اللوسن

Page 1

‫اللوسن‬

‫المشهد يستدعي االسترخاء التام‪ ,‬كانت تستمتع بقضاء إجازتها في القمّة دائما‪ ,‬ح ّر تمّوز لم يكن ليصل إلى‬ ‫حيث هي فجبال بورصا كما البيرينيه‪ ,‬األخضر يضفى بكحله الداكن على جمالها كعربيّة ترتدي الخمار و‬ ‫تصيب بسحر عيونها الكحيلة سهاما تأسر شغاف قلوب الناظرين إليها‪ .‬تركيا التي تع ّد إحدى ِجنان هللا على‬ ‫أرضه و التي جعلها لخالفة والدا البشر آدم و حواء عليهما السالم‪ .‬هنا‪ ...‬حيث ال يعرفها أحد‪ ,‬البالد التي‬ ‫لطالما حلمت أن تعيش فيها بعد النمسا و التي لم تكن متاحة ألن تصلها بسبب أنها من بالد الحروب و دول‬ ‫العالم الثالث‪ .‬في سنّ الثانية و الثالثين استطاعت أن َتنفد من كل األقطار التي كانت تكبّلها و است ّقلت بذاتها‬ ‫أبدا‪ ...‬تتواصل مع العائلة دون أن يعرفوا أين هي في تلك البالد بالتحديد و لم يكونوا ليسألوها رغم أن غالبية‬ ‫الشرقيين ال يسمحون باستقالل شبابهم و بناتهم بعيدا عنهم‪ ,‬إال أنهم استكانوا لها علما باألهوال التي تعاقبت‬ ‫البكر في عائل ٍة‬ ‫عليها و لم يعد من ب ٍّد إال أن يسمحوا لها بمتنفس على أن يخسروها نهائيا‪ ...‬و إلى األبد‪ .‬هي ِ‬ ‫تتألف من ستة أفراد‪ ,‬عائلة مثق ّفة‪ ,‬لديها من التحرر ما يقيها المفسدة و من القيم ما يج ّنبها الجهل‪ .‬من وسط‬ ‫اجتماعي مرموق دون تبّذل‪ .‬لكن ذلك ال ينفي وجود اختالفات بالرأي و التعامل بينهم كأي عائلة طبيعية أخرى‬ ‫في أي مكان في العالم‪ .‬تزوجت في سنّ مبكرّة و حصل طالقها بعد ان خسرت مولودها بأشهر قليلة‪ ,‬ما حذى‬ ‫أهل الزوج بالتشآم منها و أقنعوا (ذكرهم) المدلل أنها غراب شؤم! و في سنّ الخامسة و العشرين كانت تدعى‬ ‫مطلّقة في بيئ ٍة لم تكن فيه ثقافة تلك الكلمة‪ ,‬بل إن المرأة تبقى في منزل زوجها حتى قبرها! لم يثنيها ذلك على‬ ‫أن تكمل حياتها‪ ,‬دراستها‪ ,‬و عملها كأيّ أنثى طبيعية رغم سباحتها عكس تيّار المجتمع المتمسّك بعهد آباؤنا‬ ‫األولون‪ ...‬لكنها أثبتت أن إحدى أسماك السلمون التي اجتازت انعكاس مجرى النهر قد‪ ...‬وصلت‪.‬‬ ‫شركسيّة األب و تركيّة األم‪ ...‬تمتلك قواما متوسطا‪ ,‬شعر طويل أبيض اللون (كان كقطع الليل يوما من تلك‬ ‫األيام الغابرة)‪ ,‬عينان بنيّتان بلون عسل صنعاء‪ ,‬بشرة سمراء محمّرة‪ .‬مسلّية لمن حولها‪ ,‬ضحكتها مستبدّة لكل‬ ‫من يجالسها‪ ,‬متفهّمة‪ ,‬مسالمة‪ ,‬حنونة كأم و شيطان رجيم لمن يتعدى خطوطها الحمراء‪ .‬تعلم متى تتقدم و متى‬ ‫تتراجع بتعاملها مع األشخاص‪ .‬تكره أن تتحكم فيها عادة ما‪ ,‬لذا تراها متحررة من كل ما يقيدها عدا أن تتعدى‬ ‫ّحدا شرعيا‪ .‬تؤمن بالعائلة و مبادئها كإيمانها بحريّة بيت المقدس‪ ...‬ستقولون اآلن‪ :‬أي تضارب تضعيننا فيه؟‬ ‫صحيح‪ ,‬لكن أن توجد امرأة بعقل رجل و قلب امرأة و ثقافة عالم و ذات منصب و كياسة سياسيّ هي‪ ...‬انثى‬ ‫موجودة على هذا الكوكب!‬ ‫ديار مختلفة‪,‬‬ ‫كما ذكرنا سابقا‪ ,‬بسبب أنها من بالد الحروب لذا تركت و جزءا من عائلتها البالد و تو ّزعوا في ٍ‬ ‫عمل ال بأس به تستند عليه و تساهم مع‬ ‫كانت دول الخليج العربي موطئ قدم لها و ألخويها‪ ,‬حصلت على‬ ‫ٍ‬ ‫أخويها على قدر استطاعتها‪ ,‬فهي لم تكن لتصبح عالة على أح ٍد و ليس ذلك لغة في قاموسها الغريب الذي كان‬ ‫جزر الحياة‪ ,‬جدبها و حدبها‪ ,‬كانت في سالم و تعيش حياتها بابتسامة شفافة مع‬ ‫يشبه كتاب الحاوي‪ .‬بين م ّد و‬ ‫ِ‬ ‫من حولها وقوّ ة حتى لتظن أنها مارغريت ثاتشر‪ ,‬في الليل إن كنت تستطيع سماعها فستعلم الدموع التي تغطي‬ ‫ليال كثيرة‪ .‬وحده الليل يعرف ضعفها و يسمع صدى نجواها‪.‬‬ ‫وسادتها قبل نومها في ٍ‬ ‫معظم أنواع الذكور حاولوا كسب ِودّها لكن عبثا أن تجد بينهم رجال! كانت مرغوبة لجاذبيتها و نعومتها‪,‬‬ ‫عفويتها‪ ,‬صراحتها‪ .‬كانوا يرونها مكسبا ماديّا و اجتماعيا‪ ,‬بعضهم ظ ّنوها ورقة رابحة لهم للخروج من بالد‬ ‫الحرب‪ ,‬و األبشع من ذلك كله من كانوا يرونها مكسبا سريريا لكونها‪ ...‬مطلّقة! كانوا يبدؤون التعارف بأساس‬ ‫مب ّني على طلب يدها لينتهي حالهم عند حافة الصدق بسقوطهم من عينها ألدنى نقطة موجودة في درب التبّانة‪.‬‬ ‫لم تكن لتلتفت مهما حصل إلى الخلف و ال تلتقط ما يتساقط منهم على الطريق‪ ,‬لهذا استمرت بالحياة فتضاءلت‬ ‫مع السنوات ثقتها للذكر و تعززت ثقتها بذاتها‪ .‬حتى ذاك اليوم كانت تتحمل غربتها و الضغوط التي تتعاقب‬ ‫عليها دون أن تكسر آخر قيد حرصا منها على رضى والديها و احتراما كامال لشقيقيها إلى أن حدث في أحد أيام‬ ‫أيّار و الذي كان يتم ّتع بنسبة رطوبة أعلى من معدّله الطبيعي حتى ليشعر االنسان بالدبق في جسده يكأ ّنه إحدى‬ ‫البرمائيّات اللزجة‪ .‬كانت الساعة قد شارفت على العاشرة مساء و هو وقت مب ّكر في بل ٍد سياحّ ي ال يعرف النوم‪.‬‬ ‫كانت تعبة و لم تحملها قدماها للسير حتى محطة القطار السريع و التي ال تبعد سوى خمس عشرة دقيقة‪,‬‬ ‫عمل طويل خلف شاشة الكومبيوتر و جلست في‬ ‫فأشارت ألول سيارة أجرة قابلتها عيناها المنهكتين من يوم‬ ‫ٍ‬ ‫مقعدها الخلفي‪ ,‬أخبرت السائق وجهتها‪ ,‬استرخت‪ ,‬و راحت عيناها تتع ّقب ألوان المحال و الواجهات من خالل‬

‫‪1‬‬


‫زجاج المركبة‪ .‬سرح ذهنها بأمور كثيرة تقود بعضها بعضا و ال رابط بينها إال أن جميعها حصلت لها على مرّ‬ ‫سنيّها فقط‪ .‬تلك التي صنعت منها و عدلّت على شخصها ما تراه عليها اليوم‪ ,‬أو حتى هذه اللحظات األخيرة‪.‬‬ ‫تنبهت فجأة النعدام الواجهات و أن الطريق مجرد شارع شبه صحراوي و الفلل بدأت تظهر بدال عن األبراج‪,‬‬ ‫طريق لم تره قبال و ليس إحدى التي تسلكها عادة في حين عودتها‪.‬‬ ‫يوليا‪ :‬هذا ليس الطريق الذي عليك ان تسلكه ألبلغ وجهتي؟‬ ‫السائق‪ :‬كال سيدتي لكن الطريق الموصل إلى وجهتك مغلق بسبب التحسينات‪ ,‬لذا سلكت هذا الطريق‪.‬‬ ‫يوليا‪ :‬ل َم لم تنبه ّني إلى ذلك؟ كنت أخبرتك عن طريق آخر‪.‬‬ ‫قطع حبل تلك اللحظات عندما تنبهت فجأة أن هاتفها المحمول يضيء! لم يكن ليتصل بها أحد من العمل فهم‬ ‫يعلمون أنهم لن يستطيعوا الحصول على ر ّد منها مهما تعاقبوا بطلب رقمها‪ ...‬فأيام نهاية األسبوع تعني الراحة‬ ‫بعيدا عن مسمى (عمل)‪ ,‬تناولت الجوّ ال و أدارت الشاشة نحو وجهها لترى‪ ...‬رقم والدتها‪ ,‬لم تكن لتدعها دون‬ ‫إجابة فهي تخاف أن تقلق عليها‪ ,‬خصوصا أنها ما زالت و بعد كل تلك السنوات تحّمل ذاتها اللّوم أن زواج‬ ‫ابنتها و طالقها كان بسبب ضغطها عليها درء لكالم المحيط التافه‪ ,‬المتعجرف (المجتمع)‪.‬‬ ‫يوليا‪ :‬أمي الغالية‪.‬‬ ‫األم‪ :‬حبيبتي‪ ,‬كيف أنتِ؟ اشتقت إليكِ كثيرا‪ ,‬والدك سأل عنكِ أكثر من مرّة فأنت لم تتصلي بنا منذ أكثر من‬ ‫أسبوع‪...‬‬ ‫كانت تسمع دون أن تجيب فهي تكره الثرثرة و تدافع الكلمات كإذاعة راديو‪ ,‬لكن ال مف ّر‪ .‬كانت تكتفي بالهمهمة‪,‬‬ ‫بالنعم و ال ال فقط و بعد أن مضى أكثر من عشر دقائق كمقدمة نسائية طويلة تن ّبهت لعبارة جعلتها تخرج عن‬ ‫صمتها و تجيب‪...‬‬ ‫يوليا‪ :‬قد أسعد ّتني بهكذا خبر‪ ...‬متى سي ّتم الوعد؟‬ ‫األم‪ :‬نهاية الشهر القادم بحلول عيد األضحى‪.‬‬ ‫يوليا‪ :‬أخيرا آخر العنقود ستدخل القفص الماسيّ ‪.‬‬ ‫األم‪ :‬جميعهم عداكِ ‪...‬‬ ‫قاطعتها من فورها‪ :‬إ ّياكِ و البدء يا ح ّجة و إال أتيتكم بعجوز يعاني زهايمر و بهذا تأمنين مستقبلي‪...‬‬ ‫ضحكت و مازحت والدتها عبر الهاتف الذي يعمل مع ذبذبات متعددة تحوم في الجوّ و تنتقل عبر الهواء و‬ ‫ألم‬ ‫من‬ ‫نسمات الرياح الجبليّة التي كانت تتماشى و د ّقات قلبها الفرح و بعض قطرات الندى تنساب رغما عنها‬ ‫ٍ‬ ‫كانت تك ّنه من كلمات جارحة كانت شقيقتها تلسعها بها إن ضاقت باألخيرة الحيلة خصوصا قبل انعزالها بعيدا‬ ‫عن العائلة‪ .‬انتهت المكالمة‪ ...‬حاولت استيضاح السهل األخضر الممتد على سعة الناظر إليه‪ ,‬هناك لحظات تعيد‬ ‫إلينا أفظع و أقسى األوقات المؤلمة التي تسببت بندوب لن تمحى آثارها‪ .‬لكنها شقيقتها و عليها أن تتواجد بجانبها‬ ‫رغم ك ّل ما حدث فقد كانت تصغرها بحوالي عق ٍد من الزمن‪ .‬إال أن السبب اآلخر كان عودتها إلى تلك البالد‬ ‫التي خرجت منها على أمل الالعودة أبدا‪ ...‬أبدا‪ .‬أعادت ملئ المدفأة بالحطب و قامت من مكانها تقترب أكثر من‬ ‫الزجاج‪ .‬المنزل الخشبي هادئ‪ ,‬حنون في مثل هذا الجو‪ ,‬يجعلها تشعر أنها ما زالت طفلة رغم عدد سنواتها‪ ,‬أن‬ ‫السكينة مطلب أساسيّ للعيش‪ ,‬لكن ليس وحيدا‪.‬‬ ‫هي اآلن مدير عام شركة تنظيم حفالت على نطاق واسع في تركيا و أوروبا‪ ,‬لذا ت ّغيبها عن العمل يع ّد كارثة و‬ ‫خصوصا أنها من األشخاص المعتمد عليهم و التي تشرف بذاتها على األعمال الموكلة لطاقمها و التي كانت‬ ‫سببا ألرباح طائلة جنتها الشركة خالل سنوات انضمامها لهم ما أهلّها ألن تتخطى درجات كبيرة و تصبح مديرا‬ ‫‪2‬‬


‫عاما أله ّم الشركات الكبرى في منطقة الشرق األوسط‪ .‬لكن الب ّد من حضور زفاف أختها الوحيدة و سترى‬ ‫والديها أيضا‪ ,‬المشكلة الوحيدة هي‪ ...‬لمدة أسبوعين كاملين؟ تنهّدت ب ّقوة كمن يحاول إزاحة جبل من مكانه‪.‬‬ ‫تتابعت األيام بسرعة لم تكن تتمناها‪ ,‬إال أنّ الزمن يعاكسنا لكل ما نريده دائما‪ .‬على كرسيّ جلدّي رماديّ كما‬ ‫فترة من حياتها مرّت كانت تجلس‪ ,‬حقيبة يدها بجانبها‪ ,‬ترتدي فستانا بلون البيج يتخلله األبيض و األسود‪ ,‬حذاء‬ ‫واق شمسّي خفيف‬ ‫عال أسود و أبيض يتناسب و حقيبة يدها الجلدية‪ ,‬وجه ٍ‬ ‫بكعب ٍ‬ ‫خال من المساحيق الكثيرة عدا ٍ‬ ‫ّ‬ ‫اللون و خزام يكاد ال يرى يضفي أنوثة على وجهها‪ ,‬نظارة شمسيّة سوداء ذراعيها من اللون السك ّري الموشى‪,‬‬ ‫يحيط كاحلها خلخال رقيق أنيق‪ ,‬ساعة برونزيّة في اليد اليمنى و أسورة بخط ماسّي واحد في اليد اليسرى مع‬ ‫خاتم فضّي يتوّ ج سبابة يدها اليسرى‪ .‬شعرها األبيض مسترسل بسيط ال يعيقه دبّوس أو مشبك‪ .‬ضمّت قدميها‬ ‫إلى بعضهما كسيدة إنكليزية أرستقراطية‪ .‬كانت حلّتا العسل الب ّني تتابعان مهبط الطائرات من خلف ّ‬ ‫النظارة و قد‬ ‫أخذتاها إلى عالم مجهول في أعماقها‪ ...‬ذاك الفراغ المح ّرم عليها دخوله أو استرجاع فتح بوابته‪ ,‬لكن األمر كان‬ ‫ّ‬ ‫تدفق السيل العرم و أعادها لثالث سنوات كانت فيها في ذات المطار آتية من العدم‪...‬‬ ‫خارجا عن سيطرتها فقد‬ ‫من وراء المتوسط‪ ...‬من قلب الصحراء كغزال هارب من يوم صي ٍد إلحدى القبائل الهندوسيّة التي ال ترحم ألنها‬ ‫ترى مكسبا في كل شيء‪ ,‬كصهاينة أرض الزيتون المباركة‪ .‬سمعت اسم رحلتها من إذاعة المطار ما يعني أن‬ ‫عليها التو ّجه لبوابة المغادرة‪ ...‬ترددت قبل أن تترك كرسيّها الرمادي الشبيه بحالتها اآلنيّة‪ .‬توقفت و أجبرت‬ ‫قدميها على السيّر و فكرة االلتفاف للعودة من حيث دخلت أرض مطار أتاتورك تتردد صداها في رأسها‪,‬‬ ‫أحسّت باستبداد اسم ذاك الديكتاتور عليها كما تعدّيه على الثماني و العشرون حرفا التي استبدلها غصبا فطمس‬ ‫بها أغلب معالم تاريخ أكبر إحدى إمبراطوريات العالم قوّ ة ألكثر من ثمانية قرون متعاقبة‪ .‬هي التي لم تكن‬ ‫لتتراجع خطوة واحدة للوراء في أي أمر تقدم عليه لذا استمرّت بال ّسير نحو البوابة و هي تتخيلها معبرا من‬ ‫عصر النهضة إلى عصر الظالم و الجهل و الهالك‪ .‬بعد أن تأكدت المضيفة من تذكرتها اصطحبتها إلى مقعدها‬ ‫جانب النافذة في درجة رجال األعمال‪ ,‬جلست بهدوءها المعتاد و تناولت من حقيبتها رواية ل كوتزي (في‬ ‫انتظار البرابرة) كانت بدأته منذ يومين‪ ,‬فتحت على صفحة فيه يتخللها عالمة بالستيكية أنيقة باللون األسود‬ ‫الذي يرشح بالذهبّي و الفضّي فأزاحتها إلى حيث المقدمة و أسندت ظهرها إلى كرسيّها و بدأت عيناها تتابعان‬ ‫رسم األحرف على الصفحات‪ .‬بعد فترة ما مرّت المضيفة من أمامها و أخبرتها بلباقة أن عليها ربط حزام‬ ‫األمان _و هو الشيء الوحيد التي لم تكن تفعله في أيٍ من رحالتها_ فأومأت برأسها و تجاهلت األمر و عادت‬ ‫تسافر في رحلة أخرى تحملها بين يديها‪ .‬تستغرق الرحلة ما يقارب األربع ساعات و أكثر‪ ,‬أمضت منها ساعة‬ ‫و نصف الساعة مع صديقتها المقربّة إليها (فنجان قهوتها بدون سكر) و التي كانت دائما تعشق الس ّير على‬ ‫حا ّفته المستديرة كالعبة أكروبات محترفة و تأخذ وقتها معه حتى و إن انخفضت درجة الحرارة من الغليان إلى‬ ‫الصقيع المتجلّد لكنها تكون في أمتع أوقاتها‪ .‬هذه المرّة كانت في أحلك اللحظات الصامتة ألفكارها معه و هي‬ ‫تناظر السحاب الممت ّد في السماء ككرات سكرّية شهيّة‪ ,‬أو وسائد ناعمة تتمنى أن تتوسد إحداها فتحملها بعيدا‬ ‫عن هذا العالم‪ .‬بين حين و آخر كانت تظهر صور لألرض بألوانها المختلفة من تدرجات األصفر و األخضر و‬ ‫أحيانا األحمر بتعرّجاتها‪ ,‬تموّ جات بحرها الذي يلتقي بإحدى شواطئها كحبيبين ال يفترقان بل بتجاذبهما يظهران‬ ‫كمن يكلّمان بعضهما اآلخر بهمس مرّة و بغضب في أخرى في تناقض و تجانس أبدع من صوّ ره و سوّ اه‬ ‫فخلقه‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ستحط في مهبطها خالل دقائق‪.‬‬ ‫تسارع نبض قلبها و ق ِر َعت طبول الخوف فيه عندما أعلن الربّان أن الطائرة‬ ‫َحسِ بت أنها لن تتأثر كثيرا لكن شيئا أفزعها و أثار صور مغادرتها للبلد ذاتها في ظروف لم تكن تتخيّل أن‬ ‫تحدث معها يوما ما‪ ,‬لكنها و لألسف الشديد‪ ...‬حدثت‪ .‬تجاوزت بوابة الطائرة إلى الممر الموصل إلى مكاتب‬ ‫التأكد من جوازات السفر و في كل مرّة تقفز إلى ذهنها صورة ال تريدها أن تخرج من العليّة التي وضعتها فيها‬ ‫و أغلقت بابها ظ ّنا منها أنها دفنتها حتى األبدية‪ ...‬لكن اتضّح أن باب العلّية ضعيف و قد فتح مصراعيه على‬ ‫ماض ال يجب أن يعود أبدا‪ .‬تحسست يدها ناحية كتفها األيسر و أحست بالندبة الكبيرة على طول اليد‪,‬‬ ‫أ ّقل نسمة ٍ‬ ‫فاعتصرت مكانها‪ ,‬لكأن الجرح نكئ و فتح من جديد‪ ...‬حتى أعلى ساقها اليمنى مازالت ندبة عميقة كبيرة‬ ‫موجودة‪ .‬شعرت لوهلة يكأن جروحها ما زالت مكشوفة‪ ,‬لزوجة الدم التي تسيل منها‪ ,‬حرارته‪ ,‬رائحته كما‬ ‫الصدئ الذي اختلطت برمال الصحراء‪.‬‬ ‫جاءها صوت موظفة الجوازات‪ :‬أتمنى لك إقامة ممتعة‪ ,‬السالم عليكم‪.‬‬ ‫يوليا‪ :‬شكرا للطفك‪ ,‬و أنا أيضا‪ ...‬أتمنى _أخفضت صوتها بعد أن ابتعدت قليال عنها_ لو أ ّني ما عدّت هنا‪.‬‬ ‫لم تكن مستعدّة لشيء يسمى (مركبة أجرة) و لو كلّفها ذلك السير على قدميها أمياال‪ .‬استأجرت سيّارة باسمها من‬ ‫مكاتب المطار‪ ,‬وضع العامل الشنط في صندوق السيّارة‪ ,‬جلست خلف الم ّقود و انطلقت إلى حيث ترى العائلة‪,‬‬ ‫‪3‬‬


‫تبعت الخريطة اإللكترونية التي قامت شقيقتها بإرسالها لها على المحمول‪ .‬في الطريق صادف البحر أن يكون‬ ‫على يمينها‪( ,‬البحر)‪ ...‬تلك الكلمة اآلسرة‪ ...‬ذاك السرمد الال متناهي‪ ,‬بلون بشرة شاطئه الالزورد ّيه‪ ,‬بتموّ جات‬ ‫شعره األزرق المشرئب بخضرة تجعلك كشارب خمرة العشق األول‪ .‬خلعت نعليها في حضرته و داست قدمها‬ ‫ّ‬ ‫مخزن داخل بلوّ رات الرمال ما‬ ‫أول عتبة الرمال الناعمة‪ ,‬الحا ّرة‪ .‬الساعة الواحدة ظهرا أي أن دفء الشمس‬ ‫يجعلها تتقد جمرا‪ ,‬و السائر فوقها كأنه يسير فوق قطعة من جه ّنم‪ .‬حرارته تلسع قدميها في كل خطوة تخطوها‬ ‫ت لهب‪ .‬ال تعلم‬ ‫نار ذا ِ‬ ‫نحو حبيبها‪ ,‬كشمّاس كاثوليكي يطهّر ذاته من أدرانه و يطلب المغفرة و هو يدوس على ٍ‬ ‫لم تفعل هذا‪ ,‬أهو مخرجها الوحيد لالعتراف علنا َ لذاتها أ ّنها على هذه األرض الظالم بعض أهلها؟ حين اغتالت‬ ‫فجأة موجة عشقية قدمها اليسرى و شرب جلدها األجاج الذي يحمله علمت مدى األذى الذي لحق بقدم ّيها‪ .‬هبّت‬ ‫نسمة شبه عليلة عبثت بخصالتها البيضاء التي تناثرت بدورها مع حركة الطفلة الشقيّة التي تحايل والدتها‬ ‫لتلعب معها‪ ,‬ي ّرن صوت ضحكتها العذبة المنعشة في اآلذان حتى تذهب عن القلب ما أهمّه‪ ,‬تلك هي روح‬ ‫يوم مضى‪ .‬بقيت تجالسه و تعبث مع طفلتها حتى ساعتين عندما بدأت الجدة‬ ‫طفلتها التي لم تكتمل بها فرحتها في ٍ‬ ‫الشقراء تميل أكثر في كبد السماء منبّهة حفيدتها أن عليها أن تترك اللهو و تبحر نحو وجهتها حيث ينتظرونها‪.‬‬ ‫عندما عادت إلى مقعد السائق تنبّهت لوميض المحمول‪.‬‬ ‫يوليا‪ :‬إنهم غاضبون‪ ,‬ال بد أن ميرا في أوج انفعالها اآلن‪.‬‬ ‫توقفت السيارة عند نقطة العالم التي حددتها الخارطة االلكترونية‪ ,‬جعلتها تخرج من السيارة متوجسة و حائرة!‬ ‫يوليا‪ :‬البد أنهم أخطؤا بالخريطة‪ ,‬أين أنا بالضبط؟‬ ‫ضغطت الدليل السريع و انتظرت الرنين المعتاد‪.‬‬ ‫ميرا‪ :‬أين أنت بحق الجحيم‪...‬‬ ‫انهالت عليها شقيقتها بعصبيّة و لم تترك لها مجاال لحرف صو ّتي حتى‪ ,‬ثم أقفلت بوجهها الخط‪ .‬لم تضطرب‬ ‫فهي ليست المرّة األولى لمدللّة والدها أن يصدر عنها ما كان‪ .‬ضغطت رقم اثنان فظهر اسم (الح ّجة) فاتصلت‬ ‫بها و بعد رنتين فقط‪.‬‬ ‫األم‪ :‬حبيبة قلبي أين أنت؟ ننتظرك منذ أكثر من ساعة‪.‬‬ ‫يوليا‪ :‬على األغلب أ ّني تهت‪ ...‬فالموقع المرسل يد ّل على قصر فاره لسلطان ما!‪...‬‬ ‫الوالدة و هي تضحك‪ :‬كال‪ ,‬أنت في العنوان الصحيح‪ ...‬حتى نحن أجفلنا ِمثلَك عند الزيارة األولى مع أخويكِ ‪ ,‬ال‬ ‫عليكِ سنفتح البوابة‪.‬‬ ‫مرّت دقيقتان و لم تأتي البوابة بحركة حتى أيقنت أنها في العنوان الخاطئ فأدارت المحرّك و همّت بالخروج‬ ‫أزيز ما فنظرت في المرآة الجانبية فإذا البوابه تتحرك باتجاه اليسار‬ ‫عن الطريق المحصّاة عندما سمعت صوت‬ ‫ٍ‬ ‫لتفسح لها مجال الدخول‪ .‬ترددت‪ ...‬كان قلبها ينبئ بشيء ما ال تعرف كنهه‪ .‬بقيت تناظر البوابة المفتوحة‬ ‫كمجذوب ال يعلم ما يفعل أو على أي أرض يقف! أخيرا اجتازت البوابة بتؤدة و هدوء كمن يت ّربص هجوم ضبّ‬ ‫عليه ليفترسه‪ .‬اتبّعت الطريق المفروش بالحصى‪ ,‬األزهار مختلفة األلوان‪ ,‬متوضّعة بطريقة تخلب لبّ الناظر‬ ‫بفن ّ‬ ‫ب جدا يوحي للناظر إليه أنه في عصر البوربون‪ .‬ألكثر من عشر دقائق تسير‬ ‫جذا ٍ‬ ‫إليها‪ ,‬شجيرات مشذبّة ٍ‬ ‫مبهورة حتى ضربت قدمها فجأة على الفرامل بقوّ ة‪.‬‬ ‫يوليا‪ :‬يا هللا‪ ,‬كان ذلك ليكون وشيكا _تنهدّت_ من أين خرجت؟‬ ‫خدم إنكليزي‪,‬‬ ‫لمحت في قبالتها رجال في العقد السادس تقرييا يقف بال تعابير وجه‪ ,‬يرتدي الزيّ الرسمي لكبير ٍ‬ ‫أبيض الشعر خفيفه‪ ,‬ذو شارب بنيّ اللوّ ن‪ ,‬عينان زرقاوان خاليتان من أي حسّ ‪ ,‬وجه بارد كمياه متجلدّة‪ ,‬طويل‬ ‫القامة‪ ,‬رشيق الق ّد‪ ,‬تقدّم نحو باب سيارتها بخطى ثابتة‪.‬‬

‫‪4‬‬


‫الرجل‪ :‬سيدتي‪ ,‬ادعى (جيفرز) و أنا رئيس الخدم‪ ,‬أرجو العلم أن سائقنا سيتكفل بالسيّارة لذا أرجو أن تأتي‬ ‫معي على عجل ألنهم ينتظرونك‪.‬‬ ‫تح ّدث بعربية غير صافيه لكنها مفهومة و فتح باب السيارة معلنا أن عليها اتباع األوامر حاال و دون تأخر‪,‬‬ ‫تذمّر‪ ,‬أو أسئلة‪.‬‬ ‫خطت على الدرجات الرخامية البيضاء المشربة بلون أسود و المصقولة بطريقة دقيقة‪ ,‬تبعته بخطوات تجاريه‬ ‫لكن ال تجعلها تسير بجانبه‪ .‬عبرت بوابة خشبيّة كبيرة بلون أشجار الجوز مو ّ‬ ‫شاة بالنحاس المطلّي و الذي‬ ‫يتوزع عليها كشجيرات ور ٍد تشرأب كطفل متشبّث برقبة والده الذي يحمله بين يديه‪ ,‬كانت ساحة االستقبال في‬ ‫المدخل ّ‬ ‫مؤثثة بطريقة العصور الوسطى اإليطالية بأرضية رخامية مرسومة بزخارف ملكية لبتالت التوليب‬ ‫ف غريبة تش ّد‬ ‫ت تح ٍ‬ ‫لتصلها بمم ّر طويل تصطفّ على جانبيه لوحات لمشاهد طبيعية لرسامّين مختلفين و حامال ِ‬ ‫بشكل ما‪.‬‬ ‫متكاملة‬ ‫الناظر إليها ليتبعها‪ ,‬ما جمعهم هنا تناسقهم مع بعضهم البعض بطريقة عشوائية لكنها‪...‬‬ ‫ٍ‬ ‫تمهلّت بخطواتها و هي تتابع كل لوّ ح ٍة إثر األخرى فهي تحب الفنّ رغم عدم قدرتها اللحاق إحدى فروعه و‬ ‫دراسته بتبّحر‪.‬‬ ‫جيفرز‪ :‬أرجو أن تغ ّذي الخطى سيدتي‪ ,‬من هنا رجاء‪.‬‬ ‫جاءها صوته كمنبّه إلحدى صفارات اإلنذار فقد كان يملك صوتا حادا ذا صفير خفيف‪ .‬استعجلت خطاها و بعد‬ ‫االنحراف عدّة مرات بين يمين و يسار في الممرات الواسعة توقف فجأة باستعداد أمام إحدى الغرفات‪.‬‬ ‫جيفرز‪ :‬شقيقة العروس قد وصلت‪.‬‬ ‫حفل ملكي ثم نظر ل يوليا ببرودته الغريبة كرجل آلي‪ :‬تفضليّ سيدتي‪ ,‬جميعهم في انتظارك‪.‬‬ ‫قالها كإعالن في ٍ‬ ‫خاطبت نفسها‪ :‬جميعهم! في انتظاري! أنا؟ أين أنا؟‬ ‫كانت ما تزال في حالة من عدم التصديق أنها في العنوان الصحيح‪ .‬بقيت برهة قبل أن تتقدم بخطواتها التي‬ ‫تحاول أن تجعلها و اثقة و تخفي فيها عجبها و ارتباكها‪ .‬رأت أمامها سيدات و سادة في غرفة ممدودة بالسجادّ‬ ‫الدمشقيّ ‪ ,‬ثرياتها على طراز ال ماري تيريزا‪ ...‬في أقصاها من الناحية الشمالية بيانو كبير بلون الغزال البرّ ي‪.‬‬ ‫مرتبات مخملية و جلدية ممزوجة بين تدرّجات اللون الباذنجاني المحم ّر مرتكز على خشب جوز محفور‬ ‫بطريقة األرابيسك األندلسيّة‪ .‬الجدران مغل ّفة بورق منقوش تكاد زخارفه ال تظهر لكنّ لونه الس ّكري يضفي على‬ ‫الغرفة رفاهية و أبّهة‪ ...‬ستائر شيفون بلون س ّكري يتخللها قماش الساتان بخيوط متباعدة من ذات لون قماش‬ ‫المقاعد‪.‬‬ ‫يوليا‪ :‬مرحبا _انحت على الطريقة األوربية للعصور الوسطى و هي إحدى عاداتها_ أعتذر عن التأخير‪.‬‬ ‫بقي الصمت مطبقا‪ ,‬بعضهم مازال يدير لها ظهره و لم يتحرّك‪ ,‬البعض اآلخر كان يتطلع إليها مثل كائن غريب‬ ‫أو دخيل‪ ,‬استمرّت خطواتها إلى داخل الغرفة بروّ ية حتى سمعت فجأة صوتا أخرجها من الوضع المحرج التي‬ ‫كانت فيه‪.‬‬ ‫زوجة (توجان) شقيقها األصغر‪ :‬أهال عزيزتي‪ ,‬لكم اشتقنا إليك‪ ,‬الحمد هللا أن زفاف (ميرا) قد أزفّ حتى نراكِ‬ ‫بعد ك ّل تلك السنوات‪ .‬تفضلي من هنا أرجوكِ ‪ ,‬أعرفك بسيدة البيت مدام (حكمت) جدّة (طارق)‬ ‫خاطبت نفسها مجددا‪ :‬و من يكون طارق هذا؟ هل هو من ستتزوجه ميرا؟‬ ‫كانت زوجة أخيها تتابع تعريفها على العائلة التي بدت أرستقراطية ح ّدا عجز فيه عقلها عن التوازن و تجميع‬ ‫لوحة مبعثرة األجزاء‪ ,‬عندما اغتالتها شهقة قطعت قلبها نصفين حتى ظ ّنت أن مكروها حصل و جعلت‬ ‫الحضور يلتفت من حيث ظهر الصوت‪.‬‬

‫‪5‬‬


‫صاحبة الشهقة‪ :‬يا إلهي‪ ...‬ما هذا؟ كيف حصل هذا لشعرك؟ أال تعلمين أن األصباغ اخت ِرعت لمثل هكذا‪ ...‬ال‬ ‫أعرف كيف تصفونه‪...‬‬ ‫ارتبكت زوجة األخ‪ ,‬و عندما همت يوليا بفتح شفاهها المطبقة جاء صوت ثاقب‪ ,‬ثابت النبرة‪ ,‬ذو خ ّنة يشوبها‬ ‫هدوء و ثقة‪.‬‬ ‫الصوت‪ :‬أهو حال الغيرة (جلوري) أم لسان السؤال؟ ها‪ ...‬إنما أراه ته ّكما مقصودا على ضيفتنا‪.‬‬ ‫جلوري و قد ألجمها صاحب الصوت كل ّيا فامتنعت عن الر ّد و كظمت غيظها‪ ,‬فاستدارت و خرجت من الباب‬ ‫الخلفي المؤدي إلى حديقة كبيرة لدرجة أن يحسبها الناظر سهال‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الحق يقال أن لون شعرك كما ال‪_ ...‬صمت قليال كمن يحاول البحث عن‬ ‫الصوت‪ :‬عذرا سيدتي عما بدر لكن‬ ‫وصف دقيق_ (اللوسن) يلفت األنظار و يثير التساؤالت في النفس البشرية‪ .‬بجميع األحوال أهال بكِ في ديارنا‬ ‫ومبارك علينا زفاف العروسين‪.‬‬ ‫يوليا‪ :‬شكرا لك‪...‬‬ ‫و قبل أن تتم أي كلمة أخرى كان قد استدار و يديه في جيوب بنطاله و بسالسة و هدوء خرج من باب الغرفة‬ ‫التي دخلت منه تاركا ألذنيها صوته ببح ّته الصافيّة التي تتردد في صوان أذنيّها‪.‬‬ ‫ذو الصوت‪ ,‬و كما أخبرتها زوجتيّ شقيقها‪ ,‬رياضّي و سباح متمرّس‪ ,‬صاحب إحدى أكبر الشركات في‬ ‫المنطقة‪ ,‬ذو ثقافة عالية‪ .‬هو األخ المتوسط و الغير شقيق للعريس و يدعى‪( ...‬لوسن)! صعقتها المصادفة‪ ...‬لقد‬ ‫وصف لون شعرها باسمه! ما معنى االسم أصال؟ حاولت أن تستفسر لم تلقَ إجابة‪ .‬بحثت الحقا عن االسم في‬ ‫محرك البحث اإللكتروني فوجدت على أنه اسم شركسيّ بمعنى (الثلج األبيض) شراكس‪ ...‬حسنا‪ ,‬هم منهم و‬ ‫ليسوا عربا‪ .‬على األقل تتمنى أن تتحسن عقليّة شقيقتها‪ .‬كانت فكرة الذكر العربي تشعرها باالشمئزاز و تعيف‬ ‫شهيتها عن التواصل مع أي منهم بغير سبب مه ّني‪ .‬حتى أن (توجان) يماثلها الرأي و كان األقرب لروحها من‬ ‫ّ‬ ‫بست سنوات و الذي كان يحمل الكثير من صفات عقليّة الذكور العربية لكن‬ ‫أخيهما (اقتاي) الذي يكبره‬ ‫بتعديالت طفيفة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫حنطي البشرة‪ ,‬عينان بنيّتان‪ ,‬شعر أسود يغزوه الشيب‪ ,‬يرتدي بنطاال‬ ‫(لوسن)‪ ,‬طويل القامة‪ ,‬عريض الكتفين‪,‬‬ ‫من الجينز داكن اللون و كنزة ذو رقبة عالية بلون جوري دمشق القاني و التي تظهره بطابع األوربي الثريّ‬ ‫لكن دون تعقيد‪ ,‬ربما في بداية العقد الرابع ال أكثر‪ ...‬يبتسم بحذر كما كلماته‪ ,‬حذاء خفيف رماديّ داكن اللون‬ ‫من نوع الشاموا يغلّف قدمه‪ ,‬لم يكن باهر الجمال إنما يجذبك إليه سحر يمتلكه في تقاسيم وجهه‪ ,‬عيناه صغيرتان‬ ‫إنما تسبران أعماقك بما يلجم لسانك في حضرته‪ ,‬أنفه كبير بعض الشيء لكنه متناسب و تقاسيم وجهه الرجولية‬ ‫بامتياز‪.‬‬ ‫نعود حيث تركنا يوليا بصدمتها التي حاولت أن تخفيها‪ .‬فبعد أن قامت زوجة األخ تقديمها لعائلة صهرهم القادم‬ ‫قادتها إلى حيث غرفة ميرا التي تتجهز لحفل الليلة و الذي يقام على شرف العروسين إعالنا على أن عقد القِران‬ ‫سيكون خالل أسبوع ال أكثر‪ .‬مشت في ممرات و صعدت درجات حتى استقرّت رحلتها واقفة أمام باب خشبيّ‬ ‫مذهّب‪ ,‬قامت زوجة األخ بنقره حتى أتاها اإلذن بالدخول و ما أن دلفت إلى الداخل حتى لجمها أثاث الغرفة و‬ ‫حجمها!‬ ‫يوليا مدهوشة و تكلّم روحها‪ :‬هل أنا في فيرسيل؟ ال ب ّد و أنني أحلم! تبدو كغرفة لويس الرابع عشر بلونها‬ ‫ّ‬ ‫المراك ّ‬ ‫مغطاة بورق جدران يضفي العراقة و القدم في آن‪ ,‬السقف أيضا مرسوم لكن ليس‬ ‫شي الساحر‪ ,‬الجدران‬ ‫ألشخاص بل‪ ...‬يا إلهي‪ ...‬هذه البندقيّة! المرآه في الزاوية محاطة بإطار نحاسيّ ملكي ينتهي بعقدة كبيرة‪...‬‬ ‫صحت من هذيانها على ضمّة قويّة مباغتة من والدتها ترحب بها و تنظر إليها بشوق قد طال أمده‪ ,‬كان تش ّم‬ ‫ماض مهما استنشقته لن تستطيع أن تزيل بأسه عن كاهل ضناها‪.‬‬ ‫رائحتها بحنان أ ّم نظرت إلى ابنتها فرأت آثار ٍ‬ ‫‪6‬‬


‫بادلت أمها العناق بح ّنو و قد أحسّت بدموع األخيرة تبلل رقبتها و كتفها‪ ,‬حاولت اجتياز أي انهيار قد يظهر على‬ ‫وجهها هي ثم ما لبثت أن تق ّدمت من والدها و قبلّت رأسه بحنان رغم ما بينهما من جفاء خصوصا أنه كان‬ ‫يعاملها بقسوة عكس إخوتها‪ ,‬فكثيرا ما آذاها بتعليقاته الالذعة أو منع عنها المال بحكم أنها تعمل و هو يعلم مدى‬ ‫حاجتها في تلك األيام الغابرة‪ ,‬عدا عن أمور أخرى سببت لها آالما‪ ...‬كما لو كان يتمناها رجال لكان عاملها‬ ‫بطريقة مختلفة‪ ...‬لكنها لم تكن‪ ,‬و هو سيبقى والدها‪ .‬سلمّت على شقي ّقها و سألت عن ميرا التي كانت في غرفة‬ ‫أخرى مع مصففة الشعر و لم تشأ والدتها أن تكون معها فقد كانت سيئة المِراس‪ .‬أخرجوها إلى الشرفة المطلّة‬ ‫ب من عائلة راقية و هو‬ ‫على بستان القلعة التي هي بداخلها و بدؤوا يقصّون عليها كيف أخبرتهم ميرا عن شا ٍ‬ ‫يعمل معها يريد خطبتها‪ ,‬رغم جفاء عائلته بادئ ذي بدء‪ ,‬لكن كون أن والدك من المرموقين و المعروفين في‬ ‫مجال عمله كطبيب معروف على مستوى عالمّي لذا قبلوا مباركة الزواج‪ .‬أبدا شقيقاها الخوف أن ال تستطيع‬ ‫ميرا مجاراة حياتهم المترفة أو قوانينهم و التي فهمت أنها تتمثل بقوانين الملكة إليزابيث في قصر باكينغهام؟ و‬ ‫حاول األب كعادته الدفاع عن مدللّته‪ ...‬فقطعت الحديث عليهم‪.‬‬ ‫يوليا‪ :‬أتخافون على النمرود من ناره! لم يثنيها شيء للعدول عن زواجها ممن تريد و نحن نعلم ل َم تتشبث بهكذا‬ ‫خيار‪ ,‬لكن عليكم أن تسألوا أنفسكم هل ستبقى ابنتنا على تواصلها مع عائلتها؟ أنا ال أعلم أي شي عن زوجها‬ ‫لكن ستجعله يفعل ما تمليه و هذا ما أنا متيق ّنة منه‪.‬‬ ‫سمع طرق على الباب فأذنوا لمن خلفه بالدخول‪ .‬ظهر شخص شاب في نهاية العقد الثاني من العمر‪ ,‬متوسط‬ ‫القامة‪ ,‬أبيض البشرة ب ّني الشعر‪ ,‬ذو عينين زرقاوتين‪ ,‬يرتدي قميصا بلون قمر الدين و بنطاال بلون القهوة‬ ‫بالحليب‪ ,‬و حذاء عسليّ اللون‪ .‬تقدّم بتهذيب ناحية العائلة و تقدّم من يوليا مرحّبا‪.‬‬ ‫الشخص‪ :‬أهال بك في العائلة‪ ,‬كنت أخشى أن ال تحضري الحفل‪.‬‬ ‫نظرت إليه يوليا تتبين‪ :‬إنها شقيقتي‪ ,‬فكيف ال أكون حاضرة‪ .‬البد و أنك صهرنا المرتقب يا‪...‬‬ ‫أجابها‪ :‬طارق‪.‬‬ ‫ابتسمت له و هي تر ّد على لطفه و احترامه بترحيبه بها على أنها فرد من العائلة و تعتذر عن كونها ال تعرف‬ ‫االسم مسبقا‪ ,‬لكنه مازحها و كأنه يس ّري عنها حرجها‪ .‬بعد وقت من تجاذب أطراف الحديث فت َِح الباب فجأة‬ ‫بعصبية و سمع صوت أنثوي غاضب ما لبث أن هدئ عندما تفرست في الحاضرين‪.‬‬ ‫ميرا‪ :‬عزيزي ال يجب أن تراني قبل الحفل‪ ,‬أنت تعرف الشروط‪.‬‬ ‫وقف و هو يغمزها بعينه و يمازحها‪ :‬جئت أسلّم على شقيقتك التي حضرت من مكان بعيد لتكون حاضرة‬ ‫فرحتنا‪.‬‬ ‫ميرا بصوت علت نبرته قليال‪ :‬هل يوليا هنا!‬ ‫ابتعدت نحو اليمين و هي تتف ّرس الوجوه‪ ,‬فأقبلت يوليا إلى شقيقتها و هي تبارك لها خطبتها و عندما حاولت أن‬ ‫تعانقها ابتعدت عنها األخيرة ببرودة‪.‬‬ ‫ميرا‪ :‬شكرا لقدومك أخيرا‪.‬‬ ‫تابعت ميرا لكن هذه المرّة بدالل و قد استدارت مرّة أخرى نحو خطيبها‪ :‬حبيبي‪ ,‬عليك أن تذهب لتجهّز نفسك‬ ‫فلم يتبقى سوى ساعات على موعد الحفل و عليّ أن أنهي تجهيز نفسي‪ ...‬هيّا‪ ...‬أرجوك‪.‬‬ ‫طبع طارق قبلة على جبينها‪ :‬حسنا يا جميلتي‪.‬‬ ‫ودّع الحضور و استدار يقصد الباب للخروج‪ .‬و عندما أغلق خلفه و تأكدت أنه ابتعد انهالت ميرا على شقيقتها‬ ‫و الشرر يتطاير منها‪.‬‬ ‫‪7‬‬


‫ميرا‪ :‬كيف تفعلين بي هذا‪ ,‬كيف تتأخرين؟ ألم تخبرك أمي عن موعد حفلة التعارف؟ ث ّم _تفرّست بمظهرها_ لم‬ ‫تبدين كبقرة؟ لقد كسبت وزنا و مظهرك سيئ‪ ,‬لن يناظرك أحد‪ ...‬جميعهم يبحثون عن الرشاقة_نظرت إلى‬ ‫نفسها في المرآة الكبيرة في زاوية الغرفّة_ اسمعي جيدا‪ ,‬سأقترن بطارق و كما ترين _رفعت يديها تحاول وسع‬ ‫الغرفة_ عائلة ثريّة جدا كما الملك فارووق‪ ,‬لذا حاذري الخطأ‪ ...‬أفهمت‪ .‬ث ّم _باستهزاء_ حاولي أن تجدي لك‬ ‫يأن لك هذا؟ ما الذي تنتظرينه؟ ستصبحين عمّا قريب في سنّ غير نافعة و لم يتبقى غيرك‬ ‫رجال يؤويكِ ‪ ...‬ألم ِ‬ ‫عانسا _بتهّكم_ على األقل ستعتنين بوالدينا و هكذا‪...‬‬ ‫اقتاي و قد عال صوته بجهورية‪ :‬ألجمي لسانك و كفاكِ صفاقة‪ .‬لوال أن والديكِ أرادا م ّنا الحضور لم نكن‬ ‫لنتواجد معك‪ .‬ليس عيبا ممن أراد االرتباط بكِ فنحن نشفق عليه منكِ ‪ ,‬بل لد ّنو أخالقك و سوء ألفاظك‪ .‬أتمّي‬ ‫زينتك و سنراكِ في الحفل‪.‬‬ ‫ت كذلك؟‬ ‫توجان بحدّة‪ :‬ربما ستتزوجين من‬ ‫رجل محترم لكن هل ستصبحين أن ِ‬ ‫ٍ‬ ‫سحب الشقيقان يوليا و والديهما و تركاها في عهدة الخادمات تساعدنها و قد استشاطت غيظا‪ ,‬فهي لوال أنه من‬ ‫غير الممكن أن تتزوج دون عائلة تساندها يوم زفافها لتزوجت دون أن تدعوهم‪ ,‬مازالت في خوف من‬ ‫تصرفات غير محسوبة من عائلتها‪ ,‬والدها أوال ثم من اقتاي و أمّها‪ .‬أما شقيقتها يوليا فقد كانت تخشى أن تعرف‬ ‫عائلة زوجها المستقبلي ما أل ّم بها أو تبدأ االستفسارات عن كيفية استحالة لون شعرها إلى الثلجيّ ‪.‬‬ ‫ميرا‪ :‬لو كانت صبغته بلون آخر أليس أهون مما سيعلق من أسئلة تنهال بها جلوري و أمها و األخرّيات اآلن‪.‬‬ ‫حانت من ميرا صرخة ألم و قامت بدفع إحدى الوصيفات على األرض بعد أن شدّت األخيرة مشبك الفستان‬ ‫بطريقة آلمتها‪ .‬كانت فعال سيئة المزاج و ربما الطباع أيضا‪ .‬بعد خروج العائلة تو ّجهوا إلى األسفل للغرفة‬ ‫الكبرى حيث تع ّرفت يوليا إلى عائلة طارق‪ .‬ذهب اقتاي ليقف مع زوجته و ابنيه‪ ,‬و أقبلت زوجة توجان ببطنها‬ ‫المنتفخة لتقف جانبه‪ ,‬جلست أمها إلى جانب الجدّه تتكلم معها فاكتشفت أن السيدة الكبيرة ليست مخيفة كما‬ ‫اعتقدت في أول تعارف حصل بينهم منذ نحو ساعة‪ .‬اقترب رجل كبير السنّ نحو والدها يرّحب به و ب يوليا و‬ ‫قد دعاهما للخروج إلى الحديقة فاستجابا للدعوة‪ .‬عندما أصبحت في الخارج أحسّت بنداوة العشب تحت حذاءها‬ ‫العالي‪ ,‬تمنت أن تخلعه و تسير حافية علّها تشعر بقدر أكبر من الحريّة‪ ,‬لكنها ال تستطيع فاألجواء كما شحنات‬ ‫الكهرباء المتتابعة و العيون مرتقبة لكل تصرف غير موزون سيصدر منها‪ .‬آثرت أن تعتبر نفسها في اجتماع‬ ‫حفل ما يريدون تنظيمه‪ ...‬بهذه الطريقة‬ ‫عمل مع إحدى الشركات التي تتشاور معهم حول برنامج دعائي أو ٍ‬ ‫تضمن أن تبقي نفسها بعيدة عن أي تصرف غير مسؤول‪ ,‬أي أن تتصرف على طبيعتها‪.‬‬ ‫جلوري (و قد اغتالت حبل أفكارها فشطرته نصفين)‪ :‬ل َم شعرك أبيض؟ أال ترين أن مظهرك يد ّل على الشذوذ؟‬ ‫ردّت على وقاحتها بتؤدة‪ :‬و لم تسألين بطريقة مبتذلة ال تليق بسيدة مجتمع؟‬ ‫توسّعت حدقتا عينيها الرماديتان و ارتفع الدم إلى وجنتيها‪ ,‬لكن يوليا لم تجعل لها وقتا كافيا الستيعاب الصفعة‬ ‫فقد كانت دلفت الغرفة الكبيره‪.‬‬ ‫لم تتنبّه جلوري أن لوسن قد سمع دسّ سمّها فجاءها من خلفها‪ :‬عليك تعلّم اآلداب مجددا‪ ,‬ك ّفي عن كونك طفلة‬ ‫أرستقراطية‪ ...‬فوالدتك دخيلة على العائلة كما سيصبحون ه ّم‪ .‬الفرق أنهم لن يمكثوا معنا كما فعلتم أنتم و هذا ما‬ ‫جعلنا نبارك خطى طارق‪.‬‬ ‫استدار موليّا لها ظهره كمن أرداها في مصرعها بعد عقو ٍد من الصمت‪.‬‬ ‫(جلوري) من عمر ميرا‪ ...‬كانت والدتها مضيفة طيران مغربية اسطاعت إيقاع زوجها في شباكها لينتشلها من‬ ‫القعر و يجعلها سيدّة مرموقة‪ ...‬لكن عبثا‪ ,‬لم تتعلم شيئا من محيطها الجديد‪ ,‬و على مدى الثالثين عاما بقيت‬ ‫بدائية و تفتعل المشكالت كما معظم النساء العربيات الثرثارات التي توقع الخالفات بين الناس أينما حللن‪ .‬ربتّ‬ ‫بناتها على كسب المصالح و حبّ المال و إن اقتدى ذلك ارتباطهن برجال يكبرونهن بعشرين أو ثالثين عاما و‬ ‫حتى خمسين‪ .‬هذا ما قامت به أختها الكبرى و أخيها الذي كان لقبه (زوج السيدة)‪ ...‬المهم المكسب الماديّ بعد‬

‫‪8‬‬


‫الذي بددّته من ثروة زوجها الذي عاد يسكن في قصر العائلة مجددا‪ .‬لذا كان لوسن يعجبها لثروته و مكانته‬ ‫المرموقة‪ .‬حاولت تصيّده مرارا دون أن تفلح‪.‬‬ ‫تزوّ ج لوسن من امرأة أحبها في سنّ السابعة و العشرين و قد تع ّرف عليها من خالل إحدى أسفاره مع والده في‬ ‫مجال العمل‪ ,‬كانت ابنة رجل ثريّ من ذات المستوى االجتماعي‪ ,‬لم يدم زواجهما سوى بضع سنوات و في سنّ‬ ‫الثالثة و الثالثين توفيت بعد مصارعتها مع مرضها الذي حمله معها في سنوات زواجهما‪ .‬و لم يفكر بعدها في‬ ‫االرتباط فقد كانت المح ّنة قاسيّة جدا فالتفت لالنهماك بمجال األعمال و استطاع أن يستق ّل بشركته التي أصبحت‬ ‫رائدة في مجال الدراسات اإلستراتيجية العالمية و اكتفى بالعمل بديال عمّا فقد رغم محاوالت عائلته و حتى‬ ‫عائلة زوجته الراحلة لكنه بقي عازفا عن الزواج طالما جراحه لم تبرأ بعد عن خسارته‪ ...‬أو ألنه يخاف من‬ ‫معاناة الحبّ مجددا؟ ال أحد يعلم كيف يفكر الرجل‪ .‬في تلك األثناء لم تكفّ جلوري عن تحيّن الفرص علّها تفوز‬ ‫به لكن محاوالتها كانت تذروها الرياح في ك ّل مرّة‪ .‬و عندما كانت تدخل على العائلة نساء جديدات مع عائلتهن‬ ‫ت طويلة‪ .‬تعلم‬ ‫كانت تخشى ذهاب فرصتها و مطامعها‪ ,‬رغم علمها أنه لن يناظر إحداهن رغم ترملّه منذ سنوا ٍ‬ ‫يقينا بمبادئه و كياسته و دماثته و أ ّنه كان يحتقر أسلوبها و عائلتها لما يقومون به من تصرفات تنافي اللياقة و‬ ‫مع ذلك جميعه لم تعدم الوسيلة بعد‪ .‬الساعة الثامنة و خمس و أربعون دقيقة مساء و ما زالت يوليا في غرفتها‬ ‫تذرعها طوال و عرضا‪ .‬لم تكن تريد أن تنزل الحفل! لم تكن خائفة‪ ,‬ليس ترددا‪ ,‬لكنها ال تريد التص ّنع و التظاهر‬ ‫في مجتمع تعلم أن نساءه عبارة عن دمى بالستيكية فارغة بمجملهن و رجاله كسياسيّن يظهرون الرحمة و من‬ ‫باطنهم أل ّد أنواع الشياطين‪ ...‬بمعظمهم‪ .‬إن عملها مع الطبقات التي تع ّد راقية كان و الزال يرهقها و ها هي ذي‬ ‫ال و يحبّ ميرا بحق‬ ‫في ذات الحلبة مجددا‪ .‬لكن ما كان يؤرقها حقا هو‪ ...‬أن طارق شاب لطيف و غير متع ٍ‬ ‫فهل تبادله أختها ذات الشعور؟ أم ألنه غ ّني و من عائلة مرموقة قررت االرتباط به؟ هل تعلم ميرا ما معنى‬ ‫الزواج ح ّقا؟ هل تعي أختها أيّ طريق تسلك و أين تضع الخطوة التي تقوم بها؟ كانت هي تهت ّم باألخالق و‬ ‫المشاعر‪ ,‬و رغم فقدها و خساراتها في معترك الحياة إال أن أصدقاءها و صديقاتها يعلمون ما تقدّمه للغير قدر‬ ‫استطاعتها فقط حتى ت ّعوض من تستطيع عن ما لم تستطع هي الحصول عليه أو حيازته‪ .‬المريض باإلنسانية ال‬ ‫يشفى منه و هذا عقابه الدنيوي ما ح ّيي‪ .‬فتح الباب فجأة فارتاعت‪ ...‬و إذ بوالدتها تطمئن عليها بعد تأخرها عن‬ ‫الحفل‪.‬‬ ‫األم‪ :‬ما بالك يا عزيزتي‪ ...‬هل هناك خطب ما؟‬ ‫يوليا‪ :‬ال أجد في نفسي الوجد ألتواجد في الحفل‪.‬‬ ‫األم‪ :‬البد و أن كالم ميرا هو ما يجعلك على هذا الحال _نظرت إليها بح ّنو_ كما أعرفك دائما و الزلت أنيقة و‬ ‫جميلة‪...‬‬ ‫صمتت والدتها و هي تنظر إلى شعرها المعقوص على شكل تسريحة كالسيكية ناعمة فعرفت يوليا أن اللون هو‬ ‫ما أسكتها‪ ,‬فهو يذك ّرها بهرب ابنتها منذ ثالث سنوات مضت و بحادثة لم تكن تخطر في بالها أن تحصل في‬ ‫عائلتها أو ألحد أوالدها و هم الذين هربوا من بالدهم خوفا من ِتلكم األشياء‪ ...‬لم تنسى كيف رقدت ألشهر في‬ ‫المشفى حتى تتعافى‪ ...‬كيف صدموا عندما أخبروهم أنها ابنتهم من تعرضت ألمور مرّوعة‪ ,‬جروحها‪ ...‬كيف‬ ‫ت ّم إيجادها‪ ...‬ثم استحالة الليل الذي كان يكلل جمالها إلى صقيع يثبت لهم كيف سحبت معنى الحياة من بضع ٍة‬ ‫منها‪.‬‬ ‫قبّلت يد والدتها و هي تقول لها‪ :‬ال عليكِ أمي‪ ...‬لقد نسيت هذا األمر منذ زمن‪ ,‬لكن من الصعب أن أغيّر لونه‬ ‫فهو يمد ّني بشجاعة البقاء حيّة و يبقيني متف ّردة _غمزت لوالدتها بشقاوة_ فكما تعلمين أنا دائما مختلفة‪.‬‬ ‫ضحكت و هي تحاول أن تسّري عن أمها مقلتين كادتا تنفجران و ليس هذا هو الوقت المناسب‪ :‬هيّا فقد تأخرنا‬ ‫بما فيه الكفاية‪ ,‬علينا النزول حاال‪ ,‬هلّمي‪.‬‬ ‫جعلت والدتها تمسك بمرفقها و سارتا عبر الممر الطويل للغرف‪ ,‬هبطا درجات السلّم الرخاميّ المو ّ‬ ‫شى بعروق‬ ‫سوداء كخرائطٍ لبالد مجهولة تعبرها البحار و األنهار و تقسمها إلى جزر و خلجان‪ ,‬وصلتا باب الحديقة‬ ‫الرئيسي و ما أن خرجتا حتى توقفت يوليا فجأة و قد راعها الك ّم الهائل للمدعوين‪ ...‬الطاوالت المستديرة‬ ‫ّ‬ ‫المكتظة لرجال بالبدالت التوكسيدو و الرسمية السوداء‪ ,‬بعضهم بربطات عنق‪ ,‬آخرين بربطة البابيون‬ ‫(الفراشة) و آخرون آثروا الوشاح مع دبوسه‪ .‬أمّا النساء فحدّث و ال حرج في أزيائهن و األلوان التي تغطي‬ ‫‪9‬‬


‫وجوههن‪ ,‬هل تذكرون فيلم كوتزبي و حفلته الشهيرة‪ ...‬هذا ما كانت عيناها تناظرانه بالتحديد‪ .‬كانت تهّم‬ ‫بالتراجع هربا من هذا الطوفان البشري و الموسيقى الصاخبة إال أنّ صوتا أتاها فجأة و قريبا من أذنها‪.‬‬ ‫لوسن‪ :‬ستعتادين النظر و تألفينه بعد حين‪ ...‬على األقل تبدين طبيعية و‪ ...‬أنيقة‪.‬‬ ‫نظرت إليه و قد استب ّد االستغراب على وجهها و ألجمتها عباراته‪.‬‬ ‫لوسن‪ :‬أال تثقين بي؟‬ ‫يوليا و قد فاجأته بخنجر‪ :‬و هل تثق أنتَ فيّ ؟‬ ‫نظر إليها لوسن كمن أتته صفعة مباغتة و قد تقابلت عيناهما بت ّح ٍد ينتظر كل واح ٍد منهما االعتراف بشيء أو‬ ‫الفوز على اآلخر بطريق ٍة ما‪.‬‬ ‫لوسن و قد توسّعت حدقتاه من فجأة السؤال‪ :‬إن لم تكوني تثقين فال بأس‪.‬‬ ‫كان كمن ينفي ليرغم على الفعل‪.‬‬ ‫أشاحت ببصرها‪ :‬أتثق أنت فيّ ؟‬ ‫لوسن بعد مكابرة و جدال سريع مع بينه‪ :‬أجل‪ ...‬أنا أثق بكِ ‪.‬‬ ‫برقت عيناها كنصر نفرتيتي على توت عنخ أمون‪ :‬إذا‪ ...‬أثق بك‪.‬‬ ‫لوسن‪ :‬أتسمحين لي أن أقودك إلى طاولتكم حتى أخفف الوطأة عليكِ ؟‬ ‫لم يكن يسألها أو يستأذنها بل كان أمرا حيث أنه م ّد مرفقه معلنا أن عليها أن تتمسك به لينزال الدرجات حاال‪,‬‬ ‫سحنته لم تكن تشي بأنه سيتحرك من مكانه دونها‪ .‬تمسكت كفها بمرفقه و أمسكت طرف فستانها كملكة بيزنطية‬ ‫تترجل درجات قصرها‪ .‬التفت لوسن إليها فاكتشف أن وجنتاها خمريتان أكثر من الطبيعي‪ .‬لمحته بطرفها لكنها‬ ‫ت‬ ‫لم تتجرأ على أن تدير وجهها ناحيته فقد خشيت أن تتعثر أو تز ّل قدمها أو‪ ...‬خائفة من أن يسمع ضربا ٍ‬ ‫تحاول تمزيق قفصها الصد ّري‪ .‬إنها المرّة األولى منذ سنين طويلة تشعر بحرارة جسدها و أن الدم يغلي في‬ ‫عروقها‪ ,‬يداها تتعرقان‪ ,‬و بسمة غريبة شبه ملحوظة تزين مبسمها‪ .‬أدار لوسن وجهه عنها و قد باغتته ابتسامة‬ ‫شريرة يتلذذ بمداها و هو الذي لم يبتسم بهذه الطريقة منذ‪ ...‬سنين خلت‪ .‬أوصلها حتى الطاولة و انحنى بطريقة‬ ‫مهذبة و انحنت بدورها ما يعني أن الحدود بيني البلدين قد بانت معالمها و على كل منهما التزام ّ‬ ‫خطه‪ .‬لم يلمحه‬ ‫لَحظها أبدا خالل تواجدها في الحفل‪ ,‬و لم تحاول هي البحث عنه بين الجموع‪ ,‬عوّ دت تفكيرها و جوارحها أن‬ ‫اللحظة التي تمّر بها هي تلك فقط فإن انتهت فالحياة مازالت مستمرة‪ .‬توقفت منذ زم ٍن غابر و بعيد عن أحالم‬ ‫المراهقات و أبعاد مخيالتهن‪ .‬كان وحيدا في الظالم‪ ,‬في مكان قصيّ خلف إحدى أشجار الصفصاف حيث ابتعد‬ ‫و أخذ يراقبها‪.‬‬ ‫كان يساءل نفسه‪ :‬لم يترقبّها؟ ما المميّز فيها ح ّقا؟ هو حتى ال يعرف شيئا عنها؟ ما هواياتها؟ موسيقاها؟ عملها؟‬ ‫و األه ّم من ذلك كله هو‪ ,‬ما سبب بياض شعرها؟ أهو يخون ذكرى زوجته؟‪...‬‬ ‫أشياء باغتته و أخذت تعيث فسادا في قلبه و كيانه ككل‪ ,‬مذ رآها تدخل الغرفة الكبيرة و هي التي كانت سبب‬ ‫تأخر الجمع اليوم شعر كسكين غرزت بين الضلوع ما سببّ تدفق أدرينالين أكثر من معدّله المعتاد بآالف‬ ‫المرّات‪ ,‬األنفاس متالحقة‪ ...‬خروجها منذ قليل من باب الحفل‪ ,‬لم تكن تضع الكثير من المساحيق‪ ,‬شعرها بلونه‬ ‫و تسريحته يشي ببساطتها‪ ,‬فستانها المخملي بلون زيت الزيتون يكأنه مستخرج من الشجرة المباركة القدسية‪...‬‬ ‫حذاء فض ّي و قرطان فضيّان بسيطان يؤكدان االلتزام‪ ...‬خاتم فضّي يزين سبابتها اليسرى يوحي ذوقها فيه عن‬ ‫عشقها للفن و كل غريب طريف‪ ...‬من تكون هذه الشر ّقية الشركسّية بمالمحها العربيّة بامتياز؟‬

‫‪11‬‬


‫ّ‬ ‫متقطعة؟ حياءك ذو عطر يشبه‬ ‫ت ح ّقا؟ ل َم أتيت اآلن تعبثين بكينونتي و لم أركِ سوى بضع لحظات‬ ‫لوسن‪ :‬من أن ِ‬ ‫رائحة الد ّراق المخمليّ ؟ من تكونين يا فتاة؟ أجيبيني إن كنت قادرة على سماع صمتي من بعيد؟‬ ‫فجأة رآها تلتفت تحدّق في المكان حيث يختبئ عن عيون المدعووين و كأنها استشعرت أن أحدا ما يراقبها أو‬ ‫يرسل مع نسمات الليل رسائل و تونات ما‪ ,‬لكنها لم ترى أحدا‪ .‬انسحبت من مكانها إلى داخل المنزل فخرج من‬ ‫مكمنه و حاول االلتفاف دون أن يالحظه أحد و خصوصا أن الجانب البعيد غير مضاء فاستطاع التسلل من‬ ‫إحدى أبواب الحديقة لداخل المنزل‪ .‬كانت تحاول الهرب من الضجيج كالحوت الذي اتخذ سبيله في البحر سربا‪,‬‬ ‫كانت توقن أن في هذا القصر الفاره غرفة سحريّة تختبئ بها بعيدا‪ ,‬حاولت أن ترى إحدى خدم المنزل علّها‬ ‫َتسلهم أين تقع هذه الغرفة بالتحديد لكنهم جميعهم مشغولون بالحفل‪ .‬وصلت إلى البهو المليء باللوحات الفنيّة و‬ ‫األيقونات المعروضة على حامالت رخامية بازل ّتيه‪ .‬بدأت تتأملها واحدة تلو األخرى و ألكثر من ساعة‪ ,‬كانت‬ ‫بألم في قدميها فخلعت الكعب العالي و حملته بيدها و واصلت رحلتها حرّة بين أوا ٍن‬ ‫مشدوهة تماما حتى أح ّست ٍ‬ ‫زجاجية غريبة النقوش لكنها مذهلة بدقتها و ألوانها‪ ,‬لوحات ألماكن طبيعية و سفن بحريّة مختلفة األزمنة و‬ ‫األمكنة و األوقات قد ّ‬ ‫أطر ك ّل منها بإطار منقوش على يد أمهر الص ّناع لدق ّته و توازنه‪.‬‬ ‫ت تائهة؟‬ ‫جيفرز‪ :‬هل أساعدك بشيء سيدتي‪ ...‬هل أن ِ‬ ‫فاجأها صوت جهاز اإلنذار فنظرت نحوه مجفلة و مخيلتها مازالت تعمل على ما اختزنته مما رأت من لوحات‬ ‫زيتية و فنيّة‪.‬‬ ‫يوليا‪ :‬كال‪ ...‬ع ّم جيفرز‪ ,‬كال‪...‬‬ ‫استطردت فجأة و نادته بعد أن ابتعد قليال‪ :‬هل تملكون غرفة سحريّة؟‬ ‫نظر إليها مستغربا‪ :‬غرفة‪ ...‬سحريّة؟‬ ‫يوليا‪ :‬أعني‪ ...‬هل يوجد مكتبة أو ركن قراءة في هذا القصر؟‬ ‫جيفرز‪ :‬أجل سيدتي‪ ,‬تقصدين مخبأ و مهربا‪.‬‬ ‫نظرت إليه يوليا بخجل‪ :‬أجل‪ ...‬نوعا ما‪.‬‬ ‫جيفرز‪ :‬اعتاد سيدي أن يسمّيه هكذا لكن أن يسمى بالغرفة السحرية‪ ...‬هذا مصطلح جديد كلّيا‪.‬‬ ‫يوليا بفضول‪ :‬سيّدك؟‬ ‫جيفرز‪ :‬السيد لوسن‪ .‬عندما يريدون مني البحث عنه ال أتحمل عناء‪ ...‬تفضلي من هنا رجاء‪.‬‬ ‫وصلت إلى باب كبير خشبّي اللون بعيد عن باقي الممرات و الغرف‪.‬‬ ‫جيفرز‪ :‬جميل أن أعلم أنك من أنواع البشر الذين مازالوا يقرؤون‪ ...‬لن يبحث عنك أحد هنا‪.‬‬ ‫كطفل في خطواته األولى عبرت من عالم الصخب إلى‪ ...‬وقفت متسمرّة مكانها و عيناها تحومان في المكان و‬ ‫ٍ‬ ‫صروح ممرّ دة تحوي مجلدات‪ ...‬كتب‪ ...‬كتيّبات‪...‬‬ ‫من‬ ‫ه‬ ‫ٍ‬ ‫متنا‬ ‫ال‬ ‫فضاء‬ ‫في‬ ‫متعلقتان‬ ‫هما‬ ‫ٍ‬ ‫يوليا‪ :‬يا إلهي‪ ...‬جيفرز أنت مالك حقيقي‪ ...‬إنه‪ ...‬إ ّنه قصر بح ّد ذاته‪ ...‬مملكة بين الجبال كما األساطير‪ ...‬ك ّل‬ ‫هذا‪...‬‬ ‫رمت حذائها‪ ,‬أمسكت طرف رداءها و راحت تتنقل بين الطوابق بفرحة طفل غمرته المفاجأة في أرض األلعاب‬ ‫أو محل الحلويات‪ ...‬لم تكن تعلم أن هناك من سمعها و استغ ّل فرصة انشغالها بما سرق عليها لّبها و تسلل إلى‬ ‫المكتبة و اختبأ في أحد أركانها‪ .‬بينما امتثل جيفرز لألوامر و خرج من فوره و أغلق بوابة القصر ليحميها من‬ ‫‪11‬‬


‫الحمالت التترية و الصليبيين‪ .‬صعدت الساللم الخشبيّة‪ ,‬توق ّفت عند أحد الطوابق و بعد لئي سحبت من إحدى‬ ‫الرفوف كتابا بعنوان (زهور الحرب) ل جي لين يانغ‪ ,‬لم تهتم لعدد الصفحات و إن كان مجلّدا أو ك ّتيبا‪ ,‬يكفي‬ ‫أنها عبرت البوابة من عالم القاع إلى معالم أرض العجائب لتعيش في كل مرّة في عصر مختلف و زمان آخر و‬ ‫أوقات متباعدة‪ .‬غرقت في محيط الصفحات و أخذت تج ّدف بمخيلتها األحرف المتراصّة و تنتقل بين موجات‬ ‫األسطر المتدافعة حتى أنها فقدت اإلحساس بما حولها‪ ,‬لم تنتبه أبدا إلى حركة أو نفس‪ .‬كانت تسند ظهرها على‬ ‫زجاج المكتبة و تم ّد قدميها بات ّجاه السور الخشبي في ذات الطابق الذي اغتالت من إحدى رفوفه الكتاب فأقلقت‬ ‫أرض غير األرض‪.‬‬ ‫راحته و سكون أصحابه عندما انتزعته من قيلولته لتسافر عبر دفتيّه إلى‬ ‫ٍ‬ ‫بعد أن اطمئن السبّاح لخلوّ محيطه من كل ما يعرقله و تيقن أن السيدة الصغيرة قد تركت العالم الفاني لتطفوا في‬ ‫عالم آخر تحمله بين يديّها‪ ,‬تسلّل بخ ّفة إلى الركن الشرقيّ حيث مشى بمحاذاة الرفوف حافي القدمين عدا جوربيه‬ ‫بعد أن خلع نعليه احتراما للوادي المقدس و تفاديا منه إقالق راحة ضيفته التي بدأ يعجب بها أكثر‪ ,‬وصل إلى‬ ‫الكنبة المتوسطة و جلس عليها بهدوء و قد أشعل اإلنارة الصغيرة في زاوية المجلس‪ .‬كان الركن إحدى األركان‬ ‫الخمسة التي تحوي مقاعد و مناضد‪ ,‬فكل ركن يقبع تحت رفوف المكتبة إلى الداخل كما الكهف الصغير في‬ ‫الجبل‪ ,‬مؤثث على طراز األربعينيات للقرن الماضي‪ ,‬لمقاعد زرقاء مزركشة بعضها بالفضيّ و األخرى‬ ‫بالذهبي مع لوحات صغيرة تزين الجدار الصغير و فيها زجاج مستطيل يطل على أقصى أركان الحديقة حيث ال‬ ‫يأتي هناك أحد و ال يستطيع أن يرى الشخص الواقف خارجا من الجالس في الدخل و إن رأى ضوء إال إن قام‬ ‫األخير بالقعود على الشرفة من الداخل ليستمتع بالقراء مع منظر الحديقة‪.‬‬ ‫أمسك برواية (ميالد مجيد) ل كريستيان كوريون و لحق العالمة الموضوعة‪ ,‬أزالها و شرع بالقراءة‪ ...‬بعد‬ ‫مضيّ ساعتين من الزمن سافر فيها هو اآلخر حيث كانت تدور رحى الحرب العالمية بين الفرنسين و األلمان و‬ ‫األسكوتالنديين توقف فجأة بعد أن خامر قلبه ّلذة من نوع غريب‪ ...‬شيء استدرج عقله لخاطر ما كان يظنّ أنه‬ ‫سيأتي بعنف‪ ,‬كان يشعر أنه جندّي يحمي أميرة في قصر‪ ,‬يدافع عنها! لكن مما؟ لم يحاول االبتعاد أكثر حيث‬ ‫ردّه إلى الواقع صورة زوجته الموضوعة على الطاولة الصغيرة‪ .‬هل نسي حبّه لها؟ أهو مستعد ليحيى مع‬ ‫غيرها مرّة أخرى؟ بعد أكثر من نصف ساعة أحسّ بهدوء غريب لم يعهده‪ ,‬صمت أص ّم يتكلم و يصرخ‪ .‬مشى‬ ‫بتؤدة محاوال استكشاف ما ح ّل بضيفته‪ ...‬هل رحلت في حين انغماسه في عالمه؟ أم أنها مازالت تغرق أكثر‬ ‫كلما تعمّقت بما في يديها؟ رأى طرف ثوبها و إحدى فرد ّتي حذاءها فاطمئن إلى أنها مازالت هنا‪ ,‬لكن هل‬ ‫مازالت مستيقظة؟ بخ ّفة ّ‬ ‫قط صعد الساللم و وصل إلى الطابق الذي تقبع في منتصفه تقريبا‪ ,‬م ّد رأسه ببطء‬ ‫فوجدها و قد تمددت على األرض‪ ...‬إحدى يديها ممدودة و مسندة عليها رأسها و خصالت شعرها الطويل تبدو‬ ‫كإحدى شالالت العالم المتد ّفقة بقّوة و ترتطم على الصخور مبعثرّة رذاذها كسهام تصيب في المقتل من يقف‬ ‫قريبا منها فترديه صريعا‪ .‬كانت يدها األخرى عالقة بين الصفحات كعالمة حيث وصلت بالقراءة و قد أطبق‬ ‫الغالف عليها‪ .‬اقترب برويّة حتى ال يفزعها أو يوقظها فقد سمع صوت أنفاسها الرتيبة فعلم أنها نائمة بعمق‪,‬‬ ‫هبط الساللم برشاقة و أحضر غطاء خفيفا من مكانه في الركن مع وسادة صغيرة وعاد إلى حيث كانت‪ ,‬وضع‬ ‫الغطاء بحذر مخافة إزعاجها و وضع الوسادة جانبها حتى ال يوقظها‪ ,‬سحب الكتاب ببطء شديد و حرص‪ ...‬ث ّم‬ ‫وضع عالمة حيث وصلت‪ ,‬أدهشه أنها أنجزت بقراءتها الكثير! نظر إلى حيث يلمع خاتمها الفضّي و أطال‬ ‫النظر في تفاصيله حيث أعجبه طريقة ارتداءها له و صنعه المتقن و زخرفته األندلسيّة ّ‬ ‫الجذابة‪.‬‬ ‫بدر متكامل‪ ,‬أنت امرأة ندر وجودها‪.‬‬ ‫حدّث نفسه‪ :‬إنك شبه ٍ‬ ‫تنبّه لقطرات مياه على الرواية فتعجّب‪ ...‬نظر حوله لم يجد كأسا أو عبوة مياه! من أين الماء‪ .‬كان ليغضب و‬ ‫يستشيط إن لم ينتبه الداخل هنا إلى إرث أجداده و عائلته‪ .‬اقترب منها و نظر إليها فراعه أنها‪ ...‬تبكي! نظر إلى‬ ‫عنوان الكتاب (زهور الحرب) ال يعتقد أنه قرأه من قبل‪ .‬ارتبك و لم يدري ما يفعل! أن يرى الرجل دموع أنثى‬ ‫قطع تجعله ال يعلم كيف يجمعها‪ .‬خطأ منه أنه تراجع قليال للخلف من فرط تو ّتره‬ ‫فهذا أمر يشطر كيانه إلى ٍ‬ ‫فأردى إحدى فردتي الحذاء من على حافة الطابق‪ ...‬حاول إمساكها ففشل‪ ...‬أحسّ بعروقه كصحراء الربع‬ ‫الخالي فجأة و امتقع لونه خوفا من أن تستيقظ فتراه فتحسب أنه يستغل وجودها منفردة! أو أن تصرخ فجأة‬ ‫لرؤيته فوق رأسها و هي التي اعتقدت أنها وحدها‪ ...‬تلك الثواني التي مرّت حتى ارتطم الحذاء على‪...‬‬ ‫حدّث نفسه‪ :‬يا لي من أحمق‪ ...‬غبيّ ‪ ...‬نسيت أننا فرشنا أرض المكتبة بالسجاد‪ .‬يا إلهي كاد قلبي يتوقف من شدّة‬ ‫الخوف‪.‬‬

‫‪12‬‬


‫أخذ نفسا عميقا و هبط الدرجات ليعود أدراجه في الركن الداخليّ ‪ .‬عاد إلى كتابه لكن عبثا باءت محاوالته‪ ,‬ذهنه‬ ‫و مشاعره في حالة حرب عالمية ال هدنة فيها‪ ,‬بين الماضي و الحاضر‪ ,‬بين تفنيد حقيقة ما يشعر به من‬ ‫أحاسيس غريبة ال يفهمها‪ ,‬و هو يحاول جاهدا‪ ...‬احت ّل النوم أجفانه دون أن يشعر‪ .‬فتح مقلتيه عند حوالي‬ ‫الساعة الحادية عشرة صباحا بعد أن أحسّ حركة في المكان‪ ,‬تنبّه على الفور و استقام في جلسته‪ ,‬و إذا ب‬ ‫جيفرز يفتح الستائر و قد كان أحضر لسيّده فطوره المعتاد من الخبز المحمّص مع الزبد و المربى و فنجان قهوة‬ ‫كبير‪.‬‬ ‫جيفرز‪َ :‬طل َبت مني السيدة أن أشكرك على الغطاء‪ ...‬و أنها سعيدة ألنها وجدت غرفة سحرية في هذا القصر‪.‬‬ ‫ت ّنبه لوسن‪ :‬هل رحلت مبكرّة! غرفة سحرية!‬ ‫جيفرز‪ :‬أجل‪ ...‬أنت تسميها مهربا و مخبأ‪ ...‬أمّا هي فتفضل السحر‪ .‬لقد صحبتها إلى غرفتها لتتجهز من أجل‬ ‫الفطور الكبير _أت ّم_ أخبرت العائلة أنك غادرت مبكرا جدا لعمل ضروري و كالمعتاد الحقتني السيدة الحشورة‬ ‫باألسئلة و حاولت تجاهلها فاستشاطت غيظا‪.‬‬ ‫ابتسم بدهاء‪ ...‬و ضحك لوسن و هو يسمع كيف يصف جيفرز جلوري بلغته العربية الركيكة‪.‬‬ ‫لوسن‪ :‬حسنا فعلت‪ ,‬شكرا ع ّم جيفرز‪.‬‬ ‫جيفرز و هو يت ّنهد‪ :‬السيدة يوليا شقيقة العروس غريبة األطوار لكنها لطيفة و محترمة‪ ,‬لكن‪...‬‬ ‫نظر إليه لوسن‪ :‬لكن ماذا‪...‬‬ ‫جيفرز‪ :‬كانت شقيقتها تنتظرها داخل الغرفة و ما لبثت أن انهالت عليها بأقذى العبارات‪ ...‬و‪...‬‬ ‫لوسن‪ :‬و‪ ...‬ماذا؟ جيفرز؟ أكمل أرجوك‪ ,‬كفاك ال واو هذه‪...‬‬ ‫جيفرز‪ :‬طلبت من السيدة أن ترحل من البيت‪ ,‬إال أن عليها أن تحضر الزفاف للواجب و إتمام الصورة فقط‪.‬‬ ‫لوسن‪ :‬ماذا؟ لماذا؟ ما الذي حصل بالضبط؟‬ ‫جيفرز‪ :‬تنبهت السم السيّدة الشمطاء يذكر لك ّني لم أتبين الحديث‪ ,‬و لوال أ ّني سمعت صوت السيدة ميرا بشكل‬ ‫غريب و هي تصرخ لما استرقت السمع و أنا في طريقي للخروج من غرفتها و أنت تعلم هذا يا ب ّني‪.‬‬ ‫كان جيفرز قد اعتنى جيدا ب لوسن و أشرف على تربيته في مرض والده و قد ساعد السيدة آنيا والدته في‬ ‫ذلك‪ ...‬فهو يعتبره كأحد أوالده و خصوصا أن السيدان و أخوته كانوا يبادلون جيفرز االحترام ليس على أساس‬ ‫أنه كبير الخدم بل على أ ّنه مربٍّ قد ساندهم في محنهم و هو كان يحبّهم بحق كعائلته‪.‬‬ ‫احمرّت عينا لوسن و قد بدأ الشرر يتطاير منهما‪ :‬متى سننتهي منها و من بناتها‪ ...‬متى سيتخذ جدي و جدتي‬ ‫قرار إبعادهن فقد مللت منهن‪ ,‬أصبحت أكره وجودي في أرجاء المنزل‪.‬‬ ‫عاد ينظر لجيفرز متوجسا‪ :‬هل أنت واثق أنها سترحل عن هنا يا عمّي؟‬ ‫جيفرز‪ :‬بغالب األمر‪ ...‬نعم‪.‬‬ ‫لوسن‪ :‬هل تستطيع إتياني بخبر يقين‪ ...‬أرجوك‪.‬‬ ‫أومأ جيفرز برأسه بصيغة اإليجاب و خطى خارج الركن إلى الباب الرئيسي و اختفى خلفه نهائيا بعد أن أغلق‬ ‫الباب خلفه بهدوء‪.‬‬ ‫‪13‬‬


‫بقي وحده يحدث نفسه‪ :‬لم أنت مهت ّم بها إن رحلت أو بقيت؟ إن كانت أختها بمثل ذاك المزاج فما أدراني كيف‬ ‫ستكون هي؟ ث ّم‪ ...‬هناك شيء غريب في حياتها‪ ...‬ال أعلم إن كنت عرفته هل‪...‬‬ ‫عاد للصمت مجددا و هو يناظر النافذة المطلّة على الحديقة من داخل الركن‪ ,‬كان واقفا يتجرّع قهوته التي تلسع‬ ‫مرارتها أفكاره و تلدغ مخيلّته المتدفقة‪.‬‬ ‫عاد يحدّث نفسه مجددا‪ :‬هل ما أقوم به صحيح؟ إنها بسيطة جدا و معقدة في آن‪ ...‬أنثى بكل نظرة و حركة و‬ ‫سكنة تقوم بها‪ ...‬نادرات أصبحن من يغطي وجوههن الحياء في هذا العصر‪ .‬طبيعية جدا‪ ...‬ال تخجل من نفسها‬ ‫أنها ليست توب ستايل كالدمى _امتعض قليال_ لكن شغفها بالفنّ ‪ ...‬بالمطالعة‪ ...‬هي حياة‪ .‬أجل‪ ...‬هي رئة‬ ‫تدخين عام‪.‬‬ ‫صحيّة في جوّ‬ ‫ٍ‬ ‫التفت إلى المنضدة حيث صينية الفطور‪ ,‬وضع فنجانه عليها و عندما ه ّم برفع بصره تعلق نظره بالغطاء‬ ‫المطوّ ي بشكل مر ّتب و فوقه الوسادة‪ ,‬لكن ما هذا الذي يلمع فوقها؟ اقترب أكثر فوجد دبوس وشاحه من الليلة‬ ‫الماضية؟‬ ‫لوسن‪ :‬كيف أتى إلى هنا؟ أين كان؟ هل دخلت الركن و أنا نائم أم كان عمّي من وجده! لكنه أخبرني أنه رآها‬ ‫في البهو و أوصلها إلى غرفتها‪ ,‬إذا دخلت الركن و أنا نائم‪ ...‬فلم لم استيقظ! يالي من غبّي‪ ,‬أحمق‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫غذ الخطى إلى حيث كانت البارحة في الطابق العلويّ من المكتبة و أخذ يبحث عن الكتاب الذي كانت تقرأه‪...‬‬ ‫لوسن‪ :‬أين أنت‪ ...‬ليس هذا وقت لعب الغميّضة؟‬ ‫بعد وقت و جهد‪ :‬هل يعقل أنها أخذته معها؟ آآآآآه _يعضّ على أسنانه_كيف سمح لها جيفرز بهذا؟ ألم يخبرها‬ ‫عن قوانين مخبأه‪.‬‬ ‫أخذت خطواته السريعة تعود للركن حيث ارتدى حذاءه و حمل سترته السوداء و قميصه مكشوف الصدر و‬ ‫أكمامة مرفوعة حتى المرفق‪ ,‬الغضب يعصف بأركان جسمه و قبل أن يصل الباب ببضع خطوات ف ِتحت إحدى‬ ‫دف ّتيه فجأة و‪ ...‬ظهرت أمامه بقامتها المتوسطة! لكأن دلوا من الماء البارد قد صبّ فوق رأسه و هدأ إحساسه‬ ‫بالغضب دفعة واحدة‪ .‬صدمت هي أيضا عندما رأته أمامها و ارتبكت‪ ...‬كان أنفها و خدّاها يشعّان احمرارا و‬ ‫تحمل عيناها آثار بكاء شديد‪ .‬وجدها تحمل بين يديها الكتاب‪.‬‬ ‫يوليا‪ :‬عذرا لم أكن أعلم أن‪ ...‬ك هنا‪ ...‬سيدي‪.‬‬ ‫لوسن‪ :‬لوسن‪ ...‬يمكنك مناداتي _بلع ريقه بصعوبة_ ث ّم‪ ...‬ال‪ ...‬ال بأس‪...‬‬ ‫يوليا و قد فاجأها جوابه‪ ,‬لكنها أردفت‪ :‬جئت أعيد الرواية فقد علمت من العم جيفرز أنه ال يجب إخراج أي‬ ‫كتاب خارج الغرفه السحرية‪_ .‬أخفضت صوتها_ أقصد المخبأ‪...‬‬ ‫ت بخير؟‬ ‫لوسن‪ :‬هل أن ِ‬ ‫نظرت إليه ث ّم حوّ لت نظرها إلى العشواء و خطت ببطء إلى الدرجات لتضع الكتاب في مكانه‪.‬‬ ‫جاءها صوته مباغتا‪ :‬ال‪ ...‬عليكِ سأعيده أنا‪ ...‬ليس عليكِ أن ترهقي نفسك بالصعود‪.‬‬ ‫ب و امتنان فناولته المجلّد و قد همّت بالخروج‪ .‬توجّهت نحو الباب ث ّم استدارت إليه مباغتة‬ ‫نظرت إليه بين تعج ٍ‬ ‫ب نظراته إليها‪.‬‬ ‫إياه تعق َ‬ ‫يوليا‪ :‬شكرا على الغطاء و الوسادة‪.‬‬ ‫لوسن و قد فغر فاه‪ :‬ال‪ ...‬شكر‪ ...‬على‪ ...‬واجب‪.‬‬ ‫‪14‬‬


‫ع ّقبت يوليا‪ :‬سأغادر اليوم‪.‬‬ ‫لكأنه يسمع الخبر للوهلة األولى و لم ينبس ببنت شفة‪.‬‬ ‫يوليا و قد انحنت مودعة‪ :‬سيد لوسن‪.‬‬ ‫لوسن‪ ...:‬يوليا‪.‬‬ ‫نطق بحروف اسمها بعد فوات األوان‪ ,‬بعد أن أطبق الباب مصراعيه و بقي وحيدا‪ ...‬الصمت كالموت‪ ,‬صمم‬ ‫أصاب أذنيه و ع ِق َد لسانه‪ ...‬صدمة تأكيدها لخبر مغادرتها شلّت أطرافه كليّا‪ .‬كانت تبدو جميلة جدا ببنطالها‬ ‫الجينز و كنزتها السوداء ذات األكمام الرمادية‪ ...‬ترتدي صندال رماديا و قد َطلت أظافرها بلون زهر التوليب‬ ‫الرائع‪ .‬شعرها معقوص بعشوائية خلف رأسها و قد هربت بعض خصالته لتزين جانبّي وجهها بدلع‪ ,‬ال تضع‬ ‫مساحيق إال أن البكاء أضفى عليها جماال مالئكيا من نوع آخر‪ .‬نظر إلى الرواية في يده اليسرى لمدة طويلة‪...‬‬ ‫طويل ٍة جدا‪ ...‬أدار مزالج الباب يقفله من الداخل و عاد إلى الركن كمن ضربته صاعقة السماء فأردته صريعا‪.‬‬ ‫فتح مقدمة الكتاب و ركب قارب الكلمات أر ّد أن يبحر بنفس الطريق التي كانت تمخر سفينتها فيه‪ ,‬علّه يسبر‬ ‫بعض أغوارها و يعرف شيئا ما عنها‪ ,‬أي شيء‪ ...‬مهما يكن‪ ...‬ال يهم ما سيكون‪ ...‬المهم أن يفهم و لو جزءا‬ ‫يسيرا‪ .‬شارفت الساعة على التاسعة و خمسة و ثالثين دقيقة مساء‪ ,‬كانت علبة المناديل الورقية تتحرك و يخرج‬ ‫منها المنديل تلو اآلخر‪ ,‬اآلن َبطل عجبه عن سبب بكاءها ليلة أمس‪ .‬رهافة إحساسها عالية جدا‪ ...‬إن كان هو‬ ‫الرجل قد فاضت عيناه و ترقرقت في مقلتيه فيضانات ال يستطيع حصرها‪ .‬بعد منتصف الليل بقليل كان قد أنهى‬ ‫خوض غمار محيط عجيب و رست سفينته أخيرا على شاطئ الميناء المقابل للضفة التي بدأ منها‪.‬‬ ‫أدار المزالج و تسلل من مخبأه و عواصف ثلجية تضرب بمخيلّته و ذهنه‪ ...‬وجد نفسه يطرق الباب و قبل أن‬ ‫يؤذن له دلف و أغلق الباب‪.‬‬ ‫صوت امرأة‪ :‬حبيبي‪ ,‬حسبناك في رحلة عمل خارج البالد!‬ ‫صوت رجولي‪ :‬كيف حال أعمالك؟ هل ك ّل شيء على ما يرام؟‬ ‫اقترب أكثر منهما و جلس بجانب المرأة و ق ّد ضمّها إليه و أسند رأسه على كتفها‪.‬‬ ‫نظر الرجل إليه‪ :‬هل أنتَ على ما يرام؟ أهناك خطب ما أصابك؟‬ ‫تحرك الرجل نحوه و يداه تعبثان بمحرّك اتجا ٍه آليّ جعل مقعده يتقدم نحوهما و إذا به و المرأة يفاجئان بدموعه‬ ‫المنهمرة‪.‬‬ ‫الرجل‪ :‬باهلل عليك أخبرني ما بالك؟ ماذا جرى لك؟ أين كنت طيلة فترة غيابك؟‬ ‫لوسن‪ :‬أحبكما كثيرا‪ ,‬هل تعلمان هذا؟ أنتما سندي في غربتي مذ رحيلها‪.‬‬ ‫بدأ يجهش بالبكاء‪ .‬فضمّته أمّه إليها و اقترب والده منه يربت كتفه بح ّنو‪.‬‬ ‫األب‪ :‬اهدأ يا بنيّ ‪ ...‬نحن معك دائما‪.‬‬ ‫آنيا‪ :‬ما الخطب الذي جعلك في هذه الحال؟ هل تريد أن تحدثنا به؟ تعلم أننا ندعمك بكل خطواتك‪ ,‬هيا‪ ...‬و إن‬ ‫كنت و والدك قد سمعنا مقتطفات من عمّك جيفرز‪.‬‬ ‫رفع رأسه و نظر إليهما بحذر‪ :‬و ما أخبركما بالضبط؟‬ ‫الوالد‪ :‬شقيقة عروس أخيك‪ ,‬يبدو أنها خيّمت على تفكيرك بحضورها‪ ,‬صحيح؟‬ ‫‪15‬‬


‫ف‪.‬‬ ‫نظر إليهما بتمعّن أكثر و لم ينطق بحر ٍ‬ ‫آنيا‪ :‬اسمعنا يا بني‪ ,‬أنت لست بحاجة إلينا لنقرر ما إذا كانت مناسبة لك أم ال‪ ,‬فمتى تعالت طرقات القلب أل ِجم‬ ‫اللسان و تبعته الجوارح و أعانه العقل‪ .‬لذا اسمعني جيدا‪ ...‬إن كنت تميل إليها و لقد رأيناها اليوم أنا والدك و‬ ‫كانت لبقة جدا و راقية عكس ميرا تماما‪ ...‬فعليك أن تخطو في دربك‪ ,‬لكن إياك و التراجع دون سبب مقنع‬ ‫لسبيل أرد ّته بملء إرادتك‪ ...‬فاعلم أين ستضع قدمك قبل أن تبدأ رحلتك‪.‬‬ ‫نظر إليه والده و أكمل‪ :‬كن حكيما و اعقل بتصرفاتك فال تض ّم كفك و ال تبسطها ك ّل البسط فتقعد ملوما‬ ‫محسورا‪ .‬خذ وقتك و ادرس أوضاعها جيدا و إيّاك ثم إياك أن تقارنها بالراحلة زوجتك فليست كل النساء‬ ‫متشابهات و إن كانت الراحلة تركتك في الطريق فذلك ألن هللا يريد منك أن تكمله مع غيرها‪.‬‬ ‫حدّثاه عمّا دار بينهما و بين يوليا من أحاديث و خصوصا يعد أن لفتت انتباههما بشخصها و مرحها و كيفيّة‬ ‫سخريتها من الحياة‪ ,‬طرافتها‪ ...‬فهما لم يحضرا البارحة الحفل بسبب جلسة عالج والده‪ .‬لكنهما حضرا اإلفطار‬ ‫شجار ما‬ ‫ألم أو‬ ‫ٍ‬ ‫العائلي و رأياها تجلس مع عائلتها بهدوء و سكينة و قد حاولت إخفاء حال لسانها الذي ينبئ عن ٍ‬ ‫فقد كان وجهها محتقنا و عيناها متورمتان‪ .‬و بعد خروجهم إلى الحديقة ألجل التحل ّية و وقت القهوة سحبت‬ ‫السيدة آنيا نفسها و جلست مع السيّد آزر الذين تبعها من فوره إلى حيث كانت تجلس الصبيّة و استأذناها‬ ‫بمجالستها‪ ...‬فلم يخفى عليهما أن تكون جلوري و والدتها هما السبب لكن ما علماه الحقا من جيفرز أنها‬ ‫العروس ذاتها بدافع من األخيرتان‪ .‬علم أنها مستقلّة بحياتها في تركيا و أنها مدير عام إحدى الشركات الكبرى‬ ‫هناك‪ .‬مطلّقة و في الخامسة و الثالثين من عمرها‪ .‬أما قصّة بياض شعرها فادّعت أنه فزع شديد أصابها في‬ ‫بالد الحرب التي هي مسقط رأسها و لم تزد على ذلك شيئا‪.‬‬ ‫والده‪ :‬اسأل عمّك جيفرز في أي فندق قام بالحجز لها فقد أصريّنا عليها أن تبقى في ضيافتنا‪.‬‬ ‫نظر إليهما متعجبا‪ :‬أتعلمون أين تنزل؟ هل‪...‬‬ ‫ض ّم والده ب ّقوة و قبّل رأسه ثم طبع قبلة على خ ّد والدته و خرج مسرعا حين سمع والده يخبره‪ :‬إياك و إيقاظ‬ ‫جيفرز شارفت الساعة على الثالثة بعد منتصف الليل‪.‬‬ ‫كطفل شقيّ علِ َم مخططه الخبيث‪ ,‬فتو ّجه إلى غرفته لك ّنه لم يستطع أن ينام ليلته‪ ,‬تقلّب في سريره‬ ‫نظر إلى والده‬ ‫ٍ‬ ‫كثيرا‪ ,‬خرج إلى الشرفة و جلس على أرضها و عيناه تعانق ليل سماءها الذي بدّت قبّته الماسيّة تتألأل‪ ,‬عاد ثانية‬ ‫إلى مكتبه‪ ,‬حاول العمل على بعض الدراسات العالقة لكنه لم يستطع التركيز فيما يقرأ‪ .‬خرج من غرفته و توجّ ه‬ ‫إلى السطح و جلس فوق القرميد كعادته في أيّام أرقه و راح يتابع ظهور أول خيوط الفجر بعي ّني نسر يرتقب‬ ‫وقت تحليقه ليجد رزقه في السماء و ما يوعدون‪ .‬سمع صوت سيّارة مسرعة ّ‬ ‫تشق عباب السكون و أصوات‬ ‫موسيقى صاخبة‪ ...‬توقفت سيارة البنتلي على مسافة بعيدة بعد المدخل الحج ّري تغطي بعضها أغصان أشجار‬ ‫الحديقة إال أنه تبيّن الخارج منها‪.‬‬ ‫لوسن‪ :‬يا إلهي‪ ...‬ما هذا؟ ما الذي تفعله هذه الحمقاء؟‬ ‫كانت جلوري و قد نزلت من السيارة الفارهة بشبه مالبس تستر جسدها‪ ,‬كانت تترنح و صهيل ضحكتها‬ ‫كراقصة في ملهى ليليّ يعلوا صداه‪ ,‬ث ّم ما لبث أن نزل خلفها رجل يتجاوز عمر أبيها و قد اقترب منها يغازلها‬ ‫و يقبّلها و يداه تتلمس جسدها و هي ال تمانع بل تجاريه في أفعاله‪ .‬ودّعته و مشت نحو باب المنزل تترنح بعد‬ ‫أن خلعت حذاءها العالي‪ .‬لم تتن ّبه أن هناك من رآها و قد زاد حِنقه و احتقاره تجاهها‪.‬‬ ‫لوسن‪ :‬أهذه من تريد جدتي م ّني االرتباط يها؟ يا إلهي؟ كيف ال نعلم عن هذه األمور؟ كيف تسمح ألشخاص‬ ‫كهؤالء عبور بوابتنا و انتهاك مسكننا؟‬ ‫كان يعلم أن في مدخل الفيال كاميرات مراقبة لذا تو ّجه إليها و سحب الشريط الذي أعاده عدّة مرات ليتأكد من‬ ‫فحواه و أنه يظهر حقيقة ما يجب أن يظهر‪ .‬حاول البحث عن أشرطة قديمة لكن لم يجد شيئا فيها و تنبّه إلى أنّ‬ ‫هناك تواريخ متباعدة و غير متكاملة‪.‬‬

‫‪16‬‬


‫لوسن‪ :‬ال بد و أ ّنها تعبث باألشرطة‪ ...‬ال بأس‪ ,‬لديّ إحداها و سأتكفل بباقي الليالي إن أمكنني ذلك‪.‬‬ ‫خرج مسرعا و هو يتلفت من أن ال أحدا قد رآه و تو ّجه إلى غرفته‪ .‬شارفت الساعة على السادسة فجرا فلم‬ ‫يجعل النوم يباغته‪ ,‬ارتدى ثيابه على عجل و تو ّجه إلى المطبخ‪ ,‬سلّم على عِ جّة (طبّاخة المنزل) رغم أنها لم‬ ‫تكن سمينة لكنّ عجّة البيض التي تقوم يها مميزة و هي أكلته المفضلة لذا كان يدعوها بذلك االسم تحببا ال‬ ‫سخريّا‪ ,‬ث ّم هي زوجة عمّه جيفرز الذي ساعد في تربيته ة تنشئته‪.‬‬ ‫لوسن‪ :‬أين عمّي يا عمّة عجّة؟‬ ‫ع ّجة‪ :‬في الغرف الداخلية يا بنيّ كما حاله في كل صباح بمثل هذا الوقت‪.‬‬ ‫طبع قبلة على خ ّد السيدة المسّنة و توجّ ه إلى الداخل‪ .‬رآه في الممر يعاين غرف الخدم و لباسهم و نظافتهم‪ .‬لم‬ ‫يتعجب الرجل المسِ نّ عندما رآه فهي ليست المرّة األولى‪ .‬لم يكن قد أفصح له العجوز عن معلومات مما حصل‬ ‫البارحة في غيابه عن الفطور‪ ...‬لذا أحسها مباغتة عندما سمعه يسأله‪.‬‬ ‫لوسن‪ :‬هل من الممكن أن أعرف في أي فندق تنزل شقيقة العروس؟‬ ‫جيفرز بمكر و بسمة بشفاه مائلة نحو اليمين‪ :‬و ما شأني بذلك؟‬ ‫لوسن‪ :‬أخبرني والداي باألمر‪.‬‬ ‫كان يبدو كمنتصر في معركة الفايكن‪ ...‬إال أن جيفرز باغته‪ :‬و ما الذي أحصل عليه إن أنا أخبرتك؟‬ ‫لوى الشاب شفته السفلى و ّ‬ ‫ّ‬ ‫يستحق صبرك و‬ ‫قطب حاجبيه و بدأ يف ّكر مليّا ث ّم أجاب‪ :‬حسنا سأعطيك شيئا‬ ‫عناءك‪.‬‬ ‫أخرج الشريط المس ّجل من الكاميرا و أعطاه له‪ .‬نظر إليه العجوز و قد تفاجأ بالغرض‪.‬‬ ‫جيفرز‪ :‬و ما أفعل بتسجيل كاميرات الحراسة؟ هل تسخر م ّني؟‬ ‫لوسن‪ :‬عليك أن تذهب و تجعل السيد و السيدة يريانه بحضور عمّي و زوجته و أبي و أمي‪ ,‬عندها فقط أضمن‬ ‫لك عتقنا من نار الشمطاء و الحشورة إلى األبد‪.‬‬ ‫نظر إليه الرجل باستغراب و دهشة عميقين‪ ,‬فاستطرد لوسن قائال‪ :‬عنوان الفندق لو سمحت‪.‬‬ ‫و قد أسند الشاب ظهره إلى الحائط و وضع يديه في جيوب بنطاله و ابتسامة نصر تعلو وجهه‪ .‬فما كان من‬ ‫جيفرز إال أنّ م ّد يده إليه بهاتفه المحمول‪.‬‬ ‫جيفرز‪ :‬إن كنت ما ستراه هو ما قد أعطيتني إياه فقد ساعدتني على إثبات أنه حصل فعال داخل أسوار القصر‬ ‫لكن ال يعني أنك أفدتني بجديد يا بنيّ ‪.‬‬ ‫نظر لوسن و قد فرغ فاه‪ ,‬ظنّ أن الرجل سيزوّ ده بالعنوان إال أنه رأى تسجيالت مرئية تظهر جلوري و بأكثر‬ ‫ليال عديدة إلى الفيال لكنها ال تظهر واضحة لتثبت‬ ‫من مرّة مع رجال غرباء و سيارات مختلفة توصلها في ٍ‬ ‫إدانتها‪.‬‬ ‫نظر إلى العجوز و قد اقشع ّر بدنه فما كان من جيفرز إال أن أردف‪ :‬ستبحث عن الشريط و لن تجده _ابتسامة‬ ‫نصر_ لقد حاولت عدّة مرات أن أحصل و لو على تسجيل واحد لكنها كانت ما كرة جدا حيث تقوم بمحوه أو‬ ‫من ّ‬ ‫يغطي عليها يسحبه و يخفيه فلذا ال إثبات يدينها‪ .‬و اآلن أنا مدين لك بهذا‪ ,‬إنها في الهيلتون المط ّل على‬ ‫شاطئ البحر تماما‪ ...‬أي أن المسافة ال تتجاوز النصف ساعة إن أردّت تناول الفطور بصحبتها فعليك اإلسراع‪.‬‬ ‫‪17‬‬


‫بقي مشدوها لدقيقة أخرى حتى صاح فيه العجوز مجددا‪ :‬ما الذي تنتظره ّ‬ ‫بحق السماء‪ ...‬اذهب من هنا‪ ...‬هيا‪.‬‬ ‫باغته الشاب بضمّة قوية ت ّنم عن حبّه له و تشكره على مساعدته له ثم ما لبث أن ركض في الممر المؤدي‬ ‫مجددا إلى المطبخ و منه إلى الباب الخلفي إلى الكراج الذي يركن فيه د ّراجته النارية‪ .‬فما كان منه إال أن قفز‬ ‫إليها و قادها عبر طريق الحصى و خطى من المخرج الخلفي للفيال و ا ّتخذ طريقه نحو وجهته‪ .‬عند وصوله‬ ‫كانت موائد اإلفطار تع ّد توّ ا‪ ,‬خطر لديه خاطر غريب فذهب إلى بهو الفندق و ع ّرف عن نفسه لموظف‬ ‫االستقبال و سأله في أي غرفة تسكن صاحبة االسم الذي أمدّه به‪ ...‬لم يمانع الشاب طلب السيّد النبيل و‬ ‫خصوصا أنه هو من هو‪ ...‬ابن أح ِد مستثمريّ الفندق هنا‪ .‬تو ّجه بعد ذلك إلى إحدى زوايا المطعم و جلس و هو‬ ‫ك في أن تكون غادرت لتناول فطورها‬ ‫يحمل جريدة تخفي وجهه‪ .‬انتظر قرابة ساعة و لم تظهر بعد‪ ,‬انتابه ش ّ‬ ‫في مكان آخر أو أنها ح ّقا‪ ...‬رحلت عن البالد بعد المشادّة الكالميّة بينها و بين ميرا! هل يعقل أنها رحلت؟ ه ّم‬ ‫أن يعاود سؤال موظف االستقبال عمّا إذا كانت مازالت هنا أم ال حين باغته وجهها الذي أط ّل من باب الدخول‬ ‫فما كان منه سوى أن رفع الجريدة بسرعة مخفيّا بها وجهه حتى ال تتعرف عليه‪ .‬اتخذت مقعدها في الزاوية‬ ‫القصوى من المطعم و المطلّة على البحر حيث كان ظهرها في اتجاهه و وجهها ناحية البحر ما سهّل عليه‬ ‫مهمته‪.‬‬ ‫لوسن و قد باغتها‪ :‬صباح الخير‪.‬‬ ‫التفتت إليه و قد ضربتها صاعقة السماء فلم تنبس ببنت شفه‪.‬‬ ‫تابع لوسن‪ :‬هل من الممكن أن أبقي أشيائي بحوزتك ريثما أعود‪.‬‬ ‫يوليا و مازالت الصدمة طاغية على مالمح وجهها‪ :‬طبعا‪ ...‬و ل َم ال‪.‬‬ ‫مدّت يديها كطفلة صغيرة تلتقط شيئا من والدها و أبقتهم جانبها على الطاولة‪ ,‬كانت تناظر حمّالة مفاتيح جلديّة و‬ ‫محفظة سوداء صغيرة و العجب يغزو تفكيرها‪.‬‬ ‫يوليا تحدّث نفسها‪ :‬كان يستطيع إبقاءهم في جيوبه؟ ثم‪ ...‬ما الذي يفعله هنا؟‬ ‫عاد بعد مضيّ عشر دقائق‪.‬‬ ‫لوسن‪ :‬شكرا لك‪.‬‬ ‫يوليا‪ :‬ال شكر على واجب‪.‬‬ ‫دفعت إليه أشياءه و عادت إلتمام فطورها و لحظها يحاول تبّين إذا ما زال يقف خلفها أم أنه رحل‪ .‬أحسّت‬ ‫بوجوده بعد ان لمحت طرف حذائه الب ّني الداكن لكنها تجاهلته خوفا‪ ,‬حياء‪ ,‬ال تعرف‪ .‬أمّا هو‪ ,‬فقد كان يتأرجح‬ ‫بين أن يتعدى حدود سكونها و يجلس على طاولتها أو أن يعود أدراجه إلى طاولته‪ .‬فما كان منه إال أن خرج إلى‬ ‫البهو و ات ّخذ مقعدا يط ّل عليّها يراقبها‪ .‬أنهت إفطارها‪ ,‬توجهت ناحية الشاطئ و انعطفت منه نحو األسواق‪.‬‬ ‫ألكثر من ساعتين كانت تسير بين المحال تتفرّج البضائع المعروضة و أخيرا توقفت عند إحدى الواجهات‬ ‫تتمعن فيها و تتفحصها ثم دفعت الباب و دخلت‪ .‬بقي يناظرها من الجهة األخرى و نظارته الشمسية ذات اللون‬ ‫الب ّني العاكس كالمرايا تقي عينيه ح ّر الشمس‪ .‬نصف ساعة ثم خرجت‪ ...‬وقفت تنظر بين يمين و شمال فرآها‬ ‫تعود من حيث أتت‪ .‬قطع الشارع و توّ قف عند المح ّل نفسه فإذا هو صائغ فضّة و أحجار كريمة‪ .‬عاد يتبع‬ ‫خطاها من بعيد و عندما وصل الفندق طلب غرفة تجاور غرفتها فلم يتردد موظف االستقبال في هذا طبعا بعد‬ ‫أن أخبر رئيسه عن الرجل المهم فرحب به االثنان‪ ,‬إال أنه طلب منهما التك ّتم عن شخصه فهو ال يريد أن يعرفه‬ ‫أحد هنا فوافقا دون تردد‪ .‬وصل الطابق التاسع و العشرون و أخذ يبحث عن رقم غرفته فوجدها تحمل رقم‬ ‫سبعة و غرفتها تحمل رقم خمسة‪ ,‬كانت الغرف للمهمّين ت ّرقم بأرقام فرديّة مع تجّنب الرقم الثالثة‪ .‬عندما ه ّم‬ ‫بوضع المفتاح االلكتروني في مكانه و فتح الباب‪ ...‬فإذا بباب غرفة أخرى يفتح ما أصابه بالهلع فاندفع مسرعا‬ ‫إلى الداخل‪.‬‬ ‫لوسن‪ :‬لقد كان ذلك وشيكا ح ّقا‪ ...‬يا إلهي‪.‬‬ ‫‪18‬‬


‫أمضى النهار متربصّا و قد كان ترك باب غرفته مفتوحا حتى يتسنى له سماع خروجها‪ ,‬لكن مضى النهار و لم‬ ‫تتحرك من غرفتها‪ .‬خطر في باله أن يخرج إلى الشرفة و قد شارفت الساعة على العاشرة و عشر دقائق ليال‪,‬‬ ‫أغان مختلفة تخرج من الشرفة‬ ‫لم يشعل اإلنارة‪ ...‬كعادته جلس على أرضها و أخذ يسرح بنظره فإذا صوت‬ ‫ٍ‬ ‫بجانبه‪ .‬حاول أن يصيخ السمع ليعرف من أي جهة‪ ,‬هل هي التي على يساره أم التي على يمينه؟ إنها من‪...‬‬ ‫هي إليه‪.‬‬ ‫فوقف من مجلسه و اقترب ناحية الجدار أكثر و قريبا من الحافة يستمع إلى ما تستمع َ‬ ‫لوسن‪ :‬لها ذوق عجيب ح ّقا‪.‬‬ ‫ت متأخر من تلك الليلة لكن جهازه العصبيّ ت ّنبه لرنين هاتفه على الساعة السابعة صباحا‪ ,‬فما كان‬ ‫نام في وق ٍ‬ ‫منه إال أن نهض مسرعا‪ ,‬ارتدى ثيابه و غسل أسنانه لكنه لم يستطع حلق ذقنه‪ ,‬فلم يكن يملك الوقت‪ .‬دلف من‬ ‫الغرفة حذرا حتى ال يقابلها في الطابق‪ ,‬و ريثما وصل المصعد كان يدعو في قرارة نفسه أن ال تخرج حتى‬ ‫يصل إلى القاعة في األسفل‪ ,‬جلس على طاولة بعيدة ليتناول فطوره حيث يستطيع رؤيتها و ال تستطيع هي‬ ‫تبيّنه‪ .‬رآها تخطو نحو طاولة أخرى بعد أن كانت طاولة البارحة محتلّة و جلست و وجهها للشاطئ لكنه كان في‬ ‫قبالتها هذه المرّة‪ ,‬لوّ ح لها و سلّم عليها من مكانه ثم قام من كرسيّه و تقدّم نحو طاولتها‪.‬‬ ‫يوليا متفاجئة‪ :‬أهال _بارتباك_ كيف حالك؟‬ ‫لوسن‪ :‬الحمد هلل‪ ,‬أتيت فقط حتى أسلّم عليك‪ ,‬فقد رأيتك هنا‪.‬‬ ‫يوليا‪ :‬شكرا‪.‬‬ ‫لوسن‪ :‬لن أقطع عليك فطورك‪.‬‬ ‫ه ّم باالنسحاب حين باغتها‪ :‬لم تركت المنزل؟‬ ‫لم تنظر إليه و قد جمدت الشوكة في يدها و قد كانت ستصل فاهها و بهدوء أعادتها إلى الطبق‪ :‬أجد نفسي حرّة‬ ‫بعيدة عن السجن الروتيني و الواجبات النسائية من ودّع و استقبل و صعد و نزل‪...‬‬ ‫لوسن‪ :‬أتمنى لك يوما سعيدا‪.‬‬ ‫يوليا و قد نظرت إليه ببسمة مصطنعة و قد عرف أنه استف ّزها‪ :‬و لك أيضا‪.‬‬ ‫أنهت وجبتها الصباحية و تو ّجهت إلى غرفتها‪ ,‬تبعها بحذر شديد و عندما وصل هو إلى غرفته سمع صوتها‬ ‫تتحدث عبر الهاتف بلغة إنكليزية تشوبها التركية ببعض المواطن‪ ,‬نظر من حيّز باب الغرفة و إذا هي م ّتجهة‬ ‫نحو المصعد‪ .‬تربّص حتى است ّقلت المصعد و خرج يطلب المصعد اآلخر مباشرة‪ ...‬كانت عيناه تناظر أرقام‬ ‫الطوابق‪ ,‬رمى نفسه داخل المصعد اآلخر الذي وصل توّ ا و أخذ يع ّد الطوابق بعصبية خوفا من عدم لحاقه بها‬ ‫في الوقت المناسب و ما أن فتح الباب على مصراعيّه حتى قفز خارجه محاوال أن يرى وجهها‪ ...‬لكن عبثا‪.‬‬ ‫لوسن‪ :‬سحقا‪ ...‬علّي أن أكون أسرع في المرّة القادمة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫موظف االستقبال‪ :‬هل رأيتها من أي باب خرجت؟‬ ‫تقدّم من‬ ‫ثوان من المخرج الرئيسيّ للفندق (و أشار للباب‬ ‫نظر إليه الشاب متفاجئ‪ :‬طلبت سيارتها و قد خرجت منذ‬ ‫ٍ‬ ‫اللولبّي)‬ ‫خرج مسرعا و توقف ينظر إلى الطريق المرصوف لكن دون حيلة بين يديه يفعلها‪ .‬مضى على وقوفه بين‬ ‫ت يمنة و يسرة أكثر من خمس عشرة دقيقة‪.‬‬ ‫متلف ٍ‬ ‫لوسن‪ :‬ليس هذا الوقت المناسب لأللعاب _ارتفع صوته_ غبّي‪ ...‬أحمق‪.‬‬ ‫‪19‬‬


‫نظر إليه موظ ّفو الخدمة في الخارج دون أن يفهموا ما الذي يحصل‪ .‬رنّ هاتفه في جيب بنطاله الخل ّفي و لم يكن‬ ‫على استعداد للر ّد على أح ٍد في هذا الوقت إال أن إلحاح المتصل للمرّة الثالثة على التوالي جعله يخاف أن يكون‬ ‫المتصل والداه‪ ,‬عندما تطلّع إلى الشاشة وجد اسم شقيقه يومض‪ ,‬تن ّفس بعمق و ضغط زرّ الر ّد‪.‬‬ ‫طارق‪ :‬أين أنت؟‬ ‫لوسن‪ :‬لماذا؟ أهناك خطب ما؟‬ ‫طارق‪ :‬عليك أن تساعدني في السوق‪.‬‬ ‫لوسن‪ :‬شقيقي الحبيب‪ ,‬ليس اليوم أرجوك‪...‬‬ ‫طارق‪ :‬أص ّر والديّ أنه يجب أن تكون معنا‪ ,‬فمن غير المعقول أن تكون ميرا مع كامل عائلتها و أحد أشقائي‬ ‫متغيّب؟‬ ‫لوسن‪ :‬ما الذي تقصده ب "كامل عائلتها"؟‬ ‫طارق‪ :‬والداها و أشقائها و زوجاتهم‪ ,‬شقيقتها أيضا‪...‬‬ ‫لوسن‪ :‬ليس اليوم أر‪...‬‬ ‫تنبّهت حواسه كمن تن ّ‬ ‫شق جرعة كبيرة من الهيرويين و أردف‪...‬‬ ‫لوسن‪ :‬أين أنتم بالتحديد؟‬ ‫طارق‪ :‬المحالت الكبرى‪.‬‬ ‫قطع المكالمة دون أن يدع مجاال لشقيقه ليكمل حديثه‪.‬‬ ‫نظر طارق إلى شاشة جواله و هو ال يعلم ما بال شقيقه؟ ل َم يتصرف بغرابة أكثر من عادته؟‬ ‫تق ّدم نارت و ميرنار(شقيقيه)‪ :‬ما الذي يحصل؟‬ ‫طارق‪ :‬ال أعلم‪ ...‬أعتقد أنه‪ ...‬قادم‪.‬‬ ‫جاءت نرس (شقيقتهم) من الخلف‪ :‬بحسب خبرة أمّنا العميقة بأوالدها‪ ,‬سوف يأتي ال محالة‪.‬‬ ‫نظر الثالثة إليها و قد بدا االستغراب على وجوههم‪ ,‬كانوا على رأيّ واح ٍد و هو أنه من غير المقبول لديهم تو ّقع‬ ‫تصرفات شقيقهم هذا أبدا مذ كان صغيرا‪.‬‬ ‫آنيا‪ ,‬هي زوجة (آزر) الثانية بعد ان عجزت زوجته األولى عن االنجاب ألكثر من عشر سنوات لذا اقترحت‬ ‫عليه أن يتزوج من أخرى كي تحميه من شقيقه و زوجته الغير محتملة فبقاءه دون أوالد يعني أسوء االحتماالت‬ ‫مستقبال أسوء من أوضاع أفريقيا اآلن‪ .‬اختار آنيا بعد أن تأكد من أخالقها قدر المستطاع و أنجبت له في سنتها‬ ‫األولى توأمان (نارت و نرس) صبّي و فتاة‪ ,‬بعد ثالث سنوات أنجبت (لوسن) و بعد سنتين رزقوا ب (تيماف)‬ ‫و التي توفيّت بعمر الس ّنة لمرض رئوي‪ ,‬رزق من زوجته األولى و بعد مضيّ عشرون عاما على زواجها ب‬ ‫(طارق)‪ .‬لم تكن زوجتاه على خالف أبدا بل كانتا تدعمان بعضهما إال أن لوكيميا الد ّم أصابت هذه األخيرة بعد‬ ‫والدتها بابنها الوحيد بخمس أعوام و توفيت بعد نزاع مرير مع المرض بخالل العام ذاته فأخذت آنيا الطفل و‬ ‫قامت بتربيته مع أخوته و كأن هللا عوضها عن طفلتها المتوفاة‪ .‬كانت آنيا من عوائل الشركس وعليّة القوم فيهم‬ ‫لكن كانت متواضعة و سيدة يشار لها بالبنان‪.‬‬ ‫‪21‬‬


‫كانت ميرا ممتعضة من قدوم شقيقتها معهم و خصوصا أن شقيق زوجها قادم‪ ,‬لقد ّ‬ ‫حذرتها جلوري من مغبّة مثل‬ ‫تلك التصرفات التي ستؤثر على ارتباطها ب طارق و أنهم قادرون على تدمير كل شيء إن فسخ لوسن خطبته‬ ‫منها‪ .‬لم تكن ميرا الغبّية تعلم شيئا عن مداخل العائلة و مخارجها لذا تحيّنت الشمطاء و ابنتها الفرصة ليغذيّا‬ ‫عقلها بأسمى أنواع السموم الممكنة‪ .‬كانت يوليا تسير مع أوالد شقيقها و غصّة في الحلق تقف عالقة محاولة‬ ‫ت لها تصحبها في‬ ‫ماض مرّت به‪ ,‬رفض ميرا لها كأخ ٍ‬ ‫عدم خروجها‪ ,‬حمل زوجة توجان الذي ذ ّكرها بأقسى ٍ‬ ‫ِجهازها‪ ,‬ك ّل ذلك كانت بغنى عنه لو لم تأت إلى هنا مذع ّنة لوالدتها‪ .‬تجرعت مشاعرها كالعلقم و سايرت‬ ‫األمور بشكلها الحالي فلم َّ‬ ‫يتبق الكثير‪.‬‬ ‫آزر‪ :‬لم تخبرنا يوليا ل َم لم تقم هي بإعداد حفل زفاف ولدانا؟‬ ‫تحر جوابا مقنعا تر ّد به‪.‬‬ ‫نظرت إليه كأن طامّة حلّت بها‪ ,‬و لم ِ‬ ‫لوسن‪ :‬أبي‪ ...‬لم تحرج ضيفتنا بهذا الشكل‪ ,‬ليس من الممكن أن تقوم بهكذا أمر و خصوصا أن عروستنا ذات‬ ‫ذوق صعب‪( .‬نظر إلى يوليا و قد غمز بطرفه)‬ ‫أردف‪ :‬اآلن‪ ,‬بما أننا كرجال يجب أن نتأنق كما السيدات فأرجوا أن تتفضلوا معي و ستكون ثياب العريس هديّة‬ ‫مني إليه‪.‬‬ ‫باغته طارق بضمّة قوية و عانقه باقي أشقائه‪ ,‬سحبوا والدهم ‪ ,‬والد العروس و أشقاءها و الصبية الصغار و‬ ‫انطلقوا‪ ,‬تأ ّخر لوسن عنهم و طلب اإلذن بالحديث مع طارق على انفراد‪.‬‬ ‫لوسن‪ :‬كيف تسمح لعروسك بأن تختلط ببنات عمّك‪ ,‬ه ّل تعلم ما فعلوا؟‬ ‫نظر إليه طارق مستغربا‪ :‬ميرا؟ لقد أخبرتها سابقا أنه ال يريدها أن تح ّتك بهم أبدا‪ ,‬ما الذي يحصل؟‬ ‫أخبره لوسن بأهم اللقطات و المشاهد التي دعت شقيقة زوجته المستقبلية لترك المنزل‪ ,‬وعن تسجيل الفيديو‪...‬‬ ‫طارق و قد عال صوته قليال‪ :‬ماذا؟ كيف‪ ...‬تفعل ميرا شيئا كهذا؟‬ ‫لوسن‪ :‬أخفض صوتك‪ ,‬اآلن أريد منك السماح لي أن أتكلم مع ميرا على الغذاء‪.‬‬ ‫طارق‪ :‬طبعا‪ ...‬أكيد‪.‬‬ ‫عال_‬ ‫تقدّم منهم نارت‪ :‬أحقا هذا‪ ,‬تحاول التأثير على المسكين حتى ال يكلّفك ميزانيتك كاملة _ضحكوا بصوت ٍ‬ ‫ال بأس عليك سأكمل ما ينقصك دعك من صاحب االستراتيجيات و أقبل إلى األعمال الحقيقة يا أخي‪.‬‬ ‫توجهت السيدات إلى حاجياتهن‪ ,‬استأذنت آنيا أن تتبضع مع يوليا بينما ميرا و والدتها معا و نرس مع ابنتها‪ ,‬لم‬ ‫يمانع أحد‪.‬‬ ‫آنيا‪ :‬خذيني إلى حيث يكون ذوقك‪...‬‬ ‫نظرت يوليا متعجّ بة‪ :‬لكن ربما لن يعجبك ذوقي سيدتي!‬ ‫آنيا‪ :‬تستطيعين مناداتي (خالتي) ال داعي لأللقاب و الرسميّات يا ب ّنيتي‪ ,‬ث ّم لقد قمت بالتبضّع مسبقا و لست في‬ ‫حاج ٍة إلى شيء أنت من يجب أن تهتم بنفسها ألنك شقيقة العروس‪.‬‬ ‫يوليا‪ :‬و أنا أيضا قمت بالتبضّع قبل أن آتي هنا لذا ال أجد ما يستهويني‪ ...‬للصراحة‪.‬‬ ‫آنيا‪ :‬إذا دعينا نختبر إن كان ذوقانا متشابها أم ال؟‬ ‫‪21‬‬


‫أحسّت أن هناك شيء غريب في إصرار السيدة لكن لم تعلم مداه‪ .‬كانتا تضحكان و تتناقشان إن اختلف ذوقاهما‪,‬‬ ‫جاءها فجأة رمح غادر من السيّدة‪.‬‬ ‫آنيا‪ :‬أعلم أنك تشاجرت مع شقيقتك و السبب هو جلوري و أمها‪ ,‬لكن هل ليّ أن أعلم السبب؟ و إياكِ أن ال‬ ‫تتحريّ الصدق‪ ,‬فسأعلم عاجال أم آجال‪.‬‬ ‫نظرت إليها يوليا و قد ألجمتها نبرة السيدة بجديّتها و ترددت قبل أن تجيب‪ :‬أتعدينني أن ال تتأذى أختي؟ و أنّ ال‬ ‫تتغير نظرتك تجاهي؟‬ ‫آنيا‪ :‬أعدك‪.‬‬ ‫ترددت ثم بلعت ريقها و قالت‪ :‬جلوري‪ ,‬خطيبة ابنك تخاف عليه م ّني و تحسب أنني أحاول أن أنسج خيوطي‬ ‫كالعنكبوتة السوداء حوله و أقسم أن هذا لم يحدث‪ ,‬لكنها هددت أختي أنها ستكون سبب إلغاء حفل زفافها إن‬ ‫بقيت في القصر الكبير و أن الج ّد و الجدّة سيسببان لها المتاعب على المدى الطويل‪.‬‬ ‫آنيا و قد فلتت منها ضحكة عالية غصبا عنها و أدمعت عيناها على أثرها‪ :‬ماذا؟ من‪ ...‬تكون‪ ...‬خطيبة ابني؟‬ ‫تابعت الضحك و ل ّما لم تستطع السيطرة على نفسها سحبتها يوليا إلى الخارج و قد فاجأتها ردّة فعلها ح ّقا‪...‬‬ ‫عندها جاءت نرس راكضة و قد ظ ّنت من البعيد حين رأت والدتها تتمسك بيد يوليا و هي منحنية أن شيئا سيئا‬ ‫أصاب أمّها‪ ,‬فأسرعت إليهما و تو ّ‬ ‫قفت فجأة عندما نظرت األم البنتها و قد أنهكها الضحك‪.‬‬ ‫آنيا و كلماتها تتقطع من آثار الضحك‪ :‬هل سمعت‪ ...‬من هي‪ ...‬خطيبة شقيقك؟ ال أستطيع التوقف صدقاني‪.‬‬ ‫نرس‪ :‬ماذا؟ خطيبة من؟ أي شقيق؟ ماذا هناك؟ يوليا!‬ ‫رفعت كتفيها بتعجب و حبست الكلمات خلف شفتيها و لم تجب‪.‬‬ ‫آنيا بعد أن تمالكت نفسها قليال و قد نظرت إلى نرس و عيناها الخضراوتين تبرقان بخبث‪ :‬أعدك أن تكون هذه‬ ‫القاسمة لزوجة عمّك و أوالدها‪ .‬جلوري تدّعي أنها خطيبة لوسن‪ ...‬تخيلّي‪ ,‬تلك ال‪ ...‬يا إلهي سامحني‪ .‬لن أغفر‬ ‫له و إن واراني التراب إن قام بها لوسن ح ّقا‪.‬‬ ‫نرس‪ :‬من؟ منذ متى؟‬ ‫آنيا‪ :‬جلوري تقوّ ل بعض األقاويل و لو أخذنا منها بالوتين لخرّت جاثية تطلب العفو و المغفرة‪.‬‬ ‫التفتت السيدة إلى يوليا‪ :‬اسمعيني يا ابنتي‪ ,‬لوسن يكرهها و هي تحاول ج ّل جهدها أن توقعه في شباك صيدها‬ ‫المهترئة فال تقلقي‪ ,‬بالنسبة لميرا سأجعل ثقافتها أعلى مما هي عليه‪.‬‬ ‫أدارت وجهها إلى نرس‪ :‬أما زلت تملكينه؟‬ ‫نرس‪ :‬ما هو؟ آآآه‪ ...‬نعم مازال بحوزتي‪.‬‬ ‫آنيا‪ :‬لم أكن أريد ذلك‪ ,‬لكن الوقت حان ألحمي عائلتنا‪ ,‬تج ّرعنا ما يكفي على مدى سنين و أريد وضع ح ٍد‬ ‫ب و عذاب من استيطانه‪.‬‬ ‫نهائيّ ‪ ...‬على االستعمار أن يجلو عن أرضنا فقد كفانا ما لقينا من نص ٍ‬ ‫طفل حديث الوالدة يسمع همهمة و أصواتا مختلفة لكن ال يفقه منها شيئا‪.‬‬ ‫نظرت يوليا إليهما و بدت ك ٍ‬ ‫سحبت نرس محمولها‪ :‬آلو‪ ,‬أجل حبيبي سنوافيكم حاال‪_ .‬أعادت المحمول إلى حقيبتها_ إنه زوجي يقول "أن‬ ‫علينا التواجد في ردهة المطاعم فالجميع بانتظارنا‪".‬‬ ‫‪22‬‬


‫وصل ثالثتهن يتضاحكن و قد حملت يوليا الصغيرة بين يديها كون أمها تحمل أكياسا كثيرة و أخذن مجالسهن‪,‬‬ ‫فكان مجلسها قبالته مباشرة‪ ,‬ما أربك كيانها بطريقة غريبة‪.‬‬ ‫لوسن‪ :‬كيف حالك اليوم‪ ...‬موالتي؟‬ ‫نظرت إليه و قد فاجئها وصفه لها‪ ,‬ثم ما لبثت أن أبعدت مرآها و قد غزا بعينيه كيانها‪ :‬الحمد هلل‪ ,‬شكرا‬ ‫لسؤالك‪.‬‬ ‫والدتها مقاطعة‪ :‬لم تشتري شيئا؟‬ ‫يوليا‪ :‬ال‪ ,‬لست بحاجة شيء فقد أحضرت معي ما يفي بالغرض‪ ,‬ال تقلقي‪.‬‬ ‫يوم‬ ‫كان لوسن قد توّ جه بحديثه إلى ميرا‪ ,‬فمال إليها و قد أخفض صوته‪ :‬جلوري ليست خطيبتي‪ ,‬و لن تكون في ٍ‬ ‫ما‪.‬‬ ‫نظرت ميرا و كأن طعنة من الخلف باغتتها‪ :‬ها‪...‬‬ ‫لوسن‪ :‬لذا ك ّفي عن االختالط بما هم دونك‪ ,‬و إال أغضبت طارق منك و عندها فقط ستخسرين زواجك‪,‬‬ ‫فجلوري و أمّها ال يملكان لنفسيهما نفعا و ال ض ّرا و ال حياة و ال نشورا‪ .‬اضبطي تصرفاتك الخرقاء ألنك‬ ‫ستصبحين سيدة و تحملين لقبا عريقا و إال عليكِ االنسحاب من اآلن‪.‬‬ ‫رمى بحمل الصياد الذي بين يديه في ميزان البائع و قام من مكانه دون أن ينتظر معرفة الثمن لصيده! لكنه‬ ‫موقن أنه أصاب أكثر مما يريد‪ .‬فما كان من طارق إال أن مال إليها من الناحية األخرى‪.‬‬ ‫ب ع ّنك إال إن ارتضيت أنت ذلك‪ .‬و اآلن ماذا ترغبين أن‬ ‫طارق‪ :‬كما أخبرك شقيقي تماما‪ ,‬فأنا لست براغ ٍ‬ ‫تأكلي‪.‬‬ ‫نظرت ميرا إليه و قد تجمّعت سحب في عينيها فطلبت اإلذن أن تذهب إلى حمام السيدات فما كان من طارق إال‬ ‫أن تبعها و شدّها من يدها مبتعدان تماما عن الحشد إلى مكان آخر‪ .‬عندها حاولت يوليا أن تواكبهما لكن يدا‬ ‫امتدت إلى كتفها تثبّتها في مكانها‪.‬‬ ‫لوسن‪ :‬ال عليكِ هي بخير صدقيني‪ ,‬لكن عليها أن تعرف صديقها من عدّوها و طارق قادر على تهدئتها‪.‬‬ ‫نظرت يوليا إليه‪ :‬لكن‪...‬‬ ‫لوسن‪ :‬ليس هناك لكن‪.‬‬ ‫غمز لزوجة أخيه فأبعدت الصغير من على الكرسيّ فجلس بجانبها‪.‬‬ ‫باغتها بعد وقت بسؤاله‪ :‬من أنتِ؟‬ ‫توسّعت حدقتا عينيها و هي تنظر في طبقها الفارغ و قد باغتها السؤال‪.‬‬ ‫تمالكت أعصابها‪ :‬أنثى من صنع هللا و من ساللة آدم و حوّ اء‪.‬‬ ‫لوسن‪ :‬لم لم ترتبطي إلى اآلن؟‬ ‫يوليا بهدوء‪ :‬ألن من التقيت بهم في طريق رحلتي كانوا ذكورا ال نبالء‪.‬‬ ‫لوسن‪ :‬متأثرة باألدب و كتبه‪.‬‬ ‫‪23‬‬


‫يوليا‪ :‬و بمن متأثر أنت؟‬ ‫لوسن‪ :‬بكِ ‪...‬‬ ‫نظرت إليه بر ّد فعل من هجم عليه ّ‬ ‫رجل كان‬ ‫قط من حيث ال يعلم‪ ,‬احتقن وجهها بحمر ٍة المست قلبه بنصر‬ ‫ٍ‬ ‫ينتظر أن ينظر ثانية إلى صفاء عينيّها و كان يتفرّس مقلتيها‪ .‬فما كان منها إال أن أدارت رأسها مجددا نحو‬ ‫ف في الرئتين‪.‬‬ ‫الطاولة و قد بدأت حرارة جسدها تتعدى الواحد و األربعين مئوية‪ ,‬ال يوجد هواء كا ٍ‬ ‫لوسن‪ :‬لون شعرك‪ ...‬يعني اسمي‪ ,‬هل تعلمين هذا؟‬ ‫لم تعد تستطيع الجلوس‪ ,‬أحسّت بغياب العالم من حولها‪ ,‬ال يوجد سواهما‪ ,‬و هو يتابع حصاره البيزنطي على‬ ‫سبارطة دون هوادة‪ ,‬بدأت امداداتها تنفذ ألول مرّه منذ سنوات‪ .‬لم تكن قليلة حيلة قبال‪ ,‬فدائما ما يكون جوابها‬ ‫ذكر أن يروضّ الفرس البرّية التي داخلها‪...‬‬ ‫حاضرا و لم يستطع أي ٍ‬ ‫يوليا‪ :‬أجل‪.‬‬ ‫لوسن‪ :‬حسنا إذا‪ ,‬لقد قمت بالبحث عن المعنى‪ ...‬لكن هل تعلمين أنك تحملين صفات اسمك رغم أنك صلبة من‬ ‫الخارج‪ ...‬و من غير الممكن أن يتوقع المرء رؤية دمعك‪ ,‬لكنك رقيقة جدا كبتالت الكرز‪.‬‬ ‫وقفت يوليا فجأة و ادّعت أنها ستذهب تبحث عن ميرا لكنها رأتها عائدة مع طارق‪ .‬فسمعت صوته معلنا‪.‬‬ ‫ت‪ ...‬ال داعي يا موالتي ألن ترهقي نفسك‪ ,‬ها قد عادا‪.‬‬ ‫لوسن‪ :‬أرأي ِ‬ ‫نظرت إليه و قد فاض بها الكيل‪ ,‬فدفعت الكرسي إلى الخلف و توجهت ناحية ح ّمام السيدات‪ .‬وقفت أمام المرآة‬ ‫و قد‪ ...‬قد‪ ...‬انهارت تماما‪.‬‬ ‫يوليا تخاطب نفسها‪ :‬ال أستطيع الكذب‪ ,‬ال يمكنني أن أختبئ بعد‪ ...‬اآلن‪ ,‬لم يفعل هذا بي؟ من سمح له أن ينتهك‬ ‫أسوار قرطاج بهذه الطريقة؟ كيف اجتاز جبل طارق و وصل إلى أرضي؟ من أنت أيها المتعجرف؟ من أنت‬ ‫نزل أشرعتك و تبدأ‬ ‫أيها الغريب؟ من أنت يا من تعجبني تفاصيلك و أستلطف شخصك؟ لن تبقى إن أخبرتك‪ ,‬ست ِ‬ ‫باالنسحاب‪ ,‬لو علمتني امرأة تقليدية‪ ,‬لن تريدني بعد اآلن‪ .‬ال أعلم كيف أط ّبق حيّل النساء كي أبقي الحبل حول‬ ‫رقبتك بين ش ّد و رخاء‪ ...‬هل تعلم هذا؟ كال‪ ...‬أنت ال تعلم شيئا‪ ,‬ال شيء‪ ...‬أنت ال تدري عن الطفلة التي‬ ‫أكبحها أمامكم‪ ...‬ال تعلم كيف استحوذت عليّ بنظراتك‪ ,‬كيف تنظر إلي عندما أبتسم‪ ,‬وقت تفاجئني بظهورك و‬ ‫انا أعلم لم تأتي‪...‬‬ ‫أخافه غيابها فقد طال‪ ,‬و حسب أنها ربما تسللت دون أن يراها هاربة من الجمع إلى الالمكان‪...‬‬ ‫لوسن يحدّث نفسه‪ :‬هل آذيتها؟ هل دفعت العجلة أكثر من الالزم نحوها فأصبتها بإصابات أليمة دون قص ٍد م ّني؟‬ ‫أين هي؟ ال أستطيع الدخول إليها‪.‬‬ ‫نظرت نرس إلى شقيقها لكنه لم يتنبّه إليها فما كان منها سوى أن غادرت مقعدها نحو حمّام السيدات و قد علمت‬ ‫أن هناك خطبا ما‪.‬‬ ‫نرس‪ :‬سيبرد الطعام يا عزيزتي‪.‬‬ ‫أجفلت يوليا و هي تسمع صوتها‪ :‬سآتي حاال‪.‬‬ ‫ثم فتحت صنبور المياه و غسلت وجهها بماء بارد لك ّنها تم ّنت لو كان أكثر برودة‪ ...‬لو كان شالال جبليا تقف‬ ‫تحته‪.‬‬ ‫دمع باغتها‪.‬‬ ‫تقدّمت نرس منها و ق ّد تنبهت أنها تحاول محو آثار ٍ‬ ‫‪24‬‬


‫نرس‪ :‬ال ترحلي ع ّنه فجأة أرجوكِ ‪.‬‬ ‫رفعت رأسها تناظرها من المرآة و وجها يقطر ماء‪ ,‬ذهلت من وقع األحرف التي اصط ّفت في أذنها لتستقرّ في‬ ‫عقلها‪.‬‬ ‫أكملت نرس‪ :‬معجب بك هو لكنه ال يعلم كيف يبدي ما يشعر به تجاهك فقد مضى وقت بعيد جدا‪ ,‬لقد ك ّنا ننتظر‬ ‫هذه الواقعة منذ سنوات و قد حدثت أخيرا _أخذت نفسا عميقا_ إن طلبت منك أن تعطي نفسيكما الفرصة‪ ...‬فهل‬ ‫تقبلين؟‬ ‫يوليا‪ :‬أنتم ال تعرفون شيئا ع ّني سوى ما أخبرتكم به ميرا‪ ,‬و أنا حتى ال أعلم ما الذي قصّته‪.‬‬ ‫نرس‪ :‬لسنا نحن من علينا أن نعرف بأكثر منكما عن بعضكما‪ ,‬كما أننا نثق بحكم والدي و والدتي عندما يتقربّان‬ ‫من شخص ما‪ ,‬فهل تلبيّن طلبا أل ّم تتمنى النجاة لصغيرها من الغرق يا يوليا؟‬ ‫نظرت إليها و عينا األخيرة تتوسل إليها أن ال تتراجع أو تهرب‪.‬‬ ‫يوليا‪ :‬ال أعلم‪ ,‬صدقيني‪ ,‬ال أعرف ما أفعل! أحسّ نفسي كحصان طروادة‪ ,‬خشب مس ّندة ال حياة فيها‪.‬‬ ‫نرس‪ :‬علينا الخروج فسوف يش ّكون أن هناك خطب ما‪.‬‬ ‫جلست ك ّل واحد ٍة في مكانها إال أن يوليا كانت تجد صعوبة في أن تكون بقربه دون أن تستطيع النظر إليه و هي‬ ‫تتحدث معه‪.‬‬ ‫لوسن‪ :‬اعذريني إن تماديت في الحديث موالتي‪.‬‬ ‫ردّت بهدوء‪ :‬ال بأس‪ ,‬لكن هل من الممكن أن نرجئ الحديث الحقا؟‬ ‫لوسن‪ :‬طبعا‪.‬‬ ‫تناولوا غذاءهم و كان الجميع بحالة طبيعية عداهما‪ ,‬حاوال جهدهما حتى وصال لنقطة لم يعد الصمت ّ‬ ‫حال‪ ,‬فقد‬ ‫كانت مشاعر أحدهما تقرأ عن طريق اآلخر بشكل أو بآخر و ينبض القلب بعنف‪ ,‬العقل يسبح في فضاءات‬ ‫خارج المجرّة الكونية‪ ,‬فما كان منها إال أن ه ّمت منصرفة متعللّة بالتعب‪ .‬لم يستطع اللحاق بها حتى يفسح لها‬ ‫مجاال كما يريد هو هذا المجال‪ .‬اتصل بالفندق و ألغى حجز الغرفة‪ .‬عاد إلى المنزل إال أنه لم يذهب إلى غرفته‪,‬‬ ‫بل إلى االسطبل‪ ,‬أسرج حصانه و انطلق به بعيدا‪ ,‬قطع البستان الكبير و وصل إلى الشاطئ‪ ...‬ترج ّل و دخل‬ ‫عباب الموج و أخذ يسبح بطريقة هيستيرية‪ ,‬لكم من الزمن؟ هذا ليس مهمّا لكنه ت ّنبه إلى أن السيف وضع في‬ ‫غمده و بدأ نهاية اليوم على القفول‪ .‬عاد إلى الشاطئ و ارتمى على الرمال و هو يناظر السماء التي بدأت أول‬ ‫بوادر نجومها بالظهور‪.‬‬ ‫لوسن‪ :‬ما الذي أفعله بح ّقها و ح ّقي؟ هل أنا قادر على المضيّ قدما؟ هل أستطيع العيش مجددا؟أ أشعر بعنف‬ ‫مشاعري فعال؟ أن أكوّ ن عائلة من جديد؟ أن أصبح أبا؟ هل أنا على الطريق الصحيح؟‬ ‫اقترب منه حصانه يمسح بفمه على رأسه المبت ّل‪ ,‬نظر إليه من مكانه ثم أعاد نظره إلى السماء التي بدأت تختفي‬ ‫ألوان شفقها األحمر تدريجيا أكثر فأكثر‪ .‬فتح عينيه‪ ,‬و قد كان الظالم دامسا‪ ,‬طفله الصغير يلعب معه و يبلل‬ ‫أقدامه بموجاته المتتابعة بلطف كمن يوقظ أباه ليلعب معه أو يتحدّث إليه‪.‬‬ ‫لوسن‪ :‬كم الساعة اآلن؟ لكم من الوقت بقيت نائما؟‬ ‫نظر حوله باحثا عن حصانه فوجده يتبختر خلفه‪ ...‬نظر إليه مطوّ ال‪ ,‬قام من موضعه امتطاه و قاده عائدا إلى‬ ‫البيت‪ ,‬دخل باب المطبخ و صعد الدرجات و تو ّجه نحو غرفته‪ ,‬أخذ حمّاما ساخنا ليزيل آثار الملح ثم خرج و‬ ‫ارتدى ثيابه على عجل‪ ,‬نظر إلى ساعته وجدها تشير إلى قرابة الرابعة فجرا إال قليل‪ ,‬خرج من غرفته و نزل‬ ‫‪25‬‬


‫الدرجات عائد الخطى إلى المدخل الخلفي‪ ,‬خرج منه و ركب درّاجته الناريّة و ق ّد قرر أنّ يضرب بعرض‬ ‫الحائط كل االستراتيجيات و الدراسات و العقالنيات و المعادالت و‪ ...‬و يترك للشخص الغير العاقل داخله أن‬ ‫يأخذ دوره أخيرا‪ .‬قطع البهو و أخذ المصعد‪ ,‬طرق الباب بطريقة متواصلة‪ ...‬و عندما ف ِت َح على مصراعيه‪.‬‬ ‫لوسن‪ :‬أنا أرمل‪ ,‬توفيّت زوجتي التي أحببت منذ ثماني سنوات و كنت ظننت أن الرياح لن تعصف بقلبي‬ ‫ت حتى تأتي من البعد الرابع لتعيثي‬ ‫مجددا‪ ,‬حتى أن والديها حاوال مساعدتي على الزواج لك ّني أبيت‪ ,‬فمن أن ِ‬ ‫ّ‬ ‫فسادا في أرضي و مملكتي؟ كيف أمكنك قلبت تربتي و إدخال الهواء مجددا لتصبح صالحة بعد تملحها؟ أجيبيني‬ ‫ت أرجوكِ ؟‬ ‫من أن ِ‬ ‫كانت عيناه حاد ّتان و هي واقفة و كأنه نفخ في الصور‪ ,‬مذهولة تماما‪ ,‬نظر إليها يتأمل مالمحها بشغف‪ ,‬ترتدي‬ ‫ثوب نوم يصل لما تحت ركبتيها‪ ,‬أسو ٍد مرّقط باألبيض و يزيّنه دانتيل رفيع من اللون الزهري الغامق‪ .‬و ّد لو‬ ‫يسحبها إليه و يضمّها فيبكي بين يديها‪ ,‬أن يستشعر أنفاسها تالمس صدره‪ ,‬أن تحيط يديها رقبته و تمسح على‬ ‫شعره‪ ...‬أن تلمس يدها وجنته‪...‬‬ ‫لوسن‪ :‬أنا واقع في حبّك موالتي‪.‬‬ ‫شهقت مذعورة و قد وضعت يدها على فمها تكممها و الدموع ّ‬ ‫تغطي وجهها دون انقطاع‪.‬‬ ‫لوسن‪ :‬أجل‪ ,‬أنا مغرم‪ ...‬فهل تأذنين لي أن أكمل بناء مملكتك معك؟ هل تقبلين أن تفسحي لي مجاال في الحياة‬ ‫قربك؟‬ ‫كانت في حالة هلع‪ ,‬لطالما َحلمت أن يأتي رجل بهكذا موقف‪ ,‬أما أن يصبح الواقع حقيقة! هي لم تقطع كل تلك‬ ‫األميال حتى تلتقيه هنا‪ ...‬على هذه البقعة من العالم بذاتها‪ ,‬لكن هذا يحدث‪ ...‬أجل‪ ,‬إنه يحدث‪ ,‬هل ح ّقا هو واقع‬ ‫في حبّها؟‬ ‫زمن بعيد‪ ,‬رزقت بطفلة لم ترى النور لفترة طويلة ثم‬ ‫فجأة تدفقت الكلمات بأسرع مما تخيلتها‪ :‬أنا مطلّقة منذ‬ ‫ٍ‬ ‫تحولت إلحدى عصافير الجنان‪ ,‬تركنا بالد الحرب خوفا على أنفسنا فكدّت أصاب في شرفي على هذه األرض‬ ‫و ما زلت أحمل ندوبها على جسدي لكن لم يستطع أحد أخذ شيٍ م ّني‪ ,‬و منذ ذلك الحين تغيّر لون شعري‪ ,‬لكنني‬ ‫ماض لي خلفي و بدأت مجددا و قد عفت الذكور‬ ‫لم أتوّ قع أن يحمل لونه اسمك! هربت إلى تركيا مخلّفة كل ٍ‬ ‫لما أصابني من أذاهم و قد يئست من أن ألتقي يوما برجل نبيل‪ .‬كنت أحلم بواح ٍد منهم‪ ,‬لكن لم أتوّ قع أن يتحقق‬ ‫حلمي و على هذه األرض مجددا‪.‬‬ ‫كانت قد جلست على األرض في ممر الغرفة و الباب مفتوح‪ ...‬ظهرها مسنودة على الحائط‪ ,‬أما هو فقد جلس‬ ‫على األرض في الرواق و ظهره للحائط أيضا يسمعها دون أن يراها‪ .‬صمت كالهما تماما ل َم يقرب الساعة و لم‬ ‫يبادر أحدهما بحرف صوتي و ك ٍّل منهما يسمع أنفاس اآلخر‪ ...‬و يحاول معرفة ما يفكر فيه‪.‬‬ ‫لوسن و قد اغتال الصمت كفارس انقضّ على تنيّن و أرداه صريعا‪ :‬هل تقبلين مشاركتي وجبة اإلفطار موالتي؟‬ ‫_بعد صمت_ فأنا ال أريد أن أكون وحيدا و أنا أشرب فنجان قهوتي في ك ّل صباح بعد اآلن؟ _أخذ نفسا و‬ ‫أردف_تعبت من أن أهرب إلى مخبأي وحدي‪ ...‬و بعد أن ذقت طعم وجودك في الغرفة السحرية معي‪ ,‬ال أريد‬ ‫أن أدخلها دونك مجددا‪.‬‬

‫‪26‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.