تقي الدين النبهاني
نظام الحكم في السلم 1372هـ – 1953م من منشورات حزب التحرير القدس
الطبعة الثانية
بسم ا الرحمن الرحيم الحكم في السلم عجيب أمــر هــذا الســتعمار كيــف بلغــت قــدرته علــى تصوير الحق الموجودة بصورة الباطــل المعــدوم ،أو تصــوير الباطل المعدوم بصورة الحــق الموجــود حــدا جعــل النــاس يكذبون حواسهم ،ويقولون عمــا يرونــه بــأعينهم ،ويلمســونه بأيديهم ،ويدركونه بعقولهم _ يقولون تبعــا للســتعمار _ أنــه غير موجود ؟ قــام الســتعمار يقــول لبنــاء المســلمين :لــم تكــن للسلم دولة ،فيرددون قوله ،دون وعي ومــن غيــر شــعور، ويقول لهم أيضا في نفس الوقت ،أن السلم كانت له دولــة دينية روحية .فيحكون صدى قــوله فــي نفــس الــوقت أيضــا، دون وعي ول شعور .ويقول لهم في نفس الوقت :أن الدين غير الدولة ،والدولة غيــر الـدين ،يعيـدون هـذا القـول إعـادة خالية من التفكير ،ومن الوعي والشعور .ثم يقول لهم :ل بد
2
من فصل الدين عن الدولة حتى تنجحوا ،فيجيبون :نعم ل بد من فصل الدين عن الدولة. وإنه بالرغم من معرفة هؤلء بــأن الــذي يقــول ذلــك هو عدوهم الذي يستعمرهم ،فإنهم ل يحلون هذه المعرفة محلها من العتبار ،لنهــم مخــدرون بثقافــة هــذا الســتعمار. وقد نسي هؤلء التاريخ الذي أجمع عليه مؤرخو جميع المم من أن السلم كانت له دولة بدأت منذ استقر الرســول عليــه السلم في المدينة ،في السنة الولى من الهجرة ،حتى ســنة 1342هجرية سنة 1924ميلدية حين سقطت الخلفة على يــد الســتعمار .نعــم نســوا هــذا التاريــخ بــالرغم مــن أنهــم تعلموه .ويفتري هؤلء على السلم أنه كانت له دولة دينية ) روحية ( .ولــم يــر ِو أحــد مــن المــؤرخين ،ول أشــدهم بغضــا للسلم ،أنه كانت للسلم دولة ) روحية ( في أي لحظة من لحظات التاريخ .كمــا لــم ينكــر أحــد أن الســلم فــي صــميم تشريعه لم يجعل للروح دولة أو سلطان حتى فــي العبــادات نفسها لن مفهوم الروح في السلم غيره في الغرب. ويجهل هؤلء إسلمهم ،أو يتجــاهلونه ،فيزعمــون أن الدين في السلم غير الدولــة .وقــد أجمــع النــاس مــن غيــر استثناء أن دولة السلم تعني تماما دولــة الــدين الســلمي، أي الدولة التي تحكم بموجب الدين السلمي. 3
ويتجنى هؤلء فينادون بفصل الدين عــن الدولــة .ول أدري كيف يبقى دين السلم حيا ول دولة له ،وكيــف يعيــش المسلمون دون دولة ،ويكون لهم كيان أو وجود ،وكيف ينكــر إنسان أن السلم دين ل يقوم إل على الدولــة .وقــد جــاءت شريعته تنادي بوجوب وجود الحكم والسلطان. أليس القرآن الكريم كتــاب الســلم المنــزل ؟ فلمــاذا إذن وجدت فيه آيات الحكم والسلطان ،لو لم تكــن للســلم دولة ؟ استمع إليه وهو ينادي في الحكم فيقول: } فاحكم بينهم بما أنزل ا { } ومن لم يحكم بما أنزل ا فأولئك هم الكافرون { } ومن لم يحكم بما أنزل ا فأولئك هم الظالمون { } ومن لم يحكم بما أنزل ا فأولئك هم الفاسقون { وهل هناك أصرح من هذا في إنذار مــن لــم يجعــل مــا أنــزل اـ حكما .ومن جعـل الحكـم علـى خل ف مـا أنـزل اـ ،وهـل هنــاك خطــاب أصــرح مــن قــول اـ للرســول عليــه الســلم } وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه ،فاحكم بينهم بما أنزل ا ول تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا
4
منكم شرعة ومنهاجا { يدل على أن السلم أنزل للحكم ؟ اسمع إليه وهو يقول } :إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك ا { } ،وأن احكم بينهم بما أنزل ا ول تتبع أهواءهم { ثم اســمعه وهــو يخــاطب جماعــة المســلمين فيقــول } :وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل { } .يا أيها الذين آمنوا أطيعوا ا وأطيعوا الرسول وأولي المر منكم { } ،فل وربك ل يؤمنون حنى يحكموك فيما شجر بينهم ثم ل يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما { وكل ذلك صريح في الحكم والسلطان. هــذا بالنســبة للحكــم مــن حيــث هــو .وهنــاك اليــات الكثيرة الدالة علــى تفصــيلت حــوادث الحكــم .فهنــاك آيــات التشريع الحربــي ،والتشــريع السياســي ،والتشــريع الجنــائي، والتشريع الجتماعي ) ،والتشــريع المــدني ( وغيــر ذلــك مــن التشاريع. } يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة { } فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم { } وإما تخافن من 5
قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء { } وإن جنحوا للسلم فاجنح لها { } ول تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أمول الناس بالثم وأنتم تعلمون { } يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه { إلى أن يقول في نفس الية } :إل أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح أن ل تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ول يضار كاتب ول شهيد {. } خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها { } .وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة { } .يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود { } .فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن {. وهكذا تجد الخطــوط العريضــة ) للتشــريع المــدني (، والعســكري ،والمعــاملت ،والعقوبــات ،واضــحة فــي مئــات اليات ،فضل عن الكــثرة الــوافرة مــن الحــاديث الصــحيحة. فإذا لم يكن للسلم دولة فلماذا نزلت هــذه اليــات ؟ ومــن الذي يطبق ما فيهــا مــن الحكــام ؟ وعلوة علـى ذلــك فـإن الواقع التاريخي في حيـاة الرسـول عليـه السـلم والصـحابة أيام حياته ومن بعده ليــدل دللــة واضــحة علــى أن الســلم 6
كان نظاما للدولة وللحيــاة ،ولكــل جزئيــة مــن جزئيــات حيــاة المة والدولة. وإذا أنكــر علــى الســلم أن لــه دولــة تنفــذ الحكــام، وتسوس المة ،فماذا يفعل في نصوصه الــتي هــي صــريحة فــي الحكــم ؟ وكيــف نغمـض أعيننــا عمـا كـان يفعلـه عليــه السلم من إرسال الولة والمعلمين للقــاليم ،ليحكمــوا بيــن الناس في أمــورهم ،ويعلمــوهم الســلم دينــا فيــه العبــادة والنظام والقانون. نعم إن السلم نظام للدولة والحياة والمة .ول تملك الدولــة الحكــم إل إذا كــانت تســير وفــق نظــام الســلم .ول يكون للسلم وجود إل إذا كان حيا في دولــة تنفــذ أحكــامه، فالسلم دين عام والدولة جزء منه وهــي الوســيلة لتنفيــذه. ول يوجد السلم وجودا حيا إل إذا كانت له الدولة في جميــع الحوال .على أن هذه الدولة السلمية هي دولــة سياســية، وليست لها قداسة ول لرئيســها صــفة القديســين .فهــذا عمــر ي اعوجاجا فليقومه ،فيجيبــه أحــدهم يقول للناس من رأى ف ّ لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بحد سيوفنا .فل يزيد عمر على أن يقول ،الحمد لله الـذي جعـل فـي أمـة محمـد مـن يقـوم اعوجاج عمر بحد السيف .فأي قداسة لهــذا الخليفــة مــع أنــه عمر بن الخطاب. 7
حقا أن الستعمار قد أوغل فــي مــاديته ونبــذه للقيــم الخلقية ،حين افــترى علــى الســلم أنــه دولــة دينيــة روحيــة، وحين افترى عليه أن الدين غير الدولة ،وحين افترى عليه أنه لم تكن للسلم دولة .ومع أن هذه المفتريات متناقضــة مــع بعضها ،ومناقضة للحقيقة التاريخيــة الــتي ل ينكرهــا إنســان، مع ذلك فقد خــدع الســتعمار بعــض أبنــاء المســلمين بهــذه الباطيل والضاليل. ولســنا بصــدد أن نــرد علــى الســتعمار هــذا الفــتراء ونجــادله فيــه ،كمــا أننــا ل نتعــرض لهــؤلء المفتــونين أو المــأجورين وننــاظرهم ،لن قضــية كــون الســلم دينــا منــه الدولة ليســت قضــية ذات موضــوع لنهــا مــن البداهــة بحيــث يعلمها حقا كل إنسان ،متعلما كان أو غير متعلــم ،كمــا يعلــم أن الواحد نصف الثنين .ولكــن القضــية ذات الموضــوع هــي أننا نريد أن نستأنف حياة إسلمية في الحكم ،وأننا مصممون على استئنا ف هذه الحياة مهما كلف المر ،وأننا متأكدون بأن استئنا ف الحياة السلمية في الحكم أمر لمزم لنا لزوم المــاء للحيــاة ،ولنعــود إلــى النظــام الســلمي الــذي هــو أســاس سعادتنا وسعادة العالم. ولن نستطيع العودة إليـه إل إذا عـادت دولـة السـلم وحكمه ،ولـذلك صــمم المسـلمون اليــوم _ مـا عـدا ضــفادع 8
اســتعمارية تنقنــق _ علــى أن يوجــدوا الحكــم الســلمي، ليعودوا إلى السلم. وإنهم يعرفون أن هذا يحتاج إلــى جهــود غيــر عاديــة، وإلــى أعمــال ضــخمة ،ولكــن حماســة اليمــان ،والجــرأة والقــدام ،الــتي هــي مــن صــفات المــؤمن ،ســتذلل هــذه الصعاب بالصبر والثبات ،لن إيمانهم بضــرورة وجــود الحكــم السلمي ،يفوق كل شيء ،وثقتهم بــالله تســهل عليهــم كــل صعب. غير أن هذا اليمان نفســه يحــدوهم وهــم يبصــرون الواقــع السيئ على أن يرتفعوا بأذهانهم عن هذا الواقــع ،ويرســموا على ضوء السلم الحياة السلمية الكاملة ،ويعملوا بعقليــة مبتكــرة مبدعــة عمــل المســلم الكامــل فــي تجنــب الــترقيع، والبتعــاد عــن الحــل الوســط ،ومحاربــة التجزئــة والتدريــج، صابرين على المشــقات ،واثقيــن بــأنهم ســيطبقون الســلم كامل ،ويستأنفون حسب نظامه الحياة السلمية. وعــود الســلم ل يكــون بتعميــر المســاجد ،وحفــظ الخلق ومنــع المحرمــات فقــط ،فــإن هــذه الحلــول جزئيــة مخــدرة ،ملهيــة عــن الخطــوة الحقيقيــة ليجــاد الســلم} . أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الخر وجاهد في سبيل ا ل 9
يستوون عند ا وا ل يهدي القوم الظالمين { }
ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق
والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الخر والملئكة والكتاب والنبيين ،وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون { .وإنما نعود إلى السلم إذا عاد للحكم في نظامه وأحكامه .فإذا عاد له الحكم وطبق نظامه تطبيقا انقلبيا فقد عاد قانونه ودستوره ،وعادت حينئذ جميــع شــؤون الحيــاة تعالــج بالســلم .فصــار المجتمــع إســلميا والحياة حياة إسلمية. ولذلك حــق علــى المســلمين أن يــبينوا للنــاس نظــام الحكم في السلم ،حتى يعرفوه ،وحـتى يعملـوا هـم علــى إيجــاده .ويصــبحوا هــم خلفــاء فــي الرض ،وقــد نــالوا مــا وعدهم ربهم به } وعد ا الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الرض { } الذين إن مكناهم في الرض أقاموا الصلة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعرو ف ونهوا عن المنكر {. 10
ونظام الحكــم فــي الســلم ،وإن كــان معروفــا بــأنه نظام دولة ،ولكنه ل بد أن يعلم أنه نظام خاص لدولة خاصة _ نظام إسلمي لدولة إسلمية ،ومعرفته ل بد أن تكون على هذا الوجه ،حتى يجري تطبيقه على هذا الساس. ومــع أن أنظمــة الحكــم القائمــة فــي جميــع البلد السلمية ومنها العربية قد ظهــر إفلسـها حـتى صـار العـالم السلمي ومنه العربي في أمزمة من أنظمة الحكم .ومــع أن النظام الديموقراطي كنظام حكــم مــن حيــث هــو قــد أعلــن إفلســه فــي العــالم ،مــع ذلــك فإننــا نخشــى _ وقــد عشــنا محكومين بأنظمة كفــر ثلــث قــرن أو يزيــد _ أن يكــون لهــذه النظمة أثر فينا يجعلنا نألف نوع الحكم الذي نحكم بموجبه، ونجعل مفاهيمه مقاييس لتصورنا الحكم في السلم. فمن الضروري أن نتغلــب علــى مــا ألفنــاه مــن أنــواع الحكــم ونرتفــع عــن الواقــع وعــن جميــع أنظمــة الحكــم الموجودة في العالم ،ونختار الحكم السلمي نظــام متميــزا فــي الحكــم ول نحــاول أن نــوامزنه ببــاقي أنظمــة الحكــم، ونفسره حسب رغبتنا ليطابق أو يشابه غيره. كل ،لننا ل نريد أن نعالج نظــام الحكــم فــي الســلم على حسب مشاكل العصر ،بل نريد أن نعالج مشاكل العصر بنظام السلم؛ لنه هو النظام الصالح .وعلى هذا الســاس 11
نجمل نظام الحكم في السلم كما هو ،مع مراعــاة عرضــه بأسلوب عملي للتطبيق ،تاركين التفصيل والتطويل لنه ليــس القصد العلم والتعليم ،وإنما لفت النظر للعمل. الدولة السلمية ليســت الدولــة الســلمية قــوة مطلقــة التصــر ف فــي شؤون الناس ،ول غاية يسعى إليها المسلمون لتنفرد بالقيام علــى جميــع شــؤونهم ،ويجعلونهــا وحــدها المتوليــة لكــل أمورهم أفرادا وجماعة ،تؤمن للفـرد كـل شـيء كمـا تـؤمن للجماعــة .كل ليســت كــذلك ،ول هــي وســيلة مؤقتــة تعمــل لخدمة الفرد وضمان حريته وتزول حين تضـمن حريـة الفـرد وتؤمن مصالحه .وإنما هــي قــوة مقيــدة التصــر ف بالشــرع، ووسيلة ضرورية دائمية توجدها المــة لتنفيــذ أحكــام الشــرع في المجتمع الذي تحكمه أفرادا وجماعات ،ولحمــل الــدعوة السلمية للعالم .وهي إن تولت جميع شؤون الجماعة لكنها ل تتولى عن الفرد شؤونه إل إذا عجز عنها ،فتعينه وتــوفر لــه ما يمكنه من القيام بأموره بوصفه جزءا من المجتمع .وذلك لن المجتمع كل مكــون مــن أجــزاء ،هــي النــاس والفكــار، والمشاعر ،والنظمة .والناس في المجتمع بجميع أفرادهــم جــزء مــن أجــزاء المجتمــع ،كمــا أن مــن أجزائــه الفكــار والمشاعر والنظمة التي تجمع هؤلء الفراد ،والدولــة نائبــة 12
عــن الجماعــة فــي تنفيــذ الشــرع الــذي منــه هــذه الفكــار والمشاعر والنظمة فهي موجودة لتنفيذ الشرع مسؤولة عن هذا التنفيذ كما أن الفرد في الجماعة مسؤول عنــه .غيــر أن مسؤولية الدولة تنفذها بالقوة والســلطان ومســؤولية الفــرد ينفذها طاعة لله وطلبا لرضوانه .لن كل مسلم في الجماعة مسؤول عن تنفيذ الشرع فيما يخصه بدافع تقوى اـ عامــل علــى مســاعدة الدولــة فيمــا يخــص الجماعــة فــي المــر بالمعرو ف والنهي عن المنكر إجابة لمر ا .ولذلك لم تكــن الدولــة معتمــدة علــى صــرامة التشــريع وقــوة الجنــدي فــي الحكم ،كما أنها لم تكن تاركة الحرية للناس إن شاؤوا نفــذوا الشرع وإن شاؤوا لم ينفذوه مــا دامــوا لــم يتعرضــوا لحريــة الخرين .بل الدولة السلمية تعتمــد علــى التقــوى المــتركزة في صــدور النــاس ،يقومــون بــأوامر اـ ويجتنبــون نــواهيه، وتعتمد على عدالة التشريع وقوة الجندي ،متعاونة مع المــة في تنفيذ أحكامه ،لن كل مسلم يعر ف أنــه علــى ثغــرة مــن ثغر السلم فل يؤتين مــن ِقهلَبلــه ،فالمــة الســلمية جميعهــا مســؤولة عــن تنفيــذ أحكــام اــ ،يتعــاون فيهــا الحكــام والمحكومــون ،الراعــي والرعيــة ،لضــمان تطــبيق الســلم تطبيقا كامل.
13
ومع شمول هذه المسؤولية ولزوم هذا التعاون ،فإن الدولة السلمية ليست مجموع المة والحكام ،وإنمــا الدولــة هــي الخليفــة الــذي يبــايعه المســلمون ،ومــن يعينهــم هــو لمعــاونته ،أو للقيــام بشــؤون النــاس ،ومجلــس الشــورى، وبعبارة أخرى :الدولة هي مجموع جهامز الحكم. على أن الدولة هي التي تقر التشريع وتنفــذه ،والــذي يقوم بذلك هو جهامز الحكـم ،لن الخليفـة بعـد أن يبـايع مـن المسلمين يصــبح هــو الــذي يجعــل الحكــام الشــرعية الــتي يتبناها من أقوال المجتهدين أحكاما معمول بهــا ) ،أي تصــبح قانونا ( وهو الذي ينفذ الشرع ،وليس للمة شيء من ذلك ل إقرار التشريع ول تنفيذه .نعم إن الحكم للمــة ،ولكنهــا بعــد أن بايعت الخليفة قد أنابته بهذه البيعة عنهــا فيــه ،وصــار هــو الذي يقوم بالحكم ،أي بتنفيذ الشرع ،وعلى المــة أن تراقيــه وتحاسبه وتناقشه ،وتلزمه عـزل ولتـه ومعـاونيه إذا أظهـرت عدم رضاها منهم. جهامز الحكم تختار المة الخليفة ) رئيس الدولــة ( ثــم تبــايعه بيعــة دائمية تظل لمزمة فــي أعناقهــا مــا دام منفــذا للشــرع ،وهــو يعيــن معــاونين لــه يكونــون معــه فــي الحكــم يتحملــون مســؤوليته ويرأســهم هــو ،ويتــولى أمرهــم ،ويعيــن الــولة 14
للوليات يحكمونها ،وهو الذي يشر ف عليهــم ،ويعيــن قاضــيا للقضــاة ليقــوم بتعييــن القضــاة وعزلهــم وتــأديبهم ،ويعيــن المديرين لدوائر الدولة التي تقضــي مصــالح النــاس ،ويعيــن قواد الجيش وأمراء ألويته ويباشر هو أمورهم ،ويرجع لهل الحل والعقد في شؤون المسلمين جميعها يأخــذ رأيهــم بهــا ويشاورهم فيما يريد أن يفعله أو يتركه. وعلــى ذلــك يقــوم جهــامز الحكــم علــى ســبعة أركــان وهــي :مجلــس الشــورى ،رئيــس الدولــة ،والهيئــة التنفيذيــة ) المعــاونون لرئيــس الدولــة ( والجهــامز الداري ،والــولة، والقضــاء ،والجيــش .ومجمــوع ذلــك هــو الدولــة الســلمية. وهذا الجهامز أقامه النبي صلى ا عليــه وســلم بنفســه ،فقــد كان يتولى شؤون الحكم وتدبير أمور الناس في سائر شؤون الحياة ،قال تعالى } :إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك ا { وكان إذا خرج من المدينة لغــزوة مــن الغــزوات أقــام مكــانه مــن يتــولى أمــور المسلمين نيابة عنه أثناء غيابه. فإنه صلى ا عليه وســلم فــي أواخــر الســنة الولــى للهجرة ،على رأس اثني عشر شهرا من مقدمه للمدينة ،خرج إلى غزوة البواء واســتعمل علــى المدينــة ســعد بــن عبــادة ليتولى شؤون المسلمين نيابة عنه ،وفي غــزوة تبــوك حينمــا 15
خرج لقتال الروم استخلف على المدينــة محمــد بــن مســلمة. فكان عليه السلم رئيس الدولة ،إذا خرج لقتال جعــل مكــانه من ينظر في أمور الناس. وقد أقام عليه السلم معاونين له في شؤون الحكم؛ إذ قد خص أبا بكر وعمر بالمور العامة ،كما خــص أبــو بكــر من بعده عمر وأبا عبيــدة ،وكمــا خــص عمــر عثمــان وعليــا. فكان أبو بكر وعمر هيئة تنفيذية مع الرسول ،كما كــان عمــر وأبو عبيدة مع أبي بكر ،وعثمان وعلي مع عمر. أما المور الدارية ورعايــة مصــالح النــاس فقــد عيــن صلى ا عليه وسلم لها من يقومون بشأنها ،وكانوا يســمون كتابا .فقد عين مزيــد بــن ثــابت _ كــاتب الــوحي _ يكتــب إلــى الملــوك ،وعيــن معيقيــب بــن أبــي فاطمــة كاتبــا للغنــائم، والمغيرة بن شعبة كاتبا للمداينات والمعاملت ،وهكـذا عيـن لكل مصلحة كاتبا أي لكل إدارة مديرا .وأما الولة فقــد عيــن عليه السلم عتاب بن أسيد واليا على مكة وفرض له درهمــا كل يوم ،وولى معاذ بن جبل واليا على اليمن .ومزياد بــن لبيـد على حضرموت ،والعلء بن الحضرمي علــى البحريــن .وأمــا القضاء فقد كان صلى ا عليه وسلم يحكم الناس ويفصــل بينهم في الخصومات ،وكــان يبعــث الــولة ويجعــل لبعضــهم حق الفصل في الخصومات ،فقد عين عتاب بــن أســيد واليــا 16
على مكة وقاضيا فيها كما جعــل معــاذ بــن جبــل واليــا علــى اليمن وقاضيا فيها .وقد سار أبو بكر على ذلك إلى أن جاءت خلفة عمر ،فخص الولة بالولية والحكــم ،وجعــل القضــاة منفردين عن الولية ،فولى أبــا الــدرداء قاضــيا فـي المدينــة، وشريحا قاضيا في البصرة ،وأبا موسى الشعري قاضيا فــي الكوفة. وأما الجيش فإن الرسول عليــه الســلم جعــل جميــع المســلمين جنــدا لن الجهــاد فــرض علــى جميــع المســلمين للقتــال ،وكــان الرســول إذا غــزا اســتنفر المســلمين فكــانوا ينفــرون خفافــا وثقــال ويجاهــدون بــأموالهم وأنفسـهم فــي سبيل ا ،ولم يكــن هنالــك جيــش مخصــص ،وظــل الحــال كذلك في أيــام أبــي بكــر ،إلــى أن جــاء عمــر فخصــص مــن المسلمين جندا جعل لهم أرمزاقا في بيت المال يكونون دائما في عمل الجنديــة للجهــاد،وكــان بــاقي المســلمين كــالجيش الحتياطي يستنفرون للقتال كلما دعت الحاجة. وأمــا مجلــس الشــورى فــإن الرســول كــان يستشــير الصــحابة فــي المــور ،وقــد خــص أربعــة عشــر رجل فــي الشورى ،كان يرجع إليهم في أخذ الــرأي ،ولــم يخــتر هــؤلء ممن هم أقدر الصحابة وأعلمهم وإنما اختارهم لنهم نقبــاء
17
على قومهم ،أي ممثلين لهم ،ولذلك اختار سبعة من النصــار وسبعة من المهاجرين ،وكانوا من النقباء فقط. هذا هو جهامز الحكم الذي هو الدولة ،وهو قد أوجده الرسول صلى ا عليــه وســلم فهــو جهــامز قــائم متميــز فــي شكله وفي السس التي يقوم عليها. قواعد الحكم يقوم الحكم في السلم على أربعة قواعد. أول :أن السيادة للشرع .قال تعالى } يا أيها الذين آمنوا أطيعوا ا وأطيعوا الرسول وأولي المر منكم { ثم أكمل هذه الية بقوله } فإن تنامزعتم في شيء فردوه إلى ا والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الخر { والمراد تنامزع المة مع أولي المر. ومعنــى رده إلــى اــ والرســول هــو رده إلــى حكــم اــ والرسول أي إلى الشرع. ثانيا :أن السلطان أي ) الحكم ( للمــة ،قــال تعــالى } وعد ا الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الرض كما استخلف الذين من قبلهم { أي أن أصل الحكم لله وهو الذي استخلف المؤمنين فيه .وقال تعالى } ولقد مكناكم في الرض { أي جعلنا لكم فيها السلطان ،أي الحكم. 18
ثالثا :أن نصب خليفة واحد لكافة المســلمين " رئيــس الدولة " من قبل المة نائبا عنها في الحكم أمر واجــب علــى المة ،فل يحل لمسلم أن يبيت ليلــتين دون بيعــة .قــال عليــه الصلة والسلم ) من مات وليس في عنقــه بيعــة فقــد مــات ميتة جاهلية ( وقد أجمع الصحابة بعد وفاة رسول ا صــلى ا عليه وسـلم علـى وجـوب نصـب خليفـة لـه .ووردت فـي القرآن والحديث نصوص كثيرة دالة على وجوب طاعــة ولــي المر .قال تعالى } يا أيها الذين آمنوا أطيعوا ا وأطيعوا الرسول وأولي المر منكم { وقال عليه الصلة والسلم ) من أطاعني فقد أطاع ا ـ ومــن عصــاني فقد عصا ا ،ومن يطــع الميــر فقــد أطــاعني ومــن يعــص المير فقــد عصــاني ( وولــي المــر فــي اليـة والحــديث هــو رئيس الدولة. رابعــا :للمــة كلهــا حــق الجتهــاد لســتنباط الحكــام الشرعية لمعالجة مشاكل الحياة إذا توفرت شروط الجتهــاد، ولكن حق التشريع إنمــا هــو للخليفــة وليــس للمــة ،فلــه أن يختار الحكام الشرعية من أقوال المجتهدين ويلــزم القضــاة والحكام العمــل بهــا دون غيرهــا ،ولــه أن يســتنبط الحكــام باجتهاد صحيح ويلزم العمل بهــا " ،للســلطان أن يحــدث مــن القضية بقـدر مــا يحــدث مـن مشـكلت " وأمــره بــأي حكـم 19
شرعي يــوجب علــى النــاس حــتى المجتهــدين ،العمــل بهــذا الحكم ويلزمهم اتباعه ،لن طاعته واجبة في حدود الشرع" ، أمــر المــام نافــذ ظــاهرا وباطنــا " واختيــاره لي حكــم مــن الحكام الشرعية المستنبطة يرفع الخل ف بيــن الئمــة علــى هذا الحكم " ،أمر المام يرفع الخل ف " .ولــذلك كــان جعــل الحكام الشرعية قوانين معمول بها إنما هو لرئيــس الدولــة. فمثل رأي أبــي حنيفــة ) أن الزكــاة ل تجــب علــى الصــبي والمجنون لنها عبادة ،وهي ل تجب إل على المكلــف ،وهمــا غير مكلفين ( .ورأي الشافعي ) أن الزكاة تجب على الصــبي والمجنون لنها واجبة في المــال المملــوك للنســان وليســت على النسان .والصبي والمجنون إذا ملكــا مــال بلــغ النصــاب وجبت عليهما ،لوجود المال المملوك لهما ( .فإذا اختار رئيس الدولــة رأي الشــافعي كــان القــانون أن تحصــل الزكــاة مــن الصبي والمجنون ،وتجب على الناس ــ حـتى مـن يـرى رأي أبي حنيفة ـ الطاعة ،ويلزمون بالعمل بهذا الحكم الشرعي. حق الشورى الشورى حق لجميع المســلمين علــى الخليفــة ،فلهــم عليه أن يرجع إليهم في أمورهم التي تجــب فيهــا المشــورة. قال تعالى } وأمرهم شورى بينهم { ورجوع الخليفة لرأي المسلمين فيما ل نص فيه ولــم يعــر ف حكــم اـ فيــه 20
واجب .قال تعالى } وشاورهم في المر فإذا عزمت فتوكل على ا { والمر في الية يقتضي الوجوب .وكان الرسول صلى ا عليه وسلم يرجع للناس يستشيرهم .فقــد استشارهم يوم بدر فـي أمـر مكـان المعركـة ،واستشــارهم يوم أحد في القتال خارج المدينة أو داخلها ،ونزل عند رأيهــم في الحادثتين. وقد رجع عمر إلى المسلمين في أمــر أرض العــراق: أيومزعها على المسلمين لنها غنائم ؟ أم يبقيها فـي يـد أهلهـا وتبقى رقبتها ملكا لبيت المال يستحق فيه جميــع المســلمين، وقد عمل برأي أكثر المســلمين ،وظلــت أرضــا خراجيــة .وقــد عزل ســعد بــن أبــي وقــاص عــن الوليــة لمجــرد الشــكوى، وقال :إني لم أعزله عن خيانة أو ضعف .وقــال رجــل لعمــر وهو على المنبر :ل سمع ول طاعة حتى تعدل .وناقشه فــي أمر البراد اليمانية ،وقــد انعقــد الجمــاع علــى وجــوب بيعــة الخليفة من قبل المة ،فلها حق اختيار الخليفة ،ولها أن تظهر عدم رضاها عن أعمال الولة والمعــاونين ،ولهــا أن تعطــي رأيها في الحكام الشرعية التي يأمر الخليفة بالعمل بها. مجلس الشورى للمة أن توكل عنها من تشــاء فــي التعــبير عــن رأيهــا في الحكم والتشريع ،وأعمال المعــاونين والــولة ،ومناقشــة 21
الخليفة في أعمــاله .وتكــون لهــؤلء الــوكلء الحقــوق الــتي يملكهــا موكلــوهم فقــط ،لن الوكالــة تصــح فيمــا هــو مــن صلحية الموكل ،وليس لهم غير ذلــك ،وهــؤلء الــوكلء فــي الــرأي هــم مجلــس الشــورى .فقــد روي أن الرســول عليــه السلم في بيعة العقبة الثانية قال للمسلمين بعد أن بــايعوه البيعة المعروفة ) أخرجوا لي منكم اثني عشر نقيبا ( فاختــار القــوم تســعة مــن الخــزرج وثلثــة مــن الوس .وروي أن الرسول عليه الصلة والسلم كان يرجــع فــي الشــورى إلــى من كانوا نقباء علــى قـومهم؛ فكــان يرجــع إليهـم فــي أمــور الحكم والدارة ،وفي تعييــن الــولة والكتــاب .وقــد خصــص أربعة عشر رجل كان يرجع إليهم في المور ،واختارهم مــن النقباء على قــومهم بغــض النظــر عــن مقــدرتهم .وأخــذهم سبعة من النصار وسبعة من المهــاجرين وكــل واحــد منهــم كــان نقيــب قــومه وجمــاعته ،أي أنــه ضــمن إســلم قــومه وجماعته ودخلوا في السلم علـى يـديه وكــان هـو نقيبهـم، وكانوا هم أهل الشورى الذين يرجع إليهم في الرأي. ولما وسدت الخلفة لبي بكر رضي ا عنه اتخــذ لــه جماعة من الممثلين لقومهم ليرجع إليهــم فــي أمــور الحكــم والدارة والتشريع ،وكان من أبرمز هؤلء عمر وعثمان وعلــي
22
ي بــن وعبد الرحمن بن عو ف ومعاذ بن جبل وأبو عبيدة وأب ـ ّ كعب ومزيد بن ثابت. إل أن الشــخاص الــذين كــان يرجــع إليهــم الخليفــة يستشــيرهم فــي شــؤون المســلمين لــم يكونــوا مخصصــين للشورى ،ولم يكن موكل إ ً إليهم عمل معين ،بل كــان الخليفــة كلما حزبه أمر دعاهم إليه واستشارهم في أمــر المســلمين، وكانوا في اجتماعهم عند أخذ الرأي يشــكلون مجلســا ،وبعــد انتهــاء المشــاورة وتفرقهــم ل تبقــى عليهــم صــفة مجلــس الشورى ،إل أنه لتعدد المشــاكل وتنوعهــا يجــب أن يخصــص مجلس للشورى. انتخاب أعضاء مجلس الشورى ينتخب أعضاء مجلــس الشــورى انتخابــا ،ول يصــح أن يعينــوا تعيينــا .وذلــك لنهــم وكلء فــي الــرأي عــن النــاس، والوكيل إنما يختاره موكله ،ول ُيفرض الوكيــل علــى الموكــل مطلقا ،ولن أعضاء مجلس الشورى ممثلــون للنــاس أفــرادا وجماعات في الرأي ،ومعرفة الممثــل فــي البقعــة الواســعة والقوم غير المعروفيــن ،ل تتــأتى إل لمــن يختــاره ممثل لــه، ولن الرسول عليه السلم لم يختر من يرجع إليهم في الرأي على أساس مقدرتهم وكفــايتهم وشخصــيتهم .بــل اختــارهم على أساسين :أولهما أنهم نقباء على جماعتهم بغض النظــر 23
عن كفايتهم ومقدرتهم ،وثانيهما أنهم ممثلون عن المهاجرين والنصار ،نصفهم عن هؤلء ونصفهم عن هؤلء .فــالغرض الذي وجد من أجله أهل الشورى هو التمثيل للنــاس ،فيعتــبر الساس الذي يختار عليه أعضاء مجلس الشورى هو التمثيل بالنسبة للناس كما هو الحال في تعمد الختيــار مــن النقبــاء. والتمثيل بالنسبة للجماعات كما هو الحال في تعمــد الختيــار عن المهاجرين والنصار مناصفة بينهما .وهذا التمثيل للفراد والجماعات للناس غيــر المعروفيــن ل يتحقــق إل بالنتخــاب، فيتحتم انتخاب أعضاء مجلس الشورى .أما كون الرسول هو الذي تولى اختيار من يستشيرهم؛ فلن البقعــة كــانت ضــيقة وهي المدينة ،ولن المسلمين كانوا معروفين لديه ،بدليل أنه في بيعة العقبــة الثانيــة لــم يكــن المســلمون الــذين بــايعوه معروفين لديه ،فترك أمــر النتخــاب مــن النقبــاء لهـم ،وقــال لهم :اختاروا لي منكم اثني عشر نقيبا. وعلى ذلــك فــإنه يســتنبط مــن كــون أعضــاء مجلــس الشورى وكلء في الرأي ،ومــن كــون العلــة الــتي وجــد مــن أجلها مجلس الشورى هــو التمثيــل للفــراد والجماعــات فــي الــرأي ،ومــن عــدم تحقــق هــذه العلــة فــي النــاس غيــر المعروفين إل في النتخاب العام ،يستنبط من ذلــك كلــه ،أن
24
أعضاء مجلس الشورى ينتخبون انتخابــا ،ول يصــح أن يعينــوا تعيينا. مدة عضوية مجلس الشورى تحدد مدة العضوية لمجلس الشورى؛ لن الذين كــان يرجع إليهم الرسول في الشورى لم يتقيد بالرجوع إليهم أبــو بكر ،وأن عمر ابــن الخطــاب لــم يتقيــد بــالرجوع للشــخاص الذين كان يرجــع إليهــم أبــو بكــر .وقــد رجــع عمــر إلــى رأي أشخاص في أواخر حكمه غير الذين رجع إليهــم فــي أوائــل حكمه .وهذا يدل على توقيت عضوية مجلس الشورى بمــدة معينة. عضوية مجلس الشورى لكل مواطن يحمل التابعية ) الولء للدولــة والنظــام ( إذا كان بالغا عاقل الحق في عضوية مجلــس الشــورى ،ولــه الحق في انتخاب أعضاء مجلس الشورى ،ســواء أكــان هــذا المواطن رجل أم امرأة ،مسلما كان أم غير مسلم .وذلك لن مجلس الشورى وكيل عن الناس في الرأي فقط ،وليست له صلحية الحكم والتشريع ،وما دام وكيل في الرأي فمن حــق الناس في الدولة السلمية أن يوكلوا من يشاؤون ممن هـم أهــل الوكالــة فــي الحقــوق شــرعا .وكمــا أن للمســلم حــق الشورى ،فإن لغيــر المســلم الحــق فــي أن يبــدي رأيــه فــي 25
تطـبيق أحكــام السـلم عليــه ،وفيمــا يلحقـه مـن ظلــم مـن الحاكم ،ولذلك كان له أن يوكل عنه من يشاء ،وأن يكون هو وكيل عمن يشاء ،ول يشترط في الوكيل ول فــي الموكــل أن يكون مسلما ،بل يجومز أن يكــون الموكــل والوكيــل مســلمين وغيــر مســلمين .ومــن هنــا جــامز لغيــر المســلمين كمــا جــامز للمسلمين أن ينتخبوا من يمثلهم في مجلس الشورى ،مسلما أو غير مسلما. وأيضــا فالســلم ينظــر للشــعب الــذي يحكمــه نظــرة إنســانية محضــة ،بقطــع النظــر عــن الطائفــة ،والجنــس، والذكورة ،والنوثة .وتكـون سياســة الحكـم المرســومة لهـم بوصــفهم النســاني فقــط ،حــتى يكــون الحكــم لمصــلحة النسانية ليخرجها من الظلمات إلى النور .ولهذا كان الشــعب المحكـوم متسـاوي الحقـوق والواجبـات المتعلقـة بالنسـان باعتبــاره إنســانا مــن حيــث تطــبيق الحكــام الشــرعية علــى الجميع ،والقاضي حيــن يفصــل الخصــومات ،والحــاكم حيــن يحكــم ،ل يفــرق بيــن النــاس ،بــل يعــاملهم علــى الســواء بوصفهم النساني ل بأي وصف آخر .ولهــذا كــان لكــل واحــد بوصفه محكوما للدولة الحق في أن يعبر عن رأيه هــو ،ولــه الحق في اختيار ممثله ليعبر عــن رأيــه ورأي منتخــبيه .وذلــك لن ا خاطب بالسلم جميع الناس بوصف النسانية فقط، 26
قال تعالى } يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا { } يا أيها الناس إني رسول ا إليكم جميعا { وقد اتفق علماء المسلمين ل سيما علماء الصول على أن المخــاطب بالحكــام هــو كــل عاقــل يفهم الخطاب ،سواء أكان مسلما أو غير مسلم ،ذكرا كــان أو أنثى. هذا من ناحية غير المسلمين .أمــا مــن ناحيــة المــرأة فلن مجلس الشورى ليس من قبيل الحكــم ،ول يــدخل فــي الحديث الشريف الذي يتعلق بولية المرأة ،ولن الثــابت عــن سيدنا عمــر أنــه كــان حيــن تعــرض لــه نامزلــة يريــد أخــذ رأي المسلمين فيها ،سواء أكانت النامزلة تتعلق بالحكام الشــرعية ) التشريع ( أو تتعلق بالحكم ،أو أي عمل من العمــال الــتي للدولة ،كان إذا عرضت له نامزلة دعا المسلمين إلى المســجد، وكان يدعو النساء والرجال ويأخذ رأيهــم جميعــا ،وقــد رجــع عن رأيه حين ردته امــرأة فــي أمــر تحديــد المهــور .علــى أن النبي صلى ا عليه وسلم قد قــدم عليــه فــي الســنة الثالثــة عشرة للبعثة ) أي السنة التي هاجر فيها ( خمســة وســبعون مسلما منهم ثلثة وسبعون رجل وامرأتــان ،وبــايعوه جميعــا بيعة العقبة الثانية ،وهي بيعة حــرب وقتــال وبيعــة سياســية. وبعد أن فرغوا من بيعته قال لهم جميعا ) اخرجوا لي منكم 27
اثني عشر نقيبا يكونون على قومهم بما فيهــم كفلء ( وهــذا أمــر منــه للجميــع ،بــأن ينتخبــوا مــن الجميــع ،ولــم يخصــص الرجال ،ولم يستثن النساء ،ل فيمن ينتخب بكسـر الخــاء ،ول فيمن ينتخب بفتحها ،والمطلق يجري على إطلقه ما لم يــرد دليل التقييد ،كما أن العام يجري على عمومه ما لم يرد دليل التخصيص ،وهنا جاء الكلم عاما ومطلقا ولم يــرد أي دليــل للتخصيص والتقييد؛ فدل علـى أن الرســول أمـر المرأتيــن أن تنتخبا النقباء ،وجعل للمرأتين حق انتخابهمــا مــن المســلمين نقيبتين. وقد جلس الرسول صلى ا عليه وسلم يوما ليبــايعه الناس ،وجلس معه أبو بكر وعمـر ،فبـايعه الرجـال والنسـاء وكانت المرأة تضــع يــدها فــي يــده الشــريفة مبايعــة .وكــان يعرفهن ويباسطهن في الحــديث .ولــم تكــن هــذه البيعــة إل بيعة علــى الحكــم ،ل علــى الســلم؛ لنهــم كــانوا مســلمين. وبعد بيعة الرضوان في الحديبية بايعه النساء أيضا } يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن ل يشركن بالله شيئا ول يسرقن ول يزنين ول يقتلن أولدهن ول يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ول يعصينك في معرو ف فبايعهن واستغفر لهن ا إن ا غفور رحيم { وهذه بيعة على الحكم أيضا لن القرآن 28
يقرر أنهــن مؤمنــات ،وكــانت البيعــة علــى أن ل يعصــينه فــي معرو ف .وسيأتي في ) فصل انتخاب الخلفاء الراشدين ( إن عبد الرحمن بن عون طا ف بالمسلمين ،وسألهم سرا وجهرا، وعر ف رأيهم رجال ونساء ،فيمن يكــون الخليفــة .فهــذا كلــه صريح في أن المرأة تنتخب .وأما المبايعة بعد النتخاب فهي وإن كانت واجبة إل أن من تركها غير مخالف للجماعة ل يأثم ـ لنها فـرض كفايـة ــ وكــانت ثابتــة فـي عنقـه .فــإذا تخلـف النساء عن المبايعة في المسجد بعــد أن أبــدين رأيهــن ولــم يخالفن ،وتخلف كثير من الرجال كذلك لم يكن هــذا التخلــف دليل على عدم جوامز بيعتهــن ،ول علــى عــدم وجــوب البيعــة على الرجال. وعلوة على ذلك فإن للمرأة الحق في أن توكل عنها في الرأي ،ويوكلها غيرها فيه؛ لن لها حق إبداء الــرأي ،فلهــا أن توكل فيه ،ولن الوكالة ل تشترط فيهــا الــذكورة ،فلهــا أن تتوكل عن غيرها. على أن انتخاب غير المســلم وانتخــاب المــرأة عضــوا فــي مجلــس الشــورى وانتخابهمــا أعضــاء لــم يــرد أي دليــل بتحريمه أو منعه ،والقاعدة الشــرعية هــي أن " الصــل فــي الشياء الباحة ما لم يرد دليل التحريــم " ولــم يــرد أي دليــل على تحريم هذا الشيء فدل على أنه جائز ومباح. 29
غير أنه مع ذلك ليس لغير المسلمين الحق في إبــداء الرأي في التشريع؛ لن التشريع السلمي ينبثق عن العقيدة السلمية ،فهـو أحكــام شـرعية عمليـة مســتنبطة مـن أدلتهـا التفصيلية ،ولنه يعالـج مشـاكل النسـان حسـب وجهـة نظـر معينة تعينها العقيدة السلمية ،وغير المســلم يعتنــق عقيـدة تناقض العقيدة السلمية ،ووجهة نظره في الحياة تتنــاقض مع وجهة نظر السلم فل يؤخذ رأيه في التشريع. وكذلك ليس لغير المسلم الحق فــي انتخــاب الخليفــة ول في حصر المرشحين للخلفة لينتخب منهم الخليفــة؛ لنــه ليــس لــه الحــق فــي الحكــم .أمــا بــاقي الشــياء الــتي مــن صلحيات مجلس الشورى؛ فهــو كالمســلم فيهــا وفــي إبــداء الرأي بشأنها. صلحيات مجلس الشورى لمجلس الشورى صلحيات أربع وهي: أول ـ إعطاء الرأي في التشريع :وذلــك أن تحيــل إليــه الهيئة التنفيذية الحكام الشرعية التي تتبناها ) أي القــوانين ( ليدرسها ،ويعطي رأيه فيها ،بعد دراسة المشكلة الــتي وضــع الحكم الشرعي لها ،ودراسة الحكم الشرعي نفســه بالنســبة لدليله .وذلك لن فهم أعضاء مجلس الشورى فــي المســائل العملية التي تحصل في شؤون المسلمين يتجلى في بحــثين 30
اثنين :أولهما النص الشــرعي ،إمــا بروايــة حــديث ينــاقض أو يؤيد رأي الهيئة التنفيذية ،وإما بفهم النص الشرعي من كتــاب أو سنة فهما يؤيد أو يناقض الرأي المعروض عليهم ،وثانيهما فهم الواقعة نفسها بالبحث في حقيقتها ،حــتى يطبــق حكــم ا عليها؛ لن عدم فهم الواقع يؤدي إلى تطــبيق حكــم ا ـ على واقعة ليس الحكم لها ،لن فقه الواقع وإدراك حقيقتــه يتوقف عليه فهم حكم ا في هذا الواقع ،ولذلك كــان فقــه المسألة الواقعة لمزما كفهم حكم ا المستنبط من الدليل. ثانيا ـ مراقبته للحكم ومناقشته الخليفة في جميع الشؤون ومحاسبته على الصـغيرة والكـبيرة فـي كافـة أمـور الحكم. ثالثا ـ مراقبته للولة والمعاونين للخليفة في الحكم وإظهار عدم الرضا منهــم وحينئــذ يجــب علــى رئيــس الدولــة عزلهم في الحال. رابعا ـ للمسلمين من أعضاء مجلس الشورى حصر المرشحين للخلفة حتى تنتخب المة منهم الخليفة ثم تبــايعه البيعة الواجبة. العمل برأي مجلس الشورى 1ـ ـ المســائل الــتي تعــرض للنــاس ل بــد مــن حلهــا والمشــاكل الــتي تطــرأ عليهــم ل بــد مــن معالجتهــا .وحلهــا 31
ومعالجتهــا إنمــا يكــون بمعرفتهــا ،بدراســة حقيقتهــا وإيجــاد معلومات عنها .وهي إمــا داخليــة وإمــا خارجيــة .أمــا المــور الداخلية فإنها تقع تحت سمع المة وبصرها؛ ولذلك كــان لهــا الحق في إبداء الرأي فيها ،وكان علــى الدولــة أن تأخــذ رأي المة فيها .وأما الشياء الخارجية فإنها تحتــاج إلــى معلومــات موثوقة حتى تعالج ،وهذه المعلومات توجد عند الدولة؛ لنها هي التي تباشر المور ،وهي الــتي تتصــل فــي ســائر الــدول والمم ،ولذلك ل حق للنـاس فــي أخــذ رأيهـم بهــا ،ول يجـب على الدولة أن ترجــع إليهــم فــي شــأنها ،وإن كــان يجــومز أن تسمع رأي المة فيها ،والمة تبدي في شأنها الرأي الذي تراه لن النصيحة لئمة المسلمين أي لحكامهم حق على المة. 2ـ تصرفات الدولة هي أعمال حدثت فيمكــن الحكــم عليها ،وليست هي أمورا ستحدث تحتاج إلى معلومات لصدار الحكم فــي شــأنها .ولــذلك كــان مــن حــق المــة أن تنــاقش الدولة وتحاسبها على كل تصر ف من تصرفاتها مطلقا ،سواء أكان ذلك في المور الداخلية ،أو الخارجية .وعلى الدولــة أن تستجيب لهذه المناقشة والمحاسبة وأن تعمل برأي المة إذا كــان وفــق الشــرع؛ لن الدولــة إنمــا وجــدت لتنفيــذ الشــرع، ولرعاية مصالح الناس .وتصرفاتها منوطة بالمصلحة العامــة، مقيدة بشرع ا؛ ولذلك يجب أن تحاسب من قبل المة على 32
كل عمل من أعمالها ،وتناقش في كل تصر ف من تصرفاتها، لتظــل ســائرة فــي حــدود الشــرع ،وفــق المصــلحة العامــة. ومجلس الشورى وكيل عن المــة فــي الــرأي ،فلــه محاســبة الخليفة والهيئة التنفيذية والولة ،وله مناقشــتهم فــي سياســة القتصاد والصحة والتعليم ونحوهــا ،ممــا هــو مــن السياســة الداخلية ،أو من التصــرفات الناشــئة عــن السياســة الداخليــة، وكذلك في كافة التصرفات التي تحصل بالفعل في السياسة الخارجيــة .ومحاســبة مجلــس الشــورى ومناقشــته للخليفــة وللهيئة التنفيذية والولة ملزمة لهم فيجب عليهــم العمــل بمــا يراه المجلس في شأنها. إل أن هــذه المحاســبة والمناقشــة فــي السياســة الداخليــة جميعها ،وفيما ينتج عنها من تصرفات ،وفي التصــرفات الــتي تحصل بالفعل في السياسة الخارجيــة ،هــي أمــور اجتهاديــة تسـير وفــق الشــرع ،وتعمـل ضــمن المصـلحة العامـة ،وقــد يحصل خل ف في الرأي فيها ،بين مجلس الشــورى والدولــة، وقد يختلفون على حكم الشرع في شأنها ،وقد يختلفون في وجه المصلحة فيهــا ،فــإذا اختلــف مجلــس الشــورى ورئيــس الدولة أو الهيئة التنفيذية أو الولة في شــرعية حكــم فــي أي أمر من هذه المور ،ل يرجح رأي رئيس الدولة أو معاونيه أو الولة ،ول رأي مجلــس الشــورى ،بــل يحــال المــر لمحكمــة 33
المظالم لتعطي رأيها ،وهي التي تفصل فــي ذلــك وحكمهــا نافذ على رئيس الدولة ومعاونيه والولة ،كما هو نافــذ علــى مجلــس الشــورى؛ لن الســيادة للشــرع ،وهــو ممثــل فــي القضاء ،ومحكمة المظالم أعلى هيئة قضائية تمثــل الشــرع، قال تعالى } فإن تنامزعتم في شيء فردوه إلى ا والرسول {. 3ـ ل يجب على الخليفة العمل برأي مجلــس الشــورى فــي الناحيــة التشــريعية ،لن رأي المجلــس يأخــذ فــي هــذه الناحية لمجرد الشورى ،ول يلزم العمل به ،بــل الــرأي الخيــر في التشــريع هــو لميــر المــؤمنين ،وأمــره هــو الــذي يجعــل الحكم الشرعي قانونا ،ما دام اجتهاده شرعيا ،ومــا دام هــذا الحكم مــأخوذا باجتهــاد صــحيح .ويلـزم الخــذ فيمــا اختـاره. وهذا ل يعني أن مجلس الشورى ل يختار أحكاما شرعية بــل له ـ إذا أراد ـ أن يختار أحكاما شرعية ،لتكون قانونــا ،ولكنهــا ل تصبح قانونا نافذا إل إذا أمر بها أمير المؤمنين. 4ـ الخليفة نائب عن المــة فــي الحكــم ،وحيـن يعيــن معــاونيه والــولة يجــب أن يعينهــم للحكــم وللقيــام بمصــالح الناس ،وأن يكونوا أمنــاء عليهــا ،موثــوقين عنــد النــاس ،وأن يرضــى عنهــم المحكومــون .ومجلــس الشــورى نــائب عــن الناس ،فإذا أظهر مجلــس الشــورى عــدم رضــاه مــن الهيئــة 34
التنفيذية ،أو أحد أعضــائها ،أو مــن الــولة يجــب علــى رئيــس الدولة أن يعزلهـم فــي الحــال ،دون بيـان السـباب؛ لن رأي مجلس الشورى ملزم في ذلــك ،ويجــب علــى رئيــس الدولــة العمل به. 5ـ ـ للمســلمين مــن أعضــاء مجلــس الشــورى حصــر المرشحين للخلفة فــإذا حصــروا المرشــحين للخلفــة يجــب على الدولة أن تلتزم رأيهـم فـي ذلـك؛ لن رأيهـم فـي هـذه الناحية ملزم يجب العمل به. 6ـ ويتلخص موضوع العمل برأي مجلس الشورى في النقاط التية: أ ـ يعتبر رأيه كله ملزما في أمر أعضاء الهيئة التنفيذيــة والولة ،ويجب العمل به ،فإذا أظهر عدم رضاه منهــم وجــب عزلهم. ب ـ يؤخذ رأيــه كلــه فــي شــؤون الحكــم والدارة ،أي فــي السياســة الداخليــة ،ويكــون رأيــه ملزمــا فــي سياســة القتصاد والصحة والمعار ف وما شاكلها من المور الداخليــة، ول يؤخذ رأيه في الناحية المالية كالميزانية ،ول في الجيــش، ول في السياسة الخارجية ،كعقد المعاهدات وإعلن الحرب. ج ـ لمجلس الشورى الحق فــي أن يعطــي رأيــه فــي كافــة تصــرفات الدولــة ،ســواء أكــانت ناتجــة عــن السياســة 35
الداخلية ،أو السياسة الخارجيــة أو الماليــة أو غيرهــا ،وتعتــبر محاسبته للدولة علــى هــذه التصــرفات ومناقشــته لهــا حقــا، ويكون رأيه ملزما يجب العمل به. د ـ يؤخذ رأي العضــاء المســلمين منــه فــي التشــريع وفي حصر المرشحين للخلفة .أمــا رأيــه فــي التشــريع فهــو لمجرد الشورى وليس ملزما ول يجـب العمـل بـه ،وأمـا رأيـه في حصر المرشحين للخلفة ،فهو ملزم يجب العمل به. رئيس الدولة رئيس الدولة هو الذي ينوب عن المة في الســلطان، أي الحكــم ،وفــي تنفيــذ الشــرع ،وهــو الــذي يضــع الحكــام الشرعية موضع التنفيذ أي يجعلها قانونــا ،وهــو الــذي يتــولى أمور المة ويرعى شؤونها ،وليس هــو رمــزا لهــا ،ول مصــدرا لسلطانها ،بل هو المنفذ لشرع اــ ،ول تعتــبر رئاســته إل إذا كانت معطاة لـه مـن المـة ،ول تجـب طـاعته إل فـي حـدود الشرع .وقد فهم ذلك أبــو بكــر رضــي ا ـ عنــه ،فقــال فــي خطبته حين ولي الخلفة ) أيها الناس قد وليت عليكم ولست بخيركــم ،فــإن أحســنت فــأعينوني ،وإن صــدقت فقومــوني، الصدق أمانة ،والكذب خيانة ،والضعيف فيكم قوي حتى آخذ له حقه ،والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحــق منــه إن شــاء ا ،ل يدع أحدكم الجهاد فإنه ل يــدعه قــوم إل ضــربهم اـ 36
بالذل ،أطيعوني ما أطعت ا ورسوله ،فإذا عصــيت ا ـ فل طاعة لي عليكم ،قوموا إلى صلتكم يرحمكم ا ( وخطــب عمر بن عبد العزيز حين ولي الخلفة ،فصرح عن عمله فــي رئاسة الدولة بأنه منفذ فقال ) أيهــا النــاس إنــه ل كتــاب بعــد القرآن ،ول نبي بعد محمد صــلى اـ عليــه وســلم ،أل وأنــي لست بقاض ولكني منفذ ،ولست بمبتدع ولكني متبع ،ولســت بخير من أحدكم ولكني أثقلكم حمل ،وإن الرجل الهارب مــن المام الظالم ليس بظالم ،أل ل طاعة لمخلوق فــي معصــية الخــالق ( ممــا يــدل علــى أن الخليفــة كــان يفهــم أنــه منفــذ للشرع ،أنظر قول عمر بن عبد العزيز ) لست بقــاض ولكنــي منفذ ( وانظر قوله ) ل طاعة لمخلوق في معصــية الخــالق ( ولذلك فإن المسلمين حيــن يبــايعون الخليفــة ،إنمــا يبــايعونه على كتاب ا وسنة رسول ا. تسمية رئيس الدولة لــم ينــص الشــرع علــى تسـمية رئيــس الدولــة باســم معيــن ،ول تلقيبــه بلقـب معيـن؛ فقــد سـمى أبـو بكــر نفســه ) خليفة رسول ا ( ،أي الذي جاء بعــده ،وســمى عمــر بــن الخطاب نفسه ) أمير المؤمنين ( ،وكره أن يقــال عنــه خليفــة خليفة رسول ا للتكرار ،وأطلق علــى علــي المــام ،ولــذلك كانت تسمية رئيس الدولة باســم معيــن غيــر واردة ،بــل هــو 37
رئيس الدولة مهما أطلق عليه من أسماء ،ما لم يــدل الســم على نظام خاص ،كملك ،وإمبراطور ،ورئيس جمهورية ،أو ما شابهها فيمنع إطلقه عليه. وحدة الدولة السلمية ل يجومز تعدد الخلفة ،فل يجــومز أن يكــون للمســلمين خليفتان في وقت واحد ،يشتركان فـي أمـور المســلمين فـي دولة واحدة .وكذلك ل يجومز أن يكون للمســلمين خليفتــان أو أكثر ،يستقل كل واحد منهما في الولية على جــزء مــن البلد الســلمية .ولــذلك ل توجــد لــدى المســلمين دول إســلمية متعددة ،بل الدولة الســلمية واحــدة ،ويحــرم أن تتجــزأ بلد السلم تحت رايات متعددة .وإذا بويع لخليفتين فبيعــة الول هي المعتبرة إذا كــانت صــحيحة ،وبيعــة الثــاني باطلــة؛ قــال عليه الصلة والسلم ) إذا بويع لمامين فاقتلوا الخر منهما ( وقد أجمع الصحابة على وحدة الخلفة ،مثل إجماعهم علــى وجوبها ،فوحدة الدولــة الســلمية فــي العــالم ثابتــة بالســنة والجماع. صفات الخليفة والرجل الذي تختاره المة خليفــة لهــا ورئيســا للدولــة السلمية ،ل يشترط فيه إل الشروط الشرعية الواجبة للقيــام بأي عمل من أعمال الســلم ،فل يشــترط فيــه إل أن يكــون 38
رجل ،مســلما ،بالغــا ،عــاقل ،عــدل ،حــرا ،بغــض النظــر عــن جنسه وأسرته؛ لن ا تعالى يقول } :إن أكرمكم عند ا أتقاكم { وحين أرسل الرسول الجيش إلى مؤتة لغزو الروم أمر عليه مزيد بن حارثة ،وهو من بني كلب ،وقدمه على جعفر بن أبي طالب ،وجعل جعفر جنــديا مــن جنــوده ،وأبــو بكر حين استشار المة في مرض موته فيمــن يكــون خليفــة عليهــا ،ووافقــت علــى عمــر ،وصــفه بــأنه خيرهــم وأقــواهم وأحرصهم على ما يرشدهم ،ولم يصفه بأي شيء غيــر هــذا مما يتصل بالعائلية ،وعمر حين طعن وأشــر ف علــى المــوت طلب منه الناس أن يستخلف ،وألحوا عليه بذلك مرتين ،فقال لهم ) لو كان أبو عبيدة حيا لستخلفته فإن سألني ربــي قلــت سمعت نبيك يقول :إنه أمين هذه المة ،ولو كان سالم مولى أبو حذيفة حيا لســتخلفته ،فــإن ســألني ربــي قلــت :سـمعت نبيك يقول :أن سالما شديد الحب للــه (ولــم يســتخلف أحــدا، وعهد بالمر لهل الشورى يختارون خليفة .فانظر إليــه وهــو يرى استخل ف سالم ،وسالم هذا كما قــال عنــه مــولى أبــي حذيفة ) والظاهر أنه كان قد أعتق ( وكــل ذلــك وغيــره ممــا هو بارمز في نصوص السلم وأحكامه الشرعية ،يدل دللة ل تقبل التفسير والتأويــل ،علــى أن المــة تختــار رئيــس الدولــة ممـن ترضـاهم لرئاسـتهم ،مـن الرجـال المسـلمين العـدول 39
المكلفين شرعا .أما كونه رجل فللحــديث النــاهي عــن توليــة المرأة ،ولن الرجل فيه صفة القيــادة طبيعيــا ،وليســت هــذه الصفة من طبيعة المرأة ،أمــا كــونه مســلما فلن عملــه هــو حمل الدعوة الســلمية ،ول يشــترط فيمــن ترضــاهم المــة لرئاستها سوى هذه الشــروط .أمــا مــا ذكــره المــاوردي مــن الجماع على اشــتراط النســب ،وأن يكــون مــن قريــش فلــم يصــح؛ إذ قــد اختلــف فيــه المســلمون ،ولن الحــديث الــذي يستندون إليه ،وهو " الئمــة مــن قريــش " ضــعيف مطعــون فــي روايتــه ،ولــو كــان صــحيحا لمــا اختلــف المســلمون فــي سقيفة بني ساعدة .ولن صفات النسب واشــتراط أن يكــون مــن قريــش معــارض للنصــوص الصــحيحة الكــثيرة الــواردة بإلغاء اعتبار النســاب ،والعتمــاد علــى العمــال ،وبالتشــنيع على من دعا إلى عصبية ،ولن الرســول عليــه الســلم حيــن خرج إلى غزوة تبوك استخلف على المدينة محمد بن مسلمة ليتولى شؤون المسلمين ،وخلف عليــا رضــي ا ـ عنــه علــى أهله فقط .وكل ذلك يــدل علــى عــدم اشــتراط النســب فــي الخليفة .وأمــا الصــفات الخــرى الــتي ذكرهــا الفقهــاء فهــي صفات كمالية ،وليست صفات لمزمة مشــروطة؛ لنــه لــم يــرد فيها نص ،ولن رئيس الدولة هو نــائب عـن المـة السـلمية في السلطان أي الحكم ،ولها أن تنيــب عنهــا مــن تشــاء مــن 40
المسلمين المكلفيــن شــرعا ،ولن عمــل رئيــس الدولــة هــو تنفيذ الشرع ،وذلك ممكن لكل مسلم عاقــل بــالغ .أمــا تبنــي الحكام الشرعية لتصبح قانونا فل يقتضي أن يكون الخليفــة مجتهدا؛ لن معه في جهامز الحكم محكمة المظالم ،ويشترط فــي أعضــائها أن يكونــوا مــن المجتهــدين ،ولن المــة فيهــا مجتهدون من الفقهاء ،ويمكنه أن يرجــع إليهــم ،علوة علــى أن الجتهاد لم يشترطه أحد في أمير المؤمنين. انتخاب الخليفة إذا خل مركز رئاسة الدولة بأن مــات الخليفــة أو عــزل وجب على المسلمين أن ينتخبوا رئيسا مكانه فــي مــدة ثلثـة أيام ،ويحرم أن يتأخروا عن ذلك أكثر من ثلثة أيام .وطريقـة انتخابه هي أن يجتمع مجلس الشــورى فــي الحــال فيرشــح العضــاء المســلمون فــي مجلــس الشــورى مــن يصــلحون لرئاسة الدولة من كافــة المســلمين ،ويحصــرون المرشــحين لهذا المنصب ،ثم يعلن المجلس أسماءهم ،ويطلب من المة انتخابهم بالقتراع ،ثم تعلن نتيجـة النتخـاب ،علـى أن يكـون ذلك خلل مدة اليام الثلثــة الــتي تمــر مــن يــوم خلــو مركــز رئاسة الدولة .وبعد أن يجري النتخاب للخليفة بــأكثر أصــوات المنتخبين ،يصبح مــن حــامز الكثريــة هــو المســتحق للخلفــة شرعا ،فيبادر المسلمون بعد ذلك بمبايعته على العمل بكتاب 41
ا وسنة رسوله .فإن بــايعوه أصــبح خليفــة واجــب الطاعــة في حدود السلم. ويرى المتتبع لعمل المسلمين في عهد الراشــدين ،أن أبا بكر أخذ رأي المسلمين في علي وعمر ،ومكث مدة ثلثــة أشهر يرجع للمسلمين لخذ رأيهم ،حــتى اســتقر الــرأي علــى اختيار عمر ،وهذا هو النتخاب .وبعــد وفــاة أبــي بكــر جــرت البيعة لعمر ،وأن عمر بناء على طلب الناس منه رشــح ســتة لمنصب الخلفة ،ثم جرى أخذ رأي المســلمين رجــال ونســاء فاختاروا عليا وعثمان ،ورجح عبد الرحمن بن عــو ف عثمــان فاختاره ،وهذا انتخاب من المســلمين ،ثـم بــايعه المســلمون حتى علي .وذلــك كلــه يــدل علــى وجــوب حصــر المرشــحين للخلفة ،ثن انتخاب المة واحدا مــن هــؤلء المرشــحين ،ثـم مبايعة من ينال أصواتا أكثر بالنتخاب ،خليفة للمسلمين. البيعة جعل الشرع الخليفة نائبا عن المة في تنفيــذ الشــرع وأعطاها حق اختياره ،فاختياره إظهار لرغبتها في نيابته عنها ومــتى تــم انتخــاب الخليفــة مــن المســلمين ،بــايعه جميــع المسلمين على العمل بكتاب ا وسنة رسوله .فالبيعة هــي أن يظهر الناس الرضى بالخليفة والطاعــة لــه ،وهــي ليســت اختيارا للخليفة ،ول انتخابا ،ول تفويضــا ،ول تــوكيل بالخلفــة: 42
وإنمــا هــي الموافقــة علــى المــر الواقــع والتســليم بــه ،أي الموافقة على ما وقع من انتخاب للخليفة .والرضى والتسليم بهذا النتخاب ،قبول للخليفة المنتخــب مــن المســلمين ســواء مــن انتخبــوه ومــن لــم ينتخبــوه .وهــي العهــد علــى طاعــة الخليفــة ،ومعاهــدته علــى التســليم لــه بــالنظر فــي أمــور المسلمين ،فكأن المبايع في بيعته للخليفة يعاهــد ا ـ علــى طاعته ،في حدود كتاب ا ،وسنة نبيه؛ ولذلك يبــايع الخليفــة على كتاب ا وسنة رسول ا. والبيعــة حــق لعامــة المســلمين ،ل فــرق بيــن رجــل وامرأة .وحكم البيعة أنها فرض كفاية وليســت فــرض عيــن، وإن كانت تتم بانتخاب أكــثر المســلمين وبيعتهــم .وينبغــي أن يجتهد في أخذها من جميــع المســلمين .وقــد اتفــق الئمــة، والمجتهدون ،والفقهاء على أنها فـرض كفايـة .وهـي لمزمـة في عنق كل مسلم .قال عليــه الصــلة والســلم ) مــن مــات وليس في عنقه بيعة فقد مات ميتة جاهليــة ( والقصــد أن ل يخلو المسلمون مــن خليفــة .وكــانت البيعــة فــي عهــد النــبي والخلفاء الراشدين شفهية .وقد تتم بالمصافحة باليد ،وترديد كلمات البيعة المعروفة مثـل ) :بايعنـاك علـى العمـل بكتـاب ا وسنة رسوله ( ويبايع الخليفة مباشرة حيث أمكن .وينوب عنه ولته وعماله في أخذ البيعة لــه فــي ســائر أنحــاء البلد. 43
ول تأخذ البيعة للخليفة إل بعــد انتخــابه مــن المســلمين .ومــا حصــل مــن أبــي بكــر حيــن اســتخلف عمــر هــو استشــارة للمسلمين ،وليس بيعة .ولذلك لــم يأخــذ البيعــة لــه أبــدا ومــا حصل من معاويــة مــن أخــذ البيعــة ليزيــد فهــو ليــس حكمــا شرعيا .وإذا انتخــب الخليفــة بــادر المســلمون بــبيعته؛ لنــه ل يحل لمسلم أن يبيت ليلتين دون بيعــة .وهــذه البيعــة دائميــة في عنق المبايع وغيره للخليفة ما دام عامل بكتاب ا وسنة نبيه على الوجه الذي بايعه علبه حتى يموت أو يعزل. صلحيات رئيس الدولة رئيس الدولة نائب عن المــة فــي الحكــم ،فهـو قــائم بخدمتها ،محاسب على أعماله أمامهــا؛ فلــه صــلحيات المــة في كافة شــؤون الســلطان والحكــم ،ولــه الصــلحيات الــتي أعطاه إياها الشرع في التشريع ،والشرع هو الــذي يــبين لــه أنواع صلحياته كلها .ولذلك فلرئيس الدولة صلحيات واسعة في حدود الشرع ،وصلحياته هي: 1ـ هو الذي يعين أعضاء الهيئة التنفيذية والولة ،دون حاجة لن يعرضهم على مجلس الشورى ،ودون حاجة لخــذ ثقتــه بهــم ،ولــه حــق عزلهــم .غيــر أن لمجلــس الشــورى أن يحاسب رئيس الدولة ،وأعضــاء الهيئــة التنفيذيــة ،ويناقشــهم. ولمجلس الشورى الحق في إظهار عدم الرضى عن أعضــاء 44
الهيئة التنفيذية ،وعن الولة ،دون بيان السباب .وحينئذ يجــب على رئيس الدولـة أن يعزلهـم فـي الحـال .وليـس لمجلـس الشورى صلحيات نزع الثقة من رئيس الدولة مطلقا. 2ـ هو الذي يعين جهــامز الحكــم كلــه مــا عــدا مجلــس الشـورى؛ فرئيـس الدولـة هـو الـذي يعيـن قاضـي القضـاة، ومديري الدوائر ،وقــواد الجيــش وأمــراء ألــويته ،وهــو الــذي يملك حق عزلهم ،وتأديبهم .وهم جميعــا مســؤولون أمــامه، وليسوا مسؤولين أمام مجلس الشورى. 3ـ هو الذي يجعل الحكــام الشــرعية قــوانين ســارية ملزمة الناس العمل بها ،فإذا تبنى رأيا مــن الراء الســلمية، أو حكما من الحكام الشرعية ،كان أمره جاعل هــذا الحكــم الذي تبناه هو الذي يحكم به في الدولة ،وينفذ علــى النــاس، ل غيره من باقي الحكام والراء ولو كانت إسلمية. 4ـ لرئيس الدولة مــع الهيئــة التنفيذيــة صــلحية وضــع ميزانيــة الدولــة ،وترتيبهــا ،وجعلهــا نافــذة ،دون حاجــة إلــى مجلس الشورى .ول تعرض علــى مجلــس الشــورى مطلقــا. ول يؤخذ رأيه في شأنها؛ والمالية تعتبر من أسرار الدولة .فل يصح أن تكون إل فـي يـد الهيئـة التنفيذيــة الـتي تتـولى هـي التنفيذ ،ورعاية شؤون النــاس؛ وكــان عمــل أبــي بكــر وعمــر على هذا الوجه ،وأقرهما عليه الصحابة ،فكان ذلــك إجماعــا 45
من الصحابة على جعل أمــور المــال العليــا فــي يــد الخليفــة ومن يعاونه في شؤون الحكم. 5ـ لرئيس الدولــة أمــر إعلن الحــرب ،وعقــد الصــلح، وعقد المعاهدات مــع الــدول الجنبيــة .ولــه أن يرجــع للهيئــة التنفيذية ،ول يرجع لمجلــس الشــورى فــي ذلــك مطلقــا؛ لن هذه الشياء كــانت مــن شــأن الخليفــة ،ولــم يكــن لمجلــس الشورى حق في أن يؤخذ رأيه فيها .فقد عقد صلى ا عليه وسلم المعاهدة مــع اليهــود دون أخــذ رأي المســلمين ،وبــدأ قريشا بإعلن الحر بفي إرســال الســرايا دون الرجــوع لــرأي المسلمين؛ وعقد صلح الحديبية رغم معارضة المسلمين في الصلح ،وفي شــروطه ،وأعلــن أبــو بكــر حــروب الــردة رغــم معارضة المسلمين ،ولما تردد أكــثر المســلمين فــي الخــروج إلى بدر الخرة ،غضب الرسول ،وأقسم ليخرجــن إليهــا ،ولــو ذهب وحده .وأما أخذ الرسول رأي المسلمين يوم بــدر فــإنه كان بالنسبة للمكان الذي نــزل فيــه ويعتــبر أخــذا للــرأي فــي عمل فني ل في إعلن الحرب .وأمــا قــول الرســول أشــيروا علي أيها الناس فإنما أراد النصار .وأما أخذ الــرأي فــي أحــد فـإنه كـان فـي أمـر فنـي :أيحـارب العـدو داخـل المدينـة أم خارجها ؟ وليس هو أخذ رأي في الحرب.
46
6ـ سائر المسائل المتعلقة بالسياســة الخارجيــة ،مثــل قبـــول الســـفراء الجـــانب ورفضـــهم ،وإرســـال الســـفراء المسلمين ،وسائر العلقات الخارجية؛ فهي من شــأن رئيــس الدولة .وله أن يرجع إلى الهيئة التنفيذيــة فــي جميــع شــؤون السياسة الخارجية دون عرضها على مجلس الشورى ،أو أخذ رأيه فيها؛ لما مر من التعليل ،ولن السياســة الخارجيــة مبنيــة علــى معلومــات خارجيــة؛ والصــل أن تكــون موجــودة عنــد رئيس الدولة ،وهو أدرى بمعالجات المشاكل الخارجية .غيــر أن لمجلس الشورى أن يحاسب رئيس الدولة على المســائل الخارجية ويناقشه في شأنها. وإعطاء رئيــس الدولــة هــذه الصــلحيات الواســعة ل يعني مطلقا أن له قداسة ،أو أن له حقــا إلهيــا؛ لنــه ل ينــوب في سلطته عن ا بل ينوب في سلطته عــن المــة؛ وإنابتهــا إياه هي التي جعلته في رئاسة الدولة .نعم هو مقيد بكتــاب ا وسنة رسوله .وهــذا ل يجعلــه مقدســا ،بــل يجعلــه محل للمناقشة والمحاسبة ،لن تحقيق سيادة الشرع مطلوب مــن الجميع ،وإن ما جاء فــي كتــاب ا ـ وســنة رســوله ل يعــدوا القواعد الكلية ،والخطوط العريضــة ،والمبــادئ العامــة الــتي هي ضـرورية للنسـان ولكافـة شـؤون الحيـاة ،ولـم يجعـل السلم فهم مـا جـاء فـي كتـاب اـ مقصـورا علـى طائفـة 47
معينة ،بل جعل جميــع المــة ســواء فــي اســتنباط الحكــام، وإدراك ما أمر ا به وما نهى عنه ،إذ جعل أمر تعلمها واجبــا على المسلمين .ولذلك فالمة كلها تنظر في الشــرع ،كمــا أن للمة كلها أن تحاسب رئيس الدولة على تصــرفاته ،وتناقشــه فيها؛ لنه إنما وجد لتنفيذ الشرع .لذلك كــان رئيــس الدولــة _ مــع أن لــه هــذه الصــلحيات _ خاضــعا للمحاســبة علــى تصرفاته؛ لنه مقيد بشرع ا. وقد تنبه إلــى نفــي معنــى الســتبداد والتقــديس عــن الخليفة أبو بكر؛ فإنه رضي ا عنه لما بويع خاطبه رجل من المسلمين بقوله " :يا خليفة ا " فزجره أبو بكر ،وقال له" : لست خليفة ا ،ولكني خليفة رسول ا " وقصد أبو بكر أن يزيــل المعنــى الــذي قــد تــوهمه كلمــة " خليفــة ا ـ " مــن القداسة ووجود الحــق اللهــي ،الــذي كــان يزعمــه القــدامى للحاكم .ومع نفي أبي بكر معنى القداسة في قوله " :خليفة سول ا " خا ف أن يفهم معنى الخلفة لرســول ا ـ فهمــا خاطئــا ،فــبين أنــه إنمــا قصــد الخلفــة فــي الزمــن أي قصــد معناها اللغوي ،وهو أنه جــاء بعــد رســول اـ ليقــوم علــى سياســة المســلمين ،فيتــولى قيــادتهم ،وإدارة أمــورهم فــي حدود شرع ا ،ولذلك خطب رضي ا عنه إثر بيعته؛ فقال: " إنني وليت هذا المر وأنا له كاره .ووا لوددت أن بعضكم 48
كفانيه .أل وأنكم إن كلفتموني أن أعمــل فيكــم بمثــل عمــل رسول ا صلى ا عليه وسلم لم أقم به؛ كان رســول اــ صلى ا عليه وسلم عبدا أكرمه ا بالوحي وعصمه بــه ،أل وإنما أنا بشر ،ولست بخير مــن أحــد منكــم ،فراعــوني :فــإن رأيتموني استقمت فاتبعوني ،وإن رأيتموني مزغت فقومــوني " وقد جاء عمر بعد أبي بكر فلم يلقب نفســه خليفــة رســول ا ،وإنما لقب نفسه بأمير المؤمنين ،مما ينفــي عــن رئيــس الدولــة أي معنــى غيــر رئاســة الدولــة الــتي يعطيــه إياهــا المسلمون ،والتي ينوب فيها عنهم ،ول يجومز له أن يخرج عــن الشرع ،ول عن رأيهم في حدود الشرع ،قال تعالى ومن يشاقق الرسول من
بعد ما
تبين له
الهدى
ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا وقال عليه السلم " :من خرج عن الجماعة أو فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقـة الســلم مـن عنقـه .ومــن فــارق الجماعــة ومـات فميتته جاهلية " وقــال " مــن ســره أن يســكن بحبوحــة الجنة فليلزم الجماعة؛ فإن دعوتهم تحيط من وراءهــم " ،وقال عليــه الصــلة والســلم " :أل كلكــم راع وكلكــم مسؤول عن رعيته ،فالمام الذي على الناس راع وهــو مسؤول عن رعيته ". 49
مدة الرئاسة للدولة تنتخب المة رئيــس الدولــة لتنفيــذ الشــرع .ولــذلك تبايعه على العمل بكتاب ا وسنة رسوله .وما دام قد نصب رئيسا للدولة من أجــل العمــل بكتــاب اـ وســنة رسوله ،أي من أجــل تنفيــذ الشــرع ،فــإن مــدة رئاســته للدولة غير محددة بالزمن ،وإنمــا هــي محــددة بالعمــل بكتاب ا وسنة رسوله .ومن هنـا كـانت رئاسـة الدولـة دائمية .وليس في نصــوص الشــريعة دليــل علــى تحديــد مدة الرئاسة للدولة بل الجمــاع قــد حصــل علــى بيعــة أبــي بكــر وســائر الخلفــاء الراشــدين بيعــة دائميــة غيــر مقيدة بمدة .وجرى العمل من المسلمين على أن بيعــة المسلمين لرئيس الدولة تبقى في أعناقهم حتى يموتوا، أو يمــوت أو يعــزل ،قــال عليــه الصــلة والســلم ) مــن مات وليس في عنقه بيعة فقد مات ميتة جاهلية ( وأبو بكر وعمــر ومــن بعــدهما مــن الخلفــاء بويعــوا بيعــةلم توقت بوقت ،فهي دائمية .ولذلك ل تحدد رئاســة الدولــة بمدة مطلقا ،وإنما تحدد رئاسته بالحــد الــذي يخــل فيــه بالشــرع فمــا دام منفــذا للشــرع ،حــامل دعــوته ،يبقــى رئيسا للدولة ،وإذا أخل بذلك انتهت مدة رئاسته. عزل رئيس الدولة 50
إذا أخل الخليفة بالشرع ،بأن لــم ينفــذه ،أو نفــذ غيره ،أو لم يحمل دعوته ،فقد أحل الناس مــن بيعتــه، ووجب خلعــه .وقــال عليــه الصــلة والســلم ) :مــن رأى سلطانا جائرا مستحل لحرم ا ،ناكثا لعهد اــ ،يعمــل في عباد ا بالثم والعدوان ،فلم يغير عليه بفعــل ول قــول ،كــان علــى اـ أن يــدخله مــدخله ( وقــال عليــه الصلة والسلم ) أفضل الجهاد عند ا كلمة حق عنــد سلطان جائر ( وقــال ) :ل طاعــة لمخلــوق فــي معصــية الخالق (. ويعزل بحكم شــرعي صــادر عــن هيئــة قضــائية، هــي محكمــة المظــالم؛ لنهــا هــي الــتي تســتطيع أن تفصل في كونه طبــق الســلم أم لــم يطبقــه ،وتفــرق بين ما يوجب عزله وبين مــا ل يــوجبه .وإذا لــم يخضــع لحكم محكمة المظالم كان متمردا عليحكم اــ ،وكــان علــى المســلمين أن يخلعــوه ،فقــد حلــت مــن أعنــاقهم بيعته. انتخاب الخلفاء الراشدين مع أن الرسول عليه الســلم كــان إذا خــرج مــن المدينة للغزو استخلف عليها من يتولى أمور المســلمين، لكنه لم يعهد بإدارة أمور المســلمين لحــد بعــد وفــاته، 51
ولم يذكر شيئا من ذلك .وقد وردت أحــاديث تــدل علــى أن الصحابة أشاروا في أحاديثهم معه إلى هــذا الشــأن فلم يجبهم .وكل ما حصل هو أنه استخلف في الصــلة مكانه أبا بكر رضي ا عنـه ،وحصــر الســتخل ف فيـه. وقد فهم بعض المسلمين من ذلك في ذلك الوقت أنه ترشــيح منــه عليــه الصــلة والســلم لبــي بكــر ليختــاره المسلمون ،لكن مع ذلك لم يكن في هــذا الســتخل ف البيان الكافي .وكان عدم بيان الرسول عليه السلم دال على ترك المر للمسلمين يختارون من يشــاؤون خليفــة لهم .فظهرت المزمة السياسية بعد وفاته. وبدأت هذه المزمــة باجتمــاع عقــده النصــار فــي ســقيفة بنــي ســاعدة ،للتشــاور فــي أمــر مــن يخلــف الرسول عليـه السـلم فـي الحكـم .فخشـي المهـاجرون مغبة هذا الجتماع .فذهب أبــو بكـر وعمـر وأبـو عبيـدة إليه ،وجرت بينهم مناقشة حادة ،بين فيها النصــار أنهــم الكثرية في المدينة؛ وأن على أيديهم قام بناء السلم. وأجاب أبو بكر مــن المهــاجرين بــأن أمــر اختيــار خلف للرسول في الحكم ،ليكون رئيسا للدولة ،هو أمــر خطير ،قد يجر إلــى القلقــل علــى الدولــة مــن العــرب الذين لم يتعودوا بعد أن يخضــعوا لغيــر قبيلــة قريــش، 52
التي لها عراقة الســلطان بمكــة ،وأن المصــلحة تقضــي أن ينتخــب خلــف الرســول منهــا .وحــاول المهــاجرون أن يفضوا الجتماع قبـل أن يصـل إلـى قـرار ،حـتى يرجـع المر إلى جماعــة المســلمين كلهــم ،ولكــن الحبــاب بــن المنذر بن الجموح :أحــد النصــار ،حيــن رأى أن الجميــع استراح لكلم أبـي بكـر ،أوجـس خيفـة مـن أن ينفـض الجتماع دون مبايعة خليفة من النصار ،فقــام وخطــب فقال " :يا معشــر النصــار ،أملكــوا عليكــم أمركـم ،فــإن الناس في فيئكم ،ولن يجترئ مجترئ علــى خلفكــم، ولــن يصــدر النــاس إل عــن رأيكــم .أنتــم أهــل العــز والــثروة ،وأولــو العــدة والمنعــة والتجربــة ،وذوو البــأس والنجــدة ،وإنمــا ينظــر النــاس إلــى مــا تصــنعون ،فل تختلفوا فيفسد عليكـم رأيكـم ،وينتقــض عليكـم أمركـم. أبى هؤلء إل ما سمعتم ،فمنا أمير ونكم أمير ". وما كاد الحباب ينتهي من حديثه حتى نهض عمر بن الخطاب فقال " :هيهات ل يجتمــع اثنــان فــي قــرن. وا ل ترضى العــرب أن يـأمروكم ونبيهـا مــن غيركـم، ولكن العرب ل تمتنع أن تولي أمرها مـن كـانت النبـوة فيهم ،وولي أمورهم منهم .ولنا بذلك على من أبى من العــرب الحجــة الظــاهرة ،والســلطان المــبين ،مــن ذا 53
ينامزعنـــا ســـلطان محمـــد وإمـــارته ؟ ونحـــن أوليـــاؤه وعشيرته ،أل مدل بباطل ،أو متجــانف لثــم ،أو متــورط في هلكه ". وحيــن ســمعه الحبــاب قــام فأجــابه فقــال " :يــا معشر النصار أملكـوا علـى أيـديكم ول تسـمعوا مقالـة هذا وأصحابه ،فيذهب بنصيبكم من هذا المر .فإن أبــوا عليكم ما ســألتموه فــأجلوهم عــن هــذه البلد ،وتولــوا عليهم هذه المور؛ فأنتم وا أحــق بهــذا المــر منهــم؛ فإنه بأسيافكم دان لهذا الدين من دان ،ممن لــم يكــن يدين .أنا جذيلها المحكك ،وعذيقها المرجب .أما وا إن شئتم لنعيدنها جذعة ". وحين سمعه عمر غضب وقال " :إذن يقتلــك اـ ". فأجاب الحباب " بل إياك يقتل " .وانتضى الحبــاب سيفه وهو يتكللم ،فضــرب عمــر يــده ،فســقط الســيف، فأخذه عمر. وفي هذه اللحظة الحرجة تدخل أبــو عبيــدة بــن الجراح في المــر ــ وكــان إلــى تلــك اللحظــة قــد لــزم الصــمت ـ ـ فقــام فخــاطب النصــار فقــال " :يــا معشــر
54
النصار ،كنتم أول من نصــر وآمزر ،فل تكونــوا أول مــن بدل وغير ". ولما سمع النصار هذه الكلمة الحكيمة من أبــي عبيدة تأثروا ،فقام بشير بن ســعد مــن مزعمــاء الخــزرج فقــال " :إنــا واــ وإن كنــا أولــي فضــيلة فــي جهــاد المشركين ،وسابقة في هذا الدين ،ما أردنا به إل رضــا ربنا ،وطاعة نبينــا ،والكــدح لنفســنا ،فمــا ينبغــي لنــا أن نستطيل على الناس بذلك ،ول نبتغي من الـدنيا عرضـا؛ فإن ا ولي النعمة علينا بذلك .أل إن محمد صلى ا عليه وسلم من قريش ،وقــومه أحــق بــه وأولــى .وأيــم ا ل يراني ا أنامزعهم في هذا المر أبدا .فاتقوا ا ول تخالفوهم ول تنامزعوهم ". فكانت كلمة بشير هذه مسكنا .وقنع بها الخزرج. فما كان من أبي بكــر إل أن أخــذ بيــد كــل مــن عمر وأبي عبيدة ـ وكان جالسا بينهما ـ وقال للنصــار: " هذا عمر ،وهــذا أبــو عبيــدة ،فأيهمــا شــئتم فبــايعوا " ودعاهم إلى الجماعة :وحذرهم الفرقة. فما كـان مـن عمـر ــ وقـد رأى اللغـط وخشـي الختل ف ـ أل أن نادى بصوت مرتفع " :أبســط يــدك يــا أبا بكر " .فبسط أبو بكر يده ،فبايعه عمر ،وهو يقــول: 55
" ألم يأمر النبي بأن تصلي أنت يا أبــا بكــر بالمســلمين، فأنت خليفة رسول ا ،فنحـن نبايعـك لنبـايع خيـر مـن أحب رسول ا منا جميعا " .ثــم مــد أبــو عبيــدة يــده، وبايع أبا بكر وهو يقول " :أنك أفضل المهاجرين ،وثاني اثنيــن إذ همــا فــي الغــار ،وخليفــة رســول ا ـ علــى الصلة :أفضــل ديــن المســلمين .فمــن ذا ينبغــي لــه أن يتقدمك ،أو يتولى هذا المر عليك ؟ " وأسرع بشير بن سعد فبايع أبا بكر .والتفت أسيد بن حضير مزعيم الوس إلى قــومه وهــم ينظــرون إلــى ما صنع بشير بن ســعد ،وقــال لهــم " :واـ لن وليتهــا الخزرج عليكم مرة ،ل مزالت لهم عليكــم بــذلك الفضــيلة ول جعلوا لكم معهم فيها نصيبا أبدا .قوموا فبــايعوا أبــا بكــر " وقــام الوس فبــايعوا أبــا بكــر .ثــم قــام النــاس يبايعون أبا بكر مسرعين ،حتى ضاق بهـم المكــان مــن السقيفة. وبذلك تمت بيعة السقيفة وجثمان النــبي ل يــزال مسجى في فراشه لــم يــدفن بعــد .وبعــد تمــام البيعــة انفض الناس من السقيفة .وفي اليو التــالي جلــس أبــو بكــر فــي المســجد .وقــام عمــر فخطبهــم معتــذرا عمــا تحدث بــه إلــى المســلمين بــالمس ،مــن أن النــبي لــم 56
يمت ،إلى أن قال " :وإن ا أبقى فيكم كتابا ا الذي هدي به رسوله ،فــإن اعتصــمتم بــه هــداكم اــ ،كمــا هداه به ،وإن ا قد جمع أمركم على خيركم :صــاحب رسول ا صلى ا عليه وسلم ،وثــاني اثنيــن إذ همــا في الغار .فقوموا فبايعوا " فبايع النــاس جميعــا .وبــذلك تمت البيعة .فقام أبــو بكــر وألقــى فــي النــاس خطابــا، كان أول حديث له في خلفتــه ،فقــال " :أمــا بعــد أيهــا النــاس ،فــإني قــد وليــت عليكــم ولســت بخيركــم فــإن أحسنت فأعينوني ،وإن أسأت فقومــوني .الصــدق أمانــة، والكذب خيانة ,والضعيف فيكم قوي عندي حــتى أريــح عليه حقه إن شــاء اــ .والقــوي فيكــم ضــعيف عنــدي حتى آخذ الحق منه إن شاء اــ .ل يــدع قــوم الجهــاد فــي ســبيل اــ أل ضــربهم اــ بالــذل .ول تشــيعوا الفاحشة في قوم أل عمهــم اـ بــالبلء .أطيعــوني مــا أطعت ا ورسوله ،فإن عصيت ا ورسوله فل طاعة لي عليكم قوموا إلى صلتكم يرحمكم ا ". هذه خلصة انتخاب أبي بكر للخلفــة ثــم بيعتــه؛ فــإن اختل ف النصــار والمهــاجرين علــى الخليفــة كــان بمثابة ترشيح للخليفة من الجانبين ،ثــم بعــد كلمــة أبــي عبيدة وبشير بن سعد ترجح الرأي بجــانب المهــاجرين , 57
ثم ترجح الرأي لبي بكر ,إذ تحدث النــاس بعــد كلمــة بشير عن عمر وشدته ,وعن أبي عبيدة ,وكثر اللغــط. وترجح الرأي لبي بكر .فكان اجتمــاع الســقيفة انتخابــا. ثم كانت البيعة في المسجد. وحين شــعر أبــو بكــر الصــديق فــي مرضــه بــأنه مشر ف على الموت فكر في أمر المسلمين ,وفي أمــر الخلفة فيهــم ,وذكــر ســقيفة بنــي ســاعدة ,ومــا كــان يمكن أن يحدث من تفرق كلمة المســلمين لــول لطــف ا ,وذكر اختل ف المسلمين بعد وفـاته ،وتصـور هـول هذا الختل ف وجيوش المســلمين فــي العــراق والشــام مستهدفة للخطر إن وقع الخل ف بيــن المســلمين .لــذلك صــمم علــى أن يجنــب المســلمين هــذه الفتنــة ,وأن يشــاورهم باختيــار خليفــة لهــم أثنــاء حيــاته .فنظــر فــي أصحابع يريد رجل شديدا في غير عنف ,ولينا في غيــر ضعف ,ليواجه الوضع الحربي الخطر الذي كــان يســود الجيوش السلمية فــي الشــام والعــراق ,ويســود البلد التي فتحت فيهما .وليوجه الجهــد داخــل الجزيــرة لــدعم الموقف في التعبئة العامة فوجد أن من تــوفرت فيهــم هذه الصفة من الصحابة أحد رجلين :عمر بـن الخطـاب وعلــي بــن أبــي طــالب .فوقــع اختيــاره علــى عمــر بــن 58
الخطاب رضي ا عنه؛ لنه كان يرى أنه مــع شــدته , إذا رأى في أي أمر يريده عقبة دار إليــه ,حــتى ينــاله. لذلك استدعى إليه الناس من النصار والمهاجرين فأثنوا على عمر ,ووافقوا على اختياره ,وممــن دعــاهم عبــد الرحمن بن عو ف ..فسأله عن عمــر فقــال ) :هــو واـ أفضل من رأيك فيه من رجل ,ولكن فيه غلظــة ( قــل أبو بكر ) ذلك لنه يراني رقيقا .ولــو أفضــى المــر إليــه لترك كـثيرا ممــا هــو عليــه ويــا أبــا محمــد ,قــد رمقتــه فرأيته إذا غضبت على الرجل في الشيء أرانــي الرضــا عنه ,وإذا لنت له أراني الشدة لــه ( ثــم دعــا أبــو بكــر عثمان بن عفان فسأله عن عمر ,فقال ) :اللهم علمــي به أن سريرته خير من علنيته ,وأنه ليس فينــا مثلــه ( ثم شاور أبو بكــر ســعيد بــن مزيــد ,وأســيد بــن حضــير وغيرهما ,حتى اقتنع بأن كلمة المسلمين استقرت على اختيار عمر ,ما عــدا طلحــة بــن عبيــد اـ ,فــإنه أظهــر عدم رضاه عن اختيار عمــر ,وبيــن مــا هــو عليــه مــن الشدة مع وجود أبي بكر ,فكيف به إذا خل بهم وصار أميرهم ؟ فخشي أبـو بكـر أن يكـون غيـر طلحـة مـن يرى رأيه .لذلك قام بعد أن انتهــى مــن مشــاورة أولــي الرأي من المسلمين جميعا فأشــر ف مــن حجــرة بــداره 59
على الناس بالمسجد ,فقال يخاطبهم جميعا ) :أترضــون بمن اســتخلف عليكــم :فــإني واـ مــا ألــوت مــن جهــد الرأي ,ول وليت ذا قرابة .وإني قد استخلفت عمــر بــن الخطاب فاسمعوا له وأطيعــوا ( فأجــاب النــاس ســمعنا وأطعنا .عند ذلك رغع أبو بكر يديه إلى السماء وقال) : اللهــم إنــي لــم أرد بــذلك إل صــلحهم .وخفــت عليهــم الفتنة .فعملت فيهم ما أنت به أعلم .واجتهدت لهم رأيي ,فــوليت عليهـم خيرهـم ,وأقـواهم عليهـم ,وأحرصــهم علــى مــا أرشــدهم ( وســمع النــاس دعــائه فــامزدادوا اطمئنانا لما صنع .وبعد وفاة أبي بكر ذهــب عمــر إلــى المسجد .وأقبل الناس على بيعته إقبال تاما ،ولم يتخلف منهم أحدا حتى طلحــة .وظــل عمــر فــي المســجد مــن الصــباح حــتى الظهــر ،والنــاس يزدحــم بهــم المســجد لمبايعته .وفي صــلة الظهــر ــ وكــان المســجد مزدحمــا امزدحاما تاما ـ صعد عمر المنبر درجة دون الدرجة التي كان يقوم أبو بكر عليها ،فحمد ا واثنى عليه ،وصــلى على النبي وذكر أبا بكر وفضله ،ثم قــال ) :أيهــا النــاس ما أنــا إل رجــل منكــم ،ولـول أنــي كرهـت أن أرد أمــر خليفة رسول ا ما تقلدت أمركــم ( .ثــم تــوجه بنظــره إلى السـماء ،وجعـل يقـول ) :اللهـم إنـي غليـظ فلينـي. 60
اللهم إني ضعيف فقوني .اللهم إني بخيل فسخني ( ثـم أمسك هنيهة .ثــم قــال ) إن اـ ابتلكــم بــي ،وابتلنــي بكم ،وأبقاني فيكــم بعــد صــاحبي ،فــوا ل يحضــرني شيء من أمركم فيليه أحد دوني ،ول يتغيب عني فآلوا فيه عن الجهلَْزء والمانــة ،ولن أحســنوا لحســنن إليهــم، ولن أساؤا لنكلن بهم ( ثم نزل ،فــأم النــاس للصــلة. ولما طعن عمر بــن الخطــاب طعنتــه الــتي مــات منهــا، أقبل عليه المسلمون ،وطلبـوا منـه أن يسـتخلف ،فقـال: ) من اسـتخلف ؟ لـو كـان أبـو عبيـدة بـن الجـراح حيـا لستخلفته ،فإن سألني ربي قلت :سمعت نبيك يقول أنه أمين هذه المة ،ولو كان سالم مولى أبي حذيفــة حيــا لستخلفته ،فإن سألني ربي قلــت :ســمعت نبيــك يقــول: ) إن سالما شديد الحب لله ( فقال لــه أحــد المســلمين: استخلف ابنك عبد ا .فقال ) قاتلك ا؛ وا ما أردت اـ بهــذا .ويحـك كيــف اســخلف رجل عجــز عــن طلق امرأته ؟ ل أرب لنا في أموركم ،ما حمدتها لرغب فيها لحد من أهل بيتي ،إن كان خيرا فإنــا قــد أصــبنا منــه، وإن كان شرا فبحسب آل عمر أن يحاسب منهـم رجـل واحد ،يسأل عن أمر أمة محمد .أما لقد جهدت نفســي، وحرمت أهلي ،وإن نجوت كفافــا ل ومزر ول أجــر ،إنــي 61
لسعيد ( فخرج المسلمون من عنده وتركــوه يفكــر فــي المر .ثم عادوا إليـه مـرة أخـرى وسـألوه أن يسـتخلف، حرصا على مصلحة المسلمين .فقال لهم :عليكم هــؤلء الرهط ،الذين مات رسول اـ صــلى اـ عليــه وســلم وهو عنهم راض ،وقال فيهم :أنهم من أهل الجنة :علي بـن أبـي طـالب ،وعثمـان بـن عفـان ،وسـعد بـن أبـي وقاس ،وعبد الرحمــن بــن عــو ف ،والزبيــر بــن العــوام، وطلحة بن عبيد ا .ويكون معهم عبــد ا ـ بــن عمــر، ولكن له الــرأي ،ول يكــون لــه مــن المــر شــيء .وقــد أوصاهم عمر أن ينتخبوا خليفة .وضرب لهــم أجل قــدره ثلثــة أيــام .وقــال لهــم بعــد حــديث طويــل ) :فــإذا مــت فتشاوروا ثلثــة أيــام .وليصــل بالنــاس صــهيب .ول يــأتين اليوم الرابع إل وعليكم أمير منكم ( ثــم عيــن عمــر أبــا طلحــة النصــاري لحراســة المجتمعيــن ،وحثهــم علــى العمل .وقال له ) :يا أبا طلحة ،إن ا عز وجل طالمــا أعــز الســلم بكــم .فــاختر خمســين رجل مــن النصــار، فاســتحث هــؤلء الرهــط حــتى يختــاروا رجل منهــم ( وطلب من المقداد بن السود أن يختار مكان الجتماع. وقال له ) :إذا وضعتموني في حفرتــي ،فــأجمع هــؤلء الرهط في بيت ،حــتى يختــاروا رجل منهــم ( ثــم طلــب 62
من صهيب أن يراقب الجتماع .وقال له ) :صــل بالنــاس ثلثة أيــام .وأدخــل عليــا وعثمــان والزبيــر وســعدا وعبــد الرحمن بن عو ف وطلحــة إن قــدم ،وأحضــر عبــد ا ـ ابن عمر ول شيء له من المر ،وقــم علــى رؤوســهم. فإن اجتمــع خمســة ،ورضــوا رجل ،وأبــا واحــد ،فاشــدخ رأسه بالسيف ،وإن اتفق أربعة ،فرضوا رجل منهم ،وأبا إثنان فاضــرب رأســيهما ،فــإن رضــي ثلثــة منهــم رجل، وثلثة رجل ،فحكموا عبد ا بن عمــر ،فــأي الفريقيــن حكم له فليختاروا رجل منهــم ،فــإن لــم يرضــوا بحكــم عبد ا بن عمر ،فكونوا مع الذين فيهم عبــد الرحمــن بن عو ف ،واقتلوا البـاقين ،إن رغبـوا عمـا اجتمـع عليـه الناس ( ثم طلب منهـم أن يـتركوا البحـث فـي الخلفـة حتى يموت. وبعد وفــاته ودفنــه اجتمــع النفــر الــذين سـماهم عمر ما خل طلحة الذي كان غائبا .ويقال أن اجتماعهم كان في بيت عائشة .ومعهم عبد ا بــن عمــر .وأمــروا أبــا طلحــة النصــاري أن يحجبهــم .فلمــا اســتقر بهــم المجلس قال عبد الرحمن بن عو ف ) :أيكم يخرج منهــا نفسه ويتقلدها على أن يوليها أفضلكم ؟ ( يعني أيكــم يتخلى عن حقه في الخلفة ،بشرط أن يحكمه الجميع، 63
ليختار الخليفة من بينهم كمــا يريــد .وبعــد أن قــال عبــد الرحمن بن عو ف هذا القول سكت الجميع ،ولــم يجبــه أحد .فقـال عبـد الرحمـن :أنـا أخلـع نفسـي منهـا .فقـال عثمان أنا أول مــن رضــي؛ فــإني ســمعت رســول ا ـ يقــول ) أميــن فــي الرض أميــن فــي الســماء ( فقــال الزبير وسعد :قد رضينا .وسكت علي .فقال عبد الرحمن: ) ما تقول يا أبــا الحســن ( قــال علــي ) أعطنــي موثقــا لتؤثرن الحق ،ول تتبع الهــوى ،ول تخــص ذا رحــم ،ول تألو المــة ( .فقــال عبــد الرحمــن " أعطــوني مــواثيقكم على أن تكونوا معي على من بدل وغيــر ،وأن ترضــوا من اخترت لكم ،وعلي ميثاق ا أن ل أخص ذا رحم ول آلو المسلمين " فأخذ منهم ميثاقــا ،وأعطــاهم مثلــه. ثم أخذ يستشيرهم واحدا واحدا ،قائل لكل واحد منهم: أنه لو صر ف هذا المر عنه من كان يــرى مــن هــؤلء الرهط أحق بالمر ؟ فقال علي :عثمان .وقــال عثمــان: علي .وقال ســعد :عثمــان .وقــال الزبيــر :عثمــان .ثــم راح يســأل أصــحاب الــرأي فــي المدينــة ،ويســأل جميــع المســلمين رجــال ونســاء .ولــم يــترك رجل أو امــرأة إل وسأله عمن يختــار مــن هــؤلء الرهــط .فكــان جماعــة منهم يأمرون بعثمان ،وجماعة يأمرون بعلي .ووجد رأي 64
الناس مومزعا بيــن عثمــان وعلــي ،وأن القرشــيين علــى كل حال كانوا في صف عثمان. وبعد أن انتهى عبد الرحمن من طــوافه بالنــاس، وخلــواته بهــم ،وعــر ف رأي النــاس رجــال ونســاء ،دعــا المسلمين إلى المسجد ،ثم صــعد المنــبر متقلــدا ســيفه، وعليه عمامته التي عمه بها رسول ا ،ثم وقــف وقتــا طويل ،ثم تكلم ،فقال ) :أيهــا النــاس إنــي قــد ســألتكم ســرا وجهــرا عــن إمــامكم ،فلــم أجــدكم تعــدلون بأحــد هذين الرجلين :إما علي وإما عثمــان ( .ثــم التفــت إلــى علي وقال له :قم ألي يا علي .فقام علي ،فوقف تحت المنبر ،فأخذ عبد الرحمن بيده ،فقال ) :هل أنت مبايعي على كتــاب اـ وســنة نــبيه وفعــل أبــي بكــر وعمــر ؟ فقال علي :اللهم ل ،ولكن على جهدي من ذلك وعلمي ( ـ أي أبايعك على كتاب ا وسنة رسوله على جهــدي من ذلك وعلمي فيهمــا .أمــا فعــل أبــي بكــر وعمــر فل أتقيد به ،وأجتهد رأيي ـ .فأرسل عبــد الرحمـن يـده .ثـم نادى :قم إلي يا عثمـان .فأخــذ بيـده وهـو فــي موقــف علي الذي كــان فيــه ،فقــال ) :هــل أنــت مبــايعي علــى كتاب ا وسنة نبيه وفعل أبي بكر وعمر ؟ قال :اللهم نعم .فرفــع عبــد الرحمــن رأســه إلــى ســقف المســجد، 65
ويده في يــد عثمــان ،ثــم قــال ) :اللهــم اســمع واشــهد، اللهم إني جعلــت مــا فــي رقبــتي مــن ذلــك فــي رقبــة عثمان ( .وامزدحم الناس يبــايعون عثمــان حــتى غشــوه. ثم جاء علي يشق الناس حتى بايع عثمان .وبذلك تمت البيعة لعثمان. وبعد مقتل عثمان مــال الثــوار إلــى توليــة علــي. وكذلك كان رأي أكثر الصحابة الموجودين فــي المدينــة؛ فقد طلبوا منه أن يكون خليفة .ثم جرت البيعــة فبــايعه جمهرة المسلمين ،علــى الرغــم مــن تخلــف بنــي أميــة، وسعد بن أبي وقاص ،وعبد ا بن عمر. وهكــذا كــان تــولي الخلفــاء الراشــدين لرئاســة الدولة باختيار من المسلمين أول ،ثم بــبيعتهم مــن قبــل المسلمين على كتاب ا وسنة رسوله. الهيئة التنفيذية " المعاونون لرئيس الدولة " أ ـ رئيس الدولة هو الذي أنابته المة عنهــا فــي الحكم .وهو ل يستطيع وحده أن يضطلع بأعباء تبعــات الحكم .فكان لزاما أن يعين معاونين معه مــن الرجــال المســلمين العــدول الصــالحين للحكــم ،يتحملــون معــه مســؤولية الحكــم والتنفيــذ ،ويشــاركونه بتحمــل تبعــات 66
الدولة والسلطان .وهؤلء المعاونون هم الهيئة التنفيذية. ورئيــس الدولــة هــو رئيســها .بوصــفه أميــر المــؤمنين ،ل بوصــف الرئاســة للهيئــة التنفيذيــة؛ لنــه ل يوجــد منصــب رئاسة لها .ويحدد عدد أفرادها بأقل عدد ممكن ،حسب ما تدعو الحاجة للعمل. ب ــ ليســت للهيئــة التنفيذيــة صــفة الــومزارة ،مــن حيــث تخصــيص كــل واحــد مــن أعضــائها بــدائرة مــن الــدوائر ،أو قســم خــاص مــن العمــال؛ بــل لهــا صــفة معاونــة رئيــس الدولــة فــي الســلطان .وهــي ل تباشــر المور الدارية ،بل تباشر الحكم ،وتتولى الشرا ف علــى الدارة ،وتضع السياســة العليــا للحكــم ،ولســائر شــؤون المة ،معاونة رئيس الدولة ،وتقوم بتنفيذ هذه السياسة العليا بنفسها ،وعملها الصلي هو معاونة رئيــس الدولــة بتطبيق السلم ،وتنفيــذ أحكــامه ،والســهر علــى مصــالح المة ،والعمل على رفاهيتهــا وســعادتها وحمــل الــدعوة السلمية للعالم. جـ ـ رئيس الدولة هو الذي يعين أعضــاء الهيئــة التنفيذية .وهو الذي يعزلهم .وهــم مســؤولون أمــامه .ول يعرض أمر تعيينهــم علــى مجلــس الشــورى لخــذ ثقتــه بهم؛ بل يعينهم حســب مــا يــرى ،أل أنــه ل يعيــن فــي 67
الهيئة التنفيذية من كان غير موثوق به لــدى المســلمين؛ لن لمجلس الشورى صــلحية إظهــار عــدم الرضــا مــن أعضاء الهيئة التنفيذية دون بيـان السـباب .وحينئـذ يجـب على رئيس الدولــة عزلهــم فــي الحــال .ورئيــس الدولــة وأعضاء الهيئة التنفيذية محاسبون أمام مجلس الشــورى مجتمعيــن ومنفرديــن ,أل أنــه ليــس لمجلــس الشــورى صلحية نزع الثقة من رئيس الدولة ,لن رئيس الدولــة ليس مسؤول أمامه ،بل هو مسؤول أمام الشرع. د ـ ظهرت الهيئة التنفيذية بوصفها معاونة لرئيس الدولة منذ عهد الرسول صــلى اـ عليــه وســلم ,فقــد أخرج الترمــذي أن رســول اـ صــلى اـ عليــه وســلم قال ) :ومزيراي من أهل الرض أبو بكــر وعمــر ( ,وقــد اختارهمــا الرســول وخصصــهما بمعــاونته فــي شــؤون الحكم ,وكان يسند إليهما العمال الهامة فــي الدولــة , فكانــا هيئــة تنفيذيــة مــع الرســول ,ولكنهمــا لــم يكونــا ومزيرين بمعنى الــومزارة ,الــتي هــي عمــل معيــن لكــل ومزير ,بل كانا معاونين له؛ لن كلمة ومزير المراد منها ) المعين ( فقد وردت فــي القــرآن الكريــم بهــذا المعنــى ) واجعل لي ومزيرا من أهلي هارون أخي ( أي اجعل لي معينــا .والمـراد بالحـديث " ومزيـراي مـن أهـل 68
الرض أبو بكر وعمر " المعينان لــي فــي العمــل .ولــم يكن كل واحد منهما مخصصا بعمل ،بــل كــان الرســول يعين كتابا للعمال ) مديري دوائر ( وبعــد وفــاة رســول ا صلى ا عليه وسلم عين أبو بكر معــه عمــر وأبــا عبيد وعثمان معاونين له .وبعد وفاة أبي بكر عين عمر معه عثمان وعليا .وبعــد وفــاة عمــر عيــن عثمــان معــه علي بن أبي طــالب ومــروان بــن الحكــم .وهكــذا كــان الخلفــاء يخصصــون رجــال يســتعينون بهــم فــي شــؤون الحكم. هــؤلء هــم الهيئــة التنفيذيــة المعاونــة لرئيــس الدولة .ولــم يكــن يطلــق علــى هــؤلء المعــاونين اســم معين ،ولم يقصد بقول الرسول صلى ا عليــه وســلم " ومزيراي " أكثر من معناه اللغوي .لذلك ل يطلق عليهــم ومزراء؛ لن لهذه الكلمـة مفهومـا سياســيا ،فــي التاريــخ، وفــي الــوقت الحاضــر ،يغــاير مفهــوم الســلم مــن المعاونين .وعمل هؤلء المعــاونين هــو معاونــة رئيــس الدولــة فــي تنفيــذ الشــرع بجملتــه ،دون تخصــيص كــل واحــد منهــم بعمــل معيــن .ولــذلك أطلقنــا عليهــم اســم ) الهيئة التنفيذيــة ( لن هــذا الســم يــدل علــى عملهــم. وهذا السم يشمل المعاونين ول يشــمل رئيــس الدولــة 69
لنه أمير المؤمنين وليس رئيسا للهيئة التنفيذيــة ،وحينمــا يرأس المعاونين إنما يرأسهم بوصفه الرئيس للدولة أي الخليفة ل بأي وصف آخر. الجهامز الداري للمصالح العامة أ ـ
يعين لكل مصلحة من مصالح الدولــة مــدير
يتــولى إدارتهــا ،ويشــر ف علــى جميــع شــؤونها .وهــؤلء المديرون تعينهم الهيئــة التنفيذيــة ،ويكونــون تــابعين لهــا بجملتهــا .وهــم المســؤولون مباشــرة عــن الدارة ،فكــل واحد منهم مسؤول عن الدارة الــتي يتولهــا مســؤولية مباشرة ،فهو الذي يعين جميــع المــوظفين فــي دائرتــه، ويعزلهــم ،وينقلهــم .وهــو الــذي يملــك صــلحيات رئاســة الدائرة ،وتوجيهها ،ويجري المور الداريـة فـي المصـلحة التي يتولى إدارتها. ب _ سياســة الدارة تتلخــص فــي ثلثــة أشــياء هــي ) :البســاطة فــي النظــام ،والكفايــة فيمــن يتــولى العمال ،والسراع فـي إنجــامز العمـال ( .ويتولهــا مــن فيــه المقــدرة عليهــا والكفايــة لهــا ،بغــض النظــر عــن طــائفته ،وجنســه ،ونــوعه ،فيتولهــا الرجــال والنســاء، والمسلمون وغيــر المســلمين ،مــا دامــوا يتمتعــون بحــق المواطنين ،وفيهم الكفاية لتولي أمورها. 70
جـ _ ومع أن نظام الحكم مركزي ،إل أن النظام الداري ،ل مركــزي ،فتوســع صــلحية المــوظفين حــتى يعرفوا ما يلزم لقضاء مصالح الناس عن دراســتها عــن كثب ،ويسرعوا فــي إنجــامز العمــال وفــض المشــكلت، وليــس المقصــود بــالدارة فــي الدولــة الســلمية وضــع خطــة قانونيــة تلتزمهــا فــي كــل الظــرو ف ،بــل تختلــف الدارة باختل ف المزمان والوليات والحوال فلكل عصــر أسلوب في الدارة ،ولكــل قطــر أحــوال خاصــة وتعتــبر الدارة من السلوب الـذي ينفـذ بـه النظـام ،ويســار بـه حسب ما يقرره نوع العمل. د _ ل بد للدارة في الدولة من دواويــن خاصــة تقضى فيهــا مصــالح النــاس .وتبنــي مكــاتب الدارة فــي مكــان واحــد ،حــتى ل تتفــرق دواويــن الدولــة ،وحــتى تسهل على الناس المراجعــة لقضــاء مصــالحهم .ويجــب أن تتخــذ فــي كــل إدارة غــر ف لســتراحة المراجعيــن، ومكتب استعلمات لمســاعدة الجمهــور علــى المراجعــة، وأن تتخــذ فيهــا الســجلت والضــابير ،لتســجيل العمــال وترتيبها. هـ _ كان للدولة في مزمن الرسول عليــه الصــلة والسلم عدة مديرين ،لكل مصلحة مــدير ،كــان يســمى 71
كاتبا ،فقد كان معيقيب بــن أبــي فاطمـة كاتبـا للغنــائم، والزبير بن العوام كاتبا لموال الصــدقات ،والمغيــرة بــن شعبة كاتبا للمداينات والمعاملت ،وشــرحبيل بــن حســنة كاتبا للتوقيعات إلى الملوك " ،أي كاتبا للرسائل الصادرة إلى الخــارج " وعبــد اـ بــن الرقــم كاتبــا للنــاس فــي قبائلهم ومياههم. وقد كان الجامع هــو المكــان لــدواوين الحكومــة في أيام الرسول صلى ا عليه وسلم وفي أيــام أبــي بكــر ،فقــد كــان هــو المجمــع ،والمجلــس ،والمحكمــة، وديون المال ،وكل مــا لــه علقــة بالســلطان والســكان. ولمـا كـانت الفتوحـات السـلمية أمـر عمـر ببنـاء بيـوت لمكاتب الدارة في مكان واحد ،حتى ل تتفرق دواويــن الدولــة .ودون الــدواوين علــى مثــال دواويــن الفــرس والروم :دونها لــه عقيــل بــن أبــي طــالب ،وعكرمــة بــن جهلَبْيــر بــن مطعــم .واتخــذ ســجلت لعمــال نوفــل ،و ُ الحكومة ،وأضابير لشؤونها .ونظمها تنظيما تاما .ثم تتــابع تحسين أســلوب الدارة ،وأســلوب التحســين فــي مــدارج الرقي .وقد ترجمت في أيام عبد الملك النظــم الداريــة عن الفرس والروم إلى العربية .واتخذت في كــل إدارة غرفة لستراحة المراجعين .وكان يتولى الدارة من فيــه 72
الكفايــة والمقــدرة عليهــا ،بغــض النظــر عــن طــائفته وجنسه؛ فقد ولى عمر بن الخطاب النصارى والمجوس إدارة الدواوين ،لعلمهم بها .وولى معاوية النصــارى فــي مصالح الدولة؛ فقد عهد إلى سرجون بن منصور بإدارة الموال ،كما أنه لم يكن هناك ما يمنــع مــن اســتخدام النساء في مصالح الدولة ،مع المحافظة علــى الخلق، بضمان عدم الخلوة ،وعدم التبرج ،وعدم الختلط ،وأن يكون التعاون جماعيا عند الحاجــة.فقــد اســتخدم النــبي صلى ا عليه وسلم النساء في حروبه وغزواته ،وكــن يخــدمن الجرحــى ،ويأخــذن مــن العطــاء ويتــولين مــا يصلحن له كالطعام والسقاء وخياطة قرب الماء .ومــن أشهر النساء اللتي ولهن الرسول عليه السلم أعمــال مــداواة الجرحــى رفيــدة الســلمية وكعيبــة بن ـت ســعيد السلمية. التنظيم الداري السياسة الدارية في نظام الحكــم تقتضــي ثلثــة أشياء هي :البساطة في النظام الداري ،والكفاية فيمن يتــولى الدارة ،والســراع فــي إنجــامز العمــال .وهــذه تقتضــي وضــع أنظمــة إداريــة تمنــع تســرب الخلــل إلــى الدارة .لــذلك يجــب أن يوضــع نظــام للجهــامز الداري، 73
ونظام لسلوب الدارة ،ونظام للموظفين ،ونظام لعلقة الجمهــور بــالدارة والمــوظفين ،بحيــث تضــمن هــذه النظمة جعل مــوظفي الدولــة خدمــة للنــاس ،وتضــمن النتفاع بأصــحاب الكفايــات فــي الجهــامز الداري ،بغــض النظر عن مذاهبهم وأنواعهم ،وتضــمن تحســين أســلوب الدارة ،وتمنع استبداد الرؤساء بالمرؤوســين ،كمــا تمنــع استبداد المــوظفين بــالجمهور ،وتجعــل المصــالح تقضــى بأسرع وقت ،وبأقل جهد .وتشمل هذه النظمة السلوب والترتيب الدائم للعمل " الروتيــن " ،حــتى تــؤدي الدارة الغاية من وجودها ،وهي قضاء المصالح للناس .ويجب النتفاع بما عند المم الخرى من أنظمة إداريــة ،ومــن وسائل ،على أن تؤخذ بعقلية مبتكرة متطورة ،ل بعقلية مقلــدة جامــدة ،وأن يراعــى فــي أخــذها الغايــة الــتي أخذت من أجلهــا ،والعمــل الــذي نقلــت لــه ،وأن يكــون هنالك تفريــق واضــح بيــن النظــام الداري الــذي يؤخــذ لمعالجة وسيلة العمل ،وبين النظام الذي يعالــج نفــس العمل النساني ،حتى ل يقــع الخطــأ فــي أخــذ أنظمــة تتعلق في وجهة النظر في الحياة. النظمة الدارية
74
أعمال النسان فــي حاجــة إلــى أنظمــة توجههــا، وفي حاجة إلى وسيلة تظهــر بهــا العمــال وتــؤدى .أمــا النظمـة الـتي توجههـا فإنهـا تتعلـق بوجهـة النظـر فـي الحياة .وهي مبنية على العقيدة الــتي يعتنقهــا النســان، أو بعبــارة أخــرى علــى القيــادة الفكريــة الــتي يحملهــا، وهي القاعدة الفكرية التي تقـوم علـى أساسـها جميـع الفكار عن الحياة .وهذه النظمة هي الحكام الشرعية المســتنبطة باجتهــاد صــحيح .وهــي ثابتــة ل تتغيــر ول تتطور ،وإن كانت تتسع لمعالجات جميع أعمال النسان فــي الحيــاة .وهــذه النظمــة المتعلقــة بوجهــة النظــر ل يجومز أن تكون غيــر إســلمية ،ول يجــومز أن تؤخــذ مــن غير السلم .وأما الوسيلة التي تتخذ أداة لقيام العمــال بهــا ،فهــي تتعلــق بأســلوب العمــل ,وتشــمل الــدواوين وإدارتها .وهي تختلــف بــاختل ف العمــال ,وتتغيـر بتغيـر العصــور والحــداث .وهــي عالميــة ل تختــص بمبــدأ ول بأمــة .وتتحســن وســائلها ,كمــا تتقــدم وســائل تحســينها. وهي من الشكال المدنيــة العامــة .ول بــد منهــا لنجــاح العمل؛ لنها الوسيلة العمليــة للقيــام بــأي عمــل .والــذي يعينها إنما هو نفس العمـل ل المبـدأ .ولـذلك لـم تكـن
75
أحكاما شرعية ,ول علقــة لهــا بالحكــام الشــرعية ,إل من حيث عدم مناقضتها لها. والحكم عمل يوجهه نظــام الحكــم .وهــو متعلــق بوجهة النظر في الحياة .ولذلك كانت له أحكــام شــرعية تبين أنظمته. أما الوسيلة الــتي تســتعمل للقيــام بالعمــل فإنهــا نظــام إداري ل يتعلــق بالحكــام الشــرعية .ولهــذا أجــامز السلم أخذ هذه الوسيلة مــن المــم الخــرى ,وانتفــع المسلمون بما عند الناس من هذه الوسائل والساليب. ومن هنا أخذ عمر بن الخطــاب نظــام الــدواوين عن الفرس والروم .وحسنه من بعــده الخلفــاء .وليســت هذه النظمة دستورا ,لنها ليست أحكاما شرعية تعالج مشاكل الحياة ,وإنمــا هــي وســائل تتخــذ حيــن القيــام بهذه المعالجات ,ولهذا يخطئ الــذين يقولــون أن عمــر أخــذ دســتوره عــن الفــرس والــروم ,ووضــع دســتوره بالسترشاد بهم؛ لن الدستور هو معالجــات المشــاكل , وهذا لم يأخذه عمــر ,ول يجــومز أن يكــون إل إســلميا مســتنبطا مــن الســلم ,وحاشــا لعمــر أن يأخــذ غيــر السلم لمعالجات مشاكل الحياة.
76
وإنمــا الــذي أخــذه عمــر هــو النظمــة الداريــة والــدواوين وتنظيمهــا .وذلــك أنــه بعــد أن تــوالت الفتــوح السلمية وأثرت الدولـة بمـا ملكتـه مـن الغنـائم ,ورأى عمــر تومزيــع هــذه المــوال علــى المســلمين وبعــد أن اتسعت أعمال الدولة ,قال بعــض المســلمين لعمــر :يــا أمير المؤمنين ,قد رأيت هؤلء العاجم يــدونون ديوانــا لهم .فقال :دونوا الــدواوين .وأرســل إلــى الفيــرمزان :أحــد مرامزية الفرس يسأله عن أحوال إدارية تتعلــق بــالموال ,ففسرها له ,وشرح كيفيتهــا ,وأشــار عليــه بالــديوان , فوضع عمر الديوان ,واستخدم الكتاب في الدواوين .ثم تتابع تحسين ذلك حتى أيام المويين ,يقول الجهشياري في كتابه الومزراء والكتاب " :ولم يزل بالكوفــة والبصــرة ديوانــان أحــدهما بالعربيــة لحصــاء النــاس وأعطيــاتهم. وهذا الذي كان عمر قد رسمه ,والخر لوجوه المــوال بالفارسية .وكان بالشــام مثــل ذلــك :أحــدهما بالروميــة , والخر بالعربية .فجرى المر علــى ذلــك إلــى أيــام عبــد الملك بن مروان .فلما قلد الحجاج العراق كان يكتب له صالح بن عبد الرحمن ويكنــى أبــا الوليــد ,وكــان يتقلــد ديوان الفارسية إذ ذاك مزاذان فروخ ,فخلفه عليه صالح بن عبد الرحمن ,فخف على قلب الحجــاج وخــص بــه. 77
فقال لزاذان فروخ :إني قد خففت علــى قلــب الحجــاج. ولست آمن أن أمزيلــك عــن محلــك لتقــديمه إيــاي وأنــت رئيسي فقـال مزاذان فـروخ :ل يفعـل ,فـإنه أحـوج إلـي مني إليه .قال فكيــف ذلــك ؟ قــال :ل يجــد مــن يكفيــه الحساب .فقال صالح إني لو شئت حولته بالعربيــة .قــال فحــول منــه شــيئا كــثيرا .فقــال مزاذان فــروخ لصــحابه: التمســوا مســكنا غيــر هــذا .وأمــر الحجــاج صــالحا بنقــل الدواوين إلى العربية في سنة ثمان وسبعين ". المصالح العامة كانت مصالح المسلمين تقضى مــن قبــل الدولــة. وكانت تعين لكل مصلحة كاتبا " مــديرا " .وكــانت تتعــدد هذه المصالح بحسب الحاجة .وتزداد كلمــا نمــت الدولــة وامزدادت مصالحها .ومن أهم المصــالح الــتي كــانت فــي الدولة السلمية ،والتي كانت لها دائرة خاصــة ،وديــوان خاص ،المصالح التية: أ ـ الحصاء :ل بــد أن يكــون عــدد أفــراد الدولــة أي سكانها مدونا ،حتى يتــأتى القيــام بــواجبهم ،وقضــاء حاجاتهم .ول بد أن يعر ف عدد من يولد في كــل يــوم، ومن يموت ،وأن يعر ف من يدخل أراضــي الدولــة مــن خارجها .وأول من عمل الحصاء رسول ا صــلى اــ 78
عليه وسلم ،فقــد قــال " اكتبــوا مــن تلفــظ بالســلم ". وكتب عمر إلى الناس على اختل ف قبــائلهم بإحصــائهم، حتى يفرض الفروض ويعطي العطايــا ،وجعــل معاويــة على كل قبيلة مــن قبائــل مصــر رجل يســجل المواليــد، ومن ينزل بالبلد من خارجها .وكــان هــذا الرجــل الــذي يوكــل إليــه أمــر المواليــد يصــبح كــل يــوم فيــدور علــى المجالس فيقول :هل ولد الليلــة فيكــم مولــود ؟ وهــل نزل بكم نامزل ؟ فيقال ولد لفلن غلم ،ولفلن جارية. فيكتب أسماءهم .ويقال نزل بهــم رجل مــن أهــل كــذا بعيــاله ،فيســميه وعيــاله .فــإذا فــرغ مــن القبيــل أتــى الديوان ،حتى يثبت ذلك. ب ـ البريد :وقد كان للدولة الســلمية بريــد .وقــد ابتدأ البريد من أيام أبي بكر .ثم انتظم في أيــام عمــر. واستمر على ذلك حتى أيام معاويـة ,فأنشـأ لـه نظامـا خاصا يتفق مع تطــور وســائل الحيـاة ,وحاجــة الدولــة؛ فقد أحضر رجال من دهــاقين الفــرس ,وعمــال الــروم فعرفهم ما يريد ,فوضعوا له البريد. جـ ـ ـ ـ المســاحة :ومــن الشــياء اللمزمــة مســاحة أراضي الدولة ,لمعرفتها وتومزيعها ,وأخذ الضرائب عنها. وعمر بن الخطاب أول من نظــم أمــر المســاحة .وكــان 79
يبعث عمال لمساحة الرض؛ فقد أرسل للعراق عاملين مختصين بمساحة الرض ,لوضع الخراج عليها. د ـــ التمــوين :ومــن الشــياء الضــرورية للرعيــة الشرا ف على التمــوين بجميــع أنــواعه ,إشــرافا يضـمن سهولة شراء المؤن ,وحيامزتها وتيسيرها لجميــع النــاس. وأول مـن نظـم إدارة التمـوين فــي الســلم عمــر بـن الخطاب رضي ا عنـه .وذلـك أنــه حصـلت فــي الســنة السابعة عشرة للهجرة مجاعة اســتمرت ســنتين ,وقيــل ثلث سنوات .وقد دبر عمر أمور المســلمين فيهــا تــدبيرا ناجحــا ,فكتــب إلــى أمــراء مصــر والشــام والعــراق أن يوافوه بالميرة ,فأتته القوافل تحمل طعاما كثيرا ومؤنا وغير ذلـك .فوسـع علـى النـاس ,وانتظـم أمـر التمـوين وكمــا يضــمن الشــرا ف ســهولة الشــراء ,يضــمن عــدم الحتكار ,وتنظيم التومزيع. هـ ـ صك النقود :ومــن المــور الضــرورية لصــيانة الميزان المالي صك النقود باسم الدولة السلمية ,وأن يكون نقد الدولة مبنيا على ثروة الدولــة ,وغيــر مســتند إلى نقد أجنبي .وقد كان الناس في مزمن الرسول عليــه الســـلم يتعـــاملون بالنقـــدين :الرومـــاني والفارســـي , فيستعملون الدنانير الرومانية ,والدراهم الكســروية .ولــم 80
يكن للمسلمين نقد خـاص .واسـتمر الحـال كـذلك طيلـة مدة الرسول عليه السلم ,وأيام أبي بكر ,إل أن عمر في خلفته أمر أن يضرب نقد خاص بالدولة السلمية. ثم استكمل النقد شكله السلمي المتميز في أيام عبــد الملك بن مروان .ومنذ ذلك الحين صار للدولة السلمية نقد خاص بها يتعامل به في جميع أنحائها. و ـ البحرية :ولما كانت الدولة السلمية تقع على شواطئ عدة بحار ,كان ل بد لها مــن أسـطول بحــري للجهــاد يكــون تابعــا للجيــش ,وأســطول تجــاري للنقــل والتجــارة ويكــون تابعــا للدارة .وأول مــن أنشــأ دائــرة البحرية معاوية بن أبــي ســفيان فــي عهــد عثمــان بــن عفان؛ فقد أنشأ اسطول بحريا حين دعت الحاجــة إلــى الغزو في البحر .واتخذ مــدينتي صــور وطرابلــس الشــام أمكنة لصــناعة الســفن .وقــد مهــر المســلمون فـي ذلـك مهارة فائقة .ولمــا فتــح قــبرس ورودس كــان أســطوله مؤلفا من ألف وسبع مئة سفينة. مز ـ دائرة الخارجية :وكان لها كــاتب يتــولى كتابــة الكتــب ,ولهــا رســل يــذهبون بهــذه الكتــب إلــى البلد الخــرى .ويجــب أن تكــون هــذه الــدائرة ضــمن تنظيــم الهيئة التنفيذية .وهذه الدارة موجودة منــذ عهــد رســول 81
ا ,فإنه عين كاتبا للرسائل الخارجيــة وأرســل الرســل والسفراء إلى البلد الجنبية ,واستقبل السفراء والوفود من البلد الخرى. ح ـ دائرة الداخليــة :وكــانت تشــر ف علــى الــولة. وقد وضع فيهــا عمــر بــن الخطــاب محمــد بــن مســلمة ليشر ف على أعمال الولة ,وعلى سلوك المة بالنســبة لهــم .وكــانت تابعــة لرئيــس الدولــة مباشــرة؛ لنهــا مــن الحكــم ,وليســت مــن الدارة .ولــذلك يجــب أن تكــون ضمن تنظيم الهيئة التنفيذية ,ودائرة مــن دوائــر الحكــم فيها. ط ـ دائرة الدعاية :وأول من أحدثها معاويــة بــن أبي سفيان .وكانت قبله مع دائرة الخارجية للدعوة إلــى السلم .فحولها للدعاية للدولة داخليــا وخارجيــا .وجعلهــا منفصلة عن دائرة الخارجية .وتكون ضمن تنظيــم الهيئــة التنفيذية. ي ـ دائرة الشرطة :وأول من أحدث فكرتها عمر بن الخطاب ,في نظام العسس .ونظمها علي بن أبــي طالب تنظيما متميزا .ثم استكملت نظامها في أيــام عبــد الملـك بـن مـروان .وكـان صـاحب الشـرطة متصـل فـي
82
المركز بالهيئة التنفيذية ,وفـي الوليـات بـالوالي .وتكـون ضمن تنظيم الجيش؛ لن الشرطة جزء من الجيش. ك ـ دائرة الضرائب :وأول مــن أحــدثها عمــر بــن الخطــاب .وكــانت تتــولى جمــع الخــراج والعشــور .وقــد تعهدها علي بن أبي طالب في أيــام خلفتــه .ومنــع أن تحصل الضرائب بالضرب والشدة ،كما منــع جمعهــا مــن أي إنسان ،إل بعد أن يؤمن لــه رمزقــه ،وكســوته صــيفا وشتاء ،وما يركبه لقضاء حاجاته البعيــدة .وكــان الشــتر النخعي يتولى له الخراج. وهناك دوائر أخرى كانت في الدولة .وهــي :إدارة الســتخبارات ،وإدارة الســجون ،وإدارة الزراعــة ،وإدارة الجانب ،وكانت إدارة هامة .وقد وضع لها الفقهــاء بابــا خاصــا ،هــو بــاب المســتأمن .ودائــرة العشــور وكــانت تستوفي كذلك مــا يســمى بــالمكوس الجمــارك ،وكــانت على حدود الدولة ،وكانت تتــولى كــذلك عمــل المراقبــة على الحدود لمن يدخل أراضي الدولة ومن يخرج منها، أي عمل ) مكاتب الجوامزات ( .وكانت الــدائرة الــتي تــؤذن للمــواطنين بمغــادرة دار الســلم وتســمح لغيــر المــواطنين بدخول البلد هي دائرة الجانب .وكانت إدارة التثقيــف تشــبه إدارة المعار ف .وكــانت تشــر ف علــى المســاجد حيــن كــانت 83
مدارس ،وظلت تشر ف عليها بعد ذلك بصفتها أمكنــة لتثقيــف المة بجملتها ،مع كونها أمكنة عبــادات .وهنــاك دوائــر أخــرى كدائرة الصحة وغيرها ،وتتعدد بتعدد الحاجة. وهــذه الــدوائر لدارة مصــالح المــة .وموظفوهــا، تابعون لرؤساء هذه الدوائر ،إل أنــه لمــا كــان نظــام الحكــم السلمي يجعل الدارة غير الحكم لم يشغل الهيئة التنفيذية بدوائر الحكومة وبالموظفين؛ لنهــم يشــكلون جــزءا صــغيرا من عمل الدولة ،بــل جعــل الــدوائر تعمــل وحــدها ،وجعلهــا جميعا في جملتها تابعة للهيئة التنفيذية ،تتولهــا كناحيــة مــن نواحي الحكم ،وتشر ف عليها إشرافا إداريــا عامــا .أمــا الــذي يباشر كل إدارة فهو مديرها .وفي الوليات يكون للوالي حق الســيطرة والشــرا ف علــى جميــع الــدوائر ،مــا عــدا الماليــة والجيش والقضاء ،فإنها تتبع المركز مباشرة.وســيطرته هــي أن يجعــل الحكــم مشــرفا علــى الدارة فــي الوليــة ،أمــا الموظفون فهم تــابعون لــدوائرهم .ومــديروهم هـم الــذين لهم الحق في شؤونم كلها. الولة أ ـ تشكيل الوليات: تقسم البلد التي تحكمها الدولة إلى وحدات صــغيرة، من حيث مساحة الرض ،وما فيها مــن سـكان ،ومــا تحتــاجه 84
مــن أعمــال .وتســمى هــذه الوحــدات وليــات .وتقســم كــل واحــدة مــن هــذه الوليــات إلــى وحــدات ،تســمى عمــالت. ويسمى كل من يشر ف على ولية واليـا ،ومـن يشـر ف علـى عمالة عامل .وهذا التقســيم تمليــه مصــلحة الدولــة ،ورعايــة شؤون المة .وقد قام بهـذا التقسـيم رسـول اـ صـلى اـ عليه وسلم .وفي أيام أبي بكر قسمت الجزيرة العربيــة إلــى ثلث وليات؛ فقد جعل أبو بكر الحجامز ولية ،واليمــن وليــة، والبحرين ومــا إليهــا وليــة .وقسـم كـل وليــة إلــى عمــالت، فجعل الحجامز ثلث عمالت هي :مكة ،والمدينــة ،والطــائف. وجعــل اليمــن ثمــاني عمــالت هــي :صــنعاء ،وحضــرموت، وخــولن ،ومزبيــد ،ورمــع ،والجنــد ،ونجــران ،وجــرش .ولمــا اتسعت رقعة الدولة السلمية في خلفة عمر بن الخطــاب، قسم عمر الدولة إلى وليات كبيرة ،فجعل الهوامز والبحرين ولية ،وسجستان ،ومكران ،وكرمان ولية ،وطبرستان وليــة، وخراسان ولية ،وجعل بلد فارس ثلث وليات ،وجعــل بلد العراق وليتين هما :ولية البصــرة ،ووليــة الكوفــة ،وقســم بلد الشام وليتين هما :ولية دمشق ،وولية حمص ،وجعل فلسطين ولية ،وقسم أفريقيــا الــتي فتحــت فــي أيــامه ثلث وليات :ولية مصر العليا ،وولية مصر السفلى ،وولية غــرب
85
مصر وصحراء ليبيا .وعين على كل ولية مــن هــذه الوليــات واليا. ب ـ تعيين الولة: رئيــس الدولــة هــو الــذي يعيــن الــولة ,فهــم بمقــام أعضاء الهيئـة التنفيذيـة .ومركـز الـوالي كمركـز عضـو الهيئـة التنفيذية؛ لنه يقوم في الولية بشؤون الحكم .وحيــن يعيــن رئيس الدولة الوالي ل يرجع إلى مجلس الشورى لخذ رأيه , ول يأخذ ثقة مجلس الشورى به ,إل أن رئيس الدولة ل يعين الولة إل ممن يثــق بهــم المســلمون؛ لن لمجلــس الشــورى حق إظهار عدم الرضا مــن الــوالي مــن غيــر بيــان الســباب. فيجب علــى رئيــس الدولــة أن يعزلـه فــي الحــال وقــد عيـن رسول ا صـلى اـ عليـه وسـلم الـولة ,وكـذلك أبـو بكـر وعمر وسائر الخلفاء .وكان عمر يجتهــد لن يجعــل الوليــات صغيرة ,ول يجمع لوال واحد إقليما كبيرا؛ إذ جعــل فــي بلد الشام ثلثة ولة :واحدا في دمشــق ,والخــر فــي حمــص , والثالث في فلسطين .وكان إذا شكا الناس من الوالي عزلــه في الحال. جـ ـ صفات الوالي: الوالي حاكم .وهو ينوب عن رئيس الدولة في الحكم وفي تحمل المسؤولية في الولية ,ويعاونه في العمل فيها. 86
ولــذلك يجــب أن تتــوفر فيــه صــفات الحــاكم ,فيكــون رجل مسلما عدل قادرا على الحكم والدارة. فقد كان عليه الصلة والسلم يتخير ولته وعماله من أهـل الصـلح للحكـم ,وأولـي العلـم المعروفيـن بـالتقوى , ويختــارهم ممــن يحســنون العمــل فيمــا يولــون ,ويشــربون قلوب الرعية اليمان ,ومهابة الدولة ,بغض النظر عن السن عتاب بن أســيد واليــا علــى مكــة وهــو ,فقد ولى رسول ا ّ حديث السن ,وكان عمــر يختــار ولتــه مــن أصــحاب المانــة والبصر بالمور والقدرة على العمل الذي يوكل إليهــم .وكمــا ولي من أصحاب السن ولي معاوية وهو حديث الســن؛ لنــه كان ظاهر القدرة والذكاء. د ـ وظيفة الوالي: كل مصلحة من مصالح الدولة تشــكل دائــرة منفصــلة عن الخــرى والصــل أن يكــون لهــا موظــف مســؤول عنهــا. ويجومز أن يوكل لموظف واحد عدة مصالح يقــوم بأمورهــا , ولكنها تبقى مصالح متعددة مرتبطة كل مصلحة فــي المركــز العــام للدولــة .ول تجعــل جميــع المصــالح مصــلحة واحــدة مرتبطة بموظف واحد مرتبط بالدولة ,فولية الحكم مصلحة لها صلحياتها يوظف الوالي بها مــن أجلهــا ,وكــذلك القضــاء مصلحة ,والمالية مصلحة ,والجيش مصلحة ,ولكــل واحــدة 87
صلحيات يوظف موظف من أجــل القيــام بهــا .وكــذلك أيضــا المصــالح الداريــة الخــرى ،كمصــلحة المعــار ف ،ومصــلحة الزراعــة ،ومصــلحة الصــحة ،لكــل واحــدة صــلحيات يوظــف موظف من أجلها .وكل مصلحة منها مربوطة بــالمركز العــام. وتكون الدولة في هذه الناحية مركزية :تعتبر كل مصلحة من هذه المصالح مصلحة واحدة مركزية لجميــع نــواحي الدولــة مهما تعددت وليتها ،ومــا فــي الوليــات مــن هــذه المصــالح دوائر تابعة للدولة في المركز ،وليست مصــالح مســتقلة فــي الولية .ولكــن لمــا كــان الــوالي فــي الوليــة يتــولى شــؤون الحكم ،فقد جعــل لــه حــق مباشــرة جميــع شــؤون مصــلحة الحكــم مــن كتــاب وعمــال .وســائر أمــور الحكــم ترتبــط بــه مباشــرة .وجعــل لــه حــق الشــرا ف علــى بــاقي مصــالح الحكومة ،مع ارتباط تلك المصالح في مركز الدولة من حيــث كيانها وسياستها الدارية. والصل أن يعين رئيس الدولة الوالي ليقــوم بوظيفــة الحكم ،لكن إذا رأى مــن المصــلحة أن يجعــل الــوالي قائمــا بأعمال أخرى في بعض المصالح أو في جميعهــا فلــه ذلــك. ويكون هذا التعيين قد جاء على خل ف الصل لمصلحة رآها رئيس الدولة .وحين يجعل رئيس الدولة الوالي قائما ببــاقي المصالح وكالة عنه ،تظل هذه المصالح مرتبطة فــي المركــز 88
حكمــا ،باعتبــار الــوالي قائمــا بهــا وكالــة ،ل بحســب عملــه الصلي .وهذا ما كان يسمى بالولية العامة .واقتصار الوالي على صلحيات الوالي هو ما كــان يســمى بالوليــة الخاصــة. وأحيانا يطلقون الولية الخاصة على جميع العمــال مــا عــدا ولية المال. غير أنه لما كان تولي الوالي صلحيات غير صــلحيات الولية قد جاء على خل ف الصل ،ولما كــان إعطــاء الــوالي الولية العامة يثير فيه أحاسيس الســيادة والســتقلل ،كــانت الولية الخاصة اوفق لمصلحة الدولة ل سيما إذا كانت الولية كــبيرة ،أو كــانت الدولــة متراميــة الطــرا ف ـــ لــذلك؛ وســدا للذريعة ،يعين الوالي في مصلحة واحدة هي الولية .وهــي مصــلحته الصــلية .وهــي الحكــم ويكــون لــه طبيعيــا حــق الشــرا ف علــى بــاقي الــدوائر لن هــذا الشــرا ف هــو مــن الحكم. فقد كــان الخليفــة يــدير المــور فــي عاصــمة الدولــة. وبــاقي البلــدان والقــاليم القريبــة والبعيــدة يحكمهــا الــولة، ويديرون أمورها .وكانوا يستعملون في التعــبير عــن أعمــال الولة كلمتين :الصلة ،والصدقات ،أو الخراج .وكلمـة الصــلة كان يقصد بهــا جميـع المــور السياســية والحربيـة والقضــائية والدارية .وكلمة الصدقات والخراج كان يقصــد منهــا الماليــة. 89
وكانوا يجمعون الصلة والصدقات أو الخراج لوال واحد فــي بعض الحيان ،وتكــون وليتــه عامــة .وكــانوا يفصــلونها فــي بعض الحيان ،وتكون وليته خاصة ،إل أنه في حالــة الجمــع أو الفصــل كــانت هــذه المصــالح كلهــا متصــلة بالدولــة فــي المركز .ولم يكـن الــوالي يسـتقل بهــا عـن الدولـة ،ويكتفـي باتصاله هو فقط .فقــد روي أن رســل ا ـ صــلى ا ـ عليــه وسلم استعمل فروة بــن ســهل علــى مــراد ومذحــج ومزبيــد، وبعث معه خالد بن سعيد بن العاص على الصدقة ،وأرســل معاذ بن جبل إلى اليمن وجعل له الصــلة والصــدقة .وعمــر بن الخطاب أرسل عمار بــن ياســر علــى البصــرة واليــا علــى الصلة والحرب ,وأرسل معه عبد ا بن مسعود واليا علــى القضاء وبيت المال ,وأرسل معاويــة بــن أبــي ســفيان واليــا على الشام وجعل وليتــه علــى كــل المصــالح .وعثمــان بــن عفــان اســتعمل عمــرو بــن العــاص علــى صــلة مصــر , واستعمل عبد ا بن سعد على خراجها ,وأقــر معاويــة بــن أبي سفيان واليا على الشام لجميع أمورها. إل أنه مع ذلك فقد كــان الخليفــة يــأمر الــوالي بفعــل شيء معين ,أو ينهاه عن فعل شــيء معيــن .وكــان يعــزل موظفيه ويوليهم متى أراد ,سواء جعل لــه الوليــة عامــة أو خاصة؛ لن مصالح المة واحدة؛ فإن عمر بــن الخطــاب مــع 90
أنه قــد جعــل لبعــض ولتــه أن يولــوا العمــال علــى البلــدان الواقعة ضمن حــدود إمــارته ,وأن يقلــدوا القضــاة والكتــاب وسائر الموظفين ,إل أنه كان يتدخل في هؤلء الموظفين , فيولي من يشاء ,ويعزل من يشاء؛ فقد صر ف مزياد بن أبيــه من كتابة أبي موسى الشعري ,وصــر ف كاتبــا آخــر لــه مــن أهل الذمة .ومن ذلك كله يتبين أن الصل في المصــالح أنهــا واحــدة ,وأن صــلحية تعييــن المــوظفين والــدوائر وكافــة الشؤون هي لمركــز الدولــة وليســت للــوالي ,إل أن لرئيــس الدولة أن يجعل لمن يثق به من الولة حــق القيــام بأعمــاله في وليته وكالة عن رئيس الدولة .ففي الولية العامــة كــان يقــوم الــوالي بأعمــاله وكالــة عــن الخليفــة ,وفــي الوليــة الخاصــة كــان يقــوم بوظيفــة الــوالي فقــط ,وتبقــى بــاقي العمال للخليفة. هـ ـ صلحيات الوالي: يعتــبر الــوالي الحــاكم الشــرعي لــوليته .ويعطــى صــلحيات الحكــم والدارة للمــور المتعلقــة بــإدارة الوليــة، وصلحية الشرا ف علــى المصــالح العامــة فــي بــاقي دوائــر الدولة في الولية .فمثل :تعيين الموظفين في الــدوائر الــتي تنفذ أمور الحكم كموظفي الوالي ،والعامل وموظفيه ،ومــن شاكلهم ،هو من صلحيته .وكذلك عزلهم ونقلهم وسائر أمور 91
هذه الدوائر ،لنها دوائر لدارة الولية .أمــا المصــالح العامــة في باقي دوائر الدولة ،كدائرة المعار ف ،والصحة ،والزراعة، ومــا شــاكلها ,فهــي تابعــة لمــديريها فــي المركــز مــن حيــث التعيين والنقل والعزل ,وسائر الشؤون المتعلقــة بأعمــالهم في وظائفهم ,وهي تضع تقســيماتها بشــكل يــؤمن ســهولة المراجعة ,غير أن للوالي الشرا ف علــى هــذه الــدوائر فــي وليته في كل ما يتعلق بأمور الحكم ,مــن حيــث قيــام هــذه الــدائر بإنجــامز أعمــال النــاس أو تعطيلهــا ,ومــن حيــث تــأثير الموظفين أو بعضهم فيما يتعلــق بسياســة الدولــة وتوجيههــا للمور ,فــإذا رأى ضــرورة عــزل أي موظــف أو نقلــه يطلــب لدائرته القيام بذلك ,ويجب عليها تنفيذ طلبه ,محافظة علــى سير الحكم في الولية. هذا بالنسبة لكيان الدوائر وسيرها ,أما بالنسبة لقيــام كل موظف بواجباته فتعطى لكــل موظــف صــلحيات القيــام بأعماله التي هي ضمن وظيفته ,دون رجوعه إلــى رئيســه , ودون الرجوع إلى المركز العام ,بــل يتصــر ف مباشــرة فــي قضاء مصالح الجمهور؛ لن الدارة ل مركزية ,فيقوم بها كل موظف دون حاجة لمراجعة إل في المور المتعلقة بسياســة الدارة ,وفي المور الهامة التي تؤثر على سير الدارة.
92
وللــوالي صــلحية مناقشــة رئيــس الدولــة والهيئــة التنفيذية فيما يطلبون إليه من أمور ,وفيمــا يقيــدونه بــه مــن أنظمة؛ لنــه أدرى بشــؤون وليتــه ,ولن الدارة ل مركزيــة , وللوالي صلحيات الجتهاد في المور الدارية كلها؛ فقد بعث رسول ا صلى ا عليــه وســلم معــاذا واليــا علــى اليمــن , وقال له :بم تحكم ؟ قال :بكتاب ا .قال :فــإن لــم تجــد ؟ قال :بسنة رسول ا .قال :فإن لم تجد ؟ قال :أجتهد رأيي. فقال الحمد لله الذي وفق رسول رسول اـ لمــا يحبــه اـ ورسوله .وكانت الدولة في أيام عمر وفي أيام الخلفــاء مــن بعده تمنح الولة حرية العمل فيما هو مــن صــلحياتهم دون الرجوع للمركز ,وكــذلك جميــع المــوظفين المســؤولين فــي الدولة حتى يســتنبطوا مــا يلــزم لقضــاء مصــالح النــاس مــن دراساتهم عن كثب ,ويسرعوا فــي إنجــامز العمــال ,وفــض المشكلت ,لئل تضيع مصالح الناس بالتطويل. والبساطة في الدارة ,والسراع في إنجامز العمــال , كانا ظاهرين كل الظهور في الدولة السلمية ,على اختل ف عهودها وتطور أمورها؛ فقد عهد الوليدبن عبــد الملــك لعمــر بن عبد العزيز بالولية على الحجامز ) :مكة والمدينة والطائف ( قبل أن يتقلد الخلفة ,فأبطــأ عــن الخــروج ,فقــال الوليــد لحاجبه :ما بال عمر ل يخرج إلى عملــه ؟ قــال :مزعــم أن لــه 93
إليك ثلث حوائج .قال فعجله علي .فجاء به وسأله .فقال له عمر :إنك استعملت من كان قبلي ,فأنا أحــب أن ل تأخــذني بعمل أهل العدوان والظلم والجور .فقال لــه الوليــد :اعمــل بالحق وإن لــم ترفــع إلينــا درهمــا .وهكــذا أطلــق يــدة فــي الولية من ناحية إدارية .وكان عمر نفسه حين ولي الخلفــة يطلــق يــد عمــاله فــي القيــام بالعمــال الداريــة الــتي مــن صـلحياتهم ،ويلـومهم حيـن يسـألون عـن النـواحي الداريـة التافهة ،ويأمرهم أن ل يشاوروه إل في المهمات مما يشــكل عليهم أمره ،فقد كتب إلى واليه على اليمن " :أما بعــد فــإني أكتـــب إليـــك آمـــرك أن تـــرد علـــى المســـلمين مظـــالمهم، فــتراجعني ،ول تعــر ف مســافة مــا بينــي وبينــك ،ول تعــر ف أحــداث المــوت ،حــتى لــو كتبــت إليــك :أن اردد علــى مســلم مظلمة شاة ،لكتبت :أردها عفراء أو سوداء ؟ فانظر أن ترد على المسلمين مظالمهم ول تراجعنــي " وهكــذا كــان يســير الخلفاء في الشؤون الدارية فــي الوليــات ،واضــعين نصــب أعينهـم مصــلحة النـاس .وكــان الــوالي ينـاقش فــي شــؤون وليته؛ فقد روي أن مزيــاد بــن أبــي ســفيان أوعــز إلــى والــي خراسان ،أن يصطفي لمعاوية الصفراء والبيضاء ،فل يقسم في الناس ذهبا ول فضة ،عمل بكتاب ورد عليه من الخليفــة. فكتب والي خراسان إلى مزياد يقول " :بلغني مــا ذكــرت مــن 94
كتاب أمير المؤمنين وأني وجدت كتاب ا تعــالى قبــل كتــاب أمير المؤمنين وأنــه واـ لــو أن السـماء والرض كانتـا رتقـا على عبد ،ثم اتقى ا جعل لــه مخرجــا والســلم " ومــع أن الدولة كانت تحاسب الولة على التفريط ،حتى لو شكا أصغر الرعية الوالي سمعت شكواه ،ومع أنهــا كـانت تعــزل الــوالي إذا كان هناك ضجر أو تذمر منه ،ومع أنها كانت تتحرى أحوال الولة والناس ،لكنها مع ذلك كله ،كانت تمنع الوشايات وتمنع التجسس على أحوال الناس الخاصة في منامزلهم؛ قال عمــر بن عبد العزيز في إحدى خطبــه " :أيهــا النــاس ،مــن صــحبنا فليصــحبنا بخمــس ،وإل فل يقربنــا :يرفــع إلينــا حاجــة مــن ل يستطيع رفعها ،ويعيننا على الخيــر جهــده ،ويــدلنا مــن الخيــر على ما ل نهتدي إليه ول يغتاب عندنا الرعية ول يعترض فيما ل يعنيه ". و ـ مجلس الولية: يكــون لكــل وال مجلــس إداري ينتخبــه أهــل وليتــه. وتكون لهذا المجلس صلحية مشاركة الوالي في الرأي فــي الشؤون الدارية المتعلقة بالولية .وليســت لــه صــلحية فــي الشؤون المتعلقة في الحكم .وعلــى الــوالي أن يأخــذ بــرأي هذا المجلس في كل ما يقرره مما هو من صلحيته .ويكون الوالي نفسه هو رئيــس هــذا المجلــس؛ كــان عمـر بــن عبـد 95
العزيز واليا على المدينة .وكان ل يقطع أمرا بدون استشارة. فكان إذا جلس مجلس المارة ) الولية ( أمر فألقى لرجليــن من أهل الرأي وسادة قبالته ،وقال لهمــا :إنــه مجــاس شــرة وفتنة .ول يكن لكما عمل إل النظر إلي ) أي مراقبتي ( ،فــإذا رأيتما مني شيئا ل يوافق الحق فخوفاني وذكراني بــالله عــز وجل .وكان شرحبيل بن حسنه حين ولي الشــام يرجــع إلــى معاذ بن جبل وخالد بن سعيد ،وهمــا مجلــس وليتــه .وكــان من عادة الولة في العهد الموي أن يفتتحوا وليتهم بخطبــة يلقونها في المسجد ،تلخص طريقتهم في السياسة والحكــم والدارة ومعاملة الرعية .وكــان الــوالي بعــد أن يتــم خطبتــه يناقشه النــاس فيهــا .ولــم يســلم مــن هــذه المناقشــة حــتى الطغاة من الولة ،فقد روي أن الحجاج خطــب يومــا فقــال: ) أيها الناس ،الصبر على محارم ا ـ أيســر مــن الصــبر علــى عذاب ا ( فقام إليه رجل فقال ) :ويحك مــا أقــل حيــاءك ! تفعل ما تفعل ثم تقول مثل هــذا ؟ ( فــأمر بــه فأخــذ .فلمــا نزل عن المنبر دعا به فقال له :لقد اجترأت علي .فقال له) : ياحجاج ،أنت تجترئ على ا تعالى ول تنكره علــى نفســك ! واجترأت عليك فأنكرت علي ! ( فأخلى سبيله. مز ـ علقة الوالي بالدولة:
96
الوالي حاكم من حكام الدولــة .ولــه صــلحية الحكــم في وليته ,كما لي عضو من أعضاء الهيئة التنفيذية .ولــذلك تختلف علقته بالدولة عن باقي الموظفين ,فهــو ,وإن كــان مقيدا بأوامرها ,فهو معرض لعقابها ,لكنه يتصــر ف بــوليته فيما يراه صالحا لهــا حســب اجتهــاده .وإنمــا كــانت لــه هــذه الصلحية ليكون مسموع الكلمــة ,مــوقرا مهابــا فــي وليتــه. ولذلك تتشدد الدولة في معاقبة من يحاولون النتقاص منــه. ولهــذا علــى الدولــة أن تحســن اختيــار الــولة لمــا لهــم مــن الصــلحيات ,فل تختــار إل مــن كــان فيهــم الكفايــة للحكــم. وعلى الدولة أن تكشــف دائمــا عــن حــال ولتهــا ,وتراقبهــم مراقبة دقيقة. فالرســول عليــه الســلم كــان يتخيــر ولتــه مــن أهــل التقوى والقوة وكان يكشف دائما عن حال عمــاله ,ويســمع ما ينقل إليه من أخبارهم .وكان عمر يقضي شطرا كبيرا من وقته في سياسة العمال ,وكشف أحوالهم ,وانتقاء أصــلحم ,وتنظيمهم في الدارة والسياسة على أسلوب محكم .وكان حين يريد أن يعين واليا يتحــرى عــن أحــواله؛ فقــد روي عنــه رضي ا عنه أنه قال لصحابه أشــيروا علــي ودلــوني علــى رجل أستعمله في أمر قد همني .فقولوا مــا عنــدكم ,فــإني أريــد رجل إذا كــان فــي القــوم وليــس أميرهــم ,كــان كــأنه 97
أميرهم ,وإذا كان فيهم هو أميرهم ,كان كأنه واحــد منهــم. فقالوا :الذي نرى له هذه الصفة ,الربيع بن مزيــاد الحــارثي , فنشير على أمير المؤمنين به .فأحضره واستعمله فــي المــر الذي همه. ومع تحري عمر للولة حين توليتهم فــإنه كــان شــديد المراقبة لهم فقد عين محمد بن مسلمة للكشف عن أحــوال الولة والتفتيش عليهم .وكان يذهب هــو بنفســه فــي بعــض الحيان للتفتيش على الوليات وعلى الولة .وكانت له عيــون تكشف له عن أخبار الرعية والولة .وكان يجمــع الــولة فــي موسم الحج لينظر فيما عملوه طول الســنة ,وليصــغي إلــى شكاوي الرعية منهم ,وليتذاكر معهــم فــي شــؤون الوليــة , وليعر ف أحوالهم. ح ـ علقة الوالي بالناس: الوالي حاكم في وليته .ولذلك كانت العلقة بيه وبين الناس قائمة على على قاعدة العلقة بين الحــاكم والرعيــة. وهي أن على الناس السمع والطاعــة فـي حـدود السـلم , وعلى الوالي العدل وحسن الدارة ,وعليــه أن يعمــل بــرأي أهــل وليتــه ,كمــا يعمــل بــرأي مجلــس الوليــة ,وعليــه أن يتعر ف أحوال الناس ويحيط بأخبارهم إحاطة دقيقة ,وعلى المة أن تنصح الــوالي وأن ترشــده إذا أخطــأ ,وأن تــبين لــه 98
خطأه بالسلوب الحكيم وللنـاس صـلحية مقاضـاة الـوالي , أما لدى القضاء أو بالشكوى عليه للمســؤول عنــه فــي مركــز الدولـة .وتـأثم المـة إن سـكتت علـى خطـأ الـوالي أو علـى ظلمه .ولكن كل ذلك مع حفظ هيبة الحكــم .وعلــى الــوالي مع مراعاته لجميع مصــالح النــاس أن يحفــظ هيبــة الدولــة , وأن ل يجعــل النــاس يســتهترون بــه أو بالدولــة؛ كتــب والــي أرمينية للمنصور يخبره :أن الجند قد شغبوا عليــه ,ونهبــوا مــا في بيــت المــال .فوقــع فــي كتــابه ) :اعــتزل عملنــا مــذموما غبوا ولو هلَقوهلَْيتهلَ لم ينهبــوا ( .ولــذلك ش ّ ع ِقْلتهلَ لم ُي هلَ مدحورا؛ فلو هلَ كان على الوالي أن يحفظ هيبة الحكم ,وفي نفــس الــوقت أن يعامل الناس معاملة حسنة ,فل يشتم أحدا من الرعيــة , ول يضربه ,ول يحابي أحدا في العطاء ,أو يصانع أحدا فــي الحكم ,ول يحتجب عن الناس ول يتهاون في خدمتهم .فــإذا فعل شيئا من ذلك عاقبه الخليفة؛ لنه وإن كان حاكمــا علــى النــاس ,لكنــه قــائم لقضــاء حاجــاتهم وقــد كــان عمــر بــن الخطاب إذا ولى الولة قال لهم ) :إني لــم أســتعملكم علــى أمــة محمــد ,علــى أشــعارهم ,ول علــى أبشــارهم ,وإنمــا استعملتكم عليهم لتقيموا بهم الصلة ,وتقضوا بينهم بــالحق ,وتقسموا بينهم بالعدل (. ط ـ مدة الولية: 99
لم يحدد الشرع مدة الولية للوالي .ول يوجد نــص أو عمل يحدد مدة معينة لوليته .وإنما تحدد وليته بنــوع عملــه، فإن أحسن عمله ورضي عنه الناس والدولة بقــي واليــا ،وإل عــزل عــن وليتــه .إل أن الــذي جــرى عليــه عمــل الدولــة السلمية أنهم كانوا يتركون الــوالي يمكــث فــي وليتــه مــدة معقولة ،ل تقل عن ثلث سنين ،حتى يتعــر ف علــى الوليــة، ويختبر أهلها ،وتكون لديه عراقــة فــي معرفــة إدارة الوليــة. وينبغي أل تزيد عن المعقول حتى ل يطمع بالســتقلل فــي وليته ،وحتى ل تتحــرك فيــه أحاســيس الســيادة .والــوالي ل ينقل من ولية إلى أخرى ،لنه ليس موظفا ،وإنما هو حاكم، فإذا أريد الستغناء عنـه فـي وليـة أعفـي منهـا ،وعيـن فـي عمل آخر ،أو في ولية ثانية .ول يعزل الــوالي بمــوت رئيــس الدولة. القضاء القضاء هــو الخبــار عــن حكــم شــرعي علــى ســبيل اللزام .وهو الفصل بين الناس في الخصومات .وهو الحكم بين الناس حسب الشريعة السلمية .سواء أكان فصــل فــي النزاع الواقع بين الناس ،أو منعا لما يضــر حــق الجماعــة ،أو رفعا للنزاع الواقع بيــن النــاس والدولــة أو أحــد أفرادهــا ،أو فصل في معنا نص من نصوص التشريع على سبيل اللزام. 100
والقضاء واحد ل يتعدد ول يتجزء .فالقاضي هــو كــل من يتولى القضــاء .ول يوجــد فــي الســلم قــاض شــرعي، وقـاض نظـامي ،فـذلك مـن مسـتحدثات الكفـر حيـن بسـط حكمه ونفوذه على بلد السلم؛ بل يوجد قاض يحكــم بيــن الناس بما أنزل ا حين يوكل إليه أمر القضاء. ولكن للقضاء ثلث جهــات :إحــداها فــض المنامزعــات بوجه عام ،في جميع شؤون الحياة ،التي تقع بيــن متــداعيين أو متنامزعين ،فيحسم بالحكم التداعي ويقطع التنامزع ،وهــذه هــي صــلحية القاضــي ،ســواء أكــانت هــذه المنامزعــات معاملت ،أو عقوبات ،أو أحوال شخصية. وثانيها النظر فيما يتعلق بالنظام العام ،مما يســتدعي الفصل فيه السرعة والشدة ،لمنع ما يضر حق الجماعة فــي المجتمع ،وهو ما يطلق عليه اسم الحســبة ،والمحتســب هــو قاض له صلحية القضاء واللزام في أمور الحسبة. وثالثها الفصل لرفع النزاع الواقع بين الناس والدولــة، أو أحد أفرادها أو موظفيها ،فيما هو من أعمالهم ،سواء في الحكم ،أو الدارة ،أو المال ،أو أي شأن من شؤون أعمالهم. وقاضي هذا النــوع يطلــق عليــه اســم قاضــي المظــالم ،ول يخرج القضاء عن هذه النواع الثلثة. مكانة القضاء 101
للقضاء في السلم منزلة ســامية بيــن جميــع أعمــال الدولة .وليس لحد ــ أيــا كــان ــ ســلطة علــى القاضــي فــي قضائه ,فليس لمجلــس الشــورى أو رئيــس الدولــة أو الهيئــة التنفيذيــة أو الجبــش أي ســلطان علــى القاضــي؛ بــل هــم خاضعون لحكمه ,منفذون له .والقاضـي يحكـم بمـا يـوحيه إليه فهمه للحكم الشرعي وخوفه من ا؛ لن القضاء فهــم وتقــوى .ول يتــأثر القضــاء بالسياســة ,ول بميــول الحكــام. ويعتــبر القضــاة مطلقــي التفكيــر والفهــم لحكــام اــ. وأحكامهم نافــذة علــى جميــع النــاس ,ل فــرق بيــن خليفــة ووالي ,وبين أي فرد من أفراد النــاس ,وقــد حفــظ التاريــخ آل ف القضايا التي أقامها أفراد من المواطنين مسلمين وغيــر مسلمين ضد الخليفــة أو معــاونه أو الــوالي ,وكــان القاضــي يحكم في القضية بالعدل ولو على الخليفة وكثير من القضايا حكم القضاة بها على الخلفاء. شروط القضاء يشترط في القاضي أن يكون مسلما ,بالغا ,عــاقل , عــدل ,فقيهــا ,مــن أهــل العلــم ,فل تجــومز توليــة الجاهــل والفاسق والمجنون والصبي القضاء مطلقا ,ول تجومز توليــة غير المسلم القضاء بين أهل دينه فقط أي يحكم بينهـم فــي أحوالهم الشخصية دون غيرها. 102
وأمــا اشــتراط أن يكــون القاضـي رجل ففيـه خل ف , فالشــافعية يشــترطون فــي القاضــي أن يكــون رجل ,ول يجيزون تولية المرأة القضاء مطلقا .والحنفية يجيــزون توليــة المــرأة القضــاء فــي غيــر حــد وقــود ,أي فــي غيــر الحــدود والجنايات .وأجامز المام الطبري القضاء لها فــي كــل شــيء. والطـبري إمـام مجتهـد مـن الئمـة المجتهـدين كـأبي حنيفـة والشافعي .وولى عمر بن الخطاب الشــفاء قاضــية للســوق في المدينة .والذي يبدو من أدلة هؤلء الئمــة ,ومــن ســائر الدلة الشرعية أنه يجومز أن تكون المرأة قاضية في الحســبة ,وفي فصل النزاع الواقــع بيــن النــاس .ول يجــومز أن تكــون قاضية في محكمــة المظــالم؛ لن القضــاء الــذي هــو فصــل النزاع الواقع بين الناس ليس ولية ,وكــذلك ليســت الحســبة ولية .بخل ف محكمة المظالم فإن فيها ولية أي حكما؛ لنها ترفع النزاع الواقع بين الناس والدولة ,وتفصــل فــي معنــى نص من نصوص التشريع ,وذلك حكم .والمــرأة ل يجــومز أن تتولى الحكم. وأما حديث ) ما أفلح قوم ولوا أمرهــم امــرأة ( وهــو الــذي يســتند إليــه الشــافعية وغيرهـم فــي منــع المــرأة مــن القضاء .فإن المراد منه الولية أي الحكم ل القضاء .وهنالك فرق بين القضاء والحكم؛ فالقضاء هو الخبــار عــن الحكــم 103
الشرعي في النزاع الواقع بين النــاس علــى ســبيل اللــزام , والحكم هو تنفيذ الحكام الشرعية عليهم أي تطبيق السلم على الناس. تعيين القضاة يعين القاضي ويعزل وينقـل مـن قبـل رئيـس الدولـة مباشرة .وهو صاحب الصلحية في ذلك .ونظــرا لن أعمــال رئيس الدولــة كــثيرة فلــه أن ينيــب عنــه شخصــا هــو قاضــي القضاة .ويشترط فيه أن يكون رجل مســلما عــدل مــن أهــل الفقه .وتكون له صــلحية تعييــن القضــاة وترقيتهــم ونقلهــم وتأديبهم وعزلهم. وأما الشرا ف على إدارة المحاكم من الناحية الدارية والمالية في كافة الشؤون غير القضـائية مثـل تعييـن الكتـاب والموظفين ونقلهم وغير ذلك فهي لمدير الدائرة التي تتــولى إدارة شؤون المحاكم؛ لنها ل تتعلق بالقاضــي ول بالقضــاء. بل هي مــن الدارة .وأمــا تعييــن القضــاة وعزلهـم وكــل مــا يتعلق بالقضاة ,فهو من الحكم وليس من الدارة؛ لنه جزء من أجزاء الحكم؛ فيكون تعيين قاضي القضاة وعزله وكافة ما يتعلق به من الحكم .ومن هنا جعل قاضي القضاة متصل بأمير المؤمنين مباشرة ,مثل أعضاء الهيئة التنفيذية والــولة. فقد كان الرســول صــلى ا ـ عليــه وســلم يمــارس القضــاء 104
بنفسه ,كما كان يوليه غيــره ,فقــد قضــى بيــن النــاس فــي المدينة ,وولى معاذ بن جبل واليا على اليمــن وقاضــيا فيهــا: وكان الرسول يمارس القضاء بوصفه قاضيا يحكم بناء على البينة ,ل بوصفه نبيا يحكم بوحي يوحى إليه .وكانت مباشرته للقضاء وتعيينه للقضاة عمل من أعماله كرئيس للدولة .وقــد حرص صلى ا عليه وسلم على التنــبيه علــى هــذه الناحيــة فقــال " :إنكــم لتختصــمون إلــي ,ولعــل بعضــكم أن يكــون ألحن بحجته من بعض ,فأقضي له على نحو مما أسمع منه فمن قطعت له من حق أخيه شيئا فل يأخــذه ,فإنمــا أقطــع له قطعة من النار ". وقد كان الخليفة هو الذي يعين القضاة في الوليات، فقد ولى عمر بن الخطاب أبا الــدرداء قضــاء المدينــة وولــى شريح بن الحارث قضاء الكوفة ،وولى أبا موســى الشــعري قضاء البصرة ،وولى عثمان بن قيس بن أبي العاص قضــاء مصر .وظــل القضــاة متصــلين بالخليفــة مباشــرة حــتى أيــام العباسيين ،فاتخذ هارون الرشــيد نائبــا عنــه ليــولي القضــاة. وأول من ولي هـذا العمــل المـام أبـو يوســف صــاحب أبـي حنيفة .ومنذ ذلك الحين صار قاضي القضاة هــو الــذي يعيــن القضاة ويعزلهم وينقلهم .وفي أواخر أيام العباســيين جعــل الخليفة لقاضي القضاة أن ينيب عنه في المكنة البعيدة مــن 105
يقوم بأعماله في أمور القضاة؛ فقد عين الخليفة المسترشــد بالله علي بن الحسين الزينبي وكتــب لــه كتابــا مطــول بــذلك، وأمره في الكتاب أن يستخلف على ما نأى عنه في البلد. الشتراك في القضاء الصل في القضـاء انـه قضـاء منفـرد ،فيعيـن قـاض واحد للفصل في الخصومات .ويعين لكل مدينة قاض واحــد أو قضاة متعــددون ولكــن يجلــس كــل واحــد منهــم للقضــاء منفردا ،وينظر في القضايا التي تقدم إليــه .ويجــومز أن يعيــن عدة قضاة في البلد الواحد ينظرون في عــدة قضــايا ويجــومز أن يخصص كل قاض في محلة منها ل يحكم إل في محلتــه. وللمــدعي أن يختــار القاضــي الــذي يحــاكم أمــامه ،وليــس للمدعى عليه ذلك إذا كــان فــي البلــد عــدة قضــاة ،وإذا كــان القاضي واحدا أو مختصا في محلة فقاضــي بلــد المــدعي أو محلته هو القاضي المختص .وهذا النفراد بالقضاء هو فــي القضايا العادية .أما القضــايا الهامــة فتشــكل فيهــا المحكمــة أكثر من قاض واحـد؛ لن المناقشـة فـي الـرأي توضـح حـل المشــكلة أكــثر مــن النفــراد .ويجــومز أن يخصــص القاضــي المنفرد بأقضية معينة إلى حد معين ،ويوكــل أمــر غيــر هــذه القضايا إلى محاكم مؤلفة من عدة قضــاة .ومــن هنــا يجــومز تعدد درجات المحاكم بالنسبة لنواع القضايا. 106
جاء في كتاب القضاء لبن الجومزي " لــم يشــرك فــي القضاء بين أحد قط إل بين عبد ا بن الحسن العنبري وبين عمر بن عامر على قضاء البصرة .وكانا يجتمعان جميعا فــي المجلــس وينظــران جميعــا بيــن النــاس " ونقــل عــن كتــاب مسالك البصار أن بعض الخصومات الهامة في مزمن ما ،كان ينظر فيها قضاة المذاهب الربعة مجتمعيــن؛ فقــد قــال ابــن العمري فــي كلمــه فــي صــفة مســجد دمشــق ،وهــو يعــدد المواضع التي فيه ،ما يأتي " :وبهــذا المشــهد تعقــد مجــالس الحكام الربعــة والعلمــاء لفصــل القضــايا المعضــلة الــتي ل ينفرد بها حاكم ،فيجتمعون بأمر نائب السلطان وينظرون في تلك الحكومة ويحكمون فيها بأجمعهم " ونقل الماوردي عن أبي عبد ا الزبيري أنه قال " :لم تزل المراء عندنا بالبصرة برهة من الــدهر يستقضــون قاضــيا علــى المســجد الجــامع، يسمونه قاض المسجد ،يحكم فــي مــائتي درهــم وعشــرين دينارا فما دونها ،ويفرض النفقات ول يتعدى موضــعه ول مــا قدر له ". وعلى كل فكون القاضي منفردا أو متعددا ليــس مــن وجهة النظر ،ول من الطريقــة ،بــل هــو مــن الســلوب الــذي يعينه نوع العمل ،على أن فيما ذكر من النقول المتقدمــة مــا
107
يؤنس بجوامز التعدد وجوامز التخصيص بأقضية معينة إلى حــد معين ،فيجومز العمل به. المحتسب المحتسب هو القاضي الذي ينظر في المســائل الــتي تضر حق الجماعة ،وتحتاج إلى سرعة الفصل ،والشدة علــى المقتضى عليهم ،والتنفيذ العاجل .وهــذا فــي كافــة القضــايا التي هي حقوق عامة ،ل يوجد فيها مــدع ،علــى أن ل تكــون داخلة في الحدود أو الجنايــات ومــا شــابهها .وبعبــارة أخــرى المحتسب هو قاضــي المخالفــات الـتي يحصــل فيهــا اعتــداء على الحق العام .ويملــك المحتســب الحكــم فــي المخالفــة، وتنفذ الشرطة هذا الحكم في الحال .ومن هنا كانت العبــاء التي يقوم بها المحتسب كــثيرة .ويتعــدد قضــاة الحســبة فــي البلد الواحد حسب الحاجة .وللمحتسب حق اختيار نواب عنــه يومزعهم في الجهات المختلفة .وتكون لهؤلء النواب صــلحية القيام بوظيفة الحسبة في المنطقة أو المحلة التي عينت لهم في القضايا التي فوضــوا فيهــا .ويجعــل تحــت يــد المحتســب عدد من الشرطة لتنفيذ أوامره وأحكــامه ،كمـا يجعـل لنــواب المحتسب الحق في أن يستعينوا بالشرطة لتنفيــذ أحكــامهم. وللمحتسب الحــق أن يحكــم بــالتغريم ،والضــرب ،والحبــس، والنفي ،وما شابه ذلك .وله اتل ف البضائع الفاســدة ،وإراقــة 108
الســوائل ،كــالخمور واللبــن المغشــوش ،وللمحتســب حــق الفصل في أمـور الحسـبة فـي دار الحسـبة أي فـي محكمـة الحسبة ،وفي خارجها ،وله حق الطوا ف في البلد ،أو المحلـة التي خصــص بهــا ،أو خصــص بهــا نــوابه .ولــه ولنــوابه حــق المراقبة في المور الظــاهرة ،ولكنــه ل يجــومز لــه مطلقــا أن يتجسس على النــاس ،ويتتبــع عـوراتهم ،ول أن يقتحـم علــى أصحاب الدور دورهم ليحاسبهم على ما يصــنعون فيهــا ســرا ول يتسقط هفواتهم ليحاسبهم عليها ،بل عليه أن يتولى المر الظــاهر ،وأن يحاســب علــى مــا يــرى ويشــاهد مــن المــور الظاهرة. صفات المحتسب يشترط في المحتسب أن يكون مسلما عدل من أهــل الفقه .غير أنه لما كان منصب المحتســب حساســا جــدا؛ لنــه يتعلق بالمور العامة فمن المستحسن أن تكــون لــه صــفات كماليــة تمكنــه مــن اتقــان عملــه؛ لن المحتســب يتعــرض للرشــوات والمغريــات ،وتبــذل لــه الشــفاعات المســموعة لسكوته أو تغاضيه ،وقد يهدد من قبل القادرين على التهديد. ولهــذا يستحســن أن يكــون المحتســب عالمــا ،خــبيرا ،نزيهــا، عفيفا ،نشيطا ،قويا ،لين القــول ،رقيقــا ،جريئــا ،مهيبــا ،يقــول السقطي في كتابه آداب الحسبة " يجب أن يكــون مــن ولــي 109
النظر في الحسبة فقيها فــي الــدين ،قائمــا مــع الحــق ،نزيــه النفس ،عالي الهمة ،معلوم العدالــة ،ذا أنــاة وحلــم ،وتيقــظ وفهم ،عارفا بجزيئات المور ،وسياسة الجمهــور ،ل يســتخفه طمع ،ول تلحقه هوادة ،ول تأخذه فــي اـ لومــة لئـم ،مـع مهابة تمنع الدلل عليه ،وترهب الجاني لديه " ومع كل هــذه الشروط فل تشترط الذكورة في قاضــي الحســبة ،لن عمــر بن الخطاب ولى إمرأة وهــي الشــفاء قضــاء الحســبة .قــال المام ابن حزم في المحلى ما نصه 1800 " :مسألة .وجــائز أن تلي المرأة الحكم ) القضاء ( وهو قول أبي حنيفــة .وقــد روي عن عمر بن الخطاب أنه ولى الشفاء ) إمراة من قومه ( السوق ) أي قضــاء الحســبة ( فــإن قيــل قــال رســول اـ صلى ا عليه وسلم لن يفلح قوم اسندوا أمرهم إلى امرأة، قلنا إنما قال ذلك رسول ا صلى ا عليه وسلم فــي المــر العــام الــذي هــو الخلفــة .برهــان ذلــك قــوله عليــه الصــلة والسلم ) المرأة راعية على مال مزوجها وهي مســؤولة عــن رعيتها ( وقد أجامز المالكيون أن تكون وصية ووكيلة ولم يــأت نص من منعها أن تلي بعض المور " أ هـ. صلحيات المحتسب للمحتسب صلحية المراقبة والحكم والتنفيذ ،وتتنــاول صلحيته ما يلي: 110
1ــ الشــرا ف علــى نظــام الســواق ،والحيلولــة دون بــرومز الحــوانيت ،ممــا يعــوق نظــام المــرور ،والكشــف علــى الموامزين والمكاييل ،وتفــتيش الفــران والمطـاعم والفنـادق والمقاهي وسائر المكنة العامة. 2ـــ المحافظــة علــى حركــة المــرور فــي الشــوارع والطرقات ،ومنع رؤساء المراكب البحرية وأصحاب المركبات والسيارات أن يحملوا أكثر مما يجب حمله من الناس والسلع، وحفظ حركة السير. 3ـ منع المنكر ،والمحافظة على الداب العامة ،ومنــع معلمي المدارس من ضرب الصغار ضربا مبرحا. 4ـ مراقبة العبادات؛ فإن المحتســب يأخــذ المســلمين بصلة الجمعة والعيدين ،ويمنعهم من الفطار في رمضــان، ويراقب المساجد ليمنــع التشــويش فيهــا ،ويمنــع البــدع الــتي اتفــق المســلمون علــى كونهــا بــدعا ،ويمنــع المحتســب مــن التنطــع ،ول يتعــرض إل للمــور الجوهريــة الــتي تخــل فــي الحكام الشرعية. منصب المحتسب عر ف الفقهاء الحسبة بأنها أمر بالمعرو ف ونهي عــن المكنر .وصنفوا وظائف المحتسب بأن منها ما يتعلق بحقوق اــ ،ومنهــا مــا يتعلــق بحقــوق الدمييــن ،ومنهــا مــا يتعلــق 111
بالحقوق المشتركة بين اـ والدمييــن .وذكــرت كتــب الفقــه للمحتسب أعمــال كـثيرة تتعلــق بهــذه المـور الثلثـة .ويعتــبر نظام الحسبة موجودا منذ عهد النبي صلى ا ـ عليــه وســلم؛ فقد قــال ) :ليــس منــا مــن غــش ( وروي أنــه عليــه الســلم تعرض للغشاش فزجرهم .وكان عمر بــن الخطــاب يقضــي حسب نظام الحسبة ،لنــه كــان يطــو ف الشــوارع والســواق و ِدّرته معه ،فمتى رأى غشاشا خفقه بهــا مهمــا يكــن شــأنه، وربما أتلف بضــاعته .وقـد روي عنـه أنـه كــان يضــرب جمـال ويقول له ) :حملت جملــك مــا ل يطيــق ( .وضــرب رجل فــي الطريق لنه وقف في منتصف الطريق ومنع المرور .ثم جاء الخلفاء بعده يعاقبون الغاش. إل أن الحسبة لم تأخذ شكلها التنظيمي إل فــي أوائــل عهد العباسيين؛ فقد ولى المنصور أبا مزكريــا :يحيــى بــن عبــد ا ـ حســبة بغــداد ســنة 157هـــ .ثــم جــاء الرشــيد وعيــن المحتسب. جاء في كتاب حضارة السلم في دار الســلم " :لمــا اتسع نطاق التجارة في بغداد ،وأصبحت موردا لهل العوامز من كافة البلد ،يتناولون فيها حاجاتهم من المال ،وقع غــش فاحش في التجارة ،وصارت الصيار ف مــن اليهــود وغيرهــم يعطون مالهم بالربا على أن يعاد عليهم المثل في آخر العام 112
مثليــن وأكــثر .فأقــام الرشــيد محتســبا يطــو ف بالســواق، ويفحص الومزان والمكاييل من الغش. وفي ايام المهدي أخذت شــكلها التنظيمــي الــدائم؛ إذ جعلها المهدي مخصصـة ،وعيـن لهـا المحتسـب ،وظلـت مـن جملة التشكيلت فيما بعد؛ جاء في كتاب التمــدن الســلمي: " الحسبة .كان الموظف الذي يشــغل هــذا المنصــب يســمى المحتسب .وهي وظيفة أنشــأها المهــدي وظلــت مــن جملــة التشكيلت التي أخذت بها الممالك السلمية فيما بعد .وكــان يضــطلع المحتســب بمراقبــة الســواق ،وحمــل النــاس علــى المحافظة على الداب ،كما يطو ف مع توابعه فــي الشــوارع ليل ونهــارا للتأكــد مــن تنفيــذ تعليمــات الشــرطة ،والمــر بالمعرو ف والنهي عن المنكر ،ومعاقبــة مــن يحــاول الغــش في المقاييس والمكاييل والموامزين. محكمة المظالم ينظــر قاضــي الفصــل فــي الخصــومات فــي جميــع القضايا من غير استثناء ،ضد جميع الشخاص ،إذا كانت هذه القضايا تتعلق بهؤلء الشخاص أنفسهم .أمــا القضــايا الــتي تتعلق بأعمال الشخاص الرسميين كرئيس الدولة ،وأعضــاء الهيئـــة التنفيذيـــة ،والـــولة ،وأعضـــاء مجلـــس الشـــورى، والموظفين ،فــإن الــذي ينظــر فيهــا قاضــي المظــالم .وهــو 113
قاض ينصب لرفع كل مظلمة تحصــل علــى أي مــواطن مــن الدولة أو أحد موظفيها ،أو لبيان معنــى نــص مــن النصــوص الشرعية ،أو نصوص التشريع .ويشترط في قضــاة المظــالم أن يكونوا رجال مسلمين عــدول مـن أهـل الفقـه والجتهـاد. ويتحرى أن يكونوا من أكثر القضاة علما وفهما وتقوى؛ لنهم يتولون أعلى محكمة في الدولة. صلحيات محكمة المظالم تتألف محكمة المظالم من عدة قضاة؛ لنها تنظر في المور الهامة ،ويعين عددهم حســب الحاجــة ،ولهــا صــلحية النظر والفصل في المور التية: 1ـ القضايا التي يقيمها الفراد والجماعات من جميــع المواطنين ضد رئيس الدولــة ،أو الهيئــة التنفيذيــة ،أو أعضــاء مجلــس الشــورى ،أو الــولة ،أو أي موظــف مــن مــوظفي الدولة ،إذا كانت هذه القضايا تتعلق بأعمالهم في الدولة .أما إذا كانت تتعلق بأشخاصهم بوصفهم الشخصــي فتقــام أمــام المحاكم القضائية الخرى. 2ـــ رواتــب المــوظفين ،وأجــور العمــال ،وتقــدير العمال ،وأمور الضرائب. 3ـ الفصل في معنى نص من نصوص التشــريع فــي الدستور ،وفــي كــون الدســتور إســلميا أي أحكامــا شــرعية، 114
وفي دستورية القــوانين إذ لهــا صــلحية الغــائه ،أو إلغــاء أي مادة منه ،إذا كانت مخالفة للشرع ،لكــن إذا موافقــا للشــرع، وتبنــت الدولــة أحكامــا معينــة ضــمنتها مــواده لقــوة الــدليل ولقتضاء المصلحة ،فإن محكمة المظالم ـ والحالــة هــذه ـ ـ كسائر المحاكم ،تتقيد بالحكام الشرعية التي تختارها الدولة وتتبناها؛ لن القاعدة الشرعية " إن أمر المــام ينفــذ ظــاهرا وباطنا " .والقاعدة كذلك ) أمر المام يرفع الخل ف (. 4ـ الفصل في مخالفـة رئيـس الدولـة للشـرع ،وفـي تطبيقه الحكام الشرعية أو عدم حمله للدعوة الســلمية ،أو إهماله لمور المة ،أو عجزه عن القيام بأعباء الحكــم؛ فلهــا محاكمته ،ولها صــلحية عزلــه إذا كــان عملــه يقتضــي عزلــه؛ لنها هي التي تفصل فيما يوجب عزلــه مــن العمــال ومــا ل يوجبه .وتسمع الدعوى من أي واحد من المسلمين. هــذه المــور الربعــة هــي مــن صــلحيات محكمــة المظالم .وقد ذكر الماوردي في كتابه ) الحكام السلطانية ( الــذي يبحــث فــي نظــام الحكــم فــي الســلم ،إن لمحكمــة المظالم النظر في عشرة أشياء .وكلها ل تخــرج عــن المــور الثلثة الولــى .وكــذلك مــا ذكــره الفقهــاء .أمــا المــر الرابــع المتعلق بعزل رئيس الدولة فلم يذكره الفقهاء؛ لن الخليفــة كان هو الذي يتولى محكمة المظالم فــي الصــدر الول مــن 115
الدولــة الســلمية ،وحينمــا فصــلت محكمــة المظــالم كــانت المؤآمرات السياسية تسبب غالبا عزل الخليفــة .والظــاهر أن هذا من السباب التي جعلت الفقهاء يبتعدون عــن التعــرض لبحثه حين بحث محكمة المظالم ،ولكنهم أي الفقهــاء نصــوا بصراحة على أن الخليفة إذا أخل بشرع ا اســتحق العــزل، والحديث الشريف صــريح " :ل طاعــة لمخلــوق فــي معصــية الخالق " وأبو بكر فهم ذلك فقال ) :اطيعوني ما اطعت اــ فإذا عصيت ا فل طاعة لي عليكم (. ول خل ف في أن الخليفة إذا أخل بشرع اـ اســتحق العزل .أما إن محكمة المظالم هــي صــاحبة الصــلحية فــي ذلك فهو صريح في الية قال تعالى " :يا أيها الذين آمنوا أطيعوا ا وأطيعوا الرسول وألي المر منكم " ثم أتم الية بقوله " :فإن تنامزعتم في شيء فردوه إلى ا والرسول " وليس المراد هنا تنامزع أفراد المة مع بعضهم بل المراد تنامزع المؤمنين مع أولي المر ،أي أطيعــوا أولي المر منكم ،فإن تنامزعتم معهم في شيء فــردوه إلــى قضاء ا ورسوله ،ليعطي الحكــم فيــه؛ لن معنــا رده إلــى ا والرسول ،رده إلى حكم ا ورسوله ،الــذي يفصــل فيــه القضاء .ومحكمة المظالم هــي أعلــى هيئــة قضــائية ،فهــي التي تفصل فــي أمــر ولــي المــر ،وهــو رئيــس الدولــة ،وأي 116
حاكم يعينه ,ولها صلحية إصدار الحكم عليه كما هو صــريح الية ،والحكم عليه يشـمل الحكــم بعزلــه ،واتبـاع حكـم اـ واجب على الخليفة وعلى غيره وعليهم تنفيذه. تعيين قضاة المظالم وعزلهم قضاة محكمة المظالم من حيث تعيينهم ،كباقي القضاة ،يعينهم قاضي القضاة .كما أن لرئيس الدولة صلحية تعيينهم .أما عزلهم فهو ليس من صلحية رئيس الدولة ،ول من صلحية قاضي القضاة بل هو من صلحية محكمة المظالم نفسها ،فإذا أتهم قاض أو أكثر من قضاة أو أكثر من قضاة محكمة المظالم ،في أمر من أمور عمله أو في تصر ف من تصرفاته بوصفه قاضيا في محكمة المظالم، يرفع المر إلى محكمة المظالم نفسها ،فتعقد جلسة ل يكون فيها القاضي المتهم أو القضاة المتهمون ،وينظر القضاة غير المتهمين في أمر التهام ،ويحاكمون القاضي أو القضاة المتهمين ،ويصدرون حكمهم عليهم .وإن ثبت أنهم يستحقون العزل يصدرون الحكم بعزلهم .وإذن فصلحية عزل قاضي المظالم هي لمحكمة المظالم ،وليست للخليفة ول لقاضي القضاة. والحكم في عدم وجود صلحية لرئيس الدولة وقاضي القضاة في عزل قضاة المظالم ،وجعل هذه 117
الصلحية لمحكمة المظالم نفسها ،يستنبط استنباطا من باب سد الذرائع ،الذي يجعل الوسيلة إلى الحرام حراما ،والوسيلة إلى الواجب واجبة. والظاهر من الواقع التاريخي أن الذي كان يجري عليه العمل هو أن للخليفة أو لقاضي القضاة عزل قضاة محكمة المظالم ،وإن كان ل يوجد نص يجعل لهما حق العزل ،لكن الذي يبدو من التدقيق أن ليكون لرئيس الدولة هذه الصلحية ،وكذلك ل تكون لقاضي القضاة. وذلك أنه لما كانت لمحكمة المظالم صلحية عزل رئيس الدولة ،كان لزاما أن ل تكون لرئيس الدولة صلحية عزلها ،لئل تؤدي هذه الصلحيات إلى عزلها من قبله في حالة تحققه عزله من قبلها ،ولما كان عزلها في هذه الحال حراما ،كانت الوسيلة إلى ذلك ) وهي إعطاؤه حق عزلها ( حراما ،من باب سد الذرائع ،الذي يقضي بإعطاء الوسيلة حكم الغاية ،ويجعل الوسيلة إلى الحرام حراما ،والوسيلة إلى الواجب واجبة ،لن الصل في هذا الباب هو النظر في مآلت الفعال ،وما تنتهي في جملتها إليه ،فإنها إن كانت مآلتها تتجه نحو المفاسد كانت محرمة بما يتناسب مع تحريم المفاسد .ولما كان إعطاء رئيس الدولة صلحية عزل محكمة المظالم يؤدي إلى مفسدة كان ذلك ممنوعا ،ولهذا 118
فل صلحية لرئيس الدولة في عزل محكمة المظالم ول أحد أعضائها مطلقا؛ لما يؤدي ذلك إليه من المفاسد ،وتكون صلحية عزل أعضائها لمحكمة المظالم نفسها ،تقرره حسب الشرع في حكم شرعي ،كما تعزل رئيس الدولة .ول يقال إذا اتهم جميع أعضاء محكمة المظالم من الذي يحاكمهم ويعزلهم :لن هذا فرض نظري ،ل يوجد ،ول يحصل؛ لنه إذا أجمع أعضاء أعلى مركز قضائي على الفساد تكون المة كلها قد نخرها سوس الفساد ،واحتاجت إلى عملية فكرية شاملة لتصلح من جذورها ،حتى يحصل التغيير لجهامزها جميعه. إنشاء محكمة المظالم المظالم جمع مظلمة .وسميت محكمة المظالم بذلك لنها تنظر في مظالم الناس وإمزالة أسبابها .وظلمات الناس تأتي إما من الدولة نفسها :من رئيسها أو أي واحد من جهامز الحكم ،وإما من ظلم أفراد .أما ظلم الرعية فالصل في الدولة أن تزيل أسبابه ،وأن تقيم العدل بين الناس .وأما ظلم الولة وأعضاء الهيئة التنفيذية وسائر الرجال الذين في جهامز الحكم فالصل فيه أن يزيله رئيس الدولة ،الذي هو ولي المر ،ويرجع الحق لهله .ولكن إذا كان رئيس الدولة لم يزل المظلمة ،أو كانت المظلمة آتية منه ،فإن شرع ا 119
الذي له وحده السيادة هو الذي يزيله .ووسيلة ذلك هي محكمة المظالم وهي أعلى هيئة قضائية في الدولة كما مر استنباط ذلك من الية الكريمة ) يا أيها الذين آمنوا أطيعوا ا وأطيعوا الرسول.( ... وقد كان الخلفاء الولون هم الذين ينظرون في قضايا المظالم متى رفعت إليهم؛ فقد كان علي رضي ا عنه يجلس للفصل في قضايا المظالم ،ينظر القضايا التي يقدمها المتظلمون ،ويعمل على إنصافهم .ولم يعين يوما مخصوصا ول ساعة معينة لسماع المظالم ،بل كان ينظر في شكاية المتظلم في كل وقت يأتيه ،ويعمل على إنصافه في الحال .وكان عبد الملك بن مروان يجلس للنظر في قضايا المظالم .وقد أفرد يوما معينا يجلس فيه لينظر في قضايا المظالم ،ويفصل فيها ،ويرفع الظلمات عن الناس .وكان يأخذ رأي قاضيه ابن إدريس المزدي فيما يستعصي عليه من المشكلت .ثم عينه قاضيا للمظالم ،وصار يحيل المشكلت إليه ليحكم بها .وانفرد قاضي المظالم عن الخليفة .فكان ابن إدريس المزدي أول قاض للمظالم ،في عهد عبد الملك بن مروان ،وفي أيام العباسيين عني المهدي عناية فائقة بالمظالم .وفي أواسط العهد العباسي كان الخلفاء يفوضون النظر في المظالم إلى شخص معين وهو قاضي 120
المظالم ،ينظر فيها منفردا عن الخليفة .وكان يجلس معه القضاة والحكام للستعلم منهم ،والفقهاء ليرجع إليهم فيما أشكل عليه .فمنذ أيام عبد الملك صارت محكمة المظالم خاصة ،وقاضي المظالم له صلحيات معينة ،إل أنها في أيام العباسيين أحيطت بأبهة ورعاية وفي أيام السلطين في الشام ومصر سميت محكمة المظالم دار العدل. الجيش الدولة السلمية وسيلة لتطبيق السلم وحمل دعوته ،وهي دولة مبدئية مبدؤها السلم ،ولذلك تعتمد في أداء مهمتها على المبدأ نفسه؛ لن تركزه في نفوس المسلمين يجعلهم ينفذونه إجابة لمر ا ،لكنها مع ذلك تعتمد على الجيش إعتمادا ماديا ،حتى تحمي البلد من القلقل الداخلية والعتداء الخارجي ،وتزيل من طريق الدعوة الحواجز المادية التي تقف في طريقها .واعتماد الدولة على الجيش هو جزء من العتماد على السلم ،لن الجهاد فرض على المسلمين ولن ا أمر بالعداد. والسلم من أول يوم أسس فيه دولته ،أسس معها الجيش؛ وكانت الدعوة السلمية تسير ومعها قوتها المادية .وقد كان المسلمون كلهم جندا .فكل مسلم جندي مهيأ للقتال في كل وقت؛ لنه يعتنق السلم ،ويستعد للقتال في سبيله ،وسبيل 121
دعوته ،أي في سبيل ا؛ لن قتال العداء جهاد وهو عبادة من العبادات ،وفرض من فروض السلم. وكان الرسول ينظم الجيش في فرق ،ويولي على كل فرقة قائدا ويعقد له لواءه. وأول لواء عقد في السلم لواء عبد ا بن جحش. وعقد لسعد بن مالك المزدي راية سوداء فيها هلل أبيض وكان لواء النبي أبيض أو أصفر أو أغبر .وكانت له راية تدعى العقاب ،مصنوعة من الصو ف السود ،مكتوب عليها " ل إله إل ا محمد رسول ا " .ويدل التاريخ أن راية الجيش كله هي راية الدولة .ولكل لواء من ألوية الجيش راية خاصة. قواد الجيش يكون للجيش قائد عام يعينه رئيس الدولة نائبا عنه؛ لن القائد العام لجميع الجيش والقوى المسلحة هو الرئيس .وكذلك يكون لكل فرقة قائد ،ولكل لواء أمير، وكلهم يعينهم رئيس الدولة .أما الباقون فيعينهم قائد الجيش. وكانت فرق الجيش التي ل يخرج معها الرسول للقتال ،بل يعين لها قائدا مكانه يسمى سريا مهما بلغ عددها ولذلك فقد كان للسرايا التي يبعثها عليه الصلة والسلم قواد؛ لنه كان يولي على كل سرية قائدا ،ويحتاط في تعيين 122
من يخلفه أن قتل؛ ففي غزوة مؤتة أسند قيادة الجيش إلى مزيد بن حارثة ،وسلمه الراية ،وقال :إن قتل مزيد فليأخذ الراية جعفر بن أبي طالب ،وإن قتل جعفر فليأخذ الراية عبد ا بن رواحة .ولما تولى أبو بكر الخلفة صار يولي قواد الجيش .فقد دعا عمرو بن العاص وسلم إليه الراية وقال له :قد وليتك هذا الجيش فانصر ف إلى فلسطين .وأمره أن يكون تابعا لقيادة أبي عبيدة ،وقال له :كاتب أبا عبيدة وأنجده إذا أرادك ،ول تقطع أمرا إل بمشورته .ولما تولى عمر الخلفة صار يولي قواد الجيش ،فقد ولى سعد بن أبي وقاص قيادة الجيش ،وكتب له :إن شاور طلحة السدي، وعمرو بن معدي كرب في أمر حربك ,ول تولهما من المر شيئا .فإن كل صانع هو أعلم بصنعته .وقد ولى أبا عبيدة بن مسعود قيادة الجيش وبعث معه سليط بن قيس وقال له: لول عجلة فيك لوليتك ،ولكن الحرب مزبون ل يصلح لها إل الرجل المكيث الرمزين ,الذي ل يعجل في أمره. تنظيم الجيش التجنيد للجيش من صلب النظام السلمي ،لنه ـ كما قدمنا ـ جهاد ,وهو عبادة من العبادات ،وفرض على جميع المسلمين .ولذلك كان المسلمون يدربون جميعهم على الجندية ,ويكونون حاضرين للقتال في كل وقت تدعوهم 123
الدولة له .وكانت للجيش عطايا يأخذها من الغنائم حصة له. ولم يكن الجيش مخصصا بفئة خاصة .ولما تولى عمر بن الخطاب الخلفة ,وصار ل بد من وجود جيش دائم تحت السلح ,أسس الجيش الدائم ,وخصص له رواتب .ومن حينئذ صار عند المسلمين جيش دائم تحت السلح ,وجيش إحتياطي يستدعى عند الحاجة ,وهو بقية الناس من المسلمين؛ لن التجنيد والتدريب على العمال العسكرية كان عاما ,وظل عاما .وفي أيام الوليد بن عبد المك وضعت أصول خاصة للتجنيد؛ فقد جعل جبريا على كل محتلم نبت شعره. ول يأخذ للجندية أي شخص إل بعد الفحص الطبي , فكان الشباب يجردون من ثيابهم للطلع على عيوب أجسامهم ,فيعفى السقيم ,ويأخذ السليم. وقد جعل الجيش كله جيشا واحدا .يوضع في معسكرات خاصة .وقسم عمر بن الخطاب معسكرات الجيش على الوليات ,فصير فلسطين جندا ) فيلقا ( , والجزيرة جندا ,والموصل جندا .وكان يجعل في مركز الدولة في المدينة جندا .ويجعل لديه جيشا واحدا كبيرا يكون على إستعداد للقتال عند أول إشارة .وكان يعني بالستخبارات للجيش ,فكان يوصي قواد الجيش حين 124
يوليهم بالعناية باستخبارت العدو ,وأخبار جيشهم ,فيقول) : فإذا عاينت العدو فاضمم إليك أقاصيصك وطلئعك وسراياك ,واجمع إليك مكيدتك وقوتك ( .إلى أن يقول ) :وتعر ف الرض كلها كمعرفة أهلها (. العناية بالجند ل بد أن يشعر الجندي والضابط والقائد بتوفير الراحة النفسية والمعنوية له ،والطمئنان على أهله من بعده .وقد كانت معنيا بها في الدولة؛ فقد كان أبو بكر يعنى بتثقيف الجيش وتسليته ،فقد جعل مع الجيش قصاصا يقصون عليهم أخبار الوقائع والفروسية ،وقصصا وأحاديث عن المم الماضية ،وأساطير وحكايات ،حتى يثقفهم بأسلوب قصصي، ويسليهم في أوقات فراغهم ،ويثير فيهم الحماسة ،ويبعث فيهم البطولة .وكان عمر بن الخطاب يخطب فيقول ) :وإن غبتم في البعوث فأنا أبو العيال ( .ويتقيد بقوله هذا ،فكان يطو ف على عائلت الجند الذين في ساحة الحرب ،فيسلم على أبوابهن ويقول :ألكن حاجة ؟ وأيتكن تريد أن تشتري شيئا ؟ فيرسلن معه بحوائجهن .ومن ليس عندها شيء اشترى لها من عنده .وإذا قدم الرسول من عند الجيش، ومعه البريد من الجند إلى أهلهم ،تبعه بنفسه في منامزلهن بكتب أمزواجهن ،ويقول :أمزواجكن في سبيل ا .وأنتن في 125
بلد رسول ا .إذا كان عندكن من يقرأ ،وأل فاقربن من البواب حتى أقرأ لكن .ثم يقول :الرسول يخرج يوم كذا وكذا فاكتبن ،حتى نبعث بكتبكن .ثم يدور عليهن بالورق والقلم والحبر ويقول :هذه دواة وقرطاس فادنين من البواب حتى أكتب لكن .ثم يعود فيأخذ كتبهن ويبعث بها إلى أمزواجهن .وهكذا كان الجندي يكون في الجيش وهو مطمئن على عياله وأهله. الشرطة تعتبر القوى المسلحة قوة واحدة ،فالجيش والشرطة والمرابطون في الثغور كلها قوة واحدة .إل أن المصلحة العامة اقتضت أن تخصص من الجيش فرق خاصة تكون على حدود البلد ،ولكنها تكون تابعة للجيش في جميع شؤونه .والمصلحة العامة تقتضي أن تسير الدارة بحزم ونظام ،وتقتضي الستعانة بالقوة إذا لزمت الستعانة. ولذلك تختار من الجيش فرق خاصة تنظم تنظيما خاصا، وتثقف ثقافة عامة ،وتكون أكثر إحاطة بالحكام الشرعية ) القانون ( ،لنها ستشر ف على المن وسائر النواحي التنفيذية .هذه الفرق هي الشرطة .وهي جيش المن الداخلي .وعليها تعتمد الدولة في استتباب المن الداخلي، وحفظ النظام ،والقبض على الجناة والمفسدين ،وما إلى 126
ذلك من العمال الدارية ،التي تكفل سلمة الناس وطمأنينتهم .وكان صاحب الشرطة يختار من أهل القوة. وكانت الشرطة في أول أمرها تابعة للقضاء ،تقوم على تنفيذ أحكام القضاء ،وتتولى إقامة الحدود ،وتنفيذ العقوبات. ثم انفصلت عن القضاء وجعلت دائرة خاصة تابعة للجيش، تقوم بشؤون حفظ المن ،والنظر في الجرائم ،وتقديمها للقضاء. وتقوم على تنفيذ أوامر سلطات الدولة حسب اختصاص كل سلطة .وكان عمر بن الخطاب أول من أدخل نظام العسس في الليل .فأحدث بذلك فكرة الشرطة .وفي عهد علي بن أبي طالب نظمت تنظيما متميزا ومن ذلك التاريخ صارت الشرطة من مصالح الدولة وصار من وظيفتها الرئيسية تنفيذ أوامر القضاء مع تنفيذ أوامر باقي السلطات ولذلك كانت هي التي تشر ف على السجون. مصانع السلحة ل بد لكل دولة من إنشاء مصانع للسلحة في بلدها. وإن جامز لها أن تستورد السلحة من الخارج عند تأسيسها، فل يجومز لها أن يستمر هذا الستيراد؛ بل ل بد من انشاء مصانع السلح.
127
والمسلمون عند تأسيس دولتهم لم يكن لهم سلح جاهز ،ولم يكن لديهم من أنواع السلح سوى القوس، والنبل ،والحربة ،والسيف ،والدرع ،والمغفر ،وما شاكلها. ولكن بعد أن تكون لديهم الجيش صاروا يتخذون أنواع السلحة ،التي كانت عند المم .وانشأوا مصانع للسلحة في بلدهم .فالرسول عليه السلم كان إذا أراد غزوة جهز الجيش بما يكفيه من أنواع السلح وإذا لم يجد عنده ما يكفيه استعار السلح استعارة ،ثم رده بعد المعركة .فقد استعار يوم هوامزن مئة درع بما يكفيها من السلح ،من صفوان بن أمية ،ليلقى بها العدو ،على أن تكون عارية مضمونة ،حتى يؤديها إليه. ولكنه عليه السلم لما رأى اتساع الفتوح يقضي بأن ينشئ مصانع أسلحة أمر أصحابه بأن يتعلموا صنعة الدبابات والمجانيق والضبور وكل ما يلزم من آلت القتال .وأرسل إلى جُهلَرش اليمن اثنين من أصحابه يتعلمانها .ثم أخذ المسلمون ينشئون مصانع السلحة ،ويعدون ما استطاعوا من قوة ،لفتح العراق والشام. الحبس السجن من الدوائر اللمزمة لتنفيذ الحكام؛ لنه عقوبة من العقوبات التي يحكم بها على المجرمين ،بل ربما كان 128
أكثر العقوبات حدوثا .وهو مكان مخصوص يوضع فيه من يتهم بجرم ،ويقدم للقضاء لبينما يفصل القضاء في أمر تهمته ،وهو ما يسمى في العر ف الحاضر بالموقو ف .وهذا النوع من المسجونين على القضاة أن يسرعوا في فصل القضايا التي تتعلق بهم ،حتى أنه إذا نقل القاضي أو عزل وعين بدله قاض آخر ،كان على القاضي الجديد أن يبدأ عمله بالنظر في حال المسجونين ) الموقوفين ( ،فمن تثبت عليه التهمة حكم عليه ،ومن برأته المحكمة أخلي سبيله .ول يحبس أي إنسان إل بقرار صادر من قاض له صلحية القضاء فيما يحبس فيه. وتكون السجون أنواعا حسب الجرائم المرتكبة. ويعين نوع السجن بقرار القاضي .كما ينظر في دوافع الجرم ،ويعين نوع العقوبة التي يستحقها ـ إن كانت غير السجن ـ من كل ما يؤدي إلى التأديب والتهذيب. المحبوس يدخل المحبوس الحبس بعد صدور القرار بتوقيفه أو بحبسه .ول يمكن أحد من الدخول عليه إل أقاربه وجيرانه. ول يمكثون عنده .ول يخرج من السجن إل لحاجة تقدرها الشرطة .ول يضرب ،ول يغل ،ول يقيد ،ول يهان إل إذا كان قرار القاضي قد نص على ذلك .ومن أظهر التعنت في 129
الحبس وضع في غرفة ضيقة ) حاشرة ( وأقفل عليه الباب، وترك له ما يقضي حاجته به .ويلقى إليه الماء والطعام من ثقبة في الباب .ولكن نقل المحبوس إلى هذه الحاشرة ل يكون برأي السجان أو الشرطة ،بل ل بد أن يكون بقرار من القاضي؛ لن حالة معاملة السجين ل بد أن ينص عليها في قرلر القاضي بحبسه .وإذا احتاج المر لن يشدد عليه حال الحبس أو يخفف عنه ،ل بد أن يرفع المر للقاضي ،وهو الذي يعطي قرارا حسب ما يراه .وتجعل في السجن وسائل للعمل ،يشغل فيها السجناء حسب قرار القاضي .ويجعل للنساء سجن خاص على حدة نفيا للفتنة .وأما الصبيان فل يوضعون بالسجن ،ول يخصص لهم سجن ،لن الصبي ل يعاقب على الجرم ،ولكن تفتح لهم دور خاصة يوضع فيها الصبيان الذين يرتكبون ما يستحق السجن لتأديبهم فيها، حتى ينزجروا عن الفعال الذميمة .وهو ما يسمى اليوم بإصلحيات الحداث. أسباب الحبس يكون الحبس جزاء على جرم ارتكبه شخص وحكم عليه بالحبس .وهذا يبين في نظام العقوبات .وهو السبب الطبيعي للحبس .وهناك سبب آخر غير طبيعي .وهو حبس المدين .وشرط حبس المدين أن يكون موسرا ،فمن ثبت 130
فقره وإعساره ل يحبس في الدين ،ومن لم يثبت إعساره يكون موسرا ويحيس .ولكن من يحبس لداء الدين تحدد له مدة للحبس ترجع إلى رأي القاضي .وقد حدد الفقهاء أكثرها بشهرين .وأما أقلها فقد تركوه للقاضي ،ويجومز أن يجعلها يوما واحدا .ويهيأ لمن يحبس لداء الدين عمل يشتغل به باجر لسداد دينه .وقد ورد الحبس في القرآن، قال تعالى في عقاب الخارجين على الدولة ) :أو ينفوا من الرض ( وفسر بالحبس .وقد روي عن النبي صلى ا عليه وسلم أنه حبس رجل بالتهمة .وكان الحبس في المسجد. إلى أن جاء سيدنا علي فبنى حبسا منفردا .ومنذ ذلك الوقت صار الحبس منفردا يحبس فيه المذنبون. شكل الحكم ومركزيته يختلف نظام الحكم السلمي ،في طبيعته وحقيقته، عن سائر نظم الحكم في العالم ،فليس هو نظاما ملكيا ،ول يقر النظام الملكي؛ لنه ل يجعل لرئيس الدولة أي حقوق سوى ما لي فرد من المة ،ول يجعل رئيس الدولة مالكا، بل منفذا لشرع ا ،نائبا عن المة في السلطان ،وليس هو رمزا لها :يملك ول يحكم ،وإنما هو يحكم نيابة عنها ،ول يملك شيئا من هذا الحكم .فضل عن انعدام ولية العهد فيه واستنكاره لها. 131
وليس هو كذلك نظاما جمهوريا؛ لن رئاسة الدولة فيه ل تحدد بزمن معين ،وإنما تحدد بتنفيذ الشرع ،فما دام الرئيس فائما بالشرع فهو رئيس مهما طالت مدته ،ومتى أخل بالشرع انتهت مدة حكمه ولو كانت يوما أو ساعة. وعلوة على ذلك فإن النظام الجمهوري البرلماني يكون فيه رئيس للدولة ,ورئيس آخر للومزارة ,أي يكون فيه رئيس للدولة ورئيس آخر للحكومة .والنظام الجمهوري الرئاسي يتولى بموجبه رئيس الدولة أكبر منصب في الومزارة هو منصب رئيس الومزراء ,فيكون فيه رئيس الدولة هو رئيس الحكومة وهذا بخل ف النظام السلمي فإن رئيس الدولة ل توجد معه ومزارة لها صلحيات ,وإنما هو يستعير برجال يعاونونه في الحكم .وهؤلء المعاونون أطلق عليهم هيئة تنفيذية؛ لنهم منفذون .فهم معاونون منفذون وليسوا ومزارة ول ومزراء .وحين يتولى أمير المؤمنين رئاستهم يتولها بوصفه رئيسا للدولة ل بوصف رئيس للهيئة التنفيذية لنه ل يوجد مركز رئاسة لها .وفوق هذا فإن النظام الجمهوري في شكليه البرلماني والرئاسي يجعل رئيس الجمهورية مسؤول أمام المة وأمام ممثليها ,فلهم حق عزله؛ لن السيادة في ذلك النظام للشعب بخل ف أمير المؤمنين فإنه ـ وإن كان يحاسب من قبل المة على أعماله ،ويناقش في كافة 132
تصرفاته ـ ليس مسؤول أمام المة ول أمام ممثليها ،بل مسؤول أمام الشرع ول يعزل إل إذا خالف الشرع مخالفة تستوجب عزله .ولذلك يوجد فرق كبير بين رئيس الدولة في النظام الجمهوري ،وبين رئيس الدولة في النظام السلمي، لوجود البون الشاسع بين النظام الجمهوري ونظام السلم. وعلى ذلك فل يجومز مطلقا أن يقال الجمهورية السلمية، ول يجومز أن يقال أن السلم نظام جمهوري؛ لوجود التناقض بينهما في الساس الذي يقوم عليه كل منهما؛ إذ أساس النظام الجمهوري أن السيادة للشعب ،والنظام السلمي يجعل السيادة للشرع ل للشعب ولوجود الخل ف بينهما في التفاصيل. وهو أيضا ليس امبراطوريا ,بل النظام المبراطوري بعيد عن السلم كل البعد؛ فالقاليم التي يحكمها السلم ـ وإن كانت مختلفة الجناس وترجع إلى مركز واحد ـ فإنه ل يحكمها بالنظام المبراطوري ،بل بما يناقض النظام المبراطوري؛ لن النظام المبراطوري ل يساوي بين الجناس في أقاليم المبراطورية بالحكم ،بل يجعل ميزة لمركز المبراطورية في الحكم والمال والقتصاد. وطريقة السلم في الحكم هي أنه يسوي بين المحكومين في جميع أجزاء الدولة ،وينكر العصبيات 133
الجنسية ،ويعطي لغير المسلمين حقوقهم الشرعية من حق المواطن؛ بل هو أكثر من ذلك يجعل للمواطن ـ أيا كان مذهبه ـ من الحقوق ما ليس لغير المواطن ولو كان مسلما، فهو بهذه المساواة يختلف عن المبراطورية؛ وهو بهذا النظام ل يجعل القاليم مستعمرات ،ول مواضع استغلل، ول منابع تصب في المركز العام لفائدته وحده ،بل يجعل القاليم كلها وحدة واحدة مهما تباعدت المسافات بينها، وتعددت أجناس أهلها ،ويعتبر كل إقليم بضعة من جسم الدولة ،ولهله سائر الحقوق التي لهل المركز ،أو لي إقليم آخر ،ويجعل سلطة الحكم ونظامه وتشريعه كلها واحدة في كافة القاليم. وليس نظام الحكم في السلم نظاما اتحاديا، تنفصل أقاليمه بالستقلل الذاتي ،وتتحد في الحكم العام؛ بل هو نظام وحدة تعتبر فيه مراكش في المغرب وخراسان في المشرق ،كما تعتبر مديرية الفيوم إذا كانت العاصمة السلمية هي القاهرة .وتعتبر مالية القاليم كلها مالية واحدة وميزانية واحدة تنفق على مصالح المواطنين كلها، بغض النظر عن الوليات .فلو أن ولية جمعت من الضرائب ضعف حاجاتها فإنه ينفق عليها بقدر حاجاتها ل بقدر جبايتها. ولو أن ولية لم تسدد جبايتها حاجاتها فإنه ل ينظر إلى ذلك، 134
بل ينفق عليها من الميزانية العامة بقدر حاجتها ،سواء وفت ضرائبها بحاجاتها أم لم تف. فنظام الحكم وحدة تامة وليس اتحادا .ولهذا كان نظام الحكم في السلم نظاما إسلميا متميزا عن غيره من النظم المعروفة الن في أصوله وأسسه ،وإن تشابهت بعض مظاهره مع بعض مظاهرها .وهو فوق كل ما تقدم مركزي في الحكم ،يحصر السلطة العليا في المركز العام، ويجعل له الهيمنة والسلطة على كل جزء من أجزاء الدولة صغر أم كبر ،ول يسمح بالستقلل لي جزء منه ،حتى ل تتفكك أجزاء الدولة .وهو الذي يعين القواد والولة والحكام والمسؤولين عن المالية والقتصاد ،وهو الذي يولي القضاء في كل إقليم من أقاليمه ،وهو الذي يعين كل من عمله يكون حكما ،وهو المباشر لكل شيء من الحكم في جميع البلد. والحاصل أن نظام الحكم في السلم نظام خلفة. وقد انعقد الجماع على وحدة الخلفة ،ووحدة الدولة، وعدم جوامز البيعة إل لخليفة واحد .وقد اتفق على ذلك الئمة والمجتهدون وسائر الفقهاء .وإذا بويع لخليفة آخر مع وجود خليفة ،أو وجود بيعة لخليفة قوتل الثاني ،حتى يبايع
135
للول أو يقتل؛ لن البيعة إنما ثبتت شرعا لمن بويع أول بيعة صحيحة. ضمان حق المة في مراقبة السلطان لقد ضمن السلم للمة أن تستعمل حقها في مراقبة الحكام في تنفيذ الشرع .وكانت هذه الضمانة في أسس أحكامه ،وجزءا جوهريا من نظام الحكم فيه ،وهي المبدء الساسي في علقة الحاكم بالمحكومين. وتستفاد هذه الضمانة مما يأتي: 1ـ ليست طاعة المة للدولة مطلقة ،ول انقيادا أعمى ،وإنما هي طاعة في حدود شرع ا ،وهي طاعة مقيدة بعمله بالشرع ،فإن أخل بالشرع فقد انتهت هذه الطاعة طبيعيا؛ قال سيدنا أبو بكر ) :أطيعوني ما أطعت ا ورسوله ،فإذا عصيت ا فل طاعة لي عليكم ( وقال النبي عليه الصلة والسلم ) أل ل طاعة لمخلوق في معصية ا ( وجعل السلم نقض هذه الطاعة في حال انحرا ف الحاكم عن السلم أمرا مشروعا وعرفا عاما ،وتجاومز ذلك إلى الحث على تغيير هذه الوضاع المعوجة ،وجعل التغيير على الحاكم الخارج على الشريعة أمرا واجبا. 2ـ كون رئيس الدولة خاضعا للقضاء كسائر الناس، فإذا تنامزع ولي المر مع المة أو أي فرد مواطن رفع المر 136
إلى القضاء ،وحينئذ يعطي القضاء حكم ا فيما بين الحاكم والمحكوم ،وينفذ أمر ا على رئيس الدولة ،كما ينفذ على أي فرد من أفراد الناس؛ قال تعالى ) :يا أيها الذين آمنوا أطيعوا ا وأطيعوا الرسول وأولي المر منكم ( ثم أتم هذه الية بقوله ) :فإن تنامزعتم في شيء فردوه إلى ا والرسول ( ،وليس المراد هنا تنامزع أفراد المة مع بعضهم ،بل المراد تنامزع المحكومين مع الحاكم ،أي أطيعوا أولي المر منكم فإن تنامزعتم معهم في شيء فردوه حال إلى قضاء ا ورسوله ،ليعطي الحكم فيه عليهم أو عليكم. 3ـ أن المة تعلم بالبداهة أن السلطان حقها ،فإذا استبد به الحاكم فقد استعمل سلطان المة للعتداء عليها ،ل لخدمتها وحمايتها وحينئذ ل تثور عن عاطفة فقط ،وأنما تستعمل حق الثورة للوصول إلى حقها .وهذه هي الثورة المنتجة ،وهي ل تسمى انقلبا ،بل تصحيحا للوضاع إذا اعوجت. 4ـ قد حصلت بالفعل حوادث استعملت المة فيها حقها لتصحيح الوضاع ،حين رأت السلطان قد تغير وأخل بسيادة الشرع ،فحاولت أن تغير على السلطان أو تغيره. وذلك مثل الثورة الكبرى على عثمان ،وثورات الخوارج .وكلها 137
ثورات ناشئة عن اعتقاد القائمين بها ،بأن السلطان أخل بالشرع ،فثاروا ضد ما رأوه من السلطة الجائرة ،مما هو مخالف لشرع ا. الضمانة من النقلب المراد بالنقلب في نظر السلم هو النقلب على النظام .وعلى الدولة التي تنفذ ذلك النظام .أما استبدال رجال الحكم برجال حكم آخرين فل يسمى انقلبا مطلقا. وكذلك ثورة المة على رجال الحكم إذا أخلوا بالشرع ولم يحققوا سيادة الشرع ل تسمى انقلبا ،بل هي حركة تحريرية لتصحيح الوضاع. فالنقلب هو استبدال نظام بنظام آخر .وهذا هو المهم في النقلب .وقد ضمن السلم في نظامه عدم حدوث النقلب .وذلك أن طبيعة النظام السلمي طبيعة بقاء واستمرار ،وتحمل في صلبها الضمانات الكافية لصيانتها من النقلب. وهي ليست في حاجة إلى القوة لضمان عدم وقوع النقلب ،وإنما القوة أداة تنفيذية لمقابلة المادة بالمادة ،كما تقتضيه طبيعة الكون والحياة والنسان.
138
والضمانات الحقيقية من النقلب موجودة في أسس النظام وفي صلبه ،ومركزة في طاقته وتشريعه .وهي ظاهرة ظهور الشمس من المسائل التية: 1ـ إن المبدأ السلمي يعمل من داخل النفس وخارجها ،في الفرد ،والجماعة ،والدولة ،بالتشريع والتوجيه، بالحرص على سيادة الشرع ،ووجود تقوى ا معا في وقت واحد ،سيادة تشمل الفرد والمة والدولة .وهذا وحده كا ف لصيانته من النقلب صيانة أبدية؛ لن من يتخذ مبدأه رسالته، فيحيا من أجلها ،ويستعد للموت في سبيلها ،ل يمكن أن تحدثه نفسه بالنقلب على هذه الرسالة ،ومن كان منافقا لهذه الرسالة في الدولة ،أو كافرا بها ،ل يمكن أن ينقلب عليها ما دامت قد ضمنت فيها سيادة الشرع ،ليعيش في ظله ،لن سيادة القانون وحدها متى ضمنت في أمة كانت هذه السيادة خير ضمانة من النقلب إذا كان القانون عادل، فكيف بها إذا ضمت إليها تقوى ا ؟ 2ـ يجعل هذا المبدأ طبيعة عمل الدولة التي تنفذه، أنها خادمة للمة ،وليست سيدة عليها ،ويتحتم عليها القيام بما يتطلبه الفرد من جميع الشياء المعاشية ،والعلمية، والصحية ،وتأمين ما يهيء له إشباع نواحيه العاطفية، والغريزية ،في حدود مصلحة الجماعة؛ ونفاذ أحكام الشرع 139
يجعل المة تشعر أن بقاء هذا الحكم ألزم لها من كل شيء .وهل من الممكن أن يحاول فرد أو جماعة ،الثورة ضد مبدأ يقول فيه رئيس الدولة لهم ما يقوله عمر بن الخطاب " :ولكم علي أيها الناس خصال أذكرها لكم، فخذوني بها ،لكم علي أل أجتبي شيئا من خراجكم ول ما أفاء ا عليكم إل من وجهه ،ولكم علي إذا وقع في يدي أل يخرج منه إل في حقه ،ولكم علي أل أ ُلقيكم في المهالك، مهلَركم في ثغوركم وإذا غبتم في البعوث فأنا أبو ج ّ ول ُأ هلَ العيال ". نعم أمير المؤمنين أبو العيال أذا غاب أبوهم عنهم ! ومثل هذه الدولة التي يضمن نظامها حياة أفرادها ،ويوجب عليها القيام بهذه الضمانة ،ل يمكن أن تجري محاولة إنقلبية فيها ،لن طبيعة عملها ) وظيفتها ( تجعل هذه المحاولة في حكم المستحيل. 3ـ إن السلطان في هذا المبدأ للمة ،وهي التي تنيب رئيس الدولة عنها ،وهي التي تبقى رقيبا للدولة في قيامها بواجباتها. وبذلك كان هذا النوع من الحكم ضمانة طبيعية من النقلب .فكل من تحدثه نفسه بإحداث أي انقلب في الدولة ل تكون العقبة التي أمامه هي رجال الحكم فقط، 140
بل تكون المة بأسرها في وجهه ،فل يقدم على ذلك ،وإن أقدم فقد أقدم على النتحار؛ 4ـ إن نظرة هذا المبدأ نظرة جماعية في عقيدته وعباداته وتشريعاته وأوامره ،ويجعل الهتمام بالجماعة صنو اليمان ،فمن لم يهتم بأمرها فليس منها إيمانا وإسلما، قال عليه السلم ) :من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم (. ولذلك يعتبر كل مسلم نفسه مسؤول عن الجماعة، وليس مسؤول عن نفسه فقط ،وواجبه الدفاع عنها ،ولو لم يدافع عنها سواه ،قال عليه السلم ) :كل مسلم على ثغرة من ثغر السلم فل يؤتين من قبله ( ولذلك يصبح كل فرد في المة رقيبا وحارسا ،ول يمكن لمن يحمل هذه المسؤولية بالرقابة والحراسة أن ينقلب ضد مسؤوليته .وفي هذا أيضا ضمانة من النقلب. 5ـ إن المة مأمورة بطاعة الدولة أمرا آلهيا ،له أثره على نفسها خوفا من عقاب ا ،وأمرا تشريعيا له نتائجه من العقاب الصارم في الدنيا .أما المر اللهي فظاهر في اليات الكثيرة والحاديث الجمة التي نصت على وجوب طاعة ولي المر ،والتي جعلت جهنم جزاء وفاقا لمن يخرج عن السلطان العادل. 141
وأما التشريع فإن في هذا النظام مزجرا شديدا لمن يحاول الخروج على الدولة ،أو يحاول النقلب عليها .وقد سمي الخارجون على الدولة البغاة .ولهم أحكام خاصة تتلخص في أن على الدولة أن تراسلهم؛ فإن لم يرجعوا قاتلتهم وجوبا ,قتال تأديب ,ل قتال حرب. 6ـ إن نظام الحكم في السلم هو نظام مركزي، ونظام وحدة ،فالمركز هو الذي يسيطر على الحكم في جميع أجزاء الدولة .ولذلك تكون القاليم كلها تحت سلطانه، فل تتمكن من الخروج عن هذا السلطان ،ول تتاح لي إقليم فرصة للستقلل ،لتطبيق نظام آخر فيه ,وانفصاله عن الدولة .علوة على أن كل إقليم يعتبر نفسه مسؤول عن الدولة كأنه المركز؛ لنه بضعة من جسم الدولة ،ويعتبر أن العتداء على الدولة اعتداء عليه ،والعتداء على المبدأ في أي جزء من أجزاء الدولة اعتداء على نظامه هو .وهذا العتبار نفسه يحبط كل محاولة للنقلب في مهدها ،ويكون فيه كل الصيانة من النقلب. 7ـ لم يذكر لنا الواقع التاريخي محاولة للنقلب الكلي ،سوى محاولة واحدة أو محاولتين .ولم تنجح واحدة منهما؛ فقد حاول العرب إثر وفاة الرسول عليه السلم أن يحدثوا النقلب بإلغاء نظام الزكاة ،والنفصال عن الدولة ل 142
بالحكم فقط بل بالدين .وارتدوا عن السلم ،ورجعوا إلى دينهم القديم .ولكن السلم كان قويا ،واستطاعت الدولة التي تقوم على تنفيذه مع قلة عددها ،وصغر الرقعة التي تسيطر عليها سيطرة تامة ،بالنسبة لجزيرة العرب ـ استطاعت الدولة أن تقضي على هذه المحاولة في الحروب المعروفة بحروب الردة وأعادت المر إلى نصابه ،والدولة إلى وحدتها ،والنظام إلى حياته الولى ،بتطبيقه تطبيقا تاما. مع أنه لم يكن قد مضى على هذا النظام المدة الكافية التي تجعل له العراقة التامة والتركز الكامل الذي يحتاج إلى وقت طويل في أي نظام. وقد حاول بابك الخرمي أن يحدث انقليا في بعض أجزاء الدولة .ولكن محاولته باءت بالخيبة ،وقضت الدولة عليه وعلى أتباعه. وأما محاولة التتار ،والحروب الصليبية ،والحروب الستعمارية فهي ليست انقلبا؛ وإنما هي غزو مسلح للسلم والمسلمين. وأما ما فعله معاوية من نقل الخلفة إلى ملك، وإحداث ولية العهد ،فل يسمى انقلبا؛ وإنما هو انحرا ف في بعض أنظمة الحكم التي كانت مطبقة في عصر الراشدين .وقد توصل لهذا بدعوى الجتهاد بما يوافق 143
المصلحة ،وبإظهاره الحرص التام على كيان المة السلمية، والدولة السلمية ،من الشقاق والخل ف. ولية العهد يعتبر نظام ولية العهد منكرا في النظام السلمي، ومخالفا له كل المخالفة؛ وذلك لن السلطان هو للمة، وليس لرئيس الدولة .وإذا كان رئيس الدولة إنما ينوب عن المة في السلطان مع بقائه لها ،فكيف يجومز له أن يمنحه لغيره ؟ وما فعله أبو بكر لعمر لم يكن ولية عهد ،بل كلن انتخابا من المة في حياة رئيس الدولة ثم حصلت له البيعة. ومع ذلك كله فقد احتاط أبو بكر للمر في خطابه، فعلق نفاذ ذلك على أن يكون برضى الناس ) :أترضون بمن استخلف عليكم ؟ فإني وا ما آلوت جهدا ،ول وليت ذا قرابة ( وعلى هذا الساس جعل عمر بن الخطاب ابنه عبد ا مع الستة الذين جعل لهم حق اختيار الخليفة ،وشرط أل يكون له من المر شيء بل له الرأي فقط ،حتى ل توجد شبهة ولية العهد .بخل ف ما فعله معاوية من ولية العهد؛ فإنه يخالف نظام السلم .والذي حمل معاوية على ابتداعه هذا المنكر :نظام ولية العهد: 1ـ إنه كان يفهم رئاسة الدولة أنها ملك وليست خلفة .انظر إليه حين خطب في أهل الكوفة بعد الصلح 144
وهو يقول :يا أهل الكوفة أتراني قاتلتكم على الصلة والزكاة والحج وقد علمت أنكم تصلون وتزكون وتحجون ؟ ولكني قاتلتكم لتأمر عليكم وعلى رقابكم .وقد آتاني ا ذلك وأنتم كارهون .أل إن كل مال ودم أصيب في هذه الفتنة فمطلول .وكل شرط شرطته فتحت قدمي هاتين. نعم انظر إليه وهو يقول ذلك تجده يعلن عن نفسه، أنه يخالف السلم ،حين يعلن أنه قاتل الناس ليتأمر عليهم وعلى رقابهم ،وحين يتجاومز ذلك إلى ما هو أشد وأنكى، وهو يقول للناس :كل شرط شرطه فتحت قدميه ،وا تعالى يقول ) :و أ وفوا بالعهد إن العهد كان مسؤول ( نعم أنظر إليه وهو يقول ذلك تجده إنما يعلن أنه ل يتقيد بالسلم .بل إن طريقة انتخاب يزيد تدل على أنه كان يتعمد مخالفة السلم في سبيل وراثة الملك ،كما يفهمه؛ لنه أخذ رأي جميع الناس فلم يوافقه أحد ،فاستعمل المال فلم يجبه إل من ل كيان لهم في المجتمع ،ول ومزن لهم عند المسلمين، فاستعمل السيف .حدث المؤرخون أنه بعد أن عجز ولته عن أخذ البيعة ليزيد في الحجامز ،ذهب بنفسه ومعه المال والجند ،ودعا وجهاء المسلمين وقال لهم :قد علمتم سيرتي فيكم ،وصلتي لرحامكم .يزيد أخوكم وابن عمكم .وأردت أن تقدموا يزيد باسم الخلفة ،وتكون أنتم تعزلون وتولون، 145
وتأمرون وتجبون المال وتقسمونه .فأجابه عبد ا بن الزبير ،مخيرا بين أن يصنع كما صنع رسول ا إذ لم يستخلف أحدا ،أو كما صنع أبو بكر ،أو كما صنع عمر .فغضب معاوية .وسأل باقي الناس .فأجابوا بما قال ابن الزبير. فقال :أعذر من أنذر ،إني قائم بمقالة ،فأقسم بالله لئن رد علي أحدكم كلمة في مقامي هذا ،ل ترجع إليه كلمة غيرها، حتى يسبقها السيف إلى رأسه .فل يبقين رجل إل على نفسه .ثم أمر صاحب حرسه بأن يقيم على رأس كل وجيه من وجهاء الحجامز ،وكل معارض من المعارضين ،رجلين. وأمرهما بأن كل رجل يرد عليه كلمة تصديق أو تكذيب، فليضرباه بسيفهما. ثم رقي المنبر فقال ) :هؤلء الرهط هم سادة المسلمين وخيارهم ،ول يبرم أمر دونهم ،ول يقضى إل على مشورتهم وأنهم قد رضوا وبايعوا .فبايعوا على اسم ا (. هذا هو الساس الذي أقام عليه معاوية نظام ولية العهد .وهو أساس ينادي على نفسه بأن السلم بريء منه. قال عمر رضي ا عنه ) :من أمر رجل لقرابة أو صداقة بينهما ،وهو يجد في المسلمين خيرا منه ،فقد خان ا ورسوله والمؤمنين (.
146
2ـ كان معاوية يحتال على النصوص الشرعية فيؤولها؛ فقد جعل السلم حق اختيار الخليفة للمة ،وقد فعل رسول ا صلى ا عليه وسلم ذلك ,وترك المر للمسلمين يختارون من هو أصلح لولية أمورهم؛ ولكن معاوية كان متأثرا بالنظام الذي كان سائدا في تلك اليام عند الدولتين :البيزنطية والساسانية ،اللتين كان الحكم فيهما وراثيا ,فجعل يزيد ولي عهده ,واحتال بأخذ البيعة له في حياته. 3ـ إن طريقة اجتهاد معاوية في المور السياسية تقوم على أساس المنفعة ،ولذلك يجعل الحكام الشرعية توافق المشكلة ل تعالجها فيؤول الحكام لتتفق مع المشكلة القائمة .وكان عليه أن يتبع الطريقة السلمية في الجتهاد بأن يجعل الساس كتاب ا وسنة نبيه ،ل النفع المادي ،وأن يأخذ الحكام السلمية لمعالجة مشاكل عصره ل أن يأخذ مشاكل عصره ليعالج بها أحكام السلم، فيحورها ويبدلها ويخالفها ! ! وهنا قد يعرض سؤال وهو :كيف فعل معاوية هذه المخالفة ولم تقم عليه ثورة ؟ والجواب على ذلك هو: 1ـ إن السنوات التي تولى فيها معاوية الحكم جاءت عقب ثورات واضطرابات عنيفة .وكانت المة منهكة تحتاج 147
إلى استقرار .وما اتفاق الشباب الثلثة في 17رمضان على قتل علي ومعاوية وعمرو إل صورة عن أحاسيس المة بوضع حد لهذه الثورات ولذلك تمكن معاوية في هذا الظر ف من التيان بفعلته. 2ـ كان لنتقال العاصمة من المدينة إلى دمشق أثر في نقل أجواء الدولة من حال بيئة إسلمية عريقة إلى حال بيئة متأثرة بالروم والفرس ،مما غير الجواء ،وأوجد أجواء جديدة أثرت على المة حتى سكتت على ذلك علوة عما أوتيه معاوية من دهاء وحنكة. 3ـ على أن العراق قد ثار ،والحجامز قد ثار ،ونتج عن ذلك مقتل الحسين رضي ا عنه ،ونتج عن ذلك أيضا ثورات الخوارج المتتالية من جراء نظام ولية العهد ،وإن كانت هذه الثورات لم تؤثر ،لنها لم تكن في العاصمة ول قريبة منها. ضمانة تطبيق السلم الضمانة الطبيعية لتنفيذ السلم ،وحمل دعوته، واستمرار تنفيذه ،وإحسان هذا التنفيذ ،هي التقوى في الحاكم ،وتمركز هذه التقوى في نفسه ،لن تقوى ا من قبل الحاكم تجعله حريصا على السلم أكثر من حرصه على حياته ،فضل عن حاجاته ،وتوجد فيه الحاسيس المرهفة التي تجعله يذكر ا في نفسه في كل لحظة وعند القيام 148
بأي عمل ،ويراقبه في كل تصر ف من تصرفاته .وإذا فقد الحاكم التقوى فقد الضمانة الطبيعية لتطبيق السلم، وإحسان تطبيقه ،واستمرار هذا التطبيق ،وفقد الضمانة لحمل الدعوة السلمية .ولما كان الحاكم عرضة لن تجافيه التقوى ،كان ل بد من وسيلة مادية تجبره على التنفيذ ،أو تقصيه عن الحكم ،وتقيم مكانه الحاكم الذي يطبق السلم ويحمل دعوته .وهذه الوسيلة العملية هي المة .ولذلك كان من واجب المة السلمية إذا رأت حاكما جائرا مستحل لحرم ا ،ناكثا لعهد ا ،مخالفا لسنة رسول ا ،عامل في عباد ا بالثم والعدوان أن تغير عليه بالقول أو الفعل أو تغيره. وحتى تقوم المة بواجبها هذا ،كان عليها أن تتصف بتقوى ا لن تقوى المة لله يوجد فيها الحرص على السلم وعلى تنفيذه ،وهذا يجبرها على محاسبة هذا الحاكم على تصرفاته ،فتناقشه وتحاسبه كلما رأت منه تقصيرا في التنفيذ، أو محاولة للحيد عن أحكام ا ،أو إساءة لتطبيق أنظمة السلم .وبهذه الوسيلة يستمر تطبيق السلم ،ويستمر إحسان تطبيقه. غير أن المة ـ وهي الوسيلة العملية في الدنيا لتنفيذ السلم بمراقبتها للحاكم ومحاسبتها له ـ تحتاج إلى أن يقوم فيها تكتل صحيح على أساس ،يتجلى في هذا التكتل الفهم 149
العميق ،والخو ف الشديد من ا؛ لنه يقوم على أساس واحد هو العقيدة السلمية ،ويعمل لن يثقف الناس بالثقافة السلمية المركزة ،ثقافة توسع العقل وتقوي الدراك وتصفي النفس إذ تربط المشاعر بالفكر ،وتوجد التجاوب الصحيح بين الفكار والميول النفسية ،وهذا يجعل المسلم الشخصية السلمية المبتغاة ،وإذا قام التكتل الذي ل بد منه على هذه الشخصية ،كان الوسيلة لصهر المة؛ لنه ينقي أفكارها ويصهرها في فكر واحد ،فيسيرها نحو هد ف واحد ،هو السلم ،تعيش لجله ،وتحمل الدعوة له ،وحينئذ تتيقظ تيقظا دائميا على المبدأ الذي تحمله ،وتكون واعية وعيا صحيحا عليه .والذي يوقظها هو هذا التكتل الذي يعيش من أجل المبدأ ومن أجل الدعوة له ومن أجل تطبيق هذا المبدأ واستمرار تطبيقه. وهذا التكتل هو الحزب المبدئي ،الذي يقوم في المة .وبعبارة أخرى هو الحزب الذي يقوم على أساس السلم من حيث كونه قيادة فكرية ،يحملها في المة للوعي على السلم ،ويحمل الدعوة له في كل مكان لعتناق الناس له .ولذلك هو حزب دعوة ل يقوم بأي عمل غير الدعوة؛ لن العمل في النواحي الخرى هو من وظيفة الدولة وليس من وظيفة الحزب. 150
ومتى قام الحزب وقاد المة صار هو الرقيب على الدولة؛ لنه المة ،أو ممثل المة .وهو الذي يقودها ويجعلها تقوم بواجبها ،وهو مناقشة الدولة ومحاسبتها ،والتغيير عليها بالقول أو الفعل ،أو تغييرها إذا خيف على السلم منها. ويتعسر على المة أن تناقش أو تحاسب الدولة دون أن يكون لها حزب يتولى مركز قيادة المة تجاه الدولة، لوجود صعوبات جمة أمامها ،ل يذللها إل وجود قيادة موحدة تتمثل في تكتل ،ل في فرد ،أو أفراد .ومن هنا كان لزاما أن يقوم في المة حزب سياسي مبدئي ،عمله الوحيد حمل الدعوة السلمية ،وطريقه الوحيد لحمل الدعوة هو الطريق السياسي .وكان قيام هذا الحزب ل بد منه لنه هو الوسيلة العملية التي تقود المة ويضمن بقيادته لها قيام الدولة بمهمتها على أكمل وجه بحمل الدعوة السلمية ،وتطبيق السلم واستمرار هذا التطبيق ،وهو الوسيلة العملية لمنع إساءة تطبيقه. ولقد كان تكتل الرسول عليه السلم للمسلمين حول السلم يتجلى في دار الرقم ،ثم في الصحابة جميعا. فكانوا الكتلة التي تقوم بين المسلمين تتولى حمل تبعة السلم عمليا ،وإن كان جميع المسلمين يحملون تبعات السلم بشكل عام .روي أن رسول ا صلى ا عليه 151
وسلم توفي عن ستين ألف صحابي .إن هؤلء هم الكتلة السلمية أو الحزب السلمي الذي يحمل تبعة السلم ،وإل فالرسول توفي والمسلمون يزيدون عن عشرة مليين. وحينما انقضى عصر الصحابة والتابعين وتابعي التابعين تلشى الحزب فأخذ يتسرب الضعف إلى نفوس الحكام، لعدم وجود الحزب الذي يقود المة لمراقبتهم ومناقشتهم ومحاسبتهم .واستمر ذلك إلى أن حصلت إساءة تطبيق السلم .وإذن فالضمانة الحقيقية لتطبيق السلم وحمل دعوته وإحسان تطبيقه هو الحزب السياسي السلمي.
مصادر الكتاب .1القرآن الكريم .1صحيح البخاري .2صحيح الترمذي .3موطأ مالك .4تفسير الجللين .5تفسير الكشا ف .6تفسير النسفي
152
.2روح المعاني لللوسي .7البيجرمي على المنهج .8البحر الرائق لبن نجيم .9رد المحتار على الدر المختار .10المدونة الكبرى لمالك .11الحكام السلطانية للماوردي .12الفخري لبن طباطبا .13تاريخ المم والملوك للطبري .14المحلى لبن حزم .15وفيات العيان لبن خلكان .16معجم البلدان لياقوت .17النظم السلمية لحسن إبراهيم حسن وعلي إبراهيم حسن .18تاريخ التشريع السلمي للخضري .19السياسة الشرعية لبن تيمية .20الخراج لبي يوسف .21الخراج لبن آدم القرشي .22الومزراء والكتاب للجهشياري 153
.23حياة محمد لمحمد حسين هيكل .24الصديق أبو بكر لمحمد حسين هيكل .25الفاروق عمر لمحمد حسين هيكل .26العدالة الجتماعية في السلم لسيد قطب .27عبقرية السلم في أصول الحكم لمنير العجلني .28أسد الغابة في معرفة الصحابة لبن الثير .29القضاء السلمي وتاريخه لسماعيل حقي فرح .30عبقرية عمر للعقاد .31السلم والحضارة العربية لمحمد كرد علي
فـهرست الحكم في السلم الدولة السلمية جهامز الحكم قواعد الحكم حق الشورى 154
مجلس الشورى انتخاب أعضاء مجلس الشورى مدة عضوية مجلس الشورى عضوية مجلس الشورى صلحيات مجلس الشورى العمل برأي مجلس الشورى رئيس الدولة تسمية رئيس الدولة وحدة الدولة السلمية صفات الخليفة انتخاب الخليفة البيعة صلحيات رئيس الدولة مدة الرئاسة للدولة عزل رئيس الدولة انتخاب الخلفاء الراشدين الهيئة التنفيذية التنظيم الداري النظمة الدارية المصالح العامة 155
الولة صلحيات الوالي القضاء مكانة القضاء شروط القضاء تعيين القضاة الشتراك في القضاء المحتسب صفات المحتسب صلحية المحتسب منصب المحتسب محكمة المظالم صلحيات محكمة المظالم تعيين قضاة المظالم وعزلهم انشاء محكمة المظالم الجيش قواد الجيش تنظيم الجيش العناية بالجند الشرطة 156
مصانع السلحة الحبس المحبوس أسباب الحبس شكل الحكم ومركزيته ضمان حق المة في مراقبة السلطان الضمانة من النقلب ولية العهد ضمانة تطبيق السلم مصادر الكتاب
157