Hira Magazine 39

Page 1

‫طوعا ال كرها‬ ‫حشود بال غاية تائهون‪،‬‬ ‫في ِشباك الحيرة يتخبطون‪،‬‬ ‫ينجم في أراضيهم القاحلة‪،‬‬ ‫فكر ُ‬ ‫ال َ‬ ‫إلهام يظلل بساتينهم الجرداء‪،‬‬ ‫وال َ‬ ‫ويكأن‬ ‫الخطوب نحو المحراب تسوقهم‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫مدلهمة‪..‬‬ ‫في المحطة األخيرة حيث األزمات‬ ‫ّ‬ ‫***‬

‫‪39‬‬


‫د‪ .‬محمد باباعمي‬

‫• مفهوم الزمان في الفكر الكوني لفتح اهلل كولن‪..‬‬

‫ • القوى الزمانية الثالث‪ :‬استخداماتها في التشكيل الحضاري‪..‬‬ ‫والبناء العقلي‪ ..‬واالنبعاث الوجداني والروحي‪..‬‬ ‫ • مفهوم الزمن‪ ..‬كوجود احتوائي لوجود الكون واإلنسان‪..‬‬ ‫• االرتباط المصيري بين عقل اإلنسان وعقل الزمن‪..‬‬

‫ • آثار مفهوم‪ :‬الخلود والزوال‪ ..‬البقاء والفناء‪ ..‬األبد واألزل‪..‬‬ ‫ ‬

‫في نتاجات فكر "كولن"‪..‬‬

‫مركز التوزيع فرع القاهرة ‪ 7 :‬ش البرامكة‪ ،‬الحي السابع‪ ،‬مدينة نصر ‪ -‬القاهرة ‪ /‬مصر‬

‫تليفون وفاكس ‪+20226134402-5 :‬‬

‫الهاتف الجوال ‪+201000780841 :‬‬

‫‪w w w. d a r a l n i l e . c o m‬‬


‫التصور العام‬

‫جملة علمية فكرية ثقافية تصدر كل‬ ‫شهرين عن‪:‬‬

‫• حراء جملة علمية فكرية ثقافية تعىن بالعلوم الطبيعية واإلنسانية واالجتماعية وحتاور أسرار النفس البشرية وآفاق‬ ‫الكون الشاسعة باملنظور القرآين اإلمياين يف تآلف وتناسب بني العلم واإلميان‪ ،‬والعقل والقلب‪ ،‬والفكر والواقع‪.‬‬ ‫• جتمع بني األصالة واملعاصرة وتعتمد الوسطية يف فهم اإلسالم وفهم الواقع‪ ،‬مع البعد عن اإلفراط والتفريط‪.‬‬ ‫• تؤمن باالنفتاح على اآلخر‪ ،‬واحلوار البناء واهلادئ فيما يصب لصاحل اإلنسانية‪.‬‬ ‫• تسعى إىل املوازنة بني العلمية يف املضمون واجلمالية يف الشكل وأسلوب العرض‪ ،‬ومن مث تدعو إىل معاجلة املواد‬ ‫مبهنية عالية مع التبسيط ومراعاة اجلوانب األدبية واجلمالية يف الكتابة‪.‬‬

‫صاحب االمتياز‬

‫شروط النشر‬

‫املشرف العام‬

‫• أن يكون النص املرسل جديدا مل يسبق نشره‪.‬‬ ‫• أال يزيد حجم النص على ‪ 2000‬كلمة كحد أقصى‪ ،‬وللمجلة أن تلخص أو ختتصر النصوص اليت تتجاوز احلد‬ ‫املطلوب‪.‬‬ ‫• يرجى من الكاتب الذي مل يسبق له النشر يف اجمللة إرسال نبذة خمتصرة عن سريته الذاتية‪.‬‬ ‫• ختضع األعمال املعروضة للنشر ملوافقة هيئة التحرير‪ ،‬وهليئة التحرير أن تطلب من الكاتب إجراء أي تعديل على‬ ‫املادة املقدمة قبل إجازهتا للنشر‪.‬‬ ‫• اجمللة غري ملزمة بإعادة النصوص إىل أصحاهبا نشرت أم مل تنشر‪ ،‬وتلتزم بإبالغ أصحاهبا بقبول النشر‪ ،‬وال تلتزم‬ ‫بإبداء أسباب عدم النشر‪.‬‬ ‫• حتتفظ اجمللة حبقها يف نشر النصوص وفق خطة التحرير وحسب التوقيت الذي تراه مناسبا‪.‬‬ ‫تعب بالضرورة عن رأي اجمللة‪.‬‬ ‫تعب عن آراء ُكتَّاهبا‪ ،‬وال رِّ‬ ‫• النصوص اليت تنشر يف اجمللة رِّ‬ ‫مجا إىل أي لغة أخرى‪،‬‬ ‫• للمجلة حق إعادة نشر النص منفصلاً أو ضمن جمموعة من البحوث‪ ،‬بلغته األصلية أو مرت ً‬ ‫دون حاجة إىل استئذان صاحب النص‪.‬‬ ‫• جملة حراء ال متانع يف النقل أو االقتباس عنها شريطة ذكر املصدر‪.‬‬ ‫ يرجى إرسال مجيع املشاركات إىل هيئة حترير اجمللة على العنوان اآليت‪:‬‬

‫‪hira@hiramagazine.com‬‬ ‫‪YEMEN‬‬ ‫دار النشر للجامعات‬ ‫الجمهورية اليمنية‪ ،‬صنعاء‪ ،‬الخط الدائري الغربي‪،‬‬ ‫أمام الجامعة القديمة‬ ‫‪Phone: +967 1 440144‬‬ ‫‪GSM: +967 711518611‬‬ ‫‪ALGERIA‬‬ ‫‪Bois des Cars 1 Villa Nº68 Dely Brahim‬‬ ‫‪GSM: +213 770 26 00 27‬‬ ‫‪SUDAN‬‬ ‫مركز دار النيل‪ ،‬مكتب اخلرطوم‬ ‫أركويت مربع ‪ 48‬منـزل رقم ‪ - 31‬اخلرطوم ‪ -‬السودان‬ ‫‪Phone: 0024 999 559 92 26 - 0024 915 522 24 69‬‬ ‫‪hirasudan@hotmail.com‬‬ ‫‪JORDAN‬‬ ‫شركة زوزك‪/‬مشيساين شارع عبد احلميد شرف‪ ،‬بناية رقم‪61:‬‬ ‫عمان‪/‬األردن‪.‬‬ ‫‪Phone: +962 656 064 44‬‬ ‫‪GSM: +962 775 935 756‬‬ ‫‪hirajordan@woxmail.com‬‬ ‫‪UNITED ARAB EMIRATES‬‬ ‫دار الفقيه للنشر والتوزيع‬ ‫ص‪.‬ب‪ 6677 .‬أبو ظبي‬ ‫‪Phone: +971 266 789920‬‬ ‫‪MAURITANIA‬‬ ‫‪Phone: +2223014264‬‬

‫‪USA‬‬ ‫‪Tughra Books‬‬ ‫‪345 Clifton Ave., Clifton,‬‬ ‫‪NJ, 07011, USA‬‬ ‫‪Phone:+1 732 868 0210‬‬ ‫‪Fax:+1 732 868 0211‬‬ ‫‪SAUDI ARABIA‬‬ ‫الوطنية للتوزيع‬ ‫‪Phone: +966 1 4871414‬‬ ‫املكتب الرئيسي‪ :‬شارع التخصصي مع تقاطع شارع‬ ‫األمري سلطان بن عبد العزيز عمارة فيصل السيار‬ ‫ص‪.‬ب‪ 68761 :‬الرياض‪11537 :‬‬ ‫اجلوال‪00966504358213 :‬‬ ‫‪saudia@hiramagazine.com‬‬ ‫‪abdallahi7@hotmail.com‬‬ ‫‪Phone-Fax: +966 1 2815226‬‬ ‫‪MOROCCO‬‬ ‫الدار البيضاء ‪ 70‬زنقة سجلماسة‬ ‫‪Société Arabo-Africaine de Distribution,‬‬ ‫)‪d'Edition et de Presse (Sapress‬‬ ‫‪70, rue de Sijilmassa, 20300 Casablanca / Morocco‬‬ ‫‪Phone: ‎+212 22 24 92 00‬‬ ‫‪EGYPT‬‬ ‫‪ 37‬شارع د‪ .‬عبد الشافي محمد ‪ -‬الحي السابع‪ ،‬مدينة نصر ‪ -‬القاهرة‪.‬‬ ‫هاتف‪+201119482609 - +201065523089 :‬‬ ‫‪hiraegypt@gmail.com‬‬ ‫‪SYRIA‬‬ ‫‪GSM: ‎+963 955 411 990‬‬

‫‪Işık Yayıncılık Ticaret A.Ş‬‬ ‫‪İstanbul / Türkiye‬‬

‫مصطفى طلعت قاطريجي أوغلو‬

‫نوزاد صواش‬

‫‪nsavas@hiramagazine.com‬‬

‫رئيس التحرير‬ ‫هانئ رسالن‬

‫مدير التحرير‬ ‫أجري أشيوك‬

‫املخرج الفين‬ ‫مراد عرباجي‬

‫املركز الرئيس‬ ‫‪HIRA MAGAZINE‬‬ ‫‪Kısıklı Mah. Meltem Sok.‬‬ ‫‪No:5 34676‬‬ ‫‪Üsküdar‬‬ ‫‪İstanbul / Turkey‬‬ ‫‪Phone: +902163186011‬‬ ‫‪Fax: +902164224140‬‬ ‫‪hira@hiramagazine.com‬‬

‫مركز التوزيع‬ ‫‪ 7‬ش الربامكة ‪ -‬احلي السابع ‪ -‬م‪.‬نصر‪/‬القاهرة‬ ‫تليفون وفاكس‪+20226134402-5 :‬‬ ‫اهلاتف اجلوال ‪+201004871038 :‬‬ ‫مجهورية مصر العربية‬

‫نوع النشر‬ ‫جملة دورية دولية‬

‫‪Yayın Türü‬‬ ‫‪Yaygın Süreli‬‬

‫الطباعة‬

‫رقم اإليداع‬

‫‪1879-1306‬‬


‫وه���و "ما رس���م ليحت���ذى"‪ ،‬وبي���ن غيرها من أن���واع التصرفات‬

‫المح���ددة لرس���التها وقيمه���ا ومقاصدها الكبرى‪ ،‬بينم���ا الثانية‬

‫في القرن الثالث الهجري في كتابه "تأويل مختلف الحديث"‪،‬‬

‫وبرامج إدارتها وسياساتها في كل عصر‪.‬‬

‫الكثي���رة التي تعرض لتصنيفه���ا الفقهاء منذ ابن قتيبة الدينوري‬ ‫حي���ث ذكرت تل���ك التصرف���ات وأنواعها كما ف���ي كتاب العز‬ ‫ب���ن عبد الس�ل�ام "قواعد األح���كام في مصالح األن���ام"‪ .‬ولعل‬

‫الفضل في معرفتنا بشكل دقيق ومفصل لهذا المبحث‪ ،‬يرجع‬ ‫لإلم���ام القرافي في كتاب���ه المعلمة "الفروق"‪ .‬ففي تلك الكتب‬

‫وغيره���ا تعديد لكثي���ر من أنواع التصرفات النبوية من قبيل "ما‬ ‫كان منها برسم الرسالة‪ ،‬وال ُفتيا‪ ،‬والقضاء‪ ،‬واإلمامة‪ ،‬والجبلية‪،‬‬

‫والخاص���ة‪ ،"...‬وتعديده���م األدل���ة على ذلك‪ ،‬ومنها إش���اراته‬

‫‪ ‬إل���ى ذلك بنفس���ه‪ ،‬كما هو الحال ف���ي حديث أكل الضب‪،‬‬ ‫وحدي���ث تأبير النخل‪ ،‬حتى قال اإلمام الطاهر بن عاش���ور في‬

‫كتابه "مقاصد الشريعة"‪" :‬وقد كان الصحابة يفرقون بين ما كان‬

‫صادرا عن مقام التشريع‪ ،‬وما كان‬ ‫من أوامر الرسول ‪‬‬ ‫صادرا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ف���ي غير مقام التش���ريع‪ ،‬وإن أش���كل عليهم أمر س���ألوا عنه"‪.‬‬ ‫والخالصة أن���ه ال توجد حتى في النموذج المثالي للدولة‬

‫في اإلس�ل�ام وهو الدول���ة النبوية‪ ،‬أدنى عالق���ة بمفهوم الدولة‬

‫الديني���ة كما تبلور مع نظري���ة الطبيعة اإللهية للحاكم أو نظرية‬ ‫الحق اإللهي‪ ،‬ومصداق ذلك هو هذا التمييز الدقيق بين أنواع‬ ‫التصرف���ات النبوي���ة‪ ،‬الذي تح���دث عنه العلم���اء‪ ،‬مفصلين في‬

‫س���مات التصرف���ات باإلمام���ة وهي أنها من قبيل "التش���ريعات‬

‫الجزئي���ة" كم���ا يق���ول ابن عاش���ور‪ ،‬وأنه���ا مرتبط���ة بالمصلحة‬ ‫العام���ة‪ ،‬وأنه���ا اجتهادية مرتبطة بما يناس���ب الزم���ان والحال‪،‬‬

‫وأنها واردة في غير األمور الدينية المحضة‪.‬‬

‫وعلي���ه فإن الش���رعية الديني���ة إنما تكون لمب���دأ قيام الدولة‬

‫والحف���اظ عليه���ا كمؤسس���ة‪ ،‬ال لألفراد الذين أس���بغت عليهم‬

‫صفات التقديس وحصانة التأييد اإللهي في التجربة التاريخية‬ ‫الغربية‬ ‫أساس���ا‪ ،‬وهو ما يؤكد أن الديني والمدني اللذين صارا‬ ‫ً‬ ‫في العهد النبوي بناء‬ ‫واحدا بالنظر إلى طبيعة النبوة المس���ددة‬ ‫ً‬

‫بالوحي له ‪ ،‬قد تمايزا في غيره ‪ ‬بالضرورة‪ ،‬وهو تمايز ال‬ ‫يمس ش���رعية الدولة في مجتمع المس���لمين في شيء‪ ،‬باعتبار‬

‫الش���رعية مرك���زة في مبدأ قيام الدول���ة وتحقيقها مقاصد الدين‬ ‫وسياسة حياة الناس بما يصلحها في كل عصر‪.‬‬

‫وهك���ذا تتج���اوز الدول���ة إش���كالية الص���راع بين الس���متين‬

‫الديني���ة والمدني���ة‪ ،‬عل���ى اعتبار األول���ى مركزة ف���ي مرجعيتها‬

‫متصلة بطبيعة السلطة السياسية الحاكمة فيها‪ ،‬وطبيعة قراراتها‬ ‫لق���د عب���رت الدول���ة باعتباره���ا "البني���ة الس���لطوية للنظ���ام‬

‫السياس���ي" ف���ي الس���ياق الحض���اري اإلس�ل�امي ع���ن الوح���دة‬

‫المعنوي���ة لألم���ة‪ ،‬وعن مقوم���ات وجودها الث�ل�اث الضرورية‬

‫الس���تمرارها وه���ي الثقاف���ي واالجتماعي واالقتص���ادي‪ ،‬التي‬ ‫تمث���ل الدولة من خاللها األمة‪/‬المجتمع‪ ،‬وتجس���د مصالحها‬

‫وتيسر لها أداء رسالة شهادتها على األمم‪.‬‬

‫وه���ذا ما به العبرة من ش���كل الدول���ة وهويتها في عصرنا‪،‬‬

‫أي أن تق���وم بأدوارها في التعبي���ر عن األمة‪/‬المجتمع‪ ،‬فتكون‬ ‫ال‬ ‫ال‪ ،‬فتتسق مع مسار توحيده‪ ،‬وتعمل‬ ‫شك ً‬ ‫قانونيا يعبر عنه فع ً‬ ‫ًّ‬

‫عل���ى تعضي���د ارتباطه بمجال���ه المجتمعي األوس���ع‪ ،‬وتحمي‬

‫كيانه من المخاطر‪ ،‬وتيس���ر له أداء أدواره التي ال يمكن لغيره‬ ‫القيام بها بما في ذلك مؤسسة الدولة نفسها‪ ،‬فتحفظ عليه بهذا‬ ‫حياته وفعاليته‪ ،‬وتنظم حقوق أفراده‪.‬‬

‫أم���ا هذا الصراع المفتعل بي���ن الدينية والمدنية في الدولة‪،‬‬

‫فق���د أحس���ن أح���د العلم���اء المعاصريي���ن "المستش���ار ط���ارق‬ ‫البش���ري" "في الجدل حول‪ :‬المدنية والديني���ة"‪ ،‬مقال بجريدة‬ ‫هه بالص���ورة الش���عرية التي‬ ‫ش���ب ُ‬ ‫الش���روق (‪" :)2011/11/7‬إذ ّ‬ ‫أورده���ا موالن���ا "جالل الدين الرومي" وه���و يحكي في ديوانه‬

‫"المثنوي" عن قصة أستاذ طلب من تلميذه "األحول" أن يأتي‬

‫ل���ه بإبريق الم���اء الخاص به‪ ،‬ولك���ن التلميذ نظ���ر إلى اإلبريق‬ ‫الح َول ل���ه أنه إبريقان اثنان‪ ،‬واحت���ار في اختيار أيهما‬ ‫فص���وره َ‬ ‫ّ‬ ‫يحم���ل‪ ،‬ثم هداه فكره أن يكس���ر أحدهم���ا ويأخذ اآلخر‪ ،‬فلما‬

‫كس���ر أحد اإلبريقين لم يجد اآلخر‪ ...‬ثم استطرد معل ًقا‪ :‬يبدو‬ ‫لي أن هذا‬ ‫تقريبا ما نصنعه اآلن في حديثنا العجيب عن مدنية‬ ‫ً‬

‫الدول���ة أو دينية الدولة‪ ،‬ونتس���اءل ونختلف ف���ي دولة دينية أو‬ ‫مدني���ة‪ ،‬ونظنهما دولتين نختار بينهما‪ ،‬بينما هما ش���يء واحد‪،‬‬

‫حطمنا ما نظنه واحدة منهما فلن نجد األخرى"‪.‬‬ ‫ونحن إذا ّ‬

‫لك���ن أن���ى لنا تجاوز ه���ذه الظن���ون‪ ،‬والوص���ول إلى وعي‬

‫مش���ترك بمفاهيمن���ا وقضايانا الكبرى‪ ،‬في ح���رص على تقوية‬

‫اإلجماع حولها‪ ،‬وتوس���يع دائرة التوافق على المش���ترك‪ ،‬دون‬ ‫إدراك الطريق إلى "الوعي الجمعي"؟! وتلك قضية أخرى‪.‬‬

‫(*) مدير مركز الدراسات والبحوث اإلنسانية واالجتماعية ‪ -‬وجدة ‪ /‬المغرب‪.‬‬

‫‪63‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )39‬‬


‫يذك���ر كلم���ة "يث���رب" قط‪ ،‬كم���ا وردت‬

‫روايات ع���ن نهيه عن تس���مية "المدينة"‬

‫"يثرب���ا"‪ ،‬م���ن قبي���ل م���ا رواه البخ���اري‬ ‫ً‬ ‫ِ‬ ‫ومسلم‪" :‬يقولون َي ْث ِر ُب! وهي ا ْل َمد َين ُة"‪،‬‬ ‫يثربا‬ ‫واإلمام أحمد‪" :‬من س���مى المدينة ً‬ ‫فليس���تغفر ثال ًثا"‪ .‬وما يروى عنه ‪ ‬من‬

‫أنه دع���ى المس���لمين‬ ‫جميع���ا لاللتحاق‬ ‫ً‬ ‫به���ا‪ ...‬وكان���ت تل���ك إش���ارة واضح���ة‬

‫إلى الس���عي نح���و إقامة النظ���ام الحياتي‬ ‫واالجتماع���ي على مقتض���ى "المدينة"‪.‬‬ ‫تمام���ا‬ ‫ولع���ل ه���ذا األم���ر الجدي���د ً‬

‫بالنس���بة للحي���اة ف���ي الجزي���زة العربي���ة‪،‬‬

‫�إن ال�رشعي��ة الديني��ة �إمن��ا تك��ون‬ ‫ملب��د�أ قي��ام الدولة واحلف��اظ عليها‬ ‫كم�ؤ�س�سة‪ ،‬ال للأفراد الذين �أ�سبغت‬ ‫عليهم �ص��فات التقدي�س وح�صانة‬ ‫الت�أييد الإلهي يف التجربة التاريخية‬ ‫أ�سا�س��ا‪ ،‬وهو م��ا ي�ؤكد �أن‬ ‫الغربي��ة � ً‬ ‫الدين��ي وامل��دين اللذي��ن �ص��ارا يف‬ ‫العهد النبوي بناء واح ًدا بالنظر �إىل‬ ‫طبيعة النبوة امل�سددة بالوحي له ‪،‬‬ ‫ق��د متاي��زا يف غ�يره ‪ ‬بال�رضورة‪.‬‬

‫يوضح الف���رق الجوهري بي���ن مدلولي‬ ‫المدنية المش���تق من المدينة في كل من‬

‫وامتدادات���ه األربع���ة‪ ،‬وه���ي‪ :‬العالق���ات‬ ‫االجتماعي���ة الجديدة " المؤاخاة‪ ،‬تنظيم‬

‫العم���ل‪ ،‬التخص���ص‪ ،‬حمل���ة التعلي���م"‪.‬‬ ‫والنظ���ام االقتصادي "اس���تعمال النقود‪،‬‬

‫النهي عن المقايضة‪ ،‬المداخيل الجبائية‬

‫القارة‪ ."...‬والرابطة السياس���ية "مرجعية‬ ‫الحك���م‪ ،‬رئيس الدول���ة‪ ،‬رابطة المواطنة‬ ‫ف���ي إقلي���م المدين���ة‪ ."...‬والمقتضي���ات‬ ‫القانونية للس���يادة وما يترت���ب عليها في‬ ‫العالق���ات الخارجية "تنظي���م العالقات‬

‫بي���ن القبائ���ل‪ ،‬اتفاقي���ة الدفاع المش���ترك‬ ‫معها‪ ،‬مب���دأ االنضمام إل���ى المعاهدات‬

‫بعد توقيعها‪."...‬‬

‫لق���د كان���ت مرجعي���ة الدول���ة إذن‪،‬‬

‫الس���ياق اإلس�ل�امي والغرب���ي‪ .‬فف���ي األول هي تتويج لمس���ار‬

‫مرجعي���ة ديني���ة أساس���ها مبادئ الوح���ي المنزل‪ ،‬ورئيس���ها هو‬

‫وهكذا نش���أت المدين���ة المنورة‪ ،‬ث���م الكوفة ودمش���ق وبغداد‬

‫الباحثين يش���ير إلى التالزم الحاصل بين نزول الرس���الة وفكرة‬

‫التأسيس الذي تحكمه قيم الوحي المطلقة‪ ،‬وقوانين شريعته‪،‬‬

‫والقاهرة وإسطنبول والقيروان وفاس‪ ...‬حواضر أصلية تتبعها‬ ‫وتش���ريعيا‬ ‫ثقافيا‬ ‫وتنظيميا‪،‬‬ ‫ًّ‬ ‫مدن وأقاليم أخرى‪ ،‬وتس���تمد منها ًّ‬ ‫ًّ‬

‫على أس���اس مرجعية ثقافي���ة وحضارية حاكمة‪ .‬أما في الثاني‪،‬‬

‫فإن المدينة هي مصدر قيم الدولة‪ ،‬ألن هذه ناتجة عن وجود‬ ‫المدينة في األصل‪ ،‬ولعل اش���تقاق مفهوم الحضارة من كلمة‬

‫"‪ "Civitas‬الدال���ة عل���ى المدينة‪ ،‬يؤكد أنها ظل���ت طيلة مراحلها‬

‫الكب���رى في الغرب "الثالث كم���ا يفصل "المبارد " (�‪Eric Lam‬‬

‫‪ )bard‬وه���ي‪ :‬المدين���ة م���ا قبل الصناعي���ة‪ ،‬والمدين���ة الصناعية‪،‬‬

‫النب���ي ‪ ،‬وإقليمها المركزي هو مدينته المنورة‪ .‬بل إن بعض‬

‫الدولة حتى قبل الهجرة‪ ،‬وأن بعض مقدمات المطلب السياسي‬

‫للدع���وة اإلس�ل�امية تجلت في المرحلة المكي���ة كذلك "مثال‪:‬‬

‫إريك وولف (‪" ،)Eric Wolf‬التنظيم االجتماعي في مكة وأصول‬

‫اإلسالم"‪،‬‬ ‫مترجما ضمن "أنثروبولوجيا اإلسالم" للدكتور أبو‬ ‫ً‬

‫فص���ل العالمة عبد الحي الكتاني في‬ ‫بك���ر أحمد باقادر"‪ .‬وقد ّ‬

‫كتابه‪ :‬نظام الحكومة النبوية المسمى التراتيب اإلدارية‪ ،‬في كافة‬ ‫جوانب التدبير المدني للدولة في تفصيل عجيب للمؤسسات‬

‫والمه���ام األساس���ية والتفصيلية واالختصاص���ات والتكاليف‪.‬‬

‫المدينة الميتروبوليتان ذات المركز والهوامش" نواة الحضارة‬

‫لكن السؤال في كل ما سبق‪ ،‬هو عن التالزم بين الصفتين‬

‫الحضاري���ة اإلس�ل�امية تتوي���ج لمس���ار التأس���يس‪ ،‬ب���ل إن ابن‬

‫زم���ن المبعث النبوي تنس���حب على الس���لطة الحاكمة في كل‬

‫ومص���در قيمها ومؤش���ر رقيه���ا المدني‪ .‬بينما ه���ي في التجربة‬

‫خلدون يعتبرها مؤذنة بانهيار العمران ونهاية عمر الدولة‪ ،‬لما‬ ‫غالبا من الترف الملهي عن واجبات الرسالة‪.‬‬ ‫يالزمها ً‬

‫الدينية والمدنية في الدولة‪ ،‬وهل شرعية دولة اإلسالم األولى‬ ‫عصر؟ ولعل المدخل إلى الجواب يكون من النظر في الصفة‬

‫الت���ي حك���م بها الرس���ول ‪ ‬دولة المدين���ة‪ ،‬أي الوصف الذي‬

‫بع���د تحديد مج���ال الدولة ومركز إقليمه���ا "المدينة"‪ ،‬جاء‬

‫تولى به اإلمامة‪ ،‬ومن هنا أهمية النظر في ما يسمى عند الفقهاء‬

‫نظام���ا للعالق���ات القانوني���ة داخ���ل اإلقلي���م‪ ،‬بين الس���كان من‬ ‫ً‬

‫ودولتهم‪ ،‬وهو مبحث يقصد من خالله التمييز في تصرفاته ‪‬‬

‫العق���د الدس���توري مع صحيف���ة أو وثيقة المدين���ة التي مثلت‬ ‫المهاجري���ن واألنص���ار وغيره���م "مجموع���ة الق���رى والقبائل‬

‫والحص���ون المس���ماة س���اب ًقا يث���رب"‪ ،‬بأبع���اده الدس���تورية‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )39‬‬

‫‪62‬‬

‫إماما للمس���لمين‬ ‫بتصرف���ات النب���ي ‪ ‬باإلمام���ة‪ ،‬أي باعتب���اره ً‬

‫عامة‪ ،‬وهي "كل ما صدر عنه ‪ ‬من التدابير العملية في أمور‬ ‫ال"؛ ما بين تصرفات���ه بالنبوة‬ ‫الدي���ن والدني���ا س���واء لالقت���داء أو ً‬


‫للمسلمين كما هو حالها في الغرب خالل القرورن الوسطى‪ ،‬وإن‬

‫"ردة وال أبا بكر لها‪ ،‬أبو الحس���ن الندوي‪ ،‬مكتبة الس���داوي ‪-‬‬

‫حد التقديس الذي بلغ في بعض مراحله مبلغ تأليه الحاكم‪.‬‬

‫الدينية للدولة في اإلسالم‪ .‬وذلك حين أشار إلى أن المرتدين‬

‫كان هنالك استثناء م ّثله الحكم الفاطمي الذي غال في اإلمامة‬ ‫والنظري���ة الثاني���ة األكثر ش���هرة‪ ،‬هي نظرية الح���ق اإللهي‪،‬‬

‫وخالصته���ا أن الحاك���م هو اختيار إله���ي ال مجال لرد أمره أو‬ ‫التعقيب على حكمه‪ ،‬س���واء تم ذلك االختيار بش���كل مباش���ر‬ ‫كما أكدت عليه الكنيسة في مرحلة صراعها كسلطة دينية مع‬

‫السلطة الزمنية‪ ،‬أو بشكل غير مباشر من خالل القول أن األفراد‬

‫مسير يجسد االختيار اإللهي له‪.‬‬ ‫إنما يختارون الحاكم بش���كل َّ‬ ‫وم���ن المع���روف أن ه���ذه النظري���ات وما ترت���ب عليها من‬

‫اس���تبداد باس���م الدي���ن‪ ،‬كان الباع���ث لظه���ور مفه���وم الدول���ة‬ ‫المدني���ة في الغرب‪ ،‬وتطورالفكر الفلس���في والسياس���ي خالل‬

‫ثالث���ة قرون ف���ي اتجاه "نظري���ة الدولة المدنية" كم���ا أصل لها‬

‫المكتب���ة المكية ‪ ،"1992‬تؤكد هذه المالحظة حول الش���رعية‬

‫ف���ي عهد أبي بكر الصديق ‪ ‬ل���م يرفض كثير منهم الجوانب‬ ‫ردتهم‬ ‫التعبدي���ة‪ ،‬إنما كان���ت ّ‬ ‫العقدي���ة ف���ي الدين وال ش���عائره ّ‬ ‫ال في‬ ‫رفض���ا لالجتم���اع السياس���ي اإلس�ل�امي‪ ،‬مم ّث ً‬ ‫باألس���اس ً‬ ‫واجبات المواطنة‪ ،‬والخضوع لسلطة الدولة المركزية بالمدينة‪،‬‬

‫فيما يشبه ما يسمى في االصطالح المعاصر بـ"التمرد المسلح"‪.‬‬

‫وللمتأمل أن يرى كيف استمر هذا اإلجماع على الشرعية‬

‫الديني���ة للدولة ‪-‬بهذا المعنى‪ -‬في مجتمعات المس���لمين على‬

‫م���دار تاريخهم‪ ،‬وحت���ى نهاية الربع األول من القرن الماضي‪،‬‬ ‫ال‪ ،‬كيف كان اإلجماع على تأكيد المبدأ‪ ،‬ونقض‬ ‫حين رأينا مث ً‬ ‫جمه���ور العلم���اء ألطروح���ة الش���يخ عل���ي عب���د ال���رازق التي‬

‫"ميكيافيل���ي" من���ذ بداية القرن الخامس عش���ر‪ ،‬و"جون بودان"‬

‫حاولت مخالفته‪ ،‬بالقول بعدم وجود أس���اس لش���رعية الدولة‬

‫القرن الس���ابع عش���ر‪ ،‬و"باروخ اس���بينوزا" أواخر القرن الثامن‬

‫وأصول الحكم"‪.‬‬

‫الثامن عشر الميالديين‪.‬‬

‫لم تنس���حب في االتجاه العام لألمة على ش���خص الخليفة أو‬

‫هذا في التجربة الحضارية الغربية‪ ،‬أما في الس���ياق المجتمعي‬

‫وآراءه عصم���ة ديني���ة‪ .‬وهذا بوجه خاص‪ ،‬غاية ما قصدت إليه‬

‫(‪ )Bodin‬أواس���ط القرن الس���ادس عش���ر‪ ،‬و"توماس هوبز" بداية‬

‫عش���ر‪ ،‬ثم "جون لوك" أواخر القرن السابع عشر وبداية القرن‬

‫مدنية الدولة‬

‫اإلس�ل�امي‪ ،‬فق���د كان االتج���اه الع���ام إلى تأكيد الس���مة الدينية‬

‫للدولة‪ .‬ومن هنا فالفقه السياسي حين يبحث في شرعية الدولة‬ ‫في اإلسالم‪ ،‬فإنه يقيمها على دليلي التأسيس النبوي واإلجماع‬

‫التاريخ���ي‪ ،‬حت���ى إنه لم يخالف في الوجوب الش���رعي إلقامة‬ ‫تاريخيا س���وى قلة قليلة‬ ‫الدول���ة وضرورتها فيم���ا هو معروف‬ ‫ًّ‬

‫جدا خرجت على اإلجماع في هذا المجال‪ ،‬هي فرقة صغيرة‬ ‫ًّ‬ ‫من فرق الخوارج وواحد من علماء المعتزلة‪ .‬وهكذا تبلورت‬

‫نظري���ة اإلمام���ة خالل القرنين الثالث والراب���ع الهجريين لدى‬

‫االتج���اه العام لألمة‪ ،‬فيما يس���ميه الباحثون "النظرية السياس���ية‬

‫االتباعية" القائمة على مبدأ اإلجماع كأساس للنظام السياسي‬ ‫ومصدر لشرعيته‪.‬‬

‫والمعن���ى هن���ا أن الش���رعية ه���ي للدول���ة كمؤسس���ة واجبة‬

‫ديني���ا‪ ،‬وحفظ مصال���ح المجتمع‬ ‫التأس���يس والقي���ام بدوره���ا ًّ‬

‫الكلية في أي عصر‪.‬‬

‫ولعل مالحظة العالمة "الندوي" في رسالته الصغيرة والهامة‬

‫في اإلس�ل�ام‪ ،‬التي ضمنها سنة ‪1925‬م كتابه الشهير "اإلسالم‬ ‫غي���ر أن هذه الش���رعية الدينية الحاس���مة لمؤسس���ة الدولة‪،‬‬

‫األمي���ر‪ ،‬بم���ا ال يضفي على وضعه قداس���ة‪ ،‬وال عل���ى قراراته‬

‫نظرية مدنية الدولة كما س���بقت اإلش���ارة‪ ،‬بما يحقق مش���اركة‬

‫الن���اس في تدبير الش���أن الع���ام من خالل التعبي���ر عن آراءهم‪،‬‬ ‫وواجب الحاكم في استش���ارتهم واالس���تعانة بتلك اآلراء‪ ،‬بل‬ ‫تماما كما‬ ‫طلبه إياها منهم لعلمه أن ليس لرأيه عصمة دونهم‪ً ،‬‬

‫نق���رأ في الدع���وة الصريحة للخليفة الراش���د األول ‪‬‬ ‫موجها‬ ‫ً‬

‫كالمه لجمهور األمة‪" :‬إن‬ ‫محمدا قد مضى بسبيله‪ ،‬والبد لهذا‬ ‫ً‬

‫األمر من قائم يقوم به‪ ،‬فانظروا وهاتوا آراءكم"‬

‫(صحيح البخاري‪،‬‬

‫كتاب فضائل الصحابة)‪.‬‬

‫لق���د اس���تخدم الق���رآن الكريم م���ادة الدولة في آي���ة الفيء‬ ‫ون ُدو َل ًة َبي َن ا َ‬ ‫أل ْغ ِن َيا ِء ِم ْن ُك ْم‪.‬‬ ‫‪‬ك ْي َ‬ ‫مطلع سورة الحشر‪َ :‬‬ ‫ال َي ُك َ‬ ‫ْ‬ ‫غي���ر أن الالفت في س���ياق البحث عن مفه���وم الدولة المدنية‪،‬‬

‫"م َد َن" إلى‬ ‫أن نجد أن الوصف الذي يشير في األصل اللغوي َ‬

‫االس���تقرار في المكان والتحضر فيه ليصبح "مدينة"‪ ،‬قد اقترن‬ ‫بتأسيس الدولة في اإلسالم‪ ،‬حيث أطلق النبي ‪ ‬اسم "المدينة"‬ ‫عل���ى "يثرب" "مركز إقلي���م الدولة"‪ .‬ويروى عنه ‪ ‬أنه كان ال‬

‫‪61‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )39‬‬


‫والقضاي���ا المش���كلة عل���ى أه���ل كل‬

‫وم���ا أش���د ما ُيث���ار حول���ه من نقاش���ات‬

‫ال‪-‬‬ ‫وخالف���ات‪ ،‬دون أن نتوقف ‪-‬إال قلي ً‬ ‫للتس���اؤل ع���ن المفهوم‪ .‬وهل اإلش���ارة‬

‫إل���ى صف���ة المدني���ة ف���ي الدول���ة تعن���ي‬

‫حتما؟ وبأي‬ ‫تمايزها عن الصف���ة الدينية ً‬ ‫داللة للمدنية يتم اس���تخدامها في نعت‬

‫تحديدا؟ أهو بالداللة الفلس���فية‬ ‫الدول���ة‬ ‫ً‬ ‫كم���ا طرح���ه "الفارابي" ف���ي حديثه قبل‬ ‫خمس���ة قرون ع���ن "السياس���ة المدنية"؟‬ ‫أو بالدالل���ة االجتماعية كما اس���تخدمه‬ ‫"ج���ون لوك" قبل ثالثة قرون في حديثه‬

‫لق��د ع�برت الدول��ة باعتبارها‬ ‫"البني��ة ال�س��لطوية للنظ��ام‬ ‫ال�سيا�سي" يف ال�سياق احل�ضاري‬ ‫الإ�س�لامي عن الوحدة املعنوية‬ ‫للأمة‪ ،‬وعن مقومات وجودها‬ ‫الثالث ال�رضورية ال�ستمرارها‬ ‫وه��ي الثق��ايف واالجتماع��ي‬ ‫واالقت�صادي‪.‬‬

‫ع���ن "الحكوم���ة المدني���ة"؟ أم أن���ه على‬

‫خ�ل�اف ه���ذا وذاك بالدالل���ة الحضارية‬ ‫الت���ي قص���د إليها الش���يخ "محمد عبده"‬

‫مرحلة‪ ،‬وفقرٍ في أدوات اإلبداع الالزمة‬

‫لتحقيق ذلك التجاوب‪ .‬وليس لنوع من‬

‫التقلي���د في هذا المق���ام مزية على آخر‪،‬‬ ‫تقلي���دا لآلخر الماض���ي‪ ،‬أم‬ ‫أكان‬ ‫تقليدا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫لآلخر الحاضر‪.‬‬

‫ينض���اف إل���ى م���ا س���بق عام���ل آخر‬

‫لالضط���راب‪ ،‬خ���اص بمنه���ج النظ���ر‬

‫إل���ى مفه���وم الدول���ة وعالقته���ا بالدي���ن‬

‫خاص���ة‪ ،‬وب���كل م���ا ل���ه عالق���ة بمفاهيم‬ ‫الفك���ر السياس���ي ف���ي حضوره���ا‬

‫وإلحاحه���ا عل���ى العقل المس���لم اليوم‪،‬‬

‫س���واء بس���بب ع���ودة النق���اش المتص���ل‬ ‫بالهوي���ة وال���ذات الحضاري���ة الجامع���ة‬

‫قب���ل قرن من الزمان وهو يكتب سلس���لة مقاالته التي جمعت‬

‫بق���وة‪ ،‬وم���ا يترتب عليهما من إش���كاالت ف���ي تدبير االجتماع‬

‫لعل ما يجعل مفهوم الدولة المدنية في التصور اإلسالمي‬

‫س���احة المج���ال العام على امت���داد عالم المس���لمين بإلحاحها‬

‫• أولهم���ا‪ :‬اإلس���قاط التاريخ���ي لدالل���ة المصطل���ح كم���ا‬

‫لق���د ب���ات من الض���روري الي���وم‪ ،‬محاولة فض االش���تباك‬

‫على ش���بكة المفاهيم الراهنة‪ ،‬باستخدام المصطلح التاريخي‬

‫والممارسة معا‪ ،‬وليس الباعث على ذلك هو الدافع الفكري‬

‫تحت عنوان "اإلسالم بين العلم والمدنية"؟!‬

‫إشكاليا‪ ،‬هو تظافر عاملين أساسيين‪:‬‬ ‫مفهوما‬ ‫المعاصر‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬

‫تش���كلت ف���ي االس���تخدام خ�ل�ال مرحل���ة معينة م���ن مراحله‪،‬‬

‫للدالل���ة عل���ى المفهوم المعاصر‪ ،‬في تجاه���ل لما اعترى هذه‬

‫الداللة من تغيرات‪ ،‬وما شهدته سيرة المصطلح من تطورات‬ ‫وتحوالت‪ ،‬وكيف انتهىت به التواضعات إلى مدلوله المعاصر‬

‫أو مدلوالته‪.‬‬

‫اإلس�ل�امي المعاصر‪ ،‬أو بس���بب ضغط التحوالت الجارية في‬ ‫عل���ى الفك���ر الجمع���ي وإثارته���ا المش���اعر عل���ى الس���واء‪.‬‬ ‫الحاص���ل ح���ول مفه���وم الدول���ة المدنية ف���ي مجال���ي التنظير‬

‫فحس���ب‪ ،‬بل هي اآلثار المترتبة ف���ي الواقع بوجه خاص عن‬ ‫ذل���ك االش���تباك‪ ،‬ما بي���ن القول ب���أن المدنية ف���ي الدولة تعني‬

‫‪/‬نقيض���ا للصف���ة الدينية بكاف���ة مس���توياتها "الثيوقراطي"‬ ‫مقاب ً‬ ‫ال ً‬ ‫(‪ )Theocracy‬الذي يتأس���س عل���ى مفهوم الحكم اإللهي (حكم‬

‫• وثانيهما‪ :‬استيراد المفهوم من بيئة حضارية أخرى وسياق‬

‫اآلله���ة) عن���د اليون���ان‪ ..‬ومس���توى المرجعي���ة كذل���ك بالرب���ط‬

‫وتراثه ومش���كالته التي أنتجتها تلك البيئة وسياقاتها‪ .‬ومن ثم‬

‫بالدين ولو كان ذلك في مستوى المرجعية‪ ،‬التي تعكس عادة‬

‫محم�ل�ا بدالالت���ه وإيحاءاته‪،‬‬ ‫جاهزا‬ ‫معرف���ي وثقاف���ي مغاي���ر‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫اس���تخدامه ف���ي المج���ال التداولي العربي واإلس�ل�امي‪ ،‬وكأنه‬ ‫مفهوم مطلق في داللته‪ ،‬متجاوز إلش���كاالت نشأته الحضارية‬ ‫والتاريخي���ة‪ ،‬ق���ادر على التفس���ير ف���ي أي مجال لغ���وي أو بيئة‬

‫اجتماعية أو سياق حضاري‪.‬‬

‫بش���كل َش���رطي‪ -‬بي���ن مدنية الدولة وبين قط���ع أي صلة لها‬‫هوي���ة الدول���ة باعتبارها خالص���ة لس���ياقها االجتماعي وقيمها‬

‫ال عن بعض المعاني الخاصة للمدنية في‬ ‫المؤسس���ة‪ .‬هذا فض ً‬ ‫ال‪.‬‬ ‫الدولة كمقابل للعسكرية مث ً‬

‫ينطلق مفهوم الدولة الدينية في الفكر السياسي من نظريتين‬

‫والحقيقة أن كال األمرين؛ اإلسقاط التاريخي‪ ،‬واالستيراد‬

‫رئيسيتين هما‪ :‬نظرية الطبيعة اإللهية للحاكم‪ ،‬القائمة على أنه‬

‫االجتهاد في التجاوب مع األس���ئلة المس���تجدة في أي عصر‪،‬‬

‫يحكمهم بنفس���ه‪ ،‬وهي نظرية لم تش���ع ف���ي التجربة التاريخية‬

‫الحض���اري‪ ،‬إن هم���ا إال تقلي���د ي���دل عل���ى فق���د الق���درة على‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )39‬‬

‫‪60‬‬

‫حيا وسط الناس‬ ‫يجس���د اإلله في شخصه‪ ،‬فيكون "اهلل" حينئذ ًّ‬


‫قضايا فكرية‬ ‫د‪ .‬سمير بودينار*‬

‫الدولة المدنية‬

‫كما مثلها عصر المبعث النبوي‬ ‫دينا إذا نظرت إليها من ناحية‪ ،‬وتبدو دولة إذا نظرنا إليها من ناحية أخرى"‪.‬‬ ‫"الحقيقة في نظر اإلسالم هي بعينها تبدو ً‬ ‫(محمد إقبال)‪.‬‬ ‫واح���دة م���ن المش���كالت الرئيس���ة ف���ي منهج‬

‫القضايا المتصلة بحركة الحياة‪ ،‬تحقي ًقا للغاية الدينية في واقع‬

‫بالمفاهيم‪ .‬وحين يتعلق األمر بمنهج المعرفة‬

‫ولعل قضية الدولة في اإلس�ل�ام عامة ‪-‬سواء في نموذجها‬

‫المعرف���ة‪ ،‬ه���ي قضيةالمصطلح���ات وعالقتها‬ ‫الديني���ة المتصل���ة بقضاي���ا الدي���ن وقيم���ه وأحكامه‪ ،‬ف���إن هذه‬

‫المش���كلة تزداد حدة‬ ‫وتفاقم���ا‪ .‬ذلك أن مقتضى الفهم في هذا‬ ‫ً‬ ‫المق���ام‪ ،‬ه���و إدراك العالقة بين مبدأ الدي���ن وواقع الحياة‪ ،‬أو‬

‫منهج اس���تمداد الهدي الديني وتنزي���ل أحكامه وتعاليمه على‬

‫اإلنسان والمجتمع بكل ما يحتويه من إشكاالت وتعقيدات‪.‬‬

‫المعرفي والحض���اري أو تجربتها التاريخي���ة‪ ،‬والدولة المدنية‬ ‫خاص���ة وعالقتها بمفه���وم "الدولة الديني���ة"‪ -‬هي أحد أوضح‬ ‫األمثلة على حجم تلك المشكلة‪.‬‬

‫فم���ا أكث���ر م���ا ُيس���تخدم مصطل���ح الدول���ة المدني���ة اليوم‪،‬‬

‫‪59‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )39‬‬


‫صل ف���ي زوايا بيتك يكون نور بيتك في الس���ماء كنور‬ ‫هري���رة ّ‬

‫الفضي���ل ب���ن عي���اض‪" :‬إذا ل���م تقدر عل���ى قيام اللي���ل‪ ،‬وصيام‬

‫الشعراني في الفلك المشحون عن الشيخ زكريا األنصاري أنه‬

‫قال دلف الشبلي‪ :‬نعسة في ألف سنة فضيحة (‪ )...‬وقالوا في‬

‫الكواكب"‪ .‬ومنها أنه يطرد الداء عن الجس���د‪ ،‬فقد ذكر اإلمام‬

‫ظهر على‬ ‫الس َحر ُيشفي السقيم"‪ .‬ومنها أنه َي َ‬ ‫كان يقول‪" :‬نسيم َّ‬ ‫وجه قائمه بالنهار‬ ‫حسن فائق وجمال باهر لقوله عليه الصالة‬ ‫ٌ‬

‫النه���ار‪ ،‬فاعلم أنك محروم"(‪ ،)8‬وقال اإلمام القش���يري‪" :‬ولهذا‬

‫هذا المعنى‪:‬‬

‫عجبا للمحب كيف ينام ‬ ‫ً‬

‫حس���ن وجه���ه بالنهار"‪،‬‬ ‫والس�ل�ام‪" :‬م���ن كث���رت صالته بالليل ُ‬

‫وقيل‪ :‬المريد َأك ُله فاقة‪ ،‬ونومه غلبة‪ ،‬وكالمه ضرورة"(‪.)9‬‬

‫وقيل للحس���ن‪ :‬ما بال المجتهدين من أحس���ن الناس وجوها‪،‬‬

‫وقال أحد الصوفية‪:‬‬

‫نورا من نوره"(‪.)5‬‬ ‫فقال‪ :‬ألنهم َخ َل ْوا بالرحمن فألبسهم ً‬

‫ ‬ ‫كيف يسلوا من قد بلي‬

‫فأهل اهلل وجدوا في الليل لذة وحالوة لو ُخيروا بينها وبين‬

‫ومناجاته هلل تعالى وتالوة كتابه‪ ،‬فيواظب على التهجد ويغتنم‬

‫ه���دوء اللي���ل وصفاء الوق���ت بانقطاع العوائ���ق‪ .‬وأقلُّ درجات‬ ‫الح���ب التلذذ بالخل���وة بالحبيب والتنع���م بمناجاته‪ ،‬فمن كان‬ ‫ألذ عنده وأطيب م���ن مناجاة اهلل‬ ‫الن���وم واالش���تغال بالحدي���ث َّ‬ ‫كي���ف تص���ح محبته؟ قي���ل لـ"إبراهيم ب���ن َأ ْد َهم" وق���د نزل من‬

‫التي يذرها موالهم‪ ،‬عسى ُتشفي غليلهم وتروي ظمأ قلوبهم‪،‬‬ ‫وكله���م أمل وش���وق في تجدي���د الصلة م���ع محبوبهم‪ .‬يقول‬

‫الشيخ أحمد عز الدين البيانوني (ت‪1395‬هـ‪1975/‬م)‪:‬‬ ‫كم قضينا في حماكم ‬

‫قد نهلنا الحب راحا ‬

‫به‪ ،‬ومهما غلب عليه الحب واألنس صارت الخلوة والمناجاة‬

‫ش���يء س���وى طلوع الفجر (‪ )...‬وقال أبو س���ليمان‪ :‬أهل الليل‬

‫في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم‪ ،‬ولوال الليل ما أحببت‬

‫البقاء في الدنيا"(‪.)7‬‬

‫ن���ام اللي���ل‪ ،‬ألن في���ه س���وء األدب م���ع الحضرة اإللهي���ة‪ .‬قال‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )39‬‬

‫ما ُأ َح ْيـــاله وصــــــاال ‬

‫‪58‬‬

‫قد قـضـيــناه غــــــرامــــا‬

‫واتركي الكون ظالما‬ ‫نتــــهاوى نــتــرامــــــــــى‬

‫وشـــــربــناه ُمــدامـــــــــــا‬ ‫لــيـــتــه وا ِ‬ ‫هلل دامــــــــــــــــا‬

‫(*) باح���ث بمرك���ز اإلمام الجنيد للدراس���ات واألبح���اث الصوفية المتخصصة‬ ‫التابع للرابطة المحمدية للعلماء ‪ /‬المغرب‪.‬‬

‫الهوامش‬ ‫(‪ )1‬إحياء علوم الدين‪.366/1 ،‬‬ ‫(‪ )2‬أقرب المسالك إلى موطأ اإلمام مالك‪ ،‬لمحمد التهامي كنون‪ ،‬ص‪.128:‬‬ ‫(‪)3‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫التفسير الكبير‪.160/30 ،‬‬ ‫التفسير الكبير‪.161/30 ،‬‬

‫(‪ )5‬أقرب المسالك إلى موطأ اإلمام مالك‪.128 ،‬‬ ‫(‪ )6‬إحياء علوم الدين‪.414/3 ،‬‬ ‫(‪)7‬‬

‫وم���ن ش���دة حبهم لهذه الفت���رة من الزمن‪ ،‬عاب���وا على من‬

‫وتـلـقـيـــنا المــعانـــــــــي ‬

‫ال ُنــــؤديـــها كـــالمـــــــا‬

‫ودعينا فــــــي هــوانـــــا ‬

‫رِ ْج���ل بعضهم بس���بب علة أصابته وهو في الصالة فلم يش���عر‬

‫فرحي به قط‪ .‬وقال علي بن بكار‪ :‬منذ أربعين سنة ما أحزنني‬

‫وعشقــــنا فيـــه ربعــــــــا ‬

‫يا نجوم الليل غيبــــي ‬

‫كان في صالته ووقع الحريق في داره فلم يشعر به‪ ،‬و ُقطعت‬

‫من لــــــيال تـتــسامـــــى‬

‫وقبـــابــــا وخــــــيامــــــــــا‬ ‫ً‬

‫ونــعــمـــنا بـــوصـــــــــال ‬

‫ويناجيه‪ ،‬وقد انتهت هذه اللذة ببعضهم حتى‬ ‫ُيخاطب معشوقه ُ‬

‫حالتي���ن‪ ،‬أفرح بظلمته إذا ج���اء‪ ،‬وأغتم بفجره إذا طلع‪ ،‬ما تم‬

‫ال تنمهــــا يـــا غافـــــل‬

‫يصيب���وا من األم���داد والبركات‪ ،‬وينهلوا م���ن الفوائد والتحف‬

‫األنس مصير العقل والفهم كله مستغر ًقا بلذة المناجاة‪ ،‬كالذي‬

‫وقيل لبعضهم‪ :‬كيف الليل عليك؟ فقال‪ :‬ساعة أنا فيها بين‬

‫فقم في الليل واسأل‬

‫ب���ل يتمن���ون أن يط���ول اللي���ل وال ينكش���ف الصب���اح حتى‬

‫الجب���ل‪ :‬م���ن أين أقبل���ت؟ فقال‪ :‬من األنس ب���اهلل (‪ )...‬وعالمة‬

‫قرة عينه يدفع بها جميع الهموم (‪ )...‬فالمحب من ال يطمئن‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫آم ُنوا َو َت ْط َمئ ُّن‬ ‫إال بمحبوبه‪ .‬وقال قتادة في قوله تعالى‪ :‬ا َّلذ َ‬ ‫ين َ‬ ‫ال ب ِ​ِذ ْك ِر ا ِ‬ ‫وب ُه���م ب ِ​ِذ ْك ِر ا ِ‬ ‫وب‪(‬الرعد‪ ،)28:‬قال‪:‬‬ ‫هلل َأ َ‬ ‫هلل َت ْط َم ِئ ُّن ا ْل ُق ُل ُ‬ ‫ُق ُل ُ ْ‬ ‫هشت إليه واستأنست به"(‪.)6‬‬

‫عـن هـــواه أو يغفـــــل‬

‫ ‬ ‫قالـوا إن كنـــت صـــاد ًقا‬ ‫ ‬ ‫إن في الليــــل ســـــــاعـــة‬

‫نعيم الدنيا ما زادهم ذلك إال تعل ًقا ومحبة بالليل‪ ،‬كيف ال وهو‬ ‫موعد لقاء حبيبهم وبهج ِة روحهم وقر ِة عينهم‪ .‬فمن عالمات‬

‫محبة اإلنسان لربه كما يقول الغزالي‪" :‬أن يكون أنسه بالخلوة‬

‫كلُّ نوم على المحب حرام‬

‫إحياء علوم الدين‪.467/1 ،‬‬

‫(‪ )8‬سير أعالم النبالء‪.435/8 ،‬‬ ‫(‪ )9‬الرسالة القشيرية‪.366 ،‬‬


‫وصالة الليل مسافتها‬

‫ ‬

‫فاذهب فيها بالفهم وجي‬

‫ ‬

‫تأت الفردوس وتبتهج‬

‫ ‬

‫ـــــزج‬ ‫وبم ْـم َت ِ‬ ‫ال ُم ْم ِ‬ ‫تـزجا ُ‬

‫وتـأمــلــهــــا ومــعـانــيــهـــــا‬ ‫واشرب تسنيم ُم َف ِّج ِرها‬

‫فال غرو أن يحتل الليل عند المحبين‬

‫مكانة عظيمة ومنزلة كبيرة‪ ،‬كيف ال وقد‬ ‫أقسم اهلل به في عدة مناسبات في القرآن‬

‫‪‬وال َّل ْي ِل‬ ‫الكريم؟! قال سبحانه وتعالى‪َ :‬‬ ‫���ل‬ ‫‪‬وال َّل ْي ِ‬ ‫إ ِْذ َأ ْد َب َر‪(‬المدث���ر‪ ،)33:‬وقول���ه‪َ :‬‬

‫س‪(‬التكوير‪ ،)17:‬وقول���ه عز من‬ ‫ِإ َذا َع ْس َ‬ ‫���ع َ‬

‫أن المقصود من الترتيل إنما هو حضور‬

‫لقد د�أب العا�شقون على �إحياء‬ ‫اللي��ل‪ ،‬فرتاه��م عند ان�س��دال‬ ‫�ش��مرون ع��ن‬ ‫�س��تار الظلم��ة يُ ِّ‬ ‫�س��اعد اجل��د‪ ،‬ين�س��جون م��ن‬ ‫خيوط الظُلمة ورو ًدا من الو ّد‪،‬‬ ‫حولُون وح�شة الليل �إىل �أُن�س‬ ‫ويُ ِّ‬ ‫وقُ��رب‪ ...‬فهم بذك��ر حبيبهم‬ ‫يتنعمون‪،‬‬ ‫يتل��ذّذون‪ ،‬ومبناجاته ّ‬ ‫وعن �سواه ال يلتفتون‪.‬‬

‫وس َق‪(‬االنش���قاق‪)17:‬‬

‫قائ���ل‪َ :‬‬ ‫‪‬وال َّل ْي ِل َو َما َ َ‬ ‫���ر‪(‬الفجر‪،)4:‬‬ ‫���ل ِإ َذا َي ْس ِ‬ ‫‪‬وال َّل ْي ِ‬ ‫وقول���ه‪َ :‬‬ ‫اها‪(‬الش���مس‪ .)4:‬ويكفي الليل ش���ر ًفا‬ ‫‪‬وال َّل ْي ِ‬ ‫���ل ِإ َذا َي ْغ َش َ‬ ‫وقول���ه‪َ :‬‬

‫وفخرا أن اإلسراء والمعراج لم يكن إال في ظالمه‪ .‬فقد أكرم‬ ‫ً‬

‫اهلل تعال���ى في���ه حبيب���ه‬ ‫محمدا ‪ ‬بال���درر الفاخ���رة والمقامات‬ ‫ً‬ ‫ان ا َّل ِذي‬ ‫‪‬س ْ���ب َح َ‬ ‫العالي���ة والمش���اهدات العظيمة‪ ،‬ق���ال تعالى‪ُ :‬‬ ‫���ج ِد ا َ‬ ‫َ‬ ‫���ج ِد ا ْل َحر ِام ِإ َلى ا ْل َم ْس ِ‬ ‫ال ِم َن ا ْل َم ْس ِ‬ ‫أل ْق َصى‬ ‫���رى ب َِع ْب ِد ِه َل ْي ً‬ ‫َ‬ ‫أ ْس َ‬ ‫ِ‬ ‫ار ْك َنا َح ْو َل ُه‪(‬اإلسراء‪.)1:‬‬ ‫ا َّلذي َب َ‬ ‫ويكفي���ه ش���ر ًفا أن اهلل تعال���ى أنزل فيه الق���رآن الكريم‪ ،‬قال‬ ‫تعالى‪ِ ﴿ :‬إ َّنا َأ ْن َز ْل َن ُاه ِفي َل ْي َل ِة ا ْل َق ْدرِ ﴾(القدر‪.)1:‬‬ ‫أما عن فضائل قيام الليل فقد وردت آيات وأحاديث كثيرة‪،‬‬

‫ُتبي���ن الخير العميم والنفع العظيم الذي يحظى به أهل الليل‪.‬‬ ‫���ل َف َت َه َّج ْد بِ��� ِه َنا ِف َل ًة َل َك َع َس���ى َأ ْن‬ ‫﴿و ِم َن ال َّل ْي ِ‬ ‫ق���ال تعال���ى‪َ :‬‬ ‫ودا﴾(اإلسراء‪.)79:‬‬ ‫َي ْب َع َث َك َر ُّب َك َم َق ًاما َم ْح ُم ً‬ ‫ال *‬ ‫���ل ِإ َّ‬ ‫ال َق ِلي ً‬ ‫���م ال َّل ْي َ‬ ‫﴿ي���ا َأ ُّي َه���ا ا ْل ُم َّز ِّم ُل ‪ُ ‬ق ِ‬ ‫وق���ال تعال���ى‪َ :‬‬ ‫ال‬ ‫���ص ِم ْن ُه َق ِلي ً‬ ‫آن َت ْر ِتي ً‬ ‫ال ‪َ ‬أ ْو زِ ْد َع َل ْي ِه َو َر ِّت ِ‬ ‫���ل ا ْل ُق ْر َ‬ ‫ِن ْص َف ُ‬ ‫���ه َأوِ ا ْن ُق ْ‬ ‫ال ‪ ‬إ َِّن َن ِ‬ ‫���د‬ ‫���ك َق ْو ً‬ ‫���ن ْل ِقي َع َل ْي َ‬ ‫ال َث ِقي ً‬ ‫اش َ���ئ َة ال َّل ْي ِل ِه َي َأ َش ُّ‬ ‫‪ِ ‬إ َّن���ا َس ُ‬ ‫ال﴾(المزمل‪ ،)6-1:‬قال الرازي في التفس���ير الكبير‪:‬‬ ‫َو ْط ًئا َو َأ ْق َو ُم ِقي ً‬

‫القلب وكمال المعرفة"(‪.)3‬‬

‫مبي ًنا فوائ���د العبادة في الليل‬ ‫ويق���ول ّ‬

‫وثماره���ا على نفس���ية وروح اإلنس���ان‪:‬‬ ‫"ف���إن اإلنس���ان ف���ي الليل���ة الظلم���اء إذا‬

‫اشتغل بعبادة اهلل تعالى وأقبل على ذكره‬ ‫والثن���اء علي���ه والتض���رع بين يدي���ه‪ ،‬ولم‬

‫يكن هناك ش���يء من الش���واغل الحسية‬ ‫والعوائق الجس���مانية‪ ،‬اس���تعدت النفس‬ ‫هنالك إلش���راق جالل اهلل فيها‪ ،‬وتهيأت‬ ‫للتج���رد الت���ام‪ ،‬واالنكش���اف األعظ���م‬ ‫بحسب الطاقة البشرية"(‪.)4‬‬

‫ه���ذا وق���د م���دح اهلل تعال���ى عب���اده‬

‫المومني���ن الذين م���دوا حبال الوصل في‬

‫الليال���ي الظلماء‪ ،‬والمس���تمدين م���ن األمداد الفيح���اء‪ ،‬بقوله‪:‬‬

‫���ن ا ْل َم َض ِ‬ ‫ون َر َّب ُه ْم َخ ْو ًفا َو َط َم ًعا‬ ‫وب ُه ْم َع ِ‬ ‫اج ِع َي ْد ُع َ‬ ‫‪َ ‬ت َت َجا َف���ى ُج ُن ُ‬ ‫ال ِم َن‬ ‫‪‬كا ُن���وا َق ِلي ً‬ ‫ون‪(‬الس���جدة‪ ،)16:‬وقال‪َ :‬‬ ‫���م ُي ْن ِف ُق َ‬ ‫َو ِم َّم���ا َر َز ْق َن ُ‬ ‫اه ْ‬ ‫ون‪(‬الذاريات‪.)17:‬‬ ‫ال َّل ْي ِل َما َي ْه َج ُع َ‬ ‫وأم���ا م���ا ورد ف���ي الحديث من فضائ���ل قيام اللي���ل فكثير‬ ‫نكتف���ي بإيراد بعض األحاديث عل���ى وجه التمثيل ال الحصر‪،‬‬

‫قال ‪" :‬عليكم بقيام الليل‪ ،‬فإنه دأب الصالحين قبلكم‪ ،‬وإن‬

‫قي���ام الليل ُقربة إلى اهلل‪ ،‬ومنهاة عن اإلثم‪ ،‬وتكفير للس���يئات‪،‬‬ ‫ومطردة للداء عن الجسد" (رواه الترمذي)‪.‬‬

‫وعن أبي مالك األشعري قال‪ :‬قال رسول اهلل ‪" :‬إن في‬

‫الجن���ة َلغر ًفا ُيرى بطونها من ظهورها‪ ،‬وظهورها من بطونها"‪،‬‬ ‫فقال أعرابي‪ :‬يا رسول اهلل لمن هي؟ قال‪" :‬لمن أطاب الكالم‪،‬‬

‫وأطعم الطعام‪ ،‬وصلى هلل بالليل والناس نيام" (رواه اإلمام أحمد)‪.‬‬

‫يقول محمد التهامي كنون‪" :‬واعلم أن في قيام الليل فوائد‬

‫تورمت قدماه‬ ‫جليل���ة منه���ا االقت���داء به ‪ ،‬فق���د قام ‪ ‬حت���ى ّ‬

‫مص�ل�اه كوكف المطر (‪ )...‬ومنها أن‬ ‫وكان���ت دموعه تقع في‬ ‫ّ‬

‫"واعل���م أنه تعالى لما أمره (يقص���د النبي ‪ ‬والخطاب موجه‬

‫شيئا إال‬ ‫في الليل ساعة ال ُيوافقها عبد مؤمن يصلي يسأل اهلل ً‬

‫الخاط���ر من التأمل في حقائق تلك اآليات ودقائقها (‪ )...‬ألن‬

‫وميتا‬ ‫ومقبورا ومبعو ًثا‪ ،‬ففي الحديث‪" :‬يا‬ ‫حيا ً‬ ‫ً‬ ‫لقائمه رحم َة اهلل ًّ‬

‫كذل���ك إلى أمته) بصالة الليل أمره بترتيل القرآن حتى يتمكن‬ ‫وم���ن ابتهج‬ ‫النف���س تبته���ج بذكر األم���ور اإللهي���ة الروحانية‪َ ،‬‬

‫يمر عليه بسرعة‪ ،‬فظهر‬ ‫ومن أحب ً‬ ‫بشيء أحب ذكره‪َ ،‬‬ ‫شيئا لم ّ‬

‫أعط���اه إياه وذلك عند الس���حر (‪ )...‬ومنه���ا أن النبي ‪ ‬ضمن‬ ‫وميتا‬ ‫ومقبورا‬ ‫حيا ً‬ ‫ً‬ ‫أب���ا هريرة أتريد أن تكون رحمة اهلل علي���ك ًّ‬

‫ومبعو ًث���ا‪ ،‬فق���م من الليل‬ ‫وص���ل وأنت تريد رض���ا ربك‪ ،‬يا أبا‬ ‫ّ‬

‫‪57‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )39‬‬


‫قضايا فكرية‬

‫مصطفى بوزغيبة*‬

‫قيام الليل‬

‫وأثره الروحي في حياة اإلنسان‬ ‫إن المتأم���ل ف���ي فلس���فة الدي���ن‪ ،‬يج���د في���ه‬ ‫جمالي���ة وحي���اة مفعم���ة بالحيوي���ة والنش���اط‪،‬‬

‫الربانية‪،‬‬ ‫فترف���رف روحه في س���ماء المع���ارف ّ‬

‫والفيوض���ات الرحماني���ة‪ ،‬متأملة ف���ي جمال الك���ون‪ ،‬ومبتعدة‬ ‫عن ه���وس الحياة المادية وتطاحناته���ا الالمتناهية‪ .‬ومن تلكم‬ ‫األوقات التي يجد فيها اإلنس���ان أنس���ه وضالت���ه‪" ،‬الليل"؛ فهو‬ ‫المحبين وملتقى العشاق في سماء نجومه الساحرة‪.‬‬ ‫منتدى‬ ‫ّ‬

‫فقد دأب العاشقون على إحياء الليل‪ ،‬فتراهم عند انسدال‬ ‫ِ‬ ‫ش���مرون عن س���اعد الجد‪ ،‬ينسجون من خيوط‬ ‫س���تار الظلمة ُي ّ‬ ‫حو ُل���ون وحش���ة اللي���ل إلى ُأنس‬ ‫ورودا م���ن‬ ‫الظلم���ة‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ال���ود‪ُ ،‬‬ ‫وي ِّ‬ ‫يتنعمون‪،‬‬ ‫و ُق���رب‪ ...‬فه���م بذكر حبيبهم‬ ‫ّ‬ ‫يتل���ذذون‪ ،‬وبمناجات���ه ّ‬ ‫وعن سواه ال يلتفتون‪ .‬قال ابن المبارك‪:‬‬ ‫إذا مــا الليل أظلــم كابــــدوه‬

‫ ‬

‫فيــــسفر عنـهم وهــــم ركـــــــوع‬

‫ ‬

‫وأهل األمن في الدنيا هجوع‬

‫أطار الخوف نومهم فقاموا‬

‫(‪)1‬‬

‫وقال أحدهم‪" :‬لذة قيام الليل ليس���ت من الدنيا في ش���يء‪،‬‬

‫عجلها اهلل ألوليائ���ه"(‪ .)2‬وفي هذا‬ ‫إنم���ا ه���ي من نعيم اآلخ���رة‪ّ ،‬‬ ‫المعنى قال ابن النحوي في قصيدته المنفرجة‪:‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )39‬‬

‫‪56‬‬


‫شعر‬

‫عبد الحميد العُ مَ ري*‬

‫الب ْردة‬ ‫َصدى ُ‬

‫�������وَة الخل ِ‬ ‫�������ورا أَ َض َاء بِ ِه‬ ‫يَ�������ا َص ْف َ‬ ‫ْق‪ ،‬يَا نُ ً‬ ‫�������ت بِ َطل َْعتِ������� ِه‬ ‫أَ ْك�������رِْم بِ������� ِه َم ْولِ������� ًدا َزانَ ْ‬ ‫�������اء ْت بِ َم ْولِ ِد ِه اآل َف ُ‬ ‫َت‬ ‫�������اق َوا ْعَ�تَ�نق ْ‬ ‫َض َ‬ ‫�������ل َمْ�ب َعثِ ِه‬ ‫�������د َزانَ������� ُه الل������� ُه ِط ْف ً‬ ‫���ل���ا َ�ق ْب َ‬ ‫َق ْ‬ ‫َس�������ا ِمي الْ ِف َع ِ‬ ‫يم الْ َقل ِ‬ ‫ْب ذَا َش َر ٍف‬ ‫ال َس ِل َ‬ ‫���ل���ا ُه َربِّي‪َ ،‬ف َ‬ ‫�������ر َ�ي ْغ ُم ُرُه‬ ‫أَ ْع َ‬ ‫�������ك َ‬ ‫ان ال َ‬ ‫ْخْ�ي ُ‬ ‫��������تنَ َار بِ ِه‬ ‫َاس َ‬ ‫�������ورا‪ ،‬ف ْ‬ ‫أَ ْو َح�������ى لَ������� ُه الل ُه نُ ً‬ ‫�������ار َع َل�������ى ُّ‬ ‫الدْ�نيَ�������ا بِ َطل َْعتِ������� ِه‬ ‫ل ََّم�������ا أَنَ َ‬ ‫ْح ِّق‪ ،‬أَ ْس َم َع ُه‬ ‫نَا َدى ال ُْمنَا ِدي بِ َص ْو ِت ال َ‬ ‫دى‬ ‫نَ�������ا َدى َ�ف َرَّد لِ ِذي بُ ْك ٍم لِ َس َ‬ ‫�������ان َص ً‬ ‫الرحم ِ‬ ‫�������ن أَْ�ن َزله�������ا‬ ‫محم������� ٌد ِمنَّ������� ُة َّ‬ ‫عم������� ُة المولَ�������ى أَ َز َ‬ ‫ال به�������ا‬ ‫محم������� ٌد نِ َ‬ ‫شمس َهذا َ‬ ‫الك ْو ِن‪ُ ،‬م ْذ �َب َزَغ ْت‬ ‫محم ٌد ُ‬ ‫يَا ُم ْص َط َف�������ى‪ ،‬بِ َك أ ْعلَى الل�������ه ر َا�يَ�تنَا‬ ‫ِ‬ ‫�������رأْ‪�َ ،‬ت َعالى ال ِذي أَ ْو َح�������ى إِل َْي َك بها‬ ‫اْ�ق َ‬ ‫َّ‬ ‫�������رفاً‬ ‫اِْ�ق َرأْ تَ ُس ْ‬ ‫�������د‪َ ،‬وتخل ْق تَ ْس�������تَ ِزْد َش َ‬ ‫ِ‬ ‫�������ن ُك ِّل ق ِ‬ ‫َاص َم ٍة‬ ‫�������و َت بها َع ْ‬ ‫�������رأْ‪َ ،‬ع َل ْ‬ ‫اْ�ق َ‬ ‫آَ�ت ْيَ�تنَ�������ا بِ ِكتَ ِ‬ ‫�������اب الل������� ِه ُم ْنتَ ِصبً�������ا‬ ‫�������ل َه ِط ٍل‬ ‫ات بِ َغ ْي ٍث َوابِ ٍ‬ ‫�������و َ‬ ‫أَ ْحيَ�������ى ال َْم َ‬ ‫ْج ِّد‪َ ،‬ال َ�ت�بلَى ِ‬ ‫محاس�������نُ ُه‬ ‫ُم ْس�������تَْأنَ ِف ال َ‬ ‫ْ‬ ‫�������وب‪ ،‬ف َ‬ ‫ِفي ِه ال َّ‬ ‫�������د َو ُاء َأل ْه َوا ِء ال ُق ُل ِ‬ ‫َك ْم‬ ‫�������ر لِ ِذي َس������� َق ٍم‬ ‫َوَك ْ‬ ‫�������م أُ ِري������� َد بِ������� ِه َخْ�ي ٌ‬

‫�������وا ِم َوا ُأل َم ِم‬ ‫َر ُّب ال ِعبَ�������ا ِد َع َل�������ى ا َألْ�ق َ‬ ‫َه ِذي َّ‬ ‫ال�ث َرى‪َ ،‬و ْاكتَ َس ْت ِم ْن ُح َّل ِة َ‬ ‫الك َرِم‬ ‫الع ِطيَّ ِة َم ْن في القُوِر َوا َأل َك ِم‬ ‫�������رى َ‬ ‫بُ ْش َ‬ ‫الص َح ِ‬ ‫�������ر ُمَّ�ت َه ِم‬ ‫�������ن ِّ‬ ‫�َب ْي َ‬ ‫�������اب‪ ،‬أَ ِمينًا َغْ�ي َ‬ ‫الح ُل ِم‬ ‫بَ�������ا ِدي ال َف ِضي َل ِة َ�ي ْوَم ُّ‬ ‫الر ْش������� ِد َو ُ‬ ‫َاض بِ������� ِه لِلن ِ‬ ‫َّاس ف�������ي ِح َك ِم‬ ‫َحتَّ�������ى أَف َ‬ ‫ْك ِة ُّ‬ ‫َم ْن في َّ‬ ‫ال�ث َرى‪َ ،‬و ُه ُدواْ‪ ،‬في ُحل َ‬ ‫الظ َل ِم‬ ‫اسَ�ت ْن َش َق َّ‬ ‫ِّع ِم‬ ‫الد ْه ُر َع ْر َف الْ َه ْد ِي َوال�ن َ‬ ‫َو ْ‬ ‫�������ن ُع ْر ٍب َوِم ْن َع َج ِم‬ ‫أَ ْه َل الْبَ َصائِرِ‪ِ ،‬م ْ‬ ‫َان ِذي َص َم ِم‬ ‫اس�������تَ َم َع ْت آذ ُ‬ ‫لِل َ‬ ‫ْح ِّق‪َ ،‬و ْ‬ ‫�������ن ال َْع َد ِم‬ ‫َغ ْيثً�������ا َفأَنج�������ى بِ������� ِه َ�ق ْوًما ِم َ‬ ‫�������وا َد ُّ‬ ‫ال�ن َق ِم‬ ‫الظ ْل ِم َو ِّ‬ ‫َع ْن ِذي البِق ِ‬ ‫َاع َس َ‬ ‫َاض ْت َعلَى ِ‬ ‫الس َل ِم‬ ‫الخلق أَيْ ِدي الخي ِر َو َّ‬ ‫ف َ‬ ‫في ا ُألف ِ‬ ‫الع َل ِم‬ ‫ْ�������ق َخا ِف َق ًة َو َّ‬ ‫الس������� ْه ِل َو َ‬ ‫ْج ْب َن في الْ ِه َم ِم‬ ‫تُ ْحيِي ال ُقل َ‬ ‫ُوب‪َ ،‬وُ�ت ْرِدي ال ُ‬ ‫َك مج ُد َّ‬ ‫َوا ْع َم ْل يَ ُد ْم ل َ‬ ‫استَ ِق ِم‬ ‫الدارِ‪َ ،‬و ْ‬ ‫َّ‬ ‫الح������� ُزِم‬ ‫للظ ْه������� ِر فَاتِ َك������� ٍة‪ ،‬بِالح������� ْزِم َو ُ‬ ‫الس َراةَ‪َ ،‬ويح ِمي ُك َّل ِذي ِذ َم ِم‬ ‫َ�ي ْه ِدي ُّ‬ ‫�������ج ِم ِّ‬ ‫الديَ ِم‬ ‫بَا ِدي ال َْمنَا ِف ِع َس�������ا ٍم ُم ْس َ‬ ‫ِعْ�تقً�������ا‪َ ،‬و َال َ�ي ْعتَ ِري������� ِه َّ‬ ‫الض ْعف من قد ِم‬ ‫َام َوَك ْم أَنْ َجى ِم َن ا َأللَ ِم‬ ‫َش������� َفى َّ‬ ‫الس�������ق َ‬ ‫َف�������ا ْزَوَّر َع ْن������� ُه‪�َ ،‬ف َع َّ‬ ‫�������ن ِم ْن نَ َد ِم‬ ‫الس َّ‬ ‫ض ِّ‬ ‫(*) أستاذ باحث في األدب العربي ‪ /‬المغرب‪.‬‬

‫‪55‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )39‬‬


‫وم���ا أري���د من���ك أخ���ا اإلس�ل�ام أن تورث���ك زالزل الحياة‬

‫وقوارعها أي ش���عور بالقلق المدمر‪ ،‬واليأس الممض‪ ،‬فيضيق‬

‫حتميا‪،‬‬ ‫وهما‬ ‫بها صدرك‪ ،‬وتس���توقد في ضلوعك حز ًنا أس���ي ًفا ًّ‬ ‫ًّ‬

‫فاحتس���بها عند اهلل واعتبرها ش���دة عس���ر تتبعها بش���رى يسر‪...‬‬ ‫ال َو َل ْن َت ِج َد ِلس َّن ِة ا ِ‬ ‫���ن ِة ا ِ‬ ‫هلل‬ ‫هلل َت ْب ِدي ً‬ ‫وتلك س���نة اهلل‪َ  ،‬ف َل ْن َت ِج َد ِل ُس َّ‬ ‫ُ‬ ‫ال‪(‬فاطر‪.)43:‬‬ ‫َت ْح ِوي ً‬ ‫وما حياة اإلنسان؟ إنما ذلك الينبوع المائي يتفجر من ثنايا‬ ‫الصخر‪ ،‬ويس���ري في األرض إلى أن يعانق مصيره (المس���مى)‬ ‫ف���ي أعماق البح���ار‪ .‬وبين البدء والمنته���ى يقطع رحلة درامية‬

‫تتم���ازج فيه���ا ثنائي���ات الب���كاء والف���رح‪ ،‬م���رة يس���ير واني���ا في‬

‫المنبسط‪ ،‬ومرة يتموج في انعطافات الصخور الصالب‪ ،‬ومرة‬ ‫يحدث وشوشة دامعة حين يعترضه عارض‪.‬‬

‫جحيما‬ ‫خالدا‪ ،‬وليست‬ ‫نعيما‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫كذلك حياة اإلنس���ان‪ ،‬ليست ً‬

‫قارصا‪ ...‬إنها الحياة‬ ‫نسيما رخاء‪ ،‬وليست‬ ‫زمهريرا ً‬ ‫دائما‪ ،‬ليست ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫‪‬وأ َّن ُه ُه َو‬ ‫فحسب‪ ،‬خليط من كل هذه الثنائيات كما أرادها اهلل َ‬ ‫ات َو َأ ْح َيا‪(‬النجم‪.)44-43:‬‬ ‫َأ ْض َح َك َو َأ ْب َكى ‪َ ‬و َأ َّن ُه ُه َو َأ َم َ‬

‫أخ���ا اإلس�ل�ام‪ ،‬إن خواطرك الس���وداء تتلجلج في نفس���ك‬

‫اليم‪ ،‬وإن أحزانك الالهبة تستوقد‬ ‫الضعيفة كالغريق في أعماق ّ‬ ‫نارا حامية يتطاير ش���ررها بي���ن الفينة واألخرى‪،‬‬ ‫ف���ي ضلوعك ً‬

‫مخرج���ا من ه���ذه األعصاي���ر إال باس���تحضار‬ ‫ول���ن تج���د لك‬ ‫ً‬ ‫نصية مرش���دة تنتصب قبالتنا‬ ‫المعالم‪/‬التعاليم التي تعد الفتات ّ‬ ‫في معترك الحياة إلنقاذ الحيارى الضائعين‪.‬‬

‫اصب ِْر َن ْف َس َك‪ ‬تضعنا أمام عنوان مفهومي‬ ‫‪‬و ْ‬ ‫فقوله تعالى‪َ :‬‬

‫"االقتح���ام الج���ريء" بإلزام النفس أن تتج���اوز كل المصاعب‬

‫والمكاره راضية محتسبة‪.‬‬

‫اصب ِْر ِل ُح ْك ِم َر ِّب َك َف ِإ َّن َك ِب َأ ْع ُي ِن َنا‪ ‬ترس���م‬ ‫‪‬و ْ‬ ‫وقول���ه تعالى‪َ :‬‬

‫لنا "طريق االقتحام" بمش���اعل فوقية حانية تنير العتمة وتكشط‬

‫غشوة العماية‪.‬‬

‫ال ِة‪ ‬تضعنا أمام‬ ‫ِالص ْب ِ‬ ‫الص َ‬ ‫���ر َو َّ‬ ‫اس َ���ت ِع ُينوا ب َّ‬ ‫وقوله تعالى‪َ :‬‬ ‫‪‬و ْ‬

‫عنوان "اس���تمرارية االقتحام" بإمدادنا بالوقود الالهب المحفز‬ ‫لرفض النكوص في معترك الحياة‪.‬‬

‫إنها دراما الحياة‪ ،‬ولن تفك ألغازها المبهمة وكل مغاليقها‬

‫الموصودة‪ ،‬إال بتعاليم اإليمان الصابر المستبصر المكين‪.‬‬ ‫(*) شاعر وأديب مغربي‪.‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )39‬‬

‫‪54‬‬

‫االنبالج الجديد‬ ‫العينين‪،‬‬ ‫باكي َ‬ ‫يا َ‬ ‫يا رفيق البرد والصقيع‬ ‫وحلْك ِة الليل البهيم‪...‬‬ ‫كنت تنعم‪،‬‬ ‫في فراشك األملس َ‬ ‫كنت تأنس‪،‬‬ ‫وبلذيذ النوم َ‬ ‫وإذا بعالَـ ٍم مبحوح الصوت من حولك يرتفع‪،‬‬ ‫وظالم من فوقك ّ‬ ‫يغطي األفق‪،‬‬ ‫الديَ َكة َّ‬ ‫حتَّى ِّ‬ ‫كف ْت عن الصياح‪،‬‬ ‫الس َحر‪ ،‬وتلجلج الفجر وانكفأ‪،‬‬ ‫وغاب َ‬ ‫وعلى نفسه انطوى‪،‬‬ ‫ينتظر االنبالج والشروق من جديد‪...‬‬ ‫***‬


‫أدب‬ ‫جمال أمين*‬

‫دراما الحياة‬ ‫أرأي���ت الش���مس يهصرها الذبول ث���م يحرقها‬ ‫األفول‪ ،‬ثم تذرو رمادها الظالمي على الكون‬

‫اإلنس���اني؟ إنه���ا تنبع���ث بعناصره���ا انبعاثته���ا‬

‫الكب���رى‪ ،‬وتحترق عزائمها الجبارة ف���ي فجر يوم وليد جديد‪.‬‬ ‫أرض���ا ج���رداء صلع���اء‪ ،‬تربته���ا قس���مات وج���ه بئيس‪،‬‬ ‫أرأي���ت ً‬ ‫جداوله���ا الجافة ش���فاه متش���ققة ظم���اء‪ ،‬تحنو عليها الس���ماء‪،‬‬

‫فتتفجر من تربتها الحياة المزركشة؟‬

‫تل���ك صور الحي���اة في الكون أخا اإلس�ل�ام‪ ،‬وفي المقابل‬

‫تنح���و منحاه���ا صور الحياة في حياتنا البش���رية‪ ،‬عقبات ش���تى‬ ‫من���ا ف���ي حياته األرضي���ة‪ ،‬مرة تش���تد إلى‬ ‫تعت���رض طري���ق كل ّ‬ ‫من���ا الدم���وع وتتفطر لها القلوب‪ ،‬وم���رة تهون على‬ ‫أن تس���تدر ّ‬

‫الكواهل وكأنها النسيم الرخاء‪.‬‬

‫كما أن استقبالها يختلف بين تشتيت البشر‪ ،‬فالمنفصل عن‬

‫غما وس���وداوية وحز ًنا‪ ،‬وكلم���ا انقذفت عليه كبكب‬ ‫اهلل تزيده ًّ‬ ‫مقام���ا‪ ،‬أما المؤمن‬ ‫به���ا في حفرة فلس���فية أش���د‬ ‫ظالما وأتعس ً‬ ‫ً‬

‫وصبرا وإيما ًنا يس���تروح منها روح‬ ‫ش���كرا‬ ‫المتصل باهلل فتزيده‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫﴿و َع َسى َأ ْن َت ْك َر ُهوا َش ْي ًئا َو ُه َو َخ ْي ٌر‬ ‫اهلل وقدره ورحمته الحانية َ‬ ‫َل ُك ْم﴾(البقرة‪.)216:‬‬

‫‪53‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )39‬‬


‫م���ن المكتش���فين والمخترعين إذا ما اس���تعرضنا حياتهم عرفنا‬

‫فالروحاني���ون ‪-‬أي أصح���اب األرواح الكبي���رة‪ -‬ه���م‬ ‫ّ‬ ‫حركي���ون بطبيعته���م‪ ،‬ال يطيق���ون المك���وث والس���كون‪ ،‬وهم‬ ‫ّ‬

‫صاح���ب روح مغام���ر وقف‬ ‫فات���ح القس���طنطينية‪،‬‬ ‫العق���ل إزاء‬ ‫ُ‬ ‫َ‬

‫الكشوفات‪ ...‬وربما كان مصطلح "الكشف" الذي يتردد أحيا ًنا‬

‫أن "الروح المغامر"‪ ،‬هو كان دافعهم‬ ‫ومحركهم إلى اكتش���اف‬ ‫ّ‬ ‫ألم يكن "محمد الفاتح"‬ ‫ما اكتشفوا أو اختراع ما اخترعوا‪ .‬ثم ْ‬ ‫منكفئ���ا‬ ‫حائرا‬ ‫مغامرات���ه‬ ‫عاجزا بعقالنيته ومنطقيته عن تفس���ير‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫غي���ر تاريخ العال���م فأصبح فتح‬ ‫ه���ذا الحدث العظي���م‪ ،‬الذي ّ‬ ‫"القسطنطينية" نهاية تاريخ وبداية تاريخ جديد؟‬

‫مغامرون تجذبهم األبعاد‪ ،‬وتأخذهم المجاهيل‪ ،‬وتس���تهويهم‬

‫رواد الروح الكبار مأخوذ من هذا النازع الكش���في‬ ‫على ألس���نة ّ‬

‫الذي ينزع بهم نحو الغوص في أعماق الروح‪ ،‬والذهاب إلى‬ ‫أقاصيها‪ ،‬واكتش���اف أصقاعها‪ ،‬وأماكن بعيدة فيها غير مكتشفة‬

‫وقب���ل ذلك ألم يك���ن أولئك الرجال من الرعيل األول من‬

‫وال معروفة من قبل‪ ...‬فكما للزمان أبعاد وأقاص وامتدادات‪،‬‬

‫نهبا إلى مشارق األرض‬ ‫أفراسهم التي كانت تنهب بهم األرض ً‬

‫واألش���بار‪ ،‬ولكنه���ا تقاس بعمق الحياة وكن���ه الوجود‪ .‬فالروح‬

‫المس���لمين‪ ،‬مغامرين يحملون معهم "اإلسالم" على صهوات‬ ‫ومغاربه���ا‪ ،‬وإل���ى مجاهيل من األرض لم تطأه���ا أقدامهم من‬

‫قبل‪ ،‬وإلى بلدان وأقوام وشعوب ولغات‪ ،‬فال يبالون من أجل‬ ‫ما يحملون من أمانة التبليغ أن يقعوا على الموت أو أن يقع‬

‫الموت عليهم؟‬

‫بعيدا ولنا هنا وبي���ن ظهرانينا بعض نماذج‬ ‫ولم���اذا نذه���ب ً‬ ‫ِم���ن ِف ْع���ل أولئ���ك الرعيل األول من المس���لمين؛ فبيننا ش���باب‬ ‫الت���واق المندفع إلى ترك‬ ‫مغام���رون يدفعه���م روحهم المغامر ّ‬

‫الحي���اة المر َّفه���ة في صالون���ات بيوتهم ذات الري���اش الفاخر‪،‬‬ ‫والزراب���ي المبثوث���ة‪ ،‬واألرائ���ك الوثيرة‪ ،‬والدفء الذي يش���يع‬ ‫االس���ترخاء في األبدان‪ ...‬يترك أحدهم ُك َّل هذا ثم يغادر بيته‬ ‫غير آسف وال حزين‪ ،‬ثم يضرب في األرض بدافع من شعور‬

‫مؤرق بمس���ؤوليته اإلنس���انية والروحية نحو روح العالم الذي‬ ‫تحي���ق ب���ه األخطار م���ن كل جانب‪ ،‬وتهدد جذوت���ه باالنطفاء‪،‬‬ ‫ه���ذه الج���ذوة الت���ي تس���تنير به���ا البش���رية وتعود إليه���ا في كل‬

‫م���رة من ف���وق ظلم���ات األرض إذا ما زادت كثافتها‬ ‫وس���دت‬ ‫َّ‬

‫فكذل���ك لل���روح أبعاد وأق���اص وامتدادات ال تق���اس باألمتار‬ ‫سيان‪ ،‬فكما أن الزمان حركة ال استقرار فيها‪ ،‬وامتداد‬ ‫والزمان َّ‬

‫ال توق���ف في���ه‪ ،‬فال���روح كذلك في صع���ود دائم‪ ،‬وف���ي امتداد‬

‫وإن كنا على ش���يء من‬ ‫ح���د من الحدود‪ْ ،‬‬ ‫دائ���م‪ ،‬ال يق���ف عند ٍّ‬ ‫ال‬ ‫المعرف���ة بحقائ���ق المكان غير أننا ال زلنا أكث���ر ما نكون جه ً‬

‫ببواط���ن ال���روح‪ ،‬وبما يضاهيها من بواط���ن الزمان‪ .‬فأوجع ما‬ ‫أن يتحول مع األيام إلى ش���خصية خامدة‬ ‫يوج���ع الروحان���ي ْ‬ ‫متعادلة متخلية عن جنوحها االستكشافي وتطلعاتها االنفالتية‬ ‫من حبوس األمكنة‪ ،‬فينتابه من جراء ذلك قلق روحي مرضي‬ ‫َّ‬ ‫مفزع قد يتس���رب إلى جس���ده فيوقعه صري���ع المرض‪ ،‬لذلك‬

‫فه���و دائم التعرض لذل���ك ا ْل َم ّد من الطوف���ان المنبثق من بحر‬ ‫الروح‪ ،‬والذي يدفعه إلى اإلبحار من النقطة التي توقف عندها‬ ‫بعدا مهما كانت‬ ‫إلى ش���واطئ أبعد وأعمق‪ ،‬وإلى موان���ئ أكثر ً‬ ‫متناهية في خطورتها‪ ،‬فهذا هو قدره الذي يمسك بتالبيبه وال‬

‫ال‪.‬‬ ‫أمرا كان مفعو ً‬ ‫يفلته إلى ْ‬ ‫أن يقضي اهلل ً‬

‫مناف���ذ األنف���س واآلفاق‪ ...‬فيذهب ه���ذا المغام���ر‬ ‫متحديا من‬ ‫ً‬ ‫أجل الرس���الة الت���ي يحملها لأَ ْ واء الغربة واالغتراب‪ ،‬ومش���اق‬

‫نعظ���م كذل���ك من ش���أن الحي���اة ه���ذا اإلعظ���ام‪ ،‬وكل محاولة‬

‫يتغل���ب عل���ى كل ه���ذا بإرادته القوي���ة‪ ،‬وصبره ال���ذي ال ينفد‪،‬‬

‫ت���ام بم���وت الحياة وبموت الروح‪ ،‬س���واء ذلك ف���ي األفراد أو‬

‫لما من معال���م حياتهم‪ ،‬فيأخ���ذ بيدهم ليزرعوا‬ ‫ي���كاد يغ���دو ْ‬ ‫مع ً‬

‫وتوه ًجا وغبطة‪ ،‬حتى لتغتبط الحياة بالحياة‪،‬‬ ‫وعطاءا‬ ‫انفس���احا‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫كنا قد أعظمنا من ش���أن الروح ه���ذا اإلعظام فألننا‬ ‫ولئ���ن ّ‬

‫األس���فار‪ ،‬وقساوة األجواء‪ ،‬والصقيع والجماد‪ ...‬وسرعان ما‬

‫للفص���ل بين الش���ؤون الروحية والش���ؤون الحياتي���ة فهو إيذان‬

‫وده���م واحترامهم حتى‬ ‫ويش���ق طريقه بي���ن الناس‪ ،‬ويكس���ب َّ‬

‫الش���عوب واألمم‪ ...‬فكلما زادت الروح عنفوا ًنا زادت الحياة‬

‫معا بنبع‬ ‫ً‬ ‫معا ش���جرة ال���روح الكبرى فوق أرضهم‪ ،‬ويس���قوها ً‬

‫واإلنسان بأخيه اإلنسان‪.‬‬

‫روح األنبي���اء والرس���ل‪ ،‬وبالينب���وع األعظم واألثرى لس���يدهم‬ ‫وخاتمهم محمد عليه أفضل الصالة والتسليم‪.‬‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )39‬‬

‫‪52‬‬

‫(*) كاتب وأديب عراقي‪.‬‬


‫أدب‬

‫أديب إبراهيم الدباغ*‬

‫الروح المغامر‬ ‫حادة‬ ‫يعود الفضل في إنجاز األعمال الكبرى التي‬ ‫ْ‬ ‫شكلت منعطفات ّ‬

‫في مسيرة الحضارة اإلنسانية‪ ،‬إلى المغامرين من ذوي األرواح االندفاعية‬

‫العظيم���ة‪ ،‬الذين يرون ف���ي المغامرة انفال ًتا من حب���وس الجمود على العاديات‬

‫والمكرورات في حياتهم المعيشية اليومية‪ .‬فالرغبة من االنفالت من القيود هي من‬

‫دوما‬ ‫طبيع���ة ال���روح‪ ،‬فهي تتضايق و َت َملُّ من المكوث الطويل في حال واحدة‪ ،‬فتس���عى ً‬ ‫للمض���ي نحو األبع���د‪ ،‬واالرتقاء نحو األعلى واإليغال في المبه���م والغامض والمجهول‪،‬‬

‫فيقدم‬ ‫بتوجس���اته وحس���اباته‬ ‫بينم���ا يظلُّ "العق���ل" دون تطلعات "الروح"‬ ‫وتردداته‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫محكوما ّ‬ ‫ً‬ ‫يتثبت ألنه يخاف الخطأ أو الوقوع في الفش���ل‪،‬‬ ‫رِ ْج ً‬ ‫�ل�ا ويؤخ���ر أخرى‪ ،‬فهو ال يقدم قبل ْ‬ ‫أن َّ‬ ‫يتردد‪.‬‬ ‫دوما وقد يخطئ لكنه ال ّ‬ ‫وعلى العكس من ذلك‪ ،‬فإن "الروح" يقدم ً‬

‫فأكث���ر المكتش���فات والمخترع���ات التي كان له���ا الفضل في بناء لبن���ات الحضارة‬

‫���ن حاول الطي���ران وهو‬ ‫رواده���ا أصح���اب أرواح مغام���رة‪ .‬ف���أول َم ْ‬ ‫األول���ى‪ ،‬كان ّ‬ ‫القارات‬ ‫"عباس بن فرناس" كان‬ ‫مغامرا‪ ،‬و"كولمبس" رائد البحار ومكتشف ّ‬ ‫ً‬ ‫كان م���ن المغامري���ن الكب���ار‪ ،‬و"نيوتن" صاح���ب الجاذبي���ة الكونية‪،‬‬ ‫و"أديوس���ن" صاحب أول مصب���اح كهربائي‪ ،‬وغير هؤالء‬

‫‪51‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )39‬‬


‫الصالة والس�ل�ام‪ .‬وه���ذا الخبر غني عن‬

‫كل تعليق‪.‬‬

‫إن قيمنا الثقافية واإلعالمية السائدة‪،‬‬

‫وتربيتنا في بيوتنا ومدارس���نا‪ ،‬وعالقات‬ ‫الش���يوخ بطلبتهم واألساتذة بتالميذهم‪،‬‬

‫تت���وارد في الغالب عل���ى ثقافة الصمت‪،‬‬ ‫وتعم���ل بخالف المبدأ العمري الحكيم‬ ‫نفس���ك"؛‬ ‫"ق���ل يا ابن أخ���ي وال َت‬ ‫ّ‬ ‫حقرن َ‬

‫فالكبير ُيسكت الصغير‪ ،‬والزوج ُيسكت‬ ‫الزوج���ة‪ ،‬والصب���ي ُيس���كت البن���ت‪،‬‬ ‫والمعل���م ُيس���كت التلمي���ذ‪ ،‬والمدي���ر‬ ‫ُيس���كت الم���درس‬ ‫ج���را‪ ...‬وم���ا‬ ‫وهل���م ًّ‬ ‫ّ‬

‫والكبار كذلك يصنعون‪ .‬وهكذا يضيع‬

‫�إن �س��عادة الإن�س��ان وم�ستقبله‬ ‫ل��ن يتوق��ف عل��ى مزي��د م��ن‬ ‫الك�ش��وفات املخربي��ة والتقنية‬ ‫وتكنولوجيا املعلومات‪ ،‬ولكنه‬ ‫�س��يكون منوطً��ا مب��دى �إمي��ان‬ ‫امل��رء مبب��ادئ �ص��حيحة وقي��م‬ ‫علي��ا‪ ،‬وت�أث�ير ه��ذا الإمي��ان يف‬ ‫تر�شيد �س��لوكه وتعديل مواقفه‬ ‫واجتاهاته يف احلياة‪.‬‬

‫زالت قيمن���ا تغري بتأجيل المش���كالت‬

‫الح���ق ف���ي متاه���ة األه���واء والدع���اوى‬ ‫والتزيي���ف‪ ،‬وتتصاع���د االنتص���ارات‬

‫المجازي���ة والصوري���ة العريض���ة التي ال‬ ‫حظ لها من الواقع‪.‬‬

‫إن ح ًّق���ا عل���ى المؤسس���ات التربوية‬

‫أس���لوبا‬ ‫والتثقيفي���ة أن تنه���ج‬ ‫جدي���دا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫قائما‬ ‫في التربي���ة والتثقي���ف والتواصل‪ً ،‬‬ ‫عل���ى الح���وار والمصارح���ة والمناق���دة‬ ‫والمناقشة‪.‬‬

‫وإن م���ن ُيم���ن طا ِل���ع المربي���ن‬ ‫والمثقفي���ن أن يكون بي���ن ظهرانيهم من‬ ‫يعت���رض عليه���م ويناقش���هم ويس���ألهم‬

‫ب���دل مواجهته���ا‪ ،‬واألخ���ذ بالحل���ول التلفيقي���ة‪ ،‬واالش���تغال‬

‫ويصحح لهم ويس���تدرك عليهم‪ ،‬فذلكم هو الس���بيل الحقيقي‬

‫نظ���ن أن غي���اب رأي مع���ارض أو ناقد أو مس���تدرك هو عالمة‬

‫لمختلف مرافقه وطبقاته ومؤسساته‪.‬‬

‫يفتك به المرض ويتغلغل في أطرافه دون أن يصدر عنه إنذار‬

‫ما يكتنف مسيرتها من أخطاء‪-‬‬ ‫اعتماد أسلوب النقد والتقويم‬ ‫َ‬

‫إخفاء الحقائق‪ ،‬والخوف من الوضوح‪ ،‬والهروب من مواجهة‬

‫في المجتمع آليات ش���تى لمراقبة غيره ومحاسبته‪،‬‬ ‫خصوصا‬ ‫ً‬

‫باألع���راض والنتائ���ج بدل األس���باب والمقدم���ات‪ ...‬وما زلنا‬

‫لالرتقاء بالس���قف المعرفي للمجتم���ع‪ ،‬والوعي الثقافي العام‬

‫صحة وعافية وكمال‪ ،‬مع أن تلك الحالة أشبه بالجسم الذي‬

‫وإن مما أطال في عمر المدنية الغربية الغالبة اليوم ‪-‬على‬

‫من���ا أمة نموذجية في‬ ‫م���ن أل���م أو حمى‪ .‬وهذه العقلية‬ ‫جعلت ّ‬ ‫ْ‬

‫والمراجعة‪ ،‬وإعمال مبدأ الرقابة المتبادلة الذي يتيح لكل فرد‬

‫المش���كالت‪ ،‬والتنص���ل م���ن المس���ؤولية‪ ،‬والب���روز بالمظه���ر‬

‫اللبق‪ ...‬فصار للمرء وجهان‪ ،‬الظاهر منهما خير من المستور‪،‬‬

‫إذا تعلق األمر بالشأن العام والمصالح الضرورية لألمة‪.‬‬

‫وبالمقاب���ل‪ ،‬ف���إن أخط���ر العل���ل الت���ي أنهك���ت الحض���ارة‬

‫م���ع أن األص���ل أن يكون باط���ن المرء خير م���ن ظاهره‪ .‬وفي‬ ‫ِ‬ ‫ش���ر الن���اس يوم القيامة عند اهلل‬ ‫الحدي���ث الصحيح‪" :‬تجد م ْن ّ‬ ‫الوجه ْي���ن الذي يأتي هؤالء بوج���ه‪ ،‬وهؤالء بوجه"‪ ،‬وروي‬ ‫ذا‬ ‫َ‬ ‫أمينا"‪ ،‬وفي س���نن‬ ‫بلف���ظ‪" :‬ال ينبغ���ي لذي الوجهي���ن أن يكون ً‬

‫الكفاية‪ ،‬واس���تبداد الفرد بالشأن العام واالستئثار به‪ ،‬وإعجاب‬

‫كثي���را من الناس ال يملك الش���جاعة‬ ‫لس���انان م���ن نار"‪ .‬وتجد‬ ‫ً‬

‫والخ���وف م���ن المصارحة ال���ذي حل محل منه���ج "قل يا ابن‬

‫ذك���رت لكم في‬ ‫كثي���را م���ن المدرس���ين ال يجرؤ عل���ى القول‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫ً‬

‫لقيم الحق ومبادئه‪ ،‬وحس���بة األمر بالقسط‪ ،‬والرقابة المتبادلة‪،‬‬

‫أب���ي داود‪" :‬م���ن كان له وجه���ان في الدنيا كان ل���ه يوم القيامة‬

‫لالعت���راف بخط ٍإ ارتكبه مع صديق���ه أو زوجته أو ابنه‪ ،‬وتجد‬ ‫الدرس الماضي كذا وكذا وهو خطأ والصواب كذا وكذا‪.‬‬

‫وحين ترى الناشئة أن كل ما حولها تام وكامل ومعصوم‪،‬‬

‫فكيف تصير هي ناقصة؟! إن هذه الثقافة الدعائية‪ ،‬مدعاة لهم‬

‫للدفاع عن النفس والمجادلة عنها بحق وبغير حق‪ ،‬ألن السراة‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )39‬‬

‫‪50‬‬

‫اإلسالمية وأضعفتها‪ ،‬وطوحت بها من أعلى إلى تحت‪ ،‬ومن‬ ‫الري���ادة إلى التبعية‪ ،‬وم���ن الفعالية إلى الركود‪ ...‬ش���يوع ثقافة‬

‫الصمت‪ ،‬والتسليم المطلق‪ ،‬واالنسحاب الجماعي من فروض‬ ‫كل ذي رأي برأي���ه‪ ،‬وقم���ع أص���وات النق���د واالس���تدراك‪،‬‬ ‫أخي وال تحقرن نفسك"‪ ،‬وضمور روح المؤسسات المنتظمة‬

‫وإدارة االختالف وتدبيره بما يحقق المصالح المنشودة لألمة‬

‫بصورة سلمية وهادئة‪.‬‬

‫(*) عضو المجلس األكاديمي للرابطة المحمدية للعلماء ‪ /‬المغرب‪.‬‬


‫إن س���عادة اإلنس���ان ومس���تقبله ل���ن‬

‫يتوق���ف عل���ى مزي���د م���ن الكش���وفات‬

‫المخبري���ة‬

‫والتقني���ة‬

‫وتكنولوجي���ا‬

‫منوطا بمدى‬ ‫المعلومات‪ ،‬ولكنه سيكون‬ ‫ً‬ ‫إيمان المرء بمبادئ صحيحة وقيم عليا‪،‬‬ ‫وتأثي���ر هذا اإليمان في ترش���يد س���لوكه‬

‫وتعديل مواقفه واتجاهاته في الحياة‪.‬‬

‫ي���ع المجتم���ع أهمية هذه‬ ‫وم���ا ل���م ِ‬

‫ووضوحا‬ ‫القيم العليا وجعلها أكثر نقاء‬ ‫ً‬

‫وفعالية‪ ،‬فل���ن يتمكن من إقناع األجيال‬ ‫الصاع���دة به���ا‪ ،‬والثقة فيه���ا‪ ،‬واعتبارها‬

‫ج���زءا م���ن هويته���ا وتراثه���ا‪ .‬والطري���ق‬ ‫ً‬

‫إن التربي���ة عل���ى قيم الح���ق معناها‪،‬‬

‫�إن قيمن��ا الثقافي��ة والإعالمي��ة‬ ‫ال�س��ائدة‪ ،‬وتربيتن��ا يف بيوتن��ا‬ ‫ومدار�سنا‪ ،‬وعالقات ال�شيوخ‬ ‫بطلبتهم والأ�ساتذة بتالميذهم‪،‬‬ ‫تت��وارد يف الغالب عل��ى ثقافة‬ ‫ال�صمت‪ ،‬وتعمل بخالف املبد�أ‬ ‫العمري احلكيم "قل يا ابن �أخي‬ ‫نف�سك"‬ ‫وال تحَ قر ّن َ‬

‫األقوم إلى ذلك باختصار‪ ،‬هو المجاهدة‬

‫أن نربي أنفس���نا وناشئتنا واألجيال على‬ ‫قب���ول الح���ق وتعظيم���ه واالنفع���ال ب���ه‪،‬‬

‫ذلك���م هو الخط���وة األولى عل���ى طريق‬ ‫صياغ���ة مف���ردات الحي���اة ومواضعاته���ا‬ ‫وجوانبه���ا على أساس���ه وترس���يخ قيمه‪.‬‬

‫وإن اإلذعان للحق والفرح به‪ ،‬شأن من‬ ‫ش���ؤون النف���وس الكبي���رة الت���ي تربأ عن‬

‫األهواء واألنانيات والحسابات الضيقة‪،‬‬

‫وش���أن الحكم���اء وأول���ي النه���ى الذي���ن‬ ‫ق���ال اهلل في أمثاله���م‪َ  :‬ذ ِل َك بِ��� َأ َّن ِم ْن ُه ْم‬ ‫ون ‪‬‬ ‫ِق ِس ِ‬ ‫ين َو ُر ْه َبا ًنا َو َأ َّن ُه ْم َ‬ ‫ال َي ْس َت ْكب ُِر َ‬ ‫يس َ‬ ‫ّ‬ ‫َو ِإ َذا َس ِ‬ ‫���م ُعوا َم���ا ُأ ْن ِز َل ِإ َلى الر ُس ِ‬ ‫���ول َت َرى‬ ‫َّ‬ ‫آم َّنا‬ ‫الد ْم ِع ِم َّما َع َر ُفوا ِم َن ا ْل َح ِّق َي ُقو ُل َ‬ ‫َأ ْع ُي َن ُه ْم َت ِف ُ‬ ‫يض ِم َن َّ‬ ‫ون َر َّب َنا َ‬ ‫الش ِ‬ ‫ين‪(‬المائدة‪.)83-82:‬‬ ‫َف ْاك ُت ْب َنا َم َع َّ‬ ‫اه ِد َ‬ ‫والتربية على تحمل المس���ؤولية عن التصرفات التي يقوم‬

‫اه ُدوا‬ ‫ي���ن َج َ‬ ‫‪‬وا َّل ِذ َ‬ ‫والتضحي���ة م���ن جهة كما ق���ال اهلل تعال���ى‪َ :‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ين‪(‬العنكبوت‪،)69:‬‬ ‫���ب َل َنا َوإ َِّن ا َ‬ ‫هلل َل َم َع ا ْل ُم ْح ِس��� ِن َ‬ ‫ف َين���ا َل َن ْهد َي َّن ُه ْ‬ ‫���م ُس ُ‬ ‫واالحت���راز م���ن أش���كال التناقض بين الق���ول والفعل من جهة‬ ‫آم ُنوا ِل َم‬ ‫﴿ي���ا َأ ُّي َها ا َّل ِذ َ‬ ‫ي���ن َ‬ ‫أخ���رى‪ ،‬عل���ى نحو قوله جل ش���أنه‪َ :‬‬ ‫َ ‪‬‬ ‫���د ا ِ‬ ‫ال‬ ‫ال َت ْف َع ُل‬ ‫هلل َأ ْن َت ُقو ُلوا َما َ‬ ‫���ون َم���ا َ‬ ‫َت ُقو ُل َ‬ ‫���ر َم ْق ًت���ا ِع ْن َ‬ ‫���ون َك ُب َ‬ ‫(الص���ف‪ .)3-2:‬س���تظل أرواحنا فارغ���ة‪ ،‬وذواتنا ممزقة‪،‬‬ ‫َت ْف َع ُل َ‬ ‫ون﴾ ّ‬

‫م���ن خي���ر‪ ،‬وحي���ن ينبه بلطف عل���ى ما بدر منه م���ن خطأ‪ .‬كما‬

‫اإليم���ان‪ ،‬وما ل���م يتحول إيماننا إلى طاقة قادرة على تخليصنا‬

‫ن���وه س���بحانه ‪-‬في هذا‬ ‫المس���ؤولية عنه���ا بطي���ب نف���س‪ .‬وقد ّ‬

‫نوحده���ا ع���ن طري���ق‬ ‫وأعمالن���ا متناقض���ة ومتضارب���ة‪ ،‬م���ا ل���م ّ‬ ‫من أهواء أنفسنا وسيئات أعمالنا‪.‬‬

‫وم���ن المقاص���د الكبرى لإلنس���ان المس���لم‪ ،‬معانقة الحق‬

‫ونصرته والدفاع عنه‪ .‬فبالحق نزلت الرساالت‪ ،‬وبالحق قامت‬

‫الس���ماوات واألرض‪ ،‬وباتباع نقيضه "الهوى" فس���د اإلنس���ان‬ ‫‪‬و َل ِو َّاتب َع ا ْل َح ُّق َأ ْهو َاء ُهم َل َفس َ ِ‬ ‫ات‬ ‫الس َم َو ُ‬ ‫وفس���د العالم‪َ :‬‬ ‫َ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫���دت َّ‬ ‫َوا َ‬ ‫ض َو َم ْن ِفيهِ َّن‪(‬المؤمنون‪ ،)71:‬وإن هذا الحق ثقيل مريء‪،‬‬ ‫أل ْر ُ‬ ‫وإن الباط���ل خفي���ف وب���يء‪ .‬ولذلك أخبر الب���اري جل وعال‪،‬‬

‫بها الطفل‪ ،‬نوع من االستمساك بالحق وتعزيزه وإقامته‪ .‬وهذا‬

‫الخ ُل���ق ينم���و ل���دى الطف���ل حين يس���مع الثناء على م���ا قام به‬ ‫ُ‬

‫الكبار يعترفون بأخطائهم ويتحملون‬ ‫الطف���ل‬ ‫يتع���زز حين يرى‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫السياق‪ -‬بشجاعة امرأة العزيز حين اعترفت بمراودتها يوسف‬

‫ص ا ْل َح ُّق َأ َنا َر َاو ْد ُت ُه َع ْن‬ ‫‪ ‬عن نفسه إذ قالت‪:‬‬ ‫َ‬ ‫‪‬اآلن َح ْص َح َ‬ ‫���ك ِل َي ْع َل َم َأ ِّني َل ْم َأ ُخ ْن ُه بِا ْل َغ ْي ِب‬ ‫ين ‪َ ‬ذ ِل َ‬ ‫الصا ِد ِق َ‬ ‫َن ْف ِس��� ِه َو ِإ َّن ُه َل ِم َن َّ‬ ‫ين‪(‬يوسف‪.)52-51:‬‬ ‫هلل َ‬ ‫َو َأ َّن ا َ‬ ‫ال َي ْه ِدي َك ْي َد ا ْل َخا ِئ ِن َ‬

‫إن تحم���ل المس���ؤولية ع���ن الخطأ‪ ،‬س���لوك ترب���وي رفيع‬

‫منبث���ق ع���ن عقيدة عالي���ة في الت���زام الحق والتمس���ك به‪ .‬وقد‬ ‫يند ُر‬ ‫لغا‬ ‫بلغ هذا السلوك عند صحابة رسول اهلل ‪َ ‬م ْب ً‬ ‫عظيما ُ‬ ‫ً‬ ‫وج���وده في اجتماع البش���ر‪ ...‬فقد ج���اءت الغامدية وقالت‪ :‬يا‬

‫‪‬و َأ ْك َث ُر ُه ْم‬ ‫أن أكث���ر الناس ال يحبون الحق ويس���تثقلونه فقال‪َ :‬‬ ‫ون‪(‬المؤمنون‪.)70:‬‬ ‫ِل ْل َح ِّق َكارِ ُه َ‬ ‫ماض إل���ى يوم‬ ‫والدف���ع والتداف���ع بي���ن الح���ق والباط���ل ٍ‬

‫أن يرجمها‪ ،‬وقالت يا رسول اهلل إني ُحبلى‪ ،‬فأمرها أن تذهب‬

‫دار‪ ،‬ألن البدي���ل ع���ن نص���رة الح���ق والتمكي���ن له‪ ،‬ه���و نصرة‬

‫يا رسول اهلل‪ ،‬قال "اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه"‪ ،‬فلما فطمته‬

‫القيام���ة‪ ،‬ومن دأب المس���لم وديدن���ه أن يدور مع الحق حيث‬ ‫الباطل والترويج له‪.‬‬

‫وطلبت منه‬ ‫فردها‪ ،‬ثم جاءته‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫فطهرني‪ّ ،‬‬ ‫رس���ول اهلل إني ز َن ْي ُت ّ‬

‫وقالت ها قد ولدته‬ ‫حت���ى تل���د‪ ،‬ثم جاءت بعد والدتها بطفلها‬ ‫ْ‬ ‫فطلبت أن يرجمها ففعل عليه‬ ‫أتته بالصبي في يده كسرة خبز‪،‬‬ ‫ْ‬

‫‪49‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )39‬‬


‫تربية‬

‫د‪ .‬عبد الحميد عشاق*‬

‫التربية على‬

‫قيم النقد والتقويم‬ ‫يتحرك المس���لم في بيداء الحي���اة ودروبها على هدى‬ ‫وبصي���رة‪ ،‬وال ه���دى وال بصي���رة دون تحديد الوجهة‬

‫وتبي���ن الهدف الم���راد‪ .‬وإن المقصد األس���نى والغاية‬

‫العالية لإلنس���ان المس���لم هي الفوز برضا اهلل تعالى‪ .‬ولذلك فإن كل‬

‫تابعا لألول‬ ‫األهداف والغايات والبرامج والوسائل‪ ،‬ينبغي أن يكون ً‬ ‫وخادم���ا ل���ه‬ ‫ومؤديا إليه‪ ...‬وإن أس���اس كل خير وثقافة وس���لوك هو‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫اإليمان بالحق والتمسك به والثبات عليه‪.‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )39‬‬

‫‪48‬‬


‫شعر‬

‫د‪ .‬ناصر الزهراني*‬

‫أعذب األلفاظ‬ ‫"الل�������ه" يا أعذب األلف�������اظ في لغتي‬ ‫سعدت‬ ‫"الله" يا أمتع األس�������ماء كم‬ ‫ْ‬ ‫"الل�������ه" أُ ِ‬ ‫نس�������ي وبس�������تاني وقافيت�������ي‬ ‫تهي�������م نفس�������ي إذا أبصرته�������ا وإذا‬ ‫�������س فيه�������ا إجابات�������ي وأس�������ئلتي‬ ‫أُح ُّ‬ ‫هي اله�������وى والمنى واألنس ليس لها‬ ‫"الل�������ه" حبي وإس�������عادي وم�������ا فتئت‬ ‫رحبت‬ ‫"الله" إن ضاق�������ت الدنيا بما ُ‬ ‫"الل�������ه" يا عطر هذا الك�������ون يا مددا‬ ‫أرواح لهيبته�������ا‬ ‫"الل�������ه" تهت�������ز‬ ‫ٌ‬ ‫"الل�������ه" "الل�������ه" ك�������م "لله" م�������ن أثر‬ ‫"الله" أجمل ما في الكون أحسن ما‬ ‫"الل�������ه" يا أحرف اإلج���ل���ال ليس لها‬ ‫�������مى به الباري ف�������كان كما‬ ‫اس�������م تس ّ‬

‫�������ل ح�������روف ف�������ي معانيه�������ا‬ ‫وي�������ا أج ّ‬ ‫نفس�������ي وفاض س�������روري حين أرويها‬ ‫"الل�������ه" ي�������ا زين�������ة الدني�������ا وم�������ا فيها‬ ‫س�������معتها وإذا م�������ا كن�������ت أُمليه�������ا‬ ‫وم�������ن معاني الرض�������ا والحب صافيها‬ ‫في الك�������ون ن ٌّ‬ ‫�������د وب�������األرواح نفديها‬ ‫روحي مدى العمر في ش�������وق تغنيها‬ ‫عليك فالج�������أ لها واس�������كن مراميها‬ ‫يفي�������ض لط ًف�������ا وإحس�������انًا وتنزيه�������ا‬ ‫�������اب لحاديه�������ا‬ ‫"الل�������ه" تش�������تاق ألب ٌ‬ ‫ف�������ي مهجت�������ي أي أوزان س�������تبديها‬ ‫�������را ويس�������قيها‬ ‫ي�������روي ضمائرن�������ا طه ً‬ ‫من أح�������رف ف�������ي مزاياها تس�������اميها‬ ‫أراد يعب�������ق إج���ل���ا ًال وتأليه�������ا‬ ‫(*) عالم ومفكر سعودي‪ ،‬ومؤسس مشروع السالم عليك أيها النبي‪.‬‬

‫‪47‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )39‬‬


‫خي���ر البرية‬ ‫كلُّ أولئ���ك َأ ْول���ى في أجندتها من االنتس���اب إلى‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫محمد عليه أفضل الصالة وأزكى التسليم؟‬ ‫ورسول البشرية‬ ‫ث���م هو امتحان للمال ولصاحب المال؛ أ ِمن الحرام هو أم‬ ‫م���ن الحالل؟ وهل ُينفق فيما ال يعني‪ ،‬س���ر ًفا وس���فاهة؟ أم أنه‬ ‫ِ‬ ‫األمة‬ ‫عهدا‬ ‫جديدا‪،‬‬ ‫واقعا‬ ‫ً‬ ‫ويؤسس ً‬ ‫ً‬ ‫ينفق ليبني ً‬ ‫جديدا تكون فيه َّ‬ ‫ّ‬ ‫متفوقة في جميع المج���االت‪ ،‬ويكون فيه‬ ‫متمكن���ة‬ ‫ِّ‬ ‫متحض���رة ِّ‬ ‫المال وقود هذه النقلة التاريخية اإليمانية المنشودة؟‬

‫اإلنس���ان‬ ‫واعيا اليوم لألس���ف‪ ،‬إال‬ ‫ُ‬ ‫هو امتحان‪ ،‬ال يخوضه ً‬ ‫يتهور‪ ،‬لكنه على‬ ‫البسيط‪ ،‬وهو يحترق وينطلق‪ ،‬وقد يخطئ أو َّ‬ ‫خالص���ا مره ًفا‪َّ .‬أما‬ ‫وفؤادا‬ ‫بالح���ب‪،‬‬ ‫مفعما‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ِّ‬ ‫قلب���ا َ‬ ‫األق���ل يملك ً‬

‫الكثي���رون ممن يش���ار إليهم بالبنان‪ ،‬فقد بات���وا أرباب مصالح‬

‫قلبا‬ ‫مفعما باإليم���ان باهلل واليوم اآلخر‪،‬‬ ‫نس���أل‪َ ،‬م���ن َّ‬ ‫ً‬ ‫منا يحمل ً‬ ‫وبكت���اب اهلل الحكي���م ورس���وله الكريم‪ ،‬يقف حيات���ه ومهجته‬

‫للدف���اع عن إيمانه ونص���رة دينه بموج���ب "التدافع"‪ ،‬وقد قال‬ ‫ال َد ْف ُع ا ِ‬ ‫ض َل َف َس َد ِت‬ ‫‪‬و َل ْو َ‬ ‫اس َب ْع َض ُه ْم ب َِب ْع ٍ‬ ‫َّ‬ ‫هلل َّ‬ ‫جل من قائل‪َ :‬‬ ‫الن َ‬ ‫ا َ‬ ‫ض‪(‬البقرة‪.)251:‬‬ ‫أل ْر ُ‬ ‫ال‬ ‫تحملنا ألسئلة االختبار العسير‪ ،‬وه َّ‬ ‫فه َّ‬ ‫ال كنا ِّ‬ ‫جادين في ُّ‬

‫وتخطيطا‪...‬‬ ‫ال‬ ‫ً‬ ‫علما وعم ً‬ ‫احترقنا ش���و ًقا ًّ‬ ‫وهمة‪ ،‬وانطلقنا ً‬ ‫وهما َّ‬ ‫ش���فيعا لنا يوم‬ ‫ف���إن فعلن���ا كان اهلل معنا‪ ،‬وكان رس���ولنا وحبيبنا‬ ‫ً‬

‫وخصيما لنا والعياذ باهلل‪.‬‬ ‫خصما‬ ‫اللقاء‪ ،‬وإال كان‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫ويهد قلوبنا ويزلزلنا‬ ‫وال يزال حديث الحوض يقرع آذاننا‬ ‫ُّ‬

‫شديدا‪ ،‬وقد ورد فيه‪:‬‬ ‫ال‬ ‫زلزا ً‬ ‫ً‬

‫يؤمل فيهم الكثير وال يرجى من بابهم‬ ‫وأصحاب حسابات‪ ،‬ال َّ‬

‫عن أبي هريرة ‪ ‬عن النبي ‪ ‬أنه أتى إلى المقبرة فس���لم‬

‫يوم‬ ‫هو اختبار‪ ،‬وهو امتحان إذن‪ ...‬واإلجابة ال تكون في ٍ‬ ‫ودائما ما دام ثمة إنس���ان‪.‬‬ ‫أو يومي���ن‪ ،‬وإنم���ا هي ط���وال الحياة‬ ‫ً‬ ‫ونتيجة االختبار لن تع َّلق إال يوم الحس���اب‪ ،‬فلينظر كلُّ مؤ ِمن‬

‫إخوا َنن���ا"‪ .‬ق���ال‪ :‬فقالوا‪َ :‬أ َولس���نا إخوا َنك يا رس���ول اهلل؟! قال‪:‬‬

‫الخير‪.‬‬

‫ينجي نفس���ه يوم الفرقان‪ ،‬ويوم التغابن‪ ،‬ويوم يلقى ربه‪،‬‬ ‫كيف ِّ‬

‫ال‬ ‫س ب َِما َك َس َ���ب ْت َ‬ ‫���و َم ُت ْج َزى ُكلُّ َن ْف ٍ‬ ‫س���بحانه وه���و القائل‪ :‬ا ْل َي ْ‬ ‫اب‪(‬غافر‪.)17:‬‬ ‫يع ا ْل ِح َس ِ‬ ‫ُظ ْل َم ا ْل َي ْو َم إ َِّن ا َ‬ ‫هلل َس ِر ُ‬

‫دار ق���وم مؤمنين‪،‬‬ ‫عل���ى أه���ل المقب���رة فق���ال‪:‬‬ ‫ٌ‬ ‫"س�ل�ام عليك���م َ‬ ‫قد رأينا‬ ‫دت أ َّنا ْ‬ ‫"و ِد ُ‬ ‫وإن���ا إن ش���اء اهلل بك���م الحقون"‪ ،‬ثم ق���ال‪َ :‬‬ ‫بع���د"‪ ،‬فقالوا‪ :‬كيف‬ ‫"أنت���م أصحابي‪ ،‬وإخوا ُنن���ا الذين لم يأتوا ُ‬ ‫أيت‬ ‫تع���رف م���ن لم يأت ُ‬ ‫بعد من َّأمتك يا رس���ول اهلل؟ قال‪َ " :‬أ َر َ‬ ‫خيل ُد ْه ٍم‬ ‫رج ً‬ ‫�ل�ا كان له ٌ‬ ‫���ر ْي ٍ‬ ‫ل���و أن ُ‬ ‫خيل ُغ ٌّ‬ ‫���ر ُم َح َّجل ٌة بين َظ ْه َ‬

‫رحم اهلل العالمة بديع الزمان سعيد النورسي‪ ،‬ففي حوالي‬

‫يع���رف خي َل ُه؟"‪ ،‬قالوا‪ :‬بلى يا رس���ول اهلل‪ ،‬قال‪" :‬فإنهم‬ ‫���م أال‬ ‫ُ‬ ‫ُب ْه ٍ‬

‫أن أوروبا تحي���ك مؤامرة‬ ‫إذ عل���م م���ن الوال���ي "طاه���ر باش���ا" َّ‬

‫البعير الضالُّ ‪،‬‬ ‫ذاد َّن‬ ‫ٌ‬ ‫رجال عن َح ْوضي كما ُي ُ‬ ‫ثم قال‪" :‬أال ُلي َ‬ ‫ذاد َ‬ ‫ُ ِ‬ ‫���ح ًقا‬ ‫���م ُفيقال‪ :‬إنهم قد َب َّدلوا بعدكَ ‪ ،‬فأقول‪ُ :‬س ْ‬ ‫أناديه���م‪ :‬أال ه ُل َّ‬ ‫ُس ْح ًقا" (رواه مسلم)‪.‬‬ ‫فه���ل يا ت���رى نأتي رس���و َلنا الحبيب ُغ ًّرا ُم َح َّجلي���ن‪ ،‬أم أننا‬ ‫نأتي���ه ‪-‬ونعوذ باهلل من ذلك‪ -‬ثم ن���ذاد مثل "البعير الضال"‪ ،‬ثم‬

‫كلي ف���ي حياته؛‬ ‫س���نة ‪1316‬ه���ـ‪1899/‬م‪ ،‬ح���دث له انق�ل�اب ٌّ‬ ‫أن وزير المس���تعمرات‬ ‫خبيث���ة حول القرآن الكريم‪ ،‬ثم س���مع َّ‬

‫البريطانبي "غالدس���ون"‪ ،‬صرح في مجل���س العموم البريطاني‬ ‫َّ‬ ‫ال‪" :‬ما دام هذا القرآن بيد المسلمين‪،‬‬ ‫وهو يخاطب النواب قائ ً‬ ‫حقيقيا‪ ،‬فلنس���ع إلى نزع���ه منهم"‪ .‬ولقد‬ ‫حكما‬ ‫فل���ن نحكمهم‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫وأقض مضجعه‪ ،‬فأعلن لمن‬ ‫زلزل هذا الخبر كيان النورس���ي‪،‬‬ ‫َّ‬

‫حوله‪:‬‬

‫بأن القرآن شمس معنوية ال يخبو سناها‪،‬‬ ‫"ألبرهنن للعالم َّ‬ ‫َّ‬

‫وال يمكن إطفاء نورها"‪ ،‬ثم حبس عمره ك َّله للخدمة اإليمانية‬

‫والقرآني���ة‪ ،‬والق���ى في ذل���ك ما القى من معان���اة‪ ،‬ولكنه خرج‬ ‫مرضيا بحول اهلل‪.‬‬ ‫راضيا‬ ‫مظفرا‪،‬‬ ‫منتصرا‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫لمقدس���اتنا‬ ‫ال أن تم���ر علينا اإلهانات‬ ‫والي���وم‪ ،‬ليس مقب���و ً‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫وعقائدن���ا وديننا وإس�ل�امنا ثم ال يتغير ش���يء ف���ي حياتنا وفي‬ ‫تصوراتن���ا وف���ي مواقفنا وف���ي أفعالنا وف���ي اختياراتن���ا‪ ...‬ولذا‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )39‬‬

‫‪46‬‬

‫الح ْوض"‪،‬‬ ‫الو ُضوء‪ ،‬أن���ا َف َر ُط ُهم على َ‬ ‫يأت���ون ُغ ًّرا ُم َح َّجلين من ُ‬

‫يقول لنا "سح ًقا سح ًقا"‪.‬‬

‫هذا هو االختبار العسير!‬

‫وعدا ح ًّقا؛‬ ‫نبين���ا‬ ‫ربِه ً‬ ‫وقرة أعينن���ا‪ ،‬فيكفيه أ َّنه ُوعد م���ن ّ‬ ‫َّأم���ا ّ‬ ‫َّ‬ ‫لكل معتبر‪،‬‬ ‫أنه سيعلي من شأنه وقدره وسيجعل أعداءه عبرة ِّ‬ ‫ِ‬ ‫���و ا َ‬ ‫ين‬ ‫أل ْب َت ُر‪(‬الكوث���ر‪ ،)3:‬وق���ال‪ :‬إ َِّن ا َّل ِذ َ‬ ‫فق���ال‪ :‬إ َِّن َش���ان َئ َك ُه َ‬ ‫ِ‬ ‫���ر ِة َو َأ َع َّد َل ُه ْم‬ ‫هلل َو َر ُس���و َل ُه َل َع َن ُه ُم ا ُ‬ ‫ون ا َ‬ ‫���ؤ ُذ َ‬ ‫هلل ِف���ي ُّ‬ ‫ُي ْ‬ ‫الد ْن َيا َواآلخ َ‬ ‫َع َذ ًابا ُمهِ ًينا‪(‬األحزاب‪.)57:‬‬ ‫(*) مدير معهد المناهج‪ ،‬الجزائر العاصمة ‪ /‬الجزائر‪.‬‬


‫خارج قدر اهلل الحكيم العليم سبحانه‪.‬‬

‫وم���ا كان أب���و له���ب‪ ،‬وأب���و جه���ل‪،‬‬

‫وأب���ي‪ ،‬وغيرهم م���ن الكفار‬ ‫ومس���يملة‪،‬‬ ‫ٌّ‬

‫والمنافقي���ن والمعاندين‪ ...‬ما كانوا عب ًثا‬ ‫في مسيرة الرس���الة المحمدية المباركة؛‬

‫وجوده���م حكم���ة ليبتل���ي اهلل إيم���ان‬ ‫المؤمنين وعمل العاملين‪َ  :‬أ ْم َح ِس ْ���ب ُت ْم‬ ‫ين‬ ‫َأ ْن َت ْد ُخ ُلوا ا ْل َج َّن َة َو َل َّما َي ْأ ِت ُك ْم َم َث ُل ا َّل ِذ َ‬ ‫الضر ُاء‬ ‫خلوا ِمن قب ِلكم مستهم الب ْأساء و‬ ‫َ َ ْ ْ َ ْ ُ ْ َ َّ ْ ُ ُ ْ َ َ ُ َ َّ َّ‬ ‫َو ُز ْل ِز ُلوا‪(‬البقرة‪.)214:‬‬ ‫وغيرها‪،‬‬ ‫وإن���ي لأَ جد ه���ذه الحمل���ة‬ ‫َ‬ ‫ول���كل‬ ‫ل���كل الن���اس‬ ‫عس���يرا‬ ‫اختب���ارا‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ول���كل‬ ‫المؤسس���ات‪،‬‬ ‫ول���كل‬ ‫األطي���اف‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬

‫متر علينا الإهانات‬ ‫لي�س مقبو ًال �أن َّ‬ ‫ملق َّد�س��اتنا وعقائدن��ا ودينن��ا‬ ‫و�إ�س�لامنا ث��م ال يتغري �ش��يء يف‬ ‫حياتنا ويف ت�صوراتنا ويف مواقفنا‬ ‫ويف �أفعالنا ويف اختياراتنا‪ ..‬ولذا‬ ‫مفعما‬ ‫ن�س���أل‪َ ،‬من منَّا يحمل قلبًا ً‬ ‫بالإميان باهلل واليوم الآخر‪ ،‬ويقف‬ ‫حياته ومهجته للدف��اع عن �إميانه‬ ‫ون�رصة دينه مبوجب "التدافع"؟‬

‫ول���كل‬ ‫ول���كل التوجه���ات‬ ‫األمص���ار‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫وأول من يتعرض لالختبار هو "أنا"‪،‬‬ ‫االتجاهات بال اس���تثناء‪َّ .‬‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫أحمل الواجب؛‬ ‫به���ا أب���دأ‪ ،‬ومنها أنطلق‪ ،‬وعنها أس���أل‪ ،‬وإياها ّ‬ ‫فه���ل يمك���ن أن أتركه���ا خارج دائ���رة األمر الربان���ي‪ ،‬والحكم‬

‫اإللهي‪ ،‬والواجب الشرعي؟!‬

‫ِ‬ ‫نف���س‪ ،‬م���ا م���دى‬ ‫ي���ا‬ ‫حبك لرس���ول‬ ‫ُ‬

‫حب‬ ‫اهلل علي���ه الص�ل�اة والس�ل�ام؟ أه���و ٌّ‬ ‫مناس���باتي آني عاب���ر؟ أم هو‬ ‫ُف ْلك ُل���وري‬ ‫ٌّ‬ ‫ِ‬ ‫فعلت‬ ‫رسالي دائم؟ ثم ماذا‬ ‫إيماني‬ ‫حب‬ ‫ٌّ‬ ‫ٌّ‬ ‫ٌّ‬

‫وتفعلي���ن في حق���ه عليه أفض���ل الصالة‬ ‫ِ‬ ‫والتسليم؟ هل ِ‬ ‫عصرك‪،‬‬ ‫كنت في مستوى‬ ‫ِ‬ ‫الع���دة الكافي���ة لنصرته‪،‬‬ ‫أع���ددت‬ ‫وه���ل‬ ‫َّ‬ ‫جه ِ‬ ‫والمقدم���ات‬ ‫���زت األس���باب‬ ‫ِّ‬ ‫وه���ل َّ‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫امت���ك‬ ‫دو‬ ‫لالنتص���ار ل���ه؟ أم‬ ‫أن���ك ف���ي َّ‬

‫تعمهي���ن‪ ،‬وع���ن التخطي���ط ُتعرضي���ن‪،‬‬

‫وللظروف َتس���تجيبين؛ ثم م���ا تلبثين أن‬

‫تدخل���ي دوام���ة الحي���اة‪ ،‬وتدوري���ن ف���ي‬

‫دائرة مفرغة إلى حين؟‬

‫ِ‬ ‫أع���ددت؟‬ ‫علمي���ا‪ ،‬ماذا‬ ‫تربوي���ا‪ ،‬ماذا‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫فنيا‪...‬‬ ‫اقتصاديا‪،‬‬ ‫أع���ددت؟‬ ‫إعالميا‪ ،‬م���اذا‬ ‫أع���ددت؟‬ ‫ًّ‬ ‫سياس���يا‪ًّ ،‬‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬ ‫كل مناحي الحياة أس���أل نفس���ي‪ ،‬وكلُّ عاقل يسائل‬ ‫وهكذا في ِّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫‪‬و َل ُت ْس��� َأ ُل َّن َع َّم���ا ُك ْن ُت ْم‬ ‫عمل���ت فيم���ا‬ ‫نفس���ه‪" :‬م���اذا‬ ‫علم���ت؟"‪َ ،‬‬ ‫ون‪(‬الصافآت‪.)24:‬‬ ‫وه ْم ِإ َّن ُه ْم َم ْس ُئو ُل َ‬ ‫َت ْع َم ُل َ‬ ‫‪‬و ِق ُف ُ‬ ‫ون‪(‬النحل‪َ ،)93:‬‬ ‫وللتجمع���ات العلمية‬ ‫إن���ه اختب���ار عس���ير للعلم���اء الي���وم‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫العالمية‪ ،‬ولهيئات الفتوى‪ ،‬ولوزارات الش���ؤون الدينية‪ُ ...‬ترى‬ ‫ه���ل تص���وغ المخطط���ات وتجيب عل���ى اإلهانة بم���ا يليق؟ أم‬ ‫أنه���ا تبق���ى مثل األطفال عل���ى ش���اطئ اإلرادة والعصر‪ ،‬تاركة‬

‫المبادرة للسياس���ة أو للشارع‪ ،‬مبررة لهذا أو لذاك‪ ،‬ناقلة ألدلة‬ ‫ف���ي أغل���ب األحيان مبت���ورة‪ ،‬مجتزئة كما رأينا ه���ذه المرة من‬ ‫َّ‬ ‫بعض مجامعنا الفقهية المحترمة؟ لألسف‪.‬‬ ‫ث���م‪ ،‬ه���و اختب���ار عس���ير للم���دارس‪ ،‬وللمناه���ج التربوية‪،‬‬

‫وللمق���ررات‪ ،‬ول���وزارات التربية‪ ،‬بل ل���كل مع ّلم ومدير وولي‬ ‫ّ‬ ‫وتلمي���ذ‪ ...‬فهل هي تس���ير على وقع رس���ول اهلل عليه الصالة‬ ‫والسالم؟ وهل ِ‬ ‫تخذته أسوة وقدوة‪ ،‬ومارست التربية بناء على‬ ‫ِ‬ ‫الس���رب‪ ،‬وتص ِّف���ق لـ"ديوي"‬ ‫معي���اره ه���و؟ أم أنها ِّ‬ ‫تغني خارج ّ‬

‫و"روسو" وغيرهما في عرس المدنية السمج؟‬

‫أم���ر قرآنها‬ ‫ه���و اختب���ار‬ ‫َّ‬ ‫لمؤسس���ات اإلعالم؛ ه���ل َّ‬ ‫أهمها ُ‬

‫أن مش���ادات‬ ‫يهمها أمر دينها كما أمر اهلل؟ أم َّ‬ ‫ورس���ولها‪ ،‬وهل ُّ‬

‫كرة ال َق َدم‪ ،‬واالنتخابات الحامية الوطيس‪ ،‬وفضائح الناس‪...‬‬

‫‪45‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )39‬‬


‫قضايا فكرية‬ ‫د‪ .‬محمد باباعمي*‬

‫تح َّر لعلمك غاية وهد ًفا‪ ،‬وإياك واإلغر َ‬ ‫األرواح‬ ‫اق يف الفرضيات والوهميات التي تزيد‬ ‫َ‬ ‫ظلمة والعقول تضلي ًال‪ ..‬احذر مصائد األرواح هذه‪ ،‬وتجنّب ما تنصبه للعقول من أفخاخ‪.‬‬ ‫***‬ ‫(املوازين)‬

‫االختبار العسير‬ ‫أي‬ ‫أمر حقي���ر أو عظيم ف���ي ِّ‬ ‫كلَّم���ا ح���دث ٌ‬ ‫زم���ان م���ن األزمن���ة وف���ي أي م���كان م���ن‬

‫األمكن���ة‪ ،‬كان‬ ‫اختبارا وامتحا ًنا لمن قامت‬ ‫ً‬

‫عليه الحجة في ذلك األمر‪ .‬ال شيء في الدنيا يقع اعتباطً ا‬

‫يند عن إرادة اهلل‬ ‫أو َس َ���ب ْه َل ً‬ ‫ال أو بغير حكمة‪ ،‬وال ش���يء بتا ًتا ُّ‬ ‫وعلمه ومشيئته سبحانه‪.‬‬

‫فم���ا وق���ع ‪-‬ويق���ع ه���ذه األي���ام‪ -‬م���ن حملة لتش���ويه‬

‫ص���ورة أعظ���م الخل���ق محمد علي���ه الصالة والس�ل�ام بكل‬ ‫األشكال واأللوان وبجميع الوسائل واإلمكانات‪ ،‬تسندها‬ ‫تخطيط���ات واس���تراتيجيات‪ .‬كل ه���ذا لي���س عب ًث���ا وال هو‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )39‬‬

‫‪44‬‬


‫اجتهاد‬ ‫نتح���رك في���ه‪ ...‬إنه‬ ‫وجهاد اإلنس���ان ليجم���ع بين رؤية في مطار االنطالق‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬

‫النس���ر ودبيب النملة التي تتعثر في حبات الرمل التي تصادفها‬

‫ومتس���مة‬ ‫"إن المدرس���ة بق���در م���ا تك���ون متوجهة نحو الهدف ّ‬

‫في خلقه للسماوات السبع في ستة أيام‪ ،‬يع ّلمنا أن هذا الكون‬

‫ُت ْص َهر مكتسباتها في بوتقة ثقافتنا الذاتية"‪.‬‬

‫ف���ي الطري���ق‪ .‬ذلك بالتأكيد لن يتحق���ق إال بالصبر‪ ،‬واهلل تعالى‬

‫منضب���ط بالزم���ن‪ ،‬وأن لكل ْأمرٍ م���دة زمنية ضرورية ليس���توي‬ ‫ويحقق النضج‪.‬‬ ‫ولنا في قصة س���يدنا يعقوب ‪ ‬األسوة الحسنة‪ ،‬إذ نجد‬

‫بالعم���ق‪ ،‬تصب���ح مين���اء أو‬ ‫مط���ارا أو منطل ًقا لألمة‪ ،‬بش���رط أن‬ ‫ً‬ ‫أج���ل‪ ،‬إنها العودة إلى الذات‪ ،‬إل���ى المعايير الذاتية لألمة‪،‬‬

‫المعايي���ر غي���ر المس���توردة‪ ،‬إل���ى اإليم���ان‪ .‬فاإلنس���ان صاحب‬ ‫اله���م الحضاري‪ ،‬يحم���ل ذلك الوزن الزائ���د‪ /‬الضروري على‬ ‫ّ‬

‫م���ر الزم���ن‪ .‬إنه���ا عودة تقتض���ي القي���ام بعملية غربل���ة "فكرية‪،‬‬ ‫ّ‬

‫هذا النبي الضرير الفاقد البنيه "يوسف ثم بنيامين"‪،‬‬ ‫والمتشبع‬ ‫ّ‬ ‫ب���روح الصب���ر اإليجابي ُيع ّلمنا‪:‬‬ ‫‪‬يا َب ِني ْاذ َه ُبوا َف َت َح َّس ُس���وا ِم ْن‬ ‫َ َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ال َيي َئس ِم ْن ر ْو ِح ا ِ‬ ‫هلل‬ ‫ف َو َأ ِخي ِه َو َ‬ ‫وس َ‬ ‫َ‬ ‫ُي ُ‬ ‫ال َت ْي َئ ُسوا م ْن َر ْو ِح اهلل ِإ َّن ُه َ ْ ُ‬ ‫ون‪(‬يوس���ف‪ .)87:‬إنه باب األمل‪ ،‬ي ِلجه اإلنسان‬ ‫ِإ َّ‬ ‫ال ا ْل َق ْو ُم ا ْل َكا ِف ُر َ‬ ‫وهو آخذ باالعتبار ألسباب الكون‪.‬‬

‫مطارا إلقالع األمة‪.‬‬ ‫حتما‬ ‫ً‬ ‫المدرسة بهذا الحراك‪ ،‬ستغدو ً‬

‫كي���ف يمك���ن للقل���وب أن تحي���ا ه���ذه الكلم���ات الت���ي لطالما‬

‫إذا أردنا أن نبصر حاضر ومستقبل أمة ما فلننظر إلى تعليمها‪.‬‬

‫اإلنسان الجديد‬

‫رددناها‬ ‫صغارا‪" :‬النظافة من اإليمان‪ ،‬والوس���خ من الشيطان"‪،‬‬ ‫ً‬ ‫نس وطمأنينة و"الوسخ" يدق‬ ‫ثم يعيش هذا اإلنسان لحظات ُأ ٍ‬ ‫وأمته؟‬ ‫كل ٍ‬ ‫حين باب بيته‪ ،‬وباب شارعه‪ ،‬وباب وطنه ّ‬

‫تعودنا أن نمد يدنا لآلخر لنحصل على لقمة العيش‪،‬‬ ‫إننا ْ‬ ‫إن ّ‬

‫لنطلب البرء في مشافيه‪ ،‬لنلتهم مختلف المعلبات التي أحسن‬ ‫وعرضها لنا على أرفف حضارته المزعومة‪ ...‬فدعوتنا‬ ‫ترتيبها ْ‬ ‫يحرك‬ ‫ساكنا‪ ،‬لن تدفع‬ ‫ً‬ ‫له باسم اإلسالم بعد ذلك‪ ،‬لن تجعله ّ‬ ‫ب���ه ليحتض���ن ه���ذا الدي���ن العظيم‪ ،‬إننا ببس���اطة ندع���وه ليكون‬

‫مريضا‪.‬‬ ‫ً‬

‫لذلك‪ ،‬فالهدف أن يصوغ اإلنس���ان المسلم اليوم سمفونية‬

‫متكاملة النغمات‪ ،‬س���يجد حينئذ بالضرورة آذا ًنا تصغي إليها‪.‬‬ ‫إنه يح���رص تمام الحرص لتكتمل هذه النوطة الحضارية‪ ،‬أما‬ ‫إن لم ُيعمل عقله وقلبه وجهده من أجل تناسقها‪ ،‬وطلب من‬ ‫تفرق الناس‬ ‫اآلخرين االس���تماع إليها‪ ،‬فإنه سرعان ما سيلحظ ّ‬

‫كل بأموره‪.‬‬ ‫من حوله‬ ‫ٌ‬ ‫منشغل ٌّ‬

‫إذن‪ ،‬هن���اك إنس���ان لم‬ ‫يتش���كل بعد‪ ،‬مت���وازن‪ ،‬متكامل‪ ،‬ال‬ ‫ّ‬

‫يعي���ش تناقضات بي���ن ما يقرأ ف���ي القرآن الكري���م وما احتوته‬ ‫الس���نة الش���ريفة‪ ،‬وبين ما يج���ده في واقعه‪ .‬إن���ه طبيب للمعنى‬ ‫ح���ل أو انتقل ُفنور‬ ‫وال���روح س���ائح في كون اهلل تعال���ى‪ ،‬أينما ّ‬

‫الحق يبزغ بداخله‪.‬‬

‫إيماني���ة‪ ،‬وجداني���ة"‪ ...‬فالمع ّلم في قس���مه ليس مل ّق ًن���ا للتلميذ‬

‫لمعلومات‪ ،‬وإال ما كان مع ّل ًما بل مع ّل ًبا‪ ،‬لكن المخطط األهم‬ ‫واالس���تراتيجي لدي���ه هو بن���اء هذا اإلنس���ان‪ ...‬وحي���ن تنطلق‬

‫المدرسة‬

‫وه���ذا الصرح الحض���اري (المدرس���ة) في الحقيق���ة ما هو إال‬ ‫مشتلة‪ ،‬والتلميذ فيه فسيلة طيبة‪.‬‬

‫إن الحاج���ة الي���وم ليس���ت لمع ِّل���م وظيفي يراق���ب عقارب‬

‫نداء‬ ‫س���اعته كل حين ليس���تعجل مغادرة قاعة الدرس‪ ،‬بل هو ٌ‬ ‫للنجدة ينطلق من بعيد بح ًثا عن أفئدة تلتهب شو ًقا‪،‬‬ ‫وانصهار‬ ‫ٌ‬ ‫جماع���ي في المعن���ى وللمعنى‪ ...‬إنه القلب يهف���و إلى أولئك‬ ‫األطب���اء المرابطين في مستش���فى الحياة؛ الذي���ن يجمعون بين‬

‫العقل والقلب‪ ،‬الفكر والفعل‪ ...‬إنه إنس���ان صابر على تجنين‬ ‫رك ٌز على الحقل‪ ،‬ويتحرك بثقة كبيرة في خالقه‬ ‫الزم���ن‪ ،‬ذهنه ُم ِّ‬

‫وباتخاذه ألسباب النصر والتمكين‪.‬‬

‫نع���م‪ ،‬فبمنه���ج النب���ي ‪" ‬التس���ديد والمقارب���ة"‪،‬‬ ‫يتح���رك‬ ‫ّ‬

‫ويفك���ر‪،‬‬ ‫ه���ذا األمي���ن على مس���تودع الحض���ارة‪ ،‬يعمل‬ ‫ويفكر‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫وهو يعمل‪ ،‬مدركٌ تمام اإلدراك أن المدرس���ة ليس���ت هي آلة‬ ‫التغيير‪ ،‬بل هي الحقل الخصب لذلك‪ ،‬وأن مهمته هي السقي‬ ‫والرعاي���ة والتعه���د‪ ،‬فال ي���زال يضرب في تل���ك األرض حتى‬

‫ُيخرج خيراتها بإذن اهلل‪.‬‬ ‫(*) باحثة وصحفية ‪ /‬الجزائر‪.‬‬

‫المراجع‬

‫(‪ )1‬ونح���ن نبن���ي حضارتنا‪ ،‬لألس���تاذ فتح اهلل كولن‪ .‬ترجم���ة‪ :‬عوني عمر لطفي‬ ‫أوغلو‪ ،‬دار النيل للطباعة والتوزيع‪ ،‬القاهرة‪.‬‬

‫‪43‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )39‬‬


‫الخ���روج م���ن ص���ف الص�ل�اة؟ ف�ل�ا أثر‬

‫نع���م‪ ،‬إن���ه المعنى‪ ،‬الذي لو انس���لخ‬

‫صن ًما‬ ‫م���ن المبن���ى يك���ون ه���ذا األخي���ر َ‬

‫ُيعب���د‪ .‬وهنا ُيس���مع‬ ‫لمفكرن���ا "مالك بن‬ ‫ّ‬ ‫س عميق‬ ‫نب���ي" ‪-‬رحم���ه اهلل‪ -‬ص���وت َن َف ٍ‬ ‫يأخذه ويقول‪" :‬حين تموت الفكرة يبزغ‬ ‫الصنم"‪ .‬ومن بعيد نلمح األس���تاذ "فتح‬

‫يهز رأس���ه وكأنه يصادق‬ ‫اهلل كولن" وهو ّ‬ ‫عل���ى كالم أخي���ه "اب���ن نب���ي" فيتل ّف���ظ‬

‫به���ذه الكلم���ات‪" :‬إذا غ���دا حرصك���م‬

‫على مش���اريعكم المس���توى المطلوب‪،‬‬ ‫وأصبحت هذه المش���اريع ٍ‬ ‫مبان شاهقة‬ ‫تحجزك���م عن الح���رص على رضى اهلل‬

‫التمك�ين لدين اهلل يف الأر�ض‬ ‫ال يُق�ص��د ب��ه جمموع��ة م��ن‬ ‫الأ�ش��خا�ص �أو "الأبط��ال"‪،‬‬ ‫بل هو ن�س��يج جماعي ي�ض��م‬ ‫عق��و ًال وقلوبً��ا متعانق��ة‪� .‬إنه‬ ‫ا�س��تعداد للعم��ل يف �ش��كل‬ ‫جماع��ي �ض��من فري��ق ي�ؤمن‬ ‫دورا‬ ‫كل واحد فيه ب���أن لديه ً‬ ‫ي�ؤديه‪.‬‬

‫تعال���ى‪ ،‬فإنها قد غ���دت‬ ‫أصناما‪ ،‬عليكم‬ ‫ً‬

‫أن تحطموها"‪.‬‬

‫المعيار في القيادة‬

‫النتظ���ام وانضباط في صفوف الحضارة‬

‫والتش���ييد؟ إننا ببس���اطة نغف���ل عن تلك‬ ‫ِ‬ ‫تح���رك الصالة وتكون‬ ‫المعان���ي‪ ،‬وأنه ل َت ّ‬ ‫مح���ورا‬ ‫ديناميكيا للحض���ارة‪ ،‬وجب أن‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫فهم���ا‬ ‫حضاريا إضافة لالنضباط‬ ‫ًّ‬ ‫نفهمها ً‬ ‫الفقه���ي‪ .‬إنه الفه���م الش���مولي‪ ،‬والرؤية‬ ‫المتكامل���ة الت���ي ُولد بها اإلس�ل�ام؛ هذه‬

‫الورش���ة الكبي���رة الت���ي َينش���ط فيه���ا كل‬

‫الناس حس���ب استطاعتهم‪ ،‬وفق مخطط‬ ‫واحد‪ ،‬ذلك أن االنتظام الجماعي هو ما‬

‫سيلد الحضارة‪.‬‬

‫﴿وق ِ‬ ‫ُل ا ْع َملُوا﴾‬ ‫َ‬

‫قدم رسولنا الكريم ‪ ‬النموذج المتكامل‪ ،‬وإن لم ينشرح‬ ‫لقد ّ‬

‫ص���در بعضه���م لإلس�ل�ام ف�ل�ا غب���ار يكس���و صفحات س���يرته‬

‫ِ‬ ‫ان ُأ َّم ًة‪(‬النح���ل‪ ،)120:‬لق���د انطب���ق هذا الوصف‬ ‫ي���م َك َ‬ ‫‪‬إ َِّن إ ِْب َراه َ‬

‫ومس���يرته المبارك���ة‪ .‬فهذا أعرابي يلقى رس���ول اهلل ‪ُ ‬في ْس���لم‬

‫بحق أمة‪ .‬فالتمكين لدين اهلل في‬ ‫خصائص حملها إنسان فكان ٍّ‬

‫ويحدق في األصل‪،‬‬ ‫الكري���م عليه الصالة والس�ل�ام‪ ،‬إنه ينظ���ر‬ ‫ّ‬ ‫في النموذج الذي َأ َّسس له خاتم النبيين ‪.‬‬

‫للعم���ل ف���ي ش���كل جماعي ضم���ن فريق يؤم���ن كل واحد فيه‬

‫‪‬و ُق ِل ْاع َم ُلوا‪(‬التوبة‪ ،)105:‬ففي س���ياق بناء النموذج المتكامل‬ ‫َ‬

‫على سيدنا إبراهيم ‪ ‬ولم‬ ‫يتحل به الماليين من الناس‪ ،‬إنها‬ ‫َّ‬

‫األرض ال ُيقص���د ب���ه مجموعة من األش���خاص أو "األبطال"‪،‬‬

‫ال‬ ‫وقلوبا متعانقة‪ .‬إنه استعداد‬ ‫بل هو نسيج جماعي يضم عقو ً‬ ‫ً‬

‫دورا يؤديه؛ أن يحمل مع أخي���ه العبء‪ ،‬أو يحمل‬ ‫ب���أن لدي���ه ً‬ ‫عنه‪ ،‬وإن لم يكن المسلم على تلك الحالة وكان العمل بتلك‬

‫ال���روح‪ ،‬فس���يفنى المجم���وع ك ّل���ه‪ .‬وفي ه���ذا المضم���ار يقول‬ ‫المقصي‬ ‫األس���تاذ مالك بن نبي‪" :‬من لعنة الزمن بأن اإلنس���ان ُ‬ ‫يبني‪ ،‬وبذور في تضاعيف بنائه تهدمه"‪.‬‬

‫إذن لي���س اإلنس���ان مجموع���ة م���ن التفاع�ل�ات النفس���ية‬

‫المجتزئ���ة عن الس���ياق االجتماع���ي‪ ،‬وإذا س��� ّلمنا بذلك نكون‬ ‫ق���د خالفن���ا رؤيتن���ا الكوني���ة اإلس�ل�امية‪ .‬ففي ص�ل�اة الجماعة‬

‫واحدا خمس مرات في اليوم‪،‬‬ ‫ال‪ -‬يقف المس���لمون ص ًّفا‬ ‫مث ً‬‫ً‬ ‫إن ذلك يحقق الكثير من المعاني الس���امية؛ كالدقة في الزمن‪،‬‬ ‫انتظ���ام الصف‪ ،‬االنقياد للمعنى‪ ،‬االنضباط في كل جماعي‪...‬‬

‫إنه���م ينتظم���ون في صف واح���د وينقاد المأم���وم لإلمام‪ ،‬لكن‬ ‫المحكمة خيوط���ه‬ ‫ي���ا ت���رى كيف ُينق���ض ه���ذا‬ ‫بمجرد‬ ‫ْ‬ ‫الغ���زل ُ‬ ‫ّ‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )39‬‬

‫‪42‬‬

‫مباش���رة؛ لق���د تالش���ت الصورة الت���ي ُنقلت له عن ه���ذا النبي‬

‫إنه���ا الحاج���ة‬ ‫الملح���ة لتقدي���م النم���وذج‪ ،‬واهلل ‪ ‬يقول‪:‬‬ ‫ّ‬

‫دور اإلنس���ان أن يعم���ل ويحترق وأن ينطلق ف���ي المعالي‪ ،‬أن‬

‫يدخ���ر‬ ‫ال‪ ."...‬وينبغ���ي التذكير هنا‬ ‫"جهدا‪ ،‬م���ا ً‬ ‫علما‪ ،‬عم ً‬ ‫ً‬ ‫ال ّ‬ ‫ال‪ً ،‬‬ ‫فـ‪‬و ُق ِل ْاع َم ُلوا‪ ‬ال تعني‬ ‫بضرورة أن ُتفهم اآلية في س���ياقها؛ َ‬

‫جيدا لقوله تعالى ونحن‬ ‫أي عمل‪ ،‬لكن‬ ‫لنتمعن النظر ولننصت ً‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ون‪.‬‬ ‫تم اآلية الكريمة‪َ  :‬ف َس َي َرى ا ُ‬ ‫هلل َع َم َل ُك ْم َو َر ُسو ُل ُه َوا ْل ُم ْؤ ِم ُن َ‬ ‫ُن ّ‬

‫دهان االستحالة ودهان السيولة‬

‫فرغ فيها ش���خص آخر دهان‬ ‫قد يأتي ش���خص بفكرة عميقة ُفي ِ‬

‫الس���هولة ويق���ول‪" :‬إنه���ا فك���رة س���هلة"‪ ،‬تموت حينئ���ذ الفكرة‬ ‫ويقت���ل األم���ل الذي ُأ ِ‬ ‫نوره من بعيد‪ .‬م���ن جهة أخرى‬ ‫بص َ‬ ‫ُ‬ ‫���رت َ‬ ‫تتلون بصبغة االس���تحالة المطلقة‪ ،‬فأنى‬ ‫كثيرا م���ا ّ‬ ‫هن���اك أفكار ً‬ ‫لصاحبها أن يصل أو يحلم بالوصول لتحقيق المستحيل؟‬

‫الحقيق���ة غي���ر ذلك؛ فكل ش���يء ممك���ن الح���دوث إذا ما‬

‫فقهنا السنن الكونية‪ ،‬الظروف الزمانية والمكانية‪ ،‬الوعاء الذي‬


‫قضايا فكرية‬

‫مونية الديغوسي*‬

‫بالعلم والعرفان ترقى حياة اإلنسان‪ ..‬يستنري عقله ويشتعل وجدانه ويصبح نافذ النظر‪.‬‬ ‫رجلني‪ ..‬فالنظر والتأمل والتعلم والتعليم لهي‬ ‫أما أخو الجهالة فهو م ّيت وإن مىش عىل ْ‬ ‫من أعظم غايات خلق اإلنسان عىل هذه األرض‪.‬‬ ‫(املوازين)‬ ‫***‬

‫طبيب يبحث عن مرضاه‬ ‫طبي ودواء ُيخفف‬ ‫ف���ي كل يوم يتن ّقل بين األقس���ام يتف ّق���د مرضاه‪ ...‬فهذا يحتاج إلى كش���ف ّ‬ ‫فك الجبس عن قدمه ُليهرول إلى بيته‬ ‫عنه س���قمه‪ ،‬وفي الغرفة المجاورة يس���تلقي آخر ينتظر َّ‬

‫ويحتضن أبناءه‪ ،‬وفي الطابق اآلخر ش���خص ثالث قد أجرى عملية جراحية هذا الصباح فهو‬

‫حبات العرق التي يلفظها جبينه من حين آلخر‪.‬‬ ‫يقف بالقرب من سريره يتر ّقب حالته ويمسح عنه ّ‬

‫ق���د نختل���ف ف���ي الموقع‪ ،‬ف���ي الموقف أو الموضع‪ ،‬لك���ن ال ينبغي أن نختلف في المعن���ى‪ .‬فما يجمعنا‬ ‫أكبر؛ إنه التقاء القلوب والعقول في شارع اإلسالم والتفافها على موقد اإليمان‪ ،‬بح ًثا عن ٍ‬ ‫غد أفضل‪ ،‬عن يوم‬ ‫مشرق لهذه األمة التي لم يبرأ جرحها‪.‬‬

‫‪41‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )39‬‬


‫إن لم ُأحسن ترويضه بـ"رياضة" العزم و"حساب" الحزم‪.‬‬ ‫• أن "الحس���اب" عس���ير‪ ،‬والناق���د بصير‪ ،‬وأن���ه ال نجاة إال‬ ‫بـ"هندسة" األفكار وجبر األفعال‪.‬‬ ‫• أن "الرس���م البياني" لتخلف األمة يش���ير بوضوح إلى أن‬ ‫س���بب الس���قوط هو "الجمع" الغائي للمال‪ ،‬و"طرح" الكرامة‬ ‫اإلنسانية‪ ،‬و"الضرب" على الحائط بسائر القيم‪.‬‬ ‫• أن النجم���ة "السداس���ية" م���ا ارتفع���ت إال عندم���ا "طرح"‬ ‫المسلمون الهالل في "دائرة" النسيان‪.‬‬ ‫األمارة بالسوء‪ ،‬والشيطان‬ ‫• أن "مثلث" الهالك هو‪ :‬النفس َّ‬ ‫الموسوس‪ ،‬وأصدقاء السوء‪.‬‬ ‫الس ّيئين‪ ،‬وأن ما ينفع الناس‬ ‫• أن "دائرة" السوء تدور على ّ‬ ‫فيمكث في "قاعدة" األرض‪.‬‬ ‫"الخطي���ن المتوازيي���ن" ال يجتمع���ان‪ ،‬وكذل���ك الحق‬ ‫• أن‬ ‫ّ‬ ‫والباطل‪.‬‬ ‫• أن الـ"مستطيل" على خلق اهلل مصيره الدخول في "دائرة"‬ ‫العدم‪.‬‬ ‫• أن "هندس���ة" الفك���ر و"جب���ر" األرواح ب���زاد التقوى هما‬ ‫جناحا العروج الحضاري‪.‬‬

‫"طرائق" العروج‬

‫أمورا كثيرة منها‪:‬‬ ‫علمتني "الرياضيات" في هذا المضمار‬ ‫ً‬ ‫• أن الحض���ارة تب���دأ بـ"طرح" اإلنس���ان "للس���الب" من طباعه‪،‬‬ ‫و"االس���تزادة" في "الموجب" منها‪ ،‬مع الحرص على "تطبيق"‬ ‫كافة معارفه وترجمتها إلى "معادالت" للرقي الحضاري‪.‬‬ ‫• أن األم���ة التي تس���لك "طرائ���ق" المطالبة بالحقوق‪ ،‬دون‬ ‫االلتفات إلى الواجبات‪ ،‬تبدأ بالهرولة الس���ريعة في "المنحنى"‬ ‫الحض���اري إل���ى أن تص���ل إل���ى القاع في "رس���م بياني" يش���به‬ ‫تخطيط القلب عند إصابته بالهبوط‪.‬‬ ‫• أن العروج الحضاري بحاجة إلى "قوانين" تتكفل بإيجاد‬ ‫"األرق���ام" الصحيحة وفق "متتاليات" فكرية و"نظريات" علمية‬ ‫دقيق���ة‪ ،‬إلى أن توجد "الزمرة" التي تتحمل أعباء البناء‪ ،‬ويتوفر‬ ‫"الرم���ز" الذي يجع���ل األماني حقائق‪ ،‬وك���ذا "الجدول" الذي‬ ‫يرتب أولويات البناء حتى يتم اإلقالع المنشود‪.‬‬ ‫• أن���ه عندما يكب���ر "المقام" يصغر "البس���ط"‪ ،‬وعندما تكبر‬ ‫الشعوب يصغر الحكام ويخنس الطغاة‪.‬‬ ‫���ل" إال بتوازن "بس���ط"‬ ‫• أن "المس���ائل" الحضاري���ة ال " ُت َح ّ‬ ‫الحكام و"مقام" الشعوب‪.‬‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )39‬‬

‫‪40‬‬

‫رقما‬ ‫صحيحا‪ ،‬ومن‬ ‫ً‬ ‫• أن تساوي "البسط" و"المقام" ينشئ ً‬ ‫ثم فإن المجتمع الصحيح والس���وي هو الذي "يتس���اوى" فيه‬ ‫الحكام والمحكومون‪.‬‬ ‫• أن "النظري���ات" اإلس�ل�امية في س���ائر مج���االت الحياة‪،‬‬ ‫بحاج���ة إل���ى "تطبي���ق" وإل���ى "تدري���ب" حتى يصبح المس���لم‬ ‫"برها ًنا" على أحقية هذا الدين بالظهور في العالم كله‪.‬‬ ‫• أن اإلس�ل�ام لي���س له "نظير"‪ ،‬ولك���ن البد ألبنائه في هذا‬ ‫العص���ر من االس���تفادة من الحض���ارة الغربية‪ ،‬ف���إن "الزوجية"‬ ‫قانون كوني‪.‬‬ ‫• أن وس���ائل "الح���ل" متع���ددة‪ ،‬م���ع أن النتيجة الصحيحة‬ ‫واحدة‪ ،‬ومن ثم فإن الحق واحد و"طرق" الوصول إليه كثيرة‪.‬‬ ‫• أن "نقصان" األمانة و"زيادة" الفساد هو الوصفة السحرية‬ ‫لتنزل العذاب‪ ،‬واإليذان باضطراب "المقام" وسقوط األمة في‬ ‫تمكن العدو من "بسط" نفوذه‬ ‫ثم ّ‬ ‫"دائرة" التيه الحضاري‪ ،‬ومن َّ‬ ‫وسيطرته‪.‬‬

‫"المسائل" الحضارية‬

‫تعلمت من الرياضيات‪:‬‬ ‫وفي هذا السياق‬ ‫ُ‬ ‫• أنه ال يتكبر إال "ناقص"‪ ،‬وال يتواضع إال "الرقم" الصحيح‪،‬‬ ‫كالغصن المثقل بالثمار‪.‬‬ ‫• أن اإلنس���ان إذا كان يعان���ي م���ن عقدة "نق���ص"‪ ،‬فإنه لن‬ ‫شيئا‪ ،‬بل إنه "زائد" عليها‪.‬‬ ‫يضيف إلى هذه الحياة ً‬ ‫• أن اإلنس���ان إذا ل���م "يط���رح" الطمع و"يض���رب" الجزع‬ ‫أبدا مهما "جمع"‪.‬‬ ‫ويكتنز القناعة‪ ،‬فإنه لن يغتني ً‬ ‫• أن "الضرب" في الميت حرام‪.‬‬ ‫• أن "االس���تقامة" أقص���ر "طريق���ة" للوصول إلى حس���نتي‬ ‫الدنيا واآلخرة‪.‬‬ ‫• أن الحق "خط مستقيم"‪.‬‬ ‫• أن الحاك���م "متوس���ط حس���ابي" للقي���م الت���ي تحمله���ا‬ ‫الشعوب‪ ،‬سواء كانت حسنة أو سيئة‪.‬‬ ‫• أن "مقام" العبودية ليس فيه "محايد"‪ ،‬فإن لم يكن المرء‬ ‫"سالبا"‪.‬‬ ‫"موجبا"‪ ،‬فسيكون‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫معادلة‬

‫"طرح" المظالم والس���يئات ‪" +‬قس���مة" الحقوق والواجبات ‪+‬‬ ‫"جمع" القلوب واإلمكانات = "قاعدة" اإلقالع الحضاري‪.‬‬ ‫(*) أستاذ الفكر اإلسالمي السياسي بجامعة تعز ‪ /‬اليمن‪.‬‬


‫• أن الع���رب أه���دوا العال���م "األرق���ام" المعروف���ة اآلن‬ ‫"أرقام���ا" صحيحة‬ ‫ف���ي اإلنجليزي���ة ومنه���ا الصفر عندم���ا كانوا‬ ‫ً‬ ‫وأصحاب حضور فاعل‪ .‬وعندما ابتعدوا عن اإلس�ل�ام صاروا‬ ‫و"أكس���ارا عش���رية"‪ ،‬وتمح���ورت طاقاته���م ح���ول‬ ‫"أصف���ارا"‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫االنفع���االت‪ ،‬حي���ث التغني بالماض���ي والتفاخ���ر على الغرب‬ ‫بأنهم منحوه "الصفر"!‬ ‫"أرقاما" اكتشفوا "الصفر"‪ ،‬وعندما‬ ‫• أن العرب عندما كانوا‬ ‫ً‬ ‫"أصفارا" تركوا "األرقام" وبقوا غثاء كغثاء السيل‪.‬‬ ‫صاروا‬ ‫ً‬ ‫• أن س���ر ضع���ف المس���لمين أنه���م "أعداد" ب���دون إعداد‪،‬‬ ‫وأنهم "أصفار" ال "أرقام"‪.‬‬ ‫س���عيه وخس���ر جه���ده‪ ،‬حيث‬ ‫• أن "المفل���س" َم���ن خ���اب‬ ‫ُ‬ ‫حرص على مراكمة "األرقام" وقطع األرحام‪.‬‬ ‫• أن ثالثة رجال عندما "تجتمع أرقامهم" الواحدية يمكن‬ ‫ال‪.‬‬ ‫أن ُيصبحوا بقوة "‪ "111‬رج ً‬

‫"العمليات" الفكرية‬

‫علمتني الرياضيات في هذا اإلطار‪:‬‬ ‫• أن اهلل "ضرب" على اليهود الذلة والمسكنة‪ ،‬ألنهم "طرحوا"‬ ‫أرضا‪ ،‬وجعلوا غايته���م العظمى "جمع" المال‬ ‫منهج���ه تعال���ى ً‬ ‫و"قسمته" وفق أهوائهم‪.‬‬ ‫• أن اهلل هو الذي "قس���م" بين الناس معيش���تهم في الحياة‬ ‫وأعجب‬ ‫الدنيا‪ ،‬ويريد أعداؤه أن "يقسموا" رحمته بأمزجتهم‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫من هؤالء صنف من المسلمين وصفهم القرآن بـ"المقتسمين"‬ ‫الذين جعلوا القرآن عضين‪.‬‬ ‫• أن اإلس�ل�ام ه���و "الح���ل"‪ ،‬فه���و من يتفوق ف���ي "جمع"‬ ‫األخيار و"ضرب" األشرار‪.‬‬ ‫• أن "ضرب" الشعوب و"طرح" كرامتها هو الطريق األسرع‬ ‫لوضع الحكام في "مربع" االتهام أو القفص "المستطيل"‪.‬‬ ‫• أن الـ"قس���مة" الضي���زى ه���ي جع���ل العلمانيي���ن الدين هلل‬ ‫والدولة لهم‪.‬‬ ‫• أن "اس���تزادة" النعمة تكون بالش���كر‪ ،‬و"االس���تزادة" من‬ ‫القرآن تكون بالتدبر و"االستزادة" من اإليمان تكون بالعمل‪.‬‬ ‫وهذا ينقلنا إلى "قوانين" القرآن الرياضية‪.‬‬

‫"قوانين" القرآن‬

‫في هذا المضمار تعلمت من الرياضيات‪:‬‬ ‫• أن اهلل "يزيد" الذين اهتدوا هدى‪ ،‬و"يزيد" الذين آمنوا إيما ًنا‪،‬‬ ‫وأن من يقترف حسنة "يزد" له فيها ُحس ًنا‪ ،‬وأن للذين أحسنوا‬

‫الحسنى و"زيادة"‪ ،‬وأنه تعالى "يزيد" من يشاء من فضله‪ .‬وأما‬ ‫مرضا‪ .‬وهك���ذا فإن‬ ‫الذي���ن ف���ي قلوبه���م م���رض "فزاده���م" اهلل ً‬ ‫الجميع في "ازدياد" بفضل اهلل وعدله‪.‬‬ ‫وه َأ ْر ًض���ا َي ْخ ُل َل ُك ْم‬ ‫دوم���ا‪ْ :‬‬ ‫‪‬اط َر ُح ُ‬ ‫• أن دي���دن المجرمين ً‬ ‫َ ِ‬ ‫���م ا ْئ ُتوا َص ًّفا‬ ‫���ه َأب ُ‬ ‫َو ْج ُ‬ ‫ِيك ْم‪(‬يوس���ف‪ )9:‬أو‪َ  :‬فأ ْجم ُع���وا َك ْي َد ُك ْ‬ ‫���م ُث َّ‬ ‫اس َ���ت ْع َلى‪(‬طه‪ ،)64:‬ولكن مش���يئة اهلل التي‬ ‫َو َق ْ‬ ‫���د َأ ْف َل َ‬ ‫���ح ا ْل َي ْو َم َم ِن ْ‬ ‫���ي ْه َز ُم ا ْل َج ْم ُع‬ ‫ال تتخل���ف وس���نته الت���ي ال تتبدل ق���د قالتا‪َ :‬‬ ‫‪‬س ُ‬ ‫الد ُب َر‪(‬القمر‪.)45:‬‬ ‫َو ُي َول َ‬ ‫ُّون ُّ‬ ‫• أن المؤمنين "يضربون" في سبيل اهلل لطلب الرزق‪ ،‬وأن‬ ‫"ستضرب"‬ ‫الفاسقين "يضربون"‬ ‫ً‬ ‫تسلطا أولياء اهلل‪ ،‬ويوم القيامة َ‬ ‫المالئكة وجوههم وأدبارهم‪.‬‬ ‫ش���يئا‪،‬‬ ‫• أن "جم���ع" الفراعنة لكيدهم لم ولن يغني عنهم‬ ‫ً‬ ‫دائما يكسر شوكتهم و"يطرحهم" في النار‪.‬‬ ‫فاهلل ً‬ ‫• أن الوي���ل لم���ن "جمع" المال من الح���رام و"طرحه" في‬ ‫خزائن االكتناز أو "قسمه" على الشهوات المحرمة بدون احتراز‪.‬‬ ‫• أن أس���وأ "كسب" هو كسب السيئات‪ ،‬وأفضل "خسارة"‬ ‫هي خسارة الذنوب‪ ،‬وأن اهلل سيجزي كل نفس بما كسبت‪.‬‬ ‫• أن كل إنس���ان يس���تطيع أن "يكتس���ب" الحس���نات أو‬ ‫و"سيقس���م" عليه في اآلخرة ما اكتس���ب‬ ‫الس���يئات ف���ي الدنيا‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وما اجترح‪.‬‬ ‫• أن لكل نفس بش���رية ما "كس���بت" وعليها ما "اكتسبت"‪،‬‬ ‫إثما فإنما يكسبه على نفسه‪.‬‬ ‫وأن من "يكسب" ً‬ ‫• أن كل األنبي���اء ج���اؤوا لين���ذروا الن���اس ي���وم "الجمع"‪،‬‬ ‫عندما ُ"يطرح" المجرمون في النار‪.‬‬ ‫• أن الفك���ر اإلس�ل�امي ح���رم "الجم���ع" بي���ن األختين في‬ ‫َّ‬ ‫الحياة العامة‪ ،‬وهما المسؤولية العامة والتجارة‪.‬‬ ‫دوما‪ ،‬الخشية من أن تصيبهم "دائرة"‪،‬‬ ‫• أن عادة المنافقين ً‬ ‫وفي ذات الوقت يتربصون بالمؤمنين "الدوائر"‪ ،‬لكن إرادة اهلل‬ ‫ِ‬ ‫الس ْو ِء‪(‬التوبة‪.)98:‬‬ ‫قضت بأن َ‬ ‫‪‬ع َل ْيهِ ْم َدائ َر ُة َّ‬ ‫وهذا ينقلنا إلى هندسة األفكار وأفكار الهندسة‪.‬‬

‫"هندسة" األفكار‬

‫أم���ورا كثيرة‪ ،‬من‬ ‫ف���ي ه���ذه "الدائ���رة" تعلمت م���ن الرياضيات‬ ‫ً‬ ‫أهمها‪:‬‬ ‫• أن "المثلث" الذي تتساوى أضالعه الثالثة‪ :‬الفكر‪ ،‬اإلنسان‪،‬‬ ‫اإلمكانات‪ ،‬هو "مثلث" النهوض الحضاري‪.‬‬ ‫• أن بي���ن "األضالع" التي في ص���دري يكمن َأ َل ُّد أعدائي‪،‬‬

‫‪39‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )39‬‬


‫قضايا فكرية‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬فؤاد البنا*‬

‫هكذا علمتني الرياضيات‬ ‫"ل���وال الرياضي���ات لما توضحت المناس���بات‬

‫ُيش���رك قارئ���ه العزيز معه فيه���ا من خالل ه���ذه المقالة‪ .‬ولكن‬

‫ف���ي كتاب���ه األكث���ر روع���ة "ونحن نقي���م صرح‬

‫فه���ي مصطلحات ورم���وز ذات صلة بعل���م الرياضيات‪ ،‬حتى‬

‫بين البشر وال بين األشياء"‪( .‬فتح اهلل كولن)‪.‬‬

‫الوصف الس���ابع‬ ‫الروح"‪ ،‬جعل المفكر التركي فتح اهلل كولن‬ ‫َ‬

‫أرج���و التركي���ز عل���ى الكلمات الت���ي بين عالمت���ي التنصيص‪،‬‬ ‫نستوعب الظالل الفكرية للرياضيات‪.‬‬

‫م���ن صف���ات وارث���ي األرض‪" ،‬الفك���ر الرياض���ي"‪ ،‬واعتبر بأن بين "األصفار" و"األرقام" الصحيحة‬ ‫الرياض���ي ليس العالِم باألش���ياء المتعلق���ة بالرياضيات‪ ،‬ولكنه‬

‫فكريا"‪.‬‬ ‫الذي "يجمع بين الرياضيات وقوانينها‬ ‫ًّ‬

‫لقد علمتني الرياضيات في هذا السياق‪:‬‬

‫"حل" بواس���طته‬ ‫"الصفر" إلى العالم‪ ،‬حيث َّ‬ ‫• أن العرب أهدوا ِّ‬

‫وف���ي نظرة أولية إل���ى مصطلحات الرياضي���ات وعملياتها‬

‫الرياضيون الغربيون الكثير من المشكالت العلمية‪ ،‬وأن العرب‬

‫أحب أن‬ ‫منه���ا العدي���د م���ن الحقائق والنظ���رات الفكرية الت���ي َّ‬

‫تض���اف هذه "األصفار" إلى "أرق���ام" اآلخرين حتى تتضاعف‪.‬‬

‫الحس���ابية‪ ،‬وج���د كاتب هذه الس���طور أن���ه قد تعلم واس���تلهم‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )39‬‬

‫‪38‬‬

‫بدون اإلسالم يصبحون‬ ‫"أصفارا" على الشمال بدون قيمة‪ ،‬أو‬ ‫ً‬


‫ال���والدي ال���ذي اس���تعمله "جمب���ر لن"‬

‫اإلنجليزي فقد جاء بعد أكثر من خمسة‬

‫قرون من وفاة الزهراوي‪.‬‬

‫أيض���ا أول م���ن َتحاي���ل عل���ى‬ ‫وه���و ً‬

‫فح���ص أعض���اء الح���وض ف���ي األب���كار‬

‫ع���ن طري���ق المقع���د باإلصب���ع‪ ،‬كم���ا‬

‫ط���ور الزه���راوي القنطرة الت���ي صممها‬ ‫جالين���وس‪ ،‬وجعله���ا منحني���ة من طرف‬

‫عددا‬ ‫واحد وبيسر‪ .‬لقد ابتكر الزهراوي ً‬ ‫م���ن اآلالت الجراحية التي اس���تخدمها‬ ‫ف���ي إجراء هذه العملي���ات الرائدة وغير‬ ‫المسبوقة‪ ،‬وصنعها من حديد ال يصدأ‪،‬‬

‫ال بضع‬ ‫بذلك عملياته الجراحية ومس���ه ً‬

‫كان الزه��راوي رائ ًدا يف كثري‬ ‫من العملي��ات اجلراحية‪ .‬فهو‬ ‫�أول من و�ص��ف داء الناعور‪،‬‬ ‫و�أول م��ن رف��ع ح�ص��اة املثانة‬ ‫ع��ن طري��ق املهب��ل‪ ،‬و�أول‬ ‫من كت��ب يف ت�ش��وهات الفم‬ ‫و�سقف احللق‪ ،‬و�أول من ربط‬ ‫الأوعي��ة الدموي��ة بخيوط من‬ ‫احلرير لإيقاف النزف منها‪.‬‬

‫وق���د كان���ت تصن���ع قبل���ه م���ن الذه���ب‬

‫والفض���ة‪ ،‬وتفتق���د الق���درة عل���ى القطع‬

‫األعض���اء‪ .‬وهو فتح علم���ي كبير ادعى‬ ‫تحقيق���ه ألول م���رة الج���راح الفرنس���ي‬

‫"أمب���رواز ب���اري" (‪ )Ambroisise Pare‬عام‬

‫‪1552‬م‪ ،‬ف���ي حي���ن أن أب���ا القاس���م ق���د‬

‫حققه وعلمه قبل ذلك بـ‪ 600‬سنة‪.‬‬

‫كما أن���ه علم تالمذت���ه كيفية تخييط‬

‫ش���يئا‬ ‫الج���روح بش���كل داخل���ي ال يترك ً‬ ‫مرئيا منها‪ ،‬والتدريز المثمن ‪-‬نس���بة إلى‬ ‫ًّ‬

‫ثماني���ة‪ -‬ف���ي جراح���ات البط���ن‪ ،‬وكيفية‬ ‫التخيي���ط بإبرتي���ن وخي���ط واح���د مثبت‬

‫بهما‪ ،‬واس���تعمل الخيطان المستمدة من‬

‫أمعاء القطط في جراحات األمعاء‪.‬‬

‫وق���د أوص���ى الزه���راوي ف���ي كل‬

‫الحاد والس���ريع‪ .‬وقد تح���دث الزهراوي عن هذه اآلالت في‬

‫العملي���ات الجراحي���ة ف���ي النص���ف الس���فلي من اإلنس���ان‪ ،‬أن‬

‫وم���ن هذه األدوات‪ ،‬آالت مس���تخدمة ف���ي جراحات الفم‬

‫كثيرا‬ ‫الغرب مباش���رة عن‬ ‫الجراح العربي المس���لم واستعملها ً‬ ‫ّ‬

‫استخدمها في الجراحات النسائية وجراحات التوليد‪ ،‬وآالت‬

‫"فريدري���ك ترندلنب���ورغ" (‪ .)Fredericch Trendelenburg‬وع���ن‬

‫المقالة الثالثين من كتابه "التصريف"‪.‬‬

‫والفك واألس���نان واألنف واألذن والحنجرة والحلق‪ ،‬وآالت‬ ‫استخدمها في الجراحات العامة والشق والبط‪ ،‬وآالت استخدمها‬ ‫ف���ي جراح���ات العظ���ام‪ ،‬وأدوات الك���ي للج���رح والنت���وءات‪.‬‬ ‫وق���د اس���تعرض الزه���راوي بدقة بالغ���ة خبرات���ه وعملياته‬

‫الكثيرة خالل خمس���ين س���نة من ممارس���ته للطب والجراحة‪،‬‬

‫أيض���ا خبرات من س���بقوه‪ ،‬وس���اق تعريفه للطب‬ ‫واس���تعرض ً‬ ‫بأن���ه عل���م وعم���ل باألس���باب والدالئ���ل‪ ..‬وقدم ف���ي مقاالت‬

‫ال وصفية وتش���ريحية للعظام واألعصاب والعروق‬ ‫كتابه فصو ً‬ ‫والدماغ‪ ،‬وأعماله الثالثة في التخيل والفكر والتذكر‪ .‬ووصف‬ ‫األذن واألنف واألحشاء وطبقات العين‪ ،‬وسائر أعضاء الجسد‬ ‫ال عن حديثه المسهب والدقيق عن‬ ‫من الرأس إلى القدم‪ ،‬فض ً‬ ‫األدوية وتركيبها والعقاقير واستخداماتها‪.‬‬

‫درس عالج تش���وهات الفم والفك باس���تعماله عقافة‬ ‫فقد ّ‬

‫"صناني���ر" في اس���تئصال العيني���ة "البولي���ب أو األورام الليفية"‬

‫في األغش���ية المخاطية‪ ،‬ونجح في عملية شق القصبة الهوائية‬ ‫"تراكيوتوم���ي"‪ ،‬وقد أجرى ه���ذه العملية على خادم���ه‪َ ،‬و ُو ِّفق‬ ‫أيض���ا ف���ي إيقاف نزيف الدم بربط الش���رايين الكبيرة‪،‬‬ ‫محس ً���نا‬ ‫ً‬ ‫ّ‬

‫يرفع الحوض واألرجل قبل كل شيء‪ .‬وهذه الطريقة اقتبسها‬ ‫الج���راح األلمان���ي القدير‬ ‫فعرفت باس���م‬ ‫حت���ى قرنن���ا الحالي‪ُ ،‬‬ ‫ّ‬

‫الزه���راوي أخذن���ا طريق���ة ت���رك فتح���ة ف���ي رب���اط الجبس في‬ ‫الكس���ور المفتوحة‪ ،‬ولمد الجراحين وأطباء العيون واألسنان‬

‫األوربيين باآلالت الالزمة للعمليات بواسطة الرسوم الجديدة‬ ‫التي صفها‪.‬‬

‫وكثي���را من ه���ذه اإلنج���ازات الطبية الفريدة قد اس���تقيناها‬ ‫ً‬

‫م���ن كتابه الضخم "التصريف"‪ ،‬والذي وردت فيه آراء جديدة‬

‫وجريئة في الجراحة والصيدلة أبرزها ما يتعلق بكي الجراحات‬ ‫وس���حق الحص���اة في المثانة‪ ،‬ولزوم تش���ريح األجس���ام الحية‬ ‫والميت���ة‪ .‬وقد َن َقل هذا الجزء من الكتاب إلى الالتينية "جيرار‬ ‫الكريمون���ي"‪ ،‬وص���درت منه طبعات مختلف���ة منها واحدة في‬

‫البندقي���ة عام ‪1497‬م‪ ،‬وأخرى في بازل عام ‪1541‬م‪ ،‬وأخرى‬

‫في أكس���فورد ع���ام ‪1778‬م‪ .‬وظل لهذا الكت���اب مكانة كبيرة‪،‬‬ ‫ككتاب مدرس���ي للجراحة قرو ًنا كثيرة في مدرس���تي س���الرنو‬ ‫ومونبيلييه وغيرهما من مدارس الطب المتقدمة‪.‬‬

‫(*) رئيس قسم الفلسفة واالجتماع‪ ،‬كلية التربية‪ ،‬جامعة عين شمس ‪ /‬مصر‪.‬‬

‫‪37‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )39‬‬


‫غي���ر اعتيادي بالنس���بة لذلك الزمن‪ .‬وم���ن المفارقات الواقعة‪،‬‬

‫استعمل الفحم في ترويق شراب العسل البسيط‪ ،‬كما أنه أول‬

‫الش���رق والغرب على حد س���واء‪ ،‬فالمش���تغالت بالجراحة من‬

‫يمي���ل إلى التعقيد في تحضير األدوية وتعدد عناصرها بالرغم‬

‫أن هذه الش���كوى ما زالت قائمة في عالم الطب الحديث في‬ ‫النساء أقل بكثير من الرجال‪.‬‬

‫وقد ترجم "جيرار الكريموني" (‪1187‬م) في القرن الثالث‬

‫عش���ر المي�ل�ادي‪ ،‬الجزء الثالثين م���ن كت���اب "التصريف" إلى‬ ‫اللغة الالتينية‪ ،‬ومنها نقله "شائيم توب" إلى العبرية‪.‬‬

‫جزءا في‬ ‫يتأل���ف كت���اب "التصريف" م���ن ثالثين‬ ‫ً‬ ‫فص�ل�ا أو ً‬

‫الطب والصيدلة‪ ،‬ث�ل�اث منها فقط خصصها لألبحاث الطبية‪،‬‬

‫من اس���تعمل قوالب خاص���ة لصنع األق���راص الدوائية‪ .‬وكان‬ ‫كبيرا من العقاقير‬ ‫من أنه قال بأن الوصفات تحتوي عادة ً‬ ‫عددا ً‬ ‫التي تتش���ابه في تأثيرها‪ .‬لذلك فإن نقصان أحد مفرداتها ليس‬

‫له تأثير سلبي في المجموع‪ .‬ومن المرجح أن هذه الفكرة قد‬ ‫س���بقه إليه���ا "البيروني" في كتابه "الصيدن���ة في الطب"‪ ،‬والذي‬

‫وضع في مقدمته أسس علم العقاقير الطبية وأسس أخالقيات‬ ‫الطبيب والصيدالني‪.‬‬

‫والمقاالت الباقي���ة كانت صيدالنية صرفة‪ .‬فقد تكلم المؤلف إنجازات في الطب‬

‫في المقالة األولى عن أغراض الكتاب مع لمحة موجزة عن‬

‫كثيرا من آالت الجراحة التي كان‬ ‫أشرنا من ُ‬ ‫قبل إلى أنه ابتكر ً‬

‫المقال���ة الثانية لل���كالم عن األمراض وط���رق معالجتها‪.‬‬ ‫وتعد‬ ‫ّ‬ ‫المقال���ة األخيرة "الثالثون" أش���هر هذه المق���االت‪ ،‬وهي التي‬

‫عالج أكثر من خمسين داء بالكي بالنار‪ .‬ويرى أنه شاهد حالة‬ ‫أيضا‪ .‬وقد كان الزهراوي أول‬ ‫نزيف في أسرة‪ ،‬فعالجها بالكي ً‬

‫الالتينية‪ ،‬ألنها بحث طريف وعلمي في الجراحة‪.‬‬

‫م���ن اس���تعمل ربط الش���رايين قب���ل أن ينتبه إلى ذل���ك غيره من‬

‫محتوياته‪ ،‬ثم تحدث عن األمور الطبيعية المعروفة‪ ،‬وخصص‬

‫أمراض���ا كثيرة بالك���ي‪ ،‬وقد ذكر أنه‬ ‫يس���تخدمها‪ ،‬وكان يعال���ج‬ ‫ً‬

‫اش���تهر بها الزه���راوي‬ ‫جراحا ف���ي أوربا بع���د أن ترجمت إلى‬ ‫ً‬

‫من أعد إحصائية دقيقة لجميع أمراض النزف الدموي‪ ،‬وأول‬

‫ال"‪،‬‬ ‫أما سائر المقاالت األخرى "وعددها ‪ 27‬مقالة أو فص ً‬

‫األطباء‪ ،‬وأول من اخترع طريقة استئصال الحصى المثانية في‬

‫باإلضاف���ة إل���ى أبواب أخ���رى خاصة تتعل���ق بمعالجة أمراض‬

‫باهرا في عملية ش���ق القصبة الهوائية‪،‬‬ ‫الوس���طى نجح‬ ‫ً‬ ‫نجاح���ا ً‬

‫فق���د بح���ث الزهراوي فيه���ا األش���كال الصيدالني���ة المعروفة‪،‬‬ ‫معينة كأدوية القلب والباه والسمنة وأمراض النساء‪ ،‬أو تتعلق‬ ‫بقوة األغذية ومنافعها ومضار ما هو ضار منها‪.‬‬

‫المرأة عن طريق المهبل‪ ،‬وكان أول طبيب مسلم في العصور‬ ‫كما قام بعمليات تفتيت الحصى في المثانة‪.‬‬

‫وتذكر بعض المراجع الفرنس���ية أن أبا القاس���م الزهراوي‬

‫وفي المقالة الثامنة والعشرين‪ ،‬والتاسعة والعشرين‪ ،‬يبحث‬

‫كان أح���د أركان الثال���وث الطب���ي ال���ذي يتال���ف م���ن أبقراط‪،‬‬

‫وتنقيته���ا وتصفيته���ا‪ ،‬وهي أش���هر مقال���ة صيدالني���ة كتبت في‬

‫كثيرا من اإلنجازات الطبية؛‬ ‫وفي الواقع‪ ،‬حقق الزهراوي ً‬

‫الزه���راوي في تحضير العقاقير المعدني���ة والنباتية والحيوانية‪،‬‬

‫األندل���س‪ ،‬وقد نقل���ت إلى اللغ���ة الالتينية بعن���وا ن‬

‫"�‪Liber Ser‬‬

‫وجالينوس‪ ،‬والزهراوي‪.‬‬

‫وس���با ًقا‬ ‫رائ���دا ف���ي كثي���ر م���ن العملي���ات الجراحية‪،‬‬ ‫فق���د كان‬ ‫ً‬ ‫ّ‬

‫‪ ،"vitoris‬وطبع���ت ف���ي البندقي���ة ع���ام ‪1471‬م‪ .‬وأم���ا المقال���ة‬

‫إل���ى إنج���ازات علمي���ة وطبي���ة باهرة وغي���ر مس���بوقة‪ ،‬مما يدل‬

‫فيه���ا‪ :‬تس���مية العقاقير بخم���س لغات هي اليونانية والس���ريانية‬

‫"الهيموفيليا"‪ ،‬وأول من رفع حصاة المثانة عن طريق المهبل‪،‬‬

‫التاس���عة والعش���رين‪ ،‬فقد قس���مها المؤلف خمس���ة أبواب ذكر‬ ‫والفارس���ية والعربي���ة والبربري���ة‪ ،‬وأس���ماء األدوات واألجهزة‬

‫الكيميائي���ة والصيدالني���ة‪ ،‬وإبدال األدوية المف���ردة مع الكالم‬

‫عل���ى بعض مصادرها‪ ،‬وأعمار األدوية المركبة والمفردة "مدة‬ ‫الصالحية"‪ ،‬وش���رح أس���ماء األكي���ال واألوزان مر ّتبة بحس���ب‬

‫حروف المعجم‪.‬‬

‫كثيرا من االكتش���افات واإلبداعات‬ ‫ومن الطريف أننا نجد ً‬

‫الطبية غير المسبوقة في هذا الكتاب‪ ..‬فالزهراوي هو أول من‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )39‬‬

‫‪36‬‬

‫عل���ى عقلي���ة ف���ذة مبتكرة‪ .‬فه���و أول م���ن وص���ف داء الناعور‬

‫وأول من كتب في تش���وهات الفم وس���قف الحلق‪ ،‬وأول من‬ ‫رب���ط األوعية الدموية بخيوط من الحرير إليقاف النزف منها‪،‬‬ ‫كم���ا اس���تعمل الزهراوي ش���عر ذي���ل الخيول لخياط���ة جروح‬

‫الجلد‪ .‬وهو كذلك أول من أش���ار إل���ى الحمل خارج الرحم‪،‬‬ ‫وإلى حالة المش���يمة المتقدمة‪ ،‬وش���ق جيب المياه األمنيوسية‬

‫لتعجي���ل والدة الجنين‪ ،‬وهو ‪-‬دون ش���ك‪ -‬أول من اس���تعمل‬ ‫آل���ة حديدية لس���حب الجني���ن إذا تعطلت والدت���ه‪ ،‬أما الملقط‬


‫الباحثين‪ -‬األثر الكبير في الذين أتوا من‬

‫بع���ده من‬ ‫الجراحي���ن وبخاصة في أوربا‬ ‫ّ‬ ‫في القرن الس���ادس عش���ر‪ .‬ذلك أن هذه‬

‫اآلالت ق���د س���اعدت على وضع حجر‬

‫األساس للجراحة في أوربا‪.‬‬

‫والجدير بالذكر‪ ،‬أنه لم يكتف بذكر‬

‫أكث���ر م���ن مائت���ي آل���ة وببع���ض اآلالت‬

‫الجراحية الطبية فحس���ب‪ ،‬بل قد وضع‬ ‫تصميمه���ا بنفس���ه‪ ،‬وش���رح بدق���ة بالغ���ة‬

‫وافيا‪ .‬شرح ذلك‬ ‫كيفية استعمالها ً‬ ‫شرحا ً‬ ‫ش���رح العا ِلم المم���ارس‬ ‫كله‬ ‫والمجرب‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫الخبير بما ُيفسد الجراحات وما يتوقف‬ ‫عليه نجاحها‪.‬‬

‫الزهراوي هو �أول من ا�س��تعمل‬ ‫الفحم يف ترويق �رشاب الع�س��ل‬ ‫الب�س��يط‪ ،‬كم��ا �أن��ه �أول م��ن‬ ‫ا�س��تعمل قوالب خا�ص��ة ل�ص��نع‬ ‫الأقرا���ص الدوائي��ة‪ .‬وكان مييل‬ ‫�إىل التعقي��د يف حت�ض�ير الأدوي��ة‬ ‫وتعدد عنا�رصه��ا بالرغم من �أنه‬ ‫قال ب�أن الو�ص��فات حتتوي عادة‬ ‫على عدد كب�ير من العقاقري التي‬ ‫تت�شابه يف ت�أثريها‪.‬‬

‫ولم���ا ظه���ر نبوغه في الط���ب‪ ،‬تو ّلى‬

‫مؤلفات في الطب‬

‫كتبا مفي���دة في الطب‪،‬‬ ‫أل���ف الزه���راوي ً‬

‫منه���ا كتاب في أمراض النس���اء‪ ،‬وكتاب‬ ‫اس���تحضار األدوية‪ .‬وق���د ُترجم األخير‬

‫إل���ى الالتيني���ة‪ ،‬وطب���ع ف���ي البندقية عام‬ ‫‪1589‬م‪ .‬ولكن���ه اش���تهر بكتاب���ه ف���ي‬

‫الجراح���ة الذي يس���مى "التصريف لمن‬

‫عج���ز ع���ن التألي���ف"‪ .‬والكت���اب يتناول‬

‫ثالثين فصالً‪ ،‬قسمه‬ ‫أقساما ثالثة‪ ،‬فجعل‬ ‫ً‬ ‫الفص���ل األول ف���ي الط���ب الداخل���ي‪،‬‬

‫والثان���ي ف���ي األقرابازي���ن والكيمي���اء‪،‬‬ ‫والثال���ث في الجراح���ة‪ ،‬وجعله للبحث‬

‫ف���ي عمل الي���د والصناع���ة الجراحية في‬ ‫أح���وال الجبر والكس���ر والخلع والوثي‬

‫التدري���س بجامعة قرطبة التي كان���ت حينئذ من أكبر جامعات‬

‫والكي والفصد "‪ "Phlebotomy‬والجراحات‪.‬‬

‫تق���دم العل���وم الطبية‪،‬‬ ‫وع ْرضه���ا‪ .‬كان ل���ه أث���ر كبير في ّ‬ ‫الطبي���ة َ‬

‫الكبير الذي يرجع إليه األطباء والجراحون في أوربا إلى نهاية‬

‫جديدا في تناول المس���ائل‬ ‫أس���لوبا‬ ‫العال���م اإلس�ل�امي‪ ،‬فابتدع‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫قص���د‬ ‫عدد كبير من األس���اتذة‬ ‫جامع قرطبة ف���ي زمانه ٌ‬ ‫لذل���ك َ‬ ‫َ‬

‫���عون إل���ى التع ّلم‬ ‫وط�ل�اب العل���م األوربيي���ن‪ ،‬الذين كانوا َي ْس َ‬ ‫عل���ى ي���د المس���لمين آن���ذاك‪ .‬وق���د أفادوا م���ن الط���ب العربي‬

‫فض�ل�ا ع���ن ه���ذه الكت���ب الجامع���ة الت���ي قام���وا بترجمته���ا‬‫ً‬ ‫ج���دا تتعل���ق بالطب الع���ام والطب‬ ‫إل���ى لغته���م‪ -‬م���ادة غزيرة ًّ‬

‫علم التشخيص المقارن‪،‬‬ ‫الس���ريري أو اإلكلينكي‪ ،‬كما تع ّلموا َ‬ ‫واس���تقصاء ال���دالالت‪ ،‬والتميي���ز بي���ن األم���راض المتش���ابهة‪.‬‬ ‫لق���د كان الزه���راوي أول م���ن وصف وض���ع الوالدة‪ ،‬وله‬

‫آالت تس���تأصل به���ا أورام األنف وهي كالس���نارة‪ ،‬وله آالت‬

‫أخرى الستخراج حصاة المثانة بالشق أو التفتيت‪ ...‬وقد كان‬

‫األس���لوب الذي ابتدعه الزهراوي في ع���رض نظريات الطب‬

‫وأس���اليبه العويصة‪،‬‬ ‫ال‪ .‬فكان له أثر آخر في‬ ‫أدبيا جمي ً‬ ‫ً‬ ‫أس���لوبا ًّ‬

‫وقيم���ة ه���ذا الكت���اب الطبية تتجل���ى في أنه ظ���ل المرجع‬

‫القرن السابع عشر‪ .‬وكان أطباء العرب منذ العصر الجاهلي‪،‬‬

‫عالجا‬ ‫يعول���ون على الكي باعتباره‬ ‫حاس���ما لكثير من األدواء‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫وإن كان الط���ب الحديث اآلن ينظ���ر إليه نظرة أخرى إيجابية‪،‬‬ ‫م���ن حي���ث جدواه في عالج كثير من األمراض التي لم ُيعرف‬

‫ويصن���ف اآلن ضمن عالجات‬ ‫لها ع�ل�اج بالط���رق التقليدية‪ُ ،‬‬ ‫الطب البديل‪ ،‬مثل العالج بالحجامة أو الفصد باإلبر الصينية‪.‬‬ ‫ويالح���ظ أن الزهراوي كان من المهتمين بالعالج بالكي‪،‬‬

‫وق���د أبدى ه���ذا االهتمام ف���ي كتابه "التصريف"‪ ،‬فتوس���ع في‬

‫االعتي���اد عليه‪ ،‬واس���تخدامه في فتح الخراجات‪ ،‬واس���تئصال‬

‫األورام السرطانية‪ ،‬وكان يفضله في أحيان كثيرة على استعمال‬ ‫المشرط بالرغم من أنه كان من عباقرة الطب الجراحي‪.‬‬

‫ويدع���و الزه���راوي إلى ض���رورة إلمام‬ ‫الجراح بالتش���ريح‬ ‫ّ‬

‫نفوس طالبه‪ ،‬إذ بعث فيهم بفصاحته في الشرح وقدرته على‬

‫ومعرفة كل عضو في جس���م اإلنس���ان وتركيبه ووظيفته‪ ،‬إذ ال‬

‫العرب���ي فأقبل���وا عل���ى دراس���ته‪ .‬وق���د كان للزه���راوي تالمذة‬

‫جزءا‪ .‬وعلى الرغم من أن الزهراوي َيعتبر‬ ‫جزءا ً‬ ‫أجزاء الجسم ً‬

‫حب األدب‬ ‫استخدام اللغة األدبية في تيسير القواعد العلمية‪َّ ،‬‬

‫كثي���رون‪ ،‬منه���م أبو بك���ر عمر الكرمان���ي‪ ،‬وأبو بك���ر الخياط‪،‬‬

‫وابن وافد اللخمي‪ ،‬ويوس���ف بن أحمد بن حس���داي‪ ..‬ويذكر‬

‫المترجمون له‪ ،‬أنه كان من الزهاد ويمارس الطب بال أجر‪.‬‬

‫ألم‬ ‫يتسنى‬ ‫إلماما دقي ًقا بتشريح‬ ‫ً‬ ‫للجراح أن يقوم بمهمته إال إذا ّ‬ ‫ّ‬ ‫عل���م التش���ريح‬ ‫ضروري���ا لتع ّل���م العمليات الجراحي���ة‪ ،‬إال أننا‬ ‫ًّ‬ ‫َ‬

‫نجده يشكو من ندرة العنصر النسوي بين األطباء‪ .‬وربما كان‬ ‫هذا هو الذي دفعه على التركيز على الجراحة النس���وية بشكل‬

‫‪35‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )39‬‬


‫تاريخ وحضارة‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬بركات محمد مراد*‬

‫الزهراوي‬ ‫رائد علم الجراحة والتشريح‬ ‫ه���و أبو القاس���م خلف ب���ن عب���اس الزهراوي‬

‫(‪404-325‬ه���ـ‪1013-936/‬م)‪ ،‬م���ن أع�ل�ام‬ ‫الط���ب العرب���ي اإلس�ل�امي وأش���هر جراح���ي‬

‫الق���رون الوس���طى‪ ،‬وأحد األطباء العرب والمس���لمين القالئل‬

‫الذي���ن عرفتهم أوربا الالتينية‬ ‫واعتم���دت على كتبهم في تعلّم‬ ‫ْ‬ ‫الطب وممارسته ما يزيد على خمسة قرون‪.‬‬

‫ُولد بمدينة الزهراء القريبة من قرطبة و ُنس���ب إليها‪ُ .‬عرف‬

‫احا‪ ،‬وقد لمع اس���مه ف���ي أوربا الالتينية‬ ‫وجر ً‬ ‫الزه���راوي ً‬ ‫طبيبا ّ‬ ‫أكثر مما نظر إليه أهل بلده ومعاصروه‪.‬‬

‫علم���ا‬ ‫حقيقيا‬ ‫إن الجراح���ة أصبح���ت ف���ي ي���د المس���لمين ً‬ ‫ًّ‬

‫وفن���ا ل���ه أصول وقواع���د‪ ،‬إذ ارتفعوا به فوق مس���توى األدعياء‬ ‫ًّ‬

‫والمش���عوذين والجهلة إلى مجالها الطبيعي‪ ،‬ال يمارسها ‪-‬إال‬ ‫كثيرا ما كانوا‬ ‫طب ًق���ا للقانون‪ -‬غير ّ‬ ‫أطباء مؤهلين ف���ي الجراحة ً‬

‫يم���رون بامتح���ان ُيعق���د له���م ف���ي البيمارس���تانات الكبيرة في‬ ‫ّ‬

‫القاهرة وبغداد‪.‬‬

‫وبلغ���ت الجراح���ة في يد المس���لمين في القرون الوس���طى‬

‫ذروته���ا عل���ى ي���د أب���ي القاس���م الزه���راوي ال���ذي أل���ف كتابه‬

‫"التصري���ف لم���ن عج���ز عن التألي���ف"‪ ،‬والذي هو ف���ي ثالثين‬ ‫ال‪ ،‬اهتم في بعض فصوله بالجراحة وخاصة فصله األخير‪.‬‬ ‫فص ً‬ ‫وقد كانت مهنة الجراحة مهنة مكروهة ممتهنة حتى مقدم أبي‬

‫حل ما جاء في كتابه "التصريف" عن الجراحة‬ ‫القاس���م‪ ،‬حيث َّ‬

‫مح���ل كتاب���ات اليونان‪ ،‬وظل العم���دة في هذا الف���ن في أوربا‬ ‫ّ‬

‫‪-‬كما تخبرنا جميع المراجع‪ -‬حتى القرن السادس عشر‪.‬‬

‫زود أبو القاس���م مبحثه في الجراحة بصور توضيحية‬ ‫ولقد ّ‬

‫آلالت الجارحة "أكثر من مائتي آلة جراحية" كان لها ‪-‬بإجماع‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )39‬‬

‫‪34‬‬


‫بعي���دا عن سفاس���ف الدنيا‪ ،‬فال اغت���رار بمغرياتها‪ ،‬وال‬ ‫يرفعن���ا‬ ‫ً‬ ‫انغماس في شهواتها‪ ،‬بل استشعار بوطء األمانة وثقلها‪.‬‬

‫"أَشه ُد" ميالد حياة سرمدية‬

‫بقولها ُي ِ‬ ‫ين‬ ‫نجبنا الزمان‬ ‫‪‬يا َأ ُّي َها ا َّل ِذ َ‬ ‫ّ‬ ‫لتدب فينا الحياة الحقيقية‪َ :‬‬ ‫اس َت ِجيبوا لهلِ ِ َو ِللر ُس ِ‬ ‫ِيك ْم‪(‬األنفال‪.)24:‬‬ ‫اك ْم ِل َما ُي ْحي ُ‬ ‫ول ِإ َذا َد َع ُ‬ ‫َ‬ ‫آم ُنوا ْ ُ‬ ‫َّ‬ ‫التي���ه‬ ‫س���يميتها‬ ‫���ا‪،‬‬ ‫ولعب‬ ‫ا‬ ‫له���و‬ ‫نقضيه���ا‬ ‫ظاهري���ة‬ ‫لحظ���ات‬ ‫بع���د‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫والضالل‪ ،‬نقتسمها وكل األحياء "المعطلة" ال سمع وال بصر‬ ‫منا أن يقول‪ :‬أنا‬ ‫وال ف���ؤاد‪ .‬بقول "أش���هد"‪ ،‬يحين الوقت ل���كل ّ‬

‫ند‬ ‫وتتلب ُس���نا الطمأنينة‪ ،‬أن اهلل واحد‪ ،‬ال ّ‬ ‫ّ‬ ‫وال عدل له سبحانه‪ ...‬لنشيد‬ ‫صرحا‬ ‫ً‬ ‫ش���امخا م���ن المع���ارف والم���دارك‬ ‫ً‬ ‫على القاعدة الذهبية‪َ " :‬أ َحد َأ َحد"‪،‬‬

‫علما يتماشى‬ ‫والسنن الكونية‬ ‫َ‬ ‫لننتج ً‬

‫الت���ي ش���اء اهلل تعال���ى أن ُيقي���م عليها‬

‫خلق���ه‪ ...‬فتأتي علومنا الكونية توحيدية ال‬

‫إلحادية وقد اس���تقت روحها من كالم الحق ‪...‬‬

‫فيك���ون‬ ‫منهجنا في كل العلوم‪ ،‬قراءة صفحات الكون باعتباره‬ ‫ُ‬

‫مي ٌت في نازلة‪ ،‬وما كان لقاض عدل‬ ‫حي أرزق‪ ،‬فما شهد ً‬ ‫يوما ّ‬ ‫ّ‬ ‫ميت وإن نقلت له عن ع���دل ضابط‪ .‬فلندع‬ ‫بش���هادة‬ ‫يأخ���ذ‬ ‫أن‬ ‫ّ‬ ‫ونحس ونستشعر‬ ‫هذه الحياة النوعية تسري في عروقنا‪ ،‬ندرك‬ ‫ّ‬

‫مخلو ًق���ا لخال���ق خبير علي���م حكيم‪ ،‬ق���راءة واعية يك���ون فيها‬ ‫ِاس ِم َر ِّب َك ا َّل ِذي َخ َل َق﴾(العلق‪.)1:‬‬ ‫شعارنا‪﴿ :‬ا ْق َر ْأ ب ْ‬

‫وأمدنا الكريم الجواد بكل النعم‪ .‬فنس���لم له‬ ‫الخبي���ر من عدم‪،‬‬ ‫ّ‬

‫ل���كل إنس���ان انتم���اء اجتماعي وآخ���ر وجودي‪ .‬ف���األول ُيعلم‬

‫أن أوجدنا الحكيم‬ ‫الفض���ل الجلي���ل والعطاء‬ ‫الجم الكثير ف���ي ْ‬ ‫ّ‬

‫الناصية تألهه أرواحنا التي بعثت من جديد‪ُ ،‬فيذكر وال ُينسى‪،‬‬ ‫إلها يس���تلزم إنعامه أسر‬ ‫ويش���كر فال ُيكفر‪ً .‬‬ ‫ويطاع وال ُيعصى‪ُ ،‬‬ ‫ُ‬

‫النف���وس‪ ،‬وجماله األخذ باأللباب‪ ،‬وعظمت���ه انبهار الوجدان‪.‬‬ ‫ليطهر أغوار‬ ‫وبهذا االستش���عار ل ِن َعم اهلل ينبجس ينبوع المحبة ّ‬

‫"أَشه ُد" أمة وحضارة‬

‫بمعرف���ة أبيه وأمه وفصيلت���ه التي تؤويه‪ ،‬والثاني تتضح معالمه‬

‫وأبع���اده حي���ن يعل���ن انتم���اءه له���ذا الوج���ود كمخل���وق لرب‬ ‫األك���وان وباريه���ا‪ :‬إ َِّن َه ِ‬ ‫���ذ ِه ُأ َّم ُت ُك���م ُأ َّم��� ًة َو ِ‬ ‫���د ًة َو َأ َن���ا َر ُّب ُك ْم‬ ‫اح َ‬ ‫ْ‬ ‫اعب ُد ِ‬ ‫ون‪(‬األنبي���اء‪ ،)92:‬غي���ر أن هذا ال يقف عند انتمائه‬ ‫المادي‬ ‫ّ‬ ‫َف ْ ُ‬ ‫كحلق���ة ضم���ن سلس���لة الموج���ودات‬ ‫المادي���ة‪ ،‬يتس���اوى فيها‬ ‫ّ‬

‫القل���وب عش��� ًقا ت���ذوب ل���ه األوصال‪ ،‬ث���م تنقاد الج���وارح في‬ ‫﴿و َقا ُلوا َس ِم ْع َنا‬ ‫حركية طاعة ال حركية معصية‪ ،‬ولس���ان الحال َ‬

‫تصور يلغي أفضليته في‬ ‫اإلنس���ان والحيوان والجماد في إطار ّ‬

‫ال‪ ،‬في‬ ‫لتم�ل�أ الحياة عم���ارة في األرض أخال ًقا‬ ‫وس���لوكا وعم ً‬ ‫ً‬

‫بل هو انتساب إلى أنماط فكر وقيم وأخالق‪ ،‬وإلى ضرب من‬

‫َو َأ َط ْع َنا ُغ ْف َرا َن َك َر َّب َن���ا َو ِإ َل ْي َك ا ْل َم ِص ُير﴾(البقرة‪ .)285:‬تظهر آثارها‬ ‫ص�ل�اح وإص�ل�اح‪ ،‬يبرز عل���ى أن انتماءنا آلدم ه���و انتماء نبوة‬ ‫ال انتم���اء جن���س وحس���ب‪ .‬فإرثنا نبوة‪ ،‬ومالنا ثق���ة باهلل وتوكل‬

‫الك���ون ويخل���ع عنه لباس التكريم الرباني ال���ذي حباه اهلل به‪،‬‬

‫تصور عميق للحياة والكون‪،‬‬ ‫تنم عن ُّ‬ ‫المعامالت والسلوكيات‪ُّ ،‬‬ ‫يتجاوز عالم الشهادة إلى عالم الغيب‪ ،‬ويعطي خصائص بارزة‬

‫فالكل‬ ‫عليه‪ ،‬فال ضيق ينكد العيش وال سعة تفرح الوجدان‪...‬‬ ‫ّ‬ ‫موصول بخالقه منقطع عن كل مخلوق‪ ،‬وحسبه اهلل‪ ،‬منفصل‬

‫في أعم���اق الزمن‪ ،‬ثابتة األصل‪ ...‬إنها الذاتية الحضارية ألمة‬

‫"أَشه ُد" ينبوع علم‬

‫إقص���اء لآلخر‪ ،‬تحاكم الع���دو والصديق بما تحاكم به الذات‪،‬‬

‫عن ذاتية حضارية ال مثيل لها‪ ،‬مكينة الجذور‪ ،‬غارقة االمتداد‬

‫يعش عن ذكره‪ ،‬وال ُيعرض عن وصله‪.‬‬ ‫الرجاء عن غيره‪ ،‬ال ُ‬

‫محمد ‪ ،‬تفيض عطاء بخيريتها على كل الناس‪ ،‬تس���ود دون‬

‫ال‬ ‫���م َأ َّن ُه َ‬ ‫ال ِإ َل َه ِإ َّ‬ ‫إنه���ا ب���اب علم معرفة اهلل ‪ ‬وتوحيده‪َ ﴿ ،‬ف ْ‬ ‫اع َل ْ‬ ‫هلل﴾(محمد‪ ،)19:‬لذا ألزمنا الحق س���بحانه بعلم ما تس���تلزمه هذه‬ ‫ا ُ‬

‫حاملة لواء الخير للغير‪ ،‬تعلم أن المخالف ما كان ليكون لوال‬

‫اس���تيقنته قلوبنا‪ ،‬بعد‬ ‫الش���هادة ال بالقول به‪ ،‬فما نش���هد إال بما‬ ‫ْ‬

‫تدب ًرا في كتاب اهلل حر ًفا حر ًفا وكلمة كلمة‪،‬‬ ‫أن أعملن���ا عقولنا ُّ‬

‫وج���ود حيثيات ومفارقات صاغ���ت وجوده‪ ،‬فتقرب وتقارب‪،‬‬

‫توح���د القلوب ف���ي إطار البعد اإلنس���اني‪ ،‬وتوحد التصور في‬ ‫إطار البعد الوجودي‪ ،‬بحوار يسلك اإلقناع ويراعي المشاعر‪،‬‬ ‫يع���رض ال���رأي الثاقب دون تس���فيه للرأي المخالف‪ ،‬ويبس���ط‬

‫تتش���ر ُب معانيها أفئدتنا‪ ،‬ثم تفكُّ ًرا نجول بنظرنا عبرة في آيات‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫اهلل المبثوث���ة ف���ي اآلفاق واألنفس‪ ،‬نخرج أنفس���نا من زمرة َمن‬

‫الحجج الدامغة من غير حجر لحرية القرار واالختيار‪.‬‬ ‫ُ‬

‫الذين يتفكرون في خلق السموات واألرض‪ .‬فتغشانا السكينة‪،‬‬

‫(*) عضو الهيئة المغربية لإلعجاز العلمي في القرآن والسنة ‪ /‬المغرب‪.‬‬

‫كان���ت أعينه���م في غطاء عن ذكر اهلل‪ ،‬إل���ى ُزمرة أولي األلباب‬

‫‪33‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )39‬‬


‫أدب‬ ‫محمد مساعدي*‬

‫إنني أشهد‬ ‫فيض���ا داف ًق���ا م���ن معان���ي‬ ‫هي���ا بن���ا ُنالم���س ً‬ ‫ّ‬ ‫لحظات‬ ‫نحي���ا‬ ‫"‪،‬‬ ‫د‬ ‫ش���ه‬ ‫رباني���ة‪ُ ،‬نرخي العنان‬ ‫" َأ َ ُ‬ ‫ّ‬ ‫لحب���ال أفكارنا‪ ،‬نركب مطي���ة العقل‪ ،‬نتدارس‬ ‫التأم�ل�ات ح���ول أول كلمة من رك���ن اإلخالص‬ ‫عص���ارة م���ن ّ‬ ‫والتوحي���د‪ ،‬كلم���ة التق���وى "أش���هد أن ال إل���ه إال اهلل"‪ ،‬والت���ي‬ ‫نش���يد عليها إس�ل�امنا‪ ،‬ونعلن بها انتس���ابنا إل���ى أمة محمد ‪.‬‬ ‫نج���دد العهد والميث���اق الذي واثقنا اهلل به في رحاب الس���مع‬ ‫ّ‬ ‫‪‬و ْاذ ُكروا ِن ْعم��� َة ا ِ‬ ‫هلل َع َل ْي ُك ْم‬ ‫َ‬ ‫والطاعة‪ ،‬نستش���عر نعم���ة اهلل علينا َ ُ‬ ‫���ه ا َّل ِ‬ ‫���ذي َوا َث َق ُكم ِب ِه إ ِْذ ُق ْل ُتم َس ِ‬ ‫هلل إ َِّن‬ ‫���م ْع َنا َو َأ َط ْع َنا َو َّات ُقوا ا َ‬ ‫َو ِمي َثا َق ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫هلل َع ِليم ب َِذ ِ‬ ‫الص ُدورِ ‪(‬المائدة‪ ،)7:‬نمش���ي في ركب السائرين‬ ‫ا َ‬ ‫ات ُّ‬ ‫ٌ‬ ‫ين‪(‬الفاتحة‪،)5:‬‬ ‫إل���ى اهلل تحت ظالل ‪‬إ َِّي���اكَ َن ْع ُب ُد َوإ َِّي���اكَ َن ْس َ���ت ِع ُ‬ ‫األمة في وحدة الوجهة "قبل ًة"‪ ،‬ووحدة القلوب‬ ‫نص���وغ مفهوم ّ‬ ‫"اعتقادا" في أسمى معانيها؛ "إذا اشتكى منها عضو تداعت له‬ ‫ً‬ ‫والح ّمى"‪ ...‬في انسالخ عن الفردانية‬ ‫بالس َ‬ ‫���هر ُ‬ ‫س���ائر األعضاء ّ‬ ‫ميِ���زة للذات إلى تمس���ك متين بحبل الجماع���ة‬ ‫الممتد من‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫الم ّ‬ ‫س���مو ورفعة من غير وهن واستكانة‬ ‫في‬ ‫الس���ماء‪،‬‬ ‫إلى‬ ‫األرض‬ ‫ّ‬ ‫ونش���يد عمارة‬ ‫نحيا‬ ‫بالقرآن‬ ‫الكون‪:‬‬ ‫ته���ز أركان‬ ‫نعلنه���ا صيحة ّ‬ ‫ّ‬ ‫األرض‪ ،‬لنا العلو والمجد‪.‬‬

‫"أَشه ُد" في الحاضر والمستقبل‬

‫ه���ي إع�ل�ان لعهد وميثاق أزلي يبدأ في الزمان منذ أن كنا ُنط ًفا‬ ‫ّ‬ ‫ربنا على ظهره‪ ،‬وأخرج منه‬ ‫مس���ح‬ ‫في صلب أبينا آدم‪ ،‬حيث‬ ‫ّ‬ ‫كل نس���مة هو خالقه���ا إلى يوم القيامة‪ ،‬ث���م جع َلنا على صعيد‬ ‫آد َم ِم ْن‬ ‫‪‬وإ ِْذ َأ َخ َذ َر ُّب َك ِم ْن َب ِني َ‬ ‫واحد وأش���هدنا على أنفس���نا‪َ :‬‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )39‬‬

‫‪32‬‬

‫ِ‬ ‫���ت ب َِر ِّب ُك ْم‪،‬‬ ‫���ه َد ُه ْم َع َلى َأ ْن ُف ِس���هِ ْم َأ َل ْس ُ‬ ‫���م ُذرِّ َّي َت ُه ْم َو َأ ْش َ‬ ‫ُظ ُهورِ ه ْ‬ ‫منا ربنا‬ ‫‪‬ب َلى َش���هِ ْد َنا‪ ،‬فأخذ ّ‬ ‫فنطق كل منا على لس���ان واحد َ‬ ‫���و َم ا ْل ِق َي َام ِة ِإ َّنا ُك َّنا َع ْن َه َذا‬ ‫موث ًق���ا ً‬ ‫غليظ���ا‪ ،‬وأنذرنا ‪َ ‬أ ْن َت ُقو ُلوا َي ْ‬ ‫أبدا‪...‬‬ ‫ين‪(‬األعراف‪ .)172:‬ش���هادة سرمدية ال ينقطع أمدها ً‬ ‫َغا ِف ِل َ‬ ‫تتجدد عند كل مس���لم‬ ‫فط���رة اهلل الت���ي فط���ر الناس عليها‪ ،‬ث���م‬ ‫ّ‬ ‫الربوبية‬ ‫ناصيت���ه للح���ق تبارك وتعالى‪ ...‬حين يالمس إحس���ان ّ‬ ‫قلوبن���ا فيأس���رها‪ ،‬فتألهه كل ذرة في أجس���ادنا‪ ،‬فتنطلق ألس���نتا‬ ‫َ‬ ‫عمر‬ ‫على‬ ‫أنوارها‬ ‫تنساب‬ ‫ثواني‬ ‫"أشهد"‪،‬‬ ‫بقول‬ ‫الدهر بأكمله‪...‬‬ ‫ّ‬ ‫فهي تنقلنا منذ لحظة قولها من الفناء إلى الخلود‪ ،‬ومن الموت‬ ‫إل���ى الحياة‪ ...‬ترحل بنا من ضيق البقعة األرضية التي نمش���ي‬ ‫ف���ي مناكبها من حي���ز الفضاء المس���توعب لحركيتنا في الكون‬ ‫بمعية خالقنا‪ ،‬فتتحرر أرواحنا‬ ‫إلى جوار عرش الرحمن‪ ،‬لنفوز ّ‬ ‫به���ذه‬ ‫المعي���ة من قي���د كل زمان ومكان‪ ...‬ثم إن هذا الش���عور‬ ‫ّ‬ ‫مجتمعا لهذه األمة‬ ‫بالسمو لكل فرد منا‪ ،‬هو الذي يعطي‬ ‫الذاتي‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫اك ْم ُأ َّم ًة َو َس ًطا ِل َت ُكو ُنوا‬ ‫﴿و َك َذ ِل َك َج َع ْل َن ُ‬ ‫حق الشهود الحضاري‪َ :‬‬ ‫شهداء على الناس ويكون‬ ‫يدا﴾(البقرة‪)143:‬؛‬ ‫الر ُس ُ‬ ‫ول َع َل ْي ُك ْم َشهِ ً‬ ‫ُ َ َ َ َ َ َّ ِ َ َ ُ َ َّ‬ ‫ش���هادة على الناس باس���تحقاق‪ ،‬لما أوثقنا به أنفس���نا من عهد‬ ‫عزب عنه مثقال ذرة في األرض وال في الس���ماء‪.‬‬ ‫مع من ال َي ُ‬ ‫حاضرا هو ملزم للمس���تقبل‪ ،‬فحين نشهد اليوم‪،‬‬ ‫ثم إن التزامنا‬ ‫ً‬ ‫فهي شهادة للغد بكل أبعاده في الزمان‪ ،‬نحيا ونموت ونبعث‬ ‫لألمة فحس���ب‪ ،‬بل‬ ‫عليها‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫فالمرتد ًّ‬ ‫أيا كان‪ -‬ال يلغي انتس���ابه ّ‬‫يلغي كرامته البشرية وإلى األبد فتهدر إنسانيته‪.‬‬

‫"أَشه ُد" صرخة ُح ّرية‬

‫ونبض قافلة‬ ‫نعلنه���ا صرخ���ة ُح ّرية في وج���ه كل ظلم‪ ،‬تتناغ���م‬ ‫َ‬ ‫الس���ائرين إلى اهلل‪ :‬مالئكة‪ ،‬جن‪ ،‬نبات‪ ،‬حجر وشجر‪ ...‬نشهد‬ ‫الع���زة بوحدانيته في الوجود‪ ،‬وبانف���راده بالخلق واألمر‪.‬‬ ‫لرب‬ ‫ّ‬ ‫مس���تقيما نلتزم به‪ ،‬لندخ���ل محراب العبودية‬ ‫صراطا‬ ‫نس���تهديه‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫لنحرر أنفس���نا‬ ‫ف���ي ذل وانكس���ار وخض���وع‪ ،‬بكم���ال محب���ة‪...‬‬ ‫ّ‬ ‫أي‬ ‫كم���ا فككنا أس���رها م���ن قيد كل زم���ان ومكان‪ -‬م���ن ذل ّ‬‫مخلوق جبار معاند ومكابر كان‪ ،‬أم ملك قاهر‪ .‬ويكون لس���ان‬ ‫حالن���ا‪َ  :‬قا ُل���وا َل ْن ُن ْؤ ِث���ركَ َع َلى َما َج َاء َن���ا ِم َن ا ْلب ِي َن ِ‬ ‫���ات َوا َّل ِذي‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َف َط َر َنا‪(‬ط���ه‪ .)72:‬ف�ل�ا خض���وع وال انكس���ار لغي���ر ب���ارئ البرايا‬ ‫وخال���ق األك���وان‪ .‬فهو ش���عور بالرفعة وبالس���يادة ف���ي الكون‪،‬‬


‫سد‬ ‫أجسامنا باستخراج الماء من القوت‬ ‫المتناول‪ ،‬ويتم بذلك ّ‬ ‫َ‬ ‫الحاجة للماء بش���كل أيضي‪ .‬فهذه العملي���ة تغنينا عن الجاجة‬

‫نمر عليها في اليوم‬ ‫إلى الماء ً‬ ‫دائما‪ .‬تنتشر أعشاش النمل التي ّ‬ ‫الواحد على نصف كيلومتر مربع‪ ،‬وربما ترتفع هذه المساحة‬

‫إلى ‪ 6.800‬هكتار إذا كانت األعشاش قليلة‪.‬‬

‫استمرارية نَ ْسلنا‬

‫تجتم���ع الذك���ور واإلن���اث للتكاثر ف���ي فصل الخري���ف‪ .‬إنها‬ ‫الحمل الت���ي تمتد إلى‬ ‫مرحل���ة تت���م بتقدي���ر إله���ي‪ .‬وبعد فت���رة‬ ‫ْ‬

‫واحدا ف���ي فصل الربيع‪ ،‬كما‬ ‫مولودا‬ ‫يوم���ا‪ ،‬تل���د اإلناث‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫‪ً 190‬‬ ‫تندر التوائم بيننا‪ .‬تستند األنثى أثناء الوالدة على ذيلها الطري‬ ‫مزودا بالمخالب‪،‬‬ ‫الناعم فتضع مولودها عليه‪ ،‬ويولد المولود‬ ‫ً‬

‫ث���م تقوم بإرضاعه س���تة أش���هر‪ .‬هذا وقد تمت���د صحبة الصغير‬ ‫ألم���ه ‪-‬ف���ي بعض األحيان‪ -‬عامين‪ ،‬يك���ون عندها قد بلغ‪ ،‬ثم‬ ‫يبدأ البحث عن األنثى رفيقة عمره‪ .‬تقوم األم بحمل صغيرها‬

‫عل���ى الظه���ر ف���ي غالب األحي���ان‪ ،‬وال تضع���ه إال عندما تغدو‬

‫باحثة عن رزقها‪ .‬ال تتحمل إناثنا أعباء رعاية الصغار وحدها‪،‬‬ ‫أيضا نش���اركها ف���ي هذه المهم���ة الهامة‪ .‬أما‬ ‫ب���ل نح���ن الذكور ً‬

‫آكالت النم���ل الحريري���ة فتقوم بتلقيم صغاره���ا بعض الطعام‬ ‫(نصف المهضوم) من النمل في فترة الرضاع‪.‬‬

‫إذا كان���ت صغارن���ا نح���ن آكل���ي النم���ل العمالقة تش���بهنا‪،‬‬

‫الت َاما ْن���دو (‪ )Tamandua‬ال تش���به أبويها ب���ادئ األمر‬ ‫ف���إن صغ���ار ّ‬

‫تدريجيا‪ ،‬حيث يتغير لونها من البياض إلى الس���واد حتى‬ ‫إنم���ا‬ ‫ًّ‬

‫خاصا نركن‬ ‫يتحق���ق الش���به بينها وبي���ن أبويها‪ .‬ليس لنا م���أوى ً‬ ‫إليه‪ ،‬بل نلجأ إلى ظالل األشجار فنلتحف أذيالنا وننام‪ .‬ويلجأ‬

‫الت َاما ْندو إلى ُن ْق َرة في جذع ش���جرة ليستريح فيه‪ ،‬كما يستريح‬ ‫ّ‬

‫آكل النمل الحريري على أغصان األش���جار‪ ،‬إال أنه ال يمكث‬ ‫أيضا يرعى ‪-‬مثلنا‪-‬‬ ‫ف���ي الش���جرة الواحدة أكثر من يوم‪ ،‬وه���و ً‬

‫الت���وازن البيئ���ي حينم���ا يتن���اول النم���ل‪ .‬نتمتع نح���ن وفصيلة‬

‫التع���رف على إناثنا وصغارنا بفضل الرائحة‬ ‫الت َاما ْن���دو‪ ،‬بمهارة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫القوي���ة التي تصدرها غددها الش���رجية‪ .‬وقد تقوم غدد إفرازية‬

‫أيضا‪ .‬كما‬ ‫ف���ي وجه آكل النمل الحريري‪ ،‬بمثل ه���ذه الوظيفة ً‬

‫أنن���ا نس���تخدم رائحة لعابنا ف���ي التواصل فيما بينن���ا وفي تمييز‬ ‫الذين ينتمون إلى فصيلتنا كذلك‪.‬‬

‫جدا‪ ،‬هذا ما يجعلنا‬ ‫معدل األيض في أجسامنا منخفض ًّ‬ ‫إن ّ‬

‫جسمي (‪ 32,7‬درجة) بين الثدييات‬ ‫أقل معدل حراري‬ ‫نملك ّ‬ ‫ٍّ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫يوم���ي لتأمي���ن‬ ‫نش���اط‬ ‫س���اعات‬ ‫المش���يمية‪ .‬نحت���اج إل���ى ‪8-4‬‬ ‫ٍّ‬

‫احتياجاتنا‪ .‬تتمتع أنواعنا التي تعيش في المناطق الشمالية من‬ ‫ٍ‬ ‫القارة األمريكية بلون‬ ‫واحد كاشف بعض الشيء‪ ،‬بينما يغمق‬ ‫هذا الل���ون كلما اتجهنا صوب المناطق الجنوبية‪ .‬هذا‬ ‫ويتفرع‬ ‫ّ‬ ‫تبعا أللوانها‪ .‬فالنوع‬ ‫كلٌّ م���ن األنواع األربعة إلى فروع عديدة ً‬ ‫والت ّاما ْندو المكسيكي‬ ‫يتفرع إلى ثالثة فروع‪ّ ،‬‬ ‫الذي أنتسب إليه ّ‬ ‫تبعا‬ ‫إلى خمس���ة فروع‪ ،‬وآكل النمل الحريري إلى سبعة فروع ً‬ ‫لألشجار والمناطق التي تعيش عليها‪.‬‬ ‫أيضا‪ ...‬فعلى الرغم‬ ‫إن خطر االنقراض يسري علينا نحن ً‬ ‫من أن لحمي ال يصلح لألكل‪ ،‬وجلدي ليس‬ ‫مرغوبا وليست‬ ‫ً‬ ‫ل���ه تجارة ش���ائعة‪ ،‬فإن بعض الناس يه���وى مطاردتي وصيدي‬ ‫عب���ر الكالب كنوع من الرياضة‪ .‬ففي "فنزويال" يس���رق‬ ‫الناس‬ ‫ُ‬ ‫للت ْدجي���ن‪ .‬ولكن أخط���ر تهديد نواجهه ف���ي الحقيقة‬ ‫صغارن���ا َّ‬ ‫ه���و تخري���ب البيئة والمحيط الذي نعيش ف���ي كنفه؛ فالنفايات‬ ‫تل���وث األترب���ة والمي���اه‪،‬‬ ‫الكيماوي���ة‪ ،‬والس���مادات الزراعي���ة ِّ‬ ‫فتتخ���رب أعش���اش النم���ل وتنحس���ر مناطقها وتق���ل أعدادها‪،‬‬ ‫فيتهدد قوتنا ويتهدد وجودنا‪.‬‬ ‫أيها اإلنسان‪..‬‬ ‫حاولت أن أعرض لك جماليات وبديعيات‬ ‫ُ‬ ‫وجهزني بأجه���زة يعجز‬ ‫صانع���ي ال���ذي أوجدن���ي م���ن الع���دم ّ‬ ‫بدر مني خطأ أو إن‬ ‫العقل عن استيعابها وإدراكها‪ .‬فأعتذر إن َ‬ ‫حدي في كلمة أو تفسير‪ .‬فطلبي منكم أنا المسكين؛‬ ‫جاوزت ّ‬ ‫ُ‬ ‫أن ترحمون���ا وترحموا المخلوقات الضعيفة العاجزة األخرى‪،‬‬ ‫وأن تحافظ���وا عل���ى الطبيع���ة وال تفس���دوا توازنه���ا وجماله���ا‬ ‫عفوا‪...‬‬ ‫المتكام���ل المتناغ���م‪ ،‬فإن الحي���اة تكفينا وتكفيك���م‪ً ...‬‬ ‫رأي���ت نملة تدخ���ل الثقب‪ ،‬فعلي اإلس���راع ألعث���ر عليها‪ ،‬إني‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ثم‬ ‫‪،‬‬ ‫ال‬ ‫قلي‬ ‫بالج���وع‬ ‫أش���عر‬ ‫ل���دي أعمال كثيرة وزي���ارات عديدة‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ألعشاش النمل هذا اليوم‪ .‬هيا إلى اللقاء‪.‬‬

‫(*) جامعة ‪ 9‬أيلول ‪ /‬تركيا‪ .‬الترجمة عن التركية‪ :‬مصطفى حمزة‪.‬‬

‫‪31‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )39‬‬


‫خاص���ة في المع���دة تقوم بإفراز حم���ض كلوريد الهيدروجين‬

‫جي���دا نوع النمل التي تحمل في رؤوس���ها أس���لحة‬ ‫نع���رف‬ ‫ً‬ ‫ونتجنبها‪ .‬و َأ ْف َضل ما نفعل���ه عند فقداننا النمل‪،‬‬ ‫كيماوي���ة قوي���ة‬ ‫ّ‬

‫أي إفراز حمضي‪ .‬هذا دفعك���م إلى التفكير‬ ‫وال يح���دث فيه���ا َّ‬

‫بضع نحالت منها‪.‬‬

‫(‪ ،)HCl‬أي حم���ض كلور الماء‪ ،‬ولوال هذا الحمض في المعدة‬ ‫لم���ا ت���م هضم البروتينات‪ .‬إال أن معدتي ال تحظى بهذه الغدد‬ ‫أني أعاني من مش���كلة هضم البروتينات‪ ،‬أليس كذلك؟ ولكن‬

‫زود معش���ر النمل بحم���ض الفورميك‬ ‫رب���ي‪ ،‬بعلمه الواس���ع‪ّ ،‬‬ ‫للدف���اع عن نفس���ها‪ ،‬األمر الذي يغنيني ع���ن الحاجة إلى إفراز‬

‫وأسد حاجتي إلى الحمض من حمض‬ ‫األحماض في معدتي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الفورميك الموجود في النمل هذه‪ .‬فكيف يعقل أن نفسر هذه‬

‫اآللي���ة الفس���يولوجية العجيب���ة المتمتعة بغذاء خ���اص‪ ،‬بنظرية‬

‫التكيف أو االختيار؟‬ ‫التطور أو‬ ‫ّ‬

‫لق���د منحن���ي ربي قدرة التمييز بين أنواع النمل‪ ،‬فأبتعد عن‬

‫كبارها ذات األفواه العريضة‪ ،‬ألن قشرتها صلبة وفي رؤوسها‬

‫أس���لحة كيماوي���ة مختلف���ة‪ .‬لذلك ألف���ظ هذا النوع م���ن النمل‬ ‫ذات الروائ���ح الكريهة لكي ال تفس���د طعم فم���ي‪ ،‬وأبقى آكل‬ ‫عام�ل�ات النمل واليرقان���ات‪ .‬ولكن عندما أقوم بجمع الطعام‬

‫أب���دا مراعاة التوازن البيئ���ي الحياتي‪ ،‬فال أقضي على‬ ‫ال أنس���ى ً‬

‫ال‪ ،‬بل أنتقل من عش إلى آخر‬ ‫عش النمل الذي أعثر عليه كام ً‬ ‫بع���د وجب���ة ال تتجاوز ‪ 140‬نملة‪ .‬وهذه الكمية تش���كل ‪%0,5‬‬

‫من حاجتي اليومية إلى الغذاء‪ .‬وبذلك أكون قد حافظت على‬ ‫ي���ت حاجتي من الغذاء‬ ‫الع���ش م���ن جانب‪ ،‬ومن جانب آخر ّلب ُ‬

‫أنن���ا نقوم بزيارة خالي���ا النحل فنتذوق بعض عس���لها ونتناول‬ ‫م���ن الطبيع���ي أن يكون لي أعداء‪ .‬فالنمر األمريكي وأس���د‬

‫الجبال من فصيلة السنوريات بأمريكا الالتينية‪ ،‬تأتي في طليعة‬ ‫هؤالء األعداء‪ .‬وليس لي ما أدافع به س���وى قدمي الخلفيتين‬ ‫ّ‬ ‫وذيل���ي‪ ،‬إذ أعتم���د عليهما لرف���ع جس���مي واالنقضاض على‬

‫بفك���ي ومخالب���ي‪ .‬ورغ���م ق���وة مخالب���ي الخارق���ة في‬ ‫ع���دوي َّ‬ ‫ّ‬ ‫الحف���ر‪ ،‬إال أنها تظل ضعيفة في مقاوم ِ‬ ‫ور ْدع هذه الحيوانات‬ ‫ة‬ ‫َ‬ ‫العض‪ ،‬فإن‬ ‫أستطيع‬ ‫المفترس���ة‪ .‬وبما أني ال أملك أس���نا ًنا وال‬ ‫ّ‬ ‫خي���ر وس���يلة عند مواجهت���ي الخطر هو اله���روب‪ ،‬أو االختفاء‬ ‫َ‬

‫دائما‪ .‬أما أخطر أعداء أش��� ّقائي الذين يعيشون على األشجار‪،‬‬ ‫ً‬ ‫هي البوم والنسر والشاهين‪.‬‬

‫تتمت���ع يدي بخمس���ة أصاب���ع‪ ،‬وأرجلي بأربعة أو خمس���ة‬

‫ج���دا مخفية تحت‬ ‫أصاب���ع‪ .‬كم���ا أني أمل���ك أصابع صغي���رة ًّ‬

‫أيضا‪ .‬ويختلف عدد األظاف���ر الطويلة في األصابع‬ ‫جل���د اليد ً‬

‫التي أس���تخدمها في حفر التربة أو في إزالة القشور من جذوع‬ ‫األش���جار‪َ .‬ف ِل���ي ثالثة أظافر طويل���ة‪ ،‬وآلكل النم���ل الحريري‬ ‫���دو (‪ )Tamandua‬أربع أظافر‪ ،‬هذه األظافر أقوى‬ ‫وللتاما ْن ُ‬ ‫اثن���ان‪َّ ،‬‬

‫���مك من األظافر األخرى لدين���ا‪ .‬فتقوم أيدينا بذلك بدور‬ ‫ْ‬ ‫وأس َ‬

‫آل���ة الحف���ر التي تنحني وت���دور في كل االتجاه���ات‪ .‬حتى إن‬

‫قبل أن تنتبه علي عس���اكر النمل‪ .‬أحتاج إلى ما يزيد عن ‪250‬‬ ‫ّ‬ ‫يوميا‪.‬‬ ‫مم)‬ ‫‪8‬‬ ‫(بطول‬ ‫كبيرة‬ ‫نملة‬ ‫‪35.000‬‬ ‫تناول‬ ‫عشا من أجل‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬ ‫كم���ا ت���رون‪ ،‬أتن���اول كمي���ات مح���دودة م���ن النم���ل‪ ،‬فمن‬

‫حي���ث تس���تطيع من خالله���ا ومن خ�ل�ال أذياله���ا الطويلة أن‬

‫أدي���ت وظيفتي في منع النمو المفرط للنمل‪ .‬كان بإمكاني أن‬ ‫ُ‬

‫أعتمد على حاس���ة الش���م القوية في البحث عن أعش���اش‬

‫جان���ب أك���ون قد أش���بعت بطني‪ ،‬وم���ن جانب آخ���ر أكون قد‬ ‫آكل كل النم���ل الموجودة في األعش���اش م���رة واحدة‪ ،‬ولكن‬

‫أعرف أن هذا سيؤدي إلى انقراض إمبراطوريات النمل خالل‬ ‫مذموما‬ ‫فت���رة قصيرة ف���ي كل منطقة َأ ْنزل فيها‪ ،‬فأقع���د حيندئذ‬ ‫ً‬

‫طول مخالب أنواعنا التي تتسلق األشجار يصل إلى ‪ 40‬سم‪،‬‬ ‫تتعلق باألغصان وتتحرك بكل سهولة‪.‬‬

‫النم���ل‪ ،‬وذل���ك لضعف بص���ري‪ .‬فبمجرد التق���اط رائحة نملة‪،‬‬

‫ال‬ ‫أش���رع على الف���ور بحفر الثقب الذي دخلت في���ه‪ ،‬ألتقط أو ً‬ ‫عامالت النمل الخارجات منه ثم أحشر لساني في العش‪.‬‬ ‫لباس���نا يناسب المحيط الذي نعيش فيه‪ ،‬ال سيما وأن آكل‬

‫حرج‬ ‫وأتض���ور من الجوع‪ .‬فلكي ال أقع في‬ ‫مدح���ورا‪ ،‬أتلوى‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫كه���ذا‪ ،‬أكتفي كل يوم بالقلي���ل من النمل من كل عش‪ ،‬وأمنح‬

‫جدا في اختيار األش���جار ذات األوراق‬ ‫بارع ًّ‬ ‫النمل الحريري‪ٌ ،‬‬

‫تظل األعشاش قائمة‪ ،‬وأتمكن أنا كذلك من تأمين الطعام في‬

‫واالختفاء فال تستطيع الجوارح رؤيته بسهولة‪.‬‬

‫أكلته منها‪ ،‬عندئذ‬ ‫فرصة النمو والتكاثر لهذه النمل لتعويض ما ُ‬ ‫الي���وم التالي فالتالي بنفس المنطقة‪ ...‬ولكن أخش���ى أن تظنوا‬

‫أن ا ْقتياتي على هذه الطريقة مع مراعاة التوازن البيئي‪ ،‬وجد ُته‬

‫أساسا؟!‬ ‫أنا من تلقاء نفسي وبعلمي غير الموجود‬ ‫ً‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )39‬‬

‫‪30‬‬

‫يمكنه م���ن التمويه‬ ‫الفضي���ة الت���ي تتفق م���ع لونه‪ ،‬األم���ر الذي ّ‬ ‫ال نمل���ك أي���ة قابلي���ة ف���ي إصدار األص���وات‪ ،‬وليس���ت لنا‬

‫أصوات عدا بعض األنين الذي تصدره األمهات عند الوالدة‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫فنح���ن حيوانات صامتة‪ .‬كم���ا أننا ال نحتاج الماء؛ حيث تتميز‬


‫يدع���ون أنن���ا نحن َمن قام بتطوير المخال���ب القادرة على حفر‬ ‫نمى اللس���ان الطوي���ل الذي يبلغ‬ ‫أعش���اش النم���ل‪ ،‬ونحن َمن ّ‬ ‫طول���ه نص���ف مترٍ الس���تخدامه في التق���اط النم���ل‪ ،‬ونحن َمن‬ ‫الخ ْطم الرفيع؛ وذلك‬ ‫مدد َ‬ ‫ط���ول الرأس األنبوبي‪ ،‬ونح���ن َمن ّ‬ ‫ّ‬ ‫من خالل الممارس���ة الطويلة عبر األزمنة الطويلة‪ ،‬أو أن هذه‬ ‫تطورت من تلقاء نفسها وظهرت فينا‪ ،‬صدف ًة من غير‬ ‫األعضاء ّ‬ ‫حساب(!) فما علينا إال أن نقول لهؤالء‪ :‬لماذا لم تقوموا أنتم‬ ‫بتطوير أعضائكم لتس���هيل حياتكم التي تعيش���ونها؟! المعذرة؛‬ ‫ولكن يصعب على العقل أن يستوعب ويفهم هذه االدعاءات‬ ‫واآلراء من مخلوق إنسان‪ .‬بيد أن هؤالء الناس من البشر‪ ،‬لو‬ ‫اعترفوا بقدرة اهلل تعالى وأبصروا صنعه البديع في خلقه وف ًقا‬ ‫للبيئة التي يعيش���ون فيها‪ ،‬لاَ ْنحل���ت كل األلغاز واتضحت كل‬ ‫ِ‬ ‫الح َكم واألسرار‪.‬‬ ‫فالش���كل الخاص لرأسي و َف ّكي ولساني ومخالبي مصنوع‬ ‫وف ًقا لش���كل جس���مي ووف ًقا لتلبية غذائي ومن ثم إدامة نس���لي‬ ‫وذريت���ي في هذه الحياة‪ ،‬لذلك ال يمكن للثدييات األخرى أن‬ ‫تجد أعشاش النمل والتقاطها مثلي بكل هذه السهولة‪.‬‬

‫أنا وأشقائي‬

‫وكون���ي أعيش في غابات أمريكا الوس���طى وأمري���كا الجنوبية‬ ‫أب���دا‪ ،‬أو رآني في بعض حدائق‬ ‫فق���ط‪ ،‬لعل معظمكم لم يرني ً‬ ‫الحيوان���ات‪ .‬يعي���ش الي���وم من���ا أربعة أن���واع‪ .‬فأنا م���ن أضخم‬ ‫ُ‬ ‫عرف‬ ‫آكالت النمل‪ ،‬يبلغ طولي ‪ 130‬سم‪ ،‬ووزني ‪ 40‬كغ‪ .‬أ َ‬ ‫ب���ـ"آكل النمل العمالق"‪ .‬كما يوجد بيننا نوعان متوس���طان من‬ ‫حيث الحجم‪ ،‬هما "آكل النمل المطوق" و"البنغول"‪ .‬أما "آكل‬ ‫النم���ل الحري���ري" فهو أصغرن���ا‬ ‫حجما حيث يبل���غ طوله ‪20‬‬ ‫ً‬ ‫س���م ويزن ‪ 400‬غرام‪ ،‬س���مي بـ"آكل النمل الحريري" بس���بب‬ ‫شعره الحريري الطويل‪ .‬والطول الذي أذكره هنا ال يدخل فيه‬ ‫الذيل الذي يوازي طوله جسمه‪ ،‬بل ويتجاوز ذيل "آكل النمل‬ ‫الحريري" طول جسمه‪.‬‬ ‫وإذا كان بع���ض أنواعن���ا ينش���ط في الليل نح���و رزقه كآكل‬ ‫النم���ل الحريري‪ ،‬فإن اآلخرين مثلي يس���عون وارء رزقهم في‬ ‫مهي ٌؤ من الناحية‬ ‫النهار‪ .‬وأنا باعتباري من آكلي النمل الضخام‪َّ ،‬‬ ‫التش���ريحية للعيش على األرض‪ ،‬وقلما أتس���لق األشجار‪ .‬أما‬ ‫آكل النم���ل الحري���ري‪،‬‬ ‫فمهي���ؤ للعيش على األش���جار بس���بب‬ ‫ّ‬ ‫الكلاَّ ب���ات‪ ،‬ولكنه يعيش‬ ‫حجم���ه الصغي���ر ومخالبه التي تش���به َ‬ ‫مثل���ي عل���ى األرض في بعض األحيان‪ .‬تتم���ع أرجلنا بالقدرة‬

‫عل���ى الحفر والتس���لق والس���ير على اليابس���ة‪ ،‬ولك���ن في نهاية‬ ‫منا‬ ‫المط���اف‬ ‫يمارس عمله الذي يناس���ب طبيعته‪ .‬وكأن‬ ‫ّ‬ ‫ال���كل ّ‬ ‫ُ‬ ‫الطبيع���ة تعق���د معن���ا اتفاقي��� ًة س���ري ًة ت���وزع خباياها بينن���ا؛ ففي‬ ‫الوقت الذي أقتات فيه النمل في أعشاش���ها على األرض‪ ،‬فإن‬ ‫اآلخرين يقتاتون من بيوت النمل على األش���جار‪ ،‬األمر الذي‬ ‫قسم‬ ‫يزيل الجدل والتنافس فيما بيننا‪ .‬فاهلل سبحانه وتعالى قد ّ‬ ‫األرزاق بيننا وأودعها في أماكن مختلفة‪.‬‬ ‫���ن َّيات" (‪ ،)Edentata‬فجميع‬ ‫يل ّقبن���ا علم���اء األحي���اء بـ"ال َّ‬ ‫ال ِس ِّ‬ ‫يتكون َف ُمنا من فتحة بيضوية في نهاية أنفنا‬ ‫أنواعنا بال أسنان‪ّ .‬‬ ‫الطويل الرفيع‪ .‬ومن الس���هل أن تس���توعبوا الحكمة من َخ ْلق‬ ‫رؤوس���نا‬ ‫أنبوبي��� ًة ‪-‬والتي يبل���غ طولها ‪ 30‬س���م‪ -‬إذا ما عرفتم‬ ‫ّ‬ ‫يشكل اللسان‬ ‫طريقة التغذية لدينا نحن آكلي النمل‪ .‬هذا وقد ّ‬ ‫الرفيع المكور والطويل أهم أداة لفمي الخالي من األس���نان‪.‬‬ ‫يش���كل الرقم القياس���ي في الط���ول إذ يبلغ‬ ‫ولعل لس���اني هذا ّ‬ ‫‪ 61‬س���م‪ ،‬بينم���ا يبل���غ ‪ 40‬س���م عند األن���واع األخ���رى‪ .‬يتميز‬ ‫اللس���ان عندن���ا بميزتي���ن هامتي���ن‪ :‬فاألولى أنه مغطى بأش���واك‬ ‫مدب َب���ة كأنها‬ ‫مب���ارد مائلة نحو الداخل تكس���وها طبقة‬ ‫ُ‬ ‫صغي���رة َّ‬ ‫سميكة ِلز َجة الصقة من اللعاب‪ ،‬والثانية أنه على شكل َسوط‬ ‫ويمكنن���ي أن أخرج���ه وأدخله إلى فمي بس���رعة تبلغ أكثر من‬ ‫‪ 150‬مرة في الدقيقة‪.‬‬ ‫ال أقل���ص عضالت المض���غ باتجاه‬ ‫وف���ي هذه األثن���اء‪ ،‬أو ً‬ ‫جيدا‪ .‬وبينما‬ ‫كور فمي ً‬ ‫الوس���ط في نص َفي فكي األس���فل‪ ،‬ثم ُأ ِّ‬ ‫عضالت الحنك في فمي‬ ‫ُتق ّل���ص‬ ‫أط���راف مؤخرة عظم الفك‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫الس���فلي‪ ،‬ترتف���ع ف���ي األمام‬ ‫لس���د فمي‪ ،‬وبحركة لس���اني هذه‬ ‫ّ‬ ‫لدي‪ .‬أما العضل���ة التي تتحكم في حركة‬ ‫ترتف���ع طاقة الهضم ّ‬ ‫لس���اني فهي عضل���ة "‪ "Sternoglossus‬المرتبط���ة بقاعدة صدري‪.‬‬ ‫وإني أس���تطيع بلس���اني التقاط جميع النم���ل من داخل العش‬ ‫حت���ى وإن ل���م أرها بعيني‪ .‬فكما أنكم أنتم البش���ر تس���تطيعون‬ ‫التمييز بألس���نتكم بين‬ ‫الضار والنافع‪ ،‬فكذلك نس���تطيع نحن‬ ‫ّ‬ ‫التميي���ز بين النمل وحبات الرمال وغيرها من األش���ياء التي ال‬ ‫ت���ؤكل‪ ،‬فأطرحها إل���ى الخارج ثم أمضغ النمالت بعظام فكي‬ ‫الصلبة وأبتلعها‪.‬‬

‫تصميم عجيب لمعدتي‬

‫خاص َّية أخ���رى ال يمكن إحداثها بالتطور‪.‬‬ ‫س���أحدثكم هنا عن ِّ‬ ‫تعلم���ون أن المع���دة تحت���اج إل���ى حموض عالي���ة لكي تهضم‬ ‫البروتين���ات‪ ،‬ولذل���ك تش���ترك جمي���ع الثدييات بوج���ود غدد‬

‫‪29‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )39‬‬


‫علوم‬

‫أ‪.‬د‪ .‬عرفان يلماز*‬

‫حكاية آكل النمل‬ ‫مرحبا عزيزي اإلنس���ان‪ ..‬أرجو أن ال‬ ‫ً‬ ‫كثيرا‪.‬‬ ‫وفمي‬ ‫أنفي‬ ‫شكل‬ ‫من‬ ‫تستغرب‬ ‫ً‬ ‫أع���رف أنك ل���م تعتد عل���ى رؤية نوع‬ ‫أبدا‪،‬‬ ‫مثلي بين الحيوانات‪ .‬لكنني ال أش���كو من ذلك ً‬ ‫ال ش���ك أن هناك ِحكَ ًما كثيرة وفوائد عديدة في هذه‬ ‫ِ‬ ‫الخلْق���ة التي أبدعها خالقي العليم الخبير‪ .‬أعتقد أنك‬

‫ق���رب إال في األفالم‬ ‫غريب���ا مثلي عن‬ ‫ٍ‬ ‫ل���م ت���ر مخلو ًقا ً‬ ‫الوثائقي���ة التي تتحدث عن عالم الحيوانات في الكرة‬ ‫األرضي���ة‪ .‬ولكن���ي على يقين أن اس���تغرابك س���يزول‬ ‫عندم���ا تعرفني ع���ن قرب‪ ،‬وعندما تع���رف كذلك أني‬ ‫مخلوق ترجمان ألسماء اهلل الحسنى في هذا الكون‪.‬‬ ‫فأنا لم ُأبدع شكل رأسي وفمي ولساني ومخالبي‬ ‫كثي���را ف���ي ْأكل‬ ‫عل���ى ه���ذا الش���كل ال���ذي يس���اعدني‬ ‫ً‬ ‫النم���ل‪ .‬ولكن لو س���ألتم علماء الوراثة لس���معتموهم‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )39‬‬

‫‪28‬‬


‫حي���ن يح���اول كل واح���د تخري���ب مس���لك اآلخري���ن وهدمه‪،‬‬

‫حدا به إلى تأس���يس مدرس���ة النور المنتش���رة في بقاع األرض‬ ‫الواس���عة‪ ...‬فكتابة الرسائل واستقطاب التالميذ بأعداد كبيرة‪،‬‬ ‫متميزا في حياة األتراك وحياة اإلنسانية‬ ‫إصالحيا‬ ‫إس���هاما‬ ‫كان‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬

‫الش���خصية يمهدون السبيل لفتح األبواب أمام أولئك األعداء‬

‫جيدا‬ ‫ولع���ل ّ‬ ‫المطل���ع على الرس���ائل في تفاصيلها‪ ،‬ي���درك ً‬

‫ش���رعا؛ حيث‬ ‫ومبعث���ه الحقد والضغينة والعداوة‪ .‬وهو مردود‬ ‫ً‬ ‫المتنازعون والمختلفون يعجزون عن القيام بأي عمل إيجابي‬

‫جانبا‪ ،‬س���ائرين وفق أغراضهم‬ ‫ّبناء‪ .‬وكأننا بهم وهم ينحازون ً‬

‫ليدخلوا حرم اإلسالم اآلمن‪.‬‬

‫ألم باألمة اإلس�ل�امية‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫وتحس ً���با لهذا األم���ر الخطير الذي ّ‬

‫يوصي األستاذ سعيد النورسي بتفعيل القيم األخالقية في هذا‬

‫ال‪" :‬عودوا إلى رش���دكم‪ ،‬وادخل���وا القلعة الحصينة‬ ‫الب���اب قائ ً‬ ‫���ون إ ِْخ َو ٌة‪(‬الحج���رات‪ ،)10:‬وحصن���وا‬ ‫المقدس���ة‪ِ  :‬إ َّن َم���ا ا ْل ُم ْؤ ِم ُن َ‬ ‫أنفسكم بها من أيدي أولئك الظلمة الذين يستغلون خالفاتكم‬ ‫الداخلي���ة‪ ...‬فإن كنتم ح ًّقا مرتبطين بملة اإلس�ل�ام‪ ،‬فاش���هدوا‬

‫بالدستور النبوي العظيم‪" :‬المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه‬ ‫بعضا"‪( .‬رواه البخاري)"‪.‬‬ ‫ً‬

‫• أما "الفقر" أو البؤس ‪-‬حسب ما يسميه أحيا ًنا‪ -‬فإنه الوجه‬

‫المظل���م لالخت�ل�ال الذي يصي���ب البنية االقتصادي���ة من جراء‬

‫االس���تغالل السيء للثروات‪ ،‬وهو ما يصيب البنية االجتماعية‬ ‫بتف���كك ويزيد من ظاهرة التخلف‪ ،‬حي���ث يقل األمن أو يكاد‬

‫ينعدم‪ .‬وقد أجاب األس���تاذ س���عيد النورس���ي عندما س���ئل عن‬

‫هذا اإلش���كال المادي بأن "هناك كلمتين هما منش���أ جميع ما‬ ‫آلت إليه البشرية في حياتهم االجتماعية من َت َر ٍّد في األخالق‬ ‫ٍ‬ ‫ش���بعت فال علي أن‬ ‫وانحط���اط في القي���م‪ ،‬الكلمة األولى‪ :‬إن‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫يموت غيري من الجوع‪ .‬الكلمة الثانية‪ :‬اكتسب أنت ِآِل ُكل أنا‬ ‫واتعب أنت ألس���تريح أنا‪ ...‬وإن ال���ذي يديم هاتين الكلمتين‬ ‫ويغذيهما هو‪ :‬جريان الربا‪ ،‬وعدم أداء الزكاة"‪.‬‬

‫وعلي���ه فالح���ل الناج���ع يكم���ن ف���ي تفعي���ل قي���م التكافل‬

‫االجتماعي في اإلسالم؛ بإعانة المحتاج والكف عن استغالل‬

‫عامة‪.‬‬

‫األه���داف العملية التي توخاها األس���تاذ س���عيد النورس���ي من‬ ‫مكافح���ة الجه���ل‪ .‬فق���د كان يرمي إلى إصالح البني���ة التعليمية‬ ‫ال ومضمو ًن���ا‪ ،‬فدعا إلى توحيد الم���دارس الدينية‬ ‫الديني���ة ش���ك ً‬

‫وإصالحه���ا‪ ،‬وإنق���اذ اإلس�ل�ام من األس���اطير واإلس���رائيليات‬

‫والتعص���ب الممق���وت‪ ،‬و َف ْت ِح طري���قٍ لجريان العل���وم الكونية‬ ‫الحديث���ة إل���ى المدارس الدينية بفتح نبع ص���اف لتلك العلوم‬ ‫بحي���ث ال ينف���ر منها أهل تلك الم���دارس‪ ...‬إلى غير ذلك من‬ ‫واقعا متحق ًقا بفضل المنهج العملي‬ ‫الطموحات التي أصبحت ً‬

‫للتربية النورية‪ ،‬الذي حرص صاحبه على تطبيق معالم التربية‬ ‫ونظرا‪.‬‬ ‫سلوكا‬ ‫اإلسالمية األصيلة باعتماد األخالق القرآنية‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وبع���د‪ ،‬فمم���ا ال ش���ك في���ه‪ ،‬أن الغاية األساس���ية من رصد‬ ‫ُ‬ ‫مقومات المجتمع اآلمن في رسائل النور‪ ،‬هي تقريب ِ‬ ‫الح َكم‬

‫القرآني���ة الجليلة في إصالح أحوال المجتمعات إلى األذهان‪،‬‬ ‫واإلسهام في توجيه األنظار نحو األساليب العملية الكفيلة بنقل‬ ‫الحقائق اإلس�ل�امية ‪-‬فيما يخص بن���اء المجتمعات وتعهدها‪-‬‬

‫إلى واقع التجربة التطبيقية وإبراز أبعادها الحضارية الفاعلة‪.‬‬ ‫قدمنا باختصار ش���ديد‪ ،‬ما أهدته رسائل‬ ‫وبذلك نكون قد ّ‬ ‫النور لإلنسانية الباحثة عن ُسبل السالم وأسس األمن واألمان‪.‬‬

‫(*) أستاذ الفكر والحضارة بكلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‪-‬تطوان ‪ /‬المغرب‪.‬‬

‫المراجع‬

‫(‪ )1‬كلي���ات رس���ائل الن���ور (الكلم���ات‪ ،‬المكتوب���ات‪ ،‬اللمع���ات‪ ،‬الش���عاعات‪،‬‬ ‫المالحق‪ ،‬صيقل اإلس�ل�ام)‪ ،‬لبديع الزمان سعيد النورسي‪ ،‬ترجمة‪ :‬إحسان‬

‫المعسر وإثقال كاهله بغير وجه حق‪ .‬وذلك بتطبيق الزكاة في‬

‫كليا‪.‬‬ ‫عاما‪ ،‬وتحريم الربا‬ ‫المجتمع وفرضها ً‬ ‫فرضا ًّ‬ ‫ً‬ ‫تحريما ًّ‬

‫وبهذي���ن الفعلي���ن يتوط���د الرك���ن األصيل في بناء س���عادة‬

‫البشرية وأمانها‪.‬‬

‫• أم���ا ثالث���ة اآلفات االجتماعي���ة فهي "الجه���ل"‪ .‬والجهل‬

‫درج���ات ومرات���ب وأن���واع‪ ،‬ودركها األس���فل م���ا تعلق بجهل‬ ‫الدين وحقيقته‪ ،‬وما نتج عنه من مخالفة الشريعة‪.‬‬

‫وال���ذي أثار بديع الزمان س���عيد النورس���ي في عصره‪ ،‬هو‬

‫إهم���ال المعرف���ة الديني���ة وخاص���ة ف���ي صفوف الش���باب‪ ،‬مما‬

‫قاسم الصالحي‪ ،‬دار النيل للطباعة والنشر‪ ،‬القاهرة‪.‬‬

‫(‪ )2‬أدب الدني���ا والدي���ن‪ ،‬ألبي الحس���ن الماوردي‪ ،‬الطبع���ة األولى‪ ،‬دار الكتب‬ ‫العلمية‪ ،‬لبنان‪1407 ،‬هـ‪1987-‬م‪.‬‬

‫(‪)3‬‬

‫مدخل إلى نظرية األمن واإليمان في س���عادة اإلنس���ان وتقدم المجتمعات‪،‬‬

‫لعبد الوهاب محمود المصري‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬مؤسس���ة الرس���الة‪ ،‬بيروت‬ ‫‪1413‬هـ‪1993-‬م‪.‬‬

‫(‪ )4‬اإلس�ل�ام مالذ كل المجتمعات اإلنس���انية‪ ،‬لمحمد س���عيد رمضان البوطي‪،‬‬ ‫الطبعة األولى‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬دمشق‪1404 ،‬هـ‪1984-‬م‪.‬‬

‫(‪ )5‬اإلس�ل�ام واألمن االجتماعي‪ ،‬لمحمد عمارة‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬دار الش���رق‪،‬‬ ‫القاهرة‪1418 ،‬هـ‪1998-‬م‪.‬‬

‫‪27‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )39‬‬


‫وه���و المقصود لذات���ه‪ ،‬أي هو المقاصد‬

‫الحقيقية للصانع الجليل‪.‬‬

‫مفعما‬ ‫إن���ه بذلك يفت���ح أف ًقا مش���ر ًقا‬ ‫ً‬

‫باألم���ل ف���ي تحقيق األم���ن االجتماعي‪،‬‬

‫عبر اإليمان في نفوس أفراد‬ ‫من خالل َم َ‬

‫المجتمع بتن���وع أعمارهم وأوضاعهم‪.‬‬ ‫فاألطفال "الذين يم ّثلون ربع البش���رية‪،‬‬ ‫ال يمكنهم أن يعيشوا عيشة إنسان سوي‬

‫ينطوي على نوازع إنسانية‪ ،‬إال باإليمان‬ ‫باآلخرة"‪.‬‬

‫وك���ذا غيرهم م���ن الفئ���ات العمرية‬

‫األخ���رى كالش���يوخ "الذي���ن يم ّثل���ون‬

‫�إن الأمن الذي يطلبه امل�سلمون‬ ‫ه��و الأم��ن ال��ذي ي�أت��ي م��ن‬ ‫امل�ساعي املنظمة والثقة املبثوثة‬ ‫يف النفو�س والتعاون امل�ستتب‬ ‫ب�ين الأفراد‪ .‬وه��ذه ال�رشوط‬ ‫ه��ي مبثاب��ة مقوم��ات �أ�س��ا�س‬ ‫جتتمع حول مق��وم حموري هو‬ ‫الدين‪ ،‬وذل��ك بالتزام التقوى‬ ‫وابتغاء مر�ضاة اهلل ‪.‬‬

‫ربع البش���رية‪ ،‬فإنهم ال يرون الس���لوان‬ ‫حي���ال انطفاء حياته���م ودخولهم تحت‬

‫الت���راب‪ ...‬إال باإليم���ان باآلخرة‪ ...‬إذ ل���وال هذا اإليمان لبقوا‬ ‫جدا"‪.‬‬ ‫في حالة نفسية تعسة ًّ‬

‫وكذل���ك المرض���ى والمظلومون والفقراء والمس���اجين‪...‬‬

‫فل���وال ن���ور اإليمان ال���ذي يمدهم بالعزاء والس���لوان‪ ،‬لما زال‬ ‫كليا‪.‬‬ ‫عنهم القلق واالضطراب وصورة التأثر‬ ‫جزئيا أو ًّ‬ ‫ًّ‬

‫فكم���ا نلتم���س آثار األمن في نفس الف���رد المؤمن‪ ،‬نجدها‬

‫بارزة في الوسط األسري‪ ،‬باعتباره دائرة تتسع لعالقات القربى‬ ‫جدا‪،‬‬ ‫والرأف���ة والمحبة التي ال تقاس عندئذ ضمن زمن قصير ًَّ‬ ‫ب���ل تقاس على وفق عالقات تمتد إل���ى خلودهم وبقائهم في‬ ‫دار اآلخرة والس���عادة األبدية‪ .‬ومن ثم "تبدأ السعادة اإلنسانية‬

‫الحق���ة بالتألق في ذل���ك البيت"‪ ،‬والعكس صحيح إن لم يكن‬

‫ومهيمنا في بيوت الناس‪.‬‬ ‫حاكما‬ ‫"اإليمان باآلخرة"‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫بعد هذا يضيف األستاذ سعيد النورسي دائرة أخرى أوسع‬

‫من الثانية وهي دائرة المدينة‪ ،‬وما هي في حد ذاتها سوى بيت‬ ‫ثابتا فيها "كانت‬ ‫واسع لسكنتها‪ .‬فإن لم يكن اإليمان باآلخرة ً‬

‫معاني اإلرهاب والفوضى والوحش���ية حاكمة ومسيطرة تحت‬ ‫اس���م النظام واألمن واإلنسانية التي يظهرونها‪ ،‬وحينئذ تتسمم‬

‫حياة تلك المدينة" وتنخرم فيها صفات المجتمع اآلمن‪.‬‬

‫بعد اس���تقراء أحداث كثيرة واستنباط أفكار متعددة‪ ،‬يؤكد‬

‫األس���تاذ س���عيد النورس���ي أن المجتمع اآلمن ه���و المجتمع‬

‫المؤم���ن‪ ،‬وأن المجتم���ع المؤم���ن ه���و المجتم���ع المس���لم‪.‬‬

‫ويخل���ص إلى أن "المس���لمين خدام الق���رآن"‪ ،‬يتبعون البرهان‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )39‬‬

‫‪26‬‬

‫المقوم التالي‪.‬‬

‫ويقبل���ون بعقوله���م وفكره���م حقائ���ق‬ ‫اإليمان‪ ،‬وهم ليس���وا كمن ت���رك التقليد‬ ‫تقلي���دا للرهبان كم���ا هو دأب‬ ‫بالبره���ان‬ ‫ً‬ ‫أتب���اع س���ائر األدي���ان‪ .‬وه���و ف���ي ذل���ك‬ ‫يستبشر أن المستقبل الذي "ال حكم فيه‬ ‫إال للعقل والعلم‪ ،‬س���وف يس���وده حكم‬ ‫الق���رآن الذي تس���تند أحكامه إلى العقل‬ ‫والمنطق والبرهان"‪.‬‬ ‫وبالتال���ي فاإلس�ل�ام ه���و المؤه���ل‬ ‫ال‪ ،‬ألن الحقيقة‬ ‫الوحيد للس���يادة مس���تقب ً‬ ‫اإلس�ل�امية هي الكفيلة بإس���عاد البشرية‬ ‫بم���ا تقدم���ه م���ن منظوم���ات تصوري���ة‬ ‫فعل‬ ‫وأخالقي���ة نافع���ة وبانية‬ ‫َ‬ ‫ش���رط أن ُت ّ‬ ‫ف���ي الواقع‪ ،‬وهو ما س���نبين مالمحه في‬

‫‪ -3‬تفعيل األخالق القرآنية مرآة المجتمع اآلمن‬

‫س���بقت اإلش���ارة إل���ى أن رس���ائل النور ه���ي عبارة ع���ن إعادة‬ ‫دراسة تاريخ اإلنسانية وواقعها‪ ،‬على ضوء ما جاء في القرآن‬ ‫الكري���م من أدلة منهجية ربانية منفتحة على حقيقة الحياة‪ ،‬من‬ ‫خالل اليقينيات الكونية كما يش���رحها القرآن الكريم‪ ،‬فتآلفت‬ ‫الرس���ائل ح���ول نقط���ة محورية ه���ي توضيح الحقائ���ق الدينية‬ ‫واإليمانية المتعلقة باإليمان باهلل وبرس���وله وباليوم اآلخر‪ ..‬إذ‬ ‫تهدف من وراء ذلك إلى رسم صورة معالم التربية األخالقية‬ ‫في اإلس�ل�ام‪ ،‬بإث���ارة البحث في المس���ألة األخالقية من زاوية‬ ‫عالقته���ا بالخال���ق‪ ،‬وعالقته���ا بالخل���ق‪ ،‬وعالقته���ا بالك���ون‬ ‫والطبيعة‪ ،‬وعالقتها بالنفس‪ ...‬كي تؤسس رؤية أصيلة مفادها‬ ‫أن األص���ل األخالق���ي في الثقافة اإلس�ل�امية ه���و أصل ديني‪.‬‬ ‫ف�ل�ا أخالق بدون دين‪ ،‬كما ال دين ب���دون أخالق‪ .‬واإلخالل‬ ‫بالدس���تور األخالقي اإلسالمي‪ ،‬سرعان ما يؤدي إلى اختالل‬ ‫توازن المجتمع‪.‬‬ ‫لق���د أدرك األس���تاذ بدي���ع الزمان س���عيد النورس���ي العلل‬ ‫واألس���باب الثاوي���ة وراء اخت�ل�االت م���ن ه���ذا النوع‪ ،‬وس���لط‬ ‫منظ���اره الفاح���ص عل���ى المفاس���د االجتماعي���ة ف���ي عص���ره‪،‬‬ ‫فوجده���ا مختزل���ة فيم���ا س���ماه باألع���داء الثالث���ة‪ :‬الخ�ل�اف‪،‬‬ ‫والجهل‪ ،‬والفقر‪.‬‬ ‫• إن المقص���ود بـ"الخ�ل�اف"‪ ،‬ه���و االخت�ل�اف الس���لبي‬


‫ت���ام واطمئنان كامل من هذا"‪ ،‬ويص���ل اإلخالص للقضية إلى‬ ‫وإدراكا لألمور‬ ‫ال‬ ‫أضعاف ما يملكه‬ ‫ح���د أنه "لو ملك أحد عق ً‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫اآلن‪ ،‬لبدله كله فيما يلزم تلك القضية وفي سبيلها"‪.‬‬ ‫مصلحا‬ ‫إن انط�ل�اق مب���دع رس���ائل النور ف���ي عالم الن���اس‬ ‫ً‬ ‫ومغي���را‪ ،‬تميز عن غيره مم���ن أصلحوا ودعوا إلى التغيير بثقته‬ ‫ً‬ ‫التي تفوق التصور‪.‬‬ ‫فمم���ا ال ش���ك فيه أن اإليم���ان بالقضية ون���ذر النفوس في‬ ‫س���بيل الدفاع عنها‪ ،‬هو بمثابة مو ّلد طاقة نفس���ية عجيبة تتجلى‬ ‫مظاهره في ش���خصية صاح���ب القضية الذي يع���رف منطلقاته‬ ‫تلمس طريق���ه نحو أهدافه بوضوح‪ ،‬دون أن‬ ‫ً‬ ‫جي���دا‪ ،‬كما يجيد ُّ‬ ‫فراغا يتسرب منه شك أو خوف أو قلق‪ .‬فيستقبل الزمان‬ ‫يترك ً‬ ‫بتف���اؤل وأمل كبيرين حين يق���ول‪" :‬نحن ال نهاب هذا الموت‬ ‫الذي ينتج حياة أشد وأقوى وأبقى‪ .‬فمتى لو متنا نحن فسيبقى‬ ‫س���الما"‪ ،‬س���يما وأن اإلس�ل�ام في منطق رس���ائل‬ ‫حيا‬ ‫ً‬ ‫اإلس�ل�ام ًّ‬ ‫الن���ور "هو الروح اإلنس���انية الكبرى" الذي ينبغي على كل من‬ ‫وصالحا أن يجعل���ه قضيته المصيرية ويفوز‬ ‫وس�ل�اما‬ ‫أمنا‬ ‫أراد ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫في ظاللها بش���هادة اإليمان ويحترز م���ن التفريط في صيانتها‪،‬‬ ‫حتما تلك القضية‬ ‫يضيع ً‬ ‫فمن "لم يرعها حق رعايتها‪ ،‬فسوف ّ‬ ‫ويخسرها"‪.‬‬ ‫وهك���ذا حرصت الرس���ائل النورية عل���ى زرع روح الرغبة‬ ‫الهادفة واإلرادة المسؤولة لتحقيق األمن االجتماعي‪ ،‬معتمدة‬ ‫التذكير بالمالحم البطولية في تاريخ المس���لمين‪ ،‬وجاعلة من‬ ‫أس���ماء القواد المنتصري���ن دوافع حقيقية لتنمي���ة وترقية حس‬ ‫المس���ؤولية لدى المعنيين األول بهذه الرسائل‪ .‬ويتجلى األمر‬ ‫ذاته حين يخاطبهم صاحب الرسائل النورية‬ ‫خطابا‪ ،‬يحثهم فيه‬ ‫ً‬ ‫ال‪" :‬على كل‬ ‫على إعالء هممهم لبلوغ أهدافهم باستحقاق قائ ً‬ ‫ال‬ ‫مشخصا‬ ‫واحد منكم أن يكون مرآة عاكسة لإلسالم‪ ...‬ومثا ً‬ ‫ً‬ ‫لألم���ة اإلس�ل�امية‪ ،‬إذ الهمة تتعالى بعل���و المقصد‪ ،‬واألخالق‬ ‫تتسامى بغليان الحمية اإلسالمية"‪.‬‬ ‫وهك���ذا تتوال���ى بين���ات رس���ائل الن���ور ف���ي تعمي���ق الوعي‬ ‫عن���د المخاطب بض���رورة الحضور الفاع���ل والمؤثر لتحريك‬ ‫واقع المس���لمين الس���اكن‪ ،‬فهو ش���رط أس���اس لضمان األمن‬ ‫االجتماعي المنتظر‪.‬‬

‫‪ -2‬اعتبار المجتمع المؤمن هو المجتمع اآلمن‬

‫ين‬ ‫‪‬و َع َد ا ُ‬ ‫هلل ا َّل ِذ َ‬ ‫إنه���ا حقيقة قرآنية أكدها الحق ‪ ‬ف���ي قوله‪َ :‬‬ ‫الصا ِل َح ِ‬ ‫ات َليس َ���ت ْخ ِل َف َّن ُهم ِفي ا َ‬ ‫ض َك َما‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫آم ُن���وا ِم ْن ُك ْم َو َع ِم ُلوا َّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َْ‬

‫ِ‬ ‫ف ا َّل ِذ َ ِ‬ ‫���م َو َل ُي َم ِّك َن َّن َل ُه ْم ِد َين ُه ُم ا َّل ِذي ْار َت َضى‬ ‫اس َ���ت ْخ َل َ‬ ‫ْ‬ ‫ين م ْن َق ْبلهِ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫���م َأ ْم ًنا‪(‬الن���ور‪َ  ،)55:‬ف َم ِن َّات َقى‬ ‫���م َو َل ُي َب ّد َل َّن ُه ْم م ْ‬ ‫���ن َب ْعد َخ ْوفهِ ْ‬ ‫َل ُه ْ‬ ‫ون‪(‬األع���راف‪،)35:‬‬ ‫���م َو َ‬ ‫���ح َف َ‬ ‫���م َي ْح َز ُن َ‬ ‫َو َأ ْص َل َ‬ ‫�ل�ا َخ ْ‬ ‫ال ُه ْ‬ ‫���و ٌف َع َل ْيهِ ْ‬ ‫آم َن َو َع ِم َل َصا ِل ًحا َف َل ُه َج َز ًاء ا ْل ُح ْس َنى‪(‬الكهف‪.)88:‬‬ ‫‪‬و َأ َّما َم ْن َ‬ ‫َ‬ ‫أنزل الحق تعالى هذه اآليات ُلي َطمئن بها قلوب المؤمنين‬ ‫الذين يعملون الصالحات‪ ،‬ويبشرهم بتحقيق أمنهم في الحياة‬ ‫أيضا‪.‬‬ ‫وبعد الممات ً‬

‫م���ن الواض���ح أن العالقات في مجتمع اإليمان تس���تدعي‬

‫الح���ب والس�ل�ام والتع���اون والتكاف���ل والوح���دة‪ ،‬وكل القي���م‬

‫األخ���رى الت���ي تؤدي إلى تحقي���ق مصالح الف���رد والمجتمع‪،‬‬ ‫وبالتال���ي تحقيق أم���ن الفرد والمجتمع على أكمل وجه‪ .‬وفي‬

‫هذا الس���ياق يأتي األستاذ س���عيد النورسي ببراهين خاصة كي‬ ‫مش���يرا إلى أن البش���رية التي‬ ‫يؤك���د حاج���ة األمن إلى اإليمان‪،‬‬ ‫ً‬

‫أخذت تصحو وتتيقظ بنتائج العلوم والفنون الحديثة‪ ،‬أدركت‬

‫ال‬ ‫كنه اإلنس���انية وماهيتها‪ ،‬وتيقنت أنه ال يمكنها أن تعيش هم ً‬ ‫وتنك���را للدين مضطر‬ ‫إلحادا‬ ‫بغي���ر دي���ن‪ ،‬بل حتى أش���د الناس‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫إلى أن يلجأ إلى الدين في آخر المطاف‪ ،‬ألن‪"" :‬نقطة استناد"‬ ‫البش���ر عند مهاجمة المصائب واألعداء من الداخل والخارج‬ ‫م���ع عج���زه وقلة حيلت���ه‪ ،‬وكذا "نقط���ة اس���تمداده" آلماله غير‬ ‫المحدودة الممتدة إلى األبد مع فقره وفاقته‪ ،‬ليس إال "معرفة‬ ‫الصانع" واإليمان به والتصديق باآلخرة‪ ،‬فال س���بيل للبش���رية‬

‫المتيقظة إلى الخالص من غفوتها سوى اإلقرار بكل ذلك"‪.‬‬

‫إن االيم���ان بالغيب وبالقدر خاصة‪ ،‬يمنح "خفة بال نهاية‪،‬‬

‫ونورا يحقق األمن واألمان"‪.‬‬ ‫وسرورا‬ ‫وراحة بال غاية‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫ثق�ل�ا بقدر‬ ‫إن م َث���ل ال���ذي يؤم���ن بالقدر كم َث���ل من يحمل ً‬

‫الدني���ا "ألن اإلنس���ان ل���ه عالق���ات م���ع الكائنات قاطب���ة‪ ،‬وله‬

‫مقاص���د ومطالب ال تنتهي���ان‪ ،‬إال أن قدرته وإرادته وحريته ال‬

‫ومن يفهم مدى ما ُيقاس���يه اإلنس���ان من ثقل معنوي‬ ‫تكفي‪َ ...‬‬ ‫في عدم اإليمان بالقدر وكم هو مخيف وموحش"‪.‬‬

‫يحرص األس���تاذ سعيد النورسي وهو يرسم بريشة المبدع‬

‫ص���ورة من يخرج ع���ن القاع���دة األصلية والفطري���ة ويحجب‬

‫رؤية الحقائق اإليمانية عن قلبه وعقله‪ ،‬على أن يثبت بالدليل‬

‫النقل���ي والعقلي‪ ،‬أن الش���ر والقبح والباطل والس���يئات جزئي‬ ‫و َت َب ِع���ي وثانوي في خلقة الكون‪ ،‬وأن األصل في اإلنس���ان هو‬ ‫ّ‬ ‫اعتباره أش���رف المخلوقات وأكرمها‪ ،‬كما أن الخير والحس���ن‬ ‫والجمال واإلتقان والكمال هو السائد المطلق في نظام الكون‬

‫‪25‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )39‬‬


‫ولعل الماوردي في تصنيفه للقواعد‬ ‫رس���ائل الن���ور يب���رز لنا المقوم���ات التي‬ ‫اش���ترطها بديع الزمان سعيد النورسي‪،‬‬ ‫األساس���ية التي يس���تقيم بها أم���ر الدول‬ ‫الإ�س�لام يف منطق ر�سائل النور‬ ‫لضم���ان اس���تتباب األمن ف���ي المجتمع‬ ‫وتصلح ب���ه الدنيا‪ ،‬قد أثر في دراس���ات‬ ‫الكربى‬ ‫إن�س��انية‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ال��روح‬ ‫هو‬ ‫اإلس�ل�امي‪ ،‬يقول فيه‪" :‬ليس المسلمون‬ ‫الخ َلف الذين اهتموا بالعمران‬ ‫غيره من َ‬ ‫ال��ذي ينبغي عل��ى كل من �أراد‬ ‫بحاجة إلى ترغيبه���م وحثهم على حب‬ ‫البش���ري وأس���باب ازدهاره وأفوله؛ مثل‬ ‫الدني���ا والح���رص عليه���ا‪ ،‬ف�ل�ا يحص���ل‬ ‫و�صالحا �أن يجعله‬ ‫و�سالما‬ ‫�أمنًا‬ ‫ابن خلدون الذي ذهب في تفسير مسألة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫نش���ر األمن والنظام‬ ‫وحضاريا‪.‬‬ ‫اجتماعيا‬ ‫تفسيرا‬ ‫األمن‬ ‫الرقي والتقدم‪ ،‬وال ُي َ‬ ‫ق�ض��يته امل�ص�يرية ويف��وز يف‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬ ‫في ربوع البالد بهذا األس���لوب‪ ،‬بل هم‬ ‫وف���ي العص���ر الحدي���ث‪ ،‬ظه���رت‬ ‫ظاللها ب�شهادة الإميان ويحرتز‬ ‫بحاجة إلى تنظيم مس���اعيهم‪ ،‬وبث الثقة‬ ‫رس���ائل الن���ور لمؤلفه���ا األس���تاذ بديع‬ ‫مل‬ ‫فمن‬ ‫�صيانتها‪،‬‬ ‫يف‬ ‫التفريط‬ ‫من‬ ‫فيما بينهم‪ ،‬وتسهيل وسائل التعاون فيما‬ ‫الزمان س���عيد النورسي‪ ،‬التي هي تفسير‬ ‫ي�ضيع‬ ‫ف�سوف‬ ‫رعايتها‬ ‫حق‬ ‫يرعها‬ ‫بينه���م‪ .‬وال تت���م ه���ذه األم���ور إال باتباع‬ ‫وبي���ان‬ ‫ّقي���م وحقيق���ي للق���رآن الكري���م‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫حتما تلك الق�ض��ية ويخ�رسها‪.‬‬ ‫األوام���ر المقدس���ة ف���ي الدي���ن والثبات‬ ‫وإثبات للحقائق اإليمانية القرآنية إثبا ًتا‬ ‫ً‬ ‫عليه���ا‪ ،‬مع التزام التقوى من اهلل وابتغاء‬ ‫مدعم���ا بالحج���ج الرصين���ة والبراهي���ن‬ ‫ً‬ ‫مرضاته"‪.‬‬ ‫بخطى ثابتة نحو إعادة‬ ‫تس���ير‬ ‫الواضحة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫إن األم���ن الذي يطلبه المس���لمون ‪-‬وينتظره س���ائر البش���ر‬ ‫النظر في قضايا اإلنس���انية الشائكة والمستجدة في ظل القرآن‬ ‫معهم ال محالة‪ -‬هو األمن الذي يأتي من المس���اعي المنظمة‬ ‫الكريم وبنور توجيهه‪.‬‬ ‫لق���د بين بديع الزم���ان قيما إيجابية عديدة لهذه الرس���ائل والثق���ة المبثوثة ف���ي النفوس والتعاون المس���تتب بين األفراد‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫لكونها‪" :‬حلت أكثر من مائة مسألة من أسرار الدين والشريعة وهذه الشروط هي بمثابة مقومات أساس تجتمع حول مقوم‬ ‫والق���رآن‪ ،‬وأوضحته���ا وكش���فتها‪ ،‬وألجمت أعت���ى المعاندين محوري هو الدين‪ ،‬وذلك بالتزام التقوى وابتغاء مرضاة اهلل ‪.‬‬ ‫إن التوجيه النوري في هذا المقام‪ ،‬يعطينا فكرة تقريبية عن‬ ‫الملحدي���ن وأفحمته���م‪ ،‬وأثبت���ت بوضوح كوضوح الش���مس‪،‬‬ ‫م���ا كان ي َظ���ن بعي���دا ع���ن العقل م���ن حقائق الق���رآن؛ كحقائق ركائز األمن المؤس���س ألنموذج إنس���اني متميز يمكن إجماله‬ ‫ً‬ ‫ُ ّ‬ ‫المعراج النبوي‪ ،‬والحش���ر الجسماني‪ ،‬أثبتتها ألشد المعاندين في عناصر ثالثة نتصورها كاآلتي‪:‬‬ ‫والمتمردين من الفالسفة والزنادقة حتى أدخلت بعضهم إلى‬ ‫حظيرة اإليمان"‪.‬‬

‫"فرس���ائل الن���ور ه���ذا ش���أنها الب���د أن العال���م وم���ا حوله‪،‬‬

‫بأجمع���ه س���يكون ذا عالق���ة بها‪ ،‬وال ج���رم أنها حقيق���ة قرآنية‬

‫تشغل هذا العصر والمستقبل وتأخذ جل اهتمامه‪ ،‬وأنها سيف‬ ‫َأ ِ‬ ‫لماسي َب ّتار في قبضة أهل اإليمان"‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وإذا كان األم���ر كذل���ك‪ ،‬فالب���د أن ما في الرس���ائل قد هيأ‬ ‫لإلنس���ان بل للبش���رية جمعاء‪ ،‬ما هي في أمس الحاجة إليه أال‬ ‫وهو األمن االجتماعي‪.‬‬

‫فما هو السبيل الذي نهجته هذه الرسائل لتمكين اإلنسان‬

‫وماديا‪ ،‬كي‬ ‫روحيا‬ ‫من المنهج الصحيح والصائب إلحياء ذاته‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬

‫يحق���ق منها ذا ًتا مكرمة كما ش���اء لها الح���ق أن تكون‪ ،‬ويهيء‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ومعمرا في األرض؟‬ ‫ا‬ ‫نافع‬ ‫ا‬ ‫بشري‬ ‫ا‬ ‫مجموع‬ ‫من عددها الكثير‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫لإلجابة على هذا الس���ؤال المركب‪ ،‬نقف على ش���اهد من‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )39‬‬

‫‪24‬‬

‫‪ -1‬ارتباط المسؤولية بالرغبة الصادقة لتحقيق األمن‬

‫جاءت رسائل النور مهتمة باإلنسان‪ ،‬وملقنة إياه كيفي َة التفكير‬ ‫من خالل منهج جديد تعطى فيه األولوية للواجبات‪.‬‬ ‫إذ إن "أمام اإلنس���ان ‪-‬وال س���يما المس���لم‪ -‬مس���ألة مهمة‬ ‫وحادثة خطيرة هي أعظم من الصراع الدائر بين الدول الكبرى‬ ‫ألجل السيطرة على الكرة األرضية"‪ .‬إنها قضية الحرص على‬ ‫أداء الواجب الضروري الذي يفتح للناس أفق الفوز بش���هادة‬ ‫اإليمان‪.‬‬ ‫وعلى لس���ان بديع الزمان ينطق طلبة النور‪" :‬نحن معاش���ر‬ ‫يقينا‪ ،‬أن ترك خدمات عظيمة ُتكسب لنا تلك‬ ‫طلبة النور نعلم ً‬ ‫ِ‬ ‫مهمات وكي ِلها الذي يصونها لتسعين بالمائة‪،‬‬ ‫وإهمال‬ ‫القضية‪،‬‬ ‫َ‬ ‫واالنش���غال عنه���ا بما ال يعن���ي من أمور خارجي���ة واهتمامات‬ ‫تافهة كأن الدنيا خالدة‪ ،‬ما هو إال من سخافة العقل وجنونه"‪.‬‬ ‫ويزداد الشعور بالمسؤولية ثبا ًتا بتأكيدهم أنهم "على يقين‬


‫قضايا فكرية‬ ‫د‪ .‬مهدية أمنوح*‬

‫المجتمع اإلنساني اآلمن‬ ‫من منظور رسائل النور‬

‫األم���ن ف���ي اللغ���ة العربي���ة وفي آي���ات القرآن‬

‫ال‪" :‬أما القاعدة الرابعة فهي َأ ْم ٌن عام تطمئن‬ ‫انتظام العمران قائ ً‬

‫يعن���ي "الطمأنين���ة" ‪-‬المقابلة للخ���وف والفزع‬

‫ب���ه الضعي���ف"‪ .‬وقد قال بع���ض الحكماء‪" :‬األم���ن أهنأ عيش‪،‬‬

‫الكري���م وأحادي���ث الس���نة النبوي���ة الش���ريفة‬

‫وال���روع‪ -‬في عالم الفرد والجماعة‪ ،‬وف���ي الحواضر ومواطن‬ ‫العمران‪ ،‬وفي الس���بل والطرق‪ ،‬وف���ي العالقات والمعامالت‪،‬‬ ‫وف���ي الدني���ا واآلخ���رة‬ ‫جميع���ا‪ .‬ولق���د َأ ْولى علماء المس���لمين‬ ‫ً‬ ‫وب���و ُؤوه‬ ‫مهما‬ ‫موقعا ًّ‬ ‫ً‬ ‫األوائ���ل اهتمامات كبيرة بهذا الموضوع َّ‬

‫في دراساتهم‪ ،‬وذلك كما فعل أبو الحسن الماوردي في كتابه‬ ‫"أدب الدني���ا والدي���ن" حين أش���ار إلى قاع���دة مهمة من قواعد‬

‫إليه النفوس‪ ،‬وتنتش���ر به الهمم‪ ،‬ويس���كن في���ه البريء‪ ،‬ويأنس‬ ‫والعدل أقوى جيش‪ ،‬ألن الخوف يقبض الناس عن مصالحهم‬

‫ويحجزهم عن تصرفهم‪ ،‬ويكفهم عن أس���باب المواد التي بها‬ ‫قوام َأ َو ِدهم‪ ،‬وانتظام جملتهم"‪.‬‬ ‫ويرج���ع األم���ر في أصل���ه إلى قاعدة أخ���رى وهي العدل‪،‬‬

‫أمن ف���ي غياب‬ ‫فاألم���ن م���ن ش���روط الع���دل‪ .‬إذن‪ ،‬ال ُيتص���ور ٌ‬ ‫عدل حيث ال يرجى أمن‪.‬‬ ‫العدل‪ ،‬كما ال ُينتظر ٌ‬

‫‪23‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )39‬‬


‫أو نف���رط ف���ي افت���راض ضوابط واس���تثناءات؛ ألنه���ا تبهت أو‬ ‫بعد تعديله���ا وتصويبها‪.‬‬ ‫تموت‪ .‬وإذا اس���تقرت الفكرة س���هل ُ‬ ‫والحديث الثاني قول الرسول ‪" :‬ادعوا اهلل وأنتم موقنون‬

‫باإلجابة"‪ ،‬وهو حديث ال بأس بإس���ناده‪ ،‬وأخرجه والترمذي‪،‬‬ ‫والطبران���ي‪ ،‬والحاكم‪ .‬والمعنى أن يدعو العبد وهو موقن بأن‬ ‫اهلل سيجيبه‪ ،‬وليس على سبيل التجريب أو الشك أو التردد‪.‬‬

‫هم‬ ‫وكان عمر ‪ ‬يقول‪" :‬إني ال أحمل ّ‬ ‫هم اإلجابة‪ ،‬ولكن ّ‬ ‫الدعاء فإن معه اإلجابة"‪.‬‬ ‫لهمت‬ ‫الدعاء‪ ،‬فإذا ُأ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫وأرى ه���ذه الكلم���ة من إلهامات���ه ‪ ،‬وكأن مقصوده ليس‬ ‫مج���رد التلف���ظ بألفاظ الدع���اء ‪-‬وإن كان هذا َح َس ً���نا وصاحبه‬

‫مأج���ور‪ -‬ب���ل م���ا ه���و أبع���د م���ن ذل���ك م���ن اس���تجماع القلب‬ ‫ِ‬ ‫والفك���ر عل���ى الثق���ة باهلل‪،‬‬ ‫وص���دق وعده في الكت���اب الكريم‪:‬‬ ‫يب‬ ‫‪‬و َق َ‬ ‫���ال َر ُّب ُك ُم ْاد ُعو ِني َأ ْس َ���ت ِج ْب َل ُك ْم‪(‬غاف���ر‪َ  ،)60:‬أ َّم ْن ُي ِج ُ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫المضط‬ ‫‪‬و ِإ َذا َس���أ َل َك ع َبادي َع ّني َف ِإ ّني‬ ‫���ر ِإ َذا َد َع ُاه‪(‬النم���ل‪َ ،)62:‬‬ ‫ْ ُ ْ َ َّ‬ ‫اع ِإ َذا َد َع ِ‬ ‫ان َف ْل َي ْس َت ِج ُيبوا ِلي َو ْل ُي ْؤ ِم ُنوا بِي‬ ‫الد ِ‬ ‫يب َد ْع َو َة َّ‬ ‫يب ُأ ِج ُ‬ ‫َق ِر ٌ‬ ‫ون‪(‬البقرة‪ .)186:‬إن النظرة السوداوية كفيلة بسجن‬ ‫َل َع َّل ُه ْم َي ْر ُش ُد َ‬ ‫صاحبه���ا في قبو مظل���م مك ّثف الرطوبة فاس���د الهواء‪ ،‬يذكرك‬ ‫السياب بقوله‪:‬‬ ‫بالقبر الذي وصفه بدر ّ‬ ‫ٍ‬ ‫حج ْار‬ ‫ُأ ّم ُاه َل ْي َت ِك َل ْم َت ِغيبِي َت ْح َت َس ْقف ِمن َ‬ ‫ال َن َوا ِف َذ ِفي ا ْل ِج َد ْار!‬ ‫اب ِفي ِه ِل َكي أ َُد َّق َو َ‬ ‫َ‬ ‫ال َب َ‬ ‫وكأن���ه اس���تعجل الم���وت قب���ل أوان���ه‪ ،‬وال غراب���ة أن تجد‬

‫ي���رددون‬ ‫ضحاي���ا التش���اؤم واالنعزالي���ة واالنغ�ل�اق النفس���ي‪ّ ،‬‬

‫عب���ارات الحني���ن إلى الرحيل دون مناس���بة‪ ،‬ب���ل وينتقدون من‬

‫يح���اول حرمانه���م من ه���ذه المتع���ة الوحيدة المتبقي���ة لهم في‬

‫صح أنهم أحياء‪.‬‬ ‫الحياة ْ‬ ‫إن ّ‬

‫"م ْن‬ ‫وف���ي الحديث وقد ُس���ئل ‪َ :‬من خير الن���اس؟ فقال‪َ :‬‬ ‫عم ُله" (أخرجه أحم���د‪ ،‬والترمذي‪ ،‬وابن ماجه)‪ .‬وفي‬ ‫وح ُس َ‬ ‫عمره َ‬ ‫���ن َ‬ ‫طال ُ‬ ‫ِ‬ ‫أحدكم‬ ‫يأتيه‪ .‬إنه‬ ‫آخر‪" :‬ال َي َت َم َّن ُ‬ ‫َ‬ ‫الموت وال َي ْد ُع به م ْن ْقب ِل أن َ‬ ‫يزي���د‬ ‫انقطع عم ُله وإنه ال‬ ‫أحدك���م‬ ‫المؤمن ُع ْم ُره إال‬ ‫ُ‬ ‫إذا م���ات ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َخ ْي ًرا" (أخرجه البخاري ومسلم)‪.‬‬ ‫امتن اهلل بها على األحياء‪ ،‬وكان النبي ‪ ‬إذا‬ ‫والحياة نعمة ّ‬ ‫اس���تيقظ من نومه ش���كر اهلل وقال‪" :‬الحمد هلل الذي أحيانا بعد‬

‫ما أماتنا وإليه النشور" (أخرجه البخاري ومسلم)‪ .‬إن االتصال بهدي‬ ‫زادا إلى اآلخرة فحس���ب‪ ،‬بل هو زاد إلى الحياة‬ ‫األنبي���اء ليس ً‬ ‫الطيبة في دار الدنيا كذلك‪.‬‬

‫(*) عالم ومفكر وداعية ‪ /‬المملكة العربية السعودية‪.‬‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )39‬‬

‫‪22‬‬

‫بشائر الربيع‬ ‫على الضفاف‪،‬‬ ‫حيث ّ‬ ‫يرق الماء وَ�ي ْعذُب‪،‬‬ ‫تتفتح عرائس ال�نَّْ�يلُوفَر‪،‬‬ ‫وتأخذ الواحدة منها بيد األخرى‪،‬‬ ‫مؤلِّف ًة سمفونية راقصة من اللون والعطر‪...‬‬ ‫***‬


‫اللح���م وال���دم‪ ،‬ويتخلل العظ���م‪ ،‬ويطل‬ ‫من العيون‪ ،‬ويس���كن اللغة‪ ،‬ويندفع مع‬ ‫الزفير ليعود مع الشهيق‪.‬‬

‫الفت���ى يرس���م الحلم في س���يارته أو‬

‫دفت���ره‪ ،‬والفت���اة ترس���مه ف���ي غرفته���ا أو‬ ‫ش���نطة يدها‪ ،‬وقبل هذا‪ ،‬يجب أن يكون‬

‫مرس���وما ف���ي س���ويداء القل���ب وأعماق‬ ‫ً‬ ‫الوجدان ومسكن الروح‪.‬‬

‫س���تلقي هن���ا باألع���ذار والمعوقات‬

‫ف���ي س���لة المهم�ل�ات‪ ،‬ول���ن تس���مح‬

‫لإلخف���اق أن يكس���ب الجولة‪" .‬احرص‬ ‫على م���ا ينفعك"؛ دعوة نبوي���ة للتعاطي‬

‫خ��ف عل��ى حلم��ك متى‬ ‫ال تَ ْ‬ ‫و�ص��بورا‪ ،‬لأن‬ ‫خمل�ص��ا‬ ‫كن��ت ً‬ ‫ً‬ ‫الع��امل حينئ��ذ �س��يت�آمر كل��ه‬ ‫لتحقي��ق حلم��ك‪ .‬يج��ب �أن‬ ‫رائع��ا‪،‬‬ ‫يك��ون احلل��م ع�ش�� ًقا ً‬ ‫يخالط اللحم والدم‪ ،‬ويتخلل‬ ‫العظ��م‪ ،‬ويط��ل م��ن العيون‪،‬‬ ‫وي�س��كن اللغ��ة‪ ،‬ويندف��ع مع‬ ‫الزف�ير ليع��ود م��ع ال�ش��هيق‪.‬‬

‫الج���اد م���ع الف���رص اإليجابي���ة ب���روح‬

‫المب���ادرة واإلنج���از‪" .‬واس���تعن ب���اهلل"؛‬

‫فحي���ن ترب���ط حلمك ب���اهلل تمنحه أزلية وس���رمدية ليتحول من‬ ‫ٍ‬ ‫مع���زول إلى أفق‬ ‫حل���م دنيوي‬ ‫حل���م ف���ر ٍد إلى أح�ل�ام أمة‪ ،‬من‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬

‫فس���يح ممت���د إل���ى حيث اآلخ���رة والع���دل والقس���ط والفضل‬ ‫الربان���ي ف���ي نعي���م لم ت���ر عين‪ ،‬ول���م تس���مع أذن‪ ،‬ولم يخطر‬

‫وق���ود روح���ه‬ ‫���ن‬ ‫عل���ى ب���ال‪" .‬وال‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫تعج���ز"؛ وكي���ف يعج���ز َم ْ‬

‫م���ن ج���ذوة اإليم���ان؟ "وإن أصاب���ك ش���يء ف�ل�ا تق���ل ل���و أني‬

‫ق���د ُر اهلل وما ش���اء فعل"‪.‬‬ ‫فعل���ت كان ك���ذا وك���ذا‪ .‬ولك���ن ق���ل َ‬

‫جحودا‬ ‫استس�ل�اما وال‬ ‫فاإليم���ان لي���س جبرية عمي���اء وال‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫جزعا‬ ‫للطاقة اإلنسانية الهائلة‪ ،‬وليس بكاء على األطالل‪ ،‬وال ً‬ ‫تغي���رات األحوال‪ ،‬إنه اليقين بأن الخير حيث يضعك اهلل‪،‬‬ ‫م���ن ُّ‬

‫ونجاحا‬ ‫جدي���دا‪،‬‬ ‫ال‬ ‫حلما‬ ‫جدي���دا‪ ،‬وأم ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وأن���ك كل ي���وم تنش���ئ ً‬ ‫شيئا‪.‬‬ ‫ً‬ ‫جديدا‪ .‬وما لم تمتلك القدرة على الحلم؛ فلن تفعل ً‬

‫تدجن حلمك لتجعله صورة مش���وهة‬ ‫علي���ك أن تحذر أن ّ‬

‫مس���كونة بتعرجات الواقع واعوجاجات���ه‪ ..‬احلم دون قيود‪..‬‬

‫أطل���ق خيال���ك‪ ..‬واصن���ع عالم���ك االفتراضي الذي س���يغدو‬ ‫حقيقة ملموسة متى آمنت بها‪.‬‬

‫"لوح���ة األح�ل�ام" فك���رة بس���يطة‪ ،‬اكت���ب عليه���ا أهدافك‪،‬‬

‫وض ْعه���ا ف���ي مكان ظاهر ت���راه كل ي���وم‪ ،‬أهداف قريب���ة بعيدة‬ ‫َ‬ ‫المدى‪ .‬اكتب معها آية كريمة أو حدي ًثا أو حكمة تؤمن بها‪.‬‬

‫وردية بعدد شخوصنا‪،‬‬ ‫أحالما‬ ‫سوف نتفوق حينما نمتلك‬ ‫ً‬ ‫َّ‬

‫أو حينم���ا يفل���ح أولئك الذين يمتلك���ون األحالم الجميلة من‬ ‫اإلمس���اك بناصية الحياة‪ .‬سوف نتفوق حينما يصبح الخطاب‬

‫رقيبا‬ ‫المتدي���ن‬ ‫ً‬ ‫حاف���زا لألح�ل�ام ولي���س ً‬ ‫عليها‪.‬‬

‫السر‬ ‫ِّ‬

‫ِ‬ ‫"السر"‬ ‫س���ألني أحد الش���باب عن كتاب ّ‬ ‫م���ن تألي���ف األس���ترالية "رون���دا بايرن"؛‬ ‫حبته‬ ‫وص ُ‬ ‫فأحوجني إلى ش���رائه وقراءته‪َ ،‬‬ ‫ف���ي بعض س���فري‪ ،‬فرأيت نظري���ة تقوم‬ ‫النف���س للتف���اؤل‬ ‫عل���ى تحفي���ز كوام���ن ّ‬ ‫والعم���ل‪ ،‬والثق���ة بأن ما يري���ده المرء أو‬ ‫يحاول���ه ممكن‪ ،‬بل ه���و واقع ال محالة‬ ‫مت���ى قاله المرء بلس���انه واعتق���ده بجنانه‬ ‫ورفع األفكار السوداوية المتشائمة‪..‬‬ ‫َ‬ ‫يك���رس ذهنه‬ ‫وأن عل���ى اإلنس���ان أن ّ‬ ‫وفك���ره لم���ا يري���د وما يح���ب أن يكون‪،‬‬ ‫وذكرني هذا بكلمة‬ ‫وليس على ما يكره أو ما يحاذر ويخشى‪ّ .‬‬ ‫توكل العبد على‬ ‫لإلمام ابن القيم في مدارجه‪ ،‬يقول فيها‪" :‬لو ّ‬ ‫مأمورا بإزالته‬ ‫توكله في إزالة جبل ع���ن مكانه‪ ،‬وكان‬ ‫ح���ق ّ‬ ‫اهلل ّ‬ ‫ً‬ ‫ألزاله"‪.‬‬ ‫لدي‬ ‫ّ‬ ‫وذكرن���ي ً‬ ‫أيضا بالكلمة الس���ابقة لـ"مارتن لوث���ر"‪" :‬أنا ّ‬ ‫حلم"‪ ،‬ولم يقل‪ :‬أنا لدي مشكلة‪.‬‬ ‫نعم‪ ،‬كان هناك مش���كلة وال تزال‪ ،‬بيد أننا إذا دخلنا الحياة‬ ‫من بوابة المشكالت دخلناها من أضيق أبوابها‪.‬‬ ‫وج���دت فك���رة الكتاب ف���ي األصل‪ ،‬فك���رة بحاجة إلى أن‬ ‫ُ‬ ‫بعيدا عن الجدل حولها‪ ،‬حتى ال يخبو‬ ‫رس���خها في ضمائرنا ً‬ ‫ُن ّ‬ ‫روحها‪ ،‬نفعل ذل���ك ألن هذه الفكرة هي‬ ‫وهجه���ا وال تنطف���ئ ُ‬ ‫ُ‬ ‫أحد المح ّفزات الحقيقية للعمل واإلنجاز والصبر‪.‬‬ ‫وج���دت أن مئ���ات النص���وص والكلم���ات الت���ي أورد ْته���ا‬ ‫المؤلف��� ُة وع ّلق���ت عليها ‪-‬وهي تدور ح���ول تفصيالت الفكرة‬ ‫مؤداها عن مضمون حديثين أو‬ ‫وقوانينه���ا‪ -‬ال تكاد تخرج في ّ‬ ‫ثالثة‪ ،‬أحدها قول الرس���ول ‪ ‬في رواية عن ربه جل وتعالى‬ ‫ظن عبدي بي" كما في صحيح‬ ‫في الحديث القدسي‪" :‬أنا عند ِّ‬ ‫"فليظ َّن بي ما ش���اء" كما أخرجه‬ ‫البخاري ومس���لم‪ ،‬وفي لفظ‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫أحمد‪ ،‬وابن حبان‪ ،‬والحاكم‪.‬‬ ‫شرا فله"؛ إن الظن‬ ‫وفي لفظ ْ‬ ‫خيرا فله‪ ،‬وإن ظن ًّ‬ ‫"إن َظ ّن بي ً‬ ‫���ن الظن من ُح ْس���ن العمل‪.‬‬ ‫وح ْس ُ‬ ‫هن���ا يش���مل الدنيا واآلخرة‪ُ ،‬‬ ‫وحين نذهب إلى ترسيخ فكرة علينا ألاّ ُنوغل في حكحكتها‬

‫‪21‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )39‬‬


‫اله���دف حل���م مؤق���ت له مدة ينته���ي إليها‪ ،‬أم���ا الحلم فهو‬

‫ش���وق دائم متصل بنبض القلب وخفق ال���روح وتطلع العقل‬ ‫وسبح الخيال‪.‬‬

‫يتبخر‪ ،‬إذا قطفت���ه مات‪ .‬فأجمل‬ ‫حي���ن يتحقق الحل���م كأنه ّ‬

‫م���ا في العمر ه���و االنتظار‪ ،‬لحظات الترقب مش���حونة بتفاعل‬

‫تأم���ل لغت���ك‪ ..‬ك���م م���رة ف���ي الي���وم تق���ول‪" :‬نع���م ولك���ن‬ ‫ّ‬

‫أخشى"‪ ..‬العائلة حلم جميل‪ ،‬إشباع لرغبة االمتداد اإلنساني‪،‬‬ ‫روحيا‬ ‫جس���ديا متصل‬ ‫ورؤية الذات في اآلخر بش���كل منفصل‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬

‫ووجدانيا‪.‬‬ ‫ًّ‬

‫قم���ة اله���رم الثق���ة بالنف���س وقدراته���ا والج���رأة عل���ى بدء‬

‫حلم���ا يروى بدموعنا‪ ،‬الخطوات األولى نحو الحلم العظيم‪.‬‬ ‫غري���ب هو ذروة الحياة‪ .‬س���يظل الحلم ً‬ ‫أع ِّل ُل النفس باآلمال أر ُق ُبها‬ ‫ويقتات من سهرنا‪ ،‬ويستحوذ على يقظتنا ومنامنا‪.‬‬ ‫األم ِل‪.‬‬ ‫أضيق‬ ‫ما‬ ‫كان "مارتن لوثر كينغ" يقول‪" :‬س���أزرع شجرة التفاح ولو ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫العيش لوال فسح ُة َ‬ ‫كن���ت أعلم أن نهاية العالم هي الغد"‪ ،‬وهو اقتباس من مكنون‬ ‫ث���م َمن يحاصر الحياة‪ ،‬وأس���وأ منه‪ ،‬م���ن يحاصر األحالم‬

‫الحكمة اإلنسانية الرفيعة‪.‬‬

‫ف�ل�ا يري���د من الناس أن يحلم���وا‪ ،‬أو أن يمتد خيالهم إلى أبعد‬

‫مش���كاة النب���وة كان���ت أبل���غ حي���ن ق���ال ‪ ‬ف���ي الحدي���ث‬

‫من معاناتهم اليومية‪ .‬السعادة حلم‪ ..‬والنجاح حلم‪ ..‬والحرية‬

‫أحدكم فسيلة‪ ،‬فإن استطاع أن ال يقوم حتى يغرسها فليفعل"‪.‬‬ ‫الم ْط ِعمات‬ ‫الو ْح ِ‬ ‫���ل‪ُ ،‬‬ ‫"الراس���خات في َ‬ ‫مق���ام النب���وة ذكر النخل ّ‬ ‫رمز الصبر واالنتظار‬ ‫الم ْح ِل"‪ .‬وهي تش���به الرجل المؤمن َ‬ ‫في َ‬ ‫والمقاومة واحتمال العطش‪.‬‬ ‫قد َأرى‬ ‫إذا قيل هذا َم ْن ٌ‬ ‫هل ُقلت ْ‬

‫القط يموء ويتمس���ح بالب���اب يطلب االنعتاق من ذل القيد‪.‬‬ ‫أو ّ‬

‫الصحيح الذي رواه أحمد والبخاري‪" :‬إن قامت الساعة وبيد‬

‫حلم؛ حتى لدى الطائر يضرب شباك القفص ويرنو إلى الفضاء‪،‬‬ ‫والعدال���ة حلم المجموع‪ ،‬حين تذوب الفوارق المصطنعة‬

‫ويتساوى الكل أمام سلطة الدنيا أو سلطة اآلخرة‪.‬‬ ‫ولقد ُقلت لنفسي‪ ،‬وأنا بين المقابر‪..‬‬ ‫ِ‬ ‫رأيت األمن والراحة إال في الحفائر؟‬ ‫هل‬ ‫فأشارت‪ ،‬فإذا للدود َع ْي ٌث في المحاجر‬

‫الظ َما!‬ ‫الح ِّر‬ ‫ ‬ ‫تحتمل َّ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫نفس ُ‬ ‫ولكن َ‬ ‫اختلس���ت بضع ٍ‬ ‫ثوان‬ ‫غدا‪ ،‬وإنما قال‪ :‬اآلن‪ ..‬لو‬ ‫ل���م يق���ل‪ً :‬‬ ‫َ‬

‫ثم قالت‪ :‬أيها السائل إني لست أدري!‬

‫حل���م جمي���ل ال يموت‪ ،‬ألنه ال يتمح���ور حول الذات‪ ،‬بل‬

‫وتالشى في بقايا العبد رب الصولجان‬

‫الوع���د الح���ق "األجر" تغذية للطموح حتى في عمل الدنيا‬

‫ش���يئا إلى الحي���اة‪ ،‬أنك‬ ‫ش���عورك بأن���ك يج���ب أن تضيف‬ ‫ً‬

‫وت فافعل‪.‬‬ ‫لتغرس الفسيلة قبل أن يلحقك ال َف ُ‬

‫أنانيا‪.‬‬ ‫فيه حظ وافر لآلخرين‪ ،‬ليس ًّ‬

‫الذي يعلم أنه ال يثمر‪ ،‬مجرد "الفعل" هو حفظ إلنسانية البشر‬

‫من التالشي واالنهيار‪ ،‬إنه "العالج بمعنى"‪ .‬هذا سر الغيب في‬

‫انظري كيف تساوى الكل في هذا المكان‬ ‫والتقى العاشق والقالي فما يفترقان‪.‬‬

‫مخلصا لحلم تنتظره‪ ..‬هذا يكفي‪.‬‬ ‫تعيش‬ ‫ً‬ ‫المنى‬ ‫أحس َن ُ‬ ‫ُم ًنى إن َت ُكن ح ًّقا َت ُكن َ‬

‫زمنا َرغدا‬ ‫وإال َف َقد ِعشنا بها ً‬

‫الث���واب األخروي‪ ،‬وهو حاف���ز آخر غير مجرد اإليمان بأهمية ‬ ‫الفعل‪.‬‬ ‫ذاب كأنما‬ ‫أماني ِمن ُسعدى ِع ٌ‬ ‫ُّ‬ ‫َس َقتنا بها ُسعدى على ظم ٍإ َبردا‬ ‫الحل���م نقل���ة من ضي���ق اللحظة إلى س���عة المس���تقبل‪ ،‬من ‬ ‫اإلحب���اط إل���ى األم���ل والتف���اؤل‪ ،‬م���ن الخ���وف إل���ى الرج���اء‬

‫جدي���دا يفتح‬ ‫نمطا‬ ‫أن تك���ون مث���ا ً‬ ‫ال لمبدع أو متف���وق‪ ،‬أو ً‬ ‫ً‬

‫ينام عليه‪ ،‬أو ُدمية يلعب بها‪ ..‬الخائف يحلم باألمان وال يفكر‬

‫ع���ن أهم أحالمي؟ فقلت‪ :‬أن أم���وت وأحالمي تنبض بالحياة‬

‫والتطل���ع‪ .‬الطفل الفقير يحلم بتفاحة يقضمها‪ ،‬أو فراش وثير‬ ‫بم���ا س���واه‪ ،‬والمخاوف هي ع���دو األحالم‪ ،‬وحينما يس���تحوذ‬

‫ال بالقيود‪.‬‬ ‫الخوف يبدو المرء مكب ً‬

‫ق���د يعيش المرء في زنزان���ة يراها ويلمس قضبانها ويحس‬

‫بأن���ه محب���وس‪ ،‬وق���د يعي���ش ف���ي زنزان���ة ال يراه���ا وال يلمس‬

‫قن مثقل بأوزار الحديد‪.‬‬ ‫قضبانها ويظن بأنه حر وهو ٌّ‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )39‬‬

‫‪20‬‬

‫مركبا من نماذج عديدة‪ .‬سألني فتى‬ ‫نموذجا‬ ‫آفا ًقا آلخرين‪ ،‬أو‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وتواج���ه التح���دي‪ ،‬وتنف���خ روح األمل ف���ي ضمائر البائس���ين‬ ‫واليائسين والمحبطين‪.‬‬

‫وصب���ورا‪ ،‬ألن‬ ‫مخلصا‬ ‫خ���ف عل���ى حلمك مت���ى كنت‬ ‫ال َت ْ‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫العال���م حينئ���ذ س���يتآمر كل���ه لتحقيق حلم���ك كما ق���ال "باولو‬ ‫رائعا‪ ،‬يخالط‬ ‫كيلي���و" ذات م���رة‪ .‬يجب أن يكون الحلم عش��� ًقا ً‬


‫أدب‬

‫د‪ .‬سلمان العودة*‬

‫لدي حلم‬ ‫س���جل الصب���ي المعدم حل���م الطفولة‬ ‫عندم���ا ّ‬

‫حي���ث يح���ب! إنه التح���دي الذي يضطرك أحيا ًن���ا إلى المضي‬

‫المع ّلم على درجته وحرمه من متعة الحلم‪.‬‬

‫تدون فيه‬ ‫‪ -‬كيف تحلم بهذا وأنت ال تمتلك قيمة الدفتر الذي ّ‬

‫لدي‬ ‫حي���ن ق���ال "مارتن لوث���ر كينغ" كلمت���ه الس���ائرة‪" :‬أنا ّ‬ ‫حلم" كان يتحدث بأكثر من لغة‪ ،‬أهمها لغة اإلنسان‪.‬‬ ‫ٌ‬

‫يع���رض عل���ى تلمي���ذه أن يعي���د االمتح���ان‪ ،‬في���رد الصب���ي‬

‫حت���ى حق���ق معظمها‪ ،‬فطار ف���ي الفضاء‪ ،‬وأب���دع وابتكر وذلل‬

‫ومضمارا‪ ،‬ش���طب‬ ‫ال‬ ‫أن يمتل���ك‬ ‫حق�ل�ا وخيو ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫حلمك‪ ،‬والذي كان هدية من جمعية خيرية؟‬

‫بكبرياء‪:‬‬

‫‪ -‬احتفظ بدرجتك‪ ،‬وسأحتفظ بحلمي!‬

‫ي���ا للعظم���ة‪ ،‬حي���ن تتمث���ل موق ًف���ا‬ ‫ش���امخا يس���تعلي عل���ى‬ ‫ً‬

‫دما في طريقك غير عابئ بسارقي األحالم‪.‬‬ ‫ُق ً‬

‫أح�ل�ام المن���ام ضرب م���ن الخيال‪ ،‬ما زال اإلنس���ان يدأب‬

‫الصعاب وقهر المستحيل‪.‬‬

‫الحلم فوق الطموح‬

‫ِ‬ ‫بارا‬ ‫فوس ك ً‬ ‫َوإِذا كا َن ِت ال ُّن ُ‬

‫َت ِعبت في ُمرا ِدها ا َ‬ ‫جسام‬ ‫أل‬ ‫ُ‬ ‫َ‬

‫ويصر على المواصلة ليجد نفسه في نهاية المطاف ‬ ‫االستالب‪،‬‬ ‫ّ‬

‫‪19‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )39‬‬


‫واس���تفزازا البد منهم���ا لتحريك‬ ‫تحدي���ا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ف���ردا وجماع���ة‪ -‬ص���وب‬‫اإلنس���ان‬ ‫ً‬ ‫األحس���ن واألمث���ل‪ ،‬وصق���ل طاقاتهم���ا‬ ‫لك���ي يكون���ا أكثر مقدرة عل���ى المقاومة‬

‫والص���راع‪ ،‬وبالتالي أق���در على مواصلة‬

‫الصعود في الطريق الموصول بالس���ماء‬

‫بدءا ومنتهى‪.‬‬ ‫ً‬

‫ح ًّق���ا إن الص���راع بي���ن الش���يطان‬

‫واإلنسان ش���امل واسع معقد متشابك‪،‬‬ ‫تقابل بين الخير والش���ر على أوسع‬ ‫إنه‬ ‫ٌ‬ ‫تقاب���ل البد من���ه إذا ما أريد‬ ‫الجبه���ات‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫للحي���اة البش���رية أن تتج���اوز الكس���ل‬

‫يبق��ى ال�ش��يطان رم�� ًزا �أبديًّ��ا‬ ‫لل�رصاع بني الإمي��ان والكفر‪..‬‬ ‫ويظ��ل حتدي��ه للإن�س��ان �س��ببًا‬ ‫ل�ش��حذ همة الإن�س��ان وتعميق‬ ‫�إميان��ه وا�ستئ�ص��ال مكام��ن‬ ‫ال��شر وال�ض��عف يف نف�س��ه‪،‬‬ ‫لكي يق��در على جمابه��ة الفتنة‬ ‫ويجتاز املعوقات ويزيح املوانع‬ ‫متقدما �أب ًدا �إىل الأمام‪.‬‬ ‫والعقابيل ً‬

‫إل���ى النش���اط‪ ،‬والفتور إل���ى التمخض‪،‬‬

‫ابتالء فعال‬ ‫والس���كون إلى الحرك���ة‪ .‬إنه‬ ‫ٌ‬

‫تاريخ البشرية بدونه شكله اإليجابي‪ ،‬وال يمضي إلى‬ ‫لن يأخذ‬ ‫ُ‬ ‫﴿و َك َذ ِل َك‬ ‫غاياته المرس���ومة منذ هبوط آدم إلى يوم الحساب‪َ :‬‬

‫ض َع ُد ٌّو‬ ‫ْاهب َِطا ِم ْن َها َج ِم ًيع���ا َب ْع ُض ُك ْم ِل َب ْع ٍ‬ ‫اي‬ ‫َفإ َِّما َي ْأ ِت َي َّن ُك ْم ِم ِّني ُه ًدى َف َم ِن َّات َب َع ُه َد َ‬ ‫ض َع ْن‬ ‫ال َي ِضلُّ َو َ‬ ‫َف َ‬ ‫ال َي ْش َقى ‪َ ‬و َم ْن َأ ْع َر َ‬ ‫���ر ُه‬ ‫ِذ ْك ِ‬ ‫���ري َف���إ َِّن َل ُه َم ِع َ‬ ‫يش��� ًة َض ْن ًكا َو َن ْح ُش ُ‬ ‫‪‬ب ْل‬ ‫���و َم ا ْل ِق َي َام ِة َأ ْع َمى‪(‬ط���ه‪َ ،)124-123:‬‬ ‫َي ْ‬ ‫���ذ ُف بِا ْل َح ِّق َع َلى ا ْلب ِ‬ ‫َن ْق ِ‬ ‫���ل َف َي ْد َم ُغ ُه َف ِإ َذا‬ ‫اط ِ‬ ‫َ‬ ‫ُه َو َز ِاه ٌق‪(‬األنبياء‪.)18:‬‬ ‫إن أش���د م���ا يرفض���ه كت���اب اهلل ف���ي‬ ‫دع���وة البش���رية لإلفادة من ه���ذا الصراع‬

‫وتحويله إلى حركة متقدمة صاعدة‪ ،‬هي‬ ‫ن���زوع بعض الجماعات والزعامات إلى‬

‫الوراء‪ ،‬ومواقفه���م الرجعية التي ترفض‬

‫أي���ة دع���وة تس���عى لك���ي يحتل���وا مواقع‬ ‫���م َت َعا َل ْوا ِإ َلى‬ ‫‪‬و ِإ َذا ِق َ‬ ‫ف���ي األم���ام‪َ :‬‬ ‫يل َل ُه ْ‬ ‫ِ‬ ‫���ب َنا َما َو َج ْد َن���ا َع َل ْي ِه َآب َاء َنا‬ ‫هلل َو ِإ َلى‬ ‫َم���ا َأ ْن َز َل ا ُ‬ ‫الر ُس���ول َقا ُلوا َح ْس ُ‬ ‫َّ‬ ‫ون‪(‬المائدة‪،)104:‬‬ ‫ون َش ْ���ي ًئا َو َ‬ ‫���م َ‬ ‫ال َي ْه َت ُد َ‬ ‫ال َي ْع َل ُم َ‬ ‫���و َك َ‬ ‫ان َآب ُ‬ ‫َأ َو َل ْ‬ ‫اؤ ُه ْ‬ ‫‪َ ‬أ َف ُح ْك���م ا ْل َج ِ‬ ‫���ن ا ِ‬ ‫هلل ُح ْك ًما ِل َق ْو ٍم‬ ‫اه ِل َّي��� ِة َي ْب ُغ َ‬ ‫���ن ِم َ‬ ‫���ون َو َم ْن َأ ْح َس ُ‬ ‫َ‬ ‫‪‬و ِإ َذا َف َع ُل���وا َف ِ‬ ‫اح َش��� ًة َقا ُل���وا َو َج ْد َن���ا‬ ‫‪،‬‬ ‫ون‪(‬المائ���دة‪)50:‬‬ ‫ُيو ِق ُن َ‬ ‫َ‬ ‫���ل َو َج ْد َن���ا َآب َاء َن���ا َك َذ ِل َك‬ ‫َع َل ْي َه���ا َآب َاء َنا‪(‬األع���راف‪َ  ،)28:‬قا ُل���وا َب ْ‬ ‫هلل َقا ُلوا‬ ‫‪‬و ِإ َذا ِق َ‬ ‫ي���ل َل ُه ُم َّاتب ُِعوا َم���ا َأ ْن َز َل ا ُ‬ ‫َي ْف َع ُل َ‬ ‫ون‪(‬الش���عراء‪َ ،)74:‬‬ ‫ون َش ْ���ي ًئا‬ ‫اؤ ُه ْم َ‬ ‫ال َي ْع ِق ُل َ‬ ‫َب ْل َن َّتب ُِع َما َأ ْل َف ْي َنا َع َل ْي ِه َآب َاء َنا َأ َو َل ْو َك َ‬ ‫ان َآب ُ‬ ‫‪‬ب ْل َقا ُل���وا ِإ َّنا َو َج ْد َنا َآب َاء َنا َع َلى ُأ َّم ٍة‬ ‫َو َ‬ ‫ال َي ْه َت ُد َ‬ ‫ون‪(‬البق���رة‪َ ،)170:‬‬

‫���م ب َِب ْع ٍ‬ ‫���ر‬ ‫���ر َوا ْل َخ ْي ِ‬ ‫‪‬و َن ْب ُل ُ‬ ‫���م ب َّ‬ ‫ض﴾(األنع���ام‪َ ،)53:‬‬ ‫وك ْ‬ ‫َف َت َّن���ا َب ْع َض ُه ْ‬ ‫ِالش ِّ‬ ‫ين ِم ْن َق ْب ِلهِ ْم‬ ‫ِف ْت َن��� ًة َو ِإ َل ْي َن���ا ُت ْر َج ُع َ‬ ‫‪‬و َل َق ْد َف َت َّن���ا ا َّل ِذ َ‬ ‫ون‪(‬األنبياء‪َ ،)35:‬‬ ‫ِين‪(‬العنكبوت‪،)3:‬‬ ‫���ن ا ُ‬ ‫���ن ا ْل َكا ِذب َ‬ ‫هلل ا َّل ِذ َ‬ ‫ي���ن َص َد ُق���وا َو َل َي ْع َل َم َّ‬ ‫َف َل َي ْع َل َم َّ‬ ‫َ ِ‬ ‫���م‬ ‫���م َأ ْن ُف َس ُ‬ ‫���م َو َغ َّر ْت ُك ُ‬ ‫���م َو ْار َت ْب ُت ْ‬ ‫���ك ْم َو َت َر َّب ْص ُت ْ‬ ‫���م َف َت ْن ُت ْ‬ ‫‪‬و َلك َّن ُك ْ‬ ‫ا َ‬ ‫آم َّنا‬ ‫أل َما ِن ُّي‪(‬الحديد‪َ  ،)14:‬أ َح ِس َب َّ‬ ‫اس َأ ْن ُي ْت َر ُكوا َأ ْن َي ُقو ُلوا َ‬ ‫الن ُ‬ ‫اع‬ ‫َو ُه ْم َ‬ ‫ال ُي ْف َت ُن َ‬ ‫‪‬وإ ِْن َأ ْدرِ ي َل َع َّل ُه ِف ْت َن ٌة َل ُك ْم َو َم َت ٌ‬ ‫ون‪(‬العنكبوت‪َ ،)2:‬‬ ‫ين‬ ‫ِإ َل���ى ِح ٍ‬ ‫الش ْ���ي َط ُ‬ ‫ين‪(‬األنبياء‪ِ  ،)111:‬ل َي ْج َع َل َما ُي ْل ِقي َّ‬ ‫ان ِف ْت َن ًة ِل َّل ِذ َ‬ ‫ض‪(‬الحج‪.)53:‬‬ ‫ِفي ُق ُلوبِهِ ْم َم َر ٌ‬ ‫ال َي ْف ِت َن َّن ُك ُم‬ ‫آد َم َ‬ ‫‪‬ي���ا َب ِن���ي َ‬ ‫ويبق���ى نداء اهلل الدائم للبش���رية‪َ :‬‬ ‫كبي���را ي���دور علي���ه الص���راع‬ ‫مح���ورا‬ ‫ان‪(‬األعراف‪)27:‬‬ ‫الش ْ���ي َط ُ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫والحركة والتقدم إلى أمام أو الرجوع إلى وراء‪ ..‬ورغم أن اهلل‬

‫ون ‪َ ‬و َك َذ ِل َك َما َأ ْر َس��� ْل َنا ِم ْن َق ْب ِل َك ِفي‬ ‫َو ِإ َّنا َع َلى آ َثارِ ِه ْم ُم ْه َت ُد َ‬ ‫وها ِإ َّنا َو َج ْد َن���ا َآب َاء َنا َع َلى ُأ َّم ٍة َو ِإ َّنا‬ ‫ال َق َ‬ ‫���ن َن ِذيرٍ ِإ َّ‬ ‫ال ُم ْت َر ُف َ‬ ‫َق ْر َي��� ٍة ِم ْ‬ ‫ال َأ َو َل ْو ِج ْئ ُت ُك ْم ِب َأ ْه َدى ِم َّما َو َج ْد ُت ْم‬ ‫ون ‪َ ‬ق َ‬ ‫���د َ‬ ‫َع َل���ى آ َثارِ ِه ْم ُم ْق َت ُ‬ ‫ون‪(‬الزخرف‪،)24-22:‬‬ ‫َع َل ْي��� ِه َآب َاء ُك ْم َقا ُلوا ِإ َّنا ب َِما ُأ ْر ِس��� ْل ُت ْم ِب ِه َكا ِف ُر َ‬

‫وع ّلمه���م األس���ماء كلها‪ ،‬إال أنه س���بحانه ل���م يتركهم وحدهم‬

‫بي���ن الخير والش���ر‪ ،‬بين الحق والباطل‪ ،‬بي���ن اإليمان والكفر‪..‬‬

‫سبحانه وهب بني آدم قدرات العقل والروح واإلرادة والعمل‬

‫حينا بعد‬‫يمده���م‬ ‫ف���ي تجرب���ة صراعهم ف���ي األرض‪ ،‬وظ���ل ّ‬ ‫ً‬

‫حين‪ -‬بتعاليم الس���ماء وش���رائعها العادلة وصراطها المستقيم‬

‫أبدا‬ ‫ال���ذي يحيل حركة البش���رية في العالم إل���ى حركة متقدمة ً‬ ‫هلل َو ِل ُّي‬ ‫ف���ي خط مت���وازن صاعد ال رج���وع فيها إل���ى وراء‪ :‬ا ُ‬ ‫آم ُن���وا ُي ْخ ِر ُج ُهم ِم َن الظُّ ُلم ِ‬ ‫ين َك َف ُروا‬ ‫ات ِإ َلى ال ُّن���ورِ َوا َّل ِذ َ‬ ‫ا َّل ِذ َ‬ ‫ي���ن َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫���ن ال ُّن���ورِ ِإ َل���ى الظُّ ُلم ِ‬ ‫���ات‬ ‫���م َّ‬ ‫الط ُ‬ ‫َأ ْو ِل َي ُ‬ ‫اغ ُ‬ ‫���م ِم َ‬ ‫َ‬ ‫���وت ُي ْخ ِر ُجو َن ُه ْ‬ ‫اؤ ُه ُ‬ ‫ال‬ ‫ون‪(‬البق���رة‪َ  ،)257:‬ق َ‬ ‫ُأو َل ِئ َ‬ ‫���م ِف َيه���ا َخا ِل ُد َ‬ ‫���اب َّ‬ ‫���ك َأ ْص َح ُ‬ ‫النارِ ُه ْ‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )39‬‬

‫‪18‬‬

‫أبديا للصراع‬ ‫ويبقى الش���يطان ‪-‬خصم بني آدم الل���دود‪ً -‬‬ ‫رمزا ًّ‬ ‫سببا لشحذ همة اإلنسان وتعميق إيمانه‬ ‫ويظل تحديه لإلنسان ً‬

‫واس���تئصال مكامن الش���ر والضعف في نفسه‪ ،‬لكي يقدر على‬

‫مجابهة الفتنة ويجت���از المعوقات ويزيح الموانع والعقابيل‪..‬‬ ‫أب���دا إلى األم���ام‪ ..‬تلك هي الحكم���ة البالغة في خلق‬ ‫متقدم���ا ً‬ ‫ً‬

‫الشيطان‪ ..‬ورفض إبليس السجود آلدم ‪.‬‬ ‫(*) كلية اآلداب‪ ،‬جامعة الموصل ‪ /‬العراق‪.‬‬


‫قضايا فكرية‬

‫أ‪.‬د‪ .‬عماد الدين خليل*‬

‫كثيرا ما يتساءل المسلم عن الحكمة من خلق‬ ‫ً‬ ‫الش���يطان‪ ..‬عن األهداف البعي���دة في علم اهلل‬ ‫س���بحانه‪ ،‬تلك التي دفع���ت إبليس إلى رفض‬

‫وتحديه‪ ..‬وإعالنِه خصوم َته األبدية‪ ..‬و َق َسمه‬ ‫الس���جود آلدم‪..‬‬ ‫ّ‬ ‫أن ل َُيغوي ّنه وذري َته إلى يوم الدين‪.‬‬ ‫على اهلل ْ‬

‫والجواب يكمن في ضرورة خلق الصراع‪ ،‬أن التناقض أو‬

‫التقاب���ل الثنائ���ي الفعال الذي يحرك الدور البش���ري في العالم‬ ‫ويدفع���ه إلى األم���ام‪ ..‬إنه التحدي الذي البد منه لش���حذ همة‬

‫اإلنسان بقوة‬ ‫جابه‬ ‫ُ‬ ‫اإلنسان‪ ..‬فمنذ اللحظة األولى لخلق آدم‪ُ ،‬ي َ‬ ‫وكل ما يملك من أس���اليب‬ ‫الش���ر المقابل���ة متمثلة بالش���يطان‪ِّ ،‬‬

‫ِ‬ ‫يب���رز له م���ن األعماق‪،‬‬ ‫يداه���م به���ا اإلنس���ان م���ن الخ���ارج أو ُ‬ ‫م���ن صمي���م ال���ذات‪ ..‬يجيئه من مس���ارب العاطف���ة والوجدان‬ ‫والنف���س‪ ،‬أو يندف���ع إلي���ه من مناف���ذ الحس‪ ،‬أو يس���تصرخ فيه‬ ‫ال ببهرج الدنيا وزينتها‪..‬‬ ‫ش���هوات الجس���د‪ ،‬أن يتقدم إليه محم ً‬ ‫يجن���د لقتاله والمروق به عن س���احة الخي���ر كل القوى المادية‬ ‫ِّ‬ ‫والمعنوي���ة‪ ،‬وكل الذي���ن يخت���ارون بإرادته���م أن ينتم���وا إلي���ه‪،‬‬ ‫جنا‪ ..‬ورغم أن أس���لحة الش���يطان‬ ‫أناس���ا كانوا أم ش���ياطين أم ًّ‬ ‫ً‬ ‫كثي���رة‪ ،‬متنوع���ة‪ ،‬عاتية‪ ،‬إال أن اإلنس���ان قد ُوه���ب إزاءها قوى‬ ‫معادل���ة وإمكان���ات مكافئة تعطي للص���راع الدائم بين الطرفين‬ ‫ممتدا‪ ،‬بحيث أن النصر والغلبة لن تجيء بسرعة‪،‬‬ ‫واسعا‬ ‫مدى‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬ ‫س���هل ًة‪ ،‬كالضربة الخاطفة ألي منهما‪ .‬إن هذه "المقابلة" تمثل‬

‫‪17‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )39‬‬


‫المقص���ود إذن م���ن هذا األس���اس الثالث‪ ،‬ه���و التزام نظام‬ ‫األولوي���ات‪ .‬كذل���ك ف���ي الجانب المتغير هناك ما يس���مى عند‬ ‫العلم���اء بـ"واجب الوقت"؛ لنفت���رض أن الصالة بقي لها ركعة‬ ‫تكبر رأيت في تلك اللحظة‬ ‫وس���يخرج وقتها‪ ،‬وأنت بصدد أن ّ‬ ‫أعمى على أبواب حفرة سيس���قط فيها ويهلك‪ ،‬فواجب عليك‬ ‫تق���دم ه���ذا الواج���ب األول ‪-‬أي إنقاذ ه���ذا األعمى‪ -‬على‬ ‫أن ِّ‬ ‫تأدية الصالة مع أنها واجبة‬ ‫أساس���ا‪ .‬هذا يس���مى لدى العلماء‬ ‫ً‬ ‫بـ"واج���ب الوق���ت"‪ ،‬أي الواج���ب المتغير‪ .‬معرف���ة النظام العام‬ ‫يس���هل الس���ير‪ .‬ونسترشد بكلمة جامعة هي من وصية أبي بكر‬ ‫ّ‬ ‫تؤدى‬ ‫لعم���ر ‪ ‬ق���ال ل���ه‪" :‬واعل���م أن اهلل ال يقب���ل نافلة حت���ى َّ‬ ‫الفريض���ة"‪ .‬فلننظر في أعمالنا وممارس���تنا‪ ،‬فطريقة قياس هذه‬ ‫الصف���ة ه���ي إيثار األهم في مي���زان اهلل ال في ميزانن���ا‪ ،‬ألننا إذا‬ ‫قدمنا األهم في ميزاننا نكون قد أخللنا باألساس األول الذي‬ ‫ّ‬ ‫ه���و تكبي���ر اهلل‪ .‬الب���د إذن‪ ،‬أن نجع���ل أمورنا س���ائرة وفق هذه‬ ‫األس���س التي يتفرع بعضها عن بعض‪ ،‬فإيثار األهم في ميزان‬ ‫اهلل يعطينا طريقة لقياس هذا األساس‪.‬‬

‫‪ -4‬اإلحسان في كل شيء‬

‫المس���لم محس���ن‪" :‬إن اهلل كتب اإلحس���ان على كل شيء‪ ،‬فإذا‬ ‫الذبح���ة‪ ،‬و ْل َي ُح ّد‬ ‫قتلتم فأحس���نوا ال ِقتلة‪ ،‬وإذا ذبحتم فأحس���نوا ِّ‬ ‫بيحت���ه" (رواه مس���لم)؛ اإلحس���ان معناه‬ ‫ولي ِ‬ ‫أحدك���م َش ْ‬ ‫ُ‬ ‫���ر ْح َذ َ‬ ‫���فر َته ُ‬ ‫ال‬ ‫أساس���ا "اإلتق���ان"‪ ،‬و"إن اهلل يحب من أحدك���م إذا عمل عم ً‬ ‫ً‬ ‫أخروي���ا كان أم‬ ‫عم�ل�ا‪،‬‬ ‫أن يتقن���ه" (رواه الطبران���ي)‪ ،‬أي إذا عملن���ا‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫دنيويا‪ ،‬يتعلق بأمر المعاد أم بأمر المعاش‪ ،‬فيجب أن نتقنه وأن‬ ‫ًّ‬ ‫نحسن فيه‪ ،‬وهذا يعني أننا سنستريح من الغش‪ ،‬وفي الحديث‬ ‫منا" (رواه مسلم)‪ ،‬إشارة إلى‬ ‫"م ْن َغ َّشنا فليس ّ‬ ‫الشريف يقول ‪َ :‬‬ ‫أنه ال يقبل من المس���لم‬ ‫أي كان‪ .‬لماذا؟ ألن الدين‬ ‫َّ‬ ‫الغش مع ّ‬ ‫النصيح���ة‪ ،‬والنصيحة في العربية تعني‪ :‬بذل أقصى الجهد كي‬ ‫يحسن‪ .‬فالدين النصيحة‪ ،‬والدين اإلحسان‪ ،‬والدين اإلتقان‪...‬‬ ‫إذا نظرن���ا إلى أحوال المس���لمين الي���وم ‪-‬كبارهم وصغارهم‪-‬‬ ‫فماذا نجد في الصناعات‪ ،‬وفي المعامالت‪ ،‬وكذلك في أمور‬ ‫منا‪.‬‬ ‫العبادات‪ ،‬سنجد أن الغش متمكن ّ‬ ‫ورد في الحديث الش���ريف‪" :‬إنم���ا ُيكتب للعبد من صالته‬ ‫ما عقل منها" (رواه أبو داود)‪ .‬لماذا؟ ألن أس���اس الصالة ذكر اهلل‪:‬‬ ‫ال َة ِل ِذ ْك ِري‪(‬طه‪.)14:‬‬ ‫الص َ‬ ‫‪‬و َأ ِق ِم َّ‬ ‫َ‬ ‫ش فيه���ا‪ ،‬ال نؤديها كم���ا أراد اهلل ‪ ‬أداء‬ ‫الص�ل�اة ً‬ ‫أيض���ا َن ُغ ّ‬ ‫حقيقي���ا بالتركي���ز الالزم‪ ،‬ومن أهدافها تركي���ز االنتباه للخروج‬ ‫ًّ‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )39‬‬

‫‪16‬‬

‫من حال إلى حال‪ .‬اإلحس���ان مطلوب‪ ،‬ووس���يلته أن نعمل هلل‬ ‫عل���ى عين اهلل كما وضع رس���ول اهلل ‪ ‬معنى اإلحس���ان‪" :‬أن‬ ‫تعب���د اهلل كأنك تراه"‪ ،‬يس���تحيي أو يخ���اف‪ ،‬أما حين يغفل عن‬

‫هلل َخ َنس وإذا‬ ‫اهلل "الش���يطان جاثم على قلب ابن آدم‪ ،‬إذا ذكر ا َ‬

‫غفل وسوس" (رواه البخاري)‪.‬‬

‫أيضا‪ ،‬ه���و القبول ف���ي األرض‪ ،‬الذي‬ ‫فعالم���ة ه���ذا األم���ر ً‬

‫يأتي نتيجة المحبة‪ .‬ورد في الحديث الصحيح‪" :‬إن اهلل تعالى‬

‫ينادي جبريل‪ :‬يا جبريل إني أحب فال ًنا فأحبه‪ ،‬فينادي جبريل‬ ‫في المالئكة أن اهلل يحب فال ًنا ِ‬ ‫فيوضع له القبول في‬ ‫فأح ّبوه‪،‬‬ ‫َ‬ ‫األرض"‪.‬‬

‫‪ -5‬االستعداد للجهاد‬

‫الجهاد باألموال واألنفس في سبيل اهلل‪ ،‬بمعنى أن نبذل أقصى‬ ‫الجهد لتكون كلمة اهلل هي العليا‪ ،‬وهي صفة أساسية ينبغي أن‬

‫شرعا أال نبذل هذا البذل‪ُ  :‬ق ْل‬ ‫نربي عليها أنفسنا‪ .‬وال يجوز ً‬ ‫ِ‬ ‫���ير ُت ُك ْم‬ ‫إ ِْن َك َ‬ ‫���م َو َأ ْب َن ُ‬ ‫ان َآب ُ‬ ‫���م َوإ ِْخ َوا ُن ُك ْم َو َأ ْز َو ُ‬ ‫اؤ ُك ْ‬ ‫اؤ ُك ْ‬ ‫اج ُك ْم َو َعش َ‬ ‫وها َو ِت َجار ٌة َت ْخ َشو َن َكس َاد َها َو َمس ِ‬ ‫اك ُن َت ْر َض ْو َن َها‬ ‫َو َأ ْم َو ٌ‬ ‫ال ا ْق َت َر ْف ُت ُم َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َأ َح َّب ِإ َلي ُكم ِم َن ا ِ‬ ‫هلل َو َر ُس���و ِل ِه َو ِج َها ٍد ِفي َس���بِي ِل ِه َف َت َر َّب ُصوا َح َّتى‬ ‫ْ ْ‬ ‫هلل ِب َأ ْم ِر ِه‪(‬التوبة‪ .)24:‬وهي الكلمة التي قالها الرس���ول ‪‬‬ ‫ي ْأ ِت‬ ‫���ي ا ُ‬ ‫َ َ‬ ‫لعمر ‪ ‬عندما قال له‪ :‬أحبك يا رسول اهلل أكثر من كل شيء‬ ‫إال نفسي التي بين جنبي‪ ،‬قال ‪" :‬ال‪ ،‬حتى أكون أحب إليك‬

‫من نفس���ك"‪ ،‬أي أن تحب الوحي‪ ،‬تحب الكتاب والسنة‪ ،‬قال‬ ‫عمر ‪ :‬أنت اآلن أحب إلي من نفس���ي‪ ،‬قال له ‪" :‬اآلن يا‬ ‫ّ‬ ‫عم���ر" (رواه البخ���اري)‪ .‬وعالمة هذه المحبة‪ ،‬اس���ترخاص ما آتانا‬

‫اهلل فيم���ا يرض���ي اهلل‪ ،‬والتدري���ب عل���ى ذل���ك في أعم���ال البر‪،‬‬

‫المالية والبدنية باس���تمرار‪ ،‬وعالمة تحقق ذلك هي المس���ارعة‬

‫المستمرة إلى التطوعات في الخيرات‪.‬‬

‫‪‬ي���ا َي ْحي���ى ُخ ِ‬ ‫���اب‬ ‫���ذ ا ْل ِك َت َ‬ ‫وأخي���را يق���ول اهلل تعال���ى‪َ :‬‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫اك ْم‬ ‫ن‬ ‫ي‬ ‫ت‬ ‫آ‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫وا‬ ‫ذ‬ ‫‪‬خ‬ ‫إس���رائيل‪:‬‬ ‫لبني‬ ‫تعالى‬ ‫وقال‬ ‫‪،‬‬ ‫(مريم‪)12:‬‬ ‫ِب ُق َّو ٍة‪‬‬ ‫ُ ُ َ ََْ ُ‬ ‫ِب ُق َّو ٍة‪(‬البقرة‪)63:‬؛ ألنك إذا لم تأخذ الكتاب بقوة‪ ،‬لن تس���تطيع‬

‫حمله‪ ،‬ولن تستطيع البلوغ‪ ...‬إذن البد من أخذ الكتاب بقوة‪،‬‬ ‫اب‪(‬األع���راف‪ ،)170:‬ولم‬ ‫‪‬ي َم ِّس ُ‬ ‫ون بِا ْل ِك َت ِ‬ ‫���ك َ‬ ‫فاهلل س���بحانه يقول‪ُ :‬‬ ‫يقل‪"َ :‬ي ْم ِسكون الكتاب"‪.‬‬ ‫(*) األمين العام لمؤسسة البحوث والدراسات العلمية "مبدع" ‪ /‬المغرب‪.‬‬


‫ين‪(‬البقرة‪)135:‬؛ الهدى محصور‬ ‫���ن ا ْل ُم ْش ِ‬ ‫َح ِني ًف���ا َو َم���ا َك َ‬ ‫���ر ِك َ‬ ‫ان ِم َ‬

‫هاهن���ا‪ ،‬ولكن ال اس���تفادة م���ن هذا الهدى دون الوس���ائل التي‬

‫تمكن من تحقيقه‪.‬‬ ‫ّ‬

‫إذن ما وس���يلة تحقي���ق هذا الهدى؟ عندم���ا نقول "الهدى"‬

‫نقصد الهدى في األمور الفردية الذي يتعلق باألحكام الفقهية‬ ‫التطبيقي���ة التفصيلي���ة‪ ،‬أي تعرف كيف تتوض���أ‪ ،‬وكيف تص ّلي‪،‬‬ ‫تزكي‪ ،‬كيف تمارس حياتك‪ ...‬تعرف أن معرفة الحكم‬ ‫وكيف ّ‬ ‫فرض كفاي ٍة‪.‬‬ ‫فرض ٍ‬ ‫عين ال َ‬ ‫الشرعي في العمل الشخصي ُيعتبر َ‬

‫موج���ود‪ .‬فاقتران العلم بالعم���ل‪ ،‬يذهب بنا في القياس إلى أن‬ ‫ننظر من جهة حصول الهداية واالهتداء‪ ،‬ولذلك نطلب سبعة‬ ‫واح���دا‪ ،‬ما ه���و؟ ‪ِ ‬ا ْه ِد َنا‬ ‫ش���يئا‬ ‫عش���ر م���رة في كل يوم‬ ‫ً‬ ‫إجباريا ً‬ ‫ًّ‬

‫ِ‬ ‫���ك‬ ‫���ر َ‬ ‫يم‪(‬الفاتحة‪ ،)6:‬م���ا الج���واب؟ ‪‬ال���م ‪َ ‬ذ ِل َ‬ ‫ِّ‬ ‫اط ا ْل ُم ْس َ���تق َ‬ ‫الص َ‬ ‫ين‪(‬البقرة‪)2-1:‬؛ بمعنى؛ اتق اهلل‬ ‫اب َ‬ ‫ال َر ْي َب ِفي ِه ُه ًدى ِل ْل ُم َّت ِق َ‬ ‫ا ْل ِك َت ُ‬ ‫هلل َم ِن َّات َب َع‬ ‫‪‬ي ْه ِدي ِب ِه ا ُ‬ ‫تهت���دي‪ ،‬واتبع ما جاءك من عن���د اهلل‪َ :‬‬ ‫أبدا‪ .‬إذن نقيس‬ ‫رِ ْض َوا َن ُه‪(‬المائ���دة‪ .)16:‬وم���ن لم يتبع ال ُيه���دى ً‬ ‫هذه الصفة في حصول االهتداء‪.‬‬

‫والمعلوم���ات األخ���رى العادي���ة الت���ي تتعل���ق بمه���ن اآلخرين ‪ -3‬تقديم الفرائض على النوافل‬

‫ِ‬ ‫فرض كفاية‪ ،‬وفي حقهم ُتعتبر فرض‬ ‫وح َرفهم‪ ،‬في حقك ُتعتبر ْ‬ ‫عي���ن‪ .‬فيوج���د الهدى في هذه الف���روض العينية وفي الفروض‬

‫الكفائي���ة وف���ي النواف���ل والمندوبات والمس���تحبات‪ ...‬كما أن‬

‫هن���اك هدى أكب���ر وأعم من هذا الهدى‪ ،‬حيث ينش���ئه ويؤطره‬

‫ويرش���د إليه‪ ،‬وهو الهدى التصوري العام‪ ،‬الهدى العقدي في‬ ‫اصط�ل�اح تاريخ العقي���دة‪ ،‬وإال فاألمر يتعلق بمضمون "ال إله‬

‫إال اهلل محمد رس���ول اهلل"‪ ،‬ومضمون "ال إله إال اهلل" إخالص‬

‫العبودية هلل ‪ ،‬ألن اإلله في اللغة العربية هو المتع َّلق به رغبة‬ ‫الو َل ُه‬ ‫���ه‬ ‫ُ‬ ‫أو رهب���ة‪ ،‬ف َأ ِل َ‬ ‫الطفل َّأمه‪ :‬تعلق بها أش���د التعل���ق‪ ،‬ومنه َ‬ ‫كذلك‪ .‬فالذي يجب أن يتعلق به رهبة ورغبة‪ ،‬هو اهلل ‪ ،‬ومن‬

‫ثم ينبغي إزالة الش���وائب‪ ،‬حيث ال يبقى في الش���يء غير ما هو‬

‫فتنته‪َ ،‬ف َت َن‬ ‫األصل‪ .‬إذا أخلصت الذهب بوضعه على النار‪ ،‬أي َ‬ ‫الذهب في النار‪ ،‬أي وضعه في النار إلزالة الش���وائب منه‪ ،‬أي‬ ‫َ‬ ‫ليخل���ص‪ .‬وهذا يعني أن اإلخ�ل�اص هو إخالص العبودية هلل‪،‬‬

‫أي إزالة جميع ش���وائب الش���رك وهو مقتضى "ال إله إال اهلل"‪.‬‬ ‫إذن‪ ،‬لتحقي���ق معن���ى اتباع هدى اهلل على مس���توى التصور‬

‫التفكر والتدبر وفق هدى اهلل ‪ ،‬أي‬ ‫الع���ام‪ ،‬ينبغ���ي على العبد‬ ‫ّ‬

‫ُيستنبط الهدى في كل ذلك من القرآن والسنة‪ .‬فأسلمة العلوم‬ ‫تدخل في هذا اإلطار‪ ،‬وهي من اتباع هدى اهلل الذي يجب تربية‬

‫صغيرا‪ ،‬والطريق إلى ذلك َق ْرن العلم‬ ‫كبيرا أم‬ ‫ً‬ ‫العب���د عليه كان ً‬

‫علما ما لم يصحبه عمل؛ فعندما ال نجد‬ ‫بالعمل‪ .‬ال ّ‬ ‫يعد العلم ً‬ ‫ين ُح ِّم ُلوا‬ ‫‪‬م َث ُل ا َّل ِذ َ‬ ‫أث���ر العلم في حامل العلم‪ ،‬فهو من ن���وع‪َ :‬‬ ‫ِ‬ ‫س َم َث ُل‬ ‫َّ‬ ‫الت ْو َرا َة ُث َّم َل ْم َي ْح ِم ُل َ‬ ‫وها َك َم َث ِل ا ْلح َمارِ َي ْح ِم ُل َأ ْس��� َف ً‬ ‫ارا ب ِْئ َ‬ ‫ات ا ِ‬ ‫ي���ن َك َّذ ُبوا ب َِآي ِ‬ ‫هلل‪(‬الجمعة‪ ،)5:‬ومس���ؤوليته خطيرة‪.‬‬ ‫���و ِم ا َّل ِذ َ‬ ‫ا ْل َق ْ‬ ‫فالعلم يهتف بالعمل‪ ،‬فإذا لم يجده ارتحل‪ِ  :‬إ َّن َما َي ْخ َشى‬ ‫هلل ِم ْن ِع َبا ِد ِه ا ْل ُع َل َم ُاء‪(‬فاطر‪ .)28:‬فحين ال نجد خش���ية تصحب‬ ‫ا َ‬ ‫العلم‪ ،‬فاعلم أن العلم غير موجود؛ العلم بمعناه الشرعي غير‬

‫في الحديث القدس���ي الصحيح يق���ول اهلل ‪" :‬من عادى لي‬ ‫أحب إلي‬ ‫آذنته بالحرب‪ ،‬وما َتقر َب إلي عبدي بشيء‬ ‫وليا فقد ُ‬ ‫ًّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ ّ‬ ‫ّ‬ ‫افترضته عليه" (رواه البخاري)‪ .‬والفرائض‪ ،‬فيها فرائض الفعل‬ ‫مما‬ ‫ُ‬ ‫كالصالة والزكاة والصيام‪ ...‬وفيها فرائض الترك كترك الخمر‬ ‫والربا وعقوق الوالدين‪" ...‬وما يزال عبدي يتقرب إلي‬ ‫والزن���ا ِّ‬ ‫ّ‬ ‫كنت س���معه الذي يس���مع به‪،‬‬ ‫بالنوافل حتى أحبه‪ ،‬فإذا‬ ‫أحببته ُ‬ ‫ُ‬ ‫وبص���ره ال���ذي ُيبصر ب���ه‪ ،‬ويده الت���ي يبطش به���ا‪ ،‬ورجله التي‬ ‫َ‬ ‫يمش���ي بها‪ ،‬ولئن س���ألني ألعطيت���ه‪ ،‬ولئن اس���تعاذني ألعيذنه"‬ ‫معب���د لم���ن يري���د الوص���ول‪ ،‬ولكن‬ ‫(رواه البخ���اري)‪ .‬إذن الطري���ق ّ‬ ‫يجب االتباع والس���ير في هذا الطريق وفق نظام هو عبارة عن‬ ‫س��� ّلم لألولوي���ات‪ ،‬والطفرة قد ت���ؤدي بك إلى الحف���رة‪ .‬نظام‬ ‫األولويات في هذا الدين في غاية األهمية وهو جزء من اتباع‬ ‫كثيرا من صور الخلل في تاريخنا وفي واقعنا‪،‬‬ ‫ه���دى اهلل‪ ،‬ألن ً‬ ‫أساسا إلى التشوه الواقع في أولويات هذا الدين‪ .‬هناك‬ ‫ترجع‬ ‫ً‬ ‫يده اليمنى‪ ،‬وهناك‬ ‫م���ن غلظ أنف هذا الدين‪ ،‬وهناك من َغ َّلظ َ‬ ‫يده اليس���رى‪ ،‬هن���اك من َغ َّل���ظ ِ‬ ‫فش���وه ِخلقة‬ ‫الج ْذع‬ ‫م���ن َغ َّل���ظ َ‬ ‫َّ‬ ‫قس���م بطريقة معين���ة‪ ،‬عندما ال‬ ‫الدي���ن‪ ...‬للدي���ن نظام؛ الزمن ُي َّ‬ ‫تجد عبادة مفروضة بين الصبح والظهر ‪-‬على س���بيل المثال‪-‬‬ ‫فاعلم علم اليقين أن ذاك وقت الكسب ووقت العمل‪ ،‬وليس‬ ‫وق���ت النوم‪ ،‬ولي���س حتى وقت الص�ل�اة‪ .‬وعندما تجد أوقات‬ ‫الصالة تتقارب‪ ،‬فاعلم أن األمر يتجه وجهة أخرى‪ ،‬وتنظيمها‬ ‫���نة يكره‬ ‫الس ّ‬ ‫معين؛ العش���اء في وقت الش���فق‪ ،‬وفي ُّ‬ ‫عل���ى نظام ّ‬ ‫ال���كالم ف���ي غير ذكر اهلل ‪ ‬بع���د صالة العش���اء‪" ،‬اللهم بارك‬ ‫ألمتي في بكورها" (رواه الترمدي)‪ .‬البد أن ندخل في النظام العام‬ ‫حسب ما نظمه اإلسالم‪ ،‬في نظام الزمان ونظام المكان ونظام‬ ‫ويؤخر‬ ‫يقدم‬ ‫َّ‬ ‫اإلنس���ان والتجمعات اإلنس���انية‪ ...‬النظام ال���ذي َّ‬ ‫وهو جزء من الهدى‪.‬‬

‫‪15‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )39‬‬


‫عليكم ولكني أخشى‬ ‫أخش���ى‬ ‫(رواه البخ���اري)‪ ،‬وف���ي حدي���ث آخ���ر‪" :‬من‬ ‫أن‬ ‫عليكم ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫���ط ْت على‬ ‫خي���را ُي ِص ْب منه" (رواه البيهقي)؛‬ ‫ُي ِرد اهلل به‬ ‫ُت ْب َس َ‬ ‫���ط الدني���ا عليك���م كما ُب ِس َ‬ ‫ً‬ ‫الرتبية الإ�س�لامية قائمة على‬ ‫َم ْن كان‬ ‫قبلكم َف َتنا َف ُس���وها كما تنا َف ُسوها‬ ‫أي ين���زل علي���ه المصائ���ب فتك ِّف���ر عن���ه‬ ‫ْ‬ ‫�أ�س��ا�س �أكربي��ة اهلل ‪ ‬يف‬ ‫لككم كما‬ ‫أهلك ْتهم" (رواه مسلم)‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َف ُت ْه َ‬ ‫الخطاي���ا فيطي���ب فتس���تقبله المالئك���ة‪:‬‬ ‫القل��وب‪� ،‬أي امت�لاء قل��ب‬ ‫ِ‬ ‫ولك���ن م���ا قص���ة ه���ذا الغث���اء اليوم؟‬ ‫وه���ا‬ ‫﴿س َ‬ ‫���م َف ْاد ُخ ُل َ‬ ‫َ‬ ‫���م ط ْب ُت ْ‬ ‫�ل�ا ٌم َع َل ْي ُك ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫م���ا قص���ة ملي���ار وثالثمائ���ة ملي���ون م���ن‬ ‫امل�ؤم��ن ب�أكربية اهلل ‪ .‬و�إذا‬ ‫ين﴾(الزم���ر‪ .)73:‬وف���ي حدي���ث آخر‬ ‫َخالد َ‬ ‫المس���لمين؟ إن الداء الذي سماه رسول‬ ‫يق���ول ‪" :‬ال ي���زال الب�ل�اء بالمؤم���ن‬ ‫امتلأ القلب به��ذه الأكربية‪،‬‬ ‫اهلل ‪ ‬بـ"الوه���ن"‪ ،‬أصابه���م‪ ،‬فقي���ل له ما‬ ‫حتى يلقى اهلل ولي���س عليه خطيئة" (رواه‬ ‫ف���إن م��ا �س��وى اهلل ي�ص��غر‪،‬‬ ‫الوهن يا رس���ول اهلل؟ ق���ال‪" :‬حب الدنيا‬ ‫البخ���اري)‪ ،‬وه���ذا البالء ف���ي هذا الحديث‬ ‫‪،‬‬ ‫هلل‬ ‫ا‬ ‫ره‬ ‫غ‬ ‫�ص��‬ ‫م��ا‬ ‫ي�ص��غر‬ ‫كلُّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫وكراهية الموت" (رواه أبو داود)‪.‬‬ ‫ف���ردي‪ .‬وهن���اك البالء الجماع���ي الذي‬ ‫ويك�بر كل ما ك�ّب�رّ ه اهللُ‪� ،‬إىل‬ ‫العبد في س���بيل أمر دنيوي‪ُ ،‬ينفق بال‬ ‫نعيش���ه الي���وم هو ب�ل�اء العقوب���ة‪ ،‬حيث‬ ‫جانب كونه هو الأكرب ‪.‬‬ ‫حساب‪ ،‬ولكنه في سبيل أمر أخروي ال‬ ‫هن���اك ب�ل�اء الترقي���ة‪ ،‬وب�ل�اء التنقي���ة‪،‬‬ ‫شيئا‪ .‬متى يظهر فينا أمثال أبي‬ ‫يكاد ينفق ً‬ ‫وب�ل�اء التطهي���ر‪ ،‬وبالء التزكي���ة‪ ...‬فهذه‬ ‫بك���ر وعمر ‪ ،‬يأتون بأموالهم كلها في‬ ‫البالي���ا الت���ي تن���زل باألمة الي���وم‪ ،‬كأنها‬ ‫الرياح ب ْش���را س���بيل اهلل أو بنصف أموالهم‪ ،‬ومتى يكون اهلل ورس���وله أحب‬ ‫﴿و ُه َو ا َّل ِذي ُي ْر ِس ُ‬ ‫مبش���رات بي���ن يدي رحمته‪َ :‬‬ ‫���ل ِّ َ َ ُ ً‬ ‫نكبر اهلل‪ ..‬أو بتعبير آخر‪ ،‬متى وجدنا‬ ‫���د ْي َر ْح َم ِت ِه﴾(األع���راف‪ .)57:‬ما الذي‬ ‫يس���رع بعد فضل اهلل إلينا مما سواهما‪ ،‬ومتى ّ‬ ‫���ن َي َ‬ ‫َب ْي َ‬ ‫ّ‬ ‫أوالدنا‬ ‫وفي‬ ‫أنفسنا‬ ‫في‬ ‫ترجيحا لما فيه رضى اهلل على ما ليس‬ ‫اس���تفادة األرض من الغيث؟ إنه التعجيل بالتوبة النصوح على‬ ‫ً‬ ‫المستوى الفردي وعلى المستوى الجماعي‪ .‬كما أن الجماعة في���ه رض���ى اهلل‪ ،‬فلنعلم أن هاته الصفة قد اس���تقرت‪ ،‬ومتى لم‬ ‫بعد‪ ،‬وهي صفة ال تتأثر بزمان‬ ‫تتك���ون من أفراد‪ ،‬والتوبة على مس���توى األف���راد تنتهي بنا إلى نجد ذلك فلنعلم أنها لم تستقر ُ‬ ‫التوبة على مس���توى الجماعات وعلى مس���توى األمة إن ش���اء وال بم���كان وال بإنس���ان‪ .‬هذه الصفة هي األس���اس‪ ،‬وهي في‬ ‫اهلل تعال���ى‪ .‬قي���اس درج���ة التحقق هي إيثار م���ا يرضي اهلل ‪ .‬عالقتها بهذه األركان كعالقة "ال إله إال اهلل محمد رسول اهلل"‬ ‫كي���ف نع���رف أن ه���ذه الخاصية ف���ي التربية تمكن���ت منا؟ كل ببقية األركان‪ ،‬وكل شيء يتأسس على هذه الخاصية‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫واح���د يس���تطيع أن يعرف معبوده بيس���ر كالطريقة التي يعرف ‪ -2‬اتباع هدى اهلل ‪‬‬ ‫بها مدى ارتفاع الس���كر في الجس���م‪ .‬هل نحن نعبد اهلل ح ًّقا أم‬ ‫نعبد س���واه؟ هذا أمر س���هل في مكنة أي فرد؛ عندما تتعارض‬

‫المصلحة الش���رعية ‪-‬هو األرضى هلل‪ -‬مع أمر ليس فيه رضى‬ ‫كبرت عل���ى اهلل ما‬ ‫اهلل‪ ،‬ب���ل في���ه س���خط اهلل‪ ،‬ذل���ك يعني أن���ك ّ‬

‫سواه‪ ،‬هل هو المال؟ هل هو الجاه؟ يقول رسول اهلل ‪" :‬ما‬ ‫جائعان ُأ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ص المر ِء على‬ ‫ذئبان‬ ‫رسال في َغ َن ٍم ب َأ ْف َس َد لها من ِح ْر ِ‬ ‫والش َرف لدينه" (رواه الترمذي)؛ الذئب ال يأكل ما قتل‪ ،‬إال‬ ‫المال َّ‬

‫بعد أن يس���تريح من قتل أكبر عدد من الغنم‪ ،‬هذه خاصية في‬

‫الذئ���ب‪ ،‬إذ ال ُيفه���م ه���ذا الحديث بغير معرفة ه���ذه الخاصية‬ ‫الم���ال من أجل الج���اه فمعبوده‬ ‫ف���ي الذئب‪ .‬هن���اك من يعطي‬ ‫َ‬

‫ضحى بالجاه م���ن أجل الحصول‬ ‫األساس���ي ه���و الج���اه‪ ،‬وإذا ّ‬

‫على المال فمعبوده األساس���ي هو المال‪ ،‬والذي يترجح على‬ ‫ما سواه هو المعبود الحق‪ ،‬قال رسول اهلل ‪" :‬فوا ِ‬ ‫هلل ما ال َف ْق َر‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )39‬‬

‫‪14‬‬

‫أين يوجد هدى اهلل؟ يوجد في الوحي‪ ،‬في كتاب اهلل ‪ ‬وفي‬ ‫س���نة رس���وله ‪ ‬الصحيحة‪ ،‬وإن ه���ي إال بيان للق���رآن‪َ  :‬ف ِإ َذا‬

‫���ه ‪ُ ‬ث َّم إ َِّن َع َل ْي َن���ا َب َيا َن ُه‪(‬القيام���ة‪ ،)19-18:‬وقد‬ ‫ِ���ع ُق ْرآ َن ُ‬ ‫َق َر ْأ َن ُ‬ ‫���اه َف َّاتب ْ‬ ‫���اس َما ُن ِّز َل‬ ‫﴿و َأ ْن َز ْل َنا ِإ َل ْي َك ِّ‬ ‫���ر ِل ُت َب ِّي َن ِل َّلن ِ‬ ‫نبي���ه ببيان���ه‪َ :‬‬ ‫ك ّل���ف ّ‬ ‫الذ ْك َ‬ ‫ِإ َل ْيهِ ْم﴾(النح���ل‪)44:‬؛ وظيفة رس���ول اهلل ‪ ‬البي���ان‪ ،‬وحياته كانت‬ ‫أحدا على الخطأ‪ ،‬هذه‬ ‫بيا ًن���ا باللفظ وبالفعل وباإلقرار‪ ،‬ال ُي ِق ُّر ً‬ ‫خالصة السنة؛ فالرسول ‪ّ ‬بين القرآن وكان خ ُلقه القرآن‪.‬‬ ‫م���ا المقص���ود بالهدى؟ داللته اإلرش���اد بصف���ة عامة‪ ،‬وهو‬ ‫آن َي ْه ِ‬ ‫���دي ِل َّل ِتي ِهي‬ ‫���ر َ‬ ‫مث���ل الض���وء ينير الطري���ق‪ :‬إ َِّن َه َذا ا ْل ُق ْ‬ ‫َ‬ ‫َأ ْق َو ُم‪(‬اإلس���راء‪ .)9:‬ومعل���وم أن أخص���ر طري���ق بي���ن نقطتين هو‬

‫أيضا‪،‬‬ ‫الخط المستقيم‪ ،‬وهذا أقوم طريق‪ ،‬فيه معنى "اهلل أكبر" ً‬ ‫أي أن هدى اهلل أكبر‪ُ  :‬ق ْل إ َِّن ُه َدى ا ِ‬ ‫هلل ُه َو ا ْل ُه َدى‪(‬البقرة‪،)120:‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫يم‬ ‫ارى َت ْه َت ُ‬ ‫‪‬و َقا ُل���وا ُكو ُن���وا ُه ً‬ ‫َ‬ ‫���ودا َأ ْو َن َص َ‬ ‫���دوا ُق ْل َب ْل م َّل��� َة إ ِْب َراه َ‬


‫الش���مس إل���ى القم���ر‪ ...‬تجاوز ه���ذه األش���كال الخارجية إلى‬ ‫بارئه���ا‪ .‬وه���ذه الحقيق���ة لها الي���وم أهمي���ة كبي���رة‪ ،‬إذ إن الذي‬ ‫يحب���س نفس���ه بين األس���وار ويتج���ول بين مصنوعات البش���ر‪،‬‬

‫وغدا؛ يربطها بصانعها فيكبر عنده اإلنس���ان‪.‬‬ ‫ويفكر فيها اليوم ً‬ ‫ي���وم صنع له‬ ‫قديم���ا فرعون‪َ ،‬‬ ‫وه���ذا الغ���رور هو ال���ذي داخل ً‬

‫هام���ان ما صنع‪ .‬وهذا الغرور هو الذي يداخل البش���رية اليوم‬ ‫ض َع ْن‬ ‫حين تنظر إلى نفس���ها‪ ،‬وتنظر إلى ظاهر العلم‪َ  :‬ف َأ ْع ِر ْ‬ ‫الد ْن َيا َذ ِل َك َم ْب َل ُغ ُه ْم ِم َن‬ ‫َم ْن َت َو َّلى َع ْن ِذ ْك ِر َنا َو َل ْم ُي ِر ْد ِإ َّ‬ ‫ال ا ْل َح َيا َة ُّ‬ ‫ا ْل ِع ْل ِم‪(‬النجم‪)30-29:‬؛ إنه علم السطوح‪ ،‬واألشكال‪ ،‬واألشباح‪،‬‬ ‫شيئا من كتاب اهلل وعرف‬ ‫مؤمنا‬ ‫والظواهر‪ ...‬إن‬ ‫ً‬ ‫بسيطا قد قرأ ً‬ ‫ً‬ ‫دي���ن اهلل‪ ،‬هو أعلم بكثير من "أنش���تاين" وغيره‪ ،‬ألن علمهم ال‬ ‫يجاوز السطح‪ ،‬وال يعرف من أين جاء هذا الكون‪ ،‬وإلى أين‬

‫أيضا‪.‬‬ ‫يصير‪ ،‬كما أنه ال يجاوز ذاته ً‬

‫الفض���اء العلمي للمس���لم‪ ،‬أفس���ح بكثير من فض���اء العالم‬ ‫أظهر حقيق��� ٍة‬ ‫الكبي���ر ف���ي أمور الدني���ا‪ ،‬ألن‬ ‫وأصرحها في هذا‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫الكون هي خالق هذا الكون‪ .‬وهل ظهر هذا الكون وحده؟ هل‬ ‫الك���ون بهذا النظام وبهذه العظمة ظهر وحده؟ ‪َ ‬أ ْم ُخ ِل ُقوا ِم ْن‬

‫او ِ‬ ‫ات َوا َ‬ ‫َغي ِر َش���ي ٍء َأ ْم ُهم ا ْل َخا ِل ُق َ ‪َ ‬‬ ‫ض‬ ‫أل ْر َ‬ ‫���م َ‬ ‫الس َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ون أ ْم َخ َل ُقوا َّ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ن‬ ‫ق‬ ‫و‬ ‫ي‬ ‫ال‬ ‫���ل‬ ‫َب‬ ‫ون‪(‬الط���ور‪)36-35:‬؛ فأص���رح حقيق���ة وأظهره���ا هي‬ ‫َ‬ ‫ُ ُ َ‬ ‫���ل َأ َف َغير ا ِ‬ ‫هلل‬ ‫اهلل ‪ ،‬ولكنه���م ال يعرفونه���ا وه���م جاهلون‪ُ  :‬ق ْ ْ َ‬ ‫���د َأ ُّي َها ا ْل َج ِ‬ ‫هلل فهو‬ ‫ون‪(‬الزم���ر‪ .)64:‬من لم يعلم ا َ‬ ‫اه ُل َ‬ ‫َت ْأ ُم ُرو ِّن���ي َأ ْع ُب ُ‬ ‫أجه���ل الخلق عل���ى اإلطالق‪ ،‬ألنه ال يرى أص���رح حقيقة في‬ ‫ه���ذا الك���ون‪ ،‬كبرت وظهرت حتى ما عاد يراها‪ ،‬ويقال‪" :‬ومن‬

‫شدة الخفاء الظهور"‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اب ُص ْن َع‬ ‫﴿و َت َرى ا ْل ِج َب َ‬ ‫الس َح ِ‬ ‫َ‬ ‫ال َت ْح َس ُب َها َجام َد ًة َوه َي َت ُم ُّر َم َّر َّ‬ ‫ٍ‬ ‫هلل ا َّل ِ‬ ‫ا ِ‬ ‫َ‬ ‫األرض‪:‬‬ ‫إلى‬ ‫انظ���ر‬ ‫‪،‬‬ ‫(النمل‪)88:‬‬ ‫﴾‬ ‫ء‬ ‫���ي‬ ‫ش‬ ‫ل‬ ‫ك‬ ‫ن‬ ‫ق‬ ‫ت‬ ‫أ‬ ‫ي‬ ‫���ذ‬ ‫‪‬ه َو‬ ‫ُ‬ ‫ْ َ َ ُ َّ َ ْ‬ ‫ال َف ْام ُشوا ِفي َم َن ِ‬ ‫ا َّل ِذي َج َع َل َل ُكم ْا َ‬ ‫اكب َِها‪(‬الملك‪)15:‬؛‬ ‫ض َذ ُلو ً‬ ‫أل ْر َ‬ ‫ُ‬ ‫األرض تسير كالناقة الذلول تجعل راكبها في غاية االستراحة‪،‬‬ ‫تجري‬ ‫لمس���تقر لها‪ .‬كل ش���يء يطير في هذا الكون‪ ،‬ال ش���يء‬ ‫ٍّ‬ ‫واق���ف‪ ،‬ونح���ن عوالم ف���ي نقطة صغي���رة‪ ..‬بالمكب���رات تظهر‬ ‫عجائب وغرائب من كائنات فينا‪ .‬وحسبك الذرة وما فيها من‬

‫نيترون���ات وبروتونات والفضاء الموجود بينها‪ .‬يقول العلماء‪:‬‬ ‫لو أزيل الفضاء الموجود بين النواة في الذرة وما يدور حولها‬

‫م���ن هذه النيترونات والبروتونات‪ ،‬لصارت األرض في حجم‬

‫ظهر كأننا‬ ‫البيضة‪ .‬فهذه األجسام التي نراها‪ ،‬كلها فضاءات‪َ ..‬ن َ‬ ‫ملتحم���ون‪ ،‬ولكن لو ُنظر إلينا بمس���توى ع���ال من المكبرات‪،‬‬

‫وجدنا فضاءات خيالية يمكن أن تخترقها كائنات‪.‬‬ ‫َل َ‬ ‫ِ‬ ‫او ِ‬ ‫ات‬ ‫الس َم َ‬ ‫إذن ينبغي التفكر في هذا الكون‪ :‬إ َِّن في َخ ْلقِ َّ‬

‫الن َه���ارِ لآَ َي ٍ‬ ‫ألو ِل���ي ا َ‬ ‫ات ُ‬ ‫َوا َ‬ ‫اب‬ ‫أل ْل َب ِ‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫اخ ِت َ‬ ‫�ل�ا ِف ال َّل ْي ِ‬ ‫ض َو ْ‬ ‫���ل َو َّ‬ ‫ون‬ ‫ون ا َ‬ ‫���م َو َي َت َف َّك ُر َ‬ ‫���ر َ‬ ‫هلل ِق َي ًام���ا َو ُق ُع ً‬ ‫ا َّل ِذ َ‬ ‫ودا َو َع َل���ى ُج ُنوبِهِ ْ‬ ‫ي���ن َي ْذ ُك ُ‬ ‫���ذا َب ِ‬ ‫ِ‬ ‫او ِ‬ ‫ات َو ْا َ‬ ‫ال‬ ‫���ت َه َ‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫اط ً‬ ‫ض َر َّب َن���ا َم���ا َخ َل ْق َ‬ ‫���م َ‬ ‫الس َ‬ ‫ف���ي َخ ْل���قِ َّ‬ ‫ُس ْب َحا َن َك‪(‬آل عمران‪ ،)191-190:‬الذي يظن أن هذا الخلق باطل‪،‬‬ ‫ين َك َف ُروا‬ ‫ين َك َف ُروا َف َو ْي ٌل ِل َّل ِذ َ‬ ‫يق���ول في���ه اهلل ‪َ ﴿ :‬ذ ِل َك َظ ُّن ا َّل ِذ َ‬ ‫النارِ ﴾(ص‪.)27:‬‬ ‫ِم َن َّ‬ ‫والق���رآن عص���ارة الكون؛ عصارة قوانين���ه وعصارة نظامه‪،‬‬ ‫فينبغ���ي أن ُيتدب���ر بالليل والنه���ار‪ ،‬لذلك يج���ب أن يحمل في‬ ‫لتدبره‪ِ :‬‬ ‫اب َأ ْن َز ْل َن ُاه‬ ‫الصدر ليق���ام آناء الليل وأطراف النهار ُّ‬ ‫‪‬ك َت ٌ‬ ‫ِ‬ ‫���روا َآيا ِت ِه‪(‬ص‪ ،)29:‬إنما ُأخ���رج هذا الكتاب‬ ‫ِإ َل ْي َ‬ ‫���ك ُم َب َ‬ ‫���اركٌ ل َي َّد َّب ُ‬ ‫أساس���ا ليخرج الناس من الظلمات إل���ى النور‪ .‬هدفه واضح‪:‬‬ ‫ً‬ ‫‪‬‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫هلل َم ِن َّات َب َع‬ ‫ِين ‪َ ‬ي ْه ِدي ِب ِه ا ُ‬ ‫اب ُمب ٌ‬ ‫ور َو ِك َت ٌ‬ ‫‪َ ‬ق ْد َج َاء ُك ْم م َن اهلل ُن ٌ‬ ‫ال ِم َو ُي ْخ ِر ُج ُهم ِم َن الظُّ ُلم ِ‬ ‫ات ِإ َلى ال ُّنورِ ِبإ ِْذ ِن ِه‬ ‫الس َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫رِ ْض َوا َن ُه ُس ُ‬ ‫���ب َل َّ‬ ‫َو َي ْه ِديهِ م ِإ َلى ِصر ٍ‬ ‫يم‪(‬المائدة‪ .)16-15:‬وليصل العبد إلى‬ ‫اط ُم ْس َت ِق ٍ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ذل���ك الهدف الواضح‪ ،‬يج���ب أن يتدبر هذا القرآن‪ ،‬وقد أنزل‬ ‫آن َأ ْم‬ ‫نتدبره‪َ  :‬أ َف َ‬ ‫ون ا ْل ُق ْر َ‬ ‫ال َي َت َد َّب ُر َ‬ ‫له���ذا التدبر‪ ،‬وأنكر علين���ا أال ّ‬ ‫وب َأ ْق َفا ُل َها‪(‬محم���د‪ .)24:‬الطريق في غاية الوضوح؛ إذا‬ ‫َع َل���ى ُق ُل ٍ‬ ‫تدبرن���ا هذا الكتاب‪ ،‬أفضى بنا إل���ى تكبير اهلل ‪ ،‬وإذا تفكرنا‬ ‫ّ‬ ‫ف���ي هذا الك���ون‪ ،‬أفضى بنا إلى تكبي���ر اهلل ‪ ،‬بحيث نرى أن‬ ‫اهلل ‪ ‬هو كل ش���يء‪ ،‬وبيده كل ش���يء‪ ،‬وإليه يصير كل شيء‪،‬‬ ‫ال َأ ْن‬ ‫ون ِإ َّ‬ ‫‪‬و َما َت َش ُاء َ‬ ‫وال يمكن ألحد أن يفعل ً‬ ‫شيئا دون إذنه‪َ :‬‬ ‫هلل‪(‬اإلنسان‪.)30:‬‬ ‫َي َش َاء ا ُ‬ ‫الملك بيد كائ���ن من الكائن���ات‪ ،‬إنما‬ ‫يظن���ن‬ ‫ف�ل�ا‬ ‫ٌّ‬ ‫ّ‬ ‫ظ���ان أن ُ‬ ‫الملك هلل وحده‪ .‬في الحديث الشريف يقول ‪" :‬إن اهلل ‪--‬‬ ‫يعطي الدنيا من يحب ومن ال يحب‪ ،‬وال يعطي الدين إال لمن‬ ‫ي���د ا ْل َع ِ‬ ‫اج َل َة َع َّج ْل َن���ا َل ُه ِف َيها َما‬ ‫‪‬م ْن َك َ‬ ‫ان ُي ِر ُ‬ ‫يح���ب" (رواه أحم���د)‪َ ،‬‬ ‫ورا‬ ‫يد ُث َّم َج َع ْل َنا َل ُه َج َه َّن َم َي ْص َ‬ ‫َن َش ُاء ِل َم ْن ُن ِر ُ‬ ‫ال َها َم ْذ ُم ً‬ ‫وما َم ْد ُح ً‬ ‫َو َم ْن َأر َاد ِ‬ ‫ان‬ ‫���و ُم ْؤ ِم ٌن َف ُأو َل ِئ َك َك َ‬ ‫اآلخ َر َة َو َس َ‬ ‫���عى َل َها َس ْ‬ ‫َ‬ ‫���ع َي َها َو ُه َ‬ ‫‪‬‬

‫ال ِء ِم ْن َع َطا ِء َر ِّب َك َو َما‬ ‫ال ِء َو َه ُؤ َ‬ ‫ورا ‪ُ ‬كلاًّ ُن ِم ُّد َه ُؤ َ‬ ‫َس ْع ُي ُه ْم َم ْش ُك ً‬ ‫ورا‪(‬اإلس���راء‪ .)20-18:‬م���ن أراد أن يكون‬ ‫���اء َر ِّب َ‬ ‫َك َ‬ ‫ان َع َط ُ‬ ‫���ك َم ْح ُظ ً‬ ‫صالحا‪ ،‬فاهلل ‪ ‬يوصله بإذنه إلى تلك المنزلة‪ :‬إ ِْن َي ْع َل ِم‬ ‫عبدا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫هلل ِفي ُق ُلوب ُِك ْم َخ ْي ًرا ُي ْؤ ِت ُك ْم َخ ْي ًرا‪(‬األنفال‪.)70:‬‬ ‫ا ُ‬ ‫اهلل ‪ ‬يحب المس���لمين‪ ،‬لذلك يسلط عليهم الباليا‪ ،‬وفي‬ ‫خي���را ُي َف ّقهه ف���ي الدين"‬ ‫���رد اهلل به‬ ‫الحدي���ث الصحي���ح‪" :‬من ُي ِ‬ ‫ً‬

‫‪13‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )39‬‬


‫رهب‬ ‫وي َ‬ ‫أن ُي َحب أكثر من أي محبوب‪ُ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫���ر‬ ‫أكث���ر م���ن أي مره���وب‪ :‬إ َّن َم���ا َي ْع ُم ُ‬ ‫آم َن بِ���ا ِ‬ ‫���اج َد ا ِ‬ ‫هلل َوا ْليو ِم ِ‬ ‫َم َس ِ‬ ‫اآلخرِ‬ ‫هلل َم ْن َ‬ ‫َْ‬ ‫ال‬ ‫الص َ‬ ‫ش ِإ َّ‬ ‫الز َكا َة َو َل ْم َي ْخ َ‬ ‫ال َة َوآ َتى َّ‬ ‫َو َأ َق َ‬ ‫ام َّ‬ ‫هلل‪(‬التوب���ة‪)18:‬؛ ل���م يخش إال اهلل وإال ما‬ ‫ا َ‬ ‫عمر المس���جد‪ ،‬إنما عمره بالشبح‪ ،‬وال‬ ‫قيمة لهذا الش���بح إال إذا امتأل باإليمان‪،‬‬

‫عامرا بأكبرية اهلل ‪.‬‬ ‫أي إذا كان‬ ‫ً‬

‫س���وى آدم ق���ال‪:‬‬ ‫إن اهلل ‪ ‬حي���ن ّ‬ ‫ي���ن ‪َ ‬ف��� ِإ َذا‬ ‫���ن ِط ٍ‬ ‫‪ِ ‬إ ِّن���ي َخا ِل ٌ‬ ‫���را ِم ْ‬ ‫���ق َب َش ً‬ ‫���ت ِفي ِه ِم ْن ر ِ‬ ‫وح���ي َف َق ُعوا‬ ‫���و ْي ُت ُه َو َن َف ْخ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َس َّ‬ ‫���ه َس ِ‬ ‫ين‪(‬ص‪ ،)72-71:‬فاإلنس���ان‬ ‫َل ُ‬ ‫���اج ِد َ‬ ‫إذن ِم���ن طي���ن و ِمن روح‪ ،‬وال���ذي يؤ ّثر‬

‫أيضا‬ ‫لف���ظ يتكرر في الص�ل�اة‪ ،‬والصالة ً‬

‫�شخ�ص��ا عاديًّا‬ ‫امل�س��لم لي�س‬ ‫ً‬ ‫يف ه��ذا الك��ون‪� ،‬إذ امل�س��لم‬ ‫موقعه ال�ش��هادة على النا�س‪،‬‬ ‫وه��و املنظِّ��م واملوج��ه العام‬ ‫للب��شر يف الكرة الأر�ض��ية‪..‬‬ ‫املفرو�ض �أنه هو الذي ي�س�ّي رّ‬ ‫العامل بر�ش��د‪ ،‬لأن الأمانة من‬ ‫املفرو���ض �أن تك��ون يف ي��د‬ ‫هذا النوع من الب�رش‪.‬‬

‫ويحرك‬ ‫ويوجه هو "الروح" ال الجس���د‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫ه���ي أكبر ركن يتكرر في حياة المس���لم‪.‬‬ ‫ومعن���ى ذل���ك أنن���ا نكب���ر مع اهلل أش���ياء‬

‫كثيرة‪ ..‬وهذا المعنى ال يتقرر فينا بيسر‪،‬‬ ‫كثيرا‪،‬‬ ‫ولذلك‬ ‫كثيرا‬ ‫َّ‬ ‫يكرر علينا ً‬ ‫ونذكر به ً‬ ‫َّ‬ ‫ليستقر معنى تكبير اهلل ‪.‬‬

‫إن المس���لم ف���ي ه���ذا الك���ون‬ ‫ه���و اإلنس���ان الش���اهد‪:‬‬ ‫���ك‬ ‫‪‬و َك َذ ِل َ‬ ‫َ‬

‫���ه َد َاء‬ ‫���م ُأ َّم��� ًة َو َس ً‬ ‫َج َع ْل َن ُ‬ ‫���طا ِل َت ُكو ُن���وا ُش َ‬ ‫اك ْ‬ ‫َع َل���ى الن���اس ويك���ون‬ ‫���م‬ ‫الر ُس ُ‬ ‫���ول َع َل ْي ُك ْ‬ ‫َّ ِ َ َ ُ َ َّ‬ ‫يدا‪(‬البقرة‪ ،)143:‬بعد أن علم بحقيقة‬ ‫َش���هِ ً‬ ‫���م َر ِّب َك‪(‬العل���ق‪ ،)1:‬وبع���د أن‬ ‫ِاس ِ‬ ‫���ر ْأ ب ْ‬ ‫‪‬ا ْق َ‬

‫ترجم ه���ذا‬ ‫ذكرا‬ ‫العلم إلى عم���ل ُ‬ ‫َ‬ ‫فملئ ً‬

‫حتى وصل إلى درجة التوكل الكامل في‬

‫وكل الخصائص التي للجس���د س���ببها "ال���روح"؛ فحين يموت‬

‫لتعده للرس���الة واإلنذار‪،‬‬ ‫فواتح المزمل‪ .‬وتأتي فواتح المدثر ّ‬

‫لكنه���ا ال تس���مع‪ ،‬يبق���ى اللس���ان لكن���ه ال ينطق‪ ،‬يبق���ى العقل‬

‫﴿يا َأ ُّي َه���ا ا ْلم َّد ِّثر ‪ُ ‬قم َف َأ ْن ِ‬ ‫���ذ ْر ‪َ ‬و َر َّب َك‬ ‫ش���رط وأول زاد ه���و‪َ :‬‬ ‫ْ‬ ‫ُ ُ‬ ‫���دم المفع���ول‪ ،‬وهذا يفي���د الحصر‪،‬‬ ‫َف َك ِّب ْر﴾(المدث���ر‪ .)3-1:‬لق���د ُق ِّ‬

‫اإلنس���ان‪ ،‬تبق���ى العيون لكنها ال ترى وال تبص���ر‪ ،‬تبقى اآلذان‬

‫أي الش���هادة على الناس؛ يك َّلف باإلصالح بعد الصالح‪ .‬أول‬

‫لكن���ه ال يفكر‪ ...‬يبقى الجس���د كله لك���ن ال توجد فيه خاصية‬ ‫م���ن خصائ���ص الحي���اة‪ ،‬إذ َي ِ‬ ‫رج���ع إلى أصل���ه‪ ،‬يتحل���ل كبقية‬

‫أي كأن���ه يق���ول‪:‬‬ ‫كبرته وحده‬ ‫َّ‬ ‫"وربك وح���ده ّ‬ ‫فكبِر‪ ،‬ألن���ك إن ّ‬

‫روحا خالدون‬ ‫وأجس���ادا فانون‪ ،‬والموت إنما هو انفصال بين‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫تام���ة إن كان���ت عبوديت���ك له كامل���ة‪ ،‬وتكون ُن ْصرت���ه لك تامة‬

‫الموجودات في هاته األرض‪ .‬الروح ال تفنى‪ ،‬وهذا يعني أننا‬ ‫بعد‪َ  :‬قا ُلوا‬ ‫عنصرين التقيا ُ‬ ‫بعد‪ ،‬ثم سيلتقيان ُ‬ ‫قبل‪ ،‬ثم انفصال ُ‬ ‫اع َت َر ْف َنا ب ُِذ ُنوب َِنا‪(‬غافر‪ )11:‬كما‬ ‫َر َّب َن���ا َأ َم َّت َنا ا ْث َن َت ْي ِن َو َأ ْح َي ْي َت َنا ا ْث َن َت ْي ِ‬ ‫���ن َف ْ‬ ‫يقول الظالمون ألنفسهم‪.‬‬

‫اس���تطعت أن تنجز كل ش���يء ألنه معك‪ .‬تكون والية اهلل لك‬

‫فتتصرف بقوة اهلل ‪.‬‬

‫إن المس���لمين م���ا انتص���روا بكث���رة الع���دد‪ ،‬وال انتص���روا‬

‫بكث���رة الع���دة‪ ،‬وإنما انتصروا بوالية اهلل ‪ ‬له���م‪ ،‬إذ النصر ال‬

‫المس���لم لي���س‬ ‫عادي���ا في ه���ذا الك���ون‪ ،‬ولكنه ال‬ ‫ش���خصا ًّ‬ ‫ً‬

‫يؤتى باألس���باب البش���رية العادي���ة وإن كان‬ ‫مطلوبا إعداد هذه‬ ‫ً‬ ‫���ن ُق َّو ٍة‪(‬األنف���ال‪،)60:‬‬ ‫‪‬و َأ ِع ُّ‬ ‫اس َ���ت َط ْع ُت ْم ِم ْ‬ ‫األس���باب‪َ :‬‬ ‫���دوا َل ُه ْم َما ْ‬ ‫ال ِم ْن ِع ْن ِد ا ِ‬ ‫هلل‪(‬آل عمران‪ ،)126:‬إن شاء أنزله‬ ‫الن ْص ُر ِإ َّ‬ ‫‪‬و َما َّ‬ ‫ولكن َ‬ ‫وإن ش���اء لم ينزل���ه‪ ،‬وإنه ينزله على المؤهلي���ن وإن كانوا قلة‪.‬‬

‫ف���ي ي���د هذا النوع من البش���ر‪ ،‬ولك���ن عندما غ���اب ُنزعت منه‬ ‫األمان���ة وس��� ِّلطت عليه البالي���ا‪ ،‬وال تزال تس��� َّلط حتى يراجع‬

‫صغيرا‪ -‬على‬ ‫كبي���را كان أم‬‫المربى‬ ‫ال م���ن تدريب‬ ‫تنطل���ق أو ً‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫يعرف معناه لألس���ف‪ ..‬إن المسلمين ألفاظ ال تعرف معانيها؛‬ ‫إذ المس���لم موقعه الش���هادة على الناس‪ ،‬والمسلم هو‬ ‫المنظم‬ ‫ِّ‬

‫والموجه العام للبش���ر في الك���رة األرضية‪ ..‬المفروض أنه هو‬ ‫الذي‬ ‫يس���ير العالم برشد‪ ،‬ألن األمانة من المفروض أن تكون‬ ‫ّ‬ ‫عبدا هلل ح ًّقا كما ُطلب منه‪ ،‬ال يش���رك به‬ ‫ش���يئا‪.‬‬ ‫نفس���ه ويع���ود ً‬ ‫ً‬

‫وذل���ك يقتض���ي تحقيق معنى "اهلل أكب���ر"‪ ،‬ألن العبد حين ُيقبِل‬

‫على ربه في الصالة ويقول "اهلل أكبر"‪ ،‬يعلن إعال ًنا‬ ‫واضحا بأن‬ ‫ً‬ ‫ما س���وى اهلل ال قيمة له بالنس���بة إليه‪ ،‬وقد أحرم عليه وانقطع‬

‫ع���ن ما س���واه ولن يعود إلى من س���واه‪ .‬فه���ذا التكبير هو أكبر‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )39‬‬

‫‪12‬‬

‫ه���ذه الحقيقة تجعل التربية اإلس�ل�امية ف���ي كل عصر ومصر‪،‬‬

‫ترس���يخ هذه الحقيقة في قلبه وجعلها مستقرة كل االستقرار‪.‬‬

‫التدبر للقرآن‪،‬‬ ‫أما الس���بيل إلى ذل���ك فطريقان كبيران‪ ،‬طري���ق ّ‬

‫وطريق‬ ‫در القائل بعبارة لطيفة جامعة‬ ‫ّ‬ ‫التفكر في األكوان‪ .‬وهلل ّ‬ ‫حل من األكوان إلى‬ ‫المكون"‪ .‬إذا نظرت‬ ‫في قرون خلت‪ِ " :‬ا ْر ْ‬ ‫ّ‬ ‫إلى الشجرة ال تقف عندها ولكن انفذ إلى خالقها‪ ،‬إذا نظرت‬ ‫إل���ى الحيوان فتجاوزه إلى خالق���ه‪ ،‬إذا نظرت إلى الجماد إلى‬


‫دراسات إسالمية‬

‫أ‪.‬د‪ .‬الشاهد البوشيخي*‬

‫موازين كلية‬

‫في اجتهاد التنزيل‬ ‫هن���اك فرق بين االجتهاد في االس���تنباط العام‪ ،‬وبين اجتهاد التنزيل‪.‬‬ ‫���زل النص على الواقع‪ ،‬هناك فهم له���ذا النص مطل ًقا دون‬ ‫عندم���ا ُي َن َّ‬

‫عالقة بزمان بعينه ومكان بعينه وإنسان ومجتمع بعينه‪ ،‬وهناك فهم‬

‫له���ذا الن���ص وهو يتجه إلى مجتمع بعينه وزم���ان بعينه ومكان بعينه‪ ،‬والذي أرى أنه‬ ‫يفي بالمقصود في حدود المساحة المتاحة‪ ،‬هو األسس الخمسة التالية‪:‬‬

‫‪ -1‬تكبير اهلل ‪‬‬

‫المقص���ود م���ن هذا األس���اس‪ ،‬أن تكون التربية اإلس�ل�امية قائمة على أس���اس أكبرية‬

‫اهلل ‪ ‬ف���ي القل���وب‪ ،‬أي امتالء قل���ب المؤمن بأكبرية اهلل ‪ .‬وإذا امتأل القلب بهذه‬ ‫هلل‪،‬‬ ‫األكبري���ة‪ ،‬ف���إن ما س���وى اهلل يصغر‪ ،‬يصغر ُّ‬ ‫كبر ا ُ‬ ‫صغره ا ُ‬ ‫كل م���ا ّ‬ ‫هلل‪ ،‬ويكب���ر كلُّ ما ّ‬ ‫إل���ى جان���ب كونه هو األكبر ‪ ،‬فاألمور كلها تصير في عالقة مع اهلل‪ ..‬هو األكبر‪..‬‬

‫فال ُيخش���ى ش���يء إال في عالقته باهلل ‪‬؛ ُيخش���ى من الذنب‪ُ ،‬يخشى مما َخ ّوف اهلل‬ ‫اؤ ُك ْم‬ ‫بحب���ه‪ُ  :‬ق ْل إ ِْن َك َ‬ ‫اؤ ُك ْم َو َأ ْب َن ُ‬ ‫ان َآب ُ‬ ‫من���ه‪ ..‬فال ُي َح ّب ش���يء ًّ‬ ‫كبيرا إال إذا أمر اهلل ّ‬ ‫حبا ً‬ ‫ال ا ْق َتر ْف ُتم َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫���اد َها‬ ‫���و َن َك َس َ‬ ‫���م َو َأ ْز َو ُ‬ ‫وها َوت َج َ‬ ‫���و ٌ َ ُ‬ ‫���ير ُت ُك ْم َوأ َْم َ‬ ‫ار ٌة َت ْخ َش ْ‬ ‫اج ُك ْ‬ ‫َوإ ِْخ َوا ُن ُك ْ‬ ‫���م َو َعش َ‬ ‫���ب ِإ َلي ُكم ِم َن ا ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫هلل َو َر ُس���و ِل ِه َو ِج َه���ا ٍد ِفي َس���بِي ِل ِه َف َت َر َّب ُصوا َح َّتى‬ ‫َو َم َس���اك ُن َت ْر َض ْو َن َه���ا أ َح َّ ْ ْ‬ ‫ال َي ْه ِ‬ ‫���دي ا ْل َقو َم ا ْل َف ِ‬ ‫ين‪(‬التوبة‪ .)24:‬فمقتضى أن اهلل أكبر‪ ،‬هو‬ ‫ي ْأ ِت‬ ‫هلل َ‬ ‫هلل ِب َأ ْم ِ‬ ‫���ر ِه َوا ُ‬ ‫���ي ا ُ‬ ‫اس��� ِق َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ‬

‫‪11‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )39‬‬


‫وقد تتحقق هذه النظرة إذا التزم كل باحث مسلم بعدم الركون‬ ‫إل���ى مجاني���ة االس���تهالك العلم���ي لمنج���زات الغي���ر‪ ،‬والرقي‬

‫بأعماله إلى حقيقة البحث المنبثقة من استعمال العقل في فهم‬

‫الواقع وإدراك الحق فيه وتحصيله على حقيقته‪ .‬ألن الباحث‪،‬‬ ‫بركون���ه إلى اس���تيراد منجزات الغير واعتما ِده���ا‬ ‫نماذج جاهز ًة‬ ‫َ‬

‫لصياغة مس���تلزماته‪ ،‬يكون قد استعمل االستنتاجات التي كان‬ ‫م���ن المف���روض أن يصل إليه���ا عن طريق االس���تدالل المنبثق‬

‫من واقع بحثه مكان الوسائل المعتمدة في البرهنة واإلثبات‪.‬‬

‫فيك���ون بذل���ك إنما عمل على تجميع األج���زاء وتركيبها دون‬ ‫يفوت عليه فرصة‬ ‫اإلحاطة بأسرار صنعها ودقائق نظمها‪ ،‬مما ّ‬ ‫وي ِ‬ ‫حدث في‬ ‫اإلحاطة بحقائق األشياء عبر التدرج في مراحلها‪ُ ،‬‬ ‫بحث���ه فجوات أكثر ما تجدها ُتمأل بالنماذج المس���توردة‪ .‬وهو‬ ‫أمر ال يستقيم الفكر العلمي به وال يتقدم؛ إذ ُي ِ‬ ‫قحم‬ ‫شيئا‬ ‫َ‬ ‫العقل ً‬ ‫محكوما بعدم���ا جعله اهلل‬ ‫فش���يئا عال���م الجمود فيصير‬ ‫حاكما‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫متبوعا‪.‬‬ ‫تابعا وهو الذي يجب أن يكون‬ ‫ً‬ ‫ويعود ً‬

‫الش���يء الذي يس���توجب الي���وم أكثر م���ن أي وقت مضى‪،‬‬

‫َن ْب���ذ التقليد بعرض كل معروض على محك التجربة المدققة‪،‬‬

‫البناء‪ .‬ف���إذا تجاوز‬ ‫وإخض���اع كل وارد لمي���زان العق���ل والنق���د ّ‬ ‫األم���ر مس���توى اإلدراك العقل���ي للباحث ونكث ف���ي قلبه منه‬

‫ِ‬ ‫نكث‪ ،‬فال يقبل منه إال بش���هادتي الكتاب والس���نة‪.‬‬ ‫وليس���تفت‬

‫قلب���ه‪ ،‬ف���إن العق���ول إذا كانت تتكام���ل في صناع���ة العلوم فإن‬

‫ال من‬ ‫القل���وب تتفاض���ل في صياغة الفهوم‪ .‬وم���ا عصم اهلل عق ً‬

‫التقصي���ر والزلل‪ ،‬ولكن بالتقوى‬ ‫يحصن س���بحانه القلوب من‬ ‫ِّ‬ ‫العلل فال تقبل من ضرر بعلم وال خلل‪.‬‬

‫ولذا‪ ،‬وجب وضع اس���تراتيجيات موحدة تكون من أولى‬

‫مهماتها العمل على إعادة تفعيل العالقة بين أهل النقل وأهل‬ ‫العق���ل على مختل���ف توجهاته���م الفكرية والعقدي���ة‪ ،‬وكذلك‬

‫العم���ل عل���ى تفعي���ل ثقافة االنفت���اح على اآلخر لبن���اء جو من‬

‫الش���راكة العالمية يرمي إلى الحوار الدين���ي والتفاعل الثقافي‪.‬‬ ‫وهذا يتطلب وضع خطط وبرامج نوعية تصاغ على مس���توى‬ ‫المؤسس���ات العلمي���ة والثقافي���ة واألكاديمية تك���ون في صلب‬

‫التوجهات التنموية المرتبطة بمسيرة التطور والتحديث‪.‬‬ ‫(*) كلية العلوم‪ ،‬جامعة ابن طفيل ‪ /‬المغرب‪.‬‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )39‬‬

‫‪10‬‬

‫واهب الحياة‬ ‫إن شاء‪،‬‬ ‫واهب الحياة ْ‬ ‫ُ‬ ‫الموت حيا ًة‪،‬‬ ‫انْقلب‬ ‫نورا‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫والليل ً‬ ‫بالرواء فاض‪،‬‬ ‫والزهر‬ ‫ِّ‬ ‫المصوح ُّ‬ ‫ودبَّ ْت الحياة‪ ،‬والربيع سرى؛‬ ‫وفي ُك ِّل ُّ‬ ‫الدنَى‪ ،‬حيا ًة سترى‪...‬‬ ‫***‬


‫ف���ي عل���وم الرياضيات والفل���ك والطب‬ ‫والطبيعي���ات والهندس���ة وغيره���ا‪ ...‬كما‬

‫تطورت مناهج االس���تقراء واالس���تنباط‬

‫والتوثيق لما في ذلك من ضرورة لضبط‬ ‫واس���تعمل المنه���ج‬ ‫العل���وم وتدقيقه���ا‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫التجريب���ي لالس���تدالل عل���ى صح���ة‬

‫األش���ياء بالمالحظة والفرضية والتجربة‬

‫���ل َها ُتوا‬ ‫والبره���ان‬ ‫ً‬ ‫عم�ل�ا بقوله ‪ُ  :‬ق ْ‬ ‫ين‪(‬النمل‪.)64:‬‬ ‫ُب ْر َها َن ُك ْم إ ِْن ُك ْن ُت ْم َصا ِد ِق َ‬ ‫وه���ذا ه���و األص���ل ال���ذي يجب أن‬ ‫ترتب���ط ب���ه الف���روع‪ .‬فأمام ه���ذه القطيعة‬ ‫المأس���اوية بين أمجاد ماضي المسلمين‬

‫العل��م ه��و دلي��ل الإن�س��ان يف‬ ‫حيات��ه وبق��اء عمل��ه بع��د مماته‪.‬‬ ‫ف�إن احت�ض��نته �أيادي �أمينة عارفة‬ ‫به �أ�ش��ع بنوره و�أ�ضاء‪ ،‬و�إن وقع‬ ‫يف �أيدي العابث�ين �ألقى ب�رشاراته‬ ‫ف�أح��رق‪ .‬والعا ِلـ��م الناف��ع ه��و‬ ‫العارف بعبء الأمانة وج�س��امة‬ ‫امل�س���ؤولية‪� .‬أم��ا اخل��ارج ع��ن‬ ‫ه��ذا الإط��ار فيعترب ظاملاً لنف�س��ه‬ ‫وللإن�سانية‪.‬‬

‫الدوائر المعرفية الثالث‪:‬‬

‫‪ -1‬دائرة المحسوسات التي تشمل‬

‫الواقع الذي هو عا َلم الشهادة ومفتاحه‬

‫الحواس‪.‬‬

‫‪ -2‬دائ���رة المعق���والت التي تش���مل‬

‫المغي���ب عن الح���واس ال���ذي ال يدرك‬

‫إال بقوة الفكر وهو عالم الغيب النس���بي‬ ‫ومفتاحه العقل‪.‬‬

‫‪ -3‬دائ���رة اإلخباري���ات التي تش���مل‬

‫المغي���ب ع���ن الح���واس وع���ن العق���ل‬

‫الذي أخبر ب���ه الوحي وهو عالم الغيب‬ ‫المطلق ومفتاحه النقل‪.‬‬

‫المش���رق ومآس���ي حاضره���م المؤل���م‪،‬‬ ‫الك���م الهائ���ل م���ن‬ ‫وانطال ًق���ا م���ن ه���ذا‬ ‫ّ‬

‫عناصر الواقع والعقل مع الوحي وفق‬

‫وبق���در م���ا تتنام���ى ه���ذه الدوائ���ر‬

‫اإلنج���ازات المس���خرة لإلنس���ان‪ ،‬وج���ب عل���ى ذوي الني���ات‬

‫المعرفي���ة الث�ل�اث ف���ي وج���دان اإلنس���ان بق���در م���ا يترقى في‬

‫مفه���وم ذل���ك التح���دي ال���ذي البد ه���و آت‪ ،‬فيثبت���وا مكانتهم‬ ‫َ‬

‫إدراك���ه بقدر م���ا ينال من العل���م النوراني‪ ،‬حت���ى إذا تداخلت‬

‫الصالح���ة ‪-‬بم���ا مكنهم اهلل من وس���طية‪ -‬أن يع���وا حق الوعي‬

‫درج���ات الكم���ال العلم���ي‪ ،‬وبق���در م���ا تتعاظ���م مجاالتها في‬

‫بالخ���روج م���ن نف���ق االس���تهالك العلم���ي المظلم إل���ى فضاء‬

‫نطقها وتمازجت معالمها‪ ،‬ش���كلت بينها فضاء‬ ‫متجانسا للعلم‬ ‫ُ‬ ‫ً‬

‫المتغيرات العالمية قصد إيجاد الحلول لما يعيش���ه العالم من‬

‫للك���ون هدفها بناء فك���ر علمي وعاؤه اإلنس���ان الكامل‪ .‬ومن‬

‫البح���ث العلم���ي المش���رق‪ ،‬فيطرح���وا البدي���ل داخ���ل ه���ذه‬

‫تخل���ف أخالقي وف���راغ روحي‪ ،‬وإع���ادة االعتب���ار لمعنويات‬ ‫ويتوضح‬ ‫العل���وم حت���ى يتحقق مفهومه���ا الحضاري العالم���ي‬ ‫ّ‬

‫نهجه المتميز في تعليم أسس العلم ومقاصده‪ .‬فالوقائع التي‬

‫س���جلها العال���م في عقوده األخيرة‪ ،‬والتي س���طر ه���ذا المقال‬ ‫بعض���ا من تداعياتها‪ُ ،‬تظهر م���دى احتياج العلم للدين‪ ،‬وكيف‬ ‫ً‬ ‫يبقى ميدان البحث العلمي المتنور مادة خصبة لمد الجس���ور‬

‫وس���د الفجوة الت���ي تفصل الواقع الحال���ي للعلم عن‬ ‫بينهم���ا‪،‬‬ ‫ّ‬

‫مساره الحضاري‪.‬‬

‫الحاجة إلى بناء نهضة علمية حضارية‬

‫وهك���ذا نجد أن الحاج���ة إلى انبعاث نهضة علمية جديدة عند‬ ‫نظرا‬ ‫المسلمين أصبحت اليوم ملحة أكثر من أي وقت مضى‪ً ،‬‬

‫يسجل من انحرافات خطيرة عن المسار العلمي الصحيح‬ ‫لما َّ‬ ‫وع���ن أبع���اده الحضاري���ة‪ .‬إذ ال يمك���ن لفكر علم���ي أن يكون‬

‫حضاريا ما لم َي ُقم على أس���س االس���تقامة العلمية‪ .‬وال يمكن‬ ‫ًّ‬ ‫لعلم بش���ري أن يس���تقيم ما ل���م َي ْن َبن على قاع���دة تتكامل فيها‬

‫تفكرية‬ ‫تتكام���ل في���ه عوالم الواقع والعقل والوحي ف���ي قراءة ّ‬ ‫هن���ا يجب أن نوق���ن بأن العلم ال يكتم���ل إال إذا ُن ّزلت دوائره‬ ‫متوازيا على الزواي���ا الثالث لمثلث‬ ‫ال‬ ‫المعرفي���ة الث�ل�اث‪ ،‬تنزي ً‬ ‫ً‬ ‫متس���اوي األضل���ع‪ .‬أما إذا ت���م التنزيل على زاوي���ة واحدة أو‬ ‫زاويتين من هذا المثلث دون األخرى‪ ،‬فسيختل توازنه ويميل‬ ‫إلى ذلك الطرف‪ ،‬وذلك هو مفهوم التطرف‪.‬‬

‫وه���ذا يدلنا من خ�ل�ال بناء العالم الذي يبدي ‪-‬كما رأينا‪-‬‬

‫ال‪،‬‬ ‫ال‪،‬‬ ‫واقعا‪،‬‬ ‫وج���زء ثال ًث���ا منقو ً‬ ‫ثاني���ا معقو ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ج���زءا من���ه ً‬ ‫وج���زء ً‬ ‫توحد هذه‬ ‫عل���ى أن اإلحاط���ة العلمي���ة ال تتأتى إال من خ�ل�ال ّ‬

‫التوحد س���تتجانس خصائص‬ ‫الدوائ���ر الثالث‪ .‬ألن ف���ي ذلك‬ ‫ّ‬ ‫كل دائرة مع خصائص الدائرة األخرى‪ ،‬مما سيفسح المجال‬ ‫أم���ام حرية تالقح المعلومات فتت���زاوج عوالم الواقع والعقل‬ ‫والوحي‪ ،‬وتضمن لإلنسان التفتح على مقومات الكمال التي‬

‫من أجلها خلق‪.‬‬

‫االستهالك العلمي والنماذج المستوردة‬

‫فهذه إذن هي قاعدة األس���اس في بناء نهضة علمية حضارية‪.‬‬

‫‪9‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )39‬‬


‫عالما ثال ًث���ا عالة على‬ ‫عل���ى كل ش���يء‪ ،‬وعالم متخلف س���مي ً‬

‫فرط للبحوث العلمية في‬ ‫الم ِ‬ ‫من سواه‪ .‬وبسبب هذا التوظيف ُ‬

‫وأن المواد المشعة التي تحتوي عليها ال تتالشى بسهولة مع‬ ‫الزمن‪ ،‬وليس هناك إمكانية للتخلص منها‪.‬‬

‫خدمة مطامع الس���يطرة والتس���لط‪ ،‬حلت بالعالم نكستان أثرتا األخالق ضرورة في العلم‬ ‫تأثيرا عمي ًقا‪ :‬األولى تج ّل���ت في حدوث الحربين‬ ‫ف���ي مصي���ره ً‬

‫لما ُجرد من مقوماته األخالقية‪.‬‬ ‫هذا ما جناه العلم على البشرية ّ‬

‫مثيل لوسائل تدمير األرض واإلنسان‪ ،‬والثانية تمثلت‬ ‫َيسبق له ٌ‬

‫إل���ى ش���يء من هذه االكتش���افات قب���ل غيرهم‪ ،‬لكن م���ا يمليه‬

‫العالميتي���ن األول���ى والثاني���ة‪ ،‬اللتين أنتجتا‬ ‫ال لم‬ ‫تصاع���دا مهو ً‬ ‫ً‬ ‫تدهورا‬ ‫في االس���تعمار الذي خ ّلف‬ ‫خطي���را في أوضاع العالم‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وتناميا غير مسبوق لألحقاد االجتماعية‪.‬‬ ‫الثالث‪،‬‬ ‫ً‬

‫فلربما وصل العلماء المس���لمون في عهد إشراقهم الحضاري‬

‫الضمير الحي وم���ا تقتضيه ضوابط الحكمة‪ ،‬قد يكون أوجب‬ ‫المه ِلكات في مهدها ضما ًنا ألمن األرض وس�ل�امة‬ ‫َو ْأ َد ه���ذه ُ‬

‫وح ّكم���ت فيه‬ ‫هك���ذا ف���ي عالم تالش���ت في���ه أح���كام اهلل‪ُ ،‬‬

‫ساكنيها‪ .‬فقد كان جابر بن حيان ‪-‬وهو أب الكيمياء باعتراف‬

‫على البشرية‪ ،‬كالسباق على التسلح الذي ّلبس األرض غطاء‬

‫ال‪" :‬ال تع ّلم���وا الكيمياء إال لمن تأمنون دينه‬ ‫عل���م الكيمياء قائ ً‬

‫نفعا‬ ‫المصال���ح واأله���واء وقع تبذير الطاقات فيم���ا ال ُيجدي ً‬ ‫قادرا على محو الحضارة اإلنسانية والقضاء على العنصر‬ ‫ً‬ ‫نوويا ً‬ ‫البشري في هنيهة من الزمن‪ .‬فلئن كان مفعول قنبلة هيروشيما‬ ‫وناكازاك���ي ق���د أح���دث كارثة بش���رية وبيئي���ة في اليابان س���نة‬ ‫‪ ،1945‬فإن س���نة ‪ 1962‬ش���هدت توقيع بروتوك���ول الموافقة‬

‫العال���م وه���و العالم الفقيه‪ -‬يوصي بعدم���ا اطلع على خطورة‬

‫وخ ُلقه"‪ .‬وكأننا بصدد وصية من أب في زواج ابنته هو مطالب‬

‫بوضعها في يد أمينة‪ .‬وذلك أس���مى تعبير عن مدى مس���ؤولية‬ ‫العا ِل���م عل���ى تحصين العلم ضد أي عب���ث قد يؤذي الناس أو‬ ‫يفس���د معايش���هم‪ .‬وقب���ل ذل���ك كان رس���ول اهلل ‪ ‬يوصي في‬

‫فش���رع‬ ‫عل���ى صن���ع القنبلة النووية‪.‬‬ ‫العالم لنفس���ه ه���ذا العمل‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬

‫نافعا"‪ .‬ألجل ذلك حرص اإلسالم‬ ‫الدعاء بأن نسأل اهلل‬ ‫"علما ً‬ ‫ً‬

‫م���ا يع���ادل ع���دة أطنان م���ن المتفجرات فوق رأس كل إنس���ان‬

‫س���تحمل األمانة وتؤدي الرس���الة‪ ،‬ألن االس���تقامة العلمية هي‬

‫بروعة التسلح‪ ،‬بينما الماليين من سكان العالم اآلخر يموتون‬

‫تقوى مهما بلغت من العلم‪ .‬فوا أس���فاه على ما آل إليه العلم‬

‫تشريعا جعل السباق على التسلح يتصاعد حتى بلغت ميزانيته‬ ‫ً‬

‫يقط���ن األرض‪ .‬والعالم المتقدم مش���غول ببحوث���ه واهتماماته‬ ‫واضطهادا‪.‬‬ ‫ومرضا‬ ‫جوعا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫وها هي المؤش���رات األولى على آف���ة هذا التوجه العلمي‬

‫عو ّج‪ ،‬بدأت تظهر من مخ ّلفات ما أنتجته يد اإلنسان األثيمة‬ ‫ُ‬ ‫الم َ‬

‫لم���ا كانت االنطالقة العلمية غير رزين���ة‪ ،‬والني ُة في العمل غير‬

‫كل الح���رص عل���ى األخ�ل�اق ف���ي العل���م إلع���داد األم���ة التي‬ ‫التي تصون الحضارة من الدمار‪ ،‬وبدونها ال تنهض األمم وال‬

‫لما ُج ِّرد من اإليمان‪ ،‬ويا حسرتاه على ما َف ّرط فيه اإلنسان من‬ ‫ّ‬

‫عطاء جامعات قرطبة وبغداد وفاس وغيرها يوم كانت العلوم‬ ‫تش���ع بنورها فوق الق���ارات الثالث بثقافة ترتك���ز على دعائم‬ ‫الحكمة واإليمان ال على تقنيات الدمار والطغيان‪.‬‬

‫فإذا نظرنا إلى الماضي المش���رق ألمتنا‪ ،‬س���نجد أن العالم‬

‫س���ليمة‪ .‬إذ بع���د انهي���ار المعس���كر الش���رقي وانته���اء الح���رب‬ ‫الب���اردة‪ ،‬وجدت الدول‬ ‫المصنعة نفس���ها ‪-‬والعالم معها‪ -‬أمام‬ ‫ِّ‬

‫اإلس�ل�امي م���ا كان ليس���بق إلى تأس���يس الجامع���ات في القرن‬

‫النووي���ة م���ن خط���ر عل���ى األرض واإلنس���انية‪ .‬فالتخلص من‬

‫والت���ي كان���ت مهد بن���اء الحضارة اإلنس���انية ل���وال وجود تلك‬

‫تحد كبير بسبب ما تشكله هذه الترسانات الهائلة من الرؤوس‬

‫يوميا في حياة الناس‪،‬‬ ‫هذه األس���لحة صار‬ ‫والفعاليات‬ ‫ُ‬ ‫هاجسا ًّ‬ ‫ً‬ ‫اإلنسانية والبيئية كلها تطالب بإزالة هذه اآلفة التي تهدد حياة‬ ‫الناس ومس���تقبل البش���رية‪.‬‬ ‫وأخي���را أدرك العالم ه���ذا الخطر‪،‬‬ ‫ً‬

‫وق���رر التقلي���ل من عدد ال���رؤوس النووية‪ ،‬لك���ن ذلك اصطدم‬ ‫بعائقين كبيرين؛ أولهما مادي حيث يتطلب تدمير رأس نووي‬ ‫واح���د ما يزي���د على الملي���ون دوالر‪ ،‬والثاني بيئ���ي يكمن في‬ ‫كيفية التخلص من النفايات المترتبة عن هذه الس���موم‪ ،‬خاصة‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )39‬‬

‫‪8‬‬

‫الثام���ن المي�ل�ادي في قرطب���ة وفاس وتونس وبغ���داد وغيرها‪،‬‬ ‫النظرة الش���مولية ألبع���اد الحياة المبنية عل���ى تحرير الفكر من‬ ‫قيود االستهالك وإقحامه عالم البحث واالجتهاد في مضامين‬ ‫كل إنجاز وعواقب كل إبداع‪ .‬فبذلك تضاعف البحث العلمي‪،‬‬ ‫وظهرت ال ِف َرق والتيارات المتنافس���ة التي س���اهمت في ب ْلورة‬ ‫العلوم وعملت على اكتشاف آيات اهلل التي هي جزء من عبادته‪.‬‬

‫فاقتحم اإلس�ل�ام ساحة العلوم الفس���يحة من مختلف أبوابها‪،‬‬ ‫واضط���ر العلم���اء لض���رورة فهم الق���رآن وتفس���يره إلى البحث‬


‫ف���ي باق���ي العا َل���م‪ ،‬فذل���ك عل���م نفع���ي‬

‫ال يمك���ن ل���ه أن يرق���ى إل���ى المس���توى‬

‫الحضاري‪.‬‬

‫فالتوج���ه العلم���ي الحالي بتكريس���ه‬

‫لفك���رة التج���زيء العلم���ي م���ن أج���ل‬

‫التخص���ص‪ ،‬أورد العا َلم م���وارد خطيرة‬ ‫جعل���ت الف���رد ينحص���ر في حي���ز ضيق‬ ‫م���ن مج���ال المعرف���ة حجبته ع���ن باقي‬

‫جزأ ش���جرة العلم إلى‬ ‫المع���ارف‪ ..‬فهو ّ‬ ‫أغصان متباينة‪ ،‬وفرض على كل باحث‬ ‫أن يتش���بث بغص���ن واحد منه���ا‪ ،‬وأن ال‬

‫يلتف���ت ببصره إل���ى الغصن اآلخر حتى‬

‫م���ا آل إلي���ه واقع العل���م الي���وم‪ .‬فالعلم‬

‫العلم احل�ضاري هو الذي يكون‬ ‫فيه العا ِلـم يرمي من خالل �إجنازاته‬ ‫�إىل بناء ح�ض��ارة �إن�س��انية تخدم‬ ‫كل الب�رش ب��دون متييز‪� .‬أما العلم‬ ‫جلب‬ ‫هم العا ِلـم َ‬ ‫الذي يكون فيه ُّ‬ ‫املنفعة لفئة معيّنة دون االكرتاث‬ ‫مب��ا يج��ري يف باق��ي العالَـ��م‪،‬‬ ‫فذل��ك علم نفع��ي ال ميكن له �أن‬ ‫يرقى �إىل امل�س��توى احل�ض��اري‪.‬‬

‫يت���م توجيه المس���ار إل���ى الوجه���ة التي‬

‫تمليها مصالحه‪.‬‬

‫ذلك المش���عل الذي ال ينطفئ‪ ،‬هو دليل‬ ‫اإلنسان في حياته‬ ‫وبقاء عمله بعد مماته‪.‬‬ ‫ُ‬

‫ف���إن ه���و احتضنته أيادي أمين���ة عارفة به‬

‫أش���ع بنوره وأض���اء‪ ،‬وإن ه���و وقع في‬ ‫أي���دي العابثي���ن ألقى بش���راراته فأحرق‪.‬‬ ‫والعا ِلم النافع هو العارف بعبء األمانة‬ ‫وجس���امة المس���ؤولية‪ .‬أما الخ���ارج عن‬

‫مفر ًطا‬ ‫وظالما لنفس���ه‬ ‫ً‬ ‫هذا اإلطار فيعتبر ّ‬

‫ولإلنس���انية‪ ،‬ألنه بعمله الالمس���ؤول قد‬

‫ي���ورد العا َلم مآس���ي ووي�ل�ات لن يكون‬ ‫الخالص منها بالشيء الهين‪.‬‬

‫إنسان الغريزة واألنانية‬

‫فالمصال���ح الت���ي توج���ه مس���ار العلم الحدي���ث‪ ،‬بات���ت َتعتبر‬

‫لك���ن العل���م ه���و أش���مل من ذل���ك بكثي���ر‪ ،‬وأبع���د من أن‬

‫العقل مركز قياس كل ش���يء ومرجعية أي تحليل أو معالجة‪،‬‬

‫تمليه���ا المصال���ح‪ .‬ذلك ألنه رؤية ش���مولية جامع���ة ومتوازنة‬

‫المصال���ح‪ ،‬جعل اإلنس���ان ُيش���هِ ر الحرب عل���ى كل مكونات‬

‫الباح���ث إلى الحقيق���ة الواحدة التي يحتضنها الكون‪ .‬أما تلك‬

‫وم���ن نعم���ة االس���تيعاب الصحيح لفلس���فة الحي���اة والموت‪.‬‬ ‫وتحددت بذلك معالم البحث العلمي‬ ‫برس���م دائر ٍة عزلته عن‬ ‫ِ‬

‫ومهم���ا كانت حقائ���ق تلك التخصصات جزئية غير منس���جمة‬

‫العالم‬ ‫فتصدر‬ ‫منافعها االقتصادية واالجتماعية‪.‬‬ ‫إنسان الغريزة‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬

‫ينحص���ر ف���ي زواي���ا مح���دودة بمحدودي���ة التخصص���ات التي‬

‫لدرجة أن هاجس الس���يطرة الذي أصبح يملي توجهات هذه‬

‫بي���ن الحقائ���ق م���ن ش���تى التخصص���ات‪ ،‬القصد منه���ا إيصال‬

‫���رم م���ن ل���ذة اإلدراك الفعل���ي لحقيق���ة الوجود‪،‬‬ ‫فح ِ‬ ‫الطبيع���ة‪ُ .‬‬

‫���عب من‬ ‫التخصص���ات الت���ي تمليه���ا المصالح‪ ،‬فما هي إال ُش َ‬

‫كلي���ة جامع���ة ذات موض���وع علمي واح���د عنوان���ه "الحقيقة"‪.‬‬ ‫مع هذا العنوان‪ ،‬فإن معارفها س���تبقى ش���اذة مبتورة بعيدة كل‬

‫البعد عن الكتاب العلمي الجامع للكون‪ ،‬وعن أبعاده اليقينية‬ ‫المطمئنة لنفس اإلنس���ان التي تمكنه من المساهمة الهادفة في‬ ‫تضمنه نموذج القرآن في بناء فكر‬ ‫البناء الحضاري‪ .‬وذلك ما ّ‬

‫اإلنس���ان ذلك البناء الذي ينس���جم مع بناء الكون في صناعة‬

‫الحضارة‪ ،‬تلك الحضارة التي أرادها لنا صانع هذا الكون‪ ،‬ال‬ ‫التي تمليها مصالح اإلنسان ومطامعه‪.‬‬

‫التقي���د بمحدودية‬ ‫باق���ي المقوم���ات الراقي���ة للطبيع���ة‪ ،‬وألزمته ّ‬

‫وغ ّيب عنه إنسان القيم األخالقية‪.‬‬ ‫واألنانية ُ‬

‫ه���ذا م���ا آل إلي���ه واقع العلم الي���وم لما َغ ّيب عن س���احته‬

‫الفكرية حقيق َة المسار الموروث عن الماضي والمرتبط ارتبا ًطا‬ ‫فضرب على‬ ‫جذريا بأبعاد الحياة اإلنسانية ومستقبل شعوبها‪َ ،‬‬ ‫ًّ‬

‫ه���ذا الم���وروث بطوق م���ن حديد جعله يتنكر ل���كل األعراف‬ ‫اإلنس���انية‪ ،‬ب���ل ويخ���ون بكبريائه وس���خريته األمان���ة العلمية‪..‬‬

‫فنهل من علوم الس���ابقين‪ ،‬ونس���ب إلى نفس���ه كل االبتكارات‬

‫م���ن هذا المنطل���ق يجب أن نقيم نتائج العلم الحالي‪ .‬فإذا‬

‫دون أن يعت���رف بفض���ل األولين‪،‬‬ ‫متناس���يا أن م���ا وصلت إليه‬ ‫ً‬

‫في القرن األخير مما لم تس���تطع البش���رية تحقيقه على مدى‬

‫لفرض قطيعة جذرية مع الماضي قصد صنع مس���تقبل ُم َبهم‬ ‫تس���اق في���ه العلوم إلى واق���ع ُتم ِلي توجها ُته‬ ‫مطامع اإلنس���ان‬ ‫َ‬

‫كان من دواعي الدهش���ة واالنبهار أن نستعظم ما أنجزه العلم‬

‫ع���دة قرون من تاريخها‪ ،‬فإن م���ن دواعي التبصر واالعتبار أن‬

‫نق���ف وقفة تأمل لن���زن بمي���زان األمانة والمس���ؤولية مضامين‬ ‫ما قدمه العقل لإلنس���ان‪ ،‬ونس���تحضر بعين المش���خص مغزى‬

‫كافيا‬ ‫إنجازات���ه فيه نصيب كبير م���ن إرث الماضي‪ .‬فكان ذلك ً‬ ‫وغرائزه‪.‬‬

‫ف���ي ظ���ل هذا التوج���ه الخانق ظه���ر عا َلم متقدم يس���تحوذ‬

‫‪7‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )39‬‬


‫قضايا فكرية‬

‫د‪ .‬عبد اإلله بن مصباح*‬

‫ونحن نؤسس لعلم حضاري‬ ‫إننا ونحن ننجز أبحاثنا في مختبراتنا العلمية‪،‬‬

‫تحيرنا‪ ،‬بل‬ ‫وتؤرقنا ونحن نخوض غمار‬ ‫ّ‬ ‫هذه كلها أس���ئلة ّ‬

‫غالب���ا م���ا تتب���ادر إل���ى أذهانن���ا أس���ئلة تتعل���ق‬ ‫ً‬

‫تجاربن���ا العلمي���ة‪ ،‬في زمان أصبح فيه م���ن المعوقات الفكرية‬ ‫إن تداعيا ِته َلتس���تدعي‬ ‫واالقتصادي���ة والبيئي���ة واالجتماعي���ة ما ّ‬

‫العلمي���ة حت���ى تكون نتائجه َلبِنات في إقام���ة البناء الحضاري؟‬

‫عنوان التحدي‪ ،‬إلى إعادة‬ ‫ه���ذا الزم���ان الذي أصبح فيه العقل‬ ‫َ‬

‫الموروث عن فكرة التجزيء التي حصرت العلوم بين مجالي‬

‫فقط بالنظرة التنموية ولكن باألبعاد اإلنسانية والحضارية؟‬

‫بمدى إس���هام فكرنا العلمي في بناء الحضارة‬

‫اإلنس���انية‪ .‬وهل ما ينجزه فكرنا هو على درجة من االس���تقامة‬

‫رزينا‪ .‬فما الس���بيل في‬ ‫ورش���دا‬ ‫علمي���ا فائ ًقا‪،‬‬ ‫نضجا‬ ‫من���ا‬ ‫ً‬ ‫فكريا ً‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬

‫وكي���ف يمكن له���ذه النتائج من خالل نس���قها العلمي الحالي‬

‫وض���ع قاطرة العلم على مس���ارها الصحيح المش���مول‪ ،‬ليس‬

‫علما بأن صرحه ما قام‬ ‫الواقع والعقل أن تسهم في هذا البناء‪ً ،‬‬ ‫في فترة اإلشراق الحضاري لألمة إال على قاعدة التكامل مع‬ ‫فقيها‬ ‫الوحي‪ ،‬تلك القاعدة التي من خالل تركيبتها كان العا ِلم ً‬

‫والفقيه ِ‬ ‫ال مع الدين؟‬ ‫عال ًما‪ ،‬فكان العلم فيها متكام ً‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )39‬‬

‫‪6‬‬

‫من المعلوم أن العلم الحضاري هو الذي يكون فيه العا ِلم‬

‫يرم���ي من خ�ل�ال إنجازاته إلى بناء حضارة إنس���انية تخدم كل‬ ‫جلب‬ ‫هم العا ِلم‬ ‫َ‬ ‫البش���ر بدون تمييز‪ .‬أما العلم الذي يكون فيه ُّ‬ ‫معينة م���ن الناس دون االكتراث بما يجري‬ ‫المنفع���ة لفائدة فئة ّ‬


‫وإبان ذلك دخلت‬ ‫والرغبة واألحالم‪ّ ...‬‬ ‫األرواح الباحث���ة ع���ن حقيقته���ا إل���ى‬

‫س���ياق اكتش���اف الذات مرة أخرى‪ .‬فال‬ ‫ب���د ‪-‬في ه���ذه الحال‪ -‬أن تفت���ر تعلقاتنا‬ ‫تتعين‬ ‫إزاء األش���ياء المعتادة‬ ‫ً‬ ‫رويدا‪ ،‬وأن ّ‬

‫المرجعي���ة بخ���وارق بوصل���ة الفط���رة‬

‫التي ه���ي عنوان إحساس���نا في القلوب‬ ‫بعجزن���ا وضعفن���ا‪ ،‬وبفض���ل اسـتش���عار‬

‫"مرك���ز االس���ـتناد" و"مركز االس���تمداد"‬ ‫في أعماق وجداننا‪ ...‬ومن ثم تنس���لخ‬

‫ضي���ق عليها‪ ،‬وتتوجه إلى‬ ‫إراداتن���ا عما ُي ّ‬

‫متطلبات الالنهاية وأمانيها‪.‬‬

‫أيضا‪ُ ،‬ي ِ‬ ‫كس���ب‬ ‫وف���ي ه���ذا الس���ياق ً‬

‫�إن جناتن��ا م��ن الأف��كار الهزيل��ة‬ ‫ومن هذا التي��ه الذي يحب�سنا يف‬ ‫حوا�سنا فيلهين��ا‪� ،‬سيتحقق على‬ ‫ي��د �أبط��ال الإدراك والب�ص�يرة‬ ‫واللدني��ات الفاهم�ين للع��صر‬ ‫ب�ش��بوب‬ ‫والعا�ش��قني للحقيق��ة ُ‬ ‫ا�ش��تياقهم للعل��م‪ ،‬وامل ُْح َدو َدب�� ِة‬ ‫ظهوره��م حتت ثقل املع�ض�لات‬ ‫ُ‬ ‫احلقيقية احلا�رضة والقلقِ الكامن‬ ‫يف امل�ستقبل‪.‬‬

‫اإليم���ان والع���زم ‪-‬وهم���ا أه���م حركي���ة‬

‫إنن���ا نحس���ب أنفس���نا س���ائرين ف���ي‬

‫عالم���ا‬ ‫مضيئ���ا كهذا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫الس���بيل‪ ،‬قاصدي���ن ً‬

‫ومنذ سنوات طويلة‪ .‬ومن دون تكهنات‬

‫البح���ث ع���ن أم���ارات الفج���ر حولنـ���ا‪،‬‬ ‫ومن غير االنش���غال باألبحاث السحرية‬

‫ألسرار دنيا الرياضيات‪ ،‬نقوم بتقييم كل‬

‫ش���يء تش���ير بوصلة أرواحنا إلى صحته‬ ‫وس�ل�امته حسب إرشاد الثوابت اإللهية‪،‬‬ ‫���د ف���ي استكش���اف المش���يئة اإللهية‬ ‫َفن ِج ّ‬

‫ونقاط التقائنا بما تعدنا به تلك المشيئة‪،‬‬ ‫وذل���ك بإرادتن���ا الت���ي هي أعظم وس���يل ِة‬

‫تعلقٍ بمش���يئة الحق‪ ،‬ثم نتقدم‬ ‫س���عيا في‬ ‫ً‬

‫ه���ذا الس���بيل كأبط���ال راهن���وا بحياته���م‬ ‫ووجوده���م كله‪ ،‬وذلك م���ن أجل إحياء‬

‫فتؤجج هذه‬ ‫معنوي���ة للنج���اح‪ -‬كل واحد قو َة روحه اللدني���ة‪،‬‬ ‫ِّ‬

‫نمط حياتنا المبارك‪.‬‬

‫عب���ر به���م الجس���ور المتصلة بالصي���رورة الذاتية‬ ‫وتهافته���م‪ ،‬و َت ُ‬

‫ج���ادة‪" :‬الي���وم يوم الفعال‪ .‬فإن لم أنه���ض للعمل‪ ،‬فلن ينهض‬

‫الق���و ُة الروحي���ة اآلم���ال واإلرادات‪ ،‬فتب���دد وتبعث���ر ش���ـؤمهم‬

‫ليصلوا إلى اهلل تعالى‪.‬‬

‫وينبغ���ي على كل واحد أن يقول لنفس���ه بمس���ؤولية فردية‬

‫مندفعا إلى مقدمة الصفوف لرفع‬ ‫أيضا" ثم يهمز فرسه‬ ‫غيري ً‬ ‫ً‬

‫ف���إن أس���رع وأقص���ر وأس���لم طريق يوص���ل اإلنس���ان إلى‬

‫فاسحا السبيل لمن‬ ‫الراية‪ ...‬من غير أن يقع في منافسة أو غيرة‪،‬‬ ‫ً‬

‫دائما أعظم نصر وأعجب���ه بفضل هذا الطريق‪ .‬وحيثما‬ ‫ال���روح ً‬ ‫ُِ‬ ‫غير المتغذي بغذاء العرفان‪ ،‬ح ّل ْت القوة العمياء‬ ‫افتقد اإليمان ُ‬ ‫محل الحقيقة والحقوق‪ ...‬وال مفر في مثل هذه األحوال من‬

‫وصب ماء النار في عيون أرواحنا‬ ‫إن الكثير منا قد أطفأ قلوبنا‬ ‫ّ‬ ‫المظلم���ة‪ ،‬لم ينتفض أكثرية أبناء أمتنا ليوقد أنوار الحقيقة في‬

‫رغب إل���ى الريـاء‬ ‫وي ّ‬ ‫فيط���اع‪ ،‬وال ُيس���مع إال ص���وت المعربد‪ُ ،‬‬

‫حيويات إحيائنا كالماء والهواء والخصب‪ .‬وإننا نس���تطيع في‬

‫الحقيقة هو طريق اإليمان المجهز بالعلم والعرفان‪ .‬ولقد فاز‬

‫مواجهة عنف القوة‪ ...‬فيكثر اللجوء إلى السالح‪ ،‬ويأمر المال‬ ‫وت���روج بضاعته‪ .‬فمن المحال في هذه األحوال الوصول إلى‬

‫روح الوجود‪ ،‬والتطلع إلى ما وراء الوجود‪.‬‬

‫في يمينه ويساره في الحركة والسعي أثناء تقدمه لحمل الراية‪.‬‬ ‫بقس���م من أعماله‪ ،‬س���واء بعلم أو بغير علم‪ .‬في هذه المرحلة‬

‫جوه���ره‪ ،‬ولم يتوصل إل���ى الحركيات المعنوية الت���ي ُت َع ّد من‬

‫واعتمادا على قوتنا‬ ‫حاضرنا أن نس���ير باالتكال على اهلل تعالى‬ ‫ً‬

‫نظرنا إلى‬ ‫الكامن���ة‪ ،‬وعل���ى روابطن���ا باألخروي���ات كاف���ة‪ّ .‬‬ ‫وإن َ‬ ‫وإمساكنا بها‬ ‫واستماعنا إليها ب ُأ ُذنه‪،‬‬ ‫األشياء كلها بعين الروح‪،‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬

‫ال وثي ًقا بروح الالنهاية‪.‬‬ ‫والح���ال أن حقيقتنا موصولة اتصا ً‬ ‫والستشعار هذا االتصال واإلحساس بما َت ِ‬ ‫عد به هذه العالئق‪،‬‬

‫بأيدي���ه‪ ،‬وتقويمنا إياها بمحاكمة منفتحة على اإللهام‪ ،‬مرهون‬

‫نتخ���ل عن الس���عادة الفردية والحظ���وظ الدنيوي���ة والمقام‬ ‫ل���م‬ ‫َّ‬

‫ونلخ���ص الموضوع بمقترب لنيازي المصري‪" :‬ال تبحث عن‬

‫يج���ب علين���ا أن نبذل تضحي���ات كثيرة‪ .‬وجلي للعي���ان أننا إن‬ ‫والمنص���ب‪ ،‬ب���ل حتى ع���ن مش���اعر فيوضاتن���ا المعنوي���ة‪ ،‬فال‬

‫مح���ل للكالم ع���ن مثل هـ���ذه العالقة‪ ،‬وهذا االتص���ال‪ .‬ومتى‬ ‫م���ا تحقق���ت هـذه العالق���ة وهذا االتص���ال‪ ،‬فس���تولد دنيا الغد‬ ‫تاجا فوق ال���رؤوس‪ ،‬وتلقى الحقيقة‬ ‫الت���ي يك���ون "الحق" فيها ً‬ ‫وشينا‪.‬‬ ‫عيبا‬ ‫وي ّ‬ ‫ً‬ ‫التوقير‪ُ ،‬‬ ‫عد التفكير بالقوة ومالحقة المطامح ً‬

‫بإعـ���ادة النظر في هـ���ذه القوة الكامنة والرواب���ط باألخرويات‪.‬‬ ‫ال���روح والمعنى اللذي���ن ينقالنك إلى الصيرورة في خارجك‪.‬‬ ‫التف���ت ب ِ​ِجيدك واس���تمع إلى وجدانك‪ ،‬وابدأ من نفس���ك في‬ ‫السياحة نحو الصيرورة باستعمال َع َدسة ماهيتك"‪.‬‬

‫(*) الترجمة عن التركية‪ :‬عوني عمر لطفي أوغلو‪.‬‬

‫‪5‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )39‬‬


‫ِ‬ ‫الك���در إلى دموع ف���ي أرواحهم‬ ‫معين���ة‪ ،‬ويحول���ون مس���تقبلها‬

‫َس ْي ُر حياة هؤالء األبطال يتجدد باستمرار في إطار اإليمان‬

‫���بون إلى العلى بالش���كر باحتساب لذائذها أنعما‬ ‫وغدهم‪َ ،‬‬ ‫وي ُش ّ‬

‫المميزة بين‬ ‫فكره���م الواس���ع كاآلفاق س���ابحة ف���ي الرح���اب‬ ‫ّ‬

‫فينوح���ون ُنواح أيوب ‪ ،‬ويتقاس���مون معه���ا أوجاع يومهم‬

‫والعرفان والمحبة والعشق والذوق الروحاني‪ ،‬وتخفق أجنحة‬

‫م���ن الحق تعالى‪ .‬هؤالء الذين يس���تلهمون م���ن تاريخنا الحي‬

‫الفان���ي والالنهائ���ي‪ .‬رأس ماله���م العل���م واإليم���ان‪ ،‬ومنهلهم‬

‫منه���ا‪ ،‬فينفخ���ون روح صي���رورة األم���ة‪ ،‬أم���ة حقيقي���ة ومتدفقة‬

‫السبيل األمثل الذي سـلكه كل َمن جاء وراح من صلحاء عباد‬

‫المزده���ر باألل���وان‪ ،‬الممتد إلى مئات الس���نوات‪ ،‬ويس���تقوون‬

‫بالحيوية‪ ،‬ويش���حنون الشباب بفكر اإليمان واألمل والحركة‪،‬‬

‫القدي���ر المطل���ق ‪ ،‬ومرش���دهم النبي األعظ���م ‪ ،‬وطريقهم‬ ‫الح���ق تعال���ى‪ ..‬يمضون إلى األبـد واثقين بق���وة الديـن القاهرة‬

‫ويفتحون تيارات جديدة من حوض فكرنا "الذاتي" المستكين‬ ‫من���ذ زم���ن طويل في ِ‬ ‫الش���باك القاتلة للخم���ود الرهيب‪ .‬ونحن‬

‫مرحلة أخرى من اإللحاد ومدة "ال َف ْترة"‪ ،‬وتتهاوى في مهاوي‬

‫قلوبن���ا‪ ،‬فنجهش بدموع الوصال‪ ،‬ونعود إلى مآوينا ومس���اكننا‬

‫لم يعش اإلنسان على مدى التاريخ من غير علم وإيمان‪،‬‬

‫كأم���ة س���نهرع في هذه التي���ارات إلى معابدنا الت���ي فقدناها في‬

‫الدافئة كزوايا الجنة‪ ،‬فنلتقي بانعكاسات الجنان التي ضيعناها‬ ‫مجددا مدارس���نا القائمة على قواعد‬ ‫منذ أمد بعيد‪ ،‬ونكتش���ف‬ ‫ً‬

‫البحث عن الحقيقة وعش���ق العلم‪ ،‬فنتعرف على الوجود كرة‬ ‫أخ���رى من خالل مناف���ذه المفتوحة على الكائن���ات‪ ...‬ونـزداد‬ ‫حب���ا للجمي���ع‪ ،‬ونتعلم اقتس���ام كل ش���يء‪ ،‬ونحتضن الجميع‬ ‫ًّ‬ ‫عل���ى الس���فوح الزمردية لقلوبنا بأخ�ل�اق العيش في اضطراب‬

‫وقل���ق متزايـد‪ ...‬ونطفح بمش���اعر الفن والصنعة إزاء الوجود‪،‬‬

‫ونفكر في المناس���بات البش���رية باأل ّن���ات والخفقات والدموع‬ ‫فنعبر عن خفايا أنفسنا وكوامن قلوبنا‪.‬‬ ‫الحرى‪ّ ،‬‬

‫وبعناي���ات اهلل تعال���ى المتجلي���ة دون انقط���اع‪ ...‬وهكذا تختنق‬ ‫مخالفتها الذاتية للطبع والفطرة‪.‬‬

‫ول���م تقم مدنية من غير معبد ومعبود‪ .‬وقـد مرت فترات جعل‬ ‫وقتاما بانح���داره في مهاوي الحرمان من‬ ‫ظالما‬ ‫اإلنس���ان ُأ ْف َقه‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫العلم واإليمان‪ .‬لكن بعد كل س���ـقوط‪ ،‬يستشعر تع ّلقه باهلل في‬ ‫وجدانه من نقطة أعمق‪ ،‬فيتوجه إلى حال فوق الحال الس���ابق‬

‫وجذبا‪ .‬فبقاء المدنية وعيشها في فراغ‬ ‫تماسكا ومعنى وسرعة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫باعتبار المعبد والمعبود‪ ،‬أو اإلنس���انية في خالء باعتبار العلم‬ ‫واإليم���ان‪ ،‬ح���ال موقوت بمدة قصي���رة ال محالة‪ ،‬في الماضي‬

‫وف���ي المس���تقبل‪ .‬فل���ن ُينتزع فك���ر المعبد والمعب���ود من قلب‬ ‫تماما‪ ،‬إلى‬ ‫اإلنس���انية‪ ،‬ولن تنفصم عرى البش���ر من اهلل تعال���ى ً‬

‫إن إحياءنـ���ا "باالنبع���اث بع���د الموت" مرة أخ���رى‪ ،‬مرتبط‬

‫دكا‬ ‫أن تطوى الس���موات كطي الس���جل للكتب وتدك األرض ًّ‬

‫بع���د اجتيازهم آف���اق العلم‪ ،‬والمتحكمين ف���ي ضبط الرغبات‬

‫س���ـراعا‬ ‫تعال���ى‪ ،‬فإن ظلمة اآلف���اق وقتامها الطارئ أحيا ًنا تمر‬ ‫ً‬

‫ارتباطا وثي ًقا بأطقم عديدة من األبطال‪ ،‬البالغين أنوار الحقيقة‬ ‫ً‬

‫والمتطلب���ات البدني���ة ضم���ن إط���ار الض���رورات‪ ،‬والس���امعين‬

‫دوما أناش���يد الماورائية تناديه���م إلى اهلل‪ ،‬المعبرين‬ ‫بوجدانه���م ً‬ ‫عن���ه تعال���ى ببيان بال حرف وال لف���ظ وال صوت في هيجانهم‬

‫وزفيرا‪.‬‬ ‫ونشيجهم‪ ،‬المتنفسين أنفاس أنسه شهي ًقا‬ ‫ً‬

‫دكا‪ ...‬وتق���وم القيامة‪ .‬وألن الوجدان منفتح باألصل على اهلل‬ ‫ًّ‬

‫ويع ُقب الظلمات الضياء‪ ،‬والغروب‬ ‫كالخسوف أو الكسوف‪َ ...‬‬ ‫الش���روق‪ ...‬ويأت���ي يوم َي ِق ّر فيه الزم���ان‪ ،‬ومن في الزمان‪ ،‬على‬ ‫ال َف َل���ك ال���ذي أمر بـه اهلل تعالى‪ ،‬وبأحكام اهلل القاهرة بالمناهج‬ ‫المعينة في األخرويات‪ ،‬والمقررات المبينة سل ًفا‪.‬‬

‫عبيدا‬ ‫وألن ه���ؤالء األبط���ال أع���دوا أنفس���هم من���ذ البداي���ة ً‬

‫إن األجيـ���ال الحاض���رة تبح���ث ف���ي كل م���كان ع���ن ذاتها‬

‫دائما‬ ‫للمطال���ب المش���تتة ف���ي المجتم���ع بتا ًت���ا‪ ،‬ب���ل يحس���ون ً‬

‫االعتبار وحده‪ ،‬يكفيها للعثور على بطلها وبلوغها خط الحق‪.‬‬

‫وخدما‬ ‫رق يأبى االنعتاق‪ ،‬فهم ال يكونون أسارى‬ ‫للحقيقة في ّ‬ ‫ً‬ ‫بني���ر العبودي���ة للحق تعالى ف���ي أعناقهم‪ ،‬فيقوم���ون ويقعدون‬ ‫زخات‬ ‫بمالحظة الالنهاية باستمرار‪ ،‬ويقضون أعمارهم تحت ّ‬

‫اإللهام‪ ،‬ويلحون في توسيع وليجة الباب مع كل إلهام جديد‬ ‫م���ن أج���ل واردات أخ���رى‪ ،‬وفي جهد من أج���ل إبالغ اآلحاد‬

‫إل���ى اآلالف بحظوة امتيازهم عن اآلخرين‪ ،‬فيتجرعون أذواق‬ ‫ولذائذ وحظوظ البقاء في الفناء‪ ،‬في كل لحظة‪ ،‬وفي كل مرة‪.‬‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )39‬‬

‫‪4‬‬

‫توج ًها منها بهذا‬ ‫وعالم وجدانها‪ ،‬والجنان التي أضاعتها‪ .‬وإن ّ‬

‫أو َل ْس َت ترى الوجدان وقـد َق ّر في َف َلك طبيعته وفطرته؟ وأن اهلل‬ ‫َ‬ ‫���ع ُر به في أنفاس الوجود والصورة واللون في كل ش���يء‬ ‫ُي ْس َت ْش َ‬ ‫يسيل إلى نفوسنا من مداخل اآلذان والعيون واألحاسيس؟‬

‫وزي���ادة على ذلك‪ ،‬بدأ اإللحاد يندحر مرة بعد أخرى‪ ،‬بل‬

‫ب���دأ باالنح�ل�ال واالنهيار‪ ،‬بتهافته وخوائه الذاتي‪ ،‬بعدما س���ـل‬

‫أو انت���زع م���ن األش���ياء ال���روح والمعنى ليس���تغلها ف���ي الهوى‬


‫بعضه���م باع للش���يطان فك���رة "الوطنية"‬

‫غر‬ ‫الراقية بأشـياء بخسة وكأنه "فاوست" ٌّ‬ ‫ألنه غريب عن قيمنا "الذاتية" الحقيقية‪.‬‬ ‫م���ل ه���ؤالء م���ن االضط���راب‬ ‫ول���م َي ّ‬ ‫المس���ـتمر حس���ب متطلب���ات الحـال من‬

‫حيث المناف���ع والمطامح المتقلبة‪ ،‬من‬ ‫أج���ل صياغة ش���كل لألم���ة على صورة‬ ‫يوما‬ ‫يوم���ا‪ ،‬وعلى صورة أخ���رى ً‬ ‫معين���ة ً‬

‫آخ���ر‪ ...‬بـل األصح على إظهار "األمة"‬ ‫بهذه الصور الش���اذة العجيبة‪ ..‬فتنفس���وا‬

‫ه���واء "الطوراني���ة" مرة‪ ،‬وهمهم���وا مرة‬

‫بمقوالت "الش���عب‪ ،‬الفالح‪ ،‬القروي"‪،‬‬

‫وما ضيعناه من قيمنا الذاتية في الماضي‬

‫�إن �أ�رسع و�أق�رص و�أ�سلم طريق‬ ‫يو�صل الإن�سان �إىل احلقيقة هو‬ ‫طري��ق الإميان املجه��ز بالعلم‬ ‫والعرف��ان‪ .‬ولقد ف��از الروح‬ ‫دائم��ا �أعظ��م ن��صر و�أعجب��ه‬ ‫ً‬ ‫بف�ضل هذا الطري��ق‪ .‬وحيثما‬ ‫غ�ير املتغ��ذي‬ ‫افتُ ِق��د الإمي��ان ُ‬ ‫ّ��ت القوة‬ ‫بغ��ذاء العرفان‪ ،‬حل ْ‬ ‫العمياء حمل احلقيقة واحلقوق‪.‬‬

‫وقت���ا م���ع "األرس���ـتقراطية"‬ ‫وقض���وا ً‬ ‫م���رة أخرى‪ ،‬ث���م قال���وا‪" :‬الديمقراطية"‪،‬‬

‫القري���ب‪ .‬ولم‬ ‫نك���ف ّإبانها ع���ن التفكير‬ ‫ّ‬ ‫بابت���كار أس���لوب جدي���د وفلس���فة حياة‬

‫جدي���دة‪ُ ،‬تبع���د عن���ا المفاهي���م المختلفة‬

‫اختالف���ا ّبي ًن���ا‪ ،‬واالتجاه���ات البعي���دة‬ ‫شاس���عا‪ ،‬واألف���كار‬ ‫بع���دا‬ ‫ع���ن بعضه���ا ً‬ ‫ً‬

‫كليا‪ .‬لك���ن هيهات‪،‬‬ ‫المتناقض���ة‬ ‫ً‬ ‫تناقض���ا ًّ‬

‫ه���درا‪ ،‬وما‬ ‫هيه���ات‪ .‬فكم عم���رٍ انقضى‬ ‫ً‬ ‫زلنا نسلو بخيال أن نبتكر أشياء جديدة!‬ ‫جديدا‬ ‫أسلوبا‬ ‫عس���يرا أن نجد‬ ‫ويبدو لي‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وفلس���فة حياة جديدة بعد اليوم‪ ،‬كما لم‬

‫نجد في السابق‪ .‬ذلك‪ ،‬ألننا ال يمكن أن‬ ‫مركب فكري جديد وأسلوب‬ ‫نصل إلى ّ‬

‫مبتك���ر في التعبي���ر عن ال���ذات من دون‬

‫اله ْي ِم على وجوههم‬ ‫وغمزوا "للشـيوعية"‪ ،‬لكنهم لم ينجوا من َ‬

‫ٍ‬ ‫احتضان لجذور الروح والمعنى في حياتنا الذاتية‪ .‬لقد فش���لنا‬

‫لرسـو السفائن المبحرة إلى المستقبل‪،‬‬ ‫وموانئ‬ ‫لتفس���ير الحياة‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َبن ِ‬ ‫همهم المختلط والفاقد للمعايير‪ ،‬وحسب تقلب الزمان‪.‬‬

‫ناخ‬ ‫ذلك‪ ،‬أننا عش���نا باس���تمرار غثيا ًنا‬ ‫واضطرابا تح���ت تأثير ُم ٍ‬ ‫ً‬ ‫كثير األش���واك‪ ،‬وكأننا مضطرون إلى اإلحساس بأشياء عديدة‬ ‫وإبان ذلك‪ُ ،‬أ ِ‬ ‫فرص‬ ‫هدرت عب ًثا هنا أو هناك‬ ‫ٌ‬ ‫ف���ي وقت واحد! ّ‬

‫أبـدا! فاتخذ مثقفونا خاصة‪ ،‬حلم فرنسا‪ ،‬واإلعجاب بإنكلترة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ٍ‬ ‫حركيات‬ ‫والرغب���ة في ألمانيـا‪ ،‬وعش���ق أمريكا والش���وق إليها‪،‬‬

‫وكان الح���ال يقتضي أن ُتس���تخلف الرؤية المش���تركة بيننا‬

‫كأم���ة‪ ،‬وأعني الدي���ن والعاطفة الوطنية‪ ،‬عل���ى القواعد المتينة‬

‫والرصينة التي تسـمو فوق كل األحالم والمتخيالت وتتجاوز‬ ‫حقائق األرواح المنفردة‪ ،‬وتعتمد على اإليمان السليم المتين‪،‬‬

‫ف���ي بن���اء نظام فك���ري جديد وأس���لوب مبتكر‪ ...‬ب���ل زد على‬

‫سنحت لنا‪ ،‬وطاقات كامنة للقوة والمنعة‪.‬‬

‫شيئا منذ قرن أو قرنين‪ ،‬فإننا‬ ‫ومهما بدا علينا وكأننا نعمل ً‬ ‫ِ‬ ‫غبط عليه‪ ،‬يجس���د إيماننا المنساب‬ ‫أثرا نطمئن إليه أو ُن َ‬ ‫لم ُنقم ً‬ ‫إلين���ا من أعم���اق تاريخنا ونمط فكرنا وأخالقن���ا وثقافتنا وفننا‬ ‫ريت في مراحل معينة مداخالت جراحية‬ ‫واقتصادنا‪ .‬ولئن ُأ ْج ْ‬

‫والفكر المتأصل‪ ،‬واألخالق المستقرة‪ ،‬والفضيلة المتمكنة من‬ ‫األرواح‪ .‬فمثل هذه الحركة تس���ـتطيع أن َت ِعد األجيال القادمة‬

‫جما‬ ‫ً‬ ‫تأجيجا لألحالم أو ألهواء الش���باب‪ ،‬لكن لم نس���مع إال ًّ‬

‫عل���ى االمت���داد والتغيي���ر في َف َل���ك ثرائها الروح���ي والمعنوي‬

‫العصر وتقييم العل���م وتفهم حكمة الوفاق واالتفاق والتغلب‬

‫بالخ�ل�اص المأم���ول‪ ...‬حرك���ة أخالقية ثابتة التوج���ه‪ ،‬منفتحة‬

‫الذاتي‪ ،‬غير متزحزحة عن محور "رضا اهلل"‪ ،‬موصدة األبواب‬ ‫تمام���ا في وجه المنافع والمطامح‪ .‬وبعكس الحال‪ ،‬س���نعجز‬ ‫ً‬ ‫ذاتيا‪ ،‬وإحاطته‬ ‫ع���ن احتضان الروح والمعن���ى الخاص ّ‬ ‫"بأمتنا" ًّ‬

‫بالحماي���ة‪ ،‬وإيصال األمانة إلى األجيال القادمة بأكمل خصال‬

‫األمناء‪ ،‬ما دمنا في انتقال على الخطوط المنحرفة باس���تمرار‪،‬‬ ‫وف���ي غبش اإليمان المختلط الذي ل���م يبلغ اليقين في قلوبنا‬

‫ومفاهيم التوجهات المختلفة والمقاربات الحضارية المتنوعة‬ ‫في عقولنا‪.‬‬

‫ال يغيب عن العارفين بهذه المراحل المضطربة ما فقدناه‪،‬‬

‫كثيرا من األمنيات الخادعة عن حاجاتنا الحقيقية مثل تفس���ير‬ ‫ً‬

‫عل���ى الفق���ر الذي يقص���م ظهرنا من���ذ زمان طوي���ل‪ .‬إن نجاتنا‬ ‫من األفكار الهزيلة ومن هذا التيه الذي يحبس���نا في حواس���نا‬

‫فيلهينا‪ ،‬س���يتحقق على يد أبطال اإلدراك والبصيرة واللدنيات‬

‫بشبوب اشتياقهم للعلم‪،‬‬ ‫الفاهمين للعصر والعاشقين للحقيقة ُ‬ ‫ظهوره���م تح���ت ثق���ل المعض�ل�ات الحقيقي���ة‬ ‫ودب��� ِة‬ ‫والم ْح َد َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫الحاضرة والقلقِ الكامن في المس���تقبل‪ ،‬والمنعكس ِة دواخ ُلهم‬ ‫ه���واء قلوبه���م‪،‬‬ ‫عل���ى س���لوكهم وتصرفاته���م‪ ،‬والمتنفس���ين‬ ‫َ‬ ‫دائم���ا إل���ى ما خل���ف اآلفاق‪ ...‬أبط���ال اللدنيات‬ ‫والمتطلعي���ن ً‬ ‫يئنون بآالم األجيال إذ يس���عون للنهوض بها إلى درجة‬ ‫الذين ّ‬

‫‪3‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )39‬‬


‫المقال الرئيس‬ ‫فتح اهلل كولن‬

‫أجيال األمل‬ ‫إن أجي���ال األم���ل باعتبار الزم���ن الحاضر هم‬

‫ممثلو العلم واإليمان واألخالق والفن‪ ،‬وهم‬ ‫وسيش���كل‬ ‫مهندس���ـو الروح لمن يأتون بعدنا‪.‬‬ ‫ّ‬

‫ه���ؤالء تكوين���ات جديدة ف���ي كل ش���ريحة اجتماعي���ة بتفريغ‬

‫ح���رارة اإلله���ام لقلوبه���م المتغذية باألخروي���ات إلى الصدور‬

‫المحتاجة إليها‪ .‬وإن ضيـاع حظ كثير من األجيال في تاريخنا‬

‫القري���ب‪ ،‬وهدرهم‪ ،‬بل س���قوطهم في الجن���ون والهذيان‪ ،‬كان‬ ‫بدرجة كبيرة لعدم التقائهم بمثل هذا الجيل األمل‪.‬‬

‫لقد عش���نا في القرن األخي���ر‪ ،‬أو القرنين األخيرين‪ ،‬هزائم‬

‫وكثيرا ما خس���رنا في س���ياق‬ ‫متتالية حتى في وس���ط النجاح‪..‬‬ ‫ً‬

‫النصر‪ ..‬ففي تلك المرحلة التي كنا نفترس بعضنا البعض‬ ‫كالذئ���اب‪ ،‬خلفنا لألجيال اآلتية من بعدنا إرث الحقد‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2013 )39‬‬

‫‪2‬‬

‫والبغ���ض والتعصب السياس���ي‪ .‬فف���ي تلك المرحلة ل���م َي ْخ ُل‬ ‫الذين خاضوا في السياس���ة أو الذين شاركوا فيها من خارجها‬ ‫لتص���در فريقهم‬ ‫عل���ى الس���واء‪ ،‬إم���ا من احتس���اب كل وس���يلة‬ ‫ّ‬ ‫وهم أن اس���تالمهم‬ ‫وكوادره���م وس���يل ًة مش���روعة‪ ،‬وإم���ا م���ن َت َّ‬ ‫كثيرا من األمور أو ينقذ الوطن‪ .‬ولم يفهم الطرفان‬ ‫للحكم يغير ً‬ ‫ال بتحول‬ ‫يقينا بأن الوصول إلى المقاصد المرجوة لن يتحقق إ ّ‬ ‫ً‬ ‫ج���ذري يعتم���د الدوران ف���ي َف َلك اإليم���ان والعلم واألخالق‬ ‫والفك���ر والفضيل���ة‪ .‬وألنهم ل���م يدركوا ذلك‪ ،‬ظن���وا أن التغير‬ ‫واالنعط���اف الكبير المرغوب فيه‪ ،‬هو هذه التغييرات الجوفاء‬ ‫الخاوية من المعنى‪ ،‬والمتس���مة بالصوريـة والشكلية‪ ،‬وتشبثوا‬ ‫متعلقي���ن بأذي���ال تغيير المكياج واألصب���اغ واأللوان في‬ ‫عملي���ة الترميم التاريخية الكبيرة‪ .‬وزد على ذلك‪ ،‬أن‬


‫المحتويات‬

‫ أجيال األمل  ‪ /‬فتح اهلل كولن (املقال الرئيس) ‬

‫ونحن نؤسس لعلم حضاري  ‪ /‬د‪ .‬عبد اإلله بن مصباح (قضايا فكرية) ‬

‫ واهب الحياة  ‪ /‬حراء (ألوان وظالل) ‬ ‫موازين كلية في اجتهاد التنزيل  ‪ /‬أ‪.‬د‪ .‬الشاهد البوشيخي (دراسات إسالمية) ‬

‫ لماذا إبليس؟  ‪ /‬أ‪.‬د‪ .‬عماد الدين خليل (قضايا فكرية) ‬ ‫حلم  ‪ /‬د‪ .‬سلمان العودة (أدب) ‬ ‫ّ‬ ‫لدي ٌ‬

‫ بشائر الربيع  ‪ /‬حراء (ألوان وظالل) ‬

‫المجتمع اإلنساني اآلمن من منظور رسائل النور  ‪ /‬د‪ .‬مهدية أمنوح (قضايا فكرية) ‬

‫ حكاية آكل النمل  ‪ /‬أ‪.‬د‪ .‬عرفان يلماز (علوم) ‬ ‫إنني أشهد  ‪ /‬حممد مساعدي (أدب) ‬

‫ الزهراوي‪ ..‬رائد علم الجراحة والتشريح  ‪ /‬أ‪.‬د‪ .‬بركات حممد مراد (تاريخ وحضارة) ‬ ‫هكذا علمتني الرياضيات  ‪ /‬أ‪.‬د‪ .‬فؤاد البنا (قضايا فكرية) ‬

‫ طبيب يبحث عن مرضاه  ‪ /‬مونية الديغوسي (قضايا فكرية) ‬ ‫االختبار العسير  ‪ /‬د‪ .‬حممد باباعمي (قضايا فكرية) ‬

‫ أعذب األلفاظ  ‪ /‬د‪ .‬ناصر الزهراين (شعر) ‬ ‫التربية على قيم النقد والتقويم  ‪ /‬د‪ .‬عبد احلميد عشاق (تربية) ‬

‫ الروح المغامر  ‪ /‬أديب إبراهيم الدباغ (أدب) ‬ ‫دراما الحياة  ‪ /‬مجال أمني (أدب) ‬

‫ االنبالج الجديد  ‪ /‬حراء (ألوان وظالل) ‬ ‫َص َدى الُ�ب ْردة  ‪ /‬عبد احلميد ال ُع َمري (شعر) ‬

‫ قيام الليل وأثره الروحي في حياة اإلنسان  ‪ /‬مصطفى بوزغيبة (قضايا فكرية) ‬ ‫الدولة المدنية كما مثلها عصر المبعث النبوي  ‪ /‬د‪ .‬مسري بودينار (قضايا فكرية) ‬

‫‪2‬‬ ‫‪6‬‬ ‫‪10‬‬ ‫‪11‬‬ ‫‪17‬‬ ‫‪19‬‬ ‫‪22‬‬ ‫‪23‬‬ ‫‪28‬‬ ‫‪32‬‬ ‫‪34‬‬ ‫‪38‬‬ ‫‪41‬‬ ‫‪44‬‬ ‫‪47‬‬ ‫‪48‬‬ ‫‪51‬‬ ‫‪53‬‬ ‫‪54‬‬ ‫‪55‬‬ ‫‪56‬‬ ‫‪59‬‬


‫االفتتاحية‬ ‫لسان الزمان‬

‫كرها"‪ ،‬تستنطق الماضي‬ ‫مجلة حراء تقطع "الفيافي القاحلة"‪ ،‬وتسوق الفكر‬ ‫"طوعا ال ً‬ ‫ً‬

‫ال‪،‬‬ ‫اعتبارا‪ ،‬وتعتصر أحداث الحاضر‬ ‫التليد‬ ‫اعتصارا‪ ،‬ثم ترسم معالم المستقبل المتفائل أم ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وبأس���لوب يرتضي التلطُّ ف‬ ‫ب���روح هفهاف���ة تلوذ بالتعريض وتنأى ع���ن التصريح‪،‬‬ ‫وذل���ك‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬

‫ال عن التخويف والتعنيف‪.‬‬ ‫والتع ّفف‪ ،‬بدي ً‬

‫المتميِزة التي تسند الكلمة والعبارة‪،‬‬ ‫الملونة‪ ،‬والرمز البديع‪ ،‬والزخرفة‬ ‫ولعل الصورة‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬

‫العدد‪39:‬‬ ‫السنة التاسعة‬ ‫(نوفمبر ‪ -‬ديسمبر) ‪2013‬‬

‫الفن���ي المثابر لـ"حراء"‬ ‫المصمم والمهندس‬ ‫وتق���رب المبن���ى والمعنى‪ ،‬مما أبدعته أنام���ل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ِّ‬ ‫شكرا‬ ‫منا التفاتة وعناية‪ ،‬ويستلزم‬ ‫المجلة‪ ،‬وفريقه‬ ‫الملهم المغامر‪َّ ...‬‬ ‫لعل ذلك يستوجب َّ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫األشد‪:‬‬ ‫شارفت المسير ُة على العدد األربعين وهو عمر بلوغ‬ ‫وتقديرا‪ ،‬وقد‬ ‫ِّ‬ ‫ْ‬ ‫ً‬

‫س���خية‪ ،‬تحمل ُتربة خصب���ة‪ ،‬و ُتخرج نبا ًتا‬ ‫ف���إن ص���ورة "اليد الكريمة‪ ،‬المس���نودة بأيا ٍد‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬

‫"أمل‬ ‫طي ًب���ا" ه���ي عن���وان "أجي���ال األمل" لألس���تاذ فتح اهلل كول���ن‪ ،‬وهي ف���ي ذات الوقت ٌ‬ ‫ّ‬ ‫وإن ِ‬ ‫يتجدد باس���تمرار في إط���ار اإليمان والعرفان‬ ‫"س َ���ير حي���اة هؤالء األبطال‬ ‫لألجي���ال"‪َّ .‬‬ ‫َّ‬ ‫والمحبة والعشق والذوق الروحاني‪ ،‬و َتخفق أجنحة فكرهم الواسع كاآلفاق سابحة في‬ ‫الرحاب المميزة بين الفاني والالنهائي"‪.‬‬ ‫فتزينه أبواب نورانية‬ ‫َّأم���ا الحلم المش���روع‪ ،‬في مقال‬ ‫َّ‬ ‫"لدي حلم" لـ"س���لمان الع���ودة"‪ّ ،‬‬

‫سماوية‪ ،‬وأشجار باسقة فارهة‪ ،‬أصلها ثابت وفرعها في السماء‪ ،‬وهي تهزأ بالممنوع وال‬ ‫تلون بحبر جديد‪ ،‬تحملنا خاللها الكاتبة‬ ‫تعرف المستحيل‪ .‬ولصورة العالم رمزية‪ ،‬وهي ّ‬

‫ال رفي ًقا‪ .‬ولم يغب القلم البديع لصاحب‬ ‫"مهدية أمنوح" إلى س���فوح "رس���ائل النور" حم ً‬

‫قصة الحيوان لـ"عرفان يلماز"‪ ،‬وهو يحكي لنا عن "آكل النمل"‪.‬‬ ‫َّ‬

‫و"الزهراوي" الطبيب المسلم الرائد‪ ،‬لـ"بركات محمد مراد"‪ ،‬و"طبيب يبحث عن مرضاه"‬

‫لـ"مونية الديغوسي"‪ ...‬كلُّ ذلك يرتسم على شكل ذبذبة القلب في جهاز قياس النبض‪...‬‬ ‫أطباء الروح والمعنى‪ ،‬في سياقنا وسباقنا‪ ،‬وحراكنا وحركيتنا‪.‬‬ ‫أال ما أحوجنا إلى َّ‬

‫وقد أجاد صاحب "الدولة المدنية" "س���مير بودينار"‪ ،‬في ضبط المفهوم والمصطلح‪،‬‬

‫ويفرج عن‬ ‫معرفيا‬ ‫ضبطا‬ ‫ً‬ ‫محكما‪ّ ،‬‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫عل اهلل يحفظ ديننا بمدنيتنا‪ ،‬ويعلي شأن مدنيتنا بديننا‪ّ ،‬‬

‫لكنه وصل ورتق‪ ،‬بداللة مقولة‬ ‫ش���امنا ويماننا‪ ،‬وعن ش���رقنا وغربنا‪ ...‬فال فصل وال فتق‪َّ ،‬‬

‫ومن في الزمان‪ ،‬على الفلك الذي أمر به‬ ‫الحكيم‬ ‫الخريت‪" :‬س���يأتي يوم يقر فيه الزمان‪َ ،‬‬ ‫ِّ‬ ‫تعالى وبأحكام اهلل القاهرة بالمناهج المعينة في األخرويات‪ ،‬والمقررات المبينة سل ًفا"‪.‬‬ ‫غدا لناظره قريب‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وإن ً‬


‫العدد‪ / 39 :‬السنة التاسعة ‪( /‬نوفمرب ‪ -‬ديسمرب) ‪2013‬‬ ‫مجلة علمية فكرية ثقافية تصدر كل شهرين من إسطنبول‬

‫‪w w w. h i r a m a g a z i n e . c o m‬‬

‫َ‬ ‫عزيمة البعث ُهبّ ي‬ ‫حتى الفيافي القاحلة‪،‬‬ ‫تخضر‪...‬‬ ‫حين تُس َقى بماء‬ ‫ّ‬ ‫فالماء يبعث في تلك الرمال حيا ْه‪...‬‬ ‫كذا بالعزم الدؤوب تحيا‪،‬‬ ‫أنفس ظنها الناس ال تسترّد الحيا ْه‪...‬‬ ‫ٌ‬ ‫ٍ‬ ‫تلقى‬ ‫وبِ َهبَّة من ذلك النوع َ‬ ‫َّ‬ ‫كل صخر ذائبا إزا ْه‪...‬‬ ‫***‬

‫أجيال األمل‬

‫ونحن نؤسس لعلم حضاري‬

‫الدولة المدنية‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.