نظرات سياسية لحزب التحرير ذو الحجة 1392كانون الثاني )يناير( سنة 1973 من منشورات حزب التحرير
-1-
الطبعة الولى
-2-
بسم ا الرحمن الرحيم نظرات سياسية لحزب التحرير الدول كلها عدوة للسل،م ،لنها تعتنق ديانات ومبادئ تناقض السل،م ،ولها وجهة نظر في الحياة تخالف بل تناقض وجهة النظر السلمية ،والدول الكبرى بنوع خاص تزيد على ذلك بأنها تطمع في البلد السلمية ،ولذلك قضت على الدولة السلمية للقضاء على ال ةّمة السلمية ،ورسمت الخطط البعيدة المدى للحيلولة دون عودة الدولة السلمية إلى الحياة لحَتحول دون عودة ال ةّمة السلمية أ ةّمة عظيمة بين المم ،وبالطبع ترسم الخطط وتبذل الجهود لوأد الدولة السلمية في مهدها ،قبل أن تتحرك ال ةّمة السلمية ،وستظل دؤوبة على مقاومة ال ةّمة السلمية ،ومقاومة وجودها ،وقوتها ،ما دامت الدولة السلمية قائمة ،أو ما دامت هذه الدول العدوة قوية كدولة ،أو قوية كشعب ،بل كأفراد .وإذا كانت معرفة السياسة الخارجية لكل دولة في العالم أمرا ل يستغني عنه كل سياسي مسلم ،فإن إدراك ُكنه ،وخفايا ،وخطط، وأساليب ،ووسائل الدول الكبرى أمر بالغ الهمية لكل مسلم بشكل إجمالي ،ولكل سياسي بل مفكر مسلم بشكل تفصيلي واقعي سائرا مع الحداث اليومية المتغيرة ،والمتجددة ،مع بقاء -3-
التصور الكامل للسس والقواعد التي تقو،م عليها سياسة أي دولة كبرى ،من أجل إدراك الخطار ،ودوا،م العمل لمن البلد ،أي لمن الدولة وال ةّمة السلمية. وإذا كان العصر الحاضر تتحكم فيه في السياسة الدولية دولتان هما أمريكا وروسيا ،فإن اثنتين أخريين من الدول الكبرى ل تنفكان ولن تنفكا عن العمل إلى الرجوع للتأثير الدولي ،فوق ما لكل واحدة منهما من أطماع وتأثير في البلد السلمية ،ومن حقد وكيد للسل،م والمسلمين .ومن أجل ذلك ل بد من معرفة واقع السياسة الخارجية لكل من أمريكا ،وروسيا ،وانجلترا ،وفرنسا ،إلى ت من كل دولة ،وأن أمن البلد يتطلب جانب اعتبار أن الخطر آ ٍ دوا،م اليقظة والحذر على الجميع. واقع السياسة النجليزية أول ما يجب أن ُيعلم أن الشعب النجليزي شعب صغير ،وأن هلة طبيعيا من هذه البلد النجليزية بلد صغيرة ،ولذلك غير مؤ َّ الجهة لن تكون دولة كبرى ،ول دولة ُيحسب لها حساب ،ولكن هذا الشعب النجليزي يتميز بميزتين هامتين هما :الذكاء ،وسعة الحيلة .وبهاتين الميزتين معا ،استطاعت انجلترا أن تكون دولة كبرى ،واستطاعت أن تشكل خطرا على العالم كله بشكل عا،م، وعلى الدولة السلمية بشكل خاص. -4-
أ ةّما الخطة التي رسمتها لن تكون قوية ،فإنها تتلخص في خر غيرها من الفراد ،والشعوب ،والدول، شيء واحد ،هو :أن تس ِّ لن تكون أداة بيدها ،أو للسير معها في تحقيق أهدافها أو لمشاركتها في عداوتها لعدائها ،أو في جر المغانم ودفع المغار،م، أو لدفعها وحدها للتورط في المشاكل التي تضعفها وتجعلها تسير في السياسة التي يريدها النجليز. هذه هي الخطة الدائمة لبريطانيا ،ولذلك تهتم اهتماما جديا بالتوازن الدولي ،وتعادي بل تقامِو،م إلى حد الحرب إذا استطاعت أي دولة أن تكبر إلى حد ُيخل بالتوازن الذي رسمته ،وتقاو،م أي دولة تحاول أن تصبح الدولى الولى ،وتكافح كل شعب ،وكل جماعة ،بل كل فرد يسعى للستقلل عن أي دولة تطمع بالسيطرة عليها ،أو للنضما،م لية دولة يساعد هذا النضما،م على الخلل بالتوازن ،أو يقوي أية دولة تعاديها. إن انجلترا الن في سبعينات القرن العشرين دولة ضعيفة دوليا ،ولكنها قوية واقعيا ،فميزتاها المعروفتان ل تزالن مرات لها ،ل يزال موجودتين لديها ،والشعوب التي كانت مستع حَ أكثرها في قبضة يدها تحت اسم الكومنولث ،والبلد السلمية ل يزال أكثرها تحت نفوذها أو تحت سيطرتها ،والدول الوروبية التي اعتادت ج ةّرها وراءها ل يزال القسم العظم منها في ولء تقليدي لها ،أو في صداقة تقليدية معها .وأمريكا ،مع كونها صارت تنافس -5-
معينة لها انجلترا وتحاول تقليص حجمها ،ولكنها مع ذلك ل تزال ال ُ في الحياة ،والحامية لها من الندثار والزوال .ولذلك فإن ضعفها دوليا ل يعتبر طردا لها نهائيا من المجال الدولي ،بل هو عملية قامت بها روسيا وأمريكا بالساليب الدولية ،ل بقطع الشرايين التي تمدها بالحياة والقوة ،وتضمن لها البقاء واستئناف السير. لذلك ل يصح أن ُينظر لنجلترا نظرة استضعاف ،ول يصح أن ُيعتبر ضعفها الدولي دليل ع ً على ضعفها الحقيقي ،بل يجب أن ُيفَّرق في النظرة إليها بين حالها دوليا ،وبين حالها في مقومات قوتها الحقيقية. هذا هو أساس السياسة النجليزية :شعب صغير في بلد صغيرة ،يريد أن يكون الول في هذه الحياة ،ويريد العظمة والمجد ،ومن أجل ذلك يك ةّتل القوى ،مهما كانت ،ليتخذها أداة لتحقيق عظمته ومجده .وعلى هذا الساس يسير في جميع سياسته ،في حالة القوة كما كان في القرن التاسع عشر وأوائل العشرين ،وفي حالة الضعف كما هي حاله منذ أربعينات القرن العشرين. وهدفه من أن يكون الدولة الولى ،أو أن يشارك في السياسة الدولية ،هو :أن يتحكم في العلقات الدولية ،وفي الدول نفسها ،ليتخذها أداة للسيطرة والستغلل ،وللدفاع عنه حين يلز،م الدفاع .فانجلترا هي التي جمعت دول أوروبا لضرب الدولة -6-
السلمية ثم للقضاء عليها ،وانجلترا هي التي ج ةّرت العالم للحرب العالمية الولى ،ل لضرب ألمانيا فحسب حين حصل الختلل في توازن الدول الوروبية ،ولكن أيضا إلى تصفية الدولة السلمية تصفية نهائية .وانجلترا هي التي ج ةّرت العالم للحرب العالمية الثانية ل لضرب ألمانيا فحسب حين حصل الختلل في توازن دول أوروبا ،بل لهذا ولمحاولة تصفية النظا،م الشيوعي في روسيا. وإذا كانت فرنسا وأمريكا لم تدرك أي منهما في أعقاب خرتا من أجل حفظ عظمة س ةّ الحرب العالمية الولى أنهما قد ُ انجلترا وتحقيق أطماعها وحمايتها ،ولم تدركا ذلك في الحرب العالمية الثانية ،ولكن روسيا كانت مدمِركة أهداف انجلترا من الحرب العالمية الثانية ،ولذلك فإن هذا الدراك الروسي هو الذي جعل أمريكا في أعقاب الحرب العالمية الثانية تلمس تسخير انجلترا لها ،وجعل فرنسا تتنبه إلى نفسها من انجلترا ،وهو الذي طرد انجلترا من المجال الدولي بعد أن نجح في إخراج فرنسا منه .وإذا كانت فرنسا لم تبلغ بها الحصافة إلى حد منع انجلترا من الشتراك في قضايا أوروبا ،وبالتالي من دخول السوق المشتركة، فإن أمريكا قد أدركت أن قصقصة أجنحة انجلترا وتقليص قوتها، وقطع شرايين الحياة لها ،أمر ل بد منه للحيلولة دون تسلط النجليز على المريكان .وعلى هذا بات المل قويا في ضرب النجليز الضربة القاضية ،وإرجاعهم شعبا صغيرا في بلد صغيرة، -7-
ما دا،م الروس ليس من المحتمل أن يثقوا بالنجليز أو أن يكفوا عن الوقوف في وجههم ،وما دا،م المريكان قد تن ةّبهوا لما كان حائقا بهم وهو تسخير النجليز لهم ،وما داموا يسيرون في سياسة تقليص القوة النجليزية ومحاولة قطع شرايين الحياة لهم. إن السياسة البريطانية ل تزال تعمل بقوة ضد روسيا بشتى حسن الساليب ،دوليا ،وفي السياسات الجزئية ،ول تزال تتخذ ُ التأتي ،والخداع ،والساليب الخفية ،لبقاء أمريكا سندا لها، ولمقاومة السياسة المريكية فيما تقو،م به ضد انجلترا .وإذا كان ل يوجد هناك أمل في أن تتساهل روسيا مع انجلترا ،ول يوجد أمل في أن تحسم أمريكا موقفها مع انجلترا كحسم روسيا ،فإن هناك خوفا من أن تستطيع انجلترا تكتيل أوروبا ،وبالتالي إيقاف أمريكا عن محاولتها ضرب انجلترا ،أو تخفيف هذه الضربات .وهناك خوف من أن تتحول روسيا إلى الوضع القيصري ،فيصبح هدفها حماية نفسها وبقاؤها دولة كبرى فحسب ،ل دولة شيوعية تستهدف العالم كله .ولذلك فإن إذكاء الروح العالمية في روسيا، مع أنها هدف خيالي ،وإبقاء المصالح المريكية خارج العالم الجديد ،هما اللذان يبددان الخوف من أن يرجع النجليز إلى المجال الدولي ،وبالتالي يبقيانهم في حالة الدفاع عن النفس وعد،م النتقال إلى حال السيطرة والهجو،م. أ ةّما السياسة النجليزية غير الدولية ،فإنها ليست في أمريكا، -8-
ول في أوروبا ،وبالطبع ليست في روسيا وإ ةّنما هي متركزة في آسيا وافريقيا ،أي في البلدان التي تطمع في استغللها ،وجعلها قوة لها ،وشرايين الحياة لشعبها ودولتها .ولهذا فإن مقتل انجلترا إ ةّنما يكمن في آسيا وافريقيا وليس في أوروبا ،فقوتها تنبع من هذين الموقعين ،وحياتها معلقة بوجودها في هذين الموقعين. وما دا،م هذان الموقعان لها فيهما أو في أي منهما قوة ،فإنها تبقى قوية مهما ضعفت ،وتبقى دولة حية مؤثرة مهما لحقها من ضربات .ولذلك فإن السياسة النجليزية إذا ُدرست للتفهم والعمل ل ،ثم ُتدرس في أوروبا .ومن فإ ةّنما ُتدرس في آسيا وافريقيا أو ع ً هنا كان الفهم الحقيقي للسياسة النجليزية ،للعمل ضدها ،يجب أن يكون في دراسة سياستها في آسيا وافريقيا ،ثم دراستها في أوروبا .لن سياسة انجلترا في أوروبا ،إ ةّنما تنفع للعمل ضدها دوليا ،وللحيلولة دون تكتيلها وتسخيرها لها ،سواء في السياسة الدولية ،أو السياسة الستعمارية. وسياستها في آسيا وافريقيا ،وإن كان ل بد فيها من دراستها في كل بلد ،أو في كل منطقة على القل ،ولكن ذلك ُيدخل المرء في تفصيلت من الصعب الحاطة بها ،ولن فيها قابلية التغيير والتجدد والتحول ،وهذا تابع لمتابعة الحداث اليومية ،ولذلك من الصعب دراستها ،وإن كان من الممكن أثناء العمل متابعتها. ولذلك ل بد أن ُيكتفى بالخطوط العريضة لسس هذه السياسة -9-
في هذين البلدين. وهذه الخطوط العريضة تتلخص فيما يلي: ل :تعتمد انجلترا في هذه البلد على أنظمة الحكم ،فهي أو ع ً تخلق فيها دول ع ً جديدة كالردن ،أو تقسم الدول إلى أقسا،م متنازعة كالهند وفلسطين ،أو تكِّتل الدول التي تريد منعها من الوحدة أو تسهل استغللها لها كتنزانيا وماليزيا ،ومشروع وحدة شمال افريقيا ،أو مشروع الهلل الخصيب ،أو تغِّير الحكا،م بحكا،م آخرين كما فعلت في ليبيا وأوغندة ،أو تقلب أنظمة الحكم غير الموالية لها كما فعلت في السعودية والجزائر .فهي في مراقبة دائمة لنظمة الحكم ،وفي عمل متواصل فيها ،إما لتقويتها أو إضعافها أو تركيزها أو قلقلتها ،أو غير ذلك. ثانيا :يعتمد النجليز في آسيا وافريقيا على الستغلل القتصادي عن طريق رؤوس الموال ،والشركات ،ورجال العمال ،والتجار ،وغيرهم .فدخلت الهند عن طريق الشركة الشرقية ،ول تزال فيها بواسطة الشركات ورجال العمال والتجار. ودخلت جزيرة العرب عن طريق الموال والتجار ول تزال فيها بواسطة التجارة ورجال العمال .ودخلت إيران عن طريق شركات النفط ،ول تزال فيها بواسطة الشركات والتجارة ورجال العمال .ودخلت نيجيريا عن طريق الشركات ،ول تزال فيها بواسطة الشركات والتجارة ورجال العمال .وهكذا أكثر البلدان -10-
التي لم تدخلها بحرب عن طريق الجيش كالعراق ومصر دخلتها عن طريق القتصاد .والبلدان التي خرجت منها عسكريا مثل كينيا وتنجانيقا وزنجبار بقيت فيها عن طريق الشركات والتجارة ورجال العمال. فالقتصاد هو الداة الفعالة للوجود النجليزي في أكثر بلد آسيا وافريقيا. ثالثا :تعتمد انجلترا في دخول البلد وفي البقاء فيها على العملء ،وهؤلء العملء أنواع ،منهم العملء في السياسة، ومنهم العملء في القتصاد ،ومنهم العملء في التجارة ،ومنهم العملء في الفكر ونشر الرأي ،ومنهم العملء في العلم والتعليم، ومنهم العملء في الدين الذي تعتنقه البلد .وإذا كان العملء في السياسة هم أبرز العملء الظاهرين ،فإن باقي أنواع العملء ل يقلون خطرا عن العملء السياسيين ،بل ربما يكونون أشد خطرا على البلد وأقوى أداة للنفوذ النجليزي .ولذلك فإن جميع أنواع العملء هم جزء من السياسة النجليزية ،فبهم تدخل البلد كما دخلت للجزيرة العربية ،وكما دخلت لمصر ،وبهم تبقى في البلد كما هي الحال في الهند وتنجانيقا. رابعا :تعتبر الفكار المضِّللة والراء المثيرة ،والخبار المؤثرة ،وما شابه ذلك ،وسيلة فعالة للوجود النجليزي في البلد، سواء لدخول البلد أو للبقاء فيها .ففكرة القومية قد سلخت -11-
البلقان عن الدولة العثمانية ،وكانت قوة في تأييد فصل البلد العربية والبلد التركية عن بعضها .وأفكار الديمقراطية ،والحضارة الغربية ،هي التي تبقي البلد السلمية تابعة للغرب وغير قادرة على النفصال عنه .وهذه الفكار والراء ،سواء أكانت عامة كالقومية ،أو خاصة مثل فكرة ُنبل بريطانيا ،وصدق النجليز، كنت ودهاء انجلترا ،قد أوجدت تربة خصبة في كثير من البلدان م ةّ كنتها من البقاء. انجلترا من دخول البلد ،وم ةّ خامسا :تستعمل انجلترا التضليل السياسي وسيلة فعالة لبسط نفوذها على البلد ،فهي قد دخلت تركيا ول تزال فيها عن طريق التضليل السياسي ،وهي تركز نفسها في جنوب افريقيا خر تركيا وروديسيا عن طريق التضليل السياسي .وهي تس ِّ واليونان في قبرص لتمكينها من البقاء فيها عن طريق التضليل السياسي. هذه أهم الخطوط العريضة لسس السياسة النجليزية في آسيا وافريقيا .وهذه السس هي غير الوسائل الظاهرة كالقواعد العسكرية ،والسطول البحري ،والتهديد الفعال ،والضغط المثمر وما شابهها .فإن تلك هي وسائل مادية وإن كانت تعتمد عليها انجلترا في سياستها في آسيا وافريقيا ،ولكنها وسائل ظاهرة مكشوفة .أ ةّما هذه الخطوط العريضة الخمسة وما شابهها فإنها هي السياسة المؤثرة التي تكفل الوجود والبقاء .ولذلك لم تكن -12-
أمريكا وروسيا فعالتين في ضرب انجلترا الضربة الموجعة حين اتفقتا على تصفية القواعد العسكرية في العالم ،وحين ق ةّلصتا القوة العسكرية النجليزية في العالم .فإن هذه ليست محاولت لقطع شريان الحياة لنجلترا وإضعاف قوتها ،وليست قطعا لشريانها ،ول إزالة لقوتها ،فإنه ما دا،م لنجلترا عملء وقوة اقتصادية في أي بلد فإن هذا وحده كاف لبقائها ،وللرجوع إليها إذا طردت منها .والهند وتنزانيا ونيجيريا خير مثال على ذلك. ُ فالسياسة النجليزية كما أنها ُترسم للشتراك في السياسة الدولية وللتأثير الدولي ،كذلك ُترسم للسيطرة وبسط النفوذ، وللستغلل للبلد والناس .حتى أن رسمها للناحية الدولية وإن كان من أجل العظمة والمجد ،فإنه كذلك من أجل الستغلل ،وحتى بسط النفوذ نفسه إ ةّنما هو من أجل الستغلل .فالصل في السياسة النجليزية إ ةّنما هو استغلل البلد والناس ،والباقي كله وسائل لهذا الستغلل. هذا هو واقع السياسة النجليزية ،فإذا ُفهم هذا الواقع فهما واقعيا ،فإنه حينئذ يمكن أن ُتسلك الطريق لضرب هذه السياسة، بل يمكن أن ُتسلك الطريق لضرب النجليز. واقع السياسة المريكية السياسة المريكية لها وضعان :وضع ما قبل الحرب العالمية -13-
الثانية ،ووضع ما بعد الحرب العالمية الثانية .أ ةّما وضعها قبل الحرب العالمية الثانية فإنه ل يهمنا كثيرا ،وإن كان ل مانع من أن ُنمِلم به .أ ةّما وضعها بعد الحرب العالمية الثانية فإنه هو المهم ،لن دراسته من أجل العمل هي التي تثمر .أ ةّما دراسة وضعها قبل الحرب العالمية الثانية فإنه يفيد في إدراك السس التي تقو،م عليها السياسة المريكية ككل .وهذا ينفعنا في العمل كمعلومات سابقة للحكم على الحوادث الجارية. والسياسة المريكية قبل الحرب العالمية الثانية كانت تقو،م على أساس النفراد في نصف الكرة الغربي ،ومن أجل ذلك تبنت مبدأ مونرو .فكانت سياستها الخارجية تقو،م على أساس حماية نصف الكرة الغربي من الدول الخرى الموجودة في العالم القديم .والعالم القديم كان يتمثل لمريكا في أوروبا ،لنه بعد الحلف المقدس الذي من أجله ُوجد مبدأ مونرو ،لم يبق في العالم القديم قوة تهدد أمريكا ،أو يمكنها أن تهدد أمريكا سوى أوروبا .فإنه بعد ضرب الدولة السلمية وإضعافها لم يبق في العالم القديم سوى أوروبا ،ولذلك بنت أمريكا سياستها في الدفاع عن نفسها أي في حماية نفسها على رسم سياسة خاصة تجاه أوروبا ،وأوروبا كانت فيها أربع دول كبرى هي انجلترا وفرنسا والمانيا وروسيا .وهذه الدول بعد أن استراحت من الدولة العثمانية ،صار الصراع بينها على أشده ،وأمريكا كانت تغذي هذا -14-
الصراع .فأول ع ً اعتمدت سياسة توازن القوى بين الدول الوروبية بحيث ل تتمكن أي دولة من هذه الدول من السيطرة على أوروبا، وثانيا تبنت انجلترا تبنيا تاما واحتضنتها وأيدتها في سياسة توازن القوى بين الدول الوروبية ،وثالثا كانت تقف إلى جانب أي دولة أوروبية تريد دولة أخرى أوروبية أن تبتلعها .وبسبب ذلك بقيت الدول الصغيرة كما هي مثل سويسرا ولوكسمبرغ وبلجيكا ..الخ، وبقي وضع انجلترا قويا ،كما بقي وضع فرنسا قويا .والدولة التي كانت تخيف أمريكا من أن تقو،م بالسيطرة على أوروبا هي ألمانيا بالدرجة الولى وروسيا في الدرجة الثانية ،ومن أجل ذلك دخلت الحرب العالمية الولى ضد ألمانيا ،واشتركت ضدها كذلك في الحرب العالمية الثانية ،ومن أجل ذلك أيضا وقفت في وجه روسيا بعد الحرب العالمية الثانية ومنعتها من اكتساح أوروبا. فسياسة أمريكا قبل الحرب العالمية الثانية وعقبها كانت سياسة توازن القوى في أوروبا ،من أجل حماية نصف الكرة الغربي من أن تدخله أي دولة أوروبية .ولهذا ل توجد لها سياسة خارجية خارج نصف الكرة الغربي إل ةّ سياسة الحماية وهي تعتمد على توازن القوى بين الدول الوروبية ،وكانت كل أعمالها السياسية والعسكرية محصورة في نصف الكرة الغربي ،ولم تخرج منه إل ةّ في استعمار الفلبين من أجل اليابان ،فإنها كانت تخشى من اليابان ،ولكن كانت تكتفي بالستعداد لضربها إذا -15-
فكرت بمهاجمتها فاستعمرت الفلبين من أجل هذه الغاية ،واكتفت بذلك لعد،م أهمية خطر اليابان. أ ةّما سياستها بعد الحرب العالمية الثانية فقد تغيرت تغيرا كليا وانقلبت رأسا على عقب ،ولذلك فإن السياسة المريكية التي يجب أن ُتدرس هي سياستها بعد الحرب العالمية الثانية ،لنها هي السياسة التي تؤثر في الحياة الدولية ،والتي تحتاج مكافحتها وإزالة خطرها إلى تف ةّهم عميق ،ومعرفة بالدوافع والساليب والوسائل. وقبل كل شيء ل بد أن تؤخذ فكرة عن الشعب المريكي، لن الشعوب والمم التي تختار حكامها بنفسها تعتبر هي الدولة، فل يوجد هناك فرق بين الشعب والدولة ،فالدولة النجليزية هي الشعب النجليزي ،والدولة الفرنسية هي الشعب الفرنسي، والدولة المريكية هي الشعب المريكي .والشعب المريكي أو أمريكا ،كانت حتى القرن الثامن عشر بل حتى أوائل القرن التاسع مرة من المستعمرات الوروبية ،فكانت الدول عشر مستع حَ ما قامت بثورتها الوروبية هي التي تستعمرها ول سيما انجلترا .فل ةّ الكبرى وطردت الدول الستعمارية وطردت انجلترا بالذاتُ ،وجدت دولة مستقلة ،ثم صارت تنمو حتى صارت دولة كبرى .إل ةّ أن المبدأ الرأسمالي والحضارة الوروبية صار هو مبدأها ،وصارت هي حضارتها ،وصارت تعتنق الرأسمالية كما يعتقدها الوروبيون سواء -16-
بسواء ،وصارت حضارة أوروبا هي حضارتها ،ولذلك فإنها من حيث المبدأ والحضارة دولة أوروبية ،ل فرق بينها وبين فرنسا ول بينها وبين انجلترا ،ثم صارت تتزعم هذه الحضارة وتدافع عنها كما تدافع الدول الوروبية ،حتى قال ايزنهاور وهو رئيس للوليات المتحدة أي لمريكا :إننا مستعدون أن نقاتل دفاعا عن طريقتنا في العيش ،أي دفاعا عن الحضارة الغربية وعن المبدأ الرأسمالي. إل ةّ أن الشعب المريكي وقد قاتل في سبيل حريته ودفاعا شق الحرية عنها ،وبذل الغالي والنفيس في سبيلها ،فقد تع َّ وصارت جزءا من تكوين عقليته وتكوينه .ثم إنه وقد نجح في الحياة ونجح في تجربته نجاحا منقطع النظير بفضل دأبه وكفاحه، فصارت لديه ميزتان هما الخيال الخلق ،والرادة الب ةّناءة ،إلى جانب فكرة سد الذرائع )براجماتز،م( وهي سد كل نواحي التفكير والعمل عن نفسه خلف العمل الذي يقو،م به ،وحصر فكره وجهده في العمل الذي يقو،م به .وبسبب هاتين الميزتين إلى جانب الفكرة العملية ظل يسير في الطريق التصاعدي إلى أن حقق عظمته التي يتمتع بها اليو،م .إل ةّ أنه وقد اعتنق المبدأ الرأسمالي والحضارة الوروبية ،فإنه بالطبع صار الستعمار واستغلل الغير جزءا من تفكيره والهدف الرئيسي له ،لن النفعية هي وجهة النظر في الحياة لدى الحضارة الغربية ،فهي وجهة -17-
النظر في الحياة لدى أمريكا .ولذلك فهي دولة استعمارية مثل انجلترا ومثل فرنسا سواء بسواء ،ومثل أي دولة أوروبية تعتنق المبدأ الرأسمالي والحضارة الغربية. إل ةّ أن هذه الناحية الستعمارية لم تكن بارزة للناس قبل الحرب العالمية الثانية ،لن أمريكا كانت تحصر أعمالها الستعمارية في نصف الكرة الغربي ،فقا،م الحكم في أمريكا على الساس الرأسمالي ،وصارت الدولة هي عبارة عن وكيلة للغنياء والرأسماليين ،وأخذت تبسط سلطانها على أمريكا الجنوبية وعلى الجزر الواقعة في نصف الكرة الغربي .فكانت استعماريتها محصورة في العالم الجديد .أ ةّما نصف الكرة الشرقي أو العالم القديم فكانت تبشر فيه بأنها تتوق لن تغير العالم بقوة المثل الذي تقدمه له عن نفسها من الحرية والتحرير ،والخذ بيد الضعفاء ومساعدة الناس .ولذلك كانت لمريكا سمعة طيبة في العالم القديم ،وكانت لها محبة وإكبار ،إل ةّ أنها بعد الحرب العالمية شفت عن أنها دولة استعمارية ،ل تقل خطرا عن الدول الثانية تك ةّ الستعمارية الخرى إن لم يكن خطرها أفظع ،وظهرت على ج ةّد لديها جديد ،بل برز ما كانت تخفيه. حقيقتها ولم حَي مِ فالسياسة المريكية حين ُتدرس يجب أن ُتدرس على أن أمريكا دولة استعمارية ،ل فرق في ذلك بين سياستها قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها .إل ةّ أنها بعد الحرب العالمية الثانية ج ةّدت -18-
أمور وأحوال اقتضت تغيير سياستها بالظواهر والشكال والوسائل والساليب ،ولكن أساسها ظل كما هو .فقد كانت سياستها قبل الحرب العالمية الثانية تقو،م على أساس الدفاع عن نصف الكرة الغربي ،وتحصر أعمالها الستعمارية في نظا،م الحكم الرأسمالي الذي يقو،م على الرأسماليين ،وعلى جعل الدولة وكيلة عن الغنياء وأصحاب رؤوس الموال الضخمة ،وفي بسط السيطرة على أمريكا الجنوبية والجزر الواقعة في نصف الكرة الغربي، وتقو،م على نشر الحرية ،ومساعدة الشعوب الضعيفة ،وتحرير مرة ،ونشر القيم الرفيعة في سائر أنحاء العالم ،أي البلد المستع حَ في العالم القديم .ودخلت الحربين العالميتين الولى والثانية من مرة أجل الدفاع عن العالم الجديد ،ومن أجل تحرير البلد المستع حَ من الستعمار .وإذا كانت قد عادت إلى وضعها الصلي وسارت في سياستها المرسومة بعد الحرب العالمية الولى ،بحجة عد،م استطاعتها القيا،م بمهمتها في تحرير الشعوب ،فإنها بعد الحرب العالمية الثانية لم تستطع الرجوع إلى وضعها القديم ،أي إلى ما يسمى بالعزلة المريكية ،لن ظروف الدفاع قد تغيرت ،ولن آفاق الستغلل قد انفتحت واتسعت أما،م الغنياء وأصحاب رؤوس الموال الضخمة ،فاضطرت لن تتورط في العالم كله ،واضطرت لن تظل مشتركة في السياسة الدولية ،ولن تأخذ على عاتقها أمر العالم كله. -19-
أ ةّما ظروف الدفاع ،فإن الخطر الذي كان عليها إ ةّنما هو من تغ ةّلب دولة كبرى من دول أوروبا على أوروبا ،وكان هذا الخطر محدودا ومع ةّينا ،وتكفي في دفعه سياسة توازن القوى بين الدول الوروبية ،والتدخل عسكريا حين يختل هذا التوازن .أ ةّما بعد الحرب العالمية الثانية ،فقد برز التحاد السوفياتي دولة تشكل الخطر الماحق عليها ،سواء أكان ذلك في قوته العسكرية أو في فكرته الشيوعية .وكذلك تبين أن اليابان قد شكلت خطرا على أمريكا في الحرب العالمية الثانية ،ونشأت الصين دولة شيوعية قوية قد تشكل خطرا عليها في المستقبل ،وخرجت أوروبا من الحرب العالمية الثانية واهية القوى .فأوروبا الشرقية قد استولت عليها روسيا ،وأوروبا الغربية في حالة إنهاك وضعف ول تستطيع وحدها مواجهة الخطر السوفياتي الذي يتهدد التوازن الوروبي. وإلى جانب ذلك ظهر للرأسماليين وأصحاب الموال الضخمة ما كانت تتمتع به الدول الوروبية من منافع في الدول التي تستعمرها ،ورأت أن أوروبا نفسها يمكن أن تكون موضع استغلل لمريكا .فصار أمامها عاملن جديدان هامان :عامل الدفاع الذي أوجدته الحوال الجديدة التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية ،وعامل الستغلل الذي أسال لعابها في البلد مرة وفي أوروبا نفسها. المستع حَ وأما،م هذين العاملين وقفت متحيرة ل تدري أي طريق -20-
تسلك ،هل ترجع إلى عزلتها أ،م تظل مشتركة في هذا العالم؟ واستمرت حيرتها من بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية حتى سنة 1947وهي تدرس الوضاع الجديدة دون أن تتخذ أي قرار. وفي سنة 1947قررت البقاء في العالم ،والشتراك مع الدول الخرى في سياسة العالم وإدارته ،وأصبح للسياسة المريكية منذ سنة 1947نمطها الجديد .إل ةّ أنها لعد،م عراقتها في السياسة الدولية ،ولنها تعتنق المبدأ الرأسمالي ،وهذا المبدأ نفسه تعتنقه الدول الوروبية ،وهو يقضي بالصراع على المنافع ،وبأن الرغيف هو العلقة بين الشخص والشخص ،وبين الدولة والدولة، شر في العالم القديم بالمثل الرفيعة، آُكُله أنا أو أنت .ولنها كانت تب ةّ والقيم العليا ،والتحرير من الستعمار ،وهي دولة استعمارية ل بد أن حَتظهر الستعمارية في سلوكها .لهذه السباب الثلثة وقعت في حيرة في تنفيذ سياستها ،ووقعت في ارتباكات عديدة وارتكبت أخطاء فاحشة .واستمرت على هذه الحال طوال الخمسينات حتى أوائل الستينات ،حيث غيرت سياستها وسارت في سياسة أخرى. فبالنسبة للدفاع ،اتخذت –قبل الستينات -سياسة الحلف، وأقامت حزاما حول روسيا من الحلف والقواعد العسكرية النووية وغير النووية ،فأقامت مبدأ ترومان لحماية تركيا واليونان، كمبدأ مونرو الذي أقامته للدفاع عن نصف الكرة الغربي ،وأوجدت -21-
الحلف الطلسي ،وحلف جنوب شرقي آسيا ،وأوجدت مشروع مارشال لمساعدة أوروبا لتستطيع الوقوف على قدميها ضد التحاد السوفياتي ،ثم أوجدت سياسة المساعدات الخارجية ،فمبدأ تحرير الشعوب الخاضعة للشيوعية ،ثم تقوية موقف عد،م النحياز الذي تتخذه الدول غير المنحازة ،وتبنته وأخذته من انجلترا أخذا يكاد يكون تاما. سعت سياسة المساعدات وأ ةّما بالنسبة للستغلل ،فقد و ةّ مرة ،واتخذت الخارجية حتى شملت أكثر الدول التي كانت مستع حَ سياسة العدوان غير المباشر من النقلبات ،والتخريب والتدمير، وشراء الذمم ،سياسة فعالة ،وسارت فيها في بلدان متعددة. وبذلك تحملت أمريكا مسؤوليات دفاعية ضخمة خارج نصف الكرة الغربي ،ومسؤوليات اقتصادية في كل من أوروبا وآسيا وافريقيا، مل هذه المسؤوليات العسكرية والقتصادية ،وسارت ورضيت تح ةّ في سياستها بدأب ل يعرف الملل ،وبقوة ل تعرف الوهن، واندفعت فيها أينما اندفاع. إل ةّ أنها لم توَّفق في هذه السياسة ول في جهة من الجهات، إذ أخفقت فيها في الشرق الوسط أو الدنى كما أخفقت في الشرق القصى ،وأخفقت في أوروبا كما أخفقت في افريقيا، ووقعت في مآزق متعددة ،وارتكبت الخطاء الفاحشة ،وتخبطت تخبط العشواء ،مما اضطرها إلى دراسة هذه السياسة ،ورسم -22-
سياسة جديدة سارت فيها منذ سنة 1961حتى الن. أ ةّما السبب في ذلك فراجع إلى موقف النجليز في الدرجة الولى منها ومن سياستها ،ثم موقف فرنسا في الدرجة الثانية ثم الشعوب الخرى في آسيا وافريقيا وحتى في أوروبا نفسها .ذلك أن انجلترا بحكم العلقة الخاصة التي كانت قائمة بينها وبين أمريكا ،قد استطاعت أن تقنع أمريكا وفرنسا وسائر دول أوروبا أن العالم الشيوعي يشكل خطرا على العالم الحر ،وعلى الحضارة الغربية ،يهدد وجوده ووجودها .وبذلك قامت السياسة الدولية على أساس أن العالم معسكران :معسكر شرقي أي معسكر شيوعي وتتزعمه روسيا ،ومعسكر غربي أي معسكر رأسمالي أو العالم الحر وتتزعمه أمريكا ،وبذلك وضعت أمريكا موضع المسؤولية عن العالم الحر ،وجعلتها تتصدى لروسيا الشيوعية ،ثم أذكت الحرب الباردة بين روسيا وأمريكا بلبس ثوب الحرب الباردة بين المعسكرين ،فتورطت أمريكا في حرب كوريا، وأخذتها على عاتقها ،وعلى الرغم من أنها حرب بين المعسكرين فقد كانت انجلترا تقو،م بأعمال خفية لصالح الصين وروسيا ضد أمريكا ،ثم صارت تحاول القيا،م بأعمال لتوريط أمريكا، ولضعافها ،مما أربك أمريكا وأوقعها في مآزق وأزمات ،فكانت مؤتمرات القمة كمؤتمر برلين ومؤتمر جنيف ،وكان حلف بغداد لسقاط محاولت أمريكا في إقامة حلف دفاعي في الشرق -23-
الوسط في الحزا،م الشمالي المربوط ضد روسيا ،وكان الصراع العنيف حول ألمانيا وحول الدفاع عن غربي أوروبا ،وكانت العرقلت التي تقو،م بها في افريقيا مثل الكونغو وروديسيا الشمالية والجنوبية وغيرها ،والعرقلت التي تقو،م بها في الشرق الوسط في مثل فلسطين وشرق الردن ،وفي مثل سوريا ومصر ،وغير ذلك من العمال. أ ةّما فرنسا فإنها وهي تعلم أن شعار النجليز هو أن انجلترا تقاتل لخر جندي فرنسي ،وأن أمريكا قد جعلت أوروبا تابعة لها في مشروع مارشال ،وجعلت فرنسا كواحدة من دول أوروبا وتابعة لمريكا ،والفرنسيون يشعرون بعظمتهم ومجدهم ويريدون إحياء تاريخهم ،فإنهم قد أحسوا بضرورة النفصال عن عم دول أوروبا ،ل سيما أمريكا وعن انجلترا ،والسير في محاولة تز ةّ وأن مشروع مارشال قد أحيا أوروبا ،وجعلها تقف على رجليها بالرغم من أنه كان وسيلة لبسط سيطرة أمريكا عليها ،أي على أوروبا .لذلك م ةّرت فرنسا في حالة من التخبط ومحاولة النعتاق من نير أمريكا ،حتى جاء ديغول وسار في سياسته الجديدة، ل ،ووقف من انجلترا موقف الند، وفصل فرنسا عن أمريكا فع ع ً وصار يحاول أن تكون أوروبا بدون انجلترا ،القوة الثالثة بين أمريكا وروسيا ،وصار يحاول التقرب من روسيا ،وبذلك ضعف موقف أمريكا في أوروبا ،وضعف موقفها تجاه روسيا. -24-
فكان من جراء موقف فرنسا ،ومن جراء ألعيب انجلترا في أوروبا ،ومن جراء مشروع مارشال ،أن تغَّير الموقف في انجلترا وأوروبا تغيرا كليا ،فبعد أن كانت أوروبا ول سيما انجلترا وفرنسا وايطاليا ل تستطيع أن تبقى بعد الحرب العالمية الثانية أمما مستقلة ،وكانت عرضة لجتياح روسيا لها ،وابتلع التحاد ل ،فإنها بفضل المساعدات المريكية السوفياتي لها ابتلعا سه ع ً ومحالفتها ظلت دول ع ً وأمما موجودة ،وقويت بهذه المساعدة. فاستغنت عن أمريكا في الحقل السياسي وصارت تناوئها ،وصارت تحاول إزالة أمريكا من الحقل القتصادي في أوروبا ،وصار الحقل العسكري في حالة ميوعة وغموض. هذا بالنسبة لوروبا عموما ،ولنجلترا وفرنسا بشكل خاص، مرة في آسيا وفي أ ةّما بالنسبة لحوال المم والشعوب المستع حَ مرات وتحويلها إلى افريقيا ،فإن سياسة أمريكا في تحرير المستع حَ دول مستقلة ،قد أدت إلى صراع حاد بينها ،أي بين أمريكا والدول مرة ،وتح ةّول الستعمار في أكثر هذه الشعوب من المستع مِ السيطرة العسكرية والسياسية والقتصادية ،إلى السيطرة السياسية والقتصادية ،بعد أن أزيلت السيطرة العسكرية منها. ولكن ظلت هذه الشعوب في أكثريتها تحت ظل انجلترا وفرنسا، ولم تنل أمريكا من السيطرة عليها إل ةّ القليل ،فالجزائر وتونس والمغرب مثل ع ً وإن تحررت من فرنسا ولكنها دخلت تحت سيطرة -25-
انجلترا ،وعدن وسومطرة والمليو وغيرها وإن زال عنها الوجه العسكري فقد ظل الستعمار النجليزي فيها في وجهيه القتصادي والسياسي .وهكذا أكثر الشعوب والمم لم تنجح فيها السياسة المريكية رغم العون والمساعدات ،ل في تحريرها تحريرا تاما من الستعمار ،ول في تحويلها إلى سيطرة أمريكية بحتة ،سوى القليل القليل الذي هو على وشك الزوال كمصر ل ،ثم تحولت سياسة عد،م النحياز إلى وسوريا والسودان مث ع ً مهزلة ،حتى صارت الدول الواضح فيها النفوذ النجليزي أو الفرنسي حَتعتبر نفسها دول ع ً غير منحازة ،وتدخل ضمن عد،م النحياز. وبهذا كانت حصيلة السياسة المريكية في كل من أوروبا وآسيا وافريقيا إخفاقا في إخفاق ،فل هي استطاعت أن تأخذ مرة من الدول الستعمارية لستعمارها هي ،ول الشعوب المستع حَ استطاعت أن تحرر هذه الدول من ربقة الستعمار .وبدل أن تجعل أوروبا قوة تقف في وجه التحاد السوفياتي والمعسكر الشيوعي ،صارت أوروبا ول سيما انجلترا وفرنسا دول ع ً تناوئ أمريكا وتزاحمها ،وتخلت عن كونها قوة أمريكية ،بل تخلت فعل ع ً عن كونها معسكرا غربيا مع أمريكا. أ ةّما السياسة المريكية تجاه روسيا فقد أخفقت كذلك بسبب عاملين اثنين :أحدهما تغير وضع روسيا وتغير سياستها ،والثاني -26-
عد،م إخلص الدول المحالفة لمريكا للحلف الذي تدخل فيه ولمريكا .أ ةّما العامل الول فإن روسيا قد صنعت القنبلة الذرية والقنبلة الهيدروجينية ،وتقدمت في السلح النووي ،وفاقت أمريكا في الصواريخ عابرة القارات ،وبذلك تغير توازن القوى العسكرية بين المعسكرين أو على الصح بين الدولتين تغيرا جذريا ،فبعد أن كانت أمريكا تتفوق على روسيا بالسلح الذري ،صارت روسيا توازي أمريكا وتعادلها في هذا السلح إن لم تتفوق عليها في بعض النواحي ،وتح ةّول التوازن من توازن القوى إلى توازن الرعب ،وحل محل المان الذري المأزق الذري ،واستوت قدرة أمريكا وروسيا في تدمير بعضها البعض في حرب ذرية شاملة. وفوق ذلك فقد أقامت روسيا حلف وارسو مقابل حلف الطلسي، وأخذت تهاجم الحلف الخرى حتى زعزعت ثقة أعضائها بها، وجعلتها في نظر الشعوب س ةّبة وعارا وتأبيدا للستعمار الغربي. وصارت هذه الحلف تشكل خطرا على أصحابها ،وصار يخالطهم شعور الخوف من عواقب الخطر الذري ،وبالتالي من عواقب هذه الحلف .وبذلك فقدت هذه الحلف قيمتها ولم تعد لها أية منفعة في سياسة الدفاع المريكية. وفوق ذلك فإن السياسة السوفياتية تغيرت تغيرا أساسيا، فقد كانت هذه السياسة تعتمد على التهديدات العسكرية ،فصارت تعتمد على العمال السياسية ،وتخلت عن أسلوب التهديد -27-
العسكري المباشر وغير المباشر ،وصارت تتبع أسلوب التفوق السوفياتي والتوغل الشيوعي في العالم غير الشيوعي بواسطة النجازات السوفياتية التقنية والقتصادية ،وصارت روسيا تسير في سياسة المساعدات القتصادية والمساعدات العسكرية ،وصارت تعتمد على ذلك في سبيل إخضاع العالم غير الشيوعي للنفوذ السوفياتي .وبالنسبة لوروبا قد ش ةّدت قبضتها على أوروبا الشرقية وجعلت أهلها يلمسون إخفاق سياسة أمريكا 00000000على الشعوب الخاضعة للشيوعية ،وأخذت تغازل انجلترا وتحاول إيجاد علقات بينها وبين فرنسا ،وتحاول إضعاف برلين الغربية والمانيا الغربية .وما أن قاربت الخمسينات على النتهاء حتى كانت روسيا في ذروة القوة وأصبح خطرها على العالم بل على أمريكا أمرا ُيحسب له حساب. وبهذا كله ظهر لمريكا ظهورا بينا خطأ السياسة التي رسمتها وخطر بقائها سائرة في هذه السياسة .ومن أجل ذلك فكرت في ترك هذه السياسة ورسم سياسة جديدة ،وكان ذلك في أواخر أيا،م ايزنهاور .ثم كانت وفاة دالس صانع هذه السياسة ،فجمدت المور كلها لدى أمريكا في دراسة الموقف والتفكير بسياسة جديدة .إلى أن جاء جون كيندي رئيسا للوليات المتحدة فأخذ هذه الدراسات ،أو تبنى السياسة الجديدة التي كان يفكر فيها المريكيون ،وصاغها صياغة مبلورة ،ثم قا،م بإكمال التصالت -28-
السرية مع روسيا التي بدأت منذ أيا،م ايزنهاور إلى أن كان اجتماع عقدت التفاقيات خروتشوف بكيندي في حزيران سنة 1961و ُ السرية بين روسيا وأمريكا .ومنذ ذلك التاريخ سارت أمريكا في سياسة جديدة في العالم غير سياستها الولى. أ ةّما ما هي هذه السياسة ،فإنه لم ُيكشف النقاب عنها بعد، عقدت بين روسيا ولم ُيكشف النقاب عن التفاقيات السرية التي ُ وأمريكا ،ولذلك فإنه من الصعب إعطاء تفصيلت عن هذه السياسة ،ول إعطاء خطوط عريضة عنها ،وذلك لس ةّر ةّيتها ،ولعد،م كشف خفاياها ومراميها .ولكن وقد سارت الدولتان روسيا وأمريكا في تنفيذ التفاقيات خطوات نقلت الموقف الدولي من حالة معسكرين إلى حالة دولتين ،ومن حالة العداء والخصا،م بين أمريكا وروسيا إلى حالة التقارب ،حتى وصل هذا التقارب بعد زيارة نيكسون رئيس الوليات المتحدة المريكية لموسكو في ايار سنة 1972إلى حد الصداقة الظاهرة ،فإنه صار بالمكان إعطاء صورة أو لمحة عن السياسة المريكية الجديدة. معلو،م أن الساس للسياسة المريكية في العالم مبني على أمرين :أحدهما حماية أمريكا والدفاع عنها ضد كل خطر يتهددها أو يمكن أن يتهددها .وثانيهما :استغلل الشعوب والمم لصالح أمريكا .هذان هما الساسان اللذان ليس من المحتمل أن يجري عليهما أي تعديل ،واللذان ليس من المحتمل أن تكون السياسة -29-
المريكية مبنية إل ةّ عليهما .وانطلقا من هذا الساس ،وبملحظة الحوادث التي حصلت والسلوب الذي سارت فيه أمريكا ،تكون السياسة المريكية الجديدة كما يلي: -1تخلت أمريكا عن حساب أية قوة من القوى في سياستها الدفاعية ،وصارت سياستها الدفاعية تعتمد عليها وحدها ،وعلى قواها ليس غير .فألغيت الحلف والمعاهدات والتفاقيات العسكرية ،واعُتبرت كأن لم تكن ،وتخلت عن القواعد العسكرية خل بالتوازن في جميعها ،وذلك لن سياستها تجاه الدولة التي ُت مِ أوروبا ،أي تجاه روسيا ،صارت سياسة صداقة ل سياسة مخاصمة، فلم يعد هناك لزو،م لضربها والحيلولة دون خطرها ،بل ُيكتفى كن أمريكا من الدفاع عن نفسها إذا نقضت بإيجاد وضع دفاعي يم ةّ روسيا اتفاقياتها ،أي انتقلت أمريكا من سياسة المن المطلق إلى سياسة المن النسبي ،ولذلك صار التفاوض بينهما ول يزال جاريا كن إحدى الدولتين من غزو الخرى ،ليجاد حول السلحة التي تم ةّ توازن بينهما في القوى .وصارت سياستها الدفاعية إيجاد توازن بين قواها وقوى الدول الشيوعية وعلى رأسها روسيا ،وتركت سياسة توازن القوى بين الدول الوروبية ،وسياسة توازن القوى بين الدول السيوية. -2تخلت عن سياستها بشأن الحيلولة دون التوسع الروسي أو التوسع الصيني ،وحددت البلدان التي يمكن لمريكا أن تتوسع -30-
فيها ،والبلدان التي يمكن لروسيا أن تتوسع فيها ،والبلدان التي ل يمكن لمريكا أن تتسع فيها ،والبلدان التي ل يمكن لروسيا أن تتوسع فيها .وبذلك دخلت مع روسيا في لعبة شطرنج مميتة ،فإذا توسعت روسيا في بلد ل حق لها بالتوسع فيه ُوجد خطر الحرب بينها وبين أمريكا ،وكذلك إذا توسعت أمريكا في بلد ل حق لها بالتوسع فيه ُوجد خطر الحرب بينها وبين روسيا .أ ةّما الُبلدان التي يمكن لكل من أمريكا وروسيا أن تتوسع فيها ،فإن التوسع يجري عرضة للحتكاك بينهما بالرضا أو بالمنافسة الرياضية ،وهذه أيضا ُ ويمكن أن يؤدي هذا الحتكاك إلى تنافس ،ويمكن أن يؤدي إلى تصاد،م ،بل يمكن أن يؤدي إلى حرب بين العملقين .ومن أجل ذلك تعتبر السياسة المريكية الجديدة في هذا المضمار لعبة شطرنج مميتة .وصارت قابلية أن تقع -أي أمريكا -في حرب ذرية مع روسيا ،أقرب منها في سياستها الولى ،لن سياسة توازن الدول أو التوازن الدولي أكثر مطاوعة لتجنب الحرب من سياسة توازن القوى بين دولتين ،وترك وسائل الحتكاك بينهما بسياسة التنافس الرياضي. -3سارت أمريكا في سياسة احتكار السلح النووي لها ولروسيا ،وصارت تحاول منع الدول الخرى من صنع هذا السلح، أي أنها لتقاء خطر قوى أخرى غير قوة روسيا قد تبنت مبدأ ضرب كل دولة يشكل نموها خطرا عليها ،ل فرق بين أن تكون من دول -31-
أوروبا أو من الدول الشيوعية ،فهي كما تحاول منع الصين من ازدياد قواها ومن التوسع ،كذلك تحاول منع انجلترا من زيادة قواها ومن التوسع .فصار جزءا من دفاعها أن تبقي الدول الخرى في حالة ل تشكل خطرا عليها. وعمل ع ً بهذه السياسة ،أو من ثمراتها ،إلغاء القواعد العسكرية في العالم ومنها القواعد العسكرية النجليزية ،وإلغاء الستعمار إلغاء تاما من جميع العالم بإعطاء كل شعب من الشعوب استقلله وجعله دولة مستقلة استقلل ع ً تاما ،ومحاربة السيطرة السياسية والسيطرة القتصادية في أي بلد من بلدان صر المجال الحيوي العالم ما عدا سيطرتها وسيطرة روسيا .وح رْ لية دولة في نطاق محدود ومحاولة حصر المجال القتصادي في العمال المشروعة كالتجارة والصناعة والزراعة التي تتمشى مع القانون الدولي ،وضرب المجال السياسي لية دولة أينما ُوجد، وقلع النفوذ الجنبي من أي مكان يوجد فيه ،ومنعه من أن يوجد في أي مكان ،باستثناء المكنة المتفق عليها بينها وبين روسيا. -4إيجاد أمكنة في العالم منزوعة السلح وعد،م تمكين الدول القائمة فيها من التسلح إل ةّ بالسلح الذي يلز،م للمن الداخلي وللدفاع المحدود ،وكذلك تحديد تسلح بعض الدول في غير المكنة المنزوعة السلح ،وفرض شروط قاسية على بيع السلح للدول الخرى .وهذا وإن كان يدخل في سياسة منع أية -32-
قوة تهدد أمريكا ،فإنه يجمع إلى ذلك إيجاد المن الدائم لمريكا وروسيا ،كألمانيا وأواسط أوروبا بالنسبة لروسيا ،وكاليابان والشرق القصى بالنسبة لمريكا. هذا بالنسبة لسياسة الدفاع ،أ ةّما بالنسبة لسياسة الستغلل، حظ فيها أي تغيير أو على الصح لسياستها الستعمارية ،فإنه لم يل حَ اللهم إل ةّ بالنسبة لوروبا ،فإن مشروع مارشال قد انتهى ،والدول الوروبية صارت في غنى عن أمريكا ،بل صارت تناوئ أمريكا وتحاول طردها من أوروبا ،ولكن أمريكا قد نقلت مساعداتها لوروبا من مساعدات لتقويتها إلى صفقات من أجل استغللها، وتجلى ذلك في السياسة التجارية ،والسياسة الصناعية ،والسياسة النقدية .وإنه وإن كان الصراع بين دول أوروبا وبين أمريكا على أشده من ناحية اقتصادية ،ولكن أمريكا ل تزال تحاول فرض سيطرتها القتصادية على أوروبا ،فل يزال الدولر المريكي قادرا على فرض السيطرة النقدية على أوروبا ،ول تزال التجارة المريكية مزدهرة في أوروبا ،ول تزال المصانع الوروبية تحت تأثير أمريكا. أ ةّما بالنسبة لباقي البلدان ،أي لسيا وافريقيا ،فل تزال السياسة الستعمارية هي سياسة أمريكا .وهي تتمثل في المور التالية: ل :سياسة التحرير من الستعمار ،وهذه السياسة تقضي أو ع ً -33-
مرة ،وتحويلها إلى دول مستقلة ،ثم النفوذ بتحرير البلد المستع حَ إلى هذه البلد عن طريق هؤلء الحكا،م ،سواء أكانوا من مرة التي أعطت عملئها ،أو كانوا من عملء الدولة المستع مِ الستقلل .وما فعلته في عدن ومشيخات الخليج وشمال افريقيا خير شاهد على ذلك ،فإن حكا،م مصر والسودان من عملئها، وحكا،م عدن ومشيخات الخليج من عملء الدول التي كانت تستعمرها وهي انجلترا ،وحكا،م المغرب وتونس وليبيا من عملء دولة أخرى غير التي كانت تستعمرهم ،ومع ذلك فإنها في محاولتها الدخول إلى هذه البلد وفرض سيطرتها عليها ،واحدة، ل. وإن كانت أعمالها في مصر أكثر نجاحا منها في ليبيا مث ع ً ثانيا :المساعدات القتصادية ،وهذه على تعدد أنواعها فإن عد ،وربطه بعجلة الغاية منها كلها واحدة وهي إفقار البلد المسا حَ أمريكا ،بحيث تكون المساعدة وسيلة للفقار ،ووسيلة لبسط عد ،والقروض، السيطرة القتصادية والسياسية على البلد المسا حَ والنقطة الرابعة ،ومساعدات التنمية وما شابه ذلك تؤدي نفس عد وبسط السيطرة القتصادية الغاية ،أل وهي إفقار البلد المسا حَ والسياسية عليه. ثالثا :المساعدات العسكرية ،وهذه المساعدات ُيقصد منها أمران :أحدهما إيجاد أسواق للمصانع المريكية ،وثانيهما هدر عد على سلح يتحول إلى حديد خردة ،ويستهلك أموال البلد المسا حَ -34-
عد .إل ةّ أن خطر هذه المساعدات يتجلى في ثروة البلد المسا حَ ايقاع البلد في حالت قلق دائم ،إما بإيجاد حروب مصطحَنعة بشكل دائمي لدوا،م توريد السلح ،كما هي الحال في الشرق القصى والشرق الوسط ،وإما بإيجاد محاولت انقلبية أو إيجاد حركات تخريب وتدمير ،فيومِقع البلد في الفوضى والضطراب ،إلى جانب إفقارها وهدر ثروتها .ولئن كانت المساعدات القتصادية تجر إلى فرض السيطرة القتصادية والسياسية ،فإن المساعدات العسكرية تجر زيادة على ذلك إلى إفقار البلد ووضعها في حالة فوضى واضطراب. رابعا :المشاريع النتاجية ،سواء المشاريع المريكية البحتة كمشاريع البترول ونحوها ،أو المشاريع التي تدخل فيها مع دولة أخرى تابعة لها كالمشاريع اللمانية واليابانية واليطالية ونحوها، أو الدول المناوئة لها كانجلترا وفرنسا .وهذه المشاريع تجعل لمريكا سيطرة اقتصادية وسياسية في البلد ،وتكون وسيلة لستغلل الناس والبلد للشركات المريكية والغنياء المريكيين. خامسا :التضليل السياسي والفكري .أ ةّما التضليل السياسي فيتجلى في أمرين :أحدهما أن تحقق على يد عملئها ما تريده هي تحت ستار قومي أو وطني ،أي تحت ستار كفاح الستعمار، وهذا واضح في الحركات التي قامت في مصر والكونغو واندونيسيا وغيرها .والثاني أن تقو،م هي بأعمال ظاهرة لمصلحة -35-
الشعب كالجامعات المريكية في القاهرة وبيروت وأنقرة، وكمشاريع المياه وتحلية مياه البحر ،ونحو ذلك .وأ ةّما التضليل الفكري فقد غلب على أمريكا اتخاذ فكرتي التحرر والشتراكية، فتشغل الناس بالتحرير والشتراكية والتقدمية ،وتجعلهم ينقسمون إلى أقسا،م متعددة تتناحر على الفكار ،وتبعدهم بهذا عن الطريق الصحيح للتقد،م والزدهار .ولذلك كانت أفكار التحرر والتقد،م والشتراكية من أهم وسائل أمريكا في الستعمار ،ومن أخطر المور على البلد .ونظرة واحدة إلى الدول التي تنادي بالشتراكية تكفي للمس أثر هذه الفكار في تأخر البلد وسيرها في متاهات ل نهاية لها. هذه هي السياسة المريكية بالنسبة لسيا وافريقيا ،أي هذه هي السياسة المريكية لستغلل الشعوب ،أي السياسة الستعمارية المريكية ،وهي سياسة خفية وخبيثة ،تجر الشعوب لحظيرة الستعمار بحيث ل تبقى لها إرادة ،بل تنجذب للدخول تحت سيطرة أمريكا كما ينجذب الفراش للنار ،ولذلك فإن مقاومتها أكثر صعوبة من مقاومة السياسات الستعمارية الخرى .ولكنها إذا ُفهمت على حقيقتها وُفهمت إلى جانبها سياستها الدفاعية الجديدة، فإنه يمكن أن ُتسلك الطريق لضرب سياسة أمريكا الستعمارية، بل لضرب السياسة المريكية كلها ،وحينئذ يمكن أن ُتطرد أمريكا نهائيا ،وأن ترجع إلى بلدها كما كانت ،بل يمكن أن ُتضرب الضرب -36-
القاضية التي ل تبقي لها كدولة استعمارية أي تأثير بل أي وجود. واقع السياسة الفرنسية ظمة ،وهذا هو ع حَ إن سياسة فرنسا الساسية هي سياسة ال حَ الساس لكل سياسة فرنسا ،فكل ما تقو،م به من أعمال سياسية إ ةّنما ينبني على أساس هذه العظمة ،فاتجاهها الستعماري إ ةّنما تحركه سياسة العظمة ،فهي حين اندفعت في الستعمار والفتح إ ةّنما كانت تسير في سياسة العظمة ،وحين أخذت تتلكأ في التخلي عن المستعمرات ،وتعاند في ترك المستعمرات ،إ ةّنما تندفع إلى ذلك للمحافظة على سياسة العظمة .وبالرغم من احتلل ألمانيا لها ،وخروجها من الحتلل منهوكة القوى ،وفي وضع متهاتف، فإنها ظلت تحاول أن تبني كيانها من جديد ،وتتطلع لن تعود من جديد دولة عظمى ،وذلك بناء على سياسة العظمة .وهي حين كانت تحاول الستعانة بانجلترا وأمريكا لعادة بناء كيانها ،وحين بدأت تزاحم انجلترا وتناوئ أمريكا فإنها في الحالتين كانت تسير وفق ما تتطلبه سياسة العظمة .فسياسة العظمة هي سياستها الساسية. وفرنسا قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها يشغلها أمران: أحدهما وضعها في أوروبا ،والثاني وضعها المبراطوري ،أي مرات لها .أ ةّما وضعها وضعها بالمحافظة على وجود مستع حَ -37-
الجغرافي ،فإنها بحكم موقعها الجغرافي في أوروبا تخشى دائما ألمانيا ،وتحسب حسابا لنجلترا ،ولذلك كان هاجسها هو هاتين الدولتين .فهي تخشى ألمانيا من أن تكتسح حدود فرنسا ،وتخشى انجلترا من أن تسيطر على أوروبا .ولذلك تركز كل أمورها ،وترسم جميع سياساتها على أساس المحافظة على حدودها ،وعلى أساس توازن القوى في أوروبا .وعلى هذين الساسين: المحافظة على حدودها ،وكونها يجب أن تكون هي قائدة أوروبا، قامت سياستها في أوروبا .أ ةّما وضعها المبراطوري ،فإن فرنسا قد اندفعت في العالم منذ القديم تستهدف الفتح والستعمار، فوجدت لها مستعمرات في آسيا كسوريا ولبنان ،وفي افريقيا كشمال افريقيا وعدة بلدان أخرى كالسنغال والصومال وغينيا ما وقعت الحرب وغيرها ،وفي الشرق القصى كالهند الصينية .ول ةّ العالمية الثانية وخرجت فرنسا محطمة الضلع ،صارت تحاول الستعانة بكل من انجلترا وأمريكا للمحافظة على الستعمار. وبالرغم من انتشار فكرة التحرر من الستعمار ومن جعل سياسة مرة ،ظلت فرنسا تتشبث بالبقاء هيئة المم تحرير البلد المستع حَ في المستعمرات حتى ُأخرجت منها بالقوة تارة وبالضغط الدولي تارة أخرى .ورغم ذلك فإنها سيرا وراء سياسة العظمة ل تزال سياستها مبنية على العاملين الساسيين وهما :وضع فرنسا الدولي أي وضعها في أوروبا ،ووضعها المبراطوري أي وضع -38-
مستعمراتها بالنسبة لها ،أي ظلت متمشية على سياسة العظمة. إن فرنسا وإن كانت دولة استعمارية فإنها تختلف عن انجلترا وأمريكا ،فانجلترا تحكمها الفئة الرستقراطية حكما حقيقيا ،وإن كان يغَّلف بالشعبية والرأي العا،م تغليقا يحفظ بقاء الحكم الحقيقي في يد الرستقراطية ،والناحية الستعمارية فيها ناحية استغلل مادي ،ل للعظمة فحسب ،بل لمتصاص دماء الشعوب مرة .وبالرغم من اشتغالها بالناحية واستغلل ثروات البلد المستع حَ الفكرية والناحية العلمية ولكنها تشتغل فيها كأداة للستعمار ،أي لفرض السيطرة ،وخاصة السيطرة القتصادية التي تنمِتج حتما السيطرة السياسية .أ ةّما أمريكا فإنها تحكمها طبقة الرأسماليين وأصحاب الموال الضخمة من شركات وأفراد .والحكا،م أيا كانوا ومن أي حزب أتوا إ ةّنما يقومون بهذه المهمة .وتغليف هذا الحكم بالشعبية ،والتوسل إليه بالرأي العا،م إ ةّنما هو ناتج عن تكوين أمريكا نفسها من أنها مكونة من شعوب قررت مصيرها ول تزال حريصة على تقرير مصيرها ،ولكن مهارة الرأسماليين ،مع كون المبدأ الرأسمالي هو مبدأ الشعب المريكي ،جعل هذا الرأي جد إل ةّ حكاما يكونون وكلء عن الرأسماليين .ولذلك العا،م ل يو مِ فإن استعمارها تتجلى فيها الناحية الستغللية أي الناحية الستعمارية وهي فرض السيطرة ،ل سيما السيطرة القتصادية التي تنتج حتما السيطرة السياسية .وهي وإن كانت تشتغل -39-
بالناحية الفكرية والعلمية ،ولكنها تشتغل فيها أداة للستغلل، وهي وإن كانت تعمل ليجاد المجد المريكي والعظمة المريكية، خر ذلك من أجل الستغلل المادي ،أي من أجل مص ولكنها تس ةّ دماء الشعوب واستغلل ثرواتها. أ ةّما فرنسا فإن سياستها هي سياسة العظمة ،والعظمة وإن كانت ل توجد إل ةّ بالقوى المادية والثروة القتصادية ،ولكن الناحية الستعمارية فيها غير مقتصرة على فرض السيطرة العسكرية والقتصادية والسياسية ،بل تضم إليها السيطرة الثقافية ،وهي تتشبث بالسيطرة الثقافية والفكرية أكثر من تشبثها بالسيطرة العسكرية والسياسية والقتصادية ،ولذلك فإنها حين اضطرت تحت القوة وتحت الضغط للتخلي عن السيطرة العسكرية فإنها حاولت أن تتشبث بالسيطرة القتصادية والسياسية ،وحين ُأخرجت من مستعمراتها بالقوة والضغط الدولي ،ظلت تتشبث بالسيطرة الثقافية والفكرية إلى أبعد حدود التشبث ،ولذلك ل تزال تحاول البقاء على العلقات الثقافية مع البلدان التي كانت مستعمرات لها. فالسيطرة الثقافية هي أساس الستعمار الفرنسي .وذلك أن فرنسا تعتبر نفسها هي أساس الثقافة في العالم .فهي ترى أن فرنسا كانت في القرن التاسع عشر حين كان العالم ُيقبل على الثقافة ،كانت فرنسا دار العالم الثقافية ،وأن الفكر الفرنسي قد -40-
اتسع في كل مكان من خلل السياسة والفن والدب والتربية ،وأن الثورة الفرنسية هي التي صاغت فكرة الحرية في العالم، وحملتها جيوش نابليون لكافة أنحاء أوروبا وإلى مصر وغيرها. وأن أمم أوروبا وأمريكا اللتينية استفادت من قانون نابليون ،وأن اللغة الفرنسية قد سادت المؤتمرات الدولية ،وأصبحت اللغة الفرنسية اللغة الثانية لكل متعلم ،وأن فلسفة فرنسا ومفكريها وعلماءها وأدباءها قد برزوا في العالم بوصفهم رواد المعرفة النسانية والعلمية .ولذلك فإن الناحية الثقافية هي من أغلى تراث فرنسا .ومن أجل ذلك فإن علقات فرنسا الثقافية بالعالم هي أهم العلقات ،وهي ل تقل أهمية في قوتها وغزوها عن الساطيل والجيوش والموال .فهي رأس مال ها،م في الثروة الفرنسية ،وفي الغزو الفرنسي ،وفي الستعمار الفرنسي .ومع أن هذه العلقة الثقافية لفرنسا قد طرأ في العالم ما يكفي لمحوها ،ومع ذلك فإن فرنسا ل تزال تتشبث بها أيما تشبث. فبالرغم من أن فرنسا قد ضعفت اقتصاديا وسياسيا عما كانت عليه قبل الحرب العالمية الثانية ،وبالرغم من أن اللغات الخرى كاللغة النجليزية مثل ع ً قد نازعت اللغة الفرنسية في المؤتمرات والمخابرات الدولية ،وبالرغم من بروز التناقض بين الفكار الفرنسية والسلوك الفرنسي في المستعمرات ،بالرغم من كل ذلك وغيره فإن فكرة سيادة الثقافة الفرنسية في العالم ل تزال -41-
متمركزة في نفس فرنسا ،ول تزال تأخذ دور المسَّلمات البديهية في العقل الفرنسي ،وصار مركبا نفسيا لدى فرنسا يتحكم في تصرفاتها السياسية. ومن هنا نجد أن الستعمار الفرنسي يزيد على كل استعمار بالسيطرة الثقافية .وإنه وإن كانت السيطرة الثقافية موجودة في كل استعمار ،لن الستعمار هو فرض السيطرة العسكرية عفة ،وإنه إذا والقتصادية والسياسية والثقافية على البلد المستض حَ أكره على رفع السيطرة في واحدة من هذه السيطرات فإنه يتشبث بالسيطرات الخرى حتى آخر سيطرة ،ولكن الستعمار الفرنسي يجعل التخلي عن السيطرة الثقافية غير قابل للبحث وغير قابل للتسليم .ولذلك فإن الستعمار الفرنسي أفظع تأثيرا من كل استعمار. إن الستعمار الفرنسي كأي استعمار يعتمد في تركيز استعماره وفي تركيز نفوذه على القوة العسكرية والعمال السياسية والعوامل القتصادية والتضليل السياسي والفكري، ولكن الستعمار الفرنسي يزيد على كل استعمار بأنه يجعل الناحية الثقافية والفكرية ركيزة أساسية لستعماره ،أي ركيزة لفرض سيطرته على كل بلد ل سيما البلد التي كانت مستعمرات له .فالبرنامج الفرنسي في محطة الذاعة في بيروت ،والمدارس الفرنسية في سوريا بما فيها لبنان ،وفي البلد الفريقية التي كانت -42-
مستعمرات لها ،وحتى في الهند الصينية ،من المور التي تحرص عليها فرنسا كل الحرص .ومع أن فرنسا تقلد أمريكا في المساعدات القتصادية وفي الصفقات التجارية ،وتقلد انجلترا بمحاولة اصطناع العملء ،ولكنها ل تع ةّول على ذلك وإن كانت لضعفها غير ناجحة فيه .وتعويلها كله يتركز على العلقات الثقافية وعلى الصداقات التقليدية المبنية على اتحاد الفكار وتقاربها. ونظرا لضعف فرنسا وسقوطها عن مستوى الدول الستعمارية الخرى ،فإنه يصعب وضع خطوط عريضة لسياستها تجاه آسيا وافريقيا .وإنه وإن كان من الممكن وضع خطوط عريضة للسياسة الفرنسية في العالم ،ولكن نظرا لعد،م وجود قدرة لفرنسا على التأثير في السياسة العالمية فإنه ليس من المهم وضع خطوط عريضة لهذه السياسة .ويكفي أن ُيعلم أن سياسة فرنسا الساسية هي سياسة العظمة لُيفهم كل تصرف من تصرفاتها السياسية. واقع السياسة الروسية مرت السياسة الروسية في أربعة أدوار ،هي :السياسة الروسية في عهد القياصرة ،وهذه كانت سياسة وطنية تقو،م على أمرين :أحدهما المحافظة على روسيا ،والثاني التوسع في حدود الدولة وفي نفوذها .ثم جاءت السياسة الشيوعية بعد أن تسلم -43-
الحزب الشيوعي الحكم في روسيا ،فصارت سياسة الدولة سياسة شيوعية تهدف إلى إيجاد الثورة العالمية ونشر الشيوعية في العالم .ثم جاءت السياسة الروسية الشيوعية بعد وفاة لينين وتولي ستالين الحكم في روسيا ،فأصبحت سياسة الدولة سياسة روسية شيوعية ،تتخذ المحافظة على الدولة الروسية الساس الوحيد للسياسة ،مع المحافظة على العمل للثورة العالمية ونشر الشيوعية ،فالثورة العالمية ونشر الشيوعية ل تتأتى إل ةّ عن طريق روسيا وبالمحافظة عليها ،فالمحافظة على دولة روسيا وتوسيعها ونشر نفوذها هو الذي يجب أن يكون واجب كل شيوعي أينما كان وواجب السياسة الشيوعية في كل أعمالها .ولذلك يقول ستالين: "الثوري هو الشخص المستعد دون مواربة ،ودون قيد أو شرط، وبكل شرف ،أن يؤيد التحاد السوفياتي ويدافع عنه ...،والدولي هو الشخص الذي ل يضع شرطا ول يتردد في الدفاع عن التحاد السوفياتي ،لنه قاعدة للحركة الثورية العالمية .ويستحيل الدفاع عن هذه الحركة ،أو تقدمها ،دون الدفاع عن التحاد السوفياتي". ثم تحولت هذه السياسة إلى سياسة روسية بحتة تتخذ الشيوعية والحزاب الشيوعية وسائل للمحافظة على سياسة روسيا وتوسيع حدودها ونشر نفوذها ،أي رجعت إلى سياسة روسيا القيصرية، مع فارق واحد فقط ،هو أن روسيا القيصرية كانت تتخذ العمال السياسية والعمال العسكرية من أجل تنفيذ سياستها ،أ ةّما التحاد -44-
السوفياتي حاليا فإنه يغ ةّلف العمال السياسية بغلف الشيوعية والشتراكية ،ويتخذ العمال العسكرية وفقا لمتطلبات السياسة الدولية بغض النظر عما تتطلبه الشيوعية. وإذا كانت سياسة لينين ،وسياسة ستالين ،أي السياسة الشيوعية بمختلف أساليبها صارت تاريخا ولم تعد واقعا ،فإنه ل فائدة من بحثها أو الحديث عنها ،ولذلك فإن البحث ل بد أن ُيحصر جه الن، في سياسة التحاد السوفياتي الحالية ،لنها هي التي توا حَ جه إلى أمد بعيد ،حتى لو تغير وهي التي من المنتظر أن تظل توا حَ الحكا،م الحاليون وجاءت فئة أخرى ،فإنه ليس من المنتظر أن تعود روسيا للسياسة الشيوعية ،لن الفكرة الشيوعية فقدت زخمها في روسيا ،وظهر عوارها للعالم .وإذا حصل أي تغيير في سياسة التحاد السوفياتي الحالية ،إذا تغيرت الفئة الحاكمة الحالية ،فإ ةّنما يحصل في تخفيف تطبيق الشيوعية ،وفي تخفيف أو تلطيف تغليف العمال السياسية بها .ولذلك فإن مواجهة السياسة جه بوصفها سياسة روسيا ،ل الخارجية للتحاد السوفياتي إ ةّنما توا حَ جه الشيوعية فيها كغلف للعمال سياسة دولة شيوعية ،وتوا حَ السياسية أو على الكثر كأعمال سياسية ل كدعوة شيوعية تحملها دولة كبرى. وقبل البحث في سياسة التحاد السوفياتي ل بد من إعطاء لمحة خاطفة عن الشعب الروسي ،لنه كما هو معروف ،ل يوجد -45-
هناك شعب غير الدولة ،وغير الحزب الحاكم ،في أي بلد يحكم ل ،وإ ةّنما الدولة هي الشعب ،والشعب هو الدولة .ولذلك نفسه فع ع ً فإنه حين يجري الحديث عن التحاد السوفياتي أي عن روسيا، إ ةّنما يجري عن الدولة باعتبارها الشعب ،وعن الشعب باعتباره الدولة ،ولذلك ل بد من إعطاء لمحة عن التحاد السوفياتي أي عن روسيا. والتحاد السوفياتي ليست لديه أية صفات خاصة به كما هي الحال في انجلترا أو أمريكا ،فانجلترا تتميز بالذكاء وسعة الحيلة، وأمريكا تتميز بالخيال الخلق والرادة الب ةّناءة إلى جانب فكرة سد الذرائع )البراجماتز،م( ،وإ ةّنما روسيا كسائر بلدان العالم أناس عاديون ،ولكن توجد لديهم ما يوجد لدى المم الكبرى من الوطنية والشعور الذاتي الوجود المؤثر ،ولديهم ما لدى المم الكبرى والدول الكبرى من حب السيطرة والغزو .ولذلك ظلوا محافظين على وضعهم العالمي دولة كبرى كسائر الدول الكبرى ،ل فرق في ذلك بين عهد القياصرة وعهد الحزب الشيوعي .وإذا كان مبدؤهم الذي كانوا يعتنقونه هو المبدأ الرأسمالي :فصل الدين عن الدولة ،فإن الفكرة الشيوعية أو الفكرة الشتراكية الموجودة لديهم الن ،والتي تسير سياستهم الخارجية بحسبها هي الفكرة ميت س ةّ الرأسمالية نفسها في مضمونها وفي السير بحسبها ،وإن ُ فكرة اشتراكية أو فكرة شيوعية ،فإنها مجرد تسمية ،وهي عمليا -46-
آخذة بالتحول التدريجي إلى ما عليه الغرب من ترقيع فكرة الرأسمالية .وسيظل التحاد السوفياتي يرقع الفكرة الشتراكية أو الفكرة الشيوعية عمليا إلى أن تصل إلى فكرة رأسمالية مرقعة، ل هي بالشتراكية الشيوعية ،ول هي بالرأسمالية .ولذلك يمكن القول إن التحاد السوفياتي هو مثل أمريكا ومثل انجلترا ،دولة كبرى تسعى لحماية نفسها وللتوسع وبسط النفوذ. إل ةّ أن الحكم في روسيا ل تتوله الطبقة الرستقراطية جد فيه من تشاء لحماية وجودها ومصالحها كما هي الحال وتو مِ في انجلترا ،ول ينتخبه الشعب حقيقة ،ولكنه يكون وكيل ع ً عن الرأسماليين وأصحاب الثروة الضخمة كما هي الحال في أمريكا، بل الحكم في روسيا يتوله الحزب الشيوعي بالذات وليس مطلق حزب .ولذلك فإن الدولة تكون دولة شيوعية مهما كان الشخاص الذين يتولون القيادة فيه ،ما دا،م الحزب الشيوعي هو الذي يستأثر بالحكم .ولذلك فإن الفكرة الشيوعية أو على الصح الفكرة الشتراكية ستظل هي المتحكمة في الدولة ،وإن كانت ليست هي المتحكمة في السياسة الشيوعية. ذلك أن الساس الذي تقو،م عليه الدولة الروسية اليو،م أو التحاد السوفياتي هو فكرة الشتراكية أو الفكرة الشيوعية، والمجد الذي يتمتع به التحاد السوفياتي الن إ ةّنما هو المجد الشيوعي ،والمجد الشتراكي .ولذلك ستظل روسيا معروفة بأنها -47-
دولة شيوعية أو دولة اشتراكية ،وستظل صفتها اللصقة بها هي الشيوعية أو الشتراكية .صحيح أن الفكرة الشتراكية في روسيا موها تطويرا ،ولكن هذه قد حصلت فيها تبديلت وتغييرات س ةّ التغييرات نتجت عن طريق اجتهادات في الفكرة نفسها ،وفي أفكارها وأحكامها ،وهي وإن نقلتها إلى فكرة مغايرة كل المغايرة لصلها ،ولكنها ظلت بالنسبة للساس شيوعية أو اشتراكية بالسم وبأساس الجتهاد .وهي ليست كالفكرة السلمية حين تولى الحكم معاوية وأوجد نظا،م ولية العهد ،ول كالفكرة السلمية حين تولى العثمانيون قيادة الدولة وجعلوها دولة عثمانية أو تركية ،بل هي على خلف ذلك تماما .فالفكرة السلمية كانت تعتقدها ال ةّمة كلها عقيدة جازمة راسخة ،ل فرق في ذلك بين عرب وفرس ،ول بين ترك وهنود ،ول بين أوروبيين أو آسيويين أو افريقيين .ولذلك لم يؤثر عليها تصرفات الحكا،م، ولم تؤثر عليها السياسة الخارجية ،بل لم يؤثر عليها زوال الدولة السلمية كلها زوال ع ً تاما ووقوع المسلمين تحت سيطرة أعدائهم الكفار عقودا أو قرونا زال فيها سلطان السل،م وسلطان المسلمين زوال ع ً تاما. أ ةّما الفكرة الشيوعية أو الفكرة الشتراكية فإنه لم تعتنقها ال ةّمة وإ ةّنما اعتنقها أفراد وإن بلغ عددهم المليين ،وُنفذت على الناس بالحديد والنار ل بالطوع والرضاء والختيار ،ولذلك ل تعتبر -48-
ال ةّمة الروسية أ ةّمة شيوعية أو اشتراكية ،وهذا بخلف ال ةّمة السلمية فإنها تعتبر أ ةّمة إسلمية ولو تقسمت إلى عدة دول ،ولو ظهرت كعدة شعوب. ومن هنا ل يصح أن يعتبر التحاد السوفياتي دولة شيوعية أو اشتراكية إلى البد ،كما هي الحال في انجلترا وأمريكا ،وإ ةّنما تعتبر دولة شيوعية ما دا،م الحزب الشيوعي هو الذي يتولى الحكم فيها. إنه وإن كانت السياسة السوفياتية قد رجعت إلى سياسة روسيا القيصرية ،مع فارق واحد هو أن التحاد السوفياتي يغلف العمال السياسية بالغلف الشيوعي ،ولكن هذا الفارق نفسه هو الذي يجعل السياسة السوفياتية سياسة متميزة عن سائر السياسات ،وإن كان أساسها هو نفس الساس القيصري ،وهو المحافظة على التحاد السوفياتي ،وتوسيع رقعته وبسط نفوذه. جه على أنها سياسة دولة شيوعية ل سياسة ولذلك ل بد أن توا حَ جه على أنها سياسة دولة كبرى مثل سياسة روسيا القيصرية ،وتوا حَ أمريكا سواء بسواء .ومن هنا كان ل بد أن ُترسم خطوط عريضة لسياستها الدولية ،أي سياسة المحافظة على كيانها وتوسيع رقعتها ،ولن ُترسم خطوط عريضة لسياستها بالنسبة لسيا وافريقيا. والخطوط العريضة لسياسة التحاد السوفياتي الدولية ،أو لسياسته لحماية بلده وللتوسع السوفياتي تتلخص في الخطوط -49-
العريضة التالية: ل :إبقاء سيطرته كاملة على دول أوروبا الشرقية التي أو ع ً يسيطر عليها الن ،وتمكين هذه السيطرة تمكينا تاما بحيث يتعسر أو يتعذر على أية دولة من دول أوروبا الشرقية النفلت من قبضته .ولذلك فإنه من الخطأ أن يظن أحد أن رومانيا تحاول الخروج من قبضته ،بل هي تسير بالتفاق معه في سياسة التحرر والنفتاح ،ومن غير المحتمل أن تسير ألمانيا الشرقية في سياسة التقارب مع ألمانيا الغربية من أجل وحدة الشعب اللماني ،بل هي تسير حسب مخططات مرسومة لبعاد الوحدة عن ألمانيا، ولتركيز النقسا،م تركيزا أبديا ،ولتنفيذ سياسة إيجاد منطقة منزوعة السلح في وسط أوروبا .وإذا كان قد انزلق وأخطأ في جعل النمسا دولة محايدة ،فإنه ل يسمح لهذا الحياد أن ينقلها من دائرة السيطرة السوفياتية ،أو يقربها من دول أوروبا الغربية .وسياسته هذه ليست جديدة ،بل هي سياسة قديمة ،فالروس يرون منذ القديم أنه ل يمكن الطمئنان إلى حماية حدودهم الغربية إل ةّ إذا كانت دول أوروبا الشرقية تحت نفوذهم ،وإذا كانت غزوة نابليون لروسيا قد جعلت هذا الخطر ملموسا لدى الروس ،فإن غزوة هتلر لروسيا في الحرب العالمية الثانية قد أكدت وجود هذا الخطر مقته في نفوسهم ،ولذلك فإنهم إذا جاز أن يتساهلوا في وع ةّ شيء فإنهم لن يتساهلوا في إبقاء دول أوروبا الشرقية تحت -50-
سيطرتهم وفي قبضة أيديهم ،ولو أدى ذلك إلى خوض حرب عالمية من أجله. ثانيا :إبقاء الصين دون مستواهم ،وفي وضع ل يرتفع إلى مستوى تشكيل خطر عليهم .وإذا كانت روسيا في سبيل استرضاء الصين قد أزالت السيطرة السوفياتية عن منشوريا ،وص ةّفت الشركات المشتركة ،وأعادت سيادة الصين كاملة على دارين وبورت آرثر ،فإنها لن تسمح باعادة الراضي الصينية الواسعة التي اقتطعتها روسيا من الصين أيا،م القياصرة .وحين طلبت من الصين عقد معاهدة حسن جوار لحل المشاكل بينهما بالوسائل السلمية، فإنما قصدت تقييد الصين بقيود هذه المعاهدة حتى ل تدخل معها حربا في سبيل استرجاع تلك الراضي والبلد .وبعد أن أصبحت الصين تسير في طريق القوة ،وضعت روسيا الخطر الصيني في مقدمة سياستها الخارجية .ومن أجل وقاية الخطر الصيني أجرت التفاق مع أمريكا على وضع الصين ،ووضع الشرق القصى برمته. ثالثا :إبقاء البلدان المحيطة بالصين تحت متناول يدها ،إما بوجودها تحت الشراف عليها ككوريا الشمالية وفيتنا،م الشمالية، وإما في وضع غير معا ٍد لها ،ووضع ل يجعل للصين سيطرة عليها. وما كانت حوادث فيتنا،م التي سميت حربا من أجل التضليل ،وحتى وضع بقية بلدان الهند الصينية مثل لوس وكمبوديا إل ةّ من أجل -51-
كبح الخطر الصيني أو إبعاده وإضعافه. رابعا :جعل أوروبا الغربية في حال ضعف دائم ،والحيلولة دونها ودون أن تصبح قوية بحيث تشكل خطرا عليها ،ولذلك ل تكتفي بالعناية في التوازن الدولي بين دول أوروبا الغربية بحيث ل تسيطر دولة واحدة عليها كما كانت حال أمريكا قبل الحرب العالمية الثانية ،بل تتجاوز ذلك إلى مراقبة دولها ،ومراقبة السوق الوروبية المشتركة ،والحيلولة دون تكتيل دول أوروبا. خامسا :إضعاف انجلترا ،والحيلولة دون أن تعود دولة كبرى، وتصفية القواعد النجليزية في العالم كله ،وتصفية استعمارها في العالم ،وإضعاف مركزها في الهند .فكما أنها ترى أن الصين تشكل خطرا عليها ،فإنها ترى قبل ذلك وبعد ذلك ،أن الخطر الحقيقي من الغرب إ ةّنما يأتي من انجلترا .فانجلترا هي التي كانت تؤ ةّلب العالم على روسيا ،ول تزال تؤ ةّلب العالم عليها .وانجلترا هي التي أدخلت أمريكا في الحرب العالمية الولى والثانية ،وهي التي كانت وراء الحرب الباردة التي كانت ناشبة بين المعسكر الشرقي والمعسكر الغربي .ولذلك فإن التحاد السوفياتي يعتبر النجليز خطرا دائميا عليه. سادسا :مراقبة سياسة أمريكا وتت ةّبعها ،وحصر الموقف الدولي بينها وبين أمريكا ،وعد،م عودة انجلترا وفرنسا للشتراك في المشاكل الدولية ،وإبقاء العالم تحت سيطرتها وسيطرة -52-
أمريكا ،وحل المشاكل العالمية بالمشاركة بينها وبين أمريكا. هذا بالنسبة لسياستها الدولية ،أي بالنسبة لسياسة الحماية لبلدها .أ ةّما بالنسبة لسياستها تجاه التوسع الشيوعي أو على الصح توسع رقعتها وبسط نفوذها ،فإنها بعد اتفاقها مع أمريكا صار التوسع وبسط النفوذ يأخذ شكلين متمايزين :أحدهما التوسع الشيوعي ،والثاني بسط النفوذ .أ ةّما بالنسبة للتوسع الشيوعي فإن سياستها فيه غير محدودة وغير مقيدة ،فما دامت هذه السياسة ل تنتقل إلى الخلل بما اتفقت عليه مع أمريكا ،أي ل تنتقل إلى توسيع نفوذها في المناطق الممنوعة من أن يكون لها نفوذ فيها، فإنها تقو،م بالتوسع الشيوعي حسب ما تريد .ولذلك فإن سياستها الشيوعية أوسع مجال ع ً من سياسة بسط النفوذ .والخطوط العريضة لسياستها الشيوعية تتلخص بما يلي: ل :اتخاذ الحزاب الشيوعية في العالم وسيلة لنشر أو ع ً الشيوعية في أي مكان ،ل فرق بين أوروبا وآسيا ،ول بين افريقيا وأمريكا .فالحزاب الشيوعية ترتبط بروسيا الدولة وبالحزب الشيوعي الروسي ارتباطا وثيقا ،وتمدها روسيا بكل شيء، بالسند السياسي ،وبالمداد الثقافي ،والعون المالي ،ورعاية المصالح الحزبية والفكرية ،ل فرق في ذلك بين أن تكون هذه الحزاب في الحكم مثل التشيلي وكوبا ،أو لم تكن في الحكم مثل الحزاب الشيوعية في أوروبا وافريقيا والهند وسائر بلد آسيا. -53-
ثانيا :المساعدات العسكرية والقتصادية التي تمنحها للبلد غير الشيوعية ل سيما البلد المتخلفة ،ل فرق في ذلك بين البلد التي هي من مجال أمريكا مثل كوبا ومصر وبين البلد التي لها حق التوسع فيها مثل بعض البلدان الفريقية .ويتبع هذه المساعدات وجود الخبراء أو المستشارين الروس .فهذه المساعدات وهؤلء المستشارون تتخذهم روسيا وسيلة لنشر الفكار الشيوعية .ومن هنا نجد أنها تحاول نشر الشيوعية وتشجيع المنظمات الشتراكية ،حتى في البلد التي ل تجازف فيها ليجاد دول شيوعية فيها مثل السودان والعراق ،وحتى في البلد التي ل تأمل أن يكون لها فيها نفوذ مثل تشيلي وكوبا. ثالثا :الكتب والنشرات الشيوعية ،والمطابع ودور العلم جم وُتطبع في روسيا نفسها .وهي وإن والكتب والنشرات التي تتر حَ كانت ل تعتمد اعتمادا كليا على مراكز ثقافية لها كما هي الحال في مكاتب المعلومات الميركية ،وإن كانت ل تتخذ الثقافة وسيلة للسيطرة الثقافية ،ولكنها تحاول عن قصد تثقيف المليين بالثقافة الشيوعية والشتراكية بشتى الوسائل ومختلف الساليب. رابعا :اتخاذ النجازات السوفياتية مثل أمور الفضاء ،والتفوق السوفياتي ،والوقوف بجانب البلد الخرى في هيئة المم ،وسائل لنشر الشيوعية ،وبيان أهميتها .وتجعل من تقد،م روسيا وانتقالها من دولة كبرى ،دولة عادية إلى عملق عالمي ،وسيلة لفها،م -54-
الناس أن هذا راجع للفكرة الشيوعية وللتطبيق الشتراكي. خامسا :تتبنى فكرة التحرر من الستعمار ،ومهاجمة الستعمار والمبريالية ،وتنشر هذه الفكار بوصفها أفكارا شيوعية أو أفكارا اشتراكية ،وتجعل من احتضان الناس لها وإقبالهم عليها أداة لحتضان الفكار الشيوعية والقبال عليها. عحَوز ،والظلم الجتماعي سادسا :تغتنم فرصة وجود الفقر وال حَ والظلم السياسي في بعض البلدان ،وتطرح الفكرة الشيوعية كعلج لهذه المشاكل ،وكأداة لتحرير الشعوب والمم وإنقاذها من براثن الجوع والمرض والجهل ،وتطرحها كأفكار سياسية ل كأفكار جد لها سوقا حتى لدى البعض عن وجهة النظر في الحياة ،مما يو مِ من المتدينين. هذه أهم سياساتها في نشر الشيوعية ،وهي وإن كانت وسائل تستعملها كذلك لبسط النفوذ والتغلغل في البلد غير الشيوعية ،ولكن روسيا تستعمل هذه المور في جميع بلدان العالم ،ل فرق في ذلك بين البلدان التي ل يحق لها ،حسب اتفاقها مع أمريكا ،أن تتوسع فيها ،ول بين البلدان التي يحق لها فيها التوسع وبسط النفوذ. أ ةّما الخطوط العريضة التي تسير عليها في بسط نفوذها والتغلغل الشيوعي في البلدان التي يحق لها فيها التوسع والنفوذ، فإنها تتلخص فيما يلي: -55-
-1توجيه جميع مقومات الصراع السياسية والقتصادية والعسكرية نحو هد،م العلقات الدولية وعلقات المجتمع، وتحويلها من علقات رأسمالية أو علقات إسلمية إلى علقات اشتراكية ،ومحاولة إيجاد تكتلت يسارية تكون لها السيطرة السياسية أو القتصادية في البلد .وما تقو،م فيه في بعض البلدان الفريقية والسيوية دليل حي على ذلك. -2إيجاد الجبهات الوطنية في بعض البلدان ،فتمد الحزاب الشيوعية في البلد بنفوذها ،ومالها ،من أجل أن يتغلغلوا في الحزاب والتكتلت الخرى ،ليسيطروا عليها ويوجهوها ليجاد حكم اشتراكي ،أو حكم رأسمالي موجه من روسيا عن طريق الحزاب الشيوعية والتكتلت اليسارية ،وإدخال الحزاب الشتراكية غير الشيوعية ،ونظم الحكم الشتراكية ،في مجال السناد والدفاع، ومحاولة ربط بعض البلدان بها عن طريق السناد والدفاع والمساعدات. -3إيجاد التناقضات بين أبناء الشعب ،وتحويل ال ةّمة إلى طبقات اقتصادية ،وجعل التخريب بجميع أنواعه من مظاهرات، وإضرابات ،وحوادث عنف ،وغير ذلك ،وسائل لزعزعة كيان البلد وج ةّرها إلى نفوذها أو إلى سيطرتها ،وإيجاد الكراهية والبغضاء بين الناس. -4محاربة الفكار القومية ،والدينية ،مع تشجيع الفكرة -56-
الوطنية ،وبث اليسارية بجميع أشكالها ،وجعل التقدمية ،والتحرر، والشتراكية ،أفكارا مثالية ،ومثل ع ً أعلى ُيسعى للوصول إليه في البلد ،وجعل النجازات السوفياتية التكنولوجية والقتصادية التي حققتها روسيا ،أمثلة على نجاح التقدمية والشتراكية. هذه أهم الخطوط العريضة لنشر النفوذ الشيوعي في البلد ،إلى جانب الخطوط العريضة لنشر الشيوعية .وإذا كانت روسيا قد اتخذت نفسها زعيمة الشيوعية ،وهي تحاول أن تكون هي قائدة البلد الشيوعية كلها ،فإنها كذلك قد اتخذت نفسها زعيمة التقدمية والتحرر ،وإسعاد المجتمعات ،والخذ بيد الضعفاء. ولذلك تتغلغل في البلد الشيوعية بشتى الوسائل والساليب لضمان تبعية الشيوعية لها أنى ُوجدت ،وتتغلغل في البلد غير الشيوعية بشتى الوسائل ومختلف الساليب لفرض سيطرتها عليها وإيجاد النفوذ السياسي أو القتصادي أو العسكري عليها .كل ذلك من أجل السيطرة ومن أجل جعل هذه السيطرة متحكمة ومتأصلة في البلد. وإذا كانت روسيا تحاول تنزيه نفسها عن الستعمار ،وت ةّدعي مقاومة الستعمار ،ونشر فكرة التحرر والتحرير ،ولكنها في الواقع ،بعد أن تركت الدعوة الشيوعية واتخذت سياسة جديدة لها، فإنها بسعيها لبسط النفوذ ،إ ةّنما تقو،م بما تقو،م به الدول الستعمارية .فإن الدول الستعمارية تسعى الن لفرض السيطرة -57-
عفة القتصادية والسياسية والثقافية على البلد المستض حَ لستغللها ،أ ةّما روسيا فإنها تسعى لبسط السيطرة على البلد عفة ليجاد نفوذ لها فيها .وإنه وإن كان وجه الستغلل المستض حَ القتصادي ليس هو البارز كما هي الحال في الدول الستعمارية، ولكن بسط النفوذ يتجلى بكل وضوح. هذه هي السياسة السوفياتية ،فل بد أن ُتفهم على هذا الوجه ،فهي ليست سياسة حمل الدعوة الشيوعية ،بل سياسة دولة كبرى تسعى للتوسع وبسط النفوذ .وإذا ُفهمت على هذا الوجه ،فإنه يمكن حينئذ اتقاء شرها ،والوقوف في وجهها ،بل كم توجيه الضربة لها. يمكن ضربها ضربة قاضية ،ل سيما إذا ُأح مِ المشاكل الدولية إن الصراع بين الدول أمر طبيعي وحتمي ،فاختلف المصالح بين الشعوب والمم واقع ل يمكن تغييره ،وصراع الناس على المصالح ،سواء كانت مصالح عامة أو مصالح خاصة ،ل يمكن أن يزول ،لن الختلف في الفكار وعلى الفكار طبيعي وحتمي، وكذلك فإن طرق العيش بين الناس مختلفة ،ول تزال مختلفة، وستظل مختلفة حتى قيا،م الساعة .ولذلك ل بد أن يوجد الصراع على الفكار ،وعلى طريقة العيش ،وعلى المصالح ،بين الشعوب والمم ،أي بين الدول بعضها مع بعض .إل ةّ أن هذا الصراع يأخذ -58-
أشكال ع ً عديدة ،فيأخذ الناحية السياسية ،ويأخذ الناحية القتصادية، ويأخذ الناحية العسكرية .وإذا كان التنافس في التجارة ،والتنافس هد كل وقت بين الفراد وبين الدول ،فإن المالي في النقود ،يشا حَ هذا التنافس قد يتحول إلى صراع ،وقد يتحول هذا الصراع إلى حروب .وإذا كان الناس بطبيعتهم يكرهون الحرب ويحاولون حل المشاكل التي بينهم بالوسائل السلمية ،فإن ما يكرهونه ل بد أن ُيكحَرهوا عليه .ولذلك فإن الحروب بين الناس أمر ل بد أن يقع، ومهما حاول الناس البتعاد عن هذه الحروب ،فإنهم ل يستطيعون ذلك ،لن آخر الدواء الكي ،ولن العقدة إذا استعصى حلها ل بد أن ُتقطع بالسلح .ومن هنا ل بد أن ُيلجأ إلى السلح في آخر المر ،فل بد أن تقع الحروب بين الناس. إل ةّ أن الذي ليس بطبيعي ،وليس بحتمي ،هو إجماع جميع بني البشر أن يشتركوا في حرب واحدة في وقت واحد ،أي أن ما ليس بطبيعي وما ليس بحتمي هو الحروب العالمية ،وإذا كان هناك من تفكير يمكن أن ُينمِتج ثمرة ،ويمكن أن يصمِلح البشر ،فإنه التفكير في منع الحروب العالمية والوقوف في وجه إمكانيتها. فالسل،م الذي يجب أن ُيسعى إليه إ ةّنما هو السل،م العالمي ،أ ةّما السل،م من حيث هو ،أي السل،م بين المم والشعوب ،أي بين الدول ،فإن السعي إليه وإن كان من المور المستحسنة ،ولكنه ل يمكن تحقيقه بشكل دائم ،بل ل بد من وقوع الحرب ،ولذلك كان -59-
من الخطأ أن يفكر أحد في منع الحروب. أ ةّما فكرة الحرب العالمية ،فإن الذي أوجدها هو انجلترا بالذات ،أو بعبارة أخرى الشعوب الصغيرة البلد ،القليلة العدد. فإنها في سبيل حمايتها من المم التي هي أقوى منها لجأت إلى أمم أخرى وشعوب أخرى ،فأغرتها بالشتراك معها ،واضطرت المم الخرى أن تكتل معها شعوبا وأمما أخرى ،فنتج عن ذلك اشتراك عدة دول في الدخول في حرب مع عدة دول ،ونتج عن ذلك اشتراك أكثر دول العالم في الدخول في حرب واحدة ،فكان ما يسمى بالحرب العالمية .وأصل ذلك أن انجلترا في سبيل أن تقف في وجه نابليون قد جمعت عدة دول لمحاربته حتى ما سيطرت الدولة العثمانية على أكثر أجزاء أخضعته ،وكذلك ل ةّ العالم ،وافتتحت أكثر بلد أوروبا ،جمعت الشعوب والمم الوروبية نفسها في كتلة واحدة ضد الدولة العثمانية حتى دحرتها وأخرجتها من أوروبا ،ثم تحول ذلك إلى وقوع الحرب العالمية الولى ،ثم الحرب العالمية الثانية .ففكرة الحرب العالمية ليست فكرة قديمة، ول هي فكرة طبيعية في البشر ،بل هي فكرة طارئة ،وفكرة خبيثة ،ولذلك فإنه يمكن معالجتها ،ويمكن ،بل تجب معالجتها العلج الناجع ،حتى ل يقع العالم مرة أخرى في حرب عالمية ،ول سيما بعد وجود السلح النووي. أ ةّما طريقة معالجتها فهي الحيلولة دون وجود التكتلت -60-
العسكرية بين الدول ،والحيلولة دون المحالفات العسكرية لكثر من دولتين .أ ةّما كيفية هذه المعالجة فإنها تأتي عن جعل التكتلت العسكرية عيبا وعارا في نظر الشعوب والمم ،وبالتالي في اصطلح الدول ،وذلك عن طريق إيجاد رأي عا،م ضد هذه التكتلت .والمحالفات العسكرية لكثر من دولتين هي تكتلت عسكرية فتدخل تحت فكرة التكتلت .وإذا ُوجد رأي عا،م قوي لدى أكثرية الشعوب والمم ،فإنه ول شك تمتنع الدول عن الدخول في التكتلت العسكرية ،أو يضعف أثر هذه التكتلت إن ُوجدت. وأقرب دليل ما حصل لحلف بغداد في الشرق الوسط في الخمسينات ،والحلف التي أقامتها أمريكا في العالم في الخمسينات .فإن هذه الحلف ،أو هذه التكتلت قد ُوجدت حب للسيطرة الستعمارية وللوقوف في وجه روسيا .ولكن ما صا حَ وجودها من دعايات ضدها ،أوجد رأيا عاما بأن الدخول فيها هو ج ةّر للشعوب لن تقد،م نفسها قربانا لحماية الستعمار ،وقد انتشر هذا الرأي العا،م بشكل كاسح ،رغم قوة الدول التي أوجدت هذه الحلف ،وبذلك أحجم كثير من الدول عن الدخول فيها ،وصارت شعوب الدول التي دخلتها ضد هذه الحلف ،وناقمة على دولها التي دخلتها ،فأدى هذا إلى إضعاف هذه التكتلت ،وعد،م وجود فاعلية لها حتى تلشت وأصبحت كأنها غير موجودة ،ولو أحجمت دول أوروبا عن التحالف مع انجلترا في الحرب العالمية الولى، -61-
ولو أحجمت أمريكا عن الدخول في التحاف في الحرب العالمية الثانية حَلما ُوجدت هاتان الحربان .ولهذا فإن الطريقة الوحيدة للحيلولة دون وجود التكتلت العسكرية وبالتالي الوسيلة الوحيدة للحيلولة دون نشوب حرب عالمية في العالم هي عد،م التكتل الدولي ،وعد،م وجود محالفات بين أكثر من دولتين. أ ةّما حل المشاكل بين الدول ،وحماية الدول بعضها مع بعض ،فإنه ل يصح أن يكون بجعل دولة كبرى أو أكثر تقو،م بعمل البوليس الدولي ،كما كانت الحال بالنسبة لنجلترا وفرنسا في القرن التاسع عشر ،وبالنسبة لمريكا في النصف الثاني من القرن العشرين ،فإن هذا يعني فرض سيطرة دولة على دولة ،ويعني استعمال سلح الرهاب في وجه الشعوب والمم ،وهذا مما ل يجوز أن يكون ،وكذلك ل يصح أن يكون بإيجاد هيئة من الدول لها سلطة ايقاع العقوبات على من ل ينصاع لرأيها في حل المشاكل، فإن هذا فوق كونه يعني إيجاد دولة عالمية فوق الدول ،وهو ما ل يمكن أن يكون ،ومما يسبب خلق المشاكل عن طريق محاولة حلها ،فإنه ل يصلح أداة لحل المشاكل ،ول يتأتى معه حل المشاكل بين الناس بالرضى والختيار. إن العلقات بين الدول هي كالعلقات بين الفراد ،ل بد أن تكون معالجاتها على وجه يرفع النزاع بينها .أي ل بد أن يكون بعرف عا،م مسيطر ينظم هذه العلقات ،وحينئذ تكون المشكلة -62-
من مخالفة هذا العرف العا،م ،أو من زعم وادعاء مخالفته. فعلجه هو رد الدولتين أو الدول المتفقة على هذا العرف لما اتفقتا عليه من قبل من أفكار وآراء بشأن المشكلة التي أوجدت النزاع. فمثل ع ً مشاكل الحماية من العدوان ،كمشكلة ألمانيا بالنسبة لكل من روسيا وفرنسا ،ومشكلة روسيا أو اليابان بالنسبة للصين، ومشكلة الوليات المتحدة بالنسبة لكندا وأمريكا الجنوبية كلها، وغير ذلك من المشاكل ،فإن طريقة حلها هو البحث في سبب العدوان ،فإن كان التوسع والسيطرة كما هي الحال مع كل من اليابان وروسيا بالنسبة للصين ،وإن كان الستعمار والستغلل كما هي الحال مع الوليات المتحدة بالنسبة لكندا وأمريكا الجنوبية، وإن كان الثأر والعداء التقليدي كما هي الحال مع ألمانيا بالنسبة لكل من فرنسا وروسيا ،فإن طريقة ذلك هي إيجاد رأي عا،م عن أمثال هذه العدوان وبأنه غير مشروع ،وأنه عار وعيب ول يليق بكرامة الدول ،إلى جانب تقوية الدول التي ُيخشى العتداء عليها، ولكن ل بالتحالف الدولي ،بل بإيجاد فكرة أساسية عن الحياة لدى الشعوب الضعيفة ،تبعث فيها القوة والحياة وتجعلها ل تخشى أي عدوان .وإن كان العدوان من أجل نشر فكرة اقتنع الرأي العا،م، في ذلك البلد المعتدى عليه ،بصحتها وأنها من ناحية الحكم ورعاية الشؤون أصلح وأحسن من الفكرة التي ُترعى شؤونه بها ،فإن -63-
مثل هذا الكتساح والضم ل يعتبر عدوانا ،بل يعتبر حربا مشروعة، ولذلك ل ُتمنع مثل هذه الحروب ،على أن تكون حربا محلية ل حربا عالمية ،وأن يكون الصدق ظاهرا فعل ع ً فيها ل أن ُتتخذ الفكرة وسيلة لغايات غير مشروعة ،وعلى أن يكون لهذه الشعوب سحة حق الختيار فيما تعتقد وما تدين ،وأن تتساوى مع المكت حَ الشعب الذي اكتسحها في كل شؤون الرعاية والعناية وفصل الخصومات. فالموضوع ليس منع الحرب مطلقا ،بل منع الحرب العالمية، ومنع الحروب غير المشروعة .أ ةّما الحروب المحلية ،والحروب ن مرْنعها غير ممكن ،علوة على أن الوقوف في المشروعة ،فإ ةّ وجهها هو وقوف في وجه الخير والعدل ،وهو ما ل يصح أن يكون .ففكرة السل،م العالمي فكرة صحيحة وممكنة التحقيق، أ ةّما فكرة السل،م ،فإنها غير صحيحة وغير ممكنة التحقيق .فالنزاع على المصالح طبيعي ،والنزاع على الفكار حتمي ،وهذا النزاع يمكن أن ُيرفع بالرأي العا،م ويمكن أن ُيرفع بالحرب المحلية .وهو طبيعي بين اثنين ،وبين شعبين ،ولكنه ليس طبيعيا بين العالم كله بعضه مع بعض. هذا بالنسبة للمشاكل الكبرى ،أ ةّما المشاكل الصغيرة ،مثل النزاع على الحدود ،ومثل النزاع على التجارة ،ومثل النزاع على المصالح المحلية ،وما شاكل ذلك ،فإنه ل يرتفع إلى مستوى أن -64-
يفكر الغير في معالجته ،أو ُيعني العاحَلم نفسه به ،بل هو يحل نفسه بنفسه ،ويحله المتنازعان بينهما ولو بحرب بينهما .فالمشاكل المحلية ل أهمية لها ،بل الهمية كل الهمية للمشاكل الدولية. فالتفكير بالعلج إ ةّنما ينصب على المشاكل الدولية ،وطريقة حلها. فإن هذه المشاكل هي التي تؤدي إلى التكتلت الدولية ،وهي التي تؤدي إلى الحرب العالمية. أ ةّما ما عليه العالم اليو،م في العلقات الدولية والمجتمع الدولي ،فإنه وإن كان العالم يتظاهر بالسعي لحل المشاكل الدولية ،ولكنه عالم يتعمد إيجاد المشاكل ،وإشعال الحرائق ،ثم يجعل من حلها وسيلة لكسب المنافع واستغلل الشعوب وإيجاد جد المشاكل ويع ةّقدها ،حتى أصبح وجود السيطرة والنفوذ .فهو يو مِ العالم على هذه الحال هو نفسه مشكلة ل بد من حلها .ذلك أن العالم تتولى شؤونه دولتان عملقتان هما أمريكا وروسيا، تحاولن إضعاف غيرهما ،وزيادة قوتهما ،وتقو،م كل منهما على أساس حماية نفسها ،واستغلل غيرها ،أو بسط النفوذ عليه. وتحاول مشاركتهما في تولي شؤون العالم دولتان كبريان ،هما انجلترا وفرنسا ،وذلك ل من أجل خير العالم وصلحه بل من أجل مشاركتهما في الستغلل وبسط النفوذ .ذلك أن كل ع ً من الدولتين الكبريين :انجلترا وفرنسا ،تقو،م على نفس السس التي تقو،م عليها الدولتان العملقتان :أمريكا وروسيا ،وهي :حماية نفسهما، -65-
واستغلل غيرهما أو بسط النفوذ عليه .وما دا،م العالم على هذه الحال فإنه ل ُيرجى له أي صلح ،ول يؤمل له بأي خير ،فإن من يتولى شؤونه إ ةّنما يعمل لستغلله بادعائه أنه يعمل لرفاهيته، ويعمل للسيطرة عليه وبسط نفوذه بادعائه أنه يعمل لتحريره وإسعاده .ولذلك فإن المشكلة التي يتخبط فيها العالم ،ليست مشكلة السل،م العالمي ،حتى ول السل،م ،بل مشكلة رفع السيطرة عنه ،ومنع استغلله وبسط النفوذ عليه .ولذلك كان وضع العالم على الحال الذي هو عليه هو المشكلة التي يجب حلها ،وما لم ُتحل هذه المشكلة فإن الشقاء والتعاسة ستظل هي المسيطرة على بني البشر. أ ةّما سبب ذلك فإن العالم ل يعيش على فكرة أساسية عن الحياة .وليست لديه وجهة نظر في الحياة تتأصل فيه ويعيش عليها .والدول التي تتولى شؤونه ،فإنها تتولها بدوافع غريزية بحتة ،ل بفكرة كلية عن الكون والنسان والحياة ،فالدول الربع: الدولتان العملقتان والدولتان الكبريان ،ظاهر في صميم سياستها انعدا،م فكرة أساسية تقو،م عليها ،وظاهر في سياستها سيطرة الناحية الغريزية على هذه السياسة .ولذلك فإنه ل بد أن يكون كل عملها محصورا بحماية أنفسها ،واستغلل غيرها وبسط النفوذ عليه .وما لم توجد فكرة أساسية لدى أية أ ةّمة بل أي شعب يعيش عليها ويحملها دعوة للعالم ،فإنه ل ُيرجى له أي صلح ول يؤمل له -66-
بأي خلص. والعالم في القرون الولى كان يسير على الناحية الغريزية، ولكنه لم تكن تسيطر عليه قوة أو قوات تسيطر عليها الناحية الغريزية فتتخذه مزرعة للستغلل وبسط النفوذ .ثم بعد ذلك جاءته فكرة كلية عن الكون والنسان والحياة ،عقيدة سياسية، وقاعدة فكرية ،ووجهة نظر في الحياة ،فتجسدت في أ ةّمة وفي دولة أخذت تنشرها وتنشر الهدى بين الناس ،فتمتعت مئات المليين من البشر في ظل هذه الفكرة بالطمأنينة والستقرار، والعزة والزدهار ،عشرات الجيال وأكثر من عشرة قرون .وكان من الممكن أن تقع حروب محلية مشروعة وغير مشروعة ،ولكن لم يكن من الممكن أن تقع حرب عالمية ،وأن ُيجر العالم كله لن يحارب بعضه بعضا ،ل حربا مشروعة ،ول حربا غير مشروعة. ما نبتت فكرة الرأسمالية في أوروبا ،وهي فكرة تطلق فل ةّ الغرائز شر إطلق ،وتجعل العلقة بين النسان النسان علقة خصا،م وصراع ل علقة ود وإيثار ،علقة الرغيف بيني وبينك :آكله أنا أو تأكله أنت ،حينئذ تغلبت الغريزة على الفكرة ،وُوجد الصراع والخصا،م ،وأدى ذلك للركض وراء القوة من أجل الستغلل، فأدى إلى تكتيل الدول ضد الدول ،وأدى إلى إضعاف الفكرة الكلية التي يتمتع بها البشر بالسعادة والهناء .وبالتالي إلى إضعاف الدولة التي تتجسد فيها هذه الفكرة ،فوقع البشر فيما وقعوا فيه، -67-
من سيطرة الغريزة عليهم بدل الفكر ،ومن سيطرة القوي على الضعيف ،ومن استغلل البشر لخوانهم بني النسان استغلل عبودية وإذلل ،فكان ما كان من انتشار الستعمار والفتخار به، ومن الركض وراء إيجاد مستعمرات ،ثم أدى إلى الحروب العالمية. ما استشرى داء الستعمار ،وبلغ الظلم في أوروبا إل ةّ أنه ل ةّ سعت المفكرين هذه ذروته ،الظلم القتصادي والظلم السياسي ،حَل حَ جوا من فداحة هذا الظلم ،ورفعوا صوتهم يصيحون النار ،فض ةّ بالناس أن ارفعوا هذا الظلم ،فُوجدت فكرة الشتراكية والشيوعية كعلج لفساد النظا،م الرأسمالي ،وكمنقذ للناس من ظلم هذا النظا،م .وكان يكون علجا نافعا لو كانت هذه الفكرة فكرة صحيحة ،وُبنيت على أساس عقلي فطري يتجاوب مع الغرائز ،إذن لتجسدت في شعب يصبح أ ةّمة وفي دولة قوية تملك قدرة التغيير. ولكنها كانت فكرة خاطئة ،فكرة خياليةُ ،وجدت كرد فعل للواقع ل من العقل ،عن جعل الواقع مصدر التفكير ل موضع التفكير. ولذلك فإنها وإن كانت فكرة كلية عن الكون والنسان والحياة، صل إليها العقل عن ولكنها مبنية على المادة ل على العقل ،وتو ةّ طريق الحساس بالمادة ل عن طريق التفكير بالمادة .ولذلك أخفقت كل الخفاق ،فلم تستطع أن تتجسد في شعب أو أ ةّمة ،ول قويت على أن تتحول إلى دولة شيوعية ،ولم تصمد أما،م التطبيق -68-
إل ةّ كما صمدت الفكرة الرأسمالية بالتحويل والتغيير والترقيع. لقد حاولت تجسيد الفكرة في طبقات المظلومين ل في الشعوب والمم ،وحاولت إقامة دولة قوية تستطيع التغيير ،ولكن دعت إلى إقامة دولة عالمية من الطبقات المظلومة ،ل إقامة دولة في شعب يتحول إلى أ ةّمة تحمل الدعوة رسالة للشعوب والمم، فأخفقت في إقامة الدولة العالمية ،وفي إيجاد الدولة القوية التي تملك قوة التغيير .ثم لما اجتهد المفكر لينين في تفسير هذه الفكرة ،ولمس استحالة إيجاد الدولة العالمية من الطبقات المظلومة في العالم ،قال بإيجاد الدولة الشيوعية في مكان تنطلق منه ليجاد الثورة العالمية والدولة العالمية ،كمرحلة من مراحل السير .ولكنه بدل أن يعيد النظر في الفكرة كلها مِلما ظهر من يقين خطئها ،سار على نفس الفكرة ،وحصر اجتهاده في كيفية السير بها ،ثم أنه بدل أن يجعل شعبه يحمل الفكرة ليتحول إلى دولة تحمل الدعوة إلى العالم ،حمل الفكرة إلى طبقة المظلومين ،وجعلها تتحكم في الظالمين ،فأخفق في تطبيق الفكرة ،أخفق في رفع الظلم كليا عن المظلومين ،وأخفق في ما جاء خليفته ستالين استمر هذا إيجاد الثورة العالمية .ول ةّ الخفاق واستفحل ،حتى تحولت الدولة الشيوعية إلى دولة روسية كقاعدة للفكرة الشيوعية ،ل دولة شيوعية .ثم لما جاء خلفاء ستالين استمر إخفاق الفكرة وزاد استفحال تحولها ،فصارت -69-
الدولة الروسية التي هي قاعدة للشيوعية ،دولة روسية قيصرية، تتخذ الشيوعية أداة لفرض السيطرة وبسط النفوذ. وبذلك لم يكن للفكرة التي جاءت تعالج الرأسمالية وتحاربها ،أي أثر في إنقاذ العالم من الظلم السياسي والظلم الجتماعي ،بل على العكس مما جاءت من أجله الفكرة ،فإن الفكرة الرأسمالية قد قويت ،وزاد انتشارها ،وزادت قدرة على التحكم والستغلل ،فإن الدول التي تعتنقها لم تعد شعوبها تضج طنع مما يسمى برفع من الظلم ،بل استساغته بفضل ما اس ُ مرة للدولة مستوى العيش المادي ،والشعوب والمم المستع حَ الرأسمالية قد هدأت ضجتها من الستعمار وصارت تسير في ركابه أنى سار ،وتحت سيطرته ونفوذه ،بالستقللت المزيفة والدول الكرتونية ،ووجود مظاهر الحكم والسلطان. ولذلك ليس غريبا أن يظل العالم يرزح تحت هذا الشقاء منذ القرن الثامن عشر حتى الن .فإن الفكرة التي تتحكم فيه هي الفكرة الرأسمالية ،وحتى المسماة بالشتراكية ،والدول التي تتحكم فيه هي نفسها الدول التي تطمع باستغلله وبسط النفوذ عليه ،حتى ولو سميت بالدول الشتراكية .وما لم ينعتق هذا العالم من استعباد هذه الفكرة له ،ومن سيطرة الدول الطامعة فيه والمتغلغلة النفوذ في شعوبه وبلده ،فإنه ل أمل له بالتحرر والنعتاق .ولذلك فإن واجب المفكرين في العالم ،وواجب -70-
المخلصين فيه ،أن يعملوا لتحرير هذا العالم من المبدأ الرأسمالي ،وأن ينقذوه من براثن الدول الطامعة فيه. أ ةّما ما هو السبيل لتحرير العالم وإنقاذه فهو سبيل واحد ليس غير ،وهو إيجاد فكرة كلية عن الكون والنسان والحياة، تكون عقيدة سياسية وقاعدة فكرية ،ووجهة نظر في الحياة ،مبنية على العقل ،جاعلة المادة موضع التفكير ل مصدر التفكير .هذه الفكرة الكلية ،أو على الصح هذه العقيدة السياسية هي وحدها التي تنقذ العالم من الظلم الذي يرزح تحته ،ومن السيطرة والستغلل والنفوذ الذي يتحكم فيه. واجب ال ةّمة السلمية إن ال ةّمة السلمية ،وهي تعتنق العقيدة السلمية ،فكرة كلية عن الكون والنسان والحياة ،عقيدة سياسية ،قاعدة فكرية، قيادة فكرية ،وجهة نظر معينة في الحياة ،يجب عليها وهي ترى العالم كله ،وخي معه كذلك ،يتخبط هذا التخبط ،يرزح تحت نير الظلم السياسي والقتصادي ،ويخضع لعبودية قوة غاشمة ،ويئن ض عليها أن تحت كابوس الشقاء والستعباد والذلل ،فإنه فر ُ تأخذ على عاتقها مهمة إنقاذ العالم ،وإخراجه من ظلمات الضلل والتضليل ،إلى نور الهدى ،وسعادة الحياة .فإنها وإن كانت رازحة تحت نير القوة الغاشمة ،فإنه لم يعد جائزا لها أن تفكر في نفسها -71-
فحسب ،فإن النانية بعيدة عما تعتنقه من عقائد ،وغريبة على ما تحمله في ثنايا نفسها وفي صميم فؤادها من قيم وأفكار .لذلك يجب أن تفكر في إنقاذ العالم مع إنقاذ نفسها ،وأن تضطلع بمهمة تحرير العالم ل بنفسها وحدها .فإنها جزء من هذا العالم ،وهي ُوجدت من أجل هدى البشر ،وبعد أن اعتنقت عقيدة السل،م ،صار فرضا عليها أن تنقذ النسانية من الشقاء ،وأن تخلص البشر من الظلم والتعاسة ،ومن الذلل والستعباد. إن ال ةّمة السلمية تعتنق فكرة أساسية عن الحياة ،فكرة سياسية ،وتعتنق طريقة لتنفيذ هذه الفكرة في الحياة .وإذا ملكت أ ةّمة الفكرة الصحيحة مع طريقتها ،فإنها ول شك تكون أهل ع ً لعطاء الخير وتكون أهل ع ً لحمل قيادة هذه الفكرة .ولذلك فإن ال ةّمة السلمية ،ليست قادرة على النهضة الصحيحة فحسب ،بل هي قادرة على ذلك ،وعلى أن تكون مصدرا للخير لغيرها ،وعلى حمل هذه الفكرة للناس ،قيادة فكرية ووجهة نظر في الحياة، وبالتالي هي قادرة على حل مشكلة العالم ،وعلى إنقاذه مما يتردى فيه من الشقاء والستعباد والذل ،بحمل الدعوة السلمية إلى الشعوب والمم. إن ال ةّمة السلمية لم ُتغلب في تاريخها من أية أ ةّمة ،ولن ُتغلب مطلقا في صراعها مع الشعوب والمم ،مهما كانت قوة تلك الشعوب والمم ،ولذلك فهي قادرة على إنقاذ العالم مهما كانت -72-
قوة الدول المسيطرة عليه .أ ةّما ما حصل في الحروب الصليبية من حرب استمرت أكثر من قرن ،فإنه فوق أن النصر النهائي كان للمسلمين ،فإن ال ةّمة السلمية لم تصارع الغرب بوصفها أ ةّمة إسلمية ،وإن كانت الشعوب الوروبية قد اسُتنفرت كلها لمحاربة ال ةّمة السلمية .فإن الواقع هو أن الحرب كان محصورة في بلد الشا،م ومصر ،والذين حاربوا هم أهل الشا،م ومصر ،والذين انتصروا هم أهل الشا،م ومصر .أ ةّما ال ةّمة السلمية فقد كانت موزعة إلى وليات تشبه الدول ،ولم تكن لخليفة المسلمين السيطرة الكاملة على هذه الوليات ،فلم تدخل ال ةّمة السلمية في حرب مع الصليبيين ،وإ ةّنما دخلت بلد الشا،م وبلد مصر ليس غير .وكانت باقي الوليات ،غير مشتمِركة في هذه الحرب ،لن الولة الخرين ،فوق كونهم مشغولين بتركيز سلطانهم ،فإنهم كانوا يرون أن جهاد الكفار فرض على الكفاية ،وأن بلد الشا،م وبلد مصر كافية لصد الكفار عن بلد السل،م .وكانت كافية طرد الصليبيون من بالفعل ،ولذلك كان النصر النهائي للمسلمين ،و ُ مصر وبلد الشا،م ورجعت سيطرة السل،م إلى هذه البلد. وأ ةّما ما حصل في الحرب العالمية الولى ،فإنها لم تكن حربا صليبية ضد ال ةّمة السلمية ،وإن كانت في دوافعها الخفية تجاه بلد السل،م أشد من الحروب الصليبية الولى ،وأكثر عمقا ،وأشد تأثيرا .ذلك أن انجلترا وحلفاءها دخلت الحرب العالمية الولى ضد -73-
ألمانيا ،والدولة العثمانية دخلت الحرب إلى جانب ألمانيا ،فهي حرب بين دول أوروبا اشتركت فيها الدولة العثمانية ،ولذلك لم تعتبرها ال ةّمة السلمية أنها حرب ضدها ،ولم تشترك فيها ال ةّمة السلمية .ولذلك اشترك فيها المسلمون الهنود مع الجيش البريطاني ،واشترطوا أن ل يحامِربوا المسلمين .واشترك فيها إلى جانب النجليز الكثير من بلد العرب ومن رجال العرب مع أنهم في جمهرتهم مسلمون ،وإن كانوا قد اشتركوا تحت عامل التضليل .ولكن الذي س ةّهل هذا التضليل هو عد،م ظهور أنها حرب ضد ال ةّمة السلمية. فال ةّمة السلمية لم ُتغلب في تاريخها مطلقا بوصفها أ ةّمة إسلمية ،وكانت ُتعقد لها راية النصر المؤزر في جميع الحقاب التي حاربت فيها بوصفها أ ةّمة إسلمية ،وفتحت أكثر بلد العالم القديم الذي كان معروفا حينئذ ،وأوجدت هذا العالم السلمي المترامي الطراف .ولذلك فإن ال ةّمة السلمية إذا وقفت أ ةّمة إسلمية ،فإنها قادرة على إنقاذ العالم من هذه القوى الشريرة التي تتحكم فيه وتتسلط عليه وتذيقه ألوان الشقاء والذل والستعباد. قد يتساءل الكثيرون قائلين :إن ال ةّمة السلمية خاضعة كسائر العالم لهذه القوى الشريرة ،وتذوق ما يذوقه سائر الناس من السيطرة والشقاء والذل والستعباد ،وُتفرض عليها ما ُيفرض -74-
على سائر الناس من السيطرة بجميع أنواعها ،السياسية والقتصادية والثقافية ،وحتى العسكرية في بعض الحيان، فأحرى أن ُيطلب منها تحرير نفسها من السيطرة والنفوذ ل أن ُيطلب منها تحرير غيرها ،وهي أحوج الناس للتحرير؟ على أنها وقد تحررت فعل ع ً أو سارت في طريق التحرير فإن مقارعة القوى الشريرة أكبر من قدرتها ،فكيف يكون في قدرتها أن تصارع هذه القوى؟ قد يتساءل الكثيرون هذا التساؤل ،وقد يسأل الكثيرون هذا السؤال ،ولكن ذلك إذا حصل إ ةّنما هو نتيجة جهل لطبيعة ك لمدى قوى السل،م في الصراع ،فوق المسلمين ،وعد،م إدرا ٍ ل ،فإن الكافر ل .أ ةّما كونه مغالطة أو تضلي ع ً كونه مغالطة أو تضلي ع ً مر ،العدو اللدود ،من جملة أساليبه التضليلية أن يشغل المستع مِ ال ةّمة بتحرير نفسها حتى منه ،لصرفها عن حمل رسالتها للعالم، ويومِقعها في حبال دوامة من الفكار والعمال للتحرير تؤدي إلى زيادة قيودها ل إلى حلها ،وإلى تثبيت سيطرته عليها ل إلى تحريرها من سيطرته ونفوذه ،ولذلك فإن انشغال ال ةّمة بنفسها عن حمل الدعوة إلى العالم لنقاذه ،هو وسيلة من وسائل صرفها عن دعوتها ،ووسيلة من وسائل تثبيت هذه السيطرة، وتطويل أمد بقائها فوق بلد السل،م .ومن هنا كان من الخطأ والخطر على ال ةّمة أن تنشغل بنفسها عن دعوتها ،وأن يلهيها شأنها -75-
عن العمل لنقاذ بني النسان. وأ ةّما كونه جهل ع ً بطبيعة المسلمين ،وعد،م إدراك لمدى قوة السل،م ،فإن السل،م إذا حل من النسان في مركز العقيدة، وُوجدت بذرته في النفس البشرية ،ح ةّولت النسان إلى شخص أقوى من القوة ،وأسمى من السمو ،وأعلى كعبا من الفرسان والحكماء والمفكرين .ول أدل على ذلك من نقل العقيدة السلمية للعرب والعجم ،من شعوب وقبائل ،إلى أ ةّمة عظيمة تقتعد الذرى وتتبوأ القمة في الوجود .ثم إن تجربة الحروب الصليبية كشفت عما في طبيعة المسلمين من قوة خارقة تنزل على المسلم فجأة ،تنقله من عبد إلى سيد ،ومن مهزو،م إلى منتصر ،ومن أسفل درك النحطاط إلى أعلى درجات العلى والمجد .وما نورالدين زنكي ،وصلح الدين اليوبي ،إل ةّ مثل خالد بن الوليد ،وسعد بن أبي وقاص ،على ما يفصل بين صدر السل،م والحروب الصليبية من فواصل الزمن ،ومختلف الحداث .فأصالة المسلمين أصالة أعمق من الزمن ،وأثبت من الثبات أما،م الحدثين. فطبيعتهم طبيعة الصيل ،والصيل يظل أصيل ع ً مهما لحقه من جوع ،ومهما ناله من عسف واضطهاد. فهذا السل،م الذي يفعل في النفسية هذا الفعل ،والذي جد الصالة في الجيل الذي يعتنقه ويحمله ،ويعمقها في الجيال يو مِ مهما طال الزمن ،ومهما حصل من ركود .فإن مدى تأثيره يتجاوز -76-
رؤية البصر ،ويتجاوز رؤيا البصيرة والدراك ،بل يتجاوز رؤيا الرؤى والحل،م .ولذلك ل ُيطلب من ال ةّمة السلمية أن تحرر نفسها، وإ ةّنما ُيطلب منها أن تحمل الدعوة السلمية إلى العالم لنشر الهدى فيه ،وإنقاذه مما يحيق به من سيطرة وذل واستعباد ،وظلم وكفر وضلل .ومن هنا كان لزاما أن ُيطلب من ال ةّمة إنقاذ الناس، لن أن تحرر نفسها فقط .فإنها مسؤولة عن الناس ومسؤولة عن نشر الهدى بين بني النسان. أ ةّما كيف تحرر نفسها وتنقذ الناس ،فإن ذلك يجب أن تحكيه الفعال الفعالة ،ل القوال المكتوبة ،والعمال العظيمة ،ل الفكار طرة .يجب أن يراه الناس كائنا ،ل أن يقال لهم كيف يكون. المس َّ ل ،ومن هدى طر مِفعا ع ً وأن يفهموه من لغة السل،م التي تس ِّ ء .فالسؤال ليس عن السل،م الذي يشع على الناس نورا وضيا ع ً الكيف ،وإ ةّنما السؤال عن الرؤية ،عن البصار والرؤية ،وعن مشاهدة الواقع الذي سيكون أكبر من الخيال. إن مما يجب على الناس ول سيما المسلمين أن يدركوه أن ال ةّمة السلمية أقوى من قوى الشر مهما اجتمعت ،وذلك لسببين اثنين :أحدهما أنها تملك فكرة كلية عن الكون والنسان والحياة ل يملكها أحد غيرها ،وهي فكرة دينامية جبارة ،وهي في نفس الوقت تعطي الصورة الحقيقية عن العالم ،وعن الناس ،وعن الدول ،وعن المجتمعات ،وتعطي في نفس الوقت الطريقة -77-
الصحيحة للتغلب على دول الكفر مهما كانت ،ولذلك ليس غريبا على من يملك هذه الفكرة الكلية أن تكون قواه قوى ل ُتغلب. ثانيها :أن ال ةّمة السلمية تملك من القوى المادية ما ل يملكه سواها ،وهي قوى جبارة هائلة ل تصل أية قوة إلى مستواها، وهي ملكها وتحت تصرفها ،ولذلك فإن النصر مكفول لها مهما كان وضع الصراع الذي تدخل فيه ،ومهما كانت القوى التي تصارعها. إن الموضوع هو موضوع واحد ليس غير ،أل وهو ال ةّمة السلمية .فال ةّمة السلمية متى تحركت كان التحرير ،ومتى اندفعت يكون النقاذ ،ومتى زمجرت خ ةّر الجبابرة ساجدين. فالمسألة كلها أن تتحرك ،ثم تندفع ،ثم تزمجر ،فتكون السعادة والهناء ،وتكون الطمأنينة والستقرار ،ويعم الناس التقد،م والزدهار .فالمر كله أن تتحرك ال ةّمة السلمية في هذا الوجود. إن ال ةّمة السلمية وهي تؤمن عن تصديق جاز،م مطابق للواقع عن دليل ،إيمانا جازما بوجود ا ،وأنه حقيقة ل فكرة، فإنها حَتفهم معنى الحياة ،وتدرك واجب الحياة .وهي تعتقد بأن محمدا نبي ا ورسوله ،وأنه رسول ا إلى الناس كافة00000 ، واجبها نحو نفسها ،ومهمتها تجاه بني النسان .وهي وقد آمنت بكتاب ا وعرفته ،واعتقدت بسنة محمد وسيرته وعرفتها ،فإنها تفهم معنى السياسة والحرب ،وتعرف كيف تصارع قوى الكفر، وكيف تزلزل عروش الطغيان .فهي تعرف موقعة بدر ،وتدرك -78-
معركتها وتحييها في قلبها .فل غرو أن تترك التجارة والمال، وتصارع قوى البطر والكفر ولو كانت أضعاف أضعافها ،وهي تقرأ قوله تعالى) :الن خفف ا عنكم وعلم أن فيكم ضعفا ،فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين( ،فتعرف أنه ُفرض عليها أن تقاتل عدوها إذا كانت قوته ضعفي قوتها ،وأن هذا أخف ما ُفرض ،فل تتردد في مهاجمة قوى الشر متى كانت ل تزيد عنها ضعفين. وهي تعرف غزوة الحزاب ،وكيف تجمعت قوى الكفر على المسلمين من قبائل شتى لتمحو السل،م من الوجود .فليس عجيبا أن تقف وحدها في وجه العالم كله ،وأن تسلك السياسة إلى جانب الحرب ،والدهاء والحيلة إلى جانب العداد والقوة .وهي تقرأ قوله تعالى مخاطبا الرسول عليه السل،م) :فقامِتل في سبيل ا ل تكَّلف إل ةّ نفسك( ،تدرك أنها في حالة الدفاع يجب أن تقاتل عدوها مهما بلغت قواه من القوة ،ومهما بلغت هي من الضعف، حتى تدفعه عن نفسها أو تفنى عن بكرة أبيها. وهي تقرأ عمرة الحديبية ،وكيف أن رسول ا صلى ا عليه وسلم قد بلغه مفاوضات خيبر مع قريش ليجاد حلف بينهما يهاجمان به محمدا في المدينة فيمحوها من الوجود .وأنه حين بلغه ذلك صمم على العمرة لمصالحة قريش ومعاهدتها ،وكيف أنه بعد أن عاهدها وأمِمن ش ةّرها رجع إلى يهود خيبر فحاربهم -79-
ومحاهم ككيان من الوجود. إنها وهي تقرأ ذلك ،تعرف كيف تصنع إذا تكتلت الدول ضدها حول بين تكتلهم وتتقي شرهم لتمحوها ،وكيف تضرب أعداءها لت ُ ن من قو،م وتقضي عليهم .وهي حين تقرأ قوله تعالى) :وإما تخاحَف ةّ خيانة فانبذ إليهم على سواء( ،تدرك أنها ل تكون أسيرة المعاهدات والتفاقات ،وأنها مع كونها مأمورة بالوفاء بالمعاهدات ،فإنها إذا أحست بالشر تسارع بنبذ هذه المعاهدات. إنها وهي تدرك أن مكة قد ُفتحت بالحرب والصلح معا، وتعرف ما فعله الرسول عليه السل،م بعد دخوله مكة حين قال: ما حضروا قال لهم) :إن قريشا و ةّبشت )اهتفوا لي بالنصار( ،ثم ل ةّ حق إحدى ك ةّفيه بالخرى ،تدرك س حَ أوباشها فاحصدوهم حصدا( و حَ أن الجيوش السلمية إذا دخلت بلدا س ةّلم أهلها ،ثم أحست أن ذلك البلد يفكر بالحرب ،فإنها يجب أن حَتسحق ذلك البلد سحقا ،وأن تمضي حتى تقضي على القوة القضاء الخير .وال ةّمة السلمية حين تقرأ )فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم( تعرف أن استقامة العدو شرط لستقامة المسلمين ،وأن المؤمن ك ةّيس فطن ،وأنه ل يغفل عن تحرك عدوه ولو استسلم له ،ولو عاهده. وال ةّمة السلمية وهي تعرف أن مكة ُفتحت في الس ةّنة الثامنة ،وأن الرسول سمح للمشركين أن يحجوا ،وسمح لهم أن يطوفوا بالبيت عرايا ،واضطر إلى عقد معاهدات معهم ،وتعرف -80-
أن ذلك صار أذى في نفوس المسلمين ،وصدر عن مراعاة لضعف قوته عن قوى المشركين ،وعن وهن كان لدى المحاربين ،وكيف أنه في الس ةّنة التاسعة نزلت عليه سورة براءة أو سورة الحرب، فأمر بوضعها بل بسملة ،وأمر عليا أن يلحق بأبي بكر أمير الحج ليب ةّلغ سورة التوبة للناس ،ولُيعلن الوامر الثلث المشهورة :ل يحج بعد العا،م مشرك ،ول يطوف بالبيت عريان ،ومن كان معاهدا إلى أجل فهو إلى أجله .وأنه بعد أربعة أشهر يجب أن ُيسمِلم المشركون أو يقاحَتلون حتى ُيفنوا :فالسل،م أو الحرب .إن ال ةّمة السلمية وهي تعرف ذلك كله ،تدرك أنها إن أعطت تنازلت مشينة من جراء عوامل اضطرارية ،فإنه ل يصح أن تسكت عليها ،بل يجب أن تنقضها في أقصر وقت ممكن بعد تحضير القوة الماحقة لمن يقف في وجهها .كما تدرك أنه ل يصح أن يكون بينها كيان ،ول أن يبقى في داخلها أو في داخل أي بلد منها قوة حرة في أي مفهو،م من مفاهيم الحياة ،وأنه ل يرتفع صوت في ال ةّمة سوى صوت السل،م .وهي حين تقرأ قوله تعالى) :ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين( تعرف أن ل عزة لغير السل،م في بلد السل،م. إن ال ةّمة السلمية حين تقرأ ذلك وغيره من الكتاب والس ةّنة والسيرة النبوية ،ل شك أن السياسة والحرب ل تكون من معارفها فحسب ،ول تكون من دراستها واختباراتها ،ول تنبع من حاجاتها فقط ،وإ ةّنما تكون أفكارا من عقائدها ،وأحكاما من شريعتها، -81-
ومتغلغلة في حنايا نفسها ،ومتأصلة في دمها وتكوينها .فهي إذا درست سياسة الدول الكبرى فإ ةّنما تدرسها كواقع لتعالجه بأفكار الشرع وأحكامه ،وتقاومه بما يتطلبه من سياسة وحرب ،وتدرك كيف تسير ،وتعرف أين الدرب .وهي ترى أن انجلترا إ ةّنما تستعمرها كشعب ،وأن فرنسا إ ةّنما تغزوها ككيان ،وأن روسيا إ ةّنما تسيطر عليها كأ ةّمة ،وأن روسيا إ ةّنما تبسط نفوذها كأ ةّمة واحدة وإن كانت شعوبا .حين ترى ذلك تدرك أنها هي بوصفها أ ةّمة هي الهدف من ذلك الستعمار والغزو والسيطرة والنفوذ ،وأن استغللها وغزوها والسيطرة عليها ،وبسط النفوذ فوق ربوعها ،ل يتم إل ةّ بتجزئة بلدها إلى دول ،وبتفرقة صفوفها إلى شعوب، وسحب سر قوتها بإقصاء دينها عن الحياة. فاستعمار ال ةّمة السلمية ،وغزوها ،والسيطرة عليها ،وبسط النفوذ فوق ربوعها ،ليس المقصود منه الوجه المادي ،وإن كان هو الحاصل ،ول نهب خيرات البلد السلمية وإن كان هو الجاري، بل المقصود الساسي ،والدافع الصلي ،هو بعد أن تمت هزيمتها في ميادين الحرب والفكر ،هو الحيلولة دون أن تعود مرة أخرى لحمل رسالتها إلى العالم ،والخوف منها من أن تحطم قوى الشر، وتدك صروح الطغيان .هذا هو الساس ،وهذا هو الصل ،وهذا هو وجه القضية كلها .فالموضوع إذن ليس الستعمار فحسب ،بل الموضوع هو تحطيم هذه ال ةّمة تحطيما تاما ومحوها من الوجود -82-
بوصفها أ ةّمة إسلمية ،حتى ل تعود مرة أخرى لحمل رسالتها إلى العالم. وإذا كان التاريخ ،وواقع ما يجري من التضليل للمسلمين، يكفي برهانا على أن هذا هو وجه القضية وليس الستغلل ونهب الخيرات ،ولكنه يمكن أن ُيستأنس لرؤية الواقع الحقيقي لوجه القضية بالبصيرة والبصر ،بما حصل للمانيا ،وبواقع قضية ألمانيا، بعد الحرب العالمية الثانية ،وانتصار العد ةّوين اللدودين :الدول الشيوعية والدول الرأسمالية على ألمانيا .فها هي ذي ألمانيا ،ال ةّمة العظيمة ،والقوة المرهوبة ،قد وقفت منها القوى الشيوعية والقوى الرأسمالية ،موقفا واحدا هو الحرص على عد،م عودتها أ ةّمة عظيمة كما كانت ،حتى ل تشكل خطرا على الجميع .فالدول الرأسمالية من مصلحتها أن تعود ألمانيا قوة مرهوبة لتقف في وجه الشيوعية وتحرس أوروبا من غزو روسيا ،وقد رأت هذه المصلحة جلية ،بعد الحرب العالمية الثانية وحتى أواخر الخمسينات ،ولكن إصرار روسيا على استمرار خضوع ألمانيا والحيلولة دون رجوعها أ ةّمة كبرى ،وخوف فرنسا من ألمانيا، وذبذبة موقف انجلترا ،وخشية أمريكا من فقدان التوازن بين دول أوروبا ،كل ذلك جمع كلمة العالم القوي ،على الحيلولة دون أن ترجع ألمانيا أ ةّمة عظيمة أو أ ةّمة كبرى .فالغاية من ذلك ليس استعمار ألمانيا ،ول نهب خيراتها ،وإن كان فرض السيطرة وبسط -83-
ل، النفوذ واستغلل القتصاد اللماني والجهد اللماني حاصل ع ً فع ع ً فإن الدافع الساسي ليس الستغلل وبسط النفوذ ،بل الدافع الساسي هو اتقاء خطر ألمانيا ،ومحافظة كل دولة من هذه الدول المتفقة ضد ألمانيا على بلدها وأمنها ودولتها .وهذا بالنسبة للمانيا وهي ل تملك فكرة كلية عن الكون والنسان والحياة تهدد تلك المم ،ول تحمل دعوة سامية إلى العالم ،فكيف بال ةّمة السلمية التي هي أقوى من ألمانيا بالقوة والعدد والثروة ،وهي تملك أقوى فكرة ،وتحمل أعظم دعوة؟ إن هذا المثل وحده، كاف للستئناس فضل ع ً عن التاريخ لدراك حقيقة الستعمار والغزو والسيطرة والنفوذ ،الواقع على ال ةّمة السلمية .لذلك فإنه من المحتم أن توضع قضية البلد السلمية في موضعها الصحيح، وأن ُتبسط حسب وجهها الحقيقي ،وأن ُيعمل لها على أساس أ ةّمة إسلمية ليس غير. لقد مر استعمار الدول العدوة لل ةّمة السلمية ،وغزوها، والسيطرة عليها ،وبسط النفوذ فوق ربوعها ،في أدوار نحن في آخرها ،ووصلت الرصاصة التي انطلقت لقتلها مداها الذي تفقد فيه حرارتها واندفاعها .والعدو يظن أن الضحية وصلت دور النزع الخير ،والواقع أنها ل تزال حية ،وازدادت معرفة وقوة .ولذلك فإن تحركها صار أسهل من قبل ،وأقرب للنجاح من أي وقت مضى .وحاجة العالم إليها وإلى دعوتها وصلت إلى حد الجوع -84-
ممِلح ،ولذلك فإنه آن الوان لن تتحرك ال ةّمة السلمية وتندفع ال ُ وتزمجر لنقاذ هذا العالم التعيس. لقد بدأت غزوة أعداء ال ةّمة السلمية لها منذ القرن الحادي عشر الهجري وهي في أوج قوتها ،وفي عنفوان مجدها ،حيث كان من المسَّلمات أن الجيش السلمي ل ُيغلب ،وذلك في القرن السابع عشر الميلدي ،ولكنها بدأت غزوة فكرية لفراد ال ةّمة السلمية ومجتمعها ،ثم لما حصل النقلب الصناعي في أوروبا اغتنمه العداء فرصة ذهبية ،فاتخذوه وسيلة للغزو الفكري ،وأداة ما أحسوا للغزو السياسي ،واستعملوه قوة للغزو العسكري .ول ةّ عجزهم عن القضاء على الخلفة التي تجمعها ،اتخذوا أسلوب تقطيع أطرافها منها ،فبدأوا باقتطاع البلد السلمية بلدا بلدا حتى ع ًيجهزوا على خليفة المسلمين. ح ةّدث التاريخ عن نابليون أنه حين غزا مصر واحتلها ،جمع ضباط وأركان جيشه في غرفة واسعة وضع فيها سجادة كبيرة، ووضع في وسط السجادة قبعة ،وقال لضباطه :من منكم يأتيني بالقبعة؟ فمشى ضابط لحضارها ،فقال له :ل حَتُدس على السجادة ،فحاول آخر أن يأخذ القبعة بعصا طويلة ،فقال له :هاتها بيدك ،وهكذا حاول عدة ضباط إحضار القبعة فلم يفلح أحد بإحضارها وفق الطريقة التي يريدها نابليون .فقال لهم :نطوي السجادة ونتناول القبعة .ثم التفت إليهم وقال :هذه القبعة مثل -85-
الخلفة ،وهذه السجادة مثل البلد السلمية ،فل يمكن أخذ القبعة باليد إل ةّ بطي السجادة ،ول يمكن إزالة الخلفة إل ةّ بأخذها بلدا بلدا كطي السجادة ،ثم يمكن إزالة الخلفة بكل يسر ،وها نحن أخذنا مصر ،ثم نأخذ بلد الشا،م ،وهكذا حتى نزيل الخلفة. وهكذا صارت دول الغرب تقتطع بلد السل،م بلدا بلدا حتى كانت الحرب العالمية الولى ،فتمكنوا بعد انتصارهم في تلك الحرب من إزالة الخلفة ،وتقطيع ال ةّمة السلمية بتجزئة بلد السل،م إلى مستعمرات ثم إلى دول ،وتفريق صفوف المسلمين إلى شعوب وقوميات ،فاستطاعوا الستيلء على ال ةّمة السلمية وتحطيمها ،وهم يحاولون الجهاز عليها لتلفظ النفس الخير. فهذه المراحل التي مرت على ال ةّمة السلمية قد وصلت آخرها ،فالعدو قد خرج بقواه العسكرية التي لم تكن لنا طاقة مادية مِقحَبحَلها ،وظهر عواره الفكري وفساد وجهة نظره للناس ضحوا حتى لم يعد دجلهم وتضليلهم هُزل عملؤه وُف مِ جميعا ،و حَ ينطلي حتى على أتباعهم والمنتفعين منهم ،وأصبح نفوذه مخفيا بالثواب الرقيقة المهلهلة التي ل تكاد تخفيه ،وتزلزلت أركان قواعده التي جعلها رأس جسر له مثل اسرائيل وقبرص ولبنان. لذلك صارت الفرصة مواتية ل لخلعه من بلد السل،م ورفع كابوسه عن ال ةّمة السلمية فحسب ،بل صارت مواتية لذلك وحمل الدعوة السلمية إلى العالم .وهي فرصة طويلة ،ل تنقضي -86-
بشهور وسنوات ،بل إنها تمتد إلى عدة سنين ،وهي في كل يو،م تكون مواتية أكثر من اليو،م الذي قبله .لن العداء يزداد انكشافهم طمِرد رفع قبضتهم اطرادا ظاهرا .لذلك ويزداد انهيار تدجيلهم ،وي ةّ فإن ال ةّمة السلمية ل شك أنها ستتحرك ،ول شك أنها ستندفع ،ول شك أنها ستزمجر ،فإنها تشاهد كل ما مر ويمر بها من كيد أعدائها وبطشهم ،وتشاهد أين وصل مدى هذا العدو الزرق .وهذا ما يجعلنا على مثل اليقين بالنصر العزيز. إن دول العالم كلها عدوة لل ةّمة السلمية ،لنها دول كافرة، وهي تتربص بشكل دائم بالسل،م والمسلمين ،لتومِقع بهم الذى والفرقة والشتات .والسل،م ع ةّلمنا أن العالم كله داران ل ثالث لهما :دار إسل،م ودار كفر .وأن المسلمين حَيعتبرون أن أهل دار حكمية ،أي الكفر هم أهل حرب ،فهم في حالة حرب معهم ،إما ُ حكمهم أنهم أهل حرب ،وإما في حالة حرب فعلية ،حين تكون ُ حالة الحرب المعحَلنة بينهم وبين ال ةّمة السلمية .والرسول صلى ت أن أقاتل الناس حتى يقولوا ل ا عليه وآله وسلم يقولُ) :أمر ُ إله إل ةّ ا محمد رسول ا فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إل ةّ بحقها( ،وكلمة )الناس( اسم جنس محلى باللف والل،م ،فتشمل جميع الناس الكفار في جميع العصور .إل ةّ أن عمله صلى ا عليه وسلم أنه كان يقاتل حتى تتحول دار الكفر إلى دار إسل،م ،فإن تحولت يوحَقف القتال ول ُيكره الناس على -87-
اعتناق السل،م ،لن ا تعالى يقول) :ل إكراه في الدين( ،ولنه عليه السل،م يقول) :ل ُيفحَتن أحد عن دينه( ،ولننا ُأمرنا أن نترك الناس وما يعتقدون وما يعبدون .فالدول الكافرة كلها دول محاربة ما دامت دار كفر. إل ةّ أن الدول الكبرى التي تفرض سيطرتها على بلد السل،م، هي أشد الدول عداوة ،وأكثرها خطرا على بلد السل،م .وهي التي تتحكم في العالم وتذيقه من ألوان الظلم والشقاء .ولذلك فإن ال ةّمة السلمية مكلفة بإنقاذ العالم من هذه الدول، وبالوقوف في وجه هذه الدول ،والدخول معها في صراع سياسي كحالة لتبليغ السل،م ونشر دعوته ،ومكلفة بإعداد القوة الكافية للدخول مع أي منها في حرب فعلية إذا اقتضى ذلك حمل الدعوة أو تحرير البلد السلمية والدفاع عنها .ومن هنا ،كان المسلمون في حالة جهاد دائم وكان الجهاد باقيا ومستمرا حتى قيا،م الساعة ،وكان فرضا كفرض الصلة ،ل يسقط عن أي مسلم حتى تحصل الكفاية برد العدو ،أو تحرير البلد ،أو نشر الدعوى حيث يجب نشرها. ومن هنا كان الجهاد هو الصفة التي يجب أن تتحول إلى سجية من سجايا ال ةّمة السلمية ،لنه الطريقة لحمل الدعوة إلى العالم. والدول الكبرى المتحكمة في العالم هي العملقان -88-
الجباران :أمريكا وروسيا ،والدولة الماكرة الخبيثة التي ُتعتبر رأس الكفر بالنسبة للمسلمين ،أل وهي انجلترا ثم فرنسا ،التي ل تزال تحاول تركيز نفوذها في بعض بلد السل،م ،ول تزال تحاول بسط سيطرتها أو نفوذها حيثما قدرت من بلد السل،م .ولذلك كان الصراع السياسي المستمر هو مع هذه الدول جميعها بل استثناء، وأ ةّما باقي الدول الكافرة فإنها ليست ذات موضوع الن. والسؤال الذي حَيمِرد الن هو :هل يكون الصراع مع هذه الدول مجتمعة ،وهذا ليس بالسياسة الحكيمة ،أ،م يكون الصراع هد البعض الخر ،حتى ل تتكتل القوى ضدنا؟ مع بعضها ويعا حَ والجواب على ذلك أن الصراع مع الكفار يأخذ ناحيتين اثنتين: إحداهما الصراع الفكري وهو ما ُيطلق عليه الصراع السياسي، والثاني الصراع الدموي ،وهو الحرب الفعلية التي هي الجهاد .أ ةّما الصراع الفكري ،أي الصراع السياسي فإنه يجب أن يكون مع جميع هذه الدول مرة واحدة ،ول تهاحَدن أية دولة في هذا الصراع، لن طبيعة التناقض بين مبدأ السل،م ومبدأي الرأسمالية والشتراكية ومنها الشيوعية ،تقتضي دوا،م المواجهة بينهما ،ولن هذه الدول تجعل العمال السياسية طريقة للسيطرة وبسط النفوذ ،ولذلك فإن طبيعة الواقع الدولي تقتضي دوا،م الصراع السياسي مع الجميع. أ ةّما الصراع الدموي ،وهو الحرب الفعلية ،فإن الظروف -89-
والحوال هي التي تقرره ،وهو الحالة الخيرة التي ُيلجأ إليها إذا تعذرت أو تعسرت سائر الحالت .والرسول صلى ا عليه وسلم هادن بعض الدول من أجل أن يحارب بعضها الخر ،كما فعل في الحديبية وفي موقعة خيبر ،وهادن القبائل من أجل أن يتفرغ إلى ن شر قريش دخل في حرب فعلية مع دولة ما أمِم حَ حرب قريش .ول ةّ الرو،م .فمهادنة دولة والدخول في حرب مع دولة أخرى جائز، ويمكن أن ُيسلك هذا الطريق ،لن الرسول عليه الصلة والسل،م فعله ،ولن الظروف وحجم القوى ،قد يضطر ال ةّمة السلمية إلى المهادنة .سواء أكان ذلك في بدء الحرب ،أو في مهاجمة دولتين أو أكثر لبلد السل،م .فإنه عليه الصلة والسل،م حين هاجمته قبائل العرب في موقعة الحزاب ،وحاصرته في المدينة ،ه ةّ ب لمحاربتها جميعها ،ولكنه حين طال الحصار ،وخشي من أن تفنيهم قوى القبائل المتجمعة والمتكتلة لحربه والقضاء عليه وعلى جمة على أن يدفع م بعقد الصلح مع بعض القبائل المها مِ دولته ،ه ةّ لها مال ع ً مقابل انصرافها عنه ،لول أن السعدين :سعد بن عبادة وسعد بن معاذ قال له :إنا ل نعطي الدن ةّية أبدا ،فإنا لم نعطها ونحن كفار ،فهل نعطيها وقد كرمنا ا بالسل،م؟ حينئذ عدل الرسول عن المعاهدة وقال لمن كان سيو ةّقع المعاهدة معهم: اذهبوا فليس لكم إل ةّ السيف .واستمر بالحرب ضد القبائل كلها حتى نصره ا ذلك النصر المؤزر. -90-
فمحاربة دولة ومهادنة دولة أخرى جائز ،كما أن محاربة الدول المتكتلة مهما بلغت قوتها جائز كذلك .والذي يقرر هذا إ ةّنما هو الظروف والحوال .وما يسمى بالحرب الباردة حكمها حكم الحرب الفعلية في هذا المجال ،لنها تؤدي إلى الحرب الفعلية، ولنها ل تخاض إل ةّ إذا كانت القوى المادية كافية للنصر فيما لو دخلت الدولة التي نشتبك معها في حرب باردة ،في حرب فعلية معنا .فالحرب الفعلية وما يسمى بالحرب الباردة ،ل ندخل فيها إل ةّ إذا كانت قوانا نصف قوى عدونا ،ويجوز لنا أن نقف ضدها جميعا إذا تكتلت في حلف واحد ،أو أن نعاهد بعضها ونقف في وجه البعض الخر ،ل فرق في ذلك بين أن يكون تكتلها للحماية والتهديد ،كما كانت الحال بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي بعد الحرب العالمية الثانية حتى أوائل الستينات ،وبين أن تدخل متكتلة في حرب فعلية ضدنا ،كما كانت حال الحلفاء في الحرب العالمية الثانية ضد ألمانيا .ولذلك فإن موقفنا تجاه هذه الدول الربع إ ةّنما تقرره الظروف والحوال. والقضية التي فرضت نفسها على ال ةّمة السلمية في سبعينات القرن العشرين الميلدي هي تحرير ال ةّمة السلمية كلها من سيطرة هذه الدول الربع ،ومن نفوذها ،أي تحريرها من الستعمار والنفوذ ،ولكنا ل يصح أن نخوض العراك بشأنها للتحرير ،بل يجب أن نخوضها لحمل الدعوة إلى العالم وإنقاذه -91-
مما هو فيه ،والتحرير يكون وسيلة ل غاية ،وأداة وليس قصدا ،لن مهمتنا هي حمل الدعوة السلمية إلى العالم .والتحرير أمر بديهي من البديهيات ،إذ الصل أن نكون أ ةّمة تحمل الدعوة ل أ ةّمة مستعمرة .ولن القتال حتى يكون جهادا ل بد أن يكون لعلء كلمة ا .وكلمة )ا( هي حمل دعوة السل،م ،فحتى جهاد التحرير يجب أن يكون لعلء كلمة ا .فنحن حين نقاتل لتحرير فلسطين ،ل نقاتل من أجل برتقال يافا ،ول نقاتل من أجل أن ُنرجع أوطاننا إلينا ،وإ ةّنما نقاتل لعلء كلمة ا ،ول يتأتى ذلك إل ةّ بالتحرير .فكان القتال من أجل إعلء كلمة ا ل من أجل التحرير. على أن واقع الحال يقضي بذلك ويستوجبه .فنحن حين نقاتل لتحرير السنغال ونيجيريا والسودان ،وتحويلها من دار كفر إلى دار إسل،م ،ل نتوقف عند حدود روديسيا حتى نحرر الجزائر، ول عند حدود الكونغو حتى نح ةّول اندونيسيا ،بل نسير في الجهاد لحمل الدعوة حسب مقتضيات الظروف والحوال ،وفق ما لدينا من القوة .فنحن نقاتل لتحويل كل دار كفر إلى دار إسل،م ،سواء أكان أهلها من المسلمين كباكستان ،أو كانوا من الكفار كالهند. ومن أجل ذلك يجب أن يكون الصراع مع هذه الدول الربع من أجل حمل الدعوة السلمية ل من أجل التحرير .فإنه وإن كانت القضية التي فرضت نفسها على المسلمين هي التحرير ،ولكن الصراع يجب أن يكون من أجل حمل الدعوة السلمية ،وإن كان -92-
ل يتأتى ذلك بالنسبة للبلد السلمية إل ةّ بالتحرير ،وحتى العمل للتحرير نفسه ل يصح أن يكون إل ةّ لعلء كلمة ا. قلنا إن استعمار الدول العدوة للبلد السلمية قد وصل إلى آخر أدواره وصارت الفرصة مواتية لمواجهته وطرده ،وهذا واقع هد ل شك فيه .فإن العدو ل يستعمل ليجاد سيطرته ونفوذه، مشا حَ وللحتفاظ بهذه السيطرة وذلك النفوذ ،إل ةّ العمال السياسية) ، 0000000سطر ناقص (00000000ل يشكل خطرا عليه .ولذلك فإن الصراع مع العدو تكفي فيه العمال السياسية ،والستعداد للستشهاد وإعداد القوة لتشكيل الخطر على العدو إذا فكر باللجوء للقوى العسكرية .هذان المران ،وهما :العمال السياسية ،والستعداد للستشهاد وإعداد القوة الكافية لتشكيل الخطر على العدو ،كافيان للتحرير ،أي كافيان لحمل الدعوة والنجاح في التحرير. ولذلك ما على ال ةّمة السلمية إل ةّ أن حَتححَذق العمال عد الع ةّدة للجهاد .ولذلك صار المر أسهل مما كان، السياسية ،وُت مِ فل تحتاج لقوة مادية تعدل قوى العدو المادية ،فل تحتاج لقوة تعادل قوى الدول الربع الكبرى ،حتى ول قوة تعادل قوة أضعفها .لن التحرير صارت تكفيه العمال السياسية ،والحتياط لما قد ُيحتمل من التدخل العسكري المحدود .ولهذا فإنه ل عذر لحد عن النهوض للضطلع بأعباء التحرير وحمل الدعوة ،ولم -93-
يبق أي مجال ول أي مبرر لللتصاق بالرض والقعود عن العمل. إن العمال التي تقو،م بها الدول العدوة في بلد السل،م، سمة بينها ،ومنفصلة بعضها عن بعض ،حتى يقال إننا ليست مق ةّ نخاصم انجلترا أول ع ً ونهادن أمريكا ،أو نخاصم أمريكا ونهادن روسيا 0000000) ،سطر ناقص (00000000السلمية لفرض السيطرة وبسط النفوذ .وإن اقتسما العالم بينهما ومنه بلد السل،م ،فإنهما يعملن معا في العالم كله ،فإن روسيا تعمل في مصر وسوريا مع أنهما من منطقة أمريكا ،وأمريكا تعمل في كوريا وفيتنا،م مع أنهما من منطقة روسيا ،ول يترددان في المنافسة على تنزانيا وجنوب افريقيا وإن كانت منافسة رياضية ليس فيها كبير عداء ،ولذلك فإنه ل يمكن الصراع مع إحداهما ومهادنة الخرى، لن ذلك ل يتأتى في الواقع إل ةّ ضدهما معا ،ومن أجل ذلك ل حَتمِرد المهادنة في هذا المجال .وأيضا فإن انجلترا تعمل في ماليزيا وتونس ،ولكن أمريكا تعمل في كل منهما لفرض سيطرتها وبسط نفوذها ،وإنه وإن كانت أمريكا تصارع انجلترا فيهما فإن هذا الصراع تناُفس على المغانم ل صراع حرب وعداء ،وما هما إل ةّ كلعبين يقومان بلعبة ضد بعضهما ،فأيهما يغلب يربح ،وإن كانت مادة اللعبة هي تونس وماليزيا ،أي هي بلد الشا،م .ولهذا ل يمكن الدخول في صراع مع أحدهما ومهادنة الخر ،بل ل بد من الدخول في صراع معهما معا مهما كلف ذلك من مغامرة -94-
وتضحيات. ولهذا فإن الصراع ضد الدول العدوة لتحرير بلد السل،م ،ل بد أن يكون صراعا معها جميعا ،وأن ل تكون أية مهادنة مع أية دولة من هذه الدول ،ول أية مساعدة من إحداها ولو ضد الخرى، لن هذا ل يتأتى ،بل هو عمل لتركيز سيطرة الكفر ل لتحرير البلد من العداء .ومن هنا كان لزاما على ال ةّمة السلمية أن تصارع الدول الربع في وقت واحد ،دون أية مهادنة ،ودون أية استعانة، بل دون أية مغازلة أو استمالة .فالموضوع هو إخراج الدول الكافرة من بلد السل،م ،وليس هو عداء دولة ما ،والستعانة بمنافستها ضدها .ولذلك كان من الخطأ والخطر ما قا،م به زعماء مصر من الستعانة بأمريكا لخراج انجلترا ،وما فعله زعماء بلد الشا،م من الستعانة بانجلترا لخراج فرنسا .فالعدو ل يستعان مر آخر ،والتفاضل مر ل يستعان عليه بمستع مِ عليه بعدو ،والمستع مِ بينهما كالتفاضل بين العمى بالماء الزرقاء أو العمى بالماء السوداء ،بل كله عمى ،ول تفاضل في العمى. والعمال السياسية هي العمال التي يقا،م بها من أجل رعاية شؤون الناس ،سواء أقا،م بها أفراد ،أ،م قامت بها أحزاب وتكتلت ،أو قامت بها دولة أو دول .والعمال السياسية موجودة منذ نشأة الجماعات على الرض ،فالقبائل كانت تقو،م بأعمال سياسية ،والزعماء كانوا يقومون بالعمال السياسية ،وسيظل -95-
الناس يقومون بالعمال السياسية ما دا،م هناك جماعات ترعى شؤونها .وعلى ذلك فإن القيا،م بالعمال السياسية ل يستوجب ححَذقا بفن الحكم ،بل بإمكان كل فرد مهارة في السياسة ،ول حَ وكل جماعة وكل دولة أن تقو،م بالعمال السياسية ،إل ةّ أن جه إليها العناية الفائقة من مِقبل العمال السياسية التي يجب أن ُتو َّ أي شعب يريد التحرر ،ومن مِقبل أية أ ةّمة تحمل رسالة للناس ،إ ةّنما هي العمال المتعلقة بالدول الجنبية ،ول سيما العمال المتعلقة بكفاح الدول الستعمارية ،وباتقاء خطر الدول الطامعة .ومن هنا كان لزاما على ال ةّمة السلمية ،وهي تريد التحرر ،وتحمل الدعوة السلمية ،أن تعطي العمال السياسية المتعلقة بالدول الجنبية أهمية فائقة ،وأفضلية على سائر العمال ،وأن توضع في رأس القائمة من أولويات العمال. وإذا استعرضنا العمال السياسية في الماضي والحاضر نجدها تمل صفحات التاريخ ،والتاريخ كله أعمال سياسية ،وتشغل الدنيا كلها في الحاضر ،ونجدها أنها هي التي كفلت النصر للدول، ورفعت منزلة الشعوب والمم ،وكانت في كثير من الحيان ُتغني عن الجيوش الجرارة في الفتوحات .فالرسول صلى ا عليه وسلم حين كان يعرض نفسه على القبائل ،وحين أخذ بيعة العقبة الثانية ،وحين أرسل عبد ا بن جحش يتنطس أخبار مكة ،وحين نهد لخذ تجارة قريش فكانت هي سبب موقعة بدر ،وحين أرسل -96-
عرْيما يثِّبط القبائل ويثير فيها الشكوك والتحسبات في موقعة ُن حَ كم الخندق ،وحين ذهب لداء العمرة وأقا،م بالحديبية ،وحين ح َّ سعدا في بني قريظة ،وحين أرسل الدعاة إلى القبائل ،وحين أرسل الكتب إلى الملوك ،وحين جاء العباس بأبي سفيان وهو ذاهب إلى مكة ،وحين عقد المعاهدات ،واستقبل الوفود من جزيرة العرب ،وحين باهحَلحَ النصارى الذين جاءوه ،وحين أمر بإجلء بني النضير ،وحين عَّين حاكم اليمن من مِقبل فارس حاكما عليها بعد أن أسلم ،كل ذلك وأمثاله أعمال سياسية ،وُقل مثل ذلك في الخلفاء الراشدين وسائر الخلفاء .فإن ما يغلب على أعمالهم بالنسبة للدول الجنبية إ ةّنما هو العمال السياسية .ولذلك كان يأمر أمير الجيش حين يو ةّليه أن يطلب من القو،م أن يدخلوا في السل،م ،فإن أبوا عرض عليهم الجزية ،فإن أبوا استخار ا وآذنهم بالحرب .فالحرب هي آخر عمل ُيلجأ إليه ،والسياسة هي ل ،ومن هنا كانت العمال السياسية التي يجب أن يقا،م بأعمالها أو ع ً هي من أهم واجبات ال ةّمة ،ومن ألز،م ما يلز،م أن تقو،م به .ومن هنا لم يكن غريبا أن تكون العمال السياسية من أهم أعمال التحرير ،ومن أهم أعمال حمل الدعوة السلمية ،ولول العمال السياسية حَلما تحقق نشر السل،م ،ول أمكن حمل دعوته في هذا العصر ،إل أن القيا،م بالعمال السياسية في هذا العصر يقضي بأن تعرف ال ةّمة أحوال العلقات بين الدول ،وأن تتتبع هذه -97-
العلقات ،وأن تدرك خفاياها ومراميها ،وأن تميز بين المناورة وغير المناورة ،وأن تفرق بين العمل وأهدافه ،وأن تكون واقفة على آخر وضع تكون عليه العلقات ،وهذا يقضي بدوا،م تثقيف ال ةّمة تثقيفا سياسيا ،وجعلها تتتبع وتدرك السياسة الخارجية تتبعا كم ح حَ دائما وإدراكا واقعيا ،وأن يكون حمل الدعوة السلمية هو ال حَ على هذه السياسة ،وهو المسِّير لها. فمثل ع ً ل يكفي أن تعرف ال ةّمة أن الموقف الدولي قد تغير، وأن العلقات الدولية صار يشرف عليها ويس ةّيرها دولتان اثنتان هما روسيا وأمريكا ،بعد أن كان يشرف عليها ويس ةّيرها معسكران هو المعسكر الشرقي والمعسكر الغربي ،بل ل بد أن تعرف أن هاتين الدولتين تسيران كما يسير المعسكران ،وكان من الممكن أن يصل الموقف الدولي إلى شفير الحرب ثم يحصل النفراج ،بل إن الدولتين العملقتين تلعبان لعبة شطرنج مميتة ،وأن الوضع الدولي إذا وصل إلى شفير الحرب فإنه ل توجد قوة تستطيع أن جد النفراج .ولذلك فإن الحرب بينهما أخطر وأقرب منها فيما لو تو ٍ بقي الموقف الدولي معسكرين .وأنه حين كان الموقف الدولي معسكرين كان من الممكن أن يوجد معسكر ثالث ،وكان من الممكن أن تقو،م دولة فعالة تستطيع أن ترتفع وتنمو حتى تبز الدولة الولى في العالم .ولكن بعد أن صار الموقف الدولي محصورا بين عملقين ،صار من العسير أن يوجد معسكر ثالث، -98-
ومن الشاق جدا أن تنمو دولة وترتفع لخذ زما،م المبادرة من الدولتين .فالمعرفة الجمالية للقضايا الساسية ل تكفي ،بل ل بد من الوقوف على كثير من الخفايا والتفاصيل. ومثل ع ً ل يكفي أن يعرف الناس أن انجلترا قد نزلت عن مستوى الدولة الكبرى ،ولم يعد لها وجود في النظر في الشؤون الدولية ،ولم تعد قادرة على التأثير في الموقف الدولي .ل يكفي أن ُيعرف ذلك ،بل يجب أن ُيعرف أن انجلترا ل تزال موجودة في مستعمراتها عن طريق الكومنولث وعن طريق العملء ،وأنها ل تزال تتتبع الشؤون الدولية وتحاول أن تتدخل فيها ،ول تزال محافظة على ركائزها التقليدية الثلث ،فل تزال تركض وراء أمريكا وتحاول أن تجعلها سندا لها رغم أن أمريكا تحاول إزالة الستعمار النجليزي من الوجود ،وتحاول إضعاف النجليز .ول تزال تحاول تسخير أوروبا وحفظ التوازن بين الدول الوروبية، فدخلت السوق المشتركة ،وتحاول جر أوروبا لعقد اتفاقيات سياسية تتجاوز الناحية القتصادية .ول تزال هي التي تس ةّير سياسة مستعمراتها السابقة سواء في الكومنولث ،أو في الدول التي أعطتها استقللها وتركتها حرة أما،م الناس .ل بد أن ُيعرف ذلك حكم على تسيير العلقات الدولية حكما صحيحا، حتى يكون ال ُ وحتى يكون موقف ال ةّمة السلمية تجاه الموقف الدولي موقفا سليما. -99-
ثم إنها ل بد أن تعرف القضايا على حقيقتها ،فتعرف أن ما يسمى حربا في فيتنا،م إن هو إل ةّ أعمال سياسية حَتتخذ العمال العسكرية أداة من أدوات العمل السياسي .وإن فوز برانت في الرجوع إلى الحكم في ألمانيا الغربية ،فإنه إ ةّنما رجع بفضل روسيا ،وأن أمريكا قد انهزمت في هذه النتخابات ،ولذلك فإن من المنتظر أن يتعثر سير برانت ويحتاج إلى زمن أطول ،في حين أنه لو نجح مرشح أمريكا وهو الحزب الديمقراطي المسيحي لكان السير في الترتيبات الموضوعة لوسط أوروبا أسرع وأيسر وأكثر ضمانا .وأن قضية قبرص ليست بين اليونان والتراك ،وإ ةّنما هي بين النجليز والمريكان ،وأنها عمل من أعمال تصفية القواعد النجليزية في العالم. وكذلك ل يكفي أن حَتعرف القضايا المحلية على ظاهرها ،بل ل بد أن تدمِرك ما وراءها .فمثل ع ً حين تجد نيكسون نجح في انتخابات الرئاسة المريكية للمرة الولى وللمرة الثانية يجب أن ل تنساق مع تيار الدعاية بأن الشعب المريكي مع نيكسون ،بل يجب أن تستعرض المور السابقة لترشيح نفسه ،فقد سبق أن سقط أما،م كندي حين رشح لرئاسة الجمهورية ،ولم ينجح حين رشح نفسه لحاكمية إحدى الوليات المريكية وسقط سقوطا ذريعا ،ثم حلف أن ل يرشح نفسه بعد ذلك مطلقا ،واشتغل محاميا عند الشركات الكبرى .وهذه الشركات هي التي رشحته وهي التي -100-
عملت على إنجاحه في المرة الولى والثانية .فإن أمريكا ل صب الرئيس الذي يريد ،بل أصحاب يستطيع الشعب فيها أن ين ِّ صبون الرئيس وكيل ع ً الموال الضخمة والرأسماليون هم الذين ين ةّ عنهم من أجل تشغيل أموالهم. ومثل ع ً حين ُيرى حزب العمال في انجلترا يهاجم حزب المحافظين الحاكم لقبوله شروطا مجحفة لدخوله السوق الوروبية المشتركة ،فإنه ل يصح أن ُيظن أن هذا صراع سياسي محلي على الحكم بين حزبين ،ول هو غيرة على مصلحة النجليز، وإ ةّنما هو إيجاد خط رجعة لنجلترا فيما لو لم تستطع تحقيق أهدافها من السوق الوروبية المشتركة. ومثل ع ً حين ُيرى أن رومانيا تحاول أن تتصرف تصرفا استقلليا ،وأنها تعمل للنعتاق من سيطرة روسيا ،ومن التعامل مع أمريكا ،فإنه ل يصح أن تظن أن هذا هو الواقع ،بل يجب أن تعلم أن هذا تحريك من روسيا لرومانيا ،بموافقة أمريكا ،من أجل أن تلعب دورا رئيسيا في العلقات بين الصين وروسيا ،وبين الصين وأمريكا. وكذلك فإنه ل بد أن تميز القضايا الفرعية من القضايا الصلية ،وأن تفرق بين القضايا القتصادية البحتة والقضايا النقدية البحتة وبين القضايا القتصادية السياسية ،والقضايا النقدية السياسية ،سواء من حيث الدافع أو من حيث الهدف أو من حيث -101-
نفس العمال القتصادية والعمال المالية. وجملة القول ،ل بد أن ُتث ةّقف ال ةّمة تثقيفا سياسيا ،وأن ُتزَّود بالمعرفة الصحيحة بالسس والتفاصيل ،فإنها هي التي تقو،م بالعمال السياسية ،سواء في عمليات التحرير أو في حمل الدعوة السلمية. 24من ذي القعدة سنة 1392 29/12/1972
-102-