أزرق مرّاكش

Page 1

‫مراكش‬ ‫أزرق ّ‬ ‫ٌ‬ ‫خليط غير متجانس و‬ ‫تعالى الصراخ و الركض في السّاحة االشبيليّة‪ ،‬سيدة و زوجها مضرجان برذا ٍذ أحمر‪...‬‬ ‫لزج على عربة رضيع كان قريبا ً من مكانها و هو يبكي و يصرخ‪ ...‬أربعة شبّان مضرجّون يقفون في حالة‬ ‫ب شديد يبحلقون على األرض قريبا ً من موطئ أقدامهم و لون وجوههم أصفر من هول ما تبصر أعينهم و‬ ‫رع ٍ‬ ‫قد اتسعت األحداق آلخر مداها‪.‬‬ ‫ّج سريع كتالحق أنفاس مارثوني اقترب من خط النهاية‪ ...‬ما بين صراخ‪ ،‬شهقات‪،‬‬ ‫بدأت الصفارات تعلو بتدر ٍ‬ ‫بكاء‪ ،‬دهشة‪ ،‬و شحوب الوجوه و انصدامها بواقع ما ترى عيونهم‪.‬‬ ‫كانت هناك‪ ...‬وحدها فقط! عيناها تطال ُع الالتجاه ‪...‬حدقتان زرقاوان خاليتان من الحياة‪ ،‬متبلدتان كبلورتين ال‬ ‫ت شقراء باهتة اللون حولها كهالة آلهة إغريقية أبدع النحّات في رسمها‪.‬‬ ‫معنى لوجودهما ‪ .‬تتطاير خصال ٍ‬ ‫ستظ ّنون أنها أقدمت على قتل ذاتها و أزهقت روحها فالويل لها من مالئكة العذاب‪ .‬لكن ل َم؟ ل َم ستقدم إنسانة‬ ‫متوازنة تعلم أهوال الجحيم و مافيه و ّ‬ ‫ملذات النعيم و ما يحويه على ذاك الفعل؟‬ ‫إن كنت سأبدأ فسيكون من خريف أحد السنوات اإلسبانية عندما ظهر وجهه ألول مرة في شركة (كازار)‬ ‫اإلسبانية المختصّة بترميم اآلثار‪( .‬فيرناديز) شاب طويل القامة‪ ،‬أسمر البشرة‪ ،‬صافي العينين‪ ،‬بشعره األسود و‬ ‫أناقة شابّ يانع في بداية العقد الثالث من عمره‪ ،‬لم ُتعِره بالغ االهتمام فالمستجدّين يأتون كثيراً و يذهبون‪ .‬لكنه‬ ‫لم يشبههم في شيء إال أنه أتى و استوطن كما يهود القدس اللذين استبّدوا و استباحوا و طغوا‪ ...‬فشرّ دوا و ق ّتلوا‬ ‫و أهانوا‪.‬‬ ‫بعفويتها و ضحكاتها التي تملئ المكان كل يوم أسرت عليه حواسه‪( ...‬سيسسليّا) بأعوامها السبع و العشرون‬ ‫بدأت جحافلها تطرق أعتاب قلبه‪ ،‬ب ّقوة شخصيتها و عدم مباالتها إال بعملها و تحررها المضبوط كساعة بينغ‬ ‫بانغ سيطرت على عقله رويداً رويداً إلى أن أصبح شغله في األشهر المتتالية أن يجتاح كيانها و يدخل من‬ ‫الثغور الضعيفة كي يتمّلكها! اعتبرها شجرة الزيتون الفلسطينية التي يجب أن ُتزرع في أرضه فقط و إال‬ ‫فسيجعل من أغصانها حطب مدفأته و يجعل من غارها تاجا يبارز به ك ّل واحد ٍة تحاول أن تخرج عن طاعته‪،‬‬ ‫لكأنهن جواري السلطان و ما ملكت أيمانه!‬ ‫بدأ خطوة‪ ،‬أتبعها بأخرى‪ ،‬و توالت عليها المقدمات و الوعود‪ ،‬إال أنها كأنثى لم تسّلم أسوارها و أبواب قالعها‪.‬‬ ‫علمت فيه أنه يبغي ِودّها‪ ...‬فتدلّلت كامرأة مرّة و ك ّ‬ ‫شرت عن أنيابها كلبؤة في أخرى حتى استكان و علم ان ال‬ ‫منجى له منها إال في الوقوع في قبضتها و التسليم لها‪ ...‬و ألنه عدِم الحيلة في الدخول إلى مملكتها بادئ ذي بدء‬ ‫فقد كان يحاول بعصبيته و مزاجيته الحادة‪ ،‬و كالمه غير المعقول أن يست ّجرها لكهفه المُقفر‪ .‬نادراً ما كانت تنفع‬ ‫حيلته‪ .‬لكن ما لم يكن يعلمه منها أنها كانت تخفي سقوطها في أخدوده‪ ...‬تحترق بنار نظراته لها كلما طالعها‬ ‫طرفه برجولته المصطنعة و التي كان يظهرها خارج منزله هربا ً من سطوت والدته التي ال ّ‬ ‫يتخذ رأيا ً دونها‪...‬‬ ‫فهو ابن امّه و ال يخرج من جلبابها _ و لم تجعله يفقه من الرجولة سوى حرق األرض الخضراء ال إعمارها_‬ ‫كانت قدماها ترتجفان كلما وقفت أمامه‪ ،‬تتلعثم و تتبعثر الكلمات في فضاءه السحيق لكأنه إحدى الثقوب السوداء‬ ‫التي تجذب إلى غياباتها كل ما تراه ي ّ‬ ‫شع جماالً و إشراقا ً‪ ...‬يضطرب نبضها و تخرج د ّقات قلبها عن معيارها‬ ‫ّ‬ ‫الصحيح ‪...‬كالفراشة تنجذب نحو بهاءه‪ ،‬حتى‪ ....‬ابتلعها لهيب جهنم إلى األبد‪.‬‬ ‫و الذي كان يخفى عليه منها و اكتشفه متأخراً _ما زاد مكره لها كأبيّ ابن أبي سلول_ هو أنه كان كبير الشبه‬ ‫برجل أحبّته منذ الطفولة فأخفته عنها الصراعات و التجاذبات اإلسبانية في سجونها ظلما ً منذ أكثر من ّ‬ ‫ست‬ ‫ٍ‬ ‫خبر عنه‪.‬‬ ‫إلى‬ ‫تصل‬ ‫ألن‬ ‫بالفشل‬ ‫محاوالتها‬ ‫جميع‬ ‫باءت‬ ‫و‬ ‫سنوات‬ ‫ٍ‬


‫كان (فيرنانديز) سيعني لها ح ّبا ً لو أ ّنه لم يُهن أنوثتها‪ ،‬لو أنه لم يطعن بكبريائها و ثقتها التي كانت تضعها فيه‬ ‫حتى صفعت األيام و األشهر بينهما صفحته اله ّ‬ ‫شة و مسحت زيف لوحته التي لم تكن إال مُرا ًء ظاهراً‪ .‬ما جعلها‬ ‫ّ‬ ‫تتوقف عن الحركة باتجاه ت ّياره و تتركه بقلعته المهلهلة‪ .‬و بسبب فعلته هذه ذكرها بأوجاع حياتها التي انقطعت‬ ‫عنها منذ ّ‬ ‫ست سنوات‪ .‬و ألنها احترمت ألمها و لم تكل له الكيل بميزانين كملكة اشبيلية محترمة السلطان أعاد‬ ‫ّ‬ ‫إليها هللا عين ماء كانت قد ظنت أنها غارت في جوف األرض تذروها الطبقات السبع إلى األبد‪.‬‬ ‫انقطع (فيرنانديز) عنها فجأة دون سابق إنذار أو سبب‪ ...‬فبعد سبعة شهور بدأ ينساب كالرمال ليتخلّص من‬ ‫وعو ٍد قطعها بالزواج‪ ...‬كالسيّاسي تماما ً‪ .‬و ألن أنوثتها و عنفوانها لم يسمحا لها بالتنازل عن تاجها كملكة للص‬ ‫مهرّج صادف أن وقف خطأ ً في صفّ القادة و األمراء فهي لم تساله عن انقطاعه بل اكتفت ببعده لكأنه لم يكن‬ ‫يوما ً‪ .‬أصبحت أحاديث الزمالء في العمل على أنها تحاول ربطه بها‪ ...‬عن خروجهما سو ّيا ً معظم األيام من‬ ‫العمل‪ ...‬إلى ما هنالك من ثرثرة ال طائل منها‪ .‬لم ت ّرد على إحداها ألنها تعرف أن هذه الترهات ستموت في‬ ‫مدافن األيام كما فراعنة مصر و من واالهم‪.‬‬ ‫حدث أنه في يوم عيد ميالدها في شهر أيلول أنّ رنّ جرس باب منزلها في حوالي الساعة العاشرة ليالً إال‬ ‫قليالً‪ ...‬لم تر ّد‪ .‬عاد الرنين مجدداً ملّحا ً أكثر بأن عليها أن تجيب طارقه على عجل‪ ...‬فاستكانت و جرجرت‬ ‫قدميها من الفراش حتى وصلت الباب‪ ،‬نظرت من عدسته لت ّتعرف على المزعج الذي ال يعرف األدب‪ ،‬فشهقت‬ ‫كأنهار ما عهدتها األرض دون‬ ‫ُلم و حقيقة‪ ...‬سالت دموعها‬ ‫ٍ‬ ‫و فتحت الباب‪ ...‬وقفت قبالته تناظره ما بين ح ٍ‬ ‫استأذانها‪ ...‬ارتجفت شفاهها‪ ،‬خانتها ركبتاها عن حملها حتى انهارت مسلمّة قواها لجاذبية األرض الحتمية من‬ ‫هول المفاجأة‪.‬‬ ‫سيسليّا‪ :‬أهذا أنتَ ح ّقاً؟‬ ‫بدأت تكلّم نفسها كمن غابت عمّا حولها و كمن فقدت اإلحساس من هول الصعقة و شردت عيناها و غابت‬ ‫الرؤيا إلى الغباشة الكاملة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫حقيقة؟ أرجوك ال توقظني إن كنت حلما ً‪...‬‬ ‫سيسليّا‪ :‬هل أنت‬ ‫رفعت ك ّفيها بتثاقل المهول‪ ...‬أصابع يديها ترتجف‬ ‫سيسليّا‪ :‬ال تذهب عني و خذ عي ّني حتى ال أصحو و ال أراك‪ ...‬أرجوك‪ ...‬أرجوك ال ترحل‪ ...‬ال تتركني‪...‬‬ ‫كانت عيناها تنظر بالالمكان فجثى على ركبتيه و ضمّها إليه يش ّم رائحتها‪ ،‬يبلل رقبتها بدموعه‪ .‬كان ذابالً ليس‬ ‫كما كان قبل ست سنوات‪ ...‬ذاوي بريق العينين من هول ما كان فيه لكنه لم يأبه لشيء سوى أن تكون أول من‬ ‫ترى عيناه‪ ...‬لم يكن مكترثا ً إن كانت الحياة أودعتها بين يديّ غيره‪ ...‬إال أنه أراد أن يكون بين يديها فقط و إن‬ ‫كانت لمّرة أخيرة‪.‬‬ ‫(كليمانت) اسبانيّ النشأة‪ ،‬قرطبّي األب عن ج ّد‪ ،‬ذو بشرة برونزيّة بعيون شهديّة كعسل الجبال‪ .‬طويل القامة‪،‬‬ ‫جميل بياض األسنان‪ ،‬رقيق االبتسامة‪ .‬هادئ السمت‪ .‬كان عائداً إلى منزله قبيل منتصف الليل عندما اجتمع‬ ‫عليه العسكر و اعتقلوه بح ّجة أنه يعارض اليمين اللكتواني‪ ،‬و لم يرى بعدها‪ .‬جمعته أيام الدراسة الجامعية‬ ‫ب و طالبة يسعون لتوعية الشباب اإلسباني‬ ‫بأخت سيسليا (إليزا) التي كانت ضمن مجموعة تض ّم ثالثين طال ٍ‬ ‫على عدم االنخراط في الجوانب السياسية و االهتمام بالعلم بش ّتى أنواعه‪ .‬لم يعجب ذلك الطبقة الراقية المنحازة‬ ‫لحكم البالد و لم يعجبوا أيضا ً المعارضين من اليساريين و اتهموهم على أنهم حياديّوا االتجاه و أنهم بال مبادئ‪،‬‬ ‫بتهم ما أنزل هللا بها من‬ ‫و‪ .....‬إلى ما جعلهم أهدافا ً سهلة ألي طرف ممن ُذ ِك َر أن يز ّج بهم في غيابات الجبّ‬ ‫ٍ‬ ‫سلطان‪.‬‬ ‫في نهاية إحدى االجتماعات كانت (سيسليّا) تنتظر (إليزا) ليعودا سويّا إلى المنزل و كان (كليمانت) يناقشها في‬ ‫إحدى النظريات الرياضية المعادلة لكيمياء إحدى تفاعالت المواد عندما‪ ...‬علقت عيناه الصافيتان على بحر‬


‫برزخ ما درى بكنهه حتى أردى فؤاده صريعا ً و عقله يصارع‬ ‫(مرمرة) الصافيّ الذي أ ّدى بدوره إلى نشوء‬ ‫ٍ‬ ‫موج (مرمرة) الذي ال يدري حتى اليوم كيف غيّبه في أعماق ٍه كملوك الطوائف األندلسية‪.‬‬ ‫ب‬ ‫لكنّ حال (سيسليّا) لم يكن أفضل من حاله‪ ،‬عندما رأته يحملق في عينيها و يتأمل تقاسيم وجهها المشو ِ‬ ‫بالحمرة التي تأخذك لعالم الت ّفاحة المحرّمة‪ ،‬عندما لمحته عيناها كيف يطالع ثغرها و حركة األحرف من شفتيها‬ ‫و هي تتكلّم مع (إليزا) عن الشغب الحاصل في كليّة اآلثار‪ .‬رأت (إليزا) االرتباك على وجه شقيقتها و كيف‬ ‫ٌ‬ ‫عشق دام ثالث‬ ‫سرح (كليمانت) في عالم آخر و هو (سيسلّيا) فقامت بتقديمهما لبعضهما البعض‪ .‬و نشأ بينهما‬ ‫َ‬ ‫سنوات توّ ج بإكليلهما في الكنيسة الكبيرة على أن يقام حفل الزفاف بعد أشهر‪ .‬و قبل أن تنقضي األشهر غيبّت‬ ‫العيون من كال طرفيّ النزاع (كليمانت) في السراديب العطنة اإلسبانية و لمدّة ست سنوات عن الحياة‪.‬‬ ‫ليس ترفها نقصد‪ ،‬و ال زهوها‪ ،‬إنما غياب مط ُر اشبيّلية‪ ...‬ورود أسوارها المتدلّية في الربيع لتعبق بها‬ ‫الحواري‪ ،‬و بحر (مرمرة) الذي كان أقصى حرمان عانى منه خصوصا ً خوفه من أن يكون غيره قد اسطاع‬ ‫ارساء مرساته فيه‪ .‬كان الح ّراس يخبرونهم _أي السجناء_ أن من ينتظرهم خارج هذا الجبروت لم يعودوا على‬ ‫عهودهم ألن أخبار موتهم تتسربّ إلى الخارج‪ ،‬و أنهم باقون حتى يفتك الدود بأجسادهم و ينخر السوس‬ ‫ً‬ ‫مواتية ل َم كان يرى و يعاين و‬ ‫ينحر ذاته‬ ‫عظامهم‪ .‬كان يحاول البقاء ح ّيا ً‪ ،‬لكن في مرّ ات أخرى كانت فكرة أن‬ ‫َ‬ ‫يتحمّل‪ .‬بصيص النور في آخر الهوّ ة السحيقة كان بحر (مرمرة)‪ .‬ال يدري كيف مرّت تلك الستون و المائة بعد‬ ‫األلفين يوما ً كحميم يصبّ فوق أضلعه‪ ،‬ثمار الز ّقوم التي تعلق في المريء كل يوم‪ ،‬الجمر الذي يلهب جلده كل‬ ‫أسبوع تقريبا ً حتى تن ّ‬ ‫شق أول عبير هبّ و ابتلعته رئتيه بشهقة من فتح عليه تابوته ليخرج ح ّيا ً‪ .‬عند أول خطوة‬ ‫لقدميه خارج وادي الويل الجه ّنمي ليصل بابها‪ ،‬فتقرع أصابع يديه النحيلة جرسه‪ ،‬لتفتح له بابا ً كاد قلبه أن ينخلع‬ ‫من أن يفتحه شخصٌ قد أخذت أشرعته مكانه في احتواء جسدها‪.‬‬ ‫لم تحضر (سيسلّيا) مكتبها منذ أسبوع و تداول عليها أقاويل كثيرة حتى ظهرت صباح يوم االثنين م ّ‬ ‫شعة كما لم‬ ‫تكن خالل السنوات السابقة لغيابه‪ ...‬يحيط اصبعها هالة نور ألجمت كل فا ٍه فارغ‪ .‬و نزل الخبر على‬ ‫(فيرنانديز) كحجارة السجّيل على رأس أبرهة فاستأذن بإجازة بقية نهاره و تو ّجه إلى حانة قريبة يرتوي من‬ ‫أسنها ما اسطاع ليخرج منها بعد منتصف الليل و هو في سُكره يتوعد و يهدد و يكيل لظلّله كل اإلهانات و‬ ‫الشتائم‪ .‬أصبحت عفاريت الليل تتقافز أمامه كأنها تش ّد أزره على ما يتخابط به عقله و يتوس ّد لبّه من كي ٍد عليها‪.‬‬ ‫فرنانديز‪ :‬كيف تستطيعين الخروج عن سيطرة اإلمبراطورية الرومانية العظيمة؟ و إن كنت زنوبيا أو كليوباترا‬ ‫فلن تكوني سوى دميّة ضمن مجموعتي الكبيرة التي ما عرفتها سابقا ً‪ .‬سترين وادي الويل بأ ّم عينيك (سيسليّا) و‬ ‫سأجعل من حبيبك مجذوبا ً يطوف حواريّ إسبانيا كلها كأضحوكة للقاصي و الداني‪...‬‬ ‫مضى قرابة الخمسة أشهر و هي في ترف الحياة ترتع في قلب (كليمانت) لكأنها سلطانة أسطورية تعيش‬ ‫خرافتها في عينيّ من يراها شمسا ً يضيء ظلمته و ال يكشفها غير وجودها‪ ،‬حتى‪ ...‬أتى يو ٌم استجابت به لدعو ٍة‬ ‫أودعت صندوق بريدها و هي عائدةٌ من عملها‪ ،‬متضم ّنة أن هنالك تكريم للشركة في قصر (المورق)‪.‬‬ ‫أبلغت (كليمانت) بذلك و أنها ال ترغب بالتواجد فهي ستكون بدونه‪ ،‬و أنها لن تتركه في يوم العطلة وحده‪ ،‬لكنه‬ ‫رفض عدم ذهابها و أنه يريدها أن تذهب لتسّري عن نفسها فهي منذ عاد إليها لم تدّخر من وقتها لذاتها‪ ...‬جميع‬ ‫دقائقها كانت ما بين عملها و راحته‪ ،‬فأص ّر على ذهابها‪ .‬كان ينتابها حدسٌ ما لم تسرّ له‪ ...‬إال أنها حاولت‬ ‫تجاهله تماما ً‪.‬‬ ‫في اليوم األول من دخول أيام الربيع‪ ،‬توجهّت لقصر (المورق) بسيارتها الصغيرة _التي لم تتنازل عنها منذ‬ ‫أهداها إياها (كليمانت) بعد سنة من تعارفهما_ ركنتها في المرآب و ترجلت بقامتها المتوسطة‪ ،‬بنطالها البنيّ‬ ‫اللون المصنوع من قماش الك ّتان و كنزتها الزهرية بلون باهت ما يتناسب مع البنطال‪ ،‬شعرها معقوص من‬ ‫منتصفه و يسترسل الباقي على ظهرها حتى آخره بتموّ جه الخفيف‪ ،‬ترتدي نظارات شمسية بلون جلد النمر‪ ،‬في‬ ‫قدمها حذاء خفيف بلون البيج المعتدل‪ .‬اقتربت من الحارس و أخبرته أنها من طاقم (الكازار) و أنهم هنا اليوم‬ ‫لتكريمهم‪...‬‬


‫إال أنه لم يعرها اهتماما ً بل اكتفى بأن أخبرها أنه ال يعلم شيئا ً عن األمر لكن إن أرادت الولوج للقصر فلتدخل‪.‬‬ ‫تدرّجت في الداخل وهي تنظر حولها تبحث عن زمالئها عسى تتعرف على أح ٍد منهم‪ ...‬عبثا ً‪ .‬مدت يدها لجيب‬ ‫بنطالها لتطالع هاتفها الخلوي لكنها لم تعثر عليه‪ ...‬لربما بقي في السيّارة‪ .‬لم تكترث بل بقيت تدور في القصر‬ ‫تروّ ح عن نفسها عسى تجدهم في طوافها‪.‬‬ ‫دارت في غرف القصر و جماله‪ ...‬ببحيراته و جدرانه التي كانت تتأمل إبداع أنامل ص ّناعها و ما تخفيه من‬ ‫أسرار من قطنوها و تركوها‪ .‬النقوش دقيقة الصنع‪ ...‬الهندسة البديعة‪ ...‬حتى وجدت نفسها في آخر طوابقه‬ ‫تتأمل غرفا ً مترفة بهيّة الصنعة ‪.‬وصلت إلحداها و التي لم تزل ستائرها الحريريّة ذات اللون األزرق المرّ اكشيّ‬ ‫ينضح بجماله‪ ...‬يتماي ُل بخيالئه و يضرب بأطرافه كمن يوقظ نائميه برفق سريرهم من خشب األبنوس‬ ‫المزركش بنقوش تخلع اللبّ من د ّقتها و تجانسها‪ ،‬من صقلها و كيفية تطعيمها بذهب يو ّ‬ ‫شيها‪ ،‬بأناقة يعجز عنها‬ ‫عصرنا الحالي في أن يوجدها‪.‬‬ ‫فسيفساء جدارية لمنظر طبيعّي تخطف األنفاس و تجعلك تذهل عن كل ما حولك لد ّقتها و ألوانها‪ .‬لم تعي الوقت‬ ‫الذي مضى عليها تسبح في ملكوت الغرفة و حبّات الفسيفساء‪ .‬فهي لم تصحو مما هي فيه سوى على ي ٍد ّ‬ ‫تهز‬ ‫ث يحلّق في‬ ‫بشرر يتطاير من عينيه و خب ٍ‬ ‫ت مألوف يلفظ اسمها‪ ،‬فالتفتت للوراء فرأت كسرى‬ ‫كتفها بعنف و صو ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫وجهه لكأنه استحكم على الخالفة األندلسيّة ليدنسها بعهره و طغيانه‪ .‬لم تدري من نفسها إال أنها انتفضت و‬ ‫تراجعت للخلف نحو شرفة القصر في تلك الغرفة المطلّة على ساحة اشبيل ّية‪.‬‬ ‫بوجل و خوف ظاهران_ أنها حاولت البحث عن الطاقم لكنها لم تستطع‬ ‫وقفت على عتبتها و هي تستفسر منه _‬ ‫ٍ‬ ‫ايجادهم‪ .‬بقي (فيرنانديز) صامتا ً تحدو شفتاه ابتسامة مائلة ت ّنم عن شيء سيئ سيحدث هنا‪.‬‬ ‫حاولت تجاوزه و الخروج من الغرفة إال أنه دفعها نحو الشرفه مجدداً و بقوّ ة أسقطتها أرضا ً‪ ...‬فتأوهت من ألم‬ ‫ت كحفيف‬ ‫الوقوع‪ .‬اقترب منها يجذبها من ياقة كنزتها بكلتا يديه و ينفث بأنفاسه المليئة بالكحول الن ّفاذ و صو ٍ‬ ‫أفعى طاف كيلها من فريستها التي لم تمسك بها حتى اآلن‬ ‫فيرنانديز‪ :‬كيف تتجرئين الخروج عن طاعتي؟ كيف تكيلين لي بمكيالين؟ ل َم لم تعودي إلى مستنقعي اآلسن؟‬ ‫كيف تفلتين من سالسلي التي حاولت جاهداً عقدها حول نحرك؟ أظنت أ ّني سأمنحك حريّة الخروج من قفصي‬ ‫ت م ّني الجميل و أنا الذي ال أنضح إال‬ ‫الفوالذيّ دون عقاب؟ اجتحتيني كالحمالت اإلسبانية على إشبيلّيا و أخرج ِ‬ ‫ّ‬ ‫ت م ّني رجالً و كنت أعل ُم أنني لست سوى حثالة ال أزن جناح بعوض ٍة‪ .‬مذ تركتك كان يجب‬ ‫بالغث السمين‪ .‬جعل ِ‬ ‫ّ‬ ‫أن تعودي لكنك جعلت مني أضحوكة بشرية‪ ...‬جعلت حقيقتي تظهر مجردّه كما هي ‪...‬‬ ‫كانت تنظر إليه بشيء من الخوف و الكثير من الث ّقة بنفسها و هي تراه على هذه الصوره المقيته‪ .‬فمه ينفث ريقا ً‬ ‫يتطاير‪ ،‬يد ّل على مدى حمقه و غباءه‪ .‬عن انهزام شمشون الجبّار على يد أضعف مخلوقات هللا‪ ...‬األنثى ‪.‬بهدوء‬ ‫و هي تنظر إلى عينيه مباشرة‬ ‫سيسليّا‪ :‬كم تحمّلت من إهاناتك لي؟ كم مرّة كان عليّ أن أتنازل و أتواصل معك بعد انقطاعك عني بال سبب‬ ‫عرف أو وجه ّ‬ ‫حق؟ كنت تتحدث عني لزمالئك الذين كانوا ينصحونك بالتمّسك بي لكنك لم تستطع أن تخبر‬ ‫ُي َ‬ ‫والدتك عن وجودي؟ كانت تصرفاتك الرعناء عند غضبك في أجواء العمل من رميّ األوراق في وجهي و‬ ‫ارتفاع صوتك فيّ تقليالً من شأني لتثبت لنفسك أنك رج ٌل‪ ...‬و كالنا يعل ُم أنك ال تعل ُم عن الرجولة و ال تملكها‬ ‫حتى‪ .‬ث ّم و من دون سابق إنذار تدير ظهرك و تخرجني من حياتك لكأني لست بكائن بشريّ يشعر أو يحسّ‬ ‫ً‬ ‫ذليلة كأم ٍة عبّدتها و قد ُخلِ ُ‬ ‫قت حرّة؟ كيف تحرّيت أنني سأستكين لالرجوليتك؟‬ ‫بالحياة و تريدني أن أعود إليك‬ ‫ً‬ ‫عربدتك مع النساء؟ رعونتك؟ و كل ما تحويه من أسوأ خصال رجال اسبانيا قاطبة؟ لم أكن من أطاحت‬ ‫ُ‬ ‫كنت وفيّة معك‪ ،‬صادقة الوعد على‬ ‫بعرشك و ال من رأت عنك بديالً‪ ،‬لكنّ هللا أعاد إليّ (كليمانت) ألنني‬ ‫كنت قد بدأت بوجودك عهداً جديداً بعيداً عن ألم كاد يسحقني و يطيح بشبابي‪ ،‬اعتقدتك _خطأ_ كتفا ً‬ ‫ُ‬ ‫عكسك‪.‬‬ ‫ً‬ ‫سيعينني على تكملة الحياة بشغف‪ ...‬إال أنك قلبت الموازين بيننا ضدك و ابتعت مرتزقة ينهشون قالعك و كان‬ ‫ب م ّني‪ .‬فال تلمني و عد أدراجك الخاوية التي تقلّب كفيّك فيها جزاء لهاثك على‬ ‫خراب حصونك بيديك ال عن سب ٍ‬ ‫عجل حنيذ فكان لك أن تقول أليامك‪ :‬ال سعادة‪...‬‬ ‫متاع قليل‪ ،‬ضحيّت بأبراج بابل مقابل‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬


‫لم يتحمّل أن يسمعها أكثر و هي تريه الصورة الجليّة النعكاس نفسه المشوّ هة‪ ،‬عندها فقط أمسك بشعرها‬ ‫بصفاقة و رفعها بقوة متوقعا ً صراخها و مناشدتها المساعدة إال أنها استطاعت إذالله بصمتها‪ .‬جرجرها حتى‬ ‫الشرفة و هو يحاول توعدها و تخويفها‪ ...‬حاولت اإلفالت من براثنه و كانت تصفعه على وجهه و تحاول‬ ‫التملّص من بين يديه‪...‬‬ ‫ب جلل‪ ،‬و‬ ‫في ذالك الوقت كان (كليمانت) يحاول االتصال بها على جوالها لم ّرات و م ّرات و قلبه يحدّثه بخط ٍ‬ ‫عندما لم يجد اإلجابة منها بعد عدّة محاوالت متكررة بخالل ساعتين و هي التي لم تكن لتتركه ليتصل للمرّة‬ ‫ّ‬ ‫مكتظة بسبب مباراة (الماتادور) المقامة اليوم ما‬ ‫الثانيه حتى‪ ،‬قاد سيّارته متجّها للقصر‪ ،‬إال أن الشوارع كانت‬ ‫جعله يركن سيارته جانبا ً و يسير حتى القصر‪.‬‬ ‫شخص عمت بصيرته الخمرة التي كان قد انتشاها في وضح النهار‪.‬‬ ‫في تلك األثناء كانت األمور تتعقد أكثر مع‬ ‫ٍ‬ ‫ألشهر‬ ‫عليها‬ ‫يمكر‬ ‫كان‬ ‫‪.‬‬ ‫المصطنعة‬ ‫لرجولته‬ ‫ينتقم‬ ‫حتى‬ ‫فقط‬ ‫ّة‬ ‫ح‬ ‫الص‬ ‫من‬ ‫كان هو مرسل الدعوة التي ال أساس لها‬ ‫ٍ‬ ‫حتى تمّكن منها‪.‬‬ ‫بدفعة قويّة أخرجتها من على حافة الشرفة لتتهاوى خارجها تسحبها جاذبيّة األرض إليها كمن تنادي ابنتها التي‬ ‫ب طال كثيراً‪.‬‬ ‫اشتاقت لضمّها بعد غيا ٍ‬ ‫أحست بالهواء يالمس جسدها من خالل فتحات النسيج في ثيابها‪ ...‬قلبها يخفق بشدة‪ ...‬جسدها خفيفٌ كريش ٍة‬ ‫تهاوت من طائر يلوح في األجواء فسقطت منه عبثا ً لتداعبها نسمة ربيعية‪ ...‬لم تشعر ببعد المسافة أو قربها فقد‬ ‫حمام يلوح مبتعداً‬ ‫ٌ‬ ‫صمت ص ّم أذنيها‪ ...‬ك ّل ما كانت تراه سما ًء صافية‪ ،‬سرب‬ ‫جمد الزمن تماما ً‪ ...‬انعدم كلّيا ً‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫بشكل الئق‪ .‬تنسكب‬ ‫كلما اقترب تهاويها‪ ،‬و وجهه يرتسم لها‪ ...‬كانت شفتاها تتمتم له باالعتذار ألنها لم تودّعه‬ ‫ٍ‬ ‫أنفاس حشرجت في الحلقوم‪.‬‬ ‫لآللئها من مقلتين اغرورقتا بمشاعر فاضت و‬ ‫ٍ‬ ‫سيسليّا‪( :‬كليمانت) أيها العزيز لن أكون معك على شاطئ صقل ّية‪ ...‬سأنتظرك هناك‪ ،‬عدني أن ال تتأخر عنيّ‬ ‫كما في المرّة السابقة‪ ...‬ستجدني هناك‪ ،‬ستضمّك أشرعتي بين حنايها حتى لن يف ّرقنا شيء‪ ...‬أعدك‪ ...‬أعدك‪...‬‬ ‫ٌ‬ ‫زفرةٌ‬ ‫طويلة‪ ...‬طويلة جداً خرجت بعكس اتجاهها‪ ...‬ما استطاعت جاذبية األرض أن تسيطر عليها أو تحكمها‪،‬‬ ‫الحق بصرها نور الشمس الذي سطع فجأة أكثر من المعتاد فابتسمت‪ ،‬ث ّم‪ ...‬غاب كل شيء‪ ...‬عتمة ال بصيص‬ ‫نور فيها‪ ،‬لكنها سمعت صوت جسدها يرتطم على الساحة الحمراء االشبيلية! نعم‪ ،‬سمعت صوت ته ّ‬ ‫شم‬ ‫ٍ‬ ‫عظامها‪ ...‬كما سمعت الصراخ و العويل‪ ،‬جاهدت إخبارهم أنها بخير‪ ،‬في طمأنينة اآلن‪ ...‬فلم كل تلك الجلبة؟‬ ‫فقط اخبروا ذاك الغراب أنه لم ينل منيّ قط‪ ...‬سيحوم ظلّي في لياليه التي سأقضّ عليها مضجعه‪ .‬سأحرق‬ ‫نار ذات لهب تحرق أحالمه‪ ...‬ستكون دقائقه كأشواك جمر لن يقوى على احتمال أيامه‬ ‫أحالمه و أحيلها إلى ٍ‬ ‫عليك نساء عاتيات عن أمر‬ ‫تستلط‬ ‫أن‬ ‫‪،‬‬ ‫رجولتك‬ ‫ة‬ ‫غاني‬ ‫ل‬ ‫ّ‬ ‫ك‬ ‫منك‬ ‫تسلب‬ ‫أن‬ ‫لعنتك‬ ‫فلتكن‬ ‫بها‪ ،‬و ربّ كل شي ٍء‬ ‫َ‬ ‫ربهن يتخطفن منك سعادتك كما خطفت من حبيبي و مني سعادتنا‪ .‬و رغم انحسار األندلسيين إال أن قصورهم‬ ‫شامخة في حلق كل حملة صليبية عتت عليها و بقيت رمزا السبانيا رغم إلحادها‪ ،‬كذلك سأكون من أيامك‪ ...‬و‬ ‫يكفيك أن تبقى تعاني كما ثور (الماتادور) في حلبة ال فرار منها و رماح المتشدقات تنهش فيك تقتلك ببطء حتى‬ ‫تلقى مصرعك إ ّما منحوراً أو مقتوالً دون مدفن يؤويك‪.‬‬ ‫وصل (كليمانت) إلى الساحة و قد رأى الجلبة و الخوف‪ ...‬لم تكن الساحة كالمعتاد بل هناك رائحة مقيتة فيها‪،‬‬ ‫لون الربيع فيها أصفر و بارد‪ ،‬في الجو عطونة لم يألفها إال في المعتقل‪ ،‬فخفق قلبه بشدّة ال يعل ُم لماذا؟‪ ...‬نظر‬ ‫إلى أعلى فرأى رجالً قد تدلى نصفه و قد انهار كل ّيا ً‪ .‬حاول تجاوز الجموع حتى وصل إلى‪...‬‬ ‫إلى جسدها الملقى على بالط الساحة و قد صبغ بلون قرمزيّ يتسرّب من جسدها جميعه‪...‬‬ ‫هبط راكعا ً و كمن ضربته صاعق ٍة السماء‪ ...‬حبى على ركبتيه‪ ،‬يديه ترتجفان و هو يحاول أن يمدهما ليلتقط‬ ‫رأسها‪ ،‬المست أنامله خصالت شعرها‪ .‬صمت ك ّل من في الساحة عندما رأوه مذهوالً يبكي و يردد اسمها‬ ‫بهستيريا ألجمت كل من كان واقفا ً حتى الرضيع في العربة‪.‬‬


‫كليمانت‪ :‬سيسلي‪ ...‬يا نفسي‪ ،‬يا من تنبض حياتي ألجلها‪ ...‬أتسمعينني يا ليلكتي؟ كيف لك أن تتركنني هكذا؟‬ ‫كيف سولّت لك نفسك فعل ذالك بي أنا‪ ،‬أنا نفسك التي بين جنبيكِ ‪ ...‬يا رئتي التي ال أتنفس دونها الحياة‪...‬‬ ‫شهقات رج ٌل يحمل رأس عاشقته بين يديه و يلملم خصالت شعرها بثغره و دموعه تختلط بدمها المنساب على‬ ‫وجهها‪ ...‬لم يستطع أح ٌد أن يقترب منه و ال حتى المسعفون‪ .‬وقف كل من هنالك مأخوذاً بموقف لم تستطع‬ ‫مدامعهم أن تتوقف من هوله‪.‬‬ ‫ت في إحدى حواري قرطبة قرب مجمّع الحانات‪ ،‬هيئته تبعث على‬ ‫اختفى (فيرنانديز) لم يرى إال بعد سنوا ٍ‬ ‫القرف و االشمئزاز‪ ،‬لم يمسّ جسده ماء و يهرش بجلده كمن يعاني من القُمّل‪ ،‬يتكلم بما ال يعيه عاقل و ال يفهمه‬ ‫ف من شيء يلحق به أو عصا ً تكيل إليه و بين مرتعد‬ ‫مجنون‪ ،‬دائم شخوص البصر إلى األعلى‪ ،‬بين بكاء خائ ٍ‬ ‫الفرائص‪ .‬خائفٌ وجل‪ ،‬يتخذ إحدى الزوايا ضاما ً ركبتيه إلى صدره و يدفن رأسه بين قدميه و هو يتمتم‬ ‫بالغفران و الصفح‪ ...‬أدران الشوارع تكلله من رأسه حتى أخمص قدميه‪ ،‬أشعث أغبر‪ .‬ال أحد يعلم كم بقي من‬ ‫السنوات‪ ،‬لكنه وجد في ساحة اشبيليا في ليلة مثلجة و قد فارق الحياة و قد شخصت عيناه رعبا ً من شيء ما‪،‬‬ ‫فاغراً فاه على ملئيه و الزب ُد قد خرج منه‪ .‬و ت ّم دفنه دون أن يُعلَم له أح ٌد يعرفه و حتى قبره لم يكن عليه اسم أو‬ ‫شاهد‪.‬‬ ‫ات ّخذ (كليمانت) من البحر حيا ًة تنقله من شاطئ إلى آخر هائما ً بين سماء و أرض‪ ،‬بعيداً عن البشريّة قدر‬ ‫المسطاع‪ ،‬لكنه قريبا ً منها‪ ...‬من (مرمرة)‪ ،‬كماء عينيها اللتين لم تفارقا مخيلته‪ ،‬شواطئه الذهبية في وقت‬ ‫قرصها األحمر كخصالت شعرها الطويل اللذي مازال يحمله معه كجديلة أينما ارتحل و ح ّل‪ .‬لم تستطع نساء‬ ‫األرض استمالته إليهنّ ‪ .‬يقال أنه في إحدى الرحالت ابتلعته عاصفة عاتية فجعلت الموج يتخاطفه حتى سحبه‬ ‫إلى أعماقه ليسكن أخيراً في مقلتيها بعد سنين من الفراق كان قد أودى بقلبه صريعا ً مذ فارقته‪ .‬حزن البحّارة‬ ‫على فقدانه فقد كانوا يحبّونه لم له من لطف معشر و طيب نفس معهم فجعلوا اسم السفينة التي كان يرتحل فيها‬ ‫(كليمانت)‪.‬‬

‫‪L. Sh‬‬ ‫‪05-22-2015‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.