روز ماري

Page 1

‫الصمت أبكم و أص ّم‪ ،‬ثقي ٌل جداً كمن يحمل جبالً فوق كاهله‪ .‬فقاعات الهواء تنساب ببطء من أنفها و شفتيها‪...‬‬ ‫عيناها تتطلع حولها دون أن تعي ما يمكن أن يكون‪ ...‬حلكة داكنة‪ ...‬ال شيء‪ .‬ال تقاوم! و ال تريد أن تناضل‪.‬‬ ‫بطعم مالح يتغلغل فتحات أنفها و‬ ‫بدأ الهواء ينفذ لكن لم تحرّك ساكنا ً و لم تبدي أيّ ر ّد فعل عكسي‪ .‬أحسّت‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫يتسلّل لفمها‪ ...‬بدأت عيناها تزيغ‪ ...‬في مثل هذه الحاالت يصحوا الشخص لواقعه و يحاول ال إراديا أن يناضل‬ ‫و يضرب بيديه و يحرّك قدميه عسى يصل إلى السطح و يتحرر‪ ...‬لكنها لم تفعل! ُرفع القلم و بدأ جسدها‬ ‫ينتفض تلقائيا ً معلنا ً عن آخر ذرّات األكسجين المتبقية‪ ...‬توقف القلب و توقف معه آخر زفير مع نهاية آخر‬ ‫شهيق قد تفعله رئتيها‪ ،‬غاب البصر عدا عن عينين جمدتا في محجرهما كبلورتين ال حياة فيهما‪ .‬كان شعرها‬ ‫منثوراً حولها كما أشعة الشمس و ثوبها البرغنديّ اللون من قماش الشيفون لكأنه هالتها و هي وحيدة في تلك‬ ‫البقعة و قد انقطعت عن جميع أسباب‪ ...‬الحياة‪.‬‬ ‫كيف وصلت هنا؟!‬ ‫بعد ساعات الليل الطويلة و تلك السهرة التي كانت تحاول أن تهرب منها و باءت محاوالتها بالفشل اصطحبوها‬ ‫ً‬ ‫منعزلة اجتماعيا ً لكنها لم تكن مهووسة بالسهرات و ال محبّة لرحالت الطبقات الراقية المتعبة‪،‬‬ ‫معهم‪ ...‬لم تكن‬ ‫إال أنّ اصرار صديقتيها ألزمها و بعد نقاش حاد أن تنصاع و ترافقهما‪.‬‬ ‫األضواء قوية في قصر الجميرة القريب من الشاطئ و الرجال و النساء بأبهى حللهم‪ ،‬لم تأبه كثيراً‪ .‬سلّمت على‬ ‫خطيب األولى و زوج األخرى و بعد أحاديث متنوعة و ضحكٍ متواصل استأذنت إحداهما و اعتذرت األخرى‬ ‫كي تسلّم على بعض الحضور و المدعوّ ين‪ .‬نظرت حولها بتمعنّ ‪ ...‬ال كمن يتفرّس بالوجوه بل كمن دخلت‬ ‫متاهة كبيرة ال يُرى طريق الخروج منها‪ .‬حاولت السير بين البشر بخطوات وئيدة كي ال يشعر بها أحد أنها‬ ‫تتملص من كل تلك الخليقة ذات الوجوه االصطناعية من المجامالت و الضحكات المفتعلة و الكلمات المنمّقة‬ ‫المختلطة بلغات مختلفة بذات الجملّة الواحدة‪ ،‬فجأة الحت أمامها إحدى الشرفات الكبيرة مفتوحة على‬ ‫ٌ‬ ‫رقيقة جداً بلون المشمش فاستمرت بالسير نحوها دون أن تغيّر‬ ‫مصراعيها تداعب النسمات من خاللها ستائر‬ ‫سرعة سيرها و ما أن اقتربت منها و تطأ قدمها عتبتها‪.‬‬ ‫ريبال‪( :‬روزماري)!‬ ‫لم تلتفت بسرعة كمن أخذتها المفاجئة و لم تتحرك قدمها األخرى تلك الخطوة كي تعدوا إلى الشرفة‪ ...‬بقيت‬ ‫عيناها على اتساعهما من فجأة سماعها للصوت‪ ...‬ذات الهدوء‪ ...‬نفس الرخامة‪ ...‬اآلن!‬ ‫ريبال‪ :‬لم أتوقع رؤيتك هنا‪ ...‬مضى وقت طويل مذ رأيتك‪...‬‬ ‫أدارت رأسها تنظر إليه‪ .‬و قد بهتت عيناها كمن ال يعنيها سؤاله و تجرأت بأن تنظر في عينيه مباشرة كمن‬ ‫تخبره أنه ال يعنيك وجودي هنا‪ .‬انتابه ذهول لكأن صفعة على وجهه قد باغتته‪.‬‬ ‫روزماري‪ :‬ممممممم‪ ،‬و هل أعرفك سيدي؟‬ ‫لثوان خانته فيها سرعة بديهيته عن اإلجابة فقد ألجمته تعابير وجهها و نبرة إجابتها التي خرجت‬ ‫(صمت ران‬ ‫ٍ‬ ‫من خالل حبالها الصوتية كما الدب عندما يخرج من كهفه بعد سُبات الشتاء)‪.‬‬ ‫أكملت‪ :‬ليس وجهك بغريب ع ّني فهل رأيتك سابقا ً في مكان ما؟‬ ‫ريبال‪ :‬آآه‪ ،‬آسف يبدوا أني‪...‬‬ ‫ظهرت من خلفه امرأة فارعة القوام ترتدي ثوبا ً مكشوف الصدر و فوق الركبتين بكثير‪ ،‬شعرها قصير و‬ ‫لهجتها لبنانية‬ ‫نادته‪ :‬حبيبي كنت أبحث‪ ...‬عنك‪ ...‬ماذا هناك؟ هل أنت بخير؟‬


‫و عندما لم يجبها الحظت أنه مصدوم بشيء ما فحاولت أن ّتتبع نظره و تنظر حيث يذهب بصره‪ ...‬لكأنما عُزل‬ ‫تر شيئا ً ملفتا ً فقد كان هناك الكثير من البشر يقفون في الشرفة فلم تميّز بما كان ذاهالً‬ ‫عن الناس جميعا ً‪ ...‬لم َ‬ ‫عنها‪ ،‬اختفت من أمامه بطرفة عين‪.‬‬ ‫التقيا مرتين فقط و الثالثة كانت حديثا ً هاتفيا ً لعب فيه على وتر أنه لم يذكرها و بدأ يردد اسمها ث ّم‪ ...‬آه‬ ‫(روزميري)‪ ،‬سألها عن حالها و شكر لها مساعدته و أخبرها أنه ر ّد على بريدها اإللكتروني فشكرته بدورها و‬ ‫انتهت المحادثة‪ .‬و انتهى بعدها ك ّل شيء كأن لم يكن هناك شيء‪.‬‬ ‫كيف التاقها؟ هههههه سخرية قدر‪ .‬كان ينتظر دوره في ح ّل مشكلته عندما توجهت المسؤولة إليها تخبرها أن‬ ‫تساعد السيد هنا في مشكلته‪ ...‬كانت ق ّد مرّت من أمامه عدّة مرات لكن لم تلتفت له‪ ...‬ليس من عادتها أن تدقق‬ ‫في وجوه األشخاص حتى و هي تسير في الشارع‪ .‬و فعالً جلس في مكتبها و ابتدأت بسؤاله عن مشكلته كان‬ ‫ينظر إليها كخبير في صياغة الذهب‪ ...‬يتفرّس مالمحها و علم أنها أحسّت ذلك منه فقد تو ّردت وجنتاها و تفادت‬ ‫النظر في وجهه م ّرات عدّة‪ ...‬كيمياء بشرية كما النحل عندما يش ّم رائحة زهره المفضل فال يجمع رحيقه إال‬ ‫منه‪ .‬سألها عن اسمها فأجابته (روزماري)‪.‬‬ ‫راق‪.‬‬ ‫فكان جوابه‪ :‬اسمك جميل وصداه ٍ‬ ‫فشكرته بحياء انثى ال تخطئ رائحته أنف رجل خبير في عطور النساء‪ .‬عاد في آخر الشهر كما أخبرته لتغيير‬ ‫بعد معلومات حسابه‪.‬‬ ‫ريبال‪ :‬مرحبا ً‪...‬‬ ‫فنظرت إليه و قد باغتتها الدهشة‪...‬‬ ‫روزماري‪ :‬أهالً‪.‬‬ ‫و كان يجلس في مكتبها عمي ٌل‪.‬‬ ‫ريبال‪ :‬سأنتظر دوري حتى يحين فقد قطعت تذكرة انتظار‪...‬‬ ‫قاطعته‪ :‬ال بأس أمهلني دقيقتين و سأكون معك‪.‬‬ ‫ثم سمعها تناديه‪ :‬سيد (ريبال) تفضل‪.‬‬ ‫ريبال‪ :‬مساء الخير كيف أنت؟‬ ‫روزماري‪ :‬بخير و أنت؟‬ ‫و غلّف الصمت المسافة الفاصلة بينهما لدقائق‪ ،‬ث ّم بادرها بالحديث بعد أن رأى ارتباكها و لون وجهها األسمر‬ ‫الذي زينته خمريّة حياءها‪.‬‬ ‫ريبال‪ :‬كيف هي األيام معك‪...‬‬ ‫روزماري‪ :‬بخير‪ ...‬اممم‪ ،‬و شكراً على قبول اضافتي‪...‬‬ ‫ريبال‪ :‬بل الشكر لك‪ ...‬شرفٌ لي‪.‬‬ ‫روزماري‪ :‬لم أكن متأكدة من أن تكون أنت لك ّني أرسلت الطلب‪.‬‬ ‫ضحك و أجاب‪ :‬عادي جداً تجربة‪ ،‬و ما سيحصل إن لم أكن أنا؟‬


‫روزماري‪ :‬ألغي التواصل‪ ...‬فقط‪.‬‬ ‫ً‬ ‫صراحة كنت أبحث عن وظائف في الموقع و إذ بملفك يظهر أمامي‪.‬‬ ‫ضحكا فعادت تقول‪:‬‬ ‫ريبال‪ :‬أحقا ً تبحثين عن عمل آخر؟‬ ‫روزماري‪ :‬أجل! فهل تعتقد أني سأبقى في هذه الوظيفة؟ كل إنسان يبحث عن األفضل‪.‬‬ ‫ريبال‪ :‬صحيح‪ ...‬أرسلي لي سيرتك الذاتية‪.‬‬ ‫قالها و قد أسند ظهره إلى الكرسي و وضع قدما ً على أخرى و كأنه انتصر‪.‬أما هي فقد كانت تناظر شاشة‬ ‫الحاسوب ثم ت ّنبهت‪...‬‬ ‫روزماري‪ :‬أحقا ً ما تقول! حسنا ً سأرسله إليك‪...‬‬ ‫ث ّم التفت إليه و أتمّت‪ :‬إلى أين ارسله؟‬ ‫كطاووس ح ّقق نصره في ساحة الجمال أخرج بطاقته و رماها على مكتبها و قال‪ :‬أرسليها إلي‪.‬‬ ‫أسرّتها في نفسها فع ّزة نفسها و كبريائها لم يكونا مح ّ‬ ‫ط نقاش مقابل رجولته التي أحس فيها أنه سيطر على أنثى‬ ‫استحسنها‪.‬‬ ‫روزماري‪ :‬شكراً لك سيد (ريبال)‬ ‫ر ّد بهدوء و بلغة أمر‪( :‬ريبال)‬ ‫نظرت إليه مشدوهة‬ ‫فأعاد على مسمعها‪ :‬ال داعي للرسميات (ريبال) فقط‪.‬‬ ‫زادت حمرة وجهها و برودة يديها و دقات قلبها ارتفعت أسرع من منسوب مياه الفيضان‪ ...‬و من شدّة ارتباكها‬ ‫و بعد صمت ثواني قالت بغباء‪ :‬العمل عمل‪...‬‬ ‫و أحجمت فجأة عن التكلّم و قد استوعبت حماقتها و عرفت أنه انزعج من تلك العبارة رغم هدوئه المغلّف‬ ‫إعصار يحصد كل ما يقف أمامه إال أنه كتمها‪ .‬بعد دقيقة كسرت حاجز الصمت‪.‬‬ ‫لعاصفة مهيبة و‬ ‫ٍ‬ ‫روزماري‪ :‬طلبك يحتاج إلى وقت إن كان لديك أشغال أستطيع‪...‬‬ ‫قاطعها‪ :‬ليس عندي شيئ تصرفي على راحتك فأنا جالس هنا‪.‬‬ ‫ارتباكها واضح ما بين فرحة وجوده و استحسانه لها و مابين تصرفٌ أحمق أو كل ٍمة قد تصدر منها جراّء قلّة‬ ‫حيلتها أمام رجولته‪ ...‬فهي ال تحسن التصرف مع رجل تشعر بقربه منها‪ ،‬رغم أن من يعرفها يعلم أنها ال‬ ‫تغلب‪ ...‬لكن ليس مع رج ٌل تجد فيه ما تتمناه‪.‬‬ ‫روزماري‪ :‬حسنٌ إذاً‪...‬‬ ‫ً‬ ‫صراحة هي لم ترغب في بقائه ليس لسبب بل ألن المسؤولة عنها كانت تناظرها من الخارج و لم ترد أن‬ ‫ً‬ ‫تتسبب بالمتاعب و خصوصا أن النساء هنا ثرثارات و هي ليست مواطنة‪ ...‬كما خوفها من غباءها في أن‬


‫تتصرف بموقف سيئ آخر‪ ،‬لذا وقفت معلنة نهاية جلوسه الذي تجاوز النصف ساعة و لم يكن مسموحا ً بذلك‬ ‫بحسب قواعد العمل‪.‬‬ ‫روزماري‪ :‬حسنا ً _وقد تفادت مناداته بالسيد أو ذكر اسمه_ سأكمل من قبلي و الخدمة قد أضفتها و سيتم تفعيلها‬ ‫على حسابك و سأتصل بك متى ت ّم ح ّل المشكلة التي سجلّناها‪.‬‬ ‫ريبال‪ :‬حسنا ً ست (روزماري) أنتظر البريد اإللكتروني و شكراً على المساعدة‪.‬‬ ‫علمت بمدى انزعاجه منها عندما رافق لفظه السمها بالسّيدة‪ .‬لم تستطع فعل أي شيئ‪ ...‬أقنعت ذاتها أنه سيد‬ ‫محترم يعلم كيف يدير أسلوب األحاديث و مخضر ٌم في حقل التعامل مع النساء فلن تتعب نفسها أكثر في أن‬ ‫تضعه داخل خانة عقلها الكامل‪ ...‬موقف جميل أعاد لها أنوثتها‪ ...‬و انتهى‪.‬‬ ‫في اليوم الثاني أرسلت له البريد اإللكتروني و ذكرته باسمه دون لقب السيّد و هي تشكره على مساعدته له كان‬ ‫اإلرسال حوالي الساعة العاشرة و الربع صباحا ً و هو موعد األعمال و الشركات‪ ،‬فأرسل لها في اليوم الذي يليه‬ ‫عند الساعة السادسة و خمس دقائق مسا ًء أنه قد حوّ ل الملفّ إلى القسم المختص بالتوظيف و شكرها باسمها‬ ‫دون لقب يسبقه على مساعدته في أموره‪.‬‬ ‫بعد أيام اتصلت به من هاتف العمل في الساعة الخامسة و النصف مسا ًء‪.‬‬ ‫روزماري‪ :‬مساء الخير (ريبال) معك (روزماري) من شركة (‪)...‬‬ ‫أجابها‪ :‬روزماري؟! (و ذكر االسم كمن يحاول تذ ّكر صاحبته من تكون بالضبط)‪ :‬آآآه‪ ...‬أهالً كيف أنت؟‬ ‫امتعضت و أمسكتها في نفسها إال أن نبرة صوتها تحولت إلى الجديّة‬ ‫روزماري‪ :‬بخير شكراً‪،‬أحببت أن أخبرك أن الخدمة التي أردت إلغاءها قد ألغيت‪.‬‬ ‫ريبال‪( :‬روزماري) شكراً جزيالً لكن هل ستحتسب عليّ ؟‬ ‫روزماري‪ :‬ال تقلق فما دام هناك شكوى متابعة فلن تحتسب عليك‪.‬‬ ‫ريبال‪ :‬على فكرة لقد أرسلت ملفّك إلى قسم التوظيف لكن أنت تعلمين أن األمور في اإلمارات تسير كما‬ ‫السلحفاة‪ ...‬و قد رددت على بريدك بذلك‪...‬‬ ‫روزماري‪ :‬شكراً‪ ...‬أجل وصلني‪ ،‬يكفي مبادرتك شكراً جزيالً‪.‬‬ ‫ريبال‪ :‬على ماذا؟ لم أقم بشيئ‪.‬‬ ‫روزماري‪ :‬حسنا ً إذاً أتمنى لك مسا ًء جميالً‪.‬‬ ‫ريبال‪ :‬و لك أيضا ً‪.‬‬ ‫و انتهت المكالمة‪.‬‬ ‫المتها صديقتها‪ :‬كيف لم تتصلي من جوالك‪ ...‬ل َم ك ّل تلك الرسميات؟‬ ‫روزماري‪ :‬ألني وضعت نفسي ضمن عبارة (العمل عمل)‪ .‬ث ّم ما أدراني به أكثر من غباء الكيمياء التي ابتليت‬ ‫ملفتة للنظر و أنني ّ‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬ ‫جذابة المظهر و يليق علي ما أرتديه‪ .‬إن لم‬ ‫لست مستعدة لرجل يستحسنني ألني‬ ‫بها معه‪...‬‬ ‫يعد أو يتصرف كرجل قد سلبت عليه لبّه فما لي به حاجة رغم وسامته و تأثير شخصيته علي‪ ...‬ث ّم إن الربّ‬ ‫مبتليني‪...‬‬


‫وهنا صمتت و ابتلعت األحرف‪ ...‬و لم تعد للتحدث‪.‬‬ ‫صديقتها‪ :‬مبتليك بماذا؟‬ ‫و عندما لم تجد إجابة أكملت الصديقة‪ :‬متى تجعلين من عنفوانك ط ّيعا ً و تقللين من نسبّة ّ‬ ‫عزة النفس لديك‬ ‫فمعدلها أعلى من نسبة النجاح لدخول الطبّ في الجامعات‪ ...‬إن هذا ما يجعل الرجال يخافون منك و ال يحاولون‬ ‫اإلقتراب‪...‬‬ ‫قاطعتها بعصبية و قد عال صوتها‪ :‬من ال يريد ن يكون رجالً و يبادر مالي به و ماله بي‪ ...‬لست صعبّة المراس‬ ‫و ال أنا البعبع‪ ...‬أنا امرأة تقليدية أؤمن أن آدم من طلب أن تكون له شريكة فخلق الربّ له حواء و ليس‬ ‫العكس‪ ...‬إن لم يكن يريدني حقا ً و مترد ٌد باختياري فال يقترب‪ ...‬ال يريد أن يتعب نفسه و معتاد على لحاق‬ ‫ً‬ ‫حالة مؤقتة ألحد‪...‬‬ ‫السيدات له فال أريده‪ ...‬ال أعلم عنه شيئا ً و ال يعرف عني أمراً‪ ...‬تعبت من الكذب‪ ...‬لست‬ ‫ً‬ ‫و ليس هناك من رجل غبي ال يعرف متى تبادره المرأة و ما يعتريها تجاهه و قد كان ذاك واضحا كشمس‬ ‫الصحراء في أغسطس عند ذروتها على وجهي و بارتباكي و عندما صافحني و يداي كأنهما في قالب من الثلج‬ ‫من شدّة ما كان يحاول أن يوصله إلي و من ضعفي أمامه‪ ...‬تكفي الرجل تلك االشارات كي يعلم أنه استحوذ‬ ‫على األنثى أم ال‪.‬‬ ‫صديقتها‪ :‬لكنك قلت له إن العمل‪...‬‬ ‫روزماري‪ :‬أجل‪ ..‬أخطأت و لفظتها‪ ...‬هل أجرمت؟ هل أصبحت مجوسية أم أن العذراء و أبونا اللذي في‬ ‫السموات سيحرمني بركته و لن أ ُعطى صك الغفران؟‬ ‫صديقتها‪ :‬بادري‪ ،‬حاولي بأي شيء له عالقة بالعمل‪ ...‬أعلم أنك عندما تصلين الذروة ستفعلين ما يمليه عليك‬ ‫عقلك فأنت مجنونة عندما تريدين و عاقلة عندما تحبين و حمقاء حين ترتبكين‪...‬‬ ‫روزماري‪ :‬ال أستطيع‪ ،‬لم أجبل على ذلك‪ ...‬و إن كنت أفعل ك ّل ما قلته فاتركي األمر يسير بطبيعته ال‬ ‫باصطناع و تخلّق األشياء‪.‬‬ ‫صمتت صديقتها و قد الحظت دموعها قد انسكبت ال إراديا ً منها‪ ...‬اعتذرت منها و أنها لم تقصد أن تكون قاسية‬ ‫عليها و انتهى الحديث عند تلك النقطة و لم تعد إليه إحداهما‪.‬‬ ‫مضى حوالي االثنان و العشرون يوما ً على ذاك‪ ،‬كان يخطر في بالها لكنها كانت تزيح تلك البوادر و هي تتكلم‬ ‫مع نفسها‪ :‬بأنه على غير دينها! ممكن‪ .‬متزوج؟ و ل َم ال فرجل بمكانته و شخصيته الملفته لن تفلته فتاة من بين‬ ‫يديها حتى تحيك شباكها أو تستميله‪ .‬حتى أهله لن يتركوه دون رباط مقدّس‪ .‬ربما هذا أسلوبه ليح ّل مشاكله و‬ ‫ييسر أموره أيا ً كانت‪ ...‬أم ٌر وراد‪.‬‬ ‫ث ّم ما تلبث أن تضرب ذلك كله عرض الحائط و أن ما عليها سوى الصحّو‪ ...‬لم يكن هناك شي ٌء يذكر‪ .‬فتعود‬ ‫لتعيش أيامها متفادية أي تفكير بأن ترهق نفسها بالعمل‪.‬‬ ‫اقترب الميالد و لم يبق سوى أسبوع‪ ...‬كل شي ٍء كان عاديا ً حتى اآلن‪ ،‬دخلت غرفتها لتنام حوالي الساعة الثامنة‬ ‫مسا ًء فقد كانت مرهقة‪ ...‬فتحت عينيها فجأة و كأن شيئا ً نبهها أو أن أحداً أيقظها‪ ،‬الغرفة غارقة في الظالم‪،‬‬ ‫عدّلت من وضعيتها و أسندت رأسها على ظهر السرير‪ ...‬شي ٌء ملّح يحرّ ضها‪ ...‬يص ّر عليها‪ .‬أمسكت جوالها و‬ ‫فتحت شاشته‪ ...‬ناظرت الساعة فوجدتها الحادية عشر مساءً؟ ما اللذي أيقظها؟ دخلت على إحدى المواقع‬ ‫االجتماعية فوجدت اسمه في القائمة (ريبال فارس)‪ ...‬بدأت أصابعها تدّق أجراس العيد قبل موعده و ألول مرّة‬ ‫ال تنتظر أي ر ٍد‪ ...‬لم يعنيها إن كان سيعاود ارسال شيء أم ال‪ ...‬بل تريد أن تبعث له شيئا ً و أن تبادر‪ ،‬شي ٌء ما‬ ‫يحّثها على أن تفعل ما تفعله فكتبت‪:‬‬


‫ميال ٌد مجيد‬ ‫أحببت أن أهنئك بقرب حلول ميالد المسيح‬ ‫و أتمنى بركته أن تح ّل عليك و على أهلك أجمعين‬ ‫باسم األب و االبن و الروح القدس ارسل إليك‬ ‫روزماري غزال‪.‬‬ ‫أحسّت بارتياح غريب و من ث ّم وضعت رأسها على وسادتها و أغمضت عينيها و ليكن ما يكون‪ .‬و كما‬ ‫توقعت‪ ...‬ال ر ّد‪.‬‬ ‫مضت األيام بشكلها المعتاد حتى جمعتهما الصدفة في قصر الجميرة‪ ...‬و بعد أن لمحت تلك السيدة تناديه من‬ ‫خلفه و رأت منه التفاتته‪ ،‬تفاجئه و ارتباكه لكنها كانت أسرع من لمح بصره فخروجت إلى الشرفة و ضاعت‬ ‫مالمحها بين الناس فيها‪.‬‬ ‫ً‬ ‫جميلة و أنيقة‪ ...‬لم تتغير‪ ،‬رقيقة‪ ...‬لكن أين ذهبت؟ كيف اختفت؟‬ ‫بدأ ي ّحدث نفسه‪ :‬مازالت‬ ‫لم يستطع اللحاق بها ألن الفتاة برفقته كانت ممسكة بمرفقه و هما بين أصدقاء كثر و أحاديث كثيرة لم يستطع‬ ‫التملّص منها لكن عيناه لم تزاال تبحث عنها في الشرفة و بين كل تلك الجموع‪.‬‬ ‫الساعة العاشرة مسا ًء عندما وصلت إلحدى أركانها البعيدة عن الضوء فرأت الشاطئ مضيء بإنارة خفيفة و‬ ‫ّ‬ ‫يتخبط الرمال بقوّ ة‪ .‬أخذت تتلفت كمن تبحث عن شيء فلمحت بعد بره ٍة مخرج الشرفة إلى‬ ‫الموج عصبيّ‬ ‫الشاطئ فخلعت حذائها العالي و توجّهت نحوه‪ ...‬تتوسّد قدماها رمال الشاطئ الناعمة‪ ...‬أخذت تسير بمحاذاة‬ ‫الموج العاتي‪ ...‬هذا الشاطئ خطير للسباحة ودوما ً ما وضعت الفتات تحذير مرّت من أمام إحداها لكن دون‬ ‫اكتراث‪ .‬وقفت قبالته و كانت قريبة ح ّد أن الموج قد وصل حتى ركبتيها‪ ...‬ثوبها ثمل‪ ...‬ال يهم‪ .‬وضعت حذائها‬ ‫على الرمل و توجهت بها قدماها أكثر نحو الموج‪ .‬لم يتنبّه لها أح ٌد فالكل مشغول بالمسامرات و الشراب و‬ ‫الغزل‪ .‬الترهات و السياسة‪ ،‬النكت السمذجة و النظرات الحالمة‪ ...‬لم تتنبّه حتى صديقتيها إلى غيابها‪.‬‬ ‫روزماري‪ :‬هل تحبني ح ّقا ً‪ ...‬تريد أن تضمني‪ ...‬وحدك تعلم ما بي‪ ...‬وحيدةٌ أنا في هذه األرض‪ ،‬عبئ على‬ ‫أخي و زوجته‪ ...‬لم أستطع أن أكوّ ن عائل ٍة‪ ...‬لم أحظ برجل يقاتل من أجلي ليفوز بقلبي‪ ...‬لم أعد أستطيع أن‬ ‫أنجب‪ ...‬ها قد جاوزت التاسعة و الثالثين‪ ،‬و إن تزوجت فلن أحظى بالوقت و ال الولد السليم‪...‬‬ ‫كانت تناجي البحر و تسمعه يناديها‪ :‬أحليّ ترحالك عندي سأقيك من كل تلك المواجع‪ ،‬سأخفف عبئك‪ ...‬سأهديك‬ ‫قنديل البحر الذي تحبيّه‪ ...‬لدي آلالء جمّى‪ ...‬سأمسح دمعك المنسكب و أجعل رأسك بين يدي ليرتاح‪ ...‬ال‬ ‫تخافي من غضبي فهو خارجي لكن أعماقي هادئة هانئة لن تشعري معها بنصب أو تعب‪ .‬لن و لم يحبك احد‬ ‫كما أحبك أنا‪ .‬تعالي إلي‪.‬‬ ‫مشت إليه بملئ إرادتها بكل جوارحها حتى انتهت فيه‪ ...‬تذوب معه‪ ،‬ينح ّل ملح عينيها بأ ُ َجاجه‪...‬‬ ‫تجاوزت الساعة الثالثة و النصف صباحا ً من اليوم ‪ 1131-31-13‬ففطنت صديقتيها لغيابها‪ ...‬بدأن يسألن‬ ‫عنها و إن كان أح ٌد رآها‪ .‬ما من مجيب أو عالم‪ .‬توجهن تلقائيا ً إلى الشاطئ فهنّ يعلمن حبّها للعزلة على رماله‬ ‫و موجه‪ ...‬أصبحن ينادين اسمها‪ ...‬عبثا ً صوتهن يأتي بر ّد‪ ...‬الموج عالي‪ ،‬سمعت إحداهن زوجها ينادي أنه‬ ‫وجد حذائها لكنها غير موجودة‪ ...‬الناس على الشرفة بدءوا باالنتباه فمدّوا أعناقهم يتفرجون! ركض خطيب‬ ‫األخرى إلى الداخل ينادي أصدقاءه ليساعدوهم في البحث عنها‪ ...‬تنبّه (ريبال) للجلبة فسأل ما الخبر فأخبره‬ ‫أحدهم أن فتاة ربما تكون غرقت في البحر و يجب أن نبحث عنها‪.‬‬ ‫ترك الجمع و توجه معهم ليساعدهم‪ ...‬بعد أن وصل إلى الشاطئ سمعهم ينادون على الفتاة التائهة أو التي يمكن‬ ‫أن تكون غارقة‪( :‬روزماري)‪...‬‬ ‫روز ميري‪...‬‬


‫معقول‪ ...‬هل يمكن أن‪...‬‬ ‫بدأ ينادي بصوت أجشّ لو سمعته ما كنت علمت أن خلف كل هدوءه و رزانته صوتا ً كهذا‪ .‬ثم بدأ يصرخ و‬ ‫الهواء يخرج من كل رئتيه بقوّ ة (روز مــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــيري) اين أنت‪ ...‬أجيبي‪...‬‬ ‫توجه نحو البحر حتى نصفه و بدأ يسير بمحاذاة شاطئه و هو يمعن النظر‪ ...‬جاوزت الساعة الرابعة و الخامسة‬ ‫بتأن و ينادي من جديد باسمها‪ ...‬كان مبتالً‬ ‫و األربعين فجراً‪ ...‬ما من مجيب‪ .‬فأفل عائداً و هو يتأمل الشاطئ ٍ‬ ‫كليا ً‪ ،‬لم يأبه بهندامه و ال بشكله أو تسريحة شعره‪ ،‬كان يريد أن يجدها فقط‪ .‬سمع صراخ أنثى و نحيبا ً عاليا ً‬ ‫فأصبح يركض ال شعوريا ً و هو يصارح الموج لتالمس قدماه الرمال فقط‪ ،‬حتى وصل إلى مكان تجمّع الباحثين‬ ‫فاندفع بينهم و إذا هي ملقاة بال حراك‪ ...‬شعرها األسود‪ ،‬بشرتها البرونزية التي بدأت ت ّ‬ ‫شع مع أول خيوط‬ ‫الفجر‪ ،‬فستانها البرغ ّندي المتمسك بها عند الخصر‪ .‬سالم يلّفّ كيانها المرتاح على الرمل البارد في أواخر شهر‬ ‫عام جديد‪ ...‬خاضت روحها مخاضها األخير و أعادت زفيرها‬ ‫ديسمبر‪ ،‬يوم الفرحة ميالد المسيح و قدوم ٍ‬ ‫األخير كما أخذت شهيقها األول في ذات اليوم عند والدتها‪.‬‬ ‫خانته قدماه ف ّخر صعقا ً على ركبتيه فوق رأسها‪ ،‬م ّد يديه يتلمّس خصالت شعرها و ناداها‪ :‬روزميري‪ ...‬روز‪..‬‬ ‫هل تسمعينني؟‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.