Hira Magazine 33

Page 1

‫من "الماوراء" أنوار ُّ‬ ‫تهل‪،‬‬

‫وعطش الدنيا تروي‪...‬‬ ‫ظمأَ األرض تسقي‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ومن وراء األفق‪ ،‬ألف شمس وشمس‪،‬‬ ‫خفاقة‪ ،‬وباإلشراق َّ‬ ‫بالنور َّ‬ ‫سطاعة‪...‬‬ ‫وإلى كهوف الظالم مذعورًة تجري‪،‬‬ ‫أرواح على اإللحاد تربَّ ْت‪ ،‬يالحقها النور‪،‬‬ ‫والت حين مناص‪...‬‬ ‫وبخناقها يمسك‪َ ،‬‬ ‫***‬

‫تركيا‪ 6 :‬لريات • أوروبا‪ 3,5 :‬يورو • أمريكا‪ 5 :‬دوالر • اململكة العربية السعودية‪ 12 :‬ريال سعودي • اليمن‪ 350 :‬ريال ميني • املغرب‪ 20 :‬درهم • الجزائر‪ 250 :‬دينار‬

‫خارطة النور‬

‫‪33‬‬


‫د‪ .‬محمد عمارة‬ ‫ •كتاب موسوعي الفكر‪...‬‬ ‫ • ُيشهدك تجليات الحضارة اإلسالمية في شؤون الفكر والحياة‪...‬‬ ‫ •يأخذك إلى ثناياها‪ ...‬ويوقفك على أسرارها‪...‬‬ ‫ • ُ‬ ‫ويبهرك بعظمتها‪ ...‬ويشغلك بجماالتها‪...‬‬ ‫ • ُ‬ ‫ويغريك بمحبتها‪ ...‬ويمنحك امتدادً ا في ذاتها‪...‬‬ ‫ً‬ ‫وتجواال في آفاقها‪ ...‬ورغبة بالعيش في ظاللها‪...‬‬ ‫ •‬

‫مركز التوزيع فرع القاهرة ‪ 7 :‬ش البرامكة‪ ،‬الحي السابع‪ ،‬مدينة نصر ‪ -‬القاهرة ‪ /‬مصر‬

‫تليفون وفاكس ‪+20226134402-5 :‬‬

‫الهاتف الجوال ‪+201004871038 :‬‬

‫‪w w w. d a r a l n i l e . c o m‬‬


‫التصور العام‬

‫• حراء جملة علمية فكرية ثقافية تعىن بالعلوم الطبيعية واإلنسانية واالجتماعية وحتاور أسرار النفس البشرية وآفاق‬ ‫الكون الشاسعة باملنظور القرآين اإلمياين يف تآلف وتناسب بني العلم واإلميان‪ ،‬والعقل والقلب‪ ،‬والفكر والواقع‪.‬‬ ‫• جتمع بني األصالة واملعاصرة وتعتمد الوسطية يف فهم اإلسالم وفهم الواقع‪ ،‬مع البعد عن اإلفراط والتفريط‪.‬‬ ‫• تؤمن باالنفتاح على اآلخر‪ ،‬واحلوار البناء واهلادئ فيما يصب لصاحل اإلنسانية‪.‬‬ ‫• تسعى إىل املوازنة بني العلمية يف املضمون واجلمالية يف الشكل وأسلوب العرض‪ ،‬ومن مث تدعو إىل معاجلة املواد‬ ‫مبهنية عالية مع التبسيط ومراعاة اجلوانب األدبية واجلمالية يف الكتابة‪.‬‬

‫شروط النشر‬

‫• أن يكون النص املرسل جديدا مل يسبق نشره‪.‬‬ ‫• أال يزيد حجم النص على ‪ 2000‬كلمة كحد أقصى‪ ،‬وللمجلة أن تلخص أو ختتصر النصوص اليت تتجاوز احلد‬ ‫املطلوب‪.‬‬ ‫• يرجى من الكاتب الذي مل يسبق له النشر يف اجمللة إرسال نبذة خمتصرة عن سريته الذاتية‪.‬‬ ‫• ختضع األعمال املعروضة للنشر ملوافقة هيئة التحرير‪ ،‬وهليئة التحرير أن تطلب من الكاتب إجراء أي تعديل على‬ ‫املادة املقدمة قبل إجازهتا للنشر‪.‬‬ ‫• اجمللة غري ملزمة بإعادة النصوص إىل أصحاهبا نشرت أم مل تنشر‪ ،‬وتلتزم بإبالغ أصحاهبا بقبول النشر‪ ،‬وال تلتزم‬ ‫بإبداء أسباب عدم النشر‪.‬‬ ‫• حتتفظ اجمللة حبقها يف نشر النصوص وفق خطة التحرير وحسب التوقيت الذي تراه مناسبا‪.‬‬ ‫تعب بالضرورة عن رأي اجمللة‪.‬‬ ‫تعب عن آراء ُكتَّاهبا‪ ،‬وال رِّ‬ ‫• النصوص اليت تنشر يف اجمللة رِّ‬ ‫مجا إىل أي لغة أخرى‪،‬‬ ‫• للمجلة حق إعادة نشر النص منفصلاً أو ضمن جمموعة من البحوث‪ ،‬بلغته األصلية أو مرت ً‬ ‫دون حاجة إىل استئذان صاحب النص‪.‬‬ ‫• جملة حراء ال متانع يف النقل أو االقتباس عنها شريطة ذكر املصدر‪.‬‬ ‫ يرجى إرسال مجيع املشاركات إىل هيئة حترير اجمللة على العنوان اآليت‪:‬‬

‫‪hira@hiramagazine.com‬‬

‫‪YEMEN‬‬ ‫دار النشر للجامعات‬ ‫الجمهورية اليمنية‪ ،‬صنعاء‪ ،‬الخط الدائري الغربي‪،‬‬ ‫أمام الجامعة القديمة‬ ‫‪Phone: +967 1 440144‬‬ ‫‪GSM: +967 711518611‬‬ ‫‪ALGERIA‬‬ ‫‪Bois des Cars 1 Villa Nº68 Dely Brahim‬‬ ‫‪GSM: +213 770 26 00 27‬‬ ‫‪SUDAN‬‬ ‫مركز دار النيل‪ ،‬مكتب اخلرطوم‬ ‫أركويت مربع ‪ 48‬منـزل رقم ‪ - 31‬اخلرطوم ‪ -‬السودان‬ ‫‪Phone: 0024 999 559 92 26 - 0024 915 522 24 69‬‬ ‫‪hirasudan@hotmail.com‬‬ ‫‪JORDAN‬‬ ‫شركة زوزك‪/‬مشيساين شارع عبد احلميد شرف‪ ،‬بناية رقم‪61:‬‬ ‫عمان‪/‬األردن‪.‬‬ ‫‪Phone: +962 656 064 44‬‬ ‫‪GSM: +962 775 935 756‬‬ ‫‪hirajordan@hotmail.com‬‬ ‫‪UNITED ARAB EMIRATES‬‬ ‫دار الفقيه للنشر والتوزيع‬ ‫ص‪.‬ب‪ 6677 .‬أبو ظبي‬ ‫‪Phone: +971 266 789920‬‬ ‫‪MAURITANIA‬‬ ‫‪Phone: +2223014264‬‬

‫‪USA‬‬ ‫‪Tughra Books‬‬ ‫‪345 Clifton Ave., Clifton,‬‬ ‫‪NJ, 07011, USA‬‬ ‫‪Phone:+1 732 868 0210‬‬ ‫‪Fax:+1 732 868 0211‬‬ ‫‪SAUDI ARABIA‬‬ ‫الوطنية للتوزيع‬ ‫‪Phone: +966 1 4871414‬‬ ‫املكتب الرئيسي‪ :‬شارع التخصصي مع تقاطع شارع‬ ‫األمري سلطان بن عبد العزيز عمارة فيصل السيار‬ ‫ص‪.‬ب‪ 68761 :‬الرياض‪11537 :‬‬ ‫اجلوال‪00966504358213 :‬‬ ‫‪saudia@hiramagazine.com‬‬ ‫‪abdallahi7@hotmail.com‬‬ ‫‪Phone-Fax: +966 1 2815226‬‬ ‫‪MOROCCO‬‬ ‫الدار البيضاء ‪ 70‬زنقة سجلماسة‬ ‫‪Société Arabo-Africaine de Distribution,‬‬ ‫)‪d'Edition et de Presse (Sapress‬‬ ‫‪70, rue de Sijilmassa, 20300 Casablanca / Morocco‬‬ ‫‪Phone: ‎+212 22 24 92 00‬‬ ‫‪SYRIA‬‬ ‫‪GSM: ‎+963 955 411 990‬‬

‫جملة علمية فكرية ثقافية تصدر كل‬ ‫شهرين عن‪:‬‬ ‫‪Işık Yayıncılık Ticaret A.Ş‬‬ ‫‪İstanbul / Türkiye‬‬

‫صاحب االمتياز ‬

‫مصطفى طلعت قاطريجي أوغلو‬

‫املشرف العام‬ ‫نوزاد صواش‬

‫‪nsavas@hiramagazine.com‬‬

‫رئيس التحرير‬ ‫هانئ رسالن‬

‫مدير التحرير‬ ‫أجري إشيوك‬

‫املخرج الفين‬ ‫مراد عرباجي‬

‫املركز الرئيس‬ ‫‪HIRA MAGAZINE‬‬ ‫‪Kısıklı Mah. Meltem Sok.‬‬ ‫‪No:5 34676‬‬ ‫‪Üsküdar‬‬ ‫‪İstanbul / Turkey‬‬ ‫‪Phone: +902163186011‬‬ ‫‪Fax: +902164224140‬‬ ‫‪hira@hiramagazine.com‬‬

‫مركز التوزيع‬ ‫‪ 7‬ش الربامكة ‪ -‬احلي السابع ‪ -‬م‪.‬نصر‪/‬القاهرة‬ ‫تليفون وفاكس‪+20226134402-5 :‬‬ ‫اهلاتف اجلوال ‪+201004871038 :‬‬ ‫مجهورية مصر العربية‬

‫نوع النشر‬ ‫جملة دورية دولية‬

‫‪Yayın Türü‬‬ ‫‪Yaygın Süreli‬‬

‫الطباعة‬ ‫‪Çağlayan Matbaası‬‬ ‫‪İzmir - Turkiye‬‬ ‫‪Tel:+90 (232) 252 20 96‬‬

‫رقم اإليداع‬

‫‪1879-1306‬‬

‫لالشرتاك من كل أحناء العامل‬ ‫‪pr@hiramagazine.com‬‬


‫محطات علمية‬

‫سحلية الماء‪ ..‬خبيرة الجري على الماء‬ ‫م���ن المع���روف ل���دى الجميع أن الس���حليات‬

‫تمش���ي عل���ى اليابس���ة‪ ،‬ولك���ن َم���ن منا س���مع‬

‫بسحليات تجري على الماء!؟‬

‫قام���ت مجموع���ة من العلم���اء في جامع���ة هارف���ارد األمريكية‬ ‫بتحلي���ل حرك���ة أقدام س���حلية الم���اء أو باسيليس���ك (‪،)Basilisk‬‬

‫لمعرف���ة الس���ر ف���ي جريها ف���وق الم���اء‪ ،‬فاندهش���وا عندما رأوا‬ ‫الس���رعة الت���ي يس���ير به���ا ه���ذا المخل���وق‪ ..‬فوج���دوا أن ه���ذه‬

‫الس���حلية تق���وم‬ ‫بضرب رجليه���ا الخلفيتي���ن ‪-‬اللتي���ن تتمتعان‬ ‫ِ‬ ‫بغش���اء بين األصابع‪ -‬على س���طح الماء بقو ٍة خارقة‪ ،‬ل ُتحدث‬ ‫فقاع���ات هوائية تحت رجليها‪ ،‬ثم تدوس على هذه الفقاعات‬

‫بس���رعة هائلة وبوتي���رة ثابتة وتوازن عجيب‪ ،‬مس���تخدمة ذيلها‬ ‫كأداة مس���اعدٍ في هذا التوازن أثناء جريها دون الس���قوط على‬ ‫الغط في الماء‪.‬‬ ‫أحد جوانبها أو دون ّ‬

‫من جهة الذقن في موازنة جسمها التوازن التام‪.‬‬ ‫توجد هذه الس���حليات في الغابات االس���توائية في أمريكا‬ ‫الوس���طى والجنوبية‪ ،‬ال س���يما في كوس���تاريكا‪ .‬تعيش حوالي‬ ‫ثمان���ي س���نوات‪ ،‬وتبي���ض األنثى منه���ا ‪ 8-5‬مرات في الس���نة‬ ‫الواح���دة‪ ،‬وقد تضع ف���ي كل مرة حوالي ‪ 18‬بيضة‪ .‬يبلغ طول‬ ‫الواح���دة م���ن ه���ذه الس���حليات حوالي ‪ 50‬س���م‪ ،‬وأم���ا وزنها‬ ‫فيت���راوح ما بي���ن ‪ 200‬إلى‪600‬غ‪ .‬وعليه فإن هذه المخلوقات‬ ‫تتغذى بالحشرات الصغيرة والنباتات‪.‬‬ ‫وال شك أن هذه الحيوانات كانت مصدر إلهام للعلماء في‬ ‫اختراعهم "الحوامة" التي تطفو في الهواء على وس���ادة هوائية‬ ‫أسفل جسمها‪ ،‬وتسير بسرعة فائقة ووتيرة ثابتة وتوازن تام‪.‬‬ ‫(*) كاتب وباحث تركي‪.‬‬

‫تخط���و هذه الس���حليات حوالي ‪ 20‬خط���وة على الماء في‬

‫الثاني���ة الواحدة‪ ،‬أي تجري بس���رعة ‪4.5‬م ف���ي الثانية الواحدة‪.‬‬

‫وإذا أرادت ه���ذه الس���حلية الطف���و عل���ى أقدامه���ا األربع على‬ ‫الم���اء‪ ،‬تس���تخدم جيبها الهوائي الصغي���ر الموضوع على بطنها‬

‫‪63‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2012 )33‬‬


‫محطات حضارية‬ ‫نور الدين صواش*‬

‫الجندي الباسل‬ ‫المالزم األول "كيس���ي" (‪- )Casey‬الذي أصبح‬ ‫عام���ا على أس���تراليا‪ -‬ينقل لنا‬ ‫فيم���ا ُ‬ ‫واليا ًّ‬ ‫بع���د ً‬ ‫"ج َن ْق‬ ‫ه���ذه الحادث���ة الت���ي عاش���ها في معرك���ة َ‬ ‫قلع���ة" (‪ )Çanakkale‬الت���ي وقع���ت ف���ي م���ارس‪/‬آذار ‪ 1915‬أثناء‬ ‫الحرب العالمية األولى‪ ،‬إذ يقول‪:‬‬ ‫ف���ي ي���وم ‪ 25‬م���ن ش���هر أبريل‪/‬نيس���ان‪ ،‬دار قت���ال رهي���ب بي���ن‬ ‫"جو ْن ْك بايِري"‬ ‫الق���وات العثمانية وقوات التحالف في موق���ع ُ‬ ‫(‪ .)Conkbayırı‬كانت المس���افة بي���ن خنادق القتال حوالي ‪10-8‬‬ ‫أمت���ار‪ .‬وبعد الهجوم ِ‬ ‫بالح���راب وقف القتال لفترة من الزمن‪..‬‬ ‫انس���حب الجنود إلى خنادقهم‪ ..‬وإذا بصيحات استرحام تشق‬ ‫عنان الس���ماء وس���ط خنادق الطرفين‪ ،‬يطلقه���ا نقيب إنكليزي‬ ‫ترت ساقه أثناء المعركة‪ ..‬ولكن ال أحد يجرؤ على الخروج‬ ‫ُب ْ‬ ‫يدوي‬ ‫لمساعدته‪ ،‬إذ مع أدنى حركة ينطلق مطر من الرصاص ّ‬ ‫فوق الرؤوس‪..‬‬ ‫حدث ش���يء مذهل؛ إذ‬ ‫يد من بين‬ ‫ف���ي تلك األثناء َ‬ ‫ب���دت ٌ‬ ‫ْ‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2012 )33‬‬

‫‪62‬‬

‫بمالب���س داخلية بيض���اء‪ ..‬ثم خرج‬ ‫تل���وح‬ ‫الخن���ادق العثماني���ة ّ‬ ‫َ‬ ‫جندي عثماني ش���جاع من خندقه خروج األس���د دون سالح‪..‬‬ ‫وجهنا أسلحتنا صوبه نراقبه بحذر‪ ..‬لم نعد نسمع إال أنفاسنا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ولم نشعر إال بصدورنا تعلو وتهبط‪ ..‬بدأ الجندي يمشي ببطء‬ ‫نحو خنادقنا‪ ..‬وعندما وصل إلى النقيب الجريح‪ ،‬حدب عليه‬ ‫بهدوء ثم احتضنه برفق‪ ،‬ثم تأبطه وبدأ يمشي به نحونا‪ ..‬وما إن‬ ‫وصل إلينا حتى وضعه على األرض بلطف‪ ،‬ثم عاد من حيث‬ ‫أتى‪ ..‬لم نجد فرص ًة لش���كر ذلك الجندي الباس���ل الذي واجه‬ ‫الم���وت من أجل مس���اعدة عدوه الذي يحارب���ه! وظل الجنود‬ ‫أياما عن ذلك الجندي الش���جاع‬ ‫ف���ي ميادي���ن القتال‪ ،‬يتحدثون ً‬ ‫الذي أبدى‬ ‫وقدم‬ ‫احتراما من نوع آخر تجاه اإلنسان وكرامته‪ّ ،‬‬ ‫ً‬ ‫إنسانيا عن الحب والرحمة من اإلنسان ألخيه‬ ‫درسا‬ ‫لإلنسانية ً‬ ‫ً‬ ‫اإلنسان حتى في ميادين القتال‪.‬‬ ‫وحبن���ا واحترامنا إلى أولئ���ك الجنود الذين‬ ‫ّ‬ ‫نق���دم تحياتن���ا ّ‬ ‫أبدوا بسال ًة تستحق الثناء والتقدير‪.‬‬ ‫"المالزم األول كيسي"‬


‫التعص���ب الذي يتلبس لبوس الدين والهوية والتاريخ‪ ،‬وتطغى‬

‫األحكام التي تدعي اس���تنادها إلى نصوص الوحي والحديث‬ ‫الشريف‪ ،‬بل قد تجد االغتياالت والتصفيات مسوغها الفقهي‪.‬‬ ‫وال مخ���رج وال منج���ى من هذا الوض���ع إال باعتماد أبجديات‬ ‫ش���رعيا وضرورة‬ ‫مطلبا‬ ‫الفق���ه الهارون���ي الت���ي تجعل الوح���دة‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬

‫حضارية‪ ،‬والتي تبرز كيف أن ثقافة اإلس�ل�ام هي ثقافة توحيد‬ ‫ووحدة سواء بسواء‪.‬‬

‫وإذا اتض���ح هذا‪ ،‬فإن الكات���ب يدعو إلى تأصيل هذا الفقه‬

‫الهاروني من خالل الخطوات اآلتية‪:‬‬

‫• تتبع أقوال المفس���رين في تناولهم لآليات المذكورة من‬

‫سورة "طه"‪.‬‬

‫• ق���راءة تل���ك اآليات في ضوء مقاصد القرآن في العمران‬

‫اإلنساني‪.‬‬

‫• جمع األحاديث الواردة في النهي عن الش���رك‪ ،‬وقراءتها‬

‫على ضوء تلك اآليات القرآنية‪.‬‬

‫• اس���تحضار القواع���د األصولية في الفه���م والترجيح‪ ،‬من‬

‫مثل‪" :‬درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة" وغيرها كثير‪.‬‬ ‫• ق���راءة تاري���خ األم���ة ف���ي ض���وء مالم���ح الفق���ه الهاروني‬

‫للوق���وف عل���ى حجم الك���وارث الناتجة عن تغيي���ب "واجبية"‬

‫الوحدة وأهميتها في صالح معاش األمة ومعادها‪.‬‬

‫• ق���راءة الواق���ع المعاص���ر لمش���اريع الصحوة اإلس�ل�امية‬

‫برعوم البراءة‬ ‫يا مسكوب اللطف‪،‬‬ ‫يا رحيق الرحمة‪،‬‬ ‫يا بريئًا بين مذنبين‪...‬‬ ‫أنت إلى اهلل قريب؛‬ ‫فعبير الماوراء نَ ُش ّم‪،‬‬ ‫فإذا َش َم ْمناك‪َ ،‬‬ ‫وإذا ضممناك‪ُ ،‬‬ ‫نضم‪،‬‬ ‫هر الوجود ّ‬ ‫فط َ‬ ‫فنحن سجناء أوزارنا‪ ،‬ومكبَّلو أوهامنا‪...‬‬ ‫بالحرية تنعم‪،‬‬ ‫َ‬ ‫وأنت ّ‬ ‫ال قيد يقيدك‪ ،‬وال ِوْزر يثقلك‪...‬‬ ‫***‬

‫واتجاهاته���ا ومدارس���ها (أدبياتها‪ ،‬قوانينه���ا الداخلية‪ ،‬برامجها‬

‫ومش���اريعها‪ ،‬إنجازاتها‪ )...‬للوق���وف على حدود حضور ثقافة‬ ‫الوح���دة وثقاف���ة الفرقة‪ ،‬ومدى وعي تلك المش���اريع بوجوب‬ ‫وجوب التوحيد‪.‬‬ ‫الوحدة‬ ‫َ‬

‫(*) أستاذ التعليم العالي ‪ /‬المغرب‪.‬‬

‫الهوامش‬

‫(‪ )1‬الش���يخ محم���د الغزالي‪ ":‬كي���ف نتعامل م���ع القرآن"‪ ،‬في مدارس���ة أنجزها‬ ‫األس���تاذ عم���ر عبي���د حس���نة‪ ،‬المعه���د العالمي للفك���ر اإلس�ل�امي‪ ،‬ط‪،1:‬‬

‫‪1991‬م‪ ،‬ص‪.230:‬‬

‫(‪ )2‬تفس���ير القرآن العظيم‪ ،‬لإلمام أبو الحس���ن علم الدين الس���خاوي‪ ،‬تحقيق‪:‬‬

‫الدكتور موس���ى علي موس���ى مس���عود‪ ،‬والدكتور أش���رف محم���د عبد اهلل‬

‫القصاص‪،‬ط‪2009 ،1:‬م‪ ،‬ج‪ ،1:‬ص‪ ،408:‬دار النشر للجامعات‪ ،‬القاهرة‪.‬‬

‫(‪ )3‬فت���ح اهلل كول���ن‪ ..‬ج���ذوره الفكرية واستش���رافاته الحضاري���ة‪ ،‬لمحمد أنس‬ ‫أركنة‪ ،‬ط‪2010 ،1:‬م‪ ،‬ص‪ ،317:‬دا رالنيل‪ ،‬مصر‪.‬‬

‫‪61‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2012 )33‬‬


‫ال‬ ‫﴿و َ‬ ‫الق���رآن م���ن م���آالت المش���ركين‪َ :‬‬ ‫ين ‪ِ ‬من ال ِذ‬ ‫ين َفر ُقوا‬ ‫َت ُكو ُنوا ِم َن ا ْل ُم ْش ِر ِك َ‬ ‫َ َّ َ َّ‬ ‫ِد َين ُه ْم َو َكا ُنوا ِش َي ًعا﴾(الروم‪.)32:‬‬ ‫ويص���ف المنافقي���ن بأنهم يتقصدون‬

‫إح���داث الفرق���ة بين المس���لمين‪ ،‬وذلك‬ ‫���ذوا‬ ‫ي���ن َّات َخ ُ‬ ‫﴿وا َّل ِذ َ‬ ‫ف���ي قول���ه تعال���ى‪َ :‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫���ن‬ ‫���را َو َت ْف ِري ًق���ا َب ْي َ‬ ‫���ر ًارا َو ُك ْف ً‬ ‫َم ْس���ج ًدا ض َ‬ ‫ين﴾(التوبة‪.)107:‬‬ ‫ا ْل ُم ْؤ ِم ِن َ‬

‫‪ -2‬قد يتحمل من الش���رك أو غيره‪،‬‬

‫ال‬ ‫ح���ا ً‬ ‫ال‪ ،‬م���ا يحف���ظ وح���دة األم���ة ح���ا ً‬ ‫ال‪ .‬ولعل في موقف الرسول ‪‬‬ ‫واستقبا ً‬

‫وصحابته األوائل من األصنام المنتشرة‬ ‫بمك���ة في بداي���ة الدعوة اإلس�ل�امية‪ ،‬ما‬

‫الوح��دة واجبة ومرعية‪ ،‬ب��ل �إنها‬ ‫تدخ��ل �ضمن الكلي��ات الأ�سا�سية‬ ‫يف الق��ر�آن الك��رمي و�رشيعت��ه‬ ‫ال�سمح��ة‪ ،‬وذل��ك �أن ا�ستق��راء‬ ‫املف��ردات القر�آني��ة الدال��ة عل��ى‬ ‫"الوح��دة" وم��ا يناق�ضه��ا‪ ،‬يدعم‬ ‫وج��وب الوحدة وتكلي��ف النا�س‬ ‫بها وحملهم على حتقيقها وال�سعي‬ ‫�إليه��ا ع�بر تقوي��ة فر���ص الوحدة‬ ‫و�إ�ضعاف فر���ص الفرقة ونوازعها‬ ‫ومذاهبها‪.‬‬

‫خصبا للقي���اس والمقارنة‬ ‫ال‬ ‫يمنح مج���ا ً‬ ‫ً‬

‫المفس���دة مقدم على جل���ب المصلحة‪،‬‬

‫مم���ا يعني أن درء مفس���دة إراق���ة الدماء‬ ‫مق���دم عل���ى جل���ب مصلح���ة التوحي���د‪،‬‬ ‫وخاص���ة داخل األمة الواحدة التي ترفع‬

‫ش���عار اإلس�ل�ام‪ .‬وليس في ه���ذا تعطيل‬

‫لواج���ب األم���ر المع���روف والنه���ي عن‬ ‫المنكر الذي يمثل "هوية" األمة المسلمة‬

‫بنص القرآن الكريم‪ ،‬ذلك األمر والنهي‬ ‫ال متعددة ومستويات‬ ‫الذي يتخذ أش���كا ً‬ ‫متضامن���ة يب���دأ بإنكار القلب واللس���ان‪،‬‬

‫وينتهي بإنكار اليد والجهاد وفق قواعده‬

‫وضوابطه وفقهه‪.‬‬

‫إن ه���ذا الفق���ه الهارون���ي‪ ،‬هو الذي‬

‫مفهوم���ا آخر غي���ر مفهوم‬ ‫يعط���ي لألم���ة‬ ‫ً‬

‫واالعتب���ار في هذا الس���ياق‪ ،‬فمن أج���ل مقصدية الحفاظ على‬

‫التكت���ل أو التجمه���ر الظاه���ر حول أوه���ام وطني���ة أو دينية أو‬

‫بمكة‪.‬‬ ‫وقياسا على ذلك يجوز القول هنا‪ ،‬بإمكانية الصبر على‬ ‫ً‬

‫أج���ل دعم مبادئ الوح���دة المتجاوزة لكل نزوع س���لبي‪ ،‬وأن‬

‫أرواح القلة من المس���لمين‪ ،‬أرجأ الرسول ‪ ‬تحطيم األصنام‬ ‫بعض مظاهر الش���رك لفت���رة‪ ،‬من أجل رعاي���ة مقصد الوحدة‪،‬‬

‫واهلل أعلم‪.‬‬

‫قومي���ة‪ ،‬بمعن���ى أن قيمة التكتل الجمعي تكمن في التنادي من‬

‫أي مي���ل نح���و التنازع والتداب���ر والتناحر‪ ،‬إنم���ا هو ضرب في‬

‫قيم���ة ذلك التكتل وإضع���اف لمكانته‪ .‬يقول األس���تاذ فتح اهلل‬ ‫كول���ن‪" :‬ل���ذا ال يمكن الق���ول إن كل تجمهر ه���و جماعة‪ ،‬بل‬

‫‪ -3‬الخشية من ضياع الوحدة ال تقل أهمية عن الخشية من‬ ‫﴿و ْاع َت ِص ُموا‬ ‫معا‪َ :‬‬ ‫ضياع التوحيد‪ ،‬باعتبار أن األمة مأمورة بهما ً‬ ‫ب َِحب ِل ا ِ‬ ‫ال‬ ‫هلل َج ِم ًيعا َو َ‬ ‫هلل َو َ‬ ‫﴿و ْاع ُب ُدوا ا َ‬ ‫ال َت َف َّر ُقوا﴾(آل عمران‪َ ،)103:‬‬ ‫ْ‬ ‫ُت ْش ِر ُكوا ِب ِه َش ْي ًئا﴾(النساء‪.)36:‬‬ ‫‪ -4‬الوح���دة تدخل ضمن واجبات القيادة العليا‪ ،‬فهي مما‬

‫شكلوا جماعات قوية مع قلة أعدادهم‪ ،‬وأدوا المطلوب منهم‬

‫تب���ث هذه القيمة في إس���تراتيجيتها الداخلية والخارجية‪ ،‬وفي‬

‫وم���ن هذا المس���توى‪ ،‬عدت في التاريخ أق���وى من العديد من‬

‫اس���تحفظت عليه من قبل رعيتها‪ ،‬وألنها كذلك‪ ،‬فالواجب أن‬ ‫برامجها التعليمية‪ ،‬وفي أنشطتها الفنية واالجتماعية‪.‬‬

‫إن بع���ض الكت���ل التي تس���ري العداوة بينها ليس���ت بعيدة فقط‬

‫ع���ن ماهية الجماع���ة‪ ،‬وإن زيادة األفراد فيها ت���ؤدي إلى زيادة‬ ‫الضع���ف‪ ...‬فأصح���اب األنبياء الذين تمي���زوا بروح الجماعة‪،‬‬ ‫(توحيدا ووحدة)‪ ...‬والحقيقة أن كل فئة قليلة من هذا الصنف‬ ‫ً‬ ‫الكتل الجماعية المتنافرة وأكثر بركة"‪.‬‬

‫(‪)3‬‬

‫‪ -5‬م���ن الخير لعلماء األم���ة ومفكريها ودعاتها أن يكونوا‬

‫‪ -6‬م���ن بركات الوح���دة أن يتحقق التواصل بين مكونات‬

‫وأن يدعموا خطواتها ويباركوا مسيرتها‪ ،‬وأن ال يجعلوا انتفاء‬

‫األم���ر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬وفي هذا مجال خصب‬

‫الدع���وة إل���ى الوح���دة وتحقيقه���ا‪ ،‬فقد يكون اش���تراطهم ذلك‬

‫بالحكم���ة والمنه���ج الس���ليم‪ .‬وقد تق���رر في مي���زان العقل‪ ،‬أنه‬

‫ال‬ ‫كثيرة‪ ،‬وإذا كانت الخالفات المذهبية والقبلية والحزبية سبي ً‬ ‫إل���ى إراقة الدم���اء‪ ،‬في بعض األحيان‪ .‬فإن درء هذه المفاس���د‬

‫ش���خصا‬ ‫ي���رى الحق أبل���ج‪ ،‬إال إذا كان صاحب هوى متبع أو‬ ‫ً‬

‫عو ًنا على نش���ر قيم الوحدة الواجبة بمقتضى الفقه الهاروني‪،‬‬

‫االنحراف���ات العقدية أو الس���لوكية‬ ‫ش���رطا ف���ي انخراطهم في‬ ‫ً‬

‫ال‪ ،‬وقد يف���وت مصالح‬ ‫مانع���ا م���ن موان���ع تحقيق الوح���دة أص ً‬ ‫ً‬ ‫والك���وارث ال يت���م إال بنش���ر ثقاف���ة الوحدة‪ ،‬ومعل���وم أن درء‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2012 )33‬‬

‫‪60‬‬

‫األمة وينتشر الحوار‪ ،‬وهذا يفضي إلى التناصح والتعاون على‬ ‫لبي���ان أخط���اء االنحراف���ات العقدي���ة والس���لوكية وأخطاره���ا‬

‫متمسكا بأخطائه وانحرافاته وهو‬ ‫يستحيل على المرء أن يبقى‬ ‫ً‬

‫مأجورا لنشر الشرك‪ .‬أما في ظل الفرقة والتمزق وتغذية ثقافة‬ ‫ً‬

‫الكراهي���ة واالنقس���ام‪ ،‬فإن العقل يتراجع عن حكمته‪ ،‬ويس���ود‬


‫جدي���د مقابل أق���وال قديمة‪ ،‬أو وضع مصلح���ة التوحيد مقابل‬ ‫مصلح���ة الوح���دة‪ ،‬وإنم���ا يتعلق األم���ر بالدعوة إل���ى تدبر هذا‬ ‫الموقف الهاروني‪ ،‬واس���تخالص المبادئ المسعفة في تعامل‬ ‫العرب والمسلمين اليوم مع حلم الوحدة ‪-‬إن بقي هناك حلم‬ ‫أص�ل�ا‪ -‬وكيفية التعام���ل مع واقع الفرق���ة والمذهبية والطائفية‬ ‫ً‬ ‫والحزبية والجماعية‪.‬‬ ‫يق���ول اإلم���ام أبو الحس���ن عل���م الدين الس���خاوي‪" :‬وكان‬ ‫موس���ى ق���د أوصى ه���ارون فق���ال‪ :‬إن رأيت من بني إس���رائيل‬ ‫م���ا ال يس���وغ‪ ،‬فبالغ في اللط���ف ليرجعوا عما ه���م عليه‪ ،‬وإال‬ ‫فالحق بي‪ ،‬فأقبل موسى على السامري فقال‪َ ﴿ :‬ف َما َخ ْط ُب َك َيا‬ ‫َس���ا ِم ِر ُّي﴾(طه‪ ،)95:‬يعني‪ :‬قد اس���تقر عذر أخي ونطق بما يبرئه‪،‬‬ ‫فم���ا خطبك أنت يا س���امري؟"‪ )2(.‬ومؤدى كالم الس���خاوي أن‬ ‫عذرا‬ ‫موسى ‪ ‬استوعب موقف هارون وتعليله‪ ،‬ورضي به ً‬ ‫ال يلزمه تبعات السكوت عن مواجهة الشرك المتفشي‪.‬‬ ‫إن الموقف الهاروني يرسي مبادئ قوية‪ ،‬أساسها أن دعوة‬ ‫الرس���ل ه���ي دعوة وح���دة بالدرجة األولى‪ ،‬وبم���ا أنها كذلك‪،‬‬ ‫فيمك���ن الصب���ر على مظاهر الش���رك هنا وهناك‪ ،‬والس���عي إلى‬ ‫اس���تئصالها‬ ‫تدريجيا‪ ،‬إذ الزمان كفيل بذلك‪ ،‬خاصة مع التنشئة‬ ‫ًّ‬ ‫والتوجي���ه والتربية واإلصالح وذل���ك كله رعاية لوحدة األمة‪.‬‬ ‫والمقص���ود بالصبر هن���ا‪ ،‬المصابرة والمعالج���ة الحكيمة‪ ،‬مثل‬ ‫معالج���ة الطبي���ب لمرض���اه‪ ،‬ولي���س المقص���ود به التج���اوز أو‬ ‫التغاضي أو التساهل‪.‬‬

‫التوحيد والوحدة‬

‫وش���يعا‪،‬‬ ‫أحزابا‬ ‫أم���ا إذا انح���ل عقد الوحدة‪ ،‬وصار آحاد األمة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫تميما‪،‬‬ ‫وأضح���ى من���اط الوالء والبراء ً‬ ‫بك���را أو ً‬ ‫زي���دا أو َع ْم ًرا‪ً ،‬‬ ‫فإن مصير األمة مهدد في استقرارها وأمنها ومعاشها وعالقتها‬ ‫بغيرها‪.‬‬ ‫وواق���ع الح���ال ش���اهد عل���ى ه���ذا ال���ذي تش���ير إلي���ه اآلية‬ ‫الكريم���ة من مالمح "الفقه الهاروني"‪ ،‬فمع أن التوحيد س���ائد‬ ‫ف���ي مجتماعتن���ا العربية واإلس�ل�امية‪ ،‬على األق���ل في صفوف‬ ‫المسلمين الموحدين من أهل سنة محمد صلى اهلل عليه وعلى‬ ‫آل���ه وس���لم وهديه وملته‪ ،‬ف���إن الوحدة مغيب���ة‪ ،‬وثقافة الوحدة‬ ‫مه���ددة‪ ،‬وس���لوك الوح���دة ضام���ر‪ ،‬ومناه���ج تحقي���ق الوح���دة‬ ‫مفتقدة‪ ،‬وإنسان الوحدة معتقل‪ ،‬وخلق الوحدة مصادر‪.‬‬ ‫إن الواق���ع المعاصر للمس���لمين يؤكد أن الس���ياق الحالي‪،‬‬ ‫من المفترض أن يكون سياق تركيز ثقافي وتربوي واجتماعي‬

‫وسياس���ي وفني على قيمة الوحدة وأهميتها وضرورتها‪ .‬ومن‬ ‫كثي���را‪ -‬على‬ ‫قلي�ل�ا أو‬‫أج���ل تحقي���ق ذل���ك‪ ،‬البد م���ن الصبر‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫كوارث الش���رك واالنحرافات العقدي���ة‪ ،‬التي ال يقلل أحد من‬ ‫خطورتها وفسادها ومقت تعاليم القرآن والسنة النبوية لها‪.‬‬ ‫ومم���ا يعط���ي للفق���ه الهارون���ي في مس���ألة الوح���دة ُبعدها‬ ‫اإلس���تراتيجي‪ ،‬أن حرك���ة األم���ة ف���ي خ���ط تناقضي م���ع حركة‬ ‫يوميا‪،‬‬ ‫انتشارا لثقافة الوحدة وقيمها‬ ‫ً‬ ‫تاريخ األمم‪ ،‬فنحن نشهد ًّ‬ ‫ومصالحها بالدول الغربية‪ ،‬مما أوصلهم إلى تكتالت سياسية‬ ‫واقتصادية وحضارية قوية‪ ،‬بينما تزداد األمة العربية اإلسالمية‬ ‫تمز ًقا وفرقة وخال ًفا ينذر بتفريخ دويالت هنا وهناك‪.‬‬

‫ثقافة الوحدة‬

‫ب���ل إن المتأم���ل ف���ي األح���وال الداخلية ل���كل دول���ة عربية أو‬ ‫إس�ل�امية‪ ،‬يالح���ظ أن ثقافة الوحدة تتراجع بش���كل رهيب في‬ ‫صفوف من يحملون مش���اريع النهضة اإلس�ل�امية‪ ،‬ومن يضع‬ ‫ال كبي���رة في الخ���روج بأمتهم من‬ ‫عليه���م‬ ‫متن���ورو بلدانه���م آما ً‬ ‫ّ‬ ‫مهاوي التخلف واالس���تبداد والجهل‪ .‬فالخطاب الس���ائد ‪-‬إال‬ ‫م���ا ن���در‪ -‬هو خط���اب الفرق���ة والخ�ل�اف وتب���ادل االتهامات‪،‬‬ ‫وتهمي���ش أصوات الوحدة والتآلف والتقارب‪ ،‬وقلما نجد من‬ ‫ِيل َول َْم‬ ‫يت َأ ْن َت ُقولَ َف َّر ْق َت َب ْي َن َبنِي ِإ ْس َرائ َ‬ ‫يرفع شعار ﴿ ِإ ِّني َخشِ ُ‬ ‫َت ْر ُق ْب َق ْولِي﴾(طه‪.)94:‬‬ ‫إن الفق���ه الهاروني في مس���ألة الوحدة يه���دي إلى المبادئ‬ ‫اآلتية‪:‬‬ ‫‪ -1‬الوح���دة واجب���ة ومرعي���ة‪ ،‬ب���ل إنه���ا تدخ���ل ضم���ن‬ ‫الكلي���ات األساس���ية ف���ي الق���رآن الكريم وش���ريعته الس���محة‪،‬‬ ‫وذل���ك أن اس���تقراء المف���ردات القرآنية الدالة عل���ى "الوحدة"‬ ‫م���ن مثل "اعتصم" و"حبل اهلل"‪ ،‬وم���ا يناقضها من مثل "تفرق"‬ ‫و"اختل���ف" و"تنازع"‪ ،‬يدعم وجوب الوح���دة وتكليف الناس‬ ‫به���ا وحمله���م عل���ى تحقيقها والس���عي إليها عب���ر تقوية فرص‬ ‫الوح���دة وإضعاف ف���رص الفرق���ة ونوازعه���ا ومذاهبها‪ .‬يقول‬ ‫﴿و ْاع َت ِصموا ب َِحب ِل ا ِ‬ ‫هلل ج ِميع���ا و‬ ‫ال َت َفر ُقوا َو ْاذ ُك ُروا‬ ‫الح���ق ‪َ :‬‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ ً َ َ َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫���ن ُق ُلوب ُِك ْم َف َأ ْص َب ْح ُت ْم‬ ‫���م َأ ْع َد ًاء َف َأ َّل َ‬ ‫ف َب ْي َ‬ ‫���م إ ِْذ ُك ْن ُت ْ‬ ‫ن ْع َم��� َة اهلل َع َل ْي ُك ْ‬ ‫ِب ِن ْع َم ِت��� ِه إ ِْخ َوا ًنا﴾(آل عمران‪ ،)103:‬ويقول تعالى‪﴿ :‬إِن ال ِذ‬ ‫ين َفر ُقوا‬ ‫َّ َّ َ َّ‬ ‫���ت ِم ْن ُه ْم ِفي َشي ٍء﴾(األنعام‪ ،)159:‬ويقول‬ ‫ِد َين ُه ْم َو َكا ُنوا ِش َ���ي ًعا َل ْس َ‬ ‫ْ‬ ‫���ن َب ْع ِد َما‬ ‫﴿و َ‬ ‫ي���ن َت َف َّر ُق���وا َو ْ‬ ‫ال َت ُكو ُن���وا َكا َّل ِذ َ‬ ‫اخ َت َل ُفوا ِم ْ‬ ‫س���بحانه‪َ :‬‬ ‫���ات﴾(آل عم���ران‪ ،)105:‬ويق���ول‪َ ﴿ :‬ف َت َق َّط ُع���وا َأ ْم َر ُه ْم‬ ‫���م ا ْل َب ِّي َن ُ‬ ‫َج َاء ُه ُ‬ ‫ون﴾(المؤمنون‪ ،)53:‬ويحذر‬ ‫���م ُز ُب ًرا ُكلُّ ِح ْز ٍب ب َِما َل َد ْيهِ ْم َف ِر ُح َ‬ ‫َب ْي َن ُه ْ‬

‫‪59‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2012 )33‬‬


‫التش���ريع‪ .‬يقول الش���يخ محمد الغزالي‪:‬‬ ‫"ول���و أنن���ا تأملنا ف���ي القص���ص القرآني‬ ‫أحكام���ا كم���ا نس���تمد‬ ‫واس���تفدنا من���ه‬ ‫ً‬ ‫األح���كام م���ن آي���ة الوض���وء أو الغس���ل‬ ‫واس���تفادة األحكام من الواقع العملي‬‫ف���ي تاريخ البش���رية أهم وأج���در‪ ،‬ألنها‬ ‫عام���ة وألنه���ا تتصل بس���نن حضارية ال‬ ‫تختلف‪ -‬كانت األمة اإلسالمية ال تقبل‬ ‫(‪)1‬‬ ‫أبدا"‪.‬‬ ‫دنية ً‬ ‫وإذا كان���ت األمثل���ة كثي���رة‪ ،‬فيمكن‬ ‫االقتص���ار هنا‪ ،‬على نموذج يمثل أهمية‬ ‫التعامل مع القص���ص القرآني باعتبارها‬ ‫واردة للتش���ريع‪ ،‬مثله���ا ف���ي ذل���ك مث���ل‬ ‫آيات األحكام سواء بسواء‪.‬‬

‫الفق��ه اله��اروين‪ ،‬هو ال��ذي يعطي‬ ‫مفهوم��ا �آخ��ر غ�ير مفهوم‬ ‫للأم��ة‬ ‫ً‬ ‫التكتل �أو التجمه��ر الظاهر حول‬ ‫�أوه��ام وطني��ة �أو ديني��ة �أو قومية‪،‬‬ ‫مبعن��ى �أن قيم��ة التكت��ل اجلمع��ي‬ ‫تكم��ن يف التنادي م��ن �أجل دعم‬ ‫مب��ادئ الوح��دة املتج��اوزة لكل‬ ‫ن��زوع �سلب��ي‪ ،‬و�أن �أي مي��ل نحو‬ ‫التن��ازع والتداب��ر والتناح��ر‪� ،‬إمنا‬ ‫ه��و ��ضرب يف قيمة ذل��ك التكتل‬ ‫و�إ�ضعاف ملكانته‪.‬‬

‫خالص���ا في نف���وس بني‬ ‫يبق���ى التوحي���د‬ ‫ً‬

‫إس���رائيل‪ ،‬وجعله مناط ال���والء والبراء‪،‬‬

‫وم���ن ث���م كان تنبيهه له���ارون ‪ ‬على‬ ‫أن الواج���ب‪ ،‬وف���ق ه���ذا االعتب���ار‪ ،‬كان‬ ‫يقتض���ي من���ه أن يت���رك الس���واد الذي���ن‬

‫انخدعوا بعجل الس���امري‪ ،‬وأن يفارقهم‬

‫ه���و وم���ن بق���ي فيه���م م���ن الموحدي���ن‬

‫ويلحقوا بموسى ‪.‬‬

‫بينم���ا اتجه تقدير هارون ‪ ‬وجهة‬

‫مغاي���رة‪ ،‬فهو يؤمن ب���أن الوحدة ‪-‬وحدة‬

‫بن���ي إس���رائيل‪ -‬ال تقل خط���ورة وأهمية‬

‫ع���ن التوحي���د‪ ،‬إذ كالهما معتبر وواج���ب‪ ،‬ومن ثم فقد ترجح‬

‫معاناة موسى وهارون‬

‫تشع من خالل سرد قصة موسى ‪ ‬مع قومه‪ ،‬معاني الصبر‬ ‫على األذى وتحمل تبعات الدعوة إلى اهلل والصمود في وجه‬ ‫االفت���راءات‪ ،‬وكلها معان تدخل في مس���مى االعتبار‪ .‬لكن لم‬ ‫يتم االلتفات إلى مسألة في غاية األهمية‪ ،‬وهي أن تلك القصة‬ ‫تق���دم مبادئ في التش���ريع العام لألمة‪ ،‬يتمث���ل ذلك في اعتبار‬ ‫التوحيد والوحدة معادلة يتعين رعايتهما وصيانتهما‪ ،‬ومن ثم‪،‬‬ ‫وجوب���ا وأهمية عن مبدأ رعاية‬ ‫ف���إن أم���ر رعاية الوحدة ال يقل‬ ‫ً‬ ‫التوحيد الذي قامت عليه السموات واألرض‪.‬‬ ‫وسى ِإ َلى‬ ‫يقول القرآن الكريم في هذا الس���ياق‪َ ﴿ :‬ف َر َج َع ُم َ‬ ‫���ال َيا َق ْو ِم َأ َل ْم َي ِع ْد ُك ْم َر ُّب ُك ْم َو ْع ًدا َح َس ً���نا‬ ‫ان َأ ِس��� ًفا َق َ‬ ‫َق ْو ِم ِه َغ ْض َب َ‬ ‫ال َع َل ْي ُك ُم ا ْل َع ْه ُد َأ ْم َأ َر ْد ُت ْم َأ ْن َي ِح َّل َع َل ْي ُك ْم َغ َض ٌب ِم ْن َر ِّب ُك ْم‬ ‫َأ َف َط َ‬ ‫َف َأ ْخ َل ْف ُت���م َمو ِع ِ‬ ‫���دي ‪َ ‬قا ُل���وا َما َأ ْخ َل ْف َن���ا َم ْو ِع َدكَ ب َِم ْل ِك َن���ا َو َل ِك َّنا‬ ‫ْ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اها َف َك َذ ِل َك َ​َ‬ ‫زِ‬ ‫الس���ا ِم ِر ُّي‬ ‫ى‬ ‫ق‬ ‫ل‬ ‫أ‬ ‫ن‬ ‫ف‬ ‫ذ‬ ‫ق‬ ‫ف‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫ق‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ة‬ ‫ين‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ا‬ ‫ار‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُح ِّم ْل َن���ا َأ ْو َز ً ْ َ َ ْ ِ َ َ ْ َ َ‬ ‫َّ‬ ‫‪َ ‬‬ ‫���ذا ِإ َل ُه ُك ْم َو ِإ َل ُه‬ ‫���دا َل ُه ُخ َو ٌار َف َقا ُلوا َه َ‬ ‫���ر َج َل ُه ْم ِع ْج ً‬ ‫ال َج َس ً‬ ‫َفأ ْخ َ‬ ‫ال َي ْم ِل ُك‬ ‫وس���ى فن ِس‬ ‫ال َو َ‬ ‫���و ً‬ ‫���ر ْو َن َأ َّ‬ ‫���ي ‪َ ‬أ َف َ‬ ‫ُم َ‬ ‫ال َي ْر ِج ُع ِإ َل ْيهِ ْم َق ْ‬ ‫ال َي َ‬ ‫َ​َ َ‬ ‫���ن َق ْب ُل َيا َق ْو ِم‬ ‫���را َو َ‬ ‫ال َن ْف ًع���ا ‪َ ‬و َل َق ْد َق َ‬ ‫ار ُ‬ ‫ون ِم ْ‬ ‫���ال َل ُه ْم َه ُ‬ ‫���م َض ًّ‬ ‫َل ُه ْ‬ ‫طيعوا َأم ِري ‪‬‬ ‫ِإ َّن َم���ا ُف ِت ْن ُت ْم بِ��� ِه وإِن ربكم‬ ‫الر ْح َم ُن َف َّاتب ُِعو ِن���ي َو َأ ِ ُ ْ‬ ‫َ َّ َ َّ ُ ُ َّ‬ ‫َقا ُلوا َل ْن َنبر َح َع َلي ِه َع ِ‬ ‫ال َيا‬ ‫وس���ى ‪َ ‬ق َ‬ ‫اك ِف َ‬ ‫ين َح َّتى َي ْر ِج َع ِإ َل ْي َنا ُم َ‬ ‫ْ‬ ‫َْ‬ ‫‪‬‬ ‫ال َت َّتب َِعن َأ ِ َف َع َص ْي َت َأ ْم ِري‬ ‫ون َما َم َن َع َك إ ِْذ َر َأ ْي َت ُه ْم َضلُّوا َأ َّ‬ ‫���ار ُ‬ ‫َه ُ‬ ‫���يت َأ ْن‬ ‫ال َت ْأ ُخ ْذ ِب ِل ْح َي ِتي َو َ‬ ‫ال َيا ْاب َن ُأ َّم َ‬ ‫‪َ ‬ق َ‬ ‫ال ب َِر ْأ ِس���ي ِإ ِّني َخ ِش ُ‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2012 )33‬‬

‫يل َو َل ْم َت ْر ُق ْب‬ ‫َت ُق َ‬ ‫ول َف َّر ْق َت َب ْي َن َب ِني إ ِْس َرا ِئ َ‬ ‫َق ْو ِلي﴾(طه‪.)94-86:‬‬ ‫لق���د ح���رص موس���ى ‪ ‬عل���ى أن‬

‫‪58‬‬

‫لديه أن الوضع الذي هو فيه يقتضي إيالء اعتبار للوحدة‪ ،‬مع‬ ‫إنكار ظواهر الشرك ونقدها‪ ،‬ومن ثم فلم يغادر موقفه‪ ،‬وبقي‬

‫صامدا هو وجماعة الموحدين إلى أن عاد موسى ‪‬‬ ‫صابرا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫من ميقات ربه ‪.‬‬

‫كثيرا وهو يتعامل مع‬ ‫وم���ن المؤكد أن هارون ‪ ‬عان���ى ً‬

‫ه���ذه المعادل���ة الصعبة أثناء غياب موس���ى ‪ ،‬طرفها األول‬ ‫الح���رص عل���ى التوحيد‪ ،‬وطرفها الثان���ي الحرص على وحدة‬

‫بني إس���رائيل‪ ،‬ومن ثم فقد كان جوابه ألخيه موس���ى يستبطن‬ ‫���يت َأ ْن‬ ‫كل معان���ي الح���رص واليقظ���ة والحكم���ة‪ِ ﴿ :‬إ ِّن���ي َخ ِش ُ‬ ‫ِ‬ ‫يل َو َل ْم َت ْر ُق ْب َق ْو ِلي﴾(طه‪ ،)94:‬فعلة‬ ‫َت ُق َ‬ ‫���را ِئ َ‬ ‫ول َف َّر ْق َت َب ْي َن َبني إ ِْس َ‬ ‫صب���ر ه���ارون وعدم تحريض���ه للموحدين على مفارقة س���واد‬

‫بني إس���رائيل الواقعين في ش���رك عبادة العجل‪ ،‬راجع إلى أنه‬ ‫حريص على بقاء وحدة األمة‪.‬‬

‫وقعا في العديد من اإلش���كاالت‪،‬‬ ‫قد يب���دو هذا التحليل ُم ً‬

‫لع���ل أولها ع���دم جواز القفز عل���ى المق���ررات العقائدية لدى‬ ‫األم���ة م���ن وج���وب الحفاظ عل���ى التوحيد‪ ،‬ورف���ض مختلف‬

‫أش���كال الش���رك‪ ،‬صغيره���ا وكبيرها‪ ،‬ظاهره���ا وباطنها‪ ،‬بل قد‬ ‫"بدعيا" في معالجته‪ ،‬ألنه منش���ىء لس���ياق ثقافي ونفسي‬ ‫يبدو‬ ‫ًّ‬

‫قد يوقع في التس���اهل مع أمر الش���رك وانتشاره‪ ،‬وقد يهون من‬ ‫أمر التحذيرات القرآنية والنبوية تجاه الشرك والمشركين‪.‬‬

‫والحقيق���ة أن القضي���ة أكبر من ذل���ك‪ ،‬إذ ال تعلق لها بقول‬


‫قضايا فكرية‬

‫د‪ .‬محمد إقبال عروي*‬

‫نحو تأصيل‬

‫الفقه الهاروني‬

‫في قضية الوحدة‬ ‫غل���ب عل���ى خط���اب المفس���رين والعلم���اء‬ ‫قديم���ا وحدي ًث���ا‪ -‬اعتب���ار القص���ص القرآن���ي‬‫ً‬ ‫واردا م���ن أج���ل العظ���ة واالعتب���ار‪ ،‬وكادوا‬ ‫ً‬ ‫يحصرون���ه ف���ي هذه الغاي���ات التربوية‪ ،‬بينما يه���دي التأمل في‬ ‫طبيع���ة القصص القرآني‪ ،‬وعالقتها بس���ياقاتها القريبة والبعيدة‬ ‫داخل الس���ورة وداخ���ل المنظومة الفكري���ة والحضارية للقرآن‬ ‫الكري���م‪ ،‬إل���ى أن القصص ال يقتصر في ال���ورود القرآني على‬ ‫غاي���ات العظة واالعتب���ار‪ ،‬وإنما يرد للتش���ريع‪ ،‬وتقديم أحكام‬ ‫تفيد في صياغة كليات القوانين والتش���ريعات التي تهدي حياة‬ ‫الناس والمجتمعات في عالقاتها الفردية والجماعية‪.‬‬ ‫ولقد س���اق هذا المنهج في التعامل م���ع القصص القرآني‬ ‫إل���ى ضم���ور العديد من المب���ادئ التش���ريعية‪ .‬والواقع أن حل‬ ‫هذا اإلشكال الخطير في عالقة المسلمين بالقصص القرآني‪،‬‬ ‫يحت���اج من الوجهة المنهجية إلى إعادة النظر في مفاهيم؛ مثل‬ ‫اس���تنباط األح���كام‪ ،‬وآيات األحكام‪ ،‬وأس���اليب التش���ريع في‬ ‫القرآن الكريم‪.‬‬ ‫فقد توهم كثيرون بأن التش���ريع يستمد من آيات األحكام‪،‬‬ ‫وأن األحكام التش���ريعية البد أن ترد في صيغ األمر المعهودة‬ ‫وأس���اليب التوجي���ه المعروف���ة مم���ا أث���ر عل���ى حرك���ة التدوين‬ ‫مركزا‬ ‫مهتما بآي���ات األحكام‬ ‫التش���ريعي‪ ،‬فجاء عط���اء العلماء‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫على تفاصيل األوامر والنواهي‪ ،‬ولم يتجاوز ذلك إلى استنباط‬ ‫كثي���ر من األح���كام الكلية المرتبطة بأمهات القضايا السياس���ية‬ ‫والدولي���ة من القص���ص القرآني‪ .‬ولو فعل���وا ذلك ألبانت لهم‬ ‫وقفاته���م مع القص���ص القرآني عن مصادر خصبة في فلس���فة‬

‫‪57‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2012 )33‬‬


‫﴿و َأ ْن َز ْل َن���ا ا ْل َح ِد َ ِ ِ‬ ‫س‬ ‫وحي���ن يذك���ر اهلل الحدي���د يق���ول‪َ :‬‬ ‫يد في���ه َب ْأ ٌ‬ ‫َش ِ‬ ‫غالبا في‬ ‫���د ٌ‬ ‫يد﴾(الحديد‪ )25:‬وليس في ذلك مدح‪ ،‬ألنه يوظف ً‬ ‫البغي والظلم واالعتداء‪.‬‬ ‫﴿و َم َنا ِف ُع ِل َّلن ِ ِ‬ ‫هلل َم ْن َي ْن ُص ُر ُه‬ ‫���م ا ُ‬ ‫بينم���ا عقب بقول���ه‪َ :‬‬ ‫اس َول َي ْع َل َ‬ ‫َو ُر ُس��� َل ُه بِا ْل َغ ْي ِب﴾(الحدي���د‪ ،)25:‬ف���كأن م���ا قبل���ه لي���س في���ه مناف���ع‬ ‫رِز ًقا‬ ‫ون ِم ْن ُه َس َ‬ ‫للن���اس‪ ،‬كم���ا في اآلية األخ���رى‪َ ﴿ :‬ت َّت ِخ ُ‬ ‫���ذ َ‬ ‫���ك ًرا َو ْ‬ ‫َح َس ً���نا﴾(النحل‪ ،)67:‬فالس���ياق يش���ي بأن الس���كر ليس من الرزق‬ ‫الحسن‪.‬‬

‫حت���ى س���يرة س���يدنا محم���د ‪ ‬اختصرناها ف���ي المغازي‪،‬‬

‫ال فحسب‪ .‬أو ليس‬ ‫سماها "المغازي" وكأنها كانت قتا ً‬ ‫وبعضنا ّ‬

‫محظورا عليه وعلى‬ ‫النبي ‪ ‬مكث في مكة ثالث عشرة سنة‬ ‫ً‬ ‫أتباع���ه المؤمنين حت���ى الدفاع عن النف���س‪ ،‬ليتجردوا من حظ‬ ‫نفس���يا‪ ،‬وليتمكنوا من تحصيل الش���روط‬ ‫النفس واالنتصار لها‬ ‫ًّ‬

‫الموضوعية والذاتية‪ ،‬وليس���تنفدوا الوس���ائل السلمية الممكنة‪،‬‬ ‫ث���م كان���ت حي���اة المدين���ة مليئ���ة بالمناش���ط الحيوية ف���ي البناء‬

‫والتجارة والمؤاخاة والتعليم والدعوة والمصالحات الواس���عة‬ ‫والعالقات اإلنس���انية مع المجاورين حت���ى اضمحلت الوثنية‬

‫دون قتال ومات النفاق؟!‬

‫حتى أول مواجهة مع الش���رك لم يكن المسلمون يحبونها‬ ‫ون َأ َّن‬ ‫قدرا‬ ‫﴿و َت َو ُّد َ‬ ‫مقدورا‪َ :‬‬ ‫ً‬ ‫وال يتطلع���ون إليها‪ ،‬ولكنها كانت ً‬ ‫َغير َذ ِ‬ ‫ون َل ُك ْم﴾(األنفال‪.)7:‬‬ ‫الش ْو َك ِة َت ُك ُ‬ ‫ات َّ‬ ‫َْ‬

‫أسلوبا‬ ‫فيا سبحان اهلل! هذا االنحياز لعسكرة الحياة‪ ،‬أصبح‬ ‫ً‬

‫م���ا ال ي���دري س���واه‪ ...‬وأصبح الم���رء ال يتنف���س إال وفق أطر‬

‫"هامش���ا" وصار االس���تحواذ هو‬ ‫مح���ددة‪ ،‬لق���د صارت الحرية‬ ‫ً‬

‫"المت���ن"‪ ،‬بينم���ا المنط���ق أن يك���ون المتن هو الحري���ة‪ ،‬ويكون‬ ‫الهام���ش هو الضابط والش���رط الذي البد من���ه لتصبح الحرية‬ ‫قيمة اجتماعية وشرعية صحيحة‪.‬‬

‫حي���ن نفك���ر في إص�ل�اح أحوال األم���ة عبر التاري���خ‪ ،‬يتبادر‬

‫إلى ذهننا القواد العس���كريون‪ ،‬واالنتصارات العس���كرية وكأنها‬ ‫ه���ي الت���ي صنع���ت األم���ة‪ .‬أم���ا الق���واد العلمي���ون والتربوي���ون‬

‫واإلصالحيون فكأنه ال وجود لهم في عقولنا وال تاريخنا حين‬ ‫نفك���ر بمعالج���ة اإلخفاقات‪ ...‬ولذا فكل فتى من���ا مهموم بآالم‬ ‫األم���ة يفك���ر أن يكون "ص�ل�اح الدين"‪ ،‬وال يفك���ر أن يكون هو‬ ‫الشافعي أو مالك أو أحمد أو ابن تيمية أو ابن حجر أو النووي‬

‫أو ابن النفيس أو ابن الهيثم أو المبدع أو العالم المتخصص‪...‬‬ ‫ألس���نا نفكر بطريقة انتقائية ونتعامل مع الحياة على أنها معركة‬

‫عسكرية الذي يفوز فيها يحصل على كل ما يريد؟‬

‫حي���ن نتح���دث ع���ن التأثي���رات األجنبي���ة‪ ،‬نش���ير إل���ى قادة‬

‫الح���روب والمع���ارك ضدن���ا أو الحروب والمع���ارك العالمية‪،‬‬

‫وننس���ى صانعي الس���يارة وتأثيره���م الهائل في الحي���اة الفردية‬

‫والمدني���ة والعم���ارة والعالق���ات والعب���ادات‪ ،‬وننس���ى صانعي‬ ‫الهاتف وتأثيرهم الضخم في حياة اإلنس���انية‪ ،‬وننس���ى صانعي‬

‫جرا‪.‬‬ ‫المطبعة أو التلفاز‪...‬‬ ‫وهلم ًّ‬ ‫ّ‬

‫ه���ذا جع���ل الكثي���ر منا يتخل���ون عن أدواره���م اإلصالحية‬

‫ف���ي التفاع���ل مع أوالدن���ا وأزواجنا في األوام���ر و"الفرمانات"‬

‫سبِب في انخراط الدول اإلسالمية‬ ‫بانتظار مفاجأة عسكرية‪ ،‬و ُت ّ‬

‫التش���ديد والتهديد‪ ،‬وتالش���ت عنها عالق���ة الحميمية والعالقة‬

‫وثب���ورا‪ .‬وربم���ا العقالء الذين ال يؤمنون بج���دوى المغامرات‬ ‫ً‬

‫الت���ي ال تقبل المراجعة‪ ،‬وفي مدارس���نا التي غلب عليها طابع‬ ‫مس���تديما‪،‬‬ ‫الودي���ة بي���ن الطالب والمبن���ى الذي يش���هد عدوا ًنا‬ ‫ً‬ ‫والمعلم الذي قد يجد نفسه منسا ًقا بحكم تأثير البيئة التعليمية‬ ‫للغ���ة األمر الص���ارم والرقابة ويفق���ده بعض صواب���ه‪ ،‬والمدير‬

‫تعين عليه في نهاية المطاف أن يكون قائد ثكنة‪..‬‬ ‫الذي ّ‬

‫لمام���ا‪ ،‬وحت���ى اللق���اء نتيجة‬ ‫واألس���رة الت���ي ال تلتق���ي إال ً‬

‫مؤقتا عن‬ ‫أوامر صريحة وصراخ مس���تمر م���ن األبوين للتخلي ً‬ ‫بعضا‪..‬‬ ‫وقتا‬ ‫وجيزا ليرى بعضنا ً‬ ‫ً‬ ‫الالبتوب أو الشاشة ً‬

‫والسياس���ة الت���ي ظللتن���ا بال���روح األبوي���ة المهيمن���ة وكأن‬

‫اإلنس���ان غير قادر على معرفة مصالحه إال بواس���طة من يفكر‬ ‫وصيا عليه‪ ،‬وهو يدري من أبعاد األمور وخفاياها‬ ‫عنه ويكون‬ ‫ًّ‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2012 )33‬‬

‫‪56‬‬

‫والعربية في حقبة مضت في انقالبات عس���كرية زادتها تخل ًفا‬

‫المرتجل���ة‪ ،‬قام���وا إلى العزل���ة واالنكفاء‪ ،‬وتمن���وا في داخلهم‬ ‫"ظهور العادل المتغلب"‪.‬‬

‫أما ذلك المجهود الس���هل المنس���جم م���ع فطرتي وقدرتي‬

‫والذي ال ألمس أثره المباشر اآلن‪ ،‬ولكن يقال لي‪ :‬إنه مجهود‬

‫مؤثر‪ ،‬وإن السيل من نقطة‪ ،‬ومعظم النار من مستصغر الشرر‪،‬‬ ‫فالكثي���رون يش���ككون ف���ي مصداقيت���ه ويحاول���ون إقناعي بأنه‬

‫يذهب أدراج الرياح‪.‬‬

‫وهكذا أصبحنا أغلبي ًة س���اكنة س���اكتة غير فاعلة وال مؤثرة‬

‫بملء إرادتنا وقناعتنا‪ ،‬فهل إلى رجوع من سبيل!؟‬ ‫(*) عالم ومفكر وداعية ‪ /‬المملكة العربية السعودية‪.‬‬


‫قضايا فكرية‬

‫د‪ .‬سلمان العودة*‬

‫عسكرة الحياة‬ ‫كثي���را م���ن المخلصي���ن ي���دور ف���ي‬ ‫وج���دت‬ ‫ً‬

‫فأثمن سلعة وأعظم ثروة هي "سلعة المعرفة" التي يرجع إليها‬

‫والرقي يتلخص في كلمة واحدة هي "القوة"‪،‬‬

‫تراكميا في العقل والوجدان‪،‬‬ ‫تأثيرا‬ ‫ًّ‬ ‫إن قوة اإلعالم ُتحدث ً‬

‫رؤوس���هم وأحاديثه���م‪ ،‬أن مفت���اح النهض���ة‬

‫وأن القوة تتلخص في كلمة واحدة هي "السالح المادي"‪ ،‬فهو‬ ‫كلمة السر التي بها هزمنا وعلى وقع تحصيلها ننتصر‪.‬‬

‫وتغ ّل���ب عدون���ا علينا هو به���ذا النمط الخ���اص من القوة‪،‬‬

‫وأمجادن���ا التاريخي���ة ه���ي من هذا الب���اب‪ ،‬ومس���تقبلنا مرهون‬

‫بامتالكها‪.‬‬

‫وامت���د ه���ذا إل���ى لغتن���ا المجازية فص���ارت كلم���ة "جيش"‬

‫و"س�ل�اح" و"قت���ال" تتردد على ألس���نتنا‪ ،‬فأمضى "س�ل�اح" هو‬

‫الكلمة‪ ،‬ونح���ن "جيش" من المنهزمين‪ ،‬وقد أصبحت "أقاتل"‬ ‫من أجل هذا الموضوع‪.‬‬

‫أثرا‪ ،‬وأنها تنخر في‬ ‫ونسينا أن "القوة الناعمة" أخطر وأبعد ً‬

‫عظام األجي���ال وتتخلل عقولهم وأخالقهم وس���لوكهم ببطء‪،‬‬

‫وتأثيرها أكيد وبدون مقاومة‪.‬‬

‫ونسينا "قوة المعرفة" التي أصبحت هي ميزان الثقل اليوم‪،‬‬

‫نحو ‪ %50‬من ثروات الدول المتقدمة‪.‬‬

‫يتح���ول إلى س���لوك ع���ن قناعة وحب‪ ،‬وهو أخط���ر من الدبابة‬ ‫والصاروخ والقنبلة حتى لو كانت القنبلة النووية‪.‬‬

‫عس���كريا وتنتصر بقيمك وأخالق���ك وإصرارك‬ ‫قد تنه���زم‬ ‫ًّ‬

‫عس���كريا ولكنك ال تحس���ن توظيف‬ ‫على مبدئك‪ ،‬وقد تنتصر‬ ‫ًّ‬

‫هذا االنتصار‪.‬‬

‫وجدت في القرآن الكريم االمتنان على الناس بتحصينهم‬

‫من آثار الس�ل�اح المدمر الذي هو "بأس" اإلنس���ان ضد أخيه‪:‬‬ ‫���وس َل ُك ِ ِ‬ ‫���ك ْم َف َه ْل‬ ‫���ن َب ْأ ِس ُ‬ ‫���اه َص ْن َع��� َة َل ُب ٍ‬ ‫���م ِم ْ‬ ‫﴿و َع َّل ْم َن ُ‬ ‫َ‬ ‫���م ل ُت ْحص َن ُك ْ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ون﴾(األنبياء‪ ،)80:‬فهذا نب���ي اهلل داود ‪ ‬يعلمه ربه‬ ‫���م َش���اك ُر َ‬ ‫أ ْن ُت ْ‬ ‫صنعة الدروع الس���ابغات والخوذات وغيرها‪ ،‬مما يتحصن به‬ ‫اإلنس���ان ضد الس�ل�اح الفتاك‪َ ﴿ :‬أ ِن ْاعم ْل س���اب َِغ ٍ‬ ‫ات َو َق ِّد ْر ِفي‬ ‫َ َ‬ ‫﴿و َج َع َل‬ ‫���ر ِد َو ْاع َم ُلوا َصا ِل ًحا﴾(س���بأ‪ ،)11:‬وفي موضع آخر‪َ :‬‬ ‫الس ْ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫يك ْم َبأ َس ُك ْم﴾(النحل‪،)81:‬‬ ‫ِيل َتق ُ‬ ‫ِيل َتق ُ‬ ‫���راب َ‬ ‫���راب َ‬ ‫يك ُم ا ْل َح َّر َو َس َ‬ ‫َل ُك ْم َس َ‬

‫‪55‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2012 )33‬‬


‫شعر‬

‫أ‪.‬د‪ .‬محمد عالم نختر*‬

‫بشرى قدوم محمد ‪‬‬ ‫بش � � ��رى قدوم محمد لنس � � ��ائم‬ ‫كل النب � � ��ي أذاع � � ��ه متتابع � � ��ا‬ ‫فالخل � � ��ق منتظ � � ��ر ل � � ��ه متوات� � � �را‬ ‫ببش � � ��ارة اإلتي � � ��ان فاح � � ��ت كعبة‬ ‫وبها تس � � ��لى الصالحون سعادة‬ ‫طرب � � ��ت بإتي � � ��ان النب � � ��ي عوالم‬ ‫واألرض احتضنت نبيا س � � ��اجدا‬ ‫جب � � ��ل الصفا لمحم � � ��د كالمنبر‬ ‫من � � ��ذ الرس � � ��ول من � � ��ذر متوق � � ��ع‬ ‫هو صار منتظ� � � �راً لخطبة أحمد‬ ‫نش � � ��رت زه � � ��ور عطره � � ��ا بتنوع‬ ‫خجلت زه � � ��ور أن تزور محمداً‬ ‫والب � � ��در يغب � � ��ط ن � � ��وره المتنور‬ ‫ولمرتي � � ��ن م � � ��ؤذن يتش � � ��هد‬ ‫خمس من الصلوات تشهد أحمد‬ ‫أس � � ��مى الخواتم ش � � ��اهد لنبوة‬ ‫هو من له سجد الجماد جميعه‬ ‫ش � � ��جر أظ � � ��ل محم � � ��دا لظالله‬ ‫عرف البحي� � � �را أن أتاهم عاقب‬ ‫صلوا على خي � � ��ر الورى متعاقبا‬

‫من � � ��ذ البداي � � ��ة ص � � ��ار يعلن أدم‬ ‫ذكرت ل � � ��ه باالتض � � ��اح عالئم‬ ‫فبدت وبان � � ��ت للجميع عالئم‬

‫بطحاء مكة للس � � ��عادة باس � � ��م‬ ‫وتقلب � � ��ت للفاجري � � ��ن نظائ � � ��م‬ ‫تم � � ��ت تمام � � ��ا للنبي مراس � � ��م‬ ‫لم تحتضن مث � � ��ل النبي عوالم‬ ‫ولخطب � � ��ة أول � � ��ى له ه � � ��و قائم‬ ‫من للنب � � ��ي من العش � � ��يرة هائم‬ ‫ومن العش � � ��يرة للنبي مس � � ��اهم‬ ‫أي األريج يروق من هو قاس � � ��م‬ ‫فتمثل � � ��ت عن � � ��د النبي ش � � ��مائم‬ ‫م � � ��ن نوره ق � � ��د تس � � ��تنير عوالم‬ ‫فمحمد عند الش � � ��هادة باس � � ��م‬ ‫فعل � � ��ى ش � � ��هادته تغ � � ��ن عوالم‬ ‫في الكون تعجز في المثال خواتم‬ ‫س � � ��جدت له لالحت� � � �رام بهائم‬ ‫وأظله في الش � � ��ام ث � � ��م غمائم‬ ‫وله الش � � ��هادة عن � � ��ده وعالئم‬ ‫صل � � ��وا كما صلى اإلل � � ��ه الدائم‬ ‫(*) المحاضر السابق في بمبي ‪ /‬الهند‪.‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2012 )33‬‬

‫‪54‬‬


‫أس���ري تشيع فيه‬ ‫نظام‬ ‫ّ‬ ‫خلط بين دور الرجل ودور المرأة ع ِق َبه ٌ‬

‫المخ���اوف االقتصادية‪ ،‬وأس���فرت دعوة المرأة إلى العمل عن‬ ‫وج���ود أفراد في ا ُ‬ ‫مس���تعدين لقطع‬ ‫ألس���رة‬ ‫الم���ودة واالنفصال‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬ ‫المادي وإن كانت المشكلة تافهة‪ ..‬فمن هذه الناحية ال ينبغي‬ ‫أن رياح نظرية المس���اواة بي���ن الرجل والمرأة اقتلعت‬ ‫أن ننكر ّ‬ ‫كثي���را من جذور األس���ر‪ ..‬ولق���د أ ّثر اإلعالم عل���ى دور المرأة‬ ‫ً‬

‫الوق���ت المناس���ب‪ -‬ف���ي مش���كالت تق���ع ف���ي الفت���رة ا ُ‬ ‫ألولى‪،‬‬ ‫حل‬ ‫عل���ى أن ُتترك المش���كالت الصغيرة للزمن‪ ..‬وم���ن نتائج ّ‬

‫أن تناقصت‬ ‫المشكالت إبان حدوثها وترك التافه منها للزمن‪ْ ،‬‬ ‫نس���بة الطالق بعد السنوات العشر األولى إلى نصف ما كانت‬

‫عليه في الخمس األولى من الزواج‪.‬‬

‫وع ِر َضت التضحية في س���بيل األسرة على أنها التدخل الخارجي في شؤون األسرة‬ ‫كثيرا‪ُ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫فغير فيه ً‬ ‫س���لوك بسيط ومستوى محدود‪ ،‬وسادت فكرة خاطئة مفادها؛‬ ‫المرأة األمية غير المتعلمة أحسن من المتعلمة المثقفة‪ .‬ولكن‬

‫حيث تنتش���ر العادات والتقاليد‪ ،‬يكثر تأثيرها في حياة األبوين‬

‫حر َج ‪-‬البتة‪ -‬في عيش الجد والجدة في منزل‬ ‫واألبناء‪ ،‬فمثلاً ال َ‬

‫الحقيق���ة أننا ف���ي حاجة إلى امرأة ترى خدم���ة زوجها وأبنائها‬

‫جمة‪ ،‬وبوس���عهم أن يعيش���وا‬ ‫األس���رة‪ ،‬بل َّ‬ ‫إن لوجودهم فوائد َّ‬

‫احترام‪.‬‬

‫بوابة لمش���كالت‬ ‫المف���رط ف���ي الحالة األس���رية‪ ،‬يك���ون بمثابة ّ‬

‫مقد ًس���ا‪ ،‬وتحظى لدى زوجها وأبنائها بما تس���تحقه من‬ ‫واجبا َّ‬ ‫ً‬

‫التدخل مباشرة في مشاكل األسرة‬

‫حي���ث ش���اؤوا في هذا المن���زل أو في غيره‪ ..‬كم���ا أن تدخلهم‬ ‫كبي���رة‪ ..‬وكنا قد ش���بهنا األس���رة بالكائن الح���ي؛ فالمداخالت‬

‫تمر بأوقات عصيبة‪ ،‬ومن المفيد في‬ ‫كل عائلة من الممكن أن ّ‬

‫الت���ي تحدث للكائن‪ ،‬يجب أن تكون إيجابية وداعمة‪ ،‬وهكذا‬

‫فأهم شيء هو وجود‬ ‫المعنوية بأسلوب مهذب‪..‬‬ ‫عن أمراضه‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬

‫‪-‬ال س���يما ما يتعلَّق باألبوين‪ -‬ويتج ّنبوا السلبيات‪ ..‬فما يكون‬

‫باب حقوق الزوجين وواجباتهما‪ ،‬أن يقوم كل منهما بالكشف‬

‫القابلي���ة للكش���ف ع���ن ه���ذه األخط���اء والتعبي���ر عنه���ا بطريقة‬ ‫ج���دا في إصالحه؛‬ ‫مهم ًّ‬ ‫مهذب���ة‪ ..‬فأس���لوب التعبير عن الخطأ ّ‬

‫فاس���تخدام التعبي���رات التي توحي بتجري���م المخاطَ ب واتهامه‬

‫والتهوين من أمره‪ ،‬تزعجه بال شك‪ ،‬فال أحد يرفض المداخلة‬ ‫والنية الحس���نة‪ ..‬إن ح���رص األزواج على‬ ‫البناءة والمس���اعدة ّ‬ ‫مص���ادر الغ���ذاء الروحي‪ ،‬يزيد طمأنينة األس���رة‬ ‫ويق���وي بنيتها‬ ‫ّ‬

‫بأطف���ال ينش���أون ف���ي ه���ذا‬ ‫الجو الروح���ي‪ ،‬ويقي األس���رة من‬ ‫ّ‬ ‫التع ُّلق المفرط بالتلفاز والحاسب اآللي والرسائل الواردة من‬ ‫عوالم أخرى‪ ..‬فالتع ُّلق المفرط بما س���بق‪ُ ،‬يعدِ م هوية األس���رة‬

‫ويغيب الشخصية الروحية لها‪.‬‬ ‫َّ‬

‫أيضا‪،‬‬ ‫ينعك���س ح���زن اإلنس���ان المكتئ���ب عل���ى تصرفات���ه ً‬

‫ِ‬ ‫فالوال���د‪ ،‬كان ًأب���ا أو ًّأم���ا‪ ،‬إذا كان‬ ‫���را أو متوتر‬ ‫ً‬ ‫غضوب���ا أو ضج ً‬

‫األعص���اب‪ ،‬ف���إن تصرفاته ه���ذه تنعكس على األس���رة فتجلب‬

‫لها الحزن واألسى‪ ،‬وها هنا تضطرب عالقات األسرة وتتوتر‬

‫وتخم���د طاقته���ا اإليجابي���ة‪ ..‬وفي ه���ذا الموقف يس���ود القلق‬ ‫والتوت���ر بين أفراد األس���رة‪ ،‬وما إن تمض���ي فترة حتى يتم أخذ‬

‫القرار بالطالق‪..‬‬

‫فنس���بة ‪ %40‬م���ن ح���االت الط�ل�اق‪ ،‬تك���ون في الس���نوات‬

‫فورا ‪-‬وفي‬ ‫الخم���س األولى‪ ،‬وال يحدث الطالق عند التدخل ً‬

‫دائما‬ ‫األس���رة‪ّ ،‬‬ ‫ف���إن على أفراده���ا أن ِّ‬ ‫يقدموا تعليق���ات إيجابية ً‬ ‫بي���ن الزوجي���ن من غيبة أو نميم���ة أو ش���ائعة أو بهتان‪ ،‬يجلب‬

‫مس���تطيرا على األس���رة‪ ،‬فمن الضروري لكل أب وأم أن‬ ‫ش���را‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬ ‫يحبا ابنهما ويفكرا في سعادته‪ ،‬وأن يحرصا عليه ّأيما حرص‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫فيتدخ�ل�ا بطريق���ة إيجابي���ة بع���د زواج���ه إذا ما اقتض���ى األمر‪..‬‬ ‫فالتدخ�ل�ات المفرطة وغير الضروري���ة‪ ،‬تأتي بردود أفعال بعد‬ ‫فترة ما‪ ،‬فيدخل الزوجان في صراع بسبب أهليهم‪.‬‬ ‫يتعين تطبيقه‪َّ ،‬أما‬ ‫خيرا أو ليصمت" هن���ا‪ّ ،‬‬ ‫إن مب���دأ "فليق���ل ً‬

‫يش���تتون األس���رة من أجل إيج���اد زوج أفضل أو زوجة‬ ‫الذي���ن ّ‬ ‫أفضل ألنفس���هم‪ ،‬فإنهم يواجهون مشكالت عصيبة بعد ذلك‪،‬‬ ‫زوجا‬ ‫فاأله���ل الذين يمزقون األس���رة ليحظوا بم���ن هو أفضل ً‬

‫كان أو زوجة‪ ،‬يواجهون مشكالت عصيبة فيما بعد‪ ،‬وسرعان‬ ‫ما تتفكك األسرة بالتدخل الخارجي‪ ،‬وهو من أسباب الطالق‬ ‫المؤسفة‪ ،‬وأحيا ًنا تتفكك األسرة بالقيل والقال‪.‬‬

‫وفي النهاية ال ينبغي أن ُي َّت َخذ قرار الطالق البتة إال بعد أن‬

‫مليا فيما للطالق من عواقب ال تنتهي‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫يفكر الفرد ًّ‬

‫(*) جامعة إسطنبول ‪ /‬تركيا‪ .‬الترجمة عن التركية‪ :‬مصطفى عباس‪.‬‬

‫‪53‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2012 )33‬‬


‫حين���ا‪،‬‬ ‫وتخ���وض ف���ي ص���راع ظاه���ري ً‬

‫حينا آخر‪ ...‬وق���د ينتبه األطفال‬ ‫وخف���ي ً‬

‫ال‬ ‫إل���ى الص���راع الظاهري بس���هولة‪ ،‬فض ً‬ ‫أيضا إلى م���ا يخفى‬ ‫ع���ن أنه���م ينتبه���ون ً‬

‫من مش���اكل وشقاقات بين األسرة‪ ،‬ومع‬ ‫مرور األيام تتو ّلد عند األطفال مش���اكل‬ ‫نفس���ية خطيرة‪ .‬إن المقوم���ات الروحية‬

‫دعما لألس���رة لمواجهة المشاكل‪،‬‬ ‫تم ّثل ً‬ ‫فاألس���رة تشبه البنية السليمة‪ ،‬فإذا كانت‬ ‫صع���ب تفككه���ا‪ ،‬وكان���ت‬ ‫متماس���كة ُ‬ ‫كالبني���ان المرص���وص ال‬ ‫يتص���دع وال‬ ‫َّ‬

‫ينهار بسهولة‪.‬‬

‫وال يفك���ر إال ف���ي مصلحت���ه الخاص���ة‪،‬‬

‫مل َـا كان��ت ِخلقة الرجل تختلف‬ ‫عن امل��ر�أة‪ ،‬اختلف��ت واجبات‬ ‫وحق��وق كلٍّ منهم��ا يف احلي��اة‬ ‫الأ�رسية‪ ..‬فالزوج م�س�ؤول �أمام‬ ‫اهلل و�أمام نف�سه عن �صون عر�ضه‬ ‫و�رشف��ه‪ .‬ف�إذا �أُ ّدي��ت الواجبات‬ ‫واحلق��وق بنية ح�سن��ة يف و�سط‬ ‫يعمه احل��ب واالحرتام‪،‬‬ ‫� ّ‬ ‫أ��سري ّ‬ ‫فل��ن ي�ستاء �أحد من �أح��د �أب ًدا‪.‬‬

‫ف���ي األس���رة‪ ،‬بينما‬ ‫تش���كل األمراض الروحية التي يخس���ر بها‬ ‫ِّ‬

‫الفرد الحياة األبدية‪،‬‬ ‫خطرا على الش���خصية المعنوية لألسرة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وال شك أن أفراد األسرة الذين يقترفون المآثم كشرب الخمر‬ ‫ولع���ب القم���ار والزن���ا‪،‬‬ ‫يس���هلون انفكاك األس���رة‪ .‬وق���د تزداد‬ ‫ّ‬ ‫السلوكيات الس���لبية عندما ال يراعي اإلنسان حقوق اآلخرين‬ ‫وينتهكه���ا‪ ،‬بل إنها تنعكس مع الزم���ن على‬ ‫أقرب َمن يمارس‬ ‫ِ‬

‫ه���ذه الس���لوكيات‪ ...‬وإذا بالروابط األس���رية تضعف‪ ،‬وتتقطع‬ ‫ته���دد األس���رة اليوم هي‬ ‫بع���د فت���رة معين���ة‪ .‬إن المخاط���ر التي ّ‬

‫حرمها ديننا‪ .‬ففي المنزل الذي يش���رب فيه الخمر‬ ‫نفس���ها التي ّ‬

‫‪-‬على س���بيل المثال‪ -‬يش���يع فيه العنف والفقر واالضطرابات‬

‫الس���لوكية‪ ،‬أما من يرتكبون الزنا فإنهم في الحقيقة ال يضرون‬ ‫أه���م القي���م والمب���ادئ‬ ‫إال أنفس���هم‪ ،‬ث���م يفق���دون‬ ‫تدريجيا‪...‬‬ ‫ًّ‬ ‫ّ‬

‫بعب���ارة آخرى إن الذين ي���رون التضحية‬ ‫يس���لكون طري���ق التضحية‪ ،‬وأم���ا الذين‬

‫ي���رون األنانية يقولون "لماذا س���أكون أنا‬ ‫دائما" ومن ث���م يبتعدون عن‬ ‫المضح���ي ً‬ ‫يوما بعد يوم‪.‬‬ ‫السلوك اإليجابي ً‬

‫ون���ادرا م���ا تس���تمر التضحي���ة م���ن‬ ‫ً‬ ‫كبيرا‬ ‫صبرا ً‬ ‫ط���رف واحد‪ ،‬ألنها تتطل���ب ً‬ ‫ومعان���اة‪ ...‬واألناني���ة معناه���ا تجاه���ل‬ ‫اآلخري���ن‪ ،‬حي���ث األنان���ي ال يفك���ر إال‬ ‫يرك���ز عل���ى كلم���ة "أن���ا"‬ ‫بنفس���ه‪ ،‬وألن���ه ّ‬

‫دائم���ا‪ ،‬ينعدم عنده مفه���وم "نحن"‪ .‬كما‬ ‫ً‬

‫الطالق سبب لألمراض الروحية‬

‫البنية الشخصية واألخالقية هما طريق تعزيز الروابط المعنوية‬

‫أيضا‪...‬‬ ‫فهو يفس���د س���لوكيات اآلخرين ً‬

‫أن الحرص على السعادة الفردية‪ ،‬مظهر‬

‫م���ن مظاه���ر األنانية؛ فقول "س���عادتي فقط وال س���عادة غيري"‬ ‫أيضا‪.‬‬ ‫يؤدي إلى عزلة اإلنسان ويؤدي كذلك إلى الطالق ً‬

‫عنصر المساواة في الطالق‬

‫لكل من الرجل والمراة واجبات وحقوق في النظام القانوني‪..‬‬ ‫ٍّ‬

‫ولما كانت خلقة الرجل تختلف عن المرأة‪ ،‬اختلفت واجبات‬ ‫كل منهم���ا في الحياة األس���رية‪ ..‬وقد تم تحديد هذه‬ ‫وحق���وق ٍّ‬

‫المس���ؤوليات والواجب���ات‬ ‫ل���كل م���ن الرج���ل والم���رأة تج���اه‬ ‫ٍّ‬

‫أن‬ ‫أوالدهما بش���كل واضح‪ ..‬ففي كتاب اهلل من س���ورة النساء ّ‬ ‫الش���اقة داخل‬ ‫الرجل هو رب المنزل وراعيه‪ ،‬والقائم‬ ‫بالمهام ّ‬ ‫ّ‬ ‫فإن‬ ‫المن���زل وخارج���ه‪ ..‬وع�ل�اوة عل���ى إدارة الرجل للمن���زل ّ‬ ‫علي���ه تقدير زوجته ورعاية حقوقها‪ ،‬فالزوج مس���ؤول أمام اهلل‬ ‫وأمام نفس���ه عن صون عرضه وش���رفه‪ ..‬فإذا ُأ ّديت الواجبات‬

‫فالخم���ر والزن���ا والقمار والكذب من األس���باب الرئيس���ية في‬

‫يعمه الحب واالحترام‪،‬‬ ‫والحقوق بنية حسنة في وسط‬ ‫ّ‬ ‫أسري ّ‬

‫والتضحي���ة‪ ،‬ال تجتم���ع مع الخم���ر والزنا والك���ذب والقمار‪،‬‬

‫بإف���راط وبال ض���رورة‪ ،‬واس���تغاللها حريته���ا االقتصادية ورق ًة‬ ‫رابحة تجاه زوجها‪ ،‬وقولها "أنا أملك المال وال أحتاج إليك‪،‬‬

‫التناف���ر وع���دم التفاه���م داخ���ل األس���رة؛ ألن الس���عادة والثق���ة‬ ‫ومن ثم تتقطع الروابط األسرية‪.‬‬

‫تعتبر من األمراض‬ ‫األنانية والحرص على السعادة الفردية‪َ ،‬‬

‫النفس���ية الت���ي ت���ؤدي إل���ى الط�ل�اق‪ّ .‬أما ال���ذي يؤم���ن بالكيان‬ ‫المعن���وي لألس���رة يعكس ذلك إلى س���لوكياته‪ .‬فالس���لوكيات‬

‫جو من التضحية‪ ،‬تحث اآلخرين على‬ ‫التضحية‬ ‫التي تنشأ في ٍّ‬ ‫ّ‬ ‫والتأس���ي بها‪ .‬أما الش���خص األناني الذي يرفض الرأي اآلخر‬ ‫ّ‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2012 )33‬‬

‫‪52‬‬

‫فلن يس���تاء أح���د من أحد‪ّ ،‬أما احتالل الم���رأة لموقع الصدارة‬

‫فس���أفعل ما أريد"‪ ،‬وغياب االحترام واإلحس���اس بالمسؤولية‬

‫تح���ت اس���م المس���اواة‪ ..‬فذلك كلّ���ه بمنزل���ة زرع ألغام تحت‬ ‫أسس األسرة‪.‬‬

‫والمبالغة في فكرة المس���اواة بين الجنس���ين‪َ ،‬أ ْد َخل المرأة‬ ‫ف���ي ص���راع مع الرج���ل‪ ،‬ف ُق ِضي بذل���ك على الطمأنينة‪ ،‬ونش���أ‬


‫‪ ،93.489‬أي إنه ينتج عن كل مائة حالة زواج خمس عش���رة‬

‫غدت األسرة مؤسسة قوية رصينة في الحياة االجتماعية‪ .‬كما‬

‫شيوعا هو عدم التوافق بين الزوجين‬ ‫أكثر أس���باب الطالق‬ ‫ً‬

‫الزوجين االلتزام به والش���عور بالمس���ؤولية تجاهه‪ ،‬ألن حفظ‬

‫عم���دا‪ ،‬وارتكاب جريمة الزن���ا‪ ...‬وقد يتغير هذا الترتيب بتغير‬ ‫ً‬

‫عد‬ ‫عندم���ا ّبين القرآن الكريم مدى الق���رب بين الزوجين‪ّ ،‬‬ ‫لباسا لآلخر‪ ،‬وهنا ينبغي لمن يقدم على الزواج أن‬ ‫كلاًّ منهما ً‬ ‫يتذكر أنه ‪-‬بهذا العقد‪ -‬قد خطا خطوة دنيوية وأخرى ُأخروية‪.‬‬

‫حالة طالق‪.‬‬

‫ال عن األمراض العقلية‪ ،‬وضرب الزوج زوجته‬ ‫ثم الهجر‪ ،‬فض ً‬ ‫األيام واألزمان‪.‬‬

‫ال ري���ب أن م���ن يتتبع���ون المل���ذات باس���تمرار ل���ن ينال���وا‬

‫أب���دا‪ .‬وإذا تأملن���ا في أس���باب الط�ل�اق اليوم‪،‬‬ ‫الس���عادة الح ّق���ة ً‬

‫أن ال قيمة لها في حقيقة األمر‪ ،‬إال أ ّنها تؤدي في كثير‬ ‫سنجد ْ‬ ‫من األحيان إلى دمار األس���رة وتش���تيت شملها‪ .‬ومما ال شك‬ ‫فيه أن عوامل الضغوط النفس���ية والتغيرات االجتماعية لها أثر‬

‫ش���بهنا األسرة بالكائن الحي نرى تارة‬ ‫بالغ في الطالق‪ ...‬وإذا ّ‬ ‫األم���راض الباطنية وتارة أخ���رى الميكروبات الخارجية تعمل‬

‫على هدم بنية هذا الكائن الحي وتدميره‪.‬‬

‫أبديا يتطلب من‬ ‫أن عقد الزواج في القرآن الكريم‪ ،‬يعتبر ميثا ًقا ًّ‬

‫نسل بني آدم‪ ،‬والتكاثر‪ ،‬والعفاف يحصل نتيجة الزواج‪.‬‬

‫���را‪ ،‬بل إنه أمر البد م���ن االنتباه إليه قبل‬ ‫وه���ذا لي���س ً‬ ‫لغزا ّ‬ ‫محي ً‬

‫أن‬ ‫ال���زواج‪ ،‬وم���ن يمعن ح ًّق���ا في بنية األس���رة وهيكلتها‪ ،‬يجد ّ‬ ‫ستوعب معنى‬ ‫اضطرارا‪ ...‬فعندما ال ُي‬ ‫لجأ إليه إال‬ ‫َ‬ ‫الطالق ال ُي َ‬ ‫ً‬ ‫بحق‪ُ ،‬يعتقد أن الطالق أبسط وأسهل‬ ‫مؤسس���ة األسرة ويدرك ٍّ‬ ‫طريقة لحل المشاكل‪ ،‬بينما النظرة إلى الطالق على أنه الملجأ‬

‫حل المشاكل اليومية‪ ،‬مصدرها التوهم بأن كل شيء‬ ‫األول في ّ‬ ‫حل بالطالق‪ ...‬ويعتبر اللجوء إلى الطالق بسرع ٍة من‬ ‫سوف ُي ّ‬

‫يعتق���د الكثي���رون أن الطالق هو الس���بيل الوحيد للتخ ّلص‬

‫غالبا ما تؤدي إلى قرارات خاطئة وسلبية‪ ،‬يبد أن‬ ‫األمور التي ً‬

‫إن خ َّلصهم من مش���كلة فإنه‬ ‫لم يضعوا بالحس���بان ّ‬ ‫أن الطالق ْ‬

‫في كل أس���رة‪ -‬إحي���اء المحبة واالحت���رام المتبادل من جديد‪،‬‬

‫م���ن المش���اكل‪ ،‬أو الحص���ول على الس���عادة والهن���اء‪ .‬إال أنهم‬ ‫س���يوقعهم في مش���اكل أخ���رى متعددة‪ ...‬ل���ذا‪ ،‬ال يمكن النظر‬

‫إل���ى الط�ل�اق على أنه بداية مرحلة جدي���دة وجميلة‪ ،‬بل يجب‬

‫حتمل أن تقع‬ ‫ّ‬ ‫المفضل في مواجهة المش���اكل األس���رية ‪-‬التي ُي َ‬ ‫والتحم���ل على بع���ض المعان���اة‪ ،‬والدعاء المتب���ادل‪ ،‬والتركيز‬ ‫ّ‬

‫على الجوانب الروحية‪ ...‬إن المسؤولية الكبرى لتكوين كيان‬

‫النظ���ر إلي���ه عل���ى أنه مرحل���ة من مراح���ل الحياة تغل���ب عليها‬

‫األس���رة المعن���وي والروحي تقع على عات���ق األبوين بالدرجة‬

‫غالبا ما تخلق نتائج سلبية‪،‬‬ ‫قبل الطالق وأثناء الطالق وبعده‪ً ،‬‬ ‫ٍ‬ ‫وتم���ز ٍق خطير في كيان األس���رة‪ ،‬ومن ثم‬ ‫تفكك‬ ‫وت���ؤدي إل���ى‬ ‫ّ‬

‫وه���ذا الجان���ب المعن���وي يتألف م���ن قيم‪ ،‬منه���ا التضحية‬

‫الس���لبيات وتحيطها من كل الجوانب‪ .‬إن الوقائع التي تحدث‬

‫سببا في غياب الماضي المشترك والحياة المشتركة‪.‬‬ ‫تكون ً‬

‫وقد ّبين اهلل تعالى في س���ورة الطالق أحكام الطالق؛ منها‬

‫زمن وقوع الطالق‪ ،‬ومدة العدة التي تمضيها بعد الطالق قبل‬

‫األولى‪ ،‬ألن األبوين هما من يحدد أولويات األسرة‪.‬‬

‫واإليث���ار وع���دم األناني���ة‪ ،‬والتقدي���ر‪ ،‬والح���ب‪ ،‬والتس���امح‪،‬‬ ‫والتضام���ن والتع���اون‪ ،‬وتأس���يس الس���عادة والطأنين���ة‪ ،‬والصبر‬ ‫ٍ‬ ‫فعل‪ .‬فإن انعدم الكيان‬ ‫وعدم جرح مش���اعر اآلخرين‬ ‫بقول أو ٍ‬

‫المعن���وي في األس���رة احتلت العوامل المادي���ة موقع الصدارة‬

‫أن تتزوج المرأة مرة أخرى‪ ،‬وغيرها كثير‪ .‬فمن الواجب على‬

‫فيها‪ ،‬وبالتالي فإن العوامل المادية كالمال والجمال والش���هرة‬

‫والمحافظة عليها‪ ،‬وأال يلجؤوا إلى هذا المس���ار إال إذا غدت‬

‫حتما دعائم هذه األسرة وتش���تتها‪ ...‬فلن تكون األسرة‬ ‫ّ‬ ‫س���تهز ً‬

‫الجانب الروحي لدى األسرة‬

‫فاألس���رة الت���ي تخل���و من المقوم���ات المعنوية‪ ،‬تك���ون عرضة‬

‫المؤمني���ن أن يحرصوا أيما ح���رص على إدامة الحياة الزوجية‬

‫ال تقيم أس���ر ًة‪ ،‬ألن اللهث وراء الملذات والش���هوات المؤقتة‬

‫جحيما ال يطاق‪.‬‬ ‫مشكالت األسرة الداخلية‬ ‫ً‬

‫أس���رة حقيقية إال إذا كانت العوامل الروحية سائدة في كيانها‪.‬‬

‫األسرة مؤسسة مقدسة وليست بضعة أفراد جمعتهم الصدفة‪،‬‬

‫لتعش���ش األم���راض فيها‪ ،‬وقد تؤدي هذه األم���راض إلى تغيير‬

‫وبين المقومات الروحية والديناميات الحيوية لماهية األس���رة‬ ‫ّ‬

‫يوما بعد يوم‪ ...‬واألسرة‬ ‫ومن ثم إلى تغيير نظرتهم إلى الحياة ً‬

‫فاإلس�ل�ام قد أعطى األس���رة من المعاني الحقيقي���ة ما أعطى‪،‬‬ ‫بأدق التفاصيل‪ ...‬ومن األهمية التي منحها اإلس�ل�ام لألسرة‪،‬‬

‫س���لوكيات األفراد ومش���اعرهم الودية تج���اه بعضهم البعض‪،‬‬

‫التي تتغير س���لوكياتها ومشاعرها‪ ،‬تتش���ابك أفرادها فيما بينهم‬

‫‪51‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2012 )33‬‬


‫تربية‬

‫د‪ .‬حسن أيدنلي*‬

‫ُ‬ ‫يقرتف‪..‬‬ ‫مفعم باإلميان قلبك‪ ..‬يقطر ح ًّبا‪ ،‬وينضح مود ًة‪ ..‬ال الكراهي َة َيعرف‪ ،‬وال البغضا َء ذن ًبا‬ ‫أما املفعمون بالكراهية‪ ،‬النافرون من الجميع‪ ،‬فأولئك مرىض قد احتوتهم الشياطني‪ ،‬ومسكنًا‬ ‫ً‬ ‫وأعشاشا للتفريخ جعلتهم‪.‬‬ ‫اتخذتهم‪،‬‬ ‫(املوازين)‬ ‫***‬

‫الطالق‬ ‫أكبر تهديد على األسرة‬

‫ال���زواج من المراحل المهمة ف���ي حياة الفرد‪،‬‬ ‫وب���ه ُيتاح للفرد أن يغدو ًأب���ا أو ًّأما‪ .‬وقد يبدو‬ ‫عاديا لبعض‬ ‫أمرا ًّ‬ ‫ال���زواج أو األبوة أو األمومة ً‬ ‫كم���ا وكي ًفا‪ .‬ففي أثناء‬ ‫الن���اس‪ ،‬بيد أنها تتطلب مس���ؤولية كبيرة ًّ‬ ‫إيجابا؛ إذ تفضي‬ ‫س���لبا أو‬ ‫ه���ذه المرحلة من الحياة يتأثر الفرد‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مشكالت الحياة الزوجية إلى الطالق أحيا ًنا‪ .‬والبد من التنويه‬ ‫إل���ى أن الط�ل�اق أو التف���كك األس���ري‪ ،‬ي���ؤدي إل���ى تحوالت‬ ‫نفس���ية واجتماعية ف���ي المجتمعات‪ .‬لذا يتطل���ب هذا التفكك‬ ‫ف���ي األس���رة‪ ،‬دراس���ة عميقة‬ ‫وتركي���زا دقي ًقا من َقب���ل المهتمين‬ ‫ً‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2012 )33‬‬

‫‪50‬‬

‫المتخصصين‪.‬ج���اء عن النب���ي ‪ ‬أنه قال‪" :‬أبغض الحالل إلى‬ ‫اهلل تعال���ى الط�ل�اق" (رواه ابن ماجة)‪ ،‬وهذا يزيح الس���تار عن مدى‬ ‫أهمية مؤسسة الزواج‪.‬‬ ‫والتبدالت التي تطرأ‬ ‫التحوالت‬ ‫وتزداد نسبة الطالق بتأثير‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫عل���ى الحي���اة االجتماعية والفردي���ة مع الزمن‪ .‬وكم���ا جاء في‬

‫السجالت القضائية التركية‪ ،‬فإن دعاوى الطالق ازدادت بنحو‬ ‫ضعفي���ن ما بين عامي ‪ .1998-1986‬ووف ًقا لبيانات مؤسس���ة‬

‫اإلحص���اء التركي التي تم الكش���ف عنها ف���ي عام ‪ ،2006‬أن‬ ‫وصلت إلى ‪ 636.121‬بينما نسبة الطالق بلغت‬ ‫نسبة الزواج‬ ‫ْ‬


‫أح���وال القلوب‪ ،‬وتراجعت حظوظ النفس وش���هواتها لصالح‬

‫والمؤسسات‪ ،‬مما ينفع الناس ومما ال تقوم الحياة إال به‪ ،‬من‬

‫الخلق‪.‬‬

‫التسخير‪.‬‬

‫نم���اء المجتم���ع والعال���م‪ ،‬ث���م تحقق العم���ران الذي ه���و غاية‬

‫جـ‪-‬العم� � � �ران الحض � � ��اري‪ :‬لم���ا أراد اهلل ‪ ‬أن يس���تخلف‬ ‫اإلنس���ان في األرض قال للمالئكة‪ِ ﴿ :‬إ ِّن���ي َج ِ‬ ‫اع ٌل ِفي ا َ‬ ‫ض‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫الد َم َاء َو َن ْح ُن‬ ‫���د ِف َيها َو َي ْس��� ِف ُك ِّ‬ ‫َخ ِلي َف ًة َقا ُلوا َأ َت ْج َع ُل ِف َيها َم ْن ُي ْف ِس ُ‬ ‫ون ‪‬‬ ‫ُنس��� ِب ُح ب َِحم ِ‬ ‫���ال ِإ ِّني َأ ْع َل ُم َم���ا َ‬ ‫س َل َك َق َ‬ ‫ال َت ْع َل ُم َ‬ ‫���دكَ َو ُن َق ِّ‬ ‫���د ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ ّ‬ ‫َ‬ ‫﴿ه َو‬ ‫���م َ‬ ‫���م َاء ُك َّل َها﴾(البق���رة‪ .)31-30:‬ويقول اهلل ‪ُ :‬‬ ‫آد َم األ ْس َ‬ ‫َو َع َّل َ‬ ‫َأ ْن َش��� َأ ُكم ِم َن ا َ‬ ‫اس َ���ت ْع َم َر ُك ْم ِف َيها﴾(هود‪ )61:‬وقوله ‪﴿ :‬‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫ض َو ْ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ين ِم ْن‬ ‫ذ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ة‬ ‫ب‬ ‫ق‬ ‫ا‬ ‫ع‬ ‫ان‬ ‫ك‬ ‫���ف‬ ‫ي‬ ‫ك‬ ‫وا‬ ‫ر‬ ‫ظ‬ ‫ن‬ ‫ي‬ ‫ف‬ ‫ض‬ ‫ر‬ ‫أل‬ ‫ا‬ ‫���ي‬ ‫ف‬ ‫وا‬ ‫���ير‬ ‫س‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ‬ ‫َْ ُ ْ‬ ‫أ َو َل ْم َي ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اروا ا َ‬ ‫وها َأ ْك َث َر ِم َّما‬ ‫أل ْر َ‬ ‫ض َو َع َم ُر َ‬ ‫َق ْبلهِ ْم َكا ُنوا َأ َش َّد م ْن ُه ْم ُق َّو ًة َو َأ َث ُ‬ ‫وها َو َج َاء ْت ُهم ُر ُس ُل ُهم بِا ْلب ِي َن ِ‬ ‫هلل ِل َي ْظ ِل َم ُه ْم َو َل ِك ْن‬ ‫ان ا ُ‬ ‫ات َف َما َك َ‬ ‫َع َم ُر َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ َّ‬ ‫ون﴾(الروم‪ .)9:‬غاية االستخالف في األرض‬ ‫َكا ُنوا َأ ْن ُف َس ُه ْم َي ْظ ِل ُم َ‬ ‫عمارته���ا‪ ،‬فالعم���ران نقي���ض الخ���راب‪ ،‬له���ذا نج���د اعت���راض‬ ‫المالئك���ة على اس���تخالف اإلنس���ان في األرض ألنه سيفس���د‬ ‫فيها ويسفك الدماء‪ .‬واإلنسان بطبيعته‪ ،‬فيه استعداد لإلصالح‬ ‫واإلفس���اد‪ ،‬للتعمير والتخريب‪ ،‬يق���ول ابن خلدون‪" :‬االجتماع‬

‫اإلنساني هو عمران العالم‪ ،‬ويعترض لطبيعة هذا العمران من‬ ‫األحوال مثل التوحش والتأنس والعصبيات وأصناف التغلبات‬ ‫للبش���ر بعضه���م عل���ى بع���ض‪ ،‬وما ينش���أ عن ذلك م���ن الملك‬

‫والدول ومراتبها‪ ،‬وما ينتحله البش���ر بأعمالهم ومس���اعيهم من‬ ‫الكس���ب والمعاش والعل���وم والصنائع‪ ،‬وس���ائر ما يحدث في‬

‫ذلك العم���ران بطبيعته من األحوال"‪ )5(.‬فالعمران عامة يتحقق‬ ‫م���ن خالل تفاعل قانون االس���تخالف وقانون التس���خير‪ ،‬لكن‬

‫في المنظومة اإلسالمية يتحقق العمران من خالل تفاعل ثالثة‬ ‫قوانين‪ :‬قانون االس���تخالف‪﴿ :‬إ ِْن َي َش ْأ ُي ْذ ِه ْب ُك ْم َو َي ْس َت ْخ ِل ْف ِم ْن‬ ‫ين﴾(األنعام‪،)133:‬‬ ‫���اء َك َما َأ ْن َش َأ ُك ْم ِم ْن ُذرِّ َّي ِة َق ْو ٍم َ‬ ‫آخ ِر َ‬ ‫َب ْع ِد ُك ْم َما َي َش ُ‬ ‫ِ‬ ‫او ِ‬ ‫ات‬ ‫وقانون التسخير‪َ ﴿ :‬أ َل ْم َت َر ْوا َأ َّن ا َ‬ ‫الس َم َ‬ ‫هلل َس َّخ َر َل ُك ْم َما في َّ‬ ‫َو َم���ا ِف���ي ا َ‬ ‫���ر َنا‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫ض﴾(لقم���ان‪ ،)20:‬وقانون التيس���ير‪َ :‬‬ ‫﴿و َل َق ْد َي َّس ْ‬ ‫لذ ْك ِر َف َه ْل ِم ْن ُم َّد ِكرٍ ﴾(القمر‪.)17:‬‬ ‫آن ِل ِّ‬ ‫ا ْل ُق ْر َ‬ ‫فتعمر األرض إذن‪ ،‬وتنشأ الحضارة وتتشكل في المنظومة‬

‫اإلس�ل�امية‪ ،‬من خ�ل�ال تنزيل قراءة الوحي والكون واإلنس���ان‬ ‫ف���ي واقع الناس‪ ،‬فيتش���كل المجتمع‪/‬األمة على أس���اس س���نن‬

‫االجتماع اإلنس���اني‪ ،‬وتنتظم عالقاته (االجتماعية‪-‬اإلنس���انية‪،‬‬

‫خالل حس���ن اس���تثمار ثروات الكون واالنتفاع بها وفق قانون‬ ‫وخالص���ة القول‪ ،‬فبالقراءة تزكو الحي���اة‪ ،‬وتنمو الكفاءات‬

‫والقدرات‪ ،‬يقول جودت سعيد‪" :‬إن حل مشكالت اإلنسانية‪،‬‬ ‫ونف���ي تهمة المالئكة لبني آدم‪ ،‬وإخراج اإلنس���ان من الفس���اد‬

‫والسفك (‪ )...‬ال يتم إال بالتسخير الحق لقدرة القراءة‪.‬‬

‫إن التس���خير الح���ق لق���درة الق���راءة‪ ،‬يجعل اإلنس���ان يطير‬

‫بجن���اح الق���راءة ويتغلب على المش���كالت‪ .‬ال يغرنك ش���يوع‬

‫الفس���اد والس���فك في العالم‪ ،‬إن إنس���ا ًنا أدرك كي���ف بدأ خلقه‬

‫وكي���ف وصل إل���ى ما وصل إلي���ه وتجاوز ما تجاوز‪ ،‬س���يعلم‬

‫بعد‪ ،‬وكيف يتجاوز العقبات‬ ‫كيف سيصل إلى ما لم يصل إليه ُ‬

‫التي خلفها"‪.‬‬

‫(‪)6‬‬

‫إن األم���م الغربي���ة تقود العال���م اليوم بالق���راءة ‪-‬ألن األمم‬

‫القارئة هي القائدة‪ -‬وتش���د إليها أنظار كل البش���ر رغم ما ينتج‬ ‫ع���ن قراءته���ا من فس���اد في الب���ر والبح���ر‪ ،‬ألنها ق���راءة أحادية‬

‫النظرة‪ ،‬فما بالك لو كانت هناك قراءة لألمة اإلسالمية تعطيها‬ ‫قوة روحية وأخرى مادية‪ ،‬فيظهر صالحها في البر والبحر‪ ،‬أال‬

‫تتحول إليها أنظار البش���ر ينشدونها‪ ،‬وتستقطب الناس من كل‬

‫حدب وصوب‪ ،‬وتقود البشرية إلى شاطئ األمان؟! لكن األمة‬ ‫اإلس�ل�امية لم تس���خر قدرة القراءة التس���خير الح���ق‪ ،‬فبدل أن‬

‫تصن���ع من قراءة القرآن حض���ارة‪ ،‬صنعت من قراءتها الخاطئة‬ ‫طري ًقا للتواكل‪ ،‬والجهل‪ ،‬والفرقة‪ ،‬والتنازع‪ ،‬والتشاكس‪.‬‬

‫(*) باحثة في الدراسات القرآنية ‪ /‬المغرب‪.‬‬

‫الهوامش‬

‫(‪ )1‬اإلنسان والحضارة في القرآن بين العالمية والعولمة‪ ،‬للدكتور فرح موسى‪،‬‬ ‫ص‪ ،97-96:‬الطبعة األولى ‪1424‬هـ‪2003/‬م‪ ،‬دار الهادي‪.‬‬

‫(‪ )2‬التحرير والتنوير‪ ،‬للطاهر بن عاشور‪ ،‬ج‪ ،30:‬ص‪.280:‬‬

‫(‪ )3‬أطلس الحضارة اإلس�ل�امية‪ ،‬للدكتور إس���ماعيل راجي الفاروقي والدكتور‬ ‫لم���وس لمي���اء الفاروق���ي‪ ،‬ترجم���ة‪ :‬عبد الواح���د لؤل���ؤة‪ ،‬ص‪ ،131:‬ط‪،1:‬‬ ‫‪ ،1998‬مكتبة العبيكان (الرياض)‪ ،‬المعهد العالمي للفكر اإلسالمي‪.‬‬

‫(‪ )4‬نفس المصدر‪ ،‬ص‪ 140-139:‬بتصرف‪.‬‬

‫(‪ )5‬مقدم���ة اب���ن خل���دون‪ ،‬لعب���د الرحم���ن ب���ن محم���د اب���ن خل���دون‪ ،‬تحقي���ق‬ ‫الدكت���ور دروي���ش جوي���دي‪ ،‬ص‪ ،40:‬المكتب���ة المصري���ة صيدا‪-‬بي���روت‬

‫والسياس���ية‪ ،‬واالقتصادية‪ )...‬على أس���اس م���ن الوحي الرباني‬

‫وهدي منه‪ .‬وتزدهر الحضارة وتنمو الصناعات وتنشأ المباني‬

‫‪1422‬هـ‪2001/‬م‪.‬‬

‫(‪)6‬‬

‫اقرأ وربك األكرم‪ ،‬لجودت سعيد‪ ،‬ص‪.71:‬‬

‫‪49‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2012 )33‬‬


‫والحي���اة‪ .‬ولكي يتحقق هذا‪ ،‬وج���ب معرفة المداخل والمنافذ‬

‫فالتوحي���د رأس األم���ر كله‪ ،‬وه���و "بالعبارة البس���يطة المتوارثة‬

‫معرفة معتقدات اإلنسان (تصوراته عن اهلل واإلنسان والكون)‪،‬‬

‫النف���ي‪ ،‬الموجز أش���د اإليجاز‪ ،‬يحمل أعظ���م المعاني وأغناها‬

‫التي منها يمكن إدخال الوحي وإنفاذه‪ ،‬ويمكن أن تتمثل في‪:‬‬

‫وقرب���ه أو بع���ده من الفط���رة‪ ،‬بعده أو قربه م���ن الوحي‪ ،‬عاداته‬

‫وتقالي���ده وأعرافه‪ ،‬تاريخه‪ ،‬عالقاته‪ ،‬أفكاره‪ ...‬مما يس���تعان به‬ ‫في استمالته وإقناعه إلعادة تشكيله وصياغته بالوحي‪.‬‬

‫االعتق���اد والش���هادة أن "أن ال إل���ه إال اهلل"‪ .‬وهذا القول بصيغة‬ ‫في اإلس�ل�ام قاطبة‪ .‬وقد تتكث���ف في جملة واحدة ثقافة كاملة‬

‫أو حضارة كاملة أو تاريخ بأجمعه‪ .‬وهذا بالتأكيد ما نجده في‬

‫"الكلمة" أو "الش���هادة" في اإلس�ل�ام‪ .‬فكل ما في اإلس�ل�ام من‬

‫أما القس���م اآلخر فتجب قراءته‪ ،‬ألن اإلنس���ان تكاملي في‬

‫تنوع وغن���ى وتاريخ وثقافة ومعرفة وحكمة وحضارة‪ ،‬يجتمع‬

‫تكاملي���ة عبر األزمن���ة واألمكنة‪ ،‬فإن المعرفة البش���رية تكاملية‬

‫أ‪-‬التوحي � � ��د‪ :‬م���دار التوحيد على ش���هادة "ال إل���ه إال اهلل"‪،‬‬

‫ذات���ه وم���ع بني جنس���ه‪ ،‬فكم���ا أن الرس���االت الس���ماوية كانت‬ ‫هي بدورها عبر األزمنة واألمكنة‪ ،‬وليست هناك معرفة بشرية‬ ‫مطلق���ة يمك���ن الوق���وف عندها وع���دم تجاوزها‪ ،‬بل اإلنس���ان‬ ‫في اكتش���اف واكتساب مس���تمر للعلوم والمعارف‪ ،‬ألن العلم‬

‫في هذه الجملة البالغة القصر‪" :‬ال إله إال اهلل"‪.‬‬

‫(‪)3‬‬

‫وهذه الش���هادة تعن���ي اإليمان بأن اهلل ه���و الخالق الذي أعطى‬

‫كل ش���يء خلقه فس���وى‪ ،‬والذي قدر فهدى‪ ،‬والذي إليه يرجع‬ ‫الخل���ق وإليه يصير‪ ،‬المنزه عن كل ما يعرض للخلق ويتصف‬

‫آد َم‬ ‫والمعرفة يبنيان أو ً‬ ‫﴿و َع َّل َم َ‬ ‫ال على التعليم اإللهي لإلنسان َ‬ ‫ا َ‬ ‫���ان َما َل ْم‬ ‫﴿ع َّل َم بِا ْل َق َل ِم ‪َ ‬ع َّل َم ا ِ‬ ‫إل ْن َس َ‬ ‫���م َاء ُك َّل َها﴾(البق���رة‪َ )31:‬‬ ‫أل ْس َ‬

‫والفق���ه م���ن النظر في آي���ات الوحي وآي���ات األنفس واآلفاق‪،‬‬

‫هذا التراث البشري المعرفي‪ ،‬هي قراءة استيعاب وتجاوز في‬

‫وأح���داث‪ ،‬وكل ما يجري في الميادي���ن الطبيعية واالجتماعية‬

‫هكذا هي إذن هذه المجاالت (الكون‪ ،‬الوحي‪ ،‬اإلنس���ان)‬

‫ه���ذا اإلدراك يغدو طبيعة ثانية لإلنس���ان‪ ،‬ال تنفصل عنه طوال‬

‫جميعا يتجلى ما بينها من تناغم وتواش���ج وتواؤم‬ ‫النظ���ر إليه���ا‬ ‫ً‬

‫اإلدراك‪ ...‬ويترتب عن ذلك بالضرورة القول إن التوحيد يفيد‬

‫(الع َل���ق‪ ،)5-4:‬ثم على العلوم والمعارف الس���ابقة‪ .‬وقراءة‬ ‫َي ْع َل ْم﴾ َ‬ ‫إطار تصديق الوحي وهيمنته‪.‬‬

‫تب���دو ألول وهل���ة أنها مس���تقلة بعضها عن البع���ض‪ ،‬لكن بعد‬

‫حت���ى تتس���رب إلى ذهن الناظر قناعة بأنه���ا ال يمكن أن توجد‬

‫إال مجتمع���ة‪ .‬ف�ل�ا يمك���ن تصور إنس���ان بال مجال يس���رح فيه‬ ‫ويوفر له حاجاته المعيشية والجمالية‪ ،‬كما ال يمكن تصورهما‬

‫مع���ا (اإلنس���ان والمجال‪/‬الك���ون) ب���دون وحي يقدم لإلنس���ان‬ ‫ً‬ ‫التص���ورات ع���ن نفس���ه وحقيقتها‪ ،‬وع���ن الك���ون وعالقته به‪،‬‬ ‫ويرشد سلوك اإلنسان ويهديه للتي هي أقوم‪.‬‬

‫به‪ .‬واإليمان بهذه الشهادة عن فهم وفقه‪ ،‬وإنما يتحصل الفهم‬ ‫وذل���ك "ي���ؤدي إل���ى إدراك أن جمي���ع م���ا يحيط بنا من أش���ياء‬ ‫والنفسية هو من عمل اهلل‪ ،‬وتنفيذ لغاية من غاياته‪ .‬وعندما يتم‬ ‫س���اعات يقظته‪ ،‬فيعيش الم���رء كل لحظات حياته في ظل هذا‬

‫إلغ���اء أية ق���وة فاعلة ف���ي الطبيعة إلى جان���ب اهلل‪ ،‬الذي تكون‬ ‫مبادرت���ه األزلي���ة هي القوانين الثانية ف���ي الطبيعة‪ ...‬فهو يجمع‬

‫كاف���ة خي���وط الس���ببية ويعيدها إل���ى اهلل ال إلى الق���وى الخفية‪،‬‬ ‫وبذلك تنزع صفة القداس���ة عن مج���االت الطبيعة وترجع إلى‬ ‫اهلل فال قدسية لسواه‪ ،‬فهو القاهر فوق عباده ومخلوقاته"‪.‬‬

‫(‪)4‬‬

‫بـ‪-‬التزكية‪ :‬تزكو النفس البش���رية عن طريق القراءة‪ ،‬وذلك‬

‫فم���ن هن���ا تب���رز وظيف���ة الق���راءة ودوره���ا ف���ي تجلي���ة هذا‬

‫بمعرفتها حقيقة الوجود فتتجه نحو ربها خالق الوجود الحق‪،‬‬

‫مش���كورا في األرض والس���ماء‪ ،‬فالقراءة ينب���وع العطاء وينبوع‬ ‫ً‬

‫مجال حركتها وس���عيها‪ ،‬وتبتعد عن الباطل والش���رك واآلثام‪.‬‬

‫الناظ���م المنهجي لهذه المجاالت حتى يكون س���عي اإلنس���ان‬

‫تنش���ده في كل وقت وحين‪ ،‬وتنبذ الهوى وتبعد الش���يطان عن‬

‫كل المكاس���ب‪ ،‬ومكسب القراءة المباشر هو العلم والمعرفة‪،‬‬

‫وتعرف أن الكون يس���ير عبر قوانين وس���نن ثابتة ومنضبطة ال‬

‫ويوح���د ‪-‬فمعرف���ة اهلل ‪ ‬هي رأس المع���ارف والعلوم‪ -‬وبها‬

‫الخرافة والش���عوذة واألساطير الباطلة‪ .‬وتعلم أن الوحي نازل‬

‫العل���م بالوح���ي وبالك���ون وباإلنس���ان‪ ،‬وبهذه العل���وم يعبد اهلل‬ ‫تك���ون الش���هادة على الناس‪ ،‬وبها يتحق���ق العمران‪ ،‬وبها تزكو‬ ‫الحي���اة وتس���تقيم‪ .‬وبه���ذا تك���ون وظيف���ة الق���راءة ه���ي تحقيق‬

‫التوحي���د والتزكي���ة والعم���ران‪ ،‬وإن كان التوحي���د يغن���ي عم���ا‬

‫وراءه ألن���ه إذا تحقق التوحيد تحق���ق بالتبع العمران والتزكية‪،‬‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2012 )33‬‬

‫‪48‬‬

‫تتخل���ف‪ ،‬فتبتع���د في تفس���ير الظواه���ر الكونية واإلنس���انية عن‬ ‫م���ن خالق الكون واإلنس���ان فتعرف أن ال���ذي خلق أعلم بمن‬

‫خلق‪ ،‬وأعلم بما يصلح وما يفسد الخلق‪ ،‬ما يزكي الحياة وما‬ ‫يدس���يها‪ ،‬فتقبل عليه طالبة الرش���د والهدى والصالح في شتى‬ ‫مناحي الحياة‪ .‬فإذا زكت النفس والحياة البشريتان‪ ،‬انصلحت‬


‫وال ف���ي الس���ماء ولو كان مثق���ال ذرة أو‬ ‫حبة خ���ردل‪ .‬هذا الالتناهي هو الس���بب‬ ‫في اس���تمرار وتجدد القراءة وفي تراكم‬ ‫العل���م والمعرف���ة ليس���توعب الالح���ق‬ ‫السابق فيبني عليه أو يتجاوزه‪.‬‬

‫مجاالت القراءة‬

‫فالوحي يقدم التصور العام الش���امل‬

‫القراءة ينبوع العطاء وينبوع كل‬ ‫املكا�س��ب‪ ،‬ومك�س��ب القراءة‬ ‫املبا�رش هو العلم واملعرفة‪ ،‬العلم‬ ‫بالوحي وبالك��ون وبالإن�سان‪،‬‬ ‫وبهذه العلوم يعبد اهلل ويوحد‪،‬‬ ‫فمعرف��ة اهلل ‪ ‬ه��ي ر�أ���س‬ ‫املعارف والعل��وم‪ ،‬وبها تكون‬ ‫ال�شه��ادة عل��ى النا���س‪ ،‬وبه��ا‬ ‫يتحق��ق العم��ران‪ ،‬وبه��ا تزكو‬ ‫احلياة وت�ستقيم‪.‬‬

‫تتع���دد مج���االت الق���راءة بتع���دد‬ ‫موضوعاته���ا‪ ،‬إال أن���ه يمك���ن جمع هذه‬ ‫الموضوع���ات في ثالثة مجاالت كبرى‬ ‫ه���ي‪ :‬مج���ال الوح���ي‪ ،‬ومج���ال الكون‪،‬‬ ‫ومج���ال اإلنس���ان‪ .‬فهي مج���االت كلها‬ ‫تخ���دم ه���ذا األخي���ر مجتمع���ة‪ ،‬وكله���ا‬ ‫تس���تقي من نبع المجال األول وتنضبط‬ ‫بضابطه‪.‬‬ ‫‪ -1‬مجال الوحي‪ :‬يعتبر الوحي مجال القراءة ومصدرها‪،‬‬ ‫ف���أول ما نزل من���ه هو األمر بالقراءة في كاف���ة المجاالت التي‬ ‫ذكرناها‪ .‬فمجال الوحي أوس���ع المجاالت وأش���ملها باعتباره‬ ‫يس���توعب اإلنس���ان والك���ون‪ ،‬الزم���ان والمكان‪ ،‬عال���م الغيب‬ ‫والشهادة‪.‬‬ ‫فالوح���ي يق���دم التصورات ع���ن اهلل واآلخ���رة‪ ،‬والمالئكة‪،‬‬ ‫والرس���ل والرساالت‪ ،‬ويفتح عقل اإلنسان وقلبه على الوحي‬ ‫ف���ي مجمل���ه ‪-‬من بدايت���ه إل���ى منته���اه‪ -‬والعالقة بين الرس���ل‬ ‫والرس���االت‪ ،‬وحقيق���ة الدي���ن ومنته���اه‪ .‬وه���ذه التصورات ال‬ ‫سبيل إلى إدراكها إال عبر طريق الوحي‪.‬‬ ‫ويق���دم الوحي التصور عن الك���ون والخالئق المبثوثة فيه‬ ‫مما يدركه اإلنس���ان وما ال يدرك���ه‪ ،‬وعن العالقات التي تربط‬ ‫هذه المخلوقات فيما بينها (كعالقة الس���ماء والجبال باألرض‬ ‫وغي���ر ذل���ك) وعالق���ة المخلوق���ات كله���ا باإلنس���ان‪ ،‬وعالقة‬ ‫الكون بالوحي‪.‬‬ ‫التصور عن اإلنس���ان‪ ،‬طبيعته وحقيقته‪ ،‬نفس���ه‬ ‫كم���ا يق���دم‬ ‫َ‬ ‫وروح���ه‪ ،‬مداخل���ه المعرفي���ة والنفس���ية‪ ،‬مكام���ن الق���وة في���ه‬ ‫والضع���ف‪ ،‬أحواله وتقلباتها‪ ،‬وعالقته ب���اهلل وبوحيه‪ ،‬وعالقته‬ ‫بأخيه اإلنسان‪ ،‬وعالقته بالكون‪.‬‬ ‫التصور ع���ن الحياة‪ ،‬وهي مس���رح تفاعل‬ ‫ويق���دم الوح���ي‬ ‫َ‬ ‫الوح���ي واإلنس���ان والك���ون‪ ،‬ع���ن ماهيته���ا وبما تصل���ح وبما‬ ‫تفسد‪ ،‬عن تقلباتها وابتالءاتها وغير ذلك‪.‬‬

‫عن كل م���ن الكون واإلنس���ان والحياة‪،‬‬

‫أم���ا تفاصيل األمور ودقائقه���ا‪ ،‬فمتروك‬

‫لإلنس���ان اكتش���افها ومعرفتها من خالل‬ ‫اتصال���ه به���ذه العناص���ر وإقبال���ه عليها‪،‬‬ ‫وباس���تفراغ جه���ده ووس���عه وتوظي���ف‬ ‫حواس���ه وقدراته المعرفي���ة في اإلحاطة‬ ‫بها‪.‬‬

‫‪ -2‬مجال الك � � ��ون‪ :‬إذا كان الوحي‬

‫كالم اهلل المس���طور‪ ،‬فإن الكون كالم اهلل‬ ‫َ‬ ‫ول‬ ‫���را َف ِإ َّن َما َي ُق ُ‬ ‫المنظ���ور‪َ ﴿ :‬ف ِإ َذا َق َضى أ ْم ً‬ ‫ون﴾(غافر‪ .)68:‬وكل مخلوقات‬ ‫َل ُه ُك ْن َف َي ُك ُ‬ ‫الك���ون تعم���ل بوحي م���ن اهلل ‪ُ ﴿ :‬ث َّم‬ ‫ال َل َها‬ ‫ان َف َق َ‬ ‫الس َما ِء َو ِه َي ُد َخ ٌ‬ ‫ْ‬ ‫اس َت َوى ِإ َلى َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ين﴾(فصلت‪،)11:‬‬ ‫ع‬ ‫ئ‬ ‫ا‬ ‫ط‬ ‫���ا‬ ‫ن‬ ‫ي‬ ‫ت‬ ‫أ‬ ‫ا‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ق‬ ‫ا‬ ‫ه‬ ‫ر‬ ‫ك‬ ‫و‬ ‫أ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َو ِل�ْل�أْ َ ْر ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ََْ‬ ‫ض ِا ْئ ِت َيا َط ْو ًع���ا ْ ْ ً‬ ‫َ‬ ‫���ل َأ ِن َّات ِخ ِ‬ ‫���ن ا ْل ِجب ِ‬ ‫���ال ُب ُيو ًت���ا‬ ‫﴿و َأ ْو َح���ى َر ُّب َ‬ ‫الن ْح ِ‬ ‫���ك ِإ َل���ى َّ‬ ‫���ذي ِم َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫لهلِ‬ ‫���ج ُد َم ْن ِفي‬ ‫س‬ ‫ي‬ ‫﴿و‬ ‫‪،‬‬ ‫���ون﴾(النحل‪)68:‬‬ ‫ش‬ ‫ر‬ ‫ع‬ ‫ي‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫���ج‬ ‫الش‬ ‫ن‬ ‫َو ِم َ َّ َ ِ َ َّ َ ْ ِ ُ َ‬ ‫َ َْ ُ‬ ‫او ِ‬ ‫ات َوا َ‬ ‫ض﴾(الرعد‪ .)15:‬وفي الكون تتجلى مجموعة‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫���م َ‬ ‫الس َ‬ ‫َّ‬ ‫من الحقائق التي وجه القرآن اإلنسان إلى النظر فيها لمعرفتها‬ ‫وإدراكه���ا ليحصل ل���ه اليقين‪ ،‬ألن النظر في الك���ون يقود إلى‬

‫اإليم���ان‪ .‬لك���ن هذا األخير ال يكتمل إال م���ن خالل النظر في‬ ‫الوحي‪ ،‬ألنه هو الذي يقدم التصور الشامل لألشياء‪ ،‬وقد سبق‬

‫ال عن الك���ون وعالقته‬ ‫أن قلن���ا ب���أن الوحي يقدم‬ ‫تصورا ش���ام ً‬ ‫ً‬ ‫باإلنسان التي هي عالقة تسخير‪ ،‬فعليه أن يبذل جهده ويشغل‬

‫حواس���ه وقلبه في اكتش���اف س���نن التس���خير وفقهه���ا لالنتفاع‬ ‫بمف���ردات الك���ون‪ ،‬فما من مخلوق في ه���ذا الكون إال وخلق‬

‫شيئا عب ًثا‪.‬‬ ‫لغاية وهدف‪ ،‬ولم يخلق اهلل ‪ً ‬‬

‫‪ -3‬مجال اإلنس � � ��ان‪ :‬تنقس���م الق���راءة في مجال اإلنس���ان‬

‫مجتمعا‪،‬‬ ‫فردا ثم‬ ‫إلى قس���مين‪ :‬قس���م يخص اإلنس���ان في ذاته ً‬ ‫ً‬ ‫واآلخر يخص منتوج اإلنسان المعرفي‪ ،‬أي ما خلفه البشر من‬

‫مع���ارف وعلوم‪ ،‬من خالل قراءتهم في مجال الوحي والكون‬

‫واإلنسان‪.‬‬

‫فالقس���م األول قراءت���ه واجبة‪ ،‬ألن اإلنس���ان ه���و المكلف‬

‫باالس���تخالف ف���ي ه���ذا الك���ون‪ ،‬وال يمك���ن أن تق���وم مهم���ة‬

‫االستخالف كما أرادها اهلل بمنأى ومعزل عن الوحي‪ .‬ومن هنا‬

‫تأتي مهمة اإلنسان المكلف بإدخال الوحي في مجال اإلنسان‬

‫‪47‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2012 )33‬‬


‫ث���م لم���اذا انحص���رت الق���راءة فيما ه���و مس���طور (الكتاب‬ ‫المس���طور‪/‬الوحي)‪ ،‬وغيبت قراءة المنظور (الكتاب المنظور‪/‬‬ ‫الكون بكل ما بث فيه من خالئق)‪.‬‬ ‫إن أس���ئلة مث���ل ه���ذه وغيرها‪ ،‬دفع���ت بنا إلى تتب���ع مفهوم‬ ‫القراءة في بيئته القرآنية حتى يتسنى لنا ‪-‬بإذن اهلل‪ -‬بيان معانيه‬ ‫ودالالته وفكه من االنحسار الذي أصابه‪.‬‬ ‫فم���ادة "ق���رأ" في اللغ���ة تدور على أصل واح���د هو الجمع‬ ‫واالجتماع‪ ،‬ومنه القرآن س���مي بذل���ك؛ لجمعه تراث النبوات‬ ‫وثمرة علوم األولين واآلخرين‪ ،‬والجتماع الناس‪/‬األمة حوله‪.‬‬ ‫وبلحظن���ا لعملي���ة الق���راءة‪ ،‬نجده���ا تتركب م���ن مجموعة‬ ‫عملي���ات‪ :‬نظ���ر وتدبر وتفك���ر وعقل وتتب���ع‪ ...‬وغير ذلك مما‬ ‫فع���ل عملية القراءة ويوصلها إلى الغرض المقصود الذي هو‬ ‫ُي ّ‬ ‫تحصيل العلم والمعرفة اللذين بهما تتحقق مهمة االستخالف‬ ‫أمرا كما‬ ‫والعبودي���ة ف���ي األرض‪ .‬فالقراءة ف���ي القرآن ليس���ت ً‬ ‫اتفق‪ ،‬بل هي ذات محددات وصفات ومجاالت‪.‬‬

‫محددات القراءة‬

‫واح���دا ن���راه م���ن أه���م المح���ددات‬ ‫مح���ددا‬ ‫س���نفرد بال���كالم‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫���م ر ِّب َك ا َّل ِ‬ ‫���ذي َخ َل َق‬ ‫ِاس ِ َ‬ ‫المنهاجي���ة وآكده���ا‪ ،‬ق���ال ‪﴿ :‬ا ْق َر ْأ ب ْ‬

‫���ك ا َ‬ ‫أل ْك َر ُم﴾(العلق‪)3-1:‬؛‬ ‫‪َ ‬خ َل َق ا ِ‬ ‫���ن َع َلقٍ ‪ ‬ا ْق َر ْأ َو َر ُّب َ‬ ‫إل ْن َس َ‬ ‫���ان ِم ْ‬ ‫يتبي���ن م���ن خالل اآلي���ات أن القراءة يجب أن تكون باس���م اهلل‬ ‫ومع اس���تحضار اهلل‪ ،‬فهو اس���تحضار دائم للعناية الربانية بهذا‬ ‫هلل َأ ْخ َر َج ُك ْم ِم ْن‬ ‫المخلوق الذي خلق وهو ال يعلم‬ ‫﴿وا ُ‬ ‫ً‬ ‫ش���يئا‪َ :‬‬ ‫ُب ُط ِ‬ ‫���م َع َوا َ‬ ‫ار‬ ‫ون ُأ َّم َها ِت ُك ْم َ‬ ‫ال َت ْع َل ُم َ‬ ‫أل ْب َص َ‬ ‫الس ْ‬ ‫ون َش ْ���ي ًئا َو َج َع َل َل ُك ُم َّ‬ ‫َوا َ‬ ‫ون﴾(النحل‪ .)78:‬فاإلنس���ان مدين هلل في‬ ‫���د َة َل َع َّل ُك ْم َت ْش ُ‬ ‫���ك ُر َ‬ ‫أل ْف ِئ َ‬ ‫خلقه وعلمه ومعرفته‪ ،‬وهو بذلك غير مس���تغن عن اهلل ‪ ‬بل‬ ‫دائم���ا‪ ،‬في حاجة إلى المدد اإلله���ي والفتح الرباني‪ ،‬ومن‬ ‫ه���و ً‬ ‫ظ���ن أنه مس���تغن ع���ن اهلل في تحصيل���ه المعرفي فه���و طاغ في‬ ‫األرض ظالم لنفسه‪.‬‬ ‫فالق���راءة باس���م اهلل وم���ع اهلل تنت���ج حض���ارة رباني���ة قرآنية‪،‬‬ ‫حض���ار ًة قلبه���ا التوحي���د‪ ،‬وطابعه���ا التزكية‪ ،‬وهدفه���ا العمران‬ ‫والص�ل�اح في األرض‪ .‬والقراءة المس���تغنية عن اهلل‪ ،‬هي قراءة‬ ‫إلحادي���ة تكف���ر نع���م اهلل‪ ،‬إال أنه���ا رغ���م ذل���ك تنت���ج حضارة‪،‬‬ ‫حض���ارة ظاهره���ا الرحم���ة وباطنه���ا العذاب‪ ،‬ألنه���ا تفتقر إلى‬ ‫الرشد الرباني القرآني‪.‬‬ ‫فالرباني���ة ف���ي القراءة باس���م اهلل وم���ع اس���تحضار اهلل‪ ،‬هي‬ ‫بمثابة عاصم من الوقوع في حبائل الش���يطان وسبله ومكايده‪،‬‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2012 )33‬‬

‫‪46‬‬

‫سويا على‬ ‫إنها تهدي إلى الرش���د والصالح وتس���ير باإلنس���ان ًّ‬ ‫الصراط المستقيم‪.‬‬

‫صفات القراءة‬

‫ال‬ ‫‪ -1‬صفة البش� � � �رية‪ :‬إن هذا الوح���ي ُأنزل إلى اإلنس���ان ‪-‬أو ً‬ ‫وأخي���را‪ -‬ليهتدي به ويعمله في مجاله‪ ،‬واالهتداء به ال يمكن‬ ‫ً‬ ‫أن يتحص���ل ب���دون الق���راءة والفه���م والفقه ع���ن اهلل ‪ ‬كالمه‬ ‫وخطاب���ه‪ .‬فاإلنس���ان ه���و المكل���ف بالق���راءة لم���ا زود ب���ه من‬ ‫تمكنه من ذلك‪.‬‬ ‫مؤهالت ّ‬ ‫ومن خصائص هذه القراءة البشرية النسبية‪ ،‬ذلك أن قدرات‬ ‫وطاق���ات اإلنس���ان مح���دودة مهم���ا بلغت‪ ،‬وكل م���ا ينتجه من‬ ‫علم ومعرفة هو محدود كذلك بالنس���بة لعلم اهلل ‪ ‬المطلق‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫يم﴾(يوس���ف‪ )76:‬ليبقى اإلنس���ان ينش���د‬ ‫َ‬ ‫﴿و َف ْ‬ ‫���و َق ُك ِّل ذي ع ْل ٍم َعل ٌ‬ ‫الكمال ويبحث عن الحقيقة‪" .‬وليس كما يزعم دعاة الحضارة‬ ‫الغربية الذين يقوم فكرهم على أساس طغيان معرفة اإلنسان‪،‬‬ ‫وهو ما عرف بالفاوس���تيه وتعني عبقرية اإلنس���ان وقدرته على‬ ‫اكتش���اف المجهول مهما بلغ هذا المجهول من خفاء‪ ،‬ولكون‬ ‫اإلنسان قد أدهش بإنجازاته الضئيلة‪ ،‬فإنه غير قادر على تفهم‬ ‫معنى العناية اإللهية به‪ ،‬رغم أنه ال يزال في حضيض المعرفة‬ ‫ش���يئا بإزاء‬ ‫فيم���ا ل���و علم أن ما تم اكتش���افه حت���ى اليوم‪ ،‬ليس ً‬ ‫(‪)1‬‬ ‫غوامض وأسرار عالم الشهادة‪ ،‬فكيف بعالم الغيب؟!"‪.‬‬ ‫ال‬ ‫���ن ْق ِر ُئ َك َف َ‬ ‫﴿س ُ‬ ‫‪ -2‬صفة االس � � ��تمرار والتجدد‪ :‬ق���ال ‪َ :‬‬

‫هلل ِإ َّن ُه َي ْع َل ُم ا ْل َج ْه َر َو َما َي ْخ َفى﴾(األعلى‪.)7-6:‬‬ ‫َت ْن َسى ‪ِ ‬إ َّ‬ ‫ال َما َش َاء ا ُ‬ ‫يق���ول الطاهر بن عاش���ور‪" :‬والس���ين عالمة على اس���تقبال‬ ‫مدخولها‪ ،‬وهي تفيد تأكيد حصول الفعل وخاصته إذا اقترنت‬ ‫بفعل حاصل في وقت التكلم فإنها تقتضي أنه يستمر ويتجدد‪،‬‬ ‫ال َت ْن َسى﴾‬ ‫���ن ْق ِر ُئ َك َف َ‬ ‫﴿س ُ‬ ‫وذلك تأكيد لحصوله‪ ،‬وإذا كان قوله‪َ :‬‬ ‫(‪)2‬‬ ‫إقراء‪ ،‬فالسين دالة على أن اإلقراء يستمر ويتجدد"‪.‬‬ ‫ً‬ ‫إن م���ن خصائص الوح���ي أنه مكنون تتكش���ف معانيه عبر‬ ‫الزمن وحس���ب الطلب وحس���ن صياغة الس���ؤال‪ ،‬فمعانيه غير‬ ‫���ر ِم َد ًادا‬ ‫���و َك َ‬ ‫منتهي���ة وإن كان���ت ألفاظ���ه منتهية‪ُ ﴿ :‬ق ْل َل ْ‬ ‫ان ا ْل َب ْح ُ‬ ‫ِل َك ِلم ِ‬ ‫���ات َر ِّبي َو َل ْو ِج ْئ َنا‬ ‫���ات َر ِّب���ي َل َن ِف َد ا ْل َب ْح ُر َق ْب َل َأ ْن َت ْن َف َد َك ِل َم ُ‬ ‫َ‬ ‫���جرةٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫���و أ َّن َما في األ ْر ِ‬ ‫ب ِ​ِم ْث ِل���ه َم َد ًدا﴾(الكه���ف‪َ ،)109:‬‬ ‫﴿و َل ْ‬ ‫ض م ْن َش َ َ‬ ‫ات ا ِ‬ ‫هلل‬ ‫َأ ْق َ‬ ‫�ل�ا ٌم َوا ْل َب ْح ُر َي ُم ُّد ُه ِم ْن َب ْع ِد ِه َس ْ���ب َع ُة َأ ْب ُحرٍ َما َن ِف َد ْت َك ِل َم ُ‬ ‫هلل َع ِز ٌ ِ‬ ‫يم﴾(لقم���ان‪ .)27:‬وم���ن خصائ���ص الك���ون وهو‬ ‫إ َِّن ا َ‬ ‫ي���ز َحك ٌ‬ ‫الكت���اب المع���ادل للوح���ي‪ ،‬أن حقائق���ه غير منتهي���ة ‪-‬كذلك‪-‬‬ ‫بالنس���بة لإلنسان‪ .‬أما اهلل ‪ ‬فال يخفى عليه شيء في األرض‬


‫قضايا فكرية‬

‫نعيمة لبداوي*‬

‫َ‬ ‫استطعت فتح باب بال مفتاح‪ ،‬ولكن كيف تستطيع غلق هذا الباب بدون مفتاح!؟ فالباب‬ ‫رمبا‬ ‫ودب من ثعابني البرش‪ ،‬ولكل َمن عبث وخ َّرب‪،‬‬ ‫هب ّ‬ ‫املفتوح عىل مرصاعيه منفذ لكل َمن ّ‬ ‫وجاس خالل بيتك‪َّ ،‬‬ ‫وعطل مصابيح فكرك‪ ،‬وأطفأ مشاعل ذهنك‪ ،‬وآذى َمن بجوارك سكن‪.‬‬ ‫***‬ ‫(املوازين)‬

‫من تجليات مفهوم القراءة‬ ‫في القرآن الكريم‬

‫لي���س م���ن ب���اب الت���رف الفك���ري البحث في‬

‫والمجتم���ع ث���م األم���ة وبعدها الحضارة اإلس�ل�امية‪ ،‬واس���تمر‬

‫مفاهي���م إذا ُضبط���ت ُضب���ط الدي���ن‪ .‬وبن���اء‬ ‫المفاهيم ض���رورة حضارية‪ ،‬وفرض من فروض الكفاية الذي‬

‫ود ّعم‬ ‫األول‪ ،‬وبهذا بلغت األمة اإلسالمية الشهود الحضاري‪َ ،‬‬

‫استمدادها من قراءة مزدوجة للكتابين؛ المسطور‬ ‫شهودها هذا‬ ‫ُ‬ ‫َ‬

‫إن المفاهيم القرآنية ليست‬ ‫ألفاظا كباقي األلفاظ البشرية‪،‬‬ ‫ً‬

‫ط���رف دون اآلخر تو ّقف البناء والعمران‪ ،‬أو حدث االختالل‬

‫مفه���وم واحد ثقافة كامل���ة أو حضارة كاملة أو تاريخ بأجمعه‪،‬‬

‫فقراء ٌة هذا دورها وهذه فعاليتها‪ ،‬ليس���ت بالمفهوم الشائع‬

‫الق���رآن‪ .‬فلق���د كان أول ما نزل من الوحي ه���و األمر بالقراءة‪:‬‬

‫عب���ارة ق���راءة الق���رآن هو الجان���ب الصوتي وما ل���ه من أحكام‬

‫مفاهي���م الق���رآن الكري���م‪ .‬فالوح���ي مجموعة‬

‫إذا لم يقم به أحد أثم الجميع‪.‬‬

‫إنها مس���تودعات كبرى للمعاني والدالالت‪ ...‬فقد تتكثف في‬

‫ال لهذا األمر اإللهي‬ ‫البناء والتش���ييد الحضاريين باستمرار امتثا ً‬

‫جنب���ا إل���ى جن���ب‪ .‬فكلما انحس���ر فعل الق���راءة في‬ ‫والمنظ���ور ً‬ ‫والطغيان كما هو حاصل في الحضارة المادية‪.‬‬

‫وه���ذا م���ا يتجل���ى من خ�ل�ال الحظ وتتب���ع مفهوم الق���راءة في‬

‫والمت���داول للق���راءة‪ ،‬فأول م���ا يتبادر إلى األذهان عند س���ماع‬

‫‪‬‬

‫وقواع���د م���ن ترقي���ق وتفخي���م وغنة وإدغ���ام وغي���ر ذلك ‪-‬مع‬

‫���م ر ِّب َك ا َّل ِ‬ ‫���ن َع َلقٍ‬ ‫���ذي َخ َل َق ‪َ ‬خ َل َق ا ِ‬ ‫إل ْن َس َ‬ ‫���ان ِم ْ‬ ‫ِاس ِ َ‬ ‫���ر ْأ ب ْ‬ ‫﴿ا ْق َ‬

‫أل ْك ‪ِ ‬‬ ‫���ك ا َ‬ ‫���ان َما‬ ‫���م بِا ْل َق َل ِم ‪َ ‬ع َّل َم ا ِ‬ ‫���ر ْأ َو َر ُّب َ‬ ‫إل ْن َس َ‬ ‫���ر ُم ا َّلذي َع َّل َ‬ ‫َ‬ ‫ا ْق َ‬

‫���م َي ْع َل ْم﴾(العلق‪ ،)5-1:‬ومن هذا األمر تش���كلت العقيدة والفكر‬ ‫َل ْ‬

‫أهميته‪ -‬أو هو ترديد الكلمات عن طريق الشفاه دون عناء أو‬

‫تكليف إلدراك كنه تلك الكلمات‪.‬‬

‫‪45‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2012 )33‬‬


‫ال‪.‬‬ ‫يجد ويجتهد يجد ثمار عمله‬ ‫نجاحا وفرحة وأموا ً‬ ‫يجعل َمن ّ‬ ‫ً‬ ‫ال الخوف من األمراض التي تصيب النباتات والحيوانات‪،‬‬ ‫فمث ً‬ ‫يدع���و المزارعي���ن وأصحاب مزارع الحيوان���ات إلى االجتهاد؛‬ ‫فالف�ل�اح أو المزارع الذي يعتني بمحاصيل���ه ويقاوم األمراض‬ ‫الت���ي تصي���ب ه���ذه المحاصيل يحص���ل على محص���ول وافر‪،‬‬ ‫والكسالن الذي ال يهتم‪ ،‬يحصل على محصول قليل ويجد ما‬ ‫ال يسره‪ .‬والذي ال يهتم بنظافة مزارع الحيوانات ويهتم بصحة‬ ‫حيواناته‪ ،‬تنفق منه حيواناته ويخسر الكثير من المال‪ ،‬والمجتهد‬ ‫الذي يعتني بصحة الحيوانات يكسب الكثير من المال‪.‬‬ ‫واألمراض التي تصيب األعداء الطبيعية للبشرية يستخدمها‬ ‫العلم���اء في المقاوم���ة البيولوجية‪ ،‬مثل اس���تخدام الميكروبات‬ ‫الت���ي تتخص���ص ف���ي إح���داث األم���راض للحش���رات الضارة‪،‬‬ ‫يمكن اس���تخدامها ف���ي القضاء على هذه الحش���رات‪ .‬وكذلك‬ ‫بعض الميكروبات التي تصيب الحشائش وال تؤثر في النباتات‬ ‫األخرى‪ ،‬يتم استخدامه في القضاء على هذه الحشائش‪.‬‬

‫المرض دعوة إلى الحركة والنشاط‬

‫الم���رض جن���د من جند اهلل‪ .‬فعندما حاص���ر "نابليون بونابرت"‬ ‫ع���كا‪ ،‬م���ا ص���ده عنه���ا إال إصاب���ة جن���وده بم���رض الطاع���ون‪.‬‬ ‫واألم���راض الوبائي���ة ممكن عند انتش���ارها أن تكون أقوى من‬ ‫وأي جن���ود تصي���ب الماليين م���ن الضحايا‪ ،‬وتبيد‬ ‫أي أس���لحة ّ‬ ‫ّ‬ ‫اآلالف وتقتل الماليين‪.‬‬ ‫كما أن المرض قد يكون دعوة إلى الحركة وعدم الكسل؛‬ ‫مثل أمراض المفاصل‪ ،‬والعمود الفقري‪ ،‬حيث تكون الحركة‬ ‫والمشي من أهم وسائل العالج‪ .‬ولكي يتمتع الذين يمارسون‬ ‫ال مكتبية بصحة جيدة‪ ،‬يجب أن يمارس���وا رياضة بصفة‬ ‫أعم���ا ً‬ ‫دورية‪ ،‬وأبس���ط أنواع الرياضة هو المش���ي‪ .‬والكثير من برامج‬ ‫الع�ل�اج الطبيع���ي تعتمد عل���ى الحركة والرياض���ة‪ ،‬بل الحركة‬ ‫وممارس���ة الرياض���ة تنش���ط ال���دورة الدموي���ة‪ ،‬وتق���وي جه���از‬ ‫المناع���ة‪ ،‬وتقي من الكثير م���ن األمراض‪ ...‬ومن نعم اهلل علينا‬ ‫أن عباداتنا مرتبطة بالحركة‪ ،‬فالصالة من أفضل وسائل عالج‬ ‫ّ‬ ‫أمراض المفاصل‪ ،‬والس���عي للصالة في المس���اجد فيه رياضة‬ ‫المش���ي‪ ،‬والحج كل شعائره فيه حركة‪ ،‬ولكن األهم أن تكون‬ ‫عباداتنا خالصة لوجه اهلل ‪.‬‬ ‫الم���رض ق���د يجعل الكثير م���ن األغنياء يش���عرون بالفقراء‬ ‫وحرمانه���م ومعاناته���م؛ فكثي���ر م���ن األمراض تجع���ل األطباء‬ ‫يحذرون المرضى من تناول أصناف معينة من الطعام‪ ،‬ويمنع‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2012 )33‬‬

‫‪44‬‬

‫األطب���اء المرض���ى من تن���اول ما يش���تهون من أطعمة‪ ،‬خش���ية‬ ‫حدوث مضاعفات لهم نتيجة تناول هذه األطعمة‪ .‬وقد يتذكر‬

‫األغنياء من هذه الفئة من المرضى وعدم مقدرتهم على تناول‬ ‫ما يش���تهون من أطعمة‪ ،‬بل وش���راء حاجتهم األساس���ية نتيجة‬ ‫الفقر وليس المرض‪ ،‬فينفقون األموال على الفقراء ويتصدقون‬ ‫به���ا لوج���ه اهلل ‪ ‬لعل���ه يش���فيهم‪ .‬وفي ذلك يقول رس���ول اهلل‬

‫‪" :‬داووا مرضاك���م بالصدقات" (رواه الطبراني)؛ فما تنفقونه من‬ ‫الصدق���ات ‪-‬ابتغ���اء وج���ه اهلل‪ -‬يوفى إليكم ف���ي صحتكم وفي‬

‫أش���ياء كثي���رة‪ ،‬فاعتب���روا ما أنفقتم م���ن صدقات ثم���ن دواء أو‬ ‫عالج‪ ،‬وثقوا أن اهلل يدفع به عنكم البالء‪.‬‬

‫المرض دعوة للتواضع‬

‫المرض دعوة للتواضع وعدم التكبر‪ ،‬وعدم الغرور لمن يملك‬

‫وجاها‪ ...‬فأقوى األقوياء إذا أصابه‬ ‫علما أو سلطة‬ ‫ً‬ ‫قوة بدنية أو ً‬

‫ح���ادث أو حم���ى يصبح ال حول له وال ق���وة‪ .‬وأذكي األذكياء‬

‫وأعلم العلماء قد يصيبه مرض ألزهايمر فال يتذكر حتى اسمه‬

‫وال تنفعه ذاكرته وال ذكاؤه‪ .‬يروى أن أحد الحكماء سأل أحد‬ ‫الملوك‪ :‬ماذا لو ُمنع عنك الماء وكانت حياتك مرتبطة بش���ربة‬ ‫ماء؟ فقال الملك‪ :‬أش���تريها بنصف ملك���ي‪ .‬قال الحكيم‪ :‬ماذا‬

‫مرضت ولم تس���تطيع أن تتبول وحبس في جس���مك البول؟‬ ‫لو‬ ‫َ‬ ‫فق���ال الملك‪ :‬أش���تري العالج ول���و بنصف ملك���ي! إذن بماذا‬ ‫نشتري صحتنا وسالمة أعضائنا كلها؟ فالصحة هي أفضل تاج‬

‫أي سلطان وجاه‪.‬‬ ‫على رؤوس األصحاء‪ ،‬والصحة أفضل من ّ‬

‫وأوقات المرض‪ ،‬من األوقات التي يستجاب فيها الدعاء‪،‬‬

‫مرضا‬ ‫قريبا من اهلل‪ .‬لذا يجب على من يعاني ً‬ ‫فيكون المريض ً‬

‫أن يدع���و اهلل بالخي���ر ل���ه ولآلخري���ن‪ ،‬وأن يغتن���م الفرص���ة في‬ ‫الدعوات الصالحات‪.‬‬

‫وأخي���را فإن اهلل ‪ ‬خلق لكل داء دواء‪ ،‬وأمرنا رس���ول اهلل‬ ‫ً‬

‫‪ ‬أن نسعى لعالج أمراضنا‪ .‬قالت األعراب‪ :‬يا رسول اهلل أال‬ ‫داء إال‬ ‫يضع ً‬ ‫نت���داوى‪ ،‬ق���ال‪" :‬نعم يا عباد اهلل َ‬ ‫تداو ْوا فإن اهلل لم ْ‬

‫واح���دا"‪ ،‬قالوا‪ :‬يا رس���ول اهلل وما هو؟‬ ‫داء‬ ‫وض���ع له‬ ‫ً‬ ‫ش���فاء إال ً‬ ‫ً‬ ‫���ر ُم" (رواه الترمدي)‪ .‬فيجب على كل إنس���ان مريض أن‬ ‫ق���ال‪َ :‬‬ ‫"اله َ‬

‫يسعى للعالج‪ ،‬وكان من أدعية الرسول ‪" :‬اللهم إني أسألك‬

‫العافية في الدنيا واآلخرة"‪.‬‬

‫(*) معهد بحوث أمراض النباتات ‪ /‬مصر‪.‬‬


‫رب العالمين؟ قال‪:‬‬ ‫رب‪ ،‬كيف أعودكَ‬ ‫وأنت ُّ‬ ‫َ‬ ‫َت ُع ْدن���ي‪ .‬قال‪ :‬ي���ا ِّ‬ ‫مرض فلم َت ُع ْده‪ ،‬ولو ُع ْد َته لوجدتني‬ ‫أما‬ ‫علمت أن عبدي فال ًنا ِ‬ ‫َ‬ ‫عنده؟" (رواه مس���لم)‪ ،‬ومن الس���نة النبوي���ة أن يقول للمريض عند‬ ‫رب‬ ‫زيارت���ه‪" :‬ال بأس طهور إن ش���اء اهلل" ث���م يدعو له‪" :‬اللهم َّ‬ ‫الناس َأ ْذ ِه ِب البأس‪ِ ،‬ا ِ‬ ‫ش���ف أنت الش���افي ال ش���فاء إال شفاؤك‬ ‫سقما" (وراه البخاري)‪.‬‬ ‫ً‬ ‫شفاء ال يغادر ً‬ ‫وم���ن الناحية االقتصادية فإن األمراض توفر ماليين فرص‬ ‫العم���ل للبش���ر ف���ي العال���م‪ ،‬حيث إن هن���اك العديد من البش���ر‬ ‫يعمل���ون على عالج األمراض في المستش���فيات والصيدليات‬ ‫وش���ركات األدوي���ة‪ ،‬وف���ي الجامع���ات والمراك���ز البحثي���ة من‬ ‫العلماء والباحثين‪ ،‬فنعمة اهلل على البشرية بحدوث األمراض‪،‬‬ ‫أنعمت على البشرية بماليين فرص العمل‪.‬‬ ‫ْ‬

‫المرض دافع لتقدم العلوم‬

‫نتجت عن اس���تخدام‬ ‫فالتش���وهات واألم���راض الوراثي���ة الت���ي‬ ‫ْ‬ ‫القناب���ل الذري���ة ف���ي الح���رب العالمي���ة الثاني���ة ف���ي مدينت���ي‬ ‫"هيروش���يما" و"نجازاك���ي" اليابانيتي���ن‪ ،‬والت���ي ال يزال س���كان‬ ‫المدينتي���ن يعان���ون منه���ا حت���ى اآلن‪ ،‬هي أكب���ر رادع منع دول‬ ‫العالم من استخدام هذه القنابل في الحروب حتى يومنا هذا‪.‬‬ ‫فهذه التش���وهات واألمراض الوراثية تحمي العالم من أسلحة‬ ‫الدمار الشامل‪ ،‬وتدعو العالم للسالم والعيش في أمان‪.‬‬ ‫وكذل���ك الم���رض دع���وة إل���ى الع���دل‪ ،‬وقد يجع���ل بعض‬ ‫وي ِزنونها‪ ،‬كما يجعل بعض العالقات‬ ‫الناس يراجعون أنفسهم َ‬ ‫االجتماعي���ة تع���ود إل���ى مجاريه���ا؛ فزي���ارة األه���ل واألصدقاء‬ ‫للمرض���ى قد تعيد بعض المحبة وال���ود بين الناس‪ ...‬وبالتالي‬ ‫فإن زيارة المريض يأخذ المسلم عليها الثواب من اهلل واألجر‪،‬‬ ‫ضت فلم‬ ‫ففي الحديث القدسي أن اهلل ‪ ‬يقول البن آدم‪ِ :‬‬ ‫"مر ُ‬

‫ِح ْرص اإلنس���ان عل���ى عالج األمراض‪ ،‬ل���ه الفضل في التقدم‬ ‫العلمي؛ فاألمراض هي س���بب اكتش���اف الميكروبات‪ ،‬وسبب‬ ‫االهتم���ام بعل���م الميكروبيولوجي (علم الكائن���ات الدقيقة)‪...‬‬ ‫واألم���راض داف���ع لتقدم عدد آخر من العلوم األخرى التي لها‬ ‫نواح صناعي���ة وإنتاجية أخرى‪.‬‬ ‫الفض���ل في تقدم البش���رية ف���ي ٍ‬ ‫خدم البشرية ليس في شفاء‬ ‫فالتقدم في علم الميكروبيولوجي َ‬ ‫األم���راض البش���رية فحس���ب‪ ،‬بل ف���ي عالج أم���راض النباتات‬ ‫ن���واح إنتاجي���ة أخ���رى؛ حي���ث تس���تخدم‬ ‫والحيوان���ات‪ ،‬وف���ي‬ ‫ٍ‬ ‫الميكروب���ات ف���ي إنت���اج مواد أخرى ف���ي الصناع���ة والزراعة‪،‬‬ ‫كذل���ك تطور الميكروس���كوبات وأجه���زة التحاليل وغير ذلك‬ ‫مما يس���تخدم في عالج األمراض‪ ،‬يس���تخدم ف���ي فروع علمية‬ ‫أخرى أدت إلى التقدم والرقي للبشرية‪.‬‬ ‫والخوف من المرض رادع أقوى من أي قانون‪ ،‬وقد يكون‬ ‫ربانيا للمجرمين والعاصين‪ ،‬فمثال ً الخوف من األمراض‬ ‫ً‬ ‫عقابا ًّ‬ ‫التناسلية مثل الزهري والسيالن وكذلك مرض اإليدز‪ ،‬يجعل‬ ‫الكثيري���ن يرتدعون ويمتنعون عن العالقات المحرمة أكثر من‬ ‫خوفهم من القانون‪ .‬ومن ثم فقد جعل اهلل األمراض التناسلية‬ ‫رادع وعقاب سماوي لمن يفكر أو يفعل الفاحشة‪.‬‬ ‫كما أن الخوف من األمراض يدعو إلى النظافة الشخصية‪،‬‬ ‫مثل نظافة األس���نان خو ًفا من تسوس األسنان‪ ،‬ونظافة األبدان‬ ‫خو ًف���ا م���ن األم���راض الجلدي���ة‪ ،‬ودع���وة للنظاف���ة العام���ة مثل‬ ‫الحفاظ على البيئة من التلوث‪.‬‬ ‫والخ���وف من األمراض دعوة لالجته���اد في العمل‪ ،‬حيث‬

‫‪43‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2012 )33‬‬


‫علوم‬

‫د‪ .‬زياد موسى أحمد*‬

‫نعمة المرض من وجهة أخرى‬ ‫صيب‬ ‫المس���لم ِمن المرض دعوة لتغيير السلوك‬ ‫"ما ُي ُ‬ ‫يق���ول رس���ول اهلل ‪َ :‬‬ ‫َ‬

‫ذى‬ ‫َن َص ٍ‬ ‫���ب وال َو َص ٍب وال َه ٍّم وال ُح ْز ٍن وال َأ ً‬ ‫وال َغ ٍّم حتى‬ ‫هلل بها‬ ‫ش���اكها إال ك َّفر ا ُ‬ ‫الش���وك ِة ُي ُ‬ ‫ْ‬

‫من خطاياه" (رواه البخاري)‪.‬‬

‫إن الم���رض دع���وة للح���ذر وتغيي���ر الس���لوك عن���د التعامل مع‬

‫ف���رارك من‬ ‫المج ُذوم‬ ‫األم���راض المعدي���ة‪ ،‬يق���ول ‪ِ " :‬ف َّر م���ن ْ‬ ‫َ‬ ‫األس���د" (رواه اإلم���ام أحم���د)‪ ،‬والج���ذام مرض جل���دي ٍ‬ ‫معد يجعل‬

‫الم���رض ابتالء لكي يتفكر الجميع ويعلم فضل اهلل ونعمه‬

‫أرضا موبوءة‪،‬‬ ‫األطراف تتس���اقط‪ .‬ومن س���نته ‪ ‬أن ال ندخل ً‬

‫والصح���ة تتض���ح بالمرض‪ ...‬وعن النب���ي ‪ ‬أنه قال‪َ :‬من رأى‬

‫المرض المعدي‪ ...‬ومن اإلسالم أن نأخذ حذرنا من األمراض‬

‫وفضلن���ي عل���ى كثي���رٍ ممن خ َلق تفضي�ل�ا إال ُعو ِف���ي من ذلك‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫كائنا ما كان ما عاش"‪( .‬رواه الترمذي)‬ ‫البال ِء ً‬

‫الحكمة الحذر من األمراض المعدية بال تهوين أو تهويل‪.‬‬

‫عليه���م بالصحة‪ .‬فم���ن المعروف أن "بضدها تتميز األش���ياء"‪،‬‬

‫وم���ن يوج���د ف���ي أرض موبوءة ال يخرج منها حتى ال يتفش���ى‬

‫صاح���ب ب�ل�ا ٍء فق���ال الحم���د هلل ال���ذي عافان���ي مم���ا ابتالك به‬ ‫َ‬

‫آم ُنوا ُخ ُذوا ِح ْذ َر ُك ْم﴾(النس���اء‪ ،)71:‬فمن‬ ‫﴿يا َأ ُّي َها ا َّل ِذ َ‬ ‫ين َ‬ ‫المعدية‪َ :‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2012 )33‬‬

‫‪42‬‬

‫وكذل���ك الم���رض دع���وة إل���ى الس�ل�ام ونب���ذ الح���روب؛‬


‫أدب‬

‫إسالم العدل*‬

‫فرسان األمل‬ ‫يحملون رس���ال َة الس���ماء‪ ...‬يمضون بالحب والجمال والنقاء‪ ،‬يقصفون المدن الكئيبة حتى‬ ‫حقائب من نور تنتش���ل اإلنس���ان من وحدته وش���روده‬ ‫يوزعون‬ ‫تنتفض من كآبتها القديمة‪ّ ،‬‬ ‫َ‬ ‫وتيه���ه األربعين���ي‪ ،‬وتنقل���ه م���ن خيامه القديم���ة وأكواخه الممس���وخة‪ ،‬إلى قص���ورٍ مجيدة‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫أبي‪،‬‬ ‫عفي‪ ،‬ونورها من عزم‬ ‫عمل‬ ‫فتي‪ ،‬وأس���وارها من تقى‬ ‫إيمان‬ ‫أعمدتها من‬ ‫وخدامها‬ ‫نقي‪ ،‬وأروقتها من ٍ‬ ‫ّ‬ ‫ٍ ٍّ‬ ‫ٍّ‬ ‫ً ٍّ‬ ‫ٍّ‬ ‫سكا َنها بقدرِ اشتياقهم إن علموا أنها هنالك‪ ،‬من أجلهم هم!‬ ‫مسجي‪...‬‬ ‫من لؤلؤٍ‬ ‫قصور تشتاق ّ‬ ‫ٌ‬ ‫ٍّ‬ ‫أمل‪ ،‬يرفعون راية محبة وسالم‪ ،‬يغزلون ثوب سكينة واطمئنان‪ ،‬يعزفون على أوتار الكون‬ ‫إنهم‬ ‫فرسان ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫قهرا تحت راي���ة وجهها القبيح‪،‬‬ ‫أغني���ة‬ ‫جم���ال ِّ‬ ‫ته���د ُئ َ‬ ‫روع العال���م المرتبك في أوهام الم���ادة‪ ...‬والمقولب ً‬ ‫مجازا في أثمالها الر َّثة‪ ،‬إنهم حملة رسالة النور ومهندسو الضياء‪.‬‬ ‫والمتس ِّتر‬ ‫ً‬ ‫أم���ل غير منته لرؤية ثمار ذلك‬ ‫حياته���م كله���ا لحظ���ات مخاض؛ يتألمون وحدهم‪ ،‬ويتأملهم غيرهم في ٍ‬ ‫مخاض عظيم‪ ،‬يحمل���ون فيها كل آالم‬ ‫المخ���اض العظي���م واالنتف���اع الكوني به���ا‪ ...‬نعم حياتهم لحظ���ات‬ ‫ٍ‬ ‫الكون‪ ،‬وكل هموم أهل األرض في س���عيهم الدءوب لالرتقاء باإلنس���ان نحو الكماالت اإلنسانية‪ ،‬والسمو‬ ‫به فوق أثمال المادية التي تجثم على صدره وتثقل كاهله وتدمع عينيه‪ ،‬علهم في سعيهم الدءوب المتفرد‬ ‫بنقائه يصيبون ذرة من رضى اهلل عن هؤالء الذين بايعوه تحت ش���جرة من مئات الس���نين‪ ،‬أو يلمحون نظرة‬ ‫في عيون رسول اهلل ‪ ‬تنبئهم بشفاعة منه‪.‬‬ ‫فرس���ان األمل‪ ،‬تنخلع قلوبهم‪ ،‬وتنخس���ف حياتهم‪ ،‬وينكسف كونهم إذا ما نقص نقاء أعمالهم أو انطفأ‬ ‫نورا من القلب يصاحب كل فعل وقول يصدر منهم‪،‬‬ ‫طيفه بعض الشيء‪ ...‬فهم يؤمنون بأن النقاء ليس إال ً‬ ‫وال يعك���ر صف���وه إال كل تعك���ر يش���وب ذرة من إخالصهم أو يمس ذرة م���ن تجردهم المحمدي في رحلة‬ ‫سيرهم إلى اهلل تعالى في مواكب العشق والجمال‪.‬‬ ‫ود لألغيار في حثه���م لالنضمام لمواكب‬ ‫حب‪ ،‬ومس���ار عش���قٍ ‪ ،‬وحملة ٍّ‬ ‫نع���م يؤمن���ون أن الدعوة رحلة ٍّ‬ ‫الجمال السائرة إلى اهلل‪ ،‬وليست ميدان حرب أو أرض صدام‪ ...‬نعم يعلمون أن التدافع بين الحق والباطل‬ ‫قائما ما بقي الزمان‪ ،‬فالحق لن ينتصر على الباطل بروح الصدام الحربية‪ ،‬ولكن بأخالق المحاربين‬ ‫سيظل ً‬ ‫قلوبا عاش���قة تبكي بكاء األم الثكلى في قتالهم الباطل خش���ية أن‬ ‫األبط���ال‪ ،‬الذي���ن يحمل���ون في صدورهم ً‬ ‫نفس���ا فرت منهم إلى النار‪ ،‬أو يظل في ش���قائه الدنيوي وتيهه‬ ‫يموت رجل على الباطل وال يهتدي‪ ،‬فتكون ً‬ ‫األربعيني ال يهتدي فيعاتبهم اهلل يوم القيامة عليه‪.‬‬ ‫وعشاق حق‪ ...‬أينما ح ّلوا ح َّلت البشرى‪ ،‬وتألألت من‬ ‫إنهم حملة رسالة‪ ،‬وفرسان أمل‪ ،‬ورجال دعوة‪َّ ،‬‬ ‫حوله���م آيات الفتح وتباش���ير االنتصار‪ ...‬إني أراه���م اآلن رأي العين يحملون راي ًة خ َّفاقة‪ ،‬ويملؤني األمل‬ ‫بعضا من حب اهلل لهم‪ ،‬المرس���وم في نور وجوههم وجمال‬ ‫أن يقبلون���ي‬ ‫خادم���ا ف���ي ركابهم‪ ،‬ع ّلي يصيبني ً‬ ‫ً‬ ‫أعمالهم‪ ،‬ونقاء ثمارهم‪ ،‬فهال يقبلوني؟ هال يقبلوني؟‬ ‫(*) كاتب وأديب مصري‪.‬‬

‫‪41‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2012 )33‬‬


‫بجانب القيم األخالقية‪.‬‬

‫فكل التوقعات المس���تقبلية ُت ّنب ُئ بظه���ور مجتمع األخالق‬

‫عل���ى غ���رار مجتم���ع المعرف���ة الذي ب���رز بدوره على حس���اب‬

‫مجتمع المادة‪.‬‬

‫جمي���ل تصنيف���ك ه���ذا للمجتمع���ات اإلنس���انية‪ ،‬فما هو‬ ‫‬‫ٌ‬

‫هن���ا ارتجف صاحبي عندم���ا انتقلت بفكره من عالم الدنيا‬

‫الفان���ي‪ ،‬حي���ث هدف اإلنس���ان ه���و البناء المعم���اري وامتالك‬ ‫األدوات واالنس���ياق وراء الش���هوات‪ ،‬إل���ى عال���م الخلود‪ ،‬ثم‬

‫استدرك قائال‪:‬‬

‫‪ -‬م���ا اله���دف من االنتقال لعالم آخ���ر والحديث عن قصة‬

‫تصورك لمجتمع األخالق الذي تنشده؟‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫﴿و ُق ْل َر ِّب َأ ْد ِخ ْل ِني‬ ‫تعالى‪:‬‬ ‫بقوله‬ ‫تبدأ‬ ‫دخالته‬ ‫م‬ ‫ولى‬ ‫أ‬ ‫إن‬ ‫‬‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫���ل ِص ْ ٍ َ‬ ‫���ن‬ ‫ُم ْد َخ َ‬ ‫اج َع ْ‬ ‫���ر َج ِص ْ‬ ‫���ل ِل���ي ِم ْ‬ ‫���د ٍق َو ْ‬ ‫���دق َوأ ْخ ِر ْجن���ي ُم ْخ َ‬ ‫َل ُد ْن َك ُس��� ْل َطا ًنا َن ِص ًيرا﴾(اإلس���راء‪)80:‬؛ إنه���ا قيمة الصدق كمفتاح‪،‬‬ ‫اس َ���ت ِق ْم َك َم���ا ُأ ِم ْر َت﴾(هود‪)112:‬؛ إنها قيمة االس���تقامة‬ ‫ثانيها‪َ ﴿ :‬ف ْ‬ ‫هلل ِإ َل ْي َك﴾(القصص‪)77:‬؛‬ ‫���ن ا ُ‬ ‫���ن َك َم���ا َأ ْح َس َ‬ ‫﴿و َأ ْح ِس ْ‬ ‫كخ���ط‪ ،‬ثالثها‪َ :‬‬ ‫���ح‬ ‫اص َف ِ‬ ‫إنه���ا قيم���ة اإلحس���ان كعط���اء‪ ،‬رابعه���ا‪َ ﴿ :‬ف ْ‬ ‫���ح َّ‬ ‫الص ْف َ‬ ‫الصفح كجمالية‪ ،‬وخامس���ها‪:‬‬ ‫ا ْل َج ِم َ‬ ‫يل﴾(الحج���ر‪)85:‬؛ إنه���ا قيمة ّ‬ ‫َ‬ ‫ين﴾(األنف���ال‪)46:‬؛ إنه���ا قيم���ة الصبر‬ ‫الصاب ِ​ِر َ‬ ‫َو ْ‬ ‫���ع َّ‬ ‫ِ���روا إ َِّن اهلل َم َ‬ ‫اصب ُ‬ ‫القيمي َيس���توجب وضع الفعل اإلنساني‬ ‫كمنحة‪ .‬هذا التصور َ‬

‫وال نقص���ان‪ .‬ف���إذا كانت ق���راءة الدنيا قراءتين‪ ،‬فق���راءة اآلخرة‬

‫واالس���تخالف‪ ،‬وه���ذا ال يتحق���ق إال من خ�ل�ال تحقيق ثالثية‬

‫اهلل‪ ،‬حيث ال يزيغ العقل وال القلب أمام عظمة الخالق‪ ،‬وأنت‬

‫ف���ي اإلطار االس���تراتيجي للدعوة ُبغية تكري���س وظيفة العبادة‬

‫"التمكين‪-‬التأييد‪-‬التس���ديد" لمجابه���ة تحدي���ات ه���ذا العصر‪:‬‬ ‫اك���م ِف���ي ْا َ‬ ‫ال‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫ِش َق ِلي ً‬ ‫ض َو َج َع ْل َنا َل ُك ْم ِف َيه���ا َم َعاي َ‬ ‫﴿و َل َق ْ‬ ‫َ‬ ‫���د َم َّك َّن ُ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ص ِره م ْن ي َش���اء﴾(آل‬ ‫َم���ا َت ْش ُ‬ ‫﴿وا ُ‬ ‫���ك ُر َ‬ ‫هلل ُي َؤ ِّي ُ‬ ‫���د ب َِن ْ َ َ ُ‬ ‫ون﴾(األعراف‪َ ،)10:‬‬ ‫هلل َر َمى﴾(األنفال‪.)17:‬‬ ‫﴿و َما َر َم ْي َت إ ِْذ َر َم ْي َت َو َل ِك َّن ا َ‬ ‫عمران‪َ ،)13:‬‬ ‫ هل بمقدور مجتمع األخالق إنجاز ما فشل في تحقيقه‬‫مجتمع المادة والمعرفة؟‬

‫‪ -‬نحن نقول بوجوب الحفاظ على الموازين تحقي ًقا للغاية‬

‫م���ن الوج���ود‪ -1 :‬ميزان النظام التش���ريعي والنظ���ام التكويني‪،‬‬

‫‪ -2‬ميزان القلب والعقل‪ -3 ،‬ميزان المعرفة واألخالق‪ ...‬فال‬ ‫طغيان وال اس���تعالء لعنصر في المعادلة على حس���اب عنصر‬

‫آخ���ر‪ .‬إنه���ا رحل���ة الحي���اة‪ ،‬والحياة توش���ك أن تبل���غ منتهاها‪،‬‬ ‫رحلةمس���ارها طويل وش���اق‪ ،‬يتطلب إعداد ال���زاد‪َ ﴿ :‬و َت َز َّو ُدوا‬ ‫الت ْق َوى﴾(البقرة‪.)197:‬‬ ‫الزا ِد َّ‬ ‫َفإ َِّن َخ ْي َر َّ‬ ‫﴿كلُّ َم ْن َع َلي َها َف ٍ‬ ‫ان﴾(الرحمن‪،)26:‬‬ ‫وإذا كان لكل رحلة نهاية ُ‬ ‫ْ‬ ‫فنهاي���ة ه���ذه الرحلة تب���دأ بقصة أخرى في عالم أس���مى‪ ،‬خال‬ ‫من ظواهر الفس���اد والممارسات األرضية‪ ،‬حيث يبدأ مسلسل‬

‫جدي���د في إط���ار ملحمة رهيبة‪ ،‬تتش���كل عناصره���ا من عملية‬ ‫حس���اب وعرض كتاب وعدل ميزان ليس كموازين الدنيا‪ ،‬في‬

‫دار أخرى تدعى اآلخرة‪.‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2012 )33‬‬

‫أخرى؟‬

‫‪ -‬إنه���ا انتق���ال حتم���ي من عالم مش���هود إلى عال���م غيبي‪،‬‬

‫ُيس���أل فيه اإلنس���ان عن عمره فيما أفناه‪ ،‬حيث صاغ قصته في‬

‫الحي���اة وح���ان األوان لعرضه���ا بكل تفاصيله���ا وفصولها أمام‬

‫ملك الناس‪ ،‬بش���هادة المالئكة والناس في مشهد رهيب اسمه‬ ‫���ك‬ ‫���ر ْأ ِك َت َاب َك َك َفى ب َِن ْف ِس َ‬ ‫يوم الحس���اب‪ ،‬ليقرأ كتابه بنفس���ه ﴿ا ْق َ‬ ‫ا ْل َي ْو َم َع َل ْي َك َح ِس ًيبا﴾(اإلسراء‪.)14:‬‬ ‫‪ -‬مصطلح القراءة من جديد‪ ،‬اقرأ؟‬

‫مت لحياتك من غير زيادة‬ ‫‪ -‬أج���ل اق���رأ‪ ،‬لكنها قراءة ما َق ّد َ‬

‫ق���راءة واحدة أمام الواحد األحد‪ ،‬وه���ذا إثبات آخر لوحدانية‬

‫ف���ي ضيافته وق���د انتقلت م���ن عالم العمل بدون حس���اب إلى‬

‫عالم الحس���اب ب���دون عمل‪ ،‬فإما جنة ونعي���م أو نار وجحيم‪.‬‬

‫وهكذا ُيس���دل الستار عن تجربة اإلنس���ان ورحلته في الحياة‪.‬‬ ‫إنه���ا روعة الخلق وحكمة الخالق أمام جهل المخلوق وعظم‬ ‫ال﴾(األحزاب‪.)72:‬‬ ‫وما َج ُهو ً‬ ‫األمانة‪ِ ﴿ ،‬إ َّن ُه َك َ‬ ‫ان َظ ُل ً‬

‫ودعن���ي صاحب���ي وه���و ينزف عر ًق���ا مما س���مع‪ ،‬وأنا أدعو‬ ‫ّ‬

‫﴿س��� ِّب ِح‬ ‫ل���ه بالهداية‪ ،‬هداي���ة التوفيق‪،‬‬ ‫مس���تحضرا قوله تعالى‪َ :‬‬ ‫ً‬ ‫���ق َفس���وى ‪َ ‬وا َّل ِ‬ ‫‪ِ ‬‬ ‫اس���م َر ِّب َ َ‬ ‫���د َر‬ ‫���ذي َق َّ‬ ‫���ك األ ْع َل���ى ا َّل���ذي َخ َل َ َ َّ‬ ‫ْ َ‬

‫َف َه َدى﴾(األعلى‪.)3-1:‬‬ ‫‪ -‬حياك اهلل‪.‬‬

‫بعد مغادرة صديقي‪ ،‬حاولت إعادة شريط الحوار بتفاصيله‬

‫ال نفسي عن س���بب التقصير في التواصل بين الناس‪ ،‬إذ‬ ‫مس���ائ ً‬ ‫ش���يئا قد تغير في نفس���ية صديقي‬ ‫غمرني إحس���اس غريب بأن ً‬ ‫الذي كنت ألمس السخرية واالستعالء في أسلوبه‪ ،‬حيث كان‬

‫ليودعني باس���م اهلل‪ .‬فسبحان اهلل‪...‬‬ ‫س���ؤاله األول "من هو اهلل" ّ‬ ‫﴿اد َف ْع بِا َّل ِتي ِهي َأ ْح َس ُن َف ِإ َذا ا َّل ِذي َب ْي َن َك َو َب ْي َن ُه َع َد َاو ٌة َك َأ َّن ُه َو ِل ٌّي‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫يم﴾(فصلت‪.)34:‬‬ ‫َحم ٌ‬ ‫(*) كلية العلوم‪ ،‬جامعة محمد الخامس ‪ /‬المغرب‪.‬‬

‫‪40‬‬


‫ الم���كان ه���و المج���ال ال���ذي س���خره اهلل لإلنس���ان لكي‬‫﴿و َل ُكم ِف���ي ا َ‬ ‫���اع ِإ َلى‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫ض ُم ْس َ���ت َق ٌّر َو َم َت ٌ‬ ‫يحي���ا ويتح���رك في���ه‪ْ َ :‬‬ ‫ين﴾(البقرة‪ ...)36:‬فقبل خلق اإلنسان أوجد اهلل المكان وأودع‬ ‫ِح ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫تكويني���ا‬ ‫نظام���ا‬ ‫﴿و ُكلُّ َش���ي ٍء ِع ْن َد ُه‬ ‫بميزان وبقدرٍ معل���وم‪َ :‬‬ ‫في���ه ً‬ ‫ًّ‬ ‫ْ‬ ‫ال ُت ْف ِس ُدوا‬ ‫﴿و َ‬ ‫ب ِ​ِم ْق َدارٍ ﴾(الرعد‪ ،)8:‬ونهى عن الفساد والعبث فيه‪َ :‬‬ ‫ِفي ا َ‬ ‫ال ِح َها﴾(األعراف‪ ...)56:‬هذا النظام التكويني‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫ض َب ْع َد إ ِْص َ‬

‫ال يس���تقيم إال بإقامة نظام آخر هو النظام التش���ريعي‪ ،‬إذ ُيمكن‬ ‫ال ُيحدد لإلنس���ان الوجهة‬ ‫اعتبار هذا األخير‪ ،‬لوحة قيادة‪ ،‬ودلي ً‬

‫الت���ي علي���ه أن يس���لكها ف���ي الحياة‪ ،‬كم���ا ُيحدد له ه���ذا النظام‬ ‫تعامل‬ ‫طبيع���ة العالقة مع الخالق وباقي المخلوقات‪ .‬فإذا كان‬ ‫ُ‬ ‫اإلنس���ان مع ما هو موجود‪ ،‬وفق التعليمات القرآنية "الدليل"‪،‬‬ ‫المفضي���ان إلى الت���وازن‪ ،‬وإال ظهر‬ ‫حص���ل التناس���ق والتناغم ُ‬ ‫وعم أرجاء المعمورة وما‬ ‫الفس���اد بما كس���بت أيدي اإلنس���ان ّ‬

‫حولها‪.‬‬

‫‪ -‬ماذا تقصد بالفساد؟‬

‫العص���ر‪ ،‬امت�ل�اك مهارات وتقنيات الق���راءة واإلتقان في األداء‬

‫والممارس���ة بما يحاف���ظ على الميزان الناتج ع���ن التفاعل بين‬ ‫النظامين المذكورين أعاله‪.‬‬

‫خاصا‬ ‫كتاب���ا ًّ‬ ‫ثاني���ا‪ ،‬أم���ا بالنس���بة للق���راءة‪ ،‬ف���إن لكل نظ���ام ً‬ ‫ً‬

‫مقروءا‬ ‫كتابا‬ ‫ومس���طورا (الق���رآن الكري���م) لمقاربة النظام‬ ‫ً‬ ‫ب���ه‪ً ،‬‬ ‫ً‬ ‫منش���ورا‬ ‫وكتابا‬ ‫التش���ريعي‪،‬‬ ‫ومنظ���ورا (الك���ون) لمقاربة النظام‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫التكوين���ي‪ ...‬ول���كل كتاب ق���راءة خاصة به‪ :‬التدب���ر في كتاب‬ ‫آن﴾(محم���د‪،)24:‬‬ ‫والتفكر في خلق اهلل‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫ون ا ْل ُق ْر َ‬ ‫اهلل‪َ ﴿ :‬أ َف َ�ل�ا َي َت َد َّب ُر َ‬ ‫﴿و َي َت َف َّك���ر َ ِ‬ ‫او ِ‬ ‫ات َو ْا َ‬ ‫ض﴾(آل عم���ران‪.)191:‬‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫���م َ‬ ‫َ‬ ‫الس َ‬ ‫ُ‬ ‫ون ف���ي َخ ْلقِ َّ‬ ‫مع���ا‪ ،‬الب���د أن تفض���ي إلى اس���تخالص‬ ‫ُ‬ ‫وممارس���ة القراءتي���ن ً‬ ‫العب���ر والنم���اذج من روع���ة الخلق وعظمة الخال���ق‪ ،‬ولك في‬

‫الطبي‪ ،‬العددي‪ )..‬خير دليل‬ ‫مختلف أوجه اإلعجاز (العلمي‪ّ ،‬‬ ‫���ل َت َرى ِم ْن‬ ‫���ع ا ْل َب َص َر َه ْ‬ ‫وأحس���ن الق���راءات وأجمله���ا‪َ ﴿ :‬ف ْار ِج ِ‬ ‫ُف ُطورٍ ﴾(الملك‪.)3:‬‬ ‫ثال ًثا‪ ،‬إن عملية القراءة التي يقوم بها اإلنسان لها ُمخرجات‪،‬‬

‫‪ -‬الفس���اد منظومة أصبح له���ا آلياتها وأدواتها ومن يخطط‬

‫تم‬ ‫والتي يس���تطيع من خالله���ا القيام بعملية التقيي���م (قراءة ما ّ‬ ‫فعله) والتخطيط (قراءة ما ينبغي فعله) بما يفضي من جهة إلى‬

‫عامة‪ُ ،‬محاولة تغيير اتجاه البوصلة والعبث بمضمون الدليل‪.‬‬

‫التكوين���ي)‪ ،‬ومن جهة أخرى إلى تفعي���ل الميزان الداخلي في‬

‫ويدبر شأنها‪ ...‬كما أن هناك‬ ‫أنماطا عديدة من الفساد نذكر‬ ‫ً‬ ‫لها ّ‬ ‫والتل���وث البيئ���ي واإلعالمي وبصفة‬ ‫منه���ا؛ الفس���اد األخالقي‬ ‫ّ‬ ‫‪ -‬هذا أمر طبيعي وتجل عادي للممارس���ات اإلنسانية في‬

‫الحياة قد ُيفرزهما المجتمع في حركيته‪ ...‬ليبقى س���ؤالي لك‬ ‫عن كيفية معالجة هذه الظواهر اإلنسانية‪.‬‬

‫‪ -‬م���ا تقول���ه صحي���ح‪ ،‬إال أن األم���ر يرتب���ط بم���دى إدراك‬

‫يس���مى بـ"الميزان" في منظومة الحياة وممارس���ته‬ ‫اإلنس���ان لما‬ ‫ّ‬ ‫لعملي���ة الفهم والقراءة الصحيحة واإلحس���ان ف���ي التعامل مع‬ ‫كل ما هو موجو‪.‬‬

‫‪ -‬هل من توضيح أكثر؟‬

‫الحفاظ على الميزان الخارجي (بين النظام التش���ريعي والنظام‬

‫الكي���ان اإلنس���اني (بي���ن القل���ب والعق���ل كمصدرين أساس���ين‬ ‫لتحصي���ل المعرفة الضرورية لممارس���ة الق���راءة الصحيحة في‬ ‫الحياة)‪ .‬فس�ل�امة الوجود اإلنس���اني تبقى مرتبطة باس���تراتيجية‬

‫تأهيل وتمكين هذا اإلنسان‪.‬‬

‫أي تأهي���ل تتح���دث‪ ،‬أرج���و تبس���يط األمور‬ ‫‬‫ً‬ ‫مه�ل�ا‪ ،‬ع���ن ّ‬

‫والمفاهيم من فضلك‪.‬‬

‫‪ -‬إن حركة اإلنسان‪ ،‬تقتضي تأهيله وتمكينه من أجل بناء‬

‫التعامل مع الناس‪ ،‬وتحافظ‬ ‫فقه ّ‬ ‫شخصية ُم ّتزنة ومتوازنة ُتجيد َ‬

‫ال‪ ،‬فيم���ا يخ���ص المي���زان‪ ،‬فإننا نعني ب���ه إقامة النظام‬ ‫‪ -‬أو ً‬

‫أي م���كان وزمان‪ ،‬وتحظ���ى بعالقة عبادة‬ ‫عل���ى الموازين ف���ي ّ‬

‫النظ���ام األول ق���د ُيخلُّ بالثان���ي‪ ،‬وهذا يتطلب من إنس���ان هذا‬

‫ظه���ر فيه الفس���اد بش���تى تج ّليات���ه‪ ،‬أن يمتلك المعرف���ة العلمية‬

‫التش���ريعي م���ن أج���ل اس���تقامة النظ���ام التكوين���ي‪ ،‬ألن تعطيل‬

‫متميزة مع الخالق‪ .‬وهذا يفترض في إنس���ان هذا الزمان الذي‬

‫‪39‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2012 )33‬‬


‫الفعل وممارس���ة القراءة والفهم‪ ،‬وذلك‬ ‫بتوظي���ف العق���ل والقل���ب كمصدري���ن‬ ‫لتحصي���ل المعرف���ة‪ ...‬فوظيف���ة العق���ل‪،‬‬

‫التميي���ز بي���ن مس���ارات الخي���ر والش���ر‪،‬‬ ‫والح���ق والباط���ل‪ ،‬والظل���م والع���دل‪،‬‬

‫وعموم���ا بي���ن ما ه���و صال���ح وطالح‪...‬‬ ‫ً‬ ‫فاإلنس���ان مس���ؤول ع���ن توظي���ف ذكاء‬

‫عقله واستثمار قدراته الفكرية‪ ،‬لتحقيق‬ ‫الغاي���ة م���ن وج���وده حي���ث ُمن���ح نعم���ة‬

‫اإليجاد‪.‬‬

‫هنا قاطعني صاحبي‪...‬‬

‫حك���را عل���ى‬ ‫ إن ال���ذكاء لي���س‬‫ً‬ ‫اإلنس���ان‪ ،‬ب���ل يتع���داه ليط���ال الكائنات‬

‫�إن عملي��ة الق��راءة التي يقوم بها‬ ‫الإن�س��ان له��ا خُمرج��ات‪ ،‬والت��ي‬ ‫ي�ستطي��ع من خاللها القيام بعملية‬ ‫التقيي��م والتخطي��ط‪ ،‬مب��ا يف�ضي‬ ‫م��ن جهة �إىل احلف��اظ على امليزان‬ ‫اخلارج��ي‪ ،‬وم��ن جه��ة �أخ��رى‬ ‫�إىل تفعي��ل املي��زان الداخل��ي يف‬ ‫الكيان الإن�ساين‪ .‬ف�سالمة الوجود‬ ‫الإن�ساين تبقى مرتبطة با�سرتاتيجية‬ ‫ت�أهيل ومتكني هذا الإن�سان‪.‬‬

‫األخ���رى وه���ذا بش���هادة العل���م‪ ...‬فم���ا‬

‫رأيك؟‬

‫‪ِ ‬‬ ‫َ‬ ‫���وى ‪َ ‬وا َّل ِذي‬ ‫األ ْع َلى ا َّلذي َخ َل َق َف َس َّ‬

‫َق َّد َر َف َه َدى﴾(األعلى‪.)3-1:‬‬

‫‪ -‬إنه توظي���ف لمصطلح الهداية في‬

‫كل ش���يء‪ ...‬فلم يبق لك سوى إدراجه‬ ‫في منظومتي الزمان والمكان‪.‬‬

‫‪ -‬نحن ُنس���اق إل���ى اهلل بالزمان‪ ،‬ذاك‬

‫الوعاء الذي نس���عى جاهدي���ن لملئه بما‬ ‫ه���و مفيد‪ .‬فتل���ك صحائفن���ا نملؤها بما‬ ‫نش���اء‪ .‬ولقد أبدع الحسن البصري حين‬

‫ق���ال‪" :‬ي���ا اب���ن آدم إنم���ا أنت أي���ام‪ ،‬فإذا‬ ‫ذهب يومك ذهب بعضك‪ ...‬ويوش���ك‬ ‫إذا ذهب البع���ض أن يذهب الكل‪ ،‬وقد‬

‫لزاما‬ ‫َ‬ ‫علم���ت فاعم���ل"‪ .‬هك���ذا أضح���ى ً‬ ‫الحيز‬ ‫أن نم�ل�أ وعاءن���ا الزمني في إط���ار ّ‬

‫المكان���ي الذي نتحرك فيه بغية الحفاظ على الميزان‪ ،‬مصدا ًقا‬

‫س���ميه‬ ‫س���ميه ذكاء ل���دى الكائنات األخرى ُن ّ‬ ‫‪ -‬حقيق���ة ما ُت ّ‬

‫ال َت ْط َغوا ِفي ا ْل ِم َيز ِ ‪ِ ‬‬ ‫يموا ا ْل َو ْز َن بِا ْل ِق ْس ِط‬ ‫لقوله تعالى‪َ ﴿ :‬أ َّ‬ ‫ان َو َأق ُ‬ ‫ْ‬ ‫َو َ ِ‬ ‫ان﴾(الرحم���ن‪ .)9-8:‬ولق���د أت���ى عل���ى لس���ان‬ ‫���روا ا ْل ِم َيز َ‬ ‫ال ُت ْخس ُ‬ ‫سمى بـ"ميزان اليوم"‪،‬‬ ‫الس���لف الصالح أن الصلوات الخمس ُت ّ‬ ‫والجمعة بـ"ميزان األسبوع"‪ ،‬ورمضان بـ"ميزان العام"‪ ،‬والحج‬

‫‪ -‬وم���اذا تقول عن ظاهرة هجرة الطيور واألس���ماك بدافع‬

‫العمر فيما‬ ‫فاألس���بوع‪ ،‬ثم العام‪ ،‬لينتهي بهم األمر إلى س�ل�امة ُ‬

‫هداي���ة‪ ...‬فلو كانت األس���ماك ذكية لما اس���تطاع الصياد النيل‬ ‫جد‬ ‫منه���ا بط���رق تقليدية‪ ،‬والس���تدعى ذل���ك توظي���ف تقنيات ّ‬ ‫متط���ورة تتناس���ب وق���وة ذكائه���ا في عملي���ة الصي���د‪ ...‬ونفس‬

‫السنن الطبيعية‪.‬‬ ‫المنطق يسري على أمثلة عديدة ومتنوعة بقوة ُّ‬ ‫وأمنا؟‬ ‫الغريزة بح ًثا عن أماكن أكثر سخاء ً‬

‫سمى الدافعية لهذا السلوك الحيواني بـ"الغريزة"؟‬ ‫‪ -‬ومن ّ‬

‫حرصه���م عل���ى س�ل�امة الي���وم‪،‬‬ ‫بـ"مي���زان العم���ر"‪ .‬حي���ث كان‬ ‫ُ‬ ‫يرضي اهلل وهذا مسك الختام‪.‬‬

‫يتحكم في وج���ودك ومظهرك‬ ‫فعام���ل الزم���ان‪ ،‬هو ال���ذي‬ ‫ّ‬

‫‪ -‬إنهم علماء الطبيعة الذين اس���تطاعوا اس���تقراء واستنباط‬

‫قوة ليشتعل بعد‬ ‫وقدراتك‪ ...‬فلقد ُخلقت من ضعفـ ثم ُوهبت ّ‬

‫ج���دا‪ ...‬لك���ن خال���ق الطبيع���ة وواض���ع قوانينه���ا‬ ‫‪ -‬جي���د ًّ‬

‫في خلقه؛ حيث جعل الزمان عنصر ردع وقهر لإلنس���ان‪ ،‬كي‬

‫قوانينها‪.‬‬

‫توضيحا‪ ،‬فإن‬ ‫س���مى هذه الدافعية "هداية"‪ .‬وحت���ى أكون أكثر‬ ‫ً‬ ‫ّ‬

‫سنة اهلل‬ ‫ش���يبا حتى ال تعلم بعد علم ً‬ ‫شيئا‪ ...‬إنها ّ‬ ‫ذلك رأس���ك ً‬

‫ومنعرجات الفساد‪ ...‬إنها‪...‬‬ ‫ال يزيغ وينحدر إلى مسلكيات ُ‬

‫ال عدي���دة‪ ...‬فهن���اك هداية‬ ‫مصطل���ح "الهداية" يكتس���ي أش���كا ً‬

‫ال‪:‬‬ ‫قاطعني صاحبي سائ ً‬

‫���م َر ِّب َك‬ ‫والخل���ق وهذا بيت القصيد‪ ،‬يقول تعالى‪َ :‬‬ ‫﴿س��� ِّب ِح ْ‬ ‫اس َ‬

‫كثيرا في الحديث عن المكان‪.‬‬ ‫ً‬

‫والرس���ل‪ ،‬وهداي���ة التأمل واالعتب���ار‪ ،‬وهداية التوفيق‬ ‫الكتاب ّ‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2012 )33‬‬

‫‪38‬‬

‫‪ -‬لقد أسهبت في الكالم عن الزمان‪ ،‬أرجوك ال تسترسل‬


‫قصة‬

‫د‪ .‬الحسين زايد*‬ ‫د‪ .‬عبد الكبير بالوشو*‬

‫عل���ى هام���ش إح���دى االس���تحقاقات الفكرية‬ ‫الت���ي يزخ���ر به���ا الفض���اء الجامع���ي‪ ،‬دار بيني‬ ‫وبين أحد الباحثين حوار سأحاول سرده كأنه‬ ‫حكاي���ة ُت���روى من واق���ع هذا الزم���ان‪ ،‬حيث بادرن���ي صاحبي‬ ‫بالسؤال‪:‬‬ ‫ كيف حالك؟‬‫ الحمد هلل‪.‬‬‫ ومن هو اهلل؟‬‫مخاطبا‬ ‫ف���كان جواب���ي م���ا جاء عل���ى لس���ان موس���ى ‪‬‬ ‫ً‬ ‫فرعون‪:‬‬ ‫ هو ﴿ا َّل ِذي َأ ْع َطى ُك َّل َشي ٍء َخ ْل َق ُه ُث َّم َه َدى﴾(طه‪.)50:‬‬‫ْ‬ ‫بـ﴿ك َّل َشي ٍء﴾ كل ما هو موجود؟‬ ‫ هل تقصد ُ‬‫ْ‬ ‫ بالتأكي���د‪ ...‬كل المخلوقات من صنع اهلل الذي أتقن كل‬‫شيء‪.‬‬ ‫‪ -‬دعن���ا م���ع اإلنس���ان مح���ور كل المنظومات واألنس���اق‪،‬‬

‫أنماطا‬ ‫والذي استطاع أن ُيخضع كل ما حوله إلرادته‪ ،‬وصاغ‬ ‫ً‬ ‫ف���ي الحياة إلى درجة مكنته من استنس���اخ الخاليا واألعضاء‪،‬‬ ‫أهو في اعتقادك خالق أم مخلوق؟‬ ‫ إنه مخلوق بالتأكيد‪ ،‬وفي خلقه عبرة واعتبار‪.‬‬‫ إذا س ّلمنا بما تقول‪ ،‬فما الغاية من خلقه؟‬‫ إن اهلل تعالى أنعم على اإلنس���ان بنعمتين‪ ،‬نعمة اإليجاد‬‫إل ْنس ِ‬ ‫حيث أوجده من عدم‪َ َ :‬‬ ‫الد ْه ِر‬ ‫ين ِم َن َّ‬ ‫ان ِح ٌ‬ ‫﴿ه ْل أ َتى َع َلى ا ِ َ‬ ‫أمده‬ ‫ورا﴾(اإلنس���ان‪ ،)1:‬ونعمة اإلم���داد حيث ّ‬ ‫���م َي ُك ْن َش ْ���ي ًئا َم ْذ ُك ً‬ ‫َل ْ‬ ‫بالق���درة واإلرادة عل���ى تحقي���ق األهداف المنش���ودة من وراء‬ ‫وجوده‪ ،‬وذلك في دائرة ما ُيرضي اهلل لتبقى الغاية السامية من‬ ‫خلقه هي تحقيق العبادة بمفهومها الش���امل‪ ،‬تلك العبادة التي‬ ‫ُتفضي إلى الشعور بالسعادة‪.‬‬ ‫تجاوزا‪ُ ،‬يمكن أن أفهم نعمة اإليجاد‪ ،‬فما عالقتها بنعمة‬ ‫‬‫ً‬ ‫اإلمداد وبسؤال القدرات واإلرادات؟‬ ‫أمد اهلل به اإلنسان هو اإلرادة والقدرة على‬ ‫‪ -‬إن أجمل ما ّ‬

‫‪37‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2012 )33‬‬


‫ال‪،‬‬ ‫نوع‪ .‬فف���ي األجنحة الدقيقة والطويلة يك���ون االحتكاك قلي ً‬

‫جيدة للش���م‪ ،‬فالخفافي���ش ذات األنف الورقي التي تس���توطن‬

‫ال‪ -‬يلزمها‬ ‫أم���ا الخفافيش التي تس���توطن مناطق الغاب���ات ‪-‬مث ً‬

‫رائحته‪ .‬والخفافيش ذات األذن الواسعة والفم الكبير‪ ،‬تستطيع‬

‫يمكن الخفاش من الحركة الفعالة والمناورة السريعة‪.‬‬ ‫هذا ما ّ‬ ‫ق���درة عالية للمن���اورة؛ حيث تكثر عوائق الطيران من تش���ابك‬

‫أمريك���ة الجنوبي���ة‪ ،‬تس���تطيع تمييز الفلفل األس���ود الناضج من‬

‫تميي���ز صيدها بي���ن القمامات‪ ،‬من رائحت���ه‪ .‬وخفاش "‪Soprano‬‬

‫األغص���ان وكث���رة األوراق‪ ،‬ولذلك تك���ون أجنحتها منخفضة‬

‫شمه الخارقة‪ ،‬أفراد عائلته بين األنواع‬ ‫‪ "Pipistrelles‬يميز بحاسة ّ‬

‫ب���أوراق الش���جر وااللتفاف الس���ريع عل���ى الفريس���ة‪ ،‬أكثر من‬

‫الموجودة في رقبتها وأعضاء تناسلها وأجنحتها رائحة تميزهم‪.‬‬

‫التحم���ل‪ .‬كما أنها تحت���اج إلى المناورة وتحاش���ي االصطدام‬ ‫ّ‬

‫حاجته���ا إل���ى الس���رعة الزائ���دة‪ .‬أما الت���ي تعيش ف���ي المناطق‬ ‫المكش���وفة الفس���يحة فتحتاج إلى المناورة الس���ريعة والتحرك‬

‫األخ���رى‪ .‬وعندما يحين موعد التكاثر‪ ،‬يفرز الذكور من الغدد‬ ‫تجعل‬ ‫حاس���ة الس���مع لدينا خارقة للعادة‪ ،‬فبع���ض أنواعنا‬ ‫ُ‬

‫فض�ل�ا ع���ن منظوم���ة راداره���ا‪ ،‬إلى درج���ة أنها‬ ‫ج���زءا‬ ‫الس���مع‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫النش���يط قبل كل ش���يء‪ ،‬لذلك تكون أجنحتها عالية‬ ‫التحمل‪.‬‬ ‫ّ‬

‫تس���تطيع تميي���ز ص���وت حش���رة تتح���رك عل���ى ورق الش���جر‪.‬‬

‫أكب���ر األجنح���ة‬ ‫ال بي���ن أنواعنا‪ ...‬وهن���اك نوع من‬ ‫حجما وطو ً‬ ‫ً‬

‫الضعيف���ة بين الحش���ائش (‪ 20 – 10‬كيلوهرت���ز) بفضل أنظمة‬

‫وم���ن هذا المنطل���ق كانت أجنح���ة الخفافي���ش المهاجرة‪ ،‬من‬

‫الخفافيش يعيش في البرازيل يستطيع الطيران لمسافة تتجاوز‬

‫‪ 1000‬كم‪.‬‬

‫وبه���ذه األجنحة التي تمكننا من الطيران‪ ،‬نش���كل األمواج‬

‫الصوتية التي تنس���جم مع س���رعة الطيران وتتناغم مع الحركة‬ ‫ٍ‬ ‫بأط���وال معين��� ٍة نس���تطيع م���ن خالله���ا تحديد مواق���ع الفرائس‬ ‫والمس���افات التي تفصلنا عنها‪ ،‬ونعيد حساباتها في كل لحظة‬

‫ال في صيد‬ ‫لنكون على علم بها في كل آن‪ .‬ربما كان األمر سه ً‬ ‫ضفدع���ة أو فأرة س���اكنة أو جارية عل���ى األرض‪ ،‬لكن يحتاج‬

‫ذلك إلى حس���ابات س���ريعة ودقيقة ومتواصلة دائم ًا في تقدير‬ ‫تغير‬ ‫المس���افة وتقييمها لالنقضاض على الفراشة ‪-‬مث ً‬ ‫ال‪ -‬التي ّ‬

‫والتمكن منها‪.‬‬ ‫مكانها باستمرار‪،‬‬ ‫ّ‬

‫فاألن���واع الت���ي تعيش في الغابات؛ تس���تطيع تميي���ز األصوات‬ ‫بعد أبعادها الحقيقي���ة بين الثدييات‪،‬‬ ‫الس���مع التي لم ُت َ‬ ‫كتش���ف ُ‬

‫وه���ذه األنواع تعتمد على حاس���ة الس���مع دون تفعيل رادارها‬

‫في تعيين أهدافها‪.‬‬

‫وبالتال���ي يوجد بي���ن األمهات وصغارها لغ���ة خاصة بهما‬

‫تختلف عن اللغة التي نستخدمها مع الخفافيش األخرى‪ ،‬وعن‬

‫طريق هذه اللغة واألصوات تميز األمهات صغارها عن األخرى‪.‬‬ ‫أكتف���ي به���ذا الق���در في الحدي���ث عن نفس���ي‪ ،‬وأظنكم قد‬

‫شريرا‬ ‫عدوانيا‬ ‫مصدر شؤم وال حيوا ًنا‬ ‫عرفتم اآلن بأني لس���ت‬ ‫َ‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬ ‫جيدا أنكم لن تغيروا نظرتكم وآراءكم السيئة‬ ‫لكم‪ .‬وأنا أعرف ً‬ ‫رمزا للشر‪ ،‬وبلغت‬ ‫تجاهي بسهولة‪ ،‬كيف وقد أصبحت فيكم ً‬

‫تمل���ك الخفافي���ش الكبي���رة رؤية ثاقبة ف���ي العتمة والضوء‬

‫مضرب األمثال للس���وء في أدبياتكم‪ ...‬ل���ذا أكتفي بهذا القدر‬

‫ل���رادارات ال تملكها‪ .‬وعلى الرغم من أن الخفافيش الصغيرة‬

‫ال أن تنشأ فيكم أجيال يحسنون قراءة‬ ‫أعبأ بما تقولونه عني‪ ،‬آم ً‬

‫منظوم���ة رادارية بالغة الحساس���ية والدقة تس���تطيع من خاللها‬

‫ويدركون الحكمة من وجودي في هذا الكون الشاسع‪.‬‬

‫الخاف���ت‪ ،‬وتص���ل إل���ى طعامه���ا به���ذه الرؤي���ة دون الحاج���ة‬

‫عن الحديث عني‪ ،‬وأستودعكم اهلل في محبة واحترام دون أن‬

‫تماما‪ ،‬لكنها ال ترى بش���كل جيد‪ ،‬وتحتاج إلى‬ ‫ليس���ت عمي���اء ً‬

‫كت���اب الكون المنظور‪ ،‬ويش���اهدون الكائن���ات بعين البصيرة‪،‬‬

‫تحدي���د موقع حش���رة على مس���افة خمس���ة أمتار‪ ،‬وف���أرة على‬

‫أيضا حاسة‬ ‫تشوش أو ارتياب‪ .‬ونملك ً‬ ‫مترا بال ُّ‬ ‫مسافة عشرين ً‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2012 )33‬‬

‫‪36‬‬

‫(*) جامعة ‪ 9‬أيلول ‪ /‬تركيا‪ .‬الترجمة عن التركية‪ :‬مصطفى حمزة‪.‬‬


‫(‪ )2‬عن���د الس���بات في الش���تاء‪ .‬نجتمع في الكه���وف في أعداد‬ ‫كبي���رة ‪-‬تبل���غ الماليي���ن‪ -‬عن���د الدخول في الس���بات الش���توي‬ ‫حت���ى نتقي من برد الش���تاء‪ ،‬ونن���ام في مجموع���ات كبيرة تبلغ‬ ‫عش���رين مليو ًن���ا‪ .‬تنخف���ض ضرب���ات قلوبن���ا أثناء الس���بات من‬ ‫‪ 400‬إل���ى (‪ )25-11‬ضرب���ة‪ ،‬ونقتات أثناء نومنا على أنس���جة‬ ‫الده���ون المكتنزة تحت جلودنا‪ .‬ننقس���م نح���ن الخفافيش إلى‬ ‫نش���كل ُر ُبع الثديي���ات‬ ‫أنواع كثيرة‪ ،‬إذ‬ ‫تقريبا‪ .‬نحب العيش في‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫األماكن الهادئة الساكنة المظلمة‪ ،‬كأسقف المنازل المهجورة‪،‬‬ ‫والمغارات المظلمة‪ ،‬وتجاويف األش���جار العمالقة‪ ،‬ومخازن‬ ‫المعام���ل ومس���تودعاتها‪ ...‬ونمض���ي معظ���م حياتن���ا فيه���ا في‬ ‫صمت وس���كون‪ .‬ينش���ط معظمنا في اللي���ل‪ ،‬لذلك تم تصميم‬ ‫س���لوكنا بما يتناس���ب م���ع الظالم‪ .‬يختب���ئ صغارنا ف���ي النهار‬ ‫لحماي���ة نفس���ها م���ن األع���داء‪ ،‬أما الكب���ار فلصيانة نفس���ها من‬ ‫ح���ر النهار‪ .‬ثم إن الفئران والضف���ادع والزواحف المختبئة في‬ ‫فيتيسر بذلك‬ ‫نهارا تخرج في الليل‪،‬‬ ‫طعامنا‪ ،‬ويتحقق‬ ‫ُ‬ ‫جحورها ً‬ ‫َّ‬ ‫للطبيع���ة توازنه���ا‪ .‬ول���وال خروجنا ف���ي اللي���ل واصطيادنا هذه‬ ‫���د العالم توازنه نتيجة‬ ‫الحيوان���ات‪ ،‬المت�ل�أت األرض بها‪َ ،‬و َف َق َ‬ ‫تكاثره���ا المف���رط‪ .‬وإذا اس���تثنينا قم���م الجبال العالي���ة والجزر‬ ‫فإن‬ ‫أعشاشنا تنتشر في كل بقاع‬ ‫َ‬ ‫النائية في أعماق المحيطات‪َّ ،‬‬ ‫تمكننا من‬ ‫األرض بم���ا في ذلك القطب الش���مالي‪ .‬أما س���بب ّ‬ ‫هذا االنتش���ار هو قدرتنا على الطيران واعتمادنا على األمواج‬ ‫الصوتية والذبذبات‪.‬‬ ‫تنقس���م أنواعنا إلى مجموعتين أساس���يتين‪ .‬أما المجموعة‬ ‫األولى فه���ي الخفافيش الكبي���رة (‪)Megachiroptera‬؛ وألن هذه‬ ‫الخفافي���ش تقت���ات عل���ى الفاكهة في أغلب األحي���ان‪ ،‬فإنها ال‬ ‫تمل���ك ق���درة على تحديد الجه���ة والمكان بالذبذب���ة الصوتية‪،‬‬ ‫إنم���ا تقض���ي حاجاته���ا بأعينه���ا‪ ،‬ما عدا ن���وع خف���اش الفاكهة‬ ‫المص���ري (‪ )Rousettus‬الذي يس���تخدم ذبذباته الصوتية وراداره‬ ‫في تعيين الجهة والمكان‪.‬‬ ‫وأم���ا المجموع���ة األخ���رى فه���ي الخفافي���ش الصغي���رة‬ ‫(‪)Microchiroptera‬؛ إنه���ا تقت���ات عل���ى الحش���رات واألس���ماك‬ ‫والضف���ادع والفئران وغيرها م���ن الحيوانات الصغيرة‪ ،‬وتملك‬ ‫ق���درة عجيبة على إص���دار األمواج الصوتية واس���تخدامها في‬ ‫تحديد األماكن واألجسام كالرادارات‪.‬‬

‫خبراء الرادار‬

‫إن اس���تخدام األمواج الصوتية في تحديد األماكن والمسافات‬

‫ع���ن طري���ق الص���دى (اإليك���و)‪ ،‬م���ن أب���رز مي���زات الخفافيش‬ ‫الصغي���رة‪ .‬وأول رادار أنجزتموه في عام ‪ 1930‬بعد جهودكم‬ ‫ج���دا أمام الرادار‬ ‫الجهي���دة وأبحاثكم المتواصلة‪ ،‬يظل بس���يطً ا ًّ‬ ‫ال���ذي وهبه لن���ا خالقنا العظي���م‪ ،‬ألن الرادار ال���ذي صنعتموه‪،‬‬ ‫حساس���ا‪ ،‬ويقتصر على تمييز األجس���ام المقتربة‬ ‫ثابت‪ ،‬وليس‬ ‫ً‬ ‫جدا‪ ،‬ويستطيع‬ ‫منه فقط‪ ...‬بينما الرادار الذي أملكه أنا‬ ‫حساس ًّ‬ ‫ٌ‬ ‫الوق���وف عل���ى كل حرك ِة فراش��� ٍة تطير‪ .‬وبالتالي ف���إن راداري‬ ‫يحت���اج إل���ى طاق���ة كبي���رة‪ ،‬لذل���ك ال أس���تخدمه وق���ت الراحة‬ ‫ُ‬ ‫ضرب ِة‬ ‫وعنايت���ي بالصغ���ار‪ .‬ثم إني أصدر أثناء الطي���ران مع كل ْ‬ ‫جناح موج ًة صوتي ًة طويلة منخفضة التردد ال تسمعها آذانكم‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫نص���در الص���وت م���ن حناجرن���ا (‪ ،)Larynx‬وهن���اك نوع من‬ ‫نحت موهبة اإلحساس بالذبذبات التي تتراوح ما‬ ‫الفراشات ُم ْ‬ ‫بين (‪ )60-20‬كيلوهرتز‪ ،‬وعندما تحس هذه المخلوقات بهذه‬ ‫منا‪ ،‬األمر‬ ‫الذبذبات تس���ارع في الهرب‬ ‫ّ‬ ‫وتتمك���ن من اإلفالت ّ‬ ‫الذي يدفعنا إلى اس���تخدام طيف واس���ع من األمواج الصوتية‬ ‫لألغراض المختلفة‪ .‬فنقوم بمسح األهداف بحزمة الموجات‬ ‫الضيقة بذبذبات ثابتة‪ ،‬ونصدر الموجات بتردد يتراوح من ‪20‬‬ ‫إلى ‪ 100‬كيلوهرتز خالل ‪ 2,5‬ميلي ثانية لتحديد أماكنها‪ ،‬كما‬ ‫تقوم آذاننا الكبيرة الواسعة بمهمة اللواقط الهوائية‪.‬‬ ‫إن خالقن���ا ال���ذي يتجلى بعلم���ه المحيط وقدرت���ه المطلقة‬ ‫ف���ي كل الكائنات‪ ،‬جع���ل بين أنماط حياتنا وأش���كال أجنحتنا‬ ‫وبي���ن القدرات الدينامي���ة للهواء‪ ،‬تواز ًنا يمكن التعبير عنه بلغة‬ ‫معقد بديع‪ .‬فهن���اك ارتباط رائع مثير‬ ‫تناس���ب‬ ‫الرياضي���ات بأنه‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫تحمل‬ ‫و َت‬ ‫ناس���ب بي���ن وزن الجس���م ورقعة امت���داد الجن���اح أو ُّ‬ ‫ٌ‬ ‫الجناح وبين ذبذبات الصوت التي يصدرها الرادار‪ ،‬وما ندعوه‬ ‫بـ"تحمل الجناح"‪ ،‬له ارتباط وثيق بالمواطن التي تناس���ب كل‬ ‫ُّ‬

‫‪35‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2012 )33‬‬


‫وإن ل���م تحل���ق في اله���واء كالطي���ور‪ -‬بواس���طة الزعانف أو‬‫ْ‬ ‫جلد الصدر أو الوترة من البش���رة التي تش���كل ما يشبه المظلة‬ ‫والتي تساعد على المروق عبر الهواء من العالي إلى األسفل؛‬

‫كاألس���ماك الطائ���رة‪ ،‬والضف���ادع الطائرة‪ ،‬والس���نجاب الطائر‪.‬‬

‫ولكنن���ا نح���ن الخفافي���ش ننف���رد بي���ن الفقري���ات بقدرتنا على‬ ‫الطي���ران الناش���ط أو طيران الرفرفة‪ ،‬إذْ ُخلِقن���ا على هيأ ٍة تالئم‬ ‫طاقة الهواء الرافعة وخصائصه الفيزيائية؛ فلدينا أغش���ية رقيقة‬ ‫من الجلد تغطي عظام ساعِ دِ نا وأصابعنا الطويلة األمامية تمتد‬ ‫نح���و ال���وراء لتحي���ط الطرفين الخلفيي���ن‪ ،‬وقد قمت���م في فيلم‬

‫"الرج���ل الخفاش" بتمثيل هذا الغش���اء ال���ذي نطير به‪ ،‬بالعباءة‬

‫يخلقنا ربنا عب ًثا ولم يتركنا سدى‪ ،‬إنما هدانا إلى ذلك بحكمة‬

‫منفرد يدعم حاف َة الغش���اء‬ ‫الس���وداء‪ ،‬ثم يوجد في عقبي َعظْ ٌم‬ ‫ٌ‬

‫أعداء لنبي البشر؟!‬ ‫تعييرنا ونبذنا بين المخلوقات وإلى اعتبارنا‬ ‫ً‬

‫وس���اعد َّي ورجل ََّي للطيران‪ .‬لق���د خلق العليم الخبير‬ ‫أصابعي‬ ‫َ‬

‫وإن كنت���م تجهلون ذل���ك‪ ،‬فه���ذا ال يدعو إلى‬ ‫من���ه وفض���ل‪ْ ...‬‬ ‫الجم لصغارها‬ ‫األمهات بين الحيوانات‪ ،‬بحبها‬ ‫تتميز إناثنا‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬

‫المرتخي���ة‪ ،‬وه���ذا يمكّ نني م���ن المناورة الس���ريعة عند تحريك‬ ‫‪‬؛ للطيور أرياش���ها‪ ،‬وللحشرات أجنحتها من مادة الكيتين‪،‬‬

‫تمام���ا مثلما تحب���ون أنتم صغاركم‬ ‫وش���فقتها الش���ديدة عليها‪ً ،‬‬

‫جميع���ا‪ ...‬ولو أراد‬ ‫وخل���ق لن���ا هذه العب���اءة من الجلد لنطي���ر‬ ‫ً‬ ‫لأَ ب���دع مخلوق���ات تطير بآليات مختلفة متنوع���ة ال تخطر ببال‬

‫نتركه���ا للب���ؤس والش���قاء‪ .‬ولعل ه���ذا أكبر دليل على ش���فقتنا‬

‫ونصطاد فريستنا ونحن على هذه السرعة‪.‬‬

‫وتش���فقون عليه���م‪ .‬كم���ا أننا نتع���اون على العناي���ة بالخفافيش‬

‫الصغ���ار الت���ي تموت أمهاته���ا فنقوم برعايتها م���ع صغارنا وال‬ ‫ورحمتن���ا تج���اه صغارن���ا نحن الخفافي���ش‪ ،‬التي تم ّثل الش���ؤم‬

‫والبؤس في نظركم‪ ،‬بينما أنتم البشر‪ ،‬ق ّلما تعبأون بأوالد غيركم‬ ‫وترعونهم إذا ما فقدوا أمهاتهم أو آباءهم‪ ،‬ليس هذا فحسب‪،‬‬ ‫ب���ل ويتخلى بعضكم ع���ن ولده ويلقيه على أبواب المس���اجد‬ ‫منا‬ ‫أي الفريقين ّ‬ ‫دون رحم���ة من���ه وال ش���فقة‪ .‬أخبرون���ي اآلن‪ّ ،‬‬

‫قبح���ا وأكثر بش���اعة‪ ،‬نح���ن الخفافي���ش أم أنتم البش���ر؟!‬ ‫أش���د ً‬

‫عالم مقلوب‬ ‫ٌ‬

‫إنن���ا نح���ن الخفافيش‪ ،‬الحيوان���ات الوحيدات الت���ي تتعلق من‬

‫قدميها مقلوبة برأس���ها لتس���تريح أو لتنام‪ .‬ولكن ننصحكم أال‬

‫قت دماؤك���م على دماغكم‪ ،‬وأصبتم بخلل‬ ‫تقلّدونن���ا‪ ،‬وإال تد ّف ْ‬ ‫ف���ي توازنكم‪ ،‬بينما نحن نمضي حياتنا كلها ناظرين إلى الدنيا‬

‫بالمقلوب‪ .‬وعندما نقف وقفتنا الطبيعية العكسية‪ُ ،‬تقفل األوتار‬ ‫أوتوماتيكيا‪ ،‬األمر الذي‬ ‫المتصلة بمخالبنا الشبيهة بالخطافات‬ ‫ًّ‬ ‫يمكّ ننا من عدم السقوط على األرض‪ ،‬ال سيما أثناء النوم‪.‬‬

‫الثدييات الطائرة‬

‫م���ا إن نذك���ر الطي���ران حت���ى يتب���ادر إل���ى أذهانن���ا الطي���ور ث���م‬ ‫الحش���رات الطائ���رة المجنحة‪ .‬وبالتالي فهن���اك حيوانات تطير‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2012 )33‬‬

‫‪34‬‬

‫إنس وال جان‪ ...‬وعليه فإننا نطير بس���رعة ‪ 50‬كم في الس���اعة‪،‬‬ ‫ذك���رت لكم س���اب ًقا أننا ننقس���م عل���ى العديد م���ن األنواع‪.‬‬ ‫ُ‬

‫فو ْز ُن أصغرنا يتراوح ما بين (‪ )9-1‬غم‪ ،‬وامتداد أجنحته يبلغ‬ ‫َ‬

‫‪ 16‬س���م‪ .‬كم���ا يبل���غ وزن أكبرنا ‪ 1300‬غم‪ ،‬وامت���داد أجنحته‬

‫يبلغ ‪ 170‬سم‪.‬‬

‫تمت برمجته بش���كل دقيق حسب‬ ‫أما عملية التكاثر لدينا‪ّ ،‬‬

‫المواس���م وظروف التغذي‪ ،‬حيث نعيش أربعة مواسم للتكاثر‬

‫ف���ي العام الواحد‪ .‬وعلى الرغم من أن عقولنا قاصر ٌة عن هذه‬

‫الحس���ابات الدقيقة‪ ،‬فإن النطف تتجمع عند ذكورنا مدة سبعة‬

‫موس���م الش���تاء‪،‬‬ ‫ش���هور‪ ،‬ويتزامن التصاق الجنين في األرحام‬ ‫َ‬ ‫ويتباطؤ نمو الجنين لتتأخر والدته حتى الخروج من الس���بات‬

‫موس���م يالئم النمو والتطور‪.‬‬ ‫الش���توي‪ ،‬ثم تتحقق الوالدة في‬ ‫ٍ‬ ‫واحدا ف���ي البط���ن الواحد‪ ،‬ومن‬ ‫مول���ودا‬ ‫معظ���م إناثن���ا تنجب‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫توأما أو توائم (أربعة) في البطن الواحد‪ .‬تنفرد‬ ‫الن���ادر إنجابها ً‬

‫األمه���ات فين���ا برعاي���ة الصغار‪ ،‬وال يس���اعدها الذك���ور إال في‬ ‫بعض أنواعنا النادرة‪.‬‬

‫يظ���ن الكثي���رون بأنن���ا من الحيوان���ات ذات الدم���اء الحارة‬

‫باعتبارن���ا من الثدييات‪ ،‬لكننا لس���نا كذلك‪ ،‬حيث تصل حرارة‬ ‫أجسامنا إلى ‪ 41‬درجة خالل الطيران‪ ،‬وتنخفض إلى درجتين‬


‫علوم‬

‫أ‪.‬د‪ .‬عرفان يلماز*‬

‫يحبن���ي وال يريد حتى‬ ‫لع���ل البعض منك���م ال ّ‬

‫يوم���ا أنها هاجمت البش���ر‪ .‬وبالتالي‬ ‫أن���واع‪ ،‬ولم ُيس���مع عنها ً‬

‫دائما حس���ب رغباتكم ومطالبكم أنتم البشر؟‬ ‫ً‬

‫غرام���ا‪ ،‬كم���ا أنه���ا ال تمت���ص دماء الحيوان���ات إلى درجة‬ ‫‪ً )50‬‬

‫رؤيت���ي‪ ...‬وم���اذا أفعل؟ وهل ستس���ير األمور‬

‫حي���ا بين األحياء‪ .‬م���ا دام قد‬ ‫فمالكُ ن���ا‬ ‫ً‬ ‫جميع���ا هو َم���ن خلقني ًّ‬ ‫معين���ة‪ ،‬فليس لكم إال أن‬ ‫خلقن���ي ووظفني بي���ن خلقه بأعمال َّ‬

‫فإنها حيوانات صغيرة يبلغ حجمها (‪ )9-8‬سم‪ ،‬ووزنها (‪-40‬‬

‫كبيرا على‬ ‫القت���ل‪ ...‬والحقيق���ة أن فقدان الدم ال يش���كل‬ ‫خطرا ً‬ ‫ً‬ ‫الحيوان���ات الملدوغ���ة‪ ،‬إنما الخطر يكمن ف���ي األمراض التي‬ ‫تنتق���ل عب���ر دماء ه���ذه المخلوقات الصغيرة وعلى رأس���ها داء‬

‫كثير‬ ‫أبرئ نفس���ي عن ٍ‬ ‫إلي وتس���تمعوا‪ .‬لعلّي ‪-‬بذلك‪ّ -‬‬ ‫تنصت���وا ّ‬ ‫من الش���ائعات التي تدور حول���ي‪ ،‬وأصحح بالتالي العديد من‬

‫جميعا بس���بب هذه األنواع الثالثة‬ ‫الكل���ب‪ .‬فمن الظلم اتهامنا‬ ‫ً‬

‫أن ه���ذا األمر لن يكون س���هالً‪ ،‬ألن معظمكم يخاف م ّنا نحن‬

‫أسرد كل الفوائد التي أكون سببها في هذه الكائنات‪.‬‬

‫األوه���ام الخاطئ���ة عن معش���ري وبنات جنس���ي‪ .‬ولكني أعلم‬

‫الخفافي���ش‪ ،‬وال يريد حتى االس���تماع إلينا‪ ،‬وربما الس���بب في‬

‫ذل���ك أنك���م ذكر ُتمونا في أدبياتك���م بأمثلة س���يئة فقلتم‪" :‬ينظر‬

‫كالخفافي���ش"‪" ،‬يتخ ّف���ى في الظالم كالخفافي���ش"‪" ،‬الخفافيش‬ ‫مصاصو الدماء"‪ ...‬وغيرها من األمثلة واألقوال‪.‬‬

‫فق���ط الت���ي تعي���ش على مص الدم���اء‪ .‬ولن يكف���ي الوقت ألن‬ ‫فكما أن النحل وبعض الحشرات تقوم بتنفيذ أعمال مهمة‬

‫ف���ي تلقي���ح النباتات‪ ،‬فكذل���ك تقوم بعض أنواعن���ا بعملية نقل‬

‫التقوت‪.‬‬ ‫اللق���اح من زهرة ألخرى بين األش���جار المثمرة أثناء ّ‬ ‫ه���ذا وق���د يق���وم المزارع���ون وأصح���اب األراضي الش���جرية‬

‫وف���ي قص���ص األطف���ال أو أف�ل�ام الكرت���ون‪ ،‬تجعلون من‬

‫تماما‬ ‫المثم���رة به���ذه العملية من أج���ل التلقيح بين األش���جار‪ً ،‬‬

‫رتكب فيها كل أعمال الشر والفساد‪ ...‬وعلى الرغم من براءتنا‬ ‫ُت َ‬

‫والحي���ات‪ ،‬لتمن���ع تكاثره���ا المف���رط‪ ،‬وم���ن ث���م لتحافظ على‬ ‫ّ‬

‫رم���زا لمن يح���ب العيش في الظ�ل�ام واألماكن التي‬ ‫الخف���اش‬ ‫ً‬

‫كما نفعل نحن‪ .‬وبعض أنواعنا تقتات على الفئران والضفادع‬

‫تعرفوننا إلى أوالدكم بهذه الصورة‪ ،‬وهذا‬ ‫من كل ذلك‪ ،‬فإنكم ّ‬

‫نسهل‬ ‫التوازن البيئي‪ .‬نأكل‬ ‫ً‬ ‫أعدادا هائل ًة من الحشرات‪ ،‬فبذلك ّ‬

‫العدي���دة الت���ي تتج���اوز األلف‪ ،‬ف���إن األنواع الت���ي تعيش على‬ ‫م���ص دم���ا ِء الحيوانات (مص���اص الدماء) ال تش���كل إال ثالثة‬ ‫ّ‬

‫إنف���اق ماليين الدوالرات عل���ى المبيدات الس���امة التي تؤدي‬

‫أبدا‪ .‬وعلى الرغ���م من أنواعنا‬ ‫يحزنن���ا‬ ‫كثي���را وال يمك���ن قبوله ً‬ ‫ً‬

‫عليكم مكافحة جميع أنواع الحشرات‪ ،‬وبالتالي نخ ّلصكم من‬

‫حتم���ا إل���ى التلوث البيئي واس���تنزاف طبق���ة األوزون‪ .‬إذن لم‬ ‫ً‬

‫‪33‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2012 )33‬‬


‫إنه���م يتناقل���ون المقول���ة الخاطئ���ة بعضه���م ع���ن بع���ض‪،‬‬

‫اجت���رارا دون أن يكلفوا أنفس���هم عن���اء قراءة هذا‬ ‫ويجترونه���ا‬ ‫ً‬ ‫الذي تفيض به مكتبة األدب اإلس�ل�امي المعاصر في أجناس���ه‬

‫كافة‪ ،‬والذي ينطوي بالتأكيد ‪-‬وأسوة بغيره من اآلداب‪ -‬على‬ ‫المباش���ر والواضح‪ ،‬ولكنه يتضمن ‪-‬في الوقت نفس���ه‪ -‬الكثير‬ ‫الكثي���ر م���ن األعم���ال الت���ي اس���تكملت ش���روطها الفني���ة بكل‬ ‫المعايير النقدية‪.‬‬

‫س‪ :‬عندم � � ��ا نقول في ظل التصور اإلس� �ل ��امي لألدب‪" ،‬هذا‬ ‫يجرنا هذا إلى تكفير األديب المسلم‬ ‫أديب غير إس� �ل ��امي"‪ ،‬أال ّ‬ ‫الذي ال يدخل في دائرة هذا التصور؟‬ ‫ج‪ :‬ثمة فارق كبير بين عبارة "أديب غير إسالمي" و"أديب‬

‫غير مسلم"‪.‬‬

‫ل���م يق���ل أح���د بالثاني���ة ‪ ،‬أما األول���ى فتعني أن���ه يصدر في‬

‫وإبداع���ا عن منطلقات‬ ‫ونقدا‬ ‫تنظيرا ودراس���ة‬ ‫معطيات���ه األدبية‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫مسلما على األقل بالمفهوم‬ ‫غير إسالمية‪ ،‬ولكنه يظل مع ذلك‬ ‫ً‬ ‫الجغرافي‪.‬‬

‫س‪ :‬يثير بعض معارضي مصطلح "األدب اإلس� �ل ��امي" شبهة‬ ‫البدع � � ��ة في هذا المصطلح‪ ،‬فيقول � � ��ون إنه بدعة معاصرة لم يقل‬ ‫بها أحد من س � � ��لف هذه األمة‪ ،‬فهل نحن أحرص على اإلسالم‬ ‫من أولئك؟‬ ‫ج‪ :‬لس���نا ف���ي حلبة مصارع���ة‪ ،‬لكي يك���ون أحدنا أحرص‬ ‫وآباء وأبناء‪ ،‬هم تالمذة المدرس���ة‬ ‫أج���دادا‬ ‫م���ن اآلخر‪ ،‬فالكل‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫اإلس�ل�امية الت���ي خرجت كع���ب بن زهير‪ ،‬وحس���ان بن ثابت‪،‬‬ ‫وجالل الدين الرومي‪ ،‬وحافظ‪ ،‬وسعدي‪ ،‬وعلي أحمد باكثير‪،‬‬

‫والرافع���ي‪ ،‬والكيالني‪ ،‬واألميري‪ ...‬التواصل قائم‪ ،‬فما دامت‬

‫إسالميا‪ ،‬وتبشر بخالص إسالمي‪،‬‬ ‫هما‬ ‫الكلمة المبدعة تحمل ًّ‬ ‫ًّ‬ ‫تراثيا‪،‬‬ ‫فإنها تندرج في سياق األدب اإلسالمي‬ ‫معاصرا كان أم ًّ‬ ‫ً‬

‫عالجت هذه المس���ألة‬ ‫فلي���س ثم���ة انقطاع بين األجي���ال‪ .‬ولقد‬ ‫ُ‬

‫بتفصيل واستفاضة في بحث يحمل عنوان "األدب اإلسالمي‬ ‫وإش���كالية العمق التراثي"‪ ،‬نش���ر قبل س���نوات في مجلة رابطة‬

‫األدب اإلسالمي العالمية‪.‬‬

‫إذا كانت خدمة هذا الدين بقوة الكلمة "بدعة"‪ ،‬فهي ‪-‬إذن‪-‬‬

‫البدعة الحسنة التي نرجو أن يكون لنا أجرها عند اهلل سبحانه‪:‬‬ ‫ال َك ِل َم ًة َط ِّي َب ًة َك َش َ���ج َر ٍة َط ِّي َب ٍة َأ ْص ُل َها‬ ‫هلل َم َث ً‬ ‫ف َض َر َب ا ُ‬ ‫﴿ َأ َل ْم َت َر َك ْي َ‬ ‫ِ‬ ‫ي���ن ِبإ ِْذ ِن َر ِّب َها‬ ‫���ما ِء ‪ُ ‬ت ْؤ ِتي ُأ ُك َل َها ُك َّل ِح ٍ‬ ‫َثاب ٌ‬ ‫الس َ‬ ‫ِ���ت َو َف ْر ُع َه���ا في َّ‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2012 )33‬‬

‫‪32‬‬

‫هلل ا َ‬ ‫ون﴾(إبراهيم‪.)25-24:‬‬ ‫أل ْم َث َ‬ ‫ال ِل َّلن ِ‬ ‫َو َي ْض ِر ُب ا ُ‬ ‫اس َل َع َّل ُه ْم َي َت َذ َّك ُر َ‬

‫فإذا أردنا أن يكون لهذه "الكلمة" قدرتها على التأثير‪ ،‬فإن‬

‫علينا أن نس���تدعي كل الخب���رات التنظيرية والنقدية واإلبداعية‬

‫في س���احات العالم المعاصرة‪ ،‬لك���ي ننتقي منها ما يمنح أدبنا‬ ‫سويته المطلوبة وينقله إلى مستوى العالمية‪.‬‬

‫إن العزل���ة عم���ا يطلع ف���ي الغرب عمل انتح���اري‪ ،‬كما أن‬

‫تقبله على عواهنه انتحار هو اآلخر‪ ...‬والبد أن نكون حذرين‬ ‫ّ‬

‫من االثنين‪.‬‬

‫س‪ :‬يدعى أن النظام العالم � � ��ي الجديد ينادي بثقافة عالمية‬ ‫جميعا‬ ‫موح � � ��دة‪ ،‬ال فواصل بين العقول واألف � � ��كار فيها‪ ،‬فالناس ً‬ ‫ينتمون إلى ثقافة واحدة تقوم على فكرة اإلنسانية التي ال تعرف‬ ‫الحدود‪ ...‬ماذا نقول في ذلك؟‬ ‫���اء َر ُّب َك َل َج َع َل‬ ‫﴿و َل ْو َش َ‬ ‫ج‪ :‬ال أق���ول إال ما قاله كتاب اهلل‪َ :‬‬

‫الن���اس ُأ َّم��� ًة َو ِ‬ ‫ال َم ْن َر ِح َم َر ُّب َك‬ ‫اح َد ًة َو َ‬ ‫ي���ن ‪ِ ‬إ َّ‬ ‫ال َي َزا ُل َ‬ ‫ون ُم ْخ َت ِل ِف َ‬ ‫َّ َ‬ ‫���ك َخ َل َق ُه ْم﴾(ه���ود‪ ،)119-118:‬أي خلقه���م للتغاير والتدافع‬ ‫َو ِل َذ ِل َ‬ ‫ال َد ْف ُع ا ِ‬ ‫ض َل َف َس َ���د ِت‬ ‫﴿و َل ْو َ‬ ‫اس َب ْع َض ُه ْم ب َِب ْع ٍ‬ ‫هلل َّ‬ ‫واالخت�ل�اف‪َ :‬‬ ‫الن َ‬ ‫ا َ‬ ‫ض﴾(البقرة‪.)251:‬‬ ‫أل ْر ُ‬

‫يوما الوص���ول إلى حال���ة "الثقافة‬ ‫لق���د حاول���ت الش���يوعية ً‬

‫الواح���دة" وإلغ���اء التغاي���ر واإلجهاز عل���ى خصوصيات األمم‬ ‫والش���عوب‪ ،‬فأخفق���ت وخرج���ت م���ن التاريخ‪ .‬وف���ي الطرف‬

‫اآلخ���ر ‪-‬الط���رف الغرب���ي الرأس���مالي‪ -‬ح���اول الفيلس���وف‬ ‫األمريكي "فرنس���يس فوكوياما" في "نهاي���ة التاريخ"‪ ،‬أن يلعب‬

‫عراب الثقافة الليبرالية الموحدة التي‬ ‫الدور نفس���ه وأن يصبح ّ‬ ‫تمض���ي لك���ي تغطي العالم كل���ه‪ ،‬ولكنه ما لب���ث أن رجع عن‬

‫فكرته بعد س���نوات فحس���ب من إصداره كتاب���ه المذكور‪ ،‬عاد‬ ‫لكي يؤكد مبدأ التغاير ويعترف بالخصوصيات‪.‬‬

‫ولك���ن ه���ذا كله ال يمنع من حوار اإلنس���ان مع اإلنس���ان‪،‬‬

‫ومن لقاء اإلنسان باإلنسان على مدى العالم كله‪ ،‬ومن إيجاد‬

‫جزر مشتركة لتعايش مشترك‪ ...‬ولو رجعنا إلى تاريخنا وألقينا‬

‫تنفيذا‬ ‫عليه نظرة طائر‪ ،‬فإننا سنرى‬ ‫مدهشا لفكرة أخوة اإلنسان‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫لإلنس���ان هذه‪ ...‬وما أحرى األدب اإلس�ل�امي بنزعته العالمية‬

‫الهم الكبير‪...‬‬ ‫الموازي���ة لتش���بثه بخصوصياته‪ ،‬أن تعكس ه���ذا ّ‬ ‫جل في عاله‪.‬‬ ‫هذا اللقاء المشترك تحت سماء اهلل الكبيرة ّ‬

‫(*) كلية اآلداب‪ ،‬جامعة الموصل ‪ /‬العراق‪.‬‬ ‫(**) أجرى الحوار الدكتور محمد إسماعيل المشهداني‪.‬‬


‫إغ���واء "اآلخ���ر" ال���ذي تختل���ف رؤيت���ه‬ ‫ع���ن رؤيتن���ا‪ ،‬ربم���ا بزاوية مائ���ة وثمانين‬

‫درجة‪ ...‬وقد يصل به األمر إلى حافات‬ ‫العبثية واإلباحية والفجور‪ ...‬هذه البقع‬ ‫المرضي���ة الهجين���ة ف���ي خارط���ة األدب‬ ‫العرب���ي المعاص���ر‪ ،‬ه���ي الت���ي يرفضه���ا‬

‫األدب اإلس�ل�امي‪ ...‬أما األدب العربي‬ ‫ف���ي عمقه التراثي فه���و في معظمه أدب‬

‫اإلسالم نفسه‪.‬‬

‫س‪ :‬أال يحول األدب اإلسالمي بين‬ ‫األدي � � ��ب وبين اإلبداع الفني الذي يحقق‬ ‫المتعة للقارئ؟‬ ‫ج‪ :‬ه���ذا يعتم���د على ق���درة األديب‬

‫إل���ى االكتش���اف‪ ،‬والتوق���ع والعث���ور في‬

‫�إن اخلربة الإ�سالمية يف �أعمق‬ ‫خفاء‪ ،‬و�أكرث‬ ‫جماريه��ا الإميانية ً‬ ‫جتلياتها الفكرية �إ�رشاقًا‪ ،‬ت�ضع‬ ‫ب�ين ي��دي الأدي��ب والفن��ان‬ ‫ث��روة هائلة م��ن املف��ردات‪،‬‬ ‫و�شبكة عري�ضة من التجارب‬ ‫وال��ر�ؤى والت�أ�سي�س��ات التي‬ ‫ميكن للأديب �أن ي�ستمد منها‬ ‫يف هذا اجلن�س الأدبي �أو ذاك‪.‬‬

‫نفس���ه‪ ،‬وخبرت���ه‪ ،‬ومهارت���ه‪ ،‬وفضائ���ه‬

‫نهاي���ة األمر على الجواب‪ .‬وأخش���ى ما‬ ‫يخشاه المرء وهو يبحر في تيار الحداثة‬ ‫بمس���توياتها الثالث���ة؛ التنظي���ر والنق���د‬ ‫واإلب���داع‪ ،‬أن يج���د نفس���ه قبالة حاالت‬

‫ال يمك���ن التس���ليم به���ا بس���هولة‪ :‬إلغ���اء‬

‫مبدأ المتعة الفني���ة في العمل اإلبداعي‪،‬‬

‫وتحوي���ل النش���اط النق���دي إل���ى جه���د‬ ‫مختبري قد يضع األس�ل�اك الشائكة بين‬ ‫المبدع والمتلقي أو بين النص والقارئ‪،‬‬ ‫ويص���رف األخي���ر ع���ن اس���تدعاء الناقد‬

‫لكي يعينه على التعامل مع النص‪ ،‬ليس‬

‫كمعادل���ة رياضي���ة أو كش���ف كيمياوي‪،‬‬ ‫وإنم���ا كجه���د إبداع���ي يس���تعصي عل���ى‬

‫ونقدا‬ ‫المعرف���ي‪ ،‬وق���وة خياله‪ ،‬وثقافته األدبية‬ ‫وإبداعا‪،‬‬ ‫تنظي���را ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫الجدولة والترقيم"‪.‬‬

‫عب���ر المذاه���ب األدبية كافة نتاج ضعيف ال يس���تحق أن يقرأ‪،‬‬

‫القصائد القمم بكل المعايير النقدية؟‬

‫بغ���ض النظ���ر عن المذه���ب األدبي الذي ينتم���ي إليه‪ .‬فهنالك‬

‫ألنه ال ينطوي على الحد األدنى من الش���روط اإلبداعية‪ ،‬وال‬ ‫يحقق المتعة للقارئ‪.‬‬

‫هل ق���رأت أعم���ال األديبي���ن اإلس�ل�اميين الكبيرين‪ :‬علي‬

‫أحم���د باكثي���ر ونجي���ب الكيالن���ي؟ إن روايت���ي "وا إس�ل�اماه"‬ ‫ْ‬ ‫و"الثائ���ر األحم���ر" ألولهم���ا عل���ى س���بيل المث���ال‪ ،‬و"عمالق���ة‬ ‫الش���مال" و"ليالي تركس���تان" لثانيهما على سبيل المثال أيض ًا‪،‬‬

‫قمما روائية على المس���تويين اإلبداعي واإلمتاعي‪ ،‬ولقد‬ ‫تمثل ً‬ ‫أدهش���ت اآلالف من‬ ‫الق���راء‪ ..‬وهناك ‪-‬غي���ر هذين‪ -‬جيل من‬ ‫ّ‬ ‫الروائيي���ن اإلس�ل�اميين المعاصري���ن الذي���ن قدم���وا الكثير في‬

‫السياق نفسه‪.‬‬

‫ال من‬ ‫فكيف جئنا إلى الشعر الذي قدم فيه اإلسالميون سي ً‬

‫س‪ :‬يقول المعارضون لمصطلح األدب اإلس� �ل ��امي‪ ،‬أن هذا‬ ‫واضحا ومباش � � � ً�را في خطابه‪ ،‬والوضوح‬ ‫المصطلح يجعل األدب ً‬ ‫والمباشرة عدوان لَدودان لفنية النص اإلبداعي‪ ،‬فكيف نتجاوز‬ ‫ذلك؟‬ ‫ج‪ :‬يمكن أن تجد بغيتك في جوابي على الس���ؤال األول‪،‬‬ ‫فالوضوح والمباشرة عدوان لفنية النص األدبي ليس في دائرة‬

‫األدب اإلس�ل�امي وح���ده‪ ،‬وإنم���ا في المذاهب كاف���ة‪ .‬فها هنا‬ ‫صحت التس���مية‪ -‬يخترق الكثير من‬ ‫ً‬ ‫أيضا تجد هذا الداء ‪-‬إذا ّ‬ ‫األعم���ال‪ ...‬إذ البد من أجل التحقق بالش���روط الفنية لألداء‪،‬‬

‫م���ن االنزي���اح ‪-‬بدرج���ة أو أخرى‪ -‬ع���ن الدالالت المباش���رة‬

‫وقد سبق وأن قلت في مقدمة مجموعتي القصصية "كلمة‬

‫للكلم���ات‪ ،‬وإال فهي المعاني المطروح���ة على قارعة الطريق‬

‫صممها المهندس���ون الكبار في الغرب والش���رق وعلى رأسها‬

‫ولكني أحب أن أسأل هؤالء المعترضين‪ :‬هل أتيح لهم أن‬

‫الهدمي���ة الت���ي تنطوي عليها بعض تي���ارات الحداثة اإلبداعية‪،‬‬

‫علميا‬ ‫حكما‬ ‫كاف���ة إن لم أقل كلها‪ ،‬لكي يكون حكمهم عليها‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬

‫نصه "في رأي���ي أن احترام مطالب القصة القصيرة كما‬ ‫اهلل" م���ا ّ‬

‫العقدة‪ ،‬يعد ضرورة من الضرورات‪ ،‬ليس فقط لتجاوز النزعة‬ ‫في س���عيها المحموم لتدمي���ر الثوابت الموضوعي���ة والجمالية‬

‫مع���ا حيث يصير التغيير هد ًفا بحد ذاته‪ ،‬وإنما الحترام وتقدير‬ ‫ً‬ ‫حاجة القارئ الذهنية والنفسية إلى المتعة‪ ،‬والمشاركة والتوق‬

‫كما يقول الجاحظ‪.‬‬

‫جل األعمال األدبية اإلسالمية المعاصرة في أجناسها‬ ‫يقرؤوا ّ‬ ‫صائبا؟!‬ ‫ً‬

‫إنه���ا مقولة ال تقوم على اس���تقراء ش���امل‪ ،‬وتطل���ق‬ ‫تعميما‬ ‫ً‬

‫جميعا‪ -‬خطأ علمي‪.‬‬ ‫خاطئا‪ ،‬والتعميم ‪-‬كما نعرف‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫‪31‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2012 )33‬‬


‫النبوية وإلى اليوم‪ -‬أدب إس�ل�امي ُينتجه في معظمه مسلمون‪،‬‬

‫فضاء‪،‬‬ ‫مضمون���ه الفك���ري بم���ا أنه ينبثق ع���ن العقيدة األوس���ع‬ ‫ً‬

‫ونق���اده نظ���رت لهذا المصطل���ح نظرة موضوعي���ة هادئة‪ ،‬تقوم‬

‫متف���ردة يلتقي فيه���ا الوحي بالوجود‪ ،‬وتتلق���ى تعاليمها من اهلل‬

‫ف�ل�ا داع���ي إذن له���ذا التمييز‪ .‬ولك���ن طائف ًة من ش���داة األدب‬

‫على أسس واضحة ومعايير مستقيمة‪ ،‬منهم ضيف حلقتنا لهذا‬ ‫العدد‪ ،‬األديب اإلس�ل�امي الكبير األستاذ الدكتور عماد الدين‬ ‫ليعرفنا كيفية تحقق اإلسالمية في األدب؟ ويزيل اللثام‬ ‫خليل‪ّ ،‬‬ ‫عن الشبهات التي ما زالت تثار حول األدب اإلسالمي‪.‬‬

‫واألغن���ى خبرات‪ ،‬واألغزر مف���ردات‬ ‫وعطاء؟ باعتبارها إضاءة‬ ‫ً‬ ‫سبحانه الذي ال يخفى عليه شيء في األرض وال في السماء‪،‬‬ ‫وتفتح جناحيها على اإلنسان والعالم والكون والمصير؟‬

‫خفاء‪،‬‬ ‫إن الخب���رة اإلس�ل�امية في أعمق مجاريه���ا اإليمانية‬ ‫ً‬

‫وأكثر تجلياتها الفكرية إشرا ًقا‪ ،‬تضع بين يدي األديب والفنان‬

‫ال حدثتمونا في البدء عن األدب اإلس� �ل ��امي‪ ،‬وكيفية‬ ‫س‪ :‬ه ّ‬ ‫(**)‬ ‫تحققّه؟‬ ‫يتحتم التأكيد على أن أي حديث عن المضمون‬ ‫ج‪:‬‬ ‫ابتداء ّ‬ ‫ً‬

‫هذا الجنس األدبي أو ذاك‪.‬‬

‫ع���ن التقنيات الفنية الملتحم���ة بالمضمون‪ ،‬والحاملة لهمومه‪،‬‬

‫مبدع���ا بمنظوم���ة الخب���رات والقيم الفكرية لإلس�ل�ام‪،‬‬ ‫التزام���ا‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫الفكري لألدب اإلسالمي المعاصر‪ ،‬يجب أال يغفل ‪-‬لحظة‪-‬‬ ‫والقدي���رة‬ ‫وظيفي���ا‪ -‬على توصيله إل���ى المتلقي بأكبر قدر من‬‫ًّ‬

‫"التأثير"‪.‬‬

‫تل���ك ه���ي مهمة األدب عل���ى إطالقه وعبر أجناس���ه كافة‪،‬‬

‫وأي اخت�ل�ال في التناس���ب بين الش���كل والمضمون‪ ،‬س���يميل‬ ‫بالمي���زان ص���وب المضموني���ة التي تضعف العم���ل اإلبداعي‪،‬‬

‫أدبا‪.‬‬ ‫وربما تخرج به عن أن يكون ً‬

‫ث���روة هائل���ة م���ن المف���ردات‪ ،‬وش���بكة عريض���ة م���ن التجارب‬ ‫والرؤى والتأسيس���ات التي يمكن لألديب أن يس���تمد منها في‬ ‫ف���ي ضوء ذلك كل���ه‪ ،‬يب���دو "التأصيل اإلس�ل�امي لألدب"‬

‫وتقديمه���ا للن���اس بأش���د وتائر الق���درة عل���ى التأثي���ر‪ ،‬يوازيها‬ ‫سعي مرسوم لهدم القيم الوضعية المضادة في الفكر واألدب‬

‫والحياة‪.‬‬

‫ولكن‪ ،‬مرة ثانية وثالثة‪ ،‬بما أن اإلبداع األدبي في أجناس���ه‬

‫كاف���ة ينطوي على بعد آخر يلتحم بالبعد الفكري‪ ،‬ويمكنه من‬

‫التأثي���ر ف���ي المتلقي‪ ،‬وذلك ه���و منظومة القي���م الجمالية‪ ،‬فإن‬

‫عرفنا األدب اإلسالمي ‪-‬بمفاهيمه المعاصرة‪ -‬بأنه‬ ‫فإذا ما ّ‬

‫التأصيل اإلسالمي لألدب يتحتم أال يغفل عن إيالء االهتمام‬

‫وجدنا أنفس���نا أمام العنصرين األساسيين للعمل األدبي وهما‬

‫إسالمية للقيم الفنية الشائعة في اآلداب العالمية‪ ،‬رغم إقرارنا‬

‫"تعبير جمالي مؤ ّثر بالكلمة عن التصور اإلس�ل�امي للوجود"‪،‬‬ ‫"التصور" و"الجمال"‪.‬‬ ‫ّ‬

‫هذه المسألة ال يكاد يختلف فيها اثنان في العالم كله‪ ،‬وإن‬

‫كان بعض أدبائنا ونقادنا اإلس�ل�اميين ال يزالون يرمون بثقلهم‬

‫نوعا من التهميش ‪-‬بدرجة أو‬ ‫صوب المضمونية‪ ،‬ويمارس���ون ً‬ ‫أخرى‪ -‬للقيم الجمالية التي يتحتم أن تلتحم بالمضمون‪.‬‬

‫ف���إذا م���ا جئنا إل���ى المضم���ون الفكري‪ ،‬وجدن���ا المذاهب‬

‫األدبي���ة كاف���ة ‪-‬فيم���ا ع���دا البرناس���ية بطبيع���ة الح���ال‪ -‬تحمل‬

‫وتبش���ر بمنظوم���ة من القي���م التصوري���ة كل وفق الش���بكة التي‬ ‫ّ‬

‫غائما بعض الش���يء‬ ‫تؤس���س لذلك المذه���ب‪ .‬وإذا كان األمر ً‬

‫ف���ي الكالس���يكية والكالس���يكية الجديدة‪ ،‬وربما الرومانس���ية‪،‬‬

‫تماما في الواقعية والواقعية االش���تراكية والرمزية‬ ‫فإن���ه واض���ح ً‬ ‫والوجودية‪ ،‬والمذاهب التالية كالسريالية والحبشية (الطليعية)‪،‬‬

‫بعضا وال يزال‪.‬‬ ‫وتيارات الحداثة المتدفقة التي يضرب بعضها ً‬ ‫في حالة كهذه‪ ،‬أال يحق لألدب اإلسالمي أن ينطوي على‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2012 )33‬‬

‫‪30‬‬

‫البال���غ به���ذا الجان���ب‪ ،‬وأن يبحث ما وس���عه الجهد عن بدائل‬ ‫محايدا يمكن‬ ‫وجه���ا‬ ‫ً‬ ‫مس���ب ًقا‪ -‬ب���أن معظم هذه القي���م يحمل ً‬‫توظيفه في هذا المذهب أو ذاك‪.‬‬

‫وم���ع المضم���ون الفكري والقي���م الجمالي���ة‪ ،‬البد لألدب‬

‫اإلس�ل�امي ‪-‬وه���و يس���عى إل���ى المزيد م���ن التأصي���ل‪ -‬من أن‬ ‫يش���كل منهجه المتميز في النقد والدراس���ة األدبية‪ ،‬أس���وة بما‬

‫فعلته وتفعله جل المذاهب والمدارس النقدية في العالم‪.‬‬

‫س‪ :‬يعترض بعض األدباء على مصطلح األدب اإلس� �ل ��امي‬ ‫بقول � � ��ه‪ :‬إننا بهذه التس � � ��مية نلغي األدب العرب � � ��ي‪ ،‬ويرى أن هذا‬ ‫جناي � � ��ة على األدب العربي ال � � ��ذي أعطى على مدى قرون طويلة‬ ‫وال يزال‪ ...‬فكيف نجيبهم؟‬ ‫ج‪ :‬لي���س ثمة مش���كلة عل���ى اإلط�ل�اق‪ ،‬ف���األدب العربي‪،‬‬

‫وبخاص���ة المعاص���ر‪ ،‬لي���س س���واء‪ ...‬هنال���ك األدب العرب���ي‬

‫األصي���ل ال���ذي يتوافق م���ع األدب اإلس�ل�امي ويرفده ويصبح‬ ‫ج���زءا من���ه‪ ،‬وهنالك األدب العربي المس���خ ال���ذي اندفع وراء‬ ‫ً‬


‫أدب‬

‫أ‪.‬د‪ .‬عماد الدين خليل*‬

‫إسالمية األدب‬

‫أ‪.‬د‪ .‬عماد الدين خليل‬

‫ظه���رت الدع���وة إل���ى األدب اإلس�ل�امي في‬ ‫العصر الحديث‪ ،‬ووقف منها المثقفون العرب‬ ‫والمسلمون مواقف متعددة متباينة‪ ،‬فمنهم من‬ ‫جما‪ ،‬وتحمس له غاية‬ ‫احتف���ى بهذا المصطلح الجدي���د‬ ‫ً‬ ‫احتفاء ًّ‬ ‫الحم���اس دون أن يكون عنده مع ذلك الحماس رؤية متكاملة‬ ‫ال لهذا المصطلح‪،‬‬ ‫تقوم على أسس واضحة وتتبنى‬ ‫تصورا شام ً‬ ‫ً‬ ‫ومنه���م م���ن رفضه بدع���وى أن األدب العربي كل���ه ‪-‬منذ البعثة‬

‫‪29‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2012 )33‬‬


‫وه ْم َأ ْو‬ ‫الن ِ‬ ‫اس َي ْس َ���ت ْو ُف َ‬ ‫ي���ن ِإ َذا ْاك َتا ُل���وا َع َلى َّ‬ ‫ون ‪َ ‬و ِإ َذا َكا ُل ُ‬ ‫‪ ‬ا َّل ِذ َ‬ ‫ِ‬ ‫ُ ِ َ‬ ‫ون ‪ِ ‬ل َي ْو ٍم‬ ‫ون ‪َ ‬أ َ‬ ‫���م َم ْب ُعو ُث َ‬ ‫���ر َ‬ ‫َو َز ُن ُ‬ ‫ال َي ُظ ُّن أو َلئ َك أ َّن ُه ْ‬ ‫وه ْ‬ ‫���م ُي ْخس ُ‬ ‫ظ ٍ ‪‬‬ ‫َع ِ‬ ‫ين﴾(المطففين‪.)6-1:‬‬ ‫وم َّ‬ ‫اس ِل َر ِّب ا ْل َعا َل ِم َ‬ ‫يم َي ْو َم َي ُق ُ‬ ‫الن ُ‬

‫ال َت ِج ُد َق ْو ًما‬ ‫وأنه يزع من مواالة أعداء اهلل‪ ،‬قال سبحانه‪َ ﴿ :‬‬ ‫هلل َوا ْليو ِم ِ‬ ‫���ون بِ���ا ِ‬ ‫هلل َو َر ُس���و َل ُه َو َل ْو‬ ‫اآلخ ِ‬ ‫ون َم ْن َح َّاد ا َ‬ ‫���ر ُي َو ُّاد َ‬ ‫ُي ْؤ ِم ُن َ‬ ‫َْ‬ ‫َكا ُنوا َآب َاء ُه ْم َأ ْو َأ ْب َن َاء ُه ْم َأ ْو إ ِْخ َوا َن ُه ْم َأ ْو َع ِش َير َت ُه ْم﴾(المجادلة‪.)22:‬‬ ‫﴿و َم ْن‬ ‫وأنه يزع من الغلول الذي هو اختالس المال العام‪َ :‬‬ ‫َي ْغ ُل ْل َي ْأ ِت ب َِما َغ َّل َي ْو َم ا ْل ِق َي َام ِة﴾(آل عمران‪.)161:‬‬ ‫ين َظ َل ُموا إ ِْذ‬ ‫���و َي َرى ا َّل ِذ َ‬ ‫وأن���ه يزع من االتباع األعمى‪َ :‬‬ ‫﴿و َل ْ‬ ‫اب ‪‬‬ ‫هلل َش ِ‬ ‫���ر ْو َن ا ْل َع َ‬ ‫يد ا ْل َع َذ ِ‬ ‫���و َة لهلِ ِ َج ِم ًيعا َو َأ َّن ا َ‬ ‫���د ُ‬ ‫���ذ َ‬ ‫اب َأ َّن ا ْل ُق َّ‬ ‫َي َ‬ ‫اب َو َت َق َّط َع ْت‬ ‫إِذ تب‬ ‫ين ا ُّتب ُِعوا ِم َن ا َّل ِذ َ‬ ‫���ر َأ ا َّل ِذ َ‬ ‫ي���ن َّات َب ُعوا َو َر َأ ُوا ا ْل َع َذ َ‬ ‫ْ َ َ َّ‬ ‫بِهِ ���م ا َ‬ ‫���و َأ َّن َل َنا َكر ًة َف َن َت َبر َأ ِم ْن ُه ْم‬ ‫اب ‪َ ‬و َق َ‬ ‫ال ا َّل ِذ َ‬ ‫أل ْس َ���ب ُ‬ ‫ين َّات َب ُعوا َل ْ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫هلل َأ ْعما َل ُهم َحس���ر ٍ‬ ‫ِ‬ ‫يهِ‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫ر‬ ‫ي‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ذ‬ ‫ك‬ ‫ا‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫وا‬ ‫ء‬ ‫ر‬ ‫ب‬ ‫ت‬ ‫ات َع َل ْيهِ ْم َو َما‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َك َما َ َ َّ ُ َّ َ َ ُ ُ ُ َ ْ َ َ‬ ‫أيضا ‪َ ﴿ :‬ف ِإ َّن ُه ْم‬ ‫النارِ ﴾(البق���رة‪ ،)167-165:‬وقال ً‬ ‫ين ِم َن َّ‬ ‫���م ب َِخارِ ِج َ‬ ‫ُه ْ‬ ‫ون﴾(الصافات‪.)33:‬‬ ‫َي ْو َم ِئ ٍذ ِفي ا ْل َع َذ ِ‬ ‫اب ُم ْش َت ِر ُك َ‬ ‫وأن���ه ي���زع المؤمن م���ن اس���تعمال جوارحه وحواس���ه فيما‬ ‫ل���م تخل���ق من أجله‪ ،‬ألنها ستش���هد عليه ي���وم القيامة في حال‬

‫أدخ���ل عليها الض���رر وغذاها بالخبائث وفي ح���ال وظفها في‬ ‫اإلض���رار بغي���ره في دينه أو دنياه‪ .‬فجس���مه كل���ه ملك هلل‪ ،‬وهو‬

‫أمانة مودعة عنده‪ ،‬ورقيب ال يفارقه في أي حال‪ ،‬وواجبه أن‬ ‫ون‬ ‫ين َي ْر ُم َ‬ ‫يحفظه وأن يحذره‪ ،‬وفي هذا قال اهلل تعالى‪﴿ :‬إ َِّن ا َّل ِذ َ‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬ ‫الد ْنيا َو ِ‬ ‫ات ا ْل َغا ِف َ ِ‬ ‫ا ْلم ْح َص َن ِ‬ ‫اآلخ َر ِة َو َل ُه ْم‬ ‫ُ‬ ‫الت ا ْل ُم ْؤم َنات ُلع ُنوا في ُّ َ‬ ‫‪‬‬ ‫َع َذ ٌ ِ‬ ‫���ه ُد َع َل ْيهِ ْم َأ ْل ِس َن ُت ُه ْم َو َأ ْي ِديهِ ْم َو َأ ْر ُج ُل ُه ْم‬ ‫يم َي ْو َم َت ْش َ‬ ‫اب َعظ ٌ‬ ‫بِم���ا َكا ُنوا َي ْعم ُل َ ‪ِ ٍ ِ ‬‬ ‫ون‬ ‫���م ا ُ‬ ‫هلل ِد َين ُه ُم ا ْل َح َّق َو َي ْع َل ُم َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ون َي ْو َمئذ ُي َو ّفيهِ ُ‬ ‫ِين﴾(النور‪.)25-23:‬‬ ‫أ ََّن ا َ‬ ‫هلل ُه َو ا ْل َح ُّق ا ْل ُمب ُ‬

‫ه���ذا اإليم���ان من حيث هو قوة نفس���ية مثم���رة للمعروف‪،‬‬

‫س���ماه الق���رآن الكريم‪" :‬خوف‬ ‫ووازع دين���ي مانع من المنكر‪ّ ،‬‬ ‫مق���ام اهلل"‪ ،‬أي خ���وف حل���ول غضبه في الدني���ا واآلخرة‪ .‬وقد‬ ‫جعله أصل كل صالح وتقوى‪ ،‬ومفتاح كل خير وبر‪ ،‬بدليل أن‬

‫اهلل تعالى في سور عدة من كتابه‪ ،‬جعل استحقاق دخول الجنة‬

‫راجعا إلى اكتس���اب خصال صالحة كثيرة كلها مصالح يحتاج‬ ‫ً‬

‫ث���م أرج���ع في س���ورة الرحم���ان الس���ببين إل���ى أولهم���ا فقال‪:‬‬ ‫���ام َر ِّب��� ِه َج َّن َت ِ‬ ‫ان﴾(الرحم���ن‪)46:‬؛ فأكد أن خوف‬ ‫���ن َخ َ‬ ‫﴿و ِل َم ْ‬ ‫اف َم َق َ‬ ‫َ‬

‫ناهيا لنفسه‬ ‫مقام اهلل هو األصل‪ ،‬وأنه هو الذي يجعل المؤمن ً‬ ‫ع���ن اله���وى‪ ،‬أي عن حب الدني���ا وإيثارها عل���ى اآلخرة‪ .‬فإنه‬

‫يمنع من االمتثال ألمر اهلل أو يؤخره‪ ،‬فنهي المؤمن نفس���ه عن‬

‫الهوى هو ترجيحه طاعة اهلل ورضوانه على اتباع هواه وحمله‬ ‫نفس���ه عل���ى ل���زوم طاعته وعدم الرج���وع عنه���ا‪ ،‬وعندما يفعل‬ ‫المؤمن ذلك‪ ،‬يكتس���ب صفات المؤمنين المتقين التي ذكر اهلل‬ ‫أنهم يستحقون بها دخول الجنة‪ .‬فيكون اإليمان باليوم اآلخر‪،‬‬ ‫أو خوف مقام اهلل‪ ،‬هو السبب في كل تحول يحبه اهلل ويرضاه‬

‫نص عليه في كتابه أو نطق به رسوله ‪.‬‬

‫إن السر في هذا اإليمان إذن‪ ،‬هو ثمراته تلك التي خالصتها‬

‫إصالح اإلنس���ان م���ن داخله ليصلح في نفس���ه ويصبح للناس‬ ‫س���بب نفع ومصدر س�ل�ام‪ .‬فإنه ال صالح لكسب اإلنسان قبل‬

‫معا إال باإليمان بيوم‬ ‫صالح قلبه‪ ،‬وال يصلح القلب والكسب ً‬ ‫مباركا إال به‪.‬‬ ‫الحساب‪ ،‬وال يكون اإلنسان‬ ‫ً‬ ‫إن المسلمين يوفقون تمام التوفيق عندما يعاملون اإليمان‬

‫بالي���وم اآلخ���ر بنحو م���ا عامله الق���رآن‪ ،‬وينزلون���ه المنزلة التي‬

‫أنزله‪ ،‬ويوظفونه التوظيف الذي وظفه‪.‬‬

‫روحا لكل برامجهم الهادفة‬ ‫إنه���م يوفقون عندما يجعلونه ً‬

‫إل���ى بناء اإلنس���ان كما جعل���ه اهلل روح كل كالم���ه المنزل منذ‬

‫الر ْج َعى﴾(العلق‪ )8:‬وهي من أوائل ما‬ ‫قوله تعالى‪﴿ :‬إ َِّن ِإ َلى َر ِّب َك ُّ‬ ‫ون ِفي ِه ِإ َلى‬ ‫﴿و َّات ُقوا َي ْو ًما ُت ْر َج ُع َ‬ ‫نزل‪ ،‬إلى قول���ه‪َ :‬‬

‫ا ِ‬ ‫هلل﴾(البقرة‪)281:‬‬

‫وه���ي م���ن أواخر ما ن���زل‪ ،‬ويخرج���ون هذا اإليم���ان من حالة‬

‫كون���ه طر ًفا من علم عقي���م يورث ويلقن لطلبة التعليم الديني‪،‬‬ ‫ومجرد اختصاص يمارس���ه الوعاظ بالمساجد‪ ،‬ومجرد درس‬

‫من دروس التربية اإلسالمية يلقى على التالميذ في مرحلة ثم‬ ‫ينسى في سائر المراحل‪.‬‬

‫ومعيارا‪،‬‬ ‫ويوفق���ون عندما يتخذون���ه في اإلصالح منطل ًق���ا‬ ‫ً‬

‫إليها الفرد والمجتمع‪ ،‬ثم أرجع في س���ورة النازعات اكتساب‬

‫ويأتمنون على مصالحهم كل "حفيظ عليم" ممن تأهل بالعلم‬

‫���ن ا ْل َه َوى ‪َ ‬فإ َِّن ا ْل َج َّن َة ِهي ا ْل َم ْأ َوى﴾(النازعات‪،)41-40:‬‬ ‫س َع ِ‬ ‫َّ‬ ‫الن ْف َ‬ ‫َ‬

‫(*) أستاذ في جامعة محمد األول‪ ،‬وجامعة ابن طفيل ‪ /‬المغرب‪.‬‬

‫تلك الخصال إلى س���ببين هما‪ :‬خ���وف مقام اهلل‪ ،‬ونهي النفس‬ ‫ام َر ِّب ِه َو َن َهى‬ ‫﴿و َأ َّما َم ْن َخ َ‬ ‫اف َم َق َ‬ ‫عن الهوى كما قال اهلل تعالى‪َ :‬‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2012 )33‬‬

‫‪28‬‬

‫والخبرة‪ ،‬والحت عليه أمارات هذا اإليمان الفعال‪.‬‬


‫آم ُنوا‬ ‫﴿ي���ا َأ ُّي َها ا َّل ِذ َ‬ ‫ي���ن َ‬ ‫كم���ا ق���ال تعالى‪َ :‬‬ ‫اس َ���ت ِجيبوا لهلِ ِ َو ِللر ُس ِ‬ ‫���م ِل َما‬ ‫���ول ِإ َذا َد َع ُ‬ ‫ْ‬ ‫اك ْ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ول َبي َن ا ْلمرءِ‬ ‫ُي ْحي ُ‬ ‫ِيك ْم َو ْاع َل ُموا أ ََّن ا َ‬ ‫هلل َي ُح ُ ْ‬ ‫َْ‬ ‫ون﴾(األنفال‪.)24:‬‬ ‫َو َق ْل ِب ِه َو َأ َّن ُه ِإ َل ْي ِه ُت ْح َش ُر َ‬

‫وأن اإليم���ان باآلخرة يدفع إلى أكثر‬

‫من االس���تجابة‪ ،‬يدفع إلى االستزادة من‬ ‫الخي���رات والمس���ارعة إليه���ا والتق���رب‬ ‫���ن ُه َو‬ ‫بالنواف���ل ق���ال اهلل تعال���ى‪َ ﴿ :‬أ ْم َم ْ‬ ‫���ل َس ِ‬ ‫���اج ًدا َو َقا ِئ ًما َي ْح َذ ُر‬ ‫���ت آ َن َاء ال َّل ْي ِ‬ ‫َقا ِن ٌ‬ ‫ِ‬ ‫اآلخ َر َة َو َي ْر ُجو َر ْح َم َة َر ِّب ِه﴾(الزمر‪.)9:‬‬ ‫وأن اإليم���ان داف���ع إل���ى المحافظ���ة‬

‫عل���ى الص�ل�اة التي ه���ي عم���ود الدين‪،‬‬

‫وأن اإليم���ان بدق���ة الحس���اب‪ ،‬دافع‬

‫�إن الإمي��ان باليوم الآخر‪ ،‬يعطي‬ ‫امل�ؤم��ن ق��وة �إب�ص��ار للأم��ور‪،‬‬ ‫لا لالنتفاع‬ ‫لأنه ب��ه يكون م�ؤه� ً‬ ‫بالق��ر�آن من حيث ه��و نور اهلل‬ ‫املنزل‪ .‬فهو ذو ب�صرية يرى بنور‬ ‫الق��ر�آن الأم��ور والأعمال كما‬ ‫هي؛ يرى ال�سوء �سوء واحل�سنة‬ ‫ح�سن��ة‪ ،‬واحل��ق ح ًّق��ا والباطل‬ ‫باطالً‪ ،‬ال يلتب�س عليه �شيء من‬ ‫ذلك فهو ﴿ َعلَى بَ ِيّنَ ٍة ِم ْن َر ِبّ ِه﴾‬

‫وإل���ى عمارة المس���جد الت���ي هي عمود‬ ‫العمران قال اهلل تعالى‪ِ ﴿ :‬في ُبي ٍ‬ ‫وت َأ ِذ َن‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اآلص ِ‬ ‫وِ‬ ‫د‬ ‫غ‬ ‫ل‬ ‫ِا‬ ‫ب‬ ‫ا‬ ‫يه‬ ‫ف‬ ‫ه‬ ‫ل‬ ‫ح‬ ‫ب‬ ‫���‬ ‫س‬ ‫ي‬ ‫ال‬ ‫و‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ا ُ‬ ‫ُ‬ ‫���م ُه ُ َ ّ ُ ُ َ‬ ‫ُ ّ َ َ‬ ‫هلل َأ ْن ُت ْر َف َع َو ُي ْذ َك َر ف َيها ْ‬ ‫اس ُ‬ ‫���ع َع ْن ِذ ْك ِر ا ِ‬ ‫ال ُت ْلهِ يهِ ِ‬ ‫ال ِة‬ ‫ار ٌة َو َ‬ ‫���ال َ‬ ‫‪ ‬رِ َج ٌ‬ ‫الص َ‬ ‫هلل َو ِإ َق ِ‬ ‫ام َّ‬ ‫ال َب ْي ٌ‬ ‫���م ت َج َ‬ ‫ْ‬ ‫ألبصار ‪‬‬ ‫ال���ز َكا ِة َي َخا ُف َ‬ ‫َوإ َِيت���ا ِء َّ‬ ‫ون َي ْو ًم���ا َت َت َق َّل ُب ِفي ِه ا ْل ُق ُل ُ‬ ‫���وب َوا َ ْ َ ُ‬ ‫هلل َي ْر ُز ُق‬ ‫���م ِم ْن َف ْض ِل ِه َوا ُ‬ ‫ِل َي ْج ِز َي ُه ُم ا ُ‬ ‫���ن َما َع ِم ُلوا َو َي ِز َ‬ ‫هلل َأ ْح َس َ‬ ‫يد ُه ْ‬ ‫اب﴾(النور‪.)38-36:‬‬ ‫َم ْن َي َش ُاء ب َِغ ْيرِ ِح َس ٍ‬ ‫وأن ه���ذا اإليم���ان يرس���خ في حي���اة المؤمن دافع التأس���ي‬ ‫ان َل ُكم ِفي رس ِ‬ ‫���ول‬ ‫َ ُ‬ ‫برس���ول اهلل ‪ ‬كما قال اهلل تعالى‪َ ﴿ :‬ل َق ْد َك َ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫هلل‬ ‫ان َي ْر ُج���و ا َ‬ ‫���ر َو َذ َك َر ا َ‬ ‫���ن َك َ‬ ‫���و ٌة َح َس َ���ن ٌة ِل َم ْ‬ ‫اهلل ُأ ْس َ‬ ‫هلل َوا ْل َي ْو َم اآلخ َ‬ ‫َك ِث ًيرا﴾(األحزاب‪.)21:‬‬ ‫وأن اإليمان باآلخرة‪ ،‬ينشىء في سلوك المؤمنين الحرص‬

‫از ْع ُت ْم‬ ‫على االحتكام إلى الكتاب والسنة لرفع النزاع‪َ ﴿ :‬فإ ِْن َت َن َ‬ ‫ون بِا ِ‬ ‫وه ِإ َلى ا ِ‬ ‫هلل َوالر ُس ِ‬ ‫ِفي ش‬ ‫هلل َوا ْل َي ْو ِم‬ ‫ول إ ِْن ُك ْن ُت ْم ُت ْؤ ِم ُن َ‬ ‫���ي ٍء َف ُر ُّد ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ال﴾(النساء‪.)59:‬‬ ‫اآلخ ِر َذ ِل َك َخ ْي ٌر َو َأ ْح َس ُن َت ْأوِ ي ً‬ ‫وأنه دافع إلى إقامة األخالق وصيانتها‪ ،‬قال تعالى‪ِ ﴿ :‬إ َّن َما‬ ‫ون ب َِع ْه ِ‬ ‫���د ا ِ‬ ‫َي َت َذ َّك���ر ُأو ُل���و ا َ‬ ‫ون‬ ‫هلل َو َ‬ ‫أل ْل َب ِ‬ ‫ال َي ْن ُق ُض َ‬ ‫ي���ن ُيو ُف َ‬ ‫اب ‪ ‬ا َّل ِذ َ‬ ‫ُ‬ ‫‪‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫���و َن‬ ‫ا ْل ِمي َث َ‬ ‫ون َما َأ َم َر ا ُ‬ ‫ي���ن َيص ُل َ‬ ‫���اق َوا َّلذ َ‬ ‫هلل ِبه َأ ْن ُي َ‬ ‫وص َل َو َي ْخ َش ْ‬ ‫اب﴾(الرعد‪.)21-19:‬‬ ‫وء ا ْل ِح َس ِ‬ ‫َر َّب ُه ْم َو َي َخا ُف َ‬ ‫ون ُس َ‬ ‫ون‬ ‫وأنه دافع إلى نصرة دين اهلل‪َ ﴿ :‬‬ ‫ين ُي ْؤ ِم ُن َ‬ ‫ال َي ْس َت ْأ ِذ ُن َك ا َّل ِذ َ‬ ‫اه ُدوا ِب َأ ْموا ِلهِ م َو َأ ْن ُف ِس���هِ م َوا ُ ِ‬ ‫اآلخ ِر َأ ْن ُي َج ِ‬ ‫هلل َوا ْليو ِم ِ‬ ‫بِ���ا ِ‬ ‫يم‬ ‫َْ‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ‬ ‫هلل َعل ٌ‬ ‫ون بِا ِ‬ ‫هلل َوا ْليو ِم ِ‬ ‫اآلخ ِر‬ ‫ين َ‬ ‫ال ُي ْؤ ِم ُن َ‬ ‫ين ‪ِ ‬إ َّن َما َي ْس َ���ت ْأ ِذ ُن َك ا َّل ِذ َ‬ ‫بِا ْل ُم َّت ِق َ‬ ‫َْ‬ ‫ون﴾(التوبة‪.)45-44:‬‬ ‫وب ُه ْم َف ُه ْم ِفي َر ْيبِهِ ْم َي َت َر َّد ُد َ‬ ‫َو ْار َت َاب ْت ُق ُل ُ‬

‫معا‪:‬‬ ‫إلى االعتناء بجزئيات الخير وكلياته ً‬ ‫ال َذ َّر ٍة َخ ْي ًرا َي َر ُه ‪َ ‬و َم ْن‬ ‫﴿ َف َم ْن َي ْع َم ْل ِم ْث َق َ‬ ‫���ل ِم ْث َق َ ٍ‬ ‫���را َي َر ُه﴾(الزلزلة‪.)8-7:‬‬ ‫َي ْع َم ْ‬ ‫ال َذ َّرة َش ًّ‬ ‫وأن هذا اإليم���ان يحمل الفرد على‬

‫ل���زوم االس���تقامة وإن زاغ���ت جماعت���ه‬

‫وضل قومه‪ ،‬بناء على أن الحس���اب يوم‬ ‫القيام���ة س���يكون مع كل ف���رد على حدة‬ ‫﴿و ُك ُّل ُه ْم آ ِتي ِه َي ْو َم ا ْل ِق َي َام ِة‬ ‫كما قال تعالى‪َ :‬‬ ‫َف ْر ًدا﴾(مريم‪ ،)95:‬وقال‪﴿ :‬ا ْق َر ْأ ِك َت َاب َك َك َفى‬ ‫ب َِن ْف ِس َك ا ْل َي ْو َم َع َل ْي َك َح ِس ًيبا﴾(اإلسراء‪.)14:‬‬ ‫وأن���ه داف���ع إل���ى التخل���ق بالش���كر‬

‫والصب���ر تج���اه الق���در خي���ره وش���ره‪:‬‬ ‫���ر ِف ْت َن��� ًة َو ِإ َل ْي َن���ا‬ ‫���ر َوا ْل َخ ْي ِ‬ ‫﴿و َن ْب ُل ُ‬ ‫���م ب َّ‬ ‫َ‬ ‫وك ْ‬ ‫ِالش ِّ‬ ‫‪‬‬ ‫ين ِإ َذا‬ ‫ون﴾(األنبي���اء‪ ،)35:‬وقال‪َ ﴿ :‬و َب ِّش ِ‬ ‫ُت ْر َج ُع َ‬ ‫ي���ن ا َّل ِذ َ‬ ‫الصاب ِ​ِر َ‬ ‫���ر َّ‬ ‫َأ َص َاب ْت ُه ْم ُم ِصيب ٌة َقا ُلوا ِإ َّنا لهلِ ِ َو ِإ َّنا ِإ َلي ِه َر ِ‬ ‫ون﴾(البقرة‪.)156-155:‬‬ ‫اج ُع َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫• اإليم���ان باليوم اآلخر‪ ،‬وازع من الش���ر كما هو دافع إلى‬ ‫الخير‪ ،‬ويدل على ذلك ما في القرآن من إشارات إلى أنه في‬ ‫حال وجوده يمنع من شرور كثيرة‪ ،‬وأنه في حال غيابه يتسبب‬ ‫في مفاس���د عظيمة؛ م���ن قبيل الطغيان واإلفس���اد في األرض‪،‬‬

‫واخت�ل�اس األم���وال العام���ة‪ ،‬واالتب���اع األعم���ى‪ ،‬والبخ���ل‪،‬‬

‫والمضارة بين الزوجين‪.‬‬

‫وم���ن اإلش���ارات القرآني���ة في ذل���ك‪ ،‬أنه ي���زع المؤمن من‬ ‫الطغي���ان كم���ا في قول���ه تعالى‪﴿ :‬ول���و يع ِجل اهلل ِللناس‬ ‫الش���ر‬ ‫َ َ ْ ُ َ ّ ُ ُ َّ ِ َّ َّ‬ ‫ون‬ ‫ين َ‬ ‫ال َي ْر ُج َ‬ ‫اس��� ِت ْع َجا َل ُه ْم بِا ْل َخ ْي ِر َل ُق ِض َي ِإ َل ْيهِ ْم َأ َج ُل ُه ْم َف َن َذ ُر ا َّل ِذ َ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫هِ‬ ‫ه‬ ‫م‬ ‫ع‬ ‫ي‬ ‫م‬ ‫ن‬ ‫ا‬ ‫ي‬ ‫غ‬ ‫ط‬ ‫ي‬ ‫ف‬ ‫ا‬ ‫ن‬ ‫اء‬ ‫ق‬ ‫ون﴾(يونس‪ ،)11:‬وقوله‪َ ﴿ :‬ف َأ َّما َم ْن َط َغى‬ ‫ُ‬ ‫َْ ْ َْ َ ُ َ‬ ‫ِل َ َ َ‬ ‫‪‬‬ ‫الد ْن َيا ‪ ‬ف���إِن الج ِح‬ ‫يم ِهي ا ْل َم ْأ َوى ‪َ ‬و َأ َّما َم ْن‬ ‫���ر ا ْل َح َيا َة ُّ‬ ‫َوآ َث َ‬ ‫َ َّ ْ َ َ َ‬ ‫���ن ا ْل َه َوى)(النازع���ات‪ .)40:‬هذا‬ ‫س َع ِ‬ ‫َخ َ‬ ‫ام َر ِّب��� ِه َو َن َه���ى َّ‬ ‫���اف َم َق َ‬ ‫الن ْف َ‬ ‫التقابل بين الخصلتين في اآلية الثانية قرينة س���ياقية تدل على‬ ‫أن المقاب���ل لخ���وف مقام اهلل ه���و الطغي���ان‪ ،‬وأن الذي يخاف‬

‫مقام ربه ال يطغى‪.‬‬

‫وأن هذا اإليمان يزع المؤمن من العلو في األرض واإلفساد‬ ‫الدار ِ‬ ‫ِ‬ ‫ون‬ ‫ين َ‬ ‫يد َ‬ ‫ال ُي ِر ُ‬ ‫اآلخ َر ُة َن ْج َع ُل َها ِل َّل ِذ َ‬ ‫فيها‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬ت ْل َك َّ ُ‬ ‫ُع ُل ًّوا ِفي ا َ‬ ‫ين﴾(القصص‪.)83:‬‬ ‫ض َو َ‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫ال َف َس ًادا َوا ْل َعا ِق َب ُة ِل ْل ُم َّت ِق َ‬ ‫ين‬ ‫﴿و ْي ٌل ِل ْل ُم َط ِّف ِف َ‬ ‫وأنه يزع المؤمنين من الفس���اد التجاري‪َ :‬‬

‫‪27‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2012 )33‬‬


‫فه���و ذو بصي���رة ي���رى بنور الق���رآن األم���ور واألعمال كما‬

‫هي؛ يرى الس���وء س���وء والحس���نة حس���نة والحق ح ًّقا والباطل‬ ‫﴿ع َلى َب ِّي َن��� ٍة ِم ْن‬ ‫ً‬ ‫باط�ل�ا‪ ،‬ال يلتب���س عليه ش���يء م���ن ذلك فه���و َ‬ ‫َر ِّب ِه﴾‪ .‬ويقابله الذي ال يؤمن باآلخرة‪ ،‬فهو بحرمانه نفس���ه من‬ ‫ن���ور القرآن ال يرى األمور كما هي‪ ،‬بل وعيه ملتبس وتصوره‬

‫مقلوب؛ السيئ عنده حسن والحسن سيء كما قال اهلل تعالى‪:‬‬ ‫���وء َع َم ِل ِه َو َّات َب ُعوا‬ ‫﴿ َأ َف َم ْن َك َ‬ ‫ان َع َلى َب ِّي َن ٍة ِم ْن َر ِّب ِه َك َم ْن ُز ِّي َن َل ُه ُس ُ‬ ‫َأ ْه َو َاء ُه ْم﴾(محم���د‪ .)14:‬وق���د نص اهلل تعالى على أن الس���بب في‬ ‫ال‬ ‫ين َ‬ ‫حرمان���ه م���ن البصي���رة هو كفره باآلخ���رة فق���ال‪﴿ :‬إ َِّن ا َّل ِذ َ‬ ‫ون ب ِ‬ ‫ون﴾(النمل‪.)4:‬‬ ‫ِاآلخ َر ِة َز َّي َّنا َل ُه ْم َأ ْع َما َل ُه ْم َف ُه ْم َي ْع َم ُه َ‬ ‫ُي ْؤ ِم ُن َ‬

‫الحصانة الدينية ثمرة اإليمان باآلخرة‬

‫ِ‬ ‫ال َف ِري ًقا‬ ‫وه ِإ َّ‬ ‫﴿و َل َق ْد َص َّ‬ ‫يس َظ َّن ُه َف َّات َب ُع ُ‬ ‫ق���ال تعالى‪َ :‬‬ ‫���د َق َع َل ْيهِ ْم إ ِْبل ُ‬ ‫ان َل ُه َع َليهِ م ِم ْن ُس��� ْل َط ٍ‬ ‫ال ِل َن ْع َل َم َم ْن‬ ‫ان ِإ َّ‬ ‫ي���ن ‪َ ‬و َما َك َ‬ ‫���ن ا ْل ُم ْؤ ِم ِن َ‬ ‫ِم َ‬ ‫ْ ْ‬ ‫ِ‬ ‫���ك َو َر ُّب َك َع َلى ُك ِّل َش���ي ٍء‬ ‫���ر ِة ِم َّم ْن ُه َو ِم ْن َها ِفي َش ٍّ‬ ‫ُي ْؤ ِم ُ‬ ‫���ن بِاآلخ َ‬ ‫ْ‬ ‫يظ﴾(سبأ‪ .)21-20:‬تشير اآليتان إلى أن سلطان الشيطان ليس‬ ‫َح ِف ٌ‬ ‫على المؤمن باآلخرة‪ ،‬وإنما هو على من يشك فيها‪.‬‬

‫أم���ا المؤمن باآلخ���رة‪ ،‬فبأهليته لالهتداء بكالم اهلل يجد فيه‬

‫إذا ت�ل�اه أو اس���تمع له أو تدب���ره الذكرى‪ ،‬كما يج���د فيه البيان‬

‫ألس���باب االستقامة والثبات وأسباب الزيغ واالرتداد‪ ،‬والبيان‬

‫لمصايد عدوه الش���يطان ومكايده‪ ،‬ويعلم أن اهلل إذا أمر بش���يء‬

‫أو نه���ى عن���ه فه���و الحق‪ ،‬وأن كل م���ا يخالفه مم���ا يخطر بباله‬

‫أو تهم به نفس���ه إنما هو من الش���يطان‪ ،‬إذ داللة كون الخاطرة‬ ‫وسوس���ة ش���يطانية أن الش���يطان ينهى عما يأمر اهلل به ويأمر بما‬ ‫ينه���ى اهلل عن���ه‪ ،‬ويزين س���وء العم���ل ويكره حس���نه ويعد بضد‬

‫م���ا يع���د ب���ه اهلل تعال���ى‪ .‬ومن ث���م ف���إن الش���يطان ال يتمكن من‬

‫يزيغ فيزيغ اهلل قلبه وينس���ى لقاء ربه‪ ،‬فيس���تحوذ الشيطان عليه‬

‫ويق���وده من باب الجهل أو الهوى‪ ،‬فبالجهل يعمل ما ال يعلم‬ ‫أن اهلل ال يحب���ه‪ ،‬أو يتورط ف���ي تغيير دينه بالزيادة أو النقصان‪،‬‬ ‫كما أنه بالهوى يترك العمل بالحق مع علمه به‪ ،‬وقد يرجح ما‬

‫تحبه نفس���ه على ما يحبه ربه في أي ش���يء فينحرف تفري ًطا أو‬

‫إفرا ًطا‪ ،‬وقد يتخذ دينه وسيلة لنيل مآربه‪ ،‬وقد يستعمل منصبه‬ ‫ألغراضه الخاصة وإن بالتحريش بين الناس وتفريق جماعتهم‬ ‫وهضم حقوقهم‪.‬‬

‫وأم���ا ال���ذي يش���ك ف���ي اآلخ���رة‪ ،‬ففي���ه قابلي���ة االس���تجابة‬

‫للش���يطان‪ ،‬والش���يطان متمكن منه ومستحوذ عليه ألنه بقي بال‬

‫حصان���ة‪ ،‬والحصان���ة إنم���ا هي في كالم اهلل‪ ،‬وق���د قضى اهلل أن‬ ‫﴿و ِإ َذا َق َر ْأ َت‬ ‫يح���رم منها م���ن ال يؤمن باآلخرة كما قال تعالى‪َ :‬‬ ‫ِ‬ ‫���ر ِة ِح َج ًابا‬ ‫ي���ن َ‬ ‫آن َج َع ْل َن���ا َب ْي َن َ‬ ‫ال ُي ْؤ ِم ُن َ‬ ‫���ر َ‬ ‫���ك َو َب ْي َن ا َّل ِذ َ‬ ‫ون بِاآلخ َ‬ ‫ا ْل ُق ْ‬ ‫‪‬‬ ‫���وه َو ِفي آ َذا ِنهِ ْم‬ ‫َم ْس ُ‬ ‫ورا َو َج َع ْل َنا َع َل���ى ُق ُلوبِهِ ْم َأ ِك َّن ًة َأ ْن َي ْف َق ُه ُ‬ ‫���ت ً‬ ‫َو ْق ًرا﴾(اإلسراء‪.)46-45:‬‬ ‫فه���و به���ذا‪ ،‬قد عرض قلبه لتش���رب إلقاءات الش���يطان من‬ ‫ب���اب اتباعه للهوى واس���تعداده العتناق م���ا يبدو له من الفكر‪،‬‬

‫وتضخ���م رغبته ف���ي القيام بكل ما يحلو له من الفعل وحرصه‬

‫عل���ى التمت���ع بالدنيا بأكبر قدر ممكن وبأس���رع ما يمكن‪ ،‬وقد‬

‫ينج���ر إل���ى جلب المنافع لنفس���ه بإض���رار غيره‪ ،‬وإل���ى حماية‬

‫مصالح���ه بأي وس���يلة كانت ما دامت الحي���اة الدنيا هي الحياة‬

‫في نظره ال حياة بعدها وال حس���اب وال جزاء‪ ،‬فيكون ألعوبة‬ ‫حقيقية في يد الش���يطان أينما يوجهه يتجه‪ ،‬ويضله ويس���تعمله‬

‫مس���الما فيضله‬ ‫ف���ي اإلثم والعدوان معا‪ ،‬وقد يكون في نفس���ه‬ ‫ً‬ ‫ويوقعه في اإلثم دون العدوان‪.‬‬

‫قلب���ه على ال���دوام‪ ،‬فإن إيمان���ه وتواصله مع الق���رآن‪ ،‬يجعالن اإلرادة ثمرة اإليمان باآلخرة‬

‫ومؤقت���ا كما ق���ال تعالى‪:‬‬ ‫قلي�ل�ا‬ ‫وقوع���ه ف���ي ش���راك الش���يطان‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫الش ْ���يطَ انِ َتذَ َّك ُروا َف ِإذَا‬ ‫���ه ْم طَ ائ ٌ‬ ‫ِف م َِن َّ‬ ‫﴿ ِإ َّن الَّذِ َ‬ ‫���وا ِإذَا َم َّس ُ‬ ‫ي���ن ا َّت َق ْ‬ ‫ون﴾(األعراف‪ .)201:‬ويؤكده أن نفي س���لطان الش���يطان‬ ‫ُه ْم ُم ْب ِص ُر َ‬ ‫على المؤمن‪ ،‬جاء في سياق الحديث عن قراءة القرآن الكريم‬

‫المقرونة باالستعاذة من الشيطان الرجيم كما قال تعالى‪َ ﴿ :‬ف ِإذَا‬ ‫ج ‪‬‬ ‫اس��� َتعِ ذْ ِبا ِ‬ ‫س ل َُه‬ ‫َق َر ْأ َت ا ْل ُق ْر َ‬ ‫هلل م َِن َّ‬ ‫الر ِ ِ‬ ‫آن َف ْ‬ ‫يم ِإ َّن ُه ل َْي َ‬ ‫الش ْ���يطَ انِ َّ‬ ‫ُون﴾(النحل‪.)99-98:‬‬ ‫آم ُنوا َو َعلَى َر ِّب ِه ْم َي َت َو َّكل َ‬ ‫ُسلْطَ ٌ‬ ‫ان َعلَى الَّذِ َ‬ ‫ين َ‬ ‫لكنه كلما قلت صلته بكالم اهلل كثر اتباعه للش���يطان‪ ،‬وقد‬ ‫يتذكر فيرجع إلى اهلل وقد ال يتذكر فيتمادى في عصيانه هلل حتى‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2012 )33‬‬

‫‪26‬‬

‫إن اإليمان باآلخرة‪ ،‬ينش���ىء في القلب اإلرادة التي تدفع إلى‬

‫فع���ل م���ا ينبغ���ي فعل���ه‪ ،‬واجتناب ما ينبغ���ي اجتنابه‪ .‬ينش���ئ فيه‬ ‫الطاق���ة الروحية المنتجة للمصالح‪ ،‬والرقابة الذاتية المانعة من‬

‫المفاسد‪.‬‬

‫• اإليم���ان باآلخ���رة داف���ع إلى الخير‪ ،‬وي���دل على ذلك أن‬

‫القرآن س���اقه على س���بيل التعلي���ل ألفعال العباد وعلى س���بيل‬

‫الترغيب في فعل الطاعات والترهيب من تركها‪ ،‬ومن إشارات‬ ‫القرآن في ذلك‪:‬‬

‫أن االس���تجابة هلل تتحقق بدافع اإليمان باهلل و اليوم اآلخر‬


‫والمجتمع���ات‪ ،‬لكن ب���اب نيل ذلك منه‬ ‫مس���دود إال في وجه الموقنين باآلخرة‪،‬‬ ‫فه���م وحدهم المؤهلون لالهتداء بهدى‬ ‫القرآن كما ق���ال اهلل تعالى‪﴿ :‬طس ِت ْل َك‬

‫���ات ا ْل ُق���ر ِ‬ ‫���دى‬ ‫آن َو ِك َت ٍ‬ ‫���اب ُمب ٍ‬ ‫ِي���ن ‪ُ ‬ه ً‬ ‫َآي ُ‬ ‫ْ‬ ‫ي���ن ‪ ‬ا َّل ِذ َ ِ‬ ‫���ون‬ ‫يم َ‬ ‫���رى ِل ْل ُم ْؤ ِم ِن َ‬ ‫ي���ن ُيق ُ‬ ‫َو ُب ْش َ‬ ‫الز َكا َة َو ُهم ب ِ‬ ‫ِاآلخ َر ِة ُه ْم‬ ‫الص َ‬ ‫ال َة َو ُي ْؤ ُت َ‬ ‫ون َّ‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫أيضا‪﴿ :‬الم‬ ‫ُيو ِق ُن َ‬ ‫ون﴾(النم���ل‪ ،)3-1:‬وق���ال ً‬ ‫يم ‪ُ ‬ه ًدى‬ ‫ات ا ْل ِك َت ِ‬ ‫‪ِ ‬ت ْل َ‬ ‫اب ا ْل َح ِك ِ‬ ‫���ك َآي ُ‬ ‫ين ‪ ‬ا َّل ِذ َ ِ‬ ‫ون‬ ‫يم َ‬ ‫َو َر ْح َم��� ًة ِل ْل ُم ْح ِس��� ِن َ‬ ‫ي���ن ُيق ُ‬ ‫الز َكا َة َو ُهم ب ِ‬ ‫ِاآلخ َر ِة ُه ْم‬ ‫الص َ‬ ‫ال َة َو ُي ْؤ ُت َ‬ ‫ون َّ‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫���ون ‪ُ ‬أو َل ِئ َك َع َل���ى ُه ًدى ِم ْن َر ِّبهِ ْم‬ ‫ن‬ ‫ق‬ ‫ُيو ِ ُ َ‬ ‫ون﴾(لقمان‪.)5-1:‬‬ ‫َو ُأو َل ِئ َك ُه ُم ا ْل ُم ْف ِل ُح َ‬ ‫وواض���ح م���ن ه���ذا أن اإليم���ان‬

‫�إن امل�سلم�ين يوفق��ون مت��ام‬ ‫التوفي��ق عندم��ا يعامل��ون‬ ‫الإمي��ان بالي��وم الآخ��ر بنح��و‬ ‫م��ا عامل��ه الق��ر�آن‪ ،‬وينزلونه‬ ‫املنزل��ة التي �أنزل��ه‪ ،‬ويوظفونه‬ ‫التوظي��ف الذي وظف��ه‪� .‬إنهم‬ ‫روحا‬ ‫يوفقون عندما يجعلونه ً‬ ‫لكل براجمهم الهادف��ة �إىل بناء‬ ‫الإن�س��ان كما جعل��ه اهلل روح‬ ‫كل كالمه املنزل‪.‬‬

‫التزكي بالقرآن ثمرة اإليمان باآلخرة‬

‫اإليم���ان باآلخرة‬ ‫الق���رآن‬ ‫لقد اس���تعمل‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫فعال وهو إيراده ألنواع الوعيد‬ ‫على نحو ّ‬

‫األخ���روي والدنيوي في مواطن متنوعة‬

‫ومقرو ًن���ا بأعم���ال ش���تى‪ ،‬ق���ال تعال���ى‪:‬‬ ‫﴿و َك َذ ِل َك َأ ْن َز ْل َن ُاه ُق ْرآ ًنا َع َرب ًِّيا َو َصر ْف َنا ِفي ِه‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ون َأ ْو ُي ْح ِد ُث َل ُه ْم‬ ‫ق‬ ‫ت‬ ‫ي‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫ل‬ ‫يد‬ ‫ع‬ ‫و‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫���ن‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫َ ُ ْ َ َّ ُ َ‬ ‫م َ َ‬ ‫ِذ ْك ًرا﴾(طه‪.)113:‬‬ ‫والقرآن نفسه ينص على أنه ال يؤثر‬

‫باآلخ���رة‪ ،‬يؤه���ل صاحب���ه لالهتداء بهدى الق���رآن ليس بصفته‬

‫وتذكرا إال فيمن يؤمن‬ ‫تأثي���ره هذا تقوى‬ ‫ً‬ ‫بالي���وم اآلخ���ر‪ ،‬كما قال تعال���ى‪َ ﴿ :‬ف َذ ِّك ْر‬ ‫اف َو ِع ِ‬ ‫بِا ْل ُقر ِ‬ ‫يد﴾(ق‪ ،)45:‬وقال‪:‬‬ ‫آن َم ْن َي َخ ُ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫���روا‬ ‫ين َي َخا ُف َ‬ ‫﴿و َأ ْن���ذ ْر بِ���ه ا َّلذ َ‬ ‫َ‬ ‫ون أ ْن ُي ْح َش ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫هِ‬ ‫ال‬ ‫و‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫���‬ ‫ن‬ ‫و‬ ‫د‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ل‬ ‫س‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫���م‬ ‫ب‬ ‫ر‬ ‫���ى‬ ‫ِ‬ ‫َ ٌّ َ َ‬ ‫ِإ َل َ ّ ْ َ ْ َ َ ُ ْ ْ ُ‬ ‫ون﴾(األنعام‪.)51:‬‬ ‫يع َل َع َّل ُه ْم َي َّت ُق َ‬ ‫َش ِف ٌ‬

‫األدنى من الطاعات‪ ،‬الذي يبدأ معه القرآن في إعطاء هداياته‬

‫اإليم���ان بالي���وم اآلخ���ر‪ ،‬يفض���ي بقارئ الق���رآن ومتدب���ره إلى‬

‫مجردا‪ ،‬بل من حيث هو طاقة منتجة للطاعة‪ ...‬والحد‬ ‫اعتقادا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫للمؤمنين‪ ،‬هو إقام الصالة وإيتاء الزكاة ‪-‬كما نصت على ذلك‬ ‫اآلي���ات الثالث الس���ابقة‪ -‬الهت���داء لهم بالق���رآن قبل حدوث‬

‫هاتي���ن الطاعتي���ن منهم‪ ،‬ثم إنهم بعد ذل���ك كلما ازدادوا طاعة‬

‫ازدادوا اهتداء‪.‬‬

‫يؤك���د أن االهت���داء بالقرآن رهين باإليم���ان المثمر للطاعة‬ ‫���د َج َاء ُكم ِم َ ِ‬ ‫ِي���ن * َي ْه ِدي‬ ‫قول���ه تعالى‪َ ﴿ :‬ق ْ‬ ‫اب ُمب ٌ‬ ‫ور َو ِك َت ٌ‬ ‫���ن اهلل ُن ٌ‬ ‫ْ‬ ‫�ل�ا ِم َو ُي ْخ ِر ُج ُهم ِم َن الظُّ ُلم ِ‬ ‫ات‬ ‫ِب ِه ا ُ‬ ‫الس َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫هلل َم ِن َّات َب َع رِ ْض َوا َن ُه ُس ُ���ب َل َّ‬ ‫ِإ َل���ى ال ُّنورِ ِبإ ِْذ ِن ِه َو َي ْه ِديهِ م ِإ َلى ِصر ٍ‬ ‫يم﴾(المائدة‪،)16-15:‬‬ ‫اط ُم ْس َ���ت ِق ٍ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫الصا ِل َح ِ‬ ‫ِ‬ ‫وا‬ ‫ل‬ ‫م‬ ‫ع‬ ‫و‬ ‫وا‬ ‫ن‬ ‫آم‬ ‫ي���ن‬ ‫���ات َي ْه ِديهِ ْم‬ ‫ُ‬ ‫وقول���ه تعالى‪﴿ :‬إ َِّن ا َّل ِذ َ َ ُ َ َ‬ ‫َّ‬ ‫ِيما ِنهِ ْم﴾(يونس‪.)9:‬‬ ‫َر ُّب ُه ْم ِبإ َ‬ ‫وفي أم القرآن إيماء إلى هذا المعنى‪ ،‬فقد استهلت السورة‬ ‫ين ‪َ ‬الر ْح َم ِن‬ ‫باإليمان باهلل واليوم اآلخر‪َ ﴿ :‬ا ْل َح ْم ُد لهلِ ِ َر ِّب ا ْل َعا َل ِم َ‬ ‫َّ‬ ‫ين﴾(الفاتحة‪ ،)4-2:‬وتوسطها حديث عن‬ ‫الد ِ‬ ‫الر ِح ِ‬ ‫يم ‪َ ‬ما ِل ِك َي ْو ِم ِّ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ين﴾(الفاتحة‪،)5:‬‬ ‫طاعة اهلل واالستعانة به‪﴿ :‬إ َِّياكَ َن ْع ُب ُد َوإ َِّياكَ َن ْس َتع ُ‬ ‫ِ‬ ‫يم﴾(الفاتحة‪.)6:‬‬ ‫الص َر َ‬ ‫وختمت بطلب الهداية‪ِ ﴿ :‬ا ْه ِد َنا ِّ‬ ‫اط ا ْل ُم ْس َتق َ‬ ‫وه���ذا الترتيب يش���ير إل���ى أن اإليمان باهلل والي���وم اآلخر يثمر‬ ‫طاعة اهلل‪ ،‬وأن طاعته تثمر االهتداء‪ ...‬فالفاتحة إذن‪ ،‬لم تجمل‬ ‫أيضا‪.‬‬ ‫مضامي���ن الق���رآن فق���ط‪ ،‬ب���ل لخصت منهج���ه الترب���وي ً‬

‫فقه القرآن ثمرة اإليمان باآلخرة‬

‫ممتل���كا ألدوات العل���م صار بتق���واه تلك؛‬ ‫التق���وى‪ ،‬ف���إذا كان‬ ‫ً‬ ‫متمكنا م���ن الغوص في أعماقه‬ ‫ق���ادرا على "فق���ه القرآن"‪ ،‬أي‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫واس���تخراج م���ا خفي من معانيه وأس���راره كما ق���ال اهلل تعالى‪:‬‬ ‫هلل﴾(البقرة‪ ،)282:‬أي "يؤتيكم فهم ما يلقى‬ ‫هلل َو ُي َع ِّل ُم ُك ُم ا ُ‬ ‫﴿و َّات ُقوا ا َ‬ ‫َ‬ ‫إليك���م" كما قال القرطب���ي‪ ...‬والفهم أدق م���ن العلم وأعمق‪،‬‬ ‫ومن ال يتقي اهلل من العلماء‪ ،‬ال يوفقه اهلل لفهم كالمه‪.‬‬

‫وأم���ا ال���ذي ال يؤمن باآلخرة‪ ،‬فه���و أولى أن يحرم من فقه‬

‫بالغا ما بلغ تمكنه من لغة القرآن وعلوم القرآن وسائر‬ ‫القرآن ً‬ ‫﴿و ِإ َذا َق َر ْأ َت‬ ‫األدوات‪ ،‬وه���و م���ا نب���ه اهلل تعال���ى علي���ه بقول���ه‪َ :‬‬ ‫ِ‬ ‫���ر ِة ِح َج ًابا‬ ‫ي���ن َ‬ ‫آن َج َع ْل َن���ا َب ْي َن َ‬ ‫ال ُي ْؤ ِم ُن َ‬ ‫���ر َ‬ ‫���ك َو َب ْي َن ا َّل ِذ َ‬ ‫ون بِاآلخ َ‬ ‫ا ْل ُق ْ‬ ‫‪‬‬ ‫وه َو ِفي آ َذا ِنهِ ْم‬ ‫َم ْس ُ‬ ‫ورا َو َج َع ْل َن���ا َع َلى ُق ُلوبِهِ ْم َأ ِك َّن��� ًة َأ ْن َي ْف َق ُه ُ‬ ‫���ت ً‬ ‫َو ْق ًرا﴾(اإلسراء‪.)46-45:‬‬

‫االستبصار ثمرة اإليمان باآلخرة‬

‫إن اإليمان باليوم اآلخر‪ ،‬يعطي المؤمن قوة إبصار لألمور‪،‬‬

‫ال لالنتف���اع بالقرآن من حي���ث هو نور اهلل‬ ‫ألن���ه ب���ه يكون مؤه ً‬ ‫ورا ُمب ًِينا﴾(النساء‪)174:‬؛ فبالقرآن يجعل‬ ‫المنزل‪َ :‬‬ ‫﴿و َأ ْن َز ْل َنا ِإ َل ْي ُك ْم ُن ً‬ ‫ات َب ِي َن ٍ‬ ‫﴿هو ا َّل ِذي ُي َن ِّز ُل َع َلى َعب ِد ِه َآي ٍ‬ ‫ات ِل ُي ْخ ِر َج ُك ْم‬ ‫اهلل له ً‬ ‫نورا‪َ ُ :‬‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫ِم َن الظُّ ُلم ِ‬ ‫ات ِإ َلى ال ُّنورِ ﴾(الحديد‪.)9:‬‬ ‫َ‬

‫‪25‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2012 )33‬‬


‫دراسات إسالمية‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬زيد بوشعراء*‬

‫اإليمان باليوم اآلخر‬

‫رؤية قرآنية لوظيفته اإلصالحية‬ ‫هاهن���ا قبس من نور الق���رآن‪ ...‬قبس من قصة‬ ‫ذل���ك التفاعل الممتد بين حياتي���ن؛ بين الدنيا‬

‫واآلخرة‪ ...‬قصة تأثير دنيا اإلنس���ان في آخرته‬

‫وتقريرها لمصيره األبدي في مقابل تأثر دنياه باآلخرة س���عادة‬ ‫و شقاوة عندما يؤمن باليوم اآلخر ويوقن به‪ ،‬وعندما يكفر به‬

‫ظنا أو يغفل عنه أو ينسى لقاء ربه‪.‬‬ ‫أو يظنه ًّ‬ ‫إن اهلل الذي ﴿ َل ُه ا ْل َخ ْل ُق َوا َ‬ ‫أل ْم ُر﴾‪ ،‬بالخلق أعطى اإلنس���ان‬ ‫فرص���ة حي���اة‪ ،‬وبالوح���ي بين ل���ه المنه���ج الذي يغتن���م به هذه‬

‫‪‬‬ ‫ِم ْ ِ ِ ِ ِ ِ‬ ‫ال َي ْخ َفى‬ ‫ون َ‬ ‫الت َ‬ ‫���م َب���ارِ ُز َ‬ ‫���و َم َّ‬ ‫���ن ع َب���اده ل ُي ْن���ذ َر َي ْ‬ ‫�ل�ا ِق َي ْو َم ُه ْ‬ ‫���د ا ْل َقهارِ ‪‬‬ ‫ِ‬ ‫���ك ا ْليو َم لهلِ ِ ا ْلو ِ‬ ‫َع َل���ى ا ِ‬ ‫هلل ِمنه���م ش‬ ‫اح ِ َّ‬ ‫َ‬ ‫���ي ٌء ل َم ِن ا ْل ُم ْل ُ َ ْ‬ ‫ُْ ْ َ ْ‬ ‫يع‬ ‫ال ُظ ْل َم ا ْل َي ْو َم إ َِّن ا َ‬ ‫س ب َِما َك َس َ���ب ْت َ‬ ‫هلل َس ِ‬ ‫ا ْل َي ْو َم ُت ْج َزى ُك ُّل َن ْف ٍ‬ ‫���ر ُ‬ ‫اب﴾(غافر‪.)17-15:‬‬ ‫ا ْل ِح َس ِ‬ ‫والس���ر ف���ي نيل "إنذار يوم التالق" له���ذه المنزلة حتى كان‬

‫من ثوابت وحي اهلل‪ ،‬هو ثمراته الطيبة المباركة التي يؤتيها في‬

‫وإصالحا للمجتمعات‪.‬‬ ‫كل زمان ومكان تزكية لألنفس‬ ‫ً‬

‫الفرصة ويدبر أمر هذه الحياة‪ ،‬وأمره بإتباعه‪ ،‬وأخبره أنه راجع االهتداء بالقرآن ثمرة اإليمان باآلخرة‬

‫إلي���ه ليري���ه أعماله ويجزيه عنها‪ ،‬فإما إلى الحياة التي هي خير‬

‫وأبقى‪ ،‬وإما إلى المصير الذي هو أسوأ‪.‬‬

‫ولقد جعل س���بحانه مقصد كل رس���االته؛ ترس���يخ اإليمان‬ ‫يع‬ ‫﴿ر ِف ُ‬ ‫بالي���وم اآلخ���ر ف���ي القل���وب‪ ،‬ذلك ه���و ن���ص الق���رآن‪َ :‬‬ ‫���ات ُذو ا ْل َع���ر ِ ِ‬ ‫الد َر َج ِ‬ ‫���اء‬ ‫َّ‬ ‫وح ِم ْ‬ ‫���ن َأ ْم ِر ِه َع َلى َم ْن َي َش ُ‬ ‫الر َ‬ ‫ش ُي ْلق���ي ُّ‬ ‫ْ‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2012 )33‬‬

‫‪24‬‬

‫إن الق���رآن الكري���م بما فيه من التبيان لكل ش���يء والهداية إلى‬

‫���اب ِت ْب َيا ًنا‬ ‫﴿و َن َّز ْل َن���ا َع َل ْي َك ا ْل ِك َت َ‬ ‫كل رش���د كما ق���ال اهلل تعال���ى‪َ :‬‬ ‫﴿ي ْه ِدي ِإ َلى الر ْش ِ‬ ‫���د﴾(الجن‪،)2:‬‬ ‫ِل���كل ش‬ ‫���ي ٍء﴾(النحل‪ ،)89:‬وق���ال‪َ :‬‬ ‫ُّ‬ ‫ُ ِّ َ ْ‬ ‫هو الدس���تور المعصوم المحيط الوحي���د‪ ،‬الذي يمكن أن يمد‬

‫البشرية بالقواعد المحكمة والتعاليم المناسبة إلصالح األفراد‬


‫قضايا فكرة‬ ‫د‪ .‬يحيى جاد*‬

‫الصورة النمطية‬ ‫مادي أو معنوي يتم تعميمه‬ ‫"الصورة النمطية" هي تصور ذهني معين عن ش���يء ما‪،‬‬ ‫ٍّ‬ ‫على كل أجزاء ‪ /‬مكونات ‪ /‬أفراد هذا الشيء‪ .‬ومن ثم فخصائصها تكمن في اآلتي‪:‬‬ ‫‪ -1‬التبس � � ��يط االختزالي‪ :‬وفي ذل���ك تجاهل لتركيبية اإلنس���ان والواق���ع واألحداث‬ ‫واألسباب‪ ،‬وهذا يستوجب عم ًقا أكبر في التحليل‪.‬‬ ‫ال‪ِ -‬ل َما بين‬ ‫‪ -2‬التعميم الكاسح‪ :‬وفي ذلك تجاهل للتنوع واالختالف والفروق دون اعتبار ‪-‬مث ً‬ ‫األفراد من فروق فردية وسمات شخصية خاصة‪ ،‬وهذا يستوجب مراعاة التمايزات‪.‬‬ ‫‪ -3‬التصل � � ��ب‪ :‬أي رفض تغيير هذا التص���ور الذهني الحتوائه ‪-‬في ذهن حامل الصورة النمطية‪-‬‬ ‫على أحكام ِقيمية ( ُأ ِ‬ ‫لص َقت بالشيء محل الصورة النمطية)‪ ،‬مشحون ٍة بمشاعر ذاتية وعواطف شخصية‬ ‫َ‬ ‫(تكونت وترسبت وترسخت عبر الزمن)‪ ،‬وفي ذلك تجاهل لحقيقة الصيرورة ‪ /‬التغير ‪ /‬التجدد التي‬ ‫تتميز بها الجماعات والمجتمعات البشرية‪.‬‬ ‫وه���ذا يس���توجب مراجعة الص���ورة النمطية كل فترة حتى ولو كان قد ت���م تكوينها بصورة منهجية‬ ‫صحيحة‪.‬‬ ‫وآليات تكوين وإنتاج ونشر "الصورة النمطية" كثيرة‪ ،‬من أهمها‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫الس َير‪ ،‬األساطير‪ ...‬إلخ‪.‬‬ ‫‪َ -1‬‬ ‫مخت َلف أدوات الثقافة الشعبية‪ :‬األمثال‪ ،‬القصص‪ّ ،‬‬ ‫‪ -2‬مختلف األدوات اإلعالمية‪ :‬صحافة‪ ،‬إذاعة‪ ،‬تلفاز‪ ،‬إنترنت‪ ،‬كتب بمختلف أشكالها وأنواعها‪.‬‬ ‫‪ -3‬التجارب الشخصية الواقعية الحياتية‪.‬‬ ‫‪ -4‬الخطاب السياسي الحكومي الرسمي‪ ،‬وتزيد ضراوة تأثيره في البالد االستبدادية والفاشية‪.‬‬ ‫‪ -5‬مضمون المناهج التعليمية بمختلف أش���كالها وأنواعها وموادها ومس���توياتها‪ ،‬وتزيد ضراوة‬ ‫تأثيره في البالد االستبدادية والفاشية‪.‬‬ ‫وبن���اء عليه‪ ،‬فالص���ورة النمطية هي "قولبة" تقود إلى "الجمود" الذي يؤدي إلى "التعصب"‪ ...‬عبر‬ ‫متتاليتنا‪" :‬قولبة فجمود فتعصب"‪...‬‬ ‫أع���ور منقوص يؤدي إلى س���وء التعامل مع‬ ‫وفهم‬ ‫جهل‬ ‫اخت���زال‪ ،‬وفي االخت���زال‪:‬‬ ‫وف���ي القولب���ة‪:‬‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫الظاهرة ‪ /‬األمر ‪ /‬الشيء‪.‬‬ ‫"جب األوهام"‪ ،‬بتكرار س���وء التعامل مع الظاهرة ‪/‬‬ ‫وفي الجمود‪:‬‬ ‫تكلس يؤدي إلى الس���قوط في ُ‬ ‫ٌ‬ ‫األمر ‪ /‬الش���يء‪ ،‬ومن ثم اس���تفحال أمرها وتفاقم مش���كالتها‪ ،‬وهذا بدوره يؤدي إلى الس���لبية تجاهها‬ ‫بإعالن العجز عن مواجهتها‪ ،‬بلسان المقال حين ًا‪ ،‬وبلسان الحال في أكثر األحايين‪.‬‬ ‫"جب األنا والذاتية والفردية"‪...‬‬ ‫لآلخر‪،‬‬ ‫تمركز حول الذات‪،‬‬ ‫وف���ي التعص���ب‪:‬‬ ‫ٌ‬ ‫ونفي َ‬ ‫ٌ‬ ‫وس���قوط في ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ومن ثم استحكام حلقات المشكلة حول الرقبة‬ ‫(*) طبيب وباحث مصري‪.‬‬

‫‪23‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2012 )33‬‬


‫يقوم على إرادة القوة بكل ش���روط مقدماتها الروحية والمادية‬ ‫وتكنولوجيا‪ ،‬بحيث‬ ‫وأخالقيا‬ ‫واقتصاديا‬ ‫ومعرفيا‬ ‫وعقديا‬ ‫عقليا‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬ ‫تتش���ابك وتتناغ���م إرادة القوة م���ع إرادة الفع���ل واإلنجاز التي‬

‫تمليه���ا قواني���ن لغة التالقي والحوار بين البش���ر ضمن أنس���اق‬

‫حضارية مختلف���ة‪ .‬ومن هنا‪ ،‬فإن منطق التدافع يفرض تعايش‬ ‫الحوار واالستعداد لتجنب الصراع المفتعل ضد المستضعفين‪،‬‬ ‫واالستضعاف نقيض العلو المشروط باإليمان‪ .‬وهذا يعني أن‬ ‫ش���رط الحوار الس���وي‪ ،‬ما كان مسبو ًقا بإعداد القوة في صورة‬

‫إنم���اء مس���تدام‪ ،‬يبدأ بالنفير الحض���اري ال بالصدام الحضاري‬ ‫المفتعل واالستنفار الذي يستند إلى اإلثارة‪.‬‬

‫(‪)4‬‬

‫إن مقارب���ة رؤية حوار الش���باب مع اآلخ���ر‪ ،‬تحتاج صياغة‬

‫رؤية إس�ل�امية اجتهادية ناضجة‪ ،‬تؤس���س لنم���ط من "الحوار"‬ ‫يق���وم عل���ى إرادة واجتهاد‪ ،‬ق���وة وأخالق‪ ...‬ح���وار يقوم على‬

‫خدمة اإلنس���ان المس���تخلف في األرض تحت القيم المتعالية‬ ‫ال فوقها‪ ،‬ليكون هذا األخير‬ ‫مفتوحا على التواصي االجتهادي‬ ‫ً‬

‫أخالقيا‬ ‫حواريا‬ ‫منظورا‬ ‫بالحق والصبر(**) وبذلك تقارب الرؤية‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫أي‬ ‫في إط���ار الواجب‬ ‫"أخالقيا"‪ ،‬الممك���ن "تحق ًقا"‪ .‬لكن إلى ّ‬ ‫ًّ‬ ‫ح���د يمل���ك ش���بابنا أدوات وآلي���ات الح���وار الحض���اري زمن‬

‫العولمة ونظريات الصدام الحضاري؟!‬

‫(*) كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‪ ،‬جامعة ابن طفيل بـ"القنيطرة" ‪ /‬المغرب‪.‬‬

‫الهوامش‬

‫(‪ )1‬إنماء المجتمع األهلي‪ ،‬كتاب الكلمة ‪ ،2‬بيروت‪ :‬منتدى الكلمة للدراسات‬ ‫و األبح���اث‪ ،‬الطبع���ة األول���ى‪ ،‬ع���ام ‪ ،1996‬م���ن المجتم���ع يب���دأ اإلنماء‬ ‫والنهوض‪ ،‬معن بشور‪ ،‬ص‪.72:‬‬

‫(‪ )2‬تحدي���ات العولم���ة واألبع���اد الثقافي���ة الحضاري���ة والقيمية رؤية إس�ل�امية‪،‬‬ ‫للكدت���ور نادي���ة مصطفى‪ ،‬مجموعة مؤلفين مس���تقبل اإلس�ل�ام‪ ،‬دار الفكر‬

‫العربي‪ ،‬دمشق ‪.2004‬‬

‫(‪ )3‬حوار الحضارات في عالم متغير لـ"السيد ياسين" المؤتمر الدولي حول صراع‬ ‫الحض���ارات أم حوار الثقافات‪ ،‬ص‪ ،37:‬مطبوعات دار التضامن ‪.1997‬‬

‫(‪ )4‬العالق���ات الدولي���ة في اإلس�ل�ام‪ ،‬لس���يف الدين عبد الفت���اح‪ ،‬ج‪ ،2:‬مدخل‬

‫القي���م إط���ار مرجع���ي لدراس���ة العالق���ات الدولية ف���ي اإلس�ل�ام‪ ،‬المعهد‬

‫العالمي للفكر اإلسالمي‪ ،‬القاهرة ‪.1999‬‬

‫(**) يق���ارب الدكت���ور محم���د عاب���د الجابري مفه���وم التنمية فيق���ول‪ :‬إذا كانت‬ ‫التنمية هي "العلم حين يصبح ثقافة" فإن التخلف سيكون هو "العلم حين‬ ‫ينفصل عن الثقافة"‪ ،‬أو هو "الثقافة حين ال يؤسس���ها العلم"‪ .‬راجع وجهة‬

‫نظ���ر‪ :‬نحو إعادة بناء قضاي���ا الفكر العربي المعاصر‪ ،‬للدكتور محمد عابد‬ ‫الجابري‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربية‪ ،‬بيروت ‪.1994‬‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2012 )33‬‬

‫‪22‬‬

‫أيها الخريف‬ ‫أسى َع ْذبًا تُشيع‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وجما ًال حزينًا تَبتعث‪...‬‬ ‫ِفت‪،‬‬ ‫وساع ُة الموت أز ْ‬ ‫هنالك تنتفض‪،‬‬ ‫َ‬ ‫وجمال وجدانك تُظهر‪،‬‬ ‫ومهرجان ألوانك في األجواء ترسل‪...‬‬ ‫َ‬ ‫فتتألَّق ألوانك‪ ،‬وتزهو أوراقُك‪،‬‬ ‫وتتـراقص أشجارك‪،‬‬ ‫وكأنك تريد أن تقول‪:‬‬ ‫"في يُبعث الربيع من جديد‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫نشر‪،‬‬ ‫والحياة من قبري ستُ َ‬ ‫ومن فنائي يقوم وجودي‪،‬‬ ‫لهب قيامي"‪...‬‬ ‫وتحت رمادي ُ‬ ‫***‬


‫ال ري���ب في���ه‪ ،‬في أطراف التحليل س���يتأجج لنا س���ؤال منطقي‬

‫إستراتيجية لبناء ثقافة حوار شبابي حضاري يؤدي إلى إشراك‬ ‫فاعلين���ا وكوادرن���ا في التنافس الحض���اري العالمي؟ هل عملنا‬ ‫عل���ى صياغ���ة لغة حوار ممنهج���ة‬ ‫ال م���ن لغة حوارية‬ ‫بد ً‬ ‫علميا َ‬ ‫ًّّ‬ ‫ضعيف���ة قد تس���اهم في كثي���ر من األحيان إل���ى تعزيز الحواجز‬ ‫(‪)2‬‬ ‫ال إزالتها؟‬

‫تس���ببت في انش���طار المجتمعات‬ ‫القديم‪ ،‬هي االزدواجية التي َّ‬

‫يش���ير مصطل���ح الح���وار إل���ى درج���ة م���ن التفاع���ل والتثاق���ف‬ ‫والتعاط���ي اإليجابي بي���ن الحضارات التي تعتني به‪ ،‬وهو فعل‬ ‫ثقاف���ي رفي���ع يؤمن بالحق ف���ي االختالف إن ل���م يكن واجب‬ ‫االختالف‪ ،‬ويك���رس التعددية‪ ،‬ويؤمن بالمس���اواة‪ .‬وعليه فإن‬ ‫الحوار ال يدعو المغاير أو المختلف إلى مغادرة موقعه الثقافي‬ ‫أو السياس���ي‪ ،‬وإنما الكتش���اف المساحة المش���تركة وبلورتها‪،‬‬ ‫مج���ددا من���ذ أن توقفنا عن صناع���ة تاريخنا‪،‬‬ ‫واالنط�ل�اق منها‬ ‫ً‬ ‫ونح���ن عب���ارة عن موض���وع لفعل الغ���رب‪ ،‬يس���تثيرنا فننفعل‪،‬‬ ‫رد فعلنا موزو ًنا‬ ‫ومقاسا على فعله‪ .‬واليوم شبابنا محتاج‬ ‫ويأتي ُّ‬ ‫ً‬ ‫لفع���ل تواصلي إنجازي حضاري‪ ،‬وليس لرد الفعل اآلني غير‬ ‫التواصلي‪ .‬أكثرنا الحديث عن دمج الشباب في الحوار‪ ،‬لكن‬ ‫(‪)3‬‬ ‫لم نحدد لهم صياغة آلليات وأدوات هذا الحوار‪.‬‬

‫يس���تدعي ط���رق أبواب المفه���وم المضاد للوص���ول إلى معنى‬ ‫مضاد للمضاد‪ .‬وال س���يما أن التحديات التي تواجه شبابنا في‬

‫المجتمعات العربية واإلس�ل�امية ليس���ت بالقليلة وال باليسيرة‪،‬‬ ‫وتأتي في مقدمتها التحديات الثالثة التالية‪:‬‬

‫‪ -1‬االزدواجية‪ :‬فالس���مة البارزة لدول ما بعد االس���تعمار‬

‫إل���ى قس���مين ال تجمعهما إال الرقعة الجغرافي���ة؛ "دعاة الثقافة‬

‫األصلي���ة" و"دعاة الثقافة الغربية"‪ ،‬مم���ا جعل الصراع الفكري‬ ‫طبيعيا تتوارثه األجيال‪ ،‬وبالتالي‬ ‫أمرا‬ ‫ًّ‬ ‫داخل المجتمعات العربية ً‬

‫س���ادت ثقافة االحت���راب التي تتغذى بالنف���ي والنفي المضاد‪،‬‬ ‫وغاب���ت قنوات التواص���ل والحوار‪ .‬والبد لن���زع فتيل الحرب‬

‫األهلية الثقافية الت���ي تتهدد مجتمعاتنا‪ ،‬من تجاوز االزدواجية‬ ‫بابت���كار صي���غ تركيبية تعم���ل على إدماج "اآلخ���ر" أثناء عملية‬

‫إع���ادة بن���اء الذات؛ ه���ذه العملية التي لو أنه���ا التزمت بتحديد‬ ‫التحديات القائمة وترتيبها حس���ب ُس��� َّلم األولويات‪ ،‬لظهر أن‬ ‫الصراعات الداخلية التي تس���تنزف طاقات مجتمعاتنا إنما هي‬

‫ناتج���ة عن تناقض���ات ثانوية واهي���ة بالمقارنة إل���ى التناقضات‬ ‫المركزية لهذه المجتمعات‪.‬‬

‫(‪)1‬‬

‫‪ -2‬تشتت القوى الفكرية في تحديد ماهية الحوار‪ :‬تتطلب‬

‫طبيع���ة التحدي���ات‪ ،‬تجاوز الخالف���ات الداخلي���ة والتناقضات‬

‫الثانوي���ة‪ ،‬حتى يتأتى اجتم���اع كل القوى الفكرية الصادقة على‬ ‫أه���داف محددة ترتبط بطبيع���ة التحديات الحضارية‪ .‬وفي هذا‬

‫المضمار‪ ،‬يجب ترش���يد الش���باب لتش���كيل جبه���ة ثقافية على‬ ‫أرضية فكرية تتكون أسسها من القواسم المشتركة‪.‬‬

‫وفي س���ياق االنتقال بالش���باب من إش���كالية تشتت القوى‬

‫الفكري���ة في تجاوز خالفات الذات لحوار اآلخر‪ ،‬يتعين علينا‬

‫واجب���ا توجيه���ه لمعرفة َمن اآلخر المرش���ح لعقد الحوار معه‪،‬‬ ‫ً‬

‫بحي���ث ال يوجد لدينا رؤي���ة واضحة لماهية الحوار ومضمونه‬ ‫الحقيق���ي؛ هل هو حوار حضارات أم ح���وار ثقافات أم حوار‬

‫وإن‬ ‫أدي���ان؟ هل الحوار م���ع الغرب أم مع حض���ارات أخرى؟ ْ‬ ‫كان مع الغرب‪ ،‬فهل الغرب واحد أم متعدد؟‬

‫دائم���ا دفاعي تبري���ري يدور حول‬ ‫موقفن���ا من الح���وار هو ً‬

‫القضاي���ا التي يفرضه���ا اآلخر علينا‪ ،‬يصوغها في ش���كل اتهام‬

‫يرمين���ا به فنبدأ في ش���حذ الهمم لدرء ش���بهة ه���ذا االتهام دون‬ ‫أن نقدم أنفس���نا حقيق ًة لآلخر بش���كل إيجابي‪ ،‬فهل من خطط‬

‫‪ -3‬افتقاد الرؤية المتوازنة للح � � ��وار التام والحوار الناقص‪:‬‬

‫الحوار التام والحوار الناقص‬

‫حوار اس���تخالفي تصل ال ُّلحمة في���ه بين النظري‬ ‫الح���وار التام‬ ‫ٌ‬ ‫والعمل���ي‪ .‬وه���و حوار يتم بي���ن "الذات"‪ ،‬ويس���تند فيه البحث‬ ‫النظ���ري عل���ى "االجته���اد اإلجماع���ي"‪ ،‬كما يتق���دم العمل فيه‬ ‫ف���ي مجال التطبيق على أس���اس "التواص���ي بالصبر"‪ .‬في حين‬ ‫حوارا‬ ‫يك���ون الحوار الناق���ص‬ ‫والش���رخ‬ ‫فصاميا‪ ،‬قوامه الزيف ّ‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫بي���ن النظري والعمل���ي‪ ،‬وهو حوار يجري بي���ن "اآلخر"‪ .‬لكن‬ ‫من الممكن أن يتم هذا الضرب من الحوار (الحوار الناقص)‬ ‫بين مكونات الذات حينما يختل لديهم شرط التواصي بالحق‬ ‫والتواصي بالصبر‪ .‬فالضربان من الحوار‪ ،‬يمكنهما الجريان في‬ ‫الملة الواحدة أو بين الملل والفلس���فات والثقافات المختلفة‪.‬‬ ‫فوتيرة الحوار تراتبية قد تقف عند "حوار التعايش"‪ ،‬وقد ترقى‬ ‫إلى رتبة "حوار التعارف"‪.‬‬ ‫والحوار الذي نسعى ترسيخه بين شبابنا‪ ،‬هو حوار يحتاج‬ ‫إل���ى إع���ادة تأصيله وفق رؤية اجتهادية موصولة ما بين العقلي‬ ‫والعق���دي‪ ،‬وهو مختل���ف عن الحوار الذي يس���تند إلى باعث‬ ‫الضع���ف والتراخ���ي واالنكس���ار واالنه���زام وبالتال���ي التقلي���د‬ ‫واالس���تتباع المطل���ق‪ .‬الح���وار الش���بابي مع اآلخ���ر‪ ،‬ينبغي أن‬

‫‪21‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2012 )33‬‬


‫جدار األمن الثقافي والهوية اإلس�ل�امية (التدخل االستعماري‬ ‫باإلره���اب الدول���ي لش���عوبه ف���ي إط���اره الجغراف���ي ‪ /‬الص���ور‬ ‫وسياسيا‬ ‫وسينمائيا‬ ‫إعالميا‬ ‫النمطية المش���وهة لإلسالم وثقافته‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬

‫وفكريا ‪ /‬إلصاق تهمة اإلرهاب بكل المنتمين لدائرته‬ ‫وتربويا‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬

‫‪ /‬استفزاز مشاعرهم باإلساءة لمقدساتهم ونبيهم ‪.)...‬‬

‫ف���ي ه���ذا المن���اخ القل���ق‪ ،‬ولش���دة الغم���وض المحي���ط‬

‫باحتم���االت تط���ور العالقات المس���تقبلية بين ش���بابنا واآلخر‪،‬‬ ‫واحتمالية س���يادة الالأم���ن الفكري‪ ،‬فيكون الدي���ن هو المتهم‬

‫الوحي���د بالتط���رف أو اإلره���اب‪ ،‬بحي���ث أصب���ح ال���كل ي���ردد‬ ‫التطرف الديني؛ والغرض توجيه نظام العالم إلى خطر وهمي‬

‫م���ن الدي���ن لعزل���ه عن واق���ع الحي���اة‪ .‬فهل صحيح أن ش���باب‬ ‫العالم اإلسالمي كلهم متطرفون ألنهم يدينون بدين اإلسالم؟‬

‫هذا اإلش���كال‪ ،‬ينبغي أن يتصدى لدراس���ته ش���بابنا اإلس�ل�امي‬ ‫ردا للته���م الموجهة إليه‪ ،‬وإنما إلع���ادة الدور النهضوي‬ ‫لي���س ًّ‬ ‫لحضارتن���ا‪ ،‬وإقامة ميزان العدل في فهم ذاته ومقوماته الدينية‬

‫نستطيع بدون تفكيك أسبابه بناء حوار حضاري منتج لشبابنا‪.‬‬ ‫إن ح���وار الحضارات ال يعفينا من ض���رورة الرؤية النقدية‬ ‫لواقعن���ا‪ ،‬ب���ل البد من القيام بش���كل حثيث بنق���د ذاتنا والعمل‬ ‫عل���ى الخ���روج م���ن الحال���ة الفصامي���ة العميقة الت���ي تمتد من‬ ‫الف���رد إل���ى المجتمع‪ ،‬ومن جيل الش���يوخ إلى جيل الش���باب‪،‬‬ ‫الخروج من نرجسية نظرتنا إلى التاريخ والتراث‪،‬‬ ‫الخروج من‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫فكرا‬ ‫ونمط حياة‬ ‫َ‬ ‫وه���م إمكان تمثل الحضارة دون التلوث بها ً‬ ‫إن ل���م نش���ارك في إنجازها ونس���اهم في بنائه���ا‪ .‬وما لم ندرك‬ ‫الش���رط التاريخ���ي‬ ‫لتف���وق الغ���رب وحضارته‪ ،‬وم���ا لم نمتلك‬ ‫ُّ‬ ‫أسس التقدم الراهن الذي‬ ‫حققته حضارة الغرب‪ ،‬فلن نستطيع‬ ‫ْ‬ ‫خوض الحوار الحضاري بالجدارة التي تستحقها حضارة مثل‬ ‫حضارتنا العربية واالس�ل�امية‪ .‬فكيف س���يجري حوار الشباب‬ ‫الحضاري من خ�ل�ال الموقف المجتمعي الفصامي بين ثنائية‬ ‫ثقاف���ة التقلي���د والتوفي���ق‪ ،‬ثقاف��� ِة االنبه���ار واالس���تيالب‪ ،‬ثقاف ِة‬ ‫االنعزال واالستتباع المطلق؟‬

‫والفكري���ة ومؤهالت���ه العلمية التي بها يتم بناء جس���ر التواصل الشباب وسؤال الحوار‬ ‫بعيدا ع���ن التعصب والنظ���رة الدونية‬ ‫ال���ذي يفهم لغت���ه اآلخر ً‬

‫لمرتك���زات حضارتنا اإلس�ل�امية‪ .‬وال ش���ك أن الحديث عن‬

‫ح���وارا‪ ،‬يحتمل الكثير‬ ‫صراعا أو‬ ‫الش���باب وحوار الحضارات‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫من االلتباس والخلل‪ .‬فأية حضارات هي المقصودة بالحوار؟‬

‫ه���ل المقصود أن يتحاور ش���بابنا مع الحض���ارة الغربية‪ ،‬أم مع‬ ‫الحضارات الشرقية من عربية وإسالمية أو بوذية وشنتوية؟‬

‫ث���م ما المقصود بالحوار؟ فهل المقصود حوار بين الغرب‬

‫وإعالما؟ هل المقصود حوار‬ ‫وجيوشا‬ ‫ثقاف ًة وحضار ًة وسياس ًة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫دين���ي بين الدعاة والمبش���رين‪ ،‬أم أن المقصود حوار سياس���ي‬ ‫بين زعامات سياس���ية تم ِّثل ‪-‬بش���كل أو بآخر‪ -‬رموز المصالح‬

‫المتناقضة لبلدان مختلفة؟ هل يتم الحوار على أس���اس القول‬ ‫االستش���راقي ب���أن العق���ل للغرب وال���روح والخرافة للش���رق؟‬

‫واقتصاديا‬ ‫تكنولوجيا‬ ‫هل يمكن أن يتحاور ش���بابنا مع اآلخ���ر‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬

‫ح���وار ثقافي يتحقق في‬ ‫بمع���زل عن الثقاف���ة‪ ،‬أم أن المطلوب‬ ‫ٌ‬ ‫وح���ي ومنفتح بين مختل���ف المرجعيات الثقافية‬ ‫تفاع���ل كريم‬ ‫ٍّ‬ ‫ف���ي الش���رق والغ���رب‪ ،‬ألن تح���دي الح���وار أضح���ى يحم���ل‬

‫الجمي���ع عل���ى مواجهته؟! فم���اذا يجب علينا عمل���ه كي نكون‬

‫أندادا حقيقيين في هذا الحوار؟ هل سنحاور الحضارة الغربية‬ ‫ً‬ ‫من خارجها أم من الداخل؟ هل يمكن أن نتفاعل مع حضارة‬

‫ما في هذا العصر وأن نبقى خارجها؟ فثمة قصور جوهري لن‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2012 )33‬‬

‫‪20‬‬

‫يشكل الشباب العربي بؤرة وجوهر التغيير‪ ...‬فكما أن لآلخر‬ ‫دوره ف���إن للش���باب أدواره‪ ،‬تتوزع وتختلف تتصادم وتتكامل‪،‬‬ ‫مرتعا‬ ‫تنمويا يس���تدعي إع���ادة التكرير‬ ‫ًّ‬ ‫لكنه���ا في النهاي���ة تبقى ً‬ ‫من أجل االضطالع بش���باب ق���ادر على تحمل أعباء المجتمع‬ ‫العرب���ي‪ ،‬ق���ادرٍ عل���ى التطوي���ر والتطهير‪ ،‬قادرٍ قب���ل ذلك وذاك‬ ‫على صناعة التعبير الحر غير المنمط وغير الملوث‪ ،‬بل تعبير‬ ‫مبن���ي على إعم���ال الفكر من أجل حوار ش���بابي عربي‪-‬عربي‬ ‫أوالً‪ ،‬وح���وار ش���بابي عربي‪-‬غربي ثانية‪ ،‬غايت���ه إعادة االعتبار‬ ‫إلى الجوهر االجتماعي للش���باب لتحقيق مشاركته الفعلية في‬ ‫الحياة العامة بما في ذلك الحوار الثقافي‪.‬‬ ‫فكيف يمكن للش���باب أن يلعب دوره الريادي في تحقيق‬ ‫الح���وار الثقاف���ي؟ ما ه���ي مكامن ضعف ذلك الح���وار ونقاط‬ ‫أي عالقة يمكن أن يشكلها الشباب‬ ‫قوته في عالقته بالشباب؟ ّ‬ ‫العرب���ي ف���ي بن���اء ثقافة الح���وار الثقاف���ي؟ هذه أس���ئلة وغيرها‬ ‫دورا‬ ‫تالح���ق مفهوم "الح���وار الثقافي" في عالقته مع فئة تمثل ً‬ ‫هاما في عملية البناء الحضاري‪ ،‬فئة شباب العالم اإلسالمي‪.‬‬ ‫ًّ‬ ‫مقاب�ل�ا‬ ‫مقاب���ل‬ ‫مقاب�ل�ا‪ ،‬ول���كل‬ ‫ال ش���ك أن ل���كل مفه���وم‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ٍ‬ ‫ال‪ ،‬يوحي بوج���ود مفاهيم داللي���ة ُتنتقد‬ ‫مض���ادا؛ فالصم���ت مث ً‬ ‫ًّ‬ ‫بمفهوم الحديث الذي بدوره يؤش���ر بوجود مقابل األول‪ ،‬أي‬ ‫الصم���ت‪ .‬فإذا‬ ‫تمكنا م���ن تناول كل المفاهيم على حدة‪ ،‬فمما‬ ‫ّ‬


‫قضايا فكرية‬

‫د‪ .‬مريم آيت أحمد*‬

‫ثقافة الحوار مع اآلخر لدى الشباب‬ ‫ودورها في التواصل الحضاري‬

‫ف���ي بيئ���ة عالمي���ة مش���حونة بثقافة الص���دام الحض���اري واالس�ل�اموفوبيا‪ ،‬يتأك���د الحديث عن‬ ‫العالقات المفترضة بين الحضارات والثقافات في هذا العالم‪ ،‬التي ال زالت تحتفظ لنفس���ها‬ ‫بمقومات البقاء واالستعداد للنمو والنهوض‪.‬‬ ‫وتبدو قيمة هذا الموضوع بعدما دأب مفكرو الغرب واإلسالم على حد سواء على استعادة طرح سؤال كبير‬ ‫متجها نحو مرحلة جديدة‪ ،‬يتعلق بماهية‬ ‫مركب من أسئلة تفصيلية عقب كل تحول استراتيجي يبدو فيه العالم‬ ‫ً‬ ‫طبيع���ة الص���راع بين األمم والش���عوب‪ ،‬وما بي���ن الرفض المطلق أو القبول المطلق‪ ،‬تع���ددت المناهج وتباينت‬ ‫الرؤى واختلفت المشاريع والمدارس‪ .‬ومع العديد من اإلخفاقات التي شهدها العالم اإلسالمي أمام الخلل‬ ‫العالمي الناتج عن أحادية القطب وازدواجية المعايير في تطبيق المواثيق الدولية‪ ،‬وطرح مخططات في اختراق‬

‫‪19‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2012 )33‬‬


‫الواحد في الصحافة مهنية وحصافة‪ ،‬وتعريض وحدة المجتمع‬ ‫أرد ِء الس���فلة نباهة‪،‬‬ ‫واألمة للخطر سياس���ة‪،‬‬ ‫وتقدم من‬ ‫ّ‬ ‫وتزعم َ‬ ‫ّ‬

‫خالق له كياسة (‪ )...‬حتى أصبحت الروائح التي تزكم األنوف‬ ‫مقدم���ة لم���ا لها من نفاس���ة (‪ )...‬األمم ال تس���عد إذا كانت لغة‬

‫التواص���ل المخل���ب والظفر والناب‪ ،‬والمي���ل الصريح عن كل‬

‫كذاب)‪ ،‬األمم ال تسعد‬ ‫قول صواب‪ ،‬ألنه صدر عن (مشاغب ّ‬ ‫بمزيف من االنتخاب‪ ،‬أو حيل (دهاء)ساس���ة‬ ‫بتعطي���ل إرادته���ا ّ‬ ‫ألجل أن تهنأ األمة بطول غياب‪ ،‬في تعمير األرض والمراقبة‬

‫والحس���اب‪ ،‬ال يرتاح لها بال حتى تراقب‬ ‫الكل حتى البواب‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫فعلنا‬ ‫وش���غلنا تلك‬ ‫ّ‬ ‫عيدنا س���عيد إذا نوينا بحق وصدق ثم ّ‬

‫النية في شعاب الحياة‪ ،‬فيتحول حالنا إلى أحسن حال‪ ،‬فيكون‬

‫يومنا‬ ‫تصميما على ترك التخ ّلف بكل أشكاله وألوانه‪ ،‬فنطرده‬ ‫ً‬ ‫م���ن تعليمنا ومش���هدنا السياس���ي واالقتص���ادي واالجتماعي‪،‬‬

‫التخ ّلف وفق المعايير اإلنسانية الجامعة‪.‬‬

‫ه���ل يقبل من يري���د أن تكون أمته على أفض���ل حال إيما ًنا‬

‫وأمن���ا‬ ‫واس���تقرارا وتنمي���ة‪ ،‬بالدوني���ة‪ ،‬ورأس م���ا يصنعه���ا وفق‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ح���ب األمة‬ ‫المتف���ق علي���ه بي���ن العق�ل�اء‪ُ ،‬ع َّباد ذواته���م بعنوان‬ ‫ّ‬

‫والوط���ن‪ ،‬فيخاط���رون باألمة ألجل الحف���اظ على حطام زائل‬ ‫من الدنيا‪ ،‬ألن حب الوطن واألمة لها مقتضيات جلية‪ ،‬تتجلى‬ ‫في أن تبذل لهما كل ما تقوى عليه من غير انتظار ِع َوض‪ ،‬ومن‬

‫بذل ألجل انتظار العوض‪ ،‬فهو محب للعوض ال للوطن‪.‬‬

‫عيدنا سعيد إذا أردنا‪ ،‬فهل نسترد إرادة السعادة؟ ونكتشف‬

‫آليات تفعيلها وتش���غيلها في ش���عاب الحياة‪ ،‬فنسعد بأيام َه ّنية‬ ‫ف���ي التعلي���م والتربي���ة والسياس���ة واالقتصاد ثم تت���وج بالبعث‬

‫الحض���اري لألم���ة‪ ،‬وأمة هذا ش���أنها تنأى بنفس���ها من أن تبقى‬

‫أمة للفرجة (تتفرج عليها األمم ألنها أشبه بالبهلوان)‪ ،‬لتتحول‬

‫���م ُأ َّم ًة‬ ‫﴿و َك َذ ِل َ‬ ‫���ك َج َع ْل َن ُ‬ ‫وف���ق س���نن التغيير إلى أمة الش���هادة َ‬ ‫اك ْ‬ ‫���طا ِل َت ُكو ُن���وا ش���هداء على الن���اس ويكون‬ ‫���ول َع َل ْي ُك ْم‬ ‫الر ُس ُ‬ ‫َو َس ً‬ ‫ُ َ َ َ َ َ َّ ِ َ َ ُ َ َّ‬ ‫فكر ونوى وعمل على إس���عاد يومه‪،‬‬ ‫يدا﴾(البقرة‪ ،)143:‬م���ن ّ‬ ‫َش���هِ ً‬ ‫فغده من جنسه إن داوم عليه‪ ،‬وهذا نتمنى أن نكون معه ومنه‪،‬‬ ‫ونقول له عيدك القادم سعيد‪ ،‬ألن السعادة اكتساب‪" ،‬إ ّنما هي‬

‫ردت إلينا"‪ ...‬وإلى عيد آخر‪.‬‬ ‫أعملنا ّ‬

‫(*) كلية العلوم اإلسالمية‪ ،‬جامعة الجزائر ‪ /‬الجزائر‪.‬‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2012 )33‬‬

‫‪18‬‬

‫قطرات الماء‬ ‫قطرة فقطرة‪،‬‬ ‫فرشحة‪...‬‬ ‫رشحة َ‬ ‫فالقليل إلى القليل‪،‬‬ ‫يشق‪،‬‬ ‫طري ًقا ّ‬ ‫ال يم ّهد‪..‬‬ ‫وسبي ً‬ ‫وبمشيئة الخالق‪،‬‬ ‫غ ًدا يطفح الماء‪،‬‬ ‫والظامئين يسقي‪،‬‬ ‫والعطاش يروي‪...‬‬ ‫َ‬ ‫***‬


‫باليسر‬ ‫عدت على قومي بالخفض َ‬ ‫لو ْ‬ ‫والدعة‪ ،‬أو ُج ْدت عليهم ُ‬ ‫مني اللس���ان الخافق بذكرك‪ ،‬والقلم الدافق‬ ‫والس���عة‪ ،‬لوجدت ّ‬ ‫شر‬ ‫بش���كرك‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ولكنك ُعدت عليهم بنهار كاسف الشمس‪ ،‬يوم ّ‬ ‫مقيما‪،‬‬ ‫من األمس‪ ،‬فاذهب كما جئت‪ ،‬فلست منك‬ ‫ً‬ ‫ظاعنا وال ً‬ ‫ذميما"‪.‬‬ ‫وع ْد كما شئت‪ ،‬فلست مني‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫حميدا وال ً‬ ‫فالعي���د الس���عيد‪ ،‬ما تصمم���ه العقول وتتحقق ب���ه القلوب‪،‬‬ ‫وتبذل لتحقيقه في ش���عاب الحياة الس���واعد‪ .‬فالعيد السعيد ما‬ ‫نصنعه؛ فإن ش���قينا فيه فهو حصاد ما زرعناه في سالف األيام‪،‬‬ ‫وإن س���عدنا ب���ه فبفض���ل ب���ذل وصناع���ة ال تجتم���ع والخمول‬ ‫والكس���ل والس���بهللة‪ ،‬ق���ال الش���يخ‪" :‬إنم���ا الن���اس ألعمالهم‪،‬‬ ‫عمرن���ا أيام العام‬ ‫س���عد العاملون وش���قي الخامل���ون (‪ )...‬فلو ّ‬ ‫بالصالح���ات‪ ،‬لكن���ت (العي���د) لن���ا ضاب���ط الحس���اب وحاف���ظ‬ ‫ش���يئا ولم تبخس���نا من أزوادنا‬ ‫تلتنا من أعمالنا ً‬ ‫الجراب‪ ،‬ثم لم ْ‬ ‫وتمنينا عليك األماني‪ ،‬وتبادلت ألس���نتنا‬ ‫ا‪،‬‬ ‫فتي�ل� ً‬ ‫قصرنا ّ‬ ‫ّ‬ ‫ولكنن���ا ّ‬ ‫ودعناك وانتظرنا إيابك‪،‬‬ ‫تؤمن عليها قلوبنا‪ ،‬ثم ّ‬ ‫في���ك أدعية لم ّ‬ ‫وأطلنا الغيبة واستبطأنا غيابك"‪.‬‬ ‫لقين���ا هذا العيد و ما س���بقه من األعي���اد باالكتئاب‪ ،‬وتلك‬ ‫نتيج���ة االكتس���اب‪ ،‬وكيف ال يك���ون كذلك‪ ،‬وقومن���ا كما قال‬ ‫"يتخبط���ون في داجية ال صباح له���ا‪ ،‬ويفتنون في عام‬ ‫الش���يخ‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫يذكرون‪ ،‬وأراهم ال ينقلون‬ ‫مرتين‪ ،‬ثم ال يتوبون وال هم ّ‬ ‫مرة أو ّ‬ ‫تأخروا خطوات إل���ى الوراء (‪ )...‬حصرت‬ ‫قدم���ا إل���ى أمام إال ّ‬ ‫ً‬ ‫حرة‪ ،‬وتس���خير نفس���ها لضرة‪ ،‬نكاية‬ ‫ّ‬ ‫حرة على ّ‬ ‫همه���ا في إثارة ّ‬ ‫ال عن س���بب البالء الذي‬ ‫متس���ائ‬ ‫الش���يخ‬ ‫يذكر‬ ‫ثم‬ ‫ة"‪،‬‬ ‫ض���ر‬ ‫ف���ي‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫"وأفكر في ع ّلة هذا البالء النازل بهم‪ ،‬وفي‬ ‫حل باألمة فيقول‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫التف���رق المبيد لهم‪ ،‬فأجدها آتية م���ن كبرائهم وملوكهم‪،‬‬ ‫ه���ذا‬ ‫ّ‬ ‫الذل‪ ،‬فرئموا‬ ‫عوقين منهم الذين أش���ربوا في قلوبه���م ّ‬ ‫وم���ن ُ‬ ‫الم ّ‬ ‫واس���تحبوا الحياة الدنيا فرضوا بسفاس���فها‪،‬‬ ‫الضي���م والمهانة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ونزل الش���رف في نفوس���هم بدار غريبة فلم ُي َقم‪ ،‬ونزل الهوان‬ ‫منها بدار إقامة فلم َي ِرم‪."...‬‬ ‫كي���ف لنا أن نس���عد بالعيد والمس���لمون "ورث���وا من الدين‬ ‫وألفاظا بال مع���ان‪ ،‬ثم عم���دوا إلى روحه‬ ‫قش���ورا ب�ل�ا لب���اب‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫فأزهقوه���ا بالتعطيل‪ ،‬وإلى زواجره فأرهقوه���ا بالتأويل‪ ،‬وإلى‬ ‫فموهوه���ا بالتضليل‪ ،‬وإل���ى وحدته الجامعة‬ ‫هدايت���ه الخالصة ّ‬ ‫فمزقوه���ا (‪ )...‬ق���د نصب���وا م���ن األم���وات هياكل يفتتن���ون بها‬ ‫ّ‬ ‫ويقتتلون حولها ويتعادون ألجلها‪ ،‬وقد نسوا حاضرهم افتتا ًنا‬ ‫اعتم���ادا عل���ى أوليهم‪ ،‬ولم‬ ‫بماضيه���م‪ ،‬وذهل���وا عن أنفس���هم‬ ‫ً‬

‫يحفلوا بمستقبلهم ألنه غيب والغيب هلل‪ ،‬وصدق اهلل وكذبوا‪،‬‬ ‫فم���ا كانت أعمال محمد وأصحابه إال للمس���تقبل‪ ،‬وما غرس‬ ‫محمد شجرة اإلسالم ليأكل هو وأصحابه ثمارها‪ ،‬ولكن زرع‬ ‫األولون ليجني اآلخرون"‪.‬‬ ‫ج���اء العي���د والهوى ف���ي ممالك المس���لمين يأم���ر وينهى‪،‬‬ ‫واالس���تبداد ف���ي كثي���ر من بلدانهم بل���غ المنته���ى‪ ،‬وكيد العدو‬ ‫األجنب���ي بمعاون���ة خدمه ف���ي الداخل يس��� ّلط األخ على أخيه‪،‬‬ ‫لين���ام ه���و قرير العي���ن‪ِ ،‬ل َي ِكل أمر المس���لمين إليه���م‪ ،‬فيقومون‬ ‫مقام���ه في تخري���ب الديار ومن���ع النهضة الحضاري���ة المنتظرة‬ ‫بهدر الطاقات فيما ال طائل منه‪ ،‬وبعث المسائل الميتة المميتة‬ ‫المعطلة عن‬ ‫من مراقدها على حين غفلة من الجمارك الفكرية‬ ‫ّ‬ ‫االشتغال‪ ،‬مما يجعل التفكير في النهضة من سابع المحال في‬ ‫ظل وضعنا الراهن‪.‬‬ ‫إذا أردنا أن يستعيد العيد معناه الديني واإلنساني والنفسي‬ ‫ش���كرا بعد تمام عبادة تتحقق‬ ‫دينيا‬ ‫واالجتماعي‪ ،‬فيكون العيد ًّ‬ ‫ً‬ ‫بها القلوب وتنار بها العقول و ُترى عمارة في األرض‪ ،‬ويعود‬ ‫في هذا اليوم مال اهلل الذي اس���تودعه الغني على فقير يدعو له‬ ‫أمين���ا في نقل األمانة التي‬ ‫بحف���ظ النعم���ة من الزوال‪ ،‬ألنه كان ً‬ ‫استأمنه اهلل عليها‪.‬‬ ‫نف���رح بالعي���د حي���ن يك���ون يومن���ا أحس���ن من أمس���نا؛ في‬ ‫السياس���ة والتربي���ة والتعلي���م واالقتصاد واالجتماع‪ ،‬وتس���تعيد‬ ‫أمتن���ا الص���دارة الحضاري���ة‪ ،‬ويع���ود م���ال األمة عل���ى األمة‪...‬‬ ‫كل شيء‪ ،‬نسعد به عندما‬ ‫يقدم خيارنا في ّ‬ ‫نس���عد بالعيد عندما ّ‬ ‫معي���ارا للتقديم‪،‬‬ ‫تك���ون الكف���اءة المعرفي���ة واألهلية األخالقية‬ ‫ً‬ ‫نسعد عندما يستعيد المجتمع المبادرة التي تتوافق مع األوامر‬ ‫اإللهية في كل ش���ؤون الحياة‪ ،‬نس���عد حينما تس���عفنا ش���هواتنا‬ ‫وش���عبا‬ ‫الترش���ح للبيع أمة‬ ‫ال عن‬ ‫فنتحرر من قبول الس���وم فض ً‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫وبكل قوة أننا لس���نا أمة‬ ‫نصرح بملء فينا ّ‬ ‫ً‬ ‫حكاما ومحكومين‪ّ ،‬‬ ‫للبيع‪ ،‬وأننا أمة ال تقبل الضيم واإلذالل‪.‬‬ ‫أن الشعوب والمجتمعات قد تسعد بما ال ُي ْسعد‪،‬‬ ‫ظن ّ‬ ‫من ّ‬ ‫فه���و مجانب للص���واب‪ ،‬مخالف لما أرش���دت إلي���ه األلباب‪،‬‬ ‫منازع لما درجت عليه س���نة (قواني���ن) رب األرباب‪ .‬األمم ال‬ ‫تعطلت فيها العقول والقلوب‬ ‫تسعدها اآلالم والشجون إال إذا ّ‬ ‫باللهو المجون‪ ،‬وطمست المواهب بفعل القرب من المحلي‬ ‫أو األجنب���ي من الكانون (الموقد رمز الدفء)‪ ،‬واندثرت فيهم‬ ‫المروءة‪ ،‬وقلبت فيهم الموازين فصار التحريش بين أهل الوطن‬

‫‪17‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2012 )33‬‬


‫أدب‬

‫أ‪.‬د‪ .‬عمار جيدل*‬

‫َ‬ ‫ولست شجا ًعا إذا أنت اقتحمت‬ ‫ال تخف ولكن كنْ حذ ًرا‪ ،‬اِح َت ْط لألمر ولكن ال تكن جبا ًنا‪.‬‬ ‫َ‬ ‫وقفت مجر ًدا من كل سالح أمام ذئب جريح‪ ،‬فذاك هو‬ ‫عرين األسد دون تخطيط مسبق‪ ،‬أو‬ ‫الته ّور بعينه والرعون ُة بذاتها‪ .‬ومتى كان التهور شجاعة‪ ،‬وإلقاء النفس إىل التهلكة استبسا ًال!؟‬ ‫***‬ ‫(املوازين)‬

‫أصل العنوان فكرة مس���تلة مما قرأته عن الش���يخ محمد البش���ير اإلبراهيمي أمير‬ ‫البيان وسلطان البرهان في الكشف عن الدرر المستخرجة من القرآن وس ّنة سيد‬ ‫اإلنس والجان‪.‬‬ ‫درج الناس في البالد اإلس�ل�امية أن يدعو بعضهم لبعض‪ ،‬بهذه المناس���بة بالسعادة في العيد وبه‪،‬‬ ‫ال إلسعاد أنفسهم‪ ،‬قبل‬ ‫ال لنيل الس���عادة‪ ،‬بل فيما إذا كانوا أه ً‬ ‫ولكن هل تس���اءلوا فيما إذا كانوا أه ً‬ ‫نقل هذه المعاني السامية لآلخرين؟‬ ‫مخاطبا العيد‪" :‬يا عيد!‬ ‫العيد ال يحمد لذاته وال يذم‪ ...‬قال الشيخ محمد البشير اإلبراهيمي‬ ‫ً‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2012 )33‬‬

‫‪16‬‬


‫بي���ن الثقاف���ات يج���ب أن ينبث���ق مجتمع‬

‫عالم���ي جديد‪ ،‬قوامه التفاهم واالحترام‬ ‫المتب���ادل‪ ...‬وه���ذا المجتم���ع‪ ،‬يج���ب‬ ‫أن يأخ���ذ ص���ورة نزع���ة إنس���انية جديدة‬

‫يتحق���ق في���ه الش���مول باالعت���راف بقيم‬ ‫مش���تركة تحت ش���عار؛ تنوع الثقافات"‪.‬‬ ‫وعل���ى الرغم من كون هذا المؤتمر‬

‫كم���ا جاء ف���ي بيانه الختام���ي‪ -‬قد تنبأ‬‫بـ"انبج���اس جامع���ة عالمي���ة ف���ي المث���ل‬ ‫والقيم والتطلعات" كإطار ثقافي عالمي‬

‫يواكب التواصل الحضاري العالمي‪ ،‬إال‬ ‫أن البي���ان المذكور أكد على مواصفات‬

‫�إن ح ًّق��ا على امل�سلم�ين �أفرا ًدا‬ ‫الت�شب��ث‬ ‫و�شعوبً��ا و�أم��ة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫بثقافته��م الإ�سالمية الأ�صيلة‪،‬‬ ‫فه��ي �سفين��ة جناته��م ‪-‬ب���إذن‬ ‫اهلل‪ -‬تع�بر بهويته��م وذاتيتهم‬ ‫�إىل ب��ر الأم��ان و�شواط��ئ‬ ‫النج��اة يف ع�� ٍ‬ ‫صر يتوا�صل فيه‬ ‫الع��امل بو�سائ��ط حتم��ل الغ��ث‬ ‫وال�سمني‪ ،‬والطيب واخلبيث‪،‬‬ ‫والنافع وال�ضار‪.‬‬

‫له���ذا اإلطار بما ال يمكن أن يتحقق في‬

‫نظر لها ذلك المؤتمر‪.‬‬ ‫ورعاية للنزعة اإلنسانية الحضارية التي َّ‬ ‫ولئ�ل�ا يوحي هذا الق���ول بالتعارض مع المقدمات الس���ابقة‬

‫وم���ا تدل علي���ه من تمايز الثقافات وتقبل ه���ذا التمايز واحترامه‬

‫ل���دى اإلنس���ان الغربي"‪ ،‬مم���ا يدل على‬

‫أنه���ا تس���ير نح���و االعت���دال ف���ي رؤيتها‬ ‫الش���املة‪ ...‬واألمثل���ة عل���ى ذل���ك م���ن‬

‫الكث���رة بم���كان‪ ،‬بيد أنن���ي أختصرها في‬ ‫األمثلة اآلتية‪:‬‬

‫ال‪ :‬العودة بها إلى اإليمان بوجود‬ ‫أو ً‬

‫إله واحد‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬التأكي���د على الجانب الروحي‬ ‫ً‬

‫من اإلنسان وأن حياته الروحية والخلقية‬

‫تماما كحياته "البيولوجية"‪.‬‬ ‫هي حقائق ً‬

‫ثال ًث���ا‪ :‬إدراك حقيق���ة أن العل���م ليس‬

‫ال‪ ،‬وال بالمنهج‬ ‫محصورا بالطبيعة مج���ا ً‬ ‫ً‬

‫أي ثقافة عرفها التاريخ البش���ري إال من‬

‫خالل الثقافة اإلسالمية طال الزمن أم قصر‪ ،‬وذلك لما تمتلكه‬ ‫ٍ‬ ‫ش���مول وعالمية‬ ‫ه���ذه الثقاف���ة من أصالة‪ ،‬ولم���ا تتصف به من‬

‫الخبرة اإلنس���انية‪ ،‬والبحث عن األفضل‬

‫التجريبي طري ًقا‪.‬‬

‫رابع���ا‪ :‬تقلص النفور والعبثية من عل���م النفس والكونيات‬ ‫ً‬

‫واالس���تعاضة عنه���ا؛ بالغائي���ة‪ ،‬وب���اهلل‪ ،‬وبالجم���ال‪ ،‬وبالعناصر‬

‫الروحية‪ ،‬وبكرامة اإلنسان‪.‬‬

‫خامس���ا‪ :‬ب���روز المش���اعر اإلنس���انية النبيل���ة‪ ،‬كم���ا ف���ي‬ ‫ً‬ ‫تقدي���م الخدم���ات اإلنس���انية في مج���االت التغذي���ة‪ ،‬ومقاومة‬

‫وتقدي���ره‪ ،‬أقول إن ه���ذا التعارض المتوه���م مدفوع بالحقيقتين‬

‫المجاع���ات‪ ،‬والعناية بالطفولة واألمومة ونحو ذلك‪ ،‬مما يعد‬

‫الحقيقة األولى‪ :‬كون الثقافة اإلسالمية هي الثقافة الرائدة‬

‫اإلس�ل�امية وم���ن مقوماته���ا وخصائصها قبل أن تتش���كل هذه‬

‫م���ع جميع الثقافات والتعايش الس���لمي معها‪ ،‬ب���ل هي الثقافة‬

‫الغربي���ة على الرغم من هذه التحوالت الجوهرية واإليجابية‪،‬‬

‫مدت جس���ورها لس���ائر الثقافات‪ ،‬وكانت‬ ‫منها‪ ،‬وبالمقابل فقد َّ‬

‫بالثقاف���ات األخ���رى وبخاصة الثقافة اإلس�ل�امية‪ ،‬بل ال زالت‬

‫اآلتيتين‪:‬‬

‫ف���ي الحقيقة والنظرة المتجردة المنصفة‪ ،‬من أبجديات الثقافة‬

‫ف���ي مضم���ار التجرب���ة التاريخي���ة‪ ،‬فق���د نجحت في التس���امح‬

‫الرؤي���ة اإليجابية في الثقاف���ة الغربية بقرون عدة‪ ،‬بل إن الثقافة‬

‫انفتاحا عليها وإفادة‬ ‫اإليجابية في عالقاتها مع الشعوب واألمم؛‬ ‫ً‬

‫ل���م تتح���رر بالق���در الكافي من عقدة االس���تعالء ف���ي عالقاتها‬

‫بمثابة المدرس���ة التي تخرجت فيه���ا النماذج الثقافية المبدعة‪.‬‬

‫تتسم معها ‪-‬بشكل أو آخر‪ -‬بطابع النرجسية وعدم االعتراف‬

‫العالمية بعوامل ذاتية من جهة وبجهود موجهة من جهة أخرى‪،‬‬

‫أف���رادا‬ ‫إن ح ًّق���ا عل���ى المس���لمين‬ ‫وش���عوبا وأمة‪ ،‬التش���بث‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫الحقيقة الثانية‪ :‬كون الثقافة الغربية التي شقت طريقها نحو‬

‫تتحول باستمرار نحو الحقائق اإليمانية التي تقوم عليها الثقافة‬ ‫ابتداء ولها الس���بق إليها ‪-‬أعني الثقافة اإلسالمية‪-‬‬ ‫اإلس�ل�امية‬ ‫ً‬ ‫فش���يئا من‬ ‫ش���يئا‬ ‫ً‬ ‫وك���ون الثقاف���ة الغربية من جه ٍة أخرى تقترب ً‬ ‫مناهج الثقافة اإلس�ل�امية في كثير م���ن قضايا الوجود والكون‬

‫والتاريخ‪ ،‬فهي بعبارة مختصرة كما ذكر مؤلفا كتاب "العلم من‬

‫منظوره الجديد"‪" :‬بصدد تحول ك ّلي في عناصرها المختلفة"‪.‬‬ ‫أيضا‪" :‬تراكم‬ ‫وذلك ألسباب عدة من أهمها كما ذكرا فيه ً‬

‫بفضلها إال ما ندر‪.‬‬

‫بثقافتهم اإلس�ل�امية األصيلة‪ ،‬فهي س���فينة نجاتهم ‪-‬بإذن اهلل‪-‬‬

‫تعبر بهويتهم وذاتيتهم إلى بر األمان وشواطئ النجاة في عصرٍ‬ ‫يتواصل فيه العالم بوس���ائط تحمل الغث والس���مين‪ ،‬والطيب‬ ‫والخبيث‪ ،‬والنافع والضار‪.‬‬ ‫(*)‬

‫كلية الش���ريعة‪ ،‬جامعة اإلمام محمد بن س���عود اإلسالمية ‪ /‬المملكة العربية‬

‫السعودية‪.‬‬

‫‪15‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2012 )33‬‬


‫قضايا فكرية‬

‫د‪ .‬إسحاق بن عبد اهلل السعدي*‬

‫أصالة الثقافات‬

‫ومستقبل الثقافة اإلسالمية‬ ‫التماي���ز والتنوع ف���ي الثقاف���ات‪ ،‬واقع تاريخي‬

‫والوج���دان‪ ،‬وال تتنافى ه���ذه الحقيقة مع الواقع الحضاري في‬

‫وتتنافس في ش���تى ميادين���ه ومجاالته‪ ...‬وهو‬

‫من حيث هو نتاج طبيعي لجهود البشر قاطبة‪ ،‬وثمرة مشتركة‪،‬‬

‫ومحف���ز حض���اري تتبارى ف���ي مدارجه األمم‬

‫ف���ي الوقت نفس���ه مناط اعت���زاز وفخر؛ فكل أم���ة تباهي غيرها‬

‫بثقافتها وفلسفتها في الحياة من خالل رؤيتها لإلنسان والكون‬ ‫والحياة‪ ،‬وما يترتب على ذلك من اعتبارات ونماذج هي عندها‬ ‫بمثابة المثل والقيم العليا التي تأخذ بنفسها نحوها‪ ،‬وترصد ما‬

‫حقق���ت من نجاحات ومقاربات نحو غاياتها‪ ،‬وتعدها‬ ‫مصدرا‬ ‫ً‬ ‫لذلك الفخر واالعتزاز‪.‬‬

‫ش���موله وعمومه‪ ،‬ألن المنجز الحضاري نتاج مش���اع للجميع‬

‫حكرا على أمة دون األخرى‪.‬‬ ‫وليس‬ ‫ً‬

‫إن جوهر الحياة وسعادة البشرية وجمال العالم‪ ،‬بل وتحقق‬

‫الوج���ود البش���ري في وضعه الس���وي وحيات���ه الطبيعية‪ ،‬يكمن‬ ‫ف���ي رعاي���ة الخصوصيات وإعطائها ما تس���تحق م���ن االحترام‬ ‫والتقدير والتقبل طالما هي حق مشروع وسنة حضارية‪.‬‬

‫لق���د عق���دت "اليونس���كو" ف���ي منتص���ف الق���رن المنصرم‬

‫وحت���ى م���ع تق���ارب عالم الي���وم‪ ،‬وكون���ه اندمج ف���ي إطار‬

‫عام���ا بعن���وان‪" :‬أصال���ة الثقاف���ات"‪ ،‬وص���در ع���ن هذا‬ ‫مؤتم���را ًّ‬ ‫ً‬

‫األق���وى والس���ند المتي���ن م���ن الواق���ع والتاري���خ وم���ن العق���ل‬

‫ه���ي مش���كلة عالق���ات بي���ن الثقاف���ات‪ ،‬فم���ن ه���ذه العالقات‬

‫حض���اري عام أو كاد‪ ،‬يبق���ى لتنوع الثقافات وتمايزها‪ ،‬المنطق‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2012 )33‬‬

‫‪14‬‬

‫المؤتم���ر بيا ًن���ا‬ ‫ختامي���ا ج���اء فيه‪" :‬إن مش���كلة التفاه���م الدولي‬ ‫ًّ‬


‫فإذا أضيف إلى الواقع أمكن تعريفه هكذا‪:‬‬

‫فق���ه الواقع هو‪ :‬الفهم الدقي���ق النافذ إلى أعماق ما يجري‬

‫في الظرف المعيش والمجال المحيط‪.‬‬

‫ف���إذا أضي���ف فقه الواق���ع إلى األمة صار الم���راد بفقه واقع‬

‫األم���ة هو‪ :‬الفهم الدقيق النافذ إل���ى أعماق الوضع الذي عليه‬ ‫األم���ة ب���كل مكوناتها في هذا الظرف المعي���ش داخل المجال‬

‫الدولي المحيط‪.‬‬

‫وبتحلي���ل التعريف إلى عناصره نجد الفهم بش���روطه وهو‬

‫أداة الفق���ه‪ .‬والوض���ع بمكوناته وهو موض���وع الفقه‪ .‬والظرف‬

‫المعي���ش بجريان���ه وه���و اإلط���ار الزمان���ي‪ .‬والمج���ال المحيط‬ ‫بتفاعالته وهو اإلطار اإلنساني‪.‬‬

‫وال سبيل إلى فقه واقع األمة بغير إحكام أمر األداة؛ أدمغ ًة‬ ‫ومنهجا في التوثيق والتدقيق والتحقيق‪،‬‬ ‫وأجهز ًة ومؤسس���ات‪،‬‬ ‫ً‬ ‫يق���وم على االس���تيعاب والتحلي���ل والتعليل قب���ل أي تركيب‪،‬‬

‫مقدم���ا عن���د الدراس���ة الوصف عل���ى التاري���خ‪ ،‬والجزئي على‬ ‫ً‬

‫الكلي‪ ...‬إلى آخر ما يجب إحكامه من أمر األداة لتأمين ذلك‬ ‫المستوى من الفهم‪.‬‬

‫كما ال سبيل إلى فقه واقع األمة بغير التمكن من مكونات‬

‫الوض���ع الموض���وع‪ ،‬والتتبع األفقي والعم���ودي لما يجري في‬

‫الظرف المعيش ويتفاعل في المجال المحيط‪.‬‬

‫ال جرم أن هذا العبء ضخم‪ ،‬وأن التخطيط له بله إنجازه‬

‫يحتاج إلى صفوة من أولي العزم‪ ،‬ولكن إذا وجدت الش���روط‬

‫الرفيق والطريق‬ ‫ْقبل الطريق‪،‬‬ ‫ِّش‪...‬‬ ‫عن الرفيق فت ْ‬ ‫بمفردك ال تَ ِس ْر!‬ ‫فعلت؛‬ ‫ْ‬ ‫إن َ‬ ‫ابْتلعك التّيه‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وشتَّتَْت َك‬ ‫الطرق والمسالك‪،‬‬ ‫واستلبتك الشياطين‪،‬‬ ‫وسفعتك الزوابع‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫عواصف الثلج‪...‬‬ ‫عظامك‬ ‫ُ‬ ‫وأَْ�ف َر ْت َ‬ ‫َ‬ ‫الهدف تصل‪،‬‬ ‫فال‬ ‫وال المبتغى تحصل‪...‬‬ ‫***‬

‫وزالت العوائق‪ ،‬فإن الشروع بإذن اهلل تعالى يكون‪.‬‬

‫(*) األمين العام لمؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع) ‪ /‬المغرب‪.‬‬

‫الهوامش‬

‫(‪ )1‬أث���ر مدرس���ة المن���ار في تجديد فه���م المصطلح القرآني (من خالل تفس���ير‬ ‫المن���ار)‪ ،‬ع���رض ألق���ي ف���ي ن���دوة "مدرس���ة المن���ار ودورها ف���ي اإلصالح‬

‫اإلس�ل�امي" الت���ي نظمته���ا المنظم���ة اإلس�ل�امية للتربي���ة والعل���وم والثقافة‪،‬‬ ‫بالتعاون مع المعهد العالمي للفكر اإلس�ل�امي وجمعية الدعوة اإلس�ل�امية‬ ‫العالمية بتاريخ ‪2002/10/9-8‬م‪ ،‬القاهرة‪.‬‬

‫نق�ل�ا عن األمة واإلمامة لـ"علي ش���ريعتي"‪،‬‬ ‫(‪ )2‬األم���ة الش���هيدة‪ ،‬المنطلق ‪ً ،26‬‬ ‫ص‪.33-32:‬‬

‫(‪ )3‬الوثائق السياسية‪.‬‬

‫(‪ )4‬نحو تصور حضاري للمسألة المصطلحية‪ ،‬ص‪.13-12:‬‬

‫‪13‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2012 )33‬‬


‫أم���ا الواقع ف���ي االس���تعمال العربي‬

‫المعاصر فيحتاج إلى دراس���ة مصطلحية‬ ‫خاص���ة؛ وصفي���ة وتاريخي���ة‪ ،‬على مدى‬

‫ق���رن أو يزيد‪ ،‬وفي عدد من المجاالت‪،‬‬ ‫لتحديد مفهومه الضخم المتشعب‪ ،‬كما‬

‫ُيش���ير إلى ذلك كثرة االس���تعمال وتعدد‬ ‫المج���ال وه���و م���ا ال س���بيل إلي���ه اآلن‪،‬‬

‫ألس���باب ترج���ع إلى واقع األمة ْنفس���ه‪،‬‬ ‫الذي حقه أن يفقه ليعالج‪.‬‬

‫لك���ن البد من تحديد المراد منه في‬

‫هذه الدراس���ة‪ ،‬وذلك ما يمكن تلخيصه‬

‫في‪:‬‬

‫ال �سبي��ل �إىل فقه واقع الأمة بغري‬ ‫�إحكام �أمر الأداة �أدمغ ًة و�أجهز ًة‬ ‫ومنهجا يف التوثيق‬ ‫وم�ؤ�س�سات‬ ‫ً‬ ‫والتدقي��ق والتحقيق‪ ،‬يقوم على‬ ‫اال�ستيع��اب والتحليل والتعليل‬ ‫مقدم��ا عن��د‬ ‫قب��ل �أي تركي��ب‪ً ،‬‬ ‫الدرا�سة الو�صف على التاريخ‪،‬‬ ‫واجلزئ��ي على الكل��ي‪� ،‬إىل �آخر‬ ‫ما يجب �إحكام��ه من �أمر الأداة‬ ‫لت�أمني ذلك امل�ستوى من الفهم‪.‬‬

‫المعنى سيكون‪:‬‬

‫الواق���ع ه���و الحالة التي عليها األم���ة اآلن؛ فيدخل فيه كل‬

‫الجزئي���ات والكلي���ات الت���ي تتك���ون منها األمة اآلن‪ ،‬حس���ب‬

‫حالتها الراهنة‪.‬‬ ‫وانس���جاما مع التحليل الس���ابق لمفهوم األمة‪،‬‬ ‫ً‬

‫نت���رك التصني���ف المألوف للواق���ع الذي يجزئ الحي���اة العامة‬ ‫إل���ى واق���ع سياس���ي‪ ،‬وواق���ع اقتص���ادي‪ ،‬وواق���ع اجتماعي…‬

‫إلخ‪ ،‬مستبدلين به التصنيف حسب "العناصر المكونة لمركب‬ ‫األمة"؛ من واقع الجمع البش���ري لها‪ ،‬وواقع وحدتها "واألمر‬ ‫الجامع" لها‪ ،‬وواقع قصدها والرسالة التي تضطلع بها‪.‬‬

‫الحضاري والشهادة إمام ًة وتبليغ ًا؟‬

‫ه���ذا وللواق���ع زم���ن يتح���رك في���ه‪،‬‬

‫ومجال يحيط به ويؤثر فيه أو يتأثر به‪.‬‬

‫فأما الزمن‪ :‬فه���و المعيش في بعديه‬

‫المؤثرين‪ :‬الماضي القريب‪ ،‬والمستقبل‬

‫س���مى بـ"العصر"‪،‬‬ ‫القري���ب‪ .‬وهو ما قد ُي ّ‬ ‫علمي���ا بي���وم أو‬ ‫وال يس���تطاع تحدي���ده‬ ‫ًّ‬ ‫ش���هر أو عام لتحركه المس���تمر‪ ،‬بتحرك‬ ‫دراسيا من‬ ‫العائش فيه‪ .‬ويمكن تحديده‬ ‫ًّ‬ ‫أجل ضبط المعطيات والنتائج‪.‬‬

‫وأما المجال فهو المحيط الخارجي‬

‫ال���ذي يتب���ادل التأث���ر والتأثير م���ع الواقع‬

‫الواق���ع ه���و م���ا علي���ه األم���ر اآلن‪.‬‬

‫وبم���ا أن الموضوع هو واقع األمة‪ ،‬فإن‬

‫وس���طي ًة وخي���ر ًة؟ وم���ا درج���ة الش���هود‬ ‫ّ‬

‫الداخلي حس���ب س���نن التجاور تآلف ًا أو‬

‫تخال ًفا‪ .‬وإنما يحدد باألثر‪ ،‬ويصنف حس���ب القوة والضعف‪،‬‬ ‫والقبول والرفض‪.‬‬

‫وأكب���ر حاض���ر في المجال ومؤثر في واق���ع األمة إلى حد‬

‫"الصن���ع" أحيا ًن���ا أو م���ا يش���به "الصن���ع"‪ ،‬هو م���ا اصطلح عليه‬ ‫بـ"الغرب"‪.‬‬

‫إذن فالواق���ع المقص���ود‪ :‬هو الحالة الت���ي عليها األمة بكل‬

‫مكوناته���ا ف���ي هذا الظ���رف المعي���ش داخل المج���ال الدولي‬

‫المحيط‪ ،‬وهي تتحرك فاعلة منفعلة متفاعلة‪.‬‬

‫مفهوم الفقه‬

‫ويقص���د بواق���ع الجمع البش���ري لألمة‪ :‬الحال���ة التي عليها‬

‫الفق���ه في لس���ان الع���رب‪" :‬العلم بالش���يء والفهم ل���ه"‪ .‬وعند‬

‫ش���عوبا وقبائل‪ ،‬طبقات‬ ‫ومرضا‪،‬‬ ‫ال‪ ،‬صحة‬ ‫علم���ا وجه ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وفق���را‪ً ،‬‬ ‫ً‬

‫م���ن العلم"‪ ،‬وهو عن���د الجرجاني في "التعريفات"‪" :‬عبارة عن‬

‫الناس الذين يشكلون الجسم "المادي" لألمة‪ ،‬كثرة وق ّلة‪ ،‬غنى‬ ‫ومستويات‪ ،‬مؤسسات وتنظيمات‪...‬‬

‫الراغب‪" :‬هو التوصل إلى علم غائب بعلم شاهدٍ ‪ ،‬فهو أخص‬ ‫فهم غرض المتكلم من كالمه"‪.‬‬

‫ويقص���د بواقع وحدة األم���ة و"األمر الجام���ع" لها‪ :‬الحالة‬

‫وق���د أحس���ن الحكي���م الترمذي ما ش���اء حين ق���ال‪" :‬الفقه‬

‫الجامع���ة المنبثقة عنه من عقيدة وعبادة وأخالق وش���ريعة‪ .‬ما‬

‫الفقه "في عش���رين‬ ‫موضعا من الق���رآن"‪ ،‬تبين لصاحب المنار‬ ‫ً‬

‫الت���ي عليها ممارس���ة اإلس�ل�ام والتدي���ن في األم���ة‪ ،‬والروابط‬

‫صوابا وخطأ؟‬ ‫اتساعا وضي ًقا‪،‬‬ ‫درجة ذلك قوة وضع ًفا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫ويقصد بواقع قصد األمة والرسالة التي تضطلع بها‪ :‬الحالة‬

‫التي عليها تأهل األمة للش���هادة على الناس‪ ،‬ومدى أدائها لها‬ ‫ف���ي مختل���ف المجاالت‪ ،‬بالح���ال والمقال؛ م���ا درجة األهلية‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2012 )33‬‬

‫‪12‬‬

‫بالش���يء‪ :‬هو معرفة باطنه والوصول إلى أعماقه"‪ .‬وبعد دراسة‬ ‫"أن الم���راد ب���ه نوع خاص من دق���ة الفهم والتعم���ق في العلم‬

‫الذي يترتب عليه االنتفاع به"‪.‬‬ ‫وهذا كله يفضي إلى أن‪:‬‬

‫الفقه فهم دقيق نافذ إلى البواطن واألعماق واألغراض‪.‬‬


‫���ل م���ن اهلل رب الناس‪ ،‬ملك الن���اس‪ ،‬إله الناس‪ ،‬كما جعل‬ ‫َج ْع ٌ‬

‫اإلسالمية"‪ ،‬وال غير ذلك مما هو أبعد من ذلك‪.‬‬

‫إماما للناس‪ ،‬وكما‬ ‫آدم في األرض خليفة‪ ،‬وكما جعل إبراهيم ً‬

‫وف���ي ذل���ك ما في���ه من تمثي���ل االس���م للمس���مى ومطابقة‬

‫وال ش���هادة بغي���ر أهلية للش���هادة ولو في األم���ور الصغيرة‬ ‫���ن َت ْر َض ْو َن ِم َن‬ ‫﴿و َأ ْش���هِ ُدوا َذ َو ْي َع ْ‬ ‫���د ٍل ِم ْن ُك ْم﴾(الط�ل�اق‪ِ ﴿ )2:‬م َّم ْ‬ ‫َ‬ ‫الش َه َدا ِء﴾(البقرة‪ ،)282:‬فكيف بالشهادة على الناس كل الناس؟‬ ‫ُّ‬

‫مس���لمة" و"أم���ة إس�ل�امية"؛ ش���تان بي���ن أمة تتصف باإلس�ل�ام‬

‫جعل البيت مثابة للناس‪ ،‬وكما جعل وجعل…"‪.‬‬

‫وشروط األهلية في اآلية‪:‬‬

‫أوال‪ :‬أن تكون���وا "أم���ة"‪ .‬وال أمة بغير وحدة ما ُي َؤ ّم‪ ،‬وال وحد ِة‬ ‫���ؤ ّم؛ إذ م���دار ا َ‬ ‫أل ّم كله في اللغ���ة على القصد‪،‬‬ ‫���ؤ ُّم ومن ُي َ‬ ‫م���ن َي ُ‬ ‫ومدار األمة كلها على الوحدة في ذلك القصد‪.‬‬ ‫"وسطا"‪ .‬وال وسطية بغير ِخ َيرة‪ ،‬كما نصت‬ ‫ثانيا‪ :‬أن تكونوا‬ ‫ً‬ ‫���م َخ ْي َر ُأ َّم ٍة﴾(آل عمران‪ ،)110:‬وال خيرة بغير‬ ‫اآلية األخرى‪ُ :‬‬ ‫﴿ك ْن ُت ْ‬ ‫اس َت ْأ َجر َت ا ْل َق ِو ُّي ا َ‬ ‫ين﴾(القصص‪.)26:‬‬ ‫أل ِم ُ‬ ‫قوة وأمانة ﴿إ َِّن َخ ْي َر َم ِن ْ‬ ‫ْ‬ ‫وإنما توس���د األمانة لألقوياء ال للضعفاء‪ .‬قال رس���ول اهلل ‪:‬‬

‫"يا أبا ذر‪ ،‬إنك ضعيف‪ ،‬وإنها‬

‫أمانة"‪( .‬وراه مسلم)‬

‫وم���ع ذل���ك‪ ،‬كل ذلك ال يكفي ألداء الش���هادة‪ ،‬إذ البد من‬

‫الش���هود؛ أي الحض���ور ألداء الش���هادة‪ .‬وحين تكون الش���هادة‬ ‫أساسا قبل المقال‪ ،‬ومن أمة ال من أفراد‪،‬‬ ‫بالخيرة؛ أي بالحال‬ ‫ً‬

‫جميعا ال على بعضهم‪ ،‬فإن الش���هود والحضور‬ ‫وعل���ى الناس‬ ‫ً‬

‫حض���ورا باإلمام���ة ف���ي كل‬ ‫حضاري���ا؛ أي‬ ‫الب���د أن يك���ون‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫(‪)4‬‬ ‫المجاالت‪ ،‬وعلى جميع المستويات‪ ،‬وفي كل األوقات"‪.‬‬

‫األم � � ��ر الثاني‪ :‬إن اس���م األم���ة المقص���ودة‪ ،‬والمكونين لها‬

‫تحدده هذه اآليات‪:‬‬

‫المصطل���ح للمفهوم‪ ،‬إذ ش���تان ف���ي الصلة باإلس�ل�ام بين "أمة‬ ‫وتم���ارس اإلس�ل�ام وخ ُلقه���ا اإلس�ل�ام‪ ،‬وبي���ن أمة تنس���ب إلى‬

‫اإلس�ل�ام وتحس���ب على اإلس�ل�ام وتضاف إلى اإلس�ل�ام‪ .‬إن‬ ‫البؤرة غير الهامش‪ ،‬وإن المضاف إليه غير المضاف‪.‬‬

‫المكونين لألمة الصحيح هو "المس���لمون" ال‬ ‫‪ -2‬أن اس���م‬ ‫ِّ‬

‫مكونون‬ ‫"اإلس�ل�اميون"‪،‬‬ ‫ً‬ ‫انس���جاما مع اس���م األمة التي هم لها ِّ‬ ‫وبها كائنون‪ .‬وشتان في المصطلح والمفهوم بين "المسلمين"‬ ‫و"اإلسالمين"‪ ،‬وشتان في األصالة والرسوخ بين لفظ محدث‬

‫ي���كاد يتب���رأ من���ه الوح���ي‪ ،‬ولفظ عتي���ق مختار منص���وص عليه‬ ‫ين ِم ْن َق ْب ُل‬ ‫���م ُ‬ ‫ضارب في أعماق الوحي‪ُ :‬‬ ‫اك ُم ا ْل ُم ْس��� ِل ِم َ‬ ‫﴿ه َو َس َّ‬ ‫َو ِفي َه َذا﴾(الحج‪.)78:‬‬ ‫���دم االس���مين وتعاقبهم���ا في دع���وة إبراهيم ‪‬‬ ‫‪ -3‬أن ِق َ‬ ‫يدل على ِق َدم المس���ميين وتعاقبهما في تاريخ اإلسالم ومنهج‬

‫اإلسالم‪ .‬ولم تعرف األرض‪ ،‬ولن تعرف دينا هلل جل وعال غير‬ ‫ين ِع ْن َد ا ِ‬ ‫إل ْس َ�ل�ا ُم﴾(آل عم���ران‪َ ﴿ ،)19:‬أ َف َغ ْي َر‬ ‫هلل ا ِ‬ ‫اإلس�ل�ام‪﴿ .‬إ َِّن ِّ‬ ‫الد َ‬ ‫ِ‬ ‫ي���ن ا ِ‬ ‫او ِ‬ ‫ات َوا َ‬ ‫َ‬ ‫ض َط ْو ًعا‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫ِد ِ‬ ‫هلل َي ْب ُغ َ‬ ‫���م َ‬ ‫الس َ‬ ‫ون َو َل ُه أ ْس��� َل َم َم ْن في َّ‬ ‫�ل�ا ِم‬ ‫﴿و َم ْن َي ْب َت ِغ َغ ْي َر ا ِ‬ ‫إل ْس َ‬ ‫َو َك ْر ًها َو ِإ َل ْي ِه ُي ْر َج ُع َ‬ ‫ون﴾(آل عمران‪َ ،)83:‬‬ ‫اآلخر ِة ِم َن ا ْل َخ ِ‬ ‫ِد ًينا َف َل ْن ُي ْقب َل ِم ْن ُه َو ُهو ِفي ِ‬ ‫ين﴾(آل عمران‪.)85:‬‬ ‫اس ِر َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ولذلك قال اهلل تعالى لرس���له وأتباع رس���له عبر التاريخ‪﴿ :‬إ َِّن‬ ‫َه ِذ ِه ُأ َّم ُت ُكم ُأ َّم ًة َو ِ‬ ‫اعب ُد ِ‬ ‫اح َ َ‬ ‫﴿وإ َِّن‬ ‫ون﴾(األنبياء‪َ ،)92:‬‬ ‫ْ‬ ‫���د ًة َوأ َنا َر ُّب ُك ْم َف ْ ُ‬ ‫ِ‬ ‫َه ِذ ِه ُأ َّم ُت ُكم ُأ َّم ًة َواح َد ًة َو َأ َنا َر ُّب ُكم َف َّات ُق ِ‬ ‫ون﴾(المومنون‪.)52:‬‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫وإذن فاألم���ة المقصودة هي "األمة المس���لمة" بما تتضمنه‬

‫���ن ا ْلبي ِت َوإِس���م ِ‬ ‫���ع إ ِْبر ِاهي���م ا ْل َقو ِاع َ ِ‬ ‫يل َر َّب َنا‬ ‫اع ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ‬ ‫ُ َ‬ ‫���د م َ َ ْ‬ ‫﴿وإ ِْذ َي ْر َف ُ َ‬ ‫َت َقب ْل ِم َّنا ِإ َّن َك َأ ْن َت الس ِ���م ُ ِ‬ ‫اج َع ْل َنا ُم ْس ِل َم ْي ِن َل َك‬ ‫يم * َر َّب َنا َو ْ‬ ‫يع ا ْل َعل ُ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َو ِم ْن ُذرِ ي ِت َنا ُأ َّم ًة ُمس ِلم ًة َل َك َو َأرِ َنا َم َن ِ‬ ‫اس َك َنا َو ُت ْب َع َل ْي َنا ِإ َّن َك َأ ْن َت‬ ‫ّ َّ‬ ‫ْ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫آم ُنوا ْار َك ُعوا‬ ‫الت���واب‬ ‫﴿ي���ا أ ُّي َها ا َّلذ َ‬ ‫ين َ‬ ‫يم﴾(البقرة‪َ ،)128-127:‬‬ ‫الرح ُ‬ ‫َّ َّ ُ َّ‬ ‫ون ‪‬‬ ‫���م ُت ْف ِل ُح َ‬ ‫���ج ُدوا َو ْاع ُب ُ‬ ‫اس ُ‬ ‫َو ْ‬ ‫���دوا َر َّب ُك ْم َوا ْف َع ُل���وا ا ْل َخ ْي َر َل َع َّل ُك ْ‬ ‫َو َج ِ‬ ‫اه ُدوا ِفي ا ِ‬ ‫اك ْم َو َما َج َع َل َع َل ْي ُك ْم ِفي‬ ‫اج َت َب ُ‬ ‫هلل َح َّق ِج َها ِد ِه ُه َو ْ‬ ‫ِ‬ ‫ين ِم ْن‬ ‫ين ِم ْن َح َر ٍج ِم َّل َة َأب ُ‬ ‫الد ِ‬ ‫���م ُ‬ ‫ِّ‬ ‫اك ُم ا ْل ُم ْس��� ِل ِم َ‬ ‫يم ُه َو َس َّ‬ ‫ِيك ْم إ ِْب َراه َ‬ ‫���ه َد َاء‬ ‫قبل و ِفي هذا ِليكون‬ ‫الر ُس ُ‬ ‫���ول َش���هِ ً‬ ‫يدا َع َل ْي ُك ْم َو َت ُكو ُنوا ُش َ‬ ‫َ ْ ُ َ َ َ َ ُ َ َّ‬ ‫الن ِ ِ‬ ‫ال���ز َكا َة َو ْاع َت ِصموا بِا ِ‬ ‫هلل ُه َو‬ ‫الص َ‬ ‫َع َل���ى َّ‬ ‫�ل�ا َة َوآ ُتوا َّ‬ ‫يموا َّ‬ ‫ُ‬ ‫اس َف َأق ُ‬ ‫الن ِص ُير﴾(الحج‪.)78-77:‬‬ ‫َم ْو َ‬ ‫ال ُك ْم َف ِن ْع َم ا ْل َم ْو َلى َو ِن ْع َم َّ‬

‫فروعه‪ ،‬يدل على سقوط شيء"‪ .‬وعند الراغب في "المفردات"‬

‫‪ -1‬أن اس���م األم���ة الصحي���ح هو "األم���ة المس���لمة" ال "األمة‬

‫القرآن من لفظ "وقع" جاء في العذاب والشدائد"‪.‬‬

‫ومن اآليات يستفاد‪:‬‬

‫من خصوصية في المكونات‪ ،‬وما تس���تلزمه من خصوصية في‬

‫"األمر الجامع" لها الذي هو اإلس�ل�ام من وحدات؛ من وحدة‬ ‫اإلل���ه‪ ،‬إلى وحدة الكتاب‪ ،‬إلى وحدة اإلمام‪ ،‬بغض النظر عما‬ ‫آلت إليه اليوم في تمثلها لإلسالم وتمثيلها لإلسالم‪.‬‬

‫مفهوم "الواقع"‬

‫الواق���ع في لس���ان العرب‪ :‬الس���اقط والن���ازل‪ .‬ق���ال ابن فارس‬ ‫ف���ي المقايي���س‪" :‬الواو والقاف والعين أص���ل واحد يرجع إليه‬

‫أن "الواقعة ال تقال إال في الشدة والمكروه‪ ،‬وأكثر ما جاء في‬

‫‪11‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2012 )33‬‬


‫ال‬ ‫وهو هاهن���ا "الس���يرة" أو المنهاج ممث ً‬ ‫ف���ي كيفي���ة تنزي���ل الدي���ن عل���ى الواق���ع‬

‫وإحالله فيه‪ .‬وكل ذل���ك مرتبط بالواقع‬

‫ضربا من االرتباط‪.‬‬ ‫ً‬

‫وإذا جاز تصور تحصيل الفقه األول‬

‫بمعزل عن الواقع‪ ،‬فإن الفقهين اآلخرين‬

‫ال يس���تطاع تص���ور تحصيلهم���ا دون���ه‪،‬‬

‫فوجب االنطالق من "فقه سديد" للواقع‬ ‫ف���ي أي محاول���ة للتجدي���د الصحي���ح‪.‬‬

‫مفهوم األمة‪:‬‬

‫"ا َ‬ ‫أل ُّم" ف���ي لس���ان الع���رب‪ :‬م���داره على‬ ‫القص���د‪ ،‬ق���ال ابن منظ���ور‪" :‬وأصل هذا‬

‫والس���نة البيان‪ ،‬فالذي يضاف مما يعنينا‬

‫ال �سبي��ل �إىل فق��ه واقع الأمة‬ ‫بغ�ير التمك��ن م��ن مكونات‬ ‫الو�ض��ع املو�ض��وع‪ ،‬والتتبع‬ ‫الأفق��ي والعمودي ملا يجري‬ ‫يف الظ��رف املعي�ش ويتفاعل‬ ‫يف املج��ال املحيط‪ .‬وال جرم‬ ‫�أن هذا الع��بء �ضخم‪ ،‬و�أن‬ ‫التخطيط له بله �إجنازه يحتاج‬ ‫�إىل �صفوة من �أويل العزم‪.‬‬

‫الباب كله من القصد‪ .‬يقال‪َ :‬أم ْم ُت إليه‪:‬‬ ‫إذا قصد ُت���ه؛ فمعن���ى "ا ُ‬ ‫ألمة" ف���ي الدي���ن‪ ،‬أن مقصدهم مقصد‬

‫أمران‪:‬‬

‫األم � � ��ر األول‪ :‬أن مس���مى األم���ة‬

‫المقص���ودة والمكونين له���ا تحدده هذه‬ ‫���طا‬ ‫اك ْم ُأ َّم ًة َو َس ً‬ ‫﴿و َك َذ ِل َك َج َع ْل َن ُ‬ ‫اآليات‪َ :‬‬ ‫الن ِ‬ ‫���ون‬ ‫���اس َو َي ُك َ‬ ‫���ه َد َاء َع َل���ى َّ‬ ‫ِل َت ُكو ُن���وا ُش َ‬ ‫يدا﴾(البقرة‪،)143:‬‬ ‫الر ُس ُ‬ ‫���م َش���هِ ً‬ ‫���ول َع َل ْي ُك ْ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ون ِإ َل���ى ا ْل َخ ْي ِر‬ ‫���م ُأ َّم ٌة َي ْد ُع َ‬ ‫﴿و ْل َت ُك ْ‬ ‫َ‬ ‫���ن م ْن ُك ْ‬ ‫ِ‬ ‫ون بِا ْل َم ْع ُروف َو َي ْن َه ْو َن َع ِن ا ْل ُم ْن َك ِر‬ ‫َو َي ْأ ُم ُر َ‬ ‫ُ ِ‬ ‫ون﴾(آل عمران‪،)104:‬‬ ‫���م ا ْل ُم ْف ِل ُح َ‬ ‫َوأو َلئ َك ُه ُ‬ ‫ون‬ ‫﴿ك ْن ُت ْم َخ ْي َر ُأ َّم ٍة ُأ ْخ ِر َج ْت ِل َّلن ِ‬ ‫ُ‬ ‫اس َت ْأ ُم ُر َ‬ ‫بِا ْلم ْعر ِ‬ ‫ون‬ ‫وف َو َت ْن َه ْو َن َع ِن ا ْل ُم ْن َك ِر َو ُت ْؤ ِم ُن َ‬ ‫َ ُ‬ ‫بِا ِ‬ ‫هلل﴾(آل عمران‪.)110:‬‬

‫ومن اآليات يستفاد‪:‬‬

‫إل َّمة" في النعمة‪ ،‬إنما هو الشيء الذي يقصده‬ ‫واحد‪ ،‬ومعنى "ا ِ‬ ‫الخل���ق ويطلبون���ه‪ ،‬ومعن���ى "ا ُ‬ ‫ألمة" ف���ي الرج���ل المنفرد الذي‬

‫موحدون‬ ‫المخاطَ بي���ن المتبوعين؛ فهم جماع���ة ال أفراد‪ ،‬وهم َّ‬

‫قصدت"‪.‬‬ ‫"أممت"‪:‬‬ ‫هذا الباب عن معنى‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬

‫راحمهم‬ ‫"أم���ة واح���دة من دون الن���اس"‪ ،‬هم "ف���ي َت ّ‬ ‫وادِهِ ���م و َت ُ‬

‫ال نظي���ر ل���ه‪ ،‬أن قصده منفرد من قصد س���ائر الناس‪ ...‬ومعنى‬ ‫"ا ُ‬ ‫ألمة"‪ ،‬القامة‪ ،‬س���ائر مقصد الجس���د‪ .‬وليس يخرج شيء من‬

‫• أن "جمي���ع العناص���ر المكون���ة لـ"مركب األم���ة" موجودة في‬ ‫ال متفرق���ون‪ ،‬وه���م رس���اليون قاص���دون ال َه َم���ل‪ ...‬إنه���م‬ ‫المهاج���رون‪ ،‬واألنص���ار‪ ،‬والذي���ن اتبعوه���م بإحس���ان‪ ،‬وإنهم‬

‫وعن���د تحليل هذا األصل إلى مكونات���ه الداللية‪ ،‬يتبين أنه‬

‫داعى له سائر‬ ‫وتعاطفهم مثل الجس���د‪ ،‬إذا اش���تكى منه عضو َت َ‬

‫ف���إذا أضي���ف إلى ذل���ك أن مدار "األمة" في لس���ان العرب‬

‫كل‬‫ولي ْخ ِر ُجوا الناس َّ‬ ‫للناس" ليكونوا "ش���هداء على الناس"‪ُ ،‬‬ ‫الن���اس‪ -‬م���ن عبادة العب���اد إلى عب���ادة رب العب���اد‪ ،‬ومن جور‬

‫واحد‪ ،‬أو زمان واحد‪ ،‬أو مكان واحد‪ ،‬س���واء كان ذلك األمر‬

‫ليكونوا األم���ة‪ ،‬وهكذا كانوا في‬ ‫هك���ذا جعله���م اهلل تعالى ُ‬

‫يتكون "من أربعة معان‪" :‬اختيار‪ ،‬حركة‪ ،‬تقدم‪ ،‬هدف"‪.‬‬

‫(‪)2‬‬

‫وح���د" (بفت���ح الح���اء) كما نب���ه على ذلك‬ ‫الم َّ‬ ‫عل���ى‪" :‬الجم���ع ُ‬

‫الراغ���ب بحق‪" :‬واألم���ة‪ :‬كل جماعة يجمعهم أمر ما؛ إما دين‬

‫اختي���ارا"‪ ..‬تبي���ن أن "العناص���ر" الكب���رى‬ ‫تس���خيرا أو‬ ‫الجام���ع‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫لـ"مرك���ب" األم���ة ثالث���ة‪ :‬عنص���ر الجم���ع‪ ،‬وعنص���ر‬ ‫المكون���ة‬ ‫ّ‬

‫والح ّم���ى" (رواه مس���لم)‪ ،‬وإنه���م أم���ة "أخرجت‬ ‫الجس���د بالس���هر ُ‬

‫األديان إلى عدل اإلسالم‪ ،‬ومن ضيق الدنيا إلى سعة اآلخرة‪.‬‬

‫واق���ع التاريخ وزم���ن الخطاب يمثلون األمة‪ ،‬وهكذا ينبغي أن‬

‫يكونوا في أي تاريخ وفي أي زمن ليصدق عليهم لفظ األمة‪.‬‬ ‫المكوني���ن لألم���ة ه���و‬ ‫للمخاطبي���ن‬ ‫• أن "األم���ر الجام���ع"‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬

‫جميعا كامن في طبيعة‬ ‫الوحدة‪ ،‬وعنصر القصد‪ .‬وسر تفاعلها‬ ‫ً‬ ‫الموحد (بكسر الحاء)‪ ،‬أو "األمر الجامع"‪ ،‬بتعبير الراغب‪.‬‬ ‫ِّ‬

‫"اإلس�ل�ام"‪ .‬فالخط���اب ف���ي "جعلناك���م"‪ ،‬و"منك���م"‪ ،‬و"كنتم"‬

‫اختي���ارا" كم���ا ق���ال الراغب؛ ف���إذا وجد‬ ‫تس���خيرا أو‬ ‫الجام���ع؛‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫بهم…"(‪ )3‬إلى قيام الس���اعة؛ فيشمل باصطالح رسول اهلل ‪،‬‬

‫وب���ه ي���ؤول األم���ر إلى أن من���اط وج���ود األمة ه���و "األمر‬

‫وج���دت‪ ،‬وإذا غ���اب غاب���ت‪ .‬ث���م من بع���د ذلك يأت���ي التطور‬ ‫الداللي للفظ األمة لمن ش���اء تتبعه‪ ،‬والتطور الوجودي لكيان‬

‫األمة لمن شاء َر ْب َط مراحله‪.‬‬

‫ه���ذا ع���ن األمة ف���ي اللس���ان‪ ،‬أما ع���ن "األمة" ف���ي القرآن‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2012 )33‬‬

‫‪10‬‬

‫لي���س إال للمس���لمين "من قريش‪ ،‬ويثرب‪ ،‬وم���ن تبعهم فلحق‬ ‫أصحاب���ه وإخوانه‪ ،‬أي يش���مل جميع المس���لمين عل���ى امتداد‬ ‫الزمان والمكان منذ البعثة حتى انتهاء الكون‪.‬‬

‫• أن رس���الة األم���ة ووظفيته���ا وموقعه���ا ‪-‬كما تح���دده آية‬

‫البقرة وتفصله آيتا آل عمران‪" -‬هو الشهادة على الناس‪ ،‬وهو‬


‫دراسات إسالمية‬

‫أ‪.‬د‪ .‬الشاهد البوشيخي*‬

‫فقه واقع األمة‬

‫دراسة في المفهوم‬ ‫فقه الواقع ض���روري ألي تخطيط‪ ،‬وإال ضاع‬

‫اله���دف لعدم تحدي���د المنطلق‪ .‬وفق���ه الواقع‬ ‫ضروري ألي تشريع أو تنزيل‪ ،‬وإال ُوضع الشيء‬

‫ووس���د األمر إلى غير أهله‪ .‬وما بعثة الرس���ل‬ ‫في غير موضعه‪ّ ،‬‬ ‫‪-‬عليهم الصالة والسالم‪ -‬في أقوامهم‪ ،‬إال مراعاة لفقه الواقع‪،‬‬

‫وم���ا تطور تنزيل الدين عب���ر التاريخ‪ ،‬إال مراعاة لتطور الواقع‪.‬‬ ‫يدعها‬ ‫وبم���ا أن البش���رية الي���وم تقف "على حاف���ة االنهيار‪ّ ،‬‬

‫قبضته عليها‪ ،‬فخنق األنفاس‪ ،‬ومص دماء الناس‪ ،‬وال خالص‬

‫للناس كل الناس‪ ،‬إال بظهور دين رب الناس‪ ،‬ملك الناس‪ ،‬إله‬ ‫الناس‪ ،‬على يد خير أمة ُأخرجت للناس‪.‬‬

‫وبما أن أمتنا اليوم قد ش���اخت ووهنت بما كس���بت‪ ،‬حتى‬

‫صارت قصعة طعام يتهارش على خيراتها شر المفترسين‪.‬‬

‫قلبا‬‫وبما أن األمر كذلك‪ ،‬فقد صار التجديد لألمة اليوم ً‬

‫وقالبا‪ -‬فريضة شرعية وضرورة حضارية"‪.‬‬ ‫ً‬

‫(‪)1‬‬

‫دعا إلى الدمار‪ ،‬وتسوقها العولمة سو ًقا إلى النار‪،‬‬ ‫عباد العجل ًّ‬ ‫ّ‬

‫وال سبيل إلى ذلك بغير فقه واقع األمة‪ ،‬ذلك بأن التجديد‬

‫بن���وكا ومنظمات؛ تس���تصرخ وال من صري���خ‪ ،‬وتتظلم إلى من‬ ‫ً‬

‫وفقها لما له يكون التجديد‪ ،‬وهو هاهنا‬ ‫القرآن والسنة البيان‪..‬‬ ‫ً‬

‫بكيده���ا العتيد‪ ،‬ومكرها الش���ديد‪ ،‬وأذرعها العالمية الجهنمية‪،‬‬ ‫في���ه الخصام وهو الخصم والحكم‪ .‬قد أحكم الدجال األعور‬

‫ال في‬ ‫فقها لما به يكون التجديد‪ ،‬وهو هاهنا الدين ممث ً‬ ‫يتطلب ً‬

‫وفقها لكيف يكون التجديد‪،‬‬ ‫األمة ممثلة في واقع المسلمين‪..‬‬ ‫ً‬

‫‪9‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2012 )33‬‬


‫طاقته���ا إلى ضوء‪ .‬ومن العجي���ب أن كل نوع من هذه األحياء‬

‫قصيرة على األقل‪ .‬فإلحدى "األس���ماك الس���توماتويدية" قدرة‬

‫الخاصة كذلك‪.‬‬

‫بمق���دار ‪ 60‬س���م‪ ،‬إال أن أكثر مواقع أعض���اء اإلنارة التي تميز‬

‫البحرية له مركبات كيمائية خاصة منتجة للضوء‪ ،‬وله إنزيماته‬ ‫وقد أجرى "هارفي" أحد أفذاذ عصره المختصين بالكشف‬

‫عن "س���ر الض���وء الحيوي" ع���دة تجارب في ه���ذا المجال‪،‬‬ ‫فوج���د أنه ل���و ُأ ِ‬ ‫جزءا‬ ‫واحدا من المادة التي ينبعث منها‬ ‫ً‬ ‫عط ُ‬ ‫يت ً‬ ‫(‪)1‬‬

‫الض���وء الحي���وي‪ ،‬ووزعته ف���ي ‪ 40‬مليار جزء م���ن ماء البحر‪،‬‬

‫الس���تطعت أن ترى ضوءها في ه���ذه الكمية الهائلة من الماء‪،‬‬ ‫شرط وجود اإلنزيم الخاص مع األكسجين‪ .‬كما يشير إلى أن‬

‫ل���و ُوزع جزء واحد من اإلنزي���م على ‪ 8‬مليارات جزء من ماء‬

‫البحر‪ ،‬فإنه يس���تطيع أن يؤكس���د مادة انبعاث الضوء الموجودة‬ ‫ف���ي الم���اء‪ ،‬ويبع���ث بضوء تح���س به العي���ن البش���رية‪ .‬كما أن‬

‫األكسجين الداخل في هذا التفاعل‪ ،‬يستطيع بعث الضوء ‪-‬في‬ ‫وجود شروط التفاعل من إنزيم ومادة كيمائية‪ -‬إذا كان تركيزه‬

‫ج���زءا‬ ‫واح���دا في كل مائة مليون جزء من الماء‪ .‬فلو قارنا هذا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫الدينام���و الحي الصغير الذي يبعث بإضاءته القوية مع حجمه‬ ‫الضئي���ل مع الدينام���و الضخم الذي صنعه البش���ر‪ ،‬لتبين كيف‬ ‫تتض���اءل إمكاناتن���ا أمام "عط���اءات" الخال���ق ‪ ‬لمخلوقاته‪...‬‬

‫عط���اءات ال تعل���و عل���ى دقته���ا دقة وال عل���ى كفاءته���ا كفاءة‪:‬‬ ‫َ‬ ‫﴿ص ْن َع ا ِ‬ ‫ُون﴾(النمل‪.)88:‬‬ ‫ير ِب َما َت ْف َعل َ‬ ‫ُ‬ ‫هلل الَّذِ ي أ ْت َق َن ُك َّل َش ْي ٍء ِإ َّن ُه َخ ِب ٌ‬

‫وظائف وفوائد اإلضاءة الحيوية‬

‫في األنواع المختلفة من الكائنات البحرية المضيئة‪ ،‬كاألسماك‬

‫والجوفمعويات والقش���ريات وغيرها‪ُ ،‬خلقت وسائل اإلضاءة‬ ‫الذاتية‪/‬التكافيلية فيها بتصميمات مبهرة ودقيقة‪ِ ﴿ :‬إ َّنا ُك َّل َشي ٍء‬ ‫ْ‬ ‫���اه ِب َق َدرٍ ﴾(القمر‪ .)49:‬ويمت���از نحو ‪ %95‬من األحياء المائية‬ ‫َخ َل ْق َن ُ‬ ‫ف���ي األعماق بإش���عاع "ضوء حيوي مختلف األل���وان"‪ .‬فلكل‬

‫ن���وع من أس���ماك األعماق ع���دد محدد من المصابي���ح‪،‬‬ ‫ولكل‬ ‫ٍّ‬ ‫ضوؤه الخاص (أزرق‪ ،‬أبيض‪ ،‬أخضر‪ ،)...‬وموقعه وقوته التي‬ ‫���ذا َخ ْل ُق ا ِ‬ ‫ين ِم ْن ُدو ِن ِه َب ِل‬ ‫﴿ه َ‬ ‫ال تتغي���ر‪َ :‬‬ ‫هلل َف َأ ُرو ِني َما َذا َخ َل َق ا َّل ِذ َ‬ ‫ِين﴾(لقمان‪.)11:‬‬ ‫ال ٍل ُمب ٍ‬ ‫َّ‬ ‫ون ِفي َض َ‬ ‫الظا ِل ُم َ‬

‫كم���ا أن له���ذه "اإلض���اءة الحيوي���ة‪ ،‬والمصابي���ح الضوئية"‬

‫العديد من الوظائف والفوائد‪ ...‬فاألس���ماك المضيئة تستخدم‬

‫"أضواءها" لترى بها األش���ياء في ظلمات األعماق؛ فاألعضاء‬

‫المضيئ���ة حول العينين تجعل "مجال الرؤية"‬ ‫مضاء لمس���افات‬ ‫ً‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2012 )33‬‬

‫‪8‬‬

‫على إلقاء حزمة قوية من ضوء أزرق لمسافة تبعد عن جسمها‬

‫حام�ل�ات الض���وء‪ ،‬ه���ي عل���ى الجه���ة البطنية‪ ،‬ويس���تعمل هذا‬ ‫الضوء ككش���افات تس���لط على الطحال���ب والكائنات الدقيقة‪،‬‬ ‫والتي تتغذى عليها العديد من أسماك األعماق‪ ...‬كما تشكل‬

‫"أنماطا" مميزة يتعرف بواسطتها أفراد النوع الواحد‪ ،‬فتستخدم‬ ‫ً‬ ‫الض���وء "كلغة إش���ارة وتواصل خاص���ة" بين أف���راد النوع دون‬ ‫غي���ره‪ ،‬ولك���ي يتجنب أفراد النوع افت���راس بعضه البعض‪ ،‬كما‬

‫تعتبر وس���ائل الجت���ذاب الفرائ���س أو للدف���اع وتخويف باقي‬ ‫أيضا‪ ،‬تفيد كش���فرات بي���ن الذكور‬ ‫األع���داء‪ ...‬وال ش���ك أنه���ا ً‬

‫واإلناث ألغراض التزاوج‪.‬‬

‫المصور‪ ،‬يمكن‬ ‫ويبقى السؤال‪َ :‬من غير اهلل الخالق البارئ ُ‬

‫أن يعط���ي كل نوع من أنواع تلك األحياء البحرية العميقة هذا‬ ‫الن���ور الذاتي‪ ،‬ويحقق تلك الوظائف والفوائد المتعددة؟ وهنا‬

‫يتضح البع���د المادي الملموس لهذا الن���ص القرآني المعجز‪،‬‬

‫﴿و َم ْن َل ْم َي ْج َع ِل‬ ‫كما يتضح من قبله الجانب المعنوي الرفيع‪َ :‬‬ ‫(‪)2‬‬ ‫ورا َف َما َل ُه ِم ْن ُنورٍ ﴾(النور‪.)40:‬‬ ‫ا ُ‬ ‫هلل َل ُه ُن ً‬ ‫إذن‪ ،‬إن آلية إنتاج الضوء الحيوي لدى الكائنات البحرية‪،‬‬

‫ال على عظم���ة اهلل ‪ ‬وبديع صنع���ه وعظيم هدايته‪:‬‬ ‫تمث���ل دلي ً‬ ‫���ه ُث َّم َه َدى﴾(طه‪ .)50:‬وهكذا‬ ‫﴿ر ُّب َنا ا َّل ِذي َأ ْع َطى ُك َّل َشْ���ي ٍء َخ ْل َق ُ‬ ‫َ‬ ‫يس���ير كل نوع من هذه الكائنات البحرية له "هويته الشخصية"‬ ‫مس���جلة بحروف من ضوء تش���ع في األعم���اق‪ ،‬ليعلن بها عن‬ ‫نفس���ه فيعرف جنس���ه أو عدوه‪ ،‬فينحرف إليه في حالة الزواج‬ ‫أو يه���رب من���ه في حالة العداء أو ينقض عليه في حالة الغذاء‪.‬‬

‫ففي الظالم الذي ُيظن أنه "موت وانغالق" تنبعث أنوارها التي‬ ‫ورا َف َما َل ُه ِم ْن‬ ‫���ل ا ُ‬ ‫﴿و َم ْن َل ْم َي ْج َع ِ‬ ‫ه���ي "حي���اة وانطالق"‪َ :‬‬ ‫هلل َل ُه ُن ً‬ ‫ُنورٍ ﴾(النور‪.)40:‬‬ ‫(*) كاتب وأكاديمي مصري‪.‬‬

‫الهوامش‬

‫انظر‪ ،‬أس���رار المخلوقات المضيئة‪ ،‬للدكتور عبد المحس���ن صالح‪ ،‬المكتبة‬ ‫الثقافي���ة‪ ،‬العدد‪ ،120:‬ص‪ ،134-133:‬الدار المصرية للتأليف والترجمة‪،‬‬ ‫نوفمبر ‪1964‬م‪.‬‬ ‫(‪ )2‬تأم�ل�ات ف���ي كت���اب اهلل‪ ،‬للدكتور زغل���ول النج���ار‪ ،‬ص‪ ،203-202:‬الدار‬ ‫المصرية اللبنانية‪2008 ،‬م‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬


‫والغ���ذاء‪ ،‬بينم���ا تنطلق ه���ي من الجيب لتغش���ي عيون األعداء‬

‫ويرم���ي العدو بأح���د أذرعه المس���تمرة باللمع���ان لجلب انتباه‬

‫ويحي���ط بكل منها خمس���ة مصابيح صغيرة‪ ،‬يش���ع كل مصباح‬

‫مجدافيات األقدام (القش���ريات) يوجد "‪ ،"Gaussia‬وهو عمالق‬

‫من حوله‪ .‬ويوجد نوع من "سبيط" األعماق له عينان كبيرتان‪،‬‬ ‫بضوء أبيض وقد يتحول إلى أزرق عميق‪ ،‬تعمل كـ"كش���افات"‬ ‫تض���يء له الطريق ف���ي ظلمات البحر‪ .‬وهناك عش���رة مصابيح‬

‫أخرى تنتش���ر على أماكن مختلفة من جسمه‪ ،‬منهما مصباحان‬ ‫ضوءا أحم���ر وكأنهم���ا "مصباحا الخطر"‬ ‫ف���ي مؤخرته يش���عان‬ ‫ً‬

‫الع���دو أو إبع���اده‪ ،‬وم���ن ثم يس���تطيع اله���روب والنج���اة‪ .‬ومن‬

‫ف���ي عال���م "الكوبيبودا" (‪ .)Copepoda‬فمعظ���م الكوبيبودا يكون‬

‫مليمترا عبر الهوائيات‪،‬‬ ‫مليمت���را أو اثنين‪ ،‬وهذا النوع يبلغ ‪27‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫ويبرع في إنتاج ألمع عروض الضوء الحيوي‪ ،‬إذ يحدث ذلك‬ ‫عندما ُيخرج نفحات من الضوء عند القيام بالهروب‪.‬‬

‫المثبت���ان ف���ي خلف الس���يارة‪ .‬وتمل���ك بعض أس���ماك‬ ‫"الحبار طبيعة المصابيح الضوئية‪ ،‬وكفاءتها الحيوية‬ ‫ّ‬

‫مص���اص الدم���اء" (‪ )Vampyroteuthis İnfernalis‬أعض���اء مضيئ���ة‬

‫"حامالت الضوء" عبارة عن مصابيح صغيرة على درجة عالية‬

‫ومضيئ���ة ف���ي ذراعيها‪ ،‬حيث يمكن رؤي���ة التوهج الذي يوجد‬

‫مقعر عبارة عن نسيج خاص يقابل شبكية العين هو المسؤول‬

‫صغي���ر من جن���س "‪ "Abraliopsis‬يمتلك عدة أن���واع مختلفة من‬

‫الض���وء قبل أن ينبثق خارج جس���م الس���مكة‪ .‬وتختلف أعضاء‬

‫ومؤخرا ُوجد ب���أن لها أعض���اء خفيفة‬ ‫خفيف���ة عل���ى جس���مها‪،‬‬ ‫ً‬

‫من الكفاءة‪ .‬تتركب من قرنية ش���فافة تتلوها عدسة‪ ،‬ثم عاكس‬

‫حبار‬ ‫على أجهزتها المضيئة‪ ،‬على طول منتصف الذراع‪ .‬وثمة ّ‬

‫ع���ن تولي���د الضوء‪ ،‬وق���د تقوم القرني���ة والعدس���ة بتجميع هذا‬

‫األجه���زة الخفيف���ة‪ ،‬حي���ث إن الحوامل الضوئي���ة تغطي الجزء‬

‫اإلضاءة في هذه األسماك من حيث العدد والتوزيع والتعقيد‪،‬‬

‫ومن الكائنات البحرية "مشط البحر الهيالمي" (‪،)Comb Jelly‬‬

‫على سطحها العلوي‪ .‬وتعتبر قدرة األسماك على توليد الضوء‬

‫تحري���ك جذع���ه في الم���اء‪ ،‬وكذلك يحتوي ف���ي منطقة الظهر‬

‫مبهرا‬ ‫باه ًتا يصدر بش���كل متقطع من وقت آلخر‪ ،‬أو قد يكون ً‬

‫الخالي���ا ق���درة على توليد الضوء‪ .‬إن ه���ذه الميزة موجودة في‬

‫ينت���ج ه���ذا الضوء من تحوي���ل الطاقة الكيميائي���ة إلى طاقة‬

‫فمش���ط البحر األحمر يبدأ باللمعان حالما يتم لمس جس���مه‪،‬‬

‫اتحاده���ا مع األكس���جين‪ ،‬لتكون مادة "األوكس���ي لوس���فرين"‬

‫السفلي من الجسم‪.‬‬

‫ونادرا‬ ‫وغالبا ما توجد على جانبيها‪ ،‬أو على بطنها‪ ،‬أو رأسها‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫ويتميز جسمه بامتالكه شعيرات دقيقة متسلسلة يستخدمها في‬

‫إح���دى عجائ���ب خلق اهلل في الطبيعة‪ .‬وق���د يكون هذا الضوء‬

‫عل���ى خالي���ا على ش���كل ش���رائط تب���دو كأنها مخيط���ة‪ ،‬ولهذه‬

‫مستمرا‪.‬‬ ‫ًّ‬

‫تقريب���ا‪ ،‬وكل نوع له مي���زة خاصة به؛‬ ‫كل أن���واع مش���ط البح���ر‬ ‫ً‬

‫ضوئي���ة‪ ،‬حي���ث تتح���ول م���ادة "اللوس���فرين" (‪ )Luciferin‬بع���د‬

‫وفي الوقت نفس���ه يطرح في الماء موجات مضيئة من جسمه‪،‬‬

‫المضيئ���ة‪ .‬ويقوم بهذا التفاعل إنزيم "اللوس���فريز"‬

‫(‪)Luciferase‬‬

‫أسلوبا للتمويه والتخفي عن أعين األعداء‪.‬‬ ‫وهذا السلوك يمثل‬ ‫ً‬

‫ال���ذي يرتب���ط بمص���در الطاقة ف���ي الخالي���ا الحية "أدينوس���ين‬

‫البح���ر الش���عرية) فإنه���ا تعي���ش بالقرب م���ن الش���واطئ‪ ،‬وبين‬

‫تأتي إش���ارة من الخاليا المتخصصة إلصدار الضوء الحيوي‪،‬‬

‫بتوليد الضوء الخاص بها إلرهاب األعداء‪ .‬تمتاز أطراف هذه‬

‫مادة اللوس���فرين لالتحاد باألكسجين وتتأكسد لتكوين المادة‬

‫"الشوكيات" (نجوم البحر‪ ،‬وكستناء البحر‪ ،‬ونجوم‬ ‫أما نوع ّ‬

‫الش���عب المرجانية‪ ،‬وفي الخلجان البحرية‪ .‬تقوم هذه األحياء‬ ‫الحيوان���ات وعمودها الفق���ري باللمعان‪ ،‬حيث تطلق موجات‬ ‫مضيئة من جسمها حالما تتعرض لهجوم خارجي‪.‬‬

‫مرتبطا بمصدر الطاقة حتى‬ ‫ثالثي الفوس���فات" (‪ ،)ATP‬ويظ���ل‬ ‫ً‬ ‫فينفصل اإلنزيم عن مصدر الطاقة ليقوم اإلنزيم بتحفيز تحول‬

‫المضيئة (األوكس���ي لوس���فرين)‪ .‬ويمثل ه���ذا التفاعل الفريد‪،‬‬

‫عملية األكس���دة الوحيدة المعروفة في أجساد الكائنات الحية‬

‫وهن���اك أحد أن���واع النجم البحري يعي���ش على عمق ألف‬

‫الت���ي ال يصاحبها إنتاج قدر م���درك من الحرارة‪ ،‬بل إن الطاقة‬

‫م���ن أطرافه أضواء خضراء تميل إلى الزرقة‪ .‬ويوجد نوع آخر‬

‫ذلك الضوء الحي يصل إلى مئة بالمئة‪ ،‬في حين أن مصابيحنا‬

‫متر تحت س���طح البحر يتميز بـ"التوهج الضوئي"‪ ،‬حيث تش���ع‬

‫م���ن نج���م البحر يبدأ باللمعان حالما يش���عر بهجوم العدو‪ ،‬بل‬

‫الكيمائي���ة تتحول جميعها إلى طاق���ة ضوئية‪ ،‬مما يجعل كفاءة‬

‫أو آالتنا ال تس���تطيع بلوغ تلكم النس���بة النهائية في تحويل كل‬

‫‪7‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2012 )33‬‬


‫منها ف���ي المي���اه المالحة وف���ي مختلف‬ ‫مس���تويات العمق‪ ،‬ومن أهمها "أس���ماك‬ ‫األعماق‪/‬الق���اع"‪ .‬وف���ي العدي���د م���ن‬ ‫الكائن���ات البحري���ة الت���ي تعي���ش ف���ي‬ ‫ظلم���ات الق���اع الحالك���ة‪ ،‬ثم���ة "إضاءة‬ ‫ذاتية حيوي���ة" (‪ .)Bio-luminescence‬فهي‬ ‫تس���تطيع توليد وإنت���اج وإصدار "الضوء‬ ‫المصاحب بإشعاع حراري‪.‬‬ ‫البارد" غير ُ‬ ‫وتتميز معظم أسماك القاع المضيئة‬

‫بنية داكنة‬ ‫بلونه���ا الداكن؛ إما س���وداء أو ّ‬

‫أو بنفس���جية‪ ...‬إل���خ‪.‬‬ ‫وغالب���ا م���ا تكون‬ ‫ً‬

‫أجس���امها رخوة لينة عديمة القش���ور أو‬

‫تلتهمها بتلك الخدعة‪ .‬وتوجد أس���ماك‬

‫ل��كل ن��وع م��ن الكائن��ات‬ ‫البحري��ة "هويت��ه ال�شخ�صية"‬ ‫م�سجل��ة بح��روف م��ن �ضوء‬ ‫ت�ش��ع يف الأعم��اق‪ ،‬ليعلن بها‬ ‫عن نف�سه فيعرف ابن جن�سه �أو‬ ‫عدوه‪ ..‬ففي الظالم الذي يُظن‬ ‫�أنه "م��وت وانغ�لاق" تنبعث‬ ‫�أن��وار هذه الكائن��ات البحرية‬ ‫التي هي "حياة وانطالق"‪.‬‬

‫تحتوي على القليل منها‪ .‬و ُتعد أس���ماك‬

‫أكبر قدر ممكن من الضوء‪ ،‬كما أن أجسامها متطاولة (طولها‬

‫م���ا بي���ن بضعة س���نتيمترات ‪ -‬مترين)‪ .‬وفك���وك ضخمة مزودة‬

‫خي���ط الصن���ارة المضيئ���ة‪ ،‬تس���تطيع أن‬

‫المثبتة على‬ ‫تثنيه‬ ‫ً‬ ‫س���ريعا لتلتهم الفريسة ُ‬ ‫خطاطيف حادة صغيرة‪.‬‬

‫على عك���س "المصابيح الحية" التي‬

‫يضيئه���ا الكائ���ن البح���ري وقتما يش���اء‪،‬‬ ‫ويطفئه���ا وقتم���ا يش���اء‪ .‬توج���د أن���واع‬

‫من األس���ماك جع���ل اهلل لها ف���ي مناطق‬ ‫م���ن جس���مها‪ ،‬مس���اكن تقطنه���ا أن���واع‬

‫"متكافل���ة" م���ن البكتري���ا المضيئة‪ .‬لكن‬ ‫الضوء البكتري ضوء مس���تمر ال تتحكم‬

‫ب���ه الس���مكة إض���اءة وإطفاء‪ ،‬ل���ذا وهبها‬

‫"الس���تومياتويد" م���ن أكب���ر مجموع���ات‬

‫أس���ماك الق���اع المضيئة‪ .‬تتمي���ز بعيون كبيرة ق���ادرة على جمع‬

‫أخ���رى تمتل���ك "مفص���ل" عل���ى ط���ول‬

‫داكن���ا" يش���به الجفن‪،‬‬ ‫اهلل تعال���ى "غش���اء ً‬

‫فترخي���ه لتحجب به األض���واء‪ ،‬وترفعه عن المصابيح فتضيء‪،‬‬ ‫كم���ا ه���و الحال مع س���مكة "فوتوبليفارون" الت���ي لها بقعة من‬ ‫هذه البكتريا أس���فل كل عين‪ ،‬وعندما تريد الس���مكة أن تطفئ‬

‫"مظه���را‬ ‫بأس���نان كبيرة تضفي عليها‬ ‫مرعبا"‪ .‬وفي أحد أنواعها‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫ضوءها‪ ،‬تعمد إلى إسدال ذلك كـجفن عليها‪.‬‬

‫والبع���ض منها له لون أس���ود مع وجود صف���وف من األعضاء‬

‫أسماك كالغواصات‬

‫"الس���مكة األفعى" تبرز األس���نان "كأنياب" خارج فم السمكة‪.‬‬ ‫المضيئة "‪ ."Photophores‬وفي أنواع أخرى تتدلى أسفل فكوكها‬ ‫خيوط مضيئة تزيد على طول السمكة أضعا ًفا مضاعفة‪.‬‬

‫المضيئة سمك "أبو الشص"‬ ‫ومن أوضح األمثلة لألسماك ُ‬

‫أو "المبتلع األنقليس" (‪ )Angler fish‬أو (‪)Chaenophryne longiceps‬‬

‫نوعا منه‪ ،‬وهي تتوزع على البحار الدافئة‬ ‫وهناك حوالي ‪ً 150‬‬

‫والب���اردة‪ ،‬والضحلة والعميق���ة‪ .‬ويبلغ عدد األنواع التي تعيش‬

‫ف���ي ق���اع البحار (في أعم���اق تصل إلى ‪2000‬م تحت س���طح‬

‫البحر) مائة نوع‬ ‫تقريبا‪ .‬وبعض أس���ماك هذا النوع ينمو ليصل‬ ‫ً‬

‫ال‪ ،‬إال أن معظمها ال يتجاوز بضع س���نتيمترات‪.‬‬ ‫إلى المتر طو ً‬ ‫وقدرة أس���ماك "أبو الش���ص" على السباحة ضعيفة‪ ،‬وكثير‬

‫منها يستعمل الزعانف الصدرية للزحف ببطء فوق قاع البحر‬

‫فتتربص ما تقتات به‪ ،‬ومن أبرز صفاتها؛ شوارب مضيئة تتدلى‬ ‫"الش���رك الضوئي" (يش���به حيوا ًنا‬ ‫م���ن ذقونه���ا‪ .‬وعض���و الصيد َ‬

‫قشريا‬ ‫مغريا)‪ .‬أو"صنارة مضيئة" تبدو كزائدة‪/‬بقعة مضيئة من‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫نسيج حي تجذب إليها األسماك والفرائس الصغيرة‪ ،‬ومن ثم‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2012 )33‬‬

‫‪6‬‬

‫وتبدو األسماك المضيئة كغواصات أعماق‪ ،‬يسير البعض وقد‬ ‫أضاء مصابيحه الحية إضاءة مستمرة‪ ،‬وقد تطفئ الضوء لفترة‬ ‫ث���م تعي���د أنارته لفترة أخ���رى‪ ،‬وتتكرر اإلن���ارة واإلطفاء بنظام‬ ‫ودقة وتوقيت رائع‪ .‬فقد تنير المصابيح لعشر ثوان‪ ،‬ثم تطفئها‬

‫لخم���س‪ ،‬وتني���ر وتطف���ي كأنه���ا تتبادل اإلش���ارت مع أس���ماك‬ ‫أخرى؛ إال أن بعضها قد يضيء لمدة نصف ساعة‪ ،‬ثم يغلقها‬

‫وم���ن ثم يع���اود الكرة لنف���س المدة‪ .‬ول���دى البعض عضالت‬ ‫قوية تقبضها وتبس���طها كيف شاءت‪ ،‬فتزيد أو تضعف من قوة‬

‫الض���وء إذا أرادت‪ .‬كم���ا ل���دى البعض اآلخر أس���نان قد يش���ع‬ ‫الضوء منها‪ ،‬ولبعضها ألسنة قد يشع الضوء منها كذلك‪.‬‬

‫أما "س���يبيوال" (‪ )Sepiola‬وهو من الرخويات‪ ،‬مثل السبيط‪،‬‬

‫"س���اترا من ضوء" يغش���ي عين من يهاجمه من كائنات‬ ‫فينش���ر‬ ‫ً‬ ‫أق���وى منه‪ ،‬ثم س���رعان ما يه���رب‪ .‬فلقد تعاون "س���يبيوال" مع‬

‫بع���ض أن���واع المضيئة م���ن البكتريا التي تس���كن القاع؛ أخذها‬ ‫وزرعه���ا ورباها في جيب نس���يجي خ���اص‪ ،‬وأعطاها الحماية‬


‫علوم‬

‫أ‪.‬د‪ .‬ناصر أحمد سنه*‬

‫لعل الضوء من أهم العوامل ‪-‬بجانب الحرارة‪ ،‬والضغط المائي الكبير‪ ،‬وتيارات المد والجزر‪ ،‬ونسبة الملوحة‬

‫كبيرا في حي���اة الكائنات البحرية الت���ي تعيش في أعماق‬ ‫تأثيرا ً‬ ‫المرتفع���ة‪ ،‬ومص���ادر التغذي���ة‪ ...‬إلخ‪ -‬التي تؤث���ر ً‬

‫البحار والمحيطات‪ .‬ففي هذه األعماق الس���حيقة ‪-‬حيث انعدام الرؤية بس���بب "الظلمة التامة المركبة" الناجمة‬

‫عن السحب‪ ،‬واألمواج السطحية والداخلية‪ -‬كيف تسير وتهتدي وتتغذى وتتكاثر الكائنات البحرية المتنوعة؟!‬ ‫عالميا‪ ،‬بحوال���ي ‪ 24‬ألف نوع‪ .‬ويعيش نحو ‪%60‬‬ ‫قدر عدد أنواع األس���ماك المعروفة‬ ‫عدي���دة ه���ي الكائن���ات البحرية‪ ،‬بينما ُي ّ‬ ‫ًّ‬

‫‪5‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2012 )33‬‬


‫اإلنس���انية‪ ،‬ويزعزع���ون موقعهم في قلوب الن���اس‪ .‬إن صرف‬

‫الفرق���ة والخ�ل�اف ف���ي المجتم���ع‪ ،‬وإث���م النظر إلى كل ش���يء‬

‫يطاق من جهة‪ ،‬وانحطاط من جهة أخرى‪ .‬بينما رؤية الجانب‬

‫واعتب���ار اآلخرين من أهل النار أو م���ن الرجعيين‪ ،‬وإثم القيام‬

‫اإلنس���ان عمره في غمار المش���اعر الس���لبية والسيئة‪ ،‬عذاب ال‬

‫عد اآلخري���ن مجرمين وأنفس���نا بريئين‪،‬‬ ‫بمنظار أس���ود‪ ،‬وإث���م ّ‬

‫اإليجابي في كل ش���خص واحتضان الجميع‪ ،‬بطولة من جهة‪،‬‬

‫بعرقلة كل خطوة إيجابية‪ ،‬وإثم تخريب القيم اإلنسانية‪ ...‬إلخ‬

‫والنف���ور والطمع‪ .‬وهؤالء األبطال هـم الذيـن يس���يطرون على‬

‫إذن تعال���وا نت���ب من كل آثامنا مس���تغ ّلين برك���ة هذه األيام‬

‫عب���ادا هلل أعزاء الجوانب‬ ‫إمرت���ه‪ ،‬وف���ي لحظة واحدة يصبحون‬ ‫ً‬

‫اآلخرين‪ ،‬والحفاظ على جميع القيم اإلنسانية‪ ،‬واحترام أفكار‬

‫وس���مو من جهة أخ���رى‪ ...‬بطولة في التحكم بمش���اعر الحقد‬

‫من اآلثام‪ .‬وأنا أعتقد أنه آن األوان للتوبة من كل هذه اآلثام‪.‬‬

‫أهوائه���م فيتخلصون من ذل العبودية للش���يطان والعمل تحت‬

‫تطهر‪ ،‬ونعزم على احترام‬ ‫الت���ي أحاطت بنا‪ ،‬فنبدأ بعيش فت���رة ّ‬

‫وأسيادا في عالمهم الداخلي‪.‬‬ ‫ً‬

‫اآلخري���ن‪ ،‬وقبوله���م عل���ى ما ه���م علي���ه‪ ،‬وأن ن���دع النـزاعات‬

‫لق���د أصبحنا ‪-‬كمجتم���ع‪ -‬منذ زمن طويل أس���رى رغباتنا‬

‫وعبيدا ألهوائنا‪ ،‬وبدأ معظمنا يتصرف بوحي من الشيطان في‬ ‫ً‬ ‫قيام���ه وقع���وده‪ ،‬ننـزعج م���ن الجميع‪ ،‬ونـزع���ج الجميع‪ .‬وبهذا‬

‫األس���لوب من التصرف نبتعد بس���رعة ‪-‬س���واء أش���عرنا بذلك‬

‫أم ال‪ -‬عن قيمنا اإلنس���انية ونعي���ش أزمات في أعماقنا‪ .‬أجل!‬ ‫لقد اس���تقرت المش���اعر الس���يئة في قلوب معظمنا‪ ،‬مع أن هذه‬

‫ع���ش وخيم���ة للح���ب‪ .‬فلم نع���د نس���تطيع اآلن حب‬ ‫القل���وب ّ‬ ‫اآلخرين وال احتضانهم وال إبداء التسـامح والمرونة تجاههم‪.‬‬

‫وأصبحن���ا نلتذ بالتحطي���م والتدمير والتخري���ب‪ ،‬وكالبوم نقيم‬

‫أعشاش���نا فـوق الخرائب‪ ،‬ونهاجم الجميع‪ ،‬ونس���رع للتخريب‬

‫برغبة وش���هوة كبيرة‪ ،‬ونتورط بذلك في آثام ال تغتفر نحو اهلل‬ ‫تعالى ونحو بلداننا ونحو الناس‪ .‬وأحيا ًنا نقترف هذه السيئات‬ ‫ونحن نحس���ب أنن���ا نقدم خدمة نتوقع الش���كر والحمد والثناء‬

‫من اآلخرين عليها‪ .‬والش���مس بدأت تطلع كل يوم على ظلم‬ ‫أو عل���ى اعت���داء وتج���اوز أو هذي���ان‪ ،‬وتمر الليال���ي حالكات‬

‫الظالم‪ ،‬وأصبحت حالنا حال مجتمع عقد العزم على اقتراف‬

‫اآلثام‪ .‬المشاعر اإلنسانية بقيت خلف األهـواء النفسية بمسافة‬ ‫كبي���رة‪ ،‬وتقدمت مقاييس���نا الش���خصية والمزاجية على المنطق‬

‫وعلى الموضوعية‪ .‬أما مش���اعر المحبة والتس���امح فقد ذبحت‬

‫الت���ي حدثت في الماض���ي وال نثيرها من جدي���د‪ ،‬وال نجعلها‬

‫وس���يلة لنـزاع جديد أو خصام‪ ،‬وأن ندع تقس���يم المجتمع إلى‬

‫معس���كرات مختلف���ة‪ ،‬بل لنؤكد عل���ى الوحدة والتس���اند على‬ ‫الدوام‪ .‬فإن كانت قلوبنا ال تزال تنبض ببعض القيم اإلنسانية‪،‬‬

‫وإن كان���ت عضالتن���ا ال تـ���زال قوي���ة‪ ،‬إذن فليحتض���ن بعضن���ا‬

‫جمع ما س���ـبق وأن بعثرناه‬ ‫البع���ض اآلخر‪ ،‬ولنبحث عن ُطرق ْ‬ ‫نوحد هذه األجزاء بقوة بحيث‬ ‫من أشالئنا هنا وهناك‪ ،‬وكيف ّ‬

‫ال تنفصل وال تتجزأ مرة أخرى‪ ،‬ودعونـا نستنطق لغة القلوب‬ ‫التي تقربنا إلى الناس‪ ،‬وتوصلنا إلى اهلل‪ ،‬تاركين مشاعر الحقد‬

‫والعداء التي تقطع علينا الطريق كل حين‪.‬‬

‫إذا كان المطلوب هو تحويل بالدنا إلى جنة وارفة الظالل‬

‫وأعتق���د أن���ه ال توجد ش���بهة في ه���ذا األمر‪ -‬ف�ل�ا ينجح في‬‫ال‪ .‬فمن‬ ‫ه���ذا وال يس���تطيعه إال من أقام هذه الجنة ف���ي قلبه أو ً‬

‫لم يس���تطع تخليص قلبه وعالمه الروحي من قبضة المش���اعر‬

‫واألهواء التي تقلل من مس���توى اإلنس���ان وتخفض من قيمته‪،‬‬ ‫فه���و أعجز من أن يقدر عل���ى هذا‪ ،‬بل لو ُق ّدر له ‪-‬على فرض‬

‫المس���تحيل‪ -‬أن يمر من جنات الفردوس‪ ،‬لكان من المحتمل‬ ‫أن يفسدها ويشوهها ويقلبها إلى سجون‪.‬‬

‫بخناجر العداوة‪ .‬أما أعداد األش���خاص الذين أصدرنا بحقهم‬

‫يدا بي���د مرة أخرى‪ ،‬ونتكلم بقلوبنا‪ ،‬و ُنس���مع‬ ‫دعون���ا نضع ً‬

‫من المعلوم ما س���نفعله‪ ،‬ومتى س���نفعله‪ ،‬ولمن نوجه شتائمنا‪،‬‬

‫تتزي���ن فيه���ا اآلفاق بالرحم���ة اإللهية‪ ،‬وتحتض���ن األنوار اآلتية‬

‫يعدون وال يحصون‪ .‬وليس‬ ‫أحكاما جائرة بأفكار مس���بقة ف�ل�ا ّ‬ ‫ً‬

‫النج���وم م���ا يدور في صدورنا‪ ،‬وال س���يما في ه���ذه األيام التي‬ ‫َ‬

‫وم���ن س���نقوم بإغراقه باإلهان���ات‪ .‬فنحن نعيش ف���ي دائرة من‬

‫قلوبنا‪ ...‬نتوحد في هذه األيام المباركة التي‬ ‫م���ن وراء اآلف���اق َ‬

‫نخجل من االعتداء وال نكف عن اقتراف اآلثام‪...‬‬

‫واألمراض‪.‬‬

‫الجنون وفي مجتمع "ش���يزوفيرينيا"‪ ،‬فال نشبع من الظلم‪ ،‬وال‬ ‫ع���دم احترام الح���ق‪ ،‬وإثم ش���عور الكره نح���و الناس‬ ‫إث���م‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬

‫والنف���ور منه���م‪ ،‬وإثم االس���تخفاف باألفكار‪ ،‬وإث���م بذر بذور‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2012 )33‬‬

‫‪4‬‬

‫تت���ردد فيه���ا أنفاس جبريل ‪ ،‬وتلتقي فيها األدواء مع العلل‬

‫(*) الترجمة عن التركية‪ :‬أورخان محمد علي‪( .‬رحمه اهلل)‬


‫ونقع���د بهذه المش���اعر ونتنفس مش���اعر‬ ‫الخص���ام‪ ،‬بينما كنا في حاجة ماس���ة إلى‬

‫األخ���وة والصداقة‪ ...‬كن���ا بحاجة إليهما‬ ‫ولكنن���ا ل���م نك���ن نس���تطيع تحقيقهم���ا‪.‬‬ ‫ليتنا اس���تطعنا ذل���ك‪ ،‬ولك���ن هيهات‪...‬‬ ‫ول���و كان بإمكانن���ا تحقي���ق مث���ل ه���ذه‬ ‫األخ���وة والصداق���ة بي���ن أف���راد ه���ذه‬

‫األمة‪ ،‬الس���تطعنا تجاوز هذه المش���اكل‬ ‫والعقب���ات الكبي���رة والضخم���ة ضخامة‬

‫الجبال بحملة واحدة‪ ،‬وألسمعنا صوتنا‬ ‫حتى إلى النجوم في الس���ماء‪ .‬ولكن لم‬ ‫نس���تطع‪ ،‬أو باألحرى ل���م َي َدعونا نحقق‬

‫لآلخ���ر‪ .‬وإن أفض���ل مناب���ع قوتن���ا ه���و‬

‫�إن الذيـ��ن تركوا �أنف�س��هم للحقد‬ ‫وللع��داء‪ ،‬ف�إنهم يدم��رون قيمهم‬ ‫الإن�سانية‪ ،‬ويزعزعون موقعهم يف‬ ‫قلوب النا���س‪� .‬إن �رصف الإن�سان‬ ‫عم��ره يف غمار امل�ش��اعر ال�س��لبية‬ ‫وال�سيئة‪ ،‬عذاب ال يطاق من جهة‪،‬‬ ‫وانحط��اط من جهة �أخ��رى‪ .‬بينما‬ ‫ر�ؤي��ة اجلان��ب الإيجاب��ي يف كل‬ ‫�شخ���ص واحت�ضان اجلميع‪ ،‬بطولة‬ ‫من جهة‪ ،‬و�سمو من جهة �أخرى‪.‬‬

‫ه���ذا‪ ،‬بل زرعوا الش���قاق والنف���اق بيننا‪،‬‬

‫فأصب���ح بعضن���ا أع���داء للبع���ض اآلخر‬

‫تس���اندنا في مس���توى القلب والش���عور‪.‬‬ ‫وكلتا الخاصتين تس���تندان إلى أننا نقبل‬

‫اآلخري���ن كم���ا ه���م ونحت���رم أفكارهم‪.‬‬ ‫وفي هذا الوقت نرسل رسائل الصداقة‪،‬‬

‫ونعد برامج العيش مع كل أمم األرض‪،‬‬ ‫ّ‬

‫فلماذا إذن‬ ‫نضن على أنفسنا وعلى أمتنا‬ ‫ّ‬ ‫ُبعشر ما نبديه من استعدادنا لفتح أبواب‬ ‫الصداقة مع جميع األمم في العالم؟‬

‫وم���ع أننـ���ا نرح���ب بالصداق���ة مـ���ع‬

‫الجميع إال أننـا نتس���اءل‪ :‬أال يجب علينا‬ ‫ال مش���اعر الع���داء والحقد‬ ‫أن نمح���و أو ً‬

‫الموج���ودة فيما بيننا؟ إن وجـود مش���اعر‬

‫الحقد والكره والعداء عند أي ش���خص‪،‬‬

‫حول‬ ‫وغم‪ ،‬وبدأ بعضنا يضرب البعض اآلخر‪ ،‬و َت ّ‬ ‫هم ّ‬ ‫ومصدر ّ‬

‫متدينا أو رجـ���ل علم أو رجـل إدارة أو رجـل‬ ‫س���ـواء أكان هذا‬ ‫ً‬

‫البع���ض من���ا ضد الجمي���ع وض���د كل فكر‪ .‬فهو ض���د كل من‬

‫ناحية س���ـلبية في نظر الح���ق تعالى وفي نظر الخلق‪ ،‬وفي نظر‬

‫كل منا إلى شخص يعاني من مأساة هذا العصر‪ .‬واليوم أصبح‬

‫ينفك عن معارضته وتش���ويه س���معته‪ .‬وال‬ ‫ال يفك���ر مثل���ه‪ ،‬وال ّ‬

‫أبدا بأننا إن س���ـرنا في مثل هذا الدرب فس���نبقى وحيدين‬ ‫نفكر ً‬ ‫ال إلى‬ ‫وس���نكون أسارى نواقصنا‪،‬‬ ‫ونحول مستقبلنا المملوء أم ً‬ ‫ّ‬

‫كاب���وس وإل���ى جحيم‪ ،‬بينما نمل���ك العديد من أس���باب القوة‬ ‫أساس���ا آلمالن���ا وعزائمنا‪ .‬إذن فبعضن���ا قد ُغلبت‬ ‫التي تش���كل‬ ‫ً‬

‫وقابليات التفكر والحكم لديهم من قبـل أحاسيس���هم‬ ‫عقولهم‬ ‫ُ‬

‫وأهوائهم‪ .‬لذا نراهم يعيشون حالة من التناقض في المشاعر‪،‬‬ ‫ويتعثرون على الدوام‪ ،‬ويعيش���ون أزمة في أفكارهم الرئيس���ة‪.‬‬ ‫فال يمكن أن يش���كل هؤالء أمة واحدة على الرغم من كونهم‬ ‫أبناء بلد واحد‪ ،‬ألنهم وضعوا أنفسهم في مواضع معينة بحيث‬

‫يه���دم أحدهم اآلخر‪ ...‬ال يش���كلون أمـة واحدة‪ ،‬بل يعيش���ون‬

‫وعيبا‪ .‬وهـم به���ذا يمثلون‬ ‫فك���ر أو‬ ‫ً‬ ‫زعيم���ا‪ ،‬يع���د نقيصة كبي���رة ً‬ ‫هذا الجيل الناشئ‪.‬‬

‫إن توقي���ر اإلنس���ان واحترامه من موجبات اإلنس���انية ومن‬

‫ضروراتها‪ ،‬وحب اإلنس���ـان من ش���ـروط القرب من اهلل تعالى‬

‫ومن الخلق‪ .‬والذين يستهينون بالناس بتصرفاتهم أو بأقوالهم‬ ‫ُيفش���ون ف���ي الحقيق���ة مس���ـتواهم الخ ُلق���ي‪ ،‬كما يفش���ي الذين‬ ‫يحق���دون على اإلنس���ان ويكرهونه ويعادون���ه نوعية ضميرهم‬

‫ووجدانه���م‪ .‬بينم���ا ن���رى أن أصح���اب الخ ُلق الرفي���ع هـم من‬ ‫نس���يما رقيـ ًقا في كل مكان‪،‬‬ ‫يهبون‬ ‫ً‬ ‫المتواضعي���ن على الدوام‪ّ ،‬‬

‫عدون احترام اإلنسان ومحبته‬ ‫ويس���ـتروح بهم الناس‪ ...‬وهم َي ّ‬ ‫من أفضل األشياء وأثمنها‪ .‬ويرون أن حب اإلنسان لآلخرين‪،‬‬

‫محبوب���ا م���ن قبله���م‪ ،‬أفضل وأثم���ن من مل���ك الدنيا‪.‬‬ ‫وكون���ه‬ ‫ً‬ ‫وأمث���ال هؤالء ين���ذرون حياتهم من أجل حي���اة اآلخرين ومن‬

‫أس���رى في شباك االختالف والتساقط‪ ،‬ويموتون وهم أسرى‪.‬‬ ‫وال أدري‪ ،‬ألم َي ِح ْن بعد أوان محاس���بة أنفس���نا كأمة؟ ألنه‬

‫أجل سعادتهم بكل همة وعزم‪.‬‬

‫س���مح اهلل‪ -‬أن ننهدم في المدى القريب ونبقى تحت أنقاض‬

‫بالجميع ويحملون نوايا طيبة تجاههم‪ ،‬يحصلون على أضعاف‬

‫إن اس���تمر عدم اإلحس���اس هذا مدة طويلة‪ ،‬فإنني أخشى ‪-‬ال‬ ‫أبدا عن مثل هذا‬ ‫أنفس���نا‪ .‬والحقيق���ة‪ ،‬يجب أال نغض الط���رف ً‬

‫جميع���ا بحبل الوحدة‬ ‫االحتم���ال‪ ،‬بـ���ل أن نخش���اه وأن نعتصم‬ ‫ً‬ ‫والتضام���ن بقوة‪ .‬إن أبرز خصائصنا كأمة‪ ،‬وأكثرها اس���تحقا ًقا‬ ‫للتس���جيل‪ ،‬ه���ي أن كل ف���رد من أفرادن���ا يحمل‬ ‫كبيرا‬ ‫ً‬ ‫احترام���ا ً‬

‫ومن الس���نن اإللهية أن أمثال هؤالء الذين يحس���نون الظن‬

‫مضاعفة لنواياهم وأفكارهم هذه‪ .‬ومع أنهم ال يبغون هذا وال‬ ‫مقاب���ل لعمله���م‪ ،‬إال أنهم يحصلون‬ ‫يعن���ون أن يحصل���وا على‬ ‫ٍ‬

‫على عشرة أضعاف ما يقدمونه مستفيدين من مزايا إنسانيتهم‪.‬‬

‫أما الذيـن تركوا أنفسهم للحقد وللعداء‪ ،‬فإنهم يدمرون قيمهم‬

‫‪3‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2012 )33‬‬


‫المقال الرئيس‬ ‫فتح اهلل كولن‬

‫بينم���ا كن���ا نس���ير نح���و مس���تقبل مفع���م بالنـور‬

‫الط���رق‪ .‬قام���وا بكل هذا وهم يتظاهرون بأنهم رس���ل الس�ل�ام‬

‫كريهة ترتفع من اليسار ومن اليمين تدعو إلى‬

‫أخرى كش���فوا عن وجوههم الكالحة الس���وداء سواد القطران‪،‬‬

‫بقل���وب ملؤه���ا األم���ل‪ ،‬إذا بنا نس���مع أصوا ًتا‬

‫عه���د مظلم من جديد‪ .‬س���معنا هذه األصوات النش���ـاز فقلقنا‪،‬‬

‫"أبدأنا نرجع إلى أيام التناحر والش���قاق؟" كم كنا معجبين بهم‬

‫عندما كنا نسمع منهم هذه الكلمات‪" :‬احترام اإلنسان وتوقيره‪،‬‬ ‫وإبـداء الحب للكل ولكل شيء‪ ،‬والتعامل بكل مرونة وتساهل‬

‫مـع العالم كله"‪ ،‬كم كانت هـذه الكلمات سـاحرة ومعسولة‪...‬‬

‫كم أحببنا كلماتهم هـذه وكم ضممنا التقدير لها في جوانحنا!‬ ‫أحببناه���م وأعجبنا بهم‪ ...‬أعجبنا بكلماتهم ونحن نمش���ي في‬ ‫طريقنـا نحو المستقبل بكل ثقة وأمن واطمئنان دون أن يخطر‬

‫ببالنا ظهور أي مصاعب أو أمور سلبية أمامنا‪ ...‬وإذا بنا نفاجأ‬ ‫به���م وقد انتصب���وا أمامنا بكل ما في جعبته���م من حقد ونفور‬

‫وغضب‪ ،‬وبدأوا ‪-‬وهم يهاجمون جميع األطراف‪ -‬بسد األفق‬

‫بأفكارهم السوداء الكالحة‪ ،‬وبنسف كل الجسور وتعطيل كل‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2012 )33‬‬

‫‪2‬‬

‫والن���ور‪ ،‬وبدأوا بألع���اب قذرة تحت هذا الغط���اء‪ .‬وفي أحيان‬ ‫حربا ش���عواء‬ ‫وبدأوا يهاجمون األفكار النيرة‪ ،‬ويش���نون عليها ً‬ ‫عالنية وصراحة‪ ،‬ولم يتوانوا في هذه الحرب عن االفتراء على‬

‫جمي���ع األفكار والحركات والفعاليات اإليجابية‪ .‬والحقيقة أن‬

‫أيضا‬ ‫ه���ؤالء لم يكونوا بيادق بيد قوى الظ�ل�ام فقط‪ ،‬بل كانوا ً‬ ‫ه���م الظالم بعينه‪ .‬وحتى عندما حاولوا أن يظهروا وكأنهم مع‬

‫الن���ور وم���ع الضياء ومن أنصارهما‪ ،‬إال أنهم كانوا في الحالين‬ ‫يمشون وراء الشيطان ويوقدون نار الفتنة‪.‬‬

‫أج���ل! لق���د ت���رك البعض من���ا منذ م���دة طويلة كل ش���يء‪،‬‬

‫وتوجه نحو تخريب عاطفة األخوة والصداقة الموجودة بيننا‪.‬‬

‫لق���د دارت رؤوس���نا إلى درجة أننا لم ننتبه إل���ى أننا كنا نهلك‬ ‫أنفس���نا بأيدينا‪ .‬واألنكى من هذا‪ ،‬أننا كنا نربط جميع مشاعرنا‬

‫وأفكارنا وس���لوكنا بأحاس���يس العداوة والبغضاء‪ .‬وبدأنا نقوم‬


‫المحتويات‬ ‫ أوان الرجوع إلى النفس  ‪ /‬فتح اهلل كولن (املقال الرئيس) ‬ ‫أسماك مضيئة في قيعان البحار  ‪ /‬أ‪.‬د‪ .‬ناصر أمحد سنه (علوم) ‬ ‫ فقه واقع األمة‪ ..‬دراسة في المفهوم  ‪ /‬أ‪.‬د‪ .‬الشاهد البوشيخي (دراسات إسالمية) ‬ ‫الرفيق والطريق  ‪ /‬حراء (ألوان وظالل) ‬ ‫ أصالة الثقافات ومستقبل الثقافة اإلسالمية  ‪ /‬د‪ .‬إسحاق بن عبد اهلل السعدي (قضايا فكرية) ‬ ‫عيدنا سعيد إذا أردنا  ‪ /‬أ‪.‬د‪ .‬عمار جيدل (أدب) ‬ ‫ قطرات الماء ‪ /‬حراء (ألوان وظالل) ‬ ‫ثقافة الحوار مع اآلخر لدى الشباب  ‪ /‬د‪ .‬مرمي آيت أمحد (قضايا فكرية )‬ ‫ أيها الخريف  ‪ /‬حراء (ألوان وظالل) ‬ ‫الصورة النمطية  ‪ /‬د‪ .‬حيىي جاد (قضايا فكرية) ‬ ‫ اإليمان باليوم اآلخر‪ ..‬رؤية قرآنية لوظيفته اإلصالحية ‪ /‬أ‪.‬د‪ .‬زيد بوشعراء (دراسات إسالمية) ‬ ‫إسالمية األدب  ‪ /‬أ‪.‬د‪ .‬عماد الدين خليل (أدب) ‬ ‫ الخفافيش‪ ..‬الرادارات الطائرة ‪ /‬أ‪.‬د‪ .‬عرفان يلماز (علوم) ‬ ‫قصة إنسان في رحلة الحياة  ‪ /‬د‪ .‬احلسني زايد (قصة) ‬ ‫ فرسان األمل ‪ /‬إسالم العدل (أدب) ‬ ‫نعمة المرض من وجهة أخرى  ‪ /‬د‪ .‬زياد موسى أمحد (علوم) ‬ ‫ من تجليات مفهوم القراءة في القرآن الكريم ‪ /‬نعيمة لبداوي (قضايا فكرية) ‬ ‫الطالق‪ ..‬أكبر تهديد على األسرة  ‪ /‬د‪ .‬حسن أيدنلي (تربية) ‬ ‫ بشرى قدوم محمد ‪ /  ‬أ‪.‬د‪ .‬حممد عامل خنرت (شعر )‬ ‫عسكرة الحياة  ‪ /‬د‪ .‬سلمان العودة (قضايا فكرية) ‬ ‫ نحو تأصيل الفقه الهاروني في قضية الوحدة  ‪ /‬د‪ .‬حممد إقبال عروي (قضايا فكرية) ‬ ‫برعوم البراءة  ‪ /‬حراء (ألوان وظالل) ‬ ‫ الجندي الباسل  ‪ /‬نور الدين صواش (حمطات حضارية) ‬ ‫سحلية الماء‪ ..‬خبيرة الجري على الماء  ‪ /‬نور الدين صواش (حمطات علمية) ‬

‫‪2‬‬ ‫‪5‬‬ ‫‪9‬‬ ‫‪13‬‬ ‫‪14‬‬ ‫‪16‬‬ ‫‪18‬‬ ‫‪19‬‬ ‫‪22‬‬ ‫‪23‬‬ ‫‪24‬‬ ‫‪29‬‬ ‫‪33‬‬ ‫‪37‬‬ ‫‪41‬‬ ‫‪42‬‬ ‫‪45‬‬ ‫‪50‬‬ ‫‪54‬‬ ‫‪55‬‬ ‫‪57‬‬ ‫‪61‬‬ ‫‪62‬‬ ‫‪63‬‬


‫االفتتاحية‬ ‫ي ًدا بيد‪...‬‬ ‫كل آثامنا‪ ،‬مستغ ِّلين بركة هذه األيام التي أحاطت بنا"؛ "دعونا‬ ‫"هلموا نتب من ِّ‬ ‫ّ‬

‫النجوم ما ي���دور في صدورنا‪،‬‬ ‫ي���دا بيد مرة أخرى‪ ،‬ونتكلم بقلوبنا‪ ،‬و ُنس���مع‬ ‫نض���ع ً‬ ‫َ‬

‫وال سيما في هذه األيام التي تتزين فيها اآلفاق بالرحمة اإللهية‪ ،‬وتحتضن األنوار‬ ‫قلوبنا"‪...‬‬ ‫اآلتية من وراء اآلفاق َ‬

‫العدد‪33:‬‬ ‫السنة الثامنة‬ ‫(نوفمبر ‪ -‬ديسمبر) ‪2012‬‬

‫مدوي���ة‪ ،‬وصرخ���ات ُم ِ‬ ‫وتهد‬ ‫جلجلة‪ ،‬ته��� ُّز أركان الكون جميع���ه‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫ه���ي ن���داءات ّ‬ ‫بحب الخير‪.‬‬ ‫كل قلب نابض بالحياة‪ ،‬طافح‬ ‫عتبات ِّ‬ ‫ِّ‬

‫إن الق���ارئ المتأني َليتس���اءل م���رة أخرى‪ :‬هل هذا المقال ُكت���ب اليوم‪ ،‬بنبرات‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫األم���ة في مرحلتها الراهنة؟ وه���ل ُخ َّط ليعالج حالنا الحاض���رة‪ ،‬حر ًفا حر ًفا‪،‬‬ ‫واق���ع َّ‬ ‫أن مؤ ِّلفه األس���تاذ "فتح اهلل" تجاوز الزم���ان والمكان بما يص ُلح‬ ‫ومعن���ى معن���ى؟ أم َّ‬ ‫ً‬ ‫لكل زمان ومكان؟‬ ‫ِّ‬ ‫أن زخ���ارف منس���وجات المقال الرئيس نس���جت في نقط���ة اجتمعت‬ ‫ال ري���ب َّ‬

‫وبعد‬ ‫الهمة‪ ،‬بن َفس قرآن���ي‪ ،‬وروح نبوي‪ُ ،‬‬ ‫فيه���ا الحقيقة مع الص���دق‪ ،‬والحكمة مع َّ‬ ‫ُعقبوي‪...‬‬

‫ظ���ل المق���ال الرئيس تعال���ج جوانب‪،‬‬ ‫ولق���د ج���اءت المق���االت األخرى على ِّ‬

‫وتس���لط الضوء على جوانب أخرى؛ من ذلك "وجوب فقه واقع األمة"‪ ،‬وضرورة‬

‫وانفتاحا؛ ث���م كان الحرص‬ ‫"العناي���ة الصادق���ة بمس���تقبل الثقافة اإلس�ل�امية" أصال ًة‬ ‫ً‬ ‫أن‬ ‫عشش���ت في أحش���ائنا؛ وال‬ ‫َّ‬ ‫ش���ك َّ‬ ‫على "ثقافة الحوار" ترياقا للفرقة التي كالبوم َّ‬ ‫"عس���كرة الحياة"‪ ،‬و"األحكام النمطية"‪ ،‬هي من أبرز األس���باب في إقصاء القريب‬

‫رش���ح‬ ‫المفتاح‬ ‫وظلم الحبيب؛ وال يملك‬ ‫الس���حري إ َّ‬ ‫ال القرآن الكريم‪ ،‬فهو الذي َي َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫"بن���داء اإليم���ان باليوم اآلخر"‪ ،‬ويدعو حثي ًثا إلى "الق���راءة وإعادة القراءة" بمدلولها‬ ‫أن يحمل الخط���اب إلى هذا العلو‬ ‫الحض���اري الغائ���ر في الوجود‪ ...‬لكن ش���ريطة ْ‬

‫السامق سمات "األدب اإلسالمي"‪ ،‬ويتحلى أبطاله بصفات "فرسان األمل"‪.‬‬

‫ولم يغب العلم ودالئل القدرة من هذا العدد‪ ،‬ما بين "األس���ماك المضيئة" في‬

‫قيعان البحار‪ ،‬و"الخفافيش" الطائرة بخصائص الرادار‪...‬‬

‫م���ا بين "فك���ر وفعل"‪ ،‬وما بين "روح ومادة"‪ ،‬يولد األمل الخافق‪ ،‬ويبزغ الفجر‬

‫ويرشح المعنى من جديد‪ُ ،‬م ْؤذ ًنا بقدوم عهد عتيد وليد‪...‬‬ ‫الصادق‪،‬‬ ‫ُ‬

‫لكل من يحوم حول هذا العمق ويسبح في هذا التيار؛‬ ‫وحراء اليوم " ُأ ُذن خيرٍ " ِّ‬

‫حبا وشو ًقا‪.‬‬ ‫تلقي ب ُقبلة حرى على جبين قرائها األفاضل‪:‬‬ ‫ً‬ ‫سالما وتحية‪ًّ ،‬‬


‫العدد‪ / 33 :‬السنة الثامنة ‪( /‬نوفمرب ‪ -‬ديسمرب) ‪2012‬‬ ‫مجلة علمية فكرية ثقافية تصدر كل شهرين من إسطنبول‬

‫‪w w w. h i r a m a g a z i n e . c o m‬‬

‫سيد الورود‬ ‫ُك ُّل الورود إليك ّتواقة‪،‬‬ ‫وعلى القبة الخضراء َح َّوامة‪...‬‬ ‫نورا‪،‬‬ ‫كالفراش إذا آنس ً‬ ‫إليه سعى‪ ،‬ونحوه طار‪ ،‬وعليه تساقط‪...‬‬ ‫فما أعظم ما عليه ي ُدلّنا‪ ،‬وإليه يسبقنا‪...‬‬ ‫تصوُح الزهور‪ ،‬وتذبل الورود‪،‬‬ ‫إنه ماء الحياة‪ ،‬من دونه ِّ‬ ‫ويموت الزمان واإلنسان‪.‬‬ ‫***‬

‫أوان الرجوع إلى النفس‬

‫فقه واقع األمة‪ ..‬دراسة في المفهوم‬

‫نحو تأصيل الفقه الهاروني‬ ‫في قضية الوحدة‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.