الصمت أبكم و أص ّم ،ثقي ٌل جداً كمن يحمل جبالً فوق كاهله .فقاعات الهواء تنساب ببطء من أنفها و شفتيها... عيناها تتطلع حولها دون أن تعي ما يمكن أن يكون ...حلكة داكنة ...ال شيء .ال تقاوم! و ال تريد أن تناضل. بطعم مالح يتغلغل فتحات أنفها و بدأ الهواء ينفذ لكن لم تحرّك ساكنا ً و لم تبدي أيّ ر ّد فعل عكسي .أحسّت ٍ ً يتسلّل لفمها ...بدأت عيناها تزيغ ...في مثل هذه الحاالت يصحوا الشخص لواقعه و يحاول ال إراديا أن يناضل و يضرب بيديه و يحرّك قدميه عسى يصل إلى السطح و يتحرر ...لكنها لم تفعل! ُرفع القلم و بدأ جسدها ينتفض تلقائيا ً معلنا ً عن آخر ذرّات األكسجين المتبقية ...توقف القلب و توقف معه آخر زفير مع نهاية آخر شهيق قد تفعله رئتيها ،غاب البصر عدا عن عينين جمدتا في محجرهما كبلورتين ال حياة فيهما .كان شعرها منثوراً حولها كما أشعة الشمس و ثوبها البرغنديّ اللون من قماش الشيفون لكأنه هالتها و هي وحيدة في تلك البقعة و قد انقطعت عن جميع أسباب ...الحياة. كيف وصلت هنا؟! بعد ساعات الليل الطويلة و تلك السهرة التي كانت تحاول أن تهرب منها و باءت محاوالتها بالفشل اصطحبوها ً منعزلة اجتماعيا ً لكنها لم تكن مهووسة بالسهرات و ال محبّة لرحالت الطبقات الراقية المتعبة، معهم ...لم تكن إال أنّ اصرار صديقتيها ألزمها و بعد نقاش حاد أن تنصاع و ترافقهما. األضواء قوية في قصر الجميرة القريب من الشاطئ و الرجال و النساء بأبهى حللهم ،لم تأبه كثيراً .سلّمت على خطيب األولى و زوج األخرى و بعد أحاديث متنوعة و ضحكٍ متواصل استأذنت إحداهما و اعتذرت األخرى كي تسلّم على بعض الحضور و المدعوّ ين .نظرت حولها بتمعنّ ...ال كمن يتفرّس بالوجوه بل كمن دخلت متاهة كبيرة ال يُرى طريق الخروج منها .حاولت السير بين البشر بخطوات وئيدة كي ال يشعر بها أحد أنها تتملص من كل تلك الخليقة ذات الوجوه االصطناعية من المجامالت و الضحكات المفتعلة و الكلمات المنمّقة المختلطة بلغات مختلفة بذات الجملّة الواحدة ،فجأة الحت أمامها إحدى الشرفات الكبيرة مفتوحة على ٌ رقيقة جداً بلون المشمش فاستمرت بالسير نحوها دون أن تغيّر مصراعيها تداعب النسمات من خاللها ستائر سرعة سيرها و ما أن اقتربت منها و تطأ قدمها عتبتها. ريبال( :روزماري)! لم تلتفت بسرعة كمن أخذتها المفاجئة و لم تتحرك قدمها األخرى تلك الخطوة كي تعدوا إلى الشرفة ...بقيت عيناها على اتساعهما من فجأة سماعها للصوت ...ذات الهدوء ...نفس الرخامة ...اآلن! ريبال :لم أتوقع رؤيتك هنا ...مضى وقت طويل مذ رأيتك... أدارت رأسها تنظر إليه .و قد بهتت عيناها كمن ال يعنيها سؤاله و تجرأت بأن تنظر في عينيه مباشرة كمن تخبره أنه ال يعنيك وجودي هنا .انتابه ذهول لكأن صفعة على وجهه قد باغتته. روزماري :ممممممم ،و هل أعرفك سيدي؟ لثوان خانته فيها سرعة بديهيته عن اإلجابة فقد ألجمته تعابير وجهها و نبرة إجابتها التي خرجت (صمت ران ٍ من خالل حبالها الصوتية كما الدب عندما يخرج من كهفه بعد سُبات الشتاء). أكملت :ليس وجهك بغريب ع ّني فهل رأيتك سابقا ً في مكان ما؟ ريبال :آآه ،آسف يبدوا أني... ظهرت من خلفه امرأة فارعة القوام ترتدي ثوبا ً مكشوف الصدر و فوق الركبتين بكثير ،شعرها قصير و لهجتها لبنانية نادته :حبيبي كنت أبحث ...عنك ...ماذا هناك؟ هل أنت بخير؟