روز ماري

Page 1

‫الصمت أبكم و أص ّم‪ ،‬ثقي ٌل جداً كمن يحمل جبالً فوق كاهله‪ .‬فقاعات الهواء تنساب ببطء من أنفها و شفتيها‪...‬‬ ‫عيناها تتطلع حولها دون أن تعي ما يمكن أن يكون‪ ...‬حلكة داكنة‪ ...‬ال شيء‪ .‬ال تقاوم! و ال تريد أن تناضل‪.‬‬ ‫بطعم مالح يتغلغل فتحات أنفها و‬ ‫بدأ الهواء ينفذ لكن لم تحرّك ساكنا ً و لم تبدي أيّ ر ّد فعل عكسي‪ .‬أحسّت‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫يتسلّل لفمها‪ ...‬بدأت عيناها تزيغ‪ ...‬في مثل هذه الحاالت يصحوا الشخص لواقعه و يحاول ال إراديا أن يناضل‬ ‫و يضرب بيديه و يحرّك قدميه عسى يصل إلى السطح و يتحرر‪ ...‬لكنها لم تفعل! ُرفع القلم و بدأ جسدها‬ ‫ينتفض تلقائيا ً معلنا ً عن آخر ذرّات األكسجين المتبقية‪ ...‬توقف القلب و توقف معه آخر زفير مع نهاية آخر‬ ‫شهيق قد تفعله رئتيها‪ ،‬غاب البصر عدا عن عينين جمدتا في محجرهما كبلورتين ال حياة فيهما‪ .‬كان شعرها‬ ‫منثوراً حولها كما أشعة الشمس و ثوبها البرغنديّ اللون من قماش الشيفون لكأنه هالتها و هي وحيدة في تلك‬ ‫البقعة و قد انقطعت عن جميع أسباب‪ ...‬الحياة‪.‬‬ ‫كيف وصلت هنا؟!‬ ‫بعد ساعات الليل الطويلة و تلك السهرة التي كانت تحاول أن تهرب منها و باءت محاوالتها بالفشل اصطحبوها‬ ‫ً‬ ‫منعزلة اجتماعيا ً لكنها لم تكن مهووسة بالسهرات و ال محبّة لرحالت الطبقات الراقية المتعبة‪،‬‬ ‫معهم‪ ...‬لم تكن‬ ‫إال أنّ اصرار صديقتيها ألزمها و بعد نقاش حاد أن تنصاع و ترافقهما‪.‬‬ ‫األضواء قوية في قصر الجميرة القريب من الشاطئ و الرجال و النساء بأبهى حللهم‪ ،‬لم تأبه كثيراً‪ .‬سلّمت على‬ ‫خطيب األولى و زوج األخرى و بعد أحاديث متنوعة و ضحكٍ متواصل استأذنت إحداهما و اعتذرت األخرى‬ ‫كي تسلّم على بعض الحضور و المدعوّ ين‪ .‬نظرت حولها بتمعنّ ‪ ...‬ال كمن يتفرّس بالوجوه بل كمن دخلت‬ ‫متاهة كبيرة ال يُرى طريق الخروج منها‪ .‬حاولت السير بين البشر بخطوات وئيدة كي ال يشعر بها أحد أنها‬ ‫تتملص من كل تلك الخليقة ذات الوجوه االصطناعية من المجامالت و الضحكات المفتعلة و الكلمات المنمّقة‬ ‫المختلطة بلغات مختلفة بذات الجملّة الواحدة‪ ،‬فجأة الحت أمامها إحدى الشرفات الكبيرة مفتوحة على‬ ‫ٌ‬ ‫رقيقة جداً بلون المشمش فاستمرت بالسير نحوها دون أن تغيّر‬ ‫مصراعيها تداعب النسمات من خاللها ستائر‬ ‫سرعة سيرها و ما أن اقتربت منها و تطأ قدمها عتبتها‪.‬‬ ‫ريبال‪( :‬روزماري)!‬ ‫لم تلتفت بسرعة كمن أخذتها المفاجئة و لم تتحرك قدمها األخرى تلك الخطوة كي تعدوا إلى الشرفة‪ ...‬بقيت‬ ‫عيناها على اتساعهما من فجأة سماعها للصوت‪ ...‬ذات الهدوء‪ ...‬نفس الرخامة‪ ...‬اآلن!‬ ‫ريبال‪ :‬لم أتوقع رؤيتك هنا‪ ...‬مضى وقت طويل مذ رأيتك‪...‬‬ ‫أدارت رأسها تنظر إليه‪ .‬و قد بهتت عيناها كمن ال يعنيها سؤاله و تجرأت بأن تنظر في عينيه مباشرة كمن‬ ‫تخبره أنه ال يعنيك وجودي هنا‪ .‬انتابه ذهول لكأن صفعة على وجهه قد باغتته‪.‬‬ ‫روزماري‪ :‬ممممممم‪ ،‬و هل أعرفك سيدي؟‬ ‫لثوان خانته فيها سرعة بديهيته عن اإلجابة فقد ألجمته تعابير وجهها و نبرة إجابتها التي خرجت‬ ‫(صمت ران‬ ‫ٍ‬ ‫من خالل حبالها الصوتية كما الدب عندما يخرج من كهفه بعد سُبات الشتاء)‪.‬‬ ‫أكملت‪ :‬ليس وجهك بغريب ع ّني فهل رأيتك سابقا ً في مكان ما؟‬ ‫ريبال‪ :‬آآه‪ ،‬آسف يبدوا أني‪...‬‬ ‫ظهرت من خلفه امرأة فارعة القوام ترتدي ثوبا ً مكشوف الصدر و فوق الركبتين بكثير‪ ،‬شعرها قصير و‬ ‫لهجتها لبنانية‬ ‫نادته‪ :‬حبيبي كنت أبحث‪ ...‬عنك‪ ...‬ماذا هناك؟ هل أنت بخير؟‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.