طوعا ال كرها حشود بال غاية تائهون، في ِشباك الحيرة يتخبطون، ينجم في أراضيهم القاحلة، فكر ُ ال َ إلهام يظلل بساتينهم الجرداء، وال َ ويكأن الخطوب نحو المحراب تسوقهم، ّ َ مدلهمة.. في المحطة األخيرة حيث األزمات ّ ***
39
د .محمد باباعمي
• مفهوم الزمان في الفكر الكوني لفتح اهلل كولن..
• القوى الزمانية الثالث :استخداماتها في التشكيل الحضاري.. والبناء العقلي ..واالنبعاث الوجداني والروحي.. • مفهوم الزمن ..كوجود احتوائي لوجود الكون واإلنسان.. • االرتباط المصيري بين عقل اإلنسان وعقل الزمن..
• آثار مفهوم :الخلود والزوال ..البقاء والفناء ..األبد واألزل..
في نتاجات فكر "كولن"..
مركز التوزيع فرع القاهرة 7 :ش البرامكة ،الحي السابع ،مدينة نصر -القاهرة /مصر
تليفون وفاكس +20226134402-5 :
الهاتف الجوال +201000780841 :
w w w. d a r a l n i l e . c o m
التصور العام
جملة علمية فكرية ثقافية تصدر كل شهرين عن:
• حراء جملة علمية فكرية ثقافية تعىن بالعلوم الطبيعية واإلنسانية واالجتماعية وحتاور أسرار النفس البشرية وآفاق الكون الشاسعة باملنظور القرآين اإلمياين يف تآلف وتناسب بني العلم واإلميان ،والعقل والقلب ،والفكر والواقع. • جتمع بني األصالة واملعاصرة وتعتمد الوسطية يف فهم اإلسالم وفهم الواقع ،مع البعد عن اإلفراط والتفريط. • تؤمن باالنفتاح على اآلخر ،واحلوار البناء واهلادئ فيما يصب لصاحل اإلنسانية. • تسعى إىل املوازنة بني العلمية يف املضمون واجلمالية يف الشكل وأسلوب العرض ،ومن مث تدعو إىل معاجلة املواد مبهنية عالية مع التبسيط ومراعاة اجلوانب األدبية واجلمالية يف الكتابة.
صاحب االمتياز
شروط النشر
املشرف العام
• أن يكون النص املرسل جديدا مل يسبق نشره. • أال يزيد حجم النص على 2000كلمة كحد أقصى ،وللمجلة أن تلخص أو ختتصر النصوص اليت تتجاوز احلد املطلوب. • يرجى من الكاتب الذي مل يسبق له النشر يف اجمللة إرسال نبذة خمتصرة عن سريته الذاتية. • ختضع األعمال املعروضة للنشر ملوافقة هيئة التحرير ،وهليئة التحرير أن تطلب من الكاتب إجراء أي تعديل على املادة املقدمة قبل إجازهتا للنشر. • اجمللة غري ملزمة بإعادة النصوص إىل أصحاهبا نشرت أم مل تنشر ،وتلتزم بإبالغ أصحاهبا بقبول النشر ،وال تلتزم بإبداء أسباب عدم النشر. • حتتفظ اجمللة حبقها يف نشر النصوص وفق خطة التحرير وحسب التوقيت الذي تراه مناسبا. تعب بالضرورة عن رأي اجمللة. تعب عن آراء ُكتَّاهبا ،وال رِّ • النصوص اليت تنشر يف اجمللة رِّ مجا إىل أي لغة أخرى، • للمجلة حق إعادة نشر النص منفصلاً أو ضمن جمموعة من البحوث ،بلغته األصلية أو مرت ً دون حاجة إىل استئذان صاحب النص. • جملة حراء ال متانع يف النقل أو االقتباس عنها شريطة ذكر املصدر. يرجى إرسال مجيع املشاركات إىل هيئة حترير اجمللة على العنوان اآليت:
hira@hiramagazine.com YEMEN دار النشر للجامعات الجمهورية اليمنية ،صنعاء ،الخط الدائري الغربي، أمام الجامعة القديمة Phone: +967 1 440144 GSM: +967 711518611 ALGERIA Bois des Cars 1 Villa Nº68 Dely Brahim GSM: +213 770 26 00 27 SUDAN مركز دار النيل ،مكتب اخلرطوم أركويت مربع 48منـزل رقم - 31اخلرطوم -السودان Phone: 0024 999 559 92 26 - 0024 915 522 24 69 hirasudan@hotmail.com JORDAN شركة زوزك/مشيساين شارع عبد احلميد شرف ،بناية رقم61: عمان/األردن. Phone: +962 656 064 44 GSM: +962 775 935 756 hirajordan@woxmail.com UNITED ARAB EMIRATES دار الفقيه للنشر والتوزيع ص.ب 6677 .أبو ظبي Phone: +971 266 789920 MAURITANIA Phone: +2223014264
USA Tughra Books 345 Clifton Ave., Clifton, NJ, 07011, USA Phone:+1 732 868 0210 Fax:+1 732 868 0211 SAUDI ARABIA الوطنية للتوزيع Phone: +966 1 4871414 املكتب الرئيسي :شارع التخصصي مع تقاطع شارع األمري سلطان بن عبد العزيز عمارة فيصل السيار ص.ب 68761 :الرياض11537 : اجلوال00966504358213 : saudia@hiramagazine.com abdallahi7@hotmail.com Phone-Fax: +966 1 2815226 MOROCCO الدار البيضاء 70زنقة سجلماسة Société Arabo-Africaine de Distribution, )d'Edition et de Presse (Sapress 70, rue de Sijilmassa, 20300 Casablanca / Morocco Phone: +212 22 24 92 00 EGYPT 37شارع د .عبد الشافي محمد -الحي السابع ،مدينة نصر -القاهرة. هاتف+201119482609 - +201065523089 : hiraegypt@gmail.com SYRIA GSM: +963 955 411 990
Işık Yayıncılık Ticaret A.Ş İstanbul / Türkiye
مصطفى طلعت قاطريجي أوغلو
نوزاد صواش
nsavas@hiramagazine.com
رئيس التحرير هانئ رسالن
مدير التحرير أجري أشيوك
املخرج الفين مراد عرباجي
املركز الرئيس HIRA MAGAZINE Kısıklı Mah. Meltem Sok. No:5 34676 Üsküdar İstanbul / Turkey Phone: +902163186011 Fax: +902164224140 hira@hiramagazine.com
مركز التوزيع 7ش الربامكة -احلي السابع -م.نصر/القاهرة تليفون وفاكس+20226134402-5 : اهلاتف اجلوال +201004871038 : مجهورية مصر العربية
نوع النشر جملة دورية دولية
Yayın Türü Yaygın Süreli
الطباعة
رقم اإليداع
1879-1306
وه���و "ما رس���م ليحت���ذى" ،وبي���ن غيرها من أن���واع التصرفات
المح���ددة لرس���التها وقيمه���ا ومقاصدها الكبرى ،بينم���ا الثانية
في القرن الثالث الهجري في كتابه "تأويل مختلف الحديث"،
وبرامج إدارتها وسياساتها في كل عصر.
الكثي���رة التي تعرض لتصنيفه���ا الفقهاء منذ ابن قتيبة الدينوري حي���ث ذكرت تل���ك التصرف���ات وأنواعها كما ف���ي كتاب العز ب���ن عبد الس�ل�ام "قواعد األح���كام في مصالح األن���ام" .ولعل
الفضل في معرفتنا بشكل دقيق ومفصل لهذا المبحث ،يرجع لإلم���ام القرافي في كتاب���ه المعلمة "الفروق" .ففي تلك الكتب
وغيره���ا تعديد لكثي���ر من أنواع التصرفات النبوية من قبيل "ما كان منها برسم الرسالة ،وال ُفتيا ،والقضاء ،واإلمامة ،والجبلية،
والخاص���ة ،"...وتعديده���م األدل���ة على ذلك ،ومنها إش���اراته
إل���ى ذلك بنفس���ه ،كما هو الحال ف���ي حديث أكل الضب، وحدي���ث تأبير النخل ،حتى قال اإلمام الطاهر بن عاش���ور في
كتابه "مقاصد الشريعة"" :وقد كان الصحابة يفرقون بين ما كان
صادرا عن مقام التشريع ،وما كان من أوامر الرسول صادرا ً ً ف���ي غير مقام التش���ريع ،وإن أش���كل عليهم أمر س���ألوا عنه". والخالصة أن���ه ال توجد حتى في النموذج المثالي للدولة
في اإلس�ل�ام وهو الدول���ة النبوية ،أدنى عالق���ة بمفهوم الدولة
الديني���ة كما تبلور مع نظري���ة الطبيعة اإللهية للحاكم أو نظرية الحق اإللهي ،ومصداق ذلك هو هذا التمييز الدقيق بين أنواع التصرف���ات النبوي���ة ،الذي تح���دث عنه العلم���اء ،مفصلين في
س���مات التصرف���ات باإلمام���ة وهي أنها من قبيل "التش���ريعات
الجزئي���ة" كم���ا يق���ول ابن عاش���ور ،وأنه���ا مرتبط���ة بالمصلحة العام���ة ،وأنه���ا اجتهادية مرتبطة بما يناس���ب الزم���ان والحال،
وأنها واردة في غير األمور الدينية المحضة.
وعلي���ه فإن الش���رعية الديني���ة إنما تكون لمب���دأ قيام الدولة
والحف���اظ عليه���ا كمؤسس���ة ،ال لألفراد الذين أس���بغت عليهم
صفات التقديس وحصانة التأييد اإللهي في التجربة التاريخية الغربية أساس���ا ،وهو ما يؤكد أن الديني والمدني اللذين صارا ً في العهد النبوي بناء واحدا بالنظر إلى طبيعة النبوة المس���ددة ً
بالوحي له ،قد تمايزا في غيره بالضرورة ،وهو تمايز ال يمس ش���رعية الدولة في مجتمع المس���لمين في شيء ،باعتبار
الش���رعية مرك���زة في مبدأ قيام الدول���ة وتحقيقها مقاصد الدين وسياسة حياة الناس بما يصلحها في كل عصر.
وهك���ذا تتج���اوز الدول���ة إش���كالية الص���راع بين الس���متين
الديني���ة والمدني���ة ،عل���ى اعتبار األول���ى مركزة ف���ي مرجعيتها
متصلة بطبيعة السلطة السياسية الحاكمة فيها ،وطبيعة قراراتها لق���د عب���رت الدول���ة باعتباره���ا "البني���ة الس���لطوية للنظ���ام
السياس���ي" ف���ي الس���ياق الحض���اري اإلس�ل�امي ع���ن الوح���دة
المعنوي���ة لألم���ة ،وعن مقوم���ات وجودها الث�ل�اث الضرورية
الس���تمرارها وه���ي الثقاف���ي واالجتماعي واالقتص���ادي ،التي تمث���ل الدولة من خاللها األمة/المجتمع ،وتجس���د مصالحها
وتيسر لها أداء رسالة شهادتها على األمم.
وه���ذا ما به العبرة من ش���كل الدول���ة وهويتها في عصرنا،
أي أن تق���وم بأدوارها في التعبي���ر عن األمة/المجتمع ،فتكون ال ال ،فتتسق مع مسار توحيده ،وتعمل شك ً قانونيا يعبر عنه فع ً ًّ
عل���ى تعضي���د ارتباطه بمجال���ه المجتمعي األوس���ع ،وتحمي
كيانه من المخاطر ،وتيس���ر له أداء أدواره التي ال يمكن لغيره القيام بها بما في ذلك مؤسسة الدولة نفسها ،فتحفظ عليه بهذا حياته وفعاليته ،وتنظم حقوق أفراده.
أم���ا هذا الصراع المفتعل بي���ن الدينية والمدنية في الدولة،
فق���د أحس���ن أح���د العلم���اء المعاصريي���ن "المستش���ار ط���ارق البش���ري" "في الجدل حول :المدنية والديني���ة" ،مقال بجريدة هه بالص���ورة الش���عرية التي ش���ب ُ الش���روق (" :)2011/11/7إذ ّ أورده���ا موالن���ا "جالل الدين الرومي" وه���و يحكي في ديوانه
"المثنوي" عن قصة أستاذ طلب من تلميذه "األحول" أن يأتي
ل���ه بإبريق الم���اء الخاص به ،ولك���ن التلميذ نظ���ر إلى اإلبريق الح َول ل���ه أنه إبريقان اثنان ،واحت���ار في اختيار أيهما فص���وره َ ّ يحم���ل ،ثم هداه فكره أن يكس���ر أحدهم���ا ويأخذ اآلخر ،فلما
كس���ر أحد اإلبريقين لم يجد اآلخر ...ثم استطرد معل ًقا :يبدو لي أن هذا تقريبا ما نصنعه اآلن في حديثنا العجيب عن مدنية ً
الدول���ة أو دينية الدولة ،ونتس���اءل ونختلف ف���ي دولة دينية أو مدني���ة ،ونظنهما دولتين نختار بينهما ،بينما هما ش���يء واحد،
حطمنا ما نظنه واحدة منهما فلن نجد األخرى". ونحن إذا ّ
لك���ن أن���ى لنا تجاوز ه���ذه الظن���ون ،والوص���ول إلى وعي
مش���ترك بمفاهيمن���ا وقضايانا الكبرى ،في ح���رص على تقوية
اإلجماع حولها ،وتوس���يع دائرة التوافق على المش���ترك ،دون إدراك الطريق إلى "الوعي الجمعي"؟! وتلك قضية أخرى.
(*) مدير مركز الدراسات والبحوث اإلنسانية واالجتماعية -وجدة /المغرب.
63
السنة التاسعة -العدد (2013 )39
يذك���ر كلم���ة "يث���رب" قط ،كم���ا وردت
روايات ع���ن نهيه عن تس���مية "المدينة"
"يثرب���ا" ،م���ن قبي���ل م���ا رواه البخ���اري ً ِ ومسلم" :يقولون َي ْث ِر ُب! وهي ا ْل َمد َين ُة"، يثربا واإلمام أحمد" :من س���مى المدينة ً فليس���تغفر ثال ًثا" .وما يروى عنه من
أنه دع���ى المس���لمين جميع���ا لاللتحاق ً به���ا ...وكان���ت تل���ك إش���ارة واضح���ة
إلى الس���عي نح���و إقامة النظ���ام الحياتي واالجتماع���ي على مقتض���ى "المدينة". تمام���ا ولع���ل ه���ذا األم���ر الجدي���د ً
بالنس���بة للحي���اة ف���ي الجزي���زة العربي���ة،
�إن ال�رشعي��ة الديني��ة �إمن��ا تك��ون ملب��د�أ قي��ام الدولة واحلف��اظ عليها كم�ؤ�س�سة ،ال للأفراد الذين �أ�سبغت عليهم �ص��فات التقدي�س وح�صانة الت�أييد الإلهي يف التجربة التاريخية أ�سا�س��ا ،وهو م��ا ي�ؤكد �أن الغربي��ة � ً الدين��ي وامل��دين اللذي��ن �ص��ارا يف العهد النبوي بناء واح ًدا بالنظر �إىل طبيعة النبوة امل�سددة بالوحي له ، ق��د متاي��زا يف غ�يره بال�رضورة.
يوضح الف���رق الجوهري بي���ن مدلولي المدنية المش���تق من المدينة في كل من
وامتدادات���ه األربع���ة ،وه���ي :العالق���ات االجتماعي���ة الجديدة " المؤاخاة ،تنظيم
العم���ل ،التخص���ص ،حمل���ة التعلي���م". والنظ���ام االقتصادي "اس���تعمال النقود،
النهي عن المقايضة ،المداخيل الجبائية
القارة ."...والرابطة السياس���ية "مرجعية الحك���م ،رئيس الدول���ة ،رابطة المواطنة ف���ي إقلي���م المدين���ة ."...والمقتضي���ات القانونية للس���يادة وما يترت���ب عليها في العالق���ات الخارجية "تنظي���م العالقات
بي���ن القبائ���ل ،اتفاقي���ة الدفاع المش���ترك معها ،مب���دأ االنضمام إل���ى المعاهدات
بعد توقيعها."...
لق���د كان���ت مرجعي���ة الدول���ة إذن،
الس���ياق اإلس�ل�امي والغرب���ي .فف���ي األول هي تتويج لمس���ار
مرجعي���ة ديني���ة أساس���ها مبادئ الوح���ي المنزل ،ورئيس���ها هو
وهكذا نش���أت المدين���ة المنورة ،ث���م الكوفة ودمش���ق وبغداد
الباحثين يش���ير إلى التالزم الحاصل بين نزول الرس���الة وفكرة
التأسيس الذي تحكمه قيم الوحي المطلقة ،وقوانين شريعته،
والقاهرة وإسطنبول والقيروان وفاس ...حواضر أصلية تتبعها وتش���ريعيا ثقافيا وتنظيميا، ًّ مدن وأقاليم أخرى ،وتس���تمد منها ًّ ًّ
على أس���اس مرجعية ثقافي���ة وحضارية حاكمة .أما في الثاني،
فإن المدينة هي مصدر قيم الدولة ،ألن هذه ناتجة عن وجود المدينة في األصل ،ولعل اش���تقاق مفهوم الحضارة من كلمة
" "Civitasالدال���ة عل���ى المدينة ،يؤكد أنها ظل���ت طيلة مراحلها
الكب���رى في الغرب "الثالث كم���ا يفصل "المبارد " (�Eric Lam
)bardوه���ي :المدين���ة م���ا قبل الصناعي���ة ،والمدين���ة الصناعية،
النب���ي ،وإقليمها المركزي هو مدينته المنورة .بل إن بعض
الدولة حتى قبل الهجرة ،وأن بعض مقدمات المطلب السياسي
للدع���وة اإلس�ل�امية تجلت في المرحلة المكي���ة كذلك "مثال:
إريك وولف (" ،)Eric Wolfالتنظيم االجتماعي في مكة وأصول
اإلسالم"، مترجما ضمن "أنثروبولوجيا اإلسالم" للدكتور أبو ً
فص���ل العالمة عبد الحي الكتاني في بك���ر أحمد باقادر" .وقد ّ
كتابه :نظام الحكومة النبوية المسمى التراتيب اإلدارية ،في كافة جوانب التدبير المدني للدولة في تفصيل عجيب للمؤسسات
والمه���ام األساس���ية والتفصيلية واالختصاص���ات والتكاليف.
المدينة الميتروبوليتان ذات المركز والهوامش" نواة الحضارة
لكن السؤال في كل ما سبق ،هو عن التالزم بين الصفتين
الحضاري���ة اإلس�ل�امية تتوي���ج لمس���ار التأس���يس ،ب���ل إن ابن
زم���ن المبعث النبوي تنس���حب على الس���لطة الحاكمة في كل
ومص���در قيمها ومؤش���ر رقيه���ا المدني .بينما ه���ي في التجربة
خلدون يعتبرها مؤذنة بانهيار العمران ونهاية عمر الدولة ،لما غالبا من الترف الملهي عن واجبات الرسالة. يالزمها ً
الدينية والمدنية في الدولة ،وهل شرعية دولة اإلسالم األولى عصر؟ ولعل المدخل إلى الجواب يكون من النظر في الصفة
الت���ي حك���م بها الرس���ول دولة المدين���ة ،أي الوصف الذي
بع���د تحديد مج���ال الدولة ومركز إقليمه���ا "المدينة" ،جاء
تولى به اإلمامة ،ومن هنا أهمية النظر في ما يسمى عند الفقهاء
نظام���ا للعالق���ات القانوني���ة داخ���ل اإلقلي���م ،بين الس���كان من ً
ودولتهم ،وهو مبحث يقصد من خالله التمييز في تصرفاته
العق���د الدس���توري مع صحيف���ة أو وثيقة المدين���ة التي مثلت المهاجري���ن واألنص���ار وغيره���م "مجموع���ة الق���رى والقبائل
والحص���ون المس���ماة س���اب ًقا يث���رب" ،بأبع���اده الدس���تورية السنة التاسعة -العدد (2013 )39
62
إماما للمس���لمين بتصرف���ات النب���ي باإلمام���ة ،أي باعتب���اره ً
عامة ،وهي "كل ما صدر عنه من التدابير العملية في أمور ال"؛ ما بين تصرفات���ه بالنبوة الدي���ن والدني���ا س���واء لالقت���داء أو ً
للمسلمين كما هو حالها في الغرب خالل القرورن الوسطى ،وإن
"ردة وال أبا بكر لها ،أبو الحس���ن الندوي ،مكتبة الس���داوي -
حد التقديس الذي بلغ في بعض مراحله مبلغ تأليه الحاكم.
الدينية للدولة في اإلسالم .وذلك حين أشار إلى أن المرتدين
كان هنالك استثناء م ّثله الحكم الفاطمي الذي غال في اإلمامة والنظري���ة الثاني���ة األكثر ش���هرة ،هي نظرية الح���ق اإللهي،
وخالصته���ا أن الحاك���م هو اختيار إله���ي ال مجال لرد أمره أو التعقيب على حكمه ،س���واء تم ذلك االختيار بش���كل مباش���ر كما أكدت عليه الكنيسة في مرحلة صراعها كسلطة دينية مع
السلطة الزمنية ،أو بشكل غير مباشر من خالل القول أن األفراد
مسير يجسد االختيار اإللهي له. إنما يختارون الحاكم بش���كل َّ وم���ن المع���روف أن ه���ذه النظري���ات وما ترت���ب عليها من
اس���تبداد باس���م الدي���ن ،كان الباع���ث لظه���ور مفه���وم الدول���ة المدني���ة في الغرب ،وتطورالفكر الفلس���في والسياس���ي خالل
ثالث���ة قرون ف���ي اتجاه "نظري���ة الدولة المدنية" كم���ا أصل لها
المكتب���ة المكية ،"1992تؤكد هذه المالحظة حول الش���رعية
ف���ي عهد أبي بكر الصديق ل���م يرفض كثير منهم الجوانب ردتهم التعبدي���ة ،إنما كان���ت ّ العقدي���ة ف���ي الدين وال ش���عائره ّ ال في رفض���ا لالجتم���اع السياس���ي اإلس�ل�امي ،مم ّث ً باألس���اس ً واجبات المواطنة ،والخضوع لسلطة الدولة المركزية بالمدينة،
فيما يشبه ما يسمى في االصطالح المعاصر بـ"التمرد المسلح".
وللمتأمل أن يرى كيف استمر هذا اإلجماع على الشرعية
الديني���ة للدولة -بهذا المعنى -في مجتمعات المس���لمين على
م���دار تاريخهم ،وحت���ى نهاية الربع األول من القرن الماضي، ال ،كيف كان اإلجماع على تأكيد المبدأ ،ونقض حين رأينا مث ً جمه���ور العلم���اء ألطروح���ة الش���يخ عل���ي عب���د ال���رازق التي
"ميكيافيل���ي" من���ذ بداية القرن الخامس عش���ر ،و"جون بودان"
حاولت مخالفته ،بالقول بعدم وجود أس���اس لش���رعية الدولة
القرن الس���ابع عش���ر ،و"باروخ اس���بينوزا" أواخر القرن الثامن
وأصول الحكم".
الثامن عشر الميالديين.
لم تنس���حب في االتجاه العام لألمة على ش���خص الخليفة أو
هذا في التجربة الحضارية الغربية ،أما في الس���ياق المجتمعي
وآراءه عصم���ة ديني���ة .وهذا بوجه خاص ،غاية ما قصدت إليه
( )Bodinأواس���ط القرن الس���ادس عش���ر ،و"توماس هوبز" بداية
عش���ر ،ثم "جون لوك" أواخر القرن السابع عشر وبداية القرن
مدنية الدولة
اإلس�ل�امي ،فق���د كان االتج���اه الع���ام إلى تأكيد الس���مة الدينية
للدولة .ومن هنا فالفقه السياسي حين يبحث في شرعية الدولة في اإلسالم ،فإنه يقيمها على دليلي التأسيس النبوي واإلجماع
التاريخ���ي ،حت���ى إنه لم يخالف في الوجوب الش���رعي إلقامة تاريخيا س���وى قلة قليلة الدول���ة وضرورتها فيم���ا هو معروف ًّ
جدا خرجت على اإلجماع في هذا المجال ،هي فرقة صغيرة ًّ من فرق الخوارج وواحد من علماء المعتزلة .وهكذا تبلورت
نظري���ة اإلمام���ة خالل القرنين الثالث والراب���ع الهجريين لدى
االتج���اه العام لألمة ،فيما يس���ميه الباحثون "النظرية السياس���ية
االتباعية" القائمة على مبدأ اإلجماع كأساس للنظام السياسي ومصدر لشرعيته.
والمعن���ى هن���ا أن الش���رعية ه���ي للدول���ة كمؤسس���ة واجبة
ديني���ا ،وحفظ مصال���ح المجتمع التأس���يس والقي���ام بدوره���ا ًّ
الكلية في أي عصر.
ولعل مالحظة العالمة "الندوي" في رسالته الصغيرة والهامة
في اإلس�ل�ام ،التي ضمنها سنة 1925م كتابه الشهير "اإلسالم غي���ر أن هذه الش���رعية الدينية الحاس���مة لمؤسس���ة الدولة،
األمي���ر ،بم���ا ال يضفي على وضعه قداس���ة ،وال عل���ى قراراته
نظرية مدنية الدولة كما س���بقت اإلش���ارة ،بما يحقق مش���اركة
الن���اس في تدبير الش���أن الع���ام من خالل التعبي���ر عن آراءهم، وواجب الحاكم في استش���ارتهم واالس���تعانة بتلك اآلراء ،بل تماما كما طلبه إياها منهم لعلمه أن ليس لرأيه عصمة دونهمً ،
نق���رأ في الدع���وة الصريحة للخليفة الراش���د األول موجها ً
كالمه لجمهور األمة" :إن محمدا قد مضى بسبيله ،والبد لهذا ً
األمر من قائم يقوم به ،فانظروا وهاتوا آراءكم"
(صحيح البخاري،
كتاب فضائل الصحابة).
لق���د اس���تخدم الق���رآن الكريم م���ادة الدولة في آي���ة الفيء ون ُدو َل ًة َبي َن ا َ أل ْغ ِن َيا ِء ِم ْن ُك ْم. ك ْي َ مطلع سورة الحشرَ : ال َي ُك َ ْ غي���ر أن الالفت في س���ياق البحث عن مفه���وم الدولة المدنية،
"م َد َن" إلى أن نجد أن الوصف الذي يشير في األصل اللغوي َ
االس���تقرار في المكان والتحضر فيه ليصبح "مدينة" ،قد اقترن بتأسيس الدولة في اإلسالم ،حيث أطلق النبي اسم "المدينة" عل���ى "يثرب" "مركز إقلي���م الدولة" .ويروى عنه أنه كان ال
61
السنة التاسعة -العدد (2013 )39
والقضاي���ا المش���كلة عل���ى أه���ل كل
وم���ا أش���د ما ُيث���ار حول���ه من نقاش���ات
ال- وخالف���ات ،دون أن نتوقف -إال قلي ً للتس���اؤل ع���ن المفهوم .وهل اإلش���ارة
إل���ى صف���ة المدني���ة ف���ي الدول���ة تعن���ي
حتما؟ وبأي تمايزها عن الصف���ة الدينية ً داللة للمدنية يتم اس���تخدامها في نعت
تحديدا؟ أهو بالداللة الفلس���فية الدول���ة ً كم���ا طرح���ه "الفارابي" ف���ي حديثه قبل خمس���ة قرون ع���ن "السياس���ة المدنية"؟ أو بالدالل���ة االجتماعية كما اس���تخدمه "ج���ون لوك" قبل ثالثة قرون في حديثه
لق��د ع�برت الدول��ة باعتبارها "البني��ة ال�س��لطوية للنظ��ام ال�سيا�سي" يف ال�سياق احل�ضاري الإ�س�لامي عن الوحدة املعنوية للأمة ،وعن مقومات وجودها الثالث ال�رضورية ال�ستمرارها وه��ي الثق��ايف واالجتماع��ي واالقت�صادي.
ع���ن "الحكوم���ة المدني���ة"؟ أم أن���ه على
خ�ل�اف ه���ذا وذاك بالدالل���ة الحضارية الت���ي قص���د إليها الش���يخ "محمد عبده"
مرحلة ،وفقرٍ في أدوات اإلبداع الالزمة
لتحقيق ذلك التجاوب .وليس لنوع من
التقلي���د في هذا المق���ام مزية على آخر، تقلي���دا لآلخر الماض���ي ،أم أكان تقليدا ً ً لآلخر الحاضر.
ينض���اف إل���ى م���ا س���بق عام���ل آخر
لالضط���راب ،خ���اص بمنه���ج النظ���ر
إل���ى مفه���وم الدول���ة وعالقته���ا بالدي���ن
خاص���ة ،وب���كل م���ا ل���ه عالق���ة بمفاهيم الفك���ر السياس���ي ف���ي حضوره���ا
وإلحاحه���ا عل���ى العقل المس���لم اليوم،
س���واء بس���بب ع���ودة النق���اش المتص���ل بالهوي���ة وال���ذات الحضاري���ة الجامع���ة
قب���ل قرن من الزمان وهو يكتب سلس���لة مقاالته التي جمعت
بق���وة ،وم���ا يترتب عليهما من إش���كاالت ف���ي تدبير االجتماع
لعل ما يجعل مفهوم الدولة المدنية في التصور اإلسالمي
س���احة المج���ال العام على امت���داد عالم المس���لمين بإلحاحها
• أولهم���ا :اإلس���قاط التاريخ���ي لدالل���ة المصطل���ح كم���ا
لق���د ب���ات من الض���روري الي���وم ،محاولة فض االش���تباك
على ش���بكة المفاهيم الراهنة ،باستخدام المصطلح التاريخي
والممارسة معا ،وليس الباعث على ذلك هو الدافع الفكري
تحت عنوان "اإلسالم بين العلم والمدنية"؟!
إشكاليا ،هو تظافر عاملين أساسيين: مفهوما المعاصر ً ًّ
تش���كلت ف���ي االس���تخدام خ�ل�ال مرحل���ة معينة م���ن مراحله،
للدالل���ة عل���ى المفهوم المعاصر ،في تجاه���ل لما اعترى هذه
الداللة من تغيرات ،وما شهدته سيرة المصطلح من تطورات وتحوالت ،وكيف انتهىت به التواضعات إلى مدلوله المعاصر
أو مدلوالته.
اإلس�ل�امي المعاصر ،أو بس���بب ضغط التحوالت الجارية في عل���ى الفك���ر الجمع���ي وإثارته���ا المش���اعر عل���ى الس���واء. الحاص���ل ح���ول مفه���وم الدول���ة المدنية ف���ي مجال���ي التنظير
فحس���ب ،بل هي اآلثار المترتبة ف���ي الواقع بوجه خاص عن ذل���ك االش���تباك ،ما بي���ن القول ب���أن المدنية ف���ي الدولة تعني
/نقيض���ا للصف���ة الدينية بكاف���ة مس���توياتها "الثيوقراطي" مقاب ً ال ً ( )Theocracyالذي يتأس���س عل���ى مفهوم الحكم اإللهي (حكم
• وثانيهما :استيراد المفهوم من بيئة حضارية أخرى وسياق
اآلله���ة) عن���د اليون���ان ..ومس���توى المرجعي���ة كذل���ك بالرب���ط
وتراثه ومش���كالته التي أنتجتها تلك البيئة وسياقاتها .ومن ثم
بالدين ولو كان ذلك في مستوى المرجعية ،التي تعكس عادة
محم�ل�ا بدالالت���ه وإيحاءاته، جاهزا معرف���ي وثقاف���ي مغاي���ر، ً ً
اس���تخدامه ف���ي المج���ال التداولي العربي واإلس�ل�امي ،وكأنه مفهوم مطلق في داللته ،متجاوز إلش���كاالت نشأته الحضارية والتاريخي���ة ،ق���ادر على التفس���ير ف���ي أي مجال لغ���وي أو بيئة
اجتماعية أو سياق حضاري.
بش���كل َش���رطي -بي���ن مدنية الدولة وبين قط���ع أي صلة لهاهوي���ة الدول���ة باعتبارها خالص���ة لس���ياقها االجتماعي وقيمها
ال عن بعض المعاني الخاصة للمدنية في المؤسس���ة .هذا فض ً ال. الدولة كمقابل للعسكرية مث ً
ينطلق مفهوم الدولة الدينية في الفكر السياسي من نظريتين
والحقيقة أن كال األمرين؛ اإلسقاط التاريخي ،واالستيراد
رئيسيتين هما :نظرية الطبيعة اإللهية للحاكم ،القائمة على أنه
االجتهاد في التجاوب مع األس���ئلة المس���تجدة في أي عصر،
يحكمهم بنفس���ه ،وهي نظرية لم تش���ع ف���ي التجربة التاريخية
الحض���اري ،إن هم���ا إال تقلي���د ي���دل عل���ى فق���د الق���درة على
السنة التاسعة -العدد (2013 )39
60
حيا وسط الناس يجس���د اإلله في شخصه ،فيكون "اهلل" حينئذ ًّ
قضايا فكرية د .سمير بودينار*
الدولة المدنية
كما مثلها عصر المبعث النبوي دينا إذا نظرت إليها من ناحية ،وتبدو دولة إذا نظرنا إليها من ناحية أخرى". "الحقيقة في نظر اإلسالم هي بعينها تبدو ً (محمد إقبال). واح���دة م���ن المش���كالت الرئيس���ة ف���ي منهج
القضايا المتصلة بحركة الحياة ،تحقي ًقا للغاية الدينية في واقع
بالمفاهيم .وحين يتعلق األمر بمنهج المعرفة
ولعل قضية الدولة في اإلس�ل�ام عامة -سواء في نموذجها
المعرف���ة ،ه���ي قضيةالمصطلح���ات وعالقتها الديني���ة المتصل���ة بقضاي���ا الدي���ن وقيم���ه وأحكامه ،ف���إن هذه
المش���كلة تزداد حدة وتفاقم���ا .ذلك أن مقتضى الفهم في هذا ً المق���ام ،ه���و إدراك العالقة بين مبدأ الدي���ن وواقع الحياة ،أو
منهج اس���تمداد الهدي الديني وتنزي���ل أحكامه وتعاليمه على
اإلنسان والمجتمع بكل ما يحتويه من إشكاالت وتعقيدات.
المعرفي والحض���اري أو تجربتها التاريخي���ة ،والدولة المدنية خاص���ة وعالقتها بمفه���وم "الدولة الديني���ة" -هي أحد أوضح األمثلة على حجم تلك المشكلة.
فم���ا أكث���ر م���ا ُيس���تخدم مصطل���ح الدول���ة المدني���ة اليوم،
59
السنة التاسعة -العدد (2013 )39
صل ف���ي زوايا بيتك يكون نور بيتك في الس���ماء كنور هري���رة ّ
الفضي���ل ب���ن عي���اض" :إذا ل���م تقدر عل���ى قيام اللي���ل ،وصيام
الشعراني في الفلك المشحون عن الشيخ زكريا األنصاري أنه
قال دلف الشبلي :نعسة في ألف سنة فضيحة ( )...وقالوا في
الكواكب" .ومنها أنه يطرد الداء عن الجس���د ،فقد ذكر اإلمام
ظهر على الس َحر ُيشفي السقيم" .ومنها أنه َي َ كان يقول" :نسيم َّ وجه قائمه بالنهار حسن فائق وجمال باهر لقوله عليه الصالة ٌ
النه���ار ،فاعلم أنك محروم"( ،)8وقال اإلمام القش���يري" :ولهذا
هذا المعنى:
عجبا للمحب كيف ينام ً
حس���ن وجه���ه بالنهار"، والس�ل�ام" :م���ن كث���رت صالته بالليل ُ
وقيل :المريد َأك ُله فاقة ،ونومه غلبة ،وكالمه ضرورة"(.)9
وقيل للحس���ن :ما بال المجتهدين من أحس���ن الناس وجوها،
وقال أحد الصوفية:
نورا من نوره"(.)5 فقال :ألنهم َخ َل ْوا بالرحمن فألبسهم ً
كيف يسلوا من قد بلي
فأهل اهلل وجدوا في الليل لذة وحالوة لو ُخيروا بينها وبين
ومناجاته هلل تعالى وتالوة كتابه ،فيواظب على التهجد ويغتنم
ه���دوء اللي���ل وصفاء الوق���ت بانقطاع العوائ���ق .وأقلُّ درجات الح���ب التلذذ بالخل���وة بالحبيب والتنع���م بمناجاته ،فمن كان ألذ عنده وأطيب م���ن مناجاة اهلل الن���وم واالش���تغال بالحدي���ث َّ كي���ف تص���ح محبته؟ قي���ل لـ"إبراهيم ب���ن َأ ْد َهم" وق���د نزل من
التي يذرها موالهم ،عسى ُتشفي غليلهم وتروي ظمأ قلوبهم، وكله���م أمل وش���وق في تجدي���د الصلة م���ع محبوبهم .يقول
الشيخ أحمد عز الدين البيانوني (ت1395هـ1975/م): كم قضينا في حماكم
قد نهلنا الحب راحا
به ،ومهما غلب عليه الحب واألنس صارت الخلوة والمناجاة
ش���يء س���وى طلوع الفجر ( )...وقال أبو س���ليمان :أهل الليل
في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم ،ولوال الليل ما أحببت
البقاء في الدنيا"(.)7
ن���ام اللي���ل ،ألن في���ه س���وء األدب م���ع الحضرة اإللهي���ة .قال السنة التاسعة -العدد (2013 )39
ما ُأ َح ْيـــاله وصــــــاال
58
قد قـضـيــناه غــــــرامــــا
واتركي الكون ظالما نتــــهاوى نــتــرامــــــــــى
وشـــــربــناه ُمــدامـــــــــــا لــيـــتــه وا ِ هلل دامــــــــــــــــا
(*) باح���ث بمرك���ز اإلمام الجنيد للدراس���ات واألبح���اث الصوفية المتخصصة التابع للرابطة المحمدية للعلماء /المغرب.
الهوامش ( )1إحياء علوم الدين.366/1 ، ( )2أقرب المسالك إلى موطأ اإلمام مالك ،لمحمد التهامي كنون ،ص.128: ()3 ()4
التفسير الكبير.160/30 ، التفسير الكبير.161/30 ،
( )5أقرب المسالك إلى موطأ اإلمام مالك.128 ، ( )6إحياء علوم الدين.414/3 ، ()7
وم���ن ش���دة حبهم لهذه الفت���رة من الزمن ،عاب���وا على من
وتـلـقـيـــنا المــعانـــــــــي
ال ُنــــؤديـــها كـــالمـــــــا
ودعينا فــــــي هــوانـــــا
رِ ْج���ل بعضهم بس���بب علة أصابته وهو في الصالة فلم يش���عر
فرحي به قط .وقال علي بن بكار :منذ أربعين سنة ما أحزنني
وعشقــــنا فيـــه ربعــــــــا
يا نجوم الليل غيبــــي
كان في صالته ووقع الحريق في داره فلم يشعر به ،و ُقطعت
من لــــــيال تـتــسامـــــى
وقبـــابــــا وخــــــيامــــــــــا ً
ونــعــمـــنا بـــوصـــــــــال
ويناجيه ،وقد انتهت هذه اللذة ببعضهم حتى ُيخاطب معشوقه ُ
حالتي���ن ،أفرح بظلمته إذا ج���اء ،وأغتم بفجره إذا طلع ،ما تم
ال تنمهــــا يـــا غافـــــل
يصيب���وا من األم���داد والبركات ،وينهلوا م���ن الفوائد والتحف
األنس مصير العقل والفهم كله مستغر ًقا بلذة المناجاة ،كالذي
وقيل لبعضهم :كيف الليل عليك؟ فقال :ساعة أنا فيها بين
فقم في الليل واسأل
ب���ل يتمن���ون أن يط���ول اللي���ل وال ينكش���ف الصب���اح حتى
الجب���ل :م���ن أين أقبل���ت؟ فقال :من األنس ب���اهلل ( )...وعالمة
قرة عينه يدفع بها جميع الهموم ( )...فالمحب من ال يطمئن ّ ِ ِ آم ُنوا َو َت ْط َمئ ُّن إال بمحبوبه .وقال قتادة في قوله تعالى :ا َّلذ َ ين َ ال ب ِِذ ْك ِر ا ِ وب ُه���م ب ِِذ ْك ِر ا ِ وب(الرعد ،)28:قال: هلل َأ َ هلل َت ْط َم ِئ ُّن ا ْل ُق ُل ُ ُق ُل ُ ْ هشت إليه واستأنست به"(.)6
عـن هـــواه أو يغفـــــل
قالـوا إن كنـــت صـــاد ًقا إن في الليــــل ســـــــاعـــة
نعيم الدنيا ما زادهم ذلك إال تعل ًقا ومحبة بالليل ،كيف ال وهو موعد لقاء حبيبهم وبهج ِة روحهم وقر ِة عينهم .فمن عالمات
محبة اإلنسان لربه كما يقول الغزالي" :أن يكون أنسه بالخلوة
كلُّ نوم على المحب حرام
إحياء علوم الدين.467/1 ،
( )8سير أعالم النبالء.435/8 ، ( )9الرسالة القشيرية.366 ،
وصالة الليل مسافتها
فاذهب فيها بالفهم وجي
تأت الفردوس وتبتهج
ـــــزج وبم ْـم َت ِ ال ُم ْم ِ تـزجا ُ
وتـأمــلــهــــا ومــعـانــيــهـــــا واشرب تسنيم ُم َف ِّج ِرها
فال غرو أن يحتل الليل عند المحبين
مكانة عظيمة ومنزلة كبيرة ،كيف ال وقد أقسم اهلل به في عدة مناسبات في القرآن
وال َّل ْي ِل الكريم؟! قال سبحانه وتعالىَ : ���ل وال َّل ْي ِ إ ِْذ َأ ْد َب َر(المدث���ر ،)33:وقول���هَ :
س(التكوير ،)17:وقول���ه عز من ِإ َذا َع ْس َ ���ع َ
أن المقصود من الترتيل إنما هو حضور
لقد د�أب العا�شقون على �إحياء اللي��ل ،فرتاه��م عند ان�س��دال �ش��مرون ع��ن �س��تار الظلم��ة يُ ِّ �س��اعد اجل��د ،ين�س��جون م��ن خيوط الظُلمة ورو ًدا من الو ّد، حولُون وح�شة الليل �إىل �أُن�س ويُ ِّ وقُ��رب ...فهم بذك��ر حبيبهم يتنعمون، يتل��ذّذون ،ومبناجاته ّ وعن �سواه ال يلتفتون.
وس َق(االنش���قاق)17:
قائ���لَ : وال َّل ْي ِل َو َما َ َ ���ر(الفجر،)4: ���ل ِإ َذا َي ْس ِ وال َّل ْي ِ وقول���هَ : اها(الش���مس .)4:ويكفي الليل ش���ر ًفا وال َّل ْي ِ ���ل ِإ َذا َي ْغ َش َ وقول���هَ :
وفخرا أن اإلسراء والمعراج لم يكن إال في ظالمه .فقد أكرم ً
اهلل تعال���ى في���ه حبيب���ه محمدا بال���درر الفاخ���رة والمقامات ً ان ا َّل ِذي س ْ���ب َح َ العالي���ة والمش���اهدات العظيمة ،ق���ال تعالىُ : ���ج ِد ا َ َ ���ج ِد ا ْل َحر ِام ِإ َلى ا ْل َم ْس ِ ال ِم َن ا ْل َم ْس ِ أل ْق َصى ���رى ب َِع ْب ِد ِه َل ْي ً َ أ ْس َ ِ ار ْك َنا َح ْو َل ُه(اإلسراء.)1: ا َّلذي َب َ ويكفي���ه ش���ر ًفا أن اهلل تعال���ى أنزل فيه الق���رآن الكريم ،قال تعالىِ ﴿ :إ َّنا َأ ْن َز ْل َن ُاه ِفي َل ْي َل ِة ا ْل َق ْدرِ ﴾(القدر.)1: أما عن فضائل قيام الليل فقد وردت آيات وأحاديث كثيرة،
ُتبي���ن الخير العميم والنفع العظيم الذي يحظى به أهل الليل. ���ل َف َت َه َّج ْد بِ��� ِه َنا ِف َل ًة َل َك َع َس���ى َأ ْن ﴿و ِم َن ال َّل ْي ِ ق���ال تعال���ىَ : ودا﴾(اإلسراء.)79: َي ْب َع َث َك َر ُّب َك َم َق ًاما َم ْح ُم ً ال * ���ل ِإ َّ ال َق ِلي ً ���م ال َّل ْي َ ﴿ي���ا َأ ُّي َه���ا ا ْل ُم َّز ِّم ُل ُ ق ِ وق���ال تعال���ىَ : ال ���ص ِم ْن ُه َق ِلي ً آن َت ْر ِتي ً ال َ أ ْو زِ ْد َع َل ْي ِه َو َر ِّت ِ ���ل ا ْل ُق ْر َ ِن ْص َف ُ ���ه َأوِ ا ْن ُق ْ ال إ َِّن َن ِ ���د ���ك َق ْو ً ���ن ْل ِقي َع َل ْي َ ال َث ِقي ً اش َ���ئ َة ال َّل ْي ِل ِه َي َأ َش ُّ ِ إ َّن���ا َس ُ ال﴾(المزمل ،)6-1:قال الرازي في التفس���ير الكبير: َو ْط ًئا َو َأ ْق َو ُم ِقي ً
القلب وكمال المعرفة"(.)3
مبي ًنا فوائ���د العبادة في الليل ويق���ول ّ
وثماره���ا على نفس���ية وروح اإلنس���ان: "ف���إن اإلنس���ان ف���ي الليل���ة الظلم���اء إذا
اشتغل بعبادة اهلل تعالى وأقبل على ذكره والثن���اء علي���ه والتض���رع بين يدي���ه ،ولم
يكن هناك ش���يء من الش���واغل الحسية والعوائق الجس���مانية ،اس���تعدت النفس هنالك إلش���راق جالل اهلل فيها ،وتهيأت للتج���رد الت���ام ،واالنكش���اف األعظ���م بحسب الطاقة البشرية"(.)4
ه���ذا وق���د م���دح اهلل تعال���ى عب���اده
المومني���ن الذين م���دوا حبال الوصل في
الليال���ي الظلماء ،والمس���تمدين م���ن األمداد الفيح���اء ،بقوله:
���ن ا ْل َم َض ِ ون َر َّب ُه ْم َخ ْو ًفا َو َط َم ًعا وب ُه ْم َع ِ اج ِع َي ْد ُع َ َ ت َت َجا َف���ى ُج ُن ُ ال ِم َن كا ُن���وا َق ِلي ً ون(الس���جدة ،)16:وقالَ : ���م ُي ْن ِف ُق َ َو ِم َّم���ا َر َز ْق َن ُ اه ْ ون(الذاريات.)17: ال َّل ْي ِل َما َي ْه َج ُع َ وأم���ا م���ا ورد ف���ي الحديث من فضائ���ل قيام اللي���ل فكثير نكتف���ي بإيراد بعض األحاديث عل���ى وجه التمثيل ال الحصر،
قال " :عليكم بقيام الليل ،فإنه دأب الصالحين قبلكم ،وإن
قي���ام الليل ُقربة إلى اهلل ،ومنهاة عن اإلثم ،وتكفير للس���يئات، ومطردة للداء عن الجسد" (رواه الترمذي).
وعن أبي مالك األشعري قال :قال رسول اهلل " :إن في
الجن���ة َلغر ًفا ُيرى بطونها من ظهورها ،وظهورها من بطونها"، فقال أعرابي :يا رسول اهلل لمن هي؟ قال" :لمن أطاب الكالم،
وأطعم الطعام ،وصلى هلل بالليل والناس نيام" (رواه اإلمام أحمد).
يقول محمد التهامي كنون" :واعلم أن في قيام الليل فوائد
تورمت قدماه جليل���ة منه���ا االقت���داء به ،فق���د قام حت���ى ّ
مص�ل�اه كوكف المطر ( )...ومنها أن وكان���ت دموعه تقع في ّ
"واعل���م أنه تعالى لما أمره (يقص���د النبي والخطاب موجه
شيئا إال في الليل ساعة ال ُيوافقها عبد مؤمن يصلي يسأل اهلل ً
الخاط���ر من التأمل في حقائق تلك اآليات ودقائقها ( )...ألن
وميتا ومقبورا ومبعو ًثا ،ففي الحديث" :يا حيا ً ً لقائمه رحم َة اهلل ًّ
كذل���ك إلى أمته) بصالة الليل أمره بترتيل القرآن حتى يتمكن وم���ن ابتهج النف���س تبته���ج بذكر األم���ور اإللهي���ة الروحانيةَ ،
يمر عليه بسرعة ،فظهر ومن أحب ً بشيء أحب ذكرهَ ، شيئا لم ّ
أعط���اه إياه وذلك عند الس���حر ( )...ومنه���ا أن النبي ضمن وميتا ومقبورا حيا ً ً أب���ا هريرة أتريد أن تكون رحمة اهلل علي���ك ًّ
ومبعو ًث���ا ،فق���م من الليل وص���ل وأنت تريد رض���ا ربك ،يا أبا ّ
57
السنة التاسعة -العدد (2013 )39
قضايا فكرية
مصطفى بوزغيبة*
قيام الليل
وأثره الروحي في حياة اإلنسان إن المتأم���ل ف���ي فلس���فة الدي���ن ،يج���د في���ه جمالي���ة وحي���اة مفعم���ة بالحيوي���ة والنش���اط،
الربانية، فترف���رف روحه في س���ماء المع���ارف ّ
والفيوض���ات الرحماني���ة ،متأملة ف���ي جمال الك���ون ،ومبتعدة عن ه���وس الحياة المادية وتطاحناته���ا الالمتناهية .ومن تلكم األوقات التي يجد فيها اإلنس���ان أنس���ه وضالت���ه" ،الليل"؛ فهو المحبين وملتقى العشاق في سماء نجومه الساحرة. منتدى ّ
فقد دأب العاشقون على إحياء الليل ،فتراهم عند انسدال ِ ش���مرون عن س���اعد الجد ،ينسجون من خيوط س���تار الظلمة ُي ّ حو ُل���ون وحش���ة اللي���ل إلى ُأنس ورودا م���ن الظلم���ة ُ ّ ً ال���ودُ ، وي ِّ يتنعمون، و ُق���رب ...فه���م بذكر حبيبهم ّ يتل���ذذون ،وبمناجات���ه ّ وعن سواه ال يلتفتون .قال ابن المبارك: إذا مــا الليل أظلــم كابــــدوه
فيــــسفر عنـهم وهــــم ركـــــــوع
وأهل األمن في الدنيا هجوع
أطار الخوف نومهم فقاموا
()1
وقال أحدهم" :لذة قيام الليل ليس���ت من الدنيا في ش���يء،
عجلها اهلل ألوليائ���ه"( .)2وفي هذا إنم���ا ه���ي من نعيم اآلخ���رةّ ، المعنى قال ابن النحوي في قصيدته المنفرجة:
السنة التاسعة -العدد (2013 )39
56
شعر
عبد الحميد العُ مَ ري*
الب ْردة َصدى ُ
�������وَة الخل ِ �������ورا أَ َض َاء بِ ِه يَ�������ا َص ْف َ ْق ،يَا نُ ً �������ت بِ َطل َْعتِ������� ِه أَ ْك�������رِْم بِ������� ِه َم ْولِ������� ًدا َزانَ ْ �������اء ْت بِ َم ْولِ ِد ِه اآل َف ُ َت �������اق َوا ْعَ�تَ�نق ْ َض َ �������ل َمْ�ب َعثِ ِه �������د َزانَ������� ُه الل������� ُه ِط ْف ً ���ل���ا َ�ق ْب َ َق ْ َس�������ا ِمي الْ ِف َع ِ يم الْ َقل ِ ْب ذَا َش َر ٍف ال َس ِل َ ���ل���ا ُه َربِّيَ ،ف َ �������ر َ�ي ْغ ُم ُرُه أَ ْع َ �������ك َ ان ال َ ْخْ�ي ُ ��������تنَ َار بِ ِه َاس َ �������ورا ،ف ْ أَ ْو َح�������ى لَ������� ُه الل ُه نُ ً �������ار َع َل�������ى ُّ الدْ�نيَ�������ا بِ َطل َْعتِ������� ِه ل ََّم�������ا أَنَ َ ْح ِّق ،أَ ْس َم َع ُه نَا َدى ال ُْمنَا ِدي بِ َص ْو ِت ال َ دى نَ�������ا َدى َ�ف َرَّد لِ ِذي بُ ْك ٍم لِ َس َ �������ان َص ً الرحم ِ �������ن أَْ�ن َزله�������ا محم������� ٌد ِمنَّ������� ُة َّ عم������� ُة المولَ�������ى أَ َز َ ال به�������ا محم������� ٌد نِ َ شمس َهذا َ الك ْو ِنُ ،م ْذ �َب َزَغ ْت محم ٌد ُ يَا ُم ْص َط َف�������ى ،بِ َك أ ْعلَى الل�������ه ر َا�يَ�تنَا ِ �������رأْ�َ ،ت َعالى ال ِذي أَ ْو َح�������ى إِل َْي َك بها اْ�ق َ َّ �������رفاً اِْ�ق َرأْ تَ ُس ْ �������دَ ،وتخل ْق تَ ْس�������تَ ِزْد َش َ ِ �������ن ُك ِّل ق ِ َاص َم ٍة �������و َت بها َع ْ �������رأَْ ،ع َل ْ اْ�ق َ آَ�ت ْيَ�تنَ�������ا بِ ِكتَ ِ �������اب الل������� ِه ُم ْنتَ ِصبً�������ا �������ل َه ِط ٍل ات بِ َغ ْي ٍث َوابِ ٍ �������و َ أَ ْحيَ�������ى ال َْم َ ْج ِّدَ ،ال َ�ت�بلَى ِ محاس�������نُ ُه ُم ْس�������تَْأنَ ِف ال َ ْ �������وب ،ف َ ِفي ِه ال َّ �������د َو ُاء َأل ْه َوا ِء ال ُق ُل ِ َك ْم �������ر لِ ِذي َس������� َق ٍم َوَك ْ �������م أُ ِري������� َد بِ������� ِه َخْ�ي ٌ
�������وا ِم َوا ُأل َم ِم َر ُّب ال ِعبَ�������ا ِد َع َل�������ى ا َألْ�ق َ َه ِذي َّ ال�ث َرىَ ،و ْاكتَ َس ْت ِم ْن ُح َّل ِة َ الك َرِم الع ِطيَّ ِة َم ْن في القُوِر َوا َأل َك ِم �������رى َ بُ ْش َ الص َح ِ �������ر ُمَّ�ت َه ِم �������ن ِّ �َب ْي َ �������اب ،أَ ِمينًا َغْ�ي َ الح ُل ِم بَ�������ا ِدي ال َف ِضي َل ِة َ�ي ْوَم ُّ الر ْش������� ِد َو ُ َاض بِ������� ِه لِلن ِ َّاس ف�������ي ِح َك ِم َحتَّ�������ى أَف َ ْك ِة ُّ َم ْن في َّ ال�ث َرىَ ،و ُه ُدواْ ،في ُحل َ الظ َل ِم اسَ�ت ْن َش َق َّ ِّع ِم الد ْه ُر َع ْر َف الْ َه ْد ِي َوال�ن َ َو ْ �������ن ُع ْر ٍب َوِم ْن َع َج ِم أَ ْه َل الْبَ َصائِرِِ ،م ْ َان ِذي َص َم ِم اس�������تَ َم َع ْت آذ ُ لِل َ ْح ِّقَ ،و ْ �������ن ال َْع َد ِم َغ ْيثً�������ا َفأَنج�������ى بِ������� ِه َ�ق ْوًما ِم َ �������وا َد ُّ ال�ن َق ِم الظ ْل ِم َو ِّ َع ْن ِذي البِق ِ َاع َس َ َاض ْت َعلَى ِ الس َل ِم الخلق أَيْ ِدي الخي ِر َو َّ ف َ في ا ُألف ِ الع َل ِم ْ�������ق َخا ِف َق ًة َو َّ الس������� ْه ِل َو َ ْج ْب َن في الْ ِه َم ِم تُ ْحيِي ال ُقل َ ُوبَ ،وُ�ت ْرِدي ال ُ َك مج ُد َّ َوا ْع َم ْل يَ ُد ْم ل َ استَ ِق ِم الدارَِ ،و ْ َّ الح������� ُزِم للظ ْه������� ِر فَاتِ َك������� ٍة ،بِالح������� ْزِم َو ُ الس َراةََ ،ويح ِمي ُك َّل ِذي ِذ َم ِم َ�ي ْه ِدي ُّ �������ج ِم ِّ الديَ ِم بَا ِدي ال َْمنَا ِف ِع َس�������ا ٍم ُم ْس َ ِعْ�تقً�������اَ ،و َال َ�ي ْعتَ ِري������� ِه َّ الض ْعف من قد ِم َام َوَك ْم أَنْ َجى ِم َن ا َأللَ ِم َش������� َفى َّ الس�������ق َ َف�������ا ْزَوَّر َع ْن������� ُه�َ ،ف َع َّ �������ن ِم ْن نَ َد ِم الس َّ ض ِّ (*) أستاذ باحث في األدب العربي /المغرب.
55
السنة التاسعة -العدد (2013 )39
وم���ا أري���د من���ك أخ���ا اإلس�ل�ام أن تورث���ك زالزل الحياة
وقوارعها أي ش���عور بالقلق المدمر ،واليأس الممض ،فيضيق
حتميا، وهما بها صدرك ،وتس���توقد في ضلوعك حز ًنا أس���ي ًفا ًّ ًّ
فاحتس���بها عند اهلل واعتبرها ش���دة عس���ر تتبعها بش���رى يسر... ال َو َل ْن َت ِج َد ِلس َّن ِة ا ِ ���ن ِة ا ِ هلل هلل َت ْب ِدي ً وتلك س���نة اهللَ ،ف َل ْن َت ِج َد ِل ُس َّ ُ ال(فاطر.)43: َت ْح ِوي ً وما حياة اإلنسان؟ إنما ذلك الينبوع المائي يتفجر من ثنايا الصخر ،ويس���ري في األرض إلى أن يعانق مصيره (المس���مى) ف���ي أعماق البح���ار .وبين البدء والمنته���ى يقطع رحلة درامية
تتم���ازج فيه���ا ثنائي���ات الب���كاء والف���رح ،م���رة يس���ير واني���ا في
المنبسط ،ومرة يتموج في انعطافات الصخور الصالب ،ومرة يحدث وشوشة دامعة حين يعترضه عارض.
جحيما خالدا ،وليست نعيما ً ً كذلك حياة اإلنس���ان ،ليست ً
قارصا ...إنها الحياة نسيما رخاء ،وليست زمهريرا ً دائما ،ليست ً ً ً َ وأ َّن ُه ُه َو فحسب ،خليط من كل هذه الثنائيات كما أرادها اهلل َ ات َو َأ ْح َيا(النجم.)44-43: َأ ْض َح َك َو َأ ْب َكى َ و َأ َّن ُه ُه َو َأ َم َ
أخ���ا اإلس�ل�ام ،إن خواطرك الس���وداء تتلجلج في نفس���ك
اليم ،وإن أحزانك الالهبة تستوقد الضعيفة كالغريق في أعماق ّ نارا حامية يتطاير ش���ررها بي���ن الفينة واألخرى، ف���ي ضلوعك ً
مخرج���ا من ه���ذه األعصاي���ر إال باس���تحضار ول���ن تج���د لك ً نصية مرش���دة تنتصب قبالتنا المعالم/التعاليم التي تعد الفتات ّ في معترك الحياة إلنقاذ الحيارى الضائعين.
اصب ِْر َن ْف َس َك تضعنا أمام عنوان مفهومي و ْ فقوله تعالىَ :
"االقتح���ام الج���ريء" بإلزام النفس أن تتج���اوز كل المصاعب
والمكاره راضية محتسبة.
اصب ِْر ِل ُح ْك ِم َر ِّب َك َف ِإ َّن َك ِب َأ ْع ُي ِن َنا ترس���م و ْ وقول���ه تعالىَ :
لنا "طريق االقتحام" بمش���اعل فوقية حانية تنير العتمة وتكشط
غشوة العماية.
ال ِة تضعنا أمام ِالص ْب ِ الص َ ���ر َو َّ اس َ���ت ِع ُينوا ب َّ وقوله تعالىَ : و ْ
عنوان "اس���تمرارية االقتحام" بإمدادنا بالوقود الالهب المحفز لرفض النكوص في معترك الحياة.
إنها دراما الحياة ،ولن تفك ألغازها المبهمة وكل مغاليقها
الموصودة ،إال بتعاليم اإليمان الصابر المستبصر المكين. (*) شاعر وأديب مغربي.
السنة التاسعة -العدد (2013 )39
54
االنبالج الجديد العينين، باكي َ يا َ يا رفيق البرد والصقيع وحلْك ِة الليل البهيم... كنت تنعم، في فراشك األملس َ كنت تأنس، وبلذيذ النوم َ وإذا بعالَـ ٍم مبحوح الصوت من حولك يرتفع، وظالم من فوقك ّ يغطي األفق، الديَ َكة َّ حتَّى ِّ كف ْت عن الصياح، الس َحر ،وتلجلج الفجر وانكفأ، وغاب َ وعلى نفسه انطوى، ينتظر االنبالج والشروق من جديد... ***
أدب جمال أمين*
دراما الحياة أرأي���ت الش���مس يهصرها الذبول ث���م يحرقها األفول ،ثم تذرو رمادها الظالمي على الكون
اإلنس���اني؟ إنه���ا تنبع���ث بعناصره���ا انبعاثته���ا
الكب���رى ،وتحترق عزائمها الجبارة ف���ي فجر يوم وليد جديد. أرض���ا ج���رداء صلع���اء ،تربته���ا قس���مات وج���ه بئيس، أرأي���ت ً جداوله���ا الجافة ش���فاه متش���ققة ظم���اء ،تحنو عليها الس���ماء،
فتتفجر من تربتها الحياة المزركشة؟
تل���ك صور الحي���اة في الكون أخا اإلس�ل�ام ،وفي المقابل
تنح���و منحاه���ا صور الحياة في حياتنا البش���رية ،عقبات ش���تى من���ا ف���ي حياته األرضي���ة ،مرة تش���تد إلى تعت���رض طري���ق كل ّ من���ا الدم���وع وتتفطر لها القلوب ،وم���رة تهون على أن تس���تدر ّ
الكواهل وكأنها النسيم الرخاء.
كما أن استقبالها يختلف بين تشتيت البشر ،فالمنفصل عن
غما وس���وداوية وحز ًنا ،وكلم���ا انقذفت عليه كبكب اهلل تزيده ًّ مقام���ا ،أما المؤمن به���ا في حفرة فلس���فية أش���د ظالما وأتعس ً ً
وصبرا وإيما ًنا يس���تروح منها روح ش���كرا المتصل باهلل فتزيده ً ً ﴿و َع َسى َأ ْن َت ْك َر ُهوا َش ْي ًئا َو ُه َو َخ ْي ٌر اهلل وقدره ورحمته الحانية َ َل ُك ْم﴾(البقرة.)216:
53
السنة التاسعة -العدد (2013 )39
م���ن المكتش���فين والمخترعين إذا ما اس���تعرضنا حياتهم عرفنا
فالروحاني���ون -أي أصح���اب األرواح الكبي���رة -ه���م ّ حركي���ون بطبيعته���م ،ال يطيق���ون المك���وث والس���كون ،وهم ّ
صاح���ب روح مغام���ر وقف فات���ح القس���طنطينية، العق���ل إزاء ُ َ
الكشوفات ...وربما كان مصطلح "الكشف" الذي يتردد أحيا ًنا
أن "الروح المغامر" ،هو كان دافعهم ومحركهم إلى اكتش���اف ّ ألم يكن "محمد الفاتح" ما اكتشفوا أو اختراع ما اخترعوا .ثم ْ منكفئ���ا حائرا مغامرات���ه عاجزا بعقالنيته ومنطقيته عن تفس���ير ً ً ً غي���ر تاريخ العال���م فأصبح فتح ه���ذا الحدث العظي���م ،الذي ّ "القسطنطينية" نهاية تاريخ وبداية تاريخ جديد؟
مغامرون تجذبهم األبعاد ،وتأخذهم المجاهيل ،وتس���تهويهم
رواد الروح الكبار مأخوذ من هذا النازع الكش���في على ألس���نة ّ
الذي ينزع بهم نحو الغوص في أعماق الروح ،والذهاب إلى أقاصيها ،واكتش���اف أصقاعها ،وأماكن بعيدة فيها غير مكتشفة
وقب���ل ذلك ألم يك���ن أولئك الرجال من الرعيل األول من
وال معروفة من قبل ...فكما للزمان أبعاد وأقاص وامتدادات،
نهبا إلى مشارق األرض أفراسهم التي كانت تنهب بهم األرض ً
واألش���بار ،ولكنه���ا تقاس بعمق الحياة وكن���ه الوجود .فالروح
المس���لمين ،مغامرين يحملون معهم "اإلسالم" على صهوات ومغاربه���ا ،وإل���ى مجاهيل من األرض لم تطأه���ا أقدامهم من
قبل ،وإلى بلدان وأقوام وشعوب ولغات ،فال يبالون من أجل ما يحملون من أمانة التبليغ أن يقعوا على الموت أو أن يقع
الموت عليهم؟
بعيدا ولنا هنا وبي���ن ظهرانينا بعض نماذج ولم���اذا نذه���ب ً ِم���ن ِف ْع���ل أولئ���ك الرعيل األول من المس���لمين؛ فبيننا ش���باب الت���واق المندفع إلى ترك مغام���رون يدفعه���م روحهم المغامر ّ
الحي���اة المر َّفه���ة في صالون���ات بيوتهم ذات الري���اش الفاخر، والزراب���ي المبثوث���ة ،واألرائ���ك الوثيرة ،والدفء الذي يش���يع االس���ترخاء في األبدان ...يترك أحدهم ُك َّل هذا ثم يغادر بيته غير آسف وال حزين ،ثم يضرب في األرض بدافع من شعور
مؤرق بمس���ؤوليته اإلنس���انية والروحية نحو روح العالم الذي تحي���ق ب���ه األخطار م���ن كل جانب ،وتهدد جذوت���ه باالنطفاء، ه���ذه الج���ذوة الت���ي تس���تنير به���ا البش���رية وتعود إليه���ا في كل
م���رة من ف���وق ظلم���ات األرض إذا ما زادت كثافتها وس���دت َّ
فكذل���ك لل���روح أبعاد وأق���اص وامتدادات ال تق���اس باألمتار سيان ،فكما أن الزمان حركة ال استقرار فيها ،وامتداد والزمان َّ
ال توق���ف في���ه ،فال���روح كذلك في صع���ود دائم ،وف���ي امتداد
وإن كنا على ش���يء من ح���د من الحدودْ ، دائ���م ،ال يق���ف عند ٍّ ال المعرف���ة بحقائ���ق المكان غير أننا ال زلنا أكث���ر ما نكون جه ً
ببواط���ن ال���روح ،وبما يضاهيها من بواط���ن الزمان .فأوجع ما أن يتحول مع األيام إلى ش���خصية خامدة يوج���ع الروحان���ي ْ متعادلة متخلية عن جنوحها االستكشافي وتطلعاتها االنفالتية من حبوس األمكنة ،فينتابه من جراء ذلك قلق روحي مرضي َّ مفزع قد يتس���رب إلى جس���ده فيوقعه صري���ع المرض ،لذلك
فه���و دائم التعرض لذل���ك ا ْل َم ّد من الطوف���ان المنبثق من بحر الروح ،والذي يدفعه إلى اإلبحار من النقطة التي توقف عندها بعدا مهما كانت إلى ش���واطئ أبعد وأعمق ،وإلى موان���ئ أكثر ً متناهية في خطورتها ،فهذا هو قدره الذي يمسك بتالبيبه وال
ال. أمرا كان مفعو ً يفلته إلى ْ أن يقضي اهلل ً
مناف���ذ األنف���س واآلفاق ...فيذهب ه���ذا المغام���ر متحديا من ً أجل الرس���الة الت���ي يحملها لأَ ْ واء الغربة واالغتراب ،ومش���اق
نعظ���م كذل���ك من ش���أن الحي���اة ه���ذا اإلعظ���ام ،وكل محاولة
يتغل���ب عل���ى كل ه���ذا بإرادته القوي���ة ،وصبره ال���ذي ال ينفد،
ت���ام بم���وت الحياة وبموت الروح ،س���واء ذلك ف���ي األفراد أو
لما من معال���م حياتهم ،فيأخ���ذ بيدهم ليزرعوا ي���كاد يغ���دو ْ مع ً
وتوه ًجا وغبطة ،حتى لتغتبط الحياة بالحياة، وعطاءا انفس���احا ّ ً ً
كنا قد أعظمنا من ش���أن الروح ه���ذا اإلعظام فألننا ولئ���ن ّ
األس���فار ،وقساوة األجواء ،والصقيع والجماد ...وسرعان ما
للفص���ل بين الش���ؤون الروحية والش���ؤون الحياتي���ة فهو إيذان
وده���م واحترامهم حتى ويش���ق طريقه بي���ن الناس ،ويكس���ب َّ
الش���عوب واألمم ...فكلما زادت الروح عنفوا ًنا زادت الحياة
معا بنبع ً معا ش���جرة ال���روح الكبرى فوق أرضهم ،ويس���قوها ً
واإلنسان بأخيه اإلنسان.
روح األنبي���اء والرس���ل ،وبالينب���وع األعظم واألثرى لس���يدهم وخاتمهم محمد عليه أفضل الصالة والتسليم. السنة التاسعة -العدد (2013 )39
52
(*) كاتب وأديب عراقي.
أدب
أديب إبراهيم الدباغ*
الروح المغامر حادة يعود الفضل في إنجاز األعمال الكبرى التي ْ شكلت منعطفات ّ
في مسيرة الحضارة اإلنسانية ،إلى المغامرين من ذوي األرواح االندفاعية
العظيم���ة ،الذين يرون ف���ي المغامرة انفال ًتا من حب���وس الجمود على العاديات
والمكرورات في حياتهم المعيشية اليومية .فالرغبة من االنفالت من القيود هي من
دوما طبيع���ة ال���روح ،فهي تتضايق و َت َملُّ من المكوث الطويل في حال واحدة ،فتس���عى ً للمض���ي نحو األبع���د ،واالرتقاء نحو األعلى واإليغال في المبه���م والغامض والمجهول،
فيقدم بتوجس���اته وحس���اباته بينم���ا يظلُّ "العق���ل" دون تطلعات "الروح" وتردداتهّ ، ّ محكوما ّ ً يتثبت ألنه يخاف الخطأ أو الوقوع في الفش���ل، رِ ْج ً �ل�ا ويؤخ���ر أخرى ،فهو ال يقدم قبل ْ أن َّ يتردد. دوما وقد يخطئ لكنه ال ّ وعلى العكس من ذلك ،فإن "الروح" يقدم ً
فأكث���ر المكتش���فات والمخترع���ات التي كان له���ا الفضل في بناء لبن���ات الحضارة
���ن حاول الطي���ران وهو رواده���ا أصح���اب أرواح مغام���رة .ف���أول َم ْ األول���ى ،كان ّ القارات "عباس بن فرناس" كان مغامرا ،و"كولمبس" رائد البحار ومكتشف ّ ً كان م���ن المغامري���ن الكب���ار ،و"نيوتن" صاح���ب الجاذبي���ة الكونية، و"أديوس���ن" صاحب أول مصب���اح كهربائي ،وغير هؤالء
51
السنة التاسعة -العدد (2013 )39
الصالة والس�ل�ام .وه���ذا الخبر غني عن
كل تعليق.
إن قيمنا الثقافية واإلعالمية السائدة،
وتربيتنا في بيوتنا ومدارس���نا ،وعالقات الش���يوخ بطلبتهم واألساتذة بتالميذهم،
تت���وارد في الغالب عل���ى ثقافة الصمت، وتعم���ل بخالف المبدأ العمري الحكيم نفس���ك"؛ "ق���ل يا ابن أخ���ي وال َت ّ حقرن َ
فالكبير ُيسكت الصغير ،والزوج ُيسكت الزوج���ة ،والصب���ي ُيس���كت البن���ت، والمعل���م ُيس���كت التلمي���ذ ،والمدي���ر ُيس���كت الم���درس ج���را ...وم���ا وهل���م ًّ ّ
والكبار كذلك يصنعون .وهكذا يضيع
�إن �س��عادة الإن�س��ان وم�ستقبله ل��ن يتوق��ف عل��ى مزي��د م��ن الك�ش��وفات املخربي��ة والتقنية وتكنولوجيا املعلومات ،ولكنه �س��يكون منوطً��ا مب��دى �إمي��ان امل��رء مبب��ادئ �ص��حيحة وقي��م علي��ا ،وت�أث�ير ه��ذا الإمي��ان يف تر�شيد �س��لوكه وتعديل مواقفه واجتاهاته يف احلياة.
زالت قيمن���ا تغري بتأجيل المش���كالت
الح���ق ف���ي متاه���ة األه���واء والدع���اوى والتزيي���ف ،وتتصاع���د االنتص���ارات
المجازي���ة والصوري���ة العريض���ة التي ال حظ لها من الواقع.
إن ح ًّق���ا عل���ى المؤسس���ات التربوية
أس���لوبا والتثقيفي���ة أن تنه���ج جدي���دا ً ً قائما في التربي���ة والتثقي���ف والتواصلً ، عل���ى الح���وار والمصارح���ة والمناق���دة والمناقشة.
وإن م���ن ُيم���ن طا ِل���ع المربي���ن والمثقفي���ن أن يكون بي���ن ظهرانيهم من يعت���رض عليه���م ويناقش���هم ويس���ألهم
ب���دل مواجهته���ا ،واألخ���ذ بالحل���ول التلفيقي���ة ،واالش���تغال
ويصحح لهم ويس���تدرك عليهم ،فذلكم هو الس���بيل الحقيقي
نظ���ن أن غي���اب رأي مع���ارض أو ناقد أو مس���تدرك هو عالمة
لمختلف مرافقه وطبقاته ومؤسساته.
يفتك به المرض ويتغلغل في أطرافه دون أن يصدر عنه إنذار
ما يكتنف مسيرتها من أخطاء- اعتماد أسلوب النقد والتقويم َ
إخفاء الحقائق ،والخوف من الوضوح ،والهروب من مواجهة
في المجتمع آليات ش���تى لمراقبة غيره ومحاسبته، خصوصا ً
باألع���راض والنتائ���ج بدل األس���باب والمقدم���ات ...وما زلنا
لالرتقاء بالس���قف المعرفي للمجتم���ع ،والوعي الثقافي العام
صحة وعافية وكمال ،مع أن تلك الحالة أشبه بالجسم الذي
وإن مما أطال في عمر المدنية الغربية الغالبة اليوم -على
من���ا أمة نموذجية في م���ن أل���م أو حمى .وهذه العقلية جعلت ّ ْ
والمراجعة ،وإعمال مبدأ الرقابة المتبادلة الذي يتيح لكل فرد
المش���كالت ،والتنص���ل م���ن المس���ؤولية ،والب���روز بالمظه���ر
اللبق ...فصار للمرء وجهان ،الظاهر منهما خير من المستور،
إذا تعلق األمر بالشأن العام والمصالح الضرورية لألمة.
وبالمقاب���ل ،ف���إن أخط���ر العل���ل الت���ي أنهك���ت الحض���ارة
م���ع أن األص���ل أن يكون باط���ن المرء خير م���ن ظاهره .وفي ِ ش���ر الن���اس يوم القيامة عند اهلل الحدي���ث الصحيح" :تجد م ْن ّ الوجه ْي���ن الذي يأتي هؤالء بوج���ه ،وهؤالء بوجه" ،وروي ذا َ أمينا" ،وفي س���نن بلف���ظ" :ال ينبغ���ي لذي الوجهي���ن أن يكون ً
الكفاية ،واس���تبداد الفرد بالشأن العام واالستئثار به ،وإعجاب
كثي���را من الناس ال يملك الش���جاعة لس���انان م���ن نار" .وتجد ً
والخ���وف م���ن المصارحة ال���ذي حل محل منه���ج "قل يا ابن
ذك���رت لكم في كثي���را م���ن المدرس���ين ال يجرؤ عل���ى القول: ُ ً
لقيم الحق ومبادئه ،وحس���بة األمر بالقسط ،والرقابة المتبادلة،
أب���ي داود" :م���ن كان له وجه���ان في الدنيا كان ل���ه يوم القيامة
لالعت���راف بخط ٍإ ارتكبه مع صديق���ه أو زوجته أو ابنه ،وتجد الدرس الماضي كذا وكذا وهو خطأ والصواب كذا وكذا.
وحين ترى الناشئة أن كل ما حولها تام وكامل ومعصوم،
فكيف تصير هي ناقصة؟! إن هذه الثقافة الدعائية ،مدعاة لهم
للدفاع عن النفس والمجادلة عنها بحق وبغير حق ،ألن السراة السنة التاسعة -العدد (2013 )39
50
اإلسالمية وأضعفتها ،وطوحت بها من أعلى إلى تحت ،ومن الري���ادة إلى التبعية ،وم���ن الفعالية إلى الركود ...ش���يوع ثقافة
الصمت ،والتسليم المطلق ،واالنسحاب الجماعي من فروض كل ذي رأي برأي���ه ،وقم���ع أص���وات النق���د واالس���تدراك، أخي وال تحقرن نفسك" ،وضمور روح المؤسسات المنتظمة
وإدارة االختالف وتدبيره بما يحقق المصالح المنشودة لألمة
بصورة سلمية وهادئة.
(*) عضو المجلس األكاديمي للرابطة المحمدية للعلماء /المغرب.
إن س���عادة اإلنس���ان ومس���تقبله ل���ن
يتوق���ف عل���ى مزي���د م���ن الكش���وفات
المخبري���ة
والتقني���ة
وتكنولوجي���ا
منوطا بمدى المعلومات ،ولكنه سيكون ً إيمان المرء بمبادئ صحيحة وقيم عليا، وتأثي���ر هذا اإليمان في ترش���يد س���لوكه
وتعديل مواقفه واتجاهاته في الحياة.
ي���ع المجتم���ع أهمية هذه وم���ا ل���م ِ
ووضوحا القيم العليا وجعلها أكثر نقاء ً
وفعالية ،فل���ن يتمكن من إقناع األجيال الصاع���دة به���ا ،والثقة فيه���ا ،واعتبارها
ج���زءا م���ن هويته���ا وتراثه���ا .والطري���ق ً
إن التربي���ة عل���ى قيم الح���ق معناها،
�إن قيمن��ا الثقافي��ة والإعالمي��ة ال�س��ائدة ،وتربيتن��ا يف بيوتن��ا ومدار�سنا ،وعالقات ال�شيوخ بطلبتهم والأ�ساتذة بتالميذهم، تت��وارد يف الغالب عل��ى ثقافة ال�صمت ،وتعمل بخالف املبد�أ العمري احلكيم "قل يا ابن �أخي نف�سك" وال تحَ قر ّن َ
األقوم إلى ذلك باختصار ،هو المجاهدة
أن نربي أنفس���نا وناشئتنا واألجيال على قب���ول الح���ق وتعظيم���ه واالنفع���ال ب���ه،
ذلك���م هو الخط���وة األولى عل���ى طريق صياغ���ة مف���ردات الحي���اة ومواضعاته���ا وجوانبه���ا على أساس���ه وترس���يخ قيمه.
وإن اإلذعان للحق والفرح به ،شأن من ش���ؤون النف���وس الكبي���رة الت���ي تربأ عن
األهواء واألنانيات والحسابات الضيقة،
وش���أن الحكم���اء وأول���ي النه���ى الذي���ن ق���ال اهلل في أمثاله���مَ :ذ ِل َك بِ��� َأ َّن ِم ْن ُه ْم ون ِق ِس ِ ين َو ُر ْه َبا ًنا َو َأ َّن ُه ْم َ ال َي ْس َت ْكب ُِر َ يس َ ّ َو ِإ َذا َس ِ ���م ُعوا َم���ا ُأ ْن ِز َل ِإ َلى الر ُس ِ ���ول َت َرى َّ آم َّنا الد ْم ِع ِم َّما َع َر ُفوا ِم َن ا ْل َح ِّق َي ُقو ُل َ َأ ْع ُي َن ُه ْم َت ِف ُ يض ِم َن َّ ون َر َّب َنا َ الش ِ ين(المائدة.)83-82: َف ْاك ُت ْب َنا َم َع َّ اه ِد َ والتربية على تحمل المس���ؤولية عن التصرفات التي يقوم
اه ُدوا ي���ن َج َ وا َّل ِذ َ والتضحي���ة م���ن جهة كما ق���ال اهلل تعال���ىَ : ِ ِ ين(العنكبوت،)69: ���ب َل َنا َوإ َِّن ا َ هلل َل َم َع ا ْل ُم ْح ِس��� ِن َ ف َين���ا َل َن ْهد َي َّن ُه ْ ���م ُس ُ واالحت���راز م���ن أش���كال التناقض بين الق���ول والفعل من جهة آم ُنوا ِل َم ﴿ي���ا َأ ُّي َها ا َّل ِذ َ ي���ن َ أخ���رى ،عل���ى نحو قوله جل ش���أنهَ : َ ���د ا ِ ال ال َت ْف َع ُل هلل َأ ْن َت ُقو ُلوا َما َ ���ون َم���ا َ َت ُقو ُل َ ���ر َم ْق ًت���ا ِع ْن َ ���ون َك ُب َ (الص���ف .)3-2:س���تظل أرواحنا فارغ���ة ،وذواتنا ممزقة، َت ْف َع ُل َ ون﴾ ّ
م���ن خي���ر ،وحي���ن ينبه بلطف عل���ى ما بدر منه م���ن خطأ .كما
اإليم���ان ،وما ل���م يتحول إيماننا إلى طاقة قادرة على تخليصنا
ن���وه س���بحانه -في هذا المس���ؤولية عنه���ا بطي���ب نف���س .وقد ّ
نوحده���ا ع���ن طري���ق وأعمالن���ا متناقض���ة ومتضارب���ة ،م���ا ل���م ّ من أهواء أنفسنا وسيئات أعمالنا.
وم���ن المقاص���د الكبرى لإلنس���ان المس���لم ،معانقة الحق
ونصرته والدفاع عنه .فبالحق نزلت الرساالت ،وبالحق قامت
الس���ماوات واألرض ،وباتباع نقيضه "الهوى" فس���د اإلنس���ان و َل ِو َّاتب َع ا ْل َح ُّق َأ ْهو َاء ُهم َل َفس َ ِ ات الس َم َو ُ وفس���د العالمَ : َ ْ َ َ ���دت َّ َوا َ ض َو َم ْن ِفيهِ َّن(المؤمنون ،)71:وإن هذا الحق ثقيل مريء، أل ْر ُ وإن الباط���ل خفي���ف وب���يء .ولذلك أخبر الب���اري جل وعال،
بها الطفل ،نوع من االستمساك بالحق وتعزيزه وإقامته .وهذا
الخ ُل���ق ينم���و ل���دى الطف���ل حين يس���مع الثناء على م���ا قام به ُ
الكبار يعترفون بأخطائهم ويتحملون الطف���ل يتع���زز حين يرى ُ َ السياق -بشجاعة امرأة العزيز حين اعترفت بمراودتها يوسف
ص ا ْل َح ُّق َأ َنا َر َاو ْد ُت ُه َع ْن عن نفسه إذ قالت: َ اآلن َح ْص َح َ ���ك ِل َي ْع َل َم َأ ِّني َل ْم َأ ُخ ْن ُه بِا ْل َغ ْي ِب ين َ ذ ِل َ الصا ِد ِق َ َن ْف ِس��� ِه َو ِإ َّن ُه َل ِم َن َّ ين(يوسف.)52-51: هلل َ َو َأ َّن ا َ ال َي ْه ِدي َك ْي َد ا ْل َخا ِئ ِن َ
إن تحم���ل المس���ؤولية ع���ن الخطأ ،س���لوك ترب���وي رفيع
منبث���ق ع���ن عقيدة عالي���ة في الت���زام الحق والتمس���ك به .وقد يند ُر لغا بلغ هذا السلوك عند صحابة رسول اهلل َ م ْب ً عظيما ُ ً وج���وده في اجتماع البش���ر ...فقد ج���اءت الغامدية وقالت :يا
و َأ ْك َث ُر ُه ْم أن أكث���ر الناس ال يحبون الحق ويس���تثقلونه فقالَ : ون(المؤمنون.)70: ِل ْل َح ِّق َكارِ ُه َ ماض إل���ى يوم والدف���ع والتداف���ع بي���ن الح���ق والباط���ل ٍ
أن يرجمها ،وقالت يا رسول اهلل إني ُحبلى ،فأمرها أن تذهب
دار ،ألن البدي���ل ع���ن نص���رة الح���ق والتمكي���ن له ،ه���و نصرة
يا رسول اهلل ،قال "اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه" ،فلما فطمته
القيام���ة ،ومن دأب المس���لم وديدن���ه أن يدور مع الحق حيث الباطل والترويج له.
وطلبت منه فردها ،ثم جاءته، ْ فطهرنيّ ، رس���ول اهلل إني ز َن ْي ُت ّ
وقالت ها قد ولدته حت���ى تل���د ،ثم جاءت بعد والدتها بطفلها ْ فطلبت أن يرجمها ففعل عليه أتته بالصبي في يده كسرة خبز، ْ
49
السنة التاسعة -العدد (2013 )39
تربية
د .عبد الحميد عشاق*
التربية على
قيم النقد والتقويم يتحرك المس���لم في بيداء الحي���اة ودروبها على هدى وبصي���رة ،وال ه���دى وال بصي���رة دون تحديد الوجهة
وتبي���ن الهدف الم���راد .وإن المقصد األس���نى والغاية
العالية لإلنس���ان المس���لم هي الفوز برضا اهلل تعالى .ولذلك فإن كل
تابعا لألول األهداف والغايات والبرامج والوسائل ،ينبغي أن يكون ً وخادم���ا ل���ه ومؤديا إليه ...وإن أس���اس كل خير وثقافة وس���لوك هو ً ً
اإليمان بالحق والتمسك به والثبات عليه.
السنة التاسعة -العدد (2013 )39
48
شعر
د .ناصر الزهراني*
أعذب األلفاظ "الل�������ه" يا أعذب األلف�������اظ في لغتي سعدت "الله" يا أمتع األس�������ماء كم ْ "الل�������ه" أُ ِ نس�������ي وبس�������تاني وقافيت�������ي تهي�������م نفس�������ي إذا أبصرته�������ا وإذا �������س فيه�������ا إجابات�������ي وأس�������ئلتي أُح ُّ هي اله�������وى والمنى واألنس ليس لها "الل�������ه" حبي وإس�������عادي وم�������ا فتئت رحبت "الله" إن ضاق�������ت الدنيا بما ُ "الل�������ه" يا عطر هذا الك�������ون يا مددا أرواح لهيبته�������ا "الل�������ه" تهت�������ز ٌ "الل�������ه" "الل�������ه" ك�������م "لله" م�������ن أثر "الله" أجمل ما في الكون أحسن ما "الل�������ه" يا أحرف اإلج���ل���ال ليس لها �������مى به الباري ف�������كان كما اس�������م تس ّ
�������ل ح�������روف ف�������ي معانيه�������ا وي�������ا أج ّ نفس�������ي وفاض س�������روري حين أرويها "الل�������ه" ي�������ا زين�������ة الدني�������ا وم�������ا فيها س�������معتها وإذا م�������ا كن�������ت أُمليه�������ا وم�������ن معاني الرض�������ا والحب صافيها في الك�������ون ن ٌّ �������د وب�������األرواح نفديها روحي مدى العمر في ش�������وق تغنيها عليك فالج�������أ لها واس�������كن مراميها يفي�������ض لط ًف�������ا وإحس�������انًا وتنزيه�������ا �������اب لحاديه�������ا "الل�������ه" تش�������تاق ألب ٌ ف�������ي مهجت�������ي أي أوزان س�������تبديها �������را ويس�������قيها ي�������روي ضمائرن�������ا طه ً من أح�������رف ف�������ي مزاياها تس�������اميها أراد يعب�������ق إج���ل���ا ًال وتأليه�������ا (*) عالم ومفكر سعودي ،ومؤسس مشروع السالم عليك أيها النبي.
47
السنة التاسعة -العدد (2013 )39
خي���ر البرية كلُّ أولئ���ك َأ ْول���ى في أجندتها من االنتس���اب إلى ِ ٍ ِ محمد عليه أفضل الصالة وأزكى التسليم؟ ورسول البشرية ث���م هو امتحان للمال ولصاحب المال؛ أ ِمن الحرام هو أم م���ن الحالل؟ وهل ُينفق فيما ال يعني ،س���ر ًفا وس���فاهة؟ أم أنه ِ األمة عهدا جديدا، واقعا ً ويؤسس ً ً ينفق ليبني ً جديدا تكون فيه َّ ّ متفوقة في جميع المج���االت ،ويكون فيه متمكن���ة ِّ متحض���رة ِّ المال وقود هذه النقلة التاريخية اإليمانية المنشودة؟
اإلنس���ان واعيا اليوم لألس���ف ،إال ُ هو امتحان ،ال يخوضه ً يتهور ،لكنه على البسيط ،وهو يحترق وينطلق ،وقد يخطئ أو َّ خالص���ا مره ًفاَّ .أما وفؤادا بالح���ب، مفعما ً ً ِّ قلب���ا َ األق���ل يملك ً
الكثي���رون ممن يش���ار إليهم بالبنان ،فقد بات���وا أرباب مصالح
قلبا مفعما باإليم���ان باهلل واليوم اآلخر، نس���ألَ ،م���ن َّ ً منا يحمل ً وبكت���اب اهلل الحكي���م ورس���وله الكريم ،يقف حيات���ه ومهجته
للدف���اع عن إيمانه ونص���رة دينه بموج���ب "التدافع" ،وقد قال ال َد ْف ُع ا ِ ض َل َف َس َد ِت و َل ْو َ اس َب ْع َض ُه ْم ب َِب ْع ٍ َّ هلل َّ جل من قائلَ : الن َ ا َ ض(البقرة.)251: أل ْر ُ ال تحملنا ألسئلة االختبار العسير ،وه َّ فه َّ ال كنا ِّ جادين في ُّ
وتخطيطا... ال ً علما وعم ً احترقنا ش���و ًقا ًّ وهمة ،وانطلقنا ً وهما َّ ش���فيعا لنا يوم ف���إن فعلن���ا كان اهلل معنا ،وكان رس���ولنا وحبيبنا ً
وخصيما لنا والعياذ باهلل. خصما اللقاء ،وإال كان ً ً
ويهد قلوبنا ويزلزلنا وال يزال حديث الحوض يقرع آذاننا ُّ
شديدا ،وقد ورد فيه: ال زلزا ً ً
يؤمل فيهم الكثير وال يرجى من بابهم وأصحاب حسابات ،ال َّ
عن أبي هريرة عن النبي أنه أتى إلى المقبرة فس���لم
يوم هو اختبار ،وهو امتحان إذن ...واإلجابة ال تكون في ٍ ودائما ما دام ثمة إنس���ان. أو يومي���ن ،وإنم���ا هي ط���وال الحياة ً ونتيجة االختبار لن تع َّلق إال يوم الحس���اب ،فلينظر كلُّ مؤ ِمن
إخوا َنن���ا" .ق���ال :فقالواَ :أ َولس���نا إخوا َنك يا رس���ول اهلل؟! قال:
الخير.
ينجي نفس���ه يوم الفرقان ،ويوم التغابن ،ويوم يلقى ربه، كيف ِّ
ال س ب َِما َك َس َ���ب ْت َ ���و َم ُت ْج َزى ُكلُّ َن ْف ٍ س���بحانه وه���و القائل :ا ْل َي ْ اب(غافر.)17: يع ا ْل ِح َس ِ ُظ ْل َم ا ْل َي ْو َم إ َِّن ا َ هلل َس ِر ُ
دار ق���وم مؤمنين، عل���ى أه���ل المقب���رة فق���ال: ٌ "س�ل�ام عليك���م َ قد رأينا دت أ َّنا ْ "و ِد ُ وإن���ا إن ش���اء اهلل بك���م الحقون" ،ثم ق���الَ : بع���د" ،فقالوا :كيف "أنت���م أصحابي ،وإخوا ُنن���ا الذين لم يأتوا ُ أيت تع���رف م���ن لم يأت ُ بعد من َّأمتك يا رس���ول اهلل؟ قالَ " :أ َر َ خيل ُد ْه ٍم رج ً �ل�ا كان له ٌ ���ر ْي ٍ ل���و أن ُ خيل ُغ ٌّ ���ر ُم َح َّجل ٌة بين َظ ْه َ
رحم اهلل العالمة بديع الزمان سعيد النورسي ،ففي حوالي
يع���رف خي َل ُه؟" ،قالوا :بلى يا رس���ول اهلل ،قال" :فإنهم ���م أال ُ ُب ْه ٍ
أن أوروبا تحي���ك مؤامرة إذ عل���م م���ن الوال���ي "طاه���ر باش���ا" َّ
البعير الضالُّ ، ذاد َّن ٌ رجال عن َح ْوضي كما ُي ُ ثم قال" :أال ُلي َ ذاد َ ُ ِ ���ح ًقا ���م ُفيقال :إنهم قد َب َّدلوا بعدكَ ،فأقولُ :س ْ أناديه���م :أال ه ُل َّ ُس ْح ًقا" (رواه مسلم). فه���ل يا ت���رى نأتي رس���و َلنا الحبيب ُغ ًّرا ُم َح َّجلي���ن ،أم أننا نأتي���ه -ونعوذ باهلل من ذلك -ثم ن���ذاد مثل "البعير الضال" ،ثم
كلي ف���ي حياته؛ س���نة 1316ه���ـ1899/م ،ح���دث له انق�ل�اب ٌّ أن وزير المس���تعمرات خبيث���ة حول القرآن الكريم ،ثم س���مع َّ
البريطانبي "غالدس���ون" ،صرح في مجل���س العموم البريطاني َّ ال" :ما دام هذا القرآن بيد المسلمين، وهو يخاطب النواب قائ ً حقيقيا ،فلنس���ع إلى نزع���ه منهم" .ولقد حكما فل���ن نحكمهم ً ًّ وأقض مضجعه ،فأعلن لمن زلزل هذا الخبر كيان النورس���ي، َّ
حوله:
بأن القرآن شمس معنوية ال يخبو سناها، "ألبرهنن للعالم َّ َّ
وال يمكن إطفاء نورها" ،ثم حبس عمره ك َّله للخدمة اإليمانية
والقرآني���ة ،والق���ى في ذل���ك ما القى من معان���اة ،ولكنه خرج مرضيا بحول اهلل. راضيا مظفرا، منتصرا ًّ ً ً ً
لمقدس���اتنا ال أن تم���ر علينا اإلهانات والي���وم ،ليس مقب���و ً َّ َ َّ وعقائدن���ا وديننا وإس�ل�امنا ثم ال يتغير ش���يء ف���ي حياتنا وفي تصوراتن���ا وف���ي مواقفنا وف���ي أفعالنا وف���ي اختياراتن���ا ...ولذا السنة التاسعة -العدد (2013 )39
46
الح ْوض"، الو ُضوء ،أن���ا َف َر ُط ُهم على َ يأت���ون ُغ ًّرا ُم َح َّجلين من ُ
يقول لنا "سح ًقا سح ًقا".
هذا هو االختبار العسير!
وعدا ح ًّقا؛ نبين���ا ربِه ً وقرة أعينن���ا ،فيكفيه أ َّنه ُوعد م���ن ّ َّأم���ا ّ َّ لكل معتبر، أنه سيعلي من شأنه وقدره وسيجعل أعداءه عبرة ِّ ِ ���و ا َ ين أل ْب َت ُر(الكوث���ر ،)3:وق���ال :إ َِّن ا َّل ِذ َ فق���ال :إ َِّن َش���ان َئ َك ُه َ ِ ���ر ِة َو َأ َع َّد َل ُه ْم هلل َو َر ُس���و َل ُه َل َع َن ُه ُم ا ُ ون ا َ ���ؤ ُذ َ هلل ِف���ي ُّ ُي ْ الد ْن َيا َواآلخ َ َع َذ ًابا ُمهِ ًينا(األحزاب.)57: (*) مدير معهد المناهج ،الجزائر العاصمة /الجزائر.
خارج قدر اهلل الحكيم العليم سبحانه.
وم���ا كان أب���و له���ب ،وأب���و جه���ل،
وأب���ي ،وغيرهم م���ن الكفار ومس���يملة، ٌّ
والمنافقي���ن والمعاندين ...ما كانوا عب ًثا في مسيرة الرس���الة المحمدية المباركة؛
وجوده���م حكم���ة ليبتل���ي اهلل إيم���ان المؤمنين وعمل العاملينَ :أ ْم َح ِس ْ���ب ُت ْم ين َأ ْن َت ْد ُخ ُلوا ا ْل َج َّن َة َو َل َّما َي ْأ ِت ُك ْم َم َث ُل ا َّل ِذ َ الضر ُاء خلوا ِمن قب ِلكم مستهم الب ْأساء و َ َ ْ ْ َ ْ ُ ْ َ َّ ْ ُ ُ ْ َ َ ُ َ َّ َّ َو ُز ْل ِز ُلوا(البقرة.)214: وغيرها، وإن���ي لأَ جد ه���ذه الحمل���ة َ ول���كل ل���كل الن���اس عس���يرا اختب���ارا ِّ ِّ ً ً ول���كل المؤسس���ات، ول���كل األطي���اف ِّ َّ
متر علينا الإهانات لي�س مقبو ًال �أن َّ ملق َّد�س��اتنا وعقائدن��ا ودينن��ا و�إ�س�لامنا ث��م ال يتغري �ش��يء يف حياتنا ويف ت�صوراتنا ويف مواقفنا ويف �أفعالنا ويف اختياراتنا ..ولذا مفعما ن�س���ألَ ،من منَّا يحمل قلبًا ً بالإميان باهلل واليوم الآخر ،ويقف حياته ومهجته للدف��اع عن �إميانه ون�رصة دينه مبوجب "التدافع"؟
ول���كل ول���كل التوجه���ات األمص���ار ِّ ِّ وأول من يتعرض لالختبار هو "أنا"، االتجاهات بال اس���تثناءَّ . َّ ِ أحمل الواجب؛ به���ا أب���دأ ،ومنها أنطلق ،وعنها أس���أل ،وإياها ّ فه���ل يمك���ن أن أتركه���ا خارج دائ���رة األمر الربان���ي ،والحكم
اإللهي ،والواجب الشرعي؟!
ِ نف���س ،م���ا م���دى ي���ا حبك لرس���ول ُ
حب اهلل علي���ه الص�ل�اة والس�ل�ام؟ أه���و ٌّ مناس���باتي آني عاب���ر؟ أم هو ُف ْلك ُل���وري ٌّ ِ فعلت رسالي دائم؟ ثم ماذا إيماني حب ٌّ ٌّ ٌّ
وتفعلي���ن في حق���ه عليه أفض���ل الصالة ِ والتسليم؟ هل ِ عصرك، كنت في مستوى ِ الع���دة الكافي���ة لنصرته، أع���ددت وه���ل َّ جه ِ والمقدم���ات ���زت األس���باب ِّ وه���ل َّ
ِ ِ امت���ك دو لالنتص���ار ل���ه؟ أم أن���ك ف���ي َّ
تعمهي���ن ،وع���ن التخطي���ط ُتعرضي���ن،
وللظروف َتس���تجيبين؛ ثم م���ا تلبثين أن
تدخل���ي دوام���ة الحي���اة ،وتدوري���ن ف���ي
دائرة مفرغة إلى حين؟
ِ أع���ددت؟ علمي���ا ،ماذا تربوي���ا ،ماذا ًّ ًّ ِ ِ فنيا... اقتصاديا، أع���ددت؟ إعالميا ،م���اذا أع���ددت؟ ًّ سياس���ياًّ ، ًّ ًّ كل مناحي الحياة أس���أل نفس���ي ،وكلُّ عاقل يسائل وهكذا في ِّ ِ ِ و َل ُت ْس��� َأ ُل َّن َع َّم���ا ُك ْن ُت ْم عمل���ت فيم���ا نفس���ه" :م���اذا علم���ت؟"َ ، ون(الصافآت.)24: وه ْم ِإ َّن ُه ْم َم ْس ُئو ُل َ َت ْع َم ُل َ و ِق ُف ُ ون(النحلَ ،)93: وللتجمع���ات العلمية إن���ه اختب���ار عس���ير للعلم���اء الي���وم، ُّ العالمية ،ولهيئات الفتوى ،ولوزارات الش���ؤون الدينيةُ ...ترى ه���ل تص���وغ المخطط���ات وتجيب عل���ى اإلهانة بم���ا يليق؟ أم أنه���ا تبق���ى مثل األطفال عل���ى ش���اطئ اإلرادة والعصر ،تاركة
المبادرة للسياس���ة أو للشارع ،مبررة لهذا أو لذاك ،ناقلة ألدلة ف���ي أغل���ب األحيان مبت���ورة ،مجتزئة كما رأينا ه���ذه المرة من َّ بعض مجامعنا الفقهية المحترمة؟ لألسف. ث���م ،ه���و اختب���ار عس���ير للم���دارس ،وللمناه���ج التربوية،
وللمق���ررات ،ول���وزارات التربية ،بل ل���كل مع ّلم ومدير وولي ّ وتلمي���ذ ...فهل هي تس���ير على وقع رس���ول اهلل عليه الصالة والسالم؟ وهل ِ تخذته أسوة وقدوة ،ومارست التربية بناء على ِ الس���رب ،وتص ِّف���ق لـ"ديوي" معي���اره ه���و؟ أم أنها ِّ تغني خارج ّ
و"روسو" وغيرهما في عرس المدنية السمج؟
أم���ر قرآنها ه���و اختب���ار َّ لمؤسس���ات اإلعالم؛ ه���ل َّ أهمها ُ
أن مش���ادات يهمها أمر دينها كما أمر اهلل؟ أم َّ ورس���ولها ،وهل ُّ
كرة ال َق َدم ،واالنتخابات الحامية الوطيس ،وفضائح الناس...
45
السنة التاسعة -العدد (2013 )39
قضايا فكرية د .محمد باباعمي*
تح َّر لعلمك غاية وهد ًفا ،وإياك واإلغر َ األرواح اق يف الفرضيات والوهميات التي تزيد َ ظلمة والعقول تضلي ًال ..احذر مصائد األرواح هذه ،وتجنّب ما تنصبه للعقول من أفخاخ. *** (املوازين)
االختبار العسير أي أمر حقي���ر أو عظيم ف���ي ِّ كلَّم���ا ح���دث ٌ زم���ان م���ن األزمن���ة وف���ي أي م���كان م���ن
األمكن���ة ،كان اختبارا وامتحا ًنا لمن قامت ً
عليه الحجة في ذلك األمر .ال شيء في الدنيا يقع اعتباطً ا
يند عن إرادة اهلل أو َس َ���ب ْه َل ً ال أو بغير حكمة ،وال ش���يء بتا ًتا ُّ وعلمه ومشيئته سبحانه.
فم���ا وق���ع -ويق���ع ه���ذه األي���ام -م���ن حملة لتش���ويه
ص���ورة أعظ���م الخل���ق محمد علي���ه الصالة والس�ل�ام بكل األشكال واأللوان وبجميع الوسائل واإلمكانات ،تسندها تخطيط���ات واس���تراتيجيات .كل ه���ذا لي���س عب ًث���ا وال هو
السنة التاسعة -العدد (2013 )39
44
اجتهاد نتح���رك في���ه ...إنه وجهاد اإلنس���ان ليجم���ع بين رؤية في مطار االنطالق ُ ُ
النس���ر ودبيب النملة التي تتعثر في حبات الرمل التي تصادفها
ومتس���مة "إن المدرس���ة بق���در م���ا تك���ون متوجهة نحو الهدف ّ
في خلقه للسماوات السبع في ستة أيام ،يع ّلمنا أن هذا الكون
ُت ْص َهر مكتسباتها في بوتقة ثقافتنا الذاتية".
ف���ي الطري���ق .ذلك بالتأكيد لن يتحق���ق إال بالصبر ،واهلل تعالى
منضب���ط بالزم���ن ،وأن لكل ْأمرٍ م���دة زمنية ضرورية ليس���توي ويحقق النضج. ولنا في قصة س���يدنا يعقوب األسوة الحسنة ،إذ نجد
بالعم���ق ،تصب���ح مين���اء أو مط���ارا أو منطل ًقا لألمة ،بش���رط أن ً أج���ل ،إنها العودة إلى الذات ،إل���ى المعايير الذاتية لألمة،
المعايي���ر غي���ر المس���توردة ،إل���ى اإليم���ان .فاإلنس���ان صاحب اله���م الحضاري ،يحم���ل ذلك الوزن الزائ���د /الضروري على ّ
م���ر الزم���ن .إنه���ا عودة تقتض���ي القي���ام بعملية غربل���ة "فكرية، ّ
هذا النبي الضرير الفاقد البنيه "يوسف ثم بنيامين"، والمتشبع ّ ب���روح الصب���ر اإليجابي ُيع ّلمنا: يا َب ِني ْاذ َه ُبوا َف َت َح َّس ُس���وا ِم ْن َ َّ ِ ِ ال َيي َئس ِم ْن ر ْو ِح ا ِ هلل ف َو َأ ِخي ِه َو َ وس َ َ ُي ُ ال َت ْي َئ ُسوا م ْن َر ْو ِح اهلل ِإ َّن ُه َ ْ ُ ون(يوس���ف .)87:إنه باب األمل ،ي ِلجه اإلنسان ِإ َّ ال ا ْل َق ْو ُم ا ْل َكا ِف ُر َ وهو آخذ باالعتبار ألسباب الكون.
مطارا إلقالع األمة. حتما ً المدرسة بهذا الحراك ،ستغدو ً
كي���ف يمك���ن للقل���وب أن تحي���ا ه���ذه الكلم���ات الت���ي لطالما
إذا أردنا أن نبصر حاضر ومستقبل أمة ما فلننظر إلى تعليمها.
اإلنسان الجديد
رددناها صغارا" :النظافة من اإليمان ،والوس���خ من الشيطان"، ً نس وطمأنينة و"الوسخ" يدق ثم يعيش هذا اإلنسان لحظات ُأ ٍ وأمته؟ كل ٍ حين باب بيته ،وباب شارعه ،وباب وطنه ّ
تعودنا أن نمد يدنا لآلخر لنحصل على لقمة العيش، إننا ْ إن ّ
لنطلب البرء في مشافيه ،لنلتهم مختلف المعلبات التي أحسن وعرضها لنا على أرفف حضارته المزعومة ...فدعوتنا ترتيبها ْ يحرك ساكنا ،لن تدفع ً له باسم اإلسالم بعد ذلك ،لن تجعله ّ ب���ه ليحتض���ن ه���ذا الدي���ن العظيم ،إننا ببس���اطة ندع���وه ليكون
مريضا. ً
لذلك ،فالهدف أن يصوغ اإلنس���ان المسلم اليوم سمفونية
متكاملة النغمات ،س���يجد حينئذ بالضرورة آذا ًنا تصغي إليها. إنه يح���رص تمام الحرص لتكتمل هذه النوطة الحضارية ،أما إن لم ُيعمل عقله وقلبه وجهده من أجل تناسقها ،وطلب من تفرق الناس اآلخرين االس���تماع إليها ،فإنه سرعان ما سيلحظ ّ
كل بأموره. من حوله ٌ منشغل ٌّ
إذن ،هن���اك إنس���ان لم يتش���كل بعد ،مت���وازن ،متكامل ،ال ّ
يعي���ش تناقضات بي���ن ما يقرأ ف���ي القرآن الكري���م وما احتوته الس���نة الش���ريفة ،وبين ما يج���ده في واقعه .إن���ه طبيب للمعنى ح���ل أو انتقل ُفنور وال���روح س���ائح في كون اهلل تعال���ى ،أينما ّ
الحق يبزغ بداخله.
إيماني���ة ،وجداني���ة" ...فالمع ّلم في قس���مه ليس مل ّق ًن���ا للتلميذ
لمعلومات ،وإال ما كان مع ّل ًما بل مع ّل ًبا ،لكن المخطط األهم واالس���تراتيجي لدي���ه هو بن���اء هذا اإلنس���ان ...وحي���ن تنطلق
المدرسة
وه���ذا الصرح الحض���اري (المدرس���ة) في الحقيق���ة ما هو إال مشتلة ،والتلميذ فيه فسيلة طيبة.
إن الحاج���ة الي���وم ليس���ت لمع ِّل���م وظيفي يراق���ب عقارب
نداء س���اعته كل حين ليس���تعجل مغادرة قاعة الدرس ،بل هو ٌ للنجدة ينطلق من بعيد بح ًثا عن أفئدة تلتهب شو ًقا، وانصهار ٌ جماع���ي في المعن���ى وللمعنى ...إنه القلب يهف���و إلى أولئك األطب���اء المرابطين في مستش���فى الحياة؛ الذي���ن يجمعون بين
العقل والقلب ،الفكر والفعل ...إنه إنس���ان صابر على تجنين رك ٌز على الحقل ،ويتحرك بثقة كبيرة في خالقه الزم���ن ،ذهنه ُم ِّ
وباتخاذه ألسباب النصر والتمكين.
نع���م ،فبمنه���ج النب���ي " التس���ديد والمقارب���ة"، يتح���رك ّ
ويفك���ر، ه���ذا األمي���ن على مس���تودع الحض���ارة ،يعمل ويفكر ّ ّ
وهو يعمل ،مدركٌ تمام اإلدراك أن المدرس���ة ليس���ت هي آلة التغيير ،بل هي الحقل الخصب لذلك ،وأن مهمته هي السقي والرعاي���ة والتعه���د ،فال ي���زال يضرب في تل���ك األرض حتى
ُيخرج خيراتها بإذن اهلل. (*) باحثة وصحفية /الجزائر.
المراجع
( )1ونح���ن نبن���ي حضارتنا ،لألس���تاذ فتح اهلل كولن .ترجم���ة :عوني عمر لطفي أوغلو ،دار النيل للطباعة والتوزيع ،القاهرة.
43
السنة التاسعة -العدد (2013 )39
الخ���روج م���ن ص���ف الص�ل�اة؟ ف�ل�ا أثر
نع���م ،إن���ه المعنى ،الذي لو انس���لخ
صن ًما م���ن المبن���ى يك���ون ه���ذا األخي���ر َ
ُيعب���د .وهنا ُيس���مع لمفكرن���ا "مالك بن ّ س عميق نب���ي" -رحم���ه اهلل -ص���وت َن َف ٍ يأخذه ويقول" :حين تموت الفكرة يبزغ الصنم" .ومن بعيد نلمح األس���تاذ "فتح
يهز رأس���ه وكأنه يصادق اهلل كولن" وهو ّ عل���ى كالم أخي���ه "اب���ن نب���ي" فيتل ّف���ظ
به���ذه الكلم���ات" :إذا غ���دا حرصك���م
على مش���اريعكم المس���توى المطلوب، وأصبحت هذه المش���اريع ٍ مبان شاهقة تحجزك���م عن الح���رص على رضى اهلل
التمك�ين لدين اهلل يف الأر�ض ال يُق�ص��د ب��ه جمموع��ة م��ن الأ�ش��خا�ص �أو "الأبط��ال"، بل هو ن�س��يج جماعي ي�ض��م عق��و ًال وقلوبً��ا متعانق��ة� .إنه ا�س��تعداد للعم��ل يف �ش��كل جماع��ي �ض��من فري��ق ي�ؤمن دورا كل واحد فيه ب���أن لديه ً ي�ؤديه.
تعال���ى ،فإنها قد غ���دت أصناما ،عليكم ً
أن تحطموها".
المعيار في القيادة
النتظ���ام وانضباط في صفوف الحضارة
والتش���ييد؟ إننا ببس���اطة نغف���ل عن تلك ِ تح���رك الصالة وتكون المعان���ي ،وأنه ل َت ّ مح���ورا ديناميكيا للحض���ارة ،وجب أن ً ًّ فهم���ا حضاريا إضافة لالنضباط ًّ نفهمها ً الفقه���ي .إنه الفه���م الش���مولي ،والرؤية المتكامل���ة الت���ي ُولد بها اإلس�ل�ام؛ هذه
الورش���ة الكبي���رة الت���ي َينش���ط فيه���ا كل
الناس حس���ب استطاعتهم ،وفق مخطط واحد ،ذلك أن االنتظام الجماعي هو ما
سيلد الحضارة.
﴿وق ِ ُل ا ْع َملُوا﴾ َ
قدم رسولنا الكريم النموذج المتكامل ،وإن لم ينشرح لقد ّ
ص���در بعضه���م لإلس�ل�ام ف�ل�ا غب���ار يكس���و صفحات س���يرته
ِ ان ُأ َّم ًة(النح���ل ،)120:لق���د انطب���ق هذا الوصف ي���م َك َ إ َِّن إ ِْب َراه َ
ومس���يرته المبارك���ة .فهذا أعرابي يلقى رس���ول اهلل ُ في ْس���لم
بحق أمة .فالتمكين لدين اهلل في خصائص حملها إنسان فكان ٍّ
ويحدق في األصل، الكري���م عليه الصالة والس�ل�ام ،إنه ينظ���ر ّ في النموذج الذي َأ َّسس له خاتم النبيين .
للعم���ل ف���ي ش���كل جماعي ضم���ن فريق يؤم���ن كل واحد فيه
و ُق ِل ْاع َم ُلوا(التوبة ،)105:ففي س���ياق بناء النموذج المتكامل َ
على سيدنا إبراهيم ولم يتحل به الماليين من الناس ،إنها َّ
األرض ال ُيقص���د ب���ه مجموعة من األش���خاص أو "األبطال"،
ال وقلوبا متعانقة .إنه استعداد بل هو نسيج جماعي يضم عقو ً ً
دورا يؤديه؛ أن يحمل مع أخي���ه العبء ،أو يحمل ب���أن لدي���ه ً عنه ،وإن لم يكن المسلم على تلك الحالة وكان العمل بتلك
ال���روح ،فس���يفنى المجم���وع ك ّل���ه .وفي ه���ذا المضم���ار يقول المقصي األس���تاذ مالك بن نبي" :من لعنة الزمن بأن اإلنس���ان ُ يبني ،وبذور في تضاعيف بنائه تهدمه".
إذن لي���س اإلنس���ان مجموع���ة م���ن التفاع�ل�ات النفس���ية
المجتزئ���ة عن الس���ياق االجتماع���ي ،وإذا س��� ّلمنا بذلك نكون ق���د خالفن���ا رؤيتن���ا الكوني���ة اإلس�ل�امية .ففي ص�ل�اة الجماعة
واحدا خمس مرات في اليوم، ال -يقف المس���لمون ص ًّفا مث ًً إن ذلك يحقق الكثير من المعاني الس���امية؛ كالدقة في الزمن، انتظ���ام الصف ،االنقياد للمعنى ،االنضباط في كل جماعي...
إنه���م ينتظم���ون في صف واح���د وينقاد المأم���وم لإلمام ،لكن المحكمة خيوط���ه ي���ا ت���رى كيف ُينق���ض ه���ذا بمجرد ْ الغ���زل ُ ّ السنة التاسعة -العدد (2013 )39
42
مباش���رة؛ لق���د تالش���ت الصورة الت���ي ُنقلت له عن ه���ذا النبي
إنه���ا الحاج���ة الملح���ة لتقدي���م النم���وذج ،واهلل يقول: ّ
دور اإلنس���ان أن يعم���ل ويحترق وأن ينطلق ف���ي المعالي ،أن
يدخ���ر ال ."...وينبغ���ي التذكير هنا "جهدا ،م���ا ً علما ،عم ً ً ال ّ الً ، فـو ُق ِل ْاع َم ُلوا ال تعني بضرورة أن ُتفهم اآلية في س���ياقها؛ َ
جيدا لقوله تعالى ونحن أي عمل ،لكن لنتمعن النظر ولننصت ً َّ ّ ون. تم اآلية الكريمةَ :ف َس َي َرى ا ُ هلل َع َم َل ُك ْم َو َر ُسو ُل ُه َوا ْل ُم ْؤ ِم ُن َ ُن ّ
دهان االستحالة ودهان السيولة
فرغ فيها ش���خص آخر دهان قد يأتي ش���خص بفكرة عميقة ُفي ِ
الس���هولة ويق���ول" :إنه���ا فك���رة س���هلة" ،تموت حينئ���ذ الفكرة ويقت���ل األم���ل الذي ُأ ِ نوره من بعيد .م���ن جهة أخرى بص َ ُ ���رت َ تتلون بصبغة االس���تحالة المطلقة ،فأنى كثيرا م���ا ّ هن���اك أفكار ً لصاحبها أن يصل أو يحلم بالوصول لتحقيق المستحيل؟
الحقيق���ة غي���ر ذلك؛ فكل ش���يء ممك���ن الح���دوث إذا ما
فقهنا السنن الكونية ،الظروف الزمانية والمكانية ،الوعاء الذي
قضايا فكرية
مونية الديغوسي*
بالعلم والعرفان ترقى حياة اإلنسان ..يستنري عقله ويشتعل وجدانه ويصبح نافذ النظر. رجلني ..فالنظر والتأمل والتعلم والتعليم لهي أما أخو الجهالة فهو م ّيت وإن مىش عىل ْ من أعظم غايات خلق اإلنسان عىل هذه األرض. (املوازين) ***
طبيب يبحث عن مرضاه طبي ودواء ُيخفف ف���ي كل يوم يتن ّقل بين األقس���ام يتف ّق���د مرضاه ...فهذا يحتاج إلى كش���ف ّ فك الجبس عن قدمه ُليهرول إلى بيته عنه س���قمه ،وفي الغرفة المجاورة يس���تلقي آخر ينتظر َّ
ويحتضن أبناءه ،وفي الطابق اآلخر ش���خص ثالث قد أجرى عملية جراحية هذا الصباح فهو
حبات العرق التي يلفظها جبينه من حين آلخر. يقف بالقرب من سريره يتر ّقب حالته ويمسح عنه ّ
ق���د نختل���ف ف���ي الموقع ،ف���ي الموقف أو الموضع ،لك���ن ال ينبغي أن نختلف في المعن���ى .فما يجمعنا أكبر؛ إنه التقاء القلوب والعقول في شارع اإلسالم والتفافها على موقد اإليمان ،بح ًثا عن ٍ غد أفضل ،عن يوم مشرق لهذه األمة التي لم يبرأ جرحها.
41
السنة التاسعة -العدد (2013 )39
إن لم ُأحسن ترويضه بـ"رياضة" العزم و"حساب" الحزم. • أن "الحس���اب" عس���ير ،والناق���د بصير ،وأن���ه ال نجاة إال بـ"هندسة" األفكار وجبر األفعال. • أن "الرس���م البياني" لتخلف األمة يش���ير بوضوح إلى أن س���بب الس���قوط هو "الجمع" الغائي للمال ،و"طرح" الكرامة اإلنسانية ،و"الضرب" على الحائط بسائر القيم. • أن النجم���ة "السداس���ية" م���ا ارتفع���ت إال عندم���ا "طرح" المسلمون الهالل في "دائرة" النسيان. األمارة بالسوء ،والشيطان • أن "مثلث" الهالك هو :النفس َّ الموسوس ،وأصدقاء السوء. الس ّيئين ،وأن ما ينفع الناس • أن "دائرة" السوء تدور على ّ فيمكث في "قاعدة" األرض. "الخطي���ن المتوازيي���ن" ال يجتمع���ان ،وكذل���ك الحق • أن ّ والباطل. • أن الـ"مستطيل" على خلق اهلل مصيره الدخول في "دائرة" العدم. • أن "هندس���ة" الفك���ر و"جب���ر" األرواح ب���زاد التقوى هما جناحا العروج الحضاري.
"طرائق" العروج
أمورا كثيرة منها: علمتني "الرياضيات" في هذا المضمار ً • أن الحض���ارة تب���دأ بـ"طرح" اإلنس���ان "للس���الب" من طباعه، و"االس���تزادة" في "الموجب" منها ،مع الحرص على "تطبيق" كافة معارفه وترجمتها إلى "معادالت" للرقي الحضاري. • أن األم���ة التي تس���لك "طرائ���ق" المطالبة بالحقوق ،دون االلتفات إلى الواجبات ،تبدأ بالهرولة الس���ريعة في "المنحنى" الحض���اري إل���ى أن تص���ل إل���ى القاع في "رس���م بياني" يش���به تخطيط القلب عند إصابته بالهبوط. • أن العروج الحضاري بحاجة إلى "قوانين" تتكفل بإيجاد "األرق���ام" الصحيحة وفق "متتاليات" فكرية و"نظريات" علمية دقيق���ة ،إلى أن توجد "الزمرة" التي تتحمل أعباء البناء ،ويتوفر "الرم���ز" الذي يجع���ل األماني حقائق ،وك���ذا "الجدول" الذي يرتب أولويات البناء حتى يتم اإلقالع المنشود. • أن���ه عندما يكب���ر "المقام" يصغر "البس���ط" ،وعندما تكبر الشعوب يصغر الحكام ويخنس الطغاة. ���ل" إال بتوازن "بس���ط" • أن "المس���ائل" الحضاري���ة ال " ُت َح ّ الحكام و"مقام" الشعوب. السنة التاسعة -العدد (2013 )39
40
رقما صحيحا ،ومن ً • أن تساوي "البسط" و"المقام" ينشئ ً ثم فإن المجتمع الصحيح والس���وي هو الذي "يتس���اوى" فيه الحكام والمحكومون. • أن "النظري���ات" اإلس�ل�امية في س���ائر مج���االت الحياة، بحاج���ة إل���ى "تطبي���ق" وإل���ى "تدري���ب" حتى يصبح المس���لم "برها ًنا" على أحقية هذا الدين بالظهور في العالم كله. • أن اإلس�ل�ام لي���س له "نظير" ،ولك���ن البد ألبنائه في هذا العص���ر من االس���تفادة من الحض���ارة الغربية ،ف���إن "الزوجية" قانون كوني. • أن وس���ائل "الح���ل" متع���ددة ،م���ع أن النتيجة الصحيحة واحدة ،ومن ثم فإن الحق واحد و"طرق" الوصول إليه كثيرة. • أن "نقصان" األمانة و"زيادة" الفساد هو الوصفة السحرية لتنزل العذاب ،واإليذان باضطراب "المقام" وسقوط األمة في تمكن العدو من "بسط" نفوذه ثم ّ "دائرة" التيه الحضاري ،ومن َّ وسيطرته.
"المسائل" الحضارية
تعلمت من الرياضيات: وفي هذا السياق ُ • أنه ال يتكبر إال "ناقص" ،وال يتواضع إال "الرقم" الصحيح، كالغصن المثقل بالثمار. • أن اإلنس���ان إذا كان يعان���ي م���ن عقدة "نق���ص" ،فإنه لن شيئا ،بل إنه "زائد" عليها. يضيف إلى هذه الحياة ً • أن اإلنس���ان إذا ل���م "يط���رح" الطمع و"يض���رب" الجزع أبدا مهما "جمع". ويكتنز القناعة ،فإنه لن يغتني ً • أن "الضرب" في الميت حرام. • أن "االس���تقامة" أقص���ر "طريق���ة" للوصول إلى حس���نتي الدنيا واآلخرة. • أن الحق "خط مستقيم". • أن الحاك���م "متوس���ط حس���ابي" للقي���م الت���ي تحمله���ا الشعوب ،سواء كانت حسنة أو سيئة. • أن "مقام" العبودية ليس فيه "محايد" ،فإن لم يكن المرء "سالبا". "موجبا" ،فسيكون ً ً
معادلة
"طرح" المظالم والس���يئات " +قس���مة" الحقوق والواجبات + "جمع" القلوب واإلمكانات = "قاعدة" اإلقالع الحضاري. (*) أستاذ الفكر اإلسالمي السياسي بجامعة تعز /اليمن.
• أن الع���رب أه���دوا العال���م "األرق���ام" المعروف���ة اآلن "أرقام���ا" صحيحة ف���ي اإلنجليزي���ة ومنه���ا الصفر عندم���ا كانوا ً وأصحاب حضور فاعل .وعندما ابتعدوا عن اإلس�ل�ام صاروا و"أكس���ارا عش���رية" ،وتمح���ورت طاقاته���م ح���ول "أصف���ارا" ً ً االنفع���االت ،حي���ث التغني بالماض���ي والتفاخ���ر على الغرب بأنهم منحوه "الصفر"! "أرقاما" اكتشفوا "الصفر" ،وعندما • أن العرب عندما كانوا ً "أصفارا" تركوا "األرقام" وبقوا غثاء كغثاء السيل. صاروا ً • أن س���ر ضع���ف المس���لمين أنه���م "أعداد" ب���دون إعداد، وأنهم "أصفار" ال "أرقام". س���عيه وخس���ر جه���ده ،حيث • أن "المفل���س" َم���ن خ���اب ُ حرص على مراكمة "األرقام" وقطع األرحام. • أن ثالثة رجال عندما "تجتمع أرقامهم" الواحدية يمكن ال. أن ُيصبحوا بقوة " "111رج ً
"العمليات" الفكرية
علمتني الرياضيات في هذا اإلطار: • أن اهلل "ضرب" على اليهود الذلة والمسكنة ،ألنهم "طرحوا" أرضا ،وجعلوا غايته���م العظمى "جمع" المال منهج���ه تعال���ى ً و"قسمته" وفق أهوائهم. • أن اهلل هو الذي "قس���م" بين الناس معيش���تهم في الحياة وأعجب الدنيا ،ويريد أعداؤه أن "يقسموا" رحمته بأمزجتهم، ُ من هؤالء صنف من المسلمين وصفهم القرآن بـ"المقتسمين" الذين جعلوا القرآن عضين. • أن اإلس�ل�ام ه���و "الح���ل" ،فه���و من يتفوق ف���ي "جمع" األخيار و"ضرب" األشرار. • أن "ضرب" الشعوب و"طرح" كرامتها هو الطريق األسرع لوضع الحكام في "مربع" االتهام أو القفص "المستطيل". • أن الـ"قس���مة" الضي���زى ه���ي جع���ل العلمانيي���ن الدين هلل والدولة لهم. • أن "اس���تزادة" النعمة تكون بالش���كر ،و"االس���تزادة" من القرآن تكون بالتدبر و"االستزادة" من اإليمان تكون بالعمل. وهذا ينقلنا إلى "قوانين" القرآن الرياضية.
"قوانين" القرآن
في هذا المضمار تعلمت من الرياضيات: • أن اهلل "يزيد" الذين اهتدوا هدى ،و"يزيد" الذين آمنوا إيما ًنا، وأن من يقترف حسنة "يزد" له فيها ُحس ًنا ،وأن للذين أحسنوا
الحسنى و"زيادة" ،وأنه تعالى "يزيد" من يشاء من فضله .وأما مرضا .وهك���ذا فإن الذي���ن ف���ي قلوبه���م م���رض "فزاده���م" اهلل ً الجميع في "ازدياد" بفضل اهلل وعدله. وه َأ ْر ًض���ا َي ْخ ُل َل ُك ْم دوم���اْ : اط َر ُح ُ • أن دي���دن المجرمين ً َ ِ ���م ا ْئ ُتوا َص ًّفا ���ه َأب ُ َو ْج ُ ِيك ْم(يوس���ف )9:أوَ :فأ ْجم ُع���وا َك ْي َد ُك ْ ���م ُث َّ اس َ���ت ْع َلى(طه ،)64:ولكن مش���يئة اهلل التي َو َق ْ ���د َأ ْف َل َ ���ح ا ْل َي ْو َم َم ِن ْ ���ي ْه َز ُم ا ْل َج ْم ُع ال تتخل���ف وس���نته الت���ي ال تتبدل ق���د قالتاَ : س ُ الد ُب َر(القمر.)45: َو ُي َول َ ُّون ُّ • أن المؤمنين "يضربون" في سبيل اهلل لطلب الرزق ،وأن "ستضرب" الفاسقين "يضربون" ً تسلطا أولياء اهلل ،ويوم القيامة َ المالئكة وجوههم وأدبارهم. ش���يئا، • أن "جم���ع" الفراعنة لكيدهم لم ولن يغني عنهم ً دائما يكسر شوكتهم و"يطرحهم" في النار. فاهلل ً • أن الوي���ل لم���ن "جمع" المال من الح���رام و"طرحه" في خزائن االكتناز أو "قسمه" على الشهوات المحرمة بدون احتراز. • أن أس���وأ "كسب" هو كسب السيئات ،وأفضل "خسارة" هي خسارة الذنوب ،وأن اهلل سيجزي كل نفس بما كسبت. • أن كل إنس���ان يس���تطيع أن "يكتس���ب" الحس���نات أو و"سيقس���م" عليه في اآلخرة ما اكتس���ب الس���يئات ف���ي الدنيا، ُ وما اجترح. • أن لكل نفس بش���رية ما "كس���بت" وعليها ما "اكتسبت"، إثما فإنما يكسبه على نفسه. وأن من "يكسب" ً • أن كل األنبي���اء ج���اؤوا لين���ذروا الن���اس ي���وم "الجمع"، عندما ُ"يطرح" المجرمون في النار. • أن الفك���ر اإلس�ل�امي ح���رم "الجم���ع" بي���ن األختين في َّ الحياة العامة ،وهما المسؤولية العامة والتجارة. دوما ،الخشية من أن تصيبهم "دائرة"، • أن عادة المنافقين ً وفي ذات الوقت يتربصون بالمؤمنين "الدوائر" ،لكن إرادة اهلل ِ الس ْو ِء(التوبة.)98: قضت بأن َ ع َل ْيهِ ْم َدائ َر ُة َّ وهذا ينقلنا إلى هندسة األفكار وأفكار الهندسة.
"هندسة" األفكار
أم���ورا كثيرة ،من ف���ي ه���ذه "الدائ���رة" تعلمت م���ن الرياضيات ً أهمها: • أن "المثلث" الذي تتساوى أضالعه الثالثة :الفكر ،اإلنسان، اإلمكانات ،هو "مثلث" النهوض الحضاري. • أن بي���ن "األضالع" التي في ص���دري يكمن َأ َل ُّد أعدائي،
39
السنة التاسعة -العدد (2013 )39
قضايا فكرية أ.د .فؤاد البنا*
هكذا علمتني الرياضيات "ل���وال الرياضي���ات لما توضحت المناس���بات
ُيش���رك قارئ���ه العزيز معه فيه���ا من خالل ه���ذه المقالة .ولكن
ف���ي كتاب���ه األكث���ر روع���ة "ونحن نقي���م صرح
فه���ي مصطلحات ورم���وز ذات صلة بعل���م الرياضيات ،حتى
بين البشر وال بين األشياء"( .فتح اهلل كولن).
الوصف الس���ابع الروح" ،جعل المفكر التركي فتح اهلل كولن َ
أرج���و التركي���ز عل���ى الكلمات الت���ي بين عالمت���ي التنصيص، نستوعب الظالل الفكرية للرياضيات.
م���ن صف���ات وارث���ي األرض" ،الفك���ر الرياض���ي" ،واعتبر بأن بين "األصفار" و"األرقام" الصحيحة الرياض���ي ليس العالِم باألش���ياء المتعلق���ة بالرياضيات ،ولكنه
فكريا". الذي "يجمع بين الرياضيات وقوانينها ًّ
لقد علمتني الرياضيات في هذا السياق:
"حل" بواس���طته "الصفر" إلى العالم ،حيث َّ • أن العرب أهدوا ِّ
وف���ي نظرة أولية إل���ى مصطلحات الرياضي���ات وعملياتها
الرياضيون الغربيون الكثير من المشكالت العلمية ،وأن العرب
أحب أن منه���ا العدي���د م���ن الحقائق والنظ���رات الفكرية الت���ي َّ
تض���اف هذه "األصفار" إلى "أرق���ام" اآلخرين حتى تتضاعف.
الحس���ابية ،وج���د كاتب هذه الس���طور أن���ه قد تعلم واس���تلهم
السنة التاسعة -العدد (2013 )39
38
بدون اإلسالم يصبحون "أصفارا" على الشمال بدون قيمة ،أو ً
ال���والدي ال���ذي اس���تعمله "جمب���ر لن"
اإلنجليزي فقد جاء بعد أكثر من خمسة
قرون من وفاة الزهراوي.
أيض���ا أول م���ن َتحاي���ل عل���ى وه���و ً
فح���ص أعض���اء الح���وض ف���ي األب���كار
ع���ن طري���ق المقع���د باإلصب���ع ،كم���ا
ط���ور الزه���راوي القنطرة الت���ي صممها جالين���وس ،وجعله���ا منحني���ة من طرف
عددا واحد وبيسر .لقد ابتكر الزهراوي ً م���ن اآلالت الجراحية التي اس���تخدمها ف���ي إجراء هذه العملي���ات الرائدة وغير المسبوقة ،وصنعها من حديد ال يصدأ،
ال بضع بذلك عملياته الجراحية ومس���ه ً
كان الزه��راوي رائ ًدا يف كثري من العملي��ات اجلراحية .فهو �أول من و�ص��ف داء الناعور، و�أول م��ن رف��ع ح�ص��اة املثانة ع��ن طري��ق املهب��ل ،و�أول من كت��ب يف ت�ش��وهات الفم و�سقف احللق ،و�أول من ربط الأوعي��ة الدموي��ة بخيوط من احلرير لإيقاف النزف منها.
وق���د كان���ت تصن���ع قبل���ه م���ن الذه���ب
والفض���ة ،وتفتق���د الق���درة عل���ى القطع
األعض���اء .وهو فتح علم���ي كبير ادعى تحقيق���ه ألول م���رة الج���راح الفرنس���ي
"أمب���رواز ب���اري" ( )Ambroisise Pareعام
1552م ،ف���ي حي���ن أن أب���ا القاس���م ق���د
حققه وعلمه قبل ذلك بـ 600سنة.
كما أن���ه علم تالمذت���ه كيفية تخييط
ش���يئا الج���روح بش���كل داخل���ي ال يترك ً مرئيا منها ،والتدريز المثمن -نس���بة إلى ًّ
ثماني���ة -ف���ي جراح���ات البط���ن ،وكيفية التخيي���ط بإبرتي���ن وخي���ط واح���د مثبت
بهما ،واس���تعمل الخيطان المستمدة من
أمعاء القطط في جراحات األمعاء.
وق���د أوص���ى الزه���راوي ف���ي كل
الحاد والس���ريع .وقد تح���دث الزهراوي عن هذه اآلالت في
العملي���ات الجراحي���ة ف���ي النص���ف الس���فلي من اإلنس���ان ،أن
وم���ن هذه األدوات ،آالت مس���تخدمة ف���ي جراحات الفم
كثيرا الغرب مباش���رة عن الجراح العربي المس���لم واستعملها ً ّ
استخدمها في الجراحات النسائية وجراحات التوليد ،وآالت
"فريدري���ك ترندلنب���ورغ" ( .)Fredericch Trendelenburgوع���ن
المقالة الثالثين من كتابه "التصريف".
والفك واألس���نان واألنف واألذن والحنجرة والحلق ،وآالت استخدمها في الجراحات العامة والشق والبط ،وآالت استخدمها ف���ي جراح���ات العظ���ام ،وأدوات الك���ي للج���رح والنت���وءات. وق���د اس���تعرض الزه���راوي بدقة بالغ���ة خبرات���ه وعملياته
الكثيرة خالل خمس���ين س���نة من ممارس���ته للطب والجراحة،
أيض���ا خبرات من س���بقوه ،وس���اق تعريفه للطب واس���تعرض ً بأن���ه عل���م وعم���ل باألس���باب والدالئ���ل ..وقدم ف���ي مقاالت
ال وصفية وتش���ريحية للعظام واألعصاب والعروق كتابه فصو ً والدماغ ،وأعماله الثالثة في التخيل والفكر والتذكر .ووصف األذن واألنف واألحشاء وطبقات العين ،وسائر أعضاء الجسد ال عن حديثه المسهب والدقيق عن من الرأس إلى القدم ،فض ً األدوية وتركيبها والعقاقير واستخداماتها.
درس عالج تش���وهات الفم والفك باس���تعماله عقافة فقد ّ
"صناني���ر" في اس���تئصال العيني���ة "البولي���ب أو األورام الليفية"
في األغش���ية المخاطية ،ونجح في عملية شق القصبة الهوائية "تراكيوتوم���ي" ،وقد أجرى ه���ذه العملية على خادم���هَ ،و ُو ِّفق أيض���ا ف���ي إيقاف نزيف الدم بربط الش���رايين الكبيرة، محس ً���نا ً ّ
يرفع الحوض واألرجل قبل كل شيء .وهذه الطريقة اقتبسها الج���راح األلمان���ي القدير فعرفت باس���م حت���ى قرنن���ا الحاليُ ، ّ
الزه���راوي أخذن���ا طريق���ة ت���رك فتح���ة ف���ي رب���اط الجبس في الكس���ور المفتوحة ،ولمد الجراحين وأطباء العيون واألسنان
األوربيين باآلالت الالزمة للعمليات بواسطة الرسوم الجديدة التي صفها.
وكثي���را من ه���ذه اإلنج���ازات الطبية الفريدة قد اس���تقيناها ً
م���ن كتابه الضخم "التصريف" ،والذي وردت فيه آراء جديدة
وجريئة في الجراحة والصيدلة أبرزها ما يتعلق بكي الجراحات وس���حق الحص���اة في المثانة ،ولزوم تش���ريح األجس���ام الحية والميت���ة .وقد َن َقل هذا الجزء من الكتاب إلى الالتينية "جيرار الكريمون���ي" ،وص���درت منه طبعات مختلف���ة منها واحدة في
البندقي���ة عام 1497م ،وأخرى في بازل عام 1541م ،وأخرى
في أكس���فورد ع���ام 1778م .وظل لهذا الكت���اب مكانة كبيرة، ككتاب مدرس���ي للجراحة قرو ًنا كثيرة في مدرس���تي س���الرنو ومونبيلييه وغيرهما من مدارس الطب المتقدمة.
(*) رئيس قسم الفلسفة واالجتماع ،كلية التربية ،جامعة عين شمس /مصر.
37
السنة التاسعة -العدد (2013 )39
غي���ر اعتيادي بالنس���بة لذلك الزمن .وم���ن المفارقات الواقعة،
استعمل الفحم في ترويق شراب العسل البسيط ،كما أنه أول
الش���رق والغرب على حد س���واء ،فالمش���تغالت بالجراحة من
يمي���ل إلى التعقيد في تحضير األدوية وتعدد عناصرها بالرغم
أن هذه الش���كوى ما زالت قائمة في عالم الطب الحديث في النساء أقل بكثير من الرجال.
وقد ترجم "جيرار الكريموني" (1187م) في القرن الثالث
عش���ر المي�ل�ادي ،الجزء الثالثين م���ن كت���اب "التصريف" إلى اللغة الالتينية ،ومنها نقله "شائيم توب" إلى العبرية.
جزءا في يتأل���ف كت���اب "التصريف" م���ن ثالثين ً فص�ل�ا أو ً
الطب والصيدلة ،ث�ل�اث منها فقط خصصها لألبحاث الطبية،
من اس���تعمل قوالب خاص���ة لصنع األق���راص الدوائية .وكان كبيرا من العقاقير من أنه قال بأن الوصفات تحتوي عادة ً عددا ً التي تتش���ابه في تأثيرها .لذلك فإن نقصان أحد مفرداتها ليس
له تأثير سلبي في المجموع .ومن المرجح أن هذه الفكرة قد س���بقه إليه���ا "البيروني" في كتابه "الصيدن���ة في الطب" ،والذي
وضع في مقدمته أسس علم العقاقير الطبية وأسس أخالقيات الطبيب والصيدالني.
والمقاالت الباقي���ة كانت صيدالنية صرفة .فقد تكلم المؤلف إنجازات في الطب
في المقالة األولى عن أغراض الكتاب مع لمحة موجزة عن
كثيرا من آالت الجراحة التي كان أشرنا من ُ قبل إلى أنه ابتكر ً
المقال���ة الثانية لل���كالم عن األمراض وط���رق معالجتها. وتعد ّ المقال���ة األخيرة "الثالثون" أش���هر هذه المق���االت ،وهي التي
عالج أكثر من خمسين داء بالكي بالنار .ويرى أنه شاهد حالة أيضا .وقد كان الزهراوي أول نزيف في أسرة ،فعالجها بالكي ً
الالتينية ،ألنها بحث طريف وعلمي في الجراحة.
م���ن اس���تعمل ربط الش���رايين قب���ل أن ينتبه إلى ذل���ك غيره من
محتوياته ،ثم تحدث عن األمور الطبيعية المعروفة ،وخصص
أمراض���ا كثيرة بالك���ي ،وقد ذكر أنه يس���تخدمها ،وكان يعال���ج ً
اش���تهر بها الزه���راوي جراحا ف���ي أوربا بع���د أن ترجمت إلى ً
من أعد إحصائية دقيقة لجميع أمراض النزف الدموي ،وأول
ال"، أما سائر المقاالت األخرى "وعددها 27مقالة أو فص ً
األطباء ،وأول من اخترع طريقة استئصال الحصى المثانية في
باإلضاف���ة إل���ى أبواب أخ���رى خاصة تتعل���ق بمعالجة أمراض
باهرا في عملية ش���ق القصبة الهوائية، الوس���طى نجح ً نجاح���ا ً
فق���د بح���ث الزهراوي فيه���ا األش���كال الصيدالني���ة المعروفة، معينة كأدوية القلب والباه والسمنة وأمراض النساء ،أو تتعلق بقوة األغذية ومنافعها ومضار ما هو ضار منها.
المرأة عن طريق المهبل ،وكان أول طبيب مسلم في العصور كما قام بعمليات تفتيت الحصى في المثانة.
وتذكر بعض المراجع الفرنس���ية أن أبا القاس���م الزهراوي
وفي المقالة الثامنة والعشرين ،والتاسعة والعشرين ،يبحث
كان أح���د أركان الثال���وث الطب���ي ال���ذي يتال���ف م���ن أبقراط،
وتنقيته���ا وتصفيته���ا ،وهي أش���هر مقال���ة صيدالني���ة كتبت في
كثيرا من اإلنجازات الطبية؛ وفي الواقع ،حقق الزهراوي ً
الزه���راوي في تحضير العقاقير المعدني���ة والنباتية والحيوانية،
األندل���س ،وقد نقل���ت إلى اللغ���ة الالتينية بعن���وا ن
"�Liber Ser
وجالينوس ،والزهراوي.
وس���با ًقا رائ���دا ف���ي كثي���ر م���ن العملي���ات الجراحية، فق���د كان ً ّ
،"vitorisوطبع���ت ف���ي البندقي���ة ع���ام 1471م .وأم���ا المقال���ة
إل���ى إنج���ازات علمي���ة وطبي���ة باهرة وغي���ر مس���بوقة ،مما يدل
فيه���ا :تس���مية العقاقير بخم���س لغات هي اليونانية والس���ريانية
"الهيموفيليا" ،وأول من رفع حصاة المثانة عن طريق المهبل،
التاس���عة والعش���رين ،فقد قس���مها المؤلف خمس���ة أبواب ذكر والفارس���ية والعربي���ة والبربري���ة ،وأس���ماء األدوات واألجهزة
الكيميائي���ة والصيدالني���ة ،وإبدال األدوية المف���ردة مع الكالم
عل���ى بعض مصادرها ،وأعمار األدوية المركبة والمفردة "مدة الصالحية" ،وش���رح أس���ماء األكي���ال واألوزان مر ّتبة بحس���ب
حروف المعجم.
كثيرا من االكتش���افات واإلبداعات ومن الطريف أننا نجد ً
الطبية غير المسبوقة في هذا الكتاب ..فالزهراوي هو أول من السنة التاسعة -العدد (2013 )39
36
عل���ى عقلي���ة ف���ذة مبتكرة .فه���و أول م���ن وص���ف داء الناعور
وأول من كتب في تش���وهات الفم وس���قف الحلق ،وأول من رب���ط األوعية الدموية بخيوط من الحرير إليقاف النزف منها، كم���ا اس���تعمل الزهراوي ش���عر ذي���ل الخيول لخياط���ة جروح
الجلد .وهو كذلك أول من أش���ار إل���ى الحمل خارج الرحم، وإلى حالة المش���يمة المتقدمة ،وش���ق جيب المياه األمنيوسية
لتعجي���ل والدة الجنين ،وهو -دون ش���ك -أول من اس���تعمل آل���ة حديدية لس���حب الجني���ن إذا تعطلت والدت���ه ،أما الملقط
الباحثين -األثر الكبير في الذين أتوا من
بع���ده من الجراحي���ن وبخاصة في أوربا ّ في القرن الس���ادس عش���ر .ذلك أن هذه
اآلالت ق���د س���اعدت على وضع حجر
األساس للجراحة في أوربا.
والجدير بالذكر ،أنه لم يكتف بذكر
أكث���ر م���ن مائت���ي آل���ة وببع���ض اآلالت
الجراحية الطبية فحس���ب ،بل قد وضع تصميمه���ا بنفس���ه ،وش���رح بدق���ة بالغ���ة
وافيا .شرح ذلك كيفية استعمالها ً شرحا ً ش���رح العا ِلم المم���ارس كله والمجرب َ ّ الخبير بما ُيفسد الجراحات وما يتوقف عليه نجاحها.
الزهراوي هو �أول من ا�س��تعمل الفحم يف ترويق �رشاب الع�س��ل الب�س��يط ،كم��ا �أن��ه �أول م��ن ا�س��تعمل قوالب خا�ص��ة ل�ص��نع الأقرا���ص الدوائي��ة .وكان مييل �إىل التعقي��د يف حت�ض�ير الأدوي��ة وتعدد عنا�رصه��ا بالرغم من �أنه قال ب�أن الو�ص��فات حتتوي عادة على عدد كب�ير من العقاقري التي تت�شابه يف ت�أثريها.
ولم���ا ظه���ر نبوغه في الط���ب ،تو ّلى
مؤلفات في الطب
كتبا مفي���دة في الطب، أل���ف الزه���راوي ً
منه���ا كتاب في أمراض النس���اء ،وكتاب اس���تحضار األدوية .وق���د ُترجم األخير
إل���ى الالتيني���ة ،وطب���ع ف���ي البندقية عام 1589م .ولكن���ه اش���تهر بكتاب���ه ف���ي
الجراح���ة الذي يس���مى "التصريف لمن
عج���ز ع���ن التألي���ف" .والكت���اب يتناول
ثالثين فصالً ،قسمه أقساما ثالثة ،فجعل ً الفص���ل األول ف���ي الط���ب الداخل���ي،
والثان���ي ف���ي األقرابازي���ن والكيمي���اء، والثال���ث في الجراح���ة ،وجعله للبحث
ف���ي عمل الي���د والصناع���ة الجراحية في أح���وال الجبر والكس���ر والخلع والوثي
التدري���س بجامعة قرطبة التي كان���ت حينئذ من أكبر جامعات
والكي والفصد " "Phlebotomyوالجراحات.
تق���دم العل���وم الطبية، وع ْرضه���ا .كان ل���ه أث���ر كبير في ّ الطبي���ة َ
الكبير الذي يرجع إليه األطباء والجراحون في أوربا إلى نهاية
جديدا في تناول المس���ائل أس���لوبا العال���م اإلس�ل�امي ،فابتدع ً ً قص���د عدد كبير من األس���اتذة جامع قرطبة ف���ي زمانه ٌ لذل���ك َ َ
���عون إل���ى التع ّلم وط�ل�اب العل���م األوربيي���ن ،الذين كانوا َي ْس َ عل���ى ي���د المس���لمين آن���ذاك .وق���د أفادوا م���ن الط���ب العربي
فض�ل�ا ع���ن ه���ذه الكت���ب الجامع���ة الت���ي قام���وا بترجمته���اً ج���دا تتعل���ق بالطب الع���ام والطب إل���ى لغته���م -م���ادة غزيرة ًّ
علم التشخيص المقارن، الس���ريري أو اإلكلينكي ،كما تع ّلموا َ واس���تقصاء ال���دالالت ،والتميي���ز بي���ن األم���راض المتش���ابهة. لق���د كان الزه���راوي أول م���ن وصف وض���ع الوالدة ،وله
آالت تس���تأصل به���ا أورام األنف وهي كالس���نارة ،وله آالت
أخرى الستخراج حصاة المثانة بالشق أو التفتيت ...وقد كان
األس���لوب الذي ابتدعه الزهراوي في ع���رض نظريات الطب
وأس���اليبه العويصة، ال .فكان له أثر آخر في أدبيا جمي ً ً أس���لوبا ًّ
وقيم���ة ه���ذا الكت���اب الطبية تتجل���ى في أنه ظ���ل المرجع
القرن السابع عشر .وكان أطباء العرب منذ العصر الجاهلي،
عالجا يعول���ون على الكي باعتباره حاس���ما لكثير من األدواء ً ً ّ وإن كان الط���ب الحديث اآلن ينظ���ر إليه نظرة أخرى إيجابية، م���ن حي���ث جدواه في عالج كثير من األمراض التي لم ُيعرف
ويصن���ف اآلن ضمن عالجات لها ع�ل�اج بالط���رق التقليديةُ ، الطب البديل ،مثل العالج بالحجامة أو الفصد باإلبر الصينية. ويالح���ظ أن الزهراوي كان من المهتمين بالعالج بالكي،
وق���د أبدى ه���ذا االهتمام ف���ي كتابه "التصريف" ،فتوس���ع في
االعتي���اد عليه ،واس���تخدامه في فتح الخراجات ،واس���تئصال
األورام السرطانية ،وكان يفضله في أحيان كثيرة على استعمال المشرط بالرغم من أنه كان من عباقرة الطب الجراحي.
ويدع���و الزه���راوي إلى ض���رورة إلمام الجراح بالتش���ريح ّ
نفوس طالبه ،إذ بعث فيهم بفصاحته في الشرح وقدرته على
ومعرفة كل عضو في جس���م اإلنس���ان وتركيبه ووظيفته ،إذ ال
العرب���ي فأقبل���وا عل���ى دراس���ته .وق���د كان للزه���راوي تالمذة
جزءا .وعلى الرغم من أن الزهراوي َيعتبر جزءا ً أجزاء الجسم ً
حب األدب استخدام اللغة األدبية في تيسير القواعد العلميةَّ ،
كثي���رون ،منه���م أبو بك���ر عمر الكرمان���ي ،وأبو بك���ر الخياط،
وابن وافد اللخمي ،ويوس���ف بن أحمد بن حس���داي ..ويذكر
المترجمون له ،أنه كان من الزهاد ويمارس الطب بال أجر.
ألم يتسنى إلماما دقي ًقا بتشريح ً للجراح أن يقوم بمهمته إال إذا ّ ّ عل���م التش���ريح ضروري���ا لتع ّل���م العمليات الجراحي���ة ،إال أننا ًّ َ
نجده يشكو من ندرة العنصر النسوي بين األطباء .وربما كان هذا هو الذي دفعه على التركيز على الجراحة النس���وية بشكل
35
السنة التاسعة -العدد (2013 )39
تاريخ وحضارة أ.د .بركات محمد مراد*
الزهراوي رائد علم الجراحة والتشريح ه���و أبو القاس���م خلف ب���ن عب���اس الزهراوي
(404-325ه���ـ1013-936/م) ،م���ن أع�ل�ام الط���ب العرب���ي اإلس�ل�امي وأش���هر جراح���ي
الق���رون الوس���طى ،وأحد األطباء العرب والمس���لمين القالئل
الذي���ن عرفتهم أوربا الالتينية واعتم���دت على كتبهم في تعلّم ْ الطب وممارسته ما يزيد على خمسة قرون.
ُولد بمدينة الزهراء القريبة من قرطبة و ُنس���ب إليهاُ .عرف
احا ،وقد لمع اس���مه ف���ي أوربا الالتينية وجر ً الزه���راوي ً طبيبا ّ أكثر مما نظر إليه أهل بلده ومعاصروه.
علم���ا حقيقيا إن الجراح���ة أصبح���ت ف���ي ي���د المس���لمين ً ًّ
وفن���ا ل���ه أصول وقواع���د ،إذ ارتفعوا به فوق مس���توى األدعياء ًّ
والمش���عوذين والجهلة إلى مجالها الطبيعي ،ال يمارسها -إال كثيرا ما كانوا طب ًق���ا للقانون -غير ّ أطباء مؤهلين ف���ي الجراحة ً
يم���رون بامتح���ان ُيعق���د له���م ف���ي البيمارس���تانات الكبيرة في ّ
القاهرة وبغداد.
وبلغ���ت الجراح���ة في يد المس���لمين في القرون الوس���طى
ذروته���ا عل���ى ي���د أب���ي القاس���م الزه���راوي ال���ذي أل���ف كتابه
"التصري���ف لم���ن عج���ز عن التألي���ف" ،والذي هو ف���ي ثالثين ال ،اهتم في بعض فصوله بالجراحة وخاصة فصله األخير. فص ً وقد كانت مهنة الجراحة مهنة مكروهة ممتهنة حتى مقدم أبي
حل ما جاء في كتابه "التصريف" عن الجراحة القاس���م ،حيث َّ
مح���ل كتاب���ات اليونان ،وظل العم���دة في هذا الف���ن في أوربا ّ
-كما تخبرنا جميع المراجع -حتى القرن السادس عشر.
زود أبو القاس���م مبحثه في الجراحة بصور توضيحية ولقد ّ
آلالت الجارحة "أكثر من مائتي آلة جراحية" كان لها -بإجماع السنة التاسعة -العدد (2013 )39
34
بعي���دا عن سفاس���ف الدنيا ،فال اغت���رار بمغرياتها ،وال يرفعن���ا ً انغماس في شهواتها ،بل استشعار بوطء األمانة وثقلها.
"أَشه ُد" ميالد حياة سرمدية
بقولها ُي ِ ين نجبنا الزمان يا َأ ُّي َها ا َّل ِذ َ ّ لتدب فينا الحياة الحقيقيةَ : اس َت ِجيبوا لهلِ ِ َو ِللر ُس ِ ِيك ْم(األنفال.)24: اك ْم ِل َما ُي ْحي ُ ول ِإ َذا َد َع ُ َ آم ُنوا ْ ُ َّ التي���ه س���يميتها ���ا، ولعب ا له���و نقضيه���ا ظاهري���ة لحظ���ات بع���د ّ ً ً والضالل ،نقتسمها وكل األحياء "المعطلة" ال سمع وال بصر منا أن يقول :أنا وال ف���ؤاد .بقول "أش���هد" ،يحين الوقت ل���كل ّ
ند وتتلب ُس���نا الطمأنينة ،أن اهلل واحد ،ال ّ ّ وال عدل له سبحانه ...لنشيد صرحا ً ش���امخا م���ن المع���ارف والم���دارك ً على القاعدة الذهبيةَ " :أ َحد َأ َحد"،
علما يتماشى والسنن الكونية َ لننتج ً
الت���ي ش���اء اهلل تعال���ى أن ُيقي���م عليها
خلق���ه ...فتأتي علومنا الكونية توحيدية ال
إلحادية وقد اس���تقت روحها من كالم الحق ...
فيك���ون منهجنا في كل العلوم ،قراءة صفحات الكون باعتباره ُ
مي ٌت في نازلة ،وما كان لقاض عدل حي أرزق ،فما شهد ً يوما ّ ّ ميت وإن نقلت له عن ع���دل ضابط .فلندع بش���هادة يأخ���ذ أن ّ ونحس ونستشعر هذه الحياة النوعية تسري في عروقنا ،ندرك ّ
مخلو ًق���ا لخال���ق خبير علي���م حكيم ،ق���راءة واعية يك���ون فيها ِاس ِم َر ِّب َك ا َّل ِذي َخ َل َق﴾(العلق.)1: شعارنا﴿ :ا ْق َر ْأ ب ْ
وأمدنا الكريم الجواد بكل النعم .فنس���لم له الخبي���ر من عدم، ّ
ل���كل إنس���ان انتم���اء اجتماعي وآخ���ر وجودي .ف���األول ُيعلم
أن أوجدنا الحكيم الفض���ل الجلي���ل والعطاء الجم الكثير ف���ي ْ ّ
الناصية تألهه أرواحنا التي بعثت من جديدُ ،فيذكر وال ُينسى، إلها يس���تلزم إنعامه أسر ويش���كر فال ُيكفرً . ويطاع وال ُيعصىُ ، ُ
النف���وس ،وجماله األخذ باأللباب ،وعظمت���ه انبهار الوجدان. ليطهر أغوار وبهذا االستش���عار ل ِن َعم اهلل ينبجس ينبوع المحبة ّ
"أَشه ُد" أمة وحضارة
بمعرف���ة أبيه وأمه وفصيلت���ه التي تؤويه ،والثاني تتضح معالمه
وأبع���اده حي���ن يعل���ن انتم���اءه له���ذا الوج���ود كمخل���وق لرب األك���وان وباريه���ا :إ َِّن َه ِ ���ذ ِه ُأ َّم ُت ُك���م ُأ َّم��� ًة َو ِ ���د ًة َو َأ َن���ا َر ُّب ُك ْم اح َ ْ اعب ُد ِ ون(األنبي���اء ،)92:غي���ر أن هذا ال يقف عند انتمائه المادي ّ َف ْ ُ كحلق���ة ضم���ن سلس���لة الموج���ودات المادي���ة ،يتس���اوى فيها ّ
القل���وب عش��� ًقا ت���ذوب ل���ه األوصال ،ث���م تنقاد الج���وارح في ﴿و َقا ُلوا َس ِم ْع َنا حركية طاعة ال حركية معصية ،ولس���ان الحال َ
تصور يلغي أفضليته في اإلنس���ان والحيوان والجماد في إطار ّ
ال ،في لتم�ل�أ الحياة عم���ارة في األرض أخال ًقا وس���لوكا وعم ً ً
بل هو انتساب إلى أنماط فكر وقيم وأخالق ،وإلى ضرب من
َو َأ َط ْع َنا ُغ ْف َرا َن َك َر َّب َن���ا َو ِإ َل ْي َك ا ْل َم ِص ُير﴾(البقرة .)285:تظهر آثارها ص�ل�اح وإص�ل�اح ،يبرز عل���ى أن انتماءنا آلدم ه���و انتماء نبوة ال انتم���اء جن���س وحس���ب .فإرثنا نبوة ،ومالنا ثق���ة باهلل وتوكل
الك���ون ويخل���ع عنه لباس التكريم الرباني ال���ذي حباه اهلل به،
تصور عميق للحياة والكون، تنم عن ُّ المعامالت والسلوكياتُّ ، يتجاوز عالم الشهادة إلى عالم الغيب ،ويعطي خصائص بارزة
فالكل عليه ،فال ضيق ينكد العيش وال سعة تفرح الوجدان... ّ موصول بخالقه منقطع عن كل مخلوق ،وحسبه اهلل ،منفصل
في أعم���اق الزمن ،ثابتة األصل ...إنها الذاتية الحضارية ألمة
"أَشه ُد" ينبوع علم
إقص���اء لآلخر ،تحاكم الع���دو والصديق بما تحاكم به الذات،
عن ذاتية حضارية ال مثيل لها ،مكينة الجذور ،غارقة االمتداد
يعش عن ذكره ،وال ُيعرض عن وصله. الرجاء عن غيره ،ال ُ
محمد ،تفيض عطاء بخيريتها على كل الناس ،تس���ود دون
ال ���م َأ َّن ُه َ ال ِإ َل َه ِإ َّ إنه���ا ب���اب علم معرفة اهلل وتوحيدهَ ﴿ ،ف ْ اع َل ْ هلل﴾(محمد ،)19:لذا ألزمنا الحق س���بحانه بعلم ما تس���تلزمه هذه ا ُ
حاملة لواء الخير للغير ،تعلم أن المخالف ما كان ليكون لوال
اس���تيقنته قلوبنا ،بعد الش���هادة ال بالقول به ،فما نش���هد إال بما ْ
تدب ًرا في كتاب اهلل حر ًفا حر ًفا وكلمة كلمة، أن أعملن���ا عقولنا ُّ
وج���ود حيثيات ومفارقات صاغ���ت وجوده ،فتقرب وتقارب،
توح���د القلوب ف���ي إطار البعد اإلنس���اني ،وتوحد التصور في إطار البعد الوجودي ،بحوار يسلك اإلقناع ويراعي المشاعر، يع���رض ال���رأي الثاقب دون تس���فيه للرأي المخالف ،ويبس���ط
تتش���ر ُب معانيها أفئدتنا ،ثم تفكُّ ًرا نجول بنظرنا عبرة في آيات ّ ِ اهلل المبثوث���ة ف���ي اآلفاق واألنفس ،نخرج أنفس���نا من زمرة َمن
الحجج الدامغة من غير حجر لحرية القرار واالختيار. ُ
الذين يتفكرون في خلق السموات واألرض .فتغشانا السكينة،
(*) عضو الهيئة المغربية لإلعجاز العلمي في القرآن والسنة /المغرب.
كان���ت أعينه���م في غطاء عن ذكر اهلل ،إل���ى ُزمرة أولي األلباب
33
السنة التاسعة -العدد (2013 )39
أدب محمد مساعدي*
إنني أشهد فيض���ا داف ًق���ا م���ن معان���ي هي���ا بن���ا ُنالم���س ً ّ لحظات نحي���ا "، د ش���ه رباني���ةُ ،نرخي العنان " َأ َ ُ ّ لحب���ال أفكارنا ،نركب مطي���ة العقل ،نتدارس التأم�ل�ات ح���ول أول كلمة من رك���ن اإلخالص عص���ارة م���ن ّ والتوحي���د ،كلم���ة التق���وى "أش���هد أن ال إل���ه إال اهلل" ،والت���ي نش���يد عليها إس�ل�امنا ،ونعلن بها انتس���ابنا إل���ى أمة محمد . نج���دد العهد والميث���اق الذي واثقنا اهلل به في رحاب الس���مع ّ و ْاذ ُكروا ِن ْعم��� َة ا ِ هلل َع َل ْي ُك ْم َ والطاعة ،نستش���عر نعم���ة اهلل علينا َ ُ ���ه ا َّل ِ ���ذي َوا َث َق ُكم ِب ِه إ ِْذ ُق ْل ُتم َس ِ هلل إ َِّن ���م ْع َنا َو َأ َط ْع َنا َو َّات ُقوا ا َ َو ِمي َثا َق ُ ْ ْ هلل َع ِليم ب َِذ ِ الص ُدورِ (المائدة ،)7:نمش���ي في ركب السائرين ا َ ات ُّ ٌ ين(الفاتحة،)5: إل���ى اهلل تحت ظالل إ َِّي���اكَ َن ْع ُب ُد َوإ َِّي���اكَ َن ْس َ���ت ِع ُ األمة في وحدة الوجهة "قبل ًة" ،ووحدة القلوب نص���وغ مفهوم ّ "اعتقادا" في أسمى معانيها؛ "إذا اشتكى منها عضو تداعت له ً والح ّمى" ...في انسالخ عن الفردانية بالس َ ���هر ُ س���ائر األعضاء ّ ميِ���زة للذات إلى تمس���ك متين بحبل الجماع���ة الممتد من ّ ُ الم ّ س���مو ورفعة من غير وهن واستكانة في الس���ماء، إلى األرض ّ ونش���يد عمارة نحيا بالقرآن الكون: ته���ز أركان نعلنه���ا صيحة ّ ّ األرض ،لنا العلو والمجد.
"أَشه ُد" في الحاضر والمستقبل
ه���ي إع�ل�ان لعهد وميثاق أزلي يبدأ في الزمان منذ أن كنا ُنط ًفا ّ ربنا على ظهره ،وأخرج منه مس���ح في صلب أبينا آدم ،حيث ّ كل نس���مة هو خالقه���ا إلى يوم القيامة ،ث���م جع َلنا على صعيد آد َم ِم ْن وإ ِْذ َأ َخ َذ َر ُّب َك ِم ْن َب ِني َ واحد وأش���هدنا على أنفس���ناَ : السنة التاسعة -العدد (2013 )39
32
ِ ���ت ب َِر ِّب ُك ْم، ���ه َد ُه ْم َع َلى َأ ْن ُف ِس���هِ ْم َأ َل ْس ُ ���م ُذرِّ َّي َت ُه ْم َو َأ ْش َ ُظ ُهورِ ه ْ منا ربنا ب َلى َش���هِ ْد َنا ،فأخذ ّ فنطق كل منا على لس���ان واحد َ ���و َم ا ْل ِق َي َام ِة ِإ َّنا ُك َّنا َع ْن َه َذا موث ًق���ا ً غليظ���ا ،وأنذرنا َ أ ْن َت ُقو ُلوا َي ْ أبدا... ين(األعراف .)172:ش���هادة سرمدية ال ينقطع أمدها ً َغا ِف ِل َ تتجدد عند كل مس���لم فط���رة اهلل الت���ي فط���ر الناس عليها ،ث���م ّ الربوبية ناصيت���ه للح���ق تبارك وتعالى ...حين يالمس إحس���ان ّ قلوبن���ا فيأس���رها ،فتألهه كل ذرة في أجس���ادنا ،فتنطلق ألس���نتا َ عمر على أنوارها تنساب ثواني "أشهد"، بقول الدهر بأكمله... ّ فهي تنقلنا منذ لحظة قولها من الفناء إلى الخلود ،ومن الموت إل���ى الحياة ...ترحل بنا من ضيق البقعة األرضية التي نمش���ي ف���ي مناكبها من حي���ز الفضاء المس���توعب لحركيتنا في الكون بمعية خالقنا ،فتتحرر أرواحنا إلى جوار عرش الرحمن ،لنفوز ّ به���ذه المعي���ة من قي���د كل زمان ومكان ...ثم إن هذا الش���عور ّ مجتمعا لهذه األمة بالسمو لكل فرد منا ،هو الذي يعطي الذاتي ً ّ اك ْم ُأ َّم ًة َو َس ًطا ِل َت ُكو ُنوا ﴿و َك َذ ِل َك َج َع ْل َن ُ حق الشهود الحضاريَ : شهداء على الناس ويكون يدا﴾(البقرة)143:؛ الر ُس ُ ول َع َل ْي ُك ْم َشهِ ً ُ َ َ َ َ َ َّ ِ َ َ ُ َ َّ ش���هادة على الناس باس���تحقاق ،لما أوثقنا به أنفس���نا من عهد عزب عنه مثقال ذرة في األرض وال في الس���ماء. مع من ال َي ُ حاضرا هو ملزم للمس���تقبل ،فحين نشهد اليوم، ثم إن التزامنا ً فهي شهادة للغد بكل أبعاده في الزمان ،نحيا ونموت ونبعث لألمة فحس���ب ،بل عليها، ّ فالمرتد ًّ أيا كان -ال يلغي انتس���ابه ّيلغي كرامته البشرية وإلى األبد فتهدر إنسانيته.
"أَشه ُد" صرخة ُح ّرية
ونبض قافلة نعلنه���ا صرخ���ة ُح ّرية في وج���ه كل ظلم ،تتناغ���م َ الس���ائرين إلى اهلل :مالئكة ،جن ،نبات ،حجر وشجر ...نشهد الع���زة بوحدانيته في الوجود ،وبانف���راده بالخلق واألمر. لرب ّ مس���تقيما نلتزم به ،لندخ���ل محراب العبودية صراطا نس���تهديه ً ً لنحرر أنفس���نا ف���ي ذل وانكس���ار وخض���وع ،بكم���ال محب���ة... ّ أي كم���ا فككنا أس���رها م���ن قيد كل زم���ان ومكان -م���ن ذل ّمخلوق جبار معاند ومكابر كان ،أم ملك قاهر .ويكون لس���ان حالن���اَ :قا ُل���وا َل ْن ُن ْؤ ِث���ركَ َع َلى َما َج َاء َن���ا ِم َن ا ْلب ِي َن ِ ���ات َوا َّل ِذي َّ َ َف َط َر َنا(ط���ه .)72:ف�ل�ا خض���وع وال انكس���ار لغي���ر ب���ارئ البرايا وخال���ق األك���وان .فهو ش���عور بالرفعة وبالس���يادة ف���ي الكون،
سد أجسامنا باستخراج الماء من القوت المتناول ،ويتم بذلك ّ َ الحاجة للماء بش���كل أيضي .فهذه العملي���ة تغنينا عن الجاجة
نمر عليها في اليوم إلى الماء ً دائما .تنتشر أعشاش النمل التي ّ الواحد على نصف كيلومتر مربع ،وربما ترتفع هذه المساحة
إلى 6.800هكتار إذا كانت األعشاش قليلة.
استمرارية نَ ْسلنا
تجتم���ع الذك���ور واإلن���اث للتكاثر ف���ي فصل الخري���ف .إنها الحمل الت���ي تمتد إلى مرحل���ة تت���م بتقدي���ر إله���ي .وبعد فت���رة ْ
واحدا ف���ي فصل الربيع ،كما مولودا يوم���ا ،تل���د اإلناث ً ً ً 190 تندر التوائم بيننا .تستند األنثى أثناء الوالدة على ذيلها الطري مزودا بالمخالب، الناعم فتضع مولودها عليه ،ويولد المولود ً
ث���م تقوم بإرضاعه س���تة أش���هر .هذا وقد تمت���د صحبة الصغير ألم���ه -ف���ي بعض األحيان -عامين ،يك���ون عندها قد بلغ ،ثم يبدأ البحث عن األنثى رفيقة عمره .تقوم األم بحمل صغيرها
عل���ى الظه���ر ف���ي غالب األحي���ان ،وال تضع���ه إال عندما تغدو
باحثة عن رزقها .ال تتحمل إناثنا أعباء رعاية الصغار وحدها، أيضا نش���اركها ف���ي هذه المهم���ة الهامة .أما ب���ل نح���ن الذكور ً
آكالت النم���ل الحريري���ة فتقوم بتلقيم صغاره���ا بعض الطعام (نصف المهضوم) من النمل في فترة الرضاع.
إذا كان���ت صغارن���ا نح���ن آكل���ي النم���ل العمالقة تش���بهنا،
الت َاما ْن���دو ( )Tamanduaال تش���به أبويها ب���ادئ األمر ف���إن صغ���ار ّ
تدريجيا ،حيث يتغير لونها من البياض إلى الس���واد حتى إنم���ا ًّ
خاصا نركن يتحق���ق الش���به بينها وبي���ن أبويها .ليس لنا م���أوى ً إليه ،بل نلجأ إلى ظالل األشجار فنلتحف أذيالنا وننام .ويلجأ
الت َاما ْندو إلى ُن ْق َرة في جذع ش���جرة ليستريح فيه ،كما يستريح ّ
آكل النمل الحريري على أغصان األش���جار ،إال أنه ال يمكث أيضا يرعى -مثلنا- ف���ي الش���جرة الواحدة أكثر من يوم ،وه���و ً
الت���وازن البيئ���ي حينم���ا يتن���اول النم���ل .نتمتع نح���ن وفصيلة
التع���رف على إناثنا وصغارنا بفضل الرائحة الت َاما ْن���دو ،بمهارة ّ ّ القوي���ة التي تصدرها غددها الش���رجية .وقد تقوم غدد إفرازية
أيضا .كما ف���ي وجه آكل النمل الحريري ،بمثل ه���ذه الوظيفة ً
أنن���ا نس���تخدم رائحة لعابنا ف���ي التواصل فيما بينن���ا وفي تمييز الذين ينتمون إلى فصيلتنا كذلك.
جدا ،هذا ما يجعلنا معدل األيض في أجسامنا منخفض ًّ إن ّ
جسمي ( 32,7درجة) بين الثدييات أقل معدل حراري نملك ّ ٍّ ٍ ِ يوم���ي لتأمي���ن نش���اط س���اعات المش���يمية .نحت���اج إل���ى 8-4 ٍّ
احتياجاتنا .تتمتع أنواعنا التي تعيش في المناطق الشمالية من ٍ القارة األمريكية بلون واحد كاشف بعض الشيء ،بينما يغمق هذا الل���ون كلما اتجهنا صوب المناطق الجنوبية .هذا ويتفرع ّ تبعا أللوانها .فالنوع كلٌّ م���ن األنواع األربعة إلى فروع عديدة ً والت ّاما ْندو المكسيكي يتفرع إلى ثالثة فروعّ ، الذي أنتسب إليه ّ تبعا إلى خمس���ة فروع ،وآكل النمل الحريري إلى سبعة فروع ً لألشجار والمناطق التي تعيش عليها. أيضا ...فعلى الرغم إن خطر االنقراض يسري علينا نحن ً من أن لحمي ال يصلح لألكل ،وجلدي ليس مرغوبا وليست ً ل���ه تجارة ش���ائعة ،فإن بعض الناس يه���وى مطاردتي وصيدي عب���ر الكالب كنوع من الرياضة .ففي "فنزويال" يس���رق الناس ُ للت ْدجي���ن .ولكن أخط���ر تهديد نواجهه ف���ي الحقيقة صغارن���ا َّ ه���و تخري���ب البيئة والمحيط الذي نعيش ف���ي كنفه؛ فالنفايات تل���وث األترب���ة والمي���اه، الكيماوي���ة ،والس���مادات الزراعي���ة ِّ فتتخ���رب أعش���اش النم���ل وتنحس���ر مناطقها وتق���ل أعدادها، فيتهدد قوتنا ويتهدد وجودنا. أيها اإلنسان.. حاولت أن أعرض لك جماليات وبديعيات ُ وجهزني بأجه���زة يعجز صانع���ي ال���ذي أوجدن���ي م���ن الع���دم ّ بدر مني خطأ أو إن العقل عن استيعابها وإدراكها .فأعتذر إن َ حدي في كلمة أو تفسير .فطلبي منكم أنا المسكين؛ جاوزت ّ ُ أن ترحمون���ا وترحموا المخلوقات الضعيفة العاجزة األخرى، وأن تحافظ���وا عل���ى الطبيع���ة وال تفس���دوا توازنه���ا وجماله���ا عفوا... المتكام���ل المتناغ���م ،فإن الحي���اة تكفينا وتكفيك���مً ... رأي���ت نملة تدخ���ل الثقب ،فعلي اإلس���راع ألعث���ر عليها ،إني ُ ّ ثم ، ال قلي بالج���وع أش���عر ل���دي أعمال كثيرة وزي���ارات عديدة ً ّ ألعشاش النمل هذا اليوم .هيا إلى اللقاء.
(*) جامعة 9أيلول /تركيا .الترجمة عن التركية :مصطفى حمزة.
31
السنة التاسعة -العدد (2013 )39
خاص���ة في المع���دة تقوم بإفراز حم���ض كلوريد الهيدروجين
جي���دا نوع النمل التي تحمل في رؤوس���ها أس���لحة نع���رف ً ونتجنبها .و َأ ْف َضل ما نفعل���ه عند فقداننا النمل، كيماوي���ة قوي���ة ّ
أي إفراز حمضي .هذا دفعك���م إلى التفكير وال يح���دث فيه���ا َّ
بضع نحالت منها.
( ،)HClأي حم���ض كلور الماء ،ولوال هذا الحمض في المعدة لم���ا ت���م هضم البروتينات .إال أن معدتي ال تحظى بهذه الغدد أني أعاني من مش���كلة هضم البروتينات ،أليس كذلك؟ ولكن
زود معش���ر النمل بحم���ض الفورميك رب���ي ،بعلمه الواس���عّ ، للدف���اع عن نفس���ها ،األمر الذي يغنيني ع���ن الحاجة إلى إفراز
وأسد حاجتي إلى الحمض من حمض األحماض في معدتي، ّ الفورميك الموجود في النمل هذه .فكيف يعقل أن نفسر هذه
اآللي���ة الفس���يولوجية العجيب���ة المتمتعة بغذاء خ���اص ،بنظرية
التكيف أو االختيار؟ التطور أو ّ
لق���د منحن���ي ربي قدرة التمييز بين أنواع النمل ،فأبتعد عن
كبارها ذات األفواه العريضة ،ألن قشرتها صلبة وفي رؤوسها
أس���لحة كيماوي���ة مختلف���ة .لذلك ألف���ظ هذا النوع م���ن النمل ذات الروائ���ح الكريهة لكي ال تفس���د طعم فم���ي ،وأبقى آكل عام�ل�ات النمل واليرقان���ات .ولكن عندما أقوم بجمع الطعام
أب���دا مراعاة التوازن البيئ���ي الحياتي ،فال أقضي على ال أنس���ى ً
ال ،بل أنتقل من عش إلى آخر عش النمل الذي أعثر عليه كام ً بع���د وجب���ة ال تتجاوز 140نملة .وهذه الكمية تش���كل %0,5
من حاجتي اليومية إلى الغذاء .وبذلك أكون قد حافظت على ي���ت حاجتي من الغذاء الع���ش م���ن جانب ،ومن جانب آخر ّلب ُ
أنن���ا نقوم بزيارة خالي���ا النحل فنتذوق بعض عس���لها ونتناول م���ن الطبيع���ي أن يكون لي أعداء .فالنمر األمريكي وأس���د
الجبال من فصيلة السنوريات بأمريكا الالتينية ،تأتي في طليعة هؤالء األعداء .وليس لي ما أدافع به س���وى قدمي الخلفيتين ّ وذيل���ي ،إذ أعتم���د عليهما لرف���ع جس���مي واالنقضاض على
بفك���ي ومخالب���ي .ورغ���م ق���وة مخالب���ي الخارق���ة في ع���دوي َّ ّ الحف���ر ،إال أنها تظل ضعيفة في مقاوم ِ ور ْدع هذه الحيوانات ة َ العض ،فإن أستطيع المفترس���ة .وبما أني ال أملك أس���نا ًنا وال ّ خي���ر وس���يلة عند مواجهت���ي الخطر هو اله���روب ،أو االختفاء َ
دائما .أما أخطر أعداء أش��� ّقائي الذين يعيشون على األشجار، ً هي البوم والنسر والشاهين.
تتمت���ع يدي بخمس���ة أصاب���ع ،وأرجلي بأربعة أو خمس���ة
ج���دا مخفية تحت أصاب���ع .كم���ا أني أمل���ك أصابع صغي���رة ًّ
أيضا .ويختلف عدد األظاف���ر الطويلة في األصابع جل���د اليد ً
التي أس���تخدمها في حفر التربة أو في إزالة القشور من جذوع األش���جارَ .ف ِل���ي ثالثة أظافر طويل���ة ،وآلكل النم���ل الحريري ���دو ( )Tamanduaأربع أظافر ،هذه األظافر أقوى وللتاما ْن ُ اثن���انَّ ،
���مك من األظافر األخرى لدين���ا .فتقوم أيدينا بذلك بدور ْ وأس َ
آل���ة الحف���ر التي تنحني وت���دور في كل االتجاه���ات .حتى إن
قبل أن تنتبه علي عس���اكر النمل .أحتاج إلى ما يزيد عن 250 ّ يوميا. مم) 8 (بطول كبيرة نملة 35.000 تناول عشا من أجل ًّ ًّ كم���ا ت���رون ،أتن���اول كمي���ات مح���دودة م���ن النم���ل ،فمن
حي���ث تس���تطيع من خالله���ا ومن خ�ل�ال أذياله���ا الطويلة أن
أدي���ت وظيفتي في منع النمو المفرط للنمل .كان بإمكاني أن ُ
أعتمد على حاس���ة الش���م القوية في البحث عن أعش���اش
جان���ب أك���ون قد أش���بعت بطني ،وم���ن جانب آخ���ر أكون قد آكل كل النم���ل الموجودة في األعش���اش م���رة واحدة ،ولكن
أعرف أن هذا سيؤدي إلى انقراض إمبراطوريات النمل خالل مذموما فت���رة قصيرة ف���ي كل منطقة َأ ْنزل فيها ،فأقع���د حيندئذ ً
طول مخالب أنواعنا التي تتسلق األشجار يصل إلى 40سم، تتعلق باألغصان وتتحرك بكل سهولة.
النم���ل ،وذل���ك لضعف بص���ري .فبمجرد التق���اط رائحة نملة،
ال أش���رع على الف���ور بحفر الثقب الذي دخلت في���ه ،ألتقط أو ً عامالت النمل الخارجات منه ثم أحشر لساني في العش. لباس���نا يناسب المحيط الذي نعيش فيه ،ال سيما وأن آكل
حرج وأتض���ور من الجوع .فلكي ال أقع في مدح���ورا ،أتلوى ٍ ً ّ كه���ذا ،أكتفي كل يوم بالقلي���ل من النمل من كل عش ،وأمنح
جدا في اختيار األش���جار ذات األوراق بارع ًّ النمل الحريريٌ ،
تظل األعشاش قائمة ،وأتمكن أنا كذلك من تأمين الطعام في
واالختفاء فال تستطيع الجوارح رؤيته بسهولة.
أكلته منها ،عندئذ فرصة النمو والتكاثر لهذه النمل لتعويض ما ُ الي���وم التالي فالتالي بنفس المنطقة ...ولكن أخش���ى أن تظنوا
أن ا ْقتياتي على هذه الطريقة مع مراعاة التوازن البيئي ،وجد ُته
أساسا؟! أنا من تلقاء نفسي وبعلمي غير الموجود ً السنة التاسعة -العدد (2013 )39
30
يمكنه م���ن التمويه الفضي���ة الت���ي تتفق م���ع لونه ،األم���ر الذي ّ ال نمل���ك أي���ة قابلي���ة ف���ي إصدار األص���وات ،وليس���ت لنا
أصوات عدا بعض األنين الذي تصدره األمهات عند الوالدة، ٌ فنح���ن حيوانات صامتة .كم���ا أننا ال نحتاج الماء؛ حيث تتميز
يدع���ون أنن���ا نحن َمن قام بتطوير المخال���ب القادرة على حفر نمى اللس���ان الطوي���ل الذي يبلغ أعش���اش النم���ل ،ونحن َمن ّ طول���ه نص���ف مترٍ الس���تخدامه في التق���اط النم���ل ،ونحن َمن الخ ْطم الرفيع؛ وذلك مدد َ ط���ول الرأس األنبوبي ،ونح���ن َمن ّ ّ من خالل الممارس���ة الطويلة عبر األزمنة الطويلة ،أو أن هذه تطورت من تلقاء نفسها وظهرت فينا ،صدف ًة من غير األعضاء ّ حساب(!) فما علينا إال أن نقول لهؤالء :لماذا لم تقوموا أنتم بتطوير أعضائكم لتس���هيل حياتكم التي تعيش���ونها؟! المعذرة؛ ولكن يصعب على العقل أن يستوعب ويفهم هذه االدعاءات واآلراء من مخلوق إنسان .بيد أن هؤالء الناس من البشر ،لو اعترفوا بقدرة اهلل تعالى وأبصروا صنعه البديع في خلقه وف ًقا للبيئة التي يعيش���ون فيها ،لاَ ْنحل���ت كل األلغاز واتضحت كل ِ الح َكم واألسرار. فالش���كل الخاص لرأسي و َف ّكي ولساني ومخالبي مصنوع وف ًقا لش���كل جس���مي ووف ًقا لتلبية غذائي ومن ثم إدامة نس���لي وذريت���ي في هذه الحياة ،لذلك ال يمكن للثدييات األخرى أن تجد أعشاش النمل والتقاطها مثلي بكل هذه السهولة.
أنا وأشقائي
وكون���ي أعيش في غابات أمريكا الوس���طى وأمري���كا الجنوبية أب���دا ،أو رآني في بعض حدائق فق���ط ،لعل معظمكم لم يرني ً الحيوان���ات .يعي���ش الي���وم من���ا أربعة أن���واع .فأنا م���ن أضخم ُ عرف آكالت النمل ،يبلغ طولي 130سم ،ووزني 40كغ .أ َ ب���ـ"آكل النمل العمالق" .كما يوجد بيننا نوعان متوس���طان من حيث الحجم ،هما "آكل النمل المطوق" و"البنغول" .أما "آكل النم���ل الحري���ري" فهو أصغرن���ا حجما حيث يبل���غ طوله 20 ً س���م ويزن 400غرام ،س���مي بـ"آكل النمل الحريري" بس���بب شعره الحريري الطويل .والطول الذي أذكره هنا ال يدخل فيه الذيل الذي يوازي طوله جسمه ،بل ويتجاوز ذيل "آكل النمل الحريري" طول جسمه. وإذا كان بع���ض أنواعن���ا ينش���ط في الليل نح���و رزقه كآكل النم���ل الحريري ،فإن اآلخرين مثلي يس���عون وارء رزقهم في مهي ٌؤ من الناحية النهار .وأنا باعتباري من آكلي النمل الضخامَّ ، التش���ريحية للعيش على األرض ،وقلما أتس���لق األشجار .أما آكل النم���ل الحري���ري، فمهي���ؤ للعيش على األش���جار بس���بب ّ الكلاَّ ب���ات ،ولكنه يعيش حجم���ه الصغي���ر ومخالبه التي تش���به َ مثل���ي عل���ى األرض في بعض األحيان .تتم���ع أرجلنا بالقدرة
عل���ى الحفر والتس���لق والس���ير على اليابس���ة ،ولك���ن في نهاية منا المط���اف يمارس عمله الذي يناس���ب طبيعته .وكأن ّ ال���كل ّ ُ الطبيع���ة تعق���د معن���ا اتفاقي��� ًة س���ري ًة ت���وزع خباياها بينن���ا؛ ففي الوقت الذي أقتات فيه النمل في أعشاش���ها على األرض ،فإن اآلخرين يقتاتون من بيوت النمل على األش���جار ،األمر الذي قسم يزيل الجدل والتنافس فيما بيننا .فاهلل سبحانه وتعالى قد ّ األرزاق بيننا وأودعها في أماكن مختلفة. ���ن َّيات" ( ،)Edentataفجميع يل ّقبن���ا علم���اء األحي���اء بـ"ال َّ ال ِس ِّ يتكون َف ُمنا من فتحة بيضوية في نهاية أنفنا أنواعنا بال أسنانّ . الطويل الرفيع .ومن الس���هل أن تس���توعبوا الحكمة من َخ ْلق رؤوس���نا أنبوبي��� ًة -والتي يبل���غ طولها 30س���م -إذا ما عرفتم ّ يشكل اللسان طريقة التغذية لدينا نحن آكلي النمل .هذا وقد ّ الرفيع المكور والطويل أهم أداة لفمي الخالي من األس���نان. يش���كل الرقم القياس���ي في الط���ول إذ يبلغ ولعل لس���اني هذا ّ 61س���م ،بينم���ا يبل���غ 40س���م عند األن���واع األخ���رى .يتميز اللس���ان عندن���ا بميزتي���ن هامتي���ن :فاألولى أنه مغطى بأش���واك مدب َب���ة كأنها مب���ارد مائلة نحو الداخل تكس���وها طبقة ُ صغي���رة َّ سميكة ِلز َجة الصقة من اللعاب ،والثانية أنه على شكل َسوط ويمكنن���ي أن أخرج���ه وأدخله إلى فمي بس���رعة تبلغ أكثر من 150مرة في الدقيقة. ال أقل���ص عضالت المض���غ باتجاه وف���ي هذه األثن���اء ،أو ً جيدا .وبينما كور فمي ً الوس���ط في نص َفي فكي األس���فل ،ثم ُأ ِّ عضالت الحنك في فمي ُتق ّل���ص أط���راف مؤخرة عظم الفك َ ُ الس���فلي ،ترتف���ع ف���ي األمام لس���د فمي ،وبحركة لس���اني هذه ّ لدي .أما العضل���ة التي تتحكم في حركة ترتف���ع طاقة الهضم ّ لس���اني فهي عضل���ة " "Sternoglossusالمرتبط���ة بقاعدة صدري. وإني أس���تطيع بلس���اني التقاط جميع النم���ل من داخل العش حت���ى وإن ل���م أرها بعيني .فكما أنكم أنتم البش���ر تس���تطيعون التمييز بألس���نتكم بين الضار والنافع ،فكذلك نس���تطيع نحن ّ التميي���ز بين النمل وحبات الرمال وغيرها من األش���ياء التي ال ت���ؤكل ،فأطرحها إل���ى الخارج ثم أمضغ النمالت بعظام فكي الصلبة وأبتلعها.
تصميم عجيب لمعدتي
خاص َّية أخ���رى ال يمكن إحداثها بالتطور. س���أحدثكم هنا عن ِّ تعلم���ون أن المع���دة تحت���اج إل���ى حموض عالي���ة لكي تهضم البروتين���ات ،ولذل���ك تش���ترك جمي���ع الثدييات بوج���ود غدد
29
السنة التاسعة -العدد (2013 )39
علوم
أ.د .عرفان يلماز*
حكاية آكل النمل مرحبا عزيزي اإلنس���ان ..أرجو أن ال ً كثيرا. وفمي أنفي شكل من تستغرب ً أع���رف أنك ل���م تعتد عل���ى رؤية نوع أبدا، مثلي بين الحيوانات .لكنني ال أش���كو من ذلك ً ال ش���ك أن هناك ِحكَ ًما كثيرة وفوائد عديدة في هذه ِ الخلْق���ة التي أبدعها خالقي العليم الخبير .أعتقد أنك
ق���رب إال في األفالم غريب���ا مثلي عن ٍ ل���م ت���ر مخلو ًقا ً الوثائقي���ة التي تتحدث عن عالم الحيوانات في الكرة األرضي���ة .ولكن���ي على يقين أن اس���تغرابك س���يزول عندم���ا تعرفني ع���ن قرب ،وعندما تع���رف كذلك أني مخلوق ترجمان ألسماء اهلل الحسنى في هذا الكون. فأنا لم ُأبدع شكل رأسي وفمي ولساني ومخالبي كثي���را ف���ي ْأكل عل���ى ه���ذا الش���كل ال���ذي يس���اعدني ً النم���ل .ولكن لو س���ألتم علماء الوراثة لس���معتموهم السنة التاسعة -العدد (2013 )39
28
حي���ن يح���اول كل واح���د تخري���ب مس���لك اآلخري���ن وهدمه،
حدا به إلى تأس���يس مدرس���ة النور المنتش���رة في بقاع األرض الواس���عة ...فكتابة الرسائل واستقطاب التالميذ بأعداد كبيرة، متميزا في حياة األتراك وحياة اإلنسانية إصالحيا إس���هاما كان ً ً ًّ
الش���خصية يمهدون السبيل لفتح األبواب أمام أولئك األعداء
جيدا ولع���ل ّ المطل���ع على الرس���ائل في تفاصيلها ،ي���درك ً
ش���رعا؛ حيث ومبعث���ه الحقد والضغينة والعداوة .وهو مردود ً المتنازعون والمختلفون يعجزون عن القيام بأي عمل إيجابي
جانبا ،س���ائرين وفق أغراضهم ّبناء .وكأننا بهم وهم ينحازون ً
ليدخلوا حرم اإلسالم اآلمن.
ألم باألمة اإلس�ل�امية، ُّ وتحس ً���با لهذا األم���ر الخطير الذي ّ
يوصي األستاذ سعيد النورسي بتفعيل القيم األخالقية في هذا
ال" :عودوا إلى رش���دكم ،وادخل���وا القلعة الحصينة الب���اب قائ ً ���ون إ ِْخ َو ٌة(الحج���رات ،)10:وحصن���وا المقدس���ةِ :إ َّن َم���ا ا ْل ُم ْؤ ِم ُن َ أنفسكم بها من أيدي أولئك الظلمة الذين يستغلون خالفاتكم الداخلي���ة ...فإن كنتم ح ًّقا مرتبطين بملة اإلس�ل�ام ،فاش���هدوا
بالدستور النبوي العظيم" :المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا"( .رواه البخاري)". ً
• أما "الفقر" أو البؤس -حسب ما يسميه أحيا ًنا -فإنه الوجه
المظل���م لالخت�ل�ال الذي يصي���ب البنية االقتصادي���ة من جراء
االس���تغالل السيء للثروات ،وهو ما يصيب البنية االجتماعية بتف���كك ويزيد من ظاهرة التخلف ،حي���ث يقل األمن أو يكاد
ينعدم .وقد أجاب األس���تاذ س���عيد النورس���ي عندما س���ئل عن
هذا اإلش���كال المادي بأن "هناك كلمتين هما منش���أ جميع ما آلت إليه البشرية في حياتهم االجتماعية من َت َر ٍّد في األخالق ٍ ش���بعت فال علي أن وانحط���اط في القي���م ،الكلمة األولى :إن ُ ّ يموت غيري من الجوع .الكلمة الثانية :اكتسب أنت ِآِل ُكل أنا واتعب أنت ألس���تريح أنا ...وإن ال���ذي يديم هاتين الكلمتين ويغذيهما هو :جريان الربا ،وعدم أداء الزكاة".
وعلي���ه فالح���ل الناج���ع يكم���ن ف���ي تفعي���ل قي���م التكافل
االجتماعي في اإلسالم؛ بإعانة المحتاج والكف عن استغالل
عامة.
األه���داف العملية التي توخاها األس���تاذ س���عيد النورس���ي من مكافح���ة الجه���ل .فق���د كان يرمي إلى إصالح البني���ة التعليمية ال ومضمو ًن���ا ،فدعا إلى توحيد الم���دارس الدينية الديني���ة ش���ك ً
وإصالحه���ا ،وإنق���اذ اإلس�ل�ام من األس���اطير واإلس���رائيليات
والتعص���ب الممق���وت ،و َف ْت ِح طري���قٍ لجريان العل���وم الكونية الحديث���ة إل���ى المدارس الدينية بفتح نبع ص���اف لتلك العلوم بحي���ث ال ينف���ر منها أهل تلك الم���دارس ...إلى غير ذلك من واقعا متحق ًقا بفضل المنهج العملي الطموحات التي أصبحت ً
للتربية النورية ،الذي حرص صاحبه على تطبيق معالم التربية ونظرا. سلوكا اإلسالمية األصيلة باعتماد األخالق القرآنية ً ً وبع���د ،فمم���ا ال ش���ك في���ه ،أن الغاية األساس���ية من رصد ُ مقومات المجتمع اآلمن في رسائل النور ،هي تقريب ِ الح َكم
القرآني���ة الجليلة في إصالح أحوال المجتمعات إلى األذهان، واإلسهام في توجيه األنظار نحو األساليب العملية الكفيلة بنقل الحقائق اإلس�ل�امية -فيما يخص بن���اء المجتمعات وتعهدها-
إلى واقع التجربة التطبيقية وإبراز أبعادها الحضارية الفاعلة. قدمنا باختصار ش���ديد ،ما أهدته رسائل وبذلك نكون قد ّ النور لإلنسانية الباحثة عن ُسبل السالم وأسس األمن واألمان.
(*) أستاذ الفكر والحضارة بكلية اآلداب والعلوم اإلنسانية-تطوان /المغرب.
المراجع
( )1كلي���ات رس���ائل الن���ور (الكلم���ات ،المكتوب���ات ،اللمع���ات ،الش���عاعات، المالحق ،صيقل اإلس�ل�ام) ،لبديع الزمان سعيد النورسي ،ترجمة :إحسان
المعسر وإثقال كاهله بغير وجه حق .وذلك بتطبيق الزكاة في
كليا. عاما ،وتحريم الربا المجتمع وفرضها ً فرضا ًّ ً تحريما ًّ
وبهذي���ن الفعلي���ن يتوط���د الرك���ن األصيل في بناء س���عادة
البشرية وأمانها.
• أم���ا ثالث���ة اآلفات االجتماعي���ة فهي "الجه���ل" .والجهل
درج���ات ومرات���ب وأن���واع ،ودركها األس���فل م���ا تعلق بجهل الدين وحقيقته ،وما نتج عنه من مخالفة الشريعة.
وال���ذي أثار بديع الزمان س���عيد النورس���ي في عصره ،هو
إهم���ال المعرف���ة الديني���ة وخاص���ة ف���ي صفوف الش���باب ،مما
قاسم الصالحي ،دار النيل للطباعة والنشر ،القاهرة.
( )2أدب الدني���ا والدي���ن ،ألبي الحس���ن الماوردي ،الطبع���ة األولى ،دار الكتب العلمية ،لبنان1407 ،هـ1987-م.
()3
مدخل إلى نظرية األمن واإليمان في س���عادة اإلنس���ان وتقدم المجتمعات،
لعبد الوهاب محمود المصري ،الطبعة األولى ،مؤسس���ة الرس���الة ،بيروت 1413هـ1993-م.
( )4اإلس�ل�ام مالذ كل المجتمعات اإلنس���انية ،لمحمد س���عيد رمضان البوطي، الطبعة األولى ،دار الفكر ،دمشق1404 ،هـ1984-م.
( )5اإلس�ل�ام واألمن االجتماعي ،لمحمد عمارة ،الطبعة األولى ،دار الش���رق، القاهرة1418 ،هـ1998-م.
27
السنة التاسعة -العدد (2013 )39
وه���و المقصود لذات���ه ،أي هو المقاصد
الحقيقية للصانع الجليل.
مفعما إن���ه بذلك يفت���ح أف ًقا مش���ر ًقا ً
باألم���ل ف���ي تحقيق األم���ن االجتماعي،
عبر اإليمان في نفوس أفراد من خالل َم َ
المجتمع بتن���وع أعمارهم وأوضاعهم. فاألطفال "الذين يم ّثلون ربع البش���رية، ال يمكنهم أن يعيشوا عيشة إنسان سوي
ينطوي على نوازع إنسانية ،إال باإليمان باآلخرة".
وك���ذا غيرهم م���ن الفئ���ات العمرية
األخ���رى كالش���يوخ "الذي���ن يم ّثل���ون
�إن الأمن الذي يطلبه امل�سلمون ه��و الأم��ن ال��ذي ي�أت��ي م��ن امل�ساعي املنظمة والثقة املبثوثة يف النفو�س والتعاون امل�ستتب ب�ين الأفراد .وه��ذه ال�رشوط ه��ي مبثاب��ة مقوم��ات �أ�س��ا�س جتتمع حول مق��وم حموري هو الدين ،وذل��ك بالتزام التقوى وابتغاء مر�ضاة اهلل .
ربع البش���رية ،فإنهم ال يرون الس���لوان حي���ال انطفاء حياته���م ودخولهم تحت
الت���راب ...إال باإليم���ان باآلخرة ...إذ ل���وال هذا اإليمان لبقوا جدا". في حالة نفسية تعسة ًّ
وكذل���ك المرض���ى والمظلومون والفقراء والمس���اجين...
فل���وال ن���ور اإليمان ال���ذي يمدهم بالعزاء والس���لوان ،لما زال كليا. عنهم القلق واالضطراب وصورة التأثر جزئيا أو ًّ ًّ
فكم���ا نلتم���س آثار األمن في نفس الف���رد المؤمن ،نجدها
بارزة في الوسط األسري ،باعتباره دائرة تتسع لعالقات القربى جدا، والرأف���ة والمحبة التي ال تقاس عندئذ ضمن زمن قصير ًَّ ب���ل تقاس على وفق عالقات تمتد إل���ى خلودهم وبقائهم في دار اآلخرة والس���عادة األبدية .ومن ثم "تبدأ السعادة اإلنسانية
الحق���ة بالتألق في ذل���ك البيت" ،والعكس صحيح إن لم يكن
ومهيمنا في بيوت الناس. حاكما "اإليمان باآلخرة" ً ً
بعد هذا يضيف األستاذ سعيد النورسي دائرة أخرى أوسع
من الثانية وهي دائرة المدينة ،وما هي في حد ذاتها سوى بيت ثابتا فيها "كانت واسع لسكنتها .فإن لم يكن اإليمان باآلخرة ً
معاني اإلرهاب والفوضى والوحش���ية حاكمة ومسيطرة تحت اس���م النظام واألمن واإلنسانية التي يظهرونها ،وحينئذ تتسمم
حياة تلك المدينة" وتنخرم فيها صفات المجتمع اآلمن.
بعد اس���تقراء أحداث كثيرة واستنباط أفكار متعددة ،يؤكد
األس���تاذ س���عيد النورس���ي أن المجتمع اآلمن ه���و المجتمع
المؤم���ن ،وأن المجتم���ع المؤم���ن ه���و المجتم���ع المس���لم.
ويخل���ص إلى أن "المس���لمين خدام الق���رآن" ،يتبعون البرهان السنة التاسعة -العدد (2013 )39
26
المقوم التالي.
ويقبل���ون بعقوله���م وفكره���م حقائ���ق اإليمان ،وهم ليس���وا كمن ت���رك التقليد تقلي���دا للرهبان كم���ا هو دأب بالبره���ان ً أتب���اع س���ائر األدي���ان .وه���و ف���ي ذل���ك يستبشر أن المستقبل الذي "ال حكم فيه إال للعقل والعلم ،س���وف يس���وده حكم الق���رآن الذي تس���تند أحكامه إلى العقل والمنطق والبرهان". وبالتال���ي فاإلس�ل�ام ه���و المؤه���ل ال ،ألن الحقيقة الوحيد للس���يادة مس���تقب ً اإلس�ل�امية هي الكفيلة بإس���عاد البشرية بم���ا تقدم���ه م���ن منظوم���ات تصوري���ة فعل وأخالقي���ة نافع���ة وبانية َ ش���رط أن ُت ّ ف���ي الواقع ،وهو ما س���نبين مالمحه في
-3تفعيل األخالق القرآنية مرآة المجتمع اآلمن
س���بقت اإلش���ارة إل���ى أن رس���ائل النور ه���ي عبارة ع���ن إعادة دراسة تاريخ اإلنسانية وواقعها ،على ضوء ما جاء في القرآن الكري���م من أدلة منهجية ربانية منفتحة على حقيقة الحياة ،من خالل اليقينيات الكونية كما يش���رحها القرآن الكريم ،فتآلفت الرس���ائل ح���ول نقط���ة محورية ه���ي توضيح الحقائ���ق الدينية واإليمانية المتعلقة باإليمان باهلل وبرس���وله وباليوم اآلخر ..إذ تهدف من وراء ذلك إلى رسم صورة معالم التربية األخالقية في اإلس�ل�ام ،بإث���ارة البحث في المس���ألة األخالقية من زاوية عالقته���ا بالخال���ق ،وعالقته���ا بالخل���ق ،وعالقته���ا بالك���ون والطبيعة ،وعالقتها بالنفس ...كي تؤسس رؤية أصيلة مفادها أن األص���ل األخالق���ي في الثقافة اإلس�ل�امية ه���و أصل ديني. ف�ل�ا أخالق بدون دين ،كما ال دين ب���دون أخالق .واإلخالل بالدس���تور األخالقي اإلسالمي ،سرعان ما يؤدي إلى اختالل توازن المجتمع. لق���د أدرك األس���تاذ بدي���ع الزمان س���عيد النورس���ي العلل واألس���باب الثاوي���ة وراء اخت�ل�االت م���ن ه���ذا النوع ،وس���لط منظ���اره الفاح���ص عل���ى المفاس���د االجتماعي���ة ف���ي عص���ره، فوجده���ا مختزل���ة فيم���ا س���ماه باألع���داء الثالث���ة :الخ�ل�اف، والجهل ،والفقر. • إن المقص���ود بـ"الخ�ل�اف" ،ه���و االخت�ل�اف الس���لبي
ت���ام واطمئنان كامل من هذا" ،ويص���ل اإلخالص للقضية إلى وإدراكا لألمور ال أضعاف ما يملكه ح���د أنه "لو ملك أحد عق ً ً َ اآلن ،لبدله كله فيما يلزم تلك القضية وفي سبيلها". مصلحا إن انط�ل�اق مب���دع رس���ائل النور ف���ي عالم الن���اس ً ومغي���را ،تميز عن غيره مم���ن أصلحوا ودعوا إلى التغيير بثقته ً التي تفوق التصور. فمم���ا ال ش���ك فيه أن اإليم���ان بالقضية ون���ذر النفوس في س���بيل الدفاع عنها ،هو بمثابة مو ّلد طاقة نفس���ية عجيبة تتجلى مظاهره في ش���خصية صاح���ب القضية الذي يع���رف منطلقاته تلمس طريق���ه نحو أهدافه بوضوح ،دون أن ً جي���دا ،كما يجيد ُّ فراغا يتسرب منه شك أو خوف أو قلق .فيستقبل الزمان يترك ً بتف���اؤل وأمل كبيرين حين يق���ول" :نحن ال نهاب هذا الموت الذي ينتج حياة أشد وأقوى وأبقى .فمتى لو متنا نحن فسيبقى س���الما" ،س���يما وأن اإلس�ل�ام في منطق رس���ائل حيا ً اإلس�ل�ام ًّ الن���ور "هو الروح اإلنس���انية الكبرى" الذي ينبغي على كل من وصالحا أن يجعل���ه قضيته المصيرية ويفوز وس�ل�اما أمنا أراد ً ً ً في ظاللها بش���هادة اإليمان ويحترز م���ن التفريط في صيانتها، حتما تلك القضية يضيع ً فمن "لم يرعها حق رعايتها ،فسوف ّ ويخسرها". وهك���ذا حرصت الرس���ائل النورية عل���ى زرع روح الرغبة الهادفة واإلرادة المسؤولة لتحقيق األمن االجتماعي ،معتمدة التذكير بالمالحم البطولية في تاريخ المس���لمين ،وجاعلة من أس���ماء القواد المنتصري���ن دوافع حقيقية لتنمي���ة وترقية حس المس���ؤولية لدى المعنيين األول بهذه الرسائل .ويتجلى األمر ذاته حين يخاطبهم صاحب الرسائل النورية خطابا ،يحثهم فيه ً ال" :على كل على إعالء هممهم لبلوغ أهدافهم باستحقاق قائ ً ال مشخصا واحد منكم أن يكون مرآة عاكسة لإلسالم ...ومثا ً ً لألم���ة اإلس�ل�امية ،إذ الهمة تتعالى بعل���و المقصد ،واألخالق تتسامى بغليان الحمية اإلسالمية". وهك���ذا تتوال���ى بين���ات رس���ائل الن���ور ف���ي تعمي���ق الوعي عن���د المخاطب بض���رورة الحضور الفاع���ل والمؤثر لتحريك واقع المس���لمين الس���اكن ،فهو ش���رط أس���اس لضمان األمن االجتماعي المنتظر.
-2اعتبار المجتمع المؤمن هو المجتمع اآلمن
ين و َع َد ا ُ هلل ا َّل ِذ َ إنه���ا حقيقة قرآنية أكدها الحق ف���ي قولهَ : الصا ِل َح ِ ات َليس َ���ت ْخ ِل َف َّن ُهم ِفي ا َ ض َك َما أل ْر ِ آم ُن���وا ِم ْن ُك ْم َو َع ِم ُلوا َّ َ ْ َْ
ِ ف ا َّل ِذ َ ِ ���م َو َل ُي َم ِّك َن َّن َل ُه ْم ِد َين ُه ُم ا َّل ِذي ْار َت َضى اس َ���ت ْخ َل َ ْ ين م ْن َق ْبلهِ ْ ِ ِ ِ ِ ���م َأ ْم ًنا(الن���ورَ ،)55:ف َم ِن َّات َقى ���م َو َل ُي َب ّد َل َّن ُه ْم م ْ ���ن َب ْعد َخ ْوفهِ ْ َل ُه ْ ون(األع���راف،)35: ���م َو َ ���ح َف َ ���م َي ْح َز ُن َ َو َأ ْص َل َ �ل�ا َخ ْ ال ُه ْ ���و ٌف َع َل ْيهِ ْ آم َن َو َع ِم َل َصا ِل ًحا َف َل ُه َج َز ًاء ا ْل ُح ْس َنى(الكهف.)88: و َأ َّما َم ْن َ َ أنزل الحق تعالى هذه اآليات ُلي َطمئن بها قلوب المؤمنين الذين يعملون الصالحات ،ويبشرهم بتحقيق أمنهم في الحياة أيضا. وبعد الممات ً
م���ن الواض���ح أن العالقات في مجتمع اإليمان تس���تدعي
الح���ب والس�ل�ام والتع���اون والتكاف���ل والوح���دة ،وكل القي���م
األخ���رى الت���ي تؤدي إلى تحقي���ق مصالح الف���رد والمجتمع، وبالتال���ي تحقيق أم���ن الفرد والمجتمع على أكمل وجه .وفي
هذا الس���ياق يأتي األستاذ س���عيد النورسي ببراهين خاصة كي مش���يرا إلى أن البش���رية التي يؤك���د حاج���ة األمن إلى اإليمان، ً
أخذت تصحو وتتيقظ بنتائج العلوم والفنون الحديثة ،أدركت
ال كنه اإلنس���انية وماهيتها ،وتيقنت أنه ال يمكنها أن تعيش هم ً وتنك���را للدين مضطر إلحادا بغي���ر دي���ن ،بل حتى أش���د الناس ً ً
إلى أن يلجأ إلى الدين في آخر المطاف ،ألن"" :نقطة استناد" البش���ر عند مهاجمة المصائب واألعداء من الداخل والخارج م���ع عج���زه وقلة حيلت���ه ،وكذا "نقط���ة اس���تمداده" آلماله غير المحدودة الممتدة إلى األبد مع فقره وفاقته ،ليس إال "معرفة الصانع" واإليمان به والتصديق باآلخرة ،فال س���بيل للبش���رية
المتيقظة إلى الخالص من غفوتها سوى اإلقرار بكل ذلك".
إن االيم���ان بالغيب وبالقدر خاصة ،يمنح "خفة بال نهاية،
ونورا يحقق األمن واألمان". وسرورا وراحة بال غاية، ً ً
ثق�ل�ا بقدر إن م َث���ل ال���ذي يؤم���ن بالقدر كم َث���ل من يحمل ً
الدني���ا "ألن اإلنس���ان ل���ه عالق���ات م���ع الكائنات قاطب���ة ،وله
مقاص���د ومطالب ال تنتهي���ان ،إال أن قدرته وإرادته وحريته ال
ومن يفهم مدى ما ُيقاس���يه اإلنس���ان من ثقل معنوي تكفيَ ... في عدم اإليمان بالقدر وكم هو مخيف وموحش".
يحرص األس���تاذ سعيد النورسي وهو يرسم بريشة المبدع
ص���ورة من يخرج ع���ن القاع���دة األصلية والفطري���ة ويحجب
رؤية الحقائق اإليمانية عن قلبه وعقله ،على أن يثبت بالدليل
النقل���ي والعقلي ،أن الش���ر والقبح والباطل والس���يئات جزئي و َت َب ِع���ي وثانوي في خلقة الكون ،وأن األصل في اإلنس���ان هو ّ اعتباره أش���رف المخلوقات وأكرمها ،كما أن الخير والحس���ن والجمال واإلتقان والكمال هو السائد المطلق في نظام الكون
25
السنة التاسعة -العدد (2013 )39
ولعل الماوردي في تصنيفه للقواعد رس���ائل الن���ور يب���رز لنا المقوم���ات التي اش���ترطها بديع الزمان سعيد النورسي، األساس���ية التي يس���تقيم بها أم���ر الدول الإ�س�لام يف منطق ر�سائل النور لضم���ان اس���تتباب األمن ف���ي المجتمع وتصلح ب���ه الدنيا ،قد أثر في دراس���ات الكربى إن�س��انية ل ا ال��روح هو اإلس�ل�امي ،يقول فيه" :ليس المسلمون الخ َلف الذين اهتموا بالعمران غيره من َ ال��ذي ينبغي عل��ى كل من �أراد بحاجة إلى ترغيبه���م وحثهم على حب البش���ري وأس���باب ازدهاره وأفوله؛ مثل الدني���ا والح���رص عليه���ا ،ف�ل�ا يحص���ل و�صالحا �أن يجعله و�سالما �أمنًا ابن خلدون الذي ذهب في تفسير مسألة ً ً نش���ر األمن والنظام وحضاريا. اجتماعيا تفسيرا األمن الرقي والتقدم ،وال ُي َ ق�ض��يته امل�ص�يرية ويف��وز يف ًّ ًّ ً في ربوع البالد بهذا األس���لوب ،بل هم وف���ي العص���ر الحدي���ث ،ظه���رت ظاللها ب�شهادة الإميان ويحرتز بحاجة إلى تنظيم مس���اعيهم ،وبث الثقة رس���ائل الن���ور لمؤلفه���ا األس���تاذ بديع مل فمن �صيانتها، يف التفريط من فيما بينهم ،وتسهيل وسائل التعاون فيما الزمان س���عيد النورسي ،التي هي تفسير ي�ضيع ف�سوف رعايتها حق يرعها بينه���م .وال تت���م ه���ذه األم���ور إال باتباع وبي���ان ّقي���م وحقيق���ي للق���رآن الكري���م، ٌ حتما تلك الق�ض��ية ويخ�رسها. األوام���ر المقدس���ة ف���ي الدي���ن والثبات وإثبات للحقائق اإليمانية القرآنية إثبا ًتا ً عليه���ا ،مع التزام التقوى من اهلل وابتغاء مدعم���ا بالحج���ج الرصين���ة والبراهي���ن ً مرضاته". بخطى ثابتة نحو إعادة تس���ير الواضحة، ُ إن األم���ن الذي يطلبه المس���لمون -وينتظره س���ائر البش���ر النظر في قضايا اإلنس���انية الشائكة والمستجدة في ظل القرآن معهم ال محالة -هو األمن الذي يأتي من المس���اعي المنظمة الكريم وبنور توجيهه. لق���د بين بديع الزم���ان قيما إيجابية عديدة لهذه الرس���ائل والثق���ة المبثوثة ف���ي النفوس والتعاون المس���تتب بين األفراد. ً ّ لكونها" :حلت أكثر من مائة مسألة من أسرار الدين والشريعة وهذه الشروط هي بمثابة مقومات أساس تجتمع حول مقوم والق���رآن ،وأوضحته���ا وكش���فتها ،وألجمت أعت���ى المعاندين محوري هو الدين ،وذلك بالتزام التقوى وابتغاء مرضاة اهلل . إن التوجيه النوري في هذا المقام ،يعطينا فكرة تقريبية عن الملحدي���ن وأفحمته���م ،وأثبت���ت بوضوح كوضوح الش���مس، م���ا كان ي َظ���ن بعي���دا ع���ن العقل م���ن حقائق الق���رآن؛ كحقائق ركائز األمن المؤس���س ألنموذج إنس���اني متميز يمكن إجماله ً ُ ّ المعراج النبوي ،والحش���ر الجسماني ،أثبتتها ألشد المعاندين في عناصر ثالثة نتصورها كاآلتي: والمتمردين من الفالسفة والزنادقة حتى أدخلت بعضهم إلى حظيرة اإليمان".
"فرس���ائل الن���ور ه���ذا ش���أنها الب���د أن العال���م وم���ا حوله،
بأجمع���ه س���يكون ذا عالق���ة بها ،وال ج���رم أنها حقيق���ة قرآنية
تشغل هذا العصر والمستقبل وتأخذ جل اهتمامه ،وأنها سيف َأ ِ لماسي َب ّتار في قبضة أهل اإليمان". ّ وإذا كان األم���ر كذل���ك ،فالب���د أن ما في الرس���ائل قد هيأ لإلنس���ان بل للبش���رية جمعاء ،ما هي في أمس الحاجة إليه أال وهو األمن االجتماعي.
فما هو السبيل الذي نهجته هذه الرسائل لتمكين اإلنسان
وماديا ،كي روحيا من المنهج الصحيح والصائب إلحياء ذاته ًّ ًّ
يحق���ق منها ذا ًتا مكرمة كما ش���اء لها الح���ق أن تكون ،ويهيء َّ ّ ومعمرا في األرض؟ ا نافع ا بشري ا مجموع من عددها الكثير، ً ًّ ً ً لإلجابة على هذا الس���ؤال المركب ،نقف على ش���اهد من السنة التاسعة -العدد (2013 )39
24
-1ارتباط المسؤولية بالرغبة الصادقة لتحقيق األمن
جاءت رسائل النور مهتمة باإلنسان ،وملقنة إياه كيفي َة التفكير من خالل منهج جديد تعطى فيه األولوية للواجبات. إذ إن "أمام اإلنس���ان -وال س���يما المس���لم -مس���ألة مهمة وحادثة خطيرة هي أعظم من الصراع الدائر بين الدول الكبرى ألجل السيطرة على الكرة األرضية" .إنها قضية الحرص على أداء الواجب الضروري الذي يفتح للناس أفق الفوز بش���هادة اإليمان. وعلى لس���ان بديع الزمان ينطق طلبة النور" :نحن معاش���ر يقينا ،أن ترك خدمات عظيمة ُتكسب لنا تلك طلبة النور نعلم ً ِ مهمات وكي ِلها الذي يصونها لتسعين بالمائة، وإهمال القضية، َ واالنش���غال عنه���ا بما ال يعن���ي من أمور خارجي���ة واهتمامات تافهة كأن الدنيا خالدة ،ما هو إال من سخافة العقل وجنونه". ويزداد الشعور بالمسؤولية ثبا ًتا بتأكيدهم أنهم "على يقين
قضايا فكرية د .مهدية أمنوح*
المجتمع اإلنساني اآلمن من منظور رسائل النور
األم���ن ف���ي اللغ���ة العربي���ة وفي آي���ات القرآن
ال" :أما القاعدة الرابعة فهي َأ ْم ٌن عام تطمئن انتظام العمران قائ ً
يعن���ي "الطمأنين���ة" -المقابلة للخ���وف والفزع
ب���ه الضعي���ف" .وقد قال بع���ض الحكماء" :األم���ن أهنأ عيش،
الكري���م وأحادي���ث الس���نة النبوي���ة الش���ريفة
وال���روع -في عالم الفرد والجماعة ،وف���ي الحواضر ومواطن العمران ،وفي الس���بل والطرق ،وف���ي العالقات والمعامالت، وف���ي الدني���ا واآلخ���رة جميع���ا .ولق���د َأ ْولى علماء المس���لمين ً وب���و ُؤوه مهما موقعا ًّ ً األوائ���ل اهتمامات كبيرة بهذا الموضوع َّ
في دراساتهم ،وذلك كما فعل أبو الحسن الماوردي في كتابه "أدب الدني���ا والدي���ن" حين أش���ار إلى قاع���دة مهمة من قواعد
إليه النفوس ،وتنتش���ر به الهمم ،ويس���كن في���ه البريء ،ويأنس والعدل أقوى جيش ،ألن الخوف يقبض الناس عن مصالحهم
ويحجزهم عن تصرفهم ،ويكفهم عن أس���باب المواد التي بها قوام َأ َو ِدهم ،وانتظام جملتهم". ويرج���ع األم���ر في أصل���ه إلى قاعدة أخ���رى وهي العدل،
أمن ف���ي غياب فاألم���ن م���ن ش���روط الع���دل .إذن ،ال ُيتص���ور ٌ عدل حيث ال يرجى أمن. العدل ،كما ال ُينتظر ٌ
23
السنة التاسعة -العدد (2013 )39
أو نف���رط ف���ي افت���راض ضوابط واس���تثناءات؛ ألنه���ا تبهت أو بعد تعديله���ا وتصويبها. تموت .وإذا اس���تقرت الفكرة س���هل ُ والحديث الثاني قول الرسول " :ادعوا اهلل وأنتم موقنون
باإلجابة" ،وهو حديث ال بأس بإس���ناده ،وأخرجه والترمذي، والطبران���ي ،والحاكم .والمعنى أن يدعو العبد وهو موقن بأن اهلل سيجيبه ،وليس على سبيل التجريب أو الشك أو التردد.
هم وكان عمر يقول" :إني ال أحمل ّ هم اإلجابة ،ولكن ّ الدعاء فإن معه اإلجابة". لهمت الدعاء ،فإذا ُأ ُ َ وأرى ه���ذه الكلم���ة من إلهامات���ه ،وكأن مقصوده ليس مج���رد التلف���ظ بألفاظ الدع���اء -وإن كان هذا َح َس ً���نا وصاحبه
مأج���ور -ب���ل م���ا ه���و أبع���د م���ن ذل���ك م���ن اس���تجماع القلب ِ والفك���ر عل���ى الثق���ة باهلل، وص���دق وعده في الكت���اب الكريم: يب و َق َ ���ال َر ُّب ُك ُم ْاد ُعو ِني َأ ْس َ���ت ِج ْب َل ُك ْم(غاف���رَ ،)60:أ َّم ْن ُي ِج ُ َ ِ ِ ِ ِ َ المضط و ِإ َذا َس���أ َل َك ع َبادي َع ّني َف ِإ ّني ���ر ِإ َذا َد َع ُاه(النم���لَ ،)62: ْ ُ ْ َ َّ اع ِإ َذا َد َع ِ ان َف ْل َي ْس َت ِج ُيبوا ِلي َو ْل ُي ْؤ ِم ُنوا بِي الد ِ يب َد ْع َو َة َّ يب ُأ ِج ُ َق ِر ٌ ون(البقرة .)186:إن النظرة السوداوية كفيلة بسجن َل َع َّل ُه ْم َي ْر ُش ُد َ صاحبه���ا في قبو مظل���م مك ّثف الرطوبة فاس���د الهواء ،يذكرك السياب بقوله: بالقبر الذي وصفه بدر ّ ٍ حج ْار ُأ ّم ُاه َل ْي َت ِك َل ْم َت ِغيبِي َت ْح َت َس ْقف ِمن َ ال َن َوا ِف َذ ِفي ا ْل ِج َد ْار! اب ِفي ِه ِل َكي أ َُد َّق َو َ َ ال َب َ وكأن���ه اس���تعجل الم���وت قب���ل أوان���ه ،وال غراب���ة أن تجد
ي���رددون ضحاي���ا التش���اؤم واالنعزالي���ة واالنغ�ل�اق النفس���يّ ،
عب���ارات الحني���ن إلى الرحيل دون مناس���بة ،ب���ل وينتقدون من
يح���اول حرمانه���م من ه���ذه المتع���ة الوحيدة المتبقي���ة لهم في
صح أنهم أحياء. الحياة ْ إن ّ
"م ْن وف���ي الحديث وقد ُس���ئل َ :من خير الن���اس؟ فقالَ : عم ُله" (أخرجه أحم���د ،والترمذي ،وابن ماجه) .وفي وح ُس َ عمره َ ���ن َ طال ُ ِ أحدكم يأتيه .إنه آخر" :ال َي َت َم َّن ُ َ الموت وال َي ْد ُع به م ْن ْقب ِل أن َ يزي���د انقطع عم ُله وإنه ال أحدك���م المؤمن ُع ْم ُره إال ُ إذا م���ات ُ َ َ َخ ْي ًرا" (أخرجه البخاري ومسلم). امتن اهلل بها على األحياء ،وكان النبي إذا والحياة نعمة ّ اس���تيقظ من نومه ش���كر اهلل وقال" :الحمد هلل الذي أحيانا بعد
ما أماتنا وإليه النشور" (أخرجه البخاري ومسلم) .إن االتصال بهدي زادا إلى اآلخرة فحس���ب ،بل هو زاد إلى الحياة األنبي���اء ليس ً الطيبة في دار الدنيا كذلك.
(*) عالم ومفكر وداعية /المملكة العربية السعودية. السنة التاسعة -العدد (2013 )39
22
بشائر الربيع على الضفاف، حيث ّ يرق الماء وَ�ي ْعذُب، تتفتح عرائس ال�نَّْ�يلُوفَر، وتأخذ الواحدة منها بيد األخرى، مؤلِّف ًة سمفونية راقصة من اللون والعطر... ***
اللح���م وال���دم ،ويتخلل العظ���م ،ويطل من العيون ،ويس���كن اللغة ،ويندفع مع الزفير ليعود مع الشهيق.
الفت���ى يرس���م الحلم في س���يارته أو
دفت���ره ،والفت���اة ترس���مه ف���ي غرفته���ا أو ش���نطة يدها ،وقبل هذا ،يجب أن يكون
مرس���وما ف���ي س���ويداء القل���ب وأعماق ً الوجدان ومسكن الروح.
س���تلقي هن���ا باألع���ذار والمعوقات
ف���ي س���لة المهم�ل�ات ،ول���ن تس���مح
لإلخف���اق أن يكس���ب الجولة" .احرص على م���ا ينفعك"؛ دعوة نبوي���ة للتعاطي
خ��ف عل��ى حلم��ك متى ال تَ ْ و�ص��بورا ،لأن خمل�ص��ا كن��ت ً ً الع��امل حينئ��ذ �س��يت�آمر كل��ه لتحقي��ق حلم��ك .يج��ب �أن رائع��ا، يك��ون احلل��م ع�ش�� ًقا ً يخالط اللحم والدم ،ويتخلل العظ��م ،ويط��ل م��ن العيون، وي�س��كن اللغ��ة ،ويندف��ع مع الزف�ير ليع��ود م��ع ال�ش��هيق.
الج���اد م���ع الف���رص اإليجابي���ة ب���روح
المب���ادرة واإلنج���از" .واس���تعن ب���اهلل"؛
فحي���ن ترب���ط حلمك ب���اهلل تمنحه أزلية وس���رمدية ليتحول من ٍ مع���زول إلى أفق حل���م دنيوي حل���م ف���ر ٍد إلى أح�ل�ام أمة ،من ٍ ِ
فس���يح ممت���د إل���ى حيث اآلخ���رة والع���دل والقس���ط والفضل الربان���ي ف���ي نعي���م لم ت���ر عين ،ول���م تس���مع أذن ،ولم يخطر
وق���ود روح���ه ���ن عل���ى ب���ال" .وال ْ ُ تعج���ز"؛ وكي���ف يعج���ز َم ْ
م���ن ج���ذوة اإليم���ان؟ "وإن أصاب���ك ش���يء ف�ل�ا تق���ل ل���و أني
ق���د ُر اهلل وما ش���اء فعل". فعل���ت كان ك���ذا وك���ذا .ولك���ن ق���ل َ
جحودا استس�ل�اما وال فاإليم���ان لي���س جبرية عمي���اء وال ً ً
جزعا للطاقة اإلنسانية الهائلة ،وليس بكاء على األطالل ،وال ً تغي���رات األحوال ،إنه اليقين بأن الخير حيث يضعك اهلل، م���ن ُّ
ونجاحا جدي���دا، ال حلما جدي���دا ،وأم ً ً ً ً وأن���ك كل ي���وم تنش���ئ ً شيئا. ً جديدا .وما لم تمتلك القدرة على الحلم؛ فلن تفعل ً
تدجن حلمك لتجعله صورة مش���وهة علي���ك أن تحذر أن ّ
مس���كونة بتعرجات الواقع واعوجاجات���ه ..احلم دون قيود..
أطل���ق خيال���ك ..واصن���ع عالم���ك االفتراضي الذي س���يغدو حقيقة ملموسة متى آمنت بها.
"لوح���ة األح�ل�ام" فك���رة بس���يطة ،اكت���ب عليه���ا أهدافك،
وض ْعه���ا ف���ي مكان ظاهر ت���راه كل ي���وم ،أهداف قريب���ة بعيدة َ المدى .اكتب معها آية كريمة أو حدي ًثا أو حكمة تؤمن بها.
وردية بعدد شخوصنا، أحالما سوف نتفوق حينما نمتلك ً َّ
أو حينم���ا يفل���ح أولئك الذين يمتلك���ون األحالم الجميلة من اإلمس���اك بناصية الحياة .سوف نتفوق حينما يصبح الخطاب
رقيبا المتدي���ن ً حاف���زا لألح�ل�ام ولي���س ً عليها.
السر ِّ
ِ "السر" س���ألني أحد الش���باب عن كتاب ّ م���ن تألي���ف األس���ترالية "رون���دا بايرن"؛ حبته وص ُ فأحوجني إلى ش���رائه وقراءتهَ ، ف���ي بعض س���فري ،فرأيت نظري���ة تقوم النف���س للتف���اؤل عل���ى تحفي���ز كوام���ن ّ والعم���ل ،والثق���ة بأن ما يري���ده المرء أو يحاول���ه ممكن ،بل ه���و واقع ال محالة مت���ى قاله المرء بلس���انه واعتق���ده بجنانه ورفع األفكار السوداوية المتشائمة.. َ يك���رس ذهنه وأن عل���ى اإلنس���ان أن ّ وفك���ره لم���ا يري���د وما يح���ب أن يكون، وذكرني هذا بكلمة وليس على ما يكره أو ما يحاذر ويخشىّ . توكل العبد على لإلمام ابن القيم في مدارجه ،يقول فيها" :لو ّ مأمورا بإزالته توكله في إزالة جبل ع���ن مكانه ،وكان ح���ق ّ اهلل ّ ً ألزاله". لدي ّ وذكرن���ي ً أيضا بالكلمة الس���ابقة لـ"مارتن لوث���ر"" :أنا ّ حلم" ،ولم يقل :أنا لدي مشكلة. نعم ،كان هناك مش���كلة وال تزال ،بيد أننا إذا دخلنا الحياة من بوابة المشكالت دخلناها من أضيق أبوابها. وج���دت فك���رة الكتاب ف���ي األصل ،فك���رة بحاجة إلى أن ُ بعيدا عن الجدل حولها ،حتى ال يخبو رس���خها في ضمائرنا ً ُن ّ روحها ،نفعل ذل���ك ألن هذه الفكرة هي وهجه���ا وال تنطف���ئ ُ ُ أحد المح ّفزات الحقيقية للعمل واإلنجاز والصبر. وج���دت أن مئ���ات النص���وص والكلم���ات الت���ي أورد ْته���ا المؤلف��� ُة وع ّلق���ت عليها -وهي تدور ح���ول تفصيالت الفكرة مؤداها عن مضمون حديثين أو وقوانينه���ا -ال تكاد تخرج في ّ ثالثة ،أحدها قول الرس���ول في رواية عن ربه جل وتعالى ظن عبدي بي" كما في صحيح في الحديث القدسي" :أنا عند ِّ "فليظ َّن بي ما ش���اء" كما أخرجه البخاري ومس���لم ،وفي لفظ: ُ أحمد ،وابن حبان ،والحاكم. شرا فله"؛ إن الظن وفي لفظ ْ خيرا فله ،وإن ظن ًّ "إن َظ ّن بي ً ���ن الظن من ُح ْس���ن العمل. وح ْس ُ هن���ا يش���مل الدنيا واآلخرةُ ، وحين نذهب إلى ترسيخ فكرة علينا ألاّ ُنوغل في حكحكتها
21
السنة التاسعة -العدد (2013 )39
اله���دف حل���م مؤق���ت له مدة ينته���ي إليها ،أم���ا الحلم فهو
ش���وق دائم متصل بنبض القلب وخفق ال���روح وتطلع العقل وسبح الخيال.
يتبخر ،إذا قطفت���ه مات .فأجمل حي���ن يتحقق الحل���م كأنه ّ
م���ا في العمر ه���و االنتظار ،لحظات الترقب مش���حونة بتفاعل
تأم���ل لغت���ك ..ك���م م���رة ف���ي الي���وم تق���ول" :نع���م ولك���ن ّ
أخشى" ..العائلة حلم جميل ،إشباع لرغبة االمتداد اإلنساني، روحيا جس���ديا متصل ورؤية الذات في اآلخر بش���كل منفصل ًّ ًّ
ووجدانيا. ًّ
قم���ة اله���رم الثق���ة بالنف���س وقدراته���ا والج���رأة عل���ى بدء
حلم���ا يروى بدموعنا ،الخطوات األولى نحو الحلم العظيم. غري���ب هو ذروة الحياة .س���يظل الحلم ً أع ِّل ُل النفس باآلمال أر ُق ُبها ويقتات من سهرنا ،ويستحوذ على يقظتنا ومنامنا. األم ِل. أضيق ما كان "مارتن لوثر كينغ" يقول" :س���أزرع شجرة التفاح ولو َ َ العيش لوال فسح ُة َ كن���ت أعلم أن نهاية العالم هي الغد" ،وهو اقتباس من مكنون ث���م َمن يحاصر الحياة ،وأس���وأ منه ،م���ن يحاصر األحالم
الحكمة اإلنسانية الرفيعة.
ف�ل�ا يري���د من الناس أن يحلم���وا ،أو أن يمتد خيالهم إلى أبعد
مش���كاة النب���وة كان���ت أبل���غ حي���ن ق���ال ف���ي الحدي���ث
من معاناتهم اليومية .السعادة حلم ..والنجاح حلم ..والحرية
أحدكم فسيلة ،فإن استطاع أن ال يقوم حتى يغرسها فليفعل". الم ْط ِعمات الو ْح ِ ���لُ ، "الراس���خات في َ مق���ام النب���وة ذكر النخل ّ رمز الصبر واالنتظار الم ْح ِل" .وهي تش���به الرجل المؤمن َ في َ والمقاومة واحتمال العطش. قد َأرى إذا قيل هذا َم ْن ٌ هل ُقلت ْ
القط يموء ويتمس���ح بالب���اب يطلب االنعتاق من ذل القيد. أو ّ
الصحيح الذي رواه أحمد والبخاري" :إن قامت الساعة وبيد
حلم؛ حتى لدى الطائر يضرب شباك القفص ويرنو إلى الفضاء، والعدال���ة حلم المجموع ،حين تذوب الفوارق المصطنعة
ويتساوى الكل أمام سلطة الدنيا أو سلطة اآلخرة. ولقد ُقلت لنفسي ،وأنا بين المقابر.. ِ رأيت األمن والراحة إال في الحفائر؟ هل فأشارت ،فإذا للدود َع ْي ٌث في المحاجر
الظ َما! الح ِّر تحتمل َّ ُ َّ نفس ُ ولكن َ اختلس���ت بضع ٍ ثوان غدا ،وإنما قال :اآلن ..لو ل���م يق���لً : َ
ثم قالت :أيها السائل إني لست أدري!
حل���م جمي���ل ال يموت ،ألنه ال يتمح���ور حول الذات ،بل
وتالشى في بقايا العبد رب الصولجان
الوع���د الح���ق "األجر" تغذية للطموح حتى في عمل الدنيا
ش���يئا إلى الحي���اة ،أنك ش���عورك بأن���ك يج���ب أن تضيف ً
وت فافعل. لتغرس الفسيلة قبل أن يلحقك ال َف ُ
أنانيا. فيه حظ وافر لآلخرين ،ليس ًّ
الذي يعلم أنه ال يثمر ،مجرد "الفعل" هو حفظ إلنسانية البشر
من التالشي واالنهيار ،إنه "العالج بمعنى" .هذا سر الغيب في
انظري كيف تساوى الكل في هذا المكان والتقى العاشق والقالي فما يفترقان.
مخلصا لحلم تنتظره ..هذا يكفي. تعيش ً المنى أحس َن ُ ُم ًنى إن َت ُكن ح ًّقا َت ُكن َ
زمنا َرغدا وإال َف َقد ِعشنا بها ً
الث���واب األخروي ،وهو حاف���ز آخر غير مجرد اإليمان بأهمية الفعل. ذاب كأنما أماني ِمن ُسعدى ِع ٌ ُّ َس َقتنا بها ُسعدى على ظم ٍإ َبردا الحل���م نقل���ة من ضي���ق اللحظة إلى س���عة المس���تقبل ،من اإلحب���اط إل���ى األم���ل والتف���اؤل ،م���ن الخ���وف إل���ى الرج���اء
جدي���دا يفتح نمطا أن تك���ون مث���ا ً ال لمبدع أو متف���وق ،أو ً ً
ينام عليه ،أو ُدمية يلعب بها ..الخائف يحلم باألمان وال يفكر
ع���ن أهم أحالمي؟ فقلت :أن أم���وت وأحالمي تنبض بالحياة
والتطل���ع .الطفل الفقير يحلم بتفاحة يقضمها ،أو فراش وثير بم���ا س���واه ،والمخاوف هي ع���دو األحالم ،وحينما يس���تحوذ
ال بالقيود. الخوف يبدو المرء مكب ً
ق���د يعيش المرء في زنزان���ة يراها ويلمس قضبانها ويحس
بأن���ه محب���وس ،وق���د يعي���ش ف���ي زنزان���ة ال يراه���ا وال يلمس
قن مثقل بأوزار الحديد. قضبانها ويظن بأنه حر وهو ٌّ السنة التاسعة -العدد (2013 )39
20
مركبا من نماذج عديدة .سألني فتى نموذجا آفا ًقا آلخرين ،أو ً ً وتواج���ه التح���دي ،وتنف���خ روح األمل ف���ي ضمائر البائس���ين واليائسين والمحبطين.
وصب���ورا ،ألن مخلصا خ���ف عل���ى حلمك مت���ى كنت ال َت ْ ً ً
العال���م حينئ���ذ س���يتآمر كل���ه لتحقيق حلم���ك كما ق���ال "باولو رائعا ،يخالط كيلي���و" ذات م���رة .يجب أن يكون الحلم عش��� ًقا ً
أدب
د .سلمان العودة*
لدي حلم س���جل الصب���ي المعدم حل���م الطفولة عندم���ا ّ
حي���ث يح���ب! إنه التح���دي الذي يضطرك أحيا ًن���ا إلى المضي
المع ّلم على درجته وحرمه من متعة الحلم.
تدون فيه -كيف تحلم بهذا وأنت ال تمتلك قيمة الدفتر الذي ّ
لدي حي���ن ق���ال "مارتن لوث���ر كينغ" كلمت���ه الس���ائرة" :أنا ّ حلم" كان يتحدث بأكثر من لغة ،أهمها لغة اإلنسان. ٌ
يع���رض عل���ى تلمي���ذه أن يعي���د االمتح���ان ،في���رد الصب���ي
حت���ى حق���ق معظمها ،فطار ف���ي الفضاء ،وأب���دع وابتكر وذلل
ومضمارا ،ش���طب ال أن يمتل���ك حق�ل�ا وخيو ً ً ً
حلمك ،والذي كان هدية من جمعية خيرية؟
بكبرياء:
-احتفظ بدرجتك ،وسأحتفظ بحلمي!
ي���ا للعظم���ة ،حي���ن تتمث���ل موق ًف���ا ش���امخا يس���تعلي عل���ى ً
دما في طريقك غير عابئ بسارقي األحالم. ُق ً
أح�ل�ام المن���ام ضرب م���ن الخيال ،ما زال اإلنس���ان يدأب
الصعاب وقهر المستحيل.
الحلم فوق الطموح
ِ بارا فوس ك ً َوإِذا كا َن ِت ال ُّن ُ
َت ِعبت في ُمرا ِدها ا َ جسام أل ُ َ
ويصر على المواصلة ليجد نفسه في نهاية المطاف االستالب، ّ
19
السنة التاسعة -العدد (2013 )39
واس���تفزازا البد منهم���ا لتحريك تحدي���ا ً ً ف���ردا وجماع���ة -ص���وباإلنس���ان ً األحس���ن واألمث���ل ،وصق���ل طاقاتهم���ا لك���ي يكون���ا أكثر مقدرة عل���ى المقاومة
والص���راع ،وبالتالي أق���در على مواصلة
الصعود في الطريق الموصول بالس���ماء
بدءا ومنتهى. ً
ح ًّق���ا إن الص���راع بي���ن الش���يطان
واإلنسان ش���امل واسع معقد متشابك، تقابل بين الخير والش���ر على أوسع إنه ٌ تقاب���ل البد من���ه إذا ما أريد الجبه���ات، ٌ للحي���اة البش���رية أن تتج���اوز الكس���ل
يبق��ى ال�ش��يطان رم�� ًزا �أبديًّ��ا لل�رصاع بني الإمي��ان والكفر.. ويظ��ل حتدي��ه للإن�س��ان �س��ببًا ل�ش��حذ همة الإن�س��ان وتعميق �إميان��ه وا�ستئ�ص��ال مكام��ن ال��شر وال�ض��عف يف نف�س��ه، لكي يق��در على جمابه��ة الفتنة ويجتاز املعوقات ويزيح املوانع متقدما �أب ًدا �إىل الأمام. والعقابيل ً
إل���ى النش���اط ،والفتور إل���ى التمخض،
ابتالء فعال والس���كون إلى الحرك���ة .إنه ٌ
تاريخ البشرية بدونه شكله اإليجابي ،وال يمضي إلى لن يأخذ ُ ﴿و َك َذ ِل َك غاياته المرس���ومة منذ هبوط آدم إلى يوم الحسابَ :
ض َع ُد ٌّو ْاهب َِطا ِم ْن َها َج ِم ًيع���ا َب ْع ُض ُك ْم ِل َب ْع ٍ اي َفإ َِّما َي ْأ ِت َي َّن ُك ْم ِم ِّني ُه ًدى َف َم ِن َّات َب َع ُه َد َ ض َع ْن ال َي ِضلُّ َو َ َف َ ال َي ْش َقى َ و َم ْن َأ ْع َر َ ���ر ُه ِذ ْك ِ ���ري َف���إ َِّن َل ُه َم ِع َ يش��� ًة َض ْن ًكا َو َن ْح ُش ُ ب ْل ���و َم ا ْل ِق َي َام ِة َأ ْع َمى(ط���هَ ،)124-123: َي ْ ���ذ ُف بِا ْل َح ِّق َع َلى ا ْلب ِ َن ْق ِ ���ل َف َي ْد َم ُغ ُه َف ِإ َذا اط ِ َ ُه َو َز ِاه ٌق(األنبياء.)18: إن أش���د م���ا يرفض���ه كت���اب اهلل ف���ي دع���وة البش���رية لإلفادة من ه���ذا الصراع
وتحويله إلى حركة متقدمة صاعدة ،هي ن���زوع بعض الجماعات والزعامات إلى
الوراء ،ومواقفه���م الرجعية التي ترفض
أي���ة دع���وة تس���عى لك���ي يحتل���وا مواقع ���م َت َعا َل ْوا ِإ َلى و ِإ َذا ِق َ ف���ي األم���امَ : يل َل ُه ْ ِ ���ب َنا َما َو َج ْد َن���ا َع َل ْي ِه َآب َاء َنا هلل َو ِإ َلى َم���ا َأ ْن َز َل ا ُ الر ُس���ول َقا ُلوا َح ْس ُ َّ ون(المائدة،)104: ون َش ْ���ي ًئا َو َ ���م َ ال َي ْه َت ُد َ ال َي ْع َل ُم َ ���و َك َ ان َآب ُ َأ َو َل ْ اؤ ُه ْ َ أ َف ُح ْك���م ا ْل َج ِ ���ن ا ِ هلل ُح ْك ًما ِل َق ْو ٍم اه ِل َّي��� ِة َي ْب ُغ َ ���ن ِم َ ���ون َو َم ْن َأ ْح َس ُ َ و ِإ َذا َف َع ُل���وا َف ِ اح َش��� ًة َقا ُل���وا َو َج ْد َن���ا ، ون(المائ���دة)50: ُيو ِق ُن َ َ ���ل َو َج ْد َن���ا َآب َاء َن���ا َك َذ ِل َك َع َل ْي َه���ا َآب َاء َنا(األع���رافَ ،)28:قا ُل���وا َب ْ هلل َقا ُلوا و ِإ َذا ِق َ ي���ل َل ُه ُم َّاتب ُِعوا َم���ا َأ ْن َز َل ا ُ َي ْف َع ُل َ ون(الش���عراءَ ،)74: ون َش ْ���ي ًئا اؤ ُه ْم َ ال َي ْع ِق ُل َ َب ْل َن َّتب ُِع َما َأ ْل َف ْي َنا َع َل ْي ِه َآب َاء َنا َأ َو َل ْو َك َ ان َآب ُ ب ْل َقا ُل���وا ِإ َّنا َو َج ْد َنا َآب َاء َنا َع َلى ُأ َّم ٍة َو َ ال َي ْه َت ُد َ ون(البق���رةَ ،)170:
���م ب َِب ْع ٍ ���ر ���ر َوا ْل َخ ْي ِ و َن ْب ُل ُ ���م ب َّ ض﴾(األنع���امَ ،)53: وك ْ َف َت َّن���ا َب ْع َض ُه ْ ِالش ِّ ين ِم ْن َق ْب ِلهِ ْم ِف ْت َن��� ًة َو ِإ َل ْي َن���ا ُت ْر َج ُع َ و َل َق ْد َف َت َّن���ا ا َّل ِذ َ ون(األنبياءَ ،)35: ِين(العنكبوت،)3: ���ن ا ُ ���ن ا ْل َكا ِذب َ هلل ا َّل ِذ َ ي���ن َص َد ُق���وا َو َل َي ْع َل َم َّ َف َل َي ْع َل َم َّ َ ِ ���م ���م َأ ْن ُف َس ُ ���م َو َغ َّر ْت ُك ُ ���م َو ْار َت ْب ُت ْ ���ك ْم َو َت َر َّب ْص ُت ْ ���م َف َت ْن ُت ْ و َلك َّن ُك ْ ا َ آم َّنا أل َما ِن ُّي(الحديدَ ،)14:أ َح ِس َب َّ اس َأ ْن ُي ْت َر ُكوا َأ ْن َي ُقو ُلوا َ الن ُ اع َو ُه ْم َ ال ُي ْف َت ُن َ وإ ِْن َأ ْدرِ ي َل َع َّل ُه ِف ْت َن ٌة َل ُك ْم َو َم َت ٌ ون(العنكبوتَ ،)2: ين ِإ َل���ى ِح ٍ الش ْ���ي َط ُ ين(األنبياءِ ،)111:ل َي ْج َع َل َما ُي ْل ِقي َّ ان ِف ْت َن ًة ِل َّل ِذ َ ض(الحج.)53: ِفي ُق ُلوبِهِ ْم َم َر ٌ ال َي ْف ِت َن َّن ُك ُم آد َم َ ي���ا َب ِن���ي َ ويبق���ى نداء اهلل الدائم للبش���ريةَ : كبي���را ي���دور علي���ه الص���راع مح���ورا ان(األعراف)27: الش ْ���ي َط ُ َّ ً ً والحركة والتقدم إلى أمام أو الرجوع إلى وراء ..ورغم أن اهلل
ون َ و َك َذ ِل َك َما َأ ْر َس��� ْل َنا ِم ْن َق ْب ِل َك ِفي َو ِإ َّنا َع َلى آ َثارِ ِه ْم ُم ْه َت ُد َ وها ِإ َّنا َو َج ْد َن���ا َآب َاء َنا َع َلى ُأ َّم ٍة َو ِإ َّنا ال َق َ ���ن َن ِذيرٍ ِإ َّ ال ُم ْت َر ُف َ َق ْر َي��� ٍة ِم ْ ال َأ َو َل ْو ِج ْئ ُت ُك ْم ِب َأ ْه َدى ِم َّما َو َج ْد ُت ْم ون َ ق َ ���د َ َع َل���ى آ َثارِ ِه ْم ُم ْق َت ُ ون(الزخرف،)24-22: َع َل ْي��� ِه َآب َاء ُك ْم َقا ُلوا ِإ َّنا ب َِما ُأ ْر ِس��� ْل ُت ْم ِب ِه َكا ِف ُر َ
وع ّلمه���م األس���ماء كلها ،إال أنه س���بحانه ل���م يتركهم وحدهم
بي���ن الخير والش���ر ،بين الحق والباطل ،بي���ن اإليمان والكفر..
سبحانه وهب بني آدم قدرات العقل والروح واإلرادة والعمل
حينا بعديمده���م ف���ي تجرب���ة صراعهم ف���ي األرض ،وظ���ل ّ ً
حين -بتعاليم الس���ماء وش���رائعها العادلة وصراطها المستقيم
أبدا ال���ذي يحيل حركة البش���رية في العالم إل���ى حركة متقدمة ً هلل َو ِل ُّي ف���ي خط مت���وازن صاعد ال رج���وع فيها إل���ى وراء :ا ُ آم ُن���وا ُي ْخ ِر ُج ُهم ِم َن الظُّ ُلم ِ ين َك َف ُروا ات ِإ َلى ال ُّن���ورِ َوا َّل ِذ َ ا َّل ِذ َ ي���ن َ َ ْ ���ن ال ُّن���ورِ ِإ َل���ى الظُّ ُلم ِ ���ات ���م َّ الط ُ َأ ْو ِل َي ُ اغ ُ ���م ِم َ َ ���وت ُي ْخ ِر ُجو َن ُه ْ اؤ ُه ُ ال ون(البق���رةَ ،)257:ق َ ُأو َل ِئ َ ���م ِف َيه���ا َخا ِل ُد َ ���اب َّ ���ك َأ ْص َح ُ النارِ ُه ْ السنة التاسعة -العدد (2013 )39
18
أبديا للصراع ويبقى الش���يطان -خصم بني آدم الل���دودً - رمزا ًّ سببا لشحذ همة اإلنسان وتعميق إيمانه ويظل تحديه لإلنسان ً
واس���تئصال مكامن الش���ر والضعف في نفسه ،لكي يقدر على
مجابهة الفتنة ويجت���از المعوقات ويزيح الموانع والعقابيل.. أب���دا إلى األم���ام ..تلك هي الحكم���ة البالغة في خلق متقدم���ا ً ً
الشيطان ..ورفض إبليس السجود آلدم . (*) كلية اآلداب ،جامعة الموصل /العراق.
قضايا فكرية
أ.د .عماد الدين خليل*
كثيرا ما يتساءل المسلم عن الحكمة من خلق ً الش���يطان ..عن األهداف البعي���دة في علم اهلل س���بحانه ،تلك التي دفع���ت إبليس إلى رفض
وتحديه ..وإعالنِه خصوم َته األبدية ..و َق َسمه الس���جود آلدم.. ّ أن ل َُيغوي ّنه وذري َته إلى يوم الدين. على اهلل ْ
والجواب يكمن في ضرورة خلق الصراع ،أن التناقض أو
التقاب���ل الثنائ���ي الفعال الذي يحرك الدور البش���ري في العالم ويدفع���ه إلى األم���ام ..إنه التحدي الذي البد منه لش���حذ همة
اإلنسان بقوة جابه ُ اإلنسان ..فمنذ اللحظة األولى لخلق آدمُ ،ي َ وكل ما يملك من أس���اليب الش���ر المقابل���ة متمثلة بالش���يطانِّ ،
ِ يب���رز له م���ن األعماق، يداه���م به���ا اإلنس���ان م���ن الخ���ارج أو ُ م���ن صمي���م ال���ذات ..يجيئه من مس���ارب العاطف���ة والوجدان والنف���س ،أو يندف���ع إلي���ه من مناف���ذ الحس ،أو يس���تصرخ فيه ال ببهرج الدنيا وزينتها.. ش���هوات الجس���د ،أن يتقدم إليه محم ً يجن���د لقتاله والمروق به عن س���احة الخي���ر كل القوى المادية ِّ والمعنوي���ة ،وكل الذي���ن يخت���ارون بإرادته���م أن ينتم���وا إلي���ه، جنا ..ورغم أن أس���لحة الش���يطان أناس���ا كانوا أم ش���ياطين أم ًّ ً كثي���رة ،متنوع���ة ،عاتية ،إال أن اإلنس���ان قد ُوه���ب إزاءها قوى معادل���ة وإمكان���ات مكافئة تعطي للص���راع الدائم بين الطرفين ممتدا ،بحيث أن النصر والغلبة لن تجيء بسرعة، واسعا مدى ًّ ً س���هل ًة ،كالضربة الخاطفة ألي منهما .إن هذه "المقابلة" تمثل
17
السنة التاسعة -العدد (2013 )39
المقص���ود إذن م���ن هذا األس���اس الثالث ،ه���و التزام نظام األولوي���ات .كذل���ك ف���ي الجانب المتغير هناك ما يس���مى عند العلم���اء بـ"واجب الوقت"؛ لنفت���رض أن الصالة بقي لها ركعة تكبر رأيت في تلك اللحظة وس���يخرج وقتها ،وأنت بصدد أن ّ أعمى على أبواب حفرة سيس���قط فيها ويهلك ،فواجب عليك تق���دم ه���ذا الواج���ب األول -أي إنقاذ ه���ذا األعمى -على أن ِّ تأدية الصالة مع أنها واجبة أساس���ا .هذا يس���مى لدى العلماء ً بـ"واج���ب الوق���ت" ،أي الواج���ب المتغير .معرف���ة النظام العام يس���هل الس���ير .ونسترشد بكلمة جامعة هي من وصية أبي بكر ّ تؤدى لعم���ر ق���ال ل���ه" :واعل���م أن اهلل ال يقب���ل نافلة حت���ى َّ الفريض���ة" .فلننظر في أعمالنا وممارس���تنا ،فطريقة قياس هذه الصف���ة ه���ي إيثار األهم في مي���زان اهلل ال في ميزانن���ا ،ألننا إذا قدمنا األهم في ميزاننا نكون قد أخللنا باألساس األول الذي ّ ه���و تكبي���ر اهلل .الب���د إذن ،أن نجع���ل أمورنا س���ائرة وفق هذه األس���س التي يتفرع بعضها عن بعض ،فإيثار األهم في ميزان اهلل يعطينا طريقة لقياس هذا األساس.
-4اإلحسان في كل شيء
المس���لم محس���ن" :إن اهلل كتب اإلحس���ان على كل شيء ،فإذا الذبح���ة ،و ْل َي ُح ّد قتلتم فأحس���نوا ال ِقتلة ،وإذا ذبحتم فأحس���نوا ِّ بيحت���ه" (رواه مس���لم)؛ اإلحس���ان معناه ولي ِ أحدك���م َش ْ ُ ���ر ْح َذ َ ���فر َته ُ ال أساس���ا "اإلتق���ان" ،و"إن اهلل يحب من أحدك���م إذا عمل عم ً ً أخروي���ا كان أم عم�ل�ا، أن يتقن���ه" (رواه الطبران���ي) ،أي إذا عملن���ا ً ًّ دنيويا ،يتعلق بأمر المعاد أم بأمر المعاش ،فيجب أن نتقنه وأن ًّ نحسن فيه ،وهذا يعني أننا سنستريح من الغش ،وفي الحديث منا" (رواه مسلم) ،إشارة إلى "م ْن َغ َّشنا فليس ّ الشريف يقول َ : أنه ال يقبل من المس���لم أي كان .لماذا؟ ألن الدين َّ الغش مع ّ النصيح���ة ،والنصيحة في العربية تعني :بذل أقصى الجهد كي يحسن .فالدين النصيحة ،والدين اإلحسان ،والدين اإلتقان... إذا نظرن���ا إلى أحوال المس���لمين الي���وم -كبارهم وصغارهم- فماذا نجد في الصناعات ،وفي المعامالت ،وكذلك في أمور منا. العبادات ،سنجد أن الغش متمكن ّ ورد في الحديث الش���ريف" :إنم���ا ُيكتب للعبد من صالته ما عقل منها" (رواه أبو داود) .لماذا؟ ألن أس���اس الصالة ذكر اهلل: ال َة ِل ِذ ْك ِري(طه.)14: الص َ و َأ ِق ِم َّ َ ش فيه���ا ،ال نؤديها كم���ا أراد اهلل أداء الص�ل�اة ً أيض���ا َن ُغ ّ حقيقي���ا بالتركي���ز الالزم ،ومن أهدافها تركي���ز االنتباه للخروج ًّ السنة التاسعة -العدد (2013 )39
16
من حال إلى حال .اإلحس���ان مطلوب ،ووس���يلته أن نعمل هلل عل���ى عين اهلل كما وضع رس���ول اهلل معنى اإلحس���ان" :أن تعب���د اهلل كأنك تراه" ،يس���تحيي أو يخ���اف ،أما حين يغفل عن
هلل َخ َنس وإذا اهلل "الش���يطان جاثم على قلب ابن آدم ،إذا ذكر ا َ
غفل وسوس" (رواه البخاري).
أيضا ،ه���و القبول ف���ي األرض ،الذي فعالم���ة ه���ذا األم���ر ً
يأتي نتيجة المحبة .ورد في الحديث الصحيح" :إن اهلل تعالى
ينادي جبريل :يا جبريل إني أحب فال ًنا فأحبه ،فينادي جبريل في المالئكة أن اهلل يحب فال ًنا ِ فيوضع له القبول في فأح ّبوه، َ األرض".
-5االستعداد للجهاد
الجهاد باألموال واألنفس في سبيل اهلل ،بمعنى أن نبذل أقصى الجهد لتكون كلمة اهلل هي العليا ،وهي صفة أساسية ينبغي أن
شرعا أال نبذل هذا البذلُ :ق ْل نربي عليها أنفسنا .وال يجوز ً ِ ���ير ُت ُك ْم إ ِْن َك َ ���م َو َأ ْب َن ُ ان َآب ُ ���م َوإ ِْخ َوا ُن ُك ْم َو َأ ْز َو ُ اؤ ُك ْ اؤ ُك ْ اج ُك ْم َو َعش َ وها َو ِت َجار ٌة َت ْخ َشو َن َكس َاد َها َو َمس ِ اك ُن َت ْر َض ْو َن َها َو َأ ْم َو ٌ ال ا ْق َت َر ْف ُت ُم َ َ ْ َ َ َأ َح َّب ِإ َلي ُكم ِم َن ا ِ هلل َو َر ُس���و ِل ِه َو ِج َها ٍد ِفي َس���بِي ِل ِه َف َت َر َّب ُصوا َح َّتى ْ ْ هلل ِب َأ ْم ِر ِه(التوبة .)24:وهي الكلمة التي قالها الرس���ول ي ْأ ِت ���ي ا ُ َ َ لعمر عندما قال له :أحبك يا رسول اهلل أكثر من كل شيء إال نفسي التي بين جنبي ،قال " :ال ،حتى أكون أحب إليك
من نفس���ك" ،أي أن تحب الوحي ،تحب الكتاب والسنة ،قال عمر :أنت اآلن أحب إلي من نفس���ي ،قال له " :اآلن يا ّ عم���ر" (رواه البخ���اري) .وعالمة هذه المحبة ،اس���ترخاص ما آتانا
اهلل فيم���ا يرض���ي اهلل ،والتدري���ب عل���ى ذل���ك في أعم���ال البر،
المالية والبدنية باس���تمرار ،وعالمة تحقق ذلك هي المس���ارعة
المستمرة إلى التطوعات في الخيرات.
ي���ا َي ْحي���ى ُخ ِ ���اب ���ذ ا ْل ِك َت َ وأخي���را يق���ول اهلل تعال���ىَ : َ ً اك ْم ن ي ت آ ا م وا ذ خ إس���رائيل: لبني تعالى وقال ، (مريم)12: ِب ُق َّو ٍة ُ ُ َ ََْ ُ ِب ُق َّو ٍة(البقرة)63:؛ ألنك إذا لم تأخذ الكتاب بقوة ،لن تس���تطيع
حمله ،ولن تستطيع البلوغ ...إذن البد من أخذ الكتاب بقوة، اب(األع���راف ،)170:ولم ي َم ِّس ُ ون بِا ْل ِك َت ِ ���ك َ فاهلل س���بحانه يقولُ : يقل"َ :ي ْم ِسكون الكتاب". (*) األمين العام لمؤسسة البحوث والدراسات العلمية "مبدع" /المغرب.
ين(البقرة)135:؛ الهدى محصور ���ن ا ْل ُم ْش ِ َح ِني ًف���ا َو َم���ا َك َ ���ر ِك َ ان ِم َ
هاهن���ا ،ولكن ال اس���تفادة م���ن هذا الهدى دون الوس���ائل التي
تمكن من تحقيقه. ّ
إذن ما وس���يلة تحقي���ق هذا الهدى؟ عندم���ا نقول "الهدى"
نقصد الهدى في األمور الفردية الذي يتعلق باألحكام الفقهية التطبيقي���ة التفصيلي���ة ،أي تعرف كيف تتوض���أ ،وكيف تص ّلي، تزكي ،كيف تمارس حياتك ...تعرف أن معرفة الحكم وكيف ّ فرض كفاي ٍة. فرض ٍ عين ال َ الشرعي في العمل الشخصي ُيعتبر َ
موج���ود .فاقتران العلم بالعم���ل ،يذهب بنا في القياس إلى أن ننظر من جهة حصول الهداية واالهتداء ،ولذلك نطلب سبعة واح���دا ،ما ه���و؟ ِ ا ْه ِد َنا ش���يئا عش���ر م���رة في كل يوم ً إجباريا ً ًّ
ِ ���ك ���ر َ يم(الفاتحة ،)6:م���ا الج���واب؟ ال���م َ ذ ِل َ ِّ اط ا ْل ُم ْس َ���تق َ الص َ ين(البقرة)2-1:؛ بمعنى؛ اتق اهلل اب َ ال َر ْي َب ِفي ِه ُه ًدى ِل ْل ُم َّت ِق َ ا ْل ِك َت ُ هلل َم ِن َّات َب َع ي ْه ِدي ِب ِه ا ُ تهت���دي ،واتبع ما جاءك من عن���د اهللَ : أبدا .إذن نقيس رِ ْض َوا َن ُه(المائ���دة .)16:وم���ن لم يتبع ال ُيه���دى ً هذه الصفة في حصول االهتداء.
والمعلوم���ات األخ���رى العادي���ة الت���ي تتعل���ق بمه���ن اآلخرين -3تقديم الفرائض على النوافل
ِ فرض كفاية ،وفي حقهم ُتعتبر فرض وح َرفهم ،في حقك ُتعتبر ْ عي���ن .فيوج���د الهدى في هذه الف���روض العينية وفي الفروض
الكفائي���ة وف���ي النواف���ل والمندوبات والمس���تحبات ...كما أن
هن���اك هدى أكب���ر وأعم من هذا الهدى ،حيث ينش���ئه ويؤطره
ويرش���د إليه ،وهو الهدى التصوري العام ،الهدى العقدي في اصط�ل�اح تاريخ العقي���دة ،وإال فاألمر يتعلق بمضمون "ال إله
إال اهلل محمد رس���ول اهلل" ،ومضمون "ال إله إال اهلل" إخالص
العبودية هلل ،ألن اإلله في اللغة العربية هو المتع َّلق به رغبة الو َل ُه ���ه ُ أو رهب���ة ،ف َأ ِل َ الطفل َّأمه :تعلق بها أش���د التعل���ق ،ومنه َ كذلك .فالذي يجب أن يتعلق به رهبة ورغبة ،هو اهلل ،ومن
ثم ينبغي إزالة الش���وائب ،حيث ال يبقى في الش���يء غير ما هو
فتنتهَ ،ف َت َن األصل .إذا أخلصت الذهب بوضعه على النار ،أي َ الذهب في النار ،أي وضعه في النار إلزالة الش���وائب منه ،أي َ ليخل���ص .وهذا يعني أن اإلخ�ل�اص هو إخالص العبودية هلل،
أي إزالة جميع ش���وائب الش���رك وهو مقتضى "ال إله إال اهلل". إذن ،لتحقي���ق معن���ى اتباع هدى اهلل على مس���توى التصور
التفكر والتدبر وفق هدى اهلل ،أي الع���ام ،ينبغ���ي على العبد ّ
ُيستنبط الهدى في كل ذلك من القرآن والسنة .فأسلمة العلوم تدخل في هذا اإلطار ،وهي من اتباع هدى اهلل الذي يجب تربية
صغيرا ،والطريق إلى ذلك َق ْرن العلم كبيرا أم ً العب���د عليه كان ً
علما ما لم يصحبه عمل؛ فعندما ال نجد بالعمل .ال ّ يعد العلم ً ين ُح ِّم ُلوا م َث ُل ا َّل ِذ َ أث���ر العلم في حامل العلم ،فهو من ن���وعَ : ِ س َم َث ُل َّ الت ْو َرا َة ُث َّم َل ْم َي ْح ِم ُل َ وها َك َم َث ِل ا ْلح َمارِ َي ْح ِم ُل َأ ْس��� َف ً ارا ب ِْئ َ ات ا ِ ي���ن َك َّذ ُبوا ب َِآي ِ هلل(الجمعة ،)5:ومس���ؤوليته خطيرة. ���و ِم ا َّل ِذ َ ا ْل َق ْ فالعلم يهتف بالعمل ،فإذا لم يجده ارتحلِ :إ َّن َما َي ْخ َشى هلل ِم ْن ِع َبا ِد ِه ا ْل ُع َل َم ُاء(فاطر .)28:فحين ال نجد خش���ية تصحب ا َ العلم ،فاعلم أن العلم غير موجود؛ العلم بمعناه الشرعي غير
في الحديث القدس���ي الصحيح يق���ول اهلل " :من عادى لي أحب إلي آذنته بالحرب ،وما َتقر َب إلي عبدي بشيء وليا فقد ُ ًّ َّ َّ ّ ّ افترضته عليه" (رواه البخاري) .والفرائض ،فيها فرائض الفعل مما ُ كالصالة والزكاة والصيام ...وفيها فرائض الترك كترك الخمر والربا وعقوق الوالدين" ...وما يزال عبدي يتقرب إلي والزن���ا ِّ ّ كنت س���معه الذي يس���مع به، بالنوافل حتى أحبه ،فإذا أحببته ُ ُ وبص���ره ال���ذي ُيبصر ب���ه ،ويده الت���ي يبطش به���ا ،ورجله التي َ يمش���ي بها ،ولئن س���ألني ألعطيت���ه ،ولئن اس���تعاذني ألعيذنه" معب���د لم���ن يري���د الوص���ول ،ولكن (رواه البخ���اري) .إذن الطري���ق ّ يجب االتباع والس���ير في هذا الطريق وفق نظام هو عبارة عن س��� ّلم لألولوي���ات ،والطفرة قد ت���ؤدي بك إلى الحف���رة .نظام األولويات في هذا الدين في غاية األهمية وهو جزء من اتباع كثيرا من صور الخلل في تاريخنا وفي واقعنا، ه���دى اهلل ،ألن ً أساسا إلى التشوه الواقع في أولويات هذا الدين .هناك ترجع ً يده اليمنى ،وهناك م���ن غلظ أنف هذا الدين ،وهناك من َغ َّلظ َ يده اليس���رى ،هن���اك من َغ َّل���ظ ِ فش���وه ِخلقة الج ْذع م���ن َغ َّل���ظ َ َّ قس���م بطريقة معين���ة ،عندما ال الدي���ن ...للدي���ن نظام؛ الزمن ُي َّ تجد عبادة مفروضة بين الصبح والظهر -على س���بيل المثال- فاعلم علم اليقين أن ذاك وقت الكسب ووقت العمل ،وليس وق���ت النوم ،ولي���س حتى وقت الص�ل�اة .وعندما تجد أوقات الصالة تتقارب ،فاعلم أن األمر يتجه وجهة أخرى ،وتنظيمها ���نة يكره الس ّ معين؛ العش���اء في وقت الش���فق ،وفي ُّ عل���ى نظام ّ ال���كالم ف���ي غير ذكر اهلل بع���د صالة العش���اء" ،اللهم بارك ألمتي في بكورها" (رواه الترمدي) .البد أن ندخل في النظام العام حسب ما نظمه اإلسالم ،في نظام الزمان ونظام المكان ونظام ويؤخر يقدم َّ اإلنس���ان والتجمعات اإلنس���انية ...النظام ال���ذي َّ وهو جزء من الهدى.
15
السنة التاسعة -العدد (2013 )39
عليكم ولكني أخشى أخش���ى (رواه البخ���اري) ،وف���ي حدي���ث آخ���ر" :من أن عليكم ْ ْ ْ ���ط ْت على خي���را ُي ِص ْب منه" (رواه البيهقي)؛ ُي ِرد اهلل به ُت ْب َس َ ���ط الدني���ا عليك���م كما ُب ِس َ ً الرتبية الإ�س�لامية قائمة على َم ْن كان قبلكم َف َتنا َف ُس���وها كما تنا َف ُسوها أي ين���زل علي���ه المصائ���ب فتك ِّف���ر عن���ه ْ �أ�س��ا�س �أكربي��ة اهلل يف لككم كما أهلك ْتهم" (رواه مسلم). َ َف ُت ْه َ الخطاي���ا فيطي���ب فتس���تقبله المالئك���ة: القل��وب� ،أي امت�لاء قل��ب ِ ولك���ن م���ا قص���ة ه���ذا الغث���اء اليوم؟ وه���ا ﴿س َ ���م َف ْاد ُخ ُل َ َ ���م ط ْب ُت ْ �ل�ا ٌم َع َل ْي ُك ْ ِ ِ م���ا قص���ة ملي���ار وثالثمائ���ة ملي���ون م���ن امل�ؤم��ن ب�أكربية اهلل .و�إذا ين﴾(الزم���ر .)73:وف���ي حدي���ث آخر َخالد َ المس���لمين؟ إن الداء الذي سماه رسول يق���ول " :ال ي���زال الب�ل�اء بالمؤم���ن امتلأ القلب به��ذه الأكربية، اهلل بـ"الوه���ن" ،أصابه���م ،فقي���ل له ما حتى يلقى اهلل ولي���س عليه خطيئة" (رواه ف���إن م��ا �س��وى اهلل ي�ص��غر، الوهن يا رس���ول اهلل؟ ق���ال" :حب الدنيا البخ���اري) ،وه���ذا البالء ف���ي هذا الحديث ، هلل ا ره غ �ص�� م��ا ي�ص��غر كلُّ ّ ُ وكراهية الموت" (رواه أبو داود). ف���ردي .وهن���اك البالء الجماع���ي الذي ويك�بر كل ما ك�ّب�رّ ه اهللُ� ،إىل العبد في س���بيل أمر دنيويُ ،ينفق بال نعيش���ه الي���وم هو ب�ل�اء العقوب���ة ،حيث جانب كونه هو الأكرب . حساب ،ولكنه في سبيل أمر أخروي ال هن���اك ب�ل�اء الترقي���ة ،وب�ل�اء التنقي���ة، شيئا .متى يظهر فينا أمثال أبي يكاد ينفق ً وب�ل�اء التطهي���ر ،وبالء التزكي���ة ...فهذه بك���ر وعمر ،يأتون بأموالهم كلها في البالي���ا الت���ي تن���زل باألمة الي���وم ،كأنها الرياح ب ْش���را س���بيل اهلل أو بنصف أموالهم ،ومتى يكون اهلل ورس���وله أحب ﴿و ُه َو ا َّل ِذي ُي ْر ِس ُ مبش���رات بي���ن يدي رحمتهَ : ���ل ِّ َ َ ُ ً نكبر اهلل ..أو بتعبير آخر ،متى وجدنا ���د ْي َر ْح َم ِت ِه﴾(األع���راف .)57:ما الذي يس���رع بعد فضل اهلل إلينا مما سواهما ،ومتى ّ ���ن َي َ َب ْي َ ّ أوالدنا وفي أنفسنا في ترجيحا لما فيه رضى اهلل على ما ليس اس���تفادة األرض من الغيث؟ إنه التعجيل بالتوبة النصوح على ً المستوى الفردي وعلى المستوى الجماعي .كما أن الجماعة في���ه رض���ى اهلل ،فلنعلم أن هاته الصفة قد اس���تقرت ،ومتى لم بعد ،وهي صفة ال تتأثر بزمان تتك���ون من أفراد ،والتوبة على مس���توى األف���راد تنتهي بنا إلى نجد ذلك فلنعلم أنها لم تستقر ُ التوبة على مس���توى الجماعات وعلى مس���توى األمة إن ش���اء وال بم���كان وال بإنس���ان .هذه الصفة هي األس���اس ،وهي في اهلل تعال���ى .قي���اس درج���ة التحقق هي إيثار م���ا يرضي اهلل .عالقتها بهذه األركان كعالقة "ال إله إال اهلل محمد رسول اهلل" كي���ف نع���رف أن ه���ذه الخاصية ف���ي التربية تمكن���ت منا؟ كل ببقية األركان ،وكل شيء يتأسس على هذه الخاصية. ّ واح���د يس���تطيع أن يعرف معبوده بيس���ر كالطريقة التي يعرف -2اتباع هدى اهلل بها مدى ارتفاع الس���كر في الجس���م .هل نحن نعبد اهلل ح ًّقا أم نعبد س���واه؟ هذا أمر س���هل في مكنة أي فرد؛ عندما تتعارض
المصلحة الش���رعية -هو األرضى هلل -مع أمر ليس فيه رضى كبرت عل���ى اهلل ما اهلل ،ب���ل في���ه س���خط اهلل ،ذل���ك يعني أن���ك ّ
سواه ،هل هو المال؟ هل هو الجاه؟ يقول رسول اهلل " :ما جائعان ُأ ِ ِ ِ ص المر ِء على ذئبان رسال في َغ َن ٍم ب َأ ْف َس َد لها من ِح ْر ِ والش َرف لدينه" (رواه الترمذي)؛ الذئب ال يأكل ما قتل ،إال المال َّ
بعد أن يس���تريح من قتل أكبر عدد من الغنم ،هذه خاصية في
الذئ���ب ،إذ ال ُيفه���م ه���ذا الحديث بغير معرفة ه���ذه الخاصية الم���ال من أجل الج���اه فمعبوده ف���ي الذئب .هن���اك من يعطي َ
ضحى بالجاه م���ن أجل الحصول األساس���ي ه���و الج���اه ،وإذا ّ
على المال فمعبوده األساس���ي هو المال ،والذي يترجح على ما سواه هو المعبود الحق ،قال رسول اهلل " :فوا ِ هلل ما ال َف ْق َر السنة التاسعة -العدد (2013 )39
14
أين يوجد هدى اهلل؟ يوجد في الوحي ،في كتاب اهلل وفي س���نة رس���وله الصحيحة ،وإن ه���ي إال بيان للق���رآنَ :ف ِإ َذا
���ه ُ ث َّم إ َِّن َع َل ْي َن���ا َب َيا َن ُه(القيام���ة ،)19-18:وقد ِ���ع ُق ْرآ َن ُ َق َر ْأ َن ُ ���اه َف َّاتب ْ ���اس َما ُن ِّز َل ﴿و َأ ْن َز ْل َنا ِإ َل ْي َك ِّ ���ر ِل ُت َب ِّي َن ِل َّلن ِ نبي���ه ببيان���هَ : ك ّل���ف ّ الذ ْك َ ِإ َل ْيهِ ْم﴾(النح���ل)44:؛ وظيفة رس���ول اهلل البي���ان ،وحياته كانت أحدا على الخطأ ،هذه بيا ًن���ا باللفظ وبالفعل وباإلقرار ،ال ُي ِق ُّر ً خالصة السنة؛ فالرسول ّ بين القرآن وكان خ ُلقه القرآن. م���ا المقص���ود بالهدى؟ داللته اإلرش���اد بصف���ة عامة ،وهو آن َي ْه ِ ���دي ِل َّل ِتي ِهي ���ر َ مث���ل الض���وء ينير الطري���ق :إ َِّن َه َذا ا ْل ُق ْ َ َأ ْق َو ُم(اإلس���راء .)9:ومعل���وم أن أخص���ر طري���ق بي���ن نقطتين هو
أيضا، الخط المستقيم ،وهذا أقوم طريق ،فيه معنى "اهلل أكبر" ً أي أن هدى اهلل أكبرُ :ق ْل إ َِّن ُه َدى ا ِ هلل ُه َو ا ْل ُه َدى(البقرة،)120: ِ ِ يم ارى َت ْه َت ُ و َقا ُل���وا ُكو ُن���وا ُه ً َ ���ودا َأ ْو َن َص َ ���دوا ُق ْل َب ْل م َّل��� َة إ ِْب َراه َ
الش���مس إل���ى القم���ر ...تجاوز ه���ذه األش���كال الخارجية إلى بارئه���ا .وه���ذه الحقيق���ة لها الي���وم أهمي���ة كبي���رة ،إذ إن الذي يحب���س نفس���ه بين األس���وار ويتج���ول بين مصنوعات البش���ر،
وغدا؛ يربطها بصانعها فيكبر عنده اإلنس���ان. ويفكر فيها اليوم ً ي���وم صنع له قديم���ا فرعونَ ، وه���ذا الغ���رور هو ال���ذي داخل ً
هام���ان ما صنع .وهذا الغرور هو الذي يداخل البش���رية اليوم ض َع ْن حين تنظر إلى نفس���ها ،وتنظر إلى ظاهر العلمَ :ف َأ ْع ِر ْ الد ْن َيا َذ ِل َك َم ْب َل ُغ ُه ْم ِم َن َم ْن َت َو َّلى َع ْن ِذ ْك ِر َنا َو َل ْم ُي ِر ْد ِإ َّ ال ا ْل َح َيا َة ُّ ا ْل ِع ْل ِم(النجم)30-29:؛ إنه علم السطوح ،واألشكال ،واألشباح، شيئا من كتاب اهلل وعرف مؤمنا والظواهر ...إن ً بسيطا قد قرأ ً ً دي���ن اهلل ،هو أعلم بكثير من "أنش���تاين" وغيره ،ألن علمهم ال يجاوز السطح ،وال يعرف من أين جاء هذا الكون ،وإلى أين
أيضا. يصير ،كما أنه ال يجاوز ذاته ً
الفض���اء العلمي للمس���لم ،أفس���ح بكثير من فض���اء العالم أظهر حقيق��� ٍة الكبي���ر ف���ي أمور الدني���ا ،ألن وأصرحها في هذا َ َ الكون هي خالق هذا الكون .وهل ظهر هذا الكون وحده؟ هل الك���ون بهذا النظام وبهذه العظمة ظهر وحده؟ َ أ ْم ُخ ِل ُقوا ِم ْن
او ِ ات َوا َ َغي ِر َش���ي ٍء َأ ْم ُهم ا ْل َخا ِل ُق َ َ ض أل ْر َ ���م َ الس َ ُ ْ ون أ ْم َخ َل ُقوا َّ ْ ِ ن ق و ي ال ���ل َب ون(الط���ور)36-35:؛ فأص���رح حقيق���ة وأظهره���ا هي َ ُ ُ َ ���ل َأ َف َغير ا ِ هلل اهلل ،ولكنه���م ال يعرفونه���ا وه���م جاهلونُ :ق ْ ْ َ ���د َأ ُّي َها ا ْل َج ِ هلل فهو ون(الزم���ر .)64:من لم يعلم ا َ اه ُل َ َت ْأ ُم ُرو ِّن���ي َأ ْع ُب ُ أجه���ل الخلق عل���ى اإلطالق ،ألنه ال يرى أص���رح حقيقة في ه���ذا الك���ون ،كبرت وظهرت حتى ما عاد يراها ،ويقال" :ومن
شدة الخفاء الظهور". ِ ِ اب ُص ْن َع ﴿و َت َرى ا ْل ِج َب َ الس َح ِ َ ال َت ْح َس ُب َها َجام َد ًة َوه َي َت ُم ُّر َم َّر َّ ٍ هلل ا َّل ِ ا ِ َ األرض: إلى انظ���ر ، (النمل)88: ﴾ ء ���ي ش ل ك ن ق ت أ ي ���ذ ه َو ُ ْ َ َ ُ َّ َ ْ ال َف ْام ُشوا ِفي َم َن ِ ا َّل ِذي َج َع َل َل ُكم ْا َ اكب َِها(الملك)15:؛ ض َذ ُلو ً أل ْر َ ُ األرض تسير كالناقة الذلول تجعل راكبها في غاية االستراحة، تجري لمس���تقر لها .كل ش���يء يطير في هذا الكون ،ال ش���يء ٍّ واق���ف ،ونح���ن عوالم ف���ي نقطة صغي���رة ..بالمكب���رات تظهر عجائب وغرائب من كائنات فينا .وحسبك الذرة وما فيها من
نيترون���ات وبروتونات والفضاء الموجود بينها .يقول العلماء: لو أزيل الفضاء الموجود بين النواة في الذرة وما يدور حولها
م���ن هذه النيترونات والبروتونات ،لصارت األرض في حجم
ظهر كأننا البيضة .فهذه األجسام التي نراها ،كلها فضاءاتَ ..ن َ ملتحم���ون ،ولكن لو ُنظر إلينا بمس���توى ع���ال من المكبرات،
وجدنا فضاءات خيالية يمكن أن تخترقها كائنات. َل َ ِ او ِ ات الس َم َ إذن ينبغي التفكر في هذا الكون :إ َِّن في َخ ْلقِ َّ
الن َه���ارِ لآَ َي ٍ ألو ِل���ي ا َ ات ُ َوا َ اب أل ْل َب ِ أل ْر ِ اخ ِت َ �ل�ا ِف ال َّل ْي ِ ض َو ْ ���ل َو َّ ون ون ا َ ���م َو َي َت َف َّك ُر َ ���ر َ هلل ِق َي ًام���ا َو ُق ُع ً ا َّل ِذ َ ودا َو َع َل���ى ُج ُنوبِهِ ْ ي���ن َي ْذ ُك ُ ���ذا َب ِ ِ او ِ ات َو ْا َ ال ���ت َه َ أل ْر ِ اط ً ض َر َّب َن���ا َم���ا َخ َل ْق َ ���م َ الس َ ف���ي َخ ْل���قِ َّ ُس ْب َحا َن َك(آل عمران ،)191-190:الذي يظن أن هذا الخلق باطل، ين َك َف ُروا ين َك َف ُروا َف َو ْي ٌل ِل َّل ِذ َ يق���ول في���ه اهلل َ ﴿ :ذ ِل َك َظ ُّن ا َّل ِذ َ النارِ ﴾(ص.)27: ِم َن َّ والق���رآن عص���ارة الكون؛ عصارة قوانين���ه وعصارة نظامه، فينبغ���ي أن ُيتدب���ر بالليل والنه���ار ،لذلك يج���ب أن يحمل في لتدبرهِ : اب َأ ْن َز ْل َن ُاه الصدر ليق���ام آناء الليل وأطراف النهار ُّ ك َت ٌ ِ ���روا َآيا ِت ِه(ص ،)29:إنما ُأخ���رج هذا الكتاب ِإ َل ْي َ ���ك ُم َب َ ���اركٌ ل َي َّد َّب ُ أساس���ا ليخرج الناس من الظلمات إل���ى النور .هدفه واضح: ً
ِ ِ هلل َم ِن َّات َب َع ِين َ ي ْه ِدي ِب ِه ا ُ اب ُمب ٌ ور َو ِك َت ٌ َ ق ْد َج َاء ُك ْم م َن اهلل ُن ٌ ال ِم َو ُي ْخ ِر ُج ُهم ِم َن الظُّ ُلم ِ ات ِإ َلى ال ُّنورِ ِبإ ِْذ ِن ِه الس َ َ ْ رِ ْض َوا َن ُه ُس ُ ���ب َل َّ َو َي ْه ِديهِ م ِإ َلى ِصر ٍ يم(المائدة .)16-15:وليصل العبد إلى اط ُم ْس َت ِق ٍ ْ َ ُ ذل���ك الهدف الواضح ،يج���ب أن يتدبر هذا القرآن ،وقد أنزل آن َأ ْم نتدبرهَ :أ َف َ ون ا ْل ُق ْر َ ال َي َت َد َّب ُر َ له���ذا التدبر ،وأنكر علين���ا أال ّ وب َأ ْق َفا ُل َها(محم���د .)24:الطريق في غاية الوضوح؛ إذا َع َل���ى ُق ُل ٍ تدبرن���ا هذا الكتاب ،أفضى بنا إل���ى تكبير اهلل ،وإذا تفكرنا ّ ف���ي هذا الك���ون ،أفضى بنا إلى تكبي���ر اهلل ،بحيث نرى أن اهلل هو كل ش���يء ،وبيده كل ش���يء ،وإليه يصير كل شيء، ال َأ ْن ون ِإ َّ و َما َت َش ُاء َ وال يمكن ألحد أن يفعل ً شيئا دون إذنهَ : هلل(اإلنسان.)30: َي َش َاء ا ُ الملك بيد كائ���ن من الكائن���ات ،إنما يظن���ن ف�ل�ا ٌّ ّ ظ���ان أن ُ الملك هلل وحده .في الحديث الشريف يقول " :إن اهلل -- يعطي الدنيا من يحب ومن ال يحب ،وال يعطي الدين إال لمن ي���د ا ْل َع ِ اج َل َة َع َّج ْل َن���ا َل ُه ِف َيها َما م ْن َك َ ان ُي ِر ُ يح���ب" (رواه أحم���د)َ ، ورا يد ُث َّم َج َع ْل َنا َل ُه َج َه َّن َم َي ْص َ َن َش ُاء ِل َم ْن ُن ِر ُ ال َها َم ْذ ُم ً وما َم ْد ُح ً َو َم ْن َأر َاد ِ ان ���و ُم ْؤ ِم ٌن َف ُأو َل ِئ َك َك َ اآلخ َر َة َو َس َ ���عى َل َها َس ْ َ ���ع َي َها َو ُه َ
ال ِء ِم ْن َع َطا ِء َر ِّب َك َو َما ال ِء َو َه ُؤ َ ورا ُ كلاًّ ُن ِم ُّد َه ُؤ َ َس ْع ُي ُه ْم َم ْش ُك ً ورا(اإلس���راء .)20-18:م���ن أراد أن يكون ���اء َر ِّب َ َك َ ان َع َط ُ ���ك َم ْح ُظ ً صالحا ،فاهلل يوصله بإذنه إلى تلك المنزلة :إ ِْن َي ْع َل ِم عبدا ً ً هلل ِفي ُق ُلوب ُِك ْم َخ ْي ًرا ُي ْؤ ِت ُك ْم َخ ْي ًرا(األنفال.)70: ا ُ اهلل يحب المس���لمين ،لذلك يسلط عليهم الباليا ،وفي خي���را ُي َف ّقهه ف���ي الدين" ���رد اهلل به الحدي���ث الصحي���ح" :من ُي ِ ً
13
السنة التاسعة -العدد (2013 )39
رهب وي َ أن ُي َحب أكثر من أي محبوبُ ، ِ ���ر أكث���ر م���ن أي مره���وب :إ َّن َم���ا َي ْع ُم ُ آم َن بِ���ا ِ ���اج َد ا ِ هلل َوا ْليو ِم ِ َم َس ِ اآلخرِ هلل َم ْن َ َْ ال الص َ ش ِإ َّ الز َكا َة َو َل ْم َي ْخ َ ال َة َوآ َتى َّ َو َأ َق َ ام َّ هلل(التوب���ة)18:؛ ل���م يخش إال اهلل وإال ما ا َ عمر المس���جد ،إنما عمره بالشبح ،وال قيمة لهذا الش���بح إال إذا امتأل باإليمان،
عامرا بأكبرية اهلل . أي إذا كان ً
س���وى آدم ق���ال: إن اهلل حي���ن ّ ي���ن َ ف��� ِإ َذا ���ن ِط ٍ ِ إ ِّن���ي َخا ِل ٌ ���را ِم ْ ���ق َب َش ً ���ت ِفي ِه ِم ْن ر ِ وح���ي َف َق ُعوا ���و ْي ُت ُه َو َن َف ْخ ُ ُ َس َّ ���ه َس ِ ين(ص ،)72-71:فاإلنس���ان َل ُ ���اج ِد َ إذن ِم���ن طي���ن و ِمن روح ،وال���ذي يؤ ّثر
أيضا لف���ظ يتكرر في الص�ل�اة ،والصالة ً
�شخ�ص��ا عاديًّا امل�س��لم لي�س ً يف ه��ذا الك��ون� ،إذ امل�س��لم موقعه ال�ش��هادة على النا�س، وه��و املنظِّ��م واملوج��ه العام للب��شر يف الكرة الأر�ض��ية.. املفرو�ض �أنه هو الذي ي�س�ّي رّ العامل بر�ش��د ،لأن الأمانة من املفرو���ض �أن تك��ون يف ي��د هذا النوع من الب�رش.
ويحرك ويوجه هو "الروح" ال الجس���د، ّ ّ
ه���ي أكبر ركن يتكرر في حياة المس���لم. ومعن���ى ذل���ك أنن���ا نكب���ر مع اهلل أش���ياء
كثيرة ..وهذا المعنى ال يتقرر فينا بيسر، كثيرا، ولذلك كثيرا َّ يكرر علينا ً ونذكر به ً َّ ليستقر معنى تكبير اهلل .
إن المس���لم ف���ي ه���ذا الك���ون ه���و اإلنس���ان الش���اهد: ���ك و َك َذ ِل َ َ
���ه َد َاء ���م ُأ َّم��� ًة َو َس ً َج َع ْل َن ُ ���طا ِل َت ُكو ُن���وا ُش َ اك ْ َع َل���ى الن���اس ويك���ون ���م الر ُس ُ ���ول َع َل ْي ُك ْ َّ ِ َ َ ُ َ َّ يدا(البقرة ،)143:بعد أن علم بحقيقة َش���هِ ً ���م َر ِّب َك(العل���ق ،)1:وبع���د أن ِاس ِ ���ر ْأ ب ْ ا ْق َ
ترجم ه���ذا ذكرا العلم إلى عم���ل ُ َ فملئ ً
حتى وصل إلى درجة التوكل الكامل في
وكل الخصائص التي للجس���د س���ببها "ال���روح"؛ فحين يموت
لتعده للرس���الة واإلنذار، فواتح المزمل .وتأتي فواتح المدثر ّ
لكنه���ا ال تس���مع ،يبق���ى اللس���ان لكن���ه ال ينطق ،يبق���ى العقل
﴿يا َأ ُّي َه���ا ا ْلم َّد ِّثر ُ قم َف َأ ْن ِ ���ذ ْر َ و َر َّب َك ش���رط وأول زاد ه���وَ : ْ ُ ُ ���دم المفع���ول ،وهذا يفي���د الحصر، َف َك ِّب ْر﴾(المدث���ر .)3-1:لق���د ُق ِّ
اإلنس���ان ،تبق���ى العيون لكنها ال ترى وال تبص���ر ،تبقى اآلذان
أي الش���هادة على الناس؛ يك َّلف باإلصالح بعد الصالح .أول
لكن���ه ال يفكر ...يبقى الجس���د كله لك���ن ال توجد فيه خاصية م���ن خصائ���ص الحي���اة ،إذ َي ِ رج���ع إلى أصل���ه ،يتحل���ل كبقية
أي كأن���ه يق���ول: كبرته وحده َّ "وربك وح���ده ّ فكبِر ،ألن���ك إن ّ
روحا خالدون وأجس���ادا فانون ،والموت إنما هو انفصال بين ً ً
تام���ة إن كان���ت عبوديت���ك له كامل���ة ،وتكون ُن ْصرت���ه لك تامة
الموجودات في هاته األرض .الروح ال تفنى ،وهذا يعني أننا بعدَ :قا ُلوا عنصرين التقيا ُ بعد ،ثم سيلتقيان ُ قبل ،ثم انفصال ُ اع َت َر ْف َنا ب ُِذ ُنوب َِنا(غافر )11:كما َر َّب َن���ا َأ َم َّت َنا ا ْث َن َت ْي ِن َو َأ ْح َي ْي َت َنا ا ْث َن َت ْي ِ ���ن َف ْ يقول الظالمون ألنفسهم.
اس���تطعت أن تنجز كل ش���يء ألنه معك .تكون والية اهلل لك
فتتصرف بقوة اهلل .
إن المس���لمين م���ا انتص���روا بكث���رة الع���دد ،وال انتص���روا
بكث���رة الع���دة ،وإنما انتصروا بوالية اهلل له���م ،إذ النصر ال
المس���لم لي���س عادي���ا في ه���ذا الك���ون ،ولكنه ال ش���خصا ًّ ً
يؤتى باألس���باب البش���رية العادي���ة وإن كان مطلوبا إعداد هذه ً ���ن ُق َّو ٍة(األنف���ال،)60: و َأ ِع ُّ اس َ���ت َط ْع ُت ْم ِم ْ األس���بابَ : ���دوا َل ُه ْم َما ْ ال ِم ْن ِع ْن ِد ا ِ هلل(آل عمران ،)126:إن شاء أنزله الن ْص ُر ِإ َّ و َما َّ ولكن َ وإن ش���اء لم ينزل���ه ،وإنه ينزله على المؤهلي���ن وإن كانوا قلة.
ف���ي ي���د هذا النوع من البش���ر ،ولك���ن عندما غ���اب ُنزعت منه األمان���ة وس��� ِّلطت عليه البالي���ا ،وال تزال تس��� َّلط حتى يراجع
صغيرا -على كبي���را كان أمالمربى ال م���ن تدريب تنطل���ق أو ً َّ ً ً
يعرف معناه لألس���ف ..إن المسلمين ألفاظ ال تعرف معانيها؛ إذ المس���لم موقعه الش���هادة على الناس ،والمسلم هو المنظم ِّ
والموجه العام للبش���ر في الك���رة األرضية ..المفروض أنه هو الذي يس���ير العالم برشد ،ألن األمانة من المفروض أن تكون ّ عبدا هلل ح ًّقا كما ُطلب منه ،ال يش���رك به ش���يئا. نفس���ه ويع���ود ً ً
وذل���ك يقتض���ي تحقيق معنى "اهلل أكب���ر" ،ألن العبد حين ُيقبِل
على ربه في الصالة ويقول "اهلل أكبر" ،يعلن إعال ًنا واضحا بأن ً ما س���وى اهلل ال قيمة له بالنس���بة إليه ،وقد أحرم عليه وانقطع
ع���ن ما س���واه ولن يعود إلى من س���واه .فه���ذا التكبير هو أكبر السنة التاسعة -العدد (2013 )39
12
ه���ذه الحقيقة تجعل التربية اإلس�ل�امية ف���ي كل عصر ومصر،
ترس���يخ هذه الحقيقة في قلبه وجعلها مستقرة كل االستقرار.
التدبر للقرآن، أما الس���بيل إلى ذل���ك فطريقان كبيران ،طري���ق ّ
وطريق در القائل بعبارة لطيفة جامعة ّ التفكر في األكوان .وهلل ّ حل من األكوان إلى المكون" .إذا نظرت في قرون خلتِ " :ا ْر ْ ّ إلى الشجرة ال تقف عندها ولكن انفذ إلى خالقها ،إذا نظرت إل���ى الحيوان فتجاوزه إلى خالق���ه ،إذا نظرت إلى الجماد إلى
دراسات إسالمية
أ.د .الشاهد البوشيخي*
موازين كلية
في اجتهاد التنزيل هن���اك فرق بين االجتهاد في االس���تنباط العام ،وبين اجتهاد التنزيل. ���زل النص على الواقع ،هناك فهم له���ذا النص مطل ًقا دون عندم���ا ُي َن َّ
عالقة بزمان بعينه ومكان بعينه وإنسان ومجتمع بعينه ،وهناك فهم
له���ذا الن���ص وهو يتجه إلى مجتمع بعينه وزم���ان بعينه ومكان بعينه ،والذي أرى أنه يفي بالمقصود في حدود المساحة المتاحة ،هو األسس الخمسة التالية:
-1تكبير اهلل
المقص���ود م���ن هذا األس���اس ،أن تكون التربية اإلس�ل�امية قائمة على أس���اس أكبرية
اهلل ف���ي القل���وب ،أي امتالء قل���ب المؤمن بأكبرية اهلل .وإذا امتأل القلب بهذه هلل، األكبري���ة ،ف���إن ما س���وى اهلل يصغر ،يصغر ُّ كبر ا ُ صغره ا ُ كل م���ا ّ هلل ،ويكب���ر كلُّ ما ّ إل���ى جان���ب كونه هو األكبر ،فاألمور كلها تصير في عالقة مع اهلل ..هو األكبر..
فال ُيخش���ى ش���يء إال في عالقته باهلل ؛ ُيخش���ى من الذنبُ ،يخشى مما َخ ّوف اهلل اؤ ُك ْم بحب���هُ :ق ْل إ ِْن َك َ اؤ ُك ْم َو َأ ْب َن ُ ان َآب ُ من���ه ..فال ُي َح ّب ش���يء ًّ كبيرا إال إذا أمر اهلل ّ حبا ً ال ا ْق َتر ْف ُتم َ ِ ِ ���اد َها ���و َن َك َس َ ���م َو َأ ْز َو ُ وها َوت َج َ ���و ٌ َ ُ ���ير ُت ُك ْم َوأ َْم َ ار ٌة َت ْخ َش ْ اج ُك ْ َوإ ِْخ َوا ُن ُك ْ ���م َو َعش َ ���ب ِإ َلي ُكم ِم َن ا ِ ِ َ هلل َو َر ُس���و ِل ِه َو ِج َه���ا ٍد ِفي َس���بِي ِل ِه َف َت َر َّب ُصوا َح َّتى َو َم َس���اك ُن َت ْر َض ْو َن َه���ا أ َح َّ ْ ْ ال َي ْه ِ ���دي ا ْل َقو َم ا ْل َف ِ ين(التوبة .)24:فمقتضى أن اهلل أكبر ،هو ي ْأ ِت هلل َ هلل ِب َأ ْم ِ ���ر ِه َوا ُ ���ي ا ُ اس��� ِق َ ْ َ َ
11
السنة التاسعة -العدد (2013 )39
وقد تتحقق هذه النظرة إذا التزم كل باحث مسلم بعدم الركون إل���ى مجاني���ة االس���تهالك العلم���ي لمنج���زات الغي���ر ،والرقي
بأعماله إلى حقيقة البحث المنبثقة من استعمال العقل في فهم
الواقع وإدراك الحق فيه وتحصيله على حقيقته .ألن الباحث، بركون���ه إلى اس���تيراد منجزات الغير واعتما ِده���ا نماذج جاهز ًة َ
لصياغة مس���تلزماته ،يكون قد استعمل االستنتاجات التي كان م���ن المف���روض أن يصل إليه���ا عن طريق االس���تدالل المنبثق
من واقع بحثه مكان الوسائل المعتمدة في البرهنة واإلثبات.
فيك���ون بذل���ك إنما عمل على تجميع األج���زاء وتركيبها دون يفوت عليه فرصة اإلحاطة بأسرار صنعها ودقائق نظمها ،مما ّ وي ِ حدث في اإلحاطة بحقائق األشياء عبر التدرج في مراحلهاُ ، بحث���ه فجوات أكثر ما تجدها ُتمأل بالنماذج المس���توردة .وهو أمر ال يستقيم الفكر العلمي به وال يتقدم؛ إذ ُي ِ قحم شيئا َ العقل ً محكوما بعدم���ا جعله اهلل فش���يئا عال���م الجمود فيصير حاكما، ً ً ً
متبوعا. تابعا وهو الذي يجب أن يكون ً ويعود ً
الش���يء الذي يس���توجب الي���وم أكثر م���ن أي وقت مضى،
َن ْب���ذ التقليد بعرض كل معروض على محك التجربة المدققة،
البناء .ف���إذا تجاوز وإخض���اع كل وارد لمي���زان العق���ل والنق���د ّ األم���ر مس���توى اإلدراك العقل���ي للباحث ونكث ف���ي قلبه منه
ِ نكث ،فال يقبل منه إال بش���هادتي الكتاب والس���نة. وليس���تفت
قلب���ه ،ف���إن العق���ول إذا كانت تتكام���ل في صناع���ة العلوم فإن
ال من القل���وب تتفاض���ل في صياغة الفهوم .وم���ا عصم اهلل عق ً
التقصي���ر والزلل ،ولكن بالتقوى يحصن س���بحانه القلوب من ِّ العلل فال تقبل من ضرر بعلم وال خلل.
ولذا ،وجب وضع اس���تراتيجيات موحدة تكون من أولى
مهماتها العمل على إعادة تفعيل العالقة بين أهل النقل وأهل العق���ل على مختل���ف توجهاته���م الفكرية والعقدي���ة ،وكذلك
العم���ل عل���ى تفعي���ل ثقافة االنفت���اح على اآلخر لبن���اء جو من
الش���راكة العالمية يرمي إلى الحوار الدين���ي والتفاعل الثقافي. وهذا يتطلب وضع خطط وبرامج نوعية تصاغ على مس���توى المؤسس���ات العلمي���ة والثقافي���ة واألكاديمية تك���ون في صلب
التوجهات التنموية المرتبطة بمسيرة التطور والتحديث. (*) كلية العلوم ،جامعة ابن طفيل /المغرب. السنة التاسعة -العدد (2013 )39
10
واهب الحياة إن شاء، واهب الحياة ْ ُ الموت حيا ًة، انْقلب نورا، ُ ُ والليل ً بالرواء فاض، والزهر ِّ المصوح ُّ ودبَّ ْت الحياة ،والربيع سرى؛ وفي ُك ِّل ُّ الدنَى ،حيا ًة سترى... ***
ف���ي عل���وم الرياضيات والفل���ك والطب والطبيعي���ات والهندس���ة وغيره���ا ...كما
تطورت مناهج االس���تقراء واالس���تنباط
والتوثيق لما في ذلك من ضرورة لضبط واس���تعمل المنه���ج العل���وم وتدقيقه���ا. ُ التجريب���ي لالس���تدالل عل���ى صح���ة
األش���ياء بالمالحظة والفرضية والتجربة
���ل َها ُتوا والبره���ان ً عم�ل�ا بقوله ُ :ق ْ ين(النمل.)64: ُب ْر َها َن ُك ْم إ ِْن ُك ْن ُت ْم َصا ِد ِق َ وه���ذا ه���و األص���ل ال���ذي يجب أن ترتب���ط ب���ه الف���روع .فأمام ه���ذه القطيعة المأس���اوية بين أمجاد ماضي المسلمين
العل��م ه��و دلي��ل الإن�س��ان يف حيات��ه وبق��اء عمل��ه بع��د مماته. ف�إن احت�ض��نته �أيادي �أمينة عارفة به �أ�ش��ع بنوره و�أ�ضاء ،و�إن وقع يف �أيدي العابث�ين �ألقى ب�رشاراته ف�أح��رق .والعا ِلـ��م الناف��ع ه��و العارف بعبء الأمانة وج�س��امة امل�س���ؤولية� .أم��ا اخل��ارج ع��ن ه��ذا الإط��ار فيعترب ظاملاً لنف�س��ه وللإن�سانية.
الدوائر المعرفية الثالث:
-1دائرة المحسوسات التي تشمل
الواقع الذي هو عا َلم الشهادة ومفتاحه
الحواس.
-2دائ���رة المعق���والت التي تش���مل
المغي���ب عن الح���واس ال���ذي ال يدرك
إال بقوة الفكر وهو عالم الغيب النس���بي ومفتاحه العقل.
-3دائ���رة اإلخباري���ات التي تش���مل
المغي���ب ع���ن الح���واس وع���ن العق���ل
الذي أخبر ب���ه الوحي وهو عالم الغيب المطلق ومفتاحه النقل.
المش���رق ومآس���ي حاضره���م المؤل���م، الك���م الهائ���ل م���ن وانطال ًق���ا م���ن ه���ذا ّ
عناصر الواقع والعقل مع الوحي وفق
وبق���در م���ا تتنام���ى ه���ذه الدوائ���ر
اإلنج���ازات المس���خرة لإلنس���ان ،وج���ب عل���ى ذوي الني���ات
المعرفي���ة الث�ل�اث ف���ي وج���دان اإلنس���ان بق���در م���ا يترقى في
مفه���وم ذل���ك التح���دي ال���ذي البد ه���و آت ،فيثبت���وا مكانتهم َ
إدراك���ه بقدر م���ا ينال من العل���م النوراني ،حت���ى إذا تداخلت
الصالح���ة -بم���ا مكنهم اهلل من وس���طية -أن يع���وا حق الوعي
درج���ات الكم���ال العلم���ي ،وبق���در م���ا تتعاظ���م مجاالتها في
بالخ���روج م���ن نف���ق االس���تهالك العلم���ي المظلم إل���ى فضاء
نطقها وتمازجت معالمها ،ش���كلت بينها فضاء متجانسا للعلم ُ ً
المتغيرات العالمية قصد إيجاد الحلول لما يعيش���ه العالم من
للك���ون هدفها بناء فك���ر علمي وعاؤه اإلنس���ان الكامل .ومن
البح���ث العلم���ي المش���رق ،فيطرح���وا البدي���ل داخ���ل ه���ذه
تخل���ف أخالقي وف���راغ روحي ،وإع���ادة االعتب���ار لمعنويات ويتوضح العل���وم حت���ى يتحقق مفهومه���ا الحضاري العالم���ي ّ
نهجه المتميز في تعليم أسس العلم ومقاصده .فالوقائع التي
س���جلها العال���م في عقوده األخيرة ،والتي س���طر ه���ذا المقال بعض���ا من تداعياتهاُ ،تظهر م���دى احتياج العلم للدين ،وكيف ً يبقى ميدان البحث العلمي المتنور مادة خصبة لمد الجس���ور
وس���د الفجوة الت���ي تفصل الواقع الحال���ي للعلم عن بينهم���ا، ّ
مساره الحضاري.
الحاجة إلى بناء نهضة علمية حضارية
وهك���ذا نجد أن الحاج���ة إلى انبعاث نهضة علمية جديدة عند نظرا المسلمين أصبحت اليوم ملحة أكثر من أي وقت مضىً ،
يسجل من انحرافات خطيرة عن المسار العلمي الصحيح لما َّ وع���ن أبع���اده الحضاري���ة .إذ ال يمك���ن لفكر علم���ي أن يكون
حضاريا ما لم َي ُقم على أس���س االس���تقامة العلمية .وال يمكن ًّ لعلم بش���ري أن يس���تقيم ما ل���م َي ْن َبن على قاع���دة تتكامل فيها
تفكرية تتكام���ل في���ه عوالم الواقع والعقل والوحي ف���ي قراءة ّ هن���ا يجب أن نوق���ن بأن العلم ال يكتم���ل إال إذا ُن ّزلت دوائره متوازيا على الزواي���ا الثالث لمثلث ال المعرفي���ة الث�ل�اث ،تنزي ً ً متس���اوي األضل���ع .أما إذا ت���م التنزيل على زاوي���ة واحدة أو زاويتين من هذا المثلث دون األخرى ،فسيختل توازنه ويميل إلى ذلك الطرف ،وذلك هو مفهوم التطرف.
وه���ذا يدلنا من خ�ل�ال بناء العالم الذي يبدي -كما رأينا-
ال، ال، واقعا، وج���زء ثال ًث���ا منقو ً ثاني���ا معقو ً ً ً ً ج���زءا من���ه ً وج���زء ً توحد هذه عل���ى أن اإلحاط���ة العلمي���ة ال تتأتى إال من خ�ل�ال ّ
التوحد س���تتجانس خصائص الدوائ���ر الثالث .ألن ف���ي ذلك ّ كل دائرة مع خصائص الدائرة األخرى ،مما سيفسح المجال أم���ام حرية تالقح المعلومات فتت���زاوج عوالم الواقع والعقل والوحي ،وتضمن لإلنسان التفتح على مقومات الكمال التي
من أجلها خلق.
االستهالك العلمي والنماذج المستوردة
فهذه إذن هي قاعدة األس���اس في بناء نهضة علمية حضارية.
9
السنة التاسعة -العدد (2013 )39
عالما ثال ًث���ا عالة على عل���ى كل ش���يء ،وعالم متخلف س���مي ً
فرط للبحوث العلمية في الم ِ من سواه .وبسبب هذا التوظيف ُ
وأن المواد المشعة التي تحتوي عليها ال تتالشى بسهولة مع الزمن ،وليس هناك إمكانية للتخلص منها.
خدمة مطامع الس���يطرة والتس���لط ،حلت بالعالم نكستان أثرتا األخالق ضرورة في العلم تأثيرا عمي ًقا :األولى تج ّل���ت في حدوث الحربين ف���ي مصي���ره ً
لما ُجرد من مقوماته األخالقية. هذا ما جناه العلم على البشرية ّ
مثيل لوسائل تدمير األرض واإلنسان ،والثانية تمثلت َيسبق له ٌ
إل���ى ش���يء من هذه االكتش���افات قب���ل غيرهم ،لكن م���ا يمليه
العالميتي���ن األول���ى والثاني���ة ،اللتين أنتجتا ال لم تصاع���دا مهو ً ً تدهورا في االس���تعمار الذي خ ّلف خطي���را في أوضاع العالم ً ً وتناميا غير مسبوق لألحقاد االجتماعية. الثالث، ً
فلربما وصل العلماء المس���لمون في عهد إشراقهم الحضاري
الضمير الحي وم���ا تقتضيه ضوابط الحكمة ،قد يكون أوجب المه ِلكات في مهدها ضما ًنا ألمن األرض وس�ل�امة َو ْأ َد ه���ذه ُ
وح ّكم���ت فيه هك���ذا ف���ي عالم تالش���ت في���ه أح���كام اهللُ ،
ساكنيها .فقد كان جابر بن حيان -وهو أب الكيمياء باعتراف
على البشرية ،كالسباق على التسلح الذي ّلبس األرض غطاء
ال" :ال تع ّلم���وا الكيمياء إال لمن تأمنون دينه عل���م الكيمياء قائ ً
نفعا المصال���ح واأله���واء وقع تبذير الطاقات فيم���ا ال ُيجدي ً قادرا على محو الحضارة اإلنسانية والقضاء على العنصر ً نوويا ً البشري في هنيهة من الزمن .فلئن كان مفعول قنبلة هيروشيما وناكازاك���ي ق���د أح���دث كارثة بش���رية وبيئي���ة في اليابان س���نة ،1945فإن س���نة 1962ش���هدت توقيع بروتوك���ول الموافقة
العال���م وه���و العالم الفقيه -يوصي بعدم���ا اطلع على خطورة
وخ ُلقه" .وكأننا بصدد وصية من أب في زواج ابنته هو مطالب
بوضعها في يد أمينة .وذلك أس���مى تعبير عن مدى مس���ؤولية العا ِل���م عل���ى تحصين العلم ضد أي عب���ث قد يؤذي الناس أو يفس���د معايش���هم .وقب���ل ذل���ك كان رس���ول اهلل يوصي في
فش���رع عل���ى صن���ع القنبلة النووية. العالم لنفس���ه ه���ذا العمل ُ ّ
نافعا" .ألجل ذلك حرص اإلسالم الدعاء بأن نسأل اهلل "علما ً ً
م���ا يع���ادل ع���دة أطنان م���ن المتفجرات فوق رأس كل إنس���ان
س���تحمل األمانة وتؤدي الرس���الة ،ألن االس���تقامة العلمية هي
بروعة التسلح ،بينما الماليين من سكان العالم اآلخر يموتون
تقوى مهما بلغت من العلم .فوا أس���فاه على ما آل إليه العلم
تشريعا جعل السباق على التسلح يتصاعد حتى بلغت ميزانيته ً
يقط���ن األرض .والعالم المتقدم مش���غول ببحوث���ه واهتماماته واضطهادا. ومرضا جوعا ً ً ً
وها هي المؤش���رات األولى على آف���ة هذا التوجه العلمي
عو ّج ،بدأت تظهر من مخ ّلفات ما أنتجته يد اإلنسان األثيمة ُ الم َ
لم���ا كانت االنطالقة العلمية غير رزين���ة ،والني ُة في العمل غير
كل الح���رص عل���ى األخ�ل�اق ف���ي العل���م إلع���داد األم���ة التي التي تصون الحضارة من الدمار ،وبدونها ال تنهض األمم وال
لما ُج ِّرد من اإليمان ،ويا حسرتاه على ما َف ّرط فيه اإلنسان من ّ
عطاء جامعات قرطبة وبغداد وفاس وغيرها يوم كانت العلوم تش���ع بنورها فوق الق���ارات الثالث بثقافة ترتك���ز على دعائم الحكمة واإليمان ال على تقنيات الدمار والطغيان.
فإذا نظرنا إلى الماضي المش���رق ألمتنا ،س���نجد أن العالم
س���ليمة .إذ بع���د انهي���ار المعس���كر الش���رقي وانته���اء الح���رب الب���اردة ،وجدت الدول المصنعة نفس���ها -والعالم معها -أمام ِّ
اإلس�ل�امي م���ا كان ليس���بق إلى تأس���يس الجامع���ات في القرن
النووي���ة م���ن خط���ر عل���ى األرض واإلنس���انية .فالتخلص من
والت���ي كان���ت مهد بن���اء الحضارة اإلنس���انية ل���وال وجود تلك
تحد كبير بسبب ما تشكله هذه الترسانات الهائلة من الرؤوس
يوميا في حياة الناس، هذه األس���لحة صار والفعاليات ُ هاجسا ًّ ً اإلنسانية والبيئية كلها تطالب بإزالة هذه اآلفة التي تهدد حياة الناس ومس���تقبل البش���رية. وأخي���را أدرك العالم ه���ذا الخطر، ً
وق���رر التقلي���ل من عدد ال���رؤوس النووية ،لك���ن ذلك اصطدم بعائقين كبيرين؛ أولهما مادي حيث يتطلب تدمير رأس نووي واح���د ما يزي���د على الملي���ون دوالر ،والثاني بيئ���ي يكمن في كيفية التخلص من النفايات المترتبة عن هذه الس���موم ،خاصة السنة التاسعة -العدد (2013 )39
8
الثام���ن المي�ل�ادي في قرطب���ة وفاس وتونس وبغ���داد وغيرها، النظرة الش���مولية ألبع���اد الحياة المبنية عل���ى تحرير الفكر من قيود االستهالك وإقحامه عالم البحث واالجتهاد في مضامين كل إنجاز وعواقب كل إبداع .فبذلك تضاعف البحث العلمي، وظهرت ال ِف َرق والتيارات المتنافس���ة التي س���اهمت في ب ْلورة العلوم وعملت على اكتشاف آيات اهلل التي هي جزء من عبادته.
فاقتحم اإلس�ل�ام ساحة العلوم الفس���يحة من مختلف أبوابها، واضط���ر العلم���اء لض���رورة فهم الق���رآن وتفس���يره إلى البحث
ف���ي باق���ي العا َل���م ،فذل���ك عل���م نفع���ي
ال يمك���ن ل���ه أن يرق���ى إل���ى المس���توى
الحضاري.
فالتوج���ه العلم���ي الحالي بتكريس���ه
لفك���رة التج���زيء العلم���ي م���ن أج���ل
التخص���ص ،أورد العا َلم م���وارد خطيرة جعل���ت الف���رد ينحص���ر في حي���ز ضيق م���ن مج���ال المعرف���ة حجبته ع���ن باقي
جزأ ش���جرة العلم إلى المع���ارف ..فهو ّ أغصان متباينة ،وفرض على كل باحث أن يتش���بث بغص���ن واحد منه���ا ،وأن ال
يلتف���ت ببصره إل���ى الغصن اآلخر حتى
م���ا آل إلي���ه واقع العل���م الي���وم .فالعلم
العلم احل�ضاري هو الذي يكون فيه العا ِلـم يرمي من خالل �إجنازاته �إىل بناء ح�ض��ارة �إن�س��انية تخدم كل الب�رش ب��دون متييز� .أما العلم جلب هم العا ِلـم َ الذي يكون فيه ُّ املنفعة لفئة معيّنة دون االكرتاث مب��ا يج��ري يف باق��ي العالَـ��م، فذل��ك علم نفع��ي ال ميكن له �أن يرقى �إىل امل�س��توى احل�ض��اري.
يت���م توجيه المس���ار إل���ى الوجه���ة التي
تمليها مصالحه.
ذلك المش���عل الذي ال ينطفئ ،هو دليل اإلنسان في حياته وبقاء عمله بعد مماته. ُ
ف���إن ه���و احتضنته أيادي أمين���ة عارفة به
أش���ع بنوره وأض���اء ،وإن ه���و وقع في أي���دي العابثي���ن ألقى بش���راراته فأحرق. والعا ِلم النافع هو العارف بعبء األمانة وجس���امة المس���ؤولية .أما الخ���ارج عن
مفر ًطا وظالما لنفس���ه ً هذا اإلطار فيعتبر ّ
ولإلنس���انية ،ألنه بعمله الالمس���ؤول قد
ي���ورد العا َلم مآس���ي ووي�ل�ات لن يكون الخالص منها بالشيء الهين.
إنسان الغريزة واألنانية
فالمصال���ح الت���ي توج���ه مس���ار العلم الحدي���ث ،بات���ت َتعتبر
لك���ن العل���م ه���و أش���مل من ذل���ك بكثي���ر ،وأبع���د من أن
العقل مركز قياس كل ش���يء ومرجعية أي تحليل أو معالجة،
تمليه���ا المصال���ح .ذلك ألنه رؤية ش���مولية جامع���ة ومتوازنة
المصال���ح ،جعل اإلنس���ان ُيش���هِ ر الحرب عل���ى كل مكونات
الباح���ث إلى الحقيق���ة الواحدة التي يحتضنها الكون .أما تلك
وم���ن نعم���ة االس���تيعاب الصحيح لفلس���فة الحي���اة والموت. وتحددت بذلك معالم البحث العلمي برس���م دائر ٍة عزلته عن ِ
ومهم���ا كانت حقائ���ق تلك التخصصات جزئية غير منس���جمة
العالم فتصدر منافعها االقتصادية واالجتماعية. إنسان الغريزة ُ ّ َ
ينحص���ر ف���ي زواي���ا مح���دودة بمحدودي���ة التخصص���ات التي
لدرجة أن هاجس الس���يطرة الذي أصبح يملي توجهات هذه
بي���ن الحقائ���ق م���ن ش���تى التخصص���ات ،القصد منه���ا إيصال
���رم م���ن ل���ذة اإلدراك الفعل���ي لحقيق���ة الوجود، فح ِ الطبيع���ةُ .
���عب من التخصص���ات الت���ي تمليه���ا المصالح ،فما هي إال ُش َ
كلي���ة جامع���ة ذات موض���وع علمي واح���د عنوان���ه "الحقيقة". مع هذا العنوان ،فإن معارفها س���تبقى ش���اذة مبتورة بعيدة كل
البعد عن الكتاب العلمي الجامع للكون ،وعن أبعاده اليقينية المطمئنة لنفس اإلنس���ان التي تمكنه من المساهمة الهادفة في تضمنه نموذج القرآن في بناء فكر البناء الحضاري .وذلك ما ّ
اإلنس���ان ذلك البناء الذي ينس���جم مع بناء الكون في صناعة
الحضارة ،تلك الحضارة التي أرادها لنا صانع هذا الكون ،ال التي تمليها مصالح اإلنسان ومطامعه.
التقي���د بمحدودية باق���ي المقوم���ات الراقي���ة للطبيع���ة ،وألزمته ّ
وغ ّيب عنه إنسان القيم األخالقية. واألنانية ُ
ه���ذا م���ا آل إلي���ه واقع العلم الي���وم لما َغ ّيب عن س���احته
الفكرية حقيق َة المسار الموروث عن الماضي والمرتبط ارتبا ًطا فضرب على جذريا بأبعاد الحياة اإلنسانية ومستقبل شعوبهاَ ، ًّ
ه���ذا الم���وروث بطوق م���ن حديد جعله يتنكر ل���كل األعراف اإلنس���انية ،ب���ل ويخ���ون بكبريائه وس���خريته األمان���ة العلمية..
فنهل من علوم الس���ابقين ،ونس���ب إلى نفس���ه كل االبتكارات
م���ن هذا المنطل���ق يجب أن نقيم نتائج العلم الحالي .فإذا
دون أن يعت���رف بفض���ل األولين، متناس���يا أن م���ا وصلت إليه ً
في القرن األخير مما لم تس���تطع البش���رية تحقيقه على مدى
لفرض قطيعة جذرية مع الماضي قصد صنع مس���تقبل ُم َبهم تس���اق في���ه العلوم إلى واق���ع ُتم ِلي توجها ُته مطامع اإلنس���ان َ
كان من دواعي الدهش���ة واالنبهار أن نستعظم ما أنجزه العلم
ع���دة قرون من تاريخها ،فإن م���ن دواعي التبصر واالعتبار أن
نق���ف وقفة تأمل لن���زن بمي���زان األمانة والمس���ؤولية مضامين ما قدمه العقل لإلنس���ان ،ونس���تحضر بعين المش���خص مغزى
كافيا إنجازات���ه فيه نصيب كبير م���ن إرث الماضي .فكان ذلك ً وغرائزه.
ف���ي ظ���ل هذا التوج���ه الخانق ظه���ر عا َلم متقدم يس���تحوذ
7
السنة التاسعة -العدد (2013 )39
قضايا فكرية
د .عبد اإلله بن مصباح*
ونحن نؤسس لعلم حضاري إننا ونحن ننجز أبحاثنا في مختبراتنا العلمية،
تحيرنا ،بل وتؤرقنا ونحن نخوض غمار ّ هذه كلها أس���ئلة ّ
غالب���ا م���ا تتب���ادر إل���ى أذهانن���ا أس���ئلة تتعل���ق ً
تجاربن���ا العلمي���ة ،في زمان أصبح فيه م���ن المعوقات الفكرية إن تداعيا ِته َلتس���تدعي واالقتصادي���ة والبيئي���ة واالجتماعي���ة ما ّ
العلمي���ة حت���ى تكون نتائجه َلبِنات في إقام���ة البناء الحضاري؟
عنوان التحدي ،إلى إعادة ه���ذا الزم���ان الذي أصبح فيه العقل َ
الموروث عن فكرة التجزيء التي حصرت العلوم بين مجالي
فقط بالنظرة التنموية ولكن باألبعاد اإلنسانية والحضارية؟
بمدى إس���هام فكرنا العلمي في بناء الحضارة
اإلنس���انية .وهل ما ينجزه فكرنا هو على درجة من االس���تقامة
رزينا .فما الس���بيل في ورش���دا علمي���ا فائ ًقا، نضجا من���ا ً فكريا ً ًّ ً ًّ
وكي���ف يمكن له���ذه النتائج من خالل نس���قها العلمي الحالي
وض���ع قاطرة العلم على مس���ارها الصحيح المش���مول ،ليس
علما بأن صرحه ما قام الواقع والعقل أن تسهم في هذا البناءً ، في فترة اإلشراق الحضاري لألمة إال على قاعدة التكامل مع فقيها الوحي ،تلك القاعدة التي من خالل تركيبتها كان العا ِلم ً
والفقيه ِ ال مع الدين؟ عال ًما ،فكان العلم فيها متكام ً السنة التاسعة -العدد (2013 )39
6
من المعلوم أن العلم الحضاري هو الذي يكون فيه العا ِلم
يرم���ي من خ�ل�ال إنجازاته إلى بناء حضارة إنس���انية تخدم كل جلب هم العا ِلم َ البش���ر بدون تمييز .أما العلم الذي يكون فيه ُّ معينة م���ن الناس دون االكتراث بما يجري المنفع���ة لفائدة فئة ّ
وإبان ذلك دخلت والرغبة واألحالمّ ... األرواح الباحث���ة ع���ن حقيقته���ا إل���ى
س���ياق اكتش���اف الذات مرة أخرى .فال ب���د -في ه���ذه الحال -أن تفت���ر تعلقاتنا تتعين إزاء األش���ياء المعتادة ً رويدا ،وأن ّ
المرجعي���ة بخ���وارق بوصل���ة الفط���رة
التي ه���ي عنوان إحساس���نا في القلوب بعجزن���ا وضعفن���ا ،وبفض���ل اسـتش���عار
"مرك���ز االس���ـتناد" و"مركز االس���تمداد" في أعماق وجداننا ...ومن ثم تنس���لخ
ضي���ق عليها ،وتتوجه إلى إراداتن���ا عما ُي ّ
متطلبات الالنهاية وأمانيها.
أيضاُ ،ي ِ كس���ب وف���ي ه���ذا الس���ياق ً
�إن جناتن��ا م��ن الأف��كار الهزيل��ة ومن هذا التي��ه الذي يحب�سنا يف حوا�سنا فيلهين��ا� ،سيتحقق على ي��د �أبط��ال الإدراك والب�ص�يرة واللدني��ات الفاهم�ين للع��صر ب�ش��بوب والعا�ش��قني للحقيق��ة ُ ا�ش��تياقهم للعل��م ،وامل ُْح َدو َدب�� ِة ظهوره��م حتت ثقل املع�ض�لات ُ احلقيقية احلا�رضة والقلقِ الكامن يف امل�ستقبل.
اإليم���ان والع���زم -وهم���ا أه���م حركي���ة
إنن���ا نحس���ب أنفس���نا س���ائرين ف���ي
عالم���ا مضيئ���ا كهذا، ً الس���بيل ،قاصدي���ن ً
ومنذ سنوات طويلة .ومن دون تكهنات
البح���ث ع���ن أم���ارات الفج���ر حولنـ���ا، ومن غير االنش���غال باألبحاث السحرية
ألسرار دنيا الرياضيات ،نقوم بتقييم كل
ش���يء تش���ير بوصلة أرواحنا إلى صحته وس�ل�امته حسب إرشاد الثوابت اإللهية، ���د ف���ي استكش���اف المش���يئة اإللهية َفن ِج ّ
ونقاط التقائنا بما تعدنا به تلك المشيئة، وذل���ك بإرادتن���ا الت���ي هي أعظم وس���يل ِة
تعلقٍ بمش���يئة الحق ،ثم نتقدم س���عيا في ً
ه���ذا الس���بيل كأبط���ال راهن���وا بحياته���م ووجوده���م كله ،وذلك م���ن أجل إحياء
فتؤجج هذه معنوي���ة للنج���اح -كل واحد قو َة روحه اللدني���ة، ِّ
نمط حياتنا المبارك.
عب���ر به���م الجس���ور المتصلة بالصي���رورة الذاتية وتهافته���م ،و َت ُ
ج���ادة" :الي���وم يوم الفعال .فإن لم أنه���ض للعمل ،فلن ينهض
الق���و ُة الروحي���ة اآلم���ال واإلرادات ،فتب���دد وتبعث���ر ش���ـؤمهم
ليصلوا إلى اهلل تعالى.
وينبغ���ي على كل واحد أن يقول لنفس���ه بمس���ؤولية فردية
مندفعا إلى مقدمة الصفوف لرفع أيضا" ثم يهمز فرسه غيري ً ً
ف���إن أس���رع وأقص���ر وأس���لم طريق يوص���ل اإلنس���ان إلى
فاسحا السبيل لمن الراية ...من غير أن يقع في منافسة أو غيرة، ً
دائما أعظم نصر وأعجب���ه بفضل هذا الطريق .وحيثما ال���روح ً ُِ غير المتغذي بغذاء العرفان ،ح ّل ْت القوة العمياء افتقد اإليمان ُ محل الحقيقة والحقوق ...وال مفر في مثل هذه األحوال من
وصب ماء النار في عيون أرواحنا إن الكثير منا قد أطفأ قلوبنا ّ المظلم���ة ،لم ينتفض أكثرية أبناء أمتنا ليوقد أنوار الحقيقة في
رغب إل���ى الريـاء وي ّ فيط���اع ،وال ُيس���مع إال ص���وت المعربدُ ،
حيويات إحيائنا كالماء والهواء والخصب .وإننا نس���تطيع في
الحقيقة هو طريق اإليمان المجهز بالعلم والعرفان .ولقد فاز
مواجهة عنف القوة ...فيكثر اللجوء إلى السالح ،ويأمر المال وت���روج بضاعته .فمن المحال في هذه األحوال الوصول إلى
روح الوجود ،والتطلع إلى ما وراء الوجود.
في يمينه ويساره في الحركة والسعي أثناء تقدمه لحمل الراية. بقس���م من أعماله ،س���واء بعلم أو بغير علم .في هذه المرحلة
جوه���ره ،ولم يتوصل إل���ى الحركيات المعنوية الت���ي ُت َع ّد من
واعتمادا على قوتنا حاضرنا أن نس���ير باالتكال على اهلل تعالى ً
نظرنا إلى الكامن���ة ،وعل���ى روابطن���ا باألخروي���ات كاف���ةّ . وإن َ وإمساكنا بها واستماعنا إليها ب ُأ ُذنه، األشياء كلها بعين الروح، َ َ
ال وثي ًقا بروح الالنهاية. والح���ال أن حقيقتنا موصولة اتصا ً والستشعار هذا االتصال واإلحساس بما َت ِ عد به هذه العالئق،
بأيدي���ه ،وتقويمنا إياها بمحاكمة منفتحة على اإللهام ،مرهون
نتخ���ل عن الس���عادة الفردية والحظ���وظ الدنيوي���ة والمقام ل���م َّ
ونلخ���ص الموضوع بمقترب لنيازي المصري" :ال تبحث عن
يج���ب علين���ا أن نبذل تضحي���ات كثيرة .وجلي للعي���ان أننا إن والمنص���ب ،ب���ل حتى ع���ن مش���اعر فيوضاتن���ا المعنوي���ة ،فال
مح���ل للكالم ع���ن مثل هـ���ذه العالقة ،وهذا االتص���ال .ومتى م���ا تحقق���ت هـذه العالق���ة وهذا االتص���ال ،فس���تولد دنيا الغد تاجا فوق ال���رؤوس ،وتلقى الحقيقة الت���ي يك���ون "الحق" فيها ً وشينا. عيبا وي ّ ً التوقيرُ ، عد التفكير بالقوة ومالحقة المطامح ً
بإعـ���ادة النظر في هـ���ذه القوة الكامنة والرواب���ط باألخرويات. ال���روح والمعنى اللذي���ن ينقالنك إلى الصيرورة في خارجك. التف���ت ب ِِجيدك واس���تمع إلى وجدانك ،وابدأ من نفس���ك في السياحة نحو الصيرورة باستعمال َع َدسة ماهيتك".
(*) الترجمة عن التركية :عوني عمر لطفي أوغلو.
5
السنة التاسعة -العدد (2013 )39
ِ الك���در إلى دموع ف���ي أرواحهم معين���ة ،ويحول���ون مس���تقبلها
َس ْي ُر حياة هؤالء األبطال يتجدد باستمرار في إطار اإليمان
���بون إلى العلى بالش���كر باحتساب لذائذها أنعما وغدهمَ ، وي ُش ّ
المميزة بين فكره���م الواس���ع كاآلفاق س���ابحة ف���ي الرح���اب ّ
فينوح���ون ُنواح أيوب ،ويتقاس���مون معه���ا أوجاع يومهم
والعرفان والمحبة والعشق والذوق الروحاني ،وتخفق أجنحة
م���ن الحق تعالى .هؤالء الذين يس���تلهمون م���ن تاريخنا الحي
الفان���ي والالنهائ���ي .رأس ماله���م العل���م واإليم���ان ،ومنهلهم
منه���ا ،فينفخ���ون روح صي���رورة األم���ة ،أم���ة حقيقي���ة ومتدفقة
السبيل األمثل الذي سـلكه كل َمن جاء وراح من صلحاء عباد
المزده���ر باألل���وان ،الممتد إلى مئات الس���نوات ،ويس���تقوون
بالحيوية ،ويش���حنون الشباب بفكر اإليمان واألمل والحركة،
القدي���ر المطل���ق ،ومرش���دهم النبي األعظ���م ،وطريقهم الح���ق تعال���ى ..يمضون إلى األبـد واثقين بق���وة الديـن القاهرة
ويفتحون تيارات جديدة من حوض فكرنا "الذاتي" المستكين من���ذ زم���ن طويل في ِ الش���باك القاتلة للخم���ود الرهيب .ونحن
مرحلة أخرى من اإللحاد ومدة "ال َف ْترة" ،وتتهاوى في مهاوي
قلوبن���ا ،فنجهش بدموع الوصال ،ونعود إلى مآوينا ومس���اكننا
لم يعش اإلنسان على مدى التاريخ من غير علم وإيمان،
كأم���ة س���نهرع في هذه التي���ارات إلى معابدنا الت���ي فقدناها في
الدافئة كزوايا الجنة ،فنلتقي بانعكاسات الجنان التي ضيعناها مجددا مدارس���نا القائمة على قواعد منذ أمد بعيد ،ونكتش���ف ً
البحث عن الحقيقة وعش���ق العلم ،فنتعرف على الوجود كرة أخ���رى من خالل مناف���ذه المفتوحة على الكائن���ات ...ونـزداد حب���ا للجمي���ع ،ونتعلم اقتس���ام كل ش���يء ،ونحتضن الجميع ًّ عل���ى الس���فوح الزمردية لقلوبنا بأخ�ل�اق العيش في اضطراب
وقل���ق متزايـد ...ونطفح بمش���اعر الفن والصنعة إزاء الوجود،
ونفكر في المناس���بات البش���رية باأل ّن���ات والخفقات والدموع فنعبر عن خفايا أنفسنا وكوامن قلوبنا. الحرىّ ،
وبعناي���ات اهلل تعال���ى المتجلي���ة دون انقط���اع ...وهكذا تختنق مخالفتها الذاتية للطبع والفطرة.
ول���م تقم مدنية من غير معبد ومعبود .وقـد مرت فترات جعل وقتاما بانح���داره في مهاوي الحرمان من ظالما اإلنس���ان ُأ ْف َقه ً ً
العلم واإليمان .لكن بعد كل س���ـقوط ،يستشعر تع ّلقه باهلل في وجدانه من نقطة أعمق ،فيتوجه إلى حال فوق الحال الس���ابق
وجذبا .فبقاء المدنية وعيشها في فراغ تماسكا ومعنى وسرعة ً ً ً باعتبار المعبد والمعبود ،أو اإلنس���انية في خالء باعتبار العلم واإليم���ان ،ح���ال موقوت بمدة قصي���رة ال محالة ،في الماضي
وف���ي المس���تقبل .فل���ن ُينتزع فك���ر المعبد والمعب���ود من قلب تماما ،إلى اإلنس���انية ،ولن تنفصم عرى البش���ر من اهلل تعال���ى ً
إن إحياءنـ���ا "باالنبع���اث بع���د الموت" مرة أخ���رى ،مرتبط
دكا أن تطوى الس���موات كطي الس���جل للكتب وتدك األرض ًّ
بع���د اجتيازهم آف���اق العلم ،والمتحكمين ف���ي ضبط الرغبات
س���ـراعا تعال���ى ،فإن ظلمة اآلف���اق وقتامها الطارئ أحيا ًنا تمر ً
ارتباطا وثي ًقا بأطقم عديدة من األبطال ،البالغين أنوار الحقيقة ً
والمتطلب���ات البدني���ة ضم���ن إط���ار الض���رورات ،والس���امعين
دوما أناش���يد الماورائية تناديه���م إلى اهلل ،المعبرين بوجدانه���م ً عن���ه تعال���ى ببيان بال حرف وال لف���ظ وال صوت في هيجانهم
وزفيرا. ونشيجهم ،المتنفسين أنفاس أنسه شهي ًقا ً
دكا ...وتق���وم القيامة .وألن الوجدان منفتح باألصل على اهلل ًّ
ويع ُقب الظلمات الضياء ،والغروب كالخسوف أو الكسوفَ ... الش���روق ...ويأت���ي يوم َي ِق ّر فيه الزم���ان ،ومن في الزمان ،على ال َف َل���ك ال���ذي أمر بـه اهلل تعالى ،وبأحكام اهلل القاهرة بالمناهج المعينة في األخرويات ،والمقررات المبينة سل ًفا.
عبيدا وألن ه���ؤالء األبط���ال أع���دوا أنفس���هم من���ذ البداي���ة ً
إن األجيـ���ال الحاض���رة تبح���ث ف���ي كل م���كان ع���ن ذاتها
دائما للمطال���ب المش���تتة ف���ي المجتم���ع بتا ًت���ا ،ب���ل يحس���ون ً
االعتبار وحده ،يكفيها للعثور على بطلها وبلوغها خط الحق.
وخدما رق يأبى االنعتاق ،فهم ال يكونون أسارى للحقيقة في ّ ً بني���ر العبودي���ة للحق تعالى ف���ي أعناقهم ،فيقوم���ون ويقعدون زخات بمالحظة الالنهاية باستمرار ،ويقضون أعمارهم تحت ّ
اإللهام ،ويلحون في توسيع وليجة الباب مع كل إلهام جديد م���ن أج���ل واردات أخ���رى ،وفي جهد من أج���ل إبالغ اآلحاد
إل���ى اآلالف بحظوة امتيازهم عن اآلخرين ،فيتجرعون أذواق ولذائذ وحظوظ البقاء في الفناء ،في كل لحظة ،وفي كل مرة. السنة التاسعة -العدد (2013 )39
4
توج ًها منها بهذا وعالم وجدانها ،والجنان التي أضاعتها .وإن ّ
أو َل ْس َت ترى الوجدان وقـد َق ّر في َف َلك طبيعته وفطرته؟ وأن اهلل َ ���ع ُر به في أنفاس الوجود والصورة واللون في كل ش���يء ُي ْس َت ْش َ يسيل إلى نفوسنا من مداخل اآلذان والعيون واألحاسيس؟
وزي���ادة على ذلك ،بدأ اإللحاد يندحر مرة بعد أخرى ،بل
ب���دأ باالنح�ل�ال واالنهيار ،بتهافته وخوائه الذاتي ،بعدما س���ـل
أو انت���زع م���ن األش���ياء ال���روح والمعنى ليس���تغلها ف���ي الهوى
بعضه���م باع للش���يطان فك���رة "الوطنية"
غر الراقية بأشـياء بخسة وكأنه "فاوست" ٌّ ألنه غريب عن قيمنا "الذاتية" الحقيقية. م���ل ه���ؤالء م���ن االضط���راب ول���م َي ّ المس���ـتمر حس���ب متطلب���ات الحـال من
حيث المناف���ع والمطامح المتقلبة ،من أج���ل صياغة ش���كل لألم���ة على صورة يوما يوم���ا ،وعلى صورة أخ���رى ً معين���ة ً
آخ���ر ...بـل األصح على إظهار "األمة" بهذه الصور الش���اذة العجيبة ..فتنفس���وا
ه���واء "الطوراني���ة" مرة ،وهمهم���وا مرة
بمقوالت "الش���عب ،الفالح ،القروي"،
وما ضيعناه من قيمنا الذاتية في الماضي
�إن �أ�رسع و�أق�رص و�أ�سلم طريق يو�صل الإن�سان �إىل احلقيقة هو طري��ق الإميان املجه��ز بالعلم والعرف��ان .ولقد ف��از الروح دائم��ا �أعظ��م ن��صر و�أعجب��ه ً بف�ضل هذا الطري��ق .وحيثما غ�ير املتغ��ذي افتُ ِق��د الإمي��ان ُ ّ��ت القوة بغ��ذاء العرفان ،حل ْ العمياء حمل احلقيقة واحلقوق.
وقت���ا م���ع "األرس���ـتقراطية" وقض���وا ً م���رة أخرى ،ث���م قال���وا" :الديمقراطية"،
القري���ب .ولم نك���ف ّإبانها ع���ن التفكير ّ بابت���كار أس���لوب جدي���د وفلس���فة حياة
جدي���دةُ ،تبع���د عن���ا المفاهي���م المختلفة
اختالف���ا ّبي ًن���ا ،واالتجاه���ات البعي���دة شاس���عا ،واألف���كار بع���دا ع���ن بعضه���ا ً ً
كليا .لك���ن هيهات، المتناقض���ة ً تناقض���ا ًّ
ه���درا ،وما هيه���ات .فكم عم���رٍ انقضى ً زلنا نسلو بخيال أن نبتكر أشياء جديدة! جديدا أسلوبا عس���يرا أن نجد ويبدو لي ً ً ً وفلس���فة حياة جديدة بعد اليوم ،كما لم
نجد في السابق .ذلك ،ألننا ال يمكن أن مركب فكري جديد وأسلوب نصل إلى ّ
مبتك���ر في التعبي���ر عن ال���ذات من دون
اله ْي ِم على وجوههم وغمزوا "للشـيوعية" ،لكنهم لم ينجوا من َ
ٍ احتضان لجذور الروح والمعنى في حياتنا الذاتية .لقد فش���لنا
لرسـو السفائن المبحرة إلى المستقبل، وموانئ لتفس���ير الحياة َ ّ َبن ِ همهم المختلط والفاقد للمعايير ،وحسب تقلب الزمان.
ناخ ذلك ،أننا عش���نا باس���تمرار غثيا ًنا واضطرابا تح���ت تأثير ُم ٍ ً كثير األش���واك ،وكأننا مضطرون إلى اإلحساس بأشياء عديدة وإبان ذلكُ ،أ ِ فرص هدرت عب ًثا هنا أو هناك ٌ ف���ي وقت واحد! ّ
أبـدا! فاتخذ مثقفونا خاصة ،حلم فرنسا ،واإلعجاب بإنكلترة، ً ٍ حركيات والرغب���ة في ألمانيـا ،وعش���ق أمريكا والش���وق إليها،
وكان الح���ال يقتضي أن ُتس���تخلف الرؤية المش���تركة بيننا
كأم���ة ،وأعني الدي���ن والعاطفة الوطنية ،عل���ى القواعد المتينة
والرصينة التي تسـمو فوق كل األحالم والمتخيالت وتتجاوز حقائق األرواح المنفردة ،وتعتمد على اإليمان السليم المتين،
ف���ي بن���اء نظام فك���ري جديد وأس���لوب مبتكر ...ب���ل زد على
سنحت لنا ،وطاقات كامنة للقوة والمنعة.
شيئا منذ قرن أو قرنين ،فإننا ومهما بدا علينا وكأننا نعمل ً ِ غبط عليه ،يجس���د إيماننا المنساب أثرا نطمئن إليه أو ُن َ لم ُنقم ً إلين���ا من أعم���اق تاريخنا ونمط فكرنا وأخالقن���ا وثقافتنا وفننا ريت في مراحل معينة مداخالت جراحية واقتصادنا .ولئن ُأ ْج ْ
والفكر المتأصل ،واألخالق المستقرة ،والفضيلة المتمكنة من األرواح .فمثل هذه الحركة تس���ـتطيع أن َت ِعد األجيال القادمة
جما ً تأجيجا لألحالم أو ألهواء الش���باب ،لكن لم نس���مع إال ًّ
عل���ى االمت���داد والتغيي���ر في َف َل���ك ثرائها الروح���ي والمعنوي
العصر وتقييم العل���م وتفهم حكمة الوفاق واالتفاق والتغلب
بالخ�ل�اص المأم���ول ...حرك���ة أخالقية ثابتة التوج���ه ،منفتحة
الذاتي ،غير متزحزحة عن محور "رضا اهلل" ،موصدة األبواب تمام���ا في وجه المنافع والمطامح .وبعكس الحال ،س���نعجز ً ذاتيا ،وإحاطته ع���ن احتضان الروح والمعن���ى الخاص ّ "بأمتنا" ًّ
بالحماي���ة ،وإيصال األمانة إلى األجيال القادمة بأكمل خصال
األمناء ،ما دمنا في انتقال على الخطوط المنحرفة باس���تمرار، وف���ي غبش اإليمان المختلط الذي ل���م يبلغ اليقين في قلوبنا
ومفاهيم التوجهات المختلفة والمقاربات الحضارية المتنوعة في عقولنا.
ال يغيب عن العارفين بهذه المراحل المضطربة ما فقدناه،
كثيرا من األمنيات الخادعة عن حاجاتنا الحقيقية مثل تفس���ير ً
عل���ى الفق���ر الذي يقص���م ظهرنا من���ذ زمان طوي���ل .إن نجاتنا من األفكار الهزيلة ومن هذا التيه الذي يحبس���نا في حواس���نا
فيلهينا ،س���يتحقق على يد أبطال اإلدراك والبصيرة واللدنيات
بشبوب اشتياقهم للعلم، الفاهمين للعصر والعاشقين للحقيقة ُ ظهوره���م تح���ت ثق���ل المعض�ل�ات الحقيقي���ة ودب��� ِة والم ْح َد َ ُ ُ الحاضرة والقلقِ الكامن في المس���تقبل ،والمنعكس ِة دواخ ُلهم ه���واء قلوبه���م، عل���ى س���لوكهم وتصرفاته���م ،والمتنفس���ين َ دائم���ا إل���ى ما خل���ف اآلفاق ...أبط���ال اللدنيات والمتطلعي���ن ً يئنون بآالم األجيال إذ يس���عون للنهوض بها إلى درجة الذين ّ
3
السنة التاسعة -العدد (2013 )39
المقال الرئيس فتح اهلل كولن
أجيال األمل إن أجي���ال األم���ل باعتبار الزم���ن الحاضر هم
ممثلو العلم واإليمان واألخالق والفن ،وهم وسيش���كل مهندس���ـو الروح لمن يأتون بعدنا. ّ
ه���ؤالء تكوين���ات جديدة ف���ي كل ش���ريحة اجتماعي���ة بتفريغ
ح���رارة اإلله���ام لقلوبه���م المتغذية باألخروي���ات إلى الصدور
المحتاجة إليها .وإن ضيـاع حظ كثير من األجيال في تاريخنا
القري���ب ،وهدرهم ،بل س���قوطهم في الجن���ون والهذيان ،كان بدرجة كبيرة لعدم التقائهم بمثل هذا الجيل األمل.
لقد عش���نا في القرن األخي���ر ،أو القرنين األخيرين ،هزائم
وكثيرا ما خس���رنا في س���ياق متتالية حتى في وس���ط النجاح.. ً
النصر ..ففي تلك المرحلة التي كنا نفترس بعضنا البعض كالذئ���اب ،خلفنا لألجيال اآلتية من بعدنا إرث الحقد
السنة التاسعة -العدد (2013 )39
2
والبغ���ض والتعصب السياس���ي .فف���ي تلك المرحلة ل���م َي ْخ ُل الذين خاضوا في السياس���ة أو الذين شاركوا فيها من خارجها لتص���در فريقهم عل���ى الس���واء ،إم���ا من احتس���اب كل وس���يلة ّ وهم أن اس���تالمهم وكوادره���م وس���يل ًة مش���روعة ،وإم���ا م���ن َت َّ كثيرا من األمور أو ينقذ الوطن .ولم يفهم الطرفان للحكم يغير ً ال بتحول يقينا بأن الوصول إلى المقاصد المرجوة لن يتحقق إ ّ ً ج���ذري يعتم���د الدوران ف���ي َف َلك اإليم���ان والعلم واألخالق والفك���ر والفضيل���ة .وألنهم ل���م يدركوا ذلك ،ظن���وا أن التغير واالنعط���اف الكبير المرغوب فيه ،هو هذه التغييرات الجوفاء الخاوية من المعنى ،والمتس���مة بالصوريـة والشكلية ،وتشبثوا متعلقي���ن بأذي���ال تغيير المكياج واألصب���اغ واأللوان في عملي���ة الترميم التاريخية الكبيرة .وزد على ذلك ،أن
المحتويات
أجيال األمل /فتح اهلل كولن (املقال الرئيس)
ونحن نؤسس لعلم حضاري /د .عبد اإلله بن مصباح (قضايا فكرية)
واهب الحياة /حراء (ألوان وظالل) موازين كلية في اجتهاد التنزيل /أ.د .الشاهد البوشيخي (دراسات إسالمية)
لماذا إبليس؟ /أ.د .عماد الدين خليل (قضايا فكرية) حلم /د .سلمان العودة (أدب) ّ لدي ٌ
بشائر الربيع /حراء (ألوان وظالل)
المجتمع اإلنساني اآلمن من منظور رسائل النور /د .مهدية أمنوح (قضايا فكرية)
حكاية آكل النمل /أ.د .عرفان يلماز (علوم) إنني أشهد /حممد مساعدي (أدب)
الزهراوي ..رائد علم الجراحة والتشريح /أ.د .بركات حممد مراد (تاريخ وحضارة) هكذا علمتني الرياضيات /أ.د .فؤاد البنا (قضايا فكرية)
طبيب يبحث عن مرضاه /مونية الديغوسي (قضايا فكرية) االختبار العسير /د .حممد باباعمي (قضايا فكرية)
أعذب األلفاظ /د .ناصر الزهراين (شعر) التربية على قيم النقد والتقويم /د .عبد احلميد عشاق (تربية)
الروح المغامر /أديب إبراهيم الدباغ (أدب) دراما الحياة /مجال أمني (أدب)
االنبالج الجديد /حراء (ألوان وظالل) َص َدى الُ�ب ْردة /عبد احلميد ال ُع َمري (شعر)
قيام الليل وأثره الروحي في حياة اإلنسان /مصطفى بوزغيبة (قضايا فكرية) الدولة المدنية كما مثلها عصر المبعث النبوي /د .مسري بودينار (قضايا فكرية)
2 6 10 11 17 19 22 23 28 32 34 38 41 44 47 48 51 53 54 55 56 59
االفتتاحية لسان الزمان
كرها" ،تستنطق الماضي مجلة حراء تقطع "الفيافي القاحلة" ،وتسوق الفكر "طوعا ال ً ً
ال، اعتبارا ،وتعتصر أحداث الحاضر التليد اعتصارا ،ثم ترسم معالم المستقبل المتفائل أم ً ً ً وبأس���لوب يرتضي التلطُّ ف ب���روح هفهاف���ة تلوذ بالتعريض وتنأى ع���ن التصريح، وذل���ك ٍ ٍ
ال عن التخويف والتعنيف. والتع ّفف ،بدي ً
المتميِزة التي تسند الكلمة والعبارة، الملونة ،والرمز البديع ،والزخرفة ولعل الصورة َّ َّ ّ
العدد39: السنة التاسعة (نوفمبر -ديسمبر) 2013
الفن���ي المثابر لـ"حراء" المصمم والمهندس وتق���رب المبن���ى والمعنى ،مما أبدعته أنام���ل ّ ّ ِّ شكرا منا التفاتة وعناية ،ويستلزم المجلة ،وفريقه الملهم المغامرَّ ... لعل ذلك يستوجب َّ َ ً األشد: شارفت المسير ُة على العدد األربعين وهو عمر بلوغ وتقديرا ،وقد ِّ ْ ً
س���خية ،تحمل ُتربة خصب���ة ،و ُتخرج نبا ًتا ف���إن ص���ورة "اليد الكريمة ،المس���نودة بأيا ٍد َّ ّ
"أمل طي ًب���ا" ه���ي عن���وان "أجي���ال األمل" لألس���تاذ فتح اهلل كول���ن ،وهي ف���ي ذات الوقت ٌ ّ وإن ِ يتجدد باس���تمرار في إط���ار اإليمان والعرفان "س َ���ير حي���اة هؤالء األبطال لألجي���ال"َّ . َّ والمحبة والعشق والذوق الروحاني ،و َتخفق أجنحة فكرهم الواسع كاآلفاق سابحة في الرحاب المميزة بين الفاني والالنهائي". فتزينه أبواب نورانية َّأم���ا الحلم المش���روع ،في مقال َّ "لدي حلم" لـ"س���لمان الع���ودة"ّ ،
سماوية ،وأشجار باسقة فارهة ،أصلها ثابت وفرعها في السماء ،وهي تهزأ بالممنوع وال تلون بحبر جديد ،تحملنا خاللها الكاتبة تعرف المستحيل .ولصورة العالم رمزية ،وهي ّ
ال رفي ًقا .ولم يغب القلم البديع لصاحب "مهدية أمنوح" إلى س���فوح "رس���ائل النور" حم ً
قصة الحيوان لـ"عرفان يلماز" ،وهو يحكي لنا عن "آكل النمل". َّ
و"الزهراوي" الطبيب المسلم الرائد ،لـ"بركات محمد مراد" ،و"طبيب يبحث عن مرضاه"
لـ"مونية الديغوسي" ...كلُّ ذلك يرتسم على شكل ذبذبة القلب في جهاز قياس النبض... أطباء الروح والمعنى ،في سياقنا وسباقنا ،وحراكنا وحركيتنا. أال ما أحوجنا إلى َّ
وقد أجاد صاحب "الدولة المدنية" "س���مير بودينار" ،في ضبط المفهوم والمصطلح،
ويفرج عن معرفيا ضبطا ً محكماّ ، ً ًّ عل اهلل يحفظ ديننا بمدنيتنا ،ويعلي شأن مدنيتنا بدينناّ ،
لكنه وصل ورتق ،بداللة مقولة ش���امنا ويماننا ،وعن ش���رقنا وغربنا ...فال فصل وال فتقَّ ،
ومن في الزمان ،على الفلك الذي أمر به الحكيم الخريت" :س���يأتي يوم يقر فيه الزمانَ ، ِّ تعالى وبأحكام اهلل القاهرة بالمناهج المعينة في األخرويات ،والمقررات المبينة سل ًفا". غدا لناظره قريب. ّ وإن ً
العدد / 39 :السنة التاسعة ( /نوفمرب -ديسمرب) 2013 مجلة علمية فكرية ثقافية تصدر كل شهرين من إسطنبول
w w w. h i r a m a g a z i n e . c o m
َ عزيمة البعث ُهبّ ي حتى الفيافي القاحلة، تخضر... حين تُس َقى بماء ّ فالماء يبعث في تلك الرمال حيا ْه... كذا بالعزم الدؤوب تحيا، أنفس ظنها الناس ال تسترّد الحيا ْه... ٌ ٍ تلقى وبِ َهبَّة من ذلك النوع َ َّ كل صخر ذائبا إزا ْه... ***
أجيال األمل
ونحن نؤسس لعلم حضاري
الدولة المدنية