Hira 38

Page 1

‫الصبر المعطاء‬ ‫صبرا يا صاحبي‪ ..‬ال َ‬ ‫حال يدوم‪،‬‬ ‫صبرا ً‬ ‫ً‬ ‫شتاء وجلي َد سيبقى‪..‬‬ ‫وال َ‬ ‫إنما هي دورة حياة‪ ..‬فإذا بالربيع قُبالتَك‪،‬‬ ‫عطرا‪،‬‬ ‫يفوح ورًدا‪ ،‬ويضوع ً‬ ‫ويتألق جماالً‪ ،‬ويشيع دفئًا‪..‬‬ ‫***‬

‫‪38‬‬


‫ • سياحة مضنية في قلب حزين‪ ..‬وروح جريح‪..‬‬

‫ • فكر مِ ن ر َِحم المعاناة مولود‪ ..‬قرآني المنبع‪ ..‬إنساني التطلع‪..‬‬ ‫ ‬

‫تجديدي في المفاهيم واإلدراكات‪!..‬‬

‫مركز التوزيع فرع القاهرة ‪ 7 :‬ش البرامكة‪ ،‬الحي السابع‪ ،‬مدينة نصر ‪ -‬القاهرة ‪ /‬مصر‬

‫تليفون وفاكس ‪+20226134402-5 :‬‬

‫الهاتف الجوال ‪+201000780841 :‬‬

‫‪w w w. d a r a l n i l e . c o m‬‬


‫التصور العام‬

‫جملة علمية فكرية ثقافية تصدر كل‬ ‫شهرين عن‪:‬‬

‫• حراء جملة علمية فكرية ثقافية تعىن بالعلوم الطبيعية واإلنسانية واالجتماعية وحتاور أسرار النفس البشرية وآفاق‬ ‫الكون الشاسعة باملنظور القرآين اإلمياين يف تآلف وتناسب بني العلم واإلميان‪ ،‬والعقل والقلب‪ ،‬والفكر والواقع‪.‬‬ ‫• جتمع بني األصالة واملعاصرة وتعتمد الوسطية يف فهم اإلسالم وفهم الواقع‪ ،‬مع البعد عن اإلفراط والتفريط‪.‬‬ ‫• تؤمن باالنفتاح على اآلخر‪ ،‬واحلوار البناء واهلادئ فيما يصب لصاحل اإلنسانية‪.‬‬ ‫• تسعى إىل املوازنة بني العلمية يف املضمون واجلمالية يف الشكل وأسلوب العرض‪ ،‬ومن مث تدعو إىل معاجلة املواد‬ ‫مبهنية عالية مع التبسيط ومراعاة اجلوانب األدبية واجلمالية يف الكتابة‪.‬‬

‫صاحب االمتياز‬

‫شروط النشر‬

‫املشرف العام‬

‫• أن يكون النص املرسل جديدا مل يسبق نشره‪.‬‬ ‫• أال يزيد حجم النص على ‪ 2000‬كلمة كحد أقصى‪ ،‬وللمجلة أن تلخص أو ختتصر النصوص اليت تتجاوز احلد‬ ‫املطلوب‪.‬‬ ‫• يرجى من الكاتب الذي مل يسبق له النشر يف اجمللة إرسال نبذة خمتصرة عن سريته الذاتية‪.‬‬ ‫• ختضع األعمال املعروضة للنشر ملوافقة هيئة التحرير‪ ،‬وهليئة التحرير أن تطلب من الكاتب إجراء أي تعديل على‬ ‫املادة املقدمة قبل إجازهتا للنشر‪.‬‬ ‫• اجمللة غري ملزمة بإعادة النصوص إىل أصحاهبا نشرت أم مل تنشر‪ ،‬وتلتزم بإبالغ أصحاهبا بقبول النشر‪ ،‬وال تلتزم‬ ‫بإبداء أسباب عدم النشر‪.‬‬ ‫• حتتفظ اجمللة حبقها يف نشر النصوص وفق خطة التحرير وحسب التوقيت الذي تراه مناسبا‪.‬‬ ‫تعب بالضرورة عن رأي اجمللة‪.‬‬ ‫تعب عن آراء ُكتَّاهبا‪ ،‬وال رِّ‬ ‫• النصوص اليت تنشر يف اجمللة رِّ‬ ‫مجا إىل أي لغة أخرى‪،‬‬ ‫• للمجلة حق إعادة نشر النص منفصلاً أو ضمن جمموعة من البحوث‪ ،‬بلغته األصلية أو مرت ً‬ ‫دون حاجة إىل استئذان صاحب النص‪.‬‬ ‫• جملة حراء ال متانع يف النقل أو االقتباس عنها شريطة ذكر املصدر‪.‬‬ ‫ يرجى إرسال مجيع املشاركات إىل هيئة حترير اجمللة على العنوان اآليت‪:‬‬

‫‪hira@hiramagazine.com‬‬ ‫‪YEMEN‬‬ ‫دار النشر للجامعات‬ ‫الجمهورية اليمنية‪ ،‬صنعاء‪ ،‬الخط الدائري الغربي‪،‬‬ ‫أمام الجامعة القديمة‬ ‫‪Phone: +967 1 440144‬‬ ‫‪GSM: +967 711518611‬‬ ‫‪ALGERIA‬‬ ‫‪Bois des Cars 1 Villa Nº68 Dely Brahim‬‬ ‫‪GSM: +213 770 26 00 27‬‬ ‫‪SUDAN‬‬ ‫مركز دار النيل‪ ،‬مكتب اخلرطوم‬ ‫أركويت مربع ‪ 48‬منـزل رقم ‪ - 31‬اخلرطوم ‪ -‬السودان‬ ‫‪Phone: 0024 999 559 92 26 - 0024 915 522 24 69‬‬ ‫‪hirasudan@hotmail.com‬‬ ‫‪JORDAN‬‬ ‫شركة زوزك‪/‬مشيساين شارع عبد احلميد شرف‪ ،‬بناية رقم‪61:‬‬ ‫عمان‪/‬األردن‪.‬‬ ‫‪Phone: +962 656 064 44‬‬ ‫‪GSM: +962 775 935 756‬‬ ‫‪hirajordan@woxmail.com‬‬ ‫‪UNITED ARAB EMIRATES‬‬ ‫دار الفقيه للنشر والتوزيع‬ ‫ص‪.‬ب‪ 6677 .‬أبو ظبي‬ ‫‪Phone: +971 266 789920‬‬ ‫‪MAURITANIA‬‬ ‫‪Phone: +2223014264‬‬

‫‪USA‬‬ ‫‪Tughra Books‬‬ ‫‪345 Clifton Ave., Clifton,‬‬ ‫‪NJ, 07011, USA‬‬ ‫‪Phone:+1 732 868 0210‬‬ ‫‪Fax:+1 732 868 0211‬‬ ‫‪SAUDI ARABIA‬‬ ‫الوطنية للتوزيع‬ ‫‪Phone: +966 1 4871414‬‬ ‫املكتب الرئيسي‪ :‬شارع التخصصي مع تقاطع شارع‬ ‫األمري سلطان بن عبد العزيز عمارة فيصل السيار‬ ‫ص‪.‬ب‪ 68761 :‬الرياض‪11537 :‬‬ ‫اجلوال‪00966504358213 :‬‬ ‫‪saudia@hiramagazine.com‬‬ ‫‪abdallahi7@hotmail.com‬‬ ‫‪Phone-Fax: +966 1 2815226‬‬ ‫‪MOROCCO‬‬ ‫الدار البيضاء ‪ 70‬زنقة سجلماسة‬ ‫‪Société Arabo-Africaine de Distribution,‬‬ ‫)‪d'Edition et de Presse (Sapress‬‬ ‫‪70, rue de Sijilmassa, 20300 Casablanca / Morocco‬‬ ‫‪Phone: ‎+212 22 24 92 00‬‬ ‫‪EGYPT‬‬ ‫‪ 37‬شارع د‪ .‬عبد الشافي محمد ‪ -‬الحي السابع‪ ،‬مدينة نصر ‪ -‬القاهرة‪.‬‬ ‫هاتف‪+201119482609 - +201065523089 :‬‬ ‫‪hiraegypt@gmail.com‬‬ ‫‪SYRIA‬‬ ‫‪GSM: ‎+963 955 411 990‬‬

‫‪Işık Yayıncılık Ticaret A.Ş‬‬ ‫‪İstanbul / Türkiye‬‬

‫مصطفى طلعت قاطريجي أوغلو‬

‫نوزاد صواش‬

‫‪nsavas@hiramagazine.com‬‬

‫رئيس التحرير‬ ‫هانئ رسالن‬

‫مدير التحرير‬ ‫أجري أشيوك‬

‫املخرج الفين‬ ‫مراد عرباجي‬

‫املركز الرئيس‬ ‫‪HIRA MAGAZINE‬‬ ‫‪Kısıklı Mah. Meltem Sok.‬‬ ‫‪No:5 34676‬‬ ‫‪Üsküdar‬‬ ‫‪İstanbul / Turkey‬‬ ‫‪Phone: +902163186011‬‬ ‫‪Fax: +902164224140‬‬ ‫‪hira@hiramagazine.com‬‬

‫مركز التوزيع‬ ‫‪ 7‬ش الربامكة ‪ -‬احلي السابع ‪ -‬م‪.‬نصر‪/‬القاهرة‬ ‫تليفون وفاكس‪+20226134402-5 :‬‬ ‫اهلاتف اجلوال ‪+201004871038 :‬‬ ‫مجهورية مصر العربية‬

‫نوع النشر‬ ‫جملة دورية دولية‬

‫‪Yayın Türü‬‬ ‫‪Yaygın Süreli‬‬

‫الطباعة‬

‫رقم اإليداع‬

‫‪1879-1306‬‬

‫لالشرتاك من كل أحناء العامل‬ ‫‪pr@hiramagazine.com‬‬


‫نداء إسطنبول‬ ‫إن العلماء واألساتذة والباحثين القادمين من أكثر من ‪ 80‬دولة‪ ،‬والمجتمعين في إسطنبول خالل يومي السبت‬

‫واألح���د ‪ 17‬و‪ 18‬م���ن جم���ادى اآلخرة ‪1434‬هـ الموافق لـ ‪ 27‬و‪ 28‬م���ن أبريل ‪2013‬م في إطار المؤتمر الدولي‬

‫الذي نظمته مجلة "حراء" ومجلة "يني أميت" بعنوان "اإلجماع والوعي الجمعي"‪ ،‬والذي جاء انعقاده نتيجة لعدد‬ ‫نظ���را ألهمية هذا األصل العظي���م ومركزيته في حياة األم���ة‪ ،‬وبعد أن تباحثوا‬ ‫م���ن اللق���اءات التحضيري���ة من قبل‪ً ،‬‬

‫أص���ل اإلجم���اع الركين‪ ،‬وتجلياته العلمية والعملية بمختلف مراحلها عبر تاريخها الحافل‪ ،‬واس���تبانوا اإلمكانات‬ ‫الهائلة التي يكتنزها إعماله في المناحي الحضارية‪ ،‬والثقافية‪ ،‬والتش���ريعية‪ ،‬والتنظيمية‪ ،‬واالجتماعية‪ ،‬والسياس���ية‪،‬‬ ‫والحياتية‪ ،‬ينادون بما يلي‪:‬‬

‫‪ -1‬تأس���يس تنس���يقية بإس���طنبول‪ ،‬تعن���ى بتعمي���ق البحث والنظر في قضاي���ا اإلجماع في األم���ة‪ ،‬وتتواصل مع‬

‫مختلف المؤسس���ات والمراكز العلمية‪ ،‬والفقهية‪ ،‬والبحثية‪ ،‬والحضارية‪ ،‬والجامعية في العالم اإلسالمي‪ ،‬وتكون‬ ‫لها قوة اقتراحية إجماعية حول مختلف قضايا األمة‪.‬‬

‫‪ -2‬أن تش���رف ه���ذه التنس���يقية على تحضير سلس���لة من المؤتمرات الس���نوية المتكاملة‪ ،‬التي يت���م فيها تدقيق‬

‫ال خالل هذا المؤتمر المبارك‪.‬‬ ‫وتعميق القضايا التي جاء ذكرها إجما ً‬

‫‪ -3‬أن تشرف هذه التنسيقية على تحقيق المخطوط من أمهات الكتب عن أصل اإلجماع وحوله‪ ،‬وإعادة طبع‬

‫المطبوع منها‪ ،‬مرفقة بدراسات إضافية ترصد اإلضافات النوعية التي في كل منها‪.‬‬

‫‪ -4‬إصدار بحوث ودراسات جديدة حول أصل اإلجماع‪ ،‬وفي مقدمتها أعمال هذا المؤتمر المبارك‪ .‬وكذلك‬

‫جميعا كفكرة عبقرية تجمع بين فوائد اإلجماع األصولي والحاجة الملحة ألداة‬ ‫الوعي الجمعي الذي نحتاج إليه‬ ‫ً‬

‫معاصرة في جميع المجاالت‪.‬‬

‫‪ -5‬تجديد ما انفصل من وصل في فهومنا وممارستنا بين اإلجماع وأصوله في القرآن الكريم والسنة النبوية‬

‫ال‪.‬‬ ‫عدة عملية وظيفية لتناول مشكالت األمة‬ ‫حاضرا ومستقب ً‬ ‫الشريفة وممارسات الراشدين‪ ،‬واتخاذ هذا األصل ُّ‬ ‫ً‬

‫واهلل ولي التوفيق‬

‫‪63‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )38‬‬


‫باإلضاف���ة إل���ى الدكت���ورة "نادية مصطف���ى" أس���تاذة العالقات‬

‫عنوان "نحو جيل اإلجماع"‪.‬‬

‫من وحدة المصدر إلى وحدة التنوع"‪.‬‬

‫الفرقة الدينية‪ ،‬تهديد لهذا األصل العظيم في الشريعة اإلسالمية‪،‬‬ ‫ف َأ ْم���ر الرس���ول ‪ ‬بالتزام الجماع���ة ال يعني اجتم���اع األبدان‪،‬‬

‫الدولية بجامعة القاهرة في مصر‪ ،‬بمحاضرة عنونتها بـ"اإلجماع‬ ‫إذ تن���اول الدكت���ور "أحم���د عب���ادي" العالق���ة م���ع القرآن‬

‫الكريم بالتحليل والنقد‪ ،‬إذ ّبين أنها ال يجب أن تكون سطحية‬

‫فبين الدكتور "عبد الحميد مدكور"‪ ،‬أن التعصب المذهبي و‬ ‫ّ‬

‫ب���ل االلتزام بالنس���ق الحضاري الموح���د ذو الهدف الواضح‪.‬‬

‫فعالة‪ ،‬بل‬ ‫محص���ورة ف���ي مقص���د التبرك به‪ ،‬ألنه���ا عالقة غي���ر ّ‬

‫وتطرق الدكتور "عبد المجيد النجار" إلى أس���س التشريع‬

‫آيات���ه وأحكام���ه وضوابطه واضحة في حياة المس���لمين‪ ،‬وهذا‬

‫وجب أن تصطبغ بصبغة األحكام الشرعية الشاملة‪ ،‬ألن الحياة‬

‫حضاريا تتجلى‬ ‫ال‬ ‫وجب أن يكون التعامل مع كتاب اهلل‪ ،‬تعام ً‬ ‫ًّ‬

‫ركنا‬ ‫فوضح أنها‬ ‫أساسيا فيها‪ّ ..‬‬ ‫عتبر اإلجماع ً‬ ‫وسن القوانين‪ ،‬التي َت َ‬ ‫ًّ‬

‫لن يتأتى إال بثني الركب وتقويس الظهور‪ ،‬من أجل استخراج‬

‫تؤخ���ذ في كلياته���ا‪ ،‬ال تجزيء فيها وال تفريق بين المجاالت‪.‬‬

‫وشفقة ال بإقصاء وغرور‪.‬‬

‫له ّم األمة‪،‬‬ ‫وس���اع م���ن أجل اجتماعه���ا وتوافقها‪..‬‬ ‫ٍ‬ ‫كل حام���ل َ‬

‫كن���وز الق���رآن‪ ،‬لتنوي���ر اإلنس���انية به���ا‪ ،‬بفكر ش���مولي وبرحمة‬

‫وعرج الدكتور "محمد باباعمي" من الجزائر‪ ،‬إلى ما يرومه‬

‫وواصل���ت الدكتورة "نادية مصطفى" في نفس الس���ياق‪ ،‬إذ‬

‫فرسم مالمح جيل اإلجماع المستقبلي؛ فال مفر وال مناص من‬

‫ال‬ ‫ّبينت أن القرآن الكريم يورد التعدد واالختالف باعتباره أص ً‬ ‫ف���ي الكون وفي البش���رية‪ ،‬ل���ذا فإن االجته���اد والمرونة‪ ،‬أمران‬ ‫تابعان لذلك بل وحتميان‪.‬‬

‫وبع���د اس���تراحة قصي���رة‪ ،‬تواصل���ت أش���غال المؤتم���ر في‬

‫جلس���ته العلمية الثانية التي ترأستها الدكتورة "نادية مصطفى"‪،‬‬

‫وش���ارك فيه���ا كل م���ن األس���اتذة؛ الدكتور "س���يف الدين عبد‬ ‫الفت���اح" م���ن مص���ر‪ ،‬بمحاض���رة عنوانه���ا "مؤسس���ة اإلجماع‪:‬‬

‫الش���ورى والديمقراطية"‪ ،‬والدكتور "سمير بودينار" مدير مركز‬

‫الدراس���ات اإلنسانية واالجتماعية بوجدة المغرب‪ ،‬بمحاضرة‬

‫ع���ن "منظومة القيم والبناء المجتمع���ي لإلجماع"‪ ،‬ثم الدكتور‬ ‫وجه" عميد جامعة ج�ل�ال بيار كلية اإللهيات‬ ‫"عب���د الحكيم ُي َ‬ ‫تركيا‪ ،‬بمحاضرة عن "ثقافة اإلجماع والبعد العرفاني"‪.‬‬ ‫فاتف���ق المحاض���رون عل���ى أن األم���ة بحاج���ة للخ���روج‬

‫باإلجم���اع من الضيق الفقهي‪ ،‬إلى رحابة التفس���ير الش���مولي‪،‬‬ ‫عل���ى أن يعالج الموضوع في إطاري���ن‪ :‬مقاصدي وقيمي كما‬

‫يوضح الدكتور "سمير بودينار"‪.‬‬

‫هذا وقد ترأس الجلس���ة العلمية األخيرة الدكتور "حمدي‬

‫ونش���طها‬ ‫دون���دورن" من جامعة الفات���ح كلية اإللهيات تركيا‪ّ ،‬‬

‫الدكت���ور عب���د الحمي���د مدكور م���ن جامع���ة القاه���رة كلية دار‬

‫العل���وم مصر‪ ،‬متحد ًثا عن "فقه االئتالف في ظل واقع متعدد‬ ‫المرجعي���ات"‪ ،‬والدكت���ور عب���د المجي���د النجار" األمي���ن العام‬ ‫للمجل���س األوروب���ي لإلفتاء‪ ،‬بموضوع تحت عن���وان "مراعاة‬ ‫وأخي���را الدكتور "محمد‬ ‫الس���ياق وأثره في فاعلي���ة اإلجماع"‪،‬‬ ‫ً‬ ‫باباعم���ي" مدي���ر معه���د المناه���ج بالجزائ���ر‪ ،‬بمحاضرة تحت‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )38‬‬

‫‪62‬‬

‫ال‬ ‫االهتمام بالجيل الناشئ‪ ،‬الذي‬ ‫وسلوكا‬ ‫سيطبق اإلجماع فع ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬

‫كالم���ا‬ ‫يئن تحت‬ ‫فم���ن غيرنا يمس���ح دمعة طف���ل ّ‬ ‫ال ً‬ ‫وتنظي���را‪َ ،‬‬ ‫ً‬ ‫ومن س���وانا ُيعلي راية المحبة والمودة‬ ‫وطأة الجوع والحرب‪َ ،‬‬

‫والتواف���ق‪ ..‬إنن���ا إن لم نفعل‪ ،‬ال معن���ى لحديثنا عن اإلجماع‪..‬‬ ‫سببا في مستقبل التمكين لهذا الدين‪،‬‬ ‫فلنحرص على أن نكون ً‬

‫سديدا‪.‬‬ ‫ال‬ ‫تفاديا للعذاب األليم‪ ،‬ولنتق اهلل ولنقل قو ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫بالدع���وة القلبي���ة الخالص���ة لتقوى اهلل‪ ،‬وابتغاء الس���داد في‬

‫القول والعمل‪ ،‬اختتمت الجلس���ات العلمية لمؤتمر "اإلجماع‬ ‫والوع���ي الجمعي"‪ ،‬وآنت لحظات انتهاء رحلة الفهم والوعي‬ ‫والت���داول العلم���ي‪ ،‬والجلس���ات العلمي���ة الفكري���ة‪ ،‬توجته���ا‬

‫الجلسة الختامية التي ُتلي فيها البيان الختامي للمؤتمر‪ ،‬الذي‬ ‫ضم خطوات وتوصيات عملية ت َف ّعل موضوع المؤتمر‬ ‫ميدانيا‪،‬‬ ‫ًّ‬

‫إذ يس���عى القائم���ون على تحقيقها إلى وض���ع اللبنات األولى‬

‫لترس���يخ ثقافة اإلجماع تنش���ئ ًة وتربي ًة ودعو ًة‬ ‫وسلوكا‪ ،‬وتكون‬ ‫ً‬ ‫نقط���ة التق���اء آراء المفكرين واجتهادات العلم���اء والفقهاء من‬ ‫شتى أقطار العالم اإلسالمي‪.‬‬

‫التض���رع إلى اهلل‪ ،‬وبــأنفاس الح���ب التي ترافق كل‬ ‫بدم���وع‬ ‫ّ‬

‫ش���هقات وزفرات الداعين‪ ،‬وبعزائم الس���ائرين في سبيل رفع‬ ‫ال‪ -‬على أن‬ ‫راي���ة الس�ل�ام في العالمي���ن‪ ،‬اختتم المؤتمر ‪-‬ش���ك ً‬ ‫شعاعا‬ ‫ال‪ -‬يتجسد‬ ‫تبقى معانيه وروحه تسري في النفوس ‪-‬فع ً‬ ‫ً‬

‫يرشد األمة‪ ،‬وينقذها من ربقة االنشقاق إلى آفاق االتفاق‪.‬‬ ‫(*) كاتب وصحافي جزائري‪.‬‬


‫فضيلة الشيخ بدر الدين أحمد بن حمد الخليلي‪ ،‬المفتي العام لسلطنة عمان‪.‬‬

‫أ‪.‬د‪ .‬محمد كورمز‪ ،‬رئيس الشؤون الدينية ‪ /‬تركيا‪.‬‬

‫بع���د اس���تراحة للتواص���ل والتع���ارف والتالق���ي ‪-‬فالمش���اريع‬

‫اإلس�ل�امية بمؤسس���ة قطر‪ ،‬بمحاضرة ح���ول "إجماع الصحابة‬ ‫ِ‬ ‫مؤسسا لإلجماع المنشود اليوم"‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫إذ غ���اص كل من الحاضرين في هذه الجلس���ة العلمية في‬

‫الديني���ة الس���ابق م���ن تركي���ا‪ ،‬ويش���ارك فيها كل من األس���اتذة‬

‫إس���قاطها وتكييفه���ا‪ ،‬بم���ا يتواف���ق‬ ‫نظري���ا عل���ى األق���ل‪ -‬مع‬‫ًّ‬

‫الحضاري���ة تولد من رح���م العالقات الوطيدة‪ ،‬والمحبة القلبية‬

‫الصافي���ة‪ -‬ع���اد المش���اركون‪ ،‬ليش���هدوا بداية الجلس���ة العلمية‬

‫األول���ى برئاس���ة الدكتور "علي بارداك أوغلو" رئيس الش���ؤون‬

‫األفاض���ل؛ الدكت���ور "إبراهيم كافي ُدو ْن َم���ز" رئيس جامعة ‪29‬‬

‫ماي���و بإس���طنبول‪ ،‬بمحاض���رة تحمل عن���وان "أص���ل اإلجماع‬

‫ومكانت���ه بين األدلة الش���رعية"‪ .‬والدكتور "محم���د كمال إمام"‬

‫من جامعة اإلس���كندرية بمصر‪ ،‬بمحاضرة حول "عصمة األمة‬ ‫ِ‬ ‫مؤسس���ة لثقافة اإلجم���اع"‪ .‬والدكتور "يونس أبايدن"‬ ‫باعتبارها ّ‬ ‫م���ن جامع���ة َأ ْرجياس كلي���ة اإللهي���ات بتركي���ا‪ ،‬بمحاضرة عن‬ ‫"اإلجماع باعتباره آلية للرقابة الشرعية"‪.‬‬

‫حي���اة الصحابة‪ ،‬واس���تخرجوا منه���ا المعاني والعب���ر محاولين‬

‫مقتضي���ات العص���ر‪ ،‬إذ أورد الدكت���ور "طال���ب ُت ْرج���ان" أن‬ ‫"اإلجم���اع" ه���و وض���ع لمعايي���ر َح ّدي���ة ف���ي فه���م المص���ادر‬

‫األساس���ية من قرآن وس���نة‪ ،‬إذ ال يمكن تجاوزها أو تجاهلها‪.‬‬ ‫وبي���ن الدكت���ور "بش���ير‬ ‫كوزوب ْن ِلي" أن عصر عم���ر بن الخطاب‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫‪ ،‬تميز بالشورى واإلجماع‪ ،‬إذ كان َيعتبر استشارة الصحابة‬ ‫ف���ي القضاي���ا األساس���ية والمصيري���ة لألمة اإلس�ل�امية‪ .‬ولفت‬ ‫الدكتور "محمد الشنقيطي" انتباه الحاضرين إلى أنه تم التركيز‬

‫وتمحورت محاضرات الجلسة العلمية األولى على أهمية‬

‫كثيرا ‪-‬في الدراس���ات التي تتناول "اإلجماع"‬ ‫موضوعا‪ -‬على‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫ج���زء م���ن البنيان الحضاري لألمة اإلس�ل�امية‪ ..‬فال يمكن بناء‬

‫بـ"التأمر"‪،‬‬ ‫وموض ًحا أن من صفات المجتمع الراش���د ما سماه‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬

‫اإلجماع ومدى تأثيره حتى في تفاصيل حياة المس���لمين‪ ،‬ألنه‬

‫حضارة متكاملة‪ ،‬إال إذا كان لإلجماع مكانة كبرى في نفوس‬

‫مبي ًنا‬ ‫الخليفة الراش���د‪ ،‬لكن ً‬ ‫غالبا ما ُيتناسى المجتمع الراشد‪ّ ،‬‬ ‫التحكم في خيارات األمير والمساهمة في صنعها‪.‬‬ ‫أي‬ ‫ّ‬

‫علماء األمة وفي أفعالهم‪ ،‬وأنه ال مناص من التمكين لإلجماع‬ ‫مؤس ِس ًّيا‪ ،‬فعصرنا هذا عصر مؤسسات وعمل جماعي ال عصر‬ ‫َّ‬ ‫العبقرية الفردية والرجال الخارقين‪.‬‬

‫أصوله ومبادئه‪ ،‬مبتغين تحقيق أفعال حضارية ولودة‪ ،‬تس���اهم‬

‫الرئيس السابق للهيئة العليا للشؤون الدينية في تركيا‪ ،‬وحاضر‬

‫من شأنه أن يوقد شمعة األمل في نفوس بشر حائرين‪.‬‬

‫ثم ترأس الجلس���ة العلمي���ة الثانية الدكت���ور "حمزة آكتان"‬

‫فيه���ا كل من األس���اتذة؛ الدكت���ور "طالب ُت ْرج���ان" من جامعة‬

‫س���ليمان دمي���رل كلية اإللهي���ات بتركي���ا‪ ،‬بمحاضرة موس���ومة‬ ‫كوزوب ْن ِلي"‬ ‫بـ"أهمية ومكانة إجماع الصحابة"‪ .‬والدكتور "بشير‬ ‫َ‬ ‫من جامعة أتاتورك كلية اإللهيات بتركيا‪ ،‬في محاضرة بعنوان‬

‫الع ْمري"‪.‬‬ ‫وأخيرا‬ ‫"تطبيقات الش���ورى واإلجماع في النم���وذج ُ‬ ‫ً‬ ‫الدكت���ور "محم���د المخت���ار الش���نقيطي" م���ن كلية الدراس���ات‬

‫انقضى اليوم األول من المؤتمر‪ ،‬فافترق الجمع حاصدين‬

‫حب���ا ومودة‪،‬‬ ‫وفك���را متواف ًقا في‬ ‫م���ن ثم���ار التوافق واإلجماع‪ًّ ،‬‬ ‫ً‬ ‫في رأب ما باألمة اإلسالمية من صدع‪ ،‬و تضيء بصيص أمل‬ ‫أش���رقت ش���مس اليوم الثاني من المؤتمر‪ ،‬مؤذنة بتواصل‬

‫الرحل���ة نح���و إدراك "اإلجم���اع" وتحقيق "الوع���ي الجمعي"‪،‬‬

‫اس���تهلت بالجلس���ة العلمية األولى برئاس���ة الدكتور "س���عاد‬ ‫إذ ُ‬ ‫ِي ْلدري���م" م���ن جامعة الفاتح كلية اإللهيات بتركيا‪ ،‬وبمش���اركة‬

‫كل م���ن األس���اتذة؛ الدكت���ور "أحمد عبادي" م���ن المغرب‪ ،‬إذ‬ ‫ِ‬ ‫مؤس ًسا إلجماع األمة اليوم" عنوا ًنا لمحاضرته‪،‬‬ ‫اختار "القرآن ّ‬

‫‪61‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )38‬‬


‫أ‪.‬د‪ .‬عصام البشير‪ ،‬رئيس مجمع الفقه اإلسالمي ‪ /‬السودان‪.‬‬

‫د‪ .‬محمد باباعمي‪ ،‬مدير معهد المناهج‪ ،‬الجزائر العاصمة ‪ /‬الجزائر‪.‬‬

‫أساس���يا للوصول إلى مجتمع إس�ل�امي تس���وده روح‬ ‫مدخ�ل�ا‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫���د عل���ى ي���ده الش���يخ العالم "راش���د‬ ‫التواف���ق واإلجم���اع‪َ .‬‬ ‫وش ّ‬ ‫الغنوش���ي" م���ن تونس‪ ،‬في رس���الة بعثه���ا للحاضري���ن ‪-‬قرأها‬ ‫بالنياب���ة عن���ه الدكتور عب���د الحميد النجار‪ -‬إذ ّبي���ن فيها أهمية‬ ‫حبيس‬ ‫توس���يع المس���احة الداللي���ة لـ"اإلجماع" لك���ي ال يبقى‬ ‫َ‬ ‫ونوه إلى أن الجهود‬ ‫التفس���يرات والدالالت الفقهية فحس���ب‪ّ ،‬‬ ‫المبارك���ة التي س���يبذلها العلماء في المؤتم���ر وبعده‪ ،‬هي التي‬ ‫س���تعيد األمل لألمة اإلس�ل�امية‪ ،‬وتبعد الفرقة عنها والتشتت‪،‬‬ ‫بل وتدفع بها إلى الفعل الحضاري إن شاء اهلل‪.‬‬ ‫من الهند إلى س���لطنة عمان ومن ثم إلى أفغانس���تان‪ ،‬انتقل‬ ‫الحاض���رون بانتباهه���م وتركيزه���م بي���ن كلم���ات العلم���اء‪ ،‬إذ‬ ‫تحدث الش���يخ الدكتور "أبو القاسم النعماني" رئيس الجامعة‬ ‫اإلس�ل�امية دار العلوم في الهن���د‪ ،‬عن أهمية اإلجماع في حياة‬ ‫مقد ًما أمثلة من عصر الخلف���اء وحياة الصحابة‪ ..‬وأكد‬ ‫األم���ة‪ّ ،‬‬ ‫الش���يخ "أحم���د بن حم���د الخليلي" مفتي س���لطنة عمان‪ ،‬على‬ ‫وج���وب التكام���ل والتع���اون ول���و أوان االخت�ل�اف‪ ،‬وأن���ه ال‬ ‫مج���ال وال وقت اليوم للتنافر والتناحر والتش���تت‪ ،‬فعلى األمة‬ ‫أن تح���رص عل���ى الوحدة كحرصها عل���ى التوحيد‪ ،‬وأن تلتزم‬ ‫األم���ر بالمع���روف والنهي عن المنك���ر‪ ،‬فذلك الت���زام بالهدى‬ ‫والوح���دة‪ ..‬ثم تبع���ه الدكتور "يوس���ف نيازي" وزير اإلرش���اد‬ ‫والح���ج واألوق���اف م���ن أفغانس���تان‪ ،‬بكلمة أكد فيه���ا على أن‬ ‫األم���ة اإلس�ل�امية إذا اجتم���ع علماؤها‪ ،‬فإنه���م يجتمعون بغية‬ ‫الخير والسداد ال للغي والضالل‪.‬‬ ‫وبع���د جول���ة فكري���ة جابت الب�ل�اد العربية ممثل���ة في أكبر‬ ‫���دت الرحال عود ًة إلى تركيا‪ ،‬لتس���تقر عند كلمات‬ ‫علمائها‪ُ ،‬ش ّ‬ ‫فحمد‬ ‫الدكتور "محمد كورمز" رئيس الشؤون الدينية التركية‪َ ،‬‬ ‫اهلل وأثن���ى عليه‪ ،‬ثم طاف بالحضور بين معاني عنوان المؤتمر‬

‫"اإلجم���اع والوع���ي الجمعي" من خالل حياة صحابة رس���ول‬ ‫فبين أن إجماع الصحابة‪ ،‬فيه الكثير مما يمكن دراسته‬ ‫اهلل ‪ّ ،‬‬ ‫نموذجا‪ ،‬فمرجع أمور المس���لمين في عصر الصحابة‬ ‫واتخاذه‬ ‫ً‬ ‫كان لإلجم���اع‪ ،‬إذ كان���وا رض���ي اهلل عنه���م أجمعين‪ ،‬يعيش���ون‬ ‫اك ْم‬ ‫‪‬و َك َذ ِل َ‬ ‫���ك َج َع ْل َن ُ‬ ‫المقص���د والمبتغى م���ن قول اهلل تعال���ى‪َ :‬‬ ‫���طا‪(‬البقرة‪ ،)143:‬أي األمة "المركز"‪ ،‬األمة التي تش���كل‬ ‫ُأ َّم ًة َو َس ً‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )38‬‬

‫‪60‬‬

‫وبي���ن للحاضرين أن‬ ‫نقط���ة توازن دول���ي بين جميع األم���م‪ّ ..‬‬ ‫يمكنهم من دراسة الكثير من القضايا‬ ‫التح ّلي بالوعي الجمعي ّ‬ ‫الحساسة في حياة البشر اليوم‪.‬‬ ‫تبين للحاضري���ن أثناء تجوالهم من كلمة افتتاحية‬ ‫إل���ى هنا ّ‬ ‫إل���ى أخرى‪ ،‬المعاني العامة لمفهوم "اإلجماع" وأبعاد "الوعي‬ ‫الجمعي"‪ ،‬لتأتي المحاض���رة االفتتاحية للدكتور "علي جمعة"‬ ‫مفت���ي الدي���ار المصري���ة الس���ابق‪ ،‬لتزيح الغم���وض عن بعض‬ ‫القضايا المحورية المتعلقة بموضوع المؤتمر‪ ،‬من حيث داللة‬ ‫المصطل���ح وأبع���اد توظيف���ه وتفعيله‪ ،‬فأورد فيه���ا أن اإلجماع‬ ‫ممتل���ك للحجية والمصدري���ة ما دام محت���واه متص ًفا باالتفاق‬ ‫الت���ام بي���ن المجتهدي���ن‪ ،‬أم���ا إن ش���ابه بع���ض االخت�ل�اف من‬ ‫بعضهم‪ ،‬فإنه يتحول من المصدرية إلى االس���تئناس‪ ،‬والشرط‬ ‫مبنيا على العلم‬ ‫األساس���ي في ه���ذا االعتبار‪ ،‬أن يكون ال���رأي ًّ‬ ‫واالجتهاد ال عن جهل وادعاء‪.‬‬ ‫ث���م رك���ز الدكتور "علي جمعة" عل���ى أنه ليس من الحكمة‬ ‫حصر "اإلجماع" على أمور الشريعة‪ ،‬إذ من خصائصه أنه عام‬ ‫وبين‬ ‫عل���ى أم���ور الحياة كله���ا بمختلف علومه���ا ومجاالتها‪ّ ..‬‬ ‫أن مس���ائل اإلجم���اع معدودة‪ ،‬ومس���ائل اختالف ال���رأي كثيرة‬ ‫وعدي���دة‪ ،‬فللحف���اظ على وح���دة األمة‪ ،‬وجب احت���رام الرأي‬ ‫غالبا ما يك���ون االختالف في األمور المتغيرة‬ ‫المخال���ف‪ ،‬ألنه ً‬ ‫ال في الثابت منها‪.‬‬


‫والمربين‪ ،‬فعليهم أن ينش���ئوا‬ ‫‪ -4‬الداع�������ي التربوي‪ :‬وهو دور العلماء‬ ‫ّ‬ ‫ظية‬ ‫األجيال القادمة على اإلخاء والود والمحبة‪ ،‬وعليهم َك ْب ُح ِجماح َ‬ ‫الت ْش َ‬ ‫وي ِح ّلوا محلها معاني الوئام واالجتماع‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫والت َش ْر ُنق ُ‬ ‫ملبين‬ ‫وتوالت كلمات السادة العلماء القادمين من كل حدب وصوب‪ّ ،‬‬ ‫نداء الجمع واإلجماع‪ ..‬فمن السودان قدم الدكتور "عصام البشير" الذي‬ ‫أك���د بحرقة في كلمته‪ ،‬على أن كلمة "الوعي" الواردة في عنوان المؤتمر‪،‬‬

‫ت���دل عل���ى االنتباه واليقظة بعد الغفلة‪ ،‬وبالتالي فإن الوعي باإلجماع يأتي‬ ‫تحقي ًق���ا لمفه���وم األمة "الش���املة" التي تنش���د "الوح���دة" وتعتب���ر التعددية‬ ‫والتنوع من منطلق قاعدتين‪ ،‬هما وحدة الخالق وتعدد الخلق‪.‬‬

‫أ‪.‬د‪ .‬سيف الدين عبد الفتاح‪ ،‬جامعة القاهرة ‪ /‬مصر‪.‬‬

‫وم���ن الوالي���ات المتح���دة األمريكية جاءت رس���الة األس���تاذ "فتح اهلل‬

‫الش���مل‪ ،‬وحا ّثة على حمل‬ ‫كول���ن"‪ ،‬عابق���ة بأريج الوف���اق‪ ،‬وداعية إلى َل ّم َّ‬ ‫هم األمة‪ِ ،‬‬ ‫فم َّما جاء فيها‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫ال بديلة‬ ‫"وال���كل يأمل أن يقدم علماؤنا في هذا االجتماع البالغ‪ ،‬حلو ً‬

‫لمعضالتن���ا المزمنة‪ ،‬مس���تقاة من مصادرنا األساس���ية"‪ ،‬وفي س���ياق َت ْبيِين‬ ‫وتجلي���ة موط���ن ال���داء‪ ،‬ومكمن معاناة اإلنس���انية عبر التاري���خ‪ ،‬ثم تحديد‬ ‫مالم���ح‬ ‫الح���ل واالنعتاق يقول األس���تاذ فتح اهلل‪" :‬وكما ه���و معلوم لدى‬ ‫ّ‬

‫جمعك���م الكريم‪ ،‬فإن النظم المفروضة على اإلنس���انية قاطبة‪ ،‬خالل قرن‬ ‫ش���يئا ول���م تزدها إال‬ ‫اضطرابا وش���قاء‪..‬‬ ‫أو قرني���ن أخيري���ن‪ ،‬ل���م ُت ْغ ِن عنها ً‬ ‫ً‬

‫د‪ .‬سمير بودينار‪ ،‬مدير مركز الدراسات والبحوث اإلنسانية واالجتماعية ‪ /‬المغرب‪.‬‬

‫فلذل���ك نعتق���د جازمي���ن أن���ه إن كان هن���اك جو يس���مح لبني اإلنس���ان أن‬

‫يتن ّفس���وا منتعش���ين‪ ،‬فما هو إال جو اإلس�ل�ام‪ ..‬وهذا الجو لم يزل كالبحر‬

‫قط باألدران‬ ‫ال���ذي ال تس���كن أمواجه‪،‬‬ ‫يتكدر ّ‬ ‫نديا عمي ًق���ا‪ ،‬ال ّ‬ ‫طاه���را ً‬ ‫أبدا‪ًّ ،‬‬ ‫ً‬

‫الفكري���ة ألي زم���ان أو م���كان‪ .‬لكن الوص���ول إليه وتمام االس���تفادة منه‪،‬‬ ‫وتس���ديدا لزاوي���ة النظر‪،‬‬ ‫تثبيتا ِل ّلن ّية‪،‬‬ ‫الهمة‬ ‫ً‬ ‫دائم���ا يتطل���ب ً‬ ‫ًّ‬ ‫ظ���ل ً‬ ‫وعل���وا في ّ‬ ‫وثبا ًت���ا في المثابرة‪ ،‬وصد ًقا في التوجه‪ ،‬وثقة باألس���س واألصول"‪ ..‬وعن‬ ‫التناول األمثل للمصادر األساس���ية في التش���ريع اإلس�ل�امي‪ ،‬واالس���تفادة‬ ‫منه���ا وتفعيلها في حياة اإلنس���ان المس���لم‪ ،‬يقول األس���تاذ فتح اهلل‪" :‬وإني‬

‫ش���خصيا أعتقد‬ ‫جازما بأننا إذا تناولنا مصادرنا األصلية والفرعية لثقافتنا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬

‫الشيخ محمد سعد أبو بكر‪ ،‬رئيس المجلس األعلى للشؤون اإلسالمية ‪ /‬نيجيريا‪.‬‬

‫من القرآن والس���نة واإلجماع والقياس واالستحس���ان وغيرها‪ ،‬واس���تفدنا‬

‫منها على غرار المخاطبين بها في القرون األولى‪ ،‬فإننا سنتغ ّلب على كثير‬ ‫من معضالت عصرنا المس���تعصية على الحل‪ ،‬وستنكس���ر كثير من أمواج‬

‫األزم���ات والدواهي المتالطمة التي تنتظرنا في المس���تقبل‪ ،‬أو ستتالش���ى‬

‫أضرارها في أقل تقدير"‪.‬‬

‫بعده���ا تحدث الش���يخ "محمد س���عد أب���و بكر" من نيجيري���ا‪ ،‬عن أحد‬

‫األه���داف الس���امية‬ ‫المتوخاة من هذا المؤتم���ر‪ ،‬وهي وضع خارطة طريق‬ ‫ّ‬ ‫مش���تركة ترس���م مالم���ح "اإلجم���اع" بين المس���لمين‪ ،‬وأك���د على وجوب‬

‫االهتم���ام بالتربي���ة والتعليم وجمي���ع الظروف المحيطة بهم���ا‪ ،‬باعتبارهما‬

‫أ‪.‬د‪ .‬علي جمعة‪ ،‬مفتي الديار المصرية السابق‪.‬‬

‫‪59‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )38‬‬


‫ف���ي التاريخ وقطع المس���افات‪ ،‬بهدف الغوص ف���ي حياة الصحابة الكرام‬

‫وحياة العلماء األفذاذ والفقهاء المخلصين‪ ،‬الستخراج المعايير األساسية‬ ‫في تأسيس فكر وثقافة اإلجماع في األمة‪.‬‬

‫وغردت على لس���ان‬ ‫وف���ي نف���س س���ياق "يني أميت" س���ارت "ح���راء" ّ‬

‫ع���زف عل���ى أوت���ار قلوب‬ ‫ُم ِ‬ ‫ش���رفها الع���ام األس���تاذ "ن���وزاد ص���واش"‪ ،‬إذ َ‬

‫الحاضرين حين رحب بهم أجمل ترحيب‪ ،‬ونثر عبارات الشكر واالمتنان‬ ‫د‪ .‬محمد مصطفى الياقوتي‪ ،‬وزير الدولة في وزارة اإلرشاد واألوقاف ‪ /‬السودان‪.‬‬

‫َو ْر ًدا فوق رؤوسهم‪.‬‬

‫اس���تعرض األس���تاذ "ن���وزاد" ف���ي بداية كلمت���ه‪ ،‬حال األمة اإلس�ل�امية‬

‫ال ع���ن الحلول التي من‬ ‫واألزم���ات المتعددة التي ترس���م مالمحه‪ ،‬متس���ائ ً‬ ‫تغي���ر حاله إلى األحس���ن‪ ..‬فأكد على أن اإلجم���اع واالجتماع‪،‬‬ ‫ش���أنها أن ّ‬

‫حل ال بديل عنه‪ ،‬فلتجتمع ألسنة هذه األمة وقلوبها‬ ‫والتوافق واالنسجام‪ّ ،‬‬ ‫على الدعاء‪ ،‬ولتتناغم جهودها في اإلصالح‪ ،‬فالربيع ال يتج ّلى في وردة‬

‫واحدة‪ ،‬وإنما في زهور وورود متجاورة متناسقة‪.‬‬ ‫وفي إش���ارة إلى أن هذا المؤتمر ِ‬ ‫بك َبر حجمه وعمق معانيه وأصالتها‪،‬‬ ‫ال عن ما سبقه‪ ،‬فله ما قبله وله ما بعده‪ ..‬فمن خالل اللقاءات‬ ‫ليس مفصو ً‬ ‫وترس���خت‬ ‫والن���دوات العلمي���ة والفكرية المنظمة من قبل‪ ،‬زادت األلفة‪،‬‬ ‫ّ‬

‫أ‪.‬د‪ .‬نادية مصطفى‪ ،‬جامعة القاهرة ‪ /‬مصر‪.‬‬

‫أس���س المحب���ة في نف���وس كل المش���اركين فيها‪ ،‬فهذا ه���و األصل‪ ،‬وهذا‬ ‫ُ‬ ‫هو المنبع الذي منه تنبثق الجهود الس���ديدة‪ ،‬وبه تنبت األصول الخيرة‪..‬‬ ‫فاإلنسانية بحاجة إلى قلوب ّلينة رحيمة‪ ،‬وأيا ٍد تخفف معاناتها وتأخذ بها‬ ‫إلى دوحة اإلخاء والتآلف‪.‬‬ ‫وف���ي أول���ى المداخالت للعلماء الحاضرين‪ُ ،‬منح���ت الكلمة للدكتور‬

‫"أحمد عبادي" األمين العام للرابطة المحمدية للعلماء بالمملكة المغربية‪،‬‬ ‫فش َكر ا َ‬ ‫الحدث المشهود‪ ،‬الذي‬ ‫وحمده‪ ،‬وأثنى على منظمي هذا‬ ‫هلل تعالى‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ثابتا في أصول الش���ريعة اإلس�ل�امية إلى حياة‬ ‫م���ن ش���أنه أن ُيخرج‬ ‫ً‬ ‫أص�ل�ا ً‬ ‫فرقة واخت�ل�اف‪ ،‬فجذوره األص���ل تبدأ من‬ ‫الن���اس‪ُ ،‬لينه���ي م���ا بينهم م���ن ْ‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬سعاد يلدريم‪ ،‬جامعة الفاتح ‪ /‬تركيا‪.‬‬

‫وتزكت‪ ،‬لتثمر ثمار التوافق والمحبة‪.‬‬ ‫تطهرت‬ ‫ّ‬ ‫القلوب إذا ّ‬

‫وتن���اول الدكتور"عب���ادي" بالش���رح ُجمل��� ًة م���ن الدواع���ي الت���ي ُت َف ِّعل‬ ‫ِ‬ ‫وترسخ "الوعي الجمعي" وهي أربعة‪:‬‬ ‫"اإلجماع"‬ ‫ّ‬ ‫‪ -1‬الداع�������ي البرهاني‪ :‬فكي���ف ألمة متفرق���ة متش���رذمة أن تقنع الغير‬ ‫يوحدوا كلمتهم‪ ،‬ليكون‬ ‫بخيريته���ا‬ ‫وأفضليتها!؟ فعلى المس���لمين اليوم أن ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ِل َص ْوتهم صدى في اآلفاق وفي قلوب الناس‪.‬‬ ‫‪ -2‬الداع�������ي التش�������ريعي‪ :‬يفيد الوج���وب‪ ،‬ألن اآلي���ات القرآني���ة تأمر‬

‫باإلجماع وتدعوا إليه في أكثر من موضع‪.‬‬

‫‪ -3‬الداعي الواقعي‪ :‬فهناك على رقاب األمة سيوف مس ّلطة‪ ،‬تتمثل في‬

‫أ‪.‬د‪ .‬أحمد عبادي‪ ،‬األمين العام للرابطة المحمدية للعلماء ‪ /‬المغرب‪.‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )38‬‬

‫‪58‬‬

‫قضاي���ا اجتماعية وحضارية حارقة البد من تفكيكها وتحليلها‪ ،‬والوصول‬

‫تخمد لهيبها المتواصل‪.‬‬ ‫إلى حلول عملية ّ‬


‫أنشطة ثقافية‬

‫عبد العزيز بن عمر*‬

‫مؤتمر "اإلجماع والوعي الجمعي"‬ ‫يؤكد على روح التوافق واإلخاء‬ ‫ظل���ت األم���ة اإلس�ل�امية من���ذ ق���رون خل���ت‪،‬‬

‫تنظيم مجلتي "حراء" و"يني ُأ ِميت"‪.‬‬

‫التي تنامت وتكاثرت وتكالبت عليها‪ ،‬فغدت‬

‫خشوع صدى آيات اهلل تعالى الداعية إلى الوحدة و َل ّم الشمل‪،‬‬ ‫ٍ‬

‫تبح���ث في ش���غف عن ما يبرئها من أس���قامها‬

‫كجمع من الناس تائه بين الفيافي والقفار‪ ،‬يغدو يمنة ويس���رة‬ ‫شرب َة ماء تنهي ظمأه وتبعث روحه‪ ،‬فال السراب ينجيه‪،‬‬ ‫ً‬ ‫مبتغيا ْ‬

‫وال القط���رات المتناثرة تكفيه‪ ..‬تكاد األنفاس تنقطع والعزائم‬

‫منشودا‪ ،‬وتضافر الجهود‬ ‫تخور‪ ،‬فما له غير تآلف القلوب هد ًفا‬ ‫ً‬ ‫وتوجه بالدعاء المخلص للرحمن الودود‪.‬‬ ‫دؤوبا‬ ‫ال‬ ‫عم ً‬ ‫ّ‬ ‫ً‬

‫بصوت ش���جي ن���ادى من���ادي التوافق واإلجم���اع من بالد‬

‫فه���ب أه���ل اله���م الواح���د م���ن مش���ارق األرض‬ ‫األناض���ول‪،‬‬ ‫ّ‬

‫ملبين‪َ ..‬ل َّبيك نداء المحب���ة‪َ ..‬ل َّبيك نداء‬ ‫ومغاربه���ا مستبش���رين ّ‬

‫المودة‪َ ..‬ل َّبيك نداء اإلخاء‪.‬‬

‫م���ن ثمانين دولة جاؤوا‪ ،‬يتقدم الركب أكثر من س���ت مائة‬

‫عال���م‪ ،‬يتبعه���م أزيد م���ن أربعة آالف مش���تاق قاصدين حضن‬ ‫تركي���ا الداف���ئ‪ ،‬ليش���هدوا منافع له���م‪ ،‬ويذكروا اهلل ويس���رعوا‬

‫الخط���ى إلي���ه‪ .‬إذ احتضن مركز المؤتمرات بإس���طنبول‪ ،‬يومي‬

‫عالميا حول موضوع‬ ‫دولي���ا‬ ‫‪ 27‬و‪ 28‬أبري���ل ‪2013‬م‪،‬‬ ‫ًّ‬ ‫مؤتمرا ًّ‬ ‫ً‬

‫وسلوكا" من‬ ‫وروحا وثقافة‬ ‫فقها‬ ‫ً‬ ‫"اإلجماع والوعي الجمعي‪ً ..‬‬ ‫ً‬

‫ج���و مهيب وجم���ع غفير‪ ،‬ي���ردد في‬ ‫افتت���ح المؤتم���ر ف���ي ّ‬

‫الناهي���ة ع���ن التفرق والتش���تت والتنازع‪ ،‬تاله���ا المقرئ "رضا‬

‫كوناي" بنفس خاشعة ودموع حارقة‪.‬‬

‫وف���ي مس���تهل الكلم���ات االفتتاحي���ة لمنظم���ي وضي���وف‬ ‫المؤتم���ر‪ ،‬اعتال المنصة الدكتور " َأ ْرك���ون جابان" مدير تحرير‬ ‫ليركز ف���ي كلمته عل���ى أن التحدث عن‬ ‫مجل���ة "ين���ي ُأ ِمي���ت"‪ّ ،‬‬ ‫اإلجم���اع الي���وم يأتي في س���ياق م���ا أورده اهلل تعال���ى في كتابه‬

‫‪‬ك ْن ُت ْم َخ ْي َر‬ ‫الكري���م ف���ي وصفه لخيرية األمة‪ ،‬إذ يقول تعال���ى‪ُ :‬‬ ‫ِ‬ ‫ُأ َّم��� ٍة ُأ ْخ ِر َج ْت ِل َّلن ِ ْ‬ ‫���و َن َع ِن ا ْل ُم ْن َك ِر‬ ‫���ر َ‬ ‫ون بِا ْل َم ْع ُروف َو َت ْن َه ْ‬ ‫اس َتأ ُم ُ‬ ‫ون بِا ِ‬ ‫هلل‪(‬آل عمران‪)110:‬؛ فاإلجماع هنا‪ ،‬إجماع األمة على‬ ‫َو ُت ْؤ ِم ُن َ‬ ‫األمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪.‬‬ ‫ويضي���ف الدكت���ور "جاب���ان"‪ ،‬أن لإلجم���اع قيمة في حياة‬

‫المس���لم‪،‬‬ ‫ودورا في تحديد هويته‪ .‬فالمس���لمون بحاجة ماس���ة‬ ‫ً‬

‫ال‪ ،‬وفي أوساطهم‬ ‫اليوم إلى زرع ثقافة اإلجماع في نفوسهم أو ً‬ ‫ثاني���ا‪ ..‬ث���م اختت���م المتحدث باس���م مجلة "يني أمي���ت" كلمته‬ ‫ً‬

‫مذك ًرا‬ ‫ومؤكدا على وجوب الس���فر‬ ‫متوجه���ا إل���ى الحاضرين‪ّ ،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫‪57‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )38‬‬


‫ألس���اس الدي���ن في نف���وس أبناء وطن���ه‪ ،‬فجعل إنق���اذ اإليمان‬

‫التغيير‪ ،‬وما أوصلت إليه من مآزق‪ ،‬إال دليل واضح على ذلك‪.‬‬

‫موس���وعته التفس���يرية الش���هيرة "كليات رس���ائل النور"‪ ،‬والتي‬

‫ِ���ن عل���ى تل���ك األزمة‪ .‬أم���ا االعتم���اد عليها‬ ‫الحديث���ة‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫مث���ال ّبي ٌ‬

‫ومع َلم مش���روعه المبثوث في‬ ‫أس���اس رس���الته ولحمة أفكاره َ‬ ‫حافظ���ت بتأثير من طالبه الكثر‪ ،‬على معاني اإليمان واالنتماء‬ ‫حية في نفوس فئات واسعة من أبناء تركيا‪.‬‬

‫التح���ول األه���م التجاه اإلصالح الش���امل‬ ‫غي���ر أن بداي���ة‬ ‫ّ‬

‫والبن���اء المجتمع���ي المنطلق من ذات األس���س‪ ،‬كان في نهاية‬

‫ولع���ل مش���كلة أدوات العم���ل السياس���ي ف���ي ظ���ل الدولة‬

‫طري ًق���ا للبناء ف���ي دولة ما بعد االس���تقالالت الوطنية في عالم‬

‫المس���لمين‪ ،‬فتل���ك معضلة أخرى ال تق���ل نتائجها خطورة وال‬ ‫انسدادا‪.‬‬ ‫أفقها‬ ‫ً‬

‫إذ بالرغ���م م���ن أن حركات التغيير ف���ي المجال العام اليوم‬

‫الستينيات من القرن الماضي‪ ،‬حين انطلقت "حركة مجتمعية"‬

‫وخاصة تلك التي تصدر عن اإلس�ل�ام مرجعية‪ ،‬تمثل استعادة‬

‫جديدا هو‬ ‫نموذج���ا‬ ‫الم���دارس التربوي���ة والفكري���ة‪ ،‬فأبدع���ت‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫نم���وذج "الخدم���ة"‪ .‬كان ذل���ك بتأثي���ر م���ن العا ِل���م والمفك���ر‬

‫الحدي���ث‪ ،‬ومحاول���ة اس���تثماره ف���ي التغيير المطل���وب‪ .‬إال أن‬

‫جدي���دة‪ ،‬اس���تفادت م���ن تراث رس���ائل الن���ور‪ ،‬وم���ن غيره من‬

‫"محم���د فت���ح اهلل كول���ن"‪ ،‬الذي جم���ع في ه���ذه التجربة بين‬

‫التربية الش���املة لإلنس���ان‪ ،‬وإطالق مقومات فعاليته الحضارية‬

‫في عصره‪ ،‬ليس���تأنف إنتاج النموذج المثالي لـ"عصر السعادة"‬

‫(عص���ر النب���وة والصحابة) عل���ى جميع المس���تويات‪ ،‬بل وفي‬ ‫بعيدا عن العمل السياسي المباشر‪،‬‬ ‫س���احات العالم المختلفة‪ً ،‬‬ ‫لكن في عمق الفعل المجتمعي والحضاري‪.‬‬

‫واس���عا في العال���م العربي بدأ يتبلور في‬ ‫اهتماما‬ ‫ورغم أن‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫الدوائ���ر العلمية والفكرية بهذه التجرب���ة وفكر صاحبها خالل‬ ‫خصوصا‪ ،‬إال أن رس���ائل الح���راك الراهن‪ ،‬ربما‬ ‫العق���د األخير‬ ‫ً‬ ‫قويا لمزيد من التفاعل معها‪ .‬ذلك أن مس���ؤولية‬ ‫دافع���ا ًّ‬ ‫كان���ت ً‬ ‫اللحظ���ة الراهن���ة‪ ،‬بمخاطره���ا وتحدياته���ا واأله���م م���ن ذلك‬

‫بدروس���ها المس���تفادة‪ ،‬تلق���ي على النخ���ب الفكرية مس���ؤولية‬

‫يمكن وصفها بأنها "أمانة اللحظة"‪ ،‬وهي بناء قواعد ما يسميه‬ ‫المفكر المصري حامد ربيع "التدبر اإلس���تراتيجي"‪ ،‬ومنطلقه‬

‫ق���راءة متأني���ة للخالص���ات المتأتي���ة إل���ى اآلن م���ن واقع هذا‬

‫الح���راك وما أوقع���ه من أحداث متتالي���ة‪ ،‬لتلمس الخطى على‬

‫طريق المستقبل‪.‬‬

‫إن المالح���ظ المتفحص في األزمات التي يعيش���ها عالمنا‬

‫الي���وم‪ ،‬وه���ذا المجال الحض���اري العربي اإلس�ل�امي منه على‬ ‫وج���ه التحدي���د‪ ،‬ي���درك أن جوهر تل���ك األزم���ات الماثلة إنما‬ ‫ه���و الضعف الش���ديد ف���ي األدوات الراهنة للتعام���ل مع هذه‬

‫األزمات‪ ،‬أو التي يعتقد أنها ال زالت قادرة على إحداث التغيير‬ ‫ف���ي واقع المجتم���ع وبناء نموذج���ه الحض���اري الفاعل‪ .‬وما‬ ‫المح���اوالت الدؤوبة والمتكررة باس���تخدام ذات األدوات في‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )38‬‬

‫‪56‬‬

‫واعي���ة أو غي���ر واعية‪ -‬لتراث الفك���ر اإلصالحي والنهضوي‬‫صورة الواقع االجتماعي والسياسي المعقدة من جهة‪ ،‬وعدم‬ ‫وجود نموذج تطبيقي يصلح البناء على خبراته من جهة ثانية‪،‬‬

‫أصبحا مؤذنين بحالة من االنس���داد في أفق التغيير‪ ،‬ما لم نلق‬

‫الس���مع لتج���ارب أخرى ونم���اذج عملية س���ابقة نجحت على‬ ‫ذات المسعى‪.‬‬

‫وال���ذي يب���دو أن اتح���اد مش���كالت مجتمع���ات عالمنا في‬

‫الن���وع‪ ،‬بما يتجاوز القدرة على التعامل معها وفق رؤية محلية‬ ‫وخاص���ة‪ ،‬وبش���كل منفصل عن س���ياقها الكون���ي‪ ،‬ومحدودية‬ ‫التأثير من خالل مؤسس���ات الدول���ة الحديثة‪ ،‬أصبحا يوجهان‬ ‫إلينا رسائل ُم ِل ّحة تتعلق بالبدأ من حيث ينبغي أن يكون البدأ‪:‬‬

‫صحيحا يؤهله ليك���ون مفتاح التغيير ومادته‬ ‫بناء‬ ‫ً‬ ‫بناء اإلنس���ان ً‬

‫وموضوعه‪ ،‬وذلك من خالل وجوده في كافة مؤسسات مجتمعه‬

‫التغير في عالمنا الذي‬ ‫وأمته‪ .‬بل ليكون مثا ً‬ ‫ال يتحقق به نموذج ّ‬

‫طالما افتقد الوجهة والمعنى‪ ،‬وذلك حين يتأتى لهذا اإلنس���ان‬

‫مي���راث األرض ال���ذي ل���م يكتب���ه اهلل إال لعب���اده الصالحي���ن‪.‬‬ ‫تلك���م ه���ي مهمة القيام بأمانة الش���هادة تج���اه واقع عالمنا‬

‫عالم المسلمين الذي ُتعلمنا خبراته التاريخية والواقعية‬ ‫الذاتي‪ِ ،‬‬ ‫طريق‬ ‫على الس���واء أال نستعظم المهمة أو نس���تطول الطريق‪..‬‬ ‫َ‬ ‫المؤهل لخدمة أمته وعالمه‪.‬‬ ‫بناء اإلنسان‬ ‫ّ‬

‫(*) مدير مركز الدراسات والبحوث اإلنسانية واالجتماعية ‪ -‬وجدة ‪ /‬المغرب‪.‬‬

‫الهوامش‬

‫(‪ )1‬المالم���ح العامة للفكر السياس���ي اإلس�ل�امي في التاري���خ المعاصر‪ ،‬لطارق‬ ‫البشري‪.‬‬


‫ال م���ن الضع���ف‬ ‫المس���لمين يعي���ش ح���ا ً‬

‫والتراجع الش���ديد في حيويت���ه الفكرية‬

‫وبنائه الحضاري‪ .‬في حين كان النموذج‬ ‫شكله تضافر عوامل‬ ‫الوافد يعرف‬ ‫صعودا َّ‬ ‫ً‬ ‫تبدت في ش���كل ق���وة حضارية‪،‬‬ ‫متعددة ّ‬ ‫مندفع���ة بق���وة األف���كار واالقتص���اد‬

‫اختصارا في‬ ‫والس�ل�اح أو م���ا يرمز إلي���ه‬ ‫ً‬ ‫اللغ���ة الفرنس���ية (لغة رواد االس���تعمار)‬ ‫بـ"الميم���ات الث�ل�اث" ‪:‬‬

‫(�‪Les trois M: Mis‬‬

‫‪.)sionaires, Militaires,Marchands‬‬

‫أما الس���بب اآلخر في اس���تمرار آثار‬

‫الصدم���ة إل���ى الي���وم‪ ،‬فه���و أن فعلها لم‬

‫مرجعية في هذا السعي‪.‬‬

‫احت��اد م�شكالت جمتمع��ات عاملنا‬ ‫يف الن��وع‪ ،‬وحمدودي��ة الت�أثري من‬ ‫خالل م�ؤ�س�سات الدولة احلديثة‪،‬‬ ‫�أ�صبح��ا يوجه��ان �إلين��ا ر�سائ��ل‬ ‫ُم ِل ّحة تتعلق بالبد�أ من حيث ينبغي‬ ‫بناء‬ ‫�أن يك��ون البد�أ‪ :‬بناء الإن�سان ً‬ ‫�صحيح��ا ي�ؤهل��ه ليك��ون مفتاح‬ ‫ً‬ ‫التغي�ير ومادت��ه ومو�ضوع��ه‪،‬‬ ‫وذلك من خالل وجوده يف كافة‬ ‫م�ؤ�س�سات جمتمعه و�أمته‪.‬‬

‫يقتص���ر على لحظة اللق���اء االضطراري‬ ‫نفس���ه‪ ،‬سواء تجلت في انطالق الحملة‬

‫وفي الحالتين اللتين مثلتا المحطتين‬

‫البارزتي���ن له���ذا الص���دام األلي���م كان���ت‬ ‫المحاوالت المؤسس���ة له���ذا االنبعاث‪.‬‬ ‫وألن الس���ياق التاريخ���ي بظروف���ه‬

‫وموازين���ه حاكم ف���ي هذا الس���ياق‪ ،‬فقد‬

‫انطلق���ت الحركة النهضوية منذ أزيد من‬ ‫ق���رن ونص���ف في الش���رق م���ع العلماء‬

‫المس���لمين اإلصالحيي���ن‪ ،‬م���ن أمث���ال‬

‫جم���ال الدي���ن األفغاني وعب���د الرحمن‬ ‫الكواكبي‪ ،‬ومحمد عبده ورش���يد رضا‪..‬‬

‫فكان لهؤالء النصيب األوفى من التأثير‬

‫فيما ش���هدته مصر من انطالق الحركات‬ ‫اإلس�ل�امية ف���ي نهاي���ة العش���رينات م���ن‬

‫الفرنسية على المشرق ومركزه مصر عام ‪ 1798‬والتي وطأت‬

‫القرن الماضي‪ ،‬في مس���ار من االنتقال في األهداف المرحلية‬

‫المخطط الطويل والممتد لتفكيك اإلطار الجامع لمجتمعات‬

‫م���ؤرخ مه���م له���ذه التجربة بقول���ه‪" :‬قد أرس���ى األفغاني فكرة‬

‫خالله���ا خيل "نابليون بونابارت" باحات األزهر‪ ،‬أو في نجاح‬

‫المس���لمين بس���قوط الدول���ة العثمانية‪ ،‬وقبل ذل���ك في احتالل‬

‫الحلف���اء ‪-‬بعد الحرب العالمية األولى‪-‬‬ ‫عاصمتها التي مثلت‬ ‫َ‬

‫جميعا‪.‬‬ ‫موشوما في الذاكرة الجماعية للمسلمين‬ ‫رمزا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫طبع���ه التأثير والتأثر المتبادل بي���ن المراحل المتعاقبة‪ ،‬يلخصه‬ ‫اإلس�ل�ام المجاه���د‪ ،‬وأض���اف محمد عبده فك���رة التجديد في‬ ‫الفقه والتفس���ير‪ ،‬وتابع محمد رش���يد رضا الربط بين التجديد‬

‫والس���لفية والتفاعل مع السياس���ات الوطنية‪ ،‬وأضاف حس���ن‬

‫بعب���ارة أخ���رى‪ ،‬إن أخطر آثار صدم���ة االحتالل األجنبي‪،‬‬

‫البنا ش���مولية اإلس�ل�ام والترابط الوثيق بين العقيدة والش���ريعة‬

‫واالجتماعي لعالم المسلمين‪ .‬وهكذا بدأ التشوه في اإلدراك‪،‬‬

‫كان ذل���ك هو اإلطار النظ���ري والحركي الذي تراكم عبره‬

‫أنه عبث باألس���س التي ش���كلت النموذج الثقاف���ي والمعنوي‬ ‫والهزيم���ة النفس���ية‪ ،‬واالس���تتباع في الفكر المنت���ج للتقليد في‬

‫أسلوب التفكير ونمط الحياة‪ ..‬فكأنما انتقل المسلمون ليبدأوا‬ ‫رحلة قس���رية عاش���وا خالله���ا‬ ‫غي���ر تاريخهم‪ ،‬فخرجوا‬ ‫ً‬ ‫تاريخا ْ‬

‫بذلك من مس���ارهم الحضاري الخاص إلى مس���ارات ال تزال‬ ‫مفتوحة على األزمات المتتابعة‪.‬‬

‫والسياسة وبين الفكر والتنظيم الحركي"(‪.)1‬‬

‫التراث الفكري والرؤية الحركية لإلصالح والتغيير التي أ ّثثت‬

‫ف���ي الغال���ب‪ -‬الفض���اء العربي واإلس�ل�امي‪ .‬ولع���ل الحراك‬‫الذي يشهده اآلن هذا المجال‪ ،‬هو حصيلة ساهمت فيها تلك‬ ‫تجليا‬ ‫جميع���ا‪ ،‬فكانت‬ ‫األف���كار واآلراء‬ ‫واقعي���ا لنتاج أزيد من‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫قرن ونصف قرن من المحاوالت‪.‬‬

‫كان ه���ذا الواقع الجديد مؤذ ًنا بانبعاث الفكر اإلصالحي‬

‫ف���ي نف���س المرحل���ة الت���ي انطلق فيه���ا ما أضحى يس���مى‬

‫اس���تئناف حياتهم على أس���س من ذاتيتهم المعنوية والفكرية‪،‬‬

‫الواقع (س���قوط الدول���ة العثمانية) ونفس األس���باب التاريخية‬

‫والنهض���وي التجدي���دي ف���ي عالم المس���لمين‪ ،‬في س���عي إلى‬

‫ليستطيعوا إعادة إنتاج نموذجهم الثقافي والمجتمعي الخاص‪،‬‬ ‫فيتخط���وا وه���دة الخض���وع لس���لطة النم���وذج الواف���د بالق���وة‬

‫العسكرية والعلمية‪ ،‬ويؤسسوا من جديد عمرانهم الحضاري‪،‬‬ ‫مرتبطي���ن في ذلك كله بنموذجه���م التاريخي المضيء كعالمة‬

‫عل���ى نط���اق واس���ع "اإلس�ل�ام الحرك���ي"‪ ،‬وبدافع م���ن ذات‬ ‫والحضاري���ة‪ ،‬ظه���رت ف���ي تركي���ا مدرس���ة موازية لتل���ك التي‬

‫جسدتها النهضوية اإلصالحية وامتدادها مع االتجاه الحركي‬ ‫ف���ي المج���ال العرب���ي‪ .‬كان رائ���د تلك المدرس���ة هو األس���تاذ‬

‫بديع الزمان "سعيد النورسي" الذي بدا أمامه الزحف المهدد‬

‫‪55‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )38‬‬


‫قضايا فكرية‬ ‫د‪ .‬سمير بودينار*‬

‫ما ال���ذي يحدث في عالمنا؟ ما الكامن خلف‬

‫عالم المس���لمين‪ ،‬وكأنها إيذان بالدخول في طور جديد‪ ،‬لكن‬

‫م���ا يقع م���ن أحداث جارف���ة لمعال���م المعتاد‬

‫جوانب المشهد‪ ،‬وأكثرها‬ ‫استدعاء للتوقف والتأمل والبحث‪.‬‬ ‫ً‬

‫ه���ذه المش���اهد والتحوالت الجاري���ة فيه؟ هل‬

‫ه���و بداي���ة أم نهاي���ة؛ نهاية صورة واقع عش���ناه خالل أزيد من‬

‫ق���رن من الزم���ان مض���ى‪ ،‬تفاعلت في���ه الطموح���ات واألفكار‬ ‫باألح���داث؟ أم بداي���ة مرحلة جديدة نس���تفيد فيه���ا من دروس‬

‫هذا الماضي فتتأس���س معالم جديدة لالهتداء؛ اهتداء اإلنسان‬ ‫ف���ي نظره الفكري وس���عيه الواقعي‪ ،‬واهت���داء المجتمعات إلى‬

‫طوي�ل�ا‪ ،‬ثم أتت عليه‬ ‫تج���اوز معضالت الواق���ع الذي كابدته‬ ‫ً‬

‫رياح االقتالع والتغيير العاصفة التي ال ُتعرف وجهتها وال إلى‬ ‫أين مستقرها وقرارها‪.‬‬

‫تب���دو ص���ورة المش���هد الماث���ل لعالمن���ا‪ ،‬المل���يء بالقل���ق‬

‫واالضطراب‪ ،‬وخاصة ظالل هذا المش���هد على مجتمعاتنا في‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )38‬‬

‫‪54‬‬

‫أحدا ال يعرف طبيعته أو يتصور شكله ومعالمه‪ ...‬وهذا أخطر‬ ‫ً‬ ‫تحو ٌل بحجم ما يحدث حولنا‪ ،‬وما يصاحبه من‬ ‫لقد أنتج ّ‬

‫أحداث ضاغطة على الوعي ضغطها على المش���اعر‪ ،‬وارتفاع‬

‫لص���وت العواطف والمطال���ب‪،‬‬ ‫إنحيازا له���ذه الجهة أو تلك‪،‬‬ ‫ً‬

‫واقعا‬ ‫جدي���دا‪ ،‬ملتهبا‪ ...‬وهو‬ ‫ً‬ ‫أو ه���ذا المطل���ب أو ذاك؛ أنت���ج ً‬ ‫ينبغي أن يكون ُم ِ‬ ‫ال إلرادة أداء األمانة الخطيرة‪ ،‬أمانة التدبر‬ ‫شع ً‬ ‫قياما بأمانة الشهادة‪.‬‬ ‫فيما حولنا‪ ،‬والتفكير في مآالته وعواقبه‪ً ،‬‬ ‫ال يختل���ف اثن���ان أن صدم���ة اللق���اء بي���ن منظوم���ة الغرب‬

‫الحدي���ث وبين عالم المس���لمين‪ ،‬كانت صدم���ة مدوية ال تزال‬ ‫رجا ُته���ا تت���ردد في فضائه‪ .‬ولعل الس���بب األول ف���ي ذلك‪ ،‬أن‬ ‫َّ‬

‫الصدم���ة تم���ت ف���ي أصع���ب لحظة ممكن���ة‪ ،‬عندم���ا كان عالم‬


‫في مركزيتها ولبابها‪ ،‬وما اإلسالم ببدع من هذه النظم‪.‬‬

‫ممنوعا على حس���ب قدره من العلم؛ فالمصلحة بعد النص القطعي‬ ‫يكون‬ ‫ً‬

‫خصبا كثير اإلثمار‪ .‬أبو‬ ‫هي‪ :‬قطب الرحى في المذهب المالكي‪ ،‬وبها كان‬ ‫ً‬

‫‪ -4‬وق���د تبين من البحث أن الش���ريعة اإلس�ل�امية ليس���ت‬

‫فق���ط غير متعارض���ة مع اإلع�ل�ان العالمي لحقوق اإلنس���ان‪،‬‬

‫وإنما تكتنز قوة اقتراحية من شأنها‪ ،‬إغناؤه وتزويده بجملة من‬

‫زهرة‪ ،‬مالك عصره وآراؤه الفقهية‪ ،‬ص‪.352:‬‬

‫(‪)4‬‬ ‫ون ا ِ‬ ‫ون ِم ْن ُد ِ‬ ‫هلل‬ ‫‪‬و َ‬ ‫ين َي ْد ُع َ‬ ‫���بوا ا َّل ِذ َ‬ ‫وم���ن أدل���ة هذا األصل قوله تعالى‪َ :‬‬ ‫ال َت ُس ُّ‬

‫هلل َع ْد ًوا ب َِغ ْيرِ ِع ْل ٍم‪(‬األنعام‪ ،)108:‬فحرم اهلل سب آلهة المشركين‪ ،‬مع‬ ‫َف َي ُس ُّبوا ا َ‬ ‫غليظا‪ ،‬وإهانة آللهتم‪ ،‬وما ذلك إال لكونه ذريعة إلى س���بهم هلل‬ ‫كون الس���ب ً‬

‫آليات التفعيل واإلجراء‪ ،‬وال س���يما في مجال القرن الوظيفي‬

‫الممق���در "‪ "Dosé‬للح���ق بالواجب‪ ،‬كما تبين أثناء الحديث عن‬

‫تعالى‪ ،‬فكان مصلحة ترك مسبته تعالى أرجح من مصلحة سبنا آللهتهم‪.‬‬

‫الجيل الثالث من حقوق اإلنس���ان‪ .‬وال ش���ك أن هذه المقاربة‬ ‫م���ن ش���أنها تجاوز الكليش���يه المعتاد الذي مف���اده‪ ،‬وكما يقول‬

‫الباح���ث "‪" :"Jason Morgan Foster‬إن بع���ض الثقافات تتلكؤ في‬

‫تبناها معظ���م عالمنا باعتبارها أساس���ية‪،‬‬ ‫قب���ول الحق���وق الت���ي ّ‬

‫فإن���ه يتبي���ن في هذه الحالة ‪-‬للعبرة‪ -‬أنه على العكس من ذلك‬ ‫وراء‪ ،‬بل هي رائدة‪ ،‬حيث‬ ‫تماما‪ ،‬فإن الثقافة اإلسالمية ليست ً‬ ‫ً‬ ‫إن خطابه���ا التش���ريعي‬ ‫ومقتدى بهذا الص���دد‪ ،‬مما من‬ ‫ّ‬ ‫مق���د ٌر‪ُ ،‬‬

‫منظورا‬ ‫ش���أنه أن يمن���ح‬ ‫منعش���ا للت���داول ح���ول كونية حقوق‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫اإلنسان"(‪.)15‬‬

‫(*) األمين العام للرابطة المحمدية للعلماء ‪ /‬المغرب‪.‬‬

‫الهوامش‬

‫(‪ )1‬مقاص���د الش���ريعة في اصطالح العلم���اء هي‪ :‬الغايات واأله���داف والنتائج‬ ‫والمعاني التي أتت بها الشريعة‪ ،‬وأثبتتها في األحكام‪ ،‬وسعت إلى تحقيقها‬

‫وإيجاده���ا والوص���ول إليه���ا ف���ي كل زمان وم���كان‪ .‬انظر مقاصد الش���ريعة‬

‫اإلسالمية‪ ،‬الطاهر بن عاشور‪ ،‬ص‪.13:‬‬

‫ق���ال الش���اطبي رحم���ه اهلل‪" :‬وس���د الذرائع مطلوب مش���روع وهو أصل من‬ ‫األصول القطعية"‪ ،‬انظر الموافقات ‪.61/3‬‬

‫(‪)5‬‬

‫شرح تنقيح الفصول‪ ،‬ص‪ ،449:‬والفروق ‪.63/2‬‬

‫(‪ )6‬نظ���م مراق���ي الس���عود‪ ،‬نظم في موض���وع أصول الفقه‪ ،‬للش���يخ عبد اهلل بن‬ ‫الحاج إبراهيم العلوي الشنقيطي (ت ‪1233‬هـ)‪.‬‬

‫(‪ )7‬مختصر ابن الحاجب ‪ ،244/1‬شرح الكوكب المنير ‪.357/1‬‬

‫(‪)8‬‬ ‫وجل���ب المصالح ودر ِء المفاس���د‪ ،‬ما‬ ‫وس���د الذرائ���ع في���ه اعتبار للم���آالت‬ ‫ِ‬ ‫ُّ‬

‫أمك���ن الدفع والجل���ب؛ فإنه لما كان مقصود الش���ريعة إقامة مصالح الدنيا‬ ‫عل���ى طريق��� ٍة ُتحكَ م فيها بحكم الدين المس���يطر على الوج���دان والضمير‪،‬‬

‫ودفع الفس���اد ومنع األذى حيثما كان؛ فكل ما يؤدي إلى ذلك من الذرائع‬ ‫واألس���باب يكون له حكم ذلك المقصد األصلي‪ ،‬وهو الطلب للمصلحة‪،‬‬ ‫والمنع للفساد واألذى‪.‬‬

‫(‪ )9‬الموفقات ‪.194/3‬‬

‫(‪ )10‬يقصد اإلمام الش���اطبي "العلم بقصد الش���ارع باالستقراء الكلي لألدلة في‬ ‫إجمالها وتفصيلها"‪ ،‬كما هو مبين في كتابه الموافقات‪.‬‬

‫(‪ )11‬الموافقات‪.207/4‬‬

‫(‪ )12‬الموافقات ‪ ،225/2‬وقال في الموازنة بين المصالح الكلية‪" :‬وكل واحدة‬

‫(‪)2‬‬ ‫حدد العلماء مقاصد الشريعة بأنها تحقيق مصالح الناس في الدنيا واآلخرة‪،‬‬ ‫ّ‬

‫لم���ا كانت مختلف���ة في تأك���د االعتب���ار ‪-‬فالضروريات‬ ‫م���ن ه���ذه المراتب ّ‬

‫حكما من أحكامه إال لمصلحة عاجلة أو آجلة‪،‬‬ ‫أن اهلل س���بحانه لم يش���رع‬ ‫ً‬

‫األخ���ف‪ ،‬ج���رأ ٌة عل���ى ما هو آك���د منه‪ ،‬ومدخ���ل لإلخالل‬ ‫كان ف���ي إبط���ال‬ ‫ِّ‬

‫أو في العاجل واآلجل‪ ،‬يقول العز بن عبد الس�ل�ام رحمه اهلل تعالى‪" :‬اعلم‬

‫ال منه على عباده"‪ ،‬ثـم قال‪" :‬وليس من آثار اللطف‬ ‫أو عاجلة وآجلة‪ ،‬تفض ً‬

‫والرحمة واليسر والحكمة‪ ،‬أن يكلف عباده المشاق بغيـر فائدة عاجلة وال‬ ‫آجـل���ة‪ ،‬لكن���ه دعاهم إلى كل ما يقربه���م إليه‪ ...‬ومصالح الن���اس في الدنيا‬ ‫ه���ي كل ما فيه نفعهم وفائدتهم وصالحهم وس���عادتهم وراحتهم‪ ،‬وكل ما‬ ‫ال"‪.‬‬ ‫ال أو آج ً‬ ‫يس���اعدهم على تجنب األذى والضرر ودفع الفس���اد‪ ،‬إن عاج ً‬

‫انظر شجرة المعارف واألحوار‪ ،‬ص‪.401:‬‬

‫وق���ال اإلم���ام الش���اطبي‪" :‬إن وض���ع الش���رائع إنم���ا هو لمصال���ح العباد في‬ ‫العاج���ل واآلج���ل" إما بجلب النفع له���م‪ ،‬أو لدفع الضرر والفس���اد عنهم‪.‬‬

‫الموافقات ‪.9/2‬‬

‫(‪)3‬‬ ‫أهم المذاهب القائلة به‪ .‬واعتبار أصل الذرائع‬ ‫يعتبر المذهب المالكي من ّ‬ ‫عد من وج ٍه توثي ًقا لمبدأ المصلحة الذي استمس���ك مالك‬ ‫بالس���د أو الفتح ُي ُّ‬

‫بعروته؛ فهو اعتبر المصلحة الثمرة التي أقرها الشارع واعتبرها ودعا إليها‬ ‫َّ‬ ‫وح���ث عليه���ا؛ َف ْج ُلبها مطل���وب‪ ،‬وضدها ‪-‬وهو الفس���اد‪ -‬ممنوع؛ فكل ما‬ ‫مطلوبا بقدره من‬ ‫ي���ؤدي إل���ى المصلحة بطريق القطع أو بغلب���ة الظن يكون‬ ‫ً‬ ‫العل���م أو الظن‪ ،‬وكل ما يؤدي إلى الفس���اد عل���ى وجه اليقين أو غلبة الظن‬

‫آكده���ا ثم تليها الحاجيات ث���م التحس���ينيات‪ -‬وكان مرتبطً ا بعضها ببعض‬ ‫األخف كأنه حم���ى لآلك���د‪ ،‬والراعي حول الحمى يوش���ك أن‬ ‫ب���ه‪ ،‬فص���ار‬ ‫ُّ‬

‫مكم���ل‪ ،‬كالمخ���ل بالمكَ َّمل من ه���ذا الوجه"‬ ‫يرت���ع في���ه‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫فالمخ���ل بم���ا هو ّ‬

‫الموافقات‪.30/1‬‬

‫(‪ )13‬الدين في الديمقراطية‪ ،‬لـ"مارس���ل غوش���يه"‪ ،‬ص‪ ،114:‬يعني غوشيه هذه‬

‫ال‪":‬إن إطار هذه التح���والت التي تجري في المجتمع المدني‪،‬‬ ‫المس���ألة قائ ً‬ ‫ونم���ط تركيب���ه وديناميكيته‪ ،‬هو الذي يج���ب أن يتم خالله فهم التحوالت‪،‬‬ ‫حت���ى تل���ك المتعلق���ة بالمعتق���د‪ ،‬وهي تح���والت متعلقة بطبيعت���ه وموقعه‪،‬‬

‫وفي الوقت نفس���ه‪ ،‬بأوضاعه الخاصة وحالته العامة‪ .‬فالمعتقدات تحولت‬ ‫إل���ى هوي���ات‪ ،‬مما يعني في الوق���ت ذاته‪ ،‬طريقة أخ���رى لالندماج فيها من‬ ‫الداخل‪ ،‬وطريقة أخرى لالنتماء إليها من الخارج"‪ ،‬الدين في الديمقراطية‬

‫لـ"مارسيل غوشيه"‪ ،‬ص‪.113:‬‬

‫(‪ )14‬الدين في الديمقراطية‪ ،‬لـ"مارسل غوشيه"‪ ،‬ص‪.129:‬‬ ‫‪Jason Morgan Foster, Yale University, Human Rights And‬‬

‫)‪(15‬‬

‫‪Development L.G, Vol 8, pp 116.‬‬

‫‪53‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )38‬‬


‫واألح���كام العادي���ة ت���دور معه���ا حي���ث دارت‪ ،‬فترى الش���يء‬ ‫الواح���د يمن���ع في ح���ال ال تكون في���ه مصلحة‪ ،‬ف���إذا كان فيه‬ ‫مصلحة جاز"(‪.)12‬‬ ‫ومف���اد ذلك‪ ،‬وج���وب الموازنة بي���ن االحتماالت الممكنة‬ ‫ترجيحا وموازنة بين ما تحققه‬ ‫في غير المحكم من األحكام‪،‬‬ ‫ً‬ ‫تنزيالتها في إطار الش���رع الحنيف‪ ،‬وبمقاييس���ه وموازينه‪ ،‬من‬ ‫المصلح���ة في الظ���رف الواقعي المعين‪ ،‬ث���م اعتماد االحتمال‬ ‫يرج���ح أنه أكثر تحقي ًق���ا للمصلحة بضوابطها الش���رعية‬ ‫ال���ذي ُ‬ ‫المبينة في أماكنها‪ ،‬واعتبار ذلك هو الحكم الش���رعي في تلك‬ ‫مرد األحكام فيه إلى النظر‪.‬‬ ‫الحالة‪ ،‬وهذا مناط االجتهاد‪ ،‬فيما ّ‬ ‫وم���ن تداعيات الوع���ي العميق عند علمائن���ا بهذه اآلليات‬ ‫في النظر‪ ،‬كونهم درجوا على أال يسقطوا من اعتبارهم اآلراء‬ ‫المرجوحة في تراثنا الفقهي‪ ،‬إذ هي ذخيرة اجتماعية قد تمس‬ ‫إليه���ا الحاج���ة في أوض���اع الحقة مختلفة‪ ،‬فما ل���م يرجح في‬ ‫نظرا لمالبِس���ات وس���ياقات معينة‪ ،‬قد‬ ‫واق���ع عيني مش���خص ً‬ ‫يضحى‬ ‫راجحا ضمن مالبس���ات وس���ياقات أخرى‪ ،‬وفقه إمام‬ ‫ً‬ ‫دار الهج���رة إمامن���ا مال���ك ‪-‬رض���ي اهلل عن���ه‪ -‬يحض���ر فيه هذا‬ ‫الوع���ي العميق بش���دة‪ ،‬النبنائه على قواع���د واقعية كعمل أهل‬ ‫المدينة‪ ،‬واالستحسان‪ ،‬والمصلحة المرسلة‪ ،‬وسد الذرائع‪.‬‬ ‫وفق���ه الموازن���ات فقه دقي���ق يقتضي أن يك���ون الم ِ‬ ‫عمل له‬ ‫ُ‬ ‫ريا ًنا من علوم النص وعلوم الس���ياق‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ف���ردا كان أم جماعة‪ّ -‬‬‫وعل���ى دراي���ة بالعواق���ب والمآالت‪ ،‬مم���ا ينتج عن���ه ملكة في‬ ‫الترجي���ح والتغليب بعد القيام بالتس���ديد والتقريب‪ ،‬وجلي أن‬ ‫ّ‬ ‫ذلك من معضدات ضمان حقوق اإلنسان في المجتمعات‪.‬‬

‫الخاتمة‬

‫‪ -1‬رامت هذه الدراس���ة‪ ،‬االنخراط في العكوف الكوني على‬ ‫معالج���ة جملة من القضايا واإلش���كاالت ذات العالقة بتنزيل‬ ‫كونيا‬ ‫مختلف أجيال حقوق اإلنس���ان‪ ،‬كما هي متعارف عليها ًّ‬ ‫عل���ى أرض عالمن���ا المعولم‪ ،‬ف���ي مراعاة لمقتضياته الس���ياقية‬ ‫المختلفة والمتداخلة‪ ،‬وكذا في مراعاة للمس���تلزمات المعرفية‬ ‫والثقافية والتشريعية‪.‬‬ ‫‪ -2‬كم���ا رام���ت هذه الدراس���ة‪ ،‬اإلس���هام في بل���ورة نظرية‬ ‫)‪ "R.M.R" (Reverse Moderate Relativism‬ف���ي مج���ال حق���وق‬ ‫اإلنس���ان‪ ،‬والتي تعنى بالنظ���ر التعارفي المنفتح‪ ،‬إلى ما يمكن‬ ‫أن تغن���ي به المنظومات التش���ريعية المختلف���ة‪ ،‬منظومة حقوق‬ ‫اإلنس���ان الكونية‪ .‬وق���د انكببنا في مقامنا ه���ذا على النظر فيما‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )38‬‬

‫‪52‬‬

‫يمك���ن أن تغن���ي ب���ه المنظوم���ة التش���ريعية اإلس�ل�امية منظومة‬ ‫كونيا‪.‬‬ ‫حقوق اإلنسان كما هي متعارف عليها ًّ‬

‫ووعي���ا ب���أن ح���ال الف���رد المس���تهدف بضم���ان حقوق���ه‬ ‫ً‬ ‫واالس���تنهاض للقي���ام بواجبات���ه ‪-‬وعل���ى ح���د تعبير مارس���يل‬ ‫غوش���يه‪ -‬ال يتغي���ر م���ن الخ���ارج فحس���ب‪ ،‬وإنما م���ن الداخل‬

‫أيض���ا‪ ،‬حي���ث إن هذا الفرد ‪-‬في الوقت نفس���ه‪ -‬الذي يجد فيه‬ ‫ً‬

‫أن تحديده يعاد‪ ،‬س���واء تعلق األمر بحقوقه أم بمصالحه‪ ،‬فإن‬ ‫عناص���ر عالقته بنفس���ه تتغير بش���كل أساس���ي‪ ،‬وينقلب إدراكه‬

‫رأس���ا على عقب‪ ،‬وإنها ظاهرة‬ ‫الداخلي لمكونات ش���خصيته ً‬

‫ذات تأثي���ر بالغ يعي���د فكرة الذاتية المتعلق���ة بصورة المواطن‬ ‫المطروحة منذ القرن الثامن عش���ر إلى بس���اط البحث(‪ ،)13‬مما‬

‫متج���ددا‪ ،‬بخصوص موقع‬ ‫واجته���ادا‬ ‫نظرا مس���تأن ًفا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫يس���تلزم ً‬

‫الفرد‪ ،‬والتش���اكس السياس���ي‪ ،‬والتس���ويقي الش���رس لالستئثار‬

‫ومقدرات���ه‪ ،‬وال ش���ك أن م���ن آك���د حقوق‬ ‫باهتمام���ه وطاقات���ه‬ ‫ّ‬

‫اإلنس���ان‪ ،‬الحق في قدر نس���بي من التوقير حتى ال تضيع منه‬ ‫ِّأزمة ذاته َف َي ِتيه عنها وعن محيطه‪.‬‬ ‫ضمنيا‪ ،‬كون مكتسب‬ ‫‪ -3‬وقد اس���تحضرت هذه الدراس���ة‬ ‫ًّ‬ ‫الديمقراطي���ة في عالمن���ا المعاصر‪ ،‬قد نما في تمظهرات كثيرة‬ ‫ل���ه عل���ى التصادم م���ع "المقدس"‪ ،‬مم���ا أص���اب الديمقراطية‬

‫عن طريق العدوى بش���يء من "القداس���ة"! جعلتها تسمو فوق‬ ‫الذاتيات والمكتسبات الشخصية‪ ،‬فاستحثت اإلنسان للخروج‬ ‫من حالة "القصور" مما سربل الديمقراطية بـ"وقار" جعل منها‬

‫"دعوة" وخدمة على حد تعبير غوشيه "شبه كهنوتية"(‪ )14‬ومادة‬

‫للتفان���ي غير المش���روط‪ ،‬ف���ي مفارق���ة ألن تصبح "المش���روع‬ ‫الش���امل" الذي يحيط بالوضع البش���ري بأكمل���ه‪ ،‬مما كان من‬

‫نتائجه استدعاء األديان إلى المجال العام‪ ،‬فأعطى الديمقراطية‬ ‫هيئته���ا الجدي���دة ف���ي منطقتن���ا وما حوله���ا‪ ،‬مما ُيل���زم باجتهاد‬ ‫يتغيا تعميق محيط الفعل الحقوقي والسياسي‪ ،‬وحتى‬ ‫متجدد‪ّ ،‬‬

‫االقتصادي‪.‬‬

‫وإذ إن تم ّل���ك اإلع�ل�ان العالم���ي لحق���وق اإلنس���ان‬

‫والمعاهدات المنبثقة منه‪ ،‬أمر ضروري في االلتزام بمقتضياته‪،‬‬

‫فإن���ه م���ن الالزم تفعي���ل مقارب���ة ‪ ،R.M.R‬ببرهاني���ة ترفع وهم‬

‫التناق���ض م���ع ثقافتن���ا المحلية ب���كل مرتكزاتها‪ ،‬وم���ن أهمها‬

‫الدين اإلس�ل�امي‪ ،‬وذلك بفتح نواف���ذ االجتهاد والتجديد غير‬

‫روحا مع اإلعالن العالمي‪ ،‬وال مع فحوى النظم‬ ‫المتعارضين ً‬

‫االعتقادية والتشريعية في العالم والتي جميعها تجعل اإلنسان‬


‫االنحس���ار في ظواهر األدلة الجزئي���ة‪ ،‬دون وصلها مع األدلة‬

‫الش���اطبي‪" :‬النظ���ر ف���ي مآالت األفع���ال‪ ،‬معتبر مقصود‬ ‫ش���رعا‬ ‫ً‬

‫مقاصد التش���ريع اإلس�ل�امي‪ ،‬الرتكازها على مبادئ كلية من‬

‫يحك���م على فعل من األفع���ال الصادرة عن المكلفين باإلقدام‬

‫مقصدا‬ ‫الكلي���ة‪ .‬م���ن هن���ا كانت حق���وق اإلنس���ان‬ ‫أساس���يا من‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬

‫قبيل التكريم‪ ،‬واالس���تخالف‪ ،‬والمس���اواة‪ ،‬والعدل‪ ،‬والحرية‪،‬‬

‫والكرامة لهذا اإلنس���ان الذي خلقه اهلل في أحس���ن تقويم‪ ،‬مع‬ ‫االلتزام بالس���بل والوسائل التي تحقق هذه المقاصد‪ ،‬وتحافظ‬

‫عليه���ا وتمنع من إهدارها أو ضياعها‪ .‬وإذ إن مصلحة ضمان‬ ‫حقوق اإلنسان‪ ،‬من أعظم المصالح‪ ،‬فال خالف يمكن أن يثور‬ ‫حول محورية هذا المقصد في توجيه األحكام واالجتهاد‪.‬‬

‫‪ -2‬إعمال أصل سد الذرائع‬

‫"أص���ل س���د الذرائ���ع"(‪ )3‬وجه آخر م���ن وجوه رعاي���ة مقصود‬

‫الش���ارع في حفظ حقوق اإلنسان ورعايتها‪ ،‬هذا باإلضافة إلى‬

‫أص���ول أخرى وقواع���د تميز به���ا المذهب المالك���ي‪ ،‬وكانت‬

‫السبب المباشر في ولوع علمائه بالمقاصد(‪.)4‬‬

‫‪ -3‬إعمال أصل"فتح الذرائع"‬

‫بم���ا أن الم���راد بالذريع���ة؛ م���ا يتوصل ب���ه إلى مفس���دة فتكون‬ ‫ممنوعة‪ ،‬أو إلى مصلحة فتكون مطلوبة‪ .‬فإن الذريعة ال يكون‬

‫دائما‪ ،‬بل يكون سدها أو فتحها‬ ‫خاضعا لحكم‬ ‫ً‬ ‫المطلوب سدها ً‬ ‫م���ا أفض���ت إلي���ه‪ ،‬وبمعنى آخر‪ ،‬فس���دها أو فتحه���ا‪ ،‬منوط بما‬

‫‪-‬كان���ت األفع���ال موافق���ة أو مخالف���ة‪ -‬وذل���ك أن المجتهد ال‬

‫مشروعا‬ ‫واإلحجام إال بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل‪،‬‬ ‫ً‬ ‫إل���ى مصلحة فيه تس���تجلب‪ ،‬أو لمفس���دة ت���درأ‪ ،‬ولكن له مآل‬

‫عل���ى خ�ل�اف ما قص���د فيه؛ وقد يكون غير مش���روع لمفس���دة‬

‫تنش���أ عن���ه‪ ،‬أو مصلحة تندفع به‪ ،‬ولكن ل���ه مآل خالف ذلك‪،‬‬ ‫فإذا أطلق القول في األول بالمشروعية‪ ،‬فربما أدى استجالب‬

‫المصلح���ة فيه إلى مفس���دة تس���اوي المصلح���ة أو تزيد عليها‪،‬‬

‫مانعا من إطالق القول بالمشروعية‪.‬‬ ‫فيكون هذا ً‬

‫وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المش���روعية‪ ،‬ربما‬

‫أدى اس���تدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد؛ فال يصح‬

‫إط�ل�اق القول بعدم المش���روعية‪ .‬وهو مجال للمجتهد صعب‬ ‫المورد‪ ،‬إال أنه عذب المذاق‪ ،‬محمود الغب جارٍ على مقصد‬

‫الشريعة"(‪.)9‬‬

‫والنظ���ر إلى مآل المجتم���ع الضامن لحقوق إنس���انه‪ ،‬كما‬

‫النظر إلى مآل المجتمع المهدر لها‪ ،‬يفرض تقديم القياس���ات‬

‫الضامن���ة لحقوق اإلنس���ان‪ ،‬وإن خفيت‪ ،‬على القياس���ات كلها‬ ‫وإن كانت جلية‪ ،‬وهذا يقودنا إلى آلية االستحسان‪.‬‬

‫تفض���ي إليه من المقاص���د والحكم‪ .‬قال اإلمام القرافي‪" :‬اعلم ‪ -5‬إعمال أصل االستحسان‬

‫س���دها‪ ،‬يجب فتحها‪ ،‬ويك���ره ويندب‬ ‫أن الذريع���ة كم���ا يجب ّ‬

‫أخذ‬ ‫َّبين اإلمام الش���اطبي بعض معاني االستحس���ان الذي هو ٌ‬ ‫ال‪" :‬االستحسان في مذهب مالك‪:‬‬ ‫بالمصلحة عند المالكية قائ ً‬ ‫األخ���ذ بمصلح���ة جزئية في مقابل دليل ك ِّل���ي؛ ألنه يقوم على‬

‫ويب���اح‪ ،‬ف���إن الذريعة ه���ي الوس���يلة‪ ،‬فكما أن وس���يلة المحرم‬ ‫َّ‬ ‫محرمة‪ ،‬فوس���يلة الواجب واجبة كالسعي للجمعة والحج"(‪.)5‬‬ ‫َّ‬ ‫وأشار صاحب المراقي(‪ )6‬إلى فتح الذرائع بقوله‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫المحرم‬ ‫سد الذرائع إلى‬ ‫المنحتم‬ ‫ّ‬ ‫حتم كفتحها إلى ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬ ‫وبخص���وص ما قررناه في هذه الفق���رات من ضرورة فتح‬

‫وتشهيه‪،‬‬ ‫القياس؛ فإن من استحسن لم يرجع إلى مجرد ذوقه‬ ‫ّ‬

‫في قواعد محكمة‪ ،‬من قبيل قاعدة "ما ال يتم المأمور إال به"‪،‬‬

‫تلك األش���ياء المفروضة ‪ ،‬كالمس���ائل الت���ي يقتضي القياس‬

‫الذرائ���ع الجالب���ة للمصالح‪ ،‬فإننا نجد علم���اء األمة قد قرروه‬ ‫أو "م���ا ال يت���م الواجب إال به فهو واجب" (‪ .)7‬فتس���د الذرائع‬

‫دون م���ا يمن���ع تحقق مقص���د ضمان حقوق اإلنس���ان‪ ،‬وتفتح‬

‫أمام ما ييسر ذلك ويسهم فيه‪.‬‬

‫وأصل سد الذرائع أو فتحها‪ ،‬يحيلنا على أصل ٍ‬ ‫مكمل‬ ‫ثان ّ‬

‫هو أصل اعتبار المآل(‪.)8‬‬

‫‪ -4‬إعمال أصل اعتبار المآل‬

‫اعتب���ار م���آل األفع���ال من المقاص���د المهمة من الش���ريعة‪ ،‬قال‬

‫التيسير ودفع المشقة ورفع الحرج عن الناس‪.‬‬

‫المرس���ل على‬ ‫ومقتض���اه‪ :‬الرج���وع إلى تقديم االس���تدالل‬ ‫َ‬

‫وإنما رجع إلى ما علم من قصد الشارع في الجملة‪ ،‬في أمثال‬ ‫(‪)10‬‬

‫أمرا‪ ،‬إال أن ذلك األمر يؤدي إلى فوت مصلحة من جهة‬ ‫فيها ً‬ ‫أخرى‪ ،‬أو جلب مفسدة كذلك"(‪.)11‬‬

‫اعتبارا لمآل إهدار حقوق‬ ‫فآلية إعمال أصل االستحس���ان‪،‬‬ ‫ً‬

‫يمكن من القيام بترجيح���ات معتبرة بهذا‬ ‫اإلنس���ان وضمانه���ا‪ّ ،‬‬

‫ويسد ذريعة الظلم‪.‬‬ ‫الخصوص‪ ،‬مما يفتح ذريعة العدالة‪،‬‬ ‫ّ‬

‫‪ -6‬إعمال فقه الموازنات‬

‫قاص���دا لمصالح العباد‪،‬‬ ‫ق���ال الش���اطبي‪" :‬وإنا وجدنا الش���ارع‬ ‫ً‬

‫‪51‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )38‬‬


‫قضايا فكرية‬

‫أ‪.‬د‪ .‬أحمد عبادي*‬

‫املدنية ليست ثرا ًء خاد ًعا‪ ،‬ومظاهر فاتنة‪ ،‬وإشبا ًعا للنزوات‪،‬‬ ‫وانغامسا يف الشهوات‪ ..‬إمنا هي غنى يف النفس‪ ،‬وسمو يف الروح‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وعمق يف النظر‪ ،‬واعرتاف بحق العيش الكريم لآلخرين‪.‬‬ ‫***‬ ‫(املوازين)‬

‫المسلمون وحقوق اإلنسان‪3-‬‬ ‫قراءة في آليات التعاطي‬

‫جل المصالح التي تقوم عليها حياة‬ ‫حي���ث إن َّ‬

‫ل���ب ذل���ك ضمان‬ ‫األم���م وارتفاقاته���ا ‪-‬وف���ي ّ‬ ‫ٍ‬ ‫حقوق الخلق‪ -‬تحتاج إلى‬ ‫اجتهادات مستأنف ًة‬

‫جلبا‬ ‫االستحسان‪ ،‬والموازنة الدقيقة بين المصالح والمفاسد‪ً ،‬‬

‫تس���ديدا‬ ‫ودفعا للثانية إن غلبت‪،‬‬ ‫لألُول���ى إن رجحت‪،‬‬ ‫وتقريبا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وتغليبا‪ .‬ومن آكد هذه اآلليات‪:‬‬ ‫ً‬

‫ف���ي كل حين قصد َت ُّبي ِنه���ا‪َ ،‬‬ ‫وم ْق َد َرتها‪ ،‬وتقعيدها‪ ،‬وتقنينها‪ ،‬من ‪ -1‬إعمال أصل المصلحة المعتبرة‬

‫أج���ل‬ ‫���ز ٍن لها على أرض الواقع‪ ،‬كان البد من آليات‬ ‫تنزيل ُم َّت ِ‬ ‫ٍ‬

‫مقاص���د الش���ريعة(‪ )1‬عل���ى اخت�ل�اف أقس���امها ووس���ائل إثباتها‬

‫نظرا في المعتبر م���ن هذه المصالح‪،‬‬ ‫في س���ياقاتها المختلف���ة‪ً ،‬‬

‫ت���ارة بـ"جل���ب المصال���ح ودرء المفاس���د"‪ ،‬وت���ارة بـ"تحصي���ل‬

‫بمب���دأ س���د الذرائ���ع وفتحها عل���ى الس���واء‪،‬‬ ‫واعتب���ارا ألصل‬ ‫ً‬

‫م���ن أب���رز ميزات الفك���ر المقاصدي‪ ،‬كونه‬ ‫كليا يأبى‬ ‫فك���را ًّ‬ ‫ً‬

‫تمك���ن م���ن جلب هذه المصالح‪ ،‬ودرء ما يهددها من مفاس���د‬ ‫ّ‬ ‫وتنقيحا لها‪،‬‬ ‫واعتب���ارا للم���آالت‪ ،‬وتحقي ًقا للمناط���ات‪،‬‬ ‫وأخذا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )38‬‬

‫‪50‬‬

‫ومس���توياتها‪ ،‬تتركز ف���ي مقصد ك ّلي جامع ج���رى التعبير عنه‬ ‫المصالح وتكميلها‪ ،‬وتعطيل المفاسد وتقليلها"(‪.)2‬‬


‫أيضا‪،‬‬ ‫والجدي���د الذي أضاف���ه ابن الهيثم لعل���م البصريات ً‬

‫المزدوجة (بالعينين)‪ ،‬وأول استعمال ُع ِرف للغرفة المظلمة‪.‬‬

‫أن���ه اس���تدل على أن الع ّلة األساس���ية في اإلبص���ار‪ ،‬هي وجود بعض إنجازاته العلمية‬ ‫الم ْب َصر مع توافر هذه الش���روط‪ ،‬يق���ول‪" :‬إن البصر إذا أحس‬ ‫ُ‬

‫بالم ْب َصر بعد أن كان ال يحس به‪ ،‬فقد حدث منه شيء ما بعد‬ ‫ُ‬

‫إن ل���م يك���ن‪ ،‬وليس يحدث ش���يء بع���د إن لم يك���ن إال لعلة‪،‬‬ ‫الم ْب َصر إذا قابل البصر‪ ،‬أحس به البصر‪ ،‬وإذا أزال عن‬ ‫ونج���د ُ‬ ‫الم ْب َصر إلى مقابلة‬ ‫مقابلة البصر‪ ،‬لم يحس به البصر‪ ،‬وإذا عاد ُ‬

‫بالم ْب َصر‬ ‫البصر‪ ،‬عاد اإلحساس‪ .‬وكذلك نجد البصر إذا أحس ُ‬

‫ثم أطبق أجفانه‪َ ،‬ب ُط َل ذلك اإلحساس‪ ،‬وإذا فتح أجفانه‪َ ،‬ب ُط َل‬ ‫والم ْب َصر مقابله‪ ،‬عاد ذلك‬ ‫ذلك اإلحس���اس‪ ،‬وإذا فتح أجفانه ُ‬ ‫���ل المعلول‪ ،‬وإذا‬ ‫اإلحس���اس‪ .‬والعلة ه���ي الت���ي إذا َب ُط َل ْت َب ُط َ‬

‫عادت عاد المعلول‪ .‬فالعلة إذن‪ ،‬التي ُتحدث ذلك الشيء في‬

‫الم ْب َصر"‪.‬‬ ‫البصر‪ ،‬هو ُ‬

‫كان اب���ن الهيث���م ‪-‬ف���ي كتابه "في طبيعة إلق���اء الظل"‪ -‬أول من‬

‫أج���رى تجارب بواس���طة نوع م���ن "آلة الثق���ب" التي هي ‪-‬في‬

‫الواق���ع‪ -‬صورة أولى آلل���ة التصوير فيما بع���د‪ ،‬والتي برهنت‬ ‫يصدق عينيه‬ ‫له تمدد أش���عة الضوء بخط مس���تقيم‪ .‬كما أنه لم ّ‬ ‫رأسا على عقب لدى انعكاسها‬ ‫حين رأى صورة العالم مقلوبة ً‬

‫بعد‬ ‫ولق���د لج���أ إل���ى نف���س التج���ارب الت���ي لج���أ إليها فيم���ا ُ‬‫ال لكثافة مختلف الطبقات‬ ‫ليوناردو دافنش���ي‪ -‬واكتش���ف تعلي ً‬ ‫كالم���اء والهواء‪ ،‬واختالف مدى انكس���ار الضوء في كل منها‪،‬‬

‫عل���و الطبق���ة الهوائية‬ ‫ث���م حس���ب ‪-‬باالس���تناد إل���ى ما س���بق‪-‬‬ ‫ّ‬

‫كيلومترا‪ ،‬وهكذا يكون‬ ‫المحيطة باألرض وهي خمس���ة عش���ر‬ ‫ً‬

‫مزيدا من الش���رح والتحلي���ل لنظريته‬ ‫يقدم اب���ن الهيثم ً‬ ‫ث���م ّ‬

‫خ���رج بنتيج���ة غاية في الدقة والصحة لم يس���بق إليها أحد من‬

‫والحديث���ة لكيفي���ة اإلبص���ار اآلن‪ .‬هذا وقد اس���تعان ابن الهيثم‬

‫علميا الفيلسوف أرسطو ذاته‪ .‬وتوسع‬ ‫التي عجز عن ش���رحها‬ ‫ًّ‬

‫تماما م���ع الرؤية العلمية الصحيحة‬ ‫ف���ي اإلبصار‪ ،‬والتي تتفق ً‬ ‫بالجب���ر والمثلث���ات والهندس���ة بنوعيه���ا ف���ي ح���ل كثي���ر م���ن‬

‫قب���ل‪ .‬ث���م اهتم بتحليل ظه���ور الهالل‪ ،‬والغس���ق وقوس قزح‪،‬‬ ‫فيم���ا بع���د بأبحاثه فش���مل اهتمام���ه اآلالت البصري���ة‪ .‬فدرس‬

‫وصيغ ال‬ ‫معض�ل�ات الضوء‪ ،‬ووض���ع كل ذلك في عب���ارات‬ ‫َ‬

‫وحس���ب درج���ة االنع���كاس ف���ي المراي���ا المس���تديرة والمرايا‬

‫من خالل وس���ط ش���فاف كالماء والهواء‪ ،‬ومن خالل أجس���ام‬

‫معرف���ة قان���ون تأثي���ر "العاكس���ات الضوئي���ة" (‪ .)Progecteurs‬ثم‬

‫حرقة‪ ،‬فقد وصل ‪-‬أو‬ ‫الم ِ‬ ‫األحج���ام والتقاء الضوء في المراي���ا ُ‬

‫كبرة" (‪ ،)Lupe‬واخترع‬ ‫المحرق���ة فقط‪ ،‬بل "الزجاجة ُ‬ ‫المرآة ُ‬ ‫الم ِّ‬

‫ليفصله عنها سوى خطوة واحدة‪ ،‬والتي ُصنعت بإيطاليا بعده‬

‫إنه "عندما قام يوهانس كبلر في ألمانيا خالل القرن الس���ادس‬

‫تعقي���د فيه���ا وال إبهام‪ .‬وبفضل تجاربه في انعكاس���ات الضوء‬

‫حرق���ة بالدوائ���ر (‪ ،)Kegels Chnittbrennspieigel‬وتوصل إلى‬ ‫الم ِ‬ ‫ُ‬

‫المطردة بين تكبير‬ ‫كروية كاآلنية الزجاجية‪ ،‬ودراس���ته للعالقة ّ‬

‫حق���ق في تأثير التقاء األش���عة وتكبير األحجام‪ ،‬ليس بواس���طة‬

‫الم َك ّبِ���رة الت���ي لم يكن‬ ‫كاد‪ -‬إل���ى اكتش���اف نظري���ة العدس���ات ُ‬

‫أيضا أول نظارات للقراءة‪ .‬ومن هنا تقول المستش���رقة هونكة‬ ‫ً‬

‫بثالثة قرون‪.‬‬

‫كتاب البصريات في العصر‬ ‫وقد اعتمد "روجر بيكون" وكل ّ‬

‫الوسيط في الغرب على أعمال ابن الهيثم في البصريات‪ ،‬كما‬

‫واضحا في ليوناردو دافنش���ي‪ ،‬وفي‬ ‫تأثيرا‬ ‫أ ّث���رت أعمال���ه ً‬ ‫ً‬ ‫أيضا ً‬

‫يوحنا كبلر‪ .‬ولذلك تقول المستشرقة هونكة‪" :‬إن دراسات ابن‬ ‫والمعضلة المعروفة‬ ‫الهيثم لنظرية انعكاس الضوء‪ ،‬والعدسات ُ‬

‫(معضلة ابن الهيثم)‪ ،‬وكذلك وصفه الدقيق للعين‪ ،‬كل‬ ‫باسمه ُ‬ ‫قرن اس���مه باس���م العالمين‬ ‫ذل���ك جعل اب���ن الهيثم‬ ‫جديرا أن ُي َ‬ ‫ً‬

‫"روج���ر بيكون" و"وتيلو"‪ .‬وما تذهب إليه المستش���رقة‪ ،‬يطابق‬

‫وإدراكا‬ ‫الحقيق���ة؛ فإننا نجد في كتاب "المناظ���ر" وص ًفا للعين‬ ‫ً‬

‫تحديدا من جميع من تقدموه‪ .‬ونجد‬ ‫كثيرا‪ ،‬وأكثر‬ ‫ً‬ ‫للرؤية أدق ً‬

‫فحص���ا لظاهرة االنكس���ار الجوي‪ ،‬ومحاوالت لتفس���ير الرؤية‬ ‫ً‬

‫تمك���ن غاليليو (‪1642-1564‬م)‬ ‫عش���ر‪ ،‬ببحث القوانين التي َّ‬

‫باالس���تناد إليه���ا م���ن رؤي���ة نج���وم مجهول���ة من خ�ل�ال منظار‬

‫كبي���ر‪ ،‬كان ظل ابن الهيث���م الكبير يجثم خلفه"‪ .‬وما تزال حتى‬ ‫يومنا هذا‪ ،‬المس���ألة الفيزيائية الرياضية الصعبة‪ ،‬التي حلها أبو‬ ‫الحس���ن بن الهيثم بواس���طة معادلة من الدرجة الرابعة‪ُ ،‬مبره ًنا‬

‫بهذا عن تضلّعه البالغ من علم الجبر‪ .‬نقول‪ ،‬ما تزال المسألة‬

‫القائمة على حس���اب نقطة التقاء الصورة التي تعكس���ها المرآة‬

‫المحرقة بالدوائر على مس���افة منها‪ ،‬ما تزال تس���مى "بالمسألة‬ ‫ُ‬ ‫الهيثمية"‪ ،‬نسبة إلى ابن الهيثم نفسه‪.‬‬

‫(*) رئيس قسم الفلسفة واالجتماع‪ ،‬كلية التربية‪ ،‬جامعة عين شمس ‪ /‬مصر‪.‬‬

‫‪49‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )38‬‬


‫أيضا‪ ،‬ضوء القمر‪ ،‬وضوء الكواكب‪،‬‬ ‫وق���د تناولت تجاربه ً‬

‫كان يقوم عليه علم الضوء القديم‪ ،‬أس���اس خاطئ يجب على‬ ‫ِ‬ ‫رأسا على عقب‪.‬‬ ‫ابن الهيثم أن يعيد النظر فيه ويقلبه ً‬ ‫والجديد الذي يقدمه ابن الهيثم‪ ،‬يتضح من ذلك الموقف‬ ‫النقدي الذي يتخذه من كل العلماء والفالس���فة الس���ابقين في‬ ‫تأسيس���ه لهذا العلم‪ ،‬وتقديمه لرؤيته الجديدة؛ فهو ينقد نظرية‬ ‫أرس���طو واألبيقوريين وغيرهما من الفالسفة الطبيعيين‪ ،‬الذين‬ ‫اختلف���وا فيم���ا بينهم في كيفية ورود الص���ورة إلى العين‪ .‬وهي‬ ‫نظرية "اإلرس���ال الداخلي" (‪ ،)Intromission‬أي دخول ش���يء ما‬ ‫إل���ى العين وال���ذي يمثل الش���يء المرئي‪ ،‬ونظري���ة "اإلصدار"‬ ‫(‪ ،)Emission‬واإلبص���ار فيه���ا يك���ون بخروج ش���عاع م���ن البصر‬ ‫الم ْب َصر‪ ،‬والتي يمثلها أفالط���ون والرواقيون‪ ،‬ثم أقليدس‬ ‫إل���ى ُ‬ ‫وبطليموس وغيرهم من الفالس���فة وأصحاب التعاليم‪ .‬ويأخذ‬ ‫ف���ي كتاب���ه "المناظ���ر" بتوضي���ح كل ه���ذه اآلراء المتعارض���ة‬ ‫والمتناقضة‪ ،‬ويأخذ في نقدها عن طريق التحليل والتفنيد مع‬ ‫ح���د كبير في تجارب‬ ‫االلت���زام بالموضوعي���ة الت���ي تتحقق إلى ٍّ‬ ‫يق���وم بإجرائه���ا لتأكي���د رؤيت���ه الجدي���دة‪،‬‬ ‫مس���تخدما معارف���ه‬ ‫ً‬ ‫الرياضي���ة ومعلومات���ه الطبيعية في مزاوجة م���ا بين الرياضيات‬ ‫والطبيعيات في منهجية علمية جديدة‪.‬‬ ‫إن أعظ���م مآثر اب���ن الهيثم أنه أبطل عل���م المناظر القديم‪،‬‬ ‫وأنشأ علم الضوء بالمعنى الحديث‪ .‬وإذا كانت دائرة المعارف‬ ‫البريطانية تقول إنه بعد بطليموس لم يظهر من يجاريه في علم‬ ‫الض���وء إال ابن الهيثم‪ ،‬فإن بحوثه ودراس���اته ومقاالته ليس���ت‬ ‫مجرد زيادة كمية اتس���عت بها ثروتنا العلمية‪ ،‬وإنما هي ‪-‬قبل‬ ‫ّ‬ ‫تحول كيفي في المفاهيم واألسس‪ ،‬أو ُق ْل هي أحداث‬ ‫ذلك‪ّ -‬‬ ‫ب���ت أوض���اع هذا العل���م وصححت مج���راه‪ ،‬ودفعت به في‬ ‫ق َل ْ‬ ‫علما ثابت األركان راسخ البناء‪.‬‬ ‫الطريق السليم‪ ،‬وأقامته ً‬

‫به���ا‪ .‬فإن أقليدس وبطليم���وس وغيرهما من أصحاب التعاليم‬

‫وبع���د أن يح���دد ابن الهيث���م كيفية البحث في عل���م البصريات‬ ‫في كتابه "المناظر"‪ ،‬يس���تأنف البحث عن الش���روط التي يجب‬ ‫توافرها عند اإلبصار‪ ،‬وهي التي يس���ميها "المعاني التي ال يتم‬ ‫اإلبصار إال بها"‪.‬‬ ‫فقد أوضح أن الضوء له وجود مستقل في ذاته‪ ،‬والبد من‬ ‫أن يك���ون بين���ه وبين العي���ن ُبعد‪ ،‬وأن يكون بي���ن كل نقطة من‬ ‫س���طح البصر وبين العين خط مستقيم غير مقطع بكثيف‪ ،‬أي‬ ‫الم ْب َصر‪،‬‬ ‫أن يكون الجس���م المتوس���ط بين س���طح البصر وبين ُ‬ ‫وهو ما يطلق عليه الدكتور مصطفي نظيف "الوسط"‪.‬‬

‫والض���وء المنبع���ث من ض���وء أبيض يس���تضيء بض���وء القمر‪،‬‬

‫واس���تقصى أحوال اإلضاءة الشديدة واإلضاءة الضعيفة‪ .‬وهو‬ ‫أخيرا في مقدمة علماء الطبيعة التطبيقية‪ ،‬بما أجرى من تجارب‬ ‫ً‬ ‫وأوج���د من أجه���زة‪ .‬ولقد ع���رض األس���تاذ "مصطفي نظيف"‬

‫في كتابه "الحس���ن ابن الهيثم" لنظريات اإلبصار في الفلس���فة‬ ‫اليوناني���ة‪ ،‬من فيثاغورس إلى أمبيدوقليس‪ ،‬ومن أفالطون إلى‬ ‫فككة متناثرة‪ ،‬ال تقوم‬ ‫أرس���طو وأبيقور‪ ،‬فلم يجد سوى آراء ُم َّ‬

‫عل���ى أس���اس علمي‪ ،‬ث���م عرض للنظري���ات الت���ي ظهرت في‬ ‫العصر الهلينس���تي اإلس���كندري‪ ،‬من أقليدس وبطليموس إلى‬

‫أس���اس‬ ‫هي���رون وثاون‪ ،‬فوجد أبحا ًثا علمية رصينة قائمة على‬ ‫ٍ‬ ‫منهجي‪ .‬كما عرض آراء اإلس�ل�اميين الذين س���بقوا ابن الهيثم‬ ‫كالكندي‪ ،‬والرازي‪ ،‬وقسطا بن لوقا‪ ،‬فانتهى إلى هذه النتيجة؛‬ ‫أحدا من اإلسالميين المتقدمين‬ ‫وهي أنه ليس معرو ًفا اآلن أن ً‬ ‫ش���يئا ذا بال لم‬ ‫عل���ى اب���ن الهيثم‪ ،‬قد أضاف���وا إلى علم الضوء ً‬

‫يكن معرو ًفا من قبل‪.‬‬

‫ث���م عرض األس���تاذ "نظي���ف" آراء ابن الهيثم ف���ي الضوء‪،‬‬

‫وقارنها باآلراء الس���ائدة في عصره‪ .‬فش���رح آراءه في األضواء‬ ‫"المنكس���رة" (‪،)Refraction‬‬ ‫والمنعطف���ة‪ ،‬أي ُ‬ ‫الذاتي���ة والعرضية ُ‬

‫والفجر والش���فق والتقازيح‪ ،‬أي امتزاج الضوء بالظلمة بنسب‬

‫مختلف���ة‪ ،‬واألل���وان والخ���داع البص���ري والهال���ة وق���وس قزح‬

‫والكسوف والخسوف وما إلى ذلك‪.‬‬

‫لق���د كانت أص���ول الميكانيكا مبعثرة كذل���ك قبل "نيوتن"‪،‬‬

‫إل���ى أن جاء ه���ذا األخير فأدرك حقائقه���ا وأضاف إليها وربط‬ ‫بينها‪ ،‬حتى أضحت على يديه وحدة شاملة هي التي قام عليها‬

‫علم الميكانيكا‪ .‬وكذلك علم الضوء‪ ،‬فإنه حتى الفكرة البسيطة‬

‫م���ن أن للض���وء‬ ‫المس��� َّلم شروط اإلبصار‬ ‫ً‬ ‫وجودا في ذات���ه‪ ،‬لم تكن من األمور ُ‬

‫ممن سبقوا ابن الهيثم‪ ،‬على اختالف طبقاتهم وتباعد أزمانهم‬ ‫وتف���رق آرائه���م‪ ،‬متفقون عل���ى أن اإلبصار إنما يكون بش���عاع‬ ‫الم ْب َصر‪ ،‬وعلى أن الش���عاع يمتد على‬ ‫يخ���رج م���ن البصر إل���ى ُ‬

‫س���موت خطوط مس���تقيمة أطرافها مجتمعة عند مركز البصر‪،‬‬ ‫الم ْب َصرات‪ ،‬فشكل جملته‬ ‫وعلى أن الشعاع ُي َ‬ ‫درك به ُم ْب َصر من ُ‬

‫شكل مخروط رأسه مركز البصر‪ ،‬وقاعدته سطح البصر‪ .‬و َل َّما‬ ‫كان ذلك كذلك‪ ،‬فقد رأى ابن الهيثم أن يصرف االهتمام إلى‬ ‫هذا المعنى ويضع كتابه "المناظر"‪ .‬وإذن فإن األس���اس الذي‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )38‬‬

‫‪48‬‬


‫ذل���ك اس���تعمال العدل ال اتب���اع الهوى‪ ،‬ويتحرى في س���ائر ما‬ ‫الصدر‪ ،‬حتى يصل‬ ‫طلب الحق الذي ب���ه َيث ُلج‬ ‫يمي���زه وينتق���ده َ‬ ‫ُ‬ ‫بالتدري���ج واللطف إلى الغاي���ة التي عندها يقع اليقين‪ ،‬وتظهر‬ ‫الحقيقة التي يزول معها الخالف وتنحسم الشبهات‪.‬‬ ‫ُولد ابن الهيثم في العراق بالبصرة عام (‪354‬هـ‪965/‬م)‪ ،‬أما‬ ‫وفاته فيقول "القفطي" إنها تقع في حدود عام(‪430‬هـ‪1039/‬م)‪.‬‬ ‫وتنقس���م حيات���ه إلى مرحلتي���ن‪ ،‬األولى نش���أته بالبصرة؛ وكان‬ ‫يعمل موظ ًفا في دواوين الحكومة بالعراق‪ .‬ثم المرحلة الثانية‬ ‫وهي قدومه إلى مصر في أوائل القرن الحادي عشر الميالدي‪.‬‬

‫مؤلفاته‬

‫زاخرا‬ ‫ضخم���ا ملي ًئا باالبت���كار‪،‬‬ ‫لق���د ت���رك لنا ابن الهيث���م ترا ًثا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫بالموضوع���ات الجدي���دة والبح���وث الفري���دة‪ .‬فه���و لم يكتف‬ ‫نظرا‬ ‫جديدا لم يسبقه‬ ‫ً‬ ‫بالنقل عن كتب القدماء‪ ،‬بل لقد نظر فيها ً‬ ‫أيضا‪،‬‬ ‫إلي���ه أحد من قب���ل‪ ،‬واتجه في هذا النظر وجه���ة جديدة ً‬ ‫فأصلح الخطأ وأتم النقص وابتكر المستحدث من األبحاث‪،‬‬ ‫وأض���اف الجدي���د من الكش���وف‪ ،‬وس���بق ف���ي غير ع���دد قليل‬ ‫ال‬ ‫والعصور‪ ،‬واس���توفى البح���ث إجما ً‬ ‫م���ن الح���االت األجيالَ‬ ‫َ‬ ‫وتفصي�ل�ا‪ ،‬حت���ى لقد كان���ت مؤلفاته عمدة العلم���اء في أوربا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ال ينهلون منه حتى عهد قريب‪ .‬وفي مجال التأليف تميز‬ ‫ومنه ً‬ ‫ابن الهيثم‪ ،‬حيث كان‬ ‫غزيرا في كتاباته ورسائله ومؤلفاته؛ فقد‬ ‫ً‬ ‫كان نادرة عصره ف���ي علمه وذكائه‪ .‬وتصاني ُفه تقارب المائتين‬ ‫م���ن المصنف���ات أو تزي���د بي���ن مط���ول ومختصر ورس���الة في‬ ‫المج���ال العلمي بفروعه المختلفة‪ ،‬أو الفلس���في بتعدد مناحيه‬ ‫وتجليات���ه‪ .‬وال أدلّ عل���ى ذلك من أن علم البصريات َتك ُثر فيه‬ ‫مؤلفات���ه‪ ،‬مثل كتابه "المناظر"‪ ،‬ورس���الته ف���ي الضوء‪ ،‬ومقاالته‬ ‫حرقة بالدائرة‪ ،‬أو مقاالته‬ ‫الم ِ‬ ‫الم ِ‬ ‫ف���ي المرايا ُ‬ ‫حرقة بالقطوع‪ ،‬أو ُ‬ ‫ف���ي ضوء القم���ر‪ ...‬وفي مجال الرياضي���ات تصل مؤلفاته إلى‬ ‫أكث���ر من خمس���ين مؤل ًفا ما بين كتاب ورس���الة ومقالة‪ ،‬تتوزع‬ ‫عل���ى األبحاث الرياضية البحتة‪ ،‬وعلوم الحس���اب والهندس���ة‬ ‫والجبر‪...‬‬ ‫وأيضا تعليقات لمؤلفات السابقين عليه من اليونان‬ ‫ً‬ ‫مثل كتابه في "حل شكوك أقليدس" الذي يصفه الدكتور "علي‬ ‫مش���رفة" بقول���ه‪" :‬إن المطّ ل���ع على كتاب اب���ن الهيثم في "حل‬ ‫شكوك أقليدس"‪ ،‬يلمس دقته في التفكير وتعمقه في البحث‪،‬‬ ‫واس���تقالله ف���ي الحكم‪ ،‬كم���ا ي ّتضح له صحة مكانة الهندس���ة‬ ‫األقليدية من العلوم الرياضية؛ فهو كتاب رياضى بأدق ما يدل‬ ‫عليه الوصف من معنى"‪.‬‬

‫وه���ذا يع���ود في رأي بعض العلماء إل���ى أن ابن الهيثم‪ ،‬قد‬ ‫س���لك في أبحاثه الرياضية الواضحة‪ ،‬وفي مؤلفاته بصفة عامة‬ ‫ف���ي باقي العلوم‪ ،‬وفي علم الرياضيات بصفة خاصة‪ُ ،‬طر ًقا لم‬ ‫يسلكها المتقدمون‪ ،‬وأساليب جديدة كل‬ ‫الجدة في البراهين‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫مما يدل على استقالل تفكيره وبعد نظره وقوة إبداعه‪.‬‬ ‫كثيرا من الرسائل والمقاالت في علم‬ ‫كما أ ّلف ابن الهيثم ً‬ ‫علما من العل���وم الرياضية‪ْ ،‬تر ُبو على‬ ‫الفل���ك وال���ذي كان ُيعد ً‬ ‫أربعة وعش���رين مؤل ًف���ا‪ُ ،‬ف ِقد بعضها ووصل إلين���ا منها حوالي‬ ‫عش���رين مقال���ة مثل ارتف���اع القط���ب‪ ،‬ومقالة في هيئ���ة العالم‪،‬‬ ‫وارتفاعات الكواكب‪ ،‬وحركة القمر‪ ،‬وأبعاد األجرام السماوية‪،‬‬ ‫وص���ورة الكس���وف‪ ،‬وتصحي���ح األعم���ال النجومي���ة‪ ...‬إلخ‪.‬‬ ‫وعل���ى الرغم من أنه لم يمارس مهن���ة الطب‪ ،‬إال أنه اهتم‬ ‫بالتألي���ف ف���ي ه���ذا المجال‪ .‬ولق���د كان‬ ‫ح���د كبير‬ ‫متأث���را إلى ٍّ‬ ‫ً‬ ‫بـ"جالين���وس" وكتبه ومؤلفات���ه الطبية‪ .‬فوضع لنا مؤلفات ْتر ُبو‬ ‫على العش���رين رس���الة مثل تقويم الصناعة الطبية‪ ،‬وكتاب آراء‬ ‫أبق���راط وأفالط���ون‪ ،‬وكتاب في العلل واألع���راض‪ ،‬وأصناف‬ ‫ِ‬ ‫المفردة‪ ،‬وقوى األدوية‬ ‫الحمي���ات‪ ،‬والبحران‪ ،‬وقوى األدوي���ة ُ‬ ‫فض�ل�ا عن مؤلفاته‬ ‫المركب���ة‪ ،‬وفي حف���ظ الصحة‪ ...‬إلخ‪ .‬هذا‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫في المجال الفلس���في؛ حيث كتب مؤلفات عميقة في الفلسفة‬ ‫والمنط���ق‪ ،‬وعل���م النفس‪ ،‬واألخ�ل�اق‪ ،‬واإللهي���ات تربو على‬ ‫أربعين مؤل ًفا‪ ،‬أشهرها رسالة "المكان" ومقالة "ثمرة الحكمة"‪.‬‬

‫كتاب "المناظر" وتأسيس علم البصريات‬

‫كتاب‬ ‫ع���د أهم‬ ‫ٍ‬ ‫وق���د وض���ع ابن الهيثم كتاب���ه "المناظر" الذي ُي ّ‬ ‫ظه���ر ف���ي القرون الوس���طى كله���ا‪ ،‬وأكثره���ا‬ ‫اس���تيفاء لبحوث‬ ‫ً‬ ‫الض���وء‪ .‬فق���د عال���ج ف���ي ه���ذا الكت���اب‪ ،‬القواني���ن األساس���ية‬ ‫لالنعكاس واالنكسار أو االنعطاف‪ ،‬كما سبق "كبلر" إلى كثير‬ ‫م���ن قضاي���اه‪ .‬حتى ليق���ول البعض إن هذا األخير إنما اس���تمد‬ ‫معلوماته في الضوء ‪-‬وال س���يما ما يتعلق بانكساره في الجو‪-‬‬ ‫م���ن ه���ذا الكتاب وس���ائر كتب���ه األخ���رى‪ .‬فابن الهيث���م هو في‬ ‫مقدمة علماء الطبيعة النظرية بما وضع في ظواهر الضوء من‬ ‫نظريات في اإلبصار وقوس قزح وانعكاس الضوء وانكساره‪.‬‬ ‫أيضا في المقدمة من علم���اء الطبيعة التجريبية بما‬ ‫وه���و يأت���ي ً‬ ‫أجرى من تجارب في كيفية امتداد األضواء الذاتية التي تنطلق‬ ‫من الجرم المضيء؛ كضوء الش���مس‪ ،‬واألضواء العرضية التي‬ ‫تنعك���س عن س���طوح األجس���ام الكثيفة بع���د أن كانت أضواء‬ ‫ذاتية أو عرضية‪.‬‬

‫‪47‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )38‬‬


‫تاريخ وحضارة‬

‫أ‪.‬د‪ .‬بركات محمد مراد*‬

‫ابن الهيثم‬

‫مؤسس علم الطبيعة في العصور الوسطى‬

‫عرفته أوربا باس���م "‪ ،"Alhazen‬أي الحس���ن بن‬

‫ال من أعظم الرياضيين‬ ‫أوائل القرن الحادي عشر الميالدي رج ً‬

‫"بأم���ر اهلل"‪ ،‬وعرف بالزهد والبعد عن ش���رف‬

‫الحس���ن بن الهيثم"‪ .‬ويصفه "سارتون" بأنه‪" :‬أكبر عالم طبيعي‬

‫الهيثم الذي دخل في خدمة الخليفة الفاطمي‬

‫والطبيعيي���ن ف���ي العص���ور الوس���طى‪ ،‬ه���و أبو عل���ي محمد بن‬

‫الدني���ا وجاهها‪ ،‬حتى إن الخليفة ولاّ ه بعض الدواوين‪ ،‬فضاق‬

‫مسلم ومن أكبر المشتغلين بعلم المناظر في جميع األزمان"‪.‬‬

‫حياة العزلة وكفاف العيش والتجرد عن الش���واغل التي تمنعه‬

‫البح���ث العلمي‪ .‬فق���د امتازت بحوث���ه بالمالحظ���ة والتجربة‪،‬‬

‫ذرعا ولم يحتم���ل فتنة الحكم وفتنة الحاك���م‪ ،‬وآثر عليها‬ ‫به���ا ً‬ ‫من النظر في العلم واالنكباب على تحصيله وتحقيقه‪.‬‬

‫وقد وصفه "البيهقي" بـ"الحكيم بطليموس الثاني"‪ ،‬ويقول‬

‫متفن ًنا في العلوم‪ ،‬ولم يماثله أحد من‬ ‫"ابن أبي أصيبعة"‪" :‬كان ّ‬ ‫أهل زمانه في العلم الرياضي وال يقرب منه"‪.‬‬

‫المحدث���ون فنج���د عل���ى رأس���هم "دي بور" ف���ي كتابه‬ ‫أم���ا‬ ‫َ‬

‫"تاري���خ الفلس���فة في اإلس�ل�ام" يقول‪" :‬وتجد ف���ي القاهرة في‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )38‬‬

‫‪46‬‬

‫المثلى في‬ ‫وتأت���ي عظمة اب���ن الهيثم م���ن إدراكه للطريق���ة ُ‬

‫وأخ���ذ باالس���تقراء والقياس والتمثيل‪.‬‬ ‫ورائ���ده في ذلك منهج‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫األصوليي���ن ال���ذي كان قد نض���ج قبله‪ .‬فق���د كان يبتدئ ‪-‬كما‬ ‫يق���ول ه���و نفس���ه‪ -‬باس���تقراء الموج���ودات‪ ،‬وتصف���ح أحوال‬

‫بص���رات‪ ،‬وتمييز خواص الجزئي���ات‪ ،‬ثم يتر ّقى في البحث‬ ‫الم َ‬ ‫ُ‬

‫والمقايي���س عل���ى الت���درج والترتي���ب‪ ،‬م���ع انتق���اد المقدمات‬ ‫والتحف���ظ م���ن الغلط في النتائ���ج‪ .‬وكان يجعل غرضه في كل‬


‫عملية إنبات أفقية ومائلة بزاوية ‪ 30‬درجة‪.‬‬

‫عملية إنبات عدس في وسط اصطناعي عمودي وأفقي ومائل‪.‬‬

‫(*) جامع���ة محم���د األول‪ ،‬كلي���ة العل���وم ‪ -‬وج���دة ‪ /‬المغ���رب‪ .‬ت���م إع���داد‬ ‫ه���ذا البح���ث م���ن قبل أ‪.‬د‪ .‬عب���د المجيد بلعاب���د‪ ،‬والطلبة‪ :‬بوش���فرة حنان‪،‬‬ ‫والجوهري يزيد‪ ،‬ومالكي حورية‪.‬‬

‫‪45‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )38‬‬


‫الخط���أ الجاذب���ي وبالتال���ي تصحيح���ه‪ .‬عندم���ا نق���وم بعمليات‬ ‫ِق َطع أفقية لنس���يج جذور وضعت في وس���ط اصطناعي أفقي‬ ‫عمودي���ا على‬ ‫(األرض)‪ ،‬ونقارنه���ا بج���ذور نبات���ات وضع���ت‬ ‫ًّ‬ ‫شاسعا بين موضع بعض العضيات‬ ‫الطريقة العادية‪ ،‬نجد فر ًقا‬ ‫ً‬ ‫والجزيئات داخل الس���يتوبالزما عند الخاليا الجذرية للنباتات‬ ‫أفقيا‪ ،‬أي بدون جاذبية‪( .‬الصور رقم‪ 2‬و‪)3‬‬ ‫التي وضعت ًّ‬ ‫خالي���ا الجه���ة العلوية لجذور نبات���ات أفقية تنم���و بطريقة‬ ‫س���ريعة مقارن��� ًة مع نف���س الخاليا الس���فلية‪ ،‬مما يعط���ي فر ًقا‬ ‫شاس���عا بين النمو العلوي والس���فلي‪ ،‬والنتيجة هي الميل إلى‬ ‫ً‬ ‫األسفل في اتجاه الجاذبية األرضية‪ .‬من بين العوامل الكيميائية‬ ‫المصاحبة لتصحيح زاوية الميل عند النباتات بعد االستشعار‬ ‫الجاذبي‪ ،‬يمكن أن نس���تدرج هرمون األكس���ين‪ ،‬وهو الهرمون‬ ‫كلي���ا ع���ن تكوين الج���ذور‪ ،‬وحتى طريق���ة االتجاه‬ ‫المس���ؤول ًّ‬ ‫نحو األرض بالنس���بة للجذور واالتجاه نحو الس���ماء بالنس���بة‬ ‫للج���ذوع‪ ،‬مما يمكن اس���تحضاره من اآلية القرآني���ة‪َ  :‬أ َل ْم َت َر‬ ‫ِت‬ ‫هلل َم َث ً‬ ‫َك ْي َ‬ ‫���ف َض َر َب ا ُ‬ ‫���ج َر ٍة َط ِّي َب��� ٍة َأ ْص ُل َها َثاب ٌ‬ ‫�ل�ا َك ِل َم ًة َط ِّي َب ًة َك َش َ‬ ‫ِ‬ ‫الس َما ِء‪(‬إبراهيم‪.)24:‬‬ ‫َو َف ْر ُع َها في َّ‬ ‫أيضا عن النمو وتمدد الخاليا‬ ‫هذا الهرمون هو المس���ؤول ً‬ ‫النباتي���ة‪ ،‬وهذا عبر ثالث���ة مراحل؛ هي التمدد فدخول الماء ثم‬ ‫النم���و‪ .‬ه���ذه المراح���ل تتم بالتتاب���ع‪ ،‬ولها خاصي���ة أنها بدون‬ ‫رجعة‪ .‬الرسم أسفله يبين هذه المراحل‪.‬‬

‫إن وج���ود اس���تجابة الجاذبية عند النبات���ات‪ ،‬والتي تتطابق‬ ‫مع النمو الموجهة في بعض األعضاء في اتجاه قوة الجاذبية‪،‬‬ ‫نظام���ا أو أنظمة يمكن أن تتجاوب بش���كل‬ ‫يفت���رض أن هن���اك ً‬ ‫فوري مع الجاذبية داخل النبات‪.‬‬ ‫ضغطا‬ ‫يب���دو أن هن���اك‬ ‫كبي���را بواس���طة البروتوبالزما‪ ،‬وهو‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫غير متس���اوٍ في جميع مناطق الخلية الحساسة‪ .‬هذه الخاصية‬ ‫قاب�ل�ا إلعط���اء إش���ارة‬ ‫تجع���ل مج���ال اإلدراك عن���د الج���ذور‪،‬‬ ‫ً‬ ‫أقل‬ ‫التصحي���ح‪ ،‬وتك���ون ه���ذه الخاصي���ة آلية أخرى ل�ل�إدراك ّ‬ ‫أهمية من الترسيب المرتبطة بجزيئات النشا‪.‬‬ ‫وجود الجاذبية أمر أساسي لبقاء األصناف خالل اإلنبات‪،‬‬ ‫بيئي���ا‪ ،‬يب���دو أن العديد من‬ ‫ق���دم باس���تمرار‬ ‫ً‬ ‫والجاذبي���ة ُت ِّ‬ ‫عام�ل�ا ًّ‬ ‫اكتسبت أثناء التطور‪ ،‬مما أدى إلى وجود عدة نظم‬ ‫العمليات ُ‬ ‫داخل الخلية نفسها‪.‬‬

‫عملية اإلنبات عمودية وعادية‪.‬‬

‫ه���ذا الف���رق ف���ي تركيز األكس���ين بي���ن الجهتين‪ ،‬مس���ؤول‬ ‫ع���ن تمدد الخاليا العلوية بس���رعة نمو كبي���رة مقارنة للخاليا‬ ‫لتكون استجابة الخاليا للتعديل‬ ‫الس���فلية (‪ّ )Differential Growth‬‬ ‫الجاذبي‪.‬‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )38‬‬

‫‪44‬‬

‫عملية اإلنبات عمودية عكس الجاذبية‪.‬‬


‫و ُتبي���ن الدراس���ات أن هن���اك آلية تحد من انحن���اء الجذور‬ ‫عل���ى األرض‪ ،‬ف���ي حي���ن أنها تتوق���ف عن العمل م���ع انعدام‬ ‫الجاذبي���ة‪ .‬وه���ذا يفترض أن درجة انحن���اء الجذور‪ ،‬هي نتيجة‬ ‫قوتي���ن متعارضتي���ن ومتتاليتي���ن؛ إحداهم���ا تح���رض رد فع���ل‬ ‫االنحناء الجاذبي‪ ،‬واألخرى تعدمه‪( .‬الصورة رقم‪)4‬‬ ‫أك���د البح���ث أن هن���اك عالق���ة بي���ن الجاذبي���ة األرضي���ة‬ ‫والنبات���ات‪ ،‬يجعل لديها القدرة على االنتصاب في حالة ميلها‬ ‫بس���بب الرياح والح���وادث األرضية األخ���رى‪ ،‬حيث إن لديها‬ ‫ذاتيا بالوضع والحركات والتوازن‪.‬‬ ‫تقب ً‬ ‫ال ًّ‬ ‫ّ‬

‫الصورة رقم‪ :6‬أطوار تصحيح أثر الجاذبية عند الجذع‪ .‬من ‪ 1‬إلى ‪.4‬‬

‫أفقيا باتجاه الساق إلى األعلى‪.‬‬ ‫الصورة رقم‪ :7‬وضع نبتة الجلبان ًّ‬

‫االستجابة لعامل الجاذبية‬

‫الصورة رقم‪ :5‬الجذع في اتجاه الجاذبية‪.‬‬

‫وق���د أجري���ت تج���ارب م���ع فريق م���ن الطلبة بجامع���ة محمد‬ ‫األول‪ ،‬كلي���ة العل���وم‪ ،‬وج���دة‪ ،‬المغ���رب‪ ،‬على ع���دة أنواع من‬ ‫فتبين من‬ ‫النبات���ات؛ منه���ا العدس‪ ،‬وعباد الش���مس‪ ،‬والجلبان‪ّ ،‬‬ ‫الحس���ابات أن النبات لديه اإلحس���اس بالميل واالنحناء‪ ،‬مما‬ ‫يجعله يرجع إلى الش���كل والوضع الطبيعي مرة أخرى‪ ،‬وأن‬ ‫ذل���ك يمر من خ�ل�ال الخاليا الموجودة ف���ي الكوع الخارجي‬ ‫للس���اق الذي يقوم بتصحيح وضعه‪ ،‬وفي حالة وجود ضعف‬ ‫ف���ي هذه الخاليا‪ ،‬يك���ون من الصعب على النب���ات االنتصاب‬ ‫م���رة أخرى‪ .‬وما زالت األبحاث مس���تمرة لمعرف���ة المزيد من‬ ‫المعلومات‪.‬‬ ‫عن���د وض���ع نبتة في وض���ع أفقي‪ ،‬يتجه الس���اق إلى أعلى‬ ‫والج���ذر إل���ى أس���فل (الصورة رقم‪ .)5‬وتس���مى عملي���ة اتجاه‬ ‫الجذر إلى أس���فل بـ"االنتحاء األرضي" الذي يظهر حالما تبدأ‬ ‫عملي���ة إنب���ات البذور‪ .‬ويعود ذلك إلى وج���ود زيادة في تركيز‬ ‫األكسين عند ذلك الطرف‪ ،‬ويمنع التركيز العالي لألكسين في‬ ‫الجانب اآلخر المواجه لألول‪ ،‬مما يعطي استطالة الخاليا في‬ ‫الجذور‪ ،‬ويبطء النمو عند ذلك الجانب‪ ،‬ويزداد انقسام الخاليا‬ ‫عل���ى الجان���ب العل���وي‪ ،‬مما يس���بب انحن���اء النهائ���ي للجذر‪.‬‬

‫جد حساس���ة للجاذبية‪ ،‬وهي‬ ‫د ّلت بعض التجارب أن الجذور ُّ‬ ‫ذير‪ ،‬بواس���طة‬ ‫تؤث���ر على خاليا ال���رأس الموجودة في قمة ُ‬ ‫الج ْ‬ ‫حب���وب نش���وية تتجم���ع ويس���بب وزنه���ا ف���ي أس���فل الخلي���ة‬ ‫بتصحيح وضعها وإدراك الوضع الطبيعي الذي ذكر في اآلية‬ ‫ِت‪ ،‬وتنمو ف���ي االتجاه الصحيح نحو‬ ‫الكريم���ة؛ ‪َ ‬أ ْص ُل َها َثاب ٌ‬ ‫األسفل في داخل األرض‪.‬‬ ‫نموها‪،‬‬ ‫تف���رز جمي���ع النباتات بعض الم���واد التي ّ‬ ‫تنش���ط َّ‬ ‫ومن بينها األوكسين (‪ )Acetic Indolyl Acid‬وهي هرمونات نمو‬ ‫النباتات‪ .‬فهي تؤثر في بعض أقس���ام النبتة‪ ،‬وتس���بب الجاذبية‬ ‫تركيز األوكسين فيها كما كانت الحال ساب ًقا في حبوب النشا‪.‬‬ ‫وتحتوي خاليا الساق الحديث العهد والتي تقع في األسفل‪،‬‬ ‫على كمية أكبر من األوكس���ين‪ .‬فهي تنمو إ ًذا وتتكاثر بس���رعة‬ ‫متجها نحو األعلى‪ .‬فالخاليا القريبة‬ ‫أكث���ر‪ ،‬ويكون رأس النبتة‬ ‫ً‬ ‫جدا‬ ‫م���ن ال���رأس‪ ،‬هي التي تحتوي على نس���ب مئوي���ة مرتفعة ًّ‬ ‫من األوكس���ينات‪ ،‬وعندم���ا تتواجد األوكس���ينات بكثرة‪ ،‬تفقد‬ ‫فعاليته���ا وال تعود تنش���ط النمو والتكاث���ر‪ .‬وبالمقابل‪ ،‬تحتوي‬ ‫بعي���دا ع���ن رأس الج���ذور كمي���ات أق���ل من‬ ‫الخالي���ا الواقع���ة‬ ‫ً‬ ‫االوكسينات‪ ،‬إال أنها كافية لتوجيه الجذر نحو األسفل‪.‬‬ ‫استش���عار الجاذبية يكمن عند النباتات في انحناء الجذور‬ ‫في اتجاه األرض‪ ،‬وهذا بزاوية ميل مصححة بطريقة رياضية‪،‬‬ ‫تس���تعمل فيه���ا النبت���ة عمليات حس���ابية معقدة لتبي���ان مكامن‬

‫‪43‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )38‬‬


‫نش���ط‬ ‫وق���د أثبتت بع���ض التج���ارب أن االنحناء الجاذبي َي ُ‬ ‫بانتق���ال كابح للنمو من رأس الجذر باتجاه منطقة االس���تطالة‬ ‫والنم���و‪ .‬في هات���ه الحالة تكون العضويات الجاذبة ‪-‬واس���مها‬ ‫أميلوبالس���ت‪ -‬متموضع���ة ق���رب الجدار الخل���وي األبعد عن‬ ‫النس���يج اإلنش���ائي في مؤخ���رة رأس الج���ذر (‪ . )Coiffe‬وهكذا‬ ‫يفت���رض وجود ضغط على بنية حساس���ة على الجدار الطولي‬ ‫لخاليا مسؤولة عن تمثل االنحناء الجاذبي‪.‬‬

‫الصورة رقم‪ :1‬رأس الجذر مع الغطاء الخارجي الحساس‬

‫وق���د الحظ بعض العلماء ف���ي القرن الماضي بعد حصيلة‬ ‫م���ن التج���ارب ف���ي المحط���ة الفضائية الس���وفياتية س���يوز‪ ،‬أن‬ ‫الخاليا الحساس���ة التي توجد برأس الج���ذع (‪ )Coiffe‬هي التي‬ ‫توج���ه جواب الجذوع لتأثير الجاذبي���ة‪ ،‬خاصة بعد مقارنة بين‬ ‫ّ‬ ‫تموض���ع الجذوع تحت تأثي���ر الجاذبية وأخرى تحت ظروف‬ ‫انع���دام الجاذبي���ة‪ ،‬فتبين أن هناك ترس���ب عضوي���ا ت (�‪Amylo‬‬ ‫‪ )plastes‬كبي���رة في الخاليا الحساس���ة بفع���ل الجاذبية‪ ،‬وتبين أن‬ ‫النم���و الجذري يكون أضعف في حال انعدام الجاذبية‪ .‬وهذه‬ ‫النظري���ة تبي���ن التأثر بالجاذبية من خالل تغير في قدرة التوجه‪،‬‬ ‫ونق���ل هذه المعلوم���ات إلى منطقة يتم فيها االنحناء الجذري‪.‬‬ ‫ويت���م ذلك عبر ع���دة مراحل‪ ،‬أولها إدراك الج���ذر لتغير اتجاه‬ ‫الجاذبي���ة‪ ،‬ث���م ترجم���ة اإلش���ارة‪ ،‬أي تحويل الفع���ل اآللي إلى‬ ‫إنت���اج وتوزي���ع كيميائي حي���وي‪ .‬وهنا يكون الم���زج المعجز‬ ‫بي���ن نظامين متباعدين‪ ،‬األول فيزيائ���ي وهي الجاذبية‪ ،‬والثاني‬ ‫كميائي وهي مواد تفرز في النبات‪ .‬وتنتقل اإلشارة القادمة من‬ ‫رأس الج���ذر‪ ،‬حيث يت���م اإلدراك والترجمة إل���ى موقع التأثر‬ ‫ال���ذي يبع���د بمليمترين عن الرأس‪ ،‬ثم ينش���أ االنحناء الجاذبي‬ ‫في نمو األجزاء العليا (الصورة رقم‪ )2‬والدنيا (الصورة رقم‪)3‬‬ ‫من الجذور‪ ،‬حيث يمكن مالحظة طول الخاليا في المواضع‬ ‫القريبة من الرأس بواسطة المجهر‪.‬‬

‫الصورة رقم‪3‬‬ ‫خاليا سفلية جذرية‬ ‫غير ممددة لجذور نبات الجلبان‪.‬‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )38‬‬

‫الصورة رقم‪2‬‬ ‫خاليا علوية جذرية‬ ‫متمددة لجذور نبات الجلبان‪.‬‬

‫‪42‬‬

‫عملية اإلنبات بزاوية ميل ‪ 60= α‬درجة‪.‬‬

‫الصورة رقم‪ :4‬قوة االنحناء وتصحيح القوة الجاذبية‪.‬‬


‫علوم‬

‫أ‪.‬د‪ .‬عبد المجيد بلعابد*‬

‫استشعار الجاذبية عند النبات‬ ‫ِ‬ ‫الس َما ِء‪(‬إبراهيم‪.)24:‬‬ ‫هلل َم َث ً‬ ‫‪َ ‬أ َل ْم َت َر َك ْي َ‬ ‫ف َض َر َب ا ُ‬ ‫ال َك ِل َم ًة َط ِّي َب ًة َك َش َج َر ٍة َط ِّي َب ٍة َأ ْص ُل َها َثاب ٌ‬ ‫ِت َو َف ْر ُع َها في َّ‬ ‫تعتب���ر الجاذبي���ة م���ن أه���م العوام���ل الفيزيائية‬

‫���د دقيق���ة ومتنوع���ة ومع ّقدة ف���ي الزم���ان والموقع‬ ‫فيزيائي���ة ِج ُّ‬

‫الس���ماوات واألرض‪ .‬وه���ي َمع َلم���ة فيزيائي���ة‬

‫اهلل ه���ذه المخلوقات أعضاء يمكنها أن تحلل النظم الخارجية‬

‫تأثي���را عل���ى الكائن���ات الحي���ة من���ذ خل���ق اهلل‬ ‫ً‬ ‫كالض���وء والح���رارة والرطوب���ة والضغط الخارج���ي واالرتفاع‬

‫فوق س���طح البحر‪ .‬وقد تكون هذه العوامل مجتمعة في تأثير‬ ‫ِ‬ ‫���ر ِد ا ُ َ‬ ‫���ر ْح‬ ‫واح���د كم���ا ف���ي قوله تعال���ى‪َ  :‬ف َم ْن ُي ِ‬ ‫هلل أ ْن َيهد َي ُه َي ْش َ‬ ‫�ل�ا ِم َو َم ْن ُي ِر ْد َأ ْن ُي ِض َّل ُه َي ْج َع ْل َص ْد َر ُه َض ِّي ًقا َح َر ًجا‬ ‫إل ْس َ‬ ‫َص ْد َر ُه ِل ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ين‬ ‫الس َ���ما ِء َك َذ ِل َك َي ْج َع ُل ا ُ‬ ‫س َع َلى ا َّل ِذ َ‬ ‫الر ْج َ‬ ‫هلل ِّ‬ ‫َكأ َّن َما َي َّص َّع ُد في َّ‬ ‫ون‪(‬األنعام‪ ،)125:‬هنا يجمع اهلل تعالى بين معلمتين هما‬ ‫َ‬ ‫ال ُي ْؤ ِم ُن َ‬ ‫االرتف���اع عن س���طح األرض‪ ،‬ونقص األكس���يجين في الهواء‬ ‫عبر الضغط الخارجي‪ ،‬وقد يضاف إليهما عامل الجاذبية‪.‬‬

‫والنبات���ات م���ن بي���ن مخلوق���ات اهلل الت���ي تؤث���ر ب���كل هذه‬

‫المعالم‪ ،‬ليس لها وسط داخلي (‪ )Milieu İntérieur‬كالحيوانات‪،‬‬

‫مباش���را‪ .‬وهذا الوس���ط النباتي هو وس���ط‬ ‫مم���ا يجع���ل التأثي���ر‬ ‫ً‬

‫طبيع���ي خارجي يتق ّل���ب بتقلبات الج���و‪ ،‬ويخضع لمعامالت‬

‫الجغراف���ي‪ .‬وللجاذبي���ة تأثي���ر مذهل على النبات���ات‪ ،‬وقد منح‬ ‫المحيطة بها بدقة عالية ومعجزة‪ .‬إن األعضاء الحساسة لعامل‬

‫َ‬ ‫ف َض َر َب‬ ‫���م َت َر َك ْي َ‬ ‫الجاذبي���ة‪ ،‬قد ذكرت في اآلية الكريمة‪ :‬أ َل ْ‬ ‫ِ���ت َو َف ْر ُع َها ِفي‬ ‫ا ُ‬ ‫هلل َم َث�ل� ً‬ ‫���ج َر ٍة َط ِّي َب��� ٍة َأ ْص ُل َها َثاب ٌ‬ ‫ا َك ِل َم��� ًة َط ِّي َب��� ًة َك َش َ‬ ‫���ما ِء‪(‬إبراهيم‪ )24:‬أن األص���ل ثابت وهي الج���ذوع والفروع‬ ‫الس َ‬ ‫َّ‬ ‫تأث���را بالجاذبية‪.‬‬ ‫ف���ي الس���ماء‪ .‬فه���ذان العض���وان هم���ا األكث���ر ً‬

‫وال���دارس له���ذه الظاهرة يمكنه أن يس���لط الض���وء على عمل‬

‫الخالي���ا الحساس���ة المكون���ة له���ذه األعضاء‪ .‬فعندم���ا يوضع‬ ‫أفقيا في حق���ل الجاذبية األرضية‪ ،‬فإن طرفه ينحني نحو‬ ‫ج���ذر ًّ‬ ‫األسفل ليعود إلى اتجاه نموه الطبيعي‪ .‬وهذا ما يدعى بـ"النمو‬

‫الجاذب���ي"‪ .‬وهذا النم���و يتوقف إذا اجت���ث رأس الجذر حيث‬ ‫تتموضع الخاليا الحساسة للجاذبية‪( .‬الصورة رقم‪)1‬‬

‫‪41‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )38‬‬


‫شعر‬

‫سعود الصاعدي*‬

‫يا حادي الركب‬ ‫م�������ا ه������� ّز قلب�������ي ال وج������� ٌد وال َغ������� َز ُل‬ ‫ذاك ام�������رؤ القيس يبكي ف�������ي الثّرى ِدمنًا‬ ‫منمق������� ٌة‬ ‫م�������ا الح ُّ‬ ‫�������ب إال أحادي ٌ‬ ‫�������ث ّ‬ ‫�������ات إال خ ُّ‬ ‫�������د فاتن������� ٍة‬ ‫وال الصباب ُ‬ ‫�������ل غاني ٍة‬ ‫ُس�������حقًا لم�������ن مجده ف�������ي وص ِ‬ ‫أض ُلع�������ي ش�������وقًا أكاب�������د ُه‬ ‫لك�������ن ف�������ي ْ‬ ‫فت‬ ‫�������ر ْ‬ ‫ي�������ا حادي الركب في درب العال ش ُ‬ ‫ل�������م يُث ِ‬ ‫��������ي َرك ف�������ي البي�������داء ذو ظفر‬ ‫�������ن َس ْ‬ ‫�������ر فالمطاي�������ا به�������ا ش ٌ‬ ‫�������وق يس�������يّرها‬ ‫ِس ْ‬ ‫�������ر في ٍ‬ ‫بقيت‬ ‫رحاب إل�������ى الرحمن م�������ا ْ‬ ‫ِس ْ‬ ‫ِس�������ر واطّ�������رح َّ‬ ‫كل أرزاء اله�������وى‪ ،‬فلن�������ا‬ ‫ْ‬ ‫ال تُهم�������ل العي�������س دعه�������ا فه�������ي جامح ٌة‬ ‫وإن تب������� ّدت ل�������ك األض�������واء ف�������ي بل������� ٍد‬ ‫�������ت ش�������عاع البي ِ‬ ‫�������ت مؤتلقً�������ا‬ ‫وإن رأي َ‬ ‫ِ‬ ‫كرم�������ا‬ ‫فاقص�������د بن�������ا البي�������ت وارِو غ ّلت�������ي ً‬ ‫ِ‬ ‫�������عاب ن�������ام س ُ‬ ‫�������ر بن�������ا ف�������ي ش ٍ‬ ‫�������الكها‬ ‫وس ْ‬ ‫ائمنا‬ ‫ي�������ا ح�������ادي الرك�������ب م�������ا ك ّل�������ت عز ُ‬ ‫فلي�������س إال ه�������دى الرحم�������ن غايتن�������ا‬ ‫جئن�������ا نلبّ�������ي ن�������داء الح�������ق تس�������بقنا‬ ‫جئن�������ا فأرواحن�������ا ق�������د ح ّلق�������ت ش�������رفًا‬ ‫نفس�������ا برؤيت ِه‬ ‫ي�������ا قاص�������د البي�������ت ِط ْ‬ ‫�������ب ً‬ ‫ّ‬ ‫�������ت لغ�������ة األق�������وال فانهم�������ري‬ ‫تعطل ْ‬

‫َ�������ل‬ ‫رمت������� ُه بألح�������اظ اله�������وى ُمق ُ‬ ‫وال ْ‬ ‫وتل�������ك أفئ�������دة العش�������اق ي�������ا َط َل�������ل‬ ‫ق�������د حاكها م�������ن قميص اللي�������ل من غفلوا‬ ‫تصوغه�������ا ع�������ن أحادي�������ث اله�������وى القُبَ ُل‬ ‫�������ل‬ ‫والح َل ُ‬ ‫تكس�������و مفاتنَه�������ا األث ُ‬ ‫�������واب ُ‬ ‫�������ل‬ ‫الج َم ُ‬ ‫�������اعر ُ‬ ‫ولي�������س تُس������� ِع ُف إال الش َ‬ ‫�������ل‬ ‫ب�������ك المعال�������ي‬ ‫ودرب الدي�������ن متص ُ‬ ‫ُ‬ ‫�������ل‬ ‫�������أس وال َم َل ُ‬ ‫وال َ�ثنَ�������ى الع َ‬ ‫�������زم ال ي ٌ‬ ‫وف�������ي النف ِ‬ ‫�������تعل‬ ‫�������وس أزي�������ز الش�������وق يش ُ‬ ‫ب�������ك الس�������نون وم�������ا أبق�������ى ب�������ك األجل‬ ‫�������ل‬ ‫�������وح ف�������ي سبس�������ب الديج�������ورة األم ُ‬ ‫يل ُ‬ ‫والكلل‬ ‫�������ن‬ ‫ُ‬ ‫م�������ا َص ّدها في المس�������ير الوه ُ‬ ‫مل‬ ‫ب�������ه الحطي�������م فق�������ل‪ :‬يكفي�������ك ي�������ا َج ُ‬ ‫�������ل‬ ‫يفي�������ض بالن�������ور‬ ‫واألرواح تبته ُ‬ ‫ُ‬ ‫�������ل‬ ‫�������ر الزل ُ‬ ‫م�������ن م�������اء زم�������زم فه�������و الطاه ُ‬ ‫�������ل‬ ‫لع�������ل عين�������ي ب�������أرض الطه�������ر تكتح ُ‬ ‫�������ل‬ ‫وال تولّ�������ت بن�������ا األه�������واء والمل ُ‬ ‫�������ل‬ ‫ولي�������س إال ال�������ذي قال�������ت لن�������ا الرس ُ‬ ‫�������ل‬ ‫قلوبُن�������ا فه�������ي للرحم�������ن تمتث ُ‬ ‫�������ل‬ ‫�������در وال ُز َح ُ‬ ‫إل�������ى الس�������ماء ف���ل���ا ب ٌ‬ ‫وي�������ا حجي�������ج ب���ل���اد الل�������ه فابتهل�������وا‬ ‫َ�������ل‬ ‫بالدم�������ع عن�������د مق�������ام الرك�������ن ي�������ا ُمق ُ‬ ‫(*) شاعر سعودي‪.‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )38‬‬

‫‪40‬‬


‫امتداده���ا في أرجاء البحر الكاس���ح عند ب���دء التكوين‪ :‬خاصة‬ ‫"الخ ْش���عة" كم���ا ج���اء ف���ي نف���س المص���در تعن���ي‪َ " :‬أ َكمة‬ ‫وأن ُ‬ ‫ِ‬ ‫���ع‪ ،‬وقيل هو م���ا غلبت عليه‬ ‫الطئ��� ٌة ب���األرض‪ ،‬والجم���ع ُخ َش ٌ‬

‫الس���هولة‪ ،‬أي لي���س بحجر وال طين"‪ .‬وفي ه���ذه المواصفات‬ ‫علميا في‬ ‫س���ندا‬ ‫"خ ْش���عة" التي كما س���نرى‪ ،‬نج���د لها‬ ‫لكلم���ة ُ‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫التصني���ف الجيولوج���ي لميكانيزم���ات نش���وء وتبل���ور قش���رة‬ ‫تلميح���ا إل���ى أن الكعب���ة قد تك���ون أول أكمة‬ ‫األرض‪ ،‬نلم���س‬ ‫ً‬ ‫انبثق���ت من باط���ن األرض المنصهر‪ ،‬حت���ى إذا ما برزت على‬ ‫س���طح األرض المغم���ور بالمياه وه���ي في مرحلته���ا الجنينية‬ ‫َل ِز َجة‪ُ ،‬د ِحيت منها اليابس���ة فانتش���رت القارات‪ .‬وهو المش���هد‬ ‫���ع‬ ‫ال���ذي يع���ززه تفس���ير القرطب���ي لقول���ه تعال���ى‪َ :‬‬ ‫‪‬وإ ِْذ َي ْر َف ُ‬ ‫���ت َوإِس���م ِ‬ ‫إ ِْبر ِاهي���م ا ْل َقو ِاع َ ِ‬ ‫���ن ا ْلبي ِ‬ ‫يل‪(‬البقرة‪ ،)127:‬حيث‬ ‫اع ُ‬ ‫ْ َ‬ ‫ُ َ‬ ‫���د م َ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫مجاه���دا قال‪" :‬خل���ق اهلل موضع البيت‬ ‫أن‬ ‫اهلل‪-‬‬ ‫رحم���ه‬‫ق���ال‬ ‫ً‬ ‫ش���يئا من األرض بألفي س���نة‪ ،‬وأن قواعده لفي‬ ‫قبل أن يخلق‬ ‫ً‬ ‫السفلى"‪ .‬ذلك التفسير الذي يتصل بما سبق‬ ‫األرض الس���ابعة ُّ‬ ‫أن قلن���اه ح���ول انبث���اق الكعب���ة كأول أكمة م���ن باطن األرض‬ ‫المنصه���ر عل���ى س���طحها المغم���ور بالمياه عند ب���دء التكوين؛‬ ‫مم���ا جعل أرض مكة تس���مى ف���ي كتاب اهلل ب���ـ"أم القرى"‪ ،‬أي‬ ‫األص���ل الذي تفرعت من���ه كل البراري على س���طح األرض‪.‬‬ ‫علما بأنها تقابل‬ ‫فإذا أقررنا بأن الكعبة في وس���ط األرض‪ً ،‬‬ ‫في السماء البيت المعمور كما دل على ذلك البيان الوارد في‬ ‫حديث رس���ول اهلل ‪ ،‬الذي جاء في معرض تفس���ير ابن كثير‬ ‫‪‬وا ْل َب ْي ِت ا ْل َم ْع ُمورِ ‪(‬الط���ور‪ ،)4:‬حيث قال رحمه‬ ‫لقول���ه تعالى‪َ :‬‬ ‫���د ّي‪ُ :‬ذكر لنا أن رس���ول‬ ‫والس ِّ‬ ‫اهلل‪" :‬قال قتادة والربيع بن أنس ُّ‬ ‫يوما ألصحابه ‪" :‬هل تدرون ما البيت المعمور؟"‬ ‫اهلل ‪ ‬قال ً‬ ‫قالوا‪ :‬اهلل ورس���وله أعلم‪ .‬قال‪" :‬فإنه مس���جد في السماء بحيال‬ ‫لخ���ر عليها يصل���ي فيه كل يوم س���بعون ألف‬ ‫خر‬ ‫ّ‬ ‫الكعب���ة‪ ،‬ل���و ّ‬ ‫مل���ك‪ ،‬إذا خرج���وا منه لم يعودوا آخر ما عليهم"‪ .‬فذلك يعني‬ ‫أن الكعبة توجد في محور التواصل مع البيت المعمور‪ ،‬ذلك‬ ‫المحور الذي حوله تتماثل منظومة الكون في سجود وتسبيح‬ ‫معج���زا في وصفه���ا‪ ،‬وجاء حديث‬ ‫لخالقه���ا ال���ذي ج���اء كتابه‬ ‫ً‬ ‫رس���وله ‪ ‬صاد ًق���ا ف���ي تثبي���ت صحتها‪ ،‬حتى تع���ي األمة بكل‬ ‫المعايير العلمية ومن خالل موقعها الوسط الذي خصها اهلل به‬ ‫���طا‪(‬البقرة‪ )143:‬ما‬ ‫اك ْم ُأ َّم ًة َو َس ً‬ ‫‪‬و َك َذ ِل َك َج َع ْل َن ُ‬ ‫في قوله تعالى‪َ :‬‬ ‫ترمز إليه معالم الزوجية من أسرار حقيقة التوحيد‪ ،‬التي يشهد‬ ‫بها للموجد كل شيء في هذا الوجود‪.‬‬ ‫وهذا يدل على أن ما تحمله الزوجية من أسرار ودالالت‪،‬‬

‫تلتق���ي معانيه في حقيقة واحدة تدل على صفة الوحدانية التي‬ ‫تف���رد به���ا موجد الوج���ود المنزه ع���ن التش���بيه والتمثيل الذي‬ ‫ق���ال في ح���ق ذاته العلي���ة‪َ ﴿ :‬ليس َك ِم ْث ِل ِه َش���ي ٌء َو ُهو الس ِ‬ ‫يع‬ ‫���م ُ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ َّ‬ ‫ْ‬ ‫ا ْل َب ِص ُير﴾(الش���ورى‪ .)11:‬م���ن أج���ل ذل���ك ج���اءت ف���ي عب���ادات‬ ‫كثير من المش���اهد التي ترمز إلى انس���جامه الفطري‬ ‫المس���لم‪ٌ ،‬‬ ‫م���ع نظ���ام الزوجي���ة في الك���ون‪ ،‬بحي���ث إذا تأملنا في مش���هد‬ ‫الس���جود من محفل الس���اجدين حول الكعبة‪ ،‬فسنجده يجسد‬ ‫تزاوجيا ح���ول محور التواصل بين الس���ماء واألرض‪،‬‬ ‫تماث�ل�ا‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫يذكر بذاك الذي يسري في كل مكونات الكون‪ ،‬من الذرة التي‬ ‫ّ‬ ‫تتماث���ل فيها اإللكترونات حول النواة إلى المجرة التي تتماثل‬ ‫فيه���ا الكواكب حول الش���مس في إش���ارة إلى وحدة الس���جود‬ ‫التي عمت كل الوجود‪ .‬كما أننا إذا تأملنا في مش���هد الطواف‬ ‫تجس���يدا‬ ‫م���ن موك���ب الطائفين ح���ول الكعبة‪ ،‬فس���نجده يمثل‬ ‫ً‬ ‫للجذب واالستقطاب الذي يحصل لكل شيء حول أصله‪.‬‬ ‫فالكعب���ة بموقعها الجذاب الذي يجعل أفئدة الناس تهوي‬ ‫مس���تقطبة نحوها‪ ،‬ألنها‬ ‫إليه���ا‪ ،‬يطوف حولها الطائفون بقلوب‬ ‫َ‬ ‫تماما كما‬ ‫تشكل األصل الذي منه تفرعت األرض ّأم اإلنسان‪ً ،‬‬ ‫ش���كل الن���وا ُة التي حولها تح���وم اإللكترونات في نفس اتجاه‬ ‫ُت ِّ‬ ‫شكل األرض‬ ‫الطواف‬ ‫األصل الذي تشكلت منه الذرة‪ ،‬وكما ُت ِّ‬ ‫َ‬ ‫األصل‬ ‫منجذبا إليها‬ ‫الت���ي حولها يدور القمر في نفس االتجاه‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ال���ذي من���ه انفصل‪ ،‬وكما تش���كل الش���مس الت���ي حولها تدور‬ ‫األرض ف���ي نفس االتجاه األصل الذي منه انبثقت األرض‪...‬‬ ‫إلى غير ذلك من المشاهد التي تعبر عن أن اإلنسان في لحظة‬ ‫الس���جود والط���واف وغيرهم���ا م���ن العب���ادات‪ ،‬يترجم أس���مى‬ ‫عب���ارات االرتب���اط باألصل‪ ،‬م���ن خالل طلبه التح���رر من رق‬ ‫الذات والعروج في شوارق الصفات‪ .‬تلك الصفات الموصلة‬ ‫إلى اهلل ‪ ‬التي ِس ّرها من أصل تلك النفخة اإللهية‪ ،‬التي بثها‬ ‫سويا‪.‬‬ ‫س���بحانه من روحه في كيان اإلنس���ان من يوم خلق آدم ًّ‬ ‫ف���كان أن ُأتبِعت اآلي ُة محور هذا الفصل بقوله تعالى‪َ  :‬ف ِف ُّروا‬ ‫هلل ِإ ِّن���ي َل ُك ِ ِ‬ ‫���ع ا ِ‬ ‫ِإ َل���ى ا ِ‬ ‫هلل ِإ َل ًها‬ ‫ِي���ن ‪َ ‬و َ‬ ‫ير ُمب ٌ‬ ‫ال َت ْج َع ُلوا َم َ‬ ‫ْ‬ ‫���م م ْن ُه َنذ ٌ‬ ‫ِ ِ‬ ‫آخ ِ‬ ‫ِين‪(‬الذاري���ات‪ )51-50:‬في تلميح إلى‬ ‫ي���ر ُمب ٌ‬ ‫���ر ِإ ّني َل ُك ْم م ْن ُه َنذ ٌ‬ ‫َ َ‬ ‫أن���ه س���بحانه‪ ،‬الواح���د األحد الذي ال مفر من���ه وال منجى وال‬ ‫ينش���ل‬ ‫ملج���أ إال إلي���ه؛ إذ ال ِن ّد له وال مثيل وال نظير يمكن أن ُ‬ ‫العب���د من أوحال نفس���ه‪ ،‬وذلك ما ترم���ز إليه دالالت الزوجية‬ ‫َ‬ ‫في هذا الكون‪.‬‬ ‫(*) كلية العلوم‪ ،‬جامعة ابن طفيل ‪ /‬المغرب‪.‬‬

‫‪39‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )38‬‬


‫ف���ي البل���ورة‪ ،‬إنما صدر ع���ن تماثل الذرات في بن���اء الجزيء‬ ‫ِ‬ ‫المؤس���س للبلورة‪ ،‬ذلك التماثل الذي يسري في الحجر ومنه‬ ‫ّ‬ ‫إل���ى الجب���ل فاألرض الت���ي تتماثل ح���ول مركزه���ا‬ ‫األطراف‪.‬‬ ‫ُ‬

‫كمل فيه البناء بمماثلة األرض للس���ماء‬ ‫ف���إذا رأيت الكون ُ‬ ‫هلل ا َّل ِذي َخ َل َق َس ْ���ب َع‬ ‫كما نستش���ف ذلك من قول اهلل تعالى‪ :‬ا ُ‬ ‫س���مو ٍ‬ ‫���ن ا َ‬ ‫ض ِم ْث َل ُه َّن‪(‬الطالق‪ ،)12:‬وهي إش���ارة إلى‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫ات َو ِم َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫تقاب���ل كتلتي األرض والس���ماوات‪ ،‬فاعل���م أن ذلك من وحي‬ ‫ِ‬ ‫���ما ٍء‬ ‫اهلل إل���ى الك���ون بحك���م قول���ه ‪َ :‬‬ ‫‪‬و َأ ْو َح���ى ف���ي ُك ِّل َس َ‬

‫َ‬ ‫ِيح‪(‬فصل���ت‪ .)12:‬وإذا رأيت‬ ‫���م َاء ُّ‬ ‫الد ْن َيا ب َِم َصاب َ‬ ‫الس َ‬ ‫أ ْم َر َه���ا َو َز َّي َّنا َّ‬

‫األرض ُفرش���ت حجارة أساسها البلورة التي هي سر الزوجية‬

‫تحدث به أس���رارها هو م���ن وحي اهلل إليها‬ ‫فيه���ا‪ ،‬فاعلم أن ما ّ‬ ‫ار َها ‪ِ ‬ب َأ َّن َر َّب َك َأ ْو َحى‬ ‫‪‬ي ْو َم ِئ ٍذ ُت َح ِّ‬ ‫القائ���ل في حقها‪َ :‬‬ ‫���د ُث َأ ْخ َب َ‬ ‫َل َها‪(‬الزلزل���ة‪ .)5:‬وإذا رأي���ت هذه الحج���ارة أخرجت نبا ًتا ينمو‬ ‫في زوجية عجيبة الحس���ن متألقة الجمال‪ ،‬فاعلم أن ذلك من‬ ‫‪‬و َت���رى ا َ‬ ‫ض َها ِم َد ًة‬ ‫أل ْر َ‬ ‫وح���ي اهلل إليه���ا الذي قال ف���ي حقها‪َ َ :‬‬ ‫���ن ُك ِّل َز ْو ٍج‬ ‫َف��� ِإ َذا َأ ْن َز ْل َن���ا َع َل ْي َه���ا ا ْل َم َاء ْاه َت َّز ْت َو َر َب ْ‬ ‫���ت َو َأ ْن َب َت ْت ِم ْ‬ ‫يج‪(‬الح���ج‪ .)5:‬وإذا رأي���ت النحلة تمتص رحيق هذا النبات‬ ‫َبهِ ٍ‬ ‫يذكر بذاك‬ ‫فتبني خليتها على أس���اس من التماث���ل االزدواجي ّ‬ ‫ال���ذي تتأل���ق به هيئة البل���ورة‪ ،‬فاعلم أن ذلك مم���ا أوحى إليها‬ ‫الن ْح ِل‪(‬النحل‪.)68:‬‬ ‫‪‬و َأ ْو َحى َر ُّب َك ِإ َلى َّ‬ ‫ربها القائل في حقها‪َ :‬‬

‫مما يدل على أن هذه الزوجية المتجلية في كل شيء‪ ،‬إنما‬

‫هي صفة بثها اهلل بوحي منه سبحانه في كيان كل مخلوق حتى‬ ‫تشهد المخلوقات بإفراد الوحدانية للخالق‪ .‬فكان من أجل ذلك‬

‫أن ُجعلت الكعبة مهبط الوحي في وسط من األرض‪ ،‬تتماثل‬ ‫رمزا لهذه الزوجية في المكانة والمكان‪.‬‬ ‫حوله األقطار لتكون ً‬

‫الكعبة رمز الزوجية في األرض‬

‫القاري لألرض‪ ،‬ورس���منا‬ ‫إذا رجعنا إلى مختلف مراحل المد ّ‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )38‬‬

‫‪38‬‬

‫دائ���رة على خريطتها نجم���ع فيها كل القارات‪ ،‬وجدنا مركزها‬ ‫ف���ي الكعب���ة‪ .‬كم���ا أنن���ا إذا عالجن���ا ه���ذا المعط���ى من ش���كلها‬ ‫المكع���ب‪ ،‬فس���نجده دا ًّ‬ ‫ال على نفس المعن���ى‪ .‬فنحن نعرف أن‬ ‫المكع���ب ه���و أصل النظ���ام البلوري المكون ل���كل مادة صلبة‬ ‫عل���ى وجه األرض‪ ،‬ألن فيه تتس���اوى كل المحاور المتقاطعة‬ ‫يخول للمكعب‬ ‫في جميع االتجاهات الكونية‪ ،‬الش���يء الذي ِّ‬ ‫صف���ة الكم���ال في التماث���ل (‪ .)Perfect Symetry‬والكعبة بش���كلها‬ ‫المكعب‪ ،‬تجسد هذا المعطى بستة أضلع متماثلة‪ ،‬كل ضلع‬ ‫متج���ه إلى جه���ة معينة من جهات الكون‪ :‬األول إلى الس���ماء‪،‬‬ ‫واآلخ���ر المقابل ل���ه إلى األرض‪ ،‬واألربع���ة الباقية يتقابل فيها‬ ‫الش���مال الش���رقي مع الجن���وب الغربي والش���مال الغربي مع‬ ‫الجن���وب الش���رقي‪ ،‬بينم���ا تتج���ه األركان العمودي���ة الت���ي فيها‬ ‫تتقاط���ع خط���وط ه���ذه األضلع نح���و االتجاه���ات الجغرافية‬ ‫األربع���ة األصلي���ة لألرض‪ ،‬مش���كّ لة م���ن الكعبة نقط���ة تحديد‬ ‫لمطل���ق االتجاهات الكوني���ة‪ .‬وتلك ذروة الكمال في الزوجية‬ ‫يعب���ر عنه���ا التماثل القائم في الكعب���ة بين أضلعها وكذلك بين‬ ‫ع���د في الك���ون إال وتوجه���ت إليه‪.‬‬ ‫أركانه���ا‪ ،‬إذ لي���س هن���اك ُب ٌ‬ ‫فكان���ت من أجل ذلك ه���دى للعالمين كما وصفها اهلل ‪ ‬في‬ ‫ار ًكا َو ُه ًدى‬ ‫ِلن ِ‬ ‫قول���ه‪ِ  :‬إ َّن َأ َّولَ َب ْي ٍت ُو ِض َع ل َّ‬ ‫اس َل َّل���ذِ ي ِب َبكَّ َة ُم َب َ‬ ‫ين‪(‬آل عمران‪.)96:‬‬ ‫ِلل َْعالَمِ َ‬ ‫وه���ذا المش���هد يتضح أكثر إذا ما عالجن���اه من زاوية البعد‬ ‫الزمني لنشوء األرض وامتدادها المستمد من كشوفات العلم‪،‬‬ ‫تلك الكشوفات التي جاءت نتائجها موافقة لنصوص الوحي‪.‬‬ ‫فق���د ج���اء ف���ي "النهاية" في غري���ب األثر‪ ،‬قول رس���ول اهلل ‪:‬‬ ‫األرض"‪.‬‬ ‫يت منها‬ ‫ُ‬ ‫"كانت الكعبة ُخ ْشع ًة على الماء ُ‬ ‫فد ِح ْ‬ ‫ه���ذا الحدي���ث إذا تلمس���نا فهم���ه م���ن خ�ل�ال المعطي���ات‬ ‫ال بالح���س والمعن���ى على‬ ‫الجيولوجي���ة الحديث���ة‪ ،‬فس���نجده دا ًّ‬ ‫أن الكعب���ة تبق���ى النقطة األولى المرش���حة لبزوغ اليابس���ة‪ ،‬ثم‬


‫باستمرار مع متغيرات محيطه‪ .‬ويمكنك‬ ‫تتناظ���ر أطرافها ح���ول مركزه���ا الكائن‬ ‫أن تلمس هذا التجاوب في الهيئة البلورية‬ ‫ف���ي نواته���ا الباطني���ة‪ .‬وكل كائ���ن ح���ي‬ ‫كل‬ ‫يف‬ ‫املتجلي��ة‬ ‫الزوجي��ة‬ ‫إن‬ ‫�‬ ‫التي يكشفها لك تحليله المجهري؛ تلك‬ ‫من النب���ات إلى الحيوان إلى اإلنس���ان‪،‬‬ ‫�ش��يء‪� ،‬إمن��ا ه��ي �صف��ة بثه��ا اهلل‬ ‫الهيئة التي تتألق أشكالها وتتألأل أنوارها‬ ‫إنم���ا تأصل���ت مادت���ه من طين���ة األرض‬ ‫بوح��ي منه �سبحان��ه يف كيان كل‬ ‫وف ًقا للتش���كيالت المعدني���ة المنبثقة من‬ ‫التي تبل���ورت مركباتها من تب ّلر معدنها‬ ‫خملوق حت��ى ت�شه��د املخلوقات‬ ‫النس���ق الكيميائية‬ ‫عل���ى تلك الهيئ���ة البديعة م���ن التماثل‪،‬‬ ‫تفاع�ل�ات الحجر مع ُ‬ ‫الناش���ئة ف���ي الوس���ط ال���ذي يتبل���ور فيه‪،‬‬ ‫ب�إف��راد الوحدانية للخالق‪ .‬فكان‬ ‫بل ونج���د أن هذا النظام البلوري الذي‬ ‫بحي���ث إذا أخضع���ت ه���ذا الحج���ر‬ ‫من �أجل ذل��ك �أن ُجعلت الكعبة‬ ‫أساس���ا عل���ى خاصي���ة التماث���ل‪،‬‬ ‫يق���وم‬ ‫ً‬ ‫للفحص المجه���ري وظهرت لك معالم‬ ‫يتأسس على سبعة أشكال رئيسية يمثل‬ ‫مهب��ط الوح��ي يف و�س��ط م��ن‬ ‫هذه الهيئة البلورية في األشكال العجيبة‬ ‫المكع���ب األصل ال���ذي تتقاطع‬ ‫فيه���ا‬ ‫الأر���ض‪ ،‬تتماثل حول��ه الأقطار‬ ‫ّ‬ ‫واأللوان الزاهي���ة التي تختلف باختالف‬ ‫في���ه المح���اور ف���ي جمي���ع االتجاهات‬ ‫لتكون رم�� ًزا له��ذه الزوجية يف‬ ‫تركيباته المعدنية المتبلورة مع متغيرات‬ ‫الكوني���ة‪ .‬والكعب���ة المش���رفة بش���كلها‬ ‫املكانة واملكان‪.‬‬ ‫محيط���ه‪ ،‬اتض���ح ل���ك أن الن���ور ال���ذي‬ ‫تجس���د أس���مى تعبير عن هذا‬ ‫ّ‬ ‫المكعب ّ‬ ‫تت�ل�أأل ب���ه البلورة إنما هو انعكاس لس���ر‬ ‫النظ���ام بس���تة أضل���ع متناظ���رة تتماث���ل‬ ‫الذري الذي من تش���كيلته‬ ‫نظامها‬ ‫يخفيه‬ ‫ّ‬ ‫حولها مطلق االتجاهات الكونية‪.‬‬ ‫حدث به الحجارة التي الكيميائي���ة انبثق���ت تركيبتها المعدنية‪ .‬فإن أنت س���برت أغوار‬ ‫وذلك سر من أسرار هذا الكون‪ُ ،‬ت ِّ‬ ‫المكون في داللة على تفرد ه���ذا النظ���ام الذي تآلفت ذراته في جزيئات "النس���ق البلوري"‬ ‫تمثل بلورا ُتها مرآة عاكس���ة لن���ور‬ ‫ِّ‬ ‫الخالق س���بحانه بإف���راد الوحدانية وكم���ال األحدية له وحده‪ ،‬المنس���جم م���ع ق���رار الحجارة‪ ،‬تحدث���ت إلي���ك مكونا ُته بنور‬ ‫او ِ‬ ‫ات‬ ‫مكونه���ا‪ ،‬فتنبه���ت إل���ى معنى قول���ه ‪ :‬ا ُ‬ ‫���م َ‬ ‫هلل ُن ُ‬ ‫الس َ‬ ‫ّ‬ ‫ور َّ‬ ‫وإضفاء صفة الزوجية على كل ما س���واه‪ ،‬حتى يش���كل الكون‬ ‫َوا َ‬ ‫ض‪(‬النور‪ ،)35:‬وتحيرت في إدراك معنى قوله س���بحانه‪:‬‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫تجريبيا لتأس���يس النماذج التفسيرية الموصلة إلى فهم‬ ‫مرجعا‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ورِ‬ ‫اج ُة‬ ‫ج‬ ‫ز‬ ‫ال‬ ‫ة‬ ‫اج‬ ‫ج‬ ‫ز‬ ‫ي‬ ‫ف‬ ‫اح‬ ‫ب‬ ‫ص‬ ‫م‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫اح‬ ‫ب‬ ‫ص‬ ‫م‬ ‫ا‬ ‫يه‬ ‫ف‬ ‫ة‬ ‫ا‬ ‫ك‬ ‫ش‬ ‫م‬ ‫ك‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ث‬ ‫‪‬م‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ ُ‬ ‫َ ْ َ ٌ‬ ‫حقيق���ة الوج���ود‪ ،‬فكان من أج���ل ذلك أن ُختم���ت اآلية بقوله‬ ‫���ب ُدرِ ٌّي ُيو َق ُد ِم ْن َش َ ٍ‬ ‫���ر ِق َّي ٍة‬ ‫ار َك ٍة َز ْي ُتو َن ٍة َ‬ ‫���ج َرة ُم َب َ‬ ‫َك َأ َّن َه���ا َك ْو َك ٌ ّ‬ ‫ال َش ْ‬ ‫ون‪(‬الذاريات‪.)49:‬‬ ‫تعالى‪َ  :‬ل َع َّل ُك ْم َت َذ َّك ُر َ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ار‪(‬النور‪ )35:‬بما‬ ‫ن‬ ‫ه‬ ‫س‬ ‫س‬ ‫م‬ ‫ت‬ ‫م‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫يء‬ ‫ض‬ ‫ي‬ ‫ا‬ ‫ه‬ ‫ت‬ ‫ي‬ ‫ز‬ ‫اد‬ ‫ك‬ ‫ي‬ ‫ة‬ ‫ِي‬ ‫ب‬ ‫ر‬ ‫غ‬ ‫ال‬ ‫و‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ َّ َ ُ ْ ُ َ ُ‬ ‫ُ َ ْ ْ ْ َ ْ ُ ٌ‬ ‫البلورة مرآة الزوجية والذرة سر نظامها‬ ‫يوحي���ه إليك الوص���ف القرآني من مع���ان إعجازية بخصوص‬ ‫تركيب���ا‬ ‫ش���كل الحج���ار ُة ف���ي ع���رف الجيولوجيين‪،‬‬ ‫ُت ِّ‬ ‫معدنيا أو المغ���زى من ذك���ر الزيت ال���ذي يضيء ولم تمسس���ه نار‪ ،‬وما‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬ ‫عضوي���ا أو‬ ‫ًّ‬ ‫مزدوج���ا لم���ادة نش���أت ق���ي القش���رة األرضي���ة ثم دالل���ة ذلك عل���ى أثر الفاعلي���ة الخفية التي أودعه���ا اهلل تعالى‬ ‫ً‬ ‫طرأت‬ ‫التي‬ ‫والكيميائي���ة‬ ‫الفيزيائية‬ ‫التح���والت‬ ‫بفعل‬ ‫تبل���ورت‬ ‫المكون���ات الت���ي منها يس���ري الن���ور الذي به‬ ‫ف���ي كي���ان ه���ذه‬ ‫ّ‬ ‫تعرض يت�ل�أأل الك���ون دون أن تمد بطاقة خارجية‪ .‬فهذا التش���بيه إذن‪،‬‬ ‫عليه���ا خالل مراحل تطورها‪ .‬وبم���ا أن تعريف المادة ّ‬ ‫بع���د ظه���ور نظري���ة النس���بية التي وضعه���ا الفيزيائ���ي األلماني ه���و دالل���ة على أن مص���در النور الذي يضيء بل���ورة الوجود‪،‬‬ ‫"أينش���تاين" إلى تغي���ر جدلي حيث صار مفهوم الم���ادة مقتر ًنا إنما هو من س���ر فاعلية خفية ب ّثها اهلل س���بحانه في كل موجود‪.‬‬ ‫بالطاق���ة‪ ،‬أي بفاعليته���ا‪ ،‬ف���إن مادة الحجارة بفع���ل تغيرها مع‬ ‫ولتأكي���د ه���ذا المعن���ى‪ ،‬دعن���ا نتأمل ف���ي بلورات النس���يج‬ ‫أن���وارا‪ .‬ه���ذا‬ ‫الزم���ان والمكان‪ ،‬بات���ت أكثر داللة على هذا المعنى بحكم ما الصخ���ري ال���ذي ب���ه تزده���ي األرض وتنبس���ط‬ ‫ً‬ ‫أساس���ا على‬ ‫تنط���وي عليه تفاعالتها مع المحيط من تجليات ألثر الفاعلية النس���يج إذا تفحص���ت بلورات���ه‪ ،‬فس���تجدها تقوم‬ ‫ً‬ ‫الباطني���ة التي تس���ري ف���ي كيانها‪ ،‬والتي ت���ؤدي في األخير إلى ميزة التماثل؛ وهي صفة تدل على تقابل وجيهات البلورة في‬ ‫حصول توازن ديناميكي مع المحيط الحاضن لها بفعل تبادل ت���زاوج عجيب مع بعضها عب���ر مركز أو محور البلورة‪ .‬وهذا‬ ‫المادة والطاقة بينهما‪.‬‬ ‫التقابل إنما هو انعكاس لثنائية التركيب الحاصلة بين الذرات‬ ‫فالحج���ر مهم���ا كان أصله وظروف تكوين���ه‪ ،‬هو متجاوب ف���ي بن���اء النس���ق البل���وري‪ ،‬مم���ا يدل عل���ى أن نظ���ام الزوجية‬

‫‪37‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )38‬‬


‫علوم‬

‫د‪ .‬عبد اإلله بن مصباح*‬

‫دالالت الزوجية‬ ‫في الكون‬

‫إذا كان مبدأ الزوجية يشكل القانون المؤسس‬ ‫‪‬و ِم ْن‬ ‫لنظام الك���ون مصدا ًقا لقول اهلل تعالى‪َ :‬‬

‫ُك ِّل َش���ي ٍء َخ َل ْق َن���ا َز ْو َج ْي ِن‪(‬الذاري���ات‪ ،)49:‬فإن‬ ‫ْ‬ ‫تجليات���ه عل���ى مكونات األرض التي هي جزء من هذا الكون‪،‬‬ ‫تظهر على كل المستويات انطال ًقا من بلوراتها الصخرية التي‬

‫من معدنها ُتبعث الحياة‪.‬‬

‫فالحج���ر ال���ذي ه���و أص���ل تكوي���ن األرض إذا وقفنا على‬

‫تحليل���ه المعدن���ي م���ن خ�ل�ال الفح���ص المجه���ري لمركباته‪،‬‬

‫أساس���ا على خاصية التب ّلر (‪)Cristallisation‬؛ وهي‬ ‫فسنجده يقوم‬ ‫ً‬ ‫���و َرة في زوجي���ة دقيقة‬ ‫الب ْل َ‬ ‫صف���ة ت���دل عل���ى تقاب���ل وجيه���ات َ‬

‫التصميم‪ ،‬عجيبة التماثل‪ ،‬تتجلى من جميع الزوايا عبر محور‬

‫البلورة أو مركزها‪.‬‬

‫ِ‬ ‫المؤسس���ة لمعدن‬ ‫ف���إذا علمن���ا ب���أن ه���ذه الهيئ���ة البلوري���ة‬ ‫ّ‬

‫الذري‪ ،‬فس���نقف على مشهد نرى‬ ‫الصخر هي انعكاس لنظامه ّ‬ ‫أيضا متماثل‪ ،‬وأن‬ ‫من خالله أن الترتيب األساسي للذرات هو ً‬

‫التماث���ل البل���وري إنما صدر من تناظر ال���ذرات الذي بموجبه‬ ‫ِ‬ ‫المؤس���س لمختلف األشكال البلورية‬ ‫حدد المظهر الجزيئي‬ ‫َت َّ‬ ‫ّ‬ ‫المؤصلة للمادة الصخرية لكوكبنا‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫عمت‬ ‫وهذا يضفي على ّ‬ ‫مركبات الحجر صفة الزوجية التي ّ‬ ‫كل شيء؛ من الذرة إلى البلورة إلى الصخرة إلى األرض التي‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )38‬‬

‫‪36‬‬


‫نفس���ية ف���ي أمريكا تعال���ج مرضاه���ا باإلنفاق‪ .‬وه���ذا يعني أن‬ ‫يغي���رون أف���كار األخذ إل���ى أفكار العط���اء‪ ،‬مما يؤدي‬ ‫األطب���اء ّ‬ ‫بأصحابها إلى الشعور بالسعادة‪.‬‬ ‫وقب���ل أش���هر قليلة كان أغنى رجل ف���ي أمريكا وفي العالم‬ ‫الملياردير "بيل جيتس"‪ ،‬قد تبنى هذه الدعوة‪ ،‬ونجح في إقناع‬ ‫خمس���ين‬ ‫ملياردي���را بإنفاق ثرواتهم عل���ى العمل الخيري حتى‬ ‫ً‬ ‫يتذوقوا طعم السعادة وبهجة الحياة‪.‬‬ ‫وم���ن خالل نقاش���ي مع عدد م���ن أثرياء تي���ار الخدمة في‬ ‫تركي���ا‪ ،‬أدركت أنهم يعيش���ون ف���ي بحبوحة الس���عادة المتولدة‬ ‫ع���ن الب���ذل والعطاء‪ ،‬أكثر من تمتعه���م بالمباهج التي تمكنهم‬ ‫أمواله���م م���ن الحصول عليه���ا‪ .‬ولفت نظ���ري أن أحدهم َذ َكر‬ ‫أن���ه في أول م���رة أنفق فيها عش���رة آالف دوالر تحت الضغط‬ ‫العاطفي الش���ديد لخطاب أس���تاذه "فتح اهلل كولن"‪ ،‬وأنه شعر‬ ‫أثن���اء ذل���ك كأن قطع���ة لح���م قد ُق ّدت م���ن س���اعده‪ ،‬لكنه بعد‬ ‫تذوق طعم الس���عادة حتى صار يس���تمتع باإلنفاق‪ ،‬ولو‬ ‫ذل���ك َّ‬ ‫أن أستاذه "كولن" دعاه إلنفاق ماله كله لما تردد طرفة عين‪.‬‬

‫اإلسالم يؤيد تأثير التصور على الصورة‬

‫تأييدا‬ ‫م���ن يقرأ نصوص الق���رآن بتدبر ويعي مقاصده‪ ،‬س���يجد ً‬ ‫كبي���را ألث���ر تصور اإلنس���ان على صورته‪ ،‬ومن ثم على س���ائر‬ ‫ً‬ ‫مواقفه وتصرفاته وأفعاله‪ ..‬ولذلك كانت بداية أوامر اإلس�ل�ام‬ ‫برس���م ه���ذه الصورة الكلية م���ن خالل األمر "اقرأ" في س���ورة‬ ‫العل���ق‪ ،‬كأن ه���ذا التص���ور ه���و أول مرحل���ة م���ن مراح���ل بناء‬ ‫الحضارة‪ ،‬وهي مرحلة "العلق" الحضاري‪.‬‬ ‫واهت���م الق���رآن بتوضيح أث���ر اإلرادة على تحقي���ق النجاح‬ ‫والس���عادة والصحة‪ .‬وهذه الثالثية هي األجر الدنيوي بجانب‬ ‫الد ْن َي���ا ُن ْؤ ِت ِه‬ ‫‪‬و َم ْن ُي ِ‬ ‫اب ُّ‬ ‫���ر ْد َث َو َ‬ ‫األج���ر األخ���روي‪ ،‬قال تعال���ى‪َ :‬‬ ‫ِم ْن َه���ا‪(‬آل عم���ران‪ .)145:‬والصح���ة ه���ي م���ن ث���واب الدني���ا‪ ،‬فهي‬

‫مقترن بتصميم‪،‬‬ ‫اعتقاد‬ ‫مش���روطة باإلرادة‪ ،‬واإلرادة‬ ‫ومتس���لح‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫باألسباب التي ال تعمى عن رؤية مالك األسباب‪.‬‬ ‫���ن َذ َك���رٍ َأ ْو ُأ ْن َثى َو ُه َو‬ ‫‪‬م ْن َع ِم َ‬ ‫���ل َصا ِل ًحا ِم ْ‬ ‫وق���ال تعال���ى‪َ :‬‬ ‫���ه َح َي���ا ًة َط ِّي َب ًة‪(‬النح���ل‪ .)97:‬واإليم���ان هن���ا ه���و‬ ‫���ن َف َل ُن ْحي َِي َّن ُ‬ ‫ُم ْؤ ِم ٌ‬ ‫االعتقاد الراس���خ باهلل الذي يملك القدرة على إعطاء اإلنسان‬ ‫الس���عادة والصحة والنجاح‪ ،‬وهو مس���خر األس���باب الموصلة‬ ‫إليها‪ ،‬والحياة الطيبة ال تكون بدون سعادة وصحة ونجاح‪.‬‬ ‫وفي مثال عملي‪ ،‬أورد القرآن في قصة يعقوب ‪ ‬إشارة‬ ‫إلى تأثير الحزن على الجس���م‪ ،‬الذي قد يصل إلى حد تعطيل‬

‫وظيفة من وظائف الجسم‪ ،‬كإصابة العين بالعمى‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬

‫‪‬و ْاب َي َّض ْت َع ْي َن ُاه ِم َن ا ْل ُح ْز ِن‪(‬يوسف‪.)84:‬‬ ‫َ‬

‫ولخط���ورة الح���زن والقل���ق عل���ى صحة اإلنس���ان‪ ،‬وضح‬

‫بالقدر ه���ي تجنيب اإلنس���ان‬ ‫الق���رآن أن الغاي���ة م���ن اإليم���ان‬ ‫َ‬

‫اب ِم ْن ُم ِص َيب ٍة‬ ‫‪‬م���ا َأ َص َ‬ ‫الس���قوط في هذه الهاوية‪ ،‬قال تعالى‪َ :‬‬

‫ِف���ي ا َ‬ ‫���ن َق ْب ِل َأ ْن َن ْب َر َأ َها‬ ‫ض َو َ‬ ‫ال ِفي َأ ْن ُف ِس ُ‬ ‫ال ِفي ِك َت ٍ‬ ‫���ك ْم ِإ َّ‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫اب ِم ْ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ال‬ ‫���وا َع َلى َم���ا َفا َت ُك ْم َو َ‬ ‫���ير ‪ِ ‬ل َك ْي َ‬ ‫إ َِّن َذ ِل َ‬ ‫ال َت ْأ َس ْ‬ ‫���ك َع َلى اهلل َيس ٌ‬ ‫اك ْم‪(‬الحدي���د‪)23-22:‬؛ وكأن اإليم���ان بالقدر هو‬ ‫َت ْف َر ُح���وا ب َِم���ا آ َت ُ‬ ‫حج���ر الزاوية في بن���اء اإلرادة الحديدية‪ .‬واإلرادة تقوي جهاز‬

‫المناعة الذي يقاوم سائر األمراض‪.‬‬

‫ول���و انتقلن���ا إل���ى الس���نة النبوي���ة لوجدن���ا إش���ارات عديدة‬

‫تؤي���د ه���ذا األمر‪ ،‬من مث���ل قوله ‪" :‬تفاءل���وا بالخير تجدوه"‪،‬‬ ‫وقول���ه ‪" :‬داووا مرضاك���م بالصدق���ة" (رواه البيهق���ي)؛ ذل���ك أن‬

‫الصدقة تكس���ب اإلنس���ان الشعور بالس���عادة‪ ،‬والسعادة تقضي‬

‫على الهموم واألكدار واألحزان‪ ،‬و ُتكس���ب اإلنس���ان الش���عور‬ ‫بالرض���ا‪ ،‬مما يؤدي إل���ى تقوية جهاز المناع���ة ومن ثم التمنع‬

‫شفاء للناس‪.‬‬ ‫عسل معنوي فيها‬ ‫على األمراض‪ .‬فكأن الصدقة‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ونختم بالحديث القدسي الذي ورد فيه‪" :‬إنما هي أعمالكم‬

‫خيرا فليحمد اهلل عز‬ ‫أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها‪ ،‬فمن وجد ً‬

‫وج���ل‪ ،‬وم���ن وجد غير ذلك فال يلومن إال نفس���ه" (رواه مس���لم)؛‬

‫وكلم���ة الخي���ر الواردة ف���ي النص‪ ،‬جاءت نك���رة لتعم كل خير‬ ‫تثمرها س���ائر الش���عب اإليمانية‪ ،‬س���واء كان ذلك في الدنيا أم‬ ‫في اآلخرة‪ .‬وال ش���ك أن الصحة والنجاح والسعادة من الخير‬

‫العميم الذي جاء به هذا الدين العظيم‪.‬‬

‫وهكذا‪ ،‬يتبين لنا أن تصور اإلنس���ان ومعتقده هو المقدمة‪،‬‬

‫دائما من جنس‬ ‫ونتائج���ه هي المش���اعر واألعمال‪ ..‬والنتائ���ج ً‬

‫المقدم���ات؛ فم���ن يب���ذر الي���أس والتش���اؤم والحق���د والقل���ق‬ ‫والحزن‪ ،‬ال يمكن أن يحصد النجاح والصحة والسعادة‪.‬‬

‫ويمكنني تشبيه أجسام البشر بأنها "أغنام"‪ ،‬و ُتمثل األفكار‬

‫الطيب���ة دور الراع���ي‪ ،‬أما األفكار الخبيثة فهي الذئاب‪ ،‬فلنحذر‬

‫على أجسامنا من ذئاب أفكارنا‪.‬‬

‫(*) أستاذ الفكر اإلسالمي السياسي بجامعة تعز ‪ /‬اليمن‪.‬‬

‫‪35‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )38‬‬


‫ويؤكد "جم���س آالن" على خطورة‬ ‫س���عداء إن طلبتم الس���عادة من أنفس���كم‬ ‫ال مم���ا حولك���م"‪ .‬وأض���اف‪" :‬ويمرض‬ ‫األف���كار‪ ،‬وكأن���ه يش���بهها بالحص���ان‪،‬‬ ‫ت�ص��ور الإن�س��ان ومعتق��ده‬ ‫الرجالن المتعادالن في الجسم المرض‬ ‫واإلنس���ان بالعربة‪ ،‬إذ يقول‪" :‬أنت اليوم‬ ‫الواحد‪ ،‬فيتش���اءم ه���ذا ويخاف ويتصور‬ ‫غدا‬ ‫أوصلتك‬ ‫حيث‬ ‫ه��و املقدم��ة‪ ،‬ونتائج��ه‬ ‫أفكارك‪ ،‬وس���تكون ً‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫الم���وت فيكون مع المرض على نفس���ه‬ ‫أيضا‪:‬‬ ‫حي���ث تأخ���ذك أفكارك"‪ .‬ويق���ول ً‬ ‫ه��ي امل�شاع��ر والأعم��ال‪.‬‬ ‫ف�ل�ا ينج���و من���ه‪ ،‬ويصب���ر ه���ذا ويتفاءل‬ ‫غيِر اتجاه أفكاره‪ ،‬وس���وف‬ ‫"دع إنس���ا ًنا ُي ّ‬ ‫دائم��ا م��ن جن�س‬ ‫والنتائ��ج‬ ‫ً‬ ‫ويتخيل الصحة فتسرع إليه ويسرع إليها"‪.‬‬ ‫تتملكه الدهش���ة لس���رعة التح���ول الذي‬ ‫ّ‬ ‫أ�س‬ ‫�‬ ‫الي‬ ‫يبذر‬ ‫فم��ن‬ ‫املقدمات؛‬ ‫وكان الش���اعر العرب���ي قد فطن لهذه‬ ‫التغير ف���ي جوان���ب حياته‬ ‫يحدث���ه ه���ذا ُّ‬ ‫والقل��ق‬ ‫واحلق��د‬ ‫ؤم‬ ‫�‬ ‫والت�ش��ا‬ ‫الحقيقة فقال‪:‬‬ ‫المتعددة‪ .‬إن القدرة اإللهية التي تكيف‬ ‫واحل��زن‪ ،‬ال ميكن �أن يح�صد‬ ‫دواؤك فيك وما تبصر‬ ‫مصايرن���ا مودع���ة ف���ي أنفس���نا‪ ،‬ب���ل هي‬ ‫وداؤك منك وما تشعر‬ ‫النجاح وال�صحة وال�سعادة‪ .‬‬ ‫أنفس���نا ذاتها‪ .‬وكل ما يصنعه المرء‪ ،‬هو‬ ‫ونخت���م ه���ذه الجول���ة الخاطف���ة في‬ ‫نتيجة مباش���رة لما يدور في فكره‪ ،‬فكما‬ ‫ٍ‬ ‫بمس���ك تركي‪ ،‬من‬ ‫آف���اق حكماء العالم‬ ‫أن الم���رء ينه���ض على قدميه وينش���ط‪،‬‬ ‫صنع المفك���ر الداعية "فت���ح اهلل كولن"‬ ‫وينتج بدافع من أفكاره‪ ،‬كذلك يمرض‬ ‫الذي أكثر من إيراد مفردات هذه القضية في عدد من كتبه‪.‬‬ ‫أيضا"‪.‬‬ ‫ويشقى بدافع من أفكاره ً‬ ‫فق���د كتب عن القلق وكيف أنه يس���بب األمراض‪ ،‬كالقلق‬ ‫ونع���ود إل���ى نقط���ة الوس���ط بي���ن الش���رق والغ���رب‪ ،‬حيث‬ ‫المرتع الخصيب للوس���طية في العال���م العربي‪ ،‬لنجد المفكر عل���ى المصي���ر والعاقب���ة‪ ،‬حيث ق���ال عن الذي���ن ال يحبون اهلل‬ ‫الجزائري "مالك بن نبي" يعيد س���ائر المشاكل وشتى الحلول بأنه���م‪" :‬س���يبقون على ال���دوام في قلق عل���ى مصيرهم وعلى‬ ‫إلى الفكر‪ ،‬سواء بالنسبة للفرد أو لألمة‪ ،‬ولهذا فإنه يحذر من عاقبتهم المجهولة وعلى خوف"‪.‬‬ ‫وأوضح كيف تدمر المش���اعر الس���لبية أصحابها‪ ،‬كالحقد‬ ‫خط���ورة األفكار‪ ،‬وبالذات ما يس���ميها بـ"األفكار الميتة" وهي‬ ‫الموروث���ة ع���ن الس���لف‪ ،‬و"األف���كار المميت���ة" أو القاتلة وهي والحس���د والكراهي���ة‪" :‬إن ص���رف اإلنس���ان عم���ره ف���ي غمار‬ ‫المس���توردة من الغرب‪ ،‬وقد اس���تفاض في شرحها وحذر من المش���اعر الس���لبية والس���يئة‪ ،‬عذاب ال يطاق من جهة‪ ،‬ودناءة‬ ‫"انتق���ام األف���كار المخذولة" في كتابه الرائع "مش���كلة األفكار من جهة أخرى"‪.‬‬ ‫وم���ا فت���ئ يؤك���د عل���ى أن الس���عادة أو الش���قاء‪ ،‬نابعان من‬ ‫في العالم اإلس�ل�امي"‪ ،‬واستفاد في هذا اإلطار من الدراسات‬ ‫عظم القلب‪ ،‬حيث قال‬ ‫داخل اإلنس���ان ال من خارجه‪ ،‬ولهذا َّ‬ ‫االجتماعية والنفسية والتاريخية‪.‬‬ ‫وقد تزعم مدرس���ة عريضة في الفكر اإلسالمي المعاصر‪ ،‬عن���ه في كتابه "الت�ل�ال الزمردية"‪" :‬فالقل���ب يحمل الفيوضات‬ ‫َّ‬ ‫ت���رى أن أزم���ة األمة أزمة فكري���ة‪ ،‬وأن المخرج منها ليس غير التي أخذها بوس���اطة عالم األرواح إلى البدن والجس���م‪ ،‬فيثير‬ ‫تغيي���ر األف���كار‪ ..‬وم���ن أفراد هذه المدرس���ة المفكر الس���وري فيه نس���ائم الس���كينة واالطمئن���ان"‪ ،‬وأضاف‪" :‬القل���ب كالقلعة‬ ‫"ج���ودت س���عيد" ال���ذي أ َّلف كتاب���ه الرائ���ع "حتى يغي���روا ما الحصينة لصحة الفكر واستقامته‪ ،‬وصحة التصور ووضوحه‪،‬‬ ‫بأنفس���هم"‪ ،‬وق���دم له "مالك ب���ن نبي"‪ ..‬واليوم يس���ير في ذات وصحة الروح ونقائها‪ ،‬بل حتى لصحة البدن وسالمته"‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫وله���ذا فإن اإلس�ل�ام عنده هو ال���دواء‪ ،‬والفه���م الصحيح‬ ‫المعه���د العالمي للفكر اإلس�ل�امي‪ ،‬وآخرون كثيرون‬ ‫ال���درب‬ ‫ُ‬ ‫ل���ه هو المخرج‪" :‬الذين يعيش���ون اإلس�ل�ام كم���ا أنزل‪ ،‬يحيون‬ ‫من أعالم الفكر اإلسالمي‪.‬‬ ‫وق���د خاطب العا ِلم واألديب الس���وري "عل���ي الطنطاوي" بقلوبه���م ف���ي هذه الدني���ا وكأنهم َي ُع ُّبون من ك���ؤوس اللذة في‬ ‫المسلمين قبل ستة عقود فقال رحمه اهلل‪" :‬إنكم سعداء ولكن جنة الفردوس"‪.‬‬ ‫ال تدرون؛ س���عداء إن عرفتم قدر النعم التي تس���تمتعون بها‪..‬‬ ‫س���عداء إن عرفت���م نفوس���كم وانتفعتم بالمخزون م���ن قواها‪..‬‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )38‬‬

‫‪34‬‬

‫العطاء طريق السعادة والصحة‬

‫أورد الدكتور "إبراهيم الفقي" في أحد كتبه‪ ،‬أن هناك عيادات‬


‫م���وردا من‬ ‫عل���ى صح���ة اإلنس���ان‪ ،‬حيث تؤدي إل���ى اعتاللها‪،‬‬ ‫ً‬

‫النفس���ية والعضوي���ة‪ ،‬وكان���ت النتيج���ة أن ‪ %95‬م���ن األمراض‬ ‫سببها العقل‪.‬‬ ‫عددا م���ن القواعد في‬ ‫وله���ذا صاغ علماء التنمية البش���رية ً‬ ‫هذا المضمار‪ ،‬ومنها‪ :‬كل ما‬ ‫تعتقده تجده‪ .‬كل ما َتكر َر َت َقر َر‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬

‫ف���ي الغرب‪ ،‬حيث وصل���ت العلوم إلى الذروة‪ ،‬وحيث يعمل؛‬

‫ظ���ن بع���ض الق���راء أن ه���ذا األمر من ش���ذوذ بعض‬ ‫حت���ى ال َي ّ‬ ‫العلم���اء والمفكري���ن‪ ،‬فقد قمت بجمع عدد هائل من األقوال‬ ‫ف���ي هذا الس���ياق لعلماء وحكماء ومصلحي���ن وأطباء وخبراء‪،‬‬ ‫م���ن مختلف األع���راق والديانات والم���دارس والتخصصات‪،‬‬ ‫لكن سأكتفي بذكر بعضها‪.‬‬ ‫ونبدأ من مطلع الش���مس في أقصى شرق الكرة األرضية‪،‬‬ ‫حي���ث تق���ول الحكم���ة اليابانية‪" :‬اح���ذر ما تفكر في���ه‪ ،‬ألنه من‬ ‫تماما مع‬ ‫المحتم���ل أن تحص���ل عليه"‪ ،‬وه���ذه الحكمة تتف���ق ً‬ ‫األثر الذي يقول‪" :‬تفاءلوا بالخير تجدوه" ومع نهي اإلس�ل�ام‬ ‫التطير والتشاؤم‪.‬‬ ‫عن‬ ‫ُّ‬ ‫وم���ن اليابان إلى ج���اره العمالق‪ ،‬حي���ث خاطبك الحكيم‬ ‫"تذكر أن أف���كارك من صنعك أنت‪ ،‬لن‬ ‫الصين���ي "زينو" قائ ً‬ ‫ال‪َّ :‬‬ ‫غيِرها لك‪ ،‬ولكنك‬ ‫يس���تطيع أي إنسان على وجه األرض أن ُي ّ‬ ‫غيِره���ا وتجعله���ا تخدمك‬ ‫أن���ت الوحي���د ال���ذي تس���تطيع أن ُت ّ‬ ‫وتساعدك على االتزان والسعادة"‪.‬‬ ‫ومن الشرق إلى الغرب نقفز وعلى سندباد الحكمة نطير‪،‬‬ ‫قديما‪" :‬بالفكرة يس���تطيع‬ ‫فهذا الفيلس���وف "س���قراط"‪ ،‬يق���ول ً‬ ‫اإلنس���ان أن يجع���ل عالمه م���ن الورود أو من الش���وك"‪ .‬ولهذا‬ ‫أطل���ق صيحته التي ُكتبت على باب معبد أثينة‪" :‬أيها اإلنس���ان‬ ‫كتابا بعنوانه السافر‬ ‫ْ‬ ‫اعرف نفسك"‪ .‬وهذا "جيمس آلن" يؤلف ً‬ ‫"ما يفكر فيه اإلنسان يصبحه"‪.‬‬ ‫وانطال ًق���ا م���ن هذه الفلس���فة‪ُ ،‬وجد في فرنس���ا فن���دق كبير‬ ‫اش���تهر ب���أن معظم نزالئ���ه من رج���ال األعمال‪ ،‬قام���ت إدارته‬ ‫بتعليق الفتة في كل ُغ َرفه تقول‪" :‬إذا لم تتمكنوا من النوم فال‬ ‫ال"‪.‬‬ ‫تبدؤوا بإلقاء اللوم على السرير‪ ،‬بل حاسبوا ضمائركم أو ً‬ ‫أما الطبيب النفس���ي "أريك ريكس���ون"‪ ،‬فقد قال من خالل‬ ‫خبرت���ه العريض���ة‪" :‬إن وظيفة الطبيب النفس���ي ه���ي إعادة بناء‬ ‫حالة الثقة واإليمان في نفس المريض"‪.‬‬ ‫وأ َّل���ف الدكت���ور "وي���ن داي���ر" كت���اب "الحكمة ف���ي حياتنا‬ ‫اليومي���ة"‪ ،‬قال في���ه‪" :‬ما يفكر فيه الن���اس ويتحدثون عنه يتزايد‬ ‫ال"‪.‬‬ ‫ويصبح أفعا ً‬

‫األدلة والبراهين على ذلك ما ال يحصى من قصصه ومعالجاته‬ ‫كمعالج نفس���ي ومدرب عالمي في البرمجة العصبية والطاقة‪،‬‬

‫إضافة إلى عش���رات الدراسات والبحوث واألقوال التي نقلها‬

‫عن أساطين الطب النفسي‪ ،‬وفالسفة ومفكري العالم وخاصة عقلُك يؤثِّر على جسمك‬ ‫إذ إنه كان يعمل في كندا‪.‬‬

‫لق���د ارتقى الدكتور "إبراهيم الفق���ي" في هذا العلم مرتقى‬

‫فقيها‬ ‫اسما‬ ‫صعبا حتى صار ً‬ ‫وخبيرا فيه‪ ،‬ومن ثم صار (الفقي) ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫ومسمى‪ ،‬فهو فقيه التنمية البشرية والصحة النفسية‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ويبدو أن أهم كتبه في هذا المضمار كتاب "قوة التفكير"‪.‬‬

‫ولق���د ق���رر في ه���ذا الكت���اب الثمي���ن أن "العقل عن���ده القدرة‬ ‫‪-‬بإذن اهلل‪ -‬على عالج الجس���م ومس���اعدته على التخلص من‬

‫اآلالم"‪ ،‬وأورد فيه الكثير من الحقائق والقصص والمعلومات‬ ‫المؤيدة لذلك؛ ومن ذلك أن المستش���فى الرئيس���ي في "س���ان‬

‫فرانسيس���كو" بالوالي���ات المتح���دة األمريكي���ة‪ ،‬يعالج مرضاه‬ ‫بالضح���ك وباألخب���ار اإليجابي���ة‪ ،‬حي���ث رفعت ه���ذه الطريقة‬

‫نس���بة الشفاء فوق ‪" .%35‬فعندما يفكر المريض‬ ‫أفكارا إيجابية‬ ‫ً‬

‫ويبتسم ويتفاءل ويضحك‪ ،‬ترتفع نسبة األندورفين في جسمه‬ ‫أيضا إثبات أن العقل والجسد‬ ‫مما يس���اعده على الشفاء‪ .‬وهنا ً‬

‫يؤثر كل منهما على اآلخر"‪.‬‬

‫ونقل عن دراس���ات علمية لجامع���ات عالمية أن ‪ %75‬من‬

‫ال في العقل ع���ن طريق الفكر‪،‬‬ ‫األم���راض النفس���ية تح���دث أو ً‬

‫وأورد أن الدكتور "هربرت سبنسر" في كتابه "العالج بالطاقة"‬ ‫أثبت أن ‪ %90‬من األمراض الجسمية سببها الفكر‪.‬‬

‫وذك���ر أن جامع���ة "يي���ل" األمريكية أجرت بح ًث���ا أثبتت فيه‬

‫ال الذين يعيش���ون حياتهم‬ ‫"أن أق���ل من ‪ %3‬ف���ي العالم‪ ،‬هم فع ً‬ ‫باتزان وسعادة‪ ،‬أما النسبة الباقية فهم فقط يتمنون ذلك ولكن‬ ‫بالق���ول فقط وليس بالفعل؛ ألن أفكارهم الس���لبية تمنعهم من‬

‫تحقيق أهدافهم"‪.‬‬

‫وعن اآلثار الخطيرة لألفكار الس���لبية‪ ،‬أورد أن كلية الطب‬

‫في "س���ان فرانسيسكو" أجرت بح ًثا س���نة ‪ 1985‬أثبتت فيه أن‬

‫التفكير الس���لبي يس���بب أكثر من ‪ %75‬من األمراض العضوية‪،‬‬

‫كالقلب وارتفاع ضغط الدم والصداع والسرطان‪.‬‬

‫وأورد أن نفس الكلية أجرت بح ًثا س���نة ‪ 1986‬عن عالقة‬

‫العقل بالجس���د ودور األفكار الس���لبية في اإلصابة باألمراض‬

‫‪33‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )38‬‬


‫المحيطة باإلنس���ان هي التي تزعجه‪ ،‬بل‬ ‫وكان عن���وان الفص���ل الثان���ي عش���ر‬ ‫م���ن هذا الكتاب ه���و "حياتك من صنع‬ ‫أفكاره عن هذه األشياء"‪.‬‬ ‫القلب يحمل الفيو�ضات التي‬ ‫كبيرا من أقوال‬ ‫الدكتور بدري دراس���ا ُته‬ ‫وأوصل���ت‬ ‫أفكارك"‪ .‬أورد فيه ً‬ ‫َ‬ ‫عددا ً‬ ‫أرواح‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫عامل‬ ‫بو�ساطة‬ ‫أخذه��ا‬ ‫�‬ ‫وعددا من القصص‬ ‫الفالسفة والعلماء‪،‬‬ ‫وتجارب���ه إل���ى أن���ه ليس "العقل الس���ليم‬ ‫ً‬ ‫�إىل البدن واجل�س��م‪ ،‬فيثري فيه‬ ‫والمواق���ف والخب���رات الت���ي تؤكد قوة‬ ‫في الجس���م السليم" فحسب ‪-‬كما يؤكد‬ ‫ن�سائم ال�سكينة واالطمئنان‪..‬‬ ‫تأثي���ر الفك���ر على الجس���م؛ ف���إن أفكار‬ ‫المثل المشهور‪ -‬بل كذلك فإن "الجسم‬ ‫الس���عد تس���عده‪ ،‬وأفكار الش���قاء تشقيه‪،‬‬ ‫السليم في العقل السليم"‪ .‬وعنه اقتبسنا‬ ‫القل��ب كالقلع��ة احل�صين��ة‬ ‫وأفكار الصحة تش���فيه‪ ،‬وأفكار المرض‬ ‫عنوان هذه المقالة‪ ،‬غير أننا نشير إلى أن‬ ‫ل�صح��ة الفك��ر وا�ستقامت��ه‪،‬‬ ‫تس���قمه‪ ،‬وأفكار الضعف توهنه‪ ،‬وأفكار‬ ‫ال‪.‬‬ ‫هذه المقولة حكمة يونانية وليست مث ً‬ ‫و�صحة الت�ص��ور وو�ضوحه‪،‬‬ ‫القوة تقويه‪ ،‬وهكذا‪.‬‬ ‫ومن خالل تتبعه الحثيث لما ينش���ر‬ ‫بل‬ ‫ونقائها‪،‬‬ ‫ال��روح‬ ‫و�صح��ة‬ ‫وكان الش���يخ محمد الغزالي رحمه‬ ‫ف���ي الغرب حول ه���ذه الظاه���رة‪ ،‬وجد‬ ‫حتى ل�صحة البدن و�سالمته‪.‬‬ ‫اهلل‪ ،‬ق���د أعج���ب به���ذا الكت���اب أيم���ا‬ ‫أن هن���اك مئ���ات الدراس���ات واألبحاث‬ ‫إعج���اب‪ ،‬واعتب���ره م���ن الكت���ب الرائعة‬ ‫والكتب التي أجريت في اآلونة األخيرة‬ ‫التي ُتبرز وحدة الفطرة البش���رية‪ ،‬الفطرةِ‬ ‫لتأكيد قيم���ة التأمل االرتقائ���ي والعامل‬ ‫كتابا‬ ‫الت���ي تتفق مع اإلس�ل�ام جمل���ة وتفصي ً‬ ‫الروحي واإليماني في عالج سائر األمراض‪.‬‬ ‫ال‪ .‬ولذل���ك أ َّلف ً‬ ‫بـ"جد ْد‬ ‫وع ْنون���ه‬ ‫ً‬ ‫ِّ‬ ‫"إن الدراس���ات الحديثة في ميدان الطب السيكوس���وماتي‬ ‫كام�ل�ا للتعليق عل���ى كتاب "كارنيج���ي" هذا‪َ ،‬‬ ‫أصل لكثير م���ن الحقائق والقصص واألقوال‬ ‫"النفسجسمي"‪ ،‬تؤكد بأن التفكير والنشاط المعرفي لإلنسان‪ ،‬حيات���ك"؛ حيث َّ‬ ‫ل���ه دور فعال بالنس���بة إلصابة اإلنس���ان بش���تى األمراض‪ ،‬كما التي أوردها "كارنيجي"‪ ،‬من خالل إيراد عدد كبير من اآليات‬ ‫ّ‬ ‫أن تغيير هذا التفكير وهذا النش���اط المعرفي الذي تس���بب في القرآنية‪ ،‬واألحاديث النبوية‪ ،‬وقصص الصحابة‪ ،‬وسلف األمة‬ ‫إحداث هذه األمراض واالضطرابات‪ ،‬يس���اعد كثيرا في شفاء إضافة إلى خبراته (رحمه اهلل)‪ ،‬ليؤكد ‪-‬الشيخ الغزالي‪ -‬بذلك‬ ‫ً‬ ‫عموما ومن ذلك‬ ‫اإلنس���ان‬ ‫حياة‬ ‫على‬ ‫األفكار‬ ‫وخطورة‬ ‫أهمية‬ ‫مصداق‬ ‫وه���ذا‬ ‫الف���رد أو تحس���ين حالت���ه الصحية بق���در كبير‪،‬‬ ‫ً‬ ‫لألثر المش���هور "ال تتمارضوا فتمرض���وا فتموتوا"‪ .‬وأورد في صحته أو س���قمه‪ ،‬إذ إن األفكار س�ل�اح ذو حدين‪ ،‬فيمكن أن‬ ‫كتابه هذا‪ ،‬الكثير من الحقائق والبحوث والنصوص التي تبرز تكون أداة للعمار‪ ،‬ويمكن أن تكون وسيلة للدمار‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫وفي كتاب آخر للش���يخ الغزالي ‪-‬رحمه اهلل‪ -‬نجده يؤكد‬ ‫خطورة الفكر على الصحة وعلى الشعور بطعم السعادة‪.‬‬ ‫ومن أش���هر الكتب الغربية التي ُطبعت عشرات الطبعات‪ ،‬عل���ى ه���ذه القضية فيقول‪" :‬بعض األطعمة ي���ورث من يتناوله‬ ‫وانقباضا عن‬ ‫صداع���ا ف���ي ال���رأس واس���ترخاء ف���ي األعض���اء‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫و ُترجم���ت إلى عدد من لغ���ات العالم الحية‪ ،‬كتاب "دع القلق‬ ‫التطير‬ ‫من‬ ‫النفوس‬ ‫في‬ ‫يترك‬ ‫المعرفة‬ ‫ألوان‬ ‫وبعض‬ ‫األعم���ال‪..‬‬ ‫واب���دأ الحياة" للكات���ب األمريكي "دايل كارنيج���ي"‪ .‬أورد فيه‬ ‫ُّ‬ ‫مؤلف���ه حقائق مثيرة عن القلق وآثاره وتداعياته‪ ،‬وعن الس���بل والخم���ول مثلم���ا تترك���ه ه���ذه األغذي���ة الرديئة في األجس���ام‪.‬‬ ‫وحقيق بنا أن نفحص مصادر المعرفة التي توجهنا‪ ،‬وأن نتدبر‬ ‫ٌ‬ ‫المهمة في تحليل القلق وفي تحطيمه قبل أن يصل إلى الفرد‪،‬‬ ‫وع���ن القاع���دة الذهبية لقه���ر القلق‪ ،‬وكذا س���ائر الطرائق لقهر فعلها في مشاعرنا وأفكارنا"‪.‬‬ ‫التعب والقلق‪.‬‬

‫وم���ن خالل خبرته بالحي���اة وقراءاته المتع���ددة‪ ،‬ركز على‬

‫أهمية الفكر في صنع القلق أو في التغلب عليه‪ ،‬ولذلك فقد‬ ‫جزءا من كتاب���ه لهذا الموضوع‪ ،‬وه���و الجزء الرابع‬ ‫خص���ص ً‬

‫ال���ذي َع ْنو َن���ه بـ"س���بع ط���رق لخلق اتج���اه ذهن���ي يجلب لك‬ ‫الطمأنينة والسعادة"‪.‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )38‬‬

‫‪32‬‬

‫"فقيه" الصحة النفسية والتنمية البشرية‬

‫ظهر في العقدين األخيرين َع َل ٌم برز في الصحة النفسية‪ ،‬وهو‬ ‫العال���م المصري الدكت���ور "إبراهيم الفقي" رحمه اهلل‪ ،‬فقد ظل‬ ‫عالميا ُيس���تدعى‬ ‫خبي���را‬ ‫يترق���ى ف���ي هذا المضم���ار حتى صار‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬ ‫كبيرا من الكتب‪.‬‬ ‫إلقامة الدورات التدريبية‪ ،‬وأ َّلف ً‬ ‫عددا ً‬ ‫وم���ا فت���ئ في كل كتبه يؤكد على خط���ورة األفكار المعتلة‬


‫قضايا فكرية‬ ‫د‪ .‬فؤاد البنا*‬

‫الجسم السليم في العقل السليم‬ ‫ظل���ت الحكم���ة اليوناني���ة الت���ي تق���ول "العقل‬

‫النفس���ية‪ ،‬كاالكتئ���اب والقل���ق واإلحس���اس بالوح���دة القاتل���ة‬

‫كثي���رة‪ .‬واليوم وف���ي ظل التط���ورات المعرفية‬

‫جديد هو "علم المقاومة النفس���ية والعصبية" الذي يجمع بين‬

‫الس���ليم في الجسم الس���ليم" تتردد طيلة قرون‬

‫الرهيب���ة ف���ي الطب وفي عل���وم التنمي���ة البش���رية‪ ،‬انقلبت هذه‬

‫رأس���ا عل���ى عقب؛ حيث أثبتت الدراس���ات والوقائع‬ ‫المقولة ً‬ ‫والقرائن‪ ،‬أن للعقل تاثيرات رهيبة على الجسم‪ ،‬وأن ما يقوله‬

‫سلبا أو‬ ‫إيجابا‪ ،‬مرض ًا أو صحة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫العقل ويعتقده‪ ،‬يتمثله الجسم ً‬ ‫ضع ًفا أو قوة‪ ..‬وهذا ما ستحاول تجليته هذه المقالة‪.‬‬

‫احذر من أفكارك على صحتك‬

‫وفقدان الثقة بالذات‪ ،‬أدت جميعها إلى ظهور تخصص علمي‬

‫األخصائيي���ن ف���ي مي���دان العل���وم االجتماعية‪ ،‬وعل���م النفس‪،‬‬ ‫وميدان دراسة كيمياء جهاز المقاومة في اإلنسان‪ .‬كما ظهرت‬

‫مئات المؤلفات التي تدعو لتحس���ين صحة اإلنس���ان الجسمية‬ ‫بتغيير أفكاره ومشاعره وانفعاالته‪ ،‬حتى وصف بعض العلماء‬

‫ه���ذه الظاه���رة بـ"الث���ورة الثالثة" ف���ي الطب الغرب���ي الحديث‪،‬‬

‫التي كانت أوالها تطور الجراحة‪ ،‬وثانيها اكتش���اف البنس���لين‬ ‫والمض���ادات الحيوي���ة‪ .‬ذلك ألن الذي يش���كل فكر اإلنس���ان‬

‫ح���ول أهمي���ة التفكر من زاوية علم النف���س‪ ،‬أ َّلف عالم النفس‬

‫ونشاطه المعرفي‪ ،‬ليس هو األحداث والمثيرات التي يتعرض‬

‫إسالمية"‪ ،‬ذكر فيه أن كثرة األبحاث في الغرب حول األمراض‬

‫رومان���ي ف���ي القرن الميالدي األول أنه قال‪" :‬ليس���ت األش���ياء‬

‫الس���وداني الدكتور "مالك بدري" كتابه الصغير بحجمه‬ ‫والقيِم‬ ‫ّ‬ ‫بمكانت���ه "التفكر من المش���اهدة إلى الش���هود‪ ..‬دراس���ة نفس���ية‬

‫له���ا في بيئته بش���كل مباش���ر‪ ،‬بل الذي يؤثر بالفع���ل هو تقييمه‬ ‫وتصورات���ه له���ذه األحداث والمثيرات‪ .‬فقد ُأثر عن فيلس���وف‬

‫‪31‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )38‬‬


‫ش���باب يأخ���ذ زم���ام المب���ادرة للتغيير‪ ،‬ويس���مح للكبار أن‬

‫يقودوا المرحلة ليأخذ هو دور الرقيب والمحاسب‪.‬‬

‫الروتين المألوف يقتل الروح ويئد الطموح‪،‬‬ ‫وبدوامته تذبل‬ ‫ّ‬

‫الملكات اإلبداعية والطاقات الروحية‪ ،‬و ُت َنت َقص إنسانية اإلنسان‬

‫صاح���ب األش���واق واألحالم‪ ،‬لصالح اآلل���ة الصماء الخاوية‪.‬‬ ‫حي���ن تأخذ الن���اس باألنظمة الصارمة واألوامر العس���كرية‬

‫والعقوبات التأديبية‪ ،‬تحصل على استسالم مؤقت مذعن‪ ،‬ولكن‬ ‫يخي���م عليها اليأس ويأكلها الحق���د‪ ،‬وأرواح ذابلة‬ ‫م���ع نفوس ّ‬ ‫ال تع���رف معنى الحب‪ ،‬وال معنى الصداقة‪ ،‬وال معنى الوالء‪.‬‬ ‫ضي���ق الف���رص ف���ي مجتمع���ات ش���ابة مرتفع ِة النس���بة في‬ ‫ُ‬

‫مواليده���ا‪ ،‬منخفض ِة النس���بة في إفس���احها واحتوائه���ا ووعيها‬

‫بمتطلب العيش الكريم‪ ،‬هو‬ ‫س���بب وجيه للتحاقد والتحاس���د‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ومدعاة أن ينشغل الفارغ بمالحقة َم ْن حوله‪.‬‬

‫���درب القل���ب كم���ا العقل كما الب���دن‪ ،‬أن يكون‬ ‫عصيا‬ ‫أن ُت ّ‬ ‫ًّ‬

‫على االس���تفزاز واإليذاء‪،‬‬ ‫قبل الحقد والكراهية‪،‬‬ ‫ًّ‬ ‫عصيا عل���ى َت ّ‬

‫محافظ���ا على صفائيته‪ ،‬فذلك معناه أن نكون ذا جاهزية عالية‬ ‫ً‬ ‫لتقبل اإللهام‪.‬‬ ‫ّ‬

‫اإلله���ام ال‬ ‫يح���رم الحالل‪ ،‬وال يحل���ل الحرام‪ ..‬هو ومضة‬ ‫ّ‬

‫لتعبر عن كلمة موحية تنضح بالحكمة‪،‬‬ ‫إشراق تلمع في النفس ّ‬

‫رت‬ ‫عب َ‬ ‫وتتش���ح بالجمال‪ ،‬وتحصد القبول حتى يقول سامعها‪ّ :‬‬ ‫عما في نفس���ي‪ ،‬وكأنما أنا الذي قلتها‪ .‬إنها كلمة النجاح التي‬ ‫يدعيها آباء كثيرون‪.‬‬

‫دون أن تعرف الس���بب‪ ،‬قد يحملك اإللهام على شيء ما‪،‬‬

‫كم���ا عمل ذلك اإلطفائي الذي ش���ارك في إخماد حريق‪ ،‬وتم‬

‫إنقاذ جميع المس���تهدفين‪ ،‬وجد نفسه‬ ‫مضطرا بغير إرادته إلى‬ ‫ًّ‬ ‫دخ���ول المنزل ‪-‬والنار ال تزال تش���تعل‪ -‬لينتقل من مكان إلى‬ ‫صبيا قد غمره الدخان‪،‬‬ ‫م���كان‪ ،‬وصو ً‬ ‫ال إلى غرفة حي���ث وجد ًّ‬ ‫يح���اول أن يل���وذ بالس���رير‪ ،‬ويرتج���ف م���ن الرع���ب والخوف‬

‫سريعا‪ ،‬وبعد دقائق سقط سقف الغرفة‪.‬‬ ‫والحيرة‪ ،‬فأخذه‬ ‫ً‬

‫أبدا‪-‬‬‫ش���خصا مري���ض القلب‬ ‫ل���ن يك���ون ه���ذا الجن���دي ً‬ ‫ً‬

‫بالبغض���اء‪ ،‬وال إنس���ا ًنا‬ ‫أنانيا‪ ..‬فالش���يء من‬ ‫ً‬ ‫حق���ودا‪ ،‬وال ًّ‬ ‫ماديا ًّ‬ ‫معدن���ه ال ُيس���تغرب‪ ..‬ك���ن أنت ذل���ك الجن���دي‪ ،‬وابحث عن‬ ‫الطف���ل الذي نجات���ه على يدك بإذن اهلل‪ ،‬قد تج���ده على مقربة‬

‫أعد إليه بسمته‪.‬‬ ‫منك أو حتى في داخلك يئن‪ْ ..‬‬ ‫(*) عالم ومفكر وداعية ‪ /‬المملكة العربية السعودية‪.‬‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )38‬‬

‫‪30‬‬

‫ِا ْ‬ ‫ُ‬ ‫وانج‬ ‫نهض‬ ‫قدميك‪،‬‬ ‫لو تَزلزلت األرض من تحت َ‬

‫وح َم ًما‪،‬‬ ‫نارا ُ‬ ‫وثارت براكين الدنيا‪ ،‬وأمطرتك ً‬

‫وتحول كل شيء إلى رماد ْتذروه الرياح‪:‬‬ ‫فال تيأس وال تقنط!‬ ‫وش ِّم ْر عن ساعديك‪،‬‬ ‫ُم من جديد‪َ ،‬‬ ‫بل ق ْ‬ ‫جسورا‪،‬‬ ‫وأقم من األمل‬ ‫ً‬ ‫وابدأْ البِناء‪ْ ،‬‬

‫ومن العزم طرقًا‪ ،‬ومن اإلرادة مركبًا‪...‬‬ ‫***‬


‫عن ذاته ومعاناته‪.‬‬

‫الح���ب مصدر لإلله���ام‪ ..‬فالتج���اذب الروح���ي والعاطفي‬

‫يمن���ح التأل���ق والدافعي���ة‪ ،‬وينش���ط االس���تعداد لتل ّق���ي اإللهام‪.‬‬

‫والم���رأة ذات القلب النابض والعاطفة الحية‪ ،‬تس���تقبل اإللهام‬ ‫وتمل���ك الح���دس أكث���ر م���ن الرج���ل‪ ،‬فهي أق���در عل���ى قراءة‬

‫المجهول واكتشاف المستور‪ ..‬قلب األم يلهث وراء "جنينها"‬

‫جنين���ا ولو بلغ الس���بعين‪ ..‬وقلب الزوج���ة دليلها‬ ‫ال���ذي يظ���ل ً‬ ‫الذي ال يكاد يخطئ حين يجيب على األسئلة والمخاوف‪ ،‬أو‬

‫الليالي ذوات العدد‪.‬‬

‫ال في أم���ر دون َظفرٍ بطائ���ل‪ ،‬في لحظة‬ ‫أيام���ا ط���وا ً‬ ‫ّ‬ ‫فك���رت ً‬ ‫خاص���ة جاء الحل حين توقف التفكير‪ ،‬وتراجعت األس���باب‪.‬‬

‫لح‪ ،‬فشدة اإللحاح تعرقل‬ ‫الهم في بؤرة العناية وال ُت ّ‬ ‫ال تجعل ّ‬ ‫اإللهام‪ ،‬وال تعجل فالعجلة " َل ّمة الش���يطان"‪ .‬وحذارِ أن ترمي‬

‫اآلخ ُر م���ن إلقاء‬ ‫بالح���ل ف���ي ظلم���ات الي���أس‪ ،‬فاإلغالق ه���و َ‬ ‫الش���يطان‪ِ َ :‬‬ ‫ال َيي َئس ِم ْن ر ْو ِح ا ِ‬ ‫هلل‬ ‫َ‬ ‫﴿يع ُد ُك ُم ا ْل َف ْق َر﴾(البق���رة‪ُ ْ َ ﴿ ،)268:‬‬ ‫ون﴾(يوسف‪.)87:‬‬ ‫ِإ َّ‬ ‫ال ا ْل َق ْو ُم ا ْل َكا ِف ُر َ‬

‫يمنح األفراح واآلمال والتطلعات المس���تقبلية‪ ..‬المرأة ملهمة دع األمل يعمر قلبك ولو لم تر الضوء‬ ‫أكثر‪ ،‬ألنها تحب أكثر‪.‬‬

‫ربما تقتبس نار اإللهام من مش���اهدة الناس أو س���ماع كلماتهم‬

‫الصفائي���ة الذاتي���ة مص���در إلهام‪ ..‬فم���ن‬ ‫صح‬ ‫ّ‬ ‫ص���ح َجنا ُنه ّ‬ ‫والتق���ي‬ ‫لس���ا ُنه‪..‬‬ ‫هلل َي ْج َع ْل‬ ‫النق���ي ُيل َّقى الحكم��� َة‪ :‬إ ِْن َت َّت ُق���وا ا َ‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫���م ُف ْر َقا ًنا‪(‬األنف���ال‪ ..)29:‬والقلب الصافي‪ ،‬كالمرآة المصقولة‬ ‫َل ُك ْ‬ ‫تنعكس عليها الحقائق‪.‬‬

‫أو كت���اب أو بل���د أو عم���ل أو حالة‪ ،‬هي فأل جدي���د باحتكاك‬

‫إله���ام‪" .‬الله���م ألهمني رش���دي"‪ .‬فاهلل مانح اإلله���ام‪ ،‬والدعاء‬

‫اإلمكانات العقلية‪ ،‬بيد أنها وحدها ال تكفي‪.‬‬

‫تجل‬ ‫وبوح بدعوة‪ ..‬فالدعوة‬ ‫القرب من اهلل ‪ ،‬في لحظة ٍّ‬ ‫ٍ‬

‫سبيله‪ ،‬واإليمان حافزه‪.‬‬

‫الس���كينة ه���ي الحالة النفس���ية المالئمة لإلله���ام‪ ،‬هي " َل ّمة‬

‫س���ببا‬ ‫الم َل���ك"‪ .‬واإلله���ام حال���ة مالئكية‪ ،‬وربم���ا كانت العزلة ً‬ ‫أن‬ ‫ف���ي التأم���ل وتهيئ ِة النفس لتل ّقي الفي���ض الرباني‪ ..‬فال غرو ْ‬ ‫���ط الخطايا ويرفع‬ ‫يح ّ‬ ‫كان انتظ���ار الص�ل�اة بع���د الصالة‪ ،‬مم���ا ُ‬ ‫قدم‬ ‫الدرجات‪ْ ،‬‬ ‫���نة المرس���لين‪ ،‬وأن ّ‬ ‫وأن كان االعتكاف من ُس ّ‬ ‫اهلل لرس���وله ‪ ‬بين يدي رس���الته بتقدير‬ ‫التحنث في غار حراء‬ ‫ّ‬

‫أو ق���راءة وجوهه���م‪ ،‬أو م���ن رؤي���ة الطبيع���ة وتأم���ل مجاليه���ا‬

‫ومظاهرها اآلسرة‪.‬‬

‫المش���اهدات البس���يطة‪ ،‬العالق���ات الجديدة‪ ،‬مع ش���خص‬

‫ملهم يصنع فر ًقا‪ ..‬ال مندوحة عن التفكير والدراسة وتوظيف‬ ‫مائ ٌة من كبار أثرياء العالم الناجحين‪ ،‬أكدوا أنهم يعتمدون‬

‫عل���ى دراس���ة الجدوى‪ ،‬ولكنهم يعتم���دون معها على أمر آخر‬ ‫مهم هو الفراسة أو اإللهام‪.‬‬

‫التجربة السابقة أساس‪ ..‬القراءة المستديمة بناء‪..‬‬

‫العمر تراكم‪ ..‬فالشباب أكثر حيوية وثقة‬ ‫وإنجازا‪ ،‬والكبار‬ ‫ً‬ ‫يرشح الحراكَ الحالي‬ ‫أنضج وأحكم‪ ..‬هذا التوزيع الفطري‪ِّ ،‬‬ ‫للنجاح متى تظاهرت عليه األطراف‪.‬‬

‫‪29‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )38‬‬


‫أدب‬ ‫د‪ .‬سلمان العودة*‬

‫املدنية مرآة تعكس روح األمة وتفصح عن معدِنها‪ ..‬أما السلوك الراقي واألخالق السامية‪،‬‬ ‫فهي لسانها البليغ الذي يعلن عن أصالتها‪.‬‬ ‫***‬ ‫(املوازين)‬

‫سبحات اإللهام‬ ‫وجها‪،‬‬ ‫كان لديه مشكلة اختالس لم يعرف لها ً‬

‫الن ْح ِل َأ ِن َّات ِخ ِذي ِم َن ا ْل ِجب ِ‬ ‫ال ُب ُيو ًتا‬ ‫‪‬و َأ ْو َحى َر ُّب َ‬ ‫���ك ِإ َلى َّ‬ ‫وحي���ا‪َ :‬‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ن‬ ‫ون‪(‬النحل‪.)68:‬‬ ‫الش َج ِر َو ِم َّما َي ْع ِر ُش َ‬ ‫َو ِم َ َّ‬ ‫اإلنس���ان يملك التعقل وهو عملية حس���ابية مدروسة‪ ،‬فيها‬

‫عما كتب‪ ،‬فيرفع حاجبيه‬ ‫تس���أله زوجه‬ ‫مس���تغربا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫صباحا ّ‬

‫وليدا يلق���م الثدي‪ ،‬ويبكي‬ ‫ويمل���ك الغريزة الت���ي تجعل طف ً‬ ‫ال ً‬

‫يفكر في‬ ‫ثالث س���نوات والمحاس���ب األمي���ن ّ‬

‫ال‬ ‫األم���ر دون نتيج���ة‪ .‬اإلله���ام يهجم علي���ه لي ً‬ ‫ليصحو ويركض إلى القلم ويكتب أشياء‪ ،‬ثم يعود إلى فراشه‪.‬‬

‫المقدمات والنتائج وهي مناط التكليف والحساب والمساءلة‪.‬‬

‫ويذهب ليجد أنه كتب بش���كل نهائي حل المش���كلة التي ّأرقته‬

‫ويخاف ويفرح ويتألم‪.‬‬

‫الرقاد‪.‬‬ ‫طوي ً‬ ‫ال وحرمته ّ‬

‫إله���ام تحمله الرؤيا‪ ،‬يقع عل���ى غير توقع ودون مقدمات‬

‫أو أس���باب محددة‪ .‬رؤيا العزيز متصلة بفراسة‬ ‫وتوسم‪ ،‬فالذي‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫���و ُاه َع َس���ى َأ ْن َي ْن َف َع َنا‪(‬يوس���ف‪ )21:‬فأص���اب‬ ‫ق���ال‪َ  :‬أ ْك ِرم���ي َم ْث َ‬ ‫الحقيق���ة‪ ،‬كان ص���ادق الرؤي���ا‪ ،‬وحكاية القرآن عن���ه تدل على‬

‫صدق حديث‪ .‬فأصد ُقه���م رؤيا أصد ُقهم حدي ًثا‪ ،‬وليس‬ ‫ممكنا‬ ‫ً‬ ‫فصل المنام عن اليقظة‪.‬‬

‫عي���ن ثالثة ترى ما ال يراه المبصرون‪ ..‬نس���يج من المعاني‬ ‫ٌ‬

‫���س المس���تقبل بالحاض���ر‪ ،‬وامت���زاج‬ ‫الروحي���ة والعقلي���ة‪ُّ ،‬‬ ‫وتلب ُ‬

‫نفسية ترسم‬ ‫التجربة بالعفوية‪ ،‬ذلك هو "اإللهام"؛ موهبة‬ ‫الحل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وتني���ر الطري���ق‪ .‬والقل���م هو البندقي���ة التي تصيد ه���ذه الطريدة‬

‫وال���ذي يمل���ك اإللهام والفراس���ة؛ "فمن لم ينفع���ه ظ ُّنه لم‬

‫المح���دث‬ ‫ينفع���ه يقين���ه" كم���ا يق���ول الرج���ل‬ ‫المله���م عمر بن‬ ‫َّ‬ ‫َ‬

‫الخط���اب ‪ ‬ال���ذي كان ال يق���ول لش���يء "أظنه ك���ذا" إال كان‬

‫كما يقول‪.‬‬

‫الحاس���ة السادس���ة أم‬ ‫مهما أهي‬ ‫المخ‬ ‫ّ‬ ‫طاق���ة روحية‪ ،‬ليس ًّ‬ ‫ّ‬ ‫القدي���م‪ ،‬فف���ي كل حال األمر محاط بق���در من الغموض‪ ،‬ألنه‬ ‫وح ِم ْن َأ ْم ِر‬ ‫ال���ر ِ‬ ‫متص���ل بالروح‪َ :‬‬ ‫ال���ر ُ‬ ‫وح ُق ِل ُّ‬ ‫‪‬و َي ْس��� َأ ُلو َن َك َع ِن ُّ‬ ‫َر ِّبي‪(‬اإلسراء‪ .)85:‬اإللهام ظن‪ ،‬وهو الحق دون دليل‪.‬‬ ‫الغرب���ة ُتلهِ ���م‪ ..‬فالغرب���ة حرم���ان‪ ،‬والمحروم يقرأ بش���كل‬ ‫مختلف ويلتقط المعنى من زاويته الخاصة‪.‬‬

‫الغضا‬ ‫أحمام َة الوادي‬ ‫بشرقي َ‬ ‫ِّ‬ ‫فرجعي‬ ‫الس���انحة‪ .‬الفك���رة الملهمة الجديدة والكاش���فة التي تهاجمك ‬ ‫إن كنت مسعف َة الحبيب ّ‬ ‫عل���ى غي���ر تر ّقب ودون انتظار‪ ،‬نوع من الحدس واالس���تبصار‬

‫الغضــا فغصـــو ُنه‬ ‫إ ّنا تقاسمــنا َ‬

‫ ‬ ‫العميق والقراءة الخفية‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫س اإلبداعي لي���س كذبة مصدرها وادي عبقر‪ ..‬فحين‬ ‫ألن الحيوان بدون عقل‪ ،‬فهو يعتمد على اإللهام فحسب؛‬ ‫الح ّ‬ ‫عما حوله‪،‬‬ ‫في طعامه وشرابه وتزاوجه‪ ،‬وفي معرفة العدو والصديق‪ ،‬وفي يدخل الش���اعر الملهم في تجربة جدي���دة‪ ،‬ينفصل ّ‬

‫تقدير المخاطر‪ ،‬وتدبير كيفية تجاوزها‪ ،‬ولذا س���ماه اهلل تعالى‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )38‬‬

‫‪28‬‬

‫وجمره في أضلعي‬ ‫في راحتيك‪،‬‬ ‫ُ‬

‫تعبر‬ ‫وتتحول عنده األشياء العادية إلى إيحاءات عميقة وكأنها ّ‬


‫زائد أو ضعف في العضالت‪.‬‬

‫‪-2‬جراح�������ة تغيير المفصل‪ :‬حيث يتم تركيب س���طح ناعم‬

‫مح���ل الغضاري���ف المتآكلة والس���طح الخش���ن‪ .‬وهذه‬ ‫ليح���ل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الجراحة نسبة نجاحها عالية‪ ،‬بشرط استعمالها في كبار‬ ‫السن‪،‬‬ ‫ّ‬

‫مم���ن ال يتحرك���ون‬ ‫ال عضلية‬ ‫كثي���را وال تتطلب حياتهم أعم���ا ً‬ ‫ً‬

‫‪Arterior temporal mandibular dislocation‬‬

‫‪Vertebral dislocation‬‬

‫ش���اقة‪ ،‬ألن المفاص���ل الصناعي���ة له���ا عم���ر افتراض���ي يتراوح‬

‫بين ‪ 15-12‬س���نة في أغلب األحوال‪ ،‬يت���م بعدها إعادة تغيير‬

‫المفص���ل بآخ���ر جدي���د‪ .‬وبالتال���ي فللحف���اظ عل���ى عم���ر هذا‬

‫المفص���ل الصناع���ي‪ ،‬يس���تلزم أن تك���ون نوعية حي���اة المريض‬

‫‪Subcoracoid dislocation‬‬

‫‪Subglenoid dislocation‬‬

‫‪Dislocated carpal lunate‬‬

‫فمث�ل�ا تغيير المفصل أكثر مالءم���ة لمن يعمل أعمال‬ ‫مناس���بة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫مكتبية عن َمن يعمل في البناء أو الفالحة‪.‬‬

‫آفاق المستقبل في عالج الخشونة‬

‫)‪(lateral view‬‬

‫‪Posterior dislocation of hip‬‬

‫‪Dislocation of ankle‬‬

‫إن أفضل طريق للعالج‪ ،‬هو الحفاظ على األنسجة الحية التي‬ ‫وهبنا اهلل ‪ّ ‬إياها في جس���منا‪ .‬وهذا أفضل بكثير من تركيب‬

‫أش���ياء صناعية أو نقل أنس���جة من جس���م غريب إلى جس���منا‪.‬‬

‫‪Dislocation of thumb‬‬

‫‪Posterior dislocation of knee‬‬

‫‪Posterior dislocation of elbow‬‬

‫ش���جع‬ ‫ولهذا نس���عى ويس���عى كل العلماء‪ ،‬لتطوير عالجات ُت ّ‬ ‫عل���ى إع���ادة تكوي���ن الغضاري���ف وإحاللها مح���ل الغضاريف‬

‫المصابة‪ ،‬ومن هذه العالجات‪ ،‬اس���تخدام البروتينات المشتقة‬ ‫م���ن الصفائح الدموية والس���ائل النخاعي‪ ،‬واس���تعمال الخاليا‬

‫الط���رق ترتكز حول أخ���ذ البروتينات أو‬ ‫الجذعي���ة‪ .‬وكل هذه ُ‬ ‫الخاليا من اإلنسان نفسه‪ ،‬ثم إعادة حقنها لنفس اإلنسان بعد‬

‫تعريضه���ا لتنش���يط بصورة معينة أو تركي���ز لبعض المواد منها‪.‬‬ ‫وال ي���زال ه���ذا المج���ال تح���ت التجربة والبح���ث لتقييم مدى‬

‫فاعليت���ه على المدى الطويل‪ ،‬ولكن األبحاث التي تتعلق بهذا‬ ‫شجعة‪.‬‬ ‫الموضوع ُم ّ‬ ‫وم ّ‬ ‫بشرة ُ‬

‫غضاريف متآكلة‬

‫خش���ونة المفاصل‪ ،‬من األمراض المنتش���رة‪ ،‬وهناك الكثير‬

‫م���ن الحلول له���ا‪ .‬وال يزال العلم يس���عى للوصول إلى أفضل‬

‫س���بل الع�ل�اج‪ ،‬ونتوق���ع ف���ي المس���تقبل أن يق���ل دور العالج‬ ‫الجراح���ي في خش���ونة المفاص���ل‪ ،‬ويحل مكان���ه طرق أخرى‬ ‫تجعل العالج أس���هل على المرضى‪ .‬ولكننا لم نصل إلى هذه‬

‫المرحلة بعد‪.‬‬

‫(*) أستاذ جراحة العظام‪ ،‬جامعة عين شمس ‪ /‬مصر‪.‬‬

‫مفاصل الجسم‬

‫‪27‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )38‬‬


‫ومنه���ا الحمي���ة الغذائي���ة واألدوية واإلبر الصيني���ة‪ ،‬وجراحات‬

‫تدبيس المعدة وشفط الدهون‪ ...‬إلخ‪.‬‬

‫إذا تط���ورت حال���ة الخش���ونة‪ ،‬فيمك���ن اس���تعمال بع���ض‬ ‫المس���كنات م���ع ع�ل�اج الس���بب كم���ا ذكرن���ا‪ ،‬ولك���ن يج���ب‬ ‫ِّ‬

‫المس���كنات بكثرة‪ ،‬ألن كل هذه األدوية‬ ‫الحذر من اس���تعمال‬ ‫ِّ‬ ‫له���ا أعراض جانبية كثي���رة على المعدة أو الكل���ى أو الكبد‪...‬‬ ‫المس���كنات‪ ،‬قد ي���ؤدي إلى أضرار‬ ‫وبالتال���ي فكثرة اس���تعمال‬ ‫ِّ‬

‫كبيرة مع مرور الوقت‪.‬‬

‫في الحاالت التي ال تستجيب إلى ما سلف‪ ،‬يمكن اللجوء‬

‫إل���ى ما يس���مى "الحقن الموضع���ي" للركبة بالس���ائل الزاللي؛‬

‫وهو الزيت الذي خلقه اهلل س���بحانه داخ���ل المفاصل لتليينها‪.‬‬ ‫وبالتال���ي فحقن الس���ائل الزاللي داخل المفصل‪ ،‬هو حل آمن‬

‫وال يوجد مضاعفات له بش���رط أن يتم الحقن بواس���طة طبيب‬ ‫متخص���ص‪ ،‬وأن يت���م الحفاظ على قواعد الس�ل�امة من تعقيم‬ ‫وتخدير موضعي‪ ،‬ومراعاة لألعصاب والشرايين‪.‬‬

‫بالنس���بة للح���االت التي لم تس���تجب لهذا الع�ل�اج‪ ،‬يمكن‬

‫اللج���وء إل���ى العالج الجراحي‪ .‬وهناك ع���دة أنواع من العالج‬ ‫الجراحي يتم تحديد النوع المناس���ب حس���ب الفحص الطبي‪،‬‬

‫ونتيجة الفحوص من أشعة إكس‪ ،‬وأشعة بالرنين المغناطيسي‪،‬‬

‫تقييما عن‬ ‫حي���ث إن األش���عة العادية تعط���ي الطبيب المعال���ج‬ ‫ً‬ ‫تك ِّلس���ة‪ ،‬لكنها ال تظهر فيها الغضاريف‬ ‫الم َ‬ ‫العظام واألنس���جة ُ‬ ‫أو األربط���ة أو العض�ل�ات‪ .‬ولك���ي يت���م تقيي���م كام���ل لألربطة‬ ‫والغضاري���ف والعضالت قبل الجراحة‪ ،‬يتم اس���تعمال أش���عة‬ ‫الرنين المغناطيسي لهذا الغرض‪.‬‬

‫من طرق العالج الجراحي‬

‫‪-1‬الع���ل���اج بالمنظ�������ار‪ :‬ويتمي���ز هذا الع�ل�اج ب���أن المريض ال‬ ‫يحتاج إلى اإلقامة بالمستشفى أكثر من يوم واحد فقط‪ ،‬وألن‬ ‫هذا العالج ال يصاحبه جروح كبيرة أو قطع باألنس���جة‪ ،‬فهذا‬ ‫يجع���ل فت���رة النقاه���ة أقص���ر والعودة للحي���اة الطبيعية أس���رع‪.‬‬ ‫وبالمنظار يتم عالج الغضاريف المصابة والخش���ونة واألربطة‬

‫تهتك���ة‪ .‬ولكن مفع���ول جراحة المنظار‪ ،‬تختلف من مريض‬ ‫الم ّ‬ ‫ُ‬ ‫إل���ى آخر‪ ،‬ونس���بة النجاح في حاالت الخش���ونة غير واضحة‪،‬‬

‫وفترة التحسن بعد المنظار قد تتراوح بين عدة أشهر إلى عدة‬ ‫س���نوات‪ ،‬وبالتالي فهو حل جيد لصغار السن ومن يعانون من‬ ‫خش���ونة بسيطة واضحة السبب‪ ،‬بشرط أن ال يكون معها وزن‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )38‬‬

‫‪26‬‬


‫متوازن���ة بي���ن العظ���ام وبعضها م���ن خالل اس���تقرار المفاصل‪.‬‬ ‫وعل���ى المس���توى الميكروس���كوبي‪ ،‬تتك���ون الغضاري���ف‬ ‫الناعمة‬ ‫أي مفصل‪ ،‬من خاليا غضروفية يحيط‬ ‫ِّ‬ ‫المبطنة لسطح ّ‬ ‫المواد األساس���ية‬ ‫بها من كل جانب‬ ‫المكونة للغضاريف‪ ،‬مثل‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫الكوندريوتي���ن س���لفات‪ ،‬والماء‪ ،‬واأللي���اف البروتينية من نوع‬ ‫كوالجين‪ 2‬من المواد‪ ،‬وتكون وظيفة الخاليا الغضروفية‪ ،‬هي‬ ‫تكوين واس���تبدال المفقود من هذه المواد الناعمة‪ .‬ومن الهام‬ ‫وأيضا‬ ‫جدا أن يكون هناك اتزان بين تركيز هذه المواد ببعضها‪ً ،‬‬ ‫ًّ‬ ‫ات���زان في كمية الم���اء الموجودة داخل الغضاري���ف‪ .‬وبالتالي‬ ‫معين‪ ،‬يؤدي هذا‬ ‫ف���إذا َّ‬ ‫قل الماء عن ح���د ّ‬ ‫معين أو زاد عن حد ّ‬ ‫إلى تآكل الغضاريف والخشونة لهذا السطح الناعم‪.‬‬ ‫وللحف���اظ عل���ى نعوم���ة الحركة داخ���ل المفص���ل وتقليل‬ ‫بطن المفصل اس���مه "الغش���اء‬ ‫االحت���كاك‪ ،‬فهناك غش���اء آخر ُي ِّ‬ ‫السينوفي"‪ ،‬وهو مسؤول عن إفراز ما يسمى بـ"السائل الزاللي"‬ ‫وهو سائل لزج شفاف يشبه الزيت‪ ،‬وهذا السائل يكون داخل‬ ‫المفصل بكمية محددة بس���يطة تعمل على منع االحتكاك بين‬ ‫الغضاريف‪.‬‬ ‫ويت���م توزي���ع األوزان واألحم���ال داخل مفصل اإلنس���ان‬ ‫بص���ورة متس���اوية‪ ،‬حيث إن التكوي���ن الذي خلق���ه اهلل للعظام‬ ‫ولوزن اإلنسان‪ ،‬تم بحيث يكون هناك اتزان في هذا التوزيع‪،‬‬ ‫مركز على منطقة ف���ي المفصل بدرجة‬ ‫ف�ل�ا يك���ون هناك حمل َّ‬ ‫تحملها‪.‬‬ ‫تفوق ُّ‬ ‫كم���ا رأين���ا‪ ،‬فقد خلق اهلل ‪ ‬الكثير من العوامل واألدوات‬ ‫التي تحافظ على نعومة المفاصل واستقرارها أثناء الحركة‪.‬‬

‫أسباب الخشونة‬

‫هناك أنواع من الخشونة تكون بسبب تشوه بالعظام أو اعوجاج‬ ‫نتيجة عيب َخلقي أو وراثي أو نتيجة إصابة قديمة أو كسر‪...‬‬ ‫وه���ذه‬ ‫التش���وهات تتس���بب في ع���دم توزيع األحم���ال داخل‬ ‫ّ‬ ‫المفصل بصورة متساوية على كل األجزاء والخاليا‪ ،‬وبالتالي‬ ‫تركز في منطقة صغيرة بالمفصل‪ ،‬مما‬ ‫وم ّ‬ ‫يصب���ح الحمل أعلى ُ‬ ‫ي���ؤدي إل���ى ت���آكل الغضاريف به���ذه المنطق���ة‪ .‬وبالطبع لمنع‬ ‫حدوث هذا‪ ،‬يجب عالج أي تش���وهات بالعظام أو اعوجاج‪،‬‬ ‫سواء كان بسبب وراثي أو عيب َخلقي‪ ،‬أو نتيجة إصابة أو مرض‪.‬‬ ‫من ناحية أخرى‪ ،‬هناك أمراض تصيب الغش���اء الس���ينوفي‬ ‫والغضاري���ف وتعم���ل عل���ى تآكله���ا‪ ..‬وتكون ه���ذه األمراض‬ ‫بس���بب عيوب في جهاز المناعة بجس���م اإلنس���ان‪ ،‬مما يتسبب‬

‫في التهاب مزم���ن بالمفاصل نتيجة مهاجمة بعض البروتينات‬ ‫في الدم لبعض الخاليا في جس���م اإلنسان بما فيها المفاصل‪.‬‬ ‫وه���ذا االلته���اب المزمن‪ ،‬مع م���رور الوقت ي���ؤدي إلى تآكل‬ ‫بالغضاري���ف والعظ���ام‪ .‬وأش���هر أمثل���ة عل���ى ه���ذه األمراض‪،‬‬ ‫الروماتويد‪ ،‬وشبيهات الروماتويد‪ ،‬والذئبة الحمراء‪ ...‬إلخ‪.‬‬ ‫وهناك خش���ونة ناتجة عن إصابات الغضاريف أو األربطة‬ ‫إم���ا نتيجة إصابات المالعب أو حوادث الس���ير‪ ...‬وينتج عن‬ ‫هذه اإلصابات أن يتحول سطح الغضروف الناعم إلى سطح‬ ‫خش���ن نتيجة كس���ر أو إصابة مباش���رة‪ .‬وفي هذه الحالة يجب‬ ‫التدخ���ل‬ ‫جراحيا إلع���ادة الج���زء المنقول من الس���طح الناعم‬ ‫ًّ‬ ‫إل���ى مكان���ه‪ ،‬ك���ي نحافظ عل���ى نعوم���ة المفصل‪ .‬وم���ن ناحية‬ ‫أخ���رى‪ ،‬إذا كان هن���اك قط���ع بأحد األربط���ة بالمفصل‪ ،‬والتي‬ ‫كما عرفنا تكون مس���ؤولة عن اس���تقرار المفصل أثناء الحركة‬ ‫وتعمل كمحور للحركة‪ ،‬هذه األربطة في حالة إصابتها‪ ،‬يجب‬ ‫عالجه���ا إما بالجراحة وإما بالعالجات األخرى‪ ،‬حتى نضمن‬ ‫التئام هذه األربطة وعودتها إلى الحالة الطبيعية‪.‬‬ ‫سبب آخر للخشونة‪ ،‬هو الوزن الزائد وضعف العضالت‪،‬‬ ‫مم���ا يؤدي إلى التحمي���ل بصورة غير طبيعية على الغضاريف‪،‬‬ ‫ويؤ ّث���ر عل���ى ميكانيكي���ة حرك���ة المفاص���ل‪ .‬وهذا الس���بب من‬ ‫األس���باب األكثر‬ ‫حاليا‪ .‬ومن ناحية أخرى‪،‬‬ ‫ً‬ ‫انتش���ارا في العالم ًّ‬ ‫االنتظ���ام في ممارس���ة الرياضة للحفاظ عل���ى حالة العضالت‬ ‫هاما في استقرار المفاصل وحركتها بصورة طبيعية‪.‬‬ ‫دورا ًّ‬ ‫تلعب ً‬

‫عالج الخشونة‬

‫بكرة من خش���ونة المفاصل‪ ،‬يك���ون التركيز‬ ‫الم ّ‬ ‫ف���ي الح���االت ُ‬ ‫األساس���ي عل���ى ع�ل�اج األس���باب وإيق���اف تط���ور الخش���ونة‪،‬‬ ‫يسترد عافيته‪ ،‬ويعمل على إعادة تكوين‬ ‫والسماح للجسم بأن‬ ‫ّ‬ ‫م���ا تهدم من أنس���جة‪ .‬فإذا كان الس���بب‬ ‫اعوجاجا في المفصل‬ ‫ً‬ ‫أو‬ ‫تش���و ًها بالعظام‪ ،‬يتم تقويم هذا االعوجاج أو التش���وه‪ .‬وإن‬ ‫ّ‬ ‫كان الس���بب‪ ،‬التهابات نتيجة أمراض الجهاز المناعي‪ ،‬فيكون‬ ‫التركي���ز عل���ى ع�ل�اج ه���ذه االلتهاب���ات واألم���راض‪ .‬وإن كان‬ ‫بسبب إصابة في أربطة أو غضاريف‪ ،‬فيتم عالج هذه اإلصابة‬ ‫بالمنظ���ار الجراح���ي‪ .‬أم���ا إن كان الس���بب‬ ‫ضع���ف العضالت‬ ‫َ‬ ‫وزيادة الوزن‪ ،‬فيكون العالج بتقوية العضالت بواسطة العالج‬ ‫الفيزيائي وممارسة الرياضة‪ ،‬ومعها تقليل الوزن تحت إشراف‬ ‫طبيب متخصص في هذا المجال‪ .‬وهناك طرق متعددة لتقليل‬ ‫ال���وزن يحدده���ا الطبيب المختص حس���ب حال���ة كل مريض‪،‬‬

‫‪25‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )38‬‬


‫علوم‬

‫د‪ .‬خالد عمارة*‬

‫خشونة المفاصل‬ ‫األسباب والعالج‬

‫لق���د خل���ق اهلل ‪ ‬مفاص���ل اإلنس���ان‪ ،‬بحي���ث‬

‫تجم���ع بين س���طح ناعم ‪-‬قلي���ل االحتكاك‪-‬‬ ‫ُيغطي سطح العظام‪ ،‬وفي نفس الوقت عالقة‬

‫مس���تقرة بين العظام‪ .‬ويتكون المفصل من عالقة بين عظمتين‬

‫ال مفص���ل الركب���ة‪ ،‬يتكون من‬ ‫م���ن عظام جس���م اإلنس���ان‪ ،‬فمث ً‬ ‫عالقة بين عظمتي الفخذ والقصبة‪ .‬وسطح العظام عند منطقة‬

‫مغط���ى بغضاريف ش���ديدة النعوم���ة‪ .‬وهناك‬ ‫المفص���ل‪ ،‬يكون ّ‬

‫نوعان من الغضاريف تغطي سطح المفصل‪ :‬األول غضاريف‬ ‫التحرك بأقل نس���بة‬ ‫المع���ة ش���ديدة النعوم���ة‪ ،‬وتك���ون وظيفتها‬ ‫ّ‬ ‫احت���كاك بي���ن العظام‪ .‬والثاني غضاريف م���ن نوع آخر يجمع‬

‫بي���ن الخالي���ا الغضروفي���ة واأللي���اف‪ ،‬وه���ذا الن���وع اآلخر من‬

‫ال عن زيادة اس���تقرار المفصل أثناء‬ ‫الغضاريف‪ ،‬يكون مس���ؤو ً‬

‫اس���تقرارا أثن���اء الحركة‪،‬‬ ‫الحرك���ة‪ .‬ولك���ي يكون المفصل أكثر‬ ‫ً‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )38‬‬

‫‪24‬‬

‫تكون روابط قوية تحافظ‬ ‫تعم���ل األربطة والعضالت عل���ى أن ّ‬ ‫عل���ى ميكانيكي���ة الحركة للمفصل والعالق���ة الثابتة بين العظام‬ ‫أثناء الحركة‪ ،‬وتس���مح بالحركة حول محور مستقر مما يمنع‬

‫االحتكاك غير الطبيعي‪.‬‬

‫وتعم���ل العض�ل�ات عل���ى تحري���ك المفص���ل بع���د تل ّق���ي‬

‫األوامر من المراكز الحركية بالدماغ‪ ،‬وتصل هذه األوامر إلى‬ ‫العضالت عن طريق األعصاب‪ .‬وبالتالي لكي يتحرك اإلنسان‬ ‫بص���ورة طبيعية‪ ،‬فهو يحتاج إل���ى مراكز حرك ٍة بالدماغ طبيعية‪،‬‬

‫وأعصاب تنقل اإلشارات الصحيحة إلى العضالت الصحيحة‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫وعضالت بحالة جيدة‪ ،‬ومفاصل‬ ‫وعظام س���ليمة‪ ،‬وإلى عالق ٍة‬ ‫ٍ‬


‫العقل الكبير والنبوة‬

‫فموض���وع "النب���ي" و"النب���وة"‪ ،‬موضوع كبير يحت���اج لمعالجته‬

‫محتفظا على َم ِّر الس���نين‬ ‫إلى عقل كبير‪ ،‬وأن يكون هذا العقل‬ ‫ً‬ ‫بجدت���ه وحرارته‪ .‬والنورس���ي ما كتب ما كتب بأقالم القصب‪،‬‬ ‫ّ‬

‫وفه���م جدي���د إبداع���ي النظر حيث‬ ‫استش���رافية غي���ر مس���بوقة‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫م���دار عظيم لعرش الربوبي���ة‪ ،‬ومركز جليل‬ ‫يقول‪" :‬كل س���ما ٍء‬ ‫ٌ‬ ‫لتص���رف األلوهية"‪ ،‬ثم يمضي فيقول‪" :‬حتى عرج به إلى مقام‬ ‫فش���رف باألحدي���ة بكالمه وبرؤيت���ه‪ ،‬ليجعل‬ ‫"ق���اب قوس���ين"‪،‬‬ ‫ّ‬

‫ب���ل بأقالم مداده���ا نزيف ال���روح ودماء القلب‪ ،‬وأحس���ب أنه‬

‫ال جميع‬ ‫ذل���ك العب���د‬ ‫جامعا لجميع الكماالت اإلنس���انية‪ ،‬نائ ً‬ ‫ً‬

‫يغيب كل ش���يء من أم���ام بصره وبصيرت���ه إال الجالل اإللهي‬ ‫والجمال األبدي‪ .‬إنه من اهلل تعالى ومن قرآنه يأخذ ليكتب ِ‬ ‫هلل‬

‫كشا ًفا لطلسم‬ ‫إلى س���لطان الربوبية‪ً ،‬‬ ‫مبلغا للمرضيات اإللهية‪َّ ،‬‬

‫أزكيه على اهلل ب���ل تعالى هو المزكي‪-‬‬ ‫حي���ن كان يكت���ب ‪-‬وال ّ‬

‫ولخلق اهلل‪ ...‬فالشوق إلى الحقيقة ‪-‬عندما يكتب‪ -‬هو الباعث‬

‫األعظم لحرارة الحياة في كتاباته‪ ...‬فهو ال يبحث "في الحياة"‬ ‫ِ‬ ‫���رها‪ ،‬وعن‬ ‫أو "عن الحياة"‪ ،‬بل يبحث عن ُل ِّب الحياة‪ ،‬وعن س ِّ‬ ‫التعرف‬ ‫قوامه���ا‪ ،‬وع���ن محركاتها‪ ،‬وعن إدراك مراميه���ا‪ ،‬وعن‬ ‫ُّ‬ ‫عل���ى توجهاتها‪ ،‬ونتائجها‪ ،‬وخالصاتها‪ ،‬وبداياتها ونهاياتها‪...‬‬

‫وعن حقيقة اإلنسان‪ ،‬وعن قدراته وطاقاته‪ ،‬والنهاياته‪ ،‬وتشبثه‬ ‫بالخلود‪ ،‬وعش���قه لألب���د‪ ،‬والنب���وة وضرورتها لبني اإلنس���ان‪،‬‬

‫ونب���وة محم���د علي���ه الص�ل�اة والس�ل�ام‪ ،‬وعظم���ة ه���ذه النبوة‪،‬‬ ‫وكونه���ا الخاتمة‪ ،‬ودواع���ي خلودها وبقائها‪ ،‬وحاجة البش���رية‬

‫إليها‪ ،‬وصالحها لمعالجة أخطاء كل األزمنة واألمكنة‪.‬‬

‫الحقيقة الدينية‬

‫داعيا‬ ‫التجليات اإللهية‪،‬‬ ‫ً‬ ‫شاهدا على جميع طبقات الكائنات‪ً ،‬‬

‫قابل س���يدنا عيسى‬ ‫الكائنات" ‪ .‬ويقول‪" :‬فمث ً‬ ‫أي س���ماء َ‬ ‫ال في ّ‬ ‫(‪)5‬‬

‫المتشرف باسم "القدير"‪ ،‬سيدنا الرسول ‪‬؟ فاهلل سبحانه‬ ‫‪‬‬ ‫ّ‬ ‫وتعالى متجل في دائرة تلك الس���ماء بال���ذات بعنوان "القدير‪،‬‬

‫تشرف به سيدنا موسى ‪،‬‬ ‫ومث ً‬ ‫ال إن عنوان "المتكلم" الذي ّ‬

‫هو المهيمن على دائرة السماء التي هي مقام سيدنا موسى ‪.‬‬ ‫وهكذا فالرسول األعظم ‪ ،‬ألنه قد حظي باالسم األعظم‬

‫جميع تجليات األس���ماء‬ ‫وألن نبوت���ه عام ٌة وش���املة وق���د نال‬ ‫ّ‬ ‫َ‬

‫إذن مع جميع دوائر الربوبية‪ ...‬فالبد‬ ‫الحسنى‪ ،‬فإن له عالقة ْ‬

‫األنبي���اء وهم ذوو مقام في‬ ‫أن حقيق���ة معراج���ه تقتضي مقابلته‬ ‫ّ‬ ‫َ‬

‫ومروره من جميع الطبقات"(‪.)6‬‬ ‫تلك الدوائر‪،‬‬ ‫َ‬

‫المعرفية اإليمانية‬

‫عظيما إذا اس���تطاع عالمنا اإلس�ل�امي أن‬ ‫فكم س���يكون األم���ر‬ ‫ً‬

‫فالحقيقة الدينية‪ ،‬هي ما ينش���ده هذا المفكر العظيم من خالل‬

‫ال ذوي ذهني���ات عظيمة وخصب���ة كما عند‬ ‫ُينج���ب الي���وم رجا ً‬

‫والس�ل�ام باألخص‪ .‬وهذه الحقيقة عادت على لس���انه أنشودة‬

‫س���تزداد وتتس���ع وتمتد حت���ى يصبح بمقدورها أن تس���توعب‬

‫عموم���ا وف���ي نب���وة محمد علي���ه الصالة‬ ‫بحوث���ه ف���ي النب���وات‬ ‫ً‬

‫ظل ينش���دها لنفس���ه وينش���دها لآلخرين من‬ ‫جمالية وجاللية‪ّ ،‬‬ ‫خل���ق اهلل بش���فافية عجيبة وبص���وت حزين‪ ،‬ك���ي ال تثقل على‬ ‫حزينا‪،‬‬ ‫مهيب���ا كان‬ ‫ً‬ ‫األذه���ان أو ت���ؤود الوجدان‪ ،‬فبق���در ما كان ً‬

‫ال من لدن طالبه ول���دن كل َم ْن حظي‬ ‫وبق���در ذل���ك كان مقبو ً‬ ‫ظل ف���ي حياته‬ ‫برؤيت���ه أو مجالس���ته‪ .‬فقلب���ه الواس���ع الكبي���ر‪َّ ،‬‬ ‫جرعوه‬ ‫كلها معدن إش���فاق وينبوع رحمة حتى ألعدائه الذين ّ‬

‫ش���تى صنوف العذاب‪ ...‬فالبساطة مع التناسق‪ ،‬والتماثل مع‬ ‫ّ‬ ‫التناسب والتألق مع الوضوح من مقومات فكره‪ ،‬ومن ميزات‬

‫كتابات���ه‪ ...‬وللتدلي���ل على ذلك‪ ،‬نورد بعض أف���كاره في النبوة‬ ‫حي���ث يق���ول‪" :‬إن القدرة اإللهية التي ال تت���رك النمل من دون‬

‫حتما البش���ر من دون‬ ‫أمير والنحل من دون يعس���وب‪ ،‬ال تترك ً‬

‫سر نظام العالم"(‪.)4‬‬ ‫نبي ومن دون شريعة‪ ...‬نعم هكذا يقتضي ُّ‬ ‫ينم ع���ن عبقري���ة ذهنية‬ ‫أم���ا كالم���ه ف���ي "المع���راج"‪ ،‬فإن���ه ُّ‬

‫"النورس���ي"‪ .‬فإني أحس���ب أن "المعرفة اإليمانية" لهذه األمة‪،‬‬

‫معارف العصر من دون شعور بالقصور أو الدونية‪ .‬فإننا نحن‬ ‫البش���ر‪ ،‬ال يبهرنا ش���يء كما يبهرنا ما تعانيه العقول الكبيرة من‬ ‫الجبارة‬ ‫حني���ن إل���ى المعرفة‪ ،‬ومن رغبة في ْ‬ ‫أن ن���رى اإلرادات َّ‬

‫لعظ���ام المفكرين وهي تناضل من أج���ل إدراكات أكثر عم ًقا‪،‬‬ ‫س���اعا‪ ،‬وأقدر عل���ى التغيير والتجدي���د‪ ،‬وهذا هو ما‬ ‫وأعظ���م ا ّت ً‬

‫تحتاجه األمة في الوقت الحاضر‪.‬‬ ‫(*) كاتب وأديب عراقي‪.‬‬

‫الهوامش‬

‫(‪ )1‬سيرة ذاتية‪ ،‬سعيد النورسي‪ ،‬ص‪.457:‬‬ ‫(‪ )2‬سيرة ذاتية‪ ،‬سعيد النورسي‪ ،‬ص‪.457:‬‬ ‫(‪ )3‬صيقل اإلسالم‪ ،‬سعيد النورسي‪ ،‬ص‪.29:‬‬ ‫(‪ )4‬اللوامع‪ ،‬سعيد النورسي‪ ،‬ص‪.843:‬‬ ‫(‪ )5‬اللوامع‪ ،‬سعيد النورسي‪ ،‬ص‪.852:‬‬ ‫(‪ )6‬اللوامع‪ ،‬سعيد النورسي‪ ،‬ص‪.674:‬‬

‫‪23‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )38‬‬


‫لهذا الروح المحمدي هيمنته على هذه األمة وتأ ّلقه في سماء‬

‫تقص���ر ع���ن فهمها بالش���كل المطلوب‪ ،‬وهذا ه���و ما يمكن أن‬

‫وش���يء أق���رب إل���ى النفح���ات العلوية‪ ،‬ل���ذا فهو مدف���وع بكل‬

‫فنب���وة محمد ‪ ‬ج���اوزت النبوات الس���ابقة بكفاحها البطولي‬

‫حياتها‪ .‬ففي صوت "النورس���ي" وفي قلمه‪ ،‬ش���يء من الربانية‬

‫خصب���ه الذهن���ي والروحي إلى تكريس وج���وده األفضل لهذه‬

‫المقدس���ة‪ ،‬فيقول وهو في غمار ه���ذا العمل المجيد‪:‬‬ ‫المهم���ة‬ ‫ّ‬

‫ي���ت حت���ى بآخرتي في س���بيل تحقيق س�ل�امة إيمان‬ ‫ضح ُ‬ ‫"لق���د ّ‬

‫ره ٌب من‬ ‫المجتم���ع‪ ...‬فلي���س في قلبي َر َغ ٌب ف���ي ّ‬ ‫الجنة‪ ،‬وال َ‬ ‫جهنم‪ ،‬فليكن سعيد (يعني نفسه) بل ألف سعيد قربا ًنا في سبيل‬ ‫ّ‬ ‫ظل‬ ‫إيم���ان المجتمع الترك���ي البالغ مئات الماليي���ن‪ ...‬ولئن َّ‬ ‫قرآننا دون جماعة تحمل رايته على سطح األرض فال أرغب‬

‫رأيت‬ ‫وإن‬ ‫أيضا‬ ‫س���جنا لي‪ْ ...‬‬ ‫حتى في الجنة‪ْ ،‬إذ س���تكون هي ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫إيم���ان ّأمتنا في خير وس�ل�ام فإ ّنني أرض���ى ْ ُ‬ ‫حرق في لهيب‬ ‫أن أ َ‬ ‫حر ُق جسدي يرفل قلبي في سعادة وسرور"(‪.)1‬‬ ‫ّ‬ ‫جهنم‪ْ ،‬إذ بينما ُي َ‬ ‫وفهما له���ذه الش���خصية العظيمة‬ ‫قرب���ا‬ ‫ولك���ي نك���ون أكثر ً‬ ‫ً‬

‫النب���وات العظيم ُة وباألخ���ص الخاتمة منها‪.‬‬ ‫تق���وم به للبش���رية‬ ‫ُ‬ ‫المستمر‪ ،‬وبقدرتها الفائقة على استيعاب المدركات المتجددة‬ ‫للعقل اإلنساني مع الزمن‪ .‬فنبوة محمد ‪ ‬والقرآن الموحى به‬

‫إليه‪ ،‬إنما هو ثورة عقلية وروحية تستوعب ُك َّل نتاجات العقل‬

‫اإلنس���اني‪ ،‬وق���د تس���بقها أحيا ًنا وتمه���د لها أحيا ًن���ا أخرى كما‬

‫يش���ير إلى ذلك "النورس���ي" في مبحثه اإلبداعي عن معجزات‬ ‫ِ‬ ‫���ر خلودها وس���رمديتها‪ ،‬ألن الوحي‬ ‫األنبي���اء ‪ .‬وه���ذا هو س ُّ‬ ‫‪‬و ُق ْل َر ِّب زِ ْد ِني ِع ْل ًما‪(‬طه‪.)114:‬‬ ‫نفسه يخاطب رسوله ‪َ :‬‬ ‫أي تعارض‬ ‫فلم يسجل تاريخ العلم خالل أربعة عشر قر ًنا ّ‬ ‫بي���ن حقيقة علمي���ة ثابتة مع أي حقيقة ديني���ة ثابتة في الكتاب‬ ‫والس���نة‪ ،‬وأكثر من ذلك يقول "النورسي"‪" :‬إذا تعارض العقل‬

‫���ؤول النقل ليوافق العقل"‪ ،‬وه���ذه قاعدة أصولية‬ ‫م���ع النقل‪ُ ،‬ي ّ‬

‫معا ما يقوله‬ ‫الممتلئة بالشجاعة والصالبة وقوة الشكيمة‪ ،‬لنقرأ ً‬

‫وتوكيدا‬ ‫معتمدة من رجال العلم والفقه في كل زمان ومكان‪.‬‬ ‫ً‬

‫ش���يئا‬ ‫فيق���ول‪" :‬لم أ ُذ ْق طوال عمري البالغ ني ًفا وثمانين س���نة‬ ‫ً‬

‫المق���ررة أنه إذا‬ ‫"صيقل اإلس�ل�ام" حي���ث يقول‪" :‬من األصول‬ ‫ّ‬

‫ع���ن نفس���ه التي قاربت أن تكون خارقة م���ن خوارق العادات‪،‬‬ ‫قضي���ت حياتي ف���ي ميادين الحرب‪،‬‬ ‫م���ن لذائذ الحي���اة‪ ...‬لقد‬ ‫ُ‬

‫وزنزانات األس���ر‪ ،‬أو س���جون الوطن‪ ،‬ومحاكم البالد؛ لم يبق‬

‫نصا ورد في المقدمة األولى من كتابه‬ ‫لرأيه الس���ابق‪ ،‬نورد هنا ًّ‬ ‫ويؤول النقل‪ ،‬ولكن‬ ‫ال‬ ‫تع���ارض العقل والنقل‪ُ ،‬ي َع ُّد العقل أص ً‬ ‫ّ‬ ‫ال ح ًّقا" ‪.‬‬ ‫ينبغي لذلك العقل أن يكون عق ً‬ ‫(‪)3‬‬

‫صنف م���ن اآلالم والمصاعب لم أتجرع���ه‪...‬‬ ‫ُ‬ ‫عوملت معاملة السعة والعمق لدى "النورسي"‬ ‫َّ‬ ‫وغ ِّر ْب ُت في أرجاء‬ ‫المجرمين في المحاكم العس���كرية العرفية‪ُ ،‬‬

‫ش���هورا في‬ ‫���ت من مخالطة الناس‬ ‫الب�ل�اد‬ ‫وح ِر ْم ُ‬ ‫كالمش���ردين‪ُ ،‬‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫وتعرض���ت إلهانات‬ ‫مرارا‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫زنزان���ات الب�ل�اد‪ُ ،‬‬ ‫الس ُّ‬ ‫���م ً‬ ‫س لي ُّ‬ ‫ود َّ‬ ‫الموت على الحياة‬ ‫حت فيها‬ ‫ومرت‬ ‫متنوع���ة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫رج ُ‬ ‫علي أوقات َّ‬ ‫ّ‬ ‫َ َّ‬ ‫ّ‬ ‫فربما كان‬ ‫نفس���ي‬ ‫قتل‬ ‫من‬ ‫يمنعني‬ ‫ديني‬ ‫أن‬ ‫ولوال‬ ‫ضعف‪،‬‬ ‫ألف‬ ‫ّ‬ ‫ترابا تحت التراب"(‪.)2‬‬ ‫سعيد اليوم ً‬

‫ثورة عقلية وروحية‬

‫إنن���ا ق���د نرك���ض وراء "النورس���ي" لنلحق به‪ ،‬ونتع���ب من هذا‬ ‫الرك���ض إلى حد اللهاث‪ ،‬ثم نرى في آخر الش���وط أن أفكاره‬

‫أعم���ق م���ن أن نطالها أو ندركها‪ .‬وهذا األمر هو الذي يدفعني‬ ‫إل���ى القول ب���أن األعمال الفكري���ة الفخم���ة والعظيمة من مثل‬ ‫قيادها لمن يريد قياسها بالشبر‬ ‫نادرا ما ُتس ِلس َ‬ ‫"رسائل النور"‪ً ،‬‬ ‫أن يفعلوا‪ ،‬فمثل هذه األعمال‬ ‫والمسطر كما اعتاد األكادميون ْ‬ ‫ال ُيستطاع ضبطها وال حصرها‪ ،‬ألنها تتف َّل ْت من كل ضبط أو‬

‫علما‬ ‫ال يش���ك أحد في أن البش���رية اليوم‪ ،‬أعلى‬ ‫ً‬ ‫إدراكا وأعظم ً‬

‫لجيشان أفكارنا‬ ‫حصر‪ ،‬ولكنها تبقى مع ذلك ُ‬ ‫الملهِ َم األعظم َ‬

‫أم���س الحاجة إل���ى نوع م���ن التطهير‬ ‫ق���وة الفه���م عنده���ا‪ ،‬في‬ ‫ّ‬

‫الطاق���ة الضوئي���ة المتج���ددة تش���ع ف���ي األذه���ان والقل���وب‬

‫تفهم���ا مما كانت عليه فيما مضى م���ن القرون‪ ،‬ولكن‬ ‫وأق���وى ً‬ ‫والتعديل والتقويم ‪-‬وال سيما تلك المنطقة المعتمة من عقلها‬ ‫فيما يخص حقائق النبوات والدين‪ -‬ولكي تحمل نفسها على‬ ‫فه���م ه���ذا الجانب المعت���م من عقلها‪ ،‬في حاجة إلى ش���جاعة‬

‫نفس���ية وعقلية تبلغ َح َّد البطولة‪ ،‬لتأخذ بيدها وتجعلها تجتاز‬ ‫���م الفهم والعل���م الحقيقين اللذي���ن ال زالت‬ ‫التخل���ف ع���ن ِق َم ِ‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )38‬‬

‫‪22‬‬

‫وتغذية وجداننا‪ .‬فأفكار الرجل ‪-‬أعني النورس���ي‪ -‬كشعاعات‬

‫واألرواح‪ ،‬ث���م تثوي هناك وتغيب فيها فال ُيس���تطاع اإلمس���اك‬ ‫بها كما ال يس���تطاع اإلمس���اك بش���عاع الضوء أو النور‪ .‬ولكنها‬

‫ش���يئا ال ن���دري ما هو‪ ،‬ينقلن���ا من الحالة‬ ‫ُتح���دث ف���ي دواخلنا ً‬

‫الذهني���ة العادية إل���ى حالة ذهنية غير قابلة للتفس���ير‪ ،‬ألنه أكثر‬

‫رجال اإليمان دراي ًة بخصائص الروح وسرائر الضمير‪.‬‬


‫وبالموت‪ ،‬وعالقة الحضارة كذلك بالحياة وبالموت‪.‬‬

‫الحياة والموت‬

‫كل ي���وم‪ ،‬وإذا ل���م يس���تطع أحد إلغ���اء الموت م���ن فوق هذه‬

‫األرض‪ ،‬فإن ذلك يستدعي التفكير‬ ‫الجدي في معنى "الموت‬ ‫ّ‬

‫وقد اكتش���ف "النورسي" هذا المفهوم من خالل تأمله الطويل‬

‫الجدي كذلك في مآل اإلنس���ان ومصيره"‪.‬‬ ‫والحياة"‪ ،‬والتفكير‬ ‫ّ‬

‫من قيود العدميات والنس���بيات التي هي أس���اس كل الش���رور‬

‫والتفكي���ر في "الم���آل والمصير" هو ما ّأك���دت عليه "النبوات"‬

‫وتجل من تجليات اس���مه‬ ‫قدح���ة م���ن قدحات المطلق اإللهي‬ ‫ٍّ‬

‫اهتماماته وأكبرها‪ ...‬ولكن غالبية البشر ‪-‬لقصر نظرهم‪ -‬يقعون‬

‫والعمي���ق في الحياة والموت‪ .‬فالحياة عنده هي عملية انطالق المآل والمصير‬

‫التي يطفح بها العالم‪ ،‬وهي ‪-‬أي الحياة‪ -‬بعد ذلك وقبل ذلك‪،‬‬ ‫تعال���ى "الح���ي" في اإلنس���ان والكون والكائن���ات‪ .‬هكذا يفهم‬ ‫"النورس���ي" المعن���ى العميق للحياة والمعن���ى العميق للموت‪،‬‬

‫اإلنس���ان وطلبت منه أن يكون من أعظم‬ ‫جميعا‪ ،‬وح َّث ْت عليه‬ ‫َ‬ ‫ً‬

‫في مش���اغل الحياة الدنيوية وتفاهاتها وحماقاتها‪ ،‬وال يرغبون‬

‫في تحمل مسؤولية هذا التفكير وما يتر ّتب عليه من التزامات‪،‬‬

‫وجها آخ���ر من وجهي الحي���اة‪ ،‬ألن "الموت"‬ ‫حي���ث ي���رى فيه ً‬ ‫مخل���وق؛ ‪‬ا َّل ِ‬ ‫���و َت َوا ْل َح َيا َة‪ ..‬أج���ل‪ ،‬مخلوق‬ ‫���ذي َخ َل َ‬ ‫���ق ا ْل َم ْ‬ ‫در‬ ‫كالحياة‪ .‬فالموت إذن ليس ً‬ ‫عدما‪ ،‬وحتى العدم نفسه فهو َب ْي ُ‬

‫النائم���ة ف���ي أعماقه���م وما يس���تدعيه ذلك من ق���وة إرادة وقوة‬

‫الخلق واإليجاد كما يقول موالنا جالل الدين الرومي‪.‬‬

‫اإليمان بالنبوة‬

‫المترب���ص بن���ا في هذا المق���ام وينتظ���ر اإلجابة عليه‬ ‫والس���ؤال‬ ‫ّ‬

‫ش���ك كل العصور‪ ،‬دون أن يتزعزع إيمانه للحظة واحدة مهما‬

‫م���ا بع���د الحداث���ة ‪-‬كم���ا يقول���ون‪ -‬الغائص ف���ي ه���ذه المادية‬

‫والمؤم���ن بـ"النب���ي" و"النب���وة" يصبح من الق���وة واالقتدار‬

‫الموج���ودات؛ ألن الموجودات يتوالى مجيؤها منه بعد عملية‬

‫عالم الحداثة وما بعد الحداثة‬

‫يس���مونه‪ -‬وعالم‬ ‫ه���و‪ :‬هل العال���م اليوم؛ عال���م الحداثة ‪-‬كما‬ ‫ّ‬ ‫الغليظ���ة والمرعب���ة‪ ،‬ق���ادر عل���ى فه���م "النبوات"‪ ،‬وق���ادر على‬

‫اس���تيعاب غيبياته���ا واإليمان بما ورائياته���ا؟ فعقل العالم اليوم‬ ‫مص���اب بكالل ذهني وقصور إدراكي‪ ،‬وفقدان لذكائه الفطري‬

‫المطم���ور تح���ت ركام م���ن مغالط���ات المنط���ق‪ ،‬وسفس���طات‬ ‫الفلس���فة‪ ،‬وتن���وع الثقافات‪ ،‬وفوضى األف���كار واأليدلوجيات‪،‬‬

‫وغي���اب الهدفية والم���آل والمصير عن اهتمامات اإلنس���ان‪...‬‬

‫كل ه���ذا صحي���ح‪ .‬وهذا الصحيح المظل���م القاتم الظالم‪ ،‬في‬

‫أش���د حاجات���ه الي���وم إلى "النب���ي" و"النب���وات"؛ ألنه ال ش���يء‬

‫���مو ه���ذا التفكير من‬ ‫وال يري���دون أن يدفع���وا ثمن ما يتطلبه ُس ُّ‬

‫جهد ذهني وجس���دي وسلوكي‪ ،‬واس���تنهاض للقوى الروحية‬

‫عزيمة‪ ،‬وإصرار على المضي في هذه الطريق إلى نهاية الشوط‪.‬‬ ‫فالمؤمن بالنبوة يش���ق طريقه وس���ط عصر الشك هذا‪ ،‬ووسط‬

‫شكوكيات ُيراد له أن ينزلق نحوها‪.‬‬ ‫ثار من حوله من‬ ‫ُي ُ‬ ‫ّ‬

‫جديدا في أساليب التفكير‬ ‫بحيث يس���تطيع أن يش���كل منعط ًفا‬ ‫ً‬

‫الس���ائدة ف���ي عص���ره‪ ،‬وق���د يس���تطيع أن يلفت انتب���اه حضارة‬ ‫لتتبنى أسلوب تفكيره اإليماني‪.‬‬ ‫فالنبوي‬ ‫ُّ‬ ‫بأسرها ويثير اهتمامها ّ‬ ‫وتصحيح���ا للمعطيات‬ ‫اس���تدراكا‬ ‫التفكي���ر‪ ،‬يمث���ل بح���د ذات���ه‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫الفكرية للحضارة القائمة أو الحضارات الالحقة‪.‬‬

‫وهذه االنعطافات في مس���يرة الزمن ومس���يرة الحضارات‪،‬‬

‫هي ما حققه األنبياء العظام من أصحاب الرس���االت الكبرى‪،‬‬

‫ظل‬ ‫وحققه خاتمهم محمد ‪ ،‬فإن أربعة عشر قر ًنا عاشت في ّ‬ ‫بعض الشيء عن‬ ‫نبوته الخاتمة‪ْ ،‬‬ ‫وإن كان هذا الظل قد ينحسر َ‬

‫ويعرفه‬ ‫يمكن���ه أن يمن���ح اإلنس���ان المعن���ى والمغزى لحيات���ه‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫بهدفي���ة الحياة الت���ي يحياها‪ ،‬ويفتح منافذ روح���ه وعقله على‬

‫بعض القرون وقد يمتد ويكثف على بعض القرون األخرى‪ ،‬إال‬

‫وغي���ر "النب���وات"‪ .‬فالم���وت والحياة يبقي���ان ْلغزين م���ن ألغاز‬

‫واألس���تاذ "النورس���ي" ي���درك أن العصر ال���ذي ُكتب له أن‬

‫الم���آل والمصير وعل���ى الموت وما بعد الم���وت‪ ،‬غير "النبي"‬

‫يتحديان عقل اإلنس���ان‪ ،‬وهما الحقيقتان‬ ‫هذا الوج���ود اللذين‬ ‫ّ‬ ‫الوجوديت���ان اللت���ان نش���هد تكرارهم���ا أم���ام أعينن���ا كل ي���وم‪،‬‬

‫األم���ر ال���ذي جع���ل "النورس���ي" يق���ول‪" :‬إذا لم نك���ن قادرين‬

‫عل���ى إيقاف قواف���ل الموتى التي تزور المقاب���ر وتدخل القبور‬

‫وم ّده‪.‬‬ ‫أنه يبقى‬ ‫ً‬ ‫وم ْسعى إليه في حالي انحساره َ‬ ‫موجودا ومعرو ًفا ُ‬ ‫يعي���ش فيه‪ ،‬ه���و عصر االنحس���ارات الروحية ف���ي العالم كله‪،‬‬

‫المحمدي عن األمة المحمدية‪ .‬لذلك‬ ‫وال سيما انحسار الظل‬ ‫ّ‬ ‫فقد رأى أن واجبه الديني واألخالقي واإلنس���اني‪ ،‬يحتم عليه‬

‫أن يعيد‬ ‫أن يسعى بكل ما يمتلك من قوى روحية وعقلية إلى ْ‬

‫‪21‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )38‬‬


‫أن يعيش في دائرتهما‪ ،‬فتجعله أكثر جرأ ًة على كسر قيود نفسه‬

‫والتخ ّلص م���ن أغالل عقله وروحه‪ .‬فهو بمثابة الحجر الكبير‬ ‫وال مناقش���ة ف���ي المثال‪ -‬ال���ذي يحرك أمواج المي���اه الراكدة‬‫في بحيرة الزمن الساكن‪ ...‬فاالنفعال القوي‪ ،‬والتوتر الشديد‪،‬‬

‫والقلق العميق الذي يحدثه "النبي" في اإلنسان‪ ،‬كل هذه تعمل‬ ‫مجتمعة على إزاحة األس���تار عن الجانب الروحي العميق في‬

‫الكي���ان البش���ري ل���م يكن معرو ًف���ا لديه من قب���ل‪ .‬وهو في كل‬

‫األحوال‪ ،‬س���يلمس في داخله قوة عاملة تدفع به نحو هدفية‪،‬‬ ‫إن كانت مجهولة اليوم لديه‪ ،‬إال أن "النبي" سيعينه على فهمها‬ ‫ْ‬ ‫وإدراكه���ا‪ ،‬ويرس���م له طري���ق الوصول إليها‪ .‬لذل���ك صار من‬

‫أعظم مهام "النبي"‪ ،‬هو تدارك أولئك اليائس���ين الذين قد بلغ‬ ‫حد اعتقادهم أن وجودهم نفس���ه على س���طح‬ ‫بهم اليأس إلى ّ‬ ‫ه���ذه األرض‪ ،‬إنم���ا هو خط���أ كوني ما كان للك���ون أن يخطئ‬

‫فيه���م هذا الخطأ الش���نيع؛ حيث ألقى بهم ب���دون مباالة على‬

‫األنبي���اء الس���ابقين‪ ،‬ف���إن نبوت���ه اكتس���بت به���ذه الجامعية صفة‬

‫عب���ر الزمن حت���ى نهاياته‪ .‬فهو‬ ‫الخل���ود والس���رمدية واالمتداد َ‬ ‫علي���ه الص�ل�اة والس�ل�ام نبي ه���ذا العصر ونب���ي كل عصر ٍ‬ ‫آت‬ ‫إل���ى قيام الس���اعة‪ .‬فال جرم أن نرى تعاليم���ه والقرآن الموحى‬

‫قادرين على إنش���اء رج���ال أنبياء ولكن من غير وحي‪،‬‬ ‫به إليه‪َ ،‬‬ ‫ورس���ل ولكن من غير رساالت منزالت عليهم‪ ،‬وهذه إحدى‬ ‫خواص هذه األمة التي تميزت بها عن غيرها من األمم؛ فكان‬

‫بعض رجاالتها من العلماء كأنبياء بني إس���رائيل كما قال عليه‬

‫الصالة والس�ل�ام في اإلش���ارة إلى ذلك‪" :‬علم���اء ّأمتي كأنبياء‬ ‫بن���ي إس���رائيل"‪ .‬فمحم���د ‪ ‬ظاه���ر واض���ح الظه���ور‪ ،‬يتراءى‬

‫للناس من خ�ل�ال هؤالء العلماء المتتلمذين على كتابه وعلى‬ ‫ُس ّنته‪ .‬فهو يعيش ويحيا في أفكارهم وفي أعمالهم‪ ،‬يدور مع‬

‫ال بعد جيل إلى‬ ‫الزم���ن حيث دار‪ ،‬ويتخلل في علم���اء أمته جي ً‬ ‫نهاية العالم‪.‬‬

‫قارع���ة ه���ذه األرض‪ ،‬ليعانوا فيها الغرب���ة والحرمان ومختلف "النورسي"‬ ‫صن���وف الع���ذاب واإلحب���اط‪ .‬وذل���ك لكونه���م يتعاملون مع‬

‫و"النورس���ي" رحم���ه اهلل‪ ،‬م���ن علماء ه���ذه األمة األف���ذاذ‪ ،‬فقد‬

‫الحقائق لها ارتباط وثيق باألنفس واألرواح وحتى السلوكيات‪.‬‬

‫وعصب���ه ولحمه ودمه‪ ،‬فتنفس أنفاس���هما‪ ،‬وتش���رب رحيقهما‪،‬‬

‫حقائق الوجود كمجرد ظواهر أو أرقام أو حسابات‪ ،‬بينما هذه‬

‫محك اإليمان‬

‫وإن ُم ِ‬ ‫وصل اإلنس���ان إلى فهم الوج���ود ضمن هذه المعطيات‬ ‫النفس���ية والروحية‪ ،‬هو محك اإليمان الذي يسعى "النبي" إلى‬

‫إرساء قواعده في النفوس البشرية التي يتعامل معها‪ .‬إنه ‪-‬أي‬ ‫النبي‪ -‬يحمل على كاهله من األعباء واإلشكاالت التي تنتظر‬

‫الحل���ول‪ ،‬ما لم تس���تطع ق���وة أجيال كامل���ة أن تحملها وتجد‬ ‫الحلول الالزمة لها‪ .‬فال عجب إذن ‪-‬واألمر كذلك‪ -‬إذا رأينا‬ ‫جديدا ألعماله‬ ‫تاريخا‬ ‫"النب���ي" وهو يغير مجرى الزمن ويفتح‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫المجيدة في األقوام والشعوب واألمم‪.‬‬

‫نبوة محمد ‪‬‬

‫���ف ‪-‬وإلى األبد‪ -‬عند‬ ‫فتتاب���ع "النب���وات" عبر األزمنة‪ ،‬قد تو َّق َ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫"نب���وة" محم���د الكب���رى‪ ،‬جامع���ة النب���وات‪ ،‬والمحتوي���ة عل���ى‬ ‫خالصاته���ا‪ .‬فلي���س من نب���وة وال نبي بعده‪ ،‬فه���و عليه الصالة‬

‫فارغا في صرح "النبوات"‪،‬‬ ‫القمة التي ُت ِرك مح ّلها ً‬ ‫والسالم اللبنة ّ‬ ‫ليك���ون هو تلك اللبنة التمام كما أخبر عليه الصالة والس�ل�ام‪.‬‬

‫ولكونه الجامع األعظم والمحتوى األوسع لكل تجارب‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )38‬‬

‫‪20‬‬

‫ومخه وعظمه‬ ‫سمعه وبصره ّ‬ ‫خالط الوحيان ‪-‬القرآن والس���نة‪َ -‬‬

‫بهم���ا ع���اش‪ ،‬ولهم���ا كرس وج���وده وحيات���ه وقلمه ورس���ائله‬ ‫َّ‬ ‫ال بيديه الوحيين‬ ‫حام‬ ‫العصر‬ ‫هذا‬ ‫قمة‬ ‫يرتقي‬ ‫"رسائل النور"‪ .‬إنه‬ ‫ً‬ ‫مناديا إنس���ان اليوم‪ ،‬ليعود‬ ‫العظيمي���ن‪ ،‬ويقف عل���ى هذه القمة‬ ‫ً‬ ‫إل���ى كنف النبوات من جديد بعد ما عاناه من جفافات روحية‬ ‫وتصح���رات وجدانية كادت تأتي على البقية الباقية من خضرة‬

‫اإليمان في قلبه‪.‬‬

‫فـ"النورس���ي" بش���هادة الذين قرأوا له ‪-‬وه���م كثيرون‪ -‬من‬

‫وكثيرا ما‬ ‫أعمق وأوس���ع الذهنيات اإليمانية في ه���ذا العصر‪،‬‬ ‫ً‬ ‫َيستعصي على الفهم إال إذا ُفهِ م على أنه مرآة عظيمة وصقيلة‬

‫أن تعك���س روح النبي الخات���م وروح قرآنه‬ ‫مهمته���ا األس���اس ْ‬ ‫ّ‬

‫وإن كانت مس���ألة‬ ‫الموح���ى به إليه‪ ،‬فمس���ألة العودة إلى الدين ْ‬ ‫مرتبط���ة بضمي���ر الفرد‪ ،‬غير أنها ‪-‬إل���ى جانب ذلك‪ -‬قضية في‬

‫األهمي���ة للحض���ارة القائم���ة‪ .‬فما لم تعد ه���ذه الحضارة‬ ‫غاي���ة‬ ‫ّ‬ ‫واحدا م���ن أعمدة ركائزه���ا‪ ،‬فإنها مهددة‬ ‫إل���ى الدي���ن وتجعله‬ ‫ً‬ ‫يتنبأ بذلك َج ٌّم غفير من أساطين هذه‬ ‫باالنهيار والس���قوط كما ّ‬ ‫برمتها تكمن في ابتكار مفاهيم‬ ‫الحضارة‬ ‫ّ‬ ‫ومفكريها‪ .‬فالمسألة ّ‬ ‫جدي���دة غي���ر تلقيدي���ة وال نمطية حول عالقة اإلنس���ان بالحياة‬


‫قضايا فكرية‬

‫أديب إبراهيم الدباغ*‬

‫ُ‬ ‫اإلنسان من الصرب عدّته‪ ،‬فلن يربح مكانه‪ ،‬ولن يتقدم إىل األمام قيد أمنلة‪..‬‬ ‫ما مل يأخذ‬ ‫فبالصرب تتواىل الخطوات وتتحقق األهداف‪.‬‬ ‫***‬ ‫(املوازين)‬

‫تأمالت في النبي والنبوات‬ ‫م���ن خالل التأمل االس���تقرائي العميق لتاريخ‬

‫وأشمل‪ .‬وعندما يبلغ "النبي" هذه الرؤية الشمولية‪ ،‬فإن الزمن‬

‫نخل���ص إلى نتيجة في تعريف "النبوة" مفادها‬

‫الموحى بها إليه‪.‬‬ ‫ومسيرته ومن التوجهات اإللهية‬ ‫َ‬

‫النبوات على س���طح ه���ذه األرض‪ ،‬يمكن أن‬

‫س���يتوقف عنده‪ ،‬وينش���أ زمن جديد يشرع بالتشكل من تعاليمه‬

‫ّأن "النبوة" بمعناها الشامل المحيط‪ ،‬إنما هي عملية استنهاض النبي‬ ‫إلهي للقوى اإلدراكية والروحية الكامنة في "الجوهر اإلنساني"‬

‫و"النبي" ال يتوقف عند درجة واحدة من س ّلم المعرفة‪ ،‬بل هو‬

‫"النب���ي" في اعتماد الش���مولية الجامعة بين اإلنس���ان من جهة‪،‬‬

‫أوج توهج���ه الجمالي‪ ،‬وإعجازية انتظامه ودقة صنعه‪ ،‬كما أنه‬

‫ل���دى "النب���ي"‪ ،‬ومن ثم فهي عملية توس���يع زاوي���ة النظر عند‬

‫ت���رق دائم مع كل ن َفس من أنفاس���ه‪ ،‬حتى يرى العالم في‬ ‫ف���ي ٍّ‬

‫والعالمين المرئي وغير المرئي من جهة أخرى‪ .‬و"النبي" وإن‬

‫يرى اإلنسان هو المكان األرفع الذي يحرص على جعله مرآ ًة‬ ‫حد س���واء‪.‬‬ ‫عاكس���ة تعك���س عالمه الداخل���ي والخارجي على ٍّ‬

‫معينين‪ ،‬غير أن���ه ينظر إلى "الزمان"‬ ‫كان مبعو ًث���ا لزم���ان ومكان ّ‬

‫م���ن فوق الزم���ان ومن خارجه‪ ،‬وينظر إل���ى "المكان" من فوق‬

‫الم���كان ومن خارجه كذلك‪ ،‬فيأت���ي نظره أنفذ وأصدق وأبعد‬

‫إن "النب���ي" يثير في قومه من االنفعاالت ما يحفز الجموع‬

‫لتخطي الركود العقلي والروحي اللذين اعتاد اإلنسان العادي‬

‫‪19‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )38‬‬


‫ه���ذا م���ا يري���د أن يقوله واحد م���ن أش���د المخلصين لفكر‬ ‫بالج���د‬ ‫"كول���ن"‪ ،‬المتش���ربين مفردات���ه ومقاص���ده‪ ،‬العاملي���ن‬ ‫ّ‬ ‫المطل���وب عل���ى التماهي مع فكره ونش���ره في األرض‪ ...‬في‬ ‫كت���اب يحم���ل عن���وان "الضاربون ف���ي األرض" بكل م���ا يعنيه‬ ‫ال فيه أن يلقي نظرة مترعة بالش���فافية‪ ،‬قديرة‬ ‫م���ن دالل���ة‪ ،‬محاو ً‬ ‫عل���ى تحقي���ق المقاربة مع فكر هذا الرج���ل الكبير ذي العطاء‬ ‫الخصب الذي تشهد به مؤلفاته المتالحقة تترى على الناس‪.‬‬ ‫أق���در من األخ األس���تاذ "أديب الدب���اغ" على تحقيق‬ ‫وم���ن‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫هذا‪ ،‬بلغته الش���فافة وقدرته على اس���تنطاق ما وراء الملموس‬ ‫والمنظور‪ ،‬وبإيغاله في عالم اإلنسان الذي أراد له اهلل سبحانه‬ ‫وحسه ووجدانه في الظواهر واألشياء؟‬ ‫أن ُيعمل عقله وروحه‬ ‫ّ‬ ‫إن���ه يمس���ك في كتابه ه���ذا بالعديد من نق���اط االرتكاز في‬ ‫مس���لطا عليها‬ ‫القيم���ة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫فك���ر "كول���ن" عبر جمل���ة م���ن مؤلفاته ّ‬ ‫الض���وء الكاش���ف الذي يعرف كي���ف ينفذ إلى عم���ق الظاهرة‬ ‫فيض���ع يده على نبضه���ا األصيل‪ ...‬عن التاري���خ والحضارة‪،‬‬ ‫ع���ن العقل والتغيير المنتظر‪ ،‬عن الكلمة والفكر‪ ،‬عن التجديد‬ ‫الدع���وي‪ ،‬عن أدبي���ات الش���يخ "كولن"‪ ...‬عن مع���ارج القلب‬ ‫اإلنس���اني والفاعلي���ة الحركي���ة في الفكر والحي���اة‪ ...‬عن روح‬ ‫الجه���اد‪ ...‬ع���ن كيف نبن���ي حضارتن���ا ونقيم ص���رح الروح‪...‬‬ ‫ع���ن الخل���ق ونظرية التط���ور‪ ...‬عن القرآن والس���يرة النبوية‪...‬‬ ‫ع���ن القيادة‪ ،‬عن الثقافة‪ ...‬عن م���دارس النور وبناء العقول‪...‬‬ ‫وع���ن الرؤي���ة الكونية لمناهج التعليم‪ ...‬وعش���رات غيرها من‬ ‫المف���ردات األساس���ية ف���ي فك���ر الرج���ل‪ ،‬يضعن���ا األخ "أديب‬ ‫ال أس���لوبه المتميز في الكش���ف‬ ‫تمام���ا‪،‬‬ ‫مش���غ ً‬ ‫ّ‬ ‫الدب���اغ" قبالته���ا ً‬ ‫إعجابا بفكر الش���يخ‬ ‫واإلض���اءة والتحلي���ل‪ ...‬فم���ا يزيدن���ا إال‬ ‫ً‬ ‫والتزاما بدعوته الصادقة المخلصة‬ ‫ورغب���ة في مواصلة قراءته‪،‬‬ ‫ً‬ ‫التي َقدرت على أن تجذب هذه الحش���ود الكبيرة من الشباب‬ ‫العاملي���ن‪ ،‬الذين يتمنى أحدهم أن يفني عمره في الدعوة لهذا‬ ‫يبشر به‪.‬‬ ‫الدين العظيم‪ ،‬ولمشروعه الحضاري الذي ّ‬ ‫ويبقى أن فكر األس���تاذ "فت���ح اهلل كولن" هو امتداد طبيعي‬ ‫لفك���ر أس���تاذه بدي���ع الزمان س���عيد النورس���ي‪ ،‬ومحاولة جادة‬ ‫قدما ص���وب األم���ام‪ ،‬بم���وازاة وف���ي مجابهة كل‬ ‫للمض���ي ب���ه ً‬ ‫تفج���رت ف���ي العصر‬ ‫صن���وف‬ ‫المتغي���رات والتحدي���ات الت���ي ّ‬ ‫ّ‬ ‫الحدي���ث‪ ،‬من أج���ل تقديم االس���تجابات الناجعة له���ا‪ ،‬والتي‬ ‫قدمته تعد بالكثير‪.‬‬ ‫قدمت الكثير وهي فوق ما ّ‬ ‫ّ‬ ‫(*) كلية اآلداب‪ ،‬جامعة الموصل ‪ /‬العراق‪.‬‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )38‬‬

‫‪18‬‬

‫واج َت ْز‬ ‫حلِّ ْق ْ‬ ‫من التأمل ال تُ ْكثر‪،‬‬ ‫وباإلحباط ال ّ‬ ‫تفكر‪!..‬‬ ‫وح ِّل ْق‪،‬‬ ‫اف ْ‬ ‫ْرش جناحيك َ‬ ‫ف ُهما على العواصف َعصيَّان‪،‬‬ ‫وعلى اجتياز المسافات قادران‪...‬‬ ‫وفيهما ِمن َر ْوِح اهلل ُروح‪،‬‬ ‫ومن القدرة اإللهية قدرةٌ‪...‬‬ ‫فام ِ‬ ‫ض لطيّتك راش ًدا‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫بال ٍ‬ ‫خوف وال َو َجل‪،‬‬ ‫وال َه ٍّم وال نَ َصب‪!..‬‬ ‫***‬


‫ض���وء تصورات وقيم ومبادئ المعرفة اإلس�ل�امية‪ ،‬وكيف يتم‬

‫معيارا لبناء ما يتمخض عن الكشف العقلي الذي طالما انتهى‬ ‫ً‬

‫وأس���س‬ ‫الت���ي انحرف���ت بمعطياته���ا ونتائجه���ا فيم���ا يتعارض‬ ‫َ‬ ‫التصور اإلس�ل�امي للكون والعالم والحياة واإلنسان والوجود‬ ‫ّ‬ ‫والمصي���ر‪ ،‬وكي���ف يعود االلتح���ام بين الحقائق والتأسيس���ات‬

‫نتائ���ج احتمالي���ة ظنية بعي���دة ‪-‬بدرجة أو أخ���رى‪ -‬عن حافات‬ ‫والكوزمولوج���ي‪ ،‬وبمتابعة ش���واهد أخرى من كش���وف العقل‬

‫المتنامية في هذا الحقل أو ذاك؟‬

‫وهكذا فإن التأكيد على عمق الظاهرة الغيبية في البنية الكونية‬

‫تحريره���ا من هيمن���ة المؤث���رات العلمانية ‪-‬وأحيا ًن���ا المادية‪-‬‬

‫المتشكلة بقوة "الوحي"‪ ،‬وبين كشوف العقل البشري وخبراته‬ ‫إن علم���ي النف���س واالجتم���اع‪ ،‬وعلوم اإلدارة والسياس���ة‬

‫إذا عم���ل بمع���زل ع���ن ضوابط الوح���ي‪ -‬إلى الوص���ول إلى‬‫اليقي���ن‪ ،‬بش���هادة كبار فالس���فة العلم وعلماء النف���س والفيزياء‬

‫النس���بية والقلقة في علمي النفس واالجتماع وفلسفة التاريخ‪.‬‬

‫واإلنس���انية‪ ،‬وتغطيتها المساحات األوسع بالمقارنة مع عالم‬

‫ِأمس‬ ‫واالقتص���اد‪ ،‬والتاريخ والحض���ارة‪ ،‬واآلداب والفنون‪َ ،‬لب ّ‬ ‫بدءا وصيرورة ونتائج ومعطيات‪-‬‬‫الحاجة إلى التعامل معها‬ ‫ً‬ ‫وفق أس���س وضوابط المعرفة اإلس�ل�امية التي ال تبخل بتقديم‬

‫وعلماء الفيزياء والكوزمولوجي والنفس‪.‬‬

‫الوص���ول ‪-‬وبالطرائ���ق العلمي���ة الصارم���ة‪ -‬إل���ى نتائ���ج أكث���ر‬

‫التكام���ل المعرفي‪ ،‬ليس فقط لخدم���ة وتأكيد المطالب الدينية‬

‫تأسيس���اتها وثوابته���ا ومعاييره���ا ألداء ه���ذه المهم���ة من أجل‬

‫معا‬ ‫دق���ة‬ ‫ً‬ ‫وإحكام���ا‪ .‬وهكذا يج���يء تزويد الطال���ب بالمعرفتين ً‬ ‫ف���ي ض���وء رؤي���ة تكاملية‪ ،‬فرص���ة ضرورية لتمكين���ه من هضم‬ ‫وتمث���ل مفاهي���م التأصيل اإلس�ل�امي للمعرف���ة‪ ،‬واإلعانة على‬

‫تحقي���ق أهدافه���ا‪ ،‬فيم���ا ينقلنا إلى الخط���وة التالي���ة وهي البدء‬

‫بنس���ج المشروع الحضاري الذي يس���تهدف انبعاث الحضارة‬ ‫اإلس�ل�امية‪ ،‬ومش���اركتها الفاعل���ة ف���ي إع���ادة صياغ���ة المصير‬

‫البش���ري وف���ق معادلته���ا المتمي���زة الت���ي يلتق���ي فيه���ا الوح���ي‬ ‫بالوج���ود‪ ،‬والتعليم الديني بالكش���ف العقلي‪ ،‬ويتحقق التوازن‬

‫الضائ���ع في الحضارة الغربية الراهنة‪ ،‬فيما ّنبه إليه وأكده كبار‬ ‫فالسفة وعلماء ومؤرخي ومفكري الغرب أنفسهم‪.‬‬

‫التصور اإلس�ل�امي‬ ‫الش���هود‪ ،‬واالهتم���ام البال���غ ال���ذي أواله‬ ‫ّ‬ ‫للغيب‪ ،‬يجيء مطاب ًقا الس���تنتاجات العديد من فالس���فة العلم‬ ‫إن ه���ذه الحقيق���ة تقودنا بالض���رورة إلى التحق���ق بمفاهيم‬

‫تماما إعان���ة المطالب‬ ‫واإليماني���ة‬ ‫عموم���ا‪ ،‬وإنم���ا وبموازاته���ا ً‬ ‫ً‬

‫العلمي���ة عل���ى الوص���ول إل���ى أهدافه���ا بأكب���ر ق���در ممكن من‬ ‫االنضباط المنهجي إذا صح التعبير‪.‬‬

‫إن األس���تاذ "فتح اهلل كولن" ينطلق من هذه الرؤية الصائبة‬

‫ف���ي التعام���ل المعرفي مع الكون والحياة واإلنس���ان والوجود‬ ‫تش���ربوا فكره الشمولي‬ ‫والمصير‪ ...‬ومن ورائه تالمذته الذين‬ ‫ّ‬

‫ق���در لهم ‪-‬بقوة ه���ذا الفكر‪ -‬أن‬ ‫ه���ذا‪ ،‬أولئ���ك التالمذة الذين ّ‬ ‫ينتش���روا ف���ي األرض‪ ،‬وأن يمألوا الس���هل والجب���ل‪ ،‬ويقيموا‬

‫الملتقي���ات والندوات والمؤتمرات‪ ...‬وينش���طوا في المدارس‬ ‫والجامع���ات‪ ،‬ضاربي���ن ف���ي أرض اهلل الواس���عة‪ ...‬إنه���م "فتية‬

‫وهك���ذا‪ ،‬وحيثم���ا َتل َّف ْتن���ا وجدن���ا كي���ف يصي���ر "التكام���ل‬

‫إيم���ان‪ ...‬إش���عاعات ه���دى‪ ...‬عل���ى كواهله���م أثق���ال رس���الة‬

‫تخص نتائجه عالم اإلسالم وحده‪ ،‬بل يمضي لكي يسهم في‬

‫هؤالء الفتية أعجوبة الزمان وأبطال األنام إلى أقاصي األرض‬

‫المعرف���ي" ض���رورة إس�ل�امية "حضارية" في الوقت نفس���ه‪ ،‬ال‬ ‫إعادة بناء العالم الذي جنحت به رياح التشريق والتغريب‪.‬‬

‫أش���فقت عن حملها جبال األرض وأطباق السماء‪ ...‬وحملها‬ ‫وأدانيها‪ ...‬يمش���ون‪ ...‬واألرض يخرقون‪ ...‬ووراءهم يمش���ي‬

‫التصور‬ ‫ولطالما أكد "فتح اهلل كولن" في كتاباته على أنه في‬ ‫ّ‬

‫التاري���خ ويتاب���ع خطاه���م ويكت���ب آثاره���م ويترص���د جالئل‬

‫بطبيع���ة الح���ال‪ -‬الجه���د للوصول إلى "الحقيق���ة"؛ إذ البد من‬

‫حبطين‬ ‫مثبطي���ن وال ُم َ‬ ‫أجي���ال‪ ،‬ومآس���ي أزم���ان‪ ...‬لكنهم غي���ر َّ‬

‫تحدي���دا‪ ،‬ال يكف���ي أن يعم���ل العق���ل ‪-‬والح���واس‬ ‫اإلس�ل�امي‬ ‫ً‬

‫وتمكن���ه من تحقيق‬ ‫إعان���ة أو إض���اءة "فوقية" تأخ���ذ بيد العقل‬ ‫ّ‬ ‫المطل���وب‪ .‬وهكذا يصبح "الوحي" ضرورة مالزمة للعقل إذا‬

‫موارة بآالم أم���ة‪ ،‬وأحزان قرون‪ ،‬ودموع‬ ‫أعماله���م‪ ...‬بواطنهم ّ‬ ‫والبش���ريات على‬ ‫وال يائس���ين‪ ...‬اآلمال من وجوههم طافحة‪ُ ،‬‬ ‫ألسنتهم منهالة‪ ...‬يعملون‪ِ ...‬‬ ‫يج ّدون‪.‬‬

‫أريد اكتناه أس���رار الوجود‪ ،‬وإعادة صياغته بما ينسجم ومهم َة‬ ‫اإلنس���ان االس���تخالفية والعمرانية في هذا العالم‪ .‬وهذا يقودنا‬

‫وأعالما للهدى‬ ‫قلوب���ا يفتح���ون‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وبكلم���ة اهلل الت���ي يحمل���ون‪ً ،‬‬

‫بمعن���ى اعتم���اد ثواب���ت العلم الديني المتش���كل بق���وة الوحي‪،‬‬

‫يقيمون‪ ...‬ال ينكصون وعن غاياتهم ال يرجعون"‪.‬‬

‫بالض���رورة إلى التحقق بمفاهيم التأصيل اإلس�ل�امي للمعرفة‪،‬‬

‫عر ًق���ا يتصبب���ون‪ ،‬لكنه���م ال يش���تكون‪ ...‬بالغربة يأنس���ون‪،‬‬

‫يرك���زون‪ ،‬وراية محمد عليه الصالة الس�ل�ام عل���ى قمم العالم‬

‫‪17‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )38‬‬


‫وف���ي اإلدارة‪ ...‬كل كت���ل ه���ذا الك���ون‬

‫ونظم���ه‪ ،‬كل صالبت���ه المدمكة وخفقانه‬

‫المدهش‪ ...‬في مجاري األفالك والسدم‬ ‫والمج���رات والش���موس واألقم���ار‪ ،‬في‬ ‫منس���ربات البروتونات والنيوترونات‪...‬‬

‫دائما كلمة اهلل اآلمرة التي تشكل‬ ‫هنالك ً‬

‫األشياء والظواهر والموجودات وتقول‬ ‫لها "كوني" فتكون‪.‬‬

‫جي���دا‪ ...‬وأن���ت‬ ‫ه���م يعرف���ون ه���ذا‬ ‫ً‬

‫تلم���ح في عيونهم ه���ذا التوق المكافح‬ ‫لاللتح���ام ال���ذي ضيعت���ه العلماني���ة‬

‫الملح���دة‪ ...‬وه���ا ه���م اآلن (تالم���ذة‬ ‫ب���دءا م���ن أعل���ى الهرم‬ ‫كول���ن) يس���عون ً‬

‫اإلب���داع ف���ي مجال تخصصه���م الدقيق‪،‬‬

‫�إنهم "فتية �إمي��ان‪ ...‬بواطنهم‬ ‫م��وارة ب���آالم �أم��ة‪ ،‬و�أح��زان‬ ‫ّ‬ ‫ق��رون‪ ،‬ودم��وع �أجي��ال‪،‬‬ ‫وم�آ�س��ي �أزم��ان‪ ...‬لكنه��م‬ ‫غ�ير مثبَّط�ين وال حُمبَط�ين‬ ‫وال يائ�س�ين‪ ...‬الآم��ال م��ن‬ ‫وجوههم طافحة‪ ،‬والبُ�رشيات‬ ‫عل��ى �أل�سنته��م منهال��ة‪...‬‬ ‫يعملون‪ِ ...‬‬ ‫يج ّدون‪.‬‬

‫ال‬ ‫الذي يتصاعد بنيانه بـ"اسم اهلل"‪ ،‬وصو ً‬ ‫إلى قواعده السفلى التي تجاهد إلرسائه على بركة اهلل‪.‬‬

‫ب���ل والحض���ور المؤك���د ف���ي س���احات‬ ‫الثقاف���ة‪ ،‬والقدرة عل���ى إرفادها بالمزيد‪.‬‬

‫إنن���ا نتذك���ر هن���ا علم���اء الرياضيات‬

‫والفيزي���اء والكوزمولوج���ي الغربيي���ن‬

‫الكب���ار؛ "أينش���تاين" و"ألف���رد ن���ورث‬ ‫وايتهي���د" و"برتران���د رس���ل"‪ ،‬كما نتذكر‬ ‫فالسفة العلم الكبار؛ "ألكسيس كاريل"‬

‫و"س���وليفان" و"أغ���روس" و"ستانس���يو"‬

‫و"هوي���ل" وغيره���م كثي���رون‪ ...‬كان���وا‬ ‫ْ‬ ‫جميع���ا يملك���ون رؤية معرفي���ة متكاملة‬ ‫ً‬ ‫جيدا‬ ‫ّ‬ ‫مكنته���م‪ ،‬ليس فقط من اإلمس���اك ً‬

‫بحلق���ات تخصصه���م الدقي���ق وتقدي���م‬

‫الكش���وف المدهش���ة ف���ي مجال���ه‪ ،‬وإنما‬

‫الفع���ال في معترك الحي���اة العلمية‬ ‫منحته���م الفرصة لإلس���هام ّ‬

‫المتف���رد‪ ...‬أن تفرد‬ ‫يجعلون���ك تنغم���ر معه���م في العش���ق‬ ‫ّ‬ ‫ش���راعك وتبحر معهم بما وسعك ووسعهم من ٍ‬ ‫جهد في دنيا‬

‫ال من المتخصصين في العلوم‬ ‫ونتذكر قبالة هذا‪،‬‬ ‫حشدا هائ ً‬ ‫ً‬

‫في أش���د لحظات توهجه‪ ...‬هناك حيث يصير الفعل المعرفي‬

‫وحتى الحاصلين على درجة "األستاذية"‪ ،‬تسمع لهم جعجعة‬

‫اهلل‪ ،‬الت���ي يلتقي فيه���ا العلم في أقصى حاالت تعقلنه باإليمان‬

‫وحجا‪.‬‬ ‫وصياما‬ ‫صال ًة‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫والثقافية على امتدادها‪.‬‬

‫اإلنسانية أو اإلس�ل�امية‪ ،‬من حملة الماجستير والدكتوراه‪ ،‬بل‬ ‫طحينا‪ ...‬فهم يعانون من الضمور وعدم القدرة‬ ‫وال ترى لهم‬ ‫ً‬

‫وف���ي كل م���رة يجد اإلنس���ان نفس���ه قبالة العي���ون المعلقة‬

‫معا؛ تخصصهم‬ ‫على االكتشاف واإلبداع واإلضافة في اإلثنين ً‬

‫لك���ي تمضي إلى الجوهر والمغزى فتعانق الحقيقة في أقصى‬

‫ظهرا أبقى‪ .‬وإنك إذا أخرجتهم من دائرة تخصصهم‬ ‫قطع وال ً‬

‫بالكلمة‪ ،‬تحاول بعش���ق وش���غف أن تخترق قشرتها الخارجية‬ ‫حاالت ألقها وتكشفها‪.‬‬

‫يوما بعد يوم تزداد الحاجة األكاديمية والثقافية إلى التح ّقق‬ ‫ً‬

‫أرضا‬ ‫الدقي���ق وثقافته���م العامة‪ ...‬فهم أش���به بالمنبت الذي ال ً‬ ‫الدقي���ق باتجاه هذا الحقل المعرف���ي الموازي أو ذاك‪ ،‬ضاعوا‬

‫ش���يئا‪.‬‬ ‫وض ّل���وا الطريق‪ ،‬ألنهم ال يكادون يملكون من خرائطه ً‬

‫بمب���دأ التكامل المعرفي الذي يدع���و إليه ويتحقق به "فتح اهلل‬

‫بل إنك ‪-‬حتى في مجال تخصصهم الدقيق هذا‪ -‬إذا سحبت‬

‫وغي���ر المدروس باتجاه االكتفاء بالمعرفة التخصصية في هذا‬

‫والمصادر‪ ،‬والتي ّيتكؤون عليها في إنجازهم بحو َثهم‪ ،‬فقدوا‬

‫كولن" في كل أعماله‪ ...‬وبخاصة بعد ذلك االندفاع المرتجل‬ ‫العلم اإلنساني أو اإلسالمي أو ذاك‪ ،‬بل والذهاب أبعد باتجاه‬

‫التخصص الدقيق الذي يعني اإللمام بهذه الحلقة‬ ‫ما أطلق عليه‬ ‫ّ‬ ‫أو المف���ردة أو تلك من حلق���ات ومفردات هذا العلم أو ذاك‪.‬‬ ‫وهي مس���ألة ضرورية ‪-‬ب���كل تأكيد‪ -‬من أج���ل إتاحة الفرص‬

‫المعمقة للكشف واإلضافة واإلبداع في ذلك المجال‪ .‬ولكن‬ ‫هذا ال ّيبرر ‪-‬بحال من األحوال‪ -‬االعتقال في خانة التخصص‬ ‫واس���عا‪،‬‬ ‫معرفيا‬ ‫فض���اء‬ ‫الدقي���ق ال���ذي ال يمل���ك مع���ه أصحابه‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬

‫يمكنه���م‪ ،‬ليس فقط م���ن المزيد من‬ ‫ثقافي���ا‬ ‫وال‬ ‫خصب���ا ّ‬ ‫ً‬ ‫خزين���ا ًّ‬ ‫ً‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )38‬‬

‫‪16‬‬

‫م���ن بين أيديه���م النصوص الحرفية المس���تمدة م���ن المراجع‬ ‫القدرة على كتابة سطرين‪.‬‬

‫َك ْسر جدران الزنزانة‪ ،‬وتحرير المختصين من االعتقال في‬

‫س���راديبها الضيق���ة‪ ،‬تلك هي ‪-‬أغلب الظن‪ -‬القيمة األساس���ية‬

‫لمبدأ التكامل المعرفي التي يدعو لها ويشتغل عليها "فتح اهلل‬

‫كولن" في كل كتاباته‪.‬‬

‫يعد ضرورة‬ ‫لي���س هذا فحس���ب‪ ،‬بل إن التكام���ل المعرفي ّ‬

‫أس���لمتها‬ ‫م���ن ض���رورات التأصي���ل اإلس�ل�امي للمعرف���ة‪ ،‬أو‬ ‫َ‬

‫أدق‪ .‬إذ كي���ف تت���م إع���ادة بن���اء المعرفة اإلنس���انية في‬ ‫بعب���ارة ّ‬


‫تحليل كتاب‬

‫أ‪.‬د‪ .‬عماد الدين خليل*‬

‫الضاربون في األرض‬

‫قراءة في كتاب األستاذ أديب الدباغ‬ ‫ي���دق األس���تاذ "محم���د فت���ح اهلل كول���ن" م���ن‬ ‫خ�ل�ال فكره على أبواب القلب‪َ ،‬يطرق ويديم‬ ‫الط���رق‪" :‬افتح يا قلب‪ ...‬دعني ألج بكلماتي‬ ‫ْ‬ ‫إليك‪ ،‬دعني أعالج أغالق خزائنك‪ ،‬دعني أكش���ف عن أسرار‬ ‫مداخل���ك‪ ...‬دعني أطلق ق���واك الخفية وأدير مفتاح الفهم عن‬ ‫اهلل ف���ي روحك‪ ...‬دعن���ي أبتعث فيك مواجي���د الحنين‪ ،‬دعني‬ ‫نع���اس الس���نين‪ ...‬دعني أش���ق‬ ‫أنف���ض ع���ن أه���داب روح���ك‬ ‫َ‬ ‫أبدد ضبابيات األرض التي تغش���ى‬ ‫أكفان الموت عنك‪ ،‬دعني ّ‬ ‫وج���ودك‪ ...‬دعني أنقش صورة اآلخرة على صفحة الش���غاف‬ ‫من���ك‪ ،‬دعن���ي أعرف ذاتك بذات الك���ون‪ ...‬دعني أعقد معرفة‬ ‫وصلحا بينك وبين شقيقك اإلنسان"‪.‬‬ ‫بينك وبين الطبيعة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫كثيرا‪ ،‬ولكنك اآلن‬ ‫كنت قد‬ ‫تلحظهم ً‬ ‫َ‬ ‫جيدا؛ َ‬ ‫سمعت عنهم ً‬ ‫تراهم معك وقبالتك‪ ...‬هذا العش���ق‬ ‫المتفرد للكلمة‪ ،‬لإلبحار‬ ‫ّ‬ ‫اليوم���ي في أوقيانوس الفك���ر والثقافة‪ ...‬هذا التوق لجعل كل‬ ‫األش���ياء والمف���ردات والظواهر والموجودات‪ ،‬تتش���كل وتبدأ‬ ‫رحلته���ا ف���ي عال���م التنامي والصي���رورة واإلب���داع تحت مظلة‬ ‫جيدا ‪-‬ربما أكثر م���ن غيرهم‪ -‬أنه ما من‬ ‫اهلل‪ ...‬إنه���م يعرف���ون ً‬ ‫شيء في هذه الدنيا إال وقد قال فيه هذا الدين المدهش كلمته‪،‬‬ ‫أو بعبارة أخرى‪ ،‬إنه ما من ظاهرة أو شبكة من المعطيات إال‬ ‫وهي مخترقة بقوة اإليمان اإلس�ل�امي المتع ّقل حتى النخاع‪...‬‬ ‫مكش���وف عنه���ا النقاب لكي ما تلب���ث أن تصير تحت الضوء‪،‬‬ ‫تمام���ا‪ .‬وم���ن ث���م ف���إن أي ق���در م���ن العتمة أو‬ ‫تح���ت الض���وء ً‬ ‫الضب���اب‪ ،‬ق���د يكون دافع���ه وجود خلل ما في العين البش���رية‪،‬‬ ‫أو ف���ي نس���يج الظاهرة نفس���ها‪ ...‬أما في الجان���ب اآلخر‪ ،‬فإن‬ ‫اإلسالم قادر في أي لحظة ‪-‬إذا ُأحسن التعامل معه‪ -‬على أن‬ ‫تماما‪...‬‬ ‫يعيد األشياء إلى مكانها الحق‪ ،‬وأن يضعها في مح ّلها ً‬ ‫ف���ي الكيمياء‪ ،‬ف���ي الفيزياء‪ ،‬ف���ي الطب‪ ،‬في الهندس���ة‪ ،‬في‬ ‫النفس‪ ،‬في المجتمع‪ ،‬في السياسة‪ ،‬في االقتصاد‪ ،‬في القانون‬

‫‪15‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )38‬‬


‫ان ِم ْن َع َلقٍ ‪ ‬ا ْق َر ْأ َو َر ُّب َك‬ ‫ِاس ِم َر ِّب َك ا َّل ِذي َخ َل َق ‪َ ‬خ َل َق ا ِ‬ ‫إل ْن َس َ‬ ‫ب ْ‬ ‫أل ْك ‪ِ ‬‬ ‫ا َ‬ ‫���م بِا ْل َق َل ِم‪(‬العل���ق‪ .)4-1:‬وذك���ر أن الق���راءة‬ ‫���ر ُم ا َّل���ذي َع َّل َ‬ ‫َ‬ ‫األول���ى في الوجود‪ ،‬والثانية في الوحي‪ ،‬وأنهما قد صدرا عن‬ ‫ال‬ ‫اهلل ‪‬؛ األولى من عالم الخلق‪ ،‬والثانية من عالم األمر‪َ  :‬أ َ‬ ‫���ه ا ْل َخ ْل ُق َوا َ‬ ‫ين‪(‬األعراف‪ .)54:‬وعلى‬ ‫���اركَ ا ُ‬ ‫َل ُ‬ ‫هلل َر ُّب ا ْل َعا َل ِم َ‬ ‫أل ْم ُر َت َب َ‬ ‫ه���ذا ف�ل�ا نهاية إلدراك الك���ون؛ حيث إنه يمث���ل الحقيقة‪ ،‬ألنه‬ ‫م���ن عن���د اهلل وال نهاية إلدراك الوحي‪ ،‬قال رس���ول اهلل ‪" :‬ال‬ ‫وأيضا‬ ‫تنته���ي عجائبه‪ ،‬وال َيخ َلق من كثرة الرد" (أخرجه الترمذي)‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ال من عند اهلل‪ ،‬وهذا التأس���يس‬ ‫ال تع���ارض بينهم���ا حيث إن ك ًّ‬ ‫ين‬ ‫يتأكد في قوله تعالى على صفة اإلطالق‪َ :‬‬ ‫‪‬ه ْل َي ْس َت ِوي ا َّل ِذ َ‬ ‫ون ِإ َّن َما َي َت َذ َّكر ُأو ُلو ا َ‬ ‫اب‪(‬الزمر‪.)9:‬‬ ‫ين َ‬ ‫أل ْل َب ِ‬ ‫ال َي ْع َل ُم َ‬ ‫َي ْع َل ُم َ‬ ‫ون َوا َّل ِذ َ‬ ‫ُ‬

‫السقف األخالقي للتطبيق‬

‫إال أن اس���تعمال المعلوم���ات‪ ،‬يجب أن يكون تحت الس���قف‬ ‫األخالق���ي للتطبي���ق المأخ���وذ م���ن مهمة اإلنس���ان ف���ي الدنيا؛‬ ‫العب���ادة‪ ،‬والعم���ارة‪ ،‬والتزكي���ة‪ .‬ه���ذا الس���قف ال���ذي يمنع من‬ ‫استعمال ما يوصلنا إليه فيما يخالف األوامر والنواهي الربانية‪،‬‬ ‫أو يك���ر على المقاصد الكلي���ة بالبطالن فنكون بذلك من أهل‬ ‫التعمي���ل ال م���ن أه���ل التدمير‪ .‬وهذا الس���قف لالس���تعمال من‬ ‫األهمية القصوى‪ ،‬حيث هو الضمان الوحيد لتلك العمارة‪.‬‬ ‫إن الفص���ل بي���ن حري���ة البح���ث للوص���ول إل���ى صحي���ح‬ ‫المعرفة‪ ،‬وبين تقييد االستعمال للوصول إلى العمارة‪ ،‬أمر قد‬ ‫اختلط على كثير من الناس مع وضوحه وتأكيده‪.‬‬ ‫كلية تتمثل في‬ ‫وم���ن الحقائق ً‬ ‫أيضا‪ ،‬أن العلوم لها ص���ورة ّ‬ ‫عملية متكاملة من التعليم إلدراك المعلومات‪ ،‬والتربية إلقرار‬ ‫يتجزأ‪ ،‬أو‬ ‫القيم‪ ،‬والتدريب لتنمية الملكات‪ ...‬وأن هذا كلٌّ ال‬ ‫ّ‬ ‫وفقد دليل‬ ‫تجزأ لفقدنا "دليل التش���غيل" إن صح التعبي���ر‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ل���و ّ‬ ‫التش���غيل يوقع في حيرة واضطراب‪ .‬ويبدو أننا قد فقدنا دليل‬ ‫التش���غيل هذا في كثير من جوان���ب حياتنا‪ ،‬ليس العلمية فقط‪،‬‬ ‫أيضا السياسة واالجتماعية والدينية‪.‬‬ ‫بل ً‬ ‫أيض���ا‪ ،‬أن َفر ًقا بين علم الدين وبين التدين‪.‬‬ ‫وم���ن الحقائق ً‬ ‫ف���األول تقوم به جماعة علمية وله مصادره ومنهجه‪ .‬والعملية‬ ‫التعليمية لها أركانها التي يجب أن تكتمل بعناصرها الخمسة؛‬ ‫الطالب‪ ،‬واألس���تاذ‪ ،‬والمنهج‪ ،‬والكت���اب‪ ،‬والجو العلمي‪ .‬أما‬ ‫الثان���ي وهو التدين‪ ،‬فهو مطالب ب���ه كل مك ّلف لتنظيم عالقته‬ ‫وربه‪.‬‬ ‫مع نفسه وكونه ّ‬ ‫أيضا‪ ،‬أن هناك فر ًقا بين الفقه والفكر‪ .‬فالفقه‬ ‫ومن الحقائق ً‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )38‬‬

‫‪14‬‬

‫موضوع���ه "فع���ل المكل���ف"‪ ،‬ويهتم علم الفق���ه بوصف أفعال‬ ‫المك ّلفي���ن باإلق���دام عليه���ا أو اإلحجام عنه���ا‪ ،‬وأن هذا حالل‬ ‫وهذا حرام بأحكام شرعية خمسة وهي؛ الواجب‪ ،‬والمندوب‪،‬‬ ‫والح���رام‪ ،‬والمكروه‪ ،‬والمباح‪ .‬وأما الفكر فموضوعه "الواقع‬ ‫المعي���ش النس���بي المرك���ب المتغير"‪ .‬وه���ذا الفك���ر ير ِّتب فيه‬ ‫اإلنس���ان‬ ‫أم���ورا معلوم���ة كمقدم���ات‪ ،‬ليتوص���ل بها إلى ش���يء‬ ‫ً‬ ‫مجهول كنتيجة‪ .‬والعملية الفكرية هي الجسر الذي بين الشرع‬ ‫والواقع‪ ،‬ولذلك تحتاج إلى علوم تجدد وتولد كل حين‪ ،‬حيث‬ ‫إن طبيعة الواقع الذي نريد أن ندركه‪ ،‬شديدة التعقيد والتغيير‪.‬‬ ‫ف���إذا تقرر كل ما س���بق‪ ،‬ف���إن التراث اإلس�ل�امي وضع ما‬ ‫يس���مى بالمب���ادئ العش���رة‪ ،‬م���ن أج���ل أن يطلع عليه���ا طالب‬ ‫العلم؛ ليتش���وف للعلم الذي سوف يدرسه‪ ،‬أو ليعرف ما البد‬ ‫ل���ه من معرفته‪ ،‬وهي بذاتها ه���ي العناصر التي يجب االلتفات‬ ‫إليها عند توليد العلوم‪.‬‬ ‫ووضعه���ا بعضه���م في صورة نظم يحفظ���ه صغار الطالب‬ ‫حت���ى يحدث لهم هذا التش���وف الذي انحس���ر بع���د ذلك عند‬ ‫المسلمين في التلقي دون إنشاء العلوم واستمرار الفكر‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫ال‬ ‫مـــــــــــن رام‬ ‫فـــــــــــنا فــــلـيــــــــــرم أو ً‬ ‫ًّ‬ ‫عــلما بحــده ومـوضــــع تـــال‬ ‫ ‬ ‫ً‬ ‫وواضـــــع ونســـــــبة ومــا استـــــمد‬ ‫منــه وفضـــله وحكــم معتــمد‬ ‫ ‬ ‫واســــــــم ومــا أفـــاد والمســـــــائـــل‬ ‫فتــلك عشــــر للــمنى وســــائــل‬ ‫ ‬ ‫وبعضهم فيها على البعض اقتصر‬ ‫ومــــــن درى جــميعـها انتصـــــر‬ ‫ ‬ ‫فالمب���ادئ العش���رة ه���ي؛ تعريف العل���م‪ ،‬وموضوعه‪ ،‬ومن‬ ‫ال���ذي وضعه‪ ،‬ونس���بته إل���ى العلوم األخرى‪ ،‬وم���ن أي العلوم‬ ‫يستمد‪ ،‬وأحكامه‪ ،‬ومسائله‪ ،‬وما فضله‪ ،‬وما حكمه‪ ،‬وما اسمه‪،‬‬ ‫ال‬ ‫تعد مدخ ً‬ ‫وم���ا الثمرة والفائ���دة المترتبة عليه‪ .‬فهذه العش���رة ّ‬ ‫للعل���م‪ ،‬تدفع طالب العلم إلى التش���وف لدراس���ته وتحصيله‪،‬‬ ‫علما‪ ،‬أن‬ ‫وه���ي بنفس���ها التي يمكن للمفك���ر إذا أراد أن يبن���ي ً‬ ‫يحددها كبداية الستقالل العلوم أو إبداعها‪.‬‬

‫(*) مفتي الديار المصرية السابق‪.‬‬

‫الهوامش‬

‫(‪ )1‬الع���دد ‪ 3 ،26‬جم���ادى األول���ى ‪1317‬ه���ـ (‪ 9‬س���بتمبر ‪1899‬م)‪ ،‬في مقالة‬ ‫بعنوان "كرامات األولياء"‪.‬‬


‫ق���ول الغزال���ي م���ن كتاب���ه‬ ‫ث���م ينق���ل‬ ‫للحف���اظ على لغ���ة العل���م والتفاهم بين‬ ‫َ‬ ‫"حقيق���ة القولين" صفح���ة ‪ 181‬فيقول‪:‬‬ ‫الجماع���ة العلمي���ة بم���ا يضم���ن أمرين‪:‬‬ ‫"ق���ال الغزال���ي ف���ي كت���اب "حقيق���ة‬ ‫أولهم���ا ه���و نق���ل العل���م لم���ن بعدن���ا‪،‬‬ ‫الب��د علينا �أن ندرك �أن توليد‬ ‫وضع الصور للمس���ائل ليس‬ ‫وثانيهما هو تطوير العلم بصورة مطردة‬ ‫القولين"‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫العل��وم نوع من �أنواع مظاهر‬ ‫مس���تمرة ومنضبطة في نفس الوقت‪ .‬ثم‬ ‫بأمر هين في نفسه‪ ،‬بل الذكي ربما يقدر‬ ‫حي��اة الفك��ر و�أن��ه مل مي��ت‪،‬‬ ‫خبا هذا التوليد وانشغل العلماء بتكرار‬ ‫عل���ى الفت���وى في كل مس���ألة إذا ُذكرت‬ ‫مظاهر‬ ‫من‬ ‫مظه��ر‬ ‫ا‬ ‫أي�ض‬ ‫�‬ ‫وهو‬ ‫ً‬ ‫الم���وروث والحفاظ عليه م���ن الضياع‪،‬‬ ‫ل���ه صورتها‪ ،‬ول���و كلف وض���ع الصور‬ ‫التفاع��ل م��ع الع��صر ال��ذي‬ ‫ك���رد فعل لما حدث في القرن الس���ابع‬ ‫وتصوي���ر كل م���ا يمكن م���ن التفريعات‬ ‫نعي�ش��ه‪ ،‬وه��و ثالثً��ا اجل��سر‬ ‫والح���وادث ف���ي كل واقع���ة عج���ز عنه‪،‬‬ ‫من غزو التتار وسقوط بغداد (‪656‬هـ)‪.‬‬ ‫ال‪،‬‬ ‫ودعا محمد رش���يد رض���ا في مجلة‬ ‫ول���م تخط���ر بقلبه تل���ك الص���ور أص ً‬ ‫الذي ي�صل ب�ين ال�رشع وبني‬ ‫"المن���ار"(‪ )1‬إل���ى إح���داث عل���م جدي���د‬ ‫وإنما ذلك شأن المجتهدين"‪.‬‬ ‫الواقع املحيط‪.‬‬ ‫ال يجي���ب على أولئك‬ ‫���درس الس���نن اإللهي���ة الت���ي وردت‬ ‫ولنض���رب مث ً‬ ‫َي ُ‬ ‫بالق���رآن الكري���م‪ ،‬ول���م يتم ذل���ك حتى‬ ‫نموذج���ا لتولي���د العلوم‬ ‫الذي���ن يري���دون‬ ‫ً‬ ‫بع���د مضي أكثر م���ن مائة عام على تلك‬ ‫هدئ‬ ‫حتى يس���يروا على منواله‪ ،‬وحتى ُي ّ‬ ‫الدع���وة‪ .‬فالب���د علينا أن ندرك أن تولي���د العلوم نوع من أنواع ب���ال من يش���ك ف���ي هذه العملي���ة وما قد تخفيه ف���ي ظنهم من‬ ‫أيضا مظهر من مظاهر االعت���داء عل���ى ثواب���ت الدي���ن أو الق���دح في هوية اإلس�ل�ام‪،‬‬ ‫مظاه���ر حياة الفكر وأنه لم يمت‪ ،‬وهو ً‬ ‫التفاعل مع العصر الذي نعيشه‪ ،‬وهو ثال ًثا الجسر الذي يصل فنحاول أن نلقي الضوء على بذور توليد العلوم وآليات ذلك‬ ‫بين الش���رع وبين الواقع المحيط‪ .‬ويسأل كثير من المخلصين في التراث اإلس�ل�امي‪ ،‬عس���ى أن ندرك المنهجية التي س���اروا‬ ‫ع���ن كيفي���ة تولي���د العل���وم‪ ،‬وه���ي تحت���اج إل���ى ق���درة التصور عليها في خدمة حضارتهم‪.‬‬ ‫المب���دع‪ ،‬وه���ي التي ق���د ال توجد عند كثير ممن اش���تغل بنقل‬ ‫وبالمناس���بة‪ ،‬ف���إن المنهج ف���ي ظني‪ ،‬رؤية كلي���ة ينبثق عنه‬ ‫العلم والحفاظ عليه‪.‬‬ ‫إج���راءات‪ ،‬وه���ذه الرؤي���ة الكلي���ة ه���ي النم���وذج المعرف���ي‪،‬‬ ‫أم���ا اإلج���راءات فهي منه���ج البح���ث العلمي الذي ن���راه عند‬ ‫التصور المبدع‬ ‫يعرف الرازي ومدرس���ته أصول الفقه بأنه‪:‬‬ ‫حيث‬ ‫األصوليي���ن‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وعده‬ ‫التص���ور المبدع‪ ،‬ه���ذا األمر البد منه لعملي���ة االجتهاد‪َّ ،‬‬ ‫ال‪ ،‬وكيفية االس���تفادة منها‪ ،‬وحال‬ ‫إجم���ا‬ ‫الفقه‬ ‫دالئ���ل‬ ‫"معرف���ة‬ ‫ً‬ ‫أيضا على‬ ‫ركن���ا من أركانه‪ .‬ولذلك ّ‬ ‫فإن فق���ده يدل ً‬ ‫األقدم���ون ً‬ ‫خب���وت العملي���ة االجتهادية التي تنبثق أساس���ا من ملكة قائمة المس���تفيد" يعن���ي تك ّلم عن مصادر البح���ث الفقهي‪ ،‬ثم تك ّلم‬ ‫ً‬ ‫بنف���س الفقي���ه‪ .‬وتأكيدا لهذا المعنى‪ ،‬نرى الس���يوطي في كتابه عن كيفية البحث وطرقه‪ ،‬ثم تك ّلم عن شروط الباحث‪ .‬وهي‬ ‫ً‬ ‫علميا كما‬ ‫ا‬ ‫منهج‬ ‫بعد‬ ‫فيما‬ ‫اتخذت‬ ‫التي‬ ‫بحالها‬ ‫الثالثة‬ ‫األركان‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫وجهِ ���ل أن االجتهاد في‬ ‫"ال���رد عل���ى من أخل���د إل���ى األرض‪َ ،‬‬ ‫كل عص���ر فرض"؛ يقول ف���ي الصفحة ‪ 169‬ما نصه‪" :‬قال ابن قرره "روجر بيكون"؛ المصادر والطرق والباحث‪.‬‬ ‫بره���ان‪ :‬ال ينعق���د اإلجماع م���ع مخالفة مجته���د واحد خال ًفا‬ ‫لطائف���ة‪ ،‬وعم���دة الخصم أن ع���دد التواتر م���ن المجتهدين إذا‬ ‫انف���راد الواحد منهم يقتضي ضع ًفا‬ ‫اجتمعوا على مس���ألة‪ ،‬كان‬ ‫ُ‬ ‫في رأيه‪ ،‬قلنا ليس بصحيح؛ إذ من الممكن أن يكون ما ذهب‬ ‫ظاه���را تبتدر إلي���ه األفهام‪ ،‬وم���ا ذهب إليه‬ ‫رأيا‬ ‫إلي���ه الجمي���ع ً‬ ‫ً‬ ‫أدق وأعوص‪ ،‬وقد يتف���رد الواحد عن الجميع بزيادة‬ ‫الواح���د َّ‬ ‫ق���وة ف���ي النظ���ر ومزية في الفك���ر‪ ،‬ولهذا يكون ف���ي كل عصر‬ ‫فرع المسائل‪ ،‬ويو ّلد الغرائب"‪ .‬اهـ‪.‬‬ ‫مقدم في العلم‪ُ ،‬ي ّ‬

‫الدين والعلم‬

‫وقبل أن نخوض في آليات توليد العلوم‪ ،‬يجب علينا أن ندرك‬ ‫بعض الحقائق عن موقف الدين من العلم‪ .‬ال نقول إن اإلسالم‬ ‫دين العلم فحس���ب‪ ،‬بل نرى موقفه من البحث العلمي‪ ،‬حيث‬ ‫أرى أنه ال حرج وال قيد مطل ًقا على البحث العلمي‪ ،‬فليبحث‬ ‫من ش���اء فيما ش���اء وليحاول أن يدرك حقيقة العالم كما شاء‪،‬‬ ‫ويكش���ف عن خل���ق اهلل في كونه كما يري���د‪ ،‬وأن ذلك ضمانة‬ ‫لإلبداع‪ ،‬وهذا مؤسس على أن اهلل قد أنزل أول ما أنزل‪ :‬ا ْق َر ْأ‬

‫‪13‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )38‬‬


‫قضايا فكرية‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬علي جمعة*‬

‫توليد العلوم‬

‫من أجل تفاعل مبدع مع العصر‬ ‫ووضع‬ ‫حضارة المسلمين قامت على العلم‪،‬‬ ‫َ‬

‫وهو الذي يرس���م لنا الذهنية والعلمية في التاريخ اإلس�ل�امي‬

‫حضارتهم وهو النص الش���ريف‪ ،‬التزموا بهذا‬

‫وهم���ا الصفتان المجمع عليهما لكل م���ن اطلع على التراث‬

‫علوم���ا خادم���ة لمح���ور‬ ‫المس���لمون األوائ���ل‬ ‫ً‬ ‫المح���ور وخدموه وانطلقوا منه وجعلوه‬ ‫معي���ارا للقبول والرد‬ ‫ً‬ ‫والتقويم‪ .‬وأخذ المسلمون يخترعون العلوم‬ ‫اختراعا‪ ،‬وينقلون‬ ‫ً‬

‫يمكنهم من فه���م الحقيقة وإدراك‬ ‫منه���ا عن األمم الس���ابقة م���ا ّ‬

‫الواق���ع ونفس األمر‪،‬‬ ‫ويصنفونها ويبلغونها لمن بعدهم ولمن‬ ‫ّ‬

‫بجواره���م‪ .‬ورأين���ا عص���ر الترجمة ف���ي عهد المأم���ون‪ ،‬ورأينا‬

‫البيرون���ي ف���ي كتابه "تحقي���ق ما للهند من مقول���ة ممدوحة في‬ ‫العقل أو مرذولة"‪ ،‬ورأينا الخوارزمي في كتابه "مفتاح العلوم"‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )38‬‬

‫‪12‬‬

‫ويرص���د ذل���ك التنوع من ناحي���ة‪ ،‬والتفاعل م���ن ناحية أخرى‪.‬‬

‫اإلسالمي ونتاجه الفكري‪.‬‬

‫فتوليد العلوم‪ ،‬كان س���مة أصحاب ذلك الدين حتى القرن‬

‫الراب���ع الهج���ري‪ ،‬بل امتد ذل���ك التوليد إلى القرن الس���ادس؛‬

‫علما‬ ‫جديدا أس���ماه بعلم‬ ‫ً‬ ‫حي���ث وض���ع عضد الدين اإليج���ي ً‬

‫"الوضع"‪ ،‬اس���ت ّله من علم اللغة والنح���و واألصول والمنطق‪،‬‬ ‫عال���ج في���ه ‪-‬أه���م ما عال���ج‪ -‬قضي���ة المصطلح الت���ي تعد من‬

‫ضابطا‬ ‫أه���م القضاي���ا العلمية حتى يومنا هذا‪ ،‬حيث تعد‬ ‫علميا‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬


‫للضغط‪ ،‬وبذلك تتوس���ع المس���احة األرضية ويخف الضغط‪.‬‬ ‫وهذا األمر يشبه ممتص الصدمات في سياراتكم التي تركبون‬ ‫السباحين بين الثديات البرية نسبة إلى‬ ‫عليها‪ُ .‬أ َ‬ ‫عتبر من أفضل ّ‬ ‫جثت���ي الضخم���ة‪ .‬صغارنا تتقن الس���باحة منذ الصغ���ر من غير‬ ‫كثيرا اللع���ب في الماء والتمرغ في‬ ‫تعلي���م‪ .‬فنحن َ‬ ‫الفيلة نحب ً‬ ‫األوحال‪ ،‬حيث نقوم عبر خراطيمنا بط ْلي أجس���امنا باألوحال‬ ‫منا‪ ،‬ولكننا‬ ‫بعناية فائقة‪ .‬ربما هذا يؤدي عندكم إلى االشمئزاز ّ‬ ‫عر ٍق‬ ‫مضط���رون إل���ى ذلك‪ ،‬إذ ال نملك في جلودنا مس���امات َت ُّ‬ ‫تمكنن���ا م���ن تبريد أجس���امنا‪ ،‬وبالتالي نتقي به���ذه األوحال من‬ ‫ّ‬ ‫حر الش���مس وأش���عتها ف���وق البنفس���جية الحارق���ة‪،‬‬ ‫وأيضا من‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫الحشرات القارصة‪ .‬يكتسب جلدي لونه الرمادي لعدم وجود‬ ‫مول���دات الصبغي���ات (البيغمان���ت)‬ ‫الملونة‪ ،‬وه���و لون الوحل‬ ‫ِّ‬ ‫ال���ذي نتم���رغ فيه‪ .‬فلون الجل���د يختلف باخت�ل�اف لون الطين‬ ‫جدا‪ ،‬وهو‬ ‫ال���ذي نطلي به أجس���امنا‪ .‬الش���عر في جلدي قلي���ل ًّ‬ ‫متناث���ر على أطراف فتحات العين واألذنين والوجنتين والذيل‬ ‫ومختلف أنحاء جسمي‪ .‬وألن هذا الشعر القليل المتناثر مرتبط‬ ‫بالعصب‪ ،‬يقوم بدور إش���عاري بكل الحركات التي تبدر مني‪.‬‬ ‫س���نا؛ يبرز منها ما ترونه من النابين‬ ‫يبلغ عدد أس���ناني ‪ً 26‬‬ ‫الضخمي���ن الممتدي���ن من الف���ك العلوي‪ ،‬و‪12‬‬ ‫كبيرا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ضرس���ا ً‬ ‫ضرس���ا‬ ‫و‪12‬‬ ‫صغيرا‪ .‬وإذا كانت أس���نان الثديات عمودية على‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أفقية متوجهة نحو األمام‪ .‬فصغارنا‬ ‫سطح الفكين‪ ،‬فإن أسناني ّ‬ ‫تول���د وأس���نانها موزعة على الفكي���ن العلوي والس���فلي؛ ففي‬ ‫س���نان أو ثالثة أس���نان‪ ،‬وتزحف‬ ‫كل نص���ف من الفكين يوجد ّ‬ ‫بالتدري���ج نح���و األم���ام م���ع م���رور الزم���ن‪ .‬تتس���اقط أطراف‬ ‫األسنان العلوية داخل الفم عند النمو‪ ،‬وربما يبتلعها الصغار‪.‬‬ ‫تتب���دل أس���ناني على ش���كل مجموع���ات في خم���س دفعات؛‬ ‫فتظهر األس���نان األولى عندما أبلغ الثانية أو الثالثة من العمر‪،‬‬ ‫والدفعة الثانية ما بين الرابعة والسادس���ة‪ ،‬والثالثة ما بين الثانية‬ ‫عش���رة والخامسة عش���رة‪ ،‬والرابعة ما بين الخامسة والعشرين‬ ‫والثالثين‪ ،‬والخامس���ة ما بين األربعين والخامس���ة واألربعين‪،‬‬ ‫ويظهر ضرس���ي السادس عندما أبلغ الثالثة واألربعين‪ ،‬ويظل‬ ‫طيلة حياتي دون أن يتبدل‪ .‬متوس���ط عمري في األصل مثلكم‬ ‫تماما‪ ،‬يتراوح ما بين ‪ 80-60‬سنة‪.‬‬ ‫ً‬

‫أذكى الحيوانات‬

‫يستطيع خرطومي نقل تسعة ألتار ما ٍء إلى فمي بدفعة واحدة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫عتبر‬ ‫كما أعتمد عليه في ط ْلي جس���مي كل���ه بالطين‪ .‬وبالتالي أ َ‬

‫األذك���ى بي���ن الحيوان���ات؛ فعلى الرغم م���ن أن حجم دماغكم‬

‫يبلغ ‪ 1400-1350‬سم‪ 3‬وبنسبة ‪ %2‬من أوزانكم‪ ،‬فإن دماغي‬

‫يبلغ ‪ 6600‬سم‪ 3‬وبنسبة واحد باأللف من وزني‪ .‬فخالقي ذو‬ ‫الق���درة المطلقة‪ ،‬منحني ما يكفين���ي من الدماغ ألنجز أعمالي‬

‫الكثي���رة في يس���ر وس���هولة دون خط���أ‪ .‬كما أن نصف���ي الدماغ‬ ‫التعرج‪ ،‬وتش���كل الفصوص‬ ‫وم َخ ْي ِخي كثيرة‬ ‫األساس���يين ّ‬ ‫لدي ُ‬ ‫ّ‬

‫الصدغية مركز الذاكرة لدي‪ .‬خالل الحمل وقبل الوالدة ينمو‬

‫دماغي بنس���بة ال تتج���اوز ‪ ،%35‬ثم أعيش ف���ي كنف الوالدين‬

‫عاما‬ ‫عش���ر سنوات‪ ،‬ويستمر دماغي في النمو طيلة سبعة عشر ً‬ ‫أتعلم خاللها شؤون الحياة المختلفة التي سأعيشها‪.‬‬

‫نح���ن الفيل���ة نحترم موتان���ا؛ وربما تقف األنث���ى يومين أو‬

‫ثالث���ة أيام عن���د صغيرها المتوف���ى حز ًنا عليه‪ .‬يس���تمر الحمل‬ ‫يوما‪ ،‬وتت���راوح المدة بين حم���ل وآخر ما‬ ‫عن���د اإلن���اث ‪ً 660‬‬

‫بين ‪ 6-4‬س���نوات‪ .‬وبينما يبلغ الذكور في سن السابعة عشر‪،‬‬ ‫عاما‪ .‬والبد في‬ ‫تس���تعد اإلناث لألمومة في سن ما بين ‪ً 13-8‬‬

‫أذكركم بأن إناثنا في نصف حجم ذكورنا‪.‬‬ ‫هذا المقام أن ّ‬

‫حدثت���ك بعقلي المح���دود بما‬ ‫عزي���زي اإلنس���ان‪ ..‬ها ق���د‬ ‫ُ‬

‫في���ه الكفاية‪ ،‬وأنت بعقلك اإلنس���اني الرفيع وقلبك الواس���ع‬

‫ون‬ ‫ين َي ْذ ُك ُر َ‬ ‫وبصيرتك الحادة وبتفكيرك وتدبرك‪ ،‬كن من ﴿ا َّل ِذ َ‬ ‫ودا َو َع َلى ُج ُنوبِهِ م َو َي َت َف َّكر َ ِ‬ ‫او ِ‬ ‫ات‬ ‫ا َ‬ ‫هلل ِق َي ًاما َو ُق ُع ً‬ ‫الس َم َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ون في َخ ْلقِ َّ‬ ‫ض﴾‪ ،‬ويقول���ون‪﴿ :‬رب َن���ا َما َخ َل ْق َت َه َذا َب ِ‬ ‫َو ْا َ‬ ‫ال ُس ْ���ب َحا َن َك‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫اط ً‬ ‫َ َّ‬ ‫النارِ ﴾‪.‬‬ ‫اب َّ‬ ‫َف ِق َنا َع َذ َ‬ ‫(*) جامعة ‪ 9‬أيلول ‪ /‬تركيا‪.‬‬

‫‪11‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )38‬‬


‫كبيرا‪ ،‬إذ ليس‬ ‫بجثتي الكبيرة‪ -‬وسماكة جلدي‪ ،‬يشكالن عائ ًقا ً‬ ‫في جلدي مس���امات َع َر ٍق مثلكم‪ ،‬هذا ما يجعل جس���مي غير‬ ‫مناسب للتبريد‪ .‬فما الذي يحدث إذن؟ هل سأنفجر من‬ ‫الحر‬ ‫ٍ‬ ‫ِّ‬ ‫أحدا من خلقه‬ ‫و َأحت���رق؟ وهل ترك ربي الرحيم العليم القدير ً‬ ‫مظلوما حتى يتركني أنا؟!‬ ‫ً‬

‫أذن مروحية‬

‫وإن كانت‬ ‫جدا‪ْ .‬‬ ‫خلق ربي الجلد خلف ُأذ َن ّي العريضتين رقي ًقا ًّ‬ ‫سماكة جلدي في أقسام جسمي المتب ّقية تبلغ (‪ )2,5‬سم‪ ،‬فإنه‬

‫ال عن ر ّقة‬ ‫جدا حول الفم ومنطقة الشرج واألذنين‪ .‬وفض ً‬ ‫رقيق ًّ‬

‫جدا‬ ‫الجلد في المناطق الخلفية ألذ َن ّي‪ ،‬فإن هذه المناطق غنية ًّ‬ ‫أيضا‪ .‬فعندما يمر دم الجس���م الس���اخن من‬ ‫باألوعي���ة الدموي���ة ً‬ ‫هذه المناطق‪ ،‬أقوم بتحريك ُأ ُذ َني العريضتين مثل المروحة أو‬ ‫َّ‬ ‫الر ْاديات���ور‬ ‫ألتمك���ن من فقدان الحرارة ومن ثم من تبريد دمي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وجس���مي في آن واحد‪ .‬ليس هذا فحس���ب‪ ،‬بل أستخدم أذ َني‬ ‫ّ‬ ‫أيضا لالتصال والتواصل بأصدقائي والدردشة معهم‪ .‬وعندما‬ ‫ً‬ ‫أص���اب باالنفع���ال أقوم بتحريك أذ َني بس���رعة أكب���ر‪ ،‬وبالتالي‬ ‫ّ‬ ‫أعبر بهذه السرعة عن فرحتي وليس عن غضبي كما تعتقدون‬ ‫ّ‬ ‫أنتم البش���ر‪ .‬وعند ش���عوري بالخط���ر‪ ،‬أرفع ُأ ُذ َن���ي وأحركهما‬ ‫َّ‬ ‫بوتي���رة مختلفة وف ًقا لدرجة الخطر القادم‪ .‬وينبغي لصغارنا أن‬ ‫تتعلم قبل كل ش���ي ٍء لغة األ ُذنين هاتين بش���كل جيد‪ .‬هذا وقد‬ ‫تبعا لحاجة الفيل للتبريد؛ فآذان أقراني‬ ‫يختلف حجم األذنين ً‬

‫الذين يعيش���ون في المناطق الجافة تكون أكبر‬ ‫حجما من آذان‬ ‫ً‬ ‫الذين يعيشون في الغابات‪.‬‬

‫وبفض���ل هذا التصمي���م العظيم آلذاننا‪ ،‬أس���مع األصوات‬

‫ذات الترددات المنخفضة التي ال يمكنكم سماعها‪ ،‬وأستطيع‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )38‬‬

‫‪10‬‬

‫التواص���ل مع أصدقائي على بعد ثماني كيلومترات‪ ،‬وأرس���ل‬ ‫لهم أصوا ًتا في ترددات مختلفة ال تسمعونها أنتم البشر‪.‬‬ ‫رائح���ة إفراز الغ���دد الصدغية في رأس���ي‪ ،‬تعطي فكرة عن‬ ‫حالت���ي الفيزيولوجية‪ .‬كما تعطين���ا هذه الروائح معلومات عن‬ ‫الجاهزي���ة والتراضي لش���راكة الحي���اة أثناء فت���رة التكاثر‪ .‬نعم‪،‬‬ ‫أقوم في فترة التكاثر بتوجيه دعو ِة التزاوج لجنس���ي اآلخر من‬ ‫خالل حركة اآلذان المروحية ورائحة إفراز الغدد الصدغية‪.‬‬ ‫يعي���ش في عال���م اليوم من الفيلة نوع���ان‪ .‬فأنا الذي أعيش‬ ‫طنا‪ ،‬وأرتفع‬ ‫ف���ي أفريقيا (‪َ )Loxodontaafricana‬أزِ ن حوالي ‪ًّ 7-6‬‬ ‫‪ 4‬أمتار عن األرض‪ .‬أما أبناء جلدتنا الذين يعيش���ون في الهند‬ ‫وجن���وب ش���رق آس���يا (‪ )Elaphasmaximus‬أصغ���ر من���ي‬ ‫حجما‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ويتراوح وزن أحدهم ‪ 5,5-5‬طن‪ ،‬وارتفاعه ‪ 3,2‬متر‪ .‬ش���كل‬ ‫ال���رأس واألذنين من أه���م الخصائص الت���ي تميزنا عن بعضنا‬ ‫البعض‪ ،‬إذ أذناي أكبر من أذ َني الفيلة األسيوية؛ وجبهتي تتقعر‬ ‫ال نحو الداخل؛ في حين جبهة إخوتي اآلس���يويين تتحدب‬ ‫قلي ً‬ ‫ل���دي أعلى نقط ٍة في‬ ‫قلي�ل�ا نح���و الخارج‪ .‬وإذا كانت األكتاف‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫جسمي‪ ،‬فإن أعلى نقطة في جسم أخي اآلسيوي هي قمة رأسه‪.‬‬ ‫يس���توي اإلناث والذكور لدينا من حي���ث تمتعنا بأنياب طويلة‬ ‫حادة في الفك العلوي‪ ،‬إال أن اإلناث لدى إخوتنا اآلسيويين‬ ‫أب���دا‪ .‬وبالتالي فإن هن���اك اختال ًفا في‬ ‫ال تمل���ك ه���ذه األني���اب ً‬ ‫ضروس���نا ال يعرفه���ا إال الباحثون المتخصص���ون المحترفون‪.‬‬

‫تصميم بديع‬

‫إن كتلتي الضخمة تجعلني أشعر بوطأة الجاذبية األرضية أكثر‬ ‫من غيري من الحيوانات البرية والبحرية‪ ،‬ولذلك يشكل وزني‬ ‫كبيرا على مفاصلي وموطئ‬ ‫الثقيل‬ ‫كنت من‬ ‫ً‬ ‫قدمي‪ .‬لو ُ‬ ‫ضغطا ً‬ ‫ّ‬ ‫تدبرت‬ ‫س���تفدت من قوة رفع الم���اء و َل‬ ‫الحيوان���ات البحري���ة لاَ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫أمري بس���هولة كما تفعل الحيتان‪ .‬وال ش���ك أن المش���ي على‬ ‫حمل جسمي الضخم الثقيل ثم تحريكه‪ ،‬يتطلب‬ ‫اليابس���ة مع ْ‬ ‫متقنا‬ ‫تصميما‬ ‫ضعت الفقرات بتصميم‬ ‫وبديعا‪ .‬لذلك ُو‬ ‫معماريا ً‬ ‫ْ‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫خ���اص على ش���كل َق ْنطرات س���قفية بي���ن الكتفي���ن والفخذين‬ ‫وكأنها‬ ‫جسر من حجر‪ .‬ولمنع الضرر على عظامي ومفاصلي‬ ‫ٌ‬ ‫أثناء وطأة أقدامي على األرض مع الضغط الكبير‪ ،‬تم وضع‬ ‫ضام على قاعدة أقدامي وبين أصابعي‪ ،‬مما يلعب دور‬ ‫ٍ‬ ‫نسيج ّ‬ ‫وس���ادة تمت���ص الضغ���ط الكبير عل���ى أقدامي وتخفف���ه‪ .‬ولعل‬ ‫الكثير منكم ال يعرف أني أسير على أصابعي؛ فعظام أصابعي‬ ‫بنس���يج‬ ‫ومب َّطن���ة‬ ‫ماص‬ ‫ٍ‬ ‫ليف���ي ّ‬ ‫متصل���ة ببعضه���ا برواب���ط قوي���ة‪َ ،‬‬ ‫ّ‬


‫وذل���ك‬ ‫بدع���م م���ن عظ���ام‬ ‫ٍ‬ ‫األن���ف والعظ���ام األخ���رى‬

‫وتطلق���ون الطلق���ات الناري���ة‬ ‫الخاص���ة بقتل���ي‪ ،‬ث���م تلتقطون‬ ‫الص���ور الفوتوغرافي���ة عن���د‬ ‫نصرا‬ ‫جثت���ي وكأنك���م حققت���م ً‬ ‫مؤزرا! فليصوروا ما ش���اؤوا‪..‬‬ ‫ً‬ ‫الصور‬ ‫هذه‬ ‫لعل‬ ‫س���تخدم يوم‬ ‫ت‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ال عليهم‪.‬‬ ‫الحس���اب األكبر دلي ً‬ ‫أعت���ذر‬ ‫لح���دة أس���لوبي ه���ذا‬ ‫ّ‬ ‫اعت���ذارا‬ ‫أيضا‬ ‫ش���ديدا‪ ،‬وأعتذر ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫لخروجي عن الموضوع الذي‬ ‫كنت سأتحدث فيه عن خلقتي‬ ‫العجيب���ة وتزوي���دي باألعضاء‬ ‫البديعة‪.‬‬

‫فتحت���ي‬ ‫للجمجم���ة‪ .‬تبط���ن‬ ‫َ‬

‫أنف���ي بم���ا يزي���د عن عش���رة‬ ‫آالف مجموع���ة عضلي���ة‬ ‫صغي���رة تتح���رك بش���كل‬

‫متراب���ط‪ ،‬وألن عضالت���ي‬ ‫ال‬ ‫تش���كل طبق���ة كثيف���ة ط���و ً‬ ‫ّ‬ ‫وعرض���ا‪ ،‬فإنن���ي أتمكن من‬ ‫ً‬ ‫تحري���ك خرطوم���ي في كل‬ ‫االتجاهات بس���هولة‪ .‬ومع‬ ‫مغط���ى بطبقة‬ ‫أن خرطوم���ي ّ‬

‫س���ميكة م���ن الجل���د‪ ،‬فإن���ه‬ ‫م���زود كذل���ك بحش���د كبير‬

‫خرطوم عجيب‬

‫ربما كان خرطومي أول عضو‬ ‫تذكرون���ه عندما يق���ال "الفيل"‪،‬‬ ‫ألني أتف���رد به بين الحيوانات‪.‬‬ ‫فأنص���ار نظرية التطور لم يجدوا حتى اآلن‬ ‫تفس���يرا لخرطومي‬ ‫ً‬ ‫الطويل هذا‪ ،‬ألنهم يحتاجون من أجل ذلك‪ ،‬إلى حيوان وسيط‬ ‫صدف ًة عن‬ ‫يشبهني بخرطومه ‪-‬لدرجة ما‪ّ -‬‬ ‫ليدعوا أني تطورت ْ‬ ‫أن ال يمكن لهذا‬ ‫حي���وان آخ���ر‪ .‬إنه���م يدرك���ون تم���ام اإلدراك ْ‬ ‫يتكون نتيجة‬ ‫جائية‪ .‬كما أنه‬ ‫ّ‬ ‫الخرط���وم الطوي���ل أن ّ‬ ‫تح���والت ُف ّ‬ ‫ج���دا أن يتقب���ل العقالء تح���و َل ٍ‬ ‫أن���ف قصيرٍ إلى‬ ‫م���ن الصع���ب ًّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫طوي���ل عبر‬ ‫خرط���وم‬ ‫التب���دالت الزمنية مهما كان���ت الظروف!‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫وهل ُيعقل أن‬ ‫يتحول أنف طبيعي قصير إلى خرطوم طويل؟!‬ ‫ّ‬ ‫للتحوالت العش���وائية التصادفي���ة أن تنتج‬ ‫وه���ل يمكن‬ ‫عضوا‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫س���ويا‬ ‫مت َق ًنا‬ ‫صالحا لالس���تعمال بهذا الشكل؟! فخرطومي في‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬ ‫روعته وإتقانه‪ ،‬بعيد كل البعد عن التصادف‪.‬‬ ‫أنتم البش���ر تمس���كون بأيدي صغارك���م‬ ‫وتتجولون‪ ،‬ولكن‬ ‫ّ‬ ‫صغارن���ا نحن الفيلة‬ ‫تتجول بمس���ك ذيلن���ا بخراطيمها حتى ال‬ ‫ّ‬ ‫ج���دا في ش���م الروائح؛ حيث‬ ‫تضي���ع‪ .‬إن خرطومي حس���اس ًّ‬ ‫أنصب���ه‬ ‫وأش���م رائح���ة أس���د أو إنس���ان عل���ى ُبعد‬ ‫أس���تطيع أن ُ‬ ‫َّ‬ ‫كيلومترات عديدة‪ .‬يتكون خرطومي من استطالة شفتي العليا‪،‬‬ ‫وقد‬ ‫امتدت عضالت وجهي لتمتزج بعضالت الخرطوم‪ .‬فإن‬ ‫ْ‬ ‫هذه العضالت الممتدة بعضها حتى الجمجمة وبعضها اآلخر‬ ‫حت���ى‬ ‫األماميتي���ن‪ ،‬تتحرك في جميع االتجاه���ات بقوة كبيرة‪،‬‬ ‫ّ‬

‫م���ن األعص���اب الحساس���ة‬ ‫تجع���ل حاس���ة اللم���س في���ه‬

‫قوية‪ .‬وهكذا فإن خرطومي‬

‫عض���و متع���دد الوظائ���ف ال ينحص���ر بعملية التنف���س فقط‪ ،‬بل‬

‫أفرك به عيني‪ ،‬وأحب به صغيري‪ ،‬وأرفع به جذوع األش���جار‬ ‫التقاط‬ ‫الكبي���رة وأحمله���ا في يس���ر‪ ،‬كما أس���تطيع بخرطوم���ي‬ ‫َ‬ ‫أيضا أثني‬ ‫أيضا‪ ،‬وبخرطومي ً‬ ‫قشة النبات الواحدة من األرض ً‬ ‫َّ‬

‫أغصان الش���جر وأكس���رها‪ ،‬وأتمتع بنتوء على فتحة خرطومي‬

‫أستعملها كما تستعملون أصابعكم‪ .‬بينما ينتهي خرطوم الفيل‬ ‫األفريقي ب َِن ْت َأ َتين متقابلتين‪ ،‬فإن الفيل اآلسيوي ينتهي خرطومه‬ ‫حياتي كالذراع‪ ،‬ال‬ ‫عضو‬ ‫ب َِن ْت َأ ٍة واحدة‪ .‬إن خرطومي باختصار‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ٌّ‬ ‫أبدا‪ .‬وإذا ما أصابه ش���يء خطير‪ ،‬أبقى‬ ‫يمكنني االس���تغناء عنه ً‬ ‫بال ماء وال شراب‪ ،‬ولعلني أموت من الجوع‪.‬‬ ‫مقارن���ة بالثديي���ات األخ���رى‪ ،‬ف���إن كتل���ة جس���مي تتناقض‬

‫كبرت‬ ‫م���ع مس���احته اإلجمالي���ة‪ .‬والقاع���دة تق���ول إن���ه كلم���ا ُ‬

‫���رت كتل���ة الجس���م‪ ،‬ارتف���ع الفاق���د الحراري‬ ‫المس���احة‬ ‫ُ‬ ‫وصغ ْ‬ ‫للجس���م‪ ،‬ولذلك جعل ربي ‪-‬بعلمه المطلق وقدرته العظيمة‪-‬‬

‫للحيوان���ات القطبي���ة آذا ًن���ا وأنو ًف���ا صغي���ر ًة لإلقالل م���ن كمية‬ ‫الفاقد الحراري‪ ،‬وفي المقابل ينبغي أن يكون الفاقد الحراري‬ ‫كبيرا في المناطق الحارة‪ .‬فجسمي الكبير ينتج في استقالباته‬ ‫ً‬

‫كمي���ات كبي���ر ًة م���ن الح���رارة‪ ،‬وعل���ي أن أط���رح ه���ذا الفائض‬ ‫ّ‬ ‫الحراري خارج الجس���م‪ ،‬لكن صغر مس���احة جسمي ‪-‬مقارنة‬

‫‪9‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )38‬‬


‫علوم‬

‫أ‪.‬د‪ .‬عرفان يلماز*‬

‫حديث الفيل‬

‫مرحبا أيها اإلنسان‪ ..‬أنا من أضخم الحيوانات‬ ‫ً‬ ‫الت���ي تعي���ش عل���ى اليابس���ة‪ ،‬وال يفوقن���ي في‬ ‫لقت‬ ‫الحجم سوى الحيتان في البحار‪ .‬لقد ُخ ْ‬ ‫ل���ي أرج���ل كبيرة تناس���ب حجم���ي الضخم‪ .‬فمالكي س���بحانه‬ ‫بلباس خاص به‬ ‫الذي خلق كل شيء بمقدار‪ ،‬كسا كل حيوان‬ ‫ٍ‬ ‫وببيئت���ه التي يعيش فيها‪ ،‬وزوده بأجهزة يدافع بها عن نفس���ه‪،‬‬ ‫عظميا‬ ‫ال‬ ‫ومنحه رز ًقا يناسب وظائف أعضائه‪ ،‬ووضع فيه هيك ً‬ ‫ًّ‬ ‫وجهازا‬ ‫عضليا يتالءم مع آليات الحركة والتوازن‪ ،‬وغيرها من‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬

‫النعم التي ال تعد وال تحصى‪ ..‬أعطاه كل ذلك بأفضل شكل‪،‬‬ ‫وأقل ُكلفة‪ ،‬وأعلى جودة‪ .‬ففي ُأذ َني الكبيرتين اللتين تش���بهان‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬ ‫الش���راع‪ ،‬وأنفي الطويل الش���بيه بالخرطوم‪ ،‬وأقدامي الضخمة‬ ‫التي تشبه األعمدة‪ ،‬والتناغم واالنسجام والتكامل بين أعضاء‬ ‫جسمي الضخم‪ِ ،‬ح َكم شتى ال يمكن تجاهلها أو إغفالها‪.‬‬

‫أنياب طويلة‬

‫ف‬ ‫على الرغم من ضخامة جسمي وثقل وزني‪ ،‬فإني حيوان َأ ِن ٌ‬ ‫ونشيط في الوقت نفسه‪ .‬وما لم أتعرض لألذى أو اإلثارة‪ ،‬فال‬

‫ضرر مني‪ .‬بسهولة أتصادق مع الناس‪.‬‬ ‫وقديما كنتم تعتمدون‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ال من‬ ‫على نقطة ضعفي هذه‪ ،‬وتس���تخدمونني في حروبكم بد ً‬

‫حمدا‬ ‫دباب���ات الي���وم‪ .‬وأحم���د اهلل‬ ‫فطورتم‬ ‫كثي���را ْ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫أن ع ّل َمك���م ّ‬ ‫ً‬ ‫تقنياتك���م‪ ،‬وأنجان���ي م���ن بين أيديكم كس�ل�اح يقتل اإلنس���ان‪.‬‬ ‫دائم���ا ف���ي نق���ل‬ ‫وإن���ي ٍ‬ ‫راض ّ‬ ‫كل الرض���ى ب���أن تس���تخدموني ً‬ ‫العربات‬ ‫المعطلة المعطوبة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الجذوع والخش���ب وفي س���حب َ‬ ‫فذلك أحسن من القتل بكثير‪.‬‬

‫ال أف���رح‬ ‫كثي���را لع���دم أكلك���م لحمي؛ ألن م���ا يلحقني من‬ ‫ً‬

‫أنيابا‬ ‫البلي���ات بس���بب أنياب���ي أعظم‪ .‬فقد منحن���ي اهلل س���بحانه ً‬ ‫قوي���ة ال توج���د عن���د غي���ري م���ن الحيوان���ات‪ ،‬وذل���ك للدفاع‬

‫ع���ن نفس���ي وإزالة العقب���ات التي يمكنه���ا أن تعترض طريقي‪.‬‬ ‫مركبة من عظم خاص من‬ ‫وأنياب���ي في األصل مثل أس���نانكم‪ّ ،‬‬

‫مادت���ي "المينا" و"الع���اج"‪ ،‬إال أنها كبي���رة وضخمة مما يجعل‬ ‫وراءه���ا ويتخذه���ا زينة ل���ه أو لبيت���ه‪ .‬لو كنتم‬ ‫بعضك���م يس���عى َ‬ ‫تأخ���ذون أنياب���ي بعد ِميتتي الطبيعية فال أبال���ي‪ ،‬ولكن ال أفهم‬ ‫لماذا تقتلونني وأنا صحيح معافى أس���عى وأذكر اهلل في أرضه‬ ‫بريئا من‬ ‫أوما يؤلمكم ضميركم وأنتم تقتلون حيوا ًنا ً‬ ‫الواسعة! َ‬ ‫أج���ل بضع���ة نقود! حتى نح���ن الحيوانات‪ ،‬لم نص���ل إلى هذا‬

‫المس���توى من الوحش���ية كأمث���ال بعضكم! فف���ي الوقت الذي‬ ‫يقت���ات في���ه معظم أنواعنا على الحش���ائش والنبات���ات‪ ،‬تكتفي‬

‫الحيوانات المفترس���ة كاألس���ود والنمور‪ ،‬باصطياد الحيوانات‬

‫فمن أظلم يا ُترى في هذه‬ ‫الضعيفة ما يكفيها إلدامة عيش���تها! َ‬ ‫الحال���ة؟ تحملون أح���دث البندقي���ات ذات المناظي���ر الدقيقة‪،‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )38‬‬

‫‪8‬‬


‫خلع النعل أثناء الصالة‪ ،‬رد بأن جبريل ‪ ‬أنبأه بلوثة نجاسة‬ ‫في النعل‪ .‬فإن كان اهلل ينبئ عن لوثة نجاس���ة في نعل رس���ـول‬

‫اهلل ‪ ،‬فكي���ف يعق���ل أن ال ينبئ عن ش���يء يلحق بزوجه ‪‬؟‬ ‫ولئن تعلق أصل الرواية هذه ِ‬ ‫بشباك موازين الجرح والتعديل‪،‬‬ ‫فالعبرة ال تناقش‪.‬‬

‫‪ -2‬ف���ي غ���زوة ب���در استش���ار الرس���ـول ‪ ‬المهاجري���ن‬

‫واألنص���ار‪ .‬فتكل���م المقداد ‪ ‬باس���م المهاجرين‪ ،‬وس���عد بن‬ ‫رائعا في نصرة رس���ـول اهلل‬ ‫معاذ ‪ ‬باس���م األنصار‬ ‫ً‬ ‫كالما فذًّ ا ً‬

‫فوجها جماعتيهما‬ ‫فع ًما باإليمان والحماس والتسليم له‪ّ ،‬‬ ‫‪ُ ‬م َ‬ ‫رس���ـول اهلل‬ ‫المتخذة وإنفا ِذها‪ .‬فهناك جعل‬ ‫إلى تأييد القرارات‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫أصحابا لقرارات حيوية واس���تنصر بالوجدان‬ ‫عموم النـاس‬ ‫‪‬‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫االجتماعي إلى جانبه‪.‬‬

‫الحباب بن المنذر والصحب‬ ‫‪ -3‬وفي بدر ً‬ ‫أيضا‪ ،‬استشار ‪ُ ‬‬

‫الكرام‪ ،‬عن المنـزل الذي ينـزله جيش اإلس�ل�ام والوادي الذي‬ ‫فيه يلقى العدو‪ ،‬وأقر قرارات أنفذها الجيش المس���لم‪ ،‬فتغلب‬ ‫عل���ى ق���وة الع���دو البالغة ثالث���ة أضع���اف المس���لمين أو أربعة‬

‫أضعافه���م ف���ي حملة واحدة‪ ،‬ع���اد بعدها إل���ى المدينة تحدوه‬ ‫أناشيد النصر‪.‬‬

‫‪ -4‬وف���ي وقعة األحزاب استش���ار ‪ ‬األصح���اب الكرام‪،‬‬

‫باب اهلل‬

‫فم���ال إل���ى رأي س���ـلمان الفارس���ي رضي اهلل عنه���م أجمعين‪،‬‬

‫باب اهلل ال يغلق‪،‬‬ ‫ال أح َد عنه يُ ْط َرد‪...‬‬ ‫نَ ِّظ ْف قلبك َّ‬ ‫وتقدم‪،‬‬ ‫وبالزهر افرش أرجاء روحك‪،‬‬ ‫وانتظر!‬ ‫كرَم القلب بالحضور‪،‬‬ ‫إذا ُ‬ ‫سمت المشاعر‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫ورهفت المعاني‪،‬‬ ‫وصارت مشيئتك مشيئته‪،‬‬ ‫ومرادك مراده‪...‬‬ ‫وذاك هو أعظم التكريم‪،‬‬ ‫من ِّ‬ ‫رب العالمين‪...‬‬

‫(*) الترجمة عن التركية‪ :‬عوني عمر لطفي أوغلو‪.‬‬

‫***‬

‫بحفر خندق حيث يظن دخول األعداء منه إلى المدينة‪ .‬فكان‬ ‫أنموذجا لألهمية التي يوليها للشورى‪.‬‬ ‫ً‬

‫‪ -5‬وف���ي صلح الحديبية اهتم النبي ‪ ‬بالش���ورى‬ ‫اهتماما‬ ‫ً‬

‫بالغا‪ ،‬فاس���تطلع رأي الجماعة‪ ،‬وبعده اسـتش���ار ّأمنا أم سلمة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫نه���ج واس���تراتيجي ٍة حس���ب اآلراء واألفكار التي‬ ‫ث���م أبان عن‬ ‫ٍ‬ ‫فغير هزيمة ال مفر منها إلى‬ ‫س���ارت في استقامة ميوله الذاتية‪ّ ،‬‬ ‫نصر مؤزر في عودته إلى المدينة‪.‬‬

‫الس َّنية ‪ ‬يؤكد لنا مدى أهمية النظر‬ ‫إن التحري في حياته َ‬

‫الشوري في كل مسألة أو معضلة لم ينـزل فيها وحي‪ ،‬واألخذ‬ ‫ّ‬ ‫به���ا بعد العرض على الوجدان االجتماعي‪ .‬وليس���ت مجالس‬

‫صورا‬ ‫الش���ورى ف���ي دول اإلس�ل�ام المتع���ددة بع���د ذل���ك‪ ،‬إال‬ ‫ً‬ ‫مبسطة للشورى األولى وهيئتها األولى‪.‬‬

‫‪7‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )38‬‬


‫أولئك المقربين عن تلك الزلة في أثناء التجهيز ُ‬ ‫ألحد‪.‬‬ ‫‪ -6‬الش���ورى تش���غل كل وقته���ا لح���ل المش���اكل القائمة‪،‬‬ ‫وال تنش���غل بالمش���اكل االفتراضي���ة‪ ..‬إن الحي���اة اإلس�ل�امية‬ ‫وطبعا‪ ،‬أم���ا الوقائع‬ ‫تبقى مس���تمرة ف���ي ظل النص���وص بداهة‬ ‫ً‬ ‫الت���ي تحصل خارج معالجتها أو الخطط والبرامج الضرورية‪،‬‬ ‫وي َح���لُّ كل حادث أو برنامج‬ ‫ُفت َ‬ ‫ؤخ ُذ بخصائصها وش���روطها‪ُ ،‬‬ ‫في إطار ظروفه وسياقه‪.‬‬ ‫‪ -7‬تجتمع الهيئة‬ ‫المش���كلة للشورى كلما دعت الحاجة‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫فتبت في المشكالت والمسائل وتنجز الخطط والبرامج‪ ،‬وال‬ ‫ّ‬ ‫تنفك عن العمل حتى إكماله‪ .‬وليس في أيدينا نص عن إجراء‬ ‫الشورى في دورات زمنية معينة‪ ،‬وال إشارة إلى إجرائها بأجر‬ ‫ومرت���ب‪ .‬ونحن غير ملزمين بالتطبيق���ات الجاريـة بعد مرحلة‬ ‫َّ‬ ‫والمش���اهد أن إجراء الش���ورى بموظفين من ذوي‬ ‫التش���ريع‪.‬‬ ‫َ‬ ‫الرواتب يستجلب معه مشاكل معروفة‪.‬‬

‫الشورى والمستشارون‬

‫ال���كالم ع���ن الش���ورى يتطل���ب ال���كالم ع���ن المستش���ارين‬ ‫بالض���رورة‪ .‬لم���ا كان اجتم���اع الناس كلهم عل���ى صعيد واحد‬ ‫للتش���اور مح���االً‪ ،‬فالضرورة الملزمة هو االكتف���اء بزمرة معينة‬ ‫منهم‪ .‬كذلك ينبغي أن يمتاز هؤالء بمؤهالت خاصة بناء على‬ ‫حاجة الش���ـورى إلى العلم والممارسة واالختصاص والخبرة‬ ‫بدرجة كبيرة حس���ب المواضيع المطروحة للتشاور‪ .‬وهم من‬ ‫اصطلح العلماء على تس���ميتهم بأهل الحل والعقد من الكبار‬ ‫المقدمين المقتدرين على حل المش���كالت‪ .‬والضرورة تحكم‬ ‫َّ‬ ‫بتواج���د أه���ل الخب���رة واالختصاص ف���ي المواضي���ع العلمية‬ ‫والفنية والهندس���ية المتعددة التي هي من مصالح المس���لمين‪،‬‬ ‫زي���ادة عل���ى توافر المعان���ي وال���روح والعلوم اإلس�ل�امية‪ ،‬في‬ ‫وخصوصا في أيامنا‪،‬‬ ‫الكبار المقدمين من أهـل الحل والعقد‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وتحول كل مشكلة إلى مشكلة عالمية‪ .‬في هذه‬ ‫لتشابك الحياة‬ ‫ّ‬ ‫المس���ائل يمكن االعتم���اد على أهل االختصاص���ات المتنوعة‬ ‫في الش���ورى‪ ،‬بمراعاة التوافق مع الدين حس���ب تدقيق أعالم‬ ‫علماء اإلس���ـالم‪ .‬وكما أن الشورى مناطة بأهل الحل والعقد‪،‬‬ ‫أيضا‪.‬‬ ‫ف���إن ش���كل إجرائها بتغير الزم���ان واألحوال ُمن���اط بهم ً‬ ‫تنوعا في تنفيذ الشورى على‬ ‫فنجد حينما نقرأ أوراق التاريخ‪ً ،‬‬ ‫م���ر العصور وتغير األحوال‪ .‬فهي ُتجرى في دائرة ضيقة تارة‪،‬‬ ‫وفي دائرة أوسع تارة‪ ،‬وال تتجاوز دائرة المدنيين مرة‪ ،‬و َتفتح‬ ‫أبوابها ألرباب الس���يف وأرب���اب القلم مرة أخرى‪ ،‬في أوضاع‬ ‫َ‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )38‬‬

‫‪6‬‬

‫متنوعة بتقلب عصور التاريخ‪ .‬وليس ذلك بسبب تعرض هذا‬

‫األص���ل إلى التغيير‪ ،‬بل بس���بب المرون���ة والعالمية التي تجعل‬ ‫الشورى قابلة للتطبيق في كل عصر ومكان‪.‬‬

‫ومهم���ا تغي���رت أش���كال إج���راء الش���ورى حس���ب الزمان‬

‫والم���كان واألح���وال‪ ،‬ف���إن اتصاف الكب���ار المقدمي���ن بالعلم‬ ‫والعدال���ة والدراي���ة والنظر والخبرة والحكمة والفراس���ة ثابت‬

‫ال يتغير‪ .‬العدالة هي أداء الفرائض واتقاء المحرمات وتجنب‬ ‫م���ا يناق���ض القيم اإلنس���انية‪ .‬والعل���م هو الدرايـ���ة والخبرة في‬

‫الديـ���ن واإلدارة والسياس���ة والف���ن‪ .‬وال يل���زم أن يك���ون الفرد‬ ‫متخصص���ا في ف���روع العل���م المتنوعة‪ ،‬لك���ن الالزم أن‬ ‫نفس���ه‬ ‫ً‬

‫تك���ون الش���خصية المعنوي���ة لهيئة الش���ورى متفتح���ة على كل‬ ‫ه���ذه المواضي���ع‪ ،‬وال مندوحة ف���ي الرجوع إلى أه���ل الدراية‬ ‫من غير علماء اإلسالم في الموضوعات المعتمدة على النظر‬

‫حمل الحكم ُة في داللته���ا ومعنـاها على‬ ‫والخب���رة‪ .‬وكما ق���د ُت َ‬ ‫صرف إل���ى االطالع‬ ‫العل���م والحل���م ومعن���ى النب���وة‪ ،‬كذل���ك ُت َ‬ ‫على ما خلف س���ـتار األش���ياء والنظر والشعور باألمور الغائبة‬

‫عن الناس بنور الفراس���ة‪ ،‬والق���درة والقابلية والفطانة في حـل‬

‫المعض�ل�ات الفردية واالجتماعي���ة‪ .‬فأهلها قليل ووزنها ثقيـل‪،‬‬ ‫وتحظى في كل زمـان بالتوقير والقبول‪.‬‬

‫مليا عند اهتمام س���يدنا النبي ‪ ‬في حياته‬ ‫وينبغي التوقف ًّ‬

‫���نية كلها بالش���ورى‪ ،‬واالحترام ل���رأي كل امرئ مهما كان‬ ‫َ‬ ‫الس َّ‬

‫ال‪ .‬فكان ‪ ‬يرجع إلى آراء اآلخرين في كل وقت‪...‬‬ ‫سـنا وعق ً‬ ‫ًّ‬ ‫ويس���تأنس بنظرهم ويتحرى عن أقوم الس���بل لتأس���يس خططه‬ ‫وبرامج���ه عل���ى أرض صلبة‪ .‬فمرة يس���تطلع نظ���ر أهل الرأي‬ ‫معا ِل ُيسند الشورى بالشعور الجماعي‪.‬‬ ‫فرادى‪ ،‬ومرة يجمعهم ً‬ ‫وهذه نماذج من سيرته تنير المسألة‪:‬‬ ‫عليا وعمر وزينب‬ ‫‪ -1‬في حادث اإلفك استشار سـيدنا ‪ًّ ‬‬

‫بن���ت جح���ش وبريرة وغيرهم من الصحاب���ة رضوان اهلل تعالى‬

‫عليهم أجمعين؛ فأش���ار علي ‪ ‬ب���رأي ذهب فيه إلى التفريج‬ ‫ّ‬ ‫ع���ن كرب���ة س���ـيدنا ‪ ،‬وتوقف عمر وزينب وبريـ���رة وكثير من‬ ‫الذوات المباركة رضوان اهلل عليهم عند طهارة وزكاة وس���مو‬

‫ّأمنا عائشة ‪ .‬وقـد رويت في مشورة عمر ‪ ‬محاورة لطيفة‬ ‫رس���ول اهلل ‪ ‬عما يراه في ّأمنا‬ ‫انت ِقد س���ندها؛ فقد س���ـأل‬ ‫ُ‬ ‫وإن ُ‬ ‫س���يدنا‬ ‫فأك���د عم���ر طهارتها وزكاتها‪ .‬فلما س���أله‬ ‫عائش���ة ‪ّ ،‬‬ ‫ُ‬

‫عن مس���تند حكمه هذا‪ ،‬أجاب بأنه كان عليه الصالة والس�ل�ام‬ ‫يصلي بهم مرة‪ ،‬فخلع نعله أثناء الصالة‪ ،‬فلما ُسئل عن سـبب‬


‫ف���رق الحرب النفس���ية‪ ،‬إلى درجة القدرة عل���ى مواجهة العالم‬ ‫َ‬ ‫مت���ى اقتضى األمر ذلك‪ .‬ولم يبرح القادة الكبار ورجال الفكر‬ ‫العظام والفالسفة العمالقة‪ ،‬معالجة مثل هذه المسائل اإلنسانية‬ ‫من���ذ قديم الزمان وحتى اآلن‪ .‬ولقد اهتم الرس���ول األعظم ‪‬‬ ‫بهذا المبدأ الس���امي في إطار مس���ؤوليته التش���ريعية والتمثيلية‬ ‫في سـنوات حياته الس ِن َّية‪ ،‬وأقام على هذا األساس حياة البشر‬ ‫وأنش���طتهم الثقافي���ة ومس���اعيهم وجهوده���م ومناس���باتهم مع‬ ‫بعضهم البعض‪ ،‬فحقق بهذه الوس���يلة‬ ‫الروابط بين مش���اعرهم‬ ‫َ‬ ‫وأفكاره���م وعقوله���م ومنطقه���م وأحاسيس���هم وقلوبه���م‪.‬‬ ‫وإن للشورى نتائج َتب ِّشر بها بخصوصياتها‪،‬‬ ‫وقواعد توصل‬ ‫َ‬ ‫إلى هذه النتائج‪ ،‬من جملتها‪ :‬رفـع المستوى الفكري والوعي‬ ‫التش���اركي في المجتمع‪ ،‬والتذكي���ر بأهميته بالرجوع إلى رأي‬ ‫المجموع في كل حادثة‪ ،‬وتشجيعه على توليد األفكار البديلة‪،‬‬ ‫والحف���اظ على حضور الش���ورى وحيويتها من أجل مس���تقبل‬ ‫اإلس�ل�ام‪ ،‬وتحقيق مش���اركة الس���واد األعظم في اإلدارة بقدر‬ ‫اإلمكان في كل مناسـبة‪ ،‬وإدامة الوعي بمحاسبة الرؤساء عند‬ ‫اس���ة االعتباطية‬ ‫الس َ‬ ‫اقتض���اء الحاجة‪ ،‬والحيلولة دون تصرفات ّ‬ ‫وتحديد تصرفهم‪.‬‬ ‫ولق���د قلن���ا آن ًفا إن اهلل تعالى قـد أثنى على الصحابة الكرام‬ ‫بناء عل���ى األهمية‬ ‫األم ِ‬ ‫���ر‪ً ‬‬ ‫‪‬و َش���اوِ ْر ُه ْم ِف���ي ْ‬ ‫باآليـ���ة الكريم���ة َ‬ ‫الحيوي���ة للش���ورى؛ وإنه���ا لحمكة بالغة ينط���وي عليها أمر اهلل‬ ‫األم ِر‪‬‬ ‫تعالى لس���يدنا ‪ ‬باستشارة أصحابه‪َ :‬‬ ‫‪‬و َش���اوِ ْر ُه ْم ِفي ْ‬ ‫والمعركة قد ش���ارفت على نهايتها‪ ،‬وفي أثقل الساعات شدة‪،‬‬ ‫ومع أصحابه الذين كانوا سبب هذه الشدة‪.‬‬ ‫إن أصل الشورى الذي تشرف بالتنـزيل في هاتين اآليتين‪،‬‬ ‫���ب الحتياج���ات العص���ور‪ُ ،‬م َت َخ ٍّط‬ ‫أص���ل واس���ع المرون���ة‪ُ ،‬م َل ٍّ‬ ‫لح���دود الزمان‪ .‬فمهما تغي���ر العالم وتعاقب الزمان‪ ،‬وحتى لو‬ ‫وعمر ُمد ًنا هناك‪ ،‬فال حاجة لزيـادة‬ ‫رحـل اإلنسان إلى الفضاء ّ‬ ‫ش���يء على هذين النصي���ن‪ .‬وفي الحقيقة إن أصول اإلس���ـالم‬ ‫وقواع���ده األخرى كلها‪ ،‬تمت���از بالمرونة نفس���ها وتتفتح على‬ ‫مر‬ ‫الكوني���ة عينه���ا‪ ...‬ولق���د احتفظت بش���بابها وعمليته���ا على ّ‬ ‫الزمان وستبقى كذلك‪.‬‬

‫من أسس الشورى‬

‫نذكر ببعض المبادئ المتعلقة بأساس الشورى‪،‬‬ ‫ومن المفيد أن ّ‬ ‫وهي‪:‬‬ ‫‪ -1‬الش���ورى حق للرؤساء وللمرؤوسين‪ ،‬وال رجحان في‬

‫اس���تعمال هذا الح���ق لطرف عل���ى الطرف اآلخـ���ر‪ .‬وفي أمره‬ ‫بينهم‪ ‬داللـة على مسـاواة الطرفين‬ ‫تعالى‪:‬‬ ‫���ورى َ‬ ‫ْ‬ ‫‪‬وأم ُرهم ُش َ‬ ‫جميعا‪،‬‬ ‫ف���ي الش���ـورى‪ .‬فأمور المس���لمين ش���ؤون تتعلق به���م‬ ‫ً‬

‫جميعا في حـ���ق النظر فيها‪ .‬لك���ن هذا الحق‬ ‫لذل���ك يتس���اوون‬ ‫ً‬

‫تغيرا في صورة‬ ‫يتغير بتغير الزمان والمكان والحال‪ ،‬ويستتبع ً‬

‫إجراء الشورى وشكلها‪.‬‬

‫‪ -2‬لما كان الرئيس مك ّل ًفا بالش���ورى في الشؤون المتعلقة‬ ‫‪‬و َش���اوِ ْر ُهم ِفي ْا َ‬ ‫أل ْم ِر‪،‬‬ ‫بالمجتم���ع بموجب األم���ر اإللهي‪َ :‬‬ ‫ْ‬ ‫فإذن يقع تحت طائلة المس���ؤولية إن لم يطرح هذه الش���ؤون‬ ‫الداخلة في نطاق التش���اور عل���ى أهل الرأي‪ .‬من جهة أخرى‪،‬‬ ‫يتحم���ل المرؤوس���ون‬ ‫وب���ال كت���م آرائه���م إن ل���م يبدوها متى‬ ‫َ‬

‫عرضت عليهم هذه الشؤون للتشاور‪ ،‬بل ُي َع ّدون مقصرين في‬ ‫أداء حق���وق المواطنة إن اكتفوا ببي���ان الرأي‪ ،‬ولم َي ْجهدوا في‬

‫اإلقناع على األخذ بالرأي المطروح‪.‬‬

‫‪ -3‬ومن األسس المهمة‪ :‬طلب مرضاة اهلل تعالى وتحري‬

‫مصلحة المس���لمين في الش���ورى‪،‬‬ ‫واالمتناع عن تحريف آراء‬ ‫ُ‬

‫أهل الشورى عن وجهتها بالرشوة والضغط والتهديد‪ .‬يتفضل‬ ‫رسول اهلل ‪ ‬فيقول‪" :‬إن المستشار مؤتمن"‪ ،‬فمن استشير في‬ ‫شيء‪ ،‬فعليه أن يشير وكأنه يشير لنفسه‪.‬‬

‫‪ -4‬قد ال يحصل إجماع في الشـورى‪ .‬فإن لم تتفق اآلراء‬

‫في مسـألة‬ ‫عمل برأي األغلبية‪ ،‬فإن الشارع ‪ ‬يجعل‬ ‫ً‬ ‫إجماعا‪ُ ،‬في َ‬ ‫"يد ا ِ‬ ‫هلل مع الجماعة"‬ ‫األغلي���ة في حكم اإلجماع حيث يقول‪ُ :‬‬ ‫"إن أمت���ي ال تجتمع عل���ى ضاللة" (رواه‬ ‫(رواه الترم���ذي)‪ ،‬ويق���ول‪ّ :‬‬

‫جمع أمتي على‬ ‫ابن ماجه)‪ ،‬ويقول ً‬ ‫أيضا‪" :‬سألت اهلل ‪ ‬أن ال َي َ‬ ‫ضاللة فأعطانيها" (رواه اإلمام أحمد)‪.‬‬

‫ينبهنا إل���ى أن لألغلبية قوة اإلجماع‪،‬‬ ‫فف���ي بياناته هذه ‪ّ ،‬‬

‫الس َّنية أمثلة كثيرة‬ ‫وإلى لزوم اتباع السواد األعظم‪ .‬وفي حياته َ‬ ‫على ذلك‪ ،‬منها تشاوره في أوائل بدر و ُأحد وأواخرهما‪.‬‬

‫بديل لـه بعد إقراره‬ ‫‪ -5‬ال يج���وز مخالفة ال���رأي أو‬ ‫اقتراح ٍ‬ ‫ُ‬

‫باإلجماع أو األغلبية ما دامت الشورى قد تمت وف ًقا لشروطها‪.‬‬ ‫فإظه���ار ال���رأي ضد القرار بحجج ش���تى‪ ،‬كادعاء صحة الرأي‬

‫المخالف أو تسجيل هامش بالمعارضة على أصل القرار‪ ،‬هو‬ ‫إفساد وخيم وإثم كبير‪ .‬فقد خرج رسول اهلل ‪ ‬إلى ُأحد على‬ ‫خ�ل�اف اجته���اده‪ ،‬مواف ًق���ا رأي األغلبية‪ ،‬ولم يعل���ق بعد ذلك‬ ‫عل���ى رأي األغلبي���ة م���ع ثبوت غلطهم‪ ،‬ال ف���ي األول وال في‬ ‫اآلخ���ر‪ ،‬ب���ل ومع إش���ارة الق���رآن الكريم إلى احتمال ُمس���اءلة‬

‫‪5‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )38‬‬


‫مقي���د بالمص���ادر التش���ريعية الكب���رى‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫فاإلس�ل�ام ال يس���مح بالتدخل البش���ري‬

‫ب���ل كان يتل���و عليه���م وه���م منهمك���ون‬ ‫ف���ي البح���ث ع���ن المذن���ب والب���ريء‪:‬‬ ‫أعظم‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫هو‬ ‫أعق��ل‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫إن�سان‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ألم ِر‪ ‬ث���م يجمعهم‬ ‫في المسائل التي ورد فيها نص صريح‪.‬‬ ‫‪‬و َش���ـاوِ ْر ُه ْم ِف���ي ْا ْ‬ ‫َ‬ ‫بامل�شورة‪،‬‬ ‫��ا‬ ‫والتزام‬ ‫ا‬ ‫د‬ ‫اعت��دا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫دما جراء اعتداء‬ ‫للتش���اور‬ ‫رج���ع إل���ى‬ ‫فف���ي ه���ذه المس���ائل ال ُي َ‬ ‫ُ‬ ‫ووجهه يقطر ً‬ ‫والأك�ثر ا�ستفادة م��ن �أفكار‬ ‫س���ببا له‪،‬‬ ‫وحش���ي كان بع���ض أصحاب���ه‬ ‫الشورى إال الستش���فاف المقاصد التي‬ ‫ً‬ ‫وش َد ِه‬ ‫ومن يكتفي ب�أفكاره‬ ‫يعبر عنها النص‪ .‬أما القضايا التي لم يرد‬ ‫وس���ط أش�ل�اء أجس���اد الش���هداء‪َ ،‬‬ ‫الآخرين‪َ .‬‬ ‫ّ‬ ‫األصحاب وحيرتهم في أنفسهم‪ ،‬حتى‬ ‫تماما‪.‬‬ ‫ال�شخ�صي��ة يف عمله وبراجمه‪،‬‬ ‫فيها نص فهي في نطاق الشورى ً‬ ‫توج���ه بعضه���م نح���و المدينة ف���ي تلك‬ ‫وجدير بالذكر أن ما تم الوصول إليه في‬ ‫ّ‬ ‫�أو ي�سع��ى لفر�ضها على غريه‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫يكتف‬ ‫ولم‬ ‫حصل‪.‬‬ ‫بما‬ ‫مبال‬ ‫غير‬ ‫المحنة‬ ‫إلزام‬ ‫الشورى من نتائج وقرارات‪ُ ،‬م ِ‬ ‫لزم َ‬ ‫ال ينج��و م��ن فق��دان طاق��ة‬ ‫باستش���ارتهم‪ ،‬ب���ل بلغه���م بأم���ر اهلل لـ���ه‬ ‫النص‪ ،‬وال يجوز مخالفة ما خلصت إليه‬ ‫حركي�� ٍة مهمة‪ ،‬ونف��ور وكره‬ ‫بطلب العفو واالستغفار لهم‪.‬‬ ‫الشورى بعد ذلك‪ ،‬أو سرد آراء وأفكار‬ ‫وا�ستثقال مم��ن حوله ال حمالة‪.‬‬ ‫وهك���ذا ُيظه���ر رس���ول اهلل ‪ ‬بأن���ه‬ ‫مناقضة له���ا‪ .‬فإن وجد خطأ ما في قرار‬ ‫مأم���ور بالش���ورى رغم اس���تمرار حياته‬ ‫الش���ورى مع اتفاق الجمهور عليه‪ ،‬فإنه‬ ‫فيذك���ر‬ ‫الس���نية تح���ت أن���وار الوح���ي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ال يمك���ن إزالت���ه إال بش���ورى مماثل���ة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫المرؤوس���ين‬ ‫أم���ام‬ ‫الس���بيل‬ ‫ويفس���ح‬ ‫بمس���ؤولياتهم‪،‬‬ ‫الرؤس���اء‬ ‫وصحيح أن نصوص الش���ورى تفيد العموم في معنى من‬ ‫أيضا بتعل���ق النصوص بمواضيع‬ ‫لتقويم آرائهم‪ ،‬ويرش���دهم إلى إعانة الرؤس���اء‪ ،‬ويحذر هؤالء المعان���ي‪ ،‬لكنه���ا تخصصت ً‬ ‫من االستبداد‪.‬‬ ‫معين���ة‪ ،‬وبعم���ل رس���ـول اهلل ‪ ‬وتصرف���ه‪ .‬إن النص���وص ف���ي‬ ‫وقـد روي عن رسـول اهلل ‪ ‬أنـه لما نـزل األمر السـبحاني‪ :‬اإلس�ل�ام أك���دت عل���ى قضاي���ا كبرى ّنبه���ت إلى أص���ول كلية‬ ‫‪‬وشاوِ ْر ُهم في ْا َ‬ ‫أل ْم ِر‪ ‬عقب غزوة ُأحد‪ ،‬أفصح بأن اهلل تعالى‬ ‫َ‬ ‫كثي���را فيما عداها م���ن األمور‬ ‫تفصل‬ ‫وقواع���د عمومي���ة‪ ،‬ول���م ّ‬ ‫ً‬ ‫غنيان عن المشورة‪ .‬لكن اهلل أرسـله رحمة لألمة‪ ،‬الفرعي���ة‪ .‬أم���ا المس���ائل التي لم يرد فيها ن���ص‪ ،‬فهي في نطاق‬ ‫ورسوله ‪ّ ‬‬ ‫وليؤكد لنا أنه من استشار أصاب‪ ،‬ومن ترك الشورى ضل‪ .‬ومن الشورى بتمامها ومعروضة على التشاور‪ .‬فانطال ًقا من وضع‬ ‫ثم تتضح من أمر اهلل لنبيه بإقامة الشورى ‪-‬رغم استغنائه عنها اإلسالم للمسائل التي وردت فيها أحكام صريحة خارج حدود‬ ‫وانع���دام حاجت���ه إليها‪ -‬أهمية التزام كل رئيس ومس���ؤول بها‪ .‬الش���ورى‪ ،‬والمس���ائل التي لم ترد فيها أح���كام صريحة داخل‬ ‫مرتبطا باإلسالم‪،‬‬ ‫ونضع بين أيديكم حفنة من جواهر أحاديث مباركة تمأل حدوده‪ ،‬فإنه يبقى في كل حـال من األحوال‬ ‫ً‬ ‫خيرا‪ ،‬تش���رفت بالصدور عنه ‪" :‬ما خاب من اس���تخار‬ ‫الم َب َّينة في‬ ‫وموجها بالقرآن والس���نة‪،‬‬ ‫الدنيا ً‬ ‫ً‬ ‫وس���اعيا لتحقيق الغايات ُ‬ ‫ً‬ ‫وال ن���دم من استش���ار‪ ،‬وال ع���ال من اقتص���د" (رواه الطبراني)‪" .‬ما كتاب اهلل ‪ .‬وال ش���بهة في أن اإلس�ل�ام يقصد قبل كل شيء‬ ‫شقي عبد قط بمشورة‪ ،‬وما سعد باستغناء برأي" (مسند الشهاب)‪ .‬غايات عليا‪ ،‬مثل تحقيق المساواة بين البشر‪ ،‬ومحاربة الجهل‬ ‫ِ‬ ‫"إن المستش���ار مؤتمن" (رواه أبو داود)‪" .‬واهلل ما استش���ار قوم قط ونش���ر العلم‪ ،‬ونس���ج المس���ـائل كلها حـول الهوية اإلسالمية‪،‬‬ ‫إال ُهدوا ألفضل ما بحضرتهم" (رواه البخاري)‪.‬‬ ‫ومنع تناقض المسلم مع ذاته‪ ،‬وتوجيه إنسان الوطن للحفاظ‬ ‫لذل���ك اتفق علماء اإلس�ل�ام عل���ى أن الش���ورى أصل من عل���ى منـزلت���ه ووقاره في الموازنات الدولي���ة‪ ،‬وتحقيق العدالة‬ ‫ِ‬ ‫كم َيلزم‬ ‫ُ‬ ‫أصول اإلس�ل�ام‪ُ ،‬‬ ‫العمل به‪ .‬وقد ُن ّفذ هذا األصل االجتماعي���ة بين الفرد والمجتمع‪ ،‬وتطويـر وعي األمة برمتها‬ ‫وح ٌ‬ ‫م���ع التنوع في التنفيذ على مدى الزمان‪ ،‬في العهود المتعاقبة ‪-‬وبجمي���ع أفرادها‪ -‬في الح���ب‪ ،‬واالحت���رام‪ ،‬واالهتمام ب َِه ّم‬ ‫وفي مواجهة أوضاع شتى‪.‬‬ ‫اآلخ���ر‪ ،‬والتضحي���ة‪ ،‬ورهاف���ة أحاس���يس الفيوض���ات المادي���ة‬

‫الشورى مبدأ أساس‬

‫يتفوق على األوامر اإللهية‪.‬‬ ‫وبدهي أن الش���ورى ليس���ت مبدأ ّ‬ ‫نعم‪ ،‬الش���ورى أس���ـاس لبعض القوانين والنظم الحيوية‪ ،‬لكنه‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )38‬‬

‫‪4‬‬

‫والمعنوي���ة للعيش من أج���ل اآلخرين‪ ،‬ومراع���اة الموازنة بين‬ ‫الدنيا واآلخرة‪ ،‬وتنظيم السياسـة الداخلية والخارجية‪ ،‬ومتابعة‬ ‫التطورات في العالم‪ ،‬وتجهيز مصادر القوة وتحديثها‪ ،‬وإعداد‬


‫ومن يكتف���ي بأفكاره‬ ‫واألكث���ر اس���تفادة من أف���كار اآلخري���ن‪َ .‬‬

‫‪‬و َش���اوِ ْر ُه ْم ِفي‬ ‫غي���ر تأويل أو تفس���ير بأمره الس���بحاني هما‪َ :‬‬ ‫���ورى َب ْي َن ُه ْم‪(‬الش���ورى‪.)38:‬‬ ‫األم ِر‪(‬آل عمران‪،)159:‬‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫و‪‬و َأ ْم ُر ُه ْم ُش َ‬ ‫هذا وفي تس���مية الس���ورة التي فيها بيان الش���ورى بهذا االسم‪،‬‬

‫فالمش���ورة ه���ي الش���رط األول لك���ي يجني الم���رء أفضل‬

‫فت���رد الش���ورى في هذه الس���ورة وص ًف���ا للصحاب���ة الكرام‬

‫الشخصية في عمله وبرامجه‪ ،‬أو يسعى لفرضها على غيره‪ ،‬ال‬ ‫ينجو من فقدان طاقة حركي ٍة مهمة‪ ،‬وزد على ذلك نفور وكره‬ ‫واستثقال ممن حوله ال محالة‪.‬‬

‫الثم���ار قاطبة م���ن كل عمل يعمله‪ ،‬كذلك هي الوس���يلة األهم‬ ‫في اسـتمداد قدر ٍة تفوق قدرته وطاقته أضعا ًفا مضاعفة‪.‬‬

‫حكمة بالغة‪.‬‬

‫عدا من الثناء‬ ‫م���ع الثن���اء عليهم‪ ،‬فكأن اآلية الكريمة تتضم���ن ُب ً‬

‫لهؤالء الذين جعلوا االستشارة محور أعمالهم وأمورهم‪ .‬وإن‬

‫عمل من‬ ‫فينبغي إجراء أوس���ع استشارة وتحرٍّ قبل مباشر ِة ٍ‬ ‫نتجنب‬ ‫األعمال‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫والجد في األخذ باألس���ـباب والتدابير‪ ،‬حتى ّ‬ ‫الوقوع في تصرفات مضرة ُت ِ‬ ‫ضاعف المصيبة في النتيجة‪ ،‬مثل‬ ‫ّ‬ ‫القدر أو اتهام األفراد المقربين منا‪ .‬وال مفر من الندم‬ ‫تجريح َ‬ ‫وانكس���ار الخاط���ر م���ا لم يتم التفكي���ر في عاقبة األم���ر وما لم‬

‫حشدا‪ .‬فكان سيدنا الرسول ‪ ‬يستشير كل واحد‬ ‫لها النصوص‬ ‫ً‬

‫روية فلم يمضوا‬ ‫وكم من عمل خاض فيه الخائضون من غير ّ‬

‫ومع التقدم الكبير الذي حققناه في مياديـن مختلفة اليوم‪ ،‬إال‬

‫تؤخذ مش���ور ُة أهل المعرفة والخبرة قب���ل المبادرة في العمل‪.‬‬ ‫واالنكفاء في أنفس���هم‪،‬‬ ‫االنكس���ار‬ ‫في���ه خط���وات إال أورثه���م‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫وضعف الحظوة وخسارة االعتبار عند غيرهم‪.‬‬ ‫َ‬

‫اختي���ار وصف الش���ـورى من أوصاف الثن���اء والمديح الكثيرة‬ ‫في األصحاب الكرام‪ ،‬دليل على األهمية العظمى للمشورة‪.‬‬

‫وكم���ا يجع���ل الق���رآن الكري���م الش���ورى قاعدة له���ا أهمية‬

‫بالغا‪ ،‬بل تحشد‬ ‫السنية تهتم بها‬ ‫الس���ن ُة‬ ‫عظيمة‪ ،‬كذلك‬ ‫اهتماما ً‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬

‫شيخا‪...‬‬ ‫في كل مسألة ليس فيها نص‪ ،‬رج ً‬ ‫شابا أو ً‬ ‫ال أو امرأة‪ًّ ،‬‬

‫بعد في فلس���فة الش���ورى ما بلغوه في تلك األيام‪.‬‬ ‫أننا لم نبلغ ُ‬ ‫نع���م‪ ،‬كان رس���ـول اهلل ‪ ‬يستش���ير أصحاب���ه ف���ي كل أمر‪،‬‬

‫مثاليا؛ أن الشورى‬ ‫والقاعدة في اإلسـالم على اعتباره ً‬ ‫نظاما ًّ‬

‫ويستطلع آراءهم وأفكارهم‪ ،‬ويحصل على موافقتهم في كل‬

‫العناصر في حل القضايا المتعلقة بالفرد والمجتمع‪ ،‬والشعب‬

‫المجم���وع ومي���ول المجتم���ع المتآلف كالبني���ان المرصوص‪،‬‬

‫���درات الحركي���ة لقيام���ه ودوام���ه‪ .‬فهي م���ن أهم‬ ‫م���ن أه���م ال ُق ُ‬

‫والدولة‪ ،‬والعلم والمع���ارف‪ ،‬واالقتصاديات واالجتماعيات‪،‬‬ ‫ما لم يرد فيها نص صريح‪.‬‬

‫إن هيئة ش���ورى الدولة في اإلس�ل�ام‪ ،‬تتقدم على الس���لطة‬

‫التنفيذية وترش���دها‪ .‬وهيئة الش���ورى في الدولة التركية اليـوم‪،‬‬ ‫ومقيدة‬ ‫ُتعد محدودة في الوظيفة‪ ،‬وضيقة الس���احة في الحركة‬ ‫َّ‬ ‫قياسا بالشورى في اإلسالم‪.‬‬ ‫ً‬

‫ويثمن أحاس���يس الوجدان العام‪ ،‬ومش���اعر‬ ‫عم���ل يخط���ط لـه‪ّ ،‬‬

‫لتكتسب قراراته قوة ومناعة ال يمكن زعزعتها‪ .‬فقد كان يهيء‬

‫وفك���را في األعمال التي يبرمج‬ ‫روحا‬ ‫الجميع لكي يش���اركوا ً‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫لها‪ ،‬فيحقق مشاريعه بأمتن الحسابات اإلحصائية‪.‬‬ ‫الس��� ِن َّية ‪ ‬المتعلقة بهذا‬ ‫ّ‬ ‫لنطل���ع عل���ى مش���اهد من حيات���ه َّ‬ ‫الشأن‪:‬‬ ‫حينما خرج حضرة سيد األنام ‪ ‬إلى " ُأحد"‪ ،‬ل ّقن أصحابه‬

‫ل���زم بأص���ل‬ ‫وإن رئي���س الدول���ة‬ ‫(ول���ي األم���ر األعظ���م) ُم َ‬ ‫َّ‬ ‫ربى‬ ‫الش���ورى حت���ى ول���و كان‬ ‫ً‬ ‫ومع َّلم���ا ُ‬ ‫مؤي���دا من عن���د اهلل ُ‬ ‫وم ّ‬ ‫بالوح���ي واإلله���ام‪ .‬هكذا كان دأبنا ف���ي الماضي وكذلك دأبنا‬

‫وتنظيم حال قتالهم‪ ،‬وتحذيرهم من ترك مواضعهم مهما آلت‬

‫كثيرا ما طبقته بأسماء وعناوين‬ ‫هناك‪ ،‬فإن شعوبنا ومجتمعاتنا ً‬

‫وتوصي���ات أخ���رى‪ .‬ولكن األصحاب الك���رام وقعوا في خطأ‬

‫في الحاضر‪ .‬ولئن وقع إهمال في تنفيذ مبدأ الش���ورى هنا أو‬

‫متنوع���ة‪ .‬ولك���ن ل���م ينج���ح مجتمع أهم���ل مبدأ الش���ورى أو‬ ‫أبدا‪ ..‬وعندما يقول سيدنا ‪" :‬ما خاب من‬ ‫تناساه حتى اليوم ً‬ ‫اس���تخار وال ندم من استش���ار" (رواه الطبران���ي)‪ ،‬يع ّلق فالح األمة‬

‫وضمان مستقبلها بالشورى‪.‬‬

‫ترد الش���ورى في القرآن الكريم في آيتين بالتصريح‪ ،‬وفي‬

‫المصرحتان بالشورى من‬ ‫آيـات كثيرة بالتلميح‪ .‬هاتان اآليتان‬ ‫ِّ‬

‫أمورا إس���تراتيجية‪ .‬ومن هذه األمور‬ ‫بع���ض التوصيات وراعى ً‬ ‫وض���ع الرم���اة في موض���ع مرتفع م���ن " ُأحد"‪،‬‬ ‫الت���ي َأ ْن َف َذه���ا‬ ‫ُ‬ ‫إلي���ه مجريات الح���رب‪ ،‬ونهيه عن النـزول القتس���ام الغنائم‪...‬‬ ‫اجته���ادي في تقدير انتهاء مدة األم���ر باعتبار الوقت مع رفعة‬ ‫وض���ع مخالف ٍة خفية‪.‬‬ ‫فهمه���م للطاع���ة ودقائقها‪ ،‬فص���اروا في‬ ‫ِ‬

‫وواجه سيدنا ‪ ‬معارضة ضمنية أخرى في مسيرة " ُأحد"‪ .‬فلو‬ ‫حد آخر في مكانه‪ ،‬وواجهته تلك المعارضـات المتتالية‬ ‫كان َأ ٌ‬ ‫الت���ي أوقعت ه���ذه األض���رار والخس���ائر‪ ،‬ألزاح آراءهم بظهر‬

‫كفي���ه وق���ال له���م اذهبوا‪ ...‬عاقبك���م اهلل! لكنه ل���م يفعل ذلك‪،‬‬

‫‪3‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )38‬‬


‫المقال الرئيس‬ ‫فتح اهلل كولن‬

‫الشورى‬

‫الشورى ِس���م ٌة حيوية وقاعدة أساسية لربانيي‬

‫اإلسالم أساس حياتي البد للرؤساء وللمرؤوسين من إجرائه‪.‬‬

‫ف���ي القرآن‪ ،‬أبـرز عالم���ات المجتمع المؤمن‬

‫وأمور كثي���رة تتعلق بالمجتمع‪ ،‬والمرؤوس���ـون مك ّلفون ببيان‬

‫الي���وم كما كانت للورث���ة األولين كذلك‪ .‬فهي‬

‫���ب قلبه���ا لإلس�ل�ام‪.‬‬ ‫وأه���م خصوصي���ات الجماع���ة الت���ي َت َه ُ‬

‫واحدا مع الصالة‬ ‫وتوضع الش���ورى في الق���رآن الكريم ص ًّفا‬ ‫ً‬ ‫ِ‬ ‫الصال َة َو َأ ْم ُر ُه ْم‬ ‫‪‬وا َّل ِذ َ‬ ‫���م َو َأ َق ُاموا َّ‬ ‫واإلنفاق‪َ :‬‬ ‫ين ْ‬ ‫اس َ���ت َج ُابوا ل َر ّبِهِ ْ‬ ‫فينبه المولى‬ ‫اه ْم ُي ْن ِف ُق َ‬ ‫���ورى َب ْي َن ُه ْم َو ِم َّما َر َز ْق َن ُ‬ ‫ُش َ‬ ‫ون‪(‬الشورى‪)38:‬؛ ّ‬ ‫تعامل يترادف مع العبادة‪ ،‬ويبين هذه‬ ‫تعالى إلى أن الش���ورى‬ ‫ٌ‬

‫المس���ألة الحيوية في األمر اإللهي باالس���تجابة هلل تعالى وذكر‬ ‫ضرورات االستجابة ونتيجتها‪ :‬الصالة والشورى واإلنفاق‪.‬‬

‫فالرؤساء مك ّلفون باالستشارة في السياسة واإلدارة والتشريع‬ ‫رأيهم وفكرهم فيها للرؤساء‪.‬‬

‫وإن���ه لمن المفي���د أن نورد بعض المالحظ���ات الهامة عن‬

‫مبدأ الش���ورى‪ .‬الشورى شـرط أساس���ي إلقرار الرأي الصائب‬

‫كثيرا ما تظهر نتائج وخيمة وهزيلة‬ ‫في مسألة من المسـائل‪ .‬و ً‬

‫محص بـآراء‬ ‫للق���رارات المتعلق���ة بالفرد أو المجتمع ما ل���م ُت َّ‬ ‫عتد‬ ‫اآلخري���ن أو انتقاداته���م‪ .‬وإن َم���ن ينحب���س في رأي���ه وال َي ّ‬ ‫ب���آراء غي���ره ‪-‬مهما كان رفيع الفطرة وعال���ي الذكاء‪ ،‬بل داهية‬

‫ع���د المجتم���ع الذي يهمل الش���ورى‬ ‫فبه���ذا االعتب���ار‪ ،‬ال ُي ّ‬

‫الت أكث���ر مما يتعرض‬ ‫م���ن الدهـ���اة‪ -‬يتعرض إلى أخط���اء وز ّ‬

‫تعمل بها جماعة مس���لمة بالمعنى الكامل‪ .‬فالش���ورى في دين‬

‫والتزاما بالمش���ورة‪،‬‬ ‫اعت���دادا‬ ‫فاإلنس���ان األعق���ل ه���و األعظ���م‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫ع���د الجماع���ة الت���ي ال‬ ‫مجتمع���ا متكام���ل اإليم���ان‪ ،‬كم���ا ال ُت ّ‬ ‫ً‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )38‬‬

‫‪2‬‬

‫له���ا رجل آخر متوس���ـط المواهب ينفتح في آرائه بالمش���ورة‪.‬‬


‫المحتويات‬ ‫ الشورى  ‪ /‬فتح اهلل كولن (املقال الرئيس) ‬ ‫باب اهلل  ‪ /‬حراء (ألوان وظالل) ‬

‫ حديث الفيل  ‪ /‬أ‪.‬د‪ .‬عرفان يلماز (علوم) ‬ ‫توليد العلوم‪ ..‬من أجل تفاعل مبدع مع العصر  ‪ /‬أ‪.‬د‪ .‬علي مجعة (قضايا فكرية) ‬

‫ الضاربون في األرض  ‪ /‬أ‪.‬د‪ .‬عماد الدين خليل (حتليل كتاب) ‬ ‫ِّ‬ ‫واجَ�ت ْز  ‪ /‬حراء (ألوان وظالل) ‬ ‫حل ْق ْ‬

‫ تأمالت في النبي والنبوات  ‪ /‬أديب إبراهيم الدباغ (قضايا فكرية) ‬ ‫خشونة المفاصل‪ ..‬األسباب والعالج  ‪ /‬د‪ .‬خالد عمارة (علوم) ‬

‫ َسبَحات اإللهام  ‪ /‬د‪ .‬سلمان العودة (أدب) ‬ ‫وانج  ‪ /‬حراء (ألوان وظالل) ‬ ‫اِ ْ‬ ‫نهض ُ‬

‫ الجسم السليم في العقل السليم  ‪ /‬د‪ .‬فؤاد البنا (قضايا فكرية) ‬ ‫دالالت الزوجية في الكون  ‪ /‬د‪ .‬عبد اإلله بن مصباح (علوم) ‬

‫ يا حادي الركب  ‪ /‬سعود الصاعدي (شعر) ‬ ‫استشعار الجاذبية عند النبات  ‪ /‬أ‪.‬د‪ .‬عبد اجمليد بلعابد (علوم) ‬

‫ ابن الهيثم‪ ..‬مؤسس علم الطبيعة  ‪ /‬أ‪.‬د‪ .‬بركات حممد مراد (تاريخ وحضارة) ‬ ‫المسلمون وحقوق اإلنسان‪ /  3-‬أ‪.‬د‪ .‬أمحد عبادي (قضايا فكرية) ‬

‫ رسائل حية من عالم المسلمين  ‪ /‬د‪ .‬مسري بودينا (قضايا فكرية) ‬ ‫مؤتمر "اإلجماع والوعي الجمعي"  ‪ /‬عبد العزيز بن عمر (أنشطة ثقافية) ‬

‫‪2‬‬ ‫‪7‬‬ ‫‪8‬‬ ‫‪12‬‬ ‫‪15‬‬ ‫‪18‬‬ ‫‪19‬‬ ‫‪24‬‬ ‫‪28‬‬ ‫‪30‬‬ ‫‪31‬‬ ‫‪36‬‬ ‫‪40‬‬ ‫‪41‬‬ ‫‪46‬‬ ‫‪50‬‬ ‫‪54‬‬ ‫‪57‬‬


‫االفتتاحية‬ ‫العقل الجمعي‬

‫حدة ذكاء ومن قوى إدراكية واس���عة عميقة‪ ،‬إال أنه قد يواجه‬ ‫مهما بلغ العقل البش���ري من َّ‬

‫بعقل آخر أو‬ ‫ف���ي طريقه معضالت مس���تعصية يعج���ز عن ح ّلها بمفرده‪ ،‬فيلجأ لالس���تعانة عليها ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫بعقول آخرى لتش���اركه في التفكير وتعينه على الوصول إلى الحلول الناجعة‪ ،‬فإذا ما اجتمعت‬

‫ال ذوات تجارب كثي���رة وخبرات واس���عة‪ ،‬فإنها س���تصل في نهاية‬ ‫ه���ذه العق���ول‪ ،‬وكان���ت عق���و ً‬ ‫المط���اف إلى حل���ول مقبولة وصحيحة لهذه المعضالت‪ .‬ومن أمث���ال هؤالء الرجال المتميزين‬ ‫تش���كلت مجالس الش���ورى ف���ي تاريخنا‪ ،‬ليس���تعان بهم على تس���يير عجلة الحاك���م والمحكوم‬ ‫ّ‬ ‫عل���ى حد س���واء‪ ..‬فالح���رص على هذا العقل الجمع���ي‪ ،‬هو من أدلة الحك���م الصالح والحكام‬

‫العدد‪38:‬‬ ‫السنة التاسعة‬ ‫مستشهدا بالتاريخ وبسيرة الرسول ‪ ‬وبآيات القرآن الكريم‪.‬‬ ‫ً‬ ‫(سبتمبر ‪ -‬أكتوبر) ‪2013‬‬ ‫صح جس���د األمة وس���لم‪ ،‬فلم تعد‬ ‫صحيح���ا‬ ‫ف���إذا كان "العق���ل الجمع���ي" لألم���ة‬ ‫ً‬ ‫وس���الما‪َّ ،‬‬ ‫ً‬ ‫الصالحي���ن‪ .‬وه���ذا ه���و خالصة ما س���نطالعه في المقال الرئي���س لـ"فتح اهلل كولن" "الش���ورى"‪،‬‬

‫مقول���ة "العقل الس���ليم في الجس���م الس���ليم" مقبولة اليوم‪ .‬فق���د أثبتت األبحاث النفس���ية خالل‬

‫العق���ود األخي���رة‪ ،‬عل���ى أن س���قم الجس���م م���ن س���قم العق���ل‪ ،‬وأن م���رض الجس���م م���ن مرض‬ ‫العق���ل‪ ،‬فانقلب���ت المقول���ة ‪-‬كما يق���ول "فؤاد البنا"‪ -‬إلى "الجس���م الس���ليم في العقل الس���ليم"‪.‬‬ ‫أم���ا العال���م الجليل "علي جمعة"‪ ،‬فهو يرى أن حضارة المس���لمين قامت على "العلم"‪ ،‬وال‬

‫ُي ْر َج���ى له���ا الي���وم قيام إال إذا اس���تطاعت أن تكون مس���تولدة هي بنفس���ها للعل���وم‪ ،‬من أجل أن‬ ‫ثمة تفاعل مبدع م���ع العصر الحديث يؤهلها الحتالل مكانها المرموق بين األمم‪ .‬وفي‬ ‫يك���ون َّ‬

‫رؤي���ة اس���تعراضية لكتاب "الضاربون في األرض" لــ"أديب الدب���اغ" يمضي "عماد الدين خليل"‬

‫وم���ن خالل الكتاب‪ -‬إلى اس���تعراض بعض أفكار "فتح اهلل كول���ن" الذي جاءت أكثر مقاالته‬‫في تجلية ش���ؤونه الفكرية ومش���اعره اإليمانية‪ .‬وفي "تأمالت في النبي والنبوات"‪ ،‬يرى "أديب‬ ‫لحل إشكاالت‬ ‫الدباغ" في هذا المقال أن البشرية أحوج ما تكون اليوم إلى العودة إلى النبوات ّ‬

‫الوجود اإلنس���اني التي ال زالت مس���تعصية على عقول الفحول من أس���اطين الحضارة القائمة‪.‬‬ ‫وس َبحات اإللهام‪ ،‬يستعرض لنا "سلمان العودة" بعض نماذج إلهامية واقعية‬ ‫وعن "اإللهام" َ‬

‫كان���ت ق���د حدثت ألش���خاص‪ ،‬وهي قد تح���دث كل يوم ألولئ���ك الذين يس���تعدون لها بصفاء‬

‫أذهانهم وأرواحهم‪ .‬وفي الختام يتس���اءل "س���مير بودينار" بلهفه المش���فق‪ ،‬ما الذي يحدث في‬ ‫عالمنا من فوران مخيف‪ ،‬وما هي أسبابه ودواعيه وخلفياته‪ ،‬وإلى أين ستأخذنا هذه األحداث‪،‬‬

‫وكيف نس���تطيع أن نفيد من كل ما مر بنا من تجارب خالل عش���رات الس���نين الماضية‪ ،‬وكيف‬ ‫َّ‬ ‫نستطيع النهوض من تحت ركامات هذه السنين؟‬

‫وفي مس���ار "العقل الجمعي" الذي اختارته "حراء ركيزة من ركائر خطها الثقافي والفكري‪،‬‬

‫فال يفوتنا أن ننوه بمؤتمر "اإلجماع والوعي الجمعي" الذي نظمته مجلتا "حراء" و"يني أميت"‬

‫ض���م خيرة علماء األم���ة ومثقفيها من ثمانين‬ ‫ف���ي ‪ 28-27‬أبري���ل ‪ 2013‬في إس���طنبول‪ ،‬والذي‬ ‫ّ‬

‫دولة في العالم‪.‬‬

‫وختام���ا نس���أله تعال���ى أن يجعل من هذا "العق���ل الجمعي" بمواضيع���ه المختلفة واهتماماته‬ ‫ً‬

‫المتشبعة على صفحات "حراء" موضع نظر المثقفين المهتمين بشؤون أمتهم ودينهم‪.‬‬


‫العدد‪ / 38 :‬السنة التاسعة ‪( /‬سبتمرب ‪ -‬أكتوبر) ‪2013‬‬ ‫مجلة علمية فكرية ثقافية تصدر كل شهرين من إسطنبول‬

‫‪w w w. h i r a m a g a z i n e . c o m‬‬

‫القلب األخضر‬ ‫يا صاحب القلب األخضر‪ِ ،‬س ْر‪..‬‬ ‫ُح َّث الخطى‪ ..‬ال تتوقف‪..‬‬ ‫ستخضر‪ ،‬والشجر سيورق‪،‬‬ ‫فاألرض من ُخطاك‬ ‫ّ‬ ‫والحدائق ستزهر‪ ،‬وشذى الربيع سيفوح‪..‬‬ ‫تقل متى وكيف؟‬ ‫ال ْ‬ ‫ْ‬ ‫"كن فيكون"‪.‬‬ ‫اترك "متى وكيف" لصاحب ْ‬ ‫***‬

‫الشورى‬

‫رسائل حية من عالم المسلمين‬

‫مؤتمر "اإلجماع والوعي الجمعي"‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.