اللوسن
المشهد يستدعي االسترخاء التام ,كانت تستمتع بقضاء إجازتها في القمّة دائما ,ح ّر تمّوز لم يكن ليصل إلى حيث هي فجبال بورصا كما البيرينيه ,األخضر يضفى بكحله الداكن على جمالها كعربيّة ترتدي الخمار و تصيب بسحر عيونها الكحيلة سهاما تأسر شغاف قلوب الناظرين إليها .تركيا التي تع ّد إحدى ِجنان هللا على أرضه و التي جعلها لخالفة والدا البشر آدم و حواء عليهما السالم .هنا ...حيث ال يعرفها أحد ,البالد التي لطالما حلمت أن تعيش فيها بعد النمسا و التي لم تكن متاحة ألن تصلها بسبب أنها من بالد الحروب و دول العالم الثالث .في سنّ الثانية و الثالثين استطاعت أن َتنفد من كل األقطار التي كانت تكبّلها و است ّقلت بذاتها أبدا ...تتواصل مع العائلة دون أن يعرفوا أين هي في تلك البالد بالتحديد و لم يكونوا ليسألوها رغم أن غالبية الشرقيين ال يسمحون باستقالل شبابهم و بناتهم بعيدا عنهم ,إال أنهم استكانوا لها علما باألهوال التي تعاقبت البكر في عائل ٍة عليها و لم يعد من ب ٍّد إال أن يسمحوا لها بمتنفس على أن يخسروها نهائيا ...و إلى األبد .هي ِ تتألف من ستة أفراد ,عائلة مثق ّفة ,لديها من التحرر ما يقيها المفسدة و من القيم ما يج ّنبها الجهل .من وسط اجتماعي مرموق دون تبّذل .لكن ذلك ال ينفي وجود اختالفات بالرأي و التعامل بينهم كأي عائلة طبيعية أخرى في أي مكان في العالم .تزوجت في سنّ مبكرّة و حصل طالقها بعد ان خسرت مولودها بأشهر قليلة ,ما حذى أهل الزوج بالتشآم منها و أقنعوا (ذكرهم) المدلل أنها غراب شؤم! و في سنّ الخامسة و العشرين كانت تدعى مطلّقة في بيئ ٍة لم تكن فيه ثقافة تلك الكلمة ,بل إن المرأة تبقى في منزل زوجها حتى قبرها! لم يثنيها ذلك على أن تكمل حياتها ,دراستها ,و عملها كأيّ أنثى طبيعية رغم سباحتها عكس تيّار المجتمع المتمسّك بعهد آباؤنا األولون ...لكنها أثبتت أن إحدى أسماك السلمون التي اجتازت انعكاس مجرى النهر قد ...وصلت. شركسيّة األب و تركيّة األم ...تمتلك قواما متوسطا ,شعر طويل أبيض اللون (كان كقطع الليل يوما من تلك األيام الغابرة) ,عينان بنيّتان بلون عسل صنعاء ,بشرة سمراء محمّرة .مسلّية لمن حولها ,ضحكتها مستبدّة لكل من يجالسها ,متفهّمة ,مسالمة ,حنونة كأم و شيطان رجيم لمن يتعدى خطوطها الحمراء .تعلم متى تتقدم و متى تتراجع بتعاملها مع األشخاص .تكره أن تتحكم فيها عادة ما ,لذا تراها متحررة من كل ما يقيدها عدا أن تتعدى ّحدا شرعيا .تؤمن بالعائلة و مبادئها كإيمانها بحريّة بيت المقدس ...ستقولون اآلن :أي تضارب تضعيننا فيه؟ صحيح ,لكن أن توجد امرأة بعقل رجل و قلب امرأة و ثقافة عالم و ذات منصب و كياسة سياسيّ هي ...انثى موجودة على هذا الكوكب! ديار مختلفة, كما ذكرنا سابقا ,بسبب أنها من بالد الحروب لذا تركت و جزءا من عائلتها البالد و تو ّزعوا في ٍ عمل ال بأس به تستند عليه و تساهم مع كانت دول الخليج العربي موطئ قدم لها و ألخويها ,حصلت على ٍ أخويها على قدر استطاعتها ,فهي لم تكن لتصبح عالة على أح ٍد و ليس ذلك لغة في قاموسها الغريب الذي كان جزر الحياة ,جدبها و حدبها ,كانت في سالم و تعيش حياتها بابتسامة شفافة مع يشبه كتاب الحاوي .بين م ّد و ِ من حولها وقوّ ة حتى لتظن أنها مارغريت ثاتشر ,في الليل إن كنت تستطيع سماعها فستعلم الدموع التي تغطي ليال كثيرة .وحده الليل يعرف ضعفها و يسمع صدى نجواها. وسادتها قبل نومها في ٍ معظم أنواع الذكور حاولوا كسب ِودّها لكن عبثا أن تجد بينهم رجال! كانت مرغوبة لجاذبيتها و نعومتها, عفويتها ,صراحتها .كانوا يرونها مكسبا ماديّا و اجتماعيا ,بعضهم ظ ّنوها ورقة رابحة لهم للخروج من بالد الحرب ,و األبشع من ذلك كله من كانوا يرونها مكسبا سريريا لكونها ...مطلّقة! كانوا يبدؤون التعارف بأساس مب ّني على طلب يدها لينتهي حالهم عند حافة الصدق بسقوطهم من عينها ألدنى نقطة موجودة في درب التبّانة. لم تكن لتلتفت مهما حصل إلى الخلف و ال تلتقط ما يتساقط منهم على الطريق ,لهذا استمرت بالحياة فتضاءلت مع السنوات ثقتها للذكر و تعززت ثقتها بذاتها .حتى ذاك اليوم كانت تتحمل غربتها و الضغوط التي تتعاقب عليها دون أن تكسر آخر قيد حرصا منها على رضى والديها و احتراما كامال لشقيقيها إلى أن حدث في أحد أيام أيّار و الذي كان يتم ّتع بنسبة رطوبة أعلى من معدّله الطبيعي حتى ليشعر االنسان بالدبق في جسده يكأ ّنه إحدى البرمائيّات اللزجة .كانت الساعة قد شارفت على العاشرة مساء و هو وقت مب ّكر في بل ٍد سياحّ ي ال يعرف النوم. كانت تعبة و لم تحملها قدماها للسير حتى محطة القطار السريع و التي ال تبعد سوى خمس عشرة دقيقة, عمل طويل خلف شاشة الكومبيوتر و جلست في فأشارت ألول سيارة أجرة قابلتها عيناها المنهكتين من يوم ٍ مقعدها الخلفي ,أخبرت السائق وجهتها ,استرخت ,و راحت عيناها تتع ّقب ألوان المحال و الواجهات من خالل
1
زجاج المركبة .سرح ذهنها بأمور كثيرة تقود بعضها بعضا و ال رابط بينها إال أن جميعها حصلت لها على مرّ سنيّها فقط .تلك التي صنعت منها و عدلّت على شخصها ما تراه عليها اليوم ,أو حتى هذه اللحظات األخيرة. تنبهت فجأة النعدام الواجهات و أن الطريق مجرد شارع شبه صحراوي و الفلل بدأت تظهر بدال عن األبراج, طريق لم تره قبال و ليس إحدى التي تسلكها عادة في حين عودتها. يوليا :هذا ليس الطريق الذي عليك ان تسلكه ألبلغ وجهتي؟ السائق :كال سيدتي لكن الطريق الموصل إلى وجهتك مغلق بسبب التحسينات ,لذا سلكت هذا الطريق. يوليا :ل َم لم تنبه ّني إلى ذلك؟ كنت أخبرتك عن طريق آخر. قطع حبل تلك اللحظات عندما تنبهت فجأة أن هاتفها المحمول يضيء! لم يكن ليتصل بها أحد من العمل فهم يعلمون أنهم لن يستطيعوا الحصول على ر ّد منها مهما تعاقبوا بطلب رقمها ...فأيام نهاية األسبوع تعني الراحة بعيدا عن مسمى (عمل) ,تناولت الجوّ ال و أدارت الشاشة نحو وجهها لترى ...رقم والدتها ,لم تكن لتدعها دون إجابة فهي تخاف أن تقلق عليها ,خصوصا أنها ما زالت و بعد كل تلك السنوات تحّمل ذاتها اللّوم أن زواج ابنتها و طالقها كان بسبب ضغطها عليها درء لكالم المحيط التافه ,المتعجرف (المجتمع). يوليا :أمي الغالية. األم :حبيبتي ,كيف أنتِ؟ اشتقت إليكِ كثيرا ,والدك سأل عنكِ أكثر من مرّة فأنت لم تتصلي بنا منذ أكثر من أسبوع... كانت تسمع دون أن تجيب فهي تكره الثرثرة و تدافع الكلمات كإذاعة راديو ,لكن ال مف ّر .كانت تكتفي بالهمهمة, بالنعم و ال ال فقط و بعد أن مضى أكثر من عشر دقائق كمقدمة نسائية طويلة تن ّبهت لعبارة جعلتها تخرج عن صمتها و تجيب... يوليا :قد أسعد ّتني بهكذا خبر ...متى سي ّتم الوعد؟ األم :نهاية الشهر القادم بحلول عيد األضحى. يوليا :أخيرا آخر العنقود ستدخل القفص الماسيّ . األم :جميعهم عداكِ ... قاطعتها من فورها :إ ّياكِ و البدء يا ح ّجة و إال أتيتكم بعجوز يعاني زهايمر و بهذا تأمنين مستقبلي... ضحكت و مازحت والدتها عبر الهاتف الذي يعمل مع ذبذبات متعددة تحوم في الجوّ و تنتقل عبر الهواء و ألم من نسمات الرياح الجبليّة التي كانت تتماشى و د ّقات قلبها الفرح و بعض قطرات الندى تنساب رغما عنها ٍ كانت تك ّنه من كلمات جارحة كانت شقيقتها تلسعها بها إن ضاقت باألخيرة الحيلة خصوصا قبل انعزالها بعيدا عن العائلة .انتهت المكالمة ...حاولت استيضاح السهل األخضر الممتد على سعة الناظر إليه ,هناك لحظات تعيد إلينا أفظع و أقسى األوقات المؤلمة التي تسببت بندوب لن تمحى آثارها .لكنها شقيقتها و عليها أن تتواجد بجانبها رغم ك ّل ما حدث فقد كانت تصغرها بحوالي عق ٍد من الزمن .إال أن السبب اآلخر كان عودتها إلى تلك البالد التي خرجت منها على أمل الالعودة أبدا ...أبدا .أعادت ملئ المدفأة بالحطب و قامت من مكانها تقترب أكثر من الزجاج .المنزل الخشبي هادئ ,حنون في مثل هذا الجو ,يجعلها تشعر أنها ما زالت طفلة رغم عدد سنواتها ,أن السكينة مطلب أساسيّ للعيش ,لكن ليس وحيدا. هي اآلن مدير عام شركة تنظيم حفالت على نطاق واسع في تركيا و أوروبا ,لذا ت ّغيبها عن العمل يع ّد كارثة و خصوصا أنها من األشخاص المعتمد عليهم و التي تشرف بذاتها على األعمال الموكلة لطاقمها و التي كانت سببا ألرباح طائلة جنتها الشركة خالل سنوات انضمامها لهم ما أهلّها ألن تتخطى درجات كبيرة و تصبح مديرا 2
عاما أله ّم الشركات الكبرى في منطقة الشرق األوسط .لكن الب ّد من حضور زفاف أختها الوحيدة و سترى والديها أيضا ,المشكلة الوحيدة هي ...لمدة أسبوعين كاملين؟ تنهّدت ب ّقوة كمن يحاول إزاحة جبل من مكانه. تتابعت األيام بسرعة لم تكن تتمناها ,إال أنّ الزمن يعاكسنا لكل ما نريده دائما .على كرسيّ جلدّي رماديّ كما فترة من حياتها مرّت كانت تجلس ,حقيبة يدها بجانبها ,ترتدي فستانا بلون البيج يتخلله األبيض و األسود ,حذاء واق شمسّي خفيف عال أسود و أبيض يتناسب و حقيبة يدها الجلدية ,وجه ٍ بكعب ٍ خال من المساحيق الكثيرة عدا ٍ ّ اللون و خزام يكاد ال يرى يضفي أنوثة على وجهها ,نظارة شمسيّة سوداء ذراعيها من اللون السك ّري الموشى, يحيط كاحلها خلخال رقيق أنيق ,ساعة برونزيّة في اليد اليمنى و أسورة بخط ماسّي واحد في اليد اليسرى مع خاتم فضّي يتوّ ج سبابة يدها اليسرى .شعرها األبيض مسترسل بسيط ال يعيقه دبّوس أو مشبك .ضمّت قدميها إلى بعضهما كسيدة إنكليزية أرستقراطية .كانت حلّتا العسل الب ّني تتابعان مهبط الطائرات من خلف ّ النظارة و قد أخذتاها إلى عالم مجهول في أعماقها ...ذاك الفراغ المح ّرم عليها دخوله أو استرجاع فتح بوابته ,لكن األمر كان ّ تدفق السيل العرم و أعادها لثالث سنوات كانت فيها في ذات المطار آتية من العدم... خارجا عن سيطرتها فقد من وراء المتوسط ...من قلب الصحراء كغزال هارب من يوم صي ٍد إلحدى القبائل الهندوسيّة التي ال ترحم ألنها ترى مكسبا في كل شيء ,كصهاينة أرض الزيتون المباركة .سمعت اسم رحلتها من إذاعة المطار ما يعني أن عليها التو ّجه لبوابة المغادرة ...ترددت قبل أن تترك كرسيّها الرمادي الشبيه بحالتها اآلنيّة .توقفت و أجبرت قدميها على السيّر و فكرة االلتفاف للعودة من حيث دخلت أرض مطار أتاتورك تتردد صداها في رأسها, أحسّت باستبداد اسم ذاك الديكتاتور عليها كما تعدّيه على الثماني و العشرون حرفا التي استبدلها غصبا فطمس بها أغلب معالم تاريخ أكبر إحدى إمبراطوريات العالم قوّ ة ألكثر من ثمانية قرون متعاقبة .هي التي لم تكن لتتراجع خطوة واحدة للوراء في أي أمر تقدم عليه لذا استمرّت بال ّسير نحو البوابة و هي تتخيلها معبرا من عصر النهضة إلى عصر الظالم و الجهل و الهالك .بعد أن تأكدت المضيفة من تذكرتها اصطحبتها إلى مقعدها جانب النافذة في درجة رجال األعمال ,جلست بهدوءها المعتاد و تناولت من حقيبتها رواية ل كوتزي (في انتظار البرابرة) كانت بدأته منذ يومين ,فتحت على صفحة فيه يتخللها عالمة بالستيكية أنيقة باللون األسود الذي يرشح بالذهبّي و الفضّي فأزاحتها إلى حيث المقدمة و أسندت ظهرها إلى كرسيّها و بدأت عيناها تتابعان رسم األحرف على الصفحات .بعد فترة ما مرّت المضيفة من أمامها و أخبرتها بلباقة أن عليها ربط حزام األمان _و هو الشيء الوحيد التي لم تكن تفعله في أيٍ من رحالتها_ فأومأت برأسها و تجاهلت األمر و عادت تسافر في رحلة أخرى تحملها بين يديها .تستغرق الرحلة ما يقارب األربع ساعات و أكثر ,أمضت منها ساعة و نصف الساعة مع صديقتها المقربّة إليها (فنجان قهوتها بدون سكر) و التي كانت دائما تعشق الس ّير على حا ّفته المستديرة كالعبة أكروبات محترفة و تأخذ وقتها معه حتى و إن انخفضت درجة الحرارة من الغليان إلى الصقيع المتجلّد لكنها تكون في أمتع أوقاتها .هذه المرّة كانت في أحلك اللحظات الصامتة ألفكارها معه و هي تناظر السحاب الممت ّد في السماء ككرات سكرّية شهيّة ,أو وسائد ناعمة تتمنى أن تتوسد إحداها فتحملها بعيدا عن هذا العالم .بين حين و آخر كانت تظهر صور لألرض بألوانها المختلفة من تدرجات األصفر و األخضر و أحيانا األحمر بتعرّجاتها ,تموّ جات بحرها الذي يلتقي بإحدى شواطئها كحبيبين ال يفترقان بل بتجاذبهما يظهران كمن يكلّمان بعضهما اآلخر بهمس مرّة و بغضب في أخرى في تناقض و تجانس أبدع من صوّ ره و سوّ اه فخلقه. ّ ستحط في مهبطها خالل دقائق. تسارع نبض قلبها و ق ِر َعت طبول الخوف فيه عندما أعلن الربّان أن الطائرة َحسِ بت أنها لن تتأثر كثيرا لكن شيئا أفزعها و أثار صور مغادرتها للبلد ذاتها في ظروف لم تكن تتخيّل أن تحدث معها يوما ما ,لكنها و لألسف الشديد ...حدثت .تجاوزت بوابة الطائرة إلى الممر الموصل إلى مكاتب التأكد من جوازات السفر و في كل مرّة تقفز إلى ذهنها صورة ال تريدها أن تخرج من العليّة التي وضعتها فيها و أغلقت بابها ظ ّنا منها أنها دفنتها حتى األبدية ...لكن اتضّح أن باب العلّية ضعيف و قد فتح مصراعيه على ماض ال يجب أن يعود أبدا .تحسست يدها ناحية كتفها األيسر و أحست بالندبة الكبيرة على طول اليد, أ ّقل نسمة ٍ فاعتصرت مكانها ,لكأن الجرح نكئ و فتح من جديد ...حتى أعلى ساقها اليمنى مازالت ندبة عميقة كبيرة موجودة .شعرت لوهلة يكأن جروحها ما زالت مكشوفة ,لزوجة الدم التي تسيل منها ,حرارته ,رائحته كما الصدئ الذي اختلطت برمال الصحراء. جاءها صوت موظفة الجوازات :أتمنى لك إقامة ممتعة ,السالم عليكم. يوليا :شكرا للطفك ,و أنا أيضا ...أتمنى _أخفضت صوتها بعد أن ابتعدت قليال عنها_ لو أ ّني ما عدّت هنا. لم تكن مستعدّة لشيء يسمى (مركبة أجرة) و لو كلّفها ذلك السير على قدميها أمياال .استأجرت سيّارة باسمها من مكاتب المطار ,وضع العامل الشنط في صندوق السيّارة ,جلست خلف الم ّقود و انطلقت إلى حيث ترى العائلة, 3
تبعت الخريطة اإللكترونية التي قامت شقيقتها بإرسالها لها على المحمول .في الطريق صادف البحر أن يكون على يمينها( ,البحر) ...تلك الكلمة اآلسرة ...ذاك السرمد الال متناهي ,بلون بشرة شاطئه الالزورد ّيه ,بتموّ جات شعره األزرق المشرئب بخضرة تجعلك كشارب خمرة العشق األول .خلعت نعليها في حضرته و داست قدمها ّ مخزن داخل بلوّ رات الرمال ما أول عتبة الرمال الناعمة ,الحا ّرة .الساعة الواحدة ظهرا أي أن دفء الشمس يجعلها تتقد جمرا ,و السائر فوقها كأنه يسير فوق قطعة من جه ّنم .حرارته تلسع قدميها في كل خطوة تخطوها ت لهب .ال تعلم نار ذا ِ نحو حبيبها ,كشمّاس كاثوليكي يطهّر ذاته من أدرانه و يطلب المغفرة و هو يدوس على ٍ لم تفعل هذا ,أهو مخرجها الوحيد لالعتراف علنا َ لذاتها أ ّنها على هذه األرض الظالم بعض أهلها؟ حين اغتالت فجأة موجة عشقية قدمها اليسرى و شرب جلدها األجاج الذي يحمله علمت مدى األذى الذي لحق بقدم ّيها .هبّت نسمة شبه عليلة عبثت بخصالتها البيضاء التي تناثرت بدورها مع حركة الطفلة الشقيّة التي تحايل والدتها لتلعب معها ,ي ّرن صوت ضحكتها العذبة المنعشة في اآلذان حتى تذهب عن القلب ما أهمّه ,تلك هي روح يوم مضى .بقيت تجالسه و تعبث مع طفلتها حتى ساعتين عندما بدأت الجدة طفلتها التي لم تكتمل بها فرحتها في ٍ الشقراء تميل أكثر في كبد السماء منبّهة حفيدتها أن عليها أن تترك اللهو و تبحر نحو وجهتها حيث ينتظرونها. عندما عادت إلى مقعد السائق تنبّهت لوميض المحمول. يوليا :إنهم غاضبون ,ال بد أن ميرا في أوج انفعالها اآلن. توقفت السيارة عند نقطة العالم التي حددتها الخارطة االلكترونية ,جعلتها تخرج من السيارة متوجسة و حائرة! يوليا :البد أنهم أخطؤا بالخريطة ,أين أنا بالضبط؟ ضغطت الدليل السريع و انتظرت الرنين المعتاد. ميرا :أين أنت بحق الجحيم... انهالت عليها شقيقتها بعصبيّة و لم تترك لها مجاال لحرف صو ّتي حتى ,ثم أقفلت بوجهها الخط .لم تضطرب فهي ليست المرّة األولى لمدللّة والدها أن يصدر عنها ما كان .ضغطت رقم اثنان فظهر اسم (الح ّجة) فاتصلت بها و بعد رنتين فقط. األم :حبيبة قلبي أين أنت؟ ننتظرك منذ أكثر من ساعة. يوليا :على األغلب أ ّني تهت ...فالموقع المرسل يد ّل على قصر فاره لسلطان ما!... الوالدة و هي تضحك :كال ,أنت في العنوان الصحيح ...حتى نحن أجفلنا ِمثلَك عند الزيارة األولى مع أخويكِ ,ال عليكِ سنفتح البوابة. مرّت دقيقتان و لم تأتي البوابة بحركة حتى أيقنت أنها في العنوان الخاطئ فأدارت المحرّك و همّت بالخروج أزيز ما فنظرت في المرآة الجانبية فإذا البوابه تتحرك باتجاه اليسار عن الطريق المحصّاة عندما سمعت صوت ٍ لتفسح لها مجال الدخول .ترددت ...كان قلبها ينبئ بشيء ما ال تعرف كنهه .بقيت تناظر البوابة المفتوحة كمجذوب ال يعلم ما يفعل أو على أي أرض يقف! أخيرا اجتازت البوابة بتؤدة و هدوء كمن يت ّربص هجوم ضبّ عليه ليفترسه .اتبّعت الطريق المفروش بالحصى ,األزهار مختلفة األلوان ,متوضّعة بطريقة تخلب لبّ الناظر بفن ّ ب جدا يوحي للناظر إليه أنه في عصر البوربون .ألكثر من عشر دقائق تسير جذا ٍ إليها ,شجيرات مشذبّة ٍ مبهورة حتى ضربت قدمها فجأة على الفرامل بقوّ ة. يوليا :يا هللا ,كان ذلك ليكون وشيكا _تنهدّت_ من أين خرجت؟ خدم إنكليزي, لمحت في قبالتها رجال في العقد السادس تقرييا يقف بال تعابير وجه ,يرتدي الزيّ الرسمي لكبير ٍ أبيض الشعر خفيفه ,ذو شارب بنيّ اللوّ ن ,عينان زرقاوان خاليتان من أي حسّ ,وجه بارد كمياه متجلدّة ,طويل القامة ,رشيق الق ّد ,تقدّم نحو باب سيارتها بخطى ثابتة.
4
الرجل :سيدتي ,ادعى (جيفرز) و أنا رئيس الخدم ,أرجو العلم أن سائقنا سيتكفل بالسيّارة لذا أرجو أن تأتي معي على عجل ألنهم ينتظرونك. تح ّدث بعربية غير صافيه لكنها مفهومة و فتح باب السيارة معلنا أن عليها اتباع األوامر حاال و دون تأخر, تذمّر ,أو أسئلة. خطت على الدرجات الرخامية البيضاء المشربة بلون أسود و المصقولة بطريقة دقيقة ,تبعته بخطوات تجاريه لكن ال تجعلها تسير بجانبه .عبرت بوابة خشبيّة كبيرة بلون أشجار الجوز مو ّ شاة بالنحاس المطلّي و الذي يتوزع عليها كشجيرات ور ٍد تشرأب كطفل متشبّث برقبة والده الذي يحمله بين يديه ,كانت ساحة االستقبال في المدخل ّ مؤثثة بطريقة العصور الوسطى اإليطالية بأرضية رخامية مرسومة بزخارف ملكية لبتالت التوليب ف غريبة تش ّد ت تح ٍ لتصلها بمم ّر طويل تصطفّ على جانبيه لوحات لمشاهد طبيعية لرسامّين مختلفين و حامال ِ بشكل ما. متكاملة الناظر إليها ليتبعها ,ما جمعهم هنا تناسقهم مع بعضهم البعض بطريقة عشوائية لكنها... ٍ تمهلّت بخطواتها و هي تتابع كل لوّ ح ٍة إثر األخرى فهي تحب الفنّ رغم عدم قدرتها اللحاق إحدى فروعه و دراسته بتبّحر. جيفرز :أرجو أن تغ ّذي الخطى سيدتي ,من هنا رجاء. جاءها صوته كمنبّه إلحدى صفارات اإلنذار فقد كان يملك صوتا حادا ذا صفير خفيف .استعجلت خطاها و بعد االنحراف عدّة مرات بين يمين و يسار في الممرات الواسعة توقف فجأة باستعداد أمام إحدى الغرفات. جيفرز :شقيقة العروس قد وصلت. حفل ملكي ثم نظر ل يوليا ببرودته الغريبة كرجل آلي :تفضليّ سيدتي ,جميعهم في انتظارك. قالها كإعالن في ٍ خاطبت نفسها :جميعهم! في انتظاري! أنا؟ أين أنا؟ كانت ما تزال في حالة من عدم التصديق أنها في العنوان الصحيح .بقيت برهة قبل أن تتقدم بخطواتها التي تحاول أن تجعلها و اثقة و تخفي فيها عجبها و ارتباكها .رأت أمامها سيدات و سادة في غرفة ممدودة بالسجادّ الدمشقيّ ,ثرياتها على طراز ال ماري تيريزا ...في أقصاها من الناحية الشمالية بيانو كبير بلون الغزال البرّ ي. مرتبات مخملية و جلدية ممزوجة بين تدرّجات اللون الباذنجاني المحم ّر مرتكز على خشب جوز محفور بطريقة األرابيسك األندلسيّة .الجدران مغل ّفة بورق منقوش تكاد زخارفه ال تظهر لكنّ لونه الس ّكري يضفي على الغرفة رفاهية و أبّهة ...ستائر شيفون بلون س ّكري يتخللها قماش الساتان بخيوط متباعدة من ذات لون قماش المقاعد. يوليا :مرحبا _انحت على الطريقة األوربية للعصور الوسطى و هي إحدى عاداتها_ أعتذر عن التأخير. بقي الصمت مطبقا ,بعضهم مازال يدير لها ظهره و لم يتحرّك ,البعض اآلخر كان يتطلع إليها مثل كائن غريب أو دخيل ,استمرّت خطواتها إلى داخل الغرفة بروّ ية حتى سمعت فجأة صوتا أخرجها من الوضع المحرج التي كانت فيه. زوجة (توجان) شقيقها األصغر :أهال عزيزتي ,لكم اشتقنا إليك ,الحمد هللا أن زفاف (ميرا) قد أزفّ حتى نراكِ بعد ك ّل تلك السنوات .تفضلي من هنا أرجوكِ ,أعرفك بسيدة البيت مدام (حكمت) جدّة (طارق) خاطبت نفسها مجددا :و من يكون طارق هذا؟ هل هو من ستتزوجه ميرا؟ كانت زوجة أخيها تتابع تعريفها على العائلة التي بدت أرستقراطية ح ّدا عجز فيه عقلها عن التوازن و تجميع لوحة مبعثرة األجزاء ,عندما اغتالتها شهقة قطعت قلبها نصفين حتى ظ ّنت أن مكروها حصل و جعلت الحضور يلتفت من حيث ظهر الصوت.
5
صاحبة الشهقة :يا إلهي ...ما هذا؟ كيف حصل هذا لشعرك؟ أال تعلمين أن األصباغ اخت ِرعت لمثل هكذا ...ال أعرف كيف تصفونه... ارتبكت زوجة األخ ,و عندما همت يوليا بفتح شفاهها المطبقة جاء صوت ثاقب ,ثابت النبرة ,ذو خ ّنة يشوبها هدوء و ثقة. الصوت :أهو حال الغيرة (جلوري) أم لسان السؤال؟ ها ...إنما أراه ته ّكما مقصودا على ضيفتنا. جلوري و قد ألجمها صاحب الصوت كل ّيا فامتنعت عن الر ّد و كظمت غيظها ,فاستدارت و خرجت من الباب الخلفي المؤدي إلى حديقة كبيرة لدرجة أن يحسبها الناظر سهال. ّ الحق يقال أن لون شعرك كما ال_ ...صمت قليال كمن يحاول البحث عن الصوت :عذرا سيدتي عما بدر لكن وصف دقيق_ (اللوسن) يلفت األنظار و يثير التساؤالت في النفس البشرية .بجميع األحوال أهال بكِ في ديارنا ومبارك علينا زفاف العروسين. يوليا :شكرا لك... و قبل أن تتم أي كلمة أخرى كان قد استدار و يديه في جيوب بنطاله و بسالسة و هدوء خرج من باب الغرفة التي دخلت منه تاركا ألذنيها صوته ببح ّته الصافيّة التي تتردد في صوان أذنيّها. ذو الصوت ,و كما أخبرتها زوجتيّ شقيقها ,رياضّي و سباح متمرّس ,صاحب إحدى أكبر الشركات في المنطقة ,ذو ثقافة عالية .هو األخ المتوسط و الغير شقيق للعريس و يدعى( ...لوسن)! صعقتها المصادفة ...لقد وصف لون شعرها باسمه! ما معنى االسم أصال؟ حاولت أن تستفسر لم تلقَ إجابة .بحثت الحقا عن االسم في محرك البحث اإللكتروني فوجدت على أنه اسم شركسيّ بمعنى (الثلج األبيض) شراكس ...حسنا ,هم منهم و ليسوا عربا .على األقل تتمنى أن تتحسن عقليّة شقيقتها .كانت فكرة الذكر العربي تشعرها باالشمئزاز و تعيف شهيتها عن التواصل مع أي منهم بغير سبب مه ّني .حتى أن (توجان) يماثلها الرأي و كان األقرب لروحها من ّ بست سنوات و الذي كان يحمل الكثير من صفات عقليّة الذكور العربية لكن أخيهما (اقتاي) الذي يكبره بتعديالت طفيفة. ّ حنطي البشرة ,عينان بنيّتان ,شعر أسود يغزوه الشيب ,يرتدي بنطاال (لوسن) ,طويل القامة ,عريض الكتفين, من الجينز داكن اللون و كنزة ذو رقبة عالية بلون جوري دمشق القاني و التي تظهره بطابع األوربي الثريّ لكن دون تعقيد ,ربما في بداية العقد الرابع ال أكثر ...يبتسم بحذر كما كلماته ,حذاء خفيف رماديّ داكن اللون من نوع الشاموا يغلّف قدمه ,لم يكن باهر الجمال إنما يجذبك إليه سحر يمتلكه في تقاسيم وجهه ,عيناه صغيرتان إنما تسبران أعماقك بما يلجم لسانك في حضرته ,أنفه كبير بعض الشيء لكنه متناسب و تقاسيم وجهه الرجولية بامتياز. نعود حيث تركنا يوليا بصدمتها التي حاولت أن تخفيها .فبعد أن قامت زوجة األخ تقديمها لعائلة صهرهم القادم قادتها إلى حيث غرفة ميرا التي تتجهز لحفل الليلة و الذي يقام على شرف العروسين إعالنا على أن عقد القِران سيكون خالل أسبوع ال أكثر .مشت في ممرات و صعدت درجات حتى استقرّت رحلتها واقفة أمام باب خشبيّ مذهّب ,قامت زوجة األخ بنقره حتى أتاها اإلذن بالدخول و ما أن دلفت إلى الداخل حتى لجمها أثاث الغرفة و حجمها! يوليا مدهوشة و تكلّم روحها :هل أنا في فيرسيل؟ ال ب ّد و أنني أحلم! تبدو كغرفة لويس الرابع عشر بلونها ّ المراك ّ مغطاة بورق جدران يضفي العراقة و القدم في آن ,السقف أيضا مرسوم لكن ليس شي الساحر ,الجدران ألشخاص بل ...يا إلهي ...هذه البندقيّة! المرآه في الزاوية محاطة بإطار نحاسيّ ملكي ينتهي بعقدة كبيرة... صحت من هذيانها على ضمّة قويّة مباغتة من والدتها ترحب بها و تنظر إليها بشوق قد طال أمده ,كان تش ّم ماض مهما استنشقته لن تستطيع أن تزيل بأسه عن كاهل ضناها. رائحتها بحنان أ ّم نظرت إلى ابنتها فرأت آثار ٍ 6
بادلت أمها العناق بح ّنو و قد أحسّت بدموع األخيرة تبلل رقبتها و كتفها ,حاولت اجتياز أي انهيار قد يظهر على وجهها هي ثم ما لبثت أن تق ّدمت من والدها و قبلّت رأسه بحنان رغم ما بينهما من جفاء خصوصا أنه كان يعاملها بقسوة عكس إخوتها ,فكثيرا ما آذاها بتعليقاته الالذعة أو منع عنها المال بحكم أنها تعمل و هو يعلم مدى حاجتها في تلك األيام الغابرة ,عدا عن أمور أخرى سببت لها آالما ...كما لو كان يتمناها رجال لكان عاملها بطريقة مختلفة ...لكنها لم تكن ,و هو سيبقى والدها .سلمّت على شقي ّقها و سألت عن ميرا التي كانت في غرفة أخرى مع مصففة الشعر و لم تشأ والدتها أن تكون معها فقد كانت سيئة المِراس .أخرجوها إلى الشرفة المطلّة ب من عائلة راقية و هو على بستان القلعة التي هي بداخلها و بدؤوا يقصّون عليها كيف أخبرتهم ميرا عن شا ٍ يعمل معها يريد خطبتها ,رغم جفاء عائلته بادئ ذي بدء ,لكن كون أن والدك من المرموقين و المعروفين في مجال عمله كطبيب معروف على مستوى عالمّي لذا قبلوا مباركة الزواج .أبدا شقيقاها الخوف أن ال تستطيع ميرا مجاراة حياتهم المترفة أو قوانينهم و التي فهمت أنها تتمثل بقوانين الملكة إليزابيث في قصر باكينغهام؟ و حاول األب كعادته الدفاع عن مدللّته ...فقطعت الحديث عليهم. يوليا :أتخافون على النمرود من ناره! لم يثنيها شيء للعدول عن زواجها ممن تريد و نحن نعلم ل َم تتشبث بهكذا خيار ,لكن عليكم أن تسألوا أنفسكم هل ستبقى ابنتنا على تواصلها مع عائلتها؟ أنا ال أعلم أي شي عن زوجها لكن ستجعله يفعل ما تمليه و هذا ما أنا متيق ّنة منه. سمع طرق على الباب فأذنوا لمن خلفه بالدخول .ظهر شخص شاب في نهاية العقد الثاني من العمر ,متوسط القامة ,أبيض البشرة ب ّني الشعر ,ذو عينين زرقاوتين ,يرتدي قميصا بلون قمر الدين و بنطاال بلون القهوة بالحليب ,و حذاء عسليّ اللون .تقدّم بتهذيب ناحية العائلة و تقدّم من يوليا مرحّبا. الشخص :أهال بك في العائلة ,كنت أخشى أن ال تحضري الحفل. نظرت إليه يوليا تتبين :إنها شقيقتي ,فكيف ال أكون حاضرة .البد و أنك صهرنا المرتقب يا... أجابها :طارق. ابتسمت له و هي تر ّد على لطفه و احترامه بترحيبه بها على أنها فرد من العائلة و تعتذر عن كونها ال تعرف االسم مسبقا ,لكنه مازحها و كأنه يس ّري عنها حرجها .بعد وقت من تجاذب أطراف الحديث فت َِح الباب فجأة بعصبية و سمع صوت أنثوي غاضب ما لبث أن هدئ عندما تفرست في الحاضرين. ميرا :عزيزي ال يجب أن تراني قبل الحفل ,أنت تعرف الشروط. وقف و هو يغمزها بعينه و يمازحها :جئت أسلّم على شقيقتك التي حضرت من مكان بعيد لتكون حاضرة فرحتنا. ميرا بصوت علت نبرته قليال :هل يوليا هنا! ابتعدت نحو اليمين و هي تتف ّرس الوجوه ,فأقبلت يوليا إلى شقيقتها و هي تبارك لها خطبتها و عندما حاولت أن تعانقها ابتعدت عنها األخيرة ببرودة. ميرا :شكرا لقدومك أخيرا. تابعت ميرا لكن هذه المرّة بدالل و قد استدارت مرّة أخرى نحو خطيبها :حبيبي ,عليك أن تذهب لتجهّز نفسك فلم يتبقى سوى ساعات على موعد الحفل و عليّ أن أنهي تجهيز نفسي ...هيّا ...أرجوك. طبع طارق قبلة على جبينها :حسنا يا جميلتي. ودّع الحضور و استدار يقصد الباب للخروج .و عندما أغلق خلفه و تأكدت أنه ابتعد انهالت ميرا على شقيقتها و الشرر يتطاير منها. 7
ميرا :كيف تفعلين بي هذا ,كيف تتأخرين؟ ألم تخبرك أمي عن موعد حفلة التعارف؟ ث ّم _تفرّست بمظهرها_ لم تبدين كبقرة؟ لقد كسبت وزنا و مظهرك سيئ ,لن يناظرك أحد ...جميعهم يبحثون عن الرشاقة_نظرت إلى نفسها في المرآة الكبيرة في زاوية الغرفّة_ اسمعي جيدا ,سأقترن بطارق و كما ترين _رفعت يديها تحاول وسع الغرفة_ عائلة ثريّة جدا كما الملك فارووق ,لذا حاذري الخطأ ...أفهمت .ث ّم _باستهزاء_ حاولي أن تجدي لك يأن لك هذا؟ ما الذي تنتظرينه؟ ستصبحين عمّا قريب في سنّ غير نافعة و لم يتبقى غيرك رجال يؤويكِ ...ألم ِ عانسا _بتهّكم_ على األقل ستعتنين بوالدينا و هكذا... اقتاي و قد عال صوته بجهورية :ألجمي لسانك و كفاكِ صفاقة .لوال أن والديكِ أرادا م ّنا الحضور لم نكن لنتواجد معك .ليس عيبا ممن أراد االرتباط بكِ فنحن نشفق عليه منكِ ,بل لد ّنو أخالقك و سوء ألفاظك .أتمّي زينتك و سنراكِ في الحفل. ت كذلك؟ توجان بحدّة :ربما ستتزوجين من رجل محترم لكن هل ستصبحين أن ِ ٍ سحب الشقيقان يوليا و والديهما و تركاها في عهدة الخادمات تساعدنها و قد استشاطت غيظا ,فهي لوال أنه من غير الممكن أن تتزوج دون عائلة تساندها يوم زفافها لتزوجت دون أن تدعوهم ,مازالت في خوف من تصرفات غير محسوبة من عائلتها ,والدها أوال ثم من اقتاي و أمّها .أما شقيقتها يوليا فقد كانت تخشى أن تعرف عائلة زوجها المستقبلي ما أل ّم بها أو تبدأ االستفسارات عن كيفية استحالة لون شعرها إلى الثلجيّ . ميرا :لو كانت صبغته بلون آخر أليس أهون مما سيعلق من أسئلة تنهال بها جلوري و أمها و األخرّيات اآلن. حانت من ميرا صرخة ألم و قامت بدفع إحدى الوصيفات على األرض بعد أن شدّت األخيرة مشبك الفستان بطريقة آلمتها .كانت فعال سيئة المزاج و ربما الطباع أيضا .بعد خروج العائلة تو ّجهوا إلى األسفل للغرفة الكبرى حيث تع ّرفت يوليا إلى عائلة طارق .ذهب اقتاي ليقف مع زوجته و ابنيه ,و أقبلت زوجة توجان ببطنها المنتفخة لتقف جانبه ,جلست أمها إلى جانب الجدّه تتكلم معها فاكتشفت أن السيدة الكبيرة ليست مخيفة كما اعتقدت في أول تعارف حصل بينهم منذ نحو ساعة .اقترب رجل كبير السنّ نحو والدها يرّحب به و ب يوليا و قد دعاهما للخروج إلى الحديقة فاستجابا للدعوة .عندما أصبحت في الخارج أحسّت بنداوة العشب تحت حذاءها العالي ,تمنت أن تخلعه و تسير حافية علّها تشعر بقدر أكبر من الحريّة ,لكنها ال تستطيع فاألجواء كما شحنات الكهرباء المتتابعة و العيون مرتقبة لكل تصرف غير موزون سيصدر منها .آثرت أن تعتبر نفسها في اجتماع حفل ما يريدون تنظيمه ...بهذه الطريقة عمل مع إحدى الشركات التي تتشاور معهم حول برنامج دعائي أو ٍ تضمن أن تبقي نفسها بعيدة عن أي تصرف غير مسؤول ,أي أن تتصرف على طبيعتها. جلوري (و قد اغتالت حبل أفكارها فشطرته نصفين) :ل َم شعرك أبيض؟ أال ترين أن مظهرك يد ّل على الشذوذ؟ ردّت على وقاحتها بتؤدة :و لم تسألين بطريقة مبتذلة ال تليق بسيدة مجتمع؟ توسّعت حدقتا عينيها الرماديتان و ارتفع الدم إلى وجنتيها ,لكن يوليا لم تجعل لها وقتا كافيا الستيعاب الصفعة فقد كانت دلفت الغرفة الكبيره. لم تتنبّه جلوري أن لوسن قد سمع دسّ سمّها فجاءها من خلفها :عليك تعلّم اآلداب مجددا ,ك ّفي عن كونك طفلة أرستقراطية ...فوالدتك دخيلة على العائلة كما سيصبحون ه ّم .الفرق أنهم لن يمكثوا معنا كما فعلتم أنتم و هذا ما جعلنا نبارك خطى طارق. استدار موليّا لها ظهره كمن أرداها في مصرعها بعد عقو ٍد من الصمت. (جلوري) من عمر ميرا ...كانت والدتها مضيفة طيران مغربية اسطاعت إيقاع زوجها في شباكها لينتشلها من القعر و يجعلها سيدّة مرموقة ...لكن عبثا ,لم تتعلم شيئا من محيطها الجديد ,و على مدى الثالثين عاما بقيت بدائية و تفتعل المشكالت كما معظم النساء العربيات الثرثارات التي توقع الخالفات بين الناس أينما حللن .ربتّ بناتها على كسب المصالح و حبّ المال و إن اقتدى ذلك ارتباطهن برجال يكبرونهن بعشرين أو ثالثين عاما و حتى خمسين .هذا ما قامت به أختها الكبرى و أخيها الذي كان لقبه (زوج السيدة) ...المهم المكسب الماديّ بعد
8
الذي بددّته من ثروة زوجها الذي عاد يسكن في قصر العائلة مجددا .لذا كان لوسن يعجبها لثروته و مكانته المرموقة .حاولت تصيّده مرارا دون أن تفلح. تزوّ ج لوسن من امرأة أحبها في سنّ السابعة و العشرين و قد تع ّرف عليها من خالل إحدى أسفاره مع والده في مجال العمل ,كانت ابنة رجل ثريّ من ذات المستوى االجتماعي ,لم يدم زواجهما سوى بضع سنوات و في سنّ الثالثة و الثالثين توفيت بعد مصارعتها مع مرضها الذي حمله معها في سنوات زواجهما .و لم يفكر بعدها في االرتباط فقد كانت المح ّنة قاسيّة جدا فالتفت لالنهماك بمجال األعمال و استطاع أن يستق ّل بشركته التي أصبحت رائدة في مجال الدراسات اإلستراتيجية العالمية و اكتفى بالعمل بديال عمّا فقد رغم محاوالت عائلته و حتى عائلة زوجته الراحلة لكنه بقي عازفا عن الزواج طالما جراحه لم تبرأ بعد عن خسارته ...أو ألنه يخاف من معاناة الحبّ مجددا؟ ال أحد يعلم كيف يفكر الرجل .في تلك األثناء لم تكفّ جلوري عن تحيّن الفرص علّها تفوز به لكن محاوالتها كانت تذروها الرياح في ك ّل مرّة .و عندما كانت تدخل على العائلة نساء جديدات مع عائلتهن ت طويلة .تعلم كانت تخشى ذهاب فرصتها و مطامعها ,رغم علمها أنه لن يناظر إحداهن رغم ترملّه منذ سنوا ٍ يقينا بمبادئه و كياسته و دماثته و أ ّنه كان يحتقر أسلوبها و عائلتها لما يقومون به من تصرفات تنافي اللياقة و مع ذلك جميعه لم تعدم الوسيلة بعد .الساعة الثامنة و خمس و أربعون دقيقة مساء و ما زالت يوليا في غرفتها تذرعها طوال و عرضا .لم تكن تريد أن تنزل الحفل! لم تكن خائفة ,ليس ترددا ,لكنها ال تريد التص ّنع و التظاهر في مجتمع تعلم أن نساءه عبارة عن دمى بالستيكية فارغة بمجملهن و رجاله كسياسيّن يظهرون الرحمة و من باطنهم أل ّد أنواع الشياطين ...بمعظمهم .إن عملها مع الطبقات التي تع ّد راقية كان و الزال يرهقها و ها هي ذي ال و يحبّ ميرا بحق في ذات الحلبة مجددا .لكن ما كان يؤرقها حقا هو ...أن طارق شاب لطيف و غير متع ٍ فهل تبادله أختها ذات الشعور؟ أم ألنه غ ّني و من عائلة مرموقة قررت االرتباط به؟ هل تعلم ميرا ما معنى الزواج ح ّقا؟ هل تعي أختها أيّ طريق تسلك و أين تضع الخطوة التي تقوم بها؟ كانت هي تهت ّم باألخالق و المشاعر ,و رغم فقدها و خساراتها في معترك الحياة إال أن أصدقاءها و صديقاتها يعلمون ما تقدّمه للغير قدر استطاعتها فقط حتى ت ّعوض من تستطيع عن ما لم تستطع هي الحصول عليه أو حيازته .المريض باإلنسانية ال يشفى منه و هذا عقابه الدنيوي ما ح ّيي .فتح الباب فجأة فارتاعت ...و إذ بوالدتها تطمئن عليها بعد تأخرها عن الحفل. األم :ما بالك يا عزيزتي ...هل هناك خطب ما؟ يوليا :ال أجد في نفسي الوجد ألتواجد في الحفل. األم :البد و أن كالم ميرا هو ما يجعلك على هذا الحال _نظرت إليها بح ّنو_ كما أعرفك دائما و الزلت أنيقة و جميلة... صمتت والدتها و هي تنظر إلى شعرها المعقوص على شكل تسريحة كالسيكية ناعمة فعرفت يوليا أن اللون هو ما أسكتها ,فهو يذك ّرها بهرب ابنتها منذ ثالث سنوات مضت و بحادثة لم تكن تخطر في بالها أن تحصل في عائلتها أو ألحد أوالدها و هم الذين هربوا من بالدهم خوفا من ِتلكم األشياء ...لم تنسى كيف رقدت ألشهر في المشفى حتى تتعافى ...كيف صدموا عندما أخبروهم أنها ابنتهم من تعرضت ألمور مرّوعة ,جروحها ...كيف ت ّم إيجادها ...ثم استحالة الليل الذي كان يكلل جمالها إلى صقيع يثبت لهم كيف سحبت معنى الحياة من بضع ٍة منها. قبّلت يد والدتها و هي تقول لها :ال عليكِ أمي ...لقد نسيت هذا األمر منذ زمن ,لكن من الصعب أن أغيّر لونه فهو يمد ّني بشجاعة البقاء حيّة و يبقيني متف ّردة _غمزت لوالدتها بشقاوة_ فكما تعلمين أنا دائما مختلفة. ضحكت و هي تحاول أن تسّري عن أمها مقلتين كادتا تنفجران و ليس هذا هو الوقت المناسب :هيّا فقد تأخرنا بما فيه الكفاية ,علينا النزول حاال ,هلّمي. جعلت والدتها تمسك بمرفقها و سارتا عبر الممر الطويل للغرف ,هبطا درجات السلّم الرخاميّ المو ّ شى بعروق سوداء كخرائطٍ لبالد مجهولة تعبرها البحار و األنهار و تقسمها إلى جزر و خلجان ,وصلتا باب الحديقة الرئيسي و ما أن خرجتا حتى توقفت يوليا فجأة و قد راعها الك ّم الهائل للمدعوين ...الطاوالت المستديرة ّ المكتظة لرجال بالبدالت التوكسيدو و الرسمية السوداء ,بعضهم بربطات عنق ,آخرين بربطة البابيون (الفراشة) و آخرون آثروا الوشاح مع دبوسه .أمّا النساء فحدّث و ال حرج في أزيائهن و األلوان التي تغطي 9
وجوههن ,هل تذكرون فيلم كوتزبي و حفلته الشهيرة ...هذا ما كانت عيناها تناظرانه بالتحديد .كانت تهّم بالتراجع هربا من هذا الطوفان البشري و الموسيقى الصاخبة إال أنّ صوتا أتاها فجأة و قريبا من أذنها. لوسن :ستعتادين النظر و تألفينه بعد حين ...على األقل تبدين طبيعية و ...أنيقة. نظرت إليه و قد استب ّد االستغراب على وجهها و ألجمتها عباراته. لوسن :أال تثقين بي؟ يوليا و قد فاجأته بخنجر :و هل تثق أنتَ فيّ ؟ نظر إليها لوسن كمن أتته صفعة مباغتة و قد تقابلت عيناهما بت ّح ٍد ينتظر كل واح ٍد منهما االعتراف بشيء أو الفوز على اآلخر بطريق ٍة ما. لوسن و قد توسّعت حدقتاه من فجأة السؤال :إن لم تكوني تثقين فال بأس. كان كمن ينفي ليرغم على الفعل. أشاحت ببصرها :أتثق أنت فيّ ؟ لوسن بعد مكابرة و جدال سريع مع بينه :أجل ...أنا أثق بكِ . برقت عيناها كنصر نفرتيتي على توت عنخ أمون :إذا ...أثق بك. لوسن :أتسمحين لي أن أقودك إلى طاولتكم حتى أخفف الوطأة عليكِ ؟ لم يكن يسألها أو يستأذنها بل كان أمرا حيث أنه م ّد مرفقه معلنا أن عليها أن تتمسك به لينزال الدرجات حاال, سحنته لم تكن تشي بأنه سيتحرك من مكانه دونها .تمسكت كفها بمرفقه و أمسكت طرف فستانها كملكة بيزنطية تترجل درجات قصرها .التفت لوسن إليها فاكتشف أن وجنتاها خمريتان أكثر من الطبيعي .لمحته بطرفها لكنها ت لم تتجرأ على أن تدير وجهها ناحيته فقد خشيت أن تتعثر أو تز ّل قدمها أو ...خائفة من أن يسمع ضربا ٍ تحاول تمزيق قفصها الصد ّري .إنها المرّة األولى منذ سنين طويلة تشعر بحرارة جسدها و أن الدم يغلي في عروقها ,يداها تتعرقان ,و بسمة غريبة شبه ملحوظة تزين مبسمها .أدار لوسن وجهه عنها و قد باغتته ابتسامة شريرة يتلذذ بمداها و هو الذي لم يبتسم بهذه الطريقة منذ ...سنين خلت .أوصلها حتى الطاولة و انحنى بطريقة مهذبة و انحنت بدورها ما يعني أن الحدود بيني البلدين قد بانت معالمها و على كل منهما التزام ّ خطه .لم يلمحه لَحظها أبدا خالل تواجدها في الحفل ,و لم تحاول هي البحث عنه بين الجموع ,عوّ دت تفكيرها و جوارحها أن اللحظة التي تمّر بها هي تلك فقط فإن انتهت فالحياة مازالت مستمرة .توقفت منذ زم ٍن غابر و بعيد عن أحالم المراهقات و أبعاد مخيالتهن .كان وحيدا في الظالم ,في مكان قصيّ خلف إحدى أشجار الصفصاف حيث ابتعد و أخذ يراقبها. كان يساءل نفسه :لم يترقبّها؟ ما المميّز فيها ح ّقا؟ هو حتى ال يعرف شيئا عنها؟ ما هواياتها؟ موسيقاها؟ عملها؟ و األه ّم من ذلك كله هو ,ما سبب بياض شعرها؟ أهو يخون ذكرى زوجته؟... أشياء باغتته و أخذت تعيث فسادا في قلبه و كيانه ككل ,مذ رآها تدخل الغرفة الكبيرة و هي التي كانت سبب تأخر الجمع اليوم شعر كسكين غرزت بين الضلوع ما سببّ تدفق أدرينالين أكثر من معدّله المعتاد بآالف المرّات ,األنفاس متالحقة ...خروجها منذ قليل من باب الحفل ,لم تكن تضع الكثير من المساحيق ,شعرها بلونه و تسريحته يشي ببساطتها ,فستانها المخملي بلون زيت الزيتون يكأنه مستخرج من الشجرة المباركة القدسية... حذاء فض ّي و قرطان فضيّان بسيطان يؤكدان االلتزام ...خاتم فضّي يزين سبابتها اليسرى يوحي ذوقها فيه عن عشقها للفن و كل غريب طريف ...من تكون هذه الشر ّقية الشركسّية بمالمحها العربيّة بامتياز؟
11
ّ متقطعة؟ حياءك ذو عطر يشبه ت ح ّقا؟ ل َم أتيت اآلن تعبثين بكينونتي و لم أركِ سوى بضع لحظات لوسن :من أن ِ رائحة الد ّراق المخمليّ ؟ من تكونين يا فتاة؟ أجيبيني إن كنت قادرة على سماع صمتي من بعيد؟ فجأة رآها تلتفت تحدّق في المكان حيث يختبئ عن عيون المدعووين و كأنها استشعرت أن أحدا ما يراقبها أو يرسل مع نسمات الليل رسائل و تونات ما ,لكنها لم ترى أحدا .انسحبت من مكانها إلى داخل المنزل فخرج من مكمنه و حاول االلتفاف دون أن يالحظه أحد و خصوصا أن الجانب البعيد غير مضاء فاستطاع التسلل من إحدى أبواب الحديقة لداخل المنزل .كانت تحاول الهرب من الضجيج كالحوت الذي اتخذ سبيله في البحر سربا, كانت توقن أن في هذا القصر الفاره غرفة سحريّة تختبئ بها بعيدا ,حاولت أن ترى إحدى خدم المنزل علّها َتسلهم أين تقع هذه الغرفة بالتحديد لكنهم جميعهم مشغولون بالحفل .وصلت إلى البهو المليء باللوحات الفنيّة و األيقونات المعروضة على حامالت رخامية بازل ّتيه .بدأت تتأملها واحدة تلو األخرى و ألكثر من ساعة ,كانت بألم في قدميها فخلعت الكعب العالي و حملته بيدها و واصلت رحلتها حرّة بين أوا ٍن مشدوهة تماما حتى أح ّست ٍ زجاجية غريبة النقوش لكنها مذهلة بدقتها و ألوانها ,لوحات ألماكن طبيعية و سفن بحريّة مختلفة األزمنة و األمكنة و األوقات قد ّ أطر ك ّل منها بإطار منقوش على يد أمهر الص ّناع لدق ّته و توازنه. ت تائهة؟ جيفرز :هل أساعدك بشيء سيدتي ...هل أن ِ فاجأها صوت جهاز اإلنذار فنظرت نحوه مجفلة و مخيلتها مازالت تعمل على ما اختزنته مما رأت من لوحات زيتية و فنيّة. يوليا :كال ...ع ّم جيفرز ,كال... استطردت فجأة و نادته بعد أن ابتعد قليال :هل تملكون غرفة سحريّة؟ نظر إليها مستغربا :غرفة ...سحريّة؟ يوليا :أعني ...هل يوجد مكتبة أو ركن قراءة في هذا القصر؟ جيفرز :أجل سيدتي ,تقصدين مخبأ و مهربا. نظرت إليه يوليا بخجل :أجل ...نوعا ما. جيفرز :اعتاد سيدي أن يسمّيه هكذا لكن أن يسمى بالغرفة السحرية ...هذا مصطلح جديد كلّيا. يوليا بفضول :سيّدك؟ جيفرز :السيد لوسن .عندما يريدون مني البحث عنه ال أتحمل عناء ...تفضلي من هنا رجاء. وصلت إلى باب كبير خشبّي اللون بعيد عن باقي الممرات و الغرف. جيفرز :جميل أن أعلم أنك من أنواع البشر الذين مازالوا يقرؤون ...لن يبحث عنك أحد هنا. كطفل في خطواته األولى عبرت من عالم الصخب إلى ...وقفت متسمرّة مكانها و عيناها تحومان في المكان و ٍ صروح ممرّ دة تحوي مجلدات ...كتب ...كتيّبات... من ه ٍ متنا ال فضاء في متعلقتان هما ٍ يوليا :يا إلهي ...جيفرز أنت مالك حقيقي ...إنه ...إ ّنه قصر بح ّد ذاته ...مملكة بين الجبال كما األساطير ...ك ّل هذا... رمت حذائها ,أمسكت طرف رداءها و راحت تتنقل بين الطوابق بفرحة طفل غمرته المفاجأة في أرض األلعاب أو محل الحلويات ...لم تكن تعلم أن هناك من سمعها و استغ ّل فرصة انشغالها بما سرق عليها لّبها و تسلل إلى المكتبة و اختبأ في أحد أركانها .بينما امتثل جيفرز لألوامر و خرج من فوره و أغلق بوابة القصر ليحميها من 11
الحمالت التترية و الصليبيين .صعدت الساللم الخشبيّة ,توق ّفت عند أحد الطوابق و بعد لئي سحبت من إحدى الرفوف كتابا بعنوان (زهور الحرب) ل جي لين يانغ ,لم تهتم لعدد الصفحات و إن كان مجلّدا أو ك ّتيبا ,يكفي أنها عبرت البوابة من عالم القاع إلى معالم أرض العجائب لتعيش في كل مرّة في عصر مختلف و زمان آخر و أوقات متباعدة .غرقت في محيط الصفحات و أخذت تج ّدف بمخيلتها األحرف المتراصّة و تنتقل بين موجات األسطر المتدافعة حتى أنها فقدت اإلحساس بما حولها ,لم تنتبه أبدا إلى حركة أو نفس .كانت تسند ظهرها على زجاج المكتبة و تم ّد قدميها بات ّجاه السور الخشبي في ذات الطابق الذي اغتالت من إحدى رفوفه الكتاب فأقلقت أرض غير األرض. راحته و سكون أصحابه عندما انتزعته من قيلولته لتسافر عبر دفتيّه إلى ٍ بعد أن اطمئن السبّاح لخلوّ محيطه من كل ما يعرقله و تيقن أن السيدة الصغيرة قد تركت العالم الفاني لتطفوا في عالم آخر تحمله بين يديّها ,تسلّل بخ ّفة إلى الركن الشرقيّ حيث مشى بمحاذاة الرفوف حافي القدمين عدا جوربيه بعد أن خلع نعليه احتراما للوادي المقدس و تفاديا منه إقالق راحة ضيفته التي بدأ يعجب بها أكثر ,وصل إلى الكنبة المتوسطة و جلس عليها بهدوء و قد أشعل اإلنارة الصغيرة في زاوية المجلس .كان الركن إحدى األركان الخمسة التي تحوي مقاعد و مناضد ,فكل ركن يقبع تحت رفوف المكتبة إلى الداخل كما الكهف الصغير في الجبل ,مؤثث على طراز األربعينيات للقرن الماضي ,لمقاعد زرقاء مزركشة بعضها بالفضيّ و األخرى بالذهبي مع لوحات صغيرة تزين الجدار الصغير و فيها زجاج مستطيل يطل على أقصى أركان الحديقة حيث ال يأتي هناك أحد و ال يستطيع أن يرى الشخص الواقف خارجا من الجالس في الدخل و إن رأى ضوء إال إن قام األخير بالقعود على الشرفة من الداخل ليستمتع بالقراء مع منظر الحديقة. أمسك برواية (ميالد مجيد) ل كريستيان كوريون و لحق العالمة الموضوعة ,أزالها و شرع بالقراءة ...بعد مضيّ ساعتين من الزمن سافر فيها هو اآلخر حيث كانت تدور رحى الحرب العالمية بين الفرنسين و األلمان و األسكوتالنديين توقف فجأة بعد أن خامر قلبه ّلذة من نوع غريب ...شيء استدرج عقله لخاطر ما كان يظنّ أنه سيأتي بعنف ,كان يشعر أنه جندّي يحمي أميرة في قصر ,يدافع عنها! لكن مما؟ لم يحاول االبتعاد أكثر حيث ردّه إلى الواقع صورة زوجته الموضوعة على الطاولة الصغيرة .هل نسي حبّه لها؟ أهو مستعد ليحيى مع غيرها مرّة أخرى؟ بعد أكثر من نصف ساعة أحسّ بهدوء غريب لم يعهده ,صمت أص ّم يتكلم و يصرخ .مشى بتؤدة محاوال استكشاف ما ح ّل بضيفته ...هل رحلت في حين انغماسه في عالمه؟ أم أنها مازالت تغرق أكثر كلما تعمّقت بما في يديها؟ رأى طرف ثوبها و إحدى فرد ّتي حذاءها فاطمئن إلى أنها مازالت هنا ,لكن هل مازالت مستيقظة؟ بخ ّفة ّ قط صعد الساللم و وصل إلى الطابق الذي تقبع في منتصفه تقريبا ,م ّد رأسه ببطء فوجدها و قد تمددت على األرض ...إحدى يديها ممدودة و مسندة عليها رأسها و خصالت شعرها الطويل تبدو كإحدى شالالت العالم المتد ّفقة بقّوة و ترتطم على الصخور مبعثرّة رذاذها كسهام تصيب في المقتل من يقف قريبا منها فترديه صريعا .كانت يدها األخرى عالقة بين الصفحات كعالمة حيث وصلت بالقراءة و قد أطبق الغالف عليها .اقترب برويّة حتى ال يفزعها أو يوقظها فقد سمع صوت أنفاسها الرتيبة فعلم أنها نائمة بعمق, هبط الساللم برشاقة و أحضر غطاء خفيفا من مكانه في الركن مع وسادة صغيرة وعاد إلى حيث كانت ,وضع الغطاء بحذر مخافة إزعاجها و وضع الوسادة جانبها حتى ال يوقظها ,سحب الكتاب ببطء شديد و حرص ...ث ّم وضع عالمة حيث وصلت ,أدهشه أنها أنجزت بقراءتها الكثير! نظر إلى حيث يلمع خاتمها الفضّي و أطال النظر في تفاصيله حيث أعجبه طريقة ارتداءها له و صنعه المتقن و زخرفته األندلسيّة ّ الجذابة. بدر متكامل ,أنت امرأة ندر وجودها. حدّث نفسه :إنك شبه ٍ تنبّه لقطرات مياه على الرواية فتعجّب ...نظر حوله لم يجد كأسا أو عبوة مياه! من أين الماء .كان ليغضب و يستشيط إن لم ينتبه الداخل هنا إلى إرث أجداده و عائلته .اقترب منها و نظر إليها فراعه أنها ...تبكي! نظر إلى عنوان الكتاب (زهور الحرب) ال يعتقد أنه قرأه من قبل .ارتبك و لم يدري ما يفعل! أن يرى الرجل دموع أنثى قطع تجعله ال يعلم كيف يجمعها .خطأ منه أنه تراجع قليال للخلف من فرط تو ّتره فهذا أمر يشطر كيانه إلى ٍ فأردى إحدى فردتي الحذاء من على حافة الطابق ...حاول إمساكها ففشل ...أحسّ بعروقه كصحراء الربع الخالي فجأة و امتقع لونه خوفا من أن تستيقظ فتراه فتحسب أنه يستغل وجودها منفردة! أو أن تصرخ فجأة لرؤيته فوق رأسها و هي التي اعتقدت أنها وحدها ...تلك الثواني التي مرّت حتى ارتطم الحذاء على... حدّث نفسه :يا لي من أحمق ...غبيّ ...نسيت أننا فرشنا أرض المكتبة بالسجاد .يا إلهي كاد قلبي يتوقف من شدّة الخوف.
12
أخذ نفسا عميقا و هبط الدرجات ليعود أدراجه في الركن الداخليّ .عاد إلى كتابه لكن عبثا باءت محاوالته ,ذهنه و مشاعره في حالة حرب عالمية ال هدنة فيها ,بين الماضي و الحاضر ,بين تفنيد حقيقة ما يشعر به من أحاسيس غريبة ال يفهمها ,و هو يحاول جاهدا ...احت ّل النوم أجفانه دون أن يشعر .فتح مقلتيه عند حوالي الساعة الحادية عشرة صباحا بعد أن أحسّ حركة في المكان ,تنبّه على الفور و استقام في جلسته ,و إذا ب جيفرز يفتح الستائر و قد كان أحضر لسيّده فطوره المعتاد من الخبز المحمّص مع الزبد و المربى و فنجان قهوة كبير. جيفرزَ :طل َبت مني السيدة أن أشكرك على الغطاء ...و أنها سعيدة ألنها وجدت غرفة سحرية في هذا القصر. ت ّنبه لوسن :هل رحلت مبكرّة! غرفة سحرية! جيفرز :أجل ...أنت تسميها مهربا و مخبأ ...أمّا هي فتفضل السحر .لقد صحبتها إلى غرفتها لتتجهز من أجل الفطور الكبير _أت ّم_ أخبرت العائلة أنك غادرت مبكرا جدا لعمل ضروري و كالمعتاد الحقتني السيدة الحشورة باألسئلة و حاولت تجاهلها فاستشاطت غيظا. ابتسم بدهاء ...و ضحك لوسن و هو يسمع كيف يصف جيفرز جلوري بلغته العربية الركيكة. لوسن :حسنا فعلت ,شكرا ع ّم جيفرز. جيفرز و هو يت ّنهد :السيدة يوليا شقيقة العروس غريبة األطوار لكنها لطيفة و محترمة ,لكن... نظر إليه لوسن :لكن ماذا... جيفرز :كانت شقيقتها تنتظرها داخل الغرفة و ما لبثت أن انهالت عليها بأقذى العبارات ...و... لوسن :و ...ماذا؟ جيفرز؟ أكمل أرجوك ,كفاك ال واو هذه... جيفرز :طلبت من السيدة أن ترحل من البيت ,إال أن عليها أن تحضر الزفاف للواجب و إتمام الصورة فقط. لوسن :ماذا؟ لماذا؟ ما الذي حصل بالضبط؟ جيفرز :تنبهت السم السيّدة الشمطاء يذكر لك ّني لم أتبين الحديث ,و لوال أ ّني سمعت صوت السيدة ميرا بشكل غريب و هي تصرخ لما استرقت السمع و أنا في طريقي للخروج من غرفتها و أنت تعلم هذا يا ب ّني. كان جيفرز قد اعتنى جيدا ب لوسن و أشرف على تربيته في مرض والده و قد ساعد السيدة آنيا والدته في ذلك ...فهو يعتبره كأحد أوالده و خصوصا أن السيدان و أخوته كانوا يبادلون جيفرز االحترام ليس على أساس أنه كبير الخدم بل على أ ّنه مربٍّ قد ساندهم في محنهم و هو كان يحبّهم بحق كعائلته. احمرّت عينا لوسن و قد بدأ الشرر يتطاير منهما :متى سننتهي منها و من بناتها ...متى سيتخذ جدي و جدتي قرار إبعادهن فقد مللت منهن ,أصبحت أكره وجودي في أرجاء المنزل. عاد ينظر لجيفرز متوجسا :هل أنت واثق أنها سترحل عن هنا يا عمّي؟ جيفرز :بغالب األمر ...نعم. لوسن :هل تستطيع إتياني بخبر يقين ...أرجوك. أومأ جيفرز برأسه بصيغة اإليجاب و خطى خارج الركن إلى الباب الرئيسي و اختفى خلفه نهائيا بعد أن أغلق الباب خلفه بهدوء. 13
بقي وحده يحدث نفسه :لم أنت مهت ّم بها إن رحلت أو بقيت؟ إن كانت أختها بمثل ذاك المزاج فما أدراني كيف ستكون هي؟ ث ّم ...هناك شيء غريب في حياتها ...ال أعلم إن كنت عرفته هل... عاد للصمت مجددا و هو يناظر النافذة المطلّة على الحديقة من داخل الركن ,كان واقفا يتجرّع قهوته التي تلسع مرارتها أفكاره و تلدغ مخيلّته المتدفقة. عاد يحدّث نفسه مجددا :هل ما أقوم به صحيح؟ إنها بسيطة جدا و معقدة في آن ...أنثى بكل نظرة و حركة و سكنة تقوم بها ...نادرات أصبحن من يغطي وجوههن الحياء في هذا العصر .طبيعية جدا ...ال تخجل من نفسها أنها ليست توب ستايل كالدمى _امتعض قليال_ لكن شغفها بالفنّ ...بالمطالعة ...هي حياة .أجل ...هي رئة تدخين عام. صحيّة في جوّ ٍ التفت إلى المنضدة حيث صينية الفطور ,وضع فنجانه عليها و عندما ه ّم برفع بصره تعلق نظره بالغطاء المطوّ ي بشكل مر ّتب و فوقه الوسادة ,لكن ما هذا الذي يلمع فوقها؟ اقترب أكثر فوجد دبوس وشاحه من الليلة الماضية؟ لوسن :كيف أتى إلى هنا؟ أين كان؟ هل دخلت الركن و أنا نائم أم كان عمّي من وجده! لكنه أخبرني أنه رآها في البهو و أوصلها إلى غرفتها ,إذا دخلت الركن و أنا نائم ...فلم لم استيقظ! يالي من غبّي ,أحمق. ّ غذ الخطى إلى حيث كانت البارحة في الطابق العلويّ من المكتبة و أخذ يبحث عن الكتاب الذي كانت تقرأه... لوسن :أين أنت ...ليس هذا وقت لعب الغميّضة؟ بعد وقت و جهد :هل يعقل أنها أخذته معها؟ آآآآآه _يعضّ على أسنانه_كيف سمح لها جيفرز بهذا؟ ألم يخبرها عن قوانين مخبأه. أخذت خطواته السريعة تعود للركن حيث ارتدى حذاءه و حمل سترته السوداء و قميصه مكشوف الصدر و أكمامة مرفوعة حتى المرفق ,الغضب يعصف بأركان جسمه و قبل أن يصل الباب ببضع خطوات ف ِتحت إحدى دف ّتيه فجأة و ...ظهرت أمامه بقامتها المتوسطة! لكأن دلوا من الماء البارد قد صبّ فوق رأسه و هدأ إحساسه بالغضب دفعة واحدة .صدمت هي أيضا عندما رأته أمامها و ارتبكت ...كان أنفها و خدّاها يشعّان احمرارا و تحمل عيناها آثار بكاء شديد .وجدها تحمل بين يديها الكتاب. يوليا :عذرا لم أكن أعلم أن ...ك هنا ...سيدي. لوسن :لوسن ...يمكنك مناداتي _بلع ريقه بصعوبة_ ث ّم ...ال ...ال بأس... يوليا و قد فاجأها جوابه ,لكنها أردفت :جئت أعيد الرواية فقد علمت من العم جيفرز أنه ال يجب إخراج أي كتاب خارج الغرفه السحرية_ .أخفضت صوتها_ أقصد المخبأ... ت بخير؟ لوسن :هل أن ِ نظرت إليه ث ّم حوّ لت نظرها إلى العشواء و خطت ببطء إلى الدرجات لتضع الكتاب في مكانه. جاءها صوته مباغتا :ال ...عليكِ سأعيده أنا ...ليس عليكِ أن ترهقي نفسك بالصعود. ب و امتنان فناولته المجلّد و قد همّت بالخروج .توجّهت نحو الباب ث ّم استدارت إليه مباغتة نظرت إليه بين تعج ٍ ب نظراته إليها. إياه تعق َ يوليا :شكرا على الغطاء و الوسادة. لوسن و قد فغر فاه :ال ...شكر ...على ...واجب. 14
ع ّقبت يوليا :سأغادر اليوم. لكأنه يسمع الخبر للوهلة األولى و لم ينبس ببنت شفة. يوليا و قد انحنت مودعة :سيد لوسن. لوسن ...:يوليا. نطق بحروف اسمها بعد فوات األوان ,بعد أن أطبق الباب مصراعيه و بقي وحيدا ...الصمت كالموت ,صمم أصاب أذنيه و ع ِق َد لسانه ...صدمة تأكيدها لخبر مغادرتها شلّت أطرافه كليّا .كانت تبدو جميلة جدا ببنطالها الجينز و كنزتها السوداء ذات األكمام الرمادية ...ترتدي صندال رماديا و قد َطلت أظافرها بلون زهر التوليب الرائع .شعرها معقوص بعشوائية خلف رأسها و قد هربت بعض خصالته لتزين جانبّي وجهها بدلع ,ال تضع مساحيق إال أن البكاء أضفى عليها جماال مالئكيا من نوع آخر .نظر إلى الرواية في يده اليسرى لمدة طويلة... طويل ٍة جدا ...أدار مزالج الباب يقفله من الداخل و عاد إلى الركن كمن ضربته صاعقة السماء فأردته صريعا. فتح مقدمة الكتاب و ركب قارب الكلمات أر ّد أن يبحر بنفس الطريق التي كانت تمخر سفينتها فيه ,علّه يسبر بعض أغوارها و يعرف شيئا ما عنها ,أي شيء ...مهما يكن ...ال يهم ما سيكون ...المهم أن يفهم و لو جزءا يسيرا .شارفت الساعة على التاسعة و خمسة و ثالثين دقيقة مساء ,كانت علبة المناديل الورقية تتحرك و يخرج منها المنديل تلو اآلخر ,اآلن َبطل عجبه عن سبب بكاءها ليلة أمس .رهافة إحساسها عالية جدا ...إن كان هو الرجل قد فاضت عيناه و ترقرقت في مقلتيه فيضانات ال يستطيع حصرها .بعد منتصف الليل بقليل كان قد أنهى خوض غمار محيط عجيب و رست سفينته أخيرا على شاطئ الميناء المقابل للضفة التي بدأ منها. أدار المزالج و تسلل من مخبأه و عواصف ثلجية تضرب بمخيلّته و ذهنه ...وجد نفسه يطرق الباب و قبل أن يؤذن له دلف و أغلق الباب. صوت امرأة :حبيبي ,حسبناك في رحلة عمل خارج البالد! صوت رجولي :كيف حال أعمالك؟ هل ك ّل شيء على ما يرام؟ اقترب أكثر منهما و جلس بجانب المرأة و ق ّد ضمّها إليه و أسند رأسه على كتفها. نظر الرجل إليه :هل أنتَ على ما يرام؟ أهناك خطب ما أصابك؟ تحرك الرجل نحوه و يداه تعبثان بمحرّك اتجا ٍه آليّ جعل مقعده يتقدم نحوهما و إذا به و المرأة يفاجئان بدموعه المنهمرة. الرجل :باهلل عليك أخبرني ما بالك؟ ماذا جرى لك؟ أين كنت طيلة فترة غيابك؟ لوسن :أحبكما كثيرا ,هل تعلمان هذا؟ أنتما سندي في غربتي مذ رحيلها. بدأ يجهش بالبكاء .فضمّته أمّه إليها و اقترب والده منه يربت كتفه بح ّنو. األب :اهدأ يا بنيّ ...نحن معك دائما. آنيا :ما الخطب الذي جعلك في هذه الحال؟ هل تريد أن تحدثنا به؟ تعلم أننا ندعمك بكل خطواتك ,هيا ...و إن كنت و والدك قد سمعنا مقتطفات من عمّك جيفرز. رفع رأسه و نظر إليهما بحذر :و ما أخبركما بالضبط؟ الوالد :شقيقة عروس أخيك ,يبدو أنها خيّمت على تفكيرك بحضورها ,صحيح؟ 15
ف. نظر إليهما بتمعّن أكثر و لم ينطق بحر ٍ آنيا :اسمعنا يا بني ,أنت لست بحاجة إلينا لنقرر ما إذا كانت مناسبة لك أم ال ,فمتى تعالت طرقات القلب أل ِجم اللسان و تبعته الجوارح و أعانه العقل .لذا اسمعني جيدا ...إن كنت تميل إليها و لقد رأيناها اليوم أنا والدك و كانت لبقة جدا و راقية عكس ميرا تماما ...فعليك أن تخطو في دربك ,لكن إياك و التراجع دون سبب مقنع لسبيل أرد ّته بملء إرادتك ...فاعلم أين ستضع قدمك قبل أن تبدأ رحلتك. نظر إليه والده و أكمل :كن حكيما و اعقل بتصرفاتك فال تض ّم كفك و ال تبسطها ك ّل البسط فتقعد ملوما محسورا .خذ وقتك و ادرس أوضاعها جيدا و إيّاك ثم إياك أن تقارنها بالراحلة زوجتك فليست كل النساء متشابهات و إن كانت الراحلة تركتك في الطريق فذلك ألن هللا يريد منك أن تكمله مع غيرها. حدّثاه عمّا دار بينهما و بين يوليا من أحاديث و خصوصا يعد أن لفتت انتباههما بشخصها و مرحها و كيفيّة سخريتها من الحياة ,طرافتها ...فهما لم يحضرا البارحة الحفل بسبب جلسة عالج والده .لكنهما حضرا اإلفطار شجار ما ألم أو ٍ العائلي و رأياها تجلس مع عائلتها بهدوء و سكينة و قد حاولت إخفاء حال لسانها الذي ينبئ عن ٍ فقد كان وجهها محتقنا و عيناها متورمتان .و بعد خروجهم إلى الحديقة ألجل التحل ّية و وقت القهوة سحبت السيدة آنيا نفسها و جلست مع السيّد آزر الذين تبعها من فوره إلى حيث كانت تجلس الصبيّة و استأذناها بمجالستها ...فلم يخفى عليهما أن تكون جلوري و والدتها هما السبب لكن ما علماه الحقا من جيفرز أنها العروس ذاتها بدافع من األخيرتان .علم أنها مستقلّة بحياتها في تركيا و أنها مدير عام إحدى الشركات الكبرى هناك .مطلّقة و في الخامسة و الثالثين من عمرها .أما قصّة بياض شعرها فادّعت أنه فزع شديد أصابها في بالد الحرب التي هي مسقط رأسها و لم تزد على ذلك شيئا. والده :اسأل عمّك جيفرز في أي فندق قام بالحجز لها فقد أصريّنا عليها أن تبقى في ضيافتنا. نظر إليهما متعجبا :أتعلمون أين تنزل؟ هل... ض ّم والده ب ّقوة و قبّل رأسه ثم طبع قبلة على خ ّد والدته و خرج مسرعا حين سمع والده يخبره :إياك و إيقاظ جيفرز شارفت الساعة على الثالثة بعد منتصف الليل. كطفل شقيّ علِ َم مخططه الخبيث ,فتو ّجه إلى غرفته لك ّنه لم يستطع أن ينام ليلته ,تقلّب في سريره نظر إلى والده ٍ كثيرا ,خرج إلى الشرفة و جلس على أرضها و عيناه تعانق ليل سماءها الذي بدّت قبّته الماسيّة تتألأل ,عاد ثانية إلى مكتبه ,حاول العمل على بعض الدراسات العالقة لكنه لم يستطع التركيز فيما يقرأ .خرج من غرفته و توجّ ه إلى السطح و جلس فوق القرميد كعادته في أيّام أرقه و راح يتابع ظهور أول خيوط الفجر بعي ّني نسر يرتقب وقت تحليقه ليجد رزقه في السماء و ما يوعدون .سمع صوت سيّارة مسرعة ّ تشق عباب السكون و أصوات موسيقى صاخبة ...توقفت سيارة البنتلي على مسافة بعيدة بعد المدخل الحج ّري تغطي بعضها أغصان أشجار الحديقة إال أنه تبيّن الخارج منها. لوسن :يا إلهي ...ما هذا؟ ما الذي تفعله هذه الحمقاء؟ كانت جلوري و قد نزلت من السيارة الفارهة بشبه مالبس تستر جسدها ,كانت تترنح و صهيل ضحكتها كراقصة في ملهى ليليّ يعلوا صداه ,ث ّم ما لبث أن نزل خلفها رجل يتجاوز عمر أبيها و قد اقترب منها يغازلها و يقبّلها و يداه تتلمس جسدها و هي ال تمانع بل تجاريه في أفعاله .ودّعته و مشت نحو باب المنزل تترنح بعد أن خلعت حذاءها العالي .لم تتن ّبه أن هناك من رآها و قد زاد حِنقه و احتقاره تجاهها. لوسن :أهذه من تريد جدتي م ّني االرتباط يها؟ يا إلهي؟ كيف ال نعلم عن هذه األمور؟ كيف تسمح ألشخاص كهؤالء عبور بوابتنا و انتهاك مسكننا؟ كان يعلم أن في مدخل الفيال كاميرات مراقبة لذا تو ّجه إليها و سحب الشريط الذي أعاده عدّة مرات ليتأكد من فحواه و أنه يظهر حقيقة ما يجب أن يظهر .حاول البحث عن أشرطة قديمة لكن لم يجد شيئا فيها و تنبّه إلى أنّ هناك تواريخ متباعدة و غير متكاملة.
16
لوسن :ال بد و أ ّنها تعبث باألشرطة ...ال بأس ,لديّ إحداها و سأتكفل بباقي الليالي إن أمكنني ذلك. خرج مسرعا و هو يتلفت من أن ال أحدا قد رآه و تو ّجه إلى غرفته .شارفت الساعة على السادسة فجرا فلم يجعل النوم يباغته ,ارتدى ثيابه على عجل و تو ّجه إلى المطبخ ,سلّم على عِ جّة (طبّاخة المنزل) رغم أنها لم تكن سمينة لكنّ عجّة البيض التي تقوم يها مميزة و هي أكلته المفضلة لذا كان يدعوها بذلك االسم تحببا ال سخريّا ,ث ّم هي زوجة عمّه جيفرز الذي ساعد في تربيته ة تنشئته. لوسن :أين عمّي يا عمّة عجّة؟ ع ّجة :في الغرف الداخلية يا بنيّ كما حاله في كل صباح بمثل هذا الوقت. طبع قبلة على خ ّد السيدة المسّنة و توجّ ه إلى الداخل .رآه في الممر يعاين غرف الخدم و لباسهم و نظافتهم .لم يتعجب الرجل المسِ نّ عندما رآه فهي ليست المرّة األولى .لم يكن قد أفصح له العجوز عن معلومات مما حصل البارحة في غيابه عن الفطور ...لذا أحسها مباغتة عندما سمعه يسأله. لوسن :هل من الممكن أن أعرف في أي فندق تنزل شقيقة العروس؟ جيفرز بمكر و بسمة بشفاه مائلة نحو اليمين :و ما شأني بذلك؟ لوسن :أخبرني والداي باألمر. كان يبدو كمنتصر في معركة الفايكن ...إال أن جيفرز باغته :و ما الذي أحصل عليه إن أنا أخبرتك؟ لوى الشاب شفته السفلى و ّ ّ يستحق صبرك و قطب حاجبيه و بدأ يف ّكر مليّا ث ّم أجاب :حسنا سأعطيك شيئا عناءك. أخرج الشريط المس ّجل من الكاميرا و أعطاه له .نظر إليه العجوز و قد تفاجأ بالغرض. جيفرز :و ما أفعل بتسجيل كاميرات الحراسة؟ هل تسخر م ّني؟ لوسن :عليك أن تذهب و تجعل السيد و السيدة يريانه بحضور عمّي و زوجته و أبي و أمي ,عندها فقط أضمن لك عتقنا من نار الشمطاء و الحشورة إلى األبد. نظر إليه الرجل باستغراب و دهشة عميقين ,فاستطرد لوسن قائال :عنوان الفندق لو سمحت. و قد أسند الشاب ظهره إلى الحائط و وضع يديه في جيوب بنطاله و ابتسامة نصر تعلو وجهه .فما كان من جيفرز إال أنّ م ّد يده إليه بهاتفه المحمول. جيفرز :إن كنت ما ستراه هو ما قد أعطيتني إياه فقد ساعدتني على إثبات أنه حصل فعال داخل أسوار القصر لكن ال يعني أنك أفدتني بجديد يا بنيّ . نظر لوسن و قد فرغ فاه ,ظنّ أن الرجل سيزوّ ده بالعنوان إال أنه رأى تسجيالت مرئية تظهر جلوري و بأكثر ليال عديدة إلى الفيال لكنها ال تظهر واضحة لتثبت من مرّة مع رجال غرباء و سيارات مختلفة توصلها في ٍ إدانتها. نظر إلى العجوز و قد اقشع ّر بدنه فما كان من جيفرز إال أن أردف :ستبحث عن الشريط و لن تجده _ابتسامة نصر_ لقد حاولت عدّة مرات أن أحصل و لو على تسجيل واحد لكنها كانت ما كرة جدا حيث تقوم بمحوه أو من ّ يغطي عليها يسحبه و يخفيه فلذا ال إثبات يدينها .و اآلن أنا مدين لك بهذا ,إنها في الهيلتون المط ّل على شاطئ البحر تماما ...أي أن المسافة ال تتجاوز النصف ساعة إن أردّت تناول الفطور بصحبتها فعليك اإلسراع. 17
بقي مشدوها لدقيقة أخرى حتى صاح فيه العجوز مجددا :ما الذي تنتظره ّ بحق السماء ...اذهب من هنا ...هيا. باغته الشاب بضمّة قوية ت ّنم عن حبّه له و تشكره على مساعدته له ثم ما لبث أن ركض في الممر المؤدي مجددا إلى المطبخ و منه إلى الباب الخلفي إلى الكراج الذي يركن فيه د ّراجته النارية .فما كان منه إال أن قفز إليها و قادها عبر طريق الحصى و خطى من المخرج الخلفي للفيال و ا ّتخذ طريقه نحو وجهته .عند وصوله كانت موائد اإلفطار تع ّد توّ ا ,خطر لديه خاطر غريب فذهب إلى بهو الفندق و ع ّرف عن نفسه لموظف االستقبال و سأله في أي غرفة تسكن صاحبة االسم الذي أمدّه به ...لم يمانع الشاب طلب السيّد النبيل و خصوصا أنه هو من هو ...ابن أح ِد مستثمريّ الفندق هنا .تو ّجه بعد ذلك إلى إحدى زوايا المطعم و جلس و هو ك في أن تكون غادرت لتناول فطورها يحمل جريدة تخفي وجهه .انتظر قرابة ساعة و لم تظهر بعد ,انتابه ش ّ في مكان آخر أو أنها ح ّقا ...رحلت عن البالد بعد المشادّة الكالميّة بينها و بين ميرا! هل يعقل أنها رحلت؟ ه ّم أن يعاود سؤال موظف االستقبال عمّا إذا كانت مازالت هنا أم ال حين باغته وجهها الذي أط ّل من باب الدخول فما كان منه سوى أن رفع الجريدة بسرعة مخفيّا بها وجهه حتى ال تتعرف عليه .اتخذت مقعدها في الزاوية القصوى من المطعم و المطلّة على البحر حيث كان ظهرها في اتجاهه و وجهها ناحية البحر ما سهّل عليه مهمته. لوسن و قد باغتها :صباح الخير. التفتت إليه و قد ضربتها صاعقة السماء فلم تنبس ببنت شفه. تابع لوسن :هل من الممكن أن أبقي أشيائي بحوزتك ريثما أعود. يوليا و مازالت الصدمة طاغية على مالمح وجهها :طبعا ...و ل َم ال. مدّت يديها كطفلة صغيرة تلتقط شيئا من والدها و أبقتهم جانبها على الطاولة ,كانت تناظر حمّالة مفاتيح جلديّة و محفظة سوداء صغيرة و العجب يغزو تفكيرها. يوليا تحدّث نفسها :كان يستطيع إبقاءهم في جيوبه؟ ثم ...ما الذي يفعله هنا؟ عاد بعد مضيّ عشر دقائق. لوسن :شكرا لك. يوليا :ال شكر على واجب. دفعت إليه أشياءه و عادت إلتمام فطورها و لحظها يحاول تبّين إذا ما زال يقف خلفها أم أنه رحل .أحسّت بوجوده بعد ان لمحت طرف حذائه الب ّني الداكن لكنها تجاهلته خوفا ,حياء ,ال تعرف .أمّا هو ,فقد كان يتأرجح بين أن يتعدى حدود سكونها و يجلس على طاولتها أو أن يعود أدراجه إلى طاولته .فما كان منه إال أن خرج إلى البهو و ات ّخذ مقعدا يط ّل عليّها يراقبها .أنهت إفطارها ,توجهت ناحية الشاطئ و انعطفت منه نحو األسواق. ألكثر من ساعتين كانت تسير بين المحال تتفرّج البضائع المعروضة و أخيرا توقفت عند إحدى الواجهات تتمعن فيها و تتفحصها ثم دفعت الباب و دخلت .بقي يناظرها من الجهة األخرى و نظارته الشمسية ذات اللون الب ّني العاكس كالمرايا تقي عينيه ح ّر الشمس .نصف ساعة ثم خرجت ...وقفت تنظر بين يمين و شمال فرآها تعود من حيث أتت .قطع الشارع و توّ قف عند المح ّل نفسه فإذا هو صائغ فضّة و أحجار كريمة .عاد يتبع خطاها من بعيد و عندما وصل الفندق طلب غرفة تجاور غرفتها فلم يتردد موظف االستقبال في هذا طبعا بعد أن أخبر رئيسه عن الرجل المهم فرحب به االثنان ,إال أنه طلب منهما التك ّتم عن شخصه فهو ال يريد أن يعرفه أحد هنا فوافقا دون تردد .وصل الطابق التاسع و العشرون و أخذ يبحث عن رقم غرفته فوجدها تحمل رقم سبعة و غرفتها تحمل رقم خمسة ,كانت الغرف للمهمّين ت ّرقم بأرقام فرديّة مع تجّنب الرقم الثالثة .عندما ه ّم بوضع المفتاح االلكتروني في مكانه و فتح الباب ...فإذا بباب غرفة أخرى يفتح ما أصابه بالهلع فاندفع مسرعا إلى الداخل. لوسن :لقد كان ذلك وشيكا ح ّقا ...يا إلهي. 18
أمضى النهار متربصّا و قد كان ترك باب غرفته مفتوحا حتى يتسنى له سماع خروجها ,لكن مضى النهار و لم تتحرك من غرفتها .خطر في باله أن يخرج إلى الشرفة و قد شارفت الساعة على العاشرة و عشر دقائق ليال, أغان مختلفة تخرج من الشرفة لم يشعل اإلنارة ...كعادته جلس على أرضها و أخذ يسرح بنظره فإذا صوت ٍ بجانبه .حاول أن يصيخ السمع ليعرف من أي جهة ,هل هي التي على يساره أم التي على يمينه؟ إنها من... هي إليه. فوقف من مجلسه و اقترب ناحية الجدار أكثر و قريبا من الحافة يستمع إلى ما تستمع َ لوسن :لها ذوق عجيب ح ّقا. ت متأخر من تلك الليلة لكن جهازه العصبيّ ت ّنبه لرنين هاتفه على الساعة السابعة صباحا ,فما كان نام في وق ٍ منه إال أن نهض مسرعا ,ارتدى ثيابه و غسل أسنانه لكنه لم يستطع حلق ذقنه ,فلم يكن يملك الوقت .دلف من الغرفة حذرا حتى ال يقابلها في الطابق ,و ريثما وصل المصعد كان يدعو في قرارة نفسه أن ال تخرج حتى يصل إلى القاعة في األسفل ,جلس على طاولة بعيدة ليتناول فطوره حيث يستطيع رؤيتها و ال تستطيع هي تبيّنه .رآها تخطو نحو طاولة أخرى بعد أن كانت طاولة البارحة محتلّة و جلست و وجهها للشاطئ لكنه كان في قبالتها هذه المرّة ,لوّ ح لها و سلّم عليها من مكانه ثم قام من كرسيّه و تقدّم نحو طاولتها. يوليا متفاجئة :أهال _بارتباك_ كيف حالك؟ لوسن :الحمد هلل ,أتيت فقط حتى أسلّم عليك ,فقد رأيتك هنا. يوليا :شكرا. لوسن :لن أقطع عليك فطورك. ه ّم باالنسحاب حين باغتها :لم تركت المنزل؟ لم تنظر إليه و قد جمدت الشوكة في يدها و قد كانت ستصل فاهها و بهدوء أعادتها إلى الطبق :أجد نفسي حرّة بعيدة عن السجن الروتيني و الواجبات النسائية من ودّع و استقبل و صعد و نزل... لوسن :أتمنى لك يوما سعيدا. يوليا و قد نظرت إليه ببسمة مصطنعة و قد عرف أنه استف ّزها :و لك أيضا. أنهت وجبتها الصباحية و تو ّجهت إلى غرفتها ,تبعها بحذر شديد و عندما وصل هو إلى غرفته سمع صوتها تتحدث عبر الهاتف بلغة إنكليزية تشوبها التركية ببعض المواطن ,نظر من حيّز باب الغرفة و إذا هي م ّتجهة نحو المصعد .تربّص حتى است ّقلت المصعد و خرج يطلب المصعد اآلخر مباشرة ...كانت عيناه تناظر أرقام الطوابق ,رمى نفسه داخل المصعد اآلخر الذي وصل توّ ا و أخذ يع ّد الطوابق بعصبية خوفا من عدم لحاقه بها في الوقت المناسب و ما أن فتح الباب على مصراعيّه حتى قفز خارجه محاوال أن يرى وجهها ...لكن عبثا. لوسن :سحقا ...علّي أن أكون أسرع في المرّة القادمة. ّ موظف االستقبال :هل رأيتها من أي باب خرجت؟ تقدّم من ثوان من المخرج الرئيسيّ للفندق (و أشار للباب نظر إليه الشاب متفاجئ :طلبت سيارتها و قد خرجت منذ ٍ اللولبّي) خرج مسرعا و توقف ينظر إلى الطريق المرصوف لكن دون حيلة بين يديه يفعلها .مضى على وقوفه بين ت يمنة و يسرة أكثر من خمس عشرة دقيقة. متلف ٍ لوسن :ليس هذا الوقت المناسب لأللعاب _ارتفع صوته_ غبّي ...أحمق. 19
نظر إليه موظ ّفو الخدمة في الخارج دون أن يفهموا ما الذي يحصل .رنّ هاتفه في جيب بنطاله الخل ّفي و لم يكن على استعداد للر ّد على أح ٍد في هذا الوقت إال أن إلحاح المتصل للمرّة الثالثة على التوالي جعله يخاف أن يكون المتصل والداه ,عندما تطلّع إلى الشاشة وجد اسم شقيقه يومض ,تن ّفس بعمق و ضغط زرّ الر ّد. طارق :أين أنت؟ لوسن :لماذا؟ أهناك خطب ما؟ طارق :عليك أن تساعدني في السوق. لوسن :شقيقي الحبيب ,ليس اليوم أرجوك... طارق :أص ّر والديّ أنه يجب أن تكون معنا ,فمن غير المعقول أن تكون ميرا مع كامل عائلتها و أحد أشقائي متغيّب؟ لوسن :ما الذي تقصده ب "كامل عائلتها"؟ طارق :والداها و أشقائها و زوجاتهم ,شقيقتها أيضا... لوسن :ليس اليوم أر... تنبّهت حواسه كمن تن ّ شق جرعة كبيرة من الهيرويين و أردف... لوسن :أين أنتم بالتحديد؟ طارق :المحالت الكبرى. قطع المكالمة دون أن يدع مجاال لشقيقه ليكمل حديثه. نظر طارق إلى شاشة جواله و هو ال يعلم ما بال شقيقه؟ ل َم يتصرف بغرابة أكثر من عادته؟ تق ّدم نارت و ميرنار(شقيقيه) :ما الذي يحصل؟ طارق :ال أعلم ...أعتقد أنه ...قادم. جاءت نرس (شقيقتهم) من الخلف :بحسب خبرة أمّنا العميقة بأوالدها ,سوف يأتي ال محالة. نظر الثالثة إليها و قد بدا االستغراب على وجوههم ,كانوا على رأيّ واح ٍد و هو أنه من غير المقبول لديهم تو ّقع تصرفات شقيقهم هذا أبدا مذ كان صغيرا. آنيا ,هي زوجة (آزر) الثانية بعد ان عجزت زوجته األولى عن االنجاب ألكثر من عشر سنوات لذا اقترحت عليه أن يتزوج من أخرى كي تحميه من شقيقه و زوجته الغير محتملة فبقاءه دون أوالد يعني أسوء االحتماالت مستقبال أسوء من أوضاع أفريقيا اآلن .اختار آنيا بعد أن تأكد من أخالقها قدر المستطاع و أنجبت له في سنتها األولى توأمان (نارت و نرس) صبّي و فتاة ,بعد ثالث سنوات أنجبت (لوسن) و بعد سنتين رزقوا ب (تيماف) و التي توفيّت بعمر الس ّنة لمرض رئوي ,رزق من زوجته األولى و بعد مضيّ عشرون عاما على زواجها ب (طارق) .لم تكن زوجتاه على خالف أبدا بل كانتا تدعمان بعضهما إال أن لوكيميا الد ّم أصابت هذه األخيرة بعد والدتها بابنها الوحيد بخمس أعوام و توفيت بعد نزاع مرير مع المرض بخالل العام ذاته فأخذت آنيا الطفل و قامت بتربيته مع أخوته و كأن هللا عوضها عن طفلتها المتوفاة .كانت آنيا من عوائل الشركس وعليّة القوم فيهم لكن كانت متواضعة و سيدة يشار لها بالبنان. 21
كانت ميرا ممتعضة من قدوم شقيقتها معهم و خصوصا أن شقيق زوجها قادم ,لقد ّ حذرتها جلوري من مغبّة مثل تلك التصرفات التي ستؤثر على ارتباطها ب طارق و أنهم قادرون على تدمير كل شيء إن فسخ لوسن خطبته منها .لم تكن ميرا الغبّية تعلم شيئا عن مداخل العائلة و مخارجها لذا تحيّنت الشمطاء و ابنتها الفرصة ليغذيّا عقلها بأسمى أنواع السموم الممكنة .كانت يوليا تسير مع أوالد شقيقها و غصّة في الحلق تقف عالقة محاولة ت لها تصحبها في ماض مرّت به ,رفض ميرا لها كأخ ٍ عدم خروجها ,حمل زوجة توجان الذي ذ ّكرها بأقسى ٍ ِجهازها ,ك ّل ذلك كانت بغنى عنه لو لم تأت إلى هنا مذع ّنة لوالدتها .تجرعت مشاعرها كالعلقم و سايرت األمور بشكلها الحالي فلم َّ يتبق الكثير. آزر :لم تخبرنا يوليا ل َم لم تقم هي بإعداد حفل زفاف ولدانا؟ تحر جوابا مقنعا تر ّد به. نظرت إليه كأن طامّة حلّت بها ,و لم ِ لوسن :أبي ...لم تحرج ضيفتنا بهذا الشكل ,ليس من الممكن أن تقوم بهكذا أمر و خصوصا أن عروستنا ذات ذوق صعب( .نظر إلى يوليا و قد غمز بطرفه) أردف :اآلن ,بما أننا كرجال يجب أن نتأنق كما السيدات فأرجوا أن تتفضلوا معي و ستكون ثياب العريس هديّة مني إليه. باغته طارق بضمّة قوية و عانقه باقي أشقائه ,سحبوا والدهم ,والد العروس و أشقاءها و الصبية الصغار و انطلقوا ,تأ ّخر لوسن عنهم و طلب اإلذن بالحديث مع طارق على انفراد. لوسن :كيف تسمح لعروسك بأن تختلط ببنات عمّك ,ه ّل تعلم ما فعلوا؟ نظر إليه طارق مستغربا :ميرا؟ لقد أخبرتها سابقا أنه ال يريدها أن تح ّتك بهم أبدا ,ما الذي يحصل؟ أخبره لوسن بأهم اللقطات و المشاهد التي دعت شقيقة زوجته المستقبلية لترك المنزل ,وعن تسجيل الفيديو... طارق و قد عال صوته قليال :ماذا؟ كيف ...تفعل ميرا شيئا كهذا؟ لوسن :أخفض صوتك ,اآلن أريد منك السماح لي أن أتكلم مع ميرا على الغذاء. طارق :طبعا ...أكيد. عال_ تقدّم منهم نارت :أحقا هذا ,تحاول التأثير على المسكين حتى ال يكلّفك ميزانيتك كاملة _ضحكوا بصوت ٍ ال بأس عليك سأكمل ما ينقصك دعك من صاحب االستراتيجيات و أقبل إلى األعمال الحقيقة يا أخي. توجهت السيدات إلى حاجياتهن ,استأذنت آنيا أن تتبضع مع يوليا بينما ميرا و والدتها معا و نرس مع ابنتها ,لم يمانع أحد. آنيا :خذيني إلى حيث يكون ذوقك... نظرت يوليا متعجّ بة :لكن ربما لن يعجبك ذوقي سيدتي! آنيا :تستطيعين مناداتي (خالتي) ال داعي لأللقاب و الرسميّات يا ب ّنيتي ,ث ّم لقد قمت بالتبضّع مسبقا و لست في حاج ٍة إلى شيء أنت من يجب أن تهتم بنفسها ألنك شقيقة العروس. يوليا :و أنا أيضا قمت بالتبضّع قبل أن آتي هنا لذا ال أجد ما يستهويني ...للصراحة. آنيا :إذا دعينا نختبر إن كان ذوقانا متشابها أم ال؟ 21
أحسّت أن هناك شيء غريب في إصرار السيدة لكن لم تعلم مداه .كانتا تضحكان و تتناقشان إن اختلف ذوقاهما, جاءها فجأة رمح غادر من السيّدة. آنيا :أعلم أنك تشاجرت مع شقيقتك و السبب هو جلوري و أمها ,لكن هل ليّ أن أعلم السبب؟ و إياكِ أن ال تتحريّ الصدق ,فسأعلم عاجال أم آجال. نظرت إليها يوليا و قد ألجمتها نبرة السيدة بجديّتها و ترددت قبل أن تجيب :أتعدينني أن ال تتأذى أختي؟ و أنّ ال تتغير نظرتك تجاهي؟ آنيا :أعدك. ترددت ثم بلعت ريقها و قالت :جلوري ,خطيبة ابنك تخاف عليه م ّني و تحسب أنني أحاول أن أنسج خيوطي كالعنكبوتة السوداء حوله و أقسم أن هذا لم يحدث ,لكنها هددت أختي أنها ستكون سبب إلغاء حفل زفافها إن بقيت في القصر الكبير و أن الج ّد و الجدّة سيسببان لها المتاعب على المدى الطويل. آنيا و قد فلتت منها ضحكة عالية غصبا عنها و أدمعت عيناها على أثرها :ماذا؟ من ...تكون ...خطيبة ابني؟ تابعت الضحك و ل ّما لم تستطع السيطرة على نفسها سحبتها يوليا إلى الخارج و قد فاجأتها ردّة فعلها ح ّقا... عندها جاءت نرس راكضة و قد ظ ّنت من البعيد حين رأت والدتها تتمسك بيد يوليا و هي منحنية أن شيئا سيئا أصاب أمّها ,فأسرعت إليهما و تو ّ قفت فجأة عندما نظرت األم البنتها و قد أنهكها الضحك. آنيا و كلماتها تتقطع من آثار الضحك :هل سمعت ...من هي ...خطيبة شقيقك؟ ال أستطيع التوقف صدقاني. نرس :ماذا؟ خطيبة من؟ أي شقيق؟ ماذا هناك؟ يوليا! رفعت كتفيها بتعجب و حبست الكلمات خلف شفتيها و لم تجب. آنيا بعد أن تمالكت نفسها قليال و قد نظرت إلى نرس و عيناها الخضراوتين تبرقان بخبث :أعدك أن تكون هذه القاسمة لزوجة عمّك و أوالدها .جلوري تدّعي أنها خطيبة لوسن ...تخيلّي ,تلك ال ...يا إلهي سامحني .لن أغفر له و إن واراني التراب إن قام بها لوسن ح ّقا. نرس :من؟ منذ متى؟ آنيا :جلوري تقوّ ل بعض األقاويل و لو أخذنا منها بالوتين لخرّت جاثية تطلب العفو و المغفرة. التفتت السيدة إلى يوليا :اسمعيني يا ابنتي ,لوسن يكرهها و هي تحاول ج ّل جهدها أن توقعه في شباك صيدها المهترئة فال تقلقي ,بالنسبة لميرا سأجعل ثقافتها أعلى مما هي عليه. أدارت وجهها إلى نرس :أما زلت تملكينه؟ نرس :ما هو؟ آآآه ...نعم مازال بحوزتي. آنيا :لم أكن أريد ذلك ,لكن الوقت حان ألحمي عائلتنا ,تج ّرعنا ما يكفي على مدى سنين و أريد وضع ح ٍد ب و عذاب من استيطانه. نهائيّ ...على االستعمار أن يجلو عن أرضنا فقد كفانا ما لقينا من نص ٍ طفل حديث الوالدة يسمع همهمة و أصواتا مختلفة لكن ال يفقه منها شيئا. نظرت يوليا إليهما و بدت ك ٍ سحبت نرس محمولها :آلو ,أجل حبيبي سنوافيكم حاال_ .أعادت المحمول إلى حقيبتها_ إنه زوجي يقول "أن علينا التواجد في ردهة المطاعم فالجميع بانتظارنا". 22
وصل ثالثتهن يتضاحكن و قد حملت يوليا الصغيرة بين يديها كون أمها تحمل أكياسا كثيرة و أخذن مجالسهن, فكان مجلسها قبالته مباشرة ,ما أربك كيانها بطريقة غريبة. لوسن :كيف حالك اليوم ...موالتي؟ نظرت إليه و قد فاجئها وصفه لها ,ثم ما لبثت أن أبعدت مرآها و قد غزا بعينيه كيانها :الحمد هلل ,شكرا لسؤالك. والدتها مقاطعة :لم تشتري شيئا؟ يوليا :ال ,لست بحاجة شيء فقد أحضرت معي ما يفي بالغرض ,ال تقلقي. يوم كان لوسن قد توّ جه بحديثه إلى ميرا ,فمال إليها و قد أخفض صوته :جلوري ليست خطيبتي ,و لن تكون في ٍ ما. نظرت ميرا و كأن طعنة من الخلف باغتتها :ها... لوسن :لذا ك ّفي عن االختالط بما هم دونك ,و إال أغضبت طارق منك و عندها فقط ستخسرين زواجك, فجلوري و أمّها ال يملكان لنفسيهما نفعا و ال ض ّرا و ال حياة و ال نشورا .اضبطي تصرفاتك الخرقاء ألنك ستصبحين سيدة و تحملين لقبا عريقا و إال عليكِ االنسحاب من اآلن. رمى بحمل الصياد الذي بين يديه في ميزان البائع و قام من مكانه دون أن ينتظر معرفة الثمن لصيده! لكنه موقن أنه أصاب أكثر مما يريد .فما كان من طارق إال أن مال إليها من الناحية األخرى. ب ع ّنك إال إن ارتضيت أنت ذلك .و اآلن ماذا ترغبين أن طارق :كما أخبرك شقيقي تماما ,فأنا لست براغ ٍ تأكلي. نظرت ميرا إليه و قد تجمّعت سحب في عينيها فطلبت اإلذن أن تذهب إلى حمام السيدات فما كان من طارق إال أن تبعها و شدّها من يدها مبتعدان تماما عن الحشد إلى مكان آخر .عندها حاولت يوليا أن تواكبهما لكن يدا امتدت إلى كتفها تثبّتها في مكانها. لوسن :ال عليكِ هي بخير صدقيني ,لكن عليها أن تعرف صديقها من عدّوها و طارق قادر على تهدئتها. نظرت يوليا إليه :لكن... لوسن :ليس هناك لكن. غمز لزوجة أخيه فأبعدت الصغير من على الكرسيّ فجلس بجانبها. باغتها بعد وقت بسؤاله :من أنتِ؟ توسّعت حدقتا عينيها و هي تنظر في طبقها الفارغ و قد باغتها السؤال. تمالكت أعصابها :أنثى من صنع هللا و من ساللة آدم و حوّ اء. لوسن :لم لم ترتبطي إلى اآلن؟ يوليا بهدوء :ألن من التقيت بهم في طريق رحلتي كانوا ذكورا ال نبالء. لوسن :متأثرة باألدب و كتبه. 23
يوليا :و بمن متأثر أنت؟ لوسن :بكِ ... نظرت إليه بر ّد فعل من هجم عليه ّ رجل كان قط من حيث ال يعلم ,احتقن وجهها بحمر ٍة المست قلبه بنصر ٍ ينتظر أن ينظر ثانية إلى صفاء عينيّها و كان يتفرّس مقلتيها .فما كان منها إال أن أدارت رأسها مجددا نحو ف في الرئتين. الطاولة و قد بدأت حرارة جسدها تتعدى الواحد و األربعين مئوية ,ال يوجد هواء كا ٍ لوسن :لون شعرك ...يعني اسمي ,هل تعلمين هذا؟ لم تعد تستطيع الجلوس ,أحسّت بغياب العالم من حولها ,ال يوجد سواهما ,و هو يتابع حصاره البيزنطي على سبارطة دون هوادة ,بدأت امداداتها تنفذ ألول مرّه منذ سنوات .لم تكن قليلة حيلة قبال ,فدائما ما يكون جوابها ذكر أن يروضّ الفرس البرّية التي داخلها... حاضرا و لم يستطع أي ٍ يوليا :أجل. لوسن :حسنا إذا ,لقد قمت بالبحث عن المعنى ...لكن هل تعلمين أنك تحملين صفات اسمك رغم أنك صلبة من الخارج ...و من غير الممكن أن يتوقع المرء رؤية دمعك ,لكنك رقيقة جدا كبتالت الكرز. وقفت يوليا فجأة و ادّعت أنها ستذهب تبحث عن ميرا لكنها رأتها عائدة مع طارق .فسمعت صوته معلنا. ت ...ال داعي يا موالتي ألن ترهقي نفسك ,ها قد عادا. لوسن :أرأي ِ نظرت إليه و قد فاض بها الكيل ,فدفعت الكرسي إلى الخلف و توجهت ناحية ح ّمام السيدات .وقفت أمام المرآة و قد ...قد ...انهارت تماما. يوليا تخاطب نفسها :ال أستطيع الكذب ,ال يمكنني أن أختبئ بعد ...اآلن ,لم يفعل هذا بي؟ من سمح له أن ينتهك أسوار قرطاج بهذه الطريقة؟ كيف اجتاز جبل طارق و وصل إلى أرضي؟ من أنت أيها المتعجرف؟ من أنت نزل أشرعتك و تبدأ أيها الغريب؟ من أنت يا من تعجبني تفاصيلك و أستلطف شخصك؟ لن تبقى إن أخبرتك ,ست ِ باالنسحاب ,لو علمتني امرأة تقليدية ,لن تريدني بعد اآلن .ال أعلم كيف أط ّبق حيّل النساء كي أبقي الحبل حول رقبتك بين ش ّد و رخاء ...هل تعلم هذا؟ كال ...أنت ال تعلم شيئا ,ال شيء ...أنت ال تدري عن الطفلة التي أكبحها أمامكم ...ال تعلم كيف استحوذت عليّ بنظراتك ,كيف تنظر إلي عندما أبتسم ,وقت تفاجئني بظهورك و انا أعلم لم تأتي... أخافه غيابها فقد طال ,و حسب أنها ربما تسللت دون أن يراها هاربة من الجمع إلى الالمكان... لوسن يحدّث نفسه :هل آذيتها؟ هل دفعت العجلة أكثر من الالزم نحوها فأصبتها بإصابات أليمة دون قص ٍد م ّني؟ أين هي؟ ال أستطيع الدخول إليها. نظرت نرس إلى شقيقها لكنه لم يتنبّه إليها فما كان منها سوى أن غادرت مقعدها نحو حمّام السيدات و قد علمت أن هناك خطبا ما. نرس :سيبرد الطعام يا عزيزتي. أجفلت يوليا و هي تسمع صوتها :سآتي حاال. ثم فتحت صنبور المياه و غسلت وجهها بماء بارد لك ّنها تم ّنت لو كان أكثر برودة ...لو كان شالال جبليا تقف تحته. دمع باغتها. تقدّمت نرس منها و ق ّد تنبهت أنها تحاول محو آثار ٍ 24
نرس :ال ترحلي ع ّنه فجأة أرجوكِ . رفعت رأسها تناظرها من المرآة و وجها يقطر ماء ,ذهلت من وقع األحرف التي اصط ّفت في أذنها لتستقرّ في عقلها. أكملت نرس :معجب بك هو لكنه ال يعلم كيف يبدي ما يشعر به تجاهك فقد مضى وقت بعيد جدا ,لقد ك ّنا ننتظر هذه الواقعة منذ سنوات و قد حدثت أخيرا _أخذت نفسا عميقا_ إن طلبت منك أن تعطي نفسيكما الفرصة ...فهل تقبلين؟ يوليا :أنتم ال تعرفون شيئا ع ّني سوى ما أخبرتكم به ميرا ,و أنا حتى ال أعلم ما الذي قصّته. نرس :لسنا نحن من علينا أن نعرف بأكثر منكما عن بعضكما ,كما أننا نثق بحكم والدي و والدتي عندما يتقربّان من شخص ما ,فهل تلبيّن طلبا أل ّم تتمنى النجاة لصغيرها من الغرق يا يوليا؟ نظرت إليها و عينا األخيرة تتوسل إليها أن ال تتراجع أو تهرب. يوليا :ال أعلم ,صدقيني ,ال أعرف ما أفعل! أحسّ نفسي كحصان طروادة ,خشب مس ّندة ال حياة فيها. نرس :علينا الخروج فسوف يش ّكون أن هناك خطب ما. جلست ك ّل واحد ٍة في مكانها إال أن يوليا كانت تجد صعوبة في أن تكون بقربه دون أن تستطيع النظر إليه و هي تتحدث معه. لوسن :اعذريني إن تماديت في الحديث موالتي. ردّت بهدوء :ال بأس ,لكن هل من الممكن أن نرجئ الحديث الحقا؟ لوسن :طبعا. تناولوا غذاءهم و كان الجميع بحالة طبيعية عداهما ,حاوال جهدهما حتى وصال لنقطة لم يعد الصمت ّ حال ,فقد كانت مشاعر أحدهما تقرأ عن طريق اآلخر بشكل أو بآخر و ينبض القلب بعنف ,العقل يسبح في فضاءات خارج المجرّة الكونية ,فما كان منها إال أن ه ّمت منصرفة متعللّة بالتعب .لم يستطع اللحاق بها حتى يفسح لها مجاال كما يريد هو هذا المجال .اتصل بالفندق و ألغى حجز الغرفة .عاد إلى المنزل إال أنه لم يذهب إلى غرفته, بل إلى االسطبل ,أسرج حصانه و انطلق به بعيدا ,قطع البستان الكبير و وصل إلى الشاطئ ...ترج ّل و دخل عباب الموج و أخذ يسبح بطريقة هيستيرية ,لكم من الزمن؟ هذا ليس مهمّا لكنه ت ّنبه إلى أن السيف وضع في غمده و بدأ نهاية اليوم على القفول .عاد إلى الشاطئ و ارتمى على الرمال و هو يناظر السماء التي بدأت أول بوادر نجومها بالظهور. لوسن :ما الذي أفعله بح ّقها و ح ّقي؟ هل أنا قادر على المضيّ قدما؟ هل أستطيع العيش مجددا؟أ أشعر بعنف مشاعري فعال؟ أن أكوّ ن عائلة من جديد؟ أن أصبح أبا؟ هل أنا على الطريق الصحيح؟ اقترب منه حصانه يمسح بفمه على رأسه المبت ّل ,نظر إليه من مكانه ثم أعاد نظره إلى السماء التي بدأت تختفي ألوان شفقها األحمر تدريجيا أكثر فأكثر .فتح عينيه ,و قد كان الظالم دامسا ,طفله الصغير يلعب معه و يبلل أقدامه بموجاته المتتابعة بلطف كمن يوقظ أباه ليلعب معه أو يتحدّث إليه. لوسن :كم الساعة اآلن؟ لكم من الوقت بقيت نائما؟ نظر حوله باحثا عن حصانه فوجده يتبختر خلفه ...نظر إليه مطوّ ال ,قام من موضعه امتطاه و قاده عائدا إلى البيت ,دخل باب المطبخ و صعد الدرجات و تو ّجه نحو غرفته ,أخذ حمّاما ساخنا ليزيل آثار الملح ثم خرج و ارتدى ثيابه على عجل ,نظر إلى ساعته وجدها تشير إلى قرابة الرابعة فجرا إال قليل ,خرج من غرفته و نزل 25
الدرجات عائد الخطى إلى المدخل الخلفي ,خرج منه و ركب درّاجته الناريّة و ق ّد قرر أنّ يضرب بعرض الحائط كل االستراتيجيات و الدراسات و العقالنيات و المعادالت و ...و يترك للشخص الغير العاقل داخله أن يأخذ دوره أخيرا .قطع البهو و أخذ المصعد ,طرق الباب بطريقة متواصلة ...و عندما ف ِت َح على مصراعيه. لوسن :أنا أرمل ,توفيّت زوجتي التي أحببت منذ ثماني سنوات و كنت ظننت أن الرياح لن تعصف بقلبي ت حتى تأتي من البعد الرابع لتعيثي مجددا ,حتى أن والديها حاوال مساعدتي على الزواج لك ّني أبيت ,فمن أن ِ ّ فسادا في أرضي و مملكتي؟ كيف أمكنك قلبت تربتي و إدخال الهواء مجددا لتصبح صالحة بعد تملحها؟ أجيبيني ت أرجوكِ ؟ من أن ِ كانت عيناه حاد ّتان و هي واقفة و كأنه نفخ في الصور ,مذهولة تماما ,نظر إليها يتأمل مالمحها بشغف ,ترتدي ثوب نوم يصل لما تحت ركبتيها ,أسو ٍد مرّقط باألبيض و يزيّنه دانتيل رفيع من اللون الزهري الغامق .و ّد لو يسحبها إليه و يضمّها فيبكي بين يديها ,أن يستشعر أنفاسها تالمس صدره ,أن تحيط يديها رقبته و تمسح على شعره ...أن تلمس يدها وجنته... لوسن :أنا واقع في حبّك موالتي. شهقت مذعورة و قد وضعت يدها على فمها تكممها و الدموع ّ تغطي وجهها دون انقطاع. لوسن :أجل ,أنا مغرم ...فهل تأذنين لي أن أكمل بناء مملكتك معك؟ هل تقبلين أن تفسحي لي مجاال في الحياة قربك؟ كانت في حالة هلع ,لطالما َحلمت أن يأتي رجل بهكذا موقف ,أما أن يصبح الواقع حقيقة! هي لم تقطع كل تلك األميال حتى تلتقيه هنا ...على هذه البقعة من العالم بذاتها ,لكن هذا يحدث ...أجل ,إنه يحدث ,هل ح ّقا هو واقع في حبّها؟ زمن بعيد ,رزقت بطفلة لم ترى النور لفترة طويلة ثم فجأة تدفقت الكلمات بأسرع مما تخيلتها :أنا مطلّقة منذ ٍ تحولت إلحدى عصافير الجنان ,تركنا بالد الحرب خوفا على أنفسنا فكدّت أصاب في شرفي على هذه األرض و ما زلت أحمل ندوبها على جسدي لكن لم يستطع أحد أخذ شيٍ م ّني ,و منذ ذلك الحين تغيّر لون شعري ,لكنني ماض لي خلفي و بدأت مجددا و قد عفت الذكور لم أتوّ قع أن يحمل لونه اسمك! هربت إلى تركيا مخلّفة كل ٍ لما أصابني من أذاهم و قد يئست من أن ألتقي يوما برجل نبيل .كنت أحلم بواح ٍد منهم ,لكن لم أتوّ قع أن يتحقق حلمي و على هذه األرض مجددا. كانت قد جلست على األرض في ممر الغرفة و الباب مفتوح ...ظهرها مسنودة على الحائط ,أما هو فقد جلس على األرض في الرواق و ظهره للحائط أيضا يسمعها دون أن يراها .صمت كالهما تماما ل َم يقرب الساعة و لم يبادر أحدهما بحرف صوتي و ك ٍّل منهما يسمع أنفاس اآلخر ...و يحاول معرفة ما يفكر فيه. لوسن و قد اغتال الصمت كفارس انقضّ على تنيّن و أرداه صريعا :هل تقبلين مشاركتي وجبة اإلفطار موالتي؟ _بعد صمت_ فأنا ال أريد أن أكون وحيدا و أنا أشرب فنجان قهوتي في ك ّل صباح بعد اآلن؟ _أخذ نفسا و أردف_تعبت من أن أهرب إلى مخبأي وحدي ...و بعد أن ذقت طعم وجودك في الغرفة السحرية معي ,ال أريد أن أدخلها دونك مجددا.
26