nitkme_7okme

Page 1

‫تقي الدين النبهاني‬

‫نظام الحكم في‬ ‫السلم‬ ‫‪ 1372‬هـ – ‪ 1953‬م‬ ‫من منشورات حزب التحرير‬ ‫القدس‬


‫الطبعة الثانية‬

‫بسم ا الرحمن الرحيم‬ ‫الحكم في السلم‬ ‫عجيب أمــر هــذا الســتعمار كيــف بلغــت قــدرته علــى‬ ‫تصوير الحق الموجودة بصورة الباطــل المعــدوم‪ ،‬أو تصــوير‬ ‫الباطل المعدوم بصورة الحــق الموجــود حــدا جعــل النــاس‬ ‫يكذبون حواسهم‪ ،‬ويقولون عمــا يرونــه بــأعينهم‪ ،‬ويلمســونه‬ ‫بأيديهم‪ ،‬ويدركونه بعقولهم _ يقولون تبعــا للســتعمار _ أنــه‬ ‫غير موجود ؟‬ ‫قــام الســتعمار يقــول لبنــاء المســلمين‪ :‬لــم تكــن‬ ‫للسلم دولة‪ ،‬فيرددون قوله‪ ،‬دون وعي ومــن غيــر شــعور‪،‬‬ ‫ويقول لهم أيضا في نفس الوقت‪ ،‬أن السلم كانت له دولــة‬ ‫دينية روحية‪ .‬فيحكون صدى قــوله فــي نفــس الــوقت أيضــا‪،‬‬ ‫دون وعي ول شعور‪ .‬ويقول لهم في نفس الوقت‪ :‬أن الدين‬ ‫غير الدولة‪ ،‬والدولة غيــر الـدين‪ ،‬يعيـدون هـذا القـول إعـادة‬ ‫خالية من التفكير‪ ،‬ومن الوعي والشعور‪ .‬ثم يقول لهم‪ :‬ل بد‬

‫‪2‬‬


‫من فصل الدين عن الدولة حتى تنجحوا‪ ،‬فيجيبون‪ :‬نعم ل بد‬ ‫من فصل الدين عن الدولة‪.‬‬ ‫وإنه بالرغم من معرفة هؤلء بــأن الــذي يقــول ذلــك‬ ‫هو عدوهم الذي يستعمرهم‪ ،‬فإنهم ل يحلون هذه المعرفة‬ ‫محلها من العتبار‪ ،‬لنهــم مخــدرون بثقافــة هــذا الســتعمار‪.‬‬ ‫وقد نسي هؤلء التاريخ الذي أجمع عليه مؤرخو جميع المم‬ ‫من أن السلم كانت له دولة بدأت منذ استقر الرســول عليــه‬ ‫السلم في المدينة‪ ،‬في السنة الولى من الهجرة‪ ،‬حتى ســنة‬ ‫‪ 1342‬هجرية سنة ‪ 1924‬ميلدية حين سقطت الخلفة على‬ ‫يــد الســتعمار‪ .‬نعــم نســوا هــذا التاريــخ بــالرغم مــن أنهــم‬ ‫تعلموه‪ .‬ويفتري هؤلء على السلم أنه كانت له دولة دينية )‬ ‫روحية (‪ .‬ولــم يــر ِو أحــد مــن المــؤرخين‪ ،‬ول أشــدهم بغضــا‬ ‫للسلم‪ ،‬أنه كانت للسلم دولة ) روحية ( في أي لحظة من‬ ‫لحظات التاريخ‪ .‬كمــا لــم ينكــر أحــد أن الســلم فــي صــميم‬ ‫تشريعه لم يجعل للروح دولة أو سلطان حتى فــي العبــادات‬ ‫نفسها لن مفهوم الروح في السلم غيره في الغرب‪.‬‬ ‫ويجهل هؤلء إسلمهم‪ ،‬أو يتجــاهلونه‪ ،‬فيزعمــون أن‬ ‫الدين في السلم غير الدولــة‪ .‬وقــد أجمــع النــاس مــن غيــر‬ ‫استثناء أن دولة السلم تعني تماما دولــة الــدين الســلمي‪،‬‬ ‫أي الدولة التي تحكم بموجب الدين السلمي‪.‬‬ ‫‪3‬‬


‫ويتجنى هؤلء فينادون بفصل الدين عــن الدولــة‪ .‬ول‬ ‫أدري كيف يبقى دين السلم حيا ول دولة له‪ ،‬وكيــف يعيــش‬ ‫المسلمون دون دولة‪ ،‬ويكون لهم كيان أو وجود‪ ،‬وكيف ينكــر‬ ‫إنسان أن السلم دين ل يقوم إل على الدولــة‪ .‬وقــد جــاءت‬ ‫شريعته تنادي بوجوب وجود الحكم والسلطان‪.‬‬ ‫أليس القرآن الكريم كتــاب الســلم المنــزل ؟ فلمــاذا‬ ‫إذن وجدت فيه آيات الحكم والسلطان‪ ،‬لو لم تكــن للســلم‬ ‫دولة ؟‬ ‫استمع إليه وهو ينادي في الحكم فيقول‪:‬‬ ‫} فاحكم بينهم بما أنزل ا { } ومن لم يحكم بما‬ ‫أنزل ا فأولئك هم الكافرون { } ومن لم يحكم‬ ‫بما أنزل ا فأولئك هم الظالمون { } ومن لم‬ ‫يحكم بما أنزل ا فأولئك هم الفاسقون { وهل‬ ‫هناك أصرح من هذا في إنذار مــن لــم يجعــل مــا أنــزل اـ‬ ‫حكما‪ .‬ومن جعـل الحكـم علـى خل ف مـا أنـزل اـ‪ ،‬وهـل‬ ‫هنــاك خطــاب أصــرح مــن قــول اـ للرســول عليــه الســلم‬ ‫} وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من‬ ‫الكتاب ومهيمنا عليه‪ ،‬فاحكم بينهم بما أنزل ا ول‬ ‫تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا‬

‫‪4‬‬


‫منكم شرعة ومنهاجا { يدل على أن السلم أنزل للحكم‬ ‫؟‬ ‫اسمع إليه وهو يقول‪ } :‬إنا أنزلنا إليك الكتاب‬ ‫بالحق لتحكم بين الناس بما أراك ا { ‪ } ،‬وأن‬ ‫احكم بينهم بما أنزل ا ول تتبع أهواءهم { ثم‬ ‫اســمعه وهــو يخــاطب جماعــة المســلمين فيقــول‪ } :‬وإذا‬ ‫حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل {‪ } .‬يا أيها‬ ‫الذين آمنوا أطيعوا ا وأطيعوا الرسول وأولي‬ ‫المر منكم { ‪ } ،‬فل وربك ل يؤمنون حنى يحكموك‬ ‫فيما شجر بينهم ثم ل يجدوا في أنفسهم حرجا مما‬ ‫قضيت ويسلموا تسليما { وكل ذلك صريح في الحكم‬ ‫والسلطان‪.‬‬ ‫هــذا بالنســبة للحكــم مــن حيــث هــو‪ .‬وهنــاك اليــات‬ ‫الكثيرة الدالة علــى تفصــيلت حــوادث الحكــم‪ .‬فهنــاك آيــات‬ ‫التشريع الحربــي‪ ،‬والتشــريع السياســي‪ ،‬والتشــريع الجنــائي‪،‬‬ ‫والتشريع الجتماعي‪ ) ،‬والتشــريع المــدني ( وغيــر ذلــك مــن‬ ‫التشاريع‪.‬‬ ‫} يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من‬ ‫الكفار وليجدوا فيكم غلظة { } فإما تثقفنهم في‬ ‫الحرب فشرد بهم من خلفهم { } وإما تخافن من‬ ‫‪5‬‬


‫قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء { } وإن جنحوا‬ ‫للسلم فاجنح لها { } ول تأكلوا أموالكم بينكم‬ ‫بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من‬ ‫أمول الناس بالثم وأنتم تعلمون { } يا أيها الذين‬ ‫آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه {‬ ‫إلى أن يقول في نفس الية‪ } :‬إل أن تكون تجارة‬ ‫حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح أن ل‬ ‫تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ول يضار كاتب ول‬ ‫شهيد {‪.‬‬ ‫} خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها‬ ‫{‪ } .‬وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة {‪ } .‬يا‬ ‫أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود {‪ } .‬فإن أرضعن‬ ‫لكم فآتوهن أجورهن {‪.‬‬ ‫وهكذا تجد الخطــوط العريضــة ) للتشــريع المــدني (‪،‬‬ ‫والعســكري‪ ،‬والمعــاملت‪ ،‬والعقوبــات‪ ،‬واضــحة فــي مئــات‬ ‫اليات‪ ،‬فضل عن الكــثرة الــوافرة مــن الحــاديث الصــحيحة‪.‬‬ ‫فإذا لم يكن للسلم دولة فلماذا نزلت هــذه اليــات ؟ ومــن‬ ‫الذي يطبق ما فيهــا مــن الحكــام ؟ وعلوة علـى ذلــك فـإن‬ ‫الواقع التاريخي في حيـاة الرسـول عليـه السـلم والصـحابة‬ ‫أيام حياته ومن بعده ليــدل دللــة واضــحة علــى أن الســلم‬ ‫‪6‬‬


‫كان نظاما للدولة وللحيــاة‪ ،‬ولكــل جزئيــة مــن جزئيــات حيــاة‬ ‫المة والدولة‪.‬‬ ‫وإذا أنكــر علــى الســلم أن لــه دولــة تنفــذ الحكــام‪،‬‬ ‫وتسوس المة‪ ،‬فماذا يفعل في نصوصه الــتي هــي صــريحة‬ ‫فــي الحكــم ؟ وكيــف نغمـض أعيننــا عمـا كـان يفعلـه عليــه‬ ‫السلم من إرسال الولة والمعلمين للقــاليم‪ ،‬ليحكمــوا بيــن‬ ‫الناس في أمــورهم‪ ،‬ويعلمــوهم الســلم دينــا فيــه العبــادة‬ ‫والنظام والقانون‪.‬‬ ‫نعم إن السلم نظام للدولة والحياة والمة‪ .‬ول تملك‬ ‫الدولــة الحكــم إل إذا كــانت تســير وفــق نظــام الســلم‪ .‬ول‬ ‫يكون للسلم وجود إل إذا كان حيا في دولــة تنفــذ أحكــامه‪،‬‬ ‫فالسلم دين عام والدولة جزء منه وهــي الوســيلة لتنفيــذه‪.‬‬ ‫ول يوجد السلم وجودا حيا إل إذا كانت له الدولة في جميــع‬ ‫الحوال‪ .‬على أن هذه الدولة السلمية هي دولــة سياســية‪،‬‬ ‫وليست لها قداسة ول لرئيســها صــفة القديســين‪ .‬فهــذا عمــر‬ ‫ي اعوجاجا فليقومه‪ ،‬فيجيبــه أحــدهم‬ ‫يقول للناس من رأى ف ّ‬ ‫لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بحد سيوفنا‪ .‬فل يزيد عمر على‬ ‫أن يقول‪ ،‬الحمد لله الـذي جعـل فـي أمـة محمـد مـن يقـوم‬ ‫اعوجاج عمر بحد السيف‪ .‬فأي قداسة لهــذا الخليفــة مــع أنــه‬ ‫عمر بن الخطاب‪.‬‬ ‫‪7‬‬


‫حقا أن الستعمار قد أوغل فــي مــاديته ونبــذه للقيــم‬ ‫الخلقية‪ ،‬حين افــترى علــى الســلم أنــه دولــة دينيــة روحيــة‪،‬‬ ‫وحين افترى عليه أن الدين غير الدولة‪ ،‬وحين افترى عليه أنه‬ ‫لم تكن للسلم دولة‪ .‬ومع أن هذه المفتريات متناقضــة مــع‬ ‫بعضها‪ ،‬ومناقضة للحقيقة التاريخيــة الــتي ل ينكرهــا إنســان‪،‬‬ ‫مع ذلك فقد خــدع الســتعمار بعــض أبنــاء المســلمين بهــذه‬ ‫الباطيل والضاليل‪.‬‬ ‫ولســنا بصــدد أن نــرد علــى الســتعمار هــذا الفــتراء‬ ‫ونجــادله فيــه‪ ،‬كمــا أننــا ل نتعــرض لهــؤلء المفتــونين أو‬ ‫المــأجورين وننــاظرهم‪ ،‬لن قضــية كــون الســلم دينــا منــه‬ ‫الدولة ليســت قضــية ذات موضــوع لنهــا مــن البداهــة بحيــث‬ ‫يعلمها حقا كل إنسان‪ ،‬متعلما كان أو غير متعلــم‪ ،‬كمــا يعلــم‬ ‫أن الواحد نصف الثنين‪ .‬ولكــن القضــية ذات الموضــوع هــي‬ ‫أننا نريد أن نستأنف حياة إسلمية في الحكم‪ ،‬وأننا مصممون‬ ‫على استئنا ف هذه الحياة مهما كلف المر‪ ،‬وأننا متأكدون بأن‬ ‫استئنا ف الحياة السلمية في الحكم أمر لمزم لنا لزوم المــاء‬ ‫للحيــاة‪ ،‬ولنعــود إلــى النظــام الســلمي الــذي هــو أســاس‬ ‫سعادتنا وسعادة العالم‪.‬‬ ‫ولن نستطيع العودة إليـه إل إذا عـادت دولـة السـلم‬ ‫وحكمه‪ ،‬ولـذلك صــمم المسـلمون اليــوم _ مـا عـدا ضــفادع‬ ‫‪8‬‬


‫اســتعمارية تنقنــق _ علــى أن يوجــدوا الحكــم الســلمي‪،‬‬ ‫ليعودوا إلى السلم‪.‬‬ ‫وإنهم يعرفون أن هذا يحتاج إلــى جهــود غيــر عاديــة‪،‬‬ ‫وإلــى أعمــال ضــخمة‪ ،‬ولكــن حماســة اليمــان‪ ،‬والجــرأة‬ ‫والقــدام‪ ،‬الــتي هــي مــن صــفات المــؤمن‪ ،‬ســتذلل هــذه‬ ‫الصعاب بالصبر والثبات‪ ،‬لن إيمانهم بضــرورة وجــود الحكــم‬ ‫السلمي‪ ،‬يفوق كل شيء‪ ،‬وثقتهم بــالله تســهل عليهــم كــل‬ ‫صعب‪.‬‬ ‫غير أن هذا اليمان نفســه يحــدوهم وهــم يبصــرون الواقــع‬ ‫السيئ على أن يرتفعوا بأذهانهم عن هذا الواقــع‪ ،‬ويرســموا‬ ‫على ضوء السلم الحياة السلمية الكاملة‪ ،‬ويعملوا بعقليــة‬ ‫مبتكــرة مبدعــة عمــل المســلم الكامــل فــي تجنــب الــترقيع‪،‬‬ ‫والبتعــاد عــن الحــل الوســط‪ ،‬ومحاربــة التجزئــة والتدريــج‪،‬‬ ‫صابرين على المشــقات‪ ،‬واثقيــن بــأنهم ســيطبقون الســلم‬ ‫كامل‪ ،‬ويستأنفون حسب نظامه الحياة السلمية‪.‬‬ ‫وعــود الســلم ل يكــون بتعميــر المســاجد‪ ،‬وحفــظ‬ ‫الخلق ومنــع المحرمــات فقــط‪ ،‬فــإن هــذه الحلــول جزئيــة‬ ‫مخــدرة‪ ،‬ملهيــة عــن الخطــوة الحقيقيــة ليجــاد الســلم‪} .‬‬ ‫أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن‬ ‫آمن بالله واليوم الخر وجاهد في سبيل ا ل‬ ‫‪9‬‬


‫يستوون عند ا وا ل يهدي القوم الظالمين {‬ ‫}‬

‫ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق‬

‫والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الخر‬ ‫والملئكة والكتاب والنبيين‪ ،‬وآتى المال على حبه‬ ‫ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل‬ ‫والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلة وآتى الزكاة‬ ‫والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في‬ ‫البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا‬ ‫وأولئك هم المتقون {‪ .‬وإنما نعود إلى السلم إذا عاد‬ ‫للحكم في نظامه وأحكامه‪ .‬فإذا عاد له الحكم وطبق نظامه‬ ‫تطبيقا انقلبيا فقد عاد قانونه ودستوره‪ ،‬وعادت حينئذ جميــع‬ ‫شــؤون الحيــاة تعالــج بالســلم‪ .‬فصــار المجتمــع إســلميا‬ ‫والحياة حياة إسلمية‪.‬‬ ‫ولذلك حــق علــى المســلمين أن يــبينوا للنــاس نظــام‬ ‫الحكم في السلم‪ ،‬حتى يعرفوه‪ ،‬وحـتى يعملـوا هـم علــى‬ ‫إيجــاده‪ .‬ويصــبحوا هــم خلفــاء فــي الرض‪ ،‬وقــد نــالوا مــا‬ ‫وعدهم ربهم به } وعد ا الذين آمنوا منكم وعملوا‬ ‫الصالحات ليستخلفنهم في الرض { } الذين إن‬ ‫مكناهم في الرض أقاموا الصلة وآتوا الزكاة‬ ‫وأمروا بالمعرو ف ونهوا عن المنكر {‪.‬‬ ‫‪10‬‬


‫ونظام الحكــم فــي الســلم‪ ،‬وإن كــان معروفــا بــأنه‬ ‫نظام دولة‪ ،‬ولكنه ل بد أن يعلم أنه نظام خاص لدولة خاصة‬ ‫_ نظام إسلمي لدولة إسلمية‪ ،‬ومعرفته ل بد أن تكون على‬ ‫هذا الوجه‪ ،‬حتى يجري تطبيقه على هذا الساس‪.‬‬ ‫ومــع أن أنظمــة الحكــم القائمــة فــي جميــع البلد‬ ‫السلمية ومنها العربية قد ظهــر إفلسـها حـتى صـار العـالم‬ ‫السلمي ومنه العربي في أمزمة من أنظمة الحكم‪ .‬ومــع أن‬ ‫النظام الديموقراطي كنظام حكــم مــن حيــث هــو قــد أعلــن‬ ‫إفلســه فــي العــالم‪ ،‬مــع ذلــك فإننــا نخشــى _ وقــد عشــنا‬ ‫محكومين بأنظمة كفــر ثلــث قــرن أو يزيــد _ أن يكــون لهــذه‬ ‫النظمة أثر فينا يجعلنا نألف نوع الحكم الذي نحكم بموجبه‪،‬‬ ‫ونجعل مفاهيمه مقاييس لتصورنا الحكم في السلم‪.‬‬ ‫فمن الضروري أن نتغلــب علــى مــا ألفنــاه مــن أنــواع‬ ‫الحكــم ونرتفــع عــن الواقــع وعــن جميــع أنظمــة الحكــم‬ ‫الموجودة في العالم‪ ،‬ونختار الحكم السلمي نظــام متميــزا‬ ‫فــي الحكــم ول نحــاول أن نــوامزنه ببــاقي أنظمــة الحكــم‪،‬‬ ‫ونفسره حسب رغبتنا ليطابق أو يشابه غيره‪.‬‬ ‫كل‪ ،‬لننا ل نريد أن نعالج نظــام الحكــم فــي الســلم‬ ‫على حسب مشاكل العصر‪ ،‬بل نريد أن نعالج مشاكل العصر‬ ‫بنظام السلم؛ لنه هو النظام الصالح‪ .‬وعلى هذا الســاس‬ ‫‪11‬‬


‫نجمل نظام الحكم في السلم كما هو‪ ،‬مع مراعــاة عرضــه‬ ‫بأسلوب عملي للتطبيق‪ ،‬تاركين التفصيل والتطويل لنه ليــس‬ ‫القصد العلم والتعليم‪ ،‬وإنما لفت النظر للعمل‪.‬‬ ‫الدولة السلمية‬ ‫ليســت الدولــة الســلمية قــوة مطلقــة التصــر ف فــي‬ ‫شؤون الناس‪ ،‬ول غاية يسعى إليها المسلمون لتنفرد بالقيام‬ ‫علــى جميــع شــؤونهم‪ ،‬ويجعلونهــا وحــدها المتوليــة لكــل‬ ‫أمورهم أفرادا وجماعة‪ ،‬تؤمن للفـرد كـل شـيء كمـا تـؤمن‬ ‫للجماعــة‪ .‬كل ليســت كــذلك‪ ،‬ول هــي وســيلة مؤقتــة تعمــل‬ ‫لخدمة الفرد وضمان حريته وتزول حين تضـمن حريـة الفـرد‬ ‫وتؤمن مصالحه‪ .‬وإنما هــي قــوة مقيــدة التصــر ف بالشــرع‪،‬‬ ‫ووسيلة ضرورية دائمية توجدها المــة لتنفيــذ أحكــام الشــرع‬ ‫في المجتمع الذي تحكمه أفرادا وجماعات‪ ،‬ولحمــل الــدعوة‬ ‫السلمية للعالم‪ .‬وهي إن تولت جميع شؤون الجماعة لكنها‬ ‫ل تتولى عن الفرد شؤونه إل إذا عجز عنها‪ ،‬فتعينه وتــوفر لــه‬ ‫ما يمكنه من القيام بأموره بوصفه جزءا من المجتمع‪ .‬وذلك‬ ‫لن المجتمع كل مكــون مــن أجــزاء‪ ،‬هــي النــاس والفكــار‪،‬‬ ‫والمشاعر‪ ،‬والنظمة‪ .‬والناس في المجتمع بجميع أفرادهــم‬ ‫جــزء مــن أجــزاء المجتمــع‪ ،‬كمــا أن مــن أجزائــه الفكــار‬ ‫والمشاعر والنظمة التي تجمع هؤلء الفراد‪ ،‬والدولــة نائبــة‬ ‫‪12‬‬


‫عــن الجماعــة فــي تنفيــذ الشــرع الــذي منــه هــذه الفكــار‬ ‫والمشاعر والنظمة فهي موجودة لتنفيذ الشرع مسؤولة عن‬ ‫هذا التنفيذ كما أن الفرد في الجماعة مسؤول عنــه‪ .‬غيــر أن‬ ‫مسؤولية الدولة تنفذها بالقوة والســلطان ومســؤولية الفــرد‬ ‫ينفذها طاعة لله وطلبا لرضوانه‪ .‬لن كل مسلم في الجماعة‬ ‫مسؤول عن تنفيذ الشرع فيما يخصه بدافع تقوى اـ عامــل‬ ‫علــى مســاعدة الدولــة فيمــا يخــص الجماعــة فــي المــر‬ ‫بالمعرو ف والنهي عن المنكر إجابة لمر ا‪ .‬ولذلك لم تكــن‬ ‫الدولــة معتمــدة علــى صــرامة التشــريع وقــوة الجنــدي فــي‬ ‫الحكم‪ ،‬كما أنها لم تكن تاركة الحرية للناس إن شاؤوا نفــذوا‬ ‫الشرع وإن شاؤوا لم ينفذوه مــا دامــوا لــم يتعرضــوا لحريــة‬ ‫الخرين‪ .‬بل الدولة السلمية تعتمــد علــى التقــوى المــتركزة‬ ‫في صــدور النــاس‪ ،‬يقومــون بــأوامر اـ ويجتنبــون نــواهيه‪،‬‬ ‫وتعتمد على عدالة التشريع وقوة الجندي‪ ،‬متعاونة مع المــة‬ ‫في تنفيذ أحكامه‪ ،‬لن كل مسلم يعر ف أنــه علــى ثغــرة مــن‬ ‫ثغر السلم فل يؤتين مــن ِقهلَبلــه‪ ،‬فالمــة الســلمية جميعهــا‬ ‫مســؤولة عــن تنفيــذ أحكــام اــ‪ ،‬يتعــاون فيهــا الحكــام‬ ‫والمحكومــون‪ ،‬الراعــي والرعيــة‪ ،‬لضــمان تطــبيق الســلم‬ ‫تطبيقا كامل‪.‬‬

‫‪13‬‬


‫ومع شمول هذه المسؤولية ولزوم هذا التعاون‪ ،‬فإن‬ ‫الدولة السلمية ليست مجموع المة والحكام‪ ،‬وإنمــا الدولــة‬ ‫هــي الخليفــة الــذي يبــايعه المســلمون‪ ،‬ومــن يعينهــم هــو‬ ‫لمعــاونته‪ ،‬أو للقيــام بشــؤون النــاس‪ ،‬ومجلــس الشــورى‪،‬‬ ‫وبعبارة أخرى‪ :‬الدولة هي مجموع جهامز الحكم‪.‬‬ ‫على أن الدولة هي التي تقر التشريع وتنفــذه‪ ،‬والــذي‬ ‫يقوم بذلك هو جهامز الحكـم‪ ،‬لن الخليفـة بعـد أن يبـايع مـن‬ ‫المسلمين يصــبح هــو الــذي يجعــل الحكــام الشــرعية الــتي‬ ‫يتبناها من أقوال المجتهدين أحكاما معمول بهــا‪ ) ،‬أي تصــبح‬ ‫قانونا ( وهو الذي ينفذ الشرع‪ ،‬وليس للمة شيء من ذلك ل‬ ‫إقرار التشريع ول تنفيذه‪ .‬نعم إن الحكم للمــة‪ ،‬ولكنهــا بعــد‬ ‫أن بايعت الخليفة قد أنابته بهذه البيعة عنهــا فيــه‪ ،‬وصــار هــو‬ ‫الذي يقوم بالحكم‪ ،‬أي بتنفيذ الشرع‪ ،‬وعلى المــة أن تراقيــه‬ ‫وتحاسبه وتناقشه‪ ،‬وتلزمه عـزل ولتـه ومعـاونيه إذا أظهـرت‬ ‫عدم رضاها منهم‪.‬‬ ‫جهامز الحكم‬ ‫تختار المة الخليفة ) رئيس الدولــة ( ثــم تبــايعه بيعــة‬ ‫دائمية تظل لمزمة فــي أعناقهــا مــا دام منفــذا للشــرع‪ ،‬وهــو‬ ‫يعيــن معــاونين لــه يكونــون معــه فــي الحكــم يتحملــون‬ ‫مســؤوليته ويرأســهم هــو‪ ،‬ويتــولى أمرهــم‪ ،‬ويعيــن الــولة‬ ‫‪14‬‬


‫للوليات يحكمونها‪ ،‬وهو الذي يشر ف عليهــم‪ ،‬ويعيــن قاضــيا‬ ‫للقضــاة ليقــوم بتعييــن القضــاة وعزلهــم وتــأديبهم‪ ،‬ويعيــن‬ ‫المديرين لدوائر الدولة التي تقضــي مصــالح النــاس‪ ،‬ويعيــن‬ ‫قواد الجيش وأمراء ألويته ويباشر هو أمورهم‪ ،‬ويرجع لهل‬ ‫الحل والعقد في شؤون المسلمين جميعها يأخــذ رأيهــم بهــا‬ ‫ويشاورهم فيما يريد أن يفعله أو يتركه‪.‬‬ ‫وعلــى ذلــك يقــوم جهــامز الحكــم علــى ســبعة أركــان‬ ‫وهــي‪ :‬مجلــس الشــورى‪ ،‬رئيــس الدولــة‪ ،‬والهيئــة التنفيذيــة‬ ‫) المعــاونون لرئيــس الدولــة ( والجهــامز الداري‪ ،‬والــولة‪،‬‬ ‫والقضــاء‪ ،‬والجيــش‪ .‬ومجمــوع ذلــك هــو الدولــة الســلمية‪.‬‬ ‫وهذا الجهامز أقامه النبي صلى ا عليــه وســلم بنفســه‪ ،‬فقــد‬ ‫كان يتولى شؤون الحكم وتدبير أمور الناس في سائر شؤون‬ ‫الحياة‪ ،‬قال تعالى‪ } :‬إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق‬ ‫لتحكم بين الناس بما أراك ا { وكان إذا خرج من‬ ‫المدينة لغــزوة مــن الغــزوات أقــام مكــانه مــن يتــولى أمــور‬ ‫المسلمين نيابة عنه أثناء غيابه‪.‬‬ ‫فإنه صلى ا عليه وســلم فــي أواخــر الســنة الولــى‬ ‫للهجرة‪ ،‬على رأس اثني عشر شهرا من مقدمه للمدينة‪ ،‬خرج‬ ‫إلى غزوة البواء واســتعمل علــى المدينــة ســعد بــن عبــادة‬ ‫ليتولى شؤون المسلمين نيابة عنه‪ ،‬وفي غــزوة تبــوك حينمــا‬ ‫‪15‬‬


‫خرج لقتال الروم استخلف على المدينــة محمــد بــن مســلمة‪.‬‬ ‫فكان عليه السلم رئيس الدولة‪ ،‬إذا خرج لقتال جعــل مكــانه‬ ‫من ينظر في أمور الناس‪.‬‬ ‫وقد أقام عليه السلم معاونين له في شؤون الحكم؛‬ ‫إذ قد خص أبا بكر وعمر بالمور العامة‪ ،‬كما خــص أبــو بكــر‬ ‫من بعده عمر وأبا عبيــدة‪ ،‬وكمــا خــص عمــر عثمــان وعليــا‪.‬‬ ‫فكان أبو بكر وعمر هيئة تنفيذية مع الرسول‪ ،‬كما كــان عمــر‬ ‫وأبو عبيدة مع أبي بكر‪ ،‬وعثمان وعلي مع عمر‪.‬‬ ‫أما المور الدارية ورعايــة مصــالح النــاس فقــد عيــن‬ ‫صلى ا عليه وسلم لها من يقومون بشأنها‪ ،‬وكانوا يســمون‬ ‫كتابا‪ .‬فقد عين مزيــد بــن ثــابت _ كــاتب الــوحي _ يكتــب إلــى‬ ‫الملــوك‪ ،‬وعيــن معيقيــب بــن أبــي فاطمــة كاتبــا للغنــائم‪،‬‬ ‫والمغيرة بن شعبة كاتبا للمداينات والمعاملت‪ ،‬وهكـذا عيـن‬ ‫لكل مصلحة كاتبا أي لكل إدارة مديرا‪ .‬وأما الولة فقــد عيــن‬ ‫عليه السلم عتاب بن أسيد واليا على مكة وفرض له درهمــا‬ ‫كل يوم‪ ،‬وولى معاذ بن جبل واليا على اليمن‪ .‬ومزياد بــن لبيـد‬ ‫على حضرموت‪ ،‬والعلء بن الحضرمي علــى البحريــن‪ .‬وأمــا‬ ‫القضاء فقد كان صلى ا عليه وسلم يحكم الناس ويفصــل‬ ‫بينهم في الخصومات‪ ،‬وكــان يبعــث الــولة ويجعــل لبعضــهم‬ ‫حق الفصل في الخصومات‪ ،‬فقد عين عتاب بــن أســيد واليــا‬ ‫‪16‬‬


‫على مكة وقاضيا فيها كما جعــل معــاذ بــن جبــل واليــا علــى‬ ‫اليمن وقاضيا فيها‪ .‬وقد سار أبو بكر على ذلك إلى أن جاءت‬ ‫خلفة عمر‪ ،‬فخص الولة بالولية والحكــم‪ ،‬وجعــل القضــاة‬ ‫منفردين عن الولية‪ ،‬فولى أبــا الــدرداء قاضــيا فـي المدينــة‪،‬‬ ‫وشريحا قاضيا في البصرة‪ ،‬وأبا موسى الشعري قاضيا فــي‬ ‫الكوفة‪.‬‬ ‫وأما الجيش فإن الرسول عليــه الســلم جعــل جميــع‬ ‫المســلمين جنــدا لن الجهــاد فــرض علــى جميــع المســلمين‬ ‫للقتــال‪ ،‬وكــان الرســول إذا غــزا اســتنفر المســلمين فكــانوا‬ ‫ينفــرون خفافــا وثقــال ويجاهــدون بــأموالهم وأنفسـهم فــي‬ ‫سبيل ا‪ ،‬ولم يكــن هنالــك جيــش مخصــص‪ ،‬وظــل الحــال‬ ‫كذلك في أيــام أبــي بكــر‪ ،‬إلــى أن جــاء عمــر فخصــص مــن‬ ‫المسلمين جندا جعل لهم أرمزاقا في بيت المال يكونون دائما‬ ‫في عمل الجنديــة للجهــاد‪،‬وكــان بــاقي المســلمين كــالجيش‬ ‫الحتياطي يستنفرون للقتال كلما دعت الحاجة‪.‬‬ ‫وأمــا مجلــس الشــورى فــإن الرســول كــان يستشــير‬ ‫الصــحابة فــي المــور‪ ،‬وقــد خــص أربعــة عشــر رجل فــي‬ ‫الشورى‪ ،‬كان يرجع إليهم في أخذ الــرأي‪ ،‬ولــم يخــتر هــؤلء‬ ‫ممن هم أقدر الصحابة وأعلمهم وإنما اختارهم لنهم نقبــاء‬

‫‪17‬‬


‫على قومهم‪ ،‬أي ممثلين لهم‪ ،‬ولذلك اختار سبعة من النصــار‬ ‫وسبعة من المهاجرين‪ ،‬وكانوا من النقباء فقط‪.‬‬ ‫هذا هو جهامز الحكم الذي هو الدولة‪ ،‬وهو قد أوجده‬ ‫الرسول صلى ا عليــه وســلم فهــو جهــامز قــائم متميــز فــي‬ ‫شكله وفي السس التي يقوم عليها‪.‬‬ ‫قواعد الحكم‬ ‫يقوم الحكم في السلم على أربعة قواعد‪.‬‬ ‫أول‪ :‬أن السيادة للشرع‪ .‬قال تعالى } يا أيها الذين‬ ‫آمنوا أطيعوا ا وأطيعوا الرسول وأولي المر‬ ‫منكم { ثم أكمل هذه الية بقوله } فإن تنامزعتم في‬ ‫شيء فردوه إلى ا والرسول إن كنتم تؤمنون‬ ‫بالله واليوم الخر { والمراد تنامزع المة مع أولي المر‪.‬‬ ‫ومعنــى رده إلــى اــ والرســول هــو رده إلــى حكــم اــ‬ ‫والرسول أي إلى الشرع‪.‬‬ ‫ثانيا‪ :‬أن السلطان أي ) الحكم ( للمــة‪ ،‬قــال تعــالى }‬ ‫وعد ا الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات‬ ‫ليستخلفنهم في الرض كما استخلف الذين من‬ ‫قبلهم { أي أن أصل الحكم لله وهو الذي استخلف‬ ‫المؤمنين فيه‪ .‬وقال تعالى } ولقد مكناكم في الرض {‬ ‫أي جعلنا لكم فيها السلطان‪ ،‬أي الحكم‪.‬‬ ‫‪18‬‬


‫ثالثا‪ :‬أن نصب خليفة واحد لكافة المســلمين " رئيــس‬ ‫الدولة " من قبل المة نائبا عنها في الحكم أمر واجــب علــى‬ ‫المة‪ ،‬فل يحل لمسلم أن يبيت ليلــتين دون بيعــة‪ .‬قــال عليــه‬ ‫الصلة والسلم ) من مات وليس في عنقــه بيعــة فقــد مــات‬ ‫ميتة جاهلية ( وقد أجمع الصحابة بعد وفاة رسول ا صــلى‬ ‫ا عليه وسـلم علـى وجـوب نصـب خليفـة لـه‪ .‬ووردت فـي‬ ‫القرآن والحديث نصوص كثيرة دالة على وجوب طاعــة ولــي‬ ‫المر‪ .‬قال تعالى } يا أيها الذين آمنوا أطيعوا ا‬ ‫وأطيعوا الرسول وأولي المر منكم { وقال عليه‬ ‫الصلة والسلم ) من أطاعني فقد أطاع ا ـ ومــن عصــاني‬ ‫فقد عصا ا‪ ،‬ومن يطــع الميــر فقــد أطــاعني ومــن يعــص‬ ‫المير فقــد عصــاني ( وولــي المــر فــي اليـة والحــديث هــو‬ ‫رئيس الدولة‪.‬‬ ‫رابعــا‪ :‬للمــة كلهــا حــق الجتهــاد لســتنباط الحكــام‬ ‫الشرعية لمعالجة مشاكل الحياة إذا توفرت شروط الجتهــاد‪،‬‬ ‫ولكن حق التشريع إنمــا هــو للخليفــة وليــس للمــة‪ ،‬فلــه أن‬ ‫يختار الحكام الشرعية من أقوال المجتهدين ويلــزم القضــاة‬ ‫والحكام العمــل بهــا دون غيرهــا‪ ،‬ولــه أن يســتنبط الحكــام‬ ‫باجتهاد صحيح ويلزم العمل بهــا‪ " ،‬للســلطان أن يحــدث مــن‬ ‫القضية بقـدر مــا يحــدث مـن مشـكلت " وأمــره بــأي حكـم‬ ‫‪19‬‬


‫شرعي يــوجب علــى النــاس حــتى المجتهــدين‪ ،‬العمــل بهــذا‬ ‫الحكم ويلزمهم اتباعه‪ ،‬لن طاعته واجبة في حدود الشرع‪" ،‬‬ ‫أمــر المــام نافــذ ظــاهرا وباطنــا " واختيــاره لي حكــم مــن‬ ‫الحكام الشرعية المستنبطة يرفع الخل ف بيــن الئمــة علــى‬ ‫هذا الحكم‪ " ،‬أمر المام يرفع الخل ف "‪ .‬ولــذلك كــان جعــل‬ ‫الحكام الشرعية قوانين معمول بها إنما هو لرئيــس الدولــة‪.‬‬ ‫فمثل رأي أبــي حنيفــة ) أن الزكــاة ل تجــب علــى الصــبي‬ ‫والمجنون لنها عبادة‪ ،‬وهي ل تجب إل على المكلــف‪ ،‬وهمــا‬ ‫غير مكلفين (‪ .‬ورأي الشافعي ) أن الزكاة تجب على الصــبي‬ ‫والمجنون لنها واجبة في المــال المملــوك للنســان وليســت‬ ‫على النسان‪ .‬والصبي والمجنون إذا ملكــا مــال بلــغ النصــاب‬ ‫وجبت عليهما‪ ،‬لوجود المال المملوك لهما (‪ .‬فإذا اختار رئيس‬ ‫الدولــة رأي الشــافعي كــان القــانون أن تحصــل الزكــاة مــن‬ ‫الصبي والمجنون‪ ،‬وتجب على الناس ــ حـتى مـن يـرى رأي‬ ‫أبي حنيفة ـ الطاعة‪ ،‬ويلزمون بالعمل بهذا الحكم الشرعي‪.‬‬ ‫حق الشورى‬ ‫الشورى حق لجميع المســلمين علــى الخليفــة‪ ،‬فلهــم‬ ‫عليه أن يرجع إليهم في أمورهم التي تجــب فيهــا المشــورة‪.‬‬ ‫قال تعالى } وأمرهم شورى بينهم { ورجوع الخليفة‬ ‫لرأي المسلمين فيما ل نص فيه ولــم يعــر ف حكــم اـ فيــه‬ ‫‪20‬‬


‫واجب‪ .‬قال تعالى } وشاورهم في المر فإذا عزمت‬ ‫فتوكل على ا { والمر في الية يقتضي الوجوب‪ .‬وكان‬ ‫الرسول صلى ا عليه وسلم يرجع للناس يستشيرهم‪ .‬فقــد‬ ‫استشارهم يوم بدر فـي أمـر مكـان المعركـة‪ ،‬واستشــارهم‬ ‫يوم أحد في القتال خارج المدينة أو داخلها‪ ،‬ونزل عند رأيهــم‬ ‫في الحادثتين‪.‬‬ ‫وقد رجع عمر إلى المسلمين في أمــر أرض العــراق‪:‬‬ ‫أيومزعها على المسلمين لنها غنائم ؟ أم يبقيها فـي يـد أهلهـا‬ ‫وتبقى رقبتها ملكا لبيت المال يستحق فيه جميــع المســلمين‪،‬‬ ‫وقد عمل برأي أكثر المســلمين‪ ،‬وظلــت أرضــا خراجيــة‪ .‬وقــد‬ ‫عزل ســعد بــن أبــي وقــاص عــن الوليــة لمجــرد الشــكوى‪،‬‬ ‫وقال‪ :‬إني لم أعزله عن خيانة أو ضعف‪ .‬وقــال رجــل لعمــر‬ ‫وهو على المنبر‪ :‬ل سمع ول طاعة حتى تعدل‪ .‬وناقشه فــي‬ ‫أمر البراد اليمانية‪ ،‬وقــد انعقــد الجمــاع علــى وجــوب بيعــة‬ ‫الخليفة من قبل المة‪ ،‬فلها حق اختيار الخليفة‪ ،‬ولها أن تظهر‬ ‫عدم رضاها عن أعمال الولة والمعــاونين‪ ،‬ولهــا أن تعطــي‬ ‫رأيها في الحكام الشرعية التي يأمر الخليفة بالعمل بها‪.‬‬ ‫مجلس الشورى‬ ‫للمة أن توكل عنها من تشــاء فــي التعــبير عــن رأيهــا‬ ‫في الحكم والتشريع‪ ،‬وأعمال المعــاونين والــولة‪ ،‬ومناقشــة‬ ‫‪21‬‬


‫الخليفة في أعمــاله‪ .‬وتكــون لهــؤلء الــوكلء الحقــوق الــتي‬ ‫يملكهــا موكلــوهم فقــط‪ ،‬لن الوكالــة تصــح فيمــا هــو مــن‬ ‫صلحية الموكل‪ ،‬وليس لهم غير ذلــك‪ ،‬وهــؤلء الــوكلء فــي‬ ‫الــرأي هــم مجلــس الشــورى‪ .‬فقــد روي أن الرســول عليــه‬ ‫السلم في بيعة العقبة الثانية قال للمسلمين بعد أن بــايعوه‬ ‫البيعة المعروفة ) أخرجوا لي منكم اثني عشر نقيبا ( فاختــار‬ ‫القــوم تســعة مــن الخــزرج وثلثــة مــن الوس‪ .‬وروي أن‬ ‫الرسول عليه الصلة والسلم كان يرجــع فــي الشــورى إلــى‬ ‫من كانوا نقباء علــى قـومهم؛ فكــان يرجــع إليهـم فــي أمــور‬ ‫الحكم والدارة‪ ،‬وفي تعييــن الــولة والكتــاب‪ .‬وقــد خصــص‬ ‫أربعة عشر رجل كان يرجع إليهم في المور‪ ،‬واختارهم مــن‬ ‫النقباء على قــومهم بغــض النظــر عــن مقــدرتهم‪ .‬وأخــذهم‬ ‫سبعة من النصار وسبعة من المهــاجرين وكــل واحــد منهــم‬ ‫كــان نقيــب قــومه وجمــاعته‪ ،‬أي أنــه ضــمن إســلم قــومه‬ ‫وجماعته ودخلوا في السلم علـى يـديه وكــان هـو نقيبهـم‪،‬‬ ‫وكانوا هم أهل الشورى الذين يرجع إليهم في الرأي‪.‬‬ ‫ولما وسدت الخلفة لبي بكر رضي ا عنه اتخــذ لــه‬ ‫جماعة من الممثلين لقومهم ليرجع إليهــم فــي أمــور الحكــم‬ ‫والدارة والتشريع‪ ،‬وكان من أبرمز هؤلء عمر وعثمان وعلــي‬

‫‪22‬‬


‫ي بــن‬ ‫وعبد الرحمن بن عو ف ومعاذ بن جبل وأبو عبيدة وأب ـ ّ‬ ‫كعب ومزيد بن ثابت‪.‬‬ ‫إل أن الشــخاص الــذين كــان يرجــع إليهــم الخليفــة‬ ‫يستشــيرهم فــي شــؤون المســلمين لــم يكونــوا مخصصــين‬ ‫للشورى‪ ،‬ولم يكن موكل إ ً إليهم عمل معين‪ ،‬بل كــان الخليفــة‬ ‫كلما حزبه أمر دعاهم إليه واستشارهم في أمــر المســلمين‪،‬‬ ‫وكانوا في اجتماعهم عند أخذ الرأي يشــكلون مجلســا‪ ،‬وبعــد‬ ‫انتهــاء المشــاورة وتفرقهــم ل تبقــى عليهــم صــفة مجلــس‬ ‫الشورى‪ ،‬إل أنه لتعدد المشــاكل وتنوعهــا يجــب أن يخصــص‬ ‫مجلس للشورى‪.‬‬ ‫انتخاب أعضاء مجلس الشورى‬ ‫ينتخب أعضاء مجلــس الشــورى انتخابــا‪ ،‬ول يصــح أن‬ ‫يعينــوا تعيينــا‪ .‬وذلــك لنهــم وكلء فــي الــرأي عــن النــاس‪،‬‬ ‫والوكيل إنما يختاره موكله‪ ،‬ول ُيفرض الوكيــل علــى الموكــل‬ ‫مطلقا‪ ،‬ولن أعضاء مجلس الشورى ممثلــون للنــاس أفــرادا‬ ‫وجماعات في الرأي‪ ،‬ومعرفة الممثــل فــي البقعــة الواســعة‬ ‫والقوم غير المعروفيــن‪ ،‬ل تتــأتى إل لمــن يختــاره ممثل لــه‪،‬‬ ‫ولن الرسول عليه السلم لم يختر من يرجع إليهم في الرأي‬ ‫على أساس مقدرتهم وكفــايتهم وشخصــيتهم‪ .‬بــل اختــارهم‬ ‫على أساسين‪ :‬أولهما أنهم نقباء على جماعتهم بغض النظــر‬ ‫‪23‬‬


‫عن كفايتهم ومقدرتهم‪ ،‬وثانيهما أنهم ممثلون عن المهاجرين‬ ‫والنصار‪ ،‬نصفهم عن هؤلء ونصفهم عن هؤلء‪ .‬فــالغرض‬ ‫الذي وجد من أجله أهل الشورى هو التمثيل للنــاس‪ ،‬فيعتــبر‬ ‫الساس الذي يختار عليه أعضاء مجلس الشورى هو التمثيل‬ ‫بالنسبة للناس كما هو الحال في تعمد الختيــار مــن النقبــاء‪.‬‬ ‫والتمثيل بالنسبة للجماعات كما هو الحال في تعمــد الختيــار‬ ‫عن المهاجرين والنصار مناصفة بينهما‪ .‬وهذا التمثيل للفراد‬ ‫والجماعات للناس غيــر المعروفيــن ل يتحقــق إل بالنتخــاب‪،‬‬ ‫فيتحتم انتخاب أعضاء مجلس الشورى‪ .‬أما كون الرسول هو‬ ‫الذي تولى اختيار من يستشيرهم؛ فلن البقعــة كــانت ضــيقة‬ ‫وهي المدينة‪ ،‬ولن المسلمين كانوا معروفين لديه‪ ،‬بدليل أنه‬ ‫في بيعة العقبــة الثانيــة لــم يكــن المســلمون الــذين بــايعوه‬ ‫معروفين لديه‪ ،‬فترك أمــر النتخــاب مــن النقبــاء لهـم‪ ،‬وقــال‬ ‫لهم‪ :‬اختاروا لي منكم اثني عشر نقيبا‪.‬‬ ‫وعلى ذلــك فــإنه يســتنبط مــن كــون أعضــاء مجلــس‬ ‫الشورى وكلء في الرأي‪ ،‬ومــن كــون العلــة الــتي وجــد مــن‬ ‫أجلها مجلس الشورى هــو التمثيــل للفــراد والجماعــات فــي‬ ‫الــرأي‪ ،‬ومــن عــدم تحقــق هــذه العلــة فــي النــاس غيــر‬ ‫المعروفين إل في النتخاب العام‪ ،‬يستنبط من ذلــك كلــه‪ ،‬أن‬

‫‪24‬‬


‫أعضاء مجلس الشورى ينتخبون انتخابــا‪ ،‬ول يصــح أن يعينــوا‬ ‫تعيينا‪.‬‬ ‫مدة عضوية مجلس الشورى‬ ‫تحدد مدة العضوية لمجلس الشورى؛ لن الذين كــان‬ ‫يرجع إليهم الرسول في الشورى لم يتقيد بالرجوع إليهم أبــو‬ ‫بكر‪ ،‬وأن عمر ابــن الخطــاب لــم يتقيــد بــالرجوع للشــخاص‬ ‫الذين كان يرجــع إليهــم أبــو بكــر‪ .‬وقــد رجــع عمــر إلــى رأي‬ ‫أشخاص في أواخر حكمه غير الذين رجع إليهــم فــي أوائــل‬ ‫حكمه‪ .‬وهذا يدل على توقيت عضوية مجلس الشورى بمــدة‬ ‫معينة‪.‬‬ ‫عضوية مجلس الشورى‬ ‫لكل مواطن يحمل التابعية ) الولء للدولــة والنظــام (‬ ‫إذا كان بالغا عاقل الحق في عضوية مجلــس الشــورى‪ ،‬ولــه‬ ‫الحق في انتخاب أعضاء مجلس الشورى‪ ،‬ســواء أكــان هــذا‬ ‫المواطن رجل أم امرأة‪ ،‬مسلما كان أم غير مسلم‪ .‬وذلك لن‬ ‫مجلس الشورى وكيل عن الناس في الرأي فقط‪ ،‬وليست له‬ ‫صلحية الحكم والتشريع‪ ،‬وما دام وكيل في الرأي فمن حــق‬ ‫الناس في الدولة السلمية أن يوكلوا من يشاؤون ممن هـم‬ ‫أهــل الوكالــة فــي الحقــوق شــرعا‪ .‬وكمــا أن للمســلم حــق‬ ‫الشورى‪ ،‬فإن لغيــر المســلم الحــق فــي أن يبــدي رأيــه فــي‬ ‫‪25‬‬


‫تطـبيق أحكــام السـلم عليــه‪ ،‬وفيمــا يلحقـه مـن ظلــم مـن‬ ‫الحاكم‪ ،‬ولذلك كان له أن يوكل عنه من يشاء‪ ،‬وأن يكون هو‬ ‫وكيل عمن يشاء‪ ،‬ول يشترط في الوكيل ول فــي الموكــل أن‬ ‫يكون مسلما‪ ،‬بل يجومز أن يكــون الموكــل والوكيــل مســلمين‬ ‫وغيــر مســلمين‪ .‬ومــن هنــا جــامز لغيــر المســلمين كمــا جــامز‬ ‫للمسلمين أن ينتخبوا من يمثلهم في مجلس الشورى‪ ،‬مسلما‬ ‫أو غير مسلما‪.‬‬ ‫وأيضــا فالســلم ينظــر للشــعب الــذي يحكمــه نظــرة‬ ‫إنســانية محضــة‪ ،‬بقطــع النظــر عــن الطائفــة‪ ،‬والجنــس‪،‬‬ ‫والذكورة‪ ،‬والنوثة‪ .‬وتكـون سياســة الحكـم المرســومة لهـم‬ ‫بوصــفهم النســاني فقــط‪ ،‬حــتى يكــون الحكــم لمصــلحة‬ ‫النسانية ليخرجها من الظلمات إلى النور‪ .‬ولهذا كان الشــعب‬ ‫المحكـوم متسـاوي الحقـوق والواجبـات المتعلقـة بالنسـان‬ ‫باعتبــاره إنســانا مــن حيــث تطــبيق الحكــام الشــرعية علــى‬ ‫الجميع‪ ،‬والقاضي حيــن يفصــل الخصــومات‪ ،‬والحــاكم حيــن‬ ‫يحكــم‪ ،‬ل يفــرق بيــن النــاس‪ ،‬بــل يعــاملهم علــى الســواء‬ ‫بوصفهم النساني ل بأي وصف آخر‪ .‬ولهــذا كــان لكــل واحــد‬ ‫بوصفه محكوما للدولة الحق في أن يعبر عن رأيه هــو‪ ،‬ولــه‬ ‫الحق في اختيار ممثله ليعبر عــن رأيــه ورأي منتخــبيه‪ .‬وذلــك‬ ‫لن ا خاطب بالسلم جميع الناس بوصف النسانية فقط‪،‬‬ ‫‪26‬‬


‫قال تعالى } يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم‬ ‫وأنزلنا إليكم نورا مبينا { } يا أيها الناس إني رسول‬ ‫ا إليكم جميعا { وقد اتفق علماء المسلمين ل سيما‬ ‫علماء الصول على أن المخــاطب بالحكــام هــو كــل عاقــل‬ ‫يفهم الخطاب‪ ،‬سواء أكان مسلما أو غير مسلم‪ ،‬ذكرا كــان أو‬ ‫أنثى‪.‬‬ ‫هذا من ناحية غير المسلمين‪ .‬أمــا مــن ناحيــة المــرأة‬ ‫فلن مجلس الشورى ليس من قبيل الحكــم‪ ،‬ول يــدخل فــي‬ ‫الحديث الشريف الذي يتعلق بولية المرأة‪ ،‬ولن الثــابت عــن‬ ‫سيدنا عمــر أنــه كــان حيــن تعــرض لــه نامزلــة يريــد أخــذ رأي‬ ‫المسلمين فيها‪ ،‬سواء أكانت النامزلة تتعلق بالحكام الشــرعية‬ ‫) التشريع ( أو تتعلق بالحكم‪ ،‬أو أي عمل من العمــال الــتي‬ ‫للدولة‪ ،‬كان إذا عرضت له نامزلة دعا المسلمين إلى المســجد‪،‬‬ ‫وكان يدعو النساء والرجال ويأخذ رأيهــم جميعــا‪ ،‬وقــد رجــع‬ ‫عن رأيه حين ردته امــرأة فــي أمــر تحديــد المهــور‪ .‬علــى أن‬ ‫النبي صلى ا عليه وسلم قد قــدم عليــه فــي الســنة الثالثــة‬ ‫عشرة للبعثة ) أي السنة التي هاجر فيها ( خمســة وســبعون‬ ‫مسلما منهم ثلثة وسبعون رجل وامرأتــان‪ ،‬وبــايعوه جميعــا‬ ‫بيعة العقبة الثانية‪ ،‬وهي بيعة حــرب وقتــال وبيعــة سياســية‪.‬‬ ‫وبعد أن فرغوا من بيعته قال لهم جميعا ) اخرجوا لي منكم‬ ‫‪27‬‬


‫اثني عشر نقيبا يكونون على قومهم بما فيهــم كفلء ( وهــذا‬ ‫أمــر منــه للجميــع‪ ،‬بــأن ينتخبــوا مــن الجميــع‪ ،‬ولــم يخصــص‬ ‫الرجال‪ ،‬ولم يستثن النساء‪ ،‬ل فيمن ينتخب بكسـر الخــاء‪ ،‬ول‬ ‫فيمن ينتخب بفتحها‪ ،‬والمطلق يجري على إطلقه ما لم يــرد‬ ‫دليل التقييد‪ ،‬كما أن العام يجري على عمومه ما لم يرد دليل‬ ‫التخصيص‪ ،‬وهنا جاء الكلم عاما ومطلقا ولم يــرد أي دليــل‬ ‫للتخصيص والتقييد؛ فدل علـى أن الرســول أمـر المرأتيــن أن‬ ‫تنتخبا النقباء‪ ،‬وجعل للمرأتين حق انتخابهمــا مــن المســلمين‬ ‫نقيبتين‪.‬‬ ‫وقد جلس الرسول صلى ا عليه وسلم يوما ليبــايعه‬ ‫الناس‪ ،‬وجلس معه أبو بكر وعمـر‪ ،‬فبـايعه الرجـال والنسـاء‬ ‫وكانت المرأة تضــع يــدها فــي يــده الشــريفة مبايعــة‪ .‬وكــان‬ ‫يعرفهن ويباسطهن في الحــديث‪ .‬ولــم تكــن هــذه البيعــة إل‬ ‫بيعة علــى الحكــم‪ ،‬ل علــى الســلم؛ لنهــم كــانوا مســلمين‪.‬‬ ‫وبعد بيعة الرضوان في الحديبية بايعه النساء أيضا } يا أيها‬ ‫النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن ل يشركن‬ ‫بالله شيئا ول يسرقن ول يزنين ول يقتلن أولدهن‬ ‫ول يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ول‬ ‫يعصينك في معرو ف فبايعهن واستغفر لهن ا إن‬ ‫ا غفور رحيم { وهذه بيعة على الحكم أيضا لن القرآن‬ ‫‪28‬‬


‫يقرر أنهــن مؤمنــات‪ ،‬وكــانت البيعــة علــى أن ل يعصــينه فــي‬ ‫معرو ف‪ .‬وسيأتي في ) فصل انتخاب الخلفاء الراشدين ( إن‬ ‫عبد الرحمن بن عون طا ف بالمسلمين‪ ،‬وسألهم سرا وجهرا‪،‬‬ ‫وعر ف رأيهم رجال ونساء‪ ،‬فيمن يكــون الخليفــة‪ .‬فهــذا كلــه‬ ‫صريح في أن المرأة تنتخب‪ .‬وأما المبايعة بعد النتخاب فهي‬ ‫وإن كانت واجبة إل أن من تركها غير مخالف للجماعة ل يأثم‬ ‫ـ لنها فـرض كفايـة ــ وكــانت ثابتــة فـي عنقـه‪ .‬فــإذا تخلـف‬ ‫النساء عن المبايعة في المسجد بعــد أن أبــدين رأيهــن ولــم‬ ‫يخالفن‪ ،‬وتخلف كثير من الرجال كذلك لم يكن هــذا التخلــف‬ ‫دليل على عدم جوامز بيعتهــن‪ ،‬ول علــى عــدم وجــوب البيعــة‬ ‫على الرجال‪.‬‬ ‫وعلوة على ذلك فإن للمرأة الحق في أن توكل عنها‬ ‫في الرأي‪ ،‬ويوكلها غيرها فيه؛ لن لها حق إبداء الــرأي‪ ،‬فلهــا‬ ‫أن توكل فيه‪ ،‬ولن الوكالة ل تشترط فيهــا الــذكورة‪ ،‬فلهــا أن‬ ‫تتوكل عن غيرها‪.‬‬ ‫على أن انتخاب غير المســلم وانتخــاب المــرأة عضــوا‬ ‫فــي مجلــس الشــورى وانتخابهمــا أعضــاء لــم يــرد أي دليــل‬ ‫بتحريمه أو منعه‪ ،‬والقاعدة الشــرعية هــي أن " الصــل فــي‬ ‫الشياء الباحة ما لم يرد دليل التحريــم " ولــم يــرد أي دليــل‬ ‫على تحريم هذا الشيء فدل على أنه جائز ومباح‪.‬‬ ‫‪29‬‬


‫غير أنه مع ذلك ليس لغير المسلمين الحق في إبــداء‬ ‫الرأي في التشريع؛ لن التشريع السلمي ينبثق عن العقيدة‬ ‫السلمية‪ ،‬فهـو أحكــام شـرعية عمليـة مســتنبطة مـن أدلتهـا‬ ‫التفصيلية‪ ،‬ولنه يعالـج مشـاكل النسـان حسـب وجهـة نظـر‬ ‫معينة تعينها العقيدة السلمية‪ ،‬وغير المســلم يعتنــق عقيـدة‬ ‫تناقض العقيدة السلمية‪ ،‬ووجهة نظره في الحياة تتنــاقض‬ ‫مع وجهة نظر السلم فل يؤخذ رأيه في التشريع‪.‬‬ ‫وكذلك ليس لغير المسلم الحق فــي انتخــاب الخليفــة‬ ‫ول في حصر المرشحين للخلفة لينتخب منهم الخليفــة؛ لنــه‬ ‫ليــس لــه الحــق فــي الحكــم‪ .‬أمــا بــاقي الشــياء الــتي مــن‬ ‫صلحيات مجلس الشورى؛ فهــو كالمســلم فيهــا وفــي إبــداء‬ ‫الرأي بشأنها‪.‬‬ ‫صلحيات مجلس الشورى‬ ‫لمجلس الشورى صلحيات أربع وهي‪:‬‬ ‫أول ـ إعطاء الرأي في التشريع‪ :‬وذلــك أن تحيــل إليــه‬ ‫الهيئة التنفيذية الحكام الشرعية التي تتبناها ) أي القــوانين (‬ ‫ليدرسها‪ ،‬ويعطي رأيه فيها‪ ،‬بعد دراسة المشكلة الــتي وضــع‬ ‫الحكم الشرعي لها‪ ،‬ودراسة الحكم الشرعي نفســه بالنســبة‬ ‫لدليله‪ .‬وذلك لن فهم أعضاء مجلس الشورى فــي المســائل‬ ‫العملية التي تحصل في شؤون المسلمين يتجلى في بحــثين‬ ‫‪30‬‬


‫اثنين‪ :‬أولهما النص الشــرعي‪ ،‬إمــا بروايــة حــديث ينــاقض أو‬ ‫يؤيد رأي الهيئة التنفيذية‪ ،‬وإما بفهم النص الشرعي من كتــاب‬ ‫أو سنة فهما يؤيد أو يناقض الرأي المعروض عليهم‪ ،‬وثانيهما‬ ‫فهم الواقعة نفسها بالبحث في حقيقتها‪ ،‬حــتى يطبــق حكــم‬ ‫ا عليها؛ لن عدم فهم الواقع يؤدي إلى تطــبيق حكــم ا ـ‬ ‫على واقعة ليس الحكم لها‪ ،‬لن فقه الواقع وإدراك حقيقتــه‬ ‫يتوقف عليه فهم حكم ا في هذا الواقع‪ ،‬ولذلك كــان فقــه‬ ‫المسألة الواقعة لمزما كفهم حكم ا المستنبط من الدليل‪.‬‬ ‫ثانيا ـ مراقبته للحكم ومناقشته الخليفة في جميع‬ ‫الشؤون ومحاسبته على الصـغيرة والكـبيرة فـي كافـة أمـور‬ ‫الحكم‪.‬‬ ‫ثالثا ـ مراقبته للولة والمعاونين للخليفة في الحكم‬ ‫وإظهار عدم الرضا منهــم وحينئــذ يجــب علــى رئيــس الدولــة‬ ‫عزلهم في الحال‪.‬‬ ‫رابعا ـ للمسلمين من أعضاء مجلس الشورى حصر‬ ‫المرشحين للخلفة حتى تنتخب المة منهم الخليفة ثم تبــايعه‬ ‫البيعة الواجبة‪.‬‬ ‫العمل برأي مجلس الشورى‬ ‫‪1‬ـ ـ المســائل الــتي تعــرض للنــاس ل بــد مــن حلهــا‬ ‫والمشــاكل الــتي تطــرأ عليهــم ل بــد مــن معالجتهــا‪ .‬وحلهــا‬ ‫‪31‬‬


‫ومعالجتهــا إنمــا يكــون بمعرفتهــا‪ ،‬بدراســة حقيقتهــا وإيجــاد‬ ‫معلومات عنها‪ .‬وهي إمــا داخليــة وإمــا خارجيــة‪ .‬أمــا المــور‬ ‫الداخلية فإنها تقع تحت سمع المة وبصرها؛ ولذلك كــان لهــا‬ ‫الحق في إبداء الرأي فيها‪ ،‬وكان علــى الدولــة أن تأخــذ رأي‬ ‫المة فيها‪ .‬وأما الشياء الخارجية فإنها تحتــاج إلــى معلومــات‬ ‫موثوقة حتى تعالج‪ ،‬وهذه المعلومات توجد عند الدولة؛ لنها‬ ‫هي التي تباشر المور‪ ،‬وهي الــتي تتصــل فــي ســائر الــدول‬ ‫والمم‪ ،‬ولذلك ل حق للنـاس فــي أخــذ رأيهـم بهــا‪ ،‬ول يجـب‬ ‫على الدولة أن ترجــع إليهــم فــي شــأنها‪ ،‬وإن كــان يجــومز أن‬ ‫تسمع رأي المة فيها‪ ،‬والمة تبدي في شأنها الرأي الذي تراه‬ ‫لن النصيحة لئمة المسلمين أي لحكامهم حق على المة‪.‬‬ ‫‪2‬ـ تصرفات الدولة هي أعمال حدثت فيمكــن الحكــم‬ ‫عليها‪ ،‬وليست هي أمورا ستحدث تحتاج إلى معلومات لصدار‬ ‫الحكم فــي شــأنها‪ .‬ولــذلك كــان مــن حــق المــة أن تنــاقش‬ ‫الدولة وتحاسبها على كل تصر ف من تصرفاتها مطلقا‪ ،‬سواء‬ ‫أكان ذلك في المور الداخلية‪ ،‬أو الخارجية‪ .‬وعلى الدولــة أن‬ ‫تستجيب لهذه المناقشة والمحاسبة وأن تعمل برأي المة إذا‬ ‫كــان وفــق الشــرع؛ لن الدولــة إنمــا وجــدت لتنفيــذ الشــرع‪،‬‬ ‫ولرعاية مصالح الناس‪ .‬وتصرفاتها منوطة بالمصلحة العامــة‪،‬‬ ‫مقيدة بشرع ا؛ ولذلك يجب أن تحاسب من قبل المة على‬ ‫‪32‬‬


‫كل عمل من أعمالها‪ ،‬وتناقش في كل تصر ف من تصرفاتها‪،‬‬ ‫لتظــل ســائرة فــي حــدود الشــرع‪ ،‬وفــق المصــلحة العامــة‪.‬‬ ‫ومجلس الشورى وكيل عن المــة فــي الــرأي‪ ،‬فلــه محاســبة‬ ‫الخليفة والهيئة التنفيذية والولة‪ ،‬وله مناقشــتهم فــي سياســة‬ ‫القتصاد والصحة والتعليم ونحوهــا‪ ،‬ممــا هــو مــن السياســة‬ ‫الداخلية‪ ،‬أو من التصــرفات الناشــئة عــن السياســة الداخليــة‪،‬‬ ‫وكذلك في كافة التصرفات التي تحصل بالفعل في السياسة‬ ‫الخارجيــة‪ .‬ومحاســبة مجلــس الشــورى ومناقشــته للخليفــة‬ ‫وللهيئة التنفيذية والولة ملزمة لهم فيجب عليهــم العمــل بمــا‬ ‫يراه المجلس في شأنها‪.‬‬ ‫إل أن هــذه المحاســبة والمناقشــة فــي السياســة الداخليــة‬ ‫جميعها‪ ،‬وفيما ينتج عنها من تصرفات‪ ،‬وفي التصــرفات الــتي‬ ‫تحصل بالفعل في السياسة الخارجيــة‪ ،‬هــي أمــور اجتهاديــة‬ ‫تسـير وفــق الشــرع‪ ،‬وتعمـل ضــمن المصـلحة العامـة‪ ،‬وقــد‬ ‫يحصل خل ف في الرأي فيها‪ ،‬بين مجلس الشــورى والدولــة‪،‬‬ ‫وقد يختلفون على حكم الشرع في شأنها‪ ،‬وقد يختلفون في‬ ‫وجه المصلحة فيهــا‪ ،‬فــإذا اختلــف مجلــس الشــورى ورئيــس‬ ‫الدولة أو الهيئة التنفيذية أو الولة في شــرعية حكــم فــي أي‬ ‫أمر من هذه المور‪ ،‬ل يرجح رأي رئيس الدولة أو معاونيه أو‬ ‫الولة‪ ،‬ول رأي مجلــس الشــورى‪ ،‬بــل يحــال المــر لمحكمــة‬ ‫‪33‬‬


‫المظالم لتعطي رأيها‪ ،‬وهي التي تفصل فــي ذلــك وحكمهــا‬ ‫نافذ على رئيس الدولة ومعاونيه والولة‪ ،‬كما هو نافــذ علــى‬ ‫مجلــس الشــورى؛ لن الســيادة للشــرع‪ ،‬وهــو ممثــل فــي‬ ‫القضاء‪ ،‬ومحكمة المظالم أعلى هيئة قضائية تمثــل الشــرع‪،‬‬ ‫قال تعالى } فإن تنامزعتم في شيء فردوه إلى ا‬ ‫والرسول {‪.‬‬ ‫‪3‬ـ ل يجب على الخليفة العمل برأي مجلــس الشــورى‬ ‫فــي الناحيــة التشــريعية‪ ،‬لن رأي المجلــس يأخــذ فــي هــذه‬ ‫الناحية لمجرد الشورى‪ ،‬ول يلزم العمل به‪ ،‬بــل الــرأي الخيــر‬ ‫في التشــريع هــو لميــر المــؤمنين‪ ،‬وأمــره هــو الــذي يجعــل‬ ‫الحكم الشرعي قانونا‪ ،‬ما دام اجتهاده شرعيا‪ ،‬ومــا دام هــذا‬ ‫الحكم مــأخوذا باجتهــاد صــحيح‪ .‬ويلـزم الخــذ فيمــا اختـاره‪.‬‬ ‫وهذا ل يعني أن مجلس الشورى ل يختار أحكاما شرعية بــل‬ ‫له ـ إذا أراد ـ أن يختار أحكاما شرعية‪ ،‬لتكون قانونــا‪ ،‬ولكنهــا‬ ‫ل تصبح قانونا نافذا إل إذا أمر بها أمير المؤمنين‪.‬‬ ‫‪4‬ـ الخليفة نائب عن المــة فــي الحكــم‪ ،‬وحيـن يعيــن‬ ‫معــاونيه والــولة يجــب أن يعينهــم للحكــم وللقيــام بمصــالح‬ ‫الناس‪ ،‬وأن يكونوا أمنــاء عليهــا‪ ،‬موثــوقين عنــد النــاس‪ ،‬وأن‬ ‫يرضــى عنهــم المحكومــون‪ .‬ومجلــس الشــورى نــائب عــن‬ ‫الناس‪ ،‬فإذا أظهر مجلــس الشــورى عــدم رضــاه مــن الهيئــة‬ ‫‪34‬‬


‫التنفيذية‪ ،‬أو أحد أعضــائها‪ ،‬أو مــن الــولة يجــب علــى رئيــس‬ ‫الدولة أن يعزلهـم فــي الحــال‪ ،‬دون بيـان السـباب؛ لن رأي‬ ‫مجلس الشورى ملزم في ذلــك‪ ،‬ويجــب علــى رئيــس الدولــة‬ ‫العمل به‪.‬‬ ‫‪5‬ـ ـ للمســلمين مــن أعضــاء مجلــس الشــورى حصــر‬ ‫المرشحين للخلفة فــإذا حصــروا المرشــحين للخلفــة يجــب‬ ‫على الدولة أن تلتزم رأيهـم فـي ذلـك؛ لن رأيهـم فـي هـذه‬ ‫الناحية ملزم يجب العمل به‪.‬‬ ‫‪6‬ـ ويتلخص موضوع العمل برأي مجلس الشورى في‬ ‫النقاط التية‪:‬‬ ‫أ ـ يعتبر رأيه كله ملزما في أمر أعضاء الهيئة التنفيذيــة‬ ‫والولة‪ ،‬ويجب العمل به‪ ،‬فإذا أظهر عدم رضاه منهــم وجــب‬ ‫عزلهم‪.‬‬ ‫ب ـ يؤخذ رأيــه كلــه فــي شــؤون الحكــم والدارة‪ ،‬أي‬ ‫فــي السياســة الداخليــة‪ ،‬ويكــون رأيــه ملزمــا فــي سياســة‬ ‫القتصاد والصحة والمعار ف وما شاكلها من المور الداخليــة‪،‬‬ ‫ول يؤخذ رأيه في الناحية المالية كالميزانية‪ ،‬ول في الجيــش‪،‬‬ ‫ول في السياسة الخارجية‪ ،‬كعقد المعاهدات وإعلن الحرب‪.‬‬ ‫ج ـ لمجلس الشورى الحق فــي أن يعطــي رأيــه فــي‬ ‫كافــة تصــرفات الدولــة‪ ،‬ســواء أكــانت ناتجــة عــن السياســة‬ ‫‪35‬‬


‫الداخلية‪ ،‬أو السياسة الخارجيــة أو الماليــة أو غيرهــا‪ ،‬وتعتــبر‬ ‫محاسبته للدولة علــى هــذه التصــرفات ومناقشــته لهــا حقــا‪،‬‬ ‫ويكون رأيه ملزما يجب العمل به‪.‬‬ ‫د ـ يؤخذ رأي العضــاء المســلمين منــه فــي التشــريع‬ ‫وفي حصر المرشحين للخلفة‪ .‬أمــا رأيــه فــي التشــريع فهــو‬ ‫لمجرد الشورى وليس ملزما ول يجـب العمـل بـه‪ ،‬وأمـا رأيـه‬ ‫في حصر المرشحين للخلفة‪ ،‬فهو ملزم يجب العمل به‪.‬‬ ‫رئيس الدولة‬ ‫رئيس الدولة هو الذي ينوب عن المة في الســلطان‪،‬‬ ‫أي الحكــم‪ ،‬وفــي تنفيــذ الشــرع‪ ،‬وهــو الــذي يضــع الحكــام‬ ‫الشرعية موضع التنفيذ أي يجعلها قانونــا‪ ،‬وهــو الــذي يتــولى‬ ‫أمور المة ويرعى شؤونها‪ ،‬وليس هــو رمــزا لهــا‪ ،‬ول مصــدرا‬ ‫لسلطانها‪ ،‬بل هو المنفذ لشرع اــ‪ ،‬ول تعتــبر رئاســته إل إذا‬ ‫كانت معطاة لـه مـن المـة‪ ،‬ول تجـب طـاعته إل فـي حـدود‬ ‫الشرع‪ .‬وقد فهم ذلك أبــو بكــر رضــي ا ـ عنــه‪ ،‬فقــال فــي‬ ‫خطبته حين ولي الخلفة ) أيها الناس قد وليت عليكم ولست‬ ‫بخيركــم‪ ،‬فــإن أحســنت فــأعينوني‪ ،‬وإن صــدقت فقومــوني‪،‬‬ ‫الصدق أمانة‪ ،‬والكذب خيانة‪ ،‬والضعيف فيكم قوي حتى آخذ‬ ‫له حقه‪ ،‬والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحــق منــه إن شــاء‬ ‫ا‪ ،‬ل يدع أحدكم الجهاد فإنه ل يــدعه قــوم إل ضــربهم اـ‬ ‫‪36‬‬


‫بالذل‪ ،‬أطيعوني ما أطعت ا ورسوله‪ ،‬فإذا عصــيت ا ـ فل‬ ‫طاعة لي عليكم‪ ،‬قوموا إلى صلتكم يرحمكم ا ( وخطــب‬ ‫عمر بن عبد العزيز حين ولي الخلفة‪ ،‬فصرح عن عمله فــي‬ ‫رئاسة الدولة بأنه منفذ فقال ) أيهــا النــاس إنــه ل كتــاب بعــد‬ ‫القرآن‪ ،‬ول نبي بعد محمد صــلى اـ عليــه وســلم‪ ،‬أل وأنــي‬ ‫لست بقاض ولكني منفذ‪ ،‬ولست بمبتدع ولكني متبع‪ ،‬ولســت‬ ‫بخير من أحدكم ولكني أثقلكم حمل‪ ،‬وإن الرجل الهارب مــن‬ ‫المام الظالم ليس بظالم‪ ،‬أل ل طاعة لمخلوق فــي معصــية‬ ‫الخــالق ( ممــا يــدل علــى أن الخليفــة كــان يفهــم أنــه منفــذ‬ ‫للشرع‪ ،‬أنظر قول عمر بن عبد العزيز ) لست بقــاض ولكنــي‬ ‫منفذ ( وانظر قوله ) ل طاعة لمخلوق في معصــية الخــالق (‬ ‫ولذلك فإن المسلمين حيــن يبــايعون الخليفــة‪ ،‬إنمــا يبــايعونه‬ ‫على كتاب ا وسنة رسول ا‪.‬‬ ‫تسمية رئيس الدولة‬ ‫لــم ينــص الشــرع علــى تسـمية رئيــس الدولــة باســم‬ ‫معيــن‪ ،‬ول تلقيبــه بلقـب معيـن؛ فقــد سـمى أبـو بكــر نفســه‬ ‫) خليفة رسول ا (‪ ،‬أي الذي جاء بعــده‪ ،‬وســمى عمــر بــن‬ ‫الخطاب نفسه ) أمير المؤمنين (‪ ،‬وكره أن يقــال عنــه خليفــة‬ ‫خليفة رسول ا للتكرار‪ ،‬وأطلق علــى علــي المــام‪ ،‬ولــذلك‬ ‫كانت تسمية رئيس الدولة باســم معيــن غيــر واردة‪ ،‬بــل هــو‬ ‫‪37‬‬


‫رئيس الدولة مهما أطلق عليه من أسماء‪ ،‬ما لم يــدل الســم‬ ‫على نظام خاص‪ ،‬كملك‪ ،‬وإمبراطور‪ ،‬ورئيس جمهورية‪ ،‬أو ما‬ ‫شابهها فيمنع إطلقه عليه‪.‬‬ ‫وحدة الدولة السلمية‬ ‫ل يجومز تعدد الخلفة‪ ،‬فل يجــومز أن يكــون للمســلمين‬ ‫خليفتان في وقت واحد‪ ،‬يشتركان فـي أمـور المســلمين فـي‬ ‫دولة واحدة‪ .‬وكذلك ل يجومز أن يكون للمســلمين خليفتــان أو‬ ‫أكثر‪ ،‬يستقل كل واحد منهما في الولية على جــزء مــن البلد‬ ‫الســلمية‪ .‬ولــذلك ل توجــد لــدى المســلمين دول إســلمية‬ ‫متعددة‪ ،‬بل الدولة الســلمية واحــدة‪ ،‬ويحــرم أن تتجــزأ بلد‬ ‫السلم تحت رايات متعددة‪ .‬وإذا بويع لخليفتين فبيعــة الول‬ ‫هي المعتبرة إذا كــانت صــحيحة‪ ،‬وبيعــة الثــاني باطلــة؛ قــال‬ ‫عليه الصلة والسلم ) إذا بويع لمامين فاقتلوا الخر منهما (‬ ‫وقد أجمع الصحابة على وحدة الخلفة‪ ،‬مثل إجماعهم علــى‬ ‫وجوبها‪ ،‬فوحدة الدولــة الســلمية فــي العــالم ثابتــة بالســنة‬ ‫والجماع‪.‬‬ ‫صفات الخليفة‬ ‫والرجل الذي تختاره المة خليفــة لهــا ورئيســا للدولــة‬ ‫السلمية‪ ،‬ل يشترط فيه إل الشروط الشرعية الواجبة للقيــام‬ ‫بأي عمل من أعمال الســلم‪ ،‬فل يشــترط فيــه إل أن يكــون‬ ‫‪38‬‬


‫رجل‪ ،‬مســلما‪ ،‬بالغــا‪ ،‬عــاقل‪ ،‬عــدل‪ ،‬حــرا‪ ،‬بغــض النظــر عــن‬ ‫جنسه وأسرته؛ لن ا تعالى يقول‪ } :‬إن أكرمكم عند‬ ‫ا أتقاكم { وحين أرسل الرسول الجيش إلى مؤتة لغزو‬ ‫الروم أمر عليه مزيد بن حارثة‪ ،‬وهو من بني كلب‪ ،‬وقدمه على‬ ‫جعفر بن أبي طالب‪ ،‬وجعل جعفر جنــديا مــن جنــوده‪ ،‬وأبــو‬ ‫بكر حين استشار المة في مرض موته فيمــن يكــون خليفــة‬ ‫عليهــا‪ ،‬ووافقــت علــى عمــر‪ ،‬وصــفه بــأنه خيرهــم وأقــواهم‬ ‫وأحرصهم على ما يرشدهم‪ ،‬ولم يصفه بأي شيء غيــر هــذا‬ ‫مما يتصل بالعائلية‪ ،‬وعمر حين طعن وأشــر ف علــى المــوت‬ ‫طلب منه الناس أن يستخلف‪ ،‬وألحوا عليه بذلك مرتين‪ ،‬فقال‬ ‫لهم ) لو كان أبو عبيدة حيا لستخلفته فإن سألني ربــي قلــت‬ ‫سمعت نبيك يقول‪ :‬إنه أمين هذه المة‪ ،‬ولو كان سالم مولى‬ ‫أبو حذيفة حيا لســتخلفته‪ ،‬فــإن ســألني ربــي قلــت‪ :‬سـمعت‬ ‫نبيك يقول‪ :‬أن سالما شديد الحب للــه (ولــم يســتخلف أحــدا‪،‬‬ ‫وعهد بالمر لهل الشورى يختارون خليفة‪ .‬فانظر إليــه وهــو‬ ‫يرى استخل ف سالم‪ ،‬وسالم هذا كما قــال عنــه مــولى أبــي‬ ‫حذيفة ) والظاهر أنه كان قد أعتق ( وكــل ذلــك وغيــره ممــا‬ ‫هو بارمز في نصوص السلم وأحكامه الشرعية‪ ،‬يدل دللة ل‬ ‫تقبل التفسير والتأويــل‪ ،‬علــى أن المــة تختــار رئيــس الدولــة‬ ‫ممـن ترضـاهم لرئاسـتهم‪ ،‬مـن الرجـال المسـلمين العـدول‬ ‫‪39‬‬


‫المكلفين شرعا‪ .‬أما كونه رجل فللحــديث النــاهي عــن توليــة‬ ‫المرأة‪ ،‬ولن الرجل فيه صفة القيــادة طبيعيــا‪ ،‬وليســت هــذه‬ ‫الصفة من طبيعة المرأة‪ ،‬أمــا كــونه مســلما فلن عملــه هــو‬ ‫حمل الدعوة الســلمية‪ ،‬ول يشــترط فيمــن ترضــاهم المــة‬ ‫لرئاستها سوى هذه الشــروط‪ .‬أمــا مــا ذكــره المــاوردي مــن‬ ‫الجماع على اشــتراط النســب‪ ،‬وأن يكــون مــن قريــش فلــم‬ ‫يصــح؛ إذ قــد اختلــف فيــه المســلمون‪ ،‬ولن الحــديث الــذي‬ ‫يستندون إليه‪ ،‬وهو " الئمــة مــن قريــش " ضــعيف مطعــون‬ ‫فــي روايتــه‪ ،‬ولــو كــان صــحيحا لمــا اختلــف المســلمون فــي‬ ‫سقيفة بني ساعدة‪ .‬ولن صفات النسب واشــتراط أن يكــون‬ ‫مــن قريــش معــارض للنصــوص الصــحيحة الكــثيرة الــواردة‬ ‫بإلغاء اعتبار النســاب‪ ،‬والعتمــاد علــى العمــال‪ ،‬وبالتشــنيع‬ ‫على من دعا إلى عصبية‪ ،‬ولن الرســول عليــه الســلم حيــن‬ ‫خرج إلى غزوة تبوك استخلف على المدينة محمد بن مسلمة‬ ‫ليتولى شؤون المسلمين‪ ،‬وخلف عليــا رضــي ا ـ عنــه علــى‬ ‫أهله فقط‪ .‬وكل ذلك يــدل علــى عــدم اشــتراط النســب فــي‬ ‫الخليفة‪ .‬وأمــا الصــفات الخــرى الــتي ذكرهــا الفقهــاء فهــي‬ ‫صفات كمالية‪ ،‬وليست صفات لمزمة مشــروطة؛ لنــه لــم يــرد‬ ‫فيها نص‪ ،‬ولن رئيس الدولة هو نــائب عـن المـة السـلمية‬ ‫في السلطان أي الحكم‪ ،‬ولها أن تنيــب عنهــا مــن تشــاء مــن‬ ‫‪40‬‬


‫المسلمين المكلفيــن شــرعا‪ ،‬ولن عمــل رئيــس الدولــة هــو‬ ‫تنفيذ الشرع‪ ،‬وذلك ممكن لكل مسلم عاقــل بــالغ‪ .‬أمــا تبنــي‬ ‫الحكام الشرعية لتصبح قانونا فل يقتضي أن يكون الخليفــة‬ ‫مجتهدا؛ لن معه في جهامز الحكم محكمة المظالم‪ ،‬ويشترط‬ ‫فــي أعضــائها أن يكونــوا مــن المجتهــدين‪ ،‬ولن المــة فيهــا‬ ‫مجتهدون من الفقهاء‪ ،‬ويمكنه أن يرجــع إليهــم‪ ،‬علوة علــى‬ ‫أن الجتهاد لم يشترطه أحد في أمير المؤمنين‪.‬‬ ‫انتخاب الخليفة‬ ‫إذا خل مركز رئاسة الدولة بأن مــات الخليفــة أو عــزل‬ ‫وجب على المسلمين أن ينتخبوا رئيسا مكانه فــي مــدة ثلثـة‬ ‫أيام‪ ،‬ويحرم أن يتأخروا عن ذلك أكثر من ثلثة أيام‪ .‬وطريقـة‬ ‫انتخابه هي أن يجتمع مجلس الشــورى فــي الحــال فيرشــح‬ ‫العضــاء المســلمون فــي مجلــس الشــورى مــن يصــلحون‬ ‫لرئاسة الدولة من كافــة المســلمين‪ ،‬ويحصــرون المرشــحين‬ ‫لهذا المنصب‪ ،‬ثم يعلن المجلس أسماءهم‪ ،‬ويطلب من المة‬ ‫انتخابهم بالقتراع‪ ،‬ثم تعلن نتيجـة النتخـاب‪ ،‬علـى أن يكـون‬ ‫ذلك خلل مدة اليام الثلثــة الــتي تمــر مــن يــوم خلــو مركــز‬ ‫رئاسة الدولة‪ .‬وبعد أن يجري النتخاب للخليفة بــأكثر أصــوات‬ ‫المنتخبين‪ ،‬يصبح مــن حــامز الكثريــة هــو المســتحق للخلفــة‬ ‫شرعا‪ ،‬فيبادر المسلمون بعد ذلك بمبايعته على العمل بكتاب‬ ‫‪41‬‬


‫ا وسنة رسوله‪ .‬فإن بــايعوه أصــبح خليفــة واجــب الطاعــة‬ ‫في حدود السلم‪.‬‬ ‫ويرى المتتبع لعمل المسلمين في عهد الراشــدين‪ ،‬أن‬ ‫أبا بكر أخذ رأي المسلمين في علي وعمر‪ ،‬ومكث مدة ثلثــة‬ ‫أشهر يرجع للمسلمين لخذ رأيهم‪ ،‬حــتى اســتقر الــرأي علــى‬ ‫اختيار عمر‪ ،‬وهذا هو النتخاب‪ .‬وبعــد وفــاة أبــي بكــر جــرت‬ ‫البيعة لعمر‪ ،‬وأن عمر بناء على طلب الناس منه رشــح ســتة‬ ‫لمنصب الخلفة‪ ،‬ثم جرى أخذ رأي المســلمين رجــال ونســاء‬ ‫فاختاروا عليا وعثمان‪ ،‬ورجح عبد الرحمن بن عــو ف عثمــان‬ ‫فاختاره‪ ،‬وهذا انتخاب من المســلمين‪ ،‬ثـم بــايعه المســلمون‬ ‫حتى علي‪ .‬وذلــك كلــه يــدل علــى وجــوب حصــر المرشــحين‬ ‫للخلفة‪ ،‬ثن انتخاب المة واحدا مــن هــؤلء المرشــحين‪ ،‬ثـم‬ ‫مبايعة من ينال أصواتا أكثر بالنتخاب‪ ،‬خليفة للمسلمين‪.‬‬ ‫البيعة‬ ‫جعل الشرع الخليفة نائبا عن المة في تنفيــذ الشــرع‬ ‫وأعطاها حق اختياره‪ ،‬فاختياره إظهار لرغبتها في نيابته عنها‬ ‫ومــتى تــم انتخــاب الخليفــة مــن المســلمين‪ ،‬بــايعه جميــع‬ ‫المسلمين على العمل بكتاب ا وسنة رسوله‪ .‬فالبيعة هــي‬ ‫أن يظهر الناس الرضى بالخليفة والطاعــة لــه‪ ،‬وهــي ليســت‬ ‫اختيارا للخليفة‪ ،‬ول انتخابا‪ ،‬ول تفويضــا‪ ،‬ول تــوكيل بالخلفــة‪:‬‬ ‫‪42‬‬


‫وإنمــا هــي الموافقــة علــى المــر الواقــع والتســليم بــه‪ ،‬أي‬ ‫الموافقة على ما وقع من انتخاب للخليفة‪ .‬والرضى والتسليم‬ ‫بهذا النتخاب‪ ،‬قبول للخليفة المنتخــب مــن المســلمين ســواء‬ ‫مــن انتخبــوه ومــن لــم ينتخبــوه‪ .‬وهــي العهــد علــى طاعــة‬ ‫الخليفــة‪ ،‬ومعاهــدته علــى التســليم لــه بــالنظر فــي أمــور‬ ‫المسلمين‪ ،‬فكأن المبايع في بيعته للخليفة يعاهــد ا ـ علــى‬ ‫طاعته‪ ،‬في حدود كتاب ا‪ ،‬وسنة نبيه؛ ولذلك يبــايع الخليفــة‬ ‫على كتاب ا وسنة رسول ا‪.‬‬ ‫والبيعــة حــق لعامــة المســلمين‪ ،‬ل فــرق بيــن رجــل‬ ‫وامرأة‪ .‬وحكم البيعة أنها فرض كفاية وليســت فــرض عيــن‪،‬‬ ‫وإن كانت تتم بانتخاب أكــثر المســلمين وبيعتهــم‪ .‬وينبغــي أن‬ ‫يجتهد في أخذها من جميــع المســلمين‪ .‬وقــد اتفــق الئمــة‪،‬‬ ‫والمجتهدون‪ ،‬والفقهاء على أنها فـرض كفايـة‪ .‬وهـي لمزمـة‬ ‫في عنق كل مسلم‪ .‬قال عليــه الصــلة والســلم ) مــن مــات‬ ‫وليس في عنقه بيعة فقد مات ميتة جاهليــة ( والقصــد أن ل‬ ‫يخلو المسلمون مــن خليفــة‪ .‬وكــانت البيعــة فــي عهــد النــبي‬ ‫والخلفاء الراشدين شفهية‪ .‬وقد تتم بالمصافحة باليد‪ ،‬وترديد‬ ‫كلمات البيعة المعروفة مثـل‪ ) :‬بايعنـاك علـى العمـل بكتـاب‬ ‫ا وسنة رسوله ( ويبايع الخليفة مباشرة حيث أمكن‪ .‬وينوب‬ ‫عنه ولته وعماله في أخذ البيعة لــه فــي ســائر أنحــاء البلد‪.‬‬ ‫‪43‬‬


‫ول تأخذ البيعة للخليفة إل بعــد انتخــابه مــن المســلمين‪ .‬ومــا‬ ‫حصــل مــن أبــي بكــر حيــن اســتخلف عمــر هــو استشــارة‬ ‫للمسلمين‪ ،‬وليس بيعة‪ .‬ولذلك لــم يأخــذ البيعــة لــه أبــدا ومــا‬ ‫حصل من معاويــة مــن أخــذ البيعــة ليزيــد فهــو ليــس حكمــا‬ ‫شرعيا‪ .‬وإذا انتخــب الخليفــة بــادر المســلمون بــبيعته؛ لنــه ل‬ ‫يحل لمسلم أن يبيت ليلتين دون بيعــة‪ .‬وهــذه البيعــة دائميــة‬ ‫في عنق المبايع وغيره للخليفة ما دام عامل بكتاب ا وسنة‬ ‫نبيه على الوجه الذي بايعه علبه حتى يموت أو يعزل‪.‬‬ ‫صلحيات رئيس الدولة‬ ‫رئيس الدولة نائب عن المــة فــي الحكــم‪ ،‬فهـو قــائم‬ ‫بخدمتها‪ ،‬محاسب على أعماله أمامهــا؛ فلــه صــلحيات المــة‬ ‫في كافة شــؤون الســلطان والحكــم‪ ،‬ولــه الصــلحيات الــتي‬ ‫أعطاه إياها الشرع في التشريع‪ ،‬والشرع هو الــذي يــبين لــه‬ ‫أنواع صلحياته كلها‪ .‬ولذلك فلرئيس الدولة صلحيات واسعة‬ ‫في حدود الشرع‪ ،‬وصلحياته هي‪:‬‬ ‫‪1‬ـ هو الذي يعين أعضاء الهيئة التنفيذية والولة‪ ،‬دون‬ ‫حاجة لن يعرضهم على مجلس الشورى‪ ،‬ودون حاجة لخــذ‬ ‫ثقتــه بهــم‪ ،‬ولــه حــق عزلهــم‪ .‬غيــر أن لمجلــس الشــورى أن‬ ‫يحاسب رئيس الدولة‪ ،‬وأعضــاء الهيئــة التنفيذيــة‪ ،‬ويناقشــهم‪.‬‬ ‫ولمجلس الشورى الحق في إظهار عدم الرضى عن أعضــاء‬ ‫‪44‬‬


‫الهيئة التنفيذية‪ ،‬وعن الولة‪ ،‬دون بيان السباب‪ .‬وحينئذ يجــب‬ ‫على رئيس الدولـة أن يعزلهـم فـي الحـال‪ .‬وليـس لمجلـس‬ ‫الشورى صلحيات نزع الثقة من رئيس الدولة مطلقا‪.‬‬ ‫‪2‬ـ هو الذي يعين جهــامز الحكــم كلــه مــا عــدا مجلــس‬ ‫الشـورى؛ فرئيـس الدولـة هـو الـذي يعيـن قاضـي القضـاة‪،‬‬ ‫ومديري الدوائر‪ ،‬وقــواد الجيــش وأمــراء ألــويته‪ ،‬وهــو الــذي‬ ‫يملك حق عزلهم‪ ،‬وتأديبهم‪ .‬وهم جميعــا مســؤولون أمــامه‪،‬‬ ‫وليسوا مسؤولين أمام مجلس الشورى‪.‬‬ ‫‪3‬ـ هو الذي يجعل الحكــام الشــرعية قــوانين ســارية‬ ‫ملزمة الناس العمل بها‪ ،‬فإذا تبنى رأيا مــن الراء الســلمية‪،‬‬ ‫أو حكما من الحكام الشرعية‪ ،‬كان أمره جاعل هــذا الحكــم‬ ‫الذي تبناه هو الذي يحكم به في الدولة‪ ،‬وينفذ علــى النــاس‪،‬‬ ‫ل غيره من باقي الحكام والراء ولو كانت إسلمية‪.‬‬ ‫‪4‬ـ لرئيس الدولة مــع الهيئــة التنفيذيــة صــلحية وضــع‬ ‫ميزانيــة الدولــة‪ ،‬وترتيبهــا‪ ،‬وجعلهــا نافــذة‪ ،‬دون حاجــة إلــى‬ ‫مجلس الشورى‪ .‬ول تعرض علــى مجلــس الشــورى مطلقــا‪.‬‬ ‫ول يؤخذ رأيه في شأنها؛ والمالية تعتبر من أسرار الدولة‪ .‬فل‬ ‫يصح أن تكون إل فـي يـد الهيئـة التنفيذيــة الـتي تتـولى هـي‬ ‫التنفيذ‪ ،‬ورعاية شؤون النــاس؛ وكــان عمــل أبــي بكــر وعمــر‬ ‫على هذا الوجه‪ ،‬وأقرهما عليه الصحابة‪ ،‬فكان ذلــك إجماعــا‬ ‫‪45‬‬


‫من الصحابة على جعل أمــور المــال العليــا فــي يــد الخليفــة‬ ‫ومن يعاونه في شؤون الحكم‪.‬‬ ‫‪5‬ـ لرئيس الدولــة أمــر إعلن الحــرب‪ ،‬وعقــد الصــلح‪،‬‬ ‫وعقد المعاهدات مــع الــدول الجنبيــة‪ .‬ولــه أن يرجــع للهيئــة‬ ‫التنفيذية‪ ،‬ول يرجع لمجلــس الشــورى فــي ذلــك مطلقــا؛ لن‬ ‫هذه الشياء كــانت مــن شــأن الخليفــة‪ ،‬ولــم يكــن لمجلــس‬ ‫الشورى حق في أن يؤخذ رأيه فيها‪ .‬فقد عقد صلى ا عليه‬ ‫وسلم المعاهدة مــع اليهــود دون أخــذ رأي المســلمين‪ ،‬وبــدأ‬ ‫قريشا بإعلن الحر بفي إرســال الســرايا دون الرجــوع لــرأي‬ ‫المسلمين؛ وعقد صلح الحديبية رغم معارضة المسلمين في‬ ‫الصلح‪ ،‬وفي شــروطه‪ ،‬وأعلــن أبــو بكــر حــروب الــردة رغــم‬ ‫معارضة المسلمين‪ ،‬ولما تردد أكــثر المســلمين فــي الخــروج‬ ‫إلى بدر الخرة‪ ،‬غضب الرسول‪ ،‬وأقسم ليخرجــن إليهــا‪ ،‬ولــو‬ ‫ذهب وحده‪ .‬وأما أخذ الرسول رأي المسلمين يوم بــدر فــإنه‬ ‫كان بالنسبة للمكان الذي نــزل فيــه ويعتــبر أخــذا للــرأي فــي‬ ‫عمل فني ل في إعلن الحرب‪ .‬وأمــا قــول الرســول أشــيروا‬ ‫علي أيها الناس فإنما أراد النصار‪ .‬وأما أخذ الــرأي فــي أحــد‬ ‫فـإنه كـان فـي أمـر فنـي‪ :‬أيحـارب العـدو داخـل المدينـة أم‬ ‫خارجها ؟ وليس هو أخذ رأي في الحرب‪.‬‬

‫‪46‬‬


‫‪6‬ـ سائر المسائل المتعلقة بالسياســة الخارجيــة‪ ،‬مثــل‬ ‫قبـــول الســـفراء الجـــانب ورفضـــهم‪ ،‬وإرســـال الســـفراء‬ ‫المسلمين‪ ،‬وسائر العلقات الخارجية؛ فهي من شــأن رئيــس‬ ‫الدولة‪ .‬وله أن يرجع إلى الهيئة التنفيذيــة فــي جميــع شــؤون‬ ‫السياسة الخارجية دون عرضها على مجلس الشورى‪ ،‬أو أخذ‬ ‫رأيه فيها؛ لما مر من التعليل‪ ،‬ولن السياســة الخارجيــة مبنيــة‬ ‫علــى معلومــات خارجيــة؛ والصــل أن تكــون موجــودة عنــد‬ ‫رئيس الدولة‪ ،‬وهو أدرى بمعالجات المشاكل الخارجية‪ .‬غيــر‬ ‫أن لمجلس الشورى أن يحاسب رئيس الدولة على المســائل‬ ‫الخارجية ويناقشه في شأنها‪.‬‬ ‫وإعطاء رئيــس الدولــة هــذه الصــلحيات الواســعة ل‬ ‫يعني مطلقا أن له قداسة‪ ،‬أو أن له حقــا إلهيــا؛ لنــه ل ينــوب‬ ‫في سلطته عن ا بل ينوب في سلطته عــن المــة؛ وإنابتهــا‬ ‫إياه هي التي جعلته في رئاسة الدولة‪ .‬نعم هو مقيد بكتــاب‬ ‫ا وسنة رسوله‪ .‬وهــذا ل يجعلــه مقدســا‪ ،‬بــل يجعلــه محل‬ ‫للمناقشة والمحاسبة‪ ،‬لن تحقيق سيادة الشرع مطلوب مــن‬ ‫الجميع‪ ،‬وإن ما جاء فــي كتــاب ا ـ وســنة رســوله ل يعــدوا‬ ‫القواعد الكلية‪ ،‬والخطوط العريضــة‪ ،‬والمبــادئ العامــة الــتي‬ ‫هي ضـرورية للنسـان ولكافـة شـؤون الحيـاة‪ ،‬ولـم يجعـل‬ ‫السلم فهم مـا جـاء فـي كتـاب اـ مقصـورا علـى طائفـة‬ ‫‪47‬‬


‫معينة‪ ،‬بل جعل جميــع المــة ســواء فــي اســتنباط الحكــام‪،‬‬ ‫وإدراك ما أمر ا به وما نهى عنه‪ ،‬إذ جعل أمر تعلمها واجبــا‬ ‫على المسلمين‪ .‬ولذلك فالمة كلها تنظر في الشــرع‪ ،‬كمــا أن‬ ‫للمة كلها أن تحاسب رئيس الدولة على تصــرفاته‪ ،‬وتناقشــه‬ ‫فيها؛ لنه إنما وجد لتنفيذ الشرع‪ .‬لذلك كــان رئيــس الدولــة _‬ ‫مــع أن لــه هــذه الصــلحيات _ خاضــعا للمحاســبة علــى‬ ‫تصرفاته؛ لنه مقيد بشرع ا‪.‬‬ ‫وقد تنبه إلــى نفــي معنــى الســتبداد والتقــديس عــن‬ ‫الخليفة أبو بكر؛ فإنه رضي ا عنه لما بويع خاطبه رجل من‬ ‫المسلمين بقوله‪ " :‬يا خليفة ا " فزجره أبو بكر‪ ،‬وقال له‪" :‬‬ ‫لست خليفة ا‪ ،‬ولكني خليفة رسول ا " وقصد أبو بكر أن‬ ‫يزيــل المعنــى الــذي قــد تــوهمه كلمــة " خليفــة ا ـ " مــن‬ ‫القداسة ووجود الحــق اللهــي‪ ،‬الــذي كــان يزعمــه القــدامى‬ ‫للحاكم‪ .‬ومع نفي أبي بكر معنى القداسة في قوله‪ " :‬خليفة‬ ‫سول ا " خا ف أن يفهم معنى الخلفة لرســول ا ـ فهمــا‬ ‫خاطئــا‪ ،‬فــبين أنــه إنمــا قصــد الخلفــة فــي الزمــن أي قصــد‬ ‫معناها اللغوي‪ ،‬وهو أنه جــاء بعــد رســول اـ ليقــوم علــى‬ ‫سياســة المســلمين‪ ،‬فيتــولى قيــادتهم‪ ،‬وإدارة أمــورهم فــي‬ ‫حدود شرع ا‪ ،‬ولذلك خطب رضي ا عنه إثر بيعته؛ فقال‪:‬‬ ‫" إنني وليت هذا المر وأنا له كاره‪ .‬ووا لوددت أن بعضكم‬ ‫‪48‬‬


‫كفانيه‪ .‬أل وأنكم إن كلفتموني أن أعمــل فيكــم بمثــل عمــل‬ ‫رسول ا صلى ا عليه وسلم لم أقم به؛ كان رســول اــ‬ ‫صلى ا عليه وسلم عبدا أكرمه ا بالوحي وعصمه بــه‪ ،‬أل‬ ‫وإنما أنا بشر‪ ،‬ولست بخير مــن أحــد منكــم‪ ،‬فراعــوني‪ :‬فــإن‬ ‫رأيتموني استقمت فاتبعوني‪ ،‬وإن رأيتموني مزغت فقومــوني‬ ‫" وقد جاء عمر بعد أبي بكر فلم يلقب نفســه خليفــة رســول‬ ‫ا‪ ،‬وإنما لقب نفسه بأمير المؤمنين‪ ،‬مما ينفــي عــن رئيــس‬ ‫الدولــة أي معنــى غيــر رئاســة الدولــة الــتي يعطيــه إياهــا‬ ‫المسلمون‪ ،‬والتي ينوب فيها عنهم‪ ،‬ول يجومز له أن يخرج عــن‬ ‫الشرع‪ ،‬ول عن رأيهم في حدود الشرع‪ ،‬قال تعالى ‪ ‬ومن‬ ‫يشاقق الرسول من‬

‫بعد ما‬

‫تبين له‬

‫الهدى‬

‫ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله‬ ‫جهنم وساءت مصيرا ‪ ‬وقال عليه السلم‪ " :‬من‬ ‫خرج عن الجماعة أو فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع‬ ‫ربقـة الســلم مـن عنقـه‪ .‬ومــن فــارق الجماعــة ومـات‬ ‫فميتته جاهلية " وقــال " مــن ســره أن يســكن بحبوحــة‬ ‫الجنة فليلزم الجماعة؛ فإن دعوتهم تحيط من وراءهــم‬ ‫"‪ ،‬وقال عليــه الصــلة والســلم‪ " :‬أل كلكــم راع وكلكــم‬ ‫مسؤول عن رعيته‪ ،‬فالمام الذي على الناس راع وهــو‬ ‫مسؤول عن رعيته "‪.‬‬ ‫‪49‬‬


‫مدة الرئاسة للدولة‬ ‫تنتخب المة رئيــس الدولــة لتنفيــذ الشــرع‪ .‬ولــذلك‬ ‫تبايعه على العمل بكتاب ا وسنة رسوله‪ .‬وما دام قد‬ ‫نصب رئيسا للدولة من أجــل العمــل بكتــاب اـ وســنة‬ ‫رسوله‪ ،‬أي من أجــل تنفيــذ الشــرع‪ ،‬فــإن مــدة رئاســته‬ ‫للدولة غير محددة بالزمن‪ ،‬وإنمــا هــي محــددة بالعمــل‬ ‫بكتاب ا وسنة رسوله‪ .‬ومن هنـا كـانت رئاسـة الدولـة‬ ‫دائمية‪ .‬وليس في نصــوص الشــريعة دليــل علــى تحديــد‬ ‫مدة الرئاسة للدولة بل الجمــاع قــد حصــل علــى بيعــة‬ ‫أبــي بكــر وســائر الخلفــاء الراشــدين بيعــة دائميــة غيــر‬ ‫مقيدة بمدة‪ .‬وجرى العمل من المسلمين على أن بيعــة‬ ‫المسلمين لرئيس الدولة تبقى في أعناقهم حتى يموتوا‪،‬‬ ‫أو يمــوت أو يعــزل‪ ،‬قــال عليــه الصــلة والســلم ) مــن‬ ‫مات وليس في عنقه بيعة فقد مات ميتة جاهلية ( وأبو‬ ‫بكر وعمــر ومــن بعــدهما مــن الخلفــاء بويعــوا بيعــةلم‬ ‫توقت بوقت‪ ،‬فهي دائمية‪ .‬ولذلك ل تحدد رئاســة الدولــة‬ ‫بمدة مطلقا‪ ،‬وإنما تحدد رئاسته بالحــد الــذي يخــل فيــه‬ ‫بالشــرع فمــا دام منفــذا للشــرع‪ ،‬حــامل دعــوته‪ ،‬يبقــى‬ ‫رئيسا للدولة‪ ،‬وإذا أخل بذلك انتهت مدة رئاسته‪.‬‬ ‫عزل رئيس الدولة‬ ‫‪50‬‬


‫إذا أخل الخليفة بالشرع‪ ،‬بأن لــم ينفــذه‪ ،‬أو نفــذ‬ ‫غيره‪ ،‬أو لم يحمل دعوته‪ ،‬فقد أحل الناس مــن بيعتــه‪،‬‬ ‫ووجب خلعــه‪ .‬وقــال عليــه الصــلة والســلم‪ ) :‬مــن رأى‬ ‫سلطانا جائرا مستحل لحرم ا‪ ،‬ناكثا لعهد اــ‪ ،‬يعمــل‬ ‫في عباد ا بالثم والعدوان‪ ،‬فلم يغير عليه بفعــل ول‬ ‫قــول‪ ،‬كــان علــى اـ أن يــدخله مــدخله ( وقــال عليــه‬ ‫الصلة والسلم ) أفضل الجهاد عند ا كلمة حق عنــد‬ ‫سلطان جائر ( وقــال‪ ) :‬ل طاعــة لمخلــوق فــي معصــية‬ ‫الخالق (‪.‬‬ ‫ويعزل بحكم شــرعي صــادر عــن هيئــة قضــائية‪،‬‬ ‫هــي محكمــة المظــالم؛ لنهــا هــي الــتي تســتطيع أن‬ ‫تفصل في كونه طبــق الســلم أم لــم يطبقــه‪ ،‬وتفــرق‬ ‫بين ما يوجب عزله وبين مــا ل يــوجبه‪ .‬وإذا لــم يخضــع‬ ‫لحكم محكمة المظالم كان متمردا عليحكم اــ‪ ،‬وكــان‬ ‫علــى المســلمين أن يخلعــوه‪ ،‬فقــد حلــت مــن أعنــاقهم‬ ‫بيعته‪.‬‬ ‫انتخاب الخلفاء الراشدين‬ ‫مع أن الرسول عليه الســلم كــان إذا خــرج مــن‬ ‫المدينة للغزو استخلف عليها من يتولى أمور المســلمين‪،‬‬ ‫لكنه لم يعهد بإدارة أمور المســلمين لحــد بعــد وفــاته‪،‬‬ ‫‪51‬‬


‫ولم يذكر شيئا من ذلك‪ .‬وقد وردت أحــاديث تــدل علــى‬ ‫أن الصحابة أشاروا في أحاديثهم معه إلى هــذا الشــأن‬ ‫فلم يجبهم‪ .‬وكل ما حصل هو أنه استخلف في الصــلة‬ ‫مكانه أبا بكر رضي ا عنـه‪ ،‬وحصــر الســتخل ف فيـه‪.‬‬ ‫وقد فهم بعض المسلمين من ذلك في ذلك الوقت أنه‬ ‫ترشــيح منــه عليــه الصــلة والســلم لبــي بكــر ليختــاره‬ ‫المسلمون‪ ،‬لكن مع ذلك لم يكن في هــذا الســتخل ف‬ ‫البيان الكافي‪ .‬وكان عدم بيان الرسول عليه السلم دال‬ ‫على ترك المر للمسلمين يختارون من يشــاؤون خليفــة‬ ‫لهم‪ .‬فظهرت المزمة السياسية بعد وفاته‪.‬‬ ‫وبدأت هذه المزمــة باجتمــاع عقــده النصــار فــي‬ ‫ســقيفة بنــي ســاعدة‪ ،‬للتشــاور فــي أمــر مــن يخلــف‬ ‫الرسول عليـه السـلم فـي الحكـم‪ .‬فخشـي المهـاجرون‬ ‫مغبة هذا الجتماع‪ .‬فذهب أبــو بكـر وعمـر وأبـو عبيـدة‬ ‫إليه‪ ،‬وجرت بينهم مناقشة حادة‪ ،‬بين فيها النصــار أنهــم‬ ‫الكثرية في المدينة؛ وأن على أيديهم قام بناء السلم‪.‬‬ ‫وأجاب أبو بكر مــن المهــاجرين بــأن أمــر اختيــار‬ ‫خلف للرسول في الحكم‪ ،‬ليكون رئيسا للدولة‪ ،‬هو أمــر‬ ‫خطير‪ ،‬قد يجر إلــى القلقــل علــى الدولــة مــن العــرب‬ ‫الذين لم يتعودوا بعد أن يخضــعوا لغيــر قبيلــة قريــش‪،‬‬ ‫‪52‬‬


‫التي لها عراقة الســلطان بمكــة‪ ،‬وأن المصــلحة تقضــي‬ ‫أن ينتخــب خلــف الرســول منهــا‪ .‬وحــاول المهــاجرون أن‬ ‫يفضوا الجتماع قبـل أن يصـل إلـى قـرار‪ ،‬حـتى يرجـع‬ ‫المر إلى جماعــة المســلمين كلهــم‪ ،‬ولكــن الحبــاب بــن‬ ‫المنذر بن الجموح‪ :‬أحــد النصــار‪ ،‬حيــن رأى أن الجميــع‬ ‫استراح لكلم أبـي بكـر‪ ،‬أوجـس خيفـة مـن أن ينفـض‬ ‫الجتماع دون مبايعة خليفة من النصار‪ ،‬فقــام وخطــب‬ ‫فقال‪ " :‬يا معشــر النصــار‪ ،‬أملكــوا عليكــم أمركـم‪ ،‬فــإن‬ ‫الناس في فيئكم ‪ ،‬ولن يجترئ مجترئ علــى خلفكــم‪،‬‬ ‫ولــن يصــدر النــاس إل عــن رأيكــم‪ .‬أنتــم أهــل العــز‬ ‫والــثروة‪ ،‬وأولــو العــدة والمنعــة والتجربــة‪ ،‬وذوو البــأس‬ ‫والنجــدة‪ ،‬وإنمــا ينظــر النــاس إلــى مــا تصــنعون‪ ،‬فل‬ ‫تختلفوا فيفسد عليكـم رأيكـم‪ ،‬وينتقــض عليكـم أمركـم‪.‬‬ ‫أبى هؤلء إل ما سمعتم‪ ،‬فمنا أمير ونكم أمير "‪.‬‬ ‫وما كاد الحباب ينتهي من حديثه حتى نهض عمر‬ ‫بن الخطاب فقال‪ " :‬هيهات ل يجتمــع اثنــان فــي قــرن‪.‬‬ ‫وا ل ترضى العــرب أن يـأمروكم ونبيهـا مــن غيركـم‪،‬‬ ‫ولكن العرب ل تمتنع أن تولي أمرها مـن كـانت النبـوة‬ ‫فيهم‪ ،‬وولي أمورهم منهم‪ .‬ولنا بذلك على من أبى من‬ ‫العــرب الحجــة الظــاهرة‪ ،‬والســلطان المــبين‪ ،‬مــن ذا‬ ‫‪53‬‬


‫ينامزعنـــا ســـلطان محمـــد وإمـــارته ؟ ونحـــن أوليـــاؤه‬ ‫وعشيرته‪ ،‬أل مدل بباطل‪ ،‬أو متجــانف لثــم‪ ،‬أو متــورط‬ ‫في هلكه "‪.‬‬ ‫وحيــن ســمعه الحبــاب قــام فأجــابه فقــال‪ " :‬يــا‬ ‫معشر النصار أملكـوا علـى أيـديكم ول تسـمعوا مقالـة‬ ‫هذا وأصحابه‪ ،‬فيذهب بنصيبكم من هذا المر‪ .‬فإن أبــوا‬ ‫عليكم ما ســألتموه فــأجلوهم عــن هــذه البلد‪ ،‬وتولــوا‬ ‫عليهم هذه المور؛ فأنتم وا أحــق بهــذا المــر منهــم؛‬ ‫فإنه بأسيافكم دان لهذا الدين من دان‪ ،‬ممن لــم يكــن‬ ‫يدين‪ .‬أنا جذيلها المحكك‪ ،‬وعذيقها المرجب‪ .‬أما وا إن‬ ‫شئتم لنعيدنها جذعة "‪.‬‬ ‫وحين سمعه عمر غضب وقال‪ " :‬إذن يقتلــك اـ‬ ‫"‪.‬‬ ‫فأجاب الحباب " بل إياك يقتل "‪ .‬وانتضى الحبــاب‬ ‫سيفه وهو يتكللم‪ ،‬فضــرب عمــر يــده‪ ،‬فســقط الســيف‪،‬‬ ‫فأخذه عمر‪.‬‬ ‫وفي هذه اللحظة الحرجة تدخل أبــو عبيــدة بــن‬ ‫الجراح في المــر ــ وكــان إلــى تلــك اللحظــة قــد لــزم‬ ‫الصــمت ـ ـ فقــام فخــاطب النصــار فقــال‪ " :‬يــا معشــر‬

‫‪54‬‬


‫النصار‪ ،‬كنتم أول من نصــر وآمزر‪ ،‬فل تكونــوا أول مــن‬ ‫بدل وغير "‪.‬‬ ‫ولما سمع النصار هذه الكلمة الحكيمة من أبــي‬ ‫عبيدة تأثروا‪ ،‬فقام بشير بن ســعد مــن مزعمــاء الخــزرج‬ ‫فقــال‪ " :‬إنــا واــ وإن كنــا أولــي فضــيلة فــي جهــاد‬ ‫المشركين‪ ،‬وسابقة في هذا الدين‪ ،‬ما أردنا به إل رضــا‬ ‫ربنا‪ ،‬وطاعة نبينــا‪ ،‬والكــدح لنفســنا‪ ،‬فمــا ينبغــي لنــا أن‬ ‫نستطيل على الناس بذلك‪ ،‬ول نبتغي من الـدنيا عرضـا؛‬ ‫فإن ا ولي النعمة علينا بذلك‪ .‬أل إن محمد صلى ا‬ ‫عليه وسلم من قريش‪ ،‬وقــومه أحــق بــه وأولــى‪ .‬وأيــم‬ ‫ا ل يراني ا أنامزعهم في هذا المر أبدا‪ .‬فاتقوا ا‬ ‫ول تخالفوهم ول تنامزعوهم "‪.‬‬ ‫فكانت كلمة بشير هذه مسكنا‪ .‬وقنع بها الخزرج‪.‬‬ ‫فما كان من أبي بكــر إل أن أخــذ بيــد كــل مــن‬ ‫عمر وأبي عبيدة ـ وكان جالسا بينهما ـ وقال للنصــار‪:‬‬ ‫" هذا عمر‪ ،‬وهــذا أبــو عبيــدة‪ ،‬فأيهمــا شــئتم فبــايعوا "‬ ‫ودعاهم إلى الجماعة‪ :‬وحذرهم الفرقة‪.‬‬ ‫فما كـان مـن عمـر ــ وقـد رأى اللغـط وخشـي‬ ‫الختل ف ـ أل أن نادى بصوت مرتفع‪ " :‬أبســط يــدك يــا‬ ‫أبا بكر "‪ .‬فبسط أبو بكر يده‪ ،‬فبايعه عمر‪ ،‬وهو يقــول‪:‬‬ ‫‪55‬‬


‫" ألم يأمر النبي بأن تصلي أنت يا أبــا بكــر بالمســلمين‪،‬‬ ‫فأنت خليفة رسول ا‪ ،‬فنحـن نبايعـك لنبـايع خيـر مـن‬ ‫أحب رسول ا منا جميعا "‪ .‬ثــم مــد أبــو عبيــدة يــده‪،‬‬ ‫وبايع أبا بكر وهو يقول‪ " :‬أنك أفضل المهاجرين‪ ،‬وثاني‬ ‫اثنيــن إذ همــا فــي الغــار‪ ،‬وخليفــة رســول ا ـ علــى‬ ‫الصلة‪ :‬أفضــل ديــن المســلمين‪ .‬فمــن ذا ينبغــي لــه أن‬ ‫يتقدمك‪ ،‬أو يتولى هذا المر عليك ؟ "‬ ‫وأسرع بشير بن سعد فبايع أبا بكر‪ .‬والتفت أسيد‬ ‫بن حضير مزعيم الوس إلى قــومه وهــم ينظــرون إلــى‬ ‫ما صنع بشير بن ســعد‪ ،‬وقــال لهــم‪ " :‬واـ لن وليتهــا‬ ‫الخزرج عليكم مرة‪ ،‬ل مزالت لهم عليكــم بــذلك الفضــيلة‬ ‫ول جعلوا لكم معهم فيها نصيبا أبدا‪ .‬قوموا فبــايعوا أبــا‬ ‫بكــر " وقــام الوس فبــايعوا أبــا بكــر‪ .‬ثــم قــام النــاس‬ ‫يبايعون أبا بكر مسرعين‪ ،‬حتى ضاق بهـم المكــان مــن‬ ‫السقيفة‪.‬‬ ‫وبذلك تمت بيعة السقيفة وجثمان النــبي ل يــزال‬ ‫مسجى في فراشه لــم يــدفن بعــد‪ .‬وبعــد تمــام البيعــة‬ ‫انفض الناس من السقيفة‪ .‬وفي اليو التــالي جلــس أبــو‬ ‫بكــر فــي المســجد‪ .‬وقــام عمــر فخطبهــم معتــذرا عمــا‬ ‫تحدث بــه إلــى المســلمين بــالمس‪ ،‬مــن أن النــبي لــم‬ ‫‪56‬‬


‫يمت‪ ،‬إلى أن قال‪ " :‬وإن ا أبقى فيكم كتابا ا الذي‬ ‫هدي به رسوله‪ ،‬فــإن اعتصــمتم بــه هــداكم اــ‪ ،‬كمــا‬ ‫هداه به‪ ،‬وإن ا قد جمع أمركم على خيركم‪ :‬صــاحب‬ ‫رسول ا صلى ا عليه وسلم‪ ،‬وثــاني اثنيــن إذ همــا‬ ‫في الغار‪ .‬فقوموا فبايعوا " فبايع النــاس جميعــا‪ .‬وبــذلك‬ ‫تمت البيعة‪ .‬فقام أبــو بكــر وألقــى فــي النــاس خطابــا‪،‬‬ ‫كان أول حديث له في خلفتــه‪ ،‬فقــال‪ " :‬أمــا بعــد أيهــا‬ ‫النــاس‪ ،‬فــإني قــد وليــت عليكــم ولســت بخيركــم فــإن‬ ‫أحسنت فأعينوني‪ ،‬وإن أسأت فقومــوني‪ .‬الصــدق أمانــة‪،‬‬ ‫والكذب خيانة ‪ ,‬والضعيف فيكم قوي عندي حــتى أريــح‬ ‫عليه حقه إن شــاء اــ‪ .‬والقــوي فيكــم ضــعيف عنــدي‬ ‫حتى آخذ الحق منه إن شاء اــ‪ .‬ل يــدع قــوم الجهــاد‬ ‫فــي ســبيل اــ أل ضــربهم اــ بالــذل‪ .‬ول تشــيعوا‬ ‫الفاحشة في قوم أل عمهــم اـ بــالبلء‪ .‬أطيعــوني مــا‬ ‫أطعت ا ورسوله‪ ،‬فإن عصيت ا ورسوله فل طاعة‬ ‫لي عليكم قوموا إلى صلتكم يرحمكم ا "‪.‬‬ ‫هذه خلصة انتخاب أبي بكر للخلفــة ثــم بيعتــه؛‬ ‫فــإن اختل ف النصــار والمهــاجرين علــى الخليفــة كــان‬ ‫بمثابة ترشيح للخليفة من الجانبين‪ ،‬ثــم بعــد كلمــة أبــي‬ ‫عبيدة وبشير بن سعد ترجح الرأي بجــانب المهــاجرين ‪,‬‬ ‫‪57‬‬


‫ثم ترجح الرأي لبي بكر ‪ ,‬إذ تحدث النــاس بعــد كلمــة‬ ‫بشير عن عمر وشدته ‪ ,‬وعن أبي عبيدة ‪ ,‬وكثر اللغــط‪.‬‬ ‫وترجح الرأي لبي بكر‪ .‬فكان اجتمــاع الســقيفة انتخابــا‪.‬‬ ‫ثم كانت البيعة في المسجد‪.‬‬ ‫وحين شــعر أبــو بكــر الصــديق فــي مرضــه بــأنه‬ ‫مشر ف على الموت فكر في أمر المسلمين ‪ ,‬وفي أمــر‬ ‫الخلفة فيهــم ‪ ,‬وذكــر ســقيفة بنــي ســاعدة ‪ ,‬ومــا كــان‬ ‫يمكن أن يحدث من تفرق كلمة المســلمين لــول لطــف‬ ‫ا ‪ ,‬وذكر اختل ف المسلمين بعد وفـاته‪ ،‬وتصـور هـول‬ ‫هذا الختل ف وجيوش المســلمين فــي العــراق والشــام‬ ‫مستهدفة للخطر إن وقع الخل ف بيــن المســلمين‪ .‬لــذلك‬ ‫صــمم علــى أن يجنــب المســلمين هــذه الفتنــة ‪ ,‬وأن‬ ‫يشــاورهم باختيــار خليفــة لهــم أثنــاء حيــاته‪ .‬فنظــر فــي‬ ‫أصحابع يريد رجل شديدا في غير عنف ‪ ,‬ولينا في غيــر‬ ‫ضعف ‪ ,‬ليواجه الوضع الحربي الخطر الذي كــان يســود‬ ‫الجيوش السلمية فــي الشــام والعــراق ‪ ,‬ويســود البلد‬ ‫التي فتحت فيهما‪ .‬وليوجه الجهــد داخــل الجزيــرة لــدعم‬ ‫الموقف في التعبئة العامة فوجد أن من تــوفرت فيهــم‬ ‫هذه الصفة من الصحابة أحد رجلين‪ :‬عمر بـن الخطـاب‬ ‫وعلــي بــن أبــي طــالب‪ .‬فوقــع اختيــاره علــى عمــر بــن‬ ‫‪58‬‬


‫الخطاب رضي ا عنه؛ لنه كان يرى أنه مــع شــدته ‪,‬‬ ‫إذا رأى في أي أمر يريده عقبة دار إليــه ‪ ,‬حــتى ينــاله‪.‬‬ ‫لذلك استدعى إليه الناس من النصار والمهاجرين فأثنوا‬ ‫على عمر ‪ ,‬ووافقوا على اختياره ‪ ,‬وممــن دعــاهم عبــد‬ ‫الرحمن بن عو ف‪ ..‬فسأله عن عمــر فقــال‪ ) :‬هــو واـ‬ ‫أفضل من رأيك فيه من رجل ‪ ,‬ولكن فيه غلظــة ( قــل‬ ‫أبو بكر ) ذلك لنه يراني رقيقا‪ .‬ولــو أفضــى المــر إليــه‬ ‫لترك كـثيرا ممــا هــو عليــه ويــا أبــا محمــد ‪ ,‬قــد رمقتــه‬ ‫فرأيته إذا غضبت على الرجل في الشيء أرانــي الرضــا‬ ‫عنه ‪ ,‬وإذا لنت له أراني الشدة لــه ( ثــم دعــا أبــو بكــر‬ ‫عثمان بن عفان فسأله عن عمر ‪ ,‬فقال‪ ) :‬اللهم علمــي‬ ‫به أن سريرته خير من علنيته ‪ ,‬وأنه ليس فينــا مثلــه (‬ ‫ثم شاور أبو بكــر ســعيد بــن مزيــد ‪ ,‬وأســيد بــن حضــير‬ ‫وغيرهما ‪ ,‬حتى اقتنع بأن كلمة المسلمين استقرت على‬ ‫اختيار عمر‪ ,‬ما عــدا طلحــة بــن عبيــد اـ ‪ ,‬فــإنه أظهــر‬ ‫عدم رضاه عن اختيار عمــر ‪ ,‬وبيــن مــا هــو عليــه مــن‬ ‫الشدة مع وجود أبي بكر ‪ ,‬فكيف به إذا خل بهم وصار‬ ‫أميرهم ؟ فخشي أبـو بكـر أن يكـون غيـر طلحـة مـن‬ ‫يرى رأيه‪ .‬لذلك قام بعد أن انتهــى مــن مشــاورة أولــي‬ ‫الرأي من المسلمين جميعا فأشــر ف مــن حجــرة بــداره‬ ‫‪59‬‬


‫على الناس بالمسجد ‪ ,‬فقال يخاطبهم جميعا‪ ) :‬أترضــون‬ ‫بمن اســتخلف عليكــم‪ :‬فــإني واـ مــا ألــوت مــن جهــد‬ ‫الرأي ‪ ,‬ول وليت ذا قرابة‪ .‬وإني قد استخلفت عمــر بــن‬ ‫الخطاب فاسمعوا له وأطيعــوا ( فأجــاب النــاس ســمعنا‬ ‫وأطعنا‪ .‬عند ذلك رغع أبو بكر يديه إلى السماء وقال‪) :‬‬ ‫اللهــم إنــي لــم أرد بــذلك إل صــلحهم‪ .‬وخفــت عليهــم‬ ‫الفتنة‪ .‬فعملت فيهم ما أنت به أعلم‪ .‬واجتهدت لهم رأيي‬ ‫‪ ,‬فــوليت عليهـم خيرهـم ‪ ,‬وأقـواهم عليهـم ‪ ,‬وأحرصــهم‬ ‫علــى مــا أرشــدهم ( وســمع النــاس دعــائه فــامزدادوا‬ ‫اطمئنانا لما صنع‪ .‬وبعد وفاة أبي بكر ذهــب عمــر إلــى‬ ‫المسجد‪ .‬وأقبل الناس على بيعته إقبال تاما‪ ،‬ولم يتخلف‬ ‫منهم أحدا حتى طلحــة‪ .‬وظــل عمــر فــي المســجد مــن‬ ‫الصــباح حــتى الظهــر‪ ،‬والنــاس يزدحــم بهــم المســجد‬ ‫لمبايعته‪ .‬وفي صــلة الظهــر ــ وكــان المســجد مزدحمــا‬ ‫امزدحاما تاما ـ صعد عمر المنبر درجة دون الدرجة التي‬ ‫كان يقوم أبو بكر عليها‪ ،‬فحمد ا واثنى عليه‪ ،‬وصــلى‬ ‫على النبي وذكر أبا بكر وفضله‪ ،‬ثم قــال‪ ) :‬أيهــا النــاس‬ ‫ما أنــا إل رجــل منكــم‪ ،‬ولـول أنــي كرهـت أن أرد أمــر‬ ‫خليفة رسول ا ما تقلدت أمركــم (‪ .‬ثــم تــوجه بنظــره‬ ‫إلى السـماء‪ ،‬وجعـل يقـول‪ ) :‬اللهـم إنـي غليـظ فلينـي‪.‬‬ ‫‪60‬‬


‫اللهم إني ضعيف فقوني‪ .‬اللهم إني بخيل فسخني ( ثـم‬ ‫أمسك هنيهة‪ .‬ثــم قــال ) إن اـ ابتلكــم بــي‪ ،‬وابتلنــي‬ ‫بكم‪ ،‬وأبقاني فيكــم بعــد صــاحبي‪ ،‬فــوا ل يحضــرني‬ ‫شيء من أمركم فيليه أحد دوني‪ ،‬ول يتغيب عني فآلوا‬ ‫فيه عن الجهلَْزء والمانــة‪ ،‬ولن أحســنوا لحســنن إليهــم‪،‬‬ ‫ولن أساؤا لنكلن بهم ( ثم نزل‪ ،‬فــأم النــاس للصــلة‪.‬‬ ‫ولما طعن عمر بــن الخطــاب طعنتــه الــتي مــات منهــا‪،‬‬ ‫أقبل عليه المسلمون‪ ،‬وطلبـوا منـه أن يسـتخلف‪ ،‬فقـال‪:‬‬ ‫) من اسـتخلف ؟ لـو كـان أبـو عبيـدة بـن الجـراح حيـا‬ ‫لستخلفته‪ ،‬فإن سألني ربي قلت‪ :‬سمعت نبيك يقول أنه‬ ‫أمين هذه المة‪ ،‬ولو كان سالم مولى أبي حذيفــة حيــا‬ ‫لستخلفته‪ ،‬فإن سألني ربي قلــت‪ :‬ســمعت نبيــك يقــول‪:‬‬ ‫) إن سالما شديد الحب لله ( فقال لــه أحــد المســلمين‪:‬‬ ‫استخلف ابنك عبد ا‪ .‬فقال ) قاتلك ا؛ وا ما أردت‬ ‫اـ بهــذا‪ .‬ويحـك كيــف اســخلف رجل عجــز عــن طلق‬ ‫امرأته ؟ ل أرب لنا في أموركم‪ ،‬ما حمدتها لرغب فيها‬ ‫لحد من أهل بيتي‪ ،‬إن كان خيرا فإنــا قــد أصــبنا منــه‪،‬‬ ‫وإن كان شرا فبحسب آل عمر أن يحاسب منهـم رجـل‬ ‫واحد‪ ،‬يسأل عن أمر أمة محمد‪ .‬أما لقد جهدت نفســي‪،‬‬ ‫وحرمت أهلي‪ ،‬وإن نجوت كفافــا ل ومزر ول أجــر‪ ،‬إنــي‬ ‫‪61‬‬


‫لسعيد ( فخرج المسلمون من عنده وتركــوه يفكــر فــي‬ ‫المر‪ .‬ثم عادوا إليـه مـرة أخـرى وسـألوه أن يسـتخلف‪،‬‬ ‫حرصا على مصلحة المسلمين‪ .‬فقال لهم‪ :‬عليكم هــؤلء‬ ‫الرهط‪ ،‬الذين مات رسول اـ صــلى اـ عليــه وســلم‬ ‫وهو عنهم راض‪ ،‬وقال فيهم‪ :‬أنهم من أهل الجنة‪ :‬علي‬ ‫بـن أبـي طـالب‪ ،‬وعثمـان بـن عفـان‪ ،‬وسـعد بـن أبـي‬ ‫وقاس‪ ،‬وعبد الرحمــن بــن عــو ف‪ ،‬والزبيــر بــن العــوام‪،‬‬ ‫وطلحة بن عبيد ا‪ .‬ويكون معهم عبــد ا ـ بــن عمــر‪،‬‬ ‫ولكن له الــرأي‪ ،‬ول يكــون لــه مــن المــر شــيء‪ .‬وقــد‬ ‫أوصاهم عمر أن ينتخبوا خليفة‪ .‬وضرب لهــم أجل قــدره‬ ‫ثلثــة أيــام‪ .‬وقــال لهــم بعــد حــديث طويــل‪ ) :‬فــإذا مــت‬ ‫فتشاوروا ثلثــة أيــام‪ .‬وليصــل بالنــاس صــهيب‪ .‬ول يــأتين‬ ‫اليوم الرابع إل وعليكم أمير منكم ( ثــم عيــن عمــر أبــا‬ ‫طلحــة النصــاري لحراســة المجتمعيــن‪ ،‬وحثهــم علــى‬ ‫العمل‪ .‬وقال له‪ ) :‬يا أبا طلحة‪ ،‬إن ا عز وجل طالمــا‬ ‫أعــز الســلم بكــم‪ .‬فــاختر خمســين رجل مــن النصــار‪،‬‬ ‫فاســتحث هــؤلء الرهــط حــتى يختــاروا رجل منهــم (‬ ‫وطلب من المقداد بن السود أن يختار مكان الجتماع‪.‬‬ ‫وقال له‪ ) :‬إذا وضعتموني في حفرتــي‪ ،‬فــأجمع هــؤلء‬ ‫الرهط في بيت‪ ،‬حــتى يختــاروا رجل منهــم ( ثــم طلــب‬ ‫‪62‬‬


‫من صهيب أن يراقب الجتماع‪ .‬وقال له‪ ) :‬صــل بالنــاس‬ ‫ثلثة أيــام‪ .‬وأدخــل عليــا وعثمــان والزبيــر وســعدا وعبــد‬ ‫الرحمن بن عو ف وطلحــة إن قــدم‪ ،‬وأحضــر عبــد ا ـ‬ ‫ابن عمر ول شيء له من المر‪ ،‬وقــم علــى رؤوســهم‪.‬‬ ‫فإن اجتمــع خمســة‪ ،‬ورضــوا رجل‪ ،‬وأبــا واحــد‪ ،‬فاشــدخ‬ ‫رأسه بالسيف‪ ،‬وإن اتفق أربعة‪ ،‬فرضوا رجل منهم‪ ،‬وأبا‬ ‫إثنان فاضــرب رأســيهما‪ ،‬فــإن رضــي ثلثــة منهــم رجل‪،‬‬ ‫وثلثة رجل‪ ،‬فحكموا عبد ا بن عمــر‪ ،‬فــأي الفريقيــن‬ ‫حكم له فليختاروا رجل منهــم‪ ،‬فــإن لــم يرضــوا بحكــم‬ ‫عبد ا بن عمر‪ ،‬فكونوا مع الذين فيهم عبــد الرحمــن‬ ‫بن عو ف‪ ،‬واقتلوا البـاقين‪ ،‬إن رغبـوا عمـا اجتمـع عليـه‬ ‫الناس ( ثم طلب منهـم أن يـتركوا البحـث فـي الخلفـة‬ ‫حتى يموت‪.‬‬ ‫وبعد وفــاته ودفنــه اجتمــع النفــر الــذين سـماهم‬ ‫عمر ما خل طلحة الذي كان غائبا‪ .‬ويقال أن اجتماعهم‬ ‫كان في بيت عائشة‪ .‬ومعهم عبد ا بــن عمــر‪ .‬وأمــروا‬ ‫أبــا طلحــة النصــاري أن يحجبهــم‪ .‬فلمــا اســتقر بهــم‬ ‫المجلس قال عبد الرحمن بن عو ف‪ ) :‬أيكم يخرج منهــا‬ ‫نفسه ويتقلدها على أن يوليها أفضلكم ؟ ( يعني أيكــم‬ ‫يتخلى عن حقه في الخلفة‪ ،‬بشرط أن يحكمه الجميع‪،‬‬ ‫‪63‬‬


‫ليختار الخليفة من بينهم كمــا يريــد‪ .‬وبعــد أن قــال عبــد‬ ‫الرحمن بن عو ف هذا القول سكت الجميع‪ ،‬ولــم يجبــه‬ ‫أحد‪ .‬فقـال عبـد الرحمـن‪ :‬أنـا أخلـع نفسـي منهـا‪ .‬فقـال‬ ‫عثمان أنا أول مــن رضــي؛ فــإني ســمعت رســول ا ـ‬ ‫يقــول ) أميــن فــي الرض أميــن فــي الســماء ( فقــال‬ ‫الزبير وسعد‪ :‬قد رضينا‪ .‬وسكت علي‪ .‬فقال عبد الرحمن‪:‬‬ ‫) ما تقول يا أبــا الحســن ( قــال علــي ) أعطنــي موثقــا‬ ‫لتؤثرن الحق‪ ،‬ول تتبع الهــوى‪ ،‬ول تخــص ذا رحــم‪ ،‬ول‬ ‫تألو المــة (‪ .‬فقــال عبــد الرحمــن " أعطــوني مــواثيقكم‬ ‫على أن تكونوا معي على من بدل وغيــر‪ ،‬وأن ترضــوا‬ ‫من اخترت لكم‪ ،‬وعلي ميثاق ا أن ل أخص ذا رحم‬ ‫ول آلو المسلمين " فأخذ منهم ميثاقــا‪ ،‬وأعطــاهم مثلــه‪.‬‬ ‫ثم أخذ يستشيرهم واحدا واحدا‪ ،‬قائل لكل واحد منهم‪:‬‬ ‫أنه لو صر ف هذا المر عنه من كان يــرى مــن هــؤلء‬ ‫الرهط أحق بالمر ؟ فقال علي‪ :‬عثمان‪ .‬وقــال عثمــان‪:‬‬ ‫علي‪ .‬وقال ســعد‪ :‬عثمــان‪ .‬وقــال الزبيــر‪ :‬عثمــان‪ .‬ثــم راح‬ ‫يســأل أصــحاب الــرأي فــي المدينــة‪ ،‬ويســأل جميــع‬ ‫المســلمين رجــال ونســاء‪ .‬ولــم يــترك رجل أو امــرأة إل‬ ‫وسأله عمن يختــار مــن هــؤلء الرهــط‪ .‬فكــان جماعــة‬ ‫منهم يأمرون بعثمان‪ ،‬وجماعة يأمرون بعلي‪ .‬ووجد رأي‬ ‫‪64‬‬


‫الناس مومزعا بيــن عثمــان وعلــي‪ ،‬وأن القرشــيين علــى‬ ‫كل حال كانوا في صف عثمان‪.‬‬ ‫وبعد أن انتهى عبد الرحمن من طــوافه بالنــاس‪،‬‬ ‫وخلــواته بهــم‪ ،‬وعــر ف رأي النــاس رجــال ونســاء‪ ،‬دعــا‬ ‫المسلمين إلى المسجد‪ ،‬ثم صــعد المنــبر متقلــدا ســيفه‪،‬‬ ‫وعليه عمامته التي عمه بها رسول ا‪ ،‬ثم وقــف وقتــا‬ ‫طويل‪ ،‬ثم تكلم‪ ،‬فقال‪ ) :‬أيهــا النــاس إنــي قــد ســألتكم‬ ‫ســرا وجهــرا عــن إمــامكم‪ ،‬فلــم أجــدكم تعــدلون بأحــد‬ ‫هذين الرجلين‪ :‬إما علي وإما عثمــان (‪ .‬ثــم التفــت إلــى‬ ‫علي وقال له‪ :‬قم ألي يا علي‪ .‬فقام علي‪ ،‬فوقف تحت‬ ‫المنبر‪ ،‬فأخذ عبد الرحمن بيده‪ ،‬فقال‪ ) :‬هل أنت مبايعي‬ ‫على كتــاب اـ وســنة نــبيه وفعــل أبــي بكــر وعمــر ؟‬ ‫فقال علي‪ :‬اللهم ل‪ ،‬ولكن على جهدي من ذلك وعلمي‬ ‫( ـ أي أبايعك على كتاب ا وسنة رسوله على جهــدي‬ ‫من ذلك وعلمي فيهمــا‪ .‬أمــا فعــل أبــي بكــر وعمــر فل‬ ‫أتقيد به‪ ،‬وأجتهد رأيي ـ‪ .‬فأرسل عبــد الرحمـن يـده‪ .‬ثـم‬ ‫نادى‪ :‬قم إلي يا عثمـان‪ .‬فأخــذ بيـده وهـو فــي موقــف‬ ‫علي الذي كــان فيــه‪ ،‬فقــال‪ ) :‬هــل أنــت مبــايعي علــى‬ ‫كتاب ا وسنة نبيه وفعل أبي بكر وعمر ؟ قال‪ :‬اللهم‬ ‫نعم‪ .‬فرفــع عبــد الرحمــن رأســه إلــى ســقف المســجد‪،‬‬ ‫‪65‬‬


‫ويده في يــد عثمــان‪ ،‬ثــم قــال‪ ) :‬اللهــم اســمع واشــهد‪،‬‬ ‫اللهم إني جعلــت مــا فــي رقبــتي مــن ذلــك فــي رقبــة‬ ‫عثمان (‪ .‬وامزدحم الناس يبــايعون عثمــان حــتى غشــوه‪.‬‬ ‫ثم جاء علي يشق الناس حتى بايع عثمان‪ .‬وبذلك تمت‬ ‫البيعة لعثمان‪.‬‬ ‫وبعد مقتل عثمان مــال الثــوار إلــى توليــة علــي‪.‬‬ ‫وكذلك كان رأي أكثر الصحابة الموجودين فــي المدينــة؛‬ ‫فقد طلبوا منه أن يكون خليفة‪ .‬ثم جرت البيعــة فبــايعه‬ ‫جمهرة المسلمين‪ ،‬علــى الرغــم مــن تخلــف بنــي أميــة‪،‬‬ ‫وسعد بن أبي وقاص‪ ،‬وعبد ا بن عمر‪.‬‬ ‫وهكــذا كــان تــولي الخلفــاء الراشــدين لرئاســة‬ ‫الدولة باختيار من المسلمين أول‪ ،‬ثم بــبيعتهم مــن قبــل‬ ‫المسلمين على كتاب ا وسنة رسوله‪.‬‬ ‫الهيئة التنفيذية‬ ‫" المعاونون لرئيس الدولة "‬ ‫أ ـ رئيس الدولة هو الذي أنابته المة عنهــا فــي‬ ‫الحكم‪ .‬وهو ل يستطيع وحده أن يضطلع بأعباء تبعــات‬ ‫الحكم‪ .‬فكان لزاما أن يعين معاونين معه مــن الرجــال‬ ‫المســلمين العــدول الصــالحين للحكــم‪ ،‬يتحملــون معــه‬ ‫مســؤولية الحكــم والتنفيــذ‪ ،‬ويشــاركونه بتحمــل تبعــات‬ ‫‪66‬‬


‫الدولة والسلطان‪ .‬وهؤلء المعاونون هم الهيئة التنفيذية‪.‬‬ ‫ورئيــس الدولــة هــو رئيســها‪ .‬بوصــفه أميــر المــؤمنين‪ ،‬ل‬ ‫بوصــف الرئاســة للهيئــة التنفيذيــة؛ لنــه ل يوجــد منصــب‬ ‫رئاسة لها‪ .‬ويحدد عدد أفرادها بأقل عدد ممكن‪ ،‬حسب‬ ‫ما تدعو الحاجة للعمل‪.‬‬ ‫ب ــ ليســت للهيئــة التنفيذيــة صــفة الــومزارة‪ ،‬مــن‬ ‫حيــث تخصــيص كــل واحــد مــن أعضــائها بــدائرة مــن‬ ‫الــدوائر‪ ،‬أو قســم خــاص مــن العمــال؛ بــل لهــا صــفة‬ ‫معاونــة رئيــس الدولــة فــي الســلطان‪ .‬وهــي ل تباشــر‬ ‫المور الدارية‪ ،‬بل تباشر الحكم‪ ،‬وتتولى الشرا ف علــى‬ ‫الدارة‪ ،‬وتضع السياســة العليــا للحكــم‪ ،‬ولســائر شــؤون‬ ‫المة‪ ،‬معاونة رئيس الدولة‪ ،‬وتقوم بتنفيذ هذه السياسة‬ ‫العليا بنفسها‪ ،‬وعملها الصلي هو معاونة رئيــس الدولــة‬ ‫بتطبيق السلم‪ ،‬وتنفيــذ أحكــامه‪ ،‬والســهر علــى مصــالح‬ ‫المة‪ ،‬والعمل على رفاهيتهــا وســعادتها وحمــل الــدعوة‬ ‫السلمية للعالم‪.‬‬ ‫جـ ـ رئيس الدولة هو الذي يعين أعضــاء الهيئــة‬ ‫التنفيذية‪ .‬وهو الذي يعزلهم‪ .‬وهــم مســؤولون أمــامه‪ .‬ول‬ ‫يعرض أمر تعيينهــم علــى مجلــس الشــورى لخــذ ثقتــه‬ ‫بهم؛ بل يعينهم حســب مــا يــرى‪ ،‬أل أنــه ل يعيــن فــي‬ ‫‪67‬‬


‫الهيئة التنفيذية من كان غير موثوق به لــدى المســلمين؛‬ ‫لن لمجلس الشورى صــلحية إظهــار عــدم الرضــا مــن‬ ‫أعضاء الهيئة التنفيذية دون بيـان السـباب‪ .‬وحينئـذ يجـب‬ ‫على رئيس الدولــة عزلهــم فــي الحــال‪ .‬ورئيــس الدولــة‬ ‫وأعضاء الهيئة التنفيذية محاسبون أمام مجلس الشــورى‬ ‫مجتمعيــن ومنفرديــن ‪ ,‬أل أنــه ليــس لمجلــس الشــورى‬ ‫صلحية نزع الثقة من رئيس الدولة ‪ ,‬لن رئيس الدولــة‬ ‫ليس مسؤول أمامه‪ ،‬بل هو مسؤول أمام الشرع‪.‬‬ ‫د ـ ظهرت الهيئة التنفيذية بوصفها معاونة لرئيس‬ ‫الدولة منذ عهد الرسول صــلى اـ عليــه وســلم ‪ ,‬فقــد‬ ‫أخرج الترمــذي أن رســول اـ صــلى اـ عليــه وســلم‬ ‫قال‪ ) :‬ومزيراي من أهل الرض أبو بكــر وعمــر ( ‪ ,‬وقــد‬ ‫اختارهمــا الرســول وخصصــهما بمعــاونته فــي شــؤون‬ ‫الحكم ‪ ,‬وكان يسند إليهما العمال الهامة فــي الدولــة ‪,‬‬ ‫فكانــا هيئــة تنفيذيــة مــع الرســول ‪ ,‬ولكنهمــا لــم يكونــا‬ ‫ومزيرين بمعنى الــومزارة ‪ ,‬الــتي هــي عمــل معيــن لكــل‬ ‫ومزير ‪ ,‬بل كانا معاونين له؛ لن كلمة ومزير المراد منها )‬ ‫المعين ( فقد وردت فــي القــرآن الكريــم بهــذا المعنــى‬ ‫) واجعل لي ومزيرا من أهلي هارون أخي ( أي‬ ‫اجعل لي معينــا‪ .‬والمـراد بالحـديث " ومزيـراي مـن أهـل‬ ‫‪68‬‬


‫الرض أبو بكر وعمر " المعينان لــي فــي العمــل‪ .‬ولــم‬ ‫يكن كل واحد منهما مخصصا بعمل‪ ،‬بــل كــان الرســول‬ ‫يعين كتابا للعمال ) مديري دوائر ( وبعــد وفــاة رســول‬ ‫ا صلى ا عليه وسلم عين أبو بكر معــه عمــر وأبــا‬ ‫عبيد وعثمان معاونين له‪ .‬وبعد وفاة أبي بكر عين عمر‬ ‫معه عثمان وعليا‪ .‬وبعــد وفــاة عمــر عيــن عثمــان معــه‬ ‫علي بن أبي طــالب ومــروان بــن الحكــم‪ .‬وهكــذا كــان‬ ‫الخلفــاء يخصصــون رجــال يســتعينون بهــم فــي شــؤون‬ ‫الحكم‪.‬‬ ‫هــؤلء هــم الهيئــة التنفيذيــة المعاونــة لرئيــس‬ ‫الدولة‪ .‬ولــم يكــن يطلــق علــى هــؤلء المعــاونين اســم‬ ‫معين‪ ،‬ولم يقصد بقول الرسول صلى ا عليــه وســلم‬ ‫" ومزيراي " أكثر من معناه اللغوي‪ .‬لذلك ل يطلق عليهــم‬ ‫ومزراء؛ لن لهذه الكلمـة مفهومـا سياســيا‪ ،‬فــي التاريــخ‪،‬‬ ‫وفــي الــوقت الحاضــر‪ ،‬يغــاير مفهــوم الســلم مــن‬ ‫المعاونين‪ .‬وعمل هؤلء المعــاونين هــو معاونــة رئيــس‬ ‫الدولــة فــي تنفيــذ الشــرع بجملتــه‪ ،‬دون تخصــيص كــل‬ ‫واحــد منهــم بعمــل معيــن‪ .‬ولــذلك أطلقنــا عليهــم اســم‬ ‫) الهيئة التنفيذيــة ( لن هــذا الســم يــدل علــى عملهــم‪.‬‬ ‫وهذا السم يشمل المعاونين ول يشــمل رئيــس الدولــة‬ ‫‪69‬‬


‫لنه أمير المؤمنين وليس رئيسا للهيئة التنفيذيــة‪ ،‬وحينمــا‬ ‫يرأس المعاونين إنما يرأسهم بوصفه الرئيس للدولة أي‬ ‫الخليفة ل بأي وصف آخر‪.‬‬ ‫الجهامز الداري للمصالح العامة‬ ‫أ ـ‬

‫يعين لكل مصلحة من مصالح الدولــة مــدير‬

‫يتــولى إدارتهــا‪ ،‬ويشــر ف علــى جميــع شــؤونها‪ .‬وهــؤلء‬ ‫المديرون تعينهم الهيئــة التنفيذيــة‪ ،‬ويكونــون تــابعين لهــا‬ ‫بجملتهــا‪ .‬وهــم المســؤولون مباشــرة عــن الدارة‪ ،‬فكــل‬ ‫واحد منهم مسؤول عن الدارة الــتي يتولهــا مســؤولية‬ ‫مباشرة‪ ،‬فهو الذي يعين جميــع المــوظفين فــي دائرتــه‪،‬‬ ‫ويعزلهــم‪ ،‬وينقلهــم‪ .‬وهــو الــذي يملــك صــلحيات رئاســة‬ ‫الدائرة‪ ،‬وتوجيهها‪ ،‬ويجري المور الداريـة فـي المصـلحة‬ ‫التي يتولى إدارتها‪.‬‬ ‫ب _ سياســة الدارة تتلخــص فــي ثلثــة أشــياء‬ ‫هــي‪ ) :‬البســاطة فــي النظــام‪ ،‬والكفايــة فيمــن يتــولى‬ ‫العمال‪ ،‬والسراع فـي إنجــامز العمـال (‪ .‬ويتولهــا مــن‬ ‫فيــه المقــدرة عليهــا والكفايــة لهــا‪ ،‬بغــض النظــر عــن‬ ‫طــائفته‪ ،‬وجنســه‪ ،‬ونــوعه‪ ،‬فيتولهــا الرجــال والنســاء‪،‬‬ ‫والمسلمون وغيــر المســلمين‪ ،‬مــا دامــوا يتمتعــون بحــق‬ ‫المواطنين‪ ،‬وفيهم الكفاية لتولي أمورها‪.‬‬ ‫‪70‬‬


‫جـ _ ومع أن نظام الحكم مركزي‪ ،‬إل أن النظام‬ ‫الداري‪ ،‬ل مركــزي‪ ،‬فتوســع صــلحية المــوظفين حــتى‬ ‫يعرفوا ما يلزم لقضاء مصالح الناس عن دراســتها عــن‬ ‫كثب‪ ،‬ويسرعوا فــي إنجــامز العمــال وفــض المشــكلت‪،‬‬ ‫وليــس المقصــود بــالدارة فــي الدولــة الســلمية وضــع‬ ‫خطــة قانونيــة تلتزمهــا فــي كــل الظــرو ف‪ ،‬بــل تختلــف‬ ‫الدارة باختل ف المزمان والوليات والحوال فلكل عصــر‬ ‫أسلوب في الدارة‪ ،‬ولكــل قطــر أحــوال خاصــة وتعتــبر‬ ‫الدارة من السلوب الـذي ينفـذ بـه النظـام‪ ،‬ويســار بـه‬ ‫حسب ما يقرره نوع العمل‪.‬‬ ‫د _ ل بد للدارة في الدولة من دواويــن خاصــة‬ ‫تقضى فيهــا مصــالح النــاس‪ .‬وتبنــي مكــاتب الدارة فــي‬ ‫مكــان واحــد‪ ،‬حــتى ل تتفــرق دواويــن الدولــة‪ ،‬وحــتى‬ ‫تسهل على الناس المراجعــة لقضــاء مصــالحهم‪ .‬ويجــب‬ ‫أن تتخــذ فــي كــل إدارة غــر ف لســتراحة المراجعيــن‪،‬‬ ‫ومكتب استعلمات لمســاعدة الجمهــور علــى المراجعــة‪،‬‬ ‫وأن تتخــذ فيهــا الســجلت والضــابير‪ ،‬لتســجيل العمــال‬ ‫وترتيبها‪.‬‬ ‫هـ _ كان للدولة في مزمن الرسول عليــه الصــلة‬ ‫والسلم عدة مديرين‪ ،‬لكل مصلحة مــدير‪ ،‬كــان يســمى‬ ‫‪71‬‬


‫كاتبا‪ ،‬فقد كان معيقيب بــن أبــي فاطمـة كاتبـا للغنــائم‪،‬‬ ‫والزبير بن العوام كاتبا لموال الصــدقات‪ ،‬والمغيــرة بــن‬ ‫شعبة كاتبا للمداينات والمعاملت‪ ،‬وشــرحبيل بــن حســنة‬ ‫كاتبا للتوقيعات إلى الملوك‪ " ،‬أي كاتبا للرسائل الصادرة‬ ‫إلى الخــارج " وعبــد اـ بــن الرقــم كاتبــا للنــاس فــي‬ ‫قبائلهم ومياههم‪.‬‬ ‫وقد كان الجامع هــو المكــان لــدواوين الحكومــة‬ ‫في أيام الرسول صلى ا عليه وسلم وفي أيــام أبــي‬ ‫بكــر‪ ،‬فقــد كــان هــو المجمــع‪ ،‬والمجلــس‪ ،‬والمحكمــة‪،‬‬ ‫وديون المال‪ ،‬وكل مــا لــه علقــة بالســلطان والســكان‪.‬‬ ‫ولمـا كـانت الفتوحـات السـلمية أمـر عمـر ببنـاء بيـوت‬ ‫لمكاتب الدارة في مكان واحد‪ ،‬حتى ل تتفرق دواويــن‬ ‫الدولــة‪ .‬ودون الــدواوين علــى مثــال دواويــن الفــرس‬ ‫والروم‪ :‬دونها لــه عقيــل بــن أبــي طــالب‪ ،‬وعكرمــة بــن‬ ‫جهلَبْيــر بــن مطعــم‪ .‬واتخــذ ســجلت لعمــال‬ ‫نوفــل‪ ،‬و ُ‬ ‫الحكومة‪ ،‬وأضابير لشؤونها‪ .‬ونظمها تنظيما تاما‪ .‬ثم تتــابع‬ ‫تحسين أســلوب الدارة‪ ،‬وأســلوب التحســين فــي مــدارج‬ ‫الرقي‪ .‬وقد ترجمت في أيام عبد الملك النظــم الداريــة‬ ‫عن الفرس والروم إلى العربية‪ .‬واتخذت في كــل إدارة‬ ‫غرفة لستراحة المراجعين‪ .‬وكان يتولى الدارة من فيــه‬ ‫‪72‬‬


‫الكفايــة والمقــدرة عليهــا‪ ،‬بغــض النظــر عــن طــائفته‬ ‫وجنسه؛ فقد ولى عمر بن الخطاب النصارى والمجوس‬ ‫إدارة الدواوين‪ ،‬لعلمهم بها‪ .‬وولى معاوية النصــارى فــي‬ ‫مصالح الدولة؛ فقد عهد إلى سرجون بن منصور بإدارة‬ ‫الموال‪ ،‬كما أنه لم يكن هناك ما يمنــع مــن اســتخدام‬ ‫النساء في مصالح الدولة‪ ،‬مع المحافظة علــى الخلق‪،‬‬ ‫بضمان عدم الخلوة‪ ،‬وعدم التبرج‪ ،‬وعدم الختلط‪ ،‬وأن‬ ‫يكون التعاون جماعيا عند الحاجــة‪.‬فقــد اســتخدم النــبي‬ ‫صلى ا عليه وسلم النساء في حروبه وغزواته‪ ،‬وكــن‬ ‫يخــدمن الجرحــى‪ ،‬ويأخــذن مــن العطــاء ويتــولين مــا‬ ‫يصلحن له كالطعام والسقاء وخياطة قرب الماء‪ .‬ومــن‬ ‫أشهر النساء اللتي ولهن الرسول عليه السلم أعمــال‬ ‫مــداواة الجرحــى رفيــدة الســلمية وكعيبــة بن ـت ســعيد‬ ‫السلمية‪.‬‬ ‫التنظيم الداري‬ ‫السياسة الدارية في نظام الحكــم تقتضــي ثلثــة‬ ‫أشياء هي‪ :‬البساطة في النظام الداري‪ ،‬والكفاية فيمن‬ ‫يتــولى الدارة‪ ،‬والســراع فــي إنجــامز العمــال‪ .‬وهــذه‬ ‫تقتضــي وضــع أنظمــة إداريــة تمنــع تســرب الخلــل إلــى‬ ‫الدارة‪ .‬لــذلك يجــب أن يوضــع نظــام للجهــامز الداري‪،‬‬ ‫‪73‬‬


‫ونظام لسلوب الدارة‪ ،‬ونظام للموظفين‪ ،‬ونظام لعلقة‬ ‫الجمهــور بــالدارة والمــوظفين‪ ،‬بحيــث تضــمن هــذه‬ ‫النظمة جعل مــوظفي الدولــة خدمــة للنــاس‪ ،‬وتضــمن‬ ‫النتفاع بأصــحاب الكفايــات فــي الجهــامز الداري‪ ،‬بغــض‬ ‫النظر عن مذاهبهم وأنواعهم‪ ،‬وتضــمن تحســين أســلوب‬ ‫الدارة‪ ،‬وتمنع استبداد الرؤساء بالمرؤوســين‪ ،‬كمــا تمنــع‬ ‫استبداد المــوظفين بــالجمهور‪ ،‬وتجعــل المصــالح تقضــى‬ ‫بأسرع وقت‪ ،‬وبأقل جهد‪ .‬وتشمل هذه النظمة السلوب‬ ‫والترتيب الدائم للعمل " الروتيــن "‪ ،‬حــتى تــؤدي الدارة‬ ‫الغاية من وجودها‪ ،‬وهي قضاء المصالح للناس‪ .‬ويجب‬ ‫النتفاع بما عند المم الخرى من أنظمة إداريــة‪ ،‬ومــن‬ ‫وسائل‪ ،‬على أن تؤخذ بعقلية مبتكرة متطورة‪ ،‬ل بعقلية‬ ‫مقلــدة جامــدة‪ ،‬وأن يراعــى فــي أخــذها الغايــة الــتي‬ ‫أخذت من أجلهــا‪ ،‬والعمــل الــذي نقلــت لــه‪ ،‬وأن يكــون‬ ‫هنالك تفريــق واضــح بيــن النظــام الداري الــذي يؤخــذ‬ ‫لمعالجة وسيلة العمل‪ ،‬وبين النظام الذي يعالــج نفــس‬ ‫العمل النساني‪ ،‬حتى ل يقــع الخطــأ فــي أخــذ أنظمــة‬ ‫تتعلق في وجهة النظر في الحياة‪.‬‬ ‫النظمة الدارية‬

‫‪74‬‬


‫أعمال النسان فــي حاجــة إلــى أنظمــة توجههــا‪،‬‬ ‫وفي حاجة إلى وسيلة تظهــر بهــا العمــال وتــؤدى‪ .‬أمــا‬ ‫النظمـة الـتي توجههـا فإنهـا تتعلـق بوجهـة النظـر فـي‬ ‫الحياة‪ .‬وهي مبنية على العقيدة الــتي يعتنقهــا النســان‪،‬‬ ‫أو بعبــارة أخــرى علــى القيــادة الفكريــة الــتي يحملهــا‪،‬‬ ‫وهي القاعدة الفكرية التي تقـوم علـى أساسـها جميـع‬ ‫الفكار عن الحياة‪ .‬وهذه النظمة هي الحكام الشرعية‬ ‫المســتنبطة باجتهــاد صــحيح‪ .‬وهــي ثابتــة ل تتغيــر ول‬ ‫تتطور‪ ،‬وإن كانت تتسع لمعالجات جميع أعمال النسان‬ ‫فــي الحيــاة‪ .‬وهــذه النظمــة المتعلقــة بوجهــة النظــر ل‬ ‫يجومز أن تكون غيــر إســلمية‪ ،‬ول يجــومز أن تؤخــذ مــن‬ ‫غير السلم‪ .‬وأما الوسيلة التي تتخذ أداة لقيام العمــال‬ ‫بهــا‪ ،‬فهــي تتعلــق بأســلوب العمــل ‪ ,‬وتشــمل الــدواوين‬ ‫وإدارتها‪ .‬وهي تختلــف بــاختل ف العمــال ‪ ,‬وتتغيـر بتغيـر‬ ‫العصــور والحــداث‪ .‬وهــي عالميــة ل تختــص بمبــدأ ول‬ ‫بأمــة‪ .‬وتتحســن وســائلها ‪ ,‬كمــا تتقــدم وســائل تحســينها‪.‬‬ ‫وهي من الشكال المدنيــة العامــة‪ .‬ول بــد منهــا لنجــاح‬ ‫العمل؛ لنها الوسيلة العمليــة للقيــام بــأي عمــل‪ .‬والــذي‬ ‫يعينها إنما هو نفس العمـل ل المبـدأ‪ .‬ولـذلك لـم تكـن‬

‫‪75‬‬


‫أحكاما شرعية ‪ ,‬ول علقــة لهــا بالحكــام الشــرعية ‪ ,‬إل‬ ‫من حيث عدم مناقضتها لها‪.‬‬ ‫والحكم عمل يوجهه نظــام الحكــم‪ .‬وهــو متعلــق‬ ‫بوجهة النظر في الحياة‪ .‬ولذلك كانت له أحكــام شــرعية‬ ‫تبين أنظمته‪.‬‬ ‫أما الوسيلة الــتي تســتعمل للقيــام بالعمــل فإنهــا‬ ‫نظــام إداري ل يتعلــق بالحكــام الشــرعية‪ .‬ولهــذا أجــامز‬ ‫السلم أخذ هذه الوسيلة مــن المــم الخــرى ‪ ,‬وانتفــع‬ ‫المسلمون بما عند الناس من هذه الوسائل والساليب‪.‬‬ ‫ومن هنا أخذ عمر بن الخطــاب نظــام الــدواوين‬ ‫عن الفرس والروم‪ .‬وحسنه من بعــده الخلفــاء‪ .‬وليســت‬ ‫هذه النظمة دستورا ‪ ,‬لنها ليست أحكاما شرعية تعالج‬ ‫مشاكل الحياة ‪ ,‬وإنمــا هــي وســائل تتخــذ حيــن القيــام‬ ‫بهذه المعالجات ‪ ,‬ولهذا يخطئ الــذين يقولــون أن عمــر‬ ‫أخــذ دســتوره عــن الفــرس والــروم ‪ ,‬ووضــع دســتوره‬ ‫بالسترشاد بهم؛ لن الدستور هو معالجــات المشــاكل ‪,‬‬ ‫وهذا لم يأخذه عمــر ‪ ,‬ول يجــومز أن يكــون إل إســلميا‬ ‫مســتنبطا مــن الســلم ‪ ,‬وحاشــا لعمــر أن يأخــذ غيــر‬ ‫السلم لمعالجات مشاكل الحياة‪.‬‬

‫‪76‬‬


‫وإنمــا الــذي أخــذه عمــر هــو النظمــة الداريــة‬ ‫والــدواوين وتنظيمهــا‪ .‬وذلــك أنــه بعــد أن تــوالت الفتــوح‬ ‫السلمية وأثرت الدولـة بمـا ملكتـه مـن الغنـائم ‪ ,‬ورأى‬ ‫عمــر تومزيــع هــذه المــوال علــى المســلمين وبعــد أن‬ ‫اتسعت أعمال الدولة ‪ ,‬قال بعــض المســلمين لعمــر‪ :‬يــا‬ ‫أمير المؤمنين ‪ ,‬قد رأيت هؤلء العاجم يــدونون ديوانــا‬ ‫لهم‪ .‬فقال‪ :‬دونوا الــدواوين‪ .‬وأرســل إلــى الفيــرمزان‪ :‬أحــد‬ ‫مرامزية الفرس يسأله عن أحوال إدارية تتعلــق بــالموال‬ ‫‪ ,‬ففسرها له ‪ ,‬وشرح كيفيتهــا ‪ ,‬وأشــار عليــه بالــديوان ‪,‬‬ ‫فوضع عمر الديوان ‪ ,‬واستخدم الكتاب في الدواوين‪ .‬ثم‬ ‫تتابع تحسين ذلك حتى أيام المويين ‪ ,‬يقول الجهشياري‬ ‫في كتابه الومزراء والكتاب‪ " :‬ولم يزل بالكوفــة والبصــرة‬ ‫ديوانــان أحــدهما بالعربيــة لحصــاء النــاس وأعطيــاتهم‪.‬‬ ‫وهذا الذي كان عمر قد رسمه ‪ ,‬والخر لوجوه المــوال‬ ‫بالفارسية‪ .‬وكان بالشــام مثــل ذلــك‪ :‬أحــدهما بالروميــة ‪,‬‬ ‫والخر بالعربية‪ .‬فجرى المر علــى ذلــك إلــى أيــام عبــد‬ ‫الملك بن مروان‪ .‬فلما قلد الحجاج العراق كان يكتب له‬ ‫صالح بن عبد الرحمن ويكنــى أبــا الوليــد ‪ ,‬وكــان يتقلــد‬ ‫ديوان الفارسية إذ ذاك مزاذان فروخ ‪ ,‬فخلفه عليه صالح‬ ‫بن عبد الرحمن ‪ ,‬فخف على قلب الحجــاج وخــص بــه‪.‬‬ ‫‪77‬‬


‫فقال لزاذان فروخ‪ :‬إني قد خففت علــى قلــب الحجــاج‪.‬‬ ‫ولست آمن أن أمزيلــك عــن محلــك لتقــديمه إيــاي وأنــت‬ ‫رئيسي فقـال مزاذان فـروخ‪ :‬ل يفعـل ‪ ,‬فـإنه أحـوج إلـي‬ ‫مني إليه‪ .‬قال فكيــف ذلــك ؟ قــال‪ :‬ل يجــد مــن يكفيــه‬ ‫الحساب‪ .‬فقال صالح إني لو شئت حولته بالعربيــة‪ .‬قــال‬ ‫فحــول منــه شــيئا كــثيرا‪ .‬فقــال مزاذان فــروخ لصــحابه‪:‬‬ ‫التمســوا مســكنا غيــر هــذا‪ .‬وأمــر الحجــاج صــالحا بنقــل‬ ‫الدواوين إلى العربية في سنة ثمان وسبعين "‪.‬‬ ‫المصالح العامة‬ ‫كانت مصالح المسلمين تقضى مــن قبــل الدولــة‪.‬‬ ‫وكانت تعين لكل مصلحة كاتبا " مــديرا "‪ .‬وكــانت تتعــدد‬ ‫هذه المصالح بحسب الحاجة‪ .‬وتزداد كلمــا نمــت الدولــة‬ ‫وامزدادت مصالحها‪ .‬ومن أهم المصــالح الــتي كــانت فــي‬ ‫الدولة السلمية‪ ،‬والتي كانت لها دائرة خاصــة‪ ،‬وديــوان‬ ‫خاص‪ ،‬المصالح التية‪:‬‬ ‫أ ـ الحصاء‪ :‬ل بــد أن يكــون عــدد أفــراد الدولــة‬ ‫أي سكانها مدونا‪ ،‬حتى يتــأتى القيــام بــواجبهم‪ ،‬وقضــاء‬ ‫حاجاتهم‪ .‬ول بد أن يعر ف عدد من يولد في كــل يــوم‪،‬‬ ‫ومن يموت‪ ،‬وأن يعر ف من يدخل أراضــي الدولــة مــن‬ ‫خارجها‪ .‬وأول من عمل الحصاء رسول ا صــلى اــ‬ ‫‪78‬‬


‫عليه وسلم‪ ،‬فقــد قــال " اكتبــوا مــن تلفــظ بالســلم "‪.‬‬ ‫وكتب عمر إلى الناس على اختل ف قبــائلهم بإحصــائهم‪،‬‬ ‫حتى يفرض الفروض ويعطي العطايــا‪ ،‬وجعــل معاويــة‬ ‫على كل قبيلة مــن قبائــل مصــر رجل يســجل المواليــد‪،‬‬ ‫ومن ينزل بالبلد من خارجها‪ .‬وكــان هــذا الرجــل الــذي‬ ‫يوكــل إليــه أمــر المواليــد يصــبح كــل يــوم فيــدور علــى‬ ‫المجالس فيقول‪ :‬هل ولد الليلــة فيكــم مولــود ؟ وهــل‬ ‫نزل بكم نامزل ؟ فيقال ولد لفلن غلم‪ ،‬ولفلن جارية‪.‬‬ ‫فيكتب أسماءهم‪ .‬ويقال نزل بهــم رجل مــن أهــل كــذا‬ ‫بعيــاله‪ ،‬فيســميه وعيــاله‪ .‬فــإذا فــرغ مــن القبيــل أتــى‬ ‫الديوان‪ ،‬حتى يثبت ذلك‪.‬‬ ‫ب ـ البريد‪ :‬وقد كان للدولة الســلمية بريــد‪ .‬وقــد‬ ‫ابتدأ البريد من أيام أبي بكر‪ .‬ثم انتظم في أيــام عمــر‪.‬‬ ‫واستمر على ذلك حتى أيام معاويـة ‪ ,‬فأنشـأ لـه نظامـا‬ ‫خاصا يتفق مع تطــور وســائل الحيـاة ‪ ,‬وحاجــة الدولــة؛‬ ‫فقد أحضر رجال من دهــاقين الفــرس ‪ ,‬وعمــال الــروم‬ ‫فعرفهم ما يريد ‪ ,‬فوضعوا له البريد‪.‬‬ ‫جـ ـ ـ ـ المســاحة‪ :‬ومــن الشــياء اللمزمــة مســاحة‬ ‫أراضي الدولة ‪ ,‬لمعرفتها وتومزيعها ‪ ,‬وأخذ الضرائب عنها‪.‬‬ ‫وعمر بن الخطاب أول من نظــم أمــر المســاحة‪ .‬وكــان‬ ‫‪79‬‬


‫يبعث عمال لمساحة الرض؛ فقد أرسل للعراق عاملين‬ ‫مختصين بمساحة الرض ‪ ,‬لوضع الخراج عليها‪.‬‬ ‫د ـــ التمــوين‪ :‬ومــن الشــياء الضــرورية للرعيــة‬ ‫الشرا ف على التمــوين بجميــع أنــواعه ‪ ,‬إشــرافا يضـمن‬ ‫سهولة شراء المؤن ‪ ,‬وحيامزتها وتيسيرها لجميــع النــاس‪.‬‬ ‫وأول مـن نظـم إدارة التمـوين فــي الســلم عمــر بـن‬ ‫الخطاب رضي ا عنـه‪ .‬وذلـك أنــه حصـلت فــي الســنة‬ ‫السابعة عشرة للهجرة مجاعة اســتمرت ســنتين ‪ ,‬وقيــل‬ ‫ثلث سنوات‪ .‬وقد دبر عمر أمور المســلمين فيهــا تــدبيرا‬ ‫ناجحــا ‪ ,‬فكتــب إلــى أمــراء مصــر والشــام والعــراق أن‬ ‫يوافوه بالميرة ‪ ,‬فأتته القوافل تحمل طعاما كثيرا ومؤنا‬ ‫وغير ذلـك‪ .‬فوسـع علـى النـاس ‪ ,‬وانتظـم أمـر التمـوين‬ ‫وكمــا يضــمن الشــرا ف ســهولة الشــراء ‪ ,‬يضــمن عــدم‬ ‫الحتكار ‪ ,‬وتنظيم التومزيع‪.‬‬ ‫هـ ـ صك النقود‪ :‬ومــن المــور الضــرورية لصــيانة‬ ‫الميزان المالي صك النقود باسم الدولة السلمية ‪ ,‬وأن‬ ‫يكون نقد الدولة مبنيا على ثروة الدولــة ‪ ,‬وغيــر مســتند‬ ‫إلى نقد أجنبي‪ .‬وقد كان الناس في مزمن الرسول عليــه‬ ‫الســـلم يتعـــاملون بالنقـــدين‪ :‬الرومـــاني والفارســـي ‪,‬‬ ‫فيستعملون الدنانير الرومانية ‪ ,‬والدراهم الكســروية‪ .‬ولــم‬ ‫‪80‬‬


‫يكن للمسلمين نقد خـاص‪ .‬واسـتمر الحـال كـذلك طيلـة‬ ‫مدة الرسول عليه السلم ‪ ,‬وأيام أبي بكر ‪ ,‬إل أن عمر‬ ‫في خلفته أمر أن يضرب نقد خاص بالدولة السلمية‪.‬‬ ‫ثم استكمل النقد شكله السلمي المتميز في أيام عبــد‬ ‫الملك بن مروان‪ .‬ومنذ ذلك الحين صار للدولة السلمية‬ ‫نقد خاص بها يتعامل به في جميع أنحائها‪.‬‬ ‫و ـ البحرية‪ :‬ولما كانت الدولة السلمية تقع على‬ ‫شواطئ عدة بحار ‪ ,‬كان ل بد لها مــن أسـطول بحــري‬ ‫للجهــاد يكــون تابعــا للجيــش ‪ ,‬وأســطول تجــاري للنقــل‬ ‫والتجــارة ويكــون تابعــا للدارة‪ .‬وأول مــن أنشــأ دائــرة‬ ‫البحرية معاوية بن أبــي ســفيان فــي عهــد عثمــان بــن‬ ‫عفان؛ فقد أنشأ اسطول بحريا حين دعت الحاجــة إلــى‬ ‫الغزو في البحر‪ .‬واتخذ مــدينتي صــور وطرابلــس الشــام‬ ‫أمكنة لصــناعة الســفن‪ .‬وقــد مهــر المســلمون فـي ذلـك‬ ‫مهارة فائقة‪ .‬ولمــا فتــح قــبرس ورودس كــان أســطوله‬ ‫مؤلفا من ألف وسبع مئة سفينة‪.‬‬ ‫مز ـ دائرة الخارجية‪ :‬وكان لها كــاتب يتــولى كتابــة‬ ‫الكتــب ‪ ,‬ولهــا رســل يــذهبون بهــذه الكتــب إلــى البلد‬ ‫الخــرى‪ .‬ويجــب أن تكــون هــذه الــدائرة ضــمن تنظيــم‬ ‫الهيئة التنفيذية‪ .‬وهذه الدارة موجودة منــذ عهــد رســول‬ ‫‪81‬‬


‫ا ‪ ,‬فإنه عين كاتبا للرسائل الخارجيــة وأرســل الرســل‬ ‫والسفراء إلى البلد الجنبية ‪ ,‬واستقبل السفراء والوفود‬ ‫من البلد الخرى‪.‬‬ ‫ح ـ دائرة الداخليــة‪ :‬وكــانت تشــر ف علــى الــولة‪.‬‬ ‫وقد وضع فيهــا عمــر بــن الخطــاب محمــد بــن مســلمة‬ ‫ليشر ف على أعمال الولة ‪ ,‬وعلى سلوك المة بالنســبة‬ ‫لهــم‪ .‬وكــانت تابعــة لرئيــس الدولــة مباشــرة؛ لنهــا مــن‬ ‫الحكــم ‪ ,‬وليســت مــن الدارة‪ .‬ولــذلك يجــب أن تكــون‬ ‫ضمن تنظيم الهيئة التنفيذية ‪ ,‬ودائرة مــن دوائــر الحكــم‬ ‫فيها‪.‬‬ ‫ط ـ دائرة الدعاية‪ :‬وأول من أحدثها معاويــة بــن‬ ‫أبي سفيان‪ .‬وكانت قبله مع دائرة الخارجية للدعوة إلــى‬ ‫السلم‪ .‬فحولها للدعاية للدولة داخليــا وخارجيــا‪ .‬وجعلهــا‬ ‫منفصلة عن دائرة الخارجية‪ .‬وتكون ضمن تنظيــم الهيئــة‬ ‫التنفيذية‪.‬‬ ‫ي ـ دائرة الشرطة‪ :‬وأول من أحدث فكرتها عمر‬ ‫بن الخطاب ‪ ,‬في نظام العسس‪ .‬ونظمها علي بن أبــي‬ ‫طالب تنظيما متميزا‪ .‬ثم استكملت نظامها في أيــام عبــد‬ ‫الملـك بـن مـروان‪ .‬وكـان صـاحب الشـرطة متصـل فـي‬

‫‪82‬‬


‫المركز بالهيئة التنفيذية ‪ ,‬وفـي الوليـات بـالوالي‪ .‬وتكـون‬ ‫ضمن تنظيم الجيش؛ لن الشرطة جزء من الجيش‪.‬‬ ‫ك ـ دائرة الضرائب‪ :‬وأول مــن أحــدثها عمــر بــن‬ ‫الخطــاب‪ .‬وكــانت تتــولى جمــع الخــراج والعشــور‪ .‬وقــد‬ ‫تعهدها علي بن أبي طالب في أيــام خلفتــه‪ .‬ومنــع أن‬ ‫تحصل الضرائب بالضرب والشدة‪ ،‬كما منــع جمعهــا مــن‬ ‫أي إنسان‪ ،‬إل بعد أن يؤمن لــه رمزقــه‪ ،‬وكســوته صــيفا‬ ‫وشتاء‪ ،‬وما يركبه لقضاء حاجاته البعيــدة‪ .‬وكــان الشــتر‬ ‫النخعي يتولى له الخراج‪.‬‬ ‫وهناك دوائر أخرى كانت في الدولة‪ .‬وهــي‪ :‬إدارة‬ ‫الســتخبارات‪ ،‬وإدارة الســجون‪ ،‬وإدارة الزراعــة‪ ،‬وإدارة‬ ‫الجانب‪ ،‬وكانت إدارة هامة‪ .‬وقد وضع لها الفقهــاء بابــا‬ ‫خاصــا‪ ،‬هــو بــاب المســتأمن‪ .‬ودائــرة العشــور وكــانت‬ ‫تستوفي كذلك مــا يســمى بــالمكوس الجمــارك‪ ،‬وكــانت‬ ‫على حدود الدولة‪ ،‬وكانت تتــولى كــذلك عمــل المراقبــة‬ ‫على الحدود لمن يدخل أراضي الدولة ومن يخرج منها‪،‬‬ ‫أي عمل ) مكاتب الجوامزات (‪ .‬وكانت الــدائرة الــتي تــؤذن‬ ‫للمــواطنين بمغــادرة دار الســلم وتســمح لغيــر المــواطنين‬ ‫بدخول البلد هي دائرة الجانب‪ .‬وكانت إدارة التثقيــف تشــبه‬ ‫إدارة المعار ف‪ .‬وكــانت تشــر ف علــى المســاجد حيــن كــانت‬ ‫‪83‬‬


‫مدارس‪ ،‬وظلت تشر ف عليها بعد ذلك بصفتها أمكنــة لتثقيــف‬ ‫المة بجملتها‪ ،‬مع كونها أمكنة عبــادات‪ .‬وهنــاك دوائــر أخــرى‬ ‫كدائرة الصحة وغيرها‪ ،‬وتتعدد بتعدد الحاجة‪.‬‬ ‫وهــذه الــدوائر لدارة مصــالح المــة‪ .‬وموظفوهــا‪،‬‬ ‫تابعون لرؤساء هذه الدوائر‪ ،‬إل أنــه لمــا كــان نظــام الحكــم‬ ‫السلمي يجعل الدارة غير الحكم لم يشغل الهيئة التنفيذية‬ ‫بدوائر الحكومة وبالموظفين؛ لنهــم يشــكلون جــزءا صــغيرا‬ ‫من عمل الدولة‪ ،‬بــل جعــل الــدوائر تعمــل وحــدها‪ ،‬وجعلهــا‬ ‫جميعا في جملتها تابعة للهيئة التنفيذية‪ ،‬تتولهــا كناحيــة مــن‬ ‫نواحي الحكم‪ ،‬وتشر ف عليها إشرافا إداريــا عامــا‪ .‬أمــا الــذي‬ ‫يباشر كل إدارة فهو مديرها‪ .‬وفي الوليات يكون للوالي حق‬ ‫الســيطرة والشــرا ف علــى جميــع الــدوائر‪ ،‬مــا عــدا الماليــة‬ ‫والجيش والقضاء‪ ،‬فإنها تتبع المركز مباشرة‪.‬وســيطرته هــي‬ ‫أن يجعــل الحكــم مشــرفا علــى الدارة فــي الوليــة‪ ،‬أمــا‬ ‫الموظفون فهم تــابعون لــدوائرهم‪ .‬ومــديروهم هـم الــذين‬ ‫لهم الحق في شؤونم كلها‪.‬‬ ‫الولة‬ ‫أ ـ تشكيل الوليات‪:‬‬ ‫تقسم البلد التي تحكمها الدولة إلى وحدات صــغيرة‪،‬‬ ‫من حيث مساحة الرض‪ ،‬وما فيها مــن سـكان‪ ،‬ومــا تحتــاجه‬ ‫‪84‬‬


‫مــن أعمــال‪ .‬وتســمى هــذه الوحــدات وليــات‪ .‬وتقســم كــل‬ ‫واحــدة مــن هــذه الوليــات إلــى وحــدات‪ ،‬تســمى عمــالت‪.‬‬ ‫ويسمى كل من يشر ف على ولية واليـا‪ ،‬ومـن يشـر ف علـى‬ ‫عمالة عامل‪ .‬وهذا التقســيم تمليــه مصــلحة الدولــة‪ ،‬ورعايــة‬ ‫شؤون المة‪ .‬وقد قام بهـذا التقسـيم رسـول اـ صـلى اـ‬ ‫عليه وسلم‪ .‬وفي أيام أبي بكر قسمت الجزيرة العربيــة إلــى‬ ‫ثلث وليات؛ فقد جعل أبو بكر الحجامز ولية‪ ،‬واليمــن وليــة‪،‬‬ ‫والبحرين ومــا إليهــا وليــة‪ .‬وقسـم كـل وليــة إلــى عمــالت‪،‬‬ ‫فجعل الحجامز ثلث عمالت هي‪ :‬مكة‪ ،‬والمدينــة‪ ،‬والطــائف‪.‬‬ ‫وجعــل اليمــن ثمــاني عمــالت هــي‪ :‬صــنعاء‪ ،‬وحضــرموت‪،‬‬ ‫وخــولن‪ ،‬ومزبيــد‪ ،‬ورمــع‪ ،‬والجنــد‪ ،‬ونجــران‪ ،‬وجــرش‪ .‬ولمــا‬ ‫اتسعت رقعة الدولة السلمية في خلفة عمر بن الخطــاب‪،‬‬ ‫قسم عمر الدولة إلى وليات كبيرة‪ ،‬فجعل الهوامز والبحرين‬ ‫ولية‪ ،‬وسجستان‪ ،‬ومكران‪ ،‬وكرمان ولية‪ ،‬وطبرستان وليــة‪،‬‬ ‫وخراسان ولية‪ ،‬وجعل بلد فارس ثلث وليات‪ ،‬وجعــل بلد‬ ‫العراق وليتين هما‪ :‬ولية البصــرة‪ ،‬ووليــة الكوفــة‪ ،‬وقســم‬ ‫بلد الشام وليتين هما‪ :‬ولية دمشق‪ ،‬وولية حمص‪ ،‬وجعل‬ ‫فلسطين ولية‪ ،‬وقسم أفريقيــا الــتي فتحــت فــي أيــامه ثلث‬ ‫وليات‪ :‬ولية مصر العليا‪ ،‬وولية مصر السفلى‪ ،‬وولية غــرب‬

‫‪85‬‬


‫مصر وصحراء ليبيا‪ .‬وعين على كل ولية مــن هــذه الوليــات‬ ‫واليا‪.‬‬ ‫ب ـ تعيين الولة‪:‬‬ ‫رئيــس الدولــة هــو الــذي يعيــن الــولة ‪ ,‬فهــم بمقــام‬ ‫أعضاء الهيئـة التنفيذيـة‪ .‬ومركـز الـوالي كمركـز عضـو الهيئـة‬ ‫التنفيذية؛ لنه يقوم في الولية بشؤون الحكم‪ .‬وحيــن يعيــن‬ ‫رئيس الدولة الوالي ل يرجع إلى مجلس الشورى لخذ رأيه ‪,‬‬ ‫ول يأخذ ثقة مجلس الشورى به ‪ ,‬إل أن رئيس الدولة ل يعين‬ ‫الولة إل ممن يثــق بهــم المســلمون؛ لن لمجلــس الشــورى‬ ‫حق إظهار عدم الرضا مــن الــوالي مــن غيــر بيــان الســباب‪.‬‬ ‫فيجب علــى رئيــس الدولــة أن يعزلـه فــي الحــال وقــد عيـن‬ ‫رسول ا صـلى اـ عليـه وسـلم الـولة ‪ ,‬وكـذلك أبـو بكـر‬ ‫وعمر وسائر الخلفاء‪ .‬وكان عمر يجتهــد لن يجعــل الوليــات‬ ‫صغيرة ‪ ,‬ول يجمع لوال واحد إقليما كبيرا؛ إذ جعــل فــي بلد‬ ‫الشام ثلثة ولة‪ :‬واحدا في دمشــق ‪ ,‬والخــر فــي حمــص ‪,‬‬ ‫والثالث في فلسطين‪ .‬وكان إذا شكا الناس من الوالي عزلــه‬ ‫في الحال‪.‬‬ ‫جـ ـ صفات الوالي‪:‬‬ ‫الوالي حاكم‪ .‬وهو ينوب عن رئيس الدولة في الحكم‬ ‫وفي تحمل المسؤولية في الولية ‪ ,‬ويعاونه في العمل فيها‪.‬‬ ‫‪86‬‬


‫ولــذلك يجــب أن تتــوفر فيــه صــفات الحــاكم ‪ ,‬فيكــون رجل‬ ‫مسلما عدل قادرا على الحكم والدارة‪.‬‬ ‫فقد كان عليه الصلة والسلم يتخير ولته وعماله من‬ ‫أهـل الصـلح للحكـم ‪ ,‬وأولـي العلـم المعروفيـن بـالتقوى ‪,‬‬ ‫ويختــارهم ممــن يحســنون العمــل فيمــا يولــون ‪ ,‬ويشــربون‬ ‫قلوب الرعية اليمان ‪ ,‬ومهابة الدولة ‪ ,‬بغض النظر عن السن‬ ‫عتاب بن أســيد واليــا علــى مكــة وهــو‬ ‫‪ ,‬فقد ولى رسول ا ّ‬ ‫حديث السن ‪ ,‬وكان عمــر يختــار ولتــه مــن أصــحاب المانــة‬ ‫والبصر بالمور والقدرة على العمل الذي يوكل إليهــم‪ .‬وكمــا‬ ‫ولي من أصحاب السن ولي معاوية وهو حديث الســن؛ لنــه‬ ‫كان ظاهر القدرة والذكاء‪.‬‬ ‫د ـ وظيفة الوالي‪:‬‬ ‫كل مصلحة من مصالح الدولة تشــكل دائــرة منفصــلة‬ ‫عن الخــرى والصــل أن يكــون لهــا موظــف مســؤول عنهــا‪.‬‬ ‫ويجومز أن يوكل لموظف واحد عدة مصالح يقــوم بأمورهــا ‪,‬‬ ‫ولكنها تبقى مصالح متعددة مرتبطة كل مصلحة فــي المركــز‬ ‫العــام للدولــة‪ .‬ول تجعــل جميــع المصــالح مصــلحة واحــدة‬ ‫مرتبطة بموظف واحد مرتبط بالدولة ‪ ,‬فولية الحكم مصلحة‬ ‫لها صلحياتها يوظف الوالي بها مــن أجلهــا ‪ ,‬وكــذلك القضــاء‬ ‫مصلحة ‪ ,‬والمالية مصلحة ‪ ,‬والجيش مصلحة ‪ ,‬ولكــل واحــدة‬ ‫‪87‬‬


‫صلحيات يوظف موظف من أجــل القيــام بهــا‪ .‬وكــذلك أيضــا‬ ‫المصــالح الداريــة الخــرى‪ ،‬كمصــلحة المعــار ف‪ ،‬ومصــلحة‬ ‫الزراعــة‪ ،‬ومصــلحة الصــحة‪ ،‬لكــل واحــدة صــلحيات يوظــف‬ ‫موظف من أجلها‪ .‬وكل مصلحة منها مربوطة بــالمركز العــام‪.‬‬ ‫وتكون الدولة في هذه الناحية مركزية‪ :‬تعتبر كل مصلحة من‬ ‫هذه المصالح مصلحة واحدة مركزية لجميــع نــواحي الدولــة‬ ‫مهما تعددت وليتها‪ ،‬ومــا فــي الوليــات مــن هــذه المصــالح‬ ‫دوائر تابعة للدولة في المركز‪ ،‬وليست مصــالح مســتقلة فــي‬ ‫الولية‪ .‬ولكــن لمــا كــان الــوالي فــي الوليــة يتــولى شــؤون‬ ‫الحكم‪ ،‬فقد جعــل لــه حــق مباشــرة جميــع شــؤون مصــلحة‬ ‫الحكــم مــن كتــاب وعمــال‪ .‬وســائر أمــور الحكــم ترتبــط بــه‬ ‫مباشــرة‪ .‬وجعــل لــه حــق الشــرا ف علــى بــاقي مصــالح‬ ‫الحكومة‪ ،‬مع ارتباط تلك المصالح في مركز الدولة من حيــث‬ ‫كيانها وسياستها الدارية‪.‬‬ ‫والصل أن يعين رئيس الدولة الوالي ليقــوم بوظيفــة‬ ‫الحكم‪ ،‬لكن إذا رأى مــن المصــلحة أن يجعــل الــوالي قائمــا‬ ‫بأعمال أخرى في بعض المصالح أو في جميعهــا فلــه ذلــك‪.‬‬ ‫ويكون هذا التعيين قد جاء على خل ف الصل لمصلحة رآها‬ ‫رئيس الدولة‪ .‬وحين يجعل رئيس الدولة الوالي قائما ببــاقي‬ ‫المصالح وكالة عنه‪ ،‬تظل هذه المصالح مرتبطة فــي المركــز‬ ‫‪88‬‬


‫حكمــا‪ ،‬باعتبــار الــوالي قائمــا بهــا وكالــة‪ ،‬ل بحســب عملــه‬ ‫الصلي‪ .‬وهذا ما كان يسمى بالولية العامة‪ .‬واقتصار الوالي‬ ‫على صلحيات الوالي هو ما كــان يســمى بالوليــة الخاصــة‪.‬‬ ‫وأحيانا يطلقون الولية الخاصة على جميع العمــال مــا عــدا‬ ‫ولية المال‪.‬‬ ‫غير أنه لما كان تولي الوالي صلحيات غير صــلحيات‬ ‫الولية قد جاء على خل ف الصل‪ ،‬ولما كــان إعطــاء الــوالي‬ ‫الولية العامة يثير فيه أحاسيس الســيادة والســتقلل‪ ،‬كــانت‬ ‫الولية الخاصة اوفق لمصلحة الدولة ل سيما إذا كانت الولية‬ ‫كــبيرة‪ ،‬أو كــانت الدولــة متراميــة الطــرا ف ـــ لــذلك؛ وســدا‬ ‫للذريعة‪ ،‬يعين الوالي في مصلحة واحدة هي الولية‪ .‬وهــي‬ ‫مصــلحته الصــلية‪ .‬وهــي الحكــم ويكــون لــه طبيعيــا حــق‬ ‫الشــرا ف علــى بــاقي الــدوائر لن هــذا الشــرا ف هــو مــن‬ ‫الحكم‪.‬‬ ‫فقد كــان الخليفــة يــدير المــور فــي عاصــمة الدولــة‪.‬‬ ‫وبــاقي البلــدان والقــاليم القريبــة والبعيــدة يحكمهــا الــولة‪،‬‬ ‫ويديرون أمورها‪ .‬وكانوا يستعملون في التعــبير عــن أعمــال‬ ‫الولة كلمتين‪ :‬الصلة‪ ،‬والصدقات‪ ،‬أو الخراج‪ .‬وكلمـة الصــلة‬ ‫كان يقصد بهــا جميـع المــور السياســية والحربيـة والقضــائية‬ ‫والدارية‪ .‬وكلمة الصدقات والخراج كان يقصــد منهــا الماليــة‪.‬‬ ‫‪89‬‬


‫وكانوا يجمعون الصلة والصدقات أو الخراج لوال واحد فــي‬ ‫بعض الحيان‪ ،‬وتكــون وليتــه عامــة‪ .‬وكــانوا يفصــلونها فــي‬ ‫بعض الحيان‪ ،‬وتكون وليته خاصة‪ ،‬إل أنه في حالــة الجمــع‬ ‫أو الفصــل كــانت هــذه المصــالح كلهــا متصــلة بالدولــة فــي‬ ‫المركز‪ .‬ولم يكـن الــوالي يسـتقل بهــا عـن الدولـة‪ ،‬ويكتفـي‬ ‫باتصاله هو فقط‪ .‬فقــد روي أن رســل ا ـ صــلى ا ـ عليــه‬ ‫وسلم استعمل فروة بــن ســهل علــى مــراد ومذحــج ومزبيــد‪،‬‬ ‫وبعث معه خالد بن سعيد بن العاص على الصدقة‪ ،‬وأرســل‬ ‫معاذ بن جبل إلى اليمن وجعل له الصــلة والصــدقة‪ .‬وعمــر‬ ‫بن الخطاب أرسل عمار بــن ياســر علــى البصــرة واليــا علــى‬ ‫الصلة والحرب ‪ ,‬وأرسل معه عبد ا بن مسعود واليا علــى‬ ‫القضاء وبيت المال ‪ ,‬وأرسل معاويــة بــن أبــي ســفيان واليــا‬ ‫على الشام وجعل وليتــه علــى كــل المصــالح‪ .‬وعثمــان بــن‬ ‫عفــان اســتعمل عمــرو بــن العــاص علــى صــلة مصــر ‪,‬‬ ‫واستعمل عبد ا بن سعد على خراجها ‪ ,‬وأقــر معاويــة بــن‬ ‫أبي سفيان واليا على الشام لجميع أمورها‪.‬‬ ‫إل أنه مع ذلك فقد كــان الخليفــة يــأمر الــوالي بفعــل‬ ‫شيء معين ‪ ,‬أو ينهاه عن فعل شــيء معيــن‪ .‬وكــان يعــزل‬ ‫موظفيه ويوليهم متى أراد ‪ ,‬سواء جعل لــه الوليــة عامــة أو‬ ‫خاصة؛ لن مصالح المة واحدة؛ فإن عمر بــن الخطــاب مــع‬ ‫‪90‬‬


‫أنه قــد جعــل لبعــض ولتــه أن يولــوا العمــال علــى البلــدان‬ ‫الواقعة ضمن حــدود إمــارته ‪ ,‬وأن يقلــدوا القضــاة والكتــاب‬ ‫وسائر الموظفين ‪ ,‬إل أنه كان يتدخل في هؤلء الموظفين ‪,‬‬ ‫فيولي من يشاء ‪ ,‬ويعزل من يشاء؛ فقد صر ف مزياد بن أبيــه‬ ‫من كتابة أبي موسى الشعري ‪ ,‬وصــر ف كاتبــا آخــر لــه مــن‬ ‫أهل الذمة‪ .‬ومن ذلك كله يتبين أن الصل في المصــالح أنهــا‬ ‫واحــدة ‪ ,‬وأن صــلحية تعييــن المــوظفين والــدوائر وكافــة‬ ‫الشؤون هي لمركــز الدولــة وليســت للــوالي ‪ ,‬إل أن لرئيــس‬ ‫الدولة أن يجعل لمن يثق به من الولة حــق القيــام بأعمــاله‬ ‫في وليته وكالة عن رئيس الدولة‪ .‬ففي الولية العامــة كــان‬ ‫يقــوم الــوالي بأعمــاله وكالــة عــن الخليفــة ‪ ,‬وفــي الوليــة‬ ‫الخاصــة كــان يقــوم بوظيفــة الــوالي فقــط ‪ ,‬وتبقــى بــاقي‬ ‫العمال للخليفة‪.‬‬ ‫هـ ـ صلحيات الوالي‪:‬‬ ‫يعتــبر الــوالي الحــاكم الشــرعي لــوليته‪ .‬ويعطــى‬ ‫صــلحيات الحكــم والدارة للمــور المتعلقــة بــإدارة الوليــة‪،‬‬ ‫وصلحية الشرا ف علــى المصــالح العامــة فــي بــاقي دوائــر‬ ‫الدولة في الولية‪ .‬فمثل‪ :‬تعيين الموظفين في الــدوائر الــتي‬ ‫تنفذ أمور الحكم كموظفي الوالي‪ ،‬والعامل وموظفيه‪ ،‬ومــن‬ ‫شاكلهم‪ ،‬هو من صلحيته‪ .‬وكذلك عزلهم ونقلهم وسائر أمور‬ ‫‪91‬‬


‫هذه الدوائر‪ ،‬لنها دوائر لدارة الولية‪ .‬أمــا المصــالح العامــة‬ ‫في باقي دوائر الدولة‪ ،‬كدائرة المعار ف‪ ،‬والصحة‪ ،‬والزراعة‪،‬‬ ‫ومــا شــاكلها ‪ ,‬فهــي تابعــة لمــديريها فــي المركــز مــن حيــث‬ ‫التعيين والنقل والعزل ‪ ,‬وسائر الشؤون المتعلقــة بأعمــالهم‬ ‫في وظائفهم ‪ ,‬وهي تضع تقســيماتها بشــكل يــؤمن ســهولة‬ ‫المراجعة ‪ ,‬غير أن للوالي الشرا ف علــى هــذه الــدوائر فــي‬ ‫وليته في كل ما يتعلق بأمور الحكم ‪ ,‬مــن حيــث قيــام هــذه‬ ‫الــدائر بإنجــامز أعمــال النــاس أو تعطيلهــا ‪ ,‬ومــن حيــث تــأثير‬ ‫الموظفين أو بعضهم فيما يتعلــق بسياســة الدولــة وتوجيههــا‬ ‫للمور ‪ ,‬فــإذا رأى ضــرورة عــزل أي موظــف أو نقلــه يطلــب‬ ‫لدائرته القيام بذلك ‪ ,‬ويجب عليها تنفيذ طلبه ‪ ,‬محافظة علــى‬ ‫سير الحكم في الولية‪.‬‬ ‫هذا بالنسبة لكيان الدوائر وسيرها ‪ ,‬أما بالنسبة لقيــام‬ ‫كل موظف بواجباته فتعطى لكــل موظــف صــلحيات القيــام‬ ‫بأعماله التي هي ضمن وظيفته ‪ ,‬دون رجوعه إلــى رئيســه ‪,‬‬ ‫ودون الرجوع إلى المركز العام ‪ ,‬بــل يتصــر ف مباشــرة فــي‬ ‫قضاء مصالح الجمهور؛ لن الدارة ل مركزية ‪ ,‬فيقوم بها كل‬ ‫موظف دون حاجة لمراجعة إل في المور المتعلقة بسياســة‬ ‫الدارة ‪ ,‬وفي المور الهامة التي تؤثر على سير الدارة‪.‬‬

‫‪92‬‬


‫وللــوالي صــلحية مناقشــة رئيــس الدولــة والهيئــة‬ ‫التنفيذية فيما يطلبون إليه من أمور ‪ ,‬وفيمــا يقيــدونه بــه مــن‬ ‫أنظمة؛ لنــه أدرى بشــؤون وليتــه ‪ ,‬ولن الدارة ل مركزيــة ‪,‬‬ ‫وللوالي صلحيات الجتهاد في المور الدارية كلها؛ فقد بعث‬ ‫رسول ا صلى ا عليــه وســلم معــاذا واليــا علــى اليمــن ‪,‬‬ ‫وقال له‪ :‬بم تحكم ؟ قال‪ :‬بكتاب ا‪ .‬قال‪ :‬فــإن لــم تجــد ؟‬ ‫قال‪ :‬بسنة رسول ا‪ .‬قال‪ :‬فإن لم تجد ؟ قال‪ :‬أجتهد رأيي‪.‬‬ ‫فقال الحمد لله الذي وفق رسول رسول اـ لمــا يحبــه اـ‬ ‫ورسوله‪ .‬وكانت الدولة في أيام عمر وفي أيام الخلفــاء مــن‬ ‫بعده تمنح الولة حرية العمل فيما هو مــن صــلحياتهم دون‬ ‫الرجوع للمركز ‪ ,‬وكــذلك جميــع المــوظفين المســؤولين فــي‬ ‫الدولة حتى يســتنبطوا مــا يلــزم لقضــاء مصــالح النــاس مــن‬ ‫دراساتهم عن كثب ‪ ,‬ويسرعوا فــي إنجــامز العمــال ‪ ,‬وفــض‬ ‫المشكلت ‪ ,‬لئل تضيع مصالح الناس بالتطويل‪.‬‬ ‫والبساطة في الدارة ‪ ,‬والسراع في إنجامز العمــال ‪,‬‬ ‫كانا ظاهرين كل الظهور في الدولة السلمية ‪ ,‬على اختل ف‬ ‫عهودها وتطور أمورها؛ فقد عهد الوليدبن عبــد الملــك لعمــر‬ ‫بن عبد العزيز بالولية على الحجامز‪ ) :‬مكة والمدينة والطائف‬ ‫( قبل أن يتقلد الخلفة ‪ ,‬فأبطــأ عــن الخــروج ‪ ,‬فقــال الوليــد‬ ‫لحاجبه‪ :‬ما بال عمر ل يخرج إلى عملــه ؟ قــال‪ :‬مزعــم أن لــه‬ ‫‪93‬‬


‫إليك ثلث حوائج‪ .‬قال فعجله علي‪ .‬فجاء به وسأله‪ .‬فقال له‬ ‫عمر‪ :‬إنك استعملت من كان قبلي ‪ ,‬فأنا أحــب أن ل تأخــذني‬ ‫بعمل أهل العدوان والظلم والجور‪ .‬فقال لــه الوليــد‪ :‬اعمــل‬ ‫بالحق وإن لــم ترفــع إلينــا درهمــا‪ .‬وهكــذا أطلــق يــدة فــي‬ ‫الولية من ناحية إدارية‪ .‬وكان عمر نفسه حين ولي الخلفــة‬ ‫يطلــق يــد عمــاله فــي القيــام بالعمــال الداريــة الــتي مــن‬ ‫صـلحياتهم‪ ،‬ويلـومهم حيـن يسـألون عـن النـواحي الداريـة‬ ‫التافهة‪ ،‬ويأمرهم أن ل يشاوروه إل في المهمات مما يشــكل‬ ‫عليهم أمره‪ ،‬فقد كتب إلى واليه على اليمن‪ " :‬أما بعــد فــإني‬ ‫أكتـــب إليـــك آمـــرك أن تـــرد علـــى المســـلمين مظـــالمهم‪،‬‬ ‫فــتراجعني‪ ،‬ول تعــر ف مســافة مــا بينــي وبينــك‪ ،‬ول تعــر ف‬ ‫أحــداث المــوت‪ ،‬حــتى لــو كتبــت إليــك‪ :‬أن اردد علــى مســلم‬ ‫مظلمة شاة‪ ،‬لكتبت‪ :‬أردها عفراء أو سوداء ؟ فانظر أن ترد‬ ‫على المسلمين مظالمهم ول تراجعنــي " وهكــذا كــان يســير‬ ‫الخلفاء في الشؤون الدارية فــي الوليــات‪ ،‬واضــعين نصــب‬ ‫أعينهـم مصــلحة النـاس‪ .‬وكــان الــوالي ينـاقش فــي شــؤون‬ ‫وليته؛ فقد روي أن مزيــاد بــن أبــي ســفيان أوعــز إلــى والــي‬ ‫خراسان‪ ،‬أن يصطفي لمعاوية الصفراء والبيضاء‪ ،‬فل يقسم‬ ‫في الناس ذهبا ول فضة‪ ،‬عمل بكتاب ورد عليه من الخليفــة‪.‬‬ ‫فكتب والي خراسان إلى مزياد يقول‪ " :‬بلغني مــا ذكــرت مــن‬ ‫‪94‬‬


‫كتاب أمير المؤمنين وأني وجدت كتاب ا تعــالى قبــل كتــاب‬ ‫أمير المؤمنين وأنــه واـ لــو أن السـماء والرض كانتـا رتقـا‬ ‫على عبد‪ ،‬ثم اتقى ا جعل لــه مخرجــا والســلم " ومــع أن‬ ‫الدولة كانت تحاسب الولة على التفريط‪ ،‬حتى لو شكا أصغر‬ ‫الرعية الوالي سمعت شكواه‪ ،‬ومع أنهــا كـانت تعــزل الــوالي‬ ‫إذا كان هناك ضجر أو تذمر منه‪ ،‬ومع أنها كانت تتحرى أحوال‬ ‫الولة والناس‪ ،‬لكنها مع ذلك كله‪ ،‬كانت تمنع الوشايات وتمنع‬ ‫التجسس على أحوال الناس الخاصة في منامزلهم؛ قال عمــر‬ ‫بن عبد العزيز في إحدى خطبــه‪ " :‬أيهــا النــاس‪ ،‬مــن صــحبنا‬ ‫فليصــحبنا بخمــس‪ ،‬وإل فل يقربنــا‪ :‬يرفــع إلينــا حاجــة مــن ل‬ ‫يستطيع رفعها‪ ،‬ويعيننا على الخيــر جهــده‪ ،‬ويــدلنا مــن الخيــر‬ ‫على ما ل نهتدي إليه ول يغتاب عندنا الرعية ول يعترض فيما‬ ‫ل يعنيه "‪.‬‬ ‫و ـ مجلس الولية‪:‬‬ ‫يكــون لكــل وال مجلــس إداري ينتخبــه أهــل وليتــه‪.‬‬ ‫وتكون لهذا المجلس صلحية مشاركة الوالي في الرأي فــي‬ ‫الشؤون الدارية المتعلقة بالولية‪ .‬وليســت لــه صــلحية فــي‬ ‫الشؤون المتعلقة في الحكم‪ .‬وعلــى الــوالي أن يأخــذ بــرأي‬ ‫هذا المجلس في كل ما يقرره مما هو من صلحيته‪ .‬ويكون‬ ‫الوالي نفسه هو رئيــس هــذا المجلــس؛ كــان عمـر بــن عبـد‬ ‫‪95‬‬


‫العزيز واليا على المدينة‪ .‬وكان ل يقطع أمرا بدون استشارة‪.‬‬ ‫فكان إذا جلس مجلس المارة ) الولية ( أمر فألقى لرجليــن‬ ‫من أهل الرأي وسادة قبالته‪ ،‬وقال لهمــا‪ :‬إنــه مجــاس شــرة‬ ‫وفتنة‪ .‬ول يكن لكما عمل إل النظر إلي ) أي مراقبتي (‪ ،‬فــإذا‬ ‫رأيتما مني شيئا ل يوافق الحق فخوفاني وذكراني بــالله عــز‬ ‫وجل‪ .‬وكان شرحبيل بن حسنه حين ولي الشــام يرجــع إلــى‬ ‫معاذ بن جبل وخالد بن سعيد‪ ،‬وهمــا مجلــس وليتــه‪ .‬وكــان‬ ‫من عادة الولة في العهد الموي أن يفتتحوا وليتهم بخطبــة‬ ‫يلقونها في المسجد‪ ،‬تلخص طريقتهم في السياسة والحكــم‬ ‫والدارة ومعاملة الرعية‪ .‬وكــان الــوالي بعــد أن يتــم خطبتــه‬ ‫يناقشه النــاس فيهــا‪ .‬ولــم يســلم مــن هــذه المناقشــة حــتى‬ ‫الطغاة من الولة‪ ،‬فقد روي أن الحجاج خطــب يومــا فقــال‪:‬‬ ‫) أيها الناس‪ ،‬الصبر على محارم ا ـ أيســر مــن الصــبر علــى‬ ‫عذاب ا ( فقام إليه رجل فقال‪ ) :‬ويحك مــا أقــل حيــاءك !‬ ‫تفعل ما تفعل ثم تقول مثل هــذا ؟ ( فــأمر بــه فأخــذ‪ .‬فلمــا‬ ‫نزل عن المنبر دعا به فقال له‪ :‬لقد اجترأت علي‪ .‬فقال له‪) :‬‬ ‫ياحجاج‪ ،‬أنت تجترئ على ا تعالى ول تنكره علــى نفســك !‬ ‫واجترأت عليك فأنكرت علي ! ( فأخلى سبيله‪.‬‬ ‫مز ـ علقة الوالي بالدولة‪:‬‬

‫‪96‬‬


‫الوالي حاكم من حكام الدولــة‪ .‬ولــه صــلحية الحكــم‬ ‫في وليته ‪ ,‬كما لي عضو من أعضاء الهيئة التنفيذية‪ .‬ولــذلك‬ ‫تختلف علقته بالدولة عن باقي الموظفين ‪ ,‬فهــو ‪ ,‬وإن كــان‬ ‫مقيدا بأوامرها ‪ ,‬فهو معرض لعقابها ‪ ,‬لكنه يتصــر ف بــوليته‬ ‫فيما يراه صالحا لهــا حســب اجتهــاده‪ .‬وإنمــا كــانت لــه هــذه‬ ‫الصلحية ليكون مسموع الكلمــة ‪ ,‬مــوقرا مهابــا فــي وليتــه‪.‬‬ ‫ولذلك تتشدد الدولة في معاقبة من يحاولون النتقاص منــه‪.‬‬ ‫ولهــذا علــى الدولــة أن تحســن اختيــار الــولة لمــا لهــم مــن‬ ‫الصــلحيات ‪ ,‬فل تختــار إل مــن كــان فيهــم الكفايــة للحكــم‪.‬‬ ‫وعلى الدولة أن تكشــف دائمــا عــن حــال ولتهــا ‪ ,‬وتراقبهــم‬ ‫مراقبة دقيقة‪.‬‬ ‫فالرســول عليــه الســلم كــان يتخيــر ولتــه مــن أهــل‬ ‫التقوى والقوة وكان يكشف دائما عن حال عمــاله ‪ ,‬ويســمع‬ ‫ما ينقل إليه من أخبارهم‪ .‬وكان عمر يقضي شطرا كبيرا من‬ ‫وقته في سياسة العمال ‪ ,‬وكشف أحوالهم ‪ ,‬وانتقاء أصــلحم‬ ‫‪ ,‬وتنظيمهم في الدارة والسياسة على أسلوب محكم‪ .‬وكان‬ ‫حين يريد أن يعين واليا يتحــرى عــن أحــواله؛ فقــد روي عنــه‬ ‫رضي ا عنه أنه قال لصحابه أشــيروا علــي ودلــوني علــى‬ ‫رجل أستعمله في أمر قد همني‪ .‬فقولوا مــا عنــدكم ‪ ,‬فــإني‬ ‫أريــد رجل إذا كــان فــي القــوم وليــس أميرهــم ‪ ,‬كــان كــأنه‬ ‫‪97‬‬


‫أميرهم ‪ ,‬وإذا كان فيهم هو أميرهم ‪ ,‬كان كأنه واحــد منهــم‪.‬‬ ‫فقالوا‪ :‬الذي نرى له هذه الصفة ‪ ,‬الربيع بن مزيــاد الحــارثي ‪,‬‬ ‫فنشير على أمير المؤمنين به‪ .‬فأحضره واستعمله فــي المــر‬ ‫الذي همه‪.‬‬ ‫ومع تحري عمر للولة حين توليتهم فــإنه كــان شــديد‬ ‫المراقبة لهم فقد عين محمد بن مسلمة للكشف عن أحــوال‬ ‫الولة والتفتيش عليهم‪ .‬وكان يذهب هــو بنفســه فــي بعــض‬ ‫الحيان للتفتيش على الوليات وعلى الولة‪ .‬وكانت له عيــون‬ ‫تكشف له عن أخبار الرعية والولة‪ .‬وكان يجمــع الــولة فــي‬ ‫موسم الحج لينظر فيما عملوه طول الســنة ‪ ,‬وليصــغي إلــى‬ ‫شكاوي الرعية منهم ‪ ,‬وليتذاكر معهــم فــي شــؤون الوليــة ‪,‬‬ ‫وليعر ف أحوالهم‪.‬‬ ‫ح ـ علقة الوالي بالناس‪:‬‬ ‫الوالي حاكم في وليته‪ .‬ولذلك كانت العلقة بيه وبين‬ ‫الناس قائمة على على قاعدة العلقة بين الحــاكم والرعيــة‪.‬‬ ‫وهي أن على الناس السمع والطاعــة فـي حـدود السـلم ‪,‬‬ ‫وعلى الوالي العدل وحسن الدارة ‪ ,‬وعليــه أن يعمــل بــرأي‬ ‫أهــل وليتــه ‪ ,‬كمــا يعمــل بــرأي مجلــس الوليــة ‪ ,‬وعليــه أن‬ ‫يتعر ف أحوال الناس ويحيط بأخبارهم إحاطة دقيقة ‪ ,‬وعلى‬ ‫المة أن تنصح الــوالي وأن ترشــده إذا أخطــأ ‪ ,‬وأن تــبين لــه‬ ‫‪98‬‬


‫خطأه بالسلوب الحكيم وللنـاس صـلحية مقاضـاة الـوالي ‪,‬‬ ‫أما لدى القضاء أو بالشكوى عليه للمســؤول عنــه فــي مركــز‬ ‫الدولـة‪ .‬وتـأثم المـة إن سـكتت علـى خطـأ الـوالي أو علـى‬ ‫ظلمه‪ .‬ولكن كل ذلك مع حفظ هيبة الحكــم‪ .‬وعلــى الــوالي‬ ‫مع مراعاته لجميع مصــالح النــاس أن يحفــظ هيبــة الدولــة ‪,‬‬ ‫وأن ل يجعــل النــاس يســتهترون بــه أو بالدولــة؛ كتــب والــي‬ ‫أرمينية للمنصور يخبره‪ :‬أن الجند قد شغبوا عليــه ‪ ,‬ونهبــوا مــا‬ ‫في بيــت المــال‪ .‬فوقــع فــي كتــابه‪ ) :‬اعــتزل عملنــا مــذموما‬ ‫غبوا ولو هلَقوهلَْيتهلَ لم ينهبــوا (‪ .‬ولــذلك‬ ‫ش ّ‬ ‫ع ِقْلتهلَ لم ُي هلَ‬ ‫مدحورا؛ فلو هلَ‬ ‫كان على الوالي أن يحفظ هيبة الحكم ‪ ,‬وفي نفــس الــوقت‬ ‫أن يعامل الناس معاملة حسنة ‪ ,‬فل يشتم أحدا من الرعيــة ‪,‬‬ ‫ول يضربه ‪ ,‬ول يحابي أحدا في العطاء ‪ ,‬أو يصانع أحدا فــي‬ ‫الحكم ‪ ,‬ول يحتجب عن الناس ول يتهاون في خدمتهم‪ .‬فــإذا‬ ‫فعل شيئا من ذلك عاقبه الخليفة؛ لنه وإن كان حاكمــا علــى‬ ‫النــاس ‪ ,‬لكنــه قــائم لقضــاء حاجــاتهم وقــد كــان عمــر بــن‬ ‫الخطاب إذا ولى الولة قال لهم‪ ) :‬إني لــم أســتعملكم علــى‬ ‫أمــة محمــد ‪ ,‬علــى أشــعارهم ‪ ,‬ول علــى أبشــارهم ‪ ,‬وإنمــا‬ ‫استعملتكم عليهم لتقيموا بهم الصلة ‪ ,‬وتقضوا بينهم بــالحق‬ ‫‪ ,‬وتقسموا بينهم بالعدل (‪.‬‬ ‫ط ـ مدة الولية‪:‬‬ ‫‪99‬‬


‫لم يحدد الشرع مدة الولية للوالي‪ .‬ول يوجد نــص أو‬ ‫عمل يحدد مدة معينة لوليته‪ .‬وإنما تحدد وليته بنــوع عملــه‪،‬‬ ‫فإن أحسن عمله ورضي عنه الناس والدولة بقــي واليــا‪ ،‬وإل‬ ‫عــزل عــن وليتــه‪ .‬إل أن الــذي جــرى عليــه عمــل الدولــة‬ ‫السلمية أنهم كانوا يتركون الــوالي يمكــث فــي وليتــه مــدة‬ ‫معقولة‪ ،‬ل تقل عن ثلث سنين‪ ،‬حتى يتعــر ف علــى الوليــة‪،‬‬ ‫ويختبر أهلها‪ ،‬وتكون لديه عراقــة فــي معرفــة إدارة الوليــة‪.‬‬ ‫وينبغي أل تزيد عن المعقول حتى ل يطمع بالســتقلل فــي‬ ‫وليته‪ ،‬وحتى ل تتحــرك فيــه أحاســيس الســيادة‪ .‬والــوالي ل‬ ‫ينقل من ولية إلى أخرى‪ ،‬لنه ليس موظفا‪ ،‬وإنما هو حاكم‪،‬‬ ‫فإذا أريد الستغناء عنـه فـي وليـة أعفـي منهـا‪ ،‬وعيـن فـي‬ ‫عمل آخر‪ ،‬أو في ولية ثانية‪ .‬ول يعزل الــوالي بمــوت رئيــس‬ ‫الدولة‪.‬‬ ‫القضاء‬ ‫القضاء هــو الخبــار عــن حكــم شــرعي علــى ســبيل‬ ‫اللزام‪ .‬وهو الفصل بين الناس في الخصومات‪ .‬وهو الحكم‬ ‫بين الناس حسب الشريعة السلمية‪ .‬سواء أكان فصــل فــي‬ ‫النزاع الواقع بين الناس‪ ،‬أو منعا لما يضــر حــق الجماعــة‪ ،‬أو‬ ‫رفعا للنزاع الواقع بيــن النــاس والدولــة أو أحــد أفرادهــا‪ ،‬أو‬ ‫فصل في معنا نص من نصوص التشريع على سبيل اللزام‪.‬‬ ‫‪100‬‬


‫والقضاء واحد ل يتعدد ول يتجزء‪ .‬فالقاضي هــو كــل‬ ‫من يتولى القضــاء‪ .‬ول يوجــد فــي الســلم قــاض شــرعي‪،‬‬ ‫وقـاض نظـامي‪ ،‬فـذلك مـن مسـتحدثات الكفـر حيـن بسـط‬ ‫حكمه ونفوذه على بلد السلم؛ بل يوجد قاض يحكــم بيــن‬ ‫الناس بما أنزل ا حين يوكل إليه أمر القضاء‪.‬‬ ‫ولكن للقضاء ثلث جهــات‪ :‬إحــداها فــض المنامزعــات‬ ‫بوجه عام‪ ،‬في جميع شؤون الحياة‪ ،‬التي تقع بيــن متــداعيين‬ ‫أو متنامزعين‪ ،‬فيحسم بالحكم التداعي ويقطع التنامزع‪ ،‬وهــذه‬ ‫هــي صــلحية القاضــي‪ ،‬ســواء أكــانت هــذه المنامزعــات‬ ‫معاملت‪ ،‬أو عقوبات‪ ،‬أو أحوال شخصية‪.‬‬ ‫وثانيها النظر فيما يتعلق بالنظام العام‪ ،‬مما يســتدعي‬ ‫الفصل فيه السرعة والشدة‪ ،‬لمنع ما يضر حق الجماعة فــي‬ ‫المجتمع‪ ،‬وهو ما يطلق عليه اسم الحســبة‪ ،‬والمحتســب هــو‬ ‫قاض له صلحية القضاء واللزام في أمور الحسبة‪.‬‬ ‫وثالثها الفصل لرفع النزاع الواقع بين الناس والدولــة‪،‬‬ ‫أو أحد أفرادها أو موظفيها‪ ،‬فيما هو من أعمالهم‪ ،‬سواء في‬ ‫الحكم‪ ،‬أو الدارة‪ ،‬أو المال‪ ،‬أو أي شأن من شؤون أعمالهم‪.‬‬ ‫وقاضي هذا النــوع يطلــق عليــه اســم قاضــي المظــالم‪ ،‬ول‬ ‫يخرج القضاء عن هذه النواع الثلثة‪.‬‬ ‫مكانة القضاء‬ ‫‪101‬‬


‫للقضاء في السلم منزلة ســامية بيــن جميــع أعمــال‬ ‫الدولة‪ .‬وليس لحد ــ أيــا كــان ــ ســلطة علــى القاضــي فــي‬ ‫قضائه ‪ ,‬فليس لمجلــس الشــورى أو رئيــس الدولــة أو الهيئــة‬ ‫التنفيذيــة أو الجبــش أي ســلطان علــى القاضــي؛ بــل هــم‬ ‫خاضعون لحكمه ‪ ,‬منفذون له‪ .‬والقاضـي يحكـم بمـا يـوحيه‬ ‫إليه فهمه للحكم الشرعي وخوفه من ا؛ لن القضاء فهــم‬ ‫وتقــوى‪ .‬ول يتــأثر القضــاء بالسياســة ‪ ,‬ول بميــول الحكــام‪.‬‬ ‫ويعتــبر القضــاة مطلقــي التفكيــر والفهــم لحكــام اــ‪.‬‬ ‫وأحكامهم نافــذة علــى جميــع النــاس ‪ ,‬ل فــرق بيــن خليفــة‬ ‫ووالي ‪ ,‬وبين أي فرد من أفراد النــاس ‪ ,‬وقــد حفــظ التاريــخ‬ ‫آل ف القضايا التي أقامها أفراد من المواطنين مسلمين وغيــر‬ ‫مسلمين ضد الخليفــة أو معــاونه أو الــوالي ‪ ,‬وكــان القاضــي‬ ‫يحكم في القضية بالعدل ولو على الخليفة وكثير من القضايا‬ ‫حكم القضاة بها على الخلفاء‪.‬‬ ‫شروط القضاء‬ ‫يشترط في القاضي أن يكون مسلما ‪ ,‬بالغا ‪ ,‬عــاقل ‪,‬‬ ‫عــدل ‪ ,‬فقيهــا ‪ ,‬مــن أهــل العلــم ‪ ,‬فل تجــومز توليــة الجاهــل‬ ‫والفاسق والمجنون والصبي القضاء مطلقا ‪ ,‬ول تجومز توليــة‬ ‫غير المسلم القضاء بين أهل دينه فقط أي يحكم بينهـم فــي‬ ‫أحوالهم الشخصية دون غيرها‪.‬‬ ‫‪102‬‬


‫وأمــا اشــتراط أن يكــون القاضـي رجل ففيـه خل ف ‪,‬‬ ‫فالشــافعية يشــترطون فــي القاضــي أن يكــون رجل ‪ ,‬ول‬ ‫يجيزون تولية المرأة القضاء مطلقا‪ .‬والحنفية يجيــزون توليــة‬ ‫المــرأة القضــاء فــي غيــر حــد وقــود ‪ ,‬أي فــي غيــر الحــدود‬ ‫والجنايات‪ .‬وأجامز المام الطبري القضاء لها فــي كــل شــيء‪.‬‬ ‫والطـبري إمـام مجتهـد مـن الئمـة المجتهـدين كـأبي حنيفـة‬ ‫والشافعي‪ .‬وولى عمر بن الخطاب الشــفاء قاضــية للســوق‬ ‫في المدينة‪ .‬والذي يبدو من أدلة هؤلء الئمــة ‪ ,‬ومــن ســائر‬ ‫الدلة الشرعية أنه يجومز أن تكون المرأة قاضية في الحســبة‬ ‫‪ ,‬وفي فصل النزاع الواقــع بيــن النــاس‪ .‬ول يجــومز أن تكــون‬ ‫قاضية في محكمــة المظــالم؛ لن القضــاء الــذي هــو فصــل‬ ‫النزاع الواقع بين الناس ليس ولية ‪ ,‬وكــذلك ليســت الحســبة‬ ‫ولية‪ .‬بخل ف محكمة المظالم فإن فيها ولية أي حكما؛ لنها‬ ‫ترفع النزاع الواقع بين الناس والدولة ‪ ,‬وتفصــل فــي معنــى‬ ‫نص من نصوص التشريع ‪ ,‬وذلك حكم‪ .‬والمــرأة ل يجــومز أن‬ ‫تتولى الحكم‪.‬‬ ‫وأما حديث ) ما أفلح قوم ولوا أمرهــم امــرأة ( وهــو‬ ‫الــذي يســتند إليــه الشــافعية وغيرهـم فــي منــع المــرأة مــن‬ ‫القضاء‪ .‬فإن المراد منه الولية أي الحكم ل القضاء‪ .‬وهنالك‬ ‫فرق بين القضاء والحكم؛ فالقضاء هو الخبــار عــن الحكــم‬ ‫‪103‬‬


‫الشرعي في النزاع الواقع بين النــاس علــى ســبيل اللــزام ‪,‬‬ ‫والحكم هو تنفيذ الحكام الشرعية عليهم أي تطبيق السلم‬ ‫على الناس‪.‬‬ ‫تعيين القضاة‬ ‫يعين القاضي ويعزل وينقـل مـن قبـل رئيـس الدولـة‬ ‫مباشرة‪ .‬وهو صاحب الصلحية في ذلك‪ .‬ونظــرا لن أعمــال‬ ‫رئيس الدولــة كــثيرة فلــه أن ينيــب عنــه شخصــا هــو قاضــي‬ ‫القضاة‪ .‬ويشترط فيه أن يكون رجل مســلما عــدل مــن أهــل‬ ‫الفقه‪ .‬وتكون له صــلحية تعييــن القضــاة وترقيتهــم ونقلهــم‬ ‫وتأديبهم وعزلهم‪.‬‬ ‫وأما الشرا ف على إدارة المحاكم من الناحية الدارية‬ ‫والمالية في كافة الشؤون غير القضـائية مثـل تعييـن الكتـاب‬ ‫والموظفين ونقلهم وغير ذلك فهي لمدير الدائرة التي تتــولى‬ ‫إدارة شؤون المحاكم؛ لنها ل تتعلق بالقاضــي ول بالقضــاء‪.‬‬ ‫بل هي مــن الدارة‪ .‬وأمــا تعييــن القضــاة وعزلهـم وكــل مــا‬ ‫يتعلق بالقضاة ‪ ,‬فهو من الحكم وليس من الدارة؛ لنه جزء‬ ‫من أجزاء الحكم؛ فيكون تعيين قاضي القضاة وعزله وكافة‬ ‫ما يتعلق به من الحكم‪ .‬ومن هنا جعل قاضي القضاة متصل‬ ‫بأمير المؤمنين مباشرة ‪ ,‬مثل أعضاء الهيئة التنفيذية والــولة‪.‬‬ ‫فقد كان الرســول صــلى ا ـ عليــه وســلم يمــارس القضــاء‬ ‫‪104‬‬


‫بنفسه ‪ ,‬كما كان يوليه غيــره ‪ ,‬فقــد قضــى بيــن النــاس فــي‬ ‫المدينة ‪ ,‬وولى معاذ بن جبل واليا على اليمــن وقاضــيا فيهــا‪:‬‬ ‫وكان الرسول يمارس القضاء بوصفه قاضيا يحكم بناء على‬ ‫البينة ‪ ,‬ل بوصفه نبيا يحكم بوحي يوحى إليه‪ .‬وكانت مباشرته‬ ‫للقضاء وتعيينه للقضاة عمل من أعماله كرئيس للدولة‪ .‬وقــد‬ ‫حرص صلى ا عليه وسلم على التنــبيه علــى هــذه الناحيــة‬ ‫فقــال‪ " :‬إنكــم لتختصــمون إلــي ‪ ,‬ولعــل بعضــكم أن يكــون‬ ‫ألحن بحجته من بعض ‪ ,‬فأقضي له على نحو مما أسمع منه‬ ‫فمن قطعت له من حق أخيه شيئا فل يأخــذه ‪ ,‬فإنمــا أقطــع‬ ‫له قطعة من النار "‪.‬‬ ‫وقد كان الخليفة هو الذي يعين القضاة في الوليات‪،‬‬ ‫فقد ولى عمر بن الخطاب أبا الــدرداء قضــاء المدينــة وولــى‬ ‫شريح بن الحارث قضاء الكوفة‪ ،‬وولى أبا موســى الشــعري‬ ‫قضاء البصرة‪ ،‬وولى عثمان بن قيس بن أبي العاص قضــاء‬ ‫مصر‪ .‬وظــل القضــاة متصــلين بالخليفــة مباشــرة حــتى أيــام‬ ‫العباسيين‪ ،‬فاتخذ هارون الرشــيد نائبــا عنــه ليــولي القضــاة‪.‬‬ ‫وأول من ولي هـذا العمــل المـام أبـو يوســف صــاحب أبـي‬ ‫حنيفة‪ .‬ومنذ ذلك الحين صار قاضي القضاة هــو الــذي يعيــن‬ ‫القضاة ويعزلهم وينقلهم‪ .‬وفي أواخر أيام العباســيين جعــل‬ ‫الخليفة لقاضي القضاة أن ينيب عنه في المكنة البعيدة مــن‬ ‫‪105‬‬


‫يقوم بأعماله في أمور القضاة؛ فقد عين الخليفة المسترشــد‬ ‫بالله علي بن الحسين الزينبي وكتــب لــه كتابــا مطــول بــذلك‪،‬‬ ‫وأمره في الكتاب أن يستخلف على ما نأى عنه في البلد‪.‬‬ ‫الشتراك في القضاء‬ ‫الصل في القضـاء انـه قضـاء منفـرد‪ ،‬فيعيـن قـاض‬ ‫واحد للفصل في الخصومات‪ .‬ويعين لكل مدينة قاض واحــد‬ ‫أو قضاة متعــددون ولكــن يجلــس كــل واحــد منهــم للقضــاء‬ ‫منفردا‪ ،‬وينظر في القضايا التي تقدم إليــه‪ .‬ويجــومز أن يعيــن‬ ‫عدة قضاة في البلد الواحد ينظرون في عــدة قضــايا ويجــومز‬ ‫أن يخصص كل قاض في محلة منها ل يحكم إل في محلتــه‪.‬‬ ‫وللمــدعي أن يختــار القاضــي الــذي يحــاكم أمــامه‪ ،‬وليــس‬ ‫للمدعى عليه ذلك إذا كــان فــي البلــد عــدة قضــاة‪ ،‬وإذا كــان‬ ‫القاضي واحدا أو مختصا في محلة فقاضــي بلــد المــدعي أو‬ ‫محلته هو القاضي المختص‪ .‬وهذا النفراد بالقضاء هو فــي‬ ‫القضايا العادية‪ .‬أما القضــايا الهامــة فتشــكل فيهــا المحكمــة‬ ‫أكثر من قاض واحـد؛ لن المناقشـة فـي الـرأي توضـح حـل‬ ‫المشــكلة أكــثر مــن النفــراد‪ .‬ويجــومز أن يخصــص القاضــي‬ ‫المنفرد بأقضية معينة إلى حد معين‪ ،‬ويوكــل أمــر غيــر هــذه‬ ‫القضايا إلى محاكم مؤلفة من عدة قضــاة‪ .‬ومــن هنــا يجــومز‬ ‫تعدد درجات المحاكم بالنسبة لنواع القضايا‪.‬‬ ‫‪106‬‬


‫جاء في كتاب القضاء لبن الجومزي " لــم يشــرك فــي‬ ‫القضاء بين أحد قط إل بين عبد ا بن الحسن العنبري وبين‬ ‫عمر بن عامر على قضاء البصرة‪ .‬وكانا يجتمعان جميعا فــي‬ ‫المجلــس وينظــران جميعــا بيــن النــاس " ونقــل عــن كتــاب‬ ‫مسالك البصار أن بعض الخصومات الهامة في مزمن ما‪ ،‬كان‬ ‫ينظر فيها قضاة المذاهب الربعة مجتمعيــن؛ فقــد قــال ابــن‬ ‫العمري فــي كلمــه فــي صــفة مســجد دمشــق‪ ،‬وهــو يعــدد‬ ‫المواضع التي فيه‪ ،‬ما يأتي‪ " :‬وبهــذا المشــهد تعقــد مجــالس‬ ‫الحكام الربعــة والعلمــاء لفصــل القضــايا المعضــلة الــتي ل‬ ‫ينفرد بها حاكم‪ ،‬فيجتمعون بأمر نائب السلطان وينظرون في‬ ‫تلك الحكومة ويحكمون فيها بأجمعهم " ونقل الماوردي عن‬ ‫أبي عبد ا الزبيري أنه قال‪ " :‬لم تزل المراء عندنا بالبصرة‬ ‫برهة من الــدهر يستقضــون قاضــيا علــى المســجد الجــامع‪،‬‬ ‫يسمونه قاض المسجد‪ ،‬يحكم فــي مــائتي درهــم وعشــرين‬ ‫دينارا فما دونها‪ ،‬ويفرض النفقات ول يتعدى موضــعه ول مــا‬ ‫قدر له "‪.‬‬ ‫وعلى كل فكون القاضي منفردا أو متعددا ليــس مــن‬ ‫وجهة النظر‪ ،‬ول من الطريقــة‪ ،‬بــل هــو مــن الســلوب الــذي‬ ‫يعينه نوع العمل‪ ،‬على أن فيما ذكر من النقول المتقدمــة مــا‬

‫‪107‬‬


‫يؤنس بجوامز التعدد وجوامز التخصيص بأقضية معينة إلى حــد‬ ‫معين‪ ،‬فيجومز العمل به‪.‬‬ ‫المحتسب‬ ‫المحتسب هو القاضي الذي ينظر في المســائل الــتي‬ ‫تضر حق الجماعة‪ ،‬وتحتاج إلى سرعة الفصل‪ ،‬والشدة علــى‬ ‫المقتضى عليهم‪ ،‬والتنفيذ العاجل‪ .‬وهــذا فــي كافــة القضــايا‬ ‫التي هي حقوق عامة‪ ،‬ل يوجد فيها مــدع‪ ،‬علــى أن ل تكــون‬ ‫داخلة في الحدود أو الجنايــات ومــا شــابهها‪ .‬وبعبــارة أخــرى‬ ‫المحتسب هو قاضــي المخالفــات الـتي يحصــل فيهــا اعتــداء‬ ‫على الحق العام‪ .‬ويملــك المحتســب الحكــم فــي المخالفــة‪،‬‬ ‫وتنفذ الشرطة هذا الحكم في الحال‪ .‬ومن هنا كانت العبــاء‬ ‫التي يقوم بها المحتسب كــثيرة‪ .‬ويتعــدد قضــاة الحســبة فــي‬ ‫البلد الواحد حسب الحاجة‪ .‬وللمحتسب حق اختيار نواب عنــه‬ ‫يومزعهم في الجهات المختلفة‪ .‬وتكون لهؤلء النواب صــلحية‬ ‫القيام بوظيفة الحسبة في المنطقة أو المحلة التي عينت لهم‬ ‫في القضايا التي فوضــوا فيهــا‪ .‬ويجعــل تحــت يــد المحتســب‬ ‫عدد من الشرطة لتنفيذ أوامره وأحكــامه‪ ،‬كمـا يجعـل لنــواب‬ ‫المحتسب الحق في أن يستعينوا بالشرطة لتنفيــذ أحكــامهم‪.‬‬ ‫وللمحتسب الحــق أن يحكــم بــالتغريم‪ ،‬والضــرب‪ ،‬والحبــس‪،‬‬ ‫والنفي‪ ،‬وما شابه ذلك‪ .‬وله اتل ف البضائع الفاســدة‪ ،‬وإراقــة‬ ‫‪108‬‬


‫الســوائل‪ ،‬كــالخمور واللبــن المغشــوش‪ ،‬وللمحتســب حــق‬ ‫الفصل في أمـور الحسـبة فـي دار الحسـبة أي فـي محكمـة‬ ‫الحسبة‪ ،‬وفي خارجها‪ ،‬وله حق الطوا ف في البلد‪ ،‬أو المحلـة‬ ‫التي خصــص بهــا‪ ،‬أو خصــص بهــا نــوابه‪ .‬ولــه ولنــوابه حــق‬ ‫المراقبة في المور الظــاهرة‪ ،‬ولكنــه ل يجــومز لــه مطلقــا أن‬ ‫يتجسس على النــاس‪ ،‬ويتتبــع عـوراتهم‪ ،‬ول أن يقتحـم علــى‬ ‫أصحاب الدور دورهم ليحاسبهم على ما يصــنعون فيهــا ســرا‬ ‫ول يتسقط هفواتهم ليحاسبهم عليها‪ ،‬بل عليه أن يتولى المر‬ ‫الظــاهر‪ ،‬وأن يحاســب علــى مــا يــرى ويشــاهد مــن المــور‬ ‫الظاهرة‪.‬‬ ‫صفات المحتسب‬ ‫يشترط في المحتسب أن يكون مسلما عدل من أهــل‬ ‫الفقه‪ .‬غير أنه لما كان منصب المحتســب حساســا جــدا؛ لنــه‬ ‫يتعلق بالمور العامة فمن المستحسن أن تكــون لــه صــفات‬ ‫كماليــة تمكنــه مــن اتقــان عملــه؛ لن المحتســب يتعــرض‬ ‫للرشــوات والمغريــات‪ ،‬وتبــذل لــه الشــفاعات المســموعة‬ ‫لسكوته أو تغاضيه‪ ،‬وقد يهدد من قبل القادرين على التهديد‪.‬‬ ‫ولهــذا يستحســن أن يكــون المحتســب عالمــا‪ ،‬خــبيرا‪ ،‬نزيهــا‪،‬‬ ‫عفيفا‪ ،‬نشيطا‪ ،‬قويا‪ ،‬لين القــول‪ ،‬رقيقــا‪ ،‬جريئــا‪ ،‬مهيبــا‪ ،‬يقــول‬ ‫السقطي في كتابه آداب الحسبة " يجب أن يكــون مــن ولــي‬ ‫‪109‬‬


‫النظر في الحسبة فقيها فــي الــدين‪ ،‬قائمــا مــع الحــق‪ ،‬نزيــه‬ ‫النفس‪ ،‬عالي الهمة‪ ،‬معلوم العدالــة‪ ،‬ذا أنــاة وحلــم‪ ،‬وتيقــظ‬ ‫وفهم‪ ،‬عارفا بجزيئات المور‪ ،‬وسياسة الجمهــور‪ ،‬ل يســتخفه‬ ‫طمع‪ ،‬ول تلحقه هوادة‪ ،‬ول تأخذه فــي اـ لومــة لئـم‪ ،‬مـع‬ ‫مهابة تمنع الدلل عليه‪ ،‬وترهب الجاني لديه " ومع كل هــذه‬ ‫الشروط فل تشترط الذكورة في قاضــي الحســبة‪ ،‬لن عمــر‬ ‫بن الخطاب ولى إمرأة وهــي الشــفاء قضــاء الحســبة‪ .‬قــال‬ ‫المام ابن حزم في المحلى ما نصه‪ 1800 " :‬مسألة‪ .‬وجــائز‬ ‫أن تلي المرأة الحكم ) القضاء ( وهو قول أبي حنيفــة‪ .‬وقــد‬ ‫روي عن عمر بن الخطاب أنه ولى الشفاء ) إمراة من قومه‬ ‫( السوق ) أي قضــاء الحســبة ( فــإن قيــل قــال رســول اـ‬ ‫صلى ا عليه وسلم لن يفلح قوم اسندوا أمرهم إلى امرأة‪،‬‬ ‫قلنا إنما قال ذلك رسول ا صلى ا عليه وسلم فــي المــر‬ ‫العــام الــذي هــو الخلفــة‪ .‬برهــان ذلــك قــوله عليــه الصــلة‬ ‫والسلم ) المرأة راعية على مال مزوجها وهي مســؤولة عــن‬ ‫رعيتها ( وقد أجامز المالكيون أن تكون وصية ووكيلة ولم يــأت‬ ‫نص من منعها أن تلي بعض المور " أ هـ‪.‬‬ ‫صلحيات المحتسب‬ ‫للمحتسب صلحية المراقبة والحكم والتنفيذ‪ ،‬وتتنــاول‬ ‫صلحيته ما يلي‪:‬‬ ‫‪110‬‬


‫‪ 1‬ــ الشــرا ف علــى نظــام الســواق‪ ،‬والحيلولــة دون‬ ‫بــرومز الحــوانيت‪ ،‬ممــا يعــوق نظــام المــرور‪ ،‬والكشــف علــى‬ ‫الموامزين والمكاييل‪ ،‬وتفــتيش الفــران والمطـاعم والفنـادق‬ ‫والمقاهي وسائر المكنة العامة‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـــ المحافظــة علــى حركــة المــرور فــي الشــوارع‬ ‫والطرقات‪ ،‬ومنع رؤساء المراكب البحرية وأصحاب المركبات‬ ‫والسيارات أن يحملوا أكثر مما يجب حمله من الناس والسلع‪،‬‬ ‫وحفظ حركة السير‪.‬‬ ‫‪ 3‬ـ منع المنكر‪ ،‬والمحافظة على الداب العامة‪ ،‬ومنــع‬ ‫معلمي المدارس من ضرب الصغار ضربا مبرحا‪.‬‬ ‫‪ 4‬ـ مراقبة العبادات؛ فإن المحتســب يأخــذ المســلمين‬ ‫بصلة الجمعة والعيدين‪ ،‬ويمنعهم من الفطار في رمضــان‪،‬‬ ‫ويراقب المساجد ليمنــع التشــويش فيهــا‪ ،‬ويمنــع البــدع الــتي‬ ‫اتفــق المســلمون علــى كونهــا بــدعا‪ ،‬ويمنــع المحتســب مــن‬ ‫التنطــع‪ ،‬ول يتعــرض إل للمــور الجوهريــة الــتي تخــل فــي‬ ‫الحكام الشرعية‪.‬‬ ‫منصب المحتسب‬ ‫عر ف الفقهاء الحسبة بأنها أمر بالمعرو ف ونهي عــن‬ ‫المكنر‪ .‬وصنفوا وظائف المحتسب بأن منها ما يتعلق بحقوق‬ ‫اــ‪ ،‬ومنهــا مــا يتعلــق بحقــوق الدمييــن‪ ،‬ومنهــا مــا يتعلــق‬ ‫‪111‬‬


‫بالحقوق المشتركة بين اـ والدمييــن‪ .‬وذكــرت كتــب الفقــه‬ ‫للمحتسب أعمــال كـثيرة تتعلــق بهــذه المـور الثلثـة‪ .‬ويعتــبر‬ ‫نظام الحسبة موجودا منذ عهد النبي صلى ا ـ عليــه وســلم؛‬ ‫فقد قــال‪ ) :‬ليــس منــا مــن غــش ( وروي أنــه عليــه الســلم‬ ‫تعرض للغشاش فزجرهم‪ .‬وكان عمر بــن الخطــاب يقضــي‬ ‫حسب نظام الحسبة‪ ،‬لنــه كــان يطــو ف الشــوارع والســواق‬ ‫و ِدّرته معه‪ ،‬فمتى رأى غشاشا خفقه بهــا مهمــا يكــن شــأنه‪،‬‬ ‫وربما أتلف بضــاعته‪ .‬وقـد روي عنـه أنـه كــان يضــرب جمـال‬ ‫ويقول له‪ ) :‬حملت جملــك مــا ل يطيــق (‪ .‬وضــرب رجل فــي‬ ‫الطريق لنه وقف في منتصف الطريق ومنع المرور‪ .‬ثم جاء‬ ‫الخلفاء بعده يعاقبون الغاش‪.‬‬ ‫إل أن الحسبة لم تأخذ شكلها التنظيمي إل فــي أوائــل‬ ‫عهد العباسيين؛ فقد ولى المنصور أبا مزكريــا‪ :‬يحيــى بــن عبــد‬ ‫ا ـ حســبة بغــداد ســنة ‪157‬هـــ‪ .‬ثــم جــاء الرشــيد وعيــن‬ ‫المحتسب‪.‬‬ ‫جاء في كتاب حضارة السلم في دار الســلم‪ " :‬لمــا‬ ‫اتسع نطاق التجارة في بغداد‪ ،‬وأصبحت موردا لهل العوامز‬ ‫من كافة البلد‪ ،‬يتناولون فيها حاجاتهم من المال‪ ،‬وقع غــش‬ ‫فاحش في التجارة‪ ،‬وصارت الصيار ف مــن اليهــود وغيرهــم‬ ‫يعطون مالهم بالربا على أن يعاد عليهم المثل في آخر العام‬ ‫‪112‬‬


‫مثليــن وأكــثر‪ .‬فأقــام الرشــيد محتســبا يطــو ف بالســواق‪،‬‬ ‫ويفحص الومزان والمكاييل من الغش‪.‬‬ ‫وفي ايام المهدي أخذت شــكلها التنظيمــي الــدائم؛ إذ‬ ‫جعلها المهدي مخصصـة‪ ،‬وعيـن لهـا المحتسـب‪ ،‬وظلـت مـن‬ ‫جملة التشكيلت فيما بعد؛ جاء في كتاب التمــدن الســلمي‪:‬‬ ‫" الحسبة‪ .‬كان الموظف الذي يشــغل هــذا المنصــب يســمى‬ ‫المحتسب‪ .‬وهي وظيفة أنشــأها المهــدي وظلــت مــن جملــة‬ ‫التشكيلت التي أخذت بها الممالك السلمية فيما بعد‪ .‬وكــان‬ ‫يضــطلع المحتســب بمراقبــة الســواق‪ ،‬وحمــل النــاس علــى‬ ‫المحافظة على الداب‪ ،‬كما يطو ف مع توابعه فــي الشــوارع‬ ‫ليل ونهــارا للتأكــد مــن تنفيــذ تعليمــات الشــرطة‪ ،‬والمــر‬ ‫بالمعرو ف والنهي عن المنكر‪ ،‬ومعاقبــة مــن يحــاول الغــش‬ ‫في المقاييس والمكاييل والموامزين‪.‬‬ ‫محكمة المظالم‬ ‫ينظــر قاضــي الفصــل فــي الخصــومات فــي جميــع‬ ‫القضايا من غير استثناء‪ ،‬ضد جميع الشخاص‪ ،‬إذا كانت هذه‬ ‫القضايا تتعلق بهؤلء الشخاص أنفسهم‪ .‬أمــا القضــايا الــتي‬ ‫تتعلق بأعمال الشخاص الرسميين كرئيس الدولة‪ ،‬وأعضــاء‬ ‫الهيئـــة التنفيذيـــة‪ ،‬والـــولة‪ ،‬وأعضـــاء مجلـــس الشـــورى‪،‬‬ ‫والموظفين‪ ،‬فــإن الــذي ينظــر فيهــا قاضــي المظــالم‪ .‬وهــو‬ ‫‪113‬‬


‫قاض ينصب لرفع كل مظلمة تحصــل علــى أي مــواطن مــن‬ ‫الدولة أو أحد موظفيها‪ ،‬أو لبيان معنــى نــص مــن النصــوص‬ ‫الشرعية‪ ،‬أو نصوص التشريع‪ .‬ويشترط في قضــاة المظــالم‬ ‫أن يكونوا رجال مسلمين عــدول مـن أهـل الفقـه والجتهـاد‪.‬‬ ‫ويتحرى أن يكونوا من أكثر القضاة علما وفهما وتقوى؛ لنهم‬ ‫يتولون أعلى محكمة في الدولة‪.‬‬ ‫صلحيات محكمة المظالم‬ ‫تتألف محكمة المظالم من عدة قضاة؛ لنها تنظر في‬ ‫المور الهامة‪ ،‬ويعين عددهم حســب الحاجــة‪ ،‬ولهــا صــلحية‬ ‫النظر والفصل في المور التية‪:‬‬ ‫‪ 1‬ـ القضايا التي يقيمها الفراد والجماعات من جميــع‬ ‫المواطنين ضد رئيس الدولــة‪ ،‬أو الهيئــة التنفيذيــة‪ ،‬أو أعضــاء‬ ‫مجلــس الشــورى‪ ،‬أو الــولة‪ ،‬أو أي موظــف مــن مــوظفي‬ ‫الدولة‪ ،‬إذا كانت هذه القضايا تتعلق بأعمالهم في الدولة‪ .‬أما‬ ‫إذا كانت تتعلق بأشخاصهم بوصفهم الشخصــي فتقــام أمــام‬ ‫المحاكم القضائية الخرى‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـــ رواتــب المــوظفين‪ ،‬وأجــور العمــال‪ ،‬وتقــدير‬ ‫العمال‪ ،‬وأمور الضرائب‪.‬‬ ‫‪ 3‬ـ الفصل في معنى نص من نصوص التشــريع فــي‬ ‫الدستور‪ ،‬وفــي كــون الدســتور إســلميا أي أحكامــا شــرعية‪،‬‬ ‫‪114‬‬


‫وفي دستورية القــوانين إذ لهــا صــلحية الغــائه‪ ،‬أو إلغــاء أي‬ ‫مادة منه‪ ،‬إذا كانت مخالفة للشرع‪ ،‬لكــن إذا موافقــا للشــرع‪،‬‬ ‫وتبنــت الدولــة أحكامــا معينــة ضــمنتها مــواده لقــوة الــدليل‬ ‫ولقتضاء المصلحة‪ ،‬فإن محكمة المظالم ـ والحالــة هــذه ـ ـ‬ ‫كسائر المحاكم‪ ،‬تتقيد بالحكام الشرعية التي تختارها الدولة‬ ‫وتتبناها؛ لن القاعدة الشرعية " إن أمر المــام ينفــذ ظــاهرا‬ ‫وباطنا "‪ .‬والقاعدة كذلك ) أمر المام يرفع الخل ف (‪.‬‬ ‫‪ 4‬ـ الفصل في مخالفـة رئيـس الدولـة للشـرع‪ ،‬وفـي‬ ‫تطبيقه الحكام الشرعية أو عدم حمله للدعوة الســلمية‪ ،‬أو‬ ‫إهماله لمور المة‪ ،‬أو عجزه عن القيام بأعباء الحكــم؛ فلهــا‬ ‫محاكمته‪ ،‬ولها صــلحية عزلــه إذا كــان عملــه يقتضــي عزلــه؛‬ ‫لنها هي التي تفصل فيما يوجب عزلــه مــن العمــال ومــا ل‬ ‫يوجبه‪ .‬وتسمع الدعوى من أي واحد من المسلمين‪.‬‬ ‫هــذه المــور الربعــة هــي مــن صــلحيات محكمــة‬ ‫المظالم‪ .‬وقد ذكر الماوردي في كتابه ) الحكام السلطانية (‬ ‫الــذي يبحــث فــي نظــام الحكــم فــي الســلم‪ ،‬إن لمحكمــة‬ ‫المظالم النظر في عشرة أشياء‪ .‬وكلها ل تخــرج عــن المــور‬ ‫الثلثة الولــى‪ .‬وكــذلك مــا ذكــره الفقهــاء‪ .‬أمــا المــر الرابــع‬ ‫المتعلق بعزل رئيس الدولة فلم يذكره الفقهاء؛ لن الخليفــة‬ ‫كان هو الذي يتولى محكمة المظالم فــي الصــدر الول مــن‬ ‫‪115‬‬


‫الدولــة الســلمية‪ ،‬وحينمــا فصــلت محكمــة المظــالم كــانت‬ ‫المؤآمرات السياسية تسبب غالبا عزل الخليفــة‪ .‬والظــاهر أن‬ ‫هذا من السباب التي جعلت الفقهاء يبتعدون عــن التعــرض‬ ‫لبحثه حين بحث محكمة المظالم‪ ،‬ولكنهم أي الفقهــاء نصــوا‬ ‫بصراحة على أن الخليفة إذا أخل بشرع ا اســتحق العــزل‪،‬‬ ‫والحديث الشريف صــريح‪ " :‬ل طاعــة لمخلــوق فــي معصــية‬ ‫الخالق " وأبو بكر فهم ذلك فقال‪ ) :‬اطيعوني ما اطعت اــ‬ ‫فإذا عصيت ا فل طاعة لي عليكم (‪.‬‬ ‫ول خل ف في أن الخليفة إذا أخل بشرع اـ اســتحق‬ ‫العزل‪ .‬أما إن محكمة المظالم هــي صــاحبة الصــلحية فــي‬ ‫ذلك فهو صريح في الية قال تعالى‪ " :‬يا أيها الذين آمنوا‬ ‫أطيعوا ا وأطيعوا الرسول وألي المر منكم " ثم‬ ‫أتم الية بقوله‪ " :‬فإن تنامزعتم في شيء فردوه إلى‬ ‫ا والرسول " وليس المراد هنا تنامزع أفراد المة مع‬ ‫بعضهم بل المراد تنامزع المؤمنين مع أولي المر‪ ،‬أي أطيعــوا‬ ‫أولي المر منكم‪ ،‬فإن تنامزعتم معهم في شيء فــردوه إلــى‬ ‫قضاء ا ورسوله‪ ،‬ليعطي الحكــم فيــه؛ لن معنــا رده إلــى‬ ‫ا والرسول‪ ،‬رده إلى حكم ا ورسوله‪ ،‬الــذي يفصــل فيــه‬ ‫القضاء‪ .‬ومحكمة المظالم هــي أعلــى هيئــة قضــائية‪ ،‬فهــي‬ ‫التي تفصل فــي أمــر ولــي المــر‪ ،‬وهــو رئيــس الدولــة‪ ،‬وأي‬ ‫‪116‬‬


‫حاكم يعينه ‪ ,‬ولها صلحية إصدار الحكم عليه كما هو صــريح‬ ‫الية‪ ،‬والحكم عليه يشـمل الحكــم بعزلــه‪ ،‬واتبـاع حكـم اـ‬ ‫واجب على الخليفة وعلى غيره وعليهم تنفيذه‪.‬‬ ‫تعيين قضاة المظالم وعزلهم‬ ‫قضاة محكمة المظالم من حيث تعيينهم‪ ،‬كباقي‬ ‫القضاة‪ ،‬يعينهم قاضي القضاة‪ .‬كما أن لرئيس الدولة‬ ‫صلحية تعيينهم‪ .‬أما عزلهم فهو ليس من صلحية رئيس‬ ‫الدولة‪ ،‬ول من صلحية قاضي القضاة بل هو من صلحية‬ ‫محكمة المظالم نفسها‪ ،‬فإذا أتهم قاض أو أكثر من قضاة أو‬ ‫أكثر من قضاة محكمة المظالم‪ ،‬في أمر من أمور عمله أو‬ ‫في تصر ف من تصرفاته بوصفه قاضيا في محكمة المظالم‪،‬‬ ‫يرفع المر إلى محكمة المظالم نفسها‪ ،‬فتعقد جلسة ل‬ ‫يكون فيها القاضي المتهم أو القضاة المتهمون‪ ،‬وينظر‬ ‫القضاة غير المتهمين في أمر التهام‪ ،‬ويحاكمون القاضي أو‬ ‫القضاة المتهمين‪ ،‬ويصدرون حكمهم عليهم‪ .‬وإن ثبت أنهم‬ ‫يستحقون العزل يصدرون الحكم بعزلهم‪ .‬وإذن فصلحية‬ ‫عزل قاضي المظالم هي لمحكمة المظالم‪ ،‬وليست للخليفة‬ ‫ول لقاضي القضاة‪.‬‬ ‫والحكم في عدم وجود صلحية لرئيس الدولة‬ ‫وقاضي القضاة في عزل قضاة المظالم‪ ،‬وجعل هذه‬ ‫‪117‬‬


‫الصلحية لمحكمة المظالم نفسها‪ ،‬يستنبط استنباطا من باب‬ ‫سد الذرائع‪ ،‬الذي يجعل الوسيلة إلى الحرام حراما‪ ،‬والوسيلة‬ ‫إلى الواجب واجبة‪.‬‬ ‫والظاهر من الواقع التاريخي أن الذي كان يجري‬ ‫عليه العمل هو أن للخليفة أو لقاضي القضاة عزل قضاة‬ ‫محكمة المظالم‪ ،‬وإن كان ل يوجد نص يجعل لهما حق‬ ‫العزل‪ ،‬لكن الذي يبدو من التدقيق أن ليكون لرئيس الدولة‬ ‫هذه الصلحية‪ ،‬وكذلك ل تكون لقاضي القضاة‪.‬‬ ‫وذلك أنه لما كانت لمحكمة المظالم صلحية عزل‬ ‫رئيس الدولة‪ ،‬كان لزاما أن ل تكون لرئيس الدولة صلحية‬ ‫عزلها‪ ،‬لئل تؤدي هذه الصلحيات إلى عزلها من قبله في‬ ‫حالة تحققه عزله من قبلها‪ ،‬ولما كان عزلها في هذه الحال‬ ‫حراما‪ ،‬كانت الوسيلة إلى ذلك ) وهي إعطاؤه حق عزلها (‬ ‫حراما‪ ،‬من باب سد الذرائع‪ ،‬الذي يقضي بإعطاء الوسيلة‬ ‫حكم الغاية‪ ،‬ويجعل الوسيلة إلى الحرام حراما‪ ،‬والوسيلة‬ ‫إلى الواجب واجبة‪ ،‬لن الصل في هذا الباب هو النظر في‬ ‫مآلت الفعال‪ ،‬وما تنتهي في جملتها إليه‪ ،‬فإنها إن كانت‬ ‫مآلتها تتجه نحو المفاسد كانت محرمة بما يتناسب مع تحريم‬ ‫المفاسد‪ .‬ولما كان إعطاء رئيس الدولة صلحية عزل‬ ‫محكمة المظالم يؤدي إلى مفسدة كان ذلك ممنوعا‪ ،‬ولهذا‬ ‫‪118‬‬


‫فل صلحية لرئيس الدولة في عزل محكمة المظالم ول أحد‬ ‫أعضائها مطلقا؛ لما يؤدي ذلك إليه من المفاسد‪ ،‬وتكون‬ ‫صلحية عزل أعضائها لمحكمة المظالم نفسها‪ ،‬تقرره‬ ‫حسب الشرع في حكم شرعي‪ ،‬كما تعزل رئيس الدولة‪ .‬ول‬ ‫يقال إذا اتهم جميع أعضاء محكمة المظالم من الذي‬ ‫يحاكمهم ويعزلهم‪ :‬لن هذا فرض نظري‪ ،‬ل يوجد‪ ،‬ول‬ ‫يحصل؛ لنه إذا أجمع أعضاء أعلى مركز قضائي على‬ ‫الفساد تكون المة كلها قد نخرها سوس الفساد‪ ،‬واحتاجت‬ ‫إلى عملية فكرية شاملة لتصلح من جذورها‪ ،‬حتى يحصل‬ ‫التغيير لجهامزها جميعه‪.‬‬ ‫إنشاء محكمة المظالم‬ ‫المظالم جمع مظلمة‪ .‬وسميت محكمة المظالم بذلك‬ ‫لنها تنظر في مظالم الناس وإمزالة أسبابها‪ .‬وظلمات الناس‬ ‫تأتي إما من الدولة نفسها‪ :‬من رئيسها أو أي واحد من جهامز‬ ‫الحكم‪ ،‬وإما من ظلم أفراد‪ .‬أما ظلم الرعية فالصل في‬ ‫الدولة أن تزيل أسبابه‪ ،‬وأن تقيم العدل بين الناس‪ .‬وأما‬ ‫ظلم الولة وأعضاء الهيئة التنفيذية وسائر الرجال الذين في‬ ‫جهامز الحكم فالصل فيه أن يزيله رئيس الدولة‪ ،‬الذي هو‬ ‫ولي المر‪ ،‬ويرجع الحق لهله‪ .‬ولكن إذا كان رئيس الدولة‬ ‫لم يزل المظلمة‪ ،‬أو كانت المظلمة آتية منه‪ ،‬فإن شرع ا‬ ‫‪119‬‬


‫الذي له وحده السيادة هو الذي يزيله‪ .‬ووسيلة ذلك هي‬ ‫محكمة المظالم وهي أعلى هيئة قضائية في الدولة كما مر‬ ‫استنباط ذلك من الية الكريمة ) يا أيها الذين آمنوا‬ ‫أطيعوا ا وأطيعوا الرسول‪.( ...‬‬ ‫وقد كان الخلفاء الولون هم الذين ينظرون في‬ ‫قضايا المظالم متى رفعت إليهم؛ فقد كان علي رضي ا‬ ‫عنه يجلس للفصل في قضايا المظالم‪ ،‬ينظر القضايا التي‬ ‫يقدمها المتظلمون‪ ،‬ويعمل على إنصافهم‪ .‬ولم يعين يوما‬ ‫مخصوصا ول ساعة معينة لسماع المظالم‪ ،‬بل كان ينظر في‬ ‫شكاية المتظلم في كل وقت يأتيه‪ ،‬ويعمل على إنصافه في‬ ‫الحال‪ .‬وكان عبد الملك بن مروان يجلس للنظر في قضايا‬ ‫المظالم‪ .‬وقد أفرد يوما معينا يجلس فيه لينظر في قضايا‬ ‫المظالم‪ ،‬ويفصل فيها‪ ،‬ويرفع الظلمات عن الناس‪ .‬وكان‬ ‫يأخذ رأي قاضيه ابن إدريس المزدي فيما يستعصي عليه من‬ ‫المشكلت‪ .‬ثم عينه قاضيا للمظالم‪ ،‬وصار يحيل المشكلت‬ ‫إليه ليحكم بها‪ .‬وانفرد قاضي المظالم عن الخليفة‪ .‬فكان‬ ‫ابن إدريس المزدي أول قاض للمظالم‪ ،‬في عهد عبد الملك‬ ‫بن مروان‪ ،‬وفي أيام العباسيين عني المهدي عناية فائقة‬ ‫بالمظالم‪ .‬وفي أواسط العهد العباسي كان الخلفاء‬ ‫يفوضون النظر في المظالم إلى شخص معين وهو قاضي‬ ‫‪120‬‬


‫المظالم‪ ،‬ينظر فيها منفردا عن الخليفة‪ .‬وكان يجلس معه‬ ‫القضاة والحكام للستعلم منهم‪ ،‬والفقهاء ليرجع إليهم فيما‬ ‫أشكل عليه‪ .‬فمنذ أيام عبد الملك صارت محكمة المظالم‬ ‫خاصة‪ ،‬وقاضي المظالم له صلحيات معينة‪ ،‬إل أنها في أيام‬ ‫العباسيين أحيطت بأبهة ورعاية وفي أيام السلطين في‬ ‫الشام ومصر سميت محكمة المظالم دار العدل‪.‬‬ ‫الجيش‬ ‫الدولة السلمية وسيلة لتطبيق السلم وحمل‬ ‫دعوته‪ ،‬وهي دولة مبدئية مبدؤها السلم‪ ،‬ولذلك تعتمد في‬ ‫أداء مهمتها على المبدأ نفسه؛ لن تركزه في نفوس‬ ‫المسلمين يجعلهم ينفذونه إجابة لمر ا‪ ،‬لكنها مع ذلك‬ ‫تعتمد على الجيش إعتمادا ماديا‪ ،‬حتى تحمي البلد من‬ ‫القلقل الداخلية والعتداء الخارجي‪ ،‬وتزيل من طريق‬ ‫الدعوة الحواجز المادية التي تقف في طريقها‪ .‬واعتماد‬ ‫الدولة على الجيش هو جزء من العتماد على السلم‪ ،‬لن‬ ‫الجهاد فرض على المسلمين ولن ا أمر بالعداد‪.‬‬ ‫والسلم من أول يوم أسس فيه دولته‪ ،‬أسس معها الجيش؛‬ ‫وكانت الدعوة السلمية تسير ومعها قوتها المادية‪ .‬وقد كان‬ ‫المسلمون كلهم جندا‪ .‬فكل مسلم جندي مهيأ للقتال في كل‬ ‫وقت؛ لنه يعتنق السلم‪ ،‬ويستعد للقتال في سبيله‪ ،‬وسبيل‬ ‫‪121‬‬


‫دعوته‪ ،‬أي في سبيل ا؛ لن قتال العداء جهاد وهو عبادة‬ ‫من العبادات‪ ،‬وفرض من فروض السلم‪.‬‬ ‫وكان الرسول ينظم الجيش في فرق‪ ،‬ويولي على‬ ‫كل فرقة قائدا ويعقد له لواءه‪.‬‬ ‫وأول لواء عقد في السلم لواء عبد ا بن جحش‪.‬‬ ‫وعقد لسعد بن مالك المزدي راية سوداء فيها هلل أبيض‬ ‫وكان لواء النبي أبيض أو أصفر أو أغبر‪ .‬وكانت له راية تدعى‬ ‫العقاب‪ ،‬مصنوعة من الصو ف السود‪ ،‬مكتوب عليها " ل إله‬ ‫إل ا محمد رسول ا "‪ .‬ويدل التاريخ أن راية الجيش كله‬ ‫هي راية الدولة‪ .‬ولكل لواء من ألوية الجيش راية خاصة‪.‬‬ ‫قواد الجيش‬ ‫يكون للجيش قائد عام يعينه رئيس الدولة نائبا عنه؛‬ ‫لن القائد العام لجميع الجيش والقوى المسلحة هو‬ ‫الرئيس‪ .‬وكذلك يكون لكل فرقة قائد‪ ،‬ولكل لواء أمير‪،‬‬ ‫وكلهم يعينهم رئيس الدولة‪ .‬أما الباقون فيعينهم قائد‬ ‫الجيش‪.‬‬ ‫وكانت فرق الجيش التي ل يخرج معها الرسول‬ ‫للقتال‪ ،‬بل يعين لها قائدا مكانه يسمى سريا مهما بلغ عددها‬ ‫ولذلك فقد كان للسرايا التي يبعثها عليه الصلة والسلم‬ ‫قواد؛ لنه كان يولي على كل سرية قائدا‪ ،‬ويحتاط في تعيين‬ ‫‪122‬‬


‫من يخلفه أن قتل؛ ففي غزوة مؤتة أسند قيادة الجيش إلى‬ ‫مزيد بن حارثة‪ ،‬وسلمه الراية‪ ،‬وقال‪ :‬إن قتل مزيد فليأخذ الراية‬ ‫جعفر بن أبي طالب‪ ،‬وإن قتل جعفر فليأخذ الراية عبد ا‬ ‫بن رواحة‪ .‬ولما تولى أبو بكر الخلفة صار يولي قواد‬ ‫الجيش‪ .‬فقد دعا عمرو بن العاص وسلم إليه الراية وقال‬ ‫له‪ :‬قد وليتك هذا الجيش فانصر ف إلى فلسطين‪ .‬وأمره أن‬ ‫يكون تابعا لقيادة أبي عبيدة‪ ،‬وقال له‪ :‬كاتب أبا عبيدة‬ ‫وأنجده إذا أرادك‪ ،‬ول تقطع أمرا إل بمشورته‪ .‬ولما تولى‬ ‫عمر الخلفة صار يولي قواد الجيش‪ ،‬فقد ولى سعد بن أبي‬ ‫وقاص قيادة الجيش‪ ،‬وكتب له‪ :‬إن شاور طلحة السدي‪،‬‬ ‫وعمرو بن معدي كرب في أمر حربك ‪ ,‬ول تولهما من المر‬ ‫شيئا‪ .‬فإن كل صانع هو أعلم بصنعته‪ .‬وقد ولى أبا عبيدة بن‬ ‫مسعود قيادة الجيش وبعث معه سليط بن قيس وقال له‪:‬‬ ‫لول عجلة فيك لوليتك‪ ،‬ولكن الحرب مزبون ل يصلح لها إل‬ ‫الرجل المكيث الرمزين ‪ ,‬الذي ل يعجل في أمره‪.‬‬ ‫تنظيم الجيش‬ ‫التجنيد للجيش من صلب النظام السلمي‪ ،‬لنه ـ كما‬ ‫قدمنا ـ جهاد ‪ ,‬وهو عبادة من العبادات‪ ،‬وفرض على جميع‬ ‫المسلمين‪ .‬ولذلك كان المسلمون يدربون جميعهم على‬ ‫الجندية ‪ ,‬ويكونون حاضرين للقتال في كل وقت تدعوهم‬ ‫‪123‬‬


‫الدولة له‪ .‬وكانت للجيش عطايا يأخذها من الغنائم حصة له‪.‬‬ ‫ولم يكن الجيش مخصصا بفئة خاصة‪ .‬ولما تولى عمر بن‬ ‫الخطاب الخلفة ‪ ,‬وصار ل بد من وجود جيش دائم تحت‬ ‫السلح ‪ ,‬أسس الجيش الدائم ‪ ,‬وخصص له رواتب‪ .‬ومن‬ ‫حينئذ صار عند المسلمين جيش دائم تحت السلح ‪ ,‬وجيش‬ ‫إحتياطي يستدعى عند الحاجة ‪ ,‬وهو بقية الناس من‬ ‫المسلمين؛ لن التجنيد والتدريب على العمال العسكرية كان‬ ‫عاما ‪ ,‬وظل عاما‪ .‬وفي أيام الوليد بن عبد المك وضعت‬ ‫أصول خاصة للتجنيد؛ فقد جعل جبريا على كل محتلم نبت‬ ‫شعره‪.‬‬ ‫ول يأخذ للجندية أي شخص إل بعد الفحص الطبي ‪,‬‬ ‫فكان الشباب يجردون من ثيابهم للطلع على عيوب‬ ‫أجسامهم ‪ ,‬فيعفى السقيم ‪ ,‬ويأخذ السليم‪.‬‬ ‫وقد جعل الجيش كله جيشا واحدا‪ .‬يوضع في‬ ‫معسكرات خاصة‪ .‬وقسم عمر بن الخطاب معسكرات‬ ‫الجيش على الوليات ‪ ,‬فصير فلسطين جندا ) فيلقا ( ‪,‬‬ ‫والجزيرة جندا ‪ ,‬والموصل جندا‪ .‬وكان يجعل في مركز‬ ‫الدولة في المدينة جندا‪ .‬ويجعل لديه جيشا واحدا كبيرا يكون‬ ‫على إستعداد للقتال عند أول إشارة‪ .‬وكان يعني‬ ‫بالستخبارات للجيش ‪ ,‬فكان يوصي قواد الجيش حين‬ ‫‪124‬‬


‫يوليهم بالعناية باستخبارت العدو ‪ ,‬وأخبار جيشهم ‪ ,‬فيقول‪) :‬‬ ‫فإذا عاينت العدو فاضمم إليك أقاصيصك وطلئعك وسراياك‬ ‫‪ ,‬واجمع إليك مكيدتك وقوتك (‪ .‬إلى أن يقول‪ ) :‬وتعر ف‬ ‫الرض كلها كمعرفة أهلها (‪.‬‬ ‫العناية بالجند‬ ‫ل بد أن يشعر الجندي والضابط والقائد بتوفير الراحة‬ ‫النفسية والمعنوية له‪ ،‬والطمئنان على أهله من بعده‪ .‬وقد‬ ‫كانت معنيا بها في الدولة؛ فقد كان أبو بكر يعنى بتثقيف‬ ‫الجيش وتسليته‪ ،‬فقد جعل مع الجيش قصاصا يقصون‬ ‫عليهم أخبار الوقائع والفروسية‪ ،‬وقصصا وأحاديث عن المم‬ ‫الماضية‪ ،‬وأساطير وحكايات‪ ،‬حتى يثقفهم بأسلوب قصصي‪،‬‬ ‫ويسليهم في أوقات فراغهم‪ ،‬ويثير فيهم الحماسة‪ ،‬ويبعث‬ ‫فيهم البطولة‪ .‬وكان عمر بن الخطاب يخطب فيقول‪ ) :‬وإن‬ ‫غبتم في البعوث فأنا أبو العيال (‪ .‬ويتقيد بقوله هذا‪ ،‬فكان‬ ‫يطو ف على عائلت الجند الذين في ساحة الحرب‪ ،‬فيسلم‬ ‫على أبوابهن ويقول‪ :‬ألكن حاجة ؟ وأيتكن تريد أن تشتري‬ ‫شيئا ؟ فيرسلن معه بحوائجهن‪ .‬ومن ليس عندها شيء‬ ‫اشترى لها من عنده‪ .‬وإذا قدم الرسول من عند الجيش‪،‬‬ ‫ومعه البريد من الجند إلى أهلهم‪ ،‬تبعه بنفسه في منامزلهن‬ ‫بكتب أمزواجهن‪ ،‬ويقول‪ :‬أمزواجكن في سبيل ا‪ .‬وأنتن في‬ ‫‪125‬‬


‫بلد رسول ا‪ .‬إذا كان عندكن من يقرأ‪ ،‬وأل فاقربن من‬ ‫البواب حتى أقرأ لكن‪ .‬ثم يقول‪ :‬الرسول يخرج يوم كذا‬ ‫وكذا فاكتبن‪ ،‬حتى نبعث بكتبكن‪ .‬ثم يدور عليهن بالورق‬ ‫والقلم والحبر ويقول‪ :‬هذه دواة وقرطاس فادنين من‬ ‫البواب حتى أكتب لكن‪ .‬ثم يعود فيأخذ كتبهن ويبعث بها إلى‬ ‫أمزواجهن‪ .‬وهكذا كان الجندي يكون في الجيش وهو‬ ‫مطمئن على عياله وأهله‪.‬‬ ‫الشرطة‬ ‫تعتبر القوى المسلحة قوة واحدة‪ ،‬فالجيش والشرطة‬ ‫والمرابطون في الثغور كلها قوة واحدة‪ .‬إل أن المصلحة‬ ‫العامة اقتضت أن تخصص من الجيش فرق خاصة تكون‬ ‫على حدود البلد‪ ،‬ولكنها تكون تابعة للجيش في جميع‬ ‫شؤونه‪ .‬والمصلحة العامة تقتضي أن تسير الدارة بحزم‬ ‫ونظام‪ ،‬وتقتضي الستعانة بالقوة إذا لزمت الستعانة‪.‬‬ ‫ولذلك تختار من الجيش فرق خاصة تنظم تنظيما خاصا‪،‬‬ ‫وتثقف ثقافة عامة‪ ،‬وتكون أكثر إحاطة بالحكام الشرعية‬ ‫) القانون (‪ ،‬لنها ستشر ف على المن وسائر النواحي‬ ‫التنفيذية‪ .‬هذه الفرق هي الشرطة‪ .‬وهي جيش المن‬ ‫الداخلي‪ .‬وعليها تعتمد الدولة في استتباب المن الداخلي‪،‬‬ ‫وحفظ النظام‪ ،‬والقبض على الجناة والمفسدين‪ ،‬وما إلى‬ ‫‪126‬‬


‫ذلك من العمال الدارية‪ ،‬التي تكفل سلمة الناس‬ ‫وطمأنينتهم‪ .‬وكان صاحب الشرطة يختار من أهل القوة‪.‬‬ ‫وكانت الشرطة في أول أمرها تابعة للقضاء‪ ،‬تقوم على‬ ‫تنفيذ أحكام القضاء‪ ،‬وتتولى إقامة الحدود‪ ،‬وتنفيذ العقوبات‪.‬‬ ‫ثم انفصلت عن القضاء وجعلت دائرة خاصة تابعة للجيش‪،‬‬ ‫تقوم بشؤون حفظ المن‪ ،‬والنظر في الجرائم‪ ،‬وتقديمها‬ ‫للقضاء‪.‬‬ ‫وتقوم على تنفيذ أوامر سلطات الدولة حسب‬ ‫اختصاص كل سلطة‪ .‬وكان عمر بن الخطاب أول من أدخل‬ ‫نظام العسس في الليل‪ .‬فأحدث بذلك فكرة الشرطة‪ .‬وفي‬ ‫عهد علي بن أبي طالب نظمت تنظيما متميزا ومن ذلك‬ ‫التاريخ صارت الشرطة من مصالح الدولة وصار من وظيفتها‬ ‫الرئيسية تنفيذ أوامر القضاء مع تنفيذ أوامر باقي السلطات‬ ‫ولذلك كانت هي التي تشر ف على السجون‪.‬‬ ‫مصانع السلحة‬ ‫ل بد لكل دولة من إنشاء مصانع للسلحة في بلدها‪.‬‬ ‫وإن جامز لها أن تستورد السلحة من الخارج عند تأسيسها‪،‬‬ ‫فل يجومز لها أن يستمر هذا الستيراد؛ بل ل بد من انشاء‬ ‫مصانع السلح‪.‬‬

‫‪127‬‬


‫والمسلمون عند تأسيس دولتهم لم يكن لهم سلح‬ ‫جاهز‪ ،‬ولم يكن لديهم من أنواع السلح سوى القوس‪،‬‬ ‫والنبل‪ ،‬والحربة‪ ،‬والسيف‪ ،‬والدرع‪ ،‬والمغفر‪ ،‬وما شاكلها‪.‬‬ ‫ولكن بعد أن تكون لديهم الجيش صاروا يتخذون أنواع‬ ‫السلحة‪ ،‬التي كانت عند المم‪ .‬وانشأوا مصانع للسلحة في‬ ‫بلدهم‪ .‬فالرسول عليه السلم كان إذا أراد غزوة جهز‬ ‫الجيش بما يكفيه من أنواع السلح وإذا لم يجد عنده ما‬ ‫يكفيه استعار السلح استعارة‪ ،‬ثم رده بعد المعركة‪ .‬فقد‬ ‫استعار يوم هوامزن مئة درع بما يكفيها من السلح‪ ،‬من‬ ‫صفوان بن أمية‪ ،‬ليلقى بها العدو‪ ،‬على أن تكون عارية‬ ‫مضمونة‪ ،‬حتى يؤديها إليه‪.‬‬ ‫ولكنه عليه السلم لما رأى اتساع الفتوح يقضي بأن‬ ‫ينشئ مصانع أسلحة أمر أصحابه بأن يتعلموا صنعة الدبابات‬ ‫والمجانيق والضبور وكل ما يلزم من آلت القتال‪ .‬وأرسل‬ ‫إلى جُهلَرش اليمن اثنين من أصحابه يتعلمانها‪ .‬ثم أخذ‬ ‫المسلمون ينشئون مصانع السلحة‪ ،‬ويعدون ما استطاعوا‬ ‫من قوة‪ ،‬لفتح العراق والشام‪.‬‬ ‫الحبس‬ ‫السجن من الدوائر اللمزمة لتنفيذ الحكام؛ لنه عقوبة‬ ‫من العقوبات التي يحكم بها على المجرمين‪ ،‬بل ربما كان‬ ‫‪128‬‬


‫أكثر العقوبات حدوثا‪ .‬وهو مكان مخصوص يوضع فيه من‬ ‫يتهم بجرم‪ ،‬ويقدم للقضاء لبينما يفصل القضاء في أمر‬ ‫تهمته‪ ،‬وهو ما يسمى في العر ف الحاضر بالموقو ف‪ .‬وهذا‬ ‫النوع من المسجونين على القضاة أن يسرعوا في فصل‬ ‫القضايا التي تتعلق بهم‪ ،‬حتى أنه إذا نقل القاضي أو عزل‬ ‫وعين بدله قاض آخر‪ ،‬كان على القاضي الجديد أن يبدأ‬ ‫عمله بالنظر في حال المسجونين ) الموقوفين (‪ ،‬فمن تثبت‬ ‫عليه التهمة حكم عليه‪ ،‬ومن برأته المحكمة أخلي سبيله‪ .‬ول‬ ‫يحبس أي إنسان إل بقرار صادر من قاض له صلحية‬ ‫القضاء فيما يحبس فيه‪.‬‬ ‫وتكون السجون أنواعا حسب الجرائم المرتكبة‪.‬‬ ‫ويعين نوع السجن بقرار القاضي‪ .‬كما ينظر في دوافع‬ ‫الجرم‪ ،‬ويعين نوع العقوبة التي يستحقها ـ إن كانت غير‬ ‫السجن ـ من كل ما يؤدي إلى التأديب والتهذيب‪.‬‬ ‫المحبوس‬ ‫يدخل المحبوس الحبس بعد صدور القرار بتوقيفه أو‬ ‫بحبسه‪ .‬ول يمكن أحد من الدخول عليه إل أقاربه وجيرانه‪.‬‬ ‫ول يمكثون عنده‪ .‬ول يخرج من السجن إل لحاجة تقدرها‬ ‫الشرطة‪ .‬ول يضرب‪ ،‬ول يغل‪ ،‬ول يقيد‪ ،‬ول يهان إل إذا كان‬ ‫قرار القاضي قد نص على ذلك‪ .‬ومن أظهر التعنت في‬ ‫‪129‬‬


‫الحبس وضع في غرفة ضيقة ) حاشرة ( وأقفل عليه الباب‪،‬‬ ‫وترك له ما يقضي حاجته به‪ .‬ويلقى إليه الماء والطعام من‬ ‫ثقبة في الباب‪ .‬ولكن نقل المحبوس إلى هذه الحاشرة ل‬ ‫يكون برأي السجان أو الشرطة‪ ،‬بل ل بد أن يكون بقرار من‬ ‫القاضي؛ لن حالة معاملة السجين ل بد أن ينص عليها في‬ ‫قرلر القاضي بحبسه‪ .‬وإذا احتاج المر لن يشدد عليه حال‬ ‫الحبس أو يخفف عنه‪ ،‬ل بد أن يرفع المر للقاضي‪ ،‬وهو‬ ‫الذي يعطي قرارا حسب ما يراه‪ .‬وتجعل في السجن وسائل‬ ‫للعمل‪ ،‬يشغل فيها السجناء حسب قرار القاضي‪ .‬ويجعل‬ ‫للنساء سجن خاص على حدة نفيا للفتنة‪ .‬وأما الصبيان فل‬ ‫يوضعون بالسجن‪ ،‬ول يخصص لهم سجن‪ ،‬لن الصبي ل‬ ‫يعاقب على الجرم‪ ،‬ولكن تفتح لهم دور خاصة يوضع فيها‬ ‫الصبيان الذين يرتكبون ما يستحق السجن لتأديبهم فيها‪،‬‬ ‫حتى ينزجروا عن الفعال الذميمة‪ .‬وهو ما يسمى اليوم‬ ‫بإصلحيات الحداث‪.‬‬ ‫أسباب الحبس‬ ‫يكون الحبس جزاء على جرم ارتكبه شخص وحكم‬ ‫عليه بالحبس‪ .‬وهذا يبين في نظام العقوبات‪ .‬وهو السبب‬ ‫الطبيعي للحبس‪ .‬وهناك سبب آخر غير طبيعي‪ .‬وهو حبس‬ ‫المدين‪ .‬وشرط حبس المدين أن يكون موسرا‪ ،‬فمن ثبت‬ ‫‪130‬‬


‫فقره وإعساره ل يحبس في الدين‪ ،‬ومن لم يثبت إعساره‬ ‫يكون موسرا ويحيس‪ .‬ولكن من يحبس لداء الدين تحدد له‬ ‫مدة للحبس ترجع إلى رأي القاضي‪ .‬وقد حدد الفقهاء‬ ‫أكثرها بشهرين‪ .‬وأما أقلها فقد تركوه للقاضي‪ ،‬ويجومز أن‬ ‫يجعلها يوما واحدا‪ .‬ويهيأ لمن يحبس لداء الدين عمل‬ ‫يشتغل به باجر لسداد دينه‪ .‬وقد ورد الحبس في القرآن‪،‬‬ ‫قال تعالى في عقاب الخارجين على الدولة‪ ) :‬أو ينفوا من‬ ‫الرض ( وفسر بالحبس‪ .‬وقد روي عن النبي صلى ا عليه‬ ‫وسلم أنه حبس رجل بالتهمة‪ .‬وكان الحبس في المسجد‪.‬‬ ‫إلى أن جاء سيدنا علي فبنى حبسا منفردا‪ .‬ومنذ ذلك الوقت‬ ‫صار الحبس منفردا يحبس فيه المذنبون‪.‬‬ ‫شكل الحكم ومركزيته‬ ‫يختلف نظام الحكم السلمي‪ ،‬في طبيعته وحقيقته‪،‬‬ ‫عن سائر نظم الحكم في العالم‪ ،‬فليس هو نظاما ملكيا‪ ،‬ول‬ ‫يقر النظام الملكي؛ لنه ل يجعل لرئيس الدولة أي حقوق‬ ‫سوى ما لي فرد من المة‪ ،‬ول يجعل رئيس الدولة مالكا‪،‬‬ ‫بل منفذا لشرع ا‪ ،‬نائبا عن المة في السلطان‪ ،‬وليس هو‬ ‫رمزا لها‪ :‬يملك ول يحكم‪ ،‬وإنما هو يحكم نيابة عنها‪ ،‬ول‬ ‫يملك شيئا من هذا الحكم‪ .‬فضل عن انعدام ولية العهد فيه‬ ‫واستنكاره لها‪.‬‬ ‫‪131‬‬


‫وليس هو كذلك نظاما جمهوريا؛ لن رئاسة الدولة‬ ‫فيه ل تحدد بزمن معين‪ ،‬وإنما تحدد بتنفيذ الشرع‪ ،‬فما دام‬ ‫الرئيس فائما بالشرع فهو رئيس مهما طالت مدته‪ ،‬ومتى‬ ‫أخل بالشرع انتهت مدة حكمه ولو كانت يوما أو ساعة‪.‬‬ ‫وعلوة على ذلك فإن النظام الجمهوري البرلماني‬ ‫يكون فيه رئيس للدولة ‪ ,‬ورئيس آخر للومزارة ‪ ,‬أي يكون فيه‬ ‫رئيس للدولة ورئيس آخر للحكومة‪ .‬والنظام الجمهوري‬ ‫الرئاسي يتولى بموجبه رئيس الدولة أكبر منصب في الومزارة‬ ‫هو منصب رئيس الومزراء ‪ ,‬فيكون فيه رئيس الدولة هو‬ ‫رئيس الحكومة وهذا بخل ف النظام السلمي فإن رئيس‬ ‫الدولة ل توجد معه ومزارة لها صلحيات ‪ ,‬وإنما هو يستعير‬ ‫برجال يعاونونه في الحكم‪ .‬وهؤلء المعاونون أطلق عليهم‬ ‫هيئة تنفيذية؛ لنهم منفذون‪ .‬فهم معاونون منفذون وليسوا‬ ‫ومزارة ول ومزراء‪ .‬وحين يتولى أمير المؤمنين رئاستهم يتولها‬ ‫بوصفه رئيسا للدولة ل بوصف رئيس للهيئة التنفيذية لنه ل‬ ‫يوجد مركز رئاسة لها‪ .‬وفوق هذا فإن النظام الجمهوري في‬ ‫شكليه البرلماني والرئاسي يجعل رئيس الجمهورية مسؤول‬ ‫أمام المة وأمام ممثليها ‪ ,‬فلهم حق عزله؛ لن السيادة في‬ ‫ذلك النظام للشعب بخل ف أمير المؤمنين فإنه ـ وإن كان‬ ‫يحاسب من قبل المة على أعماله‪ ،‬ويناقش في كافة‬ ‫‪132‬‬


‫تصرفاته ـ ليس مسؤول أمام المة ول أمام ممثليها‪ ،‬بل‬ ‫مسؤول أمام الشرع ول يعزل إل إذا خالف الشرع مخالفة‬ ‫تستوجب عزله‪ .‬ولذلك يوجد فرق كبير بين رئيس الدولة في‬ ‫النظام الجمهوري‪ ،‬وبين رئيس الدولة في النظام السلمي‪،‬‬ ‫لوجود البون الشاسع بين النظام الجمهوري ونظام السلم‪.‬‬ ‫وعلى ذلك فل يجومز مطلقا أن يقال الجمهورية السلمية‪،‬‬ ‫ول يجومز أن يقال أن السلم نظام جمهوري؛ لوجود‬ ‫التناقض بينهما في الساس الذي يقوم عليه كل منهما؛ إذ‬ ‫أساس النظام الجمهوري أن السيادة للشعب‪ ،‬والنظام‬ ‫السلمي يجعل السيادة للشرع ل للشعب ولوجود الخل ف‬ ‫بينهما في التفاصيل‪.‬‬ ‫وهو أيضا ليس امبراطوريا ‪ ,‬بل النظام المبراطوري‬ ‫بعيد عن السلم كل البعد؛ فالقاليم التي يحكمها السلم ـ‬ ‫وإن كانت مختلفة الجناس وترجع إلى مركز واحد ـ فإنه ل‬ ‫يحكمها بالنظام المبراطوري‪ ،‬بل بما يناقض النظام‬ ‫المبراطوري؛ لن النظام المبراطوري ل يساوي بين‬ ‫الجناس في أقاليم المبراطورية بالحكم‪ ،‬بل يجعل ميزة‬ ‫لمركز المبراطورية في الحكم والمال والقتصاد‪.‬‬ ‫وطريقة السلم في الحكم هي أنه يسوي بين‬ ‫المحكومين في جميع أجزاء الدولة‪ ،‬وينكر العصبيات‬ ‫‪133‬‬


‫الجنسية‪ ،‬ويعطي لغير المسلمين حقوقهم الشرعية من حق‬ ‫المواطن؛ بل هو أكثر من ذلك يجعل للمواطن ـ أيا كان‬ ‫مذهبه ـ من الحقوق ما ليس لغير المواطن ولو كان مسلما‪،‬‬ ‫فهو بهذه المساواة يختلف عن المبراطورية؛ وهو بهذا‬ ‫النظام ل يجعل القاليم مستعمرات‪ ،‬ول مواضع استغلل‪،‬‬ ‫ول منابع تصب في المركز العام لفائدته وحده‪ ،‬بل يجعل‬ ‫القاليم كلها وحدة واحدة مهما تباعدت المسافات بينها‪،‬‬ ‫وتعددت أجناس أهلها‪ ،‬ويعتبر كل إقليم بضعة من جسم‬ ‫الدولة‪ ،‬ولهله سائر الحقوق التي لهل المركز‪ ،‬أو لي إقليم‬ ‫آخر‪ ،‬ويجعل سلطة الحكم ونظامه وتشريعه كلها واحدة في‬ ‫كافة القاليم‪.‬‬ ‫وليس نظام الحكم في السلم نظاما اتحاديا‪،‬‬ ‫تنفصل أقاليمه بالستقلل الذاتي‪ ،‬وتتحد في الحكم العام؛‬ ‫بل هو نظام وحدة تعتبر فيه مراكش في المغرب وخراسان‬ ‫في المشرق‪ ،‬كما تعتبر مديرية الفيوم إذا كانت العاصمة‬ ‫السلمية هي القاهرة‪ .‬وتعتبر مالية القاليم كلها مالية‬ ‫واحدة وميزانية واحدة تنفق على مصالح المواطنين كلها‪،‬‬ ‫بغض النظر عن الوليات‪ .‬فلو أن ولية جمعت من الضرائب‬ ‫ضعف حاجاتها فإنه ينفق عليها بقدر حاجاتها ل بقدر جبايتها‪.‬‬ ‫ولو أن ولية لم تسدد جبايتها حاجاتها فإنه ل ينظر إلى ذلك‪،‬‬ ‫‪134‬‬


‫بل ينفق عليها من الميزانية العامة بقدر حاجتها‪ ،‬سواء وفت‬ ‫ضرائبها بحاجاتها أم لم تف‪.‬‬ ‫فنظام الحكم وحدة تامة وليس اتحادا‪ .‬ولهذا كان‬ ‫نظام الحكم في السلم نظاما إسلميا متميزا عن غيره من‬ ‫النظم المعروفة الن في أصوله وأسسه‪ ،‬وإن تشابهت‬ ‫بعض مظاهره مع بعض مظاهرها‪ .‬وهو فوق كل ما تقدم‬ ‫مركزي في الحكم‪ ،‬يحصر السلطة العليا في المركز العام‪،‬‬ ‫ويجعل له الهيمنة والسلطة على كل جزء من أجزاء الدولة‬ ‫صغر أم كبر‪ ،‬ول يسمح بالستقلل لي جزء منه‪ ،‬حتى ل‬ ‫تتفكك أجزاء الدولة‪ .‬وهو الذي يعين القواد والولة والحكام‬ ‫والمسؤولين عن المالية والقتصاد‪ ،‬وهو الذي يولي القضاء‬ ‫في كل إقليم من أقاليمه‪ ،‬وهو الذي يعين كل من عمله‬ ‫يكون حكما‪ ،‬وهو المباشر لكل شيء من الحكم في جميع‬ ‫البلد‪.‬‬ ‫والحاصل أن نظام الحكم في السلم نظام خلفة‪.‬‬ ‫وقد انعقد الجماع على وحدة الخلفة‪ ،‬ووحدة الدولة‪،‬‬ ‫وعدم جوامز البيعة إل لخليفة واحد‪ .‬وقد اتفق على ذلك‬ ‫الئمة والمجتهدون وسائر الفقهاء‪ .‬وإذا بويع لخليفة آخر مع‬ ‫وجود خليفة‪ ،‬أو وجود بيعة لخليفة قوتل الثاني‪ ،‬حتى يبايع‬

‫‪135‬‬


‫للول أو يقتل؛ لن البيعة إنما ثبتت شرعا لمن بويع أول بيعة‬ ‫صحيحة‪.‬‬ ‫ضمان حق المة في مراقبة السلطان‬ ‫لقد ضمن السلم للمة أن تستعمل حقها في مراقبة‬ ‫الحكام في تنفيذ الشرع‪ .‬وكانت هذه الضمانة في أسس‬ ‫أحكامه‪ ،‬وجزءا جوهريا من نظام الحكم فيه‪ ،‬وهي المبدء‬ ‫الساسي في علقة الحاكم بالمحكومين‪.‬‬ ‫وتستفاد هذه الضمانة مما يأتي‪:‬‬ ‫‪ 1‬ـ ليست طاعة المة للدولة مطلقة‪ ،‬ول انقيادا‬ ‫أعمى‪ ،‬وإنما هي طاعة في حدود شرع ا‪ ،‬وهي طاعة‬ ‫مقيدة بعمله بالشرع‪ ،‬فإن أخل بالشرع فقد انتهت هذه‬ ‫الطاعة طبيعيا؛ قال سيدنا أبو بكر‪ ) :‬أطيعوني ما أطعت ا‬ ‫ورسوله‪ ،‬فإذا عصيت ا فل طاعة لي عليكم ( وقال النبي‬ ‫عليه الصلة والسلم ) أل ل طاعة لمخلوق في معصية ا (‬ ‫وجعل السلم نقض هذه الطاعة في حال انحرا ف الحاكم‬ ‫عن السلم أمرا مشروعا وعرفا عاما‪ ،‬وتجاومز ذلك إلى‬ ‫الحث على تغيير هذه الوضاع المعوجة‪ ،‬وجعل التغيير على‬ ‫الحاكم الخارج على الشريعة أمرا واجبا‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـ كون رئيس الدولة خاضعا للقضاء كسائر الناس‪،‬‬ ‫فإذا تنامزع ولي المر مع المة أو أي فرد مواطن رفع المر‬ ‫‪136‬‬


‫إلى القضاء‪ ،‬وحينئذ يعطي القضاء حكم ا فيما بين‬ ‫الحاكم والمحكوم‪ ،‬وينفذ أمر ا على رئيس الدولة‪ ،‬كما‬ ‫ينفذ على أي فرد من أفراد الناس؛ قال تعالى‪ ) :‬يا أيها‬ ‫الذين آمنوا أطيعوا ا وأطيعوا الرسول وأولي‬ ‫المر منكم ( ثم أتم هذه الية بقوله‪ ) :‬فإن تنامزعتم‬ ‫في شيء فردوه إلى ا والرسول ( ‪ ،‬وليس المراد هنا‬ ‫تنامزع أفراد المة مع بعضهم‪ ،‬بل المراد تنامزع المحكومين مع‬ ‫الحاكم‪ ،‬أي أطيعوا أولي المر منكم فإن تنامزعتم معهم في‬ ‫شيء فردوه حال إلى قضاء ا ورسوله‪ ،‬ليعطي الحكم‬ ‫فيه عليهم أو عليكم‪.‬‬ ‫‪ 3‬ـ أن المة تعلم بالبداهة أن السلطان حقها‪ ،‬فإذا‬ ‫استبد به الحاكم فقد استعمل سلطان المة للعتداء عليها‪ ،‬ل‬ ‫لخدمتها وحمايتها وحينئذ ل تثور عن عاطفة فقط‪ ،‬وأنما‬ ‫تستعمل حق الثورة للوصول إلى حقها‪ .‬وهذه هي الثورة‬ ‫المنتجة‪ ،‬وهي ل تسمى انقلبا‪ ،‬بل تصحيحا للوضاع إذا‬ ‫اعوجت‪.‬‬ ‫‪ 4‬ـ قد حصلت بالفعل حوادث استعملت المة فيها‬ ‫حقها لتصحيح الوضاع‪ ،‬حين رأت السلطان قد تغير وأخل‬ ‫بسيادة الشرع‪ ،‬فحاولت أن تغير على السلطان أو تغيره‪.‬‬ ‫وذلك مثل الثورة الكبرى على عثمان‪ ،‬وثورات الخوارج‪ .‬وكلها‬ ‫‪137‬‬


‫ثورات ناشئة عن اعتقاد القائمين بها‪ ،‬بأن السلطان أخل‬ ‫بالشرع‪ ،‬فثاروا ضد ما رأوه من السلطة الجائرة‪ ،‬مما هو‬ ‫مخالف لشرع ا‪.‬‬ ‫الضمانة من النقلب‬ ‫المراد بالنقلب في نظر السلم هو النقلب على‬ ‫النظام‪ .‬وعلى الدولة التي تنفذ ذلك النظام‪ .‬أما استبدال‬ ‫رجال الحكم برجال حكم آخرين فل يسمى انقلبا مطلقا‪.‬‬ ‫وكذلك ثورة المة على رجال الحكم إذا أخلوا بالشرع ولم‬ ‫يحققوا سيادة الشرع ل تسمى انقلبا‪ ،‬بل هي حركة‬ ‫تحريرية لتصحيح الوضاع‪.‬‬ ‫فالنقلب هو استبدال نظام بنظام آخر‪ .‬وهذا هو‬ ‫المهم في النقلب‪ .‬وقد ضمن السلم في نظامه عدم‬ ‫حدوث النقلب‪ .‬وذلك أن طبيعة النظام السلمي طبيعة‬ ‫بقاء واستمرار‪ ،‬وتحمل في صلبها الضمانات الكافية لصيانتها‬ ‫من النقلب‪.‬‬ ‫وهي ليست في حاجة إلى القوة لضمان عدم وقوع‬ ‫النقلب‪ ،‬وإنما القوة أداة تنفيذية لمقابلة المادة بالمادة‪ ،‬كما‬ ‫تقتضيه طبيعة الكون والحياة والنسان‪.‬‬

‫‪138‬‬


‫والضمانات الحقيقية من النقلب موجودة في أسس‬ ‫النظام وفي صلبه‪ ،‬ومركزة في طاقته وتشريعه‪ .‬وهي‬ ‫ظاهرة ظهور الشمس من المسائل التية‪:‬‬ ‫‪ 1‬ـ إن المبدأ السلمي يعمل من داخل النفس‬ ‫وخارجها‪ ،‬في الفرد‪ ،‬والجماعة‪ ،‬والدولة‪ ،‬بالتشريع والتوجيه‪،‬‬ ‫بالحرص على سيادة الشرع‪ ،‬ووجود تقوى ا معا في وقت‬ ‫واحد‪ ،‬سيادة تشمل الفرد والمة والدولة‪ .‬وهذا وحده كا ف‬ ‫لصيانته من النقلب صيانة أبدية؛ لن من يتخذ مبدأه رسالته‪،‬‬ ‫فيحيا من أجلها‪ ،‬ويستعد للموت في سبيلها‪ ،‬ل يمكن أن‬ ‫تحدثه نفسه بالنقلب على هذه الرسالة‪ ،‬ومن كان منافقا‬ ‫لهذه الرسالة في الدولة‪ ،‬أو كافرا بها‪ ،‬ل يمكن أن ينقلب‬ ‫عليها ما دامت قد ضمنت فيها سيادة الشرع‪ ،‬ليعيش في‬ ‫ظله‪ ،‬لن سيادة القانون وحدها متى ضمنت في أمة كانت‬ ‫هذه السيادة خير ضمانة من النقلب إذا كان القانون عادل‪،‬‬ ‫فكيف بها إذا ضمت إليها تقوى ا ؟‬ ‫‪ 2‬ـ يجعل هذا المبدأ طبيعة عمل الدولة التي تنفذه‪،‬‬ ‫أنها خادمة للمة‪ ،‬وليست سيدة عليها‪ ،‬ويتحتم عليها القيام‬ ‫بما يتطلبه الفرد من جميع الشياء المعاشية‪ ،‬والعلمية‪،‬‬ ‫والصحية‪ ،‬وتأمين ما يهيء له إشباع نواحيه العاطفية‪،‬‬ ‫والغريزية‪ ،‬في حدود مصلحة الجماعة؛ ونفاذ أحكام الشرع‬ ‫‪139‬‬


‫يجعل المة تشعر أن بقاء هذا الحكم ألزم لها من كل‬ ‫شيء‪ .‬وهل من الممكن أن يحاول فرد أو جماعة‪ ،‬الثورة‬ ‫ضد مبدأ يقول فيه رئيس الدولة لهم ما يقوله عمر بن‬ ‫الخطاب‪ " :‬ولكم علي أيها الناس خصال أذكرها لكم‪،‬‬ ‫فخذوني بها‪ ،‬لكم علي أل أجتبي شيئا من خراجكم ول ما‬ ‫أفاء ا عليكم إل من وجهه‪ ،‬ولكم علي إذا وقع في يدي أل‬ ‫يخرج منه إل في حقه‪ ،‬ولكم علي أل أ ُلقيكم في المهالك‪،‬‬ ‫مهلَركم في ثغوركم وإذا غبتم في البعوث فأنا أبو‬ ‫ج ّ‬ ‫ول ُأ هلَ‬ ‫العيال "‪.‬‬ ‫نعم أمير المؤمنين أبو العيال أذا غاب أبوهم عنهم !‬ ‫ومثل هذه الدولة التي يضمن نظامها حياة أفرادها‪ ،‬ويوجب‬ ‫عليها القيام بهذه الضمانة‪ ،‬ل يمكن أن تجري محاولة إنقلبية‬ ‫فيها‪ ،‬لن طبيعة عملها ) وظيفتها ( تجعل هذه المحاولة في‬ ‫حكم المستحيل‪.‬‬ ‫‪ 3‬ـ إن السلطان في هذا المبدأ للمة‪ ،‬وهي التي‬ ‫تنيب رئيس الدولة عنها‪ ،‬وهي التي تبقى رقيبا للدولة في‬ ‫قيامها بواجباتها‪.‬‬ ‫وبذلك كان هذا النوع من الحكم ضمانة طبيعية من‬ ‫النقلب‪ .‬فكل من تحدثه نفسه بإحداث أي انقلب في‬ ‫الدولة ل تكون العقبة التي أمامه هي رجال الحكم فقط‪،‬‬ ‫‪140‬‬


‫بل تكون المة بأسرها في وجهه‪ ،‬فل يقدم على ذلك‪ ،‬وإن‬ ‫أقدم فقد أقدم على النتحار؛‬ ‫‪ 4‬ـ إن نظرة هذا المبدأ نظرة جماعية في عقيدته‬ ‫وعباداته وتشريعاته وأوامره‪ ،‬ويجعل الهتمام بالجماعة‬ ‫صنو اليمان‪ ،‬فمن لم يهتم بأمرها فليس منها إيمانا وإسلما‪،‬‬ ‫قال عليه السلم‪ ) :‬من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم‬ ‫(‪.‬‬ ‫ولذلك يعتبر كل مسلم نفسه مسؤول عن الجماعة‪،‬‬ ‫وليس مسؤول عن نفسه فقط‪ ،‬وواجبه الدفاع عنها‪ ،‬ولو لم‬ ‫يدافع عنها سواه‪ ،‬قال عليه السلم‪ ) :‬كل مسلم على ثغرة‬ ‫من ثغر السلم فل يؤتين من قبله ( ولذلك يصبح كل فرد‬ ‫في المة رقيبا وحارسا‪ ،‬ول يمكن لمن يحمل هذه‬ ‫المسؤولية بالرقابة والحراسة أن ينقلب ضد مسؤوليته‪ .‬وفي‬ ‫هذا أيضا ضمانة من النقلب‪.‬‬ ‫‪ 5‬ـ إن المة مأمورة بطاعة الدولة أمرا آلهيا‪ ،‬له أثره‬ ‫على نفسها خوفا من عقاب ا‪ ،‬وأمرا تشريعيا له نتائجه من‬ ‫العقاب الصارم في الدنيا‪ .‬أما المر اللهي فظاهر في اليات‬ ‫الكثيرة والحاديث الجمة التي نصت على وجوب طاعة ولي‬ ‫المر‪ ،‬والتي جعلت جهنم جزاء وفاقا لمن يخرج عن‬ ‫السلطان العادل‪.‬‬ ‫‪141‬‬


‫وأما التشريع فإن في هذا النظام مزجرا شديدا لمن‬ ‫يحاول الخروج على الدولة‪ ،‬أو يحاول النقلب عليها‪ .‬وقد‬ ‫سمي الخارجون على الدولة البغاة‪ .‬ولهم أحكام خاصة‬ ‫تتلخص في أن على الدولة أن تراسلهم؛ فإن لم يرجعوا‬ ‫قاتلتهم وجوبا ‪ ,‬قتال تأديب ‪ ,‬ل قتال حرب‪.‬‬ ‫‪ 6‬ـ إن نظام الحكم في السلم هو نظام مركزي‪،‬‬ ‫ونظام وحدة‪ ،‬فالمركز هو الذي يسيطر على الحكم في‬ ‫جميع أجزاء الدولة‪ .‬ولذلك تكون القاليم كلها تحت سلطانه‪،‬‬ ‫فل تتمكن من الخروج عن هذا السلطان‪ ،‬ول تتاح لي إقليم‬ ‫فرصة للستقلل‪ ،‬لتطبيق نظام آخر فيه ‪ ,‬وانفصاله عن‬ ‫الدولة‪ .‬علوة على أن كل إقليم يعتبر نفسه مسؤول عن‬ ‫الدولة كأنه المركز؛ لنه بضعة من جسم الدولة‪ ،‬ويعتبر أن‬ ‫العتداء على الدولة اعتداء عليه‪ ،‬والعتداء على المبدأ في‬ ‫أي جزء من أجزاء الدولة اعتداء على نظامه هو‪ .‬وهذا‬ ‫العتبار نفسه يحبط كل محاولة للنقلب في مهدها‪ ،‬ويكون‬ ‫فيه كل الصيانة من النقلب‪.‬‬ ‫‪ 7‬ـ لم يذكر لنا الواقع التاريخي محاولة للنقلب‬ ‫الكلي‪ ،‬سوى محاولة واحدة أو محاولتين‪ .‬ولم تنجح واحدة‬ ‫منهما؛ فقد حاول العرب إثر وفاة الرسول عليه السلم أن‬ ‫يحدثوا النقلب بإلغاء نظام الزكاة‪ ،‬والنفصال عن الدولة ل‬ ‫‪142‬‬


‫بالحكم فقط بل بالدين‪ .‬وارتدوا عن السلم‪ ،‬ورجعوا إلى‬ ‫دينهم القديم‪ .‬ولكن السلم كان قويا‪ ،‬واستطاعت الدولة‬ ‫التي تقوم على تنفيذه مع قلة عددها‪ ،‬وصغر الرقعة التي‬ ‫تسيطر عليها سيطرة تامة‪ ،‬بالنسبة لجزيرة العرب ـ‬ ‫استطاعت الدولة أن تقضي على هذه المحاولة في الحروب‬ ‫المعروفة بحروب الردة وأعادت المر إلى نصابه‪ ،‬والدولة‬ ‫إلى وحدتها‪ ،‬والنظام إلى حياته الولى‪ ،‬بتطبيقه تطبيقا تاما‪.‬‬ ‫مع أنه لم يكن قد مضى على هذا النظام المدة الكافية التي‬ ‫تجعل له العراقة التامة والتركز الكامل الذي يحتاج إلى وقت‬ ‫طويل في أي نظام‪.‬‬ ‫وقد حاول بابك الخرمي أن يحدث انقليا في بعض‬ ‫أجزاء الدولة‪ .‬ولكن محاولته باءت بالخيبة‪ ،‬وقضت الدولة‬ ‫عليه وعلى أتباعه‪.‬‬ ‫وأما محاولة التتار‪ ،‬والحروب الصليبية‪ ،‬والحروب‬ ‫الستعمارية فهي ليست انقلبا؛ وإنما هي غزو مسلح‬ ‫للسلم والمسلمين‪.‬‬ ‫وأما ما فعله معاوية من نقل الخلفة إلى ملك‪،‬‬ ‫وإحداث ولية العهد‪ ،‬فل يسمى انقلبا؛ وإنما هو انحرا ف‬ ‫في بعض أنظمة الحكم التي كانت مطبقة في عصر‬ ‫الراشدين‪ .‬وقد توصل لهذا بدعوى الجتهاد بما يوافق‬ ‫‪143‬‬


‫المصلحة‪ ،‬وبإظهاره الحرص التام على كيان المة السلمية‪،‬‬ ‫والدولة السلمية‪ ،‬من الشقاق والخل ف‪.‬‬ ‫ولية العهد‬ ‫يعتبر نظام ولية العهد منكرا في النظام السلمي‪،‬‬ ‫ومخالفا له كل المخالفة؛ وذلك لن السلطان هو للمة‪،‬‬ ‫وليس لرئيس الدولة‪ .‬وإذا كان رئيس الدولة إنما ينوب عن‬ ‫المة في السلطان مع بقائه لها‪ ،‬فكيف يجومز له أن يمنحه‬ ‫لغيره ؟ وما فعله أبو بكر لعمر لم يكن ولية عهد‪ ،‬بل كلن‬ ‫انتخابا من المة في حياة رئيس الدولة ثم حصلت له البيعة‪.‬‬ ‫ومع ذلك كله فقد احتاط أبو بكر للمر في خطابه‪،‬‬ ‫فعلق نفاذ ذلك على أن يكون برضى الناس‪ ) :‬أترضون بمن‬ ‫استخلف عليكم ؟ فإني وا ما آلوت جهدا‪ ،‬ول وليت ذا‬ ‫قرابة ( وعلى هذا الساس جعل عمر بن الخطاب ابنه عبد‬ ‫ا مع الستة الذين جعل لهم حق اختيار الخليفة‪ ،‬وشرط أل‬ ‫يكون له من المر شيء بل له الرأي فقط‪ ،‬حتى ل توجد‬ ‫شبهة ولية العهد‪ .‬بخل ف ما فعله معاوية من ولية العهد؛‬ ‫فإنه يخالف نظام السلم‪ .‬والذي حمل معاوية على ابتداعه‬ ‫هذا المنكر‪ :‬نظام ولية العهد‪:‬‬ ‫‪ 1‬ـ إنه كان يفهم رئاسة الدولة أنها ملك وليست‬ ‫خلفة‪ .‬انظر إليه حين خطب في أهل الكوفة بعد الصلح‬ ‫‪144‬‬


‫وهو يقول‪ :‬يا أهل الكوفة أتراني قاتلتكم على الصلة‬ ‫والزكاة والحج وقد علمت أنكم تصلون وتزكون وتحجون ؟‬ ‫ولكني قاتلتكم لتأمر عليكم وعلى رقابكم‪ .‬وقد آتاني ا‬ ‫ذلك وأنتم كارهون‪ .‬أل إن كل مال ودم أصيب في هذه‬ ‫الفتنة فمطلول‪ .‬وكل شرط شرطته فتحت قدمي هاتين‪.‬‬ ‫نعم انظر إليه وهو يقول ذلك تجده يعلن عن نفسه‪،‬‬ ‫أنه يخالف السلم‪ ،‬حين يعلن أنه قاتل الناس ليتأمر عليهم‬ ‫وعلى رقابهم‪ ،‬وحين يتجاومز ذلك إلى ما هو أشد وأنكى‪،‬‬ ‫وهو يقول للناس‪ :‬كل شرط شرطه فتحت قدميه‪ ،‬وا‬ ‫تعالى يقول‪ ) :‬و أ وفوا بالعهد إن العهد كان مسؤول (‬ ‫نعم أنظر إليه وهو يقول ذلك تجده إنما يعلن أنه ل يتقيد‬ ‫بالسلم‪ .‬بل إن طريقة انتخاب يزيد تدل على أنه كان يتعمد‬ ‫مخالفة السلم في سبيل وراثة الملك‪ ،‬كما يفهمه؛ لنه أخذ‬ ‫رأي جميع الناس فلم يوافقه أحد‪ ،‬فاستعمل المال فلم يجبه‬ ‫إل من ل كيان لهم في المجتمع‪ ،‬ول ومزن لهم عند المسلمين‪،‬‬ ‫فاستعمل السيف‪ .‬حدث المؤرخون أنه بعد أن عجز ولته‬ ‫عن أخذ البيعة ليزيد في الحجامز‪ ،‬ذهب بنفسه ومعه المال‬ ‫والجند‪ ،‬ودعا وجهاء المسلمين وقال لهم‪ :‬قد علمتم سيرتي‬ ‫فيكم‪ ،‬وصلتي لرحامكم‪ .‬يزيد أخوكم وابن عمكم‪ .‬وأردت‬ ‫أن تقدموا يزيد باسم الخلفة‪ ،‬وتكون أنتم تعزلون وتولون‪،‬‬ ‫‪145‬‬


‫وتأمرون وتجبون المال وتقسمونه‪ .‬فأجابه عبد ا بن‬ ‫الزبير‪ ،‬مخيرا بين أن يصنع كما صنع رسول ا إذ لم‬ ‫يستخلف أحدا‪ ،‬أو كما صنع أبو بكر‪ ،‬أو كما صنع عمر‪ .‬فغضب‬ ‫معاوية‪ .‬وسأل باقي الناس‪ .‬فأجابوا بما قال ابن الزبير‪.‬‬ ‫فقال‪ :‬أعذر من أنذر‪ ،‬إني قائم بمقالة‪ ،‬فأقسم بالله لئن رد‬ ‫علي أحدكم كلمة في مقامي هذا‪ ،‬ل ترجع إليه كلمة غيرها‪،‬‬ ‫حتى يسبقها السيف إلى رأسه‪ .‬فل يبقين رجل إل على‬ ‫نفسه‪ .‬ثم أمر صاحب حرسه بأن يقيم على رأس كل وجيه‬ ‫من وجهاء الحجامز‪ ،‬وكل معارض من المعارضين‪ ،‬رجلين‪.‬‬ ‫وأمرهما بأن كل رجل يرد عليه كلمة تصديق أو تكذيب‪،‬‬ ‫فليضرباه بسيفهما‪.‬‬ ‫ثم رقي المنبر فقال‪ ) :‬هؤلء الرهط هم سادة‬ ‫المسلمين وخيارهم‪ ،‬ول يبرم أمر دونهم‪ ،‬ول يقضى إل على‬ ‫مشورتهم وأنهم قد رضوا وبايعوا‪ .‬فبايعوا على اسم ا (‪.‬‬ ‫هذا هو الساس الذي أقام عليه معاوية نظام ولية‬ ‫العهد‪ .‬وهو أساس ينادي على نفسه بأن السلم بريء منه‪.‬‬ ‫قال عمر رضي ا عنه‪ ) :‬من أمر رجل لقرابة أو صداقة‬ ‫بينهما‪ ،‬وهو يجد في المسلمين خيرا منه‪ ،‬فقد خان ا‬ ‫ورسوله والمؤمنين (‪.‬‬

‫‪146‬‬


‫‪ 2‬ـ كان معاوية يحتال على النصوص الشرعية‬ ‫فيؤولها؛ فقد جعل السلم حق اختيار الخليفة للمة‪ ،‬وقد‬ ‫فعل رسول ا صلى ا عليه وسلم ذلك ‪ ,‬وترك المر‬ ‫للمسلمين يختارون من هو أصلح لولية أمورهم؛ ولكن‬ ‫معاوية كان متأثرا بالنظام الذي كان سائدا في تلك اليام‬ ‫عند الدولتين‪ :‬البيزنطية والساسانية‪ ،‬اللتين كان الحكم فيهما‬ ‫وراثيا ‪ ,‬فجعل يزيد ولي عهده ‪ ,‬واحتال بأخذ البيعة له في‬ ‫حياته‪.‬‬ ‫‪ 3‬ـ إن طريقة اجتهاد معاوية في المور السياسية‬ ‫تقوم على أساس المنفعة‪ ،‬ولذلك يجعل الحكام الشرعية‬ ‫توافق المشكلة ل تعالجها فيؤول الحكام لتتفق مع‬ ‫المشكلة القائمة‪ .‬وكان عليه أن يتبع الطريقة السلمية في‬ ‫الجتهاد بأن يجعل الساس كتاب ا وسنة نبيه‪ ،‬ل النفع‬ ‫المادي‪ ،‬وأن يأخذ الحكام السلمية لمعالجة مشاكل عصره‬ ‫ل أن يأخذ مشاكل عصره ليعالج بها أحكام السلم‪،‬‬ ‫فيحورها ويبدلها ويخالفها ! !‬ ‫وهنا قد يعرض سؤال وهو‪ :‬كيف فعل معاوية هذه‬ ‫المخالفة ولم تقم عليه ثورة ؟ والجواب على ذلك هو‪:‬‬ ‫‪ 1‬ـ إن السنوات التي تولى فيها معاوية الحكم جاءت‬ ‫عقب ثورات واضطرابات عنيفة‪ .‬وكانت المة منهكة تحتاج‬ ‫‪147‬‬


‫إلى استقرار‪ .‬وما اتفاق الشباب الثلثة في ‪ 17‬رمضان على‬ ‫قتل علي ومعاوية وعمرو إل صورة عن أحاسيس المة‬ ‫بوضع حد لهذه الثورات ولذلك تمكن معاوية في هذا‬ ‫الظر ف من التيان بفعلته‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـ كان لنتقال العاصمة من المدينة إلى دمشق أثر‬ ‫في نقل أجواء الدولة من حال بيئة إسلمية عريقة إلى حال‬ ‫بيئة متأثرة بالروم والفرس‪ ،‬مما غير الجواء‪ ،‬وأوجد أجواء‬ ‫جديدة أثرت على المة حتى سكتت على ذلك علوة عما‬ ‫أوتيه معاوية من دهاء وحنكة‪.‬‬ ‫‪ 3‬ـ على أن العراق قد ثار‪ ،‬والحجامز قد ثار‪ ،‬ونتج عن‬ ‫ذلك مقتل الحسين رضي ا عنه‪ ،‬ونتج عن ذلك أيضا ثورات‬ ‫الخوارج المتتالية من جراء نظام ولية العهد‪ ،‬وإن كانت هذه‬ ‫الثورات لم تؤثر‪ ،‬لنها لم تكن في العاصمة ول قريبة منها‪.‬‬ ‫ضمانة تطبيق السلم‬ ‫الضمانة الطبيعية لتنفيذ السلم‪ ،‬وحمل دعوته‪،‬‬ ‫واستمرار تنفيذه‪ ،‬وإحسان هذا التنفيذ‪ ،‬هي التقوى في‬ ‫الحاكم‪ ،‬وتمركز هذه التقوى في نفسه‪ ،‬لن تقوى ا من‬ ‫قبل الحاكم تجعله حريصا على السلم أكثر من حرصه على‬ ‫حياته‪ ،‬فضل عن حاجاته‪ ،‬وتوجد فيه الحاسيس المرهفة‬ ‫التي تجعله يذكر ا في نفسه في كل لحظة وعند القيام‬ ‫‪148‬‬


‫بأي عمل‪ ،‬ويراقبه في كل تصر ف من تصرفاته‪ .‬وإذا فقد‬ ‫الحاكم التقوى فقد الضمانة الطبيعية لتطبيق السلم‪،‬‬ ‫وإحسان تطبيقه‪ ،‬واستمرار هذا التطبيق‪ ،‬وفقد الضمانة‬ ‫لحمل الدعوة السلمية‪ .‬ولما كان الحاكم عرضة لن تجافيه‬ ‫التقوى‪ ،‬كان ل بد من وسيلة مادية تجبره على التنفيذ‪ ،‬أو‬ ‫تقصيه عن الحكم‪ ،‬وتقيم مكانه الحاكم الذي يطبق السلم‬ ‫ويحمل دعوته‪ .‬وهذه الوسيلة العملية هي المة‪ .‬ولذلك كان‬ ‫من واجب المة السلمية إذا رأت حاكما جائرا مستحل لحرم‬ ‫ا‪ ،‬ناكثا لعهد ا‪ ،‬مخالفا لسنة رسول ا‪ ،‬عامل في عباد‬ ‫ا بالثم والعدوان أن تغير عليه بالقول أو الفعل أو تغيره‪.‬‬ ‫وحتى تقوم المة بواجبها هذا‪ ،‬كان عليها أن تتصف بتقوى‬ ‫ا لن تقوى المة لله يوجد فيها الحرص على السلم‬ ‫وعلى تنفيذه‪ ،‬وهذا يجبرها على محاسبة هذا الحاكم على‬ ‫تصرفاته‪ ،‬فتناقشه وتحاسبه كلما رأت منه تقصيرا في التنفيذ‪،‬‬ ‫أو محاولة للحيد عن أحكام ا‪ ،‬أو إساءة لتطبيق أنظمة‬ ‫السلم‪ .‬وبهذه الوسيلة يستمر تطبيق السلم‪ ،‬ويستمر‬ ‫إحسان تطبيقه‪.‬‬ ‫غير أن المة ـ وهي الوسيلة العملية في الدنيا لتنفيذ‬ ‫السلم بمراقبتها للحاكم ومحاسبتها له ـ تحتاج إلى أن يقوم‬ ‫فيها تكتل صحيح على أساس‪ ،‬يتجلى في هذا التكتل الفهم‬ ‫‪149‬‬


‫العميق‪ ،‬والخو ف الشديد من ا؛ لنه يقوم على أساس‬ ‫واحد هو العقيدة السلمية‪ ،‬ويعمل لن يثقف الناس‬ ‫بالثقافة السلمية المركزة‪ ،‬ثقافة توسع العقل وتقوي‬ ‫الدراك وتصفي النفس إذ تربط المشاعر بالفكر‪ ،‬وتوجد‬ ‫التجاوب الصحيح بين الفكار والميول النفسية‪ ،‬وهذا يجعل‬ ‫المسلم الشخصية السلمية المبتغاة‪ ،‬وإذا قام التكتل الذي‬ ‫ل بد منه على هذه الشخصية‪ ،‬كان الوسيلة لصهر المة؛ لنه‬ ‫ينقي أفكارها ويصهرها في فكر واحد‪ ،‬فيسيرها نحو هد ف‬ ‫واحد‪ ،‬هو السلم‪ ،‬تعيش لجله‪ ،‬وتحمل الدعوة له‪ ،‬وحينئذ‬ ‫تتيقظ تيقظا دائميا على المبدأ الذي تحمله‪ ،‬وتكون واعية‬ ‫وعيا صحيحا عليه‪ .‬والذي يوقظها هو هذا التكتل الذي يعيش‬ ‫من أجل المبدأ ومن أجل الدعوة له ومن أجل تطبيق هذا‬ ‫المبدأ واستمرار تطبيقه‪.‬‬ ‫وهذا التكتل هو الحزب المبدئي‪ ،‬الذي يقوم في‬ ‫المة‪ .‬وبعبارة أخرى هو الحزب الذي يقوم على أساس‬ ‫السلم من حيث كونه قيادة فكرية‪ ،‬يحملها في المة للوعي‬ ‫على السلم‪ ،‬ويحمل الدعوة له في كل مكان لعتناق‬ ‫الناس له‪ .‬ولذلك هو حزب دعوة ل يقوم بأي عمل غير‬ ‫الدعوة؛ لن العمل في النواحي الخرى هو من وظيفة‬ ‫الدولة وليس من وظيفة الحزب‪.‬‬ ‫‪150‬‬


‫ومتى قام الحزب وقاد المة صار هو الرقيب على‬ ‫الدولة؛ لنه المة‪ ،‬أو ممثل المة‪ .‬وهو الذي يقودها ويجعلها‬ ‫تقوم بواجبها‪ ،‬وهو مناقشة الدولة ومحاسبتها‪ ،‬والتغيير عليها‬ ‫بالقول أو الفعل‪ ،‬أو تغييرها إذا خيف على السلم منها‪.‬‬ ‫ويتعسر على المة أن تناقش أو تحاسب الدولة دون‬ ‫أن يكون لها حزب يتولى مركز قيادة المة تجاه الدولة‪،‬‬ ‫لوجود صعوبات جمة أمامها‪ ،‬ل يذللها إل وجود قيادة موحدة‬ ‫تتمثل في تكتل‪ ،‬ل في فرد‪ ،‬أو أفراد‪ .‬ومن هنا كان لزاما أن‬ ‫يقوم في المة حزب سياسي مبدئي‪ ،‬عمله الوحيد حمل‬ ‫الدعوة السلمية‪ ،‬وطريقه الوحيد لحمل الدعوة هو الطريق‬ ‫السياسي‪ .‬وكان قيام هذا الحزب ل بد منه لنه هو الوسيلة‬ ‫العملية التي تقود المة ويضمن بقيادته لها قيام الدولة‬ ‫بمهمتها على أكمل وجه بحمل الدعوة السلمية‪ ،‬وتطبيق‬ ‫السلم واستمرار هذا التطبيق‪ ،‬وهو الوسيلة العملية لمنع‬ ‫إساءة تطبيقه‪.‬‬ ‫ولقد كان تكتل الرسول عليه السلم للمسلمين حول‬ ‫السلم يتجلى في دار الرقم‪ ،‬ثم في الصحابة جميعا‪.‬‬ ‫فكانوا الكتلة التي تقوم بين المسلمين تتولى حمل تبعة‬ ‫السلم عمليا‪ ،‬وإن كان جميع المسلمين يحملون تبعات‬ ‫السلم بشكل عام‪ .‬روي أن رسول ا صلى ا عليه‬ ‫‪151‬‬


‫وسلم توفي عن ستين ألف صحابي‪ .‬إن هؤلء هم الكتلة‬ ‫السلمية أو الحزب السلمي الذي يحمل تبعة السلم‪ ،‬وإل‬ ‫فالرسول توفي والمسلمون يزيدون عن عشرة مليين‪.‬‬ ‫وحينما انقضى عصر الصحابة والتابعين وتابعي التابعين‬ ‫تلشى الحزب فأخذ يتسرب الضعف إلى نفوس الحكام‪،‬‬ ‫لعدم وجود الحزب الذي يقود المة لمراقبتهم ومناقشتهم‬ ‫ومحاسبتهم‪ .‬واستمر ذلك إلى أن حصلت إساءة تطبيق‬ ‫السلم‪ .‬وإذن فالضمانة الحقيقية لتطبيق السلم وحمل‬ ‫دعوته وإحسان تطبيقه هو الحزب السياسي السلمي‪.‬‬

‫مصادر الكتاب‬ ‫‪ .1‬القرآن الكريم‬ ‫‪ .1‬صحيح البخاري‬ ‫‪ .2‬صحيح الترمذي‬ ‫‪ .3‬موطأ مالك‬ ‫‪ .4‬تفسير الجللين‬ ‫‪ .5‬تفسير الكشا ف‬ ‫‪ .6‬تفسير النسفي‬

‫‪152‬‬


‫‪ .2‬روح المعاني لللوسي‬ ‫‪ .7‬البيجرمي على المنهج‬ ‫‪ .8‬البحر الرائق لبن نجيم‬ ‫‪ .9‬رد المحتار على الدر المختار‬ ‫‪ .10‬المدونة الكبرى لمالك‬ ‫‪.11‬الحكام السلطانية للماوردي‬ ‫‪.12‬الفخري لبن طباطبا‬ ‫‪ .13‬تاريخ المم والملوك للطبري‬ ‫‪ .14‬المحلى لبن حزم‬ ‫‪ .15‬وفيات العيان لبن خلكان‬ ‫‪.16‬معجم البلدان لياقوت‬ ‫‪ .17‬النظم السلمية لحسن إبراهيم حسن وعلي‬ ‫إبراهيم حسن‬ ‫‪ .18‬تاريخ التشريع السلمي للخضري‬ ‫‪ .19‬السياسة الشرعية لبن تيمية‬ ‫‪.20‬الخراج لبي يوسف‬ ‫‪.21‬الخراج لبن آدم القرشي‬ ‫‪ .22‬الومزراء والكتاب للجهشياري‬ ‫‪153‬‬


‫‪.23‬حياة محمد لمحمد حسين هيكل‬ ‫‪ .24‬الصديق أبو بكر لمحمد حسين هيكل‬ ‫‪ .25‬الفاروق عمر لمحمد حسين هيكل‬ ‫‪ .26‬العدالة الجتماعية في السلم لسيد قطب‬ ‫‪.27‬عبقرية السلم في أصول الحكم لمنير‬ ‫العجلني‬ ‫‪ .28‬أسد الغابة في معرفة الصحابة لبن الثير‬ ‫‪.29‬القضاء السلمي وتاريخه لسماعيل حقي‬ ‫فرح‬ ‫‪.30‬عبقرية عمر للعقاد‬ ‫‪.31‬السلم والحضارة العربية لمحمد كرد علي‬

‫فـهرست‬ ‫الحكم في السلم‬ ‫الدولة السلمية‬ ‫جهامز الحكم‬ ‫قواعد الحكم‬ ‫حق الشورى‬ ‫‪154‬‬


‫مجلس الشورى‬ ‫انتخاب أعضاء مجلس الشورى‬ ‫مدة عضوية مجلس الشورى‬ ‫عضوية مجلس الشورى‬ ‫صلحيات مجلس الشورى‬ ‫العمل برأي مجلس الشورى‬ ‫رئيس الدولة‬ ‫تسمية رئيس الدولة‬ ‫وحدة الدولة السلمية‬ ‫صفات الخليفة‬ ‫انتخاب الخليفة‬ ‫البيعة‬ ‫صلحيات رئيس الدولة‬ ‫مدة الرئاسة للدولة‬ ‫عزل رئيس الدولة‬ ‫انتخاب الخلفاء الراشدين‬ ‫الهيئة التنفيذية‬ ‫التنظيم الداري‬ ‫النظمة الدارية‬ ‫المصالح العامة‬ ‫‪155‬‬


‫الولة‬ ‫صلحيات الوالي‬ ‫القضاء‬ ‫مكانة القضاء‬ ‫شروط القضاء‬ ‫تعيين القضاة‬ ‫الشتراك في القضاء‬ ‫المحتسب‬ ‫صفات المحتسب‬ ‫صلحية المحتسب‬ ‫منصب المحتسب‬ ‫محكمة المظالم‬ ‫صلحيات محكمة المظالم‬ ‫تعيين قضاة المظالم وعزلهم‬ ‫انشاء محكمة المظالم‬ ‫الجيش‬ ‫قواد الجيش‬ ‫تنظيم الجيش‬ ‫العناية بالجند‬ ‫الشرطة‬ ‫‪156‬‬


‫مصانع السلحة‬ ‫الحبس‬ ‫المحبوس‬ ‫أسباب الحبس‬ ‫شكل الحكم ومركزيته‬ ‫ضمان حق المة في مراقبة السلطان‬ ‫الضمانة من النقلب‬ ‫ولية العهد‬ ‫ضمانة تطبيق السلم‬ ‫مصادر الكتاب‬

‫‪157‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.