الشمس تغرب راضية

Page 1

‫الشمس تغرب راضية‬ ‫قصة قصيرة‬

‫شقت الشمس السوق كعادتها كل صباح ‪ ،‬القت بحملها من الضياء على العربات‬ ‫الخشبية الصغيرة المتراصة ‪ ،‬ووقفت على البعد تنتظر حركة البيع والشراء ‪ ،‬غير‬ ‫أن شيئ اا لم يحدث ‪ ،‬بدأت تتسلق الفق متمهلة ‪ ،‬قلقة ممايجرى ‪ ،‬اذ لم يحدث فى‬ ‫تاريخ السوق أن توقفت حركة البيع ‪ ،‬حتى فى اللحظات التى يداهم فيها عسكر‬ ‫القزالة السوق يطير الباعة والبائعات الى القزقة والحارات ‪ ،‬يستغرق هذا وقتا ا ثم‬ ‫ماتلبث الغمة أن تقزول ويعود المر الى ماكان عليه ‪ .‬يهرول الباعة عائدين الى‬ ‫حيث يفرشون متاعهم ‪ ،‬وينادون على بضاعتهم ضاحكين ‪ ،‬كأنه لم يحدث شىء‬ ‫يعكر صفاء الكون ‪.‬‬ ‫اليوم المر اختلف ‪!..‬‬ ‫الباعة يرفضون البيع ‪ ،‬يجلس كل منهم بجوار عربته صامتا ا ‪ ،‬ينبىء صمتهم عن‬ ‫أشياء تمور فى الصدور ليفصحون عنها ‪ ،‬تبدو أثارها فى تأجج النيران فى‬ ‫أعينهم وانقباض قسماتهم وتقطيب جباههم ‪ ،‬غير أن احداا لينطق بحرف ‪.‬‬ ‫حتى البائعات اللتى يفترشن الرض فى اول السوق ‪ ،‬تجشمت كل منهن مشقة‬ ‫السفر من قريتها حاملة على رأسها الطست الممتلىء بالجبن والبيض والقشدة‬ ‫لتجىء الى السوق ‪ ،‬للتبيع كما جرت العادة ‪ ،‬بل لتجلس هكذا صامتة تشيح‬ ‫بوجهها أو تشيح بيدها رافضة البيع أو الحديث أو حتى تبرير المر ‪.‬‬ ‫التهبت عين الشمس غضباا وهى ترى المر يطول ‪ ،‬اعتلت قبة السماء ووقفت فى‬ ‫المنتصف ترقب المر ‪.‬‬ ‫قال السيد محدثا ا سلمة همسا ا ‪ -:‬الى متى ؟‬ ‫أشاح سلمة بيده ‪ - :‬الى أن ينتبه لنا أحد‬ ‫تساءل السيد متوجسا ا ‪ -:‬واذا لم ينتبه ؟‬ ‫حدق سلمة فى عينيه مؤنبا ا ‪ -:‬الموت جوعا ا أفضل من الموت ذلا ‪.‬‬ ‫‪1‬‬


‫‪...........‬‬ ‫الممت الشمس بشىء من المر ‪ ،‬خفت حدة لهبها ومالت عن قبة السماء قليلا جهة‬ ‫الغرب ‪ ،‬هبت نسمة حانية على السوق ‪ ،‬طافت بوجوه من فيه وصدورهم تهدىء‬ ‫من خواطرهم وتلطف من نارهم التى تكاد تثب من العيون ‪.‬‬ ‫قالت خديجة وهى تجلس الى بضاعتها من الجبن والبيض ‪ -:‬مافائدة كل هذا ؟‬ ‫كانت أم محمد محمرة الوجه تدير عينيها محاولة التشاغل بمراقبة الوجوه‬ ‫والحركات من حولها ‪ ،‬لم تعتد الصمت ‪ ،‬ولم تجلس فى حياتها مجلسا ا كهذا ‪،‬‬ ‫بضاعتها أمامها والقزبائن حولها ومع هذا لبيع ولشراء ‪ ،‬وهى التى تمتنع‬ ‫وتجلس مغلفة بالصمت كتمثال من حجر ليملك ال عينين تدوران حبيستان فى‬ ‫محجريهما !‬ ‫قالت وقد شعر ت بأنها فرصة لكى تنفث عن نفسها ببعض الكلمات ‪ -:‬وهل‬ ‫أرضاك ماحدث ؟‬ ‫همست خديجة ‪ -:‬بصراحة ‪ ،‬فى البداية تحاملت عليها‬ ‫ خشيت ك على نفسكك من انتقام البرعى ؟‬‫ خشيت على السوق كله‬‫ وهى ؟‬‫تفجرت ينابيع الدمع فى عينى خديجة ‪ ،‬همست وهى تحنى رأسها الما ا ‪-:‬‬ ‫ ظظلمت المسكينة من الجميع فى أول وفى آخر‬‫أكملت أم محمد ‪-:‬‬ ‫ ولما دافع حمدان عنها أوسعوه ضربا ا والقوا به معها خارج السوق‪.‬‬‫مسحت خديجة خديها براحتى يديها وهى تقول ‪-:‬‬ ‫ وكالعادة وقف السوق يتفرج ‪ ،‬كائنات لتحس ولتعى !‬‫اعترضت أم محمد ‪ -:‬لكنهم أحسوا الن ‪.‬‬ ‫أشاحت خديجة بيدها ‪-:‬‬ ‫ بعد أن حدث ماحدث‬‫‪2‬‬


‫اقزداد وجه أم محمد احمراراا والدموع تتسابق للهطول من عينيها بعد أن حبستها‬ ‫طوي ا‬ ‫ل ‪ ،‬حدقت خديجة فى وجهها ‪ ،‬قمر يشتعل بالمحاق ‪ ،‬والدموع تقزيده‬ ‫اشتعالا ‪.‬‬ ‫كانت الشمس من عليائها ترقب مدخل السوق ‪ ،‬إحممرت عينها غضبا ا ‪ ،‬مالت ضيقا ا‬ ‫وتذمراا الى أدنى‬ ‫‪...‬‬ ‫ارتفع صوت على البعد ‪ -:‬إقزاله‬ ‫تحرك البعض لشعوريا ا يريد الهرب ‪ ،‬أشار اليهم آخرون بالوقوف والتقزام الصمت‬ ‫مهنما حدث ‪ .‬طارت الشارة عبر السوق الى الجميع دعوا العسكر يفعلوا‬ ‫مايريدون ‪ ،‬وقفوا فى أماكنهم ينظرون الى العسكر وبعضهم يمد مخالبه وانيابه‬ ‫بقصد القبض عليهم ‪ ،‬وبعض آخر يندفع الى البضاعة بسيقانهم وأيديهم ‪،‬‬ ‫يلقونها أرضاا وسط الطين والتراب ‪ ،‬أو يصادرونها منهم فى غلظة ‪.‬‬ ‫انتبه الضابط المصاحب للقوة الى المر ‪.‬‬ ‫الباعة تعودوا أن يهربوا قبل قدوم الحملة ‪ ،‬يحملون بضاعتهم ويطيرون الى‬ ‫القزقة والحارات ‪ ،‬يطاردهم العسكر قلي ا‬ ‫ل ‪ ،‬يتصيدون بعضهم وينتهى المر ‪ ،‬أما‬ ‫الن ‪!..‬‬ ‫أمر جنوده بالتوقف ‪ ،‬أشار الى الباعة بالقتراب‬ ‫أدار نظراته فيهم وبريق عينيه يشى بدهشة لسلوك لم يره منهم من قبل ‪ ،‬رسم‬ ‫ملمح وجهه بالغضب ‪ ،‬وصرخ فيهم بغلظة ‪ -:‬ماالمر ؟‬ ‫تقدم سلمه اليه ‪ -:‬كلنا نريد السجن‬ ‫حدق الضابط فى وجهه ‪ ،‬تركه الى من خلفه مراقبا ا ملمحهم واحداا واحداا وعلى‬ ‫مهل قاصدا فهم المر والتصرف بسرعة ‪ ،‬غير أنه لم يصل الى شىء ‪.‬‬ ‫عاد الى سلمه الذى أكمل ‪ -:‬البرعى داس رقابنا بحذائه ‪.‬‬ ‫تشجع السيد وتقدم قائ ا‬ ‫ل ‪ -:‬والعسكر ضربونا وداسوا بضاعتنا بأرجلهم‬ ‫اتجه الضابط الى سلمه متسائلا ‪ -:‬من هو البرعى ؟‬ ‫ارتفعت أصوات نسوية حانقة ‪-:‬‬ ‫‪3‬‬


‫ لن نبيع ولن نشترى اذا لم يعد حمدان وفاطمة للسوق‬‫هطلت دموع الشمس ‪ ،‬التهبت عينها إحمراراا ‪ ،‬أخذت فى النحدار مبتعدة عن‬ ‫أشياء لتحب أن تراها ‪ ،‬امتلت السماء بدموع الشمس ‪ ،‬بدت السحب مغسولة‬ ‫بدموع حمراء تلون ذؤاباتها ‪ ،‬وساد سكون مترقب ‪.‬‬ ‫‪...‬‬ ‫شعر الضابط أن المر الن لن تفيد معه غلظة ‪ ،‬الحديث من أعلى سيقزيد المر‬ ‫توتراا وعليه أن يكون بينهم ليفهمهم ‪ ،‬لنت لهجته قليلا وهو يوجه حديثه طالبا ا‬ ‫شرح المر بالتفصيل‬ ‫تقدم سلمه الى المام ‪ ،‬قال أن البرعى أراد أن يلوث فاطمة الصغيرة ‪ ،‬يلتهم‬ ‫بكارتها ‪ ،‬فلما دافعت عن نفسها أراد أن ينتقم منها ‪ ،‬وفى ذات الوقت يجعلها‬ ‫عبرة للباعة والبائعات ‪ ،‬فأرسل اليها صبيانه لطردها من السوق ‪ ،‬أراد البائع‬ ‫حمدان الدفاع عنها أوسعوه ضربا وطردوه معها ‪.‬‬ ‫عاد الضابط الى الوجوه المحيطة به ‪ ،‬أدار فيهم عينيه ‪ ،‬العين المنكسرة التى‬ ‫تعودت على الهرب والختباء فى جحور وسراديب الحوارى والقزقة تبدو الن‬ ‫متسعة الحدقات متأججة اللهب ‪ ،‬ترفض الفرار وتتحدى الخوف ‪ ،‬واللسنة التى‬ ‫كانت تتلعثم اذا جاء ذكر الشرطة أمامها صارت الن تتصدى للعسكر وتطالب‬ ‫بالقصاص !‬ ‫تركوا البضاعة ‪ -‬رأس مالهم ومصدر رقزقهم ‪ -‬للعسكر يفعلون بها مايشاؤن ‪،‬‬ ‫راغبين عن البيع مالم تعد فاطمة وحمدان الى السوق ‪.‬‬ ‫المر الن حله فى كلمة واحدة هى الفهم المخلص البعيد عن لعبة القط والفأر ‪،‬‬ ‫ثم التفاهم معهم ومساعدتهم ‪ ،‬وهذا لن يحدث ال اذا خلع بذلة الضابط لبضعة‬ ‫لحظات وارتدى رداء القاضى ويحكم بالعدل !‪.‬‬ ‫دعا عسكره ‪ ،‬أمرهم بانقزال البضاعة من العربات ‪ ،‬بعدها أرسل البعض الى‬ ‫البرعى لحضاره فوراا ‪ ،‬والبعض الخر أرسلهم لستقصاء أثر فاطمة وحمدان ‪،‬‬ ‫ثم اتصل بالنيابة مطالبا ا المحقق أن يحضر فوراا الى السوق ‪.‬‬ ‫قبل أن تنسل الشمس وراء الفق ماضية فى طريقها المعتاد أرسلت طرفها نحو‬ ‫السوق ‪ ،‬تابعت مايجرى ‪ ،‬تألقت عيناها رضا ‪ ،‬ومضت !!‬

‫‪4‬‬


5


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.