من "الماوراء" أنوار ُّ تهل،
وعطش الدنيا تروي... ظمأَ األرض تسقي، َ ومن وراء األفق ،ألف شمس وشمس، خفاقة ،وباإلشراق َّ بالنور َّ سطاعة... وإلى كهوف الظالم مذعورًة تجري، أرواح على اإللحاد تربَّ ْت ،يالحقها النور، والت حين مناص... وبخناقها يمسكَ ، ***
تركيا 6 :لريات • أوروبا 3,5 :يورو • أمريكا 5 :دوالر • اململكة العربية السعودية 12 :ريال سعودي • اليمن 350 :ريال ميني • املغرب 20 :درهم • الجزائر 250 :دينار
خارطة النور
33
د .محمد عمارة •كتاب موسوعي الفكر... • ُيشهدك تجليات الحضارة اإلسالمية في شؤون الفكر والحياة... •يأخذك إلى ثناياها ...ويوقفك على أسرارها... • ُ ويبهرك بعظمتها ...ويشغلك بجماالتها... • ُ ويغريك بمحبتها ...ويمنحك امتدادً ا في ذاتها... ً وتجواال في آفاقها ...ورغبة بالعيش في ظاللها... •
مركز التوزيع فرع القاهرة 7 :ش البرامكة ،الحي السابع ،مدينة نصر -القاهرة /مصر
تليفون وفاكس +20226134402-5 :
الهاتف الجوال +201004871038 :
w w w. d a r a l n i l e . c o m
التصور العام
• حراء جملة علمية فكرية ثقافية تعىن بالعلوم الطبيعية واإلنسانية واالجتماعية وحتاور أسرار النفس البشرية وآفاق الكون الشاسعة باملنظور القرآين اإلمياين يف تآلف وتناسب بني العلم واإلميان ،والعقل والقلب ،والفكر والواقع. • جتمع بني األصالة واملعاصرة وتعتمد الوسطية يف فهم اإلسالم وفهم الواقع ،مع البعد عن اإلفراط والتفريط. • تؤمن باالنفتاح على اآلخر ،واحلوار البناء واهلادئ فيما يصب لصاحل اإلنسانية. • تسعى إىل املوازنة بني العلمية يف املضمون واجلمالية يف الشكل وأسلوب العرض ،ومن مث تدعو إىل معاجلة املواد مبهنية عالية مع التبسيط ومراعاة اجلوانب األدبية واجلمالية يف الكتابة.
شروط النشر
• أن يكون النص املرسل جديدا مل يسبق نشره. • أال يزيد حجم النص على 2000كلمة كحد أقصى ،وللمجلة أن تلخص أو ختتصر النصوص اليت تتجاوز احلد املطلوب. • يرجى من الكاتب الذي مل يسبق له النشر يف اجمللة إرسال نبذة خمتصرة عن سريته الذاتية. • ختضع األعمال املعروضة للنشر ملوافقة هيئة التحرير ،وهليئة التحرير أن تطلب من الكاتب إجراء أي تعديل على املادة املقدمة قبل إجازهتا للنشر. • اجمللة غري ملزمة بإعادة النصوص إىل أصحاهبا نشرت أم مل تنشر ،وتلتزم بإبالغ أصحاهبا بقبول النشر ،وال تلتزم بإبداء أسباب عدم النشر. • حتتفظ اجمللة حبقها يف نشر النصوص وفق خطة التحرير وحسب التوقيت الذي تراه مناسبا. تعب بالضرورة عن رأي اجمللة. تعب عن آراء ُكتَّاهبا ،وال رِّ • النصوص اليت تنشر يف اجمللة رِّ مجا إىل أي لغة أخرى، • للمجلة حق إعادة نشر النص منفصلاً أو ضمن جمموعة من البحوث ،بلغته األصلية أو مرت ً دون حاجة إىل استئذان صاحب النص. • جملة حراء ال متانع يف النقل أو االقتباس عنها شريطة ذكر املصدر. يرجى إرسال مجيع املشاركات إىل هيئة حترير اجمللة على العنوان اآليت:
hira@hiramagazine.com
YEMEN دار النشر للجامعات الجمهورية اليمنية ،صنعاء ،الخط الدائري الغربي، أمام الجامعة القديمة Phone: +967 1 440144 GSM: +967 711518611 ALGERIA Bois des Cars 1 Villa Nº68 Dely Brahim GSM: +213 770 26 00 27 SUDAN مركز دار النيل ،مكتب اخلرطوم أركويت مربع 48منـزل رقم - 31اخلرطوم -السودان Phone: 0024 999 559 92 26 - 0024 915 522 24 69 hirasudan@hotmail.com JORDAN شركة زوزك/مشيساين شارع عبد احلميد شرف ،بناية رقم61: عمان/األردن. Phone: +962 656 064 44 GSM: +962 775 935 756 hirajordan@hotmail.com UNITED ARAB EMIRATES دار الفقيه للنشر والتوزيع ص.ب 6677 .أبو ظبي Phone: +971 266 789920 MAURITANIA Phone: +2223014264
USA Tughra Books 345 Clifton Ave., Clifton, NJ, 07011, USA Phone:+1 732 868 0210 Fax:+1 732 868 0211 SAUDI ARABIA الوطنية للتوزيع Phone: +966 1 4871414 املكتب الرئيسي :شارع التخصصي مع تقاطع شارع األمري سلطان بن عبد العزيز عمارة فيصل السيار ص.ب 68761 :الرياض11537 : اجلوال00966504358213 : saudia@hiramagazine.com abdallahi7@hotmail.com Phone-Fax: +966 1 2815226 MOROCCO الدار البيضاء 70زنقة سجلماسة Société Arabo-Africaine de Distribution, )d'Edition et de Presse (Sapress 70, rue de Sijilmassa, 20300 Casablanca / Morocco Phone: +212 22 24 92 00 SYRIA GSM: +963 955 411 990
جملة علمية فكرية ثقافية تصدر كل شهرين عن: Işık Yayıncılık Ticaret A.Ş İstanbul / Türkiye
صاحب االمتياز
مصطفى طلعت قاطريجي أوغلو
املشرف العام نوزاد صواش
nsavas@hiramagazine.com
رئيس التحرير هانئ رسالن
مدير التحرير أجري إشيوك
املخرج الفين مراد عرباجي
املركز الرئيس HIRA MAGAZINE Kısıklı Mah. Meltem Sok. No:5 34676 Üsküdar İstanbul / Turkey Phone: +902163186011 Fax: +902164224140 hira@hiramagazine.com
مركز التوزيع 7ش الربامكة -احلي السابع -م.نصر/القاهرة تليفون وفاكس+20226134402-5 : اهلاتف اجلوال +201004871038 : مجهورية مصر العربية
نوع النشر جملة دورية دولية
Yayın Türü Yaygın Süreli
الطباعة Çağlayan Matbaası İzmir - Turkiye Tel:+90 (232) 252 20 96
رقم اإليداع
1879-1306
لالشرتاك من كل أحناء العامل pr@hiramagazine.com
محطات علمية
سحلية الماء ..خبيرة الجري على الماء م���ن المع���روف ل���دى الجميع أن الس���حليات
تمش���ي عل���ى اليابس���ة ،ولك���ن َم���ن منا س���مع
بسحليات تجري على الماء!؟
قام���ت مجموع���ة من العلم���اء في جامع���ة هارف���ارد األمريكية بتحلي���ل حرك���ة أقدام س���حلية الم���اء أو باسيليس���ك (،)Basilisk
لمعرف���ة الس���ر ف���ي جريها ف���وق الم���اء ،فاندهش���وا عندما رأوا الس���رعة الت���ي يس���ير به���ا ه���ذا المخل���وق ..فوج���دوا أن ه���ذه
الس���حلية تق���وم بضرب رجليه���ا الخلفيتي���ن -اللتي���ن تتمتعان ِ بغش���اء بين األصابع -على س���طح الماء بقو ٍة خارقة ،ل ُتحدث فقاع���ات هوائية تحت رجليها ،ثم تدوس على هذه الفقاعات
بس���رعة هائلة وبوتي���رة ثابتة وتوازن عجيب ،مس���تخدمة ذيلها كأداة مس���اعدٍ في هذا التوازن أثناء جريها دون الس���قوط على الغط في الماء. أحد جوانبها أو دون ّ
من جهة الذقن في موازنة جسمها التوازن التام. توجد هذه الس���حليات في الغابات االس���توائية في أمريكا الوس���طى والجنوبية ،ال س���يما في كوس���تاريكا .تعيش حوالي ثمان���ي س���نوات ،وتبي���ض األنثى منه���ا 8-5مرات في الس���نة الواح���دة ،وقد تضع ف���ي كل مرة حوالي 18بيضة .يبلغ طول الواح���دة م���ن ه���ذه الس���حليات حوالي 50س���م ،وأم���ا وزنها فيت���راوح ما بي���ن 200إلى600غ .وعليه فإن هذه المخلوقات تتغذى بالحشرات الصغيرة والنباتات. وال شك أن هذه الحيوانات كانت مصدر إلهام للعلماء في اختراعهم "الحوامة" التي تطفو في الهواء على وس���ادة هوائية أسفل جسمها ،وتسير بسرعة فائقة ووتيرة ثابتة وتوازن تام. (*) كاتب وباحث تركي.
تخط���و هذه الس���حليات حوالي 20خط���وة على الماء في
الثاني���ة الواحدة ،أي تجري بس���رعة 4.5م ف���ي الثانية الواحدة.
وإذا أرادت ه���ذه الس���حلية الطف���و عل���ى أقدامه���ا األربع على الم���اء ،تس���تخدم جيبها الهوائي الصغي���ر الموضوع على بطنها
63
السنة الثامنة -العدد (2012 )33
محطات حضارية نور الدين صواش*
الجندي الباسل المالزم األول "كيس���ي" (- )Caseyالذي أصبح عام���ا على أس���تراليا -ينقل لنا فيم���ا ُ واليا ًّ بع���د ً "ج َن ْق ه���ذه الحادث���ة الت���ي عاش���ها في معرك���ة َ قلع���ة" ( )Çanakkaleالت���ي وقع���ت ف���ي م���ارس/آذار 1915أثناء الحرب العالمية األولى ،إذ يقول: ف���ي ي���وم 25م���ن ش���هر أبريل/نيس���ان ،دار قت���ال رهي���ب بي���ن "جو ْن ْك بايِري" الق���وات العثمانية وقوات التحالف في موق���ع ُ ( .)Conkbayırıكانت المس���افة بي���ن خنادق القتال حوالي 10-8 أمت���ار .وبعد الهجوم ِ بالح���راب وقف القتال لفترة من الزمن.. انس���حب الجنود إلى خنادقهم ..وإذا بصيحات استرحام تشق عنان الس���ماء وس���ط خنادق الطرفين ،يطلقه���ا نقيب إنكليزي ترت ساقه أثناء المعركة ..ولكن ال أحد يجرؤ على الخروج ُب ْ يدوي لمساعدته ،إذ مع أدنى حركة ينطلق مطر من الرصاص ّ فوق الرؤوس.. حدث ش���يء مذهل؛ إذ يد من بين ف���ي تلك األثناء َ ب���دت ٌ ْ
السنة الثامنة -العدد (2012 )33
62
بمالب���س داخلية بيض���اء ..ثم خرج تل���وح الخن���ادق العثماني���ة ّ َ جندي عثماني ش���جاع من خندقه خروج األس���د دون سالح.. وجهنا أسلحتنا صوبه نراقبه بحذر ..لم نعد نسمع إال أنفاسنا، ّ ولم نشعر إال بصدورنا تعلو وتهبط ..بدأ الجندي يمشي ببطء نحو خنادقنا ..وعندما وصل إلى النقيب الجريح ،حدب عليه بهدوء ثم احتضنه برفق ،ثم تأبطه وبدأ يمشي به نحونا ..وما إن وصل إلينا حتى وضعه على األرض بلطف ،ثم عاد من حيث أتى ..لم نجد فرص ًة لش���كر ذلك الجندي الباس���ل الذي واجه الم���وت من أجل مس���اعدة عدوه الذي يحارب���ه! وظل الجنود أياما عن ذلك الجندي الش���جاع ف���ي ميادي���ن القتال ،يتحدثون ً الذي أبدى وقدم احتراما من نوع آخر تجاه اإلنسان وكرامتهّ ، ً إنسانيا عن الحب والرحمة من اإلنسان ألخيه درسا لإلنسانية ً ً اإلنسان حتى في ميادين القتال. وحبن���ا واحترامنا إلى أولئ���ك الجنود الذين ّ نق���دم تحياتن���ا ّ أبدوا بسال ًة تستحق الثناء والتقدير. "المالزم األول كيسي"
التعص���ب الذي يتلبس لبوس الدين والهوية والتاريخ ،وتطغى
األحكام التي تدعي اس���تنادها إلى نصوص الوحي والحديث الشريف ،بل قد تجد االغتياالت والتصفيات مسوغها الفقهي. وال مخ���رج وال منج���ى من هذا الوض���ع إال باعتماد أبجديات ش���رعيا وضرورة مطلبا الفق���ه الهارون���ي الت���ي تجعل الوح���دة ًّ ً
حضارية ،والتي تبرز كيف أن ثقافة اإلس�ل�ام هي ثقافة توحيد ووحدة سواء بسواء.
وإذا اتض���ح هذا ،فإن الكات���ب يدعو إلى تأصيل هذا الفقه
الهاروني من خالل الخطوات اآلتية:
• تتبع أقوال المفس���رين في تناولهم لآليات المذكورة من
سورة "طه".
• ق���راءة تل���ك اآليات في ضوء مقاصد القرآن في العمران
اإلنساني.
• جمع األحاديث الواردة في النهي عن الش���رك ،وقراءتها
على ضوء تلك اآليات القرآنية.
• اس���تحضار القواع���د األصولية في الفه���م والترجيح ،من
مثل" :درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة" وغيرها كثير. • ق���راءة تاري���خ األم���ة ف���ي ض���وء مالم���ح الفق���ه الهاروني
للوق���وف عل���ى حجم الك���وارث الناتجة عن تغيي���ب "واجبية"
الوحدة وأهميتها في صالح معاش األمة ومعادها.
• ق���راءة الواق���ع المعاص���ر لمش���اريع الصحوة اإلس�ل�امية
برعوم البراءة يا مسكوب اللطف، يا رحيق الرحمة، يا بريئًا بين مذنبين... أنت إلى اهلل قريب؛ فعبير الماوراء نَ ُش ّم، فإذا َش َم ْمناكَ ، وإذا ضممناكُ ، نضم، هر الوجود ّ فط َ فنحن سجناء أوزارنا ،ومكبَّلو أوهامنا... بالحرية تنعم، َ وأنت ّ ال قيد يقيدك ،وال ِوْزر يثقلك... ***
واتجاهاته���ا ومدارس���ها (أدبياتها ،قوانينه���ا الداخلية ،برامجها
ومش���اريعها ،إنجازاتها )...للوق���وف على حدود حضور ثقافة الوح���دة وثقاف���ة الفرقة ،ومدى وعي تلك المش���اريع بوجوب وجوب التوحيد. الوحدة َ
(*) أستاذ التعليم العالي /المغرب.
الهوامش
( )1الش���يخ محم���د الغزالي ":كي���ف نتعامل م���ع القرآن" ،في مدارس���ة أنجزها األس���تاذ عم���ر عبي���د حس���نة ،المعه���د العالمي للفك���ر اإلس�ل�امي ،ط،1:
1991م ،ص.230:
( )2تفس���ير القرآن العظيم ،لإلمام أبو الحس���ن علم الدين الس���خاوي ،تحقيق:
الدكتور موس���ى علي موس���ى مس���عود ،والدكتور أش���رف محم���د عبد اهلل
القصاص،ط2009 ،1:م ،ج ،1:ص ،408:دار النشر للجامعات ،القاهرة.
( )3فت���ح اهلل كول���ن ..ج���ذوره الفكرية واستش���رافاته الحضاري���ة ،لمحمد أنس أركنة ،ط2010 ،1:م ،ص ،317:دا رالنيل ،مصر.
61
السنة الثامنة -العدد (2012 )33
ال ﴿و َ الق���رآن م���ن م���آالت المش���ركينَ : ين ِ من ال ِذ ين َفر ُقوا َت ُكو ُنوا ِم َن ا ْل ُم ْش ِر ِك َ َ َّ َ َّ ِد َين ُه ْم َو َكا ُنوا ِش َي ًعا﴾(الروم.)32: ويص���ف المنافقي���ن بأنهم يتقصدون
إح���داث الفرق���ة بين المس���لمين ،وذلك ���ذوا ي���ن َّات َخ ُ ﴿وا َّل ِذ َ ف���ي قول���ه تعال���ىَ : ِ ِ ���ن ���را َو َت ْف ِري ًق���ا َب ْي َ ���ر ًارا َو ُك ْف ً َم ْس���ج ًدا ض َ ين﴾(التوبة.)107: ا ْل ُم ْؤ ِم ِن َ
-2قد يتحمل من الش���رك أو غيره،
ال ح���ا ً ال ،م���ا يحف���ظ وح���دة األم���ة ح���ا ً ال .ولعل في موقف الرسول واستقبا ً
وصحابته األوائل من األصنام المنتشرة بمك���ة في بداي���ة الدعوة اإلس�ل�امية ،ما
الوح��دة واجبة ومرعية ،ب��ل �إنها تدخ��ل �ضمن الكلي��ات الأ�سا�سية يف الق��ر�آن الك��رمي و�رشيعت��ه ال�سمح��ة ،وذل��ك �أن ا�ستق��راء املف��ردات القر�آني��ة الدال��ة عل��ى "الوح��دة" وم��ا يناق�ضه��ا ،يدعم وج��وب الوحدة وتكلي��ف النا�س بها وحملهم على حتقيقها وال�سعي �إليه��ا ع�بر تقوي��ة فر���ص الوحدة و�إ�ضعاف فر���ص الفرقة ونوازعها ومذاهبها.
خصبا للقي���اس والمقارنة ال يمنح مج���ا ً ً
المفس���دة مقدم على جل���ب المصلحة،
مم���ا يعني أن درء مفس���دة إراق���ة الدماء مق���دم عل���ى جل���ب مصلح���ة التوحي���د، وخاص���ة داخل األمة الواحدة التي ترفع
ش���عار اإلس�ل�ام .وليس في ه���ذا تعطيل
لواج���ب األم���ر المع���روف والنه���ي عن المنكر الذي يمثل "هوية" األمة المسلمة
بنص القرآن الكريم ،ذلك األمر والنهي ال متعددة ومستويات الذي يتخذ أش���كا ً متضامن���ة يب���دأ بإنكار القلب واللس���ان،
وينتهي بإنكار اليد والجهاد وفق قواعده
وضوابطه وفقهه.
إن ه���ذا الفق���ه الهارون���ي ،هو الذي
مفهوم���ا آخر غي���ر مفهوم يعط���ي لألم���ة ً
واالعتب���ار في هذا الس���ياق ،فمن أج���ل مقصدية الحفاظ على
التكت���ل أو التجمه���ر الظاه���ر حول أوه���ام وطني���ة أو دينية أو
بمكة. وقياسا على ذلك يجوز القول هنا ،بإمكانية الصبر على ً
أج���ل دعم مبادئ الوح���دة المتجاوزة لكل نزوع س���لبي ،وأن
أرواح القلة من المس���لمين ،أرجأ الرسول تحطيم األصنام بعض مظاهر الش���رك لفت���رة ،من أجل رعاي���ة مقصد الوحدة،
واهلل أعلم.
قومي���ة ،بمعن���ى أن قيمة التكتل الجمعي تكمن في التنادي من
أي مي���ل نح���و التنازع والتداب���ر والتناحر ،إنم���ا هو ضرب في
قيم���ة ذلك التكتل وإضع���اف لمكانته .يقول األس���تاذ فتح اهلل كول���ن" :ل���ذا ال يمكن الق���ول إن كل تجمهر ه���و جماعة ،بل
-3الخشية من ضياع الوحدة ال تقل أهمية عن الخشية من ﴿و ْاع َت ِص ُموا معاَ : ضياع التوحيد ،باعتبار أن األمة مأمورة بهما ً ب َِحب ِل ا ِ ال هلل َج ِم ًيعا َو َ هلل َو َ ﴿و ْاع ُب ُدوا ا َ ال َت َف َّر ُقوا﴾(آل عمرانَ ،)103: ْ ُت ْش ِر ُكوا ِب ِه َش ْي ًئا﴾(النساء.)36: -4الوح���دة تدخل ضمن واجبات القيادة العليا ،فهي مما
شكلوا جماعات قوية مع قلة أعدادهم ،وأدوا المطلوب منهم
تب���ث هذه القيمة في إس���تراتيجيتها الداخلية والخارجية ،وفي
وم���ن هذا المس���توى ،عدت في التاريخ أق���وى من العديد من
اس���تحفظت عليه من قبل رعيتها ،وألنها كذلك ،فالواجب أن برامجها التعليمية ،وفي أنشطتها الفنية واالجتماعية.
إن بع���ض الكت���ل التي تس���ري العداوة بينها ليس���ت بعيدة فقط
ع���ن ماهية الجماع���ة ،وإن زيادة األفراد فيها ت���ؤدي إلى زيادة الضع���ف ...فأصح���اب األنبياء الذين تمي���زوا بروح الجماعة، (توحيدا ووحدة) ...والحقيقة أن كل فئة قليلة من هذا الصنف ً الكتل الجماعية المتنافرة وأكثر بركة".
()3
-5م���ن الخير لعلماء األم���ة ومفكريها ودعاتها أن يكونوا
-6م���ن بركات الوح���دة أن يتحقق التواصل بين مكونات
وأن يدعموا خطواتها ويباركوا مسيرتها ،وأن ال يجعلوا انتفاء
األم���ر بالمعروف والنهي عن المنكر ،وفي هذا مجال خصب
الدع���وة إل���ى الوح���دة وتحقيقه���ا ،فقد يكون اش���تراطهم ذلك
بالحكم���ة والمنه���ج الس���ليم .وقد تق���رر في مي���زان العقل ،أنه
ال كثيرة ،وإذا كانت الخالفات المذهبية والقبلية والحزبية سبي ً إل���ى إراقة الدم���اء ،في بعض األحيان .فإن درء هذه المفاس���د
ش���خصا ي���رى الحق أبل���ج ،إال إذا كان صاحب هوى متبع أو ً
عو ًنا على نش���ر قيم الوحدة الواجبة بمقتضى الفقه الهاروني،
االنحراف���ات العقدية أو الس���لوكية ش���رطا ف���ي انخراطهم في ً
ال ،وقد يف���وت مصالح مانع���ا م���ن موان���ع تحقيق الوح���دة أص ً ً والك���وارث ال يت���م إال بنش���ر ثقاف���ة الوحدة ،ومعل���وم أن درء السنة الثامنة -العدد (2012 )33
60
األمة وينتشر الحوار ،وهذا يفضي إلى التناصح والتعاون على لبي���ان أخط���اء االنحراف���ات العقدي���ة والس���لوكية وأخطاره���ا
متمسكا بأخطائه وانحرافاته وهو يستحيل على المرء أن يبقى ً
مأجورا لنشر الشرك .أما في ظل الفرقة والتمزق وتغذية ثقافة ً
الكراهي���ة واالنقس���ام ،فإن العقل يتراجع عن حكمته ،ويس���ود
جدي���د مقابل أق���وال قديمة ،أو وضع مصلح���ة التوحيد مقابل مصلح���ة الوح���دة ،وإنم���ا يتعلق األم���ر بالدعوة إل���ى تدبر هذا الموقف الهاروني ،واس���تخالص المبادئ المسعفة في تعامل العرب والمسلمين اليوم مع حلم الوحدة -إن بقي هناك حلم أص�ل�ا -وكيفية التعام���ل مع واقع الفرق���ة والمذهبية والطائفية ً والحزبية والجماعية. يق���ول اإلم���ام أبو الحس���ن عل���م الدين الس���خاوي" :وكان موس���ى ق���د أوصى ه���ارون فق���ال :إن رأيت من بني إس���رائيل م���ا ال يس���وغ ،فبالغ في اللط���ف ليرجعوا عما ه���م عليه ،وإال فالحق بي ،فأقبل موسى على السامري فقالَ ﴿ :ف َما َخ ْط ُب َك َيا َس���ا ِم ِر ُّي﴾(طه ،)95:يعني :قد اس���تقر عذر أخي ونطق بما يبرئه، فم���ا خطبك أنت يا س���امري؟" )2(.ومؤدى كالم الس���خاوي أن عذرا موسى استوعب موقف هارون وتعليله ،ورضي به ً ال يلزمه تبعات السكوت عن مواجهة الشرك المتفشي. إن الموقف الهاروني يرسي مبادئ قوية ،أساسها أن دعوة الرس���ل ه���ي دعوة وح���دة بالدرجة األولى ،وبم���ا أنها كذلك، فيمك���ن الصب���ر على مظاهر الش���رك هنا وهناك ،والس���عي إلى اس���تئصالها تدريجيا ،إذ الزمان كفيل بذلك ،خاصة مع التنشئة ًّ والتوجي���ه والتربية واإلصالح وذل���ك كله رعاية لوحدة األمة. والمقص���ود بالصبر هن���ا ،المصابرة والمعالج���ة الحكيمة ،مثل معالج���ة الطبي���ب لمرض���اه ،ولي���س المقص���ود به التج���اوز أو التغاضي أو التساهل.
التوحيد والوحدة
وش���يعا، أحزابا أم���ا إذا انح���ل عقد الوحدة ،وصار آحاد األمة ً ً تميما، وأضح���ى من���اط الوالء والبراء ً بك���را أو ً زي���دا أو َع ْم ًراً ، فإن مصير األمة مهدد في استقرارها وأمنها ومعاشها وعالقتها بغيرها. وواق���ع الح���ال ش���اهد عل���ى ه���ذا ال���ذي تش���ير إلي���ه اآلية الكريم���ة من مالمح "الفقه الهاروني" ،فمع أن التوحيد س���ائد ف���ي مجتماعتن���ا العربية واإلس�ل�امية ،على األق���ل في صفوف المسلمين الموحدين من أهل سنة محمد صلى اهلل عليه وعلى آل���ه وس���لم وهديه وملته ،ف���إن الوحدة مغيب���ة ،وثقافة الوحدة مه���ددة ،وس���لوك الوح���دة ضام���ر ،ومناه���ج تحقي���ق الوح���دة مفتقدة ،وإنسان الوحدة معتقل ،وخلق الوحدة مصادر. إن الواق���ع المعاصر للمس���لمين يؤكد أن الس���ياق الحالي، من المفترض أن يكون سياق تركيز ثقافي وتربوي واجتماعي
وسياس���ي وفني على قيمة الوحدة وأهميتها وضرورتها .ومن كثي���را -على قلي�ل�ا أوأج���ل تحقي���ق ذل���ك ،البد م���ن الصبر ً ً كوارث الش���رك واالنحرافات العقدي���ة ،التي ال يقلل أحد من خطورتها وفسادها ومقت تعاليم القرآن والسنة النبوية لها. ومم���ا يعط���ي للفق���ه الهارون���ي في مس���ألة الوح���دة ُبعدها اإلس���تراتيجي ،أن حرك���ة األم���ة ف���ي خ���ط تناقضي م���ع حركة يوميا، انتشارا لثقافة الوحدة وقيمها ً تاريخ األمم ،فنحن نشهد ًّ ومصالحها بالدول الغربية ،مما أوصلهم إلى تكتالت سياسية واقتصادية وحضارية قوية ،بينما تزداد األمة العربية اإلسالمية تمز ًقا وفرقة وخال ًفا ينذر بتفريخ دويالت هنا وهناك.
ثقافة الوحدة
ب���ل إن المتأم���ل ف���ي األح���وال الداخلية ل���كل دول���ة عربية أو إس�ل�امية ،يالح���ظ أن ثقافة الوحدة تتراجع بش���كل رهيب في صفوف من يحملون مش���اريع النهضة اإلس�ل�امية ،ومن يضع ال كبي���رة في الخ���روج بأمتهم من عليه���م متن���ورو بلدانه���م آما ً ّ مهاوي التخلف واالس���تبداد والجهل .فالخطاب الس���ائد -إال م���ا ن���در -هو خط���اب الفرق���ة والخ�ل�اف وتب���ادل االتهامات، وتهمي���ش أصوات الوحدة والتآلف والتقارب ،وقلما نجد من ِيل َول َْم يت َأ ْن َت ُقولَ َف َّر ْق َت َب ْي َن َبنِي ِإ ْس َرائ َ يرفع شعار ﴿ ِإ ِّني َخشِ ُ َت ْر ُق ْب َق ْولِي﴾(طه.)94: إن الفق���ه الهاروني في مس���ألة الوحدة يه���دي إلى المبادئ اآلتية: -1الوح���دة واجب���ة ومرعي���ة ،ب���ل إنه���ا تدخ���ل ضم���ن الكلي���ات األساس���ية ف���ي الق���رآن الكريم وش���ريعته الس���محة، وذل���ك أن اس���تقراء المف���ردات القرآنية الدالة عل���ى "الوحدة" م���ن مثل "اعتصم" و"حبل اهلل" ،وم���ا يناقضها من مثل "تفرق" و"اختل���ف" و"تنازع" ،يدعم وجوب الوح���دة وتكليف الناس به���ا وحمله���م عل���ى تحقيقها والس���عي إليها عب���ر تقوية فرص الوح���دة وإضعاف ف���رص الفرق���ة ونوازعه���ا ومذاهبها .يقول ﴿و ْاع َت ِصموا ب َِحب ِل ا ِ هلل ج ِميع���ا و ال َت َفر ُقوا َو ْاذ ُك ُروا الح���ق َ : ُ ْ َ ً َ َ َّ ِ ِ ���ن ُق ُلوب ُِك ْم َف َأ ْص َب ْح ُت ْم ���م َأ ْع َد ًاء َف َأ َّل َ ف َب ْي َ ���م إ ِْذ ُك ْن ُت ْ ن ْع َم��� َة اهلل َع َل ْي ُك ْ ِب ِن ْع َم ِت��� ِه إ ِْخ َوا ًنا﴾(آل عمران ،)103:ويقول تعالى﴿ :إِن ال ِذ ين َفر ُقوا َّ َّ َ َّ ���ت ِم ْن ُه ْم ِفي َشي ٍء﴾(األنعام ،)159:ويقول ِد َين ُه ْم َو َكا ُنوا ِش َ���ي ًعا َل ْس َ ْ ���ن َب ْع ِد َما ﴿و َ ي���ن َت َف َّر ُق���وا َو ْ ال َت ُكو ُن���وا َكا َّل ِذ َ اخ َت َل ُفوا ِم ْ س���بحانهَ : ���ات﴾(آل عم���ران ،)105:ويق���ولَ ﴿ :ف َت َق َّط ُع���وا َأ ْم َر ُه ْم ���م ا ْل َب ِّي َن ُ َج َاء ُه ُ ون﴾(المؤمنون ،)53:ويحذر ���م ُز ُب ًرا ُكلُّ ِح ْز ٍب ب َِما َل َد ْيهِ ْم َف ِر ُح َ َب ْي َن ُه ْ
59
السنة الثامنة -العدد (2012 )33
التش���ريع .يقول الش���يخ محمد الغزالي: "ول���و أنن���ا تأملنا ف���ي القص���ص القرآني أحكام���ا كم���ا نس���تمد واس���تفدنا من���ه ً األح���كام م���ن آي���ة الوض���وء أو الغس���ل واس���تفادة األحكام من الواقع العمليف���ي تاريخ البش���رية أهم وأج���در ،ألنها عام���ة وألنه���ا تتصل بس���نن حضارية ال تختلف -كانت األمة اإلسالمية ال تقبل ()1 أبدا". دنية ً وإذا كان���ت األمثل���ة كثي���رة ،فيمكن االقتص���ار هنا ،على نموذج يمثل أهمية التعامل مع القص���ص القرآني باعتبارها واردة للتش���ريع ،مثله���ا ف���ي ذل���ك مث���ل آيات األحكام سواء بسواء.
الفق��ه اله��اروين ،هو ال��ذي يعطي مفهوم��ا �آخ��ر غ�ير مفهوم للأم��ة ً التكتل �أو التجمه��ر الظاهر حول �أوه��ام وطني��ة �أو ديني��ة �أو قومية، مبعن��ى �أن قيم��ة التكت��ل اجلمع��ي تكم��ن يف التنادي م��ن �أجل دعم مب��ادئ الوح��دة املتج��اوزة لكل ن��زوع �سلب��ي ،و�أن �أي مي��ل نحو التن��ازع والتداب��ر والتناح��ر� ،إمنا ه��و ��ضرب يف قيمة ذل��ك التكتل و�إ�ضعاف ملكانته.
خالص���ا في نف���وس بني يبق���ى التوحي���د ً
إس���رائيل ،وجعله مناط ال���والء والبراء،
وم���ن ث���م كان تنبيهه له���ارون على أن الواج���ب ،وف���ق ه���ذا االعتب���ار ،كان يقتض���ي من���ه أن يت���رك الس���واد الذي���ن
انخدعوا بعجل الس���امري ،وأن يفارقهم
ه���و وم���ن بق���ي فيه���م م���ن الموحدي���ن
ويلحقوا بموسى .
بينم���ا اتجه تقدير هارون وجهة
مغاي���رة ،فهو يؤمن ب���أن الوحدة -وحدة
بن���ي إس���رائيل -ال تقل خط���ورة وأهمية
ع���ن التوحي���د ،إذ كالهما معتبر وواج���ب ،ومن ثم فقد ترجح
معاناة موسى وهارون
تشع من خالل سرد قصة موسى مع قومه ،معاني الصبر على األذى وتحمل تبعات الدعوة إلى اهلل والصمود في وجه االفت���راءات ،وكلها معان تدخل في مس���مى االعتبار .لكن لم يتم االلتفات إلى مسألة في غاية األهمية ،وهي أن تلك القصة تق���دم مبادئ في التش���ريع العام لألمة ،يتمث���ل ذلك في اعتبار التوحيد والوحدة معادلة يتعين رعايتهما وصيانتهما ،ومن ثم، وجوب���ا وأهمية عن مبدأ رعاية ف���إن أم���ر رعاية الوحدة ال يقل ً التوحيد الذي قامت عليه السموات واألرض. وسى ِإ َلى يقول القرآن الكريم في هذا الس���ياقَ ﴿ :ف َر َج َع ُم َ ���ال َيا َق ْو ِم َأ َل ْم َي ِع ْد ُك ْم َر ُّب ُك ْم َو ْع ًدا َح َس ً���نا ان َأ ِس��� ًفا َق َ َق ْو ِم ِه َغ ْض َب َ ال َع َل ْي ُك ُم ا ْل َع ْه ُد َأ ْم َأ َر ْد ُت ْم َأ ْن َي ِح َّل َع َل ْي ُك ْم َغ َض ٌب ِم ْن َر ِّب ُك ْم َأ َف َط َ َف َأ ْخ َل ْف ُت���م َمو ِع ِ ���دي َ قا ُل���وا َما َأ ْخ َل ْف َن���ا َم ْو ِع َدكَ ب َِم ْل ِك َن���ا َو َل ِك َّنا ْ ْ ِ ِ اها َف َك َذ ِل َك ََ زِ الس���ا ِم ِر ُّي ى ق ل أ ن ف ذ ق ف م و ق ل ا ة ين ن م ا ار ْ ْ َ ُح ِّم ْل َن���ا َأ ْو َز ً ْ َ َ ْ ِ َ َ ْ َ َ َّ َ ���ذا ِإ َل ُه ُك ْم َو ِإ َل ُه ���دا َل ُه ُخ َو ٌار َف َقا ُلوا َه َ ���ر َج َل ُه ْم ِع ْج ً ال َج َس ً َفأ ْخ َ ال َي ْم ِل ُك وس���ى فن ِس ال َو َ ���و ً ���ر ْو َن َأ َّ ���ي َ أ َف َ ُم َ ال َي ْر ِج ُع ِإ َل ْيهِ ْم َق ْ ال َي َ ََ َ ���ن َق ْب ُل َيا َق ْو ِم ���را َو َ ال َن ْف ًع���ا َ و َل َق ْد َق َ ار ُ ون ِم ْ ���ال َل ُه ْم َه ُ ���م َض ًّ َل ُه ْ طيعوا َأم ِري ِإ َّن َم���ا ُف ِت ْن ُت ْم بِ��� ِه وإِن ربكم الر ْح َم ُن َف َّاتب ُِعو ِن���ي َو َأ ِ ُ ْ َ َّ َ َّ ُ ُ َّ َقا ُلوا َل ْن َنبر َح َع َلي ِه َع ِ ال َيا وس���ى َ ق َ اك ِف َ ين َح َّتى َي ْر ِج َع ِإ َل ْي َنا ُم َ ْ َْ ال َت َّتب َِعن َأ ِ َف َع َص ْي َت َأ ْم ِري ون َما َم َن َع َك إ ِْذ َر َأ ْي َت ُه ْم َضلُّوا َأ َّ ���ار ُ َه ُ ���يت َأ ْن ال َت ْأ ُخ ْذ ِب ِل ْح َي ِتي َو َ ال َيا ْاب َن ُأ َّم َ َ ق َ ال ب َِر ْأ ِس���ي ِإ ِّني َخ ِش ُ السنة الثامنة -العدد (2012 )33
يل َو َل ْم َت ْر ُق ْب َت ُق َ ول َف َّر ْق َت َب ْي َن َب ِني إ ِْس َرا ِئ َ َق ْو ِلي﴾(طه.)94-86: لق���د ح���رص موس���ى عل���ى أن
58
لديه أن الوضع الذي هو فيه يقتضي إيالء اعتبار للوحدة ،مع إنكار ظواهر الشرك ونقدها ،ومن ثم فلم يغادر موقفه ،وبقي
صامدا هو وجماعة الموحدين إلى أن عاد موسى صابرا ً ً من ميقات ربه .
كثيرا وهو يتعامل مع وم���ن المؤكد أن هارون عان���ى ً
ه���ذه المعادل���ة الصعبة أثناء غياب موس���ى ،طرفها األول الح���رص عل���ى التوحيد ،وطرفها الثان���ي الحرص على وحدة
بني إس���رائيل ،ومن ثم فقد كان جوابه ألخيه موس���ى يستبطن ���يت َأ ْن كل معان���ي الح���رص واليقظ���ة والحكم���ةِ ﴿ :إ ِّن���ي َخ ِش ُ ِ يل َو َل ْم َت ْر ُق ْب َق ْو ِلي﴾(طه ،)94:فعلة َت ُق َ ���را ِئ َ ول َف َّر ْق َت َب ْي َن َبني إ ِْس َ صب���ر ه���ارون وعدم تحريض���ه للموحدين على مفارقة س���واد
بني إس���رائيل الواقعين في ش���رك عبادة العجل ،راجع إلى أنه حريص على بقاء وحدة األمة.
وقعا في العديد من اإلش���كاالت، قد يب���دو هذا التحليل ُم ً
لع���ل أولها ع���دم جواز القفز عل���ى المق���ررات العقائدية لدى األم���ة م���ن وج���وب الحفاظ عل���ى التوحيد ،ورف���ض مختلف
أش���كال الش���رك ،صغيره���ا وكبيرها ،ظاهره���ا وباطنها ،بل قد "بدعيا" في معالجته ،ألنه منش���ىء لس���ياق ثقافي ونفسي يبدو ًّ
قد يوقع في التس���اهل مع أمر الش���رك وانتشاره ،وقد يهون من أمر التحذيرات القرآنية والنبوية تجاه الشرك والمشركين.
والحقيق���ة أن القضي���ة أكبر من ذل���ك ،إذ ال تعلق لها بقول
قضايا فكرية
د .محمد إقبال عروي*
نحو تأصيل
الفقه الهاروني
في قضية الوحدة غل���ب عل���ى خط���اب المفس���رين والعلم���اء قديم���ا وحدي ًث���ا -اعتب���ار القص���ص القرآن���يً واردا م���ن أج���ل العظ���ة واالعتب���ار ،وكادوا ً يحصرون���ه ف���ي هذه الغاي���ات التربوية ،بينما يه���دي التأمل في طبيع���ة القصص القرآني ،وعالقتها بس���ياقاتها القريبة والبعيدة داخل الس���ورة وداخ���ل المنظومة الفكري���ة والحضارية للقرآن الكري���م ،إل���ى أن القصص ال يقتصر في ال���ورود القرآني على غاي���ات العظة واالعتب���ار ،وإنما يرد للتش���ريع ،وتقديم أحكام تفيد في صياغة كليات القوانين والتش���ريعات التي تهدي حياة الناس والمجتمعات في عالقاتها الفردية والجماعية. ولقد س���اق هذا المنهج في التعامل م���ع القصص القرآني إل���ى ضم���ور العديد من المب���ادئ التش���ريعية .والواقع أن حل هذا اإلشكال الخطير في عالقة المسلمين بالقصص القرآني، يحت���اج من الوجهة المنهجية إلى إعادة النظر في مفاهيم؛ مثل اس���تنباط األح���كام ،وآيات األحكام ،وأس���اليب التش���ريع في القرآن الكريم. فقد توهم كثيرون بأن التش���ريع يستمد من آيات األحكام، وأن األحكام التش���ريعية البد أن ترد في صيغ األمر المعهودة وأس���اليب التوجي���ه المعروف���ة مم���ا أث���ر عل���ى حرك���ة التدوين مركزا مهتما بآي���ات األحكام التش���ريعي ،فجاء عط���اء العلماء ً ًّ على تفاصيل األوامر والنواهي ،ولم يتجاوز ذلك إلى استنباط كثي���ر من األح���كام الكلية المرتبطة بأمهات القضايا السياس���ية والدولي���ة من القص���ص القرآني .ولو فعل���وا ذلك ألبانت لهم وقفاته���م مع القص���ص القرآني عن مصادر خصبة في فلس���فة
57
السنة الثامنة -العدد (2012 )33
﴿و َأ ْن َز ْل َن���ا ا ْل َح ِد َ ِ ِ س وحي���ن يذك���ر اهلل الحدي���د يق���ولَ : يد في���ه َب ْأ ٌ َش ِ غالبا في ���د ٌ يد﴾(الحديد )25:وليس في ذلك مدح ،ألنه يوظف ً البغي والظلم واالعتداء. ﴿و َم َنا ِف ُع ِل َّلن ِ ِ هلل َم ْن َي ْن ُص ُر ُه ���م ا ُ بينم���ا عقب بقول���هَ : اس َول َي ْع َل َ َو ُر ُس��� َل ُه بِا ْل َغ ْي ِب﴾(الحدي���د ،)25:ف���كأن م���ا قبل���ه لي���س في���ه مناف���ع رِز ًقا ون ِم ْن ُه َس َ للن���اس ،كم���ا في اآلية األخ���رىَ ﴿ :ت َّت ِخ ُ ���ذ َ ���ك ًرا َو ْ َح َس ً���نا﴾(النحل ،)67:فالس���ياق يش���ي بأن الس���كر ليس من الرزق الحسن.
حت���ى س���يرة س���يدنا محم���د اختصرناها ف���ي المغازي،
ال فحسب .أو ليس سماها "المغازي" وكأنها كانت قتا ً وبعضنا ّ
محظورا عليه وعلى النبي مكث في مكة ثالث عشرة سنة ً أتباع���ه المؤمنين حت���ى الدفاع عن النف���س ،ليتجردوا من حظ نفس���يا ،وليتمكنوا من تحصيل الش���روط النفس واالنتصار لها ًّ
الموضوعية والذاتية ،وليس���تنفدوا الوس���ائل السلمية الممكنة، ث���م كان���ت حي���اة المدين���ة مليئ���ة بالمناش���ط الحيوية ف���ي البناء
والتجارة والمؤاخاة والتعليم والدعوة والمصالحات الواس���عة والعالقات اإلنس���انية مع المجاورين حت���ى اضمحلت الوثنية
دون قتال ومات النفاق؟!
حتى أول مواجهة مع الش���رك لم يكن المسلمون يحبونها ون َأ َّن قدرا ﴿و َت َو ُّد َ مقدوراَ : ً وال يتطلع���ون إليها ،ولكنها كانت ً َغير َذ ِ ون َل ُك ْم﴾(األنفال.)7: الش ْو َك ِة َت ُك ُ ات َّ َْ
أسلوبا فيا سبحان اهلل! هذا االنحياز لعسكرة الحياة ،أصبح ً
م���ا ال ي���دري س���واه ...وأصبح الم���رء ال يتنف���س إال وفق أطر
"هامش���ا" وصار االس���تحواذ هو مح���ددة ،لق���د صارت الحرية ً
"المت���ن" ،بينم���ا المنط���ق أن يك���ون المتن هو الحري���ة ،ويكون الهام���ش هو الضابط والش���رط الذي البد من���ه لتصبح الحرية قيمة اجتماعية وشرعية صحيحة.
حي���ن نفك���ر في إص�ل�اح أحوال األم���ة عبر التاري���خ ،يتبادر
إلى ذهننا القواد العس���كريون ،واالنتصارات العس���كرية وكأنها ه���ي الت���ي صنع���ت األم���ة .أم���ا الق���واد العلمي���ون والتربوي���ون
واإلصالحيون فكأنه ال وجود لهم في عقولنا وال تاريخنا حين نفك���ر بمعالج���ة اإلخفاقات ...ولذا فكل فتى من���ا مهموم بآالم األم���ة يفك���ر أن يكون "ص�ل�اح الدين" ،وال يفك���ر أن يكون هو الشافعي أو مالك أو أحمد أو ابن تيمية أو ابن حجر أو النووي
أو ابن النفيس أو ابن الهيثم أو المبدع أو العالم المتخصص... ألس���نا نفكر بطريقة انتقائية ونتعامل مع الحياة على أنها معركة
عسكرية الذي يفوز فيها يحصل على كل ما يريد؟
حي���ن نتح���دث ع���ن التأثي���رات األجنبي���ة ،نش���ير إل���ى قادة
الح���روب والمع���ارك ضدن���ا أو الحروب والمع���ارك العالمية،
وننس���ى صانعي الس���يارة وتأثيره���م الهائل في الحي���اة الفردية
والمدني���ة والعم���ارة والعالق���ات والعب���ادات ،وننس���ى صانعي الهاتف وتأثيرهم الضخم في حياة اإلنس���انية ،وننس���ى صانعي
جرا. المطبعة أو التلفاز... وهلم ًّ ّ
ه���ذا جع���ل الكثي���ر منا يتخل���ون عن أدواره���م اإلصالحية
ف���ي التفاع���ل مع أوالدن���ا وأزواجنا في األوام���ر و"الفرمانات"
سبِب في انخراط الدول اإلسالمية بانتظار مفاجأة عسكرية ،و ُت ّ
التش���ديد والتهديد ،وتالش���ت عنها عالق���ة الحميمية والعالقة
وثب���ورا .وربم���ا العقالء الذين ال يؤمنون بج���دوى المغامرات ً
الت���ي ال تقبل المراجعة ،وفي مدارس���نا التي غلب عليها طابع مس���تديما، الودي���ة بي���ن الطالب والمبن���ى الذي يش���هد عدوا ًنا ً والمعلم الذي قد يجد نفسه منسا ًقا بحكم تأثير البيئة التعليمية للغ���ة األمر الص���ارم والرقابة ويفق���ده بعض صواب���ه ،والمدير
تعين عليه في نهاية المطاف أن يكون قائد ثكنة.. الذي ّ
لمام���ا ،وحت���ى اللق���اء نتيجة واألس���رة الت���ي ال تلتق���ي إال ً
مؤقتا عن أوامر صريحة وصراخ مس���تمر م���ن األبوين للتخلي ً بعضا.. وقتا وجيزا ليرى بعضنا ً ً الالبتوب أو الشاشة ً
والسياس���ة الت���ي ظللتن���ا بال���روح األبوي���ة المهيمن���ة وكأن
اإلنس���ان غير قادر على معرفة مصالحه إال بواس���طة من يفكر وصيا عليه ،وهو يدري من أبعاد األمور وخفاياها عنه ويكون ًّ السنة الثامنة -العدد (2012 )33
56
والعربية في حقبة مضت في انقالبات عس���كرية زادتها تخل ًفا
المرتجل���ة ،قام���وا إلى العزل���ة واالنكفاء ،وتمن���وا في داخلهم "ظهور العادل المتغلب".
أما ذلك المجهود الس���هل المنس���جم م���ع فطرتي وقدرتي
والذي ال ألمس أثره المباشر اآلن ،ولكن يقال لي :إنه مجهود
مؤثر ،وإن السيل من نقطة ،ومعظم النار من مستصغر الشرر، فالكثي���رون يش���ككون ف���ي مصداقيت���ه ويحاول���ون إقناعي بأنه
يذهب أدراج الرياح.
وهكذا أصبحنا أغلبي ًة س���اكنة س���اكتة غير فاعلة وال مؤثرة
بملء إرادتنا وقناعتنا ،فهل إلى رجوع من سبيل!؟ (*) عالم ومفكر وداعية /المملكة العربية السعودية.
قضايا فكرية
د .سلمان العودة*
عسكرة الحياة كثي���را م���ن المخلصي���ن ي���دور ف���ي وج���دت ً
فأثمن سلعة وأعظم ثروة هي "سلعة المعرفة" التي يرجع إليها
والرقي يتلخص في كلمة واحدة هي "القوة"،
تراكميا في العقل والوجدان، تأثيرا ًّ إن قوة اإلعالم ُتحدث ً
رؤوس���هم وأحاديثه���م ،أن مفت���اح النهض���ة
وأن القوة تتلخص في كلمة واحدة هي "السالح المادي" ،فهو كلمة السر التي بها هزمنا وعلى وقع تحصيلها ننتصر.
وتغ ّل���ب عدون���ا علينا هو به���ذا النمط الخ���اص من القوة،
وأمجادن���ا التاريخي���ة ه���ي من هذا الب���اب ،ومس���تقبلنا مرهون
بامتالكها.
وامت���د ه���ذا إل���ى لغتن���ا المجازية فص���ارت كلم���ة "جيش"
و"س�ل�اح" و"قت���ال" تتردد على ألس���نتنا ،فأمضى "س�ل�اح" هو
الكلمة ،ونح���ن "جيش" من المنهزمين ،وقد أصبحت "أقاتل" من أجل هذا الموضوع.
أثرا ،وأنها تنخر في ونسينا أن "القوة الناعمة" أخطر وأبعد ً
عظام األجي���ال وتتخلل عقولهم وأخالقهم وس���لوكهم ببطء،
وتأثيرها أكيد وبدون مقاومة.
ونسينا "قوة المعرفة" التي أصبحت هي ميزان الثقل اليوم،
نحو %50من ثروات الدول المتقدمة.
يتح���ول إلى س���لوك ع���ن قناعة وحب ،وهو أخط���ر من الدبابة والصاروخ والقنبلة حتى لو كانت القنبلة النووية.
عس���كريا وتنتصر بقيمك وأخالق���ك وإصرارك قد تنه���زم ًّ
عس���كريا ولكنك ال تحس���ن توظيف على مبدئك ،وقد تنتصر ًّ
هذا االنتصار.
وجدت في القرآن الكريم االمتنان على الناس بتحصينهم
من آثار الس�ل�اح المدمر الذي هو "بأس" اإلنس���ان ضد أخيه: ���وس َل ُك ِ ِ ���ك ْم َف َه ْل ���ن َب ْأ ِس ُ ���اه َص ْن َع��� َة َل ُب ٍ ���م ِم ْ ﴿و َع َّل ْم َن ُ َ ���م ل ُت ْحص َن ُك ْ ْ ِ َ ون﴾(األنبياء ،)80:فهذا نب���ي اهلل داود يعلمه ربه ���م َش���اك ُر َ أ ْن ُت ْ صنعة الدروع الس���ابغات والخوذات وغيرها ،مما يتحصن به اإلنس���ان ضد الس�ل�اح الفتاكَ ﴿ :أ ِن ْاعم ْل س���اب َِغ ٍ ات َو َق ِّد ْر ِفي َ َ ﴿و َج َع َل ���ر ِد َو ْاع َم ُلوا َصا ِل ًحا﴾(س���بأ ،)11:وفي موضع آخرَ : الس ْ َّ ِ ِ ْ يك ْم َبأ َس ُك ْم﴾(النحل،)81: ِيل َتق ُ ِيل َتق ُ ���راب َ ���راب َ يك ُم ا ْل َح َّر َو َس َ َل ُك ْم َس َ
55
السنة الثامنة -العدد (2012 )33
شعر
أ.د .محمد عالم نختر*
بشرى قدوم محمد بش � � ��رى قدوم محمد لنس � � ��ائم كل النب � � ��ي أذاع � � ��ه متتابع � � ��ا فالخل � � ��ق منتظ � � ��ر ل � � ��ه متوات� � � �را ببش � � ��ارة اإلتي � � ��ان فاح � � ��ت كعبة وبها تس � � ��لى الصالحون سعادة طرب � � ��ت بإتي � � ��ان النب � � ��ي عوالم واألرض احتضنت نبيا س � � ��اجدا جب � � ��ل الصفا لمحم � � ��د كالمنبر من � � ��ذ الرس � � ��ول من � � ��ذر متوق � � ��ع هو صار منتظ� � � �راً لخطبة أحمد نش � � ��رت زه � � ��ور عطره � � ��ا بتنوع خجلت زه � � ��ور أن تزور محمداً والب � � ��در يغب � � ��ط ن � � ��وره المتنور ولمرتي � � ��ن م � � ��ؤذن يتش � � ��هد خمس من الصلوات تشهد أحمد أس � � ��مى الخواتم ش � � ��اهد لنبوة هو من له سجد الجماد جميعه ش � � ��جر أظ � � ��ل محم � � ��دا لظالله عرف البحي� � � �را أن أتاهم عاقب صلوا على خي � � ��ر الورى متعاقبا
من � � ��ذ البداي � � ��ة ص � � ��ار يعلن أدم ذكرت ل � � ��ه باالتض � � ��اح عالئم فبدت وبان � � ��ت للجميع عالئم
بطحاء مكة للس � � ��عادة باس � � ��م وتقلب � � ��ت للفاجري � � ��ن نظائ � � ��م تم � � ��ت تمام � � ��ا للنبي مراس � � ��م لم تحتضن مث � � ��ل النبي عوالم ولخطب � � ��ة أول � � ��ى له ه � � ��و قائم من للنب � � ��ي من العش � � ��يرة هائم ومن العش � � ��يرة للنبي مس � � ��اهم أي األريج يروق من هو قاس � � ��م فتمثل � � ��ت عن � � ��د النبي ش � � ��مائم م � � ��ن نوره ق � � ��د تس � � ��تنير عوالم فمحمد عند الش � � ��هادة باس � � ��م فعل � � ��ى ش � � ��هادته تغ � � ��ن عوالم في الكون تعجز في المثال خواتم س � � ��جدت له لالحت� � � �رام بهائم وأظله في الش � � ��ام ث � � ��م غمائم وله الش � � ��هادة عن � � ��ده وعالئم صل � � ��وا كما صلى اإلل � � ��ه الدائم (*) المحاضر السابق في بمبي /الهند.
السنة الثامنة -العدد (2012 )33
54
أس���ري تشيع فيه نظام ّ خلط بين دور الرجل ودور المرأة ع ِق َبه ٌ
المخ���اوف االقتصادية ،وأس���فرت دعوة المرأة إلى العمل عن وج���ود أفراد في ا ُ مس���تعدين لقطع ألس���رة الم���ودة واالنفصال ِّ َّ المادي وإن كانت المشكلة تافهة ..فمن هذه الناحية ال ينبغي أن رياح نظرية المس���اواة بي���ن الرجل والمرأة اقتلعت أن ننكر ّ كثي���را من جذور األس���ر ..ولق���د أ ّثر اإلعالم عل���ى دور المرأة ً
الوق���ت المناس���ب -ف���ي مش���كالت تق���ع ف���ي الفت���رة ا ُ ألولى، حل عل���ى أن ُتترك المش���كالت الصغيرة للزمن ..وم���ن نتائج ّ
أن تناقصت المشكالت إبان حدوثها وترك التافه منها للزمنْ ، نس���بة الطالق بعد السنوات العشر األولى إلى نصف ما كانت
عليه في الخمس األولى من الزواج.
وع ِر َضت التضحية في س���بيل األسرة على أنها التدخل الخارجي في شؤون األسرة كثيراُ ، ّ فغير فيه ً س���لوك بسيط ومستوى محدود ،وسادت فكرة خاطئة مفادها؛ المرأة األمية غير المتعلمة أحسن من المتعلمة المثقفة .ولكن
حيث تنتش���ر العادات والتقاليد ،يكثر تأثيرها في حياة األبوين
حر َج -البتة -في عيش الجد والجدة في منزل واألبناء ،فمثلاً ال َ
الحقيق���ة أننا ف���ي حاجة إلى امرأة ترى خدم���ة زوجها وأبنائها
جمة ،وبوس���عهم أن يعيش���وا األس���رة ،بل َّ إن لوجودهم فوائد َّ
احترام.
بوابة لمش���كالت المف���رط ف���ي الحالة األس���رية ،يك���ون بمثابة ّ
مقد ًس���ا ،وتحظى لدى زوجها وأبنائها بما تس���تحقه من واجبا َّ ً
التدخل مباشرة في مشاكل األسرة
حي���ث ش���اؤوا في هذا المن���زل أو في غيره ..كم���ا أن تدخلهم كبي���رة ..وكنا قد ش���بهنا األس���رة بالكائن الح���ي؛ فالمداخالت
تمر بأوقات عصيبة ،ومن المفيد في كل عائلة من الممكن أن ّ
الت���ي تحدث للكائن ،يجب أن تكون إيجابية وداعمة ،وهكذا
فأهم شيء هو وجود المعنوية بأسلوب مهذب.. عن أمراضه ّ ُّ
-ال س���يما ما يتعلَّق باألبوين -ويتج ّنبوا السلبيات ..فما يكون
باب حقوق الزوجين وواجباتهما ،أن يقوم كل منهما بالكشف
القابلي���ة للكش���ف ع���ن ه���ذه األخط���اء والتعبي���ر عنه���ا بطريقة ج���دا في إصالحه؛ مهم ًّ مهذب���ة ..فأس���لوب التعبير عن الخطأ ّ
فاس���تخدام التعبي���رات التي توحي بتجري���م المخاطَ ب واتهامه
والتهوين من أمره ،تزعجه بال شك ،فال أحد يرفض المداخلة والنية الحس���نة ..إن ح���رص األزواج على البناءة والمس���اعدة ّ مص���ادر الغ���ذاء الروحي ،يزيد طمأنينة األس���رة ويق���وي بنيتها ّ
بأطف���ال ينش���أون ف���ي ه���ذا الجو الروح���ي ،ويقي األس���رة من ّ التع ُّلق المفرط بالتلفاز والحاسب اآللي والرسائل الواردة من عوالم أخرى ..فالتع ُّلق المفرط بما س���بقُ ،يعدِ م هوية األس���رة
ويغيب الشخصية الروحية لها. َّ
أيضا، ينعك���س ح���زن اإلنس���ان المكتئ���ب عل���ى تصرفات���ه ً
ِ فالوال���د ،كان ًأب���ا أو ًّأم���ا ،إذا كان ���را أو متوتر ً غضوب���ا أو ضج ً
األعص���اب ،ف���إن تصرفاته ه���ذه تنعكس على األس���رة فتجلب
لها الحزن واألسى ،وها هنا تضطرب عالقات األسرة وتتوتر
وتخم���د طاقته���ا اإليجابي���ة ..وفي ه���ذا الموقف يس���ود القلق والتوت���ر بين أفراد األس���رة ،وما إن تمض���ي فترة حتى يتم أخذ
القرار بالطالق..
فنس���بة %40م���ن ح���االت الط�ل�اق ،تك���ون في الس���نوات
فورا -وفي الخم���س األولى ،وال يحدث الطالق عند التدخل ً
دائما األس���رةّ ، ف���إن على أفراده���ا أن ِّ يقدموا تعليق���ات إيجابية ً بي���ن الزوجي���ن من غيبة أو نميم���ة أو ش���ائعة أو بهتان ،يجلب
مس���تطيرا على األس���رة ،فمن الضروري لكل أب وأم أن ش���را ًّ ً يحبا ابنهما ويفكرا في سعادته ،وأن يحرصا عليه ّأيما حرص، ّ فيتدخ�ل�ا بطريق���ة إيجابي���ة بع���د زواج���ه إذا ما اقتض���ى األمر.. فالتدخ�ل�ات المفرطة وغير الضروري���ة ،تأتي بردود أفعال بعد فترة ما ،فيدخل الزوجان في صراع بسبب أهليهم. يتعين تطبيقهَّ ،أما خيرا أو ليصمت" هن���اّ ، إن مب���دأ "فليق���ل ً
يش���تتون األس���رة من أجل إيج���اد زوج أفضل أو زوجة الذي���ن ّ أفضل ألنفس���هم ،فإنهم يواجهون مشكالت عصيبة بعد ذلك، زوجا فاأله���ل الذين يمزقون األس���رة ليحظوا بم���ن هو أفضل ً
كان أو زوجة ،يواجهون مشكالت عصيبة فيما بعد ،وسرعان ما تتفكك األسرة بالتدخل الخارجي ،وهو من أسباب الطالق المؤسفة ،وأحيا ًنا تتفكك األسرة بالقيل والقال.
وفي النهاية ال ينبغي أن ُي َّت َخذ قرار الطالق البتة إال بعد أن
مليا فيما للطالق من عواقب ال تنتهي. ِّ يفكر الفرد ًّ
(*) جامعة إسطنبول /تركيا .الترجمة عن التركية :مصطفى عباس.
53
السنة الثامنة -العدد (2012 )33
حين���ا، وتخ���وض ف���ي ص���راع ظاه���ري ً
حينا آخر ...وق���د ينتبه األطفال وخف���ي ً
ال إل���ى الص���راع الظاهري بس���هولة ،فض ً أيضا إلى م���ا يخفى ع���ن أنه���م ينتبه���ون ً
من مش���اكل وشقاقات بين األسرة ،ومع مرور األيام تتو ّلد عند األطفال مش���اكل نفس���ية خطيرة .إن المقوم���ات الروحية
دعما لألس���رة لمواجهة المشاكل، تم ّثل ً فاألس���رة تشبه البنية السليمة ،فإذا كانت صع���ب تفككه���ا ،وكان���ت متماس���كة ُ كالبني���ان المرص���وص ال يتص���دع وال َّ
ينهار بسهولة.
وال يفك���ر إال ف���ي مصلحت���ه الخاص���ة،
مل َـا كان��ت ِخلقة الرجل تختلف عن امل��ر�أة ،اختلف��ت واجبات وحق��وق كلٍّ منهم��ا يف احلي��اة الأ�رسية ..فالزوج م�س�ؤول �أمام اهلل و�أمام نف�سه عن �صون عر�ضه و�رشف��ه .ف�إذا �أُ ّدي��ت الواجبات واحلق��وق بنية ح�سن��ة يف و�سط يعمه احل��ب واالحرتام، � ّ أ��سري ّ فل��ن ي�ستاء �أحد من �أح��د �أب ًدا.
ف���ي األس���رة ،بينما تش���كل األمراض الروحية التي يخس���ر بها ِّ
الفرد الحياة األبدية، خطرا على الش���خصية المعنوية لألسرة. ً وال شك أن أفراد األسرة الذين يقترفون المآثم كشرب الخمر ولع���ب القم���ار والزن���ا، يس���هلون انفكاك األس���رة .وق���د تزداد ّ السلوكيات الس���لبية عندما ال يراعي اإلنسان حقوق اآلخرين وينتهكه���ا ،بل إنها تنعكس مع الزم���ن على أقرب َمن يمارس ِ
ه���ذه الس���لوكيات ...وإذا بالروابط األس���رية تضعف ،وتتقطع ته���دد األس���رة اليوم هي بع���د فت���رة معين���ة .إن المخاط���ر التي ّ
حرمها ديننا .ففي المنزل الذي يش���رب فيه الخمر نفس���ها التي ّ
-على س���بيل المثال -يش���يع فيه العنف والفقر واالضطرابات
الس���لوكية ،أما من يرتكبون الزنا فإنهم في الحقيقة ال يضرون أه���م القي���م والمب���ادئ إال أنفس���هم ،ث���م يفق���دون تدريجيا... ًّ ّ
بعب���ارة آخرى إن الذين ي���رون التضحية يس���لكون طري���ق التضحية ،وأم���ا الذين
ي���رون األنانية يقولون "لماذا س���أكون أنا دائما" ومن ث���م يبتعدون عن المضح���ي ً يوما بعد يوم. السلوك اإليجابي ً
ون���ادرا م���ا تس���تمر التضحي���ة م���ن ً كبيرا صبرا ً ط���رف واحد ،ألنها تتطل���ب ً ومعان���اة ...واألناني���ة معناه���ا تجاه���ل اآلخري���ن ،حي���ث األنان���ي ال يفك���ر إال يرك���ز عل���ى كلم���ة "أن���ا" بنفس���ه ،وألن���ه ّ
دائم���ا ،ينعدم عنده مفه���وم "نحن" .كما ً
الطالق سبب لألمراض الروحية
البنية الشخصية واألخالقية هما طريق تعزيز الروابط المعنوية
أيضا... فهو يفس���د س���لوكيات اآلخرين ً
أن الحرص على السعادة الفردية ،مظهر
م���ن مظاه���ر األنانية؛ فقول "س���عادتي فقط وال س���عادة غيري" أيضا. يؤدي إلى عزلة اإلنسان ويؤدي كذلك إلى الطالق ً
عنصر المساواة في الطالق
لكل من الرجل والمراة واجبات وحقوق في النظام القانوني.. ٍّ
ولما كانت خلقة الرجل تختلف عن المرأة ،اختلفت واجبات كل منهم���ا في الحياة األس���رية ..وقد تم تحديد هذه وحق���وق ٍّ
المس���ؤوليات والواجب���ات ل���كل م���ن الرج���ل والم���رأة تج���اه ٍّ
أن أوالدهما بش���كل واضح ..ففي كتاب اهلل من س���ورة النساء ّ الش���اقة داخل الرجل هو رب المنزل وراعيه ،والقائم بالمهام ّ ّ فإن المن���زل وخارج���ه ..وع�ل�اوة عل���ى إدارة الرجل للمن���زل ّ علي���ه تقدير زوجته ورعاية حقوقها ،فالزوج مس���ؤول أمام اهلل وأمام نفس���ه عن صون عرضه وش���رفه ..فإذا ُأ ّديت الواجبات
فالخم���ر والزن���ا والقمار والكذب من األس���باب الرئيس���ية في
يعمه الحب واالحترام، والحقوق بنية حسنة في وسط ّ أسري ّ
والتضحي���ة ،ال تجتم���ع مع الخم���ر والزنا والك���ذب والقمار،
بإف���راط وبال ض���رورة ،واس���تغاللها حريته���ا االقتصادية ورق ًة رابحة تجاه زوجها ،وقولها "أنا أملك المال وال أحتاج إليك،
التناف���ر وع���دم التفاه���م داخ���ل األس���رة؛ ألن الس���عادة والثق���ة ومن ثم تتقطع الروابط األسرية.
تعتبر من األمراض األنانية والحرص على السعادة الفرديةَ ،
النفس���ية الت���ي ت���ؤدي إل���ى الط�ل�اقّ .أما ال���ذي يؤم���ن بالكيان المعن���وي لألس���رة يعكس ذلك إلى س���لوكياته .فالس���لوكيات
جو من التضحية ،تحث اآلخرين على التضحية التي تنشأ في ٍّ ّ والتأس���ي بها .أما الش���خص األناني الذي يرفض الرأي اآلخر ّ السنة الثامنة -العدد (2012 )33
52
فلن يس���تاء أح���د من أحدّ ،أما احتالل الم���رأة لموقع الصدارة
فس���أفعل ما أريد" ،وغياب االحترام واإلحس���اس بالمسؤولية
تح���ت اس���م المس���اواة ..فذلك كلّ���ه بمنزل���ة زرع ألغام تحت أسس األسرة.
والمبالغة في فكرة المس���اواة بين الجنس���ينَ ،أ ْد َخل المرأة ف���ي ص���راع مع الرج���ل ،ف ُق ِضي بذل���ك على الطمأنينة ،ونش���أ
،93.489أي إنه ينتج عن كل مائة حالة زواج خمس عش���رة
غدت األسرة مؤسسة قوية رصينة في الحياة االجتماعية .كما
شيوعا هو عدم التوافق بين الزوجين أكثر أس���باب الطالق ً
الزوجين االلتزام به والش���عور بالمس���ؤولية تجاهه ،ألن حفظ
عم���دا ،وارتكاب جريمة الزن���ا ...وقد يتغير هذا الترتيب بتغير ً
عد عندم���ا ّبين القرآن الكريم مدى الق���رب بين الزوجينّ ، لباسا لآلخر ،وهنا ينبغي لمن يقدم على الزواج أن كلاًّ منهما ً يتذكر أنه -بهذا العقد -قد خطا خطوة دنيوية وأخرى ُأخروية.
حالة طالق.
ال عن األمراض العقلية ،وضرب الزوج زوجته ثم الهجر ،فض ً األيام واألزمان.
ال ري���ب أن م���ن يتتبع���ون المل���ذات باس���تمرار ل���ن ينال���وا
أب���دا .وإذا تأملن���ا في أس���باب الط�ل�اق اليوم، الس���عادة الح ّق���ة ً
أن ال قيمة لها في حقيقة األمر ،إال أ ّنها تؤدي في كثير سنجد ْ من األحيان إلى دمار األس���رة وتش���تيت شملها .ومما ال شك فيه أن عوامل الضغوط النفس���ية والتغيرات االجتماعية لها أثر
ش���بهنا األسرة بالكائن الحي نرى تارة بالغ في الطالق ...وإذا ّ األم���راض الباطنية وتارة أخ���رى الميكروبات الخارجية تعمل
على هدم بنية هذا الكائن الحي وتدميره.
أبديا يتطلب من أن عقد الزواج في القرآن الكريم ،يعتبر ميثا ًقا ًّ
نسل بني آدم ،والتكاثر ،والعفاف يحصل نتيجة الزواج.
���را ،بل إنه أمر البد م���ن االنتباه إليه قبل وه���ذا لي���س ً لغزا ّ محي ً
أن ال���زواج ،وم���ن يمعن ح ًّق���ا في بنية األس���رة وهيكلتها ،يجد ّ ستوعب معنى اضطرارا ...فعندما ال ُي لجأ إليه إال َ الطالق ال ُي َ ً بحقُ ،يعتقد أن الطالق أبسط وأسهل مؤسس���ة األسرة ويدرك ٍّ طريقة لحل المشاكل ،بينما النظرة إلى الطالق على أنه الملجأ
حل المشاكل اليومية ،مصدرها التوهم بأن كل شيء األول في ّ حل بالطالق ...ويعتبر اللجوء إلى الطالق بسرع ٍة من سوف ُي ّ
يعتق���د الكثي���رون أن الطالق هو الس���بيل الوحيد للتخ ّلص
غالبا ما تؤدي إلى قرارات خاطئة وسلبية ،يبد أن األمور التي ً
إن خ َّلصهم من مش���كلة فإنه لم يضعوا بالحس���بان ّ أن الطالق ْ
في كل أس���رة -إحي���اء المحبة واالحت���رام المتبادل من جديد،
م���ن المش���اكل ،أو الحص���ول على الس���عادة والهن���اء .إال أنهم س���يوقعهم في مش���اكل أخ���رى متعددة ...ل���ذا ،ال يمكن النظر
إل���ى الط�ل�اق على أنه بداية مرحلة جدي���دة وجميلة ،بل يجب
حتمل أن تقع ّ المفضل في مواجهة المش���اكل األس���رية -التي ُي َ والتحم���ل على بع���ض المعان���اة ،والدعاء المتب���ادل ،والتركيز ّ
على الجوانب الروحية ...إن المسؤولية الكبرى لتكوين كيان
النظ���ر إلي���ه عل���ى أنه مرحل���ة من مراح���ل الحياة تغل���ب عليها
األس���رة المعن���وي والروحي تقع على عات���ق األبوين بالدرجة
غالبا ما تخلق نتائج سلبية، قبل الطالق وأثناء الطالق وبعدهً ، ٍ وتم���ز ٍق خطير في كيان األس���رة ،ومن ثم تفكك وت���ؤدي إل���ى ّ
وه���ذا الجان���ب المعن���وي يتألف م���ن قيم ،منه���ا التضحية
الس���لبيات وتحيطها من كل الجوانب .إن الوقائع التي تحدث
سببا في غياب الماضي المشترك والحياة المشتركة. تكون ً
وقد ّبين اهلل تعالى في س���ورة الطالق أحكام الطالق؛ منها
زمن وقوع الطالق ،ومدة العدة التي تمضيها بعد الطالق قبل
األولى ،ألن األبوين هما من يحدد أولويات األسرة.
واإليث���ار وع���دم األناني���ة ،والتقدي���ر ،والح���ب ،والتس���امح، والتضام���ن والتع���اون ،وتأس���يس الس���عادة والطأنين���ة ،والصبر ٍ فعل .فإن انعدم الكيان وعدم جرح مش���اعر اآلخرين بقول أو ٍ
المعن���وي في األس���رة احتلت العوامل المادي���ة موقع الصدارة
أن تتزوج المرأة مرة أخرى ،وغيرها كثير .فمن الواجب على
فيها ،وبالتالي فإن العوامل المادية كالمال والجمال والش���هرة
والمحافظة عليها ،وأال يلجؤوا إلى هذا المس���ار إال إذا غدت
حتما دعائم هذه األسرة وتش���تتها ...فلن تكون األسرة ّ س���تهز ً
الجانب الروحي لدى األسرة
فاألس���رة الت���ي تخل���و من المقوم���ات المعنوية ،تك���ون عرضة
المؤمني���ن أن يحرصوا أيما ح���رص على إدامة الحياة الزوجية
ال تقيم أس���ر ًة ،ألن اللهث وراء الملذات والش���هوات المؤقتة
جحيما ال يطاق. مشكالت األسرة الداخلية ً
أس���رة حقيقية إال إذا كانت العوامل الروحية سائدة في كيانها.
األسرة مؤسسة مقدسة وليست بضعة أفراد جمعتهم الصدفة،
لتعش���ش األم���راض فيها ،وقد تؤدي هذه األم���راض إلى تغيير
وبين المقومات الروحية والديناميات الحيوية لماهية األس���رة ّ
يوما بعد يوم ...واألسرة ومن ثم إلى تغيير نظرتهم إلى الحياة ً
فاإلس�ل�ام قد أعطى األس���رة من المعاني الحقيقي���ة ما أعطى، بأدق التفاصيل ...ومن األهمية التي منحها اإلس�ل�ام لألسرة،
س���لوكيات األفراد ومش���اعرهم الودية تج���اه بعضهم البعض،
التي تتغير س���لوكياتها ومشاعرها ،تتش���ابك أفرادها فيما بينهم
51
السنة الثامنة -العدد (2012 )33
تربية
د .حسن أيدنلي*
ُ يقرتف.. مفعم باإلميان قلبك ..يقطر ح ًّبا ،وينضح مود ًة ..ال الكراهي َة َيعرف ،وال البغضا َء ذن ًبا أما املفعمون بالكراهية ،النافرون من الجميع ،فأولئك مرىض قد احتوتهم الشياطني ،ومسكنًا ً وأعشاشا للتفريخ جعلتهم. اتخذتهم، (املوازين) ***
الطالق أكبر تهديد على األسرة
ال���زواج من المراحل المهمة ف���ي حياة الفرد، وب���ه ُيتاح للفرد أن يغدو ًأب���ا أو ًّأما .وقد يبدو عاديا لبعض أمرا ًّ ال���زواج أو األبوة أو األمومة ً كم���ا وكي ًفا .ففي أثناء الن���اس ،بيد أنها تتطلب مس���ؤولية كبيرة ًّ إيجابا؛ إذ تفضي س���لبا أو ه���ذه المرحلة من الحياة يتأثر الفرد ً ً مشكالت الحياة الزوجية إلى الطالق أحيا ًنا .والبد من التنويه إل���ى أن الط�ل�اق أو التف���كك األس���ري ،ي���ؤدي إل���ى تحوالت نفس���ية واجتماعية ف���ي المجتمعات .لذا يتطل���ب هذا التفكك ف���ي األس���رة ،دراس���ة عميقة وتركي���زا دقي ًقا من َقب���ل المهتمين ً
السنة الثامنة -العدد (2012 )33
50
المتخصصين.ج���اء عن النب���ي أنه قال" :أبغض الحالل إلى اهلل تعال���ى الط�ل�اق" (رواه ابن ماجة) ،وهذا يزيح الس���تار عن مدى أهمية مؤسسة الزواج. والتبدالت التي تطرأ التحوالت وتزداد نسبة الطالق بتأثير ّ ّ
عل���ى الحي���اة االجتماعية والفردي���ة مع الزمن .وكم���ا جاء في
السجالت القضائية التركية ،فإن دعاوى الطالق ازدادت بنحو ضعفي���ن ما بين عامي .1998-1986ووف ًقا لبيانات مؤسس���ة
اإلحص���اء التركي التي تم الكش���ف عنها ف���ي عام ،2006أن وصلت إلى 636.121بينما نسبة الطالق بلغت نسبة الزواج ْ
أح���وال القلوب ،وتراجعت حظوظ النفس وش���هواتها لصالح
والمؤسسات ،مما ينفع الناس ومما ال تقوم الحياة إال به ،من
الخلق.
التسخير.
نم���اء المجتم���ع والعال���م ،ث���م تحقق العم���ران الذي ه���و غاية
جـ-العم� � � �ران الحض � � ��اري :لم���ا أراد اهلل أن يس���تخلف اإلنس���ان في األرض قال للمالئكةِ ﴿ :إ ِّن���ي َج ِ اع ٌل ِفي ا َ ض أل ْر ِ الد َم َاء َو َن ْح ُن ���د ِف َيها َو َي ْس��� ِف ُك ِّ َخ ِلي َف ًة َقا ُلوا َأ َت ْج َع ُل ِف َيها َم ْن ُي ْف ِس ُ ون ُنس��� ِب ُح ب َِحم ِ ���ال ِإ ِّني َأ ْع َل ُم َم���ا َ س َل َك َق َ ال َت ْع َل ُم َ ���دكَ َو ُن َق ِّ ���د ُ ْ َ ّ َ ﴿ه َو ���م َ ���م َاء ُك َّل َها﴾(البق���رة .)31-30:ويقول اهلل ُ : آد َم األ ْس َ َو َع َّل َ َأ ْن َش��� َأ ُكم ِم َن ا َ اس َ���ت ْع َم َر ُك ْم ِف َيها﴾(هود )61:وقوله ﴿ : أل ْر ِ ض َو ْ ْ ِ ِ ِ ِ َ َ ين ِم ْن ذ ل ا ة ب ق ا ع ان ك ���ف ي ك وا ر ظ ن ي ف ض ر أل ا ���ي ف وا ���ير س ُ َّ ِ َ ُ َ َ َ َ َ ْ َ َ َْ ُ ْ أ َو َل ْم َي ُ ِ ِ اروا ا َ وها َأ ْك َث َر ِم َّما أل ْر َ ض َو َع َم ُر َ َق ْبلهِ ْم َكا ُنوا َأ َش َّد م ْن ُه ْم ُق َّو ًة َو َأ َث ُ وها َو َج َاء ْت ُهم ُر ُس ُل ُهم بِا ْلب ِي َن ِ هلل ِل َي ْظ ِل َم ُه ْم َو َل ِك ْن ان ا ُ ات َف َما َك َ َع َم ُر َ ْ ْ َّ ون﴾(الروم .)9:غاية االستخالف في األرض َكا ُنوا َأ ْن ُف َس ُه ْم َي ْظ ِل ُم َ عمارته���ا ،فالعم���ران نقي���ض الخ���راب ،له���ذا نج���د اعت���راض المالئك���ة على اس���تخالف اإلنس���ان في األرض ألنه سيفس���د فيها ويسفك الدماء .واإلنسان بطبيعته ،فيه استعداد لإلصالح واإلفس���اد ،للتعمير والتخريب ،يق���ول ابن خلدون" :االجتماع
اإلنساني هو عمران العالم ،ويعترض لطبيعة هذا العمران من األحوال مثل التوحش والتأنس والعصبيات وأصناف التغلبات للبش���ر بعضه���م عل���ى بع���ض ،وما ينش���أ عن ذلك م���ن الملك
والدول ومراتبها ،وما ينتحله البش���ر بأعمالهم ومس���اعيهم من الكس���ب والمعاش والعل���وم والصنائع ،وس���ائر ما يحدث في
ذلك العم���ران بطبيعته من األحوال" )5(.فالعمران عامة يتحقق م���ن خالل تفاعل قانون االس���تخالف وقانون التس���خير ،لكن
في المنظومة اإلسالمية يتحقق العمران من خالل تفاعل ثالثة قوانين :قانون االس���تخالف﴿ :إ ِْن َي َش ْأ ُي ْذ ِه ْب ُك ْم َو َي ْس َت ْخ ِل ْف ِم ْن ين﴾(األنعام،)133: ���اء َك َما َأ ْن َش َأ ُك ْم ِم ْن ُذرِّ َّي ِة َق ْو ٍم َ آخ ِر َ َب ْع ِد ُك ْم َما َي َش ُ ِ او ِ ات وقانون التسخيرَ ﴿ :أ َل ْم َت َر ْوا َأ َّن ا َ الس َم َ هلل َس َّخ َر َل ُك ْم َما في َّ َو َم���ا ِف���ي ا َ ���ر َنا أل ْر ِ ض﴾(لقم���ان ،)20:وقانون التيس���يرَ : ﴿و َل َق ْد َي َّس ْ لذ ْك ِر َف َه ْل ِم ْن ُم َّد ِكرٍ ﴾(القمر.)17: آن ِل ِّ ا ْل ُق ْر َ فتعمر األرض إذن ،وتنشأ الحضارة وتتشكل في المنظومة
اإلس�ل�امية ،من خ�ل�ال تنزيل قراءة الوحي والكون واإلنس���ان ف���ي واقع الناس ،فيتش���كل المجتمع/األمة على أس���اس س���نن
االجتماع اإلنس���اني ،وتنتظم عالقاته (االجتماعية-اإلنس���انية،
خالل حس���ن اس���تثمار ثروات الكون واالنتفاع بها وفق قانون وخالص���ة القول ،فبالقراءة تزكو الحي���اة ،وتنمو الكفاءات
والقدرات ،يقول جودت سعيد" :إن حل مشكالت اإلنسانية، ونف���ي تهمة المالئكة لبني آدم ،وإخراج اإلنس���ان من الفس���اد
والسفك ( )...ال يتم إال بالتسخير الحق لقدرة القراءة.
إن التس���خير الح���ق لق���درة الق���راءة ،يجعل اإلنس���ان يطير
بجن���اح الق���راءة ويتغلب على المش���كالت .ال يغرنك ش���يوع
الفس���اد والس���فك في العالم ،إن إنس���ا ًنا أدرك كي���ف بدأ خلقه
وكي���ف وصل إل���ى ما وصل إلي���ه وتجاوز ما تجاوز ،س���يعلم
بعد ،وكيف يتجاوز العقبات كيف سيصل إلى ما لم يصل إليه ُ
التي خلفها".
()6
إن األم���م الغربي���ة تقود العال���م اليوم بالق���راءة -ألن األمم
القارئة هي القائدة -وتش���د إليها أنظار كل البش���ر رغم ما ينتج ع���ن قراءته���ا من فس���اد في الب���ر والبح���ر ،ألنها ق���راءة أحادية
النظرة ،فما بالك لو كانت هناك قراءة لألمة اإلسالمية تعطيها قوة روحية وأخرى مادية ،فيظهر صالحها في البر والبحر ،أال
تتحول إليها أنظار البش���ر ينشدونها ،وتستقطب الناس من كل
حدب وصوب ،وتقود البشرية إلى شاطئ األمان؟! لكن األمة اإلس�ل�امية لم تس���خر قدرة القراءة التس���خير الح���ق ،فبدل أن
تصن���ع من قراءة القرآن حض���ارة ،صنعت من قراءتها الخاطئة طري ًقا للتواكل ،والجهل ،والفرقة ،والتنازع ،والتشاكس.
(*) باحثة في الدراسات القرآنية /المغرب.
الهوامش
( )1اإلنسان والحضارة في القرآن بين العالمية والعولمة ،للدكتور فرح موسى، ص ،97-96:الطبعة األولى 1424هـ2003/م ،دار الهادي.
( )2التحرير والتنوير ،للطاهر بن عاشور ،ج ،30:ص.280:
( )3أطلس الحضارة اإلس�ل�امية ،للدكتور إس���ماعيل راجي الفاروقي والدكتور لم���وس لمي���اء الفاروق���ي ،ترجم���ة :عبد الواح���د لؤل���ؤة ،ص ،131:ط،1: ،1998مكتبة العبيكان (الرياض) ،المعهد العالمي للفكر اإلسالمي.
( )4نفس المصدر ،ص 140-139:بتصرف.
( )5مقدم���ة اب���ن خل���دون ،لعب���د الرحم���ن ب���ن محم���د اب���ن خل���دون ،تحقي���ق الدكت���ور دروي���ش جوي���دي ،ص ،40:المكتب���ة المصري���ة صيدا-بي���روت
والسياس���ية ،واالقتصادية )...على أس���اس م���ن الوحي الرباني
وهدي منه .وتزدهر الحضارة وتنمو الصناعات وتنشأ المباني
1422هـ2001/م.
()6
اقرأ وربك األكرم ،لجودت سعيد ،ص.71:
49
السنة الثامنة -العدد (2012 )33
والحي���اة .ولكي يتحقق هذا ،وج���ب معرفة المداخل والمنافذ
فالتوحي���د رأس األم���ر كله ،وه���و "بالعبارة البس���يطة المتوارثة
معرفة معتقدات اإلنسان (تصوراته عن اهلل واإلنسان والكون)،
النف���ي ،الموجز أش���د اإليجاز ،يحمل أعظ���م المعاني وأغناها
التي منها يمكن إدخال الوحي وإنفاذه ،ويمكن أن تتمثل في:
وقرب���ه أو بع���ده من الفط���رة ،بعده أو قربه م���ن الوحي ،عاداته
وتقالي���ده وأعرافه ،تاريخه ،عالقاته ،أفكاره ...مما يس���تعان به في استمالته وإقناعه إلعادة تشكيله وصياغته بالوحي.
االعتق���اد والش���هادة أن "أن ال إل���ه إال اهلل" .وهذا القول بصيغة في اإلس�ل�ام قاطبة .وقد تتكث���ف في جملة واحدة ثقافة كاملة
أو حضارة كاملة أو تاريخ بأجمعه .وهذا بالتأكيد ما نجده في
"الكلمة" أو "الش���هادة" في اإلس�ل�ام .فكل ما في اإلس�ل�ام من
أما القس���م اآلخر فتجب قراءته ،ألن اإلنس���ان تكاملي في
تنوع وغن���ى وتاريخ وثقافة ومعرفة وحكمة وحضارة ،يجتمع
تكاملي���ة عبر األزمن���ة واألمكنة ،فإن المعرفة البش���رية تكاملية
أ-التوحي � � ��د :م���دار التوحيد على ش���هادة "ال إل���ه إال اهلل"،
ذات���ه وم���ع بني جنس���ه ،فكم���ا أن الرس���االت الس���ماوية كانت هي بدورها عبر األزمنة واألمكنة ،وليست هناك معرفة بشرية مطلق���ة يمك���ن الوق���وف عندها وع���دم تجاوزها ،بل اإلنس���ان في اكتش���اف واكتساب مس���تمر للعلوم والمعارف ،ألن العلم
في هذه الجملة البالغة القصر" :ال إله إال اهلل".
()3
وهذه الش���هادة تعن���ي اإليمان بأن اهلل ه���و الخالق الذي أعطى
كل ش���يء خلقه فس���وى ،والذي قدر فهدى ،والذي إليه يرجع الخل���ق وإليه يصير ،المنزه عن كل ما يعرض للخلق ويتصف
آد َم والمعرفة يبنيان أو ً ﴿و َع َّل َم َ ال على التعليم اإللهي لإلنسان َ ا َ ���ان َما َل ْم ﴿ع َّل َم بِا ْل َق َل ِم َ ع َّل َم ا ِ إل ْن َس َ ���م َاء ُك َّل َها﴾(البق���رةَ )31: أل ْس َ
والفق���ه م���ن النظر في آي���ات الوحي وآي���ات األنفس واآلفاق،
هذا التراث البشري المعرفي ،هي قراءة استيعاب وتجاوز في
وأح���داث ،وكل ما يجري في الميادي���ن الطبيعية واالجتماعية
هكذا هي إذن هذه المجاالت (الكون ،الوحي ،اإلنس���ان)
ه���ذا اإلدراك يغدو طبيعة ثانية لإلنس���ان ،ال تنفصل عنه طوال
جميعا يتجلى ما بينها من تناغم وتواش���ج وتواؤم النظ���ر إليه���ا ً
اإلدراك ...ويترتب عن ذلك بالضرورة القول إن التوحيد يفيد
(الع َل���ق ،)5-4:ثم على العلوم والمعارف الس���ابقة .وقراءة َي ْع َل ْم﴾ َ إطار تصديق الوحي وهيمنته.
تب���دو ألول وهل���ة أنها مس���تقلة بعضها عن البع���ض ،لكن بعد
حت���ى تتس���رب إلى ذهن الناظر قناعة بأنه���ا ال يمكن أن توجد
إال مجتمع���ة .ف�ل�ا يمك���ن تصور إنس���ان بال مجال يس���رح فيه ويوفر له حاجاته المعيشية والجمالية ،كما ال يمكن تصورهما
مع���ا (اإلنس���ان والمجال/الك���ون) ب���دون وحي يقدم لإلنس���ان ً التص���ورات ع���ن نفس���ه وحقيقتها ،وع���ن الك���ون وعالقته به، ويرشد سلوك اإلنسان ويهديه للتي هي أقوم.
به .واإليمان بهذه الشهادة عن فهم وفقه ،وإنما يتحصل الفهم وذل���ك "ي���ؤدي إل���ى إدراك أن جمي���ع م���ا يحيط بنا من أش���ياء والنفسية هو من عمل اهلل ،وتنفيذ لغاية من غاياته .وعندما يتم س���اعات يقظته ،فيعيش الم���رء كل لحظات حياته في ظل هذا
إلغ���اء أية ق���وة فاعلة ف���ي الطبيعة إلى جان���ب اهلل ،الذي تكون مبادرت���ه األزلي���ة هي القوانين الثانية ف���ي الطبيعة ...فهو يجمع
كاف���ة خي���وط الس���ببية ويعيدها إل���ى اهلل ال إلى الق���وى الخفية، وبذلك تنزع صفة القداس���ة عن مج���االت الطبيعة وترجع إلى اهلل فال قدسية لسواه ،فهو القاهر فوق عباده ومخلوقاته".
()4
بـ-التزكية :تزكو النفس البش���رية عن طريق القراءة ،وذلك
فم���ن هن���ا تب���رز وظيف���ة الق���راءة ودوره���ا ف���ي تجلي���ة هذا
بمعرفتها حقيقة الوجود فتتجه نحو ربها خالق الوجود الحق،
مش���كورا في األرض والس���ماء ،فالقراءة ينب���وع العطاء وينبوع ً
مجال حركتها وس���عيها ،وتبتعد عن الباطل والش���رك واآلثام.
الناظ���م المنهجي لهذه المجاالت حتى يكون س���عي اإلنس���ان
تنش���ده في كل وقت وحين ،وتنبذ الهوى وتبعد الش���يطان عن
كل المكاس���ب ،ومكسب القراءة المباشر هو العلم والمعرفة،
وتعرف أن الكون يس���ير عبر قوانين وس���نن ثابتة ومنضبطة ال
ويوح���د -فمعرف���ة اهلل هي رأس المع���ارف والعلوم -وبها
الخرافة والش���عوذة واألساطير الباطلة .وتعلم أن الوحي نازل
العل���م بالوح���ي وبالك���ون وباإلنس���ان ،وبهذه العل���وم يعبد اهلل تك���ون الش���هادة على الناس ،وبها يتحق���ق العمران ،وبها تزكو الحي���اة وتس���تقيم .وبه���ذا تك���ون وظيف���ة الق���راءة ه���ي تحقيق
التوحي���د والتزكي���ة والعم���ران ،وإن كان التوحي���د يغن���ي عم���ا
وراءه ألن���ه إذا تحقق التوحيد تحق���ق بالتبع العمران والتزكية، السنة الثامنة -العدد (2012 )33
48
تتخل���ف ،فتبتع���د في تفس���ير الظواه���ر الكونية واإلنس���انية عن م���ن خالق الكون واإلنس���ان فتعرف أن ال���ذي خلق أعلم بمن
خلق ،وأعلم بما يصلح وما يفسد الخلق ،ما يزكي الحياة وما يدس���يها ،فتقبل عليه طالبة الرش���د والهدى والصالح في شتى مناحي الحياة .فإذا زكت النفس والحياة البشريتان ،انصلحت
وال ف���ي الس���ماء ولو كان مثق���ال ذرة أو حبة خ���ردل .هذا الالتناهي هو الس���بب في اس���تمرار وتجدد القراءة وفي تراكم العل���م والمعرف���ة ليس���توعب الالح���ق السابق فيبني عليه أو يتجاوزه.
مجاالت القراءة
فالوحي يقدم التصور العام الش���امل
القراءة ينبوع العطاء وينبوع كل املكا�س��ب ،ومك�س��ب القراءة املبا�رش هو العلم واملعرفة ،العلم بالوحي وبالك��ون وبالإن�سان، وبهذه العلوم يعبد اهلل ويوحد، فمعرف��ة اهلل ه��ي ر�أ���س املعارف والعل��وم ،وبها تكون ال�شه��ادة عل��ى النا���س ،وبه��ا يتحق��ق العم��ران ،وبه��ا تزكو احلياة وت�ستقيم.
تتع���دد مج���االت الق���راءة بتع���دد موضوعاته���ا ،إال أن���ه يمك���ن جمع هذه الموضوع���ات في ثالثة مجاالت كبرى ه���ي :مج���ال الوح���ي ،ومج���ال الكون، ومج���ال اإلنس���ان .فهي مج���االت كلها تخ���دم ه���ذا األخي���ر مجتمع���ة ،وكله���ا تس���تقي من نبع المجال األول وتنضبط بضابطه. -1مجال الوحي :يعتبر الوحي مجال القراءة ومصدرها، ف���أول ما نزل من���ه هو األمر بالقراءة في كاف���ة المجاالت التي ذكرناها .فمجال الوحي أوس���ع المجاالت وأش���ملها باعتباره يس���توعب اإلنس���ان والك���ون ،الزم���ان والمكان ،عال���م الغيب والشهادة. فالوح���ي يق���دم التصورات ع���ن اهلل واآلخ���رة ،والمالئكة، والرس���ل والرساالت ،ويفتح عقل اإلنسان وقلبه على الوحي ف���ي مجمل���ه -من بدايت���ه إل���ى منته���اه -والعالقة بين الرس���ل والرس���االت ،وحقيق���ة الدي���ن ومنته���اه .وه���ذه التصورات ال سبيل إلى إدراكها إال عبر طريق الوحي. ويق���دم الوحي التصور عن الك���ون والخالئق المبثوثة فيه مما يدركه اإلنس���ان وما ال يدرك���ه ،وعن العالقات التي تربط هذه المخلوقات فيما بينها (كعالقة الس���ماء والجبال باألرض وغي���ر ذل���ك) وعالق���ة المخلوق���ات كله���ا باإلنس���ان ،وعالقة الكون بالوحي. التصور عن اإلنس���ان ،طبيعته وحقيقته ،نفس���ه كم���ا يق���دم َ وروح���ه ،مداخل���ه المعرفي���ة والنفس���ية ،مكام���ن الق���وة في���ه والضع���ف ،أحواله وتقلباتها ،وعالقته ب���اهلل وبوحيه ،وعالقته بأخيه اإلنسان ،وعالقته بالكون. التصور ع���ن الحياة ،وهي مس���رح تفاعل ويق���دم الوح���ي َ الوح���ي واإلنس���ان والك���ون ،ع���ن ماهيته���ا وبما تصل���ح وبما تفسد ،عن تقلباتها وابتالءاتها وغير ذلك.
عن كل م���ن الكون واإلنس���ان والحياة،
أم���ا تفاصيل األمور ودقائقه���ا ،فمتروك
لإلنس���ان اكتش���افها ومعرفتها من خالل اتصال���ه به���ذه العناص���ر وإقبال���ه عليها، وباس���تفراغ جه���ده ووس���عه وتوظي���ف حواس���ه وقدراته المعرفي���ة في اإلحاطة بها.
-2مجال الك � � ��ون :إذا كان الوحي
كالم اهلل المس���طور ،فإن الكون كالم اهلل َ ول ���را َف ِإ َّن َما َي ُق ُ المنظ���ورَ ﴿ :ف ِإ َذا َق َضى أ ْم ً ون﴾(غافر .)68:وكل مخلوقات َل ُه ُك ْن َف َي ُك ُ الك���ون تعم���ل بوحي م���ن اهلل ُ ﴿ :ث َّم ال َل َها ان َف َق َ الس َما ِء َو ِه َي ُد َخ ٌ ْ اس َت َوى ِإ َلى َّ ِ ِ َ َ ين﴾(فصلت،)11: ع ئ ا ط ���ا ن ي ت أ ا ت ل ا ق ا ه ر ك و أ َ َ َو ِل�ْل�أْ َ ْر ِ َ َ َ ََْ ض ِا ْئ ِت َيا َط ْو ًع���ا ْ ْ ً َ ���ل َأ ِن َّات ِخ ِ ���ن ا ْل ِجب ِ ���ال ُب ُيو ًت���ا ﴿و َأ ْو َح���ى َر ُّب َ الن ْح ِ ���ك ِإ َل���ى َّ ���ذي ِم َ َ َ ِ ِ لهلِ ���ج ُد َم ْن ِفي س ي ﴿و ، ���ون﴾(النحل)68: ش ر ع ي ا م م و ر ���ج الش ن َو ِم َ َّ َ ِ َ َّ َ ْ ِ ُ َ َ َْ ُ او ِ ات َوا َ ض﴾(الرعد .)15:وفي الكون تتجلى مجموعة أل ْر ِ ���م َ الس َ َّ من الحقائق التي وجه القرآن اإلنسان إلى النظر فيها لمعرفتها وإدراكه���ا ليحصل ل���ه اليقين ،ألن النظر في الك���ون يقود إلى
اإليم���ان .لك���ن هذا األخير ال يكتمل إال م���ن خالل النظر في الوحي ،ألنه هو الذي يقدم التصور الشامل لألشياء ،وقد سبق
ال عن الك���ون وعالقته أن قلن���ا ب���أن الوحي يقدم تصورا ش���ام ً ً باإلنسان التي هي عالقة تسخير ،فعليه أن يبذل جهده ويشغل
حواس���ه وقلبه في اكتش���اف س���نن التس���خير وفقهه���ا لالنتفاع بمف���ردات الك���ون ،فما من مخلوق في ه���ذا الكون إال وخلق
شيئا عب ًثا. لغاية وهدف ،ولم يخلق اهلل ً
-3مجال اإلنس � � ��ان :تنقس���م الق���راءة في مجال اإلنس���ان
مجتمعا، فردا ثم إلى قس���مين :قس���م يخص اإلنس���ان في ذاته ً ً واآلخر يخص منتوج اإلنسان المعرفي ،أي ما خلفه البشر من
مع���ارف وعلوم ،من خالل قراءتهم في مجال الوحي والكون
واإلنسان.
فالقس���م األول قراءت���ه واجبة ،ألن اإلنس���ان ه���و المكلف
باالس���تخالف ف���ي ه���ذا الك���ون ،وال يمك���ن أن تق���وم مهم���ة
االستخالف كما أرادها اهلل بمنأى ومعزل عن الوحي .ومن هنا
تأتي مهمة اإلنسان المكلف بإدخال الوحي في مجال اإلنسان
47
السنة الثامنة -العدد (2012 )33
ث���م لم���اذا انحص���رت الق���راءة فيما ه���و مس���طور (الكتاب المس���طور/الوحي) ،وغيبت قراءة المنظور (الكتاب المنظور/ الكون بكل ما بث فيه من خالئق). إن أس���ئلة مث���ل ه���ذه وغيرها ،دفع���ت بنا إلى تتب���ع مفهوم القراءة في بيئته القرآنية حتى يتسنى لنا -بإذن اهلل -بيان معانيه ودالالته وفكه من االنحسار الذي أصابه. فم���ادة "ق���رأ" في اللغ���ة تدور على أصل واح���د هو الجمع واالجتماع ،ومنه القرآن س���مي بذل���ك؛ لجمعه تراث النبوات وثمرة علوم األولين واآلخرين ،والجتماع الناس/األمة حوله. وبلحظن���ا لعملي���ة الق���راءة ،نجده���ا تتركب م���ن مجموعة عملي���ات :نظ���ر وتدبر وتفك���ر وعقل وتتب���ع ...وغير ذلك مما فع���ل عملية القراءة ويوصلها إلى الغرض المقصود الذي هو ُي ّ تحصيل العلم والمعرفة اللذين بهما تتحقق مهمة االستخالف أمرا كما والعبودي���ة ف���ي األرض .فالقراءة ف���ي القرآن ليس���ت ً اتفق ،بل هي ذات محددات وصفات ومجاالت.
محددات القراءة
واح���دا ن���راه م���ن أه���م المح���ددات مح���ددا س���نفرد بال���كالم ً ً ���م ر ِّب َك ا َّل ِ ���ذي َخ َل َق ِاس ِ َ المنهاجي���ة وآكده���ا ،ق���ال ﴿ :ا ْق َر ْأ ب ْ
���ك ا َ أل ْك َر ُم﴾(العلق)3-1:؛ َ خ َل َق ا ِ ���ن َع َلقٍ ا ْق َر ْأ َو َر ُّب َ إل ْن َس َ ���ان ِم ْ يتبي���ن م���ن خالل اآلي���ات أن القراءة يجب أن تكون باس���م اهلل ومع اس���تحضار اهلل ،فهو اس���تحضار دائم للعناية الربانية بهذا هلل َأ ْخ َر َج ُك ْم ِم ْن المخلوق الذي خلق وهو ال يعلم ﴿وا ُ ً ش���يئاَ : ُب ُط ِ ���م َع َوا َ ار ون ُأ َّم َها ِت ُك ْم َ ال َت ْع َل ُم َ أل ْب َص َ الس ْ ون َش ْ���ي ًئا َو َج َع َل َل ُك ُم َّ َوا َ ون﴾(النحل .)78:فاإلنس���ان مدين هلل في ���د َة َل َع َّل ُك ْم َت ْش ُ ���ك ُر َ أل ْف ِئ َ خلقه وعلمه ومعرفته ،وهو بذلك غير مس���تغن عن اهلل بل دائم���ا ،في حاجة إلى المدد اإلله���ي والفتح الرباني ،ومن ه���و ً ظ���ن أنه مس���تغن ع���ن اهلل في تحصيل���ه المعرفي فه���و طاغ في األرض ظالم لنفسه. فالق���راءة باس���م اهلل وم���ع اهلل تنت���ج حض���ارة رباني���ة قرآنية، حض���ار ًة قلبه���ا التوحي���د ،وطابعه���ا التزكية ،وهدفه���ا العمران والص�ل�اح في األرض .والقراءة المس���تغنية عن اهلل ،هي قراءة إلحادي���ة تكف���ر نع���م اهلل ،إال أنه���ا رغ���م ذل���ك تنت���ج حضارة، حض���ارة ظاهره���ا الرحم���ة وباطنه���ا العذاب ،ألنه���ا تفتقر إلى الرشد الرباني القرآني. فالرباني���ة ف���ي القراءة باس���م اهلل وم���ع اس���تحضار اهلل ،هي بمثابة عاصم من الوقوع في حبائل الش���يطان وسبله ومكايده، السنة الثامنة -العدد (2012 )33
46
سويا على إنها تهدي إلى الرش���د والصالح وتس���ير باإلنس���ان ًّ الصراط المستقيم.
صفات القراءة
ال -1صفة البش� � � �رية :إن هذا الوح���ي ُأنزل إلى اإلنس���ان -أو ً وأخي���را -ليهتدي به ويعمله في مجاله ،واالهتداء به ال يمكن ً أن يتحص���ل ب���دون الق���راءة والفه���م والفقه ع���ن اهلل كالمه وخطاب���ه .فاإلنس���ان ه���و المكل���ف بالق���راءة لم���ا زود ب���ه من تمكنه من ذلك. مؤهالت ّ ومن خصائص هذه القراءة البشرية النسبية ،ذلك أن قدرات وطاق���ات اإلنس���ان مح���دودة مهم���ا بلغت ،وكل م���ا ينتجه من علم ومعرفة هو محدود كذلك بالنس���بة لعلم اهلل المطلق: ِ ِ ِ يم﴾(يوس���ف )76:ليبقى اإلنس���ان ينش���د َ ﴿و َف ْ ���و َق ُك ِّل ذي ع ْل ٍم َعل ٌ الكمال ويبحث عن الحقيقة" .وليس كما يزعم دعاة الحضارة الغربية الذين يقوم فكرهم على أساس طغيان معرفة اإلنسان، وهو ما عرف بالفاوس���تيه وتعني عبقرية اإلنس���ان وقدرته على اكتش���اف المجهول مهما بلغ هذا المجهول من خفاء ،ولكون اإلنسان قد أدهش بإنجازاته الضئيلة ،فإنه غير قادر على تفهم معنى العناية اإللهية به ،رغم أنه ال يزال في حضيض المعرفة ش���يئا بإزاء فيم���ا ل���و علم أن ما تم اكتش���افه حت���ى اليوم ،ليس ً ()1 غوامض وأسرار عالم الشهادة ،فكيف بعالم الغيب؟!". ال ���ن ْق ِر ُئ َك َف َ ﴿س ُ -2صفة االس � � ��تمرار والتجدد :ق���ال َ :
هلل ِإ َّن ُه َي ْع َل ُم ا ْل َج ْه َر َو َما َي ْخ َفى﴾(األعلى.)7-6: َت ْن َسى ِ إ َّ ال َما َش َاء ا ُ يق���ول الطاهر بن عاش���ور" :والس���ين عالمة على اس���تقبال مدخولها ،وهي تفيد تأكيد حصول الفعل وخاصته إذا اقترنت بفعل حاصل في وقت التكلم فإنها تقتضي أنه يستمر ويتجدد، ال َت ْن َسى﴾ ���ن ْق ِر ُئ َك َف َ ﴿س ُ وذلك تأكيد لحصوله ،وإذا كان قولهَ : ()2 إقراء ،فالسين دالة على أن اإلقراء يستمر ويتجدد". ً إن م���ن خصائص الوح���ي أنه مكنون تتكش���ف معانيه عبر الزمن وحس���ب الطلب وحس���ن صياغة الس���ؤال ،فمعانيه غير ���ر ِم َد ًادا ���و َك َ منتهي���ة وإن كان���ت ألفاظ���ه منتهيةُ ﴿ :ق ْل َل ْ ان ا ْل َب ْح ُ ِل َك ِلم ِ ���ات َر ِّبي َو َل ْو ِج ْئ َنا ���ات َر ِّب���ي َل َن ِف َد ا ْل َب ْح ُر َق ْب َل َأ ْن َت ْن َف َد َك ِل َم ُ َ ���جرةٍ ِ ِ ِ َ َ ���و أ َّن َما في األ ْر ِ ب ِِم ْث ِل���ه َم َد ًدا﴾(الكه���فَ ،)109: ﴿و َل ْ ض م ْن َش َ َ ات ا ِ هلل َأ ْق َ �ل�ا ٌم َوا ْل َب ْح ُر َي ُم ُّد ُه ِم ْن َب ْع ِد ِه َس ْ���ب َع ُة َأ ْب ُحرٍ َما َن ِف َد ْت َك ِل َم ُ هلل َع ِز ٌ ِ يم﴾(لقم���ان .)27:وم���ن خصائ���ص الك���ون وهو إ َِّن ا َ ي���ز َحك ٌ الكت���اب المع���ادل للوح���ي ،أن حقائق���ه غير منتهي���ة -كذلك- بالنس���بة لإلنسان .أما اهلل فال يخفى عليه شيء في األرض
قضايا فكرية
نعيمة لبداوي*
َ استطعت فتح باب بال مفتاح ،ولكن كيف تستطيع غلق هذا الباب بدون مفتاح!؟ فالباب رمبا ودب من ثعابني البرش ،ولكل َمن عبث وخ َّرب، هب ّ املفتوح عىل مرصاعيه منفذ لكل َمن ّ وجاس خالل بيتكَّ ، وعطل مصابيح فكرك ،وأطفأ مشاعل ذهنك ،وآذى َمن بجوارك سكن. *** (املوازين)
من تجليات مفهوم القراءة في القرآن الكريم
لي���س م���ن ب���اب الت���رف الفك���ري البحث في
والمجتم���ع ث���م األم���ة وبعدها الحضارة اإلس�ل�امية ،واس���تمر
مفاهي���م إذا ُضبط���ت ُضب���ط الدي���ن .وبن���اء المفاهيم ض���رورة حضارية ،وفرض من فروض الكفاية الذي
ود ّعم األول ،وبهذا بلغت األمة اإلسالمية الشهود الحضاريَ ،
استمدادها من قراءة مزدوجة للكتابين؛ المسطور شهودها هذا ُ َ
إن المفاهيم القرآنية ليست ألفاظا كباقي األلفاظ البشرية، ً
ط���رف دون اآلخر تو ّقف البناء والعمران ،أو حدث االختالل
مفه���وم واحد ثقافة كامل���ة أو حضارة كاملة أو تاريخ بأجمعه،
فقراء ٌة هذا دورها وهذه فعاليتها ،ليس���ت بالمفهوم الشائع
الق���رآن .فلق���د كان أول ما نزل من الوحي ه���و األمر بالقراءة:
عب���ارة ق���راءة الق���رآن هو الجان���ب الصوتي وما ل���ه من أحكام
مفاهي���م الق���رآن الكري���م .فالوح���ي مجموعة
إذا لم يقم به أحد أثم الجميع.
إنها مس���تودعات كبرى للمعاني والدالالت ...فقد تتكثف في
ال لهذا األمر اإللهي البناء والتش���ييد الحضاريين باستمرار امتثا ً
جنب���ا إل���ى جن���ب .فكلما انحس���ر فعل الق���راءة في والمنظ���ور ً والطغيان كما هو حاصل في الحضارة المادية.
وه���ذا م���ا يتجل���ى من خ�ل�ال الحظ وتتب���ع مفهوم الق���راءة في
والمت���داول للق���راءة ،فأول م���ا يتبادر إلى األذهان عند س���ماع
وقواع���د م���ن ترقي���ق وتفخي���م وغنة وإدغ���ام وغي���ر ذلك -مع
���م ر ِّب َك ا َّل ِ ���ن َع َلقٍ ���ذي َخ َل َق َ خ َل َق ا ِ إل ْن َس َ ���ان ِم ْ ِاس ِ َ ���ر ْأ ب ْ ﴿ا ْق َ
أل ْك ِ ���ك ا َ ���ان َما ���م بِا ْل َق َل ِم َ ع َّل َم ا ِ ���ر ْأ َو َر ُّب َ إل ْن َس َ ���ر ُم ا َّلذي َع َّل َ َ ا ْق َ
���م َي ْع َل ْم﴾(العلق ،)5-1:ومن هذا األمر تش���كلت العقيدة والفكر َل ْ
أهميته -أو هو ترديد الكلمات عن طريق الشفاه دون عناء أو
تكليف إلدراك كنه تلك الكلمات.
45
السنة الثامنة -العدد (2012 )33
ال. يجد ويجتهد يجد ثمار عمله نجاحا وفرحة وأموا ً يجعل َمن ّ ً ال الخوف من األمراض التي تصيب النباتات والحيوانات، فمث ً يدع���و المزارعي���ن وأصحاب مزارع الحيوان���ات إلى االجتهاد؛ فالف�ل�اح أو المزارع الذي يعتني بمحاصيل���ه ويقاوم األمراض الت���ي تصي���ب ه���ذه المحاصيل يحص���ل على محص���ول وافر، والكسالن الذي ال يهتم ،يحصل على محصول قليل ويجد ما ال يسره .والذي ال يهتم بنظافة مزارع الحيوانات ويهتم بصحة حيواناته ،تنفق منه حيواناته ويخسر الكثير من المال ،والمجتهد الذي يعتني بصحة الحيوانات يكسب الكثير من المال. واألمراض التي تصيب األعداء الطبيعية للبشرية يستخدمها العلم���اء في المقاوم���ة البيولوجية ،مثل اس���تخدام الميكروبات الت���ي تتخص���ص ف���ي إح���داث األم���راض للحش���رات الضارة، يمكن اس���تخدامها ف���ي القضاء على هذه الحش���رات .وكذلك بعض الميكروبات التي تصيب الحشائش وال تؤثر في النباتات األخرى ،يتم استخدامه في القضاء على هذه الحشائش.
المرض دعوة إلى الحركة والنشاط
الم���رض جن���د من جند اهلل .فعندما حاص���ر "نابليون بونابرت" ع���كا ،م���ا ص���ده عنه���ا إال إصاب���ة جن���وده بم���رض الطاع���ون. واألم���راض الوبائي���ة ممكن عند انتش���ارها أن تكون أقوى من وأي جن���ود تصي���ب الماليين م���ن الضحايا ،وتبيد أي أس���لحة ّ ّ اآلالف وتقتل الماليين. كما أن المرض قد يكون دعوة إلى الحركة وعدم الكسل؛ مثل أمراض المفاصل ،والعمود الفقري ،حيث تكون الحركة والمشي من أهم وسائل العالج .ولكي يتمتع الذين يمارسون ال مكتبية بصحة جيدة ،يجب أن يمارس���وا رياضة بصفة أعم���ا ً دورية ،وأبس���ط أنواع الرياضة هو المش���ي .والكثير من برامج الع�ل�اج الطبيع���ي تعتمد عل���ى الحركة والرياض���ة ،بل الحركة وممارس���ة الرياض���ة تنش���ط ال���دورة الدموي���ة ،وتق���وي جه���از المناع���ة ،وتقي من الكثير م���ن األمراض ...ومن نعم اهلل علينا أن عباداتنا مرتبطة بالحركة ،فالصالة من أفضل وسائل عالج ّ أمراض المفاصل ،والس���عي للصالة في المس���اجد فيه رياضة المش���ي ،والحج كل شعائره فيه حركة ،ولكن األهم أن تكون عباداتنا خالصة لوجه اهلل . الم���رض ق���د يجعل الكثير م���ن األغنياء يش���عرون بالفقراء وحرمانه���م ومعاناته���م؛ فكثي���ر م���ن األمراض تجع���ل األطباء يحذرون المرضى من تناول أصناف معينة من الطعام ،ويمنع السنة الثامنة -العدد (2012 )33
44
األطب���اء المرض���ى من تن���اول ما يش���تهون من أطعمة ،خش���ية حدوث مضاعفات لهم نتيجة تناول هذه األطعمة .وقد يتذكر
األغنياء من هذه الفئة من المرضى وعدم مقدرتهم على تناول ما يش���تهون من أطعمة ،بل وش���راء حاجتهم األساس���ية نتيجة الفقر وليس المرض ،فينفقون األموال على الفقراء ويتصدقون به���ا لوج���ه اهلل لعل���ه يش���فيهم .وفي ذلك يقول رس���ول اهلل
" :داووا مرضاك���م بالصدقات" (رواه الطبراني)؛ فما تنفقونه من الصدق���ات -ابتغ���اء وج���ه اهلل -يوفى إليكم ف���ي صحتكم وفي
أش���ياء كثي���رة ،فاعتب���روا ما أنفقتم م���ن صدقات ثم���ن دواء أو عالج ،وثقوا أن اهلل يدفع به عنكم البالء.
المرض دعوة للتواضع
المرض دعوة للتواضع وعدم التكبر ،وعدم الغرور لمن يملك
وجاها ...فأقوى األقوياء إذا أصابه علما أو سلطة ً قوة بدنية أو ً
ح���ادث أو حم���ى يصبح ال حول له وال ق���وة .وأذكي األذكياء
وأعلم العلماء قد يصيبه مرض ألزهايمر فال يتذكر حتى اسمه
وال تنفعه ذاكرته وال ذكاؤه .يروى أن أحد الحكماء سأل أحد الملوك :ماذا لو ُمنع عنك الماء وكانت حياتك مرتبطة بش���ربة ماء؟ فقال الملك :أش���تريها بنصف ملك���ي .قال الحكيم :ماذا
مرضت ولم تس���تطيع أن تتبول وحبس في جس���مك البول؟ لو َ فق���ال الملك :أش���تري العالج ول���و بنصف ملك���ي! إذن بماذا نشتري صحتنا وسالمة أعضائنا كلها؟ فالصحة هي أفضل تاج
أي سلطان وجاه. على رؤوس األصحاء ،والصحة أفضل من ّ
وأوقات المرض ،من األوقات التي يستجاب فيها الدعاء،
مرضا قريبا من اهلل .لذا يجب على من يعاني ً فيكون المريض ً
أن يدع���و اهلل بالخي���ر ل���ه ولآلخري���ن ،وأن يغتن���م الفرص���ة في الدعوات الصالحات.
وأخي���را فإن اهلل خلق لكل داء دواء ،وأمرنا رس���ول اهلل ً
أن نسعى لعالج أمراضنا .قالت األعراب :يا رسول اهلل أال داء إال يضع ً نت���داوى ،ق���ال" :نعم يا عباد اهلل َ تداو ْوا فإن اهلل لم ْ
واح���دا" ،قالوا :يا رس���ول اهلل وما هو؟ داء وض���ع له ً ش���فاء إال ً ً ���ر ُم" (رواه الترمدي) .فيجب على كل إنس���ان مريض أن ق���الَ : "اله َ
يسعى للعالج ،وكان من أدعية الرسول " :اللهم إني أسألك
العافية في الدنيا واآلخرة".
(*) معهد بحوث أمراض النباتات /مصر.
رب العالمين؟ قال: رب ،كيف أعودكَ وأنت ُّ َ َت ُع ْدن���ي .قال :ي���ا ِّ مرض فلم َت ُع ْده ،ولو ُع ْد َته لوجدتني أما علمت أن عبدي فال ًنا ِ َ عنده؟" (رواه مس���لم) ،ومن الس���نة النبوي���ة أن يقول للمريض عند رب زيارت���ه" :ال بأس طهور إن ش���اء اهلل" ث���م يدعو له" :اللهم َّ الناس َأ ْذ ِه ِب البأسِ ،ا ِ ش���ف أنت الش���افي ال ش���فاء إال شفاؤك سقما" (وراه البخاري). ً شفاء ال يغادر ً وم���ن الناحية االقتصادية فإن األمراض توفر ماليين فرص العم���ل للبش���ر ف���ي العال���م ،حيث إن هن���اك العديد من البش���ر يعمل���ون على عالج األمراض في المستش���فيات والصيدليات وش���ركات األدوي���ة ،وف���ي الجامع���ات والمراك���ز البحثي���ة من العلماء والباحثين ،فنعمة اهلل على البشرية بحدوث األمراض، أنعمت على البشرية بماليين فرص العمل. ْ
المرض دافع لتقدم العلوم
نتجت عن اس���تخدام فالتش���وهات واألم���راض الوراثي���ة الت���ي ْ القناب���ل الذري���ة ف���ي الح���رب العالمي���ة الثاني���ة ف���ي مدينت���ي "هيروش���يما" و"نجازاك���ي" اليابانيتي���ن ،والت���ي ال يزال س���كان المدينتي���ن يعان���ون منه���ا حت���ى اآلن ،هي أكب���ر رادع منع دول العالم من استخدام هذه القنابل في الحروب حتى يومنا هذا. فهذه التش���وهات واألمراض الوراثية تحمي العالم من أسلحة الدمار الشامل ،وتدعو العالم للسالم والعيش في أمان. وكذل���ك الم���رض دع���وة إل���ى الع���دل ،وقد يجع���ل بعض وي ِزنونها ،كما يجعل بعض العالقات الناس يراجعون أنفسهم َ االجتماعي���ة تع���ود إل���ى مجاريه���ا؛ فزي���ارة األه���ل واألصدقاء للمرض���ى قد تعيد بعض المحبة وال���ود بين الناس ...وبالتالي فإن زيارة المريض يأخذ المسلم عليها الثواب من اهلل واألجر، ضت فلم ففي الحديث القدسي أن اهلل يقول البن آدمِ : "مر ُ
ِح ْرص اإلنس���ان عل���ى عالج األمراض ،ل���ه الفضل في التقدم العلمي؛ فاألمراض هي س���بب اكتش���اف الميكروبات ،وسبب االهتم���ام بعل���م الميكروبيولوجي (علم الكائن���ات الدقيقة)... واألم���راض داف���ع لتقدم عدد آخر من العلوم األخرى التي لها نواح صناعي���ة وإنتاجية أخرى. الفض���ل في تقدم البش���رية ف���ي ٍ خدم البشرية ليس في شفاء فالتقدم في علم الميكروبيولوجي َ األم���راض البش���رية فحس���ب ،بل ف���ي عالج أم���راض النباتات ن���واح إنتاجي���ة أخ���رى؛ حي���ث تس���تخدم والحيوان���ات ،وف���ي ٍ الميكروب���ات ف���ي إنت���اج مواد أخرى ف���ي الصناع���ة والزراعة، كذل���ك تطور الميكروس���كوبات وأجه���زة التحاليل وغير ذلك مما يس���تخدم في عالج األمراض ،يس���تخدم ف���ي فروع علمية أخرى أدت إلى التقدم والرقي للبشرية. والخوف من المرض رادع أقوى من أي قانون ،وقد يكون ربانيا للمجرمين والعاصين ،فمثال ً الخوف من األمراض ً عقابا ًّ التناسلية مثل الزهري والسيالن وكذلك مرض اإليدز ،يجعل الكثيري���ن يرتدعون ويمتنعون عن العالقات المحرمة أكثر من خوفهم من القانون .ومن ثم فقد جعل اهلل األمراض التناسلية رادع وعقاب سماوي لمن يفكر أو يفعل الفاحشة. كما أن الخوف من األمراض يدعو إلى النظافة الشخصية، مثل نظافة األس���نان خو ًفا من تسوس األسنان ،ونظافة األبدان خو ًف���ا م���ن األم���راض الجلدي���ة ،ودع���وة للنظاف���ة العام���ة مثل الحفاظ على البيئة من التلوث. والخ���وف من األمراض دعوة لالجته���اد في العمل ،حيث
43
السنة الثامنة -العدد (2012 )33
علوم
د .زياد موسى أحمد*
نعمة المرض من وجهة أخرى صيب المس���لم ِمن المرض دعوة لتغيير السلوك "ما ُي ُ يق���ول رس���ول اهلل َ : َ
ذى َن َص ٍ ���ب وال َو َص ٍب وال َه ٍّم وال ُح ْز ٍن وال َأ ً وال َغ ٍّم حتى هلل بها ش���اكها إال ك َّفر ا ُ الش���وك ِة ُي ُ ْ
من خطاياه" (رواه البخاري).
إن الم���رض دع���وة للح���ذر وتغيي���ر الس���لوك عن���د التعامل مع
ف���رارك من المج ُذوم األم���راض المعدي���ة ،يق���ول ِ " :ف َّر م���ن ْ َ األس���د" (رواه اإلم���ام أحم���د) ،والج���ذام مرض جل���دي ٍ معد يجعل
الم���رض ابتالء لكي يتفكر الجميع ويعلم فضل اهلل ونعمه
أرضا موبوءة، األطراف تتس���اقط .ومن س���نته أن ال ندخل ً
والصح���ة تتض���ح بالمرض ...وعن النب���ي أنه قالَ :من رأى
المرض المعدي ...ومن اإلسالم أن نأخذ حذرنا من األمراض
وفضلن���ي عل���ى كثي���رٍ ممن خ َلق تفضي�ل�ا إال ُعو ِف���ي من ذلك َّ َ كائنا ما كان ما عاش"( .رواه الترمذي) البال ِء ً
الحكمة الحذر من األمراض المعدية بال تهوين أو تهويل.
عليه���م بالصحة .فم���ن المعروف أن "بضدها تتميز األش���ياء"،
وم���ن يوج���د ف���ي أرض موبوءة ال يخرج منها حتى ال يتفش���ى
صاح���ب ب�ل�ا ٍء فق���ال الحم���د هلل ال���ذي عافان���ي مم���ا ابتالك به َ
آم ُنوا ُخ ُذوا ِح ْذ َر ُك ْم﴾(النس���اء ،)71:فمن ﴿يا َأ ُّي َها ا َّل ِذ َ ين َ المعديةَ :
السنة الثامنة -العدد (2012 )33
42
وكذل���ك الم���رض دع���وة إل���ى الس�ل�ام ونب���ذ الح���روب؛
أدب
إسالم العدل*
فرسان األمل يحملون رس���ال َة الس���ماء ...يمضون بالحب والجمال والنقاء ،يقصفون المدن الكئيبة حتى حقائب من نور تنتش���ل اإلنس���ان من وحدته وش���روده يوزعون تنتفض من كآبتها القديمةّ ، َ وتيه���ه األربعين���ي ،وتنقل���ه م���ن خيامه القديم���ة وأكواخه الممس���وخة ،إلى قص���ورٍ مجيدة، ٍ أبي، عفي ،ونورها من عزم عمل فتي ،وأس���وارها من تقى إيمان أعمدتها من وخدامها نقي ،وأروقتها من ٍ ّ ٍ ٍّ ٍّ ً ٍّ ٍّ سكا َنها بقدرِ اشتياقهم إن علموا أنها هنالك ،من أجلهم هم! مسجي... من لؤلؤٍ قصور تشتاق ّ ٌ ٍّ أمل ،يرفعون راية محبة وسالم ،يغزلون ثوب سكينة واطمئنان ،يعزفون على أوتار الكون إنهم فرسان ٍ ُ ٍ قهرا تحت راي���ة وجهها القبيح، أغني���ة جم���ال ِّ ته���د ُئ َ روع العال���م المرتبك في أوهام الم���ادة ...والمقولب ً مجازا في أثمالها الر َّثة ،إنهم حملة رسالة النور ومهندسو الضياء. والمتس ِّتر ً أم���ل غير منته لرؤية ثمار ذلك حياته���م كله���ا لحظ���ات مخاض؛ يتألمون وحدهم ،ويتأملهم غيرهم في ٍ مخاض عظيم ،يحمل���ون فيها كل آالم المخ���اض العظي���م واالنتف���اع الكوني به���ا ...نعم حياتهم لحظ���ات ٍ الكون ،وكل هموم أهل األرض في س���عيهم الدءوب لالرتقاء باإلنس���ان نحو الكماالت اإلنسانية ،والسمو به فوق أثمال المادية التي تجثم على صدره وتثقل كاهله وتدمع عينيه ،علهم في سعيهم الدءوب المتفرد بنقائه يصيبون ذرة من رضى اهلل عن هؤالء الذين بايعوه تحت ش���جرة من مئات الس���نين ،أو يلمحون نظرة في عيون رسول اهلل تنبئهم بشفاعة منه. فرس���ان األمل ،تنخلع قلوبهم ،وتنخس���ف حياتهم ،وينكسف كونهم إذا ما نقص نقاء أعمالهم أو انطفأ نورا من القلب يصاحب كل فعل وقول يصدر منهم، طيفه بعض الشيء ...فهم يؤمنون بأن النقاء ليس إال ً وال يعك���ر صف���وه إال كل تعك���ر يش���وب ذرة من إخالصهم أو يمس ذرة م���ن تجردهم المحمدي في رحلة سيرهم إلى اهلل تعالى في مواكب العشق والجمال. ود لألغيار في حثه���م لالنضمام لمواكب حب ،ومس���ار عش���قٍ ،وحملة ٍّ نع���م يؤمن���ون أن الدعوة رحلة ٍّ الجمال السائرة إلى اهلل ،وليست ميدان حرب أو أرض صدام ...نعم يعلمون أن التدافع بين الحق والباطل قائما ما بقي الزمان ،فالحق لن ينتصر على الباطل بروح الصدام الحربية ،ولكن بأخالق المحاربين سيظل ً قلوبا عاش���قة تبكي بكاء األم الثكلى في قتالهم الباطل خش���ية أن األبط���ال ،الذي���ن يحمل���ون في صدورهم ً نفس���ا فرت منهم إلى النار ،أو يظل في ش���قائه الدنيوي وتيهه يموت رجل على الباطل وال يهتدي ،فتكون ً األربعيني ال يهتدي فيعاتبهم اهلل يوم القيامة عليه. وعشاق حق ...أينما ح ّلوا ح َّلت البشرى ،وتألألت من إنهم حملة رسالة ،وفرسان أمل ،ورجال دعوةَّ ، حوله���م آيات الفتح وتباش���ير االنتصار ...إني أراه���م اآلن رأي العين يحملون راي ًة خ َّفاقة ،ويملؤني األمل بعضا من حب اهلل لهم ،المرس���وم في نور وجوههم وجمال أن يقبلون���ي خادم���ا ف���ي ركابهم ،ع ّلي يصيبني ً ً أعمالهم ،ونقاء ثمارهم ،فهال يقبلوني؟ هال يقبلوني؟ (*) كاتب وأديب مصري.
41
السنة الثامنة -العدد (2012 )33
بجانب القيم األخالقية.
فكل التوقعات المس���تقبلية ُت ّنب ُئ بظه���ور مجتمع األخالق
عل���ى غ���رار مجتم���ع المعرف���ة الذي ب���رز بدوره على حس���اب
مجتمع المادة.
جمي���ل تصنيف���ك ه���ذا للمجتمع���ات اإلنس���انية ،فما هو ٌ
هن���ا ارتجف صاحبي عندم���ا انتقلت بفكره من عالم الدنيا
الفان���ي ،حي���ث هدف اإلنس���ان ه���و البناء المعم���اري وامتالك األدوات واالنس���ياق وراء الش���هوات ،إل���ى عال���م الخلود ،ثم
استدرك قائال:
-م���ا اله���دف من االنتقال لعالم آخ���ر والحديث عن قصة
تصورك لمجتمع األخالق الذي تنشده؟ ُّ ُ ﴿و ُق ْل َر ِّب َأ ْد ِخ ْل ِني تعالى: بقوله تبدأ دخالته م ولى أ إن َ ُ ِ ���ل ِص ْ ٍ َ ���ن ُم ْد َخ َ اج َع ْ ���ر َج ِص ْ ���ل ِل���ي ِم ْ ���د ٍق َو ْ ���دق َوأ ْخ ِر ْجن���ي ُم ْخ َ َل ُد ْن َك ُس��� ْل َطا ًنا َن ِص ًيرا﴾(اإلس���راء)80:؛ إنه���ا قيمة الصدق كمفتاح، اس َ���ت ِق ْم َك َم���ا ُأ ِم ْر َت﴾(هود)112:؛ إنها قيمة االس���تقامة ثانيهاَ ﴿ :ف ْ هلل ِإ َل ْي َك﴾(القصص)77:؛ ���ن ا ُ ���ن َك َم���ا َأ ْح َس َ ﴿و َأ ْح ِس ْ كخ���ط ،ثالثهاَ : ���ح اص َف ِ إنه���ا قيم���ة اإلحس���ان كعط���اء ،رابعه���اَ ﴿ :ف ْ ���ح َّ الص ْف َ الصفح كجمالية ،وخامس���ها: ا ْل َج ِم َ يل﴾(الحج���ر)85:؛ إنه���ا قيمة ّ َ ين﴾(األنف���ال)46:؛ إنه���ا قيم���ة الصبر الصاب ِِر َ َو ْ ���ع َّ ِ���روا إ َِّن اهلل َم َ اصب ُ القيمي َيس���توجب وضع الفعل اإلنساني كمنحة .هذا التصور َ
وال نقص���ان .ف���إذا كانت ق���راءة الدنيا قراءتين ،فق���راءة اآلخرة
واالس���تخالف ،وه���ذا ال يتحق���ق إال من خ�ل�ال تحقيق ثالثية
اهلل ،حيث ال يزيغ العقل وال القلب أمام عظمة الخالق ،وأنت
ف���ي اإلطار االس���تراتيجي للدعوة ُبغية تكري���س وظيفة العبادة
"التمكين-التأييد-التس���ديد" لمجابه���ة تحدي���ات ه���ذا العصر: اك���م ِف���ي ْا َ ال أل ْر ِ ِش َق ِلي ً ض َو َج َع ْل َنا َل ُك ْم ِف َيه���ا َم َعاي َ ﴿و َل َق ْ َ ���د َم َّك َّن ُ ْ ِ ص ِره م ْن ي َش���اء﴾(آل َم���ا َت ْش ُ ﴿وا ُ ���ك ُر َ هلل ُي َؤ ِّي ُ ���د ب َِن ْ َ َ ُ ون﴾(األعرافَ ،)10: هلل َر َمى﴾(األنفال.)17: ﴿و َما َر َم ْي َت إ ِْذ َر َم ْي َت َو َل ِك َّن ا َ عمرانَ ،)13: هل بمقدور مجتمع األخالق إنجاز ما فشل في تحقيقهمجتمع المادة والمعرفة؟
-نحن نقول بوجوب الحفاظ على الموازين تحقي ًقا للغاية
م���ن الوج���ود -1 :ميزان النظام التش���ريعي والنظ���ام التكويني،
-2ميزان القلب والعقل -3 ،ميزان المعرفة واألخالق ...فال طغيان وال اس���تعالء لعنصر في المعادلة على حس���اب عنصر
آخ���ر .إنه���ا رحل���ة الحي���اة ،والحياة توش���ك أن تبل���غ منتهاها، رحلةمس���ارها طويل وش���اق ،يتطلب إعداد ال���زادَ ﴿ :و َت َز َّو ُدوا الت ْق َوى﴾(البقرة.)197: الزا ِد َّ َفإ َِّن َخ ْي َر َّ ﴿كلُّ َم ْن َع َلي َها َف ٍ ان﴾(الرحمن،)26: وإذا كان لكل رحلة نهاية ُ ْ فنهاي���ة ه���ذه الرحلة تب���دأ بقصة أخرى في عالم أس���مى ،خال من ظواهر الفس���اد والممارسات األرضية ،حيث يبدأ مسلسل
جدي���د في إط���ار ملحمة رهيبة ،تتش���كل عناصره���ا من عملية حس���اب وعرض كتاب وعدل ميزان ليس كموازين الدنيا ،في
دار أخرى تدعى اآلخرة.
السنة الثامنة -العدد (2012 )33
أخرى؟
-إنه���ا انتق���ال حتم���ي من عالم مش���هود إلى عال���م غيبي،
ُيس���أل فيه اإلنس���ان عن عمره فيما أفناه ،حيث صاغ قصته في
الحي���اة وح���ان األوان لعرضه���ا بكل تفاصيله���ا وفصولها أمام
ملك الناس ،بش���هادة المالئكة والناس في مشهد رهيب اسمه ���ك ���ر ْأ ِك َت َاب َك َك َفى ب َِن ْف ِس َ يوم الحس���اب ،ليقرأ كتابه بنفس���ه ﴿ا ْق َ ا ْل َي ْو َم َع َل ْي َك َح ِس ًيبا﴾(اإلسراء.)14: -مصطلح القراءة من جديد ،اقرأ؟
مت لحياتك من غير زيادة -أج���ل اق���رأ ،لكنها قراءة ما َق ّد َ
ق���راءة واحدة أمام الواحد األحد ،وه���ذا إثبات آخر لوحدانية
ف���ي ضيافته وق���د انتقلت م���ن عالم العمل بدون حس���اب إلى
عالم الحس���اب ب���دون عمل ،فإما جنة ونعي���م أو نار وجحيم.
وهكذا ُيس���دل الستار عن تجربة اإلنس���ان ورحلته في الحياة. إنه���ا روعة الخلق وحكمة الخالق أمام جهل المخلوق وعظم ال﴾(األحزاب.)72: وما َج ُهو ً األمانةِ ﴿ ،إ َّن ُه َك َ ان َظ ُل ً
ودعن���ي صاحب���ي وه���و ينزف عر ًق���ا مما س���مع ،وأنا أدعو ّ
﴿س��� ِّب ِح ل���ه بالهداية ،هداي���ة التوفيق، مس���تحضرا قوله تعالىَ : ً ���ق َفس���وى َ وا َّل ِ ِ اس���م َر ِّب َ َ ���د َر ���ذي َق َّ ���ك األ ْع َل���ى ا َّل���ذي َخ َل َ َ َّ ْ َ
َف َه َدى﴾(األعلى.)3-1: -حياك اهلل.
بعد مغادرة صديقي ،حاولت إعادة شريط الحوار بتفاصيله
ال نفسي عن س���بب التقصير في التواصل بين الناس ،إذ مس���ائ ً ش���يئا قد تغير في نفس���ية صديقي غمرني إحس���اس غريب بأن ً الذي كنت ألمس السخرية واالستعالء في أسلوبه ،حيث كان
ليودعني باس���م اهلل .فسبحان اهلل... س���ؤاله األول "من هو اهلل" ّ ﴿اد َف ْع بِا َّل ِتي ِهي َأ ْح َس ُن َف ِإ َذا ا َّل ِذي َب ْي َن َك َو َب ْي َن ُه َع َد َاو ٌة َك َأ َّن ُه َو ِل ٌّي ْ َ ِ يم﴾(فصلت.)34: َحم ٌ (*) كلية العلوم ،جامعة محمد الخامس /المغرب.
40
الم���كان ه���و المج���ال ال���ذي س���خره اهلل لإلنس���ان لكي﴿و َل ُكم ِف���ي ا َ ���اع ِإ َلى أل ْر ِ ض ُم ْس َ���ت َق ٌّر َو َم َت ٌ يحي���ا ويتح���رك في���هْ َ : ين﴾(البقرة ...)36:فقبل خلق اإلنسان أوجد اهلل المكان وأودع ِح ٍ ٍ تكويني���ا نظام���ا ﴿و ُكلُّ َش���ي ٍء ِع ْن َد ُه بميزان وبقدرٍ معل���ومَ : في���ه ً ًّ ْ ال ُت ْف ِس ُدوا ﴿و َ ب ِِم ْق َدارٍ ﴾(الرعد ،)8:ونهى عن الفساد والعبث فيهَ : ِفي ا َ ال ِح َها﴾(األعراف ...)56:هذا النظام التكويني أل ْر ِ ض َب ْع َد إ ِْص َ
ال يس���تقيم إال بإقامة نظام آخر هو النظام التش���ريعي ،إذ ُيمكن ال ُيحدد لإلنس���ان الوجهة اعتبار هذا األخير ،لوحة قيادة ،ودلي ً
الت���ي علي���ه أن يس���لكها ف���ي الحياة ،كم���ا ُيحدد له ه���ذا النظام تعامل طبيع���ة العالقة مع الخالق وباقي المخلوقات .فإذا كان ُ اإلنس���ان مع ما هو موجود ،وفق التعليمات القرآنية "الدليل"، المفضي���ان إلى الت���وازن ،وإال ظهر حص���ل التناس���ق والتناغم ُ وعم أرجاء المعمورة وما الفس���اد بما كس���بت أيدي اإلنس���ان ّ
حولها.
-ماذا تقصد بالفساد؟
العص���ر ،امت�ل�اك مهارات وتقنيات الق���راءة واإلتقان في األداء
والممارس���ة بما يحاف���ظ على الميزان الناتج ع���ن التفاعل بين النظامين المذكورين أعاله.
خاصا كتاب���ا ًّ ثاني���ا ،أم���ا بالنس���بة للق���راءة ،ف���إن لكل نظ���ام ً ً
مقروءا كتابا ومس���طورا (الق���رآن الكري���م) لمقاربة النظام ً ب���هً ، ً منش���ورا وكتابا التش���ريعي، ومنظ���ورا (الك���ون) لمقاربة النظام ً ً ً
التكوين���ي ...ول���كل كتاب ق���راءة خاصة به :التدب���ر في كتاب آن﴾(محم���د،)24: والتفكر في خلق اهلل: ّ ون ا ْل ُق ْر َ اهللَ ﴿ :أ َف َ�ل�ا َي َت َد َّب ُر َ ﴿و َي َت َف َّك���ر َ ِ او ِ ات َو ْا َ ض﴾(آل عم���ران.)191: أل ْر ِ ���م َ َ الس َ ُ ون ف���ي َخ ْلقِ َّ مع���ا ،الب���د أن تفض���ي إلى اس���تخالص ُ وممارس���ة القراءتي���ن ً العب���ر والنم���اذج من روع���ة الخلق وعظمة الخال���ق ،ولك في
الطبي ،العددي )..خير دليل مختلف أوجه اإلعجاز (العلميّ ، ���ل َت َرى ِم ْن ���ع ا ْل َب َص َر َه ْ وأحس���ن الق���راءات وأجمله���اَ ﴿ :ف ْار ِج ِ ُف ُطورٍ ﴾(الملك.)3: ثال ًثا ،إن عملية القراءة التي يقوم بها اإلنسان لها ُمخرجات،
-الفس���اد منظومة أصبح له���ا آلياتها وأدواتها ومن يخطط
تم والتي يس���تطيع من خالله���ا القيام بعملية التقيي���م (قراءة ما ّ فعله) والتخطيط (قراءة ما ينبغي فعله) بما يفضي من جهة إلى
عامةُ ،محاولة تغيير اتجاه البوصلة والعبث بمضمون الدليل.
التكوين���ي) ،ومن جهة أخرى إلى تفعي���ل الميزان الداخلي في
ويدبر شأنها ...كما أن هناك أنماطا عديدة من الفساد نذكر ً لها ّ والتل���وث البيئ���ي واإلعالمي وبصفة منه���ا؛ الفس���اد األخالقي ّ -هذا أمر طبيعي وتجل عادي للممارس���ات اإلنسانية في
الحياة قد ُيفرزهما المجتمع في حركيته ...ليبقى س���ؤالي لك عن كيفية معالجة هذه الظواهر اإلنسانية.
-م���ا تقول���ه صحي���ح ،إال أن األم���ر يرتب���ط بم���دى إدراك
يس���مى بـ"الميزان" في منظومة الحياة وممارس���ته اإلنس���ان لما ّ لعملي���ة الفهم والقراءة الصحيحة واإلحس���ان ف���ي التعامل مع كل ما هو موجو.
-هل من توضيح أكثر؟
الحفاظ على الميزان الخارجي (بين النظام التش���ريعي والنظام
الكي���ان اإلنس���اني (بي���ن القل���ب والعق���ل كمصدرين أساس���ين لتحصي���ل المعرفة الضرورية لممارس���ة الق���راءة الصحيحة في الحياة) .فس�ل�امة الوجود اإلنس���اني تبقى مرتبطة باس���تراتيجية
تأهيل وتمكين هذا اإلنسان.
أي تأهي���ل تتح���دث ،أرج���و تبس���يط األمور ً مه�ل�ا ،ع���ن ّ
والمفاهيم من فضلك.
-إن حركة اإلنسان ،تقتضي تأهيله وتمكينه من أجل بناء
التعامل مع الناس ،وتحافظ فقه ّ شخصية ُم ّتزنة ومتوازنة ُتجيد َ
ال ،فيم���ا يخ���ص المي���زان ،فإننا نعني ب���ه إقامة النظام -أو ً
أي م���كان وزمان ،وتحظ���ى بعالقة عبادة عل���ى الموازين ف���ي ّ
النظ���ام األول ق���د ُيخلُّ بالثان���ي ،وهذا يتطلب من إنس���ان هذا
ظه���ر فيه الفس���اد بش���تى تج ّليات���ه ،أن يمتلك المعرف���ة العلمية
التش���ريعي م���ن أج���ل اس���تقامة النظ���ام التكوين���ي ،ألن تعطيل
متميزة مع الخالق .وهذا يفترض في إنس���ان هذا الزمان الذي
39
السنة الثامنة -العدد (2012 )33
الفعل وممارس���ة القراءة والفهم ،وذلك بتوظي���ف العق���ل والقل���ب كمصدري���ن لتحصي���ل المعرف���ة ...فوظيف���ة العق���ل،
التميي���ز بي���ن مس���ارات الخي���ر والش���ر، والح���ق والباط���ل ،والظل���م والع���دل،
وعموم���ا بي���ن ما ه���و صال���ح وطالح... ً فاإلنس���ان مس���ؤول ع���ن توظي���ف ذكاء
عقله واستثمار قدراته الفكرية ،لتحقيق الغاي���ة م���ن وج���وده حي���ث ُمن���ح نعم���ة
اإليجاد.
هنا قاطعني صاحبي...
حك���را عل���ى إن ال���ذكاء لي���سً اإلنس���ان ،ب���ل يتع���داه ليط���ال الكائنات
�إن عملي��ة الق��راءة التي يقوم بها الإن�س��ان له��ا خُمرج��ات ،والت��ي ي�ستطي��ع من خاللها القيام بعملية التقيي��م والتخطي��ط ،مب��ا يف�ضي م��ن جهة �إىل احلف��اظ على امليزان اخلارج��ي ،وم��ن جه��ة �أخ��رى �إىل تفعي��ل املي��زان الداخل��ي يف الكيان الإن�ساين .ف�سالمة الوجود الإن�ساين تبقى مرتبطة با�سرتاتيجية ت�أهيل ومتكني هذا الإن�سان.
األخ���رى وه���ذا بش���هادة العل���م ...فم���ا
رأيك؟
ِ َ ���وى َ وا َّل ِذي األ ْع َلى ا َّلذي َخ َل َق َف َس َّ
َق َّد َر َف َه َدى﴾(األعلى.)3-1:
-إنه توظي���ف لمصطلح الهداية في
كل ش���يء ...فلم يبق لك سوى إدراجه في منظومتي الزمان والمكان.
-نحن ُنس���اق إل���ى اهلل بالزمان ،ذاك
الوعاء الذي نس���عى جاهدي���ن لملئه بما ه���و مفيد .فتل���ك صحائفن���ا نملؤها بما نش���اء .ولقد أبدع الحسن البصري حين
ق���ال" :ي���ا اب���ن آدم إنم���ا أنت أي���ام ،فإذا ذهب يومك ذهب بعضك ...ويوش���ك إذا ذهب البع���ض أن يذهب الكل ،وقد
لزاما َ علم���ت فاعم���ل" .هك���ذا أضح���ى ً الحيز أن نم�ل�أ وعاءن���ا الزمني في إط���ار ّ
المكان���ي الذي نتحرك فيه بغية الحفاظ على الميزان ،مصدا ًقا
س���ميه س���ميه ذكاء ل���دى الكائنات األخرى ُن ّ -حقيق���ة ما ُت ّ
ال َت ْط َغوا ِفي ا ْل ِم َيز ِ ِ يموا ا ْل َو ْز َن بِا ْل ِق ْس ِط لقوله تعالىَ ﴿ :أ َّ ان َو َأق ُ ْ َو َ ِ ان﴾(الرحم���ن .)9-8:ولق���د أت���ى عل���ى لس���ان ���روا ا ْل ِم َيز َ ال ُت ْخس ُ سمى بـ"ميزان اليوم"، الس���لف الصالح أن الصلوات الخمس ُت ّ والجمعة بـ"ميزان األسبوع" ،ورمضان بـ"ميزان العام" ،والحج
-وم���اذا تقول عن ظاهرة هجرة الطيور واألس���ماك بدافع
العمر فيما فاألس���بوع ،ثم العام ،لينتهي بهم األمر إلى س�ل�امة ُ
هداي���ة ...فلو كانت األس���ماك ذكية لما اس���تطاع الصياد النيل جد منه���ا بط���رق تقليدية ،والس���تدعى ذل���ك توظي���ف تقنيات ّ متط���ورة تتناس���ب وق���وة ذكائه���ا في عملي���ة الصي���د ...ونفس
السنن الطبيعية. المنطق يسري على أمثلة عديدة ومتنوعة بقوة ُّ وأمنا؟ الغريزة بح ًثا عن أماكن أكثر سخاء ً
سمى الدافعية لهذا السلوك الحيواني بـ"الغريزة"؟ -ومن ّ
حرصه���م عل���ى س�ل�امة الي���وم، بـ"مي���زان العم���ر" .حي���ث كان ُ يرضي اهلل وهذا مسك الختام.
يتحكم في وج���ودك ومظهرك فعام���ل الزم���ان ،هو ال���ذي ّ
-إنهم علماء الطبيعة الذين اس���تطاعوا اس���تقراء واستنباط
قوة ليشتعل بعد وقدراتك ...فلقد ُخلقت من ضعفـ ثم ُوهبت ّ
ج���دا ...لك���ن خال���ق الطبيع���ة وواض���ع قوانينه���ا -جي���د ًّ
في خلقه؛ حيث جعل الزمان عنصر ردع وقهر لإلنس���ان ،كي
قوانينها.
توضيحا ،فإن س���مى هذه الدافعية "هداية" .وحت���ى أكون أكثر ً ّ
سنة اهلل ش���يبا حتى ال تعلم بعد علم ً شيئا ...إنها ّ ذلك رأس���ك ً
ومنعرجات الفساد ...إنها... ال يزيغ وينحدر إلى مسلكيات ُ
ال عدي���دة ...فهن���اك هداية مصطل���ح "الهداية" يكتس���ي أش���كا ً
ال: قاطعني صاحبي سائ ً
���م َر ِّب َك والخل���ق وهذا بيت القصيد ،يقول تعالىَ : ﴿س��� ِّب ِح ْ اس َ
كثيرا في الحديث عن المكان. ً
والرس���ل ،وهداي���ة التأمل واالعتب���ار ،وهداية التوفيق الكتاب ّ السنة الثامنة -العدد (2012 )33
38
-لقد أسهبت في الكالم عن الزمان ،أرجوك ال تسترسل
قصة
د .الحسين زايد* د .عبد الكبير بالوشو*
عل���ى هام���ش إح���دى االس���تحقاقات الفكرية الت���ي يزخ���ر به���ا الفض���اء الجامع���ي ،دار بيني وبين أحد الباحثين حوار سأحاول سرده كأنه حكاي���ة ُت���روى من واق���ع هذا الزم���ان ،حيث بادرن���ي صاحبي بالسؤال: كيف حالك؟ الحمد هلل. ومن هو اهلل؟مخاطبا ف���كان جواب���ي م���ا جاء عل���ى لس���ان موس���ى ً فرعون: هو ﴿ا َّل ِذي َأ ْع َطى ُك َّل َشي ٍء َخ ْل َق ُه ُث َّم َه َدى﴾(طه.)50:ْ بـ﴿ك َّل َشي ٍء﴾ كل ما هو موجود؟ هل تقصد ُْ بالتأكي���د ...كل المخلوقات من صنع اهلل الذي أتقن كلشيء. -دعن���ا م���ع اإلنس���ان مح���ور كل المنظومات واألنس���اق،
أنماطا والذي استطاع أن ُيخضع كل ما حوله إلرادته ،وصاغ ً ف���ي الحياة إلى درجة مكنته من استنس���اخ الخاليا واألعضاء، أهو في اعتقادك خالق أم مخلوق؟ إنه مخلوق بالتأكيد ،وفي خلقه عبرة واعتبار. إذا س ّلمنا بما تقول ،فما الغاية من خلقه؟ إن اهلل تعالى أنعم على اإلنس���ان بنعمتين ،نعمة اإليجادإل ْنس ِ حيث أوجده من عدمَ َ : الد ْه ِر ين ِم َن َّ ان ِح ٌ ﴿ه ْل أ َتى َع َلى ا ِ َ أمده ورا﴾(اإلنس���ان ،)1:ونعمة اإلم���داد حيث ّ ���م َي ُك ْن َش ْ���ي ًئا َم ْذ ُك ً َل ْ بالق���درة واإلرادة عل���ى تحقي���ق األهداف المنش���ودة من وراء وجوده ،وذلك في دائرة ما ُيرضي اهلل لتبقى الغاية السامية من خلقه هي تحقيق العبادة بمفهومها الش���امل ،تلك العبادة التي ُتفضي إلى الشعور بالسعادة. تجاوزاُ ،يمكن أن أفهم نعمة اإليجاد ،فما عالقتها بنعمة ً اإلمداد وبسؤال القدرات واإلرادات؟ أمد اهلل به اإلنسان هو اإلرادة والقدرة على -إن أجمل ما ّ
37
السنة الثامنة -العدد (2012 )33
ال، نوع .فف���ي األجنحة الدقيقة والطويلة يك���ون االحتكاك قلي ً
جيدة للش���م ،فالخفافي���ش ذات األنف الورقي التي تس���توطن
ال -يلزمها أم���ا الخفافيش التي تس���توطن مناطق الغاب���ات -مث ً
رائحته .والخفافيش ذات األذن الواسعة والفم الكبير ،تستطيع
يمكن الخفاش من الحركة الفعالة والمناورة السريعة. هذا ما ّ ق���درة عالية للمن���اورة؛ حيث تكثر عوائق الطيران من تش���ابك
أمريك���ة الجنوبي���ة ،تس���تطيع تمييز الفلفل األس���ود الناضج من
تميي���ز صيدها بي���ن القمامات ،من رائحت���ه .وخفاش "Soprano
األغص���ان وكث���رة األوراق ،ولذلك تك���ون أجنحتها منخفضة
شمه الخارقة ،أفراد عائلته بين األنواع "Pipistrellesيميز بحاسة ّ
ب���أوراق الش���جر وااللتفاف الس���ريع عل���ى الفريس���ة ،أكثر من
الموجودة في رقبتها وأعضاء تناسلها وأجنحتها رائحة تميزهم.
التحم���ل .كما أنها تحت���اج إلى المناورة وتحاش���ي االصطدام ّ
حاجته���ا إل���ى الس���رعة الزائ���دة .أما الت���ي تعيش ف���ي المناطق المكش���وفة الفس���يحة فتحتاج إلى المناورة الس���ريعة والتحرك
األخ���رى .وعندما يحين موعد التكاثر ،يفرز الذكور من الغدد تجعل حاس���ة الس���مع لدينا خارقة للعادة ،فبع���ض أنواعنا ُ
فض�ل�ا ع���ن منظوم���ة راداره���ا ،إلى درج���ة أنها ج���زءا الس���مع ً ً
النش���يط قبل كل ش���يء ،لذلك تكون أجنحتها عالية التحمل. ّ
تس���تطيع تميي���ز ص���وت حش���رة تتح���رك عل���ى ورق الش���جر.
أكب���ر األجنح���ة ال بي���ن أنواعنا ...وهن���اك نوع من حجما وطو ً ً
الضعيف���ة بين الحش���ائش ( 20 – 10كيلوهرت���ز) بفضل أنظمة
وم���ن هذا المنطل���ق كانت أجنح���ة الخفافي���ش المهاجرة ،من
الخفافيش يعيش في البرازيل يستطيع الطيران لمسافة تتجاوز
1000كم.
وبه���ذه األجنحة التي تمكننا من الطيران ،نش���كل األمواج
الصوتية التي تنس���جم مع س���رعة الطيران وتتناغم مع الحركة ٍ بأط���وال معين��� ٍة نس���تطيع م���ن خالله���ا تحديد مواق���ع الفرائس والمس���افات التي تفصلنا عنها ،ونعيد حساباتها في كل لحظة
ال في صيد لنكون على علم بها في كل آن .ربما كان األمر سه ً ضفدع���ة أو فأرة س���اكنة أو جارية عل���ى األرض ،لكن يحتاج
ذلك إلى حس���ابات س���ريعة ودقيقة ومتواصلة دائم ًا في تقدير تغير المس���افة وتقييمها لالنقضاض على الفراشة -مث ً ال -التي ّ
والتمكن منها. مكانها باستمرار، ّ
فاألن���واع الت���ي تعيش في الغابات؛ تس���تطيع تميي���ز األصوات بعد أبعادها الحقيقي���ة بين الثدييات، الس���مع التي لم ُت َ كتش���ف ُ
وه���ذه األنواع تعتمد على حاس���ة الس���مع دون تفعيل رادارها
في تعيين أهدافها.
وبالتال���ي يوجد بي���ن األمهات وصغارها لغ���ة خاصة بهما
تختلف عن اللغة التي نستخدمها مع الخفافيش األخرى ،وعن
طريق هذه اللغة واألصوات تميز األمهات صغارها عن األخرى. أكتف���ي به���ذا الق���در في الحدي���ث عن نفس���ي ،وأظنكم قد
شريرا عدوانيا مصدر شؤم وال حيوا ًنا عرفتم اآلن بأني لس���ت َ ًّ ً جيدا أنكم لن تغيروا نظرتكم وآراءكم السيئة لكم .وأنا أعرف ً رمزا للشر ،وبلغت تجاهي بسهولة ،كيف وقد أصبحت فيكم ً
تمل���ك الخفافي���ش الكبي���رة رؤية ثاقبة ف���ي العتمة والضوء
مضرب األمثال للس���وء في أدبياتكم ...ل���ذا أكتفي بهذا القدر
ل���رادارات ال تملكها .وعلى الرغم من أن الخفافيش الصغيرة
ال أن تنشأ فيكم أجيال يحسنون قراءة أعبأ بما تقولونه عني ،آم ً
منظوم���ة رادارية بالغة الحساس���ية والدقة تس���تطيع من خاللها
ويدركون الحكمة من وجودي في هذا الكون الشاسع.
الخاف���ت ،وتص���ل إل���ى طعامه���ا به���ذه الرؤي���ة دون الحاج���ة
عن الحديث عني ،وأستودعكم اهلل في محبة واحترام دون أن
تماما ،لكنها ال ترى بش���كل جيد ،وتحتاج إلى ليس���ت عمي���اء ً
كت���اب الكون المنظور ،ويش���اهدون الكائن���ات بعين البصيرة،
تحدي���د موقع حش���رة على مس���افة خمس���ة أمتار ،وف���أرة على
أيضا حاسة تشوش أو ارتياب .ونملك ً مترا بال ُّ مسافة عشرين ً السنة الثامنة -العدد (2012 )33
36
(*) جامعة 9أيلول /تركيا .الترجمة عن التركية :مصطفى حمزة.
( )2عن���د الس���بات في الش���تاء .نجتمع في الكه���وف في أعداد كبي���رة -تبل���غ الماليي���ن -عن���د الدخول في الس���بات الش���توي حت���ى نتقي من برد الش���تاء ،ونن���ام في مجموع���ات كبيرة تبلغ عش���رين مليو ًن���ا .تنخف���ض ضرب���ات قلوبن���ا أثناء الس���بات من 400إل���ى ( )25-11ضرب���ة ،ونقتات أثناء نومنا على أنس���جة الده���ون المكتنزة تحت جلودنا .ننقس���م نح���ن الخفافيش إلى نش���كل ُر ُبع الثديي���ات أنواع كثيرة ،إذ تقريبا .نحب العيش في ّ ً األماكن الهادئة الساكنة المظلمة ،كأسقف المنازل المهجورة، والمغارات المظلمة ،وتجاويف األش���جار العمالقة ،ومخازن المعام���ل ومس���تودعاتها ...ونمض���ي معظ���م حياتن���ا فيه���ا في صمت وس���كون .ينش���ط معظمنا في اللي���ل ،لذلك تم تصميم س���لوكنا بما يتناس���ب م���ع الظالم .يختب���ئ صغارنا ف���ي النهار لحماي���ة نفس���ها م���ن األع���داء ،أما الكب���ار فلصيانة نفس���ها من ح���ر النهار .ثم إن الفئران والضف���ادع والزواحف المختبئة في فيتيسر بذلك نهارا تخرج في الليل، طعامنا ،ويتحقق ُ جحورها ً َّ للطبيع���ة توازنه���ا .ول���وال خروجنا ف���ي اللي���ل واصطيادنا هذه ���د العالم توازنه نتيجة الحيوان���ات ،المت�ل�أت األرض بهاَ ،و َف َق َ تكاثره���ا المف���رط .وإذا اس���تثنينا قم���م الجبال العالي���ة والجزر فإن أعشاشنا تنتشر في كل بقاع َ النائية في أعماق المحيطاتَّ ، تمكننا من األرض بم���ا في ذلك القطب الش���مالي .أما س���بب ّ هذا االنتش���ار هو قدرتنا على الطيران واعتمادنا على األمواج الصوتية والذبذبات. تنقس���م أنواعنا إلى مجموعتين أساس���يتين .أما المجموعة األولى فه���ي الخفافيش الكبي���رة ()Megachiroptera؛ وألن هذه الخفافي���ش تقت���ات عل���ى الفاكهة في أغلب األحي���ان ،فإنها ال تمل���ك ق���درة على تحديد الجه���ة والمكان بالذبذب���ة الصوتية، إنم���ا تقض���ي حاجاته���ا بأعينه���ا ،ما عدا ن���وع خف���اش الفاكهة المص���ري ( )Rousettusالذي يس���تخدم ذبذباته الصوتية وراداره في تعيين الجهة والمكان. وأم���ا المجموع���ة األخ���رى فه���ي الخفافي���ش الصغي���رة ()Microchiroptera؛ إنه���ا تقت���ات عل���ى الحش���رات واألس���ماك والضف���ادع والفئران وغيرها م���ن الحيوانات الصغيرة ،وتملك ق���درة عجيبة على إص���دار األمواج الصوتية واس���تخدامها في تحديد األماكن واألجسام كالرادارات.
خبراء الرادار
إن اس���تخدام األمواج الصوتية في تحديد األماكن والمسافات
ع���ن طري���ق الص���دى (اإليك���و) ،م���ن أب���رز مي���زات الخفافيش الصغي���رة .وأول رادار أنجزتموه في عام 1930بعد جهودكم ج���دا أمام الرادار الجهي���دة وأبحاثكم المتواصلة ،يظل بس���يطً ا ًّ ال���ذي وهبه لن���ا خالقنا العظي���م ،ألن الرادار ال���ذي صنعتموه، حساس���ا ،ويقتصر على تمييز األجس���ام المقتربة ثابت ،وليس ً جدا ،ويستطيع منه فقط ...بينما الرادار الذي أملكه أنا حساس ًّ ٌ الوق���وف عل���ى كل حرك ِة فراش��� ٍة تطير .وبالتالي ف���إن راداري يحت���اج إل���ى طاق���ة كبي���رة ،لذل���ك ال أس���تخدمه وق���ت الراحة ُ ضرب ِة وعنايت���ي بالصغ���ار .ثم إني أصدر أثناء الطي���ران مع كل ْ جناح موج ًة صوتي ًة طويلة منخفضة التردد ال تسمعها آذانكم. ٍ نص���در الص���وت م���ن حناجرن���ا ( ،)Larynxوهن���اك نوع من نحت موهبة اإلحساس بالذبذبات التي تتراوح ما الفراشات ُم ْ بين ( )60-20كيلوهرتز ،وعندما تحس هذه المخلوقات بهذه منا ،األمر الذبذبات تس���ارع في الهرب ّ وتتمك���ن من اإلفالت ّ الذي يدفعنا إلى اس���تخدام طيف واس���ع من األمواج الصوتية لألغراض المختلفة .فنقوم بمسح األهداف بحزمة الموجات الضيقة بذبذبات ثابتة ،ونصدر الموجات بتردد يتراوح من 20 إلى 100كيلوهرتز خالل 2,5ميلي ثانية لتحديد أماكنها ،كما تقوم آذاننا الكبيرة الواسعة بمهمة اللواقط الهوائية. إن خالقن���ا ال���ذي يتجلى بعلم���ه المحيط وقدرت���ه المطلقة ف���ي كل الكائنات ،جع���ل بين أنماط حياتنا وأش���كال أجنحتنا وبي���ن القدرات الدينامي���ة للهواء ،تواز ًنا يمكن التعبير عنه بلغة معقد بديع .فهن���اك ارتباط رائع مثير تناس���ب الرياضي���ات بأنه ٌ ٌ تحمل و َت ناس���ب بي���ن وزن الجس���م ورقعة امت���داد الجن���اح أو ُّ ٌ الجناح وبين ذبذبات الصوت التي يصدرها الرادار ،وما ندعوه بـ"تحمل الجناح" ،له ارتباط وثيق بالمواطن التي تناس���ب كل ُّ
35
السنة الثامنة -العدد (2012 )33
وإن ل���م تحل���ق في اله���واء كالطي���ور -بواس���طة الزعانف أوْ جلد الصدر أو الوترة من البش���رة التي تش���كل ما يشبه المظلة والتي تساعد على المروق عبر الهواء من العالي إلى األسفل؛
كاألس���ماك الطائ���رة ،والضف���ادع الطائرة ،والس���نجاب الطائر.
ولكنن���ا نح���ن الخفافي���ش ننف���رد بي���ن الفقري���ات بقدرتنا على الطي���ران الناش���ط أو طيران الرفرفة ،إذْ ُخلِقن���ا على هيأ ٍة تالئم طاقة الهواء الرافعة وخصائصه الفيزيائية؛ فلدينا أغش���ية رقيقة من الجلد تغطي عظام ساعِ دِ نا وأصابعنا الطويلة األمامية تمتد نح���و ال���وراء لتحي���ط الطرفين الخلفيي���ن ،وقد قمت���م في فيلم
"الرج���ل الخفاش" بتمثيل هذا الغش���اء ال���ذي نطير به ،بالعباءة
يخلقنا ربنا عب ًثا ولم يتركنا سدى ،إنما هدانا إلى ذلك بحكمة
منفرد يدعم حاف َة الغش���اء الس���وداء ،ثم يوجد في عقبي َعظْ ٌم ٌ
أعداء لنبي البشر؟! تعييرنا ونبذنا بين المخلوقات وإلى اعتبارنا ً
وس���اعد َّي ورجل ََّي للطيران .لق���د خلق العليم الخبير أصابعي َ
وإن كنت���م تجهلون ذل���ك ،فه���ذا ال يدعو إلى من���ه وفض���لْ ... الجم لصغارها األمهات بين الحيوانات ،بحبها تتميز إناثنا ُ ّ
المرتخي���ة ،وه���ذا يمكّ نني م���ن المناورة الس���ريعة عند تحريك ؛ للطيور أرياش���ها ،وللحشرات أجنحتها من مادة الكيتين،
تمام���ا مثلما تحب���ون أنتم صغاركم وش���فقتها الش���ديدة عليهاً ،
جميع���ا ...ولو أراد وخل���ق لن���ا هذه العب���اءة من الجلد لنطي���ر ً لأَ ب���دع مخلوق���ات تطير بآليات مختلفة متنوع���ة ال تخطر ببال
نتركه���ا للب���ؤس والش���قاء .ولعل ه���ذا أكبر دليل على ش���فقتنا
ونصطاد فريستنا ونحن على هذه السرعة.
وتش���فقون عليه���م .كم���ا أننا نتع���اون على العناي���ة بالخفافيش
الصغ���ار الت���ي تموت أمهاته���ا فنقوم برعايتها م���ع صغارنا وال ورحمتن���ا تج���اه صغارن���ا نحن الخفافي���ش ،التي تم ّثل الش���ؤم
والبؤس في نظركم ،بينما أنتم البشر ،ق ّلما تعبأون بأوالد غيركم وترعونهم إذا ما فقدوا أمهاتهم أو آباءهم ،ليس هذا فحسب، ب���ل ويتخلى بعضكم ع���ن ولده ويلقيه على أبواب المس���اجد منا أي الفريقين ّ دون رحم���ة من���ه وال ش���فقة .أخبرون���ي اآلنّ ،
قبح���ا وأكثر بش���اعة ،نح���ن الخفافي���ش أم أنتم البش���ر؟! أش���د ً
عالم مقلوب ٌ
إنن���ا نح���ن الخفافيش ،الحيوان���ات الوحيدات الت���ي تتعلق من
قدميها مقلوبة برأس���ها لتس���تريح أو لتنام .ولكن ننصحكم أال
قت دماؤك���م على دماغكم ،وأصبتم بخلل تقلّدونن���ا ،وإال تد ّف ْ ف���ي توازنكم ،بينما نحن نمضي حياتنا كلها ناظرين إلى الدنيا
بالمقلوب .وعندما نقف وقفتنا الطبيعية العكسيةُ ،تقفل األوتار أوتوماتيكيا ،األمر الذي المتصلة بمخالبنا الشبيهة بالخطافات ًّ يمكّ ننا من عدم السقوط على األرض ،ال سيما أثناء النوم.
الثدييات الطائرة
م���ا إن نذك���ر الطي���ران حت���ى يتب���ادر إل���ى أذهانن���ا الطي���ور ث���م الحش���رات الطائ���رة المجنحة .وبالتالي فهن���اك حيوانات تطير السنة الثامنة -العدد (2012 )33
34
إنس وال جان ...وعليه فإننا نطير بس���رعة 50كم في الس���اعة، ذك���رت لكم س���اب ًقا أننا ننقس���م عل���ى العديد م���ن األنواع. ُ
فو ْز ُن أصغرنا يتراوح ما بين ( )9-1غم ،وامتداد أجنحته يبلغ َ
16س���م .كم���ا يبل���غ وزن أكبرنا 1300غم ،وامت���داد أجنحته
يبلغ 170سم.
تمت برمجته بش���كل دقيق حسب أما عملية التكاثر لديناّ ،
المواس���م وظروف التغذي ،حيث نعيش أربعة مواسم للتكاثر
ف���ي العام الواحد .وعلى الرغم من أن عقولنا قاصر ٌة عن هذه
الحس���ابات الدقيقة ،فإن النطف تتجمع عند ذكورنا مدة سبعة
موس���م الش���تاء، ش���هور ،ويتزامن التصاق الجنين في األرحام َ ويتباطؤ نمو الجنين لتتأخر والدته حتى الخروج من الس���بات
موس���م يالئم النمو والتطور. الش���توي ،ثم تتحقق الوالدة في ٍ واحدا ف���ي البط���ن الواحد ،ومن مول���ودا معظ���م إناثن���ا تنجب ً ً
توأما أو توائم (أربعة) في البطن الواحد .تنفرد الن���ادر إنجابها ً
األمه���ات فين���ا برعاي���ة الصغار ،وال يس���اعدها الذك���ور إال في بعض أنواعنا النادرة.
يظ���ن الكثي���رون بأنن���ا من الحيوان���ات ذات الدم���اء الحارة
باعتبارن���ا من الثدييات ،لكننا لس���نا كذلك ،حيث تصل حرارة أجسامنا إلى 41درجة خالل الطيران ،وتنخفض إلى درجتين
علوم
أ.د .عرفان يلماز*
يحبن���ي وال يريد حتى لع���ل البعض منك���م ال ّ
يوم���ا أنها هاجمت البش���ر .وبالتالي أن���واع ،ولم ُيس���مع عنها ً
دائما حس���ب رغباتكم ومطالبكم أنتم البشر؟ ً
غرام���ا ،كم���ا أنه���ا ال تمت���ص دماء الحيوان���ات إلى درجة ً )50
رؤيت���ي ...وم���اذا أفعل؟ وهل ستس���ير األمور
حي���ا بين األحياء .م���ا دام قد فمالكُ ن���ا ً جميع���ا هو َم���ن خلقني ًّ معين���ة ،فليس لكم إال أن خلقن���ي ووظفني بي���ن خلقه بأعمال َّ
فإنها حيوانات صغيرة يبلغ حجمها ( )9-8سم ،ووزنها (-40
كبيرا على القت���ل ...والحقيق���ة أن فقدان الدم ال يش���كل خطرا ً ً الحيوان���ات الملدوغ���ة ،إنما الخطر يكمن ف���ي األمراض التي تنتق���ل عب���ر دماء ه���ذه المخلوقات الصغيرة وعلى رأس���ها داء
كثير أبرئ نفس���ي عن ٍ إلي وتس���تمعوا .لعلّي -بذلكّ - تنصت���وا ّ من الش���ائعات التي تدور حول���ي ،وأصحح بالتالي العديد من
جميعا بس���بب هذه األنواع الثالثة الكل���ب .فمن الظلم اتهامنا ً
أن ه���ذا األمر لن يكون س���هالً ،ألن معظمكم يخاف م ّنا نحن
أسرد كل الفوائد التي أكون سببها في هذه الكائنات.
األوه���ام الخاطئ���ة عن معش���ري وبنات جنس���ي .ولكني أعلم
الخفافي���ش ،وال يريد حتى االس���تماع إلينا ،وربما الس���بب في
ذل���ك أنك���م ذكر ُتمونا في أدبياتك���م بأمثلة س���يئة فقلتم" :ينظر
كالخفافي���ش"" ،يتخ ّف���ى في الظالم كالخفافي���ش"" ،الخفافيش مصاصو الدماء" ...وغيرها من األمثلة واألقوال.
فق���ط الت���ي تعي���ش على مص الدم���اء .ولن يكف���ي الوقت ألن فكما أن النحل وبعض الحشرات تقوم بتنفيذ أعمال مهمة
ف���ي تلقي���ح النباتات ،فكذل���ك تقوم بعض أنواعن���ا بعملية نقل
التقوت. اللق���اح من زهرة ألخرى بين األش���جار المثمرة أثناء ّ ه���ذا وق���د يق���وم المزارع���ون وأصح���اب األراضي الش���جرية
وف���ي قص���ص األطف���ال أو أف�ل�ام الكرت���ون ،تجعلون من
تماما المثم���رة به���ذه العملية من أج���ل التلقيح بين األش���جارً ،
رتكب فيها كل أعمال الشر والفساد ...وعلى الرغم من براءتنا ُت َ
والحي���ات ،لتمن���ع تكاثره���ا المف���رط ،وم���ن ث���م لتحافظ على ّ
رم���زا لمن يح���ب العيش في الظ�ل�ام واألماكن التي الخف���اش ً
كما نفعل نحن .وبعض أنواعنا تقتات على الفئران والضفادع
تعرفوننا إلى أوالدكم بهذه الصورة ،وهذا من كل ذلك ،فإنكم ّ
نسهل التوازن البيئي .نأكل ً أعدادا هائل ًة من الحشرات ،فبذلك ّ
العدي���دة الت���ي تتج���اوز األلف ،ف���إن األنواع الت���ي تعيش على م���ص دم���ا ِء الحيوانات (مص���اص الدماء) ال تش���كل إال ثالثة ّ
إنف���اق ماليين الدوالرات عل���ى المبيدات الس���امة التي تؤدي
أبدا .وعلى الرغ���م من أنواعنا يحزنن���ا كثي���را وال يمك���ن قبوله ً ً
عليكم مكافحة جميع أنواع الحشرات ،وبالتالي نخ ّلصكم من
حتم���ا إل���ى التلوث البيئي واس���تنزاف طبق���ة األوزون .إذن لم ً
33
السنة الثامنة -العدد (2012 )33
إنه���م يتناقل���ون المقول���ة الخاطئ���ة بعضه���م ع���ن بع���ض،
اجت���رارا دون أن يكلفوا أنفس���هم عن���اء قراءة هذا ويجترونه���ا ً الذي تفيض به مكتبة األدب اإلس�ل�امي المعاصر في أجناس���ه
كافة ،والذي ينطوي بالتأكيد -وأسوة بغيره من اآلداب -على المباش���ر والواضح ،ولكنه يتضمن -في الوقت نفس���ه -الكثير الكثي���ر م���ن األعم���ال الت���ي اس���تكملت ش���روطها الفني���ة بكل المعايير النقدية.
س :عندم � � ��ا نقول في ظل التصور اإلس� �ل ��امي لألدب" ،هذا يجرنا هذا إلى تكفير األديب المسلم أديب غير إس� �ل ��امي" ،أال ّ الذي ال يدخل في دائرة هذا التصور؟ ج :ثمة فارق كبير بين عبارة "أديب غير إسالمي" و"أديب
غير مسلم".
ل���م يق���ل أح���د بالثاني���ة ،أما األول���ى فتعني أن���ه يصدر في
وإبداع���ا عن منطلقات ونقدا تنظيرا ودراس���ة معطيات���ه األدبية ً ً ً
مسلما على األقل بالمفهوم غير إسالمية ،ولكنه يظل مع ذلك ً الجغرافي.
س :يثير بعض معارضي مصطلح "األدب اإلس� �ل ��امي" شبهة البدع � � ��ة في هذا المصطلح ،فيقول � � ��ون إنه بدعة معاصرة لم يقل بها أحد من س � � ��لف هذه األمة ،فهل نحن أحرص على اإلسالم من أولئك؟ ج :لس���نا ف���ي حلبة مصارع���ة ،لكي يك���ون أحدنا أحرص وآباء وأبناء ،هم تالمذة المدرس���ة أج���دادا م���ن اآلخر ،فالكل ً ً
اإلس�ل�امية الت���ي خرجت كع���ب بن زهير ،وحس���ان بن ثابت، وجالل الدين الرومي ،وحافظ ،وسعدي ،وعلي أحمد باكثير،
والرافع���ي ،والكيالني ،واألميري ...التواصل قائم ،فما دامت
إسالميا ،وتبشر بخالص إسالمي، هما الكلمة المبدعة تحمل ًّ ًّ تراثيا، فإنها تندرج في سياق األدب اإلسالمي معاصرا كان أم ًّ ً
عالجت هذه المس���ألة فلي���س ثم���ة انقطاع بين األجي���ال .ولقد ُ
بتفصيل واستفاضة في بحث يحمل عنوان "األدب اإلسالمي وإش���كالية العمق التراثي" ،نش���ر قبل س���نوات في مجلة رابطة
األدب اإلسالمي العالمية.
إذا كانت خدمة هذا الدين بقوة الكلمة "بدعة" ،فهي -إذن-
البدعة الحسنة التي نرجو أن يكون لنا أجرها عند اهلل سبحانه: ال َك ِل َم ًة َط ِّي َب ًة َك َش َ���ج َر ٍة َط ِّي َب ٍة َأ ْص ُل َها هلل َم َث ً ف َض َر َب ا ُ ﴿ َأ َل ْم َت َر َك ْي َ ِ ي���ن ِبإ ِْذ ِن َر ِّب َها ���ما ِء ُ ت ْؤ ِتي ُأ ُك َل َها ُك َّل ِح ٍ َثاب ٌ الس َ ِ���ت َو َف ْر ُع َه���ا في َّ السنة الثامنة -العدد (2012 )33
32
هلل ا َ ون﴾(إبراهيم.)25-24: أل ْم َث َ ال ِل َّلن ِ َو َي ْض ِر ُب ا ُ اس َل َع َّل ُه ْم َي َت َذ َّك ُر َ
فإذا أردنا أن يكون لهذه "الكلمة" قدرتها على التأثير ،فإن
علينا أن نس���تدعي كل الخب���رات التنظيرية والنقدية واإلبداعية
في س���احات العالم المعاصرة ،لك���ي ننتقي منها ما يمنح أدبنا سويته المطلوبة وينقله إلى مستوى العالمية.
إن العزل���ة عم���ا يطلع ف���ي الغرب عمل انتح���اري ،كما أن
تقبله على عواهنه انتحار هو اآلخر ...والبد أن نكون حذرين ّ
من االثنين.
س :يدعى أن النظام العالم � � ��ي الجديد ينادي بثقافة عالمية جميعا موح � � ��دة ،ال فواصل بين العقول واألف � � ��كار فيها ،فالناس ً ينتمون إلى ثقافة واحدة تقوم على فكرة اإلنسانية التي ال تعرف الحدود ...ماذا نقول في ذلك؟ ���اء َر ُّب َك َل َج َع َل ﴿و َل ْو َش َ ج :ال أق���ول إال ما قاله كتاب اهللَ :
الن���اس ُأ َّم��� ًة َو ِ ال َم ْن َر ِح َم َر ُّب َك اح َد ًة َو َ ي���ن ِ إ َّ ال َي َزا ُل َ ون ُم ْخ َت ِل ِف َ َّ َ ���ك َخ َل َق ُه ْم﴾(ه���ود ،)119-118:أي خلقه���م للتغاير والتدافع َو ِل َذ ِل َ ال َد ْف ُع ا ِ ض َل َف َس َ���د ِت ﴿و َل ْو َ اس َب ْع َض ُه ْم ب َِب ْع ٍ هلل َّ واالخت�ل�افَ : الن َ ا َ ض﴾(البقرة.)251: أل ْر ُ
يوما الوص���ول إلى حال���ة "الثقافة لق���د حاول���ت الش���يوعية ً
الواح���دة" وإلغ���اء التغاي���ر واإلجهاز عل���ى خصوصيات األمم والش���عوب ،فأخفق���ت وخرج���ت م���ن التاريخ .وف���ي الطرف
اآلخ���ر -الط���رف الغرب���ي الرأس���مالي -ح���اول الفيلس���وف األمريكي "فرنس���يس فوكوياما" في "نهاي���ة التاريخ" ،أن يلعب
عراب الثقافة الليبرالية الموحدة التي الدور نفس���ه وأن يصبح ّ تمض���ي لك���ي تغطي العالم كل���ه ،ولكنه ما لب���ث أن رجع عن
فكرته بعد س���نوات فحس���ب من إصداره كتاب���ه المذكور ،عاد لكي يؤكد مبدأ التغاير ويعترف بالخصوصيات.
ولك���ن ه���ذا كله ال يمنع من حوار اإلنس���ان مع اإلنس���ان،
ومن لقاء اإلنسان باإلنسان على مدى العالم كله ،ومن إيجاد
جزر مشتركة لتعايش مشترك ...ولو رجعنا إلى تاريخنا وألقينا
تنفيذا عليه نظرة طائر ،فإننا سنرى مدهشا لفكرة أخوة اإلنسان ً ً لإلنس���ان هذه ...وما أحرى األدب اإلس�ل�امي بنزعته العالمية
الهم الكبير... الموازي���ة لتش���بثه بخصوصياته ،أن تعكس ه���ذا ّ جل في عاله. هذا اللقاء المشترك تحت سماء اهلل الكبيرة ّ
(*) كلية اآلداب ،جامعة الموصل /العراق. (**) أجرى الحوار الدكتور محمد إسماعيل المشهداني.
إغ���واء "اآلخ���ر" ال���ذي تختل���ف رؤيت���ه ع���ن رؤيتن���ا ،ربم���ا بزاوية مائ���ة وثمانين
درجة ...وقد يصل به األمر إلى حافات العبثية واإلباحية والفجور ...هذه البقع المرضي���ة الهجين���ة ف���ي خارط���ة األدب العرب���ي المعاص���ر ،ه���ي الت���ي يرفضه���ا
األدب اإلس�ل�امي ...أما األدب العربي ف���ي عمقه التراثي فه���و في معظمه أدب
اإلسالم نفسه.
س :أال يحول األدب اإلسالمي بين األدي � � ��ب وبين اإلبداع الفني الذي يحقق المتعة للقارئ؟ ج :ه���ذا يعتم���د على ق���درة األديب
إل���ى االكتش���اف ،والتوق���ع والعث���ور في
�إن اخلربة الإ�سالمية يف �أعمق خفاء ،و�أكرث جماريه��ا الإميانية ً جتلياتها الفكرية �إ�رشاقًا ،ت�ضع ب�ين ي��دي الأدي��ب والفن��ان ث��روة هائلة م��ن املف��ردات، و�شبكة عري�ضة من التجارب وال��ر�ؤى والت�أ�سي�س��ات التي ميكن للأديب �أن ي�ستمد منها يف هذا اجلن�س الأدبي �أو ذاك.
نفس���ه ،وخبرت���ه ،ومهارت���ه ،وفضائ���ه
نهاي���ة األمر على الجواب .وأخش���ى ما يخشاه المرء وهو يبحر في تيار الحداثة بمس���توياتها الثالث���ة؛ التنظي���ر والنق���د واإلب���داع ،أن يج���د نفس���ه قبالة حاالت
ال يمك���ن التس���ليم به���ا بس���هولة :إلغ���اء
مبدأ المتعة الفني���ة في العمل اإلبداعي،
وتحوي���ل النش���اط النق���دي إل���ى جه���د مختبري قد يضع األس�ل�اك الشائكة بين المبدع والمتلقي أو بين النص والقارئ، ويص���رف األخي���ر ع���ن اس���تدعاء الناقد
لكي يعينه على التعامل مع النص ،ليس
كمعادل���ة رياضي���ة أو كش���ف كيمياوي، وإنم���ا كجه���د إبداع���ي يس���تعصي عل���ى
ونقدا المعرف���ي ،وق���وة خياله ،وثقافته األدبية وإبداعا، تنظي���را ً ً ً
الجدولة والترقيم".
عب���ر المذاه���ب األدبية كافة نتاج ضعيف ال يس���تحق أن يقرأ،
القصائد القمم بكل المعايير النقدية؟
بغ���ض النظ���ر عن المذه���ب األدبي الذي ينتم���ي إليه .فهنالك
ألنه ال ينطوي على الحد األدنى من الش���روط اإلبداعية ،وال يحقق المتعة للقارئ.
هل ق���رأت أعم���ال األديبي���ن اإلس�ل�اميين الكبيرين :علي
أحم���د باكثي���ر ونجي���ب الكيالن���ي؟ إن روايت���ي "وا إس�ل�اماه" ْ و"الثائ���ر األحم���ر" ألولهم���ا عل���ى س���بيل المث���ال ،و"عمالق���ة الش���مال" و"ليالي تركس���تان" لثانيهما على سبيل المثال أيض ًا،
قمما روائية على المس���تويين اإلبداعي واإلمتاعي ،ولقد تمثل ً أدهش���ت اآلالف من الق���راء ..وهناك -غي���ر هذين -جيل من ّ الروائيي���ن اإلس�ل�اميين المعاصري���ن الذي���ن قدم���وا الكثير في
السياق نفسه.
ال من فكيف جئنا إلى الشعر الذي قدم فيه اإلسالميون سي ً
س :يقول المعارضون لمصطلح األدب اإلس� �ل ��امي ،أن هذا واضحا ومباش � � � ً�را في خطابه ،والوضوح المصطلح يجعل األدب ً والمباشرة عدوان لَدودان لفنية النص اإلبداعي ،فكيف نتجاوز ذلك؟ ج :يمكن أن تجد بغيتك في جوابي على الس���ؤال األول، فالوضوح والمباشرة عدوان لفنية النص األدبي ليس في دائرة
األدب اإلس�ل�امي وح���ده ،وإنم���ا في المذاهب كاف���ة .فها هنا صحت التس���مية -يخترق الكثير من ً أيضا تجد هذا الداء -إذا ّ األعم���ال ...إذ البد من أجل التحقق بالش���روط الفنية لألداء،
م���ن االنزي���اح -بدرج���ة أو أخرى -ع���ن الدالالت المباش���رة
وقد سبق وأن قلت في مقدمة مجموعتي القصصية "كلمة
للكلم���ات ،وإال فهي المعاني المطروح���ة على قارعة الطريق
صممها المهندس���ون الكبار في الغرب والش���رق وعلى رأسها
ولكني أحب أن أسأل هؤالء المعترضين :هل أتيح لهم أن
الهدمي���ة الت���ي تنطوي عليها بعض تي���ارات الحداثة اإلبداعية،
علميا حكما كاف���ة إن لم أقل كلها ،لكي يكون حكمهم عليها ً ًّ
نصه "في رأي���ي أن احترام مطالب القصة القصيرة كما اهلل" م���ا ّ
العقدة ،يعد ضرورة من الضرورات ،ليس فقط لتجاوز النزعة في س���عيها المحموم لتدمي���ر الثوابت الموضوعي���ة والجمالية
مع���ا حيث يصير التغيير هد ًفا بحد ذاته ،وإنما الحترام وتقدير ً حاجة القارئ الذهنية والنفسية إلى المتعة ،والمشاركة والتوق
كما يقول الجاحظ.
جل األعمال األدبية اإلسالمية المعاصرة في أجناسها يقرؤوا ّ صائبا؟! ً
إنه���ا مقولة ال تقوم على اس���تقراء ش���امل ،وتطل���ق تعميما ً
جميعا -خطأ علمي. خاطئا ،والتعميم -كما نعرف ً ً
31
السنة الثامنة -العدد (2012 )33
النبوية وإلى اليوم -أدب إس�ل�امي ُينتجه في معظمه مسلمون،
فضاء، مضمون���ه الفك���ري بم���ا أنه ينبثق ع���ن العقيدة األوس���ع ً
ونق���اده نظ���رت لهذا المصطل���ح نظرة موضوعي���ة هادئة ،تقوم
متف���ردة يلتقي فيه���ا الوحي بالوجود ،وتتلق���ى تعاليمها من اهلل
ف�ل�ا داع���ي إذن له���ذا التمييز .ولك���ن طائف ًة من ش���داة األدب
على أسس واضحة ومعايير مستقيمة ،منهم ضيف حلقتنا لهذا العدد ،األديب اإلس�ل�امي الكبير األستاذ الدكتور عماد الدين ليعرفنا كيفية تحقق اإلسالمية في األدب؟ ويزيل اللثام خليلّ ، عن الشبهات التي ما زالت تثار حول األدب اإلسالمي.
واألغن���ى خبرات ،واألغزر مف���ردات وعطاء؟ باعتبارها إضاءة ً سبحانه الذي ال يخفى عليه شيء في األرض وال في السماء، وتفتح جناحيها على اإلنسان والعالم والكون والمصير؟
خفاء، إن الخب���رة اإلس�ل�امية في أعمق مجاريه���ا اإليمانية ً
وأكثر تجلياتها الفكرية إشرا ًقا ،تضع بين يدي األديب والفنان
ال حدثتمونا في البدء عن األدب اإلس� �ل ��امي ،وكيفية س :ه ّ (**) تحققّه؟ يتحتم التأكيد على أن أي حديث عن المضمون ج: ابتداء ّ ً
هذا الجنس األدبي أو ذاك.
ع���ن التقنيات الفنية الملتحم���ة بالمضمون ،والحاملة لهمومه،
مبدع���ا بمنظوم���ة الخب���رات والقيم الفكرية لإلس�ل�ام، التزام���ا ً ً
الفكري لألدب اإلسالمي المعاصر ،يجب أال يغفل -لحظة- والقدي���رة وظيفي���ا -على توصيله إل���ى المتلقي بأكبر قدر منًّ
"التأثير".
تل���ك ه���ي مهمة األدب عل���ى إطالقه وعبر أجناس���ه كافة،
وأي اخت�ل�ال في التناس���ب بين الش���كل والمضمون ،س���يميل بالمي���زان ص���وب المضموني���ة التي تضعف العم���ل اإلبداعي،
أدبا. وربما تخرج به عن أن يكون ً
ث���روة هائل���ة م���ن المف���ردات ،وش���بكة عريض���ة م���ن التجارب والرؤى والتأسيس���ات التي يمكن لألديب أن يس���تمد منها في ف���ي ضوء ذلك كل���ه ،يب���دو "التأصيل اإلس�ل�امي لألدب"
وتقديمه���ا للن���اس بأش���د وتائر الق���درة عل���ى التأثي���ر ،يوازيها سعي مرسوم لهدم القيم الوضعية المضادة في الفكر واألدب
والحياة.
ولكن ،مرة ثانية وثالثة ،بما أن اإلبداع األدبي في أجناس���ه
كاف���ة ينطوي على بعد آخر يلتحم بالبعد الفكري ،ويمكنه من
التأثي���ر ف���ي المتلقي ،وذلك ه���و منظومة القي���م الجمالية ،فإن
عرفنا األدب اإلسالمي -بمفاهيمه المعاصرة -بأنه فإذا ما ّ
التأصيل اإلسالمي لألدب يتحتم أال يغفل عن إيالء االهتمام
وجدنا أنفس���نا أمام العنصرين األساسيين للعمل األدبي وهما
إسالمية للقيم الفنية الشائعة في اآلداب العالمية ،رغم إقرارنا
"تعبير جمالي مؤ ّثر بالكلمة عن التصور اإلس�ل�امي للوجود"، "التصور" و"الجمال". ّ
هذه المسألة ال يكاد يختلف فيها اثنان في العالم كله ،وإن
كان بعض أدبائنا ونقادنا اإلس�ل�اميين ال يزالون يرمون بثقلهم
نوعا من التهميش -بدرجة أو صوب المضمونية ،ويمارس���ون ً أخرى -للقيم الجمالية التي يتحتم أن تلتحم بالمضمون.
ف���إذا م���ا جئنا إل���ى المضم���ون الفكري ،وجدن���ا المذاهب
األدبي���ة كاف���ة -فيم���ا ع���دا البرناس���ية بطبيع���ة الح���ال -تحمل
وتبش���ر بمنظوم���ة من القي���م التصوري���ة كل وفق الش���بكة التي ّ
غائما بعض الش���يء تؤس���س لذلك المذه���ب .وإذا كان األمر ً
ف���ي الكالس���يكية والكالس���يكية الجديدة ،وربما الرومانس���ية،
تماما في الواقعية والواقعية االش���تراكية والرمزية فإن���ه واض���ح ً والوجودية ،والمذاهب التالية كالسريالية والحبشية (الطليعية)،
بعضا وال يزال. وتيارات الحداثة المتدفقة التي يضرب بعضها ً في حالة كهذه ،أال يحق لألدب اإلسالمي أن ينطوي على السنة الثامنة -العدد (2012 )33
30
البال���غ به���ذا الجان���ب ،وأن يبحث ما وس���عه الجهد عن بدائل محايدا يمكن وجه���ا ً مس���ب ًقا -ب���أن معظم هذه القي���م يحمل ًتوظيفه في هذا المذهب أو ذاك.
وم���ع المضم���ون الفكري والقي���م الجمالي���ة ،البد لألدب
اإلس�ل�امي -وه���و يس���عى إل���ى المزيد م���ن التأصي���ل -من أن يش���كل منهجه المتميز في النقد والدراس���ة األدبية ،أس���وة بما
فعلته وتفعله جل المذاهب والمدارس النقدية في العالم.
س :يعترض بعض األدباء على مصطلح األدب اإلس� �ل ��امي بقول � � ��ه :إننا بهذه التس � � ��مية نلغي األدب العرب � � ��ي ،ويرى أن هذا جناي � � ��ة على األدب العربي ال � � ��ذي أعطى على مدى قرون طويلة وال يزال ...فكيف نجيبهم؟ ج :لي���س ثمة مش���كلة عل���ى اإلط�ل�اق ،ف���األدب العربي،
وبخاص���ة المعاص���ر ،لي���س س���واء ...هنال���ك األدب العرب���ي
األصي���ل ال���ذي يتوافق م���ع األدب اإلس�ل�امي ويرفده ويصبح ج���زءا من���ه ،وهنالك األدب العربي المس���خ ال���ذي اندفع وراء ً
أدب
أ.د .عماد الدين خليل*
إسالمية األدب
أ.د .عماد الدين خليل
ظه���رت الدع���وة إل���ى األدب اإلس�ل�امي في العصر الحديث ،ووقف منها المثقفون العرب والمسلمون مواقف متعددة متباينة ،فمنهم من جما ،وتحمس له غاية احتف���ى بهذا المصطلح الجدي���د ً احتفاء ًّ الحم���اس دون أن يكون عنده مع ذلك الحماس رؤية متكاملة ال لهذا المصطلح، تقوم على أسس واضحة وتتبنى تصورا شام ً ً ومنه���م م���ن رفضه بدع���وى أن األدب العربي كل���ه -منذ البعثة
29
السنة الثامنة -العدد (2012 )33
وه ْم َأ ْو الن ِ اس َي ْس َ���ت ْو ُف َ ي���ن ِإ َذا ْاك َتا ُل���وا َع َلى َّ ون َ و ِإ َذا َكا ُل ُ ا َّل ِذ َ ِ ُ ِ َ ون ِ ل َي ْو ٍم ون َ أ َ ���م َم ْب ُعو ُث َ ���ر َ َو َز ُن ُ ال َي ُظ ُّن أو َلئ َك أ َّن ُه ْ وه ْ ���م ُي ْخس ُ ظ ٍ َع ِ ين﴾(المطففين.)6-1: وم َّ اس ِل َر ِّب ا ْل َعا َل ِم َ يم َي ْو َم َي ُق ُ الن ُ
ال َت ِج ُد َق ْو ًما وأنه يزع من مواالة أعداء اهلل ،قال سبحانهَ ﴿ : هلل َوا ْليو ِم ِ ���ون بِ���ا ِ هلل َو َر ُس���و َل ُه َو َل ْو اآلخ ِ ون َم ْن َح َّاد ا َ ���ر ُي َو ُّاد َ ُي ْؤ ِم ُن َ َْ َكا ُنوا َآب َاء ُه ْم َأ ْو َأ ْب َن َاء ُه ْم َأ ْو إ ِْخ َوا َن ُه ْم َأ ْو َع ِش َير َت ُه ْم﴾(المجادلة.)22: ﴿و َم ْن وأنه يزع من الغلول الذي هو اختالس المال العامَ : َي ْغ ُل ْل َي ْأ ِت ب َِما َغ َّل َي ْو َم ا ْل ِق َي َام ِة﴾(آل عمران.)161: ين َظ َل ُموا إ ِْذ ���و َي َرى ا َّل ِذ َ وأن���ه يزع من االتباع األعمىَ : ﴿و َل ْ اب هلل َش ِ ���ر ْو َن ا ْل َع َ يد ا ْل َع َذ ِ ���و َة لهلِ ِ َج ِم ًيعا َو َأ َّن ا َ ���د ُ ���ذ َ اب َأ َّن ا ْل ُق َّ َي َ اب َو َت َق َّط َع ْت إِذ تب ين ا ُّتب ُِعوا ِم َن ا َّل ِذ َ ���ر َأ ا َّل ِذ َ ي���ن َّات َب ُعوا َو َر َأ ُوا ا ْل َع َذ َ ْ َ َ َّ بِهِ ���م ا َ ���و َأ َّن َل َنا َكر ًة َف َن َت َبر َأ ِم ْن ُه ْم اب َ و َق َ ال ا َّل ِذ َ أل ْس َ���ب ُ ين َّات َب ُعوا َل ْ ُ َّ َّ ِ هلل َأ ْعما َل ُهم َحس���ر ٍ ِ يهِ ا م ر ي ك ل ذ ك ا ن م وا ء ر ب ت ات َع َل ْيهِ ْم َو َما ِ َ َك َما َ َ َّ ُ َّ َ َ ُ ُ ُ َ ْ َ َ أيضا َ ﴿ :ف ِإ َّن ُه ْم النارِ ﴾(البق���رة ،)167-165:وقال ً ين ِم َن َّ ���م ب َِخارِ ِج َ ُه ْ ون﴾(الصافات.)33: َي ْو َم ِئ ٍذ ِفي ا ْل َع َذ ِ اب ُم ْش َت ِر ُك َ وأن���ه ي���زع المؤمن م���ن اس���تعمال جوارحه وحواس���ه فيما ل���م تخل���ق من أجله ،ألنها ستش���هد عليه ي���وم القيامة في حال
أدخ���ل عليها الض���رر وغذاها بالخبائث وفي ح���ال وظفها في اإلض���رار بغي���ره في دينه أو دنياه .فجس���مه كل���ه ملك هلل ،وهو
أمانة مودعة عنده ،ورقيب ال يفارقه في أي حال ،وواجبه أن ون ين َي ْر ُم َ يحفظه وأن يحذره ،وفي هذا قال اهلل تعالى﴿ :إ َِّن ا َّل ِذ َ ِ ِ ِ ِ الد ْنيا َو ِ ات ا ْل َغا ِف َ ِ ا ْلم ْح َص َن ِ اآلخ َر ِة َو َل ُه ْم ُ الت ا ْل ُم ْؤم َنات ُلع ُنوا في ُّ َ َع َذ ٌ ِ ���ه ُد َع َل ْيهِ ْم َأ ْل ِس َن ُت ُه ْم َو َأ ْي ِديهِ ْم َو َأ ْر ُج ُل ُه ْم يم َي ْو َم َت ْش َ اب َعظ ٌ بِم���ا َكا ُنوا َي ْعم ُل َ ِ ٍ ِ ون ���م ا ُ هلل ِد َين ُه ُم ا ْل َح َّق َو َي ْع َل ُم َ َ َ ون َي ْو َمئذ ُي َو ّفيهِ ُ ِين﴾(النور.)25-23: أ ََّن ا َ هلل ُه َو ا ْل َح ُّق ا ْل ُمب ُ
ه���ذا اإليم���ان من حيث هو قوة نفس���ية مثم���رة للمعروف،
س���ماه الق���رآن الكريم" :خوف ووازع دين���ي مانع من المنكرّ ، مق���ام اهلل" ،أي خ���وف حل���ول غضبه في الدني���ا واآلخرة .وقد جعله أصل كل صالح وتقوى ،ومفتاح كل خير وبر ،بدليل أن
اهلل تعالى في سور عدة من كتابه ،جعل استحقاق دخول الجنة
راجعا إلى اكتس���اب خصال صالحة كثيرة كلها مصالح يحتاج ً
ث���م أرج���ع في س���ورة الرحم���ان الس���ببين إل���ى أولهم���ا فقال: ���ام َر ِّب��� ِه َج َّن َت ِ ان﴾(الرحم���ن)46:؛ فأكد أن خوف ���ن َخ َ ﴿و ِل َم ْ اف َم َق َ َ
ناهيا لنفسه مقام اهلل هو األصل ،وأنه هو الذي يجعل المؤمن ً ع���ن اله���وى ،أي عن حب الدني���ا وإيثارها عل���ى اآلخرة .فإنه
يمنع من االمتثال ألمر اهلل أو يؤخره ،فنهي المؤمن نفس���ه عن
الهوى هو ترجيحه طاعة اهلل ورضوانه على اتباع هواه وحمله نفس���ه عل���ى ل���زوم طاعته وعدم الرج���وع عنه���ا ،وعندما يفعل المؤمن ذلك ،يكتس���ب صفات المؤمنين المتقين التي ذكر اهلل أنهم يستحقون بها دخول الجنة .فيكون اإليمان باليوم اآلخر، أو خوف مقام اهلل ،هو السبب في كل تحول يحبه اهلل ويرضاه
نص عليه في كتابه أو نطق به رسوله .
إن السر في هذا اإليمان إذن ،هو ثمراته تلك التي خالصتها
إصالح اإلنس���ان م���ن داخله ليصلح في نفس���ه ويصبح للناس س���بب نفع ومصدر س�ل�ام .فإنه ال صالح لكسب اإلنسان قبل
معا إال باإليمان بيوم صالح قلبه ،وال يصلح القلب والكسب ً مباركا إال به. الحساب ،وال يكون اإلنسان ً إن المسلمين يوفقون تمام التوفيق عندما يعاملون اإليمان
بالي���وم اآلخ���ر بنحو م���ا عامله الق���رآن ،وينزلون���ه المنزلة التي
أنزله ،ويوظفونه التوظيف الذي وظفه.
روحا لكل برامجهم الهادفة إنه���م يوفقون عندما يجعلونه ً
إل���ى بناء اإلنس���ان كما جعل���ه اهلل روح كل كالم���ه المنزل منذ
الر ْج َعى﴾(العلق )8:وهي من أوائل ما قوله تعالى﴿ :إ َِّن ِإ َلى َر ِّب َك ُّ ون ِفي ِه ِإ َلى ﴿و َّات ُقوا َي ْو ًما ُت ْر َج ُع َ نزل ،إلى قول���هَ :
ا ِ هلل﴾(البقرة)281:
وه���ي م���ن أواخر ما ن���زل ،ويخرج���ون هذا اإليم���ان من حالة
كون���ه طر ًفا من علم عقي���م يورث ويلقن لطلبة التعليم الديني، ومجرد اختصاص يمارس���ه الوعاظ بالمساجد ،ومجرد درس
من دروس التربية اإلسالمية يلقى على التالميذ في مرحلة ثم ينسى في سائر المراحل.
ومعيارا، ويوفق���ون عندما يتخذون���ه في اإلصالح منطل ًق���ا ً
إليها الفرد والمجتمع ،ثم أرجع في س���ورة النازعات اكتساب
ويأتمنون على مصالحهم كل "حفيظ عليم" ممن تأهل بالعلم
���ن ا ْل َه َوى َ فإ َِّن ا ْل َج َّن َة ِهي ا ْل َم ْأ َوى﴾(النازعات،)41-40: س َع ِ َّ الن ْف َ َ
(*) أستاذ في جامعة محمد األول ،وجامعة ابن طفيل /المغرب.
تلك الخصال إلى س���ببين هما :خ���وف مقام اهلل ،ونهي النفس ام َر ِّب ِه َو َن َهى ﴿و َأ َّما َم ْن َخ َ اف َم َق َ عن الهوى كما قال اهلل تعالىَ : السنة الثامنة -العدد (2012 )33
28
والخبرة ،والحت عليه أمارات هذا اإليمان الفعال.
آم ُنوا ﴿ي���ا َأ ُّي َها ا َّل ِذ َ ي���ن َ كم���ا ق���ال تعالىَ : اس َ���ت ِجيبوا لهلِ ِ َو ِللر ُس ِ ���م ِل َما ���ول ِإ َذا َد َع ُ ْ اك ْ ُ َّ ول َبي َن ا ْلمرءِ ُي ْحي ُ ِيك ْم َو ْاع َل ُموا أ ََّن ا َ هلل َي ُح ُ ْ َْ ون﴾(األنفال.)24: َو َق ْل ِب ِه َو َأ َّن ُه ِإ َل ْي ِه ُت ْح َش ُر َ
وأن اإليم���ان باآلخرة يدفع إلى أكثر
من االس���تجابة ،يدفع إلى االستزادة من الخي���رات والمس���ارعة إليه���ا والتق���رب ���ن ُه َو بالنواف���ل ق���ال اهلل تعال���ىَ ﴿ :أ ْم َم ْ ���ل َس ِ ���اج ًدا َو َقا ِئ ًما َي ْح َذ ُر ���ت آ َن َاء ال َّل ْي ِ َقا ِن ٌ ِ اآلخ َر َة َو َي ْر ُجو َر ْح َم َة َر ِّب ِه﴾(الزمر.)9: وأن اإليم���ان داف���ع إل���ى المحافظ���ة
عل���ى الص�ل�اة التي ه���ي عم���ود الدين،
وأن اإليم���ان بدق���ة الحس���اب ،دافع
�إن الإمي��ان باليوم الآخر ،يعطي امل�ؤم��ن ق��وة �إب�ص��ار للأم��ور، لا لالنتفاع لأنه ب��ه يكون م�ؤه� ً بالق��ر�آن من حيث ه��و نور اهلل املنزل .فهو ذو ب�صرية يرى بنور الق��ر�آن الأم��ور والأعمال كما هي؛ يرى ال�سوء �سوء واحل�سنة ح�سن��ة ،واحل��ق ح ًّق��ا والباطل باطالً ،ال يلتب�س عليه �شيء من ذلك فهو ﴿ َعلَى بَ ِيّنَ ٍة ِم ْن َر ِبّ ِه﴾
وإل���ى عمارة المس���جد الت���ي هي عمود العمران قال اهلل تعالىِ ﴿ :في ُبي ٍ وت َأ ِذ َن ُ ِ ِ اآلص ِ وِ د غ ل ِا ب ا يه ف ه ل ح ب ��� س ي ال و ِ َ ْ ا ُ ُ ���م ُه ُ َ ّ ُ ُ َ ُ ّ َ َ هلل َأ ْن ُت ْر َف َع َو ُي ْذ َك َر ف َيها ْ اس ُ ���ع َع ْن ِذ ْك ِر ا ِ ال ُت ْلهِ يهِ ِ ال ِة ار ٌة َو َ ���ال َ رِ َج ٌ الص َ هلل َو ِإ َق ِ ام َّ ال َب ْي ٌ ���م ت َج َ ْ ألبصار ال���ز َكا ِة َي َخا ُف َ َوإ َِيت���ا ِء َّ ون َي ْو ًم���ا َت َت َق َّل ُب ِفي ِه ا ْل ُق ُل ُ ���وب َوا َ ْ َ ُ هلل َي ْر ُز ُق ���م ِم ْن َف ْض ِل ِه َوا ُ ِل َي ْج ِز َي ُه ُم ا ُ ���ن َما َع ِم ُلوا َو َي ِز َ هلل َأ ْح َس َ يد ُه ْ اب﴾(النور.)38-36: َم ْن َي َش ُاء ب َِغ ْيرِ ِح َس ٍ وأن ه���ذا اإليم���ان يرس���خ في حي���اة المؤمن دافع التأس���ي ان َل ُكم ِفي رس ِ ���ول َ ُ برس���ول اهلل كما قال اهلل تعالىَ ﴿ :ل َق ْد َك َ ْ ِ ِ هلل ان َي ْر ُج���و ا َ ���ر َو َذ َك َر ا َ ���ن َك َ ���و ٌة َح َس َ���ن ٌة ِل َم ْ اهلل ُأ ْس َ هلل َوا ْل َي ْو َم اآلخ َ َك ِث ًيرا﴾(األحزاب.)21: وأن اإليمان باآلخرة ،ينشىء في سلوك المؤمنين الحرص
از ْع ُت ْم على االحتكام إلى الكتاب والسنة لرفع النزاعَ ﴿ :فإ ِْن َت َن َ ون بِا ِ وه ِإ َلى ا ِ هلل َوالر ُس ِ ِفي ش هلل َوا ْل َي ْو ِم ول إ ِْن ُك ْن ُت ْم ُت ْؤ ِم ُن َ ���ي ٍء َف ُر ُّد ُ َّ َ ْ ِ ال﴾(النساء.)59: اآلخ ِر َذ ِل َك َخ ْي ٌر َو َأ ْح َس ُن َت ْأوِ ي ً وأنه دافع إلى إقامة األخالق وصيانتها ،قال تعالىِ ﴿ :إ َّن َما ون ب َِع ْه ِ ���د ا ِ َي َت َذ َّك���ر ُأو ُل���و ا َ ون هلل َو َ أل ْل َب ِ ال َي ْن ُق ُض َ ي���ن ُيو ُف َ اب ا َّل ِذ َ ُ ِ ِ ِ ���و َن ا ْل ِمي َث َ ون َما َأ َم َر ا ُ ي���ن َيص ُل َ ���اق َوا َّلذ َ هلل ِبه َأ ْن ُي َ وص َل َو َي ْخ َش ْ اب﴾(الرعد.)21-19: وء ا ْل ِح َس ِ َر َّب ُه ْم َو َي َخا ُف َ ون ُس َ ون وأنه دافع إلى نصرة دين اهللَ ﴿ : ين ُي ْؤ ِم ُن َ ال َي ْس َت ْأ ِذ ُن َك ا َّل ِذ َ اه ُدوا ِب َأ ْموا ِلهِ م َو َأ ْن ُف ِس���هِ م َوا ُ ِ اآلخ ِر َأ ْن ُي َج ِ هلل َوا ْليو ِم ِ بِ���ا ِ يم َْ ْ َ ْ هلل َعل ٌ ون بِا ِ هلل َوا ْليو ِم ِ اآلخ ِر ين َ ال ُي ْؤ ِم ُن َ ين ِ إ َّن َما َي ْس َ���ت ْأ ِذ ُن َك ا َّل ِذ َ بِا ْل ُم َّت ِق َ َْ ون﴾(التوبة.)45-44: وب ُه ْم َف ُه ْم ِفي َر ْيبِهِ ْم َي َت َر َّد ُد َ َو ْار َت َاب ْت ُق ُل ُ
معا: إلى االعتناء بجزئيات الخير وكلياته ً ال َذ َّر ٍة َخ ْي ًرا َي َر ُه َ و َم ْن ﴿ َف َم ْن َي ْع َم ْل ِم ْث َق َ ���ل ِم ْث َق َ ٍ ���را َي َر ُه﴾(الزلزلة.)8-7: َي ْع َم ْ ال َذ َّرة َش ًّ وأن هذا اإليم���ان يحمل الفرد على
ل���زوم االس���تقامة وإن زاغ���ت جماعت���ه
وضل قومه ،بناء على أن الحس���اب يوم القيام���ة س���يكون مع كل ف���رد على حدة ﴿و ُك ُّل ُه ْم آ ِتي ِه َي ْو َم ا ْل ِق َي َام ِة كما قال تعالىَ : َف ْر ًدا﴾(مريم ،)95:وقال﴿ :ا ْق َر ْأ ِك َت َاب َك َك َفى ب َِن ْف ِس َك ا ْل َي ْو َم َع َل ْي َك َح ِس ًيبا﴾(اإلسراء.)14: وأن���ه داف���ع إل���ى التخل���ق بالش���كر
والصب���ر تج���اه الق���در خي���ره وش���ره: ���ر ِف ْت َن��� ًة َو ِإ َل ْي َن���ا ���ر َوا ْل َخ ْي ِ ﴿و َن ْب ُل ُ ���م ب َّ َ وك ْ ِالش ِّ ين ِإ َذا ون﴾(األنبي���اء ،)35:وقالَ ﴿ :و َب ِّش ِ ُت ْر َج ُع َ ي���ن ا َّل ِذ َ الصاب ِِر َ ���ر َّ َأ َص َاب ْت ُه ْم ُم ِصيب ٌة َقا ُلوا ِإ َّنا لهلِ ِ َو ِإ َّنا ِإ َلي ِه َر ِ ون﴾(البقرة.)156-155: اج ُع َ َ ْ • اإليم���ان باليوم اآلخر ،وازع من الش���ر كما هو دافع إلى الخير ،ويدل على ذلك ما في القرآن من إشارات إلى أنه في حال وجوده يمنع من شرور كثيرة ،وأنه في حال غيابه يتسبب في مفاس���د عظيمة؛ م���ن قبيل الطغيان واإلفس���اد في األرض،
واخت�ل�اس األم���وال العام���ة ،واالتب���اع األعم���ى ،والبخ���ل،
والمضارة بين الزوجين.
وم���ن اإلش���ارات القرآني���ة في ذل���ك ،أنه ي���زع المؤمن من الطغي���ان كم���ا في قول���ه تعالى﴿ :ول���و يع ِجل اهلل ِللناس الش���ر َ َ ْ ُ َ ّ ُ ُ َّ ِ َّ َّ ون ين َ ال َي ْر ُج َ اس��� ِت ْع َجا َل ُه ْم بِا ْل َخ ْي ِر َل ُق ِض َي ِإ َل ْيهِ ْم َأ َج ُل ُه ْم َف َن َذ ُر ا َّل ِذ َ ْ ِ ِ هِ ه م ع ي م ن ا ي غ ط ي ف ا ن اء ق ون﴾(يونس ،)11:وقولهَ ﴿ :ف َأ َّما َم ْن َط َغى ُ َْ ْ َْ َ ُ َ ِل َ َ َ الد ْن َيا ف���إِن الج ِح يم ِهي ا ْل َم ْأ َوى َ و َأ َّما َم ْن ���ر ا ْل َح َيا َة ُّ َوآ َث َ َ َّ ْ َ َ َ ���ن ا ْل َه َوى)(النازع���ات .)40:هذا س َع ِ َخ َ ام َر ِّب��� ِه َو َن َه���ى َّ ���اف َم َق َ الن ْف َ التقابل بين الخصلتين في اآلية الثانية قرينة س���ياقية تدل على أن المقاب���ل لخ���وف مقام اهلل ه���و الطغي���ان ،وأن الذي يخاف
مقام ربه ال يطغى.
وأن هذا اإليمان يزع المؤمن من العلو في األرض واإلفساد الدار ِ ِ ون ين َ يد َ ال ُي ِر ُ اآلخ َر ُة َن ْج َع ُل َها ِل َّل ِذ َ فيها ،قال تعالى﴿ :ت ْل َك َّ ُ ُع ُل ًّوا ِفي ا َ ين﴾(القصص.)83: ض َو َ أل ْر ِ ال َف َس ًادا َوا ْل َعا ِق َب ُة ِل ْل ُم َّت ِق َ ين ﴿و ْي ٌل ِل ْل ُم َط ِّف ِف َ وأنه يزع المؤمنين من الفس���اد التجاريَ :
27
السنة الثامنة -العدد (2012 )33
فه���و ذو بصي���رة ي���رى بنور الق���رآن األم���ور واألعمال كما
هي؛ يرى الس���وء س���وء والحس���نة حس���نة والحق ح ًّقا والباطل ﴿ع َلى َب ِّي َن��� ٍة ِم ْن ً باط�ل�ا ،ال يلتب���س عليه ش���يء م���ن ذلك فه���و َ َر ِّب ِه﴾ .ويقابله الذي ال يؤمن باآلخرة ،فهو بحرمانه نفس���ه من ن���ور القرآن ال يرى األمور كما هي ،بل وعيه ملتبس وتصوره
مقلوب؛ السيئ عنده حسن والحسن سيء كما قال اهلل تعالى: ���وء َع َم ِل ِه َو َّات َب ُعوا ﴿ َأ َف َم ْن َك َ ان َع َلى َب ِّي َن ٍة ِم ْن َر ِّب ِه َك َم ْن ُز ِّي َن َل ُه ُس ُ َأ ْه َو َاء ُه ْم﴾(محم���د .)14:وق���د نص اهلل تعالى على أن الس���بب في ال ين َ حرمان���ه م���ن البصي���رة هو كفره باآلخ���رة فق���ال﴿ :إ َِّن ا َّل ِذ َ ون ب ِ ون﴾(النمل.)4: ِاآلخ َر ِة َز َّي َّنا َل ُه ْم َأ ْع َما َل ُه ْم َف ُه ْم َي ْع َم ُه َ ُي ْؤ ِم ُن َ
الحصانة الدينية ثمرة اإليمان باآلخرة
ِ ال َف ِري ًقا وه ِإ َّ ﴿و َل َق ْد َص َّ يس َظ َّن ُه َف َّات َب ُع ُ ق���ال تعالىَ : ���د َق َع َل ْيهِ ْم إ ِْبل ُ ان َل ُه َع َليهِ م ِم ْن ُس��� ْل َط ٍ ال ِل َن ْع َل َم َم ْن ان ِإ َّ ي���ن َ و َما َك َ ���ن ا ْل ُم ْؤ ِم ِن َ ِم َ ْ ْ ِ ���ك َو َر ُّب َك َع َلى ُك ِّل َش���ي ٍء ���ر ِة ِم َّم ْن ُه َو ِم ْن َها ِفي َش ٍّ ُي ْؤ ِم ُ ���ن بِاآلخ َ ْ يظ﴾(سبأ .)21-20:تشير اآليتان إلى أن سلطان الشيطان ليس َح ِف ٌ على المؤمن باآلخرة ،وإنما هو على من يشك فيها.
أم���ا المؤمن باآلخ���رة ،فبأهليته لالهتداء بكالم اهلل يجد فيه
إذا ت�ل�اه أو اس���تمع له أو تدب���ره الذكرى ،كما يج���د فيه البيان
ألس���باب االستقامة والثبات وأسباب الزيغ واالرتداد ،والبيان
لمصايد عدوه الش���يطان ومكايده ،ويعلم أن اهلل إذا أمر بش���يء
أو نه���ى عن���ه فه���و الحق ،وأن كل م���ا يخالفه مم���ا يخطر بباله
أو تهم به نفس���ه إنما هو من الش���يطان ،إذ داللة كون الخاطرة وسوس���ة ش���يطانية أن الش���يطان ينهى عما يأمر اهلل به ويأمر بما ينه���ى اهلل عن���ه ،ويزين س���وء العم���ل ويكره حس���نه ويعد بضد
م���ا يع���د ب���ه اهلل تعال���ى .ومن ث���م ف���إن الش���يطان ال يتمكن من
يزيغ فيزيغ اهلل قلبه وينس���ى لقاء ربه ،فيس���تحوذ الشيطان عليه
ويق���وده من باب الجهل أو الهوى ،فبالجهل يعمل ما ال يعلم أن اهلل ال يحب���ه ،أو يتورط ف���ي تغيير دينه بالزيادة أو النقصان، كما أنه بالهوى يترك العمل بالحق مع علمه به ،وقد يرجح ما
تحبه نفس���ه على ما يحبه ربه في أي ش���يء فينحرف تفري ًطا أو
إفرا ًطا ،وقد يتخذ دينه وسيلة لنيل مآربه ،وقد يستعمل منصبه ألغراضه الخاصة وإن بالتحريش بين الناس وتفريق جماعتهم وهضم حقوقهم.
وأم���ا ال���ذي يش���ك ف���ي اآلخ���رة ،ففي���ه قابلي���ة االس���تجابة
للش���يطان ،والش���يطان متمكن منه ومستحوذ عليه ألنه بقي بال
حصان���ة ،والحصان���ة إنم���ا هي في كالم اهلل ،وق���د قضى اهلل أن ﴿و ِإ َذا َق َر ْأ َت يح���رم منها م���ن ال يؤمن باآلخرة كما قال تعالىَ : ِ ���ر ِة ِح َج ًابا ي���ن َ آن َج َع ْل َن���ا َب ْي َن َ ال ُي ْؤ ِم ُن َ ���ر َ ���ك َو َب ْي َن ا َّل ِذ َ ون بِاآلخ َ ا ْل ُق ْ ���وه َو ِفي آ َذا ِنهِ ْم َم ْس ُ ورا َو َج َع ْل َنا َع َل���ى ُق ُلوبِهِ ْم َأ ِك َّن ًة َأ ْن َي ْف َق ُه ُ ���ت ً َو ْق ًرا﴾(اإلسراء.)46-45: فه���و به���ذا ،قد عرض قلبه لتش���رب إلقاءات الش���يطان من ب���اب اتباعه للهوى واس���تعداده العتناق م���ا يبدو له من الفكر،
وتضخ���م رغبته ف���ي القيام بكل ما يحلو له من الفعل وحرصه
عل���ى التمت���ع بالدنيا بأكبر قدر ممكن وبأس���رع ما يمكن ،وقد
ينج���ر إل���ى جلب المنافع لنفس���ه بإض���رار غيره ،وإل���ى حماية
مصالح���ه بأي وس���يلة كانت ما دامت الحي���اة الدنيا هي الحياة
في نظره ال حياة بعدها وال حس���اب وال جزاء ،فيكون ألعوبة حقيقية في يد الش���يطان أينما يوجهه يتجه ،ويضله ويس���تعمله
مس���الما فيضله ف���ي اإلثم والعدوان معا ،وقد يكون في نفس���ه ً ويوقعه في اإلثم دون العدوان.
قلب���ه على ال���دوام ،فإن إيمان���ه وتواصله مع الق���رآن ،يجعالن اإلرادة ثمرة اإليمان باآلخرة
ومؤقت���ا كما ق���ال تعالى: قلي�ل�ا وقوع���ه ف���ي ش���راك الش���يطان ً ً
الش ْ���يطَ انِ َتذَ َّك ُروا َف ِإذَا ���ه ْم طَ ائ ٌ ِف م َِن َّ ﴿ ِإ َّن الَّذِ َ ���وا ِإذَا َم َّس ُ ي���ن ا َّت َق ْ ون﴾(األعراف .)201:ويؤكده أن نفي س���لطان الش���يطان ُه ْم ُم ْب ِص ُر َ على المؤمن ،جاء في سياق الحديث عن قراءة القرآن الكريم
المقرونة باالستعاذة من الشيطان الرجيم كما قال تعالىَ ﴿ :ف ِإذَا ج اس��� َتعِ ذْ ِبا ِ س ل َُه َق َر ْأ َت ا ْل ُق ْر َ هلل م َِن َّ الر ِ ِ آن َف ْ يم ِإ َّن ُه ل َْي َ الش ْ���يطَ انِ َّ ُون﴾(النحل.)99-98: آم ُنوا َو َعلَى َر ِّب ِه ْم َي َت َو َّكل َ ُسلْطَ ٌ ان َعلَى الَّذِ َ ين َ لكنه كلما قلت صلته بكالم اهلل كثر اتباعه للش���يطان ،وقد يتذكر فيرجع إلى اهلل وقد ال يتذكر فيتمادى في عصيانه هلل حتى السنة الثامنة -العدد (2012 )33
26
إن اإليمان باآلخرة ،ينش���ىء في القلب اإلرادة التي تدفع إلى
فع���ل م���ا ينبغ���ي فعل���ه ،واجتناب ما ينبغ���ي اجتنابه .ينش���ئ فيه الطاق���ة الروحية المنتجة للمصالح ،والرقابة الذاتية المانعة من
المفاسد.
• اإليم���ان باآلخ���رة داف���ع إلى الخير ،وي���دل على ذلك أن
القرآن س���اقه على س���بيل التعلي���ل ألفعال العباد وعلى س���بيل
الترغيب في فعل الطاعات والترهيب من تركها ،ومن إشارات القرآن في ذلك:
أن االس���تجابة هلل تتحقق بدافع اإليمان باهلل و اليوم اآلخر
والمجتمع���ات ،لكن ب���اب نيل ذلك منه مس���دود إال في وجه الموقنين باآلخرة، فه���م وحدهم المؤهلون لالهتداء بهدى القرآن كما ق���ال اهلل تعالى﴿ :طس ِت ْل َك
���ات ا ْل ُق���ر ِ ���دى آن َو ِك َت ٍ ���اب ُمب ٍ ِي���ن ُ ه ً َآي ُ ْ ي���ن ا َّل ِذ َ ِ ���ون يم َ ���رى ِل ْل ُم ْؤ ِم ِن َ ي���ن ُيق ُ َو ُب ْش َ الز َكا َة َو ُهم ب ِ ِاآلخ َر ِة ُه ْم الص َ ال َة َو ُي ْؤ ُت َ ون َّ َّ ْ أيضا﴿ :الم ُيو ِق ُن َ ون﴾(النم���ل ،)3-1:وق���ال ً يم ُ ه ًدى ات ا ْل ِك َت ِ ِ ت ْل َ اب ا ْل َح ِك ِ ���ك َآي ُ ين ا َّل ِذ َ ِ ون يم َ َو َر ْح َم��� ًة ِل ْل ُم ْح ِس��� ِن َ ي���ن ُيق ُ الز َكا َة َو ُهم ب ِ ِاآلخ َر ِة ُه ْم الص َ ال َة َو ُي ْؤ ُت َ ون َّ َّ ْ ���ون ُ أو َل ِئ َك َع َل���ى ُه ًدى ِم ْن َر ِّبهِ ْم ن ق ُيو ِ ُ َ ون﴾(لقمان.)5-1: َو ُأو َل ِئ َك ُه ُم ا ْل ُم ْف ِل ُح َ وواض���ح م���ن ه���ذا أن اإليم���ان
�إن امل�سلم�ين يوفق��ون مت��ام التوفي��ق عندم��ا يعامل��ون الإمي��ان بالي��وم الآخ��ر بنح��و م��ا عامل��ه الق��ر�آن ،وينزلونه املنزل��ة التي �أنزل��ه ،ويوظفونه التوظي��ف الذي وظف��ه� .إنهم روحا يوفقون عندما يجعلونه ً لكل براجمهم الهادف��ة �إىل بناء الإن�س��ان كما جعل��ه اهلل روح كل كالمه املنزل.
التزكي بالقرآن ثمرة اإليمان باآلخرة
اإليم���ان باآلخرة الق���رآن لقد اس���تعمل َ ُ فعال وهو إيراده ألنواع الوعيد على نحو ّ
األخ���روي والدنيوي في مواطن متنوعة
ومقرو ًن���ا بأعم���ال ش���تى ،ق���ال تعال���ى: ﴿و َك َذ ِل َك َأ ْن َز ْل َن ُاه ُق ْرآ ًنا َع َرب ًِّيا َو َصر ْف َنا ِفي ِه َ َّ ِ ِ ِ ون َأ ْو ُي ْح ِد ُث َل ُه ْم ق ت ي م ه ل ع ل يد ع و ل ا ���ن َ ْ َّ َ ُ ْ َ َّ ُ َ م َ َ ِذ ْك ًرا﴾(طه.)113: والقرآن نفسه ينص على أنه ال يؤثر
باآلخ���رة ،يؤه���ل صاحب���ه لالهتداء بهدى الق���رآن ليس بصفته
وتذكرا إال فيمن يؤمن تأثي���ره هذا تقوى ً بالي���وم اآلخ���ر ،كما قال تعال���ىَ ﴿ :ف َذ ِّك ْر اف َو ِع ِ بِا ْل ُقر ِ يد﴾(ق ،)45:وقال: آن َم ْن َي َخ ُ ْ ِ ِ ِ َ ���روا ين َي َخا ُف َ ﴿و َأ ْن���ذ ْر بِ���ه ا َّلذ َ َ ون أ ْن ُي ْح َش ُ ِ ِ ِ ِ هِ ال و ي ل و ه ��� ن و د ن م م ه ل س ي ل ���م ب ر ���ى ِ َ ٌّ َ َ ِإ َل َ ّ ْ َ ْ َ َ ُ ْ ْ ُ ون﴾(األنعام.)51: يع َل َع َّل ُه ْم َي َّت ُق َ َش ِف ٌ
األدنى من الطاعات ،الذي يبدأ معه القرآن في إعطاء هداياته
اإليم���ان بالي���وم اآلخ���ر ،يفض���ي بقارئ الق���رآن ومتدب���ره إلى
مجردا ،بل من حيث هو طاقة منتجة للطاعة ...والحد اعتقادا ً ً للمؤمنين ،هو إقام الصالة وإيتاء الزكاة -كما نصت على ذلك اآلي���ات الثالث الس���ابقة -الهت���داء لهم بالق���رآن قبل حدوث
هاتي���ن الطاعتي���ن منهم ،ثم إنهم بعد ذل���ك كلما ازدادوا طاعة
ازدادوا اهتداء.
يؤك���د أن االهت���داء بالقرآن رهين باإليم���ان المثمر للطاعة ���د َج َاء ُكم ِم َ ِ ِي���ن * َي ْه ِدي قول���ه تعالىَ ﴿ :ق ْ اب ُمب ٌ ور َو ِك َت ٌ ���ن اهلل ُن ٌ ْ �ل�ا ِم َو ُي ْخ ِر ُج ُهم ِم َن الظُّ ُلم ِ ات ِب ِه ا ُ الس َ َ ْ هلل َم ِن َّات َب َع رِ ْض َوا َن ُه ُس ُ���ب َل َّ ِإ َل���ى ال ُّنورِ ِبإ ِْذ ِن ِه َو َي ْه ِديهِ م ِإ َلى ِصر ٍ يم﴾(المائدة،)16-15: اط ُم ْس َ���ت ِق ٍ ْ َ الصا ِل َح ِ ِ وا ل م ع و وا ن آم ي���ن ���ات َي ْه ِديهِ ْم ُ وقول���ه تعالى﴿ :إ َِّن ا َّل ِذ َ َ ُ َ َ َّ ِيما ِنهِ ْم﴾(يونس.)9: َر ُّب ُه ْم ِبإ َ وفي أم القرآن إيماء إلى هذا المعنى ،فقد استهلت السورة ين َ الر ْح َم ِن باإليمان باهلل واليوم اآلخرَ ﴿ :ا ْل َح ْم ُد لهلِ ِ َر ِّب ا ْل َعا َل ِم َ َّ ين﴾(الفاتحة ،)4-2:وتوسطها حديث عن الد ِ الر ِح ِ يم َ ما ِل ِك َي ْو ِم ِّ َّ ِ ين﴾(الفاتحة،)5: طاعة اهلل واالستعانة به﴿ :إ َِّياكَ َن ْع ُب ُد َوإ َِّياكَ َن ْس َتع ُ ِ يم﴾(الفاتحة.)6: الص َر َ وختمت بطلب الهدايةِ ﴿ :ا ْه ِد َنا ِّ اط ا ْل ُم ْس َتق َ وه���ذا الترتيب يش���ير إل���ى أن اإليمان باهلل والي���وم اآلخر يثمر طاعة اهلل ،وأن طاعته تثمر االهتداء ...فالفاتحة إذن ،لم تجمل أيضا. مضامي���ن الق���رآن فق���ط ،ب���ل لخصت منهج���ه الترب���وي ً
فقه القرآن ثمرة اإليمان باآلخرة
ممتل���كا ألدوات العل���م صار بتق���واه تلك؛ التق���وى ،ف���إذا كان ً متمكنا م���ن الغوص في أعماقه ق���ادرا على "فق���ه القرآن" ،أي ً ً
واس���تخراج م���ا خفي من معانيه وأس���راره كما ق���ال اهلل تعالى: هلل﴾(البقرة ،)282:أي "يؤتيكم فهم ما يلقى هلل َو ُي َع ِّل ُم ُك ُم ا ُ ﴿و َّات ُقوا ا َ َ إليك���م" كما قال القرطب���ي ...والفهم أدق م���ن العلم وأعمق، ومن ال يتقي اهلل من العلماء ،ال يوفقه اهلل لفهم كالمه.
وأم���ا ال���ذي ال يؤمن باآلخرة ،فه���و أولى أن يحرم من فقه
بالغا ما بلغ تمكنه من لغة القرآن وعلوم القرآن وسائر القرآن ً ﴿و ِإ َذا َق َر ْأ َت األدوات ،وه���و م���ا نب���ه اهلل تعال���ى علي���ه بقول���هَ : ِ ���ر ِة ِح َج ًابا ي���ن َ آن َج َع ْل َن���ا َب ْي َن َ ال ُي ْؤ ِم ُن َ ���ر َ ���ك َو َب ْي َن ا َّل ِذ َ ون بِاآلخ َ ا ْل ُق ْ وه َو ِفي آ َذا ِنهِ ْم َم ْس ُ ورا َو َج َع ْل َن���ا َع َلى ُق ُلوبِهِ ْم َأ ِك َّن��� ًة َأ ْن َي ْف َق ُه ُ ���ت ً َو ْق ًرا﴾(اإلسراء.)46-45:
االستبصار ثمرة اإليمان باآلخرة
إن اإليمان باليوم اآلخر ،يعطي المؤمن قوة إبصار لألمور،
ال لالنتف���اع بالقرآن من حي���ث هو نور اهلل ألن���ه ب���ه يكون مؤه ً ورا ُمب ًِينا﴾(النساء)174:؛ فبالقرآن يجعل المنزلَ : ﴿و َأ ْن َز ْل َنا ِإ َل ْي ُك ْم ُن ً ات َب ِي َن ٍ ﴿هو ا َّل ِذي ُي َن ِّز ُل َع َلى َعب ِد ِه َآي ٍ ات ِل ُي ْخ ِر َج ُك ْم اهلل له ً نوراَ ُ : ّ ْ ِم َن الظُّ ُلم ِ ات ِإ َلى ال ُّنورِ ﴾(الحديد.)9: َ
25
السنة الثامنة -العدد (2012 )33
دراسات إسالمية أ.د .زيد بوشعراء*
اإليمان باليوم اآلخر
رؤية قرآنية لوظيفته اإلصالحية هاهن���ا قبس من نور الق���رآن ...قبس من قصة ذل���ك التفاعل الممتد بين حياتي���ن؛ بين الدنيا
واآلخرة ...قصة تأثير دنيا اإلنس���ان في آخرته
وتقريرها لمصيره األبدي في مقابل تأثر دنياه باآلخرة س���عادة و شقاوة عندما يؤمن باليوم اآلخر ويوقن به ،وعندما يكفر به
ظنا أو يغفل عنه أو ينسى لقاء ربه. أو يظنه ًّ إن اهلل الذي ﴿ َل ُه ا ْل َخ ْل ُق َوا َ أل ْم ُر﴾ ،بالخلق أعطى اإلنس���ان فرص���ة حي���اة ،وبالوح���ي بين ل���ه المنه���ج الذي يغتن���م به هذه
ِم ْ ِ ِ ِ ِ ِ ال َي ْخ َفى ون َ الت َ ���م َب���ارِ ُز َ ���و َم َّ ���ن ع َب���اده ل ُي ْن���ذ َر َي ْ �ل�ا ِق َي ْو َم ُه ْ ���د ا ْل َقهارِ ِ ���ك ا ْليو َم لهلِ ِ ا ْلو ِ َع َل���ى ا ِ هلل ِمنه���م ش اح ِ َّ َ ���ي ٌء ل َم ِن ا ْل ُم ْل ُ َ ْ ُْ ْ َ ْ يع ال ُظ ْل َم ا ْل َي ْو َم إ َِّن ا َ س ب َِما َك َس َ���ب ْت َ هلل َس ِ ا ْل َي ْو َم ُت ْج َزى ُك ُّل َن ْف ٍ ���ر ُ اب﴾(غافر.)17-15: ا ْل ِح َس ِ والس���ر ف���ي نيل "إنذار يوم التالق" له���ذه المنزلة حتى كان
من ثوابت وحي اهلل ،هو ثمراته الطيبة المباركة التي يؤتيها في
وإصالحا للمجتمعات. كل زمان ومكان تزكية لألنفس ً
الفرصة ويدبر أمر هذه الحياة ،وأمره بإتباعه ،وأخبره أنه راجع االهتداء بالقرآن ثمرة اإليمان باآلخرة
إلي���ه ليري���ه أعماله ويجزيه عنها ،فإما إلى الحياة التي هي خير
وأبقى ،وإما إلى المصير الذي هو أسوأ.
ولقد جعل س���بحانه مقصد كل رس���االته؛ ترس���يخ اإليمان يع ﴿ر ِف ُ بالي���وم اآلخ���ر ف���ي القل���وب ،ذلك ه���و ن���ص الق���رآنَ : ���ات ُذو ا ْل َع���ر ِ ِ الد َر َج ِ ���اء َّ وح ِم ْ ���ن َأ ْم ِر ِه َع َلى َم ْن َي َش ُ الر َ ش ُي ْلق���ي ُّ ْ السنة الثامنة -العدد (2012 )33
24
إن الق���رآن الكري���م بما فيه من التبيان لكل ش���يء والهداية إلى
���اب ِت ْب َيا ًنا ﴿و َن َّز ْل َن���ا َع َل ْي َك ا ْل ِك َت َ كل رش���د كما ق���ال اهلل تعال���ىَ : ﴿ي ْه ِدي ِإ َلى الر ْش ِ ���د﴾(الجن،)2: ِل���كل ش ���ي ٍء﴾(النحل ،)89:وق���الَ : ُّ ُ ِّ َ ْ هو الدس���تور المعصوم المحيط الوحي���د ،الذي يمكن أن يمد
البشرية بالقواعد المحكمة والتعاليم المناسبة إلصالح األفراد
قضايا فكرة د .يحيى جاد*
الصورة النمطية مادي أو معنوي يتم تعميمه "الصورة النمطية" هي تصور ذهني معين عن ش���يء ما، ٍّ على كل أجزاء /مكونات /أفراد هذا الشيء .ومن ثم فخصائصها تكمن في اآلتي: -1التبس � � ��يط االختزالي :وفي ذل���ك تجاهل لتركيبية اإلنس���ان والواق���ع واألحداث واألسباب ،وهذا يستوجب عم ًقا أكبر في التحليل. الِ -ل َما بين -2التعميم الكاسح :وفي ذلك تجاهل للتنوع واالختالف والفروق دون اعتبار -مث ً األفراد من فروق فردية وسمات شخصية خاصة ،وهذا يستوجب مراعاة التمايزات. -3التصل � � ��ب :أي رفض تغيير هذا التص���ور الذهني الحتوائه -في ذهن حامل الصورة النمطية- على أحكام ِقيمية ( ُأ ِ لص َقت بالشيء محل الصورة النمطية) ،مشحون ٍة بمشاعر ذاتية وعواطف شخصية َ (تكونت وترسبت وترسخت عبر الزمن) ،وفي ذلك تجاهل لحقيقة الصيرورة /التغير /التجدد التي تتميز بها الجماعات والمجتمعات البشرية. وه���ذا يس���توجب مراجعة الص���ورة النمطية كل فترة حتى ولو كان قد ت���م تكوينها بصورة منهجية صحيحة. وآليات تكوين وإنتاج ونشر "الصورة النمطية" كثيرة ،من أهمها: ِ الس َير ،األساطير ...إلخ. َ -1 مخت َلف أدوات الثقافة الشعبية :األمثال ،القصصّ ، -2مختلف األدوات اإلعالمية :صحافة ،إذاعة ،تلفاز ،إنترنت ،كتب بمختلف أشكالها وأنواعها. -3التجارب الشخصية الواقعية الحياتية. -4الخطاب السياسي الحكومي الرسمي ،وتزيد ضراوة تأثيره في البالد االستبدادية والفاشية. -5مضمون المناهج التعليمية بمختلف أش���كالها وأنواعها وموادها ومس���توياتها ،وتزيد ضراوة تأثيره في البالد االستبدادية والفاشية. وبن���اء عليه ،فالص���ورة النمطية هي "قولبة" تقود إلى "الجمود" الذي يؤدي إلى "التعصب" ...عبر متتاليتنا" :قولبة فجمود فتعصب"... أع���ور منقوص يؤدي إلى س���وء التعامل مع وفهم جهل اخت���زال ،وفي االخت���زال: وف���ي القولب���ة: ٌ ٌ ٌ ٌ الظاهرة /األمر /الشيء. "جب األوهام" ،بتكرار س���وء التعامل مع الظاهرة / وفي الجمود: تكلس يؤدي إلى الس���قوط في ُ ٌ األمر /الش���يء ،ومن ثم اس���تفحال أمرها وتفاقم مش���كالتها ،وهذا بدوره يؤدي إلى الس���لبية تجاهها بإعالن العجز عن مواجهتها ،بلسان المقال حين ًا ،وبلسان الحال في أكثر األحايين. "جب األنا والذاتية والفردية"... لآلخر، تمركز حول الذات، وف���ي التعص���ب: ٌ ونفي َ ٌ وس���قوط في ُ ٌ ومن ثم استحكام حلقات المشكلة حول الرقبة (*) طبيب وباحث مصري.
23
السنة الثامنة -العدد (2012 )33
يقوم على إرادة القوة بكل ش���روط مقدماتها الروحية والمادية وتكنولوجيا ،بحيث وأخالقيا واقتصاديا ومعرفيا وعقديا عقليا ًّ ًّ ًّ ًّ ًّ ًّ تتش���ابك وتتناغ���م إرادة القوة م���ع إرادة الفع���ل واإلنجاز التي
تمليه���ا قواني���ن لغة التالقي والحوار بين البش���ر ضمن أنس���اق
حضارية مختلف���ة .ومن هنا ،فإن منطق التدافع يفرض تعايش الحوار واالستعداد لتجنب الصراع المفتعل ضد المستضعفين، واالستضعاف نقيض العلو المشروط باإليمان .وهذا يعني أن ش���رط الحوار الس���وي ،ما كان مسبو ًقا بإعداد القوة في صورة
إنم���اء مس���تدام ،يبدأ بالنفير الحض���اري ال بالصدام الحضاري المفتعل واالستنفار الذي يستند إلى اإلثارة.
()4
إن مقارب���ة رؤية حوار الش���باب مع اآلخ���ر ،تحتاج صياغة
رؤية إس�ل�امية اجتهادية ناضجة ،تؤس���س لنم���ط من "الحوار" يق���وم عل���ى إرادة واجتهاد ،ق���وة وأخالق ...ح���وار يقوم على
خدمة اإلنس���ان المس���تخلف في األرض تحت القيم المتعالية ال فوقها ،ليكون هذا األخير مفتوحا على التواصي االجتهادي ً
أخالقيا حواريا منظورا بالحق والصبر(**) وبذلك تقارب الرؤية ًّ ً ًّ أي في إط���ار الواجب "أخالقيا" ،الممك���ن "تحق ًقا" .لكن إلى ّ ًّ ح���د يمل���ك ش���بابنا أدوات وآلي���ات الح���وار الحض���اري زمن
العولمة ونظريات الصدام الحضاري؟!
(*) كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية ،جامعة ابن طفيل بـ"القنيطرة" /المغرب.
الهوامش
( )1إنماء المجتمع األهلي ،كتاب الكلمة ،2بيروت :منتدى الكلمة للدراسات و األبح���اث ،الطبع���ة األول���ى ،ع���ام ،1996م���ن المجتم���ع يب���دأ اإلنماء والنهوض ،معن بشور ،ص.72:
( )2تحدي���ات العولم���ة واألبع���اد الثقافي���ة الحضاري���ة والقيمية رؤية إس�ل�امية، للكدت���ور نادي���ة مصطفى ،مجموعة مؤلفين مس���تقبل اإلس�ل�ام ،دار الفكر
العربي ،دمشق .2004
( )3حوار الحضارات في عالم متغير لـ"السيد ياسين" المؤتمر الدولي حول صراع الحض���ارات أم حوار الثقافات ،ص ،37:مطبوعات دار التضامن .1997
( )4العالق���ات الدولي���ة في اإلس�ل�ام ،لس���يف الدين عبد الفت���اح ،ج ،2:مدخل
القي���م إط���ار مرجع���ي لدراس���ة العالق���ات الدولية ف���ي اإلس�ل�ام ،المعهد
العالمي للفكر اإلسالمي ،القاهرة .1999
(**) يق���ارب الدكت���ور محم���د عاب���د الجابري مفه���وم التنمية فيق���ول :إذا كانت التنمية هي "العلم حين يصبح ثقافة" فإن التخلف سيكون هو "العلم حين ينفصل عن الثقافة" ،أو هو "الثقافة حين ال يؤسس���ها العلم" .راجع وجهة
نظ���ر :نحو إعادة بناء قضاي���ا الفكر العربي المعاصر ،للدكتور محمد عابد الجابري ،الطبعة الثانية ،مركز دراسات الوحدة العربية ،بيروت .1994 السنة الثامنة -العدد (2012 )33
22
أيها الخريف أسى َع ْذبًا تُشيع، ً وجما ًال حزينًا تَبتعث... ِفت، وساع ُة الموت أز ْ هنالك تنتفض، َ وجمال وجدانك تُظهر، ومهرجان ألوانك في األجواء ترسل... َ فتتألَّق ألوانك ،وتزهو أوراقُك، وتتـراقص أشجارك، وكأنك تريد أن تقول: "في يُبعث الربيع من جديد، َّ نشر، والحياة من قبري ستُ َ ومن فنائي يقوم وجودي، لهب قيامي"... وتحت رمادي ُ ***
ال ري���ب في���ه ،في أطراف التحليل س���يتأجج لنا س���ؤال منطقي
إستراتيجية لبناء ثقافة حوار شبابي حضاري يؤدي إلى إشراك فاعلين���ا وكوادرن���ا في التنافس الحض���اري العالمي؟ هل عملنا عل���ى صياغ���ة لغة حوار ممنهج���ة ال م���ن لغة حوارية بد ً علميا َ ًّّ ضعيف���ة قد تس���اهم في كثي���ر من األحيان إل���ى تعزيز الحواجز ()2 ال إزالتها؟
تس���ببت في انش���طار المجتمعات القديم ،هي االزدواجية التي َّ
يش���ير مصطل���ح الح���وار إل���ى درج���ة م���ن التفاع���ل والتثاق���ف والتعاط���ي اإليجابي بي���ن الحضارات التي تعتني به ،وهو فعل ثقاف���ي رفي���ع يؤمن بالحق ف���ي االختالف إن ل���م يكن واجب االختالف ،ويك���رس التعددية ،ويؤمن بالمس���اواة .وعليه فإن الحوار ال يدعو المغاير أو المختلف إلى مغادرة موقعه الثقافي أو السياس���ي ،وإنما الكتش���اف المساحة المش���تركة وبلورتها، مج���ددا من���ذ أن توقفنا عن صناع���ة تاريخنا، واالنط�ل�اق منها ً ونح���ن عب���ارة عن موض���وع لفعل الغ���رب ،يس���تثيرنا فننفعل، رد فعلنا موزو ًنا ومقاسا على فعله .واليوم شبابنا محتاج ويأتي ُّ ً لفع���ل تواصلي إنجازي حضاري ،وليس لرد الفعل اآلني غير التواصلي .أكثرنا الحديث عن دمج الشباب في الحوار ،لكن ()3 لم نحدد لهم صياغة آلليات وأدوات هذا الحوار.
يس���تدعي ط���رق أبواب المفه���وم المضاد للوص���ول إلى معنى مضاد للمضاد .وال س���يما أن التحديات التي تواجه شبابنا في
المجتمعات العربية واإلس�ل�امية ليس���ت بالقليلة وال باليسيرة، وتأتي في مقدمتها التحديات الثالثة التالية:
-1االزدواجية :فالس���مة البارزة لدول ما بعد االس���تعمار
إل���ى قس���مين ال تجمعهما إال الرقعة الجغرافي���ة؛ "دعاة الثقافة
األصلي���ة" و"دعاة الثقافة الغربية" ،مم���ا جعل الصراع الفكري طبيعيا تتوارثه األجيال ،وبالتالي أمرا ًّ داخل المجتمعات العربية ً
س���ادت ثقافة االحت���راب التي تتغذى بالنف���ي والنفي المضاد، وغاب���ت قنوات التواص���ل والحوار .والبد لن���زع فتيل الحرب
األهلية الثقافية الت���ي تتهدد مجتمعاتنا ،من تجاوز االزدواجية بابت���كار صي���غ تركيبية تعم���ل على إدماج "اآلخ���ر" أثناء عملية
إع���ادة بن���اء الذات؛ ه���ذه العملية التي لو أنه���ا التزمت بتحديد التحديات القائمة وترتيبها حس���ب ُس��� َّلم األولويات ،لظهر أن الصراعات الداخلية التي تس���تنزف طاقات مجتمعاتنا إنما هي
ناتج���ة عن تناقض���ات ثانوية واهي���ة بالمقارنة إل���ى التناقضات المركزية لهذه المجتمعات.
()1
-2تشتت القوى الفكرية في تحديد ماهية الحوار :تتطلب
طبيع���ة التحدي���ات ،تجاوز الخالف���ات الداخلي���ة والتناقضات
الثانوي���ة ،حتى يتأتى اجتم���اع كل القوى الفكرية الصادقة على أه���داف محددة ترتبط بطبيع���ة التحديات الحضارية .وفي هذا
المضمار ،يجب ترش���يد الش���باب لتش���كيل جبه���ة ثقافية على أرضية فكرية تتكون أسسها من القواسم المشتركة.
وفي س���ياق االنتقال بالش���باب من إش���كالية تشتت القوى
الفكري���ة في تجاوز خالفات الذات لحوار اآلخر ،يتعين علينا
واجب���ا توجيه���ه لمعرفة َمن اآلخر المرش���ح لعقد الحوار معه، ً
بحي���ث ال يوجد لدينا رؤي���ة واضحة لماهية الحوار ومضمونه الحقيق���ي؛ هل هو حوار حضارات أم ح���وار ثقافات أم حوار
وإن أدي���ان؟ هل الحوار م���ع الغرب أم مع حض���ارات أخرى؟ ْ كان مع الغرب ،فهل الغرب واحد أم متعدد؟
دائم���ا دفاعي تبري���ري يدور حول موقفن���ا من الح���وار هو ً
القضاي���ا التي يفرضه���ا اآلخر علينا ،يصوغها في ش���كل اتهام
يرمين���ا به فنبدأ في ش���حذ الهمم لدرء ش���بهة ه���ذا االتهام دون أن نقدم أنفس���نا حقيق ًة لآلخر بش���كل إيجابي ،فهل من خطط
-3افتقاد الرؤية المتوازنة للح � � ��وار التام والحوار الناقص:
الحوار التام والحوار الناقص
حوار اس���تخالفي تصل ال ُّلحمة في���ه بين النظري الح���وار التام ٌ والعمل���ي .وه���و حوار يتم بي���ن "الذات" ،ويس���تند فيه البحث النظ���ري عل���ى "االجته���اد اإلجماع���ي" ،كما يتق���دم العمل فيه ف���ي مجال التطبيق على أس���اس "التواص���ي بالصبر" .في حين حوارا يك���ون الحوار الناق���ص والش���رخ فصاميا ،قوامه الزيف ّ ً ًّ بي���ن النظري والعمل���ي ،وهو حوار يجري بي���ن "اآلخر" .لكن من الممكن أن يتم هذا الضرب من الحوار (الحوار الناقص) بين مكونات الذات حينما يختل لديهم شرط التواصي بالحق والتواصي بالصبر .فالضربان من الحوار ،يمكنهما الجريان في الملة الواحدة أو بين الملل والفلس���فات والثقافات المختلفة. فوتيرة الحوار تراتبية قد تقف عند "حوار التعايش" ،وقد ترقى إلى رتبة "حوار التعارف". والحوار الذي نسعى ترسيخه بين شبابنا ،هو حوار يحتاج إل���ى إع���ادة تأصيله وفق رؤية اجتهادية موصولة ما بين العقلي والعق���دي ،وهو مختل���ف عن الحوار الذي يس���تند إلى باعث الضع���ف والتراخ���ي واالنكس���ار واالنه���زام وبالتال���ي التقلي���د واالس���تتباع المطل���ق .الح���وار الش���بابي مع اآلخ���ر ،ينبغي أن
21
السنة الثامنة -العدد (2012 )33
جدار األمن الثقافي والهوية اإلس�ل�امية (التدخل االستعماري باإلره���اب الدول���ي لش���عوبه ف���ي إط���اره الجغراف���ي /الص���ور وسياسيا وسينمائيا إعالميا النمطية المش���وهة لإلسالم وثقافته ًّ ًّ ًّ
وفكريا /إلصاق تهمة اإلرهاب بكل المنتمين لدائرته وتربويا ًّ ًّ
/استفزاز مشاعرهم باإلساءة لمقدساتهم ونبيهم .)...
ف���ي ه���ذا المن���اخ القل���ق ،ولش���دة الغم���وض المحي���ط
باحتم���االت تط���ور العالقات المس���تقبلية بين ش���بابنا واآلخر، واحتمالية س���يادة الالأم���ن الفكري ،فيكون الدي���ن هو المتهم
الوحي���د بالتط���رف أو اإلره���اب ،بحي���ث أصب���ح ال���كل ي���ردد التطرف الديني؛ والغرض توجيه نظام العالم إلى خطر وهمي
م���ن الدي���ن لعزل���ه عن واق���ع الحي���اة .فهل صحيح أن ش���باب العالم اإلسالمي كلهم متطرفون ألنهم يدينون بدين اإلسالم؟
هذا اإلش���كال ،ينبغي أن يتصدى لدراس���ته ش���بابنا اإلس�ل�امي ردا للته���م الموجهة إليه ،وإنما إلع���ادة الدور النهضوي لي���س ًّ لحضارتن���ا ،وإقامة ميزان العدل في فهم ذاته ومقوماته الدينية
نستطيع بدون تفكيك أسبابه بناء حوار حضاري منتج لشبابنا. إن ح���وار الحضارات ال يعفينا من ض���رورة الرؤية النقدية لواقعن���ا ،ب���ل البد من القيام بش���كل حثيث بنق���د ذاتنا والعمل عل���ى الخ���روج م���ن الحال���ة الفصامي���ة العميقة الت���ي تمتد من الف���رد إل���ى المجتمع ،ومن جيل الش���يوخ إلى جيل الش���باب، الخروج من نرجسية نظرتنا إلى التاريخ والتراث، الخروج من ِ ِ فكرا ونمط حياة َ وه���م إمكان تمثل الحضارة دون التلوث بها ً إن ل���م نش���ارك في إنجازها ونس���اهم في بنائه���ا .وما لم ندرك الش���رط التاريخ���ي لتف���وق الغ���رب وحضارته ،وم���ا لم نمتلك ُّ أسس التقدم الراهن الذي حققته حضارة الغرب ،فلن نستطيع ْ خوض الحوار الحضاري بالجدارة التي تستحقها حضارة مثل حضارتنا العربية واالس�ل�امية .فكيف س���يجري حوار الشباب الحضاري من خ�ل�ال الموقف المجتمعي الفصامي بين ثنائية ثقاف���ة التقلي���د والتوفي���ق ،ثقاف��� ِة االنبه���ار واالس���تيالب ،ثقاف ِة االنعزال واالستتباع المطلق؟
والفكري���ة ومؤهالت���ه العلمية التي بها يتم بناء جس���ر التواصل الشباب وسؤال الحوار بعيدا ع���ن التعصب والنظ���رة الدونية ال���ذي يفهم لغت���ه اآلخر ً
لمرتك���زات حضارتنا اإلس�ل�امية .وال ش���ك أن الحديث عن
ح���وارا ،يحتمل الكثير صراعا أو الش���باب وحوار الحضارات ً ً من االلتباس والخلل .فأية حضارات هي المقصودة بالحوار؟
ه���ل المقصود أن يتحاور ش���بابنا مع الحض���ارة الغربية ،أم مع الحضارات الشرقية من عربية وإسالمية أو بوذية وشنتوية؟
ث���م ما المقصود بالحوار؟ فهل المقصود حوار بين الغرب
وإعالما؟ هل المقصود حوار وجيوشا ثقاف ًة وحضار ًة وسياس ًة ً ً دين���ي بين الدعاة والمبش���رين ،أم أن المقصود حوار سياس���ي بين زعامات سياس���ية تم ِّثل -بش���كل أو بآخر -رموز المصالح
المتناقضة لبلدان مختلفة؟ هل يتم الحوار على أس���اس القول االستش���راقي ب���أن العق���ل للغرب وال���روح والخرافة للش���رق؟
واقتصاديا تكنولوجيا هل يمكن أن يتحاور ش���بابنا مع اآلخ���ر ًّ ًّ
ح���وار ثقافي يتحقق في بمع���زل عن الثقاف���ة ،أم أن المطلوب ٌ وح���ي ومنفتح بين مختل���ف المرجعيات الثقافية تفاع���ل كريم ٍّ ف���ي الش���رق والغ���رب ،ألن تح���دي الح���وار أضح���ى يحم���ل
الجمي���ع عل���ى مواجهته؟! فم���اذا يجب علينا عمل���ه كي نكون
أندادا حقيقيين في هذا الحوار؟ هل سنحاور الحضارة الغربية ً من خارجها أم من الداخل؟ هل يمكن أن نتفاعل مع حضارة
ما في هذا العصر وأن نبقى خارجها؟ فثمة قصور جوهري لن السنة الثامنة -العدد (2012 )33
20
يشكل الشباب العربي بؤرة وجوهر التغيير ...فكما أن لآلخر دوره ف���إن للش���باب أدواره ،تتوزع وتختلف تتصادم وتتكامل، مرتعا تنمويا يس���تدعي إع���ادة التكرير ًّ لكنه���ا في النهاي���ة تبقى ً من أجل االضطالع بش���باب ق���ادر على تحمل أعباء المجتمع العرب���ي ،ق���ادرٍ عل���ى التطوي���ر والتطهير ،قادرٍ قب���ل ذلك وذاك على صناعة التعبير الحر غير المنمط وغير الملوث ،بل تعبير مبن���ي على إعم���ال الفكر من أجل حوار ش���بابي عربي-عربي أوالً ،وح���وار ش���بابي عربي-غربي ثانية ،غايت���ه إعادة االعتبار إلى الجوهر االجتماعي للش���باب لتحقيق مشاركته الفعلية في الحياة العامة بما في ذلك الحوار الثقافي. فكيف يمكن للش���باب أن يلعب دوره الريادي في تحقيق الح���وار الثقاف���ي؟ ما ه���ي مكامن ضعف ذلك الح���وار ونقاط أي عالقة يمكن أن يشكلها الشباب قوته في عالقته بالشباب؟ ّ العرب���ي ف���ي بن���اء ثقافة الح���وار الثقاف���ي؟ هذه أس���ئلة وغيرها دورا تالح���ق مفهوم "الح���وار الثقافي" في عالقته مع فئة تمثل ً هاما في عملية البناء الحضاري ،فئة شباب العالم اإلسالمي. ًّ مقاب�ل�ا مقاب���ل مقاب�ل�ا ،ول���كل ال ش���ك أن ل���كل مفه���وم ً ً ٍ ال ،يوحي بوج���ود مفاهيم داللي���ة ُتنتقد مض���ادا؛ فالصم���ت مث ً ًّ بمفهوم الحديث الذي بدوره يؤش���ر بوجود مقابل األول ،أي الصم���ت .فإذا تمكنا م���ن تناول كل المفاهيم على حدة ،فمما ّ
قضايا فكرية
د .مريم آيت أحمد*
ثقافة الحوار مع اآلخر لدى الشباب ودورها في التواصل الحضاري
ف���ي بيئ���ة عالمي���ة مش���حونة بثقافة الص���دام الحض���اري واالس�ل�اموفوبيا ،يتأك���د الحديث عن العالقات المفترضة بين الحضارات والثقافات في هذا العالم ،التي ال زالت تحتفظ لنفس���ها بمقومات البقاء واالستعداد للنمو والنهوض. وتبدو قيمة هذا الموضوع بعدما دأب مفكرو الغرب واإلسالم على حد سواء على استعادة طرح سؤال كبير متجها نحو مرحلة جديدة ،يتعلق بماهية مركب من أسئلة تفصيلية عقب كل تحول استراتيجي يبدو فيه العالم ً طبيع���ة الص���راع بين األمم والش���عوب ،وما بي���ن الرفض المطلق أو القبول المطلق ،تع���ددت المناهج وتباينت الرؤى واختلفت المشاريع والمدارس .ومع العديد من اإلخفاقات التي شهدها العالم اإلسالمي أمام الخلل العالمي الناتج عن أحادية القطب وازدواجية المعايير في تطبيق المواثيق الدولية ،وطرح مخططات في اختراق
19
السنة الثامنة -العدد (2012 )33
الواحد في الصحافة مهنية وحصافة ،وتعريض وحدة المجتمع أرد ِء الس���فلة نباهة، واألمة للخطر سياس���ة، وتقدم من ّ وتزعم َ ّ
خالق له كياسة ( )...حتى أصبحت الروائح التي تزكم األنوف مقدم���ة لم���ا لها من نفاس���ة ( )...األمم ال تس���عد إذا كانت لغة
التواص���ل المخل���ب والظفر والناب ،والمي���ل الصريح عن كل
كذاب) ،األمم ال تسعد قول صواب ،ألنه صدر عن (مشاغب ّ بمزيف من االنتخاب ،أو حيل (دهاء)ساس���ة بتعطي���ل إرادته���ا ّ ألجل أن تهنأ األمة بطول غياب ،في تعمير األرض والمراقبة
والحس���اب ،ال يرتاح لها بال حتى تراقب الكل حتى البواب. ّ فعلنا وش���غلنا تلك ّ عيدنا س���عيد إذا نوينا بحق وصدق ثم ّ
النية في شعاب الحياة ،فيتحول حالنا إلى أحسن حال ،فيكون
يومنا تصميما على ترك التخ ّلف بكل أشكاله وألوانه ،فنطرده ً م���ن تعليمنا ومش���هدنا السياس���ي واالقتص���ادي واالجتماعي،
التخ ّلف وفق المعايير اإلنسانية الجامعة.
ه���ل يقبل من يري���د أن تكون أمته على أفض���ل حال إيما ًنا
وأمن���ا واس���تقرارا وتنمي���ة ،بالدوني���ة ،ورأس م���ا يصنعه���ا وفق ً ً ح���ب األمة المتف���ق علي���ه بي���ن العق�ل�اءُ ،ع َّباد ذواته���م بعنوان ّ
والوط���ن ،فيخاط���رون باألمة ألجل الحف���اظ على حطام زائل من الدنيا ،ألن حب الوطن واألمة لها مقتضيات جلية ،تتجلى في أن تبذل لهما كل ما تقوى عليه من غير انتظار ِع َوض ،ومن
بذل ألجل انتظار العوض ،فهو محب للعوض ال للوطن.
عيدنا سعيد إذا أردنا ،فهل نسترد إرادة السعادة؟ ونكتشف
آليات تفعيلها وتش���غيلها في ش���عاب الحياة ،فنسعد بأيام َه ّنية ف���ي التعلي���م والتربي���ة والسياس���ة واالقتصاد ثم تت���وج بالبعث
الحض���اري لألم���ة ،وأمة هذا ش���أنها تنأى بنفس���ها من أن تبقى
أمة للفرجة (تتفرج عليها األمم ألنها أشبه بالبهلوان) ،لتتحول
���م ُأ َّم ًة ﴿و َك َذ ِل َ ���ك َج َع ْل َن ُ وف���ق س���نن التغيير إلى أمة الش���هادة َ اك ْ ���طا ِل َت ُكو ُن���وا ش���هداء على الن���اس ويكون ���ول َع َل ْي ُك ْم الر ُس ُ َو َس ً ُ َ َ َ َ َ َّ ِ َ َ ُ َ َّ فكر ونوى وعمل على إس���عاد يومه، يدا﴾(البقرة ،)143:م���ن ّ َش���هِ ً فغده من جنسه إن داوم عليه ،وهذا نتمنى أن نكون معه ومنه، ونقول له عيدك القادم سعيد ،ألن السعادة اكتساب" ،إ ّنما هي
ردت إلينا" ...وإلى عيد آخر. أعملنا ّ
(*) كلية العلوم اإلسالمية ،جامعة الجزائر /الجزائر. السنة الثامنة -العدد (2012 )33
18
قطرات الماء قطرة فقطرة، فرشحة... رشحة َ فالقليل إلى القليل، يشق، طري ًقا ّ ال يم ّهد.. وسبي ً وبمشيئة الخالق، غ ًدا يطفح الماء، والظامئين يسقي، والعطاش يروي... َ ***
باليسر عدت على قومي بالخفض َ لو ْ والدعة ،أو ُج ْدت عليهم ُ مني اللس���ان الخافق بذكرك ،والقلم الدافق والس���عة ،لوجدت ّ شر بش���كرك، ّ ولكنك ُعدت عليهم بنهار كاسف الشمس ،يوم ّ مقيما، من األمس ،فاذهب كما جئت ،فلست منك ً ظاعنا وال ً ذميما". وع ْد كما شئت ،فلست مني ً ُ حميدا وال ً فالعي���د الس���عيد ،ما تصمم���ه العقول وتتحقق ب���ه القلوب، وتبذل لتحقيقه في ش���عاب الحياة الس���واعد .فالعيد السعيد ما نصنعه؛ فإن ش���قينا فيه فهو حصاد ما زرعناه في سالف األيام، وإن س���عدنا ب���ه فبفض���ل ب���ذل وصناع���ة ال تجتم���ع والخمول والكس���ل والس���بهللة ،ق���ال الش���يخ" :إنم���ا الن���اس ألعمالهم، عمرن���ا أيام العام س���عد العاملون وش���قي الخامل���ون ( )...فلو ّ بالصالح���ات ،لكن���ت (العي���د) لن���ا ضاب���ط الحس���اب وحاف���ظ ش���يئا ولم تبخس���نا من أزوادنا تلتنا من أعمالنا ً الجراب ،ثم لم ْ وتمنينا عليك األماني ،وتبادلت ألس���نتنا ا، فتي�ل� ً قصرنا ّ ّ ولكنن���ا ّ ودعناك وانتظرنا إيابك، تؤمن عليها قلوبنا ،ثم ّ في���ك أدعية لم ّ وأطلنا الغيبة واستبطأنا غيابك". لقين���ا هذا العيد و ما س���بقه من األعي���اد باالكتئاب ،وتلك نتيج���ة االكتس���اب ،وكيف ال يك���ون كذلك ،وقومن���ا كما قال "يتخبط���ون في داجية ال صباح له���ا ،ويفتنون في عام الش���يخ: ّ يذكرون ،وأراهم ال ينقلون مرتين ،ثم ال يتوبون وال هم ّ مرة أو ّ تأخروا خطوات إل���ى الوراء ( )...حصرت قدم���ا إل���ى أمام إال ّ ً حرة ،وتس���خير نفس���ها لضرة ،نكاية ّ حرة على ّ همه���ا في إثارة ّ ال عن س���بب البالء الذي متس���ائ الش���يخ يذكر ثم ة"، ض���ر ف���ي ً ّ "وأفكر في ع ّلة هذا البالء النازل بهم ،وفي حل باألمة فيقول: ّ ّ التف���رق المبيد لهم ،فأجدها آتية م���ن كبرائهم وملوكهم، ه���ذا ّ الذل ،فرئموا عوقين منهم الذين أش���ربوا في قلوبه���م ّ وم���ن ُ الم ّ واس���تحبوا الحياة الدنيا فرضوا بسفاس���فها، الضي���م والمهانة، ّ ونزل الش���رف في نفوس���هم بدار غريبة فلم ُي َقم ،ونزل الهوان منها بدار إقامة فلم َي ِرم."... كي���ف لنا أن نس���عد بالعيد والمس���لمون "ورث���وا من الدين وألفاظا بال مع���ان ،ثم عم���دوا إلى روحه قش���ورا ب�ل�ا لب���اب، ً ً فأزهقوه���ا بالتعطيل ،وإلى زواجره فأرهقوه���ا بالتأويل ،وإلى فموهوه���ا بالتضليل ،وإل���ى وحدته الجامعة هدايت���ه الخالصة ّ فمزقوه���ا ( )...ق���د نصب���وا م���ن األم���وات هياكل يفتتن���ون بها ّ ويقتتلون حولها ويتعادون ألجلها ،وقد نسوا حاضرهم افتتا ًنا اعتم���ادا عل���ى أوليهم ،ولم بماضيه���م ،وذهل���وا عن أنفس���هم ً
يحفلوا بمستقبلهم ألنه غيب والغيب هلل ،وصدق اهلل وكذبوا، فم���ا كانت أعمال محمد وأصحابه إال للمس���تقبل ،وما غرس محمد شجرة اإلسالم ليأكل هو وأصحابه ثمارها ،ولكن زرع األولون ليجني اآلخرون". ج���اء العي���د والهوى ف���ي ممالك المس���لمين يأم���ر وينهى، واالس���تبداد ف���ي كثي���ر من بلدانهم بل���غ المنته���ى ،وكيد العدو األجنب���ي بمعاون���ة خدمه ف���ي الداخل يس��� ّلط األخ على أخيه، لين���ام ه���و قرير العي���نِ ،ل َي ِكل أمر المس���لمين إليه���م ،فيقومون مقام���ه في تخري���ب الديار ومن���ع النهضة الحضاري���ة المنتظرة بهدر الطاقات فيما ال طائل منه ،وبعث المسائل الميتة المميتة المعطلة عن من مراقدها على حين غفلة من الجمارك الفكرية ّ االشتغال ،مما يجعل التفكير في النهضة من سابع المحال في ظل وضعنا الراهن. إذا أردنا أن يستعيد العيد معناه الديني واإلنساني والنفسي ش���كرا بعد تمام عبادة تتحقق دينيا واالجتماعي ،فيكون العيد ًّ ً بها القلوب وتنار بها العقول و ُترى عمارة في األرض ،ويعود في هذا اليوم مال اهلل الذي اس���تودعه الغني على فقير يدعو له أمين���ا في نقل األمانة التي بحف���ظ النعم���ة من الزوال ،ألنه كان ً استأمنه اهلل عليها. نف���رح بالعي���د حي���ن يك���ون يومن���ا أحس���ن من أمس���نا؛ في السياس���ة والتربي���ة والتعلي���م واالقتصاد واالجتماع ،وتس���تعيد أمتن���ا الص���دارة الحضاري���ة ،ويع���ود م���ال األمة عل���ى األمة... كل شيء ،نسعد به عندما يقدم خيارنا في ّ نس���عد بالعيد عندما ّ معي���ارا للتقديم، تك���ون الكف���اءة المعرفي���ة واألهلية األخالقية ً نسعد عندما يستعيد المجتمع المبادرة التي تتوافق مع األوامر اإللهية في كل ش���ؤون الحياة ،نس���عد حينما تس���عفنا ش���هواتنا وش���عبا الترش���ح للبيع أمة ال عن فنتحرر من قبول الس���وم فض ً ّ ً وبكل قوة أننا لس���نا أمة نصرح بملء فينا ّ ً حكاما ومحكومينّ ، للبيع ،وأننا أمة ال تقبل الضيم واإلذالل. أن الشعوب والمجتمعات قد تسعد بما ال ُي ْسعد، ظن ّ من ّ فه���و مجانب للص���واب ،مخالف لما أرش���دت إلي���ه األلباب، منازع لما درجت عليه س���نة (قواني���ن) رب األرباب .األمم ال تعطلت فيها العقول والقلوب تسعدها اآلالم والشجون إال إذا ّ باللهو المجون ،وطمست المواهب بفعل القرب من المحلي أو األجنب���ي من الكانون (الموقد رمز الدفء) ،واندثرت فيهم المروءة ،وقلبت فيهم الموازين فصار التحريش بين أهل الوطن
17
السنة الثامنة -العدد (2012 )33
أدب
أ.د .عمار جيدل*
َ ولست شجا ًعا إذا أنت اقتحمت ال تخف ولكن كنْ حذ ًرا ،اِح َت ْط لألمر ولكن ال تكن جبا ًنا. َ وقفت مجر ًدا من كل سالح أمام ذئب جريح ،فذاك هو عرين األسد دون تخطيط مسبق ،أو الته ّور بعينه والرعون ُة بذاتها .ومتى كان التهور شجاعة ،وإلقاء النفس إىل التهلكة استبسا ًال!؟ *** (املوازين)
أصل العنوان فكرة مس���تلة مما قرأته عن الش���يخ محمد البش���ير اإلبراهيمي أمير البيان وسلطان البرهان في الكشف عن الدرر المستخرجة من القرآن وس ّنة سيد اإلنس والجان. درج الناس في البالد اإلس�ل�امية أن يدعو بعضهم لبعض ،بهذه المناس���بة بالسعادة في العيد وبه، ال إلسعاد أنفسهم ،قبل ال لنيل الس���عادة ،بل فيما إذا كانوا أه ً ولكن هل تس���اءلوا فيما إذا كانوا أه ً نقل هذه المعاني السامية لآلخرين؟ مخاطبا العيد" :يا عيد! العيد ال يحمد لذاته وال يذم ...قال الشيخ محمد البشير اإلبراهيمي ً
السنة الثامنة -العدد (2012 )33
16
بي���ن الثقاف���ات يج���ب أن ينبث���ق مجتمع
عالم���ي جديد ،قوامه التفاهم واالحترام المتب���ادل ...وه���ذا المجتم���ع ،يج���ب أن يأخ���ذ ص���ورة نزع���ة إنس���انية جديدة
يتحق���ق في���ه الش���مول باالعت���راف بقيم مش���تركة تحت ش���عار؛ تنوع الثقافات". وعل���ى الرغم من كون هذا المؤتمر
كم���ا جاء ف���ي بيانه الختام���ي -قد تنبأبـ"انبج���اس جامع���ة عالمي���ة ف���ي المث���ل والقيم والتطلعات" كإطار ثقافي عالمي
يواكب التواصل الحضاري العالمي ،إال أن البي���ان المذكور أكد على مواصفات
�إن ح ًّق��ا على امل�سلم�ين �أفرا ًدا الت�شب��ث و�شعوبً��ا و�أم��ة، َ بثقافته��م الإ�سالمية الأ�صيلة، فه��ي �سفين��ة جناته��م -ب���إذن اهلل -تع�بر بهويته��م وذاتيتهم �إىل ب��ر الأم��ان و�شواط��ئ النج��اة يف ع�� ٍ صر يتوا�صل فيه الع��امل بو�سائ��ط حتم��ل الغ��ث وال�سمني ،والطيب واخلبيث، والنافع وال�ضار.
له���ذا اإلطار بما ال يمكن أن يتحقق في
نظر لها ذلك المؤتمر. ورعاية للنزعة اإلنسانية الحضارية التي َّ ولئ�ل�ا يوحي هذا الق���ول بالتعارض مع المقدمات الس���ابقة
وم���ا تدل علي���ه من تمايز الثقافات وتقبل ه���ذا التمايز واحترامه
ل���دى اإلنس���ان الغربي" ،مم���ا يدل على
أنه���ا تس���ير نح���و االعت���دال ف���ي رؤيتها الش���املة ...واألمثل���ة عل���ى ذل���ك م���ن
الكث���رة بم���كان ،بيد أنن���ي أختصرها في األمثلة اآلتية:
ال :العودة بها إلى اإليمان بوجود أو ً
إله واحد.
ثانيا :التأكي���د على الجانب الروحي ً
من اإلنسان وأن حياته الروحية والخلقية
تماما كحياته "البيولوجية". هي حقائق ً
ثال ًث���ا :إدراك حقيق���ة أن العل���م ليس
ال ،وال بالمنهج محصورا بالطبيعة مج���ا ً ً
أي ثقافة عرفها التاريخ البش���ري إال من
خالل الثقافة اإلسالمية طال الزمن أم قصر ،وذلك لما تمتلكه ٍ ش���مول وعالمية ه���ذه الثقاف���ة من أصالة ،ولم���ا تتصف به من
الخبرة اإلنس���انية ،والبحث عن األفضل
التجريبي طري ًقا.
رابع���ا :تقلص النفور والعبثية من عل���م النفس والكونيات ً
واالس���تعاضة عنه���ا؛ بالغائي���ة ،وب���اهلل ،وبالجم���ال ،وبالعناصر
الروحية ،وبكرامة اإلنسان.
خامس���ا :ب���روز المش���اعر اإلنس���انية النبيل���ة ،كم���ا ف���ي ً تقدي���م الخدم���ات اإلنس���انية في مج���االت التغذي���ة ،ومقاومة
وتقدي���ره ،أقول إن ه���ذا التعارض المتوه���م مدفوع بالحقيقتين
المجاع���ات ،والعناية بالطفولة واألمومة ونحو ذلك ،مما يعد
الحقيقة األولى :كون الثقافة اإلسالمية هي الثقافة الرائدة
اإلس�ل�امية وم���ن مقوماته���ا وخصائصها قبل أن تتش���كل هذه
م���ع جميع الثقافات والتعايش الس���لمي معها ،ب���ل هي الثقافة
الغربي���ة على الرغم من هذه التحوالت الجوهرية واإليجابية،
مدت جس���ورها لس���ائر الثقافات ،وكانت منها ،وبالمقابل فقد َّ
بالثقاف���ات األخ���رى وبخاصة الثقافة اإلس�ل�امية ،بل ال زالت
اآلتيتين:
ف���ي الحقيقة والنظرة المتجردة المنصفة ،من أبجديات الثقافة
ف���ي مضم���ار التجرب���ة التاريخي���ة ،فق���د نجحت في التس���امح
الرؤي���ة اإليجابية في الثقاف���ة الغربية بقرون عدة ،بل إن الثقافة
انفتاحا عليها وإفادة اإليجابية في عالقاتها مع الشعوب واألمم؛ ً
ل���م تتح���رر بالق���در الكافي من عقدة االس���تعالء ف���ي عالقاتها
بمثابة المدرس���ة التي تخرجت فيه���ا النماذج الثقافية المبدعة.
تتسم معها -بشكل أو آخر -بطابع النرجسية وعدم االعتراف
العالمية بعوامل ذاتية من جهة وبجهود موجهة من جهة أخرى،
أف���رادا إن ح ًّق���ا عل���ى المس���لمين وش���عوبا وأمة ،التش���بث ً ً
الحقيقة الثانية :كون الثقافة الغربية التي شقت طريقها نحو
تتحول باستمرار نحو الحقائق اإليمانية التي تقوم عليها الثقافة ابتداء ولها الس���بق إليها -أعني الثقافة اإلسالمية- اإلس�ل�امية ً فش���يئا من ش���يئا ً وك���ون الثقاف���ة الغربية من جه ٍة أخرى تقترب ً مناهج الثقافة اإلس�ل�امية في كثير م���ن قضايا الوجود والكون
والتاريخ ،فهي بعبارة مختصرة كما ذكر مؤلفا كتاب "العلم من
منظوره الجديد"" :بصدد تحول ك ّلي في عناصرها المختلفة". أيضا" :تراكم وذلك ألسباب عدة من أهمها كما ذكرا فيه ً
بفضلها إال ما ندر.
بثقافتهم اإلس�ل�امية األصيلة ،فهي س���فينة نجاتهم -بإذن اهلل-
تعبر بهويتهم وذاتيتهم إلى بر األمان وشواطئ النجاة في عصرٍ يتواصل فيه العالم بوس���ائط تحمل الغث والس���مين ،والطيب والخبيث ،والنافع والضار. (*)
كلية الش���ريعة ،جامعة اإلمام محمد بن س���عود اإلسالمية /المملكة العربية
السعودية.
15
السنة الثامنة -العدد (2012 )33
قضايا فكرية
د .إسحاق بن عبد اهلل السعدي*
أصالة الثقافات
ومستقبل الثقافة اإلسالمية التماي���ز والتنوع ف���ي الثقاف���ات ،واقع تاريخي
والوج���دان ،وال تتنافى ه���ذه الحقيقة مع الواقع الحضاري في
وتتنافس في ش���تى ميادين���ه ومجاالته ...وهو
من حيث هو نتاج طبيعي لجهود البشر قاطبة ،وثمرة مشتركة،
ومحف���ز حض���اري تتبارى ف���ي مدارجه األمم
ف���ي الوقت نفس���ه مناط اعت���زاز وفخر؛ فكل أم���ة تباهي غيرها
بثقافتها وفلسفتها في الحياة من خالل رؤيتها لإلنسان والكون والحياة ،وما يترتب على ذلك من اعتبارات ونماذج هي عندها بمثابة المثل والقيم العليا التي تأخذ بنفسها نحوها ،وترصد ما
حقق���ت من نجاحات ومقاربات نحو غاياتها ،وتعدها مصدرا ً لذلك الفخر واالعتزاز.
ش���موله وعمومه ،ألن المنجز الحضاري نتاج مش���اع للجميع
حكرا على أمة دون األخرى. وليس ً
إن جوهر الحياة وسعادة البشرية وجمال العالم ،بل وتحقق
الوج���ود البش���ري في وضعه الس���وي وحيات���ه الطبيعية ،يكمن ف���ي رعاي���ة الخصوصيات وإعطائها ما تس���تحق م���ن االحترام والتقدير والتقبل طالما هي حق مشروع وسنة حضارية.
لق���د عق���دت "اليونس���كو" ف���ي منتص���ف الق���رن المنصرم
وحت���ى م���ع تق���ارب عالم الي���وم ،وكون���ه اندمج ف���ي إطار
عام���ا بعن���وان" :أصال���ة الثقاف���ات" ،وص���در ع���ن هذا مؤتم���را ًّ ً
األق���وى والس���ند المتي���ن م���ن الواق���ع والتاري���خ وم���ن العق���ل
ه���ي مش���كلة عالق���ات بي���ن الثقاف���ات ،فم���ن ه���ذه العالقات
حض���اري عام أو كاد ،يبق���ى لتنوع الثقافات وتمايزها ،المنطق
السنة الثامنة -العدد (2012 )33
14
المؤتم���ر بيا ًن���ا ختامي���ا ج���اء فيه" :إن مش���كلة التفاه���م الدولي ًّ
فإذا أضيف إلى الواقع أمكن تعريفه هكذا:
فق���ه الواقع هو :الفهم الدقي���ق النافذ إلى أعماق ما يجري
في الظرف المعيش والمجال المحيط.
ف���إذا أضي���ف فقه الواق���ع إلى األمة صار الم���راد بفقه واقع
األم���ة هو :الفهم الدقيق النافذ إل���ى أعماق الوضع الذي عليه األم���ة ب���كل مكوناتها في هذا الظرف المعي���ش داخل المجال
الدولي المحيط.
وبتحلي���ل التعريف إلى عناصره نجد الفهم بش���روطه وهو
أداة الفق���ه .والوض���ع بمكوناته وهو موض���وع الفقه .والظرف
المعي���ش بجريان���ه وه���و اإلط���ار الزمان���ي .والمج���ال المحيط بتفاعالته وهو اإلطار اإلنساني.
وال سبيل إلى فقه واقع األمة بغير إحكام أمر األداة؛ أدمغ ًة ومنهجا في التوثيق والتدقيق والتحقيق، وأجهز ًة ومؤسس���ات، ً يق���وم على االس���تيعاب والتحلي���ل والتعليل قب���ل أي تركيب،
مقدم���ا عن���د الدراس���ة الوصف عل���ى التاري���خ ،والجزئي على ً
الكلي ...إلى آخر ما يجب إحكامه من أمر األداة لتأمين ذلك المستوى من الفهم.
كما ال سبيل إلى فقه واقع األمة بغير التمكن من مكونات
الوض���ع الموض���وع ،والتتبع األفقي والعم���ودي لما يجري في
الظرف المعيش ويتفاعل في المجال المحيط.
ال جرم أن هذا العبء ضخم ،وأن التخطيط له بله إنجازه
يحتاج إلى صفوة من أولي العزم ،ولكن إذا وجدت الش���روط
الرفيق والطريق ْقبل الطريق، ِّش... عن الرفيق فت ْ بمفردك ال تَ ِس ْر! فعلت؛ ْ إن َ ابْتلعك التّيه، ُ وشتَّتَْت َك الطرق والمسالك، واستلبتك الشياطين، وسفعتك الزوابع، ْ عواصف الثلج... عظامك ُ وأَْ�ف َر ْت َ َ الهدف تصل، فال وال المبتغى تحصل... ***
وزالت العوائق ،فإن الشروع بإذن اهلل تعالى يكون.
(*) األمين العام لمؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع) /المغرب.
الهوامش
( )1أث���ر مدرس���ة المن���ار في تجديد فه���م المصطلح القرآني (من خالل تفس���ير المن���ار) ،ع���رض ألق���ي ف���ي ن���دوة "مدرس���ة المن���ار ودورها ف���ي اإلصالح
اإلس�ل�امي" الت���ي نظمته���ا المنظم���ة اإلس�ل�امية للتربي���ة والعل���وم والثقافة، بالتعاون مع المعهد العالمي للفكر اإلس�ل�امي وجمعية الدعوة اإلس�ل�امية العالمية بتاريخ 2002/10/9-8م ،القاهرة.
نق�ل�ا عن األمة واإلمامة لـ"علي ش���ريعتي"، ( )2األم���ة الش���هيدة ،المنطلق ً ،26 ص.33-32:
( )3الوثائق السياسية.
( )4نحو تصور حضاري للمسألة المصطلحية ،ص.13-12:
13
السنة الثامنة -العدد (2012 )33
أم���ا الواقع ف���ي االس���تعمال العربي
المعاصر فيحتاج إلى دراس���ة مصطلحية خاص���ة؛ وصفي���ة وتاريخي���ة ،على مدى
ق���رن أو يزيد ،وفي عدد من المجاالت، لتحديد مفهومه الضخم المتشعب ،كما
ُيش���ير إلى ذلك كثرة االس���تعمال وتعدد المج���ال وه���و م���ا ال س���بيل إلي���ه اآلن،
ألس���باب ترج���ع إلى واقع األمة ْنفس���ه، الذي حقه أن يفقه ليعالج.
لك���ن البد من تحديد المراد منه في
هذه الدراس���ة ،وذلك ما يمكن تلخيصه
في:
ال �سبي��ل �إىل فقه واقع الأمة بغري �إحكام �أمر الأداة �أدمغ ًة و�أجهز ًة ومنهجا يف التوثيق وم�ؤ�س�سات ً والتدقي��ق والتحقيق ،يقوم على اال�ستيع��اب والتحليل والتعليل مقدم��ا عن��د قب��ل �أي تركي��بً ، الدرا�سة الو�صف على التاريخ، واجلزئ��ي على الكل��ي� ،إىل �آخر ما يجب �إحكام��ه من �أمر الأداة لت�أمني ذلك امل�ستوى من الفهم.
المعنى سيكون:
الواق���ع ه���و الحالة التي عليها األم���ة اآلن؛ فيدخل فيه كل
الجزئي���ات والكلي���ات الت���ي تتك���ون منها األمة اآلن ،حس���ب
حالتها الراهنة. وانس���جاما مع التحليل الس���ابق لمفهوم األمة، ً
نت���رك التصني���ف المألوف للواق���ع الذي يجزئ الحي���اة العامة إل���ى واق���ع سياس���ي ،وواق���ع اقتص���ادي ،وواق���ع اجتماعي…
إلخ ،مستبدلين به التصنيف حسب "العناصر المكونة لمركب األمة"؛ من واقع الجمع البش���ري لها ،وواقع وحدتها "واألمر الجامع" لها ،وواقع قصدها والرسالة التي تضطلع بها.
الحضاري والشهادة إمام ًة وتبليغ ًا؟
ه���ذا وللواق���ع زم���ن يتح���رك في���ه،
ومجال يحيط به ويؤثر فيه أو يتأثر به.
فأما الزمن :فه���و المعيش في بعديه
المؤثرين :الماضي القريب ،والمستقبل
س���مى بـ"العصر"، القري���ب .وهو ما قد ُي ّ علمي���ا بي���وم أو وال يس���تطاع تحدي���ده ًّ ش���هر أو عام لتحركه المس���تمر ،بتحرك دراسيا من العائش فيه .ويمكن تحديده ًّ أجل ضبط المعطيات والنتائج.
وأما المجال فهو المحيط الخارجي
ال���ذي يتب���ادل التأث���ر والتأثير م���ع الواقع
الواق���ع ه���و م���ا علي���ه األم���ر اآلن.
وبم���ا أن الموضوع هو واقع األمة ،فإن
وس���طي ًة وخي���ر ًة؟ وم���ا درج���ة الش���هود ّ
الداخلي حس���ب س���نن التجاور تآلف ًا أو
تخال ًفا .وإنما يحدد باألثر ،ويصنف حس���ب القوة والضعف، والقبول والرفض.
وأكب���ر حاض���ر في المجال ومؤثر في واق���ع األمة إلى حد
"الصن���ع" أحيا ًن���ا أو م���ا يش���به "الصن���ع" ،هو م���ا اصطلح عليه بـ"الغرب".
إذن فالواق���ع المقص���ود :هو الحالة الت���ي عليها األمة بكل
مكوناته���ا ف���ي هذا الظ���رف المعي���ش داخل المج���ال الدولي
المحيط ،وهي تتحرك فاعلة منفعلة متفاعلة.
مفهوم الفقه
ويقص���د بواق���ع الجمع البش���ري لألمة :الحال���ة التي عليها
الفق���ه في لس���ان الع���رب" :العلم بالش���يء والفهم ل���ه" .وعند
ش���عوبا وقبائل ،طبقات ومرضا، ال ،صحة علم���ا وجه ً ً ً وفق���راً ، ً
م���ن العلم" ،وهو عن���د الجرجاني في "التعريفات"" :عبارة عن
الناس الذين يشكلون الجسم "المادي" لألمة ،كثرة وق ّلة ،غنى ومستويات ،مؤسسات وتنظيمات...
الراغب" :هو التوصل إلى علم غائب بعلم شاهدٍ ،فهو أخص فهم غرض المتكلم من كالمه".
ويقص���د بواقع وحدة األم���ة و"األمر الجام���ع" لها :الحالة
وق���د أحس���ن الحكي���م الترمذي ما ش���اء حين ق���ال" :الفقه
الجامع���ة المنبثقة عنه من عقيدة وعبادة وأخالق وش���ريعة .ما
الفقه "في عش���رين موضعا من الق���رآن" ،تبين لصاحب المنار ً
الت���ي عليها ممارس���ة اإلس�ل�ام والتدي���ن في األم���ة ،والروابط
صوابا وخطأ؟ اتساعا وضي ًقا، درجة ذلك قوة وضع ًفا، ً ً
ويقصد بواقع قصد األمة والرسالة التي تضطلع بها :الحالة
التي عليها تأهل األمة للش���هادة على الناس ،ومدى أدائها لها ف���ي مختل���ف المجاالت ،بالح���ال والمقال؛ م���ا درجة األهلية السنة الثامنة -العدد (2012 )33
12
بالش���يء :هو معرفة باطنه والوصول إلى أعماقه" .وبعد دراسة "أن الم���راد ب���ه نوع خاص من دق���ة الفهم والتعم���ق في العلم
الذي يترتب عليه االنتفاع به". وهذا كله يفضي إلى أن:
الفقه فهم دقيق نافذ إلى البواطن واألعماق واألغراض.
���ل م���ن اهلل رب الناس ،ملك الن���اس ،إله الناس ،كما جعل َج ْع ٌ
اإلسالمية" ،وال غير ذلك مما هو أبعد من ذلك.
إماما للناس ،وكما آدم في األرض خليفة ،وكما جعل إبراهيم ً
وف���ي ذل���ك ما في���ه من تمثي���ل االس���م للمس���مى ومطابقة
وال ش���هادة بغي���ر أهلية للش���هادة ولو في األم���ور الصغيرة ���ن َت ْر َض ْو َن ِم َن ﴿و َأ ْش���هِ ُدوا َذ َو ْي َع ْ ���د ٍل ِم ْن ُك ْم﴾(الط�ل�اقِ ﴿ )2:م َّم ْ َ الش َه َدا ِء﴾(البقرة ،)282:فكيف بالشهادة على الناس كل الناس؟ ُّ
مس���لمة" و"أم���ة إس�ل�امية"؛ ش���تان بي���ن أمة تتصف باإلس�ل�ام
جعل البيت مثابة للناس ،وكما جعل وجعل…".
وشروط األهلية في اآلية:
أوال :أن تكون���وا "أم���ة" .وال أمة بغير وحدة ما ُي َؤ ّم ،وال وحد ِة ���ؤ ّم؛ إذ م���دار ا َ أل ّم كله في اللغ���ة على القصد، ���ؤ ُّم ومن ُي َ م���ن َي ُ ومدار األمة كلها على الوحدة في ذلك القصد. "وسطا" .وال وسطية بغير ِخ َيرة ،كما نصت ثانيا :أن تكونوا ً ���م َخ ْي َر ُأ َّم ٍة﴾(آل عمران ،)110:وال خيرة بغير اآلية األخرىُ : ﴿ك ْن ُت ْ اس َت ْأ َجر َت ا ْل َق ِو ُّي ا َ ين﴾(القصص.)26: أل ِم ُ قوة وأمانة ﴿إ َِّن َخ ْي َر َم ِن ْ ْ وإنما توس���د األمانة لألقوياء ال للضعفاء .قال رس���ول اهلل :
"يا أبا ذر ،إنك ضعيف ،وإنها
أمانة"( .وراه مسلم)
وم���ع ذل���ك ،كل ذلك ال يكفي ألداء الش���هادة ،إذ البد من
الش���هود؛ أي الحض���ور ألداء الش���هادة .وحين تكون الش���هادة أساسا قبل المقال ،ومن أمة ال من أفراد، بالخيرة؛ أي بالحال ً
جميعا ال على بعضهم ،فإن الش���هود والحضور وعل���ى الناس ً
حض���ورا باإلمام���ة ف���ي كل حضاري���ا؛ أي الب���د أن يك���ون ً ً ()4 المجاالت ،وعلى جميع المستويات ،وفي كل األوقات".
األم � � ��ر الثاني :إن اس���م األم���ة المقص���ودة ،والمكونين لها
تحدده هذه اآليات:
المصطل���ح للمفهوم ،إذ ش���تان ف���ي الصلة باإلس�ل�ام بين "أمة وتم���ارس اإلس�ل�ام وخ ُلقه���ا اإلس�ل�ام ،وبي���ن أمة تنس���ب إلى
اإلس�ل�ام وتحس���ب على اإلس�ل�ام وتضاف إلى اإلس�ل�ام .إن البؤرة غير الهامش ،وإن المضاف إليه غير المضاف.
المكونين لألمة الصحيح هو "المس���لمون" ال -2أن اس���م ِّ
مكونون "اإلس�ل�اميون"، ً انس���جاما مع اس���م األمة التي هم لها ِّ وبها كائنون .وشتان في المصطلح والمفهوم بين "المسلمين" و"اإلسالمين" ،وشتان في األصالة والرسوخ بين لفظ محدث
ي���كاد يتب���رأ من���ه الوح���ي ،ولفظ عتي���ق مختار منص���وص عليه ين ِم ْن َق ْب ُل ���م ُ ضارب في أعماق الوحيُ : اك ُم ا ْل ُم ْس��� ِل ِم َ ﴿ه َو َس َّ َو ِفي َه َذا﴾(الحج.)78: ���دم االس���مين وتعاقبهم���ا في دع���وة إبراهيم -3أن ِق َ يدل على ِق َدم المس���ميين وتعاقبهما في تاريخ اإلسالم ومنهج
اإلسالم .ولم تعرف األرض ،ولن تعرف دينا هلل جل وعال غير ين ِع ْن َد ا ِ إل ْس َ�ل�ا ُم﴾(آل عم���رانَ ﴿ ،)19:أ َف َغ ْي َر هلل ا ِ اإلس�ل�ام﴿ .إ َِّن ِّ الد َ ِ ي���ن ا ِ او ِ ات َوا َ َ ض َط ْو ًعا أل ْر ِ ِد ِ هلل َي ْب ُغ َ ���م َ الس َ ون َو َل ُه أ ْس��� َل َم َم ْن في َّ �ل�ا ِم ﴿و َم ْن َي ْب َت ِغ َغ ْي َر ا ِ إل ْس َ َو َك ْر ًها َو ِإ َل ْي ِه ُي ْر َج ُع َ ون﴾(آل عمرانَ ،)83: اآلخر ِة ِم َن ا ْل َخ ِ ِد ًينا َف َل ْن ُي ْقب َل ِم ْن ُه َو ُهو ِفي ِ ين﴾(آل عمران.)85: اس ِر َ َ َ َ ولذلك قال اهلل تعالى لرس���له وأتباع رس���له عبر التاريخ﴿ :إ َِّن َه ِذ ِه ُأ َّم ُت ُكم ُأ َّم ًة َو ِ اعب ُد ِ اح َ َ ﴿وإ َِّن ون﴾(األنبياءَ ،)92: ْ ���د ًة َوأ َنا َر ُّب ُك ْم َف ْ ُ ِ َه ِذ ِه ُأ َّم ُت ُكم ُأ َّم ًة َواح َد ًة َو َأ َنا َر ُّب ُكم َف َّات ُق ِ ون﴾(المومنون.)52: ْ ْ وإذن فاألم���ة المقصودة هي "األمة المس���لمة" بما تتضمنه
���ن ا ْلبي ِت َوإِس���م ِ ���ع إ ِْبر ِاهي���م ا ْل َقو ِاع َ ِ يل َر َّب َنا اع ُ َ ْ َ ُ َ ���د م َ َ ْ ﴿وإ ِْذ َي ْر َف ُ َ َت َقب ْل ِم َّنا ِإ َّن َك َأ ْن َت الس ِ���م ُ ِ اج َع ْل َنا ُم ْس ِل َم ْي ِن َل َك يم * َر َّب َنا َو ْ يع ا ْل َعل ُ َّ َّ َو ِم ْن ُذرِ ي ِت َنا ُأ َّم ًة ُمس ِلم ًة َل َك َو َأرِ َنا َم َن ِ اس َك َنا َو ُت ْب َع َل ْي َنا ِإ َّن َك َأ ْن َت ّ َّ ْ َ ِ ِ َ آم ُنوا ْار َك ُعوا الت���واب ﴿ي���ا أ ُّي َها ا َّلذ َ ين َ يم﴾(البقرةَ ،)128-127: الرح ُ َّ َّ ُ َّ ون ���م ُت ْف ِل ُح َ ���ج ُدوا َو ْاع ُب ُ اس ُ َو ْ ���دوا َر َّب ُك ْم َوا ْف َع ُل���وا ا ْل َخ ْي َر َل َع َّل ُك ْ َو َج ِ اه ُدوا ِفي ا ِ اك ْم َو َما َج َع َل َع َل ْي ُك ْم ِفي اج َت َب ُ هلل َح َّق ِج َها ِد ِه ُه َو ْ ِ ين ِم ْن ين ِم ْن َح َر ٍج ِم َّل َة َأب ُ الد ِ ���م ُ ِّ اك ُم ا ْل ُم ْس��� ِل ِم َ يم ُه َو َس َّ ِيك ْم إ ِْب َراه َ ���ه َد َاء قبل و ِفي هذا ِليكون الر ُس ُ ���ول َش���هِ ً يدا َع َل ْي ُك ْم َو َت ُكو ُنوا ُش َ َ ْ ُ َ َ َ َ ُ َ َّ الن ِ ِ ال���ز َكا َة َو ْاع َت ِصموا بِا ِ هلل ُه َو الص َ َع َل���ى َّ �ل�ا َة َوآ ُتوا َّ يموا َّ ُ اس َف َأق ُ الن ِص ُير﴾(الحج.)78-77: َم ْو َ ال ُك ْم َف ِن ْع َم ا ْل َم ْو َلى َو ِن ْع َم َّ
فروعه ،يدل على سقوط شيء" .وعند الراغب في "المفردات"
-1أن اس���م األم���ة الصحي���ح هو "األم���ة المس���لمة" ال "األمة
القرآن من لفظ "وقع" جاء في العذاب والشدائد".
ومن اآليات يستفاد:
من خصوصية في المكونات ،وما تس���تلزمه من خصوصية في
"األمر الجامع" لها الذي هو اإلس�ل�ام من وحدات؛ من وحدة اإلل���ه ،إلى وحدة الكتاب ،إلى وحدة اإلمام ،بغض النظر عما آلت إليه اليوم في تمثلها لإلسالم وتمثيلها لإلسالم.
مفهوم "الواقع"
الواق���ع في لس���ان العرب :الس���اقط والن���ازل .ق���ال ابن فارس ف���ي المقايي���س" :الواو والقاف والعين أص���ل واحد يرجع إليه
أن "الواقعة ال تقال إال في الشدة والمكروه ،وأكثر ما جاء في
11
السنة الثامنة -العدد (2012 )33
ال وهو هاهن���ا "الس���يرة" أو المنهاج ممث ً ف���ي كيفي���ة تنزي���ل الدي���ن عل���ى الواق���ع
وإحالله فيه .وكل ذل���ك مرتبط بالواقع
ضربا من االرتباط. ً
وإذا جاز تصور تحصيل الفقه األول
بمعزل عن الواقع ،فإن الفقهين اآلخرين
ال يس���تطاع تص���ور تحصيلهم���ا دون���ه،
فوجب االنطالق من "فقه سديد" للواقع ف���ي أي محاول���ة للتجدي���د الصحي���ح.
مفهوم األمة:
"ا َ أل ُّم" ف���ي لس���ان الع���رب :م���داره على القص���د ،ق���ال ابن منظ���ور" :وأصل هذا
والس���نة البيان ،فالذي يضاف مما يعنينا
ال �سبي��ل �إىل فق��ه واقع الأمة بغ�ير التمك��ن م��ن مكونات الو�ض��ع املو�ض��وع ،والتتبع الأفق��ي والعمودي ملا يجري يف الظ��رف املعي�ش ويتفاعل يف املج��ال املحيط .وال جرم �أن هذا الع��بء �ضخم ،و�أن التخطيط له بله �إجنازه يحتاج �إىل �صفوة من �أويل العزم.
الباب كله من القصد .يقالَ :أم ْم ُت إليه: إذا قصد ُت���ه؛ فمعن���ى "ا ُ ألمة" ف���ي الدي���ن ،أن مقصدهم مقصد
أمران:
األم � � ��ر األول :أن مس���مى األم���ة
المقص���ودة والمكونين له���ا تحدده هذه ���طا اك ْم ُأ َّم ًة َو َس ً ﴿و َك َذ ِل َك َج َع ْل َن ُ اآلياتَ : الن ِ ���ون ���اس َو َي ُك َ ���ه َد َاء َع َل���ى َّ ِل َت ُكو ُن���وا ُش َ يدا﴾(البقرة،)143: الر ُس ُ ���م َش���هِ ً ���ول َع َل ْي ُك ْ َّ ِ ون ِإ َل���ى ا ْل َخ ْي ِر ���م ُأ َّم ٌة َي ْد ُع َ ﴿و ْل َت ُك ْ َ ���ن م ْن ُك ْ ِ ون بِا ْل َم ْع ُروف َو َي ْن َه ْو َن َع ِن ا ْل ُم ْن َك ِر َو َي ْأ ُم ُر َ ُ ِ ون﴾(آل عمران،)104: ���م ا ْل ُم ْف ِل ُح َ َوأو َلئ َك ُه ُ ون ﴿ك ْن ُت ْم َخ ْي َر ُأ َّم ٍة ُأ ْخ ِر َج ْت ِل َّلن ِ ُ اس َت ْأ ُم ُر َ بِا ْلم ْعر ِ ون وف َو َت ْن َه ْو َن َع ِن ا ْل ُم ْن َك ِر َو ُت ْؤ ِم ُن َ َ ُ بِا ِ هلل﴾(آل عمران.)110:
ومن اآليات يستفاد:
إل َّمة" في النعمة ،إنما هو الشيء الذي يقصده واحد ،ومعنى "ا ِ الخل���ق ويطلبون���ه ،ومعن���ى "ا ُ ألمة" ف���ي الرج���ل المنفرد الذي
موحدون المخاطَ بي���ن المتبوعين؛ فهم جماع���ة ال أفراد ،وهم َّ
قصدت". "أممت": هذا الباب عن معنى ُ ُ
راحمهم "أم���ة واح���دة من دون الن���اس" ،هم "ف���ي َت ّ وادِهِ ���م و َت ُ
ال نظي���ر ل���ه ،أن قصده منفرد من قصد س���ائر الناس ...ومعنى "ا ُ ألمة" ،القامة ،س���ائر مقصد الجس���د .وليس يخرج شيء من
• أن "جمي���ع العناص���ر المكون���ة لـ"مركب األم���ة" موجودة في ال متفرق���ون ،وه���م رس���اليون قاص���دون ال َه َم���ل ...إنه���م المهاج���رون ،واألنص���ار ،والذي���ن اتبعوه���م بإحس���ان ،وإنهم
وعن���د تحليل هذا األصل إلى مكونات���ه الداللية ،يتبين أنه
داعى له سائر وتعاطفهم مثل الجس���د ،إذا اش���تكى منه عضو َت َ
ف���إذا أضي���ف إلى ذل���ك أن مدار "األمة" في لس���ان العرب
كلولي ْخ ِر ُجوا الناس َّ للناس" ليكونوا "ش���هداء على الناس"ُ ، الن���اس -م���ن عبادة العب���اد إلى عب���ادة رب العب���اد ،ومن جور
واحد ،أو زمان واحد ،أو مكان واحد ،س���واء كان ذلك األمر
ليكونوا األم���ة ،وهكذا كانوا في هك���ذا جعله���م اهلل تعالى ُ
يتكون "من أربعة معان" :اختيار ،حركة ،تقدم ،هدف".
()2
وح���د" (بفت���ح الح���اء) كما نب���ه على ذلك الم َّ عل���ى" :الجم���ع ُ
الراغ���ب بحق" :واألم���ة :كل جماعة يجمعهم أمر ما؛ إما دين
اختي���ارا" ..تبي���ن أن "العناص���ر" الكب���رى تس���خيرا أو الجام���ع ً ً لـ"مرك���ب" األم���ة ثالث���ة :عنص���ر الجم���ع ،وعنص���ر المكون���ة ّ
والح ّم���ى" (رواه مس���لم) ،وإنه���م أم���ة "أخرجت الجس���د بالس���هر ُ
األديان إلى عدل اإلسالم ،ومن ضيق الدنيا إلى سعة اآلخرة.
واق���ع التاريخ وزم���ن الخطاب يمثلون األمة ،وهكذا ينبغي أن
يكونوا في أي تاريخ وفي أي زمن ليصدق عليهم لفظ األمة. المكوني���ن لألم���ة ه���و للمخاطبي���ن • أن "األم���ر الجام���ع" َ ِّ
جميعا كامن في طبيعة الوحدة ،وعنصر القصد .وسر تفاعلها ً الموحد (بكسر الحاء) ،أو "األمر الجامع" ،بتعبير الراغب. ِّ
"اإلس�ل�ام" .فالخط���اب ف���ي "جعلناك���م" ،و"منك���م" ،و"كنتم"
اختي���ارا" كم���ا ق���ال الراغب؛ ف���إذا وجد تس���خيرا أو الجام���ع؛ ً ً
بهم…"( )3إلى قيام الس���اعة؛ فيشمل باصطالح رسول اهلل ،
وب���ه ي���ؤول األم���ر إلى أن من���اط وج���ود األمة ه���و "األمر
وج���دت ،وإذا غ���اب غاب���ت .ث���م من بع���د ذلك يأت���ي التطور الداللي للفظ األمة لمن ش���اء تتبعه ،والتطور الوجودي لكيان
األمة لمن شاء َر ْب َط مراحله.
ه���ذا ع���ن األمة ف���ي اللس���ان ،أما ع���ن "األمة" ف���ي القرآن السنة الثامنة -العدد (2012 )33
10
لي���س إال للمس���لمين "من قريش ،ويثرب ،وم���ن تبعهم فلحق أصحاب���ه وإخوانه ،أي يش���مل جميع المس���لمين عل���ى امتداد الزمان والمكان منذ البعثة حتى انتهاء الكون.
• أن رس���الة األم���ة ووظفيته���ا وموقعه���ا -كما تح���دده آية
البقرة وتفصله آيتا آل عمران" -هو الشهادة على الناس ،وهو
دراسات إسالمية
أ.د .الشاهد البوشيخي*
فقه واقع األمة
دراسة في المفهوم فقه الواقع ض���روري ألي تخطيط ،وإال ضاع
اله���دف لعدم تحدي���د المنطلق .وفق���ه الواقع ضروري ألي تشريع أو تنزيل ،وإال ُوضع الشيء
ووس���د األمر إلى غير أهله .وما بعثة الرس���ل في غير موضعهّ ، -عليهم الصالة والسالم -في أقوامهم ،إال مراعاة لفقه الواقع،
وم���ا تطور تنزيل الدين عب���ر التاريخ ،إال مراعاة لتطور الواقع. يدعها وبم���ا أن البش���رية الي���وم تقف "على حاف���ة االنهيارّ ،
قبضته عليها ،فخنق األنفاس ،ومص دماء الناس ،وال خالص
للناس كل الناس ،إال بظهور دين رب الناس ،ملك الناس ،إله الناس ،على يد خير أمة ُأخرجت للناس.
وبما أن أمتنا اليوم قد ش���اخت ووهنت بما كس���بت ،حتى
صارت قصعة طعام يتهارش على خيراتها شر المفترسين.
قلباوبما أن األمر كذلك ،فقد صار التجديد لألمة اليوم ً
وقالبا -فريضة شرعية وضرورة حضارية". ً
()1
دعا إلى الدمار ،وتسوقها العولمة سو ًقا إلى النار، عباد العجل ًّ ّ
وال سبيل إلى ذلك بغير فقه واقع األمة ،ذلك بأن التجديد
بن���وكا ومنظمات؛ تس���تصرخ وال من صري���خ ،وتتظلم إلى من ً
وفقها لما له يكون التجديد ،وهو هاهنا القرآن والسنة البيان.. ً
بكيده���ا العتيد ،ومكرها الش���ديد ،وأذرعها العالمية الجهنمية، في���ه الخصام وهو الخصم والحكم .قد أحكم الدجال األعور
ال في فقها لما به يكون التجديد ،وهو هاهنا الدين ممث ً يتطلب ً
وفقها لكيف يكون التجديد، األمة ممثلة في واقع المسلمين.. ً
9
السنة الثامنة -العدد (2012 )33
طاقته���ا إلى ضوء .ومن العجي���ب أن كل نوع من هذه األحياء
قصيرة على األقل .فإلحدى "األس���ماك الس���توماتويدية" قدرة
الخاصة كذلك.
بمق���دار 60س���م ،إال أن أكثر مواقع أعض���اء اإلنارة التي تميز
البحرية له مركبات كيمائية خاصة منتجة للضوء ،وله إنزيماته وقد أجرى "هارفي" أحد أفذاذ عصره المختصين بالكشف
عن "س���ر الض���وء الحيوي" ع���دة تجارب في ه���ذا المجال، فوج���د أنه ل���و ُأ ِ جزءا واحدا من المادة التي ينبعث منها ً عط ُ يت ً ()1
الض���وء الحي���وي ،ووزعته ف���ي 40مليار جزء م���ن ماء البحر،
الس���تطعت أن ترى ضوءها في ه���ذه الكمية الهائلة من الماء، شرط وجود اإلنزيم الخاص مع األكسجين .كما يشير إلى أن
ل���و ُوزع جزء واحد من اإلنزي���م على 8مليارات جزء من ماء
البحر ،فإنه يس���تطيع أن يؤكس���د مادة انبعاث الضوء الموجودة ف���ي الم���اء ،ويبع���ث بضوء تح���س به العي���ن البش���رية .كما أن
األكسجين الداخل في هذا التفاعل ،يستطيع بعث الضوء -في وجود شروط التفاعل من إنزيم ومادة كيمائية -إذا كان تركيزه
ج���زءا واح���دا في كل مائة مليون جزء من الماء .فلو قارنا هذا ً ً الدينام���و الحي الصغير الذي يبعث بإضاءته القوية مع حجمه الضئي���ل مع الدينام���و الضخم الذي صنعه البش���ر ،لتبين كيف تتض���اءل إمكاناتن���ا أمام "عط���اءات" الخال���ق لمخلوقاته...
عط���اءات ال تعل���و عل���ى دقته���ا دقة وال عل���ى كفاءته���ا كفاءة: َ ﴿ص ْن َع ا ِ ُون﴾(النمل.)88: ير ِب َما َت ْف َعل َ ُ هلل الَّذِ ي أ ْت َق َن ُك َّل َش ْي ٍء ِإ َّن ُه َخ ِب ٌ
وظائف وفوائد اإلضاءة الحيوية
في األنواع المختلفة من الكائنات البحرية المضيئة ،كاألسماك
والجوفمعويات والقش���ريات وغيرهاُ ،خلقت وسائل اإلضاءة الذاتية/التكافيلية فيها بتصميمات مبهرة ودقيقةِ ﴿ :إ َّنا ُك َّل َشي ٍء ْ ���اه ِب َق َدرٍ ﴾(القمر .)49:ويمت���از نحو %95من األحياء المائية َخ َل ْق َن ُ ف���ي األعماق بإش���عاع "ضوء حيوي مختلف األل���وان" .فلكل
ن���وع من أس���ماك األعماق ع���دد محدد من المصابي���ح، ولكل ٍّ ضوؤه الخاص (أزرق ،أبيض ،أخضر ،)...وموقعه وقوته التي ���ذا َخ ْل ُق ا ِ ين ِم ْن ُدو ِن ِه َب ِل ﴿ه َ ال تتغي���رَ : هلل َف َأ ُرو ِني َما َذا َخ َل َق ا َّل ِذ َ ِين﴾(لقمان.)11: ال ٍل ُمب ٍ َّ ون ِفي َض َ الظا ِل ُم َ
كم���ا أن له���ذه "اإلض���اءة الحيوي���ة ،والمصابي���ح الضوئية"
العديد من الوظائف والفوائد ...فاألس���ماك المضيئة تستخدم
"أضواءها" لترى بها األش���ياء في ظلمات األعماق؛ فاألعضاء
المضيئ���ة حول العينين تجعل "مجال الرؤية" مضاء لمس���افات ً السنة الثامنة -العدد (2012 )33
8
على إلقاء حزمة قوية من ضوء أزرق لمسافة تبعد عن جسمها
حام�ل�ات الض���وء ،ه���ي عل���ى الجه���ة البطنية ،ويس���تعمل هذا الضوء ككش���افات تس���لط على الطحال���ب والكائنات الدقيقة، والتي تتغذى عليها العديد من أسماك األعماق ...كما تشكل
"أنماطا" مميزة يتعرف بواسطتها أفراد النوع الواحد ،فتستخدم ً الض���وء "كلغة إش���ارة وتواصل خاص���ة" بين أف���راد النوع دون غي���ره ،ولك���ي يتجنب أفراد النوع افت���راس بعضه البعض ،كما
تعتبر وس���ائل الجت���ذاب الفرائ���س أو للدف���اع وتخويف باقي أيضا ،تفيد كش���فرات بي���ن الذكور األع���داء ...وال ش���ك أنه���ا ً
واإلناث ألغراض التزاوج.
المصور ،يمكن ويبقى السؤالَ :من غير اهلل الخالق البارئ ُ
أن يعط���ي كل نوع من أنواع تلك األحياء البحرية العميقة هذا الن���ور الذاتي ،ويحقق تلك الوظائف والفوائد المتعددة؟ وهنا
يتضح البع���د المادي الملموس لهذا الن���ص القرآني المعجز،
﴿و َم ْن َل ْم َي ْج َع ِل كما يتضح من قبله الجانب المعنوي الرفيعَ : ()2 ورا َف َما َل ُه ِم ْن ُنورٍ ﴾(النور.)40: ا ُ هلل َل ُه ُن ً إذن ،إن آلية إنتاج الضوء الحيوي لدى الكائنات البحرية،
ال على عظم���ة اهلل وبديع صنع���ه وعظيم هدايته: تمث���ل دلي ً ���ه ُث َّم َه َدى﴾(طه .)50:وهكذا ﴿ر ُّب َنا ا َّل ِذي َأ ْع َطى ُك َّل َشْ���ي ٍء َخ ْل َق ُ َ يس���ير كل نوع من هذه الكائنات البحرية له "هويته الشخصية" مس���جلة بحروف من ضوء تش���ع في األعم���اق ،ليعلن بها عن نفس���ه فيعرف جنس���ه أو عدوه ،فينحرف إليه في حالة الزواج أو يه���رب من���ه في حالة العداء أو ينقض عليه في حالة الغذاء.
ففي الظالم الذي ُيظن أنه "موت وانغالق" تنبعث أنوارها التي ورا َف َما َل ُه ِم ْن ���ل ا ُ ﴿و َم ْن َل ْم َي ْج َع ِ ه���ي "حي���اة وانطالق"َ : هلل َل ُه ُن ً ُنورٍ ﴾(النور.)40: (*) كاتب وأكاديمي مصري.
الهوامش
انظر ،أس���رار المخلوقات المضيئة ،للدكتور عبد المحس���ن صالح ،المكتبة الثقافي���ة ،العدد ،120:ص ،134-133:الدار المصرية للتأليف والترجمة، نوفمبر 1964م. ( )2تأم�ل�ات ف���ي كت���اب اهلل ،للدكتور زغل���ول النج���ار ،ص ،203-202:الدار المصرية اللبنانية2008 ،م. ()1
والغ���ذاء ،بينم���ا تنطلق ه���ي من الجيب لتغش���ي عيون األعداء
ويرم���ي العدو بأح���د أذرعه المس���تمرة باللمع���ان لجلب انتباه
ويحي���ط بكل منها خمس���ة مصابيح صغيرة ،يش���ع كل مصباح
مجدافيات األقدام (القش���ريات) يوجد " ،"Gaussiaوهو عمالق
من حوله .ويوجد نوع من "سبيط" األعماق له عينان كبيرتان، بضوء أبيض وقد يتحول إلى أزرق عميق ،تعمل كـ"كش���افات" تض���يء له الطريق ف���ي ظلمات البحر .وهناك عش���رة مصابيح
أخرى تنتش���ر على أماكن مختلفة من جسمه ،منهما مصباحان ضوءا أحم���ر وكأنهم���ا "مصباحا الخطر" ف���ي مؤخرته يش���عان ً
الع���دو أو إبع���اده ،وم���ن ثم يس���تطيع اله���روب والنج���اة .ومن
ف���ي عال���م "الكوبيبودا" ( .)Copepodaفمعظ���م الكوبيبودا يكون
مليمترا عبر الهوائيات، مليمت���را أو اثنين ،وهذا النوع يبلغ 27 ً ً
ويبرع في إنتاج ألمع عروض الضوء الحيوي ،إذ يحدث ذلك عندما ُيخرج نفحات من الضوء عند القيام بالهروب.
المثبت���ان ف���ي خلف الس���يارة .وتمل���ك بعض أس���ماك "الحبار طبيعة المصابيح الضوئية ،وكفاءتها الحيوية ّ
مص���اص الدم���اء" ( )Vampyroteuthis İnfernalisأعض���اء مضيئ���ة
"حامالت الضوء" عبارة عن مصابيح صغيرة على درجة عالية
ومضيئ���ة ف���ي ذراعيها ،حيث يمكن رؤي���ة التوهج الذي يوجد
مقعر عبارة عن نسيج خاص يقابل شبكية العين هو المسؤول
صغي���ر من جن���س " "Abraliopsisيمتلك عدة أن���واع مختلفة من
الض���وء قبل أن ينبثق خارج جس���م الس���مكة .وتختلف أعضاء
ومؤخرا ُوجد ب���أن لها أعض���اء خفيفة خفيف���ة عل���ى جس���مها، ً
من الكفاءة .تتركب من قرنية ش���فافة تتلوها عدسة ،ثم عاكس
حبار على أجهزتها المضيئة ،على طول منتصف الذراع .وثمة ّ
ع���ن تولي���د الضوء ،وق���د تقوم القرني���ة والعدس���ة بتجميع هذا
األجه���زة الخفيف���ة ،حي���ث إن الحوامل الضوئي���ة تغطي الجزء
اإلضاءة في هذه األسماك من حيث العدد والتوزيع والتعقيد،
ومن الكائنات البحرية "مشط البحر الهيالمي" (،)Comb Jelly
على سطحها العلوي .وتعتبر قدرة األسماك على توليد الضوء
تحري���ك جذع���ه في الم���اء ،وكذلك يحتوي ف���ي منطقة الظهر
مبهرا باه ًتا يصدر بش���كل متقطع من وقت آلخر ،أو قد يكون ً
الخالي���ا ق���درة على توليد الضوء .إن ه���ذه الميزة موجودة في
ينت���ج ه���ذا الضوء من تحوي���ل الطاقة الكيميائي���ة إلى طاقة
فمش���ط البحر األحمر يبدأ باللمعان حالما يتم لمس جس���مه،
اتحاده���ا مع األكس���جين ،لتكون مادة "األوكس���ي لوس���فرين"
السفلي من الجسم.
ونادرا وغالبا ما توجد على جانبيها ،أو على بطنها ،أو رأسها، ً ً
ويتميز جسمه بامتالكه شعيرات دقيقة متسلسلة يستخدمها في
إح���دى عجائ���ب خلق اهلل في الطبيعة .وق���د يكون هذا الضوء
عل���ى خالي���ا على ش���كل ش���رائط تب���دو كأنها مخيط���ة ،ولهذه
مستمرا. ًّ
تقريب���ا ،وكل نوع له مي���زة خاصة به؛ كل أن���واع مش���ط البح���ر ً
ضوئي���ة ،حي���ث تتح���ول م���ادة "اللوس���فرين" ( )Luciferinبع���د
وفي الوقت نفس���ه يطرح في الماء موجات مضيئة من جسمه،
المضيئ���ة .ويقوم بهذا التفاعل إنزيم "اللوس���فريز"
()Luciferase
أسلوبا للتمويه والتخفي عن أعين األعداء. وهذا السلوك يمثل ً
ال���ذي يرتب���ط بمص���در الطاقة ف���ي الخالي���ا الحية "أدينوس���ين
البح���ر الش���عرية) فإنه���ا تعي���ش بالقرب م���ن الش���واطئ ،وبين
تأتي إش���ارة من الخاليا المتخصصة إلصدار الضوء الحيوي،
بتوليد الضوء الخاص بها إلرهاب األعداء .تمتاز أطراف هذه
مادة اللوس���فرين لالتحاد باألكسجين وتتأكسد لتكوين المادة
"الشوكيات" (نجوم البحر ،وكستناء البحر ،ونجوم أما نوع ّ
الش���عب المرجانية ،وفي الخلجان البحرية .تقوم هذه األحياء الحيوان���ات وعمودها الفق���ري باللمعان ،حيث تطلق موجات مضيئة من جسمها حالما تتعرض لهجوم خارجي.
مرتبطا بمصدر الطاقة حتى ثالثي الفوس���فات" ( ،)ATPويظ���ل ً فينفصل اإلنزيم عن مصدر الطاقة ليقوم اإلنزيم بتحفيز تحول
المضيئة (األوكس���ي لوس���فرين) .ويمثل ه���ذا التفاعل الفريد،
عملية األكس���دة الوحيدة المعروفة في أجساد الكائنات الحية
وهن���اك أحد أن���واع النجم البحري يعي���ش على عمق ألف
الت���ي ال يصاحبها إنتاج قدر م���درك من الحرارة ،بل إن الطاقة
م���ن أطرافه أضواء خضراء تميل إلى الزرقة .ويوجد نوع آخر
ذلك الضوء الحي يصل إلى مئة بالمئة ،في حين أن مصابيحنا
متر تحت س���طح البحر يتميز بـ"التوهج الضوئي" ،حيث تش���ع
م���ن نج���م البحر يبدأ باللمعان حالما يش���عر بهجوم العدو ،بل
الكيمائي���ة تتحول جميعها إلى طاق���ة ضوئية ،مما يجعل كفاءة
أو آالتنا ال تس���تطيع بلوغ تلكم النس���بة النهائية في تحويل كل
7
السنة الثامنة -العدد (2012 )33
منها ف���ي المي���اه المالحة وف���ي مختلف مس���تويات العمق ،ومن أهمها "أس���ماك األعماق/الق���اع" .وف���ي العدي���د م���ن الكائن���ات البحري���ة الت���ي تعي���ش ف���ي ظلم���ات الق���اع الحالك���ة ،ثم���ة "إضاءة ذاتية حيوي���ة" ( .)Bio-luminescenceفهي تس���تطيع توليد وإنت���اج وإصدار "الضوء المصاحب بإشعاع حراري. البارد" غير ُ وتتميز معظم أسماك القاع المضيئة
بنية داكنة بلونه���ا الداكن؛ إما س���وداء أو ّ
أو بنفس���جية ...إل���خ. وغالب���ا م���ا تكون ً
أجس���امها رخوة لينة عديمة القش���ور أو
تلتهمها بتلك الخدعة .وتوجد أس���ماك
ل��كل ن��وع م��ن الكائن��ات البحري��ة "هويت��ه ال�شخ�صية" م�سجل��ة بح��روف م��ن �ضوء ت�ش��ع يف الأعم��اق ،ليعلن بها عن نف�سه فيعرف ابن جن�سه �أو عدوه ..ففي الظالم الذي يُظن �أنه "م��وت وانغ�لاق" تنبعث �أن��وار هذه الكائن��ات البحرية التي هي "حياة وانطالق".
تحتوي على القليل منها .و ُتعد أس���ماك
أكبر قدر ممكن من الضوء ،كما أن أجسامها متطاولة (طولها
م���ا بي���ن بضعة س���نتيمترات -مترين) .وفك���وك ضخمة مزودة
خي���ط الصن���ارة المضيئ���ة ،تس���تطيع أن
المثبتة على تثنيه ً س���ريعا لتلتهم الفريسة ُ خطاطيف حادة صغيرة.
على عك���س "المصابيح الحية" التي
يضيئه���ا الكائ���ن البح���ري وقتما يش���اء، ويطفئه���ا وقتم���ا يش���اء .توج���د أن���واع
من األس���ماك جع���ل اهلل لها ف���ي مناطق م���ن جس���مها ،مس���اكن تقطنه���ا أن���واع
"متكافل���ة" م���ن البكتري���ا المضيئة .لكن الضوء البكتري ضوء مس���تمر ال تتحكم
ب���ه الس���مكة إض���اءة وإطفاء ،ل���ذا وهبها
"الس���تومياتويد" م���ن أكب���ر مجموع���ات
أس���ماك الق���اع المضيئة .تتمي���ز بعيون كبيرة ق���ادرة على جمع
أخ���رى تمتل���ك "مفص���ل" عل���ى ط���ول
داكن���ا" يش���به الجفن، اهلل تعال���ى "غش���اء ً
فترخي���ه لتحجب به األض���واء ،وترفعه عن المصابيح فتضيء، كم���ا ه���و الحال مع س���مكة "فوتوبليفارون" الت���ي لها بقعة من هذه البكتريا أس���فل كل عين ،وعندما تريد الس���مكة أن تطفئ
"مظه���را بأس���نان كبيرة تضفي عليها مرعبا" .وفي أحد أنواعها ً ً
ضوءها ،تعمد إلى إسدال ذلك كـجفن عليها.
والبع���ض منها له لون أس���ود مع وجود صف���وف من األعضاء
أسماك كالغواصات
"الس���مكة األفعى" تبرز األس���نان "كأنياب" خارج فم السمكة. المضيئة " ."Photophoresوفي أنواع أخرى تتدلى أسفل فكوكها خيوط مضيئة تزيد على طول السمكة أضعا ًفا مضاعفة.
المضيئة سمك "أبو الشص" ومن أوضح األمثلة لألسماك ُ
أو "المبتلع األنقليس" ( )Angler fishأو ()Chaenophryne longiceps
نوعا منه ،وهي تتوزع على البحار الدافئة وهناك حوالي ً 150
والب���اردة ،والضحلة والعميق���ة .ويبلغ عدد األنواع التي تعيش
ف���ي ق���اع البحار (في أعم���اق تصل إلى 2000م تحت س���طح
البحر) مائة نوع تقريبا .وبعض أس���ماك هذا النوع ينمو ليصل ً
ال ،إال أن معظمها ال يتجاوز بضع س���نتيمترات. إلى المتر طو ً وقدرة أس���ماك "أبو الش���ص" على السباحة ضعيفة ،وكثير
منها يستعمل الزعانف الصدرية للزحف ببطء فوق قاع البحر
فتتربص ما تقتات به ،ومن أبرز صفاتها؛ شوارب مضيئة تتدلى "الش���رك الضوئي" (يش���به حيوا ًنا م���ن ذقونه���ا .وعض���و الصيد َ
قشريا مغريا) .أو"صنارة مضيئة" تبدو كزائدة/بقعة مضيئة من ً ً
نسيج حي تجذب إليها األسماك والفرائس الصغيرة ،ومن ثم السنة الثامنة -العدد (2012 )33
6
وتبدو األسماك المضيئة كغواصات أعماق ،يسير البعض وقد أضاء مصابيحه الحية إضاءة مستمرة ،وقد تطفئ الضوء لفترة ث���م تعي���د أنارته لفترة أخ���رى ،وتتكرر اإلن���ارة واإلطفاء بنظام ودقة وتوقيت رائع .فقد تنير المصابيح لعشر ثوان ،ثم تطفئها
لخم���س ،وتني���ر وتطف���ي كأنه���ا تتبادل اإلش���ارت مع أس���ماك أخرى؛ إال أن بعضها قد يضيء لمدة نصف ساعة ،ثم يغلقها
وم���ن ثم يع���اود الكرة لنف���س المدة .ول���دى البعض عضالت قوية تقبضها وتبس���طها كيف شاءت ،فتزيد أو تضعف من قوة
الض���وء إذا أرادت .كم���ا ل���دى البعض اآلخر أس���نان قد يش���ع الضوء منها ،ولبعضها ألسنة قد يشع الضوء منها كذلك.
أما "س���يبيوال" ( )Sepiolaوهو من الرخويات ،مثل السبيط،
"س���اترا من ضوء" يغش���ي عين من يهاجمه من كائنات فينش���ر ً أق���وى منه ،ثم س���رعان ما يه���رب .فلقد تعاون "س���يبيوال" مع
بع���ض أن���واع المضيئة م���ن البكتريا التي تس���كن القاع؛ أخذها وزرعه���ا ورباها في جيب نس���يجي خ���اص ،وأعطاها الحماية
علوم
أ.د .ناصر أحمد سنه*
لعل الضوء من أهم العوامل -بجانب الحرارة ،والضغط المائي الكبير ،وتيارات المد والجزر ،ونسبة الملوحة
كبيرا في حي���اة الكائنات البحرية الت���ي تعيش في أعماق تأثيرا ً المرتفع���ة ،ومص���ادر التغذي���ة ...إلخ -التي تؤث���ر ً
البحار والمحيطات .ففي هذه األعماق الس���حيقة -حيث انعدام الرؤية بس���بب "الظلمة التامة المركبة" الناجمة
عن السحب ،واألمواج السطحية والداخلية -كيف تسير وتهتدي وتتغذى وتتكاثر الكائنات البحرية المتنوعة؟! عالميا ،بحوال���ي 24ألف نوع .ويعيش نحو %60 قدر عدد أنواع األس���ماك المعروفة عدي���دة ه���ي الكائن���ات البحرية ،بينما ُي ّ ًّ
5
السنة الثامنة -العدد (2012 )33
اإلنس���انية ،ويزعزع���ون موقعهم في قلوب الن���اس .إن صرف
الفرق���ة والخ�ل�اف ف���ي المجتم���ع ،وإث���م النظر إلى كل ش���يء
يطاق من جهة ،وانحطاط من جهة أخرى .بينما رؤية الجانب
واعتب���ار اآلخرين من أهل النار أو م���ن الرجعيين ،وإثم القيام
اإلنس���ان عمره في غمار المش���اعر الس���لبية والسيئة ،عذاب ال
عد اآلخري���ن مجرمين وأنفس���نا بريئين، بمنظار أس���ود ،وإث���م ّ
اإليجابي في كل ش���خص واحتضان الجميع ،بطولة من جهة،
بعرقلة كل خطوة إيجابية ،وإثم تخريب القيم اإلنسانية ...إلخ
والنف���ور والطمع .وهؤالء األبطال هـم الذيـن يس���يطرون على
إذن تعال���وا نت���ب من كل آثامنا مس���تغ ّلين برك���ة هذه األيام
عب���ادا هلل أعزاء الجوانب إمرت���ه ،وف���ي لحظة واحدة يصبحون ً
اآلخرين ،والحفاظ على جميع القيم اإلنسانية ،واحترام أفكار
وس���مو من جهة أخ���رى ...بطولة في التحكم بمش���اعر الحقد
من اآلثام .وأنا أعتقد أنه آن األوان للتوبة من كل هذه اآلثام.
أهوائه���م فيتخلصون من ذل العبودية للش���يطان والعمل تحت
تطهر ،ونعزم على احترام الت���ي أحاطت بنا ،فنبدأ بعيش فت���رة ّ
وأسيادا في عالمهم الداخلي. ً
اآلخري���ن ،وقبوله���م عل���ى ما ه���م علي���ه ،وأن ن���دع النـزاعات
لق���د أصبحنا -كمجتم���ع -منذ زمن طويل أس���رى رغباتنا
وعبيدا ألهوائنا ،وبدأ معظمنا يتصرف بوحي من الشيطان في ً قيام���ه وقع���وده ،ننـزعج م���ن الجميع ،ونـزع���ج الجميع .وبهذا
األس���لوب من التصرف نبتعد بس���رعة -س���واء أش���عرنا بذلك
أم ال -عن قيمنا اإلنس���انية ونعي���ش أزمات في أعماقنا .أجل! لقد اس���تقرت المش���اعر الس���يئة في قلوب معظمنا ،مع أن هذه
ع���ش وخيم���ة للح���ب .فلم نع���د نس���تطيع اآلن حب القل���وب ّ اآلخرين وال احتضانهم وال إبداء التسـامح والمرونة تجاههم.
وأصبحن���ا نلتذ بالتحطي���م والتدمير والتخري���ب ،وكالبوم نقيم
أعشاش���نا فـوق الخرائب ،ونهاجم الجميع ،ونس���رع للتخريب
برغبة وش���هوة كبيرة ،ونتورط بذلك في آثام ال تغتفر نحو اهلل تعالى ونحو بلداننا ونحو الناس .وأحيا ًنا نقترف هذه السيئات ونحن نحس���ب أنن���ا نقدم خدمة نتوقع الش���كر والحمد والثناء
من اآلخرين عليها .والش���مس بدأت تطلع كل يوم على ظلم أو عل���ى اعت���داء وتج���اوز أو هذي���ان ،وتمر الليال���ي حالكات
الظالم ،وأصبحت حالنا حال مجتمع عقد العزم على اقتراف
اآلثام .المشاعر اإلنسانية بقيت خلف األهـواء النفسية بمسافة كبي���رة ،وتقدمت مقاييس���نا الش���خصية والمزاجية على المنطق
وعلى الموضوعية .أما مش���اعر المحبة والتس���امح فقد ذبحت
الت���ي حدثت في الماض���ي وال نثيرها من جدي���د ،وال نجعلها
وس���يلة لنـزاع جديد أو خصام ،وأن ندع تقس���يم المجتمع إلى
معس���كرات مختلف���ة ،بل لنؤكد عل���ى الوحدة والتس���اند على الدوام .فإن كانت قلوبنا ال تزال تنبض ببعض القيم اإلنسانية،
وإن كان���ت عضالتن���ا ال تـ���زال قوي���ة ،إذن فليحتض���ن بعضن���ا
جمع ما س���ـبق وأن بعثرناه البع���ض اآلخر ،ولنبحث عن ُطرق ْ نوحد هذه األجزاء بقوة بحيث من أشالئنا هنا وهناك ،وكيف ّ
ال تنفصل وال تتجزأ مرة أخرى ،ودعونـا نستنطق لغة القلوب التي تقربنا إلى الناس ،وتوصلنا إلى اهلل ،تاركين مشاعر الحقد
والعداء التي تقطع علينا الطريق كل حين.
إذا كان المطلوب هو تحويل بالدنا إلى جنة وارفة الظالل
وأعتق���د أن���ه ال توجد ش���بهة في ه���ذا األمر -ف�ل�ا ينجح فيال .فمن ه���ذا وال يس���تطيعه إال من أقام هذه الجنة ف���ي قلبه أو ً
لم يس���تطع تخليص قلبه وعالمه الروحي من قبضة المش���اعر
واألهواء التي تقلل من مس���توى اإلنس���ان وتخفض من قيمته، فه���و أعجز من أن يقدر عل���ى هذا ،بل لو ُق ّدر له -على فرض
المس���تحيل -أن يمر من جنات الفردوس ،لكان من المحتمل أن يفسدها ويشوهها ويقلبها إلى سجون.
بخناجر العداوة .أما أعداد األش���خاص الذين أصدرنا بحقهم
يدا بي���د مرة أخرى ،ونتكلم بقلوبنا ،و ُنس���مع دعون���ا نضع ً
من المعلوم ما س���نفعله ،ومتى س���نفعله ،ولمن نوجه شتائمنا،
تتزي���ن فيه���ا اآلفاق بالرحم���ة اإللهية ،وتحتض���ن األنوار اآلتية
يعدون وال يحصون .وليس أحكاما جائرة بأفكار مس���بقة ف�ل�ا ّ ً
النج���وم م���ا يدور في صدورنا ،وال س���يما في ه���ذه األيام التي َ
وم���ن س���نقوم بإغراقه باإلهان���ات .فنحن نعيش ف���ي دائرة من
قلوبنا ...نتوحد في هذه األيام المباركة التي م���ن وراء اآلف���اق َ
نخجل من االعتداء وال نكف عن اقتراف اآلثام...
واألمراض.
الجنون وفي مجتمع "ش���يزوفيرينيا" ،فال نشبع من الظلم ،وال ع���دم احترام الح���ق ،وإثم ش���عور الكره نح���و الناس إث���م ِ ُ
والنف���ور منه���م ،وإثم االس���تخفاف باألفكار ،وإث���م بذر بذور السنة الثامنة -العدد (2012 )33
4
تت���ردد فيه���ا أنفاس جبريل ،وتلتقي فيها األدواء مع العلل
(*) الترجمة عن التركية :أورخان محمد علي( .رحمه اهلل)
ونقع���د بهذه المش���اعر ونتنفس مش���اعر الخص���ام ،بينما كنا في حاجة ماس���ة إلى
األخ���وة والصداقة ...كن���ا بحاجة إليهما ولكنن���ا ل���م نك���ن نس���تطيع تحقيقهم���ا. ليتنا اس���تطعنا ذل���ك ،ولك���ن هيهات... ول���و كان بإمكانن���ا تحقي���ق مث���ل ه���ذه األخ���وة والصداق���ة بي���ن أف���راد ه���ذه
األمة ،الس���تطعنا تجاوز هذه المش���اكل والعقب���ات الكبي���رة والضخم���ة ضخامة
الجبال بحملة واحدة ،وألسمعنا صوتنا حتى إلى النجوم في الس���ماء .ولكن لم نس���تطع ،أو باألحرى ل���م َي َدعونا نحقق
لآلخ���ر .وإن أفض���ل مناب���ع قوتن���ا ه���و
�إن الذيـ��ن تركوا �أنف�س��هم للحقد وللع��داء ،ف�إنهم يدم��رون قيمهم الإن�سانية ،ويزعزعون موقعهم يف قلوب النا���س� .إن �رصف الإن�سان عم��ره يف غمار امل�ش��اعر ال�س��لبية وال�سيئة ،عذاب ال يطاق من جهة، وانحط��اط من جهة �أخ��رى .بينما ر�ؤي��ة اجلان��ب الإيجاب��ي يف كل �شخ���ص واحت�ضان اجلميع ،بطولة من جهة ،و�سمو من جهة �أخرى.
ه���ذا ،بل زرعوا الش���قاق والنف���اق بيننا،
فأصب���ح بعضن���ا أع���داء للبع���ض اآلخر
تس���اندنا في مس���توى القلب والش���عور. وكلتا الخاصتين تس���تندان إلى أننا نقبل
اآلخري���ن كم���ا ه���م ونحت���رم أفكارهم. وفي هذا الوقت نرسل رسائل الصداقة،
ونعد برامج العيش مع كل أمم األرض، ّ
فلماذا إذن نضن على أنفسنا وعلى أمتنا ّ ُبعشر ما نبديه من استعدادنا لفتح أبواب الصداقة مع جميع األمم في العالم؟
وم���ع أننـ���ا نرح���ب بالصداق���ة مـ���ع
الجميع إال أننـا نتس���اءل :أال يجب علينا ال مش���اعر الع���داء والحقد أن نمح���و أو ً
الموج���ودة فيما بيننا؟ إن وجـود مش���اعر
الحقد والكره والعداء عند أي ش���خص،
حول وغم ،وبدأ بعضنا يضرب البعض اآلخر ،و َت ّ هم ّ ومصدر ّ
متدينا أو رجـ���ل علم أو رجـل إدارة أو رجـل س���ـواء أكان هذا ً
البع���ض من���ا ضد الجمي���ع وض���د كل فكر .فهو ض���د كل من
ناحية س���ـلبية في نظر الح���ق تعالى وفي نظر الخلق ،وفي نظر
كل منا إلى شخص يعاني من مأساة هذا العصر .واليوم أصبح
ينفك عن معارضته وتش���ويه س���معته .وال ال يفك���ر مثل���ه ،وال ّ
أبدا بأننا إن س���ـرنا في مثل هذا الدرب فس���نبقى وحيدين نفكر ً ال إلى وس���نكون أسارى نواقصنا، ونحول مستقبلنا المملوء أم ً ّ
كاب���وس وإل���ى جحيم ،بينما نمل���ك العديد من أس���باب القوة أساس���ا آلمالن���ا وعزائمنا .إذن فبعضن���ا قد ُغلبت التي تش���كل ً
وقابليات التفكر والحكم لديهم من قبـل أحاسيس���هم عقولهم ُ
وأهوائهم .لذا نراهم يعيشون حالة من التناقض في المشاعر، ويتعثرون على الدوام ،ويعيش���ون أزمة في أفكارهم الرئيس���ة. فال يمكن أن يش���كل هؤالء أمة واحدة على الرغم من كونهم أبناء بلد واحد ،ألنهم وضعوا أنفسهم في مواضع معينة بحيث
يه���دم أحدهم اآلخر ...ال يش���كلون أمـة واحدة ،بل يعيش���ون
وعيبا .وهـم به���ذا يمثلون فك���ر أو ً زعيم���ا ،يع���د نقيصة كبي���رة ً هذا الجيل الناشئ.
إن توقي���ر اإلنس���ان واحترامه من موجبات اإلنس���انية ومن
ضروراتها ،وحب اإلنس���ـان من ش���ـروط القرب من اهلل تعالى
ومن الخلق .والذين يستهينون بالناس بتصرفاتهم أو بأقوالهم ُيفش���ون ف���ي الحقيق���ة مس���ـتواهم الخ ُلق���ي ،كما يفش���ي الذين يحق���دون على اإلنس���ان ويكرهونه ويعادون���ه نوعية ضميرهم
ووجدانه���م .بينم���ا ن���رى أن أصح���اب الخ ُلق الرفي���ع هـم من نس���يما رقيـ ًقا في كل مكان، يهبون ً المتواضعي���ن على الدوامّ ،
عدون احترام اإلنسان ومحبته ويس���ـتروح بهم الناس ...وهم َي ّ من أفضل األشياء وأثمنها .ويرون أن حب اإلنسان لآلخرين،
محبوب���ا م���ن قبله���م ،أفضل وأثم���ن من مل���ك الدنيا. وكون���ه ً وأمث���ال هؤالء ين���ذرون حياتهم من أجل حي���اة اآلخرين ومن
أس���رى في شباك االختالف والتساقط ،ويموتون وهم أسرى. وال أدري ،ألم َي ِح ْن بعد أوان محاس���بة أنفس���نا كأمة؟ ألنه
أجل سعادتهم بكل همة وعزم.
س���مح اهلل -أن ننهدم في المدى القريب ونبقى تحت أنقاض
بالجميع ويحملون نوايا طيبة تجاههم ،يحصلون على أضعاف
إن اس���تمر عدم اإلحس���اس هذا مدة طويلة ،فإنني أخشى -ال أبدا عن مثل هذا أنفس���نا .والحقيق���ة ،يجب أال نغض الط���رف ً
جميع���ا بحبل الوحدة االحتم���ال ،بـ���ل أن نخش���اه وأن نعتصم ً والتضام���ن بقوة .إن أبرز خصائصنا كأمة ،وأكثرها اس���تحقا ًقا للتس���جيل ،ه���ي أن كل ف���رد من أفرادن���ا يحمل كبيرا ً احترام���ا ً
ومن الس���نن اإللهية أن أمثال هؤالء الذين يحس���نون الظن
مضاعفة لنواياهم وأفكارهم هذه .ومع أنهم ال يبغون هذا وال مقاب���ل لعمله���م ،إال أنهم يحصلون يعن���ون أن يحصل���وا على ٍ
على عشرة أضعاف ما يقدمونه مستفيدين من مزايا إنسانيتهم.
أما الذيـن تركوا أنفسهم للحقد وللعداء ،فإنهم يدمرون قيمهم
3
السنة الثامنة -العدد (2012 )33
المقال الرئيس فتح اهلل كولن
بينم���ا كن���ا نس���ير نح���و مس���تقبل مفع���م بالنـور
الط���رق .قام���وا بكل هذا وهم يتظاهرون بأنهم رس���ل الس�ل�ام
كريهة ترتفع من اليسار ومن اليمين تدعو إلى
أخرى كش���فوا عن وجوههم الكالحة الس���وداء سواد القطران،
بقل���وب ملؤه���ا األم���ل ،إذا بنا نس���مع أصوا ًتا
عه���د مظلم من جديد .س���معنا هذه األصوات النش���ـاز فقلقنا،
"أبدأنا نرجع إلى أيام التناحر والش���قاق؟" كم كنا معجبين بهم
عندما كنا نسمع منهم هذه الكلمات" :احترام اإلنسان وتوقيره، وإبـداء الحب للكل ولكل شيء ،والتعامل بكل مرونة وتساهل
مـع العالم كله" ،كم كانت هـذه الكلمات سـاحرة ومعسولة...
كم أحببنا كلماتهم هـذه وكم ضممنا التقدير لها في جوانحنا! أحببناه���م وأعجبنا بهم ...أعجبنا بكلماتهم ونحن نمش���ي في طريقنـا نحو المستقبل بكل ثقة وأمن واطمئنان دون أن يخطر
ببالنا ظهور أي مصاعب أو أمور سلبية أمامنا ...وإذا بنا نفاجأ به���م وقد انتصب���وا أمامنا بكل ما في جعبته���م من حقد ونفور
وغضب ،وبدأوا -وهم يهاجمون جميع األطراف -بسد األفق
بأفكارهم السوداء الكالحة ،وبنسف كل الجسور وتعطيل كل السنة الثامنة -العدد (2012 )33
2
والن���ور ،وبدأوا بألع���اب قذرة تحت هذا الغط���اء .وفي أحيان حربا ش���عواء وبدأوا يهاجمون األفكار النيرة ،ويش���نون عليها ً عالنية وصراحة ،ولم يتوانوا في هذه الحرب عن االفتراء على
جمي���ع األفكار والحركات والفعاليات اإليجابية .والحقيقة أن
أيضا ه���ؤالء لم يكونوا بيادق بيد قوى الظ�ل�ام فقط ،بل كانوا ً ه���م الظالم بعينه .وحتى عندما حاولوا أن يظهروا وكأنهم مع
الن���ور وم���ع الضياء ومن أنصارهما ،إال أنهم كانوا في الحالين يمشون وراء الشيطان ويوقدون نار الفتنة.
أج���ل! لق���د ت���رك البعض من���ا منذ م���دة طويلة كل ش���يء،
وتوجه نحو تخريب عاطفة األخوة والصداقة الموجودة بيننا.
لق���د دارت رؤوس���نا إلى درجة أننا لم ننتبه إل���ى أننا كنا نهلك أنفس���نا بأيدينا .واألنكى من هذا ،أننا كنا نربط جميع مشاعرنا
وأفكارنا وس���لوكنا بأحاس���يس العداوة والبغضاء .وبدأنا نقوم
المحتويات أوان الرجوع إلى النفس /فتح اهلل كولن (املقال الرئيس) أسماك مضيئة في قيعان البحار /أ.د .ناصر أمحد سنه (علوم) فقه واقع األمة ..دراسة في المفهوم /أ.د .الشاهد البوشيخي (دراسات إسالمية) الرفيق والطريق /حراء (ألوان وظالل) أصالة الثقافات ومستقبل الثقافة اإلسالمية /د .إسحاق بن عبد اهلل السعدي (قضايا فكرية) عيدنا سعيد إذا أردنا /أ.د .عمار جيدل (أدب) قطرات الماء /حراء (ألوان وظالل) ثقافة الحوار مع اآلخر لدى الشباب /د .مرمي آيت أمحد (قضايا فكرية ) أيها الخريف /حراء (ألوان وظالل) الصورة النمطية /د .حيىي جاد (قضايا فكرية) اإليمان باليوم اآلخر ..رؤية قرآنية لوظيفته اإلصالحية /أ.د .زيد بوشعراء (دراسات إسالمية) إسالمية األدب /أ.د .عماد الدين خليل (أدب) الخفافيش ..الرادارات الطائرة /أ.د .عرفان يلماز (علوم) قصة إنسان في رحلة الحياة /د .احلسني زايد (قصة) فرسان األمل /إسالم العدل (أدب) نعمة المرض من وجهة أخرى /د .زياد موسى أمحد (علوم) من تجليات مفهوم القراءة في القرآن الكريم /نعيمة لبداوي (قضايا فكرية) الطالق ..أكبر تهديد على األسرة /د .حسن أيدنلي (تربية) بشرى قدوم محمد / أ.د .حممد عامل خنرت (شعر ) عسكرة الحياة /د .سلمان العودة (قضايا فكرية) نحو تأصيل الفقه الهاروني في قضية الوحدة /د .حممد إقبال عروي (قضايا فكرية) برعوم البراءة /حراء (ألوان وظالل) الجندي الباسل /نور الدين صواش (حمطات حضارية) سحلية الماء ..خبيرة الجري على الماء /نور الدين صواش (حمطات علمية)
2 5 9 13 14 16 18 19 22 23 24 29 33 37 41 42 45 50 54 55 57 61 62 63
االفتتاحية ي ًدا بيد... كل آثامنا ،مستغ ِّلين بركة هذه األيام التي أحاطت بنا"؛ "دعونا "هلموا نتب من ِّ ّ
النجوم ما ي���دور في صدورنا، ي���دا بيد مرة أخرى ،ونتكلم بقلوبنا ،و ُنس���مع نض���ع ً َ
وال سيما في هذه األيام التي تتزين فيها اآلفاق بالرحمة اإللهية ،وتحتضن األنوار قلوبنا"... اآلتية من وراء اآلفاق َ
العدد33: السنة الثامنة (نوفمبر -ديسمبر) 2012
مدوي���ة ،وصرخ���ات ُم ِ وتهد جلجلة ،ته��� ُّز أركان الكون جميع���ه، ُّ ه���ي ن���داءات ّ بحب الخير. كل قلب نابض بالحياة ،طافح عتبات ِّ ِّ
إن الق���ارئ المتأني َليتس���اءل م���رة أخرى :هل هذا المقال ُكت���ب اليوم ،بنبرات َّ َّ األم���ة في مرحلتها الراهنة؟ وه���ل ُخ َّط ليعالج حالنا الحاض���رة ،حر ًفا حر ًفا، واق���ع َّ أن مؤ ِّلفه األس���تاذ "فتح اهلل" تجاوز الزم���ان والمكان بما يص ُلح ومعن���ى معن���ى؟ أم َّ ً لكل زمان ومكان؟ ِّ أن زخ���ارف منس���وجات المقال الرئيس نس���جت في نقط���ة اجتمعت ال ري���ب َّ
وبعد الهمة ،بن َفس قرآن���ي ،وروح نبويُ ، فيه���ا الحقيقة مع الص���دق ،والحكمة مع َّ ُعقبوي...
ظ���ل المق���ال الرئيس تعال���ج جوانب، ولق���د ج���اءت المق���االت األخرى على ِّ
وتس���لط الضوء على جوانب أخرى؛ من ذلك "وجوب فقه واقع األمة" ،وضرورة
وانفتاحا؛ ث���م كان الحرص "العناي���ة الصادق���ة بمس���تقبل الثقافة اإلس�ل�امية" أصال ًة ً أن عشش���ت في أحش���ائنا؛ وال َّ ش���ك َّ على "ثقافة الحوار" ترياقا للفرقة التي كالبوم َّ "عس���كرة الحياة" ،و"األحكام النمطية" ،هي من أبرز األس���باب في إقصاء القريب
رش���ح المفتاح وظلم الحبيب؛ وال يملك الس���حري إ َّ ال القرآن الكريم ،فهو الذي َي َ َّ َ "بن���داء اإليم���ان باليوم اآلخر" ،ويدعو حثي ًثا إلى "الق���راءة وإعادة القراءة" بمدلولها أن يحمل الخط���اب إلى هذا العلو الحض���اري الغائ���ر في الوجود ...لكن ش���ريطة ْ
السامق سمات "األدب اإلسالمي" ،ويتحلى أبطاله بصفات "فرسان األمل".
ولم يغب العلم ودالئل القدرة من هذا العدد ،ما بين "األس���ماك المضيئة" في
قيعان البحار ،و"الخفافيش" الطائرة بخصائص الرادار...
م���ا بين "فك���ر وفعل" ،وما بين "روح ومادة" ،يولد األمل الخافق ،ويبزغ الفجر
ويرشح المعنى من جديدُ ،م ْؤذ ًنا بقدوم عهد عتيد وليد... الصادق، ُ
لكل من يحوم حول هذا العمق ويسبح في هذا التيار؛ وحراء اليوم " ُأ ُذن خيرٍ " ِّ
حبا وشو ًقا. تلقي ب ُقبلة حرى على جبين قرائها األفاضل: ً سالما وتحيةًّ ،
العدد / 33 :السنة الثامنة ( /نوفمرب -ديسمرب) 2012 مجلة علمية فكرية ثقافية تصدر كل شهرين من إسطنبول
w w w. h i r a m a g a z i n e . c o m
سيد الورود ُك ُّل الورود إليك ّتواقة، وعلى القبة الخضراء َح َّوامة... نورا، كالفراش إذا آنس ً إليه سعى ،ونحوه طار ،وعليه تساقط... فما أعظم ما عليه ي ُدلّنا ،وإليه يسبقنا... تصوُح الزهور ،وتذبل الورود، إنه ماء الحياة ،من دونه ِّ ويموت الزمان واإلنسان. ***
أوان الرجوع إلى النفس
فقه واقع األمة ..دراسة في المفهوم
نحو تأصيل الفقه الهاروني في قضية الوحدة