natharat

Page 1

‫نظرات سياسية‬ ‫لحزب التحرير‬ ‫ذو الحجة ‪ 1392‬كانون الثاني )يناير( سنة ‪1973‬‬ ‫من منشورات‬ ‫حزب التحرير‬

‫‪-1-‬‬


‫الطبعة الولى‬

‫‪-2-‬‬


‫بسم ا الرحمن الرحيم‬ ‫نظرات سياسية‬ ‫لحزب التحرير‬ ‫الدول كلها عدوة للسل‪،‬م‪ ،‬لنها تعتنق ديانات ومبادئ تناقض‬ ‫السل‪،‬م‪ ،‬ولها وجهة نظر في الحياة تخالف بل تناقض وجهة النظر‬ ‫السلمية‪ ،‬والدول الكبرى بنوع خاص تزيد على ذلك بأنها تطمع‬ ‫في البلد السلمية‪ ،‬ولذلك قضت على الدولة السلمية للقضاء‬ ‫على ال ةّمة السلمية‪ ،‬ورسمت الخطط البعيدة المدى للحيلولة‬ ‫دون عودة الدولة السلمية إلى الحياة لحَتحول دون عودة ال ةّمة‬ ‫السلمية أ ةّمة عظيمة بين المم‪ ،‬وبالطبع ترسم الخطط وتبذل‬ ‫الجهود لوأد الدولة السلمية في مهدها‪ ،‬قبل أن تتحرك ال ةّمة‬ ‫السلمية‪ ،‬وستظل دؤوبة على مقاومة ال ةّمة السلمية‪ ،‬ومقاومة‬ ‫وجودها‪ ،‬وقوتها‪ ،‬ما دامت الدولة السلمية قائمة‪ ،‬أو ما دامت‬ ‫هذه الدول العدوة قوية كدولة‪ ،‬أو قوية كشعب‪ ،‬بل كأفراد‪ .‬وإذا‬ ‫كانت معرفة السياسة الخارجية لكل دولة في العالم أمرا ل‬ ‫يستغني عنه كل سياسي مسلم‪ ،‬فإن إدراك ُكنه‪ ،‬وخفايا‪ ،‬وخطط‪،‬‬ ‫وأساليب‪ ،‬ووسائل الدول الكبرى أمر بالغ الهمية لكل مسلم‬ ‫بشكل إجمالي‪ ،‬ولكل سياسي بل مفكر مسلم بشكل تفصيلي‬ ‫واقعي سائرا مع الحداث اليومية المتغيرة‪ ،‬والمتجددة‪ ،‬مع بقاء‬ ‫‪-3-‬‬


‫التصور الكامل للسس والقواعد التي تقو‪،‬م عليها سياسة أي دولة‬ ‫كبرى‪ ،‬من أجل إدراك الخطار‪ ،‬ودوا‪،‬م العمل لمن البلد‪ ،‬أي لمن‬ ‫الدولة وال ةّمة السلمية‪.‬‬ ‫وإذا كان العصر الحاضر تتحكم فيه في السياسة الدولية‬ ‫دولتان هما أمريكا وروسيا‪ ،‬فإن اثنتين أخريين من الدول الكبرى ل‬ ‫تنفكان ولن تنفكا عن العمل إلى الرجوع للتأثير الدولي‪ ،‬فوق ما‬ ‫لكل واحدة منهما من أطماع وتأثير في البلد السلمية‪ ،‬ومن حقد‬ ‫وكيد للسل‪،‬م والمسلمين‪ .‬ومن أجل ذلك ل بد من معرفة واقع‬ ‫السياسة الخارجية لكل من أمريكا‪ ،‬وروسيا‪ ،‬وانجلترا‪ ،‬وفرنسا‪ ،‬إلى‬ ‫ت من كل دولة‪ ،‬وأن أمن البلد يتطلب‬ ‫جانب اعتبار أن الخطر آ ٍ‬ ‫دوا‪،‬م اليقظة والحذر على الجميع‪.‬‬ ‫واقع السياسة النجليزية‬ ‫أول ما يجب أن ُيعلم أن الشعب النجليزي شعب صغير‪ ،‬وأن‬ ‫هلة طبيعيا من هذه‬ ‫البلد النجليزية بلد صغيرة‪ ،‬ولذلك غير مؤ َّ‬ ‫الجهة لن تكون دولة كبرى‪ ،‬ول دولة ُيحسب لها حساب‪ ،‬ولكن‬ ‫هذا الشعب النجليزي يتميز بميزتين هامتين هما‪ :‬الذكاء‪ ،‬وسعة‬ ‫الحيلة‪ .‬وبهاتين الميزتين معا‪ ،‬استطاعت انجلترا أن تكون دولة‬ ‫كبرى‪ ،‬واستطاعت أن تشكل خطرا على العالم كله بشكل عا‪،‬م‪،‬‬ ‫وعلى الدولة السلمية بشكل خاص‪.‬‬ ‫‪-4-‬‬


‫أ ةّما الخطة التي رسمتها لن تكون قوية‪ ،‬فإنها تتلخص في‬ ‫خر غيرها من الفراد‪ ،‬والشعوب‪ ،‬والدول‪،‬‬ ‫شيء واحد‪ ،‬هو‪ :‬أن تس ِّ‬ ‫لن تكون أداة بيدها‪ ،‬أو للسير معها في تحقيق أهدافها أو‬ ‫لمشاركتها في عداوتها لعدائها‪ ،‬أو في جر المغانم ودفع المغار‪،‬م‪،‬‬ ‫أو لدفعها وحدها للتورط في المشاكل التي تضعفها وتجعلها تسير‬ ‫في السياسة التي يريدها النجليز‪.‬‬ ‫هذه هي الخطة الدائمة لبريطانيا‪ ،‬ولذلك تهتم اهتماما جديا‬ ‫بالتوازن الدولي‪ ،‬وتعادي بل تقامِو‪،‬م إلى حد الحرب إذا استطاعت‬ ‫أي دولة أن تكبر إلى حد ُيخل بالتوازن الذي رسمته‪ ،‬وتقاو‪،‬م أي‬ ‫دولة تحاول أن تصبح الدولى الولى‪ ،‬وتكافح كل شعب‪ ،‬وكل‬ ‫جماعة‪ ،‬بل كل فرد يسعى للستقلل عن أي دولة تطمع‬ ‫بالسيطرة عليها‪ ،‬أو للنضما‪،‬م لية دولة يساعد هذا النضما‪،‬م على‬ ‫الخلل بالتوازن‪ ،‬أو يقوي أية دولة تعاديها‪.‬‬ ‫إن انجلترا الن في سبعينات القرن العشرين دولة ضعيفة‬ ‫دوليا‪ ،‬ولكنها قوية واقعيا‪ ،‬فميزتاها المعروفتان ل تزالن‬ ‫مرات لها‪ ،‬ل يزال‬ ‫موجودتين لديها‪ ،‬والشعوب التي كانت مستع حَ‬ ‫أكثرها في قبضة يدها تحت اسم الكومنولث‪ ،‬والبلد السلمية ل‬ ‫يزال أكثرها تحت نفوذها أو تحت سيطرتها‪ ،‬والدول الوروبية التي‬ ‫اعتادت ج ةّرها وراءها ل يزال القسم العظم منها في ولء تقليدي‬ ‫لها‪ ،‬أو في صداقة تقليدية معها‪ .‬وأمريكا‪ ،‬مع كونها صارت تنافس‬ ‫‪-5-‬‬


‫معينة لها‬ ‫انجلترا وتحاول تقليص حجمها‪ ،‬ولكنها مع ذلك ل تزال ال ُ‬ ‫في الحياة‪ ،‬والحامية لها من الندثار والزوال‪ .‬ولذلك فإن ضعفها‬ ‫دوليا ل يعتبر طردا لها نهائيا من المجال الدولي‪ ،‬بل هو عملية‬ ‫قامت بها روسيا وأمريكا بالساليب الدولية‪ ،‬ل بقطع الشرايين التي‬ ‫تمدها بالحياة والقوة‪ ،‬وتضمن لها البقاء واستئناف السير‪.‬‬ ‫لذلك ل يصح أن ُينظر لنجلترا نظرة استضعاف‪ ،‬ول يصح أن‬ ‫ُيعتبر ضعفها الدولي دليل ع ً على ضعفها الحقيقي‪ ،‬بل يجب أن‬ ‫ُيفَّرق في النظرة إليها بين حالها دوليا‪ ،‬وبين حالها في مقومات‬ ‫قوتها الحقيقية‪.‬‬ ‫هذا هو أساس السياسة النجليزية‪ :‬شعب صغير في بلد‬ ‫صغيرة‪ ،‬يريد أن يكون الول في هذه الحياة‪ ،‬ويريد العظمة‬ ‫والمجد‪ ،‬ومن أجل ذلك يك ةّتل القوى‪ ،‬مهما كانت‪ ،‬ليتخذها أداة‬ ‫لتحقيق عظمته ومجده‪ .‬وعلى هذا الساس يسير في جميع‬ ‫سياسته‪ ،‬في حالة القوة كما كان في القرن التاسع عشر وأوائل‬ ‫العشرين‪ ،‬وفي حالة الضعف كما هي حاله منذ أربعينات القرن‬ ‫العشرين‪.‬‬ ‫وهدفه من أن يكون الدولة الولى‪ ،‬أو أن يشارك في‬ ‫السياسة الدولية‪ ،‬هو‪ :‬أن يتحكم في العلقات الدولية‪ ،‬وفي الدول‬ ‫نفسها‪ ،‬ليتخذها أداة للسيطرة والستغلل‪ ،‬وللدفاع عنه حين يلز‪،‬م‬ ‫الدفاع‪ .‬فانجلترا هي التي جمعت دول أوروبا لضرب الدولة‬ ‫‪-6-‬‬


‫السلمية ثم للقضاء عليها‪ ،‬وانجلترا هي التي ج ةّرت العالم للحرب‬ ‫العالمية الولى‪ ،‬ل لضرب ألمانيا فحسب حين حصل الختلل في‬ ‫توازن الدول الوروبية‪ ،‬ولكن أيضا إلى تصفية الدولة السلمية‬ ‫تصفية نهائية‪ .‬وانجلترا هي التي ج ةّرت العالم للحرب العالمية‬ ‫الثانية ل لضرب ألمانيا فحسب حين حصل الختلل في توازن دول‬ ‫أوروبا‪ ،‬بل لهذا ولمحاولة تصفية النظا‪،‬م الشيوعي في روسيا‪.‬‬ ‫وإذا كانت فرنسا وأمريكا لم تدرك أي منهما في أعقاب‬ ‫خرتا من أجل حفظ عظمة‬ ‫س ةّ‬ ‫الحرب العالمية الولى أنهما قد ُ‬ ‫انجلترا وتحقيق أطماعها وحمايتها‪ ،‬ولم تدركا ذلك في الحرب‬ ‫العالمية الثانية‪ ،‬ولكن روسيا كانت مدمِركة أهداف انجلترا من‬ ‫الحرب العالمية الثانية‪ ،‬ولذلك فإن هذا الدراك الروسي هو الذي‬ ‫جعل أمريكا في أعقاب الحرب العالمية الثانية تلمس تسخير‬ ‫انجلترا لها‪ ،‬وجعل فرنسا تتنبه إلى نفسها من انجلترا‪ ،‬وهو الذي‬ ‫طرد انجلترا من المجال الدولي بعد أن نجح في إخراج فرنسا‬ ‫منه‪ .‬وإذا كانت فرنسا لم تبلغ بها الحصافة إلى حد منع انجلترا من‬ ‫الشتراك في قضايا أوروبا‪ ،‬وبالتالي من دخول السوق المشتركة‪،‬‬ ‫فإن أمريكا قد أدركت أن قصقصة أجنحة انجلترا وتقليص قوتها‪،‬‬ ‫وقطع شرايين الحياة لها‪ ،‬أمر ل بد منه للحيلولة دون تسلط‬ ‫النجليز على المريكان‪ .‬وعلى هذا بات المل قويا في ضرب‬ ‫النجليز الضربة القاضية‪ ،‬وإرجاعهم شعبا صغيرا في بلد صغيرة‪،‬‬ ‫‪-7-‬‬


‫ما دا‪،‬م الروس ليس من المحتمل أن يثقوا بالنجليز أو أن يكفوا‬ ‫عن الوقوف في وجههم‪ ،‬وما دا‪،‬م المريكان قد تن ةّبهوا لما كان‬ ‫حائقا بهم وهو تسخير النجليز لهم‪ ،‬وما داموا يسيرون في سياسة‬ ‫تقليص القوة النجليزية ومحاولة قطع شرايين الحياة لهم‪.‬‬ ‫إن السياسة البريطانية ل تزال تعمل بقوة ضد روسيا بشتى‬ ‫حسن‬ ‫الساليب‪ ،‬دوليا‪ ،‬وفي السياسات الجزئية‪ ،‬ول تزال تتخذ ُ‬ ‫التأتي‪ ،‬والخداع‪ ،‬والساليب الخفية‪ ،‬لبقاء أمريكا سندا لها‪،‬‬ ‫ولمقاومة السياسة المريكية فيما تقو‪،‬م به ضد انجلترا‪ .‬وإذا كان ل‬ ‫يوجد هناك أمل في أن تتساهل روسيا مع انجلترا‪ ،‬ول يوجد أمل‬ ‫في أن تحسم أمريكا موقفها مع انجلترا كحسم روسيا‪ ،‬فإن هناك‬ ‫خوفا من أن تستطيع انجلترا تكتيل أوروبا‪ ،‬وبالتالي إيقاف أمريكا‬ ‫عن محاولتها ضرب انجلترا‪ ،‬أو تخفيف هذه الضربات‪ .‬وهناك‬ ‫خوف من أن تتحول روسيا إلى الوضع القيصري‪ ،‬فيصبح هدفها‬ ‫حماية نفسها وبقاؤها دولة كبرى فحسب‪ ،‬ل دولة شيوعية‬ ‫تستهدف العالم كله‪ .‬ولذلك فإن إذكاء الروح العالمية في روسيا‪،‬‬ ‫مع أنها هدف خيالي‪ ،‬وإبقاء المصالح المريكية خارج العالم‬ ‫الجديد‪ ،‬هما اللذان يبددان الخوف من أن يرجع النجليز إلى‬ ‫المجال الدولي‪ ،‬وبالتالي يبقيانهم في حالة الدفاع عن النفس‬ ‫وعد‪،‬م النتقال إلى حال السيطرة والهجو‪،‬م‪.‬‬ ‫أ ةّما السياسة النجليزية غير الدولية‪ ،‬فإنها ليست في أمريكا‪،‬‬ ‫‪-8-‬‬


‫ول في أوروبا‪ ،‬وبالطبع ليست في روسيا وإ ةّنما هي متركزة في‬ ‫آسيا وافريقيا‪ ،‬أي في البلدان التي تطمع في استغللها‪ ،‬وجعلها‬ ‫قوة لها‪ ،‬وشرايين الحياة لشعبها ودولتها‪ .‬ولهذا فإن مقتل انجلترا‬ ‫إ ةّنما يكمن في آسيا وافريقيا وليس في أوروبا‪ ،‬فقوتها تنبع من‬ ‫هذين الموقعين‪ ،‬وحياتها معلقة بوجودها في هذين الموقعين‪.‬‬ ‫وما دا‪،‬م هذان الموقعان لها فيهما أو في أي منهما قوة‪ ،‬فإنها‬ ‫تبقى قوية مهما ضعفت‪ ،‬وتبقى دولة حية مؤثرة مهما لحقها من‬ ‫ضربات‪ .‬ولذلك فإن السياسة النجليزية إذا ُدرست للتفهم والعمل‬ ‫ل‪ ،‬ثم ُتدرس في أوروبا‪ .‬ومن‬ ‫فإ ةّنما ُتدرس في آسيا وافريقيا أو ع ً‬ ‫هنا كان الفهم الحقيقي للسياسة النجليزية‪ ،‬للعمل ضدها‪ ،‬يجب‬ ‫أن يكون في دراسة سياستها في آسيا وافريقيا‪ ،‬ثم دراستها في‬ ‫أوروبا‪ .‬لن سياسة انجلترا في أوروبا‪ ،‬إ ةّنما تنفع للعمل ضدها‬ ‫دوليا‪ ،‬وللحيلولة دون تكتيلها وتسخيرها لها‪ ،‬سواء في السياسة‬ ‫الدولية‪ ،‬أو السياسة الستعمارية‪.‬‬ ‫وسياستها في آسيا وافريقيا‪ ،‬وإن كان ل بد فيها من دراستها‬ ‫في كل بلد‪ ،‬أو في كل منطقة على القل‪ ،‬ولكن ذلك ُيدخل المرء‬ ‫في تفصيلت من الصعب الحاطة بها‪ ،‬ولن فيها قابلية التغيير‬ ‫والتجدد والتحول‪ ،‬وهذا تابع لمتابعة الحداث اليومية‪ ،‬ولذلك من‬ ‫الصعب دراستها‪ ،‬وإن كان من الممكن أثناء العمل متابعتها‪.‬‬ ‫ولذلك ل بد أن ُيكتفى بالخطوط العريضة لسس هذه السياسة‬ ‫‪-9-‬‬


‫في هذين البلدين‪.‬‬ ‫وهذه الخطوط العريضة تتلخص فيما يلي‪:‬‬ ‫ل‪ :‬تعتمد انجلترا في هذه البلد على أنظمة الحكم‪ ،‬فهي‬ ‫أو ع ً‬ ‫تخلق فيها دول ع ً جديدة كالردن‪ ،‬أو تقسم الدول إلى أقسا‪،‬م‬ ‫متنازعة كالهند وفلسطين‪ ،‬أو تكِّتل الدول التي تريد منعها من‬ ‫الوحدة أو تسهل استغللها لها كتنزانيا وماليزيا‪ ،‬ومشروع وحدة‬ ‫شمال افريقيا‪ ،‬أو مشروع الهلل الخصيب‪ ،‬أو تغِّير الحكا‪،‬م بحكا‪،‬م‬ ‫آخرين كما فعلت في ليبيا وأوغندة‪ ،‬أو تقلب أنظمة الحكم غير‬ ‫الموالية لها كما فعلت في السعودية والجزائر‪ .‬فهي في مراقبة‬ ‫دائمة لنظمة الحكم‪ ،‬وفي عمل متواصل فيها‪ ،‬إما لتقويتها أو‬ ‫إضعافها أو تركيزها أو قلقلتها‪ ،‬أو غير ذلك‪.‬‬ ‫ثانيا‪ :‬يعتمد النجليز في آسيا وافريقيا على الستغلل‬ ‫القتصادي عن طريق رؤوس الموال‪ ،‬والشركات‪ ،‬ورجال‬ ‫العمال‪ ،‬والتجار‪ ،‬وغيرهم‪ .‬فدخلت الهند عن طريق الشركة‬ ‫الشرقية‪ ،‬ول تزال فيها بواسطة الشركات ورجال العمال والتجار‪.‬‬ ‫ودخلت جزيرة العرب عن طريق الموال والتجار ول تزال فيها‬ ‫بواسطة التجارة ورجال العمال‪ .‬ودخلت إيران عن طريق‬ ‫شركات النفط‪ ،‬ول تزال فيها بواسطة الشركات والتجارة ورجال‬ ‫العمال‪ .‬ودخلت نيجيريا عن طريق الشركات‪ ،‬ول تزال فيها‬ ‫بواسطة الشركات والتجارة ورجال العمال‪ .‬وهكذا أكثر البلدان‬ ‫‪-10-‬‬


‫التي لم تدخلها بحرب عن طريق الجيش كالعراق ومصر دخلتها‬ ‫عن طريق القتصاد‪ .‬والبلدان التي خرجت منها عسكريا مثل كينيا‬ ‫وتنجانيقا وزنجبار بقيت فيها عن طريق الشركات والتجارة ورجال‬ ‫العمال‪.‬‬ ‫فالقتصاد هو الداة الفعالة للوجود النجليزي في أكثر بلد‬ ‫آسيا وافريقيا‪.‬‬ ‫ثالثا‪ :‬تعتمد انجلترا في دخول البلد وفي البقاء فيها على‬ ‫العملء‪ ،‬وهؤلء العملء أنواع‪ ،‬منهم العملء في السياسة‪،‬‬ ‫ومنهم العملء في القتصاد‪ ،‬ومنهم العملء في التجارة‪ ،‬ومنهم‬ ‫العملء في الفكر ونشر الرأي‪ ،‬ومنهم العملء في العلم والتعليم‪،‬‬ ‫ومنهم العملء في الدين الذي تعتنقه البلد‪ .‬وإذا كان العملء في‬ ‫السياسة هم أبرز العملء الظاهرين‪ ،‬فإن باقي أنواع العملء ل‬ ‫يقلون خطرا عن العملء السياسيين‪ ،‬بل ربما يكونون أشد خطرا‬ ‫على البلد وأقوى أداة للنفوذ النجليزي‪ .‬ولذلك فإن جميع أنواع‬ ‫العملء هم جزء من السياسة النجليزية‪ ،‬فبهم تدخل البلد كما‬ ‫دخلت للجزيرة العربية‪ ،‬وكما دخلت لمصر‪ ،‬وبهم تبقى في البلد‬ ‫كما هي الحال في الهند وتنجانيقا‪.‬‬ ‫رابعا‪ :‬تعتبر الفكار المضِّللة والراء المثيرة‪ ،‬والخبار‬ ‫المؤثرة‪ ،‬وما شابه ذلك‪ ،‬وسيلة فعالة للوجود النجليزي في البلد‪،‬‬ ‫سواء لدخول البلد أو للبقاء فيها‪ .‬ففكرة القومية قد سلخت‬ ‫‪-11-‬‬


‫البلقان عن الدولة العثمانية‪ ،‬وكانت قوة في تأييد فصل البلد‬ ‫العربية والبلد التركية عن بعضها‪ .‬وأفكار الديمقراطية‪ ،‬والحضارة‬ ‫الغربية‪ ،‬هي التي تبقي البلد السلمية تابعة للغرب وغير قادرة‬ ‫على النفصال عنه‪ .‬وهذه الفكار والراء‪ ،‬سواء أكانت عامة‬ ‫كالقومية‪ ،‬أو خاصة مثل فكرة ُنبل بريطانيا‪ ،‬وصدق النجليز‪،‬‬ ‫كنت‬ ‫ودهاء انجلترا‪ ،‬قد أوجدت تربة خصبة في كثير من البلدان م ةّ‬ ‫كنتها من البقاء‪.‬‬ ‫انجلترا من دخول البلد‪ ،‬وم ةّ‬ ‫خامسا‪ :‬تستعمل انجلترا التضليل السياسي وسيلة فعالة‬ ‫لبسط نفوذها على البلد‪ ،‬فهي قد دخلت تركيا ول تزال فيها عن‬ ‫طريق التضليل السياسي‪ ،‬وهي تركز نفسها في جنوب افريقيا‬ ‫خر تركيا‬ ‫وروديسيا عن طريق التضليل السياسي‪ .‬وهي تس ِّ‬ ‫واليونان في قبرص لتمكينها من البقاء فيها عن طريق التضليل‬ ‫السياسي‪.‬‬ ‫هذه أهم الخطوط العريضة لسس السياسة النجليزية في‬ ‫آسيا وافريقيا‪ .‬وهذه السس هي غير الوسائل الظاهرة كالقواعد‬ ‫العسكرية‪ ،‬والسطول البحري‪ ،‬والتهديد الفعال‪ ،‬والضغط المثمر‬ ‫وما شابهها‪ .‬فإن تلك هي وسائل مادية وإن كانت تعتمد عليها‬ ‫انجلترا في سياستها في آسيا وافريقيا‪ ،‬ولكنها وسائل ظاهرة‬ ‫مكشوفة‪ .‬أ ةّما هذه الخطوط العريضة الخمسة وما شابهها فإنها‬ ‫هي السياسة المؤثرة التي تكفل الوجود والبقاء‪ .‬ولذلك لم تكن‬ ‫‪-12-‬‬


‫أمريكا وروسيا فعالتين في ضرب انجلترا الضربة الموجعة حين‬ ‫اتفقتا على تصفية القواعد العسكرية في العالم‪ ،‬وحين ق ةّلصتا‬ ‫القوة العسكرية النجليزية في العالم‪ .‬فإن هذه ليست محاولت‬ ‫لقطع شريان الحياة لنجلترا وإضعاف قوتها‪ ،‬وليست قطعا‬ ‫لشريانها‪ ،‬ول إزالة لقوتها‪ ،‬فإنه ما دا‪،‬م لنجلترا عملء وقوة‬ ‫اقتصادية في أي بلد فإن هذا وحده كاف لبقائها‪ ،‬وللرجوع إليها إذا‬ ‫طردت منها‪ .‬والهند وتنزانيا ونيجيريا خير مثال على ذلك‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫فالسياسة النجليزية كما أنها ُترسم للشتراك في السياسة‬ ‫الدولية وللتأثير الدولي‪ ،‬كذلك ُترسم للسيطرة وبسط النفوذ‪،‬‬ ‫وللستغلل للبلد والناس‪ .‬حتى أن رسمها للناحية الدولية وإن كان‬ ‫من أجل العظمة والمجد‪ ،‬فإنه كذلك من أجل الستغلل‪ ،‬وحتى‬ ‫بسط النفوذ نفسه إ ةّنما هو من أجل الستغلل‪ .‬فالصل في‬ ‫السياسة النجليزية إ ةّنما هو استغلل البلد والناس‪ ،‬والباقي كله‬ ‫وسائل لهذا الستغلل‪.‬‬ ‫هذا هو واقع السياسة النجليزية‪ ،‬فإذا ُفهم هذا الواقع فهما‬ ‫واقعيا‪ ،‬فإنه حينئذ يمكن أن ُتسلك الطريق لضرب هذه السياسة‪،‬‬ ‫بل يمكن أن ُتسلك الطريق لضرب النجليز‪.‬‬ ‫واقع السياسة المريكية‬ ‫السياسة المريكية لها وضعان‪ :‬وضع ما قبل الحرب العالمية‬ ‫‪-13-‬‬


‫الثانية‪ ،‬ووضع ما بعد الحرب العالمية الثانية‪ .‬أ ةّما وضعها قبل‬ ‫الحرب العالمية الثانية فإنه ل يهمنا كثيرا‪ ،‬وإن كان ل مانع من أن‬ ‫ُنمِلم به‪ .‬أ ةّما وضعها بعد الحرب العالمية الثانية فإنه هو المهم‪ ،‬لن‬ ‫دراسته من أجل العمل هي التي تثمر‪ .‬أ ةّما دراسة وضعها قبل‬ ‫الحرب العالمية الثانية فإنه يفيد في إدراك السس التي تقو‪،‬م‬ ‫عليها السياسة المريكية ككل‪ .‬وهذا ينفعنا في العمل كمعلومات‬ ‫سابقة للحكم على الحوادث الجارية‪.‬‬ ‫والسياسة المريكية قبل الحرب العالمية الثانية كانت تقو‪،‬م‬ ‫على أساس النفراد في نصف الكرة الغربي‪ ،‬ومن أجل ذلك تبنت‬ ‫مبدأ مونرو‪ .‬فكانت سياستها الخارجية تقو‪،‬م على أساس حماية‬ ‫نصف الكرة الغربي من الدول الخرى الموجودة في العالم‬ ‫القديم‪ .‬والعالم القديم كان يتمثل لمريكا في أوروبا‪ ،‬لنه بعد‬ ‫الحلف المقدس الذي من أجله ُوجد مبدأ مونرو‪ ،‬لم يبق في‬ ‫العالم القديم قوة تهدد أمريكا‪ ،‬أو يمكنها أن تهدد أمريكا سوى‬ ‫أوروبا‪ .‬فإنه بعد ضرب الدولة السلمية وإضعافها لم يبق في‬ ‫العالم القديم سوى أوروبا‪ ،‬ولذلك بنت أمريكا سياستها في الدفاع‬ ‫عن نفسها أي في حماية نفسها على رسم سياسة خاصة تجاه‬ ‫أوروبا‪ ،‬وأوروبا كانت فيها أربع دول كبرى هي انجلترا وفرنسا‬ ‫والمانيا وروسيا‪ .‬وهذه الدول بعد أن استراحت من الدولة‬ ‫العثمانية‪ ،‬صار الصراع بينها على أشده‪ ،‬وأمريكا كانت تغذي هذا‬ ‫‪-14-‬‬


‫الصراع‪ .‬فأول ع ً اعتمدت سياسة توازن القوى بين الدول الوروبية‬ ‫بحيث ل تتمكن أي دولة من هذه الدول من السيطرة على أوروبا‪،‬‬ ‫وثانيا تبنت انجلترا تبنيا تاما واحتضنتها وأيدتها في سياسة توازن‬ ‫القوى بين الدول الوروبية‪ ،‬وثالثا كانت تقف إلى جانب أي دولة‬ ‫أوروبية تريد دولة أخرى أوروبية أن تبتلعها‪ .‬وبسبب ذلك بقيت‬ ‫الدول الصغيرة كما هي مثل سويسرا ولوكسمبرغ وبلجيكا‪ ..‬الخ‪،‬‬ ‫وبقي وضع انجلترا قويا‪ ،‬كما بقي وضع فرنسا قويا‪ .‬والدولة التي‬ ‫كانت تخيف أمريكا من أن تقو‪،‬م بالسيطرة على أوروبا هي ألمانيا‬ ‫بالدرجة الولى وروسيا في الدرجة الثانية‪ ،‬ومن أجل ذلك دخلت‬ ‫الحرب العالمية الولى ضد ألمانيا‪ ،‬واشتركت ضدها كذلك في‬ ‫الحرب العالمية الثانية‪ ،‬ومن أجل ذلك أيضا وقفت في وجه روسيا‬ ‫بعد الحرب العالمية الثانية ومنعتها من اكتساح أوروبا‪.‬‬ ‫فسياسة أمريكا قبل الحرب العالمية الثانية وعقبها كانت‬ ‫سياسة توازن القوى في أوروبا‪ ،‬من أجل حماية نصف الكرة‬ ‫الغربي من أن تدخله أي دولة أوروبية‪ .‬ولهذا ل توجد لها سياسة‬ ‫خارجية خارج نصف الكرة الغربي إل ةّ سياسة الحماية وهي تعتمد‬ ‫على توازن القوى بين الدول الوروبية‪ ،‬وكانت كل أعمالها‬ ‫السياسية والعسكرية محصورة في نصف الكرة الغربي‪ ،‬ولم‬ ‫تخرج منه إل ةّ في استعمار الفلبين من أجل اليابان‪ ،‬فإنها كانت‬ ‫تخشى من اليابان‪ ،‬ولكن كانت تكتفي بالستعداد لضربها إذا‬ ‫‪-15-‬‬


‫فكرت بمهاجمتها فاستعمرت الفلبين من أجل هذه الغاية‪ ،‬واكتفت‬ ‫بذلك لعد‪،‬م أهمية خطر اليابان‪.‬‬ ‫أ ةّما سياستها بعد الحرب العالمية الثانية فقد تغيرت تغيرا كليا‬ ‫وانقلبت رأسا على عقب‪ ،‬ولذلك فإن السياسة المريكية التي يجب‬ ‫أن ُتدرس هي سياستها بعد الحرب العالمية الثانية‪ ،‬لنها هي‬ ‫السياسة التي تؤثر في الحياة الدولية‪ ،‬والتي تحتاج مكافحتها‬ ‫وإزالة خطرها إلى تف ةّهم عميق‪ ،‬ومعرفة بالدوافع والساليب‬ ‫والوسائل‪.‬‬ ‫وقبل كل شيء ل بد أن تؤخذ فكرة عن الشعب المريكي‪،‬‬ ‫لن الشعوب والمم التي تختار حكامها بنفسها تعتبر هي الدولة‪،‬‬ ‫فل يوجد هناك فرق بين الشعب والدولة‪ ،‬فالدولة النجليزية هي‬ ‫الشعب النجليزي‪ ،‬والدولة الفرنسية هي الشعب الفرنسي‪،‬‬ ‫والدولة المريكية هي الشعب المريكي‪ .‬والشعب المريكي أو‬ ‫أمريكا‪ ،‬كانت حتى القرن الثامن عشر بل حتى أوائل القرن التاسع‬ ‫مرة من المستعمرات الوروبية‪ ،‬فكانت الدول‬ ‫عشر مستع حَ‬ ‫ما قامت بثورتها‬ ‫الوروبية هي التي تستعمرها ول سيما انجلترا‪ .‬فل ةّ‬ ‫الكبرى وطردت الدول الستعمارية وطردت انجلترا بالذات‪ُ ،‬وجدت‬ ‫دولة مستقلة‪ ،‬ثم صارت تنمو حتى صارت دولة كبرى‪ .‬إل ةّ أن المبدأ‬ ‫الرأسمالي والحضارة الوروبية صار هو مبدأها‪ ،‬وصارت هي‬ ‫حضارتها‪ ،‬وصارت تعتنق الرأسمالية كما يعتقدها الوروبيون سواء‬ ‫‪-16-‬‬


‫بسواء‪ ،‬وصارت حضارة أوروبا هي حضارتها‪ ،‬ولذلك فإنها من‬ ‫حيث المبدأ والحضارة دولة أوروبية‪ ،‬ل فرق بينها وبين فرنسا ول‬ ‫بينها وبين انجلترا‪ ،‬ثم صارت تتزعم هذه الحضارة وتدافع عنها كما‬ ‫تدافع الدول الوروبية‪ ،‬حتى قال ايزنهاور وهو رئيس للوليات‬ ‫المتحدة أي لمريكا‪ :‬إننا مستعدون أن نقاتل دفاعا عن طريقتنا‬ ‫في العيش‪ ،‬أي دفاعا عن الحضارة الغربية وعن المبدأ‬ ‫الرأسمالي‪.‬‬ ‫إل ةّ أن الشعب المريكي وقد قاتل في سبيل حريته ودفاعا‬ ‫شق الحرية‬ ‫عنها‪ ،‬وبذل الغالي والنفيس في سبيلها‪ ،‬فقد تع َّ‬ ‫وصارت جزءا من تكوين عقليته وتكوينه‪ .‬ثم إنه وقد نجح في‬ ‫الحياة ونجح في تجربته نجاحا منقطع النظير بفضل دأبه وكفاحه‪،‬‬ ‫فصارت لديه ميزتان هما الخيال الخلق‪ ،‬والرادة الب ةّناءة‪ ،‬إلى‬ ‫جانب فكرة سد الذرائع )براجماتز‪،‬م( وهي سد كل نواحي التفكير‬ ‫والعمل عن نفسه خلف العمل الذي يقو‪،‬م به‪ ،‬وحصر فكره‬ ‫وجهده في العمل الذي يقو‪،‬م به‪ .‬وبسبب هاتين الميزتين إلى‬ ‫جانب الفكرة العملية ظل يسير في الطريق التصاعدي إلى أن‬ ‫حقق عظمته التي يتمتع بها اليو‪،‬م‪ .‬إل ةّ أنه وقد اعتنق المبدأ‬ ‫الرأسمالي والحضارة الوروبية‪ ،‬فإنه بالطبع صار الستعمار‬ ‫واستغلل الغير جزءا من تفكيره والهدف الرئيسي له‪ ،‬لن النفعية‬ ‫هي وجهة النظر في الحياة لدى الحضارة الغربية‪ ،‬فهي وجهة‬ ‫‪-17-‬‬


‫النظر في الحياة لدى أمريكا‪ .‬ولذلك فهي دولة استعمارية مثل‬ ‫انجلترا ومثل فرنسا سواء بسواء‪ ،‬ومثل أي دولة أوروبية تعتنق‬ ‫المبدأ الرأسمالي والحضارة الغربية‪.‬‬ ‫إل ةّ أن هذه الناحية الستعمارية لم تكن بارزة للناس قبل‬ ‫الحرب العالمية الثانية‪ ،‬لن أمريكا كانت تحصر أعمالها‬ ‫الستعمارية في نصف الكرة الغربي‪ ،‬فقا‪،‬م الحكم في أمريكا‬ ‫على الساس الرأسمالي‪ ،‬وصارت الدولة هي عبارة عن وكيلة‬ ‫للغنياء والرأسماليين‪ ،‬وأخذت تبسط سلطانها على أمريكا‬ ‫الجنوبية وعلى الجزر الواقعة في نصف الكرة الغربي‪ .‬فكانت‬ ‫استعماريتها محصورة في العالم الجديد‪ .‬أ ةّما نصف الكرة الشرقي‬ ‫أو العالم القديم فكانت تبشر فيه بأنها تتوق لن تغير العالم بقوة‬ ‫المثل الذي تقدمه له عن نفسها من الحرية والتحرير‪ ،‬والخذ بيد‬ ‫الضعفاء ومساعدة الناس‪ .‬ولذلك كانت لمريكا سمعة طيبة في‬ ‫العالم القديم‪ ،‬وكانت لها محبة وإكبار‪ ،‬إل ةّ أنها بعد الحرب العالمية‬ ‫شفت عن أنها دولة استعمارية‪ ،‬ل تقل خطرا عن الدول‬ ‫الثانية تك ةّ‬ ‫الستعمارية الخرى إن لم يكن خطرها أفظع‪ ،‬وظهرت على‬ ‫ج ةّد لديها جديد‪ ،‬بل برز ما كانت تخفيه‪.‬‬ ‫حقيقتها ولم حَي مِ‬ ‫فالسياسة المريكية حين ُتدرس يجب أن ُتدرس على أن‬ ‫أمريكا دولة استعمارية‪ ،‬ل فرق في ذلك بين سياستها قبل الحرب‬ ‫العالمية الثانية وبعدها‪ .‬إل ةّ أنها بعد الحرب العالمية الثانية ج ةّدت‬ ‫‪-18-‬‬


‫أمور وأحوال اقتضت تغيير سياستها بالظواهر والشكال والوسائل‬ ‫والساليب‪ ،‬ولكن أساسها ظل كما هو‪ .‬فقد كانت سياستها قبل‬ ‫الحرب العالمية الثانية تقو‪،‬م على أساس الدفاع عن نصف الكرة‬ ‫الغربي‪ ،‬وتحصر أعمالها الستعمارية في نظا‪،‬م الحكم الرأسمالي‬ ‫الذي يقو‪،‬م على الرأسماليين‪ ،‬وعلى جعل الدولة وكيلة عن‬ ‫الغنياء وأصحاب رؤوس الموال الضخمة‪ ،‬وفي بسط السيطرة‬ ‫على أمريكا الجنوبية والجزر الواقعة في نصف الكرة الغربي‪،‬‬ ‫وتقو‪،‬م على نشر الحرية‪ ،‬ومساعدة الشعوب الضعيفة‪ ،‬وتحرير‬ ‫مرة‪ ،‬ونشر القيم الرفيعة في سائر أنحاء العالم‪ ،‬أي‬ ‫البلد المستع حَ‬ ‫في العالم القديم‪ .‬ودخلت الحربين العالميتين الولى والثانية من‬ ‫مرة‬ ‫أجل الدفاع عن العالم الجديد‪ ،‬ومن أجل تحرير البلد المستع حَ‬ ‫من الستعمار‪ .‬وإذا كانت قد عادت إلى وضعها الصلي وسارت‬ ‫في سياستها المرسومة بعد الحرب العالمية الولى‪ ،‬بحجة عد‪،‬م‬ ‫استطاعتها القيا‪،‬م بمهمتها في تحرير الشعوب‪ ،‬فإنها بعد الحرب‬ ‫العالمية الثانية لم تستطع الرجوع إلى وضعها القديم‪ ،‬أي إلى ما‬ ‫يسمى بالعزلة المريكية‪ ،‬لن ظروف الدفاع قد تغيرت‪ ،‬ولن آفاق‬ ‫الستغلل قد انفتحت واتسعت أما‪،‬م الغنياء وأصحاب رؤوس‬ ‫الموال الضخمة‪ ،‬فاضطرت لن تتورط في العالم كله‪ ،‬واضطرت‬ ‫لن تظل مشتركة في السياسة الدولية‪ ،‬ولن تأخذ على عاتقها أمر‬ ‫العالم كله‪.‬‬ ‫‪-19-‬‬


‫أ ةّما ظروف الدفاع‪ ،‬فإن الخطر الذي كان عليها إ ةّنما هو من‬ ‫تغ ةّلب دولة كبرى من دول أوروبا على أوروبا‪ ،‬وكان هذا الخطر‬ ‫محدودا ومع ةّينا‪ ،‬وتكفي في دفعه سياسة توازن القوى بين الدول‬ ‫الوروبية‪ ،‬والتدخل عسكريا حين يختل هذا التوازن‪ .‬أ ةّما بعد‬ ‫الحرب العالمية الثانية‪ ،‬فقد برز التحاد السوفياتي دولة تشكل‬ ‫الخطر الماحق عليها‪ ،‬سواء أكان ذلك في قوته العسكرية أو في‬ ‫فكرته الشيوعية‪ .‬وكذلك تبين أن اليابان قد شكلت خطرا على‬ ‫أمريكا في الحرب العالمية الثانية‪ ،‬ونشأت الصين دولة شيوعية‬ ‫قوية قد تشكل خطرا عليها في المستقبل‪ ،‬وخرجت أوروبا من‬ ‫الحرب العالمية الثانية واهية القوى‪ .‬فأوروبا الشرقية قد استولت‬ ‫عليها روسيا‪ ،‬وأوروبا الغربية في حالة إنهاك وضعف ول تستطيع‬ ‫وحدها مواجهة الخطر السوفياتي الذي يتهدد التوازن الوروبي‪.‬‬ ‫وإلى جانب ذلك ظهر للرأسماليين وأصحاب الموال الضخمة ما‬ ‫كانت تتمتع به الدول الوروبية من منافع في الدول التي‬ ‫تستعمرها‪ ،‬ورأت أن أوروبا نفسها يمكن أن تكون موضع‬ ‫استغلل لمريكا‪ .‬فصار أمامها عاملن جديدان هامان‪ :‬عامل‬ ‫الدفاع الذي أوجدته الحوال الجديدة التي نشأت بعد الحرب‬ ‫العالمية الثانية‪ ،‬وعامل الستغلل الذي أسال لعابها في البلد‬ ‫مرة وفي أوروبا نفسها‪.‬‬ ‫المستع حَ‬ ‫وأما‪،‬م هذين العاملين وقفت متحيرة ل تدري أي طريق‬ ‫‪-20-‬‬


‫تسلك‪ ،‬هل ترجع إلى عزلتها أ‪،‬م تظل مشتركة في هذا العالم؟‬ ‫واستمرت حيرتها من بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية حتى سنة‬ ‫‪ 1947‬وهي تدرس الوضاع الجديدة دون أن تتخذ أي قرار‪.‬‬ ‫وفي سنة ‪ 1947‬قررت البقاء في العالم‪ ،‬والشتراك مع‬ ‫الدول الخرى في سياسة العالم وإدارته‪ ،‬وأصبح للسياسة‬ ‫المريكية منذ سنة ‪ 1947‬نمطها الجديد‪ .‬إل ةّ أنها لعد‪،‬م عراقتها في‬ ‫السياسة الدولية‪ ،‬ولنها تعتنق المبدأ الرأسمالي‪ ،‬وهذا المبدأ نفسه‬ ‫تعتنقه الدول الوروبية‪ ،‬وهو يقضي بالصراع على المنافع‪ ،‬وبأن‬ ‫الرغيف هو العلقة بين الشخص والشخص‪ ،‬وبين الدولة والدولة‪،‬‬ ‫شر في العالم القديم بالمثل الرفيعة‪،‬‬ ‫آُكُله أنا أو أنت‪ .‬ولنها كانت تب ةّ‬ ‫والقيم العليا‪ ،‬والتحرير من الستعمار‪ ،‬وهي دولة استعمارية ل بد‬ ‫أن حَتظهر الستعمارية في سلوكها‪ .‬لهذه السباب الثلثة وقعت في‬ ‫حيرة في تنفيذ سياستها‪ ،‬ووقعت في ارتباكات عديدة وارتكبت‬ ‫أخطاء فاحشة‪ .‬واستمرت على هذه الحال طوال الخمسينات‬ ‫حتى أوائل الستينات‪ ،‬حيث غيرت سياستها وسارت في سياسة‬ ‫أخرى‪.‬‬ ‫فبالنسبة للدفاع‪ ،‬اتخذت –قبل الستينات‪ -‬سياسة الحلف‪،‬‬ ‫وأقامت حزاما حول روسيا من الحلف والقواعد العسكرية‬ ‫النووية وغير النووية‪ ،‬فأقامت مبدأ ترومان لحماية تركيا واليونان‪،‬‬ ‫كمبدأ مونرو الذي أقامته للدفاع عن نصف الكرة الغربي‪ ،‬وأوجدت‬ ‫‪-21-‬‬


‫الحلف الطلسي‪ ،‬وحلف جنوب شرقي آسيا‪ ،‬وأوجدت مشروع‬ ‫مارشال لمساعدة أوروبا لتستطيع الوقوف على قدميها ضد‬ ‫التحاد السوفياتي‪ ،‬ثم أوجدت سياسة المساعدات الخارجية‪ ،‬فمبدأ‬ ‫تحرير الشعوب الخاضعة للشيوعية‪ ،‬ثم تقوية موقف عد‪،‬م النحياز‬ ‫الذي تتخذه الدول غير المنحازة‪ ،‬وتبنته وأخذته من انجلترا أخذا‬ ‫يكاد يكون تاما‪.‬‬ ‫سعت سياسة المساعدات‬ ‫وأ ةّما بالنسبة للستغلل‪ ،‬فقد و ةّ‬ ‫مرة‪ ،‬واتخذت‬ ‫الخارجية حتى شملت أكثر الدول التي كانت مستع حَ‬ ‫سياسة العدوان غير المباشر من النقلبات‪ ،‬والتخريب والتدمير‪،‬‬ ‫وشراء الذمم‪ ،‬سياسة فعالة‪ ،‬وسارت فيها في بلدان متعددة‪.‬‬ ‫وبذلك تحملت أمريكا مسؤوليات دفاعية ضخمة خارج نصف الكرة‬ ‫الغربي‪ ،‬ومسؤوليات اقتصادية في كل من أوروبا وآسيا وافريقيا‪،‬‬ ‫مل هذه المسؤوليات العسكرية والقتصادية‪ ،‬وسارت‬ ‫ورضيت تح ةّ‬ ‫في سياستها بدأب ل يعرف الملل‪ ،‬وبقوة ل تعرف الوهن‪،‬‬ ‫واندفعت فيها أينما اندفاع‪.‬‬ ‫إل ةّ أنها لم توَّفق في هذه السياسة ول في جهة من الجهات‪،‬‬ ‫إذ أخفقت فيها في الشرق الوسط أو الدنى كما أخفقت في‬ ‫الشرق القصى‪ ،‬وأخفقت في أوروبا كما أخفقت في افريقيا‪،‬‬ ‫ووقعت في مآزق متعددة‪ ،‬وارتكبت الخطاء الفاحشة‪ ،‬وتخبطت‬ ‫تخبط العشواء‪ ،‬مما اضطرها إلى دراسة هذه السياسة‪ ،‬ورسم‬ ‫‪-22-‬‬


‫سياسة جديدة سارت فيها منذ سنة ‪ 1961‬حتى الن‪.‬‬ ‫أ ةّما السبب في ذلك فراجع إلى موقف النجليز في الدرجة‬ ‫الولى منها ومن سياستها‪ ،‬ثم موقف فرنسا في الدرجة الثانية ثم‬ ‫الشعوب الخرى في آسيا وافريقيا وحتى في أوروبا نفسها‪ .‬ذلك‬ ‫أن انجلترا بحكم العلقة الخاصة التي كانت قائمة بينها وبين‬ ‫أمريكا‪ ،‬قد استطاعت أن تقنع أمريكا وفرنسا وسائر دول أوروبا‬ ‫أن العالم الشيوعي يشكل خطرا على العالم الحر‪ ،‬وعلى‬ ‫الحضارة الغربية‪ ،‬يهدد وجوده ووجودها‪ .‬وبذلك قامت السياسة‬ ‫الدولية على أساس أن العالم معسكران‪ :‬معسكر شرقي أي‬ ‫معسكر شيوعي وتتزعمه روسيا‪ ،‬ومعسكر غربي أي معسكر‬ ‫رأسمالي أو العالم الحر وتتزعمه أمريكا‪ ،‬وبذلك وضعت أمريكا‬ ‫موضع المسؤولية عن العالم الحر‪ ،‬وجعلتها تتصدى لروسيا‬ ‫الشيوعية‪ ،‬ثم أذكت الحرب الباردة بين روسيا وأمريكا بلبس ثوب‬ ‫الحرب الباردة بين المعسكرين‪ ،‬فتورطت أمريكا في حرب كوريا‪،‬‬ ‫وأخذتها على عاتقها‪ ،‬وعلى الرغم من أنها حرب بين المعسكرين‬ ‫فقد كانت انجلترا تقو‪،‬م بأعمال خفية لصالح الصين وروسيا ضد‬ ‫أمريكا‪ ،‬ثم صارت تحاول القيا‪،‬م بأعمال لتوريط أمريكا‪،‬‬ ‫ولضعافها‪ ،‬مما أربك أمريكا وأوقعها في مآزق وأزمات‪ ،‬فكانت‬ ‫مؤتمرات القمة كمؤتمر برلين ومؤتمر جنيف‪ ،‬وكان حلف بغداد‬ ‫لسقاط محاولت أمريكا في إقامة حلف دفاعي في الشرق‬ ‫‪-23-‬‬


‫الوسط في الحزا‪،‬م الشمالي المربوط ضد روسيا‪ ،‬وكان الصراع‬ ‫العنيف حول ألمانيا وحول الدفاع عن غربي أوروبا‪ ،‬وكانت‬ ‫العرقلت التي تقو‪،‬م بها في افريقيا مثل الكونغو وروديسيا‬ ‫الشمالية والجنوبية وغيرها‪ ،‬والعرقلت التي تقو‪،‬م بها في الشرق‬ ‫الوسط في مثل فلسطين وشرق الردن‪ ،‬وفي مثل سوريا‬ ‫ومصر‪ ،‬وغير ذلك من العمال‪.‬‬ ‫أ ةّما فرنسا فإنها وهي تعلم أن شعار النجليز هو أن انجلترا‬ ‫تقاتل لخر جندي فرنسي‪ ،‬وأن أمريكا قد جعلت أوروبا تابعة لها‬ ‫في مشروع مارشال‪ ،‬وجعلت فرنسا كواحدة من دول أوروبا‬ ‫وتابعة لمريكا‪ ،‬والفرنسيون يشعرون بعظمتهم ومجدهم‬ ‫ويريدون إحياء تاريخهم‪ ،‬فإنهم قد أحسوا بضرورة النفصال عن‬ ‫عم دول أوروبا‪ ،‬ل سيما‬ ‫أمريكا وعن انجلترا‪ ،‬والسير في محاولة تز ةّ‬ ‫وأن مشروع مارشال قد أحيا أوروبا‪ ،‬وجعلها تقف على رجليها‬ ‫بالرغم من أنه كان وسيلة لبسط سيطرة أمريكا عليها‪ ،‬أي على‬ ‫أوروبا‪ .‬لذلك م ةّرت فرنسا في حالة من التخبط ومحاولة النعتاق‬ ‫من نير أمريكا‪ ،‬حتى جاء ديغول وسار في سياسته الجديدة‪،‬‬ ‫ل‪ ،‬ووقف من انجلترا موقف الند‪،‬‬ ‫وفصل فرنسا عن أمريكا فع ع ً‬ ‫وصار يحاول أن تكون أوروبا بدون انجلترا‪ ،‬القوة الثالثة بين أمريكا‬ ‫وروسيا‪ ،‬وصار يحاول التقرب من روسيا‪ ،‬وبذلك ضعف موقف‬ ‫أمريكا في أوروبا‪ ،‬وضعف موقفها تجاه روسيا‪.‬‬ ‫‪-24-‬‬


‫فكان من جراء موقف فرنسا‪ ،‬ومن جراء ألعيب انجلترا في‬ ‫أوروبا‪ ،‬ومن جراء مشروع مارشال‪ ،‬أن تغَّير الموقف في انجلترا‬ ‫وأوروبا تغيرا كليا‪ ،‬فبعد أن كانت أوروبا ول سيما انجلترا وفرنسا‬ ‫وايطاليا ل تستطيع أن تبقى بعد الحرب العالمية الثانية أمما‬ ‫مستقلة‪ ،‬وكانت عرضة لجتياح روسيا لها‪ ،‬وابتلع التحاد‬ ‫ل‪ ،‬فإنها بفضل المساعدات المريكية‬ ‫السوفياتي لها ابتلعا سه ع ً‬ ‫ومحالفتها ظلت دول ع ً وأمما موجودة‪ ،‬وقويت بهذه المساعدة‪.‬‬ ‫فاستغنت عن أمريكا في الحقل السياسي وصارت تناوئها‪ ،‬وصارت‬ ‫تحاول إزالة أمريكا من الحقل القتصادي في أوروبا‪ ،‬وصار الحقل‬ ‫العسكري في حالة ميوعة وغموض‪.‬‬ ‫هذا بالنسبة لوروبا عموما‪ ،‬ولنجلترا وفرنسا بشكل خاص‪،‬‬ ‫مرة في آسيا وفي‬ ‫أ ةّما بالنسبة لحوال المم والشعوب المستع حَ‬ ‫مرات وتحويلها إلى‬ ‫افريقيا‪ ،‬فإن سياسة أمريكا في تحرير المستع حَ‬ ‫دول مستقلة‪ ،‬قد أدت إلى صراع حاد بينها‪ ،‬أي بين أمريكا والدول‬ ‫مرة‪ ،‬وتح ةّول الستعمار في أكثر هذه الشعوب من‬ ‫المستع مِ‬ ‫السيطرة العسكرية والسياسية والقتصادية‪ ،‬إلى السيطرة‬ ‫السياسية والقتصادية‪ ،‬بعد أن أزيلت السيطرة العسكرية منها‪.‬‬ ‫ولكن ظلت هذه الشعوب في أكثريتها تحت ظل انجلترا وفرنسا‪،‬‬ ‫ولم تنل أمريكا من السيطرة عليها إل ةّ القليل‪ ،‬فالجزائر وتونس‬ ‫والمغرب مثل ع ً وإن تحررت من فرنسا ولكنها دخلت تحت سيطرة‬ ‫‪-25-‬‬


‫انجلترا‪ ،‬وعدن وسومطرة والمليو وغيرها وإن زال عنها الوجه‬ ‫العسكري فقد ظل الستعمار النجليزي فيها في وجهيه‬ ‫القتصادي والسياسي‪ .‬وهكذا أكثر الشعوب والمم لم تنجح فيها‬ ‫السياسة المريكية رغم العون والمساعدات‪ ،‬ل في تحريرها‬ ‫تحريرا تاما من الستعمار‪ ،‬ول في تحويلها إلى سيطرة أمريكية‬ ‫بحتة‪ ،‬سوى القليل القليل الذي هو على وشك الزوال كمصر‬ ‫ل‪ ،‬ثم تحولت سياسة عد‪،‬م النحياز إلى‬ ‫وسوريا والسودان مث ع ً‬ ‫مهزلة‪ ،‬حتى صارت الدول الواضح فيها النفوذ النجليزي أو‬ ‫الفرنسي حَتعتبر نفسها دول ع ً غير منحازة‪ ،‬وتدخل ضمن عد‪،‬م‬ ‫النحياز‪.‬‬ ‫وبهذا كانت حصيلة السياسة المريكية في كل من أوروبا‬ ‫وآسيا وافريقيا إخفاقا في إخفاق‪ ،‬فل هي استطاعت أن تأخذ‬ ‫مرة من الدول الستعمارية لستعمارها هي‪ ،‬ول‬ ‫الشعوب المستع حَ‬ ‫استطاعت أن تحرر هذه الدول من ربقة الستعمار‪ .‬وبدل أن‬ ‫تجعل أوروبا قوة تقف في وجه التحاد السوفياتي والمعسكر‬ ‫الشيوعي‪ ،‬صارت أوروبا ول سيما انجلترا وفرنسا دول ع ً تناوئ‬ ‫أمريكا وتزاحمها‪ ،‬وتخلت عن كونها قوة أمريكية‪ ،‬بل تخلت فعل ع ً‬ ‫عن كونها معسكرا غربيا مع أمريكا‪.‬‬ ‫أ ةّما السياسة المريكية تجاه روسيا فقد أخفقت كذلك بسبب‬ ‫عاملين اثنين‪ :‬أحدهما تغير وضع روسيا وتغير سياستها‪ ،‬والثاني‬ ‫‪-26-‬‬


‫عد‪،‬م إخلص الدول المحالفة لمريكا للحلف الذي تدخل فيه‬ ‫ولمريكا‪ .‬أ ةّما العامل الول فإن روسيا قد صنعت القنبلة الذرية‬ ‫والقنبلة الهيدروجينية‪ ،‬وتقدمت في السلح النووي‪ ،‬وفاقت أمريكا‬ ‫في الصواريخ عابرة القارات‪ ،‬وبذلك تغير توازن القوى العسكرية‬ ‫بين المعسكرين أو على الصح بين الدولتين تغيرا جذريا‪ ،‬فبعد أن‬ ‫كانت أمريكا تتفوق على روسيا بالسلح الذري‪ ،‬صارت روسيا‬ ‫توازي أمريكا وتعادلها في هذا السلح إن لم تتفوق عليها في‬ ‫بعض النواحي‪ ،‬وتح ةّول التوازن من توازن القوى إلى توازن‬ ‫الرعب‪ ،‬وحل محل المان الذري المأزق الذري‪ ،‬واستوت قدرة‬ ‫أمريكا وروسيا في تدمير بعضها البعض في حرب ذرية شاملة‪.‬‬ ‫وفوق ذلك فقد أقامت روسيا حلف وارسو مقابل حلف الطلسي‪،‬‬ ‫وأخذت تهاجم الحلف الخرى حتى زعزعت ثقة أعضائها بها‪،‬‬ ‫وجعلتها في نظر الشعوب س ةّبة وعارا وتأبيدا للستعمار الغربي‪.‬‬ ‫وصارت هذه الحلف تشكل خطرا على أصحابها‪ ،‬وصار يخالطهم‬ ‫شعور الخوف من عواقب الخطر الذري‪ ،‬وبالتالي من عواقب هذه‬ ‫الحلف‪ .‬وبذلك فقدت هذه الحلف قيمتها ولم تعد لها أية منفعة‬ ‫في سياسة الدفاع المريكية‪.‬‬ ‫وفوق ذلك فإن السياسة السوفياتية تغيرت تغيرا أساسيا‪،‬‬ ‫فقد كانت هذه السياسة تعتمد على التهديدات العسكرية‪ ،‬فصارت‬ ‫تعتمد على العمال السياسية‪ ،‬وتخلت عن أسلوب التهديد‬ ‫‪-27-‬‬


‫العسكري المباشر وغير المباشر‪ ،‬وصارت تتبع أسلوب التفوق‬ ‫السوفياتي والتوغل الشيوعي في العالم غير الشيوعي بواسطة‬ ‫النجازات السوفياتية التقنية والقتصادية‪ ،‬وصارت روسيا تسير في‬ ‫سياسة المساعدات القتصادية والمساعدات العسكرية‪ ،‬وصارت‬ ‫تعتمد على ذلك في سبيل إخضاع العالم غير الشيوعي للنفوذ‬ ‫السوفياتي‪ .‬وبالنسبة لوروبا قد ش ةّدت قبضتها على أوروبا الشرقية‬ ‫وجعلت أهلها يلمسون إخفاق سياسة أمريكا ‪ 00000000‬على‬ ‫الشعوب الخاضعة للشيوعية‪ ،‬وأخذت تغازل انجلترا وتحاول إيجاد‬ ‫علقات بينها وبين فرنسا‪ ،‬وتحاول إضعاف برلين الغربية والمانيا‬ ‫الغربية‪ .‬وما أن قاربت الخمسينات على النتهاء حتى كانت روسيا‬ ‫في ذروة القوة وأصبح خطرها على العالم بل على أمريكا أمرا‬ ‫ُيحسب له حساب‪.‬‬ ‫وبهذا كله ظهر لمريكا ظهورا بينا خطأ السياسة التي رسمتها‬ ‫وخطر بقائها سائرة في هذه السياسة‪ .‬ومن أجل ذلك فكرت في‬ ‫ترك هذه السياسة ورسم سياسة جديدة‪ ،‬وكان ذلك في أواخر‬ ‫أيا‪،‬م ايزنهاور‪ .‬ثم كانت وفاة دالس صانع هذه السياسة‪ ،‬فجمدت‬ ‫المور كلها لدى أمريكا في دراسة الموقف والتفكير بسياسة‬ ‫جديدة‪ .‬إلى أن جاء جون كيندي رئيسا للوليات المتحدة فأخذ‬ ‫هذه الدراسات‪ ،‬أو تبنى السياسة الجديدة التي كان يفكر فيها‬ ‫المريكيون‪ ،‬وصاغها صياغة مبلورة‪ ،‬ثم قا‪،‬م بإكمال التصالت‬ ‫‪-28-‬‬


‫السرية مع روسيا التي بدأت منذ أيا‪،‬م ايزنهاور إلى أن كان اجتماع‬ ‫عقدت التفاقيات‬ ‫خروتشوف بكيندي في حزيران سنة ‪ 1961‬و ُ‬ ‫السرية بين روسيا وأمريكا‪ .‬ومنذ ذلك التاريخ سارت أمريكا في‬ ‫سياسة جديدة في العالم غير سياستها الولى‪.‬‬ ‫أ ةّما ما هي هذه السياسة‪ ،‬فإنه لم ُيكشف النقاب عنها بعد‪،‬‬ ‫عقدت بين روسيا‬ ‫ولم ُيكشف النقاب عن التفاقيات السرية التي ُ‬ ‫وأمريكا‪ ،‬ولذلك فإنه من الصعب إعطاء تفصيلت عن هذه‬ ‫السياسة‪ ،‬ول إعطاء خطوط عريضة عنها‪ ،‬وذلك لس ةّر ةّيتها‪ ،‬ولعد‪،‬م‬ ‫كشف خفاياها ومراميها‪ .‬ولكن وقد سارت الدولتان روسيا وأمريكا‬ ‫في تنفيذ التفاقيات خطوات نقلت الموقف الدولي من حالة‬ ‫معسكرين إلى حالة دولتين‪ ،‬ومن حالة العداء والخصا‪،‬م بين‬ ‫أمريكا وروسيا إلى حالة التقارب‪ ،‬حتى وصل هذا التقارب بعد‬ ‫زيارة نيكسون رئيس الوليات المتحدة المريكية لموسكو في ايار‬ ‫سنة ‪ 1972‬إلى حد الصداقة الظاهرة‪ ،‬فإنه صار بالمكان إعطاء‬ ‫صورة أو لمحة عن السياسة المريكية الجديدة‪.‬‬ ‫معلو‪،‬م أن الساس للسياسة المريكية في العالم مبني على‬ ‫أمرين‪ :‬أحدهما حماية أمريكا والدفاع عنها ضد كل خطر يتهددها‬ ‫أو يمكن أن يتهددها‪ .‬وثانيهما‪ :‬استغلل الشعوب والمم لصالح‬ ‫أمريكا‪ .‬هذان هما الساسان اللذان ليس من المحتمل أن يجري‬ ‫عليهما أي تعديل‪ ،‬واللذان ليس من المحتمل أن تكون السياسة‬ ‫‪-29-‬‬


‫المريكية مبنية إل ةّ عليهما‪ .‬وانطلقا من هذا الساس‪ ،‬وبملحظة‬ ‫الحوادث التي حصلت والسلوب الذي سارت فيه أمريكا‪ ،‬تكون‬ ‫السياسة المريكية الجديدة كما يلي‪:‬‬ ‫‪ -1‬تخلت أمريكا عن حساب أية قوة من القوى في سياستها‬ ‫الدفاعية‪ ،‬وصارت سياستها الدفاعية تعتمد عليها وحدها‪ ،‬وعلى‬ ‫قواها ليس غير‪ .‬فألغيت الحلف والمعاهدات والتفاقيات‬ ‫العسكرية‪ ،‬واعُتبرت كأن لم تكن‪ ،‬وتخلت عن القواعد العسكرية‬ ‫خل بالتوازن في‬ ‫جميعها‪ ،‬وذلك لن سياستها تجاه الدولة التي ُت مِ‬ ‫أوروبا‪ ،‬أي تجاه روسيا‪ ،‬صارت سياسة صداقة ل سياسة مخاصمة‪،‬‬ ‫فلم يعد هناك لزو‪،‬م لضربها والحيلولة دون خطرها‪ ،‬بل ُيكتفى‬ ‫كن أمريكا من الدفاع عن نفسها إذا نقضت‬ ‫بإيجاد وضع دفاعي يم ةّ‬ ‫روسيا اتفاقياتها‪ ،‬أي انتقلت أمريكا من سياسة المن المطلق إلى‬ ‫سياسة المن النسبي‪ ،‬ولذلك صار التفاوض بينهما ول يزال جاريا‬ ‫كن إحدى الدولتين من غزو الخرى‪ ،‬ليجاد‬ ‫حول السلحة التي تم ةّ‬ ‫توازن بينهما في القوى‪ .‬وصارت سياستها الدفاعية إيجاد توازن‬ ‫بين قواها وقوى الدول الشيوعية وعلى رأسها روسيا‪ ،‬وتركت‬ ‫سياسة توازن القوى بين الدول الوروبية‪ ،‬وسياسة توازن القوى‬ ‫بين الدول السيوية‪.‬‬ ‫‪ -2‬تخلت عن سياستها بشأن الحيلولة دون التوسع الروسي‬ ‫أو التوسع الصيني‪ ،‬وحددت البلدان التي يمكن لمريكا أن تتوسع‬ ‫‪-30-‬‬


‫فيها‪ ،‬والبلدان التي يمكن لروسيا أن تتوسع فيها‪ ،‬والبلدان التي ل‬ ‫يمكن لمريكا أن تتسع فيها‪ ،‬والبلدان التي ل يمكن لروسيا أن‬ ‫تتوسع فيها‪ .‬وبذلك دخلت مع روسيا في لعبة شطرنج مميتة‪ ،‬فإذا‬ ‫توسعت روسيا في بلد ل حق لها بالتوسع فيه ُوجد خطر الحرب‬ ‫بينها وبين أمريكا‪ ،‬وكذلك إذا توسعت أمريكا في بلد ل حق لها‬ ‫بالتوسع فيه ُوجد خطر الحرب بينها وبين روسيا‪ .‬أ ةّما الُبلدان التي‬ ‫يمكن لكل من أمريكا وروسيا أن تتوسع فيها‪ ،‬فإن التوسع يجري‬ ‫عرضة للحتكاك بينهما‬ ‫بالرضا أو بالمنافسة الرياضية‪ ،‬وهذه أيضا ُ‬ ‫ويمكن أن يؤدي هذا الحتكاك إلى تنافس‪ ،‬ويمكن أن يؤدي إلى‬ ‫تصاد‪،‬م‪ ،‬بل يمكن أن يؤدي إلى حرب بين العملقين‪ .‬ومن أجل‬ ‫ذلك تعتبر السياسة المريكية الجديدة في هذا المضمار لعبة‬ ‫شطرنج مميتة‪ .‬وصارت قابلية أن تقع ‪-‬أي أمريكا‪ -‬في حرب ذرية‬ ‫مع روسيا‪ ،‬أقرب منها في سياستها الولى‪ ،‬لن سياسة توازن‬ ‫الدول أو التوازن الدولي أكثر مطاوعة لتجنب الحرب من سياسة‬ ‫توازن القوى بين دولتين‪ ،‬وترك وسائل الحتكاك بينهما بسياسة‬ ‫التنافس الرياضي‪.‬‬ ‫‪ -3‬سارت أمريكا في سياسة احتكار السلح النووي لها‬ ‫ولروسيا‪ ،‬وصارت تحاول منع الدول الخرى من صنع هذا السلح‪،‬‬ ‫أي أنها لتقاء خطر قوى أخرى غير قوة روسيا قد تبنت مبدأ ضرب‬ ‫كل دولة يشكل نموها خطرا عليها‪ ،‬ل فرق بين أن تكون من دول‬ ‫‪-31-‬‬


‫أوروبا أو من الدول الشيوعية‪ ،‬فهي كما تحاول منع الصين من‬ ‫ازدياد قواها ومن التوسع‪ ،‬كذلك تحاول منع انجلترا من زيادة‬ ‫قواها ومن التوسع‪ .‬فصار جزءا من دفاعها أن تبقي الدول‬ ‫الخرى في حالة ل تشكل خطرا عليها‪.‬‬ ‫وعمل ع ً بهذه السياسة‪ ،‬أو من ثمراتها‪ ،‬إلغاء القواعد‬ ‫العسكرية في العالم ومنها القواعد العسكرية النجليزية‪ ،‬وإلغاء‬ ‫الستعمار إلغاء تاما من جميع العالم بإعطاء كل شعب من‬ ‫الشعوب استقلله وجعله دولة مستقلة استقلل ع ً تاما‪ ،‬ومحاربة‬ ‫السيطرة السياسية والسيطرة القتصادية في أي بلد من بلدان‬ ‫صر المجال الحيوي‬ ‫العالم ما عدا سيطرتها وسيطرة روسيا‪ .‬وح رْ‬ ‫لية دولة في نطاق محدود ومحاولة حصر المجال القتصادي في‬ ‫العمال المشروعة كالتجارة والصناعة والزراعة التي تتمشى مع‬ ‫القانون الدولي‪ ،‬وضرب المجال السياسي لية دولة أينما ُوجد‪،‬‬ ‫وقلع النفوذ الجنبي من أي مكان يوجد فيه‪ ،‬ومنعه من أن يوجد‬ ‫في أي مكان‪ ،‬باستثناء المكنة المتفق عليها بينها وبين روسيا‪.‬‬ ‫‪ -4‬إيجاد أمكنة في العالم منزوعة السلح وعد‪،‬م تمكين‬ ‫الدول القائمة فيها من التسلح إل ةّ بالسلح الذي يلز‪،‬م للمن‬ ‫الداخلي وللدفاع المحدود‪ ،‬وكذلك تحديد تسلح بعض الدول في‬ ‫غير المكنة المنزوعة السلح‪ ،‬وفرض شروط قاسية على بيع‬ ‫السلح للدول الخرى‪ .‬وهذا وإن كان يدخل في سياسة منع أية‬ ‫‪-32-‬‬


‫قوة تهدد أمريكا‪ ،‬فإنه يجمع إلى ذلك إيجاد المن الدائم لمريكا‬ ‫وروسيا‪ ،‬كألمانيا وأواسط أوروبا بالنسبة لروسيا‪ ،‬وكاليابان‬ ‫والشرق القصى بالنسبة لمريكا‪.‬‬ ‫هذا بالنسبة لسياسة الدفاع‪ ،‬أ ةّما بالنسبة لسياسة الستغلل‪،‬‬ ‫حظ فيها أي تغيير‬ ‫أو على الصح لسياستها الستعمارية‪ ،‬فإنه لم يل حَ‬ ‫اللهم إل ةّ بالنسبة لوروبا‪ ،‬فإن مشروع مارشال قد انتهى‪ ،‬والدول‬ ‫الوروبية صارت في غنى عن أمريكا‪ ،‬بل صارت تناوئ أمريكا‬ ‫وتحاول طردها من أوروبا‪ ،‬ولكن أمريكا قد نقلت مساعداتها‬ ‫لوروبا من مساعدات لتقويتها إلى صفقات من أجل استغللها‪،‬‬ ‫وتجلى ذلك في السياسة التجارية‪ ،‬والسياسة الصناعية‪ ،‬والسياسة‬ ‫النقدية‪ .‬وإنه وإن كان الصراع بين دول أوروبا وبين أمريكا على‬ ‫أشده من ناحية اقتصادية‪ ،‬ولكن أمريكا ل تزال تحاول فرض‬ ‫سيطرتها القتصادية على أوروبا‪ ،‬فل يزال الدولر المريكي قادرا‬ ‫على فرض السيطرة النقدية على أوروبا‪ ،‬ول تزال التجارة‬ ‫المريكية مزدهرة في أوروبا‪ ،‬ول تزال المصانع الوروبية تحت‬ ‫تأثير أمريكا‪.‬‬ ‫أ ةّما بالنسبة لباقي البلدان‪ ،‬أي لسيا وافريقيا‪ ،‬فل تزال‬ ‫السياسة الستعمارية هي سياسة أمريكا‪ .‬وهي تتمثل في المور‬ ‫التالية‪:‬‬ ‫ل‪ :‬سياسة التحرير من الستعمار‪ ،‬وهذه السياسة تقضي‬ ‫أو ع ً‬ ‫‪-33-‬‬


‫مرة‪ ،‬وتحويلها إلى دول مستقلة‪ ،‬ثم النفوذ‬ ‫بتحرير البلد المستع حَ‬ ‫إلى هذه البلد عن طريق هؤلء الحكا‪،‬م‪ ،‬سواء أكانوا من‬ ‫مرة التي أعطت‬ ‫عملئها‪ ،‬أو كانوا من عملء الدولة المستع مِ‬ ‫الستقلل‪ .‬وما فعلته في عدن ومشيخات الخليج وشمال افريقيا‬ ‫خير شاهد على ذلك‪ ،‬فإن حكا‪،‬م مصر والسودان من عملئها‪،‬‬ ‫وحكا‪،‬م عدن ومشيخات الخليج من عملء الدول التي كانت‬ ‫تستعمرها وهي انجلترا‪ ،‬وحكا‪،‬م المغرب وتونس وليبيا من عملء‬ ‫دولة أخرى غير التي كانت تستعمرهم‪ ،‬ومع ذلك فإنها في‬ ‫محاولتها الدخول إلى هذه البلد وفرض سيطرتها عليها‪ ،‬واحدة‪،‬‬ ‫ل‪.‬‬ ‫وإن كانت أعمالها في مصر أكثر نجاحا منها في ليبيا مث ع ً‬ ‫ثانيا‪ :‬المساعدات القتصادية‪ ،‬وهذه على تعدد أنواعها فإن‬ ‫عد‪ ،‬وربطه بعجلة‬ ‫الغاية منها كلها واحدة وهي إفقار البلد المسا حَ‬ ‫أمريكا‪ ،‬بحيث تكون المساعدة وسيلة للفقار‪ ،‬ووسيلة لبسط‬ ‫عد‪ ،‬والقروض‪،‬‬ ‫السيطرة القتصادية والسياسية على البلد المسا حَ‬ ‫والنقطة الرابعة‪ ،‬ومساعدات التنمية وما شابه ذلك تؤدي نفس‬ ‫عد وبسط السيطرة القتصادية‬ ‫الغاية‪ ،‬أل وهي إفقار البلد المسا حَ‬ ‫والسياسية عليه‪.‬‬ ‫ثالثا‪ :‬المساعدات العسكرية‪ ،‬وهذه المساعدات ُيقصد منها‬ ‫أمران‪ :‬أحدهما إيجاد أسواق للمصانع المريكية‪ ،‬وثانيهما هدر‬ ‫عد على سلح يتحول إلى حديد خردة‪ ،‬ويستهلك‬ ‫أموال البلد المسا حَ‬ ‫‪-34-‬‬


‫عد‪ .‬إل ةّ أن خطر هذه المساعدات يتجلى في‬ ‫ثروة البلد المسا حَ‬ ‫ايقاع البلد في حالت قلق دائم‪ ،‬إما بإيجاد حروب مصطحَنعة‬ ‫بشكل دائمي لدوا‪،‬م توريد السلح‪ ،‬كما هي الحال في الشرق‬ ‫القصى والشرق الوسط‪ ،‬وإما بإيجاد محاولت انقلبية أو إيجاد‬ ‫حركات تخريب وتدمير‪ ،‬فيومِقع البلد في الفوضى والضطراب‪ ،‬إلى‬ ‫جانب إفقارها وهدر ثروتها‪ .‬ولئن كانت المساعدات القتصادية‬ ‫تجر إلى فرض السيطرة القتصادية والسياسية‪ ،‬فإن المساعدات‬ ‫العسكرية تجر زيادة على ذلك إلى إفقار البلد ووضعها في حالة‬ ‫فوضى واضطراب‪.‬‬ ‫رابعا‪ :‬المشاريع النتاجية‪ ،‬سواء المشاريع المريكية البحتة‬ ‫كمشاريع البترول ونحوها‪ ،‬أو المشاريع التي تدخل فيها مع دولة‬ ‫أخرى تابعة لها كالمشاريع اللمانية واليابانية واليطالية ونحوها‪،‬‬ ‫أو الدول المناوئة لها كانجلترا وفرنسا‪ .‬وهذه المشاريع تجعل‬ ‫لمريكا سيطرة اقتصادية وسياسية في البلد‪ ،‬وتكون وسيلة‬ ‫لستغلل الناس والبلد للشركات المريكية والغنياء المريكيين‪.‬‬ ‫خامسا‪ :‬التضليل السياسي والفكري‪ .‬أ ةّما التضليل السياسي‬ ‫فيتجلى في أمرين‪ :‬أحدهما أن تحقق على يد عملئها ما تريده‬ ‫هي تحت ستار قومي أو وطني‪ ،‬أي تحت ستار كفاح الستعمار‪،‬‬ ‫وهذا واضح في الحركات التي قامت في مصر والكونغو‬ ‫واندونيسيا وغيرها‪ .‬والثاني أن تقو‪،‬م هي بأعمال ظاهرة لمصلحة‬ ‫‪-35-‬‬


‫الشعب كالجامعات المريكية في القاهرة وبيروت وأنقرة‪،‬‬ ‫وكمشاريع المياه وتحلية مياه البحر‪ ،‬ونحو ذلك‪ .‬وأ ةّما التضليل‬ ‫الفكري فقد غلب على أمريكا اتخاذ فكرتي التحرر والشتراكية‪،‬‬ ‫فتشغل الناس بالتحرير والشتراكية والتقدمية‪ ،‬وتجعلهم ينقسمون‬ ‫إلى أقسا‪،‬م متعددة تتناحر على الفكار‪ ،‬وتبعدهم بهذا عن‬ ‫الطريق الصحيح للتقد‪،‬م والزدهار‪ .‬ولذلك كانت أفكار التحرر‬ ‫والتقد‪،‬م والشتراكية من أهم وسائل أمريكا في الستعمار‪ ،‬ومن‬ ‫أخطر المور على البلد‪ .‬ونظرة واحدة إلى الدول التي تنادي‬ ‫بالشتراكية تكفي للمس أثر هذه الفكار في تأخر البلد وسيرها‬ ‫في متاهات ل نهاية لها‪.‬‬ ‫هذه هي السياسة المريكية بالنسبة لسيا وافريقيا‪ ،‬أي هذه‬ ‫هي السياسة المريكية لستغلل الشعوب‪ ،‬أي السياسة‬ ‫الستعمارية المريكية‪ ،‬وهي سياسة خفية وخبيثة‪ ،‬تجر الشعوب‬ ‫لحظيرة الستعمار بحيث ل تبقى لها إرادة‪ ،‬بل تنجذب للدخول‬ ‫تحت سيطرة أمريكا كما ينجذب الفراش للنار‪ ،‬ولذلك فإن مقاومتها‬ ‫أكثر صعوبة من مقاومة السياسات الستعمارية الخرى‪ .‬ولكنها إذا‬ ‫ُفهمت على حقيقتها وُفهمت إلى جانبها سياستها الدفاعية الجديدة‪،‬‬ ‫فإنه يمكن أن ُتسلك الطريق لضرب سياسة أمريكا الستعمارية‪،‬‬ ‫بل لضرب السياسة المريكية كلها‪ ،‬وحينئذ يمكن أن ُتطرد أمريكا‬ ‫نهائيا‪ ،‬وأن ترجع إلى بلدها كما كانت‪ ،‬بل يمكن أن ُتضرب الضرب‬ ‫‪-36-‬‬


‫القاضية التي ل تبقي لها كدولة استعمارية أي تأثير بل أي وجود‪.‬‬ ‫واقع السياسة الفرنسية‬ ‫ظمة‪ ،‬وهذا هو‬ ‫ع حَ‬ ‫إن سياسة فرنسا الساسية هي سياسة ال حَ‬ ‫الساس لكل سياسة فرنسا‪ ،‬فكل ما تقو‪،‬م به من أعمال سياسية‬ ‫إ ةّنما ينبني على أساس هذه العظمة‪ ،‬فاتجاهها الستعماري إ ةّنما‬ ‫تحركه سياسة العظمة‪ ،‬فهي حين اندفعت في الستعمار والفتح‬ ‫إ ةّنما كانت تسير في سياسة العظمة‪ ،‬وحين أخذت تتلكأ في التخلي‬ ‫عن المستعمرات‪ ،‬وتعاند في ترك المستعمرات‪ ،‬إ ةّنما تندفع إلى‬ ‫ذلك للمحافظة على سياسة العظمة‪ .‬وبالرغم من احتلل ألمانيا‬ ‫لها‪ ،‬وخروجها من الحتلل منهوكة القوى‪ ،‬وفي وضع متهاتف‪،‬‬ ‫فإنها ظلت تحاول أن تبني كيانها من جديد‪ ،‬وتتطلع لن تعود من‬ ‫جديد دولة عظمى‪ ،‬وذلك بناء على سياسة العظمة‪ .‬وهي حين‬ ‫كانت تحاول الستعانة بانجلترا وأمريكا لعادة بناء كيانها‪ ،‬وحين‬ ‫بدأت تزاحم انجلترا وتناوئ أمريكا فإنها في الحالتين كانت تسير‬ ‫وفق ما تتطلبه سياسة العظمة‪ .‬فسياسة العظمة هي سياستها‬ ‫الساسية‪.‬‬ ‫وفرنسا قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها يشغلها أمران‪:‬‬ ‫أحدهما وضعها في أوروبا‪ ،‬والثاني وضعها المبراطوري‪ ،‬أي‬ ‫مرات لها‪ .‬أ ةّما وضعها‬ ‫وضعها بالمحافظة على وجود مستع حَ‬ ‫‪-37-‬‬


‫الجغرافي‪ ،‬فإنها بحكم موقعها الجغرافي في أوروبا تخشى دائما‬ ‫ألمانيا‪ ،‬وتحسب حسابا لنجلترا‪ ،‬ولذلك كان هاجسها هو هاتين‬ ‫الدولتين‪ .‬فهي تخشى ألمانيا من أن تكتسح حدود فرنسا‪ ،‬وتخشى‬ ‫انجلترا من أن تسيطر على أوروبا‪ .‬ولذلك تركز كل أمورها‪ ،‬وترسم‬ ‫جميع سياساتها على أساس المحافظة على حدودها‪ ،‬وعلى‬ ‫أساس توازن القوى في أوروبا‪ .‬وعلى هذين الساسين‪:‬‬ ‫المحافظة على حدودها‪ ،‬وكونها يجب أن تكون هي قائدة أوروبا‪،‬‬ ‫قامت سياستها في أوروبا‪ .‬أ ةّما وضعها المبراطوري‪ ،‬فإن فرنسا قد‬ ‫اندفعت في العالم منذ القديم تستهدف الفتح والستعمار‪،‬‬ ‫فوجدت لها مستعمرات في آسيا كسوريا ولبنان‪ ،‬وفي افريقيا‬ ‫كشمال افريقيا وعدة بلدان أخرى كالسنغال والصومال وغينيا‬ ‫ما وقعت الحرب‬ ‫وغيرها‪ ،‬وفي الشرق القصى كالهند الصينية‪ .‬ول ةّ‬ ‫العالمية الثانية وخرجت فرنسا محطمة الضلع‪ ،‬صارت تحاول‬ ‫الستعانة بكل من انجلترا وأمريكا للمحافظة على الستعمار‪.‬‬ ‫وبالرغم من انتشار فكرة التحرر من الستعمار ومن جعل سياسة‬ ‫مرة‪ ،‬ظلت فرنسا تتشبث بالبقاء‬ ‫هيئة المم تحرير البلد المستع حَ‬ ‫في المستعمرات حتى ُأخرجت منها بالقوة تارة وبالضغط الدولي‬ ‫تارة أخرى‪ .‬ورغم ذلك فإنها سيرا وراء سياسة العظمة ل تزال‬ ‫سياستها مبنية على العاملين الساسيين وهما‪ :‬وضع فرنسا‬ ‫الدولي أي وضعها في أوروبا‪ ،‬ووضعها المبراطوري أي وضع‬ ‫‪-38-‬‬


‫مستعمراتها بالنسبة لها‪ ،‬أي ظلت متمشية على سياسة العظمة‪.‬‬ ‫إن فرنسا وإن كانت دولة استعمارية فإنها تختلف عن انجلترا‬ ‫وأمريكا‪ ،‬فانجلترا تحكمها الفئة الرستقراطية حكما حقيقيا‪ ،‬وإن‬ ‫كان يغَّلف بالشعبية والرأي العا‪،‬م تغليقا يحفظ بقاء الحكم‬ ‫الحقيقي في يد الرستقراطية‪ ،‬والناحية الستعمارية فيها ناحية‬ ‫استغلل مادي‪ ،‬ل للعظمة فحسب‪ ،‬بل لمتصاص دماء الشعوب‬ ‫مرة‪ .‬وبالرغم من اشتغالها بالناحية‬ ‫واستغلل ثروات البلد المستع حَ‬ ‫الفكرية والناحية العلمية ولكنها تشتغل فيها كأداة للستعمار‪ ،‬أي‬ ‫لفرض السيطرة‪ ،‬وخاصة السيطرة القتصادية التي تنمِتج حتما‬ ‫السيطرة السياسية‪ .‬أ ةّما أمريكا فإنها تحكمها طبقة الرأسماليين‬ ‫وأصحاب الموال الضخمة من شركات وأفراد‪ .‬والحكا‪،‬م أيا كانوا‬ ‫ومن أي حزب أتوا إ ةّنما يقومون بهذه المهمة‪ .‬وتغليف هذا الحكم‬ ‫بالشعبية‪ ،‬والتوسل إليه بالرأي العا‪،‬م إ ةّنما هو ناتج عن تكوين‬ ‫أمريكا نفسها من أنها مكونة من شعوب قررت مصيرها ول تزال‬ ‫حريصة على تقرير مصيرها‪ ،‬ولكن مهارة الرأسماليين‪ ،‬مع كون‬ ‫المبدأ الرأسمالي هو مبدأ الشعب المريكي‪ ،‬جعل هذا الرأي‬ ‫جد إل ةّ حكاما يكونون وكلء عن الرأسماليين‪ .‬ولذلك‬ ‫العا‪،‬م ل يو مِ‬ ‫فإن استعمارها تتجلى فيها الناحية الستغللية أي الناحية‬ ‫الستعمارية وهي فرض السيطرة‪ ،‬ل سيما السيطرة القتصادية‬ ‫التي تنتج حتما السيطرة السياسية‪ .‬وهي وإن كانت تشتغل‬ ‫‪-39-‬‬


‫بالناحية الفكرية والعلمية‪ ،‬ولكنها تشتغل فيها أداة للستغلل‪،‬‬ ‫وهي وإن كانت تعمل ليجاد المجد المريكي والعظمة المريكية‪،‬‬ ‫خر ذلك من أجل الستغلل المادي‪ ،‬أي من أجل مص‬ ‫ولكنها تس ةّ‬ ‫دماء الشعوب واستغلل ثرواتها‪.‬‬ ‫أ ةّما فرنسا فإن سياستها هي سياسة العظمة‪ ،‬والعظمة وإن‬ ‫كانت ل توجد إل ةّ بالقوى المادية والثروة القتصادية‪ ،‬ولكن الناحية‬ ‫الستعمارية فيها غير مقتصرة على فرض السيطرة العسكرية‬ ‫والقتصادية والسياسية‪ ،‬بل تضم إليها السيطرة الثقافية‪ ،‬وهي‬ ‫تتشبث بالسيطرة الثقافية والفكرية أكثر من تشبثها بالسيطرة‬ ‫العسكرية والسياسية والقتصادية‪ ،‬ولذلك فإنها حين اضطرت تحت‬ ‫القوة وتحت الضغط للتخلي عن السيطرة العسكرية فإنها حاولت‬ ‫أن تتشبث بالسيطرة القتصادية والسياسية‪ ،‬وحين ُأخرجت من‬ ‫مستعمراتها بالقوة والضغط الدولي‪ ،‬ظلت تتشبث بالسيطرة‬ ‫الثقافية والفكرية إلى أبعد حدود التشبث‪ ،‬ولذلك ل تزال تحاول‬ ‫البقاء على العلقات الثقافية مع البلدان التي كانت مستعمرات‬ ‫لها‪.‬‬ ‫فالسيطرة الثقافية هي أساس الستعمار الفرنسي‪ .‬وذلك‬ ‫أن فرنسا تعتبر نفسها هي أساس الثقافة في العالم‪ .‬فهي ترى‬ ‫أن فرنسا كانت في القرن التاسع عشر حين كان العالم ُيقبل على‬ ‫الثقافة‪ ،‬كانت فرنسا دار العالم الثقافية‪ ،‬وأن الفكر الفرنسي قد‬ ‫‪-40-‬‬


‫اتسع في كل مكان من خلل السياسة والفن والدب والتربية‪ ،‬وأن‬ ‫الثورة الفرنسية هي التي صاغت فكرة الحرية في العالم‪،‬‬ ‫وحملتها جيوش نابليون لكافة أنحاء أوروبا وإلى مصر وغيرها‪.‬‬ ‫وأن أمم أوروبا وأمريكا اللتينية استفادت من قانون نابليون‪ ،‬وأن‬ ‫اللغة الفرنسية قد سادت المؤتمرات الدولية‪ ،‬وأصبحت اللغة‬ ‫الفرنسية اللغة الثانية لكل متعلم‪ ،‬وأن فلسفة فرنسا ومفكريها‬ ‫وعلماءها وأدباءها قد برزوا في العالم بوصفهم رواد المعرفة‬ ‫النسانية والعلمية‪ .‬ولذلك فإن الناحية الثقافية هي من أغلى تراث‬ ‫فرنسا‪ .‬ومن أجل ذلك فإن علقات فرنسا الثقافية بالعالم هي‬ ‫أهم العلقات‪ ،‬وهي ل تقل أهمية في قوتها وغزوها عن‬ ‫الساطيل والجيوش والموال‪ .‬فهي رأس مال ها‪،‬م في الثروة‬ ‫الفرنسية‪ ،‬وفي الغزو الفرنسي‪ ،‬وفي الستعمار الفرنسي‪ .‬ومع‬ ‫أن هذه العلقة الثقافية لفرنسا قد طرأ في العالم ما يكفي‬ ‫لمحوها‪ ،‬ومع ذلك فإن فرنسا ل تزال تتشبث بها أيما تشبث‪.‬‬ ‫فبالرغم من أن فرنسا قد ضعفت اقتصاديا وسياسيا عما كانت‬ ‫عليه قبل الحرب العالمية الثانية‪ ،‬وبالرغم من أن اللغات الخرى‬ ‫كاللغة النجليزية مثل ع ً قد نازعت اللغة الفرنسية في المؤتمرات‬ ‫والمخابرات الدولية‪ ،‬وبالرغم من بروز التناقض بين الفكار‬ ‫الفرنسية والسلوك الفرنسي في المستعمرات‪ ،‬بالرغم من كل‬ ‫ذلك وغيره فإن فكرة سيادة الثقافة الفرنسية في العالم ل تزال‬ ‫‪-41-‬‬


‫متمركزة في نفس فرنسا‪ ،‬ول تزال تأخذ دور المسَّلمات البديهية‬ ‫في العقل الفرنسي‪ ،‬وصار مركبا نفسيا لدى فرنسا يتحكم في‬ ‫تصرفاتها السياسية‪.‬‬ ‫ومن هنا نجد أن الستعمار الفرنسي يزيد على كل استعمار‬ ‫بالسيطرة الثقافية‪ .‬وإنه وإن كانت السيطرة الثقافية موجودة في‬ ‫كل استعمار‪ ،‬لن الستعمار هو فرض السيطرة العسكرية‬ ‫عفة‪ ،‬وإنه إذا‬ ‫والقتصادية والسياسية والثقافية على البلد المستض حَ‬ ‫أكره على رفع السيطرة في واحدة من هذه السيطرات فإنه‬ ‫يتشبث بالسيطرات الخرى حتى آخر سيطرة‪ ،‬ولكن الستعمار‬ ‫الفرنسي يجعل التخلي عن السيطرة الثقافية غير قابل للبحث‬ ‫وغير قابل للتسليم‪ .‬ولذلك فإن الستعمار الفرنسي أفظع تأثيرا‬ ‫من كل استعمار‪.‬‬ ‫إن الستعمار الفرنسي كأي استعمار يعتمد في تركيز‬ ‫استعماره وفي تركيز نفوذه على القوة العسكرية والعمال‬ ‫السياسية والعوامل القتصادية والتضليل السياسي والفكري‪،‬‬ ‫ولكن الستعمار الفرنسي يزيد على كل استعمار بأنه يجعل‬ ‫الناحية الثقافية والفكرية ركيزة أساسية لستعماره‪ ،‬أي ركيزة‬ ‫لفرض سيطرته على كل بلد ل سيما البلد التي كانت مستعمرات‬ ‫له‪ .‬فالبرنامج الفرنسي في محطة الذاعة في بيروت‪ ،‬والمدارس‬ ‫الفرنسية في سوريا بما فيها لبنان‪ ،‬وفي البلد الفريقية التي كانت‬ ‫‪-42-‬‬


‫مستعمرات لها‪ ،‬وحتى في الهند الصينية‪ ،‬من المور التي تحرص‬ ‫عليها فرنسا كل الحرص‪ .‬ومع أن فرنسا تقلد أمريكا في‬ ‫المساعدات القتصادية وفي الصفقات التجارية‪ ،‬وتقلد انجلترا‬ ‫بمحاولة اصطناع العملء‪ ،‬ولكنها ل تع ةّول على ذلك وإن كانت‬ ‫لضعفها غير ناجحة فيه‪ .‬وتعويلها كله يتركز على العلقات الثقافية‬ ‫وعلى الصداقات التقليدية المبنية على اتحاد الفكار وتقاربها‪.‬‬ ‫ونظرا لضعف فرنسا وسقوطها عن مستوى الدول‬ ‫الستعمارية الخرى‪ ،‬فإنه يصعب وضع خطوط عريضة لسياستها‬ ‫تجاه آسيا وافريقيا‪ .‬وإنه وإن كان من الممكن وضع خطوط‬ ‫عريضة للسياسة الفرنسية في العالم‪ ،‬ولكن نظرا لعد‪،‬م وجود‬ ‫قدرة لفرنسا على التأثير في السياسة العالمية فإنه ليس من‬ ‫المهم وضع خطوط عريضة لهذه السياسة‪ .‬ويكفي أن ُيعلم أن‬ ‫سياسة فرنسا الساسية هي سياسة العظمة لُيفهم كل تصرف‬ ‫من تصرفاتها السياسية‪.‬‬ ‫واقع السياسة الروسية‬ ‫مرت السياسة الروسية في أربعة أدوار‪ ،‬هي‪ :‬السياسة‬ ‫الروسية في عهد القياصرة‪ ،‬وهذه كانت سياسة وطنية تقو‪،‬م على‬ ‫أمرين‪ :‬أحدهما المحافظة على روسيا‪ ،‬والثاني التوسع في حدود‬ ‫الدولة وفي نفوذها‪ .‬ثم جاءت السياسة الشيوعية بعد أن تسلم‬ ‫‪-43-‬‬


‫الحزب الشيوعي الحكم في روسيا‪ ،‬فصارت سياسة الدولة سياسة‬ ‫شيوعية تهدف إلى إيجاد الثورة العالمية ونشر الشيوعية في‬ ‫العالم‪ .‬ثم جاءت السياسة الروسية الشيوعية بعد وفاة لينين‬ ‫وتولي ستالين الحكم في روسيا‪ ،‬فأصبحت سياسة الدولة سياسة‬ ‫روسية شيوعية‪ ،‬تتخذ المحافظة على الدولة الروسية الساس‬ ‫الوحيد للسياسة‪ ،‬مع المحافظة على العمل للثورة العالمية ونشر‬ ‫الشيوعية‪ ،‬فالثورة العالمية ونشر الشيوعية ل تتأتى إل ةّ عن طريق‬ ‫روسيا وبالمحافظة عليها‪ ،‬فالمحافظة على دولة روسيا وتوسيعها‬ ‫ونشر نفوذها هو الذي يجب أن يكون واجب كل شيوعي أينما كان‬ ‫وواجب السياسة الشيوعية في كل أعمالها‪ .‬ولذلك يقول ستالين‪:‬‬ ‫"الثوري هو الشخص المستعد دون مواربة‪ ،‬ودون قيد أو شرط‪،‬‬ ‫وبكل شرف‪ ،‬أن يؤيد التحاد السوفياتي ويدافع عنه‪ ...،‬والدولي‬ ‫هو الشخص الذي ل يضع شرطا ول يتردد في الدفاع عن التحاد‬ ‫السوفياتي‪ ،‬لنه قاعدة للحركة الثورية العالمية‪ .‬ويستحيل الدفاع‬ ‫عن هذه الحركة‪ ،‬أو تقدمها‪ ،‬دون الدفاع عن التحاد السوفياتي"‪.‬‬ ‫ثم تحولت هذه السياسة إلى سياسة روسية بحتة تتخذ الشيوعية‬ ‫والحزاب الشيوعية وسائل للمحافظة على سياسة روسيا وتوسيع‬ ‫حدودها ونشر نفوذها‪ ،‬أي رجعت إلى سياسة روسيا القيصرية‪،‬‬ ‫مع فارق واحد فقط‪ ،‬هو أن روسيا القيصرية كانت تتخذ العمال‬ ‫السياسية والعمال العسكرية من أجل تنفيذ سياستها‪ ،‬أ ةّما التحاد‬ ‫‪-44-‬‬


‫السوفياتي حاليا فإنه يغ ةّلف العمال السياسية بغلف الشيوعية‬ ‫والشتراكية‪ ،‬ويتخذ العمال العسكرية وفقا لمتطلبات السياسة‬ ‫الدولية بغض النظر عما تتطلبه الشيوعية‪.‬‬ ‫وإذا كانت سياسة لينين‪ ،‬وسياسة ستالين‪ ،‬أي السياسة‬ ‫الشيوعية بمختلف أساليبها صارت تاريخا ولم تعد واقعا‪ ،‬فإنه ل‬ ‫فائدة من بحثها أو الحديث عنها‪ ،‬ولذلك فإن البحث ل بد أن ُيحصر‬ ‫جه الن‪،‬‬ ‫في سياسة التحاد السوفياتي الحالية‪ ،‬لنها هي التي توا حَ‬ ‫جه إلى أمد بعيد‪ ،‬حتى لو تغير‬ ‫وهي التي من المنتظر أن تظل توا حَ‬ ‫الحكا‪،‬م الحاليون وجاءت فئة أخرى‪ ،‬فإنه ليس من المنتظر أن‬ ‫تعود روسيا للسياسة الشيوعية‪ ،‬لن الفكرة الشيوعية فقدت‬ ‫زخمها في روسيا‪ ،‬وظهر عوارها للعالم‪ .‬وإذا حصل أي تغيير في‬ ‫سياسة التحاد السوفياتي الحالية‪ ،‬إذا تغيرت الفئة الحاكمة‬ ‫الحالية‪ ،‬فإ ةّنما يحصل في تخفيف تطبيق الشيوعية‪ ،‬وفي تخفيف أو‬ ‫تلطيف تغليف العمال السياسية بها‪ .‬ولذلك فإن مواجهة السياسة‬ ‫جه بوصفها سياسة روسيا‪ ،‬ل‬ ‫الخارجية للتحاد السوفياتي إ ةّنما توا حَ‬ ‫جه الشيوعية فيها كغلف للعمال‬ ‫سياسة دولة شيوعية‪ ،‬وتوا حَ‬ ‫السياسية أو على الكثر كأعمال سياسية ل كدعوة شيوعية تحملها‬ ‫دولة كبرى‪.‬‬ ‫وقبل البحث في سياسة التحاد السوفياتي ل بد من إعطاء‬ ‫لمحة خاطفة عن الشعب الروسي‪ ،‬لنه كما هو معروف‪ ،‬ل يوجد‬ ‫‪-45-‬‬


‫هناك شعب غير الدولة‪ ،‬وغير الحزب الحاكم‪ ،‬في أي بلد يحكم‬ ‫ل‪ ،‬وإ ةّنما الدولة هي الشعب‪ ،‬والشعب هو الدولة‪ .‬ولذلك‬ ‫نفسه فع ع ً‬ ‫فإنه حين يجري الحديث عن التحاد السوفياتي أي عن روسيا‪،‬‬ ‫إ ةّنما يجري عن الدولة باعتبارها الشعب‪ ،‬وعن الشعب باعتباره‬ ‫الدولة‪ ،‬ولذلك ل بد من إعطاء لمحة عن التحاد السوفياتي أي‬ ‫عن روسيا‪.‬‬ ‫والتحاد السوفياتي ليست لديه أية صفات خاصة به كما هي‬ ‫الحال في انجلترا أو أمريكا‪ ،‬فانجلترا تتميز بالذكاء وسعة الحيلة‪،‬‬ ‫وأمريكا تتميز بالخيال الخلق والرادة الب ةّناءة إلى جانب فكرة سد‬ ‫الذرائع )البراجماتز‪،‬م(‪ ،‬وإ ةّنما روسيا كسائر بلدان العالم أناس‬ ‫عاديون‪ ،‬ولكن توجد لديهم ما يوجد لدى المم الكبرى من الوطنية‬ ‫والشعور الذاتي الوجود المؤثر‪ ،‬ولديهم ما لدى المم الكبرى‬ ‫والدول الكبرى من حب السيطرة والغزو‪ .‬ولذلك ظلوا محافظين‬ ‫على وضعهم العالمي دولة كبرى كسائر الدول الكبرى‪ ،‬ل فرق‬ ‫في ذلك بين عهد القياصرة وعهد الحزب الشيوعي‪ .‬وإذا كان‬ ‫مبدؤهم الذي كانوا يعتنقونه هو المبدأ الرأسمالي‪ :‬فصل الدين‬ ‫عن الدولة‪ ،‬فإن الفكرة الشيوعية أو الفكرة الشتراكية الموجودة‬ ‫لديهم الن‪ ،‬والتي تسير سياستهم الخارجية بحسبها هي الفكرة‬ ‫ميت‬ ‫س ةّ‬ ‫الرأسمالية نفسها في مضمونها وفي السير بحسبها‪ ،‬وإن ُ‬ ‫فكرة اشتراكية أو فكرة شيوعية‪ ،‬فإنها مجرد تسمية‪ ،‬وهي عمليا‬ ‫‪-46-‬‬


‫آخذة بالتحول التدريجي إلى ما عليه الغرب من ترقيع فكرة‬ ‫الرأسمالية‪ .‬وسيظل التحاد السوفياتي يرقع الفكرة الشتراكية أو‬ ‫الفكرة الشيوعية عمليا إلى أن تصل إلى فكرة رأسمالية مرقعة‪،‬‬ ‫ل هي بالشتراكية الشيوعية‪ ،‬ول هي بالرأسمالية‪ .‬ولذلك يمكن‬ ‫القول إن التحاد السوفياتي هو مثل أمريكا ومثل انجلترا‪ ،‬دولة‬ ‫كبرى تسعى لحماية نفسها وللتوسع وبسط النفوذ‪.‬‬ ‫إل ةّ أن الحكم في روسيا ل تتوله الطبقة الرستقراطية‬ ‫جد فيه من تشاء لحماية وجودها ومصالحها كما هي الحال‬ ‫وتو مِ‬ ‫في انجلترا‪ ،‬ول ينتخبه الشعب حقيقة‪ ،‬ولكنه يكون وكيل ع ً عن‬ ‫الرأسماليين وأصحاب الثروة الضخمة كما هي الحال في أمريكا‪،‬‬ ‫بل الحكم في روسيا يتوله الحزب الشيوعي بالذات وليس مطلق‬ ‫حزب‪ .‬ولذلك فإن الدولة تكون دولة شيوعية مهما كان الشخاص‬ ‫الذين يتولون القيادة فيه‪ ،‬ما دا‪،‬م الحزب الشيوعي هو الذي يستأثر‬ ‫بالحكم‪ .‬ولذلك فإن الفكرة الشيوعية أو على الصح الفكرة‬ ‫الشتراكية ستظل هي المتحكمة في الدولة‪ ،‬وإن كانت ليست هي‬ ‫المتحكمة في السياسة الشيوعية‪.‬‬ ‫ذلك أن الساس الذي تقو‪،‬م عليه الدولة الروسية اليو‪،‬م أو‬ ‫التحاد السوفياتي هو فكرة الشتراكية أو الفكرة الشيوعية‪،‬‬ ‫والمجد الذي يتمتع به التحاد السوفياتي الن إ ةّنما هو المجد‬ ‫الشيوعي‪ ،‬والمجد الشتراكي‪ .‬ولذلك ستظل روسيا معروفة بأنها‬ ‫‪-47-‬‬


‫دولة شيوعية أو دولة اشتراكية‪ ،‬وستظل صفتها اللصقة بها هي‬ ‫الشيوعية أو الشتراكية‪ .‬صحيح أن الفكرة الشتراكية في روسيا‬ ‫موها تطويرا‪ ،‬ولكن هذه‬ ‫قد حصلت فيها تبديلت وتغييرات س ةّ‬ ‫التغييرات نتجت عن طريق اجتهادات في الفكرة نفسها‪ ،‬وفي‬ ‫أفكارها وأحكامها‪ ،‬وهي وإن نقلتها إلى فكرة مغايرة كل‬ ‫المغايرة لصلها‪ ،‬ولكنها ظلت بالنسبة للساس شيوعية أو‬ ‫اشتراكية بالسم وبأساس الجتهاد‪ .‬وهي ليست كالفكرة‬ ‫السلمية حين تولى الحكم معاوية وأوجد نظا‪،‬م ولية العهد‪ ،‬ول‬ ‫كالفكرة السلمية حين تولى العثمانيون قيادة الدولة وجعلوها‬ ‫دولة عثمانية أو تركية‪ ،‬بل هي على خلف ذلك تماما‪ .‬فالفكرة‬ ‫السلمية كانت تعتقدها ال ةّمة كلها عقيدة جازمة راسخة‪ ،‬ل فرق‬ ‫في ذلك بين عرب وفرس‪ ،‬ول بين ترك وهنود‪ ،‬ول بين أوروبيين‬ ‫أو آسيويين أو افريقيين‪ .‬ولذلك لم يؤثر عليها تصرفات الحكا‪،‬م‪،‬‬ ‫ولم تؤثر عليها السياسة الخارجية‪ ،‬بل لم يؤثر عليها زوال الدولة‬ ‫السلمية كلها زوال ع ً تاما ووقوع المسلمين تحت سيطرة أعدائهم‬ ‫الكفار عقودا أو قرونا زال فيها سلطان السل‪،‬م وسلطان‬ ‫المسلمين زوال ع ً تاما‪.‬‬ ‫أ ةّما الفكرة الشيوعية أو الفكرة الشتراكية فإنه لم تعتنقها‬ ‫ال ةّمة وإ ةّنما اعتنقها أفراد وإن بلغ عددهم المليين‪ ،‬وُنفذت على‬ ‫الناس بالحديد والنار ل بالطوع والرضاء والختيار‪ ،‬ولذلك ل تعتبر‬ ‫‪-48-‬‬


‫ال ةّمة الروسية أ ةّمة شيوعية أو اشتراكية‪ ،‬وهذا بخلف ال ةّمة‬ ‫السلمية فإنها تعتبر أ ةّمة إسلمية ولو تقسمت إلى عدة دول‪ ،‬ولو‬ ‫ظهرت كعدة شعوب‪.‬‬ ‫ومن هنا ل يصح أن يعتبر التحاد السوفياتي دولة شيوعية أو‬ ‫اشتراكية إلى البد‪ ،‬كما هي الحال في انجلترا وأمريكا‪ ،‬وإ ةّنما تعتبر‬ ‫دولة شيوعية ما دا‪،‬م الحزب الشيوعي هو الذي يتولى الحكم فيها‪.‬‬ ‫إنه وإن كانت السياسة السوفياتية قد رجعت إلى سياسة‬ ‫روسيا القيصرية‪ ،‬مع فارق واحد هو أن التحاد السوفياتي يغلف‬ ‫العمال السياسية بالغلف الشيوعي‪ ،‬ولكن هذا الفارق نفسه هو‬ ‫الذي يجعل السياسة السوفياتية سياسة متميزة عن سائر‬ ‫السياسات‪ ،‬وإن كان أساسها هو نفس الساس القيصري‪ ،‬وهو‬ ‫المحافظة على التحاد السوفياتي‪ ،‬وتوسيع رقعته وبسط نفوذه‪.‬‬ ‫جه على أنها سياسة دولة شيوعية ل سياسة‬ ‫ولذلك ل بد أن توا حَ‬ ‫جه على أنها سياسة دولة كبرى مثل سياسة‬ ‫روسيا القيصرية‪ ،‬وتوا حَ‬ ‫أمريكا سواء بسواء‪ .‬ومن هنا كان ل بد أن ُترسم خطوط عريضة‬ ‫لسياستها الدولية‪ ،‬أي سياسة المحافظة على كيانها وتوسيع‬ ‫رقعتها‪ ،‬ولن ُترسم خطوط عريضة لسياستها بالنسبة لسيا‬ ‫وافريقيا‪.‬‬ ‫والخطوط العريضة لسياسة التحاد السوفياتي الدولية‪ ،‬أو‬ ‫لسياسته لحماية بلده وللتوسع السوفياتي تتلخص في الخطوط‬ ‫‪-49-‬‬


‫العريضة التالية‪:‬‬ ‫ل‪ :‬إبقاء سيطرته كاملة على دول أوروبا الشرقية التي‬ ‫أو ع ً‬ ‫يسيطر عليها الن‪ ،‬وتمكين هذه السيطرة تمكينا تاما بحيث يتعسر‬ ‫أو يتعذر على أية دولة من دول أوروبا الشرقية النفلت من‬ ‫قبضته‪ .‬ولذلك فإنه من الخطأ أن يظن أحد أن رومانيا تحاول‬ ‫الخروج من قبضته‪ ،‬بل هي تسير بالتفاق معه في سياسة التحرر‬ ‫والنفتاح‪ ،‬ومن غير المحتمل أن تسير ألمانيا الشرقية في سياسة‬ ‫التقارب مع ألمانيا الغربية من أجل وحدة الشعب اللماني‪ ،‬بل‬ ‫هي تسير حسب مخططات مرسومة لبعاد الوحدة عن ألمانيا‪،‬‬ ‫ولتركيز النقسا‪،‬م تركيزا أبديا‪ ،‬ولتنفيذ سياسة إيجاد منطقة منزوعة‬ ‫السلح في وسط أوروبا‪ .‬وإذا كان قد انزلق وأخطأ في جعل‬ ‫النمسا دولة محايدة‪ ،‬فإنه ل يسمح لهذا الحياد أن ينقلها من دائرة‬ ‫السيطرة السوفياتية‪ ،‬أو يقربها من دول أوروبا الغربية‪ .‬وسياسته‬ ‫هذه ليست جديدة‪ ،‬بل هي سياسة قديمة‪ ،‬فالروس يرون منذ‬ ‫القديم أنه ل يمكن الطمئنان إلى حماية حدودهم الغربية إل ةّ إذا‬ ‫كانت دول أوروبا الشرقية تحت نفوذهم‪ ،‬وإذا كانت غزوة نابليون‬ ‫لروسيا قد جعلت هذا الخطر ملموسا لدى الروس‪ ،‬فإن غزوة‬ ‫هتلر لروسيا في الحرب العالمية الثانية قد أكدت وجود هذا الخطر‬ ‫مقته في نفوسهم‪ ،‬ولذلك فإنهم إذا جاز أن يتساهلوا في‬ ‫وع ةّ‬ ‫شيء فإنهم لن يتساهلوا في إبقاء دول أوروبا الشرقية تحت‬ ‫‪-50-‬‬


‫سيطرتهم وفي قبضة أيديهم‪ ،‬ولو أدى ذلك إلى خوض حرب‬ ‫عالمية من أجله‪.‬‬ ‫ثانيا‪ :‬إبقاء الصين دون مستواهم‪ ،‬وفي وضع ل يرتفع إلى‬ ‫مستوى تشكيل خطر عليهم‪ .‬وإذا كانت روسيا في سبيل استرضاء‬ ‫الصين قد أزالت السيطرة السوفياتية عن منشوريا‪ ،‬وص ةّفت‬ ‫الشركات المشتركة‪ ،‬وأعادت سيادة الصين كاملة على دارين‬ ‫وبورت آرثر‪ ،‬فإنها لن تسمح باعادة الراضي الصينية الواسعة التي‬ ‫اقتطعتها روسيا من الصين أيا‪،‬م القياصرة‪ .‬وحين طلبت من الصين‬ ‫عقد معاهدة حسن جوار لحل المشاكل بينهما بالوسائل السلمية‪،‬‬ ‫فإنما قصدت تقييد الصين بقيود هذه المعاهدة حتى ل تدخل‬ ‫معها حربا في سبيل استرجاع تلك الراضي والبلد‪ .‬وبعد أن‬ ‫أصبحت الصين تسير في طريق القوة‪ ،‬وضعت روسيا الخطر‬ ‫الصيني في مقدمة سياستها الخارجية‪ .‬ومن أجل وقاية الخطر‬ ‫الصيني أجرت التفاق مع أمريكا على وضع الصين‪ ،‬ووضع الشرق‬ ‫القصى برمته‪.‬‬ ‫ثالثا‪ :‬إبقاء البلدان المحيطة بالصين تحت متناول يدها‪ ،‬إما‬ ‫بوجودها تحت الشراف عليها ككوريا الشمالية وفيتنا‪،‬م الشمالية‪،‬‬ ‫وإما في وضع غير معا ٍد لها‪ ،‬ووضع ل يجعل للصين سيطرة عليها‪.‬‬ ‫وما كانت حوادث فيتنا‪،‬م التي سميت حربا من أجل التضليل‪ ،‬وحتى‬ ‫وضع بقية بلدان الهند الصينية مثل لوس وكمبوديا إل ةّ من أجل‬ ‫‪-51-‬‬


‫كبح الخطر الصيني أو إبعاده وإضعافه‪.‬‬ ‫رابعا‪ :‬جعل أوروبا الغربية في حال ضعف دائم‪ ،‬والحيلولة‬ ‫دونها ودون أن تصبح قوية بحيث تشكل خطرا عليها‪ ،‬ولذلك ل‬ ‫تكتفي بالعناية في التوازن الدولي بين دول أوروبا الغربية بحيث ل‬ ‫تسيطر دولة واحدة عليها كما كانت حال أمريكا قبل الحرب‬ ‫العالمية الثانية‪ ،‬بل تتجاوز ذلك إلى مراقبة دولها‪ ،‬ومراقبة السوق‬ ‫الوروبية المشتركة‪ ،‬والحيلولة دون تكتيل دول أوروبا‪.‬‬ ‫خامسا‪ :‬إضعاف انجلترا‪ ،‬والحيلولة دون أن تعود دولة كبرى‪،‬‬ ‫وتصفية القواعد النجليزية في العالم كله‪ ،‬وتصفية استعمارها في‬ ‫العالم‪ ،‬وإضعاف مركزها في الهند‪ .‬فكما أنها ترى أن الصين‬ ‫تشكل خطرا عليها‪ ،‬فإنها ترى قبل ذلك وبعد ذلك‪ ،‬أن الخطر‬ ‫الحقيقي من الغرب إ ةّنما يأتي من انجلترا‪ .‬فانجلترا هي التي كانت‬ ‫تؤ ةّلب العالم على روسيا‪ ،‬ول تزال تؤ ةّلب العالم عليها‪ .‬وانجلترا هي‬ ‫التي أدخلت أمريكا في الحرب العالمية الولى والثانية‪ ،‬وهي التي‬ ‫كانت وراء الحرب الباردة التي كانت ناشبة بين المعسكر الشرقي‬ ‫والمعسكر الغربي‪ .‬ولذلك فإن التحاد السوفياتي يعتبر النجليز‬ ‫خطرا دائميا عليه‪.‬‬ ‫سادسا‪ :‬مراقبة سياسة أمريكا وتت ةّبعها‪ ،‬وحصر الموقف‬ ‫الدولي بينها وبين أمريكا‪ ،‬وعد‪،‬م عودة انجلترا وفرنسا للشتراك‬ ‫في المشاكل الدولية‪ ،‬وإبقاء العالم تحت سيطرتها وسيطرة‬ ‫‪-52-‬‬


‫أمريكا‪ ،‬وحل المشاكل العالمية بالمشاركة بينها وبين أمريكا‪.‬‬ ‫هذا بالنسبة لسياستها الدولية‪ ،‬أي بالنسبة لسياسة الحماية‬ ‫لبلدها‪ .‬أ ةّما بالنسبة لسياستها تجاه التوسع الشيوعي أو على‬ ‫الصح توسع رقعتها وبسط نفوذها‪ ،‬فإنها بعد اتفاقها مع أمريكا‬ ‫صار التوسع وبسط النفوذ يأخذ شكلين متمايزين‪ :‬أحدهما التوسع‬ ‫الشيوعي‪ ،‬والثاني بسط النفوذ‪ .‬أ ةّما بالنسبة للتوسع الشيوعي فإن‬ ‫سياستها فيه غير محدودة وغير مقيدة‪ ،‬فما دامت هذه السياسة ل‬ ‫تنتقل إلى الخلل بما اتفقت عليه مع أمريكا‪ ،‬أي ل تنتقل إلى‬ ‫توسيع نفوذها في المناطق الممنوعة من أن يكون لها نفوذ فيها‪،‬‬ ‫فإنها تقو‪،‬م بالتوسع الشيوعي حسب ما تريد‪ .‬ولذلك فإن سياستها‬ ‫الشيوعية أوسع مجال ع ً من سياسة بسط النفوذ‪ .‬والخطوط‬ ‫العريضة لسياستها الشيوعية تتلخص بما يلي‪:‬‬ ‫ل‪ :‬اتخاذ الحزاب الشيوعية في العالم وسيلة لنشر‬ ‫أو ع ً‬ ‫الشيوعية في أي مكان‪ ،‬ل فرق بين أوروبا وآسيا‪ ،‬ول بين افريقيا‬ ‫وأمريكا‪ .‬فالحزاب الشيوعية ترتبط بروسيا الدولة وبالحزب‬ ‫الشيوعي الروسي ارتباطا وثيقا‪ ،‬وتمدها روسيا بكل شيء‪،‬‬ ‫بالسند السياسي‪ ،‬وبالمداد الثقافي‪ ،‬والعون المالي‪ ،‬ورعاية‬ ‫المصالح الحزبية والفكرية‪ ،‬ل فرق في ذلك بين أن تكون هذه‬ ‫الحزاب في الحكم مثل التشيلي وكوبا‪ ،‬أو لم تكن في الحكم مثل‬ ‫الحزاب الشيوعية في أوروبا وافريقيا والهند وسائر بلد آسيا‪.‬‬ ‫‪-53-‬‬


‫ثانيا‪ :‬المساعدات العسكرية والقتصادية التي تمنحها للبلد‬ ‫غير الشيوعية ل سيما البلد المتخلفة‪ ،‬ل فرق في ذلك بين البلد‬ ‫التي هي من مجال أمريكا مثل كوبا ومصر وبين البلد التي لها‬ ‫حق التوسع فيها مثل بعض البلدان الفريقية‪ .‬ويتبع هذه‬ ‫المساعدات وجود الخبراء أو المستشارين الروس‪ .‬فهذه‬ ‫المساعدات وهؤلء المستشارون تتخذهم روسيا وسيلة لنشر‬ ‫الفكار الشيوعية‪ .‬ومن هنا نجد أنها تحاول نشر الشيوعية وتشجيع‬ ‫المنظمات الشتراكية‪ ،‬حتى في البلد التي ل تجازف فيها ليجاد‬ ‫دول شيوعية فيها مثل السودان والعراق‪ ،‬وحتى في البلد التي ل‬ ‫تأمل أن يكون لها فيها نفوذ مثل تشيلي وكوبا‪.‬‬ ‫ثالثا‪ :‬الكتب والنشرات الشيوعية‪ ،‬والمطابع ودور العلم‬ ‫جم وُتطبع في روسيا نفسها‪ .‬وهي وإن‬ ‫والكتب والنشرات التي تتر حَ‬ ‫كانت ل تعتمد اعتمادا كليا على مراكز ثقافية لها كما هي الحال‬ ‫في مكاتب المعلومات الميركية‪ ،‬وإن كانت ل تتخذ الثقافة وسيلة‬ ‫للسيطرة الثقافية‪ ،‬ولكنها تحاول عن قصد تثقيف المليين بالثقافة‬ ‫الشيوعية والشتراكية بشتى الوسائل ومختلف الساليب‪.‬‬ ‫رابعا‪ :‬اتخاذ النجازات السوفياتية مثل أمور الفضاء‪ ،‬والتفوق‬ ‫السوفياتي‪ ،‬والوقوف بجانب البلد الخرى في هيئة المم‪ ،‬وسائل‬ ‫لنشر الشيوعية‪ ،‬وبيان أهميتها‪ .‬وتجعل من تقد‪،‬م روسيا وانتقالها‬ ‫من دولة كبرى‪ ،‬دولة عادية إلى عملق عالمي‪ ،‬وسيلة لفها‪،‬م‬ ‫‪-54-‬‬


‫الناس أن هذا راجع للفكرة الشيوعية وللتطبيق الشتراكي‪.‬‬ ‫خامسا‪ :‬تتبنى فكرة التحرر من الستعمار‪ ،‬ومهاجمة‬ ‫الستعمار والمبريالية‪ ،‬وتنشر هذه الفكار بوصفها أفكارا شيوعية‬ ‫أو أفكارا اشتراكية‪ ،‬وتجعل من احتضان الناس لها وإقبالهم عليها‬ ‫أداة لحتضان الفكار الشيوعية والقبال عليها‪.‬‬ ‫عحَوز‪ ،‬والظلم الجتماعي‬ ‫سادسا‪ :‬تغتنم فرصة وجود الفقر وال حَ‬ ‫والظلم السياسي في بعض البلدان‪ ،‬وتطرح الفكرة الشيوعية‬ ‫كعلج لهذه المشاكل‪ ،‬وكأداة لتحرير الشعوب والمم وإنقاذها من‬ ‫براثن الجوع والمرض والجهل‪ ،‬وتطرحها كأفكار سياسية ل كأفكار‬ ‫جد لها سوقا حتى لدى البعض‬ ‫عن وجهة النظر في الحياة‪ ،‬مما يو مِ‬ ‫من المتدينين‪.‬‬ ‫هذه أهم سياساتها في نشر الشيوعية‪ ،‬وهي وإن كانت‬ ‫وسائل تستعملها كذلك لبسط النفوذ والتغلغل في البلد غير‬ ‫الشيوعية‪ ،‬ولكن روسيا تستعمل هذه المور في جميع بلدان‬ ‫العالم‪ ،‬ل فرق في ذلك بين البلدان التي ل يحق لها‪ ،‬حسب اتفاقها‬ ‫مع أمريكا‪ ،‬أن تتوسع فيها‪ ،‬ول بين البلدان التي يحق لها فيها‬ ‫التوسع وبسط النفوذ‪.‬‬ ‫أ ةّما الخطوط العريضة التي تسير عليها في بسط نفوذها‬ ‫والتغلغل الشيوعي في البلدان التي يحق لها فيها التوسع والنفوذ‪،‬‬ ‫فإنها تتلخص فيما يلي‪:‬‬ ‫‪-55-‬‬


‫‪ -1‬توجيه جميع مقومات الصراع السياسية والقتصادية‬ ‫والعسكرية نحو هد‪،‬م العلقات الدولية وعلقات المجتمع‪،‬‬ ‫وتحويلها من علقات رأسمالية أو علقات إسلمية إلى علقات‬ ‫اشتراكية‪ ،‬ومحاولة إيجاد تكتلت يسارية تكون لها السيطرة‬ ‫السياسية أو القتصادية في البلد‪ .‬وما تقو‪،‬م فيه في بعض البلدان‬ ‫الفريقية والسيوية دليل حي على ذلك‪.‬‬ ‫‪ -2‬إيجاد الجبهات الوطنية في بعض البلدان‪ ،‬فتمد الحزاب‬ ‫الشيوعية في البلد بنفوذها‪ ،‬ومالها‪ ،‬من أجل أن يتغلغلوا في‬ ‫الحزاب والتكتلت الخرى‪ ،‬ليسيطروا عليها ويوجهوها ليجاد حكم‬ ‫اشتراكي‪ ،‬أو حكم رأسمالي موجه من روسيا عن طريق الحزاب‬ ‫الشيوعية والتكتلت اليسارية‪ ،‬وإدخال الحزاب الشتراكية غير‬ ‫الشيوعية‪ ،‬ونظم الحكم الشتراكية‪ ،‬في مجال السناد والدفاع‪،‬‬ ‫ومحاولة ربط بعض البلدان بها عن طريق السناد والدفاع‬ ‫والمساعدات‪.‬‬ ‫‪ -3‬إيجاد التناقضات بين أبناء الشعب‪ ،‬وتحويل ال ةّمة إلى‬ ‫طبقات اقتصادية‪ ،‬وجعل التخريب بجميع أنواعه من مظاهرات‪،‬‬ ‫وإضرابات‪ ،‬وحوادث عنف‪ ،‬وغير ذلك‪ ،‬وسائل لزعزعة كيان البلد‬ ‫وج ةّرها إلى نفوذها أو إلى سيطرتها‪ ،‬وإيجاد الكراهية والبغضاء‬ ‫بين الناس‪.‬‬ ‫‪ -4‬محاربة الفكار القومية‪ ،‬والدينية‪ ،‬مع تشجيع الفكرة‬ ‫‪-56-‬‬


‫الوطنية‪ ،‬وبث اليسارية بجميع أشكالها‪ ،‬وجعل التقدمية‪ ،‬والتحرر‪،‬‬ ‫والشتراكية‪ ،‬أفكارا مثالية‪ ،‬ومثل ع ً أعلى ُيسعى للوصول إليه في‬ ‫البلد‪ ،‬وجعل النجازات السوفياتية التكنولوجية والقتصادية التي‬ ‫حققتها روسيا‪ ،‬أمثلة على نجاح التقدمية والشتراكية‪.‬‬ ‫هذه أهم الخطوط العريضة لنشر النفوذ الشيوعي في‬ ‫البلد‪ ،‬إلى جانب الخطوط العريضة لنشر الشيوعية‪ .‬وإذا كانت‬ ‫روسيا قد اتخذت نفسها زعيمة الشيوعية‪ ،‬وهي تحاول أن تكون‬ ‫هي قائدة البلد الشيوعية كلها‪ ،‬فإنها كذلك قد اتخذت نفسها‬ ‫زعيمة التقدمية والتحرر‪ ،‬وإسعاد المجتمعات‪ ،‬والخذ بيد الضعفاء‪.‬‬ ‫ولذلك تتغلغل في البلد الشيوعية بشتى الوسائل والساليب‬ ‫لضمان تبعية الشيوعية لها أنى ُوجدت‪ ،‬وتتغلغل في البلد غير‬ ‫الشيوعية بشتى الوسائل ومختلف الساليب لفرض سيطرتها عليها‬ ‫وإيجاد النفوذ السياسي أو القتصادي أو العسكري عليها‪ .‬كل ذلك‬ ‫من أجل السيطرة ومن أجل جعل هذه السيطرة متحكمة‬ ‫ومتأصلة في البلد‪.‬‬ ‫وإذا كانت روسيا تحاول تنزيه نفسها عن الستعمار‪ ،‬وت ةّدعي‬ ‫مقاومة الستعمار‪ ،‬ونشر فكرة التحرر والتحرير‪ ،‬ولكنها في‬ ‫الواقع‪ ،‬بعد أن تركت الدعوة الشيوعية واتخذت سياسة جديدة لها‪،‬‬ ‫فإنها بسعيها لبسط النفوذ‪ ،‬إ ةّنما تقو‪،‬م بما تقو‪،‬م به الدول‬ ‫الستعمارية‪ .‬فإن الدول الستعمارية تسعى الن لفرض السيطرة‬ ‫‪-57-‬‬


‫عفة‬ ‫القتصادية والسياسية والثقافية على البلد المستض حَ‬ ‫لستغللها‪ ،‬أ ةّما روسيا فإنها تسعى لبسط السيطرة على البلد‬ ‫عفة ليجاد نفوذ لها فيها‪ .‬وإنه وإن كان وجه الستغلل‬ ‫المستض حَ‬ ‫القتصادي ليس هو البارز كما هي الحال في الدول الستعمارية‪،‬‬ ‫ولكن بسط النفوذ يتجلى بكل وضوح‪.‬‬ ‫هذه هي السياسة السوفياتية‪ ،‬فل بد أن ُتفهم على هذا‬ ‫الوجه‪ ،‬فهي ليست سياسة حمل الدعوة الشيوعية‪ ،‬بل سياسة‬ ‫دولة كبرى تسعى للتوسع وبسط النفوذ‪ .‬وإذا ُفهمت على هذا‬ ‫الوجه‪ ،‬فإنه يمكن حينئذ اتقاء شرها‪ ،‬والوقوف في وجهها‪ ،‬بل‬ ‫كم توجيه الضربة لها‪.‬‬ ‫يمكن ضربها ضربة قاضية‪ ،‬ل سيما إذا ُأح مِ‬ ‫المشاكل الدولية‬ ‫إن الصراع بين الدول أمر طبيعي وحتمي‪ ،‬فاختلف المصالح‬ ‫بين الشعوب والمم واقع ل يمكن تغييره‪ ،‬وصراع الناس على‬ ‫المصالح‪ ،‬سواء كانت مصالح عامة أو مصالح خاصة‪ ،‬ل يمكن أن‬ ‫يزول‪ ،‬لن الختلف في الفكار وعلى الفكار طبيعي وحتمي‪،‬‬ ‫وكذلك فإن طرق العيش بين الناس مختلفة‪ ،‬ول تزال مختلفة‪،‬‬ ‫وستظل مختلفة حتى قيا‪،‬م الساعة‪ .‬ولذلك ل بد أن يوجد الصراع‬ ‫على الفكار‪ ،‬وعلى طريقة العيش‪ ،‬وعلى المصالح‪ ،‬بين الشعوب‬ ‫والمم‪ ،‬أي بين الدول بعضها مع بعض‪ .‬إل ةّ أن هذا الصراع يأخذ‬ ‫‪-58-‬‬


‫أشكال ع ً عديدة‪ ،‬فيأخذ الناحية السياسية‪ ،‬ويأخذ الناحية القتصادية‪،‬‬ ‫ويأخذ الناحية العسكرية‪ .‬وإذا كان التنافس في التجارة‪ ،‬والتنافس‬ ‫هد كل وقت بين الفراد وبين الدول‪ ،‬فإن‬ ‫المالي في النقود‪ ،‬يشا حَ‬ ‫هذا التنافس قد يتحول إلى صراع‪ ،‬وقد يتحول هذا الصراع إلى‬ ‫حروب‪ .‬وإذا كان الناس بطبيعتهم يكرهون الحرب ويحاولون حل‬ ‫المشاكل التي بينهم بالوسائل السلمية‪ ،‬فإن ما يكرهونه ل بد أن‬ ‫ُيكحَرهوا عليه‪ .‬ولذلك فإن الحروب بين الناس أمر ل بد أن يقع‪،‬‬ ‫ومهما حاول الناس البتعاد عن هذه الحروب‪ ،‬فإنهم ل‬ ‫يستطيعون ذلك‪ ،‬لن آخر الدواء الكي‪ ،‬ولن العقدة إذا استعصى‬ ‫حلها ل بد أن ُتقطع بالسلح‪ .‬ومن هنا ل بد أن ُيلجأ إلى السلح‬ ‫في آخر المر‪ ،‬فل بد أن تقع الحروب بين الناس‪.‬‬ ‫إل ةّ أن الذي ليس بطبيعي‪ ،‬وليس بحتمي‪ ،‬هو إجماع جميع‬ ‫بني البشر أن يشتركوا في حرب واحدة في وقت واحد‪ ،‬أي أن ما‬ ‫ليس بطبيعي وما ليس بحتمي هو الحروب العالمية‪ ،‬وإذا كان‬ ‫هناك من تفكير يمكن أن ُينمِتج ثمرة‪ ،‬ويمكن أن يصمِلح البشر‪ ،‬فإنه‬ ‫التفكير في منع الحروب العالمية والوقوف في وجه إمكانيتها‪.‬‬ ‫فالسل‪،‬م الذي يجب أن ُيسعى إليه إ ةّنما هو السل‪،‬م العالمي‪ ،‬أ ةّما‬ ‫السل‪،‬م من حيث هو‪ ،‬أي السل‪،‬م بين المم والشعوب‪ ،‬أي بين‬ ‫الدول‪ ،‬فإن السعي إليه وإن كان من المور المستحسنة‪ ،‬ولكنه ل‬ ‫يمكن تحقيقه بشكل دائم‪ ،‬بل ل بد من وقوع الحرب‪ ،‬ولذلك كان‬ ‫‪-59-‬‬


‫من الخطأ أن يفكر أحد في منع الحروب‪.‬‬ ‫أ ةّما فكرة الحرب العالمية‪ ،‬فإن الذي أوجدها هو انجلترا‬ ‫بالذات‪ ،‬أو بعبارة أخرى الشعوب الصغيرة البلد‪ ،‬القليلة العدد‪.‬‬ ‫فإنها في سبيل حمايتها من المم التي هي أقوى منها لجأت إلى‬ ‫أمم أخرى وشعوب أخرى‪ ،‬فأغرتها بالشتراك معها‪ ،‬واضطرت‬ ‫المم الخرى أن تكتل معها شعوبا وأمما أخرى‪ ،‬فنتج عن ذلك‬ ‫اشتراك عدة دول في الدخول في حرب مع عدة دول‪ ،‬ونتج عن‬ ‫ذلك اشتراك أكثر دول العالم في الدخول في حرب واحدة‪ ،‬فكان‬ ‫ما يسمى بالحرب العالمية‪ .‬وأصل ذلك أن انجلترا في سبيل أن‬ ‫تقف في وجه نابليون قد جمعت عدة دول لمحاربته حتى‬ ‫ما سيطرت الدولة العثمانية على أكثر أجزاء‬ ‫أخضعته‪ ،‬وكذلك ل ةّ‬ ‫العالم‪ ،‬وافتتحت أكثر بلد أوروبا‪ ،‬جمعت الشعوب والمم الوروبية‬ ‫نفسها في كتلة واحدة ضد الدولة العثمانية حتى دحرتها وأخرجتها‬ ‫من أوروبا‪ ،‬ثم تحول ذلك إلى وقوع الحرب العالمية الولى‪ ،‬ثم‬ ‫الحرب العالمية الثانية‪ .‬ففكرة الحرب العالمية ليست فكرة قديمة‪،‬‬ ‫ول هي فكرة طبيعية في البشر‪ ،‬بل هي فكرة طارئة‪ ،‬وفكرة‬ ‫خبيثة‪ ،‬ولذلك فإنه يمكن معالجتها‪ ،‬ويمكن‪ ،‬بل تجب معالجتها‬ ‫العلج الناجع‪ ،‬حتى ل يقع العالم مرة أخرى في حرب عالمية‪ ،‬ول‬ ‫سيما بعد وجود السلح النووي‪.‬‬ ‫أ ةّما طريقة معالجتها فهي الحيلولة دون وجود التكتلت‬ ‫‪-60-‬‬


‫العسكرية بين الدول‪ ،‬والحيلولة دون المحالفات العسكرية لكثر‬ ‫من دولتين‪ .‬أ ةّما كيفية هذه المعالجة فإنها تأتي عن جعل التكتلت‬ ‫العسكرية عيبا وعارا في نظر الشعوب والمم‪ ،‬وبالتالي في‬ ‫اصطلح الدول‪ ،‬وذلك عن طريق إيجاد رأي عا‪،‬م ضد هذه‬ ‫التكتلت‪ .‬والمحالفات العسكرية لكثر من دولتين هي تكتلت‬ ‫عسكرية فتدخل تحت فكرة التكتلت‪ .‬وإذا ُوجد رأي عا‪،‬م قوي‬ ‫لدى أكثرية الشعوب والمم‪ ،‬فإنه ول شك تمتنع الدول عن الدخول‬ ‫في التكتلت العسكرية‪ ،‬أو يضعف أثر هذه التكتلت إن ُوجدت‪.‬‬ ‫وأقرب دليل ما حصل لحلف بغداد في الشرق الوسط في‬ ‫الخمسينات‪ ،‬والحلف التي أقامتها أمريكا في العالم في‬ ‫الخمسينات‪ .‬فإن هذه الحلف‪ ،‬أو هذه التكتلت قد ُوجدت‬ ‫حب‬ ‫للسيطرة الستعمارية وللوقوف في وجه روسيا‪ .‬ولكن ما صا حَ‬ ‫وجودها من دعايات ضدها‪ ،‬أوجد رأيا عاما بأن الدخول فيها هو‬ ‫ج ةّر للشعوب لن تقد‪،‬م نفسها قربانا لحماية الستعمار‪ ،‬وقد انتشر‬ ‫هذا الرأي العا‪،‬م بشكل كاسح‪ ،‬رغم قوة الدول التي أوجدت هذه‬ ‫الحلف‪ ،‬وبذلك أحجم كثير من الدول عن الدخول فيها‪ ،‬وصارت‬ ‫شعوب الدول التي دخلتها ضد هذه الحلف‪ ،‬وناقمة على دولها‬ ‫التي دخلتها‪ ،‬فأدى هذا إلى إضعاف هذه التكتلت‪ ،‬وعد‪،‬م وجود‬ ‫فاعلية لها حتى تلشت وأصبحت كأنها غير موجودة‪ ،‬ولو أحجمت‬ ‫دول أوروبا عن التحالف مع انجلترا في الحرب العالمية الولى‪،‬‬ ‫‪-61-‬‬


‫ولو أحجمت أمريكا عن الدخول في التحاف في الحرب العالمية‬ ‫الثانية حَلما ُوجدت هاتان الحربان‪ .‬ولهذا فإن الطريقة الوحيدة‬ ‫للحيلولة دون وجود التكتلت العسكرية وبالتالي الوسيلة الوحيدة‬ ‫للحيلولة دون نشوب حرب عالمية في العالم هي عد‪،‬م التكتل‬ ‫الدولي‪ ،‬وعد‪،‬م وجود محالفات بين أكثر من دولتين‪.‬‬ ‫أ ةّما حل المشاكل بين الدول‪ ،‬وحماية الدول بعضها مع‬ ‫بعض‪ ،‬فإنه ل يصح أن يكون بجعل دولة كبرى أو أكثر تقو‪،‬م بعمل‬ ‫البوليس الدولي‪ ،‬كما كانت الحال بالنسبة لنجلترا وفرنسا في‬ ‫القرن التاسع عشر‪ ،‬وبالنسبة لمريكا في النصف الثاني من القرن‬ ‫العشرين‪ ،‬فإن هذا يعني فرض سيطرة دولة على دولة‪ ،‬ويعني‬ ‫استعمال سلح الرهاب في وجه الشعوب والمم‪ ،‬وهذا مما ل‬ ‫يجوز أن يكون‪ ،‬وكذلك ل يصح أن يكون بإيجاد هيئة من الدول لها‬ ‫سلطة ايقاع العقوبات على من ل ينصاع لرأيها في حل المشاكل‪،‬‬ ‫فإن هذا فوق كونه يعني إيجاد دولة عالمية فوق الدول‪ ،‬وهو ما‬ ‫ل يمكن أن يكون‪ ،‬ومما يسبب خلق المشاكل عن طريق محاولة‬ ‫حلها‪ ،‬فإنه ل يصلح أداة لحل المشاكل‪ ،‬ول يتأتى معه حل‬ ‫المشاكل بين الناس بالرضى والختيار‪.‬‬ ‫إن العلقات بين الدول هي كالعلقات بين الفراد‪ ،‬ل بد أن‬ ‫تكون معالجاتها على وجه يرفع النزاع بينها‪ .‬أي ل بد أن يكون‬ ‫بعرف عا‪،‬م مسيطر ينظم هذه العلقات‪ ،‬وحينئذ تكون المشكلة‬ ‫‪-62-‬‬


‫من مخالفة هذا العرف العا‪،‬م‪ ،‬أو من زعم وادعاء مخالفته‪.‬‬ ‫فعلجه هو رد الدولتين أو الدول المتفقة على هذا العرف لما‬ ‫اتفقتا عليه من قبل من أفكار وآراء بشأن المشكلة التي أوجدت‬ ‫النزاع‪.‬‬ ‫فمثل ع ً مشاكل الحماية من العدوان‪ ،‬كمشكلة ألمانيا بالنسبة‬ ‫لكل من روسيا وفرنسا‪ ،‬ومشكلة روسيا أو اليابان بالنسبة للصين‪،‬‬ ‫ومشكلة الوليات المتحدة بالنسبة لكندا وأمريكا الجنوبية كلها‪،‬‬ ‫وغير ذلك من المشاكل‪ ،‬فإن طريقة حلها هو البحث في سبب‬ ‫العدوان‪ ،‬فإن كان التوسع والسيطرة كما هي الحال مع كل من‬ ‫اليابان وروسيا بالنسبة للصين‪ ،‬وإن كان الستعمار والستغلل كما‬ ‫هي الحال مع الوليات المتحدة بالنسبة لكندا وأمريكا الجنوبية‪،‬‬ ‫وإن كان الثأر والعداء التقليدي كما هي الحال مع ألمانيا بالنسبة‬ ‫لكل من فرنسا وروسيا‪ ،‬فإن طريقة ذلك هي إيجاد رأي عا‪،‬م عن‬ ‫أمثال هذه العدوان وبأنه غير مشروع‪ ،‬وأنه عار وعيب ول يليق‬ ‫بكرامة الدول‪ ،‬إلى جانب تقوية الدول التي ُيخشى العتداء عليها‪،‬‬ ‫ولكن ل بالتحالف الدولي‪ ،‬بل بإيجاد فكرة أساسية عن الحياة لدى‬ ‫الشعوب الضعيفة‪ ،‬تبعث فيها القوة والحياة وتجعلها ل تخشى أي‬ ‫عدوان‪ .‬وإن كان العدوان من أجل نشر فكرة اقتنع الرأي العا‪،‬م‪،‬‬ ‫في ذلك البلد المعتدى عليه‪ ،‬بصحتها وأنها من ناحية الحكم ورعاية‬ ‫الشؤون أصلح وأحسن من الفكرة التي ُترعى شؤونه بها‪ ،‬فإن‬ ‫‪-63-‬‬


‫مثل هذا الكتساح والضم ل يعتبر عدوانا‪ ،‬بل يعتبر حربا مشروعة‪،‬‬ ‫ولذلك ل ُتمنع مثل هذه الحروب‪ ،‬على أن تكون حربا محلية ل‬ ‫حربا عالمية‪ ،‬وأن يكون الصدق ظاهرا فعل ع ً فيها ل أن ُتتخذ‬ ‫الفكرة وسيلة لغايات غير مشروعة‪ ،‬وعلى أن يكون لهذه الشعوب‬ ‫سحة حق الختيار فيما تعتقد وما تدين‪ ،‬وأن تتساوى مع‬ ‫المكت حَ‬ ‫الشعب الذي اكتسحها في كل شؤون الرعاية والعناية وفصل‬ ‫الخصومات‪.‬‬ ‫فالموضوع ليس منع الحرب مطلقا‪ ،‬بل منع الحرب العالمية‪،‬‬ ‫ومنع الحروب غير المشروعة‪ .‬أ ةّما الحروب المحلية‪ ،‬والحروب‬ ‫ن مرْنعها غير ممكن‪ ،‬علوة على أن الوقوف في‬ ‫المشروعة‪ ،‬فإ ةّ‬ ‫وجهها هو وقوف في وجه الخير والعدل‪ ،‬وهو ما ل يصح أن‬ ‫يكون‪ .‬ففكرة السل‪،‬م العالمي فكرة صحيحة وممكنة التحقيق‪،‬‬ ‫أ ةّما فكرة السل‪،‬م‪ ،‬فإنها غير صحيحة وغير ممكنة التحقيق‪ .‬فالنزاع‬ ‫على المصالح طبيعي‪ ،‬والنزاع على الفكار حتمي‪ ،‬وهذا النزاع‬ ‫يمكن أن ُيرفع بالرأي العا‪،‬م ويمكن أن ُيرفع بالحرب المحلية‪ .‬وهو‬ ‫طبيعي بين اثنين‪ ،‬وبين شعبين‪ ،‬ولكنه ليس طبيعيا بين العالم كله‬ ‫بعضه مع بعض‪.‬‬ ‫هذا بالنسبة للمشاكل الكبرى‪ ،‬أ ةّما المشاكل الصغيرة‪ ،‬مثل‬ ‫النزاع على الحدود‪ ،‬ومثل النزاع على التجارة‪ ،‬ومثل النزاع على‬ ‫المصالح المحلية‪ ،‬وما شاكل ذلك‪ ،‬فإنه ل يرتفع إلى مستوى أن‬ ‫‪-64-‬‬


‫يفكر الغير في معالجته‪ ،‬أو ُيعني العاحَلم نفسه به‪ ،‬بل هو يحل‬ ‫نفسه بنفسه‪ ،‬ويحله المتنازعان بينهما ولو بحرب بينهما‪ .‬فالمشاكل‬ ‫المحلية ل أهمية لها‪ ،‬بل الهمية كل الهمية للمشاكل الدولية‪.‬‬ ‫فالتفكير بالعلج إ ةّنما ينصب على المشاكل الدولية‪ ،‬وطريقة حلها‪.‬‬ ‫فإن هذه المشاكل هي التي تؤدي إلى التكتلت الدولية‪ ،‬وهي‬ ‫التي تؤدي إلى الحرب العالمية‪.‬‬ ‫أ ةّما ما عليه العالم اليو‪،‬م في العلقات الدولية والمجتمع‬ ‫الدولي‪ ،‬فإنه وإن كان العالم يتظاهر بالسعي لحل المشاكل‬ ‫الدولية‪ ،‬ولكنه عالم يتعمد إيجاد المشاكل‪ ،‬وإشعال الحرائق‪ ،‬ثم‬ ‫يجعل من حلها وسيلة لكسب المنافع واستغلل الشعوب وإيجاد‬ ‫جد المشاكل ويع ةّقدها‪ ،‬حتى أصبح وجود‬ ‫السيطرة والنفوذ‪ .‬فهو يو مِ‬ ‫العالم على هذه الحال هو نفسه مشكلة ل بد من حلها‪ .‬ذلك أن‬ ‫العالم تتولى شؤونه دولتان عملقتان هما أمريكا وروسيا‪،‬‬ ‫تحاولن إضعاف غيرهما‪ ،‬وزيادة قوتهما‪ ،‬وتقو‪،‬م كل منهما على‬ ‫أساس حماية نفسها‪ ،‬واستغلل غيرها‪ ،‬أو بسط النفوذ عليه‪.‬‬ ‫وتحاول مشاركتهما في تولي شؤون العالم دولتان كبريان‪ ،‬هما‬ ‫انجلترا وفرنسا‪ ،‬وذلك ل من أجل خير العالم وصلحه بل من أجل‬ ‫مشاركتهما في الستغلل وبسط النفوذ‪ .‬ذلك أن كل ع ً من الدولتين‬ ‫الكبريين‪ :‬انجلترا وفرنسا‪ ،‬تقو‪،‬م على نفس السس التي تقو‪،‬م‬ ‫عليها الدولتان العملقتان‪ :‬أمريكا وروسيا‪ ،‬وهي‪ :‬حماية نفسهما‪،‬‬ ‫‪-65-‬‬


‫واستغلل غيرهما أو بسط النفوذ عليه‪ .‬وما دا‪،‬م العالم على هذه‬ ‫الحال فإنه ل ُيرجى له أي صلح‪ ،‬ول يؤمل له بأي خير‪ ،‬فإن من‬ ‫يتولى شؤونه إ ةّنما يعمل لستغلله بادعائه أنه يعمل لرفاهيته‪،‬‬ ‫ويعمل للسيطرة عليه وبسط نفوذه بادعائه أنه يعمل لتحريره‬ ‫وإسعاده‪ .‬ولذلك فإن المشكلة التي يتخبط فيها العالم‪ ،‬ليست‬ ‫مشكلة السل‪،‬م العالمي‪ ،‬حتى ول السل‪،‬م‪ ،‬بل مشكلة رفع‬ ‫السيطرة عنه‪ ،‬ومنع استغلله وبسط النفوذ عليه‪ .‬ولذلك كان وضع‬ ‫العالم على الحال الذي هو عليه هو المشكلة التي يجب حلها‪ ،‬وما‬ ‫لم ُتحل هذه المشكلة فإن الشقاء والتعاسة ستظل هي‬ ‫المسيطرة على بني البشر‪.‬‬ ‫أ ةّما سبب ذلك فإن العالم ل يعيش على فكرة أساسية عن‬ ‫الحياة‪ .‬وليست لديه وجهة نظر في الحياة تتأصل فيه ويعيش‬ ‫عليها‪ .‬والدول التي تتولى شؤونه‪ ،‬فإنها تتولها بدوافع غريزية‬ ‫بحتة‪ ،‬ل بفكرة كلية عن الكون والنسان والحياة‪ ،‬فالدول الربع‪:‬‬ ‫الدولتان العملقتان والدولتان الكبريان‪ ،‬ظاهر في صميم سياستها‬ ‫انعدا‪،‬م فكرة أساسية تقو‪،‬م عليها‪ ،‬وظاهر في سياستها سيطرة‬ ‫الناحية الغريزية على هذه السياسة‪ .‬ولذلك فإنه ل بد أن يكون كل‬ ‫عملها محصورا بحماية أنفسها‪ ،‬واستغلل غيرها وبسط النفوذ‬ ‫عليه‪ .‬وما لم توجد فكرة أساسية لدى أية أ ةّمة بل أي شعب يعيش‬ ‫عليها ويحملها دعوة للعالم‪ ،‬فإنه ل ُيرجى له أي صلح ول يؤمل له‬ ‫‪-66-‬‬


‫بأي خلص‪.‬‬ ‫والعالم في القرون الولى كان يسير على الناحية الغريزية‪،‬‬ ‫ولكنه لم تكن تسيطر عليه قوة أو قوات تسيطر عليها الناحية‬ ‫الغريزية فتتخذه مزرعة للستغلل وبسط النفوذ‪ .‬ثم بعد ذلك‬ ‫جاءته فكرة كلية عن الكون والنسان والحياة‪ ،‬عقيدة سياسية‪،‬‬ ‫وقاعدة فكرية‪ ،‬ووجهة نظر في الحياة‪ ،‬فتجسدت في أ ةّمة وفي‬ ‫دولة أخذت تنشرها وتنشر الهدى بين الناس‪ ،‬فتمتعت مئات‬ ‫المليين من البشر في ظل هذه الفكرة بالطمأنينة والستقرار‪،‬‬ ‫والعزة والزدهار‪ ،‬عشرات الجيال وأكثر من عشرة قرون‪ .‬وكان‬ ‫من الممكن أن تقع حروب محلية مشروعة وغير مشروعة‪ ،‬ولكن‬ ‫لم يكن من الممكن أن تقع حرب عالمية‪ ،‬وأن ُيجر العالم كله لن‬ ‫يحارب بعضه بعضا‪ ،‬ل حربا مشروعة‪ ،‬ول حربا غير مشروعة‪.‬‬ ‫ما نبتت فكرة الرأسمالية في أوروبا‪ ،‬وهي فكرة تطلق‬ ‫فل ةّ‬ ‫الغرائز شر إطلق‪ ،‬وتجعل العلقة بين النسان النسان علقة‬ ‫خصا‪،‬م وصراع ل علقة ود وإيثار‪ ،‬علقة الرغيف بيني وبينك‪ :‬آكله‬ ‫أنا أو تأكله أنت‪ ،‬حينئذ تغلبت الغريزة على الفكرة‪ ،‬وُوجد الصراع‬ ‫والخصا‪،‬م‪ ،‬وأدى ذلك للركض وراء القوة من أجل الستغلل‪،‬‬ ‫فأدى إلى تكتيل الدول ضد الدول‪ ،‬وأدى إلى إضعاف الفكرة‬ ‫الكلية التي يتمتع بها البشر بالسعادة والهناء‪ .‬وبالتالي إلى إضعاف‬ ‫الدولة التي تتجسد فيها هذه الفكرة‪ ،‬فوقع البشر فيما وقعوا فيه‪،‬‬ ‫‪-67-‬‬


‫من سيطرة الغريزة عليهم بدل الفكر‪ ،‬ومن سيطرة القوي على‬ ‫الضعيف‪ ،‬ومن استغلل البشر لخوانهم بني النسان استغلل‬ ‫عبودية وإذلل‪ ،‬فكان ما كان من انتشار الستعمار والفتخار به‪،‬‬ ‫ومن الركض وراء إيجاد مستعمرات‪ ،‬ثم أدى إلى الحروب‬ ‫العالمية‪.‬‬ ‫ما استشرى داء الستعمار‪ ،‬وبلغ الظلم في أوروبا‬ ‫إل ةّ أنه ل ةّ‬ ‫سعت المفكرين هذه‬ ‫ذروته‪ ،‬الظلم القتصادي والظلم السياسي‪ ،‬حَل حَ‬ ‫جوا من فداحة هذا الظلم‪ ،‬ورفعوا صوتهم يصيحون‬ ‫النار‪ ،‬فض ةّ‬ ‫بالناس أن ارفعوا هذا الظلم‪ ،‬فُوجدت فكرة الشتراكية والشيوعية‬ ‫كعلج لفساد النظا‪،‬م الرأسمالي‪ ،‬وكمنقذ للناس من ظلم هذا‬ ‫النظا‪،‬م‪ .‬وكان يكون علجا نافعا لو كانت هذه الفكرة فكرة‬ ‫صحيحة‪ ،‬وُبنيت على أساس عقلي فطري يتجاوب مع الغرائز‪ ،‬إذن‬ ‫لتجسدت في شعب يصبح أ ةّمة وفي دولة قوية تملك قدرة التغيير‪.‬‬ ‫ولكنها كانت فكرة خاطئة‪ ،‬فكرة خيالية‪ُ ،‬وجدت كرد فعل للواقع ل‬ ‫من العقل‪ ،‬عن جعل الواقع مصدر التفكير ل موضع التفكير‪.‬‬ ‫ولذلك فإنها وإن كانت فكرة كلية عن الكون والنسان والحياة‪،‬‬ ‫صل إليها العقل عن‬ ‫ولكنها مبنية على المادة ل على العقل‪ ،‬وتو ةّ‬ ‫طريق الحساس بالمادة ل عن طريق التفكير بالمادة‪ .‬ولذلك‬ ‫أخفقت كل الخفاق‪ ،‬فلم تستطع أن تتجسد في شعب أو أ ةّمة‪ ،‬ول‬ ‫قويت على أن تتحول إلى دولة شيوعية‪ ،‬ولم تصمد أما‪،‬م التطبيق‬ ‫‪-68-‬‬


‫إل ةّ كما صمدت الفكرة الرأسمالية بالتحويل والتغيير والترقيع‪.‬‬ ‫لقد حاولت تجسيد الفكرة في طبقات المظلومين ل في‬ ‫الشعوب والمم‪ ،‬وحاولت إقامة دولة قوية تستطيع التغيير‪ ،‬ولكن‬ ‫دعت إلى إقامة دولة عالمية من الطبقات المظلومة‪ ،‬ل إقامة دولة‬ ‫في شعب يتحول إلى أ ةّمة تحمل الدعوة رسالة للشعوب والمم‪،‬‬ ‫فأخفقت في إقامة الدولة العالمية‪ ،‬وفي إيجاد الدولة القوية التي‬ ‫تملك قوة التغيير‪ .‬ثم لما اجتهد المفكر لينين في تفسير هذه‬ ‫الفكرة‪ ،‬ولمس استحالة إيجاد الدولة العالمية من الطبقات‬ ‫المظلومة في العالم‪ ،‬قال بإيجاد الدولة الشيوعية في مكان‬ ‫تنطلق منه ليجاد الثورة العالمية والدولة العالمية‪ ،‬كمرحلة من‬ ‫مراحل السير‪ .‬ولكنه بدل أن يعيد النظر في الفكرة كلها مِلما ظهر‬ ‫من يقين خطئها‪ ،‬سار على نفس الفكرة‪ ،‬وحصر اجتهاده في‬ ‫كيفية السير بها‪ ،‬ثم أنه بدل أن يجعل شعبه يحمل الفكرة ليتحول‬ ‫إلى دولة تحمل الدعوة إلى العالم‪ ،‬حمل الفكرة إلى طبقة‬ ‫المظلومين‪ ،‬وجعلها تتحكم في الظالمين‪ ،‬فأخفق في تطبيق‬ ‫الفكرة‪ ،‬أخفق في رفع الظلم كليا عن المظلومين‪ ،‬وأخفق في‬ ‫ما جاء خليفته ستالين استمر هذا‬ ‫إيجاد الثورة العالمية‪ .‬ول ةّ‬ ‫الخفاق واستفحل‪ ،‬حتى تحولت الدولة الشيوعية إلى دولة روسية‬ ‫كقاعدة للفكرة الشيوعية‪ ،‬ل دولة شيوعية‪ .‬ثم لما جاء خلفاء‬ ‫ستالين استمر إخفاق الفكرة وزاد استفحال تحولها‪ ،‬فصارت‬ ‫‪-69-‬‬


‫الدولة الروسية التي هي قاعدة للشيوعية‪ ،‬دولة روسية قيصرية‪،‬‬ ‫تتخذ الشيوعية أداة لفرض السيطرة وبسط النفوذ‪.‬‬ ‫وبذلك لم يكن للفكرة التي جاءت تعالج الرأسمالية‬ ‫وتحاربها‪ ،‬أي أثر في إنقاذ العالم من الظلم السياسي والظلم‬ ‫الجتماعي‪ ،‬بل على العكس مما جاءت من أجله الفكرة‪ ،‬فإن‬ ‫الفكرة الرأسمالية قد قويت‪ ،‬وزاد انتشارها‪ ،‬وزادت قدرة على‬ ‫التحكم والستغلل‪ ،‬فإن الدول التي تعتنقها لم تعد شعوبها تضج‬ ‫طنع مما يسمى برفع‬ ‫من الظلم‪ ،‬بل استساغته بفضل ما اس ُ‬ ‫مرة للدولة‬ ‫مستوى العيش المادي‪ ،‬والشعوب والمم المستع حَ‬ ‫الرأسمالية قد هدأت ضجتها من الستعمار وصارت تسير في‬ ‫ركابه أنى سار‪ ،‬وتحت سيطرته ونفوذه‪ ،‬بالستقللت المزيفة‬ ‫والدول الكرتونية‪ ،‬ووجود مظاهر الحكم والسلطان‪.‬‬ ‫ولذلك ليس غريبا أن يظل العالم يرزح تحت هذا الشقاء منذ‬ ‫القرن الثامن عشر حتى الن‪ .‬فإن الفكرة التي تتحكم فيه هي‬ ‫الفكرة الرأسمالية‪ ،‬وحتى المسماة بالشتراكية‪ ،‬والدول التي‬ ‫تتحكم فيه هي نفسها الدول التي تطمع باستغلله وبسط النفوذ‬ ‫عليه‪ ،‬حتى ولو سميت بالدول الشتراكية‪ .‬وما لم ينعتق هذا العالم‬ ‫من استعباد هذه الفكرة له‪ ،‬ومن سيطرة الدول الطامعة فيه‬ ‫والمتغلغلة النفوذ في شعوبه وبلده‪ ،‬فإنه ل أمل له بالتحرر‬ ‫والنعتاق‪ .‬ولذلك فإن واجب المفكرين في العالم‪ ،‬وواجب‬ ‫‪-70-‬‬


‫المخلصين فيه‪ ،‬أن يعملوا لتحرير هذا العالم من المبدأ‬ ‫الرأسمالي‪ ،‬وأن ينقذوه من براثن الدول الطامعة فيه‪.‬‬ ‫أ ةّما ما هو السبيل لتحرير العالم وإنقاذه فهو سبيل واحد‬ ‫ليس غير‪ ،‬وهو إيجاد فكرة كلية عن الكون والنسان والحياة‪،‬‬ ‫تكون عقيدة سياسية وقاعدة فكرية‪ ،‬ووجهة نظر في الحياة‪ ،‬مبنية‬ ‫على العقل‪ ،‬جاعلة المادة موضع التفكير ل مصدر التفكير‪ .‬هذه‬ ‫الفكرة الكلية‪ ،‬أو على الصح هذه العقيدة السياسية هي وحدها‬ ‫التي تنقذ العالم من الظلم الذي يرزح تحته‪ ،‬ومن السيطرة‬ ‫والستغلل والنفوذ الذي يتحكم فيه‪.‬‬ ‫واجب ال ةّمة السلمية‬ ‫إن ال ةّمة السلمية‪ ،‬وهي تعتنق العقيدة السلمية‪ ،‬فكرة‬ ‫كلية عن الكون والنسان والحياة‪ ،‬عقيدة سياسية‪ ،‬قاعدة فكرية‪،‬‬ ‫قيادة فكرية‪ ،‬وجهة نظر معينة في الحياة‪ ،‬يجب عليها وهي ترى‬ ‫العالم كله‪ ،‬وخي معه كذلك‪ ،‬يتخبط هذا التخبط‪ ،‬يرزح تحت نير‬ ‫الظلم السياسي والقتصادي‪ ،‬ويخضع لعبودية قوة غاشمة‪ ،‬ويئن‬ ‫ض عليها أن‬ ‫تحت كابوس الشقاء والستعباد والذلل‪ ،‬فإنه فر ُ‬ ‫تأخذ على عاتقها مهمة إنقاذ العالم‪ ،‬وإخراجه من ظلمات الضلل‬ ‫والتضليل‪ ،‬إلى نور الهدى‪ ،‬وسعادة الحياة‪ .‬فإنها وإن كانت رازحة‬ ‫تحت نير القوة الغاشمة‪ ،‬فإنه لم يعد جائزا لها أن تفكر في نفسها‬ ‫‪-71-‬‬


‫فحسب‪ ،‬فإن النانية بعيدة عما تعتنقه من عقائد‪ ،‬وغريبة على ما‬ ‫تحمله في ثنايا نفسها وفي صميم فؤادها من قيم وأفكار‪ .‬لذلك‬ ‫يجب أن تفكر في إنقاذ العالم مع إنقاذ نفسها‪ ،‬وأن تضطلع بمهمة‬ ‫تحرير العالم ل بنفسها وحدها‪ .‬فإنها جزء من هذا العالم‪ ،‬وهي‬ ‫ُوجدت من أجل هدى البشر‪ ،‬وبعد أن اعتنقت عقيدة السل‪،‬م‪ ،‬صار‬ ‫فرضا عليها أن تنقذ النسانية من الشقاء‪ ،‬وأن تخلص البشر من‬ ‫الظلم والتعاسة‪ ،‬ومن الذلل والستعباد‪.‬‬ ‫إن ال ةّمة السلمية تعتنق فكرة أساسية عن الحياة‪ ،‬فكرة‬ ‫سياسية‪ ،‬وتعتنق طريقة لتنفيذ هذه الفكرة في الحياة‪ .‬وإذا ملكت‬ ‫أ ةّمة الفكرة الصحيحة مع طريقتها‪ ،‬فإنها ول شك تكون أهل ع ً‬ ‫لعطاء الخير وتكون أهل ع ً لحمل قيادة هذه الفكرة‪ .‬ولذلك فإن‬ ‫ال ةّمة السلمية‪ ،‬ليست قادرة على النهضة الصحيحة فحسب‪ ،‬بل‬ ‫هي قادرة على ذلك‪ ،‬وعلى أن تكون مصدرا للخير لغيرها‪ ،‬وعلى‬ ‫حمل هذه الفكرة للناس‪ ،‬قيادة فكرية ووجهة نظر في الحياة‪،‬‬ ‫وبالتالي هي قادرة على حل مشكلة العالم‪ ،‬وعلى إنقاذه مما‬ ‫يتردى فيه من الشقاء والستعباد والذل‪ ،‬بحمل الدعوة السلمية‬ ‫إلى الشعوب والمم‪.‬‬ ‫إن ال ةّمة السلمية لم ُتغلب في تاريخها من أية أ ةّمة‪ ،‬ولن‬ ‫ُتغلب مطلقا في صراعها مع الشعوب والمم‪ ،‬مهما كانت قوة تلك‬ ‫الشعوب والمم‪ ،‬ولذلك فهي قادرة على إنقاذ العالم مهما كانت‬ ‫‪-72-‬‬


‫قوة الدول المسيطرة عليه‪ .‬أ ةّما ما حصل في الحروب الصليبية من‬ ‫حرب استمرت أكثر من قرن‪ ،‬فإنه فوق أن النصر النهائي كان‬ ‫للمسلمين‪ ،‬فإن ال ةّمة السلمية لم تصارع الغرب بوصفها أ ةّمة‬ ‫إسلمية‪ ،‬وإن كانت الشعوب الوروبية قد اسُتنفرت كلها لمحاربة‬ ‫ال ةّمة السلمية‪ .‬فإن الواقع هو أن الحرب كان محصورة في بلد‬ ‫الشا‪،‬م ومصر‪ ،‬والذين حاربوا هم أهل الشا‪،‬م ومصر‪ ،‬والذين‬ ‫انتصروا هم أهل الشا‪،‬م ومصر‪ .‬أ ةّما ال ةّمة السلمية فقد كانت‬ ‫موزعة إلى وليات تشبه الدول‪ ،‬ولم تكن لخليفة المسلمين‬ ‫السيطرة الكاملة على هذه الوليات‪ ،‬فلم تدخل ال ةّمة السلمية‬ ‫في حرب مع الصليبيين‪ ،‬وإ ةّنما دخلت بلد الشا‪،‬م وبلد مصر ليس‬ ‫غير‪ .‬وكانت باقي الوليات‪ ،‬غير مشتمِركة في هذه الحرب‪ ،‬لن‬ ‫الولة الخرين‪ ،‬فوق كونهم مشغولين بتركيز سلطانهم‪ ،‬فإنهم‬ ‫كانوا يرون أن جهاد الكفار فرض على الكفاية‪ ،‬وأن بلد الشا‪،‬م‬ ‫وبلد مصر كافية لصد الكفار عن بلد السل‪،‬م‪ .‬وكانت كافية‬ ‫طرد الصليبيون من‬ ‫بالفعل‪ ،‬ولذلك كان النصر النهائي للمسلمين‪ ،‬و ُ‬ ‫مصر وبلد الشا‪،‬م ورجعت سيطرة السل‪،‬م إلى هذه البلد‪.‬‬ ‫وأ ةّما ما حصل في الحرب العالمية الولى‪ ،‬فإنها لم تكن حربا‬ ‫صليبية ضد ال ةّمة السلمية‪ ،‬وإن كانت في دوافعها الخفية تجاه‬ ‫بلد السل‪،‬م أشد من الحروب الصليبية الولى‪ ،‬وأكثر عمقا‪ ،‬وأشد‬ ‫تأثيرا‪ .‬ذلك أن انجلترا وحلفاءها دخلت الحرب العالمية الولى ضد‬ ‫‪-73-‬‬


‫ألمانيا‪ ،‬والدولة العثمانية دخلت الحرب إلى جانب ألمانيا‪ ،‬فهي‬ ‫حرب بين دول أوروبا اشتركت فيها الدولة العثمانية‪ ،‬ولذلك لم‬ ‫تعتبرها ال ةّمة السلمية أنها حرب ضدها‪ ،‬ولم تشترك فيها ال ةّمة‬ ‫السلمية‪ .‬ولذلك اشترك فيها المسلمون الهنود مع الجيش‬ ‫البريطاني‪ ،‬واشترطوا أن ل يحامِربوا المسلمين‪ .‬واشترك فيها إلى‬ ‫جانب النجليز الكثير من بلد العرب ومن رجال العرب مع أنهم‬ ‫في جمهرتهم مسلمون‪ ،‬وإن كانوا قد اشتركوا تحت عامل‬ ‫التضليل‪ .‬ولكن الذي س ةّهل هذا التضليل هو عد‪،‬م ظهور أنها حرب‬ ‫ضد ال ةّمة السلمية‪.‬‬ ‫فال ةّمة السلمية لم ُتغلب في تاريخها مطلقا بوصفها أ ةّمة‬ ‫إسلمية‪ ،‬وكانت ُتعقد لها راية النصر المؤزر في جميع الحقاب‬ ‫التي حاربت فيها بوصفها أ ةّمة إسلمية‪ ،‬وفتحت أكثر بلد العالم‬ ‫القديم الذي كان معروفا حينئذ‪ ،‬وأوجدت هذا العالم السلمي‬ ‫المترامي الطراف‪ .‬ولذلك فإن ال ةّمة السلمية إذا وقفت أ ةّمة‬ ‫إسلمية‪ ،‬فإنها قادرة على إنقاذ العالم من هذه القوى الشريرة‬ ‫التي تتحكم فيه وتتسلط عليه وتذيقه ألوان الشقاء والذل‬ ‫والستعباد‪.‬‬ ‫قد يتساءل الكثيرون قائلين‪ :‬إن ال ةّمة السلمية خاضعة‬ ‫كسائر العالم لهذه القوى الشريرة‪ ،‬وتذوق ما يذوقه سائر الناس‬ ‫من السيطرة والشقاء والذل والستعباد‪ ،‬وُتفرض عليها ما ُيفرض‬ ‫‪-74-‬‬


‫على سائر الناس من السيطرة بجميع أنواعها‪ ،‬السياسية‬ ‫والقتصادية والثقافية‪ ،‬وحتى العسكرية في بعض الحيان‪،‬‬ ‫فأحرى أن ُيطلب منها تحرير نفسها من السيطرة والنفوذ ل أن‬ ‫ُيطلب منها تحرير غيرها‪ ،‬وهي أحوج الناس للتحرير؟ على أنها‬ ‫وقد تحررت فعل ع ً أو سارت في طريق التحرير فإن مقارعة القوى‬ ‫الشريرة أكبر من قدرتها‪ ،‬فكيف يكون في قدرتها أن تصارع هذه‬ ‫القوى؟‬ ‫قد يتساءل الكثيرون هذا التساؤل‪ ،‬وقد يسأل الكثيرون هذا‬ ‫السؤال‪ ،‬ولكن ذلك إذا حصل إ ةّنما هو نتيجة جهل لطبيعة‬ ‫ك لمدى قوى السل‪،‬م في الصراع‪ ،‬فوق‬ ‫المسلمين‪ ،‬وعد‪،‬م إدرا ٍ‬ ‫ل‪ ،‬فإن الكافر‬ ‫ل‪ .‬أ ةّما كونه مغالطة أو تضلي ع ً‬ ‫كونه مغالطة أو تضلي ع ً‬ ‫مر‪ ،‬العدو اللدود‪ ،‬من جملة أساليبه التضليلية أن يشغل‬ ‫المستع مِ‬ ‫ال ةّمة بتحرير نفسها حتى منه‪ ،‬لصرفها عن حمل رسالتها للعالم‪،‬‬ ‫ويومِقعها في حبال دوامة من الفكار والعمال للتحرير تؤدي إلى‬ ‫زيادة قيودها ل إلى حلها‪ ،‬وإلى تثبيت سيطرته عليها ل إلى‬ ‫تحريرها من سيطرته ونفوذه‪ ،‬ولذلك فإن انشغال ال ةّمة بنفسها‬ ‫عن حمل الدعوة إلى العالم لنقاذه‪ ،‬هو وسيلة من وسائل‬ ‫صرفها عن دعوتها‪ ،‬ووسيلة من وسائل تثبيت هذه السيطرة‪،‬‬ ‫وتطويل أمد بقائها فوق بلد السل‪،‬م‪ .‬ومن هنا كان من الخطأ‬ ‫والخطر على ال ةّمة أن تنشغل بنفسها عن دعوتها‪ ،‬وأن يلهيها شأنها‬ ‫‪-75-‬‬


‫عن العمل لنقاذ بني النسان‪.‬‬ ‫وأ ةّما كونه جهل ع ً بطبيعة المسلمين‪ ،‬وعد‪،‬م إدراك لمدى قوة‬ ‫السل‪،‬م‪ ،‬فإن السل‪،‬م إذا حل من النسان في مركز العقيدة‪،‬‬ ‫وُوجدت بذرته في النفس البشرية‪ ،‬ح ةّولت النسان إلى شخص‬ ‫أقوى من القوة‪ ،‬وأسمى من السمو‪ ،‬وأعلى كعبا من الفرسان‬ ‫والحكماء والمفكرين‪ .‬ول أدل على ذلك من نقل العقيدة‬ ‫السلمية للعرب والعجم‪ ،‬من شعوب وقبائل‪ ،‬إلى أ ةّمة عظيمة‬ ‫تقتعد الذرى وتتبوأ القمة في الوجود‪ .‬ثم إن تجربة الحروب‬ ‫الصليبية كشفت عما في طبيعة المسلمين من قوة خارقة تنزل‬ ‫على المسلم فجأة‪ ،‬تنقله من عبد إلى سيد‪ ،‬ومن مهزو‪،‬م إلى‬ ‫منتصر‪ ،‬ومن أسفل درك النحطاط إلى أعلى درجات العلى‬ ‫والمجد‪ .‬وما نورالدين زنكي‪ ،‬وصلح الدين اليوبي‪ ،‬إل ةّ مثل خالد‬ ‫بن الوليد‪ ،‬وسعد بن أبي وقاص‪ ،‬على ما يفصل بين صدر السل‪،‬م‬ ‫والحروب الصليبية من فواصل الزمن‪ ،‬ومختلف الحداث‪ .‬فأصالة‬ ‫المسلمين أصالة أعمق من الزمن‪ ،‬وأثبت من الثبات أما‪،‬م الحدثين‪.‬‬ ‫فطبيعتهم طبيعة الصيل‪ ،‬والصيل يظل أصيل ع ً مهما لحقه من‬ ‫جوع‪ ،‬ومهما ناله من عسف واضطهاد‪.‬‬ ‫فهذا السل‪،‬م الذي يفعل في النفسية هذا الفعل‪ ،‬والذي‬ ‫جد الصالة في الجيل الذي يعتنقه ويحمله‪ ،‬ويعمقها في الجيال‬ ‫يو مِ‬ ‫مهما طال الزمن‪ ،‬ومهما حصل من ركود‪ .‬فإن مدى تأثيره يتجاوز‬ ‫‪-76-‬‬


‫رؤية البصر‪ ،‬ويتجاوز رؤيا البصيرة والدراك‪ ،‬بل يتجاوز رؤيا الرؤى‬ ‫والحل‪،‬م‪ .‬ولذلك ل ُيطلب من ال ةّمة السلمية أن تحرر نفسها‪،‬‬ ‫وإ ةّنما ُيطلب منها أن تحمل الدعوة السلمية إلى العالم لنشر‬ ‫الهدى فيه‪ ،‬وإنقاذه مما يحيق به من سيطرة وذل واستعباد‪ ،‬وظلم‬ ‫وكفر وضلل‪ .‬ومن هنا كان لزاما أن ُيطلب من ال ةّمة إنقاذ الناس‪،‬‬ ‫لن أن تحرر نفسها فقط‪ .‬فإنها مسؤولة عن الناس ومسؤولة عن‬ ‫نشر الهدى بين بني النسان‪.‬‬ ‫أ ةّما كيف تحرر نفسها وتنقذ الناس‪ ،‬فإن ذلك يجب أن تحكيه‬ ‫الفعال الفعالة‪ ،‬ل القوال المكتوبة‪ ،‬والعمال العظيمة‪ ،‬ل الفكار‬ ‫طرة‪ .‬يجب أن يراه الناس كائنا‪ ،‬ل أن يقال لهم كيف يكون‪.‬‬ ‫المس َّ‬ ‫ل‪ ،‬ومن هدى‬ ‫طر مِفعا ع ً‬ ‫وأن يفهموه من لغة السل‪،‬م التي تس ِّ‬ ‫ء‪ .‬فالسؤال ليس عن‬ ‫السل‪،‬م الذي يشع على الناس نورا وضيا ع ً‬ ‫الكيف‪ ،‬وإ ةّنما السؤال عن الرؤية‪ ،‬عن البصار والرؤية‪ ،‬وعن‬ ‫مشاهدة الواقع الذي سيكون أكبر من الخيال‪.‬‬ ‫إن مما يجب على الناس ول سيما المسلمين أن يدركوه أن‬ ‫ال ةّمة السلمية أقوى من قوى الشر مهما اجتمعت‪ ،‬وذلك لسببين‬ ‫اثنين‪ :‬أحدهما أنها تملك فكرة كلية عن الكون والنسان والحياة ل‬ ‫يملكها أحد غيرها‪ ،‬وهي فكرة دينامية جبارة‪ ،‬وهي في نفس‬ ‫الوقت تعطي الصورة الحقيقية عن العالم‪ ،‬وعن الناس‪ ،‬وعن‬ ‫الدول‪ ،‬وعن المجتمعات‪ ،‬وتعطي في نفس الوقت الطريقة‬ ‫‪-77-‬‬


‫الصحيحة للتغلب على دول الكفر مهما كانت‪ ،‬ولذلك ليس غريبا‬ ‫على من يملك هذه الفكرة الكلية أن تكون قواه قوى ل ُتغلب‪.‬‬ ‫ثانيها‪ :‬أن ال ةّمة السلمية تملك من القوى المادية ما ل يملكه‬ ‫سواها‪ ،‬وهي قوى جبارة هائلة ل تصل أية قوة إلى مستواها‪،‬‬ ‫وهي ملكها وتحت تصرفها‪ ،‬ولذلك فإن النصر مكفول لها مهما كان‬ ‫وضع الصراع الذي تدخل فيه‪ ،‬ومهما كانت القوى التي تصارعها‪.‬‬ ‫إن الموضوع هو موضوع واحد ليس غير‪ ،‬أل وهو ال ةّمة‬ ‫السلمية‪ .‬فال ةّمة السلمية متى تحركت كان التحرير‪ ،‬ومتى‬ ‫اندفعت يكون النقاذ‪ ،‬ومتى زمجرت خ ةّر الجبابرة ساجدين‪.‬‬ ‫فالمسألة كلها أن تتحرك‪ ،‬ثم تندفع‪ ،‬ثم تزمجر‪ ،‬فتكون السعادة‬ ‫والهناء‪ ،‬وتكون الطمأنينة والستقرار‪ ،‬ويعم الناس التقد‪،‬م‬ ‫والزدهار‪ .‬فالمر كله أن تتحرك ال ةّمة السلمية في هذا الوجود‪.‬‬ ‫إن ال ةّمة السلمية وهي تؤمن عن تصديق جاز‪،‬م مطابق‬ ‫للواقع عن دليل‪ ،‬إيمانا جازما بوجود ا‪ ،‬وأنه حقيقة ل فكرة‪،‬‬ ‫فإنها حَتفهم معنى الحياة‪ ،‬وتدرك واجب الحياة‪ .‬وهي تعتقد بأن‬ ‫محمدا نبي ا ورسوله‪ ،‬وأنه رسول ا إلى الناس كافة‪00000 ،‬‬ ‫واجبها نحو نفسها‪ ،‬ومهمتها تجاه بني النسان‪ .‬وهي وقد آمنت‬ ‫بكتاب ا وعرفته‪ ،‬واعتقدت بسنة محمد وسيرته وعرفتها‪ ،‬فإنها‬ ‫تفهم معنى السياسة والحرب‪ ،‬وتعرف كيف تصارع قوى الكفر‪،‬‬ ‫وكيف تزلزل عروش الطغيان‪ .‬فهي تعرف موقعة بدر‪ ،‬وتدرك‬ ‫‪-78-‬‬


‫معركتها وتحييها في قلبها‪ .‬فل غرو أن تترك التجارة والمال‪،‬‬ ‫وتصارع قوى البطر والكفر ولو كانت أضعاف أضعافها‪ ،‬وهي تقرأ‬ ‫قوله تعالى‪) :‬الن خفف ا عنكم وعلم أن فيكم ضعفا‪ ،‬فإن‬ ‫يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا‬ ‫ألفين(‪ ،‬فتعرف أنه ُفرض عليها أن تقاتل عدوها إذا كانت قوته‬ ‫ضعفي قوتها‪ ،‬وأن هذا أخف ما ُفرض‪ ،‬فل تتردد في مهاجمة‬ ‫قوى الشر متى كانت ل تزيد عنها ضعفين‪.‬‬ ‫وهي تعرف غزوة الحزاب‪ ،‬وكيف تجمعت قوى الكفر على‬ ‫المسلمين من قبائل شتى لتمحو السل‪،‬م من الوجود‪ .‬فليس عجيبا‬ ‫أن تقف وحدها في وجه العالم كله‪ ،‬وأن تسلك السياسة إلى‬ ‫جانب الحرب‪ ،‬والدهاء والحيلة إلى جانب العداد والقوة‪ .‬وهي‬ ‫تقرأ قوله تعالى مخاطبا الرسول عليه السل‪،‬م‪) :‬فقامِتل في سبيل‬ ‫ا ل تكَّلف إل ةّ نفسك(‪ ،‬تدرك أنها في حالة الدفاع يجب أن تقاتل‬ ‫عدوها مهما بلغت قواه من القوة‪ ،‬ومهما بلغت هي من الضعف‪،‬‬ ‫حتى تدفعه عن نفسها أو تفنى عن بكرة أبيها‪.‬‬ ‫وهي تقرأ عمرة الحديبية‪ ،‬وكيف أن رسول ا صلى ا‬ ‫عليه وسلم قد بلغه مفاوضات خيبر مع قريش ليجاد حلف بينهما‬ ‫يهاجمان به محمدا في المدينة فيمحوها من الوجود‪ .‬وأنه حين‬ ‫بلغه ذلك صمم على العمرة لمصالحة قريش ومعاهدتها‪ ،‬وكيف‬ ‫أنه بعد أن عاهدها وأمِمن ش ةّرها رجع إلى يهود خيبر فحاربهم‬ ‫‪-79-‬‬


‫ومحاهم ككيان من الوجود‪.‬‬ ‫إنها وهي تقرأ ذلك‪ ،‬تعرف كيف تصنع إذا تكتلت الدول ضدها‬ ‫حول بين تكتلهم وتتقي شرهم‬ ‫لتمحوها‪ ،‬وكيف تضرب أعداءها لت ُ‬ ‫ن من قو‪،‬م‬ ‫وتقضي عليهم‪ .‬وهي حين تقرأ قوله تعالى‪) :‬وإما تخاحَف ةّ‬ ‫خيانة فانبذ إليهم على سواء(‪ ،‬تدرك أنها ل تكون أسيرة‬ ‫المعاهدات والتفاقات‪ ،‬وأنها مع كونها مأمورة بالوفاء‬ ‫بالمعاهدات‪ ،‬فإنها إذا أحست بالشر تسارع بنبذ هذه المعاهدات‪.‬‬ ‫إنها وهي تدرك أن مكة قد ُفتحت بالحرب والصلح معا‪،‬‬ ‫وتعرف ما فعله الرسول عليه السل‪،‬م بعد دخوله مكة حين قال‪:‬‬ ‫ما حضروا قال لهم‪) :‬إن قريشا و ةّبشت‬ ‫)اهتفوا لي بالنصار(‪ ،‬ثم ل ةّ‬ ‫حق إحدى ك ةّفيه بالخرى‪ ،‬تدرك‬ ‫س حَ‬ ‫أوباشها فاحصدوهم حصدا( و حَ‬ ‫أن الجيوش السلمية إذا دخلت بلدا س ةّلم أهلها‪ ،‬ثم أحست أن ذلك‬ ‫البلد يفكر بالحرب‪ ،‬فإنها يجب أن حَتسحق ذلك البلد سحقا‪ ،‬وأن‬ ‫تمضي حتى تقضي على القوة القضاء الخير‪ .‬وال ةّمة السلمية‬ ‫حين تقرأ )فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم( تعرف أن استقامة‬ ‫العدو شرط لستقامة المسلمين‪ ،‬وأن المؤمن ك ةّيس فطن‪ ،‬وأنه ل‬ ‫يغفل عن تحرك عدوه ولو استسلم له‪ ،‬ولو عاهده‪.‬‬ ‫وال ةّمة السلمية وهي تعرف أن مكة ُفتحت في الس ةّنة‬ ‫الثامنة‪ ،‬وأن الرسول سمح للمشركين أن يحجوا‪ ،‬وسمح لهم أن‬ ‫يطوفوا بالبيت عرايا‪ ،‬واضطر إلى عقد معاهدات معهم‪ ،‬وتعرف‬ ‫‪-80-‬‬


‫أن ذلك صار أذى في نفوس المسلمين‪ ،‬وصدر عن مراعاة لضعف‬ ‫قوته عن قوى المشركين‪ ،‬وعن وهن كان لدى المحاربين‪ ،‬وكيف‬ ‫أنه في الس ةّنة التاسعة نزلت عليه سورة براءة أو سورة الحرب‪،‬‬ ‫فأمر بوضعها بل بسملة‪ ،‬وأمر عليا أن يلحق بأبي بكر أمير الحج‬ ‫ليب ةّلغ سورة التوبة للناس‪ ،‬ولُيعلن الوامر الثلث المشهورة‪ :‬ل يحج‬ ‫بعد العا‪،‬م مشرك‪ ،‬ول يطوف بالبيت عريان‪ ،‬ومن كان معاهدا إلى‬ ‫أجل فهو إلى أجله‪ .‬وأنه بعد أربعة أشهر يجب أن ُيسمِلم المشركون‬ ‫أو يقاحَتلون حتى ُيفنوا‪ :‬فالسل‪،‬م أو الحرب‪ .‬إن ال ةّمة السلمية‬ ‫وهي تعرف ذلك كله‪ ،‬تدرك أنها إن أعطت تنازلت مشينة من‬ ‫جراء عوامل اضطرارية‪ ،‬فإنه ل يصح أن تسكت عليها‪ ،‬بل يجب أن‬ ‫تنقضها في أقصر وقت ممكن بعد تحضير القوة الماحقة لمن‬ ‫يقف في وجهها‪ .‬كما تدرك أنه ل يصح أن يكون بينها كيان‪ ،‬ول أن‬ ‫يبقى في داخلها أو في داخل أي بلد منها قوة حرة في أي مفهو‪،‬م‬ ‫من مفاهيم الحياة‪ ،‬وأنه ل يرتفع صوت في ال ةّمة سوى صوت‬ ‫السل‪،‬م‪ .‬وهي حين تقرأ قوله تعالى‪) :‬ولله العزة ولرسوله‬ ‫وللمؤمنين( تعرف أن ل عزة لغير السل‪،‬م في بلد السل‪،‬م‪.‬‬ ‫إن ال ةّمة السلمية حين تقرأ ذلك وغيره من الكتاب والس ةّنة‬ ‫والسيرة النبوية‪ ،‬ل شك أن السياسة والحرب ل تكون من معارفها‬ ‫فحسب‪ ،‬ول تكون من دراستها واختباراتها‪ ،‬ول تنبع من حاجاتها‬ ‫فقط‪ ،‬وإ ةّنما تكون أفكارا من عقائدها‪ ،‬وأحكاما من شريعتها‪،‬‬ ‫‪-81-‬‬


‫ومتغلغلة في حنايا نفسها‪ ،‬ومتأصلة في دمها وتكوينها‪ .‬فهي إذا‬ ‫درست سياسة الدول الكبرى فإ ةّنما تدرسها كواقع لتعالجه بأفكار‬ ‫الشرع وأحكامه‪ ،‬وتقاومه بما يتطلبه من سياسة وحرب‪ ،‬وتدرك‬ ‫كيف تسير‪ ،‬وتعرف أين الدرب‪ .‬وهي ترى أن انجلترا إ ةّنما‬ ‫تستعمرها كشعب‪ ،‬وأن فرنسا إ ةّنما تغزوها ككيان‪ ،‬وأن روسيا إ ةّنما‬ ‫تسيطر عليها كأ ةّمة‪ ،‬وأن روسيا إ ةّنما تبسط نفوذها كأ ةّمة واحدة وإن‬ ‫كانت شعوبا‪ .‬حين ترى ذلك تدرك أنها هي بوصفها أ ةّمة هي‬ ‫الهدف من ذلك الستعمار والغزو والسيطرة والنفوذ‪ ،‬وأن‬ ‫استغللها وغزوها والسيطرة عليها‪ ،‬وبسط النفوذ فوق ربوعها‪ ،‬ل‬ ‫يتم إل ةّ بتجزئة بلدها إلى دول‪ ،‬وبتفرقة صفوفها إلى شعوب‪،‬‬ ‫وسحب سر قوتها بإقصاء دينها عن الحياة‪.‬‬ ‫فاستعمار ال ةّمة السلمية‪ ،‬وغزوها‪ ،‬والسيطرة عليها‪ ،‬وبسط‬ ‫النفوذ فوق ربوعها‪ ،‬ليس المقصود منه الوجه المادي‪ ،‬وإن كان‬ ‫هو الحاصل‪ ،‬ول نهب خيرات البلد السلمية وإن كان هو الجاري‪،‬‬ ‫بل المقصود الساسي‪ ،‬والدافع الصلي‪ ،‬هو بعد أن تمت هزيمتها‬ ‫في ميادين الحرب والفكر‪ ،‬هو الحيلولة دون أن تعود مرة أخرى‬ ‫لحمل رسالتها إلى العالم‪ ،‬والخوف منها من أن تحطم قوى الشر‪،‬‬ ‫وتدك صروح الطغيان‪ .‬هذا هو الساس‪ ،‬وهذا هو الصل‪ ،‬وهذا‬ ‫هو وجه القضية كلها‪ .‬فالموضوع إذن ليس الستعمار فحسب‪ ،‬بل‬ ‫الموضوع هو تحطيم هذه ال ةّمة تحطيما تاما ومحوها من الوجود‬ ‫‪-82-‬‬


‫بوصفها أ ةّمة إسلمية‪ ،‬حتى ل تعود مرة أخرى لحمل رسالتها إلى‬ ‫العالم‪.‬‬ ‫وإذا كان التاريخ‪ ،‬وواقع ما يجري من التضليل للمسلمين‪،‬‬ ‫يكفي برهانا على أن هذا هو وجه القضية وليس الستغلل ونهب‬ ‫الخيرات‪ ،‬ولكنه يمكن أن ُيستأنس لرؤية الواقع الحقيقي لوجه‬ ‫القضية بالبصيرة والبصر‪ ،‬بما حصل للمانيا‪ ،‬وبواقع قضية ألمانيا‪،‬‬ ‫بعد الحرب العالمية الثانية‪ ،‬وانتصار العد ةّوين اللدودين‪ :‬الدول‬ ‫الشيوعية والدول الرأسمالية على ألمانيا‪ .‬فها هي ذي ألمانيا‪ ،‬ال ةّمة‬ ‫العظيمة‪ ،‬والقوة المرهوبة‪ ،‬قد وقفت منها القوى الشيوعية‬ ‫والقوى الرأسمالية‪ ،‬موقفا واحدا هو الحرص على عد‪،‬م عودتها‬ ‫أ ةّمة عظيمة كما كانت‪ ،‬حتى ل تشكل خطرا على الجميع‪ .‬فالدول‬ ‫الرأسمالية من مصلحتها أن تعود ألمانيا قوة مرهوبة لتقف في‬ ‫وجه الشيوعية وتحرس أوروبا من غزو روسيا‪ ،‬وقد رأت هذه‬ ‫المصلحة جلية‪ ،‬بعد الحرب العالمية الثانية وحتى أواخر‬ ‫الخمسينات‪ ،‬ولكن إصرار روسيا على استمرار خضوع ألمانيا‬ ‫والحيلولة دون رجوعها أ ةّمة كبرى‪ ،‬وخوف فرنسا من ألمانيا‪،‬‬ ‫وذبذبة موقف انجلترا‪ ،‬وخشية أمريكا من فقدان التوازن بين دول‬ ‫أوروبا‪ ،‬كل ذلك جمع كلمة العالم القوي‪ ،‬على الحيلولة دون أن‬ ‫ترجع ألمانيا أ ةّمة عظيمة أو أ ةّمة كبرى‪ .‬فالغاية من ذلك ليس‬ ‫استعمار ألمانيا‪ ،‬ول نهب خيراتها‪ ،‬وإن كان فرض السيطرة وبسط‬ ‫‪-83-‬‬


‫ل‪،‬‬ ‫النفوذ واستغلل القتصاد اللماني والجهد اللماني حاصل ع ً فع ع ً‬ ‫فإن الدافع الساسي ليس الستغلل وبسط النفوذ‪ ،‬بل الدافع‬ ‫الساسي هو اتقاء خطر ألمانيا‪ ،‬ومحافظة كل دولة من هذه‬ ‫الدول المتفقة ضد ألمانيا على بلدها وأمنها ودولتها‪ .‬وهذا بالنسبة‬ ‫للمانيا وهي ل تملك فكرة كلية عن الكون والنسان والحياة تهدد‬ ‫تلك المم‪ ،‬ول تحمل دعوة سامية إلى العالم‪ ،‬فكيف بال ةّمة‬ ‫السلمية التي هي أقوى من ألمانيا بالقوة والعدد والثروة‪ ،‬وهي‬ ‫تملك أقوى فكرة‪ ،‬وتحمل أعظم دعوة؟ إن هذا المثل وحده‪،‬‬ ‫كاف للستئناس فضل ع ً عن التاريخ لدراك حقيقة الستعمار‬ ‫والغزو والسيطرة والنفوذ‪ ،‬الواقع على ال ةّمة السلمية‪ .‬لذلك فإنه‬ ‫من المحتم أن توضع قضية البلد السلمية في موضعها الصحيح‪،‬‬ ‫وأن ُتبسط حسب وجهها الحقيقي‪ ،‬وأن ُيعمل لها على أساس أ ةّمة‬ ‫إسلمية ليس غير‪.‬‬ ‫لقد مر استعمار الدول العدوة لل ةّمة السلمية‪ ،‬وغزوها‪،‬‬ ‫والسيطرة عليها‪ ،‬وبسط النفوذ فوق ربوعها‪ ،‬في أدوار نحن في‬ ‫آخرها‪ ،‬ووصلت الرصاصة التي انطلقت لقتلها مداها الذي تفقد‬ ‫فيه حرارتها واندفاعها‪ .‬والعدو يظن أن الضحية وصلت دور النزع‬ ‫الخير‪ ،‬والواقع أنها ل تزال حية‪ ،‬وازدادت معرفة وقوة‪ .‬ولذلك‬ ‫فإن تحركها صار أسهل من قبل‪ ،‬وأقرب للنجاح من أي وقت‬ ‫مضى‪ .‬وحاجة العالم إليها وإلى دعوتها وصلت إلى حد الجوع‬ ‫‪-84-‬‬


‫ممِلح‪ ،‬ولذلك فإنه آن الوان لن تتحرك ال ةّمة السلمية وتندفع‬ ‫ال ُ‬ ‫وتزمجر لنقاذ هذا العالم التعيس‪.‬‬ ‫لقد بدأت غزوة أعداء ال ةّمة السلمية لها منذ القرن الحادي‬ ‫عشر الهجري وهي في أوج قوتها‪ ،‬وفي عنفوان مجدها‪ ،‬حيث‬ ‫كان من المسَّلمات أن الجيش السلمي ل ُيغلب‪ ،‬وذلك في القرن‬ ‫السابع عشر الميلدي‪ ،‬ولكنها بدأت غزوة فكرية لفراد ال ةّمة‬ ‫السلمية ومجتمعها‪ ،‬ثم لما حصل النقلب الصناعي في أوروبا‬ ‫اغتنمه العداء فرصة ذهبية‪ ،‬فاتخذوه وسيلة للغزو الفكري‪ ،‬وأداة‬ ‫ما أحسوا‬ ‫للغزو السياسي‪ ،‬واستعملوه قوة للغزو العسكري‪ .‬ول ةّ‬ ‫عجزهم عن القضاء على الخلفة التي تجمعها‪ ،‬اتخذوا أسلوب‬ ‫تقطيع أطرافها منها‪ ،‬فبدأوا باقتطاع البلد السلمية بلدا بلدا حتى‬ ‫ع ًيجهزوا على خليفة المسلمين‪.‬‬ ‫ح ةّدث التاريخ عن نابليون أنه حين غزا مصر واحتلها‪ ،‬جمع‬ ‫ضباط وأركان جيشه في غرفة واسعة وضع فيها سجادة كبيرة‪،‬‬ ‫ووضع في وسط السجادة قبعة‪ ،‬وقال لضباطه‪ :‬من منكم يأتيني‬ ‫بالقبعة؟ فمشى ضابط لحضارها‪ ،‬فقال له‪ :‬ل حَتُدس على‬ ‫السجادة‪ ،‬فحاول آخر أن يأخذ القبعة بعصا طويلة‪ ،‬فقال له‪ :‬هاتها‬ ‫بيدك‪ ،‬وهكذا حاول عدة ضباط إحضار القبعة فلم يفلح أحد‬ ‫بإحضارها وفق الطريقة التي يريدها نابليون‪ .‬فقال لهم‪ :‬نطوي‬ ‫السجادة ونتناول القبعة‪ .‬ثم التفت إليهم وقال‪ :‬هذه القبعة مثل‬ ‫‪-85-‬‬


‫الخلفة‪ ،‬وهذه السجادة مثل البلد السلمية‪ ،‬فل يمكن أخذ‬ ‫القبعة باليد إل ةّ بطي السجادة‪ ،‬ول يمكن إزالة الخلفة إل ةّ بأخذها‬ ‫بلدا بلدا كطي السجادة‪ ،‬ثم يمكن إزالة الخلفة بكل يسر‪ ،‬وها‬ ‫نحن أخذنا مصر‪ ،‬ثم نأخذ بلد الشا‪،‬م‪ ،‬وهكذا حتى نزيل الخلفة‪.‬‬ ‫وهكذا صارت دول الغرب تقتطع بلد السل‪،‬م بلدا بلدا حتى‬ ‫كانت الحرب العالمية الولى‪ ،‬فتمكنوا بعد انتصارهم في تلك‬ ‫الحرب من إزالة الخلفة‪ ،‬وتقطيع ال ةّمة السلمية بتجزئة بلد‬ ‫السل‪،‬م إلى مستعمرات ثم إلى دول‪ ،‬وتفريق صفوف المسلمين‬ ‫إلى شعوب وقوميات‪ ،‬فاستطاعوا الستيلء على ال ةّمة السلمية‬ ‫وتحطيمها‪ ،‬وهم يحاولون الجهاز عليها لتلفظ النفس الخير‪.‬‬ ‫فهذه المراحل التي مرت على ال ةّمة السلمية قد وصلت‬ ‫آخرها‪ ،‬فالعدو قد خرج بقواه العسكرية التي لم تكن لنا طاقة‬ ‫مادية مِقحَبحَلها‪ ،‬وظهر عواره الفكري وفساد وجهة نظره للناس‬ ‫ضحوا حتى لم يعد دجلهم وتضليلهم‬ ‫هُزل عملؤه وُف مِ‬ ‫جميعا‪ ،‬و حَ‬ ‫ينطلي حتى على أتباعهم والمنتفعين منهم‪ ،‬وأصبح نفوذه مخفيا‬ ‫بالثواب الرقيقة المهلهلة التي ل تكاد تخفيه‪ ،‬وتزلزلت أركان‬ ‫قواعده التي جعلها رأس جسر له مثل اسرائيل وقبرص ولبنان‪.‬‬ ‫لذلك صارت الفرصة مواتية ل لخلعه من بلد السل‪،‬م ورفع‬ ‫كابوسه عن ال ةّمة السلمية فحسب‪ ،‬بل صارت مواتية لذلك وحمل‬ ‫الدعوة السلمية إلى العالم‪ .‬وهي فرصة طويلة‪ ،‬ل تنقضي‬ ‫‪-86-‬‬


‫بشهور وسنوات‪ ،‬بل إنها تمتد إلى عدة سنين‪ ،‬وهي في كل يو‪،‬م‬ ‫تكون مواتية أكثر من اليو‪،‬م الذي قبله‪ .‬لن العداء يزداد انكشافهم‬ ‫طمِرد رفع قبضتهم اطرادا ظاهرا‪ .‬لذلك‬ ‫ويزداد انهيار تدجيلهم‪ ،‬وي ةّ‬ ‫فإن ال ةّمة السلمية ل شك أنها ستتحرك‪ ،‬ول شك أنها ستندفع‪ ،‬ول‬ ‫شك أنها ستزمجر‪ ،‬فإنها تشاهد كل ما مر ويمر بها من كيد أعدائها‬ ‫وبطشهم‪ ،‬وتشاهد أين وصل مدى هذا العدو الزرق‪ .‬وهذا ما‬ ‫يجعلنا على مثل اليقين بالنصر العزيز‪.‬‬ ‫إن دول العالم كلها عدوة لل ةّمة السلمية‪ ،‬لنها دول كافرة‪،‬‬ ‫وهي تتربص بشكل دائم بالسل‪،‬م والمسلمين‪ ،‬لتومِقع بهم الذى‬ ‫والفرقة والشتات‪ .‬والسل‪،‬م ع ةّلمنا أن العالم كله داران ل ثالث‬ ‫لهما‪ :‬دار إسل‪،‬م ودار كفر‪ .‬وأن المسلمين حَيعتبرون أن أهل دار‬ ‫حكمية‪ ،‬أي‬ ‫الكفر هم أهل حرب‪ ،‬فهم في حالة حرب معهم‪ ،‬إما ُ‬ ‫حكمهم أنهم أهل حرب‪ ،‬وإما في حالة حرب فعلية‪ ،‬حين تكون‬ ‫ُ‬ ‫حالة الحرب المعحَلنة بينهم وبين ال ةّمة السلمية‪ .‬والرسول صلى‬ ‫ت أن أقاتل الناس حتى يقولوا ل‬ ‫ا عليه وآله وسلم يقول‪ُ) :‬أمر ُ‬ ‫إله إل ةّ ا محمد رسول ا فإذا قالوها عصموا مني دماءهم‬ ‫وأموالهم إل ةّ بحقها(‪ ،‬وكلمة )الناس( اسم جنس محلى باللف‬ ‫والل‪،‬م‪ ،‬فتشمل جميع الناس الكفار في جميع العصور‪ .‬إل ةّ أن‬ ‫عمله صلى ا عليه وسلم أنه كان يقاتل حتى تتحول دار الكفر‬ ‫إلى دار إسل‪،‬م‪ ،‬فإن تحولت يوحَقف القتال ول ُيكره الناس على‬ ‫‪-87-‬‬


‫اعتناق السل‪،‬م‪ ،‬لن ا تعالى يقول‪) :‬ل إكراه في الدين(‪ ،‬ولنه‬ ‫عليه السل‪،‬م يقول‪) :‬ل ُيفحَتن أحد عن دينه(‪ ،‬ولننا ُأمرنا أن نترك‬ ‫الناس وما يعتقدون وما يعبدون‪ .‬فالدول الكافرة كلها دول‬ ‫محاربة ما دامت دار كفر‪.‬‬ ‫إل ةّ أن الدول الكبرى التي تفرض سيطرتها على بلد السل‪،‬م‪،‬‬ ‫هي أشد الدول عداوة‪ ،‬وأكثرها خطرا على بلد السل‪،‬م‪ .‬وهي‬ ‫التي تتحكم في العالم وتذيقه من ألوان الظلم والشقاء‪ .‬ولذلك‬ ‫فإن ال ةّمة السلمية مكلفة بإنقاذ العالم من هذه الدول‪،‬‬ ‫وبالوقوف في وجه هذه الدول‪ ،‬والدخول معها في صراع‬ ‫سياسي كحالة لتبليغ السل‪،‬م ونشر دعوته‪ ،‬ومكلفة بإعداد القوة‬ ‫الكافية للدخول مع أي منها في حرب فعلية إذا اقتضى ذلك حمل‬ ‫الدعوة أو تحرير البلد السلمية والدفاع عنها‪ .‬ومن هنا‪ ،‬كان‬ ‫المسلمون في حالة جهاد دائم وكان الجهاد باقيا ومستمرا حتى‬ ‫قيا‪،‬م الساعة‪ ،‬وكان فرضا كفرض الصلة‪ ،‬ل يسقط عن أي مسلم‬ ‫حتى تحصل الكفاية برد العدو‪ ،‬أو تحرير البلد‪ ،‬أو نشر الدعوى‬ ‫حيث يجب نشرها‪.‬‬ ‫ومن هنا كان الجهاد هو الصفة التي يجب أن تتحول إلى‬ ‫سجية من سجايا ال ةّمة السلمية‪ ،‬لنه الطريقة لحمل الدعوة إلى‬ ‫العالم‪.‬‬ ‫والدول الكبرى المتحكمة في العالم هي العملقان‬ ‫‪-88-‬‬


‫الجباران‪ :‬أمريكا وروسيا‪ ،‬والدولة الماكرة الخبيثة التي ُتعتبر رأس‬ ‫الكفر بالنسبة للمسلمين‪ ،‬أل وهي انجلترا ثم فرنسا‪ ،‬التي ل تزال‬ ‫تحاول تركيز نفوذها في بعض بلد السل‪،‬م‪ ،‬ول تزال تحاول بسط‬ ‫سيطرتها أو نفوذها حيثما قدرت من بلد السل‪،‬م‪ .‬ولذلك كان‬ ‫الصراع السياسي المستمر هو مع هذه الدول جميعها بل استثناء‪،‬‬ ‫وأ ةّما باقي الدول الكافرة فإنها ليست ذات موضوع الن‪.‬‬ ‫والسؤال الذي حَيمِرد الن هو‪ :‬هل يكون الصراع مع هذه‬ ‫الدول مجتمعة‪ ،‬وهذا ليس بالسياسة الحكيمة‪ ،‬أ‪،‬م يكون الصراع‬ ‫هد البعض الخر‪ ،‬حتى ل تتكتل القوى ضدنا؟‬ ‫مع بعضها ويعا حَ‬ ‫والجواب على ذلك أن الصراع مع الكفار يأخذ ناحيتين اثنتين‪:‬‬ ‫إحداهما الصراع الفكري وهو ما ُيطلق عليه الصراع السياسي‪،‬‬ ‫والثاني الصراع الدموي‪ ،‬وهو الحرب الفعلية التي هي الجهاد‪ .‬أ ةّما‬ ‫الصراع الفكري‪ ،‬أي الصراع السياسي فإنه يجب أن يكون مع‬ ‫جميع هذه الدول مرة واحدة‪ ،‬ول تهاحَدن أية دولة في هذا الصراع‪،‬‬ ‫لن طبيعة التناقض بين مبدأ السل‪،‬م ومبدأي الرأسمالية‬ ‫والشتراكية ومنها الشيوعية‪ ،‬تقتضي دوا‪،‬م المواجهة بينهما‪ ،‬ولن‬ ‫هذه الدول تجعل العمال السياسية طريقة للسيطرة وبسط‬ ‫النفوذ‪ ،‬ولذلك فإن طبيعة الواقع الدولي تقتضي دوا‪،‬م الصراع‬ ‫السياسي مع الجميع‪.‬‬ ‫أ ةّما الصراع الدموي‪ ،‬وهو الحرب الفعلية‪ ،‬فإن الظروف‬ ‫‪-89-‬‬


‫والحوال هي التي تقرره‪ ،‬وهو الحالة الخيرة التي ُيلجأ إليها إذا‬ ‫تعذرت أو تعسرت سائر الحالت‪ .‬والرسول صلى ا عليه وسلم‬ ‫هادن بعض الدول من أجل أن يحارب بعضها الخر‪ ،‬كما فعل في‬ ‫الحديبية وفي موقعة خيبر‪ ،‬وهادن القبائل من أجل أن يتفرغ إلى‬ ‫ن شر قريش دخل في حرب فعلية مع دولة‬ ‫ما أمِم حَ‬ ‫حرب قريش‪ .‬ول ةّ‬ ‫الرو‪،‬م‪ .‬فمهادنة دولة والدخول في حرب مع دولة أخرى جائز‪،‬‬ ‫ويمكن أن ُيسلك هذا الطريق‪ ،‬لن الرسول عليه الصلة والسل‪،‬م‬ ‫فعله‪ ،‬ولن الظروف وحجم القوى‪ ،‬قد يضطر ال ةّمة السلمية إلى‬ ‫المهادنة‪ .‬سواء أكان ذلك في بدء الحرب‪ ،‬أو في مهاجمة دولتين‬ ‫أو أكثر لبلد السل‪،‬م‪ .‬فإنه عليه الصلة والسل‪،‬م حين هاجمته‬ ‫قبائل العرب في موقعة الحزاب‪ ،‬وحاصرته في المدينة‪ ،‬ه ةّ‬ ‫ب‬ ‫لمحاربتها جميعها‪ ،‬ولكنه حين طال الحصار‪ ،‬وخشي من أن تفنيهم‬ ‫قوى القبائل المتجمعة والمتكتلة لحربه والقضاء عليه وعلى‬ ‫جمة على أن يدفع‬ ‫م بعقد الصلح مع بعض القبائل المها مِ‬ ‫دولته‪ ،‬ه ةّ‬ ‫لها مال ع ً مقابل انصرافها عنه‪ ،‬لول أن السعدين‪ :‬سعد بن عبادة‬ ‫وسعد بن معاذ قال له‪ :‬إنا ل نعطي الدن ةّية أبدا‪ ،‬فإنا لم نعطها‬ ‫ونحن كفار‪ ،‬فهل نعطيها وقد كرمنا ا بالسل‪،‬م؟ حينئذ عدل‬ ‫الرسول عن المعاهدة وقال لمن كان سيو ةّقع المعاهدة معهم‪:‬‬ ‫اذهبوا فليس لكم إل ةّ السيف‪ .‬واستمر بالحرب ضد القبائل كلها‬ ‫حتى نصره ا ذلك النصر المؤزر‪.‬‬ ‫‪-90-‬‬


‫فمحاربة دولة ومهادنة دولة أخرى جائز‪ ،‬كما أن محاربة‬ ‫الدول المتكتلة مهما بلغت قوتها جائز كذلك‪ .‬والذي يقرر هذا إ ةّنما‬ ‫هو الظروف والحوال‪ .‬وما يسمى بالحرب الباردة حكمها حكم‬ ‫الحرب الفعلية في هذا المجال‪ ،‬لنها تؤدي إلى الحرب الفعلية‪،‬‬ ‫ولنها ل تخاض إل ةّ إذا كانت القوى المادية كافية للنصر فيما لو‬ ‫دخلت الدولة التي نشتبك معها في حرب باردة‪ ،‬في حرب فعلية‬ ‫معنا‪ .‬فالحرب الفعلية وما يسمى بالحرب الباردة‪ ،‬ل ندخل فيها إل ةّ‬ ‫إذا كانت قوانا نصف قوى عدونا‪ ،‬ويجوز لنا أن نقف ضدها جميعا‬ ‫إذا تكتلت في حلف واحد‪ ،‬أو أن نعاهد بعضها ونقف في وجه‬ ‫البعض الخر‪ ،‬ل فرق في ذلك بين أن يكون تكتلها للحماية‬ ‫والتهديد‪ ،‬كما كانت الحال بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي‬ ‫بعد الحرب العالمية الثانية حتى أوائل الستينات‪ ،‬وبين أن تدخل‬ ‫متكتلة في حرب فعلية ضدنا‪ ،‬كما كانت حال الحلفاء في الحرب‬ ‫العالمية الثانية ضد ألمانيا‪ .‬ولذلك فإن موقفنا تجاه هذه الدول‬ ‫الربع إ ةّنما تقرره الظروف والحوال‪.‬‬ ‫والقضية التي فرضت نفسها على ال ةّمة السلمية في‬ ‫سبعينات القرن العشرين الميلدي هي تحرير ال ةّمة السلمية كلها‬ ‫من سيطرة هذه الدول الربع‪ ،‬ومن نفوذها‪ ،‬أي تحريرها من‬ ‫الستعمار والنفوذ‪ ،‬ولكنا ل يصح أن نخوض العراك بشأنها‬ ‫للتحرير‪ ،‬بل يجب أن نخوضها لحمل الدعوة إلى العالم وإنقاذه‬ ‫‪-91-‬‬


‫مما هو فيه‪ ،‬والتحرير يكون وسيلة ل غاية‪ ،‬وأداة وليس قصدا‪ ،‬لن‬ ‫مهمتنا هي حمل الدعوة السلمية إلى العالم‪ .‬والتحرير أمر‬ ‫بديهي من البديهيات‪ ،‬إذ الصل أن نكون أ ةّمة تحمل الدعوة ل أ ةّمة‬ ‫مستعمرة‪ .‬ولن القتال حتى يكون جهادا ل بد أن يكون لعلء‬ ‫كلمة ا‪ .‬وكلمة )ا( هي حمل دعوة السل‪،‬م‪ ،‬فحتى جهاد‬ ‫التحرير يجب أن يكون لعلء كلمة ا‪ .‬فنحن حين نقاتل لتحرير‬ ‫فلسطين‪ ،‬ل نقاتل من أجل برتقال يافا‪ ،‬ول نقاتل من أجل أن‬ ‫ُنرجع أوطاننا إلينا‪ ،‬وإ ةّنما نقاتل لعلء كلمة ا‪ ،‬ول يتأتى ذلك إل ةّ‬ ‫بالتحرير‪ .‬فكان القتال من أجل إعلء كلمة ا ل من أجل التحرير‪.‬‬ ‫على أن واقع الحال يقضي بذلك ويستوجبه‪ .‬فنحن حين‬ ‫نقاتل لتحرير السنغال ونيجيريا والسودان‪ ،‬وتحويلها من دار كفر‬ ‫إلى دار إسل‪،‬م‪ ،‬ل نتوقف عند حدود روديسيا حتى نحرر الجزائر‪،‬‬ ‫ول عند حدود الكونغو حتى نح ةّول اندونيسيا‪ ،‬بل نسير في الجهاد‬ ‫لحمل الدعوة حسب مقتضيات الظروف والحوال‪ ،‬وفق ما لدينا‬ ‫من القوة‪ .‬فنحن نقاتل لتحويل كل دار كفر إلى دار إسل‪،‬م‪ ،‬سواء‬ ‫أكان أهلها من المسلمين كباكستان‪ ،‬أو كانوا من الكفار كالهند‪.‬‬ ‫ومن أجل ذلك يجب أن يكون الصراع مع هذه الدول الربع من‬ ‫أجل حمل الدعوة السلمية ل من أجل التحرير‪ .‬فإنه وإن كانت‬ ‫القضية التي فرضت نفسها على المسلمين هي التحرير‪ ،‬ولكن‬ ‫الصراع يجب أن يكون من أجل حمل الدعوة السلمية‪ ،‬وإن كان‬ ‫‪-92-‬‬


‫ل يتأتى ذلك بالنسبة للبلد السلمية إل ةّ بالتحرير‪ ،‬وحتى العمل‬ ‫للتحرير نفسه ل يصح أن يكون إل ةّ لعلء كلمة ا‪.‬‬ ‫قلنا إن استعمار الدول العدوة للبلد السلمية قد وصل إلى‬ ‫آخر أدواره وصارت الفرصة مواتية لمواجهته وطرده‪ ،‬وهذا واقع‬ ‫هد ل شك فيه‪ .‬فإن العدو ل يستعمل ليجاد سيطرته ونفوذه‪،‬‬ ‫مشا حَ‬ ‫وللحتفاظ بهذه السيطرة وذلك النفوذ‪ ،‬إل ةّ العمال السياسية‪) ،‬‬ ‫‪ 0000000‬سطر ناقص ‪ (00000000‬ل يشكل خطرا عليه‪ .‬ولذلك‬ ‫فإن الصراع مع العدو تكفي فيه العمال السياسية‪ ،‬والستعداد‬ ‫للستشهاد وإعداد القوة لتشكيل الخطر على العدو إذا فكر‬ ‫باللجوء للقوى العسكرية‪ .‬هذان المران‪ ،‬وهما‪ :‬العمال‬ ‫السياسية‪ ،‬والستعداد للستشهاد وإعداد القوة الكافية لتشكيل‬ ‫الخطر على العدو‪ ،‬كافيان للتحرير‪ ،‬أي كافيان لحمل الدعوة‬ ‫والنجاح في التحرير‪.‬‬ ‫ولذلك ما على ال ةّمة السلمية إل ةّ أن حَتححَذق العمال‬ ‫عد الع ةّدة للجهاد‪ .‬ولذلك صار المر أسهل مما كان‪،‬‬ ‫السياسية‪ ،‬وُت مِ‬ ‫فل تحتاج لقوة مادية تعدل قوى العدو المادية‪ ،‬فل تحتاج لقوة‬ ‫تعادل قوى الدول الربع الكبرى‪ ،‬حتى ول قوة تعادل قوة‬ ‫أضعفها‪ .‬لن التحرير صارت تكفيه العمال السياسية‪ ،‬والحتياط‬ ‫لما قد ُيحتمل من التدخل العسكري المحدود‪ .‬ولهذا فإنه ل عذر‬ ‫لحد عن النهوض للضطلع بأعباء التحرير وحمل الدعوة‪ ،‬ولم‬ ‫‪-93-‬‬


‫يبق أي مجال ول أي مبرر لللتصاق بالرض والقعود عن العمل‪.‬‬ ‫إن العمال التي تقو‪،‬م بها الدول العدوة في بلد السل‪،‬م‪،‬‬ ‫سمة بينها‪ ،‬ومنفصلة بعضها عن بعض‪ ،‬حتى يقال إننا‬ ‫ليست مق ةّ‬ ‫نخاصم انجلترا أول ع ً ونهادن أمريكا‪ ،‬أو نخاصم أمريكا ونهادن‬ ‫روسيا‪ 0000000) ،‬سطر ناقص ‪ (00000000‬السلمية لفرض‬ ‫السيطرة وبسط النفوذ‪ .‬وإن اقتسما العالم بينهما ومنه بلد‬ ‫السل‪،‬م‪ ،‬فإنهما يعملن معا في العالم كله‪ ،‬فإن روسيا تعمل في‬ ‫مصر وسوريا مع أنهما من منطقة أمريكا‪ ،‬وأمريكا تعمل في كوريا‬ ‫وفيتنا‪،‬م مع أنهما من منطقة روسيا‪ ،‬ول يترددان في المنافسة على‬ ‫تنزانيا وجنوب افريقيا وإن كانت منافسة رياضية ليس فيها كبير‬ ‫عداء‪ ،‬ولذلك فإنه ل يمكن الصراع مع إحداهما ومهادنة الخرى‪،‬‬ ‫لن ذلك ل يتأتى في الواقع إل ةّ ضدهما معا‪ ،‬ومن أجل ذلك ل حَتمِرد‬ ‫المهادنة في هذا المجال‪ .‬وأيضا فإن انجلترا تعمل في ماليزيا‬ ‫وتونس‪ ،‬ولكن أمريكا تعمل في كل منهما لفرض سيطرتها وبسط‬ ‫نفوذها‪ ،‬وإنه وإن كانت أمريكا تصارع انجلترا فيهما فإن هذا‬ ‫الصراع تناُفس على المغانم ل صراع حرب وعداء‪ ،‬وما هما إل ةّ‬ ‫كلعبين يقومان بلعبة ضد بعضهما‪ ،‬فأيهما يغلب يربح‪ ،‬وإن كانت‬ ‫مادة اللعبة هي تونس وماليزيا‪ ،‬أي هي بلد الشا‪،‬م‪ .‬ولهذا ل‬ ‫يمكن الدخول في صراع مع أحدهما ومهادنة الخر‪ ،‬بل ل بد من‬ ‫الدخول في صراع معهما معا مهما كلف ذلك من مغامرة‬ ‫‪-94-‬‬


‫وتضحيات‪.‬‬ ‫ولهذا فإن الصراع ضد الدول العدوة لتحرير بلد السل‪،‬م‪ ،‬ل‬ ‫بد أن يكون صراعا معها جميعا‪ ،‬وأن ل تكون أية مهادنة مع أية‬ ‫دولة من هذه الدول‪ ،‬ول أية مساعدة من إحداها ولو ضد الخرى‪،‬‬ ‫لن هذا ل يتأتى‪ ،‬بل هو عمل لتركيز سيطرة الكفر ل لتحرير البلد‬ ‫من العداء‪ .‬ومن هنا كان لزاما على ال ةّمة السلمية أن تصارع‬ ‫الدول الربع في وقت واحد‪ ،‬دون أية مهادنة‪ ،‬ودون أية استعانة‪،‬‬ ‫بل دون أية مغازلة أو استمالة‪ .‬فالموضوع هو إخراج الدول‬ ‫الكافرة من بلد السل‪،‬م‪ ،‬وليس هو عداء دولة ما‪ ،‬والستعانة‬ ‫بمنافستها ضدها‪ .‬ولذلك كان من الخطأ والخطر ما قا‪،‬م به زعماء‬ ‫مصر من الستعانة بأمريكا لخراج انجلترا‪ ،‬وما فعله زعماء بلد‬ ‫الشا‪،‬م من الستعانة بانجلترا لخراج فرنسا‪ .‬فالعدو ل يستعان‬ ‫مر آخر‪ ،‬والتفاضل‬ ‫مر ل يستعان عليه بمستع مِ‬ ‫عليه بعدو‪ ،‬والمستع مِ‬ ‫بينهما كالتفاضل بين العمى بالماء الزرقاء أو العمى بالماء‬ ‫السوداء‪ ،‬بل كله عمى‪ ،‬ول تفاضل في العمى‪.‬‬ ‫والعمال السياسية هي العمال التي يقا‪،‬م بها من أجل‬ ‫رعاية شؤون الناس‪ ،‬سواء أقا‪،‬م بها أفراد‪ ،‬أ‪،‬م قامت بها أحزاب‬ ‫وتكتلت‪ ،‬أو قامت بها دولة أو دول‪ .‬والعمال السياسية موجودة‬ ‫منذ نشأة الجماعات على الرض‪ ،‬فالقبائل كانت تقو‪،‬م بأعمال‬ ‫سياسية‪ ،‬والزعماء كانوا يقومون بالعمال السياسية‪ ،‬وسيظل‬ ‫‪-95-‬‬


‫الناس يقومون بالعمال السياسية ما دا‪،‬م هناك جماعات ترعى‬ ‫شؤونها‪ .‬وعلى ذلك فإن القيا‪،‬م بالعمال السياسية ل يستوجب‬ ‫ححَذقا بفن الحكم‪ ،‬بل بإمكان كل فرد‬ ‫مهارة في السياسة‪ ،‬ول حَ‬ ‫وكل جماعة وكل دولة أن تقو‪،‬م بالعمال السياسية‪ ،‬إل ةّ أن‬ ‫جه إليها العناية الفائقة من مِقبل‬ ‫العمال السياسية التي يجب أن ُتو َّ‬ ‫أي شعب يريد التحرر‪ ،‬ومن مِقبل أية أ ةّمة تحمل رسالة للناس‪ ،‬إ ةّنما‬ ‫هي العمال المتعلقة بالدول الجنبية‪ ،‬ول سيما العمال المتعلقة‬ ‫بكفاح الدول الستعمارية‪ ،‬وباتقاء خطر الدول الطامعة‪ .‬ومن هنا‬ ‫كان لزاما على ال ةّمة السلمية‪ ،‬وهي تريد التحرر‪ ،‬وتحمل الدعوة‬ ‫السلمية‪ ،‬أن تعطي العمال السياسية المتعلقة بالدول الجنبية‬ ‫أهمية فائقة‪ ،‬وأفضلية على سائر العمال‪ ،‬وأن توضع في رأس‬ ‫القائمة من أولويات العمال‪.‬‬ ‫وإذا استعرضنا العمال السياسية في الماضي والحاضر‬ ‫نجدها تمل صفحات التاريخ‪ ،‬والتاريخ كله أعمال سياسية‪ ،‬وتشغل‬ ‫الدنيا كلها في الحاضر‪ ،‬ونجدها أنها هي التي كفلت النصر للدول‪،‬‬ ‫ورفعت منزلة الشعوب والمم‪ ،‬وكانت في كثير من الحيان ُتغني‬ ‫عن الجيوش الجرارة في الفتوحات‪ .‬فالرسول صلى ا عليه‬ ‫وسلم حين كان يعرض نفسه على القبائل‪ ،‬وحين أخذ بيعة العقبة‬ ‫الثانية‪ ،‬وحين أرسل عبد ا بن جحش يتنطس أخبار مكة‪ ،‬وحين‬ ‫نهد لخذ تجارة قريش فكانت هي سبب موقعة بدر‪ ،‬وحين أرسل‬ ‫‪-96-‬‬


‫عرْيما يثِّبط القبائل ويثير فيها الشكوك والتحسبات في موقعة‬ ‫ُن حَ‬ ‫كم‬ ‫الخندق‪ ،‬وحين ذهب لداء العمرة وأقا‪،‬م بالحديبية‪ ،‬وحين ح َّ‬ ‫سعدا في بني قريظة‪ ،‬وحين أرسل الدعاة إلى القبائل‪ ،‬وحين‬ ‫أرسل الكتب إلى الملوك‪ ،‬وحين جاء العباس بأبي سفيان وهو‬ ‫ذاهب إلى مكة‪ ،‬وحين عقد المعاهدات‪ ،‬واستقبل الوفود من‬ ‫جزيرة العرب‪ ،‬وحين باهحَلحَ النصارى الذين جاءوه‪ ،‬وحين أمر‬ ‫بإجلء بني النضير‪ ،‬وحين عَّين حاكم اليمن من مِقبل فارس حاكما‬ ‫عليها بعد أن أسلم‪ ،‬كل ذلك وأمثاله أعمال سياسية‪ ،‬وُقل مثل ذلك‬ ‫في الخلفاء الراشدين وسائر الخلفاء‪ .‬فإن ما يغلب على أعمالهم‬ ‫بالنسبة للدول الجنبية إ ةّنما هو العمال السياسية‪ .‬ولذلك كان يأمر‬ ‫أمير الجيش حين يو ةّليه أن يطلب من القو‪،‬م أن يدخلوا في‬ ‫السل‪،‬م‪ ،‬فإن أبوا عرض عليهم الجزية‪ ،‬فإن أبوا استخار ا‬ ‫وآذنهم بالحرب‪ .‬فالحرب هي آخر عمل ُيلجأ إليه‪ ،‬والسياسة هي‬ ‫ل‪ ،‬ومن هنا كانت العمال السياسية‬ ‫التي يجب أن يقا‪،‬م بأعمالها أو ع ً‬ ‫هي من أهم واجبات ال ةّمة‪ ،‬ومن ألز‪،‬م ما يلز‪،‬م أن تقو‪،‬م به‪ .‬ومن‬ ‫هنا لم يكن غريبا أن تكون العمال السياسية من أهم أعمال‬ ‫التحرير‪ ،‬ومن أهم أعمال حمل الدعوة السلمية‪ ،‬ولول العمال‬ ‫السياسية حَلما تحقق نشر السل‪،‬م‪ ،‬ول أمكن حمل دعوته في هذا‬ ‫العصر‪ ،‬إل أن القيا‪،‬م بالعمال السياسية في هذا العصر يقضي‬ ‫بأن تعرف ال ةّمة أحوال العلقات بين الدول‪ ،‬وأن تتتبع هذه‬ ‫‪-97-‬‬


‫العلقات‪ ،‬وأن تدرك خفاياها ومراميها‪ ،‬وأن تميز بين المناورة‬ ‫وغير المناورة‪ ،‬وأن تفرق بين العمل وأهدافه‪ ،‬وأن تكون واقفة‬ ‫على آخر وضع تكون عليه العلقات‪ ،‬وهذا يقضي بدوا‪،‬م تثقيف‬ ‫ال ةّمة تثقيفا سياسيا‪ ،‬وجعلها تتتبع وتدرك السياسة الخارجية تتبعا‬ ‫كم‬ ‫ح حَ‬ ‫دائما وإدراكا واقعيا‪ ،‬وأن يكون حمل الدعوة السلمية هو ال حَ‬ ‫على هذه السياسة‪ ،‬وهو المسِّير لها‪.‬‬ ‫فمثل ع ً ل يكفي أن تعرف ال ةّمة أن الموقف الدولي قد تغير‪،‬‬ ‫وأن العلقات الدولية صار يشرف عليها ويس ةّيرها دولتان اثنتان‬ ‫هما روسيا وأمريكا‪ ،‬بعد أن كان يشرف عليها ويس ةّيرها معسكران‬ ‫هو المعسكر الشرقي والمعسكر الغربي‪ ،‬بل ل بد أن تعرف أن‬ ‫هاتين الدولتين تسيران كما يسير المعسكران‪ ،‬وكان من الممكن‬ ‫أن يصل الموقف الدولي إلى شفير الحرب ثم يحصل النفراج‪ ،‬بل‬ ‫إن الدولتين العملقتين تلعبان لعبة شطرنج مميتة‪ ،‬وأن الوضع‬ ‫الدولي إذا وصل إلى شفير الحرب فإنه ل توجد قوة تستطيع أن‬ ‫جد النفراج‪ .‬ولذلك فإن الحرب بينهما أخطر وأقرب منها فيما لو‬ ‫تو ٍ‬ ‫بقي الموقف الدولي معسكرين‪ .‬وأنه حين كان الموقف الدولي‬ ‫معسكرين كان من الممكن أن يوجد معسكر ثالث‪ ،‬وكان من‬ ‫الممكن أن تقو‪،‬م دولة فعالة تستطيع أن ترتفع وتنمو حتى تبز‬ ‫الدولة الولى في العالم‪ .‬ولكن بعد أن صار الموقف الدولي‬ ‫محصورا بين عملقين‪ ،‬صار من العسير أن يوجد معسكر ثالث‪،‬‬ ‫‪-98-‬‬


‫ومن الشاق جدا أن تنمو دولة وترتفع لخذ زما‪،‬م المبادرة من‬ ‫الدولتين‪ .‬فالمعرفة الجمالية للقضايا الساسية ل تكفي‪ ،‬بل ل بد‬ ‫من الوقوف على كثير من الخفايا والتفاصيل‪.‬‬ ‫ومثل ع ً ل يكفي أن يعرف الناس أن انجلترا قد نزلت عن‬ ‫مستوى الدولة الكبرى‪ ،‬ولم يعد لها وجود في النظر في الشؤون‬ ‫الدولية‪ ،‬ولم تعد قادرة على التأثير في الموقف الدولي‪ .‬ل يكفي‬ ‫أن ُيعرف ذلك‪ ،‬بل يجب أن ُيعرف أن انجلترا ل تزال موجودة في‬ ‫مستعمراتها عن طريق الكومنولث وعن طريق العملء‪ ،‬وأنها ل‬ ‫تزال تتتبع الشؤون الدولية وتحاول أن تتدخل فيها‪ ،‬ول تزال‬ ‫محافظة على ركائزها التقليدية الثلث‪ ،‬فل تزال تركض وراء‬ ‫أمريكا وتحاول أن تجعلها سندا لها رغم أن أمريكا تحاول إزالة‬ ‫الستعمار النجليزي من الوجود‪ ،‬وتحاول إضعاف النجليز‪ .‬ول‬ ‫تزال تحاول تسخير أوروبا وحفظ التوازن بين الدول الوروبية‪،‬‬ ‫فدخلت السوق المشتركة‪ ،‬وتحاول جر أوروبا لعقد اتفاقيات‬ ‫سياسية تتجاوز الناحية القتصادية‪ .‬ول تزال هي التي تس ةّير سياسة‬ ‫مستعمراتها السابقة سواء في الكومنولث‪ ،‬أو في الدول التي‬ ‫أعطتها استقللها وتركتها حرة أما‪،‬م الناس‪ .‬ل بد أن ُيعرف ذلك‬ ‫حكم على تسيير العلقات الدولية حكما صحيحا‪،‬‬ ‫حتى يكون ال ُ‬ ‫وحتى يكون موقف ال ةّمة السلمية تجاه الموقف الدولي موقفا‬ ‫سليما‪.‬‬ ‫‪-99-‬‬


‫ثم إنها ل بد أن تعرف القضايا على حقيقتها‪ ،‬فتعرف أن ما‬ ‫يسمى حربا في فيتنا‪،‬م إن هو إل ةّ أعمال سياسية حَتتخذ العمال‬ ‫العسكرية أداة من أدوات العمل السياسي‪ .‬وإن فوز برانت في‬ ‫الرجوع إلى الحكم في ألمانيا الغربية‪ ،‬فإنه إ ةّنما رجع بفضل‬ ‫روسيا‪ ،‬وأن أمريكا قد انهزمت في هذه النتخابات‪ ،‬ولذلك فإن من‬ ‫المنتظر أن يتعثر سير برانت ويحتاج إلى زمن أطول‪ ،‬في حين أنه‬ ‫لو نجح مرشح أمريكا وهو الحزب الديمقراطي المسيحي لكان‬ ‫السير في الترتيبات الموضوعة لوسط أوروبا أسرع وأيسر وأكثر‬ ‫ضمانا‪ .‬وأن قضية قبرص ليست بين اليونان والتراك‪ ،‬وإ ةّنما هي‬ ‫بين النجليز والمريكان‪ ،‬وأنها عمل من أعمال تصفية القواعد‬ ‫النجليزية في العالم‪.‬‬ ‫وكذلك ل يكفي أن حَتعرف القضايا المحلية على ظاهرها‪ ،‬بل‬ ‫ل بد أن تدمِرك ما وراءها‪ .‬فمثل ع ً حين تجد نيكسون نجح في‬ ‫انتخابات الرئاسة المريكية للمرة الولى وللمرة الثانية يجب أن ل‬ ‫تنساق مع تيار الدعاية بأن الشعب المريكي مع نيكسون‪ ،‬بل يجب‬ ‫أن تستعرض المور السابقة لترشيح نفسه‪ ،‬فقد سبق أن سقط‬ ‫أما‪،‬م كندي حين رشح لرئاسة الجمهورية‪ ،‬ولم ينجح حين رشح‬ ‫نفسه لحاكمية إحدى الوليات المريكية وسقط سقوطا ذريعا‪ ،‬ثم‬ ‫حلف أن ل يرشح نفسه بعد ذلك مطلقا‪ ،‬واشتغل محاميا عند‬ ‫الشركات الكبرى‪ .‬وهذه الشركات هي التي رشحته وهي التي‬ ‫‪-100-‬‬


‫عملت على إنجاحه في المرة الولى والثانية‪ .‬فإن أمريكا ل‬ ‫صب الرئيس الذي يريد‪ ،‬بل أصحاب‬ ‫يستطيع الشعب فيها أن ين ِّ‬ ‫صبون الرئيس وكيل ع ً‬ ‫الموال الضخمة والرأسماليون هم الذين ين ةّ‬ ‫عنهم من أجل تشغيل أموالهم‪.‬‬ ‫ومثل ع ً حين ُيرى حزب العمال في انجلترا يهاجم حزب‬ ‫المحافظين الحاكم لقبوله شروطا مجحفة لدخوله السوق‬ ‫الوروبية المشتركة‪ ،‬فإنه ل يصح أن ُيظن أن هذا صراع سياسي‬ ‫محلي على الحكم بين حزبين‪ ،‬ول هو غيرة على مصلحة النجليز‪،‬‬ ‫وإ ةّنما هو إيجاد خط رجعة لنجلترا فيما لو لم تستطع تحقيق‬ ‫أهدافها من السوق الوروبية المشتركة‪.‬‬ ‫ومثل ع ً حين ُيرى أن رومانيا تحاول أن تتصرف تصرفا‬ ‫استقلليا‪ ،‬وأنها تعمل للنعتاق من سيطرة روسيا‪ ،‬ومن التعامل‬ ‫مع أمريكا‪ ،‬فإنه ل يصح أن تظن أن هذا هو الواقع‪ ،‬بل يجب أن‬ ‫تعلم أن هذا تحريك من روسيا لرومانيا‪ ،‬بموافقة أمريكا‪ ،‬من أجل‬ ‫أن تلعب دورا رئيسيا في العلقات بين الصين وروسيا‪ ،‬وبين‬ ‫الصين وأمريكا‪.‬‬ ‫وكذلك فإنه ل بد أن تميز القضايا الفرعية من القضايا‬ ‫الصلية‪ ،‬وأن تفرق بين القضايا القتصادية البحتة والقضايا النقدية‬ ‫البحتة وبين القضايا القتصادية السياسية‪ ،‬والقضايا النقدية‬ ‫السياسية‪ ،‬سواء من حيث الدافع أو من حيث الهدف أو من حيث‬ ‫‪-101-‬‬


‫نفس العمال القتصادية والعمال المالية‪.‬‬ ‫وجملة القول‪ ،‬ل بد أن ُتث ةّقف ال ةّمة تثقيفا سياسيا‪ ،‬وأن ُتزَّود‬ ‫بالمعرفة الصحيحة بالسس والتفاصيل‪ ،‬فإنها هي التي تقو‪،‬م‬ ‫بالعمال السياسية‪ ،‬سواء في عمليات التحرير أو في حمل الدعوة‬ ‫السلمية‪.‬‬ ‫‪ 24‬من ذي القعدة سنة ‪1392‬‬ ‫‪29/12/1972‬‬

‫‪-102-‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.