تقي الدين النبهاني
الشخصية السلمية
الجزء الثاني
بسم ا الرحمن الرحيم
دراسة الفقه معرفة المسلم الحكام الشرعية التي تلزمه في حياته فرض عين على كل مسلم لنه مأمور بأن يقوم بأعماله حسب أحكام الشرع ،ذلك أن خطاب التكليف الذي خاطب الشارع به م ل تخيير فيه لحد، ب جز ٍ الناس وخاطب المؤمنين هو خطا ُ سواء أكان في اليمان أو كان في أعمال النسان ،فقوله تعالى: )آِمنوا بالله ورسوله( كقوله) :وأحل ا البيع وحرم الربا( كلهما خطاب تكليف ،وهو من حيث كونه خطابا ل من حيث الموضوع ب جزم ،بدليل قوله تعالى) :ما كان لمؤمن الذي خاطبنا به خطا ُ ول مؤمنة إذا قضى ا ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم( ،وبدليل المحاسبة على كل عمل ،قال تعالى) :فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ،ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره(، ضرا ،وما وقال تعالى) :يوم تجد كل نفس ما عملت من خير ُمح َ عملت من سوء توّد لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم ا نفسه( ،وقال) :وُتوفى كل نفس ما عملت( .فالتكليف جاء بشكل جازم ،والمسلم مكلف بشكل جازم أن يتقيد بأحكام الشرع عند القيام بأي عمل من العمال .أّما موضوع التكليف -أي الشيء الذي كلفه به ا -فهو الذي قد يكون فرضا وقد يكون مندوبا وقد يكون مباحا وقد يكون حراما وقد يكون مكروها .أّما نفس التكليف فهو جزم ول تخيير فيه ،وليس له إل ّ حالة واحدة وهي وجوب التقيد به ،ومن هنا كان فرضا على كل مسلم أن يعرف الحكام الشرعية التي تلزمه في الحياة الدنيا .أّما معرفة ما زاد على ما يلزمه في حياته من الحكام الشرعية فإنه فرض على -2-
الكفاية ،وليست فرض عين ،إن قام به البعض سقط عن الباقين ،ويؤيد هذا ما روي عن أنس بن مالك قال :قال رسول ا صلى ا عليه وسلم) :اطلبوا العلم ولو بالصين ،فإن طلب العلم فريضة على كل مسلم( ،وإنه وإن كان المراد هنا كل علم يلزم المسلم في حياته بدليل قول الرسول) :ولو بالصين( ،فإنه يدخل فيه الفقه من ناحية الحكام التي تلزم المسلم في حياته، عقائد وعبادات ومعاملت وغير ذلك .ومن هنا كانت دراسة الفقه من المور اللزمة للمسلمين بل من الحكام التي فرضها ا عليهم سواء أكانت فرض عين أو فرض كفاية .وقد جاءت الحاديث الشريفة حاثة على دراسة الفقه فإن الرسول صلى ا عليه وسلم قد حث على تعلم الفقه ،فقد روى البخاري عن ابن عمر قال :قال رسول ا صلى ا عليه وسلم) :من ُيِرد ا به خيرا يفقهه( ،وعن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال :قال رسول ا صلى ا عليه وسلم) :من ُيِرد ا به خيرا يفقهه في الدين( ،وعن أنس قال :قال رسول ا صلى ا عليه وسلم: )خير دينكم أيسره وخير العبادة الفقه( ،وعن عزام بن حكيم عن عمه عن رسول ا صلى ا عليه وسلم قال) :إنكم أصبحتم في زمان كثير فقهاؤه قليل خطباؤه قليل سائلوه كثير معطوه، العمل فيه خير من العلم ،وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه كثير خطباؤه قليل معطوه كثير سائلوه ،العلم فيه خير من العمل( ،وعن عطاء بن يسار عن أبي هريرة عن النبي صلى ا عليه وسلم قال) :لكل شيء عماد وعماد هذا الدين الفقه ،وما عبد ا بشيء أفضل من الفقه في الدين ،ولفقيٌه واحد أشد ُ على الشيطان من ألف عابد( .فهذه الحاديث صريحة في فضل الفقه والحث على دراسته .وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي موت ألف عابد قائم الليل صائم النهار أهون ا عنه أنه قال َ :ل" َ من موت العاقل البصير بحلل ا وحرامه".
نماذج من الفقه كان الصحابة رضوان ا عليهم عربا فكانت العربية سليقتهم ،وكانوا علماء محيطين إحاطة دقيقة باللسان العربي، وكانوا ملزمين لرسول ا صلى ا عليه وسلم ،فكان القرآن -3-
ينزل وهم مع الرسول ،والحوادث يبين الرسول فيها حكم ا على مرأى ومسمع منهم ،فكانوا أيضا علماء بالشريعة محيطين بها .فحين كانت َتِرد عليهم الواقعة التي تحتاج إلى بيان حكم ا بينوا فيها الحكم الشرعي ببيان رأيهم الذي استنبطوه من النص أو من معقول النص .وكانوا كثيرا ما يقتصرون على إعطاء الحكم دون بيان الدليل ،ولذلك ُنقلت أقضية الصحابة بشكل آراء لهم .وهذا ما حمل البعض من الناس أن يفهم أن الصحابة كانوا يعطون رأيهم في القضايا .والحقيقة أن الصحابة كانوا يعطون الحكم الشرعي الذي استنبطوه بفهمهم من النصوص الشرعية، ولكنهم لم يشفعوه بالدليل ،أو يبينوا علة الحكم ولم يبينوا دليل العلة .فأدى ذلك إلى إيهام أن هذا الرأي من الصحابة ،وأنه يجوز أن يعطي النسان رأيه في القضية ما دام عقله مشَبعا بالسلم وعارفا بالعربية. ما جاءت العصور التي طرأ الفساد فيها على اللسان ول ّ ما تسرب العربي صارت العربية ُتتعلم قواعد لضبط اللسان .ول ّ الكذب إلى الرواة وُرويت أحاديث عن الرسول لم يقلها صلى ا عليه وسلم ،صار الحديث فنا ُيتعلم بأصول .ولذلك صار استنباط الحكام يحتاج إلى معرفة باللغة العربية والنصوص الشرعية، فصار الحكم الشرعي ُيصحب بالدليل وقد ُيصحب بوجه الستدلل .فبدأ الفقه يتكون تكوينا جديدا في البحث ،وُيرتب ترتيبا خاصا في التبويب .وعلى اختلف الساليب في تبويبه وترتيبه صار ل بد من بيان دليل الحكم الشرعي مع بيان الحكم ،ول بد من بيان وجه الستدلل حين يكون الحكم مختَلفا فيه .وقد عمرت المكتبة السلمية بمئات اللوف من المؤلفات في الفقه بأساليب متنوعة من التبويب والعرض .غير أن الكفار بعد أن نجحوا في غزو المسلمين بعد منتصف القرن الثامن عشر الميلدي أخذوا يغالطونهم في العلوم السلمية فكّرهوا إليهم كتب الفقه كما يكّره السفسطائي الناس بالعسل حين يقل لهم عنه أنه خرء الذباب .فقد وضعوا الفقه السلمي في إطار أسود حتى يعرض عنه المسلمون .وإذا أعرض المسلمون عن الفقه فقد أعرضوا عن معرفة أحكام السلم ،ووقعوا في الجهل في دين ا، وهذا ما حصل بالفعل .ومن أجل ذلك كان ل بد من حث المسلمين على القبال على دراسة الفقه بعرض نماذج من -4-
الفقه السلمي لثارة الشوق إلى دراسته .فكان مفيدا للناس عرض نماذج من الحكام الشرعية المتعلقة بالعلقات العامة وهي ما يطلقون عليها في هذه اليام الحكام السياسية أو الفقه الدستوري ،ونماذج من الحكام الشرعية المتعلقة بعلقات الفراد مع بعضهم وهي ما يطلقون عليها القانون المدني، ونماذج من الحكام الشرعية المتعلقة بالعقوبات ،ونماذج من الحكام الشرعية المتعلقة بالبينات حتى تكون الصورة الفقهية واضحة تمام الوضوح ،فلعلها تثير الشوق لدراسة الفقه السلمي في أمهات كتب الفقه المعتَبرة.
الخلفة الخلفة هي رئاسة عامة للمسلمين جميعا في الدنيا لقامة أحكام الشرع السلمي وحمل الدعوة السلمية إلى العالم، وهي عينها المامة ،فالمامة والخلفة بمعنى واحد .وقد وردت الحاديث الصحيحة بهاتين الكلمتين بمعنى واحد ،ولم َيِرد لي منهما معنى يخالف معنى الخرى في أي نص شرعي؛ أي ل في الكتاب ول في السّنة ،لنهما وحدهما النصوص الشرعية ،ول يجب أن ُيلتَزم هذا اللفظ -أي المامة أو الخلفة ،-وإنما ُيلتَزم مدلوله. ض على كافة المسلمين في جميع أقطار وإقامة خليفة فر ٌ العالم .والقيام به -كالقيام بأي فرض من الفروض التي فرضها ا على المسلمين -هو أمر محّتم ل تخيير فيه ول هوادة في شأنه ،والتقصير في القيام به معصية من أكبر المعاصي يعّذب ا عليها أشد العذاب. والدليل على وجوب إقامة الخليفة على المسلمين كافة: السّنة وإجماع الصحابة .أّما السّنة ،فقد ُروي عن نافع قال :قال ت رسول ا صلى ا عليه وسلم يقول) :من لي عمر :سمع ُ خلع يدا من طاعة ا لقي ا يوم القيامة ل حجة له ،ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية( .فالنبي صلى ا عليه وآله وسلم فَرض على كل مسلم أن تكون في عنقه بيعة، ووصف من يموت وليس في عنقه بيعة بأنه مات ميتة جاهلية. والبيعة ل تكون إل ّ للخليفة ليس غير .وقد أوجب الرسول على -5-
جب أن يباِيع كل مسلم أن تكون في عنقه بيعة لخليفة ،ولم يو ِ كل مسلم الخليفة .فالواجب هو وجود بيعة في عنق كل مسلم، أي وجود خليفة يستحق في عنق كل مسلم بيعة بوجوده. جد في عنق كل مسلم بيعة ،سواء فوجود الخليفة هو الذي يو ِ بايع بالفعل أم لم يباِيع ،ولهذا كان الحديث دليل ً على وجوب نصب الخليفة وليس دليل ً على وجوب البيعة ،لن الذي ذّمه الرسول هو خلّو عنق المسلم من بيعة حتى يموت ،ولم َيُذم عدم البيعة .وروى هشام بن عروة عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول ا صلى ا عليه وسلم قال) :سَيليكم بعدي ُولة ،فَيليكم الَبّر ببّره والفاجر بفجوره فاسمعوا لهم وأطيعوا في كل ما وافق الحق ،فإن أحسنوا فلكم وإن أساءوا فلكم وعليهم( ،وروى مسلم عن العرج عن أبي هريرة عن النبي صلى جّنة يقاَتل ِمن ورائه وُيّتقى به(، ا عليه وسلم قال) :إّنما المام ُ ت أبا هريرة خمس سنين وروى مسلم عن أبي حازم قال :قاعد ُ فسمعته يحّدث عن النبي صلى ا عليه وسلم قال) :كانت بنو خَلَفه نبي ،وإنه ل نبي اسرائيل تسوسهم النبياء ،كلما هلك نبي َ بعدي ،وستكون خلفاء فَتكُثر .قالوا :فما تأمرنا؟ قال :فوا ببيعة الول فالول ،وأعطوهم حقهم فإن ا سائلهم عما استرعاهم( ،وعن ابن عباس عن رسول ا صلى ا عليه وسلم قال) :من َكِره من أميره شيئا فليصبر عليه ،فإنه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبرا فمات عليه إل ّ مات ميتة جاهلية( .فهذه الحاديث فيها إخبار من الرسول بأنه سيلي جّنة أي وقاية .فوصف ف للخليفة بأنه ُ المسلمين ُولة ،وفيها وص ٌ جّنة هو إخبار عن فوائد وجود المام ،فهو الرسول بأن المام ُ طلب ،لن الخبار من ا ومن الرسول إن كان يتضمن الذم فهو طلب ترك أي نهي ،وإن كان يتضمن المدح فهو طلب فعل .فإن كان الفعل المطلوب يترتب على فعله إقامة الحكم الشرعي أو يترتب على تركه تضييعه ،كان ذلك الطلب جازما .وفي هذه الحاديث أيضا أن الذين يسوسون المسلمين هم الخلفاء ،وهو يعني طلب إقامتهم ،وفيها تحريم أن يخرج المسلم من السلطان، وهذا يعني أن إقامة المسلم سلطانا أي حكما له ،أمر واجب. على أن الرسول صلى ا عليه وسلم أمر بطاعة الخلفاء وبقتال من ينازعهم في خلفتهم ،وهذا يعني أمرا بإقامة خليفة -6-
والمحافظة على خلفته بقتال كل من ينازعه .فقد روى مسلم أن النبي صلى ا عليه وسلم قال) :وَمن باَيع إماما فأعطاه طعه إن استطاع فإن جاء آخر ينازعه صفقة يده وثمرة قلبه فلُي ِ فاضربوا عنق الخر( ،فالمر بطاعة المام أمٌر بإقامته ،والمر بقتال من ينازعه قرينة على الجزم في دوام إيجاده خليفة واحدا. وأّما إجماع الصحابة فإنهم رضوان ا عليهم أجمعوا على لزوم إقامة خليفة لرسول ا صلى ا عليه وسلم بعد موته، وأجمعوا على إقامة خليفة لبي بكر ثم لعمر ثم لعثمان بعد وفاة كل منهم .وقد ظهر تأكيد إجماع الصحابة على إقامة خليفة من تأخيرهم دفن رسول ا صلى ا عليه وآله وسلم عقب وفاته واشتغالهم بنصب خليفة له ،مع أن دفن الميت عقب وفاته فرض ،ويحرم على من يجب عليهم الشتغال في تجهيزه ودفنه الشتغال في شيء غيره حتى يتم دفنه .والصحابة الذين يجب غل قسم منهم عليهم الشتغال في تجهيز الرسول ودفنه اشت َ بنصب الخليفة عن الشتغال بدفن الرسول وسكت قسم منهم عن هذا الشتغال وشاركوا في تأخير الدفن ليلتين مع قدرتهم على النكار وقدرتهم على الدفن ،فكان ذلك إجماعا على الشتغال بنصب الخليفة عن دفن الميت ،ول يكون ذلك إل ّ إذا كان نصب الخليفة أوجب من دفن الميت. وأيضا فإن الصحابة كلهم أجمعوا طوال أيام حياتهم على خب وجوب نصب الخليفة ،ومع اختلفهم على الشخص الذي ُينت َ خليفة فإنهم لم يختلفوا مطلقا على إقامة خليفة ،ل عند وفاة رسول ا ول عند وفاة أي خليفة من الخلفاء الراشدين .فكان إجماع الصحابة دليل ً صريحا وقويا على وجوب نصب الخليفة. على أن إقامة الدين وتنفيذ أحكام الشرع في جميع شؤون ض على المسلمين بالدليل القطعي الحياة الدنيا والخرى فر ٌ الثبوت القطعي الدللة ،ول يمكن أن يتم ذلك إل ّ بحاكم ذي سلطان ،والقاعدة الشرعية أن "ما ل يتم الواجب إل ّ به فهو واجب" فكان نصب الخليفة فرضا من هذه الجهة أيضا. وفوق ذلك فإن ا تعالى أمر الرسول صلى ا عليه وآله وسلم أن يحكم بين المسلمين بما َأنزل ،وكان أمره له بشكل كم بينهم جازم ،قال تعالى مخاطبا الرسول عليه السلم) :فاح ُ بما َأنزل ا ول تّتبع أهواءهم عما جاءك من الحق( ،وقال: -7-
كم بينهم بما أنزل ا ول تّتبع أهواءهم واحَذرهم أن ن اح ُ )وأ ِ يفتنوك عن بعض ما أنزل ا إليك( ،وخطاب الرسول خطاب لّمته ما لم َيِرد دليل يخصصه به ،وهنا لم َيِرد دليل فيكون خطابا للمسلمين بإقامة الحكم .ول يعني إقامة الخليفة إل ّ إقامة الحكم والسلطان .على أن ا تعالى فرض على المسلمين طاعة أولي المر أي الحاكم ،مما يدل على وجوب وجود ولي المر على المسلمين ،قال تعالى) :يا أيها الذين آمنوا أطيعوا ا وأطيعوا الرسول وأولي المر منكم( ،ول يأمر ا بطاعة من ل وجود له، ل على أن إيجاد ولي ول َيفرض طاعة َمن وجوده مندوب ،فد ّ المر واجب .فالله تعالى حين أمر بطاعة ولي المر فإنه يكون قد أمر بإيجاده .فإن وجود ولي المر يترتب عليه إقامة الحكم الشرعي وتْرك إيجاده يترتب عليه تضييع الحكم الشرعي ،فيكون حرمة ،وهي تضييع إيجاده واجبا ِلما يترتب على عدم إيجاده من ُ الحكم الشرعي. فهذه الدلة صريحة بأن إقامة الحكم والسلطان على المسلمين منهم فرض ،وصريحة بأن إقامة خليفة يتولى هو الحكم والسلطان فرض على المسلمين ،وذلك من أجل تنفيذ أحكام الشرع ل مجرد حكم وسلطان .انظر قوله صلى ا عليه وسلم) :خيار أئمتكم الذين ُتحبونهم وُيحبونكم ويصّلون عليكم وُتصلون عليهم ،وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم .قيل :يا رسول ا أفل ننابذهم بالسيف؟ قال :ل ،ما أقاموا فيكم الصلة( ،فهو صريح في الخبار بالئمة الخيار والئمة الشرار ،وصريح بتحريم منابذتهم بالسيف ما أقاموا الدين ،لن إقامة الصلة كناية عن إقامة الدين والحكم به. فكون إقامة الخليفة ليقيم أحكام السلم ويحمل دعوته فرضا شبهة في ثبوته في نصوص الشرع على المسلمين أمٌر ل ُ الصحيحة ،فوق كونه فرضا من جهة ما يحتمه الفرض الذي فرضه ا على المسلمين من إقامة حكم السلم وحماية بيضة ن أقامه المسلمين .إل ّ أن هذا الفرض فرض على الكفاية ،فإ ْ البعض فقد ُوجد الفرض وسقط عن الباقين هذا الفرض ،وإ ْ ن لم يستطع أن يقيمه البعض ولو قاموا بالعمال التي تقيمه فإنه يبقى فرضا على جميع المسلمين ،ول يسقط الفرض عن أي مسلم ما دام المسلمون بغير خليفة. -8-
والقعود عن إقامة خليفة للمسلمين معصية من أكبر المعاصي ،لنها قعود عن القيام بفرض من أهم فروض السلم ،ويتوقف عليه إقامة أحكام الدين ،بل يتوقف عليه وجود السلم في معترك الحياة .فالمسلمون جميعا آثمون إثما كبيرا في قعودهم عن إقامة خليفة للمسلمين .فإن أجمعوا على هذا القعود كان الثم على كل فرد منهم في جميع أقطار المعمورة، وإن قام بعض المسلمين بالعمل لقامة خليفة ولم يقم البعض الخر فإن الثم يسقط عن الذين قاموا يعملون لقامة الخليفة ويبقى الفرض عليهم حتى يقوم الخليفة ،لن الشتغال بإقامة الفرض ُيسِقط الثم على تأخير إقامته عن وقته وعلى عدم القيام به ،لتلّبسه بالقيام به ،ولستكراهه بما يقهره عن إنجاز القيام به .أّما الذين لم يتلّبسوا بالعمل لقامة الفرض فإن الثم بعد ثلثة أيام من ذهاب الخليفة إلى يوم نصب الخليفة ،يبقى عليهم ،لن ا قد أوجب عليهم فرضا ولم يقوموا به ولم يتلّبسوا بالعمال التي من شأنها أن تقيمه ،ولذلك استحقوا الثم فاستحقوا عذاب ا وخزيه في الدنيا والخرة .واستحقاقهم الثم على قعودهم عن إقامة خليفة أو عن العمال التي من شأنها أن تقيمه ،ظاهر صريح في استحقاق المسلم العذاب على تركه أي فرض من الفروض التي فرضها ا عليه ،ل سيما الفرض الذي به ُتنّفذ الفروض ،وتقام أحكام الدين ،ويعلو أمر السلم ،وتصبح كلمة ا هي العليا في بلد السلم ،وفي سائر أنحاء العالم. عزلة عن الناس، وأّما ما ورد في بعض الحاديث من ال ُ ومن القتصار على التمسك بأمور الدين في خاصته ،فإنها ل تصلح دليل ً على جواز القعود عن إقامة خليفة ،ول على إسقاط الثم عن هذا القعود .والمدقق فيها يجدها في شأن التمسك بالدين ل في شأن الترخيص بالقعود عن إقامة خليفة للمسلمين. ي أنه سمع أبا ل ،روى البخاري عن ُبسر بن عبيدا الحضرم ّ فمث ً إدريس الخولني أنه سمع حذيفة بن اليمان يقول) :كان الناس يسألون رسول ا صلى ا عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني ،فقلت :يا رسول ا ،إنا كنا في جاهلية وشّر فجاءنا ا بهذا الخير ،فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال :نعم .قلت :وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال :نعم ،وفيه -9-
خُنه؟ قال :قوم َيهدون بغير هديي َتعرف منهم خن .قلت :وما َد َ َد َ كر .قلت :فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال :نعمُ ،دعاة على وُتن ِ أبواب جهنمَ ،من أجابهم إليها قذفوه فيها .قلت :يا رسول ا جلدتنا ،ويتكلمون بألسنتنا .قلت :فما صفُهم لنا .قال :هم من ِ ِ تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال َ:تلَزم جماعة المسلمين وإمامَهم. قلت :فإن لم يكن لهم جماعة ول إمام .قال :فاعتزل تلك الِفَرق عض بأصل شجرة ،حتى يدركك الموت وأنت على كلها ،ولو أن َت ُ ذلك( .فإن هذا الحديث صريح بأن الرسول يأمر المسلم بأن َيلزم جماعة المسلمين وإن َيلزم إمامهم ،ويترك الدعاة الذين هم على أبواب جهنم .فسأله السائل في حالة أن ل يكون للمسلمين إمام ول لهم جماعة ،ماذا يصنع بالنسبة للدعاة الذين على أبواب جهنم ،فحينئذ أمره الرسول أن يعتزل هذه الفرق ،ل أن يعتزل المسلمين ول أن يقعد عن إقامة إمام .فأْمره صريح )فاعتِزل تلك الفرق كلها( ،وباَلغ في وصف اعتزاله لتلك الِفرق إلى درجة أنه ولو بلغ اعتزاله إلى حد أن يعض على أصل شجرة حتى يدركه الموت وهو على ترك تلك الِفرق التي على أبواب جهنم ،ومعناه سك بدينك وبالبعد عن الدعاة المضلين الذين على أبواب تم ّ جهنم .فهذا الحديث ليس فيه أي عذر لترك القيام بالعمل لقامة خليفة ول أي ترخيص في ذلك ،وإنما هو محصور على المر بالتمسك بالدين واعتزال الدعاة الذين على أبواب جهنم ،ويبقى الثم عليه إذا لم يعمل لقامة خليفة .فهو مأمور بأن يبتعد عن الِفرق الضالة ،لَيسَلم بدينه من دعاة الضلل ولو عض على أصل شجرة ،ل أن يبتعد عن جماعة المسلمين ويقعد عن القيام بأحكام الدين وعن إقامة إمام للمسلمين. ي رضي ا عنه خدر ّ ل ،روى البخاري عن أبي سعيد ال ُ ومث ً أنه قال :قال رسول ا صلى ا عليه وسلم) :يوشك أن يكون م يتبع بها شعف الجبال ومواقع الِقطر َيفّر غَن ٌ خير مال المسلم َ بدينه من الِفتن( ،فإن هذا ل يعني اعتزال جماعة المسلمين والقعود عن القيام بأحكام الدين وعن إقامة خليفة للمسلمين حين تخلو الرض من الخلفة ،بل كل ما فيه هو بيان خير مال المسلم في أيام الفتن وخير ما يفعله للهروب من الفتن ،وليس هو للحث على الُبعد عن المسلمين واعتزال الناس. وعليه ،فإنه ل يوجد عذر لمسلم على وجه الرض في -10-
القعود عن القيام بما فرضه ا عليهم لقامة الدين ،أل وهو العمل لقامة خليفة للمسلمين حين تخلو الرض من الخلفة، حُرمات ا ،ول من وحين ل يوجد فيها من يقيم حدود ا لحفظ ُ يقيم أحكام الدين ،ويجمع شمل جماعة المسلمين تحت راية ل إله إل ّ ا محمد رسول ا .ول توجد في السلم أية رخصة في القعود عن القيام بهذا الفرض حتى يقوم.
المدة التي ُيم َهل فيها المسلمون لقامة خليفة والمدة التي ُيمَهل فيها المسلمون لقامة خليفة هي ليلتان، حل لمسلم أن يبيت ليلتين وليس في عنقه بيعة .أّما تحديد فل َي ِ أعلى الحد بليلتين فلن نصب الخليفة فرض منذ اللحظة التي ُيتوفى فيها الخليفة السابق أو ُيعَزل .ولكن يجوز تأخير النصب مع الشتغال به مدة ليلتين ،فإذا زاد على ليلتين ولم يقيموا خليفة ُينظر ،فإن كان المسلمون مشغولين بإقامة خليفة ولم يستطيعوا إنجاز إقامته خلل ليلتين لمور قاهرة ل ِقبل لهم بدفعها ،فإنه يسقط الثم عنهم لنشغالهم بإقامة الفرض ولستكراههم على التأخير بما قهرهم عليه ،قال عليه السلم ُ) :رفع عن أّمتي الخطأ والنسيان وما اسُتكرهوا عليه( .وإن لم يكونوا مشغولين بذلك فإنهم يأثمون جميعا حتى يقوم الخليفة ،وحينئذ يسقط الفرض عنهم .أّما الثم الذين ارتكبوه في قعودهم عن إقامة خليفة فإنه ل يسقط عنهم بل يبقى عليهم يحاسبهم ا عليه كمحاسبته على أية معصية يرتكبها المسلم في ترك القيام بالفرض. أّما كون المدة التي ُيمَهل فيها المسلمون للقيام بفرض إقامة خليفة ليلتين ،فإن الدليل عليها هو أن الصحابة باشروا الجتماع بالسقيفة للبحث في نصب خليفة لرسول ا منذ بلغهم نبأ وفاته ،ولكنهم ظلوا في نقاش في السقيفة ،ثم في اليوم الثاني جمعوا الناس في المسجد للبيعة فاستغرق ذلك ليلتين عِهد لهل الشورى عند ظهور تحقق بثلثة أيام .وأيضا فإن عمر َ وفاته من الطعنة ،وحدد لهم ثلثة أيام ثم أوصى أنه إذا لم ُيتفق على الخليفة في ثلثة أيام فلُيقَتل المخاِلف بعد اليام الثلثة، وَوّكل خمسين رجل ً من المسلمين بتنفيذ ذلك ،أي بقتل المخاِلف، مع أنهم من أهل الشورى ومن كبار الصحابة ،وكان ذلك على -11-
كر ذلك، مرأى ومسمع من الصحابة ولم ُينَقل عنهم مخاِلف أو من ِ فكان إجماعا من الصحابة على أنه ل يجوز أن يخلو المسلمون من خليفة أكثر من ليلتين بثلثة أيام ،وإجماع الصحابة دليل شرعي كالكتاب والسّنة.
انعقاد الخلفة الخلفة عقد مراضاة واختيار ،لنها بيعة بالطاعة لمن له حق الطاعة من ولية المر .فل بد فيها من رضا من يباَيع ليتولها ورضا المباِيعين له .ولذلك إذا رفض أحد أن يكون خليفة وامتنع من الخلفة ل يجوز إكراهه عليها ،فل ُيجَبر على قبولها بل ُيعَدل عنه إلى غيره .وكذلك ل يجوز أخذ البيعة من الناس بالجبار والكراه لنه حينئذ ل يصح اعتبار العقد فيها صحيحا لمنافاة الجبار لها ،لنها عقد مراضاة واختيار ل يدخله إكراه ول إجبار كأي عقد من العقود .إل ّ أنه إذا تم عقد البيعة ممن ُيعَتد ببيعتهم فقد انعقدت البيعة ،وأصبح المباَيع هو ولي المر ،فوجبت طاعته. وتصبح البيعة له بيعة على الطاعة وليست بيعة لعقد الخلفة. وحينئذ يجوز له أن يجبر الناس الباقين على بيعته لنها إجبار على طاعته ،وهذا واجب شرعا ،وليست هي في هذه الحال عقد مبايعة بالخلفة حتى يقال ل يصح فيه الجبار .وعلى ذلك فالبيعة ابتداء عقد ل يصح إل ّ بالرضا والختيار .أّما بعد انعقاد البيعة للخليفة فتصبح طاعة أي انقيادا لمر الخليفة ويجوز فيها الجبار تنفيذا لمر ا تعالى. ما كانت الخلفة عقدا فإنها ل تتم إل ّ بعاقد ،كالقضاء ل ول ّ له أحد القضاء ،والمارة ل يكون أحد يكون المرء قاضيا إل ّ إذا و ّ له أحد المارة ،والخلفة ل يكون أحد خليفة إل ّ إذا أميرا إل ّ إذا و ّ له أحد الخلفة .ومن هنا يتبين أنه ل يكون أحد خليفة إل ّ إذا و ّ له المسلمون ،ول يملك صلحيات الخلفة إل ّ إذا تم عقده لها، و ّ ول يتم هذا العقد إل ّ من عاقدْين أحدهما طالب الخلفة والمطلوب لها ،والثاني المسلمون الذين رضوا به أن يكون خليفة لهم .ولهذا كان ل بد لنعقاد الخلفة من بيعة المسلمين .وعلى -12-
هذا فإنه إذا قام متسلط واستولى على الحكم بالقوة فإنه ل يصبح بذلك خليفة ولو أعلن نفسه خليفة للمسلمين ،لنه لم تنعقد له خلفة ِمن ِقبل المسلمين .ولو أخذ البيعة على الناس بالكراه والجبار ل يصبح خليفة ولو بويع ،لن البيعة بالكراه والجبار ل تعتبر ول تنعقد بها الخلفة ،لنها عقد مراضاة واختيار ل يتم بالكراه والجبار ،فل تنعقد إل ّ بالبيعة عن رضا واختيار .إل ّ أن هذا المتسلط إذا استطاع أن ُيقنع الناس بأن مصلحة المسلمين في بيعته وإن إقامة أحكام الشرع تحّتم بيعته وَقَنعوا بذلك ورضوا ،ثم بايعوه عن رضا واختيار ،فإنه يصبح خليفة منذ اللحظة خذ السلطان ابتدا ً ء التي بويع فيها عن رضا واختيار ،ولو كان أ َ َ بالتسلط والقوة .فالشرط هو حصول البيعة وأن يكون حصولها عن رضا واختيار ،سواء كان من حصلت له البيعة هو الحاكم والسلطان أو لم يكن. أّما من هم الذين تنعقد الخلفة ببيعتهم ،فإن ذلك ُيفهم من استعراض ما حصل في بيعة الخلفاء الراشدين وما أجمع عْقد من ل وال َ ح ّ عليه الصحابة .ففي بيعة أبي بكر اكُتفي بأهل ال َ المسلمين الذين كانوا في المدينة وحدها ،ولم يؤخذ رأي المسلمين في مكة وفي سائر جزيرة العرب ،بل لم ُيسألوا. وكذلك الحال في بيعة عمر .أّما بيعة عثمان فإن عبدالرحمن بن عوف أخذ رأي المسلمين في المدينة ،ولم يقتصر على سؤال أهل الحل والعقد كما فعل أبو بكر عند ترشيح عمر .وفي عهد علي اكُتفي ببيعة أكثر أهل المدينة وأهل الكوفة وُأفِرد هو بالبيعة واعُتبرت بيعته حتى عند الذين خالفوه وحاربوه ،فإنهم لم يبايعوا غيره ولم يعترضوا على بيعته ،وإنما طالبوا بدم عثمان. فكان حكمهم حكم البغاة الذين نقموا على الخليفة أمرا ،فعليه أن يوضحه لهم ويقاتلهم ،ولم يكّونوا خلفة أخرى. وقد حصل كل ذلك –أي بيعة الخليفة من أكثر أهل العاصمة فقط دون باقي القاليم -على مرأى ومسمع من كر لهذا العمل الصحابة ،ولم يكن هنالك مخالف في ذلك ول من ِ من حيث اقتصار البيعة على أكثر أهل المدينة مع مخالفتهم في كروا اقتصار شخص الخليفة وإنكارهم أعماله ،ولكن لم ُين ِ مبايعته على أكثر أهل المدينة ،فكان ذلك إجماعا من الصحابة على أن الخلفة تنعقد ممن يمثلون رأي المسلمين في الحكم، -13-
لن أهل الحل والعقد وأكثر سكان المدينة كانوا هم أكثرية الممثلين لرأي الّمة في الحكم في جميع رقعة الدولة السلمية حينئذ. وعلى هذا فإن الخلفة تنعقد إذا جرت البيعة من أكثر الممثلين لكثر الّمة السلمية ممن يدخلون تحت طاعة الخليفة الذي يراد انتخاب خليفة مكانه ،كما جرى الحال في عهد الخلفاء الراشدين .وتكون بيعتهم حينئذ بيعة عقد للخلفة .أّما من عداهم فإنه بعد انعقاد الخلفة للخليفة تصبح بيعته بيعة طاعة ،أي بيعة انقياد للخليفة ل بيعة عقد للخلفة. عزل ويراد إيجاد خليفة هذا إذا كان هنالك خليفة مات أو ُ مكانه ،أّما إذا لم يكن هنالك خليفة مطلقا ،وأصبح فرضا على مل المسلمين أن يقيموا خليفة لهم لتنفيذ أحكام الشرع وح ْ الدعوة السلمية إلى العالم ،كما هي الحال منذ زوال الخلفة السلمية في اسطنبول سنة 1343هجرية الموافق سنة 1924 ميلدية حتى يومنا هذا سنة 1379هجرية الموافق سنة 1960 ميلدية ،فإن كل ُقطر من القطار السلمية الموجودة في ل لن يباِيع خليفة ،وتنعقد به الخلفة .فإذا العالم السلمي أه ٌ بايع ُقطر ما من هذه القطار السلمية خليفة ،وانعقدت الخلفة له ،فإنه يصبح فرضا على المسلمين أن يبايعوه بيعة طاعة أي بيعة انقياد بعد أن انعقدت الخلفة له ببيعة أهل ُقطره ،سواء أكان هذا الُقطر كبيرا كمصر أو تركيا أو اندونيسيا ،أو كان صغيرا كالبانيا والكمرون ولبنان ،على شرط أن تتوفر فيه أربعة أمور: أحدها :أن يكون سلطان ذلك الُقطر سلطانا ذاتيا يستند إلى المسلمين وحدهم ل إلى دولة كافرة أو نفوذ كافر. ثانيها :أن يكون أمان المسلمين في ذلك الُقطر بأمان السلم ل بأمان الكفر ،أي أن تكون حمايته من الداخل والخارج حماية إسلم من قوة المسلمين باعتبارها قوة إسلمية بحتة. ثالثها :أن يبدأ حال ً بمباشرة تطبيق السلم كامل ً تطبيقا ل ،وأن يكون متلبسا بحمل الدعوة السلمية. انقلبيا شام ً رابعها :أن يكون الخليفة المباَيع مستكمل ً شروط انعقاد الخلفة وإن لم يكن مستوفيا شروط الفضلية ،لن العبرة بشروط النعقاد. فإذا استوفى ذلك الُقطر هذه المور الربعة فقد ُوجدت -14-
الخلفة بمبايعة ذلك الُقطر وحده وانعقدت به وحده ،ولو كان ل يمثل أكثر أهل الحل والعقد لكثر الّمة السلمية ،لن إقامة الخلفة فرض كفاية ،والذي يقوم بذلك الفرض على وجهه الصحيح يكون قام بالشيء المفروض .ولن اشتراط أكثر أهل الحل والعقد إذا كانت هنالك خلفة موجودة يراد إيجاد خليفة فيها مكان الخليفة المتوفى أو المعزول .أّما إذا لم تكن هنالك خلفة مطلقا ويراد إيجاد خلفة ،فإن مجرد وجودها على الوجه الشرعي تنعقد الخلفة بأي خليفة يستكمل شروط النعقاد مهما كان عدد المباِيعين الذين بايعوه .لن المسألة تكون حينئذ مسألة صر المسلمون عن القيام به مدة تزيد على الثلثة قيام بفرض ق ّ ك لحّقهم في اختيار من يريدون .فمن اليام .فتقصيرهم هذا تر ٌ يقوم في الفرض يكفي لنعقاد الخلفة به .ومتى قامت الخلفة في ذلك الُقطر وانعقدت لخليفة ،يصبح فرضا على المسلمين جميعا النضواء تحت لواء الخلفة ومبايعة الخليفة ،وإل ّ كانوا آثمين عند ا ،ويجب على هذا الخليفة أن يدعوهم لبيعته ،فإن امتنعوا كان حكمهم حكم البغاة ووجب على الخليفة محاربتهم حتى يدخلوا تحت طاعته .وإذا بويع لخليفة آخر في نفس الُقطر أو في ُقطر آخر بعد بيعة الخليفة الول وانعقاد الخلفة له انعقادا شرعيا مستوفيا المور الربعة السابقة ،وجب على المسلمين محاربة الخليفة الثاني حتى يباِيع الخليفة الولِ ،لما ُروي عن عبدا بن عمرو بن العاص يقول :إنه سمع رسول ا صلى ا عليه وسلم يقول) :وَمن باَيع إماما فأعطاه صفقة يده طعه إن استطاع فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا وثمرة قلبه فلُي ِ عنق الخر( ،ولن الذي يجمع المسلمين هو خليفة المسلمين براية السلم .فإذا ُوجد الخليفة ُوجدت جماعة المسلمين ويصبح فرضا النضمام إليهم ويحرم الخروج عنهم .عن ابن عباس رضي ا عنه عن النبي صلى ا عليه وسلم قال) :من رأى من أميره شيئا فلَيصِبر عليه ،فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات إل ّ مات ميتة جاهلية( ،وروى مسلم عن ابن عباس عن النبي صلى ا عليه وسلم قال) :من َكِره من أميره شيئا فليصبر ،فإنه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبرا فمات إل ّ مات ميتة جاهلية(. ومفهوم هذين الحديثين لزوم الجماعة ولزوم السلطان. ق في البيعة لغير المسلمين ول تجب عليهم ،لنها ح ّ ول َ -15-
بيعة على السلم وعلى كتاب ا وسّنة رسول ا ،وهي تقتضي اليمان بالسلم وبالكتاب والسّنة .وغير المسلمين ل يجوز أن يكونوا في الحكم ،ول أن ينتخبوا الحاكم ،لنه ل سبيل لهم على المسلمين ،ولنه ل محل لهم في البيعة.
البيعـة البيعة فرض على المسلمين جميعا ،وهي حق لكل مسلم رجل ً كان أو امرأة .أّما كونها فرضا فالدليل عليه أحاديث كثيرة منها قوله عليه الصلة والسلم) :من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية( .وأّما كونها حقا للمسلمين فإن البيعة من حيث هي تدل على ذلك ،لن البيعة هي من ِقبل المسلمين للخليفة وليست من ِقبل الخليفة للمسلمين .وقد ثبتت بيعة المسلمين عبادة بن للرسول في الحاديث الصحيحة ،ففي البخاري عن ُ عنا رسول ا صلى ا عليه وسلم على السمع الصامت قال) :باَي ْ مكَره وأن ل ننازع المر أهله وأن نقوم شط وال َ من َ والطاعة في ال َ أو أن نقول بالحق حيثما كنا ل نخاف في ا لومة لئم( ،وفي عنا رسول البخاري عن أيوب عن حفصة عن أم عطية قالت) :باَي ْ ا صلى ا عليه وسلم فقرأ )على أن ل ُيشِركن بالله شيئا( ضت امرأة منا يدها فقالت :فلنة أسعدتني ونهانا عن النياحة .فَقَب َ عت( ،وعن أبي وأنا أريد أن أجزيها .فلم َيُقل شيئا ،فذهَبت ثم رج َ هريرة قال :قال رسول ا صلى ا عليه وسلم) :ثلثة ل يكلمهم ا يوم القيامة ول يزكيهم ولهم عذاب أليم :رجل على ل ماء بالطريق َيمَنع منه ابن السبيل ،ورجل باَيع إماما ل فض ِ ف له ،ورجل يبايعه إل ّ لدنياه إن أعطاه ما يريد وّفى له وإل ّ لم ي ِ يباِيع رجل ً بسلعة بعد العصر فحلف بالله لقد ُأعطي بها كذا وكذا ط بها( ،وعن عبدا بن عمر رضي ا فصّدقه فأخذها ولم ُيع َ عنا رسول ا صلى ا عليه وسلم على عنهما قال) :كنا إذا باَي ْ ت( ،وعن جرير بن عبدا السمع والطاعة ،يقول لنا :فيما استطع َ ت النبي صلى ا عليه وسلم على السمع والطاعة، قال) :بايع ُ ت والنصح لكل مسلم( ،وعن جنادة بن أبي فلّقنني :فيما استطع َ -16-
خْلنا على عبادة بن الصامت وهو مريض ،قلنا: أمية قال) :د َ أصلحك ا حّدث بحديث ينفعك ا به سمعَته من النبي صلى ا عليه وسلم .قال :دعانا النبي صلى ا عليه وسلم فبايعناه. شطنا عنا على السمع والطاعة في َمن َ فقال فيما أخذ علينا أن باَي ْ عسرنا وُيسرنا وأَثَرة علينا وأن ل ننازع المر أهله ،إل ّ وَمكَرهنا و ُ أن تروا كفرا بواحا عندكم من ا فيه برهان(. فالببيعة لخليفة هي بيد المسلمين ،وهي حقهم ،وهم الذين يباِيعون ،وبيعتهم هي التي تجعل الخلفة تنعقد للخليفة. وتكون البيعة مصافحة باليد أو كتابة ،ل فرق بين الرجال والنساء، ن لهن أن يصافحن الخليفة بالبيعة كما يصافحه الرجال .وأّما فإ ّ ما ُروي عن عروة عن عائشة رضي ا عنها قالت) :كان النبي صلى ا عليه وسلم يبايع النساء بالكلم بهذه الية ل) ُيشركن ست يد رسول صلى ا عليه وسلم يد بالله شيئا( .قالت :وما م ّ امرأة إل ّ امرأة يملكها( ،فإن هذه الرواية تتحدث فيها عائشة عن مس يده يد امرأة .ولكن مبلغ علمها هي ،فعلى حد علمنا لم َت َ هناك أحاديث أخرى تدل على المصافحة ،فحديث أم عطية الذي تقول فيه) :فَقَبضت منا امرأة يدها( يدل على أنها كانت باسطة ما نهاهن عن النياحة قبضت يدها عن البيعة. يدها للبيعة ،فل ّ ومفهوم )قبضت منا امرأة يدها( أن غيرها لم تقبض يدها ،وهذا يعني أن غيرها بايع بالمصافحة ،وهو حديث صحيح رواه البخاري ،وهو نص في المصافحة في مفهومه ومنطوقه ،فتكون البيعة مصافحة باليدي ،وقد تكون بالكتابة ،فقد حّدث عبدا بن ت ابن عمر حيث اجتمع الناس على عبدالملك دينار قال :شهد ُ قال :كتب إني أ ُِقر بالسمع والطاعة لعبدا عبدالملك أمير ت( .ويصح أن المؤمنين على سّنة ا وسّنة رسوله ما استطع ُ تكون البيعة بأية وسيلة من الوسائل. إل ّ أنه ُيشتَرط في البيعة أن تصُدر من البالغ ،فل تصح البيعة من الصغار .فقد حّدث أبو عقيل زهرة بن معبد عن جده عبدا بن هشام وكان قد أدرك النبي صلى ا عليه وسلم وذهَبت به أّمه زينب ابنة حميد إلى رسول ا صلى ا عليه وسلم فقال :يا رسول ا بايعه ،فقال النبي صلى ا عليه وسلم) :هو صغير .فمسح رأسه ودعا له(. أّما ألفاظ البيعة فإنها غير مقّيدة بألفاظ معينة .ولكن ل بد -17-
أن تشتمل على العمل بكتاب ا وسّنة رسوله بالنسبة للخليفة، مكَره بالنسبة للذي شط وال َ من َ عسر والُيسر وال َ وعلى الطاعة في ال ُ يعطي البيعة .ومتى أعطى المباِيع البيعة للخليفة أو انعقدت الخلفة للخليفة ببيعة غيره من المسلمين فقد أصبحت البيعة أمانة في عنق المباِيع ل يحل الرجوع عنها ،فهي حق باعتبار انعقاد الخلفة حتى يعطيها ،فإن أعطاها لزم بها .ولو أراد أن يرجع عن ذلك ل يجوز ،ففي البخاري عن جابر بن عبدا رضي ا عنهما أن أعرابيا بايع رسول ا صلى ا عليه وسلم على عك ،فقال :أِقْلني بيعتي .فأبى .ثم جاء فقال: السلم فأصابه َو َ أِقْلني بيعتي .فأبى .فخرج .فقال رسول ا صلى ا عليه صع طيُبها( ،وعن نافع قال: خَبَثها وَين َ وسلم) :المدينة كالكير َتنفي َ ت رسول ا صلى ا عليه وسلم يقول: قال لي عمر :سمع ُ )من خلع يدا من طاعة لقي ا يوم القيامة ل حجة له( ،ونْق ُ ض ع لليد من طاعة ا .غير أن هذا إذا كانت بيعته بيعة الخليفة خل ٌ للخليفة بيعة انعقاد أو بيعة طاعة لخليفة رضيه المسلمون ء ثم لم تتم البيعة له فإن له أن وبايعوه ،أّما لو بايع خليفة ابتدا ً يتحلل من تلك البيعة على اعتبار أن المسلمين لم َيقبلوه ب على الرجوع عن بيعة بمجموعهم .فالنهي في الحديث ُمنص ّ خليفة ل عن بيعة رجل لم تتم له الخلفة.
شروط الخليفة يجب أن تتوفر في الخليفة ستة شروط حتى يكون أهل ً للخلفة ،وحتى تنعقد البيعة له بالخلفة .وهذه الشروط الستة، شروط انعقاد ،إذا نقص شرط منها لم تنعقد الخلفة ،وهي: أول ً :أن يكون مسلما .فل تصح الخلفة لكافر مطلقا ،ول تجب طاعته ،لن ا تعالى يقول) :ولن يجعل ا للكافرين على المؤمنين سبيل ً( ،والحكم هو أقوى سبيل للحاكم على المحكوم. والتعبير بـ )لن( المفيدة للتأبيد قرينة للنهي الجازم على أن يتولى الكافر أي حكم مطلقا سواء أكان الخلفة أم دونها. ثانيا :أن يكون ذكرا .فل يجوز أن يكون الخليفة أنثى ،أي ل ل ،فل يصح أن يكون امرأةِ ،لما ُروي عن أبي بد أن يكون رج ً كَرة قال :لقد نفعني ا بكلمة سمعتها من رسول ا صلى ا َب ْ -18-
حق بأصحاب الجمل فأقاِتل ت أل َ عليه وسلم أيام الجمل بعد ما كد ُ ما بلغ رسول ا صلى ا عليه وسلم أن أهل معهم .قال :ل ّ فارس قد مّلكوا عليهم بنت كسرى قال) :لن ُيفلح قوم وّلوا أمرهم امرأة( .فإخبار الرسول بنفي الفلح عمن ُيوّلون أمرهم امرأة هو نهي عن توليتها ،إذ هو من صيغ الطلب ،وكون هذا الخبار جاء إخبارا بالذم لمن يوّلون أمرهم امرأة بنفي الفلح عنهم ،فإنه يكون قرينة على النهي الجازم .فيكون النهي هنا عن تولية المرأة قد جاء مقرونا بقرينة تدل على طلب الترك طلبا جازما ،فكانت تولية المرأة حراما .والمراد توليتها الحكم :الخلفة وما دونها من المناصب التي تعتبر من الحكم ،لن موضوع الحديث ولية بنت كسرى ُملكا ،فهو خاص بموضوع الحكم الذي جرى عليه الحديث ،وليس خاصا بحادثة ولية بنت كسرى وحدها، كما أنه ليس عاما في كل شيء فل يشمل غير موضوع الحكم ول بوجه من الوجوه. ثالثا :أن يكون بالغا ،فل يجوز أن يكون صبياِ ،لما ُروي عن علي بن أبي طالب رضي ا عنه أن رسول ا صلى ا عليه وسلم قال ُ) :رفع القلم عن النائم حتى يستيقظ ،وعن الصبي مبتلى حتى َيعِقل( ،ومن ُرفع القلم عنه ل يصح حتى َيبُلغ ،وعن ال ُ أن يتصرف في أمره وهو غير مكّلف شرعا فل يصح أن يكون خليفة أو ما دون ذلك من الحكم لنه ل يملك التصرفات .والدليل أيضا على عدم جواز كون الخليفة صبيا ،أن رسول ا صلى ا عليه وسلم رفض أن يبايعه صبي ،فقد رفض بيعة عبدا بن صغره فقال) :هو صغير( .فإذا كانت البيعة ل هشام وعّلل ذلك ب ِ من باب أْولى صح من الصبي ول يجوز أن يباِيع غيره خليفة ،ف ِ َت ِ أنه ل يجوز أن يكون خليفة. ل ،فل يصح أن يكون مجنونا ،لقول رابعا :أن يكون عاق ً رسول ا صلى ا عليه وسلم ُ) :رفع القلم عن ثلث( ،وقال منها) :المجنون حتى يفيق( ،ومن ُرفع القلم عنه فهو غير مكّلف. ولن العقل مناط التكليف وشرط لصحة التصرفات .والخليفة إّنما يقوم بتصرفات الحكم وبتنفيذ التكاليف الشرعية ،فل يصح أن يكون مجنونا. ل ،فل يصح أن يكون فاسقا .والعدالة خامسا :أن يكون عد ً شرط لزم لنعقاد الخلفة ولستمرارها ،لن ا تعالى اشترط -19-
ي عدل ل ،قال تعالى) :وأشِهدوا َذَو ْ في الشاهد أن يكون عد ً من هو أعظم من الشاهد وهو الخليفة من باب أْولى منكم( ،ف َ طها شرطت العدالة للشاهد فشر ُ ل ،لنه إذا ُ أنه َيلزم أن يكون عد ً للخليفة أْولى. سادسا :أن يكون حرا ،لن العبد مملوك لسيده فل يملك التصرف بنفسه ،ومن باب أْولى أن ل يملك التصرف بغيره ،فل يملك الولية على الناس. هذه هي شروط انعقاد الخلفة للخليفة .وما عدا هذه الشروط الستة ل يصلح أي شرط لن يكون شرط انعقاد ،وإن حت النصوص فيه ،أو كان يمكن أن يكون شرط أفضلية إذا ص ّ كان مندرجا تحت حكم َثَبت بنص صحيح .وذلك لنه َيلزم في الشرط حتى يكون شرط انعقاد أن يأتي الدليل على اشتراطه متضمنا طلبا جازما حتى يكون قرينة على اللزوم ،فإذا لم يكن الدليل متضمنا طلبا جازما كان الشرط شرط أفضلية ل شرط انعقاد .ولم َيِرد دليل فيه طلب جازم إل ّ هذه الشروط الستة، ولذلك كانت وحدها شروط انعقاد .أّما ما عداها مما صح فيه الدليل فهو شرط أفضلية فقط. وعلى ذلك فل ُيشترط لنعقاد الخلفة أن يكون الخليفة مجتهدا لنه لم يصح نص في ذلك ،ولن عمل الخليفة الحكم، وهو ل يحتاج إلى اجتهاد لمكانه أن يسأل عن الحكم وأن يقّلد مجتهدا وأن يتبنى أحكاما بناء على تقليده ،فل ضرورة لن يكون مجتهدا ،ولكن الفضل أن يكون مجتهدا ،فإن لم يكن كذلك انعقدت خلفته. وكذلك ل ُيشترط لنعقاد الخلفة أن يكون الخليفة شجاعا أو من أصحاب الرأي المفضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح ،لنه لم يصح حديث في ذلك ،ول يندرج تحت حكم شرعي يجعل ذلك شرط انعقاد ،وإن كان الفضل أن يكون شجاعا ذا رأي وبصيرة. وكذلك ل ُيشترط لنعقاد الخلفة أن يكون الخليفة ُقَرشيا. ت رسول ا صلى ا أّما ما ُروي عن معاوية أنه قال) :سمع ُ عليه وسلم يقول :إن هذا المر في قريش ل يعاديهم أحد إل ّ كّبه ا على وجهه ما أقاموا الدين( ،وما ُروي عن ابن عمر أنه قال: قال رسول ا صلى ا عليه وسلم :ل) يزال هذا المر في -20-
قريش ما بقي منهم اثنان( ،فهذه الحاديث وغيرها مما صحّ عل ولية المر لقريش ،فإنها وردت بصيغة إسناده للرسول ِمن ج ْ الخبار ،ولم َيِرد ول حديث واحد بصيغة المر .وصيغة الخبار وإن كانت تفيد الطلب ،ولكنه ل يعتبر طلبا جازما ما لم يقترن بقرينة تدل على التأكيد .ولم يقترن بأية قرينة تدل على التأكيد ول في رواية صحيحة ،فدل على أنه للندب ل للوجوب ،فيكون شرط ل يعاديهم أحد أفضلية ل شرط انعقاد .وأّما قوله في الحديث ) : إل ّ كّبه ا( الحديث ،فإنه معنى آخر في النهي عن عدم معاداتهم ،وليس تأكيدا لقوله) :إن هذا المر في قريش(، فالحديث ينص على أن المر فيهم ،وعلى النهي عن معاداتهم. وأيضا فإن كلمة قريش اسم وليس صفة .ويقال له في اصطلح علم الصول لقب .ومفهوم السم أي مفهوم اللقب ل ُيعمل به مطلقا ،لن السم أي اللقب ل مفهوم له .ولذلك فإن النص على قريش ل يعني أن ل ُيجعل في غير قريش .فقوله عليه السلم: ل يزال هذا المر في قريش (ل يعني )إن هذا المر في قريش ( ) أن هذا المر ل يصح أن يكون في غير قريش ،ول أن كونه ل يزال فيهم أنه ل يصح أن يكون في غيرهم ،بل فهو فيهم ويصح أن يكون في غيرهم ،فيكون النص عليهم غير مانع من وجود غيرهم في الخلفة .فيكون على هذا شرط أفضلية ل شرط انعقاد. وأيضا فقد أّمر رسول ا صلى ا عليه وسلم عبدا بن رواحة وزيد بن حارثة وأسامة بن زيد وجميعهم من غير قريش، فيكون الرسول قد أّمر غير قريش .وكلمة )هذا المر( تعني ولية المر أي الحكم ،وليست هي نصا في الخلفة وحدها .فكون الرسول يولي الحكم غير قريش دليل على أنه غير محصور فيهم وغير ممنوع عن غيرهم .فتكون الحاديث قد نصت على بعض َمن هم أهل للخلفة للدللة على أفضليتهم ل على حصر الخلفة فيهم وعدم انعقادها لغيرهم. وكذلك ل ُيشترط أن يكون الخليفة هاشميا أو علويا ِلما ثبت أن النبي صلى ا عليه وآله وسلم وّلى الحكم غير بني هاشم وغير بني علي ،وأنه حين خرج إلى تبوك وّلى على المدينة محمد بن َمسَلمة وهو ليس هاشميا ول علويا .وكذلك وّلى اليمن معاذ بن جبل وعمرو بن العاص وهما ليسا هاشميين ول علويين. -21-
وثبت بالدليل القاطع مبايعة المسلمين بالخلفة لبي بكر وعمر وعثمان ،ومبايعة علي رضي ا عنه لكل واحد منهم مع أنهم لم يكونوا من بني هاشم ،وسكوت جميع الصحابة على بيعتهم ،ولم ُيرو عن أحد أنه أنكر بيعتهم لنهم ليسوا هاشميين ول علويين، فكان ذلك إجماعا من الصحابة بما فيهم علي وابن عباس وسائر بني هاشم على جواز أن يكون الخليفة غير هاشمي ول علوي. أّما الحاديث الواردة في فضل سيدنا علي رضي ا عنه وفي فضل آل البيت فإنها تدل على فضلهم ل على أن شرط انعقاد الخلفة أن يكون الخليفة منهم. ومن ذلك يتبين أنه ل يوجد أي دليل على وجود أي شرط لنعقاد الخلفة سوى الشروط الستة السابقة ،وما عداها على فرض صحة جميع النصوص التي وردت فيه أو اندراجه تحت حت فيه النصوص ،فإنه يمكن أن يكون شرط أفضلية ل حكم ص ّ شرط انعقاد ،والمطلوب شرعا هو شرط انعقاد للخلفة للخليفة حتى يكون خليفة .أّما ما عدا ذلك فهو يقال للمسلمين حين يعرض عليهم المرشحون للخلفة ليختاروا الفضل .ولكن أي شخص اختاروه انعقدت خلفته ،إذا كانت توفرت فيه شروط النعقاد وحدها ،ولو لم يتوفر فيه غيرها.
طلب الخلفة طلب الخلفة والتنازع عليها جائز لجميع المسلمين وليس هو من المكروهات ،ولم َيِرد أي نص في النهي عن التنازع عليها. وقد ثبت أن المسلمين تنازعوا عليها في سقيفة بني ساعدة جى على فراشه لم ُيدفن بعد ،كما ثبت أن أهل والرسول مس ّ الشورى الستة وهم من كبار الصحابة رضوان ا عليهم تنازعوا كر عليهم، عليها على مرأى ومسمع من جميع الصحابة فلم ُين َ وأقّروهم على هذا التنازع ،مما يدل على إجماع الصحابة على جواز التنازع على الخلفة ،وعلى جواز طلبها والسعي لها حجة في سبيل الوصول إليها. حجة بال ُ ومقارعة الرأي بالرأي وال ُ وأّما النهي عن طلب المارة الوارد في الحاديث ،فهو نهي للضعفاء أمثال أبي َذّر ممن ل يصلحون لها .أّما الذين يصلحون للمارة فإنه يجوز لهم أن يطلبوها ،فقد طلبها عمرو بن العاص -22-
له الرسول .فالحاديث الواردة مخصوصة بمن ليس أهل ً لها، وو ّ سواء المارة أو الخلفة .أّما من كان أهل ً لها فإن الرسول لم ما كان الرسول وّلى لها لمن طلبها .فل ّ كر عليه طلبها وقد و ّ ُين ِ المارة لمن طلبها ونهى عن طلب المارة فإنه ُيحمل النهي على أنه نهي عن طلب ممن ليس أهل ً لها ،ل النهي مطلقا.
وحدة الخلفة ول يجوز أن يكون في الدنيا إل ّ خليفة واحدِ ،لما ُروي عن عبدا بن عمرو بن العاص يقول :إنه سمع رسول ا صلى ا عليه وسلم يقول) :وَمن باَيع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه طعه إن استطاع ،فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الخر(، فلُي ِ وِلما ُروي عن أبي سعيد الخدري عن رسول ا صلى ا عليه وسلم أنه قال) :إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الخر منهما( ،وِلما ُروي عن عرفجة قال :سمعت رسول ا صلى ا عليه وسلم يقول: شق عصاكم )من أتاكم وأمركم جميعا على رجل واحد يريد أن َي ُ أو يفّرق جماعتكم فاقتلوه( ،وِلما ُروي عن أبي حازم قال: ت أبا هريرة خمس سنين فسمعته يحّدث عن النبي صلى قاعد ُ ا عليه وسلم قال) :كانت بنو اسرائيل تسوسهم النبياء ،كلما خَلَفه نبي ،وإنه ل نبي بعدي ،وسيكون خلفاء فَتكُثر، هلك نبي َ قالوا :فما تأمرنا؟ قال :فوا ببيعة الول فالول ،وأعطوهم حقهم عقدت الخلفة لخليفتين فإن ا سائلهم عما استرعاهم( .وإذا ُ في بلدين في وقت واحد لم تنعقد لهما ،لنه ل يجوز أن يكون للمسلمين خليفتان .ول يقال البيعة لسبقهما ،لن المسألة إقامة خليفة وليست السبق على الخلفة ،ولنها حق المسلمين جميعا وليست حقا للخليفة ،فل بد أن يرجع المر للمسلمين مرة ثانية أن يقيموا خليفة واحدا إذا أقاموا خليفتين .ول يقال ُيقَرع بينهما ،لن الخلفة عقد والقرعة ل تدخل في العقود .ول يقال إن الرسول يقول) :فوا ببيعة الول فالول( ،لن ذلك إذا بويع لخلفاء مع وجود خليفة ،فإنه ل تكون البيعة إل ّ للول الذي انعقدت بيعته، عقدت الخلفة ومن جاء بعده ل تنعقد له بيعة.والكلم هنا إذا ُ لخليفتين بأن بايع أكثر أهل الحل والعقد خليفتين في وقت واحد، -23-
وكانت بيعة كل منهما منعقدة شرعا فإنه ُيلغى العقدان ،ول بد من الرجوع للمسلمين ،فإن عقدوا البيعة لحدهما انعقدت جديدا له ل تثبيتا لحاله الولى ،وإن عقدوها لغيرهما انعقدت .فالمر للمسلمين جميعا ل لشخاص يتسابقون عليها .وإذا بويع لخليفتين فكان أكثر أهل الحل والعقد في شؤون الحكم والخلفة بجانب واحد ،وهم الذين بايعوه ،وكانت القلية مع الخر ،كانت البيعة لمن بايعه أكثر أهل الحل والعقد في شؤون الحكم ،سواء كان الول بيعًة ،أو الثاني ،أو الثالث ،لنه هو المعتَبر خليفة شرعا ببيعة أكثرية أهل الحل والعقد له ،ومن عداه يجب أن يبايعه من أجل وحدة الخلفة ،وإل ّ قاتله المسلمون ،لن الخلفة تنعقد ببيعة أكثر المسلمين .فإذا انعقدت لرجل من المسلمين صار خليفة وحرمت بيعة غيره ووجبت طاعته على الجميع. على أن واقع الحكم أن أكثر أهل الحل والعقد ممن بيدهم شؤون الحكم موجودون في العاصمة عادة ،لن هناك يجري تصريف شؤون الحكم العليا ،فإذا بايع أهل العاصمة أي أهل الحل والعقد هناك خليفة ،وبايع أهل إقليم أو أقاليم خليفة آخر ،فإذا سبقت بيعة الذي في العاصمة كانت الخلفة له ،لن بيعة من في العاصمة قرينة دالة على أن أكثرية أهل الحل والعقد بجانبه ،والبيعة في هذه الحالة للول .أّما إذا بويع َمن في القاليم قبله فيجري حينئذ ترجيح من يكون بجانبه أهل الحل والعقد أكثر ،لن سبق أولئك في البيعة ُيضعف كون العاصمة قرينة على أن الكثرية فيها .وعلى أي حال ل يجوز أن يبقى إل ّ خليفة واحد ،ولو أدى ذلك إلى محاربة من لم تنعقد له الخلفة.
الستخلف أو العهد ل تنعقد الخلفة بالستخلف ،أي بالعهد ،لنها عقد بين المسلمين والخليفة .فُيشترط في انعقادها بيعة من المسلمين وقبول من الشخص الذي بايعوه .والستخلف أو العهد ل يتأتى أن يحصل فيه ذلك ،فل تنعقد به خلفة .وعلى ذلك فاستخلف خليفة لخليفة آخر يأتي بعده ل يحصل فيه عقد الخلفة ،لنه ل يملك حق عقدها .ولن الخلفة حق للمسلمين ل للخليفة، فالمسلمون يعِقدونها لمن يشاؤون .فاستخلف الخليفة غيره أي -24-
عهده بالخلفة لغيره ل يصح ،لنه إعطاء لمن ل يملك ،وإعطاء ما ل يملك ل يجوز شرعا .فإذا استخلف الخليفة خليفة آخر سواء أكان ابنه أو قريبه أو بعيدا عنه ل يجوز ،ول تنعقد الخلفة له مطلقا لنه لم يجر عقدها ممن يملك هذا العقد ،فهي عقد فضولي ل يصح. وأّما ما ُروي أن أبا بكر استخلف عمر ،وأن عمر استخلف كروا ذلك فكان سكوتهم الستة ،وأن الصحابة سكتوا ولم ُين ِ إجماعا ،فإن ذلك ل يدل على جواز الستخلف أي العهد .وذلك لن أبا بكر لم يستخلف خليفة وإنما استشار المسلمين فيمن يكون خليفة لهم فرشح عليا وعمر .ثم إن المسلمين خلل ثلثة أشهر في حياة أبي بكر اختاروا عمر بأكثريتهم .ثم بعد وفاة أبي بكر جاء الناس وبايعوا عمر ،وحينئذ انعقدت الخلفة لعمر .أّما قبل البيعة فلم يكن خليفة ،ولم تنعقد الخلفة له ل بترشيح أبي بكر ول باختيار المسلمين له ،وإنما انعقدت حين بايعوه وَقِبل الخلفة .وأّما عهد عمر للستة فهو ترشيح لهم من ِقبله بناء على طلب المسلمين ،ثم حصل من عبدالرحمن بن عوف أن استشار المسلمين فيمن يكون منهم فاختار أكثرهم عليا إذا تقّيد بما كان ما رفض علي التقيد بما سار عليه أبو بكر وعمر ،وإل ّ فعثمان .فل ّ عليه أبو بكر وعمر بايع عبدالرحمن عثمان وبايعه الناس. فالخلفة انعقدت لعثمان ببيعة الناس له ل بترشيح عمر ول باختيار الناس ،ولو لم يبايعه الناس ويقبل هو لم تنعقد الخلفة. وعلى ذلك ل بد من بيعة المسلمين للخليفة .ول يجوز أن تكون بالعهد أو الستخلف ،لنها عقد ولية ،وينطبق عليها ما ينطبق على العقود.
طريقة نصب الخليفة حين أوجب الشرع على الّمة نصب خليفة عليها ،حدد لها الطريقة التي يجري بها نصب الخليفة ،وهذه الطريقة ثابتة بالكتاب والسّنة وإجماع الصحابة ،وتلك الطريقة هي البيعة. فيجري نصب الخليفة ببيعة المسلمين له على كتاب ا وسّنة رسوله .أّما كون هذه الطريقة هي البيعة ،فهي ثابتة من بيعة المسلمين للرسول ،ومن أمر الرسول لنا ببيعة المام .أّما بيعة -25-
المسلمين للرسول فإنها ليست بيعة على النبوة وإنما هي بيعة على الحكم ،إذ هي بيعة على العمل وليست بيعة على التصديق. فبويع صلى ا عليه وآله وسلم على اعتباره حاكما ل على اعتباره نبيا ورسول ً .لن القرار بالنبوة والرسالة إيمان وليس بيعة ،فلم تبق إل ّ أن تكون البيعة له باعتباره رئيس الدولة .وقد وردت البيعة في القرآن والحديث ،قال تعالى) :يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن ل ُيشركن بالله شيئا ول يسرقن ول يزنين ول َيقتلن أولدهن ول يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ول يعصينك في معروفك فبايعُهن( ،وقال تعالى) :إن الذي يبايعونك إّنما يبايعون ا يد ا فوق أيديهم( ،وروى البخاري قال :حّدثنا اسماعيل حدثني مالك عن يحيى بن سعيد قال :أخبرني عبادة بن الوليد أخبرني أبي عن عبادة بن الصامت عنا رسول ا صلى ا عليه وسلم على السمع قال) :باَي ْ مكَره وأن ل ننازع المر أهله وأن نقوم شط وال َ من َ والطاعة في ال َ أو نقول بالحق حيثما كنا ل نخاف في ا لومة لئم( ،وروى البخاري قال :حّدثنا علي بن عبدا حّدثنا عبدا بن يزيد حّدثنا سعيد هو ابن أبي أيوب قال :حّدثني أبو عقيل زهرة بن معبد عن جده عبدا بن هشام ،وكان قد أدرك النبي صلى ا عليه حميد إلى رسول ا صلى ا وسلم وذهَبت به أمه زينب ابنة ُ عليه وسلم فقالت :يا رسول ا بايعه ،فقال النبي صلى ا عليه وسلم :هو صغير) .فمسح رأسه ودعا له( ،وروى البخاري قال: حّدثنا عبدان عن أبي حمزة عن العمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال :قال رسول ا صلى ا عليه وسلم) :ثلثة ل يكلمهم ا يوم القيامة ول يزكيهم ولهم عذاب أليم :رجل على فضل ماء بالطريق يمنع منه ابن السبيل ،ورجل بايع إماما ل ف له ،ورجل يبايعه إل ّ لدنياه إن أعطاه ما يريد وفى له وإل ّ لم ي ِ يبايع رجل ً بسلعة بعد العصر فحلف بالله لقد أعطي بها كذا وكذا ط بها( .فهذه الحاديث الثلثة صريحة في فصدقه فأخذها ولم يع َ أن البيعة طريقة نصب الخليفة .فحديث عبادة قد بايع الرسول على السمع والطاعة ،وهذا للحاكم ،وحديث عبدا بن هشام َرَفض بيعته لنه غير بالغ ،مما يدل على أنها بيعة حكم ،وحديث أبي هريرة صريح ببيعة المام ،وجاءت كلمة )إمام( نكرة ،أي أيّ إمام .وهناك أحاديث أخرى تنص على بيعة المام ،ففي مسلم -26-
أن النبي صلى ا عليه وسلم قال) :من بايع إماما فأعطاه طعه إن استطاع ،فإن جاء آخر ينازعه صفقة يده وثمرة قلبه فلُي ِ خدر ّ ي فاضربوا عنق الخر( ،وفي مسلم أيضا عن أبي سعيد ال ُ قال :قال رسول ا صلى ا عليه وسلم) :إذا بويع لخليفتين ت أبا فاقتلوا الخر منهما( ،وروى مسلم عن أبي حازم قال :قاعد ُ هريرة خمس سنين فسمعته يحّدث عن النبي صلى ا عليه وسلم قال) :كانت بنو اسرائيل تسوسهم النبياء ،كلما هلك نبي خلفه نبي ،وإنه ل نبي بعدي ،وستكون خلفاء فَتكُثر ،قالوا :فما تأمرنا؟ قال :فوا ببيعة الول فالول( .فالنصوص صريحة من الكتاب والسّنة بأن طريقة نصب الخليفة هي البيعة .وقد َفِهم ذلك جميع الصحابة وساروا عليه .فأبو بكر بويع بيعة خاصة في السقيفة وبيعة عامة في المسجد ثم بايعه َمن لم يباِيع في المسجد ممن ُيعتّد ببيعته كعلي بن أبي طالب رضي ا عنه، وعمر بويع بيعة من المسلمين ،وعثمان بويع بيعة من المسلمين، وعلي بويع بيعة من المسلمين .فالبيعة هي الطريقة الوحيدة لنصب خليفة للمسلمين. أّما التفصيلت العملية لجراء هذه البيعة ،فإنها ظاهرة في نصب الخلفاء الربعة الذين جاءوا عقب وفاة الرسول صلى ا عليه وآله وسلم مباشرة وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضوان ا عليهم ،وقد سكت عنها جميع الصحابة وأقروها مع كر لو كانت مخاِلفة للشرع ،لنها تتعلق بأهم شيء أنها مما ُين َ يتوقف عليه كيان المسلمين ،وبقاء الحكم بالسلم .وِمن تتّبع ما يحصل في نصب هؤلء الخلفاء نجد أن بعض المسلمين قد شحون سعد وأبو تناقشوا في سقيفة بني ساعدة وكان المر ّ عبيدة وعمر وأبو بكر ليس غير ،وبنتيجة المناقشة بويع أبو بكر. ثم في اليوم الثاني ُدعي المسلمون إلى المسجد فبايعوه ،وبهذه البيعة الخيرة صار خليفة للمسلمين .وحين أحس أبو بكر بأن مرضه مرض موت ،دعا المسلمين يستشيرهم فيمن يكون خليفة للمسلمين .وكان الرأي في هذه الستشارات يدور حول علي وعمر ليس غير ،ومكث مدة ثلثة أشهر في هذه الستشارات. مها وعرف أكثر رأي المسلمين أعلن لهم أن عمر هو ما أت ّ ول ّ الخليفة بعده ،وعقب وفاته مباشرة حضر المسلمون إلى المسجد وبايعوا عمر بالخلفة ،فصار بهذه البيعة خليفة للمسلمين ،وليس -27-
طعن عمر طلب منه بالستشارات ول بإعلن أبي بكر .وحين ُ حوا عليه فجعلها في ستة ،ثم المسلمون أن يستخلف فأبى ،فأل ّ شحون أحدهم وهو عبدالرحمن بن عوف بعد وفاته أناب المر ّ فرجع لرأي المسلمين واستشارهم ،ثم أعلن بيعة عثمان ،فقام المسلمون فبايعوا عثمان فصار خليفة ببيعة المسلمين ل باستخلف عمر ول بإعلن عبدالرحمن .ثم ُقتل عثمان ،فبايع جمهرة المسلمين في المدينة والكوفة علي بن أبي طالب فصار خليفة ببيعة المسلمين. ومن ذلك يتبين أن التفصيلت العملية لجراء البيعة للخلفة هي أن يتناقش المسلمون فيمن يصلح للخلفة ،حتى إذا استقر عرضوا على المسلمين ،فمن اختاروه منهم الرأي على أشخاصُ ، طلب من باقي المرشحين أن يبايعوه. طلب منهم أن يبايعوه ،كما ُ ُ ففي سقيفة بني ساعدة صار النقاش في سعد وأبي عبيدة وعمر وأبي بكر ثم بويع أبو بكر ،فكانت بيعته بمثابة اختيار، ولكنها لم ُتلِزم المسلمين ،ثم جرت بيعته من عامة المسلمين. وأبو بكر تذاكر مع المسلمين في علي وعمر ثم أعلن اسم عمر ثم بويع .وعمر جعلها في ستة ،وبعد الرجوع إلى المسلمين ي بويع مباشرة ،فقد أعلن عبدالرحمن اسم عثمان ،ثم بويع .وعل ّ كان الوضع وضع فتنة ،وكان معروفا أنه ل يدانيه في الترشيح للخلفة عند المسلمين أحد حين ُقتل عثمان .وبذلك يكون أمر صر المرشحون للخلفة بعد المناقشة البيعة جاريا على أن ُيح َ فيمن يصلح لها ،ثم يجري انتخاب خليفة منهم ،ثم تؤخذ له البيعة على الناس .ولئن كان هذا واضحا في استشارات أبي بكر فإنه يظهر أوضح في بيعة عثمان .روى البخاري عن الّزهري أن حميد سَور بن مخرمة أخبره أن الرهط م ْ بن عبدالرحمن أخبره أن ال ِ لهم عمر اجتمعوا فتشاوروا ،قال لهم عبدالرحمن" :لست الذي و ّ ت لكم بالذي أنافسكم على هذا المر ،ولكنكم إن شئتم اختر ُ ما وّلوا عبدالرحمن منكم" ،فجعلوا ذلك إلى عبدالرحمن ،فل ّ أمرهم فمال الناس على عبدالرحمن حتى ما أرى أحدا من الناس يتبع أولئك الرهط ول يطأ عقبه ،ومال الناس على عبدالرحمن يشاورونه تلك الليالي حتى إذا كانت الليلة التي أصبحنا سَور :طرقني عبدالرحمن بعد هجع م ْ منها فبايعنا عثمان ،قال ال ِ من الليل فضرب الباب حتى استيقظت ،فقال :أراك نائما ،فوا -28-
ع الزبير وسعدا، ما اكتحلتُ هذه الليلة بكبير نوم ،انطلق فاد ُ ع لي عليا ،فدعوته فدعوتهما له فشاورهما ثم دعاني فقال :اد ُ فناجاه ،حتى أبهار الليل ،ثم قام علي من عنده وهو على طمع، ع لي وقد كان عبدالرحمن يخشى من علي شيئا ،ثم قال :اد ُ عثمان ،فدعوته فناجاه ،حتى فرق بينهما المؤذن بالصبح ،فلما صلى للناس الصبح واجتمع أولئك الرهط عند المنبر فأرسل إلى من كان حاضرا من المهاجرين والنصار وأرسل إلى أمراء الجناد وكانوا وافوا تلك الحجة مع عمر ،فلما اجتمعوا تشّهد عبدالرحمن ثم قال :أّما بعد يا علي ،إني قد نظرت في أمر الناس فلم أرهم ل ،فقال :أبايعك على يعدلون بعثمان ،فل تجعلن على نفسك سبي ً سنة ا ورسوله والخليفتين من بعده ،فبايعه عبدالرحمن وبايعه الناس والمهاجرون والنصار وأمراء الجناد والمسلمون. صروا في الرهط الذين سماهم ح ِ فالمرشحون للخلفة ُ عمر بعد أن طلب إليه المسلمون ذلك ،وعبدالرحمن بن عوف بعد أن أخرج نفسه من الترشيح للخلفة أخذ رأي المسلمين فيمن يكون خليفة ،ثم أعلن اسم الذي يريده المسلمون بعد أن شاور الناس ،وبعد إعلن اسم من يريده الناس كانت البيعة له، فصار خليفة بهذه البيعة .وعلى ذلك فالحكم الشرعي في نصب صر المرشحون للخلفة من ِقَبل من يمثلون الخليفة هو أن ُيح َ رأي جمهرة المسلمين ،ثم ُتعرض أسماؤهم على المسلمين وُيطلب منهم أن يختاروا واحدا من هؤلء المرشحين ليكون ظر من تكون جمهرة المسلمين -أي أكثريتهم- خليفة لهم ،ثم ُين َ بجانبه فتؤخذ له البيعة على المسلمين جميعا ،سواء من اختاره ه ،لن إجماع المسلمين إجماعا سكوتيا على حصر أو من لم يخَتر ُ مر للمرشحين للخلفة في ستة أشخاص معينين وإجماع ع َ ُ المسلمين أيضا على أخذ عبدالرحمن لرأي المسلمين جميعا فيمن يكون خليفة عليهم ،ثم إجماعهم على إجراء البيعة لمن أعلن عبدالرحمن اسمه بأنه هو الذي اختاره المسلمون خليفة لهم حين قال" :إني نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان" ،كل ذلك صريح في الحكم الشرعي في نصب الخليفة. بقيت مسألتان :إحداهما من هم المسلمون الذين ينصبون الخليفة؟ هل هم أهل الحل والعقد أم هم عدد معين من المسلمين؟ أم هم جميع المسلمين؟ والمسألة الثانية هي هل -29-
العمال التي تجري في هذا العصر في النتخابات كالقتراع السري وصناديق القتراع وفرز الصوات هي ما يأمر به السلم أم ل؟ أّما المسألة الولى :فإن الشارع قد جعل السلطان للمة وجعل نصب الخليفة للمسلمين عامة ،ولم يجعله لفئة دون فئة، ول لجماعة دون جماعة ،فالبيعة فرض على المسلمين عامة )من مات وليس في عنقه بيعة فقد مات ميتة جاهلية( ،وهذا عام لكل مسلم .ولذلك ليس أهل الحل والعقد هم أصحاب الحق في نصب الخليفة دون باقي المسلمين ،وكذلك ليس أصحاب الحق أشخاصا معينين ،وإنما هذا الحق لجميع المسلمين دون استثناء أحد ،حتى الفجار والمنافقين ما داموا مسلمين بالغين، لن النصوص جاءت عامة ولم َيِرد ما يخصصها سوى رفض بيعة الصغير الذي لم يبلغ ،فتبقى عامة. إل ّ أنه ليس شرطا أن يباشر جميع المسلمين هذا الحق، لنه حق لهم ،وهو وإن كان فرضا عليهم ،لن البيعة فرض، ولكنه فرض على الكفاية وليس فرض عين ،فإذا قام به البعض كن جميع المسلمين من سقط عن الباقين .إل ّ أنه يجب أن ُيم ّ مباشرة حقهم في نصب الخليفة ،بغض النظر عما إذا استعملوا هذا الحق أم لم يستعملوه ,أي يجب أن يكون في قدرة كل مسلم التمكن من القيام بنصب الخليفة بتمكينه من ذلك تمكينا تاما .فالقضية هي تمكين المسلمين من القيام بما فرضه ا عليهم من نصب الخليفة قياما ُيسِقط عنهم هذا الفرض ،وليست المسألة قيام جميع المسلمين بهذا الفرض بالفعل .لن الفرض الذي فرضه ا هو أن يجري نصب الخليفة من المسلمين برضاهم ،ل أن يجريه جميع المسلمين .ويتفرع عن هذا أمران: أحدهما أن يتحقق رضا جميع المسلمين بنصبه ،والثاني أن ل يتحقق رضا جميع المسلمين بهذا النصب مع تحقق التمكين لهم في كل المرين. أّما بالنسبة للمر الول ،فل ُيشترط عدد معين فيمن يقومون بنصب الخليفة ،بل أي عدد بايع الخليفة وتحقق في هذه البيعة رضا المسلمين بسكوتهم ،أو بإقبالهم على طاعته بناء على بيعته ،أو بأي شيء يدل على رضاهم ،يكون الخليفة المنصوب خليفة للمسلمين جميعا ،ويكون هو الخليفة شرعا ،ولو قام -30-
بنصبه ثلثة أشخاص .إذ يتحقق فيهم الجمع في إجراء نصب الخليفة ،ويتحقق الرضا بالسكوت والمبادرة للطاعة ،أو ما شاكل ذلك ،على شرط أن يتم هذا بمنتهى الختيار والتمكين من إبداء الرأي تمكينا تاما .أّما إذا لم يتحقق رضا جميع المسلمين ،فإنه ل يتم نصب الخليفة إل ّ إذا قام بنصبه جماعة يتحق في نصبهم له رضا جمهرة المسلمين ،أي أكثريتهم ،مهما كان عدد هذه الجماعة .ومن هنا جاء قول بعض الفقهاء :يجري نصب الخليفة عقد ل وال َ عقد له ،إذ يعتبرون أهل الح ّ ل وال َ ببيعة أهل الح ّ الجماعة التي يتحقق رضا المسلمين بما تقوم به من بيعة أي رجل حائز على شروط انعقاد الخلفة .وعلى ذلك فليس بيعة أهل الحل والعقد هي التي يجري فيها نصب الخليفة ،وليس وجود بيعتهم شرطا لجعل نصب الخليفة نصبا شرعيا ،بل بيعة أهل الحل والعقد أمارة من المارات الدالة على تحقق رضا المسلمين بهذه البيعة ،لن أهل الحل والعقد كانوا ُيعَتبرون الممثلين للمسلمين .وكل أمارة تدل على تحقق رضا المسلمين ببيعة الخليفة يتم بها نصب الخليفة ،ويكون نصبه بها نصبا شرعيا. وعلى ذلك ،فالحكم الشرعي هو أن يقوم بنصب الخليفة ع يتحقق في نصبهم له رضا المسلمين بأي أمارة من أمارات جم ٌ التحقق ،سواء أكان ذلك بكون المباِيعين أكثر أهل الحل والعقد، أو بكونهم أكثر الممثلين للمسلمين ،أو كان بسكوت المسلمين عن بيعتهم له ،أو مسارعتهم بالطاعة بناء على هذه البيعة ،أو بأي وسيلة من الوسائل ،ما دام متوفرا لهم التمكين التام من إبداء رأيهم .وليس من الحكم الشرعي كونهم أهل الحل والعقد ول كونهم أربعة أو أربعمائة أو أكثر أو أقل ،أو كونهم أهل العاصمة أو أهل القاليم ،بل الحكم الشرعي كون بيعتهم يتحقق فيها الرضا من ِقبل جمهرة المسلمين بأية أمارة من المارات مع تمكينهم من إبداء رأيهم تمكينا تاما. والمراد بجميع المسلمين ،المسلمون الذين يعيشون في البلد الخاضعة للدولة السلمية ،أي الذين كانوا رعايا للخليفة السابق إن كانت الخلفة قائمة ،أو الذين يتم بهم قيام الدولة السلمية وتنعقد الخلفة بهم إن كانت الدولة السلمية غير قائمة من َقبِلهم ،وقاموا هم بإيجادها واستئناف الحياة السلمية بواسطتها .أّما غيرهم من المسلمين فل ُتشترط بيعتهم ول -31-
ُيشترط رضاهم ،لنهم إما أن يكونوا خارجين على سلطان السلم ،أو يكونوا يعيشون في دار كفر ول يتمكنون من النضمام إلى دار السلم .وكلهما ل حق له في بيعة النعقاد، وإنما عليه بيعة الطاعة ،لن الخارجين على سلطان السلم حكمهم حكم البغاة .والذين في دار الكفر ل يتحقق فيهم قيام سلطان السلم حتى يقيموه بالفعل ،أو يدخلوا فيه .وعلى ذلك فالمسلمون الذين لهم حق بيعة النعقاد ،وُيشترط تحقق رضاهم حتى يكون نصب الخليفة نصبا شرعيا ،هم الذين يقوم بهم سلطان السلم بالفعل. ول يقال :هذا الكلم بحث عقلي ،وليس هنالك دليل شرعي عليه .ل يقال ذلك ،لنه بحث في مناط الحكم وليس في نفس الحكم ،ولهذا ل يؤتى له بدليل شرعي وإنما هو ببيان مْيتة حرام ،هو الحكم الشرعي .وتحقيق ما هي حقيقته .فأكل ال َ مْيتة هو مناط الحكم ،أي الموضوع الذي يتعلق به الحكم. ال َ فقيام المسلمين بنصب الخليفة هو الحكم الشرعي ،وأن يكون هذا النصب بالرضا والختيار هو الحكم الشرعي أيضا ،وهذا هو الذي يؤتى له بالدليل .أّما من هم المسلمون الذين يتم بهم النصب ،وما هو المر الذي يتحقق فيه الرضا والختيار ،فذلك مناط الحكم ،أي الموضوع الذي جاء الحكم لمعالجته ،وانطباق الحكم الشرعي عليه هو الذي يجعل الحكم الشرعي فيه متحققا .وعليه ُيبحث هذا الشيء الذي جاء الحكم الشرعي له ببيان حقيقته. ول يقال إن مناط الحكم هو عّلة الحكم فل بد له من دليل شرعي .ل يقال ذلك لن مناط الحكم غير عّلة الحكم ،وهناك فرق كبير بين العلة والمناط ،فالعلة هي الباعث على الحكم؛ أي هي الشيء الدال على مقصود الشارع من الحكم ،وهذه ل بد لها من دليل شرعي يدل عليها حتى ُيفهم أنها هي مقصود الشارع من الحكم .أّما مناط الحكم فهو الموضوع الذي جاء به الحكم؛ أي هو المسألة التي ينطبق عليها الحكم ،وليس دليله ول علته .ومعنى كونه الشيء الذي نيط به الحكم هو أنه الشيء عّلق به الحكم؛ أي أنه قد جيء بالحكم له -أي لمعالجته -ل الذي ُ أنه جيء بالحكم لجله حتى يقال إنه عّلة الحكم .فمناط الحكم هو الناحية غير النقلية في الحكم الشرعي ،وتحقيقه غير تحقيق -32-
ل، العلة ،فإن تحقيق العلة يرجع إلى فهم النص الذي جاء معل ً وهذا فهم للنقليات وليس هو المناط ،بل المناط هو ما سوى النقليات ،والمراد به الواقع الذي يطّبق عليه الحكم الشرعي ،فإذا قلت :الخمر حرام ،فإن الحكم الشرعي هو حرمة الخمر، فتحقيق كون الشراب المعين خمرا أم ليس بخمر ليتأتى الحكم عليه بأنه حرام أو ليس بحرام هو تحقيق المناط ،فل بد من النظر في كون الشراب خمرا أو غير خمر حتى يقال عنه إنه حرام ،وهذا النظر في حقيقة الخمر هو تحقيق المناط .وإذا قلت :الماء الذي يجوز الوضوء منه هو الماء المطلق ،فإن الحكم الشرعي هو كون الماء المطلق هو الذي يجوز منه الوضوء، فتحقيق كون الماء مطلقا أو غير مطلق ليتأتى الحكم عليه بأنه يجوز الوضوء منه هو تحقيق المناط ،فل بد من النظر في كون الماء مطلقا أو غير مطلق حتى يقال إنه يجوز الوضوء منه ،وهذا النظر في حقيقة الماء هو تحقيق المناط .وإذا قلت إن المحِدث يجب عليه الوضوء للصلة فتحقيق كون الشخص محِدثا أو ليس بمحِدث هو تحقيق المناط وهكذا .وقد قال الشاطبي في الموافقات" :فهذه المواضع وأشباهها مما يقتضي تعيين المناط ل بد فيها من أخذ الدليل على وفق الواقع بالنسبة إلى كل نازلة"، وقال" :قد يتعلق الجتهاد بتحقيق المناط ،فل يفتقر في ذلك إلى العلم بمقاصد الشارع ،كما أنه ل يفتقر إلى معرفة علم العربية، لن المقصود من هذا الجتهاد إّنما هو العلم بالموضوع على ما هو عليه ،وإنما يفتقر فيه إلى العلم بما ل ُيعَرف ذلك الموضوع صدت المعرفة به ،فل بد أن يكون المجتهد إل ّ به من حيث ُق ِ عارفا ومجتهدا من تلك الجهة التي ينظر فيها ليتنزل الحكم الشرعي على وفق ذلك المقتضى". ل، فإن تحقيق العلة يرجع إلى فهم النص الذي جاء معل ً وهذا فهم النقليات وليس هو المناط ،بل المناط هو ما سوى النقليات ،والمراد به الواقع الذي يطبق عليه الحكم الشرعي .فإذا قلت :الخمر حرام ،فتحقيق كون الشيء خمرا أو ليس بخمر هو تحقيق المناط .وإذا قلت :الماء المطلق هو الذي ُيتوضأ منه ،كان تحقيق كون الماء مطلقا أو غير مطلق هو تحقيق المناط .وإذا قيل :إن المحِدث يجب عليه الوضوء ،كان تحقيق كون الشخص محِدثا أو ليس بمحِدث هو تحقيق المناط .فتحقيق المناط هو -33-
تحقيق الشيء الذي هو موضوع الحكم .ولذلك ل يشترط فيمن يحقق المناط أن يكون مجتهدا أو مسلما ،بل يكفي أن يكون عالما بالشيء .ومن هنا كان البحث فيمن هم المسلمون الذين تكون بيعتهم دالة على الرضا هو بحث في تحقيق المناط. هذا من ناحية المسألة الولى .أّما المسألة الثانية وهي ما يحصل في هذه اليام من إجراء النتخابات بالقتراع السري واتخاذ صناديق اقتراع وفرز الصوات وما شاكل ذلك فإن هذا كله أساليب لداء الختيار بالرضا ،ولذلك ل تدخل تحت الحكم الشرعي ،ول في مناط الحكم الشرعي الذي هو الموضوع الذي جاء الحكم لمعالجته لنها ليست من أفعال العباد ،ول هي محل انطباق الحكم الشرعي عليها ،وإّنما هي وسائل لفعل العبد الذي جاء الحكم الشرعي له ،أي الذي جاء خطاب الشارع متعلقا به، أل وهو نصب الخليفة بالرضا في حالٍة من التمكين التام من إبداء الرأي .وعليه ليست هذه الساليب والوسائل مما ُيبحث فيه عن الحكام الشرعية ،وهي تدخل في الشياء التي جاء النص عاما بإباحتها ،ولم يرد دليل خاص بحرمتها ،فتبقى مباحة ،فللمسلمين أن يختاروا هذه الساليب ولهم أن يختاروا غيرها ،فأي أسلوب يؤدي إلى تمكين المسلمين من القيام بفرض نصب الخليفة بالرضا والختيار يجوز للمسلمين أن يستعملوه ما لم يرد دليل شرعي على تحريمه .ول يقال إن هذا السلوب فعل العبد فل يجري إلى وفق حكم شرعي فل بد من دليل يدل على حكمه .ل يقال ذلك لن فعل العبد الذي أن يجري وفق الحكم الشرعي ول بد من دليل يدل على حكمه إّنما هو الفعل الذي يعتبر أصل ً أو ت دليل عام لصله وإنما جاء دليل أصله يعتبر فرعا لفعل لم يأ ِ خاصا ،وذلك مثل الصلة ،فإن دليلها خاص بالقيام بها ول يشمل كل فعل من أفعالها ،أّما الفعل الذي هو فرع لفعل ورد دليل جّر الدليل العام على جميع فروعه ،ويحتاج عام لصله فإنه ين َ تحريم الفعل الذي هو فرع إلى دليل يحرمه حتى يخرج عن حكم أصله ويأخذ حكما جديدا ،وهكذا جميع الساليب. وفي مسألة النتخابات هذه الفعل الصل هو نصب الخليفة بالرضا والختيار ،أّما الفعال التي تتفرع عن ذلك من مثل القتراع واتخاذ صناديق القتراع وفرز الصوات وما شاكل ذلك فإنها تدخل تحت حكم الصل ول تحتاج إلى دليل آخر ،وإخراجها -34-
عن حكم الصل -أي تحريمها -هو الذي يحتاج إلى دليل ،وهكذا جميع الساليب التي هي أفعال العباد. أّما الوسائل وهي الدوات مثل الصندوق الذي توضع فيه الوراق ،فإنها تأخذ الحكم الذي أخذته الشياء ل الفعال، وتنطبق عليها قاعدة "الصل في الشياء الباحة ما لم يرد دليل التحريم" .والفرق بين الطريقة والسلوب هو أن الطريقة هي ت دليل الفعل الذي يعتبر أصل ً من حيث هو أو فرعا لصل لم يأ ِ عام لصله ،بل كان دليله خاصا به .أّما السلوب فهو الفعل الذي يكون فرعا لفعل قد جاء له -أي للصل -دليل عام .ومن هنا كان ل بد أن تكون الطريقة مستندة إلى دليل شرعي لنها حكم شرعي ،ولذلك يجب أن ُتلتَزم ول يخّير فيها المسلم ما لم يكن حكمها الباحة ،بخلف السلوب فإنه ل يستند إلى دليل شرعي بل يجري عليه حكم أصله ،ولذلك ل يجب التزام أسلوب معين، ولو فعله الرسول صلى ا عليه وآله وسلم ،بل كل أسلوب للمسلم أن يفعله ما دام يؤدي إلى القيام بالعمل فيصبح فرعا له، ولذلك قيل إن السلوب يعينه نوع العمل.
لم يعين الشرع شخصا معينا للخلفة القول بأن الرسول صلى ا عليه وآله وسلم عين شخصا معينا يكون خليفة بعده يناقض نصوص الشريعة ،والقول بأن الرسول عليه السلم عين الشخاص الذين يكونون خلفاء بعده إلى يوم القيامة أكثر مناقضة لنصوص السلم. أّما بطلن كون الرسول عين شخصا للخلفة بعده فإنه ظاهر من عدة وجوه: أول ً :أنه يتناقض مع البيعة ،لن تعيين الشخص يعني تعريف المسلمين من يكون خليفة عليهم ،وبذلك يكون الخليفة ق حاجة لتشريع البيعة ،لن البيعة هي الطريقة معلوما ،فلم تب َ ق حاجة لبيان طريقة نصبه، لنصب الخليفة ،فإذا عين سلفا لم تب َ لنه ُنصب بالفعل .ول يقال إن البيعة هي إعطاء الطاعة لهذا الخليفة ،لن الشرع نص على طاعة الخليفة وأولي المر -35-
طِلبت من بنصوص أخرى كثيرة وهي غير نص البيعة ،فالطاعة ُ طِلبت من المسلمين طلبا المسلمين طلبا صريحا ،أّما البيعة فقد ُ آخر ل على اعتبارها طاعة ،وإن كانت تتضمن معنى الطاعة، طِلبت على اعتبار أنها عقٌد للخلفة ،ومعناها في جميع ولكنها ُ الحاديث التي وردت فيها هو إعطاء الرئاسة لمن يباَيع والستعداد للنقياد لهذه الرئاسة ،وليس معناها الطاعة. فاشتراط البيعة لنصب الخليفة يناقض تعيين الرسول لشخص معين أن يكون خليفة من بعده .على أن ألفاظ البيعة التي جاءت صص بأشخاص، في الحاديث الصحيحة جاءت عامة ولم تخ ّ ما ومطلقة ولم تقيد بأي قيد ،ولو كانت تعني بيعة شخص معين ل َ كانت عامة ومطلقة ،فالحاديث لفظها) :من مات وليس في عنقه بيعة() ،من بايع إماما() ،ورجل بايع إماما( ،فالقول بأن الرسول نص على شخص معين يكون خليفة بعده ينقضه ويبطله عموم البيعة وإطلقها. ول يقال إن هذا يعني أن البيعة هي عين نصب الخليفة مع أن نصب الخليفة غير البيعة ،فل بد أن ينصب الخليفة أول ً ثم يبايع .ل يقال ذلك لن كون البيعة طريقة لنصب الخليفة ل يعني أنها عين نصبه .ول يقال إنه ل بد أن ينصب الخليفة أول ً ويعرف نصبه ثم يباَيع .ل يقال ذلك لن هذا يعني أن هناك طريقة أخرى لنصب الخليفة ،وأن البيعة هي مجرد إعطاء الطاعة ،مع أن أحاديث البيعة كلها تدل على أنها طريقة النصب للخليفة وليست هناك طريقة غيرها .انظر قوله عليه السلم) :من مات وليس في عنقه بيعة( فإنها صريحة في أنها تعني من مات ولم ينصب له إمام ببيعة ،ول تعني مطلقا من مات ولم يطع إماما .وهذا يدل على أن البيعة في هذا الحديث تعني طريقة نصب الخليفة ول تعني الطاعة وحدها .وانظر قوله عليه السلم) :إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الخر منهما( فإنه صريح بأنه إذا نصب خليفتان فاقتلوا الخر منهما .وهكذا جميع أحاديث البيعة صريحة في أنها طريقة نصب الخليفة .وأحاديث البيعة تدل على أنها ل تعني الطاعة فقط ول الطاعة مطلقا وإنما تعني النقياد لمن ينصب خليفة ،مع معناها الذي هو طريقة نصب الخليفة .وفوق ذلك فإنه لم يصح عن الرسول صلى ا عليه وآله وسلم أي حديث رواية ودراية يبين طريقة لنصب الخليفة غير البيعة مطلقا. -36-
ثانيا :وردت أحاديث من الرسول صلى ا عليه وآله وسلم تدل على أنه سيكون نزاع بين الناس على الخلفة وتسابق عليها، فلو كان هنالك نص من الرسول على شخص لما كان هناك نزاع ص الرسول أن أناسا سينازعون هذا مع وجود النص ،أو لَن ّ الشخص .ولكن النصوص جاءت بأن النزاع يكون بين الناس مع بعضهم ،وبّين طريقة فض هذا النزاع والحسم في موضوع الخلفة .فقد روى مسلم في صحيحه قال :حدثني وهب بن َيِقّية الواسطي حدثنا خالد بن عبدا الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال :قال رسول ا صلى ا عليه وسلم) :إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الخر منهما( وروى مسلم في صحيحه قال حدثنا زهير بن حرب واسحق بن إبراهيم قال إسحق أخبرنا وقال زهير حدثنا جرير عن العمش عن زيد بن وهب عن عبدالرحمن بن عبد رب الكعبة قال :دخلت المسجد فإذا عبدا بن عمرو بن العاص جالس في ظل الكعبة والناس مجتمعون عليه فأتيتهم فجلست إليه فقال :كنا مع رسول ا صلى ا عليه وسلم فنزلنا منزل ً ...إذ نادى منادي رسول ا صلى ا عليه وسلم الصلة جامعة فاجتمعنا إلى رسول ا صلى ا عليه وسلم فقال) :إنه لم يكن نبي قبلي إل ّ كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم ،إلى أن قال: طعه إن ومن بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فلُي ِ استطاع فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الخر( وروى مسلم في صحيحه قال :حدثنا محمد بن بشاء حدثنا محمد بن جعفر ت أبا حدثنا شعبة عن فرات القزاز عن أبي حازم قال :قاعد ُ هريرة خمس سنين فسمعته يحّدث عن النبي صلى ا عليه وسلم قال) :كانت بنو إسرائيل تسوسهم النبياء ،كلما هلك نبي خلفه نبي ،وإنه ل نبي بعدي ،وستكون خلفاء فَتكُثر ،قالوا :فما تأمرنا؟ قال :فوا ببيعة الول فالول( /وروى مسلم في صحيحه قال :حدثني عثمان بن أبي شيبة حدثنا يونس بن أبي يعفور عن أبيه عن عرفجة قال" سمعت رسول ا صلى ا عليه وسلم يقول) :من أتاكم وأمركم جميعا على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو جماعتكم فاقتلوه( ،وهذا معناه أن الخلفة حق لجميع المسلمين ،ولكل واحد أن ينازع عليها .وهذا يناقض كون الرسول يعين شخصا معينا يكون خليفة بعده. -37-
ثالثا :ان الحاديث التي وردت فيها كلمة إمام بمعنى خليفة وردت هذه الكلمة نكرة ،وحين وردت معّرفة ،جاءت إّما معّرفة بأل التي للجنس ،وإما معّرفة بالضافة بلفظ الجمع .ففي المكنة التي جاءت فيها معّرفة بأل ،جاءت فيها أل للجنس بدليل سياق الجملة .فالرسول يقول َ) :من بايع إماما() ،قام إلى إمام جائر() ،يكون بعدي أئمة( ،ويقول) :فالمام الذي على الناس راعٍ جّنة يقاَتل ِمن ورائه وُيّتقى وهو مسؤول عن رعيته() ،إّنما المام ُ به( ،ويقول) :لئمة المسلمين() ،خيار أئمتكم() ،شرار أئمتكم(، وهذا كله يدل على أن الرسول صلى ا عليه وآله وسلم أبهم من يكون خليفة ولم يعّينه ،وهو صريح في دللته على أن الرسول لم يعّين شخصا معينا للخلفة ،بل جعلها حقا لجميع المسلمين .وإذا أضيف إليها أن بعض النصوص وردت بصيغة الجمع ،كان ذلك نصا في نفي إمامة شخص معين. رابعا -ان الصحابة رضوان ا عليهم اختلفوا على الشخاص الذين كانوا في أيامهم َمن يكون خلفة منهم .وهذا الختلف على الشخاص دليل على أن الرسول لم يعّين شخصا معينا للخلفة .وِمن الشخاص الذين اختلفوا الشخاص الذي يقال إن الرسول نص على خلفتهم ،وهما :أبو بكر وعلي .ومع ج أي واحد منهم بأن هناك نصا من الرسول على اختلفهم لم يحت ّ أن الخلفة له ،ولم يحتج أحد من الصحابة عموما بوجود نص جوا به ،فعدم احتجاجهم على أشخاص ،فلو كان هنالك نص لحت ّ بأي نص معناه أنه ل يوجد نص على شخص معّين للخلفة. عرف ِمن ول يقال إنه يوجد نص ولكن لم يبلغهم و ُ بعدهم .لن ديننا أخذناه عن الصحابة ،فهم الذين نقلوا إلينا القرآن ،وهم الذين رووا لنا الحديث .فإذا لم َيِرد النص –أي نص- عن الصحابة ،فإنه ل يعتبر ول بوجه من الوجوه .فما جاء عنهم أخذناه وما لم يأت عنهم ضربنا به عرض الحائط .وفي مسألة النص على خليفة بعد الرسول ،نجد الصحابة جميعهم دون استثناء بما فيهم أبو بكر وعلي متفقين على عدم وجود أي نص على شخص معّين للخلفة ،لعدم ِذكرهم لذلك ،مع وجود ل ذلك على بطلن دواعي القول ولزوم ِذكر النص لو كان .فد ّ كون الرسول عّين شخصا للخلفة. ول يقال إن عدم ِذكر النص كان حرصا على جمع كلمة -38-
المسلمين .فإن هذا يعني كتمان حكم من أحكام ا وعدم سة له ،ل سيما وهو في تبليغه في الوقت الذي كانت الحاجة ما ّ أمر من أعظم أمور المسلمين .وهذا الكتمان لدين ا مما ل يجوز أن يصدر من صحابة رسول ا. خامسا -وردت نصوص صريحة على أن الرسول صلى ا عليه وآله وسلم لم يستخلف أحدا ،بمعنى أنه لم ينص على أن يكون شخص معين خليفة بعده .فقد روى البخاري عن عبدا بن عمر رضي ا عنهما ،قال :قيل لعمر :أل تستخِلف؟ قال) :إن أستخِلف فقد استخلف من هو خير مني ،أبو بكر ،وإن أترك فقد ترك من هو خير مني ،رسول ا صلى ا عليه وسلم( .وروى مسلم عن ابن عمر أن عمر بن الخطاب رضي ا عنه قال) :إن ا عز وجل يحفظ دينه وإني لئن ل أستخلف فإن رسول ا صلى ا عليه وسلم لم يستخلف ،وإن أستخلف فإن أبا بكر قد استخلف( .فهذا نص على أن الرسول لم يستخلف .ول يقال إن هذا رأي لعمر .فإن الصحابي إذا قال) :فعل رسول ا كذا ،ولم يفعل كذا ،أو كنا في عهده كذا ،أو كان في عهده كذا ،يكون هذا حديثا ُيحتج به ول يكون قول صحابي .على أن عمر قال ذلك على مرأى ومسمع من الصحابة ،وعلي رضي ا عنه كان، كر ،مما يدل على كر على عمر من ِ وبلغه هذا القول ،فلم ُين ِ موافقتهم على ما رواه عمر. هذا من حيث امتناع ورود نص معين على تعيين شخص معين للخلفة .أّما من حيث النصوص التي أوردها من يقولون إن هناك نصا على شخص معين ،فإن هذه النصوص ،منها ما أوردوه للدللة على استخلف الرسول لبي بكر لن يكون خليفة بعده ،ومنها ما أوردوه للدللة على استخلف علي لن يكون خليفة بعده .ول بد من إيرادها وبيان ما فيها. أّما النصوص التي أوردها الذين يقولون إن الرسول استخلف أبا بكر فهي قسمان :قسم َمَدح الرسول صلى ا عليه وسلم فيها أبا بكر ،وليس فيها أي شيء يدل على أنه استخلفه. وقسم استنَبط منها بعضهم استنباطا أن الرسول استخلف أبا بكر. واستنبط آخرون أنه رشحه للخلفة .أّما القسم الول الذي مدح فيه الرسول أبا بكر ،فإنا نورد نموذجا منها بِذكر بعضها ،وكلها ل تخرج عن معنى المدح. -39-
ي أن النبي صلى ا خدر ّ روى البخاري عن أبي سعيد ال ُ ن الناس علي في صحبته وماله أبا عليه وسلم قال) :إن ِمن أَم ّ بكر ،ولو كنت متخذا خليل ً غير ربي لتخذت أبا بكر ،ولكن أخوة سّد ،إل ّ باب أبي ن في المسجد باب إل ّ ُ السلم وموّدته ،ل َيبقَي ّ بكر( .وقد روى هذا الحديث مسلم أيضا بألفاظ غير هذه اللفاظ، ولكنها قريبة منها .وهذا الحديث ل شيء فيه يجعل المرء يقول ح لبي بكر من إنه استخلف لبي بكر ،وكل ما فيه أنه مد ٌ الرسول .والرسول صلى ا عليه وآله وسلم مدح كثيرا من الصحابة بأسمائهم .فقد وردت أحاديث في مدح عمر وعثمان ي وسعد بن أبي وقاص وطلحة والزبير وأبي عبيدة بن وعل ّ الجراح والحسن والحسين رضي ا عنهما ،وزيد بن حارثة وأسامة بن زيد وعبدا بن جعفر وخديجة وعائشة وفاطمة بنت سَلمة وبلل وغيرهم .فمجرد المدح ل يدل النبي عليه السلم وأم َ على الستخلف ول بوجه من الوجوه. أّما الحاديث التي اسَتنبط منها بعضهم خلفة أبي بكر، فإنها أربعة أحاديث نوردها ونبين ما في كل منها .وهذه الحاديث هي: أول ً -روى البخاري عن القاسم بن محمد قال :قالت عائشة رضي ا عنها :وا رأساه .فقال رسول ا صلى ا عليه وسلم: ذاك لو كان وأنا حي فأستغفر لك وأدعو لك .فقالت عائشة :وا ت آخر ب موتي ،ولو كان ذاك لظلل َ ثكلياه ،وا إني لظنك تح ّ يومك معرسا ببعض أزواجك .فقال النبي صلى ا عليه وسلم: ت أو أردت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه بل أنا وا رأساه ،لقد همم ُ فأعهد أن يقول القائلون أو يتمنى المتمنون .ثم قلت يأبى ا ويدفع المؤمنون أو يدفع ا ويأبى المؤمنون( .وروى مسلم هذا الحديث عن عائشة بلفظ ،قالت :قال لي رسول ا صلى ا عليه وسلم في مرضه) :ادعي لي أبا بكر أباك وأخاك حتى أكتب ن ويقول قائل :أنا أْولى ،ويأبى كتابا ،فإني أخاف أن يتمنى متم ٍ ا والمؤمنون إل ّ أبا بكر(. ثانيا -روى البخاري عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال :أتت النبي صلى ا عليه وسلم امرأة فكّلمته في شيء، ت ولم فأمرها أن ترجع إليه ،قالت :يا رسول ا ،أرأيت إن جئ ُ أجدك –كأنها تريد الموت -قال :فإن لم تجديني فْأتي أبا بكر(، -40-
وروى مسلم هذا الحديث عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه بلفظ )أن امرأة سألت رسول ا صلى ا عليه وسلم شيئا، فأمرها أن ترجع إليه ،فقالت :يا رسول ا ،أرأيت إن جئت فلم أجدك –قال أبي :كأنها تعني الموت -قال :فإن لم تجديني فْأتي أبا بكر(. ثالثا -روى البخاري عن عائشة أم المؤمنين )أن رسول ا صلى ا عليه وسلم قال في مرضه ُ:مروا أبا بكر ُيصلي بالناس. قالت عائشة :قلت :إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع الناس ل بالناس. ل ،فقال ُ:مروا أبا بكر فلُيص ّ مر عمر فلُيص ّ من البكاء ،ف ُ فقالت عائشة :فقلت لحفصة :قولي إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع الناس .ففعلت حفصة .فقال رسول ا صلى حب يوسفُ ،مروا أبا بكر فلُيص ّ ل ن صوا ِ ك ّ ا عليه وسلم :إن ُ ب منك خيرا(. ت لصي ُ بالناس .فقالت حفصة لعائشة :ما كن ُ ت عائشة رابعا -روى مسلم عن ابن أبي ُملْيكة )سمع ُ سئلت من كان رسول ا صلى ا عليه وسلم مستخلفا لو و ُ استخلف؟ قالت :أبو بكر .فقيل لها :ثم َمن بعد أبي بكر؟ قالت: عمر .ثم قيل لها َ:من بعد عمر؟ قالت :أبو عبيدة بن الجراح .ثم انتهت إلى هذا. وهذه الحاديث كلها ل تصلح دليل ً على استخلف الرسول لبي بكر .أّما الحديث الول فُيَرد لسببين ،أحدهما أن الرسول ل ،لن ت( ولكنه لم يفعل ،فل يكون دلي ً ت وأرد ُ يقول) :همم ُ الدليل هو قول الرسول وفعله وسكوته ،أّما ما عدا ذلك فل يعتبر دليل ً شرعيا .وثانيهما أن عائشة هي بنت أبي بكر ،ولو كان هذا ج به حين ذهب إلى السقيفة مه أبو بكر ولحت ّ عِل َ الحديث موجودا ل َ يناقش النصار حين اجتمعوا لبيعة خليفة منهم .وعليه فإن هذا الحديث مردود ول يصلح دليل ً على استخلف أبي بكر. وأّما الحديث الثاني فل يدل على استخلف أبي بكر ،لن المرأة قالت :ولم أجدك .فَيصُدق أنها ل تجده لغيابه في غزوة من الغزوات ،أو في أي شأن من الشؤون ،ول يوجد فيه ما يدل ت .وما جاء على أنها تريد ِمن قولها) :ولم أجدك( بأن تكون قد ُم ّ م جَبْير وفه ٌ في الحديث من قوله) :كأنها تريد الموت( هو قول ل ُ له .فأمُر الرسول لها أن تذهب لبي بكر إذا جاءت ولم تجده ،ل دللة فيه على استخلف أبي بكر في الخلفة بعد الرسول .على -41-
أنه لو ُفرض أنها تريد الموت فإنه كذلك ل يعني أنه لهذا القول عّين أبا بكر ليكون خليفة بعده. وأّما الحديث الثالث فهو استخلف في الصلة ليس غير، والستخلف في الصلة ل يدل على الستخلف في الحكم .وأّما قولهم) :رضيه رسول ا لمر ديننا ،أفل نرضاه لمر دنيانا( ،هو م لهم ،وهو فهم خاطئ ،لن هنالك فرقا شاسعا بين الصلة فه ٌ وبين الحكم .فليس كل من يصلح لن يكون إماما في الصلة يصلح لن يكون إماما في الحكم .على أن النص خاص بالصلة، مل على غيرها لخصوصية فل يشمل غيرها ،ول يصح أن ُيح َ النص. وأّما الحديث الرابع فإنه ل يعتبر حديثا ،لنه لم ُيسند إلى الرسول بشيء ،وإنما هو رأي لعائشة .ورأي الصحابة ل ُيحتج به ول يعتبر دليل ً شرعيا ،ولذلك ُيَرد لنه ليس بحديث ول قيمة له في الحكام الشرعية. هذا من حيث الحاديث التي أوردها الذين يقولون باستخلف أبي بكر. أّما الحاديث التي أوردها الذين يقولون إن الرسول استخلف عليا ،فهي ثلثة أقسام :قسم َمَدح فيه الرسول سيدنا عليا رضي ا عنه ،وقسم استنبط منها بعضهم استنباطا أن الرسول استخلف عليا ،وقسم ورد فيها عند المحتجين نص صريح أن الرسول استخلف عليا. أّما القسم الول الذي مدح فيه الرسول عليا فإنا نورد نموذجا منها بِذكر بعض الحاديث ،والباقي ل يخرج عن معنى المدح: روى البخاري عن سهل بن سعد رضي ا عنه )أن رسول ا صلى ا عليه وسلم قال ُ : ن الراية غدا رجل ً َيفتح ا طَي ّ لع ِ ما على يديه .قال :فبات الناس يدوكون ليلتهم أّيُهم ُيعطاها .فل ّ أصبح الناس غدوا على رسول ا صلى ا عليه وسلم كلهم يرجو أن ُيعطاها ،فقال :أين علي بن أبي طالب؟ فقالوا :يشكتي صق سلوا إليه فْأتوني به .فلما جاء َب َ عينيه يا رسول ا .قال :فأر ِ في عينيه ودعا له فَبِرأ حتى كأن لم يكن به وجع فأعطاه الراية(. وروى مسلم هذا الحديث عن أبي هريرة بلفظ )أن رسول ا صلى ا عليه وسلم قال يوم خيبر ُ : ن هذه الراية رجل ً طَي ّ لع ِ -42-
يحب ا ورسوله ،يفتح ا على يديه .قال عمر بن الخطاب :ما ت لها رجاء أن ُأدعى لها. أحببتُ المارة إل ّ يومئذ .قال :فتساَوْر ُ قال :فدعا رسول ا صلى ا عليه وسلم علي بن أبي طالب ي رضي ا فأعطاه إياها( .وروى البخاري في باب مناقب عل ّ ي) :أنت مني وأنا منك(. عنه ،قال النبي صلى ا عليه وسلم لعل ّ وروى مسلم عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه ،قال: سب أبا أّمر معاوية بن أبي سفيان سعدا ،فقال :ما منعك أن َت ُ ت ثلثا قالهن له رسول ا صلى ا التراب؟ فقال :أما ما َذَكر ُ ي من ب إل ّ ح ّ سّبه ،لن تكون لي واحدة منهن أ َ َ عليه وسلم فلن أ ُ حمر النعم .سمعت رسول ا صلى ا عليه وسلم يقول له ُ ي :يا رسول ا ،خلفتني مع خلفه في بعض مغازيه ،فقال له عل ّ النساء والصبيان؟ فقال له رسول ا صلى ا عليه وسلم :أَما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ،إل ّ أنه ل نبّوة بعدي؟ وسمعته يقول يوم خيبر ُ : ن الراية رجل ً يحب ا طَي ّ لع ِ ورسوله ويحّبه ا ورسوله .قال :فتطاولنا لها :فقال ادعوا لي عليا ،فُأتي به أرمد ،فبصق في عينيه ودفع الراية إليه ،ففتح ا ع أبناءنا وأبناءكم( ،دعا ما نزلت هذه الية )فقل تعالوا ند ُ عليه .ول ّ رسول ا صلى ا عليه وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا فقال) :اللهم هؤلء أهلي( .وروى مسلم عن سهل بن سعد قال: )اسُتعمل على المدينة رجل من آل مروان ،قال :فدعا سهل بن سعد ،فأمره أن يشُتم عليا ،قال :فأبى سهل .فقال له :أما إذا أبيت فُقل لعن ا أبا التراب .فقال سهل :ما كان لعلي اسم ب إليه من أبي التراب وإن كان لَيفَرح إذا دعي بها .فقال له أح ّ مي أبا تراب؟ قال :جاء رسول ا صلى س ّ أخِبرنا عن قصتهِ ،لم ُ ا عليه وسلم بيت فاطمة ،فلم يجد عليا في البيت فقال :أين ابن عمك؟ فقالت :كان بيني وبينه شيء فغاضبني فخرج فلم ظر يِقل عندي .فقال رسول ا صلى ا عليه وسلم لنسان :ان ُ أين هو .فجاء فقال :يا رسول ا هو في المسجد راقد .فجاءه رسول ا صلى ا عليه وسلم وهو مضطجع قد سقط رداؤه عن شقه فأصابه تراب ،فجعل رسول ا صلى ا عليه وسلم يمسحه عنه ويقول) :قم أبا التراب ،قم أبا التراب( .وروى مسلم ي) :والذي فلق الحب وبرأ عن عدي بن ثابت عن زرقال ،قال عل ّ ي أن ل ي صلى ا عليه وسلم إل ّ النسمة إنه َلعهُد النبي الّم ّ -43-
يحبني إل ّ مؤمن ول يبغضني إل ّ منافق(. فهذه الحاديث ل شيء فيها يجعل المرء يقول إن الرسول استخلف عليا أن يكون خليفة بعده .فحديث خيبر مدح فيه ح من ي) :أنت مني وأنا منك( مد ٌ الرسول عليا .وقول الرسول لعل ّ ي .وحديث سعد فيه )أَما ترضى أن تكون مني بمنزل الرسول لعل ّ هارون من موسى( وسيأتي الكلم عليه في القسم الثاني من أحاديث هذا الموضوع .وفيه حديث خيبر وهو مدح ،وفيه أن عليا وفاطمة وحسنا وحسينا أهله وهو مدح ،وحديث سهل بن سعد مدح .والرسول صلى ا عليه وسلم كما مدح سيدنا عليا مدح ح الرسول لشخص ل يدل على استخلفه غيره من الصحابة .ومد ُ ول بوجه من الوجوه. أّما القسم الثاني من الحاديث وهي التي استنبط منها ي خليفة بعده ،فإنها ص على أن يكون عل ّ بعضهم أن الرسول ن ّ تتلخص في أربعة نصوص هي: -1روى البخاري عن مصعب بن سعد عن أبيه )أن رسول ا صلى ا عليه وسلم خرج إلى تبوك واستخلف عليا وقال: أتخلفني في الصبيان والنساء؟ قال :أل ترضى أن تكون مني بمنزلة هرون من موسى؟ إل ّ أنه ليس نبي بعدي( .وروى مسلم عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال :قال رسول ا ي) :أنت مني بمنزلة هارون من موسى صلى ا عليه وسلم لعل ّ إل ّ أنه ل نبي بعدي( .وروى مسلم عن إبراهيم بن سعد عن ي) :أَما ترضى سعد عن النبي صلى ا عليه وسلم أنه قال لعل ّ أن تكون مني بمنزلة هرون من موسى( .وروى البخاري عن إبراهيم بن سعد عن أبيه قال :قال النبي صلى ا عليه وسلم ي) :أَما ترضى أن تكون مني بمنزلة هرون من موسى(. لعل ّ وروى ابن اسحق قال :خلف رسول ا صلى ا عليه وسلم علي بن أبي طالب رضوان ا عليه على أهله ،وأمره بالقامة فيهم .فأرجف به المنافقون ،وقالوا :ما خلفه إل ّ استثقال ً وتخففا ما قال ذلك المنافقون ،أخذ علي بن أبي طالب رضوان منه ،فل ّ ا عليه سلحه ثم خرج حتى أتى رسول ا صلى ا عليه وسلم وهو نازل بالجرف فقال :يا نبي ا ،زعم المنافقون إنك إّنما خلفتني أنك استثقلتني وتخففت مني ،فقال) :كذبوا ،ولكنني خلفتك ِلما تركتُ ورائي ،فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك ،أفل -44-
ترضى يا علي أن تكون مني بمنزلة هرون من موسى إل ّ أنه ل نبي بعدي ،فرجع علي إلى المدينة ،ومضى رسول ا صلى ا عليه وسلم على سفره( .وذكر السيد عبدالحسين شرف الدين جعات" ما نصه )حديث جابر بن عبدا الموسوي في كتاب "المرا َ قال :قال رسول ا صلى ا عليه وآله وسلم :يا علي إنه يحل لك في المسجد ما يحل لي ،وإنك مني بمنزلة هرون من موسى، إل ّ أنه ل نبي بعدي(. ت أنا وحصين -2روى مسلم عن يزيد بن حيان قال :انطلق ُ ما جلسنا إليه قال بن سبرة وعمرو بن مسلم إلى زيد بن أرقم ،فل ّ ت رسول ا صلى ا ت يا زيد خيرا كثيرا ،رأي َ له حصين :لقد لقي َ ت خلفه ،لقد لقيتَ ت معه وصلي َ عليه وسلم ،وسمعتَ حديثه وغزو َ ت من رسول ا صلى ا يا زيد خيرا كثيرا ،حّدثنا يا زيد ما سمع َ عليه وسلم .قال :يا ابن أخي ،وا لقد َكبرت سّني وقدم عهدي ونسيتُ بعض الذي كنت أعي من رسول ا صلى ا عليه وسلم ،فما حّدثُتكم فاقبلوا ،وما ل فل تكلفونيه .ثم قال :قام خما رسول ا صلى ا عليه وسلم يوما فينا خطيبا بما ُيدعى ُ مد ا وأثنى عليه ووعظ وذّكر ،ثم قال: ح َ بين مكة والمدينة ،ف َ أّما بعد أل أيها الناس فإّنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي ك فيكم َثَقلْين ،أولهما كتاب ا فيه الهدى والنور فأجيب ،وأنا تار ٌ غب فيه. ث على كتاب ا ور ّ فخذوا بكتاب ا واستمسكوا به .فح ّ ثم قال :وأهل بيتي ،أذكركم ا في أهل بيتي ،أذكركم ا في أهل بيتي ،أذكركم ا في أهل بيتي .فقال له حصين :وَمن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال :نساؤه من أهل حِرم الصدقة بعده .قال :ومن هم؟ بيته ،ولكن أهل بيته من ُ قال :هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس .قال :كل حِرم الصدقة؟ قال :نعم( .وذكر السيد عبدالحسين شرف هؤلء ُ جعات" هذا الحديث بالرواية التية )أخرج الدين في كتابه "المرا َ مع على صحته عن زيد بن أرقم قال :خطب الطبراني بسند مج َ رسول ا صلى ا عليه وآله وسلم بغدير خم ،تحت شجرات، عى فأجيب ،وإني مسؤول وإنكم فقال :أيها الناس يوشك أن ُأد َ مسؤولون ،فماذا أنتم قائلون؟ قالوا :نشهد أنك قد بّلغ َ ت ت ،فجزاك ا خيرا .فقال :أليس تشهدون أن ل ت ونصح َ وجاهد َ إله إل ّ ا وأن محمدا عبده ورسوله ،وأن جّنته حق وأن ناره -45-
حق ،وأن الموت حق وأن البعث حق بعد الموت ،وأن الساعة آتية ل ريب فيها وأن ا يبعث َمن في القبور؟ قالوا :بل نشهد بذلك .قال :اللهم اشهد .ثم قال :أيها الناس إن ا مولي ،وأنا مولى المؤمنين ،وأنا أولى بهم من أنفسهمَ ،من كنتُ موله فهذا ل من واله وعاِد من عاداه .ثم قال: موله –يعني عليا -اللهم وا ِ طكم وإنكم واردون على الحوض ،حوض يا أيها الناس إني َفَر ُ أعرض ما بين ُبصرى إلى صنعاء ،فيه عدد من النجومَ ،قَدحان ي عن الَثَقلْين كيف من الفضة ،وإني سائلكم حين َتِردون عل ّ تخلفوني فيهما ،الثقل الكبر كتاب ا عز وجل ،سبب طرفه بيد ا تعالى وطرفه بأيديكم ،فاستمسكوا به ل تضلوا ول تبّدلوا، عتَرتي أهل بيتي ،فإنه قد نّبأني اللطيف الخبير أنهما لن ينقضيا و ِ ي الحوض( .انتهى ما ذكره السيد عبدالحسين شرف حتى َيِردا عل ّ الدين .وقال الشيخ عبدالحسين أحمد الميني النجفي في كتابه ما قضى مناسكه –أي النبي صلى ا عليه "الغدير" ما نصه" :فل ّ وآله وسلم -وانصرف راجعا إلى المدينة ومعه من كان من خم من الجحفة التي الجموع المذكورات ووصل إلى غدير ُ تتشعب فيها طرق المدنيين والمصريين والعراقيين ،وذلك يوم الخميس الثامن عشر من ذي الحجة ،نزل إليه جبرائيل المين عن ا بقوله) :يا أيها الرسول بّلغ ما ُأنِزل إليك من ربك( الية ،وأمره عَلما للناس ويبلغهم ما نزل فيه من الولية وفرض أن يقيم عليا َ الطاعة على كل أحد ،وكان أوائل القوم قريبا من الجحفة ،فأمر رسول ا أن ُيَرد َمن َتَقّدم منهم وُيحَبس َمن تأخر عنهم في ذلك المكان ،ونهى عن سمرات خمس متقاربات دوحات عظام م ما تحتهن أن ل ينزل تحتهن أحد .حتى إذا أخذ القوم منازلهم فق ّ حتى إذا نودي بالصلة صلة الظهر عمد إليهن فصلى بالناس تحتهن ،وكان يوما هاجرا يضع الرجل بعض ردائه على رأسه ظّلل لرسول ا بثوب وبعضه تحت قدميه من شدة الرمضاء ،و ُ ما انصرف صلى ا عليه وآله على شجرة سمرة من الشمس ،فل ّ وسلم من صلته قام خطيبا وسط القوم على أقتاب البل، وأسمع الجميع رافعا عقيرته فقال :الحمد لله ونستعينه ونؤمن به ونتوكل عليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ضل لمن هدى ،وأشهد أن ل إله ا الذي ل هادي لمن ضل ول ُم ِ وأن محمدا عبده ورسوله ،أّما بعد :أيها الناس قد نّبأني اللطيف -46-
مر نبي إل ّ مثل نصف عمر الذي قبله ،وإني يوشك الخبير أنه لم يع ُ أن ُأدعى فأجبت ،وإني مسؤول وأنتم مسؤولون فماذا أنتم ت وجهدتَ فجزاك ا ت ونصح َ قائلون؟ قالوا :نشهد أنك قد بّلغ َ خيرا .قال :ألستم تشهدون أن ل إله إل ّ ا وأن محمدا عبده ورسوله ،وأن جّنته حق وناره حق ،وأن الموت حق وأن الساعة آتية ل ريب فيها وأن ا يبعث َمن في القبور؟ قالوا :بلى نشهد بذلك .قال :اللهم اشهد .ثم قال :أيها الناس أل تسمعون؟ قالوا: ي الحوض، نعم .قال :فاني َفَرط على الحوض وأنتم واردون عل ّ وأن عرضه ما بين صنعاء وُبصرى ،فيه أقداح عدد النجوم من فضة ،فانظروا كيف تخلفوني في الَثَقلْين .فنادى مناٍد :وما ف بيد ا الثقلن يا رسول ا؟ قال :الثقل الكبر كتاب ا طر ٌ ضلوا ،والخر الصغر سكوا به ل َت ِ ف بأيديكم ،فتم َ عز وجل وطر ٌ ي عتَرتي ،وان اللطيف الخبير نّبأني أنهما لن يتفرقا حتى َيِردا عل ّ ِ الحوض ،فسألت ذلك لهما ربي ،فل تقدموهما فَتهَلكوا ول ي فرفعها حتى ُرؤي بياض تقصروا عنهما فَتهَلكوا ،ثم أخذ بيد عل ّ آباطهما وعرفه القوم أجمعون ،فقال :أيها الناس من أْولى ا ورسوله أعلم .قال :إن الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا : ا مولي وأنا مولى المؤمنين وأنا أْولى بهم من أنفسهم ،فمن ي موله ،يقولها ثلث مرات ،وفي لفظ أحمد إمام ت موله فعل ّ كن ُ ل من واله وعاِد من عاداه، الحنابلة أربع مرات ،ثم قال :اللهم وا ِ حّبه ،وابغض من أبغضه وانصر من نصره ،واخُذل ب من أ َ ح ّ وأ ِ من خذله ،وأِدر الحق معه حيث دار ،أل فليبّلغ الشاهد الغائب(. ي للخلفة ،يروون ص على عل ّ -3من يقولون إن الرسول ن َ في كتبهم أحاديث .وهذه الحاديث ل نجعل محل البحث فيها موضوع روايتها مع أنه لم يروها الشيخان البخاري ومسلم وليست مروية من طريق الثقات وأكثرها من الحاديث الموضوعة ،ل نجعل محل البحث موضوع روايتها ،حتى ل يقولوا إن هذه الحاديث لم يرِوها الثقات عندكم وقد رواها الثقات ح عنده الحديث له أن َيحتج به .نعم ل نجعل ن َمن ص ّ عندنا ،وأ ّ ذلك موضع بحث وإّنما نجعل محل البحث النصوص نفسها حسبما وردت في رواياتهم .هذه النصوص التي يستنبطون منها أن الرسول قد استخلف عليا ليكون خليفة من بعده .وهذه الحاديث يقولون لها أحاديث الولية ،نوِرد قسما منها والباقي هو -47-
في نفس المعنى ،بل في نفس اللفاظ. أ -أخرج أبو داود الطيالسي بالسناد إلى ابن عباس ،قال: قال رسول ا صلى ا عليه وآله وسلم لعلي بن أبي طالب: )أنت ولي كل مؤمن بعدي(. ب -وجاء في كنز العمال عن عمران بن حصين إذ قال: بعث رسول ا صلى ا عليه وآله وسلم سرّية واستعمل عليهم خمس جارية ،فأنكروا علي بن أبي طالب ،فاصطفى لنفسه من ال ُ ذلك عليه ،وتعاقد أربعة منهم على شكايته إلى النبي صلى ا ما َقِدموا قام أحد الربعة فقال :يا رسول ا، عليه وآله وسلم ،فل ّ ألم تر أن عليا صنع كذا وكذا .فأعرض عنه .وقام الثاني فقال مثل ذلك ،فأعرض عنه .وقام الثالث فقال مثل ما قال صاحباه، فأعرض عنه .وقام الرابع فقال مثل ما قالوا ،فأقبل عليهم صر في وجهه فقال: رسول ا صلى ا عليه وسلم والغضب ُيب َ ي؟ إن عليا مني وأنا منه ،وهو ولي كل مؤمن ما تريدون من عل ّ من بعدي(. ج -وفي حديث طويل عن عمرو بن ميمون عن ابن عباس قال :بعث رسول ا صلى ا عليه وسلم فلنا بسورة التوبة، ل يذهب بها إل ّ رجل هو فبعث عليا خلفه فأخذها منه وقال ) : مني وأنا منه(. ت مع د -وفي كنز العمال عن وهب بن حمزة قال :سافر ُ كَوّنه .فرجع ُ ت ت لش ُ علي فرأيت منه جفاء ،فقلت :لئن رجع ُ ت عليا لرسول ا صلى ا عليه وسلم ،فنلت منه فقال ) : ل فذكر ُ ي فإنه وليكم بعدي(. ن هذا لعل ّ تقول ّ هـ -وفي كنز العمال عن ابن عباس قال :قال رسول ا صلى ا عليه وسلم َ) :من سّره أن يحيا حياتي ويموت مماتي ل عليا بعدي وليوال ولّيه(. سها ربي ،فليوا ِ غَر َ ويسكن جنة عدن َ و -في منتخب الكنز عن زياد بن مطرف قال :سمع ُ ت ب أن يحيا رسول ا صلى ا عليه وآله وسلم يقول َ) :من أح ّ حياتي ويموت ميتتي ويدخل الجنة التي وعدني ربي وهي جنة ل عليا وذريته من بعدي ،فإنهم لن يخرجونكم من الخلد ،فليتو ّ باب هدى ولن يدخلوكم باب ضللة(. ز -في كنز العمال عن عمار بن ياسر قال :قال رسول ا صلى ا عليه وآله وسلم) :أوصي من آمن بي وصدقني بولية -48-
علي بن أبي طالب ،فمن توله فقد تولني ومن تولني فقد ب ا ،ومن تولى ا ،ومن أحّبه فقد أحبني ومن أحبني فقد أح ّ أبغضه فقد أبغضي ومن أبغضني فقد أبغض ا(. ح -وفي الكنز أيضا عن عماز مرفوعا )اللهم من آمن بي ل علي بن أبي طالب ،فإن وليته وليتي ووليتي وصدقني فليتو ّ ولية ا تعالى(. -4هناك أحاديث يرويها الذين يقولون إن الرسول نص ي .وهذه الحاديث لم يروها أحد من الثقات، على الخلفة لعل ّ وأكثرها من الحاديث الموضوعة .ونوردها ل لنبحثها من ناحية روايتها حتى ل ُيّدعى أنها صحيحة عند من رواها وإنما نوردها لنجعل محل بحثها النصوص التي أوردوها حسب ما وردت في ي وجعله رواياتهم .وهذه الحاديث تتضمن مؤاخاة الرسول لعل ّ الوارث ِمن بعده .ونورد قسما منها والباقي هو في نفس المعنى بل في نفس اللفاظ. أ -أن النبي صلى ا عليه وآله وسلم آخى بين المهاجرين قبل الهجرة واصطفى عليا لنفسه .ومما جاء في حديث المؤاخاة الولى )فقال علي :يا رسول ا ،لقد ذهب روحي وانقطع ن كان هذا ظهري حين رأيتك فعلتَ بأصحابك ما فعلت غيري ،فإ ْ ي فلك العتبى والكرامة .فقال رسول ا صلى ا ط عل ّ من سخ ٍ عليه وسلم :والذي بعثني بالحق ما أخرجتك إل ّ لنفسي وأنت مني بمنزلة هرون من موسى ،غير أنه ل نبي بعدي ،وأنت أخي ث منك؟ قال :ما ورث النبياء من َقبلي: ووارثي .فقال :وما أِر ُ كتاب ربهم وسنة نبيهم(. ب -أن النبي صلى ا عليه وآله وسلم آخى بين المهاجرين والنصار بعد الهجرة بخمسة أشهر ،ولم يؤاخ بين علي وبين أحد من النصار ،ولم يؤاخ بين نفسه وبين أحد من النصار ،وإّنما اصطفاه لنفسه .ومما جاء في حديث المؤاخاة الثانية )أن ي حين عل ّ ت َ ضب َ غ ِ ي :أ َ الرسول صلى ا عليه وآله وسلم قال لعل ّ آخيت بين المهاجرين والنصار ولم أؤاخ بينك وبين أحد منهم .أما ترضى أن تكون بمني بمنزل هرون من موسى ،إل ّ أنه ليس بعدي نبي(. ج -وُروي أن الرسول صلى ا عليه وآله وسلم خرج على أصحابه يوما ووجهه مشرق ،فسأله عبدالرحمن بن عوف ،فقال: -49-
)بشارة أتتني من ربي في أخي وابن عمي وابنتي بأن ا زّوج ما زُّفت سيدة النساء إلى كفئها سيد العترة، عليا من فاطمة( ،ول ّ قال النبي صلى ا عليه وآله وسلم) :يا أم أيمن ادعي لي أخي. فقالت :هو أخوك وُتنكحه؟ قال :نعم يا أم أيمن .فدعت عليا فجاء( .وخاطبه النبي يوما في قضية كانت بينه وبين أخيه جعفر وزيد بن حارثة فقال له) :وأّما أنت يا علي فأخي وأبو ولدي ومني ي(. وإل ّ ي يوما عِهد الرسول صلى ا عليه وآله وسلم إلى عل ّ د َ- فقال) :أنت أخي ووزيري تقضي دْيني وتنجز موعدي وتبرئ ذمتي(. هـ -في كنز العمال قال صلى ا عليه وآله وسلم: )مكتوب على باب الجنة ل إله إل ّ ا محمد رسول ا ،علي أخو رسول ا(. هذه النصوص الربعة ،وهي نص جعله من الرسول بمنزلة هرون من موسى ،ونص أنه عليه السلم ترك كتاب ا وعترته ،ونص الولية ،ونص المؤاخاة .هذه هي النصوص التي يستنِبط منها بعض المسلمين أن الرسول صلى ا عليه وآله وسلم استخلف عليا من بعده ،أي جعله هو الخليفة بعد وفاته. ولنأخذها نصا نصا: عل علي من الرسول بمنزلة أّما النص الول ،وهو نص ج ْ هرون من موسى ،فإنه يتبين معناه من دراسة المقام الذي قيل فيه ومن دراسة لفظه .أّما المقام فإن الرسول قال هذا الحديث يوم غزوة تبوك .وذلك أن الرسول صلى ا عليه وآله وسلم خلف على المدينة مكانه محمد بن مسلمة ليتولى رعاية شؤون المسلمين وإدارة شؤون الحكم ،وخلف سيدنا عليا رضي ا عنه على أهله وأمره بالقامة فيهم .فأرجف به المنافقون وقالوا :ما ما قال ذلك المنافقون ،أخذ خلفه إل ّ استثقال ً له وتخففا منه .فل ّ علي بن أبي طالب رضوان ا عليه سلحه ثم خرج حتى أتى رسول ا صلى ا عليه وآله وسلم وهو نازل بالجرف فقال :يا نبي ا ،زعم المنافقون إنك إّنما خلفتني أنك استثقلتني وتخففت ت ورائي ،فارجع مني ،فقال) :كذبوا ،ولكني خلفتك ِلما ترك ُ فاخلفني في أهلي وأهلك ،أفل ترضى يا علي أن تكون مني بمنزلة هرون من موسى إل ّ أنه ل نبي بعدي( ومضى رسول ا -50-
صلى ا عليه وسلم على سفره .فالحديث الوارد في جعل علي من الرسول بمنزلة هرون من موسى وارد باستخلفه في أهله بدليل قول علي نفسه) :أتخلفني في الصبيان والنساء(؟ فواقع الحادثة أنه خلف في أهله ،فل يؤخذ منه أنه خلفه في الخلفة ،ل عرف أنه عليه السلم خلف محمدا بن َمسلمة على سيما إذا ُ ص عليا بالستخلف على أهله ،وقال له: الحكم مكانه ،وخ ّ )أهلي وأهلك( .على أن استخلف الرسول لحد أصحابه على الحكم حين خروجه للغزو ل يدل على أن هذا الشخص الذي خلفه هو خليفة مكانه ،بدليل أن الرسول صلى ا عليه وآله وسلم استخلف كثيرين في الغزوات .ففي غزوة العشيرة استعمل على المدينة أبا سلمة بن عبدالسد .وفي غزوة سفوان استعمل على المدينة زيد بن حارثة .وفي غزوة بني لحيان استعمل على المدينة ابن أم مكتوم ،وهكذا .فاستخلف الرسول لشخص على الحكم في المدينة مكانه لبينما يرجع من غزوه ،ل يدل على أن ذلك يعني استخلفه في الخلفة ،فكيف إذا استخلفه على أهله فقط ،واستخلف غيره في الحكم لَبينما َيرجع من الغزوة؟ هذا من حيث الستخلف ،أّما من حيث قول الرسول صلى ا عليه وآله وسلم) :أل ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى( ،فإن معنى ألفاظه :أل ترضى أن يكون مثلك فيما تخلفني فيه مثل ما يخلف هرون موسى .فهو تشبيه لعلي بهرون، ووجه الشبه هو الستخلف ،أي مثلك في استخلفي لك مثل هرون في استخلف موسى له .هذا هو معنى ألفاظ الحديث. ول يوجد معنى غير هذا للفاظ الحديث .ويعّين هذا المعنى ويجعله وحده هو المراد قول علي للرسول) :أتخلفني في الصبيان والنساء( ،ومجيء قول الرسول) :أل ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى( جوابا على سؤال علي هذا وردا على قوله. ولمعرفة ما يراد من هذا الحديث ُيرجع إلى القرآن الكريم لُيرى فيه موضوع استخلف موسى لهرون ما هو؟ وبالرجوع إلى القرآن الكريم نجد القصة يذكرها القرآن بالنص التالي وهو: م ميقات ربه )وواعدنا موسى ثلثين ليلة وأتممناها بعشٍر فت ّ أربعين ليلة ،وقال موسى لخيه هرون اخلفني في قومي وأصِلح -51-
ول تّتبع سبيل المفسدين( ،فيكون معنى الحديث :أل ترضى أن تخلفني في أهلي كما خلف هرون موسى في قومه ،فتكون مني بمنزلة هرون من موسى بالستخلف؟ ويكون المراد من الحديث تطييب خاطر سيدنا علي لنه جاء غير راض بهذا ي أنه هو الذي يقوم الستخلف ،وهو في نفس الوقت إفهام لعل ّ مقامه في أهله إذا غاب ،كما قام هرون مقام موسى في قومه إذا غاب. وأّما قوله) :إل ّ أنه ل نبي بعدي( ،نفي للنبوة عن الشبه ،لن هرون كان نبيا ،وهو نبي خلف نبيا أثناء غيابه .فاستثنى الرسول النبوة في ذلك رفعا لما قد ُيتوهم أنه بمنزلته في النبوة. ل نبي بعدي( أي بعد وفاتي ،لن الكلم ول يقال إن قوله ) : في الستخلف حال الحياة ،ذلك أن هرون كان نبيا مع موسى أثناء غيابه وليس بعد وفاته ،وكان خليفته في قومه أثناء غيابه حال حياته وليس بعد وفاته ،فقول الرسول) :غير أنه ل نبي بعدي( إّنما قاله لن هرون كان نبيا أثناء غياب موسى حال حياته .فلجل أن ينفي النبوة عن علي قال هذا القول ،فل يأتي هنا موضوع الستخلف بعد الوفاة لنه غير موجود في هارون ي الذي هو وموسى الذي هو المشّبه به ،فل يوجد في النبي وعل ّ المشّبه. هذا هو معنى الحديث ،ول توجد فيه أية إشارة للستخلف في الخلفة ،ول ُيفهم منه مطلقا أن الرسول أراد بالحديث أن َيُنص على جعل علي خليفة على المسلمين بعد وفاة الرسول. فالحديث وارد في استخلف علي على أهل الرسول مدة غيابه في غزوة تبوك .وأّما باقي الروايات التي وردت في هذا الحديث وهو قوله عليه السلم) :أل ترضى أن تكون مني بمنزلة هرون من موسى( ،فمنها روايات صحيحة كرواية البخاري وكرواية ي سعد ،ومنها روايات مسلم في حديثيه عن عامر وإبراهيم ولد ْ غير صحيحة ،ولكنها كلها توِرد نفس النص .وهذا يعني أن الحديث قيل في تبوك وفي غير تبوك .والجواب على ذلك أن الروايات الصحيحة هي رواية جزء من القصة ،أي رواية قول الرسول وحده منفصل ً عن القصة ،وهذا ل يعني أنها حادثة غير حادثة تبوك ،فإن الرواة والمحّدثين كثيرا ما يروون جزءا من حديث أو جزءا من قصة ،فيقتصرون على رواية محل الشاهد. -52-
على أنه لو فرضنا بأن الحديث لم يكن في وقعة تبوك وحدها بل قيل في تبوك وفي غير تبوك ،فإنه يعني أن الرسول استخلف سيدنا عليا رضي ا عنه على أهله دائما ،في تبوك وفي غيرها. ول يدل على استخلفه كّرم ا وجهه في الخلفة بعد وفاة الرسول ،وكل ما يدل الحديث في شرح ألفاظه وشرح معناه هو: ت، أل ترضى أن أجعلك تخلفني على أهلي أثناء غيابي ،وكلما غب ُ كما خلف هرون موسى أثناء غيابه ،إل ّ أن هرون نبي وأنت لست نبيا ،لنه ل نبي بعد نبوتي .ولذلك جاء في رواية مسلم عن عامر بن سعد عن أبيه )أَما ترضى أن تكون مني بمنزلة هرون من موسى إل ّ أنه ل نبوة بعدي( أي بعد نبوتي .هذا هو التشبيه الذي شّبه به الرسول عليا بالنسبة إليه بهرون بالنسبة لموسى ،أي غْيبة الرسول ل غير، الستخلف ليس غير ،والستخلف أثناء َ والستخلف على أهله كما هو نص الحديث بكامله .على أن تعّدد المرات التي قيل فيها الحديث الواحد ل ُيخرجه عن معناه ويجعل له معنى آخر غيره ،فإن كون الستخلف في تبوك إّنما كان في أهل الرسول ليس غير ،ثابت ل شبهة فيه .والروايات التي تروي الحديث في غير تبوك إّنما تنقل كلها نفس النص الذي قيل في تبوك في ألفاظه ومعناه ،ول تذُكر قيدا للستخلف غير القيد الذي ُذكر في حادثة تبوك وهو الهل ،بل ل تذكر قيدا مطلقا .ولذلك ُتحمل على ما وردت فيه رواية تبوك ،وذلك لن رواية تبوك مقّيدة بالهل وباقي الروايات مطَلقة من أي قيد في الستخلف فُيحمل المطَلق على المقّيد. ول يقال إن الروايات الخرى عامة ،فإن ألفاظ الحديث ليس من ألفاظ العموم ،لن نص الروايات كلها سواء رواية )أل ترضى( أو رواية )إنك( أو رواية )أنت( ،وما شابه ذلك" ،هو بمثابة هرون من موسى" ،فهذا الكلم خاص بمنزلة معينة هي منزلة هرون من موسى وليست منزلة عامة .إل ّ أن منزلة هرون من موسى جاءت في بعض الروايات مطَلقة ولم تقّيد بقيد وُقّيدت بقيد الهل في رواية من الروايات فُيحمل المطَلق على المقيد، وتقّيد جميع الروايات بالهل. وأّما باقي المور التي طلبها موسى من ا في قوله: )واجعل لي وزيرا من أهلي ،هرون أخي ،اشُدد به أزري، وأشركه في أمري( ،فإنه ل محل لها في منزلة هرون من موسى -53-
ول في الستخلف ،إذ هي دعاء من موسى إلى ا أن يجعل أخاه ُمعينا له ،وأن يعطيه النبوة معه ،لن أمر موسى الذي طلب من ا أن ُيشرك هارون فيه هو النبوة والرسالة ،وإشراكه إّنما يكون في هذا المر ل في الحكم ،إذ لم يكن موسى حاكما وإّنما كان نبيا .على أن الطلب هو طلب معاونة له وطلب إشراك له في أمره ،ل طلب استخلف له .وفوق ذلك فإن هذه المور ليست مبّينة لمنزلة موسى من هرون بل المبّين لمنزلة موسى من هرون هو استخلفه على قومه أثناء غيابه .فمنزلته منه أن يخلفه في قومه أثناء غيابه .وعليه فل وجود للمعاونة والمشاركة في النبوة في قول الرسول) :بمنزلة هرون من موسى( ،بل المعنى محصور فيها بالستخلف في القوم ول تحتمل النصوص معنى آخر غير هذا. وقد يقال إن موسى كان حاكما لنه ُأنزلت عليه شريعة ليحكم بها ،إذ فيها معاَلجات وعقوبات ،وإنه كان قائدا لجيش يريد أن يحتل بيت المقدس ،وقال له قومه :اذهب أنت وربك فقاتل، فيكون استخلفه لهرون في قومه هو استخلف في النبوة واستخلف في الحكم أيضا. والجواب على ذلك أن موسى لم يكن حاكما ،ولم ُيرو عنه ل في القرآن ول في غيره أنه قام بتنفيذ الحكام على بني اسرائيل بالقوة والسلطان أو أنه كان حاكما عليهم .والذين حكموا بني اسرائيل بشريعة موسى ليس موسى نفسه ول في حياته ،وإّنما هم من جاء بعده من النبياء مثل داود وسليمان وغيرهما من الملوك .وأّما قيادة موسى للجيوش فلم تحصل قط ،واليات التي في سورة المائدة من آية 19إلى آية 26ليس فيها أي شيء يدل على قيادة موسى للجيش وإّنما فيها أن موسى طلب من قومه دخول الرض المقدسة فرفضوا وقالوا له إن فيها قوما جبارين وأنهم لن يدخلوها حتى يخرج هؤلء الجبارون منها وطلبوا أن يذهب هو وربه فيقاِتل ،وهو لم يذهب. وكان من جراء ذلك أن تاهوا في الرض أربعين سنة .وأّما نزول شريعة على موسى فيها معاَلجات وعقوبات ،فإن ذلك ل يعني أنه حكم بها ،بل الواقع أنه جاء بها وبّلغها لبني اسرائيل وحاول أخذهم إلى بيت المقدس فكان أن تاهوا في سيناء ولم يحصل لهم استقرار في أيام موسى حتى انتهى عهده ،وبعد أن انتهت -54-
مهم بشريعة موسى ملوك ك َ ح َ عقوبتهم بالتيه انتقلوا بعد ذلك و َ وأنبياء منهم ،وآيات القرآن تنطق بذلك في أكثر من سورة .على أن اليات التي استخُلف فيها هرون صريحة في أنها استخلف عن موسى في النبوة حين ذهب موسى ليتلقى عن ا ،وهي عْدنا موسى ثلثين ليلة في سورة العراف من آية ) 141ووا َ وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لخيه هرون اخُلفني في قومي وأصلح ول تّتبع سبيل المفسدين( إلى آخر آية ) 155واختار موسى قومه سبعين رجل ً( الية .وكلها تتعلق بالنبوة والستخلف فيها وفي تلقي اللواح واتخاذ بني جل ونحو ذلك ،وليس فيها أدنى صلة في الحكم ع ْ اسرائيل ال ِ والسلطان .ول يحتمل أن يشتبه أحد أنها تتعلق بالحكم والسلطان ،وعليه فل شبهة في أن موسى لم يكن حاكما ولم يستخلف هارون في الحكم مطلقا. منِزلة جميعها ،سواء وردت لسبب هذا هو معنى أحاديث ال َ كحادثة تبوك أو وردت ُمطَلقة ،فإنها تدل على أن الرسول جعل عليا على أهله يخلفه فيهم أثناء غيابه حال حياته مثل ما جعل موسى هرون على قومه يخلفه فيهم أثناء غيابه حال حياته. ي يكون علي من وبهذا العمل ،أي الستخلف من الرسول لعل ّ الرسول بمنزلة هرون من موسى ،فل توجد أي دللة في هذه الحاديث على أن الرسول نص على أن يكون علي خليفة على المسلمين في الحكم بعد وفاة الرسول صلى ا عليه وآله وسلم. خم ،فإنه في الرواية وأّما النص الثاني وهو حديث غدير ُ الصحيحة وهي رواية مسلم ،يوصي المسلمين بالتمسك في كتاب ا وفي أهل بيته لُيكِرموهم ويحترموهم ول يؤذوهم، وليس فيه أي دللة على أن الرسول َيستخلف أهل بيته في الخلفة ،فالحديث يقول) :وأهل بيتي ،أذّكركم ا في أهل بيتي( ،وهذا ليس فيه ما يدل على أنه جعل أهل بيته خلفاء على الناس في الحكم من بعد وفاته .واللفظ صريح ومنطوقه ومفهومه ل ُيفهم منه أبدا أنه استخلف أهل بيته أو أحدا منهم على حكم المسلمين في الخلفة من بعده .وأّما الروايتان الثانية والثالثة وجميع الروايات التي مثلها فإنها ل تخرج عما جاء فيها، عل عليا مولى للمؤمنين فإن في هذه الروايات أمرين :أحدهما ج ْ -55-
بقوله) :إن ا مولي وأنا مولى المؤمنين ،وأنا أْولى بهم من ل من ت موله فهذا موله –يعني عليا -اللهم وا ِ أنفسهم ،من كن ُ واله وعاِد من عاداه( .أّما المر الثاني فهو أنه يوصي في عترته خيرا فيقول) :وعترتي أهل بيتي ،فإنه نّبأني اللطيف الخبير أنهما ي الحوض( ،ول يوجد في هذه الحاديث لن ينقضيا حتى يِردا عل ّ كلها على تعددها وعلى اختلف رواياتها غير هذين المرين .أّما المر الول ،وهو الموالة ،فسنتحدث عنه عند الكلم عن أحاديث الولية بعد هذا النص مباشرة .وأّما المر الثاني فل يخرج عن كونه وصية للمسلمين بعترته أهل بيته خيرا ،لُيكرموهم ويحترموهم ول يؤذوهم ،فإنه سيسألهم عنهم ،وأن أهل بيته وكتاب ا سيظلن مقترنين إلى يوم القيامة .فل يوجد في هذه خم -أكثر من توصية المسلمين خيرا الحاديث –أحاديث غدير ُ بعترته ول يوجد فيها أي شيء يدل على استخلف علي أبو استخلف آل بيته في الخلفة بعد وفاة رسول ا صلى ا عليه وآله وسلم .فأين الستخلف في قول الرسول حسب جميع الروايات السابقة التي روت حديث غير خم )وإني سائلكم حين ي عن الثقلين ،كتاب ا وعترتي أهل بيتي( ،أو قوله: َتِردون عل ّ )وإني قد تركتُ فيكم الثقلين :كتاب ا وعترتي( ،أو قوله) :وإني تارك فيكم الثقلين :كتاب ا وعترتي أهل بيتي( ،أو قوله: )فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين( ،أو قوله) :فل تقدموهما فتهكلوا ول تقصروا عنهما فتهلكوا( .أيوجد في هذه النصوص أكثر من تذكير المسلمين بعترته عليه السلم وتوصيته بهم خيرا؟ وهل يفهم أحد من ذلك أن هذا يعني أنهم خلفاء على المسلمين في الحكم بعد وفاة رسول ا صلى ا عليه وآله وسلم؟ ومن أين يؤخذ هذا؟ أمن منطوق الكلم أم من مفهومه؟ وعليه فليس خم في الروايات السابقة أي دليل على استخلف في حديث ُ علي على الخلفة ول على استخلف آل البيت ،فيسقط الستدلل به. وأّما النص الثالث وهو أحاديث الولية ،فإن هذه الحاديث بهذه اللفاظ لم يخّرجها الشيخان البخاري ومسلم .على أن هذه حت عند من يحتجون بها على استخلف علي ،فإن الحاديث لو ص ّ النصوص التي أوردوها ل يمكن أن ُيستنبط منها الستخلف .لن جميع ألفاظها ل تخرج عن )ولي كل مؤمن بعدي() ،وليكم -56-
ي كل مؤمن بعدي() ،ولي المؤمنين من بعدي(، بعدي() ،أنت ول ّ )فإنه وليكم بعدي() ،فليوال عليا بعدي() ،فليتول عليا وذريته من ل من بعدي() ،فمن توله فقد تولني() ،فإن وليته وليتي() ،وا ِ واله( .فهذه اللفاظ وأمثالها من سائر الروايات ل تخرج عن لفظ الولي ،والمولى ،والموالة ،ولذلك سموها أحاديث الولية. ل من خم )اللهم وا ِ وتفسرها جميعها روايتهم في حديث غدير ُ واله وعاِد من عاداه( ،فالمراد منها نصرتهم ،وأن يكونوا معهم وأن يحملوا لهم الولء والمحبة .وقد وردت كلمة "ولي ووالى وتولى" في القرآن ،قال تعالى) :وهو يتولى الصالحين() ،ومن يتولى ا ورسوله والذين آمنوا فإن حزب ا هم الغالبون(، )إّنما وليكم ا ورسوله والذين آمنوا() ،إّنما سلطانه على الذين يتولونه( ،ا) ولي الذين آمنوا() ،وا ولي المؤمنين() ،ليس لهم من دون ا ولي() ،ومن يتخذ الشيطان وليا( ،ل) تتخذوا اليهود والنصارى أولياء() ،فقد جعلنا لوليه سلطانا() ،إن وليي ا(، )ذلك بأن ا مولى الذين آمنوا وأن الكافرين ل مولى لهم( .وفي اللغة :الولي ضد العدو ،يقال منه :توله .والمولى الناصر، والسيد .والموالة ضد المعاداة .والولي :من يلي أمر الصغير كالب والجد .وولي النكاح وولي المال وولي اليتيم :الذي يلي أمره ويقوم بكفالته .وفي معجم لسان العرب" :الولي من أسماء ا تعالى هو الناصر ،وقيل :المتولي لمور العاَلم والخلئق القائم بها" ،وقال" :والولي الصديق والنصير التابع المحب" .قال أبو العباس في قوله صلى ا عليه وسلم) :من ي موله( أي من أحبني وتولني فليتوله .وكلها في كنت موله فعل ّ شراح هذا الحديث ممن غير معنى الحكم والسلطان .حتى أن ُ يقولون بأنه ينص على خلفة علي لم يستطيعوا أن يأتوا بأي معنى صريح من اللغة بأن كلمة مولى معناها لغة الحكم والسلطان .فمثل ً يقول الشيخ عبدالحسين أحمد الميني النجفي في كتابه "الغدير" في شرح حديث الغدير ما نصه" :إلى هنا لم يبق للباحث ملتحد عن البخوع لمجيء المولى بمعنى الْولى بالشيء وإن تنازلنا إلى أنه أحد معانيه وأنه من المشترك اللفظي" .وقد أورد لكلمة المولى سبعة وعشرين معنى ولم عِلمنا أن شيئا من يذكر منها الحكم والسلطان ،فقال :بعد أن َ معاني المولى المنتهية إلى سبعة وعشرين معنى ل يمكن إرادته -57-
في الحديث إل ّ ما يطابقها من المعاني أل وهي -1 :الرب-2 ، العم -3 ،ابن العم -4 ،البن -5 ،ابن الخت -6 ،المعَتق-7 ، عم عليه-12 ، المعِتق -8 ،العبد -9 ،المالك -10 ،التابع -11 ،المن َ الشريك -13 ،الحليف -14 ،الصاحب -15 ،الجار -16 ،النزيل-17 ، عم -20 ،الفقيد -21 ،الولي-22 ، الصهر -18 ،القريب -19 ،المن َ الْولى بالشيء -23 ،السيد غير المالك والمعتق -24 ،المحب، -25الناصر -26 ،المتصرف في المر -27 ،المتولي في المر". هذه هي المعاني التي أوردها ولم يوِرد أي معنى صريح لكلمة مولى بمعنى الحكم والسلطان .ولذلك فإنه حين شرح هذه صل إلى معنى منها اختاره فقال: المعاني بالنسبة للحديث تو ّ "على أن الذي نرتأيه في خصوص المقام بعد الخوض في غمار اللغة ومجاميع الدب وجوامع العربية أن الحقيقة من معاني المولى ليس إل ّ الْولى بالشيء ،وهو الجامع لهاتيك المعاني جمعاء ومأخوذ في كل منها بنوع من العناية". ومن ذلك يتبين أنه لم يِرد الولي بمعنى الحاكم ،ولم تِرد الموالة بمعنى الحكم ،ل في القرآن ول في الحديث ول في سر إما بمعناها اللغوي أو بمعناها الشرعي، اللغة .واللفاظ تف ّ فمن أين يأتي تفسير هذه الحاديث بأن الولي والموالة معناها سرنا مع الذين ي ولل البيت؟ واننا لو ِ إعطاء الخلفة لعل ّ يستدلون بهذه الحاديث بكل معنى من معاني ولي ومعاني موالة فإنه لم يِرد لها معنى تولي الحكم مطلقا ول في نص من النصوص .نعم حين نقرن كلمة ولي بكلمة أمر فحينئذ يصبح معناها الحاكم فيقال" :ولي المر" .وفي الحاديث التي يسمونها أحاديث الولية لم تِرد كلمة المر مع كلمة ولي ل في روايات من رواياتهم ،ول من روايات غيرهم ،وحينئذ ينتفى من الحاديث معنى تولي الخلفة بعد رسول ا. نعم إن كلمة ولية فقط –ل كلمة مولى ول كلمة ولي ول كلمة موالة -لفظ مشترك له عدة معان ،منها النصرة ومنها السلطان أي الحكم ،وورد في الحاديث التي يروونها حديث ذكره كنز العمال ،جاءت فيه كلمة ولية ،فقد يقال إن هذه تعني الحكم بحسب ما نصت عليه اللغة .والجواب هو أن هذه الكلمة وردت في الحديث بمعنى تولى ،ونص الحديث يدل عليها .فنصه كما يرويه المحتجون به هو )اللهم من آمن بي وصّدقني فليتول -58-
علي بن أبي طالب ،فإنّ وليته وليتي ووليتي ولية ا تعالى(، وهذا النص يعين أن المراد منها النصرة ،إذ الرسول يدعو من آمن به ليتولى علي بن أبي طالب ،لن من يتوله يتولى الرسول ومن يتولى الرسول يتولى ا .هذا هو معنى كلمة ولية ،ولذلك جاء التعبير بالفاء )فإن وليته وليتي( ،ول يمكن أن ُيفهم "فإ ّ ن خذي" ،بل الذي ُيفهم فقط هو أن نصرته خذه السلطان هو أ ْ أ ْ نصرتي. وبذلك يظهر أن جميع الحاديث التي ورد فيها أن عليا ولي المؤمنين بعد الرسول ومولهم ،وأن عليهم موالته ،وأن يتولوه لن وليته ولية للرسول ،جميع هذه الحاديث مهما جرى تفسيرها حسب اللغة وحسب نصوص القرآن ،فإنه ل يمكن أن تعطي تولي الحكم ل بحسب معنى الكلمة ول بحسب وضعها في الجمل التي وردت في الحاديث المذكورة .فل تصلح لن تكون دليل ً على أن الرسول استخلف عليا بالخلفة من بعده، فيسقط حينئذ الحتجاج بها. وهنا ل بد أن ننبه إلى مسألتين :إحداهما أن كون الكلمة مشتقة من مادة معّينة ل يعني أن جميع مشتقات هذه المادة تتحد في المعنى وأن إحداها تعطي معنى الخرى .بل قد تعطي اللغة أكثر من كلمة للمعنى وقد ل تعطي للكلمة إل ّ معنى واحدا ُوضعت له ول يعطي هذا المعنى غيرها ،وذلك كله حسب وضع العرب .فاتحاد الكلمات بالشتقاق ل يعني التحاد في المعنى ،بل تأخذ الكلمة معناها الذي وضعه لها العرب بغض النظر عن مادة الشتقاق .فكلمة "جاء" وكلمة "أجاء" هما من مادة واحدة ،ومع ذلك فجاء معناها أتى ،وأجاء معناها ألجأ، والنضو بكسر النون معناها البعير المهزول ،وبضم النون معناها خِلق .وكلمة مولى ل يعني كون من معانيها المتصرف الثوب ال َ في المر والمتولي للمر وأْولى الناس ،أن يكون ذلك يعني الحكم والسلطان ،لن كلمة ولي المر تعني الحكم والسلطان لنهما من اشتقاق واحد .فالمولى غير ولي المر في المعنى، والمتصرف في المر والمتولي للمر أيضا غير ولي المر في المعنى .فولي المر خاصة بالحاكم ،ومولى لها عدة معان ليس منها الحكم .والمتصرف في المر تعني المتصرف في كل أمر ول تعني الحاكم بخصوصه ،ول ُيفهم منها أنها تعني الحكم ،لن -59-
اللغة لم تضع ذلك لها .والمسألة مسألة توقيفية على ما وضع العرب للكلمة من معنى ل حسب ما َيفهم الشخص من مجموع الكلمات أو من مختلف المدلولت. وعليه فإن كلمة مولى ما دام لم يضع لها العرب معنى سر بها مطلقا .هذه واحدة .أّما الحكم والسلطان صراحة فل ُتف ّ المسألة الثانية ،فهي أن القرائن في الجملة مهما كانت ل تعطي الكلمة معنى غير معناها الذي وضعها له العرب في صريح أقوالهم .فالقرائن تعّين معنى من المعاني المشتركة أو المتضادة للكلمة وتصرفه عن غيره ،ول تجعل هذه القرائن للكلمة معنى جديدا لم يضعه لها العرب .فكلمة مولى لفظ مشترك ،والجمل التي وردت فيها تعين لها معنى من هذه المعاني ولكنها ل تعطيها معنى جديدا .فكون كلمة مولى جاءت في الحديث الذي يقال له حديث الثقلين أو حديث الغدير جاءت ي بناء قرائن من الجمل تدل على الحث على اعتبار المسلمين لعل ّ على اعتبارهم للرسول ل يعطيها معنى جديدا وهو أن يكون علي حاكما بعد الرسول ،ما دامت اللغة لم تضع لها هذا المعنى. ومن هنا يظهر أن حديث الغدير وغيره مما جاءت فيه كلمة مولى وولي من الحاديث ل ُيستنبط منها أن عليا خليفة لعدم وضع العرب هذا المعنى لهذه الكلمات صراحة. وأّما النص الرابع وهو أحاديث المؤاخاة ،فإن مجرد قراءتها ُيسقط الحتجاج بها من رؤية جملها وألفاظها .فإن النصوص التي وردت فيه هي )أنت أخي وارثي() ،أخي وابن عمي() ،أخي وأبو جز وعدي ي() ,أخي ووزيري تقضي دْيني وتن ِ ولدي() ،ومّني وإل ّ وتبرئ ذّمتي() ،علي أخو رسول ا( ،وكلها ألفاظ وجمل ل يمكن لحد أن يستنبط منها الستخلف ل من قريب ول من بعيد .لنها ل تزيد عن أمور خاصة بين اثنين أحدهما يعّبر عن شدة قرب الخر منه بأنه أخوه .فالرسول يعّبر عن شدة قرب علي منه بأنه أخوه وبأنه منه وبأنه ُمعينه ويقضي ديونه .وليس في هذا أي أمر عام ول علقة له بالحكم والخلفة .ولو فرضنا أن عليا أخو الرسول الشقيق أو أنه ابنه ،فإنه ل يدل على أن ذلك معناه أن يكون ي أنت أخي أو ابني أو وزيري أو غير ذلك خليفة بعده ،فقوله لعل ّ ل علقة لها بالحكم ول دللة فيها على الستخلف في الخلفة، ل من قريب ول من بعيد ،ل لغة ول شرعا ،ول بأي وجه من -60-
عِهد إلى الوجوه .فل تصلح هذه الحاديث حجة على أن الرسول َ علي بالخلفة من بعده ،فيسقط الحتجاج بها. أّما القسم الثالث الذي ورد فيه نص صريح أن الرسول استخلف عليا ليكون خليفة من بعده ،فهو حديثان :أحدهما رواية من روايات حديث الغدير في رواية من روايات صاحب كتاب "الغدير" ،والثاني الحديث الذي يسمونه حديث الدار .أّما رواية صاحب كتاب "الغدير" فإنه ذكر رواية له في أول كتابه لم يذكر فيها كلمة "وصيي وخليفتي" وذكر رواية أخرى نسبها للطبري ورد فيها لفظ "وصيي وخليفتي" صريحا ،فقد قال –أي الشيخ عبدالحسين أحمد الميني النجفي صاحب كتاب "الغدير" في كتابه تحت عنوان :الغدير في كتاب العزيز ،ما نصه "الحافظ أبو جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفى سنة 310هـ أخرج بإسناده في ما كتاب الولية في طرق حديث الغدير ،عن زيد بن أرقم قال :ل ّ خم في رجوعه من حجة نزل النبي صلى ا عليه وسلم بغدير ُ مت الوداع ،وكان في وقت الضحى وحّر شديد أمر بالدوحات فُق ّ ونادى :الصلة جامعة ،فاجتمعنا فخطب خطبة بالغة ثم قال :إن ي )بّلغ ما ُأنِزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما ا تعالى أنَزل إل ّ بّلغتَ رسالته وا يعصمك من الناس( ،وقد أمرني جبريل عن ربي أن أقوم في هذا المشهد وُأعِلم كل أبيض وأسود أن علي بن أبي طالب أخي ووصيي وخليفتي والمام بعدي( .هذه إحدى خم .وهذه الرواية ُتَرد دراية ،ونصها يجعل ما روايات حديث غدير ُ قيل فيها من الوصاية والستخلف والمامة بعد الرسول باطل ً ل أصل له وذلك لعدة وجوه: أحدها -أن هذه الية لم تنزل في حجة الوداع وإّنما نزلت بعد سورة الفتح عام الحديبية ،فإن هذه الية من سورة المائدة، وسورة المائدة نزلت بعد سورة الفتح ،وسورة الفتح نزلت أثناء رجوعه صلى ا عليه وآله وسلم من صلح الحديبية .ونظرة واحدة إلى المصحف ُتري ببساطة ووضوح وقت نزول آية )يا أيها الرسول بّلغ ما ُأنِزل إليك( وُتري أنها نزلت بعد الفتح .فتكون الية خم نزلت قبل حجة الوداع بأربع سنين ول علقة لها بحديث غدير ُ خم تقول إنه على جميع الروايات ،لن جميع روايات حديث غدير ُ ف لرد الحديث والقطع حصل في حجة الوداع .وهذا وحده كا ٍ ببطلن ما ُزعم فيه من الوصية والستخلف. -61-
ثانيها -أن معنى الية صريح في منطوقها ومفهومها في أن الرسول ُأمر بتبليغ ما ُأنِزل إليه من ربه ،وما ُأنِزل إليه من ربه هو الرسالة السلمية .ويعّين ذلك ويجعله وحده المعنى المقصود دون غيره قوله في نفس الية) :وإن لم تفعل فما بّلغ َ ت ت رسالته، رسالته( ،أي وإن لم تبّلغ ما أنِزل إليك فإنك ل تكون بّلغ َ وهذا نص بأن المراد بقوله) :ما أنِزل إليك( رسالة ا وليس شيئا آخر .وفوق ذلك فإن كلمة )بّلغ( حيثما وردت في القرآن فالمراد منها تبليغ رسالة ا ،ولم تِرد في غير هذا المعنى في القرآن مطلقا ،قال تعالى) :يبّلغون رسالت ا() ،أبّلغكم رسالت ربي(، ت به() ،أبَلغوا رسالت ربهم() ،أبّلغكم رسالة سل ُ )وأبّلغكم ما أر ِ ت به( .وأيضا فإن سل ُ ربي() ،أبلغُتكم رسالت ربي() ،أبلغُتكم ما أر ِ كلمة )ما أنِزل إليك( حيثما وردت في القرآن فالمراد منها الشريعة ولم ترد في غير هذا المعنى في القرآن مطلقا ،قال تعالى: )والذين يؤمنون بما أنِزل إليكم وما أنِزل من قبلك() ،نؤمن بما أنِزل علينا() ،آمنا بالله وما أنِزل إلينا وما أنِزل إلى إبراهيم() ،آمن الرسول بما أنِزل إليه من ربه() ،قل آمنا بالله وما أنِزل علينا وما من يؤمن بالله وما ن ِمن أهل الكتاب َل َ أنِزل على إبراهيم() ،وإ ّ أنِزل إليكم وما أنِزل إليهم() ،هل تنقمون مّنا إل ّ أن آمنا بالله وما أنِزل إلينا وما أنِزل من قبل() ،ولو أنهم أقاموا التوراة والنجيل وما أنِزل إليهم من ربهم() ،حتى تقيموا التوراة والنجيل وما أنِزل ن كثيرا منهم ما أنِزل إليك من ربك طغيانا إليكم من ربكم وليزيد ّ وكفرا() ،وإذا سمعوا ما أنِزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع( ،وهكذا جميع اليات في القرآن .وآية )بّلغ ما أنِزل إليك( قد ذكرت في الية التي قبلها كلمة ما أنزل وفيها وفي الية التي بعدها بمعنى واحد وهو الشريعة ،حتى أن اللفظ في الية التي بعدها هو نفس اللفظ الذي فيها )ما أنِزل إليك من ربك( ،وهذا كله يعين أن معنى )ما أنِزل إليك( في قوله) :بّلغ ما أنِزل إليك( هو الشريعة السلمية .وهو واضح لكل من يتتبع كل كلمة من هاتين الكلمتين )بّلغ( و)ما أنِزل إليك( في جميع آيات القرآن. ض مبني ثالثها -أن )ُأنِزل( في قوله) :ما أنِزل إليك( فعل ما ٍ للمجهول ،وهو يعني أن ما يريد منه أن يبلغه سبق أن أنزل إليه من ا ،أي سبق أن جاء به الوحي وأنِزل على الرسول ،فالله يأمر الرسول أن يبّلغ الناس ما سبق وأنزل إليه .فيكون المعنى -62-
تبليغ شيء نزل قبل نزول الية ،ل تبليغ أمر معين حاصل بنزول سره الرسول بأنه الية ونزلت الية في شأنه وُأمر بتبليغه وف ّ الوصية والستخلف .لذلك ل يتأتى جعل الحديث شرحا لسبب نزول الية ،لن الحديث الذي يكون سبب نزول الية ،تكون الية نزلت في الحادثة التي يذكرها الحديث ،فتكون نزلت في شيء وقت حصوله ،وهذه الية صريحة بأنها تبليغ شيء حصل قبل أن تنزل الية .ومن هنا ل يصح الحديث سببا للنزول. رابعها -أن كلمة )ما( في قوله) :ما أنِزل إليك( اسم كرة مقصودة ،وهي تصلح لن يكون ما أنزل إليه موصول أو ن ِ أمرا واحدا وحكما واحدا ،وتصلح أن يكون ما أنزل إليه أمورا متعددة وأحكاما كثيرة ،أي يصلح لن يكون معناها بّلغ الحكم الذي أنزل إليك ،ويصلح أن يكون معناها بّلغ جميع ما أنزلناه إليك من المور والحكام .والذي يعّين أحد المعنيين هو القرينة .ومن مجرد قراءة الية فضل ً عن التدقيق فيها يتبين أن قوله) :فما بّلغتَ رسالته( يعين في قوله) :رسالته( أن معنى )ما( هو جميع ما أنزل إليك وهو رسالة ا ،وينفي أن يكون معنى )ما( الحكم الذي أنزل إليك نفيا قاطعا ،فوق كون كلمة )رسالته( قد بينت معنى ما أنزل إليكم بأنه رسالة ا. خامسها -أن قوله تعالى في ختام الية) :وا يعصمك من الناس إن ا ل يهدي القوم الكافرين( ،تطمين من ا للرسول وأمان له من الذى الذي يصيبه من جراء تبليغ رسالته ،وهذا التطمين ل يكون من أذى يصيبه من تبليغ حكم معين وإّنما هو تطمين من أذى يصيبه من تبليغ الرسالة كلها للكفار ول سيما إذا كان تبليغها يصحبه القتال .فمعنى ختام الية :وا يعصمك في تبليغ هذه الرسالة بواسطة الجهاد من أذى الناس .لنه حين نزلت هذه الية كانت طريقة تبليغ الرسالة هي الجهاد أي القتال ساد علي في جعل ح ّ بالسيف .ول يمكن أن يراد يعصمك من ُ الخلفة له أي يعصمه على حد قولهم من أبي بكر وعمر وعثمان وأمثالهم .لن العصمة في الية من الناس ل من المؤمنين، ويعين أن المراد بالناس هم الكفار قوله في ختام الية) :إن ا ل يهدي القوم الكافرين( .وعليه يكون وعد ا للرسول في حمايته وحفظه من أذى الكفار في تبليغ ما أنزل إليه يعين أن المراد من التبليغ في الية تبليغ رسالة السلم. -63-
قد يقال إن الرسول سبق وبّلغ الرسالة قبل نزول هذه الية ،فل معنى لقوله) :بّلغ ما أنِزل إليك( وهو قائم في التبليغ. والجواب على ذلك هو أن هذا المر بالتبليغ ل يخرج عن أحد أمرين :إما أن يكون الرسول كتم الرسالة ولم يبّلغها ،وإما أن يكون هنالك أناس لم يبّلغهم الرسالة بعد ويعتبر عدم تبلغهم عدم تبليغ للرسالة للعالم .ول يمكن أن يكون هذا المر يعني كتمانا لحكم معين ُأنزل إليه ولم يبلغه ،ول تبليغا لحكم معين ل تتم الرسالة إل ّ به .وذلك لن كتمان حكم واحد يطعن في نبوة الرسول ورسالته ككتمان رسالته كلها ،فيستحيل أن يكون كتمانا ت رسالته( فهي تنفي لحكم معين .ولن الية تقول) :فما بّلغ َ التبليغ .وهذا يعني أنه لم يبلغ الرسالة ،ل أنه لم يبلغ حكما معينا، ل سيما أن تبليغ حكم واحد يعتبر تبليغا للرسالة .والرسول من جما ،وكان يعتبر تبليغه أول يوم كان يبّلغ الحكام حسب نزولها من ّ كل حكم تبليغا .ولهذا ل يمكن أن يكون المعنى لم تبلغ حكما معينا ،بل الذي تعطيه الجملة أنه لم يبلغ الرسالة .وبما أنه يستحيل عليه عدم التبليغ وثبت أنه قبل نزول هذه الية كان يبّلغ، فيكون معنى نزول الية أن هنالك أناسا لم يبلغهم الرسالة بعد، ويعتبر عدم تبليغهم عدم تبليغ للرسالة للعالم ،والتبليغ للرسالة ل يعتبر تبليغا لها إل ّ إذا كان تبليغا للعالم .لذلك أمره ا بتبليغ الرسالة للناس الذين لم يبلغهم ،أي بتبليغها للعالم حتى يعتبر تبليغا ،وأن يكون هذا التبليغ بطريقة الجهاد .ويؤيد هذا أن الية نزلت على الرسول بعد صلح الحديبية ،وقد كان العدو الرئيسي الذي يحاربه الرسول لنشر الدعوة حتى ذلك التاريخ هم قريش، فبصلحهم ربما ُيفهم وقوف التبليغ في الجهاد ،فأمره ا بالستمرار في التبليغ بطريقة الجهاد لباقي الناس الذين لم يبلغهم من العرب والروم والفرس والقبط وغيرهم حتى يكون تبليغه تبليغا للرسالة للعالم حتى يعتبر تبليغا لهذه الرسالة العالمية .وهذا ما حصل بالفعل ،فبعد نزول هذه الية قاَتل الرسول اليهود في خيبر ،وجّهزة معركة مؤتة ،وذهب في جيش ضخم إلى تبوك ليحارب الروم وأقام فيها ،وفتح مكة ،وكاتب ملوك فارس والقبط والروم وسائر الملوك مما يتضح منه معنى ت رسالته(، نزول قوله) :بّلغ ما أنِزل إليك( ،وقوله) :فما بّلغ َ وقوله) :وا يعصمك من الناس( ،وقوله) :إن ا ل يهدي القوم -64-
الكافرين(. هذا بالنسبة للحديث من حيث كونه جاء مبينا لية )بلغ ما أنِزل إليك من ربك( .غير أنه إذا نظرنا لحديث الغدير من حيث هو في الروايات التي تنص على أن الرسول أخذ بيد علي ،فإنه مردود لمناقضته لواقع الحادثة .وذلك لن عليا رضي ا عنه لم يكن يوم الغدير مع النبي ،فإنه كان باليمن ،وهذا وحده كاف لرّد الحديث .وأّما ما يقال بأن غيبة علي في اليمن ل ينافي صحة الحديث بحجة أن الرسول قد أوصى لعلي وهو غائب وذلك جائز. فهذا القول مردود من نص الحديث في بعض رواياته إذ جاء فيها )وأخذ بيد علي أو استحضره( وهي تدل على أنه كان حاضرا، وهو يناقض الواقع الثابت أنه كان في اليمن في الوقت الذي خم .ولهذا فالحديث مردود من هذه تذكره روايات حديث غدير ُ الناحية أيضا. وأّما حديث الدار ،كما يرويه كنز العمال وشرح نهج البلغة، ما نزلت )وأنِذر عشيرتك القربين( دعا فإنه يتلخص فيما يلي :ل ّ الرسول عليا وكّلفه بتحضير الطعام ودعوة آل عبدالمطلب ،فقام علي بتنفيذ الوامر .وبعد أن شبع القوم وارتووا ،وقف الرسول بينهم خاطبا :يا بني عبدالمطلب إني وا ما أعلم أن شابا في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به ،عن جئتكم بخير الدنيا والخرة ،وقد أمرني ا أن أدعوكم إليه ،فأيكم يؤازرني على هذا المر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟ أحجم القوم عن الدعوة إل ّ عليا وهو أحدثهم سنا ،فقد أجاب قائل ً :أنا يا رسول ا أكون وزيرك عليه .أّما النبي فقد أعاد القول ول جمين ،ول يزال علي معلنا القبول ،وعندئد أخذ يزال القوم ُمح ِ النبي برقبة علي وقال للحاضرين :هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم ،فاسمعوا له وأطيعوا .والقوم يضحكون من النبي ودعوته، وقد قالوا لبي طالب وهم يخرجون من دار النبي :قد أمرك أن تسمع لبنك وتطيع" .هذه خلصة حديث الدار كما يرويها المحتجون بها. وقد روى البخاري حادثة يوم نزلت )وأنذر عشيرتك القربين( بأن الرسول صعد على الصفا ولم ُيرَو إعداد الطعام. وروى أحمد بن حنبل في مسنده حديثين ،حديثا عن صنع الطعام ولم يذكر فيه أنه كان يوم نزلت )وأنذر عشيرتك القربين( ،وحديثا -65-
ذكر فيه أنه صنع الطعام يوم نزلت الية .ونعرض هذه النصوص أول ً ثم نبين ما فيها: ما روى البخاري عن ابن عباس رضي ا عنهما قال :ول ّ نزلت )وأنِذر عشيرتك القربين( صعد النبي صلى ا عليه وسلم عِدي ،لبطون قريش، على الصفا فجعل ينادي :يا بني فهر ،يا بني َ حتى اجتمعوا ،فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج ،أرسل رسول ً لينظر ما هو ،فجاء أبو لهب وقريش فقال :أريتكم لو أخبرتكم أن خبرا بالوادي تريد أن ُتغير عليكم أكنتم ُمصدِّقي؟ قالوا :نعم ،ما جّربنا عليك إل ّ صدقا .قال :فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد .فقال أبو لهب :تبا لك سائر هذا اليوم ،ألهذا ب ،ما أغنى عنه ماله وما معَتنا؟ فنزلت )تّبت يدا أبي لهب وت ّ ج َ َ كسب( .وهذا يدل على أن حادثة صنع الطعام لم تكن يوم نزلت )وأنذر عشيرتك القربين( لنها ل تلتئم مع ما ورد في نص الحديث. روى أحمد بن حنبل في مسنده قال :حدثنا عفان ،حدثنا أبو عوانة عن عثمان بن المغيرة عن أبي صادق عن ربيعة بن ناجذ عن علي قال :جمع رسول ا صلى ا عليه وسلم أو دعا رسول ا صلى ا عليه وسلم بني عبدالمطلب فيهم رهط كلهم يأكل الجذعة ويشرب العرق ،قال :فصنع لهم مدا من طعام مس ،ثم فأكلوا حتى شبعوا ،قال :وبقي الطعام كما هو كأنه لم ُي َ غمٍر فشربوا حتى رووا وبقي الشراب كأنه لم ُيمس أو لم دعا ب ُ ت لكم خاصة وإلى ُيشرب .فقال :يا بني عبدالمطلب ،إني ُبعث ُ الناس بعامة ،وقد رأيتم من هذه الية ما رأيتم فأيكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي؟ قال :فلم يقم إليه أحد .قال: ت إليه وكنت أصغر القوم .قال :فقال :اجلس .قال :ثلث فقم ُ مرات ،كل ذلك أقوم إليه فيقول لي اجلس ،حتى كان في الثالثة ضرب بيده على يدي( انتهى النص .ومنه يتبين أنه ل ِذكر لحادثة نزول )وأنذر عشيرتك القربين( وأن الرسول عرض عليهم السلم ومن ُيسِلم يكن أخا الرسول وصاحبه ولم يقل لعلي شيئا. وأّما الرواية الثانية فقد روى أحمد بن حنبا في مسنده قال: )حّدثنا أسود بن عامر حّدثنا شريك عن العمش عن المنهال عن ما نزلت هذه الية )وأنِذر عباد بن عبدا السدي عن علي قال :ل ّ -66-
عشيرتك القربين( قال :جمع النبي صلى ا عليه وسلم أهل بيته ،فاجتمع ثلثون ،فأكلوا وشربوا ،قال :فقال لهم :من يضمن عني دْيني ومواعيدي ويكون معي في الجنة ويكون خليلي في مه شريك :يا رسول ا أنت كنت بحرا، أهلي؟ فقال رجل لم ُيس ّ من يقوم بهذا .قال :ثم قال الخر :قال :فعرض ذلك على أهل بيته .فقال علي أنا( انتهى النص .ومنه يتبين أن الرسول طلب من أهله شخصا يضمن دْينه ومواعيده وجزاء ذلك يكون معه في الجنة ويكون خليله في أهله ،فقال علي :أنا. ول يوجد في هذين النصين كلمة وصيي ،ول كلمة خليفتي. وهذه النصوص هي التي وردت في الكتب الصحاح ووردت هي نفسها بروايات متعددة بألفاظ متقاربة ومعان واحدة ،ولم يِرد فيها جميعها كلمة وصيي ول كلمة خليفتي ،ولم يرو أحد من أصحاب الصحاح جميعهم ،ول من طريق ثقة من الثقات حديثا فيه كلمة وصيي أو كلمة خليفتي ،ل بالنسبة لعلي ول بالنسبة لغيره ،فتسقط الحجة لعدم وجود دليل عليها في الصحاح. أّما النص الذي رواه من يحتجون باستخلف علي وأطلقوا عليه اسم حديث الدار ،فإن هذا النص بهذه الرواية مردود دراية. والحديث ُيرد دراية من حيث المعنى ،ورواية من حيث السند .فإذا ُرّد رواية أو ُرّد دراية ،سقط اعتباره ،وسقط الحتجاج به .أّما رّده دراية فلعدة أمور منها: أول ً -في هذا الحديث ُيرى أن الرسول يطلب مؤازرة آل عبدالمطلب له في دعوته ويشترط أن يكون لهم المر من بعده. وهذا باطل من وجهين :أحدهما أن يناقض قول الرسول وفعله في حادثة حين رفض طلب قبيلة أن يكون لها المر من بعده إذا مت ،وقال) :المر بيد ا يضعه حيث يشاء( .فقد روى ابن أسَل َ هشام في كتابه "سيرة النبي صلى ا عليه وآله وسلم" قال: قال ابن اسحق وحّدثني الزهري أنه أتى عامر بن صعصعة، فدعاهم إلى ا عز وجل وعرض عليهم نفسه ،فقال له رجل ت هذا الفتى من منهم يقال له بيجرة بن فراس :وا لو أني أخذ ُ ت إن نحن تابعناك على ت به العرب .ثم قال له :أرأي َ قريش لكل ُ أمرك ثم أظهرك ا على من خالفك ،أيكون لنا المر ِمن بعدك؟ قال :المر لله يضعه حيث يشاء .قال :فقال له :أفنهدف نحورنا للعرب دونك ،فإذا أظهرك ا كان المر لغيرنا؟ ل حاجة لنا -67-
بأمرك .فأبوا عليه( ،فكيف يقول الرسول )المر لله يضعه حيث يشاء( أي أمر الخلفة والحكم من بعده ،ويقول لبني عبدالمطلب) :فأيكم يؤازرني على هذا المر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم"؟ أليس ذلك تناقضا واضحا؟ فل بد أن يكون أحد القولين مردودا حتما .وبما أن حديث الدار يقال إنه كان حين نزلت )وأنذر عشيرتك القربين( أي في السّنة الثالثة للبعثة ،وحديث )المر لله يضعه حيث يشاء( قد حصل حين عرض الرسول نفسه على القبائل أي في السّنة العاشرة للبعثة ،أي بعد حديث الدار ،فيكون حديث الدار هو المردود .أّما الوجه الثاني فهو أن الرسول في هذا الحديث يجعل للكفار شيئا حتى يسلموا، بل يجعل لهم أعظم المور وهو الخلفة من بعده على المسلمين جميعا ثمنا لدخولهم في السلم ،وهذا يناقض عمل الرسول في دعوته ويناقض أحكام الشرع .فالرسول كان يدعو الناس للسلم لنه الدين الحق ،ولم ُيرو عنه ول حديث ضعيف، ل أو كُثر لكافر مقابل أن يدخل في السلم .وأّما أنه جعل شيئا ق ّ طون من الزكاة لتتقوى بهم المؤّلفة قلوبهم فهم مسلمون ُيع َ طون ليدخلوا في السلم ،ول يجوز أن الدولة ،وليسوا كفارا ُيع َ يعطى الكفار شيئا مقابل أن يدخلوا في السلم. ثانيا -أن الحديث يذكر أن الرسول قد أولم الوليمة وأعدّ معهم على ج َ الطعام للكفار من أجل أن يدعوهم للسلم ،و َ الطعام ليدخلوا في السلم ،ولم يصنع الطعام لعلي المسلم، فإذا رفض هؤلء السلم ورفضوا أن يكون لهم المر من بعده مقابل أن يسلموا ،فل شأن لعلي في ذلك حتى يتصدى للجابة جه له ،فل لنه ليس مدعوا للسلم ،إذ هو مسلم ،ول الخطاب مو ّ شأن له في هذا الجتماع حتى يقول له) :هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا( ،إذ هو ليس محل خطاب ول محل مفاوضة. ثالثا -أن الحديث يذكر أن القوم رفضوا السلم ،وبالرغم من تكرار عرضه عليهم أصروا على الكفر وعلى رفض أن يكون لهم المر من بعده مقابل دخولهم في السلم ،وظلوا كفارا، فكيف يقول لهم الرسول مخاطبا إياهم) :هذا خليفتي فيكم( ويأمرهم بالسمع والطاعة له ،وهو يعلم أنهم كفار قد رفضوا السلم؟ وكيف يكون خليفة فيهم وهم كفار؟ -68-
رابعا -أن الرواية التي يروونها تقول) :هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا( ،فهو خطاب لل عبدالمطلب ،إذ صّدر الكلم بقوله) :يا بني عبدالمطلب( ،فهو خاص بهم ،إذ قد جعله خليفة فيهم ،أي في آل عبدالمطلب ل خليفة للمسلمين ،إذ قال) :وخليفتي فيكم( ،فل يكون حينئذ خليفة للمسلمين كما هو صريح النص .ول يقال هنا :العبرة بعموم اللفظ ل بخصوص السبب .لن هذه واقعة عين ،وليست سببا. فضل ً عن أن اللفظ أيضا خاص وليس بعام )يا بني عبدالمطلب(، )وخليفتي فيكم( ،فتلزمه الخصوصية من حيث كون الحادثة واقعة عين ل سببا ،ومن حيث عدم عمومية اللفظ. فهذه المور الربعة يكفي واحد منها أن ُيبِرز كذب هذا الحديث وتناقضه ،وأنه واجب الرد دراية .وبهذا يتبين أن الرسول صلى ا عليه وآله وسلم لم ينص على جعل علي خليفة بعده. ومن ذلك كله يتبين أن الحاديث التي رواها من يحتجون بأن الرسول صلى ا عليه وسلم قد عّين شخصا للخلفة بعده أحاديث مردودة ل تصلح للحتجاج فَتسقط .فلم يبق أي دليل على أن الرسول عّين أحدا ليتولى الخلفة بعده ،بل قام الدليل على عكس ذلك ،أي على أن الرسول ترك المر للمسلمين من حيث الشخاص يختارون من يريدون ولكنه عّين لهم طريقة نصب الخليفة. وأّما خطأ القول بأن الرسول عين الشخاص الذين يكونون خلفاء بعده ،فإنه ظاهر من عدم دللة الحاديث التي قالوا إنه عّين عليا فيها .ومن يقولون إن الخلفة لهم إّنما يقولون ذلك لهم لنهم أبناء علي ،فإذا سقطت حجتهم بالنسبة لعلي سقطت بالنسبة لولده تبعا لسقوط الحجة بالنسبة له .وفوق ذلك فإن الحاديث التي يروونها باعتبارها دليل ً على خلفة أبناء علي بالنص من ا ورسوله ،هي الحاديث المتعلقة بآل البيت ،وكلها تتضمن المدح وليس أكثر من ذلك ،ويعتبر حديث الثقلين أي خم نموذجا لها ،وقد تبين بوضوح سقوط الحتجاج حديث غدير ُ به ،وتتبعه باقي الحاديث.
المسؤوليات العامة -69-
حدد الشارع المسؤوليات العامة الواجبة على الحاكم تحديدا واضحا ل يدع أي مجال للبس أو إبهام .فقد بّين مسؤولية الحاكم بالنسبة لما يجب أن يكون عليه في خاصية نفسه بوصفه حاكما ،وبّين مسؤوليته بالنسبة لعلقته بالرعية. أّما مسؤولية الحاكم بالنسبة لما يجب أن يكون عليه بوصفه حاكما ،فظاهرة في الحاديث التي بّين الرسول صلى ا عليه وآله وسلم فيها بعض صفات الحاكم ،ومن أبرزها القوة والتقوى والرفق بالرعية وأن ل يكون منفرا .فالرسول يرى أنه يجب أن يكون الحاكم قويا وأن الضعيف ل يصلح أن يكون حاكما .روى مسلم عن أبي ذر أن رسول ا صلى ا عليه وسلم قال) :يا أبا ن على ب لك ما أحب لنفسي ،ل َتَأّمَر ّ َذر أراك ضعيفا وإني أح ّ ن مال يتيم( ،وعن أبي ذر قال) :قلت :يا رسول ا اثنين ول َتَوّلَي ّ أل تستعملني؟ قال :فضرب بيده على منكبي ثم قال :يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إل ّ من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها( .والمراد بالقوة هنا قوة الشخصية أي قوة العقلية وقوة النفسية ،فل بد أن تكون عقليته عقلية حكم يدِرك بها المور والعلقات ،وأن تكون نفسيته نفسية حاكم يدِرك بها أنه أمير ويصّرف ميوله تصريف أمير. ما كانت قوة الشخصية فيها قابلية للسيطرة والتحكم، ول ّ كان ل بد أن تكون للحاكم صفة تقيه شر التحكم ،فكان ل بد أن يكون متصفا بالتقوى في خاصة نفسه وفي رعايته للّمة .عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال) :كان رسول ا صلى ا عليه وسلم إذا أّمر أميرا على جيش أو سرّية أوصاه في خاصته بتقوى ا ومن معه من المسلمين خيرا( .والحاكم إذا اتقى ا وخافه وراقبه بالسر والعلن كان ذلك زاجرا له عن الستبداد بالرعية. ولكن التقوى ل تمنعه من الغلظة والشدة لنه في مراقبته لله ما كان حاكما كان من طبيعة عمله أن يلتزم أوامره ونواهيه .ول ّ يكون شديدا قاسيا .ومن أجل ذلك أمره الشارع أن يكون رفيقا ت رسول ا شق على الرعية .فعن عائشة قالت :سمع ُ وأن ل َي ُ ي من أمر صلى ا عليه وسلم يقول في بيتي هذا) :اللهم َمن َوِل َ ق عليه ،ومن ولي من أمر أّمتي شيئا ش ّ ق عليهم ،ف ُ ش ّ أّمتي شيئا ف َ فَرَفق بهم فارُفق به( .وأَمره كذلك أن يكون مبشرا وأن ل يكون سروا ول شروا ول تنّفروا ،وي ّ منفرا .فعن أبي موسى قال) :ب ّ -70-
سروا(. تع ّ هذا بالنسبة لما يجب أن يكون عليه الحاكم في خاصته .أّما بالنسبة لعلقته بالرعية ،فقد أمره الشارع بإحاطة الرعية بالنصيحة ،وحذره من مس الموال العامة بشيء ،وألزمه بأن يحكمهم بالسلم وحده دون أن يكون معه أي شيء .فقد حرم ا الجنة على الحاكم الذي ل يحيط رعيته بنصح أو يغشها بشيء .عن معقل بن يسار قال :سمعت النبي صلى ا عليه حطها بنصيحة إل ّ وسلم يقول) :ما من عبد استرعاه ا رعية لم ُي ِ لم يجد رائحة الجنة( ،وعن معقل بن يسار أيضا قال :سمعت ل يلي رعية من رسول ا صلى ا عليه وسلم يقول) :ما من وا ٍ المسلمين فيموت وهو غاش لهم إل ّ حرم ا عليه الجنة( ،وروى مسلم عن معقل قال :سمعت رسول ا صلى ا عليه وسلم يقول) :ما من أمير يلي أمر المسلمين ثم ل َيجَهد لهم وينصح إل ّ لم يدخل الجنة معهم( ،وعن أبي سعيد قال :قال رسول ا صلى ا عليه وسلم) :لكل غادر لواء يوم القيامة ُيرفع بقدر غدره ،أل ول غادر أعظم غدرا من أمير عامة( .فبْذل الجهد في سبيل الرعية وإحاطتها بالنصيحة قد شدد عليه الرسول تشديدا ظم المسؤولية فيه .أّما عدم مس الموال ع َ واضحا مما يبين ِ العامة فقد حّذر منه وشّدد في هذا التحذير ،وحين رآه من وا ٍ ل من ولته عّنفه وخطب الناس في شأنه .عن أبي حميد الساعدي أن النبي صلى ا عليه وسلم استعمل ابن التبية على صدقات سَبه، ما جاء إلى رسول ا صلى ا عليه وسلم حا َ بني سليم ،فل ّ ُ قال :هذا الذي لكم وهذه هدية أهِديت لي .فقال رسول ا ت في بيت أبيك وبيت أمك حتى صلى ا عليه وسلم :فَهل جلس َ تأتيك هديتك إن كنت صادقا؟ ثم قام رسول ا صلى ا عليه مد ا وأثنى عليه ثم قال) :أّما بعد ح َ وسلم فخطب الناس و َ لني ا فيأتي أحدكم فإني أستعمل رجال ً منكم على أمور مما و ّ فيقول هذا لكم وهذه هدية ُأهديت لي ،فَهل جلس في بيت أبيه وبيت أمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقا؟ فوا ل يأخذ أحدكم شيئا بغير حقه إل ّ جاء يحمله يوم القيامة( ،وهذا كناية عن محاسبة ا له ومعاقبته على عمله ،وهو تحذير شديد من أن يمس الحاكم الموال العامة ول بأي وجه من الوجوه ول تحت التأويل والفتوى. -71-
وأّما بالنسبة للحكام التي يجب أن َيحكم بها الحاكم ،فقد حددها الشارع له فألزمه أن يحكم بكتاب ا وسّنة رسوله، وجعل له حق الجتهاد فيهما ،ونهاه عن أن يتطلع لغير السلم، أو أن يأخذ من غير السلم شيئا مطلقا .أّما تحديد الحكم بالكتاب والسّنة فواضح من آيات القرآن ،قال تعالى) :وَمن لم يحكم بما أنزل ا فأولئك هم الكافرون( ،وقال تعالى) :وَمن لم يحكم بما أنزل ا فأولئك هم الفاسقون( ،وقال) :وَمن لم يحكم بما أنزل ا فأولئك هم الظالمون( .وهذا يعني حصر الحكم بما أنزله ا .والذي أنزله ا على رسوله سيدنا محمد صلى ا عليه وآله وسلم هو القرآن لفظا ومعنى ،والسّنة معنى ل لفظا .فيكون الحاكم مقيدا في حكمه بحدود الكتاب والسّنة .وقد أجاز له الشارع الجتهاد في الكتاب والسّنة ،أي بذل الُوسع في فهمهما واستنباط الحكام منهما .فقد ُروي )أن الرسول صلى ا عليه وسلم أرسل معاذا إلى اليمن فقال له :بم تحكم؟ قال :بكتاب ا .قال :فإن لم تجد؟ قال :بسّنة رسول ا .قال :فإن لم تجد: قال :أجتهد رأيي .قال :الحمد لله الذي وفق رسول رسول ا لما يحبه ا ورسوله( .وقد جعل للحاكم أجرا إذا أخطأ بالجتهاد، وبذلك يشجع الحاكم على الجتهاد ،ويبعد عن الجمود عند ظاهر النصوص .فقد روى البخاري عن عمرو بن العاص أنه سمع رسول ا صلى ا عليه وسلم يقول) :إذا حكم الحاكم فاجَتَهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجَتَهد ثم أخطأ فله أجر(. وقد بالغ الشرع في تحديد الحكام التي يحكم بها الحاكم بأنها السلم ليس غير .ومع كونه جعل للحاكم حق الجتهاد ولو أخطأ ،فإنه شدد في حصر الحكم بالسلم ،ونهى عن أن يحكم بغيره ،بل عن أن َيسأل عن حكم ِمن غير السلم ،أو أن يشرك مع السلم شيئا ليس منه .قال تعالى مخاطبا الرسول) :وأ ِ ن كم بينهم بما أنزل ا ول تّتبع أهواءهم واحَذرهم أن يفتنوك اح ُ عن بعض ما أنزل ا إليك( ،وقال) :فاحكم بينهم بما َأنزل ا ول تّتبع أهواءهم عما جاءك من الحق( ،وخطاب الرسول خطاب لّمته ،فهو خطاب لكل حاكم .وروى مسلم عن عائشة قالت :قال رسول ا صلى ا عليه وسلم) :وَمن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو َرّد( ،وفي رواية أخرى عنها )َمن عمل عمل ً ليس عليه أمرنا فهو َرّد( ،وروى البخاري عن عبيدا بن -72-
عبدا أن ابن عباس رضي ا عنهما قال) :كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي ُأنزل على رسول ا صلى ا شب وقد حّدثكم أن أهل عليه وسلم أحدث ،تقرأونه محضا لم َي ِ الكتاب بّدلوا كتاب ا وغّيروه وكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا :هو ل؟ أل ينهاكم ما جاءكم من العلم من عند ا ليشتروا به ثمنا قلي ً عن مسألتهم؟( .وبهذا يظهر تحديد ما يجب أن يحكم به، وحصرت مسؤوليته في الحكام بالحكم بما أنزل ا. فهذه المسؤوليات الواجبة على الحاكم تبين أن الشارع حدد المسؤوليات العامة أوضح تحديد ،وهذه المسؤوليات على الحاكم من حيث هو حاكم بغض النظر عن كونه خليفة أو معاونا ل ،فكلهم حاكم ،ومقّيد بهذه المسؤوليات .وذلك له ،واليا أو عام ً لنها إذا كانت هذه مسؤوليات الولة والمراء وغيرهم من الحكام فإنها مسؤوليات الخليفة ،لنها إذا كانت واجبا على المير فعلى من يحمل تبعة عامة من باب أْولى. على أن هنك أحاديث جاءت عامة تشمل كل من َوِلي أمرا من أمور المسلمين خليفة كان أو واليا .فقول الرسول) :ما من عبٍد استرعاه ا رعية( ،وقوله َ) :من َوِلي من أمر أّمتي شيئا(، وقوله) :أعظم غدرا من أمير عامة( ،وقول ا تعالى) :ومن لم يحكم( .فكلها جاءت بلفظ عام يشمل الوالي ويشمل الخليفة. وخطاب الرسول خطاب لكل حاكم ،خليفة كان أو واليا .على أن الرسول بّين مسؤولية الخليفة عن رعيته نصا في الحديث الذي ملة .روى البخاري عن عبدا بن بّين فيه المسؤوليات العامة مج َ عمر أن رسول ا صلى ا عليه وسلم قال) :أل كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ،فالمام الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته ،والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته ،والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده وهي مسؤولة عنهم ،وعبُد الرجل راع على مال سيده وهو مسؤول عنه ،أل فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته( ،فجعل الخليفة مسؤول ً مسؤولية عامة عن رعيته ،وبهذا تكون المسؤوليات العامة على الحاكم ،فهي على الخليفة كما هي على المير. من الشارع قيام الحاكم ض ِ وهذه المسؤوليات العامة قد َ بأعبائها ضمانا تاما بالتوجيه والتشريع .أّما التوجيه ،فقد حّذر صر بها ولم يقم بأعبائها ،فبّين أنها الحاكم من عذاب ا إذا ق ّ -73-
خزي وندامة يوم القيامة إذا أخذها الضعيف الذي ل يؤدي الذي ق على ق على من يش ّ عليه فيها ،وطلب الرسول من ا أن يش ّ حط الّمة بنصيحة ،إلى الّمة السلمية ،وحّرم الجنة على من لم ُي ِ غير ذلك من التحذيرات التي تبين للحاكم عاقبة عدم قيامه بمسؤولياته ،وهي عذاب من ا. ولكن الشرع لم يكتف بذلك بل جعل الّمة قّوامة على قيام صر بمسؤولياته أو الحاكم بمسؤولياته ،فألزمها بالنكار عليه إذا ق ّ أساء في تصرفاته ،وأمرها بمقاتلته بالسيف إذا حكم بغير السلم وصار الكفر بواحا ،وجعل من ُيقتل في سبيل النكار على الحاكم سيد الشهداء .قال عليه الصلة والسلم) :سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فنصحه فقتله( .وجعل من يرضى بتقصير الحاكم ويتابعه ،مسؤول ً أمام ا ل َيسَلم من عقوبته ،روى مسلم عن أم سلمة أن رسول ا صلى ا عليه عرف برئ وسلم قال) :ستكون أمراء فَتعرفون وُتنكرون فمن َ سِلم ولكن من رضي وتابع .قالوا :أفل نقاتلهم؟ قال: ومن أنكر َ ل ،ما صّلوا( ،وفي رواية أخرى )فمن َكِره فقد َبِرأ ومن أنكر فقد سر الرواية الولى، ي وتابع( وهذه الرواية تف ّ ض َ سِلم ولكن من َر ِ َ فقوله) :فمن عرف َبِرئ( ،قال النووي في شرح هذا الحديث: كر ولم يشنه عليه فقد صارت "معناه وا أعلم :فمن عرف المن َ له طريق البراءة من إثمه وعقوبته بأن يغيره بيده أو بلسانه ،فإن سِلم ،أي ومن لم يقدر عجز فليكرهه بقلبه .وقوله :ومن أنكر َ على تغييره بيده ولسانه فأنكر ذلك بقلبه وكرهه سَِلم من مشاركتهم في إثمه ،ولكن من رضي وتابع أي رضي بفعلهم بقلبه وتابعهم عليه في العمل لم يبَرأ ولم يسَلم" .ففي هذا الحديث أ ََمر الرسول بالنكار على الحاكم وأوجب هذا النكار بأي وسيلة مستطاعة باليد على شرط أن تكون دون القتال أي دون السيف ،وباللسان مطلقا أي بأي قول من القوال ،أو بالقلب إذا كر شريكا للحاكم في عجز عن اليد أو اللسان .وقد اعتبر من لم ين ِ ضي بما علموه وتابع على ذلك فل يبرأ ول الثم ،إذ قال فمن َر ِ َيسَلم من الثم .إل ّ أن هذا النكار إّنما يكون إذا أساءوا ولكنهم يحكمون بالسلم ،فإذا ما خرجوا عن تطبيق السلم وطبقوا أحكام الكفر فإن الشرع لم يكتف بالنكار باليد واللسان والقلب بل جعل طريقة التغيير عليهم أو تغييرهم هي السيف والقتال. -74-
ففي حديث أم سلمة الذي رواه مسلم )قالوا :أفل نقاتلهم؟ قال: ل ،ما صلوا( ،وفي رواية )أل نقاتلهم يا رسول ا؟ قال :ل ،ما صلوا( ،وفي حديث عوف بن مالك الذي رواه مسلم )قيل :يا رسول ا أفل ننابذهم بالسيف؟ فقال :ل ،ما أقاموا فيكم الصلة( ،وفي رواية )قالوا :قلنا :يا رسول ا أفل ننابذهم عند ذلك؟ قال :ل ،ما أقاموا فيكم الصلة( .وفي البخاري عن عبادة بن الصامت قال) :دعانا النبي صلى ا عليه وسلم فبايعناه، فقال فيما أخذ علينا أن بايعناه على السمع والطاعة في منشطنا ة علينا وأن ل ننازع المر أهله إل ّ عسرنا وُيسرنا وأ ََثر ٍ ومكرهنا و ُ أن تروا كفرا بواحا عندكم من ا فيه برهان( .فمفهوم هذه الحاديث هو أن ننازع المر أهله إذا رأينا كفرا بواحا ،وأن ننابذهم بالسيف ونقاتلهم إذا لم يقيموا فينا الصلة .وهذا بالنسبة للحاكم كناية عن الحكم بالسلم ،أي ما داموا يحكمون بالسلم فل قتال ول منابذة ول منازعة ،فإن حكموا بغير السلم وجب من ض ِ حينئذ قتالهم ومنابذتهم ومنازعتهم .وبهذا يكون السلم قد َ ضمانا تاما القيام بالمسؤوليات العامة.
الدولة السلمية دولة بشرية وليست دولة إلهية الدولة السلمية هي الخلفة ،لنها هي المنصب الذي يملك من يتوله جميع صلحيات الحكم والسلطان والتشريع دون استثناء .وهي رئاسة عامة للمسلمين جميعا في الدنيا لقامة أحكام الشرع السلمي ،بالفكار التي جاء بها والحكام التي شرعها ،ولحمل الدعوة السلمية إلى العالم ،بتعريفهم السلم ودعوتهم إليه ،والجهاد في سبيل ا .ويقال لها :المامة وإمارة المؤمنين .فهي منصب دنيوي وليست منصبا أخرويا .وهي موجودة لتطبيق دين السلم على البشر ولنشره بين البشر. وهي غير النبوة قطعا ،لن النبوة والرسالة منصب يتلقى في النبي أو الرسول الشرع عن ا بواسطة الوحي ليبلغه للناس، بغض النظر عن تطبيقه )وما على الرسول إل ّ البلغ المبين(، )فإّنما عليك البلغ() ،ما على الرسول إل ّ البلغ( .وهذا بخلف الخلفة فهي تطبيق شرع ا على البشر .ول ُيشترط في النبي -75-
ل ،بل والرسول أن يطبق ما أوحى ا له به حتى يكون رسو ً ُيشترط فيه حتى يكون رسول ً ونبيا أن يوحي ا له بشرع ويؤَمر بتبليغه .ومن هنا كان سيدنا موسى وسيدنا عيسى وسيدنا إبراهيم عليهم السلم أنبياء ورسل ً ولم يقوموا هم بتطبيق الشريعة التي جاءوا بها ولم يكونوا حكاما. وعلى ذلك فمنصب النبوة والرسالة غير منصب الخلفة. فالنبوة منصب إلهي يعطيها ا لمن يشاء ،والخلفة منصب بشري يباِيع فيه المسلمون من يشاؤون ،وُيقيمون عليهم خليفة َمن يريدون من المسلمين .وسيدنا محمد صلى ا عليه وآله وسلم كان حاكما يطبق الشريعة التي جاء بها .فكان يتولى النبوة والرسالة ،وكان في نفس الوقت يتولى منصب رئاسة المسلمين في إقامة أحكام السلم .وقد أمره ا بالحكم كما كم بينهم بما أنزل ا() ،إنا ن اح ُ أمره بتبليغ الرسالة ،فقال له) :وأ ِ أنزلنا إليك الكتاب بالحق لَتحكم بين الناس بما أراك ا( ،كما ي هذا قال له) :يا أيها النبي بّلغ ما ُأنِزل إليك من ربك() ،وأوحي إل ّ القرآن لنذركم به وَمن بلغ() ،يا أيها المّدّثر قم قأنِذر( .إل ّ أنه لا حين كان يتولى تبليغ الرسالة قول ً كتبليغ قوله تعالى) :وأح ّ البيع وحّرم الربا( أو تبليغها عمل ً كمعاهدة الحديبية ،فإنه كان يجزم بالتبليغ ،ويأمر أمرا قاطعا بالقيام بالعمل ،ول يستشير بل يرفض الرأي إذا أشير به غير ما جاء به الوحي .وإذا سئل عن كت ولم ُيجب حتى ينزل الوحي. س َ حكم لم ينزل به الوحي بعُد َ أّما حين كان يتولى تطبيق الحكام التي أنِزلت وبّلغت للناس ،كان يستشير ويعمل برأي الكثرية ولو خالف رأيه .ول يجزم بأن ما حكم به هو طبق الحادثة بل يقول هو طبق ما سمع من حجج، فإنه عليه الصلة والسلم حين نزلت سورة براءة أردف بعلي بن أبي طالب لن يلحق أبا بكر وأمره أن يؤذن في الناس "ببراءة" ليبّلغها للناس في موسم الحج ،فتلها عليهم في عََرفة وطاف عليهم حتى بّلغها .وحين عقد صلح الحديبية رفض آراء الصحابة جميعهم وألزمهم بما رآه لنه وحي من ا .وحين سأله جابر: جبه حتى نزل الوحي بالحكم .أخرج كيف أقضي بمالي؟ لم ُي ِ ت جابر بن عبدا يقول: البخاري عن ابن المنكدر قال) :سمع ُ ت فجاءني رسول ا صلى ا عليه وسلم يعودني وأبو مرض ُ ي فتوضأ رسول ا عليه بكر وهما ماشيان فأتاني وقد أغمي عل ّ -76-
ت :يا رسول ا وربما ت فقل ُ ي فأفق ُ ب وضوءه عل ّ السلم ثم ص ّ قال سفيان :فقلت :أي رسول ا ،كيف أقضي في مالي؟ كيف أصنع في مالي؟ قال :فما أجابني بشيء حتى نزلت آية الميراث(. هذا في القيام بأعباء النبوة والرسالة وتبليغ الناس ،أّما في حد جمع القيام بأعباء الحكم فقد كان يسير على غير ذلك .ففي أ ُ ُ المسلمين في المسجد واستشارهم أيحاِرب في المدينة أم يخرج خارجها ،فكان رأي الكثرية الخروج ورأيه عليه السلم عدم الخروج .فعمل برأي الكثرية وخرج وحارب خارج المدينة .وكذلك فإنه حين كان يقضي بين الناس يحذرهم من أن يكون قضى لهم بحق غيرهم .أخرج البخاري عن أم سلمة عن رسول ا صلى ا عليه وسلم أنه سمع خصومة بباب حجرته فخرج إليهم ل بعضكم أن يكون فقال) :إّنما أنا بشر وإنه يأتيني الخصم ،فلع ّ ت ب أنه صادق فأقضي له بذلك ،فمن قضي ُ أبلغ من بعض فأحس ُ له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها(. وأنه روي عنه عليه الصلة والسلم أنه قال لصحابه) :من أخذ ُ ت ت له ظهرا فهذا ظهري له مال ً فهذا مالي فليأخذ منه ومن جلد ُ ص منه( .وكذلك روي عنه عليه الصلة والسلم أنه قال: فليقت ّ )وإني لرجو أن ألقى ا عز وجل ول يطلبني أحد بمظلمة ظلمُته إياها في دم ول مال( ،مما يدل على أنه كان يتولى منصبين :منصب النبوة والرسالة ،ومنصب رئاسة المسلمين في الدنيا لقامة شريعة ا التي أوحى له بها .وكان يتصرف في القيام بأعباء كل منصب منهما بما يقتضيه ذلك المنصب ،ويتصرف في أحدهما على غير ما يتصرف في الخر .وقد أخذ البيعة على الناس في الحكم ،وأخذها على النساء والرجال ولم يأخذها حُلم ،مما يؤكد أنها بيعة على على الصغار الذين لم َيبُلغوا ال ُ الحكم ،وليست بيعة على النبوة. ومن هنا نجد أن ا تعالى لم يعاتبه على شيء في تبليغ الرسالة والقيام بأعبائها ،بل كان يطلب منه أن ل ينزعج لعدم استجابة الناس له لن القيام بأعباء الرسالة هو التبليغ فقط ،وما سرات(، ح َ سك عليهم َ هب نف ُ عليه إل ّ التبليغ ،قال تعالى) :فل َتذ َ ن عليك إل ّ ك في ضيق مما يمكرون() ،إ ْ )ول تحزن عليهم ول ت ُ البلغ( .ولكن ا تعالى عاتبه عليه السلم عند قيامه بأعباء -77-
الحكم على الفعال التي فعلها تطبيقا لحكام سبق أن نزلت وبّلغها ،فعاتبه ا على قيامه بها على خلف الْولى ،قال تعالى: خن في الرض() ،عفا )ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى ُيث ِ ا عنك ِلم أِذنتَ لهم( .وهذا كله واضح فيه كون منصب رئاسة المسلمين في الحكم غير منصب النبوة ،وواضح فيه أن منصب الخلفة منصب دنيوي ل أخروي .ومن ذلك كله يتبين أن الخلفة وهي رئاسة عامة للمسلمين جميعا في الدنيا ،منصب بشري وليس منصبا إلهيا ،لنها منصب الحكم الذي كان يتوله الرسول ض أن يخلفه فيه مسلم صلى ا عليه وآله وسلم ،وقد تركه وفر ٌ من المسلمين ،فهي أن يقوم مكان رسول ا صلى ا عليه وآله وسلم خليفة له في الحكم وليس في النبوة .فهي خلفة مل للرسول في رئاسة المسلمين لتطبيق أحكام السلم وح ْ دعوته ،وليس في تلقي الوحي وأخذ الشرع عن ا. وأّما عصمة الرسول صلى ا عليه وآله وسلم فهي آتية من حيث كونه نبيا ل من حيث كونه حاكما ،لن العصمة من الصفات التي يجب أن يتصف بها جميع النبياء والرسل ،بغض النظر عن كونهم هم الذين يحكمون الناس بشريعتهم ويطّبقونها ،أو كونهم يقتصرون على تبليغها ول يتولون الحكم بها ول تطبيقها .فسيدنا موسى وسيدنا عيسى وسيدنا إبراهيم معصومون ،كما أن سيدنا محمدا صلى ا عليه وآله وسلم معصوم ،فالعصمة للنبوة والرسالة وليست للحكم .أّما كونه صلى ا عليه وآله وسلم ل يفعل أثناء قيامه بأعباء الحكم فعل ً ت من حيث كونه حراما ،ول يترك القيام بفعل واجب ،فذلك آ ٍ معصوما من ناحية النبوة والرسالة ل من حيث كونه حاكما، فيكون قيامه عليه الصلة والسلم بالحكم ل يقتضي اتصافه بالعصمة ،ولكنه عليه السلم واقعيا كان معصوما من حيث كونه نبيا ورسول ً .وعلى ذلك كان يتولى الحكم بوصفه بشرا يحكم بشرا ،وقد جاء القرآن صريحا بأنه بشر ،قال تعالى) :قل إّنما أنا ي(. بشر مثلكم( ،ثم بّين وجه تمييزه عن باقي البشر )يوحى إل ّ فالميزة هي بكونه يوحى إليه ،أي في النبوة ،وما عداها فهو بشر كسائر الناس ،فهو إذا في الحكم بشر كسائر الناس ،فمن يكون خليفة له فل شك أنه يكون بشرا كسائر الناس ،لنه إّنما يكون خليفة له في الحكم ل في النبوة والرسالة .ولذلك ل ُتشترط فيه -78-
العصمة لنها ليست مما يقتضيها الحكم وإّنما هي مما تقتضيها النبوة .وهو حاكم ليس غير ،فل محل لشتراط العصمة في من يتولها ،بل ل يجوز أن ُتشترط العصمة لمن يتولها .لن العصمة خاصة بالنبياء ،فل يجوز أن تكون لغير النبياء ،لن وجودها في النبي والرسول يستوجبه التبليغ ،وهي عصمة في التبليغ، وحصولها في عدم ارتكاب المحرمات إّنما كان تبعا للعصمة في التبليغ ،لن العصمة فيه ل تتم إل ّ بالعصمة عن ارتكاب المحرمات ،فالذي اقتضاها هو تبليغ الرسالة وليس تصديق الناس وعدم تصديقهم ،وليس الخطأ في العمال أو عدم الخطأ، بل الذي اقتضاها هو تبليغ الرسالة ليس غير .إذ لو لم يكن معصوما من ا لجاز عليه أن يكتم الرسالة ،أو يزيد عليها ،أو ُينِقص منها ،أو يكذب على ا ما لم َيُقله ،أو يخطئ فيبّلغ غير ما ف لكونه رسول ً ف للرسالة من ا ،ومنا ٍ ُأمر بتبليغه ،وهذا كله منا ٍ واجب التصديق .فكان ل بد أن يتصف الرسول بالعصمة في تبليغ الرسالة ،وتبعا لذلك جاءت عصمته عن ارتكاب المحرمات .ولذلك اختلف العلماء في عصمة النبياء عن ارتكاب المحرمات ،فقال بعضهم :هو معصوم عن ارتكاب الكبائر فقط ويجوز عليه أن يفعل الصغائر ،وقال بعضهم :هو معصوم عن ارتكاب الكبائر والصغائر .وإّنما قالوا ذلك تبعا لكون الفعال يترتب عليها تمام التبليغ أم ل .فإذا كان يترتب عليها تمام التبليغ فإن العصمة في التبليغ تشملها ويكون النبي معصوما منها ،إذ ل يتم التبليغ إل ّ بكونه معصوما فيها .وإذا كان ل يترتب عليها تمام التبليغ فإن العصمة ل تشملها ول يكون معصوما فيها لنه حينئذ يتم التبليغ بدونها .ولهذا كان ل خلف بين المسلمين جميعا أن الرسول غير معصوم عن ارتكاب الفعال التي هي خلف الْولى ،لكونها ل يترتب عليها تمام التبليغ قطعا .وعليه فالعصمة خاصة بالتبليغ، ولذلك ل تكون إل ّ للنبياء والرسل ،ول يجوز أن تكون لغيرهم مطلقا. على أن دليل العصمة دليل عقلي وليس دليل ً نقليا ،إذ لم َيِرد في النصوص الشرعية ل في القرآن ول في الحديث نص على وجود العصمة لحد ،ل للنبياء والرسل ول لغيرهم .وأّما ب عنكم الرجس أهل البيت ه َ قوله تعالى) :إّنما يريد ا لُيذ ِ هب عنكم الريبة ويطّهركم تطهيرا( فإن معناها يريد أن ُيذ ِ -79-
والتهمة .وهذه الية جزء من ثلث آيات ،قال تعالى) :يا نساء ن كأحد من النساء إن اتقيُتن فل تخضعن بالقول النبي لسُت ّ ن في ن قول ً معروفا .وَقْر َ فيطمع الذي في قلبه مرض وُقل َ ن الصلة وآتين بيوتكن ول تبّرجن تبرج الجاهلية الولى وأِقم َ هب عنكم الرجس الزكاة وأطعن ا ورسوله إّنما يريد ا لُيذ ِ ن ما يتلى في بيوتكن من آيات أهل البيت ويطّهركم تطهيرا واذُكر َ ا والحكمة إن ا كان لطيفا خبيرا( ،فل علقة لهذه الية بالعصمة ل من قريب ول من بعيد .ول يمكن أن ُيفهم من قوله: هب عنكم الرجس( أي يجعلكم معصومين .بل إذهاب )لُيذ ِ الرجس هو إذهاب القذر ،والمراد هنا القذر المعنوي وهو الريبة جمل التي قبل هذه الجملة من والتهمة كما هو صريح في ال ُ اليتين .والطهارة هنا النقاء من الريب والتهم .وذلك لن كلمة الرجس معناها القَذر المادي والقَذر المعنوي ،ومعناها أيضا العذاب .وقد جاءت في القرآن بهذه المعاني ،قال تعالى: )فاجتنبوا الرجس من الوثان() ،كذلك يجعل ا الرجس على الذين ل يؤمنون( ،ففي هاتين اليتين الرجس هو القَذر المعنوي، وقال تعالى) :أو لحم خنزير فإنه رجس( أي نجس ،يعني أنه قَذر مادي ،وقال تعالى) :ويجعل ا الرجس على الذين ل يعقلون(، هب عنكم الرجس( أي ُيذهب عنكم القَذر فقوله في الية) :لُيذ ِ المعنوي وهو التهمة .وأّما قوله) :ويطهركم تطهيرا( فإن كلمة )يطهركم( وكلمة )تطهيرا( لم تِرد أي منهما بمعنى العصمة مطلقا ل في اللغة ول في القرآن ول في الحديث .ففي اللغة ،طهر الشيء طهارة وتطهيرا :أزال النجاسة عنه ،والمرأة طاهر من الحيض وطاهرة من النجاسة ومن العيوب ،والطهارة في الشرع ة بغير طهور(. ل يقبل ا صل ً ع الحدث ،قال عليه السلم ) : رف ُ وقد وردت في القرآن بهذه المعاني ،قال تعالى) :وثيابك فطّهر(، ء لُيطّهركم به() ،ول َتقَربوهن حتى َيطُهرن( والمراد منها )ما ً الطهارة من النجاسة ومن الحيض ،وقال تعالى) :اصطفاك جُنبا فاطّّهروا( أي من وطّهرك( أي من العيوب ،وقال) :وإن كنتم ُ الحدث .وقد ورد التطهير للمؤمنين أيضا ،قال تعالى) :ما يريد ا م نعمته عليكم(. ل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم ولُيِت ّ ليجع َ فهذه النصوص كلها تعّين أن المراد من الية أن ا نّقاهم من الريب والتهم ،وتنفي أن يكون المراد منها أنه عصمهم ،فالية ل -80-
تدل على العصمة. وعليه فل يوجد دليل نقلي على وجود العصمة لحد من الناس ،وليس لها إل ّ الدليل العقلي وحده .فالعقل هو الذي يحتم أن تكون العصمة في التبليغ للنبي والرسول ،إذ كونه نبيا ورسول ً يقتضي أن يكون معصوما وإل ّ فليس بنبي ول برسول. والعقل هو الذي يحّتم أن غير المكّلف بتبليغ رسالة عن ا ل يجوز أن يكون معصوما لكونه بشرا ،ومن فطرته التي فطره ا عليها أن يقع منه الخطأ والنسيان ،ولكونه غير مكّلف برسالة عن ا ل يوجد فيه ما يقتضي أن يكون معصوما ،فإذا اّدعي أنه معصوم فمعناه أنه مكّلف برسالة عن ا وهذا غير جائز ،لنه ل نبي بعد محمد رسول ا صلى ا عليه وآله وسلم ،قال تعالى: ن رسول ا وخاَتم النبيين( .فادعاء العصمة يقتضي ادعاء )ولك ْ ما كان الرسول مبّلغا عن ا وكان فيه بوصفه الرسالة ،لنه َل ّ بشرا قابلية الخطأ والضلل في التبليغ عن ا اقتضى حفظ رسالة ا من التبديل والتغيير في التبليغ أن يكون الرسول معصوما من الخطأ والضلل .ولهذا السبب وحده كانت العصمة صفة من صفات الرسول ،وهو وحده الذي تقتضيه العصمة .فإذا عَيت لحد غيره –ومعلوم أن الذي يقتضيها إّنما هو تبليغ اّد ِ الرسالة عن ا -فإنه يكون قد اّدعي لهذا الغير مقتضى العصمة وسببها وهو تبليغ الرسالة ،فيكون قد اّدعي أنه مكّلف بتبليغ رسالة عن ا .وعليه فإن الخليفة ل يجوز أن ُيشترط فيه العصمة لن اشتراطها يعني أنه مكّلف بتبليغ رسالة عن ا، فاقتضى أن يكون معصوما ،وهذا ل يجوز. ومن ذلك كله يتبين أن الخليفة بشر يجوز أن يخطئ ويصيب ،ويجوز أن يقع منه ما يقع من أي بشر من السهو والنسيان والكذب والخيانة والمعصية وغير ذلك ،لنه بشر ،ولنه ليس بنبي ،ول برسول .وقد أخبر الرسول صلى ا عليه وآله وسلم بأن المام يمكن أن يخطئ ،كما أخبر بأنه يمكن أن يحصل منه ما يبغضه الناس ،ويلعنونه عليه ،من ظلم ومعصية وغير ذلك، بل أخبر بأنه قد يحصل منه كفر بواح ،فقد روى مسلم قال: حدثني زهير بن حرب حدثنا شبابة حدثني ورقاء عن أبي الزناد عن العرج عن أبي هريرة عن النبي صلى ا عليه وسلم قال: جّنة يقاَتل ِمن ورائه وُيّتقى به ،فإن أَمر بتقوى ا عز )إّنما المام ُ -81-
عَدل كان له بذلك أجر ،وإن يأمر بغيره كان عليه منه(، وجل و َ وهذا يعني أن المام غير معصوم وأنه جائز عليه أن يأمر بغير تقوى ا .وروى مسلم قال :حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن العمش عن زيد بن وهب عن عبدا قال :قال رسول ا صلى ا عليه وسلم) :إنها ستكون بعدي أ ََثرة وأمور ُتنكرونها .قالوا :يا رسول ا كيف تأمر من أدرك منا ذلك؟ قال: تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون ا الذي لكم( .وروى مسلم قال :حدثنا اسحق بن إبراهيم الحنظلي أخبرنا عيسى بن يونس حدثنا الوزاعي عن زيد بن يزيد بن جابر عن زريق بن حيان عن مسلم بن قرطة عن عوف بن مالك عن رسول ا صلى ا عليه وسلم قال) :خيار أئمتكم الذين ُتحبونهم وُيحبونكم ويصّلون عليكم وُتصّلون عليهم ،وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم .قيل :يا رسول ا أفل ننابذهم بالسيف؟ قال :ل ،ما أقاموا فيكم الصلة .وإذا رأيتم من ولتكم شيئا تكرهونه فاكرهوا عمله ول تنزعوا يدا من طاعة(. وروى البخاري قال :حدثنا اسماعيل حدثني ابن وهب عن عمرو جنادة بن أبي أمية قال) :دخلنا كير عن ُبسر بن سعيد عن ُ عن ُب َ على عبادة بن الصامت وهو مريض ،قلنا :أصلحك ا ،حدثنا بحديث ينفعك ا به سمعَته من النبي صلى ا عليه وسلم. قال :دعانا النبي صلى ا عليه وسلم فباَيعناه ،فقال فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن ل ننازع المر أهله إل ّ أن تروا كفرا بواحا عندكم من ا فيه برهان( .وعن عائشة قالت :قال رسول ا صلى ا عليه وسلم) :ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم ،فإن كان له مخرج فخلوا سبيله ،فإن المام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة( .فهذه الحاديث صريحة في أنه يجوز على المام أن يخطئ وأن ينسى وأن يعصي .ومع ذلك فقد أمر الرسول بلزوم طاعته ما دام يحكم بالسلم ولم يحصل منه كفر بواح وما لم يأمر بمعصية. فهل بعد إخبار الرسول صلى ا عليه وسلم عن الخلفاء بأنه سيكون منهم ما ينكره المسلمون ومع ذلك يأمر بطاعتهم؟ هل بعد هذا يمكن أن يقال إن الخليفة يجب أن يكون معصوما وأنه ل يجوز عليه ما يجوز على البشر؟ -82-
هذا من حيث واقع الخلفة ومن حيث عدم اشتراط العصمة ،بل عدم جواز اشتراطها .إل ّ أن الذين يقولون إنه ُيشترط في الخليفة أن يكون معصوما قد أوردوا أدلة على قولهم ،فل بد من عرضها وبيان ما فيها .وهذه الدلة تتلخص في أربعة أدلة هي: -1المام يقوم مقام النبي في حفظ الشريعة وتبليغها وتعليمها وتوّلي أمور الرعية وإقامة العدل بينهم والنتصاف للمظلوم وإقامة الحدود والتعزير وتطبيق السلم كله على الوجه الشرعي ،فل بد أن يكون معصوما منزها عن القبائح والذنوب كبيرها وصغيرها ،عمدا كان صدورها أم سهوا ،من بدء حياته إلى آخرها. -2لو جازت المعصية على المام لحتاج إلى إمام معصوم يمنعه من ارتكاب المعصية والوقوع في الخطأ ،فإذا كان الثاني يجوز عليه الخطأ وِفعل المعصية احتاج إلى إمام معصوم يمنعه من ذلك ،وهكذا فيتسلسل أو ينتهي المر إلى إمام معصوم ل يجوز عليه المعصية والخطأ ،ولذلك ل بد أن يكون المام معصوما. -3أن المامة منصب إلهي لحفظ قانون إلهي ُوضع لغاية النقياد إليه والعمل به وليست إمرة من إمارات الناس ،ول الشريعة قانونا ودستورا من دساتير الحكومات ليمكن التلعب فيها ،فل يقيم رب العباد تعالى شأنه وليا على شرعه إل ّ من يكون معصوما حتى يطمئن إليه الناس ،ويأخذوا الحكام منه على أنها أحكام ا تعالى الواقعية ،ل يتسرب إليها أي شك يمنع من العمل بها والنقياد إليها ،وهذا ل يكون إل ّ مع عصمة الولي القائم على حفظ الشريعة ،إذ غير المعصوم -لجواز المعصية مأن إليه ول ُيقطع على ما يؤديه إلى الناس والخطأ عليه -ل ُيط َ هو حكم ا تعالى في غير المقطوع به عند الناس .وليس المقصود إقامته حافظا لبعض الحكام دون بعض ،بل لكل ما جاء به النبي صلى ا عليه وآله وسلم .فل بد أن يكون عالما بكل الحكام وحافظا لها أجمع ليعمل بها ما دامت الدنيا ،فلو نصب من يعرف بعض الحكام أو من يجوز عليه المعصية والخطأ ،كان نصبه نقضا للغرض من التكليف وهو النقياد والعمل بكل ما جاءت به الشريعة ،المعلوم أنها باقية إلى يوم القيامة ،ونقض الغرض محال على الحكيم ،فنصب غير -83-
المعصوم أو العارف ببعض الحكام محال. -4إن النصوص جاءت دالة على وجوب أن يكون الخليفة معصوما ،فهناك آيات من القران جاءت معِلنة ذلك ،وهذا واضح في ثلث آيات هي: ل ينال عهدي الظالمين( ،وهذا القول من أ -أن ا تعالى يقول ) : ا دليل وجوب عصمة المام الحافظ للشريعة .فإن الية في مُهنّ م ربه بكلمات فأت ّ سورة البقرة ،قال تعالى) :وإذ ابَتلى ابراهي َ قال إني جاعلك للناس إماما قال وِمن ذّرّيتي قال ل ينال عهدي الظالمين( ،والكلمات جعُله إماما كما تفيد اليات الواردة بعد هذه ما سمع قوله تعالى) :إني جاعلك للناس الية ،أن إبراهيم ل ّ إماما( ورأى عظمة هذا المنصب الشريف رجا أن يكون لذريته ل ينال عهدي الظالمين( حظ من هذا المنصب قال تعالى ) : ومفاده أن هذا المنصب ل يعطى لحد ممن َتلّوث أو يتلوث بالظلم ،أعم من أن يكون ظالما لنفسه أو لغيره ولو وقتا قصيرا في حياته ،بل يعطى لمن لم يفعل أي ظلم في حياته. ق أن ُيّتبع أم من ل ب -قال تعالى) :أفمن يهدي إلى الحق أح ّ َيِهّدي إل ّ أن ُيهدى( ،فإن هذا دليل على وجوب عصمة المام لنه يهدي إلى الحق ،ومن يجوز عليه الخطأ ل يهدي إليه وإن صادف أن يصيب الحق. ج -قال تعالى) :أطيعوا ا وأطيعوا الرسول وأولي المر منكم(، فهذه الية دليل على عصمة أولي المر أي على عصمة المام. وذلك لنه تعالى أَمر بإطاعة أولي المر على الطلق من دون تخصيص الطاعة بمورد خاص ول زمان خاص ،ومقتضى ذلك أن يكون المطاع هو المعصوم لن غيره قد يأمر بالمعصية ويخطئ ،فلو وجبت طاعته والحال هذه مع أنها تحرم لَلزم أن يكون المولى تعالى شأنه قد أمر بالجمع بين الضدين أو النقيضين وهو محال ،فل بد أن يكون المطاع هو المعصوم. وأيضا فإن ا تعالى قرن طاعة أولي المر بطاعة الرسول الذي قرن طاعته بطاعته ،وذلك يقتضي التعظيم .والمراد بأولي المر هم الئمة المعصومون. هذه هي أدلة الذين يقولون بأنه ُيشترط أن يكون المام معصوما .والجواب على كل منهما يتلخص فيما يلي: أول ً -أن الخليفة يقوم مقام الرسول في الحكم بتطبيق -84-
الشريعة ل بتبليغها عن ا ،فهو خليفته في الحكم وليس في التبليغ عن ا ،وهذا ل يقتضي منه أن يكون معصوما لن وظيفة الحكم ل تقتضي العصمة ل عقل ً ول شرعا .نعم قد اشترطت في الخليفة صفات هي :السلم ،والذكورة ،والحرية ،والبلوغ، والعقل ،والعدالة .وقد اشترطت كل صفة من هذه الصفات بناء على دليل شرعي ورد بها .ولكن ليس معنى اشتراطه هذه الصفات أن تكون لمن يكون خليفة ،هو أنه معصوم من مخالفتها ،بل معناه أن من يتولى هذا المنصب من الناس يجب أن تكون له هذه الصفات حين توليه ،وليس معناه أن يكون معصوما من الخروج عنها .بل يجوز عليه أن يخرج عنها وحينئذ إما أن يستحق العزل ،وإما أن يخرج عن الخلفة .واشتراط هذه الصفات في الخليفة كاشتراط العدالة في الشاهد من حيث التصاف بها حتى ُتقبل شهادته ،ول يعني اشتراطها فيه أن يكون معصوما عن مخالفتها .وعليه فل يكون قيام الخليفة مقام النبي في الحكم دليل ً على أنه يجب أن يكون معصوما .وأّما تبليغ الشريعة من ِقَبل المسلمين فهو ل يعني تبليغها عن ا ،وإّنما يعني القيام بما أوجبه ا على المسلمين من حمل الدعوة إلى الناس وتعليمهم أفكار السلم وأحكامه ،ول يعني غير ذلك مطلقا ،فهو ليس تبليغا عن ا ،بل هو تكليف من التكاليف التي جاء بها الرسول عليه السلم ،وهو غير تبليغ الرسول عن ا، ولذلك ل يقتضي العصمة ول حاجة فيه لها ،والقيام به كالقيام بسائر التكاليف الشرعية ،وهو ليس واجبا على الخليفة بوصفه خليفة ،بل هو واجب على كل مسلم يعلم الشريعة ،والخليفة مأمور بتبليغ الشريعة بوصفه مسلما ،وهذا باعتباره عالما إن كان كذلك ،لن التبليغ فرض على المسلم العالم بالشريعة فيما يعلمه وليست العصمة فرضا على المبّلغين ول شرطا فيهم .أّما حمل الدعوة السلمية الواجب على الخليفة بوصفه خليفة فإنه واجب عليه بوصفه حاكما بيده السلطان ،وواجب عليه أن يحملها بطريقة معينة وهي الجهاد ،وهذا ل ُتشترط فيه العصمة ،بل ل محل لشتراطها. ثانيا -إن الخليفة إذا عصى ل يحتاج إلى إمام يمنعه من ارتكاب المعصية ،وإّنما يحتاج إلى الّمة تحاسبه فتغّير عليه أو تغّيره ،وقد بّين الرسول صلى ا عليه وآله وسلم أن الّمة -85-
كر عليه وجعل كل من يرضى عنه تحاسبه وطلب منها أن ُتن ِ ويتابعه على معصيته مسؤول ً أمام ا .روى مسلم قال :حدثني معي ومحمد بن بشار جميعا عن معاذ )واللفظ أبو غسان المس َ لبي غسان( حدثنا معاذ )وهو ابن هشام الدستوائي( حدثني أبي عن قتادة حدثنا الحسن عن ضبة بن محض العنزي عن أم سلمة زوج النبي صلى ا عليه وسلم عن النبي صلى ا عليه مل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون ،فمن وسلم قال) :إنه يستع َ كره فقد برئ ،ومن أنكر فقد سلم ،ولكن من رضي وتابع .قالوا: يا رسول ا ،أل نقاتلهم؟ قال :ل ،ما صلوا( .وبهذا بين الشرع الطريقة التي ُيمنع فيها الخليفة من ارتكاب المعصية وهي ليست وجود إمام يمنعه بل هي الّمة .والذي يقول إن الخليفة يحتاج إلى خليفة يمنعه من ارتكاب المعصية ل يدرك ما هو الحكم ول يتصور تصورا ،لن الخليفة ل يمنع خليفة آخر وإّنما يقاتله على الحكم أو يكون تابعا له فيكون واليا ل خليفة فيقاتله على التمرد، فكيف يتصور أن يمنع خليفة خليفة آخر من ارتكاب المعصية؟ ثالثا -إن المامة ليست منصبا إلهيا وإّنما هي منصب بشري، وهي ليست موجودة لحفظ قانون إلهي وإّنما هي موجودة لتطبيق الشريعة التي أنزلها ا على سيدنا محمد عليه السلم. أّما حفظ الشريعة فإن ا قد تكفل بحفظها حين تكفل بحفظ القرآن ،قال تعالى) :إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون( .وليس المقصود من إقامة الخليفة إقامته حافظا لكل ما جاء به النبي صلى ا عليه وآله وسلم حتى يقال إنه يجب أن يكون عالما بكل الحكام حافظا لها أجمع ،وإّنما المقصود من إقامته هو إقامة أحكام الكتاب والسّنة؛ أي تطبيق السلم وحمل دعوته إلى العالم ،وهذا ل يقتضي منه أن يكون عالما بكل الحكام حافظا لها أجمع ،ولذلك ل يقتضي أن يكون معصوما ،وبالتالي ل يلزم من نصبه نقض الغرض الذي نصب من أجله ،وأّما اطمئنان الناس إليه حتى يأخذوا الحكام منه على أنها أحكام ا تعالى الواقعية ل يتسرب إليها أي شك يمنع من العمل بها والنقياد إليها فإن هذا ل يأتي من كون الخليفة معصوما أو غير معصوم ،وإّنما يأتي من دليل الحكم نفسه ،فإن كان دليل ً شرعيا واسُتنبط استنباطا شرعيا اطمأن الناس إلى أن هذا الحكم حكم شرعي، ول يتسرب إليهم في هذه الحال أي شك يمنع من العمل به -86-
والنقياد له ،بغض النظر عن الخليفة من هو ،حتى ولو خالف الحكم استنباطهم هم .لن اختلف الستنباط بين المجتهدين ل يجعل الحكم شرعيا عند مجتهد وغير شرعي عند آخر ،بل هو حكم شرعي عند جميع المسلمين ما دام هنالك شبهة دليل من الدلة الشرعية لدى المستنبط للحكم ،ويمكن حسب المعارف اللغوية والشرعية أن ُيستنبط مثل هذا الستنباط .وأما كون غير المعصوم لجواز المعصية والخطأ عليه ل ُيطمأن إليه ول ُيقطع على أن ما يؤديه هو حكم ا تعالى ،فإن المسألة في ذلك إنما هي حكم وحاكم .حكم يحكم به ويؤدى ،وحاكم يحكم ويؤدي. والطمئنان المطلوب إنما هو للحكم من حيث كونه حكم ا أم ل ،وليس للحاكم من حيث كونه أدى حكم ا وحكم به أم ل. فالعبرة إنما هي في الحكم الذي ُيحكم به ويؤخذ من حيث كونه حكما إسلميا أو حكما غير إسلمي ،وليست في الشخص الذي يعطي من حيث كونه معصوما أو غير معصوم .والذي يجعل الناس يثقون في الحكم وثوقا يمنع تسرب الشك الذي يمنعهم من العمل به والنقياد له إنما هو اعتبارهم للحكم نفسه من حيث كونه شرعيا أو غير شرعي وليس كون الخليفة الذي يأخذون الحكم منه معصوما أو غير معصوم. على أن منصب الخلفة ل يقيم فيه رب العالمين خليفة عن رسوله ول يقيم فيه الرسول خليفة عنه ،وإنما يقيمه المسلمون خليفة عليهم ويبايعونه هم على كتاب ا وسنة رسوله .والدليل على ذلك أحاديث البيعة ،وورودها بنصوص عامة ،وإسنادها إلى مطلق إمام ل إلى إمام معين .كما أن الدليل على ذلك المسؤولية العامة التي على الخليفة في علقته بالمة ،وعليه فإن منصب الخلفة ل يقتضي العصمة ول بوجه من الوجوه. رابعا -أّما النصوص التي وردت دليل ً على اشتراط العصمة فإنه ل يوجد فيها ول نص واحد يدل على العصمة .أّما النص الول وهو آية ل) ينال عهدي الظالمين( ،فإن كلمة إمام فيها ل تعني الخلفة ،ول تعني الحكم ،وقد وردت كلمة إمام في القرآن الكريم في أكثر من آية ،قال تعالى) :وِمن قبله كتاب موسى إماما ورحمة( ،وقال) :والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما( ،فكلمة إمام في اليتين معناها القدوة .قال المام البخاري" :وقوله تعالى) :واجعلنا -87-
للمتقين إماما( قال :أئمة نقتدي بمن قبلنا ويقتدي بنا َمن بعدنا". م ربه بكلمات وكلمة إمام في قوله تعالى) :وإذ ابتلى إبراهي َ فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال ل ينال عهدي الظالمين( ،فإن المراد منها النبوة والقدوة ،لن اليات التي بعدها تتحدث عن الكعبة وعن قوم إسماعيل ثم عن إعطاء النبوة لبراهيم فيكون معناها جعلناك إماما ُيقتدى بك ونبيا يتبعك الناس .ول يمكن أن تعني كلمة إمام هنا في هذه الية الخلفة أو الحكم ،خاصة أن إبراهيم لم يتول الحكم ،ولم يكن حاكما، وإنما كان نبيا ورسول ً .فقال ا تعالى له إن هذا المنصب وهو القدوة والنبوة ل يكون للظالمين حين طلب منه أن يجعل ما جعله له لذريته .فل دللة في الية على عصمة الخليفة .وفوق ذلك فإن كلمة الظالمين يكون مفهوم المخالفة لها العادلين، وليس المعصومين ،فإن غير الظالمين ل يعني المعصومين وإنما يعني المتصفين بعدم الظلم وهو العدل. وأما النص الثاني وهو آية) :أفمن يهدي إلى الحق( فإن المراد منها وا أعلم هو :هل يكون متبعا للهداية أحق بالتباع ويعني الرسول ،أم الذي يكون ضال ً ول يهتدي إل ّ أن يهديه غيره؟ والموضوع كله في الهداية واتباع الهادي ،ول علقة له بالحكم والخلفة .والمام يحكم الناس ،وعمله هو الحكم وليس الهداية ،فهو يعاقب الضالين والعصاه ،ويقاتل الكفار .ول تطلق كلمة الهادي هنا إلى على الرسول .فهذا المعنى ل ينطبق على الخليفة ول علقة بين هذه الية وبين عصمة الخليفة .وهل الحكم هداية أم هو تطبيق الشريعة؟ وأّما النص الثالث وهو آية) :أطيعوا ا وأطيعوا الرسول وأولي المر منكم( فإنها أمٌر بطاعة أولي المر ،واقترانها بطاعة ا وطاعة الرسول ،إّنما هو للدللة على أن حكمها كحكم طاعته وطاعة الرسول وليس لشيء آخر .وقد وردت بالفعل خصصت بآيات عامة من دون تخصيص في نفس الية ولكنها ُ أخرى وأحاديث متعددة .فقد خصصتها تلك اليات والحاديث المتعلقة بالطاعة في غير المعصية وفي غير الكفر ،فأمرت بعدم الطاعة في المعصية ،ولم تكتف بذلك بل أمرت أيضا بالنكار على المام ،وأمرت بعدم الطاعة في الكفر ولم تكتف بذلك بل أمرت بقتال المام .واليات والحاديث المخصصة صريحة في -88-
طع من أغفلنا قلبه عن ِذكرنا() ،فل تطع ذلك ،قال تعالى) :ول ُت ِ لف َمهين() ،ول طع كل ح ّ طع المكذبين() ،ول ُت ِ الكافرين() ،فل ُت ِ طع منهم آثما أو كفورا( ،وخطاب الرسول هو خطاب لّمته ما لم ُت ِ َيِرد دليل على أنه خاص به ومن خصوصياته ،وهنا لم َيِرد دليل على أنه خاص به فيكون خطابا لّمته .وروى البخاري عن نافع عن عبدا رضي ا عنه عن النبي صلى ا عليه وسلم قال: ب وَكِره ما لم يؤمر )السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أح ّ بمعصية ،فإذا ُأمر بمعصية فل سمع ول طاعة( ،وروى مسلم عن ابن عمر عن النبي صلى ا عليه وسلم أنه قال) :على المرء ب وَكِره إل ّ أن يؤمر بمعصية ،فإن ُأمر ح ّ السمع والطاعة فيما أ َ بمعصية فل سمع ول طاعة( ،وقال عليه الصلة والسلم في شأن طاعة الخلفاء والمراء )قالوا :أفل نقاتلهم؟ قال :ل ،ما صلوا() ،قيل :يا رسول ا أفل ننابذهم بالسيف؟ فقال :ل ،ما أقاموا فيكم الصلة() ،إل ّ أن تروا الكفر بواحا() ،فمن َكِره فقد ي وتابع( ،فهذه اليات ض َ سِلم ولكن من َر ِ َبِرئ ومن أنكر فقد َ والحاديث تخصص طاعة الخليفة في غير المعصية وغير الكفر، فل يأتي حينئذ القول بأن غير المعصوم قد يأمر بالمعصية ويخطئ فلو وجبت طاعته للزم أن يكون ا قد أمر بالجمع بين الضدين بالمر بطاعة الخليفة وبتحريم المعصية .ل يأتي هذا القول لنه ل يوجد جمع بين الضدين ،فهو يأمر بالطاعة في غير المعصية والكفر ،ويأمر بعدم الطاعة في المعصية والكفر ويأمر بتحريم المعصية .فل يوجد تضاد أو تناقض بين أوامره تعالى في هذا الموضوع .وبذا يتبين أن هذه الية ل تصلح دليل ً على اشتراط العصمة فيسقط الستدلل بها. هذه هي أدلة القائلين بالعصمة وكلها ساقطة عن مرتبة الستدلل ول تصلح حججا .ومن هذا كله يتبين أنه ل ُيشترط في الخليفة أن يكون معصوما ،بل ل يجوز أن ُيشترط ذلك .وأن الخلفة منصب بشري وليس منصبا إلهيا .وبذلك تكون الدولة السلمية دولة بشرية وليست دولة إلهية.
عزل الخليفة ينعزل الخليفة إذا تغير حاله تغيرا ُيخرجه عن الخلفة. -89-
ويصبح الخليفة واجب العزل إذا تغيرت حاله تغيرا ل يخرجه عن الخلفة ولكن ل يجوز له شرعا الستمرار فيها .والفرق بين الحال التي ُتخرج الخليفة عن الخلفة ،والحال التي يصبح فيها واجب العزل ،هو أن الحالة الولى وهي التي ُتخرجه عن الخلفة ل تجب فيها طاعته بمجرد حصول الحالة له ،وأّما الحالة الثانية وهي التي يصبح فيها واجب العزل فإن طاعته تظل واجبة حتى يتم عزله بالفعل .والذي يتغير به حاله فُيخرجه عن الخلفة ثلثة أمور هي: أحدها -إذا ارتّد عن السلم وأصر على الرتداد. ن جنونا ُمطِبقا ل يصحو منه. ج ّ ثانيها -إذا ُ ثالثها -أن يصير مأسورا في يد عدو قاهر ل يقدر على الخلص منه وكان غير مأمول الفكاك من السر. ففي هذه الحوال الثلثة يخرج عن الخلفة وينعزل في الحال ولو لم ُيحكم بعزله ،فل تجب طاعته ول تنفذ أوامره من ِقبل كل من ثبت لديه وجود واحد من هذه الصفات الثلثة في الخليفة .إل ّ أنه يجب إثبات أنه حصلت له هذه الحوال ،وأن يكون إثبات ذلك أمام محكمة المظالم فتحكم بأنه خرج عن الخلفة وتحكم بعزله حتى يعقد المسلمون الخلفة لغيره .أّما الذي يتغير به حاله تغيرا ل ُيخرجه عن الخلفة ،ولكنه ل يجوز له فيها الستمرار في الخلفة فخمسة أمور هي: أحدها -أن ُتجرح عدالته بأن يصبح ظاهر الفسق. ثانيها -أن يتحول إلى أنثى أو خنثى مشكل. ثالثها -أن يجن جنونا غير مطِبق بأن يصحو أحيانا ويجن أحيانا .وفي هذه الحال ل يجوز أن يقام عليه وصي أو يوجد له وكيل لن عقد الخلفة وقع على شخصه فل يصح أن يقوم غيره مقامه. رابعها -العجز عن القيام بأعباء الخلفة لي سبب من السباب ،سواء أكان عن نقص أعضاء جسمه أو كان عن مرض عضال يمنعه من القيام بالعمل ول ُيرجى ُبرؤه منه .فالعبرة بعجزه عن القيام بالعمل ،وذلك أنه بعجزه عن القيام بالعمل الذي ُنصب له خليفة تعطلت أمور الدين ومصالح المسلمين .وهذا كر تجب إزالته ول يزول إل ّ بعزله حتى يتأتى إقامة خليفة غيره، من َ فصار عزله في هذه الحال واجبا. -90-
خامسها -القهر الذي يجعله عاجزا عن التصرف بمصالح المسلمين برأيه وفق الشرع .فإذا قهره قاهر إلى حد أصبح فيه عاجزا عن رعاية مصالح المسلمين برأيه وحده حسب أحكام الشرع فإنه يعتبر عاجزا حكما عن القيام بأعباء الخلفة فيجب عزله .وهذا ُيتصور واقعه في حالتين: الحالة الولى :أن يتسلط عليه فرد أو أفراد من حاشيته فيستبّدون بتنفيذ المور ويقهرونه ويسيرون برأيهم بحيث يصبح عاجزا عن مخالفتهم مجبورا على السير برأيهم .ففي هذه الحال ُينظر :فإن كان مأمول الخلص ِمن تسلطهم خلل مدة قصيرة ُيمهل هذه المدة القصيرة لبعادهم والتخلص منهم ،فإن فعل زال المانع وذهب العجز ،وإل ّ فقد وجب عزله. الحالة الثانية :أن يصير في حال يشبه فيه المأسور ،وذلك بوقوعه تحت تسلط عدو وتحت نفوذه يسّيره كما يشاء وُيفِقده إرادته في تسيير مصالح المسلمين .ففي هذه الحال ُينظر :فإن كان مأمول الِفكاك من الوقوع تحت التسلط خلل مدة قصيرة ُيمهل هذه المدة القصيرة ،فإن أمكن ِفكاكه وتمكن من الخلص من تسلط العدو زال المانع وذهب العجز ،وإل ّ فقد وجب عزله. ففي هذه الحوال الخمسة يجب عزل الخليفة عند حصول أية حالة منها .إل ّ أن حصولها يحتاج إلى إثبات أنها حصلت ،وإثباته يكون أمام محكمة المظالم فَتحكم بفسخ عقد الخلفة وعزل الخليفة ،فُيعزل وَيعقد المسلمون الخلفة لغيره خلل ثلثة أيام.
المارة المارة والرئاسة والقيادة بمعنى واحد ،والرئيس والقائد والمير بمعنى واحد .إل ّ أن الخلفة وإن كانت رئاسة للمسلمين م والخلفة أخصّ جميعا في الدنيا فإنها ليست إمارة .فالمارة أع ّ وكلهما رئاسة .فكلمة خلفة خاصة بالمنصب المعروف ،وكلمة إمارة عامة في كل أمير .والمسلمون مأمورون بنصب أمير عليهم كما هم مأمورون بنصب خليفة ،لن المارة من أنواع الحكم، فهي ولية أمر فيما ُوّلي به .والفرق بينها وبين الخلفة أن الخلفة عامة على جميع المسلمين في الدنيا ،وهذه خاصة فيمن وّلوه وفيما وّلوه به ،ول تتعدى من وّلوه كما ل تتعدى ما ُوّلي به. -91-
والرئاسة والقيادة والمارة حكم شرعي وليست أسلوبا، فالمسلمون مقّيدون بها بحدود ما أمر ا به وما جاء في الشرع. وإقامة كل جماعة من المسلمين تقوم بأمر مشترك بينها ض على هذه الجماعة .أّما إذا كان المر خاصا أميرا عليها ،فر ٌ بكل واحد وهو غير أمر الخر ،فل ُيطلب منها في هذه الحال أن تقيم أميرا عليها .فالمارة إّنما تقوم على الجماعة في المر المشترك بينها حتى يكون له السلطان وتكون له كلمة الفصل. فواقع وجود أمر مشترك بين أي جماعة يحّتم عليهم إقامة آمر عليهم ،وإل ّ فإن هذا المر سيضطرب بينهم ويحصل الفساد فيه. أّما كون إقامة رئيس للجماعة التي تقوم بأمر مشترك بينها فرضا على المسلمين فِلما روى عبدا بن عمرو أن النبي صلى ا ل يحل لثلثة يكونون بَفلة من الرض إل ّ عليه وسلم قال ) : أّمروا عليهم أحدهم( ،وِلما ُروي عن أبي سعيد أن رسول ا صلى ا عليه وسلم قال) :إذا خرج ثلثة في سفر فلُيؤّمروا عليهم أحدهم( ،وِلما أخرج البزار بإسناد صحيح من حديث عمر بن الخطاب بلفظ )إذا كنتم ثلثة في سفر فأّمروا أحدكم ذاك أمير أّمره رسول ا صلى ا عليه وسلم( ،وِلما أخرج الطبراني من حديث ابن مسعود بإسناد صحيح )إذا كانوا ثلثة في سفر فلُيؤّمروا أحدهم( ،ولحديث أبي هريرة )إذا خرج ثلثة في سفر فلُيؤّمروا أحدهم( .فهذه الحاديث صريحة في أنه ُيشَرع لكل عدد بلغ ثلثة فصاعدا أن يؤّمروا عليهم أحدهم .إل ّ أن قوله في الحاديث )في فلة( )في سفر( يدل على أنهم يكونون مجتمعين على أمر مشترك بينهم في فلة ،أو سائرين في سفر ،أو ما شاكل ذلك من العمال المشتَركة ،فيدخل في ذلك الحزب أو سِرّية والجيش والحي والمدينة والُقطر وغير ذلك. الجمعية وال َ شرع هذا لثلثة يكونون في فلة من الرض أو يسافرون وإذا ُ فشرعّيته لعدد أكبر أو لعمل أعظم يكون أْولى وأحرى. فالحاديث تكون عامة في الفلة وفي السفر وفي غيرهما مما هو أكبر وأعظم منهما ،لن مفهوم الموافقة يدل على ذلك. فالقاعدة الصولية أن فحوى الخطاب معمول به .فإذا أمر بشيء أو نهي عن شيء فإن المفهوم من المأمور به ومن المنهي عنه يدخل مع المنطوق فيما أمر به أو نهي عنه ول يختص بالمنطوق، يعني أنه إذا أمر بشيء أو نهي عن شيء فإن المر والنهي -92-
يشمل ما هو أكثر منه وأكبر بالولوية .ومثاله :تحريم شتم الوالدين وضربهما من دللة قوله تعالى) :ول َتُقل لهما أ ُفّ(، وتحريم إتلف أموال اليتامى من دللة قوله تعالى) :إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما( ،وتأدية ما دون القنطار وعدم تأدية ما فوق الدينار من قوله تعالى) :ومن أهل الكتاب َمن إن تأمنه بقنطار يؤّده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار ل يؤّده إليك( .وكذلك فإن الرسول أمر بتأمير واحد في السفر والفلة ،فيكون هذ المر منسحبا على ما هو أخطر من السفر وأهم من الوجود في الفلة وشامل ً له من باب أْولى .إذ كل ما يدل عليه فحوى الخطاب داخل في المر .ويؤيد مفهوم الموافقة هذا المبّين في الحاديث السابقة عمل الرسول صلى ا عليه وسلم ،فإنه أّمر فيما هو أخطر من السفر ،فقد أّمر في الحج ،وأّمر في الغزو ،وأّمر في الولية. هذا من ناحية وجوب إقامة أمير على كل جماعة في مكان أو عمل مشتَرك بينهم .أّما هذا المير ،فالشرع يحتم أن يكون واحدا ،ول يجوز أن يكون أكثر من واحد .فالسلم ل يعرف القيادة الجماعية ول يعرف الرئاسة الجماعية .وإّنما القيادة في السلم فردية محضة فيجب أن يكون الرئيس أو المير أو القائد واحدا ،ول يجوز أن يكون أكثر من واحد .والدليل على ذلك ظاهر في نص الحاديث السابقة ،وفي فعل الرسول صلى ا عليه وسلم .فالحاديث كلها تقول) :أحدهم() ،أحدكم( .وكلمة أحد هي كلمة واحد ،وهي تدل على العدد ،أي واحدا ل أكثر .وُيفهم ذلك من مفهوم المخالفة .ومفهوم المخالفة في العدد والصفة طل مفهوم المخالفة إل ّ في والغاية ُيعمل به بدون نص ،ول ُيع ّ حالة واحدة وهي إذا ورد نص يلغيه ،مثل قوله تعالى) :ول صنا( ،فإن مفهوم ُتكرهوا فتياتكم على الِبغاء إن أردن تح ّ المخالفة أنه إن لم ُيِردن تحصنا ُيكَرهن .ولكن مفهوم المخالفة هذا ملغى بقوله تعالى) :ول تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيل ً( .وإذا لم َيِرد نص يلغي مفهوم المخالفة فإنه حينئذ ُيعمل به ،كقوله تعالى) :الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة( ،وكقوله صلى ا عليه وسلم) :إذا بلغ الماء ُقّلتين لم خَبثا( ،فالحكم في هذين النصين جرى تقييده بعدد َيحمل َ مخصوص ،وتقييده هذا يدل على أن ما عدا ذلك العدد بخلفه. -93-
فإنه يدل على عدم جواز ما زاد على المائة ،وعلى أن ما زاد على خَبثا .وعلى ذلك فإن قول الرسول صلى ا عليه القلتين ل يحمل َ وسلم) :فليؤّمروا أحدهم() ،إل ّ أّمروا أحدهم() ،فأّمروا أحدكم( يدل مفهوم المخالفة في هذه المخالفة بأنه ل يجوز أن يؤّمر أكثر من واحد .ومن هنا كانت المارة لواحد ول يجوز أن تكون لكثر من واحد مطلقا بنص الحاديث منطوقا ومفهوما .ويؤيد ذلك عمل الرسول صلى ا عليه وسلم ،فإنه في جميع الحوادث التي أّمر فيها كان يؤّمر واحدا ليس غير ولم يؤّمر أكثر من واحد في مكان واحد مطلقا. وأّما الحديث المروي عن الرسول صلى ا عليه وسلم أنه سرا سرا ول تع ّ أرسل معاذا وأبا موسى إلى اليمن وقال لهما) :ي ّ شرا ول تنّفرا وتطاوعا( ،فإنه ل يدل على أنه أّمر اثنين على وب ّ مكان واحد .فإن الحديث ورد في البخاري بنص )حّدثنا مسلم حّدثنا شعبة حّدثنا سعيد بن أبي بردة عن أبيه قال :بعث النبي صلى ا عليه وسلم جده أبا موسى ومعاذا إلى اليمن وقال: شرا ول تنّفرا وتطاوعا( ،وورد الحديث نفسه سرا وب ّ سرا ول تع ّ ي ّ في باب المغازي أيضا بنص )حّدثنا موسى حّدثنا أبو عوانة حّدثنا عبدالملك عن أبي بردة قال :بعث رسول ا صلى ا عليه وسلم أبا موسى ومعاذا إلى اليمن قال :وبعث كل واحد منهما سرا سرا ول تع ّ على مخلف ،قال :واليمن مخلفان ،ثم قال :ي ّ شرا ول تنّفرا .فانطلق كل واحد منهما إلى عمله( .فهذه الرواية وب ّ تفسر الرواية الخرى بأنه أرسل الثنين إلى اليمن وجعل كل واحد منهما على جهة منها ،فلم يكونا أميرين على مكان واحد، وإّنما كان كل واحد منهما أميرا على مكان غير المكان الذي كان الخر أميرا عليه .وعلى ذلك فل يجوز أن يكون للمر الواحد رئيسان اثنان ول للمكان الواحد رئيسان اثنان ،بل يجب أن يكون الرئيس واحدا فقط ويحرم أن يكون أكثر من ذلك. إل ّ أنه ينبغي أن ُيعلم أن الرئاسة والمارة والقيادة في السلم ليست زعامة ،لن الزعامات تقتضي اتباع الزعيم .أّما الرئاسة في السلم فهي إّنما تجعل للرئيس حق رعاية الشؤون والسلطان في المر الذي كانت رئاسته له ,والتنفيذ لكل ما دخل تحت رئاسته حسب الصلحيات التي ُنصب لها أميرا ،في حدود ما أعطاه الشرع بالنسبة للمر الذي ُنصب رئيسا عليه. -94-
أّما ما تفشى في بلد المسلمين من إقامة رئاسة جماعية باسم مجلس أو لجنة أو هيئة إدارية أو ما شاكل ذلك ،تكون لها صلحيات الرئاسة ،فذلك يخالف الشرع إذا جعلت الرئاسة لهذه الهيئة أو المجلس أو اللجنة ،لنها تكون قد جعلت المارة لجماعة، وذلك حرام بنص الحاديث .أّما إذا كانت اللجنة أو المجلس أو الهيئة من أجل حمل العباء والمناقشة في المور والقيام بالشورى ،فإن ذلك جائز وهو من السلم ،لن مما ُيمدح به المسلمون أن أمرهم شورى بينهم ،ويكون رأيها حينئذ من حيث العتبار ملِزما بالكثرية فيما يتعلق بالقيام بالعمال ،ولمجرد الشورى فيما يتعلق بالحكام والراء التي تؤدي إلى فكر والراء الفنية والتعاريف .والرئيس إذا عزم ينّفذ ما يراه فيما هو متعلق بغير القيام بالعمال .وأّما ما اختلف فيه مفكرو الشيوعيين من كون القيادة جماعية أو فردية فل محل لبحثه في السلم ،لن السلم قد عّين القيادة فردية نصا وعمل ً وجرى عليه إجماع الصحابة وعمل الّمة في جميع العصور.
الطاعـة الطاعة أمر أساسي لوجود النضباط في الدولة ،وهي من أهم المظاهر التي تدل على النضباط العام في الدولة والّمة. ومن أجل ذلك جاء القرآن حاثا على الطاعة في آيات كثيرة بالرغم من وجود الوحي والمعجزات والرسالة وشخصية الرسول صلى ا عليه وسلم ،وهي كلها كافية ليجاد الطاعة .والطاعة التي جاء بها القرآن طاعة يقوم على أساسها كيان الدولة وكيان خُلق الطاعة .وقد جاءت الّمة ،وهي في نفس الوقت بيان ل ُ اليات آمرة بالطاعة -حين يجب أن تكون -أمرا يلزم بها ويجعلها تصبح سجّية من سجايا المسلم ،وجاءت ناهية عن الطاعة –حين ل يجوز أن تكون -نهيا يلزم عدم القيام بها واعتبارها ما ينأى عنه المسلم بنفسه من أن يؤديه .فنجد القرآن حين يوجد سجية الطاعة يقول) :أطيعوا ا والرسول() ،فاّتبعوني وأطيعوا طع ا ورسوله يدخله جنات أمري() ،واسمعوا وأطيعوا() ،ومن ُي ِ تجري من تحتها النهار() ،من ُيطع الرسول فقد أطاع ا() ،ومن ُيطع ا والرسول فأولئك مع الذين أنعم ا عليهم( .فالله أمر -95-
بالطاعة في هذه اليات طاعة مطلقة ،فقد جاءت طاعة غير مقيدة .ونجد الرسول صلى ا عليه وسلم يأمر بالطاعة للحكام والولة في أي حال من الحوال ،إل ّ أن يكون المأمور به معصية، فعن ابن عباس عن النبي صلى ا عليه وسلم قال) :من َكِره من أميره شيئا فليصبر فإنه من خرج من السلطان شبرا مات ميتة جاهلية( .واعتبر الرسول عدم طاعة المير مفاَرقة للجماعة، حّدث أبو رجاء العطاردي قال :سمعت ابن عباس رضي ا عنهما عن النبي صلى ا عليه وسلم قال) :من رأى من أميره شيئا يكرهه فلَيصِبر عليه ،فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات إل ّ مات ميتة جاهلية( .وكان مما بايع المسلمون النبي عليه الطاعة. خلنا على عبادة بن الصامت وهو عن جنادة بن أبي أمية قال :د َ مريض فقلنا :أصلحك ا حّدث بحديث ينفعك ا به سمعَته من النبي صلى ا عليه وسلم .قال) :دعانا النبي صلى ا عليه وسلم فبايعناه .فقال فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن ل ننازع المر أهله إل ّ أن تروا كفرا بواحا عندكم من ا فيه برهان( .فاليات والحاديث جاءت آمرة بالطاعة .إل ّ أن هذه الطاعة مقّيدة بحدود السلم ،ولذلك جاءت الحاديث الخرى ناهية عن الطاعة في معصية ا .قال صلى ا عليه وسلم :ل) طاعة لمخلوق في معصية الخالق( .وحّدث نافع عن عبدا رضي ا عنه عن النبي صلى ا عليه وسلم قال) :السمع ب وكره ما لم يؤمر بمعصية، والطاعة على المرء المسلم فيما أح ّ فإذا ُأمر بمعصية فل سمع ول طاعة(. إل ّ أن هذه الطاعة أمر بها ا حين تكون من أجل النضباط العام .أّما حين تكون هذه الطاعة ضد السلم أو تكون لسبيل غير سبيل ا ،فقد جاء السلم ينهى عنها .ومن أجل ذلك نهانا ا تعالى صراحة عن بعض الطاعات فقال) :يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يرّدوكم بعد إيمانكم كافرين() ،ول تطع من أغفلنا قلبه عن ِذكرنا واّتبع هواه وكان أمره ُفُرطا() ،وإن ُتطع أكثر من في الرض يضلوك عن سبيل ا() ،فل ُتطع الكافرين() ،فل ُتطع المكذبين() ،ول ُتطع منهم لف مهين( .فهذه اليات كلها تنهى آثما أو كفورا() ،ول ُتطع كل ح ّ عن طاعة أشخاص معينين بصفاتهم .وَمن تتبعها يتبين أنها ضد -96-
السلم ،ولسبيل غير سبيل السلم .وقد بّينها ا تعالى لنا حتى يكون تكوين الطاعة في نفوسنا منصرفا إلى إيجاد النضباط عد هذا النضباط عن المواطن التي يصبح فيها العام .وحتى ُنب ِ ضررا على الكيان إذا ُوجدت الطاعة .ولذلك يجب على المسلم حين يلبي أمر ا بالطاعة أن ينتهي عن طاعة من نهى ا عن طاعتهم.
تبني الخليفة للحكام والساليب أي سن القوانين كلمة القوانين معناها في اللغة العربية الصول ،الواحد قانون .وهو لفظ أعجمي معّرب .والقانون في الصطلح الجنبي معناه المر الذي ُيصدره السلطان ليسير عليه الناس. عرف القانون بأنه "مجموع القواعد التي يجِبر السلطان وقد ُ الناس على اّتباعها في علقاتهم" .والقانون من حيث هو ل ،وهذه قسمان :أحدهما الحكام التي تنظم العلقات أص ً نوعان :الول القانون الساسي وهو الدستور ،والثاني سائر القوانين الخرى غير الدستور .أّما القسم الثاني من القوانين فهو الذين ينظم الفعال الفرعية التي لصلها حكم عام وليس لها حكم خاص بها ،والذي ينظم الوسائل ،يعني هي الساليب التي تؤدى بها الفعال الصلية التي لها حكم عام وليس لفرعها حكم خاص به ،والتي تنظم الدوات ،ويقال لها قوانين إدارية أو أنظمة ما كانت أفعال العباد قد جاء خطاب إدارية أو ما شاكل ذلك .ول ّ الشارع المتعلق بها ملِزما التقيد به ،لذلك كان تنظيمها آتيا من ا ،وجاءت الشريعة السلمية متعلقة بجميع أفعال الناس وجميع علقاتهم ،سواء أكانت علقتهم مع ا أو علقتهم مع أنفسهم أو علقتهم مع غيرهم .لذلك ل محل في السلم لسن قوانين من ِقبل الناس لتنظيم علقاتهم ،فهم مقّيدون بالحكام الشرعية ،قال ا تعالى) :ومن يتعّد حدود ا() ،ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا( ،وقال) :وما كان لمؤمن خَيرة من ول مؤمنة إذا قضى ا ورسوله أمرا أن يكون لهم ال ِ أمرهم( ،وقال عليه السلم) :كل عمل ليس عليه أمرنا فهو َرّد(. فالله هو الذي شرع للناس الحكام وليس السلطان ،وهو الذي -97-
صَرهم بها أجبرهم وأجبر السلطان على اتباعها في علقاتهم وح َ عهم من اتباع غيرها .ولهذا ل محل للبشر في وضع أحكام ومَن َ لتنظيم علقات الناس ،ول مكان للسلطان في إجبار الناس أو تخييرهم على اتباع قواعد وأحكام ِمن وضع البشر في تنظيم علقاتهم. إل ّ أن الحكام الشرعية ،وهي خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد ،جاءت في القرآن والحديث ،وكان فيها الكثير مما ن حسب اللغة العربية وحسب الشرع ،فكان يحتمل عدة معا ٍ طبيعيا وحتميا أن يختلف الناس في فهمها وأن يصل هذا الختلف في الفهم إلى حد التباين والتغاير في المعنى المراد. ومن هنا كان ل بد أن تكون هناك أفهام متباينة وأفهام مختلفة. لذلك قد يكون هناك في الحكم الواحد آراء مختلفة ومتباينة. فالرسول صلى ا عليه وسلم حين قال في غزوة الحزاب ) : ل ُتصّلوا العصر إل ّ في بني قريظة(َ ،فِهم أشخاص أنه قصد الستعجال وصّلوا العصر في الطريق ،وَفِهم أناس أنه قصد خروها حتى وصلوا بني قريظة معنى الجملة فلم ُيصّلوا العصر وأ ّ ما بلغ الرسول ذلك أقّر الفريقين كل ً على فصّلوها هناك .ول ّ ل صلة إل ّ بفاتحة الكتاب(َ ،فِهم فهمه .وحين قال الرسول ) : أناس أنه قصد ل صلة صحيحة فقالوا :إن قراءة الفاتحة ركن طَلت صلته .وَفِهم أناس من أركان الصلة َمن لم يقرأها ب ُ آخرون أنه قصد ل صلة كاملة ،فقالوا :إن قراءة الفاتحة ليس ركنا من أركان الصلة بل قراءة القرآن هي الركن ،ولذلك إذا لم حت صلته .وكذلك اختلفوا يقرأ الفاتحة وقرأ أي آية من القرآن ص ّ ل ُيقَتل مسلم بكافر ول ذو عهد بعهده(، في قوله عليه السلم ) : فَفِهم جماعة أن المسلم إذا قتل كافرا ل ُيقتل به وإّنما ُيعّزر كأن ل ُيقتل مسلم بكافر( صريح في ل ،لن قول الرسول ) : ُيحبس مث ً عدم قتله .وَفِهم آخرون أنه يفّرق بين الكافر الحربي والكافر الذمي ،فالمسلم ُيقتل بالكافر الذمي إذا قتله ،وكذلك الكافر هد والكافر المستأَمن ،وأّما الكافر الحربي فل ُيقتل المسلم المعا ِ به إذا قتله ،لن قول الرسول في نفس الحديث يدل على ذلك وهو قوله) :ول ذو عهد بعهده( ،فإن معناه ل ُيقتل مسلم بكافر ما كان ذو العهد كافرا فإنه يتحتم أن ول ُيقتل ذو عهد بكافر .ول ّ هد بكافر يكون كلمة كافر تعني الحربي ،أي ل ُيقتل كافر معا ِ -98-
حربي .فيكون معنى الحديث ل ُيقتل مسلم بكافر حربي ول ُيقتل ذو عهد بكافر حربي ،ومفهومه أن المسلم ُيقتل بغير الكافر الحربي ،وذو العهد ُيقتل بغير الكافر الحربي .وذو العهد كافر، فكونه كالمسلم ل ُيقتل بكافر يدل على أن المراد من كلمة )كافر( في الحديث الكافر الحربي ل الذمي .ويؤيد ذلك ما ُروي أنه جيء لرسول ا بمسلم قتل يهوديا فقتله ،وقال) :نحن أحق من وّفى بذّمته( .وبهذا التباين في الفهم تباَين الرأي في الحكم الواحد .وهكذا كثير من اليات والحاديث .فاختلف الراء في الحكم الواحد يحتم على المسلم الخذ برأي واحد منها لنها كلها أحكام شرعية وحكم ا في حق الشخص الواحد ل يتعدد، ولذلك ل بد من تعيين حكم واحد منها لخذه .ومن هنا كان تبني المسلم لحكم شرعي أمرا لزما ول مناص منه بوجه من الوجوه شر العمل .ومجرد وجوب العمل بالحكم الواحد فرضا عندما يبا ِ كان أو مندوبا أو حراما أو مكروها أو مباحا يحتم وجوب تبني حكم معين .ولهذا كان واجبا على كل مسلم أن يتبنى حكما شرعيا معينا حين يأخذ الحكام للقيام بالعمل ،سواء أكان مجتهدا أم مقلدا ،خليفة أو غير خليفة .وإذا تبنى حكما معينا صار هذا الحكم الشرعي هو حكم ا في حقه وصار ملَزما به يعمل بموجبه وحده ويعّلمه للناس ويدعو للسلم بحسبه .لن معنى تبني المسلم للحكم هو العمل به وتعليمه لغيره والدعوة له حين يدعو لحكام السلم وأفكاره .وإذا تبنى المسلم حكما معينا صار هذا الحكم بعينه هو حكم ا في حقه ول يجوز له أن يتركه إل ّ في ثلث :إحداها أن يتبين له ضعف دليله وظهور دليل أقوى من دليله ،ويتعين عنده أن حكم ا هو ما دل عليه الدليل القوي ،وحينئذ يجب عليه ترك ما تبناه وتبني الرأي الجديد ،لنه صار هو حكم ا في حقه .ثانيها :أن يغلب على ظنه أن الرأي الجديد استنبطه من هو أعلم منه بالستنباط وأدق بالستدلل أو أكثر إحاطة بالشرع ،فحينئذ يجوز له أن يترك ما تبناه ويتبنى غيره، ِلما ثبت عن كبار الصحابة أنهم كانوا يتركون آراءهم ويأخذون رأي غيرهم .فقد أخذ أبو بكر رأي علي وترك رأيه ،وأخذ عمر رأي علي وترك رأيه .وثالثها :أن يكون المراد جمع كلمة المسلمين على رأي واحد ،ففي هذه الحالة يجوز للمسلم أن يترك الرأي الذي تبناه ويتبنى الرأي الذي يراد جمع كلمة -99-
المسلمين عليه ،وذلك ِلما ثبت عن عثمان أنه َقِبل أن يباَيع من الناس على كتاب ا وسّنة رسوله ورأي الشيخين من بعده أبي ك ِلما تبناه هو بكر وعمر ،وقد أقّره الصحابة على ذلك ،وهو تر ٌ وتبني ما سبق أن تبناه أبو بكر وعمر .ففي هذه الحوال الثلثة يترك المسلم ما تبناه ويتبنى غيره ،وما عداها ل يجوز أن يتركه طب بها كل فرد ،ولكل مسلم أن يتبنى مطلقا ،لن الشريعة مخا َ ُ ما يصل إليه بالجتهاد أو التقليد .وإذا تبنى ألِزم بما تبناه إل ّ في الحوال المستثناة بالدليل الشرعي. هذا بالنسبة لقيام كل فرد في تنظيم علقاته بنفسه .أّما بالنسبة لرعاية شؤون الّمة من ِقبل الخليفة وقيامه بأعباء السلطان وإقامة أحكام ا على الناس ،فإنه ول شك ل بد أن شر رعاية شؤون الناس بحسبها ،ول بد أن يتبنى أحكاما معينة يبا ِ يتبنى أحكاما معينة فيما هو عام لجميع المسلمين من شؤون خراج وكالعلقات الحكم والسلطان كالزكاة والضرائب وال َ الخارجية وكل ما يتعلق بوحدة الدولة ووحدة الحكم .ويكون التبني في هذه الحالت من ِقبل الخليفة واجبا ل جائزا ،لنه بالنسبة ِلما يباشره من أعمال أمٌر لزم باعتباره مسلما ملَزما بتسيير جميع أعماله حسب حكم معين هو حكم ا في حقه، ول فرق في ذلك بين العمال الخاصة والعمال العامة .وبالنسبة ِلما هو من شؤون الحكم والسلطان فإنه داخل في العمال الصلية من رعاية الشؤون وهي ل بد أن تسير حسب حكم واحد معينة .وبالنسبة لما يتعلق بوحدة الدولة ،فإنه يجب أن يسير حسب حكم واحد ،لن وحدة الدولة فرض ،وكل عمل يؤدي إليها فهو فرض .ولذلك كان تبني حكم واحد لكل ما يتعلق بها واجبا ل جائزا. أّما ما عدا ذلك فيجوز للخليفة أن يتبنى أحكاما معينة ُيلِزم الناس العمل بها ،ويجوز له أن ل يتبنى .يفعل في ذلك ما يراه أنفع لصالح المسلمين وأقوى لنشر السلم وتعليم أحكامه، وأصلح لعدالة الحكم وقوة السلطان .وقد تبنى أبو بكر أحكاما شرعية ألَزم الناس بها ،وتبنى من بعده عمر وعثمان وعلي أحكاما وألزموا الناس العمل بها ،وقد سكت الصحابة على ذلك طوال عصرهم ،ولم ُيسمع عن أحد منهم أي إنكار في تبني أحكام وإلزام الناس بها وتْرك العمل بما تبنوا من أحكام ،مع أنه -100-
مما ُينكر إذ هو إلزام الناس بترك أحكام تبنوها وكانت أحكام ا في حقهم .ولهذا كان إجماعا من الصحابة على أن للخليفة أن يتبنى أحكاما معينة وأن ُيلِزم الناس العمل بها .ولهذا فإنه إذا تبنى الخليفة أحكاما معينة سواء أكانت مما يجب عليه أن يتبنى فيه أو مما يجوز له أن يتبنى فيه ،وجب على كل مسلم من رعيته أن يعمل بهذا الحكم وأن يترك العمل بالحكم الذي سبق له أن تبناه لن ما تبناه الخليفة صار هو حكم ا في حقه من حيث العمل حل له أن يعمل بخلفه ،بل يجب أن يعمل به وحده ،ولو ول ي ِ كان خلف ما يراه ،ولو كان في نظره ضعيف الدليل .وذلك ِلما انعقد عليه إجماع الصحابة من أن للمام أن يتبنى أحكاما معينة ويأمر بالعمل بها ،وعلى المسلمين طاعتها ولو خالفت اجتهادهم. والقواعد الشرعية المشهورة في ذلك هي) :للسلطان أن ُيحِدث من القضية بقدر ما َيحُدث من مشكلت( ،و)أمر المام يرفع الخلف( ،و)أمر المام نافذ ظاهرا وباطنا( أي بينه وبين الناس طاعة للدولة وبينه وبين ا لن ما تبناه المام صار حكم ا في حقه من حيث العمل .إل ّ أن خضوع الناس لمر المام ولزوم عملهم بما تبناه من أحكام وتْرك العمل بآرائهم وما تبنوه ل يعتبر تبنيا ِلما تبناه المام ،وإّنما هو خضوع لمره وتنفيذ لما تبناه من ناحية العمل وليس تبنيا لما تبناه .ولذلك يجوز لي مسلم أن ُيعّلم ما تبناه من أحكام وأن يدعو إليها حين يدعو للسلم ،ولو خالفت ما تبناه المام .وذلك لن إجماع الصحابة على لزوم العمل بما تبناه الخليفة وليس التعليم ول الدعوة ،فهو خاص بالعمل .ولهذا نجد أنه حين كان أبو بكر يوزع المال على المسلمين بالتساوي من غير نظر إلى الِقَدم في السلم أو غير ذلك ،كان عمر يرى غير هذا الرأي فيرى أن الرجل وِقَدَمه في السلم والرجل وبلؤه .وقد ناقش أبا بكر في ذلك ،ولكنه خضع لما تبناه أبو بكر وظل متبنيا رأيه .وحين تولى الخلفة ألغى العمل برأي أبي بكر وعمل برأيه .ولهذا فإن هناك فْرقا بين تبني المسلم للرأي وبين خضوعه لما تبناه الخليفة .فالخضوع لتبني الخليفة لزوم العمل به فقط ل الدعوة له ول تعليمه .أّما تبني الرأي فهو تعليمه والدعوة له والعمل به .ولذلك ُيسمح بوجود تكتلت سياسية أي بوجود أحزاب تتبنى آراء على خلف ما تبناه الخليفة ،ولكنها كلها كسائر المسلمين تلَزم من ناحية العمل فقط بالعمل بما تبناه الخليفة -101-
ليس غير. إل ّ أن الخليفة حين يتبنى أحكاما شرعية إّنما يختار رأيا حكما شرعيا مستنَبطا باجتهاد شرعي ول يشرع هو معينا بوصفه ُ حكما من عنده فإن المشرع هو ا وحده .ولهذا فهو مقيد بالشرع وبالحكام الشرعية لن شرط بيعته أن تكون على الكتاب والسّنة ،ولنه بوصفه مسلما ولو كان خليفة مقيد بأوامر ا ونواهيه وملزم بالوقوف عند حد الحكام الشرعية ،ول يحل له أن يتعداها ول بوجه من الوجوه ،فل يحل له أن يأتي بحكم ولو حكما واحدا من غير الشرع السلمي .فإن قول الرسول صريح: )كل عمل ليس عليه أمرنا فهو َرّد( .ولهذا ل يحل للمام أن يحرم حلل ً ول يحل حراما ول أن يلغي حكما أو يوقف العمل بحكم لن ذلك حرام على الخليفة كما هو حرام على كل مسلم من المسلمين .ول يقال إن مصلحة المسلمين اقتضت تحريم كذا وإباحة كذا .لن ا قد عين مصلحة المسلمين بأحكام معينة، فإذا جاء الخليفة ورأى المصلحة في غير هذه الحكام فإنه يكون قد نسخها ،وهذا ل يجوز مطلقا .ولذلك ل يقال إن رعاية شؤون المسلمين قد جعلت له أن يسّيرها كما يرى باجتهاده ،لن ا جعل له رعاية شؤون المسلمين بالكتاب والسّنة أي بالحكام الشرعية وجعل له الجتهاد في حدودها .فهو يجتهد في العمال الفرعية التي جاء النص بأصولها عاما ولم يأت نص بها ،فإنه يجتهد في اختيار ما يراه أصلح وأنفع ،أّما ما جاء حكم ا فل محل لجتهاد الخليفة في شأنه بل هو ملَزم بتنفيذ الحكم الشرعي كما هو دون أي انحراف أو تبديل .نعم قد يرى عمل ً صل حتما إلى حرام جاء الشرع بتحريمه ،مثل أن مباحا ولكنه يو ِ يرى أن تداول كتاب معين يؤدي حتما إلى فتنة الناس عن دينهم أو يؤدي حتما إلى تفشي الِفسق بين الناس فيأمر بمنعه .وقد يرى عمل ً مباحا ولكنه يوصل حتما إلى أذى جاء الشرع بوجوب إزالته ،مثل أن يرى أن وضع البضاعة أمام المخازن يمنع المرور من الطريق أو يؤذي المارة ،فإنه حينئذ يمنع المباح ويعاِقب كل من يفعله .إل ّ أن هذا ليس تحريما للحلل بل هو تنفيذ لحكم شرعي استنبطه هو من قاعدة "الوسيلة إلى الحرام محرمة"، وقاعدة "كل شيء معين يؤدي إلى الضرر المحقق فهو جرام"، أو استنبطه غيره وتبناه هو ونّفذه .ففي هذه الحال يجب عليه -102-
أن يفعل ذلك لنه حكم شرعي وجب تنفيذه .ويكون قد منع الحرام ولم يمنع المباح .وكذلك إذا كان هناك أمر من المور أو حكم من الحكام يمكن أن يقام به بعّدة أعمال فرعية جاء دليل أصلها عاما وليس لها دليل خاص بها ،فإنه في هذه الحالة تكون جميع العمال التي يمكن أن يقام بالحكم أو المر بواسطتها من المباحات .وذلك مثل الوصول إلى معرفة رأي الناس بالخليفة ،أو رأيهم فيمن يوكلون عنهم في مجلس الشورى وهو يشبه ما يسمى بقانون النتخاب .فهذه العمال الفرعية كلها مباحات، فيجوز للخليفة أن يأمر بواحد منها دون غيره ،وحينئذ وجبت طاعته .ول يكون في هذه الحال قد أوجب مباحا وَمَنع مباحا آخر صلة للقيام بالحكم، بل يكون تبنى حكما وتبنى الوسيلة المو ِ صلة إليه وحينئذ وجبت طاعته فيما تبناه من الحكم والعمال المو ِ لنها تابعة للحكم والتابع يأخذ حكم متبوعه. ومن هذا القبيل جميع القوانين والنظمة الدارية فإنها إلزام بمباح لنه إلزام بتوابع حكم تبناه الخليفة ،واللزام به يقضي ترك ما سواه أي منعه وهو كتبّني الحكام سواء بسواء ،ول يخرج فيه عن الحكام الشرعية ول يكون قد أوجب مباحا وحرم عل ما جعله له الشرع من تبني الحكام وما مباحا آخر بل َف َ صل يوصل إلى القيام بها .ففي هذه الحوال الثلثة َمنع ما يو ِ صل إلى الذى ،واللزام بأسلوب معين من إلى الحرام ،أو يو ِ أساليب متعددة ل يكون الخليفة قد خرج عن الحكام الشرعية ول عن صلحيته في التبني ،ولكل منها دليله الشرعي .وعليه ل يكون هناك أي مسوغ يجيز للخليفة أن يغّير أي حكم شرعي بحجة المصلحة ،بل يجب أن يتقيد بجميع الحكام الشرعية تقيدا تاما في كل شيء. وأّما ما يقال من أن الرسول قد حّرم مباحات ومنعها رعاية لشؤون المسلمين ،فل حجة فيه على جواز أن للمام أن يفعل ذلك رعاية لشؤون المسلمين .وذلك لن الرسول مشّرع فإذا حّرم حكما مباحا أو أباح حكما محرما فإنه يكون قد نسخه، والنسخ خاص بالكتاب والسّنة أي بالقرآن والحديث ،وليس لغير الرسول ذلك مطلقا .وأّما منعه من أشياء معينة من شيء مباح صل ً إلى محرم صل ً لذى قد حّرمه ا أو مو ِ فإنه يكون إما مو ِ حرمه ا ،وهذا تشريع لنا وليس من قبيل رعاية الشؤون ،فل -103-
ُيتخذ دليل ً على إعطاء المام صلحية تغيير الحكام بحجة رعاية الشؤون أو بحجة المصلحة .ومن استعراض بعض أعمال الرسول صلى ا عليه وسلم يتبين ذلك بوضوح ،فمن ذلك: ُ- 1روي في غزوة تبوك أن رسول ا صلى ا عليه ما راحوا حجر نزلها واستقى الناس من بئرها ،فل ّ وسلم حين مّر بال ِ قال رسول ا صلى ا عليه وسلم :ل) تشربوا من مائها شيئا ول تتوضأوا منه للصلة ،وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه البل ول تأكلوا منه شيئا ول َيخُرجن أحد منكم الليلة إل ّ ومعه صاحب له( ،فهذا المثال يظهر منه أن الرسول صلى ا عليه وسلم نهى عن استعمال شيء مباح ،فيكون قد حّرم مباحا ،مع أن واقع الحادثة ليس كذلك ،بل واقعها أن الرسول نهى عن شيء معين من شيء مباح ل عن حكم مباح ول عن شيء مباح. صل حتما إلى ضرر ورد النص بتحريم أن وهذا الشيء المعّين يو ِ ن شرب الماء من هذه البئر قد عرف الرسول أنه يقع فيه ،فإ ّ صل إلى ضرر محقق ،فيكون ما فعله الرسول ليس تحريم يو ِ مباح بل تحريم ما يؤدى إلى ضرر حّرمه الشرع ،وهو إيقاع الذى في الجيش .وكذلك نهيه عن خروج أحد إل ّ ومعه صاحبه هو نهي صل حتما عن فعل معين من فعل مباح ،وهذا الفعل المعين يو ِ إلى ضرر حّرمه الشرع .والدليل على ذلك أن الناس الذين أمرهم الرسول فعلوا ما أمرهم به إل ّ رجلين من بني ساعدة خرج أحدهما لحاجته وخرج الخر في طلب بعير له ،فأما الذي ذهب خنق على مذهبه ،وأّما الذي ذهب في طلب بعيره لحاجته فإنه ُ فاحتملته الريح حتى طرحته بجبل طيء ،فُأخبر بذلك رسول ا فقال) :ألم أنَهكم أن يخرج منكم أحد إل ّ ومعه صاحبه( ،ثم دعا شفي ،وأّما الخر الذي وقع الرسول الذي أصيب على مذهبه ف ُ بجبل طشء فإن طيئا أهدته لرسول ا حين َقِدم المدينة. ما مر رسول ا صلى ا عليه وسلم والدليل على ذلك أيضا أنه ل ّ حجر سجى ثوبه على وجهه واستحث راحلته ثم قال ) : ل بال ِ تدخلوا بيوت الذين ظلموا إل ّ وأنتم باكون خوفا أن يصيبكم منها ما أصابهم(. حظ الفرق بين تحريم فعل معين من وهنا يجب أن يل َ فعل مباح وبين تحريم الفعل المباح أو تحريم شيء معين من شيء مباح وبين تحريم الشيء المباح .فتحريم فعل مباح هو أن -104-
يكون الفعل قد أباحه الشرع فيأتي الحاكم فيحرمه بحجة وجود الذى منه كاستيراد البضاعة من الخارج قد أباحه الشرع فيرى الحاكم أن إباحة الستيراد تسبب الذى للمصانع فيحرمه ،فإن هذا تحريم لفعل مباح وهو ل يجوز للحاكم مطلقا ،لن الشرع حين أباحه يعلم أنه نافع أو ضار ،وقد جعل له حكم الباحة فل يصح تحريمه لنه يكون نسخا لحكم الشرع ،وهو باطل على الطلق .أّما تحريم فعل معين من فعل مباح فهو أن يكون أمر من أمور هذا المباح قد طرأ عليه أنه وصل إلى ضرر قد ورد الشرع بتحريمه فيرى الحاكم تحريم هذا لمر لرفع الضرر ،وذلك كأن يرى الحاكم أن استيراد السكر مثل ً أدى إلى إقفال مصانع السكر في البلد وإفلسها وجعلها محتاجة للكفار في استيراد السكر فحينئذ يجوز للحاكم أن يمنع استيراد السكر دفعا للذى عن مجموع الّمة وهو افتقارها للكفار فيما هو من ضروراتها وعدم توفيره لها .ففي هذه الحال يجوز أن يمنع هذا المر المباح ،ول يكون تحريما لمباح بل المباح ظل مباحا كما هو وهو الستيراد ،ولكنه تحريم لمر مباح وهو استيراد السكر ،وذلك مثل تحريم الرسول لشرب الماء من بئر معّين عرف أن فيه ضررا، فتحريمه لم يحرم مباحا أي لم يحرم الماء وإّنما حرم أمرا معينا من المباح وهو الشرب من هذا البئر .ولذلك جاز تحريم فعل معّين من فعل مباح ،أّما تحريم فعل مباح فل يجوز مطلقا. ما رجع من ُ- 2روي أن الرسول صلى ا عليه وسلم ل ّ تبوك منع َمن وصل قبله إلى ماء في الطريق أن يشرب منه قبل ما جاء إتيانه ،فسبق جماعة من المنافقين فشربوا منه ،فل ّ ء َلعن الرسول ووجد الماء قد شربه الذين سبقوا ولم يجد ما ً ع ِمن شيء معين من الذين سبقوا وشربوا منه .فهذا أيضا مْن ٌ شيء مباح ،ولكن هذا الشيء يؤدي إلى ضرر وهو الستئثار بقسم من الماء عن باقي الجنود مع شدة الحاجة إليه في الصحراء ،ولذلك ل يكون تحريما لشيء مباح بحجة رعاية الشؤون. ُ- 3روي عن عمرو بن الشريد عن أبيه قال :كان في وفد ثقيف رجل مجذوم فأرسل إليه النبي صلى ا عليه وسلم )إنا قد بايعناك فارجع( ،ومنعه من مخالطة الناس .فهذا ليس تحريما صل إلى الذى .ولهذا ورد في لمباح وإّنما هو تحريم لفعل يو ِ -105-
حديث آخر ِف)ّر من المجذوم فرارك من السد(. وهكذا يظهر ِمن تتّبع ما ُيحتج به في هذا الشأن من حديث الرسول ،يتبين أنه ليس فيها تحريم شيء مباح وإّنما هي تحريم شيء معين من شيء مباح ،وهذا الشيء المعين يؤدي إلى ضرر ورد الشرع بتحريمه .ولهذا كان تشريعا ودليل ً على أن للمام أن يمنع أشياء معينة من الشياء المباحة ،وأفعال ً معينة من الفعال المباحة إذا كانت تؤدي إلى ضرر قد ورد الشرع بمنعه. وأّما ما ُيروى عن الصحابة من حوادث ،فإنها كلها يظهر ِمن تتّبعهها أنها تحريم لمباح يؤدي إلى حرام أو يؤدي إلى ضرر ورد الشرع بمنعه ،ومنها ما هو إلزام بفعل مباح للقيام بحكم شرعي أو بأمر أمر به الشرع ومنع غيره من قبيل التبني في الساليب وهو جائز للمام وذلك كتدوين الدواوين من ِقبل عمر ،وكاللزام بمصحف واحد وحرق جميع المصاحف من ِقبل عثمان .ومن هذا القبيل إلزام عمر للصحابة أن ُيِقّلوا من الحديث لما اشتغلوا به عن القرآن ،ومْنعه كبار الصحابة من الخروج من المدينة إلى البلد المفتوحة حتى ل يفتتن الناس بهم وحتى ل ُيفتنوا في جان ع ّ الدنيا ،وكذلك ما فعله الولة والحكام والخلفاء من إلزام ال َ بأن يضع عصابة على جبهته حتى ل ينزل عرقه في العجين ،وأن يضع قطعة قماش على أنفه لئل ينزل منه شيء في العجين، وإجباره على حلق شعر إبطه حتى ل يسقط منه شيء في العجين ،وغير ذلك مما ورد في كتب الفقه ،فإنه كله داخل تحت القاعدة "الوسيلة إلى الحرام محّرمة" ،والقاعدة "كل شيء معين يؤدي إلى الضرر المحقق فهو حرام" ،وليس فيها شيء مما يدل على أن الخليفة يجوز له أن يحرم مباحا أو يبيح حراما بحجة المصلحة أو بحجة رعاية الشؤون .وعلى هذا فإن القوانين بالمفهوم الجنبي من حيث كون أمر السلطان مطلقا غير واجبة الطاعة ما لم تكن أمرا للخليفة في تبني حكم شرعي واللزام بهذا الحكم .فالقوانين هي ما تبناه الخليفة من الحكام الشرعية. إل ّ أن للخليفة أن يأمر بما يراه من قواعد للقيام بالحكام الشرعية أو العمال والمور المطلوبة شرعا ،وذلك كالقوانين الدارية والنظمة الدارية .وهذا يعتبر تبنيا بالساليب وهو تابع لتبني الحكام ،وتكون هذه القوانين واجبة الطاعة لنها قد تبناها -106-
الخليفة ،ولنها تدخل تحت قوله تعالى) :وأطيعوا ا وأطيعوا الرسول وأولي المر منكم( ،لن الطاعة جاءت عامة فتشمل كل شيء لم َيِرد الشرع بمنعه.
الجهـاد سع في القتال في سبيل ا مباشرة أو الجهاد هو بذل الُو ْ معاونة بمال أو رأي أو تكثير سواد أو غير ذلك .فالقتال لعلء كلمة ا هو الجهاد .أّما الجهاد بالرأي في سبيل ا فهو إن كان رأيا يتعلق مباشرة بالقتال في سبيل ا فهو جهاد ,وإن كان ل يتعلق بذلك مباشرة فليس جهادا شرعا ،ولو كانت فيه مشقات، ولو ترتبت عليه فوائد لعلء كلمة ا .لن الجهاد شرعا خاص بالقتال ،ويدخل فيه كل ما يتعلق مباشرة بالقتال .ومثل الرأي الكتابة والخطابة إن كانت متعلقة مباشرة بالقتال كخطبة في الجيش لتحميسه ليباشر القتال أو مقال تحريضي لقتال العداء فهو جهاد وإل ّ فل .وعلى ذلك فل يطَلق على الكفاح السياسي جهادا ،ومقارعة الحكام المسلمين الظالمين جهادا ،وإن كان ثوابه كبيرا ،وفوائده للمسلمين عظيمة .فالمسألة ليست بالمشقة ول بالفائدة ،وإّنما هي بالمعنى الشرعي الذي وردت فيه هذه الكلمة .والمعنى الشرعي هو القتال وكل ما يتعلق به من رأي وخطابة وكتابة ومكيدة وغير ذلك. وسبب الجهاد ليس الجزية ،وإن كنا عند قبول الجزية نك ّ ف عنهم .وإّنما سبب الجهاد هو كون الذين نقاتلهم كفارا امتنعوا عن قبول الدعوة ،قال تعالى) :قاِتلوا الذين ل يؤمنون بالله ول باليوم خر ول يحّرمون ما حّرم ا ورسوله ول َيدينون دين الحق من ال ِ الذين أوتوا الكتاب حتى ُيعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون(، فالمر بقتالهم لوصف الكفر ،أي قاتلوهم لنهم ل يؤمنون بالله خر ..الخ .فيكون هذا الوصف قيدا للقتال ،وحينئذ ول باليوم ال ِ يصبح سببا ،فيكون سبب القتال هو الكفر .وقد جاء في آية أخرى )يا أيها الذين آمنوا قاِتلوا الذين يلونكم من الكفار وْلَيجدوا فيكم غلظة( ،فأمر بقتالهم لوصف الكفر .ومثل ذلك آيات كثيرة مثل ِ )فقاِتلوا أولياء الشيطان() ،فقاِتلوا أئمة الكفر() ،وقاِتلوا المشركين( ،كلها أمر بالقتال لوصف معين هو سبب القتال وهو -107-
صغار سبب وقف الكفر .أّما إعطاء الجزية فقد جعله القرآن مع ال َ القتال ل سبب القتال ،ومن هنا كان سبب الجهاد هو الكفر .فإذا َقِبل الذين نقاتلهم الدعوة صاروا مسلمين ،وإذا امتنعوا عن اعتناق السلم وَقِبلوا أن يدفعوا الجزية وأن يحكموا بالسلم ُيقبل ذلك منهم وُيمتَنع عن قتالهم ،لنه ل يجوز أي ُيكرهوا على اعتناق السلم .وما داموا َقِبلوا الحكم به ودفع الجزية فقد خضعوا للدعوة ولو لم يعتنقوا السلم .ولذلك ل يجوز قتالهم بعد هذا القبول للحكم به ودفع الجزية .أّما إذا قِبلوا الجزية وامتنعوا عن أن يحكموا بالسلم فل يجوز للخليفة أن يقبل ذلك منهم لن سبب القتال وهو كونهم كفارا امتنعوا عن قبول الدعوة ل يزال قائما ،فقتالهم ل يزال فرضا لم تسقط فرضيته عن المسلمين .أّما المعاهدات الضطرارية التي يقبل فيها الخليفة الجزية لعدم موآتاة الوضاع الخارجية والداخلية له وتْركهم يحكمون أنفسهم بنظام الكفر ،فتلك حالة اضطرارية رخص الشرع بها في حالت الضرورة ،فل يقاس عليها .وعلى هذا فإن سبب الجهاد هو كون الذين نقاتلهم كفارا امتنعوا عن قبول الدعوة وليس هناك أي سبب آخر للجهاد .على أن كون الجزية صغار سببا لوقف القتال إّنما يكون من غير مشركي العرب، مع ال َ أّما مشركو العرب فل ُيقبل منهم إل ّ السلم أو القتل لقوله تعالى) :تقاتلونهم أو ُيسِلمون(. ض بنص القرآن والحديث ،قال تعالى: والجهاد فر ٌ )وقاتلوهم حتى ل تكون فتنة ويكون الدين كله لله( ،وقال: خر ول يحّرمون ما حّرم )قاِتلوا الذين ل يؤمنون بالله ول باليوم ال ِ ا ورسوله ول َيدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى ُيعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون( ،وقال تعالى )ُ :كتب عليكم القتال( ،وقال) :إل ّ َتنِفروا يعّذبكم عذابا أليما( ،وقال) :يا أيها غلظة(، الذين آمنوا قاِتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم ِ وعن أنس قال :قال رسول ا صلى ا عليه وسلم) :جاهدوا المشركين بأموالكم وأيديكم وألسنتكم( .وعن أنس أيضا أن غدوة أو َرْوحة في سبيل ا النبي صلى ا عليه وسلم قال َ) :ل َ ُ ت أن خير من الدنيا وما فيها( ،وقال صلى ا عليه وسلم ) :أمر ُ ض إلى أقاتل الناس حتى يقولوا ل إله إل ّ ا( ،وقال) :الجهاد ما ٍ يوم القيامة( ،وعن زيد بن خالد قال :قال رسول ا صلى ا -108-
خَلَفه عليه وسلم) :من جّهز غازيا في سبيل ا فقد غزا ،ومن َ في أهله بخير فقد غزا( ،وعن عطاء بن يزيد الليثي أن أبا سعيد خدري رضي ا عنه حّدثه قال :قيل :يا رسول ا أي الناس ال ُ أفضل؟ فقال رسول ا صلى ا عليه وسلم) :مؤمن يجاهد في سبيل ا بنفسه وماله( ،وقال عليه السلم) :من مات ولم َيغُز ولم ُيحّدث نفسه بالغزو مات على بقية من النفاق( ،وعن ابن أبي أوفى أن رسول ا صلى ا عليه وسلم قال) :إن الجنة تحت ظلل السيوف( ،وعن أبي هريرة قال) :مّر رجل من شعب فيه عيينة من ماء أصحاب رسول ا صلى ا عليه وسلم ب ِ شعب ت الناس في هذا ال ِ عذب فأعجبته ِلطيبها فقال :لو اعتزل ُ ولن أفعل حتى أستأذن رسول ا صلى ا عليه وسلم ،فذكر ذلك لرسول ا فقال :ل) تفعل ،فإن مقام أحدكم في سبيل ا أفضل من صلته في بيته سبعين عاما(. والجهاد فرض كفاية ابتداء ،وفرض عين إن هجم العدو على من هاجمهم ،وفرض كفاية على غيرهم .ول يسقط الفرض حتى ُيطرد العدو وتطهر أرض السلم من رجسه. ومعنى كون الجهاد فرض كفاية ابتداء هو أن نبدأ بقتال العدو ء أحٌد من المسلمين في وإن لم يبدأنا ،وإن لم يقم بالقتال ابتدا ً ء إذا قام به أهل مصر سقط زمن ما أِثم الكل بتركه .والقتال ابتدا ً عن أهل اندونيسيا إذ قد ُوجد فعل ً قتال من المسلمين للكفار المحاربين فحصل فرض الجهاد .أّما إذا نشب القتال بين المسلمين والكفار ولم تحصل الكفاية بقتال الكفار من ِقبل أهل مصر وحدهم ،فل تسقط فرضيته عن أهل الهند واندونيسيا بقيام أهل مصر والعراق ،بل ُيفرض على القرب فالقرب من العدو إلى أن تقع الكفاية ،فلو لم تقع الكفاية إل ّ بكل المسلمين صار الجهاد فرضا على كل المسلمين حتى ُيقهر العدو .ومحل كون الجهاد فرض كفاية إذا لم يستنفره الخليفة ،أّما من استنفره الخليفة فإن الجهاد أصبح فرضا عليه لقول ا تعالى) :يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انِفروا في سبيل ا اّثاقلُتم إلى الرض( ،ولقوله صلى ا عليه وسلم) :إذا اسُتنِفرُتم فانِفروا(. ومعنى الكفاية بالجهاد في الدولة السلمية هو أن ينهض للجهاد قوم يكفون في قتالهم ،إّما أن يكونوا جندا لهم دواوين من أجل ذلك كما كانت الحال في أيام عمر أو يكونوا قد أعّدوا أنفسهم -109-
للجهاد تبرعا كما كانت الحال في أيام أبي بكر ،ويكونون سواء صدهم حصلت كان هؤلء أو هؤلء أو هم جميعا بحيث إذا َق َ مَنعة بهم مَنعة بهم فيكون فرض كفاية عليهم ،فإن لم تحصل ال َ ال َ جّهز الخليفة غيرهم للجهاد ،وهكذا .وليس معنى كون الجهاد ء هو أن نبدأ العدو بالقتال رأسا ،بل ل بد من دعوته أول ً إلى ابتدا ً السلم. ول يحل للمسلمين أن يقاِتلوا َمن لم تبُلغه الدعوة السلمية ،بل ل بد من دعوة الكفار إلى السلم ،فإن أبوا فالجزية ،فإن أبوا قاتلناهم .فقد ُروي عن سليمان بن يزيد عن أبيه قال) :كان رسول ا صلى ا عليه وسلم إذا أّمر أميرا على سِرّية أوصاه في خاصته بتقوى ا ومن معه من جيش أو َ المسلمين خيرا ثم قال :اغزوا باسم ا ،قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ول َتغلوا ،ول تغدروا ،ول تمّثلوا ،ول تقتلوا وليدة ،وإذا لقيت عُهم إلى ثلث خصال أو خلل فأيتهن عدوك من المشركين فاد ُ عُهم إلى السلم ،فإن ف عنهم .اد ُ ما أجابوك فاقبل منهم وُك ّ أجابوك فاقَبل منهم وُكف عنهم ،ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين ،وأخِبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين .فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخِبرهم أنهم يكونوا كأعراب المسلمين يجري عليهم الذي يجري على المسلمين ول يكون لهم في الفيء والغنيمة شيء إل ّ أن سْلُهم الجزية ،فإن أجابوك يجاهدوا مع المسلمين .فإن هم أبوا ف َ ف عنهم .وإن أبوا فاستعن بالله عليهم وقاتلهم(، فاقَبل منهم وُك ّ وعن ابن عباس قال) :ما قاَتل رسول ا صلى ا عليه وسلم قوما قط إل ّ دعاهم( ،وعن فروة بن مسيك قال) :قلت :يا رسول ت دعاني ما وّلي ُ مقِبل قومي وُمدِبرهم؟ قال :نعم .فل ّ ا أقاِتل ب ُ فقال :ل تقاتلهم حتى تدعوهم إلى السلم(.
الخليفة والجهاد الجهاد فرض مطَلق وليس مقيدا بشيء ول مشروطا بشيء ،فالية فيه مطَلقة )ُكتب عليكم القتال( .فوجود الخليفة ل دخل له في فرض الجهاد ،بل الجهاد فرض سواء كان هناك خليفة للمسلمين أم لم يكن .إل ّ أنه حين يكون للمسلمين خليفة -110-
قد انعقدت خلفته شرعا ولم يخرج عنها بسبب من أسباب ن أمر الجهاد موكول إلى الخليفة واجتهاده ما دام الخروج ،فإ ّ خليفة ،حتى لو كان فاجرا ،ما دام باقيا في مركز الخلفة ،ويلَزم الرعية طاعته فيما يرى من ذلك ولو أمر أي واحد منهم أن يغزو مع أمير فاجرِ ،لما روى أبو داود بإسناده عن أبي هريرة قال: قال رسول ا صلى ا عليه وسلم) :الجهاد واجب عليكم مع كل أمير َبّرا كان أو فاجرا(. ويجب على خليفة المسلمين في كل وقت أن يبذل مجهوده في الخروج بنفسه أو يبعث الجيوش والسرايا من المسلمين ،ثم يثق بجميل وعد ا له تعالى في نصرته بقوله تعالى) :يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا ا ينصركم( .وينبغي أن يبتدئ بترتيب جيش في أطراف البلد يكّفون من بإزائهم من الكفار .ول يجوز للخليفة أن يخلي أي ثغر من الثغور من جماعة من المسلمين غناء وكفاية لقتال العدو ،بل ل بد أن تكون جميع الثغور فيهم َ مشحونة بالجيش السلمي دائما .ويجب أن يقيم كل ما يدفع عن المسلمين وعن بلد المسلمين أذى العدو من حصون أو عد ما استطاع من كل نوع من خنادق أو أي شيء ،ويجب أن ُي ِ أنواع القوة التي تحمي الدولة السلمية والبلد السلمية من الكفار وكيدهم. ويجب أن يتولى الخليفة نفسه قيادة الجيش الفعلية في سياسة الجيش وإدارته ،وحين يضع عليه قائدا له خبرة عسكرية إّنما يضعه نائبا عنه لن الخليفة ليس القائد العلى للجيش ،بل هو القائد الفعلي له .فقد كان الرسول صلى ا عليه وسلم يتولى قيادة الجيش بنفسه وحين كان يرسل السرايا يرسلهم باعتباره قائد الجيش .وكان عمر يرسل التعليمات التفصيلية لُقّواده في فارس والشام مما يدل على أن الخليفة هو قائد ض على كل فرد من أفراد الجيش الجيش الفعلي .وطاعته فر ٌ سواء أكان جنديا أم قائدا ،كما هو فرض على كل فرد من أفراد الرعيةِ ،لما ُروي عن أبي هريرة أنه سمع الرسول صلى ا عليه وسلم يقول) :نحن الخرون السابقون( ،وبهذا السناد )من طع أطاعني فقد أطاع ا ومن عصاني فقد عصى ا ومن ُي ِ المير فقد أطاعني ومن يعصي المير فقد عصاني ،وإّنما المام سترة جنة أي ُ جّنة يقاَتل ِمن ورائه وُيّتقى به( ،ومعنى كون المام ُ ُ -111-
لنه يمنع العدو من أذى المسلمين .إل ّ أن على الخليفة أن ل يأمر ن عرف أنهم أمرا جازما ل تردد فيه إل ّ فيما يستطيعه الناس ،فإ ْ ل يستطيعونه ل يأمرهم به أمرا مشددا .وكذلك ل َيحمل المسلمين على مهلكة ول يأمرهم بما يخشى منه الغدر بهم. خر هذا إذا كان هنالك خليفة ،فإذا عِدم الخليفة لم يؤ ّ الجهاد ول بوجه من الوجوه ،لن مصلحته تفوت بتأخيره .وإذا بعث الخليفة جيشا وأّمر عليهم أميرا فُقتل أو مات فللجيش أن يؤّمروا أحدهم كما فعل أصحاب النبي في جيش مؤتة وأقّرهم الرسول على ذلك .وإذا كان للجيش أمير فليس لحد من الجيش أن يخرج من المعسكر لي غرض من الغراض إل ّ بإذن المير، وإذا أمر بفعل شيء أو ترك شيء وجبت طاعته وحرمت مخالفته لقول ا تعالى) :إّنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ع لم يذهبوا حتى يستأذنوه(، ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جام ٍ وما ينطبق هنا على النبي ينطبق على الخليفة ،ويقاس المير طع المير فقد أطاعني على الخليفة ،ولقوله عليه السلم) :ومن ُي ِ ومن يعصي المير فقد عصاني(.
معنى تو ّلي الخليفة لقيادة الجيش الخلفة رئاسة عامة للمسلمين جميعا لقامة أحكام الشرع مل الدعوة السلمية إلى العالم .فإقامة أحكام السلمي وح ْ الشرع وحمل الدعوة إلى العالم هما المران اللذان قد ُوجد منصب الخلفة لجلهما ،وهما عمل منصب الخلفة .فل يصح أن يتولهما أحد غير الخليفة ،ول يجوز للخليفة أن يقيم من يتولهما نيابة عنه ،لنهما هما المران اللذان بويع عليهما ووقع عقد البيعة فيهما على شخصه ،فل يجوز له أن يوكل عنه فيهما ،لن كل عقد وقع على شخص العاقد كالجير والوكيل والشريك ل يجوز له أن يوكل غيره في القيام بالعمل الذي جرى العقد عليه .وعقد الخلفة حين يجري على شخص معين ل يجوز لهذا الشخص أن يوكل غيره أن يقوم مقامه فيما جرى عقد الخلفة فيه على شخصه وهو الرئاسة العامة للمسلمين لقامة أحكام الشرع وحمل الدعوة. ومن ذلك يتبين أن حمل الدعوة هو مما قامت الخلفة -112-
لجله ،أي مما كان وجود الخلفة من حيث هو من أجل القيام به. فل يجوز أن يتوله غير الخليفة ،وإن كان يصح أن يقوم به كل شخص من المسلمين .وعليه فإن حمل الدعوة وإن كان فرضا على جميع المسلمين ولكل فرد من المسلمين أن يقوم به ولكنه ل يجوز أن يتوله أحد سوى الخليفة. وتولي الخليفة حمل الدعوة له طريقة معينة وهي الجهاد، عد للقتال، والجهاد إّنما يوجد بالمجاهدين ،وبالقوة التي ُت َ وبالقتال نفسه .لذلك كان وجود الجيش وتجهيزه وعمله الذي يقوم به ،هو الطريقة لحمل الدعوة إلى العالم .ومن هنا كان الخليفة هو الذي يتولى قيادة الجيش لنه هو الذي يتولى حمل الدعوة ،فهو الذي يتولى الجهاد ،فيتولى هو ل غيره قيادة الجيش ،ذلك أن توّلي قيادة الجيش ليس القيام بإدارته ول القيام ن هذه كلها أساليب بتدريبه ول القيام بالمور الفنية فيه ،فإ ّ ووسائل .والخليفة وإن كان يتولى شؤونها توليا عاما ولكنه ل يقوم بها ،وإّنما تولي الجيش هو تولي تكوينه ،وتولي تجهيزه، وتولي أمر القيام بأعماله .وذلك لن الجندي الذي ينقطع للجهاد عد لرهاب العدو وللقتال تعتبر من أعمال مجاهد ،والقوة التي ُت َ الجهاد ،ولذلك أمر ا بها حين أمر بالجهاد .والقتال نفسه هو الجهاد .ولهذا كان توّلي أمر المجاهدين ،وأمر إعدادهم ،وأمر قيامهم بالقتال إّنما هو للخليفة ليس غير .فيكون معنى قيادة الخليفة للجيش هو أن يتولى هو ل غيره رسم السياسة المتعلقة بتكوين الجيش ،والسياسة المتعلقة بتجهيزه وإعداده ،والسياسة المتعلقة بقيامه بعمله أي بالقتال .وأن يتولى هو ل غيره الشراف المباشر على تنفيذ هذه السياسة .ولذلك كان الخليفة هو الذي يتولى رسم السياسة العسكرية كلها داخليا وخارجيا، ورسم سياسة القتال كلها داخليا وخارجيا ،ول يصح أن يتولها أحد غيره مطلقا .صحيح أنه يجوز له أن يستعين بمن يشاء في رسم هذه السياسة وفي الشراف على تنفيذها ولكنه ل يجوز أن ُيترك لحد غير الخليفة أن يتولها مطلقا .هذا هو معنى تولي الخليفة لقيادة الجيش .ولهذا ل يجوز أن يتولى هذه القيادة غير الخليفة ،ول بوجه من الوجوه. وهناك مسألتان ناجمتان عن وضع الجيش نفسه من حيث كونه هو القوة التي تقوم بالجهاد بوصفه الطريقة الوحيدة لتوّلي -113-
الخليفة لحمل الدعوة .ومن حيث كونه هو القوة التي تقوم بحماية السلطان الذي للخليفة أي للدولة داخليا وخارجيا .أّما المسألة الناجمة عن وضع الجيش من حيث كونه هو القوة التي تقوم بالجهاد بوصفه طريقة توّلي الخليفة لحمل الدعوة فإنها مسألة تتعلق بالسياسة الخارجية للدولة ،وما للجيش والعتبارات العسكرية من مكان فيها .وذلك أن السياسة الخارجية للدولة السلمية إّنما تقوم على حمل الدعوة إلى العالم .وبما أن طريقة توّلي الخليفة لحمل الدعوة إّنما هي الجهاد ،لذلك كانت الدولة السلمية في حالة جهاد دائم. وعلى هذا فإن الّمة السلمية كلها تؤمن بأن الحرب بينها ملة كل وقت .وأن سياسة الدولة يجب وبين غيرها من الدول محت َ أن ُتبنى على العداد الدائم للجهاد .وبما أن قتال العداء قتال ً فعليا ل يجوز إل ّ بعد تبليغهم الدعوة السلمية أول ً على وجه َيلفت النظر ،لذلك كانت سياسة الدولة السلمية تهدف إلى إيجاد حالة بينها وبين غيرها من الدول يتأتى بها تبليغ السلم إلى الشعوب والمم على وجه َيلفت النظر ،وأن تبني ذلك على العداد لخوض الحرب في كل وقت إذا اقتضى ذلك حمل الدعوة .فإيجاد حالة يتأتى معها تبليغ أفكار السلم وأحكامه على وجه َيلفت النظر أمر ل بد منه ،لنها حكم من أحكام الجهاد وشرط أساسي للبدء بالقتال الفعلي .ولذلك يتحتم على الخليفة إيجاد هذه الحالة ،ويجب عليه في سبيل إيجادها أن يبذل أقصى ما يستطيع من جهد وينفق ما يحتاجه إيجادها من مال ،كما يجب عليه أن يخوض بعض المخاطر من أجلها تماما كما يخوض المخاطر من أجل الفتح أو الذود عن بيضة السلم أو حماية ِذمار المسلمين .ولذلك كان توفير القوة العسكرية والعناية بالعداد العسكري والحاطة بالتقديرات العسكرية جزءا جوهريا في إيجاد هذه الحالة والمحافظة عليها ،لن القوة العسكرية هي الدرع الوحيد ضد قوى الكفر وضد دول الكفر .وهذا ما يجعل للجيش أو القوات العسكرية أثرا في تولي الخليفة لحمل الدعوة، وهذا يعني أن للجيش والقوات المسلحة أثرا في السياسة الخارجية لنها هي عمادها .ومن هنا يأتي الخطر على السياسة الخارجية ،أي على توّلي الخليفة لحمل الدعوة .ولذلك ل بد من إدراك هذه المسألة على حقيقتها من حيث أثر الجيش في توّلي -114-
الخليفة لحمل الدعوة ،أي من حيث خطر ذلك على سياسة الدولة الخارجية .وإذا لم ُتدَرك هذه المسألة على حقيقتها فإنه ينتج عنها إما وقوف حمل الدعوة إلى العالم ،وإما اضطراب وتدهور السياسة الخارجية. إن بناء قوة عسكرية للدولة السلمية ليس مجرد تجهيز دفاعي فحسب ،وإّنما هو المر الحتمي الذي ل بد منه ليتأتى للخليفة القيام بما بايعه المسلمون عليه .أي ليتأتى للدولة أن تقوم بما فرضه ا عليها وهو حمل الدعوة .أو بعبارة أخرى ليتأتى للدولة أن تقوم بسياستها الخارجية على الوجه الذي فرضه ا ،وأن تحافظ على بقاء تسيير هذه السياسة تسييرا صحيحا منِتجا .ولذلك كان بناء القوة العسكرية فوق كونه الدرع الوحيد الذي تملكه الّمة ضد إرهاب الكفار الحربيين واحتمال غزوهم، هو الطريقة الوحيدة لجعل سياسة الدولة الخارجية سياسة إسلمية. إل ّ أن كون الدولة السلمية ملَزمة حتما ببناء قوة عسكرية بجهاز عسكري قوي ،ليس معناه أن تسيطر العتبارات العسكرية على سياسة الدولة الخارجية ،ول أن يكون للجهاز العسكري أثر ل أم كُثر .وذلك أن في السياسة الخارجية ،مهما كان هذا الثر ،ق ّ الرأي العسكري هو رأي محترفين لحرفة معينة ،صادر من أولئك الذين ِمن وظيفتهم أن يضمنوا للدولة المزايا العسكرية إذا وقعت الحرب بينها وبين غيرها من الدول .ومن الطبيعي والمتوقع أن يشمل رأيهم جميع الحتياطات .ولكنه ل يصح أن يتجاوز في اعتباره كونه نصيحة فحسب ،ول يجوز أن يتجاوز كونه نصيحة أناس محترفين لحرفة معينة في حرفتهم ل يتجاوز تفكيرهم في الموضوع هذه الناحية المعينة .ولذلك ل يصح اّتباع هذه النصيحة في كل صغيرة وكبيرة ،ول يصح بحثها إل ّ فيما تحتله من مكان في البحث العام للسياسة الخارجية ،فتؤخذ في فنها فقط وتؤخذ حين يكون فنها وما أعطيت فيه في محله في السياسة الخارجية، فهي نصيحة وليست شورى ،أي يطلبها الخليفة حين يبحث السياسة الخارجية ،ويجوز أن يسمعها إذا قيلت له مجرد سماع، على أن يكون في حالة وعي على السياسة الخارجية وفي حالة وعي على مكان هذه النصيحة في مخططات السياسة الخارجية، ول يصح أن يعطيها أكثر من ذلك .لنه إذا لم يفعل هذا وأعطاها -115-
قدرا أكبر من كونها نصيحة ،فإنه ول شك سيحصل الخطر على السياسة الخارجية ،إما اضطرابا وتدهورا في السياسة الخارجية وإما وقوفا عن حمل الدعوة .بل قد يحصل أكثر من ذلك ،إذ قد يحصل تدهور في الدولة وانحسار عن الرقعة التي تبسط سلطانها عليها .ولذلك ل يجوز أن يعطى للرأي العسكري أكثر من كونه مجرد نصيحة. والعسكريون حين يؤدون عملهم بصفتهم العسكرية فإنهم خلون في اعتباراتهم الستفادة من يؤدونه كأخصائيين .إنهم ل ُيد ِ الرأي العام العالمي ،ول يفكرون في كون الدعوة إلى السلم بلغت على وجه َيلفت النظر وأثر ذلك في لقاء العدو .وهم ل يحاولون أن يأخذوا في حسبانهم المكانيات الهائلة في القوى ملة ح َ الروحية والقوى المعنوية .وهم ل يهتمون بفهم أعمال َ الدعوة الذين يعيشون في بلد العدو أو يذهبون للدعوة فيها .ول يدركون وسائل الدبلوماسية ول مقدار التأثير العظيم للعمال السياسية .ومن أجل ذلك يكون تفكير العسكريين تفكيرا موضوعيا ل تفكيرا سياسيا شامل ً .فإذا ُأخذت نصيحتهم كانت نصيحة قّيمة في موضوعها ،ولكن إذا أعطوا صلحية العمل والتقرير وكان لرأيهم أي نوع من اللزام فإنه ول شك يسبب ضررا في القرارات السياسية والسير السياسي .ولهذا ل يجوز أن ُيسمح للجهاز العسكري أن يكون له أثر في السياسة الخارجية، ول يجوز أن تحتل آراء العسكريين مكانا يتجاوز كونها مجرد نصيحة فنية ليس غير ،ل مطلق نصيحة. إل ّ أنه ليس معنى حصر مكانة آراء العسكريين في كونها مجرد نصيحة فنية فحسب هو التفريط في التقديرات العسكرية، بل معناه فقط هو أن الخليفة يجب أن تسيطر تقديراته على التقديرات العسكرية ،وعليه وهو يرسم الخطط النهائية أن يكون مل المسؤولية في تجاهل التقديرات العسكرية البحتة مستعدا لتح ّ في بعض الحيان .ويجب أن يجعل تقديرات غيره من غير العسكريين كالمعاونين والولة وكأهل الحل والعقد والمفكرين، أكثر من تقديرات العسكريين ،ولكنه يجب على الخليفة أن يقّدر مكانة العسكريين العالية في الدولة ،سواء من حيث الدفاع عن البلد أو من حيث بدء الكفار بالجهاد ،ولذلك يجب عليه وعلى الّمة كلها المحافظة على القوة العسكرية كما يحاِفظ الفرد على -116-
حّبة عينه .ولكن يجب أن يكون السياسيون وليس العسكريين هم الذين يهيمنون على رسم السياسة الخارجية ،وهم الذين يقررون كيفية الستعداد لمواجهة أخطار الحرب ،وما إذا كانوا سيدخلون الحرب ،وإذا كان ذلك فبأي سرعة ومتى .ويجب أن يجعل الخليفة من القوة العسكرية إدارة تابعة دائما ،وأن ل يسمح للجهاز العسكري ول لي فرد فيه أن يتجاوز دور التابع للسياسة ل دور الراسم لها. هذا من حيث دور الجهاز العسكري وآراؤه .أّما من حيث اعتبار الخليفة للعتبارات العسكرية فإنه ل يكفي أن يأخذها مجرد نصيحة فنية ليس غير ثم يجعل للعتبارات العسكرية أثرا في تقريره السياسة الخارجية ،بل ل بد أن تكون العتبارات العسكرية مجرد نصيحة في أخذها ،ول بد أن يحال بينها وبين أن يكون لها أي أثر في السياسة الخارجية .أي أنه ل يجوز أن ُتبنى السياسة الخارجية عليها أو أن تكون عامل ً مؤثرا فيها ،فإن من الخطورة أن تتحكم العتبارات العسكرية في السياسة الخارجية. بل يجب إبقاء العتبارات العسكرية في مؤخرة سياسة الدولة الخارجية ،ويجب أن تظل التقديرات العسكرية من حيث كونها تقديرات عسكرية ،سواء صدرت عن العسكرين أم عن غير العسكريين ،في منأى عن التأثير على الخليفة حين رسم السياسة الخارجية. إن المور العسكرية تأخذ شكل ً مفصل ً ملموسا .فأنت تستطيع أن ترى المدافع والسفن الحربية والطائرات والقواعد والقنابل النووية والصواريخ .وتستطيع أن تقتنع بسهولة وُيسر في آثارها على النصر أو الهزيمة ،على الفتح أو النحسار ،على التقدم أو التقهقر .فهي أشياء مادية يمكن أن تقاس أبعادها ،ولها آثار مادية يمكن أن ُتلمس نتائجها .بخلف القوى الروحية والقوى المعنوية ،وبخلف المناورات السياسية ،وبخلف الرأي العام المحلي أو الرأي العام العالمي ،فإن هذه ليست أمورا مادية وليس من السهل إدراك آثارها ولمس نتائجها ،لنها أشياء غير ملموسة ل ُترى ول ُتحس مع أنها أعظم أهمية وأكثر حيوية في السياسة الخارجية ،حتى في الحرب والفتح .ولذلك يجب أن تظل العتبارات العسكرية في مؤخرة السياسة الخارجية وأن تكون ثانوية فيها ،وأن يظل اعتبار القوى الروحية أول ً ثم القوى -117-
المعنوية هو المسيطر .وأن يكون للمناورات السياسية وللدهاء معا في السياسي مكانة بارزة من العتبار ،وأن يكون ذلك مجت ِ قوة سياسية واحدة غير قابلة للتجزئة يتولها الخليفة وحده .ومن هنا نستطيع أن ندرك معنى توّلي الخليفة وحده قيادة الجيش الفعلية ،وخطر جعلها له قيادة شكلية أو قائدا أعلى على حد بعض التعابير. ولقد كان لجعل العتبارات العسكرية تسيطر على السياسة الخارجية عند بعض الخلفاء أثر فظيع أدى إلى وقف حمل الدعوة إلى العالم في العصر الثاني من عصر العباسيين وفي أواخر عصر العثمانيين .فقد وقفت الفتوحات السلمية في بلد الروم عند حدود البلد التركية من جهة بلد الشام ،وفي بلد أوروبا الغربية رجعت عن فرنسا ووقفت عند حدود اسبانيا بالرغم من أن الطاقة الروحية كانت ل تزال قوية ،وأن الفكار السلمية أخذت دور العراقة والتركيز .ولكن حين كان العسكريون ُيعطون آراءهم في قوتهم وقوة العدو وُيجعل لهذه الراء العتبار الول في دخول الحرب أو عدم دخولها ،كان القرار القتصار على حملت الصوائف والشواتي لبقاء الجهاد موجودا عمل ً بأحكام الشرع دون أن يتجاوز ذلك إلى أعمال سياسية أو إلى اعتبارات سياسية .وفي أيام العثمانيين وصلت الجيوش السلمية أسوار فيينا في النمسا بعد أن اكتسحت أوروبا من اليونان وبلغاريا ورومانيا والبانيا وبسطت سلطان السلم على تلك الربوع كلها .حتى كان الرأي العام في أوروبا أن الجيش السلمي ل ُيغَلب .وحين سيطرت العتبارات العسكرية على السياسة الخارجية على إثر النقلب الصناعي الذي حدث في أوروبا في القرن الثامن عشر الميلدي ،وقف المد السلمي وبدأ الجزر الذي أدى إلى التدمير الكامل لسلطان السلم. هذا من حيث كون الجيش هو القوة التي تقوم بالجهاد .أّما من حيث كونه هو القوة التي تقوم بحماية السلطان داخليا وخارجيا ،فإن هذا يتعلق بالقوة المادية من حيث كونها هي حياة السلطان أي الحكم .فهي التي تحفظه وهي التي بإمكانها أن تهدمه وبإمكانها أن تقيمه وإن كانت إقامة مؤقتة .ولهذا فإن مقام الجيش والقوات المسلحة مكان ضخم في السلطان من حيث هو سلطان .وهذا يوحي بأن للجيش أثرا كبيرا في السلطان. -118-
ولكن الحقيقة إذا جاز أن يكون للعتبارات العسكرية وجود في السياسة الخارجية من حيث أخذ نصيحتها فإنه ل يجوز بحال من الحوال أن يكون للجهاز العسكري ول لي فرد فيه أي وجود في السلطان من حيث كونه عسكريا ،لن السلطان وإن كان ُيحفظ بالجهاز العسكري ولكنه ل وجود للعسكرية فيه .فالسلطان ليس مدا من القوة المادية ،وإّنما هو قوة مادية ملموسة ،وليس مست َ مد من الّمة أو تنفيذ التنظيم للعلقات في المجتمع .وهو مست َ الشعب ،لنه يكمن حقيقًة فيه ،أو في الفئة القوى منه .ول علقة للعسكرية ول للجهاز العسكري فيه .نعم إن التنفيذ إّنما يقوم به العسكريون ،ويستحيل أن يوجد دون قوة مادية أي دون العسكريين .ولكن دورهم فيه هو دور الداة ليس غير .ول يجوز أن يتجاوز دورهم في التنفيذ دور البندقية في يد الجندي ُيطِلق منها النار على العدو ولكنه ل إرادة لها في الطلق ول رأي لها فيه .ومن الخطر على الحكم أن يكون للعسكريين في السلطان جد لهم ن أي دور يو َ أي الحكم أي وجود ول بحال من الحوال .فإ ّ ل يجعله حكما بوليسيا كحكم الشرطي للسجين ،ل فيه مهما ق ّ سلطانا ينفذ تنظيم العلقات. ل يكون ن أي دور يوجد للعسكريين في السلطان مهما ق ّ إ ّ خطرا على الحكم وعلى الحاكم وعلى كيان البلد .وذلك أن الحكم فيه تحري الحق ،وفيه التقيد بالشرع ،وفيه تحقيق العدل. وهو ل يعطي أي اعتبار للقوة المادية حين الحكم ،ل عند الحاكم ول عند المحكومين .وقّوته تكمن في الحساس بشؤون الناس ورعايتها ،ل بما لديه من أدوات تنفيذ .فإذا ُوجدت القوة المادية فيه أفسدته من حيث هو حكم وحّولته إلى مجرد سيطرة كم ،وانعدمت فيه حينئذ حقيقة الحكم والسلطان .ولذلك ل وتح ّ يصح أن يكون للعسكريين ول للجهاز العسكري أي وجود فيه ،بل يجب أن يظلوا بيد الحاكم أداة ل إرادة لها في الحكم ول رأي لها فيه مطلقا ،بل مجرد أداة صماء خالية من كل ما يمت له بصلة من إرادة ورأي وغير ذلك. هذا من حيث خطرها على نفس الحكم .أّما من حيث خطرها على الحاكم ،فإن الجهاز العسكري أو العسكريين بشر وفيهم غريزة البقاء ،ومن أهم مظاهرها السيادة .فإذا ُترك لهم أن يكون لهم وجود في الحكم ،ورأوا أنفسهم أنهم قادرون على -119-
هدم الحاكم ،وأنهم هم الذين يحَفظونه ويحفظون سلطانه مد الحاكم سلطانه، هموا أنهم مصدر السلطان ،وأن منهم يست ِ تو ّ فتتحرك فيهم أحاسيس السيادة وَيِثبون عليه –والقوة المادية بأيديهم -فيغتصبون الحكم منه .ولهذا كان من الخطر الفادح على الحاكم أن يجعل للجهاز العسكري أو للعسكريين أي وجود في السلطان .وقد حصل ذلك في الدولة السلمية في عصر عفوا أمام ض ُ ن بعض الخلفاء َ العباسيين وفي عصر العثمانيين ،فإ ّ العسكريين فما كان منهم إل ّ أن قلبوهم أو جعلوهم أداة في أيديهم .وكان من جراء ذلك ،النحدار الذي حصل في الحكم في الدولة السلمية أيام هؤلء الخلفاء. أّما خطر وجود أي دور للعسكريين في الحكم على كيان الّمة وكيان الدولة ،فإن الدولة السلمية من طبيعة الفكرة التي تحملها تكون محاطة بالعداء .والحكم الشرعي الذي يجب أن تتقيد به الدولة والّمة ،أن العالم كله دار إسلم ودار حرب. فالبلد التي ُتحكم بالسلم وتظللها الراية السلمية هي دار إسلم ،وما عداها من جميع بقاع العالم دار كفر أي دار حرب. ولذلك تكون الدولة السلمية في جميع العصور محاطة بأعداء يتربصون بها الدوائر .فإذا ُترك للعسكريين وجود في الحكم مهما ل دورهم فيه ،فإن إغراءهم من العداء أسهل من إغراء ق ّ السياسيين ،لن الصل في عملهم أنه عمل عسكري مادي عب عليهم إدراك المناورات البعيدة والتفريعات السياسية فيص ُ الخفية .ولذلك قد ُيغَرْون بأخذ الحكم أو بتغيير الحكام مقابل مكاسب للبلد حسب فهمهم ،أو مكاسب شخصية لهم .وهنا يقع الخطر ل على أشخاص الحكام ول على نفس الحكم بل على كيان الّمة وكيان الدولة .لن كيان الّمة هو مجموعة الناس مع مجموعة من المفاهيم والمقاييس والقناعات .وكيان الدولة هو مجموعة من الناس لهم صلحية الحكم مع مجموعة من المقاييس والمفاهيم والقناعات .فإذا أخذ الحكم العسكريون بإغراء خارجي تسربت إليهم –أي إلى العسكريين -مفاهيم ومقاييس وقناعات غير التي في الدولة .وبذلك يتسرب الخلل إلى كيان الدولة ثم إلى كيان الّمة بل ربما يتسرب فوق ذلك نفوذ الدول الكافرة ،وهنا يحصل الضمحلل والزوال .ومن هنا كان السماح بأي وجود للجهاز العسكري أو للعسكريين في السلطان -120-
أي الحكم ،خطرا فظيعا. ولقد عانت الّمة السلمية من خطر وجود دور للعسكريين في السلطان ما عانت من تسّرب الخلل إلى كيان الدولة والّمة، ثم إلى زوال كيان الدولة السلمية وكيان الّمة السلمية من الوجود .ففي أواخر العثمانيين صارت سفارات الدول الكافرة في استانبول تؤثر على العسكريين حتى أخذت تتسرب إلى جهاز الدولة مفاهيم ومقاييس وقناعات غير إسلمية .ودور مدحت باشا والضباط الذين معه في إيجاد هذه المفاهيم والمقاييس والقناعات من أبرز الدوار ،ول سيما في النقلب الذي جاء بعبدالحميد خليفة ،والنقلب الذي أطاح بعبدالحميد عن الخلفة وجاء بمحمد رشاد خليفة .وقبل ذلك كان دور محمد علي الكبير في مصر في جعله نفسه عميل ً لفرنسا لضرب الخلفة السلمية في استانبول .ثم كان دور مصطفى كمال عقب هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الثانية في تآمره مع انجلترا في القضاء على الخلفة مقابل انسحاب الحلفاء من استانبول ومساعدته في مؤتمر الصلح .فهذه الدوار التي قام بها العسكريون قد زعزعت كيان الدولة السلمية ثم أزالته وأزالت كيان الّمة السلمية من الوجود .ولهذا ل يجوز أن ُيسمح للجهاز العسكري أو العسكريين أي وجود في السلطان.
الشهيـد الشهداء ثلثة أقسام :شهيد في الخرة دون أحكام الدنيا، وشهيد في الدنيا فحسب ،وشهيد في الدنيا والخرة .أّما شهيد الخرة وحدها دون أحكام الدنيا ،فهم المذكورون في الحاديث وهم في بعض الروايات سبعة وفي بعضها ثمانية وفي بعضها تسعة وفي بعضها أحد عشر .والصحيح كما ورد في مسلم أنهم مطعون وهو الذي يموت في الطاعون أي الوباء خمسة وهم :ال َ المعروف .والمبطون وهو صاحب السهال .والغرق وهو الذي يموت بسبب الماء .وصاحب الهدم أي البناء المهدوم .ومن يموت في سبيل إعلء كلمة ا في غير المعركة .روى مسلم عن أبي هريرة أن رسول ا صلى ا عليه وسلم قال) :بينما رجل خره فشكر ا يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق فأ ّ -121-
له وقال :الشهداء خمسة :المطعون والمبطون والغرق وصاحب ل( .وروى مسلم عن أبي الهدم والشهيد في سبيل ا عز وج ّ عّدون هريرة قال :قال رسول ا صلى ا عليه وسلم) :ما َت ُ الشهيد فيكم؟ قالوا :يا رسول ا من ُقتل في سبيل ا فهو شهيد .قال :إن شهداء أّمتي إذا لقليل .قالوا :فمن هم يا رسول ا؟ قال :من ُقتل في سبيل ا فهو شهيد ،ومن مات في سبيل ا فهو شهيد ،ومن مات في الطاعون فهو شهيد ،ومن مات في البطن فهو شهيد .قال ابن مقسم :اشهد على أبيك في هذا الحديث أنه قال والغريق شهيد( .والمراد بشهادة هؤلء كلهم أنهم يكون لهم في الخرة ثواب الشهداء ،وأّما في الدنيا فُيغسلون وُيصلى عليهم .وإذا قيلت كلمة شهيد في معرض الثواب والحديث عنه فيصح إطلقها على هؤلء .أّما إذا ُأطلقت كلمة شهيد في الكلم إطلقا دون أن تكون معها أية قرينة ،فل تنصرف إلى هؤلء بل تنصرف إلى الذي ُيقتل في سبيل ا ليس غير. وأّما شهيد الدنيا دون الخرة ،فهو الذي يأخذ أحكام الشهيد في الدنيا من حيث أنه ل ُيغسل ول ُيصلى عليه بل ُيدفن في ثيابه ،ولكنه ل يأخذ في الخرة ثواب الشهداء الذين قاتلوا لتكون كلمة ا هي العليا .وهذا هو الذي يقاِتل في غير سبيل ا بأن قاَتل للسمعة أو من أجل الغنيمة فقط أو قاتل ُمدبرا .وذلك لن الحاديث خصصت الثواب للشهيد بالشهيد الذي يقاِتل في سبيل ا والذي يقاِتل مقِبل ً غير مدِبر .عن أبي موسى الشعري أن رجل ً أتى النبي صلى ا عليه وسلم فقال :يا رسول ا ،الرجل يقاِتل للمغَنم ،والرجل يقاِتل لُيذَكر ،والرجل يقاِتل لُيرى مكانه، من في سبيل ا؟ فقال رسول ا صلى ا عليه وسلم :من ف َ قاتل لتكون كلمة ا أعلى فهو في سبيل ا( .وروى مسلم عن أبي موسى قال :سئل رسول ا صلى ا عليه وسلم عن الرجل يقاِتل شجاعة ،ويقاِتل حمّية ،ويقاِتل ِرياء ،أي ذلك في سبيل ا؟ فقال رسول ا صلى ا عليه وسلم :من قاتل لتكون كلمة ا هي العليا فهو في سبيل ا( .وقد اشَترط الرسول غفران الذنوب للشهيد أن يقاِتل مقِبل ً غير مدِبر ،عن عبدا بن أبي قتادة عن قتادة أنه سمعه يحّدث عن رسول ا صلى ا عليه وسلم أنه قام فيهم فذكر لهم أن الجهاد في سبيل -122-
ا واليمان بالله أفضل العمال .فقام رجل فقال :يا رسول ا أرأيتَ إن ُقتلت في سبيل ا ُتكّفر عني خطاياي؟ فقال له ت في سبيل ا رسول ا صلى ا عليه وسلم :نعم ،إن ُقتل َ سب ُمقِبل غير مدِبر .ثم قال رسول ا صلى ا وأنت صابر محَت ِ ت إن ُقتلت في سبيل ا ُتكّفر عليه وسلم :كيف قلت؟ قال :أرأي َ عني خطاياي؟ فقال رسول ا صلى ا عليه وسلم :نعم ،إن سب ُمقِبل غير مدِبر .إل ّ ُقتلتَ في سبيل ا وأنت صابر محَت ِ ن جبريل عليه السلم قال لي ذلك( ،ومفهوم هذا أنه إن الدْين ،فإ ّ قاتل مدِبرا ل ُتكّفر عنه ذنوبه وليس له ثواب الشهيد .على أن الذي يقاِتل لجل السمعة قد بّين الرسول صلى ا عليه وسلم ماه شهيدا .روى مسلم عن سليمان بن يسار قال: أنه ُيعّذب وس ّ تفّرق الناس عن أبي هريرة فقال له نائل أهل الشام :أيها الشيخ حّدثنا حديثا سمعَته من رسول ا صلى ا عليه وسلم .قال: نعم .سمعتُ رسول ا صلى ا عليه وسلم يقول :إن أول الناس ُيقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فُأتي به فعّرفه ل فيك حتى ت فيها؟ قال :قات ُ نعمه فعرفها .قال :فما عمل َ ت لن يقال جريء ،فقد قيل. ت ،ولكنك قاتل َ اسُتشهدت .قال :كذب َ ُ سحب على وجهه حتى ألقي في النار( إلى آخر ثم ُأمر به ف ُ الحديث .فهذا يدل على أن من قاتل للسمعة ولو أخذ أحكام الشهيد في الدنيا ولكنه يوم القيامة ل يكون له ثواب الشهيد ،بل يعّذب. أّما شهيد الدنيا والخرة فهو من قاتل الكفار لعلء كلمة ا وُقتل في معركة بين المسلمين والكفار ،سواء أكان القتال ن الذين ُقتلوا ببلد الحرب أو ببلد السلم .قال تعالى) :ول تحسَب ّ في سبيل ا أمواتا بل أحياء عند ربهم ُيرزقون( .وهذا الشهيد هو الذي جاءت في حقه أحكام شرعية .وهو مختص بمن ُقتل جرح في المعركة ثم مات من في حرب مع الكفار ،وكذلك من ُ جرحه الذي جرحه في المعركة يعتبر كمن ُقتل في المعركة .أّما َمن عدا ذلك فل يعتبر شهيدا .وعليه فل يعتبر شهيدا من ُقتل في حرب مع البغاة ول ِمن جرح في المعركة ثم شفي من جرحه ثم مات منه .فالشهيد الذي له أحكام خاصة والذي أخبر عنه ا تعالى أنه حي ،مختص بمن ُقتل في معركة مع الكفار لعلء جرح في المعركة ومات من جرحه هذا. كلمة ا ،ومن ُ -123-
حكم الشهيد المذكور أنه ل ُيغسل ول ُيكفن بل ُيدفن في و ُ دمه وثيابه .لن الشهيد ُيبعث يوم القيامة ورائحة دمه كالمسك الزفر .أّما عدم غسل الشهيد فِلما ُروي عن جابر قال :كان رسول ا صلى ا عليه وسلم يجمع بين الرجلين من قتلى ُأحد في الثوب الواحد ثم يقول :أّيُهم أكثر أخذا للقرآن؟ فإذا أشير إليه إلى أحدهما قّدمه في اللحد ،وأمر بدفنهم في دمائهم ولم ل عليهم( ،ولحمد أن النبي صلى ا عليه وسلم ُيغسلوا ولم ُيص ّ ن كل جرح أو كل دم يفوح ل تغسلوهم فإ ّ قال في قتلى ُأحد ) : ل عليهم( ،وُروي أن النبي صلى ا مسكا يوم القيامة .ولم ُيص ّ عليه وسلم قال في شهداء ُأحد) :زّملوهم بدمائهم ول تغسلوهم فإنه ما من جرح ُيجرح في سبيل ا إل ّ وهو يأتي يوم القيامة وأوداجه تشخب دما اللون لون دم والريح ريح مسك( ،وعن أنس ل على قتلى ُأحد ولم )أن النبي صلى ا عليه وسلم لم ُيص ّ يغسلهم( .وكما لم يغسل شهداء ُأحد لم يغسل شهداء بدر، وكذلك لم يغسل شهداء الخندق وخيبر ،فظهر أن الشهيد ل ُيغسل .وكذلك ل ُيكفن الشهيد كما ُيكفن الميت ،وإّنما ُيكفن بثيابه التي هي عليه لقول رسول ا صلى ا عليه وسلم في شهداء ُأحد) :زّملوهم بدمائهم وكلومهم( ،وقوله) :ادفنوهم بثيابهم( ،وِلما ُروي عن ابن عباس )أن رسول ا صلى ا عليه وسلم أمر بقتلى ُأحد أن ُينزع عنهم الحديد والجلود وأن ُيدفنوا في ثيابهم بدمائهم( .أّما الصلة على الشهيد فجائز أن ُيصلى عليه وجائز أن ل ُيصلى عليه .أّما جواز أن ُيصلى على الشهيد فلنه وردت روايات أن الرسول صلى ا عليه وسلم صّلى على قتلى ُأحد بعد دفنهم ،وصّلى على حمزة ،وصّلى على رجل ُقِتل في المعركة .ففي البخاري عن عقبة بن عامر )أنه صلى ا عليه حد بعد ثماني سنين صلته على ميت وسلم صّلى على قتلى أ ُ ُ كالموّدع للحياء والموات( .وعن أبي داود عن مالك الغفاري )أنه صّلى ا عليه وسلم صّلى على قتلى أحد عشرة عشرة في كل عشرة حمزة حتى صّلى عليه سبعين صلة( .وروى أبو داود عن أبي سلم عن رجل من أصحاب النبي صلى ا عليه وسلم قال) :أغرنا على حي من جهينة فطلب رجل من المسلمين رجل ً منهم فضربه فأخطأه وأصاب نفسه ،فقال رسول ا صلى ا عليه وسلم :أخوكم يا معشر المسلمين ،فابتدره الناس فوجدوه -124-
قد مات فلّفه رسول ا صلى ا عليه وسلم بثيابه ودمائه وصلى عليه ودفنه .فقالوا يا رسول ا أشهيد هو؟ قال :نعم ،وأنا له شهيد( .فهذه الحاديث الثلثة أحاديث ثابتة ،وهي صريحة الدللة بأن الشهيد يصلى عليه .وأّما جواز أن ل يصلى على الشهيد فلنه وردت روايات أخرى أن الرسول صلى ا عليه وسلم لم يصل على الشهيد ،فقد روى أبو داود والترمذي عن أنس )أن النبي صّلى ا عليه وسلم لم يصل على قتلى أحد ولم يغسلهم(، وروى أحمد عن أنس )أن شهداء أحد لم يغسلوا ودفنوا بدمائهم ل عليهم( ،وروى البخاري عن جابر بن عبدا رضي ا ولم يص ّ عنهما قال) :كان النبي صلى ا عليه وسلم يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب وأحد ثم يقول أيهم أكثر أخذا للقرآن؟ فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد وقال :أنا شهيد على هؤلء يوم القيامة ،وأمر بدفنهم في دمائهم ولم يغسلوا ولم يصل عليهم( .فهذه الحاديث ثابتة وهي صريحة الدللة على أن الشهيد ل يصلى عليه. وقد أجاب الشافعي عن حديث ابن عباس وما ورد في معناه من الصلة على قتلى ٌأحد قبل دفنهم "بأن الخبار جاءت كأنها عيان من وجوه متواترة أن النبي صلى ا عليه وسلم لم يصل على قتلى ُأحد" .فهذه الحاديث كلها ثابتة سواء التي وردت أن النبي صلى ا عليه وسلم صّلى على الشهيد أو التي روت أنه لم يصل عليه .ول سبيل لرد أي منها لثبوته ولنه مما ُيحتج به رواية ودراية .ول سبيل لترجيح أحدهما على الخر لنه يبعد غفلة الصحابة عن إيقاع الصلة على أولئك الشهداء ،كما يبعد أيضا غفلتهم عن الترك الواقع على خلف ما كان ثابتا عنه صّلى ا عليه وسلم من الصلة على الموات .فكيف يرجح أحدهما على الخر؟ ول يقال إن المراد بالصلة في الحاديث التي تثِبت الصلة على الشهداء هو الدعاء فيكون قوله صّلى بمعنى دعا .ل يقال ذلك لن الحقائق الشرعية مقدمة على اللغوية ما لم ترد قرينة. وهنا لم ترد قرينة فيتحتم أن يكون المراد بالصلة الصلة الشرعية على الميت .ول يقال إن أحاديث الصلة على الميت تنسخ أحاديث عدم الصلة عليه لن أحدها وهو الصلة على قتلى ُأحد بعد ثمان سنين ثبت أنه متأخر عن جميع الحاديث لنه ورد في رواية ابن حيان )ثم دخل بيته ولم يخرج حتى قبضه ا(. -125-
ل يقال ذلك لن تأخر الحديث وحده ل يكفي للدللة على النسخ بل ل بد من قرينة أخرى يفهم منها النسخ ،وهنا ل توجد قرينة فل نسخ فيه ،فتبقى الروايات كلها معتَبرة وُتحمل على أن عدم الصلة على الشهيد جائز ،ولم يرو أن الرسول صلى ا عليه وسلم صّلى على قتلى بدر ول على قتلى الخندق ول على قتلى خيبر .كما ُتحمل على أنه إذا صّلى على الشهداء فل شيء في ذلك ،ول ُيمنع الناس من الصلة عليهم .وإّنما سمي الشهيد شهيدا لنه مشهود له بالجنة بنص القرآن قال ا تعالى) :إن ا اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل ا فَيقُتلون وُيقَتلون( .وروى مسلم عن جابر قال :قال رجل :أين أنا يا رسول ا إن ُقتلت؟ قال في الجنة فألقى تمرات كن في يده ثم قاتل حتى ُقِتل( .وفي حديث سويد )قال رجل للنبي صلى ا عليه وسلم يوم ُأحد وعن أنس بن مالك أن رسول ا صلى ا عليه وسلم انطلق وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلى بدر وجاء المشركون فقال رسول ا صلى ا عليه وسلم :ل) يقدمن أحد منكم إلى شيء حتى أكون أنا دونه فدنا المشركون فقال رسول ا صلى ا عليه وسلم :قوموا إلى جنة عرضها السموات والرض .قال يقول عمير بن الحمام النصاري يا رسول ا جنة عرضها السموات والرض؟ قال: نعم .قال :بخ بخ .فقال رسول ا صلى ا عليه وسلم :ما يحملك على قولك بخ بخ .قال :ل وا يا رسول ا إل ّ رجاءة أن أكون من أهلها .قال فإنك من أهلها .فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن ثم قال :لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى ُقِتل( .فالله تعالى ورسول ا صلى ا عليه وسلم قد شهد للشهيد بالجنة. وأّما حياة الشهيد فهي ثابتة بنص القرآن ،قال تعالى) :ول ء عند ربهم ن الذين ُقتلوا في سبيل ا أمواتا بل أحيا ٌ سب ّ َتح َ ُيرَزقون َفِرحين بما آتاهم ا من فضله ويستبشرون بالذين لم َيلحقوا بهم ِمن خلفهم أن ل خوف عليهم ول هم يحزنون، يستبشرون بنعمة من ا وفضل وأن ا ل يضيع أجر المؤمنين(. وهذه الحياة للشهداء هي حياة غيبية ل ندركها نحن ول نشعر بها لنها في عالم الخلود .ونحن وإن كنا ل ندرك هذه الحياة -126-
للشهداء ولم نشعر بها ولكننا نؤمن بوجودها ول ندرك حقيقتها. وإيماننا بوجودها أمر حتمي لنها ثابتة بنص القرآن القطعي ،قال تعالى) :ول تقولوا لمن ُيقتل في سبيل ا أموات بل أحياء ولكن ل َتشعرون( .وحياة الشهداء من المغّيبات التي يجب اليمان بها. أّما فضل الشهداء فهو فضل عظيم ل يعدله فضل ،وقد بّينه صلى ا عليه وسلم في عدة أحاديث .روى البخاري عن قتادة قال: ت أنس بن مالك رضي ا عنه عن النبي صلى ا عليه سمع ُ وسلم قال) :ما من أحد يدخل الجنة يحب أن َيرجع إلى الدنيا وله ما على الرض من شيء إل ّ الشهيد يتمنى أن َيرجع إلى الدنيا فُيقتل عشر مرات ِلما يرى من الكرامة( .وفي البخاري )وقال المغيرة بن شعبة :أخَبَرنا نبينا صلى ا عليه وسلم عن رسالة ربنا َمن ُقتل منا صار إلى الجنة( .وقال عمر للنبي صلى ا عليه وسلم) :أليس َقتلنا في الجنة وقتلهم في النار؟ قال :بلى(. وعن عبدا بن عمرو بن العاص أن رسول ا صلى ا عليه وسلم قال ُ) :يغفر للشهيد كل ذنب إل ّ الدْين( .وروى مسلم أن النبي صلى ا عليه وسلم قال) :القتل في سبيل ا يكّفر كل شيء إل ّ الدْين( .وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن من جاهد في سبيله النبي صلى ا عليه وسلم قال) :تكّفل ا ِل َ ل ُيخرجه من بيته إل ّ جهاد في سبيله وتصديق كلمته بأن ُيدخله الجنة أو ُيرجعه إلى مسكنه الذي خرج مع ما نال من أجر وغنيمة. والذي نفس محمد بيده ما من َكِلم ُيكَلم في سبيل ا إل ّ جاء حه ريح مسك. يوم القيامة كهيئته حين َكِلم ،لونه لون دم وري ُ والذي نفس محمد بيده لول أن رجال ً من المؤمنين ل تطيب ت عن نفوسهم أن يتخلفوا عني ول أجد ما أحملهم عليه ما تخلف ُ ت أن سرّية تغدو في سبيل ا .والذي نفس محمد بيده لودد ُ ُأقتل في سبيل ا ثم أحيا ثم ُأقتل ثم أحيا ثم ُأقتل ثم أحيا ثم ُأقتل(.
الربـاط من توابع الجهاد الرباط ،وهو القامة في الثغر ُمقّويا للمسلمين .والثغر كل مكان على حدود العدو يخيف أهله العدو ويخيفهم .وبعبارة أخرى هو المكان الذي ليس وراءه إسلم. -127-
مقام في الثغور لعزاز الدين ودفع شر والمراد من الرباط هو ال ُ الكفار عن المسلمين .والقامة في أي مكان ُيتوقع هجوم العدو فيه بقصد دفعه يعتبر رباطا ،لن أصل الرباط من رباط الخيل الوارد في قوله تعالى) :وأعّدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن هبون به عدو ا وعدّوكم( ،لن هؤلء يربطون رباط الخيل ُتر ِ مي س ّ عد لصاحبه ،ف ُ ل ُي ِ خيولهم وهؤلء يربطون خيولهم ،ك ّ المقام بالثغر ،أي السكنى فيه رباطا ،وإن لم يكن فيه خيل. وعلى هذا فمن أقام بالثغور بنّية دفع العدو يعتبر مرابطا ،سواء أكان المكان وطنه أي مسكنه الذي يسكنه عادة أم لم يكن ،لن العبرة ليس بكون المكان وطنه أم ل ،بل بنّية دفع العدو ع عن وإخافته .وفضل الرباط عظيم وأجره كبير ،لن الرباط دف ٌ المسلمين وعن حريمهم وقوة لهل الثغر ولهل الغزو .والرباط أصل الجهاد وفرعه ،وقد وردت في فضل الرباط عدة نصوص، فقد ورد في صحيح مسلم من حديث سلمان رضي ا عنه: ت رسول ا صلى ا عليه وسلم يقول) :رباط يوم في سمع ُ سبيل ا خير من صيام شهر وقيامه ،وإن مات فيه ُأجري عليه ن الفتان وُبعث يوم عمله الذي كان يعمل وُأجري عليه رزقه وأ َِم َ القيامة شهيدا( ،وروى الطبراني بسند ثقات في حديث مرفوع ن الفزع الكبر( ،وعن أبي أمامة عنه عليه )من مات مرابطا أ َِم َ الصلة والسلم قال) :إن صلة المرابط تعِدل خمسمائة صلة ونفقته الدينار والدرهم منه أفضل من سبعمائة دينار نفقة غيره(، وعن فضالة بن عبيد أن رسول ا صلى ا عليه وسلم قال: )كل مّيت ُيختم على عمله إل ّ المرابط في سبيل ا فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة(. والرباط يقل ويكثر ،فكل مدة أقامها بنّية الرباط فهو رباط ل أو كُثر ،ولهذا قال النبي صلى ا عليه وسلم) :رباط يوم(، َق ّ )رباط ليلة( .والفضل أن يرحل المسلم إلى الثغور ليسكنها حتى يكون مرابطا .ومن ثم اختار كثير من السلف سكنى الثغور ليكونوا مرابطين .ويعتبر أهل الثغر وحدهم مرابطين إذا كانت نّيتهم من السكنى دفع العدو وإخافته وإذا كانت تحصل بهم وحدهم كفاية الدفع ،وإذا كانت ل تحصل إل ّ بالثغر الذي وراءه أيضا فهما رباط .ويعتبر سكنى المسلمين في بلدهم التي يحصل بها دفع العدو وإخافته رباطا ويكونون مرابطين. -128-
ومثل المرابطة في سبيل ا الحرس في سبيل ا ،فإن ت رسول ا صلى ا فيها فضل ً كبيرا .عن ابن عباس :سمع ُ عليه وسلم يقول) :عينان ل تمسهما النار :عين بكت من خشية ا ،وعين باتت تحرس في سبيل ا( ،وعن عثمان رضي ا ت رسول ا صلى ا عليه وسلم يقول) :حرس عنه قال :سمع ُ ليلة في سبيل ا أفضل من ألف ليلة قيام ليلها وصيام نهارها(.
الجيش السلمي الجهاد فرض على المسلمين ،ل فرق بين التقي والفاسق، ول بين الصادق اليمان والمنافق .وحين جاءت آيات القتال، جاءت عامة .والنصوص إذا جاءت عامة تبقى عامة ما لم َيِرد دليل خاص يخصصها ،ولم َيِرد أي دليل يخصص الجهاد بأحد من المسلمين دون أحد ،فبقيت النصوص عامة .وعلى ذلك فإنه يجوز ساق ومن يقاِتلون أن يجّند في الجيش السلمي المنافقون والُف ّ حمّية .أّما جواز وجود هؤلء مع المؤمنين الصادقين في قتال العداء وفي الجيش السلمي ،فلعموم آيات الجهاد ،ولن الرسول صلى ا عليه وسلم استعان برأس المنافقين عبدا ي في القتال وحضر معه بعض الغزوات وحضر معه بن ُأب ّ الستشارات الحربية في يوم ُأحد قبل المعركة .وعاتب ا الرسول حين أِذن للمنافقين بالتخلف عن القتال في تبوك ،فقال صدقوا ت لهم حتى يتبين لك الذين َ تعالى) :عفا ا عنك ِلم أِذن َ ساق فلعموم اليات ،وِلما ُروي عن وَتعلم الكاذبين( .وأّما الُف ّ سعيد بن المسيب أن أبا هريرة قال) :أمر رسول ا صلى ا عليه وسلم بلل ً فنادى في الناس أن ل يدخل الجنة إل ّ نفس مسلمة وأن ا ليؤّيد هذا الدين بالرجل الفاجر( ،ولن الجهاد فرض من الفروض التي ينفذها الخليفة فإذا لم تنفذ على الفاسق وهو مسلم من المسلمين كان ذلك تركا لتنفيذ حكم من أحكام ا وهو حرام ل يجوز .ولهذا وجب أن ينفذ الجهاد على ساق ،كما ينفذ على التقياء سواء بسواء. الُف ّ
الستعانة بالكفار في القتال -129-
يجوز أن يستعان بالكفار بوصفهم أفرادا وبشرط أن يكونوا تحت الراية السلمية ،بغض النظر عن كونهم ذميين أو غير ذميين ،سواء أكانوا من رعايا الدولة السلمية أم لم يكونوا .أّما الستعانة بهم كطائفة معينة لها كيان مستقل عن الدولة السلمية فل يجوز مطلقا ،فَيحرم أن ُيستعان بهم بوصفهم دولة مستقلة. والدليل على جواز الستعانة بالكفار في القتال أفرادا )أن قزمان خرج مع أصحاب رسول ا صلى ا عليه وسلم يوم ُأحد ملة لواء المشركين ح َ وهو مشرك فقتل ثلثة من بني عبدالدار َ حتى قال صلى ا عليه وسلم :إن ا لَيأزر هذا الدين بالرجل خزاعة خرجت مع النبي صلى ا عليه وسلم الفاجر( ،وأن قبيلة ُ عام الفتح لمحاربة قريش ،وكانت خزاعة حينئذ ل تزال مشركة حتى قال لها رسول ا صلى ا عليه وسلم :يا معشر خزاعة ارفعوا أيديكم عن القتل ،فقد كُثر القتل إن نفع لقد قتلتم قتل ً لدينه( .فهذه الحاديث كلها صحيحة تدل دللة صريحة على جواز الستعانة بالكفار أفرادا ،أي على جواز أن يكون الكافر في جيش المسلمين يقاِتل العدو مع المسلمين .إل ّ أنه ل ُيجَبر على أن يكون الكافر في الجيش ،ول ُيجَبر على القتال ،لن الجهاد ضخ له ،أي ليس فرضا عليه ،ول ُيعطى من الغنيمة ولكن ُير َ يعطى له قدر من المال .فإذا طلب الكافر أن يحارب مع المسلمين أي أن يكون في جيش المسلمين ،يجوز ذلك في كل ناحية من نواحي الخدمة في الجيش ،حتى في استخبارات الجيش وجاسوسيته .أّما ما ورد عن عائشة قالت :خرج النبي ما كان بحّرة الوبرة أدركه رجل صلى ا عليه وسلم ِقَبل بدر فل ّ قد كان ُتذكر منه جرأة ونجدة ،ففرح به أصحاب الرسول صلى ما أدركه قال :جئت لتبعك فأصيب ا عليه وسلم حين رأوه ،فل ّ معك .فقال له رسول ا صلى ا عليه وسلم :تؤمن بالله ورسوله؟ قال :ل .قال :فارجع فلن أستعين بمشرك( ،قالت :ثم مضى حتى إذا كان بالشجرة أدركه الرجل فقال له كما قال أول مرة ،فقال له النبي صلى ا عليه وسلم كما قال أول مرة، فقال :ل .قال :فارجع فلن أستعين بمشرك .قالت :فرجع فأدركه بالبيداء ،قال له كما قال أول مرة :تؤمن بالله ورسوله؟ قال: نعم .فقال له :فانطلق( .فإن هذا الحديث ل يتعارض مع الثابت -130-
أنه صلى ا عليه وسلم استعان بمشركين ،وذلك لن هذا الرجل اشترط أن يحارب ويأخذ الغنيمة ،فإنه قال) :جئت لتبعك فأصيب معك( ،والغنيمة ل تعطى إل ّ للمسلمين ،فُيحمل رفض النبي الستعانة به على ذلك كما ُيحمل على أن الستعانة بالكفار أفرادا موكولة لمر الخليفة إن شاء استعان وإن شاء رفض .وأّما خبيب بن عبدالرحمن عن أبيه عن جده قال :أتي ُ ت ما ورد عن ُ النبي صلى ا عليه وسلم وهو يريد غزوا أنا ورجل من قومي ولم نسلم ،فقلنا :إنا نستحيي أن يشهد قومنا مشهدا ل نشهده معهم .فقال :أسلمُتما؟ فقلنا :ل .فقال :إنا ل نستعين بالمشركين على المشركين .فأسلمنا وشهدنا معه( .فإن هذا الحديث ُيحمل على أن الستعانة بالكفار موكولة لرأي الخليفة إن شاء استعان وإن شاء رفض .والرسول استعان بُأحد واستعان في فتح مكة خبيب والرجل الذي ورفض الستعانة في بدر ورفض الستعانة ب ُ معه حتى أسلما .فكون الرسول ثبت عنه أنه استعان بأفراد من الكفار وهم على كفرهم ،وثبت عنه أنه رفض الستعانة بأفراد حتى أسلموا ،دليل على أن الستعانة بأفراد من الكفار في القتال جائزة وأنها موكولة لرأي الخليفة ،إن شاء َقِبل الستعانة وإن شاء رفضها .وقد ذكر البيهقي عن نص الشافعي :أن النبي صلى ا عليه وسلم تفّرس الرغبة في الذين رّدهم ،فرّدهم رجاء إسلمهم ،فصدق ا ظنه. أّما الدليل على أنه ل يجوز أن ُيستعان بالكفار في القتال بوصفهم دولة مستقلة ،فِلما رواه أحمد والنسائي عن أنس قال: قال رسول ا صلى ا عليه وسلم :ل) تستضيئوا بنار المشركين( ،ونار القوم كناية عن كيانهم في الحرب كقبيلة مستقلة أو كدولة .وقال البيهقي :والصحيح ما أخَبَرنا الحافظ أبو عبدا فساق بسنده إلى أبي حميد الساعدي قال) :خرج رسول ا صلى ا عليه وسلم حتى إذا خلف ثنية الوداع إذا كتيبة قال: من هؤلء؟ قالوا :بني قينقاع رهط عبدا بن سلم .قال :أَو ُتسلموا؟ قالوا :ل .فأمرهم أن يرجعوا وقال :إنا ل نستعين بالمشركين .فأسَلموا( ،فإن الرسول صلى ا عليه وسلم رّد رهط عبدا بن سلم من بني قينقاع لنهم جاءوا طائفة مجتمعة في كتيبة كافرة ،وجاءوا تحت رايتهم باعتبارهم من بني قينقاع التي بينها وبين الرسول معاهدات ،وكانت كدولة .ومن -131-
ضهم كان لكونهم جاءوا تحت رايتهم وفي أجل ذلك رفضهم .فرْف ُ دولتهم بدليل قبوله صلى ا عليه وسلم الستعانة باليهود في خيبر حين جاءوا أفرادا. وحديث أبي حميد هذا يتضمن عّلة شرعية إذا ُوجدت ُوجد الحكم وإذا عدمت عدم الحكم .والعّلة في الحديث ظاهرة في نص الحديث فإنه يقول) :إذا كتيبة .قال :من هؤلء؟ قالوا :بو قينقاع رهط عبدا بن سلم( ،فإن معنى كونهم كتيبة أي جيش مستقل له راية مستقلة ،لن لكل كتيبة راية .فصار كونهم كتيبة كافرة لها راية مستقلة ومن بني قينقاع اليهود الذين هم بمقام دولة بينهم وبين الرسول معاهدات هو عّلة رّدهم ،ل كونهم كفارا فقط ،بدليل أنه أَمَرهم أن يرجعوا بناء على ذلك وعلى رفضهم السلم ،ل على رفضهم السلم فقط .ويؤيد هذا حديث أنس ل) تستضيئوا بنار المشركين( فإنه مسّلط على الكيان كما يؤكده قبول الرسول الستعانة بقزمان في نفس موقعة ُأحد مع أنه مشرك ،فإن معنى ذلك هو رفض الستعانة بالكافر بوصفه كيانا، وقبول الستعانة به بوصفه فردا .وعلى هذا تكون الستعانة بالكفار كطائفة كافرة أو قبيلة كافرة أو دولة كافرة وتحت رايتهم وكجزء من دولتهم ل تجوز ول بوجه من الوجوه. وأّما كون خزاعة خرجت مع النبي صلى ا عليه وسلم على قريش عام الفتح وهي قبيلة مستقلة ،فإنه ل يدل على جواز الستعانة بطائفة لها كيان مستقل ،وذلك أن خزاعة في عام الحديبية كانت حاضرة حين ُكتبت معاهدة الصلح بين قريش وبين ب أن ح ّ المسلمين ،فحين ورد في المعاهدة نص )وأنه من أ َ ب أن يدخل في ح ّ يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه ،ومن أ َ عقد قريش وعهدهم دخل فيه( .وبناء على هذا النص تواثبت خزاعة فقالوا :نحن في عقد محمد وعهده ،وتواثبت بنو بكر فقالوا :نحن في عقد قريش وعهدهم .فصارت خزاعة مع المسلمين في هذه المعاهدة التي بين قريش والمسلمين، وأدخلها الرسول في حمايته كجماعة من دولته بحسب المعاهدة .ولذلك تكون حاَرَبت كقبيلة تحت راية المسلمين وكجزء من الدولة السلمية ل كطائفة مستقلة ،فيكونون كالفراد ل كالكيان. وأّما ما ُيتوهم من أن خزاعة كان بينها وبين الرسول حلف -132-
أو معاهدة فغير صحيح .فإن المعاهدة كانت بين الرسول وبين قريش ل بين الرسول وبين خزاعة .وبناء على هذه المعاهدة دخلت قبيلة بني بكر مع قريش كجزء منها ،ودخلت قبيلة خزاعة مع المسلمين كجزء من كيانهم .وعليه ل تكون حرب خزاعة مع الرسول حرب طائفة كافرة مع المسلمين ،بل حرب أفراد كفار في قبيلة كافرة مع المسلمين تحت راية المسلمين ،وهذا جائز ل شيء فيه. وأّما ما رواه أحمد وأبو داود عن ذي مخبر قال :سمع ُ ت رسول ا صلى ا عليه وسلم يقول) :سُتصالحون الروم صلحا َتغزون أنتم وهم عدّوا ِمن ورائكم( ،فإنه ُيحمل قوله َ) :تغزون أنتم وهم عدوا من ورائكم( على أفراد الروم ل على دولتهم، وذلك لنه قال) :ستصالحون الروم صلحا َتغزون( ،والصلح بين المسلمين والكفار إّنما يكون عند قبولهم الجزية ودخولهم تحت حكم المسلمين ،لن السلم قد أمر المسلمين أن يخّيروا الكفار الذين يحاربونهم بين ثلث :السلم أو الجزية أو الحرب ،فإذا حصل الصلح وهم كفار ل يكون إل ّ في حال دفع الجزية ودخولهم تحت الراية السلمية ،فقوله) :ستصالحون( قرينة على أنهم تحت راية المسلمين ،فهم حينئذ أفراد ،ويؤيد هذا واقع ما حصل مع الروم .فإن المسلمين حاربوهم وهزموهم واحتلوا بلدهم ،وقد حارب الروم مع المسلمين أفرادا ولم يقع قط أن حارب الروم بوصفهم دولة مع الدولة السلمية عُدّوا من ورائهم، ولم يحصل ذلك في يوم من اليام ،مما يؤكد أن المراد بالحديث الروم أفرادا ل كدولة ،ويوجب حمله على هذا .وبذلك يتبين أنه ل يوجد دليل يدل على جواز الستعانة بالمشركين كدولة ،بل الدلة صريحة في عدم جواز ذلك مطلقا. هذا كله بالنسبة للستعانة بالكافر أن يقاِتل بنفسه مع المسلمين .أّما الستعانة بالكافر بأخذ السلح منه ،فإنه يجوز سواء أكان السلح من فرد أو من دولة ،على أن يكون ذلك إعارة مضمونةِ ،لما ُروي أنه لما أجمع رسول ا صلى ا عليه وسلم السير إلى هوازن ليلقاهمُ ،ذكر له أن عند صفوان بن أمية أدراعا عرنا وسلحا ،فأرسل إليه وهو يومئذ مشرك فقال) :يا أمّية أ ِ ق فيه عدونا غدا .فقال صفوان :أغصبا يا محمد؟ سلحك هذا نل َ قال :بل إعارة مضمونة حتى نؤديها لك .فقال :ليس بهذا بأس، -133-
فأعطاه مائة درع بما يكفيها من السلح ،فسأله رسول ا صلى ملها ففعل( .فهذا واضح فيه أن ا عليه وسلم أن يكفيهم ح ْ الرسول استعان بكافر بأخذ السلح منه ،وهو وإن كان فردا إل ّ أنه رئيس قبيلة .على أن مجرد أخذ السلح من كافر دليل على جواز الستعانة بالكافر بأخذ السلح منه مطلقا ما لم َيِرد دليل يخصص عدم الستعانة به كدولة كما هي الستعانة بالقتال. ولكنه لم َيِرد دليل يمنع أخذ السلح من دولة ،فيظل على إطلقه ن أخذ من جواز أخذه من الكافر مطلقا إعارة أو شراء .على أ ّ الدولة السلح إّنما يحصل غالبا من دولة .وعليه يجوز الستعانة بأخذ السلح من دولة كافرة.
تجهيز الجيش السلمي يجري تجهيز الجيش السلمي من بيت المال .لن مال بيت عد له تجهيز الغازين. عد لمصالح المسلمين ،ومما هو ُم َ المال ُم َ ولهذا ل بد من تنظيم المقاتلين في جيس إسلمي واحد تحت قيادة الخليفة مهما تعددت تقسيمات الجيش ونواحي تنظيماته، وأن يكون كله تحت لواء واحد مهما تعددت راياته .ويكون التجهيز كله للجيش من بيت المال ل من غيره ،وإذا أراد أحد أن يجهز أحدا من المجاهدين مع وجود بيت المال فإنه يدفع ذلك لبيت المال ويجري التجهيز منه لكل صغيرة وكبيرة من أجل ست الحاجة إلى الجيش .فإن لم يكن في بيت المال مال وم ّ تجهيز الجيش ليذبوا عن المسلمين فللخليفة أن يحكم على المسلمين بقدر ما يحتاج ذلك لن هذا مما هو واجب على كافة المسلمين .فإذا ُوجد في بيت المال له مال من موارد بيت المال الدائمية كان بها ،وإل ّ فيصبح وجوبه على المة ،وخليفة المسلمين يحصله من المة ليقوم بصرفه على الجيش وتجهيزه، وما ينَفق في تجهيز الجيش هو من المال الذي ينَفق في سبيل ا ،سواء أكان الجيش في حالة حرب أم لم يكن ،لن الجهاد ماض إلى يوم القيام وتجهيز الجيش ماض إلى يوم القيامة بكل ما يلزم للقتال.
اللوية والرايات -134-
ل بد أن يكون للجيش ألوية ورايات .والَفرق بين اللواء والراية هو أن اللواء ما ُيعقد في طرف الرمح ويلوى عليه ويقال له العلم .قيل :سمي لواء لنه يلوى لكبره فل ينشر إل ّ عند الحاجة .وهو علم ضخم وعلمة لمحل أمير الجيش يدور معه عَلم الجيش وتكنى "أم الحرب" ،وتكون حيث دار .أّما الراية فهي َ عها رايات ،وهي –أي الراية -ما ُيعقد في م ُ أكبر من اللواء ،ج ْ الرمح وُيترك حتى تصفقه الرياح .والراية يتولها صاحب الحرب فيجعل في الجيش لكل أمير من أمراء الجيوش لواء وُتجعل لكل جيش من الجيوش راية .وقد كانت للجيش السلمي في أيام الرسول صلى ا عليه وسلم راياته وألويته .فعن أنس رضي ا عنه أن النبي صلى ا عليه وسلم نعى زيدا وجعفرا وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم فقال) :أخذ الراية زيد فأصيب ثم أخذ جعفر فأصيب ثم أخذ ابن رواحة فأصيب( .وُروي أن النبي صلى ا عليه وسلم ندب الناس لغزو الروم في آخر سر إلى موقع مقتل أبيك فأوطئهم صفر ودعا أسامة فقال ِ) : الخيل فقد وّليُتك هذا الجيش ،واغُز صباحا على إبنى وحّرق عليهم وأسرع المسير تسبق الخير ،فإن ظفرك ا بهم فأِق ّ ل اللبث( .فبدأ برسول ا صلى ا عليه وسلم وجعه في اليوم ء بيده فأخذ أسامة فدفعه إلى بريده عَقد لسامة لوا ً الثالث ،ف َ وعسكر بالجرف .مما يدل على الراية كانت تستعمل أثناء الحرب ومع قائد المعركة ،وأن اللواء كان يوضع فوق معسكر الجيش علمة عليه .وعن ابن عباس قال :كانت راية النبي صلى ا عليه وسلم سوداء ولواؤه أبيض .وعن جابر :أن النبي صلى ا عليه وسلم دخل مكة ولواؤه أبيض .وعن الحارث بن حسان البكري قال َ:قِدمنا المدينة فإذا رسول ا صلى ا عليه وسلم على المنبر وبلل قائم بين يديه متقلد بالسيف وإذا رايات سود، فسألت :ما هذه الرايات؟ فقالوا :عمرو بن العاص َقِدم من غزاة( .وعن البراء بن عازب أنه سئل عن راية رسول ا صلى ا عليه وسلم ما كانت؟ قال :كانت سوداء مرّبعة من نمرة، ومعنى من نمرة أي ثوب حبرة ،أي بردة من صوف .وفي الصحيحين أن النبي صلى ا عليه وسلم قال ُ ) : ن الراية طَي ّ لع ِ رجل ً يحب ا ورسوله ويحبه ا ورسوله ،فأعطاها عليا( .وعن -135-
ع)َقد رسول ا صلى ا عليه وسلم يزيد بن جابر الغفري قال َ : رايات للنصار وجعلُهن صفرا( .وعن أنس عند النسائي )أن ابن مكتوم كانت معه رايات سوداء في بعض مشاهد النبي صلى ا عليه وسلم( .ومن ذلك كله يتبين أنه ل بد أن تكون للجيش السلمي ألوية ورايات .إل ّ أنه ل ُيلتَزم فيها شكل معين ول لون معين بل الصل وجود اللواء والراية ،أيا كان شكلها وأيا كان لونها ،وإن كان ُروي عن ابن عباس عند أبي الشيخ بلفظ )كان مكتوبا على راية النبي صلى ا عليه وسلم ل إله إل ّ ا محمد رسول ا( ،إل ّ أن ذلك ليس بلزم لن للرسول رايات لم ُيكتب عليها ذلك .ول بأس بأن ُيجعل لكل جيش راية خاصة به بالشكل عَلم الدولة. أو اللون ،وأن ُيعقد لكل أمير جيش لواء هو َ
السـرى سر المسلمون من عدّوهم أسرى ،كان أمر هؤلء إذا أ َ السرى موكول ً لمر الخليفة مباشرة ،وليس لمن أسروهم أو لقائد المعركة أو أمير الجيش في ذلك أي رأي .لنه إذا صار المحاِرب أسيرا فالمر فيه لرأي الخليفة ،والخليفة يتبع في ذلك الحكم الشرعي في السرى .وحكم السرى الثابت بنص القرآن من عليهم أو يفاديهم. القطعي هو أن الخليفة مخّير بين أن َي ُ فحكم السرى هو المنّ أو الفداء ،لقوله تعالى) :فإذا لقيتم ب الرقاب حتى إذا أثخنُتموهم فشُّدوا الَوثاق الذين كفروا فضر َ فإّما َمّنا بعُد وإّما ِفداء حتى تضع الحرب أوزارها( ،وهذا صريح في حكم السرى وهو الحكم المتعين لعدة وجوه ،منها أن هذا النص الصريح ورد في سورة محمد وهي أول سورة نزلت في شأن القتال ،وكان نزولها بعد وصول الرسول إلى المدينة من مَيت سورة القتال ،وقد نزلت بعد سورة الحديد وقبل س ّ مكة ،وقد ُ معركة بدر ،فهي قد بّينت حكم السرى قبل أن تحصل أي معركة ويحدث أسرى .فإذا أضيف ذلك إلى أنها الية الوحيدة التي بّينت صراحة ماذا ُيفعل بالسرى ،تبين أنها نص في حكم السرى، وأنها الصل في ذلك ،وإليها يرجع كل نص آخر في السرى .ومن الوجوه التي تعّين هذا الحكم في السرى أن الية قد ورد فيها حكم السرى بصيغة "إّما" الدالة على التخيير بين شيئين ل ثالث -136-
لهما ،فقالت) :فإّما َمّنا بعُد وإّما ِفداء( ،و"إّما" إذا وردت بين حصرت التخيير فيهما ومنعت أن يكون غيرهما أو أن ل شيئين َ يكون واحدا منهما ،فتعّين من حصر التخيير في "إمّا" بين شيئين عدم جواز أن يكون غير ما خّير القرآن فيه من حكم السرى. ن على ثمامة بن ويؤيد ذلك أن الرسول صلى ا عليه وسلم م ّ أثال سيد أهل اليمامة ،وأبي عزة الشاعر ،وأبي العاص بن ي حيا ثم ع دِ ّ عم بن َ الربيع .وقال في أسارى بدر) :لو كان المط َ سألني في هؤلء لطلقتهم له( .وفادى أسارى بدر وكانوا ثلثة ل ،وفادى يوم بدر رجل ً برجلين .وُروي عن عائشة وسبعين رج ً عَثت زينب في عث أهل مكة في فداء أسراهم َب َ ما َب َ أنها قالت :ل ّ عَثت بقلدة كانت لها عند خديجة أدخلتها فداء أبي العاص بمال وَب َ ما رآها رسول ا صلى ا عليه على أبي العاص ،قالت :فل ّ ق لها ِرّقة شديدة فقال :إن رأيتم أن ُتطِلقوا لها أسيرها وسلم ر ّ وترّدوا لها الذي لها .قالوا :نعم( .وعن عمران بن حصين )أن رسول ا صلى ا عليه وسلم فدى رجلين من المسلمين برجل من المشركين من بني عقيل( ،وعن ابن عباس قال) :كان ناس من السرى يوم بدر لم يكن لهم فداء ،فجعل لهم رسول ا صلى ا عليه وسلم فداءهم أن يعّلموا أولد النصار الكتابة(. فهذه الحاديث مع الية تدل دللة صريحة أن حكم السرى هو حكي عن الحسن وعطاء وسعيد بن جبير ن أو الفداء .و ُ الم ّ ن عليه أو فاداه كما صنع بأسرى كراهة قتل السرى ،وقالوا :لو م ّ شّدوا الَوثاق فإّما َمّنا بعُد وإّما بدر ،ولن ا تعالى قال) :ف ُ ِفداء( ،فخّير بين هذين بعد السر ل غير .فهذا كله صريح في أن الخليفة مخّير في السرى بين أمرين اثنين ليس غير ،وهما إّما ن أو الِفداء. م ّ ال َ وأّما ما ُروي أن النبي صلى ا عليه وسلم قتل رجال بني كم في التحكيم ،ل قريظة ،فإن ذلك كان بناء على حكم المح ّ على أنهم أسرى حرب .وما ُروي من أنه عليه السلم َقَتل يوم بدر عْيط صبرا ،وَقَتل أبا عزة يوم النضر بن الحارث وعقبة بن أبي ُم َ ُأحد ،فإن ذلك ل يدل على أن هذا حكم السرى ،لنه لم يفعله في جميع السرى ولم يفعله في كل معركة ،وإّنما فعله في منّ والِفداء فإنه بعض المعارك مع بعض الشخاص ،بخلف ال َ عله بالسرى كلها في كل معركة .والذي سّبب قتل هؤلء َف َ -137-
الشخاص خاصة هو أن الرسول يرى فيهم بأشخاصهم الخطر ل لشخاص معينين لسبب خاص بهم، المحّقق للمسلمين ،فهو قت ٌ ل أشخاص معينين يعّينهم الخليفة أمر وليس قتل ً للسرى .وقت ُ عَثنا جائز شرعا .فقد روى أحمد والبخاري عن أبي هريرة قال َ:ب َ عث فقال :إن وجدُتم فلنا رسول ا صلى ا عليه وسلم في َب ْ وفلنا لرجلين فاحرقوهما بالنار ،ثم قال حين أردنا الخروج :إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلنا وفلنا وإن النار ل يعّذب بها إل ّ ا ن وجدتموهما فاقتلوهما( .وبذلك يتبين أن القتل ليس من فإ ْ أحكام الشرع في السير ،وإّنما القتل حكم الشرع في أشخاص معينين يرى الخليفة الخطر منهم فيأمر بقتلهم ولو كانوا أسرى. وأّما ما ُروي من أن رسول ا صلى ا عليه وسلم ق بعد نزول هذه الية ،فإنه كان يستِرق السبي ل السرى، استر ّ أي كان يسترق النساء والطفال الذين مع الجيش في المعركة ل الرجال المحاِربين .ولو ثبت السترقاق للرجال المحاِربين لوقع ذلك منه صلى ا عليه وسلم ،ولم َيِرد في وقوعه شيء على كثرة أسرى العرب في زمانه صلى ا عليه وسلم .وأّما ما روته بعض كتب التاريخ من أن الرسول صلى ا عليه وسلم استر ّ ق بني ناجية من قريش ،ذكورهم وإناثهم ،وباعهم ،فإنه لم ترِوه كتب الحديث حتى ول بعض كتب السيرة كسيرة ابن هشام ،فل ُيحتج به .على أنه لو صح ذلك فإن الرواية تنص على لفظ )وقد ق بني ناجية ذكورهم وإناثهم( فذكرت الذكور والناث ولم استر ّ َتُقل الرواية على رجالهم ونسائهم ،فُيحمل على السبي أي الطفال ذكورا وإناثا ،وهذا جائز .وعليه فإن الرسول لم يستِر ّ ق ق السبي ذكورا وإناثا .والوقائع الثابتة في رجل ً أسيرا ،وإّنما استر ّ الحاديث التي تعتَبر حجة تؤيد ذلك .فإن المتتبع لعمال الرسول ق رجل ً أسيرا مطلقا ل من العرب ول من يجد أنه لم يستر ّ ق السبي .ففي معركة بدر لم غيرهم ،بل المروي عنه أنه استر ّ يكن مع العدو نساء ولذلك لم يحصل سبي فيها وإّنما حصل حنين خرجت كم الرسول عليهم بالفداء ،وفي معركة ُ ح َ سر ،ف َ أ ْ ما انتصر هوازن تحارب الرسول وخرج معهم النساء ،ول ّ المسلمون وفّرت هوازن خلفت النساء وراءها فحصل السبي وُوضع مع الموال غنائم .وفي بني المصطلق خلف العدو وراءه النساء فحصل السبي .وفي خيبر ُقتلوا وُفتحت الحصون وُأخذت -138-
النساء التي كانت مع المحاربين سبيا وُترك باقي الناس كما ُترك الرجال. فهذه الحوادث كلها تدل على أن الرسول كان يأسر الرجال المحاِربين ويسبي النساء اللواتي مع المحاِربين وكذلك الطفال، أّما غيرهم من الرجال والنساء ممن لم يكونوا في المعركة فلم سر ول سبي .وهذا يدل على أن الرسول لم يكن يقع عليهم ل أ ْ ق السرى .وبهذا تبين أن عمل الرسول صلى ا عليه يستر ّ وسلم بالنسبة للسرى قد جرى حسب منطوق الية .فهو قد م ّ ن في بعض الحيان وأخذ الفداء في بعض الحيان ،وأنه لم ق السرى ولم يقتلهم وإّنما سبى النساء والطفال ،وقتل يستر ّ أشخاصا مخصوصين بأعيانهمِ ،لما لهم من خطر على المسلمين. أّما مسألة السبي التي تشتبه على الناس بالسرى فإن الناس في ذلك العصر يعتبرون النساء اللواتي يخرجن مع المحاِربين والولد كاعتبار الموال في اصطلح الحرب ،ل فرق في ذلك بين العرب وغيرهم ،فالصطلح الحربي كان يعتِبر الغنائم أموال ً وسبايا ،فجاء الرسول وأقّر ذلك الصطلح فاعتبر النساء اللواتي يخرجن مع المحاِربين والولد كالموال غنيمة من ق ويجري عليها حكم الغنائم ل حكم السرى .ولذا الغنائم فُتستر ّ ل يكون استرقاق السبايا استرقاقا للسرى بل يكون غنيمة للمسلمين من غنائم المعركة .ويبقى حكم السرى هو تخيير ق إلى ن والفداء ليس غير .وهذا الحكم با ٍ الخليفة فيهم بين الم ّ يوم القيامة ،فإذا حاربت الدولة السلمية أعداءها تعاِمل السرى ن والِفداء ،وإذا أخرجوا معهم نساءً للمعارك فإنه بالتخيير بين الم ّ ق وتكون مثل عند انجلء المعركة تؤخذ النساء سبايا وُتستر ّ الموال غنيمة من الغنائم. وهذا الحكم في السرى والسبي عام لجميع الناس ل فرق بين العرب وغيرهم وليس هو خاصا بالعرب .وذلك لن الية والحاديث عاّمة ولم َيِرد ما يخصصها بغير العرب أو يستثني منها العرب فتبقى على عمومها تشمل العرب وغيرهم. وأّما حديث معاذ الذي أخرجه الشافعي والبيهقي أن النبي حنين) :لو كان السترقاق جائزا صلى ا عليه وسلم قال يوم ُ على العرب لكان اليوم( .فإنه حديث ضعيف ،ففي إسناده الواقدي وهو ضعيف جدا ،ورواه الطبراني من طريق أخرى فيها -139-
يزيد بن عياض وهو أشد ضعفا من الواقدي .ومثل هذا الحديث ل تقوم به حجة فل يجوز أن يكون دليل ً شرعيا .وأّما ما ُروي أن ق رجالهم فإنه ق نساء العرب وأطفالهم ولم يستر ّ الرسول استر ّ صحيح ولكنه ل يدل على عدم جواز استرقاق رجال العرب وجواز استرقاق غيرهم بل هو عام يشمل العرب وغيرهم .أّما كون الحادثة حصلت مع العرب فإنها واقعة حال ول مفهوم لها، أي أن الوضع الذي حصل كان مع العرب فل يعني ذلك أنه خاص بهم ول يكون لغيرهم .على أن القاعدة الشرعية أن العبرة بعموم اللفظ ل بخصوص السبب ،فالحادثة وإن حصلت مع شخص أو جماعة فإنها ل تختص بالشخص أو الجماعة بل يكون حكمها عاما .وكذلك عدم استرقاق الرجال حصل مع العرب لن الواقع الذي كان أن الرسول كان يحارب العرب فل يكون الحكم خاصا بهم بل يكون عاما لجميع الناس ،كما لو كان يحارب قبيلة معينة كقريش مثل ً فل يكون الحكم خاصا بها. إل ّ أن هذا كله أي حكم السرى والسبي عام في حق جميع الناس ما عدا مشركي العرب ،ويستثنى منه مشركو العرب ء من بعد أربعة أشهر من يوم التاسع من ذي الحجة سنة ابتدا ً تسع للهجرة إلى يوم القيامة ،فإنه ل ُيقبل منهم إل ّ السلم أو القتال ول يؤخذ منهم أسرى ول سبي .أّما مشركو العرب قبل هذا التاريخ فيشملهم هذا الحكم ،وكذلك غير مشركي العرب من اليهود والنصارى فإنه يشملهم هذا الحكم منذ نزول الية إلى يوم القيامة ،إذ الستثناء خاص بمشركي العرب من يوم تبليغ عل ّ ي اليات للمشركين من العرب وهو التاسع من ذي الحجة وبعدها أربعة أشهر ،ول يدخل فيه غيرهم من العرب ول يدخل المشركون قبل هذا التاريخ .أّما استثناء هؤلء المشركين من ء من التاريخ المذكور فثابت بنص القرآن ،قال تعالى: العرب ابتدا ً عْون إلى قوم أولي بأس شديد تقاِتلونهم أو ُيسِلمون(، )سُتد َ حُرم فاقتلوا المشركين حيث وقال) :فإذا انسلخ الشهر ال ُ صد فإن وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل َمر َ تابوا وأقاموا الصلة فخّلوا سبيلهم( ،وقال) :فسيحوا في الرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي ا( ،فهذا صريح بأنه استثناء لمشركي العرب من عموم اليات ،فإن مشركي العرب بعد نزول هذه اليات وانقضاء مهلة الربعة أشهر ل ُيقبل منهم -140-
ق من إل ّ السلم أو الحرب .وأّما ما ُروي من أن الرسول استر ّ العرب فهو استرقاق من اليهود والنصارى واسترقاق من مشركي العرب قبل نزول هذه اليات ،أّما بعدها فإنه لم يقبل من مشركي العرب إل ّ السلم أو القتال.
السياسة الحربية السياسة الحربية هي رعاية شؤون الحرب على وضع من شأنه أن يجعل النصر للمسلمين والخذلن لعدائهم ،وتبرز فيها الناحية العملية النية .وقد أجاز فيها الشرع أشياء حّرمها في غيرها ،وحّرم فيها أشياء أجازها في غيرها .فقد أجاز فيها الكذب مع العدو مع أنه حرام معه في غير الحرب ،وحّرم اللين مع الجيش مع أنه مندوب في غير الحرب .وهكذا جعلت السياسة الحربية للحكام اعتبارا خاصا في الحرب .وهذه العتبارات منها ما يتعلق بمعاملة العدو ،ومنها ما يتعلق بالعمال الحربية نفسها، ومنها ما يتعلق بالجيش السلمي ،ومنها ما يتعلق بغير ذلك. عل السلم للخليفة ج َ فمما يتعلق بمعاملة العدوَ ، وللمسلمين أن يفعلوا بالعدو مثل ما من شأنه أن يفعله العدو بهم ،وأن يستبيح من العدو مثل ما يستبيحه العدو من المسلمين، ولو كان من المحّرمات ،قال ا تعالى) :وإن عاقبتم فعاِقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين( .وقد ُروي أن سبب نزول هذه الية أن المشركين مّثلوا بالمسلمين يوم ُأحد: شَرموا آنافهم ،ما تركوا أحدا َبَقروا بطونهم وقطعوا مذاكيرهم و َ إل ّ مّثلوا به ،إل ّ حنظلة بن الراهب .فوقف رسول ا صلى ا شق عليه وسلم على حمزة وقد ُمّثل به ،فرأى منظرا أساءه وقد ُ طِلم أنفه ،فقال) :أَما والذي أحلف به إن أظفرني ا بطنه واص ُ بهم ُ ن بسبعين مكانك( ،فنزلت هذه الية .فالية نزلت في لمّثَل ّ الحرب ،وهي وإن كانت نهت عن الزيادة عن المثل ولكنها صريحة في إباحة أن يعمل المسلمون مثل ما يعمله الكفار بهم، حتى أن الية ُيفهم منها إباحة التمثيل بقتلى الكفار الذين مّثلوا بقتلى المسلمين على أن ل يزيد على مثل ما فعلوا ،مع أن التمثيل حرام ،ووردت الخبار بالنهي عنه ،إل ّ أن هذا النهي إّنما يكون إذا لم يمّثل العدو بقتلى المسلمين وإل ّ فإن للمسلمين أن -141-
يفعلوه إذا كان العدو يمّثل في قتلى المسلمين .ومثل ذلك الغدر ونقض العهد فإنه إن فعله العدو أو خيف منه أن يفعله جاز لنا أن نفعله ،وإل ّ فل يجوز أن نفعله .وإّنما جاز أن نفعله مع أنه ورد النهي عنه ،عمل ً بالسياسة الحربية ،إذ أن النهي عنه إّنما يكون إذا عله جاز للمسلمين أن يفعلوه ،قال تعالى: ن َف َ لم يفعله العدو ،فإ ْ سواء( .وعلى هذا ن من قوم خيانة فانِبذ إليهم على َ )وإّما تخاف ّ فإن السلحة النووية يجوز للمسلمين أن يستعلموها في حربهم مع العدو ،ولو كان ذلك قبل أن يستعملها العدو معهم ،لن الدول كلها تستبيح استعمال السلحة النووية في الحرب ،فيجوز استعمالها ،مع أن السلحة النووية يحرم استعمالها لنها ُتهلك البشر ،والجهاد هو لحياء البشر بالسلم ل لفناء النسانية. ومما يتعلق بالعمال الحربية أن للمسلمين تحريق أشجار الكفار وأطعمتهم وزرعهم ودورهم وهدمها ،قال ا تعالى) :ما قطعُتم من ِلينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن ا ي الفاسقين( .وقد أحرق رسول ا صلى ا عليه وسلم ولُيخِز َ نخل بني النضير مع تحققه بأنه سيؤول له .أّما ما ُروي عن يحيى بن سعيد النصاري أن أبا بكر الصديق رضي ا عنه قال لمير ن شاة ول بعيرا إل ّ لمأكلة ول ل تعِقر ّ جيش بعثه إلى الشام ) : ن نخل ً ول ُتغِرقّنه( وقد أقّره الصحابة جميعا ول مخالف له، تحرق ّ فإن ذلك هو الصل في الحرب وهو عدم تخريب العامر وعدم سب قطع الشجر ،ولكن إذا رأى الخليفة أو قائد الجيش أن ك ْ المعركة ل بد له من تخريب العامر وقطع الشجر ،أو أن السراع في كسب المعركة يقضي بذلك ،جاز في السياسة الحربية أن يقطع الشجر وأن يخرب العامر كما فعل رسول ا صلى ا عليه وسلم .ومثل ذلك قتل البهائم وحرقها وكل ما يملكه العدو، فإنه إذا اقتضته السياسة الحربية جاز فعله ،ولو كان محّرما ،قال ا تعالى) :ول يطئون موطئا يغيظ الكفار ول ينالون من عدو نيل ً إل ّ ُكتب لهم به عمل صالح( .وهذا الكلم عام في كل شيء، ولم َيِرد ما يخصص هذه الية بالذات ل آية أخرى ول حديث، فتبقى على عمومها ،وقد وردت أحاديث صحيحة في جواز حرق البيوت وحرق الشجر وقطعه .عن ابن عمر )أن النبي صلى ا عليه وسلم قطع نخل بني النضير وحّرق( ،وبها يقول حسان: حريق بالبويرة مستطير وهان على سراة بني لؤي -142-
وفي ذلك نزلت )ما قطعُتم من ِلينة أو تركُتموها( الية .وعن جرير بن عبدا قال :قال لي رسول ا صلى ا عليه وسلم: ت في خمسين ومائة )أل تريحني من ذي الخَلصة(؟ قال :فانطلق ُ س ،وكانوا أصحاب خيل ،وكان ذو الخلصة بيتا في م َ فارس من اح ُ اليمن لخثعم وبجيلة فيه نصب بعيد يقال له كعبة اليمانية ،قال: فأتاها فحرقها بالنار وكسرها ،ثم بعث رجل ً من أحمس يكنى أبا ما أتاه قال: أرطأة إلى النبي صلى ا عليه وسلم يبشره بذلك ،فل ّ ت حتى تركتها كأنها جمل يا رسول ا ،والذي بعثك بالحق ما جئ ُ مس أجرب .قال :فبّرك النبي صلى ا عليه وسلم على خيل أح ُ ورجالها خمس مرات ،وبّرك أي دعا لهم بالبركة .وروى أحمد وأبو داود وابن ماجه عن أسامة بن زيد قال) :بعثني رسول ا صلى ا عليه وسلم إلى قرية يقال لها أبنى ،فقال :ائتها ثم حّرق(، وأبنى هذه هي يبنا فلسطين .ويظهر من وصية عمر التي رواها ن حرق الشجر مالك في الموطأ ومن مقارنتها بهذه الحاديث ،أ ّ وقطعه وهدم البيوت إّنما يكون إذا اقتضاه كسب المعركة أو كسب الحرب ،فهو داخل في السياسة الحربية. ومما يتعلق بالجيش السلمي أن للمام أو لمير الجيش أن يمنع من الذهاب للمعركة المنافقين أو الُفساق أو المخّذلين جفين ومن شاكلهم لقوله تعالى) :ولكن كِره ا انبعاثهم مر ِ وال ُ فثّبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين .لو خرجوا فيكم ما زادوكم خبال ً ولوضعوا خللكم يبغونكم الفتنة( ،مع أن الجيش إل ّ َ السلمي ل ُيمنع من الشتراك به فاسق ول منافق ولكن إذا اقتضت السياسة الحربية منعه من الذهاب للمعركة أو من القيام بعمل معين أو ِمن توّلي أمر معين ،فإنه يجوز للخليفة ولمير الجيش أن يفعل ذلك. ومما يتعلق في غير معاملة العدو ،وغير أعمال الحرب، وغير الجيش السلمي ،ما حصل مع الرسول في رجوعه من غزوة بني المصطلق ،فإنه رجع بالمسلمين بسرعة فائقة وكان يمشي ليل نهار على أكثر قوة يستطيعها حتى وصل المدينة وقد أنهك التعب الجيش مع أن الحكم هو الرفق بالجيش .فعن جابر قال) :كان رسول ا صلى ا عليه وسلم يتخلف في المسير فيزجي الضعيف وُيرِدف ويدعو لهم( .إل ّ أن السياسة الحربية ي بن سلول من إيقاع الفتنة بين بالنسبة ِلما كان من عبدا بن ُأب ّ -143-
المسلمين المهاجرين والنصار اقتضت عدم السير بسير أضعف الجيش والسير بسير أقواهم ،حتى ل ُيترك مجال للحديث أو المناقشة. وهكذا تقضي السياسة الحربية أن يقوم المام بأعمال تقتضيها رعاية شؤون الحرب لكسب المعركة أو لكسب الحرب وخذلن العدو والنتصار عليه .إل ّ أن هذا كله مقّيد بما إذا لم َيِرد نص على عمل معين ،فإذا ورد نص خاص فإنه ل يجوز أن يفعل ذلك العمل بحجة السياسة الحربية ،بل يجب أن يتقيد بالنص سحب الوضع الذي ورد فيه ،فإن كان النص ورد قاطعا غير معلل فل يجوز حينئذ القيام بالعمل ،وإذا ورد النص معلل ً بعّلة فإنه يتبع فيه الحكم حسب العلة ،وإن ورد النص بالمنع وورد عن الرسول فعله في حالت معينة فإنه ل يقام بالعمل إل ّ في تلك الحالت. وقد وردت نصوص في أفعال َمَنع الشرع منها فُيتبع المنع حسب ما وردت .ول يقال فيها سياسة حربية ،لن السياسة الحربية عامة إل ّ أن َيِرد نص في أمر يستثنيه من العموم فيتبع النص فيما خصص به .روى أحمد عن صفوان بن عسال قال: عثنا رسول ا صلى ا عليه وسلم في سرّية فقال) :سيروا َب َ باسم ا وفي سبيل ا ،قاتلوا من كفر بالله ،ول تمّثلوا ول تغُدروا ،ول تقتلوا وليدا( .وروى البخاري عن ابن عمر قال: )ُوجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي النبي صلى ا عليه وسلم ،فنهى رسول ا صلى ا عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان( .وروى أحمد عن السود بن سريع قال :قال رسول ل تقتلوا الذّرّية في الحرب .فقالوا :يا ا صلى ا عليه وسلم ) : رسول ا أوليس هم أولد المشركين؟ قال :أوليس خياركم أولد المشركين( .وروى أبو داود عن أنس أن رسول ا صلى ا عليه وسلم قال) :انطلقوا باسم ا وبالله وعلى ملة رسول ا ،ل تقتلوا شيخا فانيا ول طفل ً صغيرا ول امرأة ،ول تغّلوا، وضعوا غنائمكم وأصلحوا إن ا يحب المحسنين( ،فهذه الحاديث نهت عن أفعال معينة في الحرب فل يصح أن ُتفعل في الحرب بحجة السياسة الحربية ،وإّنما ُتفعل على الوجه الذي وردت به النصوص .وقد وردت النصوص على أنه يجوز أن ُتفعل هذه المور جميعها بضرب المدافع والقنابل وكل ما ُيضرب من بعيد بشيء ثقيل ،وأن ُيقتل الصبيان والنساء إذا لم يمكن -144-
الوصول إلى الكفار إل ّ بقتلهم لختلطهم بهم .فقد روى البخاري عن الصعب بن جثامة )أن رسول ا صلى ا عليه وسلم سئل عن أهل الدار من المشركين يبيتون فيصاب من نسائهم وذراريهم ،ثم قال :هم منهم( ،وفي صحيح ابن حبان عن ت رسول ا صلى ا عليه وسلم عن أولد الصعب قال) :سأل ُ المشركين أنقتلهم معهم؟ قال :نعم( ،وأخرج الترمذي عن ثور بن يزيد )أن النبي صلى ا عليه وسلم نصب المنجنيق على أهل الطائف( والمنجنيق حين ُيضرب به ل يميز بين امرأة وطفل وشجر إلى غير ذلك ،فدل على أن السلحة الثقيلة كالمدافع والقنابل إذا اسُتعملت في الحرب يجوز بها قتل وهدم وتخريب كل شيء ،وكذلك إذا لم يمكن الوصول إلى الكفار إل ّ بوطء الذرية والنساء ،فإذا أصيبوا لختلطهم بهم جاز قتلهم .أّما فعل كل أمر من هذه المور وحده في غير المنجنيق وفي غير حالة عدم إمكانية التمييز بينها وبين الكفار الذين نحاربهم ،ففيه تفصيل حسب ما ورد في النصوص. أّما الصبيان فيحرم قتلهم مطلقا في غير الحالتين السابقتين ،وكذلك العسيف أي الجير الذي يكون مع القوم مجَبرا عفين ،وذلك لورود النهي عن قتلهما بشكل لنه من المستض َ قاطع ولم يعلل بأية عّلة. وأّما النساء فإنه ُينظر فيها ،فإن كانت تحارب جاز قتلها، وإن لم تكن تحارب لم يجز قتلها ،وذلك ِلما رواه أحمد وأبو داود عن رباح بن ربيع أنه خرج مع رسول ا صلى ا عليه وسلم في غزوة غزاها وعلى مقدمته خالد بن الوليد ،فمّر رباح وأصحاب رسول ا صلى ا عليه وسلم على امرأة مقتولة مما أصابت المقدمة ،فوقفوا ينظرون إليها ،يعني وهم يتعجبون من خلقها ،حتى لحقهم رسول ا صلى ا عليه وسلم على راحلته فأفرجوا عنها ،فوقف عليها رسول ا صلى ا عليه وسلم حق خالدا فقل له: فقال) :ما كانت هذه لتقاِتل .فقال لحدهم ِ :ال َ ل تقتلوا ذرية ول عسيفا( .فقول الرسول) :ما كانت هذه لتقاِتل( يدل على أنها لو كانت تقاِتل جاز قتلها ،فيكون الحديث قد جعل عّلة النهي عن قتلها كونها ل تقاِتل .ويؤيد ذلك ما رواه أبو داود عن عكرمة )أن النبي صلى ا عليه وسلم مّر بامرأة مقتولة يوم حنين فقال :من قتل هذه؟ فقال رجل :أنا يا رسول ا ،غنمُتها ُ -145-
ما رأت الهزيمة فينا أهوت إلى قائم سيفي فأردفُتها خلفي فل ّ كر عليه رسول ا صلى ا عليه وسلم(. لتقتلني فقتلتها ،فلم ين ِ وبذلك يتبين أن المرأة إذا قاتلت جاز قتلها وإذا لم تقاتل ل يجوز قتلها. وأّما الشيخ الفاني ،فإنه إن كان فانيا لم يبق فيه نفع للكفار ول مضرة على المسلمين ،فل يجوز قتله للنهي عن قتله. وأّما إن كان فيه نفع للكفار أو مضرة على المسلمين فيجوز قتله، سمرة أن النبي صلى ا عليه وذلك ِلما روى أحمد والترمذي عن ُ وسلم قال) :اقتلوا شيوخ المشركين( ،وِلما روى البخاري من ما فرغ من حديث أبي موسى أن النبي صلى ا عليه وسلم ل ّ حنين بعث أبا عامر على جيش أوطاس فلقي دريد بن الصمة ُ وقد كان نيف على المائة وقد أحضروه ليدّبر لهم الحرب ،فقتله أبو عامر ولم ينكر النبي صلى ا عليه وسلم ذلك عليه .وعلى ذلك ُيحمل حديث أنس على الشيخ الذي ل نفع فيه ول ضرر منه وهو الفاني كما ورد في نفس الحديث. فهذه المور التي ورد النص عن ِفعلها أل ّ ُتفعل إل ّ حسب ظع أي عمل ما ورد به النص ،وما عدا ذلك فإنه يجوز ،ول يستف َ يفعله المسلمون بعدوهم الكافر ما دام هذا العمل حصل في حالة الحرب ،سواء أكان هذا العمل حلل ً أم حراما في غير الحرب .ول يستثنى من ذلك إل ّ الفعل الذي ورد النص في النهي عنه في الحرب صراحة.
الكذب في الحرب الكذب كله حرام قطعا بنص القرآن القطعي ،وتحريمه من الحكام المعروفة من الدين بالضرورة ،ل فرق بين أن يكون لمنفعة المسلمين أو لمصلحة الدين ،وبين أن يكون عكس ذلك. فقد جاءت النصوص في تحريمه عامة ومطَلقة وباّتة غير معّللة، قال تعالى) :إّنما يفتري الكذب الذين ل يؤمنون بآيات ا( ،وقال تعالى) :لعنة ا على الكاذبين( .وهذا البت والطلق والعموم ل يعلله ول يقيده ول يخصصه إل ّ نص واحد ،ول دخل للعقل في ذلك إل ّ في فهم النص ليس يغر .ولم َيِرد في الصحيح أي نص يفيد أي تعليل أو أي تقييد ل في الكتاب ول في السّنة .وأّما -146-
تخصيص النص فقد ورد فيه نص استثنى من تحريم الكذب صَرها وحددها فل يجوز تعّديها بحال من الحوال، أشياء معينة ح َ صه الدليل من المور فل يستثنى من تحريم الكذب شيء إل ّ ما خ ّ المذكورة في الحاديث وهي :حالة الحرب ،وعلى المرأة، ولصلح ذات البْين ،لورود النص عليها .فقد روى أحمد ومسلم وابو داود عن أم كلثوم بنت عقبة قالت) :لم أسمع النبي صلى ا خص في شيء من الكذب مما تقول الناس إل ّ في عليه وسلم ير ّ الحرب ،والصلح بين الناس ،وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها( ،عن أسماء بنت يزيد قالت :قال رسول ا صلى ا عليه وسلم) :يا أيها الناس ما يجعلكم أن َتتابعوا على الكذب كتتابع الَفراش في النار؟ الكذب كله على ابن آدم حرام ،إل ّ في ثلث خصال :رجل كذب على امرأته ليرضيها ،ورجل كذب في الحرب فإن الحرب خدعة ،ورجل كذب بين مسلمْين ليصلح بينهما(. فهذه الثلث من المستثَنيات من تحريم الكذب بنص صريح، فل يحل أن يقع الكذب في غيرها ،إذ ل ُيستثنى من عموم النص إل ّ ما خصه الدليل فحسب .وكلمة )في الحرب( الواردة في الحديث ليس لها إل ّ معنى واحد ليس غير ،وهو حالة الحرب الفعلية في شأن الحرب ،فل يجوز الكذب في غير حالة الحرب مطلقا ،ول في حالة الحرب في غير شأن الحرب .وأّما ما ص ّ ح عن النبي صلى ا عليه وسلم من أنه كان إذا أراد غزوة وّرى بغيرها ،فإن المراد أنه كان يريد أمرا فل ُيظِهره ،كأن يريد أن يغزو جهة الشرق فَيسأل عن أمر في جهة المغرب ويتجهز للسفر ،فيظن من يراه ويسمعه أنه يريد جهة المغرب .وأّما أنه يصّرح بإرادته المغرب ومراده المشرق فلم يحصل ،فل يكون على هذا إخبارا بخلف الواقع وإّنما هو من قبيل التورية ،علوة على أنه داخل في حالة الحرب الفعلية وفي شأن الحرب ،لنه ل ،وهو من الخدعة الواردة في ذهاب للمعركة لمحاربة العدو فع ً قوله عليه الصلة والسلم) :الحرب خدعة(. وأّما ما روي عن جابر أن رسول ا صلى ا عليه وسلم كعب بن الشرف فإنه قد آذى ا ورسوله؟ قال قال) :من ِل َ ب أن أقتله يا رسول ا قال :نعم .قال: محمد بن مسلمة :أتح ّ ت .قال :فأتاه فقال :إن هذا – فائذن لي فأقول .قال :قد فعل ُ -147-
يعني النبي صلى ا عليه وسلم -قد عّنانا وسَأَلنا الصدقة .قال: عه حتى ننظر إلى ما يصير إليه وأيضا وا قد اتبعناه فَنكَره أن نَد َ أمره .قال :فلم يزل يكلمه حتى استمكن منه فقتله( ،فإنه أيضا في حالة الحرب .وإنه وإن كانت ألفاظ الحديث نصت على أن اللفاظ التي قالها محمد بن مسلمة صدق وليس بكذب وإّنما هو تعريض ،ولكن محمد بن مسلمة استأذن أن يقول كل شيء فأذن له في كل شيء ،ويدخل فيه الذن في الكذب صريحا وتلويحا ،وهو داخل في حالة الحرب. وأّما ما أخرجه أحمد والنسائي من حديث أنس في قصة الحجاج بن علط في استئذانه النبي صلى ا عليه وسلم أن يقول عنه ما شاء لمصلحته في استخلص ماله من أهل مكة ن له النبي صلى ا عليه وسلم وإخباره لهل مكة أن أهل وأِذ َ خيبر هزموا المسلمين ،فإنه يدخل كذلك في حالة الحرب ،لن أهل مكة كانوا في حالة حرب فعلية مع المسلمين ،والحجاج بن علط من المسلمين وهو ذاهب عند الكفار العداء وهم في حالة حرب فعلية ،فيجوز الكذب عليهم ،إذ جواز الكذب ل يقتصر على المعركة ول على المحاربين بل يجوز للمسلمين أن يكذبوا على الكفار أعدائهم إذا كانوا في حالة حرب فعلية معهم. وأّما ما أخرجه الطبراني في الوسط )الكذب كله إثم إل ّ ما نفع به مسلم أو دفع به عن دين( ،وهو عند البزار بلفظ )الكذب مكتوب إل ّ ما نفع به مسلم أو ًدفع به عنه( ،قال في مجمع الزوائد :وفي سنده رشدين وغيره من الضعفاء ،وعليه فهو ل. حديث ضعيف فُيرد ول ُيحتج به فل يصلح دلي ً وعلى ذلك فإن الكذب كله حرام ول يحل إل ّ في ثلث :في الحرب ،والصلح بين الناس ،وحديث الرجل امرأته ،وحديث المرأة زوجها ،وما عداها حرام قطعا ،لن تحريم الكذب جاء في القرآن عاما يشمل كل كذب ،فجاء الحديث وخصصه في غير الحرب والصلح بين الناس وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة حرمة ،فكانت هي وحدها زوجها ،واستثنى هذه الثلث من ال ُ حل في ثلث حلل ً وما عداها حرام ،ل سيما أن الحديث حصر ال ِ فقال) :الكذب كله على ابن آدم حرام ،إل ّ في ثلث خصال(، خص في شيء من الكذب إل ّ في وقال) :لم أسمع النبي ير ّ الحرب (..الخ .وهذا الحصر يعني أن غيرها حرام .والحاديث -148-
التي وردت كلها في حالة الحرب الفعلية وما عداها فهي أحاديث ضعيفة ُتَرد ول ُيحتج بها. وأّما التورية في غير الحرب ،فإنها إن فهم منها السامع خلف الواقع ،بأن كان اللفظ ل يدل على الواقع وغيره لغة حل ،كأن واصطلحا عاما عند المتكلم والسامع فهي كذب ل َي ِ يصطلح جماعة مخصوصون على كلمة فيقولونها لمن لم يعرف هذا الصطلح ،أو كأن كان اصطلحا للمتكلم ول يعرفه السامع، حل .وهو وإن كان تورية عند المتكلم ولكن فإن ذلك كله كذب ل َي ِ السامع َفِهم من اللفظ خلف الواقع ،فل يعتبر من قبيل التورية حل .وأّما إن كان اللفظ ُيفهم منه الواقع وغيره فهي من ول َي ِ أنواع البلغة وهي صدق وليست بالكذب ،كقولهم للعور "ليت عينيه سواء" يصح دعاء له وعليه .والتورية هي أن يكون للكلم معنيان أحدهما قريب والخر بعيد ،فيريد المتكلم المعنى البعيد وَيفهم السامع المعنى القريب ،ففي مثل هذه الحال وإن َفِهم السامع خلف ما أراد المتكلم ،ولكن لم يفهم خلف الواقع الذي تدل عليه الجملة .وقد استعمل النبي صلى ا عليه وسلم التورية ،ففي صحيح البخاري أن أنس بن مالك رضي ا عنه قال :أقبل النبي صلى ا عليه وسلم إلى المدينة وهو مرِدف أبا خ ُيعرف ،ونبي ا صلى ا عليه وسلم شاب ل بكر ،وأبو بكر شي ٌ ُيعرف ،قال :فَيلقى الرجل أبا بكر فيقول يا أبا بكر من هذا الرجل الذي بين يديك؟ فيقول :هذا رجل يهديني السبيل .فَيحسب الحاسب أنه إّنما يعني الطريق ،وإّنما يعني سبيل الخير.
التجسـس التجسس هو تفحص الخبار ،يقال في الغلة :جس الخبار وتجسسها تفحص عنها ،ومنه الجاسوس .فإذا تفحص الشخص الخبار فقد تجسسها وهو جاسوس ،سواء تفحص الخبار الظاهرة أو المخفية ،ل ُيشترط في تفحص الخبار أن تكون مخفية أي أسرارا حتى يكون تجسسا ،بل التجسس هو تفحص الخبار ما يخفى منها وما يظهر ،أي السرار وغير السرار .أّما إذا حص رأى أشياء طبيعيا دون تفحص ودون أن يكون عمله تف ّ الخبار ،أو جمع أخبار لنشرها ،أو اهتم بالخبار ،فإن كل ذلك ل -149-
يكون تجسسا ما دام لم يتفحص الخبار ولم يكن من عمله تفحص الخبار ،حتى لو تتبع الخبار في مثل هذه الحالت ل حص الخبار الذي هو التجسس إّنما يكون يكون تجسسا ،لن تف ّ بتتبعها والتدقيق فيها لغرض الطلع عليها .أّما من يتتبع الخبار ليجمعها فهو ل يدققها لغرض الطلع عليها بل يجمعها لينشرها على الناس .وعلى ذلك ل يقال لمن يتتبع الخبار ويجمعها كمراسلي الجرائد والوكالت النباء جاسوسا ،إل ّ أن يكون عمله التجسس واتخذ مراسلة الجرائد والوكالت وسيلة ،ففيه هذه الحال يكون جاسوسا ل لكونه مراسل ً يتتبع الخبار بل لكون عمله هو التجسس ،واتخذ المراسلة وسيلة للتغطية كما هي الحال مع كثير من المراسلين ،ول سيما الكفار الحربيين منهم. وأّما موظفو دائرة التحري والمكتب الثاني وَمن شاَكلهم ممن يتفحصون الخبار فإنهم جواسيس لن عملهم تجسس. هذا هو واقع التجسس وواقع الجاسوس .أّما حكم التجسس فإنه يختلف باختلف من يتجسس عليهم ،فإن كان التجسس على المسلمين أو على الذميين الذين هم رعايا كالمسلمين ،فحرام ول يجوز ،وإن كان التجسس على الكفار الحربيين سواء أكانوا حربيين حقيقة أو حكما فإنه جائز للمسلمين وواجب على الخليفة .أّما كون التجسس على المسلمين وعلى رعايا الدولة السلمية حراما فثابت بصريح القرآن ،قال تعالى) :يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعد الظن إثم ول تجسسوا( ،فنهى ا في الية عن التجسس. وهذا النهي عام فيشمل كل تجسس ،سواء أكان تجسسا لنفسه أو لغيره ،وسواء أكان تجسسا للدولة أم للفراد أم للتكتلت، وسواء أكان الذي يقوم به أي بالتجسس ،الحاكم أو المحكوم، فالكلم عام يشمل كل شيء ينطبق عليه أنه تجسس ،فكله حرام. وهنا َيِرد سؤال وهو :هل يجوز للمسلم أن يشتغل موظفا في دائرة التحري أو دائرة المباحث أو غيرها من الدوائر التي يكون عملها أو من عملها التجسس؟ والجواب على ذلك ُ:ينظر، فإن كانت الوظيفة للتجسس على المسلمين أو على الذميين الذين هم رعايا كالمسلمين فل يجوز ،إذ هو حرام بصريح القرآن وُيمنع منه الذمي كما ُيمنع المسلم ،لن الذمي في دار السلم -150-
طب بتطبيق أحكام السلم على نفسه إل ّ ما يتعلق منها مخا َ بالعقائد والعبادات ،وهذا ليس منها .وأّما إن كانت الوظيفة للتجسس على الكفار الحربيين الذين يدخلون بلدنا من مستأَمنين ومعاهدين فإنه يجوز ،إذ يجوز التجسس على الكفار الحربيين سواء أكانوا حربيين حقيقة أو حكما ،وسواء أكان ذلك في بلدهم أم في بلدنا .وعلى ذلك فإن وجود دائرة التحري أو المباحث أو ما شاكلها ليس بحرام بل هو واجب ،والحرام فيها هو التجسس على المسلمين وعلى الذميين الذين هم رعايا جد دائرة للتجسس على كالمسلمين .فل يجوز للدولة أن تو ِ المسلمين وعلى سائر الرعايا بل يحرم عليها ذلك .ول يقال :إن مصلحة الدولة تقتضي أن تعرف أخبار الرعية حتى تكشف المؤامرات وتهتدي إلى المجرمين ،لن على الدولة أن تعرف ذلك عن طريق الشرطة والعسس ،وليس عن طريق التجسس .على أن كون العقل يرى أن ذلك الشيء مصلحة أو ليس بمصلحة ل يكون عّلة للتحريم أو الباحة ،وإّنما ما يراه الشرع مصلحة فهو المصلحة. على أن آيات القرآن حين تأتي صريحة في تحريم شيء ل ل ،إذ ل ن للحديث عما فيه مصلحة لتعليل جعله حل ً يبقى مكا ٌ قيمة لذلك إماما نص القرآن الصريح ،والقرآن يقول) :ول تجسسوا( يعني النهي عن التجسس ،ول سبيل إلى فهم غير ما تدل عليه الية ،وما هو صريح في لفظها .ولم َيِرد أي دليل يخصص عموم هذه الية أو يستثني منها شيئا فتبقى على عمومها تشمل كل تجسس ،فيكون التجسس على الرعايا كله حرام. هذا بالنسبة للتجسس على المسلمين أو على الذميين الذين هم رعايا كالمسلمين .أّما تجسس المسلمين والذميين على الكفار الحربيين ،سواء أكانوا حربيين حقيقة أم حربيين حكما ،فهو مستثنى من عموم الية لورود أحاديث خصصت ُ تحريم التجسس بغير الكفار الحربيين .أّما الكفار الحربيون فإن التجسس عليهم جائز للمسلمين وواجب على خليفة المسلمين أي على الدولة ،وذلك لن النبي صلى ا عليه وسلم بعث عبدا بن جحش وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين وكتب له كتابا وأمره أن ل ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه فيمضي ِلما -151-
ما سار عبدا بن أمره به ول َيستكِره من أصحابه أحدا .فل ّ ت في جحش يومين فتح الكتاب فنظر فيه فإذا فيه )إذا نظر َ صد بها ض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف فتر ّ كتابي هذا فام ِ قريشا وتعلم لنا من أخبارهم( ،ففي هذا الكتاب يأمر الرسول صلى ا عليه وسلم عبدا بن جحش بالتجسس له على قريش وبأن ُيعِلمه من أخبارها ،ولكنه يجعل التخيير لصحابه أن يسيروا معه أو ل ،أّما هو فإنه يعزم عليه أن يمضي ،فيكون الرسول قد طلب القيام بالتجسس من الجميع ولكنه عزم على عبدا وخّير الباقين ،وهذا دليل على أن الطلب بالنسبة لمير الجماعة طلب جازم وبالنسبة لغيره ممن معه طلب غير جازم ،فكان ذلك دليل ً على أن تجسس المسلمين على العدو جائز وليس بحرام ،ودليل ً على أن التجسس واجب على الدولة .على أن التجسس على العدو من المور التي ل يستغني عنها جيش المسلمين ،فل يتم تكوين جيش للحرب دون أن تكون معه جاسوسية له على عدوه ،فصار وجود الجاسوسية في الجيش واجبا على الدولة من باب "ما ل يتم الواجب إل ّ به فهو واجب" . هذا حكم التجسس من حيث كونه حراما أو جائزا أو واجبا. أّما حكم عقوبة الجاسوس الذي يتجس للكفار الحربيين فتختلف باختلف تابعية الجاسوس وباختلف دينه .أّما الكافر الحربي ن حكمه القتل قول ً واحدا ول حكم له حين يكون جاسوسا فإ ّ غير ذلك ،وُيقتل بمجرد معرفة أنه جاسوس أي بمجرد ثبوت كونه جاسوسا ،وذلك ِلما رواه البخاري عن سلمة بن الكوع قال) :أتى ن وهو في سفر ،فجلس عند النبي صلى ا عليه وسلم عي ٌ ل ،فقال النبي صلى ا عليه وسلم: بعض أصحابه يتحدث ثم انس ّ اطلبوه .فاقتلوه فسبقُتُهم إليه فقتلته فنفلني سلبه( ،وعند مسلم من رواية عكرمة بلفظ )فقيد الجمل ثم تقدم يتغدى مع القوم وجعل ينظر وفينا ضعفة وِرّقة في الظهر إذ خرج يشتد( ،وفي رواية لبي نعيم في المستخرج من طريق يحيى الحماني عن أبي العميس )أدِركوه فإنه عين( ،فهذا صريح بأن الرسول بمجرد أن ثبت عنه أنه جاسوس قال) :اطلبوه فاقتلوه( ،مما يكون قرينة على أن الطلب طلب جازم ،فيكون حكمه القتل قول ً واحدا ،وهو عام في كل كافر حربي ،سواء أكان معاهدا أو مستأمنا ،أم غير معاهد ول مستأمن ،فكله كافر حربي حكمه القتل إذا كان -152-
جاسوسا. أّما الكافر الذمي حين يكون جاسوسا فإنه ُينظر فيه ،فإن ط حين دخوله في الذمة أن ل يتجسس وإن تجسس شِر َ كان قد ُ ُيقَتل فإنه ُيعمل بالشرط ،فإذا صار جاسوسا ُيقتل حسب الشرط. وأّما إن لم ُيشَرط عليه ذلك فإن يجوز للخليفة أن يجعل عقوبته القتل فُيقتل إذا صار جاسوسا ،لما رواه أحمد عن فرات بن حبان أن النبي صلى ا عليه وسلم أمر بقتله وكان ذميا وكان عينا لبي حَلقة من النصار فقال: سفيان وحليفا لرجل من النصار ،فمّر ب َ إني مسلم ،فقال رجل من النصار :يا رسول ا إنه يقول إنه ن منكم رجال ً مسلم ،فقال رسول ا صلى ا عليه وسلم) :إ ّ كلهم إلى إيمانهم منهم فرات بن حبان( ،فهذا صريح في أن َن ِ ي الجاسوس .إل ّ أن ذلك جائز للمام الرسول أمر بقتل الذم ّ وليس واجبا عليه كما هي الحال في الجاسوس حين يكون كافرا ي من ِقبل الدولة حربيا .والدليل على أن قتل الجاسوس الذم ّ جائز وليس بواجب هو أن الحديث لم يقترن بقرينة تدل على الجزم فيكون الطلب غير جازم .وهناك قرينة تدل على عدم الجزم في الطلب وهي أن نص الحديث يدل على أن الرسول لم يبادر بقتل فرات هذا بمجرد أن عرف أنه جاسوس مع أن الكافر الحربي الذي ورد ِذكره في حديث سلمة بن الكوع قد أمر النبي بقتله بمجرد أن ثبت لديه أنه جاسوس ،وقال للمسلمين) :اطلبوه فاقتلوه( .والدليل على أنه لم يبادر بقتله أن الرسول كان يعرفه، ويظهر ذلك من قول الحديث) :وكان ذميا عينا( ،أي أنه كان معروفا ،وقول الرسول) :منهم فرات بن حبان( .ويضاف إلى ذلك أن الرسول قال في شأن الكافر الحربي) :اطلبوه فاقتلوه( ،أّما في شأن فرات بن حبان فقد أمر بقتله ولم يطلب من المسلمين أن يقتلوه .وظاهر في ذلك الفرق بينهما بأن الحربي طلب قتله ي طلب قتله طلبا غير جازم ،مما يدل على طلبا جازما ،والذم ّ ي ،وجواز عدم قتله. جواز قتل الجاسوس الذم ّ وأّما الجاسوس المسلم الذي يتجسس للعدو على المسلمين والذميين فإنه ل ُيقتلِ ،لما روى مسلم عن ابن مسعود حل دم امرئ ل َي ِ قال :قال رسول ا صلى ا عليه وسلم ) : مسلم يشهد أن ل إله إل ّ ا وأني رسول ا إل ّ بإحدى ثلث: الثّيب الزاني ،والنفس بالنفس ،والتارك لدينه المفاِرق للجماعة(. -153-
فهذا الحديث حصر القتل في هذه الثلث وما عداها من الذنوب ل يجوز أن تكون عقوبتها القتل بالنسبة للمسلم ،فالمسلم ل ُيقتل إل ّ بهذه الذنوب الثلثة .على أن الرسول صلى ا عليه وسلم قد ف عنه ،إذ ما ثبت له أنه أسلم وصار مسلما ك ّ ي ،فل ّ أمر بقتل ذم ّ ما قال له رجل أمر بقتل فرات بن حبان وكان ذميا وكان عينا ،فل ّ من النصار :يا رسول ا إنه يقول إنه مسلم ،قال الرسول) :إ ّ ن كلهم إلى إيمانهم منهم فرات بن حبان( ،فعّلة الكف منكم رجال ً َن ِ ي رضي ا عن قتله كونه صار مسلما .وروى البخاري عن عل ّ عنه قال) :بعثني رسول ا صلى ا عليه وسلم أنا والزبير والمقداد بن السود قال :انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة ومعها كتاب فخذوه منها ،فانطلقنا تتعادى بنا خيلنا حتى انتهينا إلى الروضة فإذا نحن بالظعينة ،فقلنا :أخِرجي الكتاب. ن الثياب. ن الكتاب أو لُتلِقَي ّ فقالت :ما معي من كتاب .فقلنا :لُتخِرج ّ فأخرجته من عقاصها .فأتينا به رسول ا صلى ا عليه وسلم فإذا فيه :من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين من أهل مكة يخبرهم ببعض أْمِر رسول ا صلى ا عليه وسلم. فقال رسول ا صلى ا عليه وسلم :يا حاطب ما هذا؟ قال :يا ي إني كنت امرءا ملصقا في قريش ولم جل عل ّ رسول ا ل تع َ سها وكان َمن معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة أكن من أنف ِ يحمون بها أهليهم وأموالهم ،فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب ت ذلك كفرا فيهم أن اتخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتي وما فعل ُ ول ارتدادا ول رضا بالكفر بعد السلم .فقال رسول ا صلى ا عليه وسلم :لقد صدقكم .فقال عمر :يا رسول ا دعني أضرب عنق هذا المنافق .فقال :إنه شهد بدرا ،وما يدريك لعل طلع على أهل بدر فقال :اعملوا ما شئتم فقد ا أن يكون قد ا ّ ت لكم( .فهذا الحديث قد ثبت فيه على حاطب أنه تجسس غفر ُ على المسلمين ،ولم يقتله الرسول .فدل ذلك على أن الجاسوس المسلم ل ُيقتل .ول يقال :إن ذلك خاص بأهل بدر لن الحديث معّلل بكونه من أهل بدر .ل يقال ذلك لنه وإن كان النص ورد بما يفيد التعليل وسيق على وجه ُتفهم منه العّلّية ،إل ّ أن حديث مسلم في حصر قتل المسلم في ثلث ،وحديث أحمد عن فرات بن حبان قد ُرفع عنه القتل لنه صار مسلما بعد أن كان ذميا، ينفي العّلّية من هذا الحديث ويجعله وصف واقع لن فرات بن -154-
حباس ليس من أهل بدر .ول يقال :حديث فرات بن حبان في إسناده أبو همام الدلل محمد بن محبب ول ُيحتج بحديثه وهو يرويه عن سفيان الثوري .ل يقال ذلك لنه قد روي هذا الحديث عن سفيان بشر بن السري البصري وهو ممن اتفق البخاري ومسلم على الحتجاج بحديثه ورواه عن الثوري أيضا عباد بن موسى الزرق العباداني وكان ثقة .فالحديث ثابت وُيحتج به وهو دليل على أن الجاسوس المسلم ل ُيقتل ،وإّنما يعاَقب بالحبس وغيره ،حسب ما يراه القاضي أو الخليفة. وهذا كله في التجسس على المسلمين والذميين للعدو الكافر الحربي .أّما التجسس على المسلمين ل للعدو ،أي ليس للكافر الحربي ،بل لمجرد الجاسوسية ،أو لمسلمين ،أو للدولة، فإنه مع كونه حراما لم يرّتب الشرع لهذا الذنب عقوبة معينة، فتكون عقوبته التعزير.
الهدنـة عقد الهدنة بين المسلمين والكفار جائز لمهادنته صلى ا عليه وسلم قريشا عام الحديبية .ولكن جواز الهدنة مقّيد بوجود مصلحة يقتضيها الجهاد أو نشر الدعوة .وذلك أن رسول ا صلى ا عليه وسلم بلغه قبل مسيره إلى الحديبية أن مواطأة كانت بين أهل خيبر ومكة على غزو المسلمين ،وأنه بادر بعد رجوعه من الحديبية مباشرة إلى غزو خيبر ،وبادر كذلك إلى إرسال الرسل إلى الملوك والمراء يدعوهم إلى السلم ،مما يدل على أن هدنة الحديبية كانت لمصلحة تتعلق بالجهاد ونشر الدعوة ،إذ استطاع بموادعة قريش أن يتفرغ لحرب خيبر ولدعوة الملوك والمراء .ول تجوز الهدنة عند عدم وجود هذه المصلحة .إذ ل يقع ك القتال المفروض ،وهو ل يجوز إل ّ في حا ٍ الهدنة تْر ُ وسيلًة إلى القتال لنها حينئذ تكون قتال ً معنى ،قال تعالى) :فل َتِهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم العَلْون وا معكم(. وإذا تحققت المصلحة لعقد الهدنة يجب تقدير مدة معينة معلومة لها .ول تجوز المهادنة دون تقدير مدة ،لنها عقد مؤقت، -155-
وإطلقه عن ِذكر المدة يفسده لقتضائه التأبيد الممتنع في عقد الهدنة حتى يبقى الجهاد قائما لن تأبيدها يمنع الجهاد ،وهو فرض .وتقدير مدة معينة في الهدنة شرط من شروط صحتها، سد عقد الهدنة ،لن هدنة الحديبية فإذا لم تقّدر مدة معينة فيها َف َ كانت قد ًُقدرت فيها مدة معينة. حت وجب علينا الكف عنهم ،ومراعاة عقدت الهدنة وص ّ وإذا ُ عقد الهدنة حتى تنقضي مدتها أو ُينقضوها هم ،ويكون نقضها بتصريح منهم أو بقتالنا ،أو قتل مسلم أو ذمي بدارنا ،أو فعل كر الباقون عليه بقول ول شيء مخالف لشروط الهدنة ولم ين ِ فعل .فإذا حصل ذلك ُتنقض الهدنة فيهم جميعا .وكذلك إذا خافت الدولة خيانتهم بشيء مما ُينقض إظهاره الهدنة بأن ظهرت أمارة بذلك ،كان هذا نقضا للهدنة .وإذا حصل شيء من ذلك جازت الغارة عليهم في كل وقت ليل ً أو نهارا ،لن نقضهم للهدنة يبيح للمسلمين أن يقاتلوهم ،وأن َينقضوا الهدنة معهم، ما هادن قريشا فنقضت عهده لن الرسول صلى ا عليه وسلم ل ّ ل له منهم ما كان محّرما عليه منهم ،فقاتلهم وفتح مكة ،لن ح ّ الهدنة عقد مؤقت ينتهي بانقضاء مدته أو بنقضه ،قال تعالى: ن من قوم )فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم( ،وقال) :وإما َتخاَف ّ خيانًة فانِبذ إليهم على سواء( ،وقال) :وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاِتلوا أئمة الكفر إنهم ل أيمان لهم ل العداء بشروط الهدنة ولم يراعوا لعلهم ينتهون( .وإذا أخ ّ اتفاقيتها في تصرفاتهم معنا فقد أحّلونا من عهدنا ،وبذلك حّلت لنا دماؤهم وأموالهم ووجب علينا حربهم ،فيجب علينا أن نقاتلهم مذ قاتلونا وأن ننقض الهدنة معهم مذ نقضوها.
الحلف العسكرية الحلف في اللغة :العهد والصداقة .يقال :حالفه ِمن عاهده .إل ّ أن كلمة الحلف صار الصطلح عليها بأنها أكثر ما ُتطلق على المعاهدات العسكرية خاصة .والحلف العسكرية هي اتفاقات ُتعقد بين دولتين أو أكثر تجعل جيوشهما تقاتل مع بعضها عدوا مشتركا بينهما ،أو تجعل المعلومات العسكرية والدوات الحربية متباَدلة بينهما ،أو إذا وقعت إحداهما في حرب -156-
تتشاوران لتدخل الخرى معها أو ل تدخل حسب المصلحة التي يريانها. وهذه الحلف قد تكون معاهدات ثنائية ُتعقد بين دولتين أو ثلث أو أكثر ،ولكن ل ُيعتبر فيها العتداء على إحدى الدول المتعاهدة اعتداء عليها جميعها ،بل إذا حصل اعتداء على إحدى الدول المتعاهدة تتشاور الدولة المعتدى عليها مع الدول التي بينها وبينها حلف عسكري ،وعلى ضوء مصلحتهما تعلن الحرب مع الدولة المعتدى عليها ضد الدولة المعتدية أو ل تعلن .وقد تكون هذه الحلف معاهدات جماعية ُيعتبر فيها العتداء على أحد الدول المتعاهدة اعتداء عليها جميعها ،وإذا وقعت إحداها في حرب مع دولة ما أصبحت جميع الدول المتعاهدة في حالة حرب ضد هذه الدولة .وهذه الحلف كلها ،سواء أكانت معاهدات ثنائية أو معاهدات جماعية أو غير ذلك ،تحتم أن يحارب الجيش مع حليفه ليدافع عنه وعن كيانه ،سواء أكانت لها قيادات متعددة أو قيادة واحدة. وهذه الحلف باطلة من أساسها ،ول تنعقد شرعا ول ُتلَزم بها الّمة حتى لو عقدها خليفة المسلمين ،لنها تخالف الشرع ،إذ تجعل المسلم يقاتل تحت إمرة كافر ،وتحت راية كفر ،وتجعله يقاتل من أجل بقاء كيان كفر ،وذلك كله حرام .فل يحل لمسلم أن يقاتل إل ّ تحت إمرة مسلم وتحت راية السلم .وقد ورد النهي في الحديث الصحيح عن القتال تحت راية الكفار وتحت إمرتهم، فقد روى أحمد والنسائي عن أنس قال :قال رسول ا صلى ا عليه وسلم :ل) تستضيئوا بنار المشركين( أي ل تجعلوا نار المشركين ضوءا لكم .والنار كناية عن الحرب ،ويقال :أوقد نار الحرب أي أوجد شرها وهّيجها ،ونار التهويل نار كانت العرب في الجاهلية يوقدونها عند التحالف .والحديث يكني عن الحرب مع المشركين وأخذ رأيهم ،فُيفهم منه النهي عن الحرب مع المشركين. والحلف أيضا تجعل الكفار يقاتلون مع المسلمين مع احتفاظهم بكيانهم أي يقاتلون كدولة ل كأفراد ،وقد نهى الرسول عن الستعانة بالكفار ككيان ،فقد ورد من حديث الضحاك رضي ا عنه (أن رسول ا صلى ا عليه وسلم خرج يوم ُأحد فإذا كتيبة حسناء قال أو خشناء ،فقال :من هؤلء؟ قال :يهود كذا -157-
وكذا .فقال :ل نستعين بالكفار( .وقد أخبر الحافظ أبو عبدا، فساق بسنده إلى أبي حميد الساعدي قال) :خرج رسول ا صلى ا عليه وسلم حتى إذا خلف ثنّية الوداع إذا كتيبة قال :من هؤلء؟ قال :بنو قينقاع رهط عبدا بن سلم .قال :أوُتسلموا. قالوا :ل .فأَمَرهم أن يرجعوا وقال :ل نستعين بالمشركين. فأسلموا( .فالرسول رفض الستعانة باليهود وقال بصيغة ل نستعين بالكفار( ،ل) نستعين بالمشركين( .ول يقال: العموم ) : إنا نستعين بالكفار على عدونا والستعانة بالكافر جائزة لن الرسول أقّر قزمان على الحرب معه في ُأحد وهو كافر، واستعان بناس من يهود خيبر في حربه .ل يقال ذلك لن الستعانة بالكفار جائزة إذا كانوا أفرادا تحت راية المسلمين. وهؤلء الذين استعان بهم الرسول استعان بهم وهم أفراد. ما جاء يهود بني قينقاع وجاءوا وهم قبيلة لهم رئيس ولذلك ل ّ وحدهم وهم كدولة عاهدوا الرسول من قبل ،جاءوا يحاربون مع الرسول وهم على هذه الحال وقيل له :رهط عبدا بن سلم ،فأبى الستعانة بهم على هذا الوجه .وعليه ل تجوز الستعانة بجيش كافر وهو تحت راية دولته الكافرة. سَير :من قال المام السرخسي في المبسوط في كتاب ال ِ حديث الضحاك رضي ا عنه )أن رسول ا صلى ا عليه وسلم خرج يوم ُأحد فإذا كتيبة حسناء أو قال خشناء فقال :من هؤلء؟ قالوا :يهود كذا وكذا .فقال :ل نستعين بالكفار( ،وتأويله أنهم كانوا متعززين في أنفسهم ل يقاِتلون تحت راية المسلمين، وعندنا إّنما نستعين بهم إذا كانوا يقاتلون تحت راية المسلمين، فأّما إذا انفردوا براية أنفسهم فل يستعان بهم ،وهو تأويل ما ل تستضيئوا بنار ُروي عن النبي صلى ا عليه وسلم أنه قال ) : المشركين( ،وقال صلى ا عليه وسلم) :أنا بريء من كل مسلم قاَتل مع مشرك( ،يعني إذا كان المسلم تحت راية المشركين. ومن ذلك يتبين أن الحلف العسكرية مع الدول الكافرة حرام شرعا ول تنعقد .على أن المسلم ل يحل له أن يسفك دمه في سبيل الدفاع عن كافر حربي ،وإّنما يقاتل المسلم الناس ليدخلوا في السلم من الكفر ،فأّما أن يقاتلوا الكفار ليدخلوا من الكفر إلى الكفر ويسفكوا في ذلك دماءهم ،فهذا حرام. -158-
المعاهدات الجائزة حسن للدولة السلمية أن تعقد معاهدات الصلح والهدنة و ُ الجوار ومعاهدات ثقافية والمعاهدات التجارية والمالية وما شابه ذلك من المعاهدات التي تقتضيها مصلحة الدعوة السلمية بالشروط التي يقرها السلم .وإذا تضمنت هذه المعاهدات شروطا ل يقرها السلم فإنه يبطل منها من الشروط ما ل يصح في السلم ،وتبقى المعاهدة نافذة في باقي الشروط ،لن كل شرط يخالف الشرع فهو باطل ،ولو رضي به ووافق عليه خليفة المسلمين .فإذا كانت بين الدولة السلمية وبين عدوها حالة حرب فإنه يجوز لها أن تعقد معه معاهدة هدنة ،ومعاهدة صلح، حسب ما يقتضيه الموقف حينئذ ،وما تتطلبه مصلحة الدعوة .وإذا رأت الدولة السلمية أن تسالم وتصادق دولة مجاورة أو دولة بعيدة عنها لمر تقتضيه مصلحة الدعوة ،فإنه يجوز لها أن تفعل ذلك .فقد تجد الدولة في المواَدعات مع الكفار أداة لتوصيل الدعوة إليهم وليجاد رأي عام عندهم عن السلم ،وقد تجد في المواَدعات دفع شر كبير أو التوصل إلى عدو آخر .ولذلك يجوز حسن للدولة السلمية أن تعقد مع الدولة المجاورة معاهدة ُ جوار ،كما يجوز أن تعقد مع الدول غير المجاورة معاهدات عدم اعتداء لمدة معينة ،إذا رأت في ذلك طريقا للدعوة السلمية أو حماية للمسلمين أو أي مصلحة للمسلمين أو للسلم أو لسير الدعوة السلمية .فقد عاهد الرسول صلى ا عليه وسلم بني مدلج وبني دمرة ليؤّمن الطرق التي يسلكها جيشه لمحاربة عدوه ،وعاهد يوحنا بن رؤبة في تبوك ليؤّمن حدود الدولة من جهة الروم على حدود بلد الشام .وإذا طلب قوم من أهل الحرب الموادعة سنين معلومة بغير شيء ،نظر الخليفة في ذلك فإن عله ،لقوله رآه خيرا للمسلمين لشدة شوكتهم أو لغير ذلك َف َ سلم فاجنح لها( ،ولن الرسول صلى ا جنحوا لل َ تعالى) :فإن َ عليه وسلم صالح أهل مكة عام الحديبية على أن يضع الحرب بينه وبينهم مدة معلومة ،وقد كان ذلك لن الرسول بلغه أن مواطأة كانت بين أهل خيبر ومكة على غزو المسلمين ،فواَدع قريشا ثم ذهب لمحاربة خيبر. وفي المواَدعات الجائزة كلها ُيترك أمر عقدها وعدم -159-
عقدها إلى رأي الخليفة واجتهاده ،لن الخليفة نصب ناظرا ،ومن النظر حفظ قوة المسلمين أول ً .فربما يكون من ذلك في الموادعة إذا كانت للكفار شوكة ،أو احتاج إلى أن ُيمعن في دار الحرب ليتوصل إلى قوم لهم بأس شديد فل يجد بدا من أن يواِدع َمن على طريقه .فالمسألة موكولة لرأي الخليفة يقدرها بحسب ما يرى خيرا للمسلمين .وإن لم تكن الموادعة خيرا للمسلمين فل ينبغي أن يوادعهم لقوله تعالى) :ول َتِهنوا وتدعوا إلى السلم ك ما هو فرض من وأنتم العَلْون( ،ولن قتال الكفار فرض وتر ُ غير عذر ل يجوز .وإذا طلب ملك أو أمير أو دولة من أهل الحرب الذمة على أن ُيترك َيحكم في أهل مملكته بما شاء ِمن قْتل أو جب إلى ذلك ،لن صلب أو غيره مما ل يصلح في دار السلم لم ُي َ ي من يلتِزم التقرير على الظلم مع إمكان المنع حرام ،ولن الذم ّ أحكام السلم فيما يرجع إلى المعاملت .فهذا الشرط الذي يطلبه الملك أو المير أو الدولة هو بخلف موجب العقد ،فهو طل من شرط باطل ،فإن ُأعطي الصلح والذمة على هذا َب ُ شروطه ما ل يصلح في السلم لقوله صلى ا عليه وسلم) :كل طَلب الصلح والذمة شرط ليس في كتاب ا فهو باطل( ،وإن َ ورضي بحكم السلم صار ذمة للمسلمين وحكم بالسلم ودخلت البلد التي كان يحكمها في البلد السلمية وصار الدفاع عنها دفاعا عن البلد السلمية وصارت نصرتهم واجبة كنصرة المسلمين.
المعاهدات الضطرارية قد يقع المسلمون في أحوال شديدة تضطرهم إلى التسليم بأمور ل تجوز ولكن الضرورة تحتمها .وقد تقع الدولة السلمية في أزمات داخلية أو خارجية تضطرها لن تعقد معاهدات ل تؤدي مباشرة إلى حمل الدعوة ،ول إلى القتال في كن حملها في سبيل ا ،ولكنها تسّهل إيجاد ظروف تم ّ المستقبل ،أو تدفع شر وقف الدعوة أو تحفظ كيان المسلمين. فمثل هذه المعاهدات تجِبر الضرورة على عقدها ،ولذلك يجوز للخليفة أن يعقدها وتكون نافذة على المسلمين ،وتقع هذه المعاهدات في حالتين اثنتين نص عليهما الفقهاء وهما: -160-
الحالة الولى -إنْ أراد قوم من أهل الحرب الموادعة مع المسلمين سنين معلومة على أن يؤدي أهل الحرب الخراج إليهم كل سنة شيئا معلوما على أن ل تجري أحكام السلم عليهم في بلدهم ،لم ُيفعل ذلك لنه إقرار على الكفر ،إل ّ إذا كانت الدولة غير قادرة على منع الظلم ،ورأت في هذه الموادعة خيرا للمسلمين فإنه يجوز حينئذ اضطرارا عقدها .وفي هذه الحال ل يكون لهم على الدولة السلمية المعونة والنصرة لنهم بهذه الموادعة ل يلتزمون أحكام السلم ول يخرجون من أن يكونوا أهل حرب حين لم ينقادوا لحكم السلم ،فل يجب على المسلمين القيام بنصرتهم .وقد عاهد رسول ا يوحنا بن رؤبة وهو في تبوك على حدود بلد الشام وَتَركه في منطقته على دينه ولم يدخل تحت راية المسلمين وحكمهم .وهذه المعاهدة المحدودة المدة تجعل المان لهذه الدولة مضمونا من الدولة من دخلها من المسلمين يدخلها بأمان المعاهدة دون السلمية ،ف َ أمان منفرد ،ول يجوز له أن يتعرض لهلها .وَمن دخل بلد المسلمين من رعايا هذه الدولة يدخلونها بأمان المعاهدة ول يحتاج إلى أمان جديد سوى الموادعة ،ول يجوز أن يتعرض له أحد من المسلمين .ول ُيمنع التجار من حمل التجار لهذه الدولة إل ّ الدوات التي ُتستعمل في الحرب ،كالسلح والمواد الحربية وما شابه ذلك ،لنهم أهل حرب وإن كانوا مواِدعين. الحالة الثانية -عكس الحالة الولى ,وهي أن يدفع المسلمون إلى عدوهم مال ً مقابل سكوته عنهم .وقد ذكر الفقهاء أنه إن حاصر العدو المسلمين وطلبوا الموادعة سنين معلومة على أن يؤدي المسلمون للكفار شيئا معلوما كل سنة، فل ينبغي للخليفة أن يجيبهم إلى ذلك ِلما فيه من الدنّية والذِّلة بالمسلمين ،إل ّ عند الضرورة ،وهو أن يخاف المسلمون الهلك على أنفسهم ،ويرى الخليفة أن هذا الصلح خير لهم ،فحينئذ ل بأس بأن يفعلهِ ،لما ُروي أن المشركين أحاطوا بالخندق وصار ي المؤمنون المسلمون في بلء كما قال ا تعالى) :هنالك ابُتل َ وُزلِزلوا زلزال ً شديدا( ،بعث رسول ا صلى ا عليه وسلم إلى عبيدة بن حصن وطلب منه أن يرجع بمن معه على أن يعطيه كل ما حضر رسله ليكتبوا سنة ثلث ثمار المدينة ،فأبى إل ّ النصف .فل ّ الصلح بين يدي رسول ا ،قام سيدا النصار سعد بن معاذ -161-
وسعد بن عبادة رضي ا عنهما وقال :يا رسول ا إن كان هذا ت به ،وإن كان رأيا رأيت فقد كنا نحن ض لما ُأمر َ عن وحي فام ِ وهم في الجاهلية لم يكن لنا ول لهم دين فكانوا ل َيطمعون في ثمار المدينة إل ّ بشراء أو ِقرى ،فإذا أعّزنا ا بالدين وبعث فينا رسوله نعطيهم الدنّية؟ ل نعطيهم إل ّ السيف .فقال صلى ا كم عن قوس واحدة فأحببت أن عليه وسلم :إني رأيت العرب َرَمت ُ أصرفهم عنكم ،فإذا أبيُتم ذلك فأنتم وأولئك .اذهبوا فل نعطيكم إل ّ السيف( ،فهذا يدل على أن رسول ا صلى ا عليه وسلم ما أحس ضعف المسلمين ،فحين مال إلى الصلح في البتداء ل ّ رأى القوة فيهم بما قاله سعد بن معاذ وسعد بن عبادة رضي ا عنهما ،امتنع عن ذلك ،فدل على أنه ل بأس من عقد معاهدة مع الكفار ُيدفع لهم مال عند خوف الضرر .وهذا لنهم إن ظهروا ع بعض على المسلمين أخذوا جميع الموال وسبوا الذراري ،فدْف ُ المال لَيسَلم المسلمون في ذراريهم وأموالهم أهون وأنفع.
نقض المعاهدات جميع المعاهدات التي تعقدها الدولة السلمية يجب أن تكون محددة لجل معين .ولكن ليس معنى عقد المعاهدة إلزام المسلمين بها في جميع الحوال ،كما أنه ليس معناه جواز الغدر بالمعاهدة ونقض المعاهدة ،بل يجوز أن ُتنقض المعاهدة في أحوال معينة نص عليها الشرع ،ول يجوز نقضها في غير الحوال التي نص عليها الشرع .والحوال التي نص الشرع على جواز نقض المعاهدة مع العدو هي: أول ً -إذا ظاهر المعاهد عدوا من أعداء المسلمين وناصره على المسلمين ،وذلك كأن يكون بين الدولة السلمية وبين دولة أخرى حالة حرب فعلية فصارت الدولة التي بيننا وبينها معاهدة، تمد هذا العدو بالسلح أو المال أو الرجال وتنصره علينا .ففي هذه الحال يجوز للدولة السلمية أن تنقض المعاهدة لن ا يقول) :إل ّ الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ُينقصوكم شيئا هروا عليكم أحدا( ،فإن مفهومه إذا ظاهروا على ولم يظا ِ المسلمين أحدا جاز للمسلمين نقض المعاهدة معهم. ثانيا -أن ينقض المعاهد شرطا من شروط المعاهدة، -162-
وذلك كما حصل مع الروسل صلى ا عليه وسلم في صلح الحديبية ،فإن خزاعة دخلت في حماية الرسول وحالَفته فنقضت قريش هذا الشرط وحّرضت بني بكر على خزاعة ثم َنِدمت وحاولت إبقاء المعاهدة ،ولكن الرسول اعتبر هذا النقض مبيحا له نقض المعاهدة ،فنقضها وحاربهم وفتح مكة. ثالثا -إذا خيف خيانة المعاهد وغدره يجوز نقض ن من قوم خيانة فانِبذ المعاهدة ،قال ا تعالى) :وإّما َتخاَف ّ إليهم على سواء( ،وفي هذه الحالة يجب إعلم العدو بنقض المعاهدة معه .ول ُيشترط في النقض حصول الغدر بالفعل ،بل يكفي مجرد الخوف من العدو لن يكون مبررا لنقض المعاهدة. علم الطرفين بالنقض. وٌيكتفى بالعلم حتى يستوي ِ رابعا -أن ينقض المعاهد المعاهدة مع الدولة السلمية نقضا تاما .وفي هذه الحال يجب نقض المعاهدة معهم وضربهم ضربات قاسية تكون درسا وعبرة لغيرهم حتى ل ُيقِدموا على معاملة المسلمين بمثل هذه المعاملة ،قال تعالى: ب عند ا الذين كفروا فهم ل يؤمنون ،الذين )إن شّر الدوا ّ ت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم ل يّتقون، عاهد َ فإما تثَقَفّنهم في الحرب فشّرد بهم َمن خلفهم لعلهم يّذكرون(. هذه هي الحوال الربعة التي يجوز للمسلمين فيها أن ينقضوا المعاهدات المعقودة بنيهم وبين عدوهم ويجوز لهم أن حُرم فاقتلوا يقاِتلوا هذا العدو ،قال تعالى) :فإذا انسلخ الشهر ال ُ المشركين حيث وجدتموهم( ،وهي المدة التي ُذكرت قبل هذه الية وهي قوله) :فسيحوا في الرض أربعة أشهر( ،وقال تعالى: )أل تقاِتلون قوما نكثوا أيمانهم( .إل ّ أنه ينبغي في نقض المعاهدة أن ُينَبذ إليهم على سواء ،قال تعالى) :فانِبذ إليهم على سواء( ،وهذا عام في جميع المعاهدات أي على سواء منكم ومنهم في العلم بذلك .ول يحل قتال العداء قبل النبذ وقبل أن يعلموا بذلك ليعودوا إلى ما كانوا عليه من التحصن وكان ذلك تحرزا من الغدر .وهذا كله في غير من يوفون بعهدهم ،أّما الذين يوفون بمعاهداتهم ويستقيمون مع الدولة السلمية فيجب أن يوفي المسلمون معهم بعهدهم ويستقيموا معهم كما استقاموا ،قال تعالى) :إل ّ الذين عاهدتم من المشركين ثم لم موا إليهم عهدهم ُينِقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأت ّ -163-
إلى مّدتهم( ،ومفهومه أن الذين نقضوا المسلمين شيئا ،كالحالة الثانية السابقة ،أو ظاهروا عليهم أحدا ،كالحالة الولى السابقة، موا إليهم موا إليهم عهدهم .أّما إذا لم يفعلوا ذلك فأِت ّ فل ُيِت ّ موا إليهم معاهدتهم إلى نهاية مدتها .فعلى المسلمين أن ُيِت ّ عهدهم إلى نهاية مدة العهد .وقال تعالى) :كيف يكون للمشركين عهد عند ا وعند رسوله إل ّ الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم( ،ومفهومه إذا لم يستقيموا لكم فل تستقيموا لهم .أّما إذا استقاموا فاستقيموا ووفوا لهم عهدهم. ومن ذلك يتبين أن الوفاء بالمعاهدات أمر واجب ،وأنه وإن كانت المعاهدة إلى مدة معلومة فيجب الوفاء بها إلى مدتها ،فإذا موا انتهت مدتها جاز عدم تجديدها وإنهاؤها ،قال تعالى) :فأِت ّ عليهم عدهم إلى مدتهم( ،كما يتبين أن القسوة على الذين ل العدو بشرط من ينقضون المعاهدات أمٌر واجب أيضا وإذا أخ ّ شروط المعاهدة أو نقضها كلها أو حدث منه أن ظاهر أعداء المسلمين على المسلمين أو خيف منه الخيانة ،فإن كل هذا يبيح للمسلمين أن ينقضوا المعاهدات مع أعدائهم ،ونقضهم هذا ليس غدرا .وعليه فإن التفاقات الدولية قد حدد الشارع أنواعها وحدد الحالت التي ُتنقض بها أو ينتهي العمل بها فيجب التزام ما بّينه الشارع وحده في المعاهدات والوقوف عند حد الشرع في شأنها مع ترك أمر السلوب والختيار إلى رأي الخليفة واجتهاده.
الكافر الحربي الكافر الحربي هو كل كافر لم يدخل في ذمة المسلمين، سواء أكان معاهدا أو مستأمنا ،أو كان غير معاهد ول مستأمن. عقدت معاهدة بين الدولة السلمية وبين أي دولة كافرة، فإذا ُ كان رعايا الدولة معاهدين يعاَملون حسب ما تنص عليه المعاهدة التي بيننا وبينهم ،وينفذ كل ما تضمنته هذه المعاهدة. إل ّ أنه مع وجود المعاهدة لم يخرج الكفار المعاهدون عن كونهم كفارا حربيين حكما ،لنه بمجرد انتهاء المعاهدة أو نقضها من ِقبلهم أو من ِقبلنا يرجع حكمهم حكم سائر الكفار الحربيين. ومن أجل ذلك ُيمنع بيعهم السلح والمواد الحربية ِلما في ذلك -164-
من تقوية العدو على المسلمين .وإذا ُذكر في المعاهدة جواز بيعهم السلح والمواد الحربية ل ُيَوّفى بهذا الشرط لنه يخالف الشرع ،وكل شرط خالف الشرع فهو باطل ل ينعقد. أّما إذا لم تكن بيننا وبينهم معاهدة فهم كفار حربيون حقيقة ل حكما ،سواء أكانت حالة الحرب قائمة بيننا وبينهم كنون من دخول بلد المسلمين بالفعل أم لم تكن قائمة ،فل يم ّ كنون من القامة في بلد إل ّ بأمان خاص لكل مرة ،ول يم ّ المسلمين إل ّ مدة معينة محددة .إل ّ أن الفرق بين الدولة الكافرة الحربية المحاِربة بالفعل وبين الدول الكافرة الحربية غير المحاربة بالفعل هو أن الدولة المحاربة بالفعل ل ُتعقد معها أية معاهدة قبل الصلح ول يعطى المان لحد من رعاياها إل ّ إذا جاء ليسمع كلم ا أو جاء ليكون ذميا يعيش في بلد المسلمين ،بخلف الدولة الحربية غير المحاربة بالفعل فإنها تعقد حسن الجوار وغير ذلك ،ويعطى معها المعاهدات التجارية و ُ رعاياها المان لدخول البلد السلمية للتجارة أو النزهة أو السياحة أو غير ذلك.
المستأ ِمن المستأِمن –بكسر الميم -طالب المان .وهو من يدخل دار غيره بأمان ،أي من يدخل بلد غيره بأمان ،سواء أكان مسلما أم حربيا .فإذا دخل المسلم دار الحرب بأمان حرم تعرضه لشيء منهم ،إذ المسلمون عند شروطهم ،فلو خرج بشيء من أموالهم خلسة أو سرقة كانت حيازته له ملكا خَذه ِ لم يأخذه غصبا بأن أ َ حراما فُيتصدق به وجوبا .أّما إذا غصب منهم شيئا فإنه يرّده عليهم لن الغصب مضمون للمغصوب منه ُيرجع إليه سواء أكان كافرا أم مسلما .وكما يجيز دخول المسلم بلد الكفر بأمان يجوز أن يدخل الحربي بلد المسلمين بأمان .فقد أعطى رسول ا صلى ا عليه وسلم المان للكفار يوم فتح مكة فقال) :من أغلق بابه فهو آِمن( ،وكان صلى ا عليه وسلم يؤّمن رسل المشركين وحّرم الغدر فيمن أعطي المان .فعن أبي سعيد ء يوم قال :قال رسول ا صلى ا عليه وسلم) :لكل غادٍر لوا ٌ القيامة ُيرفع له بقدر غدرته ،أل ول غادر أعظم غدرا من أمير -165-
عامة(. كن من المكث في بلد إل ّ أن الحربي المستأِمن ل يم ّ المسلمين سنة ،فيعطى المان شهرا أو شهرين أو أكثر ول يعطى أكثر من سنة .وإن أعطي أمانا مطلقا ولم تحدد المدة فالمعتَبر هو الحْول ،لنه أبيح له القامة في دار السلم من غير جزية فيعطى سنة ،فإن زاد عليها يخّير بين القامة والتزام الجزية ،وبين الخروج من دار السلم .فإن بقي بعد السّنة اعُتبر قابل ً للجزية صل منه الجزية ،لنه ل يجوز ضربت عليه الذمة فأصبح ذميا وتح ّ و ُ أن يبقى كافر في بلد السلم دون جزية .والجزية ُتستحق مرة في السّنة ،فإذا بقي أكثر من سنة فقد اسُتحقت عليه الجزية وصار ذميا جبرا عنه ،وإذا خرج في نهاية السّنة أو قبلها لم طل أمانه السابق ،فإذا أراد ُتستحق عليه جزية .وإن خرج ب ُ الدخول ثانية يحتاج إلى أمان جديد. ويجب على الخليفة نصرة المستأِمنين ما داموا في دار السلم ،فكان حكمهم كأهل الذمة .وإذا ارتكب المستأِمن ما يوجب عقوبة تقام عليه كل عقوبة كأهل الذمة إل ّ حد الخمر ،لن دار السلم محل إجراء الحكام الشرعية فتجري الحكام الشرعية على كل من فيها من مسلم أو ذمي أو مستأِمن .كتب رسول ا صلى ا عليه وسلم إلى أهل نجران وهم نصارى ن َمن بايع منكم بالربا فل ذمة له( .والربا من أحكام السلم، )إ ّ فتطبيق الرسول على أهل الذمة عدم المبايعة بالربا دليل على مطالبتهم بالحكام ،ويعاَمل المستأِمن معاملة الذمي. وإذا أخذ المستأِمن أمانا لنفسه كان أمانه هذا أمانا لمواله التي معه تبعا له ولو لم يأخذ لها أمانا ،فتصان أمواله كما تصان نفسه ،وَيضمن المسلم قيمة خمره وخنزيره إذا أتلفه ،وتجب الدية عليه إذا قتله خطأ ،وُيقتل به إذا قتله عمدا .جيء برجل مسلم قتل يهوديا إلى النبي صلى ا عليه وسلم فقتله وقال: ق من َوّفى بذّمته( .ويجب كف الذى عن المستأِمن )نحن أح ّ وتحرم غيبته كالمسلم لنه يعاَمل معاملة الذمي .ولو مات حفظ ماله المستأِمن في دار السلم ووَرَثته في دار الحرب ُ ويأخذونه ببينة سواء من المسلمين أو من أهل الذمة ،لنه مال مؤّمن فيسّلم لصحابه الذين ورثوه. والحاصل أن كل من طلب المان من المسلمين فإنه يجوز -166-
للمسلمين أن يعطوه المان لقوله تعالى) :وإن أحدٌ من ه حتى يسمع كلم ا ثم أبلغه مأمنه(، جْر ُ المشركين استجارك فأ ِ ولن المان إعطاء ذمة وعهد ،والرسول صلى ا عليه وسلم يقول) :المسلمون تتكافأ دماؤهم وهم يٌد على َمن سواهم ويسعى بذّمتهم أدناهم( ،إل ّ أن هذا المان مقّيد بخضوعهم لحكام السلم وبإعطائهم الجزية إذا اسُتحقت عليهم ،لقوله تعالى) :حتى ُيعطوا الجزية عن يٍد وهم صاغرون( ،أي ل ُيرفع طْون المان من القتال إل ّ إذا أعطوا الجزية عنهم القتال ول يع َ وخضوا لحكام السلم .فقبولهم الخضوع لحكم السلم أثناء ف لعطائهم المان ،فإذا مكثوا مدة إقامتهم في دار السلم كا ٍ ُتستحق عليهم فيها الجزية وهي سنة ،طلب منهم الخروج ،فإن ضربت عليهم الجزية واعُتبروا ذميين. أبوا ُ
أحكام الذمي الذمي هو كل من يتدين بغير السلم وصار من رعية ق على تدينه بغير السلم .والذمي الدولة السلمية ،وهو با ٍ مأخوذ من الذمة وهي العهد ،فلهم في ذمتنا عهد أن نعاملهم ما صالحناهم عليه ،وأن نسير في معاملتهم ورعاية شؤونهم حسب أحكام السلم .وقد جاء السلم بأحكام كثيرة لهل الذمة ،منها أن ل ُيفَتنوا عن دينهم ،وعليهم الجزية فقط ،ول يؤخذ منهم ما ٌ ل غيرها إل ّ أن يكون شرطا من شروط الصلح .عن عروة بن الزبير قال :كتب رسول ا صلى ا عليه وسلم إلى أهل اليمن) :أنه من كان على يهوديته أو نصرانيته فإنه ل ُيفَتن عنها وعليه الجزية(. ومثل اليهود والنصارى غيرهم من المشركين وسائر الكفار ،عن الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب قال) :كتب رسول ا صلى ا عليه وسلم إلى مجوس هجر يدعوهم إلى السلم، فمن أسلم ُقِبل منه ومن ل ضربت عليه الجزية في أن ل تؤكل له ذبيحة ول تنكح له امرأة( .وليس ذلك خاصا بمجوس هجر بل هو عام .والحديث ل مفهوم له لن مفهوم اللقب ليس بحجة ول قيمة له .ول تؤخذ الجزية إل ّ من الذكور البالغين ،عن نافع عن أسلم مولى عمر )أن عمر كتب إلى أمراء الجناد أن يضربوا الجزية ول يضربوها على النساء والصبيان ول يضربوها إل ّ على من جرت -167-
كر ،بل قال أبو عبيد :هذا كر عليه من ِ عليه الموسى( ،ولم ين ِ الحديث هو الصل فيمن تجب عليه الجزية وفيمن ل تجب .ول تؤخذ الجزية إل ّ من القادر على دفعها لقوله تعالى) :عن يٍد( أي عن قدرة ،فإذا عجز عن دفعها ل تؤخذ منه ،بل إذا عجز عن الكسب وافتقر ل ُيكتفى بعدم أخذ الجزية ،بل يجب أن ُينفق عليه من بيت المال كما ُينفق على المسلمين .عن جسر بن أبي جعفر ت كتاب عمر عبدالعزيز إلى عدي بن أرطأة )أّما بعد قال :شهد ُ فإن ا سبحانه وتعالى إّنما أمر أن تؤخذ الجزية ممن رغب عن السلم واختار الكفر عينا وخسرانا مبينا ،فضع الجزية على من ل بينهم وبين عمارة الرض فإن في ذلك صلحا أطاق حملها ،وخ ّ لمعاش المسلمين وقوة على عدوهم ،وانظر من ِقبَلك من أهل عفت قّوته ووّلت عنه المكاسب فأجِر الذمة قد كُبرت سّنه وض ُ عليه من بيت مال المسلمين ما ُيصلحه ،فلو أن رجل ً من عفت قّوته ووّلت عنه المسلمين كان له مملوك كُبرت سّنه وض ُ المكاسب ،كان من الحق عليه أن يقوته حتى يفّرق بينهما موت أو عتق .وذلك أنه بلغني أن أمير المؤمنين عمر مّر بشيخ من أهل الذمة يسأل على أبواب الناس فقال :ما أنصفناك إن كنا نأخذ منك الجزية في شبيبتك ثم ضّيعناك في ِكبِرك .قال :ثم أجرى عليه من بيت المال ما يصلحه(. وعند أخذ الجزية يجب أن تؤخذ بالحسنى ل بالعنف ول بالتعذيب ،وأن تؤخذ بالقدر الذي يحتملونه ،فل ُيظلمون ول يؤخذ منهم فوق قدرتهم .عن هشام بن حكيم بن حزام أنه مّر على قوم يعّذبون في الجزية بفلسطين فقال هشام :سمعت رسول ا صلى ا عليه وسلم يقول :إن ا يعّذب يوم القيامة الذين يعّذبون الناس في الدنيا( .وعن عبدالرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه أن عمر بن الخطاب ُأتي بمال كثير قال أبو عبيد :أحسبه قال: من الجزية .فقال :إني لظنكم قد أهلكتم الناس .قالوا :ل وا ما أخذنا عفوا صفوا .قال :بل سوط ول نوط؟ قالوا :نعم .قال: الحمد لله الذي لم يجعل ذلك على يدي ول في سلطاني( .ول يجوز أن تباع وسائل معيشة الذمي لخذ الجزية مهما بلغت قيمتها .عن سفيان بن أبي حمزة قال :كتب عمر بن عبدالعزيز خراجها، )أن ل يباع لهل الذمة آلة( ،قال أبو عبيد :يقول من أجل َ خراجه ،ويقاس طل َ لنه إذا باع أداة الزرع لم يستطع أن يزرع فيب ُ -168-
على آلة الزرع آلت معيشته الخرى .وإذا أسلم الذمي سقطت عنه الجزية ،عن عبيدا بن رواحة قال :كنت مع مسروق بالسلسلة فحّدثني أن رجل ً من الشعب أسلم فكانت تؤخذ منه الجزية ،فأتى عمر بن الخطاب فقال :يا أمير المؤمنين إني أسلمت والجزية تؤخذ مني ،قال :لعلك أسلمت متعوذا .فقال :أما في السلم ما يعيذني؟ قال :بلى .قال :فكتب عمر أن ل تؤخذ منه الجزية( .وعن قابوس بن ظبيان عن أبيه قال :قال رسول ا صلى ا عليه وسلم) :ليس على مسلم جزية( .وعن ابن ل تصلح عباس قال :قال رسول ا صلى ا عليه وسلم ) : قبلتان في أرض وليس على مسلم جزية( .كتب عمر بن عبالعزيز إلى عامله الذي كان يرى بقاء الجزية على من أسلم هروبا من الجزية ،فقال في كتابه) :إن ا بعث محمدا صلى ا عليه وسلم هاديا ولم يبعثه جابيا(. وقد أوصى السلم بمعاملة الذمي معاملة حسنة ،فُيرَفق به وُيعان على أمره ويجب أن يقوم المسلمون على حمايته وحماية ماله وعرضه ،وأن ُيضمن له قوته ومسكنه وكسوته .عن أبي وائل عن أبي موسى أو أحدهما بإسناده أن رسول ا صلى ا عليه وسلم قال) :أطعموا الجائع وعودوا المريض وفكوا هد من دونهم العاني( ،قال أبو عبيد" :وكذلك أهل الذمة يجا َ وُيفَتك عناتهم فإذا اسُتنقذوا رجعوا إلى ذمتهم وعهدهم أحرارا وفي ذلك أحاديث" .وعن عمرو بن ميمون عن عمر بن الخطاب أنه كان في وصيته عند موته )وأوصي الخليفة من بعدي بكذا وكذا وأوصيه بذمة ا وذمة رسوله صلى ا عليه وسلم خيرا، أن يقاتل من ورائهم ،وأن ل يكّلفوا فوق طاقتهم( .وُيترك الذميون وما يعتقدون وما يعبدون لقول الرسول) :من كان على يهوديته ونصرانيته فإنه ل ُيفَتن عنها( ،ومعنى ل يفتن عنها أي ل ُيكره على تركها بل ُيترك عليها .وتْركه عليها يعني تْركه على عقيدته وعبادته .وليس هذا خاصا بأهل الكتاب بل يقاس عليهم غيرهم في هذا الموضوع ،لقول الرسول صلى ا عليه وسلم سّنوا بهم سّنة أهل الكتاب( ،ومثل المجوس عن المجوس ُ) : باقي المشركين .وأّما أكل ذبائحهم والتزوج من نسائهم ،فإنه ُينظر :فإن كانوا من أهل الكتاب أي من اليهود أو النصارى فيجوز للمسلمين أن يأكلوا ذبائحهم وأن يتزوجوا من نسائهم لقوله -169-
ل لهم ح ّ ل لكم وطعامكم ِ ح ّ تعالى) :وطعام الذين أوتوا الكتاب ِ صنات من الذين أوتوا الكتاب من صنات من المؤمنات والمح َ والمح َ قبلكم( .وأّما إن كانوا من غير أهل الكتاب فل يجوز أكل ذبائحهم ول ُتزّوج نسائهم لقول الرسول صلى ا عليه وسلم في مجوس هجر) :في أن ل تؤكل له ذبيحة ول ُتنكح له امرأة( .وأّما تزّوج الكفار من نساء المسلمين فل يجوز مطلقا وهو حرام سواء أكانوا من أهل الكتاب أم من غيرهم لقوله تعالى) :فإن حل لهم ول ن ِ جعوهن إلى الكفار ل ه ّ ن مؤمنات فل َتر ِ ه ّ عِلمُتمو ُ هم يحّلون لهن( .ويجوز أن تجري بين الذميين وبين المسلمين معاملت البيع والشراء والجارة والشراكة والرهن وغير ذلك بل فرق بينهم وبين المسلمين .فقد عامل رسول ا صلى ا عليه وسلم أهل خيبر وهم يهود بنصف ما يخرج من الرض على أن يعملوها بأموالهم وأنفسهم .وقد ابتاع الرسول عليه السلم طعاما من يهودي بالمدينة ورهنه درعه .وأرسل إلى يهودي يطلب منه ثوبين إلى الميسرة .وهذا كله دليل على جواز إجراء جميع المعاملت مع الذميين ،إل ّ أنه إذا عوملوا بإجارة أو بيع أو شراكة أو رهن فيجب أن تطّبق أحكام السلم وحدها ،ول يجوز التعامل بغيرها مطلقا .وهكذا يكون الذميون رعية الدولة السلمية كسائر الرعية لهم حق الرعوية وحق الحماية وحق ضمان العيش وحق المعاملة بالحسنى وحق الرفق واللين ،ولهم أن يشتركوا في جيش المسلمين ويقاِتلوا معهم ،ولكن ليس عليهم واجب القتال ول واجب المال سوى الجزية ،فل ُتفرض عليهم الضرائب التي ُتفرض على المسلمين ،ولهم ما للمسلمين من النصاف وعليهم ما على المسلمين من النتصاف ،وُينظر إليهم أمام الحاكم وأمام القاضي وعند رعاية الشؤون وحين تطبيق المعاملت والعقوبات كما ُينظر للمسلمين دون أي تمييز، فواجب العدل لهم كما هو واجب للمسلمين. أّما ما ورد من عهد عمر معهم واشتراطه شروطا عليهم، فإن تلك العهود قد صولحوا عليها وُأدرجت في الصلح شروط ورضوا بها ،فكان لزاما أن ينفذ عهد الصلح كما هو ،أّما إذا لم يتضمن عهد الصلح معهم معاملة معينة تنص على أمور معينة، فإنه ل يصح أن يعاَملوا إل ّ كما يعاَمل المسلمون ،إل ّ ما ورد النص على معاملتهم بغير ما يعاَمل به المسلمون مثل عدم جواز -170-
أن يتزوجوا المسلمات .والدليل على أن ما فعله عمر كان بناء من العهد له ،ما فعله عمر نفسه في ُمكس التجارة، على تض ّ عشر ومن الذميين فإنه رضي ا عنه أخذ من المسلمين ربع ال ُ عشر ،مع أن الحكم الشرعي أنه ل يؤخذ من المسلم ول نصف ال ُ مكس على تجارته .عن أبي الخير: من الذمي شيء من ال ُ ت رسول ا صلى ا عليه ت رويفع بن ثابت يقول :سمع ُ سمع ُ وسلم يقول) :إن صاحب المكس في النار -يعني العاشر( ،وقال عليه السلم) :إذا لقيتم عاشرا فاقتلوه( ،وعن إبراهيم بن مهاجر شر في ت زياد بن حدير يقول) :أنا أول عاشر ع ّ قال :سمع ُ السلم .قلت :من كنتم تعشرون؟ قال :ما كنا نعشر مسلما ول معاهدا ،كنا نعشر نصارى بني تغلب( ،فمكس التجارة ل يؤخذ ل من المسلم ول من الذمي .وما أخذه عمر من المسلم زكاة ومن الذمي حسب شروط المعاهدة التي سّلموا بها وصاروا ذميين. وأّما ما كان ُيفعل في الذميين في العصور الهابطة فهو خطأ في الفهم وتقليد لبعض ما ورد في شروط عمر في عهده. ولو ُأدرك الصواب لُفهم أن عمر إّنما فعل ما تضمنته شروط الصلح التي قبلوا بها ،وما عدا ذلك فإن عمر أوصى بالذميين كل خير .وعليه فإن الذميين يعاَملون أحسن المعاملة ويطّبق عليهم ما ورد في الشرع ،إل ّ أن يتضمن عهد صلحهم شروطا فتنّفذ عليهم الشروط كما وردت.
يجب تطبيق السلم على الكفار كل من كان في دار السلم تحت حكم الدولة السلمية يجب أن تطبق عليه أحكام السلم كما تطّبق على المسلمين سواء بسواء ،سواء أكان ذميا أم معاهدا أم مستأمنا ،ول يخّير الحاكم في ذلك ،بل يجب تطبيق أحكام السلم دون تردد ،لن ا تعالى يقول بالنسبة لهل الكتاب) :فاحكم بينهم بما َأنزل ا ول تّتبع أهواءهم عما جاءك من الحق( ،ويقول أيضا بالنسبة لهم) :وأن احكم بينهم بما أنزل ا ول تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل ا إليك( ،وقال) :إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك ا( ،وهذا عام يشمل المسلمين وغير المسلمين ،لن كلمة الناس عامة )لتحكم بين -171-
سحت فإن الناس( .وأّما قوله تعالى) :سماعون للكذب أّكالون لل ّ جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم( ،فإن المراد منها من جاء إلى الدولة السلمية من خارجها ليحتكم إلى المسلمين في خصومة مع كافر آخر أو كفار آخرين ،فالمسلمون مخيرون بين أن يحكموا بينهم وبين أن ُيعِرضوا عنهم ،فإن الية نزلت فيمن وادعه رسول ا صلى ا عليه وسلم من يهود المدينة وكانوا قبائل يعتبرون دول ً أخرى ،فلم يكونوا خاضعين لحكم السلم بل كانوا دولة أخرى ،ولذلك كانت بينه وبينهم معاهدات .أّما إن كان الكفار خاضعين لحكم السلم بأن كانوا ذميين أو جاؤوا مستأمنين خاضعين لحكم السلم؛ أي راضين أن يدخلوا دار السلم مع الخضوع لحكم السلم كالمعاهدين والمستأمنين فل كم بينهم إل ّ بالسلم ،ومن امتنع منهم عن الرجوع يجوز أن ُيح َ إلى حكم السلم أجبره الحاكم على ذلك وأخذه به ،لنه إّنما دخل في العهد بشرط التزام أحكام السلم سواء أكان عهد ذمة أو عهد موادعة أو عهد أمان ،ل فرق بينها ما دام في دار السلم. كتب رسول ا صلى ا عليه وسلم إلى أهل نجران وهم نصارى) :ان من بايع منكم بالربا فل ذمة له( ،وقد روى ابن عمر جرا بعد إحصانهما )أن النبي صلى ا عليه وسلم ُأتي بيهوديين َف َ جما( ،وروى أنس )أن يهوديا قتل جارية على أوضاح فأمر بهما فُر ِ لها بحجر فقتله رسول ا صلى ا عليه وسلم بين حجرين(. وهؤلء اليهود كانوا من رعايا المسلمين .والظاهر أنه كان ذلك بعد أن انتهت كيانات اليهود وظل منهم رعايا تحت سلطان المسلمين. إل ّ أنه إذا كان الفعل مما يدخل في باب العقائد عندهم ولو كان عندنا ليس من باب العقائد -فإننا ل نتعرض لهم فيهونتركهم بالنسبة له وما يعتقدون به ،فإن اعتقدوا إباحته كشرب الخمر ل يعاقبون عليه لنهم ل يعتقدون تحريمه فلم يلزمهم عقوبته كالكفر .وإّنما لم نطبق عليهم ما يتعلق بالعقائد لنه يعتبر ل إكراه في الدين(، حينئذ إكراها في الدين ،وا تعالى يقول ) : ولن الرسول صلى ا عليه وسلم قال) :إنه من كان على يهوديته أو نصرانيته فإنه ل ُيفَتن عنها( .وتطبيق ما يناقض عقائدهم جبرا عنهم فتنة عن دينهم ،ولذلك ل ُيكرهون على العقائد والعبادات ،ولنهم حين َقِبلوا الجزية أقّروا على الكفر من -172-
حيث العقائد ولم يقروا على حكم الكفر ،فيكون عقابهم على ما هو داخل العقائد عقابا على الكفر الذي يعتقدونه ،وهو ل يجوز. وعليه فإنه يجب تطبيق أحكام السلم على الكفار في دار السلم كما ُتطّبق على المسلمين.
الجزيـة الجزية مال مخصوص يؤخذ من غير المسلمين من أهل الذمة وهم أهل الكتاب مطلقا ،والمشركون من غير العرب، وسائر الكفار ،قال ا تعالى) :قاِتلوا الذين ل يؤمنون بالله ول خر ول يحّرمون ما حّرم ا ورسوله ول َيدينون دين باليوم ال ِ الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى ُيعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون(ُ ،روي عن قيس بن مسلم عن الحسن بن محمد قال: جر يدعوهم كتب رسول ا صلى ا عليه وسلم إلى مجوس هَ َ ضربت عليه الجزية في إلى السلم ،فمن أسلم ُقِبل منه ،ومن لُ ، أن ل تؤكل له ذبيحة ول ُتنكح له امرأة( ،وعن جعفر بن محمد عن أبيه قال :قال عمر :ما أدري ما أصنع بالمجوس وليسوا أهل ت رسول ا صلى ا كتاب .فقال عبدالرحمن بن عوف :سمع ُ سّنوا بهم سّنة أهل الكتاب( ،وعن ابن شهاب عليه وسلم يقول ُ) : )أن رسول ا صلى ا عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس كر عليه جر( ،وأن عمر أخذ الجزية من مجوس فارس ولم ين ِ ه َ َ كر عليه أحد من الصحابة ،وأن عثمان أخذ الجزية من البربر ولم ين ِ أحد من الصحابة .أّما مشركو العرب فل ُيقبل منهم الصلح والذمة عْون إلى السلم ،فإن أسلموا ُتركوا وإل ّ قوتلوا ،قال ولكن ُيد َ عْون إلى قوم أولي بأس شديد تقاِتلونهم أو تعالى) :سُتد َ ُيسِلمون( ،معناه إلى أن ُيسِلموا .والية فيمن كان يقاتلهم رسول ا صلى ا عليه وسلم وهم عبدة الوثان من العرب ،فدل على أنهم يقاَتلون ‘ن لم ُيسِلموا .وعن الحسن قال) :أمر رسول ا صلى ا عليه وسلم أن يقاَتل العرب على السلم ول ُيقبل منهم غيره ،وأمر أن يقاَتل أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون( ،قال أبو عبيد :وإّنما نرى الحسن أراد بالعرب ها هنا أهل الوثان منهم الذين ليسوا بأهل الكتاب ،فأّما َمن كان -173-
من أهل الكتاب فقد َقِبَلها رسول ا صلى ا عليه وسلم منهم وذلك بّين في أحاديث .ولم يثبت أن النبي صلى ا عليه وسلم أخذ من أحد من عبدة الوثان من العرب الجزية ولم يقبل منهم بعد نزول آية الفتح وسورة التوبة سوى السلم أو الحرب .وما ُروي أنه أخذ من العرب الجزية كأهل اليمن وأهل نجران ،إّنما أخذها من أهل الكتاب النصارى واليهود ولم يأخذها من عبدة الوثان من العرب. وينبغي للخليفة أن يبين لمن يقبل منهم الجزية ،مقدار الجزية ووقت وجوبها وُيعِلمهم أنه إّنما يأخذها منهم كل سنة مرة ،وأن الذي يؤخذ من الغني كذا ،ومن القل غنى كذا ،ول يؤخذ من الفقير لقوله تعالى) :عن يٍد( ،أي عن قدرة ،وأنها ل تؤخذ على النساء والصبيان ،ول تؤخذ الجزية منهم إل ّ من الرجل البالغ القادر على دفعها .عن نافع عن أسلم مولى عمر )أن عمر كتب إلى أمراء الجناد أن يقاِتلوا في سبيل ا ول يقاتلوا إل ّ من قاتلهم ول يقتلوا النساء ول الصبيان ول يقتلوا إل ّ من جرت عليه الموسى ،وكتب إلى أمراء الجناد أن يضربوا الجزية ول يضربوها على النساء والصبيان ول يضربوها إل ّ على من جرت عليه ت .وقال" :هذا الحديث هو الصل الموسى( .قال أبو عبيد :من أنَب َ فيمن تجب عليه الجزية ،ومن ل تجب عليه .أل تراه إّنما جعلها كر على عمر على الذكور المدِركين دون الناث والطفال" ،ولم ين ِ كر فكان إجماعا .ويؤيد ذلك ما جاء في كتاب النبي عليه من ِ ص الحالم خ ّ السلم إلى معاذ باليمن )أن على كل حالم دينارا( ،ف َ دون المرأة والصبي .وأّما رواية )الحالم والحالمة( فليست من المحفوظ عند المحّدثين .والمحفوظ المثَبت من ذلك هو الحديث الذي ل ِذكر للحالمة فيه .وعلى فرض صحة وروده فإن ذلك كان في أول السلم إذ كان نساء المشركين وولدانهم ُيقتلون مع رجالهم ،وقد كان ذلك ثم نسخ بعدم أخذ الرسول من النساء والصبيان ،وجرى على ذلك بعده عمر .والجزية التي تؤخذ يجب صغار المذكور في أن تكون مع خضوعهم لحكم السلم .وال َ الية )حتى ُيعطوا الجزية عن يٍد وهم صاغرون( هو أن يجري حكم السلم عليهم وأن ل ُيظِهروا شيئا من كفرهم ول مما يحرم في دين السلم ،وأن يظل السلم هو الذي يعلو في البلد لقوله عليه السلم) :السلم يعلو ول ُيعلى عليه(. -174-
خراجية الراضي ال َ قال أبو عبيد" :وجدنا الثار عن رسول ا صلى ا عليه وسلم والخلفاء بعده قد جاءت في افتتاح الرضين بثلثة أحكام: عشٍر أرض أسلم عليها أهلها فهي لهم ِملك أيمانهم ،وهي أرض ُ خْر ٍ ج ل شيء عليهم فيها غيره .وأرض افُتتحت صلحا على َ معلوم ،فهم على ما صولحوا عليه ل يلزمهم أكثر منه .وأرض ُأخذت عنوة ،فهي التي اختلف فيها المسلمون ،فقال بعضهم: سم فيكون أربعة أخماسها مس وُتق َ سبيلها سبيل الغنيمة فُتخ َ خمس الباقي لمن ططا بين الذين افتتحوها خاصة ويكون ال ُ خ َ َ مى ا تبارك وتعالى .وقال بعضهم :بل حكمها والنظر فيها س ّ إلى المام إن رأى أن يجعلها غنيمة فيخمسها ويقسمها كما فعل رسول ا صلى ا عليه وسلم بخيبر فذلك له ،وإن رأى أن يجعلها فيئا فل يخمسها ول يقسمها ولكن تكون موقوفة على عل ذلك .فهذه المسلمين عامة ما بقوا كما صنع عمر بالسواد َف َ أحكام الرض التي ُتفتح فتحا" ،انتهى كلم أبي عبيد .وهو واقع الراضي التي ُتفتح فتحا فإنها ل تخلو إما أن ُيسلم أهلها عليها أو يتمسكوا بدينهم ،وإذا تمسكوا بدينهم إما أن يقبلوا الجزية ويصالحوا المسلمين أو ل يقبلوها وُيقَهرون وُتفتح بلدهم فتحا. هذه الحوال التي تقع بالفعل حين حرب الكفار ولكل حالة منها حكم خاص. أّما الحالة الولى :فهي كل أرض أسلم أهلها عليها فهي عشرية لنهم بإسلمهم عصموا دماءهم وأموالهم أرض ُ وأصبحت تجري عليهم أحكام السلم ،وبهذا ظلت أرضهم ملكا لهم رقبة ومنفعة ،فل تكون غنيمة ،كما ل يكون أي مال لهم أو سلح أو غير ذلك غنيمة .وبذلك صارت الرض أرض مسلمين، عشر وهو يتعلق بنفس الخارج، وأرض المسلمين ليس عليها إل ّ ال ُ عشرية لن النبي وهو زكاة .وأرض جزيرة العرب كلها أرض ُ صلى ا عليه وسلم فتح مكة عنوة وتركها لهلها ولم يوظف خراج ،ولن الخراج على الرض بمنزلة الجزية على عليها ال َ الرؤوس فل َيثُبت في أرض العرب كما ل تثُبت الجزية في رقابهم ،وهذا لن وضع الخراج من شرطه أن يقر أهلها على -175-
الكفر ،كوضع الجزية ،ومشركو العرب ل ُيَقّرون على الكفر بل ُيخّيرون بين السلم والقتل ،قال تعالى) :تقاِتلونهم أو ُيسِلمون(، فل ُيقبل منهم إل ّ السلم أو السيف ،ولذلك كانت أرضهم عشرية. والعشر يؤخذ على الناتج الفعلي من الرض كل سنة ،إذا عشر عشر .فإذا لم تنتج ما يجب فيه ال ُ أنتجت مقدار ما يجب فيه ال ُ ُ أو لم ُتزرع ل يؤخذ عليها .أي إذا بلغ الناتج نصاب الزكاة أخذ منه وإل ّ فل. وأّما الحالة الثانية :وهي الرض التي افُتتحت صلحا ،فإنه خْرج معلوم فيجب أن يعاَملوا ُينظر فيها ،فإن افُتتحت صلحا على َ على ما صولحوا عليه ،ل يجوز أن يؤخذ منهم أكثر منه ،ويجوز أن يؤخذ منهم أقل منه .قال رسول ا صلى ا عليه وسلم) :إنكم لعلكم تقاِتلون قوما فيّتقونكم بأموالهم دون أنفسهم وأبنائهم ويصالحونكم على صلح ،فل تأخذوا منه فوق ذلك ،فإنه ل يحل لكم( ،قال أبو عبيد" :في هذا الحديث أن السّنة في أرض الصلح أن ل يزاد على وظيفتها التي صولحوا وإن َقووا على أكثر من ذلك لقوله صلى ا عليه وسلم) :فل تأخذوا منهم فوق ذلك فإنه ل حل لكم( ،فجعله حتما ولم يستثن قّوتهم على أكثر منه .وعن َي ِ إبراهيم )أن رجل ً أتى عمر بن الخطاب فقال :إني قد أسلم ُ ت خراج عن أرضي .قال :إن أرضك ُأخذت عنوة( ،وجاءه فارفع ال َ رجل فقال) :إن أرض كذا وكذا تحتمل من الخراج أكثر مما عليها، ل ذلك على أنه فقال :ليس على أولئك سبيل ،إنا صالحناهم( .فد ّ ُيلتزم في الرض بالمقدار الذي صولحوا عليه .هذا إذا كانت ص على شروط متعلقة الرض قد ُذكرت في شروط الصلح وُن ّ بها .أّما إذا لم ُتذكر الرض في شروط الصلح وإّنما كانت هنالك شروط للصلح ولم ُيذكر فيها ما يتعلق بالرض ،فإن الرض في هذه الحالة يكون حكمها حكم الرض التي ُأخذت عنوة لنها تكون فيئا للمسلمين ،ولو ُأخذت صلحا فإنها تكون كما ُأخذ عنوة. الحالة الثالثة :وهي الرض التي ُأخذت عنوة .وقد جرى الخلف فيها واستقر رأي عمر في شأنها أن تظل في يد أهلها خراج ،لن الحاجة إلى وتبقى رقبتها ملكا للمسلمين ويؤخذ عليها ال َ ابتداء التوظيف على الكافر ،والخراج أليق به .والخراج مقدار مخصوص من المال يوضع على الرض بقدر احتمالها بغض صَبت أم أجَدَبت .ويقدر النظر عما إذا ُزرعت أم لم ُتزرع ،أخ َ -176-
الخراج تقديرا ويزاد وينقص حسب احتمال الرض. والرض الخراجية يجب فيها الخراج ول يجب في الخارج منها العشر .فالعشر مع الخراج ل يجتمعان في أرض واحدة. فقد ُروي عن ابن مسعود عن النبي صلى ا عليه وسلم أنه عشر وخراج على أرض مسلم( .ولم يأخذ أحد ل يجتمع ُ قال ) : عشرا .والقول بوجوب من الئمة وولة الجور من أرض السواد ُ العشر في الرض الخراجية يخالف الحديث ويخالف الجماع. وإذا اشترى أرضا عشرية أو أرضا خراجية للتجارة يجب في الرض العشرية العشر ويجب في الرض الخراجية الخراج ،ول يجب زكاة التجارة فيها ،لن سبب الوجوب في الكل واحد وهو الرض ،ولنه ل يجب حقان بسبب مال واحد كزكاة السائمة مع التجارة .وعلى ذلك فل يجتمع العشر والزكاة ول الخراج والزكاة ول العشر والخراج. والخراج ل يتغير بتغير المالك ،كما أن العشر ل يتغير بتغير ي أرضا عشرية من مسلم فعليه العشر المالك .فلو اشترى ذّم ّ لن كل أرض ابتدأت بضرب حق عليها ل يتبدل الحق بتبدل المالك .فلو اشترى مسلم أرضا خراجية من ذمي فعليه الخراج، لن كل واحد من العشر والخراج مؤونة الرض فهو الواجب على الرض ول تعلق له بالمالك. وقد كان رأي الزبير وبلل في الرض التي ُتفتح عنوة أن سم على المحاربين .أّما الزبير تكون كالموال المنقولة غنائم ُتق َ فقد رأى ذلك في أرض مصر) ،فإنه لما افُتتحت مصر بغير عهد قام الزبير فقال :يا عمرو بن العاص اقسمّنها .فقال عمرو :ل أقسمها .فقال الزبير :لتقسمّنها كما قسم رسول ا صلى ا عليه وسلم خيبر .فقال عمرو :ل أقسمها حتى أكتب إلى أمير المؤمنين .فكتب إلى عمر .فكتب إليه عمر أن دعها حتى يغزو منها حبل الحبلة( .قال أبو عبيد :أراه أراد أن تكون فيئا موقوفا للمسلمين ما تناسلوا ،يرثه قرن عن قرن فتكون قوة لهم على عدوهم. وقد حصل هذا الخلف في سواد العراق .فإن عمر كتب إلى سعد بن أبي وقاص يوم افتتح العراق )أّما بعد ،فقد بلغني كتابك .إن الناس قد سألوا أن نقسم بينهم غنائمهم وما أفاء ا عليهم ،فانظر ما أجلبوا عليك في العسكر من كراع أو مال -177-
فاقسمه بين من حضر من المسلمين واترك الرضين والنهار لعمالها ليكون ذلك في أعطيات المسلمين فإنا لو قسمناها بين من بعدهم شيء(. ضر لم يكن ِل َ ح َ من َ وحديث الحجاج الذي حصل في الخراج كما رواه أبو يوسف في كتاب الخراج هو :أن عمر بن الخطاب رضي ا تعالى عنه استشار الناس في السواد حين افُتتح ،فرأى عامتهم أن يقسمه، وكان بلل بن رباح ِمن أشّدهم في ذلك .وكان رأي عمر رضي ا عنه أن يتركه ول يقسمه ،فقال :اللهم اكفني بلل ً وأصحابه. ومكثوا في ذلك يومين أو ثلثة أو دون ذلك .قال عمر :إني وجدت حجة قال ا تعالى في كتابه) :وما أفاء ا على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ول ِركاب ولكن ا يسلط رسله على من يشاء وا على كل شيء قدير( حتى فرغ من شأن بني النضير ،فهذه عامة في القرى كلها ثم قال) :ما أفاء ا على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كيل يكون ُدولة بين الغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا ا إن ا شديد العقاب( ،ثم قال) :للفقراء المهاجرين الذين ُأخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضل ً من ا ورضوانا وَينصرون ا ورسوله أولئك هم الصادقون( ،ثم لم يرض حتى خلط بهم غيرهم فقال) :والذين تبوؤوا الدار واليمان ِمن َقبلهم يحّبون من هاجر إليهم ول يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون ح نفسه فأولئك ش ّ ق ُ على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يو َ غنا وا أعلم للنصار خاصة .ثم لم هم المفلحون( ،فهذا فيما بَل َ يرض حتى خلط بهم غيرهم فقال) :والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولخواننا الذين سبقونا باليمان ول تجعل غل ً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم( ،فكانت هذه في قلوبنا ِ عامة لمن جاء ِمن بعدهم .فقد صار الفيء بين هؤلء جميعا. فكيف نقسمه لهؤلء وندع َمن تخّلف بعدهم بغير قسم؟ فأجمع على تركه وجمع خراجه .وقد استشار المهاجرين الّولين فاختلفوا .فأما عبدالرحمن بن عوف رضي ا تعالى عنه فكان رأيه أن ُتقسم لهم حقوقهم ،ورأى عثمان وعلي وطلحة وابن عمر رضي ا عنهم رأي عمر ،فأرسل إلى عشرة من النصار خمسة من الوس وخمسة من الخزرج من كبرائهم وأشرافهم، -178-
ما اجتمعوا حمد ا وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال :إني لم فل ّ ت من أموركم، أزعجكم إل ّ أن تشتركوا في أمانتي فيما حمل ُ فإني واحد كأحدكم وأنتم اليوم تقّرون بالحق ،خالفني من خالفني ووافقني من وافقني ،ولست أريد أن تتبعوا هذا الذي هو هواي ،معكم من ا كتاب ينطق بالحق ،فوا لئن كنت نطق ُ ت بأمر أريده ما أريد به إل ّ وجه الحق .قالوا ُ:قل نسمع يا أمير المؤمنين .قال :قد سمعتم كلم هؤلء القوم الذين زعموا أني أظلمهم حقوقهم ،وأني أعوذ بالله أن أركب ظلما ،لئن كنت ظلمتهم شيئا هو لهم وأعطيته غيرهم فقد شقيت .ولكن رأيت أنه لم يبق شيء ُيفتح بعد أرض كسرى وقد غنمنا ا أموالهم وأرضهم وعلوجهم فقسمت ما غنموا من أموال بين أهله ت وأخرجت الخمس فوجهته على وجهه وأنا في توجيهه .وقد رأي ُ أن أحبس أرضين بعلوجها وأضع عليهم فيها الخراج وفي رقابهم الجزية يؤدونها فتكون فيئا للمسلمين المقاِتلة والذّرّية ولمن يأتي بعدهم .أرأيتم هذه الثغور ل بد لها من رجال َيلَزمونها ،أرأيتم هذه المدن العظام –كالشام والجزيرة والكوفة والبصرة ومصر- من أين ل بد لها أن ُتشحن بالجيوش وادوار العطاء عليهم .ف ِ يعطى هؤلء إذا قسمت الرضون والعلوج؟ فقالوا جميعا :الرأي رأيك ،فِنعم ما قلت ورأيت ،إن لم ُتشحن هذه الثغور وهذه المدن بالرجال وُتجرى عليهم ما يتقّوون به رجع أهل الكفر إلى من رجل له جزالة وعقل يضع مدنهم .فقال :بان لي المر ،ف َ معوا له الرض مواضعها ويضع على العلوج ما يحتملون؟ فاجت َ صرا وعقل ً على عثمان بن حنيف تبعث إلى أهم ذلك فإن له بَ َ له مساحة أرض السواد(. وتجربة .فأسرع إليه عمر فو ّ ومن ذلك يتبين أن عمر اتبع آية من كتاب ا فعمل بها، كمة ،وهذا حكم شرعي له دليله وهو أقوى من وهي آية ُمح َ دليل بلل وصحبه لسببين اثنين :أحدهما أن أرض خيبر لم يقسمها الرسول بين أصحابه حين غنمها ،وإّنما أبقاها بيد أهلها وصار يأخذ نصف ناتجها ويرسل من يخرصه له سنويا –باعتباره رئيس دولة -ليوضع في بيت المال ل ليعطى على المقاتلين في ما جاء عمر وأجلى اليهود ،قسمها على المسلمين حينئذ، خيبر .ول ّ فل يقوى الستدلل بأرض خيبر على هذا الوجه على الية .وأّما ما رواه البخاري عن أسلم مولى عمر قال :قال عمر) :أَما والذي -179-
نفسي بيده لول أن أترك آخر الناس بّبانا "أي شيئا واحدَا" ليس ي قرية إل ّ قسمتها كما قسم رسول لهم من شيء ما ُفتحت عل ّ ا صلى ا عليه وسلم خيبر ،ولكن أتركها خزانة لهم سم أرض خيبر ،لن الواقع أنه يقتسمونها( ،فإنه ل يدل على أنه َق َ لم يقسمها وإّنما هو قسم غّلتها على المسلمين وليس على سر ذلك حديث آخر ،فقد روى أحمد عن بشير بن المقاِتلين ،وقد ف ّ يسار عن رجال من أصحاب النبي صلى ا عليه وسلم أدركهم يذكرون أن رسول ا صلى ا عليه وسلم حين ظهر على خيبر قسمها على ستة وثلثين سهما جمع كل سهم مائة سهم فجعل نصف ذلك كله للمسلمين فكان في ذلك النصف سهام المسلمين وسهم رسول ا صلى ا عليه وسلم معها ،وجعل النصف الخر لمن ينزل به من الوفود والمور ونوائب الناس( .وهذا الحديث ُيفهم منه أن الذي ُقسم هو خراج الرض وليس الرض، ويؤيد هذا أن الرض كانت تحت اليد هم الذين يتولون زراعتها ويجبي الرسول خراجها فيقسمه على النحو الذي ورد في الحديث. والسبب الثاني هو أن العلة التي أتى بها عمر ،وهي افتراق الرض عن المال المنقول بأنها غلة دائمة لبيت المال لشحن الثغور والنفاق على الجيوش كافية لن تجعل حكم الرضين غير حكم الموال ،وهو ما سار علي عمر .وهذا هو الحكم الشرعي في الرض التي ُتفتح عنوة ،ومثلها الرض التي ُفتحت صلحا ،ولكن لم ينص عليها شيء يتعلق بها في شروط الصلح وهو فرض خراج على الرض .وليس الحكم تْرك المر لمير المؤمنين ،فإن عمر كان أمير المؤمنين ولم ُيترك المر له ،وإّنما اّتبع فيه الحكم الشرعي ،وجاء عمر بدليله كأي مجتهد ل باعتباره أمير المؤمنين. والتفريق بين الرض الخراجية والعشرية إّنما يظهر بالنسبة لعين ما ُيمَلك ،وبالنسبة لما يجب عليه في الرض ،ول يظهر في غير ذلك .فبالنسبة لما يجب عليه فإنه يجب في الرض العشرية العشر ،أي تجب فيها الزكاة على عين الخارج إذا بلغ نصابا ،ويجب في الرض الخراجية الخراج أي المقدار الذي تعّينه الدولة سنويا عليها ،سواء ُزرعت أم لم ُتزرع ،أنبتت أم لم ُتنِبت .وأّما بالنسبة لعين ما ُيمَلك فالرض العشرية يملك مالكها رقبتها ومنفعتها معا، -180-
والرض الخراجية يملك مالكها منفعتها فقط ول يملك رقبتها. ويترتب على ذلك أن مالك الرض الخراجية إذا أراد أن يوِقف أرضه التي يملكها ل يستطيع ذلك ،لن الوقف ُيشترط فيه أن يكون الواقف مالكا لعين ما َيِقُفه ،ومالك الرض الخراجية ل يملك عين الرض أي رقبتها وإّنما يملك منفعتها لن رقبتها ملك لبيت المال .بخلف مالك الرض العشرية فإنه يستطيع أن يقف أرضه التي يملكها في أي وقت يشاء لنه يملك عينها أي رقبتها. أّما باقي أحكام الراضي فإنه ل فرق فيها بين الرض العشرية والرض الخراجية ،فل يجوز تأجير الرض للزراعة ،عشرية كانت أم خراجية ،وإذا أهمل الشخص أرضه ثلث سنوات ُأخذت منه دون مقابل ،أي من غير أن ُيدفع له شيء ،ل فرق بين الرض العشرية والرض الخراجية ،وإذا وضعت الدولة يدها على الرض للمراعي أو الحراش أو لنه يوجد فيها معدن ل ينقطع ،وكذلك إذا أخَذتها من صاحبها برضاه بسبب من السباب الشرعية ،فإنها في كلتا الحالتين تدفع له ثمنها ل فرق في ذلك بين الرض الخراجية والرض العشرية .وهكذا سائر أحكام الراضي.
دار الكفر ودار السلم الدار في اللغة :المحل والمسكن والبلد .وُتطلق الدار في اللغة على القبيلة .ودار الحرب أرض العدو .ول خلف في أن بلد الكفار التي يسكنها الكفار ويحكمون فيها بالكفر هي دار حرب ودار كفر .وكذلك ل خلف في أن أرض المعركة التي غنمها المسلمون ولم يقيموا بعد فيها أحكام السلم هي دار حرب ودار كفر ولو كانت تحت يد المسلمين ،ولذلك يقول الفقهاء" :وإذا ُقسمت الغنائم في دار الحرب جاز لمن أخذ سهمه التصرف فيه بالبيع وغيره". وكلمة دار الحرب ودار الكفر بمعنى واحد تطلقان على بلد العدو وعلى أرض المعركة .وكذلك ل خلف في أن دار السلم هي البلد التي تخضع لحكم السلم ويحكمها المسلمون سواء أكان سكانها مسلمين أو كانوا ذميين .وقال الفقهاء أيضا إن دار الكفر تصير دار إسلم بظهور أحكام السلم فيها. غير أنهم اختلفوا في دار السلم بماذا تصير دار السلم -181-
دار كفر .فقال بعض المجتهدين إن دار السلم ل تصير دار كفر إل ّ بثلث شرائط :أحدها ظهور أحكام الكفر فيها ،والثاني أن تكون متاخمة لدار الكفر ،والثالث أن ل يبقى فيها مسلم ول ذمي آمن بالمان الول ،وهو أمان المسلمين .وهذا القول ليس مبنيا على دليل وإّنما هو وصف لواقع الدار .فالظاهر أنه حين جرى القتال بين المسلمين والكفار ،وأخذ الكفار أرض المسلمين وظل الحرب عليها اعُتبرت هذه الحالة أن دار السلم دار كفر واقُتصر عليها .وقال بعض المجتهدين إن دار السلم تصير دار كفر بظهور أحكام الكفر فيها .ووجه هذا القول أن قولنا دار السلم ودار الكفر إضافة إلى السلم وإلى الكفر ،وإّنما تضاف الدار إلى السلم أو إلى الكفر بظهور السلم أو الكفر فيها ،كما تسمى الجنة دار السلم والنار دار البوار لوجود السلمة في الجنة والبوار في النار ،وظهور السلم والكفر بظهور أحكامهما ،فإذا ظهرت حت الضافة .ولهذا أحكام الكفر في دار فقد صارت دار كفر فص ّ صارت الدار دار إسلم بظهور أحكام السلم فيها من غير شريطة أخرى ،فكذا تصير دار الكفر بظهور أحكام الكفر فيها. وما دام المر يتعلق بواقع الدار فإن مسألة كون الدار متاخمة لدار الكفر أي دار الحرب ،أو غير متاخمة لها فل محل له من العتبار لن ثغور البلد السلمية كلها متاخمة لدار الحرب أي دار الكفر ،ومع ذلك فهي دار إسلم بإجماع الصحابة .فلو كان ذلك شرطا لصبحت جميع الثغور دار كفر .وأيضا فإن عدم اعتبار المان ،أمان المسلمين ،شرطا في جعل الدار دار إسلم يؤدي إلى اعتبار البلد السلمية الخاضعة لنفوذ الكفار وأمانهم إذا حكمت بالسلم دار سلم ،مع أن المسلمين في أمان الكفار ل في أمان المسلمين .ولذلك كان واقع الدار ل يؤدي إلى أن القتصار على ظهور أحكام السلم وحدها دون المان يجعلها دار إسلم ،وإن كان يجعلها دار كفر. والحق أن اعتبار الدار دار إسلم أو دار كفر ل بد أن ُينظر فيه إلى أمرين :أحدهما الحكم بالسلم ،والثاني المان بأمان ن توّفر في الدار هذان العنصران أي المسلمين أي بسلطانهم .فإ ْ أن ُتحكم بالسلم وأن يكون أمانها بأمان المسلمين أي بسلطانهم كانت دار إسلم وتحولت من دار كفر إلى دار إسلم. أّما إذا فقدت أحدهما فل تصير دار إسلم .وكذلك دار السلم إذا -182-
حكمت لم ُتحكم بأحكام السلم فهي دار كفر ،وكذلك إذا ُ بالسلم ولكن لم يكن أمانها بأمان المسلمين أي بسلطانهم ،بأن كان أمانها بأمان الكفار أي بسلطانهم ،فإنها تكون أيضا دار كفر. وعلى هذا فإن جميع بلد المسلمين اليوم هي دار كفر ،لنها ل تحكم بالسلم .وكذلك تبقى دار كفر لو أقام فيها الكفار مسلما يحكم بأحكام السلم ولكن يكون تحت سلطانهم ويكون أمانه بأمانهم ،فإنها تظل دار كفر .وحتى تتحول بلد المسلمين إلى دار إسلم يجب أن يقام فيها حكم السلم وأن يكون أمانها بأمان المسلمين أي بسلطانهم .وعلى هذا فإن واقع الدار يدل على أنها توصف بالكفر أو السلم باعتبار الحكم وباعتبار المان لنه جزء من مقتضيات الحكم ،فإذا فقدت دار السلم حكم السلم ،أو فقدت المان بأمان المسلمين ،صارت دار كفر بفقدان أي واحدة منهما .فشرط بقاء الدار دار إسلم هو حكمها بالسلم ،وأمانها بأمان المسلمين .أّما دار الكفر فل تصبح دار إسلم إل ّ إذا حكمت بالسلم وصار أمانها بأمان المسلمين ،فإذا لم يتوفر هذان المران بقيت دار كفر .فالحكم بالسلم والمان بأمان المسلمين أمران متلزمان بالنسبة لوصف الدار بكونها دار إسلم. والحاصل أن كون الدار دار كفر أو دار إسلم تتعلق بواقع الدار .والدار في اللغة تطلق على القبيلة ،ودار الحرب أرض العدو .فنقول دار الحرب ودار إسلم ،ونقول دار كفر ودار إسلم، وكلهما بمعنى واحد .وذلك أن المسلمين مأمورون بالحرب أي القتال حتى يقول الناس ل إله إل ّ ا ،أو حتى يخضعوا لحكام السلم ،فإن خضعوا لحكام السلم ُرفع عنهم القتال ولو ظلوا كفارا ،وإن لم يدخلوا تحت حكم السلم يحاَربون .فسبب حربهم كونهم كفارا لم يستجيبوا للدعوة ،وسبب وقف القتال قبولهم الحكم بالسلم ،فإذا حكموا بالسلم وظلوا كفارا ،فقد ُوجد سبب وقف القتال ووجب إنهاء الحرب ،مما يدل على أن حكمهم بالسلم هو الذي حّول بلدهم من دار حرب إلى دار إسلم، فيكون الحكم بالسلم هو الذي يتوقف عليه دوام الحرب أو وقفها ،مما يدل على أن الوصف الذي يعّين كون الدار دار إسلم أو دار كفر هو الحكم بالسلم ،ومعنى كونه حكما أي سلطانا، أن يكون المان الداخلي والخارجي به ،أي بسلطان السلم ،وإل ّ فقد ميزته بوصفه حكما. -183-
وعليه فالحكم بالسلم والمان الذي هو لزم من لوازمه، هما اللذان يعّينان وصف الدار من كونها دار إسلم أو دار حرب. كم والدليل على ذلك أيضا أن الخليفة أي رئيس الدولة إذا لم يح ّ كم بأحكام الكفر ،كان فرضا على المسلمين أن ح َ السلم و َ يحاربوه حتى يحكم بالسلم .وكذلك فإن المسلمين إذا تركوا أحكام السلم كان فرضا على المام أن يحاربهم حتى يرجعوا لحكام السلم .وهذا أيضا صريح في كون الحكم بالسلم يترتب عليه الحرب لمن لم يحكم به ولو كانوا مسلمين .وهو يدل على العلمة التي ُيعرف بها أن الدار دار حرب .ودار الكفر ودار الحرب بمعنى واحد ،على إضافة الدار إلى مضاف معين هو وصفها ،فدار الكفر مضافة إلى الكفر ،والدار ل توصف بالكفر فيكون وصف حكمها .وكذلك دار السلم ل توصف بالسلم وإّنما يوصف حكمها .ول يقال :يوصف أهلها ،لن الدار ل ُتطلق على الناس وإّنما تطلق على البلد التي يسكنونها ،فُتطلق على القبيلة ويراد وضع القبيلة ،وُتطلق على البلد ويراد وضع البلد. علوة على أن بلدا مفتوحة ل يزال كل أهلها كفارا وتحكم بالسلم فإنها تكون دار إسلم قطعا ،مما يدل على أن الوصف ليس لهلها وإّنما لحكمها.
موالة المؤمنين للكفار ل يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون قال ا تعالى ) : المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من ا في شيء إل ّ أن َتّتقوا منهم ُتقاة ويحّذركم ا نفسه وإلى ا المصير( ،وقرأ يعقوب وسهل ُتقية ،وهو قراءة الحسن ومجاهد والباقون ُتقاه .قال في القاموس المحيط" :والتوقية الكلءة والحفئ واّتقيت الشيء وتقيته اّتقيته وأّتقيه ُتقى وُتقية وِتقاء ككساء حذرته" .فهذا النص في الية يعين موضوعها ،وهذا المعنى اللغوي لكلمة تقية يعّين ما تعنيه هذه الكلمة في هذه الية من معنى لنه لم يثبت لها معنى شرعي فيتعين تفسيرها بالمعنى اللغوي ،وعلى هذا الساس وحده ُتفهم الية جملة وتفصيل ً .وأّما ما ورد في أسباب شد إلى تفصيلت ما ورد في حت ُتر ِ نزولها من أحاديث فإنها إن ص ّ الية ،ولكنها ل تغير موضوعها ول معاني جملها حسب مدلولت -184-
اللغة والشرع .وموضوع الية الواضح في جملها هو موالة المؤمنين للكافرين أي مصادقتهم .فالنص هو ل) يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين( ،وإذا وردت آية أو أحاديث في موضوع معين تكون خاصة في هذا الموضوع ول تشمل غيره، فالقضية قضية موالة المؤمنين للكافرين قد جاءت الية تنهى عنها نهيا جازما. وهذه ليست الية الوحيدة في هذا الموضوع ،فقد وردت شر المنافقين بأن لهم عذابا فيه آيات عديدة كقوله تعالى) :ب ّ أليما .الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين( ،وقوله تعالى) :يا أيها الذين آمنوا ل تتخذوا الكافرين أولياء من دون خر ل تجد قوما يؤمنون بالله واليوم ال ِ المؤمنين( ،وقوله تعالى ) : ل تتخذوا اليهود والنصارى يواّدون من حاّد ا ورسوله( ،وقوله ) : ل تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء( ،إلى غير ذلك أولياء( ،وقوله ) : من اليات .فالموضوع موضوع موالة المؤمنين للكافرين .وباقي الية تفصيل للموضوع ،ذلك أن ا تعالى نهى المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء لهم وَقَرن هذا النهي بالجزم القاطع بأن من يفعل ذلك فيتخذ الكافرين أولياء فإن ا بريء منه ،ثم استثنى من هذا النهي الجازم حالة واحدة وهي أن يحذر المؤمن من الكافر أذى فإنه يجوز له موالة الكافر دفعا لهذا الذى ،وهذا إذا كان المسلم تحت سلطان الكفار مغلوبا على أمره .أي أن الحذر من الكافر يجيز موالته ،فإذا ذهب الحذر حرمت الموالة. وعلى ذلك فإن القضية ليست إظهار الموالة وإبطان غيرها بل القضية استثناء حالة حذر المؤمن للكافر حين يكون المسلم مغلوبا على أمره من عموم تحريم موالته له .ومعنى الية هو نهي جازم للمؤمنين أن يتخذوا الكافرين أولياء لهم وأن يستعينوا بهم ويلتجئوا إليهم وأن يصادقوهم وتكون بينهم وبينهم محبة .فحرم على المؤمنين موالة الكافرين من دون المؤمنين، ثم استثنى من ذلك حالة واحدة وهي أنه في حالة وجود خوف منهم عندما يكونون تحت سلطانهم فإنه يجوز إظهار المحبة لهم ومصادقتهم لدفع شّرهم وأذاهم .أي يجوز أن ُيتخذوا أولياء أي أصدقاء في حالة وجود خوف منهم عندما يكونون تحت حكمهم، وما عدا ذلك ل يجوز مطلقا .وهذا بالنسبة للكفار فقط مع المؤمنين ،فإن الية نزلت في شأن المؤمنين الذين كانت لهم -185-
صلت بالمشركين في مكة ،فهي تنهى الذين في المدينة عن موالة المشركين في مكة وتنهى جميع المؤمنين وتستثني من ذلك المؤمنين الذين كانوا في مكة فإنهم كانوا مغلوبين على أمرهم فاستثنتهم لوجود حالة خوف لديهم من أذى الكافرين. هذا هو موضوع الية ،وهذا هو معناها ،وهذا هو الحكم الشرعي الذي يستنَبط منها وهو تحريم موالة المؤمنين للكفار بجميع أنواع الموالة من ُنصرة وصداقة واستعانة وغير ذلك ،لن كلمة )أولياء( في الية جاءت عامة فتشمل جميع معانيها ،وجواز موالتهم في حالة حذرهم أي خوف بطشهم وأذاهم عندما يكون الكفار غالبين على المسلمين ويكون المسلمون مغلوبين على أمرهم ،تماما كحالة المسلمين في مكة مع المشركين .ول يوجد للية معنى آخر ول ُيستنَبط منها أي حكم سوى هذا الحكم. وأّما ما يقوله البعض من أن التقية هي أن ُيظهر المسلم خلف ما يبطن أمام أي إنسان يحذر منه أذى أو يخشى منه معرفة حقيقته وما في نفسه سواء أكان ذلك النسان كافرا أو مسلما ،فهذا القول خطأ محض ،والية ل تدل على شيء منه، لن معنى )إل ّ أن تّتقوا منهم ُتقاة( أي إل ّ أن تحذروا منهم شيئا ت الشيء ُتقيًة حذرته ،والتقاة والتقية ُيحذر منه ،إذ معنى اّتقي ُ بمعنى واحد .وهذا مستثنى من النهي عن موالة المؤمنين للكافرين من دون المؤمنين ،فهو خاص بما استثني منه. وعلى ذلك فإن إظهار المحبة للحاكم المسلم خوفا من أذاه وهو ظالم فاسق يحكم بالكفر حرام ،وكذلك إظهار المحبة للمسلم المخالف لك في الرأي وإبطان البغضاء له حرام، والتظاهر بعدم التقيد بالسلم أو عدم العناية به أمام الكافر أو أمام الفاسق الظالم ل يجوز ،فإن كل ذلك وما شاكله نفاق قد حّرمه الشرع على المسلمين .إذ أن موضوع )إل ّ أن تّتقوا منهم ُتقاة( محصور في واقعة حالة المسلمين الذين كانوا في مكة بين المشركين ،أي محصور في حالة وجود المسلمين تحت سلطان الكفار ول ِقبل لهم بإزالة سلطانهم ،أي مغلوبين على أمرهم ،فإنه يجوز لهم موالة الكفار حذرا مما ُيحذر منه عليهم، سواء أكان على نفوسهم أو أموالهم أو أعراضهم أو مصالحهم، ففي هذه الحالة فقط يجوز اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين .فكل ما كان داخل ً تحت هذه الحالة يجوز للمسلمين -186-
أن يتخذوا الكافرين أولياء ،وما عداها فل يجوز .فالقضية هي بيان الحالة التي يجوز فيها للمؤمنين أن يوالوا الكافرين وهي إذا كان المسلمون مغلوبين على أمرهم أمام الكفار بأن كانوا تحت سلطانهم أو حكمهم وليست شيئا آخر مطلقا. قال محمد بن جرير الطبري في تفسيره" :القول في تأويل ل يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء( إلى قوله) :إل ّ أن تّتقوا قوله ) : ي من ا عز وجل المؤمنين منهم ُتقاة( قال أبو جعفر :وهذا نه ٌ أن يتخذوا الكفار أعوانا وأنصارا وأظهارا ،ولذلك كسر يتخذ لنه في موضع جزم بالنهي ،ولكنه كسر الذال معه للساكن الذي لقيه ساكن .ومعنى ذلك ل تتخذوا أيها المؤمنون الكفار ظهرا وأنصارا توالونهم على دينهم وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين وتدّلونهم على عوراتهم ،فإنه من يفعل ذلك فليس من ا في شيء يعني بذلك فقد برئ من ا وا بريء منه بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر .إل ّ أن تّتقوا منهم تقاة ،إل ّ أن تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم فُتظهروا لهم الولية بألسنتكم وتضمروا لهم العداوة ول تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر ،ول تعينوهم على مسلم بفعل كما: -6825حدثني المثنى قال :حدثنا عبدا بن صالح قال: حدثني معاوية بن صالح عن علي عن ابن عباس قوله :ل يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين إل ّ أن يكون الكفار ظاهرين فُيظهرون لهم اللطف ويخالفونهم في الدين ،وذلك قوله) :إل أن تّتقوا منهم ُتقاة( إلى أن يقول -6837 :حدثنا الحسن بن يحيى قال :أخبرنا عبدالرازق قال :أخبرنا معمر عن ل يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء( .قال :ل يحل قتادة في قوله ) : لمؤمن أن يتخذ كافرا وليا في دينه ،وقوله) :إل ّ أن تّتقوا منهم صُله لذلك ،قال أبو جعفر: ُتقاة( :أن تكون بينك وبينه قرابة فَت ِ وهذا الذي قاله قتادة في تأويل له وحده وليس بالوجه الذي يدل عليه ظاهر الية ،إل ّ أن تتقوا من الكافرين تقاة ،فالغلب من معاني هذا الكلم إل ّ أن تخافوا منهم مخافة ،فالتقية التي ذكرها جهه ا في هذه الية إّنما هي تقية من الكفار ل من غيرهم ،وّو ّ قتادة إل ّ أن تتقوا ا من أجل القرابة التي بينكم وبينهم تقاة صلون رحمها ،وليس بذلك الغالب على معنى الكلم ،والتأويل فت ِ في القرآن على الغلب الظاهر من معروف كلم العرب -187-
مل فيهم" ،انتهى كلم الطبري .وقال أبو علي الفضل بن المستع َ الحسن الطبرسي في كتاب "مجمع البيان في تفسير القرآن": ل يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون قوله تعالى ) : المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من ا في شيء إل ّ أن َتّتقوا منهم ُتقاة ويحّذركم ا نفسه وإلى ا المصير( ،قرأ يعقوب ما بّين وسهل ُتقية وهو قراءة الحسن ومجاهد والباقون ُتقاة ...ل ّ سبحانه أنه مالك الدنيا والخرة والقادر على العزاز والذلل نهى المؤمنين عن موالة من ل إعزاز عندهم ول إذلل من أعدائه ليكون الرغبة فيما عنده وعند أوليائه المؤمنين دون أعدائه الكافرين فقال :ل) يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء( أي ل ينبغي للمؤمنين أن يتخذوا الكافرين أولياء لنفوسهم وأن يستعينوا بهم ويلتجئوا اليوم وُيظهروا المحبة لهم كما قال في عدة مواضع من ل تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الخر يواّدون القرآن نحو قوله ) : ل تتخذوا اليهود والنصارى من حاّد ا ورسوله( الية ،وقوله ) : ل تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء( ،وقوله) :من دون أولياء ( ) ي المؤمنين( معناه يجب أن يكون الموالة مع المؤمنين ،وهذا نه ٌ ي عن عن موالة الكفار ومعاونتهم على المؤمنين .وقيل نه ٌ ملطفة الكفار .عن ابن عباس :والولياء جمع الولي وهو الذي يأمر من ارتضى فعله بالمعونة والنصرة ،ويجري على وجهين: ا ولي الذين معان .فقوله ) : أحدهما المعين بالنصرة والخر ال ُ آمنوا( معناه معينهم وناصرهم بنصرته ،ويقال المؤمن ولي ا أي معان بنصرته ،وقوله) :ومن يفعل ذلك( معناه من اتخذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين )فليس من ا في شيء( أي ليس هو من أولياء ا وا بريء منه .وقيل ليس هو من ولية ا في شيء .ثم استثنى فقال) :إل ّ أن َتّتقوا منهم ُتقاة( والمعنى إل ّ أن يكون الكفار غالبين والمؤمنون مغلوبين فيخافهم عشرة معهم ،فعند المؤمن إن لم ُيظهر موافقتهم ولم يحسن ال ِ ذلك يجوز له إظهار موّدتهم بلسانه ومداراتهم تقية منه ودفعا عن نفسه من غير أن يعتقد ذلك .وفي هذه الية دللة على أن التقية جائزة في الدين عند الخوف على النفس .وقال أصحابنا جائزة ب من اللطف في المور كلها عند الضرورة وربما وجبت فيها لضر ٍ والستصلح .وليس تجوز من الفعال في قتل المؤمن ول يعلم، أو يغلب على الظن أنه استفساد في الدين .قال المفيد إنها قد -188-
تجب أحيانا ويكون فرضا ،ويجوز أحيانا من غير وجوب ،وتكون في وقت أفضل من تركها ،وقد يكون تركها أفضل وإن كان فاعلها معذورا ومعفوا عنه متفضل ً عليه بترك اللوم عليها .وقال الشيخ أبو جعفر الطوسي "قده"" :ظاهر الروايات تدل على أنها واجبة عند الخوف على النفس ،وقد ُروي رخصة في جواز الفصاح بالحق عنده .وروى الحسن )أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب رسول ا صلى ا عليه وآله وسلم فقال لحدهما :أتشهد بأن محمدا رسول ا؟ قال :نعم .قال :أفتشهد إني رسول ا؟ قال :نعم .ثم دعا بالخر فقال :أتشهد بأن محمدا رسول ا؟ قال :نعم .قال :أفتشهد إني رسول ا؟ فقال :إني أصم .قالها ثلثا كل ذلك يجيبه بمثل الول ،فضرب عنقه .فبلغ ذلك رسول ا فقال :أّما ذلك المقتول فمضى على صدقه ويقينه وأخذ بفضله فهنيئا له ،وأّما الخر فَقِبل رخصة ا فل تبعة عليه( .فعلى هذا تكون التقية رخصة والفصاح بالحق فضله" .انتهى كلم الطبرسي. وعلى هذا يتبين من كلم المفسرْين المذكورْين الطبري والطبرسي وهما من مذهبين مختلفين ،اتفاقهما على شرح معنى الية كما وردت من أنها نهي عن موالة المؤمنين للكافرين واستثناء حالة خوف المؤمنين من أذى الكافرين من هذا النهي. انظر قول الطبري)" :إل ّ أن تّتقوا منهم ُتقاة( إل ّ أن تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم فُتظهروا لهم الولية بألسنتكم" .وانظر قول الطبرسي" :ثم استثنى فقال) :إل ّ أن تّتقوا منهم ُتقاة( والمعنى إل ّ أن يكون الكفار غالبين والمؤمنون سن مغلوبين فيخافهم المؤمن إن لم ُيظهر موافقتهم ولم ُيح ِ عشرة معهم فعند ذلك يجوز له إظهار موّدتهم بلسانه ال ِ ومداراتهم تقية منه ودفعا عن نفسه" .فالمفسران متفقان على أن الموضوع استثناء من النهي عن موالة المؤمنين للكافرين وأنه محصور في ذلك. إل ّ أن الطبرسي عقب على ذلك بما يخرج عن الموضوع، فجعل الية دليل ً على أن التقية جائزة في الدين عند الخوف على النفس ،وهذا غير موجود في الية ،لن موضوعها النهي عن موالة المؤمنين للكافرين واستثناء حالة الخوف من الكفار عند غلبتهم على المؤمنين بإجازة موالتهم في هذه الحالة وليست -189-
هي تية في الدين ول هي خاصة بالخوف على النفس ،لن الستثناء عام )إل ّ أن تّتقوا منهم ُتقاة( إل ّ أن تحذروا منهم ما ُيحذر منه ،قال الزمخشري في الكشاف" :إل ّ أن تخافوا منهم أمرا يجب اتفاؤه( ،فكل أمر يجب اتقاؤه تجوز الموالة فيه ،أي كل ما ُيحذر منه ،وهو عام يشمل الخوف على النفس والمال عرض والمصالح" ،ولذلك كان جعل الية دليل ً على التقية في وال ِ الدين خروجا عن الموضوع ،وجعِلها خاصة في حالة الخوف على النفس تخصيص بل مخصص فضل ً عن كونه موضوعا آخر يتعلق بالكفر واليمان فقط وهو يتعلق بآية أخرى ول يتعلق بهذه الية .وأّما قول الطبرسي :وقال أصحابنا جائزة في المور كلها عند الضرورة .ثم ما نقله عن المفيد من كونها قد تجب وقد ل تجب إلى آخر ما ذكره ،فإنه كلم مجرد من أي دليل .فالية ل تدل عليه مطلقا حتى حسب تفسير الطبرسي نفسه ،ولم يأت له بدليل غيرها ل من الكتاب ول من السّنة ول من إجماع الصحابة، ولذلك ُيَرد ويسقط عن درجة العتبار. ول يقال إنه إذا كانت موالة الكافر في حالة الحذر منه جائزة فإن مداراة الحاكم الظالم أو الفاسق ذي القوة من باب أولى .ل يقال ذلك لن الذي هو من باب أولى هو فحوى الخطاب مت له بصلة ،فهو ليس من قبيل قوله تعالى: وهذا ليس منه ول َي ُ )ومنهم من إن تأمنه بدينار ل يؤّده إليك( ،ول هو من قبيل قوله تعالى) :ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤّده إليك( ،لن الفاسق ليس من باب الكافر ول من نوعه ولن الموالة المنهي عنها في هذه الية هي موالة الكفار من دون المؤمنين، والحاكم الظالم والفاسق ذو القوة هم من المؤمنين ول ينفي الظلم الذي يقع منهم والفسق الذي يتلبسون به صفة اليمان عنهم .ولهذا ل يدخل هذا الموضوع في بحث من باب أولى .ومن هنا ل َيِرد باب أْولى عليه حتى ُيستشهد به. على أن الحاكم الظالم والفاسق ذا القوة تجوز موالتهم في حالة المان وفي حالة الخوف سواء لنهم مؤمنون وموالة المؤمنين جائزة قطعا ،لن لفظ مؤمنين في قوله) :من دون المؤمنين( عام يشمل جميع المؤمنين ،ولم َيِرد نص في النهي عن موالة الحاكم الظالم أو الفاسق أو عن موالة الُفساق والفجار ،بل النصوص خاصة بالنهي عن موالة الكفار .وفوق -190-
ذلك فإن الحاكم الظالم تجب طاعته في غير معصية ويجب الجهاد تحت رايته ،والمام في الصلة إذا كان فاسقا تجوز الصلة خلفه في جميع الحالت ،وهذا من أعظم ما يدل على جواز موالتهم .والمنهي عنه إّنما هو الرضا بظلم الحاكم وفسق الفاسق .وعليه ُينتفى ما يسمونه التقية ،وهو أن ُيظهر المؤمن طن أمام الحاكم الظالم أو الفاسق ذي القوة أو خلف ما ُيب ِ المخالف بالرأي أو ما شاكل ذلك ،ويحرم فعله لنه نفاق والنفاق كله حرام. وعلوة على ذلك فإن محاسبة الحاكم الظالم على ظلمه فرض ل يحل تركه خوفا من الحاكم على المال أو على المصالح أو من الذى ول تحل التقية فيه .وإعلن الحرب عليه إذا رؤي منه كفر بواح فرض يحرم القعود عن القيام به ،والمر بالمعروف والنهي عن المنكر للحاكم ولغيره من أهل الفسق والظلم قد أوجبه ا على المسلمين .وهذا ينافي القول بالتقية ويناقضه مناقضة تامة ،لنه يحرم تحريما قاطعا السكوت على الحاكم الظالم وعلى الفاسق ،والتقية توجب السكوت على ذلك في بعض الحيان وتجعله مندوبا في بعضها وجائزا في البعض الخر ،وهذا يناقض آيات المر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويناقض الحاديث الصحيحة الواردة في النكار على الئمة والمراء والحكام إذا كانوا ظلمة أو فسقة ،والحاديث الواردة في وجوب محاسبتهم على أعمالهم ،ويخالف وجوب الصدع بالحق من غير أن تأخذه في ا لومة لئم .لذلك فإن التقية للحاكم الظالم أو الفاسق أو للقوي المتسلط من الفجار أو لمن يخالفك في الرأي قد جاءت نصوص اليات والحاديث الصحيحة تناقضها وتحث على وجوب العمل بعكسها مما يؤكد أنها حرام ،فوق كونها نفاقا ،فل يحل لمسلم أن يفعلها. بقيت مسألة آية )إل ّ من ُأكره وقلبه مطمئن باليمان( ،فإن بعض المفسرين يربطها مع آية )إل ّ أن تّتقوا منهم ُتقاة( ويجعلها من بابها ويستدل بها على إدخال إظهار الكفار وإبطان اليمان في باب الموالة ،ويجعلها داخلة فيما يسمونه التقية ،ويستدل بها البعض على أن الموالة جائزة في حال الخوف من القتل فقط، وما عداها فل .وهذا خطأ محض ،لن آية )إل ّ من ُأكره وقلبه مطمئن باليمان( حالة أخرى وموضوع آخر .لن موضوعها -191-
الرتداد عن السلم في حالة وجود القتل المحقق يقينا ل ظنا. وآية )إل ّ أن تّتقوا منهم ُتقاة( موضوعها النهي عن موالة الكفار بجميع أنواعها واستثناء جواز هذه الموالة في حالة وجود ما ُيحذر منه سواء أكان الخوف على النفس أو المال أو المصلحة أو ق بين الحالتين وبين الموضوعين ،فل تدخل أي أذى .وفر ٌ إحداهما في الخرى ول ُتربط بها لختلف الحالة والموضوع. فإن المسلم إذا كان تحت سلطان الكفار ومغلوبا على أمره عندهم ل يجوز له أن يرتد عن السلم ظاهرا مداراة لهم بل يجب عليه أن يهاجر إذا لم يستطع القيام بأحكام دينه ،بخلف موالتهم فإنها تجوز .لكن إذا خاف المسلم على نفسه من القتل المحقق وُأكره على الكفر فإنه يجوز له أن ُيظهر الكفر وُيبطن اليمان ،وما عدا ذلك فل يجوز ،لن نص الية هو )من كفر بالله من بعد إيمانه إل ّ من ُأكره وقلبه مطمئن باليمان( ،فالموضوع موضوع كفر بعد اليمان ،أي موضوع ارتداد عن السلم ،والحالة هي حالة خوف الموت ،وهو ما يطلق عليه الفقهاء الكراه جئ وهو وحده الكراه المعتبر شرعا في جميع الحالت التي مل ِ ال ُ يرتفع فيها الحكم عن المكَره .فالكراه الذي يستثنى شرعا هو جئ وهو حالة خوف القتل يقينا .ويؤيد ذلك أن الية مل ِ الكراه ال ُ نزلت في عمار بن ياسر .قال الطبري) :حدثني محمد بن سعد قال :حدثني أبي قال :حدثن عمي قال :حدثني أبي عن أبيه عن ابن عباس قوله) :من كفر بالله من بعد إيمانه إل ّ من ُأكره وقلبه مطمئن باليمان( إلى آخر الية ،وذلك أن المشركين أصابوا عمار بن ياسر فعذبوه ثم تركوه فرجع إلى رسول ا صلى ا عليه وسلم فحّدثه بالذي لقي من قريش والذي قال ،فأنزل ا تعالى عذَره من كفر بالله من بعد إيمانه إلى قوله لهم )عذاب ِذكره ُ عظيم( .حدثنا بشر قال :حدثنا يزيد قال :حدثنا سعيد عن قتاده )من كفر بالله من بعد إيمانه إل ّ من ُأكره وقلبه مطمئن باليمان( قال ُ:ذكر لنا أنها نزلت في مسلمين ارتدوا خوف القتل ،فقد ُروي عن هذه الية نزلت في عمار بن ياسر ،قال الطبري :حدثني محمد بن سعد قال :حدثني أبي قال :حدثني عمي قال :حدثني أبي عن أبيه عن ابن عباس قوله) :من كفر بالله من بعد إيمانه إل ّ من ُأكِره وقلبه مطمئن باليمان( إلى آخر الية وذلك أن المشركين أصابوا عمار بن ياسر فعذبوه ثم تركوه فرجع إلى -192-
رسول ا صلى ا عليه وسلم فحّدثه بالذي لقي من قريش والذي قال ،فأنزل ا تعالى ِذكره وعذره ")من كفر بالله من بعد إيمانه( إلى قوله) :لهم عذاب عظيم( .حدثنا بشر قال :حدثنا يزيد قال :حدثنا سعيد عن قتادة)" :من كفر بالله من بعد إيمانه إل ّ من ُأكِره وقلبه مطمئن باليمان( قال ُ:ذكر لنا أنها نزلت في عمار بن ياسر أخذه بنو المغيرة فغطوه في بئر ميمون وقالوا: عهم على ذلك وقلبه كاره ،فأنزل ا تعالى اكُفر بمحمد ،فتاَب َ ِذكره )إل ّ من ُأكره وقلبه مطمئن باليمان(" .وقال الطبري :حدثنا ابن عبدالعلى قال :حدثنا محمد بن ثور عن معمر عن عبدالكريم الجزري عن أبي عبيد بن محمد بن عمار بن ياسر قال :أخذ المشركون عمار بن ياسر فعذبوه حتى باراهم في بعض ما أرادوا ،فذكر ذلك إلى النبي صلى ا عليه وسلم فقال النبي صلى ا عليه وسلم :كيف تجد قلبك؟ قال :مطمئنا عد(. باليمان .قال النبي صلى ا عليه وسلم) :فإن عادوا ف ُ فهذه الحاديث تدل على أن سبب نزول الية حادثة عمار وموضوعها الرتداد عن السلم ،والحالة الخاصة بها خوف القتل يقينا ،وهذا وحده كاف لن يؤكد أنه ل علقة لها بآية )إل ّ أن تّتقوا منهم ُتقاة( .على أن آية )إل ّ من ُأكره وقلبه مطمئن باليمان( مكية نزلت في موضوع اليمان ،وآية )إل ّ أن تّتقوا منهم ُتقاة( مدنية نزلت في موضوع استثناء حالة الحذر مما ُيحذر منه من تحريم موالة المؤمنين للكافرين ،ولذلك كانت هذه غير تلك. بقي حكم من يهّدد بالقتل المحقق ،هل الفضل أن ُيظهر الكفر وُيبطن اليمان حتى َيسَلم من الموت ,أم الفضل أن يثبت على إيمانه ولو أدى إلى قتله؟ والجواب على ذلك هو :أن الثبات على اليمان ولو أدى إلى القتل أفضل ،لن جواز إظهار الكفر رخصة ورفع حرج ،والثبات على اليمان عزيمة وهو الصل ،ولهذا كان أفضل .روي أن مسيلمة أخذ رجلين فقال لحدهما :ما تقول ي؟ قال :أنت في محمد؟ قال :رسول ا .قال :فما تقول ف ّ له .وقال للخر :ما تقول في محمد؟ قال :رسول ا. أيضا ،فخ ّ ي؟ قال :أنا أصم ،فأعاد عليه ثلثا ،فأعاد قال :فما تقول ف ّ جوابه ،فقتله .فبلغ ذلك رسول ا صلى ا عليه وسلم فقال: أّما الول فقد أخذ برخصة ا ،وأّما الثاني فقد صدع بالحق فهنيئا له( .وهذا صريح في تفضيل من يصبر ويثبت على اليمان على -193-
من يأخذ برخصة ا وُيظهر الكفر خوفا على نفسه من القتل المحقق يقينا. طلب منه ما هو دون طلب منه الكفر ،أّما من ُ هذا فيمن ُ ذلك ،كتْرك الدعوة السلمية أو القيام بمعصية أو ما شاكل ذلك، فإنه ل يؤخذ من هذه الية جوازه ،ولذلك ل يقال إنه إذا كان الكفر قد أجاز ا للمسلم إظهاره فما هو دون الكفر من باب أْولى .ل يقال ذلك لن المعصية ليست من جنس الكفر فل تدخل في بحث من باب أْولى .وكذلك ل يقاس على الكفر لنه ل توجد ن من خاف على نفسه من القتل عّلة حتى يحصل القياس .إل ّ أ ّ طلب منه ارتكاب معصية أو عمل شيء غير الكفر المحقق يقينا و ُ فإنه يجوز له أن يفعله لنجاة نفسه من القتل ول إثم عليه ،وذلك لقوله عليه السلم ُ) :رفع عن أّمتي الخطأ والنسيان وما اسُتكرهوا عليه( أي ُرفع الحرج والثم وُرفع الحكم ،وهذا يعني جواز فعله ،ولكن في حالة واحدة فقط وهي حال الخوف من الموت المحقق يقينا ،وهذا هو ما يطلق عليه الفقهاء الكراه جئ وهو وحده الكراه المعتبر شرعا في جميع الحالت التي مل ِ ال ُ يرتفع فيها الحكم عن المكَره ،كالطلق والزواج والبيع وغير ذلك من العمال والعقود ،فقوله) :وما اسُتكرهوا عليه( أي إكراها جئا. مل ِ
الهجرة من دار الكفر إلى دار السلم الهجرة هي الخروج من دار الكفر إلى دار السلم ،قال تعالى) :إن الذين توّفاهم الملئكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الرض قالوا ألم تكن أرض ا واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا ،إل ّ عفين من الرجال والنساء والولدان ل يستطيعون حيلة المستض َ ول يهتدون سبيل فأولئك عسى ا أن يعفَو عنهم وكان ا عفوا غفورا( ،وُروي عن النبي صلى ا عليه وسلم أنه قال) :أنا بريء من كل مسلم يقيم بين مشركين .قالوا :يا رسول ا ولم؟ قال: ل تتراءى ناراهما( ،فالهجرة من دار الكفر إلى دار السلم باقية ل هجرة لم تنقطع .وأّما ما ُروي من قوله عليه الصلة والسلم ) : ل هجرة بعد الفتح( ،وقوله) :قد انقطعت بعد فتح مكة( ،وقوله ) : -194-
ما أسلم الهجرة ولكن جهاد ونّية( ،وما ُروي أن صفوان بن أمية ل ّ قيل له :ل دين لمن لم يهاجر ،فأتى المدينة فقال له النبي صلى ا عليه وسلم) :ما جاء بك أبا وهب(؟ قال :قيل إنه ل دين لمن لم يهاجر .قال) :أرجع أبا وهب إلى أباطح مكة أقروا على مساكنكم فقد انقطعت الهجرة ولكن جهاد ونّية( .فإن ذلك كله ي للهجرة بعد فتح مكة .إل ّ أن هذا النفي معلل بعلة شرعية نف ٌ تستنَبط من الحديث نفسه ،إذ قوله) :بعد فتح مكة( جاء على ل تنتبذوا التمر وجه يتضمن العلية ،نظير قوله عليه السلم ) : والزبيب جميعا( ،فقوله) :جميعا( جاء على وجه يتضمن العلية، فكان عّلة النهي عن النتباذ .فهو يعني أن فتح مكة هو عّلة نفي الهجرة .وهذا يعني أن هذه العلة تدور مع المعلول وجودا وعدما ول تختص بمكة بل فتح أي بلد ،بدليل الرواية الخرى ل) هجرة بعد الفتح( .ويؤيد ذلك ما رواه البخاري عن عائشة، ل هجرة اليوم .كان المؤمن يفّر وسئلت عن الهجرة فقالت ) : بدينه إلى ا ورسوله مخافة أن ُيفتن .فأّما اليوم فقد أظهر ا السلم ،والمؤمن يعبد ربه حيث شاء( ،مما يدل على أن الهجرة كانت من المسلم قبل الفتح فرارا بدينه مخافة أن ُيفتن وُنفيت بعد الفتح لنه صار قادرا على إظهار دينه والقيام بأحكام السلم .فيكون الفتح الذي يترتب عليه ذلك هو عّلة نفي الهجرة وليس فتح مكة وحدها .وعليه فإن ذلك يراد به ل هجرة بعد عت( ط َ الفتح من بلد قد ُفتح .وقوله عليه السلم لصفوان) :قد انَق َ يعني من مكة بعد أن ُفتحت لن الهجرة الخروج من بلد الكفار ق بلد الكفار ومن دار الكفر ،فإذا ُفتح البلد وصار دار إسلم لم يب َ ول دار كفر ،فل تبقى فيه هجرة ،وكذلك كل بلد ُفتح ل يبقى منه هجرة .ويؤيد ذلك ما روى معاوية قال :سمعت رسول ا صلى ل تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة حتى ا عليه وسلم يقول ) : تطلع الشمس من مغربها( ،وروي عن النبي صلى ا عليه وسلم ل تنقطع الهجرة ما كان الجهاد( ،وفي رواية ل) تنقطع أنه قال ) : الهجرة ما قوتل العدو( ،فدل ذلك على أن الهجرة من دار الكفر إلى دار السلم باقية لم تنقطع .أّما حكم الهجرة فإنها تكون بالنسبة للقادر عليها فرضا في بعض الحالت ومندوبا في الحالت الخرى .أّما الذي لم يقدر عليها فإن ا عفا عنه وهو غير مطاَلب بها ،وذلك لعجزه عن الهجرة إما لمرض أو إكراه على -195-
القامة أو ضعف ،كالنساء والولدان وشبههم كما جاء في ختام آية الهجرة. فمن كان قادرا على الهجرة ولم يستطع إظهار دينه ،ول القيام بأحكام السلم المطلوبة منه فإن الهجرة فرض عليه ِلما ورد في آية الهجرة ،قال تعالى) :إن الذين توّفاهم الملئكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الرض قالوا ألم تكن أرض ا واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا( ،فالخبار هنا يعني المر ،وهو من صيغ الطلب ،كأنه قال :هاجروا فيها .والطلب هنا في هذه الية اقترن بالتأكيد واقترن بالوعيد الشديد على ترك الهجرة فهو طلب جازم، مما يدل على أن الهجرة في هذه الحالة فرض على المسلم يأثم إذا لم يهاجر .أّما من كان قادرا على الهجرة ولكنه يستطيع إظهار دينه والقيام بأحكام الشرع المطلوبة منه فإن الهجرة في هذه الحال مندوبة وليست فرضا .أّما كونها مندوبة فلن الرسول غب في الهجرة من مكة قبل الفتح، صلى ا عليه وسلم كان ير ّ حيث كانت دار كفر ،وقد جاءت آيات صريحة في ذلك ،قال تعالى) :إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل ا أولئك يرجون رحمة ا( ،وقال) :الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل ا بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند ا( ،وقال: )والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من وليتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إل ّ على قوم بينكم وبينهم ميثاق( ،وقال) :والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم( ،وهذا كله صريح في طلب الهجرة. وأّما كونها ليست فرضا فلن الرسول صلى ا عليه وسلم قد أقّر من بقي في مكة من المسلمين .فقد ُروي أن نعيم عِدي فقالوا له :أِقم حام حين أراد أن يهاجر جاءه قومه بنو َ الن ّ عندنا وأنت على دينك ونحن نمنعك عمن يريد أذاك واكِفنا ما كنت عِدي وأراملهم ،فتخّلف عن الهجرة تكفينا .وكان يقوم بيتامى بني َ مدة ثم هاجر بعد .فقال له النبي صلى ا عليه وسلم) :قومك كانوا خيرا لك من قومي لي .قومي أخرجوني وأرادوا قتلي وقومك حفظوك ومنعوك( .فقال :يا رسول ا بل قومك أخرجوك إلى طاعة ا وجهاد عدّوه ،وقومي ثّبطوني عن -196-
الهجرة وطاعة ا( .وهذا كله في دار الكفر أي دار الحرب من حيث هي بغض النظر عن كون سكانها مسلمين أو كفارا ،لن الدار ل يختلف حكمها بالسكان ،بل يختلف بالنظام الذي تحكم به وبالمان الذي يأمن أهلها به .وعلى ذلك فل فرق بين اندونيسيا والقفقاس ول بين الصومال واليونان .إل ّ أن الذي يستطيع إظهار دينه والقيام بأحكام الشرع المطلوبة إذا كان يملك القدرة على تحويل دار الكفر التي يسكنها إلى دار إسلم ،فإنه يحرم عليه في هذه الحالة أن يهاجر من دار الكفر إلى دار السلم ،سواء أكان يملك القدرة بذاته أو بتكتله مع المسلمين الذين في بلده ،أو بالستعانة بمسلمين من خارج بلده ،أو بالتعاون مع الدولة السلمية ،أو بأي وسيلة من الوسائل ،فإنه يجب عليه أن يعمل لجعل دار الكفر دار إسلم وتحرم عليه حينئذ الهجرة منها. والدليل على ذلك أن البلد التي يعيش فيها إن كان يسكنها كفار وتحكم بالكفر ،فقد وجب على المسلمين قتال أهلها حتى يسلموا أو يعطوا الجزية ويحكموا بالسلم ،ووجب عليه هو بوصفه مسلما من المسلمين وباعتباره ممن يليهم الكفار وممن هو أقرب إلى العدو ،وإن كان يسكنها مسلمون ويحكمون بغير السلم أي بنظام الكفر ،فقد وجب على المسلمين قتال حكامها حتى يحكموا بالسلم ،ووجب عليه هو باعتباره واحدا من هؤلء المسلمين الذين ُيحكمون بالكفر ،فهو على أي حال قد وجب عليه القتال والستعداد للقتال إن كان قادرا عليه .والمسلم الذي يعيش في دار الكفر ل تخرج حاله عن هاتين الحالتين ،فهو إما ممن وجب عليه جهاد الكفار الذين َيُلونه ،وإما ممن وجب عليه قتال الحاكم الذي يحكم بالكفر ،وفي الحالتين يعتبر خروجه من دار الكفر التي تحكم بغير السلم أي بالكفر ،فرارا من الجهاد من مكان وجب عليه فيه ،أو فرارا من مقاَتلة من يحكم بالكفر، وكلهما إثم عند ا كبير ،ولذلك ل يجوز لمن كان قادرا على تحويل دار الكفر إلى دار إسلم أن يهاجر منها ما دام يملك القدرة على تحويلها إلى دار إسلم ،وتستوي في ذلك تركيا واسبانيا ومصر والبانيا بل فرق بينها ما دامت تحكم بنظام الكفر.
ق والسترقاق موقف السلم من ال ِر ّ -197-
جاء السلم والرقيق موجود في جميع أنحاء العالم، والسترقاق نظام شائع في جميع أنحاء الدنيا عند جميع جر الشعوب والمم .ول ُيعلم عن وجود ناحية في الدنيا إل ّ ويتا َ بها بالرقيق وُيستَرق فيها الحرار .ولم يخبر عن وجود بلد ليس فيها استرقاق .وقد رأى السلم أن هذه المشكلة تتعلق بناحيتين اثنتين :إحداهما تتعلق بالرقاء الذين اسُترّقوا بالفعل والذين ينزل اعتبارهم عن مستوى اعتبار غيرهم من الحرار ،وُيعتبرون سلعة كباقي السلع تباع وتشترى ويساَوم عليها ،فكان ل بد من علج هذا الرقيق علجا يؤدي إلى عتق هؤلء الرّقاء وجعلهم أحرارا .أّما الناحية الثانية فكانت تتعلق بالسترقاق ،ول بد من علجهم علجا يضع حدا للسترقاق .لذلك وردت اليات والحاديث تعالج هاتين الناحيتين العلج النافع للنسان المبني على واقع النسان واقع العلقات التي تقوم بين أفراده وبين أممه.
معالجة الرقيق عالج السلم الرقيق معالة تؤدي إلى تخفيف وضع الرق المضروب عليه وتؤدي إلى عتقه جبرا واختيارا .وقد وضع أحكاما صلها الفقهاء أتم تفصيل ،وتتلخص هذه كثيرة في هذا الشأن ف ّ الحكام في المسائل التالية: -1وجد السلم الناس يملكون الرقاء فعالج مشاكل الرقيق بين المالكين معالجة تجعل للرقيق حقوقا وتحفظ عليه اعتبار كونه إنسانا كالحر من حيث الصفات الفطرية التي ُفطرت في النسان .وقد وصى ا تعالى في القرآن الكريم كما وصى الرسول صلى ا عليه وسلم في الحديث الشريف بالحسان إلى الرّقاء وبحسن معاشرتهم .قال تعالى) :واعبدوا ا ول تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل كت أيمانكم( عبيدكم الرّقاء. كت أيمانكم( ،ومعنى )وما َمَل َ وما َمَل َ كت أيمانكم، وقال صلى ا عليه وسلم) :اتقوا ا فيما َمَل َ أطعموهم مما تأكلون ،واكسوهم مما تلبسون ،ول تكّلفوهم من ل يقوَل ّ ن العمل ما ل يطيقون( .وقال عليه الصلة والسلم ) : -198-
أحدكم عبدي وأَمتي ،كلكم عبيد ا وكل نسائكم إماء ا ،ولكن ليقل غلمي وجاريتي وَفتاي وفتاتي(. وقد رفع الشرع منزلة الرقيق وجعله كالحر ،إذ جعل دمه معصوما ُيقتل الحر به ،لن ا تعالى يقول) :يا أيها الذين آمنوا ُكتب عليكم القصاص في القتلى( ،والقصاص المماَثلة وعقاب عل الذنب ،فيطلق القصاص على جزاء الذنب ،ويطلق على أن ُف ِ عل .ومعنى )ُكتب عليكم القصاص في القتلى( بالفاعل مثل ما َف َ هو ُ:فرض عليكم جزاء الذنب في القتلى أن ُيقتل القاتل ،وهذا عام يشمل الذكر والنثى والحر والعبد .ويؤيد ذلك قوله صلى ا عليه وسلم) :المسلمون تتكافأ دماؤهم( وهذا عام .فالحر والعبد متساويان في أن كل منهما معصوم الدم يحرم قتله وُيقتل قاتله أيا كان .وعلى ذلك جعل السلم نفس العبد الرقيق كنفس الحر سواء بسواء ،ودمه كدم الحر معصوما ،قال صلى ا عليه وسلم) :من قتل عبده قتلناه( .وأيضا قد جعل السلم للرقيق الحق في أن يتزوج ويطّلق ويتعلم ويكون شاهدا على غيره من حر ورقيق .وأّما ما جعله السلم من حق لمالك الَمة من ُ الستمتاع بها فإنه يرفع منزلة الرقيق ويؤدي إلى عتقه ،لن استمتاع المالك بأَمته كاستمتاع الزوج بزوجته يرفع منزلة الَمة إلى مرتبة الزوجة الحرة ويجعل لها منزلة عند مولها .علوة على ما يترتب عليه هذا الستمتاع من حمل وولدة يهيئ لهذه الَمة أن ُتعتق جبرا بعد موت مولها. -2حثّ السلم على عتق الرّقاء .فقد جعل عتق الرقبة يساعد النسان على شكر نعم ا الجليلة ويعينه على اقتحام العقبة ،قال تعالى) :فل اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة( ،والقتحام الدخول والمجاوزة بشدة ومشقة ،والعقبة الشدة .فجعل العمال الصالحة عقبة وجعل عملها اقتحاما لها ِلما في ذلك من معاناة المشقة ومجاهدة النفس .وفك الرقبة تخليصها من الرق .فحثّ ا في الية على عتق الرّقاء .وكذلك حثّ الرسول على عتق الرّقاء ،قال صلى ا عليه وسلم) :أيما رجل أعتق مسلما استنقذ ا تعالى بكل عضو منه عضوا من غب في عتق الرّقاء وجعل له النار( .وبذلك يتبين أن السلم ر ّ ثوابا كبيرا. -3شرع السلم أحكاما عملية توجب عتق الرّقاء ،فقد -199-
شرع أحكاما تجبر على العتق ،إذ جعل عتق العبد المملوك للقريب محرم يتم آليا بمجرد الملك سواء رضي المالك أم لم يرض ،أعتق أم لم يعتق .فكل إنسان يملك قريبا ذا رحم محرم بالشراء أو الرث عتق عليه قريبه جبرا عنه بمجرد الملك دون حاجة إلى إعتاقه .روى البخاري عن الحسن عن سمرة أن النبي صلى ا عليه وسلم قال) :من ملك ذا رحم محرم فهو حر(، وروى النسائي عن ابن عمر قال :قال رسول ا صلى ا عليه وسلم) :من ملك ذا رحم محرم فهو حر( ،وجعل تعذيب العبد من تحريق أو قطع عضو أو إفساده أو ضرب العبد ضربا مبرحا ،جعل ذلك موجبا لعتقه ،فإن لم يعتقه سيده عتقه الحاكم جبرا عن سيده .قال عليه السلم) :من مّثل بعبده عتق عليه( ،وقال) :من لطم مملوكه أو ضربه فكفارته أن يعتقه( .والمراد بالضرب الضرب المبرح لورود أحاديث تجيز للسيد أن يضرب عبده ضرب تأديب .وجعل السلم عتق الرقبة كفارة لزمة لكثير من الذنوب، فمن قتل مؤمنا خطأ فكفارته تحرير رقبة مؤمنة ،قال تعالى: )وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إل ّ خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسّلمة إلى أهله إل ّ أن يصّّدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق َفِدَيٌة مسّلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة( ،ومن حنث في يمينه فمما يكّفر خطيئته تحرير رقبة ،قال ل يؤاخذكم ا باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما تعالى ) : عّقدتم اليمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما هر من تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة( ،ومن ظا َ زوجته بأن قال لها :أنت علي كظهر أمي ،ثم عاد إليها فكفارته تحرير رقبة ،قال تعالى) :والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا( ،ومن أفسد صوم رمضان بالجماع فكفارته تحرير رقبة ،عن أبي هريرة قال: ت يا رسول )جاء رجل إلى النبي صلى ا عليه وسلم فقال :هلك ُ ا ،قال :وما أهلكك؟ قال :وقعت على امرأتي في رمضان، قال :هل تجد ما تعتق رقبة؟ قال :ل ،قال :فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال :ل ،قال :فهل تجد ما تطعم ستين مسكينا؟ قال :ل ،قال :ثم جلس فُأتي النبي صلى ا عليه وسلم بعرق )أي زنبيل أو قّفة( فيه تمر ،قال :تصدق بهذا ،قال :فهل -200-
على أفقر مني؟ فما بين لبتيها أهل بيت أحوج إليه منا ،فضحك النبي صلى ا عليه وسلم حتى بدت نواجذه وقال :اذهب فأطعمه أهلك( ،فالنبي صلى ا عليه وسلم أول ما أمر به عتق الرقبة ولم يتحول إلى غيره إل ّ بعد أن تبين له العجز عنه .فكل هذه الحكام للكفارات ُتلِزم المكّفر عتق الرقبة. ولم يكتف السلم بذلك بل جعل للعبد نفسه طريقة لن يعمل على عتق نفسه ،كما جعل للمالك طريقة يعّوض بها عن غب السلم في هذا وأمر مكاِتب .ور ّ ثمن العبد ،وذلك في بحث ال ُ ا بالقرآن به فقال تعالى) :والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاِتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال ا الذي آتاكم( .وإذا كاَتب المولى عبده بأن قال له :إن أتيتني بكذا في مدة كذا فأنت حر ،كان واجبا على السيد أن يطلق عبده ليعمل حتى يحصل على المال الذي كاتب عليه .وكان واجبا عليه أن ُيعتقه إذا أحضر المال ،ول يصح له أن يرجع عن هذه ل، المكاَتبة .وقد عّرف الفقهاء المكاَتبة بأنها تحرير المملوك حا ً حت خرج العبد من يد سيده .ومتى ل ،وأن الكتابة إذا ص ّ ورقبته مآ ً أدى البدل خرج من ملك سيده. حظ فيها أنها قد فهذا الحكام كلها لعتق الرّقاء .ويل َ سلكت طريقة التوجيه بالحث والترغيب ،وطريقة التشريع بالحكام التي تنفذها الدولة بالقوة إذا لم ينفذها الفرد بدافع تقوى ا .وهي كلها أحكام تؤدي إلى إيجاد التفكير والعمل عند المالكين بعتق الرّقاء وتؤدي إلى إيجاد التفكير والتعمل عند الرّقاء أنفسهم بأن يعملوا لعتق أنفسهم من الرق ،وهذا يجعل السير متجها إلى إنهاء الرق من المجتمع. -4لم يكتف السلم بالحث على العتق وإيجاد أحكام ُتجِبر على العتق ،بل جعل في بيت مال المسلمين بابا خاصا لعتق الرّقاء ،إذ جعل الزكاة ُتصرف لعتق الرّقاء ،وجعله أحد البواب الثمانية ،قال تعالى) :إّنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤّلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل ا وابن السبيل( ،فقوله) :وفي الرقاب( يعني عتق الرّقاء .ولم يعّين لهذا الباب قدرا معينا ،فيجوز للدولة أن تجعل مقدارا من أموال الزكاة لعتق الرّقاء ،بل يجوز لها أن تجعل كل مال الزكاة في عتق الرّقاء إذا لم تكن هنالك ضرورة لمصرف -201-
آخر من مصارف الزكاة .وذلك لن صرف الزكاة ل يجب أن يكون للبواب الثمانية ،بل يجوز أن يخصص في باب واحد من هذه البواب حسب ما يتراءى لخليفة المسلمين.
معالجة السترقاق كانت أبواب السترقاق في النظم القديمة التي كان معمول ً بها في العالم حين جاء السلم كثيرة .فكانت تقضي باسترقاق سر مدينه وأفلس كان له أن مدين المفِلس ،فالدائن إذا أع َ ال َ يسترّقه .وكانت تقضي باسترقاق النسان عقوبة على بعض ما يرتكبه من الجرائم والخطايا ،وكانت تتيح للحر أن يقبل الرق على نفسه ،فيبيع نفسه لغيره بشرط أن ُيعتقه بعد زمن يتفقان عليه. وكانت القبائل القوية تبيح لنفسها استرقاق أفراد القبيلة الضعيفة. وكانت الحروب والغزوات بوجه عام تقضي باسترقاق السرى وتبيح استرقاق أهل البلد كلهم إذا استولوا عليهم .وكان بعضها يحصر السترقاق بمن يؤخذون أسرى في الحروب من الرجال والنساء والطفال ،فمن ُأخذ أسيرا في حرب مشروعة واسُتِر ّ ق في ذلك اعُتبر رقيقا واعترف بكونه رقيقا. ما جاء السلم وضع للحوال التي كان يحصل فيها فل ّ صل المر في حالة السترقاق أحكاما شرعية غير السترقاق ،وف ّ الحرب ،فبّين بالنسبة للمدين المفلس أن ينتظر الدائن إلى سرة(، ة إلى َمي َ ظر ٌ عسرة فَن ِ ميسرة ،قال تعالى) :وإن كان ذو ُ صلة ول سيما عقوبة السرقة التي وبّين العقوبات على الذنوب مف ّ كان جزاؤها السترقاق والتي أشار إليها ا في القرآن )قالوا حِلِه فهو جزاؤه( فقد بّين السلم عقوبتها – جزاؤه من ُوجد في َر ْ أي السرقة -قطع اليد ،قال تعالى) :والسارق والسارقة فاقطعوا ء بما كسبا( ،وجعل العقد بين العبد والمولى على أيديهما جزا ً العتق ل على السترقاق .وحّرم استرقاق الحرار تحريما قاطعا، قال عليه الصلة والسلم) :قال ا عز وجل :ثلثة أنا خصمهم يوم القيامة :رجل أعطى بي ثم غدر ،ورجل باع حرا فأكل ثمنه، طه( ،فالله تعالى ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم ُيع ِ حر. ع ُ م لبائ ِ خص ٌ صل فيها السلم ،فمنع استرقاق أّما حالة الحرب فقد ف ّ -202-
السرى مطلقا .ففي السّنة الثانية للهجرة بّين حكم السرى بأنه ن عليهم بإطلق سراحهم دون مقابل ،وإما فداؤهم بمال إما م ّ أو بأسرى مثلهم من المسلمين أو الذميين .وبذلك يكون قد منع ضْر َ ب استرقاق السرى .قال تعالى) :فإذا لقيتم الذين كفروا ف َ شّدوا الَوثاق فإّما َمّنا بعُد وإّما فداء الرقاب حتى إذا أثخنتموهم ف ُ حتى تضع الحرب أوزارها( ،فالية صريحة في هذا المعنى :المنّ أو الفداء ،ول تحتمل غيره مطلقا .واللغة العربية تقضي بحصر ن أو الفداء لن "إّما" حكم السرى في أحد هذين المرين الم ّ للتخيير بين شيئين وللحصر في هذين الشيئين .وهنا جاءت ن والِفداء وحاصرة الحكم بهما حين عّبرت عن مخّيرة بين الم ّ ذلك "بإّما" المفيدة للحصر فيما ُيذكر بعدها )إّما منا بعد وإّما ِفداء(. وهنا قد يعرض سؤال كان موضع شبهة عند بعض الفقهاء أخذوا منه أن للخليفة أن يستِرق السرى إذا رأى ذلك .هذا ق بعد نزول السؤال هو أن النبي صلى ا عليه وسلم قد استر ّ هذه الية .فإن هذه الية نزلت في السّنة الثانية عند بدء الحرب حنين .وعمل ق في ُ بين الرسول وكفار قريش ،والرسول استر ّ الرسول يعتبر تشريعا كما يعتبر تفسيرا ليات ا ،فكيف ُيمنع ق بعد نزولها السترقاق للسرى بهذه الية مع أن الرسول استر ّ حنين؟ في ُ والجواب على ذلك هو أن عمل الرسول وقوله بالنسبة مل أو تقييد ُمطَلق أو تخصيص عام، ليات القرآن إما تفصيل ُمج َ ول يكون عمل الرسول وقوله ناسخا للقرآن .وآية السرى ليست ملة حتى ُتفصل ،ول ألفاظها ألفاظ عموم حتى ُتخصص ،ول ُمج َ ق بعد نزوله فإن ُمطَلقة حتى تقّيد ،فإذا صح أن الرسول استر ّ عمله يكون ناسخا لها ،وذلك ل يجوز .وعلوة على ذلك فإن كون ق السرى خبر آحاد وهو يعارض آية )إّما مّنا الرسول قد استر ّ بعُد وإّما بعُد( وإذا عارض خبر الحاد القطعي من اليات والحاديث ُيرد خبر الحاد دراية .وعلى ذلك فل اعتبار لما ُيروى عن أن الرسول استرقّ السرى بعد نزول آية السرى. حنين قد على أن واقع ما حصل من الرسول أنه في غزوة ُ اصطحب المحاِربون من المشركين معهم نساء وأطفال ً في ما ُكسروا في المعركة لتكثير سوادهم ولتحميس رجالهم ،فل ّ -203-
المعركة صار النساء والطفال سبيا وَقسمهم الرسول على ما روجع في هذا السبي استوهب المحاربين من المسلمين .فل ّ المسلمين ما لهم من حق في السبي عن طيب نفس ورّد السبي إلى أهله .فكان هذا دال ً على جواز استرقاق السبي وهو النساء حبون الرجال في المعركة لتكثير السواد والصبيان الذين َيص َ ق السبي في خيبر. وللتحميس .ومع ذلك فإن الرسول لم َيستر ّ فإنه صلى ا عليه وسلم حين غزا خيبر وانتصر على أهلها، تركهم أحرارا وترك الرض تحت أيديهم يزرعونها على نصف غلتها .قال أبو عبيد عن السبي" :إن المام مخّير فيهم ما لم سموا لم يكن عليهم سبيل إل ّ باستيهاب وطيب سموا فإذا ُق ِ ُيق َ أنفس الذين صاروا لهم ،كِفعل رسول ا صلى ا عليه وسلم حنين لم يرتجع أحد منهم شيئا من السبي إل ّ باستيهاب بأهل ُ وطيب من النفس لنه قد كان قسمهم ،ولم يفعل ذلك بأهل خيبر ولكنه تركهم أحرارا ولم يستوهبهم من أحد لنه لم يكن جرى عليه القسم" .وأّما غير السبي وهم الرجال المحاِربون إذا ق أحدا ُأخذوا أسرى فإن الرسول صلى ا عليه وسلم لم يستر ّ ق أسيرا من الذكور صح أنه استر ّ من ذكورهم مطلقا ،ولم َي ِ المحاِربين ل من العرب ول من اليهود ول من النصارى .وكلمة أسير إذا ُأطلقت تنصرف إلى الَذَكر المحاِرب .وأّما المرأة والطفل فإنه ُيطلق عليهم في اللغة السبي وليس السرى. ومن ذلك يتبين أن السلم منع استرقاق السرى وخّير الخليفة في السبي بين السترقاق والطلق وليس فيهم فداء، حنين استرّقهم ثم أطلقهم ،وكما كما فعل الرسول في سبي ُ حَبت ص ِ فعل في سبي خيبر تركهم أحرارا ولم يسترّقهم .وهذا إذا َ النساء والطفال الجيش في الحرب ،أّما إذا ظلوا في بيوتهم فل سر ول سبي .وعمل الخليفة في مسألة شيء عليهم ،ل أ ْ استرقاق السبي إّنما يسير بها حسب ما تقتضيه السياسة الحربية في معاملة العداء ،وليس المقصود به السترقاق ،وإّنما هو معاملة من معاملت الحرب التي ُترك المر فيها للخليفة ،يفعل ما يراه وما يقتضيه الموقف بالنسبة للعدو. ومن ذلك يتبين أن السلم عالج السترقاق فمنع جميع الحالت التي يحصل فيها السترقاق ،وترك للخليفة الخيار في حالة السبي تبعا للموقف بالنسبة للعدو .وبذلك يكون قد قضى -204-
على السترقاق ول سيما حين تبطل عند الناس إخراج النساء والطفال مع الجيش لتكثير السواد والتحميس ،كما هي الحال في الحروب الحديثة منذ قرون حتى اليوم ،فإنه ل يبقى ول حالة واحدة يحصل فيها السترقاق مطلقا ،وبذلك يكون السلم منع السترقاق.
العلقات بين الفراد شرحت هي نماذج من الحكام هذه الحكام السابقة التي ُ الشرعية المتعلقة بالدولة السلمية وبعلقاتها مع غيرها من الدول والشعوب والمم .وقد بّين فيها بعض الحكام نموذجا لسائر الحكام ،حتى يتبين المسلم منها الساس الذي تقوم عليه هذه العلقة العامة ونوع الحكام التي تعالج مشاكلها .وهناك علقات بين الفراد تقوم عليها مصالحهم في معاشهم ،وقد جاء السلم فعالج هذه العلقات بين الفراد بأحكام شرعية خاصة بالعلقات الفردية ،عامة للنسان من حيث هو إنسان. والسلم في تشريعه كله يشّرع للنسان ل لفراد معّينين، ولكنه يشّرع للنسان الممّثل في أفراد ،ويشّرع لهؤلء الفراد بوصفهم النساني باعتبارهم مجموعة من الناس يكّونون جماعة ،ويشّرع لهؤلء الفراد ولهذه الجماعة ما يحتاجونه من علقات ،ومن العلقات بين الفراد التي بوجودها يتكّون المجتمع. ما كان المقصود بالنسان ،جنس النسان ،بغض النظر ول ّ عن كونه خالدا أو محمدا ،فإن التشريع جاء لهذا النسان ل لفرد ما كان المقصود بالفرد هو الشخص المعّين من حيث معّين .ول ّ كونه خالدا أو محمدا المعّين ،فإن السلم قد جعل القيام بتكاليف التشريع مطلوبا من الفرد باعتبار فردّيته هو ،ومقصودا به معالجة مشاكل الفرد أي فرد ،ومأمورا بالتقيد بكل ما جاء في طلب منه شرعت للنسان ،فإن الذي ُ السلم .فالحكام وإن ُ القيام بتكاليفها هو الفرد المعّين ،أي خالد ومحمد ،ولكن ل باعتبار فرديته الخاصة به والتي ل يشاركه فيها غيره كطوله أو حبه للخضار وعزوفه عن اللحوم ،بل للفرد باعتبار كونه إنسانا تنطبق عليه صفات النسان الفطرية مما يكون مظهرا من -205-
مظاهر الطاقة الحيوية التي تظهر في أفعال هذا الفرد باعتباره إنسانا .وقد جاء السلم بالحكام لتنظيم العلقات بين الفراد في حياتهم المعاشية العامة والخاصة ،أي جاء بالحكام لتنظيم العلقات بين الناس بعضهم مع بعض ،كما جاء بالحكام التي شرعت لتنظيم العلقات بين الناس وبين الدولة ،وبين الدولة ُ وغيرها من الدول ،أو لتنظيم الجماعة من حيث هي جماعة. فكلها أحكام يكّلف بها الفرد المعّين ،محمد أو خالد أو حسن، ولكن من حيث كونه إنسانا. وِمن تتّبع الحكام الشرعية في جملتها ،نجد أن السلم حين شّرع الحكام راعى مصلحة الفرد بمشخصاته الخاصة، ومصلحة الجماعة التي يعيش فيها باعتبارها جماعة مكّونة من أفراد من حيث كونها جماعة ل من حيث العلقات بين أفرادها. فإنه حين يشرع للجماعة بما بينها من علقات يراعي مصلحة الفرد ،وحين يشرع للفرد بما بينه وبين غيره من علقات يراعي مصلحة الجماعة ،ولذلك تجده حين جعل للدولة حق أخذ مال ف موارد بيت المال من المسلمين لدارة شؤون الرعية إذا لم تك ِ المنصوص عنها ،قّيد الدولة بأن ل تأخذ إل ّ لما أوجبه ا على الجماعة ،كأخذ مال للجهاد أو لطعام جائعين ،وقّيدها أن ل تأخذ هذا إل ّ من فضول مال الغنياء ،أي ما يزيد على حاجاتهم الساسية التي هي المأكل والملبس والمسكن ،وحاجاتهم الكمالية التي تعتبر ضرورية حسب اصطلح مجتمعهم ،أي حسب المعروف من حاجات أمثالهم ،كالزواج وما يركبونه لقضاء حاجاتهم البعيدة ،وكالخادم ،وما شاكل ذلك .فهذا التشريع لحفظ الجماعة روعيت فيه مصلحة الفرد .ونجد الشرع أيضا حين يبيح للفرد أن يبني بيتا أو يزرع بستانا يجعل عليه حق الطريق للناس ويمنعه من البناء والغراس أو الزرع على أي وجه يعتدي به على حق الطريق أو على ملكية عامة .وحين أباح للفرد بيع ما يملك خارج ديار السلم في تجارة ،منعه أن يبيع السلح وكل ما يقوى به العدو على المسلمين .فهذا تشريع للفرد روعيت فيه مصلحة الجماعة. وعليه فالتشريع الذي ينظم العلقات بين الفراد مع كونه تشريعا للعلقات الفردية ،ولكنه ل ينفصل عن كونه تشريعا لنسان ،ول عن كونه تشريعا للجماعة ،ول عن كونه تشريعا -206-
للمجتمع أي للعلقات القائمة بين أفراد هذه الجماعة. وعلى هذا فنماذج الحكام الشرعية المتعلقة بعلقات الفراد هي أحكام شرعية عامة لبني النسان وإن عالجت علقات أفراد وكانت تنطبق على الفراد المعّينين الذين يباشرون ل ،البيع أحكام شرعية لتنظيم العلقات بين الفراد القيام بها .فمث ً الذين يطّبقون أحكام السلم تحت راية الدولة السلمية فهم شرون هذه الحكام ،ولكنها تنطبق على جميع الفراد الذين يبا ِ شر البيع محمد وخالد يكونان هما من بني النسان .وحين يبا ِ طبْين بتنفيذ أحكام البيع لنهما َتلّبسا بالبيع ،وليس مطالبا بها المخا َ شرعت حسن وصالح اللذان ل يتلبسان بالبيع .فأحكام البيع ُ ليطبقها الفراد ،ولكن على اعتبار أنهم من بني النسان ويعيشون في جماعة ،ويطبقونها حين تحصل المشكلة ما كان الفرد المسلم ل بد أن يطبق أحكام ويباشرونها .ول ّ السلم على أعماله الفردية كان فرض عين عليه أن يعرف حكم الشرع في كل مسألة يريد مباشرتها ،فكان من المفيد عرض نماذج من الحكام المتعلقة بعلقات الفراد مع بعضهم ليعرفها المسلمون ويراجعوا كتب الشريعة لمعرفة ما يحتاجون.
البيـع البيع لغة ُمطَلق المباَدلة ،وهو ضد الشراء .وُيطلق البيع على الشراء أيضا كما ُيطلق الشراء على البيع ،فيقال :باعه منه بمعنى اشتراه ،شروه لهم بمعنى باعوه ،فُيطلق كل منهما على الخر ،والقرنية تعّين المراد .وأّما البيع شرعا فهو مبادلة مال بمال تمليكا وتملكا على سبيل التراضي .والبيع جائز بالكتاب ل ا البيع( ،وقال) :وأشِهدوا إذا والسّنة ،قال ا تعالى) :وأح ّ ض منكم( ،وقال تبايعتم( ،وقال) :إل ّ أن تكون تجارة عن ترا ٍ صلى ا عليه وسلم) :البّيعان بالخيار ما لم يتفّرقا( ،وروى رفاعة أنه خرج مع النبي صلى ا عليه وسلم إلى المصلى فرأى الناس يتبايعون فقال :يا معشر التجار .فاستجابوا لرسول ا صلى ا عليه وسلم ورفعوا أعناقهم وأبصارهم إليه ،فقال) :إن التجار صَدق( ،وروى أبو سعيد عن جارا إل ّ من َ ُيبعثون يوم القيامة ُف ّ النبي صلى ا عليه وسلم أنه قال) :التاجر الصدوق المين مع -207-
النبيين والصديقين والشهداء(. وُيشترط في البيع وجود اليجاب والقبول بلفظ يدل على كل واحد منهما أو ما يقوم مقام اللفظ كإشارة الخرس .والكتابة تعتبر من اللفظ .أّما البيع عمليا كأن يأخذ المشتري السلعة ويدفع ثمنها كبيع الخبز والصحف وطوابع البريد وما شاكل ذلك ،فإنه ُينظر فيها :فإن كانت السلعة معروفة الثمن في السوق ليس فيها مساومة فإن العمل حينئذ يدل على اليجاب والقبول ،فُيعتبر بيعا وهو ما ُيطِلق عليه الفقهاء بيع المعاطاة .أّما إن كان ثمن السلعة غير محدد في السوق ويحتاج إلى مساومة فإنه ل يصح فيه بيع المعاطاة ،لن العمل ل يدل على اليجاب والقبول ،إذ يمكن أن تدخله المنازعات ،وهذا خلف ما يجب أن تكون عليه المعاملت .إذ يجب أن تكون المعاملت على وجه يمنع المنازعات ،فل يعتبر حينئذ بيع المعاطاة بيعا لخلّوه من النص ما كان اليجاب على اليجاب والقبول .ومن ذلك يتبين أنه ل ّ والقبول شرطا في صحة البيع فإنه ل بد أن يحصل بلفظ يدل عليهما أو بإشارة أو عمل يدل عليهما دللة قطعية ل تحتمل غيرهما مع عدم المنازعة. ويتم البيع في غير المكيل والموزون والمعدود بمجرد ن َتَلف انتهاء العقد ،ول ُيشترط في ذلك القبض لتمام البيع .فإ ْ المبيع قبل قبضه كان في ضمان المشتري ل في ضمان البائع، كبيع الدار والدابة والسيارة وما شاكل ذلك مما ليس بمكيل ول موزون ول معدود ،لن الرسول صلى ا عليه وسلم يقول: خراج بالضمان( .وهذا البيع نماؤه للمشتري فضمانه عليه ،فلو )ال َ اشترى دابة ولم يقبضها فَوَلدت ،فإن ولدها للمشتري وليس للبائع ،وِلما روى ابن عمر أنه كان على بكٍر صعب يعني لعمر، فقال النبي صلى ا عليه وسلم لعمر ِ:بعِنيه .فقال :هو لك يا رسول ا .فقال النبي صلى ا عليه وسلم) :هو لك يا عبدا بن عمر ،فاصنع به ما شئت( .فهذا حصل فيه التصرف بالبيع قبل قبضه ،فهو مستثنى لنه غير مكيل ول موزون ول معدود .أّما إذا وقع البيع على مكيل أو على موزون أو على معدود فإن البيع ل يتم فيها إل ّ بقبض المبيع ،فإذا تلف المبيع قبل قبضه فهو من مال البائع ،لن النبي صلى ا عليه وسلم نهى عن بيع الطعام قبل قبضه ،ولقوله عليه السلم) :من ابتاع طعاما فل يبيعه حتى -208-
يستوفيه( ،وعن ابن عمر قال) :كنا نشتري الطعام من الركبان جزافا فنهانا رسول ا صلى ا عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله من مكانه( .فهذا يدل على أن المبيع في ضمان البائع ،ولو دخل في ضمان المشتري لجاز له بيعه والتصرف فيه كما بعد القبض. ما نهى عن بيعه قبل قبضه فقد نهى عن التصرف فيه ،ومعناه فل ّ لم يتم ملكه له فهو في ضمان البائع وليس في ضمان المشتري. وإنه وإن كان قد ورد النهي عن الطعام فإن الطعام ل يخلو أن يكون مكيل ً أو موزونا أو معدودا ،فيكون النهي منصّبا على الطعام مكيل ً وعلى الطعام موزونا وعلى الطعام معدودا، فيشمل النهي عن بيع كل مكيل وموزون ومعدود حتى ُيقَبض، سواء أكان طعاما أو غير طعام ،لنه ورد في بعض الحاديث نص على الكيل وبعضها نص على السلع وفي بعضها نص على الشيء ،فقد روى مسلم أن النبي صلى ا عليه وسلم قال) :من اشترى طعاما فل يبيعه حتى يكتاله( ،وعن حكيم بن حزام قال: ل لي منها وما يحرم ح ّ قلت :يا رسول ا إني أشتري بيوعا فما َي ِ ت شيئا فل تبعه حتى تقبضه( ،وعن زيد بن ي؟ قال) :إذا اشتري َ عل ّ ثابت )أن النبي صلى ا عليه وسلم نهى أن ُتباع السلع حيث ُتبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم( ،وُروي أن النبي صلى ا عليه وسلم قال) :من اشترى طعاما بكيل أو وزن فل يبيعه حتى يقبضه( .فهذه الحاديث كلها دالة على عموم الشياء المكيلة والموزونة والمعدودة ،بدليل استثناء غير المكيل والموزون والمعدود بحديث ابن عمر الذي ُذكر فيه أنه أي رسول ا اشترى من عمر جمل ً ووهبه لعبدا بن عمر قبل قبضه ،فل ُيشترط فيه شْرط تمام البيع القبض بخلف المكيل والموزون والمعدود ،ف َ فيها قبض المشتري للمبيع. والقبض المعتَبر قبضا شرعا يختلف باختلف الشياء، فقْبض كل شيء بحسبه ،فإن كان مكيل ً أو موزونا فقْبضه بكيله أو وزنهِ ،لما روى أبو هريرة أن رسول ا صلى ا عليه وسلم ت فاكَتل( ،وعن جابر قال) :نهى كل وإذا ابتع َ تف ِ قال) :إذا بع َ النبي صلى ا عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان صاع البائع وصاع المشتري( ،وعن عثمان قال) :كنت أبتاع التمر من بطن من اليهود يقال لهم بنو قينقاع وأبيعه بربح، فبلغ ذلك النبي صلى ا عليه وسلم فقال :يا عثمان إذا ابتع َ ت -209-
ضها كل( .أّما إن كان المبيع دراهم ودنانير فقب ُ فاكَتل وإذا بعت ف ِ ضه تمشيته ضها نقلها ،وإن كان حيوانا فقب ُ باليد ،وإن كانت ثيابا فقب ُ ضه من مكانه ،وإن كان مما ل ُينقل ويحّول كالدار والرض فقب ُ التخلية بينه وبين مشتريه ل حائل دونه ،لن كلمة قبض لفظ له ن لم َيِرد نص شرعي عليها فيعتبر واقع ما مدلول اصطلحي ،فإ ْ تدل عليه عند القوم .ويجوز القبض قبل دفع الثمن وبعده ،لن التسليم من مقتضيات العقد فمتى ُوجد بعد العقد فقد وقع موقعه ،وكذلك قبض الثمن فل يتوقف قبض أحدهما على الخر.
ح ّرم على العباد فبيعه حرام كل ما ُ حّرم ا مْيتة ،وأشياء َ حّرم ا أكلها كلحم ال َ هناك أشياء َ حّرم حّرم ا اتخاذها كالصنام ،وأشياء َ شربها كالخمر ،وأشياء َ حّرم صنعها كالصور .فهذه الشياء ا اقتناءها كالتماثيل ،وأشياء َ وردت النصوص الشرعية من آيات وأحاديث في تحريمها .فما حّرمه ا على العباد من الشياء التي ورد نص شرع في تحريمها ،سواء حرم أكلها أو شربها أو غير ذلك ،فإن بيع هذه الشياء التي حرمها ا على العباد يكون حراما لتحريم ثمنها. عن جابر أنه سمع رسول ا صلى ا عليه وسلم يقول) :إن مْيتة والخنزير والصنام .فقيل :يا رسول ا حّرم بيع الخمر وال َ مْيتة فإنه ُيطلى بها السفن وُيدهن بها الجلود ا أرأيت شحوم ال َ وَيستصبح بها الناس؟ فقال :ل ،هو حرام .ثم قال رسول ا ما حّرم صلى ا عليه وسلم عند ذلك :قاتل ا اليهود ،إن ا ل ّ جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه( ،وجملوه :أذابوه .وعن شحومها َ ابن عباس أن النبي صلى ا عليه وسلم قال) :لعن ا اليهود، ن ا إذا حّرم حّرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها ،وإ ّ ُ على قوم أكل شيء حّرم عليهم ثمنه(. وهذا النص الشرعي في التحريم غير معّلل ول يوجد نص شرعي آخر يعللها ،ولذلك تبقى ُمطَلقة غير معّللة .فل يقال العلة في تحريمها عدم المنفعة المباحة لُيتوصل من ذلك أنه إن كانت فيها منفعة مباحة جازت .لنه نص ظاهر فيه عدم التعليل ول حّرم على العباد ُيحتمل أن ُيفهم منه أنه معّلل .ولذلك كان بيع ما ُ حراما ،سواء أكانت فيه منفعة مباحة أم لم تكن .ومن هنا حرم -210-
بيع الصنام والصلبان ،وحرم بيع التماثيل إن كانت لذي روح كإنسان وحيوان ،وحرم بيع التصاوير التي ُترسم باليد إذا كانت تصاوير لذي روح كإنسان وحيوان.
ل يجوز بيع ما ليس عندك ن باعها في هذه ل يجوز بيع السلعة قبل تمام ملكها ،فإ ْ الحال كان البيع باطل ً .وهذا َيصُدق على حالتين :إحداهما أن يبيع السلعة قبل أن يملكها ،والثانية أن يبيعها بعد أن يشتريها ولكن قبل أن يتم ملكه لها بالقبض فيما ُيشترط في تمام ملكه القبض ،لن عقد البيع إّنما يقع على الملك ،وما لم ُيملك بعد أو اشتراه ولكن لم يتم ملكه له بعد لنه لم يقبضه ل يقع عليه عقد البيع لنه ل يوجد محل يقع عليه العقد شرعا .فقد نهى رسول ا صلى ا عليه وسلم عن بيع ما ل يملكه البائع .عن حكيم بن حزام قال :قلت :يا رسول ا يأتيني الرجل فيسألني عن البيع ل َتِبع ما ليس عندي ما أبيعه منه ثم أبتاعه من السوق .فقال ) : ليس عندك( ،وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال :قال ف ول بيع ول سَل ٌ حل َ ل َي ِ رسول ا صلى ا عليه وسلم ) : شرطان في بيع ول ربح ما لم ُيضمن ول بيع ما ليس عندك(، فتعبير الرسول بما ليس عندك عام يدخل تحته ما ليس في ملكك وما ليس في قدرتك تسليمه وما لم يتم ملكك له .ويؤيد ذلك الحاديث الواردة في النهي عن بيع ما لم ُيقبض مما ُيشترط في تمام ملكه القبض ،فإنها تدل على أن من اشترى ما ُيحتاج إلى جز بيعه حتى يقبضه ،فيكون حكمه قبضه حتى يتم شراؤه له لم َي ُ حكم بيع ما ل يملك ،لقول النبي صلى ا عليه وسلم) :من ابتاع طعاما فل َيِبعه حتى يستوفيه( ،وِلما روى أبو داود )أن النبي صلى ا عليه وسلم نهى عن أن تباع السلع حتى ُتبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم( ،وِلما روى ابن ماجه )أن النبي صلى ا عليه وسلم نهى عن شراء الصدقات حتى ُتقبض( ،وِلما ُروي )أن النبي صلى ا عليه وسلم لما بعث عتاب بن أسيد إلى مكة ع ما لم يقبضوه( .فهذه الحاديث صريحة في قال :إنَهُهم عن بي ِ النهي عن بيع ما لم يقبضوه لنه لم يتم ملك البائع له ،لن ما يحتاج إلى قبضه ل يتم الملك عليه حتى يقبضه المشتري ،ولنه -211-
من ضمان بائعه. ومن ذلك يتبين أنه يشترط في صحة البيع أن تكون السلعة قد ملكها البائع وتمت ملكيته لها ،أّما إن كان لم يملكها أو ملكها كته ولم تتم ملكيته لها فل يجوز بيعه لها مطلقا ،وهذا يشمل ما مل ْ ولم تقبضه مما يشترط فيه لتمام البيع القبض ،وهو المكيل والموزون والمعدود .أّما ما ل ُيشترط لتمام ملكه القبض وهو غير المكيل والموزون والمعدود مثل الحيوان والدار والرض وما شاكل ذلك فإنه يجوز للبائع أن يبيعه قبل قبضه ،لن مجرد حصول عقد البيع باليجاب والقبول قد تم البيع سواء قبضه أم لم يقبضه ،فيكون قد باع ما تم ملكه له .فمسألة عدم البيع ليست متعلقة بالقبض وعدم القبض ،وإّنما هي متعلقة بملكية البيع وبتمام هذه الملكية له. أّما جواز بيع ما لم ُيقبض من غير المكيل والموزون والمعدود فثابتة بالحديث الصحيح .فقد روى ابن عمر قال :كنا نبيع البل بالبقيع بالدراهم فنأخذ بدل الدراهم الدنانير ونبيعها سأْلنا النبي صلى ا عليه وسلم بالدنانير فنأخذ بدلها الدراهم ،ف َ عن ذلك فقال :ل) بأس إذا تفّرقتما وليس بينكما شيء( ،وهذا عَوضْين كالبيع .وروى تصرف في الثمن قبل قبضه وهو أحد ال ِ ابن عمر )أنه كان على بكر صعب –يعني لعمر -فقال رسول ا صلى ا عليه وسلم لعمر ِ:بعِنيه .فقال :هو لك يا رسول ا. فقال النبي صلى ا عليه وسلم :هو لك يا عبدا بن عمر، فاصنع به ما شئت( ،وهذا تصرف في البيع بالهبة قبل قبضه مما يدل على تمام ملك المبيع قبل قبضه ،ويدل على جواز بيعه لنه قد تم ملك البائع له .وعليه فإن ما ملكه البائع وتم ملكه عليه جاز له بيعه ،وما لم يملكه أو لم يتم ملكه عليه ل يجوز له بيعه. وعليه فإن ما يفعله صغار التجار من مساومة المشتري على السلعة ثم التفاق معه على الثمن وبيعه إياها ثم الذهاب إلى تاجر آخر لشرائها لمن باعوها له وإحضارها وتسليمها للمشتري ل يجوز لنه بيع ما لم يملك ،فإن التاجر حين سئل عن السلعة لم تكن عنده ولم يكن يملكها ولكنه يعرف أنها موجودة في السوق عند غيره فيكذب ويخبر المشتري أنها موجودة ويبيعه ثم يذهب ليشتريها بعد بيعها ،فهذا حرام ل يجوز لنه باع سلعة لم يملكها بعد .وكذلك ما يفعله أصحاب دكاكين سوق الخضرة -212-
وسوق الحبوب من بيعهم الخضرة والقمح قبل أن يتم ملكهم لها ،فإن بعض التجار يشترون الخضرة أو القمح من الفلح وقبل أن يقبضوها يبيعونها ،فهذا ل يجوز لنه من الطعام الذي ل يتم ملكه إل ّ بقبضه .وكذلك ما يفعله المستوِردون للبضائع من بلد أخرى ،فإن بعضهم يشتري البضائع ويشترط فيها تسليم البلد ،ثم يبيعها قبل أن تصل ،أي قبل أن يتم ملكهم لها ،فهذا بيع حرام لنه بيع لما لم يتم ملكه بعد.
س َلم بيع ال َ بيع ما ل يملكه وما لم يتم ملكه بعُد حرام ،لورود الحاديث في ذلك .والحاديث جاءت عامة تشمل كل بيع لم ُيملك ولم يتم ل َتِبع ما ليس عندك( ،وقال لعتاب بن ملكه ،قال عليه السلم ) : ع ما لم يقبضوه( .إل ّ أن هذه الدلة العامة قد أسيد) :إنَهُهم عن بي ِ سَلم فقد استثناه الشرع سَلم .أّما بيع ال َ خصصت في غير بيع ال َ ُ من النهي وأجازه ،قال صلى ا عليه وسلم) :من أسَلم فليسل ْ م سَلف سَلم ال َ في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم( .وال َ عَوض بفتحتين وزنا ومعنى .وهو أن يسلم عوضا حاضرا في ِ سلف مال ً ثمنا لسلعة موصوف في الذمة إلى أجل .أي أن ُي ْ سَلم نوع من البيع ينعقد بما يقبضها بعد مدة لجل معّين .وال َ ينعقد به البيع وبلفظ السلم والسلف ،ويقال أسَلم وأسَلف ،وُيعتبر فيه من الشروط ما ُيعتبر في البيع. وقد جرى تعامل الناس بالسلم والتسليف لنهم في حاجة إليه ول سيما الفلحين والتجار ،فإن أرباب الزروع والثمار يحتاجون النفقة على أنفسهم وعليها ليتمموا ما تحتاج إليه تلك الزروع والثمار من أعمال ،وقد يعوزهم المال فل يجدونه جل يقبضونه حال ً في فيبيعون محاصيلهم قبل خروجها بثمن مع ّ مجلس العقد ،على أن يسّلموا السلعة للمشتري عند حلول الجل المضروب .وأن التجار قد يبيعون بضاعة ليست عندهم إلى أجل معلوم يعّينونه ويقبضون الثمن حال ً في مجلس العقد على أن يسّلموا البضاعة عند حلول الجل المضروب. وجواز المسلم ثابت بالسّنة فعن ابن عباس قال َ :ق"ِدم النبي صلى ا عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السّنة -213-
والسنتين فقال) :من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم( .وعن عبدالرحمن بن أبي ابزى وعبدا بن أبي أوفى قال) :كنا نصيب المغانم مع رسول ا صلى ا عليه وسلم وكان يأتينا أنباط من أنباط الشام فنسلفهم في الحنطة والشعير والزبيب إلى أجل مسمى ،قيل :أكان لهم زرع أو لم يكن؟ قال :ما كنا نسألهم عن ذلك( .وفي رواية) :كنا نسلف على عهد النبي صلى ا عليه وسلم وأبي بكر وعمر في الحنطة والشعير والزبيب والتمر وما نراه عندهم( .فهذه الحاديث كلها دليل واضح على جواز السلم. أّما ما هي الشياء التي يجوز فيها السلم وما هي الشياء التي ل يجوز فيها السلم فإنه واضح في الحديث والجماع .وذلك أن السلم بيع ما ل يملك وبيع ما لم يتم ملكه وهما ممنوعان. خصص المنع في غيره .ولذلك ل وقد استثني السلم منها بالنص ف ُ بد أن يكون الشيء الذي يصح فيه السلم منصوصا عنه. وبالرجوع إلى النصوص نجد أن السلم يجوز في كل ما يكال ويوزن كما يجوز في كل معدود .أّما جوازه فيما يكال ويوزن فِلما ثبت من حديث ابن عباس قال رسول ا صلى ا عليه وسلم) :من أسلف فليسلف في ثمن معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلموم( ،وفي رواية أخرى لبن عباس قال :قال رسول ا صلى ا عليه وسلم) :من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم( .فهذا يدل على أن المال الذي يسلم يكون مما يكال ويوزن .وأّما جوازه في كل معدود فقد انعقد الجماع على أن السلم في الطعام جائز ،وقد َنَقل هذا الجماع ابن المنذر .وروى البخاري قال :حدثنا شعبة قال: أخبرني محمد أو عبدا بن أبي المجالد قال" :اختلف عبدا بن شداد بن الهاد وأبو برده في السلف فبعثوني إلى ابن أبي أوفى رضي ا عنه فسألته فقال) :إنا كنا نسلف على عهد رسول ا وأبي بكر وعمر في الحنطة والشعير والزبيب والتمر( ،فهذا يدل على أن السلم في الطعام جائز .والطعام ل يخلو من كونه مكيل ً أو موزونا أو معدودا ،فتعلق الحكم بكل ما يقّدر به الطعام من كيل أو وزن أو عدد كتعلق القبض به من كونه مما يحتاج إلى قبض ،وكتعلق ربا القضل به من كونه إذا تفاضل الكيل أو الوزن أو العدد كان ربا ،فتعلق به السلم أيضا من كونه يكون الطعام -214-
كيل ً ووزنا وعددا .والحديث فيه نص على جواز المكيل والموزون ولم يذكر المعدود ،والجماع على جواز السلم في الطعام يجعل المعدود داخل ً في السلم. إل ّ أنه ل بد أن تكون الشياء المسلم بها مضبوطة الصفة كقمح حوراني وتمر برني وقطن مصري وحرير هندي وتين تركي ،ومضبوطة الكيل أو الوزن كصاع شامي ورطل عراقي وكالكيلو والليتر؛ أي ل بد أن يكون الكيل والميزان معروفين موصوفين. وكما تجب معرفة جنس المسلم به وجنس ما ُيكال وما يوزن كذلك يجب أن يكون البيع لجل ،وأن يكون الجل معلوما، فل يصح السلم في الحال ،بل ل بد أن يشترط الجل لقول النبي: )من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم( ،فدل ذلك على أن الجل شرط في صحة السلم .على أنه إذا كان حال ً ولم يعين له أجل ل يسمى سلفا ،لن الذي يجعله سلما وسلفا هو تعجيل أحد العوضين وتأخير العوض الخر ،ول بد أن يكون الجل معلوما لقول النبي صلى ا عليه وسلم) :إلى أجل معلوم( .وتعيين الجل إّنما يكون لزمان بعينه ل يختلف مثل إلى شهر أو سنة أو ستة أشهر أو إلى تاريخ كذا بحيث ل يتفاوت فيه تفاوتا كثيرا مثل إلى عيد الضحى أو إلى رمضان. وكذلك يصح أن يكون السلم إلى فصح النصارى وصومهم لنه معلوم ل يختلف .والختلف اليسير معفو عنه ،وكل أجل يصح التأجيل إليه ل فرق بين الجل القريب والجل البعيد .إل ّ أن كلمة أجل لفظ "له" مدلول وُيعمل به حسب اصطلح القوم على مدلوله .فإن اعتبروا أن الساعة ل يعتبر فيها أنه صار البيع لجل بل هو من قبيل الحال ،وإن اعتبروها أجل ً تعتبر حينئذ الساعة ل. أج ً وكذلك ل بد أن يكون الثمن معلوما لقوله صّلى ا عليه وسلم) :فليسلف في ثمن معلوم( ،ول يجوز أن يكون الثمن إل ّ مقبوضا حال ً في مجلس العقد ،فإن تفّرق المتبايعان قبل قبض طَلت الصفقة كلها .لن التسليف في اللغة العربية الثمن جميعه َب ُ التي خاطبنا بها الرسول صلى ا عليه وسلم هو أن يعطي شيئا في شيء ،أي أن يدفع مال ً سلفا في سلعة يأخذها فيما بعد، فمن لم يدفع ما أسلف فإنه لم يسلف شيئا ،وإّنما وعد بأن -215-
يسلف .فلو دفع البعض دون البعض سواء أكان أقله أو أكثره فإنه يصح السلم فيما قبض ويبطل فيما لم يقبض .فقبض البائع الثمن من المشتري شرط لصحة السلم .أّما وجود السلعة المبيعة حين البيع فليس بشرط .فالسلم جائز فيما ل يوجد حين عقد السلم وفيما يوجد ،وإلى من عنده شيء وإلى من ليس عنده شيء .لن النبي حين قدم المدينة كانوا يسلمون في الثمار السنة والسنتين .ومن المعلوم أن الثمار ل تبقى هذه المدة. والرسول لم ينههم عن السنة والسنتين بل أقرهم على ذلك. وعليه يجوز أن يدفع ثمن سلع تسلم بعد مدة معينة تعتبر أجل ً سواء أكانت السلعة موجودة أم لم تكن .إل ّ أنه يشترط أن ل يكون في الثمن غبن فاحش ،بل يجب أن يكون الثمن حسب سعر السوق عند عقد البيع في مثل الجل المؤجل ل عند استلم السلعة ،وذلك لن السلم بيع ،والغبن الفاحش حرام في البيع كله ،فيدخل فيه بيع السلم .فكما أنه يحرم أن تبيع سلعة معجلة القبض بثمن مؤجل بغبن فاحش كذلك ل يجوز أن تبيع سلعة مؤجلة القبض بثمن معجل القبض بغبن فاحش .والغبن في السلم حرام ،وإذا ظهر غبن في السلم كان حكمه كحكم الغبن في البيع ،للمغبون الخيار إن شاء فسخ البيع وإن شاء أمضاه وليس له أن يأخذ الفرق بين ثمن السلعة الحقيقي وبين الثمن الذي بيعت به .إل ّ أن هذا الخيار يثبت بشرطين أحدهما عدم العلم وقت العقد ،والثاني الزيادة أو النقصان الفاحش اللذين ل يتغابن الناس بمثلهما .والغبن الفاحش يقدر بتقدير التجار فما يعتبرونه غبنا يكون غبنا ،وما ل فل.
بيع الثمار وهي على أصولها من المعاملت التي درج الناس على التعامل بها ضمان الثمار وهي على شجرها ،كضمان الليمون وضمان الزيتون والقتأة وضمان الكروم وضمان النخيل وما شاكل ذلك .فمن الناس من يضمن كرم الزيتون لسنتين أو ثلث أو أكثر ،فيحرثه ويثقفه وُيعنى به كل سنة ويأكل ثمره .ومن أسباب هذا الضمان مر كل سنة ثمرا جيدا بل ُيثمر لكثر من سنة أن الزيتون مثل ً ل ُيث ِ ل ،وذلك لنه ينمي غالبا سنة ثمرا جيدا وسنة أخرى ثمرا قلي َ -216-
أغصانا كل سنة وثمرا في أخرى .وهو حتى ُيثمر ثمرا جيدا يحتاج إلى عناية من حرث وتثقيف وتشذيب فيأخذه الذي يضمن لعدة سنوات حتى يتمكن من العناية به وخدمته خدمة كافية كي يعطي ثمرا جيدا وكثيرا .وكما يجري ذلك في الزيتون يجري في الليمون وما شاكله من الشجر .ومن الناس من يضمن الزيتون والليمون والعنب كما يضمن المقثأة لسنة واحدة ،فيقّدر ضمانه بتقدير ما على الشجر من ثمر بغض النظر عما إذا كان هذا الثمر قليل ً أو كثيرا ،جيدا أو رديئا. والضمان من حيث هو شراء للثمر وهو على الشجر دون شراء الشجر ،أو شراء ثمر الشجر لسنتين أو ثلث أو أكثر .أّما ضمان الشجر لسنتين أو أكثر فهو شراء لثمر معدوم لنه لم يوجد بعد .وبيع المعدوم ل يجوز وهو من باب بيع الغرر ،وبيع الغرر حرامِ ،لما ُروي عن أبي هريرة أن النبي صلى ا عليه وسلم نهى عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر .وبيع الغرر هو بيع المجهولِ ،لما ُروي عن ابن مسعود أن النبي صلى ا عليه ل تشتروا السمك في الماء فإنه غرر( ،فيكون بيع وسلم قال ) : ثمر الشجر لسنين غير جائز لنه نوع من أنواع الغرر. على أن بيع ثمر الشجر لسنتين أو ثلث أو أكثر هو بيع ما ليس عندك وهو ل يجوز .وفوق ذلك فإن هذا النوع من البيع ي عنه فل سَلم منه ّ وهو بيع ثمر الشجر لسنتين أو ثلث أو أكثر َ يجوز .إذ السلم الجائز هو بيع ثمر غير معين ،وأّما هذا فبيع ثمر سَلم شجر معين ،وقد نهى رسول ا صلى ا عليه وسلم عن ال َ في ثمار شجر معين .فقد كانوا في المدينة حين قَِدم النبي صلى ا عليه وسلم ُيسِلمون في ثمار النخيل بأعيانهم فنهاهم عن ذلك .وعلى هذا فإن ما يفعله الذين يضمنون الزيتون والليمون من شراء ثمر الشجر لمدة سنتين أو ثلث حرام ،وهو من البيوع التي ورد الشرع صريحا في النهي عنها. وأّما الضمان لثمر شجر ظاهر الثمر وضمان المقثأة وما شابهها فإنه بيع ثمر موجود على الشجر فل يدخل في بيع ما سَلم على ليس عندك ،لنه موجود عند بائعه .ول يدخل في ال َ سَلم .ولذلك يختلف ثمار نخيل بأعيانها ،لنه بيع حال وليس ب َ حكمه عن حكم الضمان لسنتين أو ثلث أو أكثر .والحكم الشرعي في هذا الضمان أي في شراء الثمر الموجود على -217-
الشجر وهو على شجره فيه تفصيل .وذلك أنه ُينظر فيه للثمر: فإن كان بدا صلحه ،أي صار يمكن الكل منه ،فإنه يجوز الضمان ،أي يجوز بيع الثمر في هذه الحالة .وإن كان الثمر لم َيبُد صلحه بعد ،بأن كان لم يبدأ بالطعام ،فل يجوز بيعه .وذلك ِلما ُروي عن جابر رضي ا عنه قال) :نهى النبي صلى ا عليه وسلم عن بيع الثمر حتى يطيب( ،وِلما ُروي عنه أيضا )أن النبي صلى ا عليه وسلم نهى عن بيع الثمر حتى يبدو صلحه( ،وِلما ُروي عنه أيضا أنه قال) :نهى النبي صلى ا عليه وسلم أن تباع الثمرة حتى تشقح ،قيل :ما تشقح؟ قال :تحمار وتصفار ويؤكل منها( ،وِلما ُروي عن أنس بن مالك عن النبي صلى ا عليه وسلم )أنه نهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلحها وعن النخل حتى يزهو .قيل :وما يزهو؟ قال :يحمار ويصفار( ،وِلما ُروي عن أنس أيضا أن رسول ا صلى ا عليه وسلم )نهى عن بيع الثمار حتى تزهى .قيل :وما تزهى؟ قال :حتى تحمر ،فقال رسول ا صّلى ا عليه وسلم :أرأيت إذا منع ا الثمر بم يأخذ أحدكم مال أخيه؟( ،وِلما ُروي عن عبدا بن عمر أن رسول ا صلى ا عليه وسلم )نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلحها ،نهى البائع والمبتاع( ،وفي رواية بلفظ )نهى عن بيع النخل حتى يزهو، وعن السنبل حتى َيبَيض ويأمن العاهة( .فهذه الحاديث كلها صريحة في النهي عن بيع الثمرة قبل النضج .فُيستدل بمنطوق هذه الحاديث على عدم جواز بيع الثمرة قبل أن يبدو صلحها. وُيستدل بمفهومها على جواز بيع الثمرة إذا بدا صلحها .وعلى ذلك فإن ضمان الشجر الذي ظهر ثمره كالزيتون والليمون والنخل وغير ذلك يجوز إن بدأ يطعم ،ول يجوز إذا لم يبدأ يطعم. وكون بدو الصلح في الثمر هو إطعامهاُ ،يفهم من الحاديث الواردة في ذلك .فإنه من التدقيق في الحاديث الواردة في النهي عن بيع الثمرة قبل بدو صلحها ،نجد أنها وردت فيها عدة تفاسير .ففي حديث جابر ورد )حتى يبدو صلحه( وورد )حتى يطيب( ،وفي حديث أنس )نهى عن بيع العنب حتى يسوّد، وعن بيع الحب حتى يشتّد( ،وفي حديث آخر لجابر )حتى تشقح(، وفي حديث ابن عباس )حتى يطعم( .وعلى ذلك فإن جميع هذه الحاديث متضافرة على معنى واحد هو حتى تبدأ تطعم. وبالنظر إلى واقع الثمار ُيرى أن بدء الطعام فيها يختلف -218-
باختلف الثمار .فمنها ما يبدأ يطعم بتغير لونها تغيرا ظاهرا فيبدو عليها ما يدل على النضج ،كالبلح والتين والعنب والجاص وما شاكلها ،ومنها ما يتبين منه النضج بتقليبه أو بالنظر إليه من العارفين كالبطيخ لصعوبة إدراك تغير لونه بالنضج ،ومنها ما يتبين منه الطعام ببدء تحويل الزهرة إلى ثمرة كالخيار والقثاء وما شابهها. وعلى هذا فالمراد من بدو الصلح في كل الثمر هو بدو صلحيتها للكل ،ويدل على ذلك حديث ابن عباس أنه قال) :نهى رسول ا صلى ا عليه وسلم عن بيع النخل حتى يأكل منه أو يؤكل( ،كما يدل عليه الحديث المتفق عليه من رواية جابر )حتى يطيب( .ومن هذا يتبين جواز بيع ثمر القثاء والخيار وما شاكلها، أي جواز ضمان المقثأة بمجرد أن تبدأ تعطي ثمرة ،أي بمجرد أن تبدأ تتحول الزهرة إلى خيارة فُتشرى الثمرة وهي زهرة وقبل أن تزهر أي ُتشرى الثمرة في هذه الحالة قبل أن توجد بمجرد ابتداء وجود شيء منها .وليس هذا من باب بيع المعدوم ،لن ثمرها يأتي متلحقا ول يوجد مرة واحدة ،فيباع ثمر المقثأة كله عن جميع موسمها ما ُوجد وما لم يوجد بعد ،إذ ل فرق بين أن يبدو صلح الثمر بالحمرار كالبلح أو بالسوداد كالعنب أو بتغير اللون كالجاص ،وبين أن يبدو صلحه بظهور بعضه وتلحق أزهار البعض الخر واثماره .إل ّ أن الثمر الذي ل يعتبر بدء تحول أزهاره أثمار ،كالبطيخ ،ل يجوز فيه ذلك ،فل يجوز بيع اللوز وهو زهر ول بيع التين وهو عجر قبل أن يبدأ فيه النضج ،والمراد بيعه وهو على الشجر ،أي ضمان الشجر ،لن بيع الثمر وهو على الشجر مقيد بأن يبدو صلحه ،أي بظهور ما يدل على بدء نضج الثمرة. وليس المراد من بدو صلح الثمرة بدو صلح كل ثمرة ،فإن هذا مستحيل ،إذ الثمر ينضج حبة حبة أو حبات حبات ثم يتلحق. وليس المراد بدو الصلح في كل بستان على حدة ول بدو صلح جميع البساتين ،بل المراد من بدو صلحها بدو صلح جنس الثمرة إن لم تختلف أنواعها بالنضج كالزيتون ،أو بدو صلح نوعها إن كانت تختلف أنواعها بالنضج كالتين والعنب .فمثل ً إذا بدا صلح بعض ثمر النخل في بستان فيجوز بيع ثمر النخل كله في جميع البساتين .وإذا بدا صلح نوع من التفاح في بعض الشجر فيجوز -219-
بيع ذلك النوع من التفاح في جميع البساتين .وإذا بدا صلح الزيتون في شجرات من بستان فإنه يجوز ضمان الزيتون في جميع البساتين ،لن الحديث يقول) :نهى عن بيع النخل حتى يزهو وعن بيع السنبل حتى َيبَيض ويأمن العاهة( ،ويقول) :نهى عن بيع العنب حتى يسوّد وعن بيع الحب حتى يشتد( ،فبّين حكم ثمرة كل جنس بعينه وكل نوع بعينه ،فقال :في الحب حتى يشتد وفي العنب السود حتى يسوّد .فالحكم متعلق ببدو صلح كل جنس بصرف النظر عن باقي الجناس ،وكل نوع بغض النظر عن باقي النواع .وكلمة بدو الصلح الواردة في الحديث في الجنس الواحد وفي النوع الواحد َتصُدق في بعض الثمر مهما قل ،علوة على أن واقع الثمر يدل على أنه يتلحق. ومن ذلك يتبين أنه ل يجوز ضمان أي شجرة أي بيع ثمرة أي شجرة قبل بدو صلحها أي صلح الثمرة .وأّما قوله تعالى: ل ا البيع( فهو عام ،ولكن هذه الحاديث تخصصه بأنه )وأح ّ حلل في غير ما ورد النهي عنه من البيوع. وحرمة بيع الثمر على الشجر قبل بدو صلحه جاءت شَرط القطع أم لم مطلقة ،ولذلك فهي غير مقيدة ،فسواء َ يشرط فهو حرام ،غير أنه إذا شرط البائع على المشتري القطع قبل نضوج الثمر فالشرط فاسد لنه ينافي مقتضى العقد ،وإذا طع عن وقت النضج فإنه ُينظر :فإن كان يتضرر خر المشتري الق ْ أ ّ البائع من التأخير كالبرتقال فإنه يؤثر على الزهار لموسم السّنة الثانية ،ففي هذه الحالة ُيجبر المشتري على القطع عند النضج، وإن كان الشجر ل يتضرر كالتين والزيتون فإنه ل ُيجبر على ذلك. هذا كله إذا بيع الثمر وحده دون الشجر .أّما إذا بيع الشجر والثمر معا فإنه ُيفّرق فيه بين النخل وغيره .أّما النخل فإنه يجوز بيعه وثمره عليه ويدخل الثمر تبعا للنخل دون حاجة لِذكره إذا كان النخل لم يؤبر بعد .وأّما إذا جرى تأبير النخل ثم بيع شجر النخل ،فإن الثمر ل يدخل في البيع مع النخل إل ّ إذا ُذكر في عقد البيع .فإذا لم ُيذكر بقي الثمر للبائع والنخل للمشتري .وللبائع أن يبقي الثمر حتى ينضج فيقطفه هو أو يبيعه بعد أن يبدو صلحه، لنه ملكه ،وذلك ِلما ُروي عن ابن عمر أن النبي صلى ا عليه وسلم قال) :من ابتاع نخل ً بعد أن يؤَبر فثمرتها للذي باعها إل ّ أن َيشترط المبتاع( ،وِلما ُروي عن عبادة بن الصامت )أن النبي صلى -220-
ا عليه وسلم قضى أن ثمرة النخل لمن أبرها إل ّ أن َيشترط المبتاع( ،فُيستدل بمنطوق الحديث على أن من باع نخل ً وعليها ثمرة مؤبرة لم تدخل الثمرة في البيع بل تستمر على ملك البائع. وُيستدل بمفهومه على أنها إذا كانت غير مؤبرة تدخل في البيع وتكون للمشتري .والمراد بالمفهوم هنا مفهوم المخالفة وهو هنا مفهوم الشرط .ويتحتم الخذ بهذا المفهوم لنه لو كان حكم غير المؤبر حكم المؤبر لكان تقييده بالشرط لغوا ل فائدة منه .وعليه فثمر النخل قبل التأبير تابع للنخل وبعد التأبير غير تابع له .ولكنه ل يجوز بيعه حتى يبدو صلحه. وهذا خاص بالنخل ول يقاس عليه غيره لن التأبير عمل معين .والكلمة وإن كانت وصفا إل ّ أنها ليست وصفا ُمفِهما لعّلة الحكم فل يتضمن التعليل ،ولذلك ل يقاس عليه لعدم وجود العّلّية ول يلحق به ،لنه ل يتفرع عنه ول عما يقاس عليه .على أن التأبير خاص بالنخل ول يكون في غيره .والنخل ل يحمل إذا لم يؤبر .والتأبير التشقيق والتلقيح ومعناه شق طلع النخلة النثى ليذر فيها من طلع النخلة للَذَكر .ول يقال هنا إن الحكم متعلق بظهور الثمرة فيقاس عليه باقي الثمر وُيلحق به بحجة أن المقصود ليس وجود التلقيح بل ما ينتج عن التلقيح وهو ظهو الثمرة .ل يقال ذلك ،لن الواقع في النخل أن التلقيح يحصل ،ثم بعد مضي مدة شهر تقريبا يحصل ظهور الثمر .وإذا باع النخيل ح البيع ولو لم يظهر الثمر. بعد التلقيح ولو بيوم واحد مثل ً ص ّ فكان الحكم متعلقا بالتأبير ل بظهور الثمر فل محل للقيام لعدم وجود الجامع ،ولذلك كان خاصا بالنخل فل يقاس عليه ول ُيلحق به. وأّما حكم باقي الشجر فإنه يؤخذ من مفهوم عدم جواز بيع الثمر قبل بدو صلحها ،وجوازه بعد بدو صلحها .فعدم جواز بيع الثمر وحده قبل بدو صلحه منصب على معنى هو أن الثمر يكون حينئذ تابعا للشجر ل ينفرد عنه فهو تابع له .والتابع يدخل في البيع مع متبوعه ولو لم ُيذكر في العقد .وعلى ذلك فإن غير النخل من جميع الشجر ُيدخل الثمر في بيع الشجر ويكون تابعا له إذا لم يبد صلحه .وأّما إذا بدا صلحه فإنه ل يدخل إل ّ بِذكره، لورود الحاديث الدالة على جواز بيع الثمر بعد بدو صلحه .وهذا يعني أنه غير تابع فل يدخل إل ّ بِذكره ،ويجوز حينئذ بيعه وحده -221-
وبيع الشجرة وحدها .إل ّ أن الشجرة إذا بيعت ثم جاءتها رياح قلعتها أو كسرتها ،أي إذا جاءتها جائحة من الجوائح فإنه ل شيء على البائع إذ قد تم البيع .ولم َيِرد نص على حط شيء عن المشتري في هذه الحالة .بخلف الثمرة إذا بيعت على الشجرة فإذا أصابتها جائحة من الجائحات أي عاهة من العاهات فإنه يجب على البائع أن ُينِزل من ثمن الثمر ما أصابته العاهةِ ،لما ُروي عن جابر أن رسول ا صلى ا عليه وسلم قال) :من باع ثمرا فأصابته جائحة فل يأخذ من أخيه شيئا ،على ماذا يأخذ أحدكم مال أخيه( ،والمراد بالجائحة الفة التي تصيب الثمار فُتهلكها ،والمراد بالفات الفات السماوية كالبرد والعطش والرياح والقحط .وأّما إذا كانت المصيبة غير سماوية كالعطش من خراب آلة السقي وكالسرقة والنهب وما شاكل ذلك ،فل ُيعتبر حط البائع عن المشتري شيئا ،إذ ل يدخل تحت مدلول جائحة ول َي ُ الحديث.
البيع بالدين وبالتقسيط قال رسول ا صلى ا عليه وسلم) :إّنما البيع عن ض( ،ولصاحب السلعة أن يبيعها بالسعر الذي يرضاه وله أن ترا ٍ يمتنع عن بيعها بالسعر الذي ل يرضاه .ولهذا يجوز لصاحب جل ً أجل ً السلعة أن يجعل لسلعته ثمنين ،ثمنا حال ً وثمنا مؤ ّ واحدا معّينا ،أو ثمنا بالتقسيط لعدة آجال .ولذلك يجوز أن يساِوم البائع المشتري بأي الثمنين يقبل الشراء ،ويجوز أن يساِوم المشتري البائع بأي الثمنين يقبل البيع .وهذه كلها مساومة على الثمن وليست بيعا ،فإذا اتفقا على سعر معين وباع البائع جل المشتري بالسعر الحال فَقِبل المشتري ،أو باعه بالسعر المؤ ّ فَقِبل المشتري ،فإن ذلك صحيح ،لنه مساومة على البيع وليست بيعا .والمساومة جائزة ،فإن الرسول صلى ا عليه وسلم ساَوم .فقد ُروي عن أنس )أن النبي صلى ا عليه وسلم باع قدحا وحلسا بثمن يزيد( ،وبْيع المزايدة مساومة .وثبت أن النبي صلى ا عليه وسلم ساَوم .وأّما بعد انتهاء المساومة فقد انعقد ح البيع. البيع بتراضي المتبايعين على ثمن واحد معين للبيع ،فص ّ هذا إذا كانت المساومة على ثمن السلعة معجل ً أو مؤجل ً -222-
ثم إجراء العقد على أحدهما متعينا منفردا .وكذلك يجوز للبائع أن يبيع سلعته بثمنين أحدهما نقدا والخر نسيئة ،فلو قال شخص لخر :بعتك هذه السلعة نقدا بخمسين ونسيئة بستين .فقال له: ح البيع. اشتريُتها بستين نسيئة ،أو قال :اشتريتها نقدا بخمسين ،ص ّ وكذلك لو قال له :بعتك هذه السلعة نسيئة بستين بزيادة عشرة على ثمنها الصلي نقدا لجل تأخير دفع الثمن ،فقالك المشتري: ح البيع أيضا .ومن باب أْولى لو قال له :هذه السلعة َقِبلت ،ص ّ ثمنها ثلثون نقدا وثمنها أربعون نسيئة فقال :اشتريتها بثلثين نقدا ،أو قال :اشتريتها بأربعين نسيئة فقال البائع :بعتك أو خذها ح البيع .لنه في هذا المثال الخير حصلت أو هي لك ،ص ّ المساومة على ثمنين والبيع على ثمن واحد .أّما بالمثلة الولى فقد حصل البيع على ثمنين .وإّنما جاز في عقد البيع جعل ثمنين للسلعة الواحدة ،ثمن حال وثمن مؤجل ،أي ثمن نقدا وثمن نسيئة دْينا ،لعموم الدلة الواردة في جواز البيع ،قال تعالى: ل ا البيع( ،وهذا عام .فما لم َيِرد نص شرعي على تحريم )وأح ّ ل ،الذي ورد نص في تحريمه، نوع معين من البيع كبيع الغرر مث ً ل ا البيع( فإنه يكون البيع حلل ً .فعموم قوله تعالى) :وأح ّ يشمل جميع أنواع البيع أنها حلل إل ّ النواع التي ورد نص في تحريمها ،فإنها تصبح حراما بالنص مستثناة من العموم .ولم َيِرد جل، جل وثمن مؤ ّ نص في تحريم جعل ثمنين للسلعة ،ثمن مع ّ فيكون حلل ً أخذا من عموم الية .وأيضا فقد قال صلى ا عليه وسلم) :إّنما البيع عن تراض( ،والمتبايعان هنا كانا بالخيار وتم البيع برضاهما .وقد نص جمهرة الفقهاء على أنه يجوز بيع الشيء بأكثر من سعر يومه لجل الَنساء أي لجل تأخير دفع الثمن .وُروي عن طاوس والحكم وحماد أنهم قالوا :ل بأس أن يقول :أبيعك بالنقد بكذا وبالنسيئة بكذا ،فيذهب على أحدهما. وقد قال علي رضي ا عنه) :من ساوم بثمنين أحدهما عاجل م أحدهما قبل الصفقة( .ومن ذلك يتبين أن ظرة فلُيس ّ والخر َن ِ المساومة على ثمنين للسلعة الواحدة ثم إجراء العقد على أحدهما برضاهما جائزة ،والبيع على هذا الوجه صحيح .كما يتبين أن إجراء إيجاب العقد على ثمنين وقبول المشتري بأحد الثمنين مبينا تبيينا ظاهرا ومعينا تعيينا تاما ،فهو كذلك جائز لعموم الدلة ،ولعدم ورود نص على تحريم هذا النوع من البيع. -223-
وأّما ما رواه أحمد )نهى النبي صلى ا عليه وسلم عن صفقتين في صفقة( فالمراد منه وجود عقدين في عقد واحد، كأن يقول :بعتك داري هذه على أن أبيعك داري الخرى بكذا ،أو على أن تبيعني دارك أو على أن تزوجني بنتك .فهذا ل يصح لن قوله" :بعتك داري" عقد ،وقوله" :على أن تبيعني دارك" عقدٌ ثان واجتمعا في عقد واحد ،فهذا ل يجوز .وليس المراد النهي عن زيادة الثمن لجل تأخير الدفع ،ول جعل اليجاب على ثمنين والقبول على أحدهما معينا. وأّما ما رواه أبو داود من أن رسول ا صلى ا عليه وسلم قال) :من باع بيعتين في بيعة واحدة فله أوكسهما أو الربا( ،فإنه معناه أن يحصل بيعان في سلعة واحدة بأن يبيعه سلعة بثمن إلى أجل ثم عند حلول الجل وعدم دفع الثمن يؤجل البيع الثمن إلى أجل آخر بزيادة على الثمن المسمى ،أي يعتبر ثمن السلعة ثمنا أزيد لجل آخر ،فيكون قد باعه بيعتين في سلعة واحدة ،أو بيعه سلعة بثمن معين فيشتري البائع السلعة ثم يطلب تأجيل دفع الثمن إلى أجل معين فيقبل البائع ويبيعه السلعة بيعا آخر بثمن أكثر إلى أجل مسمى ،أي يزيد الثمن وينسئ الجل .فهذا وأمثاله بيعتان في بيعة فله أوكسهما أي أنقصهما وهو الثمن الول .وقد جاء في شرح السنن لبن رسلن في تفسير هذا الحديث :هو أن يسلفه دينارا في قفيز ل الجل وطالبه بالحنطة قال ِ:بعني ما ح ّ حنطة إلى شهر فل ّ ي إلى شهرين بقفيزين فصار ذلك بيعتين في القفيز الذي لك عل ّ بيعة لن البيع الثاني قد دخل على الول فُيَرد إلى أوكسهما وهو الول .ومهما قيل في تفسير الحديث فإن منطوقه ومفهومه يعّين حصول بيعتين في بيعة أي حصول عقدي بيع في عقد بيع واحد، وليس هو في ثمنين في عقد ول هو في عقد واحد على ثمنين، فل ينطبق على بيع التقسيط ول على البيع بالدْين .فالمنهي عنه ي بيع حصول عقدين في عقد واحد وهو ينطبق على كل عقد ْ يحصلن في عقد واحد أو صفقة واحدة ،ول ينطبق على غير هذه الحالة مهما تعددت صورها. والحاصل أنه لو قال أحد المتبايعين للخر :بعتك داري بألف على أن تبيعني دارك بألف فيقول :قبلت ،فإن هذا عقد بيع واحد حصل فيه بيعان فل يجوز ،لن النبي صلى ا عليه وسلم نهى -224-
عن بيعتين في بيعة ،وعن صفقتين في صفقة .ولو قال له :بعتك داري على أن تزوجني بنتك ،فإن هذا صفقتان في صفقة ،صفقة بيع ،وصفقة زواج ،في عقد واحد ،وهو ل يجوز ،لن النبي صلى ا عليه وسلم نهى عن صفقتين في صفقة .ولو قال له :بعتك جلني شهرا لدفع الثمن، هذه الدار بألف فقال :قبلت ،ثم قال له :أ ّ فقال :أزيد عليك الثمن ،ثم باعه الدار نفسها إلى أجل بثمن أزيد سمي للبيع فإنه ل يجوز ،لنه حصل من الثمن الصلي الذي ُ بيعتان في بيعة واحدة أو في سلعة واحدة أو في عقد واحد ح البيع ولكن الذي وأحدهما أزيد من الخر ،ففي هذه الحال ص ّ يلزم هو الثمن القل ،وأن أخذ الثمن الكثر كان ربا ،لن الرسول صلى ا عليه وسلم يقول) :من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا( أي أنقصهما أو يكون ربا .فقوله :له أوكسهما يدل على صحة البيع ولزوم الثمن القل ،فإن الحكم بالوكس يستلزم صحة البيع. ومن ذلك يتبين أن ما يفعله التجار من بيع سلع بثمنين ،ثمن معين إذا ُدفع نقدا ،وثمن أزيد إذا دفع تقسيطا ،فإن هذا بيع جائز والحكم الشرعي فيه أنه جائز .وما يفعله بعض الفلحين وأصحاب البساتين من شراء قمح أو ثياب أو دابة أو آلة واشتراط دفع ثمنها مؤجل ً إلى خروج الموسم فيزداد عليهم الثمن عن ثمنها الحالي مقابل تأجيل الدفع للموسم ،فإن ذلك أيضا جائز ولو ل للسلعة الواحدة ثمنين ،ثمنا نقدا وثمنا نسيئة أي كان ذلك جع ُ دْينا .إل ّ أنه ُيشترط في زيادة الثمن المؤجل على الثمن الحال للسلعة الواحدة أن ل يكون هنالك غبن فاحش كما يفعله المرابون المتحكمون في الناس .فإذا كان في هذا البيع غبن سَلم. كان الغبن حراما وينطبق عليه حكم الغبن في البيع وال َ فالحرام هو الغبن وليس البيع مؤجل ً بثمن أزيد على الثمن الذي ل. ُيدفع حا ً
السمسـرة عن حكيم بن حزام عن أبيه قال :قال رسول ا صلى ا عليه وسلم) :دعوا الناس يرزق ا بعضهم من بعض ،فإذا استنصح الرجل أخاه فلينصح له( .وباستعراض التجارة وأحوال -225-
البيع والشراء نجد الناس فيها يرزق ا بعضهم من بعض سواء التجارة الكبيرة أو التجارة الصغيرة .فكثيرا ما نجد تجارا كبارا يقومون بشراء بضائع لصغار التجار على أن يأخذوا نسبة مئوية على الربح على ما يشترونه لهم ،كواحد في المائة مثل ً .وغالبا ما يكون هؤلء من تجار الجملة وُيسمون كذلك "كومسيونا" .ويجري هذا في كافة البضائع ،يجري فيما ُيكال وما يوزن وما يقاس وغير ذلك .ويجري بين الشركات الكبيرة لصنع القمشة أو الحلويات أو الورق أو الماكنات ،وبين بائعي الجملة ،ويسمون متعهدين أو وكلء بيع .فيتعهد هؤلء ببيع ما تنتجه تلك الشركات ويأخذون منها ربحا معلوما هو نسبة معينة بالمائة على ما يبيعون .وتجري بين التاجر الكبير أو المصنع وبين التجار الصغار بيوع بواسطة أشخاص يعملون عند التاجر أو المصنع .ويختصون بتاجر معين أو مصنع معين .فهؤلء َيعرضون البضاعة على الناس ويبيعونها لهم .وينفذ بيعهم ،ولهم من التاجر الكبير أو المصنع الذي يعملون عنده أجرة معينة على عملية عرض البضاعة ،سواء باعوا أم لم يبيعوا .ولهم أجرة معينة على كل صفقة بيع يبيعونها هي نسبة مئوية معينة من الثمن الذي يبيعون فيه .وهكذا تجري وساطة بين البائع والمشتري في المصانع والشركات ولدى التجار والزبائن في كل شيء .وتجري في الخضار والفواكه كما تجري في القماش والحلويات وغيرها. ففي سوق الخضرة يبيع التاجر الخضرة لحساب الفلح لقاء عمولة معينة يأخذها من الفلح. وهذه العمال كلها سواء أكانت أعمال ً كبيرة بين الشركات أو المصانع ،وبين التجار وبين كبار التجار وصغارهم ،أو بين التجار والزبائن ،فإنها كلها سمسرة ،والقائمون بها سماسرة .لن السمسار هو القّيم بالمر والحافظ له .ثم اسُتعمل في متولي البيع والشراء .وقد عّرف الفقهاء السمسار بأنه اسم لمن يعمل للغير بأجر بيعا وشراء .وهو َيصُدق على الدلل ،فإنه يعمل للغير بأجر بيعا وشراء .والسمسرة والدللة حلل شرعا ،وتعتبر من العمال التجارية ،وهو نوع من أنواع العمال التي ُيملك بها المال شرعا .فقد روى قيس بن أبي غرزة الكناني قال :كنا نبتاع الوساق في المدينة ونسمي أنفسنا سماسرة ،فخرج علينا مانا باسم هو أحسن من رسول ا صلى ا عليه وسلم فس ّ -226-
اسمنا قال) :يا معشر التجار ،إن البيع يحضره اللغو والحلف، فشوبوه بالصدقة( ،ومعناه أنه قد يبالغ في وصف سلعته حتى يتكلم بما هو لغو أي زيادة عما يجب من القول ولكن ل يصل إلى درجة الكذب ،وقد يجازف في الكلف لترويج سلعته فُيندب إلى الصدقة ليمحو ذلك .فمن إقرار الرسول صلى ا عليه وسلم للسماسرة على عملهم وقوله لهم) :يا معشر التجار( يتبين جواز السمسمرة وأنها من التجارة .وهو دليل على أن السمسرة حلل شرعا ،فهي من المعاملت الجائزة في الشرع. إل ّ أنه ل بد من أن يكون العمل الذي استؤجر عليه للبيع والشراء معلوما إما بالسلعة وإما بالمدة .وأن يكون الربح أو العمولة أو الجرة معلومة .فإذا استأجر تاجر شخصا ليبيع له أو ح البيع والشراء. ليشتري له الدار الفلنية أو المتاع الفلني ص ّ ح. وكذلك إذا استأجره ليبيع له أو يشتري له مياومة أو مشاهرة ص ّ وكذلك إذا استأجره ليبيع له أو ليشتري له مياومة أو مشاهرة بمبلغ معين ،وفي نفس الوقت استأجره ليبيع له أو ليشتري له ح ،لن العمل الذي سلعا بعمولة معينة على كل صفقة ،ص ّ استؤجر عليه للبيع والشراء معلوم والجرة معلومة. وعلى ذلك فالسمسرة بمعناها المعروف بين التجار وبين الناس منذ عهد الرسول صلى ا عليه وسلم حتى اليوم حلل، ب أصحابها من الكسب الحلل .وأّما السمسار الوارد في وكس ُ الحديث الصحيح نهي عنه ،فهو خاص بالسمسار الخّداع الذي يغفل الناس لجهلهم بالسعر ،أو لعدم معرفتهم بالسوق ،أو لعدم خبرتهم بالبضاعة ،أو ِلما شاكل ذلك .فالرسول صلى ا عليه وسلم أقر السمسرة بشكل عام باعتبارها عمل ً من العمال التجارية ،ونهى عن أنواع من السمسرة بّينها بعينها لعّلة فيها وهي الخداع .كما أباح البيع بشكل عام ونهى عن أنواع معينة من البيع لعّلة فيها .وإذا جرى تتبع الحاديث الواردة فيها والتدقيق في معناها التشريع يتبين ذلك بوضوح. والحاديث الواردة في النهي عن أعمال متعلقة بالبيع والشراء لم تذكر السمسرة ول النهي عنها ،ولكن بعض الصحابة سروا النهي بأنه نهي سروها بالسمسرة وف ّ وبعض الرواة قد ف ّ عن أن يكون سمسارا .وإذا ُنظر إليها في واقعها تبين أنها أنواع من السمسرة ،فقد ُروي عن عبدا بن طاووس عن أبيه عن -227-
ابن عباس رضي ا عنه قال :قال رسول ا صلى ا عليه وسلم :ل) َتلقوا الُركبان ول َيِبع حاضر ِلباٍد( ،قال :فقلت لبن ل َيِبع حاضر لباٍد( قال :ل يكون له سمسارا. عباس :ما قوله ) : وفي رواية عن طاووس أنه قال :سألت ابن عباس رضي ا ن حاضر لباٍد( فقال :ل يكون له ل يبيع ّ عنه ما معنى قوله ) : سمسارا .وقال البخاري) :باب ل يشتر حاضر لباٍد بالسمسرة( واستعمال ل الناهية .ثم ذكر في الباب حديثين أحدهما عن سعد بن المسيب أنه سمع أبا هريرة رضي ا عنه يقول :قال رسول ع المرء على بيع أخيه ،ول ل َيبت ِ ا صلى ا عليه وسلم ) : تناجشوا ،ول َيِبع حاضر لباٍد( .والحديث الثاني عن أنس بن مالك رضي ا عنه قال )ُ :نهينا أن نبيع حاضر لباٍد( ،وقال البخاري )باب النجش( :ومن قال ل يجوز ذلك في البيع ،وقال ابن أبي أوفى: الناجش آكل ربا خائن وهو خداع باطل ل يحل ،قال النبي صلى ا عليه وسلم) :الخديعة في النار( )ومن عمل عمل ً ليس عليه أمرنا فهو َرّد( ،ثم ذكر البخاري حديثا واحدا هو عن ابن عمر رضي ا عنهما قال) :نهى النبي صلى ا عليه وسلم عن النجش( .ووردت عدة أحاديث تذكر عدة أنواع من العمال قد نهى الرسول صلى ا عليه وسلم عنها .فقد ورد عن أبي هريرة ل َتلقوا رضي ا عنه أن رسول ا صلى ا عليه وسلم قال ) : الُركبان ول َيِبع بعضكم على بيع بعض ول تناجشوا ول َيِبع حاضر ل َتلقوا الجلب لباٍد( ،وُروي أن النبي صلى ا عليه وسلم قال ) : فمن تلقى منه شيئا فاشتراه فصاحبه بالخيار إذا أتى السوق(. وِمن تتبع هذه الحاديث وغيرها والتدقيق فيها يتبين أنه قد نهى فيها عن بيع الحاضر للبادي ،أي عن بيع أهل المدن لهل البدو ومثلهم أهل القرى .وعن أن يبتاع المرء على بيع أخيه إذا كان قد تم البيع ،أي نهى عن أن يأتي الرجل إلى سلعة قد اشتراها غيره فيزيد على السعر الذي بيعت به ويشتريها ليفسخ البيع الول .ونهى عن النجش وهو أن يزيد في السلعة وليس مشتريا لها ،أي أن يزيد في السلعة من ل يريد شراءها ليقتدي به من يسومها فيظن أنه لم يزد فيها هذا القدر إل ّ وهي تساويه فَيغَتر بذلك ويزيد ليشتريها .ونهى عن تلقي الركبان وهو أن يخرج الحضري إلى البادي وقد جلب السلعة فيعّرفه السعر ويقول له: أنا أبيع لك ،أو أن يكذب على البادي في سعر البلد ويشتري مهم -228-
بأقل من ثمن المثل ،أو أن يخبرهم بكثرة المؤونة عليهم في الدخول إلى المدينة ،أو يخبرهم بكساد ما معهم ،أو بكساد السوق .ونهى عن تلقي الجلب هو كتلقي الركبان. هذه هي العمال المنهي عنها ،منها ما يتعلق بالسمسرة مباشرة ومنها ما يتعلق بالبيع .وبالتدقيق في الحاديث الواردة في النهي عنها يتبين أن النهي فيها كلها منصب على وصف ُمفِهم، أي وصف ُيفهم منه أنه هو الذي من أجله وقع النهي .والوصف مفهم إذا تسلط عليه أمر أو نهي كان المر والنهي معّللين ،وكان ال ُ المعنى الذي تضمنه الوصف المفِهم هو عّلة المر أو عّلة النهي. فيكون الوجوب فيه أو التحريم مربوطا بالعّلة منوطا بها ،فإذا ُوجدت العّلة ُوجد الحكم ،وإذا عدمت العّلة عدم الحكم ،فهو يدور مع العّلة وجودا وعدما .وإذا ُوجدت العّلة في غيره انطبق الحكم على غيره بطريق القياس .فالحاضر والبادي ،والبيع على بيع ف ُمفِهم. أخيه ,والنجش ،وتلقي الركبان وتلقي الجلب ،كلها وص ٌ فهي إذن الشيء الذي من أجله ُوجد النهي .أي أن معناها هو الذي من أجله ُوجد الحكم .فالحكم منوط بالبادي ِلما فيه من عّلة عدم معرفة السعر ،ومنوط بالبيع على بيع أخيه ِلما حصل فيه من استقرار الثمن وركون أحدهما للخر ،ومنوط بالنجش لنه ل يريد شراءها وإّنما يزيد الضرار بالمشتري ،ومنوط بتلقي الركبان وتلقي الجلب لما فيه من إعلء السعر على أهل المدينة أو إرخاصه على الجالب .فإذا ُوجدت هذه المعاني في هذه البيوع حرمت البيع فيها وحرمت السمسرة فيها ،وإذا لم توجد فيها لم يحرم البيع ولم تحرم السمسمرة .وقد فهم عمر بن الخطاب في النهي عن بيع الحاضر للبادي أن العّلة عدم معرفة السعر فقال) :دّلوهم على السوق ودّلوهم على الطريق ،أخبروهم بالسعر(. وعلى هذا فإن السمسرة حلل كما أن البيع حلل لظهور الدليل ،فإذا حصلت السمسمرة على أنواع قد ورد النهي عنها ،أو ُوجدت في السمسرة العّلة التي من أجلها ُوجد النهي عنها، صارت هذه النواع حراما ،ول تصير السمسرة من حيث هي حراما ،بل تظل السمسرة حلل ً ويظل كسب السمسار كسبا ل. حل ً -229-
الجـارة عَوض ،ويدخل تحتها ثلثة الجارة عقد على المنفعة ب ِ
أنواع: النوع الول -هو ما َيِرد العقد على منافع العيان ،كاستئجار الُدور والدواب والمرَكبات وما شابه ذلك. النوع الثاني -هو ما َيِرد العقد فيه على منفعة العمل، حرف والصنائع لعمال معينة ،فالمعقود عليه كاستئجار أرباب ال ِ هو المنفعة التي تحصل من العمل مثل استئجار الصّباغ والحّداد جار وما شابه ذلك. والن ّ النوع الثالث -هو ما َيِرد العقد فيه على منفعة الشخص، خَدمة والعمال وما شابه ذلك. كاستئجار ال َ والجارة بجميع أنواعها جائزة شرعا ،قال ا تعالى: سخِرّيا(، )ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا ِ وقال) :فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن( ،وقال صلى ا عليه ف عرقه( ،وقال) :من وسلم) :أعطوا الجير أجره قبل أن َيج ّ استأجر أجيرا فلُيعِلمه أجره( ،وروى البخاري )أن النبي صلى ا عليه وسلم والصّديق استأجرا رجل ً من بني الدئل يقال له عبدا بن الريقط(.
الجيـر وعقد الجارة الذي َيِرد على منفعة العمل وعلى منفعة جر نفسه. الشخص هو الذي يتعلق بالجير .والجير هو الذي أ ّ خَدمة ومن وقد أجاز الشرع إجارة الدمي لمنفعة تحصل منه كال َ شاكلهم ،أو لمنفعة تحصل من عمله كالصباغة والقصارة والهندسة ونحوها .وحتى تنعقد الجارة فإنه ُيشترط لنعقادها أهلية العاقدين بأن يكون كل منهما عاقل ً ممّيزا .فل تنعقد إجارة المجنون ول إجارة الصبي غير الممّيز .ولو انعقدت الجارة فإنه ُيشترط لصحتها رضا العاقدْين ،وكون المعقود عليه –وهو المنفعة -معلوما على وجه يمنع المنازعة .وهذا العلم بالمنفعة بالنسبة للجير تارة يكون ببيان المدة ،وتارة يكون بتحديد المنفعة أو وصف العمل المطلوب وصفا تفصيليا ،وتعيين ما -230-
يعمل الجير أو تعيين كيفية عمله .وعلى ذلك ل تصح إجارة المكَره ول تصح إجارة المنفعة المجهولة.
الجـرة يشترط أن يكون مال الجارة معلوما بالمشاهدة أو الوصف الرافع للجهالة ،قال صلى ا عليه وسلم) :من كان يؤمن بالله واليوم الخر فل يستعملن أجيرا حتى يعلمه أجره( .إل ّ أنه ل تشترط القيمة في الجرة كما ل تشترط القيمة في ثمن المبيع. والفرق بين القيمة والثمن أن القيمة هي ما توافق مقدار مالية الشيء وتعادله بحسب تقويم المقومين ،وأّما الثمن فهو ما يقع به التراضي وفق القيمة أو أزَيد أو أنَقص .ول يشترط أن تكون أجرة الجير قيمة العمل ،لن القيمة ل تكون بدل ً في الجارة، فيجوز أن تكون الجرة أكثر من قيمة العمل ويجوز أن تكون أقل من قيمة العمل .فلو استأجر شخص أجيرا بأجرة معلومة ليصوغ له قطعة ذهب أو فضة صياغة معلومة فهو جائز ،لنه استؤجر لعمل معلوم فل ُتشترط المساواة بين الجرة وبين ما ُيعمل فيه من الفضة أو الذهب في الوزن ،لن ما ُيشترط له من الجرة هو مقابل العمل ل بمقابلة محل العمل .ول علقة بين الجرة وبين محل العمل الذي يعمله ،وما صلح لن يكون بدل ً في البيع كالنقود ونحوها صُلح لن يكون بدل ً في الجارة ،أي ما صُلح لن يكون ثمنا صُلح لن يكون أجرة .وأّما ما ل يصلح أن يكون ثمنا في البيع فيجوز أن يكون بدل ً في الجارة ،فإنه ل يجوز أن يبيع ل ،ولكن يصح أن يستأجر بستانا بسكنى دابة بسكنى دار سنة مث ً دار ،لن البيع هو مبادلة مال بمال ،فمعادلة المال بالمنفعة ل عَوض ،وهذا تعتبر بيعا ،بخلف الجارة فهي عقد على المنفعة ب ِ عَوض ل ضرورة لن يكون مال ً بل قد يكون منفعة. ال ِ
تقدير الجرة عَوض .وهذا العقد عّرفت الجارة بأنها عقد على المنفعة ب ِ ُ -231-
َيِرد على ثلثة أنواع: أحدها -نوع َيِرد على منافع العيان ،كاستئجار الُدور والدواب والمرَكبات وما أشبه ذلك ،فالمعقود عليه هو منفعة العين. ثانيها -نوع َيِرد العقد فيه على منافع العمال ،كالصّباغ والمهندس والبّناء وما أشبه ذلك ،فالمعقود عليه هو منفعة العمل. ملة وما ع َ ثالثها -نوع َيِرد على منافع الشخاص ،كالخدم وال َ أشبه ذلك ،فالمعقود عليه هو النتفاع بجهد الشخص. فهذه النواع الثلثة كان المعقود عليه فيها هو المنفعة التي في كل واحد منها ،فيكون الشيء الذي جرى عليه العقد هو المنفعة .والمال المسمى هو مقابل هذه المنفعة .وعليه فإن الساس الذي ُيبنى عليه تقدير الجرة هو المنفعة التي تعطيها تلك العين أو يعطيها ذلك العمل أو ذاك الشخص .وليست هي بالنسبة للعمل قيمة الشيء الذي ُيعمل فيه ول ثمنه ،وليست هي بالنسبة للجير إنتاجه ،كما أنها ليست سداد حاجة الجير .وكذلك ل دخل لرتفاع مستوى المعيشة أو انخفاضه في تقديرها .فل يصح أن يرجع تقدير الجرة لقيمة الشيء أو ثمنه أو إنتاج العامل ول سداد حاجته ،ول دخل لرتفاع مستوى المعيشة وانخفاضها في تقديرها .وإّنما يرجع تقديرها لشيء واحد فقط هو المنفعة، عَوض. لنها عقد على المنفعة ب ِ وتقّدر الجرة بحسب تقدير المنفعة التي جرى عقد الجارة جة، عليها .وحين الختلف على مقدار الجرة ل تقّدر بالبّينة والح ّ إذ ل شأن للبينة في ذلك ،لنه ل يراد إثبات الجرة ،وإّنما يراد معرفة مقدارها ،وإّنما تقّدر بتقدير الخبيرين بالمنفعة التي جرى عَوضها. عليها عقد الجارة ،والخبيرين بتقدير ِ هذا من ناحية أساس الجرة ،أو بعبارة أخرى الوحدة التي يجري عليها تقدير الجرة .أّما من ناحية تفاوتها فإنها تتفاوت بتفاوت المنفعة في الشخاص ،وفي العمل الواحد ،وفي ملة العمال المختلفة ،وفي الزمان والمكان .فتتفاوت أجرة الع َ الذين ورد العقد على منافع أشخاصهم بتفاوت الجهد الذي يبذلون ،فتقدر الجرة للقوي كذا وللضعيف كذا ،أو ساعات كذا من العمل كذا من الجرة ،وللساعات الكثر أجرة أكثر ،وللساعات -232-
القل أجرة أقل ،وهكذا ..ويجري تقدير الجرة للعمل الواحد الذي ورد عقد الجارة فيه على منفعة العمل بمقدار معين، وتتفاوت بين الشخاص الذين يعملون في هذا العمل بتفاوت ل ،فتعطى للمهندس أجرة هي كذا، إتقانهم له كالمهندسين مث ً وتتفاوت بين المهندسين بتفاوت إتقانهم .وكذلك يجري تقدير الجرة للعمال المختلفة بحسب المنفعة المقصودة منها عند الستئجار للذين يعملون فيها؛ أي للصّناع .وتتفاوت الجرة لهذه العمال بتفاوت منفعتها عند المجتمع ،فيكون أجر المهندس كذا وأجر البّناء كذا ،وهكذا ..ويجري تقدير الجرة للشخاص وللعمل الواحد وللعمال المختلفة في زمان غير تقديرها في زمان آخر، فيعطى العامل في الليل أكثر من عامل يعمل في نفس العمل في النهار مثل ً .وكذلك يجري تقدير الجرة للشخاص وللعمل الواحد وللعمال المختلفة في مكان غير تقديرها في مكان آخر، فمثل ً يعطى العامل في الصحراء أكثر من عامل يعمل في نفس العمل في المدينة ،وهكذا ..ويجوز تقدير الجرة مؤقتة بوقت معين كالساعة واليوم الشهر والسّنة.
مقدار الجرة أجر الجير يكون أجرا مسمى ،ويكون أجر المثل .أّما الجر المسمى فهو الجرة التي ُذكرت وتعينت وقت العقد .ويعتبر من عرفت أجرة كل منهم الجر المسمى أجرة العملة الذين ُ كالموظفين في درجة معينة أو كعمال في مصنع معين معروف ت عمال ً أو موظفين وسميت أجرة العامل فيه .ولذلك إذا استخدم َ لهم أجرتهم فيكون المسمى هو أجرهم .وإن لم تسم أجرتهم ينظر إن كانت معلومة فتعطى لهم وتعتبر أجرا مسمى ،وإن لم تكن الجرة معلومة فيعطى لهم أجر المثل. وأجر المثل هو أجر مثل العمل ومثل العامل ،أو أجر مثل العامل فقط .ويلزم تقدير أجر المثل من قبل ذوي الخبرة ،وُيلزم أهل الخبرة بتعيين الجرة بالنظر إلى شخص الجير .وعند تقدير أجر المثل ينبغي أن ينظر إلى ثلثة أمور: الول -إذا كانت الجارة واردة على المنفعة أن ينظر إلى الشيء الذي تساوي منفعته منفعة المأجور. -233-
الثاني -إذا كانت الجارة واردة على العمل أن ينظر إلى الشخص المماثل للجير بذلك العمل ،أي ينظر إلى العمل والعامل. الثالث -أن ينظر إلى زمان اليجار ومكانه ،لن الجرة تتفاوت بتفاوت المنفعة والعمل والزمان والمكان. وأجر المثل تتوقف معرفته على أهل الخبرة ،فل تجوز إقامة البينة عليه من المدعي ،بل يجب أن يقدره أهل الخبرة الخلو من الغرض فينتخبهم الخصمان بالتفاق ،وإن لم يتفقا فينتخبهم الحاكم.
دفع الجرة يجوز تعجيل الجرة ويجوز تأجيلها .فإذا اشترط العاقدان تعجيل الجرة أو تأجيلها يراعى شركهما ،قال صلى ا عليه وسلم) :المسلمون عند شروطهم( ،فيعتبر ويراعى كل ما اشترط العاقدان في تعجيل الجرة وتأجيلها .أّما إن لم يكن يشترط العاقدان شيئا في تعجيل الجرة أو تأجيلها ينظر ،فإذا كانت الجرة مؤقتة بوقت معين كالشهرية والسنوية ،يلزم إيفاءها عند انقضاء ذلك الوقت ،فلو كانت مشاهرة تؤدى عند نهاية الشهر، وإن كانت مسانهة ففي ختام السّنة .أّما إذا كانت الجارة على عمل مثل خياطة ثوب أو حفر بئر أو تصليح سيارة أو ما شاكل ذلك ،فإنه يلزم إيفاءها عند النتهاء من العمل ،لقول رسول ا صلى ا عليه وسلم) :أعطوا الجير أجره قبل أن يجف عرقه(، ومعناه بعد أن ينتهي من عمله مباشرة لن عرقه ينزل من العمل ،فدل على أنه بعد أن يعرق بالعمل وقبل أن يجف هذا العرق .ويجوز ترديد الجرة على صورتين أو ثلث في العمل والعامل والمسافة والزمان والمكان ،ويلزم إعطاء الجرة على خط َ ت موجب الصورة التي تظهر فعل ً .فمثل ً لو قيل للخياط :إن ِ ت غليظا فلك كذا ،فأي الصورتين عمل له خط َ دقيقا فلك كذا أو ِ أجرتها.
أنواع الجراء -234-
ينقسم الجير إلى خاص ومشترك. فالجير الخاص هو الذي يعمل لواحد معين أو أكثر عمل ً مؤقتا مع التخصيص أي هو الذي يختص بالمستأجر وحده ويمنع من أن يعمل لغيره طوال مدة الجارة .فلو استأجر شخص أو أكثر طاهيا ليطبخ لهم خاصة مع تعيين المدة ،كان ذلك الطاهي أجيرا خاصا. والجير المشترك هو الذي يعمل لواحد عمل ً غير مؤقت أو عمل ً مؤقتا بل اشتراط التخصيص عليه .أي هو الذي ل يختص بالمؤجر .بل يجوز له أن يعمل لغير المؤجر .فلو استأجرت منجدا للفرش غير مشترط عليه أن ل ينجد لغيرك ،فهو أجير مشترك، ء أكان في منزلك أم في محله ،وسواء عينت له مدة النجادة سوا ً أم ل. والجير الخاص يستحق الجرة بتسليم نفسه في المدة لتأدية ما ُكّلف به مع تمكنه من العمل ،سواء قام بالعمل أم لم يقم ،فاستحقاقه للجر يكون بحسب المدة ل بحسب العمل .ولذا ل يجوز له أن يعمل في مدة الجارة عمل ً لغير مستأجره .فإ ْ ن عمله لغيره نقص من الجر بقدر ما عمله .والجير المشترك يستحق الجرة على نفس العمل كالخياط والنجار والصباغ والملح ..الخ ،فاستحقاقه للجر يكون بحسب العمل ل بحسب المدة. والفرق بين الجير الخاص والجير المشترك من حيث ن هلك الشيء في يده الضمان ،هو أن الجير الخاص أمين ،فإ ْ مد وبدون تقصيره وإهماله فل ضمان عليه .والجير بدون تع ّ المشترك إما أن يهلك الشيء بفعله أو ل .فإن هلك الشيء من سواء أكان هلكه بالتعدي أو لم يكن .وإن هلك ض ِ بفعله َ الشيء بغير فعله ُينظر ،فإن كان مما ل يمكن الحتراز عنه ل يضمن ،أّما إن كان يمكن الحتراز عنه ولم يحترز يضمن .وذلك لن الشيء الذي يعمل فيه الجير الخاص وإن كان تحت يده فإنه تحت تصرف المستأجر ل تحت تصرف الجير .ومن هنا كانت يده يد أمانة ،بخلف الجير العام فإن الشيء الذي يعمل فيه هو تحت تصرفه هو أي هو تحت تصرف الجير ل تحت تصرف المستأجر ،ولذلك لم تكن يده يد أمانة بل كانت يد متصرف. والفرق بينهما من حيث استحقاق الجرة أن الجير الخاص -235-
يستحق الجرة إذا كان في مدة الجارة حاضرا للعمل ول ُيشترط عمله بالفعل ،والجير المشترك ل يستحق الجرة إل ّ بالعمل .ومدة الجارة للجير الخاص إما أن تكون معّينة في سد العقد لجهالتها، العقد أو غير معّينة ،فإن كانت غير معّينة َف َ فلكل من العاقدْين فسخها في أي وقت أراد ،وللجير أجرة مثله مدة خدمته .وإن كانت معّينة في العقد وفسخ المستأجر الجارة قبل انقضاء المدة بل عذر ول عيب في الجير يوجب الفسخ كمرضه أو عجزه عن العمل ،فإنه يجب على المستأجر أن يؤدي إلى الجير الجرة إلى تمام المدة سواء أكان الجير خادما أو سخ الجارة لعذر أو عيب ظهر في ن َف َ مزارعا أو غير ذلك .أّما إ ْ الجير يوجب الفسخ فإنه ليس عليه أن يؤدي الجرة إل ّ إلى الوقت الذي ُفسخت فيه الجارة.
ل توجد في السلم مشكلة عمال كان النظام الرأسمالي في القتصاد مطّبقا على العالم الغربي وعلى روسيا ،قبل أن يحكمها الحزب الشيوعي .ومن أسس المبدأ الرأسمالي حرية الملكية .فنتج عن ذلك استبداد أصحاب العمال با ُ لجراء أي العمال ،ما دام التراضي قائما وما ُ دامت نظرية اللتزام هي التي تتحكم فيهم .وقد لقى الجراء عَرقهم من المستأجرين العنت والرهاق والظلم واستغلل َ وجهودهم. وحين ظهرت الفكرة الشتراكية ونادت بإنصاف العامل، ظهرت على أساس معالجة مشاكل العمال وليس على أساس معالجة عقد الجارة .ولذلك جاءت الشتراكية بحلول لنصاف العامل ،بتحديد وقت العمل ،وأجرة العامل ،وضمان راحته..، الخ ،فهدمت نظرية اللتزام ،وأظهرت عدم صلحيتها لمعالجة المشاكل .فاضطر فقهاء القانون الغربي لن يغّيروا نظرتهم لللتزام حتى تستطيع نظرية اللتزام أن َتثُبت أمام المشاكل، ولذلك أدخلوا تعديلت لترقيع نظريتهم .فعْقد العمل قد ُأدخلت عليه قواعد وأحكام تهدف إلى حماية العمال ،وإلى إعطائهم من الحقوق ما لم يكن لهم من قبل ،كحرية الجتماع ،وحق تكوين النقابات ،وحق الضراب ،وإعطائهم تقاعد وإكراميات أو -236-
تعويضات ..الخ ،مع أن نص نظرية اللتزام ل يبيح مثل هذه الحقوق .ولكن جرى تأويل هذه النظرية لمعالجة مشاكل العمال التي أوجدتها الفكار الشتراكية بين العمال. ثم جاءت النظرية الشيوعية لتمنع ملكية العمال ،وتعطي العامل ما يحتاجه مطلقا .وِمن تباُين وجهات النظر بين المبدأين الشتراكي ومنه الشيوعي ،والمبدأ الرأسمالي ،نحو الملكية ونحو الجير ،نشأت لديهم مشكلة العمال ،وصار لكل منهما طريقة خاصة في حل هذه المشكلة التي أوجدتها نظرتهما المختلفة نحو الحياة. أّما في السلم فل توجد مشكلة تسمى مشكلة عمال ،ول ُتقسم الّمة السلمية إلى طبقات :عمال ورأسماليين ،أو فلحين وأصحاب أراضي ..الخ .والقضية كلها تتعلق بالجير سواء أكان استئجاره على العمل كالخصائيين والفنيين ،أو كان استئجاره على جهده فقط كسائر ا ُ لجراء ،وسواء أكان أجيرا عند أشخاص أو أجيرا عند جماعات أو أجيرا عند الدولة ،وسواء أكان أجيرا خاصا أم أجيرا مشتَركا ،فكله أجير .وهذا الجير قد وضحت أحكامه وُبّينت ،فعند اتفاق ا ُ لجراء على أجر مسمى كان لهم الجر المسمى مدة الجارة ولهم أن يتركوا مستأجرهم بعد انتهاء مدة الجارة ،وإن اختلفوا معه جاء دور الخبراء لتقدير أجر المثل .وهؤلء الخبراء يختارهم الطرفان ،فإن لم يتفقا عليهم اختارهم الحاكم وألزم الطرفين بما يقوله الخبراء جبرا. أّما تعيين أجرة معينة من ِقبل الحاكم فل يجوز قياسا على عدم جواز التسعير للسلع لن الجرة ثمن المنفعة والثمن ثمن السلعة .وكما أن سوق السلع يقدر سعر السلعة تقديرا طبيعيا، كذلك سوق المنافع ل ُ لجراء تقدرها الحاجة إلى العمال .إل ّ أن ع وهو مسؤول على الدولة أن تهيئ العمال للعمال )المام را ٍ عن رعيته( ،وعلى الدولة أن ترفع ظلم أصحاب العمال عن العمال ،فإن السكوت على الظلم مع القدرة على إزالته حرام ظَلمت هي صرت الدولة في رفع الظلم أو َ فيه إثم كبير .وإذا ق ّ ا ُ لجراء كان على الّمة كلها أن تحاسب الدولة على هذا الظلم ُ ظلموا وأن تسعى لزالته ،وليس هذا على الجراء الذين ُ وحدهم ،كما هي الحال اليوم في معاَلجات مشاكل العمال بالضرابات والتظاهرات .لن ظلم أي فرد من الرعية وتقصير -237-
الدولة في رعاية شؤون أي فرد من الرعية ،أمر يتعلق برعاية شؤون الّمة كلها ،ولو كان خاصا بشخص أو أشخاص ،لنه تنفيذ حكم شرعي ،وليس متعلقا بفئة معينة ،وإن كان واقعا على جماعة معينة. أّما ما يحتاجه العمال من ضمان صحي لهم ولهلهم، وضمان نفقاتهم في حال الخروج من العمل ،وفي حال كبرهم، وضمان تعليم أبنائهم وما شاكل ذلك من الضمانات التي ُيبحث فيها لتأمين العمال ،فل ُيبحث فيها في السلم عند بحث الجير وا ُ لجراء ،لن هذه ليست على المستأجر وإّنما هي على الدولة. وليست هي للعمال ،وإّنما هي لكل عاجز من الرعية ،لن الدولة تضمن التطبيب والتعليم مجانا للجميع ،وتضمن للعاجز النفاق عليه ،سواء أكان عامل ً أم غير عامل ،لن هذا مما هو فرض على بيت المال ،وفرض على كافة المسلمين. وعليه ،فل توجد مشكلة عمال ،ول توجد مشكلة خاصة بجماعة أو فئة من الّمة ،فكل مشكلة تتعلق برعاية شؤون سب بها الدولة الرعية مسؤولة الدولة عن حلها ،والّمة كلها تحا ِ لحل المشكلة ورفع الظلم ،وليس المسؤول فقط هو صاحب المشكلة أو من وقع عليه الظلم.
استئجار العيان إذا ورد العقد على منافع العيان كاستئجار الدور والدواب والسيارات وما شابه ذلك ،فإن المعقود عليه يكون منفعة العين، ويكون تقدير أجر المثل محتما أن ُينظر إلى الشيء الذي تساوي منفعته منفعة المأجور .ومتى تم استئجار العين فقد صار للمستأجر أن يستوفي منفعة العين التي استأجرها ،فإذا استأجر دارا فله سكناها ،أو دابة أو سيارة فله أن يركبها .وللمستأجر أن جرة إذا قبضها بمثل ما استأجرها أو بأزيد أو يؤجر العين المستأ َ جرة قام مقام قبض المنافع، بأنقص ،لن قبض العين المستأ َ بدليل أنه يجوز التصرف فيها ،فجاز العقد عليها ،ولنه عقد يجوز برأس المال فجاز بزيادة أو بنقصان .إل ّ أنه إذا استأجر العين لمنفعة فله أن يستوفي مثل تلك المنفعة وما دونها في الضرر، -238-
وليس له أن يستوفي أكثر من مثل تلك المنفعة ،لنه ل يجوز له أن يستوفي أكثر من حقه أو غير ما يستحقه ،فإن اكترى دابة ليركبها ،ل يجوز له أن يحمل عليها لن الراكب أخف من الحمل، جز له أن يركبها مسافة أكثر وإن اكترى سيارة لمسافة كذا ،لم َي ُ من المسافة التي استأجرها لها ،وإن استأجر دارا ليسكنها ،ليس له أن يجعلها مخزنا للخشب أو الحديد أو ما شاكل ذلك ،مما يكون أكثر ضررا على الدار من السكنى. عَوض كان بيعا، والحاصل أن العقد إذا ورد على العين ب ِ عَوض كان إجارة .وعلى هذا فإن وإذا ورد على منفعة العين ب ِ العقد قد َيِرد على العين وحدها كبيع شجر له ثمر بدا صلحه دون بيع ثمره ،وقد َيِرد على العين مع منفعتها كبيع دار ،وقد َيِرد على الثمرة وحدها كبيع الثمر الذي بدا صلحه ،وقد َيِرد على سمة بعين كسكنى الدار .فإذا ورد على المنفعة المنفعة غير المج ّ التي ل تعتبر عينا كان إجارة ولم يكن بيعا .وكما أن المشتري للعين يملك العين ويتصرف بها سائر التصرفات ،كذلك يملك المستأجر المنفعة التي ملكها بالستئجار ،وله أن يتصرف بها سائر التصرفات .فكما أن لمشتري ثمر الشجر إذا بدا صلحه أن يبيعه وهو على شجره ،كذلك لمستأجر العين أن يؤجرها لنه يملك منفعتها كما يملك مشتري الثمر ذلك الثمر الذي اشتراه .وعليه، جرة إذا قبضها ،لن فإنه يجوز للمستأجر أن يؤجر العين المستأ َ قبض العين حين الستئجار قائم مقام قبض المنافع ،بدليل أنه يجوز التصرف فيها ،فجاز العقد عليها كبيع الثمرة على الشجرة. ومتى تم استئجار العين وقْبض منفعتها َمَلك المستأجر جميع التصرفات الشرعية في منفعة العين التي استأجرها لنها ملكه، فله أن يؤجرها بالجرة التي يراها مهما بلغت ،فلو استأجرها جرها بخمسمائة جاز ،لنه يملك المنفعة فيملك بخمسين وأ ّ تأجيرها بما يراه هو ل بما استأجرها .وعلى هذا فإن ما يسمى خُلّو للمخازن والُدور وغيرها –وهو دفع مبلغ معين من المال بال ُ جر الول من زيادة على الجرة المقّدرة للبيت أو المخزن للمستأ ِ ِقبل من يستأجر منه -جائز ول شيء فيه لن المستأجر يؤجر الدار أو المخزن الذي في استئجاره لغيره بالجرة المقّدرة وبمبلغ زائد عليها يدفع له ،وهذا تأجير للعين التي استأجرها بزيادة على الجرة التي استأجرها بها ،وهو أمر جائز ،لنه يجوز -239-
له تأجير ما استأجره بأزيد أو بأنقص مما استأجره ،لنه عقد يجوز برأس المال فيجوز بزيادة كبيع المبيع بعد قبضه بزيادة عما اشتراه. وهناك مسألة تسليم المأجور للمالك عند انتهاء العقد هل هي واجبة عليه أم ل؟ والجواب على ذلك هو أن إعادة المأجور للمستأجر واجبة سمرة عن النبي عليه إن كان المأجور تحت يدهِ ،لما ُروي عن ُ خَذت حتى تؤديه( .أّما صلى ا عليه وسلم قال) :على اليد ما أ َ إن لم يكن المأجور تحت يده ُينظر :فإن اغُتصب منه غصبا فإن على الغاصب أن ُيرجع العين المأجورة لصاحبها وليس على المستأجر لن الغاصب هو المأمور برد العين ،فقد أخرج أحمد عن السائب بن يزيد عن أبيه قال) :قال رسول ا صلى ا عليه ن أحدكم متاع أخيه جادا ول لعبا ،وإذا أخذ أحدكم خَذ ّ وسلم :ل يأ ُ عصا أخيه فلَيُرّدها عليه( ،وهذا عام سواء أخذها من صاحبها أم جره له فإنه بعد انتهاء من غيره .أّما إن أعار المأجور لغيره أو أ ّ العقد الذي بينه وبين صاحب الملك يجب عليه تسليم المأجور خَذت حتى تؤديه( ،ولم لمالكه وذلك لعموم حديث )على اليد ما أ َ يأت نص آخر في الجارة أو غيرها يستثنيه كما ورد في الغصب ولذلك يبقى على عمومه في قوله) :حتى تؤديه(. ول يقال إن الحديث يشمل المستأجر الثاني أيضا لن يده خَذت فعليها أن تؤديه فيكون هو الذي عليه الداء .ل يقال ذلك أ َ لن الحديث وإن انطبق على المستأجر الثاني ولكنه ل ُيسِقط أداء المأجور عن المستأجر الول ،فعلى المستأجر الول أن يؤدي العين المأجورة لمالكها ،وعلى المستأجر الثاني أن يؤدي العين المأجورة للمستأجر الول .ووجوب أدائها على المستأجر الول ل ُيسِقط أداءها عن المستأجر الثاني .وكذلك وجوب أدائها على المستأجر الثاني ل ُيسِقط أداءها على المستأجر الول .إل ّ جره هو وسّلمه العين وهو المستأجر أن المالك يلحق من أ ّ جرها المستأجر جر شخص دارا لخر ثم أ ّ الول .وعلى ذلك إذا أ ّ مونه "خلو رجل" -فإنه إذا انتهت لغيره بأجرة أزيد –أي أخذ ما يس ّ مدة الجارة للمستأجر الول انتهى العقد وصار لزاما عليه أن يسّلم الدار لصاحبها ،إل ّ أن يجدد صاحبها العقد معه فتظل تحت سلطانه وإن لم تكن تحت يده أو يجري صاحبها العقد مع -240-
المستأجر الثاني وَيعتبر نفسه قد استلم الدار .وحينئذ يبرأ المستأجر الول من تسليم الدار وُيعتبر أنها سّلمها لمالكها وصارت علقة مالكها مع المستأجر الثاني.
استئجار الدور للسكنى من استأجر عقارا للسكنى فله أن يسكنه هو وله أن ُيسكنه غيره ممن يشاء إذا كان يقوم مقامه ،لن له استيفاء المعقود عليه بنفسه وبنائبه ،والذي يسكنه نائب عنه في استيفاء المعقود عليه فجاز كما لو وكل وكيل ً في قبض المبيع .وله أن يصنع في العقار ما جرت عادة الساكن به من الفرش والثاث والطعام كن في العقار الذي وغير ذلك .إل ّ أنه ليس للمستأجر أن يس ّ استأجره من يكون ضرره أشد من ضرره هو على العقار ،فل كن فيه ما ُيضر بالعقار مثل القصارين والحدادين إن لم يكن ُيس ِ صارا أو حّدادا ،لن ذلك ُمضر بها ،وهو أكثر من المستأجر ق ّ المنفعة التي جرى العقد عليها .فالعقد جرى على منفعة معروفة لمثل هذا العقار ولو بالتعارف ،فل يجوز له أن يستوفي منفعة أكثر من المنفعة التي جرى عقد الجارة عليها. ول يحتاج في استئجار الدار للسكنى أن ينص على السكنى بل جاز إطلق العقد ،ول يحتاج إلى ذكر السكنى ول صفتها لن الدار ل ُتكترى إل ّ للسكنى فاسُتغني عن ِذكرها ،ولن التفاوت في السكنى يسير فلم يحتج إلى ضبطه .وله أن يؤجر الدار لغيره مدة إجارته .ومدة الجارة يختلف اعتبارها باختلف نص العقد. فإذا وقعت الجارة على كل شهر بشيء معلوم لم يكن لواحد منهما الفسخ إل ّ عند انقضاء كل شهر .إل ّ أن الشهر الول تلزم الجارة فيه بإطلق العقد لنه معلوم يلي العقد وله أجر معلوم، وما بعده من الشهور يلزم العقد فيه بالتلبس به وهو السكنى ح في العقد الول، في الدار .فإذا تلبس به تعّين بالدخول فيه فص ّ وإن لم يتلبس به أو فسخ العقد عند انقضاء الشهر الول انفسخ. فمتى ترك التلبس في شهر لم تثبت الجارة فيه لعدم العقد .وإن جرُتك داري عشرين شهرا كل شهر بكذا ،جاز ،لن المدة قال :أ ّ معلومة وأجرها معلوم ،وليس لواحد منهما فسخ العقد بحال لنها مدة واحدة .وإن استأجر دارا مدة سنة فبدا له قبل انقضاء -241-
السّنة نقضها فقد لزمته الجرة كاملة. جر إتمام ما يتمكن به جر أحد داره فعلى المؤ ّ وإذا أ ّ مام، المستأجر من النتفاع ،كتسليم مفاتيح الدار ،وتبليط الح ّ وعمل البواب ،ومجرى الماء ،وكل ما يحتاج إلى إصلحه أو إيجاده ليتمكن من النتفاع بالدار .أّما ما كان لستيفاء المنافع كالسّلم المتنّقل والحبل والدلو وساعة الماء وساعة الكهرباء فعلى المستأجر .أّما ما يلزم للتحسين والتزويق فل يلزم أحدا منهما لن النتفاع ممكن بدونه .أّما تبييض الدار وتنقية البالوعة جر ،لن ذلك والكنيف فإن احتيج إلى ذلك عند الكراء فعلى المؤ ّ مما ُيتمكن به من النتفاع ،وإن امتلت بفعل المكتري فعليه جر تفريغها .أّما نقل الزبالة فهو على المستأجر .فإذا شََرط المؤ ّ على المستأجر في عقد الجارة دفع نفقات ما أوجبه الشرع عليه كن به من النتفاع ،فالشرط فاسد لمخالفته مقتضى مما يم ّ جر دفع نفقات ما العقد .وكذلك لو شرط المستأجر على المؤ ّ جر فالشرط فاسد لمخالفته مقتضى العقد .وإذا يجب على المؤ ّ جر والمستأجر أو أحدهما فالجارة بحالها ،لن الجارة مات المؤ ّ عقد لزم ل ينفسخ بالموت مع سلمة المعقود عليه.
الرشوة كلها حرام جب عليه قضاء مصلحة من مصالح كل من يملك صلحية تو ِ الناس يكون المال الذي يؤخذ من أجل قضاء هذه المصلحة من ِقبله رشوة ،ول يكون أجرة ول بحال من الحوال .والفرق بين الجرة والرشوة هو أن الجرة تؤخذ مقابل القيام بعمل ل يجب القيام به ،أّما الرشوة فتؤخذ مقابل القيام بعمل يجب القيام به بدون مقابل ،ممن يقام بالعمل لجله ،أو مقابل عدم القيام بعمل يجب عليه القيام به. وعلى ذلك فالرشوة هي المال الذي يعطى من أجل قضاء مصلحة يجب على الخذ قضاؤها أو قضاء مصلحة بعدم قيام الخذ بما يجب عليه من عمل سواء أكانت المصلحة جلب منفعة أو دفع مضرة ،وسواء أكانت المصلحة حقا أو باطل ً .ويقال لدافع الرشوة :الراشي ،وللقابض لها :المرتشي ،وللوسيط بينهما: الرائش. -242-
والرشوة حرام بصريح النصوص ،فقد روى أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن عبدا بن عمرو قال :قال رسول ا صلى ا عليه وسلم) :لعنة ا على الراشي والمرتشي( ،وروى أحمد عن ثوبان قال) :لعن رسول ا صلى ا عليه وسلم الراشي والمرتشي والرائش يعني الذي يمشي بينهما( .وهذه الحاديث عامة فتشمل كل رشوة ،سواء أكانت لطلب حق أو لطلب باطل ،وسواء أكانت لدفع أذى أو لجلب منفعة ،لرفع ظلم أو ليقاع ظلم ،فكلها حرام. ول يقال إن الرشوة حرام لنها طلب باطل أو إضاعة حق، فإن كانت كذلك فهي حرام ،أّما إن كانت لطلب حق أو رفع ظلم فهي حلل .ل يقال ذلك ،لن هذا يعني أن تحريم الرشوة جاء معّلل ً بعّلة ،فإذا ُوجدت ُوجد الحكم ،وإذا ذهبت ذهب الحكم، وهذا غير صحيح ،لن جميع النصوص التي جاءت في تحريم الرشوة لم تعّلل تحريمها بعّلة من العلل ،ول يوجد فيها ول في أي نص ما نستنبط منه عّلة لتحريم الرشوة ،ولذلك كان تحريمها للنص الصريح غير المعّلل ،فل عّلة لها مطلقا. خذ من صاحبه رشوة جاز لنه ول يقال إن قضاء الحق إذا أ ُ ِ أخُذ مال للقيام بعمل حلل وهو قضاء الحق .ل يقال ذلك لن النصوص التي حّرمت الرشوة جاءت عامة فتبقى على عمومها تشمل جميع أنواع الرشوة ،فإذا أريد تخصيصها واستثناء بعض أنواع الرشوة احتاج المر إلى نص آخر يخصصها ،لن النص ل يخصصه إل ّ نص من كتاب أو سّنة ،ولم َيِرد نص فتبقى عامة دون تخصيص .وعليه فجميع أنواع الرشوة حرام ل فرق بين أن تكون طلب حق أو طلب باطل ،رفع ظلم أو إيقاع ظلم ،دفع أذى أو جلب منفعة ،فكلها تدخل تحت عموم النص. وكذلك ل فرق في تحريم الرشوة بين أن تكون للحاكم أو للموظف أو للرئيس أو غير ذلك ،فكلها حرام .ول يقال قد روى أحمد عن أبي هريرة قال :قال رسول ا صلى ا عليه وسلم: )لعنة ا على الراشي والمرتشي في الحكم( ،وهذا مقّيد في الحكم فُيحمل المطَلق على المقّيد .ل يقال ذلك لن اللفظ الذي ُيعتبر الوصف قيدا له هو اللفظ المطَلق ل اللفظ العام ،أّما اللفظ العام فيجري فيه التخصيص ل التقييد .وإذا ورد معه قيد فإنه يكون من قبيل التنصيص على فرد من افراده ل من قبيل التفييد، -243-
وهنا لفظ الراشي والمرتشي والرائش لفظ عام وليس لفظا مطَلقا ولذلك ل يكون قوله) :في الحكم( قيدا له حتى ُتحمل عليه باقي الحاديث بل يكون تنصيصا على فرد من أفراده وهو الحكم ،فتبقى الحاديث كلها عامة وتظل على عمومها .فكل رشوة حرام سواء أكانت لحاكم أو لموظف أم لغير ذلك .فرشوة الشرطي لدفع الذى كرشوة الحاكم ،ورشوة مدير الشركة صل الضرائب أو مبّلغ ليشتغل بها أو حتى ل ُيسّرح منها كرشوة مح ّ الدعاوى حتى ل يبّلغه .ورشوة رئيس العمال حتى يخفف عنهم العمل أو لغير ذلك كرشوة العامل عند التاجر يعطيه إياها الزبون مقابل أن ينتقي له بضاعة جيدة من بين البضائع ،وكرشوة عامل المطبعة ليتقن عمله يعطيه إياها صاحب الكتاب في غفلة عن صاحب المطبعة ،فكلها رشوة وكلها حرام لنها مال يؤخذ مقابل القيام بعمل يجب القيام به دون مقابل ممن يقام بالعمل لجله. ويدخل في الرشوة ما يدفعه بعضهم لمن له وجاهة عند موظف ليستعمل نفوذه لديه ليقضي له حاجة ولكن الموظف ليس هو الذي يأخذ المال وإّنما الذي يأخذ المال هو الذي يكّلم الموظف ،فيدفع له المال مقابل مكالمته .فهذه أيضا رشوة لن هذا المال أعطي مقابل قضاء مصلحة ممن يجب عليه قضاؤها فكان رشوة سواء أخذه َمن قضى المصلحة أم لم يأخذه ،إذ ل ُيشترط في تحقق كون المال رشوة أن يأخذه من باشر القيام بقضاء المصلحة بل الشرط في كون المال رشوة أن يؤخذ هذا المال مقابل القيام بالعمل ،سواء أخذه الشخص أم صديقه أم من له وجاهة عنده أم قريبه أم رئيسه أم غير ذلك ،إذ العبرة في تحقق كون المال رشوة أن يؤخذ مقابل قضاء المصلحة يجب قضاؤها دون مقابل ممن ُتقضى له. حرمة الهدية تهدى للحكام والعمال ومثل الرشوة في ال ُ وأمثالهم حتى عّدها بعضهم من الرشوة لنها تشبهها من حيث كونها مال ً يؤخذ من أجل القيام بعمل يجب القيام به دون مقابل مما يقام العمل لجله .والفرق بين الرشوة وبين الهدية التي تهدى للحكام والعمال وأمثالهم هو أن الرشوة يعطى فيها المال مقابل قضاء المصلحة ،أّما هدايا الحكام والعمال وأمثالهم فإن المال يهدى فيها من صاحب المصلحة ل مقابل قضاء المصلحة، بل لن الذي يهدى إليه يتولى فعل ً قضاء المصالح بنفسه أو -244-
بواسطته ،سواء ُأهدي طمعا في قضاء مصلحة معّينة أو بعد قضاء مصلحة معّينة أو طمعا في قضاء المصالح حين حصولها. ومن هنا كانت الرشوة والهدية التى ُتهدى للحاكم ومثله متشابهين ويقاس أحدهما على الخر ،ولكن واقعهما فيه شيء من الختلف .وقد جاء تحريم الهدية للحاكم والعامل وأمثالهم صريحا في الحاديث ،فقد روى البخاري عن أبي حميد الساعدي أن النبي صلى ا عليه وسلم استعمل ابن التبية على صدقات ما جاء إلى رسول ا صلى ا عليه وسلم قال: بني سليم فل ّ هذا الذي لكم وهذه هدية ُأهديت لي .فقال رسول ا صلى ا عليه وسلم :فَهل جلست في بيت أبيك وبيت أمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقا .ثم قام رسول ا صلى ا عليه وسلم فخطب الناس وحمد ا وأثنى عليه ثم قال :أّما بعد فإني لني ا فيأتي أحدكم أستعمل رجال ً منكم على أمور مما و ّ فيقول :هذا لكم وهذه هدية ُأهديت لي .فَهل جلس في بيت أبيه وبيت أمه حتى تأتيه هدّيته إن كان صادقا .فوا ل يأخذ أحدكم منها شيئا بغير حقه إل ّ جاء ا يحمله يوم القيامة( .وعن بريدة عن النبي صلى ا عليه وسلم قال) :من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا فما أخذه بعد ذلك فهو غلول( ،أو قد سماها سحتا أي مال ً حراما ،فقد أخرج الرسول صلى ا عليه وسلم ُ الخطيب في تلخيص المتشابه عن أنس أن النبي صلى ا عليه حكي عن مسروق عن ابن سحت (ُ . وسلم قال) :هدايا العمال ُ مسعود أنه لما سئل عن السحت أهو الرشوة؟ فقال :ل –ومن لم َيحكم بما أنزل ا فأولئك فهم الكافرون والظالمون والفاسقون -ولكن السحت أن يستعينك الرجل على مظلمته فيهدي لك ،فل تقبل( .وقال أبوه وائل شقيق بن سلمة أحد أئمة التابعين" :القاضي إذا أخذ الهدية فقد أكل السحت وإذا أخذ الرشوة بلغت به الكفر". فهذه الحاديث حديث أبي حميد وحديث بريدة وحديث أنس ،كلها صريحة في أن الهدايا التي تهدى لمن يتولون العمال العامة حرام ،سواء ُأهديت بعد القيام بعمل معّين أو قبل القيام به ،أو ُأهديت له لنه صاحب صلحية في أمر من المور أو ُأهديت له لن له وجاهة عند من بيده قضاء المصلحة ،فهذه كلها حرام، وقد جاء لفظ هدايا في حديث )هدايا العمال سحت( عامة -245-
تشمل كل هدية للعمال .ويقاس على العمال كل من تولى قضاء مصلحة للناس يجب عليه قضاؤها دون مقابل يؤخذ ممن ُتقضى له فإنه يحرم عليه أن يأخذ هدية أو تؤخذ هية ممن له هذه المصلحة طمعا في قضائها .فالشرطي ورئيس الشركة ورئيس العمال ومن هو مثل هؤلء يحرم عليهم أخذ الهدايا وتكون الهدية لهم سحتا. إل ّ أن الهدية لهؤلء تكون حراما إذا لم يكن من عادة مهدي أن يهدي لهم ،أّما إن كان من عادته أن يهدي لهم سواء ال ُ أكانوا يتولون قضاء مصالح أم ل ،فإنه تجوز الهدية لهم ول شيء فيها ،لن الرسول صلى ا عليه وسلم يقول في الحديث) :فَهل ت في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقا(، جلس َ ومفهومه أن الهدية التي ُتهدى له وهو جالس في بيت أبيه وأمه دون أن يكون عامل ً جائزة ،وهذا يعني أن الهدية التي من شأن ُمهديها أن ُيهديها للشخص لو لم يكن يتولى مصالح فهي جائزة في حال توليه قضاء المصالح ،كما هي جائزة في حال عدم توليه قضاء المصالح ،ول تنطبق عليها أحاديث النهي ،فهي مستثناة منها بمفهوم الحديث.
الرهـن الرهن في اللغة الثبوت والدوام ،وقيل :هو من الحبس. قال تعالى) :كل امرئ بما كسب رهين() ،كل نفس بما كسبت رهينة( أي مقّيدة .والرهن شرعا المال الذي ُيجعل وثيقة بالدْين لُيستوفى من ثمنه إن تعّذر استيفاؤه ممن هو عليه .وهو جائز ومن المعاملت التي أجازها الشرع ،ودليله الكتاب والسّنة .قال تعالى) :وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهانٌ مقبوضة(، وعن عائشة أم المؤمنين )أن رسول ا صلى ا عليه وسلم هَنه درعه( ،وعن ابن اشترى من يهودي طعاما إلى أجل وَر َ عباس قال) :وا لقد مات رسول ا صلى ا عليه وسلم وإنّ درعه لمرهونة عند رجل من اليهود بعشرين صاعا من شعير أخذها طعاما لهله( ،وروى أنس )أن النبي صلى ا عليه وسلم هَنه درعه(. أخذ شعيرا من يهودي بالمدينة وَر َ والرهن جائز في السفر والحضر ،لن كلمة )وإن كنتم على -246-
سفر( بيان واقعة حال وليس قيدا ،بدليل )أن النبي صلى ا عليه هَنه درعه( ،وكان النبي في وسلم اشترى من يهودي طعاما وَر َ المدينة ولم يكن في سفر .ول يجوز الرهن إل ّ مقبوضا في نفس ن مقبوضة( .وصفة القبض في العقد ،لقوله تعالى) :فرها ٌ الرهن أن ُيطِلق يده عليه .فما كان مما ُينقل ُنقل إلى نفسه ،وما كان مما ل ُينقل كالدور والرضين ُأطِلقت يده على ضبطه ،أي كان قبضه تخلية راهنه بينه وبين مرتهنه ل حائل دونه ،ويجوز أن يوكل في قبض الرهن ،ويقوم قبض وكيله مقام قبضه في لزوم الرهن وسائر أحكامه. والرهن جائز في كل ما يجوز بيعه .فكل عين جاز بيعها جاز رهنها ،لن مقصود الرهن الستيثاق بالدْين للتوصل إلى استيفائه من ثمن الرهن إن تعّذر استيفاؤه من ذمة الراهن ،ول يجوز الرهن فيما ل يجوز بيعه كالخمر والصنام وكالوقف والعين المرهونة وما شابه ذلك مما ل يجوز بيعه.
انتفاع المرت ِهن بالرهن إذا تم الرهن فقد أصبحت العين تحت يد المرتِهن بعد قبضها .إل ّ أنه ليس معنى ذلك أن للمرتهن أن ينتفع بالرهن ،بل وجود العين المرهونة تحت يد المرتهن إّنما هو لمجرد استيثاقه على دْينه فقط ،ويبقى الرهن لمالكه حتى ولو استحق المرتهن الدين على الراهن ،وقد كان المرتهن في الجاهلية يتملك الرهن إذا لم يؤد الراهن إليه ما يستحقه في الوقت المضروب ،فجاء ل يغلق الرهن من السلم وأبطله ،قال عليه الصلة والسلم ) : ل يغلق غرُمه( ،فقول الرسول ) : مه وعليه ُ غن ُ صاحبه إذا رهنه ،له ُ كه الرهن من صاحبه( أي ل يستحق المرتهن الرهن إذا لم يفت ّ صاحبه في الوقت المشروط ،فتبقى العين المرهونة ملكا مه وداخلة في قوله عليه غن ُ للراهن وتبقى منفعتها ملكا له لنها ُ مه( .وعلوة على ذلك فإن المنفعة نماء للعين غن ُ السلم) :له ُ المرهونة ،فقد نتجت عنها سواء أكان هذا النماء منفعة كسكنى الدار أو كان عينا كثمر الشجرة وولد البقرة ،فهي ملك للراهن لم يقع عليها عقد الرهن فلم تكن رهنا .إذ العقد على العين ل على منفعتها ،وما دامت المنفعة ملك الراهن فإن له أن يستوفيها ،فله -247-
جرها أن يؤجر الدار المرهونة وأن يستوفي أجرتها سواء أ ّ للمرتهن أو لغيره ،ول تكون هذه الجرة رهنا بل تكون ملكا للراهن ،ول تتبع الرهن لنها ليست من توابع العقار التي تدخل في البيع دون ِذكر كمفاتيح الدار ،وعلى هذا فليس للمرتهن النتفاع بالعين المرهونة بحجة أنها مرهونة له أو أنها تحت يده بل منفعتها لصاحبها. ما كانت منفعة العين لمالكها فإن له أن يهب المنفعة كما ول ّ له أن يهب العين ،وله أن يأذن من يشاء بالنتفاع بالعين ،إل ّ أن إذن الراهن للمرتهن أن ينتفع بالعين التي ارتهنها يختلف حكمه عن إذن غيره ،فإنه يجوز للراهن أن يأذن لي إنسان غير المرتهن أن ينتفع بالعين المرهونة .أّما إذنه للمرتهن ففيه تفصيل :وهو أنه إن كان الرهن بثمن بيع أو أجرة دار أو أي دين غير القرض ،جاز للمرتهن النتفاع بالعين المرهونة بإذن الراهن. وذلك لنه ملكه ،له أن يأذن لمن يشاء النتفاع به ،ويشمل ذلك المرتهن وغيره ،ول يوجد نص يمنع من ذلك ،إذ لم َيِرد أي نص يستثني المرتهن فيبقى الحكم عاما ،ولنه يجوز للبائع أن يزيد جل ،فيجوز أن الثمن ويجوز للمؤجر أن يزيد الجرة إذا كانت ل َ يأذن بالنتفاع بالعين زيادة على ثمن المبيع أو زيادة على أجرة جرة .ول يعتبر ذلك ربا لنه ل ينطبق عليه تعريف العين المستأ َ الربا ول واقعه ول يدخل في الشياء الربوية التي حددها النص، بل هو ثمن مؤجل أعلى من الثمن الحال ،وإجارة بأجرة مؤجلة أكثر من الجرة نقدا ،وهذا كله من المعاملت الجائزة شرعا. أّما إن كان الدْين قرضا كأن ُيقِرض إنسان لخر آلفا لسنة ويرهن عنده داره ويأذن له بالنتفاع بالرهن ،فإنه ل يجوز للمرتهن في هذه الحال النتفاع بالعين المرهونة ولو أِذن الراهن ،لورود النص في النهي عن ذلك ،فعن أنس )وسئل: الرجل منا ُيقِرض أخاه المال فُيهدي إليه .فقال :قال رسول ا صلى ا عليه وسلم :إذا أقرض أحدكم قرضا فُأهدي إليه أو حمله على الدابة فل يركبها ول يقبله إل ّ أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك( .وعن أنس عن النبي صلى ا عليه وسلم قال) :إذا أقرض فل يأخذ هدية( ،وروى البخاري في صحيحه عن أبي بردة ت عبدا بن سلم ت المدينة فلقي ُ بن أبي موسى قال َ :ق)ِدم ُ ش ،فإذا كان لك على رجل حق فقال لي :إنك بأرض فيها الربا فا ٍ -248-
حمل قت فل تأخذه فإنه حمل شعير أو ِ حمل ِتبن أو ِ فُأهدي إليك ِ ربا( ،وأخرج البيهقي في المعرفة عن فضالة بن عبيد )كل قرض جّر منفعة فهو وجه من وجوه الربا( ،ورواه الحارث بن أبي ي عليه السلم بلفظ )أن النبي صلى ا عليه أسامة من حديث عل ّ ض جّر ض جّر منفعة( ،وفي رواية )كل قر ٍ وسلم نهى عن قر ٍ شِرط فيه منفعة فهو ربا( ،وللجماع المنعقد على أن كل قرض ُ أن يزيده فهو حرام ،فقد قال ابن المنذر) :أجمعوا على أن شَرط على المستسِلف زيادة أم هدية فأسلف على مسِلف إذا َ ال ُ ي بن كعب ذلك ،إن أخذ الزيادة على ذلك ربا( ،وقد ُروي عن ُأب ّ ض جّر منفعة. وابن عباس وابن مسعود أنهم نهوا عن قر ٍ ومن هذه الحاديث والثار يتبين أن القرض الذي يجّر نفعا إن كانت الزيادة شرطا فهو حرام بغير خلف قول ً واحدا .وإن كان الشخص أقرض غيره من غير شرط فقضاه زيادة على ما اقترض من النقود فهو أيضا حرام .أّما إن أهداه هدية زيادة على ما اقترضه منه فإنه ُينظر :فإن كان ِمن عادته أن يهديه فل بأس ن كان ليس من عادته أن في ذلك ويجوز له أن يقبل الهدية ،وإ ْ يهديه فل يجوز له أن يقبل الهدية لحديث أنس. وأّما ما رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة )أن رجل ً م به تقاضى رسول ا صلى ا عليه وسلم فأغلظ له فه ّ ل ،واشتروا له بعيرا أصحابه فقال :دعوه فإن لصاحب الحق مقا ً فأعطوه إياه .قالوا :ل نجد أفضل من سنه .قال :اشتروه ن خيركم أحسنكم قضاء( ،وما روي عن أبي فأعطوه إياه ،فإ ّ رافع قال) :استلف النبي صلى ا عليه وسلم بكرا فجاءته إبل الصدقة فأمرني أن أقضي الرجل بكره .فقلت :إني لم أجد في البل إل ّ جمل ً خيارا رباعيا .فقال :أعطه إياه فإن من خير الناس أحسنهم قضاء( ،فإن هذا ليس من باب اشتراط الزيادة بالقرض، ول من باب الزيادة على المبلغ أو الشيء المستقَرض ،لنه لم يشترط زيادة ول توجد زيادة على الشيء الذي استقرضه وإّنما أوفاه مثل ما استقرضه ولكن أكبر منه بالسن أو الجسم ،وهذا حسن القضاء ل من قبيل الزيادة، حيوان بحيوان ،فهو من قبيل ُ ولذلك جاء الرسول بعّلة الزيادة بالتعبير الذي يفيد العّلّية فقال: ن من خير الناس أحسنهم ن خيركم أحسنكم قضاء( )فإ ّ )فإ ّ قضاء( ،فالعّلّية واضحة وهو السداد الحسن ل السداد زيادة عما -249-
استقرض ،وعليه فإن الرهن في حالة القرض فقط يحرم على المرتهن النتفاع بالعين المرهونة لنه ليس من حسن القضاء أي السداد الحسن بل هو من قبيل الزيادة على المبلغ أو الشيء طه أم لم يشرطه ،وهو ليس من قبيل شَر َ المستقَرض سواء َ الهدية التي من عادته أن يهديه له. إل ّ أن هذا كله إذا كان النتفاع بالعين المرهونة دون جر عَوض كأن أ ّ عَوض ،أّما إذا كان النتفاع بالعين المرهونة ب ِ ِ عَوض فإنه يجوز النتفاع في العين الراهن المرتِهن الدار ب ِ المرهونة في القرض وغيره ،لنه لم ينتفع بالقرض بل بالجارة على شرط أن يكون ذلك بأجرة من غير محاباة ،وإن حاباه في عَوض ل يجوز في القرض ذلك فحكمه حكم النتفاع بغير ِ ويجوز في غيره.
المف ِل ـس المفِلس لغًة هو الذي ل مال له ول ما يدفع به حاجته، ويراد بذلك أنه صار إلى حالة يقال فيها عنه ليس معه فلس فهو ما قال النبي صلى ا عليه وسلم لصحابه: مفِلس .ولهذا ل ّ )أتدرون من المفلس؟ قالوا :يا رسول ا ،المفلس فينا من ل درهم له ول متاع .قال :ليس ذلك المفلس ،ولكن المفلس من يأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال ويأتي وقد ظلم هذا عرض هذا ،فيأخذ هذا من حسناته وهذا ولطم هذا وأخذ من ِ ُ ن بقي عليه شيء أخذ من سيئاتهم فُرّد عليه ثم من حسناته فإ ْ صك إلى النار( .فقولهم ذلك إخبار عن حقيقة المفلس، ك له َ ص ّ ُ وقول النبي صلى ا عليه وسلم )ليس ذلك المفلس( تجّوز لم ُيِرد به نفي الحقيقة بل أراد أن َفَلس الخرة أشد وأعظم بحيث عرف يصير مفلس الدنيا بالنسبة إليه كالغنى .والمفلس في ُ موه خله .وس ّ جه أكثر من َد ْ خر ُ الفقهاء َمن دْينه أكثر من ماله و َ مفلسا وإن كان ذا مال لن ماله ُمستحق الصرف في جهة دْينه فكأنه معدوم. ومتى َلِزم النسان ديون حاّلة ل يفي ماله بها فسأل غرماؤه الحاكم الحجر عليه َلِزَمْته إجابتهم ،وُيستحب أن ُيعَلن حجر عليه ثبت بذلك الحجر عليه ليتجنب الناس معاملته .فإذا ُ -250-
أربعة أحكام :أحدها تعّلق حقوق الغرباء بعين ماله ،والثاني منع ن من َوجد عين ماله عنده فهو أحق تصرفه بعين ماله ،والثالث أ ّ بها من سائر الغرماء إذا ُوجدت الشروط ،والرابع أن للحاكم بيع ماله وإيفاء الغرماء .والدليل على الحجر على المفلس ما روى جر على ح َ كعب بن مالك )أن رسول ا صلى ا عليه وسلم َ معاذ بن جبل وباع ماله( ،وعن عبدالرحمن بن كعب قال) :كان معاذ بن جبل من أفضل شباب قومه ولم يكن يمسك شيئا ،فلم يزل ُيدان حتى أغرق ماله في الدْين ،فكّلم النبي صلى ا عليه وسلم غرماؤه ،فلو ُترك أحد من أجل أحد لتركوا معاذا من أجل رسول ا صلى ا عليه وسلم ،فباع لهم رسول ا صلى ا عليه وسلم ماله حتى قام معاذ بغير شيء(. جب والمفلس إذا ثبت للناس عليه حقوق من مال أو مما يو ِ غرم مال ببينة عدل أو إقرار منه صحيح ،بيع عليه كل ما يوجد له ُ ُ ل ،كما ل يحل أن ُيحبس وأنصف الغرماء ،ول يحل أن ُيسجن أص ً عسرة سر مطلقا لقول ا تعالى) :وإن كان ذو ُ المدين المع ِ ي قال: خدر ّ سرة( ،وِلما ُروي عن أبي سعيد ال ُ ظرة إلى مي َ فَن ِ )أصيب رجل في ثمار ابتاعها في عهد رسول ا صلى ا عليه وسلم فكُثر دْينه فقال رسول ا صلى ا عليه وسلم لغرمائه: خذوا ما وجدتم وليس لكم إل ّ ذلك( ،وُروي أنه عليه السلم َقسم مال المفلس بين الغرماء ولم يسجنه قط ،وعن محمد بن علي بن الحسين قال :قال علي بن أبي طالب) :حْبس الرجل في السجن بعد ما ُيعرف عليه من دْين ظلم( .وأّما ما ُروي عن عمر من طريق سعيد بن المسيب )أن عمر حبس عصبة منفوس ُينفقون عليه الرجال دون النساء( فإنه ل يدل على حبس المدين وإّنما يدل على حبس من تجب عليه النفقة إذا لم ُينِفق على الصغير ،والنفقة من الموال التي ُتفرض على القادر على النفاق .فذلك يدل على حبس من لم ُينفق على الصغير خاصة وهو المنفوس. والحكم في المفلس أن الحاكم يبيع للغرماء مال المدين وُيقسم عليهم بالحصص لنه ل سبيل لنصافهم بغير هذا ،عن عمر بن عبدالرحمن بن دلف عن أبيه أن رجل ً من جهينة كان يشتري الرواحل إلى أجل فيغالي بها فأفلس فُرفع إلى عمر بن الخطاب فقال :أّما بعد أيها الناس فإن السفع أسفع بني جهينة -251-
ن معرضا رضي من دْينه وأمانته بأن يقال سبق الحاج ،وأنه اّدا ّ فأصبح قد دين به ،فمن كان له عليه شيء فليغُد بالغداة فإّنا قاسمون ماله بالحصص( ،وعن عمر بن عبدالعزيز أنه قضى في المفلس بأنه ُيقسم ماله بين الغرماء ثم ُيترك حتى يرزقه ا. وُيقسم مال المفلس الذي يوجد له بين الغرماء بالحصص بالقيمة على الحاضرين الطالبين الذين حّلت آجال حقوقهم فقط، ول يدخل فيهم حاضر ل يطلب ول غائب لم يوكل ول حاضر أو حل أجل حل أجل حقه ،طلب أو لم يطلب ،لن من لم َي ِ غائب لم َي ِ حقه فل حق له ،ومن لم يطلب فل يلزم أن ُيعطى ما لم يطلب. هذا إن كان المفلس حيا ،أّما الميت المفلس فإنه يقضي لكل من حضر أو غاب ،طلب أو لم يطلب ،ولكل ذي دْين كان إلى حل بموت الذي له الحق أو أجل مسمى أو حال ،لن الجال كلها َت ِ الذي عليه الحق .وإن اجتمعت على المفلس حقوق ا وحقوق العباد فحقوق ا تعالى مقّدمة على حقوق الناس فُيبدأ بما فّرط فيه من زكاة أو كفارة ،فإن لم يعمُ ،قسم ذلك على كل هذه الحقوق بالحصص ل يبّدى منها شيء على شيء .وكذلك ف ماله بجميعها أخذ كل واحد بقدر ماله مما ديون الناس إن لم َي ِ ُوجد .ودليل أن حقوق ا مقّدمة على حقوق العباد ما ثبت عن ق أن رسول ا صلى ا عليه وسلم أنه قال) :دين ا أح ّ ق بالقضاء( .وحين يباع مال ُيقضى( ،وقوله) :واقضوا ا فهو أح ّ المفلس ُينظر في نفقته ونفقة من تلزمه نفقته ،فل تباع داره سكناها .أّما إن كان له داران ُيستغنى غنى له عن ُ التي ل ِ بإحداهما عن الخرى فتباع التي ُيستغنى عنها .وإن كان المفلس يكسب ما يمّونه ويمّون من يلزمه نفقته أو كان يقدر أن يكتسب ذلك بالفعل بأن يؤجر نفسه فإنه في هذه الحال يباع كل ماله ما عدا داره التي تلزمه لسكناها ،وإن لم يقدر على شيء من ذلك ُترك له من ماله ما يكفيه وينَفق عليه وعلى من تلزمه مؤونته بالمعروف من ماله إلى أن ُيفَرغ من قسمته بين غرمائه.
حوالـة ال َ الحوالة مأخوذة من تحويل الحق من ذمة إلى ذمة .وهي -252-
تحويل من عليه الحق من يطالبه بالحق على آخر له عنده حق. والحوالة ثابتة بالسّنة ،فقد روى أبو هريرة أن رسول ا صلى ي ظلم وإذا تبع أحدكم على ل الغن ّ ا عليه وسلم قال )َ :مط ُ مليء فليتبع( ،وفي لفظ )من أحيل بحقه على محيل فلَيحَتل(، وهي جائزة في الدْين والعْين أي في الحال والمؤجل لنها إحالة حق لخر على آخر وهو عام يشمل كل حق ،ولن لفظ الحديث )إذا ُأتِبع أحدكم على مليء( فهو عام يشمل أن يكون الحد والمليء عليه حق حال ويشمل أن يكون عليه حق مؤجل، فيبقى على عمومه .والمليء هو القادر على الوفاء ،جاء في الحديث عن النبي صلى ا عليه وسلم أنه قال) :إن ا تعالى يقول :من ُيقرض المليء غير المعَدم( ،إل ّ أن أمر الرسول باتباع طل، المليء إذا أحيل عليه يقتضي أن يكون غير جاحد ول مما ِ وُيفهم من ذلك من إجبار المحتال على أن يتبع المليء ،فيكون المليء هو القادر على الوفاء غير الجاحد ول المماطل. وواقع الحوالة ومنطوق الحديث يدل على أنه ل بد في الحوالة من محيل ومحتال ومحال عليه .فالذي يتبع هو المحيل، وكلمة أحدكم وهو المأمور بأن يتبع في دْينه ،شخص محتال، والمليء ،الذي يؤمر الشخص باتباعه ،هو المحال عليه. وُيشترط في صحة الحوالة أربعة شروط: أحدها -تماُثل الحّقين جنسا وحلول ً أو تأجيل ً لنها تحويل ل له فُينقل على صفته ،ولذلك يصح أن يحيل من عليه للحق ونق ٌ ذهب بذهب ومن عليه فضة بفضة ،ول يصح أن يحيل من عليه ذهب بفضة أو من عليه فضة بذهب .ويصح أن يحيل من عليه دْين إلى شهر بدْين إلى شهر ،ويصح أن يحيل من عليه دْين مستحق بدْين مستحق .فيصح أن يحيل حال ً بحال ومؤجل ً بمؤجل .أّما إن كان أحد الدينين حال ً والخر مؤجل ً أو أجل صح الحوالة. أحدهما إلى شهر والخر إلى شهرين لم َت ِ ثانيها -أن تكون الحوالة على دْين مستقر .فلو أحالت المرأة صح لنه غير مستقر ،ولو صداقها قبل الدخول لم َي ِ على زوجها ب َ أحال الموظف بأجرته قبل النتهاء من عمله أو قبل نهاية مدة صح لنه دْين غير مستقر .أّما لو أحال من ل دْين عليه إجارته لم َي ِ رجل ً على آخر له عليه دْين فليس ذلك بحوالة بل هي وكالة تثبت فيها أحكام الوكالة ل أحكام الحوالة .وإن أحال َمن عليه دْين -253-
على من ل دْين عليه فليست حوالة أيضا فل يلزم المحال عليه الداء ول يلزم المحتال قبول ذلك لن الحوالة معاَوضة ،ول معاوضة هنا ،فلو قبض المحتال من المحال عليه الدْين َرجع على المحيل. ثالثها -أن تكون بمال معلوم ،فل تصح بمال مجهول. رابعها -أن يحيل المحيل برضائه ول يجبر على الحوالة لن الحق عليه ،فل يلزمه أداؤه من جهة معينة ،إذ ل يلزمه أداؤه من جهة الدْين الذي على المحال عليه ،بل له أن يؤديه من أية جهة أراد ،ول يشترط رضا المحتال والمحال عليه ،بل ل يعتبر رضاهما مطلقا ،فالمحتال مجبور أن يقبل الحوالة ،والمحال عليه مجبور أن يقبل الحوالة .أّما إجبار المحتال فلقول النبي صلى ا عليه وسلم) :إذا ُأتبع أحدكم على مليء فليتبع( ،ولن للمحيل أن يوفي الحق الذي عليه بنفسه وبوكيله ،وقد أقام المحال عليه مقام نفسه في التقبيض ،فلزم المحال القبول .وأّما عدم رضا المحال عليه فلن الدائن أقام المحتال مقام نفسه في القبض فلم يفتقر إلى رضا من عليه الحق كالتوكيل. وعلى ذلك فالحوالة في السندات التي تتضمن مبالغ حالة كالشيكات أو مبالغ مؤجلة استحق أجلها وهو ما يسمى بحوالة العين جائزة برضا المحيل فقط ول يشترط فيها رضا المحتال والمحال عليه .وكذلك حوالة السندات التي تتضمن مبالغ مؤجلة لم يستحق أجلها كالكمبيالت وهو ما يسمى بحوالة الدْين سواء ض. ض ،رضي المحال عليه أم لم ير َ رضي المحتال أم لم ير َ والحوالة ليست عقدا حتى يشترط فيها الرضا ،فليس فيها إيجاب ول قبول ،وإّنما هي تصرف من الشخص نفسه كالضمان والكفالة والوصية وما شاكلها من التصرفات التي ل تعتبر عقدا من العقود.
التصويـر التصوير هو رسم صورة الشيء ،ومن التصوير صنع التماثيل ،ويشمل النحت .والرسم نفسه أو التمثال هو الصورة جمعها صورا ،ويقال لها في اللغة أيضا تصاوير ،ويشمل التماثيل، ويقال في اللغة التصاوير التماثيل .وقد حرم الشرع تصوير ما فيه -254-
روح من إنسان وحيوان وطير ،سواء أكان تصويرا على الورق أو الجلد أو الثياب أو الواني أو الحلي أو النقود أو غير ذلك فكله حرام ،إذ مجرد تصوير ما فيه روح حرام مهما كان الشيء الذي صور عليه .وتصوير ما ليس فيه روح جائز ل شيء فيه ،فقد أحل الشرع تصوير الشجر والجبال والزهار وغير ذلك مما ليس فيه روح. أّما تحريم ما فيه روح فثابت بالنصوص الشرعية .أخرج ما رأى النبي صلى ا البخاري من حديث ابن العباس قال) :ل ّ محيت(. عليه وسلم الصور التي في البيت لم يدخل حتى أمر بها ف ُ وعن عائشة )أنها نصبت سترا وفيه تصاوير ،فدخل رسول ا صلى ا عليه وسلم فنزعه .قالت :فقطعته وسادتين فكان يرتفق عليهما( ،وفي لفظ أحمد) :فقطعته مرفقتين فلقد رأيته متكئا على أحدهما وفيها صورة( .وأخرج البخاري من حديث عائشة قالت :قدم رسول ا صلى ا عليه وسلم من سفر وقد ما رآه هتكه وتلّون وجهه سترت سهوة لي بقرام فيه تماثيل ،فل ّ وقال) :يا عائشة ،أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق ا( ،والقرام الستر الرقيق الذي فيه ألوان أو ستر فيه رقم ونقوش .وفي حديث مسلم )أن النبي صلى ا عليه وسلم هتك درنوكا لعائشة كان فيه صور الخيل ذوات الجنحة حتى اتخذت منه وسادتين( ،والدرنوك نوع من الثياب .وأخرج البخاري من حديث ابن عباس قال :قال رسول ا صلى ا عليه وسلم: )من صور صورة عذبه ا بها يوم القيامة حتى ينفخ فيها الروح وما هو بنافخ( .وعن ابن عمر أن رسول ا صلى ا عليه وسلم قال) :الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم :أحيوا ما خلقتم( .وعن ابن عباس ،وجاءه رجل فقال: إني أصور هذه التصاوير فأفتني فيها ،فقال :سمعت رسول ا صلى ا عليه وسلم يقول) :كل مصور في النار ُيجعل له بكل صورة صورها نفسا تعذبه في جهنم ،فإن كنت ل بد فاعل ً فاجعل الشجر وما ل نفس له( .وروى أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول ا صلى ا عليه وسلم) :أتاني جبريل فقال :إني كنت أتيتك الليلة فلم يمنعني أن أدخل البيت الذي أنه كان فيه تمثال رجل وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل وكان في البيت مر برأس التمثال الذي في باب البيت ُيقطع ليصير كهيئة كلب ،ف ُ -255-
الشجرة ،وأُمر بالستر ُيقطع فُيجعل وسادتين منتبذتين توطآن، وأُمر بالكلب يخرج .ففعل رسول ا صلى ا عليه وسلم(، والقرام هو الستر الرقيق من صوف ذي ألوان .وعن أبي جحيفة قال) :إن رسول ا صلى ا عليه وسلم حرم ثمن الدم ،وفي نفس الحديث لعن المصورين(. فهذه الحاديث في جملتها تتضمن طلب ترك التصوير طلبا جازما ،وهذا دليل على أن التصوير حرام ،وهي عامة تشمل كل صورة ،سواء أكان لها ظل أو لم يكن لها ظل ،وسواء أكانت كاملة أو نصفية ،فل فرق في تحريم التصوير بين ما له ظل وما ل ظل له ،وبين الصورة الكاملة التي يمكن أن تعيش والصورة النصفية التي ل يمكن أن تعيش ،فكله حرام لعموم الحاديث، ولن حديث ابن عباس عن البيت أن الصور التي كانت في الكعبة كانت مرسومة رسما وليس لها ظل ،ولم يدخل الرسول حتى محيت .وحديث عائشة يدل على أن الستر كان مرسوما عليه صور ولها ظل لها .وروي أن النبي صلى ا عليه وسلم أرسل عليا في ل تذر تمثال ً إل ّ هدمته ،ول صورة إل ّ طمستها، سرية فقال له ) : ول قبرا مشرفا إل ّ سويته( ،فذكر كل النوعين ما له ظل وهو التمثال وما ل ظل له وهو الصورة التي ُتطمس ،فالتفريق بين ما له ظل وما ل ظل له غير صحيح ول أصل له ،ولن كونها تعيش أو ل تعيش ليس عّلة للتحريم ،ول يوجد دليل يستثنيه من الحرمة. وأّما جواز تصوير ما ليس فيه روح من شجر وجبال وغير ذلك فلن الحاديث التي جاءت في تحريم التصوير قد قيدت فيها الحرمة بالصورة التي فيها روح ،وهذا قيد معتبر له مفهوم ُيعمل به ،ومفهومه أن الصورة التي ليس فيها روح ليست حراما .نعم جاءت بعض الحاديث مطلقة ولكن بعضها جاءت مقيدة، والقاعدة الصولية "ُيحمل المطلق على المقيد" ،ويكون التحريم فقط للصورة التي فيها روح وهي النسان والحيوان والطير ،أّما ما عداها فل يحرم تصويرها ،بل يجوز .على أن إباحة تصوير ما ليس فيه روح من شجر ونحوه قد جاءت صريحة في الحاديث، مر برأس التمثال الذي في باب البيت ففي حديث أبي هريرة) :ف ُ فلُيقطع ليصير كهيئة الشجرة( ،وهذا يعني أن تمثال الشجر ل شيء فيه .وفي حديث ابن عباس) :فإن كنت ل بد فاعل ً فاجعل الشجر وما ل نفس له(. -256-
والحاديث التي جاءت بتحريم التصوير غير معّللة ،ولم َيِرد تعليل التصوير بأي عّلة ،ولذلك ل ُتلتمس له عّلة .وأّما ما روي عن ابن عمر من قول الرسول) :يقال لهم أحيوا ما خلقتم( ،وما ورد في حديث ابن عباس) :حتى ينفخ فيه الروح وما هو بنافخ( ،وما ورد في حديث عائشة عن الصور) :أشد الناس عذابا يوم القيامة الذي يضاهون بخلق ا( ،فإن ذلك كله لم َيِرد على وجه التعليل، واللفاظ والجمل التي في هذه الحاديث ل ُتفهم منها العّلّية، وكل ما في المر يشّبه الرسول التصوير بالخْلق والمصورين بالخالق ،والتشبيه ل يفيد التعليل ول يكون عّلة ،إذ تشبيه الشيء بشيء آخر ل يجعل المشبه به عّلة للمشبه وإنما يمكن أن يكون وصفا له ،ووصف الشيء ليس عّلة له .ولذلك ل يقال إن التصوير حرام لن فيه مضاهاة لخلق ا .فالله تعالى خلق النسان والحيوان والطير وخلق الشجر والجبال والزهار ،فإذا كان تصوير النسان والحيوان والطير حراما لعلة مضاهاة خلق ا فإن هذه العّلة موجودة في الشجر والجبال والزهار وغيرها ،فإنها خلق ا أيضا ،فيكون حينئذ تصويرها حراما لوجود العّلة في تصويرها ،والعلة تدور مع المعلول وجودا وعدما ،مع أن النصوص واردة بجواز تصوير الشجر وكل ما ليس فيه روح. وعليه فتصوير النسان والحيوان حرام للنصوص الواردة في تحريمه وليس لعّلة من العلل ،وتصوير الشجر والجبال وكل ما ليس فيه روح جائز ول شيء فيه للنصوص الواردة في إباحته. والتصوير الذي حرمه ا تعالى إنما هو الرسم والنقش وغيره مما يباشره النسان بقيامه بنفسه بالتصوير .أّما التصوير عن طريق اللة الفوتوغرافية فل يدخل فيه وليس من التصوير المحرم بل هو مباح .وذلك لن حقيقته ليس تصويرا وإنما هو نقل للظل من الواقع إلى الفلم ،وليس هو تصويرا للشخص من قبل المصور .فالمصور بآلة الفوتوغراف لم يصور الشخص وإنما انطبع ظل الشخص على الفلم بواسطة اللة ،فهو نقل للظل وليس تصويرا ،وبواسطة اللة وليس من ِقَبل المصور ،فل يدخل في النهي الوارد في الحاديث .فالحاديث تقول) :الذين يصنعون هذه الصور() ،إنني أصور هذه التصاوير() ،كل مصور(، )المصورين( .ومن يأخذ صورة الشخص أو الحيوان بآلة الفوتوغراف ل يصنع هذه الصورة ،ول يقوم هو بالتصوير ،وليس -257-
هو المصور ،وإنما آلة الفوتوغراف هي التي نقلت الظل إلى الفلم ،وهو لم يصنع شيئا سوى تحريك اللة ،ولذلك ليس هو المصور ،ول يمكن أن يكون هو المصور ول بوجه من الوجوه، ولهذا ل يشمله النهي مطلقا .على أن التصوير الذي ورد تحريمه حّدد نوعه ،وهو الذي يشبه الخلق في الحاديث قد ًوصف و ُ والذي يكون فيه المصور يشبه الخالق من حيث أنه إيجاد لشيء، فهو إيجاد صورة إّما برسمها من ذهنه أو برسمها عن أصلها الموجود أمامه .وفي كلتا الحالتين هو إيجاد للصورة ،لنه هو الذي فيه إبداع .أّما التصوير الفوتوغرافي فليس من هذا النوع، لنه ليس إيجادا بالصورة ول يوجد فيه إبداع وإنما هو انطباع ظل الشيء الموجود على الفلم .ولذلك ل يعتبر من نوع التصوير الوارد تحريمه في الحاديث ،فل تنطبق عليه الحاديث ول يدخل تحتها في التحريم .والواقع الفني للصورة التي باليد وللصورة الفوتوغرافية يوجد ذلك تمام التأييد فإنهما نوعان مختلفان كل الختلف ،فالصورة الفنية هي التي ُترسم باليد وهي غير الصورة الفوتوغرافية من حيث الفن ومن حيث البداع .فمن هنا أيضا يكون التصوير الفوتوغرافي مباحا ل شيء فيه. هذا بالنسبة للتصوير من حيث هو ،أّما اقتناء الصور التي عد للعبادة كمسجد ومصلى صورت فإنه إن كان في مكان ُم َ ُ ونحوهما فإنه حرام قطعا ،لما ورد في حديث ابن عباس أن الرسول صلى ا عليه وسلم أبى أن يدخل الكعبة حتى محيت الصور التي فيها .فهذا طلب جازم للترك فيكون دليل ً على عد للعبادة كالبيوت التحريم .وأّما اقتناؤها في مكان غير ُم َ والمكاتب والمدارس وغيرها ففيه تفصيل ،وبيانه :أنه إن كان اقتناء الصورة في موضع فيه تعظيم لها ،فمكروه وليس بحرام، وإن كان في موضع ليس فيه تعظيم لها فجائز ول شيء فيه .أّما كراهته في المكان الذي فيه تعظيم للصورة فلحديث عائشة أن الرسول نزع الستر الذي فيه صور ،ولحديث أبي هريرة أن جبريل أبى دخول البيت لن في تماثيل وصور وكلب .وأّما كون هذه الكراهة خاصة بالصور الموضوعة في مكان فيه تعظيم لها فلن حديث عائشة أن الرسول نزع الستر الذي فيه صور حين كان منصوبا واتكأ على المرفقة وفيها صورة .ولن حديث أبي هريرة قد قال فيه جبريل للرسول" :وأُمر بالستر ُيقطع فُيجعل وسادتين -258-
منتبذتين توطآن" .وهذا يدل على أن النهي مسلط على وضع الصورة في مكان فيه تعظيم لها وليس مسلطا على اقتنائها. وأّما كون وضع الصورة في مكان فيه تعظيم لها مكروها وليس بحرام فلن النهي الذي جاء في الحاديث لم يقترن بقرينة تدل على الجزم من مثل وعيد مقتني الصورة ،أو ذمه أو ما شاكل ذلك كما ورد في التصوير بل جاء مجرد طلب ترك وجاءت أحاديث أخرى تنهى عن اقتناء التماثيل وتجيز اقتناء الصور المرقومة أي المرسومة مما يعتبر قرينة على أن النهي ليس للجزم ،ففي حديث أبي طلحة عند مسلم بلفظ :سمعت رسول ل تدخل الملئكة بيتا فيه كلب أو ا صلى ا عليه وسلم يقول ) : تمثال( ،وفيه أنه قال) :إل ّ رقما في ثوب( .فهذا يدل على استثناء الصورة المرقمة في الثوب مفهومه أن الملئكة تدخل البيت الذي ضم فيه تمثال مرقم في ثوب أي صورة مرسومة رسما .فإذا ُ هذا الحديث إلى أحاديث النهي الخرى كان قرينة على أن طلب الترك غير جازم فكان اقتناء الصورة في مكان فيه تعظيم لها مكروها وليس بحرام. وأّما النظر إلى الصورة فإنه مباح ول شيء فيه ،ول فرق بين صورة إنسان أو حيوان ،ول بين صورة الرجل وصورة المرأة، وكذلك ل فرق بين الكاملة والصورة غير الكاملة ،ول بين الصورة المسلطة عليها النوار وغيرها ،فجميع الصور يباح النظر إليها على أية حالة من الحالت ما دامت صورة .وذلك لن النظر كالمشي والقيام والقعود والكل والشرب والسمع والشم وغير ذلك من جِبّلّية فكلها جاءت الدلة على إباحتها عامة ،فتبقى العمال ال ِ عامة ما لم َيِرد دليل التخصيص ،وتبقى مباحة ما لم يرد دليل على تحريم شيء معين ،فيصبح هذا الشيء حراما ،ل النظر من حيث هو .وإباحة النظر جاءت عامة فإذا ورد تحريم النظر إلى شيء كتحريم النظر إلى العورة ،وكتحريم النظر إلى المرأة بشهوة ،فيحرم ذلك الشيء الذي ورد تحريمه ويكون التحريم له وحده حسب دللة الدليل ،ويبقى النظر من حيث هو مباحا .وبما أنه لم َيِرد دليل على تحريم النظر إلى الصورة فيبقى النظر إليها مباحا لعموم إباحة النظر. ول يقال يحرم النظر خوف الفتنة .لن خوف الفتنة ل يحرم وليس هو دليل ً على التحريم ول تنطبق عليه قاعدة" :الوسيلة -259-
إلى الحرام محرمة" لمخالفته لشروطها .وعليه فإن النظر إلى الصور كلها مباح ول شيء فيه.
فهرست الكتاب رقم الصفحة
الموضوع رقم الصفحة دراسة الفقه نماذج من الفقه الخلفة المدة التي يمهل فيها المسلمون لقامة خليفة انعقاد الخلفة
2 3 4 10 11
11
البيعة شروط الخليفة
14 16 -260-
طلب الخلفة وحدة الخلفة الستخلف أو العهد طريقة نصب الخليفة لم يعين الشرع شخصا معينا للخلفة المسؤوليات العامة الدولة السلمية دولة بشرية وليست دولة إلهية عزل الخليفة المارة الطاعة تبني الخليفة للحكام والساليب الجهاد الخليفة والجهاد معنى تولي الخليفة لقيادة الجيش الشهيد الرباط الجيش السلمي الستعانة بالكفار في القتال تجهيز الجيش السلمي اللوية والرايات السرى السياسة الحربية الكذب في الحرب التجسس الهدنة الحلف العسكرية المعاهدات الجائزة المعاهدات الضطرارية نقض المعاهدات الكافر الحربي المستأَمن أحكام الذمي يجب تطبيق أحكام السلم على الكفار -261-
20 20 22 23 32 62 67 80 82 85 87 95 99 100 108 114 115 116 120 120 121 126 131 133 139 140 142 143 145 147 148 149 153
الجزية الراضي الخراجية دار الكفر ودار السلم موالة المؤمنين للكفار الهجرة من دار الكفر لدار السلم موقف السلم من الرق والسترقاق العلقات بين الفراد البيع كل ما حرم على العباد بيعه حرام ل يجوز بيع ما ليس عندك سَلم بيع ال َ بيع الثمار على أصولها البيع بالّدين والتقسيط السمسرة الجارة الجير الجرة تقدير الجرة مقدار الجرة دفع الجرة أنواع ا ُ لجراء ل توجد مشاكل عمال استئجار العيان استئجار الدور للسكنى الرشوة الرهن النتفاع بالرهن المفلس الحوالة التصوير
-262-
155 156 162 165 174 177 183 185 188 189 191 194 199 202 206 206 207 208 209 210 210 212 214 216 217 221 222 224 227 228