مراكش أزرق ّ ٌ خليط غير متجانس و تعالى الصراخ و الركض في السّاحة االشبيليّة ،سيدة و زوجها مضرجان برذا ٍذ أحمر... لزج على عربة رضيع كان قريبا ً من مكانها و هو يبكي و يصرخ ...أربعة شبّان مضرجّون يقفون في حالة ب شديد يبحلقون على األرض قريبا ً من موطئ أقدامهم و لون وجوههم أصفر من هول ما تبصر أعينهم و رع ٍ قد اتسعت األحداق آلخر مداها. ّج سريع كتالحق أنفاس مارثوني اقترب من خط النهاية ...ما بين صراخ ،شهقات، بدأت الصفارات تعلو بتدر ٍ بكاء ،دهشة ،و شحوب الوجوه و انصدامها بواقع ما ترى عيونهم. كانت هناك ...وحدها فقط! عيناها تطال ُع الالتجاه ...حدقتان زرقاوان خاليتان من الحياة ،متبلدتان كبلورتين ال ت شقراء باهتة اللون حولها كهالة آلهة إغريقية أبدع النحّات في رسمها. معنى لوجودهما .تتطاير خصال ٍ ستظ ّنون أنها أقدمت على قتل ذاتها و أزهقت روحها فالويل لها من مالئكة العذاب .لكن ل َم؟ ل َم ستقدم إنسانة متوازنة تعلم أهوال الجحيم و مافيه و ّ ملذات النعيم و ما يحويه على ذاك الفعل؟ إن كنت سأبدأ فسيكون من خريف أحد السنوات اإلسبانية عندما ظهر وجهه ألول مرة في شركة (كازار) اإلسبانية المختصّة بترميم اآلثار( .فيرناديز) شاب طويل القامة ،أسمر البشرة ،صافي العينين ،بشعره األسود و أناقة شابّ يانع في بداية العقد الثالث من عمره ،لم ُتعِره بالغ االهتمام فالمستجدّين يأتون كثيراً و يذهبون .لكنه لم يشبههم في شيء إال أنه أتى و استوطن كما يهود القدس اللذين استبّدوا و استباحوا و طغوا ...فشرّ دوا و ق ّتلوا و أهانوا. بعفويتها و ضحكاتها التي تملئ المكان كل يوم أسرت عليه حواسه( ...سيسسليّا) بأعوامها السبع و العشرون بدأت جحافلها تطرق أعتاب قلبه ،ب ّقوة شخصيتها و عدم مباالتها إال بعملها و تحررها المضبوط كساعة بينغ بانغ سيطرت على عقله رويداً رويداً إلى أن أصبح شغله في األشهر المتتالية أن يجتاح كيانها و يدخل من الثغور الضعيفة كي يتمّلكها! اعتبرها شجرة الزيتون الفلسطينية التي يجب أن ُتزرع في أرضه فقط و إال فسيجعل من أغصانها حطب مدفأته و يجعل من غارها تاجا يبارز به ك ّل واحد ٍة تحاول أن تخرج عن طاعته، لكأنهن جواري السلطان و ما ملكت أيمانه! بدأ خطوة ،أتبعها بأخرى ،و توالت عليها المقدمات و الوعود ،إال أنها كأنثى لم تسّلم أسوارها و أبواب قالعها. علمت فيه أنه يبغي ِودّها ...فتدلّلت كامرأة مرّة و ك ّ شرت عن أنيابها كلبؤة في أخرى حتى استكان و علم ان ال منجى له منها إال في الوقوع في قبضتها و التسليم لها ...و ألنه عدِم الحيلة في الدخول إلى مملكتها بادئ ذي بدء فقد كان يحاول بعصبيته و مزاجيته الحادة ،و كالمه غير المعقول أن يست ّجرها لكهفه المُقفر .نادراً ما كانت تنفع حيلته .لكن ما لم يكن يعلمه منها أنها كانت تخفي سقوطها في أخدوده ...تحترق بنار نظراته لها كلما طالعها طرفه برجولته المصطنعة و التي كان يظهرها خارج منزله هربا ً من سطوت والدته التي ال ّ يتخذ رأيا ً دونها... فهو ابن امّه و ال يخرج من جلبابها _ و لم تجعله يفقه من الرجولة سوى حرق األرض الخضراء ال إعمارها_ كانت قدماها ترتجفان كلما وقفت أمامه ،تتلعثم و تتبعثر الكلمات في فضاءه السحيق لكأنه إحدى الثقوب السوداء التي تجذب إلى غياباتها كل ما تراه ي ّ شع جماالً و إشراقا ً ...يضطرب نبضها و تخرج د ّقات قلبها عن معيارها ّ الصحيح ...كالفراشة تنجذب نحو بهاءه ،حتى ....ابتلعها لهيب جهنم إلى األبد. و الذي كان يخفى عليه منها و اكتشفه متأخراً _ما زاد مكره لها كأبيّ ابن أبي سلول_ هو أنه كان كبير الشبه برجل أحبّته منذ الطفولة فأخفته عنها الصراعات و التجاذبات اإلسبانية في سجونها ظلما ً منذ أكثر من ّ ست ٍ خبر عنه. إلى تصل ألن بالفشل محاوالتها جميع باءت و سنوات ٍ
كان (فيرنانديز) سيعني لها ح ّبا ً لو أ ّنه لم يُهن أنوثتها ،لو أنه لم يطعن بكبريائها و ثقتها التي كانت تضعها فيه حتى صفعت األيام و األشهر بينهما صفحته اله ّ شة و مسحت زيف لوحته التي لم تكن إال مُرا ًء ظاهراً .ما جعلها ّ تتوقف عن الحركة باتجاه ت ّياره و تتركه بقلعته المهلهلة .و بسبب فعلته هذه ذكرها بأوجاع حياتها التي انقطعت عنها منذ ّ ست سنوات .و ألنها احترمت ألمها و لم تكل له الكيل بميزانين كملكة اشبيلية محترمة السلطان أعاد ّ إليها هللا عين ماء كانت قد ظنت أنها غارت في جوف األرض تذروها الطبقات السبع إلى األبد. انقطع (فيرنانديز) عنها فجأة دون سابق إنذار أو سبب ...فبعد سبعة شهور بدأ ينساب كالرمال ليتخلّص من وعو ٍد قطعها بالزواج ...كالسيّاسي تماما ً .و ألن أنوثتها و عنفوانها لم يسمحا لها بالتنازل عن تاجها كملكة للص مهرّج صادف أن وقف خطأ ً في صفّ القادة و األمراء فهي لم تساله عن انقطاعه بل اكتفت ببعده لكأنه لم يكن يوما ً .أصبحت أحاديث الزمالء في العمل على أنها تحاول ربطه بها ...عن خروجهما سو ّيا ً معظم األيام من العمل ...إلى ما هنالك من ثرثرة ال طائل منها .لم ت ّرد على إحداها ألنها تعرف أن هذه الترهات ستموت في مدافن األيام كما فراعنة مصر و من واالهم. حدث أنه في يوم عيد ميالدها في شهر أيلول أنّ رنّ جرس باب منزلها في حوالي الساعة العاشرة ليالً إال قليالً ...لم تر ّد .عاد الرنين مجدداً ملّحا ً أكثر بأن عليها أن تجيب طارقه على عجل ...فاستكانت و جرجرت قدميها من الفراش حتى وصلت الباب ،نظرت من عدسته لت ّتعرف على المزعج الذي ال يعرف األدب ،فشهقت كأنهار ما عهدتها األرض دون ُلم و حقيقة ...سالت دموعها ٍ و فتحت الباب ...وقفت قبالته تناظره ما بين ح ٍ استأذانها ...ارتجفت شفاهها ،خانتها ركبتاها عن حملها حتى انهارت مسلمّة قواها لجاذبية األرض الحتمية من هول المفاجأة. سيسليّا :أهذا أنتَ ح ّقاً؟ بدأت تكلّم نفسها كمن غابت عمّا حولها و كمن فقدت اإلحساس من هول الصعقة و شردت عيناها و غابت الرؤيا إلى الغباشة الكاملة. ً حقيقة؟ أرجوك ال توقظني إن كنت حلما ً... سيسليّا :هل أنت رفعت ك ّفيها بتثاقل المهول ...أصابع يديها ترتجف سيسليّا :ال تذهب عني و خذ عي ّني حتى ال أصحو و ال أراك ...أرجوك ...أرجوك ال ترحل ...ال تتركني... كانت عيناها تنظر بالالمكان فجثى على ركبتيه و ضمّها إليه يش ّم رائحتها ،يبلل رقبتها بدموعه .كان ذابالً ليس كما كان قبل ست سنوات ...ذاوي بريق العينين من هول ما كان فيه لكنه لم يأبه لشيء سوى أن تكون أول من ترى عيناه ...لم يكن مكترثا ً إن كانت الحياة أودعتها بين يديّ غيره ...إال أنه أراد أن يكون بين يديها فقط و إن كانت لمّرة أخيرة. (كليمانت) اسبانيّ النشأة ،قرطبّي األب عن ج ّد ،ذو بشرة برونزيّة بعيون شهديّة كعسل الجبال .طويل القامة، جميل بياض األسنان ،رقيق االبتسامة .هادئ السمت .كان عائداً إلى منزله قبيل منتصف الليل عندما اجتمع عليه العسكر و اعتقلوه بح ّجة أنه يعارض اليمين اللكتواني ،و لم يرى بعدها .جمعته أيام الدراسة الجامعية ب و طالبة يسعون لتوعية الشباب اإلسباني بأخت سيسليا (إليزا) التي كانت ضمن مجموعة تض ّم ثالثين طال ٍ على عدم االنخراط في الجوانب السياسية و االهتمام بالعلم بش ّتى أنواعه .لم يعجب ذلك الطبقة الراقية المنحازة لحكم البالد و لم يعجبوا أيضا ً المعارضين من اليساريين و اتهموهم على أنهم حياديّوا االتجاه و أنهم بال مبادئ، بتهم ما أنزل هللا بها من و .....إلى ما جعلهم أهدافا ً سهلة ألي طرف ممن ُذ ِك َر أن يز ّج بهم في غيابات الجبّ ٍ سلطان. في نهاية إحدى االجتماعات كانت (سيسليّا) تنتظر (إليزا) ليعودا سويّا إلى المنزل و كان (كليمانت) يناقشها في إحدى النظريات الرياضية المعادلة لكيمياء إحدى تفاعالت المواد عندما ...علقت عيناه الصافيتان على بحر
برزخ ما درى بكنهه حتى أردى فؤاده صريعا ً و عقله يصارع (مرمرة) الصافيّ الذي أ ّدى بدوره إلى نشوء ٍ موج (مرمرة) الذي ال يدري حتى اليوم كيف غيّبه في أعماق ٍه كملوك الطوائف األندلسية. ب لكنّ حال (سيسليّا) لم يكن أفضل من حاله ،عندما رأته يحملق في عينيها و يتأمل تقاسيم وجهها المشو ِ بالحمرة التي تأخذك لعالم الت ّفاحة المحرّمة ،عندما لمحته عيناها كيف يطالع ثغرها و حركة األحرف من شفتيها و هي تتكلّم مع (إليزا) عن الشغب الحاصل في كليّة اآلثار .رأت (إليزا) االرتباك على وجه شقيقتها و كيف ٌ عشق دام ثالث سرح (كليمانت) في عالم آخر و هو (سيسلّيا) فقامت بتقديمهما لبعضهما البعض .و نشأ بينهما َ سنوات توّ ج بإكليلهما في الكنيسة الكبيرة على أن يقام حفل الزفاف بعد أشهر .و قبل أن تنقضي األشهر غيبّت العيون من كال طرفيّ النزاع (كليمانت) في السراديب العطنة اإلسبانية و لمدّة ست سنوات عن الحياة. ليس ترفها نقصد ،و ال زهوها ،إنما غياب مط ُر اشبيّلية ...ورود أسوارها المتدلّية في الربيع لتعبق بها الحواري ،و بحر (مرمرة) الذي كان أقصى حرمان عانى منه خصوصا ً خوفه من أن يكون غيره قد اسطاع ارساء مرساته فيه .كان الح ّراس يخبرونهم _أي السجناء_ أن من ينتظرهم خارج هذا الجبروت لم يعودوا على عهودهم ألن أخبار موتهم تتسربّ إلى الخارج ،و أنهم باقون حتى يفتك الدود بأجسادهم و ينخر السوس ً مواتية ل َم كان يرى و يعاين و ينحر ذاته عظامهم .كان يحاول البقاء ح ّيا ً ،لكن في مرّ ات أخرى كانت فكرة أن َ يتحمّل .بصيص النور في آخر الهوّ ة السحيقة كان بحر (مرمرة) .ال يدري كيف مرّت تلك الستون و المائة بعد األلفين يوما ً كحميم يصبّ فوق أضلعه ،ثمار الز ّقوم التي تعلق في المريء كل يوم ،الجمر الذي يلهب جلده كل أسبوع تقريبا ً حتى تن ّ شق أول عبير هبّ و ابتلعته رئتيه بشهقة من فتح عليه تابوته ليخرج ح ّيا ً .عند أول خطوة لقدميه خارج وادي الويل الجه ّنمي ليصل بابها ،فتقرع أصابع يديه النحيلة جرسه ،لتفتح له بابا ً كاد قلبه أن ينخلع من أن يفتحه شخصٌ قد أخذت أشرعته مكانه في احتواء جسدها. لم تحضر (سيسلّيا) مكتبها منذ أسبوع و تداول عليها أقاويل كثيرة حتى ظهرت صباح يوم االثنين م ّ شعة كما لم تكن خالل السنوات السابقة لغيابه ...يحيط اصبعها هالة نور ألجمت كل فا ٍه فارغ .و نزل الخبر على (فيرنانديز) كحجارة السجّيل على رأس أبرهة فاستأذن بإجازة بقية نهاره و تو ّجه إلى حانة قريبة يرتوي من أسنها ما اسطاع ليخرج منها بعد منتصف الليل و هو في سُكره يتوعد و يهدد و يكيل لظلّله كل اإلهانات و الشتائم .أصبحت عفاريت الليل تتقافز أمامه كأنها تش ّد أزره على ما يتخابط به عقله و يتوس ّد لبّه من كي ٍد عليها. فرنانديز :كيف تستطيعين الخروج عن سيطرة اإلمبراطورية الرومانية العظيمة؟ و إن كنت زنوبيا أو كليوباترا فلن تكوني سوى دميّة ضمن مجموعتي الكبيرة التي ما عرفتها سابقا ً .سترين وادي الويل بأ ّم عينيك (سيسليّا) و سأجعل من حبيبك مجذوبا ً يطوف حواريّ إسبانيا كلها كأضحوكة للقاصي و الداني... مضى قرابة الخمسة أشهر و هي في ترف الحياة ترتع في قلب (كليمانت) لكأنها سلطانة أسطورية تعيش خرافتها في عينيّ من يراها شمسا ً يضيء ظلمته و ال يكشفها غير وجودها ،حتى ...أتى يو ٌم استجابت به لدعو ٍة أودعت صندوق بريدها و هي عائدةٌ من عملها ،متضم ّنة أن هنالك تكريم للشركة في قصر (المورق). أبلغت (كليمانت) بذلك و أنها ال ترغب بالتواجد فهي ستكون بدونه ،و أنها لن تتركه في يوم العطلة وحده ،لكنه رفض عدم ذهابها و أنه يريدها أن تذهب لتسّري عن نفسها فهي منذ عاد إليها لم تدّخر من وقتها لذاتها ...جميع دقائقها كانت ما بين عملها و راحته ،فأص ّر على ذهابها .كان ينتابها حدسٌ ما لم تسرّ له ...إال أنها حاولت تجاهله تماما ً. في اليوم األول من دخول أيام الربيع ،توجهّت لقصر (المورق) بسيارتها الصغيرة _التي لم تتنازل عنها منذ أهداها إياها (كليمانت) بعد سنة من تعارفهما_ ركنتها في المرآب و ترجلت بقامتها المتوسطة ،بنطالها البنيّ اللون المصنوع من قماش الك ّتان و كنزتها الزهرية بلون باهت ما يتناسب مع البنطال ،شعرها معقوص من منتصفه و يسترسل الباقي على ظهرها حتى آخره بتموّ جه الخفيف ،ترتدي نظارات شمسية بلون جلد النمر ،في قدمها حذاء خفيف بلون البيج المعتدل .اقتربت من الحارس و أخبرته أنها من طاقم (الكازار) و أنهم هنا اليوم لتكريمهم...
إال أنه لم يعرها اهتماما ً بل اكتفى بأن أخبرها أنه ال يعلم شيئا ً عن األمر لكن إن أرادت الولوج للقصر فلتدخل. تدرّجت في الداخل وهي تنظر حولها تبحث عن زمالئها عسى تتعرف على أح ٍد منهم ...عبثا ً .مدت يدها لجيب بنطالها لتطالع هاتفها الخلوي لكنها لم تعثر عليه ...لربما بقي في السيّارة .لم تكترث بل بقيت تدور في القصر تروّ ح عن نفسها عسى تجدهم في طوافها. دارت في غرف القصر و جماله ...ببحيراته و جدرانه التي كانت تتأمل إبداع أنامل ص ّناعها و ما تخفيه من أسرار من قطنوها و تركوها .النقوش دقيقة الصنع ...الهندسة البديعة ...حتى وجدت نفسها في آخر طوابقه تتأمل غرفا ً مترفة بهيّة الصنعة .وصلت إلحداها و التي لم تزل ستائرها الحريريّة ذات اللون األزرق المرّ اكشيّ ينضح بجماله ...يتماي ُل بخيالئه و يضرب بأطرافه كمن يوقظ نائميه برفق سريرهم من خشب األبنوس المزركش بنقوش تخلع اللبّ من د ّقتها و تجانسها ،من صقلها و كيفية تطعيمها بذهب يو ّ شيها ،بأناقة يعجز عنها عصرنا الحالي في أن يوجدها. فسيفساء جدارية لمنظر طبيعّي تخطف األنفاس و تجعلك تذهل عن كل ما حولك لد ّقتها و ألوانها .لم تعي الوقت الذي مضى عليها تسبح في ملكوت الغرفة و حبّات الفسيفساء .فهي لم تصحو مما هي فيه سوى على ي ٍد ّ تهز ث يحلّق في بشرر يتطاير من عينيه و خب ٍ ت مألوف يلفظ اسمها ،فالتفتت للوراء فرأت كسرى كتفها بعنف و صو ٍ ٍ ّ وجهه لكأنه استحكم على الخالفة األندلسيّة ليدنسها بعهره و طغيانه .لم تدري من نفسها إال أنها انتفضت و تراجعت للخلف نحو شرفة القصر في تلك الغرفة المطلّة على ساحة اشبيل ّية. بوجل و خوف ظاهران_ أنها حاولت البحث عن الطاقم لكنها لم تستطع وقفت على عتبتها و هي تستفسر منه _ ٍ ايجادهم .بقي (فيرنانديز) صامتا ً تحدو شفتاه ابتسامة مائلة ت ّنم عن شيء سيئ سيحدث هنا. حاولت تجاوزه و الخروج من الغرفة إال أنه دفعها نحو الشرفه مجدداً و بقوّ ة أسقطتها أرضا ً ...فتأوهت من ألم ت كحفيف الوقوع .اقترب منها يجذبها من ياقة كنزتها بكلتا يديه و ينفث بأنفاسه المليئة بالكحول الن ّفاذ و صو ٍ أفعى طاف كيلها من فريستها التي لم تمسك بها حتى اآلن فيرنانديز :كيف تتجرئين الخروج عن طاعتي؟ كيف تكيلين لي بمكيالين؟ ل َم لم تعودي إلى مستنقعي اآلسن؟ كيف تفلتين من سالسلي التي حاولت جاهداً عقدها حول نحرك؟ أظنت أ ّني سأمنحك حريّة الخروج من قفصي ت م ّني الجميل و أنا الذي ال أنضح إال الفوالذيّ دون عقاب؟ اجتحتيني كالحمالت اإلسبانية على إشبيلّيا و أخرج ِ ّ ت م ّني رجالً و كنت أعل ُم أنني لست سوى حثالة ال أزن جناح بعوض ٍة .مذ تركتك كان يجب بالغث السمين .جعل ِ ّ أن تعودي لكنك جعلت مني أضحوكة بشرية ...جعلت حقيقتي تظهر مجردّه كما هي ... كانت تنظر إليه بشيء من الخوف و الكثير من الث ّقة بنفسها و هي تراه على هذه الصوره المقيته .فمه ينفث ريقا ً يتطاير ،يد ّل على مدى حمقه و غباءه .عن انهزام شمشون الجبّار على يد أضعف مخلوقات هللا ...األنثى .بهدوء و هي تنظر إلى عينيه مباشرة سيسليّا :كم تحمّلت من إهاناتك لي؟ كم مرّة كان عليّ أن أتنازل و أتواصل معك بعد انقطاعك عني بال سبب عرف أو وجه ّ حق؟ كنت تتحدث عني لزمالئك الذين كانوا ينصحونك بالتمّسك بي لكنك لم تستطع أن تخبر ُي َ والدتك عن وجودي؟ كانت تصرفاتك الرعناء عند غضبك في أجواء العمل من رميّ األوراق في وجهي و ارتفاع صوتك فيّ تقليالً من شأني لتثبت لنفسك أنك رج ٌل ...و كالنا يعل ُم أنك ال تعل ُم عن الرجولة و ال تملكها حتى .ث ّم و من دون سابق إنذار تدير ظهرك و تخرجني من حياتك لكأني لست بكائن بشريّ يشعر أو يحسّ ً ذليلة كأم ٍة عبّدتها و قد ُخلِ ُ قت حرّة؟ كيف تحرّيت أنني سأستكين لالرجوليتك؟ بالحياة و تريدني أن أعود إليك ً عربدتك مع النساء؟ رعونتك؟ و كل ما تحويه من أسوأ خصال رجال اسبانيا قاطبة؟ لم أكن من أطاحت ُ كنت وفيّة معك ،صادقة الوعد على بعرشك و ال من رأت عنك بديالً ،لكنّ هللا أعاد إليّ (كليمانت) ألنني كنت قد بدأت بوجودك عهداً جديداً بعيداً عن ألم كاد يسحقني و يطيح بشبابي ،اعتقدتك _خطأ_ كتفا ً ُ عكسك. ً سيعينني على تكملة الحياة بشغف ...إال أنك قلبت الموازين بيننا ضدك و ابتعت مرتزقة ينهشون قالعك و كان ب م ّني .فال تلمني و عد أدراجك الخاوية التي تقلّب كفيّك فيها جزاء لهاثك على خراب حصونك بيديك ال عن سب ٍ عجل حنيذ فكان لك أن تقول أليامك :ال سعادة... متاع قليل ،ضحيّت بأبراج بابل مقابل ٍ ٍ
لم يتحمّل أن يسمعها أكثر و هي تريه الصورة الجليّة النعكاس نفسه المشوّ هة ،عندها فقط أمسك بشعرها بصفاقة و رفعها بقوة متوقعا ً صراخها و مناشدتها المساعدة إال أنها استطاعت إذالله بصمتها .جرجرها حتى الشرفة و هو يحاول توعدها و تخويفها ...حاولت اإلفالت من براثنه و كانت تصفعه على وجهه و تحاول التملّص من بين يديه... ب جلل ،و في ذالك الوقت كان (كليمانت) يحاول االتصال بها على جوالها لم ّرات و م ّرات و قلبه يحدّثه بخط ٍ عندما لم يجد اإلجابة منها بعد عدّة محاوالت متكررة بخالل ساعتين و هي التي لم تكن لتتركه ليتصل للمرّة ّ مكتظة بسبب مباراة (الماتادور) المقامة اليوم ما الثانيه حتى ،قاد سيّارته متجّها للقصر ،إال أن الشوارع كانت جعله يركن سيارته جانبا ً و يسير حتى القصر. شخص عمت بصيرته الخمرة التي كان قد انتشاها في وضح النهار. في تلك األثناء كانت األمور تتعقد أكثر مع ٍ ألشهر عليها يمكر كان . المصطنعة لرجولته ينتقم حتى فقط ّة ح الص من كان هو مرسل الدعوة التي ال أساس لها ٍ حتى تمّكن منها. بدفعة قويّة أخرجتها من على حافة الشرفة لتتهاوى خارجها تسحبها جاذبيّة األرض إليها كمن تنادي ابنتها التي ب طال كثيراً. اشتاقت لضمّها بعد غيا ٍ أحست بالهواء يالمس جسدها من خالل فتحات النسيج في ثيابها ...قلبها يخفق بشدة ...جسدها خفيفٌ كريش ٍة تهاوت من طائر يلوح في األجواء فسقطت منه عبثا ً لتداعبها نسمة ربيعية ...لم تشعر ببعد المسافة أو قربها فقد حمام يلوح مبتعداً ٌ صمت ص ّم أذنيها ...ك ّل ما كانت تراه سما ًء صافية ،سرب جمد الزمن تماما ً ...انعدم كلّيا ً. ٍ بشكل الئق .تنسكب كلما اقترب تهاويها ،و وجهه يرتسم لها ...كانت شفتاها تتمتم له باالعتذار ألنها لم تودّعه ٍ أنفاس حشرجت في الحلقوم. لآللئها من مقلتين اغرورقتا بمشاعر فاضت و ٍ سيسليّا( :كليمانت) أيها العزيز لن أكون معك على شاطئ صقل ّية ...سأنتظرك هناك ،عدني أن ال تتأخر عنيّ كما في المرّة السابقة ...ستجدني هناك ،ستضمّك أشرعتي بين حنايها حتى لن يف ّرقنا شيء ...أعدك ...أعدك... ٌ زفرةٌ طويلة ...طويلة جداً خرجت بعكس اتجاهها ...ما استطاعت جاذبية األرض أن تسيطر عليها أو تحكمها، الحق بصرها نور الشمس الذي سطع فجأة أكثر من المعتاد فابتسمت ،ث ّم ...غاب كل شيء ...عتمة ال بصيص نور فيها ،لكنها سمعت صوت جسدها يرتطم على الساحة الحمراء االشبيلية! نعم ،سمعت صوت ته ّ شم ٍ عظامها ...كما سمعت الصراخ و العويل ،جاهدت إخبارهم أنها بخير ،في طمأنينة اآلن ...فلم كل تلك الجلبة؟ فقط اخبروا ذاك الغراب أنه لم ينل منيّ قط ...سيحوم ظلّي في لياليه التي سأقضّ عليها مضجعه .سأحرق نار ذات لهب تحرق أحالمه ...ستكون دقائقه كأشواك جمر لن يقوى على احتمال أيامه أحالمه و أحيلها إلى ٍ عليك نساء عاتيات عن أمر تستلط أن ، رجولتك ة غاني ل ّ ك منك تسلب أن لعنتك فلتكن بها ،و ربّ كل شي ٍء َ ربهن يتخطفن منك سعادتك كما خطفت من حبيبي و مني سعادتنا .و رغم انحسار األندلسيين إال أن قصورهم شامخة في حلق كل حملة صليبية عتت عليها و بقيت رمزا السبانيا رغم إلحادها ،كذلك سأكون من أيامك ...و يكفيك أن تبقى تعاني كما ثور (الماتادور) في حلبة ال فرار منها و رماح المتشدقات تنهش فيك تقتلك ببطء حتى تلقى مصرعك إ ّما منحوراً أو مقتوالً دون مدفن يؤويك. وصل (كليمانت) إلى الساحة و قد رأى الجلبة و الخوف ...لم تكن الساحة كالمعتاد بل هناك رائحة مقيتة فيها، لون الربيع فيها أصفر و بارد ،في الجو عطونة لم يألفها إال في المعتقل ،فخفق قلبه بشدّة ال يعل ُم لماذا؟ ...نظر إلى أعلى فرأى رجالً قد تدلى نصفه و قد انهار كل ّيا ً .حاول تجاوز الجموع حتى وصل إلى... إلى جسدها الملقى على بالط الساحة و قد صبغ بلون قرمزيّ يتسرّب من جسدها جميعه... هبط راكعا ً و كمن ضربته صاعق ٍة السماء ...حبى على ركبتيه ،يديه ترتجفان و هو يحاول أن يمدهما ليلتقط رأسها ،المست أنامله خصالت شعرها .صمت ك ّل من في الساحة عندما رأوه مذهوالً يبكي و يردد اسمها بهستيريا ألجمت كل من كان واقفا ً حتى الرضيع في العربة.
كليمانت :سيسلي ...يا نفسي ،يا من تنبض حياتي ألجلها ...أتسمعينني يا ليلكتي؟ كيف لك أن تتركنني هكذا؟ كيف سولّت لك نفسك فعل ذالك بي أنا ،أنا نفسك التي بين جنبيكِ ...يا رئتي التي ال أتنفس دونها الحياة... شهقات رج ٌل يحمل رأس عاشقته بين يديه و يلملم خصالت شعرها بثغره و دموعه تختلط بدمها المنساب على وجهها ...لم يستطع أح ٌد أن يقترب منه و ال حتى المسعفون .وقف كل من هنالك مأخوذاً بموقف لم تستطع مدامعهم أن تتوقف من هوله. ت في إحدى حواري قرطبة قرب مجمّع الحانات ،هيئته تبعث على اختفى (فيرنانديز) لم يرى إال بعد سنوا ٍ القرف و االشمئزاز ،لم يمسّ جسده ماء و يهرش بجلده كمن يعاني من القُمّل ،يتكلم بما ال يعيه عاقل و ال يفهمه ف من شيء يلحق به أو عصا ً تكيل إليه و بين مرتعد مجنون ،دائم شخوص البصر إلى األعلى ،بين بكاء خائ ٍ الفرائص .خائفٌ وجل ،يتخذ إحدى الزوايا ضاما ً ركبتيه إلى صدره و يدفن رأسه بين قدميه و هو يتمتم بالغفران و الصفح ...أدران الشوارع تكلله من رأسه حتى أخمص قدميه ،أشعث أغبر .ال أحد يعلم كم بقي من السنوات ،لكنه وجد في ساحة اشبيليا في ليلة مثلجة و قد فارق الحياة و قد شخصت عيناه رعبا ً من شيء ما، فاغراً فاه على ملئيه و الزب ُد قد خرج منه .و ت ّم دفنه دون أن يُعلَم له أح ٌد يعرفه و حتى قبره لم يكن عليه اسم أو شاهد. ات ّخذ (كليمانت) من البحر حيا ًة تنقله من شاطئ إلى آخر هائما ً بين سماء و أرض ،بعيداً عن البشريّة قدر المسطاع ،لكنه قريبا ً منها ...من (مرمرة) ،كماء عينيها اللتين لم تفارقا مخيلته ،شواطئه الذهبية في وقت قرصها األحمر كخصالت شعرها الطويل اللذي مازال يحمله معه كجديلة أينما ارتحل و ح ّل .لم تستطع نساء األرض استمالته إليهنّ .يقال أنه في إحدى الرحالت ابتلعته عاصفة عاتية فجعلت الموج يتخاطفه حتى سحبه إلى أعماقه ليسكن أخيراً في مقلتيها بعد سنين من الفراق كان قد أودى بقلبه صريعا ً مذ فارقته .حزن البحّارة على فقدانه فقد كانوا يحبّونه لم له من لطف معشر و طيب نفس معهم فجعلوا اسم السفينة التي كان يرتحل فيها (كليمانت).
L. Sh 05-22-2015