بسم هللا الرحمن الرحيم
يوميات مسجون vip
رواية
محمد عباس على داود 1
إهداء
ألم مالها مثيل أقول مخلصا ً ..حفظك هللا
2
ملحوظة هذه الرواية ليست تأريخا ً ألحداث وال سيرة ألشخاص وإذا كان هناك بعض تشابه بين بعض أحداثها وبين أحداث وقعت هنا أو هناك فهذا من قبيل التشابه وليس تعمد النقل أو التأريخ .
3
()1
نظرة للخلف
ال أعرف لماذا كلما نظرت الى الوراء ال أجد إال السراب . وفى هذا الضيق -على عكس ماقدرت -تتسع الرؤى ، وتتضح المعالم ،فيبدو لى وسط الظلمة مالم أره طول العمر ، ذلك العمر الذى امتد الى درجة أن قلت لنفسى - : كفى ،الى أين ؟السكون أما أن يكون فراغا ً تصبح فيه وحدك قشة هشة تائهة فى الكون ،الهى على األرض فترضى ،والهى فى السماء فتهنأ ،بل هى هكذا ،معلقة ،التعرف لها مقراً والمأوى ،أو يصبح الفراغ فرصة لتعود به ومعه الى حيث تمأل لحظاته بما يلوح لك وما يدور بك ومعك من أفكار تتجسد وتتعملق لتصير حاضرا ً يتحدث عن أمسك ،أو أمس آخر ينافس حاضرك فى الوجود ،أو هى ربما خليط من أزمنة شتى تتحاور أمام عينيك ،وأنت كلما تقدمت بك اللحظات تتساءل :وماذا بعد ؟ الغرفة نصف مظلمة ،صرت أراها متسعة بما يكفى ألنثر عبر أرجائها المتخمة بالرطوبة أفكاراً شديدة الحرارة حينا ً ،وحينا ً آخر أفكارا ً متدثرة بالحكمة . الحكمة كما تبدو لى اآلن تاج الفاشلين ،يبررون بها فشلهم ، ربما . وربما هى مالذ العقالء الذين يضجرون من ضجيج الحياة وصراعاتها فيلجأون الى االبتعاد واختيار الظل طوعا ً ،أو هى فى مثل حالتى رغما ً عنهم ،يلجأون اليها ،يتوارون خلفها ويسكبون حيرتهم بين يديها ،وحين تضعهم على شط نهرها
4
الجارى يرون صفاء مائها وسالسة جريانه ،فيدركون من أمرهم مالم يدركوه من قبل . آااااه . هل أخطأت ؟ ربما وربما هو ذلك الوهم الذى بنيته ليكون صرحا ً عاليا ً فهدنى !.. مرقدى ينزوى بالركن األيمن من الحجرة ،أريكة بالكاد تكفى جسدى المتخم باآلالم ،وإلى جوارها وعلى األرض حصير عليها حامل صغير عليه كتاب هللا ،هذا كل مااحتجت إليه اآلن ،أما هؤالء السجانون الذين يقفون ببابى فلم أفكر فى توجيه اللوم إليهم ،يكفيهم ماهم فيه اآلن !!. الرقاد هنا صار أروع من ذى قبل ،ربما فى األيام القالئل األولى كان حفرة من جحيم ،لكنه بعدها رويدا ً تحول الى مالذ وأمان ،نسيت الفراش الوثير الذى كان يُعتنى به صبح مساء ، مفارشه وغطاؤه تتغير فى اليوم الواحد مرات ،نسيت الورود والرياحين وأريج الياسمين ورياض القصر العامر بزهوره وبديع جنانه ،نسيت عشرات العيون التى تتابع لفتاتى وتهرع لتلبية أوامرى راضية ،ربما ال أفكر فى هذا اآلن وال أشغل بالى به لوجود ماهو أهم وأجدى . أحدق فى الركن المظلم هناك ،الجدار المعبق بالرطوبة والظلمة وفراغ التيه صار أنيسى ،أحدق فيه بقوة ،تترائى على صفحته رؤى تشد نفسى إليها ،أبصر مالم أبصره من قبل ،أفتح عينى وأهوى الى األمس ،أدور فى لحظاته وثوانيه منقبا ً وال أمل من التنقيب والبحث ،ربما ألننى لم يعد لى إال هذا .
5
()2
حكاية القطة
قد يكون للقطة تاريخ طويل مع البشر الى درجة أن المصريين القدماء اعتبروها آلهة للخصوبة واألمومة ،أما معى فاألمر يختلف تماما ً فأنا منذ البداية كنت أتحاشاها ،أو لنقل أنى كنت أخشى االقتراب منها ،أراها ربما فى منطقتنا الشعبية مثاراً للرثاء والشفقة من بعيد ،وال أفكر فى االقتراب منها لخوفى من جسدها الذى ربما حمل الحشرات الدقيقة التى التراها العين وتنقل األمراض ،لذا كنت أنظر وأتعاطف معها عن بعد وال أفكر مجرد تفكير أن ألمسها ،إلى أن كان يوم والكهرباء مقطوعة عن المنطقة ،والظالم سيد الليل ،والسكون بساط الحارة ،وأنا أسير وحيدا ً عائدا ً من المقهى ليالً ،أتلمس طريقى محاذرا ً ،حين اهتزت روحى بعنف ،ورأيتنى أحدق بأقصى ماتمتلك عيناى من اتساع على ضوء شعاع من مصباح نافذ من أسفل أحد النوافذ المطلة على الحارة ،كان الشعاع أصفر اللون ،باهت بعض الشىء ،ال يكاد يمتلك المقدرة على إيضاح الصورة كما يجب أن تكون ،وفى ذات الوقت التستطيع أن تقول هنا إظالم ،رأيت حركة تموجية سريعة لثعبان أرقط ترسم فى قوة ثمانيات وسبعات على األرض ، محاوالً قطع الطريق من جدار الى آخر ،وقطة سوداء بالكاد حددت كيانها الفاحم وسط العتمة ،بينما خضرة عينيها نجمتان تتألقان بقسوة وهما تتربصان بالثعبان الغاضب الذى وجد أن اإلفالت منها صعب ،كانت تحاصره بأقدامها لتمنعه من الهرب ،وفى ذات الوقت تأخذ وضع االستعداد وتنفش ظهرها وتقوسه وتصدر زمجرة غاضبة تتحدى بها قدرته على الوثوب إليها واعتصار جسدها بعضالته التى لو أطبقت عليها 6
ألعتصرتها شر اعتصار ،وكلما اقترب من جدار قطعت الطريق عليه وهى تمد قدمها أمامها بانتظار أن يهاجمها فترد هجومه ،وفى ذات الوقت تحاذر أن تقترب المسافة الى الحد التى التملك معه القدرة على المناورة والبعد فى اللحظة المناسبة عن سمه الزعاف وعضالته ،كان المقهى قريبا ً الى الدرجة التى لو صرخت سيسمعنى بعضهم ويأتى ،لكننى ال أعرف لماذا لزمت الصمت ،شدتنى المعركة والمناورات الذكية التى يبديها االثنان وهما مشغوالن عنى بقتالهما المثير ، اقتربت قليالً الى أن لزمت أحد الجدارين وبيدى حجر التقطته من األرض منتظرا ً فرصة ألصوبه الى رأس الثعبان الذى مضى الى الجدار اآلخر قطعت القطة عليه الطريق استدار سريعا ناحيتى ،وقع قلبى من الخوف ،سقط الحجر من يدى ،وارتعدت كل ذرة فى جسدى وأنا أراه يصل لساقى ،يدور حولها ،يعتليها صاعدا ً ،فتحت فمى ألصرخ ،خرج الهواء منثورا ً ولم أنطق بحرف ،ورأيتنى أحاول الهرب والجسد المرعب بملمس جلده الناعم يشل ساقى اليسرى وهو يتمدد صاعداً فى ثقة ،ولم أدر إال وأنا أمد يدى االثنتين مرة واحدة ،أطرحه بكل الرعب عنى ،يرتطم بالجدار ويهوى أرضا ، تتلقاه القطة بأظفارها وأنيابها ،أهرول الى حجر كبير ال أدرى ليلتها كيف حملته ،ربما من أثر الرعب ،أو هى قوة فى اإلنسان التظهر إال وقت الخطر ،أو ربما قوة ما ساعدتنى وحملته معى ،ال أدرى ،كيف ماأعرفه أننى حملت الحجر، اندفعت الى رأس الثعبان ،ضربته بكل قواى ،همدت الرأس لحظة كانت كافية ألن أكرر فعلتى ليستمر الهمود ،أعاود الضرب ثالثا ،يتفجر الدم من الرأس ،ينتفض الجسد بقوة ، يتراقص رقصة الموت قبل أن تهدأ حركته ويطويه الموت ، ليلتها رأيت مالم أره من قبل وعرفت مالم أعرفه ،وبدأت رحلتى مع القطط ..هل أقول مارأيت ؟
7
ولم ال ؟ لكنى منذ رأيت مارأيت فى تلك الليلة عاهدت نفسى على الكتمان حتى عن تلك السطور . على كل يكفى أن أبوح ببعض وأخفى بعض . وقفت والقطة متواجهين وكل منا يحاول السيطرة على نبضاته ،حدقت القطة فى عينى ،األحداق الشريطية رأيتها مستديرة كأعين البشر ،خضرتها ناعمة تمتد كبساط يحوى فوق أديمه امتنانأ وعرفانا ً ،تعتدل فى وقفتها ،ترمى برأسها الى الخلف فى أنفة ،تهمس بصوت حان بكلمات شكر ،ال أدرى كيف فهمتها وهل قالتها بلغتى فلم تفتنى ،أم قالتها بلغتها ففهمتها ، أم هى لم تنطق ومن نظرة عينيها أدركت ماتريد ؟ حقيقة حتى اآلن مازلت أتساءل عن الكيفية التى رأيتها تلك الليلة بها والكيفية التى سمعتها بها . هرولت حينما استدارت عنى الى ظلمة مالها قرار عائداً إلى المقهى ،صارخا ً شفتوا ما جرى ؟ ثعبان كبير قتلته بحجرهرولوا معى الى المكان الذى مازالت فيه بقايا رأس الثعبان وجسده . الغريب أننى ليلتها بدون اتخاذ قرار أو التفكير فى إخفاء شىء أو شيئا ً من هذا القبيل رأيتنى أخفى عنهم حكاية القطة ، وكانت تلك بدايتى معها !!
8
()3
محبس جديد
ال أعرف إن كان لى أن أسأل عن العالقة بين المرأة والقطة ؟ كلتاهما أراها اآلن متأججة فى مشاعرها مابين الحب الشديد والبغض الشديد أيضا ،إذا أحبت اندفعت الى درجة الذوبان ، وإذا أبغضت فإلى أقصى مايمتلك القلب أو الروح من سواد ، ال أرى القطة كما يراها البعض غادرة ،سريعة التمرد ، التصون الود ،أو هى ناكرة للجميل بالمعنى الدارج ،ال أراها هكذا أبدا ً ،مواقفها معى تقول أن هذا القول هراء ،أو هو مبالغة شديدة التليق بقطة أصيلة من أصل مصرى صرف ، فالقطة المصرية من أذكى أنواع القطط فى العالم ،تبادلك عمالً بعمل وشعورا ً بشعور ،التبالى فى سبيل الوقوف إلى جانبك بشىء وال تأبه لشىء ،بل تندفع وسط النيران لتنجيك وتحمى ظهرك ،مثل المرأة فى عنفوان حبها ،وقد قرأت من قبل بخصوص عالقة القطة بالمرأة -خاصة فى مصر القديمة مايلى -:[القطة كانت معروفة في مصر القديمة باسم "ماو" ،كان لها مكانة مهمة في المجتمع المصري القديم ،و بسبب مكافحتها للحشرات وقدرتها على قتل الثعابين مثل الكوبرا ،أصبحت ً رمزا للنعمة واالتزان .ثم أصبحت مع مرور الزمن إلهة
تمثل
الحماية ،والخصوبة ،واألمومة. وقد أقيم لها معبد كبير كان معروفا ً باسم معبد اإللهة باستيت وفيه تماثيل لها على هيئة القطة الوديعة ،ثم أدمجت باستيت مع اإللهة سخمت في الدولة الحديثة ،حيث تم تمثيل سخمت في هيئة امرأة لها رأس لبؤة مفترسة .فعندما تغضب 9
باستيت الوديعة تصبح سخمت الشرسة ،وتنتقم من األعداء ومن هو ذى خلق رديء .كانت مدينة بوباستيس (تل بسطة) مركز عبادتها .وترمز القطة إلى اإللهة باستت ،ابنة إله الشمس رع ،التي كانت تصورها الرسومات على شكل امرأة لها رأس قطة .لذا ت ُعتبر "باستيت" إلهة الحنان والوداعة ، فقد ارتبطت بالمرأة ارتباطا ً وثيقاً. وقد ذكرت اإللهة باستيت في نصوص األهرامات منذ عهد األسرة القديمة ، وكانت إلهة الخصوبة تمثل في هيئة قطة ،أو في هيئة إمرأة رأسها رأس قط أو رأس اللبؤة و كانت تمثل الخصوبة والحب والحنان وحامية المرأة الحامل ] لذا أفكر كثيرا ً هذه األيام فى هذه القطة ،نعم أفكر فيها ،ليس كإلهة بطبيعة الحال ولكن ومن خالل مارأيته منها أفكر فيها كمنقذة تستطيع عمل شىء اآلن ،فلن ينجينى من هذا الموقف إال هى ،مادامت المرأة -زوجتى حفصة -ال تستطيع فعل شىء . أحدق فى ظلمة الجدار كعادتى منذ حين ،وأرى كما لم أر من قبل وبكل الوضوح القطة تجمع زميالتها كما جمعتهن من قبل ،تهاجم هذاا السجن الكبير ،تعتلى األسوار ،تقتحم األبواب ،تكسر القضبان ،تقاتل الحراس ،وتفلت من نيران البنادق لتصل الى ،تقودنى خارجة الى حيث أرى النور من جديد . انتبه لشىء يخمش قدمى ،انتفض فرحا ً وأنا أظن أن أحالمى قد تحققت بأسرع مما تخيلت ،أظنها القطة قد قرأت أفكارى وهرعت متوثبة إلى نجدتى ،أتباعد فورا ً عن خواطرى ألنظر
10
راجيا ً أن تكون هى .الشىء سوى البعوض الذى اليجد تسلية وربما رزقا ً إال على جلدى . أعود الى لجة الشرود ،ارتعد لصوت صاعق يبدد بقسوته وعنفوانه رياض السكينة التى أنعم فيها ومعها ،الباب الحديدى يفتح وفيض من النور والهواء يغافالن الحارس ، ويهروالن الى الداخل ربما لإلطمئنان على صحتى ،تعلن مفاصلة عن نفسها بأقبح مايكون اإلعالن ،ويظهر أمام الباب الوجه الذى ال أطيق رؤيته للرجل المكلف بمراقبتى . -
تفضل معى
إحترام زائف تكذبه عيناه وبرودة حروفه . الى أين ؟أسأله ،يرد باقتضاب -: -
منزل جديد .
-
لماذا ؟
-
تعليمات
يدير رأسه وهو يلقى بالرد المثلج دون أن يأبه بتقديم مزيد من اإليضاح ،أقوم متمهال مراودا ً مفاصلى ومهدهداً لها حتى تطيعنى وتقبل بالقيام ،صفان من الحرس أمام الباب يحيطوننى فى أولى مراسم الرحيل عن هذا القبر الملعون ،أتحرك لألمام وأنا أتحاشى النظر خلفى حتى ال أراه من جديد . يتحرك الموكب مغادرا ً ،أرى من خلف قضبان العربة التى احتوتنى ككفن متحرك الشوارع منطوية صامتة كمداً كأنما هى تنعى سيدها القديم ،أرى جدران البيوت مشرئبة كأنما تطل 11
على الموكب متسائلة عما جرى لى ،أخفض رأسى مكابداً قسوة الدموع وجموحها ،ولوعة القلب وشجونه ،وأنا أحاول إقناع نفسى بأن هذا كان البد أن يحدث مادام كان مكتوبا ً فى دفتر القدر ،وعلى أن أعى هذا وأتقبله حتى تسير بقية أيامى على نحو سهل ،فيه يسر وبال تعقيدات من إحساس بالغبن أو شعور بأسف ،أو حتى إجتياح آالم وعذابات المهانة أرجاء روحى دون قدرة لى على صد أو رد . وصلنا الى منزل صغير على حافة المدينة محاط بحرس خاص يرتدى مالبس مميزة أعرفها جيدا ً ،وبيدهم أسلحة سريعة الطلقات ،وفوق أعينهم نظارات سوداء تخفى معظم المالمح وتمنح الناظر اليهم شعورا ً بالرهبة ،أدوا التحية فور نزولى من العربة وأثناء اقتيادى الى الداخل فذكرونى بالتحية القديمة التى كانوا يؤدونها بإخالص كأن روحهم تثب مع أيديهم محيية بالسالم . المنزل يبدو نظيفا ً راقيا عكس السجن القديم الذى ظننته فى أول مرة رأيته فيها مقبرة فرشها مسنن بآالف الحراب ، وجدرانها تفيض بالكراهية والمقت ،وهواءها يفيض بالضيق والنفور ،وضعونى فيها ولم يف أحد بما وعدونى به من الحفاظ على حياتى وحياة أسرتى ،والعمل على عدم محاكمتى مهما كانت األسباب ،حاولت توصيل صوتى إليهم وتذكيرهم بوعودهم دون جدوى ،جدران حديدية أقيمت فوراً بينى وبينهم كأننى لم أكن يوما ً كبيرهم الذى يبذلون الروح من أجل الحفاظ عليه ورعايته والزود عنه بكل مايمتلكون من قوة ، رأيتنى أقيم فى هذا السجن الملعون ،وأدركت أن النهاية قد دنت ،ولم يعد للعهود مكان ،ولم يعد للوفاء بالوعود معنى ، لقد صرت كارتا ً محروقا ً مصيره بيد العامة قبل أن يكون بأيدى المسئولين ،البسطاء أصحاب الحناجر النحاسية واأليدى الممصوصة العجفاء الذين كانوا منذ أيام أو شهور يهتفون لى 12
بكل العزم والحماس ( بالروح بالدم نفديك ) صاروا اليوم يتحكمون فى مصيرى !! . ترى ما الذى يجرى لينقلونى الى هنا ؟ على كل ومهما كانت األسباب هنا توجد تهوية وشمس تدخل بحرية وتخرج وقتما تشاء ،وهنا أيضا ً حديقة غناء واضح أنهم يهتمون بأمرها ،ويروون ظمأها ،ويراعون هيئتها وبهاءها ،األسوار من الخارج عالية يحيط بها الحرس ،أما من الداخل فتركوا لى حرية الحركة ،األجمل من هذا أن هناك أوراقا ً وأقالما ً يمكننى عن طريقها البوح كيفما أشاء بدالً من اختزان فوران الحروف فى صدرى . وهاأنا ذا قد أمسكت بالقلم ،فتحت األوراق وبدأت التدوين . شىء رائع أن تبوح ولو للورق ،وأن تفرغ شحنة ما من صدرك ،لحظتها تشعر أنك رويداً تتخلص مما كابدت من ألم ، وأنك جربت المخاض ،و كان الوليد حروفا ً تتراص فوق السطور.
()4
مسعود ..والكرسى
ال أعرف حتى اآلن -وخاصة فى هذه السن المتقدمة -كيف يتحول الحب العميق الى كره عميق أيضا . لكن هل أنا كرهت ولدى مسعود حقا ً ،أم كان األمر حنق هائل ألم بى ؟ 13
كان اليوم الذى أ ُعتقلت فيه هو الفيصل ،رأيتنى بحجم حبى له أنقم عليه ،أتلظى بنار الأمتلك قيادها ،أو حتى التحكم فى درجة تأججها ،وأندفع كطوفان جامح الحد له ،يقتحم ويدك ويطوى ،دون أن يمتلك ترف السؤال :كيف ،أو لماذا يقتحم ،أو حتى الى أين سيظل هادرا ً اليعرف تهدئة واليفكر فى توقف ؟ فكل ماتجشمته كان بسببه ،ولصالحه هو ،بينما هو هناك ينعم بالدفء فى فراش التكاسل والال مبااله ،فهو لكى يأخذ مكانى عليه أن ينال مباركة وتأييد رؤساء العشائر واألقاليم المنتشرين فى مشارق البالد ومغاربها ،وهذا التصلح له الخطابات أو الرسل المؤتمنين ،ولكن البد من اللقاء والمساومة ،ثم الموافقة والبيعة والعهد ،وبعدها يستريح على الكرسى العالى أمنا ً مطمئنا ً شامخا ً بأنفه فى كبرياء وأنفه، وقد كنت -حقيقة -فى قرارة نفسى رافضا ً لهذا تماما ً ،ال أراه بصريح القول أهالً ألن يعتلى مكانا ً كهذا يحكم الناس ويفرض رؤيته على إرادتهم وحياتهم ،فهو أقل من أن يقنع أحداً برأى مهما كان مقتنعا ً به ،ناهيك عن إقناع أفراداً أو جماعات ، فكيف يتسنى له أن يرتفع فوق أعناق لن تنظر له إال بالكراهية والحقد وانتهاز الفرصة التى البد ستسنح لكى يقفزوا عليه ويسلبوه مكانه ،وربما ألقوا به فى غيابات السجون ؟ لكنها أمه حفصة ،هى التى ألحت ورتبت وجهزت وفرضت رأيها على باإللحاح والبكاء تارة ،وبالتهديد تارة أخرى بأننى يوما ً ما سأضطر لترك الحكم وحينها لن أجد وفا ًء من أحد ، ولن أرى عهدا ً يصان ،والكرامة تحفظ ،بل ربما ألقونى بين براثن محاكمة تنهش روحى بال هوادة وتقتنص فؤادى بال رحمة وال إحساس ،مما جعلنى أسعى لبذل الجهد من أجله ، و قررت القيام عنه بالسفر هنا وهناك ألسباب عديدة ،لعل 14
أهمها المحافظة على األسرة بعد تخليها عن الكرسى العتيد من المالحقة واالنتقام . كنت ومازلت أحبه ،هذا صحيح فهو ولدى ،وحبى له فوق ماأدرك أو تمضى بى األفكار واألحاسيس ،وكيف ال أحبه وكيف ال ارتبط بكل مااسماه البشر مشاعر وأحاسيس مع ابن وحيد هو لى كل شىء ،ابن رأيته أمنية سامية تمنيتها أياما طويلة ،وحين هل هاللها سعدت بها ورضيت ،حمدت ربى كثيرا ً ودعوته أن يحفظه ويرعاه ،وفى كل لفتة كنت أراه النبع الذى تستقى منه الروح الحياة والعين النور ،كنت أراه نبتة خضراء يانعة ،تنمو فى براح القلب ،وتتألق تحت سماء الروح ،وتتدثر بدفء األنفاس فى كل حين ،وحين اشتد عوده واستوى شابا ً يمأل العين شاركت أمه -رغما ً عن كل أفكارى عنه -ىالحلم بيوم زفافه إلى الكرسى الكبير ، وبلحظة وقوفى وسط الخلق رافعا ً الرأس شامخا ً بأنفى قائالً -: -
لقد أنجبت وربيت ،وهاأنا ذا أتوجه على بلد عظيم يكون فيه تاج الكبير الحب ،وقانونه العدالة ، ونظامه االصالح .
قلت له هذا . وقف محدقا ً بعينيه الواسعتين السوداوين اللتين تطلقان حدقتيهما تبرقان فى وجهى دون أن ينطق بحرف ،شرحت له األمر كما يبدو لى تفصيالً لكى يعرف أى كرسى سيعتلى وأى قوم سيكون عليهم كبيرا ً . -
الكرسى ياولدى هو الرباط لكل من حولك . هو الحاكم الذى تخضع له الرقاب وتنزوى أمامه كل األراء 15
واليبقى لهم إال المشورة حين تطلبها ،والطاعة فى كل حين . عادة هم الينظرون إلى من يعتلى الكرسى . يرونه أبعد من نظراتهم وأعلى من رؤسهم . قد يغتابونه بكلمات خفية خلف األبواب المغلقة . وقد يتجرأ أحدهم وسط العامة ويرمى بكلمة عاصية لكنهم متى ظهرت لهم وبدت قوتك أمامهم انحنت لك رؤسهم ولجمت أفواههم ولم يبد منهم إال البسمات واألدعية والقول المأثور-: بالروح بالدم نفديك يافالنوفالن هذا ياولدى مهما كان ومهما كانت صفته مادام يعتلى الكرسى فسوف يطيعونه فى كل حين ،شرط أن يعرف متى يتكلم وماذا يقول ،وهل يظهر السيف أم يشير بالجزرة ، وكيف يحافظ على شعرة معاوية ..تلك الشعرة مهم جداً ياولدى أن تحافظ عليها ،ترعاها وتضعها دوما ً نصب عينيك . أفهمت ياولدى ؟ فرد ذراعه اليمنى فى وجهى ومد إصبعه السبابة الى مستوى عينى محذرا ً -:
16
االختيار لىحدقت فى عينيه مأخوذا ً وأنا أرى اإلصبع الصغير الذى ربيته من ذوب روحى يشتد ويكبر ليمتد عقيما ً فى وجهى ،قلت -: -
ياولدى ،أريدك أسعد الناس
قال -:أنا أدرى كيف أصنع سعادتى قاومت إحساسا ً بالضيق يجتاح روحى من نقاشى معه ، وكرهت محاولتى أن أزرعه فى أرض ليست له وليس لها . قلت -:الخبرة ال غنى عنها قال -:زمانك ولى ،ولم تعد خبرتك تفيد فى زمن ليس لك تزايدت صبغة السواد فى نبضاتى وأنا أصغى اليه ،حتى وأنا اجاهد نفسى ألكبح جماح رفضى إللحاح أمه ومحاوالتها المستميتة لفرض رؤاها أرانى أبذل جهداً أكبر إلقناعه بأمر أنا ذاتى لست مقتنعا ً به ! اتسعت مساحة الدهشة فى براح نظراتى وتأججت فى صدرى نيران غضب عارم كتمته بالكاد ،عدت أقول -: حسن االختيار اليعرف زمانقال -:ال أتوق إليه قلت أخيراً وقد شعرت بأن الحجج التى أسوقها إليه بليت وتهرأت من كثرة ترديدى لها -: -
لقد تحدثت الى رؤساء العشائر واألقاليم وانتهى األمر
أدار وجهه عنى -: 17
-
لم ترجع الى
رأيتنى أحدق فيه لحظتها وأراه كما لم أره من قبل ،أرى قلبا ً غريبا ً عنى وروحا ً نائية عن روحى ووجها كنت أظننى أعرفه ،فقد حلمت بلحظة انتظرتها سنينا ً عدة ،حلمت بها لفتة لفتة ،وكلمة كلمة ،ومهدت لها فى طول األرض وعرضها ، حلمت بلحظة من أجلها صاحبت من أكره ورافقت من أخالفه الرأى ،واستشرت من أزدرى رأيه وال أقيم لكلماته وزنا ً ،قلت للجميع أن ابنى هذا سيكون خليفتى من بعدى ،له ماكان لى وعليه ماكان على ،وقررت من أجله السعى بين مشرق البالد ومغربها ألخذ البيعة بنفسى واعطاء العهود باألمان و جاءت اللحظة التى حلمت بها ،لكنه كعادته هدم الحلم وزاد مرارة الواقع وكسر مرايا الوهم التى كنت أراه من خاللها ، وهو يقف بين يدى رافعا ً صوته -: -
أنا ال أصلح لخالفتك !!
تناثرت النظرات ،تدافعت الكلمات ،احتد األمر ،وبكت أمه أمام عينيه راجية منه التريث ،وعدم التسرع فى أمر قد يكلف األسرة كلها مستقبلها ،واجهها محتدا -: أنت التريدين مصلحتى أنا ،بل مصلحتكمالقت بين يديه بنظرات متوسلة -: -
وماالفارق بين االثنين ؟
حدق فى عينيها -: -
الفارق أننى ال أريد
18
وقفت حائر النظرات أحدق فى الولد الخائر العزم ،الذى يخشى مجابهة الصعاب التى لن ينال منها إال المشاكل والقلق كما يقول ،وبين أمه التى لم تر فائدة ترجى من الحوار معه ، فلجأت الى حيلة أعرفها جيدا لطول ماخبرتها ،وأدعت اإلغماء ،سارعت الى نجدتها تاركا ً لولدها المجنون هذا أن يقوم بجهد أكبر فى إفاقتها ويعلن صاغراً موافقته على مانريد له !! بعدها طلبت منه أن يجهز نفسه لبدء الرحيل لمقابلة رؤساء العشائر واألقاليم واالتفاق معهم وأخذ العهود بمناصرته والوقوف الى جواره ،سألنى -: -
وهل لهذا أهمية ؟ رميته بنظرة يستحقها و أجبت-:
-
كل األهمية
ثم تشاغلت عنه ! أتوقف قليالً عن الكتابة ،أدير عينى فى المكان حولى بهدوء وروية كانما أبحث عن شىء ال أدرى ماهو ،أعود و أمسك القلم الشارد الذهن ،الساكن بين أصابعى بينما أفكاره مبحرة فى غياهب األمس البعيد ،أعود إلى بداياته معى ،أو بداياتى أنا معه ،حتى قبل أن يولد هذا الولد كان هكذا ،مكتوبا ً فى دفتر الغيب أنه جاحد ،عنيد ،اليقيم وزنا ً ألبويه ،ال أعرف لم ،عيناه الهيتان ،كلماته حادة ،مسننة ،إذا أحب شيئا ً أدمنه، وياويل من يفكر أن يأخذ شيئا ً يخصه . وقد كنت رغم كل شىء أحاول التقرب منه ،ومحادثته ومحاولة إدخاله فى مجال العمل معى وكان ينفر ،دوما ً كان يفعل غصبا ً عنه ،ويبدى الضيق والتبرم كأنه مساق الى هلكته . 19
وحينما كان يثير المشاكل مع أمه وأحاول اإلصالح بكلمة تنهى األمر يرمينى بنظرات التذمر مجبراً على طاعتى . أذكر جيدا ً وال أنسى أبدا ً ذلك اليوم الذى استدعيته فيه إلى مكتبى بعد مشادة حامية مع شقيقته سعاد ،يومها تدخلت أمه منتصرة للبنت التى اعتدى عليها بالضرب ،طلبت أمه منه االعتذار ،صمم على الرفض ،قالت لى همسا ً حينما اختلت بى -: -
هذا الولد يحتاج لقبضة حديدية للتعامل معه
تبسمت معجبا ً بعبارتها تلك وتساءلت -: -
قبضة حديدية ! مع مسعود !
أشاحت بيدها-: -
أنت التعرفه
وقصت على ماكان ،مصرة على تأديبه واتخاذ موقف حازم معه . فكرت قليالً يومها ووجدت أن الطريق الوحيد للتعامل معه هو مناقشته وإقناعه ،وإخراجه من مجال اللهو الذى يقضى وقته فيه إلى مجال العمل معى ليكون كفئا ً لمهام كثيرة قادمة بصفته ولدى . استدعيته الى مكتبى ،جلست أحادثه عن العائلة والتراحم والمودة وكيفية امتصاص غضب األم والرفق بالشقيقة والحنو عليها ،ظل ينظر نحوى محدقا ً بعينيه الواسعتين السوداوين اللتين تطلقان حدقتيهما تبرقان فى وجهى دون أن ينطق بحرف ،أخذ يتململ فى جلسته منتظراً أن أطلق صراحه فيهرول 20
خارجا ً ملقيا ً بكلماتى فى أقرب سلة مهمالت .رأيته صامتا ً اليتحدث ،صرخت فيه -: -
تكلم يامسعود ،قل مالديك
رمانى بحدة نظراته قائالً -: -
إذا تكلمت سأغضبك
-
ولماذا تقول شيئا ً يغضبنى ؟
-
بصراحه ،ألن هذا مافى صدرى
-
أنت ناقم على والدك اذن
-
ليست نقمة ،اعتبرها مالحظات
-
تفضل ،قل
-
ولن تغضب ؟
-
لن أغضب
-
أراك ضعيفا ً
-
نعم !
-
التمتلك القرار
-
ماذا تقول؟!!
-
ماما تفرض رأيها عليك
-
ماذا ؟
21
-
تفعل ماتريد ،وأنت التمتلك إال الطاعة
-
أنا ؟
-
فى الوقت الذى تبدو فيه مع الناس خارج المنزل عنيفا ً ترفض الرأى اآلخر ،والتقبل إال رأيك فقط .
-
وماذا أيضا ؟
-
هذا كل ماعندى
-
تسمع الجواب ؟
-
تفضل
-
الحكمة تقول أن البيت واحة اإلنسان وملجأه بعيداً عن مشكالت الحياة ،هل توافقنى فى هذا ؟
-
أوافقك
-
هل تقبل أن يكون ملجأك والواحة التى تستريح فيها حفرة من نار ؟
-
ال
-
إذن البد أن تكون لينا ً مع من فيها
-
لينا ً وليس خاضعا ً
-
يابنى ،اللين هو االستماع وتقبل الرأى المفيد وتنفيذه إذا استطعت ،وإدخال السرور على أهلك
-
ليس بهذا الشكل .
-
وما الشكل الذى تراه أنت ؟ 22
-
اليرتفع صوت فى بيتى إال صوتى أنا مهما كانت األسباب
-
يابنى ،القدماء كانوا !..
-
ليس لنا شأن بالقدماء
-
حينما تكبر أتمنى أن تفعل ماتقول اآلن
-
هل تريد شيئا ً آخر ؟
-
لم أكمل حديثى معك
بدا على وجهه الضيق ،وجلس متأففا ً ومنصتا رغما ً عنه . جائتنى مقابلة عاجلة شغلتنى عنه فقمت دون أن أكمل النقاش ،ولم أكمله بعدها ثانية ،وإن كنت قد عاقبت من يعلمه أصول الحوار والبروتوكول لفشله فى تلقينه كيف يتصرف أو يتكلم ، خاصة مع والديه !!.
()5
زيارة حفصة
اتسعت مساحة الدهشة فى هذا الكون الجديد الذى صار يحتوينى ،دهشة بلون العيد مألت جوانحى وأنا أرى حفصة زوجتى أمامى فى سجنى المرفه على حافة الكون هنا ، والمحاط بالحرس من كل زاوية وفى كل ركن ،حفصة تدخل مرفوعة الرأس ،عالية الجبين ،قادمة فى سيارة سوداء مهيبة المنظر ،كملكة تسير فى أبهة عزها وفخامتها ،نزلت منها بهدوء ووقار كما كانت تفعل قبال وربما أشد ،يقف الحرس انتباها وتقديراً ،سارت ولم تلتفت إليهم كما كانت تفعل قبالً ،يقودها كبيرالحرس إلى الباب الرئيسى ومنه إلى 23
الردهة ،تتجه قدما ً إلى صدر األنتريه فى خطوات متمهلة وقورة ،تجلس واضعة ساقا ً على ساق وهى تنظر إليه بنظرات متسائلة :وماذا بعد ؟ يحنى رأسه باحترام هامسا ً -: سنبلغ الباشا فوراويصعد إلى -:زيارة يافندم أنظر فى حدقتيه متوجسا ً . هل قال زيارة ؟ ومن يجرؤ على القدوم الى هنا ؟ أم هى رسالة يريدون توصيلها لى ؟ أو ربما أمر يريدون مشورتى فيه بصفتى خبير قضى معظم عمره فى إدارة هذا البلد بحنكة واقتدار ؟ تأنقت فى ملبسى ،عطرت وجنتى وشعرى بعطرى المفضل وهبطت السلم متوقعا ً كل شىء عدا أن أرى حفصة . وقفت أمامها والحرس بيننا ال أدرى ماأقول ،اندفعت فوراً الى أحضانى تقبلنى فى وجنتى ،متسائلة عن صحتى ،وكيف أقضى الوقت فى هذا المكان الكئيب ،وهى ترمى بنظرات تأفف وضيق على المكان الجديد الذى يعتبر جنة بالنسبة للمقبرة القديمة التى رمونى فيها من قبل . كم تغيرت ياحفصة ،ذبلت نظراتك ،وجف ماء الشباب فى وجهك ،ونحل جسدك ،وإن لم تفارقك نظراتك الحادة الفاحصة المتربصة بكل ماحولها ومن حولها ،للحق هى لديها 24
سرعة بديهة تحسد عليها ،تمتلك مقدرة هائلة على التقاط أى بادرة أو لفتة من هنا أو هناك وفحصها وبرمجتها وتفسيرها والرد عليها بأسرع من البرق ،وهذا ماأفتقده أنا ،فأنا البد أن أنظر وأدرك وأفكر وأخطط ثم أفعل . المهم ،صرفت الرجل بنظرة شكر آمرة من رأسها بوجه متجهم البشاشة فيه ،استدار بهدوء مغادراً الى مكتبه بجوار الباب ،وانفردت بى وحشتنى كيف ؟ ولماذا ؟ومن ؟ وما ؟؟أفلتت بسمة من غيوم مالمحها ،بسمة ذابلة كنظرات عينيها وهى تطلب منى التريث حتى تحكى مالديها -: -
ماذا لديك ؟ لن يستطيع مخلوق هنا أن يؤذينا كيف ؟ ساحكى لك
وروت لى مالديها بهدوء وهمس وهى تدير نظراتها حولها متربصة بأى عين قد تفكر فى اقتحام خلوتنا أو أذن تحاول التلصص على حوارنا ،وفى ذات الوقت تثقب المقاعد واألريكة بعينيها باحثة عن جهاز تسجيل هنا أو هناك يلتقط شيئا ً من حروفنا .قالت أنها منذ زمان طلبت من أخيها الذى يشغل مركزأ مرموقا ً تسجيالت فاضحة لبعض المسئولين ، مسئولين ممن يمتلكون زمام األمور اآلن ،وبعض مسئولى البالد المجاورة ممن يهمهم أن تظل هذه التسجيالت بعيدة عن األيدى العابثة أو العيون المتربصة وأن تظل مختفية مهما كان الثمن ،هذه التسجيالت بطبيعة الحال فيها أوضاع مشينة 25
لهم ،تم تصويرها واالحتفاظ بها تحت إدارته ،حينما جد الجد أخذت هى هذه التسجيالت ،نسخت منها عدة نسخ ، أعطت إحداها ألخيها وطلبت منه السفر فى اليوم التالى الذى تم فيه القبض على ،وأمرته أن يخفى التسجيالت فى مكان آمن بعيدا ً عن أى يد مهما كانت مهارتها فى البحث ، وحين تعالت األصوات المطالبة بمحاكمتها بتهمة المشاركة فى الفساد ،ورأت االتجاه يسير الى هذا بعثت من يخبر المسئولين المتورطين بما لديها وبما سوف يحدث فى حالة القبض عليها ،وبأسرع مما يتصور أى عقل ،وكيف أن هذه التسجيالت قد تم عمل نسخ عديدة لها وسوف تذهب كل منها الى صحيفة من الصحف الكبرى التى تتمنى الوقوع على كنز مثلها لتنشره على العالم ،طلبوا منها نسخة للتيقن مما تقول ،وحين اطلعوا عليها تغير كل شىء . هنا أدركت لماذا نقلونى الى هنا . قلت لنفسى لحظتها :فاز مكر المرأة على اندفاع القطط وشططها ، وفكرت فى القطط برثاء !
()6
ليلى وحمارها الكبير
الشىء الذى يسعدنى ويدخل السرور على قلبى ضحكات ليلى حفيدتى ابنة سعاد ،أشعر وهى تدور حولى أن األمطار تمطر بهجة ونور ومرح ،وأن الغضب يتالشى ،واألتراح 26
تزول ،وغيوم النكد تنمحى ،واليبقى إال هى بضحكاتها التى يتسع لها براح عمرى وفضاءات إحساسى ،فأفتح قلبى وأضحك بملء وجدانى وأنا أرى أشجار حياتى المجدبة تورق وتثمر ،وطيور سعادتى العرجاء الخرساء تنطلق وتغرد ، تمأل الكون بأناشيد الحياة ،وتزف إلى الطبيعة روح الربيع ، العب وتلعب معى لعبة الحمار ،أشعر بفخر شديد وهى تمتطى ظهرى قائلة بصوتها المغرد فى سماوات روحى -: -
تحرك ياحمار
فأتحرك رافعا ً ساقى قليالً قبل االنطالق ،فتتماسك بالكاد وهى مغرقة فى الضحك ،صارخة بمرح -: -
ستوقعنى ياحمار
تصرخ حفصة معترضة :كيف تقبل هذا ؟ أشرح لها مرارا ً وتكرارا ً مميزات الحمير وذكائهم وقدرتهم الالمحدودة على التحمل والصبر بالكلل والضيق وكأن الصبر قد خلق ألجلهم ،والجلد قد صيغ ليميز حياتهم ،وأتركها الى ليلى أضاحكها سعيدا ً بضحكاتها ،وأحزن حين يغلبها البكاء ،أراها فراشة أرق من أن تبكى أو تلوح على سيماها بوادر ضيق ،أرانى لحظتها أترك مالدى مهما كان وأنتبه لها، أضمها بين جناحى مترفقا بنقاء نفسها وشفافية روحها، وألبى طلبها مهما كان ،وبطبيعة الحال هذا اليعجب سعاد ابنتى التى تزمجركالمعتاد صارخة -: -
الدلع الزائد سيفسدها
فابدى غضبا ً رقيقا ً وأنا أجيبها-: -
ت ت أن ِ دعيها تأخذ حظها منه ،كما أخذ ِ 27
تلوى زاوية فمها بحذر حتى ال ألمحها وهى تتمتم -: -
وهل مثلى عرفت طيف الدلع من قبل ؟
والأبالى بالرد متظاهرا ً أن حروفها الجاحدة لم تصل الى ،فهى هكذا منذ صغرها تطلب كل شىء والتتورع عن سلب حق من حولها بالقوة أو البكاء والتوسل وبعدها تقول فى براءة النسيم العليل -: -
الكل أخذ حقه أال أنا ،لم آخذ شيئا ً
وقد حاولت كثيرا ً تقويم هذه الصفة فيها ،دون جدوى ، والسبب فى كل الحاالت حفصة أمها فهى دوما ً كانت تعطيها بصفتها المقربة إليها أكثر من أخيها قائلة -: أن البنت شقيقة أمها وخزينة أسرارهاوأصرخ طالبا ً المساواة ،فاليكون الرد إال -: -
تربية األبناء اختصاصى أنا ،وأنا أدرى بما أفعل ،ابتعد أنت بعقدك الذكورية الحمقاء .
وأبتعد مرغما ،فكل ماأضيق به فى الكون هو لسانها الذى اليرحم وال يهدىء من شطحاته ،وقدرتها الفائقة على قلب الحقائق لصالحها مهما كانت األمور واضحة جلية التحتاج لتأويل ،وتلك صفة أخرى ورثتها سعاد منها ،وربما الأكذب إذا قلت إنها تفوقت فيها ،فلسانها المسنون دوما ً والكثير الخشونة يلسع بال رفق وال هوادة ،للدرجة التى صار فيها زوجها عادل نسخة منى ،يتحاشى مرغما ً الدخول فى شجار معها ،وإن كان هو قد تميز بالقدرة على ضبط لسانه فلم يتحرش بها يوما أبدا ً ،أما أنا فحينما يفيض بى الكيل اندفع
28
صارخا فيها العنا ً لسانها وحدته ومنطقها وشطحاته وليكن مايكون . يوما ً لم أر ليلى صباحا ،أرسلت فى طلبها ،جاءت أمها محمرة العينين -: -
مابك ؟
-
ليلى لم تنم طوال الليل
-
كيف ؟
-
حرارتها عالية ورغم الكمادات لم تنخفض
-
ولماذا لم توقظينى ؟
ولم انتظر الرد ،استدعيت الطبيب فوراً ،البنت أرق من أن يصيبها المرض ،لن يجد فى جسدها مجاالً لهزال أكثر مما هى فيه ،ولن يجد فى روحها طاقة لتحمل ،كذلك عيناها أجمل من أن تتأوه وتذبل نظراتها من أثر المرض . ألغيت مواعيدى ومقابالتى واتجهت إلى فراشها فوراً ،رافقت الطبيب فى الكشف عليها ،أكمل عمله هادئا ً وحينما انتهى استدار إلى -: -
أرى أنك المريض وليست هى
-
كيف ؟
-
وجهك وعيناك ينم كل منهما عنك
-
أنت التعرف معنى وجودها بحياتى
29
واستدرت محاوالً إخفاء دمعة حمقاء أرادت اإلفالت من أسر عينى.
()7
المؤامرة
كم هو رائع أن تجلس وحيداً هكذا فتتسع لك الدنيا ، وتجدأمامك براح الذكريات فتهرول فيه ماوسعتك الهرولة دون عائق وبال أى حساسيات ماضية أو حتى حاضرة ،تبصر عيناك األشياء واألماكن واألحداث من جديد بنظرة مختلفة عن ذى قبل ،وربما رأيت مالم تره أو حتى تتوقع رؤيته ،وتبصر مالم تبصره قبال ،وتنفتح لك مغاليق أشياء كانت مبهمة من قبل . مسكين من اعتنق الفراغ ولم يستفد منه. أروع مافى الوجود أن تجد نفسك فى فراغ داهم فتمأله بكنوز الذكريات . أمسك القلم ،يثب من يدى محتضنا السطور راغبا ً عن السكون الذى اجبرته عليه فى لحظات شرودى . أعاود الكتابة ببطء ودون إسراع فالوقت قد استطال ،ال أدرى إلى متى !.. فى بداية رحلتى إلى شرق البالد ركبت العربة المزينة باألعالم ،تاركا ً للحرس والمرافقين العربات األخرى تسير حولى فى موكبى المعتاد ،ميمما ً وجهى ناحية الطريق البحرى الذى يعتبر أقصر الطرق بيننا وبين الشرق ،الطريق البحرى ألنه 30
مقصد السياح والزائرين من داخل البلد وخارجها يتم االهتمام به ،تتم رعايته وتزيينه وإنارة أعمدته ورصف طريقة ونشر األعالم على طول مساره ،لذا أختاره دوما كلما قصدت المشرق . فى منتصف المسافة وطلبا ً للراحة من طول الطريق ولجنا إحدى االستراحات قاصدين أن نمكث فيها قليالً قبل أن نكمل السير ،جاءنى كبير الحرس جبران طالبا ً لقائى فوراً . -
أرى أن تركب عربة أخرى وتترك العربة الرئيسية
-
لماذا ؟
-
تأمين للموكب ولك شخصيا ً
-
ممن ؟
-
من مؤامرة لم نمسك بخيوطها بعد ،ولم نصل إلى تفاصيلها ،ولكن لدينا خطوط طويله تبين وجود شىء ما يدبر بالخفاء .
-
وطبعا أركب عربة أخرى بدون إعالن ألحد
-
بدون إعالن حتى ألعضاء الركب والمرافقين
وافقت على اقتراحه وقررت تنفيذ مايريد ،جاءنى قائد المخابرات المندوه يهمس -: -
هناك مؤامرة تحاك ضدك
-
كيف ؟
31
-
سيطلب منك قائد الحرس جبران أن تركب عربة أخرى غير عربتك الرسمية ليسهل على المتآمرين خطفها ،وترك الموكب الرسمى يسير بدونك دون أن ينتبه أحد فترة من الوقت تكفى إلخفائك تماما ، واالستيالء على الحكم .
سألته -: -
وماذا ترى ؟
-
فى أخر لحظة تصطحب جبران معك ،و التترك السيارة الرئيسية ،وسوف نراقب العربة التى اقترح عليك كبير الحرس ركوبها وسوف ترى بنفسك.
شكرته وقررت تنفيذ ماأشار به على . جاءنى قائد الشرطة الصاوى -: -
مؤامرة تحاك بالخفاء.
-
ماهى ؟
-
سيجىء قائد الحراس جبران ناصحا ً لتركب عربة أخرى غير العربة الرئيسية
-
ثم ؟
-
سيجىء قائد المخابرات المندوه عربتك وأن تصحب جبران فى عربتك
-
ثم ؟
-
كل هذا تمويه إلبعادك عن المؤامرة الرئيسية . 32
طالبا ً أال تترك
-
ماهى ؟
-
الهدف تشتيت أفكارك وبث الخوف فى قلبك قبل تنفيذ المؤامرة
-
كيف ؟
-
تم شق نفق بجوار الطريق الرئيسى على بعد قريب من هنا ،سيتجه إليه الركب ،وهذا النفق يؤدى الى قصر مهجور سيتم احتجازك فيه ،وإعالن موتك ، وتنصيب أحد المتآمرين مكانك
-
وماذا ترى ؟
-
تطلب من أحد الخدم باالستراحة هنا وهو قريب الشبه بك ويدعى سالم ،أن يأخذ مكانك ويركب العربة الرئيسية وحده حتى الينكشف أمره ،وعندها سوف تفشل المؤامرة و!..
وافقته على مايريد وقررت تنفيذ خطته. غادر المكان مطمئنا ً إلى وعدى له . جلست وحيدا ً أنظر فى أمر هؤالء القوم ومايريدون ،وأبحث عمن قد يكون صادقا ً فيهم ومن هم الكاذبون ،أخذنى الفكر محلقا ً فى أجواء ماجرى فى صباى البعيد ،رحلة لم أحلم بها فى أشد لحظات حياتى إشراقا ،فقد كنت أسير ليالً فى قلب الحارة عائدا ً من عملى فى ورشة السباكة عند المعلم رمضان ، فقد كنت فى األجازة الصيفية مثل كل صبيان حارتنا يأخذنى أبى الى إحدى الورش المنتشرة هناك لكى أعمل بها نظير أجر اليكاد يذكر كل أسبوع ،مرة أعمل فى بوفيه خاص بشركة كبيرة ،وأخرى أعمل فى محل طالء للذهب ،وغيره كثير 33
حسب األماكن الخالية والتى تسمح لغالم لم يشب عن الطوق بعد بالعمل بها بدالً من قضاء الوقت كما كان يقول أبى رحمه هللا فيما اليفيد ، فى تلك الليلة بالذات وأنا عائد من العمل ليالً وسط الظلمة نظرا إلنقطاع الكهرباء سمعت همهمة المهيمنة على الطريق ً بجوارى وصوت يشبه مواء قطة تستغيث ،ارتجفت روحى ارتجافة موت ،وتجمدت الدماء فى سائر جسدى ،ورأيتنى عبارة عن خشبة صماء تسير بفعل خارجى عنها تماما ً ، التمتلك الهرولة لشدة رعبها ،وفى ذات الوقت التستطيع التوقف لخوفها مما قد يلحق بها إذا توقفت ،أخذت ألملم ماحفظته طوال حياتى من القرآن وأحاول تالوته ،زاد صوت المواء ارتفاعا ،وأعقبه صوت عواء كلب غاضب يرسل صوته فى قوة من يبحث عن فريسة ما ،وهو يزوم ويقترب من المكان ،مما اضطرنى تحت تأثير الخوف والرعب أن أفكر بالجرى مبتعدا ،حاولت هذا ،أسرعت خطوات لمالحقتى ، وارتفع المواء أكثر وزاد العواء ارتفاعا وشعرت بشىء ما يالمس قدمى ،مما أجبرنى على الهرولة بأقصى مااستطعت من قوة وقلبى يدق بكل الهول الذى يمأله ،وأنفاسى تتوالى واجفة ،وعيناى التريان إال الظلمة ،شعرت لحظتها أننى أجرى و شىء ما يجرى معى ،ربما القطة أو الكلب أو كليهما ،ووسط هذا رأيتنى أتعثر ،ال أدرى كيف ،وأرتمى على وجهى وصوت اإلرتطام يتوافق وينسجم مع آهة فى أعماقى لم أستطع لشدة رعبى إعالنها ،فى تلك اللحظة أحسست بشىء ناعم يندفع ألحضانى ،يلوذ بصدرى ،يلتصق بقوة ،أصابنى الهلع أكثر ،حاولت أن أمد يدى ألنتزعه وأبعده عنى ،لم أجد يدى ،أو وجدتهما مشلولتين التتحركان وأنفاسى تصرخ ملتاعة متعثرة فى رعبها ،وعلى البعد صوت العواء الينقطع ،وحركة األقدام ال تتوقف ،انكمشت مكانى ويداى مشلولتان 34
عن التصرف أو حتى إزاحة هذا الجسد الغريب عن صدرى ، وقدماعى عاجزتان عن مجرد التفكير فى الهرولة لمواصلة الهرب ،شعرت بأنفاس حارة تتدفق من هذا الجسد المجهول ، وارتعاشة تشمله دون أن يبدو عليه أنه يفكر فى إيذائى أو إلحاق الضرر بى ،ساد سكون لحظى أعقبه ابتعاد صوت العواء ورويدا ً عاد لجسدينا أنا وهذا الكائن المجهول الذى يلوذ بصدرى بعض الهدوء ،وعلى ضوء شعاع أطل من عقب أحد النوافذ تنبهت لعينى ذات القطة السمراء الخضراوين تحدقان فى عينى بامتنان ،وسمعتها تهمس لى بالعرفان ،ال أفهم حتى اآلن كيف فهمتها ثانية ،وهل تكلمت لغتى أم أنا فهمت لغتها ،كل ماأذكره أنها شكرتنى إلنقاذها من هذا الكلب المجهول ،ونظرا لحداثة سنى وقتها لم أدرك ماذا وال كيف وال ماالذى فعلته إلنقاذها ،حدقت فى عينيها بنظرات متسائلة مغسولة بماء الذهول وهى تقول فى امتنان كبير -: -
أنقذتنى للمرة الثانية ،سأرد لك الجميل مضاعفا ً ، تستطيع من اآلن أن تتحول الى أى شىء كان ،لكن حذار من ضوء القمر فهو سيكشف صورتك الحقيقية مهما تخفيت .
وانفلتت مولية الى حيث اختفت عن عينى فلم أعد أرها ، ولم أدرك حتى ماذا قصدت بكالمها إال بعد حين ،وللحقيقة فقد شعرت أن جميلها قد طوق عنقى ووهب لحياتى القادمة سالحا ً يفوق ماعداه . انتبهت من شرودى على صوت امرأة تطلب اإلذن بالمثول بين يدى ،عرفت فيها إحدى المشرفات ،رأيتها تتعدى المكان المخصص لها مقتربة من مكانى محتجة بتغيير بعض المفروشات ،هامسة أن لديها ماتريد قوله لى ،أشرت لها باالقتراب أكثر ،بدا شبابها نضرا ً ذو مالمح سابحة فى الحسن 35
،بعيون حوراء ،صريحة البيان ،ذات نظرات مقتحمة شديدة الجاذبية تفيض بسحرها حيث تكون ،وألننى أقدر الجمال حيث كان فقد رأيتها جديرة بأن تنفرد بى وتحدثنى كيفما شاءت . -
القوم يأتمرون بك
-
أى قوم ؟
-
المنوط بهم حمايتك ؟
-
كلهم ؟
-
تستطيع أن ترى بعينيك مايدبرون.
-
كيف ؟
-
تعالى معى والتشعرن بك أحدا ً .
-
ومن يضمن لى أنك صادقة ؟
-
استفت قلبك
استفتيت قلبى كما تريد فرأيته يطالبنى وبإلحاح أن أذهب معها وليكن مايكون ،قائالً أن الموت على يد حسناء أروع وأرق وأكثر شاعرية من الموت بين يدى وجوه كالحة وعيون مسننة النظرات نارية األحداق ،تنكرت قدر المستطاع وانطلقت من اإلستراحة معها من الباب الخلفى دون أن يشعر بى أحد . من مدق ترابى صغير خلف اإلستراحة انطلقنا مترجلين الى حيث انحدرنا إلى واحة صغيرة بها بعض أشجار النخيل التى تتلقى ضوء البدر حين يظفر باإلفالت من أسر الغيوم فتنثرها منمقة بظال ل سمراء تستلقى فى أحضان الرمال بنشوة وحبور
36
،تتوسطها عين ماء صغيرة ،حولها بعض الخيام المنتشرة خلف أشجار النخيل ،سألتها -: -
الى أين ؟
-
ستراهم بعينيك وهم مجتمعين بنفسك
،وتسمع كلماتهم
انطلقت معها الى حيث رأيت العتمة تنبت أجسادا ً ،األجساد على الضوء الشحيح تسفر عن بعض األعراب ،أحاطوا بنا بمجرد اقترابنا من خيامهم ،بيدهم خناجر صغيرة وفى أعينهم شر كثير ،أشارت لهم نحوى قائلة -: -
هاهو كما وعدتكم
ألقى اليها أحدهم بصرة نقود ،وصرفها بإشارة من يده ، ورأيتنى أتكور حول نفسى وقيود من الحبال تربط رأسى ورقبتى بقدمى ويلقى بى أسفل إحدى النخالت فى هدوء ،وبإتقان تام كأنما قد تدربوا كثيرا ً على األمر من قبل ،الشىء الذى أراحنى قليالً هو أن عينى كانتا مطلقتين تريان من مكانى هذا مايدبرون . رأيت مقاعد تمتد فى نصف دائرة من حولى فى ساحة خالية وسط أشجار النخيل ،وأمامى مباشرة ترتفع أعمدة خشبية وتثبت فى األرض متقاطعة ،ومن أعالها تهبط مشنقة ذات حبل من جريد النخيل أيضا ،وفهمت أنها ستكون محاكمة سريعة يعقبها تنفيذ الحكم باإلعدام شنقا ً .غيرت مالمحى فوراً الى مالمح قريبة لى ،مع بعض االختالفات الظاهرة التى توحى لمن يرانى أنى لست المقصود بهذا االعتقال وتلك المحاكمة ،ودعوت هللا أن يرسل الغيوم كثيفة لتغطى وجه القمر لحين انتهاء المحاكمة وإال ضاع كل شىء . 37
بدأت مراسم المحاكمة فور وصول بعض الوجوه الحادة المسننة النظرات ،عرفت أحدها فوراً وهو الشيخ صميدة كبير إحدى عشائر المنطقة ،كان قد زارنى فى مقر الحكم يوما ً متوسطا لدى للعفو عن أحد فتيان عشيرته ،ممتدحا ً عدالتى ونزاهة حكمى ورؤيتى الثاقبة لأل مور ،متعهداً بتقديم كل ألوان الدعم والتأييد وحاشداً كل أبناء عشيرته لخدمة النظام . أخذ كل منهم مكانه وتم فك القيود عن رقبتى ،وإيقافى مربوط القدمين ويداى مقيدتان من الخلف ،بينما الليل يبسط ظلمته على المكان ،والقمر غاف خلف غمامة تأبى إال تقييد ضياه ، وعلى ضوء المشاعل بدأت المحاكمة -: -
مااسمك ؟
-
سمعان
-
كيف ؟
-
هكذا اسمى
-
الست الحاكم ؟
-
ال
-
ومن تكون ؟
-
شبيه له ،فهو يعرف أنه ربما تعرض للقتل فى أى لحظة ،لذا أعد بعض الوجوه القريبة الشبه به لهذا الغرض
-
أنت تكذب
38
-
انظروا الى مالمحى وتحققوا منها جيداً ،ويمكنكم التأكد من األمر بطريقة أخرى
-
كيف ؟
-
باختطاف قائد المخابرات المندوه الذى يتولى األمر ، وسيقول كل شىء
تم تسليط األضواء على مالمحى كما قدرت ،حدق الشيخ صميده بنظرات كريهة فى عينى وعيناه تفيضان بحقد هائل الحد له ،وحين تأكدوا أننى لست هو قال صميده حانقا ً -: -
فى كل األحوال أنت تساعد الظالم ،ومصيرك القتل
قلت بهدوء شديد -: -
إذا كنت أساعده بإرادتى فأنا أستحق القتل
-
ماذا تقصد ؟
-
تم اختطافى من بيتى ،وعزلى عن أهلى وأسرتى ، وأسرى فى منزل ال أبرحه ،وتدريبى على تمثيل دور الحاكم ..رغم كرهى له ولتمثيل دوره .
-
وأين بيتك الذى أخذوك منه ؟
-
فى حارة الطيبين المتفرعة من الشارع الكبير
-
هل لك أوالد ؟
-
ولدان وبنت اليعرفون مصيرى حتى اآلن
-
وزوجتك ؟
39
-
ال أعرف عنها أكثر من أنها تعيش على راتب ضئيل يرسله الحاكم لها أول كل شهر .
-
هل تدلنا على الحاكم ؟
-
الحاكم لم يأت معنا ،لو وصلنا الى مقره يمكننى مساعدتكم فى الوصول اليه
-
كيف ؟
-
أعرف بعض الرجال الذين يودون التخلص منه .
-
كيف نثق بكالمك ؟
-
ألننى أكرهه مثلكم
-
وإذا صرفناك من هنا؟
-
تكون مصلحتنا واحدة
قال صميدة األشد عبوسا ً بينهم آلخر بجواره -: -
فكوا قيوده واكرموه .
تقدمت مقدما آيات الشكر ،وفى ذات الوقت موثقا ً العهد بيننا لإليقاع بالحاكم ،سألنى صميده -: -
هل تريد البقاء معنا لحين العودة الى دار الحاكم ؟
قلت بهدوء -:ال أرى ذلك ،حتى اليلقى أحد بحبال الشك حولى . عاد الصوت الخشن يعلو محتكا ً بطبقات الهواء شارخا ً حدوده بقسوة -: 40
-
اوصلوه الى االستراحه .
عادت الفتاة التى اقتادتنى الى الواحة لتعيدنى من جديد الى مكانى ،عند الباب أرادت التراجع والتوغل فى الظلمة بعيداً عن األعين ،همست فى أذنها بأنى أريد مكافئتها على شجاعتها ،وبدأت فى مغازلتها ،والتلويح لها بقدرتى على إعطائها مزيداً من المال إذا هى قبلت الدخول معى لبعض الوقت ،تنمرت لى وأخرجت فورا ً من طيات ثيابها خنجراً مسنونا ً هددتنى به ،وهى تتقهقر متراجعة الى حيث ابتلعتها الظلمات ! عدت الى مرقدى شاكرا ً للغمام منحته وللقمر هدوءه وعقليانته ،باحثا ً عن لحظات صمت أعيد فيها ترتيب األمور كما ينبغى لى ،تذكرت المؤامرة الغريبة الضاربة بأذيالها الحمقاء فى كل ركن حولى ،تدبر األمر ليس باألمر اليسير ، ولكنى امتلك القدرة على البحث والتقصى بأسرع مااستطيع ، غيرت مالمحى فورا ً الى مالمح كبير الحرس جبران ومضيت الى رئيس المخابرات المندوه الذى حدجنى بنظرات ريبة كانت كافية ألدرك حقيقة العالقة بين الرجلين ،استدرت عائداً إلى قائد الشرطة الصاوى الذى قابلنى بترحاب كبير ،وهمس فى أذنى ببعض الكلمات التى أسعدتنى كثيرا ً ،اذ كانت هى بنود الخطة المزمع تنفيذها لإليقاع بى بمجرد تحرك الموكب فى طريقه الى شرق البالد .عدت الى مضجعى باسما ً منشرح الصدر ،وأغمضت عينى طلبا ً للنوم . تذكرت الفتاة التى تعمل مشرفة والتى من المؤكد عادت الى مكان عملها قمت مسرعا ً ،أرسلت فى طلب المشرفات جميعا ، ساد تذمر صامت بين الوجوه الناعسة ،وكذلك تساؤل حائر عما وراء هذا االستدعاء ،ثم تخوف من حدوث خطأ يستوجب العقاب ،ولكن لم يكن من تنفيذ األمر بد ،حضرن الى ، 41
حددت الفتاة المطلوبة فورا ً ،أشرت اليها أن تقترب وصرفت الباقيات . كان الوقت قد قارب على السحر وبدايات ظهور تباشير الضوء حينما خرجت من عندى باسمة الوجه منتشية الجسد ،راضية القلب بالمال التى حملته والمضاجعة التى من المؤكد أسعدتها ، وخلف الباب مباشرة وجدت رجال الشرطة فى انتظارها للتحقيق معها بتهمة تدبير مؤامرة مع آخرين لقتل الحاكم !! وصودر المال الذى بحوزتها بعد توجيه اتهام جديد لها بسرقته !! قبل اشتعال السماء بوهج الضوء أتيت بنائب قائد الحرس حمدان الذى أثق به ،اعلنته بترقيته الى قائد للحرس وأمرته باعتقال رئيسه فورا ً ،بعد اعطائى التمام باالعتقال أمرته باعتقال قائد المخابرات ،ثم قائد الشرطة ،وعينت مكانهم من أثق به ،وحينها كان النهار قد بسط خيمته على الكون ، استأنف الموكب السير متجها الى شرق البالد !
()8
الصفقة
قلت للسيد حاكم شرق البالد والذى قمت بتعيينه إرضا ًء ألنصاره وأبناء عمومته ليس أكثر-:
42
-
أننا معا ً على الدرب ،خطانا متوافقة ،متالزمة ، وعيوننا تصب نظراتها على ذات الهدف مهما ابتعدت به األماكن ،ومهما نأت به الظروف .
مددت يدى مشيراً الى مائدة الطعام العامرة ،متحدثا ً فى ذات الوقت عن ناس البلد ،وحاجاتهم إلى من يهتم بهم دون أن يتردى الى هاوية البخل والشح أو األكل دون مراعاة ظروفهم ،قائالً ومؤكدا ً-: -
إن الرجل الحر هو من يـأكل ،وفى ذات الوقت الينسى الجائعين ،فإطعامه لهم فرض عليه ،ليس لشىء سوى أن إطعامهم سيقيه شر الفوضى والغوغائية التى يمكن أن تحدث نتيجة شغبهم ، ورفضهم الجوع المستمر والدائم ،فالجوع المتقطع الذى يعطى واليشبع ،ويمنح واليمنع هو الجوع األمثل لمثل هذا الشعب .
صمتت قليالً وأنا أحدق فى بؤبؤ عينيه باحثا ً عن أثر كلماتى على عقله إذا كان يعقل ،ثم أكملت : -
إياك أن تصر على تجويعه تماما ،فساعتها سينقلب عليك ،متهما إياك باألناينه وحب الذات ، وتفضيل نفسك ومن معك عليهم .
هز رأسه موافقا ً فاهتز كرشه معه ،بينما عيناه تبوحان بما يدور فى صدره من مشاعر وأحاسيس ،عدت أكمل -: -
وأيضا إشباع الشعب سيجعله ينقلب عليك ،ألنه اليجد مايشغله ويأخذ وقته ،فقد شبع وامتألت معدته وأصبح اآلن مهيآ للبحث فى أمور كانت بعيدة عن تفكيره ،وليس أسهل من الولوج الى أمورك أنت 43
ككبير للبلد لكى يفتش فيها ،وينقب فى أسرارها باحثا ً ومنقبا ً عما يشين ويزرى بك وربما يقطع رقبتك ،فخير لك أن تمسك بالعصا من المنتصف ، التشبع ،وفى ذات الوقت التتركه للجوع ،اجعلها بين بين . هز الرجل رأسه الكبير متفهما األمر ،مؤكدا ً أن وقوع أمر الحكم فى يد العامة خطر حقيقى لهذا السبب بالذات ،فهم اليفقهون شيئا ً من سياسة السلطة وقوانينها وحكمة إداراتها ، ويظنون أن األمر من السهولة إلى الدرجة التى متى أعلنت ( أن العدل هو السيد ) ستصبح حاكما ً جيدا ً ،أو لو قلت ( المساواة بين الجميع ) ألصبحت حاكما عظيما ً . ابتلع قطعة كبيرة من اللحم أتبعها ببعض الماء ليسهل إنزالقها الى المرىء ،قائالً بحدة -: كال وألف كال ،الحاكم الحقيقى هو الذى يقول ويعرفكيف يسير أموره ،قد يكون العدل أساس الملك ،لكن فى أحيان كثيرة البد من منح بعض المزايا ألشخاص بعينهم يعطون للدولة ماال يعطيه اآلخرون ،هؤالء البد أن يرتفعوا عن هذه المقولة ،ويتفردوا بمزايا خاصة ،ليس ألنهم مستغلين أو منتفعين أو حاشية سيئة تحمل الشر وتشير بالظلم والتعرف للعدل طريق ،كال بل هم مخلصون ،قدموا عصارة فكرهم راضين ،وبضمائر مستريحة ،فعلى الحاكم أن يميزهم عن غيرهم . رفع قطعة اللحم مشيراً بها الى وجهى ،متسوالً موافقتى على كالمه ،هززت رأسى فى رفق وأنا أرقب عمق عينيه ،أكمل -:
44
-
المساواة ياصديقى هى الظلم ثم المساواة !! البين فى هذه الدنيا ،كيف أسوى بين اثنين يعطى كل منهما عكس اآلخر أو أقل منه ؟
المساواة الحقيقية هى أن ينال اثنان نفس الحق حينما يعطيا نفس العمل ،وإذا ميزت أحدهما عن اآلخر فى تلك الحالة أكون قد ظلمته .انظر مثال لألشغال فى البلد اليوم ،هناك أعمال متساوية فى الجهد المبذول ورغم هذا متفاوته فى األجر ،إذا فكرت أن تعيد لألمر عدالته فالبد أن تأخذ من األعلى لتعطى األقل أجرا ً لتساوى بينهم ،وحينها ستحترق البلد بالرفض والفوضى والصراخ بأن ظلما ً عظيما ً وقع عليهم ،لذا تنظر الى المتضررين الذين يطالبون بالمساواة وأنت التستطيع عمل شىء ،لو زدت أجورهم ستثقل كاهل البلد باألجور الجديدة ،ولو أخذت من األعلى أجرا ً ستقع الفتنة ،ولو أعطيت المتضررين أمالً ومنيتهم بأحسن األمانى عشت هادئا ً ومنحت البلد استقرارا ً إلى أن تجد حال ً لهذا اللغز ،فى رأيك لو قفز العامة الى السلطة ،هل يمتلكون الرؤية الصحيحة التى عرضناها اآلن ؟ قلت مؤكدا ً -: -
كال
فى البيت الكبير على حافة البلد حيث الحرس مزروعون حول األسوار ،بأجهزتهم وأسلحتهم وعيونهم المتربصة بكل من يفكر أن يقترب من المكان كانت جلستى والرجل الهادىء العينين المكتظ باللحم بابتسامته الواثقة ،وهو يتحدث إلى رغم مراعاته مركزى كصاحب للكرسى ،شارحا ً أبعاد األمر كما ينبغى أن يكون ،ففى حياتنا تلك البد أن يتواجد الغنى صاحب المال لكى يسود ويفرض إرادته ،ليس ظلما ً وال 45
عدوانا ً على أحد ما ،لكنها سنة الحياة أن يوجد من يسوسها ويوجهها ،ليس من فراغ وال بسلطة رأس المال وحده ،بل ألنه مؤهل للقيادة ،مؤهل أن يسود وأن يوجه وأن يحمل راية التقدم والتغيير إذا استلزم األمر ذلك ،هل ترى سفينة تسير وسط الموج ببعض العمال دون فرد واحد يجمع الجهود ويوجهها إلى مصلحة واحدة هى الحفاظ على السفينة من الغرق ،وفى ذات الوقت توجيهها الى هدفها بحرفية تمنعها من الشرود بعيدا ً عن هدفها ؟ لذلك ياصديقى تجد أن هؤالء عددهم عادة يكون قليالً ،ليس لشىء سوى ألن لديهم منحة إلهية ،هى قيادة الجموع ، واليعقل طبعا أن يكون عدد القواد كثير ،إليس كذلك ؟ قالها وهو يبتسم ،ابتسامته ذات حدود وأبعاد كأنه يقيسها بمسطرة دقيقة الحساب ،وكذلك نظرته المتعالية وجفونه المسترخية المنكسرة فى عظمة كأنه يبخل على بنظرة كاملة فيكتفى بإلقاء نصف نظرة على وجهى ،رغم محاولته إبداء تواضع كاذب فى حضرتى كصاحب كرسى له تقديره ، وإحترامى فرض على الجميع بما فيهم هو حتى وإن كان كبير عائلته . صحبته إلى الوليمة التى أعدها خصيصا ً لى وأنا أبحث عن مدخل جيد لعرض ماأريد .كنت واثقا ً أنه يعرف مقصدى جيداً ،يعرف لماذا أتيت إليه ،وأعرف أكثر أنه قد أعد قائمة بطلبات محددة للمساومة بها ،فمثل هؤالء اليقدمون خدمات مجانية ،وال يعرفون كلمات فى القاموس اللغوى لها داللتها عند أوالد البلد مثل التضحية أو التيسير أو مراعاة الخواطر ، أو مثل هذا من مسميات ،قل لى ماذا تريد وسوف أعرضه على مائدة المصلحة المشتركة ،فإن صلح وكان له مقابل أو
46
جانب بالنسبة لى فأهال به وسهال ،وإال فالموضوع منتهى ، وال يصلح أن يفتح مهما كانت األسباب مرة أخرى . ثم مهم جدا أن تعرف مع من تتعامل ،وهل لديه القدرة على الوفاء بتعهداته والتزاماته أم ال . كل هذا أعرفه عنه ،وعنهم جميعا . لذا قدرت األمر جيدا ً وأعددت له عدته . أوالً ألفرض عليه االلتزام بما أريد. ثانيا المانع أبدا ً أن أتعهد له ببعض المميزات نظير خدماته التى أطلبها منه ،شرط أن يطلبها هو ويلح عليها . وأبدى االمتعاض قليالً أو التردد . وأسأل بعض األسئلة التى تشى بخشيتى من ظلم أطراف أخرى إذا وافقت على منحه مايريد . قدمت ولدى مسعود الى مائدة الطعام ليكون بجوارى ،الولد يحمل نظرات بلهاء تشى بما فى داخل دماغه الصغير من فراغ ،يتحدث همسا ً كأنه يخشى من شىء ما ،حركاته مغلفة بخجل طفولى المعنى له ،يهتم كثيرا بشعره ،ويخشى كل الخشية أن تهتز شعره وتتحرك عن مكانها الذى ثبتها فيه ،وكلما رأى مرآة يحدق فيها غامسا ً نظراته فى بؤبؤ عينيها ،متسائال على مايبدو كيف حال شكله اآلن ،وكيف ينظر الخلق إليه ، الغريب أنه مع كل هذا يمارس العناد بحرفة ودراية عالية واليتنازل أبدا إال بعد التهديد والوعيد الحارق أو دموع أمه ونشيجها ،وقد استعصى على المدربين وأدارة البروتوكل فى القصر ،ويتالعب بهم مراوغا ً ليحول بينهم وبين تلقينه مايجب أن يتعلمه لتحسين صورته أمام العامة ،وتحسين صورتنا معه 47
كأهل واجبهم تربيته التربية الصالحة ..دفعته بيدى ليجلس الى يمينى على رأس مائدة الطعام ،واحتفيت بمضيفى واثقا ً أنه يفهم جيدا إشارتى ويستعد لبدء المباراة . -
مرحبا ً برجلنا القادم
قالها ملقيا ً ببسمته المرسومه على اتساع قسماته الرخوة على وجه مسعود الذى أحنى رأسه متمتما ً بكلمات مدغومة المعنى لها .سارعت بالرد -: -
المهم أن يعرف كيف يقود السفينة بمهارة وحذق .
مشيرا ً بطبيعة الحال الى مراعاته لهم ولكى أطمئنه على مصالحه .التقط اإلشارة بذكاء هذه المرة . -
هذا مفروغ منه ،وإال مااستحق أن يكون شبالً فى بيت األسود
تبسمت للمجاملة ودخلت فى الموضوع مباشرة -: -
المهم أن تكون النمور بجواره .
ارتفعت ضحكته -:نمور مرة واحدة ؟ -
تلك حقيقة
-
بالنسبة للنمور فهى قلبا ً وقالبا ً معه ،مصلحة البلد هدفنا جميعا ً ولذلك لن نختلف أبدا ً
هززت رأسى مؤمنا ً على كالمه -:هذا حقيقى . -
التعاون بيننا دوما ً ستكون له ثماره التى تصل للجميع 48
وصلتنى اإلشارة واضحة جلية وهو مااستعددت له جيداً .قلت -: -
التعاون لن ينقطع يوما ً ،خاصة مع عقول لها خصوصيتها ،وجديرة بالتقدير .
وانتقلت مباشرة الى قلب الهدف -: -
ال أعرف لماذا أخشى أن أرشحه للكرسى .
اتسعت ابتسامته بمقدار يشى بما لديه ،وكأنه يقول لى أفهم ماترمى اليه ،المهم ماهى تعهداته والتزامه معنا . وقال متحمسا ً -:التخشى شيئا ً فنحن كلنا معه . أرخيت ظهرى على ظهر المقعد وصببت نظراتى فى بؤبؤ عينيه واثقا ً أننا سنبدأ المساومة فورا ً ،قضم قضمة من اللحم المشوى الذى أعد خصيصا ً لهذه المناسبة .قال -: -
أنت تعرف المشاريع المنتشرة فى البلد وحاجتنا الى يد قوية ترعاها لصالح الناس والمجتمع.
قلت وانا أعالج قطعة لحم حمراء شهية المنظر ،رأيتها تدعونى لقضمها فلم أتردد ،رغم امتالء معدتى -: -
مادامت المصلحة واحدة والهدف رعاية صالح الناس والمجتمع فحماية هذه المشاريع واجبنا
وقبلت دعوته لتناول الشاى فى الردهة الكبيرة فى بيته الكبير على حافة البلد ،تلك الردهة المطلة على حديقة المنزل بأشجارها وثمارها وهوائها الذى يمأل الروح بالهدوء والدعة ..الرياض فى كل مكان تشد الروح ،تنعم بينها بصفاء النفس وسكينة الفؤاد ،وتفلت من أكدار الكون من حولك ،تنظر إلى 49
العصافير وهى تغدو سابحة فى فضائها بال قيود وال عقبات ، تختار الفرع الذى تريد ،متى أرادت ،وتختار الوليف الذى تهفو له صدورها بال خوف غدر والمظنة سوء ،بينما الزهور تنعم بقبالت النسيم وعناقه الودود وتهتز طربا ً للمسات الحنان من يديه ،والنجيل الرائق الخضرة على األرض وهو يتقبل وطء قدميك على صدره بفرح وسرورمتمايالً رقاصا ً اليعرف ألما ً والشقا ًء ..حدق الرجل فى المكان حوله بنصف عين من جديد ،ربما النشغاله بأمور كثيرة يبحث كيف يناقشها معى ، أخذته الى مواضيع شتى ،وحين قمت معلنا ً الشكر والتقدير الستضافتى فى بيته قال بذات ابتسامته المرسومة الواثقة وهو يشير الى ولدى مؤكداً -: افعل ماتراه ،ونحن معك .وهذا ماكنت أريد !
()9
الحل
اكتشفت الحقيقة التى كان البد أن أكتشفها يوما ً .
50
تلك الحقيقة التى كانت تتوارى خجلة خلف الستار ،لتفسح الطريق عادة للتقارير المتأنقة المعطرة المكتوبة ببالغة العبارات وبديع الصور ،تلك التقارير التى تتحدث عن قلوب الناس فى الشوارع والحارات التى تخفق من أجلى ،وتصور أن عقولهم تسير وراء عقلى باقتناع كامل ورضا تام ، وتصف كيف يروننى النبراس الذين عليهم أن يمضوا خلفه راضين مطمئنين ،ويروننى الراية الخفاقة التى تحقق طموحاتهم ،و الروح الملهمة التى تعلو األرواح بسموقها وشفافيتها وبديع نقائها ،وبطبيعة الحال كنت أقرأ أنا هذه الملفات والتقارير ،وأسمع لكل هذه الترهات والتوافة منتفخ األوداج ،هائما ً فى براح غرور المعنى له ،أعيش حياة أخرى بعيدة كل البعد عن واقع ال أراه ،وال أحلم بالخوض فى غماره نظرا ً إلغالقى أبوابى وأسوارى على خياالتى وأوهامى ،مبتعدا ً عن الحقيقة التائهة الباكية المغلوبة على أمرها التى أنأى عنها ،وهى التملك إال التوارى خلف ستار النسيان ، منتظرة فرصة التجىء للوثوب إلى عينى وإزاحة الغشاوة عنهما . رأيت حينما طردت عنى الخمول من أجل ولدى ومن أجل اعتالؤه الكرسى بعدى الوجوه كما يجب أن أراها ،اقتربت من المالمح الحقيقية بعيدا ً عن األقنعة ،وبعيداً عن مسوح النفاق وتراتيل الكذب والبهتان ،شممت روائح الغدر ،وذقت طعم الكراهية ،وغصت لعنقى فى المؤامرات التى تحاك ضدى ، ورغم هذا لم استسلم لفكرة الكراهية لمجرد الكره ،فليس هناك كرها ً بال سبب ،كما أنه ليس هناك حبا ً بال سبب ، األرواح جنود مجندة ،هذا حقيقى ولكن الرب سبحانه يسبب األسباب .
51
لذا كان على للوصول إلى كنه األمر أن أعاود الوثوب للموضوع من جهة أخرى ،وهى معرفة السبب الذى من أجله تحول الناس من مؤيد وراض الى كاره وحاقد . تابعت التحقيقات بنفسى ،وحضرت بعضها متستراً بستار الصمت ألرى بعقلى قبل عينى ماهناك ،وليتنى مافعلت . الحقيقة دوما ً متعبة جدا . تتعب صاحبها وتتعب من يبحث عنها ،وتتعب من يتقصى أمرها ويطلب مصاحبتها . لذا رأيتنى أصل الى رأى واحد وأقتنع به . الناس معهم كل الحق فى كراهيتى معهم كل الحق فى الحنق على ورفض اعتالئى للكرسى بل رفض الكرسى نفسه الذى يأتيهم بوجوه مثلى التريد إال مصلحتها الشخصية بعيداً عن مصالحهم وأهدافهم . وكان السؤال التالى الذى جابهنى هو ..وماالحل ؟ وكان الرد المفترض فى تلك الظروف أن أسعى لتصحيح األوضاع فورا ً . لذا قررت بناء مسجد جامع يسع الجميع ،يجتمع فيه الخلق ويتقربون إلى هللا ويدعونه من أجلى ،فحين يروننى أبنى مسجد جامع سامق البنيان هائل المساحة سيعرفون أن بقلبى خيرا ً ،ولست كما يقول المغرضون بال قلب ،أسعى لمصالحى ومصالح ولدى من بعدى ،وال أنظر لمصالحهم أبداً ،هاأنا ذا 52
أنظر وأدقق وبعد مزيد التفكير أعمل من أجلهم ،من أجل اقترابهم من هللا وتواصلهم معه ،وهذا سيمنح الوطن بركة ، والمواطنين رضا ًء وراحة بال ،فالصالة للمصلى بركة وهدوء ورضاء وراحة بال ،ومن يتقرب هلل بالصالة يحفظه سبحانه ،ومادام الجميع سيصلى فسوف يحفظهم هللا ، وبالتالى سيحفظ البلد وأنا معها . أمرت فورا ً باختيار قطعة أرض فى مكان لبناء المسجد الجامع ،ذهب الخبراء وبحثوا خرائطهم ،وجاؤوا ساعين ليعرضوا على وضعوا الخرائط أمامى وأشاروا الى قطعة تماما ً من العاصمة ،قالوا -:
يتوسط العاصمة ونقبوا وتدارسوا ماتوصلوا إليه ، أرض فى القلب
إنها عشوائيات يافندم وسكانها ؟ أناس الصفة لهم كيف ؟ حياتهم فوضى ،ومشاكلهم أكبر بكثير مما نرى ونعرف لكنهم مواطنون يافندم ،معظمهم خارجون عن القانون ،الحكومات المتواليةتركتهم مرارا ً خوفا ً من وصمها بالوحشية إذا تعاملت معهم بما يليق بهم . استدعيت قائد الشرطة الرماح فوراً ،سألته -: -
مارأيك فيما قاله الخبراء عن هؤالء العشوائيين ؟ 53
-
هم كما قيل عنهم.
-
ولماذا التجليهم من أماكنهم مادامت تلك أماكن مميزة ؟
-
لن يرضخوا بسهوله .
-
وأين دوركم كشرطة ؟
-
نحتاج لقوات ضخمة .
-
هذا سهل .
-
وأماكن إيواء جديدة لهم
-
ولماذا اليبحثون ألنفسهم عن أماكن إيواء ؟
-
المشاكل واالضطرابات التى ستحدث قد تكون أكبر من أن نسيطر عليها
-
ومساكن اإليواء هذه أين تكون ؟
-
هناك فى الصحراء .
-
أفضل ،حتى النراهم فى العاصمة .
-
لكن هناك مشكلة .
-
وماهى ؟
-
التوجد هناك مرافق.
-
انقلهم ،وبعدها نبحث موضوع المرافق هذه .
-
سيتذمرون . 54
-
أنت هكذا تضغط النهاك الميزانية العامة للبلد
-
بل لبسط األمن .
تدخل مساعده المجذوب طالبا ً اإلذن فى عرض رأيه ،أشرت له موافقا ً ،قال -: -
أرى أن نجعل بناء المسجد الجامع مشروعا ً قوميا ً ، نهيىء له أذهان الناس ،ونجعلهم يتحمسون له ، ونقنعهم أن البلد كلها ستتقرب به الى هللا ،ومن أجل التقرب إلى هللا سنضحى جميعا ً من أجل أن يقبلنا ويرضى عنا ،فالحاكم سيضحى بالمال ،والعمال بالبناء ،وقاطنى األرض سيضحون بأرضهم من أجل هللا وليس من أجل أفراد .
تابعت عينا قائد الشرطة الرماح وهما تبرقان إعجابا ً ، وانتبهت له يكمل حديث الرجل منبهرا ً بالفكرة التى عرضها -: -
وطبعا لن يستطيع أحد أن يعترض على التضحية بأرضه من أجل هللا ،وهكذا ننفذ مانريد بسالم وأمن .
أشرت بالموافقة ،وصرفت الجميع طالبا ً منهم أن يتركوا الخرائط ألدرسها على مهل ،وجلست أفكر تفكيرا ً جديداً وأنا أحدق فيها ،وأدقق فى مساحة األرض التى ستخلو من ساكنيها وخاطرة تدور فى رأسى ..لوقلصنا مساحة المسجد قليالً جدا ً ،و بنينا دائرة من المساكن حولها ذات مستوى عالى ،وأجرناها بمبالغ ضخمة سنضرب عصفورين بحجر واحد ،بنينا المسجد الجامع من ناحية ،ومن ناحية أخرى أدخلنا الى خزينة الدولة مزيداً من األموال . عدت أطلب الخبراء للمناقشة !! 55
()10
شركة األمناء
كان البد من البدء فوراً فى الرحيل الى الغرب ،استكمال التفاهم والتعهدات ضرورى جدا ً من أجل مسعود ،الطريق وعر ،صحراء قاحلة وصقيع يرمى بسهامه الثلجية على الوجوه ،وسحابات بيضاء يقتحم بياضها أخرى سوداء ممتدة متمددة تخترقها على مهل وتغوص فيها ملتهمة البياض على مهل وبال تعجل ،كأنما هى واثقة فى نهاية األمر من إتمام عملها ،وذؤابات رمادية تبدو هنا وهناك راسمة نهايات متوافقة لحال اليخفى على عين . العربات ستأخذ وقتا ً فى السير ،ستأخذ جهدا ً ،وربما أشياء أخرى فى عالم الغيب ،لكن البد مما ليس منه بد . كالعادة تركت زوجتى خلفى ،هى تحب هذا وأنا كذلك ،عيناها تنضحان بما لديها ،التخفيان وال تملكان إخفاء مايمور فى صدرها من أحاسيس . هى تبدى بكلماتها الجوفاء بعض الود ،لكنى ال أريد إال ودا ً خالصا ً ممزوجا ً بنوع من الخضوع التملكه منذ عرفتها ،هى ترى أنها تمتلك ماال يملكه اآلخرون ،تبدى رأيها ومشورتها فى كل األمور حولها ،وتدس أنفها فى قوة وشراسة فى أمور أبعد ماتكون عن مدارفهمها وإدراكها ،ورغم هذا التتورع عن إلقاء الكلمات المتوثبة المتأججة ذات الحروف المسننة فى الوجوه واآلذان وهى تباهى الظالل والجدران بقدراتها وعقلها الراجح وفهمها الذى يسبق فهم الرجال . 56
الغريب فى األمر أننى أضطر كثيرا ً لإلنصات إليها ،ليس احتياجا ً ألفكارها النيرة ،وال شغفا ً بسماع صوتها ،وال حتى لنصاعة فكرها ونقاء حروفها ،ليس كل هذا بطبيعة الحال ، ولكن ألتالفى مشاكلها ومايعتريها من ضيق إذا عارضتها فى شىء ،وإصرارها على الكالم لساعات طوال من أجل أن تقنعنى برؤيتها الصائبة التى التخيب ،وفى تلك الحالة حينما تصطادنى لساعات طوال وهى تصب فى أذنى بإصرار وعناد كبيرين حروفها وكلماتها وعباراتها دون كلل أو أرهاق أجدنى أمام أمرين ،أما التحديق فى عينيها وبقوة وأناأقول -: -
انتهى الكالم ،افعلى مابدا لك
وفى تلك الحالة تقوم فورا ً ،تأمر بما تريد قائلة أننى قد وافقت رأيها ،وياويل من يعيد عليها الكالم ،أو حتى يقف مترددا ً لثوان قبل أن يهرع لتنفيذ أمرها ،أما الحالة الثانية فهى أن أعطيها ظهرى ونحن على السرير،ال أرد عليها ،وفى تلك الحالة إما أن تشدنى من مالبسى قائلة -: -
أعرف أنك متيقظ ،ولكنك التريد سماعى
فأصرخ -:دعينى أنام فتعرف أنه الجدوى من كل مافعلت ،فتحتضن غيظها وكمدها وتستلقى الى جوارى بنيرانها المستعرة انتظاراً لقدوم الصباح لتستلم أذنى من جديد ،فأضطر لحظتها إلى الصراخ فيها-: لن أفعل ماتريدينوأنا أدرك جيداً مغبة هذا القول ونتيجته المحتومة ،إذ تنشب بيننا خصومة اليعلم إال هللا كم تمتد وكم تترك فينا من أثر ، وكم تمأل البيت بالصراخ والكلمات الجارحة التى التهدأ ،إلى أن يعود الصلح لينشر ضياه حولنا ،وبطبيعة الحال هى 57
التصالح ،وال تقدم على صلح أبدا ً ،والتملك كلمات اعتذار والتعرفها ،هى فقط إذا أرادت مصالحتى كلمتنى كأن لم يحدث بيننا شىء ،وأبادلها الكالم كأن شيئا ً لم يكن ،والويل لى كل الويل لو فكرت أن أصالحها قبل أن أرى على وجهها عالمات بعينها تقول أنها جاهزة للصلح ،فهى تظل متجهمة الوجه حادة النظرات طالما أنها غير مستعدة للصلح ،فإذا انفرجت سماتها وتالشت التكشيرة ورقت النظرات فيمكنك لحظتها أن تكلمها وترد ،ولكن إذا فكرت قبل هذا فى عتاب فسوف تنال فيضا ً من قسوة وعناد ،وسهام نارية وحراب ،وربما صواريخ قاتلة التعرف السلم أبدا . أمرت بمتابعة الحملة اإلعالمية الكبرى من أجل بناء مسجد جامع تتقرب به بلدنا إلى هللا ،ويكون بمثابة حصن للمؤمنين ومالذ للضعفاء والمهمشين ،مسجد يجتمع فيه كل من يرفع راية التوحيد ،وكل من يريد التواصل مع هللا . لكن جاءنى من جديد أحد الوزراء باقتراح جديد -: -
أرى أن يتم تقليص المساحة قليالً جداً من أجل بناء دار للمسنين ،فيها رعاية ورحمة ورفق بهؤالء الذين قدموا لبلدهم الجهد والعرق واإلخالص والعمر ،فال أقل من أن نكافئهم بدار تليق بهم ،فيها حدائق ورياض وكتب ومسرح وسينما ومالعب وقاعات مطالعة وكل ماتحتاجه من خدمات .
حدقت فى عينيه اللوزيتين متابعا ً باهتمام ،حدقتاه تتدفقان بحماس شديد وتبديان إخالصا ً ال شك فيه ،سألته -: -
وماجدوى هذا المشروع ؟ وماالعائد منه ؟
58
تألقت نظراته بلمعة السرور وهو يجيب من خالل بسمة تأكل فتحة فمة -: -
طبعا كل هذا بأجور زهيدة تكفى بالكاد المصروفات التى تم ضخها للمشروع
-
والمسجد ؟
-
ستكون الحملة االعالنية عن مسجد للتقرب هلل ،وفيه خدمات شتى من قاعات لشرح اآليات بأجور زهيدة ، الى قاعات للفقه ،وأخرى للسنة النبوية ،وثالثة للفقه المقارن بين األديان ،وهكذا يصير المسجد مكانا ً عالميا ً يجتمع فيه أقطاب العلم ،وإلى جواره دار المسنين ،وياحبذا لوجعلنا مكانا ً صغيراً جداً الى جوارهما ليكون دارا ً للمناسبات بأجر زهيد أيضا ،ولو فكرنا فى بناء جراج سيكون إضافة لها قيمتها !!
سألته -:وماذا يتبقى للمسجد من المساحة الكلية ؟ قال وهو يبدى التواضع الجم والخشوع -: -
المكان كله سيكون مسجد جامع ،ألننا سنطلق عليه بيت الدين .
-
هكذا ؟
-
نعم ،وسوف يكون مزارا ً على مستوى يليق ببلدنا ، ويعرف العالم كله أن لدينا بيتا ً للدين فيه كل مايتمناه المرء ومايشعره بإنسانيته ورقيه
-
أالترى أن هذا سيكلف البلد أمواالً طائلة لتنفيذه؟
59
برقت عيناه اللوزيتان ببريق المكر وهو يرفع حدقتيه غارزاً أنياب نظراته فى بؤبؤ عينى قائال-: -
لن تتكلف البلد مليما ً واحداً ،سيقوم أحد المقاولين بالبناء نظير إدارة المكان لمدة من الزمن ،ثم يعود إلينا ملكا ً خالصا ً للبلد تنتفع به وبأرباحه .
-
وكم تكون هذه المدة ؟
-
عشرون عاما ً
-
نعم !!
-
كثير ؟
-
جدا ً
-
وماذا ترى حضرتك ؟
-
خمس سنوات الغير .
تاهت عيناه فى مدارات فكر جامح قبل أن يقول بثقة -: -
لك ماتريد
-
من سيقوم بالمشروع ؟
-
شركة مقاوالت خاصة تتميز باإلخالص ،وهى إسالميه ملتزمة ودقيقة فى عملها ومواعيدها
-
ماأسمها ؟
-
األمناء للمقاوالت
-
اذهب اآلن وانتظر منى الرد 60
وطلبت معلومات عن هذه الشركة وأنا اتوقع شيئا ً ما ،وكان ماتوقعته صحيحا ،فهى شركة يمتلكها أحد أبناء هذا الوزير ، ومعه بطبيعة الحال أبناء وجهاء من البلد ،مما أثار حفيظتى وغضبى بشدة ،وجعلنى أتساءل لماذا لم يأخذ ابنى معه فى شركته !!.. طلبته من جديد وأعلنته موافقتى على إقتراحه ،على أن يأتينى بأوراق المشروع ودراسة جدوى كاملة أيضا .بعدها أرسلت لولدى النائم فى العسل مسعود ووجهت اليه تأنيبا ً مؤلما ً على غفلته وكسله صارخا ً فيه -: -
تعلم من هؤالء الذين يستغلون مراكزهم وجاههم من أجل منفعتهم ،ومنفعة أهلهم ،وبالدهم أيضا ،كفاك نوما ً
حدق بعينيه الواسعتين السوداوين اللتين تطلقان حدقتيهما تبرقان فى وجهى دون أن ينطق بحرف ،رمى بعدها نظراته الى األرض ومضى فى صمت الى حيث يريد ،تابعت كتفيه العريضين بهزالهما الواضح وهما يكادان ينطبقان على بعضهما أو يرتميان أمامه وهو يمضى محنيا ً كأنما يبحث عن شىء وقع منه ،متمتما ً كعادته بكلمات غضب التكاد تبين ، سائلت نفسى حينما أخفاه الباب عن ناظرى ..ماالذى يرضيه ويشد انتباهه ويجعله فى صورة أرقى وافضل من هذه حتى يجبر الناس على قبوله واالعتراف به ؟ كتبت فى كراسة التعليمات الخاصة بى هذه الملحوظة حتى أتذكرها وأبحث مع المختصين طريقة لحلها ،فهذه الكراسة هى بمثابة التذكرة كلما نسيت أمرا ً ،خاصة أننى أصبحت اآلن كثير النسيان ،هذا باإلضافة ألخرى صغيرة الحجم أضعها فى
61
جيبى أينما ذهبت ،ألدون فيها ملحوظات سريعة ،أعود اليها بين الحين والحين . لحظات وجاءنى تقرير من أجهزة الرقابة يخبرنى أن مسعود ولدى هذا الماجن الطائش قد أرسل الى القائمين على شركة األمناء للمقاوالت التى ستقوم بالمشروع واشترط أن يكون شريكا ً لهم بنسبة محددة وإال سيتم إلغاء المشروع تماما ً ، ومحاربتهم وربما طردهم من البالد ،وقد وافقوا مرغمين . كتبت فى كراسة التعليمات نبذة عن هذا األمر كى تقوم بتذكيرى كى ألوم هذا الولد وأؤنبه وأعلنه رفضى لتصرفاته الرعناء هذه . بعدها وضعتها فى مكانها فى درج المكتب راضى النفس ، ومضيت لمتابعة بقية أعمالى فى هدوء !!
()11
صديقة فى فراشى
للطيور فى سيرها الفضائى طقوس تشدنى ،الفضاء المفتوح لها دوما ً يدفعنى لتساؤل عن ماهية الصراع بينها ،كيف يكون ؟ هل النسور أو الصقور وماشابهها من الطيور الجارحة هى فقط مصدر الصراع ،وعدا ذلك اليوجد مصدر للخطر ؟ المخلوقات المتشابهة فى القوة تتصارع فيما بينها على األقل على األرض ،تجد ذلك فى كل مكان يتواجد فيه بنو البشر، وحين يرون من يفوقهم قوة يتملقونه ،ويقدمون آيات النفاق 62
بين يديه ليرضى عنهم واليؤذيهم ، ،وآيات النفاق من الكثرة بحيث التعد ،ووسائلها عديدة وإن كانت لن تخرج عن المال والجنس ،بمعنى أكثر أن حب الذات عند البعض على األرض يدفعهم لتقديم كرامتهم قربانا على مذبح سالمتهم أمام األقوياء جسدا ً أو جاها ً أو مركزا ً أو من يعتلى الكرسي ،أما مشاعرهم الحقيقية فيخفونها عن األعين ،لتظهر جلية فى الظالم ، وخلف األبواب المغلقة ،فتنهمر اللعنات وألوان السباب على الجميع بال تفريق ،كل من يحنون رؤسهم أمامه فى العلن يلعنوه فى الخفاء ،واثقين ثقة عمياء أنهم بمأمن من كشف حقيقتهم ،هؤالء أدور عليهم واحدا ً واحداً ،أقتحم عزلتهم ، أستمع لنبضاتهم ،أفهم داوفعهم ،وأعاملهم على ضوء مارأيت . لكنى فى كل حين أتساءل لماذا التنافق األسماك الصغيرة الحيتان أو أسماك القرش فتقدم لها كرامتها طائعة خاشعة ، ولماذا ال تطوف الحمائم والعصافير وغيرها من الطيور الصغيرة طالبة الرضاء من الصقور والنسور والحدأة والبومة وغيرها من الطيور الجارحة ؟ أم هذا شىء اخترعه االنسان ،خاصة فى بالدنا المبتلية بالنفاق ،ليقيهم شر األقوياء ؟ تلك العطية التى منحتنى إياها القطة السوداء نعمة التقدر بمال ،أذكر جيدا ً يوم أن دخلت مخدعى ووجدتها على الفراش تنزف دما ً ،عيناها متألقتان تحدقان فى وجهى وترجوان منى نظرة واحدة تدل على تعاطف أو إشفاق ،حدقت فيها وسيول الدهشة تغرق صدرى. كيف دخلت ؟ ولماذا لم يرها أحد؟ 63
ولماذا اختارت مرقدى لتنام عليه وتلوثه بدمائها ؟ ولماذا تنظرهكذا بطريقة توحى لمن يراها بأنها تعرف جيداً وتتفهم موقفها وتطلب العون ؟ يومها ال أعرف لماذا اقتربت منها ،لمست جسدها ،حددت مكان الجرح ،طلبت فورا ً ضمادة ومضاد حيوى وشاش ، عالجت الجرح وحملتها الى مقعد صغير بجوار الفراش ووضعتها هناك بعد أن أمرت باحضار طعام يليق بها . فطرتى التى اكتسبتها منذ علوت الكرسى هى الشك فى كل شىء ،والبحث عما وراء كل تصرف ،وتمحيص كل كلمة أسمعها ،لكنى هنا ومع هذه القطة لم أفكر بهذه الصورة ،لم أضع افتراضا ً أن عدوا ً ما قد سمم دمها لتؤذينى مثالً ،أو وضع فى جسدها مفجرا ً ،أو نثر على جسدها عطراً مسمما لمن يشمه أو شيئا ً من هذا ،بال تفكير ربما ألول مرة بحياتى منذ إعتليت الكرسى وجدتنى أتصرف بطبيعتى وسليقتى السليمة األولى ،وأعالج القطة التى رمتنى بكل ألوان الشكر والعرفان ،بل ال أكذب اذا قلت أننى كنت أرى دموعا ً تترقرق على حواف عينيها ،إلى أن وجدتها يوما ً تهب من رقدتها ، تفرد جسدها و تنطلق فى فضاء مخدعى شيئا ً فشيئا ً ، مستقيمة العود ألعلى ،وممتلئة الجسد بال التواء والسمنة ، بينما الوجه يستدير ،والبسمة تنطلق ،والوجنات تتورد ،وفتاة وال أروع تحدق فى وجهى بعينين نجالوين تفيضان برقة روح لم أرها من قبل . -
ال أعرف كيف أهدى لك عرفانى لما فعلت
سائلت نفسى لحظتها -:وماذا فعلت ؟ وهل فعلت ؟ 64
وإذا كنت قد فعلت فلماذا طارت منى األحداث واختفت الظروف واألماكن واألشخاص ولم يعد فى الكون إال وجهها ونظراتها النضرة ووجهها الريان بتعبير مالمحه الذى لم أره على مخلوق من قبل ؟ الشىء الذى اعتقل روحى هو براءة الصدق فى سماتها . ألول مرة منذ اعتليت الكرسى أجد وجها يفيض بالصدق ، وتلك نادرة تحدث ربما للمرة األولى . سمعتها تسأل -: -
كيف أرد المعروف ؟
تبسمت هامسا ً -: -
بمثله
-
كيف؟
-
تبقين معى .
تألقت نظراتها بنظرات المكر -: -
محال
صمتت قليالً ثم احتدم بريق عينيها وهى تحدق فى عينى -: -
هل تذكر حادثة الثعبان الذى قتلته بيدك؟
قلت -: -
مؤكد كان مارداً من الجن أراد االنتقام منى 65
-
-
لماذا ؟ تلك رواية الوقت لها اآلن ،لكنى أعدك بحكايتها ذات يوم سألتها -: والكلب الذى كان يطاردك ؟
تبسمت عيناها -: -
كان أيضا ماردا ً من نار لكن شره كان أشد ولوال حضنك الذى خبئتنى به لنال وطره منى لكنه لم يهاجمنى خشى مما يحتويه صدرك وماالذى يحتويه صدرى القرآن . أنا ال أحفظ كثيرا ً من السور القليل أخافه فهرب ولماذا كان يطاردك هو ،الغيره ؟ قلت لك تلك قصة اخرى سأرويها لك فيما بعد هذا وعد ؟ وعد
-
إذن سأراك ثانية
-
مؤكد ،إلى اللقاء .
-
إلى اللقاء !!
-
انكمش الجسد من جديد لتعاود الهيئة تغيرها والسمات تحولها وتعود القطة تحوم فى المكان قبل أن تيمم وجهها نحو الباب متجهة الى فضاء الحدود له .
66
أسئلة كثيرة تركتها خلفها ،وحيرة تفيض فى جنبات الروح ، وقلق ال أدرى مبعثه ،طالما أنا لم أفهم ولم أدرك ولم أعِ ماحدث منذ لحظات ،ولكنى حينما قابلتها فى الظالم مرة أخرى فهمت ماهنالك ،وأدركت جيدا معنى التحول والتغير اللذين قالت عليهما حينما أنقذتها من براثن الكلب وكيف استخدمهما ومتى . أدركت بمرور الوقت أنها فعال قد منحت فأجزلت ،و أعطت فأفاضت ،وتركتنى أرجو واتمنى لقاءها من جديد ،ربما ألعبر لها عن شكرى وعرفانى لصنيعها .
()12
العاصفة
يمتد الطريق مفسحا ً المجال للنظر كى يمتد إلى مداه ،يبحر فى إصفرار ال نهائى يمتد كسجادة أزلية عميقة الغور شاسعة االمتداد ،يعلوه هواء رمادى محمل بغبار حائل اللون ، يرتفع ليالمس إزرقاق السماء ،بينما الموكب يمضى قدما ً الى مبتغاه . أحدق من خالل زجاج العربة إلى الطريق ،أتابع الجو الذى تغير مطيحا ً بهدوئه السابق ،مثيرا ً الغبار واألتربة فى فضاء شاسع الحدود وال أبعاد له ،فى دوائر هائلة اإلتساع ،تدور وتتصاعد من ركن الى آخر ،بينما السماء التى كانت زرقاء من قبل قد اكتست بحلة رمادية شديدة الشفافية ،ونحن نمضى حيث المجال لتراجع وال مكان لتوقف وإحتماء بجدار هنا والهناك .إذ الوقوف قد يعنى دفن الموكب بكاملة تحت التراب ،أما السير فمعناه التعرض لرياح عاتية قد تطيح 67
بالعربات التعسة التى قدر لها أن تواجه هذا الموقف الذى لم تر مثله من قبل ،اجتمعت لجنة مواجهة األزمات فورا ً للنقاش والبحث عن سبل الخروج من هذا المأزق ،رغم أنها عقدت كثيرا ً من قبل ولم تناقش شيئا ً ،ألننى عادة كنت أكفيهم شر تعب النقاش ووجع الجدال وألم التفكير ،وأعطيهم القرارات جاهزة فيصدرونها ،وكفى هللا المؤمنين شر القتال ،لكنى اليوم -وألن المضطر يركب الصعب -فقد رأيت من العقل أن نشترك جميعا اليوم وبصورة سريعة جدا ً فى إتخاذ القرار المناسب لمواجهة مانحن فيه اآلن .بدت الوجوه والتراب يغطيها تماثيل حجرية متحركة ذات تعبيرات صخرية ،وعيون كأفواه األبيار تتحرك مآقيها ،فتثير فيك الدهشة الممزوجة بنوبات ضحك استطعت بالكاد أن أكتمها وأنا أطلب منهم التفكير للخروج فورا ً من هذا المأزق . لكننى بينى وبين نفسى تسائلت كيف أطلب منهم التفكير وهم لم يعتادوا على هذا ،التفكير اليحتاج الى أمر ،ولكنه فطرة يفترض أن كل البشر يمتلكونها بدرجات متفاوتة ،وألنى أعرف أن درجة تفكيرهم قاصرة دون تفكيرى وإدراكى فقد كنت على مدار عمرى بينهم أفكر لهم أو أفكر عنهم ، وأستريح من الغباء المستحكم الذى يسكنهم وأستريح من نظراتهم البلهاء وهم يحاولون الظهور أمامى بمظهر المفكرين الذين يمتلكون القدرة على إتخاذ القرار ،ويختلفون ويتجادلون وربماتطور األمر الى خصومات فيما بينهم ،لذا أرحتهم من كل هذا وأرحت نفسى معهم وصرت أفكر لهم ، وأعطيهم نتائج ماتوصلت إليه وهم يتخذون القرار بهدوء وبال خصومات وبال جدل ،يكفى أن يحدقوا فى األوراق المرسلة اليهم ،يقرأونها بروية وعمق ويوقعون ،وينتهى األمر ،وتنشر الصحف ويذاع فى التليفزيون أن لجنة مواجهة
68
األزمات اجتمعت وبعد تبادل النقاش وتداول األمر وتغليب المصلحة العليا للوطن أصدروا قرارهم !! لكنى هذه المرة ولخطورة األمر ولعدم قدرتى شخصيا ربما ألول مرة فى حياتى كلها على الرؤية الثاقبة والتدبير الحاسم والتفكير السليم اضطررت للجوء اليهم واإلستماع الى أرائهم ، بل ورجاء سرعة التفكير إلنقاذنا جميعا ً مما وقعنا فيه ،بينما العاصفة تزداد شدة واألتربة والغبار تتحول الى سهام تضرب الوجوه واألجساد بال رحمة .وكانت بعض اقتراحاتهم كالتالى -: نكمل السير يافندم نقف وكلما تراكم التراب نقف فوقه فال نتعرض للدفن تحته. نرسل إستغاثة الى األنحاء القريبة لعلهم يلتقطونها ويرسلونالمساعدة. نبتهل وندعو جميعا ونطلب من هللا أن يحل المعضلة . نصنع من أجسادنا دائرة حولك لنفديك بأرواحنا .أشرت اليهم بالصمت كاظما سيول الغيظ التى انهمرت فى صدرى من شديد غبائهم ،فكرت أن أطردهم من حضرتى إلى حيث يختفون بوجوههم الكئيبة عن وجهى ،تذكرت أننى فى موقف اليسمح بإجراء كهذا .طلبت من قائد المخابرات البرعى فورا ً تقريرا ً بالموقع الذى نحتله اآلن ،وفرص وجود أحياء أو منازل أو حتى جدران نحتمى بها لحين انتهاء العاصفة .جاء تقرير المخابرات فورى . (لم نتمكن من عمل شىء لشدة هبوب الريح)
69
أيقنت بالهالك الذى المفر منه والجدوى من مقاومته . قمت من فورى مغادرا العربة ،متلفعا ً بدثار سميك غطى جميع وجهى عدا عينى ،محدقا ً فى الضباب وغبشة الفضاء من حولى ،الشىء إال األتربة وصفير الريح واصفرار الجو واختفاء وجه السماء خلف أدخنة الغبار المتطايرة فى الفضاء . استدرت قاصدا ً العودة الى داخل العربة ،فوجئت بضربة قاسمة فى ظهرى ،دفعتنى بال حول منى ألرتطم بجسد العربة ،ثم أعود مرتدا ً عنها الى حيث أطاحت بى من مكانى عاليا إلى أدنى ،اندفعت خفيفا ً كورقة شفافة وسط ريح عاصفة ضربتنى فى عنف قاهر ،ورأيتنى أتدحرج فى وضع جنينى إلى حيث ال أدرى ،مغمض العينين ،ذاهل الروح ،تائه النبضات والقلب ،ال أمتلك المقدرة على المقاومة ،وال أستطيع التوقف واالمتناع ،كأنما أنا قشة محمولة على ذؤابة موجة شاردة هوجاء مطروحة فى براح نهر ماؤه جار اليعرف التوقف بفعل التيار الذى يهرول هو اآلخر شارد الخطوات فى مسار اليدرى وال يعرف الى أين وال كيف يهرول والمتى يتوقف ،اتدحرج وأتكور وأدور وأمضى إلى حيث ارتطم بال حول والقوة فى جدار ال أعرف كيف انشقت األرض عنه وهل هو بزغ من باطنها أو نزل إليها من السماء ليوقف هرولتى الال إرادية وتدحرجى الال محدود . استكنت بجوار الجدار قليالً محاوالً البحث عن وجودى الذى شعرت به قد تالشى ولم يعد له وجود ،الرؤية مضببة فال أرى إال بياضا ً باهتا ً تعلوه نقاط سوداء ،أو سواد خفيف تخرقه نقاط بيضاء ،أحاول مد يدى لتحسس جسدى فال أمتلك القدرة على تحريكها ،أبحث عن ساقى ألستند عليها فال أستطيع ،ورويدا ً أعود إلى متاهة غياب ال إرادى عن الوعى 70
،يشدنى إلى ظلمة كثيفة ،فال أرى وال أسمع وال أحس بشىء مما حولى ،ويتالشى اإلحساس المبرح باأللم ، ألرانى فجأة أطير مرفرفا ً بجناحى وسط حديقة غناء ، أشجارها ذات خضرة زاهرة ،متدلية األغصان ،محملة بالثمر ،مثقلة بالطير الصداح ،سامقة وحولها خمائل زهر صغيرة ،متناثرة بنظام أروع وأبهى مما رأيته من قبل ، ينداح عبيرها ليمأل األفاق معطراً الروح والوجدان ،ومانحا ً القلب إحساسا ً من النقاء لم أذقه من قبل ،وحولى طيور بيضاء رائقة الحسن ،تصدح بأروع مامنحها هللا من أصوات ،وهى تطوف حولى متريضة بين الخميل واألشجار ،أحدق فى وجوهها ،يمأل النور قلبى ،وتنتشى روحى ،ويغمرنى سرور أروع وأبهى من أى سرور غمرنى من قبل ،سرور نقى بهى رائق ،له طعم الفرحة والهناء ،سرور له مذاق البهجة الصافية النابعة من قلب النور ،أو نور القلب ،سرور يعبق النفس ،ويتغلغل بين الخاليا والسمات ،يمنح الكيان كله راحة وسكينة التساويهما فى الكون راحة والسكينة وال هدوء ،أتنسم أريجه وأذوب فى بهاء صفاه راضيا ً ،قرير العين ،موفور الهناء ،ووجوه األحباب من حولى طوافة بين يدى ومن حولى ،وبينها وجه الفتاة /القطة بجمالها اآلخاذ الذى لم أر ولم أحلم ولم أتمن رؤية شىء مثلما تمنيت رؤيته مجدداً ،كلها من حولى طوافة دون أن يشغلها عن الطواف واستنشاق األريج وتذوق البهجة شىء ،ندور ونهيم ونسبح فى فضاء رائق شفاف بهى ،بال زمن يطوينا ويخمش أرواحنا بأظافره ،وال حاجات نطلبها ،أو تطلبنا وتشغلنا عما نحن فيه ،وال مطالب ننشد نوالها ،وال أماكن والشىء إال اعتناق هذا النعيم الطواف ،الى أن فوجئت بمن يقبض على عنقى ، يشدنى من وسط الخمائل ومن بين فروع األشجار خارجا ً ، أخذت أقاوم ،أصرخ ،أرفض ،أحاول التملص والعودة دون جدوى فقد كانت األيدى أو المخالب أو األنياب التى تشدنى 71
أقوى من أن أقاومها ،فرأيتنى فجأة أرفع جفنىن مثقلين عن حدقات غائمة الرؤية تتلصص على كون التريد العودة إليه ، رويدا ً بدأت الغشاوة تنقشع ،والمرئيات تتبلج من جديد ، ورأيتنى أرى الكون الذى أفلت بالكاد منه أعود إليه واجما ً حائر النظرات تائه الروح والنفس ،ال أدرى أين أنا ومن هؤالء ،وحتى من أكون !!
فى وكر الذئاب
()13
أخيرا ً استيقظاعتنوا به لحين شفاءهترددت الكلمات فى أذنى مضببة الحروف ،كأنما هى آتية من خلف كهوف وسراديب متناهية البعد والقرار ،حاولت قدر إمكانى أن أستوعب الحروف رويدا ً وأدرك معناها فال تمر على أذنى بال فهم أو إدراك ،خاصة وأنا ال أفهم وال أعى أين انا ، ومن هؤالء ،وقد بدأت لتوى أدرك جيدا ً الورطة الجديدة التى وقعت فيها دون خطأ منى أو من األغبياء حولى الذين الهم لهم إال الصراخ فى أذنى-: -
تحت أمرك يافندم
دون أن ينفذوا شيئا ً ،وحتى إن نفذوا فالخطأ عنوان تصرفاتهم جميعا ً ،ولوال أننى دوما ً أتدخل فى الوقت المناسب النهار الكرسى ،وانهارت بالتالى كل األشياء من حولى . 72
هذه المرة لم يكن الخطأ منهم بل هو تدبير قدرى دفعنى دفعا ً الى أيدى مجهولة ونفوس غريبة هللا يعلم ماوراءها . بدأت رويداً أنتبه للوجوه من حولى ،مالمح منبسطة يغشاها سكون حالم ،وعيون نضرة تحمل بسمات ناعمة مما أثار فى صدرى االرتياب ،مؤكد لم يعرفوننى بعد وإال كانت األمور قد تغيرت كثيرا ً . اقترب وجه أنثوى باسم من وجهى -: الدكتور قادم للكشف عليكحدقت فى وجهها ،الوجه الصبوح رغم مظاهر الفقر المنتشرة فى المكان يفيض بوفرة فى الجمال وغنى فاحش فى حالوة الروح وبهاء الحسن . الغرفة المتواضعة التى أرقد فى أحد أركانها التحتوى عدا مرقدى إال مائدة صغيرة ،حولها مقعدان من الخيرزان القديم كما يبدو من هيكله ،باإلضافة إلى دوالب صغير من الحديد المجلفن الرمادى اللون إلى جوار النافذة المغلقة الزجاج ، والتى يبدو من خلفها فروع أشجار مورقة ،وعصافير بين الحين والحين تضرب بأجنحتها الهواء متنقلة من مكان الى مكان ناثرة بهاء وروعة أصواتها فى مرح وسرور . هل أنا مريض ؟وجهت حديثى لعينيها مباشرة انطلقت من عمق العيون بشائرهمسة طبيعية رائقة -: -سنرى .
73
جميل أن يكون للحروف طعم ولون ورائحة ،تشعر بها وتتذوقها وتطرب لرنينها ،مؤكد اليعرفون من أكون . لكن لماذا أتوقع منهم معاملة قاسية إذا عرفوا شخصى ، لماذا اليقدمون خير مالديهم لحظتها طمعا ً فى عطايا مابعد اإلياب إلى الكرسى ؟ هم يعرفون جيداً وغيرهم فى أنحاء البلد يعرف أننى أستطيع فعل الكثير لكل من أرضى عنه ،واإلنسان بصفة عامة يختزن الطمع فى نفسه لحين يرى مايستحق فتهفو روحه إليه ،يكفى أن تلوح إلنسان مابعطية مجانية أو بغنيمة خالصة له لتراه يبذل روحه للحصول عليها . الطمع فطرة جامحة تفيض عند البعض اليكبح جماحها إال القناعة ،وتلك قليلة عند الناس ،خاصة هذه األيام . السالم عليكماستدرت الى الباب الموروب الذى فتح على آخره ودخل رجل طويل القامة ثاقب النظرات على محياه بسمة بطول شدقيه لكن رائحتها لم يستسغها وجدانى . وعليكم السالم كيف حالك اآلن ؟ ال أدرى -دعنا نرى
74
خلت الحجرة إال منا نحن االثنان ،مد يدا ً مدربة إلى جسدى ،متنقالً هنا وهناك بجد صارم إلى أن قام متفحصا ً بدقة متهمالً الى أدواته يجمعها هامسا ً -: زال كل أثر للحادثوانطلق خارجا ً فى هدوء كما جاء . اعتدلت جالسا ً منتظرا ً أن أرى أحداً ألطلب منه الخروج إلى حيث أستطيع العودة إلى مقر الحكم وإعتالء الكرسى من جديد ،رأيت ذات الفتاة األولى قادمة ويداها تحمالن بعض المالبس المغلفة بأغلفة من البالستيك مما يدل على أنها جديدة أو على األقل منظفة فى مكان يجيد التنظيف . تفضل إلى الحمام الحمام !! لإلغتسال واإلستعداد للقاء السيد سليمان من السيد سليمان ؟ حاكم المدينة ولماذا أقابله ؟ ألنه طلب هذا ،وأشرف على إنقاذك وعالجك طوال مدةمرضك هل مرضت أياما ً ،أم ساعات ،أم ماذا ؟ أيام عديدة .ظل الدكتور جابر فيها يبذل جهده إلنقاذك الدكتور جابر؟75
وكنت مكلفة بمساعدته ،ورعايتك .اتجهت الى الحمام ،كنت بحاجة إلزالة ماعلق بجسدى من أدران ،خاصة أننى لم يحدث من قبل أن قضيت زمنا ً كهذا بال إغتسال ،فتحت الباب ودخلت متمهالً لكننى فجعت ،رفضت قدماى التقدم خطوة واحدة الى الداخل ،المكان اليمت الى اإلسم بصلة ،فهو ليس حماما ً كما تعودت ،وكما تخيلت أن يكون ،فليس هناك إال ماسورة خارجه من صنبور المياه مرفوعة الى أعلى ومنتهية بغطاء مثقوب بثقوب عدة ينزل منها الماء البارد على الجسد ،وأنا الأتحمل الماء البارد أبداً ، منذ أن انتقلت إلى القصر الكبير وأنا أتبع طقوسا ً محددة فى الغسل ،أولها أننى آمر بحرارة معتدلة يشرف عليها طبيب متخصص فى أمور اإلغتسال وماشبه ذلك ،وال أتخيل بحال أن يالمس جسدى الماء البارد وبهذه الطريقة ،محال أن يحدث هذا . تراجعت خطوات إلى الخلف ،تقدمت الفتاة بعينين فيهما تساؤل دافىء لم أر مثله فى القصر وبهذه النظرات الفياضة بالبراءة ،عينان ذكرتنى رؤيتهما بعينين أخريين مازلت أهفو لرؤية صاحبتهما رغم بعدها كل هذه السنوات ،عينا ناديا جارتنا التلميذة الحسناء التى كنت أرى فيها لوليتا كما رسمها الروسى فالديمير نابوكوف والتى كبرت معى وكبر معها حسنها وروعتها -: مااألمر ؟أشرت بيدى الى الداخل محتجا ً -: الحمام . هذا مالدينا76
تقدمت مكرهاً ،أغلقت الباب خلفى ،خلعت مالبسى وفتحت الصنبور ،لم أجرؤ على اإلقتراب من الماء ،اكتفيت بغسل وجهى بالصابون ،تراجعت قليالً لكى ألتقط بضع قطرات فى راحة يدى أمسح بها وجهى وأعود من حيث أتيت ،انتبهت لمن يدفعنى برفق الى األمام ،ارتجفت ،استدرت مرتعدا ً ألرتطم والصابون فى عينى بصدر امتص الصدمة بدالل وعاد يردنى إلى الداخل من جديد ،حاولت المقاومة ،امتدت الذراعان حاجزا ً بينى وبين اإلفالت ووقف الصدر ليمتص الصدمات ،مسحت عينى بباطن كفى سريعا ً ألرى البنت أمامى حاملة بسمة هادئة وفى ذات الوقت حادة كالسيف وهى تهمس بدالل الهروب ،كان الماء مثلجا ً ،اقتربت منه لسع صدرى بإبره المسنونة ،تقهقرت سريعا ً ليلتقى ظهرى بصدرها من جديد وندخل معا ً الى الدش الذى شعرت بمائه يغلى فوراً وأنا استدير اليها ،يلتصق جسدانا ،تتأجج النيران ،نتلوى من الصهد بينما الماء يذوب نعومة وهو يتمدد حولنا وبيننا وتحتنا مرة كسرير ناعم حريرى اللمسات ومرة كدثار دافىء يقى من البرد ومرة كعصفور يزقزق فى روحينا بزقزقة السرور واإلبتهاج ،ارتديت المالبس التى قدمتها إلى وخرجت إلى الحجرة ،اتجهت إلى المائدة الصغيرة ،واجهت الفتاة الهادئة النظرات وهى ترمقنى بدفء عينيها ونقاء روحها الذى يكاد يثب من حدقتيها وكأنها لم تفعل كل مافعلت منذ برهة او أقل ،لزمت الصبر وجلست أنتظر فى هدوء ! درت بعينى على المكان من حولى. رغم أننى حدقت فى أشيائه البسيطة من قبل ،إال أننى اآلن متوحدا ً مع توجسى المعهود أدور بعينى خبير ،متفحصا ً ، مدققا ً ،منقبا ً عن أشياء قد توضع هنا أو هناك كعادة الناس هناك ،خاصة حينما تحل ضيفا ً على بلد ما ويتجسسون عليك ، خاصة فى حجرة نومك ،وفى حمامك ،وربما فكروا فى 77
الدخول الى أفكارك وأحالمك والتفتيش فيها بغية أن تكون عاريا ً تماما ً أمامهم ،يفعلون بك ومعك مايريدون ،الشىء الجميل هنا أنه التوجد مثل هذه األشياء ،ربما لتواضع الحال فى هذه المدينة التى هى جزء من البلد التى اعتلى أكبر كرسى فيها ،هى جزء من مملكتى العتيدة أو دولتى الكبيرة أو سمها ماشئت . المهم أنها تنتسب الى . لكن المقلق اآلن أن يعرفوا هذا ،فالمخابرات تطلعنى على أراء الناس ،وأفكار عامتهم ،ومايقولونه ومايخبئونه فى صدورهم عنى ،وهى أشياء ليست مطمئنة بحال هذه األيام ، لذا فالجميل هنا أنهم لم يعرفونى كما يبدو ،وبالتالى لم أعد فى حاجة لتغيير شكلى أو تحويل صورتى أو شىء من هذا ، وبالتالى أيضا المعاملة طيبة رغم أنها عادية ،فهى حالة إنقاذ لرجل أشرف على الهالك . هى أنسب معاملة حتى اآلن ،المهم أن أخرج من هنا على خير . لكن هناك شىء يحيرنى و يثير القلق فى نفسى ،وهو اختيارهم فتاة لخدمتى أنا الغريب والتواجد فى غرفة نومى والمبادرة بالفعل معى على عكس ماهو معروف من البنات ،عادة البنات تتدلل وتفر وتتمنع وتنتظر حتى يظن الرجل أنه أوقعها بوسامته أو رجولته أو شىء دون أن يدرى أن الفريسة الحقيقية لم تكن سواه . لماذا دفعوا إلى فتاة مثل هذه بدالً من رجل يتعامل معى كما هو العرف هنا فى هذه األماكن ،لو كانوا يعرفوننى لقلت أنها مقصودة فالقريبون منى يعرفون أننى أفضل الجميالت الصغيرات ذوات البراءة واللطف اللواتى يملن إلى الوداعة 78
ويبدين كمالئكة صغيرة تخطر على األرض ،أو كما يقولون أعشق أى لوليتا أراها ،ليس مهما أن أمارس معها لعبة الحياة األبدية بين الرجل والمرأة ،تلك اللعبة الخالدة التى لو أحسن الطرفان لعبها لناال الخلود ،لو أدركا قدسية لهيبها وسمو طقوسها والتمسا من بديع كينونتها السمو االرتقاء لناال مايريدان كما يريدان ،فهذا التوحد واإلمتزاج هو سر الكون ، هو كينونة الخلق وبراءة التكوين وجالء الحجاب المستور ،تمازج الروحين وذوبان النفسين والتحام الجسدين يهب الشرارة المقدسة ويمنح الرونق البهى والسموق الذى التدارك بعده وال انحدار ،شريطة أن يدركا ويستوعبا مالم يدركه أو يستوعبه إال أقل القليل عبر عمر الكون ،وليت الذين أدركوا هذا واستوعبوه تحدثوا وشرحوا روعة ماعثروا عليه . أعود فأقول لو كانوا يعرفوننى لقلت أنها مقصودة فالقريبون منى يعرفون أننى أفضل الجميالت الصغيرات ،أو كما يقولون أعشق أى لوليتا أراها ،ليس مهما أن أمارس معها لعبة الحياة األبدية بين الرجل والمرأة ،فهناك فتيات أخشى عليهن من اللمس ،انظر الى حسنهن واتسائل كيف تقوى مثل هذه الفراشة الوديعة على تحمل ثقل جسد شهوانى يطأها ، هذه يجب أال تلمس ،هى فقط للشم والرؤية ،وإذا لمستها فبرفق زائد وبعطف شديد ،اقترب منها ،اتلمسها ،استنشق عبيرها ،استمع الى همسها وأحدق فى بؤبؤ عينيها متبحراً فى دروب وأزقة روحها ،وحينها أرانى قد تحولت بال إرادة منى الى ذكر من نوع جديد لم تره البشرية من قبل .ذكر ينتقى ويتخير ،ويدور متمهالً بيد خبيرة وفم ذواق فى رحاب جسد شفاف حالم ،يبتغى ارتشاف عسله قطره قطره بال أدنى استعجال ،متعمقا ً فى دروبه السحرية وأخاديده الورديه وسهوله ذات األلق والنقاء ،منتشيا ً هانئا ً مكتشفا ً لكنوز ماعرفها كائن من قبل . 79
فاللقاء السرمدى الخالد بين الذكر واألنثى التجلو متعته وروعة عطاياه ومننه كما قلت إال األرواح المبدعة ذات األفق الممدود والخيال الخصب . تلك األرواح المبدعة تختلف تماما ً عن األرواح العادية المنتشرة بكثرة هنا وهناك ،والتى الترى فى هذا اللقاء إال متعة حسية تشتعل نارها للحظات مهما كانت روعتها ثم تنتهى ،ترى اللقاء وسيلة إلشباع رغبة تفور وتتأجج ثم رويداً تتحول الى رماد ال أثر له ،وربما نسيت األمر برمته بعد حين وتعاملت بقسوة وعنف مع بعضها البعض . أما األرواح األخرى المبدعة فهى تغوص وتتعمق وترى ماال يراه اآلخرون . هى تمتلك القدرة على خرق العادات والمألوف لترى ماوراء الظواهر إلى البواطن والغيبيات . وهى قد التشعر أو التعرف كل هذه المسميات ،لكنها تفعلها وتتفوق فى فعلها ،بدليل أن اللقاء مع إحداهن ال أنساه أبداً ، وال أعتقد أنها يمكنها أن تنساه يوما ً مهما طالت بها الحياة ، فمتعة اللقاء تمتاز بأنها روحان يمتزجان ،يحتويان بعضهما البعض بروية وصبر وتمهل وإنتشاء ولهفة التعرفها إال األرواح النبيلة الراقية الذكية التى تعرف جيداً كيف تستخرج من المادة غذا ًء للروح . و..استدرت إلى الفتاة المواجهة لى على الناحية اآلخرى من المائدة الصغيرة ،رغم تسلل بعض الشك لصدرى أن وضعها فى طريقى ربما يكون مخطط له لمعرفتهم بطباعى إال أننى قطعا ً للوقت فكرت فى مسامرتها لحين اتضاح ماسوف يجد من أمور.
80
حدقت فى وجهها ،عينيها ،قوامها ً ،تشبه لوليتا التى أفضلها كثيرا ً ،تقترب منها بأروع حال ،وهى مثلها فى جرأتها وعنفوانها كأن كل لوليتا خلقت قد منحت ذات الصفات واألفعال والرعونة والجمال ايضا ! فكرت فى أمرى وأنا على تلك الحال ،وحيداً وسط قوم ال أعرف مايدبرون لى ،وإن كانت البوادر حتى اآلن مبشرة بخير . فتحت فمى ألتكلم ،سبقتنى بالقول -: -
السيد سليمان ينتظرك فى الساحة الكبرى
انتبهت لحروفها فأغلقت فمى ،واضطررت لمغادرة التحديق فى رقة شفتيها وارتفاع صدرها الى تمعن كلماتها ،تساءلت -:أى ساحة ؟ ساحة المدينةالرئيسية لماذا ؟ يمكن سؤاله هو .وأشارت الى الباب . إشارتها رغم رقتها كانت خادشة لكبرياء مثلى وفى ذات الوقت منافية تماما ً لما كان بيننا منذ حين ،تقدمت خارجا ً ألجد جنديين بيد كل منهما سالحا ً جديداً المع األجزاء مما يدل على أنه لم يستعمل بعد أو استعمل قليالً أو ربما هو للتشريفات . سرت بينهما مغادرا ً البناية إلى حيث ركبنا عربة صغيرة سارت بنا فى أزقة وحارات ضيقة قبل أن تنطلق إلى الطريق الواسع 81
الكبير الذى تقطعه المواكب الرسمية متجهة أو قادمة من العاصمة حيث أقيم . لم أحاول التحدث إليهما بشىء فقد فهمت من كلمات الفتاة هناك أن الرد سيكون واحدا ً فى كل األحوال ..يمكنك سؤاله هو . سنرى اآلن ماهو األمر بالضبط . بدا على البعد أخيرا ً سور حجري شامخ ،عليه رسوم بألوان زاعقة قد بهتت نوعا ً ما يتوسطه باب عمالق من الخشب المنقوش برسوم أسد متوثب على كل جانب من جانبيه ، بينما الحرس مدججون بالسالح يقفون مصطفين فى هدوء حازم ،والناس ألوان وأشكال تمأل داخل السور ،وإن كان هناك شبه صمت مترقب يغلف المكان ،متوشحا ً بنور شمس حانية ،ضياؤها دافىء ونورها شديد الصفاء . اقتادنى الحرس إلى ركن الساحة األيمن حيث رأيت قفصا ً حديديا ً قضبانه متينة البنيان ،تتجاور فى نظام وبمسافات قريبة جدا معطية لمن خارجه الفرصة ليرى من بالداخل ويتابع مايجرى فيه . فتحوا باب القفص أمامى فارتعدت وأنا أحدس ماسوف يفعلونه بى ،هل يمكن أن يزجوا بى داخله ،هل عرفوا من أكون وأرادوا فضحى أمام الخلق وإيذائى واإلساءة لى وإذاللى أم ماذا ؟ دفعتنى يد رفيقة من خلفى إلى الداخل ،هوى قلبى فى فضاء جوفى صارخا ً والباب يغلق على من الداخل ،تحولت إلى فراشة فورا ً وانطلقت مخترقا ً الفراغ بين القضبان صدتنى أشعة قمر شديد السطوع سلطوها على القفص فارتددت خائبا ً 82
راضخا ً إلى ما كنت عليه ،وأحنيت رأسى ،بانتظار ماسيكون . على منصة خشبية زيتية اللون مرتفعة بحيث تراها األعين المصرة على التحديق ،مزخرفة بنقوش تبينت أنها كتابة تقول -: ( العدالة صنو الحياة ،والمساواة روح الوجود) موضوعة تحت رسم امرأة رشيقة القوام تحمل الميزان وهى معصوبة العينين رأيت شابا ً هائل حجم الرأس عيناه ذاتا بريق وحشى ويداه كل كف بحجم مطرقة عمياء . ينتفض قائما ً ،راميا ً بكل وحشية نظراته نحوى . صارخا بأعلى صوته الغليظ اللزج الذى يدخل اآلذان كرها ، واليغادرها قط -: -
سيدى صاحب الكرسى الرفيع ،راقى الفكر ،بليغ البيان ،آيها الحضور الكرام ،لقد جئنا اليوم ليس لنتشفى فى هذا الرجل الماثل أمامنا ،وليس لنذيقه مما أذاقه لنا سنينا ً عدة ،ولكن إلقامة العدالة الناجزة ،وتحقيق المساواةالشاملة ،وليعرف كل انسان يحمل أمانة المسئولية أنه إذا جار أو ظلم فسوف يكون مصيره هذا القفص وتحت أنظار هؤالء الخلق ، يتلقى اللعنات قبل أن يتلقى الجزاء الرادع لمثله .
83
إننا آيها السادة اذا أردنا أن نعدد ونحصى جرائم هذا الرجل ( مشيرا ً الى) لما اكتفينا بمحاكمة واحدة فى جلسة واحدة ،ولو أردنا تسجيل فساده لما وجدنا مايكفى من األوراق لتسجيلها من كثرتها . وحتى ال أطيل عليكم فسوف أقسم أعماله الفاسدة حسب تخصصها -: -
فهناك فساد فى الزراعة
-
وفساد فى الصناعة
-
وفساد فى التجارة
-
وفساد فى التعليم
-
وفساد فى الصحة
-
وفساد فى القضاء ،والنقل ،وغيرها وغيرها مما اليتسع له المجال هنا .لذا فسوف نخصص أيامنا المقبلة لنحاكمه كل يوم عن فرع واحد من الفساد ، حتى إذا استوفينا األمر جاء الحكم بمقتضى العدالة والحق ،وأيا ً كان األمر فسوف ينفذ الحكم مهما كان هنا بينكم .
واآلن اسمحوا لى أن أتكلم عن التعليم ،وهو أساس البناء لكل أمة من األمم ،لذا يضع الحكام أمره نصب أعينهم . (المرحلة االبتدائية التأهيلية أو األساسية) يجب أن يتم توفير أفضل معلمى البلد المدربين تربويا ً ونفسيا ً لها ،وتوفير المؤهلين للتنشئة والرعاية ،مع تحديد أولويات العلم المطلوب منهم تعلمه ،واإلصرار على نقشه فى صدورهم 84
،واالشتراط أال يلتحقوا بمرحلة تاليه إال إذا اجتازوا اختبارات حازمة تعتمد على الفهم واإلبداع ال الحفظ ،ومن يجتازها ينتقل إلى المرحلة التالية ،ومن اليجتازها يعود للدرس من جديد وإال فسيظل مكانه مهما كان األمر ،وهكذا فى المرحلة التالية والتالية بعيدا ً عن الغش أو الحفظ بال فهم أو الدروس الخصوصية التى استشرت فى عهده بطريقة لم تحدث من قبل ،رغم أن قراراً واحدا ً كان يمكن إيقافها وإلغائها من قاموس اللغة تماما ،وهو غلق معاهد وساحات الدروس الخصوصية ،و من يضبط وهو يعطى درسا ً خاصا أو يثبت عليه أنه فعل هذا فيشطب من قائمة المعلمين وتصادر أمواله وأموال عائلته بالكامل وتقوم الدولة بإعطائهم مايكفى معيشتهم طوال العمر مع مواكبة طرق التعليم العالمية ،والسير على ذات الدرب الذى يسيرون عليه .موضوع كما ترون آيها السادة سهل واليحتاج إال إلدارة هدفها الصالح العام ،ولكن المتهم أفسد األمر فوكل إلى من اليفقه شيئا ً مهمة إنشاء أجيال ،خرجت ضعيفة التمتلك مقومات العلم ،والذنب ليس ذنبها بطبيعة الحال ،وأفشى الغش والمحسوبية والطرق الملتوية ليقضى على األخالق العامة ،ويمحو مبادىء الحق والعدالة التى نشأ الجميع منذ قديم الزمن عليها ،وترعرعوا وهى منقوشة فى صدرورهم ،فلم تستطع األيام رغم كثرتها أن تمحوها من ضمائرهم ،وجاء هو ليمحوها وعن جدارة بحمقه وسوء حكمه وفساد روحه وقبح نفسه . فإذا مانظرنا الى التعليم الجامعى فسنجد كارثة جديدة وجريمة أكبر ارتكبها هذا الرجل ،وهى فتح الباب أمام الغش والتزوير لمنح الشهادات الكبيرة للجهلة والغشاشين من أصحاب الجاه والمال ،فأصبحت البلد فى يد من اليفقه شيئا ً ،وصار القرار فى يد من اليصنع القرار ،وأصبحنا غرباء فى بالدنا ،
85
وصارت لغتنا األم شريدة تائهة بين أهلها ،ناهيك عن العلوم االخرى . أننى آيها السادة أدين هذا الرجل وأريد اآلن حكمكم عليه ، الحكم العادل الذى يرضى ضمائكم ويشفى غليل صدوركم . أدرت وجهى مذهوالً فى تعبيرات الوجوه من حولى وخاصة وجه هذا الرجل الموتور متسائال بدهشة جارفة أطاحت بروحى قبل أن تتغلغل فى نظراتى -: -
هل كل هذا أنا فعلته ؟
أنا السبب فيما آل اليه حال التعليم ؟ أنا !!!!!!؟ وأين كان الخبراء وأرباب العلم ؟ ولماذا لم يقدموا اقتراحاتهم ويطلبوا مايريدون؟ هل يظن هؤالء أننى أسير خلف المقولة القديمة التى تقول أن حكم أمة جاهلة أسهل وأيسر من حكم أمة متعلمة ؟ كال وألف كال ،فأنت مع المتعلمين تستطيع أن تبذل جهداً أقل بكثير لتنفيذ ماتريد ،النفوس فى كل األحوال لن تتغير سواء كانت متعلمة أو جاهلة ،الشجاع والذكى والفطن لن يتغير طبعه بحال ،وكذلك أصحاب النفوس الضعيفة مهما علت معرفتهم ستظل نفوسهم كما هى . التعليم لن يغير جبانا ً إلى شجاع أبدا ً ولن يحول مستغالً منتهزا ً للفرص الى زاهد
86
ولن يمنح الذى فطر على الركوع قامة جديدة يرفعها فى وجه الخلق . شدنى من شرودى صوت قادم من منتصف الساحة ،حيث الكرسى الكبير الخاص برئيس المدينة ،كان شديد الجفاء عالى النبرة عاتى فى تكبره ،عرفت فيه صوت السيد سليمان الذى طالما رأيته خاشعا ً مستكينا ً من قبل وهو يوجه سؤاله لى-: ماقولك فيما هو منسوب اليك ؟حدقت فى وجهه المربع بشاربه الذى يعتنى به أكثر من اعتناءه بنظافة قلبه ،قلت له كل مافكرت فيه ،عاد يسألنى -: -
من الذى عين هؤالء الجهلة مسئولين عن التعليم؟
صمت قليالً وهو يتفرس فى وجهى متشفيا ً ،ثم أكمل -: ومن الذى يجب عليه متابعتهم ومحاسبتهم إذا أخطأوا ؟صرخت فى وجهه مستفزا ً -: -
عفوت عن خطاياهم ،كما عفوت عنك لما رجوتنى وتذللت لى
ارتفعت أصوات العامة تقاطع كلماتى بالسباب والهتافات الغاضبة ،لم أستطع استكمال ماأريد وسط الضجيج الحادث ، وقفت مكانى منتظرا ً ماسوف يتفقون عليه ،مسلما ً أمرى لصاحب األمر ،فلم يعد لدى ماأستطيع فعله إال انتظار أمثال هؤالء ليقرروا أمرى ومصيرى ،ويحددوا لى مايشاؤن ! عاد صوت ممثل االدعاء المتولى يقتحم أذنى مكفهراً حاقداً ، متحدثا ً إلى العامة ليأخذ منهم فى نشوة االنفعال والضوضاء 87
والفرصة السانحة تصريحا ً باالنتقام - -:واآلن الحكم على المتهم ..مذنب أم غير مذنب ؟ تعالت الصيحات الموتورة لتحاصرنى من كل األنحاء -: -
مذنب
ارتسمت على وجهه إمارات راحة لم أر مثل سخافتها من قبل ، وأمر بفض الجلسة على أن تعاد لإلنعقاد غدا ً فى ذات التوقيت ،طالبا ً إعادتى إلى ذات المكان الذى جئت منه ،والذى اكتشفت أنه محبس يليق بحاكم متهم مثلى ينتظره الكثيرمن االنتقام والتشفى . تم فتح باب القفص بحذر وسط صراخ وغضب الغوغاء ، الذين حاولوا الوصول إلى وكل منهم يبرز عضالته وقوة غضبه وعنف شكيمته ،ويلقى فى وجهى بسيل من أفظع أنواع السباب وأشرسها ،وأنا ال أ متلك إال نظرات رسمتها على وجهى مع مالمح تليق بالموقف . اصطف الجند على الجانبين ليس لحمايتى كما اعتدت ولكن هذه المرة لحماية الغوغاء من شرورهم وحقدهم ،واإلبقاء على حيا ليمتعوا أنظارهم وأسماعهم وهم يرموننى بالتهمة تلو التهمة ،وسط حشد من كراهية وحكم مسبق باإلدانة ،دون أن أمتلك المقدرة على الرد ،أو حتى قول الحق الصراح الذى الزيف فيه ،وهو أن المختصين فى مجاالتهم المختلفة لم يكونوا يراعون ضمائرهم ،وكنت أسأل أيهم :هل فعلت كذا ؟ فيقسم أن األمور تسير على خير ،وبطريقة من أحدث الطرق فى تاريخ البالد قديمها وحديثها . وهل لدى الوقت والعقل لمتابعة كل منهم ،وتكذيبه ،والحفر خلفه للتأكد من انجازه ؟ 88
إننى لو فعلت هذا فلن تسير الدولة بحال . مادمت اخترت مسئوال ً لقيادة عمل ما فهو المسئول عنه ال أنا ،وكثيراً ماوجدت أخطا ًء وحاسبت عليها ،أو أبلغنى تقرير أو ملف الى وجود تقصير فحاسبت صاحبه ،لماذا اليذكرون هذا اآلن ؟ أم هو حكم مسبق يريدون تبريره على أية حال ؟ يسأل الرجل الشرس النظرات المتولى الناس المتأججة بنيران غضبها سؤاالً غبيا ً مثله -:مذنب أم غير مذنب ؟ وهو يعرف وهم يعرفون وأنا أعرف وأحجار الساحة وسحابات السماء المارة تعرف أيضا ردهم قبل أن يقولوه . الفائدة من تحقيق العدالة على األرض ،هنا أو هناك ! خرجت فى حراسة الجند إلى محبسى من جديد . الغريب أننى لم أكن مكدوداً بحال ،والمتوترا ً ،والأعانى من غضب أو ضيق ،فطالما سارت األمور هكذا فالعاقبة محددة ، والتغيير فيها مهما كنت الظروف والمتغيرات ،فليفعلوا مايريدون . أغلقوا الباب بمجرد دخولى محبسى من جديد ،رأيت ذات الفتاة تقف هادئة تنتظر أوامرى ،حدقت فى قوامها متأمالً ، ثدياها مرتفعان ! األثداء المرتفعة هكذا تكون عادة أثداء شامخة ،لها كبرياء وأنفه ،ممتلئة فى غير قبح ومشدودة فى دالل ،قوية ،عفية ،تقتحم نظراتك بغير غلظة وبدون عنف ،وتمأل عينيك بكل ثقة وكبرياء. 89
شعرت للحظة خاطفة أننى أريدها اآلن وفورا ً وبال إبطاء،أريد ان أطفىء بين جناحيها ثورة غضب يائس الحدود له ،وفشل ذريع أشعر أننى منيت به فى حياة لم يكن لى فيها خيار ،بل دفعتنى الظروف إلى حيث سارت الريح فسرت معها ،مامعنى الحياة طالما لم تدبر لنفسك وتحدد لمصيرك وتسعى لتحقيق ماتريد ،ومامعنى أن تحاكم اآلن لشىء لم تفكر أصال ً فى عمله ،قد يكون تقصيرا ً منك أو قد يكون غبا ًء أو هو مسلسل فشل يحادى خطواتك فى الحياة ،لكنها أبداً لم تكن عن نية مبيتة أو قصد مشين ،ربما أكون أى شىء وكل شىء لكننى محال أن أفكر فى هذا البلد بسوء او أضمر له الشر ،الوطنية التى يحكون عنها ليست فى األغنيات وال الخطب وال كالم العامة لكنها فى األفعال وبخاصة وقت الجد وهذا مارأيته وخبرته عن نفسى رغم كل شىء وأى شىء . شعرت بدوار يشدنى وسط دوامة حيرة وقلق وخوف الأدرك لهم معنى وال سبب وال مغزى وال أى شىء ،هو فراغ جامح يحيط بى وصخرة بليدة صماء فى رأسى تسمى عقل وعينان ينظران وال أرى بهما إال الموت ،الموت يحيط بى باسما ً متأنقا ً وسيما ً يدور من حولى يرقب جسدى أو لنقل الفريسة التى ينوى التهامها متى شاء ،يقيس حدودها وأبعادها ويرتب لطريقة التهامها ويحدق فى عينى ،يسألنى كيف أحب أن أموت وبأى طريقة أريد ،وهل أفضل أن أنهيها كما أشاء وقتما أشاء ،أم أترك األمر له يدبره مع إخوان الشياطين الذين يحاكموننى هنا . بعينين زاغئتين حدقت فيما حولى وأنا أحاول اإلفالت من وساوسه وهمساته ،متباعدا ً عنه قدر استطاعتى الى أقصى ماأستطيع ،ولم يكن أقصى ماأستطيع هذا إال حرف السرير المواجه للحائط ،اندفعت اليه لذت بصدره الحنون ،لسعتنى برودة الجدار فارتددت واجفا ً لتتلقانى الفتاة بيدين ملتاعتين 90
وعينين كأنهما بئرا ماء يسقيان العطشى وكنت بحاجة لهذا الماء ،ارتميت بين ذراعيها الهثا ُ ،أحاول الكالم فال أجد الحروف وأبغى الدفء فال يحتوينى إال البرد وأطلب العون فال أجد إال مزيدا ً من األلم . -
مابك ؟
أنى لى أن أجيب ،غمست رأسى فى صدرها أكثر ،احتوتنى بحنانها ،رويدا ً عاد الزمن يسير رويداً كأنه لم يهرول منذ لحظات إلى حافة الموت ،رفعت عينى إليها ،شعرت لوهلة ال أدرى كيف أننى أريدها اآلن ،أريدها بنظرتها الدافئة وثدييها العفيين وقوامها الرشيق ،أريد شفتيها الرقيقتين اللتين تنبع من تفتحهما روائح الجنان . هل أحضر الغداء؟حدقت فى بياض وجهها ،و صوتها الشديد الدفء وعدت أضمها بقوة بين يدى شاعراً برغبة عارمة الحتوائها و لولوج روحها واستنشاق عبيرها ،واقتحام مكمنها اآلن . هل هو تسليم بمصير الفكاك منه ،أم هو محاولة هروب من خطر داهم يتعقبنى باإلنغماس فى شىء ما ،أى شىء يبتعد بى ولو قليالً عن اإلنتظار القاتل الذى يحتلنى منذ خرجت من ساحة المحاكمة ،ذلك اإلنتظار المغلف بالظلمة ،والذى يعلوه إقرار بنهاية المحيد عنها ،الشىء الذى يحز فى نفسى أن تنتهى مسيرة العطاء للبلد بكل مابذلته فيها من جهد وإخالص وتفانى فى العطاء بهذه النهاية ،وأن أوصم بالخيانة واإلهمال والفساد وماإلى هذا من مسميات . بيد تعالج ارتعاشة رغبة محمومة مددت يدى إلى رقبتها ،درت بباطن راحتى مع دورتها الى أعلى وبدالً من شد وجهها نحوى 91
رأيتنى انطوى بين جناحيها ،تتلمس رأسى هضبة النهدين ميممة الى براح الصدر ،و أنطوى رويدا ً ،أنغمس بوجدانى فى لجة إحساس ناعم يأخذنى أخذا ً الى حيث أجد سلوتى هناك راميا ً بكل مافى روحى من مشاعر وأحاسيس متضاربة وبكل مافى القلب من براكين متفجرة وبكل مايمتلك جسدى من أنين . رأيتنى ألقى بكل هذا من حالق ،وروحى ينكشف عنها الحزن الداهم والوحشة الصارمة رويدا ً ،وأفلت من كل شىء إال دفء الصدر وأمان الساعدين الذين امتدا فى رفق ليحيطا هيكلى العجوز برحمة لم أحلم بها فى أشد أحالمى صفا ًء ،وبدالً من التوهج والفعل مددت جسدى بجوارها ،رأيتنى أنسى مامر بخاطرى منذ لحظات ومافاضت به خواطرى ،واألخيلة التى اجتاحت مخيلتى لترينى كيف أنغمس فيها ،أتشرب شبابها قطرة قطرة ،وأرتشف من عسلها ،وأذوب بروحى ووجدانى ومشاعرى فى فيض حسنها ،ترينى كيف أذيب شفتيها الرقيقتين بين شفتى وأعتصرهما إعتصاراً ،وأنا أهيم بين دروبها صعودا ً وهبوطا ً إلى أن استقر على قمة اللهفة ،صاعداً إلى أوج اللقاء غامسا ً روحى كاملة فى طياتها ،محرزاً قصب النصر والفخار . رأيتنى أركل كل هذه الصوربعيداً ،أو هى تنمحى الشعوريا ً من رأسى ،شاعرا ً أن هذا الدفء مبتغاى من رعشة برد جامح تجتاحنى ،و أتقوقع رويداً بين يديها الى أن أخذت وضع الجنين مغمض العينين راضى النفس هادىء النبضات راضيا ً ،وقد تالشت بعيدا ً كل أثام الوجود ومشاكله ومتاهاته وشروره ،إلى أن رأيت يدها تمتد هادئة وتمسح عينى ،بينما يدها اآلخرى ماتزال تبث دفئها سخيا ً نقى الروح إلى جسدى المحتاج فى تلك اللحظة إلى دفء وسالم الكون كله ،تنبهت لنفسى ال أدرى متى فوجدت بقايا دموع ماتزال تغطى وجنتى ، وبعض الطعم المالح يلسع شفتى ،اعتدلت محدقا فى عينيها 92
بنظرات اعتذار ،فاضت من حدقتيها نظرات شفقة هائلة وهى تهمس لى -: تريد طعام الغذاء ؟لم أكن راغبا ً فى شىء اآلن ،كنت بحاجة فقط للغياب فى متاهة نوم لعلنى أقوم بعده مكتشفا ً أن األمر كله كان كابوسا ً وانتهى على خير ،رغم هذا هززت رأسى موافقا ً ،ولم أجد ماأقول ،فتمتمت بما ورد على خاطرى فوراً-: مااسمك ؟ ثناء مامهمتك معى ؟ ماتريد هاتى الطعام ،بشرط أن تجلسى فى مواجهتى وتأكلى معىوانتفضت من مرقدى الى الحمام ،رغم نفورى من الماء البارد كنت بحاجة إليه االن ،بحاجة له ليطلق سهامه فى أنحاء كيانى ،برودته كانت كافية لترويض حرارة جسدى خاصة اآلن ،المحاكمة الجارية تحتاج إلى تركيز وتدقيق وفحص لكل كلمة تقال ،مواجهة ممثل االدعاء المتولى هذا بعينيه الوحشيتين وصوته المريع تحتاج أن أصهر روحى فى بوتقة صحو ويقظة التغيب ،أما اإللتفات ألشياء أخرى تشتت الجهد والفكر فليس له معنى وال هدف سوى اإلستسالم لمصير محال أن أفلت منه إال بقدر فى الغيب حتى اآلن ال أدريه وال أرى له تباشير أو عالمات .
93
كان الطعام بسيطا ً كما تعودت منذ جئت إلى هنا ،قطع قليلة من الجبن مع بعض العسل والخبز وكوب الشاى ثم الشىء . جلست ثناء أمامى ،بهدوء تناولت الخبز وبدأت كأنها منذ زمان تعرفنى وتعيش معى تهمس بكلمات عادية عن الطقس بالخارج ،وظروف الحياة بالمدينة ،وبعض مآثر سكانها ، وماتراه إلصالح بعض العيوب هنا أو هناك ،ثم عرجت على عائلتها العريقة فى المكان ،بجذورها الممتدة العمق فى تاريخ المكان ،وفروعها المنتشرة فى كافة نواحيه ،وحينما انتهينا من الطعام انتبهت أننى لم أنبس بحرف مكتفيا بالنظر إلى وجهها بنقاء بشرته والحمرة الخفيفة التى تهبه جماالً خالصا ً يفوق ماعداه بفضل قسماتها الطفولية ونظراتها المغسولة بالحياء ورقة حروفها الهيا ً بهذا كله عن حروفها وماقالته إال بعض العبارت من هنا أو هناك ،شاعرا ً أن المرأة هى المرأة فى أى مكان وزمان ،سالحها لسانها ،ومتى انفعلت بخير أو شر انفجرت فى الحديث دون أن يمتلك كائن ما إيقافها . التصمت المرأة إال إذا دبرت مكيدة ما وهنا يكون الخوف منها أما وهى تتكلم بغضب أو فرح فالشىء هناك .هكذا شعرت لحظتها . أويت إلى فراشى بانتظار الغد. همست تسألنى إن كت أريد شيئا ً ،أدرت وجهى عنها إلى الجدار ،لم تكن بى رغبة لشىء إال اإلنفراد بنفسى اآلن ،ال أدرى هل هى التى أتعبتنى أم أنا الذى أجهدتها معى ،شكرتها بكلمات قليلة رأيت على أثرها نظرة امتنان خاطفة التكاد تبين تطل من عينيها وتنمحى فوراً ،ألقت تحية المساء وأغلقت 94
الباب خلفها ألواجه الظلمة وحدى ،أسير فى متاهة ليل يحيط بروحى من كل األرجاء ،ورأيتنى أعود لألمس البعيد ،أتذكر بداياتى منذ سنين عدة ال أذكر بداياتها لطول العهد بها ،فأنا منذ قمت ومجموعة الشباب أيامها بالذهاب إلى قصر الحاكم السيد خميس وقررنا البقاء أمامه مع إقدام شاب منا يوميا ً على اإلنتحار اعتراضا على الظلم المتفشى والفساد السائد وإهمال العالج والتعليم وماإليها من أسباب تدعو إلى االعتراض . أيامها كنا مجموعة صغيرة التتعدى العشرين شابا ً ،جئنا من حوارى وأزقة البلد مندفعين بروح اإلصالح الحتمى واإلرادة الشعبية الجارفة ،جمعنا هدف واحد هو إبالغ أعلى سلطة فى البلد بما يجرى ،فإن كان يعرف فسوف يسارع بتغيير سياسته ،وإن كان اليعرف وهذا محال طبعا فقد أطلعناه على وضع الناس ،وعليه أن يقوم باالصالح أو يرحل . أيامها فوجئنا بانضمام أطياف من الناس لم نكن نعرفها ،أو حتى نظن أنها يوما ً ستسعى لإلنضمام إلينا ،أو حتى تشعر أن لها دورا ً يمكن أن تؤديه بأى شكل من األشكال . رويدا ً رأينا أنفسنا محاطين بأعداد تزداد يوما ً بعد يوم ،إلى أن أصبحت المدينة كلها تكمن حول القصر ،تحاصره وتصر على تنفيذ أوامرها وطلباتها ،وانتهت فكرة انتحار شاب هذه السذاجة المفرطة منا ،لتقوم مكانها فكرة أخرى هى الهتاف الذى اشتعل فى المكان دون توقف -: -
الشعب يريد إسقاط الفاسدين
الجميل فى األمر أن أيام اإلعتصام هذه كشفت أشياء جميلة داخل كل منا لم يكن يلتفت إليها ،أنا مثالً اكتشفت قدرتى على الخطابة والتأثير على الجماهير إلى درجة التوحد مع كلماتى ، 95
واإلقتناع بما أقول ،فصرت يوما ً بعد اآلخر أخطب فيهم شارحا ً مساوىء النظام السائد ،وانتشار الخرافات بدالً من العلوم الحديثة ،وتدهور التعليم الذى أفرخ عقوالً خاوية وأفئدة بلهاء وأيدى مرتعشة التبنى أوطانا ً ،وأخذت أقارن بين الدين كشريعة لها قدسيتها ،وبين الدين كوسيلة لإلرتزاق والكسب من فئة اتخذته وسيلة للكسب على حساب السذج والمساكين الذين أسلموهم قيادهم وظنوهم األقرب إلى هللا ودينه من الجميع لما أبدوه من مظاهر الزهد والخشوع والورع ،وحفظهم اآليات والسور وبعض األحاديث المطلوبة للمهمة التى نذروا أنفسهم لها ،أال وهى اكتساب مايستطيعون كسبه والسيطرة على البالد والعباد لتحقيق مآربهم ال أكثر ،ثم تحدثت عن الجهة المقابلة لهم وهم هؤالء الناس الذين لعبوا اللعبة بال رياء أو زيف فهم جشعون ويظهر ذلك فى تصرفاتهم وهم يريدون الكسب بأى وسيلة ،وهذا واضح للعيان ،وهم أهل سلطة وجاه وقوة ،وهذا يعرفه الجميع واليحتاج لتفسير، ويقومون بأعمالهم جهارا ً نهاراً ،فى قوة وقسوة ،وبال خوف ،وهؤالء رغم شرهم أقل شرا ً ممن يتمسح بالدين ، ويتخذه وسيلة لركوب أعناق البشر وسلب أموالهم وخيرات بالدهم أيضا ،تكلمت عن هؤالء وهؤالء رافضا ً سيطرة كائن ماكان على مقدرات الشعب ،مطالبا ً أن يكون الخير للجميع ، مؤكدا ً أن هذا لن يتأتى إال بجلوس حاكم وطنى شجاع يعى جيداً مايجرى حوله ،ويكون مخلصا ً حريصا ً على الوطن وأبناءه ، يكره اإلستغالل ويمقت الخيانة والفساد . ورأيتهم يشيرون إلى قائلين -: أنت الحاكم المطلوبوعلت الهتافات التى هزت األرجاء ووصلت الى القصر ، فدكت قلب ساكنه دكا ً ،فهرب بليل تاركا ً خلفه كل شىء ، 96
مكتفيا ً من الغنيمه ببقاء دماغه فوق عنقه ،لترتفع رايات الفرح والحبور ،وتعلو هتافات النصر وتنتشر فى كل البالد من أقصاها ألدناها آيات الترحيب بالحاكم العادل الذى سيعتلى الكرسى ،وهو فيه من الزاهدين ! وسمى هذا يوم النصر ،وتم جعله عيدا ً قوميا ً تؤخذ فيه أجازة رسميه ،وتطلق فيه األناشيد ،ويعم الفرح والسرور كافة األنحاء . فما الذى جرى اآلن ؟ الكل هناك كان يبدى الفرح . يستمع لكلماتى فى أى نائبة ويقرأتحليلى لألحداث مهما كانت ويقتنع بماأقول وينتهى األمر . فما الذى جرى ؟ وكيف يقوم هؤالء الناس بمحاكمتى بذات التهمة التى وجهتها لمن كان قبلى ؟ هل صرت خميس جديد وأنا الأشعر؟ أم أشعر ولكنى أتلهى بعبقرية الحكم وإلهام الحاكم وماإليها من مسميات كنت أسمعها وأنتشى لها ؟ المسئولون كانوا دوما ً يرتجفون من كلماتى حينما أغضب على أحدهم ،لذا كانوا دوما ً يقولون مايرضينى . -
كل شىء تمام
-
الناس فى الشوارع والحوارى تمام
97
-
التعليم تمام
-
الصحة تمام
وحينما تقع عينى على خطأ أصرخ فى المخطىء ،أذيقه ألوان الهوان قبل أن أطرده من مكانه ،وأجىء بآخر يتحمل المسئولية عنه . فهل كنت متواطئا ً أم الهيا ً أم أن مرور هذه السنوات الطوال وأنا أعتلى الكرسى قد أدى الى صدأ عقلى وشلل فكرى وجمود فى مشاعرى وأحاسيسى فلم أر إال مايرون هم مكتفيا ً بهذا وراضيا ً وواثقا ً أن ال أحد ينتفض ضد سياستى إال المتآمرون الكارهون للعدالة والحق ،وهؤالء تقوم الجهات المسئولة بتعقبهم وحبسهم ،أو اإلجهاز عليهم ؟ آه كم هو ثقيل هذا الليل . جفناى رغم ارتخاؤهما فوق حدقتى كجبلين ثقيلين يأبيان على النوم. سأحاول أال أفكر. ربما استيقاظ الذهن هو الذى يمنع النوم . سأحاول أال أفكر . أغوص رويدا ً فى عالم النوم ،و! ....... رأيتنى فى الساحة من جديد ،ذات الساحة التى شهدت يوم محاكمتى األول ،لكنى هذه المرة مصلوبا ً وسط الساحة ، بين يدى جالدين عمالقة ،والدماء تتساقط من يدى وأقدامى التى ثبتوها مكانها بالمسامير ،كانوا يحملون سياطا ً ساخطة التهدأ صرخاتها وعويلها وهى تتلوى فى الهواء ،قاطعة 98
الزمن والمكان ،قادمة إلى جسدى فى عنف يدفعنى دفعا ً للصراخ من قلب القلب ،ومن أعمق أعماق الروح ، والجماهير ملء الساحة تنظر ساخرة ،راضية عما يجرى لى ،وهتافاتهم تشق الفضاء -: الشعب يريد إعدام الفاسدوالسيد سليمان حاكم المدينة الذى وليته هذه الوظيفة يوما ً ، ويفترض فى أن أكون ولى نعمته يهتف معهم ،وأنا محنى الرأس ،مسندا ً إياها على صدرى ،ال أمتلك النظر إال إلى ماتحت قدمى ،حيث المقصلة المعدة لتنفيذ حكم اإلعدام الذى لم يغب كثيرا ً ،إذ انطلق الصوت الغاشم الحانق من العينين الوحشيتين لممثل اإلدعاء المتولى معلنا ً للعامة الخبر الذى يترقبونه بكل اللهفة والشوق ،وماأن يعلو صوته بالحكم حتى تنطلق فى ظالم الليل أضواء الشماريخ وألعاب الصوت والهتافات والزغاريد ،وتدق الطبول ترحيبا ً به ،بينما يتم نزع المسامير عن يدى وقدمى ،وإنزالى عنوة مجروراً من ساقى الى أدنى ،حيث توضع رقبتى تحت المقصلة التى أغلقت جزئيها ،وأحكم الغلق على رقبتى ،وأنا أتحرك مطاوعا ً لهم ،ناظرا ً إلى مايجرى كأننى روح أخرى ترى وترقب دون أن يكون لها دخل أو تأثر مما يجرى ،وقد تحول األلم الكاسح المتعملق إلى أمر عادى أو هو قدر محتوم رضى به جسدى بعيدا ً عن إرادتى وأمرى ،محنيا رأسى خاضعا ً خاشعا ً أنتظر التنفيذ ،فى هدوء ال أدرى من أين أتانى وكيف . حتى فى اللحظة الرهيبة التى دوت فى أرجاء روحى عتية غاشمة ،والتى ارتطمت فيها البلطة برقبتى لتفصل رأسى فورا ً عن جسدى كانت الرأس تتدحرج مفتوحة العينين ،ذاهلة النظرات ،متسعة إلى أقصى مدى اتساعها ،محدقة فى سواد
99
الوجود حولها ،التدرى هل تفرح لمبارحة هذا العالم بكل شروره ،أم تحزن للمغادرة على هذه الصورة . ولحظتها بالذات مرت فى خاطرى كل سنين عمرى فى شريط واحد هرول مارا ً أمام عينى ،واضحا ً جليا ً بكل تفصيالته وأحداثه فى أجلى صورة وأكمل بيان ،إلى أن رأيت جسدى بال رأس ملقى تطأه األقدام . أفزعتنى الصورة فى تلك اللحظة وتفجرت مشاعر األلم والشقاء وفاضت ينابيع األحزان كاسحة ،و صرخت باٌقصى ماأملك من أنين و بحر الدماء الجارية تحت األقدام ينشب أنيابه العاتية فى روحى. آاااااااااااااااااه!! انتفضت من رقدتى متسع العينين ،مستعيذا ً باهلل ،خارجا ً من بوابة الجحيم وأتون نارها الهث األنفاس ،أحدق فى المكان حولى ،أتشمم رائحة الحياة من جديد مديراً عينى فى جسدى وأطرافى ،متحسسا ً رأسى ،أدور بنظرات هلع واجفة فى أرجاء الغرفة ،وحينما تهدأ نبضاتى وتخمد فورة النيران فى جسدى ،أهب من مرقدى مبتعدا ً عن السرير ، متباعدا ً عما رأيته على أديمه وبين يديه وفى أحضانه ، متوجسا ً من معاودة االقتراب منه ،أتجه الى المائدة وأجلس على أحد مقاعدها فى انتظار الصباح . و فى هذه اللحظات تبدو لى الحياة بال زيف صبغتها الذى يلون وجهها خاوية من الجمال ،مليئة لحافتها بقبح وجهالة عجوز شمطاء واسعة الحيلة ،تعرف كيف تصطاد ضحاياها ، وكيف توقع بهم بتلونها وتبرجها وغنج حروفها ،حتى إذا ماأمنوا لها واحتضنوها أفاقوا على حقيقة ال مراء فيها ،وهى أنهم تلفعوا بشرها وحقدها وكراهيتيها حتى لنفسها . 100
وأعود إلى نفسى متسائالً فى جد ..كيف خدعت بها إذا كنت أعرفها ؟ إذا كنت رأيتها وسبرت غورها ورأيت بعين البصيرة حقيقة صورتها ،فلماذا وقعت بين براثنها ،واستسلمت إلغرائها ، وقبلت أن تطوينى بظالم جناحيها وقبيح ريحها ؟ وال أجد جوابا ً إال النسيان أو التلهى بالمتعة الطارئة اللحظية الزائفة والزائلة عن الحقيقة المؤكدة ،وميل نفسى إلى اللهو والتيه بروعة السراب الخادع وفرحة امتالك ماالطاقة لمخلوق بامتالكه ،حينها تبدو لى اللحظات شبكة ممتدة فى عمق الروح ،تنزع من برائتها قطرة فقطرة مدى حياتها على األرض ، ويبدو الكون حولى حلبة مصارعة دموية جائزتها الكبرى قبض الريح !! أستدير محدقا ً فى السرير السابح فى ملكوت سكونه راضيا بعتمته الناشرة فى أفق الحجرة هدو ًء ناعما ً ،والدوالب الصغير على مقربة منه محتميا ً بالجدار ناعما ً بالعزلة ، والمائدة المستديرة ذات اإلطار الخشبى المغطى بالغطاء األبيض الرائق البياض وعليه بقايا طعام العشاء والتى تركته ثناء قبل أن تغادر هامسة أننى ربما أحتاج اليه ليالً ،أراهم يتقاربون محدقين بى ،محاصرين لجسدى المضغوط بينهم ، وأنا الأمتلك المقدرة على الصراخ أو اإلفالت من كيدهم المقيت ،أبحث عن نسمة هواء أفلتت من قبضتهم لترد لى الحياة ، فال أجد إال مزيدا ً من الضيق ،أهب من مجلسى دائراً فى فراغ الحجرة ال أدرى ماذا أفعل بنفسى وال ماذا تفعل نفسى بى . الجدوى من أى شىء . أرتمى على المقعد من جديد ،محدقا ً بالباب ،مترقبا ً من تحت عقبه خطوات النهار التى البد ستجىء ،أنتفض والباب يفتح 101
سامحا ً للنهار باقتحام المكان ناشرا ً ضياه فى أركانه ،غير عابىء ببقايا العتمة الكامنة هنا وهناك ،وأرى وجه ثناء فأشعر بشعور المدفون فى قبره الموقن بالهالك ،واثقا ً أن ال أحد سيسمع له أو يلبى استغاثته ،ثم يفاجىء بمن يفتح ويقول له اخرج أمنا ً الى النور ،أحدق فى عينيها الدافئتين ووجهها الذى كسته شمس الصباح حمرة نقية هادئة حالمة زادته حسنا ً على حسن . -
صباح الخير
-
صباح الخير
-
وجهك يشى بإرهاق
-
فقط ؟
تشاغلت عنى بفحص المكان وترتيبه ،جاء طعام اإلفطار ووضع على المائدة ،جلست قبالتى محدقة فى وجهى بنظرات جديدة لم أرها منذ عرفتها حتى اآلن ،نظرات فيها شفقة – ربما -الحد لها وهى تدير عينيها صاعدة وهابطة على جسدى المكوم على المقعد منذ منتصف الليل ،وقد تقوص على المقعد دون أن أنتبه له إال حينما رأيت عينيها تحوطانه بدفء النظرات ،حاولت اإلعتدال قدر المستطاع تشعر بالمرض ؟ لم أنم إال قليالً هل استطيع المساعدة ؟ألول مرة منذ حدث ماحدث شعرت برغبة فى االبتسام . ابتسمت ،أو هكذا خيل لى. 102
ال أدرى هل بدت البسمة على شفتى أم أبت أن تخرج إلى الوجود . كانت عيناها تحوطنى بفيض حنوها مما أشعرنى بشىء من اإلمتنان ،إذ يكفى والكون يدهمك بثقل أقدامه ووطء ظلمته ، وجسامة حوادثه وملماته أن ترى نظرة ود أيا ً كان مصدرها أو سببها ،يكفى أنها مشاركة من روح أخرى شعرت فى تلك اللحظة بك وتألمت من أجلك . رميت بروحى فى براح نظراتها ،عيناها فى أعماقهما روح تنبض ببراءة داهمة تأخذك رغما ً عنك وترويك من نبع صفاء . متزوجة ياثناء ؟ ال احك لى عن نفسكتزدهر زهور النظرات بنشوة الدهشة وهى ترى كهالً ال أمل فى نجاته بيتعد عن نفسه بالقدر الذى يقترب حسيسا ً منها . أعيش مع أبوى فى ضاحية المدينة ،والدى رجل بسيطيعمل فى متجر لبيع حاجيات المنازل ،ووالدتى بائعة فى متجر لألدوات النسائية ،أما أنا فبعد انتهاء دراستى تم تكليفى كمثل غيرى من فتيات المدينة بخدمة المجتمع لمدة عام خدمة المجتمع ؟ بلى ،خدمة الزامية للفتيات ،مساوية للخدمة العسكريةللشباب وهل ماأنت فيه اآلن خدمة مجتمع ؟103
بلىحدقت فى الدوالب المغلق متفكرا ً فيما قالت ،متسائالً كيف خفى عنى هذا األمر ،ومنذ متى وهم يكلفون الفتيات بأشياء كهذه ؟ أعرف أن هناك فتيات لخدمة الضيوف الكبار ،مهمتهن إرضاءهم والتسرية عنهم ،وكثيرا ً مااستخدمن بغرض التجسس ومعرفة األسرار ،برضائهن أم تحت ضغوط ،أما البقاء مع المساجين !! همست لنفسى أن هناك أشياء كثيرة حولى ال أعرفها ولم تخبرنى بها التقارير واألخبار ،قلت بثقة أنه مهما كانت دقة الملفات واألوراق والعيون البصاصة لن تكون أفضل من عينيك أنت ،ورؤيتك أنت ،وخبرتك أنت لتكون قادرا ً على إبداء الحكم الصواب ،أما وأنت مكانك فلن تشعر بشىء ،ولن تدرك أبعاد ماهنالك مهما أوتيت من ذكاء . -
مرتبطة ياثناء ؟
-
بلى ،مخطوبة لموظف فى مكتب خاص للمحاسبة
-
لماذا خاص ؟
-
الحكومة أبوابها مغلقة إال على موظفيها وأبنائهم وأقاربهم
صمتت قليال وهى تحدق فى عينى ،كأنما اندفعت فى قول اليليق بها قوله ،ثم استطردت بصوت خافت -
أعتذر إليك فلم أقصد
عدت لإلبتسام مرغما ً ،وأنا فى حالتى تلك تخشى منى !! 104
-
لماذا اإلعتذار ؟
لكن قولى لى -
تفضل
-
لماذا اختاروك أنت بالذات لمرافقتى
-
ألننى حاصلة على دورة تدريبية فى السيطرة والتحكم
-
ال أفهم
-
هى دورة من دورات عدة ،لكنها مخصصة للتعامل مع ال!..
-
ال..ماذا ؟
-
الذين ..يعنى ..المدينة تراهم !..
-
تقصدين المتهمين أمثالى ؟
هزت رأسها فى حياء ،ووجها األبيض يتحول إلى لونه الوردى المحبب لعينى ،فيبدو فى سيماه وعمق عينيه مالئكية شفافة ،ناصعة ،مبهرة ،حاكمة ،مسيطرة بوداعتها ودفئها ،والسالم الذى يغلف روحها ،ويفيض من خالل حدقتيها المستترتين خلف األجفان حيا ًء وخجالً . -
هل تسمح لى بسؤال ؟
أرخيت جفونى مرة أو مرتين هامسا ً-: طبعا ً هل فعلت كل مايقال عنك ؟105
وماالذى يقال ؟ أراك مختلفا ً عما قيل كيف ؟ روحك فيها هدوء نسمة رخاء ،وكلماتك فيها رقة وصفاء،ونظراتك التوحى إال بالرفق ،حتى حينما فكرت أن تقربنى لم أكن أستطيع أن أعلن الرفض ،ربما خوفا ً من المسائلة أو محاسبتى أننى لم أؤد خدمتى كما ينبغى ،وأقدم للمحاكمة وحينها سوف يضار والدى معى ،لكننى فوجئت بك كأنك خشيت أن تجرحنى أو نظرت لى كإبنتك أو شىء من هذا ، واكتفيت بإراحة رأسك على صدرى ،ورأيتك ترتعد ودموعك تغرق وجهك ،صدقنى لحظتها لم أشعر أنك غريب متهم محكوم عليه ومطارد بل شعرت أنك ..أبى ..أنا أسفه لهذا التشبيه . أقول لك سراً ؟ تفضل كالمك جعلنى أجوع وأتوق توقا ً للطعام ،هيا لكنى !!-
هيا يابنتى ،هل تعرفين أن لدى ابنة فى مثل عمرك تركتها فى القصر؟
-
متزوجة ؟
-
ولديها طفالن تعيش معك فى القصر؟ 106
-
بلى ،هكذا أمرت ،لها سكنها الخاص لكنها التذهب إليه كثيرا ً
-
ال أفهم
-
عمل زوجها بالتجارة يجبره على السفر الكثير والمبيت فى بعض األحيان لذا طلبت أن تبقى معنا ومتى عاد زوجها يمكنها أن تعود معه
-
سيدى
-
نعم
-
هل أنت ..أنت ؟
-
ال أفهم
-
محال أن يكون ماقيل عنك صحيح
-
وهذا أروع مانلته فى حياتى من تقدير !
ومددت يدى عبر المائدة أربت على يدها فى حنان ،دق الباب دقات أعرفها جيدا ً ،ودخل الجنديان المكلفان باصطحابى إلى الساحة الكبرى بالمدينة ،تبسمت لمرآهما للمرة األولى منذ حدث ماحدث ،الوجهان يتكلفان الصرامة والجد رغم مايبدو عليهما من بساطة العامة وسذاجتهم . تشربان الشاى معنا ؟حدق كالهما فى عينى متوجسا ً ،قدرت فى نفسى أنهما حسبانى جننت ،لم أبال بما يريانه فى وصببت لهما الشاى ، إال أنهما رفضا تماما ً وأشارا على بالتحرك فوراً ألهمية األمر ، ودعت ثناء ،الأعرف لماذا ،احتويت يدها الصغيرة بين يدى 107
هامسا ً لها بكلمة شكر بسيطة على لطفها ورقتها ،ومضيت إلى الطريق . العربة المغلقة األبواب والنوافذ مضت بى كعادتها بطيئة إلى حد الموت ،بينما الحارسان من حولى قد أراحا سالحهما إلى جانبهما فى هدوء ودون أن ينبسا بحرف ،بينما العتمة تفترش المكان موحية بنوع من سكون ماقبل العاصفة كالمعتاد ،إال أننى مرة واحدة رأيت العربة تهتز بشدة ،والباب من أثر الهزة يفتح بقوة ضاربا ً جدارها ،ويبدو الطريق الذى لم أره منذ أتيت الى هنا ،ترنح الجنديان فى مكانهما ووقع السالح مما أفزعهما فاضطربا ،وحاوال السيطرة على الموقف سريعا ً ،بينما أنا فى مكانى أحدق فيما حولى بعينين محايدتين ، ودون أن يطرف لى جفن ،ال أدرى لم ،ربما ألننى أعرف جيداً أنه المجال لهرب فالمدينة كلها كما يبدو تحمل عدا ًء لى ، ومهما تغيرت أو بدلت مالمحى فليس هناك مجال للهرب إلى مجهول ال أعرفه ،ولم أعد أرغب فى مالقاته والتعامل معه ، لم تعد المغامرات تستهوينى ،وحتى النجاة من الموت المتربص بى هنا لم تعد لها أهميتها كما كنت من قبل . هل هو زهد فى الحياة ؟ أم هو تسليم للقدر ؟ أم رفض لنمط لم أعد أرغب فيه ؟ ال أدرى بالضبط ولكنى أشعر خاصة اآلن بنوع من السكينة يشمل روحى ، ويفيض على عينى وسماتى . انتبهت لعينى قط أسود كبير كان يعتلى سطح بيت مقابل للعربة تحدقان بى لحظة فتح الباب بالضبط ،رأيت العينين 108
تتسعان والوجه مالمحه تنقبض ،ويتوقف عن الحركة محدداً اتجاه نظراته على وجهى ،يستدير متجها ً إلى أدنى بدالً من مواصلة السير على السطح ويختفى عن عينى ،لم أعط لهذه المالحظة أهمية ،اعتدل الجنديان ،تمالكا نفسيهما ،قبضا على سالحهما بقوة بعدما أغلقا الباب وأحكما رتاجه ،أكملت العربة سيرها حتى وصلت إلى الساحة ،وتم اصطحابى إلى القفص الحديدى من جديد ،كانت الوجوه كما رأيتها أول مرة متربصة األعين ،منفلتة األلسنة ،حادة السباب ،بينما الرجل المتولى وحشى النظرات ينظر نحوى بعداء قاهر الحد له ،وحاكم المدينه السيد سليمان على كرسيه الذى تعطفت وأجلسته عليه متسامحا ً معه وعافيا ً عن أخطائه التى أبلغتنى بها األجهزة الرقابية وواجهته بها قاصدا ً عزله ومحاكمته ،لكنه تذلل وتعطف وتوسل أن أعطيه فرصة أخرى ولن أرى منه إال الخير ،وهاأنا أرى منه مالم أحلم برؤيته من قبل ! غريب أمر هذا اإلنسان الينهش إال اليد التى تمنحه وتترفق به ،أما اليد العصية القاسية الفطرة فيهاب اإلقتراب منها ويبتعد عنها خوفا ً من بطشها ،ودوما ً التأتى المصائب إال من القريبين منك الذين توغلوا فى خصوصيتك ،وعرفوا مالم يعرفه اآلخرون ،ومن هذا المنطق يهاجمونك ويتربصون بك لمعرفتهم الجيدة من أين يهاجمونك وكيف . قام ممثل اإلدعاء نيرانه نحوى -: -
المتولى من جديد متأججا ً موجها أتون
اليوم آيها السادة نتكلم عن ركن أخر من أركان الفساد العديدة لهذا المتهم الماثل أمامنا وهى فساد اإلعالم ،هذا الجهاز الشديد الحساسية ألى بلد ، والذى من خالله يمكن توجيه الرأى العام ،وتحديد ذوق الشعب ،وتشكيل شخصيته وتصرفاته ،فلم 109
يعد هو المتفرد برؤيته وأهدافه النبيله كما كان سابقا ً فى عصور أخرى ،بل صار مطية للفساد فى الذوق ،واإلنحطاط فى األخالق ،وانهيار القيم ،بما مهد إلفساد الذوق العام ،وانحطاط القيم ،وتحويل الشعب المتدين بطبعه والمحافظ بفطرته إلى شعب اله بعيد عن الدين والقيم ،يهتم بتوافه األمور ،ويترك جسامها ،تؤجج نيرانه مباراة كرة ،فيثور ألجلها ويتعارك ويشعل الحرائق بسببها ،وتعتدى دولة خارجية على حدوده فال نراه يأبه أو يتساءل كيف سنعالج الموقف ،وكل هذا بسبب السياسة اإلعالمية الموجهة ،والتى كان هدفها غير المعلن إبادة روح هذا الشعب للسيطرة عليه ،وبالتالى إطالة أمد حكم فاسد ،وإال فمامعنى أن نسمع فى إحدى التمثيليات ألفاظا ً يعاقب عليها قانون العيب ،ألفاظ تدخل البيوت وتصفع آذان األطفال والنساء بكل بجاحة وبرود . ماذا تقول آيها المتهم و أنت رأس الفساد ؟ وماذا يمكن أن تقول أو تدافع أو حتى تفكر فى اإلنكار؟ ماذا يمكنك أن تقول ؟ أريد ان أسمعك أريد أن أجد مبرراً واحدا ً يمكنك أن تنطق به . تعالت هتافات الخلق المتراصين فى تالحم شديد فى أرجاء المكان -: يسقط رأس الفساد اإلعدام لرأس الفساد110
أشار السيد سليمان بيده مرات إلعادة الهدوء للمكان استعدادا للتحدث ،إال أنه انتفض فى مكانه بقوة ناقالً ثقل جسده على قدميه بالتبادل ،ورأيت المتولى ممثل اإلدعاء يفعل مثله ، وسرت العدوى إلى بقية الشخوص المحتلة للساحة كلها ، وارتفعت أصوات إستغاثة مبهمة ،وأخذ البعض يهرول ، يتصارع من أجل الفرار ،والجند يحاولون التشبث بباب القفص وهم يتقافزون فى أماكنهم ،والسالح يعوق حركتهم ، ورغما ً عنهم يبتعدون وهم يدقون األرض بأقدامهم بقوة ، والقفص يفتح وعشرات القطط تتحرك فى سرعة ودربة عالية هنا وهناك ،مسيطرة على الموقف تماما بعد أن تحكمت فى الجند المنتشر فى كل مكان أعلى البنايات المحيطة ،وخارج األسوار وداخلها ،وحول القفص والسيد سليمان والمتولى . وقفت محدقا ً فيما يجرى منتظراً نهايته ،غير مبال بما يجرى ،شاعرا ً أن األمر كله لم يعد يعنينى ،انتبهت إلى القطط تفتح لى طريقا ً بين الخلق الفارة ،وتقدمتنى إلى باب الخروج بين الهرج الحادث والفوضى الضاربة بثقلها فى أرجاء المكان . بثقة وهدوء تحولت هيئتى فوراً إلى قط يشبههم تماما ً ، وانطلقت وسطهم إلى الباب الخارجى وهم يسيرون أمامى ، خطواتهم متجهة إلى طريق ال أدرى الى أين ،أسير بينهم وقد توقف إدراكى أمام شىء واحد هووجوب طاعتهم واإلنقياد لهم وسط هذا الطريق المترب المهجور الذى ال يبدو له انتهاء ،والذى اليوجد فيه إال تراب ،وأفق يعلو غباره بال توقف ،وسماء زرقتها حانية ،وصمت التقطعه إال أصوات الحركة الممتدة بال توقف ،إلى أن رأيت الطريق الرئيسى السريع الذى يربط المدن ببعضها البعض ،عرفته فوراً وغزا قلبى شعور جامح بالنجاة .
111
( ) 14الكشف الجديد
بدت عربات القيادة فى ركن من الطريق هرمة الروح ،كسيرة النفس ،مفتوحة األبواب ،رأيت على البعد العيون مجهدة والوجوه مصفرة واألجساد على مايبدو منهكة ،أشرت لهم بيدى بكل ماأوتيت من أمل ،أطلقت صوتى رغم الوهن والتخاذل الذى يمتلك روحى من طول المسير ومن المعاناة التى لم يعد جسدى يتحمل جهدها ،هتفت مرات عدة قبل أن ينتبهوا لى ،تتهلل الوجوه ،يتحول السكون المهيمن على المكان إلى فوران ،تتفجر األرض بالحركة ،أرى وجوها هشت لرؤياى ،هبت واقفة تؤدى التحية ،متسائلة أين كنت ،وكيف نجوت ،ومهنئة على السالمة والنجاة من العاصفة . رغم الفرح الجامح بوصولى إليهم أو وصولهم هم الى ، حدقت فى الوجوه صامتا ً ،شاعرا ً أننى ال أريد اإلنغماس فى أحاديث أعرف أنها زائفة وبال معنى ،أخذت أرقب األعين باحثا ً عن الصدق فى طياتها ،دون جدوى . أحنيت رأسى شاكرا ً لهم كلماتهم الطيبة فى كلمات قالئل ، سألتهم كيف نجت القافلة وهل هناك مفقودون أم ال ،استمعت اليهم راغبا ً عن اإلنتباه لما يقولون ،بعدها طلبت اإلجتماع فوراً برؤساء أركان الجيش لبحث التحرك إلى المدينة التى تركتها توا (مدينة العيون ) ،والتحفظ على حاكمها السيد سليمان وكذلك ممثل اإلدعاء المتولى ذى العيون الوحشية النظرات !
112
بدت البهجة التى خامرتنى بالعودة لمكانتى وسلطانى من جديد بهجة باردة مثلجة القلب الإحساس فيها ،كذلك األشياء بعد عودتى بدت مختلفة غاية اإلختالف عما كانت وأنا طريد ومتهم ومعرض للموت ،شعرت أن الظلمة التى كنت فيها قبالً قد أشرقت وصارت نوراً اليغيب ،واألفكار التى كنت أعتنقها وكنت أدور فى فلكها تحررت عن ذى قبل ،رغم أن سماتها و هيئتها الكئيبة ذات الوجه المنكسر والقسمات الذليلة الخاضعة المستكينة تحورت إلى هيئة أخرى سماتها تفور بالكبرياء والعظمة واأللق الدائم ليل نهار والعنفوان والقوة التى البد منها لمواجهة األمور كما ينبغى لك أن تواجهها . الشىء الذى أراحنى قليالً أننى كنت أعى تماما ً هذه النقطة بالذات ،فمناقشة أمر من األموروأنت تعتلى الكرسى الكبير تختلف تماما ً عنك وأنت التمتلك الجرأة على نطق ماتريد ، وتخشى العقاب الذى يترصدك ويحدق بك وينتظر منك هفوة ليلتهمك بال رحمة . الكرسى العالى له هيبة وصولجان ،ويمنح صاحبه مهما كان هذا الصاحب كيانا ً آخر غير كيانه اإلنسانى البسيط ،فتراه األعين من خالل منظار مكبر ،وتعامله من خالل ذات المنظار ،فهو القادر بحكم منصبه على حل أعتى األلغاز ،وهو القادر على مجابهة التمرد مهما كانت بواعثه وأساليبه ، ويصدر القرارات مهما كانت قسوتها وجفافها وربما ظلمها وظلمتها ،عليه أن يفعل هذا وإال أتهموه بالضعف والخوار وعدم المقدره على أداء عمله بكل تبعاته وخطره المشكلة أن االنسان مهما كانت درجة نقاءه وميله إلى العدل والمساواة يجد نفسه مندفعا ً بفعل تيار جامح السبيل إلى الفكاك منه للتعامل مع معطيات أخرى وأفكار مختلفة ،ربما لو خير أمامها ماأختارها والفكر فيها ،ولكنها السكرة التى تأخذ 113
النفس فى دوامتها وتطرحه حيث شاءت فال يرى إال بعينيها واليسمع إال بأذنيها واليحس إال باحساسها ،وهى أيضا المهنة التى رغم زهوها وبهرجة ألوانها وروعة معيشتها محفوفة بمخاطر فقد الشخصية الحقيقية البسيطة السابقة ،والتى مهما حاول بعد تقاعده أن يستعيدها اليستطيع . تم الدفع بقوات من الجيش إلى المدينة فوراً والنجاح فى السيطرة على كل ركن فيها بسهولة ويسر كبيرين وبال أى مقاومة تذكر ،وتم التحفظ على حاكمها السيد سليمان والمتولى ممثل اإلدعاء المجنون الذى ذبحنى بكلماته ونظرات عينيه الوحشيتين ،وفى ذات الوقت زينت الشوارع والساحات وخاصة الساحة الكبرى باألعالم والفتات الترحيب بمقدمى الميمون وكأننى لم أكن منذ ساعات مجرما ً يطلبون القصاص منه !! أما السكان فقد تم منحهم أجازة رسمية الستقبال صاحب الكارسى العالى ،والترحيب به . وفى الموعد الذى تم تحديده ،ووسط حراسه أفراد الشرطة الذين انتشروا على طول الطريق ،وعربات الحراسة المخصصة لمرافقة الموكب .توجهت إلى الساحة الكبرى والتى جرت فيها إجراءات المحاكمة من قبل . كنت طوال الطريق أخشى أن يتظاهر السكان رافضين زيارتى ،أو يقومون بمقاطعة الدعوة والينزلون إلى الساحة ، معلنين العصيان المدنى فى صمت قاطع حاسم ،معلنين رفضهم لحكمى ،ولما سمعوه ورأوه من كلمات عن الفساد والظلم الذى اقترفته طوال فترة حكمى .
114
كنت أناقش نفسى وأجادلها فى كيفية التعامل معهم إذا حدث هذا ،وكيف أضيق عليهم حتى يعودوا للطاعة بال قيد وال شرط . وحينما اقتربت الساحة الكبرى و قبل الدخول تساءلت عن عدد الموجودين ،محاوالً بتر آيات القلق المرتسمة على محياى ، جاء الرد حاسما ً -: -
الساحة ممتلئة عن آخرها كلهم يهتف بحياة صاحب الكرسى
( بالروح بالدم نفديك !! )... محوت عالمات الدهشة التى اكتسحت نظراتى ودخلت مرفوع الرأس ،دائرا ً بنظراتى على الوجوه واألعين المحدقة ،موزعا ً بسماتى الواثقة عليهم فى روية وهدوء كما كنت أفعل كثيراًمن قبل ،بعدها جلست على الكرسى الخاص بحاكم المدينة ،ناقالً نظراتى من جديد بين الوجوه المتالحمة الناطقة بالفرح والسرور لنوالها شرف حضور حفل كبير تاريخى ،يشرفه صاحب الكرسى الكبير . لدهشتى رأيت ذات الوجوه الالعنة لشخصى منذ حين هى التى تهتف بكل الحماس اآلن ! طلبت حاكم المدينة السيد سليمان جاء محنى الرأس خجالً بين حراسه ،ووقف بين يدى متلفعا ً بصمت ذليل اليمتلك معه القدرة وال الجرأة على طلب العفو . سألته أمام الجموع المحتشدة -: 115
-
كنت ترى حكمى فاسدا ً ،فلماذا قبلت االستمرار معى ؟
ازداد رأسه إنحنا ًء على صدره ولم ينبس بحرف عدت أسأله من جديد -: -
رأيتنى ظالما ً ،فلماذا لم تحاول إثنائى عن طريق الغى الذى مشيت فيه ؟
رفع نصف عين إلى وجهى ثم سارع بإرخاء جفنيه على حدقتيه من جديد ،وأيضا لم يرد ،عدت أوجه أسئلتى اليه -: -
تحدثت عن التعليم الذى تم إهماله فى عصرى ولم آبه للنهوض به وتحديثه ورفع مستوى الطالب ، أليس كذلك ؟ أريد جوابا ً أمام هذه الجموع
حدق فى عينى دون أن يمتلك المقدرة على الرد ،قمت واقفا ً وأنا أشير بيدى الى وجهه -: -
لقد عينتك منذ اآلن وزيرا ً للتعليم ،ومنحتك صالحيات العمل بما ترى للنهوض به فى المدة التى ستحددها بنفسك اآلن وأمام هؤالء الخلق جميعا ، وإن لم تنفذ ماوعدت به خالل هذه المدة سأحاكمك هنا أمام ذات الخلق ،مفهوم ؟
بدا فى عينيه أنه لم يع ماقلت ،أو وعاه ولم يصدقه ،أو ربما صدقه وأخذته الدهشة فى طياتها فلم يبد رد فعل مناسب ،وظل واقفا ً برهة متسع الحدقات مفتوح الفم محتفظا ً بشفته السفلى متدلية أعلى ذقنه كاألبله ،ثم مالبث أن أفاق لنفسه 116
ولم يجد حرجا ً فى أن يتقدم نحوى مقدما ً آيات الوالء ،راجيا ً قبول اإلعتذار وطلب السماح والعفو ،وواعدا ً ببذل أقصى الجهد لتنفيذ األمر على خير وجه . بعدها تم استدعاء ممثل اإلدعاء المتولى الذى فوجئت بانطفاء نيرانه واختفاء شروره ،وتحوله إلى بالون قد فرغ من هوائه فانكمش على نفسه فى خزى وانكسار ،حدقت فى عينيه ،رماد الغضب تذروه رياح اإلنكسار . وجهت حديثى للعامة من حوله -: -
هذا الرجل انتقد سياسة اإلعالم ،وقدم مطالب معينة لتصحيح صورتها وتعديل ميلها ،وأنا أوافقه على وزيرا لألعالم ،بشرط أن يحقق نقده ،وأعينه ً ماقال فى فترة زمنية يحددها كيف يشاء ،وإال فالعقاب الصارم سينزل به ،مارأيكم ؟
تعالت الهتافات ،وبدالً من وحشية النظرات رأيت رياضا ً وبساتين وطيورا ً بيضاء تعشش فى عينيه وهو يقدم آيات الشكر والعرفان . تعجبت من هذه النوعية من البشر التى ماإن تملك القرار وتشعر بقدرتها على الفعل حتى تطيح وتبطش وتنكل كيف شاءت بالباطل أو بالحق ،ومتى مافقدت صولجان عظمتها انحنت وعادت تلعق التراب فى خزى. هؤالء كما أراهم اآلن عبيد الظروف والمواقف ،قلوبهم ممتلئة بالحقد والحسد وينتظروا اللحظة التى يقدرون فيها واليعرفون العفو ،وهؤالء أفضل وضع لهم أن يكونوا تحت إمرة من يقودهم ويسوس حركتهم ويلهب ظهورهم إن اخطأوا وهذا مافكرت فيه ولصالح البلد ليس إال . 117
طلبت النداء على ثناء البنت التى رافقتنى طيلة أيام اعتقالى ، تقدمت خجلة الخطوات حيية النظرات تتعثر فى إرتباكها ، منحتها أمام الجميع وسام الشرف ،وقدمت لها الشكر على حسن معاملتها ،وقمت مغادرا ً المكان وسط التصفيق والتهليل والدعاء بدوام حكمى الميمون ونظرتى الثاقبة وحكمتى التى تتغلب دوما ً على غضبى . وطوال طريق العودة كان الهتاف المأثور يرن فى أذنى -: ( بالروح بالدم نفديك ..الخ )وأنا أحدق فى الوجوه العابرة أمام عينى متسائالً ..كيف تتغير المشاعر مابين ليلة وضحاها ،وهل المشاعر فعال تتغير ،أم هو النفاق ،أم إنعدام الرؤية والتصفيق لمن يعتلى الكرسى أيا كان ،والموافقة العمياء على كل مايفعله مادام يعتلى الكرسى ،حتى لو سار بهم الى الجحيم ؟ هل هؤالء الناس يمكن الوثوق بهم واإلرتكان عليهم فى الملمات ؟ وماالذى أوصلهم لهذه الحال ؟ وكيف أغيرهم ليكونوا أصحاب موقف ورؤية وهدف اليحيدون عنه ؟ أم هى طبيعه تطبعوا بها وانتهى األمر ؟ قررت فى أول اجتماع لمجلس الحكماء أن أناقش هذا األمر وأبحث عن الوسائل الالزمة إلعادة تشكيل وعى الناس من جديد ،ليكونوا أصحاب موقف ورؤية وهدف اليحيدون عنه مهما كلفنى هذا ،حتى ولو كان ثمنه الكرسى الذى أعتليه .
118
واستدرت عنهم قاصدا ً الغرب حيث كانت وجهتى قبل أن تضرب العاصفة الموكب ويحدث ماحدث . كانت أنباء ماجرى قد تداولتها كالمعتاد وكالت األنباء والصحف ،ضخمت ماشاءت أن تضخم ،وزادت ماشاءت أن تزيد ،وحللت وفسرت واستنتجت ،فقالت الصحف الحكومية أن هناك مؤامرة كبرى يتعرض لها الوطن فى شخص الحاكم ، وغمزت صحف المعارضة بكلمات بين السطور تشى بغضبة الشعب وانتظاره للحظة التى يتحرك فيها ليقضى على الطغيان . وبطبيعة الحال كان كل ماينشر هنا وهناك يأتينى ملخص منه ،أنظر فيه سريعا ً وأعطى التعليمات ،موجها إذا احتاج األمر للتوجيه ،وقد رأيت هذه المرة أن يقام استقبال حافل فى (مدينة النسائم ) غرب البالد ليكون رداً على المعارضة ،وفى ذات الوقت رسالة للعالم أن الشعب يؤيد ويبارك خطواتى المباركة ويشيد بحكمتى فى مواجهة األزمات . تحرك الموكب متجها إلى المدينة إذن ،مع متابعة دقيقة منى مع اإلدارة المختصة لكل صغيرة وكبيرة فى اإلحتفال ،حتى إذا ظهرت مشارف المدينة رأيت على أبوابها ماسر قلبى وأسعد وجدانى . فرقة خيالة على الجانبين برايات عالية ترفرف فى السماء ، حاملة صورى وعلم البالد ،وفرقة شعبية تدق الدفوف والطبول بأغنيات كتبت خصيصا ً ألجل هذه الزيارة وتمجيد مقدمى ومدح أعمالى ،وكبار المدينة يقفون مصطفين بانتظار ظهورى ليقدموا آيات اإلكبار والتقدير وعلى رأسهم حاكم المدينة الذى تقدم بآيات الترحاب والسرور لمقدمى الميمون ،وعيناه تصرخان أنه يكذب وينافق والينطق بكلمة واحدة 119
تحمل رائحة صدق أو لمسة ود ،تبسمت له واطمأننت على حاله الذى اليهمنى فى شىء ،وكذلك على أحوال المدينة ومن فيها ،وتحرك الموكب إلى الداخل حيث الشوارع تعلوها أقواس نصر بألوان بهجة وفرح مكللة هامات الطرق ،وتحتها جموع غفيرة من البشر بهتافات تهز قلب الكون (بالروح ،بالدم ،نفديك ..الخ ) مضينا إلى مقرالمدينة الرسمى كما طلبت وبدأت المناقشات . رغم يقينى السابق أنه الستمرار اإلستقرار من بعدى البد أن يكمل ولدى مهمتى إال أننى بعد أن حدث ماحدث قلت كثيرا حماستى لهذا األمر . هناك أشياء كثيرة لو فعلتها فلن يحتاج الشعب لولدى أو غيره ،ولن أحتاج أنا لحماية نفسى منهم إذا تركت الحكم ،والقانون وحده سيكون كفيال بمعالجة أى ميل أو جور من أى حاكم ، والوقوف فى وجه الظلم مهما كان عنفوانه ،وصد أى افتراء مهما عظم ،وتلك يجب أن تكون مهمتى األولى ..إعادة تاهيل هذا الشعب من جديد ! أما ابنى وتوليه األمر من بعدى فتلك أصبحت مسألة ثانويه رغم أنف حفصة زوجتى ،وحينما ألتقى بها يمكننى مناقشتها بهدوء ودون اندفاع وإقناعها بما أراه . كانت مدينة النسائم ألنها فى الغرب بعيدة عن المدن الرئيسية وعن بؤرة إهتمامها تعانى من نقص فى أشياء عدة ،وذلك لضعف الميزانية المقدمة لها ،لذا كان أول قراراتى زيادة الميزانيه المخصصة لها فوراً ،وطلب تقرير إسبوعى عن المشروعات والخدمات التى يجب تقديمها للناس وبال إبطاء ، وبعد ذلك وبعد أن انفرجت حدة التحفظ وتعالت الضحكات 120
والقفشات الرقيقة المحت بصورة عارضة إلى ولدى ، ووعدنى الرجل خيرا ً ،وأنا أرى فى عينيه رفضه البات لهذا األمر وتصميمه على معارضته بكل قواه . لم أبال به ،فمصلحته تحتم عليه استمرار الحكم الحالى ، وهذا سيتحقق فى حالة تولية مسعود ،فال خوف إذن من معارضته . قمت سريعا بزيارة بعض المصانع والشركات . كلها يعانى ويشكو من زيادة الضرائب وارتفاع أسعار المواد الخام والكهرباء والماء ومستلزمات اإلنتاج وأجور العمال وعدم قدرتهم على اإلنتاج فى هذا الجو الغائم الشديد السواد ، خاصة أن المنتجات األجنبيه المستوردة تكتسح السوق وبأسعار زهيدة ،مما يضرب أى فرصة لإلنتاج ،أو تشغيل العمالة المحلية سألت -: -
وماذا ترون ؟
قيل -: -
إيقاف اإلستيراد للمنتجات البديلة التى تصنع محليا ً
أصدرت قرارا ً بهذا و طلبت البحث فوراً فى توفير المواد الخام وكذلك مراجعة أسعار الكهرباء والماء أو تقسيط أسعارها للنهوض بالصناعة من كبوتها ،وأكدت على ضرورة التصنيع وعدم توقف المصانع بأى حال ،وشددت على الرجوع إلى فورا ً عند مواجهة أى مشكلة تعوق عودة الصناعة لسابق عهدها .
121
بعدها غادرت المدينة قاصدا ً العودة إلى العاصمة وفى رأسى أشياء وأشياء ،لعل أهمها مناقشة والبحث عن الوسائل الالزمة إلعادة تأهيل الشعب كما قلت ،ليعود من جديد إلى روحه القديمة وإلى قدرته على الرؤية ،واتخاذ الرأى الصواب ،وكذلك محاولة عالج أوجه القصور الموجودة فى الخدمات .
()14
مرض ليل
ال أعرف لماذا كنت أخشى المجهول دوما ً . أشعر أن هناك شىء ما ينتظرنى ليقبض روحى ،يمزق شرايينى ،أو يفتت كبدى ،شىء ما ال أدرى كنهه وال أميز سيماه أو حقيقته ،أنتظره ربما خلف باب ،أو داخل مركبة ، أو وسط الطريق . ونتيجة لهذا اإلنتظار الممض كنت أرانى فى حالة قلق داهم ، أتربص بالنظرات وأهتم باللفتات وتشدنى جداً اإلشارات والتليمحات التى ربما تحمل مدلوالً أو شفرة أو إتفاقا ً على وشك التنفيذ ،فترانى لحظتها أبالغ فى رد الفعل إلى درجة الهيستريا ،واليهدأ خاطرى وتستريح نفسى إال بعد الوصول إلى حقيقة ماجرى مهماكانت . لذا يقول من حولى همسا ً أنى أهتم بتوافه األمور ،وأتوه فى سراديب التفاهات . 122
وال أبالى بالرد ،فعادة يكون الهمس أقل من أن يصل الى ، لكنها المخابرات سامحها هللا . هذا من الخلق حولى ،أما مفاجآت القدر فتلك قصة أخرى تهزنى هزا ً ،أرانى أمامها أضعف من حجر منبوذ ملقى على الطريق ،أو ريشة بلهاء تتالعب بها أيدى الهواء بال مباالة ، وقد فوجئت اليوم بمرض ليلى ففجعت ،بكت سعاد ومألت الوجود عويالً وأصفر وجه عادل وهرعا ً إلى حفصة زوجتى -: -
البنت تصرخ وتشكو رأسها
استدعيت الطبيب فورا ً ،اكفهر وجهه بعد الكشف وأمر بنقلها فورا ً للمستشفى ،دك قلبى خوف داهم ورأيتنى مثل سعاد أريد أن أترك للدموع مداها وللعويل دروبه لوال الوجوه المتربصة من حولى ،هرولت حفصة وسعاد وعادل معها وبقيت وحدى أتابع عملى وعقلى هناك معهم وبينهم وعينى التريان إال دموعا ً وجنائز وأحزان ودنيا يملؤها السواد ،وكلما أدرت وجهى إلى ناحية طن صوت خشن فى أعماقى ..لو جرى لليلى شىء سأموت معها .
( ) 16بريق الصحو
صارت فكرة البحث عن الوسائل الالزمة إلعادة تأهيل الشعب ليعود من جديد الى روحه القديمة وإلى قدرته على الرؤية ، واتخاذ الرأى الصواب مرافقا ً اليغادر مجلسه فى صدرى .
123
ال أدرى حتى اآلن كيف احتلت رأسى . ولماذا تغيرت نظرتى إلى الناس بهذه الصورة . هل المحاكمة التى رأيتنى أقف فيها موقف المتهم هى السبب ؟ أم إحساسى أن هذه المحاكمة لم تكن إال بروفة لمحاكمة كبرى لن ينفعنى ولن يساعدنى فيها أحد ،وسوف أواجه فيها الحق سبحانه ،ولن أفلت من سؤاله عن كل مافعلته ذرة ذرة ؟ أم هو اإلشفاق عليهم حينما رأيت منهم مارأيت من انقيادهم األعمى لمن يقودهم ،مهما كان هذا القائد ،ومهما كانت الوجهة التى يقودهم إليها ،وشعرت بمسئوليتى المباشرة عما وصلوا اليه ؟ أم هو إحساسى أن تاريخ هذه البلد يحتم أن تكون غير ماهى فيه األن بالمرة ؟ أم ألننى كبرت ولم يعد بينى وبين الموت إال القليل ،فقررت أن أكفر عن سيئاتى بهذا العمل ؟ ربما آه كم كانت فترة االعتقال والمحاكمة رغم مرارتها رائعة ، وغيرت تماما ً من أفكار كنت أظنها صائبة . لنرى ماذا يصنع الغد
124
()17
بدء خطة التأهيل
كنت رغم كل شىء أفكر فى أمر ولدى مسعود . أريد مثل غيرى من األباء أن اطمئن على مستقبله قبل أن أودع الحياة ،لكنى كنت أخشى كل الخشية أن أحمله مسئولية شاقة تحتاج لجهد يفوق قدراته مرات ومرات . قديما ً وتحت الحاح حفصة أمه كنت أريد أن أهبه مكانة رفيعة تليق به ،وأضع بين يديه صولجانا ً شامخا ً وكرسيا ً عاليا ً يفرض على الجميع طاعته والوالء له ،لكننى اليوم وأنا أرى الموضوع من زاوية جديدة أرى مسئوليات جسام اليجب أن يتصدى لها إال قلب حديدى ،وعزيمة التفتر ،وعقل اليعرف المستحيل ،وهذا كله اليملكه ولدى ! إن تغيير الناس والظروف المحيطة التصلح لها البيئة التى نشأ فيها ،فهو بحاجة إلى الدعة واالسترخاء ،وإصدار األوامر ، وإنتفاخ األوداج ،وتقطيب الجبهة ،ونقد كل شىء ،واإلصغاء الجيد جدا ً لوالدته فقط ،خاصة وهى تحدثه عن مكانه الجديد المعد له خلف أبيه على الكرسى العالى . وقد كنت إلى ماقبل إعتقالى فى مدينة العيون أرى رأيها تأثراً بإلحاحها الرهيب وزنها الذى اليهدأ فى أذنى ،طالبة تمهيد الطريق جيدا لتولية مسعود ،ألسباب عديدة كانت تعيد وتزيد فيها ،وأهمها أن هذا الشعب اليأبه إال لألقوياء ،وطالما أنت قوى وبيدك السلطة فلن يقترب منك لسان أو يد ،لكن ويل لك وويل ألهلك وكل معارفك معك لو تنازلت عن هذه السلطة 125
لغيرك ،ساعتها سوف ينبشون قبرك إن مت أو ينهشون لحمك إن ظللت حيا ! لذا التجد مسئوالً سابقا ً عندهم ،كل مسئوليهم عرفوا هذا جيدا ً ،لذا لم يتركوا السلطة بمزاجهم ورغبتهم ،بل بحكم الموت ،أو الثورات المتتالية ،لذلك -والكالم مايزال لها -لو تنازلت البنك فلن يجرؤ مخلوق على مسك بسوء ،بصفتك أبو الحاكم ،ولك من الحصانة والمنعة مايصد أى هجوم أو حقد ظاهر عليك ،ثم أن ابنك هذا قد ترعرع فى الجاه والسلطة وإن لم يتول الحكم فسوف يشقى بعدك ،وليس ببعيد أن يحملوه أخطاءك ويحاكموه عليها ،وإن لم يكن لك أخطاء اخترعوا لك أخطا ًء ليحاكموه عليها ،وهاأنت ترى البالد من حولنا وماتفعله بحكامها السابقين . وقد كنت حقيقة أسمع لها واقتنع ،على أساس أن الولد يمكنه الجلوس على الكرسى ومراقبة الحكومه ومتابعة عملها وإصدار توجيهاته بخصوصها ،وينتهى األمر عند هذا ،لكن الرؤية تغيرت تماما ً بعدما حدث .إنكشف األمر لعينى كما لم ينكشف من قبل ،الجلوس على الكرسى العالى ورطة مابعدها ورطة ،ومسئولية من أخطر وأقسى المسئوليات ،ولن ينجو منها إال من يبذل روحه خالصة ألجلها ،خاصة فى ظل هذا الوضع الذى رأيته بعينى ،وعاينته بنفسى ،بعيداً عن التقارير والملفات واألقوال المحفوظة بأن -: -
كل شىء تمام
-
وبانتظار أوامر سيادتك
-
وحسب توجيهات الكرسى العالى
-
والرؤية الحكيمة لصاحب الكرسى 126
والشجاعة والشهامة وكل الصفات المجيدة التى يلصقونها بأى جالس على الكرسى ولوال اإلحراج واالحساس بأن االمر سيصبح مكشوفا ً جدا لشبهوه باألنبياء والمرسلين وقد حدثت أشياء مثل هذه فى بعض البلدان القريبة وغيرها الكثير . رغم أن إظهار الجانب اإلنسانى لصاحب الكرسى أولى وأعقل . إظهار نقاط ضعفه كبشر ونقاط قوته ،والتركيز على قدرته على أداء واجبات وظيفته أنفع وأولى . أما إخفاء العيوب فى أوج قوته وسلطانه إلظهارها بعد أفول شمسه وفضحه فى كل األنحاء فشىء مقزز اليقبله إال مجنون ،هذا باالضافة الى أن فيه ضرر بالغ بالبلد ومصالحها . لذلك فإننى اآلن أقولها جاداً -: لقد كرهت الكرسى ،والجلوس عليه ،وتحمل مشاقه الحقيقية الصعبة ،وليس مشاكله السابقة التى كنت ال أعلم عنها شيئا ،وال أمتلك القدرة على إصالح أى منها ،ربما لتكاسلى ،وربما ألن التقارير والملفات ال تذكرها ،وتكتفى بنقل محبة الشعب لى رغم أن الحقيقة أنه يكرهنى أشد الكره ، ووضع األكليشيه الجاهز (..كل شىء تمام ) ..رغم أن كل شىء فى حالة يرثى لها ،وقد كنت نائما ً مطمئنا ً والبلد كلها تئن ،ولم أنتبه إال يوم اعتقلت ورأيت المشاعر الحقيقية تعلو الوجوه ،والكلمات المكبوتة تخرج قوية هادرة ،والعيون تطلق شرر كراهيتها وغضبها بال خوف ،وألن األمر كان أخطر من مجرد الثواب والعقاب ألنه يخص شعبا ً بكل طوائفة 127
فكان البد لى أن اتحرك جادا لفعل شىء ،وسأفعله لعلى بهذا أصلح أخطاء سنوات ماضية لم أفعل فيها شيئا ،اكتفيت فيها بالقاء الخطب الحماسية والكلمات الرنانة التى لم تكن تعنى إال مزيدا ً من الكراهية ،وشعور العامة أننى أبيعهم الوهم ، وأمنحهم السراب لقاء استمرارى فى الحكم .لكن المشكلة اآلن تكمن فى امرأتى حفصه وفى الولد مسعود أيضا الذى تمكنت األمنية من عقله اآلن رغم إعالنه رفضه لها مراراً ،وصار يتصرف كولى عهد قادم المحالة ،وكذلك أمه التى التقبل مجرد فرض أن ابنها اليصلح لهذا المنصب خاصة فى األيام القادمة لجسامة المسئوليه التى ستلقى عليه ،وقد حاولت بعد عودتى وفى لحظة صفاء أن أنقل اليها أفكارى هذه وأطرح عليها مشروعى اإلصالحى الذى كتبته وجهزته للعرض على كبار المسئولين فى الدولة ليعرف كل منهم دوره ويتحمل فورا ،إال أنها ثارت ثورة لم أرها منذ مسئولياته ويبدأ التنفيذ ً زمان ،رمتنى بشرر نظراتها وجارح حروفها غيرمبالية بى وال بمشاعرى وكيانى كرجل أو حاكم كبير ،وبدأت فى توجيه اللوم والتأنيب إلى ،بل ورمتنى بالحمق وقلة العقل والتفكير المعوج الذى سيضيع الولد ،ويضيعها ،ويضيع البلد معها ،فالحلول الكثيرة التى كتبتها مجرد أحالم شيخ عجوز مخرف ،لم يعد يرى من وجوده إال الموت ،ومادام كذلك فليترك الحياة ألصحابها ،بدالً من ضياع الكرسى والسلطة والجاه على يديه ،وربما عرض الجميع حتى نفسه للمحاكمة واإلعتقال بتهم اليعلمها إال هللا . سرا إذا قلت أن كالمها قدترك أثرا فى نفسى ، وال أخفى ً وجعلنى أعود مرة أخرى للتفكير ،ولكن هذه المرة محاوالً التوفيق بين الصالح العام والصالح الخاص ،وبمعنى آخر إتمام مهمة االصالح ،وإشراك ابنى فيها منذ بدايتها ليكون شريكا ً فيها ،وقائما ً عليها ،ومسئوال عنها ً ،وبذلك استطيع 128
تنفيذ مارأيته ضروريا ً لهذا البلد ليعود كما كان وأكثر ،وفى ذات الوقت فتح الباب على أقصى اتساعه للولد ليكون امتدادا ألبيه ،بل ويرحب به أيضا بصفته صاحب مشروع إصالحى سيعود على البلد كلها بالخير . وهكذا قررت التنفيذ برؤية واضحة وخطة متكاملة وهدف محدد . قمت بدعوة مسئولى المؤسسات المختلفة ( التعليم والقضاء وواالعالم و..و..الخ ) وعرضت عليهم األفكار المكتوبة ، وناقشتهم فيها ،كل على حدة وطلبت من كل منهم تطوير هذه األفكار ،ووضع خطط محددة بنقاط لها أمد زمنى يتم السير عليه باشراف مسعود ،وعرض األمر على الشعب بعدها ليشاركنا المشروع النهضوى الكبير لخير البلد وأجيالها القادمة
()18
خطة حفصة
الشىء الذى لم امتلك القدرة على تغييره أو إيقاف خطورته مهما أوتيت من العقل أو القوة هو تفكير زوجتى حفصه ، خاصة حينما كانت تطلب شيئا ً ،فإنها لحظتها كانت تتحول إلى ميكروفون اليعرف الصمت ،والى جهاز رصد اليعرف السكينة والهدوء ،فتراها تحصى الحركات والهمسات وربما 129
الخواطر أيضا ،وتدور حولك وتسير خلفك وتسير أمامك واليمنع أبدا أن تقفز فى صدرك وتنبش فى أعماق مشاعرك وتلكزك فى كل جزء من جسدك تطوله يدها ،افعل كذا ،افعل كذا ،افعل كذا ،وياويل ويلك إن لم تفعل ،زعابيب ورياح وبرق ورعد يمألون البيت ،وتصبح الحياة لحظتها التطاق . وألننى فى بداياتى األولى كنت ال أمتلك القدرة على طالقها لما قد أتجشمه من صعاب خاصة مع عائلتها الغنية ذات الجاه ، وما قد أراه من بأس أنا فى غنى عنه ،فقد كنت أتحاشى التصعيد معها ،وأتركها تتكلم كما تشاء ،وأفعل أنا بعيداً عن عينيها ماأشاء بحذر شديد حتى التصل إليها ولو ذرة من حرف جامح من هنا أو من هناك ،ثم بعدما صرت صاحبا ً للكرسى صارت األسباب التى أتعلل بها لعدم مواجهتها مختلفة كل اإلختالف عن ذى قبل ،فهناك أعين راصدة لكل حركة تصدر منا ،ويمكن بسهولة أن تنتشر فى ربوع البلد وتسىء الى أوال ،وقد تقلل من هيبتى ومن الصورة التى يجب أن ترانى العيون عليها ،خاصة أن مجتمعات كمجتمعاتنا يهمها جداً الشكل الخارجى والهيئة الظاهرة لألسرة ،أما مايجرى داخل الغرف المغلقة فال يهم فى شىء إال إذا تسربت الروائح العطنة وانتشرت وزكمت األنوف ،فلحظتها تكون الطامة الكبرى ، حيث تتأجج النيران وتشتعل بال هوادة وال فتور أياما عدة ، إلى أن تعود فتنطفىء مرة واحدة كأن لم يكن هناك شىء ، لذلك فمن أشد الذكاء حينما يتكهرب الجو وتغشى القلوب غاشية الغضب وتمأل األفاق حروف فضيحة ما هنا أو هناك فان أشد الذكاء أن يلتزم صاحبها الصمت ،يكتم مشاعره وآهاته وحروفه الباكية أو الغاضبة فى صدره إلى أن تمر الريح العاصفة ،بعدها يعود إلى طبيعته وطبيعة عالقته بمن حوله ،كأنما لم يحدث شىء ،إال منصب صاحب الكرسى الكبير لسبب بسيط جداً ،أال وهو تربص الجميع به ،فمن 130
العار وأنا أعى هذا جيدا أن أترك لهؤالء فرصة التوغل إلى حجرات بيتى ،واإلنصات إلى حروف زوجتى الصاخبة التى التعرف الهدوء مهما تكبدت من ألم تحملها والتعايش مع حروفها ،وهذا اليعنى بحال أن كل تصرفاتها التطاق ،فهى والحق يقال حينما تكون راضية النفس تمأل البيت راحة وسكينة وودا ً مقيما ً ،تمأل السماحة البيضاء وجهها ،وتنثر عيناها البسمات ،وتتطاير حولها الحروف بأجنحة الرضاء والسرور. المشكلة كلها تقع حينما تمسك عليك خطأ ما ،فهنا لن تتركك دون تأنيب ولوم وعتاب وتوبيخ وماإلى هذا من مسميات ، وآخر مرة تم معى هذا بعدما عدت من مدينة العيون ونجوت من اإلعتقال ،بعدها ظلت أياما تهاجمنى لعفوى عن السيد سليمان والمتولى ،وتكرر أنه كان يجب معاقبتهما باإلعدام فورا ً ،قائلة أنه مادامت نيتهما كانت إعدامك فكان يجب عليك الرد بمثل مافكرا فيه ،أما هذا التراخى فلن تجنى منه إال الندم والحسرة ! وأيضا حينما تريد شيئا فأمامى أمران ،أما أن البى طلبها فورا أو تصبح الحياة جحيما ً ،وهى للحقيقة أيضا التعرف حداً للغضب ،وال تقف عند لحظة للتراجع أو اإلستسالم وقانونها األزلى ..أما أن أنفذ ماأريد أو الجحيم !. وقد كان كل هذا مقبوال إلى أن أوحت إلى بتوريث مسعود بعدى كصاحب للكرسى العالى حتى ال يخرج األمر عن عائلتنا بحال ، وألسباب كثيرة أعتقد أننى ذكرتها قبالً وللحقيقة أيضا وألننى رأيت أسبابها منطقية فقد بدأت فى اإلعداد لهذا األمر ،إلى أن حدث ماحدث فى مدينة العيون ،هناك تغيرت أفكارى ورؤاى بصورة كبيرة ،رأيت حقيقة أخرى غير التى كنت أظننى
131
أعرفها ،حقيقة أخرى واضحة وضوح الشمس تقول لى ..انظر وتدبر إذا كنت تريد النجاة . رأيتنى أحمل مسئولية أمام نفسى أوال ،وثانيا ً أمام أجيال كثيرة قادمة ،فقد انتبهت لسلوكيات غريبة عن عرف الشعب وتاريخه وحياته طوال سنوات عمر البلد ،سلوكيات اكتسبها من أطراف شتى وبرع فيها ،هذه السلوكيات المشينة هى الشىء الوحيد الذى برع فيه طوال سنواته األخيرة وتفوق فيه بالحدود . وانتبهت إلى أنه لو ترك هكذا سينحدر أكثر إلى درك اليعلم إال هللا مداه ،العدوانية صارت سمة رئيسية من سماته ، والالمباالة ،وغياب الضمير وسيطرة النفاق و..ماذا أقول أكثر ؟ لذلك كانت مهمتى التى نذرت روحى لها هى البدء فى تغيير كثير من هذه السلوكيات ،وإعادة الضبط والربط ليعود الشعب كما كان منذ قديم ،شعبا ً له موقفه وأراءه وتفكيره الذى يتسم بالعقل والحكمة واإلباء والشرف والكرامة . وضعت خطتى على أساس هذا ،وجعلت من مسعود مشرفا ً على التنفيذ حتى يكون مؤهالً للتحكم فى زمام األمور من بعدى ،إال أنها -حفصة زوجتى -قد فاجئتنى بقرار جديد لم يخطر لى على بال من قبل ،فقد كنا فى لحظة صفاء نطل من شرفة القصر على إلتقاء نور البدر مع السكينة المترامية فى براح الخضرة ،وألق الصفاء يضمنا وخرير ماء يتدفق حانيا من نافورة فى مكان ما بقربنا حينما شق صوتها كل سكون الكون هاتفا ً -: -أتعرف أننى لم أعد أتحمس لمسعود ؟
132
كنا قد انتهينا منذ لحظات من لقائنا الزوجى ،ورمتنى كعادتها بكلمات غامزة المزة حول قدرتى التى لم تعد كما كانت رغم األدوية التى أتناولها سراً من وراءها ،شعرت بقلق خفى تجاوزته فورا قائالً -: كيف ؟ الولد يلهو ويلعب ،واليضع األمور فى نصابها مازلت ال أفهم الولد هكذا لو تسلم الكرسى غدا ً سيخلعونه بعد الغد المهمة التى كلفته بها ستمنحه الفرصة للنضوج وتحملالمسئولية منذ كلفته بها لم يفعل شيئا ًتقريرا عما يتم أوال بأول سوف أزجره وأطلب منهً لدى فكرة أفضل حتى التغرق السفينة بكامل ركابها وماهى ؟ زوج ابنتنا عادل إنسان عاقل ورزين ويتحمل المسئولية ،وفوق هذا فهو أصيل لن ينقلب علينا أبدا ،ثم أنه ليس من عائلتنا وهذه ميزة ،حتى اليقال أنك قد أورثت ولدك الكرسى رغما ً عن أنف الناس وولدك؟ ولدى سيكون نائبا ً له ،ومتى نضج واستحق أن يوكل اليهاألمر تنازل له عنه 133
هكذا ،بكل بساطة ؟ هناك عقد سيكتب وشروط ستوضع أى شروط؟ أن يحافظ على العائلة ،واليسمح بالمساس بها من قريب أوبعيد ،ويؤمن أموالها ومستقبلها وأفرادها وإذا كتب العقود ووافق على الشروط وحينما اعتلى الكرسىضرب بكل هذا عرض الحائط ،فماذا ستفعلين ؟ عادل !!؟؟ مستحيل كيف؟ أنا أعرفه جيدا ،سر ورائى ولن تندم فى الخطأ ؟ تذكر أنك سرت ورائى كثيرا ولم تعرف الندم قطتذكرت ال أعرف لماذا -جلدها الذى جف ماءه وراحت نضارته وسألت نفسى ،لماذا سار عقلها عكسه فهى كلما كبرت ازداد عقلها توهجا ونضارة ؟ وحدقت فى الليل المتسارع الخطى على كأل األرض ،وهيكله المتسيد األرجاء بظلمة روحه وعنفوان سواده ،ورأيتنى أسير مبتعدا ً عنها ،شاعرا ً أن اإلفالت من براثن حروفها اآلن أولى من مواجهة أنا فى غنى عنها خاصة اآلن . لكنها لم تستلم للهزيمة كما لم تعرف التسليم فى حواريخصنا قط ،لحقت بى إلى الفراش جاثمة عليه بكل ثقلها ،وألنه 134
محدود واليمنح فرصة لإلفالت فقد ألقت بلسانها داخل أذنى واثقة من تمكنها منها لتكمل الحديث ،تشرح الفائدة المرجوة واألمال المعقودة والمستوى الذى اليليق بحال أن تتنازل عنه مهما كانت األسباب ،لم أستطع التحمل أكثر من هذا ،رفعت عينى إلى وجهها المحشو لحافته بالفكرة السوداء صارخا ً -: ارجوك ،كفىقالت بهدوء متنمر -:ستفكر فى الموضوع ؟ قلت -:مؤكد سأفعل واستدرت عنها ،لم تبال بى أدارت ظهرها هامسة بارتياح -:تصبح على خير
( )19بداية النهاية
أن تتزوج امرأة فهذا خير ،هذا فقط إذا كنت روتينيا ً تعيش عبدا ً لعاداتك ورغباتك ،واليمكنك مقاومة إحساسك إنك رجل ، وإقتناعك أن الرجل يحتاج طول الوقت ألنثى مهما كانت عيوبها ،ومهما كان ماستجره عليك عالقتك الحميمة بها من 135
قلق ومشكالت كنت فى غنى عنها وأنت فراشة خفيفة الجناحين ،تطلق غناءها الرشيق وهى تدور من زهرة الى أخرى ،متنسمة عبير الحرية ،وروعة التنقل ،وبهاء إختيار القرب والبعد حسبما تشاء ،أما إذا وقعت بين براثن زهرة من هؤالء فأول ماتفعله تخلع قناع الرقة ،وترمى حروف الكلمات الناعمة ،وتظهر حقيقتها جلية واضحة اللبس فيها والخفاء ، وتنشب أظفارها فى عنقك وتقتلع جناحيك إقتالعا لتضمن عجزك التام عن الطيران إلى زهرة أخرى ،أو إذا فكرت فى الطيران فتضمن أن ليس لديك مايغرى اآلخرى -أى آخرى - باإلستيالء عليك ،وتلك هى المشكلة األزليه مشكلة اإلستيالء والتمكن بين الرجل والمرأة منذ بدء الخليقة ،الرجل يريد أن يحتفظ مدى الدهر بجناحيه ويتمنى لو استنشق عبير الزهور متنقال من زهرة ألخرى فى راحة وانسجام ،والمرأة التقبل شريكا ً فى رجلها ،فما أن تطأ قدماه عتبة حجرة النوم راغبا ً حتى تبدأ هى التفكير متحفزة فى كيفية اإلستيالء عليه ورفع رايتها عالية خفاقة على رأسه ورغم وعى الرجال أو معظمهم بهذا إال أنهم فى الغالب ونتيجة لظروف عديدة منها اإلقتصادية كالحاجة والعوز ،ومنها إجتماعية ككثرة العيال ،وفى هذا هناك أمثال عديدة تقال ، منها-: يغلبك بالمال ،اغلبيه بالعيال وعادة حينما تتحكم المرأة فى الرجل تتحكم ألسباب عديدة تتفنن فى إختراعها ،منها ضعف شخصيته أمامها لفقره أو ربما سذاجته أو حبه لها ،وربما لحاجته إلى جسدها وتمنعها عليه إال وفق شروطها ،ورغم كل هذه المشكالت يظل الزواج قائما ً ،ويزداد المتزوجون فى العدد ،وتبقى حرية الرجل رهن مشاعره وقدرته على التحكم فى رغباته ،ورفضه بيع 136
حريته مهما كان الثمن ،ومهما كانت المغريات ،وهى عادة رغباته الفطرية واحتياجه لجسد المرأة وأحضانها . وال أكذب إذا قلت أننى أعى منذ قديم هذا تماما ورغم هذا وقعت ولم أستطع القيام أو حتى التمرد على سيطرتها وقوة نفوذها فى البيت . ليس لقوة شخصيتها وضعفى . على فى الفراش . وليس لتمنعها ً وليس لقوة وجاه أهلها أو ..أو ..ولكن للسانها ! نعم ،فلسانها قد استطاع وحده إخضاعى وإجبارى على الصمت أمامها . ليس لقدرتها على اإلقناع وليس لبالغتها فى الحديث. ولكن لقدرتها الفائقة على الكالم بقوة ودون انقطاع لساعات طويلة ،وبال وهن أو خوار ،فهى متى أرادت شيئا وبدأت الكالم واستولت على أذنى وصبت فيها حروفها فلن تنطفىء نارها إال وأنا أصرخ فيها - : -
كفى ،اصمتى
فترمينى بسواد حدقيتها متسائلة -: -
وتفعل ماأريد ؟
أقول منهيا ً الحوارألسكتها بأى شكل وبأى لون -:
137
لم أعد أتحمل المزيد من حروفك الطفيلية المتسلقة التىتنسل كالدود الى رأسى لتحرق تالفيفها . وطبعا التأبه لكلماتى فى تلك الحالة ،بل تعاود السؤال -: -
ستفعل ؟ سأفعل ،اصمتى
فتعطينى ظهرها فى هدوء ،ويهدأ الضجيج تاركا ً فراغا ً كالصفير فى أذنى الينتهى إال بعد حين ،ونتيجة إلدراكى التام لطبيعة العالقة بيننا فقد توقفت طويالً أمام اقتراحها بتبديل األدوار بين مسعود وعادل زوج سعاد ،ورغم تخوفى وحذرى من عادل إال أنى لم أستطع إغفال رأيها ،ليس لوجاهته ولكن حذرا من وقوعى تحت طائلة لسانها ،لذا أمرت بانعقاد اللجنة الخاصة بالمتابعة والتى أمرت بتشكيلها لمناقشة وتنفيذ المقترحات التى تقدمت بها إلى الحكومة طالبا ً سرعة السير فى تنفيذها فورا ً ،ووضعت أسماء أعضائها ،وعلى رأسهم بطبيعة الحال مسعود كمشرف ومسئول عن التنفيذ ،ونظرا لتغير موقفى من رئاسته لهذه اللجنة فقد أمرت بانعقادها وانا أحاول قبل هذا اإلنعقاد أن أجد منفذاً أنفذ منه للهرب من توليه عادل هذه للحكم ،وماسوف تجره على من ويالت ،فأنا أدرك جيدًا أننى متى سلمته الكرسى فسوف أكون أول من ينقلب عليه ويهاجمه بشراسة ويطلق ذئابه للنهش فيه بال رحمة ،لكنى فى ذات الوقت ال أمتلك المقدرة على األقل حاليا ً للمغامرة بدفع مسعود لواجهة الصورة وهو راغب عنها وغير مستعد لتحمل تبعاتها ،وفى ذات الوقت أتقى شر لسان حفصة، وماسوف يفعله لتعكير حياتى إلى أن أرضخ لطلبها ،لذا طلبت إنعقاد اللجنة وتفكيرى اليتوقف كيف أخرج من هذه المعضلة .
138
جاءتنى كالمعتاد تقارير المخابرات عن الحالة األمنية ونبض الشارع واألفكار المتداولة بين الناس وأقوال الصحف ووكاالت األنباء وماإليها ،وهى عادة ماتكون صادقة ودقيقة تبعا للجهة التى تقدمها . فى استرخاء وبنظرات شاردة مددت يدى أللقى عليها نظرة كالعادة كى أحيلها الى اللجنة المنوط بها اإلطالع عليها وتوجيه مؤسسات الدوله على ضوء مافيها ،لكننى بمجرد إلقاء نظرة أولى على الكلمات رأيتنى اعتدل وأمعن النظر فى التقرير متابعا فى جد ماهناك -: أوال -الحالة االمنية -: األمن بشكل عام هادىء ومستقر ،توجد احتجاجات قليلة غير مؤثرة هنا وهناك ،مع وجود مناقشات ومعارك جدلية كبيرة بخصوص اإلصالحات المزمع تنفيذها فى مجال التعليم . الرأى السائد بين الناس أن هدف السلطات هو الربح بمزيد من الرسوم بحجة التطوير وقطع عيش مدرسى الدروس الخصوصية تمهيدا الستيالء الدولة على األرباح بدالً منهم ، أى أن الصراع بين حيتان تريد التهام الخيرات بعيداً عن الشعب ومصالحه. ثانيا ً -بالنسبة لإلعالم "- يقال أن الهدف هو توجيهها لصالح الحاكم الذى يعتلى الكرسى فقط ،وصالح فكرة التوريث التى يمهد لها بتكليف ابنه بمهام كبيرة فوق طاقته وقدراته ،من أجل دفعه العتالء الكرسى بعد أبيه . أخذت أكمل القراءة ،وكلما توغلت فى غابة السطور أشعر باختناق يملك صدرى ويضغط روحى وأنا أرى كل مافكرت فيه 139
يراه الناس على عكس أفكارى تماما ً ،بل وضدها على طول الخط ،طبعا إذا نحينا فكرة التوريث جانبا ً ،المشكلة لم تعد تداول أفكار بين الناس ،وال هو جدل مباح ومعارك فكرية لها ،ونخرج منها بمحصلة وبرنامج عمل ،لكنها نتاج صارت عدم ثقة ونظرة شك كبرى فى كل ماأقول وأفعل ، وبطبيعة الحال إذا دخل الشك من الشباك خرج األمن والسالم من الباب !. عدت للسطور األخيرة فى التقرير-: توجد حاالت اعتصام فى الميدان الكبير ،عددها صغيراليتعدى أصابع اليد الواحدة ،وهم يرفعون شعارات منها -: كفى ،ال للتوريث . بكل ماأمتلك من حنق وضيق من هذا الغباء الشعبى المستحكم أمسكت القلم مؤشرا بجوار العبارة األخيرة الخاصة بالمعتصمين وكتبت( ......حمقى !!) و أمرت بمحاصرتهم والقبض عليهم ،ثم التحقيق معهم بتهمة الشغب والتسبب فى اضطراب األمن العام.
( )20تأجج النيران
هل أقسم على نقاء ماأضمرت لهؤالء الناس ؟ وماجدوى القسم اآلن ؟ 140
الطريق إلى جهنم كما يقولون يبدأ بالنوايا الحسنة ثم أن الفكرة عنك -وهذا هو األساس -تسبق كل ماتقدمه وكل ماتفكر فى تقديمه ،ماداموا ينظرون إليك على أنك شيطان مريد فمهما قلت لن تمتلك المقدرة على تغيير فكرتهم ،وكل فعل تقوم به سيتم تفسيره على أساس الفكرة المسبقة عنك ، هذا ماأدركته اآلن ،واآلن فقط وأنا أجلس متفرغا ً السترجاع األحداث وترتيبها وبحث أسبابها ونتائجها ،وسألت نفسى مرارا ً وتكراراً-: -
هل ماحدث كان سببه تقصير من األجهزة المعنية ،أم إرادة عليا التمتلك معها اإلرادة البشرية إال التسليم ؟
أرى اآلن وأثق أنه لم يكن هناك تقصير ،ولم تكن الظروف المحيطة تشى بشىء غير متوقع ،خاصة أن األجهزة األمنية كانت تسيطرعلى الموقف تماما ً ،وتتابع مايدور فى الخفاء هنا وهناك بقصد اإلثارة والفوضى وضرب النظام ،وكنت أرى من خالل التقارير والملفات والمتابعة الشخصية أيضاأن األمر لن يخرج عن مظاهرات يومية ،يمكن تجاوزها بإعطاء منحة للشعب ،أو شغله بأمر من األمور التى تجيد الجهات المختصة افتعالها وتشغل بها الرأى العام شهوراً وليس أياما ، لكننى فوجئت – حقيقة -أن األحداث تسارعت بشكل غير مسبوق بعد هذا اللقاء الذى تحدثت عنه منذ قليل ،فبعد ساعات قليلة وأنا أجلس فى استراحة خاصة بعيدا ً عن ضوضاء الحكم وإزعاج المسئوليات وربكة التقارير والملفات منغمسا ً فى لحظات ترف تنشط القلب وتبعث فى الروح نسائم الشباب وأريج السرور مع لوليتا جديدة بعيدا ً عن حفصة ولسانها جاءنى من همس فى أذنى أن هناك تجمعات جديدة فى الميدان الكبير ،لكنها هذه المرة تطالب بإطالق صراح المعتقلين ،وأن هذه المظاهرات يقودها تلك المجموعة التى 141
إلتقيت بها فى القصر ،وتحدثت إليها واحتفلت بقدرتى على إقناعها بوجهة نظرى ،ووعدهم لى بالوقوف إلى جوارى فى تحقيق األهداف التى أحاول تحقيقها . أنشب الغضب أنيابه فى صدرى ،أمرت فوراً بتوجه القوات إليهم ،وإجالئهم عن الميدان بالقوة لو لزم ،وتركت اإلستراحة متجها إلى مقر القيادة لمتابعة األمر ،كان قائد القوات الرماح بجوارى يهون من األمر قائال -: -
الموضوع أقل من أن يشغل بالك ،فهؤالء مجموعة مغيبة استغلها الموتورون لتحقيق أغراضهم ،و هذا الشعب من نوعية خاصة يسهل قيادها والتحكم فى حركتها كما تعرف ،ولكنهم سرعان مايفيقون ويعودون لرشدهم ،وال خوف منهم بالمرة .
وضحك وهو يكمل-: -
جندي واحد يافندم يمكنه السيطرة على الميدان وإخالئه ،بل والقبض على العشرات ،ولن يستطيع أى منهم أن يفكر فى مقاومة أو حتى هرب خشية العقاب
حدقت فى عينيه السوداوين وهو يتكلم ،فيهما رغم خشونة العسكرية التى يحاول التحلى بها نوع من الطيبة يشدك إليه ، سيماه تفيض بنقاء قلب وصفاء روح ،عكس المطلوب فى الجندى بصفة عامة ،وفى القائد بصفة خاصة .راودتنى للتو فكرة رأيت أنها يمكن أن تتحقق ببعض اإلعداد الجيد والترتيب الصحيح ،لكننى أرجأتها لحين اإلنتهاء من هذه المشاغبات التى يقوم بها هؤالء الشباب . عدت إلى الشاشة المجهزة لهذا الغرض فى غرفة القيادة لمراقبة الوضع فى الميدان ،حدقت للحظة محاوالً استيعاب 142
األمر وارتعدت ،اتسعت عيناى لدهشة عارمة اكتست روحى وأنا أرى الميدان يضج باألالف وهم يهتفون ضد الحكومة مطالبين باإلفراج الفورى عن المعتقلين األبرياء الذين تم تلفيق التهم لهم ،ومحاسبة كل من تسبب فى سجنهم بال ذنب جنوه . عدت حامالً عالئم الدهشة جلية على وجهى إلى الرماح قائد القوات بجوارى متسائالً -: -
كيف تجمعت كل هذه األعداد ،ومتى قاموا بكتابة هذه الالفتات ،وأعدوا هذه الهتافات ،ومن الذى يقودهم بالضبط ؟
كان الرجل ثابت الجنان ،ينظر هادىء العينين كأنما ليست هناك مشكلة بالمرة تمأل روحى قلقا ،تحرك من مكانه ليقف فى مواجهتى -: -
أرى أن نحتوى الموقف فوراً
-
كيف ؟
-
اإلفراج أوال عن المعتقلين
-
تقصد األوالد العمالء ؟
-
على أن يكونوا تحت أعيننا
-
ثم ؟
-
تسارع بإلقاء خطاب للتهدئة حتى التنضم اليهم أعداد أخرى يصعب التعامل معها ،أما بخصوص هؤالء المتظاهرين فسوف أكلف من يتوجه اليهم ،يندس بينهم يعرف توجهاتهم ،ومن يقودهم ،وفى ذات الوقت 143
سأضرب حصارا ً على الميدان حتى أتمكن من السيطرة على الموقف معلنا ً أن من يريد اإلنصراف الغبار عليه ، وأمنع فى ذات الوقت إنضمام أعداد أخرى اليهم قلت بألية -: -
موافق
وتركته إلى حيث أمرت بإعداد خطاب فورا ً إللقاءه عليهم ، وعدت إلى البيت لتغيير مالبسى ،قابلتنى حفصة بوجه مرتعد ونظرات زائغة ولسان اليعرف الصمت-: -
أرأيت حجم المؤامرة ؟
-
دعينى اآلن ؟
-
مابك ،هل أنت نائم أم مغيب أم الترى؟
-
سنتصرف معهم ،القلق هناك
-
بل منتهى القلق ،هى مجموعة حاقدة استطاعت التأثير على السذج واألغبياء وقادتهم إلى الميدان إلحداث فوضى عارمة ،يريدون إزاحتك من مكانك ،إياك والرضوخ لمطالبهم ،هؤالء اليصلح معهم إال الكرباج
تركتها إلى حجرتى الرتداء المالبس الرسمية إستعدادا للوقوف أمام الكاميرات إللقاء الخطاب ،جاء المساعدون ومعهم الديباجة المطلوبة لعرضها على وأخذ رأيى ،مدت يدها وأخذتها منهم وجلست تقرأها ،هبت كالريح قادمة نحوى -: -
هل جننت لتتنازل بهذه الطريقة
-
كيف ؟ 144
انظر وتأملورفعت الورقة وقرأت منها-: -
إننى هنا ألخدمكم وأكون رهن إشارتكم ،ولن أفعل إال مايكون فى صالحكم.
ثم رفعت رأسها إلى صارخة -: -
هل الرضوخ صار عادة فيك ؟ أين العزيمة التى كانت تميزصوتك ،والدهاء الذى كان يتأجج فى عينيك ؟
مددت يدى واختطفت الخطاب من يدها مهروالً إلى الباب ، هاربا ً من بقايا كلمات مؤكد تريد إفراغها فوق رأسى كعادتها ،سألت وأنا فى الطريق عن آخر مستجدات الموقف ،وطلبت فورا ً تقريرا ً بمطالب وأهداف المتظاهرين . قيل -: ، األعداد تزداد رغم اإلحتياطات واإلجراءات المتخذهوالقوات تتحاشى اإلحتكاك بهم حتى التحدث أشياء نحن فى غنى عنها . انتقلت إلى القاعة الرئيسية إستعدادا ً إللقاء البيان ،حاولت جاهدا التحكم فى نبرات صوتى وتعبيرات مالمحى حتى اليبدو الغضب المتأجج فى وجدانى لألعين الراصدة ،هو حقيقة لم يكن خوفا ً بالمرة ،فالخوف أمر ال أحسن التعامل معه وال أستسيغ الحديث عنه ،وأدرك جيدًا أن السيطرة على النفس كلما تأزمت األمور أسهل وسيلة للنجاح ،وأقرب طريق للوصول إليه ،أضيئت األنوار وركزت الكاميرات فوهاتها على وجهى ،وخيم الصمت على المكان ،وأنا أعرف وأثق أن
145
الجميع ينتظر كلماتى تلك ،وماسوف أقوله فيها ،توجهت بعينى إلى األمام فى هدوء واثق قائالً -: -
من أجل الحفظ على كل فرد فيكم نبذل الجهد ،وال نبخل بالدماء ،حقوقكم علينا محفوظة ،وأمانة العهد مصانة ،واليمكن أن نفرط فىها أبداً ومهما كانت األسباب ، وبخصوص مطالبكم فقد تم تنفيذها فوراً القتناعنا أنكم مصدر السطات وبيدكم األمر والنهى .
وأخذت أعدد االنجازات التى تمت ،والجهد المبذول فيها ، والمشاريع التى نعمل على تنفيذها ،وأخيرا ختمت بيانى بآية من الكتاب المقدس حرصت أن تكون مناسبة للموقف ، واستدرت إلى القاعة باحثا عن رجال األمن والمخابرات لسرعة إرسال تقارير بردود األفعال فى قلب الميدان . فى طريقى للمتابعة من الشاشة العمالقة فى قاعة المتابعة المركزية فكرت أن أحول مالمحى لصورة أخرى وأتجه إلى الطريق الستكشاف األمر بنفسى ،إال أنى خشيت من التعرض لموقف قد يؤذينى ،خاصة فى حالة الفوضى المتفشية فى البالد اآلن . عدت إلى البيت لمراجعة بعض األوراق الخاصة التى احتفظ بها فى خزينتى الخاصة ،بعدها أعود لغرفة المتابعة من جديد ، قابلتنى زوجتى حاملة أطنانا ً من العبوس فوق سواد مالمحها -
ماهذا الذى فعلته ؟
أشحت بيدى دون أن أبالى بالرد متجها ً إلى غرفتى ،هرولت خلفى صارخة -: -
أال تسمعنى؟ 146
-
ال أريد الرد اآلن ،ولن أرد
-
ستدمر كل شىء
-
الأريدك هنا ،اخرجى فورا ً واتركينى وحدى
زفرت أطنانا ً من الهواء الفاسد عكرت به جو الغرفة ،وألقت بكلمات لها رائحة عطنة ،وغادرت المكان إلى حيث ابتلعتها الظلمة ،دثرت عينى بأستار جفونى ،وغصت لقمة رأسى فى وديان فكر عميق فيما يجرى ،وكيف يجرى ،ومن خلفه ،والمستفيد منه ،وهدفه . المؤكد أن الناس عندنا لديها مايتعبها ويثير حنقها ،ولكنها عادة تتكلم وتشكو وتتذمر وينتهى األمر عند هذا ،أما أن تقاوم وتعتصم وتتحدى وتنذر وتطالب بأمور جماعية محددة ، منذرة إن لم تنفذ مطالبها بالتصعيد ،فهذا ماليس من شيمهم أبدا ً .هم ينظرون إلى الحاكم فى كل أحواله بعين اإلكبار ، وال يتورعون عن اإلنحناء أمامه والرضوخ له مهما كان ومهما كانت تصرفاته ،ربما هاجموه فى غرفهم المغلقة ،أو وصفوه بصفات قبيحة وسباب جارح على المقاهى وفى الحوانيت فى لحظات ضيق يفرجون فيها عن أنفسهم أمام الغير ويستريحون بعدها لظهورهم بمظاهر الجرأة والتحدى ،وبعدها ينتهى األمر عند هذا الحد ،أما أن يقفوا هكذا وتتجمع وفودهم وتتحد كلمتهم وتتحدد مطالبهم فهذا تخطيط خارجى ،ومؤامرة واردة ،وتخطيط له أهدافه التى البد أن أجهضها وأعمل للحليلولة دون تحقيقها ،مؤكد هؤالء األوالد الذين تدربوا على إحداث الفوضى ،وإفشاء التذمر ،والتأثير على الجموع من خالل تذكيرهم بمشاكلهم اليومية المعتادة هم السبب ،فمنذ دهور ومشكلة الغالء التنتهى ،وكذلك الحديث عن الفساد وانتشار الرشوة والمحسوبية وماإلى هذا من أشياء يشكو منها 147
الجميع ،ويقف األمر عند حد الشكوى اليزيد ،أما اآلن فالصوت يعلو ،والمثالب تتضخم ،والجموع تتكلم ،وكلها مطالبة بالتغيير . المشكلة أن هؤالء البسطاء ،السذج ،الطيبون ،أو قل عليهم ماشئت إذا توحدوا وضموا أيديهم إلى بعضها صاروا قوة اليقف أمامها شىء . هذه الجموع حين تتوحد تصبح عمالقا ً كلمته تزلزل أعتى القوى وتدك أعتى الحصون ،واليمتلك كائن ماكان إال اإلنصياع لها ،وواضح ممن جمعهم ويثير فيهم الحمية للمواجهة أنه يدرك هذا ،ويضغط بهم على النظام إلسقاطه واإلستيالء على الحكم ،المشكلة أننى حتى اآلن ال أدرى هل هم هؤالء األوالد العمالء ،أم مجموعة أخرى لم تعلن عن نفسها بعد هى التى تقود هذا التذمر اآلن . قمت متجها إلى الهاتف ،نقلت أفكارى لقائد القوات الرماح -: هؤالء األوالد يمتلكون القدرة على إحداث الفوضى كماظهر جليا ً ،ماهى خطتهم التالية ؟ التفاوض واستخدام المظاهرات الضخمة كأوراق ضغط ،وبعدها محاولة إسقاط النظام ككل ،وهذا اليقوم به إال تنظيم قائم يمتلك كوادر على غاية من الدراية والتدريب الكافى تقصد أن هناك تنظيما ً خلف مايجرى ؟ هذا مؤكدتركته لقائد الحرس حمدان ،ذات الحوار تقريبا ً مع تسمية عدة تنظيمات متطرفة وطرق تعاملها وكيفية مجابهتها والتغلب 148
عليها ،بعدها انتقلت لمحادثة قائد المخابرات البرعى وجاءت كلماته عبر الهاتف تؤكد صدق توقعى-: -
( جماعة التطهير ) تحتل الميدان ،تنتشر فى كل األنحاء وتثير الجماهير مصعدة من شدة المواجهة ، وتطالب هذه المرة باقالة الحكومة ،ومحاكمة أعضائها !!
( )21المجزرة وتوابعها
استدعيت لجنة مواجهة الطوارىء لبحث األمر . كانت الصورة حية أمامى ،التغيب طوال بقائى فى غرفة المتابعة الرئيسية . تنقل األحداث جلية ،ناطقة بكل مايمكن حدوثة فى الميدان أوال بأول. كنت أرى وجوها هازلة ،وألفاظا ً ساخرة ،وأغنيات وأناشيد ورقص جماعى تشارك فيه الفتيات والنسوة فى منظر لم أره من قبل طوال فترة حكمى التى امتدت ألمد بعيد ،أحدهم يتصيد الشاشة رافعا ً الفتة من الورق المقوى مكتوبا ً عليها-:
149
-
حكومة فاسدة
آخر يسير بالفتة علقها على صدره وبها-: -
أنا حاكم نفسى
وثالث تجرأ وكتب على الفتة كبيرة-: -
الفاسد يأتى بالفاسدين
ورابع -: -
اقطعوا رأس األفعى .
وغيرها كثير. لم تكن قبضتى حديدية إلى الدرجة التى أثير فيها الحنق وأكبت المشاعر كى تتفجر اآلن بهذه الصورة أبدا ،لم أكن سيئا ً إلى الدرجة التى تصبح فيها سيرتى واسمى وفترة حكمى كابوسا ً يريدون التخلص منه بهذه الصورة ،حكم البالد يحتاج مع العدل إلى القوة ،ويحتاج مع القوة إلى البطش ،ويحتاج مع البطش إلى شيوع الخوف من العقاب الصارم لتستقيم األمور وتسير الحياة كما يراد لها من األمن والسالم بين الجميع ،أما االسترخاء فاليولد إال خوارا ً وضعفا ً ،ويطمع فينا الدول المعادية ،وأعداء هذه األيام من الكثرة بحيث عليك أن تتيقظ لهم ،وتريهم فى كل لحظة أنك ممسك بزمام األمور ،وأن حدودك جحيم لمن يفكر باإلقتراب منه ،وأعتقد أننى قد استطعت أن أفعل هذا ،وكذلك استطعت أن أوفر للجميع حياة يجد فيها الكساء والملبس والمسكن فى كل حين ، المشكلة الوحيدة التى اعترف بها وال أنكر تمسكى بها هى يد الدولة الباطشة وذلك لألسباب التى ذكرتها ،فلماذا هذه الكراهية المتأججة فى العيون ،والمنطوقة على كل األلسنة ، 150
كأننى لم أكن واحدا ً منهم ،خرج من حارة من حوارى قرية فى أعمق أعماق الفالحين هناك ،حيث القلوب البكر التى غذتها األرض بنقائها ،وروتها الخضرة بصفائها ،ورأى وعرف معنى األهل واألصدقاء والجيران ،والروابط التى تربط الجميع برباط ود مقيم الينفصم مهما كانت األسباب ،أنا الذى وقفت يوما ً حامالً رأسى بين يدى راضيا أن أقدمها فداء للبلد وألهلها ،ثم أنهم حينما أختارونى لم يكن إختياراً عشوائيا ً وال هو إختيار غبى ،ولكنه إختيار قائم على أسس وأسباب قوية وثقة مؤكدة فى شخصى ،صحيح أننى فى فترة مضت قد شردت قليالً عن ميثاق الشرف الذى قطعته على نفسى يوم تقلدت مقاليد الحكم ،لكننى عدت ثانية أقوى من ذى قبل ، مقبال ًعلى كل فرد فيها بملء القلب حبا ً وسالما ً ،عاز ًما على إعادة الحياة فى هذا البلد الذى أحبه ومازلت مستعدا ألفديه بروحى على إعادة الوجه الحقيقى له ،ومحو كل مايمكن أن يسىء إليه ،وتغيير تقاليد فاسدة ترسخت فى تصرفات أفراده ،وبناء كل ركن فيه من جديد كما ينبغى لبلد عظيم مثله ، فلماذا يجيئون اآلن إلفساد كل شىء ؟ هؤالء األوالد العمالء البد من محاكمتهم محاكمة شعبية ليرى الجميع ويعرفون حجم المؤامرة التى تعرضوا لها ،وهذا التنظيم المخرب سوف أجابهه بكل القوة ألجهض تخطيطه الشيطانى . اجتمعت اللجنة على عجل حول المائدة الرئيسية لمناقشة الوضع العام ،كانت األعداد كما يبدو على الشاشة تتزايد ناشرة فى الميدان ضوضاء السباب المقترن بالضحكات والرقص ،بينما الفتات جديدة تشق السماء كالسوارى صارخة وسط الشاشة-: اسقطوا الحكومة الفاشلة151
لن نرحل قبل سقوط العصابة الحاكمة نريد محاكمة أعضاء الحكومة اللصوص الذين نهبوا ثرواتالبلد ..الخ سائلت الوجوه المكفهرة واألعين المنطفئة الوميض واأليدى المرتعشة حولى -: وماذا بعد ؟
-
قال قائل -: -
نعاود القبض على العناصر المخربة.
قوبل اقتراحه برفض قاطع قال آخر -: ننحنى للريح حتى تمر وبعدها لنا كالم آخر
تساءلت-: -
ماالمقصود بكلمة ننحنى للريح ؟
قال -: -
إقالة الوزارة ،وتشكيل وزارة جديدة لتهدئة الرأى العام
تساءلت -: -
ثم ؟
-
بعد تهدئة األمور نقوم بتصفية الجيوب المخربة هنا وهناك . 152
قال ثالث -: -
األمر سهل ،اعطونى ساعتين من اآلن وسوف ترون مايسركم
حدقت فى عينيه محاوالً سبر غورهما ،لمعة حدقتيه تنبىء عن ثقة وكلماته فيها تحديد لشىء يعرفه جيدا ،قلت -: -
البد أن أعرف ماذا ستفعل بالضبط .
هز رأسه بثقة-: -
دعنى اتصرف ولن نندم ،و الحظ أننا جميعا فى مركب واحد
قمت واقفاً-: -
أمامك ساعتان ،وبعدها نرى مايجب فعله
واستدرت لبقية األعضاء-: -
اللجنة ستظل مجتمعة لحين إنتهاء األزمة ،وأنا معكم بطبيعة الحال
وغادرت إلى غرفة أخرى أستطيع فيها أن أنفرد بأفكارى قليالً فى انتظار ماسوف تأتى به اللحظات القادمة . كان يدور فى رأسى لحظتها شىءآخر تماما ً تمنيت لو أمتلك لإل قدام عليه ،كنت أتمنى ومن صميم الشجاعة القلب أن أترك األمر كله ،وأعلن تنازلى عن المشاركة فى أى شىء بعد اآلن ،وعودتى إلى القرية ،ارتمائى فى أحضان األرض ،أقضى ماتبقى لى من عمر فى رحاب دفئها وبرائتها ، أتنسم ريحها وأعاشر كما كنت قديما ً ناسها ،مفسحا ً الروح 153
لبساطة حياتهم ،وتقارب أرواحهم ،ونقاء سريرتهم ، وحالوة كلماتهم ،أذوب من جديد فى نهر نقاء الينفذ ، وأرتوى من رحيق صفاء ممتد بال انقطاع وأرمى خلف ظهرى مافعلته ،ومافكرت فى فعله ،وماجابهته من رفض ومن معارضة وصلت إلى درجة اإلعتصام وإمالء األوامر وإال فالتصعيد والتحدى والرفض القاطع لكل النظام . هل هناك غنيمة تساوى هذه المغارم والمعاناة ؟ وماذا يجدى لى فى هذه السن الجاه أو المال ،أوحتى الكرسى العالى بكل مغرياته ومزاياه ؟ قريبا ً جدا ً أودع كل شىء ،فما جدوى التكالب على أى شىء؟ دق الباب دقات ثالث متعجلة ،يكسوها القلق واالندفاع . كنت ممدا ً على األريكة محدقا ً فى السقف أرقب اللمبات البيضاوية المتألقة بالنور ،متسائالً كيف انسل التيارإلى سلوكها فأجج فيها القدرة على التنوير ،مفكراً فى تلك المنظومة المتكاملة التى تؤدى فى النهاية إلى بث النور فى المكان ،متصوراً أن إنشاء منظومة كهذه فى البلد وبين الناس التحتاج إال الى فكر راق ،وتنفيذ دقيق ،وبث أفكار تكون بمثابة التيار الذى يسرى فى العقول فينيرها ويحول ظالمها إلى نهار . لكن هذا لن يبدأ إال بعد أن تنتهى هذه الظروف ،البد أن تتغير القوانين وتكون محكمة ،وفى ذات الوقت شديدة الحزم لتجابه الخارجين على القانون والعمالء وأصحاب المصالح . العدالة المرتعشة اليد تطيح بكل القيم ،وتمنح الفاسدين الفرصة لفرض أمراضهم وعاهاتهم على المجتمع. 154
وكذلك العدالة البطيئة تقهر القلوب النقية ،وتفسح المجال لمزيد من الفوضى والضياع . بعد هذه األحداث سوف أغير أشيا ًء كثيرة. انتبهت للدقات الثالث ،أذنت لصاحبها بالدخول ،رأيت وجها ً مرتعد السمات يستدعينى طالبا ً انتقالى إلى اللجنة لمتابعة مايتم اآلن بالميدان فورا ً ،قمت متوكآ على حافة المقعد وتحركت قدر استطاعتى الى هناك ،بمجرد دخولى الى الحجرة ارتعدت نظراتى فزعا ً وأنا أرى مالم أتخيله قط ،جياد عفية وسط الميدان وبين المتظاهرين تجرى بسرعتها بينهم ،تطأ مايقابلها دون أن تأبه لصراخ أو تهتم لعويل ودراجات نارية مجنونة ممتلئة بالحقد تضرب بأرجلها مهرولة وراكبوها يمسكون بسالسل وجنازير حديدية يضربون بها وجوه المتظاهرين ،وحولها بلطجية بأقنعة سوداء بسيوف ورماح ،رافعين أيديهم دائرين بالمدى والسيوف مهددين ومروعين الخلق وسط حالة من صراخ وأنين ومحاوالت للتصدى لراكبى هذه الدرجات النارية والجياد بالعصى وأذرع الشماسى والعكاكيز . صرخت بكل ماأوتيت من قوة -: -
اوقفوا هذه المهزلة فورا ً
قيل -: مستحيلانهرت جالسا ً على مقعدى جاحظ العينين ،شاعرا أن هذه هى القشة التى ستقسم ظهر البعير ،فلم يعد األمر مظاهرات لها مطالب تسعى لتحقيقها ثم تعود للهدوء ،ولكنه تحول إلى نهر دماء . 155
وصمة عار ستالحق النظام أينما سار . سألت عن صاحب هذا الفكر المخرف -:أين هو ؟ قيل -:يدير المعركة من حجرة عمليات قريبة من الميدان طلبت حضوره فوراً ،وأنا الأتمالك نفسى من غضب جارف ،وتوتر اليحد يمتلك روحى وينفذ إلى جميع خاليا عقلى . كان يمكننى منذ البداية استخدام القوة ،ولم أفعل . كان يمكننى رفض اإلفراج عن هؤالء األوالد العمالء ،ولم أفعل ويجىء هذا المخرف بكل بساطة ويوقعنى فى هذا الفخ !! رأيته مزهوا ً بنفسه يدخل من الباب ،أمرت فوراً بعزله من منصبة والقاءه فى السجن لحين التفرغ له ،وأمرت بسحب الخيول والدراجات النارية والبلطجية ذوى األقنعة السوداء فورا ً وبأى ثمن ،وكذلك إعالن عزل الحكومة الحالية وتشكيل حكومة جديدة تكون أولى مهامها اإلستجابة لمطالب المعتصمين ،وخرجت بنفسى إلعالن هذا على الناس مباشرة ،راجيا ً أن أمحو األثر البالغ السوء الذى تركه هذا الهجوم الغادر البالغ الخسة والغباء .
( )22موت ليلى
156
عدت بعد إلقاء كلمتى إلى القاعة ،فجعت بمنظر جديد لم أره من قبل ، عادل زوج ابنتى فى أقصى القاعة يبكى ! هوى قلبى مرتطما ً بكل أحجار الوجود ،مفتتا ً كما لم يتفتت من قبل ،عادل اليبكى بسهولة ،دموعه عزيزة المنال ، مشاعره ليست مباحة لألعين ،وتوجست شراً شاعراً أن المجهول الذى طالما خشيت منه يضرب روحى بقوة وعنف ، ودون أن يأبه لجسدى الواهن ،وال روحى المتآكلة وقلبى الذى غزاه المشيب ،حدقت فى عينيه صامتا ً وإن كانت نظراتى تصرخ -: -
قل ماأخشى منه
قل ماسوف يمزق روحى ويدك بنيان قلبى انطق بالخبر المشئوم الذى تصرخ به دموعك وتحكيه قسماتك وتعبر عنه نظرات عينيك انطق باهلل عليك همس بحروف متقطعة كما توجست --: -
ليلى ..ماتـــــــــــــــــــــــــــــــــــت !!
وتفجر قلبى نازفا ً حسراته ودموعه وشقاء نبضاته غير مبال بشىء سوى ماهو فيه .
157
( )23أبعاد المؤامرة
كان إختيار وزراء جدد فى ظل هذه األزمة المستعرة يشبه طلبك من العصافير أن تتساقط بين يديك لتنتف ريشها وتلقيها فى النار ،أو سؤالك مجموعة من البشر أن يذهبوا إلى الجحيم راضين . ورغم هذا كان البد من اإلسراع ،وهذا يستلزم أن تقوم أجهزة الدولة باإلنتهاء من الفحص والتمحيص والتدقيق فى فترة التقاس أبدا بما يجب أن تتم فيه فى الظروف العادية ، ورغم هذا نجحنا فيما نريد ،وهذا ماأدهش له وأعجب ، فنحن إذا أردنا شيئا ً -مهما كان مانريد ،ومهما كانت صعوبته ،وربما استحالة فعله -نفعله ،بل ونتميز فى فعله ايضا ،لكننا لألسف قد فقدنا وعن جدارة اإلحساس بالعزم ،أو اإلرادة ،أو التصميم ،كأن الحياة قد صارت بالدة واسترخاء ،أو أنه ليس هناك أبدع مما كان ،أو ربما داخليا ً نحن راضون بالفشل الذى غرقنا فيه إلى ذقوننا دون أن نفكر لحظة فى البحث عن مهرب مما نحن فيه . تسلم الوزراء عملهم فورا ً ،وكانت أول مهمة لهم مجابهة التصعيد الخطير للموقف فى كافة المدن ،والتى تحولت إلى بؤر مشتعلة التعرف النوم وال الهدوء وال التفاهم وال حتى معنى كلمة الحوار .انتشرت حاالت القتل والسرقة والتخريب هنا وهناك ،وتشتت الشرطة فلم تعد تستوعب مايجرى ،مما حدا بأفرادها للتوقف عن محاولة الصد ،أو حتى الوقوف فى وجه مايجرى ،مما زاد من انهيار الموقف ،واستدعى نزول قوات الجيش إلى الشوارع والميادين ،وانتشار اآلليات العسكرية ،والقوات الخاصة بلباسها المميز وأقنعتها التى 158
التظهر سوى العيون باألسلحة والنيران الحية لتفرض سيطرتها على بلد يعالج اإلنهيار ،وبطبيعة الحال انتهزت القوى المعادية فى الخارج هذه الحالة لتظهر أنيابها وتمد مخالبها باحثة عن غنيمة سريعة تقتنصها قبل غيرها ،وبدأت تلوح فى األفق أسرار مايدبر للبلد فى الخفاء ،فاألمر لم يكن أمر فتية تم غسيل عقولهم ليخونوا بلدهم فقط ،بل كانت خطة مدبرة إلسقاط النظام ككل ،ونشر الفوضى ،واقتناص الفرصة إلشعال الفتن هنا وهناك لتمزيق كل أواصر الصلة بين المدن وبعضها ،والعصبيات والعشائر التى تعايشت طوال عمرها فى أمن وسالم دون أن تفكر أو تتخيل أن تقف بالنار لبعضها مهما كانت األسباب .ونظرا لخطورة الموقف ككل رأيت من واجبى أن أناشد الجميع الركون إلى العقل ،والبعد عن السير وراء اإلنفعاالت اللحظية أو األفكار التى تروجها الجماعات إياها ،والعودة فوراً إلى الحوار ،وتغليب المصلحة العليا للبلد على أى شىء آخر ،وبدات أستعد لمخاطبة الشعب شارحا ً كل مالدى . تحركت من قاعة المتابعة قاصداً التوجه إلصدار البيان الثالث لى منذ بدء األزمة ،ارتعدت يدى وأنا أستمع من الميدان إلى هتافهم الجديد-: ارحل ارحل ياجبار ..انت خسيس ورمتنا فى نار الشعب يريد إسقاط الحاكم الفاسد لن نرحل قبل رحيلك من الحكم ..الخعدت إلى القاعة من جديد ،تهاويت على مقعدى مكتفيا بالتحديق فى الشاشة التى زيادة فى إغاظتى أخذت تعيد وتزيد فى هتافاتهم ،كأنها تشعر وتحس بفرح إلزاحة ورقة التوت الوحيدة عن عورة الحكم . 159
تحركت بآلية إلى الكاميرات ،ألقيت بيانا ً رجوتهم فيه التريث قبل هدم المعبد على من فيه ،وطالبتهم بالروية والتفكير فى مصير البلد قبل مصير األفراد ،وعاهدتهم على اإلصالح مااستطعت . بعدها عدت إلى مكتبى أجر قدمى جرا ً وقد شعرت بالعمر وهو يهرول أمامى مجتازا كل المراحل ليضعنى أمام شيخوخة كنت فى شرود عنها ،شيخوخة تسرى فى الروح والقلب وتمأل الجسد ببثورها وأدرانها وأنا ال أدرى ،لكننى اآلن واآلن فقط رأيتنى ال أمتلك القدرة على التحكم فى أعضائى كما كنت سابقا ،تمردت هى اآلخرى ولم تعد تخشى بطشى وقوتى ،قابلتنى حفصة مذعورة الخطوات باهتة النظرات متخبطة فى سيرها وهى تنظر هنا وهناك فى حيرة التدرى أين يمكنها أن ترمى بنظراتها المرتعدة ،حدقت فى وجهى -: -
األمر خطر ؟
حدقت فى عينيها صامتا ً مهزوم النظرات ،ال أعرف كيف واتانى هذا الشعور اآلن وأنا أراها أمامى عجوزً ا واهنة يكتسح المشيب وجهها ورأسها دون أن توقفه كل األشياء التى كانت تستخدمها لخداع نفسها أنها ماتزال فى طور النضج ،بينما الولد الخائب مسعود هناك يقف ناظراً فى حياد تام ،اليكلف نفسه مشقة معرفة ماآلت إليه األمور ،قلت أخيراً-: -
خطر جداً
ومضيت عنها إلى المكتب ،استدعيت رماح فوراً وقد استشعرت بوادر سقوط المفر منه ،أغلقنا علينا الباب وبدأت الحديث معه -: -
ماذا ترى ؟ 160
-
بلدًا يتهاوى أمام أعيننا ونكافح لمنع سقوطه
-
وهل سننجح ؟
-
البد ،من أجل البلد ال األشخاص
-
وماذا ترى ؟
-
هناك إصرار على إسقاط النظام الحالى ،ولألسف استغلوا معاناة الشعب وكمية الغضب الكامن فى الصدور لصالحهم .
-
هذا صحيح
-
حجم المؤامرة كبير ،والبد من مواجهتها باتزان وتعقل بعيدًا عن اإلنفعال ،وإستغالل كل ذرة حكمة فى رؤسنا من أجل االفالت من المصيدة المنصوبة للبلد
-
هل ترى أن أعلن استقالتى ؟
-
هذا أمر المفر منه
-
وتقوم بصفتك قائد القوات بالحكم لحين إجراء انتخابات جديدة
-
لن أتردد إذا كان هذا فى مصلحة البلد
-
وأنا ،وأسرتى ؟
-
لك مطلق الحرية فيما تفعل
161
-
لن أغادر البلد ،أعرف أننى سأتعرض للسجن والمحاكمة ولكن العمر ليس بأهمية الشرف ،على األقل فى هذا العمر
-
أعدك بشرفى العسكرى أن أحميك طالما باستطاعتى هذا
-
وأنا أثق بك.
كتبت ديباجة البيان االخير ،استدعيت مساعدى الذى جاء مكفهر الوجه ،أمرته بإلقاء بيان اإلستقالة فورا ،وخرجت ،مستسلما لرقاد لم أر مثل إلى حيث أويت إلى حجرتى آالمه من قبل . لكننى فتحت عينى مرتاعا ً على أصوات هادرة قريبة إلى درجة مخيفة ،دكت أذنى دكا ً ،سألت مذعوراً-: -
مااألمر ؟
قيل -: -
الجماهير خلف األسوار مصرة على الدخول، والقبض عليك وعلى أسرتك والحرس يبذل جهده لمنعهم .
ارتميت مكانى مشلول النظرات والفكر والحركة ،حتى الهواء لحظتها شعرت أنه تمرد على ،وكل ماأعيه من هذه اللحظات أننى رأيت وميضا ً كلمح البصر يخطف روحى ،يصور لى أشيا ًء أراها سريعة متالحقة دون أن امتلك القدرة على إيقاف تالحقها فى رأسى والحتى أتريث اللتقاط أنفاسى ،رأيتنى أقع بين أيديهم ،أتمزق بينهم ،أتهاوى ،أتبعثر ،تتوه عبر األزقة والحارات قطع جسدى ،اليستطيع مخلوق جمعها من جديد ، 162
ويستديرون على مسعود ولدى ،على حفصة زوجتى ،على سعاد ابنتى ،يمزقون الثياب ،يكشفون العورة ،ال . قمت ملتاعا ً وأنا أهز رأسى بكل قواى محاوال نثر الصور بعيدا ً عنى ،مضيت إلى أحد النوافذ ،األبواب الحديدية تهتز بفعل موجات البشر التى تدفعها بعنف ،النهار نوره نار ،والقصر الفسيح صار سجنا ً صغيرا ً اليتسع لإلحتماء به ،والعسكر على ، المساكين اليمتلكون القدرة على الصد ،الكون يضيق ً السماء الفسيحة التى كانت قريبة دوما ً تبتعد وتتوارى خلف حجاب ،األرض تفتح فوهتها إلى أعمق أعماقها لتبتلع قلبى الذى يتهاوى بال قرار ،ارتميت على مقعدى مهدما ً ،عاجز الفكر والجسد والروح متهالك القلب زائغ النظرات ،تنبهت لعينى قطة سوداء حانية النظرات ترمقنى على البعد عند مدخل الباب وتنطلق مولية إلى حيث ال أدرى ،لم أبال بها فما يجرى اآلن قد ترك عقلى صفحة بيضاء مطموسة الوعى واإلدراك ، تعالت الهتافات أكثر عن ذى قبل ،وسمعت طلقات نارية تنطلق متحدية ومصممة على إشعال مزيد من النيران ،اجتاحتنى رغبة أن ألقى بنفسى بين أيديهم وأنهى هذا األمر فوراً ، فوجئت بأعداد من القطط ال تحصى تسعى نحوى ،تشدنى إليها ،أتحول إلى واحد منها ،أسير برفقتها ،أهرول ،أجتاز الطرقات ،أثب من النوافذ إلى الطريق فى ذات اللحظة التى تهاوت فيها األبواب وتراجع الجند وداست األقدام أرض القصر وامتدت األيدى الى مافيه ،وهرولت األعين تبحث فى أرجائه منقبة لتشفى غليلها وتنهى مرحلة البد أن تنتهى بأى حال ، هرولت وسط القطط خارجا ً إلى الطريق ،محاطا ً بالعشرات منهم أمنا ً مطمئنا ً ،شاعرا ً بامتنان كبير لتدخلهم فى وقت حرج كعادتهم معى ،التفت ألقدم الشكر ألحدهم ،رأيت أعداداً كبيرة من الكالب الوحشية الظاهرة األنياب ،الالهثة األنفاس ، بألسنتها المدالة أمامها تتقدم نحونا متحدية ،محاصرة لنا ، 163
متوثبة علينا وصراخها يمأل األجواء ،تحفزت القطط لها ،قوست ظهورها استعداداً للدخول فى صراع دام ،رافضة اإلذعان أو اإلستسالم لها ،معلنة الثورة عليها وعلى تدخلها الدامى وعوائها المجنون ،الكالب أيضا زمجرت وعال عواؤها عن ذى قبل وهى تستعد لإلندفاع ،اندفع العواء ، صده المواء ،تراشقا بالسباب وكل منهما يتقدم خطوة ويتأخر أخرى ،ينتظر اللحظة التى ينقض فيها على اآلخر ،وهنا رأيت ذئابا ً شرسة تظهرقادمة لتقتحم المكان ،تهجم بكل الحنق ،وثعالب ماكرة تكر ،وضباع متوحشة تتحرك ،الكل انتهز الفرصة وكر بكل طاقته ليضرب بقوة ،بعنف ،بحنق ، بكراهية اليحدها حد وال تعرف توقف والتأبه لشىء إال إنزال مزيد من القهر والذل والهوان والقتل والتدمير بكل من تقابله إلى الدرجة التى وقفت فيها الكالب ناظرة إلى مايجرى وربما فكرت فى الدفاع عن القطط أمام هذا الجنون المطبق ،أخذت الكالب تنفذ بين صفوف القطط التى توقفت أمام هذا الفيضان الجارف ساكنة تحدق فى تسليم ،دارت حولها تتشمم الروائح وتحدق فى الوجوه حتى وصلوا الى ،أحاطوا بى واقتادونى مقيدا ً الى محبسى ،وحيدا ً إال من مرارة انتظار ال أدرى إلى متى سيطول . بعدها علمت أن رماح قد تولى األمر ،سيطر بأقصى مايستطيع من سرعة على الكرسى ،تولى مطاردة الذئاب الغريبة والضباع والثعالب وغيرها ،تولى أمر الكالب ،أما القطط فمنذ سجنت وأنا ال أراها ولم أسمع عنها خبراً ! وألننى وجدت منذ تم نقلى إلى هذا المنزل الكائن على حافة الكون أوراقا ً وأقالما ً فقد وجدتها فرصة ألشغل وقتى الذى امتد بال حدود أوالً ،وثانيا ً أقول مالدى لعل وعسى يأتى فى الغد أو بعد الغد منصف يقرأ مابين السطور ،يكشف المسئول
164
عما جرى ،يحدد الجانى والمتهم األصلى ،ويبرىء من يستحق التبرئة والغفران!!
تمت بحمد هللا األسكندرية فى 8/12/2015
165
بسم هللا الرحمن الرحيم سيرة ذاتية على داود محمد عباس / االسم مهندس كهرباء وقوى كهربيه / المهنة العنوان /ص ب 596مركز الحركة -محطة مصر- مصر اسكندرية- الكتابة قصه قصيرة -روايه -شعر
ايميل Mdawod58@yahoo.com abassalym@yahoo.com
mobil : 01273803190 كتب مطبوعه الوهم والضحكاتحين تميل الجدرانالطريق الى منبع الشمسالطريق الى منبع الشمس الملكه166
قصص قصص قصص ط1 ط2 قصص
أشياء التحدث مرتين حلم الذى هوىثورة الحميرآنات وترمشدودفاطمة تعيش الحلم-حديث مع السكون
رواية روايه قصص اطفال قصص
قصص ) جائزة الطيب صالح(2015 ديوان (عماد قطرى للنشر )
قصص وأشعار منشوره أوال -فى مجالت العربى -الحرس الوطنى -الفيصل– الكويت – الدوحه– الراوى –عبقر– الحركة الشعرية بالمكسيك -الثقافة الجديدة -حواء- القصه -الهالل -حسمى -الرافد -المجلة العربية – نادى الجسرة الثقافى ثانيا ً فى جرائد االهرام األخبار -الجمهوريه -القاهره -المساء -طنجة األدبية النقاد أعماله ناقش المرحوم د .مصطفى هدارة -د.سعيد الورقىالجيار د.مدحت الحميد- عبد د.محمد شوقى بدر يوسف -د.مصطفى الضبع -د.مجدى توفيق -كمالعماره
167
جوائز أدبيه مجله النصروالقوات المسلحة جائزه نادى القصه جائزه هيئه قصور الثقافه (الطريق الى منبع الشمس) كأفضلمجموعة قصصية على مستوى مصر عام2002 جائزة الطيب صالح فى القصة القصيرة عن مجموعة فاطمةتعيش الحلم جائزه نادى الطائف بالسعوديه العضوية األدبيه عضو عامل باتحاد كتاب مصر عضو اتحاد كتاب االنترنت العرب عضو نادى القصة عضو رابطة األدب اإلسالمى
168
169