خاص���ة جاء الحل حين توقف التفكير ،وتراجعت األس���باب.
لح ،فشدة اإللحاح تعرقل الهم في بؤرة العناية وال ُت ّ ال تجعل ّ اإللهام ،وال تعجل فالعجلة " َل ّمة الش���يطان" .وحذارِ أن ترمي
اآلخ ُر م���ن إلقاء بالح���ل ف���ي ظلم���ات الي���أس ،فاإلغالق ه���و َ الش���يطانِ َ : ال َيي َئس ِم ْن ر ْو ِح ا ِ هلل َ ﴿يع ُد ُك ُم ا ْل َف ْق َر﴾(البق���رةُ ْ َ ﴿ ،)268: ون﴾(يوسف.)87: ِإ َّ ال ا ْل َق ْو ُم ا ْل َكا ِف ُر َ
يمنح األفراح واآلمال والتطلعات المس���تقبلية ..المرأة ملهمة دع األمل يعمر قلبك ولو لم تر الضوء أكثر ،ألنها تحب أكثر.
ربما تقتبس نار اإللهام من مش���اهدة الناس أو س���ماع كلماتهم
الصفائي���ة الذاتي���ة مص���در إلهام ..فم���ن صح ّ ص���ح َجنا ُنه ّ والتق���ي لس���ا ُنه.. هلل َي ْج َع ْل النق���ي ُيل َّقى الحكم��� َة :إ ِْن َت َّت ُق���وا ا َ ُّ ّ ���م ُف ْر َقا ًنا(األنف���ال ..)29:والقلب الصافي ،كالمرآة المصقولة َل ُك ْ تنعكس عليها الحقائق.
أو كت���اب أو بل���د أو عم���ل أو حالة ،هي فأل جدي���د باحتكاك
إله���ام" .الله���م ألهمني رش���دي" .فاهلل مانح اإلله���ام ،والدعاء
اإلمكانات العقلية ،بيد أنها وحدها ال تكفي.
تجل وبوح بدعوة ..فالدعوة القرب من اهلل ،في لحظة ٍّ ٍ
سبيله ،واإليمان حافزه.
الس���كينة ه���ي الحالة النفس���ية المالئمة لإلله���ام ،هي " َل ّمة
س���ببا الم َل���ك" .واإلله���ام حال���ة مالئكية ،وربم���ا كانت العزلة ً أن ف���ي التأم���ل وتهيئ ِة النفس لتل ّقي الفي���ض الرباني ..فال غرو ْ ���ط الخطايا ويرفع يح ّ كان انتظ���ار الص�ل�اة بع���د الصالة ،مم���ا ُ قدم الدرجاتْ ، ���نة المرس���لين ،وأن ّ وأن كان االعتكاف من ُس ّ اهلل لرس���وله بين يدي رس���الته بتقدير التحنث في غار حراء ّ
أو ق���راءة وجوهه���م ،أو م���ن رؤي���ة الطبيع���ة وتأم���ل مجاليه���ا
ومظاهرها اآلسرة.
المش���اهدات البس���يطة ،العالق���ات الجديدة ،مع ش���خص
ملهم يصنع فر ًقا ..ال مندوحة عن التفكير والدراسة وتوظيف مائ ٌة من كبار أثرياء العالم الناجحين ،أكدوا أنهم يعتمدون
عل���ى دراس���ة الجدوى ،ولكنهم يعتم���دون معها على أمر آخر مهم هو الفراسة أو اإللهام.
التجربة السابقة أساس ..القراءة المستديمة بناء..
العمر تراكم ..فالشباب أكثر حيوية وثقة وإنجازا ،والكبار ً يرشح الحراكَ الحالي أنضج وأحكم ..هذا التوزيع الفطريِّ ، للنجاح متى تظاهرت عليه األطراف.
29
السنة التاسعة -العدد (2013 )38
أدب د .سلمان العودة*
املدنية مرآة تعكس روح األمة وتفصح عن معدِنها ..أما السلوك الراقي واألخالق السامية، فهي لسانها البليغ الذي يعلن عن أصالتها. *** (املوازين)
سبحات اإللهام وجها، كان لديه مشكلة اختالس لم يعرف لها ً
الن ْح ِل َأ ِن َّات ِخ ِذي ِم َن ا ْل ِجب ِ ال ُب ُيو ًتا و َأ ْو َحى َر ُّب َ ���ك ِإ َلى َّ وحي���اَ : َ ً ن ون(النحل.)68: الش َج ِر َو ِم َّما َي ْع ِر ُش َ َو ِم َ َّ اإلنس���ان يملك التعقل وهو عملية حس���ابية مدروسة ،فيها
عما كتب ،فيرفع حاجبيه تس���أله زوجه مس���تغربا، ً ً صباحا ّ
وليدا يلق���م الثدي ،ويبكي ويمل���ك الغريزة الت���ي تجعل طف ً ال ً
يفكر في ثالث س���نوات والمحاس���ب األمي���ن ّ
ال األم���ر دون نتيج���ة .اإلله���ام يهجم علي���ه لي ً ليصحو ويركض إلى القلم ويكتب أشياء ،ثم يعود إلى فراشه.
المقدمات والنتائج وهي مناط التكليف والحساب والمساءلة.
ويذهب ليجد أنه كتب بش���كل نهائي حل المش���كلة التي ّأرقته
ويخاف ويفرح ويتألم.
الرقاد. طوي ً ال وحرمته ّ
إله���ام تحمله الرؤيا ،يقع عل���ى غير توقع ودون مقدمات
أو أس���باب محددة .رؤيا العزيز متصلة بفراسة وتوسم ،فالذي ّ ِ ���و ُاه َع َس���ى َأ ْن َي ْن َف َع َنا(يوس���ف )21:فأص���اب ق���الَ :أ ْك ِرم���ي َم ْث َ الحقيق���ة ،كان ص���ادق الرؤي���ا ،وحكاية القرآن عن���ه تدل على
صدق حديث .فأصد ُقه���م رؤيا أصد ُقهم حدي ًثا ،وليس ممكنا ً فصل المنام عن اليقظة.
عي���ن ثالثة ترى ما ال يراه المبصرون ..نس���يج من المعاني ٌ
���س المس���تقبل بالحاض���ر ،وامت���زاج الروحي���ة والعقلي���ةُّ ، وتلب ُ
نفسية ترسم التجربة بالعفوية ،ذلك هو "اإللهام"؛ موهبة الحل ّ ّ وتني���ر الطري���ق .والقل���م هو البندقي���ة التي تصيد ه���ذه الطريدة
وال���ذي يمل���ك اإللهام والفراس���ة؛ "فمن لم ينفع���ه ظ ُّنه لم
المح���دث ينفع���ه يقين���ه" كم���ا يق���ول الرج���ل المله���م عمر بن َّ َ
الخط���اب ال���ذي كان ال يق���ول لش���يء "أظنه ك���ذا" إال كان
كما يقول.
الحاس���ة السادس���ة أم مهما أهي المخ ّ طاق���ة روحية ،ليس ًّ ّ القدي���م ،فف���ي كل حال األمر محاط بق���در من الغموض ،ألنه وح ِم ْن َأ ْم ِر ال���ر ِ متص���ل بالروحَ : ال���ر ُ وح ُق ِل ُّ و َي ْس��� َأ ُلو َن َك َع ِن ُّ َر ِّبي(اإلسراء .)85:اإللهام ظن ،وهو الحق دون دليل. الغرب���ة ُتلهِ ���م ..فالغرب���ة حرم���ان ،والمحروم يقرأ بش���كل مختلف ويلتقط المعنى من زاويته الخاصة.
الغضا أحمام َة الوادي بشرقي َ ِّ فرجعي الس���انحة .الفك���رة الملهمة الجديدة والكاش���فة التي تهاجمك إن كنت مسعف َة الحبيب ّ عل���ى غي���ر تر ّقب ودون انتظار ،نوع من الحدس واالس���تبصار
الغضــا فغصـــو ُنه إ ّنا تقاسمــنا َ
العميق والقراءة الخفية. ِ س اإلبداعي لي���س كذبة مصدرها وادي عبقر ..فحين ألن الحيوان بدون عقل ،فهو يعتمد على اإللهام فحسب؛ الح ّ عما حوله، في طعامه وشرابه وتزاوجه ،وفي معرفة العدو والصديق ،وفي يدخل الش���اعر الملهم في تجربة جدي���دة ،ينفصل ّ
تقدير المخاطر ،وتدبير كيفية تجاوزها ،ولذا س���ماه اهلل تعالى السنة التاسعة -العدد (2013 )38
28
وجمره في أضلعي في راحتيك، ُ
تعبر وتتحول عنده األشياء العادية إلى إيحاءات عميقة وكأنها ّ
زائد أو ضعف في العضالت.
-2جراح�������ة تغيير المفصل :حيث يتم تركيب س���طح ناعم
مح���ل الغضاري���ف المتآكلة والس���طح الخش���ن .وهذه ليح���ل ّ ّ الجراحة نسبة نجاحها عالية ،بشرط استعمالها في كبار السن، ّ
مم���ن ال يتحرك���ون ال عضلية كثي���را وال تتطلب حياتهم أعم���ا ً ً
Arterior temporal mandibular dislocation
Vertebral dislocation
ش���اقة ،ألن المفاص���ل الصناعي���ة له���ا عم���ر افتراض���ي يتراوح
بين 15-12س���نة في أغلب األحوال ،يت���م بعدها إعادة تغيير
المفص���ل بآخ���ر جدي���د .وبالتال���ي فللحف���اظ عل���ى عم���ر هذا
المفص���ل الصناع���ي ،يس���تلزم أن تك���ون نوعية حي���اة المريض
Subcoracoid dislocation
Subglenoid dislocation
Dislocated carpal lunate
فمث�ل�ا تغيير المفصل أكثر مالءم���ة لمن يعمل أعمال مناس���بة، ً مكتبية عن َمن يعمل في البناء أو الفالحة.
آفاق المستقبل في عالج الخشونة
)(lateral view
Posterior dislocation of hip
Dislocation of ankle
إن أفضل طريق للعالج ،هو الحفاظ على األنسجة الحية التي وهبنا اهلل ّ إياها في جس���منا .وهذا أفضل بكثير من تركيب
أش���ياء صناعية أو نقل أنس���جة من جس���م غريب إلى جس���منا.
Dislocation of thumb
Posterior dislocation of knee
Posterior dislocation of elbow
ش���جع ولهذا نس���عى ويس���عى كل العلماء ،لتطوير عالجات ُت ّ عل���ى إع���ادة تكوي���ن الغضاري���ف وإحاللها مح���ل الغضاريف
المصابة ،ومن هذه العالجات ،اس���تخدام البروتينات المشتقة م���ن الصفائح الدموية والس���ائل النخاعي ،واس���تعمال الخاليا
الط���رق ترتكز حول أخ���ذ البروتينات أو الجذعي���ة .وكل هذه ُ الخاليا من اإلنسان نفسه ،ثم إعادة حقنها لنفس اإلنسان بعد
تعريضه���ا لتنش���يط بصورة معينة أو تركي���ز لبعض المواد منها. وال ي���زال ه���ذا المج���ال تح���ت التجربة والبح���ث لتقييم مدى
فاعليت���ه على المدى الطويل ،ولكن األبحاث التي تتعلق بهذا شجعة. الموضوع ُم ّ وم ّ بشرة ُ
غضاريف متآكلة
خش���ونة المفاصل ،من األمراض المنتش���رة ،وهناك الكثير
م���ن الحلول له���ا .وال يزال العلم يس���عى للوصول إلى أفضل
س���بل الع�ل�اج ،ونتوق���ع ف���ي المس���تقبل أن يق���ل دور العالج الجراح���ي في خش���ونة المفاص���ل ،ويحل مكان���ه طرق أخرى تجعل العالج أس���هل على المرضى .ولكننا لم نصل إلى هذه
المرحلة بعد.
(*) أستاذ جراحة العظام ،جامعة عين شمس /مصر.
مفاصل الجسم
27
السنة التاسعة -العدد (2013 )38
ومنه���ا الحمي���ة الغذائي���ة واألدوية واإلبر الصيني���ة ،وجراحات
تدبيس المعدة وشفط الدهون ...إلخ.
إذا تط���ورت حال���ة الخش���ونة ،فيمك���ن اس���تعمال بع���ض المس���كنات م���ع ع�ل�اج الس���بب كم���ا ذكرن���ا ،ولك���ن يج���ب ِّ
المس���كنات بكثرة ،ألن كل هذه األدوية الحذر من اس���تعمال ِّ له���ا أعراض جانبية كثي���رة على المعدة أو الكل���ى أو الكبد... المس���كنات ،قد ي���ؤدي إلى أضرار وبالتال���ي فكثرة اس���تعمال ِّ
كبيرة مع مرور الوقت.
في الحاالت التي ال تستجيب إلى ما سلف ،يمكن اللجوء
إل���ى ما يس���مى "الحقن الموضع���ي" للركبة بالس���ائل الزاللي؛
وهو الزيت الذي خلقه اهلل س���بحانه داخ���ل المفاصل لتليينها. وبالتال���ي فحقن الس���ائل الزاللي داخل المفصل ،هو حل آمن
وال يوجد مضاعفات له بش���رط أن يتم الحقن بواس���طة طبيب متخص���ص ،وأن يت���م الحفاظ على قواعد الس�ل�امة من تعقيم وتخدير موضعي ،ومراعاة لألعصاب والشرايين.
بالنس���بة للح���االت التي لم تس���تجب لهذا الع�ل�اج ،يمكن
اللج���وء إل���ى العالج الجراحي .وهناك ع���دة أنواع من العالج الجراحي يتم تحديد النوع المناس���ب حس���ب الفحص الطبي،
ونتيجة الفحوص من أشعة إكس ،وأشعة بالرنين المغناطيسي،
تقييما عن حي���ث إن األش���عة العادية تعط���ي الطبيب المعال���ج ً تك ِّلس���ة ،لكنها ال تظهر فيها الغضاريف الم َ العظام واألنس���جة ُ أو األربط���ة أو العض�ل�ات .ولك���ي يت���م تقيي���م كام���ل لألربطة والغضاري���ف والعضالت قبل الجراحة ،يتم اس���تعمال أش���عة الرنين المغناطيسي لهذا الغرض.
من طرق العالج الجراحي
-1الع���ل���اج بالمنظ�������ار :ويتمي���ز هذا الع�ل�اج ب���أن المريض ال يحتاج إلى اإلقامة بالمستشفى أكثر من يوم واحد فقط ،وألن هذا العالج ال يصاحبه جروح كبيرة أو قطع باألنس���جة ،فهذا يجع���ل فت���رة النقاه���ة أقص���ر والعودة للحي���اة الطبيعية أس���رع. وبالمنظار يتم عالج الغضاريف المصابة والخش���ونة واألربطة
تهتك���ة .ولكن مفع���ول جراحة المنظار ،تختلف من مريض الم ّ ُ إل���ى آخر ،ونس���بة النجاح في حاالت الخش���ونة غير واضحة،
وفترة التحسن بعد المنظار قد تتراوح بين عدة أشهر إلى عدة س���نوات ،وبالتالي فهو حل جيد لصغار السن ومن يعانون من خش���ونة بسيطة واضحة السبب ،بشرط أن ال يكون معها وزن
السنة التاسعة -العدد (2013 )38
26
متوازن���ة بي���ن العظ���ام وبعضها م���ن خالل اس���تقرار المفاصل. وعل���ى المس���توى الميكروس���كوبي ،تتك���ون الغضاري���ف الناعمة أي مفصل ،من خاليا غضروفية يحيط ِّ المبطنة لسطح ّ المواد األساس���ية بها من كل جانب المكونة للغضاريف ،مثل ُ ّ الكوندريوتي���ن س���لفات ،والماء ،واأللي���اف البروتينية من نوع كوالجين 2من المواد ،وتكون وظيفة الخاليا الغضروفية ،هي تكوين واس���تبدال المفقود من هذه المواد الناعمة .ومن الهام وأيضا جدا أن يكون هناك اتزان بين تركيز هذه المواد ببعضهاً ، ًّ ات���زان في كمية الم���اء الموجودة داخل الغضاري���ف .وبالتالي معين ،يؤدي هذا ف���إذا َّ قل الماء عن ح���د ّ معين أو زاد عن حد ّ إلى تآكل الغضاريف والخشونة لهذا السطح الناعم. وللحف���اظ عل���ى نعوم���ة الحركة داخ���ل المفص���ل وتقليل بطن المفصل اس���مه "الغش���اء االحت���كاك ،فهناك غش���اء آخر ُي ِّ السينوفي" ،وهو مسؤول عن إفراز ما يسمى بـ"السائل الزاللي" وهو سائل لزج شفاف يشبه الزيت ،وهذا السائل يكون داخل المفصل بكمية محددة بس���يطة تعمل على منع االحتكاك بين الغضاريف. ويت���م توزي���ع األوزان واألحم���ال داخل مفصل اإلنس���ان بص���ورة متس���اوية ،حيث إن التكوي���ن الذي خلق���ه اهلل للعظام ولوزن اإلنسان ،تم بحيث يكون هناك اتزان في هذا التوزيع، مركز على منطقة ف���ي المفصل بدرجة ف�ل�ا يك���ون هناك حمل َّ تحملها. تفوق ُّ كم���ا رأين���ا ،فقد خلق اهلل الكثير من العوامل واألدوات التي تحافظ على نعومة المفاصل واستقرارها أثناء الحركة.
أسباب الخشونة
هناك أنواع من الخشونة تكون بسبب تشوه بالعظام أو اعوجاج نتيجة عيب َخلقي أو وراثي أو نتيجة إصابة قديمة أو كسر... وه���ذه التش���وهات تتس���بب في ع���دم توزيع األحم���ال داخل ّ المفصل بصورة متساوية على كل األجزاء والخاليا ،وبالتالي تركز في منطقة صغيرة بالمفصل ،مما وم ّ يصب���ح الحمل أعلى ُ ي���ؤدي إل���ى ت���آكل الغضاريف به���ذه المنطق���ة .وبالطبع لمنع حدوث هذا ،يجب عالج أي تش���وهات بالعظام أو اعوجاج، سواء كان بسبب وراثي أو عيب َخلقي ،أو نتيجة إصابة أو مرض. من ناحية أخرى ،هناك أمراض تصيب الغش���اء الس���ينوفي والغضاري���ف وتعم���ل عل���ى تآكله���ا ..وتكون ه���ذه األمراض بس���بب عيوب في جهاز المناعة بجس���م اإلنس���ان ،مما يتسبب
في التهاب مزم���ن بالمفاصل نتيجة مهاجمة بعض البروتينات في الدم لبعض الخاليا في جس���م اإلنسان بما فيها المفاصل. وه���ذا االلته���اب المزمن ،مع م���رور الوقت ي���ؤدي إلى تآكل بالغضاري���ف والعظ���ام .وأش���هر أمثل���ة عل���ى ه���ذه األمراض، الروماتويد ،وشبيهات الروماتويد ،والذئبة الحمراء ...إلخ. وهناك خش���ونة ناتجة عن إصابات الغضاريف أو األربطة إم���ا نتيجة إصابات المالعب أو حوادث الس���ير ...وينتج عن هذه اإلصابات أن يتحول سطح الغضروف الناعم إلى سطح خش���ن نتيجة كس���ر أو إصابة مباش���رة .وفي هذه الحالة يجب التدخ���ل جراحيا إلع���ادة الج���زء المنقول من الس���طح الناعم ًّ إل���ى مكان���ه ،ك���ي نحافظ عل���ى نعوم���ة المفصل .وم���ن ناحية أخ���رى ،إذا كان هن���اك قط���ع بأحد األربط���ة بالمفصل ،والتي كما عرفنا تكون مس���ؤولة عن اس���تقرار المفصل أثناء الحركة وتعمل كمحور للحركة ،هذه األربطة في حالة إصابتها ،يجب عالجه���ا إما بالجراحة وإما بالعالجات األخرى ،حتى نضمن التئام هذه األربطة وعودتها إلى الحالة الطبيعية. سبب آخر للخشونة ،هو الوزن الزائد وضعف العضالت، مم���ا يؤدي إلى التحمي���ل بصورة غير طبيعية على الغضاريف، ويؤ ّث���ر عل���ى ميكانيكي���ة حرك���ة المفاص���ل .وهذا الس���بب من األس���باب األكثر حاليا .ومن ناحية أخرى، ً انتش���ارا في العالم ًّ االنتظ���ام في ممارس���ة الرياضة للحفاظ عل���ى حالة العضالت هاما في استقرار المفاصل وحركتها بصورة طبيعية. دورا ًّ تلعب ً
عالج الخشونة
بكرة من خش���ونة المفاصل ،يك���ون التركيز الم ّ ف���ي الح���االت ُ األساس���ي عل���ى ع�ل�اج األس���باب وإيق���اف تط���ور الخش���ونة، يسترد عافيته ،ويعمل على إعادة تكوين والسماح للجسم بأن ّ م���ا تهدم من أنس���جة .فإذا كان الس���بب اعوجاجا في المفصل ً أو تش���و ًها بالعظام ،يتم تقويم هذا االعوجاج أو التش���وه .وإن ّ كان الس���بب ،التهابات نتيجة أمراض الجهاز المناعي ،فيكون التركي���ز عل���ى ع�ل�اج ه���ذه االلتهاب���ات واألم���راض .وإن كان بسبب إصابة في أربطة أو غضاريف ،فيتم عالج هذه اإلصابة بالمنظ���ار الجراح���ي .أم���ا إن كان الس���بب ضع���ف العضالت َ وزيادة الوزن ،فيكون العالج بتقوية العضالت بواسطة العالج الفيزيائي وممارسة الرياضة ،ومعها تقليل الوزن تحت إشراف طبيب متخصص في هذا المجال .وهناك طرق متعددة لتقليل ال���وزن يحدده���ا الطبيب المختص حس���ب حال���ة كل مريض،
25
السنة التاسعة -العدد (2013 )38
علوم
د .خالد عمارة*
خشونة المفاصل األسباب والعالج
لق���د خل���ق اهلل مفاص���ل اإلنس���ان ،بحي���ث
تجم���ع بين س���طح ناعم -قلي���ل االحتكاك- ُيغطي سطح العظام ،وفي نفس الوقت عالقة
مس���تقرة بين العظام .ويتكون المفصل من عالقة بين عظمتين
ال مفص���ل الركب���ة ،يتكون من م���ن عظام جس���م اإلنس���ان ،فمث ً عالقة بين عظمتي الفخذ والقصبة .وسطح العظام عند منطقة
مغط���ى بغضاريف ش���ديدة النعوم���ة .وهناك المفص���ل ،يكون ّ
نوعان من الغضاريف تغطي سطح المفصل :األول غضاريف التحرك بأقل نس���بة المع���ة ش���ديدة النعوم���ة ،وتك���ون وظيفتها ّ احت���كاك بي���ن العظام .والثاني غضاريف م���ن نوع آخر يجمع
بي���ن الخالي���ا الغضروفي���ة واأللي���اف ،وه���ذا الن���وع اآلخر من
ال عن زيادة اس���تقرار المفصل أثناء الغضاريف ،يكون مس���ؤو ً
اس���تقرارا أثن���اء الحركة، الحرك���ة .ولك���ي يكون المفصل أكثر ً السنة التاسعة -العدد (2013 )38
24
تكون روابط قوية تحافظ تعم���ل األربطة والعضالت عل���ى أن ّ عل���ى ميكانيكي���ة الحركة للمفصل والعالق���ة الثابتة بين العظام أثناء الحركة ،وتس���مح بالحركة حول محور مستقر مما يمنع
االحتكاك غير الطبيعي.
وتعم���ل العض�ل�ات عل���ى تحري���ك المفص���ل بع���د تل ّق���ي
األوامر من المراكز الحركية بالدماغ ،وتصل هذه األوامر إلى العضالت عن طريق األعصاب .وبالتالي لكي يتحرك اإلنسان بص���ورة طبيعية ،فهو يحتاج إل���ى مراكز حرك ٍة بالدماغ طبيعية،
وأعصاب تنقل اإلشارات الصحيحة إلى العضالت الصحيحة، ٍ ٍ وعضالت بحالة جيدة ،ومفاصل وعظام س���ليمة ،وإلى عالق ٍة ٍ
العقل الكبير والنبوة
فموض���وع "النب���ي" و"النب���وة" ،موضوع كبير يحت���اج لمعالجته
محتفظا على َم ِّر الس���نين إلى عقل كبير ،وأن يكون هذا العقل ً بجدت���ه وحرارته .والنورس���ي ما كتب ما كتب بأقالم القصب، ّ
وفه���م جدي���د إبداع���ي النظر حيث استش���رافية غي���ر مس���بوقة، ٍ م���دار عظيم لعرش الربوبي���ة ،ومركز جليل يقول" :كل س���ما ٍء ٌ لتص���رف األلوهية" ،ثم يمضي فيقول" :حتى عرج به إلى مقام فش���رف باألحدي���ة بكالمه وبرؤيت���ه ،ليجعل "ق���اب قوس���ين"، ّ
ب���ل بأقالم مداده���ا نزيف ال���روح ودماء القلب ،وأحس���ب أنه
ال جميع ذل���ك العب���د جامعا لجميع الكماالت اإلنس���انية ،نائ ً ً
يغيب كل ش���يء من أم���ام بصره وبصيرت���ه إال الجالل اإللهي والجمال األبدي .إنه من اهلل تعالى ومن قرآنه يأخذ ليكتب ِ هلل
كشا ًفا لطلسم إلى س���لطان الربوبيةً ، مبلغا للمرضيات اإللهيةَّ ،
أزكيه على اهلل ب���ل تعالى هو المزكي- حي���ن كان يكت���ب -وال ّ
ولخلق اهلل ...فالشوق إلى الحقيقة -عندما يكتب -هو الباعث
األعظم لحرارة الحياة في كتاباته ...فهو ال يبحث "في الحياة" ِ ���رها ،وعن أو "عن الحياة" ،بل يبحث عن ُل ِّب الحياة ،وعن س ِّ التعرف قوامه���ا ،وع���ن محركاتها ،وعن إدراك مراميه���ا ،وعن ُّ عل���ى توجهاتها ،ونتائجها ،وخالصاتها ،وبداياتها ونهاياتها...
وعن حقيقة اإلنسان ،وعن قدراته وطاقاته ،والنهاياته ،وتشبثه بالخلود ،وعش���قه لألب���د ،والنب���وة وضرورتها لبني اإلنس���ان،
ونب���وة محم���د علي���ه الص�ل�اة والس�ل�ام ،وعظم���ة ه���ذه النبوة، وكونه���ا الخاتمة ،ودواع���ي خلودها وبقائها ،وحاجة البش���رية
إليها ،وصالحها لمعالجة أخطاء كل األزمنة واألمكنة.
الحقيقة الدينية
داعيا التجليات اإللهية، ً شاهدا على جميع طبقات الكائناتً ،
قابل س���يدنا عيسى الكائنات" .ويقول" :فمث ً أي س���ماء َ ال في ّ ()5
المتشرف باسم "القدير" ،سيدنا الرسول ؟ فاهلل سبحانه ّ وتعالى متجل في دائرة تلك الس���ماء بال���ذات بعنوان "القدير،
تشرف به سيدنا موسى ، ومث ً ال إن عنوان "المتكلم" الذي ّ
هو المهيمن على دائرة السماء التي هي مقام سيدنا موسى . وهكذا فالرسول األعظم ،ألنه قد حظي باالسم األعظم
جميع تجليات األس���ماء وألن نبوت���ه عام ٌة وش���املة وق���د نال ّ َ
إذن مع جميع دوائر الربوبية ...فالبد الحسنى ،فإن له عالقة ْ
األنبي���اء وهم ذوو مقام في أن حقيق���ة معراج���ه تقتضي مقابلته ّ َ
ومروره من جميع الطبقات"(.)6 تلك الدوائر، َ
المعرفية اإليمانية
عظيما إذا اس���تطاع عالمنا اإلس�ل�امي أن فكم س���يكون األم���ر ً
فالحقيقة الدينية ،هي ما ينش���ده هذا المفكر العظيم من خالل
ال ذوي ذهني���ات عظيمة وخصب���ة كما عند ُينج���ب الي���وم رجا ً
والس�ل�ام باألخص .وهذه الحقيقة عادت على لس���انه أنشودة
س���تزداد وتتس���ع وتمتد حت���ى يصبح بمقدورها أن تس���توعب
عموم���ا وف���ي نب���وة محمد علي���ه الصالة بحوث���ه ف���ي النب���وات ً
ظل ينش���دها لنفس���ه وينش���دها لآلخرين من جمالية وجالليةّ ، خل���ق اهلل بش���فافية عجيبة وبص���وت حزين ،ك���ي ال تثقل على حزينا، مهيب���ا كان ً األذه���ان أو ت���ؤود الوجدان ،فبق���در ما كان ً
ال من لدن طالبه ول���دن كل َم ْن حظي وبق���در ذل���ك كان مقبو ً ظل ف���ي حياته برؤيت���ه أو مجالس���ته .فقلب���ه الواس���ع الكبي���رَّ ، جرعوه كلها معدن إش���فاق وينبوع رحمة حتى ألعدائه الذين ّ
ش���تى صنوف العذاب ...فالبساطة مع التناسق ،والتماثل مع ّ التناسب والتألق مع الوضوح من مقومات فكره ،ومن ميزات
كتابات���ه ...وللتدلي���ل على ذلك ،نورد بعض أف���كاره في النبوة حي���ث يق���ول" :إن القدرة اإللهية التي ال تت���رك النمل من دون
حتما البش���ر من دون أمير والنحل من دون يعس���وب ،ال تترك ً
سر نظام العالم"(.)4 نبي ومن دون شريعة ...نعم هكذا يقتضي ُّ ينم ع���ن عبقري���ة ذهنية أم���ا كالم���ه ف���ي "المع���راج" ،فإن���ه ُّ
"النورس���ي" .فإني أحس���ب أن "المعرفة اإليمانية" لهذه األمة،
معارف العصر من دون شعور بالقصور أو الدونية .فإننا نحن البش���ر ،ال يبهرنا ش���يء كما يبهرنا ما تعانيه العقول الكبيرة من الجبارة حني���ن إل���ى المعرفة ،ومن رغبة في ْ أن ن���رى اإلرادات َّ
لعظ���ام المفكرين وهي تناضل من أج���ل إدراكات أكثر عم ًقا، س���اعا ،وأقدر عل���ى التغيير والتجدي���د ،وهذا هو ما وأعظ���م ا ّت ً
تحتاجه األمة في الوقت الحاضر. (*) كاتب وأديب عراقي.
الهوامش
( )1سيرة ذاتية ،سعيد النورسي ،ص.457: ( )2سيرة ذاتية ،سعيد النورسي ،ص.457: ( )3صيقل اإلسالم ،سعيد النورسي ،ص.29: ( )4اللوامع ،سعيد النورسي ،ص.843: ( )5اللوامع ،سعيد النورسي ،ص.852: ( )6اللوامع ،سعيد النورسي ،ص.674:
23
السنة التاسعة -العدد (2013 )38
لهذا الروح المحمدي هيمنته على هذه األمة وتأ ّلقه في سماء
تقص���ر ع���ن فهمها بالش���كل المطلوب ،وهذا ه���و ما يمكن أن
وش���يء أق���رب إل���ى النفح���ات العلوية ،ل���ذا فهو مدف���وع بكل
فنب���وة محمد ج���اوزت النبوات الس���ابقة بكفاحها البطولي
حياتها .ففي صوت "النورس���ي" وفي قلمه ،ش���يء من الربانية
خصب���ه الذهن���ي والروحي إلى تكريس وج���وده األفضل لهذه
المقدس���ة ،فيقول وهو في غمار ه���ذا العمل المجيد: المهم���ة ّ
ي���ت حت���ى بآخرتي في س���بيل تحقيق س�ل�امة إيمان ضح ُ "لق���د ّ
ره ٌب من المجتم���ع ...فلي���س في قلبي َر َغ ٌب ف���ي ّ الجنة ،وال َ جهنم ،فليكن سعيد (يعني نفسه) بل ألف سعيد قربا ًنا في سبيل ّ ظل إيم���ان المجتمع الترك���ي البالغ مئات الماليي���ن ...ولئن َّ قرآننا دون جماعة تحمل رايته على سطح األرض فال أرغب
رأيت وإن أيضا س���جنا ليْ ... حتى في الجنةْ ،إذ س���تكون هي ً ً ُ ّ إيم���ان ّأمتنا في خير وس�ل�ام فإ ّنني أرض���ى ْ ُ حرق في لهيب أن أ َ حر ُق جسدي يرفل قلبي في سعادة وسرور"(.)1 ّ جهنمْ ،إذ بينما ُي َ وفهما له���ذه الش���خصية العظيمة قرب���ا ولك���ي نك���ون أكثر ً ً
النب���وات العظيم ُة وباألخ���ص الخاتمة منها. تق���وم به للبش���رية ُ المستمر ،وبقدرتها الفائقة على استيعاب المدركات المتجددة للعقل اإلنساني مع الزمن .فنبوة محمد والقرآن الموحى به
إليه ،إنما هو ثورة عقلية وروحية تستوعب ُك َّل نتاجات العقل
اإلنس���اني ،وق���د تس���بقها أحيا ًنا وتمه���د لها أحيا ًن���ا أخرى كما
يش���ير إلى ذلك "النورس���ي" في مبحثه اإلبداعي عن معجزات ِ ���ر خلودها وس���رمديتها ،ألن الوحي األنبي���اء .وه���ذا هو س ُّ و ُق ْل َر ِّب زِ ْد ِني ِع ْل ًما(طه.)114: نفسه يخاطب رسوله َ : أي تعارض فلم يسجل تاريخ العلم خالل أربعة عشر قر ًنا ّ بي���ن حقيقة علمي���ة ثابتة مع أي حقيقة ديني���ة ثابتة في الكتاب والس���نة ،وأكثر من ذلك يقول "النورسي"" :إذا تعارض العقل
���ؤول النقل ليوافق العقل" ،وه���ذه قاعدة أصولية م���ع النقلُ ،ي ّ
معا ما يقوله الممتلئة بالشجاعة والصالبة وقوة الشكيمة ،لنقرأ ً
وتوكيدا معتمدة من رجال العلم والفقه في كل زمان ومكان. ً
ش���يئا فيق���ول" :لم أ ُذ ْق طوال عمري البالغ ني ًفا وثمانين س���نة ً
المق���ررة أنه إذا "صيقل اإلس�ل�ام" حي���ث يقول" :من األصول ّ
ع���ن نفس���ه التي قاربت أن تكون خارقة م���ن خوارق العادات، قضي���ت حياتي ف���ي ميادين الحرب، م���ن لذائذ الحي���اة ...لقد ُ
وزنزانات األس���ر ،أو س���جون الوطن ،ومحاكم البالد؛ لم يبق
نصا ورد في المقدمة األولى من كتابه لرأيه الس���ابق ،نورد هنا ًّ ويؤول النقل ،ولكن ال تع���ارض العقل والنقلُ ،ي َع ُّد العقل أص ً ّ ال ح ًّقا" . ينبغي لذلك العقل أن يكون عق ً ()3
صنف م���ن اآلالم والمصاعب لم أتجرع���ه... ُ عوملت معاملة السعة والعمق لدى "النورسي" َّ وغ ِّر ْب ُت في أرجاء المجرمين في المحاكم العس���كرية العرفيةُ ،
ش���هورا في ���ت من مخالطة الناس الب�ل�اد وح ِر ْم ُ كالمش���ردينُ ، ً َّ وتعرض���ت إلهانات مرارا، ُ زنزان���ات الب�ل�ادُ ، الس ُّ ���م ً س لي ُّ ود َّ الموت على الحياة حت فيها ومرت متنوع���ة، َ رج ُ علي أوقات َّ ّ َ َّ ّ فربما كان نفس���ي قتل من يمنعني ديني أن ولوال ضعف، ألف ّ ترابا تحت التراب"(.)2 سعيد اليوم ً
ثورة عقلية وروحية
إنن���ا ق���د نرك���ض وراء "النورس���ي" لنلحق به ،ونتع���ب من هذا الرك���ض إلى حد اللهاث ،ثم نرى في آخر الش���وط أن أفكاره
أعم���ق م���ن أن نطالها أو ندركها .وهذا األمر هو الذي يدفعني إل���ى القول ب���أن األعمال الفكري���ة الفخم���ة والعظيمة من مثل قيادها لمن يريد قياسها بالشبر نادرا ما ُتس ِلس َ "رسائل النور"ً ، أن يفعلوا ،فمثل هذه األعمال والمسطر كما اعتاد األكادميون ْ ال ُيستطاع ضبطها وال حصرها ،ألنها تتف َّل ْت من كل ضبط أو
علما ال يش���ك أحد في أن البش���رية اليوم ،أعلى ً إدراكا وأعظم ً
لجيشان أفكارنا حصر ،ولكنها تبقى مع ذلك ُ الملهِ َم األعظم َ
أم���س الحاجة إل���ى نوع م���ن التطهير ق���وة الفه���م عنده���ا ،في ّ
الطاق���ة الضوئي���ة المتج���ددة تش���ع ف���ي األذه���ان والقل���وب
تفهم���ا مما كانت عليه فيما مضى م���ن القرون ،ولكن وأق���وى ً والتعديل والتقويم -وال سيما تلك المنطقة المعتمة من عقلها فيما يخص حقائق النبوات والدين -ولكي تحمل نفسها على فه���م ه���ذا الجانب المعت���م من عقلها ،في حاجة إلى ش���جاعة
نفس���ية وعقلية تبلغ َح َّد البطولة ،لتأخذ بيدها وتجعلها تجتاز ���م الفهم والعل���م الحقيقين اللذي���ن ال زالت التخل���ف ع���ن ِق َم ِ السنة التاسعة -العدد (2013 )38
22
وتغذية وجداننا .فأفكار الرجل -أعني النورس���ي -كشعاعات
واألرواح ،ث���م تثوي هناك وتغيب فيها فال ُيس���تطاع اإلمس���اك بها كما ال يس���تطاع اإلمس���اك بش���عاع الضوء أو النور .ولكنها
ش���يئا ال ن���دري ما هو ،ينقلن���ا من الحالة ُتح���دث ف���ي دواخلنا ً
الذهني���ة العادية إل���ى حالة ذهنية غير قابلة للتفس���ير ،ألنه أكثر
رجال اإليمان دراي ًة بخصائص الروح وسرائر الضمير.
وبالموت ،وعالقة الحضارة كذلك بالحياة وبالموت.
الحياة والموت
كل ي���وم ،وإذا ل���م يس���تطع أحد إلغ���اء الموت م���ن فوق هذه
األرض ،فإن ذلك يستدعي التفكير الجدي في معنى "الموت ّ
وقد اكتش���ف "النورسي" هذا المفهوم من خالل تأمله الطويل
الجدي كذلك في مآل اإلنس���ان ومصيره". والحياة" ،والتفكير ّ
من قيود العدميات والنس���بيات التي هي أس���اس كل الش���رور
والتفكي���ر في "الم���آل والمصير" هو ما ّأك���دت عليه "النبوات"
وتجل من تجليات اس���مه قدح���ة م���ن قدحات المطلق اإللهي ٍّ
اهتماماته وأكبرها ...ولكن غالبية البشر -لقصر نظرهم -يقعون
والعمي���ق في الحياة والموت .فالحياة عنده هي عملية انطالق المآل والمصير
التي يطفح بها العالم ،وهي -أي الحياة -بعد ذلك وقبل ذلك، تعال���ى "الح���ي" في اإلنس���ان والكون والكائن���ات .هكذا يفهم "النورس���ي" المعن���ى العميق للحياة والمعن���ى العميق للموت،
اإلنس���ان وطلبت منه أن يكون من أعظم جميعا ،وح َّث ْت عليه َ ً
في مش���اغل الحياة الدنيوية وتفاهاتها وحماقاتها ،وال يرغبون
في تحمل مسؤولية هذا التفكير وما يتر ّتب عليه من التزامات،
وجها آخ���ر من وجهي الحي���اة ،ألن "الموت" حي���ث ي���رى فيه ً مخل���وق؛ ا َّل ِ ���و َت َوا ْل َح َيا َة ..أج���ل ،مخلوق ���ذي َخ َل َ ���ق ا ْل َم ْ در كالحياة .فالموت إذن ليس ً عدما ،وحتى العدم نفسه فهو َب ْي ُ
النائم���ة ف���ي أعماقه���م وما يس���تدعيه ذلك من ق���وة إرادة وقوة
الخلق واإليجاد كما يقول موالنا جالل الدين الرومي.
اإليمان بالنبوة
المترب���ص بن���ا في هذا المق���ام وينتظ���ر اإلجابة عليه والس���ؤال ّ
ش���ك كل العصور ،دون أن يتزعزع إيمانه للحظة واحدة مهما
م���ا بع���د الحداث���ة -كم���ا يقول���ون -الغائص ف���ي ه���ذه المادية
والمؤم���ن بـ"النب���ي" و"النب���وة" يصبح من الق���وة واالقتدار
الموج���ودات؛ ألن الموجودات يتوالى مجيؤها منه بعد عملية
عالم الحداثة وما بعد الحداثة
يس���مونه -وعالم ه���و :هل العال���م اليوم؛ عال���م الحداثة -كما ّ الغليظ���ة والمرعب���ة ،ق���ادر عل���ى فه���م "النبوات" ،وق���ادر على
اس���تيعاب غيبياته���ا واإليمان بما ورائياته���ا؟ فعقل العالم اليوم مص���اب بكالل ذهني وقصور إدراكي ،وفقدان لذكائه الفطري
المطم���ور تح���ت ركام م���ن مغالط���ات المنط���ق ،وسفس���طات الفلس���فة ،وتن���وع الثقافات ،وفوضى األف���كار واأليدلوجيات،
وغي���اب الهدفية والم���آل والمصير عن اهتمامات اإلنس���ان...
كل ه���ذا صحي���ح .وهذا الصحيح المظل���م القاتم الظالم ،في
أش���د حاجات���ه الي���وم إلى "النب���ي" و"النب���وات"؛ ألنه ال ش���يء
���مو ه���ذا التفكير من وال يري���دون أن يدفع���وا ثمن ما يتطلبه ُس ُّ
جهد ذهني وجس���دي وسلوكي ،واس���تنهاض للقوى الروحية
عزيمة ،وإصرار على المضي في هذه الطريق إلى نهاية الشوط. فالمؤمن بالنبوة يش���ق طريقه وس���ط عصر الشك هذا ،ووسط
شكوكيات ُيراد له أن ينزلق نحوها. ثار من حوله من ُي ُ ّ
جديدا في أساليب التفكير بحيث يس���تطيع أن يش���كل منعط ًفا ً
الس���ائدة ف���ي عص���ره ،وق���د يس���تطيع أن يلفت انتب���اه حضارة لتتبنى أسلوب تفكيره اإليماني. فالنبوي ُّ بأسرها ويثير اهتمامها ّ وتصحيح���ا للمعطيات اس���تدراكا التفكي���ر ،يمث���ل بح���د ذات���ه ِ ً ً
الفكرية للحضارة القائمة أو الحضارات الالحقة.
وهذه االنعطافات في مس���يرة الزمن ومس���يرة الحضارات،
هي ما حققه األنبياء العظام من أصحاب الرس���االت الكبرى،
ظل وحققه خاتمهم محمد ،فإن أربعة عشر قر ًنا عاشت في ّ بعض الشيء عن نبوته الخاتمةْ ، وإن كان هذا الظل قد ينحسر َ
ويعرفه يمكن���ه أن يمن���ح اإلنس���ان المعن���ى والمغزى لحيات���ه، ّ ّ بهدفي���ة الحياة الت���ي يحياها ،ويفتح منافذ روح���ه وعقله على
بعض القرون وقد يمتد ويكثف على بعض القرون األخرى ،إال
وغي���ر "النب���وات" .فالم���وت والحياة يبقي���ان ْلغزين م���ن ألغاز
واألس���تاذ "النورس���ي" ي���درك أن العصر ال���ذي ُكتب له أن
الم���آل والمصير وعل���ى الموت وما بعد الم���وت ،غير "النبي"
يتحديان عقل اإلنس���ان ،وهما الحقيقتان هذا الوج���ود اللذين ّ الوجوديت���ان اللت���ان نش���هد تكرارهم���ا أم���ام أعينن���ا كل ي���وم،
األم���ر ال���ذي جع���ل "النورس���ي" يق���ول" :إذا لم نك���ن قادرين
عل���ى إيقاف قواف���ل الموتى التي تزور المقاب���ر وتدخل القبور
وم ّده. أنه يبقى ً وم ْسعى إليه في حالي انحساره َ موجودا ومعرو ًفا ُ يعي���ش فيه ،ه���و عصر االنحس���ارات الروحية ف���ي العالم كله،
المحمدي عن األمة المحمدية .لذلك وال سيما انحسار الظل ّ فقد رأى أن واجبه الديني واألخالقي واإلنس���اني ،يحتم عليه
أن يعيد أن يسعى بكل ما يمتلك من قوى روحية وعقلية إلى ْ
21
السنة التاسعة -العدد (2013 )38
أن يعيش في دائرتهما ،فتجعله أكثر جرأ ًة على كسر قيود نفسه
والتخ ّلص م���ن أغالل عقله وروحه .فهو بمثابة الحجر الكبير وال مناقش���ة ف���ي المثال -ال���ذي يحرك أمواج المي���اه الراكدةفي بحيرة الزمن الساكن ...فاالنفعال القوي ،والتوتر الشديد،
والقلق العميق الذي يحدثه "النبي" في اإلنسان ،كل هذه تعمل مجتمعة على إزاحة األس���تار عن الجانب الروحي العميق في
الكي���ان البش���ري ل���م يكن معرو ًف���ا لديه من قب���ل .وهو في كل
األحوال ،س���يلمس في داخله قوة عاملة تدفع به نحو هدفية، إن كانت مجهولة اليوم لديه ،إال أن "النبي" سيعينه على فهمها ْ وإدراكه���ا ،ويرس���م له طري���ق الوصول إليها .لذل���ك صار من
أعظم مهام "النبي" ،هو تدارك أولئك اليائس���ين الذين قد بلغ حد اعتقادهم أن وجودهم نفس���ه على س���طح بهم اليأس إلى ّ ه���ذه األرض ،إنم���ا هو خط���أ كوني ما كان للك���ون أن يخطئ
فيه���م هذا الخطأ الش���نيع؛ حيث ألقى بهم ب���دون مباالة على
األنبي���اء الس���ابقين ،ف���إن نبوت���ه اكتس���بت به���ذه الجامعية صفة
عب���ر الزمن حت���ى نهاياته .فهو الخل���ود والس���رمدية واالمتداد َ علي���ه الص�ل�اة والس�ل�ام نبي ه���ذا العصر ونب���ي كل عصر ٍ آت إل���ى قيام الس���اعة .فال جرم أن نرى تعاليم���ه والقرآن الموحى
قادرين على إنش���اء رج���ال أنبياء ولكن من غير وحي، به إليهَ ، ورس���ل ولكن من غير رساالت منزالت عليهم ،وهذه إحدى خواص هذه األمة التي تميزت بها عن غيرها من األمم؛ فكان
بعض رجاالتها من العلماء كأنبياء بني إس���رائيل كما قال عليه
الصالة والس�ل�ام في اإلش���ارة إلى ذلك" :علم���اء ّأمتي كأنبياء بن���ي إس���رائيل" .فمحم���د ظاه���ر واض���ح الظه���ور ،يتراءى
للناس من خ�ل�ال هؤالء العلماء المتتلمذين على كتابه وعلى ُس ّنته .فهو يعيش ويحيا في أفكارهم وفي أعمالهم ،يدور مع
ال بعد جيل إلى الزم���ن حيث دار ،ويتخلل في علم���اء أمته جي ً نهاية العالم.
قارع���ة ه���ذه األرض ،ليعانوا فيها الغرب���ة والحرمان ومختلف "النورسي" صن���وف الع���ذاب واإلحب���اط .وذل���ك لكونه���م يتعاملون مع
و"النورس���ي" رحم���ه اهلل ،م���ن علماء ه���ذه األمة األف���ذاذ ،فقد
الحقائق لها ارتباط وثيق باألنفس واألرواح وحتى السلوكيات.
وعصب���ه ولحمه ودمه ،فتنفس أنفاس���هما ،وتش���رب رحيقهما،
حقائق الوجود كمجرد ظواهر أو أرقام أو حسابات ،بينما هذه
محك اإليمان
وإن ُم ِ وصل اإلنس���ان إلى فهم الوج���ود ضمن هذه المعطيات النفس���ية والروحية ،هو محك اإليمان الذي يسعى "النبي" إلى
إرساء قواعده في النفوس البشرية التي يتعامل معها .إنه -أي النبي -يحمل على كاهله من األعباء واإلشكاالت التي تنتظر
الحل���ول ،ما لم تس���تطع ق���وة أجيال كامل���ة أن تحملها وتجد الحلول الالزمة لها .فال عجب إذن -واألمر كذلك -إذا رأينا جديدا ألعماله تاريخا "النب���ي" وهو يغير مجرى الزمن ويفتح ً ً
المجيدة في األقوام والشعوب واألمم.
نبوة محمد
���ف -وإلى األبد -عند فتتاب���ع "النب���وات" عبر األزمنة ،قد تو َّق َ ُ ِ "نب���وة" محم���د الكب���رى ،جامع���ة النب���وات ،والمحتوي���ة عل���ى خالصاته���ا .فلي���س من نب���وة وال نبي بعده ،فه���و عليه الصالة
فارغا في صرح "النبوات"، القمة التي ُت ِرك مح ّلها ً والسالم اللبنة ّ ليك���ون هو تلك اللبنة التمام كما أخبر عليه الصالة والس�ل�ام.
ولكونه الجامع األعظم والمحتوى األوسع لكل تجارب السنة التاسعة -العدد (2013 )38
20
ومخه وعظمه سمعه وبصره ّ خالط الوحيان -القرآن والس���نةَ -
بهم���ا ع���اش ،ولهم���ا كرس وج���وده وحيات���ه وقلمه ورس���ائله َّ ال بيديه الوحيين حام العصر هذا قمة يرتقي "رسائل النور" .إنه ً مناديا إنس���ان اليوم ،ليعود العظيمي���ن ،ويقف عل���ى هذه القمة ً إل���ى كنف النبوات من جديد بعد ما عاناه من جفافات روحية وتصح���رات وجدانية كادت تأتي على البقية الباقية من خضرة
اإليمان في قلبه.
فـ"النورس���ي" بش���هادة الذين قرأوا له -وه���م كثيرون -من
وكثيرا ما أعمق وأوس���ع الذهنيات اإليمانية في ه���ذا العصر، ً َيستعصي على الفهم إال إذا ُفهِ م على أنه مرآة عظيمة وصقيلة
أن تعك���س روح النبي الخات���م وروح قرآنه مهمته���ا األس���اس ْ ّ
وإن كانت مس���ألة الموح���ى به إليه ،فمس���ألة العودة إلى الدين ْ مرتبط���ة بضمي���ر الفرد ،غير أنها -إل���ى جانب ذلك -قضية في
األهمي���ة للحض���ارة القائم���ة .فما لم تعد ه���ذه الحضارة غاي���ة ّ واحدا م���ن أعمدة ركائزه���ا ،فإنها مهددة إل���ى الدي���ن وتجعله ً يتنبأ بذلك َج ٌّم غفير من أساطين هذه باالنهيار والس���قوط كما ّ برمتها تكمن في ابتكار مفاهيم الحضارة ّ ومفكريها .فالمسألة ّ جدي���دة غي���ر تلقيدي���ة وال نمطية حول عالقة اإلنس���ان بالحياة
قضايا فكرية
أديب إبراهيم الدباغ*
ُ اإلنسان من الصرب عدّته ،فلن يربح مكانه ،ولن يتقدم إىل األمام قيد أمنلة.. ما مل يأخذ فبالصرب تتواىل الخطوات وتتحقق األهداف. *** (املوازين)
تأمالت في النبي والنبوات م���ن خالل التأمل االس���تقرائي العميق لتاريخ
وأشمل .وعندما يبلغ "النبي" هذه الرؤية الشمولية ،فإن الزمن
نخل���ص إلى نتيجة في تعريف "النبوة" مفادها
الموحى بها إليه. ومسيرته ومن التوجهات اإللهية َ
النبوات على س���طح ه���ذه األرض ،يمكن أن
س���يتوقف عنده ،وينش���أ زمن جديد يشرع بالتشكل من تعاليمه
ّأن "النبوة" بمعناها الشامل المحيط ،إنما هي عملية استنهاض النبي إلهي للقوى اإلدراكية والروحية الكامنة في "الجوهر اإلنساني"
و"النبي" ال يتوقف عند درجة واحدة من س ّلم المعرفة ،بل هو
"النب���ي" في اعتماد الش���مولية الجامعة بين اإلنس���ان من جهة،
أوج توهج���ه الجمالي ،وإعجازية انتظامه ودقة صنعه ،كما أنه
ل���دى "النب���ي" ،ومن ثم فهي عملية توس���يع زاوي���ة النظر عند
ت���رق دائم مع كل ن َفس من أنفاس���ه ،حتى يرى العالم في ف���ي ٍّ
والعالمين المرئي وغير المرئي من جهة أخرى .و"النبي" وإن
يرى اإلنسان هو المكان األرفع الذي يحرص على جعله مرآ ًة حد س���واء. عاكس���ة تعك���س عالمه الداخل���ي والخارجي على ٍّ
معينين ،غير أن���ه ينظر إلى "الزمان" كان مبعو ًث���ا لزم���ان ومكان ّ
م���ن فوق الزم���ان ومن خارجه ،وينظر إل���ى "المكان" من فوق
الم���كان ومن خارجه كذلك ،فيأت���ي نظره أنفذ وأصدق وأبعد
إن "النب���ي" يثير في قومه من االنفعاالت ما يحفز الجموع
لتخطي الركود العقلي والروحي اللذين اعتاد اإلنسان العادي
19
السنة التاسعة -العدد (2013 )38
ه���ذا م���ا يري���د أن يقوله واحد م���ن أش���د المخلصين لفكر بالج���د "كول���ن" ،المتش���ربين مفردات���ه ومقاص���ده ،العاملي���ن ّ المطل���وب عل���ى التماهي مع فكره ونش���ره في األرض ...في كت���اب يحم���ل عن���وان "الضاربون ف���ي األرض" بكل م���ا يعنيه ال فيه أن يلقي نظرة مترعة بالش���فافية ،قديرة م���ن دالل���ة ،محاو ً عل���ى تحقي���ق المقاربة مع فكر هذا الرج���ل الكبير ذي العطاء الخصب الذي تشهد به مؤلفاته المتالحقة تترى على الناس. أق���در من األخ األس���تاذ "أديب الدب���اغ" على تحقيق وم���ن َ ُ هذا ،بلغته الش���فافة وقدرته على اس���تنطاق ما وراء الملموس والمنظور ،وبإيغاله في عالم اإلنسان الذي أراد له اهلل سبحانه وحسه ووجدانه في الظواهر واألشياء؟ أن ُيعمل عقله وروحه ّ إن���ه يمس���ك في كتابه ه���ذا بالعديد من نق���اط االرتكاز في مس���لطا عليها القيم���ة، ً فك���ر "كول���ن" عبر جمل���ة م���ن مؤلفاته ّ الض���وء الكاش���ف الذي يعرف كي���ف ينفذ إلى عم���ق الظاهرة فيض���ع يده على نبضه���ا األصيل ...عن التاري���خ والحضارة، ع���ن العقل والتغيير المنتظر ،عن الكلمة والفكر ،عن التجديد الدع���وي ،عن أدبي���ات الش���يخ "كولن" ...عن مع���ارج القلب اإلنس���اني والفاعلي���ة الحركي���ة في الفكر والحي���اة ...عن روح الجه���اد ...ع���ن كيف نبن���ي حضارتن���ا ونقيم ص���رح الروح... ع���ن الخل���ق ونظرية التط���ور ...عن القرآن والس���يرة النبوية... ع���ن القيادة ،عن الثقافة ...عن م���دارس النور وبناء العقول... وع���ن الرؤي���ة الكونية لمناهج التعليم ...وعش���رات غيرها من المف���ردات األساس���ية ف���ي فك���ر الرج���ل ،يضعن���ا األخ "أديب ال أس���لوبه المتميز في الكش���ف تمام���ا، مش���غ ً ّ الدب���اغ" قبالته���ا ً إعجابا بفكر الش���يخ واإلض���اءة والتحلي���ل ...فم���ا يزيدن���ا إال ً والتزاما بدعوته الصادقة المخلصة ورغب���ة في مواصلة قراءته، ً التي َقدرت على أن تجذب هذه الحش���ود الكبيرة من الشباب العاملي���ن ،الذين يتمنى أحدهم أن يفني عمره في الدعوة لهذا يبشر به. الدين العظيم ،ولمشروعه الحضاري الذي ّ ويبقى أن فكر األس���تاذ "فت���ح اهلل كولن" هو امتداد طبيعي لفك���ر أس���تاذه بدي���ع الزمان س���عيد النورس���ي ،ومحاولة جادة قدما ص���وب األم���ام ،بم���وازاة وف���ي مجابهة كل للمض���ي ب���ه ً تفج���رت ف���ي العصر صن���وف المتغي���رات والتحدي���ات الت���ي ّ ّ الحدي���ث ،من أج���ل تقديم االس���تجابات الناجعة له���ا ،والتي قدمته تعد بالكثير. قدمت الكثير وهي فوق ما ّ ّ (*) كلية اآلداب ،جامعة الموصل /العراق. السنة التاسعة -العدد (2013 )38
18
واج َت ْز حلِّ ْق ْ من التأمل ال تُ ْكثر، وباإلحباط ال ّ تفكر!.. وح ِّل ْق، اف ْ ْرش جناحيك َ ف ُهما على العواصف َعصيَّان، وعلى اجتياز المسافات قادران... وفيهما ِمن َر ْوِح اهلل ُروح، ومن القدرة اإللهية قدرةٌ... فام ِ ض لطيّتك راش ًدا، ْ بال ٍ خوف وال َو َجل، وال َه ٍّم وال نَ َصب!.. ***
ض���وء تصورات وقيم ومبادئ المعرفة اإلس�ل�امية ،وكيف يتم
معيارا لبناء ما يتمخض عن الكشف العقلي الذي طالما انتهى ً
وأس���س الت���ي انحرف���ت بمعطياته���ا ونتائجه���ا فيم���ا يتعارض َ التصور اإلس�ل�امي للكون والعالم والحياة واإلنسان والوجود ّ والمصي���ر ،وكي���ف يعود االلتح���ام بين الحقائق والتأسيس���ات
نتائ���ج احتمالي���ة ظنية بعي���دة -بدرجة أو أخ���رى -عن حافات والكوزمولوج���ي ،وبمتابعة ش���واهد أخرى من كش���وف العقل
المتنامية في هذا الحقل أو ذاك؟
وهكذا فإن التأكيد على عمق الظاهرة الغيبية في البنية الكونية
تحريره���ا من هيمن���ة المؤث���رات العلمانية -وأحيا ًن���ا المادية-
المتشكلة بقوة "الوحي" ،وبين كشوف العقل البشري وخبراته إن علم���ي النف���س واالجتم���اع ،وعلوم اإلدارة والسياس���ة
إذا عم���ل بمع���زل ع���ن ضوابط الوح���ي -إلى الوص���ول إلىاليقي���ن ،بش���هادة كبار فالس���فة العلم وعلماء النف���س والفيزياء
النس���بية والقلقة في علمي النفس واالجتماع وفلسفة التاريخ.
واإلنس���انية ،وتغطيتها المساحات األوسع بالمقارنة مع عالم
ِأمس واالقتص���اد ،والتاريخ والحض���ارة ،واآلداب والفنونَ ،لب ّ بدءا وصيرورة ونتائج ومعطيات-الحاجة إلى التعامل معها ً وفق أس���س وضوابط المعرفة اإلس�ل�امية التي ال تبخل بتقديم
وعلماء الفيزياء والكوزمولوجي والنفس.
الوص���ول -وبالطرائ���ق العلمي���ة الصارم���ة -إل���ى نتائ���ج أكث���ر
التكام���ل المعرفي ،ليس فقط لخدم���ة وتأكيد المطالب الدينية
تأسيس���اتها وثوابته���ا ومعاييره���ا ألداء ه���ذه المهم���ة من أجل
معا دق���ة ً وإحكام���ا .وهكذا يج���يء تزويد الطال���ب بالمعرفتين ً ف���ي ض���وء رؤي���ة تكاملية ،فرص���ة ضرورية لتمكين���ه من هضم وتمث���ل مفاهي���م التأصيل اإلس�ل�امي للمعرف���ة ،واإلعانة على
تحقي���ق أهدافه���ا ،فيم���ا ينقلنا إلى الخط���وة التالي���ة وهي البدء
بنس���ج المشروع الحضاري الذي يس���تهدف انبعاث الحضارة اإلس�ل�امية ،ومش���اركتها الفاعل���ة ف���ي إع���ادة صياغ���ة المصير
البش���ري وف���ق معادلته���ا المتمي���زة الت���ي يلتق���ي فيه���ا الوح���ي بالوج���ود ،والتعليم الديني بالكش���ف العقلي ،ويتحقق التوازن
الضائ���ع في الحضارة الغربية الراهنة ،فيما ّنبه إليه وأكده كبار فالسفة وعلماء ومؤرخي ومفكري الغرب أنفسهم.
التصور اإلس�ل�امي الش���هود ،واالهتم���ام البال���غ ال���ذي أواله ّ للغيب ،يجيء مطاب ًقا الس���تنتاجات العديد من فالس���فة العلم إن ه���ذه الحقيق���ة تقودنا بالض���رورة إلى التحق���ق بمفاهيم
تماما إعان���ة المطالب واإليماني���ة عموم���ا ،وإنم���ا وبموازاته���ا ً ً
العلمي���ة عل���ى الوص���ول إل���ى أهدافه���ا بأكب���ر ق���در ممكن من االنضباط المنهجي إذا صح التعبير.
إن األس���تاذ "فتح اهلل كولن" ينطلق من هذه الرؤية الصائبة
ف���ي التعام���ل المعرفي مع الكون والحياة واإلنس���ان والوجود تش���ربوا فكره الشمولي والمصير ...ومن ورائه تالمذته الذين ّ
ق���در لهم -بقوة ه���ذا الفكر -أن ه���ذا ،أولئ���ك التالمذة الذين ّ ينتش���روا ف���ي األرض ،وأن يمألوا الس���هل والجب���ل ،ويقيموا
الملتقي���ات والندوات والمؤتمرات ...وينش���طوا في المدارس والجامع���ات ،ضاربي���ن ف���ي أرض اهلل الواس���عة ...إنه���م "فتية
وهك���ذا ،وحيثم���ا َتل َّف ْتن���ا وجدن���ا كي���ف يصي���ر "التكام���ل
إيم���ان ...إش���عاعات ه���دى ...عل���ى كواهله���م أثق���ال رس���الة
تخص نتائجه عالم اإلسالم وحده ،بل يمضي لكي يسهم في
هؤالء الفتية أعجوبة الزمان وأبطال األنام إلى أقاصي األرض
المعرف���ي" ض���رورة إس�ل�امية "حضارية" في الوقت نفس���ه ،ال إعادة بناء العالم الذي جنحت به رياح التشريق والتغريب.
أش���فقت عن حملها جبال األرض وأطباق السماء ...وحملها وأدانيها ...يمش���ون ...واألرض يخرقون ...ووراءهم يمش���ي
التصور ولطالما أكد "فتح اهلل كولن" في كتاباته على أنه في ّ
التاري���خ ويتاب���ع خطاه���م ويكت���ب آثاره���م ويترص���د جالئل
بطبيع���ة الح���ال -الجه���د للوصول إلى "الحقيق���ة"؛ إذ البد من
حبطين مثبطي���ن وال ُم َ أجي���ال ،ومآس���ي أزم���ان ...لكنهم غي���ر َّ
تحدي���دا ،ال يكف���ي أن يعم���ل العق���ل -والح���واس اإلس�ل�امي ً
وتمكن���ه من تحقيق إعان���ة أو إض���اءة "فوقية" تأخ���ذ بيد العقل ّ المطل���وب .وهكذا يصبح "الوحي" ضرورة مالزمة للعقل إذا
موارة بآالم أم���ة ،وأحزان قرون ،ودموع أعماله���م ...بواطنهم ّ والبش���ريات على وال يائس���ين ...اآلمال من وجوههم طافحةُ ، ألسنتهم منهالة ...يعملونِ ... يج ّدون.
أريد اكتناه أس���رار الوجود ،وإعادة صياغته بما ينسجم ومهم َة اإلنس���ان االس���تخالفية والعمرانية في هذا العالم .وهذا يقودنا
وأعالما للهدى قلوب���ا يفتح���ون، ً وبكلم���ة اهلل الت���ي يحمل���ونً ،
بمعن���ى اعتم���اد ثواب���ت العلم الديني المتش���كل بق���وة الوحي،
يقيمون ...ال ينكصون وعن غاياتهم ال يرجعون".
بالض���رورة إلى التحقق بمفاهيم التأصيل اإلس�ل�امي للمعرفة،
عر ًق���ا يتصبب���ون ،لكنه���م ال يش���تكون ...بالغربة يأنس���ون،
يرك���زون ،وراية محمد عليه الصالة الس�ل�ام عل���ى قمم العالم
17
السنة التاسعة -العدد (2013 )38
وف���ي اإلدارة ...كل كت���ل ه���ذا الك���ون
ونظم���ه ،كل صالبت���ه المدمكة وخفقانه
المدهش ...في مجاري األفالك والسدم والمج���رات والش���موس واألقم���ار ،في منس���ربات البروتونات والنيوترونات...
دائما كلمة اهلل اآلمرة التي تشكل هنالك ً
األشياء والظواهر والموجودات وتقول لها "كوني" فتكون.
جي���دا ...وأن���ت ه���م يعرف���ون ه���ذا ً
تلم���ح في عيونهم ه���ذا التوق المكافح لاللتح���ام ال���ذي ضيعت���ه العلماني���ة
الملح���دة ...وه���ا ه���م اآلن (تالم���ذة ب���دءا م���ن أعل���ى الهرم كول���ن) يس���عون ً
اإلب���داع ف���ي مجال تخصصه���م الدقيق،
�إنهم "فتية �إمي��ان ...بواطنهم م��وارة ب���آالم �أم��ة ،و�أح��زان ّ ق��رون ،ودم��وع �أجي��ال، وم�آ�س��ي �أزم��ان ...لكنه��م غ�ير مثبَّط�ين وال حُمبَط�ين وال يائ�س�ين ...الآم��ال م��ن وجوههم طافحة ،والبُ�رشيات عل��ى �أل�سنته��م منهال��ة... يعملونِ ... يج ّدون.
ال الذي يتصاعد بنيانه بـ"اسم اهلل" ،وصو ً إلى قواعده السفلى التي تجاهد إلرسائه على بركة اهلل.
ب���ل والحض���ور المؤك���د ف���ي س���احات الثقاف���ة ،والقدرة عل���ى إرفادها بالمزيد.
إنن���ا نتذك���ر هن���ا علم���اء الرياضيات
والفيزي���اء والكوزمولوج���ي الغربيي���ن
الكب���ار؛ "أينش���تاين" و"ألف���رد ن���ورث وايتهي���د" و"برتران���د رس���ل" ،كما نتذكر فالسفة العلم الكبار؛ "ألكسيس كاريل"
و"س���وليفان" و"أغ���روس" و"ستانس���يو"
و"هوي���ل" وغيره���م كثي���رون ...كان���وا ْ جميع���ا يملك���ون رؤية معرفي���ة متكاملة ً جيدا ّ مكنته���م ،ليس فقط من اإلمس���اك ً
بحلق���ات تخصصه���م الدقي���ق وتقدي���م
الكش���وف المدهش���ة ف���ي مجال���ه ،وإنما
الفع���ال في معترك الحي���اة العلمية منحته���م الفرصة لإلس���هام ّ
المتف���رد ...أن تفرد يجعلون���ك تنغم���ر معه���م في العش���ق ّ ش���راعك وتبحر معهم بما وسعك ووسعهم من ٍ جهد في دنيا
ال من المتخصصين في العلوم ونتذكر قبالة هذا، حشدا هائ ً ً
في أش���د لحظات توهجه ...هناك حيث يصير الفعل المعرفي
وحتى الحاصلين على درجة "األستاذية" ،تسمع لهم جعجعة
اهلل ،الت���ي يلتقي فيه���ا العلم في أقصى حاالت تعقلنه باإليمان
وحجا. وصياما صال ًة ً ً
والثقافية على امتدادها.
اإلنسانية أو اإلس�ل�امية ،من حملة الماجستير والدكتوراه ،بل طحينا ...فهم يعانون من الضمور وعدم القدرة وال ترى لهم ً
وف���ي كل م���رة يجد اإلنس���ان نفس���ه قبالة العي���ون المعلقة
معا؛ تخصصهم على االكتشاف واإلبداع واإلضافة في اإلثنين ً
لك���ي تمضي إلى الجوهر والمغزى فتعانق الحقيقة في أقصى
ظهرا أبقى .وإنك إذا أخرجتهم من دائرة تخصصهم قطع وال ً
بالكلمة ،تحاول بعش���ق وش���غف أن تخترق قشرتها الخارجية حاالت ألقها وتكشفها.
يوما بعد يوم تزداد الحاجة األكاديمية والثقافية إلى التح ّقق ً
أرضا الدقي���ق وثقافته���م العامة ...فهم أش���به بالمنبت الذي ال ً الدقي���ق باتجاه هذا الحقل المعرف���ي الموازي أو ذاك ،ضاعوا
ش���يئا. وض ّل���وا الطريق ،ألنهم ال يكادون يملكون من خرائطه ً
بمب���دأ التكامل المعرفي الذي يدع���و إليه ويتحقق به "فتح اهلل
بل إنك -حتى في مجال تخصصهم الدقيق هذا -إذا سحبت
وغي���ر المدروس باتجاه االكتفاء بالمعرفة التخصصية في هذا
والمصادر ،والتي ّيتكؤون عليها في إنجازهم بحو َثهم ،فقدوا
كولن" في كل أعماله ...وبخاصة بعد ذلك االندفاع المرتجل العلم اإلنساني أو اإلسالمي أو ذاك ،بل والذهاب أبعد باتجاه
التخصص الدقيق الذي يعني اإللمام بهذه الحلقة ما أطلق عليه ّ أو المف���ردة أو تلك من حلق���ات ومفردات هذا العلم أو ذاك. وهي مس���ألة ضرورية -ب���كل تأكيد -من أج���ل إتاحة الفرص
المعمقة للكشف واإلضافة واإلبداع في ذلك المجال .ولكن هذا ال ّيبرر -بحال من األحوال -االعتقال في خانة التخصص واس���عا، معرفيا فض���اء الدقي���ق ال���ذي ال يمل���ك مع���ه أصحابه ً ً ًّ
يمكنه���م ،ليس فقط م���ن المزيد من ثقافي���ا وال خصب���ا ّ ً خزين���ا ًّ ً السنة التاسعة -العدد (2013 )38
16
م���ن بين أيديه���م النصوص الحرفية المس���تمدة م���ن المراجع القدرة على كتابة سطرين.
َك ْسر جدران الزنزانة ،وتحرير المختصين من االعتقال في
س���راديبها الضيق���ة ،تلك هي -أغلب الظن -القيمة األساس���ية
لمبدأ التكامل المعرفي التي يدعو لها ويشتغل عليها "فتح اهلل
كولن" في كل كتاباته.
يعد ضرورة لي���س هذا فحس���ب ،بل إن التكام���ل المعرفي ّ
أس���لمتها م���ن ض���رورات التأصي���ل اإلس�ل�امي للمعرف���ة ،أو َ
أدق .إذ كي���ف تت���م إع���ادة بن���اء المعرفة اإلنس���انية في بعب���ارة ّ
تحليل كتاب
أ.د .عماد الدين خليل*
الضاربون في األرض
قراءة في كتاب األستاذ أديب الدباغ ي���دق األس���تاذ "محم���د فت���ح اهلل كول���ن" م���ن خ�ل�ال فكره على أبواب القلبَ ،يطرق ويديم الط���رق" :افتح يا قلب ...دعني ألج بكلماتي ْ إليك ،دعني أعالج أغالق خزائنك ،دعني أكش���ف عن أسرار مداخل���ك ...دعني أطلق ق���واك الخفية وأدير مفتاح الفهم عن اهلل ف���ي روحك ...دعن���ي أبتعث فيك مواجي���د الحنين ،دعني نع���اس الس���نين ...دعني أش���ق أنف���ض ع���ن أه���داب روح���ك َ أبدد ضبابيات األرض التي تغش���ى أكفان الموت عنك ،دعني ّ وج���ودك ...دعني أنقش صورة اآلخرة على صفحة الش���غاف من���ك ،دعن���ي أعرف ذاتك بذات الك���ون ...دعني أعقد معرفة وصلحا بينك وبين شقيقك اإلنسان". بينك وبين الطبيعة، ً كثيرا ،ولكنك اآلن كنت قد تلحظهم ً َ جيدا؛ َ سمعت عنهم ً تراهم معك وقبالتك ...هذا العش���ق المتفرد للكلمة ،لإلبحار ّ اليوم���ي في أوقيانوس الفك���ر والثقافة ...هذا التوق لجعل كل األش���ياء والمف���ردات والظواهر والموجودات ،تتش���كل وتبدأ رحلته���ا ف���ي عال���م التنامي والصي���رورة واإلب���داع تحت مظلة جيدا -ربما أكثر م���ن غيرهم -أنه ما من اهلل ...إنه���م يعرف���ون ً شيء في هذه الدنيا إال وقد قال فيه هذا الدين المدهش كلمته، أو بعبارة أخرى ،إنه ما من ظاهرة أو شبكة من المعطيات إال وهي مخترقة بقوة اإليمان اإلس�ل�امي المتع ّقل حتى النخاع... مكش���وف عنه���ا النقاب لكي ما تلب���ث أن تصير تحت الضوء، تمام���ا .وم���ن ث���م ف���إن أي ق���در م���ن العتمة أو تح���ت الض���وء ً الضب���اب ،ق���د يكون دافع���ه وجود خلل ما في العين البش���رية، أو ف���ي نس���يج الظاهرة نفس���ها ...أما في الجان���ب اآلخر ،فإن اإلسالم قادر في أي لحظة -إذا ُأحسن التعامل معه -على أن تماما... يعيد األشياء إلى مكانها الحق ،وأن يضعها في مح ّلها ً ف���ي الكيمياء ،ف���ي الفيزياء ،ف���ي الطب ،في الهندس���ة ،في النفس ،في المجتمع ،في السياسة ،في االقتصاد ،في القانون
15
السنة التاسعة -العدد (2013 )38
ان ِم ْن َع َلقٍ ا ْق َر ْأ َو َر ُّب َك ِاس ِم َر ِّب َك ا َّل ِذي َخ َل َق َ خ َل َق ا ِ إل ْن َس َ ب ْ أل ْك ِ ا َ ���م بِا ْل َق َل ِم(العل���ق .)4-1:وذك���ر أن الق���راءة ���ر ُم ا َّل���ذي َع َّل َ َ األول���ى في الوجود ،والثانية في الوحي ،وأنهما قد صدرا عن ال اهلل ؛ األولى من عالم الخلق ،والثانية من عالم األمرَ :أ َ ���ه ا ْل َخ ْل ُق َوا َ ين(األعراف .)54:وعلى ���اركَ ا ُ َل ُ هلل َر ُّب ا ْل َعا َل ِم َ أل ْم ُر َت َب َ ه���ذا ف�ل�ا نهاية إلدراك الك���ون؛ حيث إنه يمث���ل الحقيقة ،ألنه م���ن عن���د اهلل وال نهاية إلدراك الوحي ،قال رس���ول اهلل " :ال وأيضا تنته���ي عجائبه ،وال َيخ َلق من كثرة الرد" (أخرجه الترمذي). ً ال من عند اهلل ،وهذا التأس���يس ال تع���ارض بينهم���ا حيث إن ك ًّ ين يتأكد في قوله تعالى على صفة اإلطالقَ : ه ْل َي ْس َت ِوي ا َّل ِذ َ ون ِإ َّن َما َي َت َذ َّكر ُأو ُلو ا َ اب(الزمر.)9: ين َ أل ْل َب ِ ال َي ْع َل ُم َ َي ْع َل ُم َ ون َوا َّل ِذ َ ُ
السقف األخالقي للتطبيق
إال أن اس���تعمال المعلوم���ات ،يجب أن يكون تحت الس���قف األخالق���ي للتطبي���ق المأخ���وذ م���ن مهمة اإلنس���ان ف���ي الدنيا؛ العب���ادة ،والعم���ارة ،والتزكي���ة .ه���ذا الس���قف ال���ذي يمنع من استعمال ما يوصلنا إليه فيما يخالف األوامر والنواهي الربانية، أو يك���ر على المقاصد الكلي���ة بالبطالن فنكون بذلك من أهل التعمي���ل ال م���ن أه���ل التدمير .وهذا الس���قف لالس���تعمال من األهمية القصوى ،حيث هو الضمان الوحيد لتلك العمارة. إن الفص���ل بي���ن حري���ة البح���ث للوص���ول إل���ى صحي���ح المعرفة ،وبين تقييد االستعمال للوصول إلى العمارة ،أمر قد اختلط على كثير من الناس مع وضوحه وتأكيده. كلية تتمثل في وم���ن الحقائق ً أيضا ،أن العلوم لها ص���ورة ّ عملية متكاملة من التعليم إلدراك المعلومات ،والتربية إلقرار يتجزأ ،أو القيم ،والتدريب لتنمية الملكات ...وأن هذا كلٌّ ال ّ وفقد دليل تجزأ لفقدنا "دليل التش���غيل" إن صح التعبي���ر، ُ ل���و ّ التش���غيل يوقع في حيرة واضطراب .ويبدو أننا قد فقدنا دليل التش���غيل هذا في كثير من جوان���ب حياتنا ،ليس العلمية فقط، أيضا السياسة واالجتماعية والدينية. بل ً أيض���ا ،أن َفر ًقا بين علم الدين وبين التدين. وم���ن الحقائق ً ف���األول تقوم به جماعة علمية وله مصادره ومنهجه .والعملية التعليمية لها أركانها التي يجب أن تكتمل بعناصرها الخمسة؛ الطالب ،واألس���تاذ ،والمنهج ،والكت���اب ،والجو العلمي .أما الثان���ي وهو التدين ،فهو مطالب ب���ه كل مك ّلف لتنظيم عالقته وربه. مع نفسه وكونه ّ أيضا ،أن هناك فر ًقا بين الفقه والفكر .فالفقه ومن الحقائق ً السنة التاسعة -العدد (2013 )38
14
موضوع���ه "فع���ل المكل���ف" ،ويهتم علم الفق���ه بوصف أفعال المك ّلفي���ن باإلق���دام عليه���ا أو اإلحجام عنه���ا ،وأن هذا حالل وهذا حرام بأحكام شرعية خمسة وهي؛ الواجب ،والمندوب، والح���رام ،والمكروه ،والمباح .وأما الفكر فموضوعه "الواقع المعي���ش النس���بي المرك���ب المتغير" .وه���ذا الفك���ر ير ِّتب فيه اإلنس���ان أم���ورا معلوم���ة كمقدم���ات ،ليتوص���ل بها إلى ش���يء ً مجهول كنتيجة .والعملية الفكرية هي الجسر الذي بين الشرع والواقع ،ولذلك تحتاج إلى علوم تجدد وتولد كل حين ،حيث إن طبيعة الواقع الذي نريد أن ندركه ،شديدة التعقيد والتغيير. ف���إذا تقرر كل ما س���بق ،ف���إن التراث اإلس�ل�امي وضع ما يس���مى بالمب���ادئ العش���رة ،م���ن أج���ل أن يطلع عليه���ا طالب العلم؛ ليتش���وف للعلم الذي سوف يدرسه ،أو ليعرف ما البد ل���ه من معرفته ،وهي بذاتها ه���ي العناصر التي يجب االلتفات إليها عند توليد العلوم. ووضعه���ا بعضه���م في صورة نظم يحفظ���ه صغار الطالب حت���ى يحدث لهم هذا التش���وف الذي انحس���ر بع���د ذلك عند المسلمين في التلقي دون إنشاء العلوم واستمرار الفكر ،قال: ال مـــــــــــن رام فـــــــــــنا فــــلـيــــــــــرم أو ً ًّ عــلما بحــده ومـوضــــع تـــال ً وواضـــــع ونســـــــبة ومــا استـــــمد منــه وفضـــله وحكــم معتــمد واســــــــم ومــا أفـــاد والمســـــــائـــل فتــلك عشــــر للــمنى وســــائــل وبعضهم فيها على البعض اقتصر ومــــــن درى جــميعـها انتصـــــر فالمب���ادئ العش���رة ه���ي؛ تعريف العل���م ،وموضوعه ،ومن ال���ذي وضعه ،ونس���بته إل���ى العلوم األخرى ،وم���ن أي العلوم يستمد ،وأحكامه ،ومسائله ،وما فضله ،وما حكمه ،وما اسمه، ال تعد مدخ ً وم���ا الثمرة والفائ���دة المترتبة عليه .فهذه العش���رة ّ للعل���م ،تدفع طالب العلم إلى التش���وف لدراس���ته وتحصيله، علما ،أن وه���ي بنفس���ها التي يمكن للمفك���ر إذا أراد أن يبن���ي ً يحددها كبداية الستقالل العلوم أو إبداعها.
(*) مفتي الديار المصرية السابق.
الهوامش
( )1الع���دد 3 ،26جم���ادى األول���ى 1317ه���ـ ( 9س���بتمبر 1899م) ،في مقالة بعنوان "كرامات األولياء".
ق���ول الغزال���ي م���ن كتاب���ه ث���م ينق���ل للحف���اظ على لغ���ة العل���م والتفاهم بين َ "حقيق���ة القولين" صفح���ة 181فيقول: الجماع���ة العلمي���ة بم���ا يضم���ن أمرين: "ق���ال الغزال���ي ف���ي كت���اب "حقيق���ة أولهم���ا ه���و نق���ل العل���م لم���ن بعدن���ا، الب��د علينا �أن ندرك �أن توليد وضع الصور للمس���ائل ليس وثانيهما هو تطوير العلم بصورة مطردة القولين": ُ العل��وم نوع من �أنواع مظاهر مس���تمرة ومنضبطة في نفس الوقت .ثم بأمر هين في نفسه ،بل الذكي ربما يقدر حي��اة الفك��ر و�أن��ه مل مي��ت، خبا هذا التوليد وانشغل العلماء بتكرار عل���ى الفت���وى في كل مس���ألة إذا ُذكرت مظاهر من مظه��ر ا أي�ض � وهو ً الم���وروث والحفاظ عليه م���ن الضياع، ل���ه صورتها ،ول���و كلف وض���ع الصور التفاع��ل م��ع الع��صر ال��ذي ك���رد فعل لما حدث في القرن الس���ابع وتصوي���ر كل م���ا يمكن م���ن التفريعات نعي�ش��ه ،وه��و ثالثً��ا اجل��سر والح���وادث ف���ي كل واقع���ة عج���ز عنه، من غزو التتار وسقوط بغداد (656هـ). ال، ودعا محمد رش���يد رض���ا في مجلة ول���م تخط���ر بقلبه تل���ك الص���ور أص ً الذي ي�صل ب�ين ال�رشع وبني "المن���ار"( )1إل���ى إح���داث عل���م جدي���د وإنما ذلك شأن المجتهدين". الواقع املحيط. ال يجي���ب على أولئك ���درس الس���نن اإللهي���ة الت���ي وردت ولنض���رب مث ً َي ُ بالق���رآن الكري���م ،ول���م يتم ذل���ك حتى نموذج���ا لتولي���د العلوم الذي���ن يري���دون ً بع���د مضي أكثر م���ن مائة عام على تلك هدئ حتى يس���يروا على منواله ،وحتى ُي ّ الدع���وة .فالب���د علينا أن ندرك أن تولي���د العلوم نوع من أنواع ب���ال من يش���ك ف���ي هذه العملي���ة وما قد تخفيه ف���ي ظنهم من أيضا مظهر من مظاهر االعت���داء عل���ى ثواب���ت الدي���ن أو الق���دح في هوية اإلس�ل�ام، مظاه���ر حياة الفكر وأنه لم يمت ،وهو ً التفاعل مع العصر الذي نعيشه ،وهو ثال ًثا الجسر الذي يصل فنحاول أن نلقي الضوء على بذور توليد العلوم وآليات ذلك بين الش���رع وبين الواقع المحيط .ويسأل كثير من المخلصين في التراث اإلس�ل�امي ،عس���ى أن ندرك المنهجية التي س���اروا ع���ن كيفي���ة تولي���د العل���وم ،وه���ي تحت���اج إل���ى ق���درة التصور عليها في خدمة حضارتهم. المب���دع ،وه���ي التي ق���د ال توجد عند كثير ممن اش���تغل بنقل وبالمناس���بة ،ف���إن المنهج ف���ي ظني ،رؤية كلي���ة ينبثق عنه العلم والحفاظ عليه. إج���راءات ،وه���ذه الرؤي���ة الكلي���ة ه���ي النم���وذج المعرف���ي، أم���ا اإلج���راءات فهي منه���ج البح���ث العلمي الذي ن���راه عند التصور المبدع يعرف الرازي ومدرس���ته أصول الفقه بأنه: حيث األصوليي���ن، ّ وعده التص���ور المبدع ،ه���ذا األمر البد منه لعملي���ة االجتهادَّ ، ال ،وكيفية االس���تفادة منها ،وحال إجم���ا الفقه دالئ���ل "معرف���ة ً أيضا على ركن���ا من أركانه .ولذلك ّ فإن فق���ده يدل ً األقدم���ون ً خب���وت العملي���ة االجتهادية التي تنبثق أساس���ا من ملكة قائمة المس���تفيد" يعن���ي تك ّلم عن مصادر البح���ث الفقهي ،ثم تك ّلم ً بنف���س الفقي���ه .وتأكيدا لهذا المعنى ،نرى الس���يوطي في كتابه عن كيفية البحث وطرقه ،ثم تك ّلم عن شروط الباحث .وهي ً علميا كما ا منهج بعد فيما اتخذت التي بحالها الثالثة األركان ُ ً ًّ وجهِ ���ل أن االجتهاد في "ال���رد عل���ى من أخل���د إل���ى األرضَ ، كل عص���ر فرض"؛ يقول ف���ي الصفحة 169ما نصه" :قال ابن قرره "روجر بيكون"؛ المصادر والطرق والباحث. بره���ان :ال ينعق���د اإلجماع م���ع مخالفة مجته���د واحد خال ًفا لطائف���ة ،وعم���دة الخصم أن ع���دد التواتر م���ن المجتهدين إذا انف���راد الواحد منهم يقتضي ضع ًفا اجتمعوا على مس���ألة ،كان ُ في رأيه ،قلنا ليس بصحيح؛ إذ من الممكن أن يكون ما ذهب ظاه���را تبتدر إلي���ه األفهام ،وم���ا ذهب إليه رأيا إلي���ه الجمي���ع ً ً أدق وأعوص ،وقد يتف���رد الواحد عن الجميع بزيادة الواح���د َّ ق���وة ف���ي النظ���ر ومزية في الفك���ر ،ولهذا يكون ف���ي كل عصر فرع المسائل ،ويو ّلد الغرائب" .اهـ. مقدم في العلمُ ،ي ّ
الدين والعلم
وقبل أن نخوض في آليات توليد العلوم ،يجب علينا أن ندرك بعض الحقائق عن موقف الدين من العلم .ال نقول إن اإلسالم دين العلم فحس���ب ،بل نرى موقفه من البحث العلمي ،حيث أرى أنه ال حرج وال قيد مطل ًقا على البحث العلمي ،فليبحث من ش���اء فيما ش���اء وليحاول أن يدرك حقيقة العالم كما شاء، ويكش���ف عن خل���ق اهلل في كونه كما يري���د ،وأن ذلك ضمانة لإلبداع ،وهذا مؤسس على أن اهلل قد أنزل أول ما أنزل :ا ْق َر ْأ
13
السنة التاسعة -العدد (2013 )38
قضايا فكرية أ.د .علي جمعة*
توليد العلوم
من أجل تفاعل مبدع مع العصر ووضع حضارة المسلمين قامت على العلم، َ
وهو الذي يرس���م لنا الذهنية والعلمية في التاريخ اإلس�ل�امي
حضارتهم وهو النص الش���ريف ،التزموا بهذا
وهم���ا الصفتان المجمع عليهما لكل م���ن اطلع على التراث
علوم���ا خادم���ة لمح���ور المس���لمون األوائ���ل ً المح���ور وخدموه وانطلقوا منه وجعلوه معي���ارا للقبول والرد ً والتقويم .وأخذ المسلمون يخترعون العلوم اختراعا ،وينقلون ً
يمكنهم من فه���م الحقيقة وإدراك منه���ا عن األمم الس���ابقة م���ا ّ
الواق���ع ونفس األمر، ويصنفونها ويبلغونها لمن بعدهم ولمن ّ
بجواره���م .ورأين���ا عص���ر الترجمة ف���ي عهد المأم���ون ،ورأينا
البيرون���ي ف���ي كتابه "تحقي���ق ما للهند من مقول���ة ممدوحة في العقل أو مرذولة" ،ورأينا الخوارزمي في كتابه "مفتاح العلوم" السنة التاسعة -العدد (2013 )38
12
ويرص���د ذل���ك التنوع من ناحي���ة ،والتفاعل م���ن ناحية أخرى.
اإلسالمي ونتاجه الفكري.
فتوليد العلوم ،كان س���مة أصحاب ذلك الدين حتى القرن
الراب���ع الهج���ري ،بل امتد ذل���ك التوليد إلى القرن الس���ادس؛
علما جديدا أس���ماه بعلم ً حي���ث وض���ع عضد الدين اإليج���ي ً
"الوضع" ،اس���ت ّله من علم اللغة والنح���و واألصول والمنطق، عال���ج في���ه -أه���م ما عال���ج -قضي���ة المصطلح الت���ي تعد من
ضابطا أه���م القضاي���ا العلمية حتى يومنا هذا ،حيث تعد علميا ً ًّ
للضغط ،وبذلك تتوس���ع المس���احة األرضية ويخف الضغط. وهذا األمر يشبه ممتص الصدمات في سياراتكم التي تركبون السباحين بين الثديات البرية نسبة إلى عليهاُ .أ َ عتبر من أفضل ّ جثت���ي الضخم���ة .صغارنا تتقن الس���باحة منذ الصغ���ر من غير كثيرا اللع���ب في الماء والتمرغ في تعلي���م .فنحن َ الفيلة نحب ً األوحال ،حيث نقوم عبر خراطيمنا بط ْلي أجس���امنا باألوحال منا ،ولكننا بعناية فائقة .ربما هذا يؤدي عندكم إلى االشمئزاز ّ عر ٍق مضط���رون إل���ى ذلك ،إذ ال نملك في جلودنا مس���امات َت ُّ تمكنن���ا م���ن تبريد أجس���امنا ،وبالتالي نتقي به���ذه األوحال من ّ حر الش���مس وأش���عتها ف���وق البنفس���جية الحارق���ة، وأيضا من ً َّ الحشرات القارصة .يكتسب جلدي لونه الرمادي لعدم وجود مول���دات الصبغي���ات (البيغمان���ت) الملونة ،وه���و لون الوحل ِّ ال���ذي نتم���رغ فيه .فلون الجل���د يختلف باخت�ل�اف لون الطين جدا ،وهو ال���ذي نطلي به أجس���امنا .الش���عر في جلدي قلي���ل ًّ متناث���ر على أطراف فتحات العين واألذنين والوجنتين والذيل ومختلف أنحاء جسمي .وألن هذا الشعر القليل المتناثر مرتبط بالعصب ،يقوم بدور إش���عاري بكل الحركات التي تبدر مني. س���نا؛ يبرز منها ما ترونه من النابين يبلغ عدد أس���ناني ً 26 الضخمي���ن الممتدي���ن من الف���ك العلوي ،و12 كبيرا، ً ضرس���ا ً ضرس���ا و12 صغيرا .وإذا كانت أس���نان الثديات عمودية على ً ً أفقية متوجهة نحو األمام .فصغارنا سطح الفكين ،فإن أسناني ّ تول���د وأس���نانها موزعة على الفكي���ن العلوي والس���فلي؛ ففي س���نان أو ثالثة أس���نان ،وتزحف كل نص���ف من الفكين يوجد ّ بالتدري���ج نح���و األم���ام م���ع م���رور الزم���ن .تتس���اقط أطراف األسنان العلوية داخل الفم عند النمو ،وربما يبتلعها الصغار. تتب���دل أس���ناني على ش���كل مجموع���ات في خم���س دفعات؛ فتظهر األس���نان األولى عندما أبلغ الثانية أو الثالثة من العمر، والدفعة الثانية ما بين الرابعة والسادس���ة ،والثالثة ما بين الثانية عش���رة والخامسة عش���رة ،والرابعة ما بين الخامسة والعشرين والثالثين ،والخامس���ة ما بين األربعين والخامس���ة واألربعين، ويظهر ضرس���ي السادس عندما أبلغ الثالثة واألربعين ،ويظل طيلة حياتي دون أن يتبدل .متوس���ط عمري في األصل مثلكم تماما ،يتراوح ما بين 80-60سنة. ً
أذكى الحيوانات
يستطيع خرطومي نقل تسعة ألتار ما ٍء إلى فمي بدفعة واحدة، ُ عتبر كما أعتمد عليه في ط ْلي جس���مي كل���ه بالطين .وبالتالي أ َ
األذك���ى بي���ن الحيوان���ات؛ فعلى الرغم م���ن أن حجم دماغكم
يبلغ 1400-1350سم 3وبنسبة %2من أوزانكم ،فإن دماغي
يبلغ 6600سم 3وبنسبة واحد باأللف من وزني .فخالقي ذو الق���درة المطلقة ،منحني ما يكفين���ي من الدماغ ألنجز أعمالي
الكثي���رة في يس���ر وس���هولة دون خط���أ .كما أن نصف���ي الدماغ التعرج ،وتش���كل الفصوص وم َخ ْي ِخي كثيرة األساس���يين ّ لدي ُ ّ
الصدغية مركز الذاكرة لدي .خالل الحمل وقبل الوالدة ينمو
دماغي بنس���بة ال تتج���اوز ،%35ثم أعيش ف���ي كنف الوالدين
عاما عش���ر سنوات ،ويستمر دماغي في النمو طيلة سبعة عشر ً أتعلم خاللها شؤون الحياة المختلفة التي سأعيشها.
نح���ن الفيل���ة نحترم موتان���ا؛ وربما تقف األنث���ى يومين أو
ثالث���ة أيام عن���د صغيرها المتوف���ى حز ًنا عليه .يس���تمر الحمل يوما ،وتت���راوح المدة بين حم���ل وآخر ما عن���د اإلن���اث ً 660
بين 6-4س���نوات .وبينما يبلغ الذكور في سن السابعة عشر، عاما .والبد في تس���تعد اإلناث لألمومة في سن ما بين ً 13-8
أذكركم بأن إناثنا في نصف حجم ذكورنا. هذا المقام أن ّ
حدثت���ك بعقلي المح���دود بما عزي���زي اإلنس���ان ..ها ق���د ُ
في���ه الكفاية ،وأنت بعقلك اإلنس���اني الرفيع وقلبك الواس���ع
ون ين َي ْذ ُك ُر َ وبصيرتك الحادة وبتفكيرك وتدبرك ،كن من ﴿ا َّل ِذ َ ودا َو َع َلى ُج ُنوبِهِ م َو َي َت َف َّكر َ ِ او ِ ات ا َ هلل ِق َي ًاما َو ُق ُع ً الس َم َ ْ ُ ون في َخ ْلقِ َّ ض﴾ ،ويقول���ون﴿ :رب َن���ا َما َخ َل ْق َت َه َذا َب ِ َو ْا َ ال ُس ْ���ب َحا َن َك أل ْر ِ اط ً َ َّ النارِ ﴾. اب َّ َف ِق َنا َع َذ َ (*) جامعة 9أيلول /تركيا.
11
السنة التاسعة -العدد (2013 )38
كبيرا ،إذ ليس بجثتي الكبيرة -وسماكة جلدي ،يشكالن عائ ًقا ً في جلدي مس���امات َع َر ٍق مثلكم ،هذا ما يجعل جس���مي غير مناسب للتبريد .فما الذي يحدث إذن؟ هل سأنفجر من الحر ٍ ِّ أحدا من خلقه و َأحت���رق؟ وهل ترك ربي الرحيم العليم القدير ً مظلوما حتى يتركني أنا؟! ً
أذن مروحية
وإن كانت جداْ . خلق ربي الجلد خلف ُأذ َن ّي العريضتين رقي ًقا ًّ سماكة جلدي في أقسام جسمي المتب ّقية تبلغ ( )2,5سم ،فإنه
ال عن ر ّقة جدا حول الفم ومنطقة الشرج واألذنين .وفض ً رقيق ًّ
جدا الجلد في المناطق الخلفية ألذ َن ّي ،فإن هذه المناطق غنية ًّ أيضا .فعندما يمر دم الجس���م الس���اخن من باألوعي���ة الدموي���ة ً هذه المناطق ،أقوم بتحريك ُأ ُذ َني العريضتين مثل المروحة أو َّ الر ْاديات���ور ألتمك���ن من فقدان الحرارة ومن ثم من تبريد دمي ّ ّ وجس���مي في آن واحد .ليس هذا فحس���ب ،بل أستخدم أذ َني ّ أيضا لالتصال والتواصل بأصدقائي والدردشة معهم .وعندما ً أص���اب باالنفع���ال أقوم بتحريك أذ َني بس���رعة أكب���ر ،وبالتالي ّ أعبر بهذه السرعة عن فرحتي وليس عن غضبي كما تعتقدون ّ أنتم البش���ر .وعند ش���عوري بالخط���ر ،أرفع ُأ ُذ َن���ي وأحركهما َّ بوتي���رة مختلفة وف ًقا لدرجة الخطر القادم .وينبغي لصغارنا أن تتعلم قبل كل ش���ي ٍء لغة األ ُذنين هاتين بش���كل جيد .هذا وقد تبعا لحاجة الفيل للتبريد؛ فآذان أقراني يختلف حجم األذنين ً
الذين يعيش���ون في المناطق الجافة تكون أكبر حجما من آذان ً الذين يعيشون في الغابات.
وبفض���ل هذا التصمي���م العظيم آلذاننا ،أس���مع األصوات
ذات الترددات المنخفضة التي ال يمكنكم سماعها ،وأستطيع السنة التاسعة -العدد (2013 )38
10
التواص���ل مع أصدقائي على بعد ثماني كيلومترات ،وأرس���ل لهم أصوا ًتا في ترددات مختلفة ال تسمعونها أنتم البشر. رائح���ة إفراز الغ���دد الصدغية في رأس���ي ،تعطي فكرة عن حالت���ي الفيزيولوجية .كما تعطين���ا هذه الروائح معلومات عن الجاهزي���ة والتراضي لش���راكة الحي���اة أثناء فت���رة التكاثر .نعم، أقوم في فترة التكاثر بتوجيه دعو ِة التزاوج لجنس���ي اآلخر من خالل حركة اآلذان المروحية ورائحة إفراز الغدد الصدغية. يعي���ش في عال���م اليوم من الفيلة نوع���ان .فأنا الذي أعيش طنا ،وأرتفع ف���ي أفريقيا (َ )Loxodontaafricanaأزِ ن حوالي ًّ 7-6 4أمتار عن األرض .أما أبناء جلدتنا الذين يعيش���ون في الهند وجن���وب ش���رق آس���يا ( )Elaphasmaximusأصغ���ر من���ي حجما، ً ويتراوح وزن أحدهم 5,5-5طن ،وارتفاعه 3,2متر .ش���كل ال���رأس واألذنين من أه���م الخصائص الت���ي تميزنا عن بعضنا البعض ،إذ أذناي أكبر من أذ َني الفيلة األسيوية؛ وجبهتي تتقعر ال نحو الداخل؛ في حين جبهة إخوتي اآلس���يويين تتحدب قلي ً ل���دي أعلى نقط ٍة في قلي�ل�ا نح���و الخارج .وإذا كانت األكتاف ً ّ جسمي ،فإن أعلى نقطة في جسم أخي اآلسيوي هي قمة رأسه. يس���توي اإلناث والذكور لدينا من حي���ث تمتعنا بأنياب طويلة حادة في الفك العلوي ،إال أن اإلناث لدى إخوتنا اآلسيويين أب���دا .وبالتالي فإن هن���اك اختال ًفا في ال تمل���ك ه���ذه األني���اب ً ضروس���نا ال يعرفه���ا إال الباحثون المتخصص���ون المحترفون.
تصميم بديع
إن كتلتي الضخمة تجعلني أشعر بوطأة الجاذبية األرضية أكثر من غيري من الحيوانات البرية والبحرية ،ولذلك يشكل وزني كبيرا على مفاصلي وموطئ الثقيل كنت من ً قدمي .لو ُ ضغطا ً ّ تدبرت س���تفدت من قوة رفع الم���اء و َل الحيوان���ات البحري���ة لاَ ُ ُ أمري بس���هولة كما تفعل الحيتان .وال ش���ك أن المش���ي على حمل جسمي الضخم الثقيل ثم تحريكه ،يتطلب اليابس���ة مع ْ متقنا تصميما ضعت الفقرات بتصميم وبديعا .لذلك ُو معماريا ً ْ ًّ ً ً خ���اص على ش���كل َق ْنطرات س���قفية بي���ن الكتفي���ن والفخذين وكأنها جسر من حجر .ولمنع الضرر على عظامي ومفاصلي ٌ أثناء وطأة أقدامي على األرض مع الضغط الكبير ،تم وضع ضام على قاعدة أقدامي وبين أصابعي ،مما يلعب دور ٍ نسيج ّ وس���ادة تمت���ص الضغ���ط الكبير عل���ى أقدامي وتخفف���ه .ولعل الكثير منكم ال يعرف أني أسير على أصابعي؛ فعظام أصابعي بنس���يج ومب َّطن���ة ماص ٍ ليف���ي ّ متصل���ة ببعضه���ا برواب���ط قوي���ةَ ، ّ
وذل���ك بدع���م م���ن عظ���ام ٍ األن���ف والعظ���ام األخ���رى
وتطلق���ون الطلق���ات الناري���ة الخاص���ة بقتل���ي ،ث���م تلتقطون الص���ور الفوتوغرافي���ة عن���د نصرا جثت���ي وكأنك���م حققت���م ً مؤزرا! فليصوروا ما ش���اؤوا.. ً الصور هذه لعل س���تخدم يوم ت ُ َ ال عليهم. الحس���اب األكبر دلي ً أعت���ذر لح���دة أس���لوبي ه���ذا ّ اعت���ذارا أيضا ش���ديدا ،وأعتذر ً ً ً لخروجي عن الموضوع الذي كنت سأتحدث فيه عن خلقتي العجيب���ة وتزوي���دي باألعضاء البديعة.
فتحت���ي للجمجم���ة .تبط���ن َ
أنف���ي بم���ا يزي���د عن عش���رة آالف مجموع���ة عضلي���ة صغي���رة تتح���رك بش���كل
متراب���ط ،وألن عضالت���ي ال تش���كل طبق���ة كثيف���ة ط���و ً ّ وعرض���ا ،فإنن���ي أتمكن من ً تحري���ك خرطوم���ي في كل االتجاهات بس���هولة .ومع مغط���ى بطبقة أن خرطوم���ي ّ
س���ميكة م���ن الجل���د ،فإن���ه م���زود كذل���ك بحش���د كبير
خرطوم عجيب
ربما كان خرطومي أول عضو تذكرون���ه عندما يق���ال "الفيل"، ألني أتف���رد به بين الحيوانات. فأنص���ار نظرية التطور لم يجدوا حتى اآلن تفس���يرا لخرطومي ً الطويل هذا ،ألنهم يحتاجون من أجل ذلك ،إلى حيوان وسيط صدف ًة عن يشبهني بخرطومه -لدرجة ماّ - ليدعوا أني تطورت ْ أن ال يمكن لهذا حي���وان آخ���ر .إنه���م يدرك���ون تم���ام اإلدراك ْ يتكون نتيجة جائية .كما أنه ّ الخرط���وم الطوي���ل أن ّ تح���والت ُف ّ ج���دا أن يتقب���ل العقالء تح���و َل ٍ أن���ف قصيرٍ إلى م���ن الصع���ب ًّ ّ ّ طوي���ل عبر خرط���وم التب���دالت الزمنية مهما كان���ت الظروف! ٍ ٍ ّ وهل ُيعقل أن يتحول أنف طبيعي قصير إلى خرطوم طويل؟! ّ للتحوالت العش���وائية التصادفي���ة أن تنتج وه���ل يمكن عضوا ّ ً س���ويا مت َق ًنا صالحا لالس���تعمال بهذا الشكل؟! فخرطومي في ًّ ً روعته وإتقانه ،بعيد كل البعد عن التصادف. أنتم البش���ر تمس���كون بأيدي صغارك���م وتتجولون ،ولكن ّ صغارن���ا نحن الفيلة تتجول بمس���ك ذيلن���ا بخراطيمها حتى ال ّ ج���دا في ش���م الروائح؛ حيث تضي���ع .إن خرطومي حس���اس ًّ أنصب���ه وأش���م رائح���ة أس���د أو إنس���ان عل���ى ُبعد أس���تطيع أن ُ َّ كيلومترات عديدة .يتكون خرطومي من استطالة شفتي العليا، وقد امتدت عضالت وجهي لتمتزج بعضالت الخرطوم .فإن ْ هذه العضالت الممتدة بعضها حتى الجمجمة وبعضها اآلخر حت���ى األماميتي���ن ،تتحرك في جميع االتجاه���ات بقوة كبيرة، ّ
م���ن األعص���اب الحساس���ة تجع���ل حاس���ة اللم���س في���ه
قوية .وهكذا فإن خرطومي
عض���و متع���دد الوظائ���ف ال ينحص���ر بعملية التنف���س فقط ،بل
أفرك به عيني ،وأحب به صغيري ،وأرفع به جذوع األش���جار التقاط الكبي���رة وأحمله���ا في يس���ر ،كما أس���تطيع بخرطوم���ي َ أيضا أثني أيضا ،وبخرطومي ً قشة النبات الواحدة من األرض ً َّ
أغصان الش���جر وأكس���رها ،وأتمتع بنتوء على فتحة خرطومي
أستعملها كما تستعملون أصابعكم .بينما ينتهي خرطوم الفيل األفريقي ب َِن ْت َأ َتين متقابلتين ،فإن الفيل اآلسيوي ينتهي خرطومه حياتي كالذراع ،ال عضو ب َِن ْت َأ ٍة واحدة .إن خرطومي باختصار، ٌ ٌّ أبدا .وإذا ما أصابه ش���يء خطير ،أبقى يمكنني االس���تغناء عنه ً بال ماء وال شراب ،ولعلني أموت من الجوع. مقارن���ة بالثديي���ات األخ���رى ،ف���إن كتل���ة جس���مي تتناقض
كبرت م���ع مس���احته اإلجمالي���ة .والقاع���دة تق���ول إن���ه كلم���ا ُ
���رت كتل���ة الجس���م ،ارتف���ع الفاق���د الحراري المس���احة ُ وصغ ْ للجس���م ،ولذلك جعل ربي -بعلمه المطلق وقدرته العظيمة-
للحيوان���ات القطبي���ة آذا ًن���ا وأنو ًف���ا صغي���ر ًة لإلقالل م���ن كمية الفاقد الحراري ،وفي المقابل ينبغي أن يكون الفاقد الحراري كبيرا في المناطق الحارة .فجسمي الكبير ينتج في استقالباته ً
كمي���ات كبي���ر ًة م���ن الح���رارة ،وعل���ي أن أط���رح ه���ذا الفائض ّ الحراري خارج الجس���م ،لكن صغر مس���احة جسمي -مقارنة
9
السنة التاسعة -العدد (2013 )38
علوم
أ.د .عرفان يلماز*
حديث الفيل
مرحبا أيها اإلنسان ..أنا من أضخم الحيوانات ً الت���ي تعي���ش عل���ى اليابس���ة ،وال يفوقن���ي في لقت الحجم سوى الحيتان في البحار .لقد ُخ ْ ل���ي أرج���ل كبيرة تناس���ب حجم���ي الضخم .فمالكي س���بحانه بلباس خاص به الذي خلق كل شيء بمقدار ،كسا كل حيوان ٍ وببيئت���ه التي يعيش فيها ،وزوده بأجهزة يدافع بها عن نفس���ه، عظميا ال ومنحه رز ًقا يناسب وظائف أعضائه ،ووضع فيه هيك ً ًّ وجهازا عضليا يتالءم مع آليات الحركة والتوازن ،وغيرها من ً ًّ
النعم التي ال تعد وال تحصى ..أعطاه كل ذلك بأفضل شكل، وأقل ُكلفة ،وأعلى جودة .ففي ُأذ َني الكبيرتين اللتين تش���بهان ِّ َّ الش���راع ،وأنفي الطويل الش���بيه بالخرطوم ،وأقدامي الضخمة التي تشبه األعمدة ،والتناغم واالنسجام والتكامل بين أعضاء جسمي الضخمِ ،ح َكم شتى ال يمكن تجاهلها أو إغفالها.
أنياب طويلة
ف على الرغم من ضخامة جسمي وثقل وزني ،فإني حيوان َأ ِن ٌ ونشيط في الوقت نفسه .وما لم أتعرض لألذى أو اإلثارة ،فال
ضرر مني .بسهولة أتصادق مع الناس. وقديما كنتم تعتمدون ً َ ال من على نقطة ضعفي هذه ،وتس���تخدمونني في حروبكم بد ً
حمدا دباب���ات الي���وم .وأحم���د اهلل فطورتم كثي���را ْ ً ّ أن ع ّل َمك���م ّ ً تقنياتك���م ،وأنجان���ي م���ن بين أيديكم كس�ل�اح يقتل اإلنس���ان. دائم���ا ف���ي نق���ل وإن���ي ٍ راض ّ كل الرض���ى ب���أن تس���تخدموني ً العربات المعطلة المعطوبة، ّ الجذوع والخش���ب وفي س���حب َ فذلك أحسن من القتل بكثير.
ال أف���رح كثي���را لع���دم أكلك���م لحمي؛ ألن م���ا يلحقني من ً
أنيابا البلي���ات بس���بب أنياب���ي أعظم .فقد منحن���ي اهلل س���بحانه ً قوي���ة ال توج���د عن���د غي���ري م���ن الحيوان���ات ،وذل���ك للدفاع
ع���ن نفس���ي وإزالة العقب���ات التي يمكنه���ا أن تعترض طريقي. مركبة من عظم خاص من وأنياب���ي في األصل مثل أس���نانكمّ ،
مادت���ي "المينا" و"الع���اج" ،إال أنها كبي���رة وضخمة مما يجعل وراءه���ا ويتخذه���ا زينة ل���ه أو لبيت���ه .لو كنتم بعضك���م يس���عى َ تأخ���ذون أنياب���ي بعد ِميتتي الطبيعية فال أبال���ي ،ولكن ال أفهم لماذا تقتلونني وأنا صحيح معافى أس���عى وأذكر اهلل في أرضه بريئا من أوما يؤلمكم ضميركم وأنتم تقتلون حيوا ًنا ً الواسعة! َ أج���ل بضع���ة نقود! حتى نح���ن الحيوانات ،لم نص���ل إلى هذا
المس���توى من الوحش���ية كأمث���ال بعضكم! فف���ي الوقت الذي يقت���ات في���ه معظم أنواعنا على الحش���ائش والنبات���ات ،تكتفي
الحيوانات المفترس���ة كاألس���ود والنمور ،باصطياد الحيوانات
فمن أظلم يا ُترى في هذه الضعيفة ما يكفيها إلدامة عيش���تها! َ الحال���ة؟ تحملون أح���دث البندقي���ات ذات المناظي���ر الدقيقة،
السنة التاسعة -العدد (2013 )38
8
خلع النعل أثناء الصالة ،رد بأن جبريل أنبأه بلوثة نجاسة في النعل .فإن كان اهلل ينبئ عن لوثة نجاس���ة في نعل رس���ـول
اهلل ،فكي���ف يعق���ل أن ال ينبئ عن ش���يء يلحق بزوجه ؟ ولئن تعلق أصل الرواية هذه ِ بشباك موازين الجرح والتعديل، فالعبرة ال تناقش.
-2ف���ي غ���زوة ب���در استش���ار الرس���ـول المهاجري���ن
واألنص���ار .فتكل���م المقداد باس���م المهاجرين ،وس���عد بن رائعا في نصرة رس���ـول اهلل معاذ باس���م األنصار ً كالما فذًّ ا ً
فوجها جماعتيهما فع ًما باإليمان والحماس والتسليم لهّ ، ُ م َ رس���ـول اهلل المتخذة وإنفا ِذها .فهناك جعل إلى تأييد القرارات ُ َ أصحابا لقرارات حيوية واس���تنصر بالوجدان عموم النـاس َ ً االجتماعي إلى جانبه.
الحباب بن المنذر والصحب -3وفي بدر ً أيضا ،استشار ُ
الكرام ،عن المنـزل الذي ينـزله جيش اإلس�ل�ام والوادي الذي فيه يلقى العدو ،وأقر قرارات أنفذها الجيش المس���لم ،فتغلب عل���ى ق���وة الع���دو البالغة ثالث���ة أضع���اف المس���لمين أو أربعة
أضعافه���م ف���ي حملة واحدة ،ع���اد بعدها إل���ى المدينة تحدوه أناشيد النصر.
-4وف���ي وقعة األحزاب استش���ار األصح���اب الكرام،
باب اهلل
فم���ال إل���ى رأي س���ـلمان الفارس���ي رضي اهلل عنه���م أجمعين،
باب اهلل ال يغلق، ال أح َد عنه يُ ْط َرد... نَ ِّظ ْف قلبك َّ وتقدم، وبالزهر افرش أرجاء روحك، وانتظر! كرَم القلب بالحضور، إذا ُ سمت المشاعر، ْ ورهفت المعاني، وصارت مشيئتك مشيئته، ومرادك مراده... وذاك هو أعظم التكريم، من ِّ رب العالمين...
(*) الترجمة عن التركية :عوني عمر لطفي أوغلو.
***
بحفر خندق حيث يظن دخول األعداء منه إلى المدينة .فكان أنموذجا لألهمية التي يوليها للشورى. ً
-5وف���ي صلح الحديبية اهتم النبي بالش���ورى اهتماما ً
بالغا ،فاس���تطلع رأي الجماعة ،وبعده اسـتش���ار ّأمنا أم سلمة، ً نه���ج واس���تراتيجي ٍة حس���ب اآلراء واألفكار التي ث���م أبان عن ٍ فغير هزيمة ال مفر منها إلى س���ارت في استقامة ميوله الذاتيةّ ، نصر مؤزر في عودته إلى المدينة.
الس َّنية يؤكد لنا مدى أهمية النظر إن التحري في حياته َ
الشوري في كل مسألة أو معضلة لم ينـزل فيها وحي ،واألخذ ّ به���ا بعد العرض على الوجدان االجتماعي .وليس���ت مجالس
صورا الش���ورى ف���ي دول اإلس�ل�ام المتع���ددة بع���د ذل���ك ،إال ً مبسطة للشورى األولى وهيئتها األولى.
7
السنة التاسعة -العدد (2013 )38
أولئك المقربين عن تلك الزلة في أثناء التجهيز ُ ألحد. -6الش���ورى تش���غل كل وقته���ا لح���ل المش���اكل القائمة، وال تنش���غل بالمش���اكل االفتراضي���ة ..إن الحي���اة اإلس�ل�امية وطبعا ،أم���ا الوقائع تبقى مس���تمرة ف���ي ظل النص���وص بداهة ً الت���ي تحصل خارج معالجتها أو الخطط والبرامج الضرورية، وي َح���لُّ كل حادث أو برنامج ُفت َ ؤخ ُذ بخصائصها وش���روطهاُ ، في إطار ظروفه وسياقه. -7تجتمع الهيئة المش���كلة للشورى كلما دعت الحاجة، ِّ فتبت في المشكالت والمسائل وتنجز الخطط والبرامج ،وال ّ تنفك عن العمل حتى إكماله .وليس في أيدينا نص عن إجراء الشورى في دورات زمنية معينة ،وال إشارة إلى إجرائها بأجر ومرت���ب .ونحن غير ملزمين بالتطبيق���ات الجاريـة بعد مرحلة َّ والمش���اهد أن إجراء الش���ورى بموظفين من ذوي التش���ريع. َ الرواتب يستجلب معه مشاكل معروفة.
الشورى والمستشارون
ال���كالم ع���ن الش���ورى يتطل���ب ال���كالم ع���ن المستش���ارين بالض���رورة .لم���ا كان اجتم���اع الناس كلهم عل���ى صعيد واحد للتش���اور مح���االً ،فالضرورة الملزمة هو االكتف���اء بزمرة معينة منهم .كذلك ينبغي أن يمتاز هؤالء بمؤهالت خاصة بناء على حاجة الش���ـورى إلى العلم والممارسة واالختصاص والخبرة بدرجة كبيرة حس���ب المواضيع المطروحة للتشاور .وهم من اصطلح العلماء على تس���ميتهم بأهل الحل والعقد من الكبار المقدمين المقتدرين على حل المش���كالت .والضرورة تحكم َّ بتواج���د أه���ل الخب���رة واالختصاص ف���ي المواضي���ع العلمية والفنية والهندس���ية المتعددة التي هي من مصالح المس���لمين، زي���ادة عل���ى توافر المعان���ي وال���روح والعلوم اإلس�ل�امية ،في وخصوصا في أيامنا، الكبار المقدمين من أهـل الحل والعقد، ً وتحول كل مشكلة إلى مشكلة عالمية .في هذه لتشابك الحياة ّ المس���ائل يمكن االعتم���اد على أهل االختصاص���ات المتنوعة في الش���ورى ،بمراعاة التوافق مع الدين حس���ب تدقيق أعالم علماء اإلس���ـالم .وكما أن الشورى مناطة بأهل الحل والعقد، أيضا. ف���إن ش���كل إجرائها بتغير الزم���ان واألحوال ُمن���اط بهم ً تنوعا في تنفيذ الشورى على فنجد حينما نقرأ أوراق التاريخً ، م���ر العصور وتغير األحوال .فهي ُتجرى في دائرة ضيقة تارة، وفي دائرة أوسع تارة ،وال تتجاوز دائرة المدنيين مرة ،و َتفتح أبوابها ألرباب الس���يف وأرب���اب القلم مرة أخرى ،في أوضاع َ السنة التاسعة -العدد (2013 )38
6
متنوعة بتقلب عصور التاريخ .وليس ذلك بسبب تعرض هذا
األص���ل إلى التغيير ،بل بس���بب المرون���ة والعالمية التي تجعل الشورى قابلة للتطبيق في كل عصر ومكان.
ومهم���ا تغي���رت أش���كال إج���راء الش���ورى حس���ب الزمان
والم���كان واألح���وال ،ف���إن اتصاف الكب���ار المقدمي���ن بالعلم والعدال���ة والدراي���ة والنظر والخبرة والحكمة والفراس���ة ثابت
ال يتغير .العدالة هي أداء الفرائض واتقاء المحرمات وتجنب م���ا يناق���ض القيم اإلنس���انية .والعل���م هو الدرايـ���ة والخبرة في
الديـ���ن واإلدارة والسياس���ة والف���ن .وال يل���زم أن يك���ون الفرد متخصص���ا في ف���روع العل���م المتنوعة ،لك���ن الالزم أن نفس���ه ً
تك���ون الش���خصية المعنوي���ة لهيئة الش���ورى متفتح���ة على كل ه���ذه المواضي���ع ،وال مندوحة ف���ي الرجوع إلى أه���ل الدراية من غير علماء اإلسالم في الموضوعات المعتمدة على النظر
حمل الحكم ُة في داللته���ا ومعنـاها على والخب���رة .وكما ق���د ُت َ صرف إل���ى االطالع العل���م والحل���م ومعن���ى النب���وة ،كذل���ك ُت َ على ما خلف س���ـتار األش���ياء والنظر والشعور باألمور الغائبة
عن الناس بنور الفراس���ة ،والق���درة والقابلية والفطانة في حـل
المعض�ل�ات الفردية واالجتماعي���ة .فأهلها قليل ووزنها ثقيـل، وتحظى في كل زمـان بالتوقير والقبول.
مليا عند اهتمام س���يدنا النبي في حياته وينبغي التوقف ًّ
���نية كلها بالش���ورى ،واالحترام ل���رأي كل امرئ مهما كان َ الس َّ
ال .فكان يرجع إلى آراء اآلخرين في كل وقت... سـنا وعق ً ًّ ويس���تأنس بنظرهم ويتحرى عن أقوم الس���بل لتأس���يس خططه وبرامج���ه عل���ى أرض صلبة .فمرة يس���تطلع نظ���ر أهل الرأي معا ِل ُيسند الشورى بالشعور الجماعي. فرادى ،ومرة يجمعهم ً وهذه نماذج من سيرته تنير المسألة: عليا وعمر وزينب -1في حادث اإلفك استشار سـيدنا ًّ
بن���ت جح���ش وبريرة وغيرهم من الصحاب���ة رضوان اهلل تعالى
عليهم أجمعين؛ فأش���ار علي ب���رأي ذهب فيه إلى التفريج ّ ع���ن كرب���ة س���ـيدنا ،وتوقف عمر وزينب وبريـ���رة وكثير من الذوات المباركة رضوان اهلل عليهم عند طهارة وزكاة وس���مو
ّأمنا عائشة .وقـد رويت في مشورة عمر محاورة لطيفة رس���ول اهلل عما يراه في ّأمنا انت ِقد س���ندها؛ فقد س���ـأل ُ وإن ُ س���يدنا فأك���د عم���ر طهارتها وزكاتها .فلما س���أله عائش���ة ّ ، ُ
عن مس���تند حكمه هذا ،أجاب بأنه كان عليه الصالة والس�ل�ام يصلي بهم مرة ،فخلع نعله أثناء الصالة ،فلما ُسئل عن سـبب
ف���رق الحرب النفس���ية ،إلى درجة القدرة عل���ى مواجهة العالم َ مت���ى اقتضى األمر ذلك .ولم يبرح القادة الكبار ورجال الفكر العظام والفالسفة العمالقة ،معالجة مثل هذه المسائل اإلنسانية من���ذ قديم الزمان وحتى اآلن .ولقد اهتم الرس���ول األعظم بهذا المبدأ الس���امي في إطار مس���ؤوليته التش���ريعية والتمثيلية في سـنوات حياته الس ِن َّية ،وأقام على هذا األساس حياة البشر وأنش���طتهم الثقافي���ة ومس���اعيهم وجهوده���م ومناس���باتهم مع بعضهم البعض ،فحقق بهذه الوس���يلة الروابط بين مش���اعرهم َ وأفكاره���م وعقوله���م ومنطقه���م وأحاسيس���هم وقلوبه���م. وإن للشورى نتائج َتب ِّشر بها بخصوصياتها، وقواعد توصل َ إلى هذه النتائج ،من جملتها :رفـع المستوى الفكري والوعي التش���اركي في المجتمع ،والتذكي���ر بأهميته بالرجوع إلى رأي المجموع في كل حادثة ،وتشجيعه على توليد األفكار البديلة، والحف���اظ على حضور الش���ورى وحيويتها من أجل مس���تقبل اإلس�ل�ام ،وتحقيق مش���اركة الس���واد األعظم في اإلدارة بقدر اإلمكان في كل مناسـبة ،وإدامة الوعي بمحاسبة الرؤساء عند اس���ة االعتباطية الس َ اقتض���اء الحاجة ،والحيلولة دون تصرفات ّ وتحديد تصرفهم. ولق���د قلن���ا آن ًفا إن اهلل تعالى قـد أثنى على الصحابة الكرام بناء عل���ى األهمية األم ِ ���رً و َش���اوِ ْر ُه ْم ِف���ي ْ باآليـ���ة الكريم���ة َ الحيوي���ة للش���ورى؛ وإنه���ا لحمكة بالغة ينط���وي عليها أمر اهلل األم ِر تعالى لس���يدنا باستشارة أصحابهَ : و َش���اوِ ْر ُه ْم ِفي ْ والمعركة قد ش���ارفت على نهايتها ،وفي أثقل الساعات شدة، ومع أصحابه الذين كانوا سبب هذه الشدة. إن أصل الشورى الذي تشرف بالتنـزيل في هاتين اآليتين، ���ب الحتياج���ات العص���ورُ ،م َت َخ ٍّط أص���ل واس���ع المرون���ةُ ،م َل ٍّ لح���دود الزمان .فمهما تغي���ر العالم وتعاقب الزمان ،وحتى لو وعمر ُمد ًنا هناك ،فال حاجة لزيـادة رحـل اإلنسان إلى الفضاء ّ ش���يء على هذين النصي���ن .وفي الحقيقة إن أصول اإلس���ـالم وقواع���ده األخرى كلها ،تمت���از بالمرونة نفس���ها وتتفتح على مر الكوني���ة عينه���ا ...ولق���د احتفظت بش���بابها وعمليته���ا على ّ الزمان وستبقى كذلك.
من أسس الشورى
نذكر ببعض المبادئ المتعلقة بأساس الشورى، ومن المفيد أن ّ وهي: -1الش���ورى حق للرؤساء وللمرؤوسين ،وال رجحان في
اس���تعمال هذا الح���ق لطرف عل���ى الطرف اآلخـ���ر .وفي أمره بينهم داللـة على مسـاواة الطرفين تعالى: ���ورى َ ْ وأم ُرهم ُش َ جميعا، ف���ي الش���ـورى .فأمور المس���لمين ش���ؤون تتعلق به���م ً
جميعا في حـ���ق النظر فيها .لك���ن هذا الحق لذل���ك يتس���اوون ً
تغيرا في صورة يتغير بتغير الزمان والمكان والحال ،ويستتبع ً
إجراء الشورى وشكلها.
-2لما كان الرئيس مك ّل ًفا بالش���ورى في الشؤون المتعلقة و َش���اوِ ْر ُهم ِفي ْا َ أل ْم ِر، بالمجتم���ع بموجب األم���ر اإللهيَ : ْ فإذن يقع تحت طائلة المس���ؤولية إن لم يطرح هذه الش���ؤون الداخلة في نطاق التش���اور عل���ى أهل الرأي .من جهة أخرى، يتحم���ل المرؤوس���ون وب���ال كت���م آرائه���م إن ل���م يبدوها متى َ
عرضت عليهم هذه الشؤون للتشاور ،بل ُي َع ّدون مقصرين في أداء حق���وق المواطنة إن اكتفوا ببي���ان الرأي ،ولم َي ْجهدوا في
اإلقناع على األخذ بالرأي المطروح.
-3ومن األسس المهمة :طلب مرضاة اهلل تعالى وتحري
مصلحة المس���لمين في الش���ورى، واالمتناع عن تحريف آراء ُ
أهل الشورى عن وجهتها بالرشوة والضغط والتهديد .يتفضل رسول اهلل فيقول" :إن المستشار مؤتمن" ،فمن استشير في شيء ،فعليه أن يشير وكأنه يشير لنفسه.
-4قد ال يحصل إجماع في الشـورى .فإن لم تتفق اآلراء
في مسـألة عمل برأي األغلبية ،فإن الشارع يجعل ً إجماعاُ ،في َ "يد ا ِ هلل مع الجماعة" األغلي���ة في حكم اإلجماع حيث يقولُ : "إن أمت���ي ال تجتمع عل���ى ضاللة" (رواه (رواه الترم���ذي) ،ويق���ولّ :
جمع أمتي على ابن ماجه) ،ويقول ً أيضا" :سألت اهلل أن ال َي َ ضاللة فأعطانيها" (رواه اإلمام أحمد).
ينبهنا إل���ى أن لألغلبية قوة اإلجماع، فف���ي بياناته هذه ّ ،
الس َّنية أمثلة كثيرة وإلى لزوم اتباع السواد األعظم .وفي حياته َ على ذلك ،منها تشاوره في أوائل بدر و ُأحد وأواخرهما.
بديل لـه بعد إقراره -5ال يج���وز مخالفة ال���رأي أو اقتراح ٍ ُ
باإلجماع أو األغلبية ما دامت الشورى قد تمت وف ًقا لشروطها. فإظه���ار ال���رأي ضد القرار بحجج ش���تى ،كادعاء صحة الرأي
المخالف أو تسجيل هامش بالمعارضة على أصل القرار ،هو إفساد وخيم وإثم كبير .فقد خرج رسول اهلل إلى ُأحد على خ�ل�اف اجته���اده ،مواف ًق���ا رأي األغلبية ،ولم يعل���ق بعد ذلك عل���ى رأي األغلبي���ة م���ع ثبوت غلطهم ،ال ف���ي األول وال في اآلخ���ر ،ب���ل ومع إش���ارة الق���رآن الكريم إلى احتمال ُمس���اءلة
5
السنة التاسعة -العدد (2013 )38
مقي���د بالمص���ادر التش���ريعية الكب���رى. َّ فاإلس�ل�ام ال يس���مح بالتدخل البش���ري
ب���ل كان يتل���و عليه���م وه���م منهمك���ون ف���ي البح���ث ع���ن المذن���ب والب���ريء: أعظم ل ا هو أعق��ل ل ا إن�سان ل ا ألم ِر ث���م يجمعهم في المسائل التي ورد فيها نص صريح. و َش���ـاوِ ْر ُه ْم ِف���ي ْا ْ َ بامل�شورة، ��ا والتزام ا د اعت��دا ً ً دما جراء اعتداء للتش���اور رج���ع إل���ى فف���ي ه���ذه المس���ائل ال ُي َ ُ ووجهه يقطر ً والأك�ثر ا�ستفادة م��ن �أفكار س���ببا له، وحش���ي كان بع���ض أصحاب���ه الشورى إال الستش���فاف المقاصد التي ً وش َد ِه ومن يكتفي ب�أفكاره يعبر عنها النص .أما القضايا التي لم يرد وس���ط أش�ل�اء أجس���اد الش���هداءَ ، الآخرينَ . ّ األصحاب وحيرتهم في أنفسهم ،حتى تماما. ال�شخ�صي��ة يف عمله وبراجمه، فيها نص فهي في نطاق الشورى ً توج���ه بعضه���م نح���و المدينة ف���ي تلك وجدير بالذكر أن ما تم الوصول إليه في ّ �أو ي�سع��ى لفر�ضها على غريه، ٍ يكتف ولم حصل. بما مبال غير المحنة إلزام الشورى من نتائج وقراراتُ ،م ِ لزم َ ال ينج��و م��ن فق��دان طاق��ة باستش���ارتهم ،ب���ل بلغه���م بأم���ر اهلل لـ���ه النص ،وال يجوز مخالفة ما خلصت إليه حركي�� ٍة مهمة ،ونف��ور وكره بطلب العفو واالستغفار لهم. الشورى بعد ذلك ،أو سرد آراء وأفكار وا�ستثقال مم��ن حوله ال حمالة. وهك���ذا ُيظه���ر رس���ول اهلل بأن���ه مناقضة له���ا .فإن وجد خطأ ما في قرار مأم���ور بالش���ورى رغم اس���تمرار حياته الش���ورى مع اتفاق الجمهور عليه ،فإنه فيذك���ر الس���نية تح���ت أن���وار الوح���ي، ّ ال يمك���ن إزالت���ه إال بش���ورى مماثل���ة. ّ المرؤوس���ين أم���ام الس���بيل ويفس���ح بمس���ؤولياتهم، الرؤس���اء وصحيح أن نصوص الش���ورى تفيد العموم في معنى من أيضا بتعل���ق النصوص بمواضيع لتقويم آرائهم ،ويرش���دهم إلى إعانة الرؤس���اء ،ويحذر هؤالء المعان���ي ،لكنه���ا تخصصت ً من االستبداد. معين���ة ،وبعم���ل رس���ـول اهلل وتصرف���ه .إن النص���وص ف���ي وقـد روي عن رسـول اهلل أنـه لما نـزل األمر السـبحاني :اإلس�ل�ام أك���دت عل���ى قضاي���ا كبرى ّنبه���ت إلى أص���ول كلية وشاوِ ْر ُهم في ْا َ أل ْم ِر عقب غزوة ُأحد ،أفصح بأن اهلل تعالى َ كثي���را فيما عداها م���ن األمور تفصل وقواع���د عمومي���ة ،ول���م ّ ً غنيان عن المشورة .لكن اهلل أرسـله رحمة لألمة ،الفرعي���ة .أم���ا المس���ائل التي لم يرد فيها ن���ص ،فهي في نطاق ورسوله ّ وليؤكد لنا أنه من استشار أصاب ،ومن ترك الشورى ضل .ومن الشورى بتمامها ومعروضة على التشاور .فانطال ًقا من وضع ثم تتضح من أمر اهلل لنبيه بإقامة الشورى -رغم استغنائه عنها اإلسالم للمسائل التي وردت فيها أحكام صريحة خارج حدود وانع���دام حاجت���ه إليها -أهمية التزام كل رئيس ومس���ؤول بها .الش���ورى ،والمس���ائل التي لم ترد فيها أح���كام صريحة داخل مرتبطا باإلسالم، ونضع بين أيديكم حفنة من جواهر أحاديث مباركة تمأل حدوده ،فإنه يبقى في كل حـال من األحوال ً خيرا ،تش���رفت بالصدور عنه " :ما خاب من اس���تخار الم َب َّينة في وموجها بالقرآن والس���نة، الدنيا ً ً وس���اعيا لتحقيق الغايات ُ ً وال ن���دم من استش���ار ،وال ع���ال من اقتص���د" (رواه الطبراني)" .ما كتاب اهلل .وال ش���بهة في أن اإلس�ل�ام يقصد قبل كل شيء شقي عبد قط بمشورة ،وما سعد باستغناء برأي" (مسند الشهاب) .غايات عليا ،مثل تحقيق المساواة بين البشر ،ومحاربة الجهل ِ "إن المستش���ار مؤتمن" (رواه أبو داود)" .واهلل ما استش���ار قوم قط ونش���ر العلم ،ونس���ج المس���ـائل كلها حـول الهوية اإلسالمية، إال ُهدوا ألفضل ما بحضرتهم" (رواه البخاري). ومنع تناقض المسلم مع ذاته ،وتوجيه إنسان الوطن للحفاظ لذل���ك اتفق علماء اإلس�ل�ام عل���ى أن الش���ورى أصل من عل���ى منـزلت���ه ووقاره في الموازنات الدولي���ة ،وتحقيق العدالة ِ كم َيلزم ُ أصول اإلس�ل�امُ ، العمل به .وقد ُن ّفذ هذا األصل االجتماعي���ة بين الفرد والمجتمع ،وتطويـر وعي األمة برمتها وح ٌ م���ع التنوع في التنفيذ على مدى الزمان ،في العهود المتعاقبة -وبجمي���ع أفرادها -في الح���ب ،واالحت���رام ،واالهتمام ب َِه ّم وفي مواجهة أوضاع شتى. اآلخ���ر ،والتضحي���ة ،ورهاف���ة أحاس���يس الفيوض���ات المادي���ة
الشورى مبدأ أساس
يتفوق على األوامر اإللهية. وبدهي أن الش���ورى ليس���ت مبدأ ّ نعم ،الش���ورى أس���ـاس لبعض القوانين والنظم الحيوية ،لكنه السنة التاسعة -العدد (2013 )38
4
والمعنوي���ة للعيش من أج���ل اآلخرين ،ومراع���اة الموازنة بين الدنيا واآلخرة ،وتنظيم السياسـة الداخلية والخارجية ،ومتابعة التطورات في العالم ،وتجهيز مصادر القوة وتحديثها ،وإعداد
ومن يكتف���ي بأفكاره واألكث���ر اس���تفادة من أف���كار اآلخري���نَ .
و َش���اوِ ْر ُه ْم ِفي غي���ر تأويل أو تفس���ير بأمره الس���بحاني هماَ : ���ورى َب ْي َن ُه ْم(الش���ورى.)38: األم ِر(آل عمران،)159: َ ْ وو َأ ْم ُر ُه ْم ُش َ هذا وفي تس���مية الس���ورة التي فيها بيان الش���ورى بهذا االسم،
فالمش���ورة ه���ي الش���رط األول لك���ي يجني الم���رء أفضل
فت���رد الش���ورى في هذه الس���ورة وص ًف���ا للصحاب���ة الكرام
الشخصية في عمله وبرامجه ،أو يسعى لفرضها على غيره ،ال ينجو من فقدان طاقة حركي ٍة مهمة ،وزد على ذلك نفور وكره واستثقال ممن حوله ال محالة.
الثم���ار قاطبة م���ن كل عمل يعمله ،كذلك هي الوس���يلة األهم في اسـتمداد قدر ٍة تفوق قدرته وطاقته أضعا ًفا مضاعفة.
حكمة بالغة.
عدا من الثناء م���ع الثن���اء عليهم ،فكأن اآلية الكريمة تتضم���ن ُب ً
لهؤالء الذين جعلوا االستشارة محور أعمالهم وأمورهم .وإن
عمل من فينبغي إجراء أوس���ع استشارة وتحرٍّ قبل مباشر ِة ٍ نتجنب األعمال، ُّ والجد في األخذ باألس���ـباب والتدابير ،حتى ّ الوقوع في تصرفات مضرة ُت ِ ضاعف المصيبة في النتيجة ،مثل ّ القدر أو اتهام األفراد المقربين منا .وال مفر من الندم تجريح َ وانكس���ار الخاط���ر م���ا لم يتم التفكي���ر في عاقبة األم���ر وما لم
حشدا .فكان سيدنا الرسول يستشير كل واحد لها النصوص ً
روية فلم يمضوا وكم من عمل خاض فيه الخائضون من غير ّ
ومع التقدم الكبير الذي حققناه في مياديـن مختلفة اليوم ،إال
تؤخذ مش���ور ُة أهل المعرفة والخبرة قب���ل المبادرة في العمل. واالنكفاء في أنفس���هم، االنكس���ار في���ه خط���وات إال أورثه���م َ َ وضعف الحظوة وخسارة االعتبار عند غيرهم. َ
اختي���ار وصف الش���ـورى من أوصاف الثن���اء والمديح الكثيرة في األصحاب الكرام ،دليل على األهمية العظمى للمشورة.
وكم���ا يجع���ل الق���رآن الكري���م الش���ورى قاعدة له���ا أهمية
بالغا ،بل تحشد السنية تهتم بها الس���ن ُة عظيمة ،كذلك اهتماما ً ّ ً ّ
شيخا... في كل مسألة ليس فيها نص ،رج ً شابا أو ً ال أو امرأةًّ ،
بعد في فلس���فة الش���ورى ما بلغوه في تلك األيام. أننا لم نبلغ ُ نع���م ،كان رس���ـول اهلل يستش���ير أصحاب���ه ف���ي كل أمر،
مثاليا؛ أن الشورى والقاعدة في اإلسـالم على اعتباره ً نظاما ًّ
ويستطلع آراءهم وأفكارهم ،ويحصل على موافقتهم في كل
العناصر في حل القضايا المتعلقة بالفرد والمجتمع ،والشعب
المجم���وع ومي���ول المجتم���ع المتآلف كالبني���ان المرصوص،
���درات الحركي���ة لقيام���ه ودوام���ه .فهي م���ن أهم م���ن أه���م ال ُق ُ
والدولة ،والعلم والمع���ارف ،واالقتصاديات واالجتماعيات، ما لم يرد فيها نص صريح.
إن هيئة ش���ورى الدولة في اإلس�ل�ام ،تتقدم على الس���لطة
التنفيذية وترش���دها .وهيئة الش���ورى في الدولة التركية اليـوم، ومقيدة ُتعد محدودة في الوظيفة ،وضيقة الس���احة في الحركة َّ قياسا بالشورى في اإلسالم. ً
ويثمن أحاس���يس الوجدان العام ،ومش���اعر عم���ل يخط���ط لـهّ ،
لتكتسب قراراته قوة ومناعة ال يمكن زعزعتها .فقد كان يهيء
وفك���را في األعمال التي يبرمج روحا الجميع لكي يش���اركوا ً َ ً لها ،فيحقق مشاريعه بأمتن الحسابات اإلحصائية. الس��� ِن َّية المتعلقة بهذا ّ لنطل���ع عل���ى مش���اهد من حيات���ه َّ الشأن: حينما خرج حضرة سيد األنام إلى " ُأحد" ،ل ّقن أصحابه
ل���زم بأص���ل وإن رئي���س الدول���ة (ول���ي األم���ر األعظ���م) ُم َ َّ ربى الش���ورى حت���ى ول���و كان ً ومع َّلم���ا ُ مؤي���دا من عن���د اهلل ُ وم ّ بالوح���ي واإلله���ام .هكذا كان دأبنا ف���ي الماضي وكذلك دأبنا
وتنظيم حال قتالهم ،وتحذيرهم من ترك مواضعهم مهما آلت
كثيرا ما طبقته بأسماء وعناوين هناك ،فإن شعوبنا ومجتمعاتنا ً
وتوصي���ات أخ���رى .ولكن األصحاب الك���رام وقعوا في خطأ
في الحاضر .ولئن وقع إهمال في تنفيذ مبدأ الش���ورى هنا أو
متنوع���ة .ولك���ن ل���م ينج���ح مجتمع أهم���ل مبدأ الش���ورى أو أبدا ..وعندما يقول سيدنا " :ما خاب من تناساه حتى اليوم ً اس���تخار وال ندم من استش���ار" (رواه الطبران���ي) ،يع ّلق فالح األمة
وضمان مستقبلها بالشورى.
ترد الش���ورى في القرآن الكريم في آيتين بالتصريح ،وفي
المصرحتان بالشورى من آيـات كثيرة بالتلميح .هاتان اآليتان ِّ
أمورا إس���تراتيجية .ومن هذه األمور بع���ض التوصيات وراعى ً وض���ع الرم���اة في موض���ع مرتفع م���ن " ُأحد"، الت���ي َأ ْن َف َذه���ا ُ إلي���ه مجريات الح���رب ،ونهيه عن النـزول القتس���ام الغنائم... اجته���ادي في تقدير انتهاء مدة األم���ر باعتبار الوقت مع رفعة وض���ع مخالف ٍة خفية. فهمه���م للطاع���ة ودقائقها ،فص���اروا في ِ
وواجه سيدنا معارضة ضمنية أخرى في مسيرة " ُأحد" .فلو حد آخر في مكانه ،وواجهته تلك المعارضـات المتتالية كان َأ ٌ الت���ي أوقعت ه���ذه األض���رار والخس���ائر ،ألزاح آراءهم بظهر
كفي���ه وق���ال له���م اذهبوا ...عاقبك���م اهلل! لكنه ل���م يفعل ذلك،
3
السنة التاسعة -العدد (2013 )38
المقال الرئيس فتح اهلل كولن
الشورى
الشورى ِس���م ٌة حيوية وقاعدة أساسية لربانيي
اإلسالم أساس حياتي البد للرؤساء وللمرؤوسين من إجرائه.
ف���ي القرآن ،أبـرز عالم���ات المجتمع المؤمن
وأمور كثي���رة تتعلق بالمجتمع ،والمرؤوس���ـون مك ّلفون ببيان
الي���وم كما كانت للورث���ة األولين كذلك .فهي
���ب قلبه���ا لإلس�ل�ام. وأه���م خصوصي���ات الجماع���ة الت���ي َت َه ُ
واحدا مع الصالة وتوضع الش���ورى في الق���رآن الكريم ص ًّفا ً ِ الصال َة َو َأ ْم ُر ُه ْم وا َّل ِذ َ ���م َو َأ َق ُاموا َّ واإلنفاقَ : ين ْ اس َ���ت َج ُابوا ل َر ّبِهِ ْ فينبه المولى اه ْم ُي ْن ِف ُق َ ���ورى َب ْي َن ُه ْم َو ِم َّما َر َز ْق َن ُ ُش َ ون(الشورى)38:؛ ّ تعامل يترادف مع العبادة ،ويبين هذه تعالى إلى أن الش���ورى ٌ
المس���ألة الحيوية في األمر اإللهي باالس���تجابة هلل تعالى وذكر ضرورات االستجابة ونتيجتها :الصالة والشورى واإلنفاق.
فالرؤساء مك ّلفون باالستشارة في السياسة واإلدارة والتشريع رأيهم وفكرهم فيها للرؤساء.
وإن���ه لمن المفي���د أن نورد بعض المالحظ���ات الهامة عن
مبدأ الش���ورى .الشورى شـرط أساس���ي إلقرار الرأي الصائب
كثيرا ما تظهر نتائج وخيمة وهزيلة في مسألة من المسـائل .و ً
محص بـآراء للق���رارات المتعلق���ة بالفرد أو المجتمع ما ل���م ُت َّ عتد اآلخري���ن أو انتقاداته���م .وإن َم���ن ينحب���س في رأي���ه وال َي ّ ب���آراء غي���ره -مهما كان رفيع الفطرة وعال���ي الذكاء ،بل داهية
ع���د المجتم���ع الذي يهمل الش���ورى فبه���ذا االعتب���ار ،ال ُي ّ
الت أكث���ر مما يتعرض م���ن الدهـ���اة -يتعرض إلى أخط���اء وز ّ
تعمل بها جماعة مس���لمة بالمعنى الكامل .فالش���ورى في دين
والتزاما بالمش���ورة، اعت���دادا فاإلنس���ان األعق���ل ه���و األعظ���م ً ً
ع���د الجماع���ة الت���ي ال مجتمع���ا متكام���ل اإليم���ان ،كم���ا ال ُت ّ ً السنة التاسعة -العدد (2013 )38
2
له���ا رجل آخر متوس���ـط المواهب ينفتح في آرائه بالمش���ورة.
المحتويات الشورى /فتح اهلل كولن (املقال الرئيس) باب اهلل /حراء (ألوان وظالل)
حديث الفيل /أ.د .عرفان يلماز (علوم) توليد العلوم ..من أجل تفاعل مبدع مع العصر /أ.د .علي مجعة (قضايا فكرية)
الضاربون في األرض /أ.د .عماد الدين خليل (حتليل كتاب) ِّ واجَ�ت ْز /حراء (ألوان وظالل) حل ْق ْ
تأمالت في النبي والنبوات /أديب إبراهيم الدباغ (قضايا فكرية) خشونة المفاصل ..األسباب والعالج /د .خالد عمارة (علوم)
َسبَحات اإللهام /د .سلمان العودة (أدب) وانج /حراء (ألوان وظالل) اِ ْ نهض ُ
الجسم السليم في العقل السليم /د .فؤاد البنا (قضايا فكرية) دالالت الزوجية في الكون /د .عبد اإلله بن مصباح (علوم)
يا حادي الركب /سعود الصاعدي (شعر) استشعار الجاذبية عند النبات /أ.د .عبد اجمليد بلعابد (علوم)
ابن الهيثم ..مؤسس علم الطبيعة /أ.د .بركات حممد مراد (تاريخ وحضارة) المسلمون وحقوق اإلنسان / 3-أ.د .أمحد عبادي (قضايا فكرية)
رسائل حية من عالم المسلمين /د .مسري بودينا (قضايا فكرية) مؤتمر "اإلجماع والوعي الجمعي" /عبد العزيز بن عمر (أنشطة ثقافية)
2 7 8 12 15 18 19 24 28 30 31 36 40 41 46 50 54 57
االفتتاحية العقل الجمعي
حدة ذكاء ومن قوى إدراكية واس���عة عميقة ،إال أنه قد يواجه مهما بلغ العقل البش���ري من َّ
بعقل آخر أو ف���ي طريقه معضالت مس���تعصية يعج���ز عن ح ّلها بمفرده ،فيلجأ لالس���تعانة عليها ٍ ٍ بعقول آخرى لتش���اركه في التفكير وتعينه على الوصول إلى الحلول الناجعة ،فإذا ما اجتمعت
ال ذوات تجارب كثي���رة وخبرات واس���عة ،فإنها س���تصل في نهاية ه���ذه العق���ول ،وكان���ت عق���و ً المط���اف إلى حل���ول مقبولة وصحيحة لهذه المعضالت .ومن أمث���ال هؤالء الرجال المتميزين تش���كلت مجالس الش���ورى ف���ي تاريخنا ،ليس���تعان بهم على تس���يير عجلة الحاك���م والمحكوم ّ عل���ى حد س���واء ..فالح���رص على هذا العقل الجمع���ي ،هو من أدلة الحك���م الصالح والحكام
العدد38: السنة التاسعة مستشهدا بالتاريخ وبسيرة الرسول وبآيات القرآن الكريم. ً (سبتمبر -أكتوبر) 2013 صح جس���د األمة وس���لم ،فلم تعد صحيح���ا ف���إذا كان "العق���ل الجمع���ي" لألم���ة ً وس���الماَّ ، ً الصالحي���ن .وه���ذا ه���و خالصة ما س���نطالعه في المقال الرئي���س لـ"فتح اهلل كولن" "الش���ورى"،
مقول���ة "العقل الس���ليم في الجس���م الس���ليم" مقبولة اليوم .فق���د أثبتت األبحاث النفس���ية خالل
العق���ود األخي���رة ،عل���ى أن س���قم الجس���م م���ن س���قم العق���ل ،وأن م���رض الجس���م م���ن مرض العق���ل ،فانقلب���ت المقول���ة -كما يق���ول "فؤاد البنا" -إلى "الجس���م الس���ليم في العقل الس���ليم". أم���ا العال���م الجليل "علي جمعة" ،فهو يرى أن حضارة المس���لمين قامت على "العلم" ،وال
ُي ْر َج���ى له���ا الي���وم قيام إال إذا اس���تطاعت أن تكون مس���تولدة هي بنفس���ها للعل���وم ،من أجل أن ثمة تفاعل مبدع م���ع العصر الحديث يؤهلها الحتالل مكانها المرموق بين األمم .وفي يك���ون َّ
رؤي���ة اس���تعراضية لكتاب "الضاربون في األرض" لــ"أديب الدب���اغ" يمضي "عماد الدين خليل"
وم���ن خالل الكتاب -إلى اس���تعراض بعض أفكار "فتح اهلل كول���ن" الذي جاءت أكثر مقاالتهفي تجلية ش���ؤونه الفكرية ومش���اعره اإليمانية .وفي "تأمالت في النبي والنبوات" ،يرى "أديب لحل إشكاالت الدباغ" في هذا المقال أن البشرية أحوج ما تكون اليوم إلى العودة إلى النبوات ّ
الوجود اإلنس���اني التي ال زالت مس���تعصية على عقول الفحول من أس���اطين الحضارة القائمة. وس َبحات اإللهام ،يستعرض لنا "سلمان العودة" بعض نماذج إلهامية واقعية وعن "اإللهام" َ
كان���ت ق���د حدثت ألش���خاص ،وهي قد تح���دث كل يوم ألولئ���ك الذين يس���تعدون لها بصفاء
أذهانهم وأرواحهم .وفي الختام يتس���اءل "س���مير بودينار" بلهفه المش���فق ،ما الذي يحدث في عالمنا من فوران مخيف ،وما هي أسبابه ودواعيه وخلفياته ،وإلى أين ستأخذنا هذه األحداث،
وكيف نس���تطيع أن نفيد من كل ما مر بنا من تجارب خالل عش���رات الس���نين الماضية ،وكيف َّ نستطيع النهوض من تحت ركامات هذه السنين؟
وفي مس���ار "العقل الجمعي" الذي اختارته "حراء ركيزة من ركائر خطها الثقافي والفكري،
فال يفوتنا أن ننوه بمؤتمر "اإلجماع والوعي الجمعي" الذي نظمته مجلتا "حراء" و"يني أميت"
ض���م خيرة علماء األم���ة ومثقفيها من ثمانين ف���ي 28-27أبري���ل 2013في إس���طنبول ،والذي ّ
دولة في العالم.
وختام���ا نس���أله تعال���ى أن يجعل من هذا "العق���ل الجمعي" بمواضيع���ه المختلفة واهتماماته ً
المتشبعة على صفحات "حراء" موضع نظر المثقفين المهتمين بشؤون أمتهم ودينهم.
العدد / 38 :السنة التاسعة ( /سبتمرب -أكتوبر) 2013 مجلة علمية فكرية ثقافية تصدر كل شهرين من إسطنبول
w w w. h i r a m a g a z i n e . c o m
القلب األخضر يا صاحب القلب األخضرِ ،س ْر.. ُح َّث الخطى ..ال تتوقف.. ستخضر ،والشجر سيورق، فاألرض من ُخطاك ّ والحدائق ستزهر ،وشذى الربيع سيفوح.. تقل متى وكيف؟ ال ْ ْ "كن فيكون". اترك "متى وكيف" لصاحب ْ ***
الشورى
رسائل حية من عالم المسلمين
مؤتمر "اإلجماع والوعي الجمعي"