يوميات مسجون

Page 1

‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬

‫يوميات مسجون ‪vip‬‬

‫رواية‬

‫محمد عباس على داود‬ ‫‪1‬‬


‫إهداء‬

‫ألم مالها مثيل أقول مخلصا ً ‪ ..‬حفظك هللا‬

‫‪2‬‬


‫ملحوظة‬ ‫هذه الرواية ليست تأريخا ً ألحداث وال سيرة ألشخاص وإذا كان‬ ‫هناك بعض تشابه بين بعض أحداثها وبين أحداث وقعت هنا‬ ‫أو هناك فهذا من قبيل التشابه وليس تعمد النقل أو التأريخ ‪.‬‬

‫‪3‬‬


‫(‪)1‬‬

‫نظرة للخلف‬

‫ال أعرف لماذا كلما نظرت الى الوراء ال أجد إال السراب ‪.‬‬ ‫وفى هذا الضيق ‪ -‬على عكس ماقدرت ‪ -‬تتسع الرؤى ‪،‬‬ ‫وتتضح المعالم ‪ ،‬فيبدو لى وسط الظلمة مالم أره طول العمر ‪،‬‬ ‫ذلك العمر الذى امتد الى درجة أن قلت لنفسى ‪- :‬‬ ‫ كفى ‪ ،‬الى أين ؟‬‫السكون أما أن يكون فراغا ً تصبح فيه وحدك قشة هشة‬ ‫تائهة فى الكون ‪ ،‬الهى على األرض فترضى ‪ ،‬والهى فى‬ ‫السماء فتهنأ ‪ ،‬بل هى هكذا ‪ ،‬معلقة ‪ ،‬التعرف لها مقراً‬ ‫والمأوى ‪ ،‬أو يصبح الفراغ فرصة لتعود به ومعه الى حيث‬ ‫تمأل لحظاته بما يلوح لك وما يدور بك ومعك من أفكار تتجسد‬ ‫وتتعملق لتصير حاضرا ً يتحدث عن أمسك ‪ ،‬أو أمس آخر‬ ‫ينافس حاضرك فى الوجود ‪ ،‬أو هى ربما خليط من أزمنة‬ ‫شتى تتحاور أمام عينيك ‪ ،‬وأنت كلما تقدمت بك اللحظات‬ ‫تتساءل ‪ :‬وماذا بعد ؟‬ ‫الغرفة نصف مظلمة ‪ ،‬صرت أراها متسعة بما يكفى ألنثر عبر‬ ‫أرجائها المتخمة بالرطوبة أفكاراً شديدة الحرارة حينا ً ‪ ،‬وحينا ً‬ ‫آخر أفكارا ً متدثرة بالحكمة ‪.‬‬ ‫الحكمة كما تبدو لى اآلن تاج الفاشلين ‪ ،‬يبررون بها فشلهم ‪،‬‬ ‫ربما ‪.‬‬ ‫وربما هى مالذ العقالء الذين يضجرون من ضجيج الحياة‬ ‫وصراعاتها فيلجأون الى االبتعاد واختيار الظل طوعا ً ‪ ،‬أو‬ ‫هى فى مثل حالتى رغما ً عنهم ‪ ،‬يلجأون اليها‪ ،‬يتوارون خلفها‬ ‫ويسكبون حيرتهم بين يديها ‪ ،‬وحين تضعهم على شط نهرها‬

‫‪4‬‬


‫الجارى يرون صفاء مائها وسالسة جريانه ‪ ،‬فيدركون من‬ ‫أمرهم مالم يدركوه من قبل ‪.‬‬ ‫آااااه ‪.‬‬ ‫هل أخطأت ؟‬ ‫ربما‬ ‫وربما هو ذلك الوهم الذى بنيته ليكون صرحا ً عاليا ً فهدنى ‪!..‬‬ ‫مرقدى ينزوى بالركن األيمن من الحجرة ‪ ،‬أريكة بالكاد تكفى‬ ‫جسدى المتخم باآلالم ‪ ،‬وإلى جوارها وعلى األرض حصير‬ ‫عليها حامل صغير عليه كتاب هللا ‪ ،‬هذا كل مااحتجت إليه اآلن‬ ‫‪ ،‬أما هؤالء السجانون الذين يقفون ببابى فلم أفكر فى توجيه‬ ‫اللوم إليهم ‪ ،‬يكفيهم ماهم فيه اآلن ‪!!.‬‬ ‫الرقاد هنا صار أروع من ذى قبل ‪ ،‬ربما فى األيام القالئل‬ ‫األولى كان حفرة من جحيم ‪ ،‬لكنه بعدها رويدا ً تحول الى مالذ‬ ‫وأمان ‪ ،‬نسيت الفراش الوثير الذى كان يُعتنى به صبح مساء ‪،‬‬ ‫مفارشه وغطاؤه تتغير فى اليوم الواحد مرات ‪ ،‬نسيت الورود‬ ‫والرياحين وأريج الياسمين ورياض القصر العامر بزهوره‬ ‫وبديع جنانه ‪ ،‬نسيت عشرات العيون التى تتابع لفتاتى وتهرع‬ ‫لتلبية أوامرى راضية ‪ ،‬ربما ال أفكر فى هذا اآلن وال أشغل‬ ‫بالى به لوجود ماهو أهم وأجدى ‪.‬‬ ‫أحدق فى الركن المظلم هناك ‪ ،‬الجدار المعبق بالرطوبة‬ ‫والظلمة وفراغ التيه صار أنيسى ‪ ،‬أحدق فيه بقوة ‪ ،‬تترائى‬ ‫على صفحته رؤى تشد نفسى إليها‪ ،‬أبصر مالم أبصره من قبل‬ ‫‪ ،‬أفتح عينى وأهوى الى األمس ‪ ،‬أدور فى لحظاته وثوانيه‬ ‫منقبا ً وال أمل من التنقيب والبحث ‪ ،‬ربما ألننى لم يعد لى إال‬ ‫هذا ‪.‬‬

‫‪5‬‬


‫(‪)2‬‬

‫حكاية القطة‬

‫قد يكون للقطة تاريخ طويل مع البشر الى درجة أن المصريين‬ ‫القدماء اعتبروها آلهة للخصوبة واألمومة ‪ ،‬أما معى فاألمر‬ ‫يختلف تماما ً فأنا منذ البداية كنت أتحاشاها ‪ ،‬أو لنقل أنى كنت‬ ‫أخشى االقتراب منها ‪ ،‬أراها ربما فى منطقتنا الشعبية مثاراً‬ ‫للرثاء والشفقة من بعيد ‪ ،‬وال أفكر فى االقتراب منها لخوفى‬ ‫من جسدها الذى ربما حمل الحشرات الدقيقة التى التراها العين‬ ‫وتنقل األمراض ‪ ،‬لذا كنت أنظر وأتعاطف معها عن بعد وال‬ ‫أفكر مجرد تفكير أن ألمسها ‪ ،‬إلى أن كان يوم والكهرباء‬ ‫مقطوعة عن المنطقة ‪ ،‬والظالم سيد الليل ‪ ،‬والسكون بساط‬ ‫الحارة ‪ ،‬وأنا أسير وحيدا ً عائدا ً من المقهى ليالً ‪ ،‬أتلمس‬ ‫طريقى محاذرا ً ‪ ،‬حين اهتزت روحى بعنف ‪ ،‬ورأيتنى أحدق‬ ‫بأقصى ماتمتلك عيناى من اتساع على ضوء شعاع من مصباح‬ ‫نافذ من أسفل أحد النوافذ المطلة على الحارة ‪ ،‬كان الشعاع‬ ‫أصفر اللون ‪ ،‬باهت بعض الشىء ‪ ،‬ال يكاد يمتلك المقدرة‬ ‫على إيضاح الصورة كما يجب أن تكون ‪ ،‬وفى ذات الوقت‬ ‫التستطيع أن تقول هنا إظالم ‪ ،‬رأيت حركة تموجية سريعة‬ ‫لثعبان أرقط ترسم فى قوة ثمانيات وسبعات على األرض ‪،‬‬ ‫محاوالً قطع الطريق من جدار الى آخر ‪ ،‬وقطة سوداء بالكاد‬ ‫حددت كيانها الفاحم وسط العتمة ‪ ،‬بينما خضرة عينيها نجمتان‬ ‫تتألقان بقسوة وهما تتربصان بالثعبان الغاضب الذى وجد أن‬ ‫اإلفالت منها صعب ‪ ،‬كانت تحاصره بأقدامها لتمنعه من الهرب‬ ‫‪ ،‬وفى ذات الوقت تأخذ وضع االستعداد وتنفش ظهرها‬ ‫وتقوسه وتصدر زمجرة غاضبة تتحدى بها قدرته على الوثوب‬ ‫إليها واعتصار جسدها بعضالته التى لو أطبقت عليها‬ ‫‪6‬‬


‫ألعتصرتها شر اعتصار ‪ ،‬وكلما اقترب من جدار قطعت‬ ‫الطريق عليه وهى تمد قدمها أمامها بانتظار أن يهاجمها فترد‬ ‫هجومه ‪ ،‬وفى ذات الوقت تحاذر أن تقترب المسافة الى الحد‬ ‫التى التملك معه القدرة على المناورة والبعد فى اللحظة‬ ‫المناسبة عن سمه الزعاف وعضالته ‪ ،‬كان المقهى قريبا ً الى‬ ‫الدرجة التى لو صرخت سيسمعنى بعضهم ويأتى ‪ ،‬لكننى ال‬ ‫أعرف لماذا لزمت الصمت ‪ ،‬شدتنى المعركة والمناورات الذكية‬ ‫التى يبديها االثنان وهما مشغوالن عنى بقتالهما المثير ‪،‬‬ ‫اقتربت قليالً الى أن لزمت أحد الجدارين وبيدى حجر التقطته‬ ‫من األرض منتظرا ً فرصة ألصوبه الى رأس الثعبان الذى‬ ‫مضى الى الجدار اآلخر قطعت القطة عليه الطريق استدار‬ ‫سريعا ناحيتى ‪ ،‬وقع قلبى من الخوف ‪ ،‬سقط الحجر من يدى‬ ‫‪ ،‬وارتعدت كل ذرة فى جسدى وأنا أراه يصل لساقى ‪ ،‬يدور‬ ‫حولها ‪ ،‬يعتليها صاعدا ً ‪ ،‬فتحت فمى ألصرخ ‪ ،‬خرج الهواء‬ ‫منثورا ً ولم أنطق بحرف ‪ ،‬ورأيتنى أحاول الهرب والجسد‬ ‫المرعب بملمس جلده الناعم يشل ساقى اليسرى وهو يتمدد‬ ‫صاعداً فى ثقة ‪ ،‬ولم أدر إال وأنا أمد يدى االثنتين مرة واحدة‬ ‫‪ ،‬أطرحه بكل الرعب عنى ‪ ،‬يرتطم بالجدار ويهوى أرضا ‪،‬‬ ‫تتلقاه القطة بأظفارها وأنيابها ‪ ،‬أهرول الى حجر كبير ال أدرى‬ ‫ليلتها كيف حملته ‪ ،‬ربما من أثر الرعب ‪ ،‬أو هى قوة فى‬ ‫اإلنسان التظهر إال وقت الخطر ‪ ،‬أو ربما قوة ما ساعدتنى‬ ‫وحملته معى ‪ ،‬ال أدرى ‪ ،‬كيف ماأعرفه أننى حملت الحجر‪،‬‬ ‫اندفعت الى رأس الثعبان ‪ ،‬ضربته بكل قواى ‪ ،‬همدت الرأس‬ ‫لحظة كانت كافية ألن أكرر فعلتى ليستمر الهمود ‪ ،‬أعاود‬ ‫الضرب ثالثا ‪ ،‬يتفجر الدم من الرأس ‪ ،‬ينتفض الجسد بقوة ‪،‬‬ ‫يتراقص رقصة الموت قبل أن تهدأ حركته ويطويه الموت ‪،‬‬ ‫ليلتها رأيت مالم أره من قبل وعرفت مالم أعرفه ‪ ،‬وبدأت‬ ‫رحلتى مع القطط ‪..‬هل أقول مارأيت ؟‬

‫‪7‬‬


‫ولم ال ؟‬ ‫لكنى منذ رأيت مارأيت فى تلك الليلة عاهدت نفسى على‬ ‫الكتمان حتى عن تلك السطور ‪.‬‬ ‫على كل يكفى أن أبوح ببعض وأخفى بعض ‪.‬‬ ‫وقفت والقطة متواجهين وكل منا يحاول السيطرة على نبضاته‬ ‫‪ ،‬حدقت القطة فى عينى ‪،‬األحداق الشريطية رأيتها مستديرة‬ ‫كأعين البشر ‪ ،‬خضرتها ناعمة تمتد كبساط يحوى فوق أديمه‬ ‫امتنانأ وعرفانا ً ‪ ،‬تعتدل فى وقفتها ‪ ،‬ترمى برأسها الى الخلف‬ ‫فى أنفة‪ ،‬تهمس بصوت حان بكلمات شكر ‪ ،‬ال أدرى كيف‬ ‫فهمتها وهل قالتها بلغتى فلم تفتنى ‪،‬أم قالتها بلغتها ففهمتها ‪،‬‬ ‫أم هى لم تنطق ومن نظرة عينيها أدركت ماتريد ؟‬ ‫حقيقة حتى اآلن مازلت أتساءل عن الكيفية التى رأيتها تلك‬ ‫الليلة بها والكيفية التى سمعتها بها ‪.‬‬ ‫هرولت حينما استدارت عنى الى ظلمة مالها قرار عائداً إلى‬ ‫المقهى ‪ ،‬صارخا ً‬ ‫ شفتوا ما جرى ؟ ثعبان كبير قتلته بحجر‬‫هرولوا معى الى المكان الذى مازالت فيه بقايا رأس الثعبان‬ ‫وجسده ‪.‬‬ ‫الغريب أننى ليلتها بدون اتخاذ قرار أو التفكير فى إخفاء شىء‬ ‫أو شيئا ً من هذا القبيل رأيتنى أخفى عنهم حكاية القطة ‪،‬‬ ‫وكانت تلك بدايتى معها !!‬

‫‪8‬‬


‫(‪)3‬‬

‫محبس جديد‬

‫ال أعرف إن كان لى أن أسأل عن العالقة بين المرأة والقطة ؟‬ ‫كلتاهما أراها اآلن متأججة فى مشاعرها مابين الحب الشديد‬ ‫والبغض الشديد أيضا ‪ ،‬إذا أحبت اندفعت الى درجة الذوبان ‪،‬‬ ‫وإذا أبغضت فإلى أقصى مايمتلك القلب أو الروح من سواد ‪،‬‬ ‫ال أرى القطة كما يراها البعض غادرة ‪ ،‬سريعة التمرد ‪،‬‬ ‫التصون الود ‪،‬أو هى ناكرة للجميل بالمعنى الدارج ‪ ،‬ال أراها‬ ‫هكذا أبدا ً ‪ ،‬مواقفها معى تقول أن هذا القول هراء ‪ ،‬أو هو‬ ‫مبالغة شديدة التليق بقطة أصيلة من أصل مصرى صرف ‪،‬‬ ‫فالقطة المصرية من أذكى أنواع القطط فى العالم ‪ ،‬تبادلك‬ ‫عمالً بعمل وشعورا ً بشعور ‪ ،‬التبالى فى سبيل الوقوف إلى‬ ‫جانبك بشىء وال تأبه لشىء ‪ ،‬بل تندفع وسط النيران لتنجيك‬ ‫وتحمى ظهرك ‪ ،‬مثل المرأة فى عنفوان حبها ‪ ،‬وقد قرأت من‬ ‫قبل بخصوص عالقة القطة بالمرأة ‪ -‬خاصة فى مصر القديمة‬ ‫ مايلى ‪-:‬‬‫[القطة كانت معروفة في مصر القديمة باسم "ماو"‪ ،‬كان لها‬ ‫مكانة مهمة في المجتمع المصري القديم ‪ ،‬و بسبب مكافحتها‬ ‫للحشرات وقدرتها على قتل الثعابين مثل الكوبرا‪ ،‬أصبحت ً‬ ‫رمزا‬ ‫للنعمة واالتزان‪ .‬ثم أصبحت مع مرور الزمن إلهة‬

‫تمثل‬

‫الحماية‪ ،‬والخصوبة‪ ،‬واألمومة‪.‬‬ ‫وقد أقيم لها معبد كبير كان معروفا ً باسم معبد اإللهة‬ ‫باستيت وفيه تماثيل لها على هيئة القطة الوديعة ‪ ،‬ثم أدمجت‬ ‫باستيت مع اإللهة سخمت في الدولة الحديثة ‪ ،‬حيث تم تمثيل‬ ‫سخمت في هيئة امرأة لها رأس لبؤة مفترسة ‪ .‬فعندما تغضب‬ ‫‪9‬‬


‫باستيت الوديعة تصبح سخمت الشرسة ‪ ،‬وتنتقم من األعداء‬ ‫ومن هو ذى خلق رديء‪ .‬كانت مدينة بوباستيس (تل بسطة)‬ ‫مركز عبادتها‪ .‬وترمز القطة إلى اإللهة باستت‪ ،‬ابنة إله‬ ‫الشمس رع‪ ،‬التي كانت تصورها الرسومات على شكل امرأة‬ ‫لها رأس قطة ‪ .‬لذا ت ُعتبر "باستيت" إلهة الحنان والوداعة ‪،‬‬ ‫فقد ارتبطت بالمرأة ارتباطا ً وثيقاً‪.‬‬ ‫وقد ذكرت اإللهة باستيت في نصوص األهرامات منذ عهد‬ ‫األسرة القديمة ‪،‬‬ ‫وكانت إلهة الخصوبة تمثل في هيئة قطة ‪ ،‬أو في هيئة إمرأة‬ ‫رأسها رأس قط أو رأس اللبؤة و كانت تمثل الخصوبة والحب‬ ‫والحنان وحامية المرأة الحامل ]‬ ‫لذا أفكر كثيرا ً هذه األيام فى هذه القطة ‪ ،‬نعم أفكر فيها ‪ ،‬ليس‬ ‫كإلهة بطبيعة الحال ولكن ومن خالل مارأيته منها أفكر فيها‬ ‫كمنقذة تستطيع عمل شىء اآلن ‪ ،‬فلن ينجينى من هذا الموقف‬ ‫إال هى ‪ ،‬مادامت المرأة ‪ -‬زوجتى حفصة ‪ -‬ال تستطيع فعل‬ ‫شىء ‪.‬‬ ‫أحدق فى ظلمة الجدار كعادتى منذ حين ‪ ،‬وأرى كما لم أر من‬ ‫قبل وبكل الوضوح القطة تجمع زميالتها كما جمعتهن من قبل‬ ‫‪ ،‬تهاجم هذاا السجن الكبير ‪ ،‬تعتلى األسوار ‪ ،‬تقتحم األبواب‬ ‫‪ ،‬تكسر القضبان ‪ ،‬تقاتل الحراس ‪ ،‬وتفلت من نيران البنادق‬ ‫لتصل الى ‪ ،‬تقودنى خارجة الى حيث أرى النور من جديد ‪.‬‬ ‫انتبه لشىء يخمش قدمى ‪ ،‬انتفض فرحا ً وأنا أظن أن أحالمى‬ ‫قد تحققت بأسرع مما تخيلت ‪،‬أظنها القطة قد قرأت أفكارى‬ ‫وهرعت متوثبة إلى نجدتى ‪ ،‬أتباعد فورا ً عن خواطرى ألنظر‬

‫‪10‬‬


‫راجيا ً أن تكون هى ‪ .‬الشىء سوى البعوض الذى اليجد تسلية‬ ‫وربما رزقا ً إال على جلدى ‪.‬‬ ‫أعود الى لجة الشرود ‪ ،‬ارتعد لصوت صاعق يبدد بقسوته‬ ‫وعنفوانه رياض السكينة التى أنعم فيها ومعها ‪ ،‬الباب‬ ‫الحديدى يفتح وفيض من النور والهواء يغافالن الحارس ‪،‬‬ ‫ويهروالن الى الداخل ربما لإلطمئنان على صحتى ‪ ،‬تعلن‬ ‫مفاصلة عن نفسها بأقبح مايكون اإلعالن ‪ ،‬ويظهر أمام الباب‬ ‫الوجه الذى ال أطيق رؤيته للرجل المكلف بمراقبتى ‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫تفضل معى‬

‫إحترام زائف تكذبه عيناه وبرودة حروفه ‪.‬‬ ‫ الى أين ؟‬‫أسأله ‪ ،‬يرد باقتضاب ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫منزل جديد ‪.‬‬

‫‪-‬‬

‫لماذا ؟‬

‫‪-‬‬

‫تعليمات‬

‫يدير رأسه وهو يلقى بالرد المثلج دون أن يأبه بتقديم مزيد من‬ ‫اإليضاح ‪ ،‬أقوم متمهال مراودا ً مفاصلى ومهدهداً لها حتى‬ ‫تطيعنى وتقبل بالقيام ‪ ،‬صفان من الحرس أمام الباب يحيطوننى‬ ‫فى أولى مراسم الرحيل عن هذا القبر الملعون ‪ ،‬أتحرك لألمام‬ ‫وأنا أتحاشى النظر خلفى حتى ال أراه من جديد ‪.‬‬ ‫يتحرك الموكب مغادرا ً ‪ ،‬أرى من خلف قضبان العربة التى‬ ‫احتوتنى ككفن متحرك الشوارع منطوية صامتة كمداً كأنما هى‬ ‫تنعى سيدها القديم ‪ ،‬أرى جدران البيوت مشرئبة كأنما تطل‬ ‫‪11‬‬


‫على الموكب متسائلة عما جرى لى ‪ ،‬أخفض رأسى مكابداً‬ ‫قسوة الدموع وجموحها ‪ ،‬ولوعة القلب وشجونه ‪ ،‬وأنا‬ ‫أحاول إقناع نفسى بأن هذا كان البد أن يحدث مادام كان مكتوبا ً‬ ‫فى دفتر القدر ‪ ،‬وعلى أن أعى هذا وأتقبله حتى تسير بقية‬ ‫أيامى على نحو سهل ‪ ،‬فيه يسر وبال تعقيدات من إحساس‬ ‫بالغبن أو شعور بأسف ‪ ،‬أو حتى إجتياح آالم وعذابات المهانة‬ ‫أرجاء روحى دون قدرة لى على صد أو رد ‪.‬‬ ‫وصلنا الى منزل صغير على حافة المدينة محاط بحرس خاص‬ ‫يرتدى مالبس مميزة أعرفها جيدا ً ‪ ،‬وبيدهم أسلحة سريعة‬ ‫الطلقات ‪ ،‬وفوق أعينهم نظارات سوداء تخفى معظم المالمح‬ ‫وتمنح الناظر اليهم شعورا ً بالرهبة ‪ ،‬أدوا التحية فور نزولى‬ ‫من العربة وأثناء اقتيادى الى الداخل فذكرونى بالتحية القديمة‬ ‫التى كانوا يؤدونها بإخالص كأن روحهم تثب مع أيديهم محيية‬ ‫بالسالم ‪.‬‬ ‫المنزل يبدو نظيفا ً راقيا عكس السجن القديم الذى ظننته فى‬ ‫أول مرة رأيته فيها مقبرة فرشها مسنن بآالف الحراب ‪،‬‬ ‫وجدرانها تفيض بالكراهية والمقت ‪ ،‬وهواءها يفيض بالضيق‬ ‫والنفور ‪ ،‬وضعونى فيها ولم يف أحد بما وعدونى به من‬ ‫الحفاظ على حياتى وحياة أسرتى ‪ ،‬والعمل على عدم محاكمتى‬ ‫مهما كانت األسباب ‪ ،‬حاولت توصيل صوتى إليهم وتذكيرهم‬ ‫بوعودهم دون جدوى ‪ ،‬جدران حديدية أقيمت فوراً بينى‬ ‫وبينهم كأننى لم أكن يوما ً كبيرهم الذى يبذلون الروح من أجل‬ ‫الحفاظ عليه ورعايته والزود عنه بكل مايمتلكون من قوة ‪،‬‬ ‫رأيتنى أقيم فى هذا السجن الملعون ‪ ،‬وأدركت أن النهاية قد‬ ‫دنت ‪ ،‬ولم يعد للعهود مكان ‪ ،‬ولم يعد للوفاء بالوعود معنى ‪،‬‬ ‫لقد صرت كارتا ً محروقا ً مصيره بيد العامة قبل أن يكون بأيدى‬ ‫المسئولين ‪ ،‬البسطاء أصحاب الحناجر النحاسية واأليدى‬ ‫الممصوصة العجفاء الذين كانوا منذ أيام أو شهور يهتفون لى‬ ‫‪12‬‬


‫بكل العزم والحماس ( بالروح بالدم نفديك ) صاروا اليوم‬ ‫يتحكمون فى مصيرى !! ‪.‬‬ ‫ترى ما الذى يجرى لينقلونى الى هنا ؟‬ ‫على كل ومهما كانت األسباب هنا توجد تهوية وشمس تدخل‬ ‫بحرية وتخرج وقتما تشاء ‪ ،‬وهنا أيضا ً حديقة غناء واضح‬ ‫أنهم يهتمون بأمرها ‪ ،‬ويروون ظمأها ‪ ،‬ويراعون هيئتها‬ ‫وبهاءها ‪ ،‬األسوار من الخارج عالية يحيط بها الحرس ‪ ،‬أما‬ ‫من الداخل فتركوا لى حرية الحركة ‪ ،‬األجمل من هذا أن هناك‬ ‫أوراقا ً وأقالما ً يمكننى عن طريقها البوح كيفما أشاء بدالً من‬ ‫اختزان فوران الحروف فى صدرى ‪.‬‬ ‫وهاأنا ذا قد أمسكت بالقلم ‪ ،‬فتحت األوراق وبدأت التدوين ‪.‬‬ ‫شىء رائع أن تبوح ولو للورق ‪ ،‬وأن تفرغ شحنة ما من‬ ‫صدرك ‪ ،‬لحظتها تشعر أنك رويداً تتخلص مما كابدت من ألم ‪،‬‬ ‫وأنك جربت المخاض ‪ ،‬و كان الوليد حروفا ً تتراص فوق‬ ‫السطور‪.‬‬

‫(‪)4‬‬

‫مسعود ‪..‬والكرسى‬

‫ال أعرف حتى اآلن ‪ -‬وخاصة فى هذه السن المتقدمة ‪ -‬كيف‬ ‫يتحول الحب العميق الى كره عميق أيضا ‪.‬‬ ‫لكن هل أنا كرهت ولدى مسعود حقا ً ‪ ،‬أم كان األمر حنق هائل‬ ‫ألم بى ؟‬ ‫‪13‬‬


‫كان اليوم الذى أ ُعتقلت فيه هو الفيصل ‪ ،‬رأيتنى بحجم حبى له‬ ‫أنقم عليه ‪ ،‬أتلظى بنار الأمتلك قيادها ‪ ،‬أو حتى التحكم فى‬ ‫درجة تأججها ‪ ،‬وأندفع كطوفان جامح الحد له ‪،‬يقتحم ويدك‬ ‫ويطوى ‪ ،‬دون أن يمتلك ترف السؤال ‪ :‬كيف ‪ ،‬أو لماذا يقتحم‬ ‫‪ ،‬أو حتى الى أين سيظل هادرا ً اليعرف تهدئة واليفكر فى‬ ‫توقف ؟‬ ‫فكل ماتجشمته كان بسببه ‪ ،‬ولصالحه هو ‪ ،‬بينما هو هناك‬ ‫ينعم بالدفء فى فراش التكاسل والال مبااله ‪ ،‬فهو لكى يأخذ‬ ‫مكانى عليه أن ينال مباركة وتأييد رؤساء العشائر واألقاليم‬ ‫المنتشرين فى مشارق البالد ومغاربها ‪ ،‬وهذا التصلح له‬ ‫الخطابات أو الرسل المؤتمنين ‪ ،‬ولكن البد من اللقاء‬ ‫والمساومة ‪ ،‬ثم الموافقة والبيعة والعهد ‪ ،‬وبعدها يستريح‬ ‫على الكرسى العالى أمنا ً مطمئنا ً شامخا ً بأنفه فى كبرياء وأنفه‪،‬‬ ‫وقد كنت ‪ -‬حقيقة ‪ -‬فى قرارة نفسى رافضا ً لهذا تماما ً ‪ ،‬ال أراه‬ ‫بصريح القول أهالً ألن يعتلى مكانا ً كهذا يحكم الناس ويفرض‬ ‫رؤيته على إرادتهم وحياتهم ‪ ،‬فهو أقل من أن يقنع أحداً برأى‬ ‫مهما كان مقتنعا ً به ‪ ،‬ناهيك عن إقناع أفراداً أو جماعات ‪،‬‬ ‫فكيف يتسنى له أن يرتفع فوق أعناق لن تنظر له إال بالكراهية‬ ‫والحقد وانتهاز الفرصة التى البد ستسنح لكى يقفزوا عليه‬ ‫ويسلبوه مكانه ‪ ،‬وربما ألقوا به فى غيابات السجون ؟‬ ‫لكنها أمه حفصة ‪ ،‬هى التى ألحت ورتبت وجهزت وفرضت‬ ‫رأيها على باإللحاح والبكاء تارة ‪ ،‬وبالتهديد تارة أخرى بأننى‬ ‫يوما ً ما سأضطر لترك الحكم وحينها لن أجد وفا ًء من أحد ‪،‬‬ ‫ولن أرى عهدا ً يصان ‪ ،‬والكرامة تحفظ ‪ ،‬بل ربما ألقونى بين‬ ‫براثن محاكمة تنهش روحى بال هوادة وتقتنص فؤادى بال‬ ‫رحمة وال إحساس ‪ ،‬مما جعلنى أسعى لبذل الجهد من أجله ‪،‬‬ ‫و قررت القيام عنه بالسفر هنا وهناك ألسباب عديدة ‪ ،‬لعل‬ ‫‪14‬‬


‫أهمها المحافظة على األسرة بعد تخليها عن الكرسى العتيد من‬ ‫المالحقة واالنتقام ‪.‬‬ ‫كنت ومازلت أحبه ‪ ،‬هذا صحيح فهو ولدى ‪ ،‬وحبى له فوق‬ ‫ماأدرك أو تمضى بى األفكار واألحاسيس ‪ ،‬وكيف ال أحبه‬ ‫وكيف ال ارتبط بكل مااسماه البشر مشاعر وأحاسيس مع ابن‬ ‫وحيد هو لى كل شىء ‪ ،‬ابن رأيته أمنية سامية تمنيتها أياما‬ ‫طويلة ‪ ،‬وحين هل هاللها سعدت بها ورضيت ‪ ،‬حمدت ربى‬ ‫كثيرا ً ودعوته أن يحفظه ويرعاه ‪ ،‬وفى كل لفتة كنت أراه‬ ‫النبع الذى تستقى منه الروح الحياة والعين النور ‪ ،‬كنت أراه‬ ‫نبتة خضراء يانعة ‪ ،‬تنمو فى براح القلب ‪ ،‬وتتألق تحت‬ ‫سماء الروح ‪ ،‬وتتدثر بدفء األنفاس فى كل حين ‪ ،‬وحين‬ ‫اشتد عوده واستوى شابا ً يمأل العين شاركت أمه ‪ -‬رغما ً عن‬ ‫كل أفكارى عنه ‪ -‬ىالحلم بيوم زفافه إلى الكرسى الكبير ‪،‬‬ ‫وبلحظة وقوفى وسط الخلق رافعا ً الرأس شامخا ً بأنفى قائالً ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫لقد أنجبت وربيت ‪ ،‬وهاأنا ذا أتوجه على بلد عظيم‬ ‫يكون فيه تاج الكبير الحب ‪ ،‬وقانونه العدالة ‪،‬‬ ‫ونظامه االصالح ‪.‬‬

‫قلت له هذا ‪.‬‬ ‫وقف محدقا ً بعينيه الواسعتين السوداوين اللتين تطلقان‬ ‫حدقتيهما تبرقان فى وجهى دون أن ينطق بحرف ‪ ،‬شرحت له‬ ‫األمر كما يبدو لى تفصيالً لكى يعرف أى كرسى سيعتلى وأى‬ ‫قوم سيكون عليهم كبيرا ً ‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫الكرسى ياولدى هو الرباط لكل من حولك ‪.‬‬ ‫هو الحاكم الذى تخضع له الرقاب‬ ‫وتنزوى أمامه كل األراء‬ ‫‪15‬‬


‫واليبقى لهم إال المشورة حين تطلبها ‪ ،‬والطاعة فى كل‬ ‫حين ‪.‬‬ ‫عادة هم الينظرون إلى من يعتلى الكرسى ‪.‬‬ ‫يرونه أبعد من نظراتهم وأعلى من رؤسهم ‪.‬‬ ‫قد يغتابونه بكلمات خفية خلف األبواب المغلقة ‪.‬‬ ‫وقد يتجرأ أحدهم وسط العامة ويرمى بكلمة عاصية‬ ‫لكنهم متى ظهرت لهم‬ ‫وبدت قوتك أمامهم‬ ‫انحنت لك رؤسهم‬ ‫ولجمت أفواههم‬ ‫ولم يبد منهم إال البسمات واألدعية والقول المأثور‪-:‬‬ ‫ بالروح بالدم نفديك يافالن‬‫وفالن هذا ياولدى مهما كان ومهما كانت صفته مادام يعتلى‬ ‫الكرسى فسوف يطيعونه فى كل حين ‪ ،‬شرط أن يعرف متى‬ ‫يتكلم وماذا يقول ‪ ،‬وهل يظهر السيف أم يشير بالجزرة ‪،‬‬ ‫وكيف يحافظ على شعرة معاوية ‪ ..‬تلك الشعرة مهم جداً‬ ‫ياولدى أن تحافظ عليها ‪ ،‬ترعاها وتضعها دوما ً نصب عينيك ‪.‬‬ ‫أفهمت ياولدى ؟‬ ‫فرد ذراعه اليمنى فى وجهى ومد إصبعه السبابة الى مستوى‬ ‫عينى محذرا ً ‪-:‬‬

‫‪16‬‬


‫االختيار لى‬‫حدقت فى عينيه مأخوذا ً وأنا أرى اإلصبع الصغير الذى ربيته‬ ‫من ذوب روحى يشتد ويكبر ليمتد عقيما ً فى وجهى ‪ ،‬قلت ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫ياولدى ‪ ،‬أريدك أسعد الناس‬

‫قال ‪ -:‬أنا أدرى كيف أصنع سعادتى‬ ‫قاومت إحساسا ً بالضيق يجتاح روحى من نقاشى معه ‪،‬‬ ‫وكرهت محاولتى أن أزرعه فى أرض ليست له وليس لها ‪.‬‬ ‫قلت ‪ -:‬الخبرة ال غنى عنها‬ ‫قال ‪ -:‬زمانك ولى ‪ ،‬ولم تعد خبرتك تفيد فى زمن ليس لك‬ ‫تزايدت صبغة السواد فى نبضاتى وأنا أصغى اليه ‪ ،‬حتى وأنا‬ ‫اجاهد نفسى ألكبح جماح رفضى إللحاح أمه ومحاوالتها‬ ‫المستميتة لفرض رؤاها أرانى أبذل جهداً أكبر إلقناعه بأمر أنا‬ ‫ذاتى لست مقتنعا ً به !‬ ‫اتسعت مساحة الدهشة فى براح نظراتى وتأججت فى صدرى‬ ‫نيران غضب عارم كتمته بالكاد ‪ ،‬عدت أقول ‪-:‬‬ ‫ حسن االختيار اليعرف زمان‬‫قال ‪ -:‬ال أتوق إليه‬ ‫قلت أخيراً وقد شعرت بأن الحجج التى أسوقها إليه بليت‬ ‫وتهرأت من كثرة ترديدى لها ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫لقد تحدثت الى رؤساء العشائر واألقاليم وانتهى األمر‬

‫أدار وجهه عنى ‪-:‬‬ ‫‪17‬‬


‫‪-‬‬

‫لم ترجع الى‬

‫رأيتنى أحدق فيه لحظتها وأراه كما لم أره من قبل ‪ ،‬أرى قلبا ً‬ ‫غريبا ً عنى وروحا ً نائية عن روحى ووجها كنت أظننى أعرفه‬ ‫‪ ،‬فقد حلمت بلحظة انتظرتها سنينا ً عدة ‪ ،‬حلمت بها لفتة‬ ‫لفتة ‪ ،‬وكلمة كلمة ‪ ،‬ومهدت لها فى طول األرض وعرضها ‪،‬‬ ‫حلمت بلحظة من أجلها صاحبت من أكره ورافقت من أخالفه‬ ‫الرأى ‪ ،‬واستشرت من أزدرى رأيه وال أقيم لكلماته وزنا ً ‪ ،‬قلت‬ ‫للجميع أن ابنى هذا سيكون خليفتى من بعدى ‪ ،‬له ماكان لى‬ ‫وعليه ماكان على ‪ ،‬وقررت من أجله السعى بين مشرق البالد‬ ‫ومغربها ألخذ البيعة بنفسى واعطاء العهود باألمان‬ ‫و جاءت اللحظة التى حلمت بها ‪ ،‬لكنه كعادته هدم الحلم وزاد‬ ‫مرارة الواقع وكسر مرايا الوهم التى كنت أراه من خاللها ‪،‬‬ ‫وهو يقف بين يدى رافعا ً صوته ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫أنا ال أصلح لخالفتك !!‬

‫تناثرت النظرات ‪ ،‬تدافعت الكلمات ‪ ،‬احتد األمر‪ ،‬وبكت أمه‬ ‫أمام عينيه راجية منه التريث ‪ ،‬وعدم التسرع فى أمر قد يكلف‬ ‫األسرة كلها مستقبلها ‪ ،‬واجهها محتدا ‪-:‬‬ ‫أنت التريدين مصلحتى أنا ‪ ،‬بل مصلحتكم‬‫القت بين يديه بنظرات متوسلة ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫وماالفارق بين االثنين ؟‬

‫حدق فى عينيها ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫الفارق أننى ال أريد‬

‫‪18‬‬


‫وقفت حائر النظرات أحدق فى الولد الخائر العزم ‪ ،‬الذى‬ ‫يخشى مجابهة الصعاب التى لن ينال منها إال المشاكل والقلق‬ ‫كما يقول ‪ ،‬وبين أمه التى لم تر فائدة ترجى من الحوار معه ‪،‬‬ ‫فلجأت الى حيلة أعرفها جيدا لطول ماخبرتها ‪ ،‬وأدعت اإلغماء‬ ‫‪ ،‬سارعت الى نجدتها تاركا ً لولدها المجنون هذا أن يقوم بجهد‬ ‫أكبر فى إفاقتها ويعلن صاغراً موافقته على مانريد له !!‬ ‫بعدها طلبت منه أن يجهز نفسه لبدء الرحيل لمقابلة رؤساء‬ ‫العشائر واألقاليم واالتفاق معهم وأخذ العهود بمناصرته‬ ‫والوقوف الى جواره ‪ ،‬سألنى ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫وهل لهذا أهمية ؟‬ ‫رميته بنظرة يستحقها و أجبت‪-:‬‬

‫‪-‬‬

‫كل األهمية‬

‫ثم تشاغلت عنه !‬ ‫أتوقف قليالً عن الكتابة ‪ ،‬أدير عينى فى المكان حولى بهدوء‬ ‫وروية كانما أبحث عن شىء ال أدرى ماهو ‪ ،‬أعود و أمسك‬ ‫القلم الشارد الذهن ‪ ،‬الساكن بين أصابعى بينما أفكاره مبحرة‬ ‫فى غياهب األمس البعيد ‪ ،‬أعود إلى بداياته معى ‪ ،‬أو بداياتى‬ ‫أنا معه ‪ ،‬حتى قبل أن يولد هذا الولد كان هكذا ‪ ،‬مكتوبا ً فى‬ ‫دفتر الغيب أنه جاحد ‪ ،‬عنيد ‪ ،‬اليقيم وزنا ً ألبويه ‪ ،‬ال أعرف لم‬ ‫‪ ،‬عيناه الهيتان ‪،‬كلماته حادة ‪ ،‬مسننة ‪ ،‬إذا أحب شيئا ً أدمنه‪،‬‬ ‫وياويل من يفكر أن يأخذ شيئا ً يخصه ‪.‬‬ ‫وقد كنت رغم كل شىء أحاول التقرب منه ‪ ،‬ومحادثته‬ ‫ومحاولة إدخاله فى مجال العمل معى وكان ينفر ‪ ،‬دوما ً كان‬ ‫يفعل غصبا ً عنه ‪ ،‬ويبدى الضيق والتبرم كأنه مساق الى هلكته‬ ‫‪.‬‬ ‫‪19‬‬


‫وحينما كان يثير المشاكل مع أمه وأحاول اإلصالح بكلمة تنهى‬ ‫األمر يرمينى بنظرات التذمر مجبراً على طاعتى ‪.‬‬ ‫أذكر جيدا ً وال أنسى أبدا ً ذلك اليوم الذى استدعيته فيه إلى‬ ‫مكتبى بعد مشادة حامية مع شقيقته سعاد ‪ ،‬يومها تدخلت أمه‬ ‫منتصرة للبنت التى اعتدى عليها بالضرب ‪ ،‬طلبت أمه منه‬ ‫االعتذار ‪ ،‬صمم على الرفض ‪ ،‬قالت لى همسا ً حينما اختلت‬ ‫بى ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫هذا الولد يحتاج لقبضة حديدية للتعامل معه‬

‫تبسمت معجبا ً بعبارتها تلك وتساءلت ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫قبضة حديدية ! مع مسعود !‬

‫أشاحت بيدها‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫أنت التعرفه‬

‫وقصت على ماكان ‪ ،‬مصرة على تأديبه واتخاذ موقف حازم‬ ‫معه ‪.‬‬ ‫فكرت قليالً يومها ووجدت أن الطريق الوحيد للتعامل معه هو‬ ‫مناقشته وإقناعه ‪ ،‬وإخراجه من مجال اللهو الذى يقضى وقته‬ ‫فيه إلى مجال العمل معى ليكون كفئا ً لمهام كثيرة قادمة بصفته‬ ‫ولدى ‪.‬‬ ‫استدعيته الى مكتبى ‪ ،‬جلست أحادثه عن العائلة والتراحم‬ ‫والمودة وكيفية امتصاص غضب األم والرفق بالشقيقة والحنو‬ ‫عليها ‪ ،‬ظل ينظر نحوى محدقا ً بعينيه الواسعتين السوداوين‬ ‫اللتين تطلقان حدقتيهما تبرقان فى وجهى دون أن ينطق بحرف‬ ‫‪ ،‬أخذ يتململ فى جلسته منتظراً أن أطلق صراحه فيهرول‬ ‫‪20‬‬


‫خارجا ً ملقيا ً بكلماتى فى أقرب سلة مهمالت ‪ .‬رأيته صامتا ً‬ ‫اليتحدث ‪ ،‬صرخت فيه ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫تكلم يامسعود‪ ،‬قل مالديك‬

‫رمانى بحدة نظراته قائالً ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫إذا تكلمت سأغضبك‬

‫‪-‬‬

‫ولماذا تقول شيئا ً يغضبنى ؟‬

‫‪-‬‬

‫بصراحه ‪،‬ألن هذا مافى صدرى‬

‫‪-‬‬

‫أنت ناقم على والدك اذن‬

‫‪-‬‬

‫ليست نقمة‪ ،‬اعتبرها مالحظات‬

‫‪-‬‬

‫تفضل ‪ ،‬قل‬

‫‪-‬‬

‫ولن تغضب ؟‬

‫‪-‬‬

‫لن أغضب‬

‫‪-‬‬

‫أراك ضعيفا ً‬

‫‪-‬‬

‫نعم !‬

‫‪-‬‬

‫التمتلك القرار‬

‫‪-‬‬

‫ماذا تقول؟!!‬

‫‪-‬‬

‫ماما تفرض رأيها عليك‬

‫‪-‬‬

‫ماذا ؟‬

‫‪21‬‬


‫‪-‬‬

‫تفعل ماتريد ‪ ،‬وأنت التمتلك إال الطاعة‬

‫‪-‬‬

‫أنا ؟‬

‫‪-‬‬

‫فى الوقت الذى تبدو فيه مع الناس خارج المنزل عنيفا ً‬ ‫ترفض الرأى اآلخر ‪ ،‬والتقبل إال رأيك فقط ‪.‬‬

‫‪-‬‬

‫وماذا أيضا ؟‬

‫‪-‬‬

‫هذا كل ماعندى‬

‫‪-‬‬

‫تسمع الجواب ؟‬

‫‪-‬‬

‫تفضل‬

‫‪-‬‬

‫الحكمة تقول أن البيت واحة اإلنسان وملجأه بعيداً عن‬ ‫مشكالت الحياة ‪ ،‬هل توافقنى فى هذا ؟‬

‫‪-‬‬

‫أوافقك‬

‫‪-‬‬

‫هل تقبل أن يكون ملجأك والواحة التى تستريح فيها‬ ‫حفرة من نار ؟‬

‫‪-‬‬

‫ال‬

‫‪-‬‬

‫إذن البد أن تكون لينا ً مع من فيها‬

‫‪-‬‬

‫لينا ً وليس خاضعا ً‬

‫‪-‬‬

‫يابنى ‪ ،‬اللين هو االستماع وتقبل الرأى المفيد وتنفيذه إذا‬ ‫استطعت‪ ،‬وإدخال السرور على أهلك‬

‫‪-‬‬

‫ليس بهذا الشكل ‪.‬‬

‫‪-‬‬

‫وما الشكل الذى تراه أنت ؟‬ ‫‪22‬‬


‫‪-‬‬

‫اليرتفع صوت فى بيتى إال صوتى أنا مهما كانت األسباب‬

‫‪-‬‬

‫يابنى ‪ ،‬القدماء كانوا ‪!..‬‬

‫‪-‬‬

‫ليس لنا شأن بالقدماء‬

‫‪-‬‬

‫حينما تكبر أتمنى أن تفعل ماتقول اآلن‬

‫‪-‬‬

‫هل تريد شيئا ً آخر ؟‬

‫‪-‬‬

‫لم أكمل حديثى معك‬

‫بدا على وجهه الضيق ‪ ،‬وجلس متأففا ً ومنصتا رغما ً عنه ‪.‬‬ ‫جائتنى مقابلة عاجلة شغلتنى عنه فقمت دون أن أكمل النقاش‬ ‫‪ ،‬ولم أكمله بعدها ثانية ‪ ،‬وإن كنت قد عاقبت من يعلمه أصول‬ ‫الحوار والبروتوكول لفشله فى تلقينه كيف يتصرف أو يتكلم ‪،‬‬ ‫خاصة مع والديه ‪!!.‬‬

‫(‪)5‬‬

‫زيارة حفصة‬

‫اتسعت مساحة الدهشة فى هذا الكون الجديد الذى صار‬ ‫يحتوينى ‪ ،‬دهشة بلون العيد مألت جوانحى وأنا أرى حفصة‬ ‫زوجتى أمامى فى سجنى المرفه على حافة الكون هنا ‪،‬‬ ‫والمحاط بالحرس من كل زاوية وفى كل ركن ‪ ،‬حفصة تدخل‬ ‫مرفوعة الرأس ‪ ،‬عالية الجبين ‪ ،‬قادمة فى سيارة سوداء‬ ‫مهيبة المنظر ‪ ،‬كملكة تسير فى أبهة عزها وفخامتها ‪ ،‬نزلت‬ ‫منها بهدوء ووقار كما كانت تفعل قبال وربما أشد ‪ ،‬يقف‬ ‫الحرس انتباها وتقديراً ‪ ،‬سارت ولم تلتفت إليهم كما كانت‬ ‫تفعل قبالً ‪ ،‬يقودها كبيرالحرس إلى الباب الرئيسى ومنه إلى‬ ‫‪23‬‬


‫الردهة ‪ ،‬تتجه قدما ً إلى صدر األنتريه فى خطوات متمهلة‬ ‫وقورة ‪ ،‬تجلس واضعة ساقا ً على ساق وهى تنظر إليه بنظرات‬ ‫متسائلة ‪:‬وماذا بعد ؟‬ ‫يحنى رأسه باحترام هامسا ً ‪-:‬‬ ‫ سنبلغ الباشا فورا‬‫ويصعد إلى ‪ -:‬زيارة يافندم‬ ‫أنظر فى حدقتيه متوجسا ً ‪.‬‬ ‫هل قال زيارة ؟‬ ‫ومن يجرؤ على القدوم الى هنا ؟‬ ‫أم هى رسالة يريدون توصيلها لى ؟‬ ‫أو ربما أمر يريدون مشورتى فيه بصفتى خبير قضى معظم‬ ‫عمره فى إدارة هذا البلد بحنكة واقتدار ؟‬ ‫تأنقت فى ملبسى ‪ ،‬عطرت وجنتى وشعرى بعطرى المفضل‬ ‫وهبطت السلم متوقعا ً كل شىء عدا أن أرى حفصة ‪.‬‬ ‫وقفت أمامها والحرس بيننا ال أدرى ماأقول ‪ ،‬اندفعت فوراً الى‬ ‫أحضانى تقبلنى فى وجنتى ‪ ،‬متسائلة عن صحتى ‪ ،‬وكيف‬ ‫أقضى الوقت فى هذا المكان الكئيب ‪ ،‬وهى ترمى بنظرات تأفف‬ ‫وضيق على المكان الجديد الذى يعتبر جنة بالنسبة للمقبرة‬ ‫القديمة التى رمونى فيها من قبل ‪.‬‬ ‫كم تغيرت ياحفصة ‪ ،‬ذبلت نظراتك ‪ ،‬وجف ماء الشباب فى‬ ‫وجهك ‪ ،‬ونحل جسدك ‪ ،‬وإن لم تفارقك نظراتك الحادة‬ ‫الفاحصة المتربصة بكل ماحولها ومن حولها ‪ ،‬للحق هى لديها‬ ‫‪24‬‬


‫سرعة بديهة تحسد عليها ‪ ،‬تمتلك مقدرة هائلة على التقاط أى‬ ‫بادرة أو لفتة من هنا أو هناك وفحصها وبرمجتها وتفسيرها‬ ‫والرد عليها بأسرع من البرق ‪ ،‬وهذا ماأفتقده أنا ‪ ،‬فأنا البد‬ ‫أن أنظر وأدرك وأفكر وأخطط ثم أفعل ‪.‬‬ ‫المهم ‪ ،‬صرفت الرجل بنظرة شكر آمرة من رأسها بوجه‬ ‫متجهم البشاشة فيه ‪ ،‬استدار بهدوء مغادراً الى مكتبه بجوار‬ ‫الباب ‪ ،‬وانفردت بى‬ ‫وحشتنى‬‫ كيف ؟ ولماذا ؟ومن ؟ وما ؟؟‬‫أفلتت بسمة من غيوم مالمحها ‪ ،‬بسمة ذابلة كنظرات عينيها‬ ‫وهى تطلب منى التريث حتى تحكى مالديها ‪-:‬‬ ‫‬‫‬‫‬‫‪-‬‬

‫ماذا لديك ؟‬ ‫لن يستطيع مخلوق هنا أن يؤذينا‬ ‫كيف ؟‬ ‫ساحكى لك‬

‫وروت لى مالديها بهدوء وهمس وهى تدير نظراتها حولها‬ ‫متربصة بأى عين قد تفكر فى اقتحام خلوتنا أو أذن تحاول‬ ‫التلصص على حوارنا ‪ ،‬وفى ذات الوقت تثقب المقاعد‬ ‫واألريكة بعينيها باحثة عن جهاز تسجيل هنا أو هناك يلتقط‬ ‫شيئا ً من حروفنا ‪ .‬قالت أنها منذ زمان طلبت من أخيها الذى‬ ‫يشغل مركزأ مرموقا ً تسجيالت فاضحة لبعض المسئولين ‪،‬‬ ‫مسئولين ممن يمتلكون زمام األمور اآلن ‪ ،‬وبعض مسئولى‬ ‫البالد المجاورة ممن يهمهم أن تظل هذه التسجيالت بعيدة عن‬ ‫األيدى العابثة أو العيون المتربصة وأن تظل مختفية مهما‬ ‫كان الثمن ‪ ،‬هذه التسجيالت بطبيعة الحال فيها أوضاع مشينة‬ ‫‪25‬‬


‫لهم ‪ ،‬تم تصويرها واالحتفاظ بها تحت إدارته ‪ ،‬حينما جد‬ ‫الجد أخذت هى هذه التسجيالت ‪ ،‬نسخت منها عدة نسخ ‪،‬‬ ‫أعطت إحداها ألخيها وطلبت منه السفر فى اليوم التالى‬ ‫الذى تم فيه القبض على ‪ ،‬وأمرته أن يخفى التسجيالت فى‬ ‫مكان آمن بعيدا ً عن أى يد مهما كانت مهارتها فى البحث ‪،‬‬ ‫وحين تعالت األصوات المطالبة بمحاكمتها بتهمة المشاركة‬ ‫فى الفساد ‪ ،‬ورأت االتجاه يسير الى هذا بعثت من يخبر‬ ‫المسئولين المتورطين بما لديها وبما سوف يحدث فى حالة‬ ‫القبض عليها ‪ ،‬وبأسرع مما يتصور أى عقل ‪ ،‬وكيف أن‬ ‫هذه التسجيالت قد تم عمل نسخ عديدة لها وسوف تذهب كل‬ ‫منها الى صحيفة من الصحف الكبرى التى تتمنى الوقوع على‬ ‫كنز مثلها لتنشره على العالم‪ ،‬طلبوا منها نسخة للتيقن مما‬ ‫تقول ‪ ،‬وحين اطلعوا عليها تغير كل شىء ‪.‬‬ ‫هنا أدركت لماذا نقلونى الى هنا ‪.‬‬ ‫قلت لنفسى لحظتها ‪ :‬فاز مكر المرأة على اندفاع القطط‬ ‫وشططها ‪،‬‬ ‫وفكرت فى القطط برثاء !‬

‫(‪)6‬‬

‫ليلى وحمارها الكبير‬

‫الشىء الذى يسعدنى ويدخل السرور على قلبى ضحكات ليلى‬ ‫حفيدتى ابنة سعاد ‪ ،‬أشعر وهى تدور حولى أن األمطار‬ ‫تمطر بهجة ونور ومرح ‪ ،‬وأن الغضب يتالشى ‪ ،‬واألتراح‬ ‫‪26‬‬


‫تزول ‪ ،‬وغيوم النكد تنمحى ‪ ،‬واليبقى إال هى بضحكاتها التى‬ ‫يتسع لها براح عمرى وفضاءات إحساسى ‪ ،‬فأفتح قلبى‬ ‫وأضحك بملء وجدانى وأنا أرى أشجار حياتى المجدبة تورق‬ ‫وتثمر ‪ ،‬وطيور سعادتى العرجاء الخرساء تنطلق وتغرد ‪،‬‬ ‫تمأل الكون بأناشيد الحياة ‪ ،‬وتزف إلى الطبيعة روح الربيع ‪،‬‬ ‫العب وتلعب معى لعبة الحمار ‪ ،‬أشعر بفخر شديد وهى‬ ‫تمتطى ظهرى قائلة بصوتها المغرد فى سماوات روحى ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫تحرك ياحمار‬

‫فأتحرك رافعا ً ساقى قليالً قبل االنطالق ‪ ،‬فتتماسك بالكاد‬ ‫وهى مغرقة فى الضحك ‪ ،‬صارخة بمرح ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫ستوقعنى ياحمار‬

‫تصرخ حفصة معترضة ‪ :‬كيف تقبل هذا ؟‬ ‫أشرح لها مرارا ً وتكرارا ً مميزات الحمير وذكائهم وقدرتهم‬ ‫الالمحدودة على التحمل والصبر بالكلل والضيق وكأن الصبر‬ ‫قد خلق ألجلهم ‪،‬والجلد قد صيغ ليميز حياتهم ‪ ،‬وأتركها الى‬ ‫ليلى أضاحكها سعيدا ً بضحكاتها ‪ ،‬وأحزن حين يغلبها البكاء‬ ‫‪ ،‬أراها فراشة أرق من أن تبكى أو تلوح على سيماها بوادر‬ ‫ضيق‪ ،‬أرانى لحظتها أترك مالدى مهما كان وأنتبه لها‪،‬‬ ‫أضمها بين جناحى مترفقا بنقاء نفسها وشفافية روحها‪،‬‬ ‫وألبى طلبها مهما كان‪ ،‬وبطبيعة الحال هذا اليعجب سعاد‬ ‫ابنتى التى تزمجركالمعتاد صارخة ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫الدلع الزائد سيفسدها‬

‫فابدى غضبا ً رقيقا ً وأنا أجيبها‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫ت‬ ‫ت أن ِ‬ ‫دعيها تأخذ حظها منه ‪ ،‬كما أخذ ِ‬ ‫‪27‬‬


‫تلوى زاوية فمها بحذر حتى ال ألمحها وهى تتمتم ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫وهل مثلى عرفت طيف الدلع من قبل ؟‬

‫والأبالى بالرد متظاهرا ً أن حروفها الجاحدة لم تصل الى ‪ ،‬فهى‬ ‫هكذا منذ صغرها تطلب كل شىء والتتورع عن سلب حق من‬ ‫حولها بالقوة أو البكاء والتوسل وبعدها تقول فى براءة النسيم‬ ‫العليل ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫الكل أخذ حقه أال أنا ‪ ،‬لم آخذ شيئا ً‬

‫وقد حاولت كثيرا ً تقويم هذه الصفة فيها ‪ ،‬دون جدوى ‪،‬‬ ‫والسبب فى كل الحاالت حفصة أمها فهى دوما ً كانت تعطيها‬ ‫بصفتها المقربة إليها أكثر من أخيها قائلة ‪-:‬‬ ‫أن البنت شقيقة أمها وخزينة أسرارها‬‫وأصرخ طالبا ً المساواة ‪ ،‬فاليكون الرد إال ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫تربية األبناء اختصاصى أنا ‪ ،‬وأنا أدرى بما أفعل ‪ ،‬ابتعد‬ ‫أنت بعقدك الذكورية الحمقاء ‪.‬‬

‫وأبتعد مرغما ‪ ،‬فكل ماأضيق به فى الكون هو لسانها الذى‬ ‫اليرحم وال يهدىء من شطحاته ‪ ،‬وقدرتها الفائقة على قلب‬ ‫الحقائق لصالحها مهما كانت األمور واضحة جلية التحتاج‬ ‫لتأويل ‪ ،‬وتلك صفة أخرى ورثتها سعاد منها ‪ ،‬وربما الأكذب‬ ‫إذا قلت إنها تفوقت فيها ‪ ،‬فلسانها المسنون دوما ً والكثير‬ ‫الخشونة يلسع بال رفق وال هوادة ‪ ،‬للدرجة التى صار فيها‬ ‫زوجها عادل نسخة منى ‪ ،‬يتحاشى مرغما ً الدخول فى شجار‬ ‫معها ‪ ،‬وإن كان هو قد تميز بالقدرة على ضبط لسانه فلم‬ ‫يتحرش بها يوما أبدا ً ‪ ،‬أما أنا فحينما يفيض بى الكيل اندفع‬

‫‪28‬‬


‫صارخا فيها العنا ً لسانها وحدته ومنطقها وشطحاته وليكن‬ ‫مايكون ‪.‬‬ ‫يوما ً لم أر ليلى صباحا ‪ ،‬أرسلت فى طلبها ‪،‬جاءت أمها محمرة‬ ‫العينين ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫مابك ؟‬

‫‪-‬‬

‫ليلى لم تنم طوال الليل‬

‫‪-‬‬

‫كيف ؟‬

‫‪-‬‬

‫حرارتها عالية ورغم الكمادات لم تنخفض‬

‫‪-‬‬

‫ولماذا لم توقظينى ؟‬

‫ولم انتظر الرد ‪ ،‬استدعيت الطبيب فوراً ‪ ،‬البنت أرق من أن‬ ‫يصيبها المرض ‪ ،‬لن يجد فى جسدها مجاالً لهزال أكثر مما هى‬ ‫فيه ‪ ،‬ولن يجد فى روحها طاقة لتحمل ‪ ،‬كذلك عيناها أجمل من‬ ‫أن تتأوه وتذبل نظراتها من أثر المرض ‪.‬‬ ‫ألغيت مواعيدى ومقابالتى واتجهت إلى فراشها فوراً ‪ ،‬رافقت‬ ‫الطبيب فى الكشف عليها ‪ ،‬أكمل عمله هادئا ً وحينما انتهى‬ ‫استدار إلى ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫أرى أنك المريض وليست هى‬

‫‪-‬‬

‫كيف ؟‬

‫‪-‬‬

‫وجهك وعيناك ينم كل منهما عنك‬

‫‪-‬‬

‫أنت التعرف معنى وجودها بحياتى‬

‫‪29‬‬


‫واستدرت محاوالً إخفاء دمعة حمقاء أرادت اإلفالت من أسر‬ ‫عينى‪.‬‬

‫(‪)7‬‬

‫المؤامرة‬

‫كم هو رائع أن تجلس وحيداً هكذا فتتسع لك الدنيا ‪،‬‬ ‫وتجدأمامك براح الذكريات فتهرول فيه ماوسعتك الهرولة دون‬ ‫عائق وبال أى حساسيات ماضية أو حتى حاضرة ‪ ،‬تبصر‬ ‫عيناك األشياء واألماكن واألحداث من جديد بنظرة مختلفة عن‬ ‫ذى قبل ‪ ،‬وربما رأيت مالم تره أو حتى تتوقع رؤيته ‪ ،‬وتبصر‬ ‫مالم تبصره قبال ‪ ،‬وتنفتح لك مغاليق أشياء كانت مبهمة من‬ ‫قبل ‪.‬‬ ‫مسكين من اعتنق الفراغ ولم يستفد منه‪.‬‬ ‫أروع مافى الوجود أن تجد نفسك فى فراغ داهم فتمأله بكنوز‬ ‫الذكريات ‪.‬‬ ‫أمسك القلم ‪ ،‬يثب من يدى محتضنا السطور راغبا ً عن السكون‬ ‫الذى اجبرته عليه فى لحظات شرودى ‪.‬‬ ‫أعاود الكتابة ببطء ودون إسراع فالوقت قد استطال ‪ ،‬ال أدرى‬ ‫إلى متى ‪!..‬‬ ‫فى بداية رحلتى إلى شرق البالد ركبت العربة المزينة باألعالم‬ ‫‪ ،‬تاركا ً للحرس والمرافقين العربات األخرى تسير حولى فى‬ ‫موكبى المعتاد ‪ ،‬ميمما ً وجهى ناحية الطريق البحرى الذى‬ ‫يعتبر أقصر الطرق بيننا وبين الشرق ‪ ،‬الطريق البحرى ألنه‬ ‫‪30‬‬


‫مقصد السياح والزائرين من داخل البلد وخارجها يتم االهتمام‬ ‫به ‪ ،‬تتم رعايته وتزيينه وإنارة أعمدته ورصف طريقة ونشر‬ ‫األعالم على طول مساره ‪ ،‬لذا أختاره دوما كلما قصدت‬ ‫المشرق ‪.‬‬ ‫فى منتصف المسافة وطلبا ً للراحة من طول الطريق ولجنا‬ ‫إحدى االستراحات قاصدين أن نمكث فيها قليالً قبل أن نكمل‬ ‫السير ‪ ،‬جاءنى كبير الحرس جبران طالبا ً لقائى فوراً ‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫أرى أن تركب عربة أخرى وتترك العربة الرئيسية‬

‫‪-‬‬

‫لماذا ؟‬

‫‪-‬‬

‫تأمين للموكب ولك شخصيا ً‬

‫‪-‬‬

‫ممن ؟‬

‫‪-‬‬

‫من مؤامرة لم نمسك بخيوطها بعد ‪ ،‬ولم نصل إلى‬ ‫تفاصيلها ‪ ،‬ولكن لدينا خطوط طويله تبين وجود‬ ‫شىء ما يدبر بالخفاء ‪.‬‬

‫‪-‬‬

‫وطبعا أركب عربة أخرى بدون إعالن ألحد‬

‫‪-‬‬

‫بدون إعالن حتى ألعضاء الركب والمرافقين‬

‫وافقت على اقتراحه وقررت تنفيذ مايريد ‪ ،‬جاءنى قائد‬ ‫المخابرات المندوه يهمس ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫هناك مؤامرة تحاك ضدك‬

‫‪-‬‬

‫كيف ؟‬

‫‪31‬‬


‫‪-‬‬

‫سيطلب منك قائد الحرس جبران أن تركب عربة‬ ‫أخرى غير عربتك الرسمية ليسهل على المتآمرين‬ ‫خطفها ‪ ،‬وترك الموكب الرسمى يسير بدونك دون أن‬ ‫ينتبه أحد فترة من الوقت تكفى إلخفائك تماما ‪،‬‬ ‫واالستيالء على الحكم ‪.‬‬

‫سألته ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫وماذا ترى ؟‬

‫‪-‬‬

‫فى أخر لحظة تصطحب جبران معك ‪ ،‬و التترك‬ ‫السيارة الرئيسية ‪ ،‬وسوف نراقب العربة التى اقترح‬ ‫عليك كبير الحرس ركوبها وسوف ترى بنفسك‪.‬‬

‫شكرته وقررت تنفيذ ماأشار به على ‪.‬‬ ‫جاءنى قائد الشرطة الصاوى ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫مؤامرة تحاك بالخفاء‪.‬‬

‫‪-‬‬

‫ماهى ؟‬

‫‪-‬‬

‫سيجىء قائد الحراس جبران ناصحا ً لتركب عربة‬ ‫أخرى غير العربة الرئيسية‬

‫‪-‬‬

‫ثم ؟‬

‫‪-‬‬

‫سيجىء قائد المخابرات المندوه‬ ‫عربتك وأن تصحب جبران فى عربتك‬

‫‪-‬‬

‫ثم ؟‬

‫‪-‬‬

‫كل هذا تمويه إلبعادك عن المؤامرة الرئيسية ‪.‬‬ ‫‪32‬‬

‫طالبا ً أال تترك‬


‫‪-‬‬

‫ماهى ؟‬

‫‪-‬‬

‫الهدف تشتيت أفكارك وبث الخوف فى قلبك قبل تنفيذ‬ ‫المؤامرة‬

‫‪-‬‬

‫كيف ؟‬

‫‪-‬‬

‫تم شق نفق بجوار الطريق الرئيسى على بعد قريب‬ ‫من هنا ‪ ،‬سيتجه إليه الركب ‪ ،‬وهذا النفق يؤدى الى‬ ‫قصر مهجور سيتم احتجازك فيه ‪ ،‬وإعالن موتك ‪،‬‬ ‫وتنصيب أحد المتآمرين مكانك‬

‫‪-‬‬

‫وماذا ترى ؟‬

‫‪-‬‬

‫تطلب من أحد الخدم باالستراحة هنا وهو قريب‬ ‫الشبه بك ويدعى سالم ‪ ،‬أن يأخذ مكانك ويركب‬ ‫العربة الرئيسية وحده حتى الينكشف أمره ‪ ،‬وعندها‬ ‫سوف تفشل المؤامرة و‪!..‬‬

‫وافقته على مايريد وقررت تنفيذ خطته‪.‬‬ ‫غادر المكان مطمئنا ً إلى وعدى له ‪.‬‬ ‫جلست وحيدا ً أنظر فى أمر هؤالء القوم ومايريدون ‪ ،‬وأبحث‬ ‫عمن قد يكون صادقا ً فيهم ومن هم الكاذبون ‪ ،‬أخذنى الفكر‬ ‫محلقا ً فى أجواء ماجرى فى صباى البعيد ‪ ،‬رحلة لم أحلم بها‬ ‫فى أشد لحظات حياتى إشراقا ‪ ،‬فقد كنت أسير ليالً فى قلب‬ ‫الحارة عائدا ً من عملى فى ورشة السباكة عند المعلم رمضان ‪،‬‬ ‫فقد كنت فى األجازة الصيفية مثل كل صبيان حارتنا يأخذنى أبى‬ ‫الى إحدى الورش المنتشرة هناك لكى أعمل بها نظير أجر‬ ‫اليكاد يذكر كل أسبوع ‪ ،‬مرة أعمل فى بوفيه خاص بشركة‬ ‫كبيرة ‪ ،‬وأخرى أعمل فى محل طالء للذهب ‪ ،‬وغيره كثير‬ ‫‪33‬‬


‫حسب األماكن الخالية والتى تسمح لغالم لم يشب عن الطوق‬ ‫بعد بالعمل بها بدالً من قضاء الوقت كما كان يقول أبى رحمه‬ ‫هللا فيما اليفيد ‪،‬‬ ‫فى تلك الليلة بالذات وأنا عائد من العمل ليالً وسط الظلمة‬ ‫نظرا إلنقطاع الكهرباء سمعت همهمة‬ ‫المهيمنة على الطريق ً‬ ‫بجوارى وصوت يشبه مواء قطة تستغيث ‪ ،‬ارتجفت روحى‬ ‫ارتجافة موت ‪،‬وتجمدت الدماء فى سائر جسدى ‪ ،‬ورأيتنى‬ ‫عبارة عن خشبة صماء تسير بفعل خارجى عنها تماما ً ‪،‬‬ ‫التمتلك الهرولة لشدة رعبها ‪،‬وفى ذات الوقت التستطيع‬ ‫التوقف لخوفها مما قد يلحق بها إذا توقفت ‪ ،‬أخذت ألملم‬ ‫ماحفظته طوال حياتى من القرآن وأحاول تالوته ‪ ،‬زاد صوت‬ ‫المواء ارتفاعا ‪ ،‬وأعقبه صوت عواء كلب غاضب يرسل‬ ‫صوته فى قوة من يبحث عن فريسة ما ‪،‬وهو يزوم ويقترب‬ ‫من المكان ‪ ،‬مما اضطرنى تحت تأثير الخوف والرعب أن أفكر‬ ‫بالجرى مبتعدا ‪ ،‬حاولت هذا ‪ ،‬أسرعت خطوات لمالحقتى ‪،‬‬ ‫وارتفع المواء أكثر وزاد العواء ارتفاعا وشعرت بشىء ما‬ ‫يالمس قدمى ‪ ،‬مما أجبرنى على الهرولة بأقصى مااستطعت‬ ‫من قوة وقلبى يدق بكل الهول الذى يمأله ‪ ،‬وأنفاسى تتوالى‬ ‫واجفة ‪ ،‬وعيناى التريان إال الظلمة ‪ ،‬شعرت لحظتها أننى‬ ‫أجرى و شىء ما يجرى معى ‪ ،‬ربما القطة أو الكلب أو كليهما‬ ‫‪ ،‬ووسط هذا رأيتنى أتعثر ‪ ،‬ال أدرى كيف ‪ ،‬وأرتمى على‬ ‫وجهى وصوت اإلرتطام يتوافق وينسجم مع آهة فى أعماقى لم‬ ‫أستطع لشدة رعبى إعالنها ‪ ،‬فى تلك اللحظة أحسست بشىء‬ ‫ناعم يندفع ألحضانى ‪ ،‬يلوذ بصدرى ‪ ،‬يلتصق بقوة ‪ ،‬أصابنى‬ ‫الهلع أكثر ‪ ،‬حاولت أن أمد يدى ألنتزعه وأبعده عنى ‪ ،‬لم أجد‬ ‫يدى ‪ ،‬أو وجدتهما مشلولتين التتحركان وأنفاسى تصرخ‬ ‫ملتاعة متعثرة فى رعبها ‪ ،‬وعلى البعد صوت العواء الينقطع‬ ‫‪ ،‬وحركة األقدام ال تتوقف ‪،‬انكمشت مكانى ويداى مشلولتان‬ ‫‪34‬‬


‫عن التصرف أو حتى إزاحة هذا الجسد الغريب عن صدرى ‪،‬‬ ‫وقدماعى عاجزتان عن مجرد التفكير فى الهرولة لمواصلة‬ ‫الهرب ‪ ،‬شعرت بأنفاس حارة تتدفق من هذا الجسد المجهول ‪،‬‬ ‫وارتعاشة تشمله دون أن يبدو عليه أنه يفكر فى إيذائى أو‬ ‫إلحاق الضرر بى ‪ ،‬ساد سكون لحظى أعقبه ابتعاد صوت‬ ‫العواء ورويدا ً عاد لجسدينا أنا وهذا الكائن المجهول الذى‬ ‫يلوذ بصدرى بعض الهدوء ‪ ،‬وعلى ضوء شعاع أطل من عقب‬ ‫أحد النوافذ تنبهت لعينى ذات القطة السمراء الخضراوين‬ ‫تحدقان فى عينى بامتنان ‪ ،‬وسمعتها تهمس لى بالعرفان ‪ ،‬ال‬ ‫أفهم حتى اآلن كيف فهمتها ثانية ‪ ،‬وهل تكلمت لغتى أم أنا‬ ‫فهمت لغتها ‪ ،‬كل ماأذكره أنها شكرتنى إلنقاذها من هذا الكلب‬ ‫المجهول ‪ ،‬ونظرا لحداثة سنى وقتها لم أدرك ماذا وال كيف وال‬ ‫ماالذى فعلته إلنقاذها ‪ ،‬حدقت فى عينيها بنظرات متسائلة‬ ‫مغسولة بماء الذهول وهى تقول فى امتنان كبير ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫أنقذتنى للمرة الثانية ‪،‬سأرد لك الجميل مضاعفا ً ‪،‬‬ ‫تستطيع من اآلن أن تتحول الى أى شىء كان ‪ ،‬لكن‬ ‫حذار من ضوء القمر فهو سيكشف صورتك الحقيقية‬ ‫مهما تخفيت ‪.‬‬

‫وانفلتت مولية الى حيث اختفت عن عينى فلم أعد أرها ‪،‬‬ ‫ولم أدرك حتى ماذا قصدت بكالمها إال بعد حين ‪ ،‬وللحقيقة فقد‬ ‫شعرت أن جميلها قد طوق عنقى ووهب لحياتى القادمة سالحا ً‬ ‫يفوق ماعداه ‪.‬‬ ‫انتبهت من شرودى على صوت امرأة تطلب اإلذن بالمثول بين‬ ‫يدى ‪ ،‬عرفت فيها إحدى المشرفات ‪ ،‬رأيتها تتعدى المكان‬ ‫المخصص لها مقتربة من مكانى محتجة بتغيير بعض‬ ‫المفروشات ‪ ،‬هامسة أن لديها ماتريد قوله لى ‪ ،‬أشرت لها‬ ‫باالقتراب أكثر ‪ ،‬بدا شبابها نضرا ً ذو مالمح سابحة فى الحسن‬ ‫‪35‬‬


‫‪ ،‬بعيون حوراء ‪ ،‬صريحة البيان ‪ ،‬ذات نظرات مقتحمة شديدة‬ ‫الجاذبية تفيض بسحرها حيث تكون ‪ ،‬وألننى أقدر الجمال حيث‬ ‫كان فقد رأيتها جديرة بأن تنفرد بى وتحدثنى كيفما شاءت ‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫القوم يأتمرون بك‬

‫‪-‬‬

‫أى قوم ؟‬

‫‪-‬‬

‫المنوط بهم حمايتك ؟‬

‫‪-‬‬

‫كلهم ؟‬

‫‪-‬‬

‫تستطيع أن ترى بعينيك مايدبرون‪.‬‬

‫‪-‬‬

‫كيف ؟‬

‫‪-‬‬

‫تعالى معى والتشعرن بك أحدا ً ‪.‬‬

‫‪-‬‬

‫ومن يضمن لى أنك صادقة ؟‬

‫‪-‬‬

‫استفت قلبك‬

‫استفتيت قلبى كما تريد فرأيته يطالبنى وبإلحاح أن أذهب معها‬ ‫وليكن مايكون ‪ ،‬قائالً أن الموت على يد حسناء أروع وأرق‬ ‫وأكثر شاعرية من الموت بين يدى وجوه كالحة وعيون‬ ‫مسننة النظرات نارية األحداق ‪ ،‬تنكرت قدر المستطاع وانطلقت‬ ‫من اإلستراحة معها من الباب الخلفى دون أن يشعر بى أحد ‪.‬‬ ‫من مدق ترابى صغير خلف اإلستراحة انطلقنا مترجلين الى‬ ‫حيث انحدرنا إلى واحة صغيرة بها بعض أشجار النخيل التى‬ ‫تتلقى ضوء البدر حين يظفر باإلفالت من أسر الغيوم فتنثرها‬ ‫منمقة بظال ل سمراء تستلقى فى أحضان الرمال بنشوة وحبور‬

‫‪36‬‬


‫‪ ،‬تتوسطها عين ماء صغيرة ‪ ،‬حولها بعض الخيام المنتشرة‬ ‫خلف أشجار النخيل ‪ ،‬سألتها ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫الى أين ؟‬

‫‪-‬‬

‫ستراهم بعينيك وهم مجتمعين‬ ‫بنفسك‬

‫‪،‬وتسمع كلماتهم‬

‫انطلقت معها الى حيث رأيت العتمة تنبت أجسادا ً ‪ ،‬األجساد‬ ‫على الضوء الشحيح تسفر عن بعض األعراب ‪ ،‬أحاطوا بنا‬ ‫بمجرد اقترابنا من خيامهم ‪ ،‬بيدهم خناجر صغيرة وفى أعينهم‬ ‫شر كثير ‪ ،‬أشارت لهم نحوى قائلة ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫هاهو كما وعدتكم‬

‫ألقى اليها أحدهم بصرة نقود ‪ ،‬وصرفها بإشارة من يده ‪،‬‬ ‫ورأيتنى أتكور حول نفسى وقيود من الحبال تربط رأسى‬ ‫ورقبتى بقدمى ويلقى بى أسفل إحدى النخالت فى هدوء‬ ‫‪،‬وبإتقان تام كأنما قد تدربوا كثيرا ً على األمر من قبل ‪ ،‬الشىء‬ ‫الذى أراحنى قليالً هو أن عينى كانتا مطلقتين تريان من مكانى‬ ‫هذا مايدبرون ‪.‬‬ ‫رأيت مقاعد تمتد فى نصف دائرة من حولى فى ساحة خالية‬ ‫وسط أشجار النخيل ‪ ،‬وأمامى مباشرة ترتفع أعمدة خشبية‬ ‫وتثبت فى األرض متقاطعة ‪ ،‬ومن أعالها تهبط مشنقة ذات‬ ‫حبل من جريد النخيل أيضا ‪ ،‬وفهمت أنها ستكون محاكمة‬ ‫سريعة يعقبها تنفيذ الحكم باإلعدام شنقا ً ‪ .‬غيرت مالمحى فوراً‬ ‫الى مالمح قريبة لى ‪ ،‬مع بعض االختالفات الظاهرة التى‬ ‫توحى لمن يرانى أنى لست المقصود بهذا االعتقال وتلك‬ ‫المحاكمة ‪ ،‬ودعوت هللا أن يرسل الغيوم كثيفة لتغطى وجه‬ ‫القمر لحين انتهاء المحاكمة وإال ضاع كل شىء ‪.‬‬ ‫‪37‬‬


‫بدأت مراسم المحاكمة فور وصول بعض الوجوه الحادة‬ ‫المسننة النظرات ‪ ،‬عرفت أحدها فوراً وهو الشيخ صميدة كبير‬ ‫إحدى عشائر المنطقة ‪ ،‬كان قد زارنى فى مقر الحكم يوما ً‬ ‫متوسطا لدى للعفو عن أحد فتيان عشيرته‪ ،‬ممتدحا ً عدالتى‬ ‫ونزاهة حكمى ورؤيتى الثاقبة لأل مور ‪ ،‬متعهداً بتقديم كل‬ ‫ألوان الدعم والتأييد وحاشداً كل أبناء عشيرته لخدمة النظام ‪.‬‬ ‫أخذ كل منهم مكانه وتم فك القيود عن رقبتى ‪ ،‬وإيقافى مربوط‬ ‫القدمين ويداى مقيدتان من الخلف ‪ ،‬بينما الليل يبسط ظلمته‬ ‫على المكان ‪ ،‬والقمر غاف خلف غمامة تأبى إال تقييد ضياه ‪،‬‬ ‫وعلى ضوء المشاعل بدأت المحاكمة ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫مااسمك ؟‬

‫‪-‬‬

‫سمعان‬

‫‪-‬‬

‫كيف ؟‬

‫‪-‬‬

‫هكذا اسمى‬

‫‪-‬‬

‫الست الحاكم ؟‬

‫‪-‬‬

‫ال‬

‫‪-‬‬

‫ومن تكون ؟‬

‫‪-‬‬

‫شبيه له ‪ ،‬فهو يعرف أنه ربما تعرض للقتل فى أى‬ ‫لحظة ‪ ،‬لذا أعد بعض الوجوه القريبة الشبه به لهذا‬ ‫الغرض‬

‫‪-‬‬

‫أنت تكذب‬

‫‪38‬‬


‫‪-‬‬

‫انظروا الى مالمحى وتحققوا منها جيداً ‪ ،‬ويمكنكم‬ ‫التأكد من األمر بطريقة أخرى‬

‫‪-‬‬

‫كيف ؟‬

‫‪-‬‬

‫باختطاف قائد المخابرات المندوه الذى يتولى األمر ‪،‬‬ ‫وسيقول كل شىء‬

‫تم تسليط األضواء على مالمحى كما قدرت ‪ ،‬حدق الشيخ‬ ‫صميده بنظرات كريهة فى عينى وعيناه تفيضان بحقد هائل‬ ‫الحد له ‪ ،‬وحين تأكدوا أننى لست هو قال صميده حانقا ً ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫فى كل األحوال أنت تساعد الظالم ‪ ،‬ومصيرك القتل‬

‫قلت بهدوء شديد ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫إذا كنت أساعده بإرادتى فأنا أستحق القتل‬

‫‪-‬‬

‫ماذا تقصد ؟‬

‫‪-‬‬

‫تم اختطافى من بيتى ‪ ،‬وعزلى عن أهلى وأسرتى ‪،‬‬ ‫وأسرى فى منزل ال أبرحه ‪ ،‬وتدريبى على تمثيل‬ ‫دور الحاكم ‪..‬رغم كرهى له ولتمثيل دوره ‪.‬‬

‫‪-‬‬

‫وأين بيتك الذى أخذوك منه ؟‬

‫‪-‬‬

‫فى حارة الطيبين المتفرعة من الشارع الكبير‬

‫‪-‬‬

‫هل لك أوالد ؟‬

‫‪-‬‬

‫ولدان وبنت اليعرفون مصيرى حتى اآلن‬

‫‪-‬‬

‫وزوجتك ؟‬

‫‪39‬‬


‫‪-‬‬

‫ال أعرف عنها أكثر من أنها تعيش على راتب ضئيل‬ ‫يرسله الحاكم لها أول كل شهر ‪.‬‬

‫‪-‬‬

‫هل تدلنا على الحاكم ؟‬

‫‪-‬‬

‫الحاكم لم يأت معنا ‪ ،‬لو وصلنا الى مقره يمكننى‬ ‫مساعدتكم فى الوصول اليه‬

‫‪-‬‬

‫كيف ؟‬

‫‪-‬‬

‫أعرف بعض الرجال الذين يودون التخلص منه ‪.‬‬

‫‪-‬‬

‫كيف نثق بكالمك ؟‬

‫‪-‬‬

‫ألننى أكرهه مثلكم‬

‫‪-‬‬

‫وإذا صرفناك من هنا؟‬

‫‪-‬‬

‫تكون مصلحتنا واحدة‬

‫قال صميدة األشد عبوسا ً بينهم آلخر بجواره ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫فكوا قيوده واكرموه ‪.‬‬

‫تقدمت مقدما آيات الشكر ‪ ،‬وفى ذات الوقت موثقا ً العهد بيننا‬ ‫لإليقاع بالحاكم ‪ ،‬سألنى صميده ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫هل تريد البقاء معنا لحين العودة الى دار الحاكم ؟‬

‫قلت بهدوء ‪ -:‬ال أرى ذلك ‪ ،‬حتى اليلقى أحد بحبال الشك حولى‬ ‫‪.‬‬ ‫عاد الصوت الخشن يعلو محتكا ً بطبقات الهواء شارخا ً حدوده‬ ‫بقسوة ‪-:‬‬ ‫‪40‬‬


‫‪-‬‬

‫اوصلوه الى االستراحه ‪.‬‬

‫عادت الفتاة التى اقتادتنى الى الواحة لتعيدنى من جديد الى‬ ‫مكانى ‪ ،‬عند الباب أرادت التراجع والتوغل فى الظلمة بعيداً‬ ‫عن األعين ‪ ،‬همست فى أذنها بأنى أريد مكافئتها على‬ ‫شجاعتها ‪ ،‬وبدأت فى مغازلتها ‪ ،‬والتلويح لها بقدرتى على‬ ‫إعطائها مزيداً من المال إذا هى قبلت الدخول معى لبعض‬ ‫الوقت ‪ ،‬تنمرت لى وأخرجت فورا ً من طيات ثيابها خنجراً‬ ‫مسنونا ً هددتنى به ‪ ،‬وهى تتقهقر متراجعة الى حيث ابتلعتها‬ ‫الظلمات !‬ ‫عدت الى مرقدى شاكرا ً للغمام منحته وللقمر هدوءه‬ ‫وعقليانته ‪ ،‬باحثا ً عن لحظات صمت أعيد فيها ترتيب األمور‬ ‫كما ينبغى لى ‪ ،‬تذكرت المؤامرة الغريبة الضاربة بأذيالها‬ ‫الحمقاء فى كل ركن حولى ‪ ،‬تدبر األمر ليس باألمر اليسير ‪،‬‬ ‫ولكنى امتلك القدرة على البحث والتقصى بأسرع مااستطيع ‪،‬‬ ‫غيرت مالمحى فورا ً الى مالمح كبير الحرس جبران ومضيت‬ ‫الى رئيس المخابرات المندوه الذى حدجنى بنظرات ريبة كانت‬ ‫كافية ألدرك حقيقة العالقة بين الرجلين ‪ ،‬استدرت عائداً إلى‬ ‫قائد الشرطة الصاوى الذى قابلنى بترحاب كبير ‪ ،‬وهمس فى‬ ‫أذنى ببعض الكلمات التى أسعدتنى كثيرا ً ‪ ،‬اذ كانت هى بنود‬ ‫الخطة المزمع تنفيذها لإليقاع بى بمجرد تحرك الموكب فى‬ ‫طريقه الى شرق البالد ‪ .‬عدت الى مضجعى باسما ً منشرح‬ ‫الصدر ‪ ،‬وأغمضت عينى طلبا ً للنوم ‪.‬‬ ‫تذكرت الفتاة التى تعمل مشرفة والتى من المؤكد عادت الى‬ ‫مكان عملها قمت مسرعا ً ‪ ،‬أرسلت فى طلب المشرفات جميعا ‪،‬‬ ‫ساد تذمر صامت بين الوجوه الناعسة ‪ ،‬وكذلك تساؤل حائر‬ ‫عما وراء هذا االستدعاء ‪ ،‬ثم تخوف من حدوث خطأ يستوجب‬ ‫العقاب ‪ ،‬ولكن لم يكن من تنفيذ األمر بد ‪ ،‬حضرن الى ‪،‬‬ ‫‪41‬‬


‫حددت الفتاة المطلوبة فورا ً ‪ ،‬أشرت اليها أن تقترب وصرفت‬ ‫الباقيات ‪.‬‬ ‫كان الوقت قد قارب على السحر وبدايات ظهور تباشير الضوء‬ ‫حينما خرجت من عندى باسمة الوجه منتشية الجسد ‪ ،‬راضية‬ ‫القلب بالمال التى حملته والمضاجعة التى من المؤكد أسعدتها ‪،‬‬ ‫وخلف الباب مباشرة وجدت رجال الشرطة فى انتظارها‬ ‫للتحقيق معها بتهمة تدبير مؤامرة مع آخرين لقتل الحاكم !!‬ ‫وصودر المال الذى بحوزتها بعد توجيه اتهام جديد لها بسرقته‬ ‫!!‬ ‫قبل اشتعال السماء بوهج الضوء أتيت بنائب قائد الحرس‬ ‫حمدان الذى أثق به ‪ ،‬اعلنته بترقيته الى قائد للحرس وأمرته‬ ‫باعتقال رئيسه فورا ً ‪ ،‬بعد اعطائى التمام باالعتقال أمرته‬ ‫باعتقال قائد المخابرات ‪ ،‬ثم قائد الشرطة ‪ ،‬وعينت مكانهم‬ ‫من أثق به ‪ ،‬وحينها كان النهار قد بسط خيمته على الكون ‪،‬‬ ‫استأنف الموكب السير متجها الى شرق البالد !‬

‫(‪)8‬‬

‫الصفقة‬

‫قلت للسيد حاكم شرق البالد والذى قمت بتعيينه إرضا ًء‬ ‫ألنصاره وأبناء عمومته ليس أكثر‪-:‬‬

‫‪42‬‬


‫‪-‬‬

‫أننا معا ً على الدرب ‪ ،‬خطانا متوافقة ‪ ،‬متالزمة ‪،‬‬ ‫وعيوننا تصب نظراتها على ذات الهدف مهما ابتعدت‬ ‫به األماكن ‪ ،‬ومهما نأت به الظروف ‪.‬‬

‫مددت يدى مشيراً الى مائدة الطعام العامرة ‪ ،‬متحدثا ً فى ذات‬ ‫الوقت عن ناس البلد ‪ ،‬وحاجاتهم إلى من يهتم بهم دون أن‬ ‫يتردى الى هاوية البخل والشح أو األكل دون مراعاة ظروفهم‬ ‫‪ ،‬قائالً ومؤكدا ً‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫إن الرجل الحر هو من يـأكل ‪ ،‬وفى ذات الوقت‬ ‫الينسى الجائعين ‪ ،‬فإطعامه لهم فرض عليه ‪ ،‬ليس‬ ‫لشىء سوى أن إطعامهم سيقيه شر الفوضى‬ ‫والغوغائية التى يمكن أن تحدث نتيجة شغبهم ‪،‬‬ ‫ورفضهم الجوع المستمر والدائم ‪ ،‬فالجوع المتقطع‬ ‫الذى يعطى واليشبع ‪ ،‬ويمنح واليمنع هو الجوع‬ ‫األمثل لمثل هذا الشعب ‪.‬‬

‫صمتت قليالً وأنا أحدق فى بؤبؤ عينيه باحثا ً عن أثر كلماتى‬ ‫على عقله إذا كان يعقل ‪ ،‬ثم أكملت ‪:‬‬ ‫‪-‬‬

‫إياك أن تصر على تجويعه تماما ‪ ،‬فساعتها‬ ‫سينقلب عليك ‪ ،‬متهما إياك باألناينه وحب الذات ‪،‬‬ ‫وتفضيل نفسك ومن معك عليهم ‪.‬‬

‫هز رأسه موافقا ً فاهتز كرشه معه ‪ ،‬بينما عيناه تبوحان بما‬ ‫يدور فى صدره من مشاعر وأحاسيس ‪ ،‬عدت أكمل ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫وأيضا إشباع الشعب سيجعله ينقلب عليك ‪ ،‬ألنه‬ ‫اليجد مايشغله ويأخذ وقته ‪ ،‬فقد شبع وامتألت‬ ‫معدته وأصبح اآلن مهيآ للبحث فى أمور كانت بعيدة‬ ‫عن تفكيره ‪ ،‬وليس أسهل من الولوج الى أمورك أنت‬ ‫‪43‬‬


‫ككبير للبلد لكى يفتش فيها ‪ ،‬وينقب فى أسرارها‬ ‫باحثا ً ومنقبا ً عما يشين ويزرى بك وربما يقطع‬ ‫رقبتك ‪ ،‬فخير لك أن تمسك بالعصا من المنتصف ‪،‬‬ ‫التشبع ‪ ،‬وفى ذات الوقت التتركه للجوع ‪ ،‬اجعلها‬ ‫بين بين ‪.‬‬ ‫هز الرجل رأسه الكبير متفهما األمر ‪ ،‬مؤكدا ً أن وقوع أمر‬ ‫الحكم فى يد العامة خطر حقيقى لهذا السبب بالذات ‪ ،‬فهم‬ ‫اليفقهون شيئا ً من سياسة السلطة وقوانينها وحكمة إداراتها ‪،‬‬ ‫ويظنون أن األمر من السهولة إلى الدرجة التى متى أعلنت (‬ ‫أن العدل هو السيد ) ستصبح حاكما ً جيدا ً ‪ ،‬أو لو قلت (‬ ‫المساواة بين الجميع ) ألصبحت حاكما عظيما ً ‪.‬‬ ‫ابتلع قطعة كبيرة من اللحم أتبعها ببعض الماء ليسهل إنزالقها‬ ‫الى المرىء‪ ،‬قائالً بحدة ‪-:‬‬ ‫ كال وألف كال ‪ ،‬الحاكم الحقيقى هو الذى يقول ويعرف‬‫كيف يسير أموره ‪ ،‬قد يكون العدل أساس الملك ‪ ،‬لكن فى‬ ‫أحيان كثيرة البد من منح بعض المزايا ألشخاص بعينهم‬ ‫يعطون للدولة ماال يعطيه اآلخرون ‪ ،‬هؤالء البد أن يرتفعوا‬ ‫عن هذه المقولة ‪ ،‬ويتفردوا بمزايا خاصة ‪ ،‬ليس ألنهم‬ ‫مستغلين أو منتفعين أو حاشية سيئة تحمل الشر وتشير بالظلم‬ ‫والتعرف للعدل طريق ‪ ،‬كال بل هم مخلصون ‪ ،‬قدموا عصارة‬ ‫فكرهم راضين ‪ ،‬وبضمائر مستريحة ‪ ،‬فعلى الحاكم أن‬ ‫يميزهم عن غيرهم ‪.‬‬ ‫رفع قطعة اللحم مشيراً بها الى وجهى ‪ ،‬متسوالً موافقتى على‬ ‫كالمه ‪ ،‬هززت رأسى فى رفق وأنا أرقب عمق عينيه ‪ ،‬أكمل‬ ‫‪-:‬‬

‫‪44‬‬


‫‪-‬‬

‫المساواة ياصديقى هى الظلم‬ ‫ثم المساواة !!‬ ‫البين فى هذه الدنيا ‪ ،‬كيف أسوى بين اثنين يعطى‬ ‫كل منهما عكس اآلخر أو أقل منه ؟‬

‫المساواة الحقيقية هى أن ينال اثنان نفس الحق حينما يعطيا‬ ‫نفس العمل ‪ ،‬وإذا ميزت أحدهما عن اآلخر فى تلك الحالة‬ ‫أكون قد ظلمته ‪ .‬انظر مثال لألشغال فى البلد اليوم ‪ ،‬هناك‬ ‫أعمال متساوية فى الجهد المبذول ورغم هذا متفاوته فى األجر‬ ‫‪ ،‬إذا فكرت أن تعيد لألمر عدالته فالبد أن تأخذ من األعلى‬ ‫لتعطى األقل أجرا ً لتساوى بينهم ‪ ،‬وحينها ستحترق البلد‬ ‫بالرفض والفوضى والصراخ بأن ظلما ً عظيما ً وقع عليهم ‪ ،‬لذا‬ ‫تنظر الى المتضررين الذين يطالبون بالمساواة وأنت التستطيع‬ ‫عمل شىء ‪ ،‬لو زدت أجورهم ستثقل كاهل البلد باألجور‬ ‫الجديدة ‪ ،‬ولو أخذت من األعلى أجرا ً ستقع الفتنة ‪ ،‬ولو‬ ‫أعطيت المتضررين أمالً ومنيتهم بأحسن األمانى عشت هادئا ً‬ ‫ومنحت البلد استقرارا ً إلى أن تجد حال ً لهذا اللغز ‪ ،‬فى رأيك‬ ‫لو قفز العامة الى السلطة ‪ ،‬هل يمتلكون الرؤية الصحيحة‬ ‫التى عرضناها اآلن ؟‬ ‫قلت مؤكدا ً ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫كال‬

‫فى البيت الكبير على حافة البلد حيث الحرس مزروعون حول‬ ‫األسوار ‪ ،‬بأجهزتهم وأسلحتهم وعيونهم المتربصة بكل من‬ ‫يفكر أن يقترب من المكان كانت جلستى والرجل الهادىء‬ ‫العينين المكتظ باللحم بابتسامته الواثقة ‪ ،‬وهو يتحدث إلى‬ ‫رغم مراعاته مركزى كصاحب للكرسى ‪ ،‬شارحا ً أبعاد األمر‬ ‫كما ينبغى أن يكون ‪ ،‬ففى حياتنا تلك البد أن يتواجد الغنى‬ ‫صاحب المال لكى يسود ويفرض إرادته ‪ ،‬ليس ظلما ً وال‬ ‫‪45‬‬


‫عدوانا ً على أحد ما ‪ ،‬لكنها سنة الحياة أن يوجد من يسوسها‬ ‫ويوجهها ‪ ،‬ليس من فراغ وال بسلطة رأس المال وحده ‪ ،‬بل‬ ‫ألنه مؤهل للقيادة ‪ ،‬مؤهل أن يسود وأن يوجه وأن يحمل راية‬ ‫التقدم والتغيير إذا استلزم األمر ذلك ‪ ،‬هل ترى سفينة تسير‬ ‫وسط الموج ببعض العمال دون فرد واحد يجمع الجهود‬ ‫ويوجهها إلى مصلحة واحدة هى الحفاظ على السفينة من‬ ‫الغرق ‪ ،‬وفى ذات الوقت توجيهها الى هدفها بحرفية تمنعها‬ ‫من الشرود بعيدا ً عن هدفها ؟‬ ‫لذلك ياصديقى تجد أن هؤالء عددهم عادة يكون قليالً ‪ ،‬ليس‬ ‫لشىء سوى ألن لديهم منحة إلهية ‪ ،‬هى قيادة الجموع ‪،‬‬ ‫واليعقل طبعا أن يكون عدد القواد كثير ‪ ،‬إليس كذلك ؟‬ ‫قالها وهو يبتسم ‪،‬ابتسامته ذات حدود وأبعاد كأنه يقيسها‬ ‫بمسطرة دقيقة الحساب ‪ ،‬وكذلك نظرته المتعالية وجفونه‬ ‫المسترخية المنكسرة فى عظمة كأنه يبخل على بنظرة كاملة‬ ‫فيكتفى بإلقاء نصف نظرة على وجهى ‪ ،‬رغم محاولته إبداء‬ ‫تواضع كاذب فى حضرتى كصاحب كرسى له تقديره ‪،‬‬ ‫وإحترامى فرض على الجميع بما فيهم هو حتى وإن كان كبير‬ ‫عائلته ‪.‬‬ ‫صحبته إلى الوليمة التى أعدها خصيصا ً لى وأنا أبحث عن‬ ‫مدخل جيد لعرض ماأريد ‪ .‬كنت واثقا ً أنه يعرف مقصدى جيداً‬ ‫‪ ،‬يعرف لماذا أتيت إليه ‪ ،‬وأعرف أكثر أنه قد أعد قائمة‬ ‫بطلبات محددة للمساومة بها ‪ ،‬فمثل هؤالء اليقدمون خدمات‬ ‫مجانية ‪ ،‬وال يعرفون كلمات فى القاموس اللغوى لها داللتها‬ ‫عند أوالد البلد مثل التضحية أو التيسير أو مراعاة الخواطر ‪،‬‬ ‫أو مثل هذا من مسميات ‪ ،‬قل لى ماذا تريد وسوف أعرضه‬ ‫على مائدة المصلحة المشتركة ‪ ،‬فإن صلح وكان له مقابل أو‬

‫‪46‬‬


‫جانب بالنسبة لى فأهال به وسهال ‪ ،‬وإال فالموضوع منتهى ‪،‬‬ ‫وال يصلح أن يفتح مهما كانت األسباب مرة أخرى ‪.‬‬ ‫ثم مهم جدا أن تعرف مع من تتعامل ‪ ،‬وهل لديه القدرة على‬ ‫الوفاء بتعهداته والتزاماته أم ال ‪.‬‬ ‫كل هذا أعرفه عنه ‪ ،‬وعنهم جميعا ‪.‬‬ ‫لذا قدرت األمر جيدا ً وأعددت له عدته ‪.‬‬ ‫أوالً ألفرض عليه االلتزام بما أريد‪.‬‬ ‫ثانيا المانع أبدا ً أن أتعهد له ببعض المميزات نظير خدماته‬ ‫التى أطلبها منه ‪ ،‬شرط أن يطلبها هو ويلح عليها ‪.‬‬ ‫وأبدى االمتعاض قليالً أو التردد ‪.‬‬ ‫وأسأل بعض األسئلة التى تشى بخشيتى من ظلم أطراف أخرى‬ ‫إذا وافقت على منحه مايريد ‪.‬‬ ‫قدمت ولدى مسعود الى مائدة الطعام ليكون بجوارى ‪ ،‬الولد‬ ‫يحمل نظرات بلهاء تشى بما فى داخل دماغه الصغير من فراغ‬ ‫‪ ،‬يتحدث همسا ً كأنه يخشى من شىء ما ‪ ،‬حركاته مغلفة بخجل‬ ‫طفولى المعنى له ‪ ،‬يهتم كثيرا بشعره ‪ ،‬ويخشى كل الخشية أن‬ ‫تهتز شعره وتتحرك عن مكانها الذى ثبتها فيه ‪ ،‬وكلما رأى‬ ‫مرآة يحدق فيها غامسا ً نظراته فى بؤبؤ عينيها ‪ ،‬متسائال‬ ‫على مايبدو كيف حال شكله اآلن ‪ ،‬وكيف ينظر الخلق إليه ‪،‬‬ ‫الغريب أنه مع كل هذا يمارس العناد بحرفة ودراية عالية‬ ‫واليتنازل أبدا إال بعد التهديد والوعيد الحارق أو دموع أمه‬ ‫ونشيجها ‪ ،‬وقد استعصى على المدربين وأدارة البروتوكل فى‬ ‫القصر‪ ،‬ويتالعب بهم مراوغا ً ليحول بينهم وبين تلقينه مايجب‬ ‫أن يتعلمه لتحسين صورته أمام العامة ‪ ،‬وتحسين صورتنا معه‬ ‫‪47‬‬


‫كأهل واجبهم تربيته التربية الصالحة‪ ..‬دفعته بيدى ليجلس‬ ‫الى يمينى على رأس مائدة الطعام ‪ ،‬واحتفيت بمضيفى واثقا ً‬ ‫أنه يفهم جيدا إشارتى ويستعد لبدء المباراة ‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫مرحبا ً برجلنا القادم‬

‫قالها ملقيا ً ببسمته المرسومه على اتساع قسماته الرخوة على‬ ‫وجه مسعود الذى أحنى رأسه متمتما ً بكلمات مدغومة المعنى‬ ‫لها ‪ .‬سارعت بالرد ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫المهم أن يعرف كيف يقود السفينة بمهارة وحذق ‪.‬‬

‫مشيرا ً بطبيعة الحال الى مراعاته لهم ولكى أطمئنه على‬ ‫مصالحه ‪ .‬التقط اإلشارة بذكاء هذه المرة ‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫هذا مفروغ منه ‪ ،‬وإال مااستحق أن يكون شبالً فى‬ ‫بيت األسود‬

‫تبسمت للمجاملة ودخلت فى الموضوع مباشرة ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫المهم أن تكون النمور بجواره ‪.‬‬

‫ارتفعت ضحكته ‪ -:‬نمور مرة واحدة ؟‬ ‫‪-‬‬

‫تلك حقيقة‬

‫‪-‬‬

‫بالنسبة للنمور فهى قلبا ً وقالبا ً معه ‪ ،‬مصلحة البلد‬ ‫هدفنا جميعا ً ولذلك لن نختلف أبدا ً‬

‫هززت رأسى مؤمنا ً على كالمه ‪ -:‬هذا حقيقى ‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫التعاون بيننا دوما ً ستكون له ثماره التى تصل‬ ‫للجميع‬ ‫‪48‬‬


‫وصلتنى اإلشارة واضحة جلية وهو مااستعددت له جيداً ‪ .‬قلت‬ ‫‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫التعاون لن ينقطع يوما ً ‪ ،‬خاصة مع عقول لها‬ ‫خصوصيتها ‪ ،‬وجديرة بالتقدير ‪.‬‬

‫وانتقلت مباشرة الى قلب الهدف ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫ال أعرف لماذا أخشى أن أرشحه للكرسى ‪.‬‬

‫اتسعت ابتسامته بمقدار يشى بما لديه ‪ ،‬وكأنه يقول لى أفهم‬ ‫ماترمى اليه ‪ ،‬المهم ماهى تعهداته والتزامه معنا ‪.‬‬ ‫وقال متحمسا ً ‪ -:‬التخشى شيئا ً فنحن كلنا معه ‪.‬‬ ‫أرخيت ظهرى على ظهر المقعد وصببت نظراتى فى بؤبؤ‬ ‫عينيه واثقا ً أننا سنبدأ المساومة فورا ً ‪ ،‬قضم قضمة من اللحم‬ ‫المشوى الذى أعد خصيصا ً لهذه المناسبة ‪ .‬قال ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫أنت تعرف المشاريع المنتشرة فى البلد وحاجتنا الى‬ ‫يد قوية ترعاها لصالح الناس والمجتمع‪.‬‬

‫قلت وانا أعالج قطعة لحم حمراء شهية المنظر‪ ،‬رأيتها‬ ‫تدعونى لقضمها فلم أتردد ‪ ،‬رغم امتالء معدتى ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫مادامت المصلحة واحدة والهدف رعاية صالح الناس‬ ‫والمجتمع فحماية هذه المشاريع واجبنا‬

‫وقبلت دعوته لتناول الشاى فى الردهة الكبيرة فى بيته الكبير‬ ‫على حافة البلد ‪ ،‬تلك الردهة المطلة على حديقة المنزل‬ ‫بأشجارها وثمارها وهوائها الذى يمأل الروح بالهدوء والدعة‬ ‫‪ ..‬الرياض فى كل مكان تشد الروح ‪ ،‬تنعم بينها بصفاء النفس‬ ‫وسكينة الفؤاد ‪ ،‬وتفلت من أكدار الكون من حولك ‪ ،‬تنظر إلى‬ ‫‪49‬‬


‫العصافير وهى تغدو سابحة فى فضائها بال قيود وال عقبات ‪،‬‬ ‫تختار الفرع الذى تريد ‪ ،‬متى أرادت ‪ ،‬وتختار الوليف الذى‬ ‫تهفو له صدورها بال خوف غدر والمظنة سوء ‪،‬بينما الزهور‬ ‫تنعم بقبالت النسيم وعناقه الودود وتهتز طربا ً للمسات الحنان‬ ‫من يديه ‪ ،‬والنجيل الرائق الخضرة على األرض وهو يتقبل‬ ‫وطء قدميك على صدره بفرح وسرورمتمايالً رقاصا ً اليعرف‬ ‫ألما ً والشقا ًء ‪ ..‬حدق الرجل فى المكان حوله بنصف عين من‬ ‫جديد ‪ ،‬ربما النشغاله بأمور كثيرة يبحث كيف يناقشها معى ‪،‬‬ ‫أخذته الى مواضيع شتى ‪ ،‬وحين قمت معلنا ً الشكر والتقدير‬ ‫الستضافتى فى بيته قال بذات ابتسامته المرسومة الواثقة وهو‬ ‫يشير الى ولدى مؤكداً ‪-:‬‬ ‫افعل ماتراه ‪ ،‬ونحن معك ‪.‬‬‫وهذا ماكنت أريد !‬

‫(‪)9‬‬

‫الحل‬

‫اكتشفت الحقيقة التى كان البد أن أكتشفها يوما ً ‪.‬‬

‫‪50‬‬


‫تلك الحقيقة التى كانت تتوارى خجلة خلف الستار‪ ،‬لتفسح‬ ‫الطريق عادة للتقارير المتأنقة المعطرة المكتوبة ببالغة‬ ‫العبارات وبديع الصور ‪ ،‬تلك التقارير التى تتحدث عن قلوب‬ ‫الناس فى الشوارع والحارات التى تخفق من أجلى ‪ ،‬وتصور‬ ‫أن عقولهم تسير وراء عقلى باقتناع كامل ورضا تام ‪،‬‬ ‫وتصف كيف يروننى النبراس الذين عليهم أن يمضوا خلفه‬ ‫راضين مطمئنين ‪ ،‬ويروننى الراية الخفاقة التى تحقق‬ ‫طموحاتهم ‪ ،‬و الروح الملهمة التى تعلو األرواح بسموقها‬ ‫وشفافيتها وبديع نقائها ‪ ،‬وبطبيعة الحال كنت أقرأ أنا هذه‬ ‫الملفات والتقارير ‪ ،‬وأسمع لكل هذه الترهات والتوافة منتفخ‬ ‫األوداج ‪ ،‬هائما ً فى براح غرور المعنى له ‪ ،‬أعيش حياة‬ ‫أخرى بعيدة كل البعد عن واقع ال أراه ‪،‬وال أحلم بالخوض فى‬ ‫غماره نظرا ً إلغالقى أبوابى وأسوارى على خياالتى وأوهامى‬ ‫‪ ،‬مبتعدا ً عن الحقيقة التائهة الباكية المغلوبة على أمرها التى‬ ‫أنأى عنها ‪ ،‬وهى التملك إال التوارى خلف ستار النسيان ‪،‬‬ ‫منتظرة فرصة التجىء للوثوب إلى عينى وإزاحة الغشاوة‬ ‫عنهما ‪.‬‬ ‫رأيت حينما طردت عنى الخمول من أجل ولدى ومن أجل‬ ‫اعتالؤه الكرسى بعدى الوجوه كما يجب أن أراها ‪ ،‬اقتربت من‬ ‫المالمح الحقيقية بعيدا ً عن األقنعة ‪ ،‬وبعيداً عن مسوح النفاق‬ ‫وتراتيل الكذب والبهتان ‪ ،‬شممت روائح الغدر ‪ ،‬وذقت طعم‬ ‫الكراهية ‪ ،‬وغصت لعنقى فى المؤامرات التى تحاك ضدى ‪،‬‬ ‫ورغم هذا لم استسلم لفكرة الكراهية لمجرد الكره ‪ ،‬فليس‬ ‫هناك كرها ً بال سبب ‪ ،‬كما أنه ليس هناك حبا ً بال سبب ‪،‬‬ ‫األرواح جنود مجندة ‪ ،‬هذا حقيقى ولكن الرب سبحانه يسبب‬ ‫األسباب ‪.‬‬

‫‪51‬‬


‫لذا كان على للوصول إلى كنه األمر أن أعاود الوثوب‬ ‫للموضوع من جهة أخرى ‪ ،‬وهى معرفة السبب الذى من أجله‬ ‫تحول الناس من مؤيد وراض الى كاره وحاقد ‪.‬‬ ‫تابعت التحقيقات بنفسى ‪ ،‬وحضرت بعضها متستراً بستار‬ ‫الصمت ألرى بعقلى قبل عينى ماهناك ‪ ،‬وليتنى مافعلت ‪.‬‬ ‫الحقيقة دوما ً متعبة جدا ‪.‬‬ ‫تتعب صاحبها وتتعب من يبحث عنها ‪ ،‬وتتعب من يتقصى‬ ‫أمرها ويطلب مصاحبتها ‪.‬‬ ‫لذا رأيتنى أصل الى رأى واحد وأقتنع به ‪.‬‬ ‫الناس معهم كل الحق فى كراهيتى‬ ‫معهم كل الحق فى الحنق على‬ ‫ورفض اعتالئى للكرسى‬ ‫بل رفض الكرسى نفسه الذى يأتيهم بوجوه مثلى التريد إال‬ ‫مصلحتها الشخصية بعيداً عن مصالحهم وأهدافهم ‪.‬‬ ‫وكان السؤال التالى الذى جابهنى هو‪ ..‬وماالحل ؟‬ ‫وكان الرد المفترض فى تلك الظروف أن أسعى لتصحيح‬ ‫األوضاع فورا ً ‪.‬‬ ‫لذا قررت بناء مسجد جامع يسع الجميع ‪ ،‬يجتمع فيه الخلق‬ ‫ويتقربون إلى هللا ويدعونه من أجلى ‪ ،‬فحين يروننى أبنى‬ ‫مسجد جامع سامق البنيان هائل المساحة سيعرفون أن بقلبى‬ ‫خيرا ً ‪ ،‬ولست كما يقول المغرضون بال قلب ‪ ،‬أسعى لمصالحى‬ ‫ومصالح ولدى من بعدى ‪ ،‬وال أنظر لمصالحهم أبداً ‪ ،‬هاأنا ذا‬ ‫‪52‬‬


‫أنظر وأدقق وبعد مزيد التفكير أعمل من أجلهم ‪ ،‬من أجل‬ ‫اقترابهم من هللا وتواصلهم معه ‪ ،‬وهذا سيمنح الوطن بركة ‪،‬‬ ‫والمواطنين رضا ًء وراحة بال ‪ ،‬فالصالة للمصلى بركة‬ ‫وهدوء ورضاء وراحة بال ‪ ،‬ومن يتقرب هلل بالصالة يحفظه‬ ‫سبحانه ‪ ،‬ومادام الجميع سيصلى فسوف يحفظهم هللا ‪،‬‬ ‫وبالتالى سيحفظ البلد وأنا معها ‪.‬‬ ‫أمرت فورا ً باختيار قطعة أرض فى مكان‬ ‫لبناء المسجد الجامع ‪ ،‬ذهب الخبراء وبحثوا‬ ‫خرائطهم ‪ ،‬وجاؤوا ساعين ليعرضوا على‬ ‫وضعوا الخرائط أمامى وأشاروا الى قطعة‬ ‫تماما ً من العاصمة ‪ ،‬قالوا ‪-:‬‬

‫يتوسط العاصمة‬ ‫ونقبوا وتدارسوا‬ ‫ماتوصلوا إليه ‪،‬‬ ‫أرض فى القلب‬

‫إنها عشوائيات يافندم‬‫ وسكانها ؟‬‫ أناس الصفة لهم‬‫ كيف ؟‬‫ حياتهم فوضى ‪ ،‬ومشاكلهم أكبر بكثير مما نرى ونعرف‬‫ لكنهم مواطنون‬‫ يافندم ‪ ،‬معظمهم خارجون عن القانون ‪ ،‬الحكومات المتوالية‬‫تركتهم مرارا ً خوفا ً من وصمها بالوحشية إذا تعاملت معهم بما‬ ‫يليق بهم ‪.‬‬ ‫استدعيت قائد الشرطة الرماح فوراً ‪ ،‬سألته ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫مارأيك فيما قاله الخبراء عن هؤالء العشوائيين ؟‬ ‫‪53‬‬


‫‪-‬‬

‫هم كما قيل عنهم‪.‬‬

‫‪-‬‬

‫ولماذا التجليهم من أماكنهم مادامت تلك أماكن مميزة‬ ‫؟‬

‫‪-‬‬

‫لن يرضخوا بسهوله ‪.‬‬

‫‪-‬‬

‫وأين دوركم كشرطة ؟‬

‫‪-‬‬

‫نحتاج لقوات ضخمة ‪.‬‬

‫‪-‬‬

‫هذا سهل ‪.‬‬

‫‪-‬‬

‫وأماكن إيواء جديدة لهم‬

‫‪-‬‬

‫ولماذا اليبحثون ألنفسهم عن أماكن إيواء ؟‬

‫‪-‬‬

‫المشاكل واالضطرابات التى ستحدث قد تكون أكبر‬ ‫من أن نسيطر عليها‬

‫‪-‬‬

‫ومساكن اإليواء هذه أين تكون ؟‬

‫‪-‬‬

‫هناك فى الصحراء ‪.‬‬

‫‪-‬‬

‫أفضل ‪ ،‬حتى النراهم فى العاصمة ‪.‬‬

‫‪-‬‬

‫لكن هناك مشكلة ‪.‬‬

‫‪-‬‬

‫وماهى ؟‬

‫‪-‬‬

‫التوجد هناك مرافق‪.‬‬

‫‪-‬‬

‫انقلهم ‪ ،‬وبعدها نبحث موضوع المرافق هذه ‪.‬‬

‫‪-‬‬

‫سيتذمرون ‪.‬‬ ‫‪54‬‬


‫‪-‬‬

‫أنت هكذا تضغط النهاك الميزانية العامة للبلد‬

‫‪-‬‬

‫بل لبسط األمن ‪.‬‬

‫تدخل مساعده المجذوب طالبا ً اإلذن فى عرض رأيه ‪ ،‬أشرت‬ ‫له موافقا ً ‪ ،‬قال ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫أرى أن نجعل بناء المسجد الجامع مشروعا ً قوميا ً ‪،‬‬ ‫نهيىء له أذهان الناس ‪ ،‬ونجعلهم يتحمسون له ‪،‬‬ ‫ونقنعهم أن البلد كلها ستتقرب به الى هللا ‪ ،‬ومن‬ ‫أجل التقرب إلى هللا سنضحى جميعا ً من أجل أن يقبلنا‬ ‫ويرضى عنا ‪ ،‬فالحاكم سيضحى بالمال ‪ ،‬والعمال‬ ‫بالبناء ‪ ،‬وقاطنى األرض سيضحون بأرضهم من‬ ‫أجل هللا وليس من أجل أفراد ‪.‬‬

‫تابعت عينا قائد الشرطة الرماح وهما تبرقان إعجابا ً ‪،‬‬ ‫وانتبهت له يكمل حديث الرجل منبهرا ً بالفكرة التى عرضها ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫وطبعا لن يستطيع أحد أن يعترض على التضحية‬ ‫بأرضه من أجل هللا ‪ ،‬وهكذا ننفذ مانريد بسالم‬ ‫وأمن ‪.‬‬

‫أشرت بالموافقة ‪ ،‬وصرفت الجميع طالبا ً منهم أن يتركوا‬ ‫الخرائط ألدرسها على مهل ‪ ،‬وجلست أفكر تفكيرا ً جديداً وأنا‬ ‫أحدق فيها ‪ ،‬وأدقق فى مساحة األرض التى ستخلو من‬ ‫ساكنيها وخاطرة تدور فى رأسى ‪ ..‬لوقلصنا مساحة المسجد‬ ‫قليالً جدا ً ‪ ،‬و بنينا دائرة من المساكن حولها ذات مستوى‬ ‫عالى ‪ ،‬وأجرناها بمبالغ ضخمة سنضرب عصفورين بحجر‬ ‫واحد ‪ ،‬بنينا المسجد الجامع من ناحية ‪ ،‬ومن ناحية أخرى‬ ‫أدخلنا الى خزينة الدولة مزيداً من األموال ‪.‬‬ ‫عدت أطلب الخبراء للمناقشة !!‬ ‫‪55‬‬


‫(‪)10‬‬

‫شركة األمناء‬

‫كان البد من البدء فوراً فى الرحيل الى الغرب ‪ ،‬استكمال‬ ‫التفاهم والتعهدات ضرورى جدا ً من أجل مسعود ‪ ،‬الطريق‬ ‫وعر ‪ ،‬صحراء قاحلة وصقيع يرمى بسهامه الثلجية على‬ ‫الوجوه ‪ ،‬وسحابات بيضاء يقتحم بياضها أخرى سوداء ممتدة‬ ‫متمددة تخترقها على مهل وتغوص فيها ملتهمة البياض على‬ ‫مهل وبال تعجل ‪ ،‬كأنما هى واثقة فى نهاية األمر من إتمام‬ ‫عملها ‪ ،‬وذؤابات رمادية تبدو هنا وهناك راسمة نهايات‬ ‫متوافقة لحال اليخفى على عين ‪.‬‬ ‫العربات ستأخذ وقتا ً فى السير ‪ ،‬ستأخذ جهدا ً ‪ ،‬وربما أشياء‬ ‫أخرى فى عالم الغيب ‪ ،‬لكن البد مما ليس منه بد ‪.‬‬ ‫كالعادة تركت زوجتى خلفى ‪ ،‬هى تحب هذا وأنا كذلك ‪ ،‬عيناها‬ ‫تنضحان بما لديها ‪ ،‬التخفيان وال تملكان إخفاء مايمور فى‬ ‫صدرها من أحاسيس ‪.‬‬ ‫هى تبدى بكلماتها الجوفاء بعض الود ‪ ،‬لكنى ال أريد إال ودا ً‬ ‫خالصا ً ممزوجا ً بنوع من الخضوع التملكه منذ عرفتها ‪ ،‬هى‬ ‫ترى أنها تمتلك ماال يملكه اآلخرون ‪ ،‬تبدى رأيها ومشورتها‬ ‫فى كل األمور حولها ‪ ،‬وتدس أنفها فى قوة وشراسة فى أمور‬ ‫أبعد ماتكون عن مدارفهمها وإدراكها ‪ ،‬ورغم هذا التتورع‬ ‫عن إلقاء الكلمات المتوثبة المتأججة ذات الحروف المسننة‬ ‫فى الوجوه واآلذان وهى تباهى الظالل والجدران بقدراتها‬ ‫وعقلها الراجح وفهمها الذى يسبق فهم الرجال ‪.‬‬ ‫‪56‬‬


‫الغريب فى األمر أننى أضطر كثيرا ً لإلنصات إليها ‪ ،‬ليس‬ ‫احتياجا ً ألفكارها النيرة ‪ ،‬وال شغفا ً بسماع صوتها ‪ ،‬وال حتى‬ ‫لنصاعة فكرها ونقاء حروفها ‪ ،‬ليس كل هذا بطبيعة الحال ‪،‬‬ ‫ولكن ألتالفى مشاكلها ومايعتريها من ضيق إذا عارضتها فى‬ ‫شىء ‪ ،‬وإصرارها على الكالم لساعات طوال من أجل أن‬ ‫تقنعنى برؤيتها الصائبة التى التخيب ‪ ،‬وفى تلك الحالة حينما‬ ‫تصطادنى لساعات طوال وهى تصب فى أذنى بإصرار وعناد‬ ‫كبيرين حروفها وكلماتها وعباراتها دون كلل أو أرهاق أجدنى‬ ‫أمام أمرين ‪ ،‬أما التحديق فى عينيها وبقوة وأناأقول ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫انتهى الكالم ‪ ،‬افعلى مابدا لك‬

‫وفى تلك الحالة تقوم فورا ً ‪ ،‬تأمر بما تريد قائلة أننى قد‬ ‫وافقت رأيها ‪ ،‬وياويل من يعيد عليها الكالم ‪ ،‬أو حتى يقف‬ ‫مترددا ً لثوان قبل أن يهرع لتنفيذ أمرها ‪ ،‬أما الحالة الثانية‬ ‫فهى أن أعطيها ظهرى ونحن على السرير‪،‬ال أرد عليها ‪ ،‬وفى‬ ‫تلك الحالة إما أن تشدنى من مالبسى قائلة ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫أعرف أنك متيقظ ‪ ،‬ولكنك التريد سماعى‬

‫فأصرخ ‪ -:‬دعينى أنام‬ ‫فتعرف أنه الجدوى من كل مافعلت ‪ ،‬فتحتضن غيظها وكمدها‬ ‫وتستلقى الى جوارى بنيرانها المستعرة انتظاراً لقدوم الصباح‬ ‫لتستلم أذنى من جديد ‪ ،‬فأضطر لحظتها إلى الصراخ فيها‪-:‬‬ ‫ لن أفعل ماتريدين‬‫وأنا أدرك جيداً مغبة هذا القول ونتيجته المحتومة ‪ ،‬إذ تنشب‬ ‫بيننا خصومة اليعلم إال هللا كم تمتد وكم تترك فينا من أثر ‪،‬‬ ‫وكم تمأل البيت بالصراخ والكلمات الجارحة التى التهدأ ‪ ،‬إلى‬ ‫أن يعود الصلح لينشر ضياه حولنا ‪ ،‬وبطبيعة الحال هى‬ ‫‪57‬‬


‫التصالح ‪ ،‬وال تقدم على صلح أبدا ً ‪ ،‬والتملك كلمات اعتذار‬ ‫والتعرفها ‪ ،‬هى فقط إذا أرادت مصالحتى كلمتنى كأن لم يحدث‬ ‫بيننا شىء ‪ ،‬وأبادلها الكالم كأن شيئا ً لم يكن ‪ ،‬والويل لى كل‬ ‫الويل لو فكرت أن أصالحها قبل أن أرى على وجهها عالمات‬ ‫بعينها تقول أنها جاهزة للصلح ‪ ،‬فهى تظل متجهمة الوجه‬ ‫حادة النظرات طالما أنها غير مستعدة للصلح ‪ ،‬فإذا انفرجت‬ ‫سماتها وتالشت التكشيرة ورقت النظرات فيمكنك لحظتها أن‬ ‫تكلمها وترد ‪ ،‬ولكن إذا فكرت قبل هذا فى عتاب فسوف تنال‬ ‫فيضا ً من قسوة وعناد ‪ ،‬وسهام نارية وحراب ‪ ،‬وربما‬ ‫صواريخ قاتلة التعرف السلم أبدا ‪.‬‬ ‫أمرت بمتابعة الحملة اإلعالمية الكبرى من أجل بناء مسجد‬ ‫جامع تتقرب به بلدنا إلى هللا ‪ ،‬ويكون بمثابة حصن للمؤمنين‬ ‫ومالذ للضعفاء والمهمشين ‪ ،‬مسجد يجتمع فيه كل من يرفع‬ ‫راية التوحيد ‪ ،‬وكل من يريد التواصل مع هللا ‪.‬‬ ‫لكن جاءنى من جديد أحد الوزراء باقتراح جديد ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫أرى أن يتم تقليص المساحة قليالً جداً من أجل بناء دار‬ ‫للمسنين ‪ ،‬فيها رعاية ورحمة ورفق بهؤالء الذين‬ ‫قدموا لبلدهم الجهد والعرق واإلخالص والعمر ‪ ،‬فال أقل‬ ‫من أن نكافئهم بدار تليق بهم ‪ ،‬فيها حدائق ورياض‬ ‫وكتب ومسرح وسينما ومالعب وقاعات مطالعة وكل‬ ‫ماتحتاجه من خدمات ‪.‬‬

‫حدقت فى عينيه اللوزيتين متابعا ً باهتمام ‪ ،‬حدقتاه تتدفقان‬ ‫بحماس شديد وتبديان إخالصا ً ال شك فيه ‪ ،‬سألته ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫وماجدوى هذا المشروع ؟ وماالعائد منه ؟‬

‫‪58‬‬


‫تألقت نظراته بلمعة السرور وهو يجيب من خالل بسمة تأكل‬ ‫فتحة فمة ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫طبعا كل هذا بأجور زهيدة تكفى بالكاد المصروفات التى‬ ‫تم ضخها للمشروع‬

‫‪-‬‬

‫والمسجد ؟‬

‫‪-‬‬

‫ستكون الحملة االعالنية عن مسجد للتقرب هلل ‪ ،‬وفيه‬ ‫خدمات شتى من قاعات لشرح اآليات بأجور زهيدة ‪،‬‬ ‫الى قاعات للفقه ‪ ،‬وأخرى للسنة النبوية ‪ ،‬وثالثة للفقه‬ ‫المقارن بين األديان ‪ ،‬وهكذا يصير المسجد مكانا ً‬ ‫عالميا ً يجتمع فيه أقطاب العلم ‪ ،‬وإلى جواره دار‬ ‫المسنين ‪ ،‬وياحبذا لوجعلنا مكانا ً صغيراً جداً الى‬ ‫جوارهما ليكون دارا ً للمناسبات بأجر زهيد أيضا ‪ ،‬ولو‬ ‫فكرنا فى بناء جراج سيكون إضافة لها قيمتها !!‬

‫سألته ‪ -:‬وماذا يتبقى للمسجد من المساحة الكلية ؟‬ ‫قال وهو يبدى التواضع الجم والخشوع ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫المكان كله سيكون مسجد جامع ‪ ،‬ألننا سنطلق عليه‬ ‫بيت الدين ‪.‬‬

‫‪-‬‬

‫هكذا ؟‬

‫‪-‬‬

‫نعم ‪ ،‬وسوف يكون مزارا ً على مستوى يليق ببلدنا ‪،‬‬ ‫ويعرف العالم كله أن لدينا بيتا ً للدين فيه كل مايتمناه‬ ‫المرء ومايشعره بإنسانيته ورقيه‬

‫‪-‬‬

‫أالترى أن هذا سيكلف البلد أمواالً طائلة لتنفيذه؟‬

‫‪59‬‬


‫برقت عيناه اللوزيتان ببريق المكر وهو يرفع حدقتيه غارزاً‬ ‫أنياب نظراته فى بؤبؤ عينى قائال‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫لن تتكلف البلد مليما ً واحداً ‪ ،‬سيقوم أحد المقاولين‬ ‫بالبناء نظير إدارة المكان لمدة من الزمن ‪ ،‬ثم يعود إلينا‬ ‫ملكا ً خالصا ً للبلد تنتفع به وبأرباحه ‪.‬‬

‫‪-‬‬

‫وكم تكون هذه المدة ؟‬

‫‪-‬‬

‫عشرون عاما ً‬

‫‪-‬‬

‫نعم !!‬

‫‪-‬‬

‫كثير ؟‬

‫‪-‬‬

‫جدا ً‬

‫‪-‬‬

‫وماذا ترى حضرتك ؟‬

‫‪-‬‬

‫خمس سنوات الغير ‪.‬‬

‫تاهت عيناه فى مدارات فكر جامح قبل أن يقول بثقة ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫لك ماتريد‬

‫‪-‬‬

‫من سيقوم بالمشروع ؟‬

‫‪-‬‬

‫شركة مقاوالت خاصة تتميز باإلخالص ‪ ،‬وهى إسالميه‬ ‫ملتزمة ودقيقة فى عملها ومواعيدها‬

‫‪-‬‬

‫ماأسمها ؟‬

‫‪-‬‬

‫األمناء للمقاوالت‬

‫‪-‬‬

‫اذهب اآلن وانتظر منى الرد‬ ‫‪60‬‬


‫وطلبت معلومات عن هذه الشركة وأنا اتوقع شيئا ً ما ‪ ،‬وكان‬ ‫ماتوقعته صحيحا ‪ ،‬فهى شركة يمتلكها أحد أبناء هذا الوزير ‪،‬‬ ‫ومعه بطبيعة الحال أبناء وجهاء من البلد ‪ ،‬مما أثار حفيظتى‬ ‫وغضبى بشدة ‪ ،‬وجعلنى أتساءل لماذا لم يأخذ ابنى معه فى‬ ‫شركته ‪!!..‬‬ ‫طلبته من جديد وأعلنته موافقتى على إقتراحه ‪ ،‬على أن‬ ‫يأتينى بأوراق المشروع ودراسة جدوى كاملة أيضا ‪ .‬بعدها‬ ‫أرسلت لولدى النائم فى العسل مسعود ووجهت اليه تأنيبا ً‬ ‫مؤلما ً على غفلته وكسله صارخا ً فيه ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫تعلم من هؤالء الذين يستغلون مراكزهم وجاههم من‬ ‫أجل منفعتهم ‪ ،‬ومنفعة أهلهم ‪ ،‬وبالدهم أيضا ‪ ،‬كفاك‬ ‫نوما ً‬

‫حدق بعينيه الواسعتين السوداوين اللتين تطلقان حدقتيهما‬ ‫تبرقان فى وجهى دون أن ينطق بحرف ‪ ،‬رمى بعدها نظراته‬ ‫الى األرض ومضى فى صمت الى حيث يريد ‪ ،‬تابعت كتفيه‬ ‫العريضين بهزالهما الواضح وهما يكادان ينطبقان على‬ ‫بعضهما أو يرتميان أمامه وهو يمضى محنيا ً كأنما يبحث عن‬ ‫شىء وقع منه ‪ ،‬متمتما ً كعادته بكلمات غضب التكاد تبين ‪،‬‬ ‫سائلت نفسى حينما أخفاه الباب عن ناظرى ‪..‬ماالذى يرضيه‬ ‫ويشد انتباهه ويجعله فى صورة أرقى وافضل من هذه حتى‬ ‫يجبر الناس على قبوله واالعتراف به ؟‬ ‫كتبت فى كراسة التعليمات الخاصة بى هذه الملحوظة حتى‬ ‫أتذكرها وأبحث مع المختصين طريقة لحلها ‪ ،‬فهذه الكراسة‬ ‫هى بمثابة التذكرة كلما نسيت أمرا ً ‪ ،‬خاصة أننى أصبحت اآلن‬ ‫كثير النسيان ‪ ،‬هذا باإلضافة ألخرى صغيرة الحجم أضعها فى‬

‫‪61‬‬


‫جيبى أينما ذهبت ‪ ،‬ألدون فيها ملحوظات سريعة ‪ ،‬أعود‬ ‫اليها بين الحين والحين ‪.‬‬ ‫لحظات وجاءنى تقرير من أجهزة الرقابة يخبرنى أن مسعود‬ ‫ولدى هذا الماجن الطائش قد أرسل الى القائمين على شركة‬ ‫األمناء للمقاوالت التى ستقوم بالمشروع واشترط أن يكون‬ ‫شريكا ً لهم بنسبة محددة وإال سيتم إلغاء المشروع تماما ً ‪،‬‬ ‫ومحاربتهم وربما طردهم من البالد ‪ ،‬وقد وافقوا مرغمين ‪.‬‬ ‫كتبت فى كراسة التعليمات نبذة عن هذا األمر كى تقوم‬ ‫بتذكيرى كى ألوم هذا الولد وأؤنبه وأعلنه رفضى لتصرفاته‬ ‫الرعناء هذه ‪.‬‬ ‫بعدها وضعتها فى مكانها فى درج المكتب راضى النفس ‪،‬‬ ‫ومضيت لمتابعة بقية أعمالى فى هدوء !!‬

‫(‪)11‬‬

‫صديقة فى فراشى‬

‫للطيور فى سيرها الفضائى طقوس تشدنى ‪ ،‬الفضاء المفتوح‬ ‫لها دوما ً يدفعنى لتساؤل عن ماهية الصراع بينها ‪ ،‬كيف‬ ‫يكون ؟‬ ‫هل النسور أو الصقور وماشابهها من الطيور الجارحة هى‬ ‫فقط مصدر الصراع ‪ ،‬وعدا ذلك اليوجد مصدر للخطر ؟‬ ‫المخلوقات المتشابهة فى القوة تتصارع فيما بينها على األقل‬ ‫على األرض ‪ ،‬تجد ذلك فى كل مكان يتواجد فيه بنو البشر‪،‬‬ ‫وحين يرون من يفوقهم قوة يتملقونه ‪ ،‬ويقدمون آيات النفاق‬ ‫‪62‬‬


‫بين يديه ليرضى عنهم واليؤذيهم ‪ ، ،‬وآيات النفاق من الكثرة‬ ‫بحيث التعد ‪ ،‬ووسائلها عديدة وإن كانت لن تخرج عن المال‬ ‫والجنس ‪ ،‬بمعنى أكثر أن حب الذات عند البعض على األرض‬ ‫يدفعهم لتقديم كرامتهم قربانا على مذبح سالمتهم أمام األقوياء‬ ‫جسدا ً أو جاها ً أو مركزا ً أو من يعتلى الكرسي ‪ ،‬أما مشاعرهم‬ ‫الحقيقية فيخفونها عن األعين ‪ ،‬لتظهر جلية فى الظالم ‪،‬‬ ‫وخلف األبواب المغلقة ‪ ،‬فتنهمر اللعنات وألوان السباب على‬ ‫الجميع بال تفريق ‪ ،‬كل من يحنون رؤسهم أمامه فى العلن‬ ‫يلعنوه فى الخفاء ‪ ،‬واثقين ثقة عمياء أنهم بمأمن من كشف‬ ‫حقيقتهم ‪ ،‬هؤالء أدور عليهم واحدا ً واحداً ‪ ،‬أقتحم عزلتهم ‪،‬‬ ‫أستمع لنبضاتهم ‪ ،‬أفهم داوفعهم ‪ ،‬وأعاملهم على ضوء‬ ‫مارأيت ‪.‬‬ ‫لكنى فى كل حين أتساءل لماذا التنافق األسماك الصغيرة‬ ‫الحيتان أو أسماك القرش فتقدم لها كرامتها طائعة خاشعة ‪،‬‬ ‫ولماذا ال تطوف الحمائم والعصافير وغيرها من الطيور‬ ‫الصغيرة طالبة الرضاء من الصقور والنسور والحدأة‬ ‫والبومة وغيرها من الطيور الجارحة ؟‬ ‫أم هذا شىء اخترعه االنسان ‪ ،‬خاصة فى بالدنا المبتلية‬ ‫بالنفاق ‪ ،‬ليقيهم شر األقوياء ؟‬ ‫تلك العطية التى منحتنى إياها القطة السوداء نعمة التقدر بمال‬ ‫‪ ،‬أذكر جيدا ً يوم أن دخلت مخدعى ووجدتها على الفراش تنزف‬ ‫دما ً ‪ ،‬عيناها متألقتان تحدقان فى وجهى وترجوان منى نظرة‬ ‫واحدة تدل على تعاطف أو إشفاق ‪ ،‬حدقت فيها وسيول الدهشة‬ ‫تغرق صدرى‪.‬‬ ‫كيف دخلت ؟‬ ‫ولماذا لم يرها أحد؟‬ ‫‪63‬‬


‫ولماذا اختارت مرقدى لتنام عليه وتلوثه بدمائها ؟‬ ‫ولماذا تنظرهكذا بطريقة توحى لمن يراها بأنها تعرف جيداً‬ ‫وتتفهم موقفها وتطلب العون ؟‬ ‫يومها ال أعرف لماذا اقتربت منها ‪ ،‬لمست جسدها ‪ ،‬حددت‬ ‫مكان الجرح ‪ ،‬طلبت فورا ً ضمادة ومضاد حيوى وشاش ‪،‬‬ ‫عالجت الجرح وحملتها الى مقعد صغير بجوار الفراش‬ ‫ووضعتها هناك بعد أن أمرت باحضار طعام يليق بها ‪.‬‬ ‫فطرتى التى اكتسبتها منذ علوت الكرسى هى الشك فى كل‬ ‫شىء ‪ ،‬والبحث عما وراء كل تصرف ‪ ،‬وتمحيص كل كلمة‬ ‫أسمعها ‪ ،‬لكنى هنا ومع هذه القطة لم أفكر بهذه الصورة ‪ ،‬لم‬ ‫أضع افتراضا ً أن عدوا ً ما قد سمم دمها لتؤذينى مثالً ‪ ،‬أو‬ ‫وضع فى جسدها مفجرا ً ‪ ،‬أو نثر على جسدها عطراً مسمما‬ ‫لمن يشمه أو شيئا ً من هذا ‪ ،‬بال تفكير ربما ألول مرة بحياتى‬ ‫منذ إعتليت الكرسى وجدتنى أتصرف بطبيعتى وسليقتى‬ ‫السليمة األولى ‪ ،‬وأعالج القطة التى رمتنى بكل ألوان الشكر‬ ‫والعرفان ‪ ،‬بل ال أكذب اذا قلت أننى كنت أرى دموعا ً تترقرق‬ ‫على حواف عينيها ‪ ،‬إلى أن وجدتها يوما ً تهب من رقدتها ‪،‬‬ ‫تفرد جسدها و تنطلق فى فضاء مخدعى شيئا ً فشيئا ً ‪،‬‬ ‫مستقيمة العود ألعلى ‪ ،‬وممتلئة الجسد بال التواء والسمنة ‪،‬‬ ‫بينما الوجه يستدير ‪ ،‬والبسمة تنطلق ‪ ،‬والوجنات تتورد‬ ‫‪،‬وفتاة وال أروع تحدق فى وجهى بعينين نجالوين تفيضان‬ ‫برقة روح لم أرها من قبل ‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫ال أعرف كيف أهدى لك عرفانى لما فعلت‬

‫سائلت نفسى لحظتها ‪ -:‬وماذا فعلت ؟‬ ‫وهل فعلت ؟‬ ‫‪64‬‬


‫وإذا كنت قد فعلت فلماذا طارت منى األحداث واختفت الظروف‬ ‫واألماكن واألشخاص ولم يعد فى الكون إال وجهها ونظراتها‬ ‫النضرة ووجهها الريان بتعبير مالمحه الذى لم أره على‬ ‫مخلوق من قبل ؟‬ ‫الشىء الذى اعتقل روحى هو براءة الصدق فى سماتها ‪.‬‬ ‫ألول مرة منذ اعتليت الكرسى أجد وجها يفيض بالصدق ‪،‬‬ ‫وتلك نادرة تحدث ربما للمرة األولى ‪.‬‬ ‫سمعتها تسأل ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫كيف أرد المعروف ؟‬

‫تبسمت هامسا ً ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫بمثله‬

‫‪-‬‬

‫كيف؟‬

‫‪-‬‬

‫تبقين معى ‪.‬‬

‫تألقت نظراتها بنظرات المكر ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫محال‬

‫صمتت قليالً ثم احتدم بريق عينيها وهى تحدق فى عينى ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫هل تذكر حادثة الثعبان الذى قتلته بيدك؟‬

‫قلت ‪-:‬‬ ‫‬‫‪-‬‬

‫مؤكد‬ ‫كان مارداً من الجن أراد االنتقام منى‬ ‫‪65‬‬


‫‬‫‪-‬‬

‫‪-‬‬

‫لماذا ؟‬ ‫تلك رواية الوقت لها اآلن ‪ ،‬لكنى أعدك بحكايتها ذات‬ ‫يوم‬ ‫سألتها ‪-:‬‬ ‫والكلب الذى كان يطاردك ؟‬

‫تبسمت عيناها ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫كان أيضا ماردا ً من نار لكن شره كان أشد ولوال‬ ‫حضنك الذى خبئتنى به لنال وطره منى‬ ‫لكنه لم يهاجمنى‬ ‫خشى مما يحتويه صدرك‬ ‫وماالذى يحتويه صدرى‬ ‫القرآن ‪.‬‬ ‫أنا ال أحفظ كثيرا ً من السور‬ ‫القليل أخافه فهرب‬ ‫ولماذا كان يطاردك هو ‪ ،‬الغيره ؟‬ ‫قلت لك تلك قصة اخرى سأرويها لك فيما بعد‬ ‫هذا وعد ؟‬ ‫وعد‬

‫‪-‬‬

‫إذن سأراك ثانية‬

‫‪-‬‬

‫مؤكد ‪ ،‬إلى اللقاء ‪.‬‬

‫‪-‬‬

‫إلى اللقاء !!‬

‫‬‫‬‫‬‫‬‫‬‫‬‫‬‫‬‫‬‫‪-‬‬

‫انكمش الجسد من جديد لتعاود الهيئة تغيرها والسمات تحولها‬ ‫وتعود القطة تحوم فى المكان قبل أن تيمم وجهها نحو الباب‬ ‫متجهة الى فضاء الحدود له ‪.‬‬

‫‪66‬‬


‫أسئلة كثيرة تركتها خلفها ‪ ،‬وحيرة تفيض فى جنبات الروح ‪،‬‬ ‫وقلق ال أدرى مبعثه ‪ ،‬طالما أنا لم أفهم ولم أدرك ولم أعِ‬ ‫ماحدث منذ لحظات ‪ ،‬ولكنى حينما قابلتها فى الظالم مرة أخرى‬ ‫فهمت ماهنالك ‪،‬وأدركت جيدا معنى التحول والتغير اللذين قالت‬ ‫عليهما حينما أنقذتها من براثن الكلب وكيف استخدمهما ومتى‬ ‫‪.‬‬ ‫أدركت بمرور الوقت أنها فعال قد منحت فأجزلت ‪ ،‬و أعطت‬ ‫فأفاضت ‪ ،‬وتركتنى أرجو واتمنى لقاءها من جديد ‪ ،‬ربما‬ ‫ألعبر لها عن شكرى وعرفانى لصنيعها ‪.‬‬

‫(‪)12‬‬

‫العاصفة‬

‫يمتد الطريق مفسحا ً المجال للنظر كى يمتد إلى مداه ‪ ،‬يبحر فى‬ ‫إصفرار ال نهائى يمتد كسجادة أزلية عميقة الغور شاسعة‬ ‫االمتداد ‪ ،‬يعلوه هواء رمادى محمل بغبار حائل اللون ‪،‬‬ ‫يرتفع ليالمس إزرقاق السماء ‪ ،‬بينما الموكب يمضى قدما ً الى‬ ‫مبتغاه ‪.‬‬ ‫أحدق من خالل زجاج العربة إلى الطريق ‪ ،‬أتابع الجو الذى‬ ‫تغير مطيحا ً بهدوئه السابق ‪ ،‬مثيرا ً الغبار واألتربة فى فضاء‬ ‫شاسع الحدود وال أبعاد له ‪ ،‬فى دوائر هائلة اإلتساع ‪ ،‬تدور‬ ‫وتتصاعد من ركن الى آخر ‪ ،‬بينما السماء التى كانت زرقاء‬ ‫من قبل قد اكتست بحلة رمادية شديدة الشفافية ‪ ،‬ونحن‬ ‫نمضى حيث المجال لتراجع وال مكان لتوقف وإحتماء بجدار‬ ‫هنا والهناك ‪.‬إذ الوقوف قد يعنى دفن الموكب بكاملة تحت‬ ‫التراب ‪ ،‬أما السير فمعناه التعرض لرياح عاتية قد تطيح‬ ‫‪67‬‬


‫بالعربات التعسة التى قدر لها أن تواجه هذا الموقف الذى لم‬ ‫تر مثله من قبل ‪ ،‬اجتمعت لجنة مواجهة األزمات فورا ً للنقاش‬ ‫والبحث عن سبل الخروج من هذا المأزق ‪ ،‬رغم أنها عقدت‬ ‫كثيرا ً من قبل ولم تناقش شيئا ً ‪ ،‬ألننى عادة كنت أكفيهم شر‬ ‫تعب النقاش ووجع الجدال وألم التفكير ‪ ،‬وأعطيهم القرارات‬ ‫جاهزة فيصدرونها ‪ ،‬وكفى هللا المؤمنين شر القتال ‪ ،‬لكنى‬ ‫اليوم ‪ -‬وألن المضطر يركب الصعب ‪ -‬فقد رأيت من العقل أن‬ ‫نشترك جميعا اليوم وبصورة سريعة جدا ً فى إتخاذ القرار‬ ‫المناسب لمواجهة مانحن فيه اآلن ‪ .‬بدت الوجوه والتراب‬ ‫يغطيها تماثيل حجرية متحركة ذات تعبيرات صخرية ‪ ،‬وعيون‬ ‫كأفواه األبيار تتحرك مآقيها ‪ ،‬فتثير فيك الدهشة الممزوجة‬ ‫بنوبات ضحك استطعت بالكاد أن أكتمها وأنا أطلب منهم‬ ‫التفكير للخروج فورا ً من هذا المأزق ‪.‬‬ ‫لكننى بينى وبين نفسى تسائلت كيف أطلب منهم التفكير وهم‬ ‫لم يعتادوا على هذا ‪ ،‬التفكير اليحتاج الى أمر ‪ ،‬ولكنه فطرة‬ ‫يفترض أن كل البشر يمتلكونها بدرجات متفاوتة ‪ ،‬وألنى‬ ‫أعرف أن درجة تفكيرهم قاصرة دون تفكيرى وإدراكى فقد‬ ‫كنت على مدار عمرى بينهم أفكر لهم أو أفكر عنهم ‪،‬‬ ‫وأستريح من الغباء المستحكم الذى يسكنهم وأستريح من‬ ‫نظراتهم البلهاء وهم يحاولون الظهور أمامى بمظهر المفكرين‬ ‫الذين يمتلكون القدرة على إتخاذ القرار ‪ ،‬ويختلفون‬ ‫ويتجادلون وربماتطور األمر الى خصومات فيما بينهم ‪ ،‬لذا‬ ‫أرحتهم من كل هذا وأرحت نفسى معهم وصرت أفكر لهم ‪،‬‬ ‫وأعطيهم نتائج ماتوصلت إليه وهم يتخذون القرار بهدوء‬ ‫وبال خصومات وبال جدل ‪ ،‬يكفى أن يحدقوا فى األوراق‬ ‫المرسلة اليهم ‪ ،‬يقرأونها بروية وعمق ويوقعون ‪ ،‬وينتهى‬ ‫األمر ‪ ،‬وتنشر الصحف ويذاع فى التليفزيون أن لجنة مواجهة‬

‫‪68‬‬


‫األزمات اجتمعت وبعد تبادل النقاش وتداول األمر وتغليب‬ ‫المصلحة العليا للوطن أصدروا قرارهم !!‬ ‫لكنى هذه المرة ولخطورة األمر ولعدم قدرتى شخصيا ربما‬ ‫ألول مرة فى حياتى كلها على الرؤية الثاقبة والتدبير الحاسم‬ ‫والتفكير السليم اضطررت للجوء اليهم واإلستماع الى أرائهم ‪،‬‬ ‫بل ورجاء سرعة التفكير إلنقاذنا جميعا ً مما وقعنا فيه ‪ ،‬بينما‬ ‫العاصفة تزداد شدة واألتربة والغبار تتحول الى سهام تضرب‬ ‫الوجوه واألجساد بال رحمة ‪ .‬وكانت بعض اقتراحاتهم كالتالى‬ ‫‪-:‬‬ ‫ نكمل السير يافندم‬‫ نقف وكلما تراكم التراب نقف فوقه فال نتعرض للدفن تحته‪.‬‬‫ نرسل إستغاثة الى األنحاء القريبة لعلهم يلتقطونها ويرسلون‬‫المساعدة‪.‬‬ ‫ نبتهل وندعو جميعا ونطلب من هللا أن يحل المعضلة ‪.‬‬‫ نصنع من أجسادنا دائرة حولك لنفديك بأرواحنا ‪.‬‬‫أشرت اليهم بالصمت كاظما سيول الغيظ التى انهمرت فى‬ ‫صدرى من شديد غبائهم ‪ ،‬فكرت أن أطردهم من حضرتى إلى‬ ‫حيث يختفون بوجوههم الكئيبة عن وجهى ‪ ،‬تذكرت أننى فى‬ ‫موقف اليسمح بإجراء كهذا ‪ .‬طلبت من قائد المخابرات‬ ‫البرعى فورا ً تقريرا ً بالموقع الذى نحتله اآلن ‪ ،‬وفرص وجود‬ ‫أحياء أو منازل أو حتى جدران نحتمى بها لحين انتهاء‬ ‫العاصفة ‪ .‬جاء تقرير المخابرات فورى ‪.‬‬ ‫(لم نتمكن من عمل شىء لشدة هبوب الريح)‬

‫‪69‬‬


‫أيقنت بالهالك الذى المفر منه والجدوى من مقاومته ‪.‬‬ ‫قمت من فورى مغادرا العربة ‪ ،‬متلفعا ً بدثار سميك غطى‬ ‫جميع وجهى عدا عينى ‪ ،‬محدقا ً فى الضباب وغبشة الفضاء‬ ‫من حولى ‪ ،‬الشىء إال األتربة وصفير الريح واصفرار الجو‬ ‫واختفاء وجه السماء خلف أدخنة الغبار المتطايرة فى الفضاء‬ ‫‪.‬‬ ‫استدرت قاصدا ً العودة الى داخل العربة ‪ ،‬فوجئت بضربة‬ ‫قاسمة فى ظهرى ‪ ،‬دفعتنى بال حول منى ألرتطم بجسد العربة‬ ‫‪ ،‬ثم أعود مرتدا ً عنها الى حيث أطاحت بى من مكانى عاليا‬ ‫إلى أدنى ‪ ،‬اندفعت خفيفا ً كورقة شفافة وسط ريح عاصفة‬ ‫ضربتنى فى عنف قاهر ‪ ،‬ورأيتنى أتدحرج فى وضع جنينى إلى‬ ‫حيث ال أدرى ‪ ،‬مغمض العينين ‪ ،‬ذاهل الروح ‪ ،‬تائه النبضات‬ ‫والقلب ‪ ،‬ال أمتلك المقدرة على المقاومة ‪ ،‬وال أستطيع التوقف‬ ‫واالمتناع ‪ ،‬كأنما أنا قشة محمولة على ذؤابة موجة شاردة‬ ‫هوجاء مطروحة فى براح نهر ماؤه جار اليعرف التوقف بفعل‬ ‫التيار الذى يهرول هو اآلخر شارد الخطوات فى مسار اليدرى‬ ‫وال يعرف الى أين وال كيف يهرول والمتى يتوقف ‪ ،‬اتدحرج‬ ‫وأتكور وأدور وأمضى إلى حيث ارتطم بال حول والقوة فى‬ ‫جدار ال أعرف كيف انشقت األرض عنه وهل هو بزغ من‬ ‫باطنها أو نزل إليها من السماء ليوقف هرولتى الال إرادية‬ ‫وتدحرجى الال محدود ‪.‬‬ ‫استكنت بجوار الجدار قليالً محاوالً البحث عن وجودى الذى‬ ‫شعرت به قد تالشى ولم يعد له وجود ‪ ،‬الرؤية مضببة فال‬ ‫أرى إال بياضا ً باهتا ً تعلوه نقاط سوداء ‪ ،‬أو سواد خفيف‬ ‫تخرقه نقاط بيضاء ‪ ،‬أحاول مد يدى لتحسس جسدى فال أمتلك‬ ‫القدرة على تحريكها ‪ ،‬أبحث عن ساقى ألستند عليها فال‬ ‫أستطيع ‪ ،‬ورويدا ً أعود إلى متاهة غياب ال إرادى عن الوعى‬ ‫‪70‬‬


‫‪ ،‬يشدنى إلى ظلمة كثيفة ‪ ،‬فال أرى وال أسمع وال أحس‬ ‫بشىء مما حولى ‪ ،‬ويتالشى اإلحساس المبرح باأللم ‪،‬‬ ‫ألرانى فجأة أطير مرفرفا ً بجناحى وسط حديقة غناء ‪،‬‬ ‫أشجارها ذات خضرة زاهرة ‪ ،‬متدلية األغصان ‪ ،‬محملة‬ ‫بالثمر ‪ ،‬مثقلة بالطير الصداح ‪ ،‬سامقة وحولها خمائل زهر‬ ‫صغيرة ‪ ،‬متناثرة بنظام أروع وأبهى مما رأيته من قبل ‪،‬‬ ‫ينداح عبيرها ليمأل األفاق معطراً الروح والوجدان ‪ ،‬ومانحا ً‬ ‫القلب إحساسا ً من النقاء لم أذقه من قبل ‪ ،‬وحولى طيور‬ ‫بيضاء رائقة الحسن ‪ ،‬تصدح بأروع مامنحها هللا من أصوات‬ ‫‪ ،‬وهى تطوف حولى متريضة بين الخميل واألشجار ‪ ،‬أحدق‬ ‫فى وجوهها ‪ ،‬يمأل النور قلبى ‪ ،‬وتنتشى روحى ‪ ،‬ويغمرنى‬ ‫سرور أروع وأبهى من أى سرور غمرنى من قبل ‪ ،‬سرور‬ ‫نقى بهى رائق ‪ ،‬له طعم الفرحة والهناء ‪ ،‬سرور له مذاق‬ ‫البهجة الصافية النابعة من قلب النور ‪ ،‬أو نور القلب ‪ ،‬سرور‬ ‫يعبق النفس ‪ ،‬ويتغلغل بين الخاليا والسمات ‪ ،‬يمنح الكيان‬ ‫كله راحة وسكينة التساويهما فى الكون راحة والسكينة وال‬ ‫هدوء ‪ ،‬أتنسم أريجه وأذوب فى بهاء صفاه راضيا ً ‪ ،‬قرير‬ ‫العين‪ ،‬موفور الهناء ‪ ،‬ووجوه األحباب من حولى طوافة بين‬ ‫يدى ومن حولى ‪ ،‬وبينها وجه الفتاة ‪ /‬القطة بجمالها اآلخاذ‬ ‫الذى لم أر ولم أحلم ولم أتمن رؤية شىء مثلما تمنيت رؤيته‬ ‫مجدداً‪ ،‬كلها من حولى طوافة دون أن يشغلها عن الطواف‬ ‫واستنشاق األريج وتذوق البهجة شىء ‪ ،‬ندور ونهيم ونسبح‬ ‫فى فضاء رائق شفاف بهى ‪ ،‬بال زمن يطوينا ويخمش أرواحنا‬ ‫بأظافره ‪ ،‬وال حاجات نطلبها ‪ ،‬أو تطلبنا وتشغلنا عما نحن‬ ‫فيه ‪ ،‬وال مطالب ننشد نوالها ‪ ،‬وال أماكن والشىء إال اعتناق‬ ‫هذا النعيم الطواف ‪ ،‬الى أن فوجئت بمن يقبض على عنقى ‪،‬‬ ‫يشدنى من وسط الخمائل ومن بين فروع األشجار خارجا ً ‪،‬‬ ‫أخذت أقاوم ‪ ،‬أصرخ ‪ ،‬أرفض ‪ ،‬أحاول التملص والعودة دون‬ ‫جدوى فقد كانت األيدى أو المخالب أو األنياب التى تشدنى‬ ‫‪71‬‬


‫أقوى من أن أقاومها ‪ ،‬فرأيتنى فجأة أرفع جفنىن مثقلين عن‬ ‫حدقات غائمة الرؤية تتلصص على كون التريد العودة إليه ‪،‬‬ ‫رويدا ً بدأت الغشاوة تنقشع ‪ ،‬والمرئيات تتبلج من جديد ‪،‬‬ ‫ورأيتنى أرى الكون الذى أفلت بالكاد منه أعود إليه واجما ً‬ ‫حائر النظرات تائه الروح والنفس ‪ ،‬ال أدرى أين أنا ومن‬ ‫هؤالء ‪ ،‬وحتى من أكون !!‬

‫فى وكر الذئاب‬

‫(‪)13‬‬

‫أخيرا ً استيقظ‬‫اعتنوا به لحين شفاءه‬‫ترددت الكلمات فى أذنى مضببة الحروف ‪ ،‬كأنما هى آتية من‬ ‫خلف كهوف وسراديب متناهية البعد والقرار ‪ ،‬حاولت قدر‬ ‫إمكانى أن أستوعب الحروف رويدا ً وأدرك معناها فال تمر على‬ ‫أذنى بال فهم أو إدراك ‪ ،‬خاصة وأنا ال أفهم وال أعى أين انا ‪،‬‬ ‫ومن هؤالء ‪ ،‬وقد بدأت لتوى أدرك جيدا ً الورطة الجديدة التى‬ ‫وقعت فيها دون خطأ منى أو من األغبياء حولى الذين الهم لهم‬ ‫إال الصراخ فى أذنى‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫تحت أمرك يافندم‬

‫دون أن ينفذوا شيئا ً ‪ ،‬وحتى إن نفذوا فالخطأ عنوان‬ ‫تصرفاتهم جميعا ً ‪ ،‬ولوال أننى دوما ً أتدخل فى الوقت المناسب‬ ‫النهار الكرسى ‪ ،‬وانهارت بالتالى كل األشياء من حولى ‪.‬‬ ‫‪72‬‬


‫هذه المرة لم يكن الخطأ منهم بل هو تدبير قدرى دفعنى دفعا ً‬ ‫الى أيدى مجهولة ونفوس غريبة هللا يعلم ماوراءها ‪.‬‬ ‫بدأت رويداً أنتبه للوجوه من حولى ‪ ،‬مالمح منبسطة يغشاها‬ ‫سكون حالم ‪ ،‬وعيون نضرة تحمل بسمات ناعمة مما أثار فى‬ ‫صدرى االرتياب ‪ ،‬مؤكد لم يعرفوننى بعد وإال كانت األمور قد‬ ‫تغيرت كثيرا ً ‪.‬‬ ‫اقترب وجه أنثوى باسم من وجهى ‪-:‬‬ ‫ الدكتور قادم للكشف عليك‬‫حدقت فى وجهها ‪ ،‬الوجه الصبوح رغم مظاهر الفقر المنتشرة‬ ‫فى المكان يفيض بوفرة فى الجمال وغنى فاحش فى حالوة‬ ‫الروح وبهاء الحسن ‪.‬‬ ‫الغرفة المتواضعة التى أرقد فى أحد أركانها التحتوى عدا‬ ‫مرقدى إال مائدة صغيرة ‪ ،‬حولها مقعدان من الخيرزان القديم‬ ‫كما يبدو من هيكله ‪ ،‬باإلضافة إلى دوالب صغير من الحديد‬ ‫المجلفن الرمادى اللون إلى جوار النافذة المغلقة الزجاج ‪،‬‬ ‫والتى يبدو من خلفها فروع أشجار مورقة ‪ ،‬وعصافير بين‬ ‫الحين والحين تضرب بأجنحتها الهواء متنقلة من مكان الى‬ ‫مكان ناثرة بهاء وروعة أصواتها فى مرح وسرور ‪.‬‬ ‫ هل أنا مريض ؟‬‫وجهت حديثى لعينيها مباشرة‬ ‫انطلقت من عمق العيون بشائرهمسة طبيعية رائقة ‪-:‬‬ ‫‪ -‬سنرى ‪.‬‬

‫‪73‬‬


‫جميل أن يكون للحروف طعم ولون ورائحة ‪ ،‬تشعر بها‬ ‫وتتذوقها وتطرب لرنينها ‪ ،‬مؤكد اليعرفون من أكون ‪.‬‬ ‫لكن لماذا أتوقع منهم معاملة قاسية إذا عرفوا شخصى ‪،‬‬ ‫لماذا اليقدمون خير مالديهم لحظتها طمعا ً فى عطايا مابعد‬ ‫اإلياب إلى الكرسى ؟‬ ‫هم يعرفون جيداً وغيرهم فى أنحاء البلد يعرف أننى أستطيع‬ ‫فعل الكثير لكل من أرضى عنه ‪ ،‬واإلنسان بصفة عامة يختزن‬ ‫الطمع فى نفسه لحين يرى مايستحق فتهفو روحه إليه ‪ ،‬يكفى‬ ‫أن تلوح إلنسان مابعطية مجانية أو بغنيمة خالصة له لتراه‬ ‫يبذل روحه للحصول عليها ‪.‬‬ ‫الطمع فطرة جامحة تفيض عند البعض‬ ‫اليكبح جماحها إال القناعة ‪ ،‬وتلك قليلة عند الناس ‪ ،‬خاصة‬ ‫هذه األيام ‪.‬‬ ‫ السالم عليكم‬‫استدرت الى الباب الموروب الذى فتح على آخره ودخل رجل‬ ‫طويل القامة ثاقب النظرات على محياه بسمة بطول شدقيه لكن‬ ‫رائحتها لم يستسغها وجدانى ‪.‬‬ ‫ وعليكم السالم‬‫ كيف حالك اآلن ؟‬‫ ال أدرى‬‫‪ -‬دعنا نرى‬

‫‪74‬‬


‫خلت الحجرة إال منا نحن االثنان ‪ ،‬مد يدا ً مدربة إلى جسدى‬ ‫‪ ،‬متنقالً هنا وهناك بجد صارم إلى أن قام‬ ‫متفحصا ً بدقة‬ ‫متهمالً الى أدواته يجمعها هامسا ً ‪-:‬‬ ‫ زال كل أثر للحادث‬‫وانطلق خارجا ً فى هدوء كما جاء ‪.‬‬ ‫اعتدلت جالسا ً منتظرا ً أن أرى أحداً ألطلب منه الخروج إلى‬ ‫حيث أستطيع العودة إلى مقر الحكم وإعتالء الكرسى من جديد‬ ‫‪ ،‬رأيت ذات الفتاة األولى قادمة ويداها تحمالن بعض المالبس‬ ‫المغلفة بأغلفة من البالستيك مما يدل على أنها جديدة أو على‬ ‫األقل منظفة فى مكان يجيد التنظيف ‪.‬‬ ‫ تفضل إلى الحمام‬‫ الحمام !!‬‫ لإلغتسال واإلستعداد للقاء السيد سليمان‬‫ من السيد سليمان ؟‬‫ حاكم المدينة‬‫ ولماذا أقابله ؟‬‫ ألنه طلب هذا ‪ ،‬وأشرف على إنقاذك وعالجك طوال مدة‬‫مرضك‬ ‫ هل مرضت أياما ً ‪ ،‬أم ساعات ‪ ،‬أم ماذا ؟‬‫ أيام عديدة ‪ .‬ظل الدكتور جابر فيها يبذل جهده إلنقاذك‬‫ الدكتور جابر؟‬‫‪75‬‬


‫ وكنت مكلفة بمساعدته ‪ ،‬ورعايتك ‪.‬‬‫اتجهت الى الحمام ‪ ،‬كنت بحاجة إلزالة ماعلق بجسدى من‬ ‫أدران ‪ ،‬خاصة أننى لم يحدث من قبل أن قضيت زمنا ً كهذا بال‬ ‫إغتسال ‪ ،‬فتحت الباب ودخلت متمهالً لكننى فجعت ‪ ،‬رفضت‬ ‫قدماى التقدم خطوة واحدة الى الداخل ‪ ،‬المكان اليمت الى‬ ‫اإلسم بصلة ‪ ،‬فهو ليس حماما ً كما تعودت ‪ ،‬وكما تخيلت أن‬ ‫يكون ‪ ،‬فليس هناك إال ماسورة خارجه من صنبور المياه‬ ‫مرفوعة الى أعلى ومنتهية بغطاء مثقوب بثقوب عدة ينزل‬ ‫منها الماء البارد على الجسد ‪ ،‬وأنا الأتحمل الماء البارد أبداً ‪،‬‬ ‫منذ أن انتقلت إلى القصر الكبير وأنا أتبع طقوسا ً محددة فى‬ ‫الغسل ‪ ،‬أولها أننى آمر بحرارة معتدلة يشرف عليها طبيب‬ ‫متخصص فى أمور اإلغتسال وماشبه ذلك ‪ ،‬وال أتخيل بحال‬ ‫أن يالمس جسدى الماء البارد وبهذه الطريقة ‪ ،‬محال أن يحدث‬ ‫هذا ‪.‬‬ ‫تراجعت خطوات إلى الخلف ‪ ،‬تقدمت الفتاة بعينين فيهما‬ ‫تساؤل دافىء لم أر مثله فى القصر وبهذه النظرات الفياضة‬ ‫بالبراءة ‪ ،‬عينان ذكرتنى رؤيتهما بعينين أخريين مازلت أهفو‬ ‫لرؤية صاحبتهما رغم بعدها كل هذه السنوات ‪ ،‬عينا ناديا‬ ‫جارتنا التلميذة الحسناء التى كنت أرى فيها لوليتا كما رسمها‬ ‫الروسى فالديمير نابوكوف والتى كبرت معى وكبر معها‬ ‫حسنها وروعتها ‪-:‬‬ ‫ مااألمر ؟‬‫أشرت بيدى الى الداخل محتجا ً ‪-:‬‬ ‫ الحمام ‪.‬‬‫ هذا مالدينا‬‫‪76‬‬


‫تقدمت مكرهاً‪ ،‬أغلقت الباب خلفى ‪ ،‬خلعت مالبسى وفتحت‬ ‫الصنبور ‪ ،‬لم أجرؤ على اإلقتراب من الماء ‪ ،‬اكتفيت بغسل‬ ‫وجهى بالصابون ‪ ،‬تراجعت قليالً لكى ألتقط بضع قطرات فى‬ ‫راحة يدى أمسح بها وجهى وأعود من حيث أتيت ‪ ،‬انتبهت‬ ‫لمن يدفعنى برفق الى األمام ‪ ،‬ارتجفت ‪ ،‬استدرت مرتعدا ً‬ ‫ألرتطم والصابون فى عينى بصدر امتص الصدمة بدالل وعاد‬ ‫يردنى إلى الداخل من جديد ‪ ،‬حاولت المقاومة ‪ ،‬امتدت‬ ‫الذراعان حاجزا ً بينى وبين اإلفالت ووقف الصدر ليمتص‬ ‫الصدمات ‪ ،‬مسحت عينى بباطن كفى سريعا ً ألرى البنت أمامى‬ ‫حاملة بسمة هادئة وفى ذات الوقت حادة كالسيف وهى تهمس‬ ‫بدالل الهروب ‪ ،‬كان الماء مثلجا ً ‪ ،‬اقتربت منه لسع صدرى‬ ‫بإبره المسنونة ‪ ،‬تقهقرت سريعا ً ليلتقى ظهرى بصدرها من‬ ‫جديد وندخل معا ً الى الدش الذى شعرت بمائه يغلى فوراً وأنا‬ ‫استدير اليها ‪ ،‬يلتصق جسدانا ‪،‬تتأجج النيران ‪ ،‬نتلوى من‬ ‫الصهد بينما الماء يذوب نعومة وهو يتمدد حولنا وبيننا‬ ‫وتحتنا مرة كسرير ناعم حريرى اللمسات ومرة كدثار دافىء‬ ‫يقى من البرد ومرة كعصفور يزقزق فى روحينا بزقزقة‬ ‫السرور واإلبتهاج ‪ ،‬ارتديت المالبس التى قدمتها إلى‬ ‫وخرجت إلى الحجرة ‪ ،‬اتجهت إلى المائدة الصغيرة ‪ ،‬واجهت‬ ‫الفتاة الهادئة النظرات وهى ترمقنى بدفء عينيها ونقاء‬ ‫روحها الذى يكاد يثب من حدقتيها وكأنها لم تفعل كل مافعلت‬ ‫منذ برهة او أقل ‪ ،‬لزمت الصبر وجلست أنتظر فى هدوء !‬ ‫درت بعينى على المكان من حولى‪.‬‬ ‫رغم أننى حدقت فى أشيائه البسيطة من قبل ‪ ،‬إال أننى اآلن‬ ‫متوحدا ً مع توجسى المعهود أدور بعينى خبير ‪ ،‬متفحصا ً ‪،‬‬ ‫مدققا ً ‪ ،‬منقبا ً عن أشياء قد توضع هنا أو هناك كعادة الناس‬ ‫هناك ‪ ،‬خاصة حينما تحل ضيفا ً على بلد ما ويتجسسون عليك ‪،‬‬ ‫خاصة فى حجرة نومك ‪ ،‬وفى حمامك ‪ ،‬وربما فكروا فى‬ ‫‪77‬‬


‫الدخول الى أفكارك وأحالمك والتفتيش فيها بغية أن تكون‬ ‫عاريا ً تماما ً أمامهم ‪ ،‬يفعلون بك ومعك مايريدون ‪ ،‬الشىء‬ ‫الجميل هنا أنه التوجد مثل هذه األشياء ‪ ،‬ربما لتواضع الحال‬ ‫فى هذه المدينة التى هى جزء من البلد التى اعتلى أكبر كرسى‬ ‫فيها ‪ ،‬هى جزء من مملكتى العتيدة أو دولتى الكبيرة أو سمها‬ ‫ماشئت ‪.‬‬ ‫المهم أنها تنتسب الى ‪.‬‬ ‫لكن المقلق اآلن أن يعرفوا هذا ‪ ،‬فالمخابرات تطلعنى على‬ ‫أراء الناس ‪ ،‬وأفكار عامتهم ‪ ،‬ومايقولونه ومايخبئونه فى‬ ‫صدورهم عنى ‪ ،‬وهى أشياء ليست مطمئنة بحال هذه األيام ‪،‬‬ ‫لذا فالجميل هنا أنهم لم يعرفونى كما يبدو‪ ،‬وبالتالى لم أعد‬ ‫فى حاجة لتغيير شكلى أو تحويل صورتى أو شىء من هذا ‪،‬‬ ‫وبالتالى أيضا المعاملة طيبة رغم أنها عادية ‪ ،‬فهى حالة إنقاذ‬ ‫لرجل أشرف على الهالك ‪.‬‬ ‫هى أنسب معاملة حتى اآلن ‪ ،‬المهم أن أخرج من هنا على خير‬ ‫‪.‬‬ ‫لكن هناك شىء يحيرنى و يثير القلق فى نفسى ‪ ،‬وهو‬ ‫اختيارهم فتاة لخدمتى أنا الغريب والتواجد فى غرفة نومى‬ ‫والمبادرة بالفعل معى على عكس ماهو معروف من البنات‬ ‫‪،‬عادة البنات تتدلل وتفر وتتمنع وتنتظر حتى يظن الرجل أنه‬ ‫أوقعها بوسامته أو رجولته أو شىء دون أن يدرى أن الفريسة‬ ‫الحقيقية لم تكن سواه ‪.‬‬ ‫لماذا دفعوا إلى فتاة مثل هذه بدالً من رجل يتعامل معى كما هو‬ ‫العرف هنا فى هذه األماكن ‪ ،‬لو كانوا يعرفوننى لقلت أنها‬ ‫مقصودة فالقريبون منى يعرفون أننى أفضل الجميالت‬ ‫الصغيرات ذوات البراءة واللطف اللواتى يملن إلى الوداعة‬ ‫‪78‬‬


‫ويبدين كمالئكة صغيرة تخطر على األرض ‪ ،‬أو كما يقولون‬ ‫أعشق أى لوليتا أراها ‪ ،‬ليس مهما أن أمارس معها لعبة‬ ‫الحياة األبدية بين الرجل والمرأة ‪ ،‬تلك اللعبة الخالدة التى لو‬ ‫أحسن الطرفان لعبها لناال الخلود ‪،‬لو أدركا قدسية لهيبها‬ ‫وسمو طقوسها والتمسا من بديع كينونتها السمو االرتقاء لناال‬ ‫مايريدان كما يريدان ‪ ،‬فهذا التوحد واإلمتزاج هو سر الكون ‪،‬‬ ‫هو كينونة الخلق وبراءة التكوين وجالء الحجاب المستور‬ ‫‪،‬تمازج الروحين وذوبان النفسين والتحام الجسدين يهب‬ ‫الشرارة المقدسة ويمنح الرونق البهى والسموق الذى التدارك‬ ‫بعده وال انحدار ‪ ،‬شريطة أن يدركا ويستوعبا مالم يدركه أو‬ ‫يستوعبه إال أقل القليل عبر عمر الكون ‪ ،‬وليت الذين أدركوا‬ ‫هذا واستوعبوه تحدثوا وشرحوا روعة ماعثروا عليه ‪.‬‬ ‫أعود فأقول لو كانوا يعرفوننى لقلت أنها مقصودة فالقريبون‬ ‫منى يعرفون أننى أفضل الجميالت الصغيرات ‪ ،‬أو كما يقولون‬ ‫أعشق أى لوليتا أراها ‪ ،‬ليس مهما أن أمارس معها لعبة‬ ‫الحياة األبدية بين الرجل والمرأة ‪ ،‬فهناك فتيات أخشى‬ ‫عليهن من اللمس ‪ ،‬انظر الى حسنهن واتسائل كيف تقوى مثل‬ ‫هذه الفراشة الوديعة على تحمل ثقل جسد شهوانى يطأها ‪،‬‬ ‫هذه يجب أال تلمس ‪ ،‬هى فقط للشم والرؤية ‪ ،‬وإذا لمستها‬ ‫فبرفق زائد وبعطف شديد ‪ ،‬اقترب منها ‪ ،‬اتلمسها ‪ ،‬استنشق‬ ‫عبيرها ‪ ،‬استمع الى همسها وأحدق فى بؤبؤ عينيها متبحراً‬ ‫فى دروب وأزقة روحها ‪ ،‬وحينها أرانى قد تحولت بال إرادة‬ ‫منى الى ذكر من نوع جديد لم تره البشرية من قبل ‪ .‬ذكر‬ ‫ينتقى ويتخير ‪ ،‬ويدور متمهالً بيد خبيرة وفم ذواق فى رحاب‬ ‫جسد شفاف حالم ‪ ،‬يبتغى ارتشاف عسله قطره قطره بال أدنى‬ ‫استعجال ‪ ،‬متعمقا ً فى دروبه السحرية وأخاديده الورديه‬ ‫وسهوله ذات األلق والنقاء ‪ ،‬منتشيا ً هانئا ً مكتشفا ً لكنوز‬ ‫ماعرفها كائن من قبل ‪.‬‬ ‫‪79‬‬


‫فاللقاء السرمدى الخالد بين الذكر واألنثى التجلو متعته‬ ‫وروعة عطاياه ومننه كما قلت إال األرواح المبدعة ذات األفق‬ ‫الممدود والخيال الخصب ‪.‬‬ ‫تلك األرواح المبدعة تختلف تماما ً عن األرواح العادية‬ ‫المنتشرة بكثرة هنا وهناك ‪ ،‬والتى الترى فى هذا اللقاء إال‬ ‫متعة حسية تشتعل نارها للحظات مهما كانت روعتها ثم تنتهى‬ ‫‪ ،‬ترى اللقاء وسيلة إلشباع رغبة تفور وتتأجج ثم رويداً‬ ‫تتحول الى رماد ال أثر له ‪ ،‬وربما نسيت األمر برمته بعد حين‬ ‫وتعاملت بقسوة وعنف مع بعضها البعض ‪.‬‬ ‫أما األرواح األخرى المبدعة فهى تغوص وتتعمق وترى ماال‬ ‫يراه اآلخرون ‪.‬‬ ‫هى تمتلك القدرة على خرق العادات والمألوف لترى ماوراء‬ ‫الظواهر إلى البواطن والغيبيات ‪.‬‬ ‫وهى قد التشعر أو التعرف كل هذه المسميات ‪ ،‬لكنها تفعلها‬ ‫وتتفوق فى فعلها ‪ ،‬بدليل أن اللقاء مع إحداهن ال أنساه أبداً ‪،‬‬ ‫وال أعتقد أنها يمكنها أن تنساه يوما ً مهما طالت بها الحياة ‪،‬‬ ‫فمتعة اللقاء تمتاز بأنها روحان يمتزجان ‪ ،‬يحتويان بعضهما‬ ‫البعض بروية وصبر وتمهل وإنتشاء ولهفة التعرفها إال‬ ‫األرواح النبيلة الراقية الذكية التى تعرف جيداً كيف تستخرج‬ ‫من المادة غذا ًء للروح ‪.‬‬ ‫و‪..‬استدرت إلى الفتاة المواجهة لى على الناحية اآلخرى من‬ ‫المائدة الصغيرة ‪ ،‬رغم تسلل بعض الشك لصدرى أن وضعها‬ ‫فى طريقى ربما يكون مخطط له لمعرفتهم بطباعى إال أننى‬ ‫قطعا ً للوقت فكرت فى مسامرتها لحين اتضاح ماسوف يجد من‬ ‫أمور‪.‬‬

‫‪80‬‬


‫حدقت فى وجهها ‪ ،‬عينيها ‪ ،‬قوامها ً ‪ ،‬تشبه لوليتا التى‬ ‫أفضلها كثيرا ً ‪ ،‬تقترب منها بأروع حال ‪ ،‬وهى مثلها فى‬ ‫جرأتها وعنفوانها كأن كل لوليتا خلقت قد منحت ذات الصفات‬ ‫واألفعال والرعونة والجمال ايضا !‬ ‫فكرت فى أمرى وأنا على تلك الحال ‪ ،‬وحيداً وسط قوم ال‬ ‫أعرف مايدبرون لى ‪ ،‬وإن كانت البوادر حتى اآلن مبشرة‬ ‫بخير ‪.‬‬ ‫فتحت فمى ألتكلم ‪ ،‬سبقتنى بالقول ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫السيد سليمان ينتظرك فى الساحة الكبرى‬

‫انتبهت لحروفها فأغلقت فمى ‪ ،‬واضطررت لمغادرة التحديق‬ ‫فى رقة شفتيها وارتفاع صدرها الى تمعن كلماتها‪ ،‬تساءلت‬ ‫‪ -:‬أى ساحة ؟‬ ‫ ساحة المدينةالرئيسية‬‫ لماذا ؟‬‫ يمكن سؤاله هو ‪.‬‬‫وأشارت الى الباب ‪.‬‬ ‫إشارتها رغم رقتها كانت خادشة لكبرياء مثلى وفى ذات الوقت‬ ‫منافية تماما ً لما كان بيننا منذ حين ‪ ،‬تقدمت خارجا ً ألجد‬ ‫جنديين بيد كل منهما سالحا ً جديداً المع األجزاء مما يدل على‬ ‫أنه لم يستعمل بعد أو استعمل قليالً أو ربما هو للتشريفات ‪.‬‬ ‫سرت بينهما مغادرا ً البناية إلى حيث ركبنا عربة صغيرة سارت‬ ‫بنا فى أزقة وحارات ضيقة قبل أن تنطلق إلى الطريق الواسع‬ ‫‪81‬‬


‫الكبير الذى تقطعه المواكب الرسمية متجهة أو قادمة من‬ ‫العاصمة حيث أقيم ‪.‬‬ ‫لم أحاول التحدث إليهما بشىء فقد فهمت من كلمات الفتاة‬ ‫هناك أن الرد سيكون واحدا ً فى كل األحوال ‪ ..‬يمكنك سؤاله هو‬ ‫‪.‬‬ ‫سنرى اآلن ماهو األمر بالضبط ‪.‬‬ ‫بدا على البعد أخيرا ً سور حجري شامخ ‪ ،‬عليه رسوم بألوان‬ ‫زاعقة قد بهتت نوعا ً ما يتوسطه باب عمالق من الخشب‬ ‫المنقوش برسوم أسد متوثب على كل جانب من جانبيه ‪،‬‬ ‫بينما الحرس مدججون بالسالح يقفون مصطفين فى هدوء‬ ‫حازم ‪ ،‬والناس ألوان وأشكال تمأل داخل السور ‪ ،‬وإن كان‬ ‫هناك شبه صمت مترقب يغلف المكان ‪ ،‬متوشحا ً بنور شمس‬ ‫حانية ‪ ،‬ضياؤها دافىء ونورها شديد الصفاء ‪.‬‬ ‫اقتادنى الحرس إلى ركن الساحة األيمن حيث رأيت قفصا ً‬ ‫حديديا ً قضبانه متينة البنيان ‪ ،‬تتجاور فى نظام وبمسافات‬ ‫قريبة جدا معطية لمن خارجه الفرصة ليرى من بالداخل ويتابع‬ ‫مايجرى فيه ‪.‬‬ ‫فتحوا باب القفص أمامى فارتعدت وأنا أحدس ماسوف يفعلونه‬ ‫بى ‪ ،‬هل يمكن أن يزجوا بى داخله ‪ ،‬هل عرفوا من أكون‬ ‫وأرادوا فضحى أمام الخلق وإيذائى واإلساءة لى وإذاللى أم‬ ‫ماذا ؟‬ ‫دفعتنى يد رفيقة من خلفى إلى الداخل ‪ ،‬هوى قلبى فى فضاء‬ ‫جوفى صارخا ً والباب يغلق على من الداخل ‪ ،‬تحولت إلى‬ ‫فراشة فورا ً وانطلقت مخترقا ً الفراغ بين القضبان صدتنى‬ ‫أشعة قمر شديد السطوع سلطوها على القفص فارتددت خائبا ً‬ ‫‪82‬‬


‫راضخا ً إلى ما كنت عليه‪ ،‬وأحنيت رأسى ‪ ،‬بانتظار ماسيكون‬ ‫‪.‬‬ ‫على منصة خشبية زيتية اللون مرتفعة بحيث تراها األعين‬ ‫المصرة على التحديق ‪ ،‬مزخرفة بنقوش تبينت أنها كتابة‬ ‫تقول ‪-:‬‬ ‫( العدالة صنو الحياة ‪ ،‬والمساواة روح الوجود)‬ ‫موضوعة تحت رسم امرأة رشيقة القوام تحمل الميزان وهى‬ ‫معصوبة العينين‬ ‫رأيت شابا ً هائل حجم الرأس‬ ‫عيناه ذاتا بريق وحشى‬ ‫ويداه كل كف بحجم مطرقة عمياء ‪.‬‬ ‫ينتفض قائما ً ‪ ،‬راميا ً بكل وحشية نظراته نحوى ‪.‬‬ ‫صارخا بأعلى صوته الغليظ اللزج الذى يدخل اآلذان كرها ‪،‬‬ ‫واليغادرها قط ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫سيدى صاحب الكرسى الرفيع ‪ ،‬راقى الفكر ‪ ،‬بليغ‬ ‫البيان ‪ ،‬آيها الحضور الكرام ‪ ،‬لقد جئنا اليوم ليس‬ ‫لنتشفى فى هذا الرجل الماثل أمامنا ‪ ،‬وليس لنذيقه‬ ‫مما أذاقه لنا سنينا ً عدة ‪ ،‬ولكن إلقامة العدالة الناجزة‬ ‫‪ ،‬وتحقيق المساواةالشاملة ‪ ،‬وليعرف كل انسان‬ ‫يحمل أمانة المسئولية أنه إذا جار أو ظلم فسوف‬ ‫يكون مصيره هذا القفص وتحت أنظار هؤالء الخلق ‪،‬‬ ‫يتلقى اللعنات قبل أن يتلقى الجزاء الرادع لمثله ‪.‬‬

‫‪83‬‬


‫إننا آيها السادة اذا أردنا أن نعدد ونحصى جرائم هذا الرجل (‬ ‫مشيرا ً الى) لما اكتفينا بمحاكمة واحدة فى جلسة واحدة ‪ ،‬ولو‬ ‫أردنا تسجيل فساده لما وجدنا مايكفى من األوراق لتسجيلها‬ ‫من كثرتها ‪.‬‬ ‫وحتى ال أطيل عليكم فسوف أقسم أعماله الفاسدة حسب‬ ‫تخصصها ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫فهناك فساد فى الزراعة‬

‫‪-‬‬

‫وفساد فى الصناعة‬

‫‪-‬‬

‫وفساد فى التجارة‬

‫‪-‬‬

‫وفساد فى التعليم‬

‫‪-‬‬

‫وفساد فى الصحة‬

‫‪-‬‬

‫وفساد فى القضاء ‪ ،‬والنقل ‪ ،‬وغيرها وغيرها مما‬ ‫اليتسع له المجال هنا ‪.‬لذا فسوف نخصص أيامنا‬ ‫المقبلة لنحاكمه كل يوم عن فرع واحد من الفساد ‪،‬‬ ‫حتى إذا استوفينا األمر جاء الحكم بمقتضى العدالة‬ ‫والحق ‪ ،‬وأيا ً كان األمر فسوف ينفذ الحكم مهما‬ ‫كان هنا بينكم ‪.‬‬

‫واآلن اسمحوا لى أن أتكلم عن التعليم ‪ ،‬وهو أساس البناء‬ ‫لكل أمة من األمم ‪ ،‬لذا يضع الحكام أمره نصب أعينهم ‪.‬‬ ‫(المرحلة االبتدائية التأهيلية أو األساسية)‬ ‫يجب أن يتم توفير أفضل معلمى البلد المدربين تربويا ً ونفسيا ً‬ ‫لها ‪ ،‬وتوفير المؤهلين للتنشئة والرعاية ‪ ،‬مع تحديد أولويات‬ ‫العلم المطلوب منهم تعلمه ‪ ،‬واإلصرار على نقشه فى صدورهم‬ ‫‪84‬‬


‫‪ ،‬واالشتراط أال يلتحقوا بمرحلة تاليه إال إذا اجتازوا اختبارات‬ ‫حازمة تعتمد على الفهم واإلبداع ال الحفظ ‪ ،‬ومن يجتازها‬ ‫ينتقل إلى المرحلة التالية ‪ ،‬ومن اليجتازها يعود للدرس من‬ ‫جديد وإال فسيظل مكانه مهما كان األمر ‪ ،‬وهكذا فى المرحلة‬ ‫التالية والتالية بعيدا ً عن الغش أو الحفظ بال فهم أو الدروس‬ ‫الخصوصية التى استشرت فى عهده بطريقة لم تحدث من قبل‬ ‫‪ ،‬رغم أن قراراً واحدا ً كان يمكن إيقافها وإلغائها من قاموس‬ ‫اللغة تماما ‪ ،‬وهو غلق معاهد وساحات الدروس الخصوصية‬ ‫‪ ،‬و من يضبط وهو يعطى درسا ً خاصا أو يثبت عليه أنه فعل‬ ‫هذا فيشطب من قائمة المعلمين وتصادر أمواله وأموال عائلته‬ ‫بالكامل وتقوم الدولة بإعطائهم مايكفى معيشتهم طوال العمر‬ ‫مع مواكبة طرق التعليم العالمية ‪ ،‬والسير على ذات الدرب‬ ‫الذى يسيرون عليه ‪ .‬موضوع كما ترون آيها السادة سهل‬ ‫واليحتاج إال إلدارة هدفها الصالح العام ‪ ،‬ولكن المتهم أفسد‬ ‫األمر فوكل إلى من اليفقه شيئا ً مهمة إنشاء أجيال ‪ ،‬خرجت‬ ‫ضعيفة التمتلك مقومات العلم ‪ ،‬والذنب ليس ذنبها بطبيعة‬ ‫الحال ‪ ،‬وأفشى الغش والمحسوبية والطرق الملتوية ليقضى‬ ‫على األخالق العامة ‪ ،‬ويمحو مبادىء الحق والعدالة التى‬ ‫نشأ الجميع منذ قديم الزمن عليها ‪ ،‬وترعرعوا وهى منقوشة‬ ‫فى صدرورهم ‪ ،‬فلم تستطع األيام رغم كثرتها أن تمحوها من‬ ‫ضمائرهم‪ ،‬وجاء هو ليمحوها وعن جدارة بحمقه وسوء حكمه‬ ‫وفساد روحه وقبح نفسه ‪.‬‬ ‫فإذا مانظرنا الى التعليم الجامعى فسنجد كارثة جديدة وجريمة‬ ‫أكبر ارتكبها هذا الرجل ‪ ،‬وهى فتح الباب أمام الغش والتزوير‬ ‫لمنح الشهادات الكبيرة للجهلة والغشاشين من أصحاب الجاه‬ ‫والمال ‪ ،‬فأصبحت البلد فى يد من اليفقه شيئا ً ‪ ،‬وصار القرار‬ ‫فى يد من اليصنع القرار ‪ ،‬وأصبحنا غرباء فى بالدنا ‪،‬‬

‫‪85‬‬


‫وصارت لغتنا األم شريدة تائهة بين أهلها ‪ ،‬ناهيك عن العلوم‬ ‫االخرى ‪.‬‬ ‫أننى آيها السادة أدين هذا الرجل وأريد اآلن حكمكم عليه ‪،‬‬ ‫الحكم العادل الذى يرضى ضمائكم ويشفى غليل صدوركم ‪.‬‬ ‫أدرت وجهى مذهوالً فى تعبيرات الوجوه من حولى وخاصة‬ ‫وجه هذا الرجل الموتور متسائال بدهشة جارفة أطاحت بروحى‬ ‫قبل أن تتغلغل فى نظراتى ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫هل كل هذا أنا فعلته ؟‬

‫أنا السبب فيما آل اليه حال التعليم ؟‬ ‫أنا !!!!!!؟‬ ‫وأين كان الخبراء وأرباب العلم ؟‬ ‫ولماذا لم يقدموا اقتراحاتهم ويطلبوا مايريدون؟‬ ‫هل يظن هؤالء أننى أسير خلف المقولة القديمة التى تقول‬ ‫أن حكم أمة جاهلة أسهل وأيسر من حكم أمة متعلمة ؟‬ ‫كال وألف كال ‪ ،‬فأنت مع المتعلمين تستطيع أن تبذل جهداً أقل‬ ‫بكثير لتنفيذ ماتريد ‪ ،‬النفوس فى كل األحوال لن تتغير سواء‬ ‫كانت متعلمة أو جاهلة ‪ ،‬الشجاع والذكى والفطن لن يتغير‬ ‫طبعه بحال ‪ ،‬وكذلك أصحاب النفوس الضعيفة مهما علت‬ ‫معرفتهم ستظل نفوسهم كما هى ‪.‬‬ ‫التعليم لن يغير جبانا ً إلى شجاع أبدا ً‬ ‫ولن يحول مستغالً منتهزا ً للفرص الى زاهد‬

‫‪86‬‬


‫ولن يمنح الذى فطر على الركوع قامة جديدة يرفعها فى وجه‬ ‫الخلق ‪.‬‬ ‫شدنى من شرودى صوت قادم من منتصف الساحة ‪ ،‬حيث‬ ‫الكرسى الكبير الخاص برئيس المدينة ‪ ،‬كان شديد الجفاء عالى‬ ‫النبرة عاتى فى تكبره ‪ ،‬عرفت فيه صوت السيد سليمان الذى‬ ‫طالما رأيته خاشعا ً مستكينا ً من قبل وهو يوجه سؤاله لى‪-:‬‬ ‫ ماقولك فيما هو منسوب اليك ؟‬‫حدقت فى وجهه المربع بشاربه الذى يعتنى به أكثر من‬ ‫اعتناءه بنظافة قلبه ‪ ،‬قلت له كل مافكرت فيه ‪ ،‬عاد يسألنى ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫من الذى عين هؤالء الجهلة مسئولين عن التعليم؟‬

‫صمت قليالً وهو يتفرس فى وجهى متشفيا ً ‪ ،‬ثم أكمل ‪-:‬‬ ‫ ومن الذى يجب عليه متابعتهم ومحاسبتهم إذا أخطأوا ؟‬‫صرخت فى وجهه مستفزا ً ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫عفوت عن خطاياهم ‪ ،‬كما عفوت عنك لما رجوتنى‬ ‫وتذللت لى‬

‫ارتفعت أصوات العامة تقاطع كلماتى بالسباب والهتافات‬ ‫الغاضبة ‪ ،‬لم أستطع استكمال ماأريد وسط الضجيج الحادث ‪،‬‬ ‫وقفت مكانى منتظرا ً ماسوف يتفقون عليه ‪ ،‬مسلما ً أمرى‬ ‫لصاحب األمر ‪ ،‬فلم يعد لدى ماأستطيع فعله إال انتظار أمثال‬ ‫هؤالء ليقرروا أمرى ومصيرى ‪ ،‬ويحددوا لى مايشاؤن !‬ ‫عاد صوت ممثل االدعاء المتولى يقتحم أذنى مكفهراً حاقداً ‪،‬‬ ‫متحدثا ً إلى العامة ليأخذ منهم فى نشوة االنفعال والضوضاء‬ ‫‪87‬‬


‫والفرصة السانحة تصريحا ً باالنتقام ‪ - -:‬واآلن الحكم على‬ ‫المتهم ‪..‬مذنب أم غير مذنب ؟‬ ‫تعالت الصيحات الموتورة لتحاصرنى من كل األنحاء ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫مذنب‬

‫ارتسمت على وجهه إمارات راحة لم أر مثل سخافتها من قبل ‪،‬‬ ‫وأمر بفض الجلسة على أن تعاد لإلنعقاد غدا ً فى ذات التوقيت‬ ‫‪ ،‬طالبا ً إعادتى إلى ذات المكان الذى جئت منه ‪ ،‬والذى‬ ‫اكتشفت أنه محبس يليق بحاكم متهم مثلى ينتظره الكثيرمن‬ ‫االنتقام والتشفى ‪.‬‬ ‫تم فتح باب القفص بحذر وسط صراخ وغضب الغوغاء ‪،‬‬ ‫الذين حاولوا الوصول إلى وكل منهم يبرز عضالته وقوة‬ ‫غضبه وعنف شكيمته ‪ ،‬ويلقى فى وجهى بسيل من أفظع‬ ‫أنواع السباب وأشرسها ‪ ،‬وأنا ال أ متلك إال نظرات رسمتها‬ ‫على وجهى مع مالمح تليق بالموقف ‪.‬‬ ‫اصطف الجند على الجانبين ليس لحمايتى كما اعتدت ولكن‬ ‫هذه المرة لحماية الغوغاء من شرورهم وحقدهم ‪ ،‬واإلبقاء‬ ‫على حيا ليمتعوا أنظارهم وأسماعهم وهم يرموننى بالتهمة تلو‬ ‫التهمة ‪ ،‬وسط حشد من كراهية وحكم مسبق باإلدانة ‪ ،‬دون‬ ‫أن أمتلك المقدرة على الرد ‪ ،‬أو حتى قول الحق الصراح الذى‬ ‫الزيف فيه ‪ ،‬وهو أن المختصين فى مجاالتهم المختلفة لم‬ ‫يكونوا يراعون ضمائرهم ‪ ،‬وكنت أسأل أيهم ‪ :‬هل فعلت كذا ؟‬ ‫فيقسم أن األمور تسير على خير ‪ ،‬وبطريقة من أحدث الطرق‬ ‫فى تاريخ البالد قديمها وحديثها ‪.‬‬ ‫وهل لدى الوقت والعقل لمتابعة كل منهم ‪ ،‬وتكذيبه ‪ ،‬والحفر‬ ‫خلفه للتأكد من انجازه ؟‬ ‫‪88‬‬


‫إننى لو فعلت هذا فلن تسير الدولة بحال ‪.‬‬ ‫مادمت اخترت مسئوال ً لقيادة عمل ما فهو المسئول عنه ال أنا‬ ‫‪ ،‬وكثيراً ماوجدت أخطا ًء وحاسبت عليها ‪ ،‬أو أبلغنى تقرير أو‬ ‫ملف الى وجود تقصير فحاسبت صاحبه ‪ ،‬لماذا اليذكرون هذا‬ ‫اآلن ؟‬ ‫أم هو حكم مسبق يريدون تبريره على أية حال ؟‬ ‫يسأل الرجل الشرس النظرات المتولى الناس المتأججة بنيران‬ ‫غضبها سؤاالً غبيا ً مثله ‪ -:‬مذنب أم غير مذنب ؟‬ ‫وهو يعرف وهم يعرفون وأنا أعرف وأحجار الساحة وسحابات‬ ‫السماء المارة تعرف أيضا ردهم قبل أن يقولوه ‪.‬‬ ‫الفائدة من تحقيق العدالة على األرض ‪ ،‬هنا أو هناك !‬ ‫خرجت فى حراسة الجند إلى محبسى من جديد ‪.‬‬ ‫الغريب أننى لم أكن مكدوداً بحال ‪،‬والمتوترا ً ‪ ،‬والأعانى من‬ ‫غضب أو ضيق ‪ ،‬فطالما سارت األمور هكذا فالعاقبة محددة ‪،‬‬ ‫والتغيير فيها مهما كنت الظروف والمتغيرات ‪ ،‬فليفعلوا‬ ‫مايريدون ‪.‬‬ ‫أغلقوا الباب بمجرد دخولى محبسى من جديد ‪ ،‬رأيت ذات‬ ‫الفتاة تقف هادئة تنتظر أوامرى ‪ ،‬حدقت فى قوامها متأمالً ‪،‬‬ ‫ثدياها مرتفعان !‬ ‫األثداء المرتفعة هكذا تكون عادة أثداء شامخة ‪ ،‬لها كبرياء‬ ‫وأنفه ‪ ،‬ممتلئة فى غير قبح ومشدودة فى دالل ‪ ،‬قوية ‪ ،‬عفية‬ ‫‪ ،‬تقتحم نظراتك بغير غلظة وبدون عنف ‪ ،‬وتمأل عينيك بكل‬ ‫ثقة وكبرياء‪.‬‬ ‫‪89‬‬


‫شعرت للحظة خاطفة أننى أريدها اآلن وفورا ً وبال إبطاء‪،‬أريد‬ ‫ان أطفىء بين جناحيها ثورة غضب يائس الحدود له ‪ ،‬وفشل‬ ‫ذريع أشعر أننى منيت به فى حياة لم يكن لى فيها خيار ‪ ،‬بل‬ ‫دفعتنى الظروف إلى حيث سارت الريح فسرت معها ‪ ،‬مامعنى‬ ‫الحياة طالما لم تدبر لنفسك وتحدد لمصيرك وتسعى لتحقيق‬ ‫ماتريد ‪ ،‬ومامعنى أن تحاكم اآلن لشىء لم تفكر أصال ً فى‬ ‫عمله‪ ،‬قد يكون تقصيرا ً منك أو قد يكون غبا ًء أو هو مسلسل‬ ‫فشل يحادى خطواتك فى الحياة ‪ ،‬لكنها أبداً لم تكن عن نية‬ ‫مبيتة أو قصد مشين ‪ ،‬ربما أكون أى شىء وكل شىء لكننى‬ ‫محال أن أفكر فى هذا البلد بسوء او أضمر له الشر ‪ ،‬الوطنية‬ ‫التى يحكون عنها ليست فى األغنيات وال الخطب وال كالم‬ ‫العامة لكنها فى األفعال وبخاصة وقت الجد وهذا مارأيته‬ ‫وخبرته عن نفسى رغم كل شىء وأى شىء ‪.‬‬ ‫شعرت بدوار يشدنى وسط دوامة حيرة وقلق وخوف الأدرك‬ ‫لهم معنى وال سبب وال مغزى وال أى شىء ‪ ،‬هو فراغ جامح‬ ‫يحيط بى وصخرة بليدة صماء فى رأسى تسمى عقل وعينان‬ ‫ينظران وال أرى بهما إال الموت ‪ ،‬الموت يحيط بى باسما ً متأنقا ً‬ ‫وسيما ً يدور من حولى يرقب جسدى أو لنقل الفريسة التى‬ ‫ينوى التهامها متى شاء ‪ ،‬يقيس حدودها وأبعادها ويرتب‬ ‫لطريقة التهامها ويحدق فى عينى ‪ ،‬يسألنى كيف أحب أن‬ ‫أموت وبأى طريقة أريد ‪ ،‬وهل أفضل أن أنهيها كما أشاء‬ ‫وقتما أشاء ‪ ،‬أم أترك األمر له يدبره مع إخوان الشياطين الذين‬ ‫يحاكموننى هنا ‪.‬‬ ‫بعينين زاغئتين حدقت فيما حولى وأنا أحاول اإلفالت من‬ ‫وساوسه وهمساته ‪ ،‬متباعدا ً عنه قدر استطاعتى الى أقصى‬ ‫ماأستطيع ‪ ،‬ولم يكن أقصى ماأستطيع هذا إال حرف السرير‬ ‫المواجه للحائط ‪ ،‬اندفعت اليه لذت بصدره الحنون ‪ ،‬لسعتنى‬ ‫برودة الجدار فارتددت واجفا ً لتتلقانى الفتاة بيدين ملتاعتين‬ ‫‪90‬‬


‫وعينين كأنهما بئرا ماء يسقيان العطشى وكنت بحاجة لهذا‬ ‫الماء ‪ ،‬ارتميت بين ذراعيها الهثا ُ ‪ ،‬أحاول الكالم فال أجد‬ ‫الحروف وأبغى الدفء فال يحتوينى إال البرد وأطلب العون فال‬ ‫أجد إال مزيدا ً من األلم ‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫مابك ؟‬

‫أنى لى أن أجيب ‪ ،‬غمست رأسى فى صدرها أكثر ‪ ،‬احتوتنى‬ ‫بحنانها ‪ ،‬رويدا ً عاد الزمن يسير رويداً كأنه لم يهرول منذ‬ ‫لحظات إلى حافة الموت ‪ ،‬رفعت عينى إليها ‪ ،‬شعرت لوهلة ال‬ ‫أدرى كيف أننى أريدها اآلن ‪ ،‬أريدها بنظرتها الدافئة وثدييها‬ ‫العفيين وقوامها الرشيق ‪ ،‬أريد شفتيها الرقيقتين اللتين تنبع‬ ‫من تفتحهما روائح الجنان ‪.‬‬ ‫ هل أحضر الغداء؟‬‫حدقت فى بياض وجهها ‪،‬و صوتها الشديد الدفء وعدت‬ ‫أضمها بقوة بين يدى شاعراً برغبة عارمة الحتوائها و‬ ‫لولوج روحها واستنشاق عبيرها ‪ ،‬واقتحام مكمنها اآلن ‪.‬‬ ‫هل هو تسليم بمصير الفكاك منه‪ ،‬أم هو محاولة هروب من‬ ‫خطر داهم يتعقبنى باإلنغماس فى شىء ما ‪ ،‬أى شىء يبتعد بى‬ ‫ولو قليالً عن اإلنتظار القاتل الذى يحتلنى منذ خرجت من‬ ‫ساحة المحاكمة ‪ ،‬ذلك اإلنتظار المغلف بالظلمة ‪ ،‬والذى يعلوه‬ ‫إقرار بنهاية المحيد عنها ‪ ،‬الشىء الذى يحز فى نفسى أن‬ ‫تنتهى مسيرة العطاء للبلد بكل مابذلته فيها من جهد وإخالص‬ ‫وتفانى فى العطاء بهذه النهاية ‪ ،‬وأن أوصم بالخيانة واإلهمال‬ ‫والفساد وماإلى هذا من مسميات ‪.‬‬ ‫بيد تعالج ارتعاشة رغبة محمومة مددت يدى إلى رقبتها ‪ ،‬درت‬ ‫بباطن راحتى مع دورتها الى أعلى وبدالً من شد وجهها نحوى‬ ‫‪91‬‬


‫رأيتنى انطوى بين جناحيها ‪ ،‬تتلمس رأسى هضبة النهدين‬ ‫ميممة الى براح الصدر‪ ،‬و أنطوى رويدا ً ‪ ،‬أنغمس بوجدانى‬ ‫فى لجة إحساس ناعم يأخذنى أخذا ً الى حيث أجد سلوتى هناك‬ ‫راميا ً بكل مافى روحى من مشاعر وأحاسيس متضاربة وبكل‬ ‫مافى القلب من براكين متفجرة وبكل مايمتلك جسدى من أنين ‪.‬‬ ‫رأيتنى ألقى بكل هذا من حالق ‪ ،‬وروحى ينكشف عنها الحزن‬ ‫الداهم والوحشة الصارمة رويدا ً ‪ ،‬وأفلت من كل شىء إال دفء‬ ‫الصدر وأمان الساعدين الذين امتدا فى رفق ليحيطا هيكلى‬ ‫العجوز برحمة لم أحلم بها فى أشد أحالمى صفا ًء ‪ ،‬وبدالً من‬ ‫التوهج والفعل مددت جسدى بجوارها ‪،‬رأيتنى أنسى مامر‬ ‫بخاطرى منذ لحظات ومافاضت به خواطرى ‪ ،‬واألخيلة التى‬ ‫اجتاحت مخيلتى لترينى كيف أنغمس فيها‪ ،‬أتشرب شبابها‬ ‫قطرة قطرة ‪ ،‬وأرتشف من عسلها ‪ ،‬وأذوب بروحى ووجدانى‬ ‫ومشاعرى فى فيض حسنها ‪ ،‬ترينى كيف أذيب شفتيها‬ ‫الرقيقتين بين شفتى وأعتصرهما إعتصاراً ‪ ،‬وأنا أهيم بين‬ ‫دروبها صعودا ً وهبوطا ً إلى أن استقر على قمة اللهفة ‪ ،‬صاعداً‬ ‫إلى أوج اللقاء غامسا ً روحى كاملة فى طياتها‪ ،‬محرزاً قصب‬ ‫النصر والفخار ‪.‬‬ ‫رأيتنى أركل كل هذه الصوربعيداً‪ ،‬أو هى تنمحى الشعوريا ً‬ ‫من رأسى ‪ ،‬شاعرا ً أن هذا الدفء مبتغاى من رعشة برد‬ ‫جامح تجتاحنى ‪ ،‬و أتقوقع رويداً بين يديها الى أن أخذت وضع‬ ‫الجنين مغمض العينين راضى النفس هادىء النبضات راضيا ً‬ ‫‪ ،‬وقد تالشت بعيدا ً كل أثام الوجود ومشاكله ومتاهاته‬ ‫وشروره ‪ ،‬إلى أن رأيت يدها تمتد هادئة وتمسح عينى ‪ ،‬بينما‬ ‫يدها اآلخرى ماتزال تبث دفئها سخيا ً نقى الروح إلى جسدى‬ ‫المحتاج فى تلك اللحظة إلى دفء وسالم الكون كله ‪ ،‬تنبهت‬ ‫لنفسى ال أدرى متى فوجدت بقايا دموع ماتزال تغطى وجنتى ‪،‬‬ ‫وبعض الطعم المالح يلسع شفتى ‪ ،‬اعتدلت محدقا فى عينيها‬ ‫‪92‬‬


‫بنظرات اعتذار ‪ ،‬فاضت من حدقتيها نظرات شفقة هائلة وهى‬ ‫تهمس لى ‪-:‬‬ ‫ تريد طعام الغذاء ؟‬‫لم أكن راغبا ً فى شىء اآلن ‪ ،‬كنت بحاجة فقط للغياب فى‬ ‫متاهة نوم لعلنى أقوم بعده مكتشفا ً أن األمر كله كان كابوسا ً‬ ‫وانتهى على خير ‪ ،‬رغم هذا هززت رأسى موافقا ً ‪ ،‬ولم أجد‬ ‫ماأقول ‪ ،‬فتمتمت بما ورد على خاطرى فوراً‪-:‬‬ ‫ مااسمك ؟‬‫ ثناء‬‫ مامهمتك معى ؟‬‫ ماتريد‬‫ هاتى الطعام ‪ ،‬بشرط أن تجلسى فى مواجهتى وتأكلى معى‬‫وانتفضت من مرقدى الى الحمام ‪ ،‬رغم نفورى من الماء البارد‬ ‫كنت بحاجة إليه االن ‪ ،‬بحاجة له ليطلق سهامه فى أنحاء‬ ‫كيانى ‪ ،‬برودته كانت كافية لترويض حرارة جسدى خاصة‬ ‫اآلن ‪ ،‬المحاكمة الجارية تحتاج إلى تركيز وتدقيق وفحص لكل‬ ‫كلمة تقال ‪،‬مواجهة ممثل االدعاء المتولى هذا بعينيه‬ ‫الوحشيتين وصوته المريع تحتاج أن أصهر روحى فى بوتقة‬ ‫صحو ويقظة التغيب ‪ ،‬أما اإللتفات ألشياء أخرى تشتت الجهد‬ ‫والفكر فليس له معنى وال هدف سوى اإلستسالم لمصير محال‬ ‫أن أفلت منه إال بقدر فى الغيب حتى اآلن ال أدريه وال أرى له‬ ‫تباشير أو عالمات ‪.‬‬

‫‪93‬‬


‫كان الطعام بسيطا ً كما تعودت منذ جئت إلى هنا ‪ ،‬قطع قليلة من‬ ‫الجبن مع بعض العسل والخبز وكوب الشاى ثم الشىء ‪.‬‬ ‫جلست ثناء أمامى ‪ ،‬بهدوء تناولت الخبز وبدأت كأنها منذ‬ ‫زمان تعرفنى وتعيش معى تهمس بكلمات عادية عن الطقس‬ ‫بالخارج ‪،‬وظروف الحياة بالمدينة ‪ ،‬وبعض مآثر سكانها ‪،‬‬ ‫وماتراه إلصالح بعض العيوب هنا أو هناك ‪ ،‬ثم عرجت على‬ ‫عائلتها العريقة فى المكان ‪ ،‬بجذورها الممتدة العمق فى تاريخ‬ ‫المكان ‪ ،‬وفروعها المنتشرة فى كافة نواحيه ‪ ،‬وحينما انتهينا‬ ‫من الطعام انتبهت أننى لم أنبس بحرف مكتفيا بالنظر إلى‬ ‫وجهها بنقاء بشرته والحمرة الخفيفة التى تهبه جماالً خالصا ً‬ ‫يفوق ماعداه بفضل قسماتها الطفولية ونظراتها المغسولة‬ ‫بالحياء ورقة حروفها الهيا ً بهذا كله عن حروفها وماقالته إال‬ ‫بعض العبارت من هنا أو هناك ‪ ،‬شاعرا ً أن المرأة هى المرأة‬ ‫فى أى مكان وزمان ‪ ،‬سالحها لسانها ‪ ،‬ومتى انفعلت بخير أو‬ ‫شر انفجرت فى الحديث دون أن يمتلك كائن ما إيقافها ‪.‬‬ ‫التصمت المرأة إال إذا دبرت مكيدة ما‬ ‫وهنا يكون الخوف منها‬ ‫أما وهى تتكلم بغضب أو فرح فالشىء هناك ‪ .‬هكذا شعرت‬ ‫لحظتها ‪.‬‬ ‫أويت إلى فراشى بانتظار الغد‪.‬‬ ‫همست تسألنى إن كت أريد شيئا ً ‪ ،‬أدرت وجهى عنها إلى‬ ‫الجدار ‪ ،‬لم تكن بى رغبة لشىء إال اإلنفراد بنفسى اآلن ‪ ،‬ال‬ ‫أدرى هل هى التى أتعبتنى أم أنا الذى أجهدتها معى ‪ ،‬شكرتها‬ ‫بكلمات قليلة رأيت على أثرها نظرة امتنان خاطفة التكاد تبين‬ ‫تطل من عينيها وتنمحى فوراً ‪ ،‬ألقت تحية المساء وأغلقت‬ ‫‪94‬‬


‫الباب خلفها ألواجه الظلمة وحدى ‪ ،‬أسير فى متاهة ليل يحيط‬ ‫بروحى من كل األرجاء ‪ ،‬ورأيتنى أعود لألمس البعيد ‪ ،‬أتذكر‬ ‫بداياتى منذ سنين عدة ال أذكر بداياتها لطول العهد بها ‪ ،‬فأنا‬ ‫منذ قمت ومجموعة الشباب أيامها بالذهاب إلى قصر الحاكم‬ ‫السيد خميس وقررنا البقاء أمامه مع إقدام شاب منا يوميا ً‬ ‫على اإلنتحار اعتراضا على الظلم المتفشى والفساد السائد‬ ‫وإهمال العالج والتعليم وماإليها من أسباب تدعو إلى‬ ‫االعتراض ‪.‬‬ ‫أيامها كنا مجموعة صغيرة التتعدى العشرين شابا ً ‪ ،‬جئنا من‬ ‫حوارى وأزقة البلد مندفعين بروح اإلصالح الحتمى واإلرادة‬ ‫الشعبية الجارفة ‪ ،‬جمعنا هدف واحد هو إبالغ أعلى سلطة فى‬ ‫البلد بما يجرى ‪ ،‬فإن كان يعرف فسوف يسارع بتغيير سياسته‬ ‫‪ ،‬وإن كان اليعرف وهذا محال طبعا فقد أطلعناه على وضع‬ ‫الناس ‪ ،‬وعليه أن يقوم باالصالح أو يرحل ‪.‬‬ ‫أيامها فوجئنا بانضمام أطياف من الناس لم نكن نعرفها ‪ ،‬أو‬ ‫حتى نظن أنها يوما ً ستسعى لإلنضمام إلينا‪ ،‬أو حتى تشعر أن‬ ‫لها دورا ً يمكن أن تؤديه بأى شكل من األشكال ‪.‬‬ ‫رويدا ً رأينا أنفسنا محاطين بأعداد تزداد يوما ً بعد يوم ‪ ،‬إلى‬ ‫أن أصبحت المدينة كلها تكمن حول القصر ‪ ،‬تحاصره وتصر‬ ‫على تنفيذ أوامرها وطلباتها ‪ ،‬وانتهت فكرة انتحار شاب هذه‬ ‫السذاجة المفرطة منا ‪ ،‬لتقوم مكانها فكرة أخرى هى الهتاف‬ ‫الذى اشتعل فى المكان دون توقف ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫الشعب يريد إسقاط الفاسدين‬

‫الجميل فى األمر أن أيام اإلعتصام هذه كشفت أشياء جميلة‬ ‫داخل كل منا لم يكن يلتفت إليها ‪ ،‬أنا مثالً اكتشفت قدرتى على‬ ‫الخطابة والتأثير على الجماهير إلى درجة التوحد مع كلماتى ‪،‬‬ ‫‪95‬‬


‫واإلقتناع بما أقول ‪ ،‬فصرت يوما ً بعد اآلخر أخطب فيهم شارحا ً‬ ‫مساوىء النظام السائد ‪ ،‬وانتشار الخرافات بدالً من العلوم‬ ‫الحديثة ‪،‬وتدهور التعليم الذى أفرخ عقوالً خاوية وأفئدة بلهاء‬ ‫وأيدى مرتعشة التبنى أوطانا ً ‪،‬وأخذت أقارن بين الدين‬ ‫كشريعة لها قدسيتها ‪ ،‬وبين الدين كوسيلة لإلرتزاق والكسب‬ ‫من فئة اتخذته وسيلة للكسب على حساب السذج والمساكين‬ ‫الذين أسلموهم قيادهم وظنوهم األقرب إلى هللا ودينه من‬ ‫الجميع لما أبدوه من مظاهر الزهد والخشوع والورع ‪،‬وحفظهم‬ ‫اآليات والسور وبعض األحاديث المطلوبة للمهمة التى نذروا‬ ‫أنفسهم لها‪ ،‬أال وهى اكتساب مايستطيعون كسبه والسيطرة‬ ‫على البالد والعباد لتحقيق مآربهم ال أكثر ‪ ،‬ثم تحدثت عن‬ ‫الجهة المقابلة لهم وهم هؤالء الناس الذين لعبوا اللعبة بال‬ ‫رياء أو زيف فهم جشعون ويظهر ذلك فى تصرفاتهم وهم‬ ‫يريدون الكسب بأى وسيلة ‪ ،‬وهذا واضح للعيان ‪ ،‬وهم أهل‬ ‫سلطة وجاه وقوة ‪ ،‬وهذا يعرفه الجميع واليحتاج لتفسير‪،‬‬ ‫ويقومون بأعمالهم جهارا ً نهاراً ‪ ،‬فى قوة وقسوة ‪ ،‬وبال‬ ‫خوف ‪ ،‬وهؤالء رغم شرهم أقل شرا ً ممن يتمسح بالدين ‪،‬‬ ‫ويتخذه وسيلة لركوب أعناق البشر وسلب أموالهم وخيرات‬ ‫بالدهم أيضا ‪ ،‬تكلمت عن هؤالء وهؤالء رافضا ً سيطرة كائن‬ ‫ماكان على مقدرات الشعب ‪ ،‬مطالبا ً أن يكون الخير للجميع ‪،‬‬ ‫مؤكدا ً أن هذا لن يتأتى إال بجلوس حاكم وطنى شجاع يعى جيداً‬ ‫مايجرى حوله ‪ ،‬ويكون مخلصا ً حريصا ً على الوطن وأبناءه ‪،‬‬ ‫يكره اإلستغالل ويمقت الخيانة والفساد ‪.‬‬ ‫ورأيتهم يشيرون إلى قائلين ‪-:‬‬ ‫أنت الحاكم المطلوب‬‫وعلت الهتافات التى هزت األرجاء ووصلت الى القصر ‪،‬‬ ‫فدكت قلب ساكنه دكا ً ‪ ،‬فهرب بليل تاركا ً خلفه كل شىء ‪،‬‬ ‫‪96‬‬


‫مكتفيا ً من الغنيمه ببقاء دماغه فوق عنقه ‪ ،‬لترتفع رايات‬ ‫الفرح والحبور‪ ،‬وتعلو هتافات النصر وتنتشر فى كل البالد من‬ ‫أقصاها ألدناها آيات الترحيب بالحاكم العادل الذى سيعتلى‬ ‫الكرسى ‪،‬وهو فيه من الزاهدين !‬ ‫وسمى هذا يوم النصر‪ ،‬وتم جعله عيدا ً قوميا ً تؤخذ فيه أجازة‬ ‫رسميه ‪ ،‬وتطلق فيه األناشيد ‪ ،‬ويعم الفرح والسرور كافة‬ ‫األنحاء ‪.‬‬ ‫فما الذى جرى اآلن ؟‬ ‫الكل هناك كان يبدى الفرح ‪.‬‬ ‫يستمع لكلماتى فى أى نائبة‬ ‫ويقرأتحليلى لألحداث مهما كانت ويقتنع بماأقول وينتهى األمر‬ ‫‪.‬‬ ‫فما الذى جرى ؟‬ ‫وكيف يقوم هؤالء الناس بمحاكمتى بذات التهمة التى‬ ‫وجهتها لمن كان قبلى ؟ هل صرت خميس جديد وأنا الأشعر؟‬ ‫أم أشعر ولكنى أتلهى بعبقرية الحكم وإلهام الحاكم وماإليها‬ ‫من مسميات كنت أسمعها وأنتشى لها ؟‬ ‫المسئولون كانوا دوما ً يرتجفون من كلماتى حينما أغضب على‬ ‫أحدهم ‪ ،‬لذا كانوا دوما ً يقولون مايرضينى ‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫كل شىء تمام‬

‫‪-‬‬

‫الناس فى الشوارع والحوارى تمام‬

‫‪97‬‬


‫‪-‬‬

‫التعليم تمام‬

‫‪-‬‬

‫الصحة تمام‬

‫وحينما تقع عينى على خطأ أصرخ فى المخطىء ‪ ،‬أذيقه ألوان‬ ‫الهوان قبل أن أطرده من مكانه ‪ ،‬وأجىء بآخر يتحمل‬ ‫المسئولية عنه ‪.‬‬ ‫فهل كنت متواطئا ً أم الهيا ً أم أن مرور هذه السنوات الطوال‬ ‫وأنا أعتلى الكرسى قد أدى الى صدأ عقلى وشلل فكرى وجمود‬ ‫فى مشاعرى وأحاسيسى فلم أر إال مايرون هم مكتفيا ً بهذا‬ ‫وراضيا ً وواثقا ً أن ال أحد ينتفض ضد سياستى إال المتآمرون‬ ‫الكارهون للعدالة والحق ‪ ،‬وهؤالء تقوم الجهات المسئولة‬ ‫بتعقبهم وحبسهم ‪ ،‬أو اإلجهاز عليهم ؟‬ ‫آه كم هو ثقيل هذا الليل ‪.‬‬ ‫جفناى رغم ارتخاؤهما فوق حدقتى كجبلين ثقيلين يأبيان‬ ‫على النوم‪.‬‬ ‫سأحاول أال أفكر‪.‬‬ ‫ربما استيقاظ الذهن هو الذى يمنع النوم ‪.‬‬ ‫سأحاول أال أفكر ‪.‬‬ ‫أغوص رويدا ً فى عالم النوم ‪ ،‬و‪! .......‬‬ ‫رأيتنى فى الساحة من جديد ‪ ،‬ذات الساحة التى شهدت يوم‬ ‫محاكمتى األول ‪ ،‬لكنى هذه المرة مصلوبا ً وسط الساحة ‪،‬‬ ‫بين يدى جالدين عمالقة ‪ ،‬والدماء تتساقط من يدى وأقدامى‬ ‫التى ثبتوها مكانها بالمسامير ‪ ،‬كانوا يحملون سياطا ً ساخطة‬ ‫التهدأ صرخاتها وعويلها وهى تتلوى فى الهواء ‪ ،‬قاطعة‬ ‫‪98‬‬


‫الزمن والمكان ‪ ،‬قادمة إلى جسدى فى عنف يدفعنى دفعا ً‬ ‫للصراخ من قلب القلب ‪ ،‬ومن أعمق أعماق الروح ‪،‬‬ ‫والجماهير ملء الساحة تنظر ساخرة ‪ ،‬راضية عما يجرى لى‬ ‫‪ ،‬وهتافاتهم تشق الفضاء ‪-:‬‬ ‫ الشعب يريد إعدام الفاسد‬‫والسيد سليمان حاكم المدينة الذى وليته هذه الوظيفة يوما ً ‪،‬‬ ‫ويفترض فى أن أكون ولى نعمته يهتف معهم ‪ ،‬وأنا محنى‬ ‫الرأس ‪ ،‬مسندا ً إياها على صدرى ‪ ،‬ال أمتلك النظر إال إلى‬ ‫ماتحت قدمى ‪ ،‬حيث المقصلة المعدة لتنفيذ حكم اإلعدام الذى‬ ‫لم يغب كثيرا ً ‪ ،‬إذ انطلق الصوت الغاشم الحانق من العينين‬ ‫الوحشيتين لممثل اإلدعاء المتولى معلنا ً للعامة الخبر الذى‬ ‫يترقبونه بكل اللهفة والشوق ‪ ،‬وماأن يعلو صوته بالحكم حتى‬ ‫تنطلق فى ظالم الليل أضواء الشماريخ وألعاب الصوت‬ ‫والهتافات والزغاريد ‪ ،‬وتدق الطبول ترحيبا ً به ‪ ،‬بينما يتم‬ ‫نزع المسامير عن يدى وقدمى ‪ ،‬وإنزالى عنوة مجروراً من‬ ‫ساقى الى أدنى ‪ ،‬حيث توضع رقبتى تحت المقصلة التى أغلقت‬ ‫جزئيها ‪ ،‬وأحكم الغلق على رقبتى ‪ ،‬وأنا أتحرك مطاوعا ً لهم‬ ‫‪،‬ناظرا ً إلى مايجرى كأننى روح أخرى ترى وترقب دون أن‬ ‫يكون لها دخل أو تأثر مما يجرى ‪ ،‬وقد تحول األلم الكاسح‬ ‫المتعملق إلى أمر عادى أو هو قدر محتوم رضى به جسدى‬ ‫بعيدا ً عن إرادتى وأمرى ‪ ،‬محنيا رأسى خاضعا ً خاشعا ً أنتظر‬ ‫التنفيذ ‪ ،‬فى هدوء ال أدرى من أين أتانى وكيف ‪.‬‬ ‫حتى فى اللحظة الرهيبة التى دوت فى أرجاء روحى عتية‬ ‫غاشمة ‪ ،‬والتى ارتطمت فيها البلطة برقبتى لتفصل رأسى‬ ‫فورا ً عن جسدى كانت الرأس تتدحرج مفتوحة العينين ‪ ،‬ذاهلة‬ ‫النظرات ‪ ،‬متسعة إلى أقصى مدى اتساعها ‪ ،‬محدقة فى سواد‬

‫‪99‬‬


‫الوجود حولها ‪ ،‬التدرى هل تفرح لمبارحة هذا العالم بكل‬ ‫شروره ‪ ،‬أم تحزن للمغادرة على هذه الصورة ‪.‬‬ ‫ولحظتها بالذات مرت فى خاطرى كل سنين عمرى فى شريط‬ ‫واحد هرول مارا ً أمام عينى ‪ ،‬واضحا ً جليا ً بكل تفصيالته‬ ‫وأحداثه فى أجلى صورة وأكمل بيان ‪ ،‬إلى أن رأيت جسدى بال‬ ‫رأس ملقى تطأه األقدام ‪.‬‬ ‫أفزعتنى الصورة فى تلك اللحظة وتفجرت مشاعر األلم‬ ‫والشقاء وفاضت ينابيع األحزان كاسحة ‪ ،‬و صرخت باٌقصى‬ ‫ماأملك من أنين و بحر الدماء الجارية تحت األقدام ينشب‬ ‫أنيابه العاتية فى روحى‪.‬‬ ‫آاااااااااااااااااه!!‬ ‫انتفضت من رقدتى متسع العينين ‪ ،‬مستعيذا ً باهلل ‪ ،‬خارجا ً‬ ‫من بوابة الجحيم وأتون نارها الهث األنفاس ‪ ،‬أحدق فى‬ ‫المكان حولى ‪ ،‬أتشمم رائحة الحياة من جديد مديراً عينى فى‬ ‫جسدى وأطرافى ‪ ،‬متحسسا ً رأسى ‪ ،‬أدور بنظرات هلع‬ ‫واجفة فى أرجاء الغرفة ‪ ،‬وحينما تهدأ نبضاتى وتخمد فورة‬ ‫النيران فى جسدى ‪ ،‬أهب من مرقدى مبتعدا ً عن السرير ‪،‬‬ ‫متباعدا ً عما رأيته على أديمه وبين يديه وفى أحضانه ‪،‬‬ ‫متوجسا ً من معاودة االقتراب منه ‪ ،‬أتجه الى المائدة وأجلس‬ ‫على أحد مقاعدها فى انتظار الصباح ‪.‬‬ ‫و فى هذه اللحظات تبدو لى الحياة بال زيف صبغتها الذى يلون‬ ‫وجهها خاوية من الجمال ‪ ،‬مليئة لحافتها بقبح وجهالة عجوز‬ ‫شمطاء واسعة الحيلة ‪ ،‬تعرف كيف تصطاد ضحاياها ‪،‬‬ ‫وكيف توقع بهم بتلونها وتبرجها وغنج حروفها ‪ ،‬حتى إذا‬ ‫ماأمنوا لها واحتضنوها أفاقوا على حقيقة ال مراء فيها ‪،‬وهى‬ ‫أنهم تلفعوا بشرها وحقدها وكراهيتيها حتى لنفسها ‪.‬‬ ‫‪100‬‬


‫وأعود إلى نفسى متسائالً فى جد ‪..‬كيف خدعت بها إذا كنت‬ ‫أعرفها ؟‬ ‫إذا كنت رأيتها وسبرت غورها ورأيت بعين البصيرة حقيقة‬ ‫صورتها ‪ ،‬فلماذا وقعت بين براثنها ‪ ،‬واستسلمت إلغرائها ‪،‬‬ ‫وقبلت أن تطوينى بظالم جناحيها وقبيح ريحها ؟‬ ‫وال أجد جوابا ً إال النسيان أو التلهى بالمتعة الطارئة اللحظية‬ ‫الزائفة والزائلة عن الحقيقة المؤكدة ‪ ،‬وميل نفسى إلى اللهو‬ ‫والتيه بروعة السراب الخادع وفرحة امتالك ماالطاقة لمخلوق‬ ‫بامتالكه ‪ ،‬حينها تبدو لى اللحظات شبكة ممتدة فى عمق الروح‬ ‫‪ ،‬تنزع من برائتها قطرة فقطرة مدى حياتها على األرض ‪،‬‬ ‫ويبدو الكون حولى حلبة مصارعة دموية جائزتها الكبرى‬ ‫قبض الريح !!‬ ‫أستدير محدقا ً فى السرير السابح فى ملكوت سكونه راضيا‬ ‫بعتمته الناشرة فى أفق الحجرة هدو ًء ناعما ً ‪ ،‬والدوالب‬ ‫الصغير على مقربة منه محتميا ً بالجدار ناعما ً بالعزلة ‪،‬‬ ‫والمائدة المستديرة ذات اإلطار الخشبى المغطى بالغطاء‬ ‫األبيض الرائق البياض وعليه بقايا طعام العشاء والتى تركته‬ ‫ثناء قبل أن تغادر هامسة أننى ربما أحتاج اليه ليالً ‪ ،‬أراهم‬ ‫يتقاربون محدقين بى ‪ ،‬محاصرين لجسدى المضغوط بينهم ‪،‬‬ ‫وأنا الأمتلك المقدرة على الصراخ أو اإلفالت من كيدهم المقيت‬ ‫‪ ،‬أبحث عن نسمة هواء أفلتت من قبضتهم لترد لى الحياة ‪،‬‬ ‫فال أجد إال مزيدا ً من الضيق ‪ ،‬أهب من مجلسى دائراً فى فراغ‬ ‫الحجرة ال أدرى ماذا أفعل بنفسى وال ماذا تفعل نفسى بى ‪.‬‬ ‫الجدوى من أى شىء ‪.‬‬ ‫أرتمى على المقعد من جديد ‪ ،‬محدقا ً بالباب ‪ ،‬مترقبا ً من تحت‬ ‫عقبه خطوات النهار التى البد ستجىء ‪ ،‬أنتفض والباب يفتح‬ ‫‪101‬‬


‫سامحا ً للنهار باقتحام المكان ناشرا ً ضياه فى أركانه ‪ ،‬غير‬ ‫عابىء ببقايا العتمة الكامنة هنا وهناك ‪ ،‬وأرى وجه ثناء‬ ‫فأشعر بشعور المدفون فى قبره الموقن بالهالك ‪ ،‬واثقا ً أن ال‬ ‫أحد سيسمع له أو يلبى استغاثته ‪ ،‬ثم يفاجىء بمن يفتح‬ ‫ويقول له اخرج أمنا ً الى النور ‪ ،‬أحدق فى عينيها الدافئتين‬ ‫ووجهها الذى كسته شمس الصباح حمرة نقية هادئة حالمة‬ ‫زادته حسنا ً على حسن ‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫صباح الخير‬

‫‪-‬‬

‫صباح الخير‬

‫‪-‬‬

‫وجهك يشى بإرهاق‬

‫‪-‬‬

‫فقط ؟‬

‫تشاغلت عنى بفحص المكان وترتيبه ‪ ،‬جاء طعام اإلفطار‬ ‫ووضع على المائدة ‪ ،‬جلست قبالتى محدقة فى وجهى بنظرات‬ ‫جديدة لم أرها منذ عرفتها حتى اآلن ‪ ،‬نظرات فيها شفقة –‬ ‫ربما ‪ -‬الحد لها وهى تدير عينيها صاعدة وهابطة على جسدى‬ ‫المكوم على المقعد منذ منتصف الليل ‪ ،‬وقد تقوص على‬ ‫المقعد دون أن أنتبه له إال حينما رأيت عينيها تحوطانه بدفء‬ ‫النظرات ‪ ،‬حاولت اإلعتدال قدر المستطاع‬ ‫ تشعر بالمرض ؟‬‫ لم أنم إال قليالً‬‫ هل استطيع المساعدة ؟‬‫ألول مرة منذ حدث ماحدث شعرت برغبة فى االبتسام ‪.‬‬ ‫ابتسمت‪ ،‬أو هكذا خيل لى‪.‬‬ ‫‪102‬‬


‫ال أدرى هل بدت البسمة على شفتى أم أبت أن تخرج إلى‬ ‫الوجود ‪.‬‬ ‫كانت عيناها تحوطنى بفيض حنوها مما أشعرنى بشىء من‬ ‫اإلمتنان ‪ ،‬إذ يكفى والكون يدهمك بثقل أقدامه ووطء ظلمته ‪،‬‬ ‫وجسامة حوادثه وملماته أن ترى نظرة ود أيا ً كان مصدرها أو‬ ‫سببها ‪ ،‬يكفى أنها مشاركة من روح أخرى شعرت فى تلك‬ ‫اللحظة بك وتألمت من أجلك ‪.‬‬ ‫رميت بروحى فى براح نظراتها ‪ ،‬عيناها فى أعماقهما روح‬ ‫تنبض ببراءة داهمة تأخذك رغما ً عنك وترويك من نبع صفاء ‪.‬‬ ‫ متزوجة ياثناء ؟‬‫ ال‬‫ احك لى عن نفسك‬‫تزدهر زهور النظرات بنشوة الدهشة وهى ترى كهالً ال أمل‬ ‫فى نجاته بيتعد عن نفسه بالقدر الذى يقترب حسيسا ً منها ‪.‬‬ ‫ أعيش مع أبوى فى ضاحية المدينة ‪ ،‬والدى رجل بسيط‬‫يعمل فى متجر لبيع حاجيات المنازل ‪ ،‬ووالدتى بائعة فى متجر‬ ‫لألدوات النسائية ‪ ،‬أما أنا فبعد انتهاء دراستى تم تكليفى كمثل‬ ‫غيرى من فتيات المدينة بخدمة المجتمع لمدة عام‬ ‫ خدمة المجتمع ؟‬‫ بلى ‪ ،‬خدمة الزامية للفتيات ‪ ،‬مساوية للخدمة العسكرية‬‫للشباب‬ ‫ وهل ماأنت فيه اآلن خدمة مجتمع ؟‬‫‪103‬‬


‫ بلى‬‫حدقت فى الدوالب المغلق متفكرا ً فيما قالت ‪ ،‬متسائالً كيف‬ ‫خفى عنى هذا األمر ‪ ،‬ومنذ متى وهم يكلفون الفتيات بأشياء‬ ‫كهذه ؟‬ ‫أعرف أن هناك فتيات لخدمة الضيوف الكبار ‪ ،‬مهمتهن‬ ‫إرضاءهم والتسرية عنهم ‪ ،‬وكثيرا ً مااستخدمن بغرض‬ ‫التجسس ومعرفة األسرار ‪ ،‬برضائهن أم تحت ضغوط ‪ ،‬أما‬ ‫البقاء مع المساجين !!‬ ‫همست لنفسى أن هناك أشياء كثيرة حولى ال أعرفها ولم‬ ‫تخبرنى بها التقارير واألخبار ‪ ،‬قلت بثقة أنه مهما كانت دقة‬ ‫الملفات واألوراق والعيون البصاصة لن تكون أفضل من عينيك‬ ‫أنت ‪ ،‬ورؤيتك أنت ‪ ،‬وخبرتك أنت لتكون قادرا ً على إبداء‬ ‫الحكم الصواب ‪ ،‬أما وأنت مكانك فلن تشعر بشىء ‪ ،‬ولن‬ ‫تدرك أبعاد ماهنالك مهما أوتيت من ذكاء ‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫مرتبطة ياثناء ؟‬

‫‪-‬‬

‫بلى ‪ ،‬مخطوبة لموظف فى مكتب خاص للمحاسبة‬

‫‪-‬‬

‫لماذا خاص ؟‬

‫‪-‬‬

‫الحكومة أبوابها مغلقة إال على موظفيها وأبنائهم‬ ‫وأقاربهم‬

‫صمتت قليال وهى تحدق فى عينى ‪ ،‬كأنما اندفعت فى قول‬ ‫اليليق بها قوله ‪ ،‬ثم استطردت بصوت خافت‬ ‫‪-‬‬

‫أعتذر إليك فلم أقصد‬

‫عدت لإلبتسام مرغما ً ‪ ،‬وأنا فى حالتى تلك تخشى منى !!‬ ‫‪104‬‬


‫‪-‬‬

‫لماذا اإلعتذار ؟‬

‫لكن قولى لى‬ ‫‪-‬‬

‫تفضل‬

‫‪-‬‬

‫لماذا اختاروك أنت بالذات لمرافقتى‬

‫‪-‬‬

‫ألننى حاصلة على دورة تدريبية فى السيطرة والتحكم‬

‫‪-‬‬

‫ال أفهم‬

‫‪-‬‬

‫هى دورة من دورات عدة ‪ ،‬لكنها مخصصة للتعامل‬ ‫مع ال‪!..‬‬

‫‪-‬‬

‫ال‪..‬ماذا ؟‬

‫‪-‬‬

‫الذين ‪ ..‬يعنى ‪..‬المدينة تراهم ‪!..‬‬

‫‪-‬‬

‫تقصدين المتهمين أمثالى ؟‬

‫هزت رأسها فى حياء ‪ ،‬ووجها األبيض يتحول إلى لونه‬ ‫الوردى المحبب لعينى ‪ ،‬فيبدو فى سيماه وعمق عينيه مالئكية‬ ‫شفافة ‪ ،‬ناصعة ‪ ،‬مبهرة ‪ ،‬حاكمة ‪ ،‬مسيطرة بوداعتها‬ ‫ودفئها ‪ ،‬والسالم الذى يغلف روحها ‪ ،‬ويفيض من خالل‬ ‫حدقتيها المستترتين خلف األجفان حيا ًء وخجالً ‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫هل تسمح لى بسؤال ؟‬

‫أرخيت جفونى مرة أو مرتين هامسا ً‪-:‬‬ ‫ طبعا ً‬‫ هل فعلت كل مايقال عنك ؟‬‫‪105‬‬


‫ وماالذى يقال ؟‬‫ أراك مختلفا ً عما قيل‬‫ كيف ؟‬‫ روحك فيها هدوء نسمة رخاء ‪ ،‬وكلماتك فيها رقة وصفاء‬‫‪،‬ونظراتك التوحى إال بالرفق ‪،‬حتى حينما فكرت أن تقربنى لم‬ ‫أكن أستطيع أن أعلن الرفض ‪ ،‬ربما خوفا ً من المسائلة أو‬ ‫محاسبتى أننى لم أؤد خدمتى كما ينبغى ‪ ،‬وأقدم للمحاكمة‬ ‫وحينها سوف يضار والدى معى ‪ ،‬لكننى فوجئت بك كأنك‬ ‫خشيت أن تجرحنى أو نظرت لى كإبنتك أو شىء من هذا ‪،‬‬ ‫واكتفيت بإراحة رأسك على صدرى ‪ ،‬ورأيتك ترتعد ودموعك‬ ‫تغرق وجهك ‪ ،‬صدقنى لحظتها لم أشعر أنك غريب متهم‬ ‫محكوم عليه ومطارد بل شعرت أنك ‪..‬أبى ‪..‬أنا أسفه لهذا‬ ‫التشبيه ‪.‬‬ ‫ أقول لك سراً ؟‬‫ تفضل‬‫ كالمك جعلنى أجوع وأتوق توقا ً للطعام ‪ ،‬هيا‬‫ لكنى !!‬‫‪-‬‬

‫هيا يابنتى ‪ ،‬هل تعرفين أن لدى ابنة فى مثل عمرك‬ ‫تركتها فى القصر؟‬

‫‪-‬‬

‫متزوجة ؟‬

‫‬‫‪-‬‬

‫ولديها طفالن‬ ‫تعيش معك فى القصر؟‬ ‫‪106‬‬


‫‪-‬‬

‫بلى ‪ ،‬هكذا أمرت ‪ ،‬لها سكنها الخاص لكنها التذهب‬ ‫إليه كثيرا ً‬

‫‪-‬‬

‫ال أفهم‬

‫‪-‬‬

‫عمل زوجها بالتجارة يجبره على السفر الكثير‬ ‫والمبيت فى بعض األحيان لذا طلبت أن تبقى معنا‬ ‫ومتى عاد زوجها يمكنها أن تعود معه‬

‫‪-‬‬

‫سيدى‬

‫‪-‬‬

‫نعم‬

‫‪-‬‬

‫هل أنت ‪..‬أنت ؟‬

‫‪-‬‬

‫ال أفهم‬

‫‪-‬‬

‫محال أن يكون ماقيل عنك صحيح‬

‫‪-‬‬

‫وهذا أروع مانلته فى حياتى من تقدير !‬

‫ومددت يدى عبر المائدة أربت على يدها فى حنان ‪ ،‬دق‬ ‫الباب دقات أعرفها جيدا ً ‪ ،‬ودخل الجنديان المكلفان باصطحابى‬ ‫إلى الساحة الكبرى بالمدينة ‪ ،‬تبسمت لمرآهما للمرة األولى‬ ‫منذ حدث ماحدث ‪ ،‬الوجهان يتكلفان الصرامة والجد رغم‬ ‫مايبدو عليهما من بساطة العامة وسذاجتهم ‪.‬‬ ‫ تشربان الشاى معنا ؟‬‫حدق كالهما فى عينى متوجسا ً ‪ ،‬قدرت فى نفسى أنهما‬ ‫حسبانى جننت‪ ،‬لم أبال بما يريانه فى وصببت لهما الشاى ‪،‬‬ ‫إال أنهما رفضا تماما ً وأشارا على بالتحرك فوراً ألهمية األمر ‪،‬‬ ‫ودعت ثناء ‪ ،‬الأعرف لماذا ‪ ،‬احتويت يدها الصغيرة بين يدى‬ ‫‪107‬‬


‫هامسا ً لها بكلمة شكر بسيطة على لطفها ورقتها ‪ ،‬ومضيت‬ ‫إلى الطريق ‪.‬‬ ‫العربة المغلقة األبواب والنوافذ مضت بى كعادتها بطيئة إلى‬ ‫حد الموت ‪ ،‬بينما الحارسان من حولى قد أراحا سالحهما إلى‬ ‫جانبهما فى هدوء ودون أن ينبسا بحرف ‪ ،‬بينما العتمة‬ ‫تفترش المكان موحية بنوع من سكون ماقبل العاصفة كالمعتاد‬ ‫‪ ،‬إال أننى مرة واحدة رأيت العربة تهتز بشدة ‪ ،‬والباب من أثر‬ ‫الهزة يفتح بقوة ضاربا ً جدارها ‪ ،‬ويبدو الطريق الذى لم أره‬ ‫منذ أتيت الى هنا ‪ ،‬ترنح الجنديان فى مكانهما ووقع السالح‬ ‫مما أفزعهما فاضطربا ‪ ،‬وحاوال السيطرة على الموقف سريعا ً‬ ‫‪ ،‬بينما أنا فى مكانى أحدق فيما حولى بعينين محايدتين ‪،‬‬ ‫ودون أن يطرف لى جفن ‪ ،‬ال أدرى لم ‪ ،‬ربما ألننى أعرف‬ ‫جيداً أنه المجال لهرب فالمدينة كلها كما يبدو تحمل عدا ًء لى ‪،‬‬ ‫ومهما تغيرت أو بدلت مالمحى فليس هناك مجال للهرب إلى‬ ‫مجهول ال أعرفه ‪ ،‬ولم أعد أرغب فى مالقاته والتعامل معه ‪،‬‬ ‫لم تعد المغامرات تستهوينى ‪ ،‬وحتى النجاة من الموت‬ ‫المتربص بى هنا لم تعد لها أهميتها كما كنت من قبل ‪.‬‬ ‫هل هو زهد فى الحياة ؟‬ ‫أم هو تسليم للقدر ؟‬ ‫أم رفض لنمط لم أعد أرغب فيه ؟‬ ‫ال أدرى بالضبط‬ ‫ولكنى أشعر خاصة اآلن بنوع من السكينة يشمل روحى ‪،‬‬ ‫ويفيض على عينى وسماتى ‪.‬‬ ‫انتبهت لعينى قط أسود كبير كان يعتلى سطح بيت مقابل‬ ‫للعربة تحدقان بى لحظة فتح الباب بالضبط ‪ ،‬رأيت العينين‬ ‫‪108‬‬


‫تتسعان والوجه مالمحه تنقبض ‪ ،‬ويتوقف عن الحركة محدداً‬ ‫اتجاه نظراته على وجهى ‪ ،‬يستدير متجها ً إلى أدنى بدالً من‬ ‫مواصلة السير على السطح ويختفى عن عينى ‪ ،‬لم أعط لهذه‬ ‫المالحظة أهمية ‪ ،‬اعتدل الجنديان ‪ ،‬تمالكا نفسيهما ‪ ،‬قبضا‬ ‫على سالحهما بقوة بعدما أغلقا الباب وأحكما رتاجه ‪ ،‬أكملت‬ ‫العربة سيرها حتى وصلت إلى الساحة ‪ ،‬وتم اصطحابى إلى‬ ‫القفص الحديدى من جديد ‪ ،‬كانت الوجوه كما رأيتها أول مرة‬ ‫متربصة األعين ‪ ،‬منفلتة األلسنة ‪ ،‬حادة السباب ‪ ،‬بينما‬ ‫الرجل المتولى وحشى النظرات ينظر نحوى بعداء قاهر الحد‬ ‫له ‪ ،‬وحاكم المدينه السيد سليمان على كرسيه الذى تعطفت‬ ‫وأجلسته عليه متسامحا ً معه وعافيا ً عن أخطائه التى أبلغتنى‬ ‫بها األجهزة الرقابية وواجهته بها قاصدا ً عزله ومحاكمته‬ ‫‪،‬لكنه تذلل وتعطف وتوسل أن أعطيه فرصة أخرى ولن أرى‬ ‫منه إال الخير ‪ ،‬وهاأنا أرى منه مالم أحلم برؤيته من قبل !‬ ‫غريب أمر هذا اإلنسان الينهش إال اليد التى تمنحه وتترفق به‬ ‫‪ ،‬أما اليد العصية القاسية الفطرة فيهاب اإلقتراب منها ويبتعد‬ ‫عنها خوفا ً من بطشها ‪ ،‬ودوما ً التأتى المصائب إال من‬ ‫القريبين منك الذين توغلوا فى خصوصيتك ‪ ،‬وعرفوا مالم‬ ‫يعرفه اآلخرون ‪ ،‬ومن هذا المنطق يهاجمونك ويتربصون بك‬ ‫لمعرفتهم الجيدة من أين يهاجمونك وكيف ‪.‬‬ ‫قام ممثل اإلدعاء‬ ‫نيرانه نحوى ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫المتولى من جديد متأججا ً موجها أتون‬

‫اليوم آيها السادة نتكلم عن ركن أخر من أركان‬ ‫الفساد العديدة لهذا المتهم الماثل أمامنا وهى فساد‬ ‫اإلعالم ‪ ،‬هذا الجهاز الشديد الحساسية ألى بلد ‪،‬‬ ‫والذى من خالله يمكن توجيه الرأى العام ‪ ،‬وتحديد‬ ‫ذوق الشعب ‪ ،‬وتشكيل شخصيته وتصرفاته ‪ ،‬فلم‬ ‫‪109‬‬


‫يعد هو المتفرد برؤيته وأهدافه النبيله كما كان سابقا ً‬ ‫فى عصور أخرى ‪ ،‬بل صار مطية للفساد فى الذوق‬ ‫‪ ،‬واإلنحطاط فى األخالق ‪ ،‬وانهيار القيم ‪ ،‬بما مهد‬ ‫إلفساد الذوق العام ‪ ،‬وانحطاط القيم ‪ ،‬وتحويل‬ ‫الشعب المتدين بطبعه والمحافظ بفطرته إلى شعب اله‬ ‫بعيد عن الدين والقيم ‪ ،‬يهتم بتوافه األمور ‪ ،‬ويترك‬ ‫جسامها ‪ ،‬تؤجج نيرانه مباراة كرة ‪ ،‬فيثور ألجلها‬ ‫ويتعارك ويشعل الحرائق بسببها‪ ،‬وتعتدى دولة‬ ‫خارجية على حدوده فال نراه يأبه أو يتساءل كيف‬ ‫سنعالج الموقف ‪ ،‬وكل هذا بسبب السياسة اإلعالمية‬ ‫الموجهة ‪ ،‬والتى كان هدفها غير المعلن إبادة روح‬ ‫هذا الشعب للسيطرة عليه ‪ ،‬وبالتالى إطالة أمد حكم‬ ‫فاسد ‪ ،‬وإال فمامعنى أن نسمع فى إحدى التمثيليات‬ ‫ألفاظا ً يعاقب عليها قانون العيب ‪ ،‬ألفاظ تدخل البيوت‬ ‫وتصفع آذان األطفال والنساء بكل بجاحة وبرود ‪.‬‬ ‫ماذا تقول آيها المتهم و أنت رأس الفساد ؟‬ ‫وماذا يمكن أن تقول أو تدافع أو حتى تفكر فى اإلنكار؟‬ ‫ماذا يمكنك أن تقول ؟‬ ‫أريد ان أسمعك‬ ‫أريد أن أجد مبرراً واحدا ً يمكنك أن تنطق به ‪.‬‬ ‫تعالت هتافات الخلق المتراصين فى تالحم شديد فى أرجاء‬ ‫المكان ‪-:‬‬ ‫ يسقط رأس الفساد‬‫ اإلعدام لرأس الفساد‬‫‪110‬‬


‫أشار السيد سليمان بيده مرات إلعادة الهدوء للمكان استعدادا‬ ‫للتحدث ‪ ،‬إال أنه انتفض فى مكانه بقوة ناقالً ثقل جسده على‬ ‫قدميه بالتبادل ‪ ،‬ورأيت المتولى ممثل اإلدعاء يفعل مثله ‪،‬‬ ‫وسرت العدوى إلى بقية الشخوص المحتلة للساحة كلها ‪،‬‬ ‫وارتفعت أصوات إستغاثة مبهمة ‪ ،‬وأخذ البعض يهرول ‪،‬‬ ‫يتصارع من أجل الفرار ‪ ،‬والجند يحاولون التشبث بباب‬ ‫القفص وهم يتقافزون فى أماكنهم ‪ ،‬والسالح يعوق حركتهم ‪،‬‬ ‫ورغما ً عنهم يبتعدون وهم يدقون األرض بأقدامهم بقوة ‪،‬‬ ‫والقفص يفتح وعشرات القطط تتحرك فى سرعة ودربة عالية‬ ‫هنا وهناك ‪ ،‬مسيطرة على الموقف تماما بعد أن تحكمت فى‬ ‫الجند المنتشر فى كل مكان أعلى البنايات المحيطة ‪ ،‬وخارج‬ ‫األسوار وداخلها ‪ ،‬وحول القفص والسيد سليمان والمتولى‬ ‫‪.‬‬ ‫وقفت محدقا ً فيما يجرى منتظراً نهايته ‪ ،‬غير مبال بما يجرى‬ ‫‪ ،‬شاعرا ً أن األمر كله لم يعد يعنينى ‪ ،‬انتبهت إلى القطط تفتح‬ ‫لى طريقا ً بين الخلق الفارة ‪ ،‬وتقدمتنى إلى باب الخروج بين‬ ‫الهرج الحادث والفوضى الضاربة بثقلها فى أرجاء المكان ‪.‬‬ ‫بثقة وهدوء تحولت هيئتى فوراً إلى قط يشبههم تماما ً ‪،‬‬ ‫وانطلقت وسطهم إلى الباب الخارجى وهم يسيرون أمامى ‪،‬‬ ‫خطواتهم متجهة إلى طريق ال أدرى الى أين ‪ ،‬أسير بينهم‬ ‫وقد توقف إدراكى أمام شىء واحد هووجوب طاعتهم‬ ‫واإلنقياد لهم وسط هذا الطريق المترب المهجور الذى ال يبدو‬ ‫له انتهاء ‪ ،‬والذى اليوجد فيه إال تراب ‪ ،‬وأفق يعلو غباره بال‬ ‫توقف ‪ ،‬وسماء زرقتها حانية ‪ ،‬وصمت التقطعه إال أصوات‬ ‫الحركة الممتدة بال توقف ‪ ،‬إلى أن رأيت الطريق الرئيسى‬ ‫السريع الذى يربط المدن ببعضها البعض ‪ ،‬عرفته فوراً وغزا‬ ‫قلبى شعور جامح بالنجاة ‪.‬‬

‫‪111‬‬


‫( ‪ ) 14‬الكشف الجديد‬

‫بدت عربات القيادة فى ركن من الطريق هرمة الروح ‪ ،‬كسيرة‬ ‫النفس ‪،‬مفتوحة األبواب ‪ ،‬رأيت على البعد العيون مجهدة‬ ‫والوجوه مصفرة واألجساد على مايبدو منهكة ‪ ،‬أشرت لهم‬ ‫بيدى بكل ماأوتيت من أمل ‪ ،‬أطلقت صوتى رغم الوهن‬ ‫والتخاذل الذى يمتلك روحى من طول المسير ومن المعاناة‬ ‫التى لم يعد جسدى يتحمل جهدها ‪ ،‬هتفت مرات عدة قبل أن‬ ‫ينتبهوا لى ‪ ،‬تتهلل الوجوه ‪ ،‬يتحول السكون المهيمن على‬ ‫المكان إلى فوران ‪ ،‬تتفجر األرض بالحركة ‪ ،‬أرى وجوها‬ ‫هشت لرؤياى ‪ ،‬هبت واقفة تؤدى التحية ‪ ،‬متسائلة أين كنت‬ ‫‪ ،‬وكيف نجوت ‪ ،‬ومهنئة على السالمة والنجاة من العاصفة ‪.‬‬ ‫رغم الفرح الجامح بوصولى إليهم أو وصولهم هم الى ‪،‬‬ ‫حدقت فى الوجوه صامتا ً ‪ ،‬شاعرا ً أننى ال أريد اإلنغماس فى‬ ‫أحاديث أعرف أنها زائفة وبال معنى ‪ ،‬أخذت أرقب األعين‬ ‫باحثا ً عن الصدق فى طياتها ‪ ،‬دون جدوى ‪.‬‬ ‫أحنيت رأسى شاكرا ً لهم كلماتهم الطيبة فى كلمات قالئل ‪،‬‬ ‫سألتهم كيف نجت القافلة وهل هناك مفقودون أم ال ‪ ،‬استمعت‬ ‫اليهم راغبا ً عن اإلنتباه لما يقولون ‪ ،‬بعدها طلبت اإلجتماع‬ ‫فوراً برؤساء أركان الجيش لبحث التحرك إلى المدينة التى‬ ‫تركتها توا (مدينة العيون ) ‪ ،‬والتحفظ على حاكمها السيد‬ ‫سليمان وكذلك ممثل اإلدعاء المتولى ذى العيون الوحشية‬ ‫النظرات !‬

‫‪112‬‬


‫بدت البهجة التى خامرتنى بالعودة لمكانتى وسلطانى من جديد‬ ‫بهجة باردة مثلجة القلب الإحساس فيها ‪ ،‬كذلك األشياء بعد‬ ‫عودتى بدت مختلفة غاية اإلختالف عما كانت وأنا طريد‬ ‫ومتهم ومعرض للموت ‪ ،‬شعرت أن الظلمة التى كنت فيها قبالً‬ ‫قد أشرقت وصارت نوراً اليغيب ‪ ،‬واألفكار التى كنت أعتنقها‬ ‫وكنت أدور فى فلكها تحررت عن ذى قبل ‪ ،‬رغم أن سماتها و‬ ‫هيئتها الكئيبة ذات الوجه المنكسر والقسمات الذليلة الخاضعة‬ ‫المستكينة تحورت إلى هيئة أخرى سماتها تفور بالكبرياء‬ ‫والعظمة واأللق الدائم ليل نهار والعنفوان والقوة التى البد‬ ‫منها لمواجهة األمور كما ينبغى لك أن تواجهها ‪.‬‬ ‫الشىء الذى أراحنى قليالً أننى كنت أعى تماما ً هذه النقطة‬ ‫بالذات ‪ ،‬فمناقشة أمر من األموروأنت تعتلى الكرسى الكبير‬ ‫تختلف تماما ً عنك وأنت التمتلك الجرأة على نطق ماتريد ‪،‬‬ ‫وتخشى العقاب الذى يترصدك ويحدق بك وينتظر منك هفوة‬ ‫ليلتهمك بال رحمة ‪.‬‬ ‫الكرسى العالى له هيبة وصولجان ‪ ،‬ويمنح صاحبه مهما كان‬ ‫هذا الصاحب كيانا ً آخر غير كيانه اإلنسانى البسيط ‪ ،‬فتراه‬ ‫األعين من خالل منظار مكبر ‪ ،‬وتعامله من خالل ذات المنظار‬ ‫‪ ،‬فهو القادر بحكم منصبه على حل أعتى األلغاز ‪ ،‬وهو‬ ‫القادر على مجابهة التمرد مهما كانت بواعثه وأساليبه ‪،‬‬ ‫ويصدر القرارات مهما كانت قسوتها وجفافها وربما ظلمها‬ ‫وظلمتها ‪ ،‬عليه أن يفعل هذا وإال أتهموه بالضعف والخوار‬ ‫وعدم المقدره على أداء عمله بكل تبعاته وخطره‬ ‫المشكلة أن االنسان مهما كانت درجة نقاءه وميله إلى العدل‬ ‫والمساواة يجد نفسه مندفعا ً بفعل تيار جامح السبيل إلى الفكاك‬ ‫منه للتعامل مع معطيات أخرى وأفكار مختلفة ‪ ،‬ربما لو خير‬ ‫أمامها ماأختارها والفكر فيها ‪ ،‬ولكنها السكرة التى تأخذ‬ ‫‪113‬‬


‫النفس فى دوامتها وتطرحه حيث شاءت فال يرى إال بعينيها‬ ‫واليسمع إال بأذنيها واليحس إال باحساسها ‪ ،‬وهى أيضا المهنة‬ ‫التى رغم زهوها وبهرجة ألوانها وروعة معيشتها محفوفة‬ ‫بمخاطر فقد الشخصية الحقيقية البسيطة السابقة ‪ ،‬والتى‬ ‫مهما حاول بعد تقاعده أن يستعيدها اليستطيع ‪.‬‬ ‫تم الدفع بقوات من الجيش إلى المدينة فوراً والنجاح فى‬ ‫السيطرة على كل ركن فيها بسهولة ويسر كبيرين وبال أى‬ ‫مقاومة تذكر ‪ ،‬وتم التحفظ على حاكمها السيد سليمان‬ ‫والمتولى ممثل اإلدعاء المجنون الذى ذبحنى بكلماته ونظرات‬ ‫عينيه الوحشيتين ‪ ،‬وفى ذات الوقت زينت الشوارع والساحات‬ ‫وخاصة الساحة الكبرى باألعالم والفتات الترحيب بمقدمى‬ ‫الميمون وكأننى لم أكن منذ ساعات مجرما ً يطلبون القصاص‬ ‫منه !!‬ ‫أما السكان فقد تم منحهم أجازة رسمية الستقبال صاحب‬ ‫الكارسى العالى ‪ ،‬والترحيب به ‪.‬‬ ‫وفى الموعد الذى تم تحديده ‪ ،‬ووسط حراسه أفراد الشرطة‬ ‫الذين انتشروا على طول الطريق ‪ ،‬وعربات الحراسة‬ ‫المخصصة لمرافقة الموكب ‪ .‬توجهت إلى الساحة الكبرى‬ ‫والتى جرت فيها إجراءات المحاكمة من قبل ‪.‬‬ ‫كنت طوال الطريق أخشى أن يتظاهر السكان رافضين زيارتى‬ ‫‪ ،‬أو يقومون بمقاطعة الدعوة والينزلون إلى الساحة ‪،‬‬ ‫معلنين العصيان المدنى فى صمت قاطع حاسم ‪ ،‬معلنين‬ ‫رفضهم لحكمى ‪ ،‬ولما سمعوه ورأوه من كلمات عن الفساد‬ ‫والظلم الذى اقترفته طوال فترة حكمى ‪.‬‬

‫‪114‬‬


‫كنت أناقش نفسى وأجادلها فى كيفية التعامل معهم إذا حدث‬ ‫هذا ‪ ،‬وكيف أضيق عليهم حتى يعودوا للطاعة بال قيد وال‬ ‫شرط ‪.‬‬ ‫وحينما اقتربت الساحة الكبرى و قبل الدخول تساءلت عن عدد‬ ‫الموجودين ‪ ،‬محاوالً بتر آيات القلق المرتسمة على محياى ‪،‬‬ ‫جاء الرد حاسما ً ‪-:‬‬ ‫‬‫‪-‬‬

‫الساحة ممتلئة عن آخرها‬ ‫كلهم يهتف بحياة صاحب الكرسى‬

‫( بالروح بالدم نفديك ‪!! )...‬‬ ‫محوت عالمات الدهشة التى اكتسحت نظراتى ودخلت مرفوع‬ ‫الرأس ‪ ،‬دائرا ً بنظراتى على الوجوه واألعين المحدقة ‪ ،‬موزعا ً‬ ‫بسماتى الواثقة عليهم فى روية وهدوء كما كنت أفعل كثيراًمن‬ ‫قبل ‪ ،‬بعدها جلست على الكرسى الخاص بحاكم المدينة ‪ ،‬ناقالً‬ ‫نظراتى من جديد بين الوجوه المتالحمة الناطقة بالفرح‬ ‫والسرور لنوالها شرف حضور حفل كبير تاريخى ‪ ،‬يشرفه‬ ‫صاحب الكرسى الكبير ‪.‬‬ ‫لدهشتى رأيت ذات الوجوه الالعنة لشخصى منذ حين هى التى‬ ‫تهتف بكل الحماس اآلن !‬ ‫طلبت حاكم المدينة السيد سليمان‬ ‫جاء محنى الرأس خجالً بين حراسه ‪ ،‬ووقف بين يدى‬ ‫متلفعا ً بصمت ذليل اليمتلك معه القدرة وال الجرأة على طلب‬ ‫العفو ‪.‬‬ ‫سألته أمام الجموع المحتشدة ‪-:‬‬ ‫‪115‬‬


‫‪-‬‬

‫كنت ترى حكمى فاسدا ً ‪ ،‬فلماذا قبلت االستمرار‬ ‫معى ؟‬

‫ازداد رأسه إنحنا ًء على صدره ولم ينبس بحرف‬ ‫عدت أسأله من جديد ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫رأيتنى ظالما ً ‪ ،‬فلماذا لم تحاول إثنائى عن طريق‬ ‫الغى الذى مشيت فيه ؟‬

‫رفع نصف عين إلى وجهى ثم سارع بإرخاء جفنيه على‬ ‫حدقتيه من جديد ‪ ،‬وأيضا لم يرد ‪ ،‬عدت أوجه أسئلتى اليه ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫تحدثت عن التعليم الذى تم إهماله فى عصرى ولم‬ ‫آبه للنهوض به وتحديثه ورفع مستوى الطالب ‪،‬‬ ‫أليس كذلك ؟‬ ‫أريد جوابا ً أمام هذه الجموع‬

‫حدق فى عينى دون أن يمتلك المقدرة على الرد ‪ ،‬قمت واقفا ً‬ ‫وأنا أشير بيدى الى وجهه ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫لقد عينتك منذ اآلن وزيرا ً للتعليم ‪ ،‬ومنحتك‬ ‫صالحيات العمل بما ترى للنهوض به فى المدة التى‬ ‫ستحددها بنفسك اآلن وأمام هؤالء الخلق جميعا ‪،‬‬ ‫وإن لم تنفذ ماوعدت به خالل هذه المدة سأحاكمك‬ ‫هنا أمام ذات الخلق ‪ ،‬مفهوم ؟‬

‫بدا فى عينيه أنه لم يع ماقلت ‪ ،‬أو وعاه ولم يصدقه ‪ ،‬أو‬ ‫ربما صدقه وأخذته الدهشة فى طياتها فلم يبد رد فعل مناسب‬ ‫‪ ،‬وظل واقفا ً برهة متسع الحدقات مفتوح الفم محتفظا ً بشفته‬ ‫السفلى متدلية أعلى ذقنه كاألبله ‪ ،‬ثم مالبث أن أفاق لنفسه‬ ‫‪116‬‬


‫ولم يجد حرجا ً فى أن يتقدم نحوى مقدما ً آيات الوالء ‪ ،‬راجيا ً‬ ‫قبول اإلعتذار وطلب السماح والعفو ‪ ،‬وواعدا ً ببذل أقصى‬ ‫الجهد لتنفيذ األمر على خير وجه ‪.‬‬ ‫بعدها تم استدعاء ممثل اإلدعاء المتولى الذى فوجئت‬ ‫بانطفاء نيرانه واختفاء شروره ‪ ،‬وتحوله إلى بالون قد فرغ‬ ‫من هوائه فانكمش على نفسه فى خزى وانكسار ‪ ،‬حدقت فى‬ ‫عينيه ‪ ،‬رماد الغضب تذروه رياح اإلنكسار ‪.‬‬ ‫وجهت حديثى للعامة من حوله ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫هذا الرجل انتقد سياسة اإلعالم ‪ ،‬وقدم مطالب معينة‬ ‫لتصحيح صورتها وتعديل ميلها ‪ ،‬وأنا أوافقه على‬ ‫وزيرا لألعالم ‪ ،‬بشرط أن يحقق‬ ‫نقده ‪ ،‬وأعينه‬ ‫ً‬ ‫ماقال فى فترة زمنية يحددها كيف يشاء ‪ ،‬وإال‬ ‫فالعقاب الصارم سينزل به ‪ ،‬مارأيكم ؟‬

‫تعالت الهتافات ‪ ،‬وبدالً من وحشية النظرات رأيت رياضا ً‬ ‫وبساتين وطيورا ً بيضاء تعشش فى عينيه وهو يقدم آيات‬ ‫الشكر والعرفان ‪.‬‬ ‫تعجبت من هذه النوعية من البشر التى ماإن تملك القرار‬ ‫وتشعر بقدرتها على الفعل حتى تطيح وتبطش وتنكل كيف‬ ‫شاءت بالباطل أو بالحق ‪ ،‬ومتى مافقدت صولجان عظمتها‬ ‫انحنت وعادت تلعق التراب فى خزى‪.‬‬ ‫هؤالء كما أراهم اآلن عبيد الظروف والمواقف ‪ ،‬قلوبهم ممتلئة‬ ‫بالحقد والحسد وينتظروا اللحظة التى يقدرون فيها واليعرفون‬ ‫العفو ‪ ،‬وهؤالء أفضل وضع لهم أن يكونوا تحت إمرة من‬ ‫يقودهم ويسوس حركتهم ويلهب ظهورهم إن اخطأوا وهذا‬ ‫مافكرت فيه ولصالح البلد ليس إال ‪.‬‬ ‫‪117‬‬


‫طلبت النداء على ثناء البنت التى رافقتنى طيلة أيام اعتقالى ‪،‬‬ ‫تقدمت خجلة الخطوات حيية النظرات تتعثر فى إرتباكها ‪،‬‬ ‫منحتها أمام الجميع وسام الشرف ‪ ،‬وقدمت لها الشكر على‬ ‫حسن معاملتها ‪ ،‬وقمت مغادرا ً المكان وسط التصفيق والتهليل‬ ‫والدعاء بدوام حكمى الميمون ونظرتى الثاقبة وحكمتى التى‬ ‫تتغلب دوما ً على غضبى ‪.‬‬ ‫وطوال طريق العودة كان الهتاف المأثور يرن فى أذنى ‪-:‬‬ ‫ ( بالروح بالدم نفديك ‪..‬الخ )‬‫وأنا أحدق فى الوجوه العابرة أمام عينى متسائالً ‪ ..‬كيف تتغير‬ ‫المشاعر مابين ليلة وضحاها ‪ ،‬وهل المشاعر فعال تتغير ‪ ،‬أم‬ ‫هو النفاق ‪ ،‬أم إنعدام الرؤية والتصفيق لمن يعتلى الكرسى أيا‬ ‫كان ‪ ،‬والموافقة العمياء على كل مايفعله مادام يعتلى الكرسى‬ ‫‪ ،‬حتى لو سار بهم الى الجحيم ؟‬ ‫هل هؤالء الناس يمكن الوثوق بهم واإلرتكان عليهم فى‬ ‫الملمات ؟‬ ‫وماالذى أوصلهم لهذه الحال ؟‬ ‫وكيف أغيرهم ليكونوا أصحاب موقف ورؤية وهدف‬ ‫اليحيدون عنه ؟‬ ‫أم هى طبيعه تطبعوا بها وانتهى األمر ؟‬ ‫قررت فى أول اجتماع لمجلس الحكماء أن أناقش هذا األمر‬ ‫وأبحث عن الوسائل الالزمة إلعادة تشكيل وعى الناس من‬ ‫جديد ‪ ،‬ليكونوا أصحاب موقف ورؤية وهدف اليحيدون عنه‬ ‫مهما كلفنى هذا ‪ ،‬حتى ولو كان ثمنه الكرسى الذى أعتليه ‪.‬‬

‫‪118‬‬


‫واستدرت عنهم قاصدا ً الغرب حيث كانت وجهتى قبل أن‬ ‫تضرب العاصفة الموكب ويحدث ماحدث ‪.‬‬ ‫كانت أنباء ماجرى قد تداولتها كالمعتاد وكالت األنباء‬ ‫والصحف ‪ ،‬ضخمت ماشاءت أن تضخم ‪ ،‬وزادت ماشاءت أن‬ ‫تزيد ‪ ،‬وحللت وفسرت واستنتجت ‪ ،‬فقالت الصحف الحكومية‬ ‫أن هناك مؤامرة كبرى يتعرض لها الوطن فى شخص الحاكم ‪،‬‬ ‫وغمزت صحف المعارضة بكلمات بين السطور تشى بغضبة‬ ‫الشعب وانتظاره للحظة التى يتحرك فيها ليقضى على الطغيان‬ ‫‪.‬‬ ‫وبطبيعة الحال كان كل ماينشر هنا وهناك يأتينى ملخص منه‬ ‫‪ ،‬أنظر فيه سريعا ً وأعطى التعليمات ‪ ،‬موجها إذا احتاج األمر‬ ‫للتوجيه ‪ ،‬وقد رأيت هذه المرة أن يقام استقبال حافل فى‬ ‫(مدينة النسائم ) غرب البالد ليكون رداً على المعارضة ‪ ،‬وفى‬ ‫ذات الوقت رسالة للعالم أن الشعب يؤيد ويبارك خطواتى‬ ‫المباركة ويشيد بحكمتى فى مواجهة األزمات ‪.‬‬ ‫تحرك الموكب متجها إلى المدينة إذن ‪،‬مع متابعة دقيقة منى‬ ‫مع اإلدارة المختصة لكل صغيرة وكبيرة فى اإلحتفال ‪ ،‬حتى إذا‬ ‫ظهرت مشارف المدينة رأيت على أبوابها ماسر قلبى وأسعد‬ ‫وجدانى ‪.‬‬ ‫فرقة خيالة على الجانبين برايات عالية ترفرف فى السماء ‪،‬‬ ‫حاملة صورى وعلم البالد ‪ ،‬وفرقة شعبية تدق الدفوف‬ ‫والطبول بأغنيات كتبت خصيصا ً ألجل هذه الزيارة وتمجيد‬ ‫مقدمى ومدح أعمالى ‪ ،‬وكبار المدينة يقفون مصطفين بانتظار‬ ‫ظهورى ليقدموا آيات اإلكبار والتقدير وعلى رأسهم حاكم‬ ‫المدينة الذى تقدم بآيات الترحاب والسرور لمقدمى الميمون‬ ‫‪،‬وعيناه تصرخان أنه يكذب وينافق والينطق بكلمة واحدة‬ ‫‪119‬‬


‫تحمل رائحة صدق أو لمسة ود ‪ ،‬تبسمت له واطمأننت على‬ ‫حاله الذى اليهمنى فى شىء ‪ ،‬وكذلك على أحوال المدينة ومن‬ ‫فيها‪ ،‬وتحرك الموكب إلى الداخل حيث الشوارع تعلوها أقواس‬ ‫نصر بألوان بهجة وفرح مكللة هامات الطرق ‪ ،‬وتحتها جموع‬ ‫غفيرة من البشر بهتافات تهز قلب الكون‬ ‫(بالروح ‪ ،‬بالدم ‪ ،‬نفديك‪ ..‬الخ )‬ ‫مضينا إلى مقرالمدينة الرسمى كما طلبت وبدأت المناقشات ‪.‬‬ ‫رغم يقينى السابق أنه الستمرار اإلستقرار من بعدى البد أن‬ ‫يكمل ولدى مهمتى إال أننى بعد أن حدث ماحدث قلت كثيرا‬ ‫حماستى لهذا األمر ‪.‬‬ ‫هناك أشياء كثيرة لو فعلتها فلن يحتاج الشعب لولدى أو غيره‬ ‫‪ ،‬ولن أحتاج أنا لحماية نفسى منهم إذا تركت الحكم ‪ ،‬والقانون‬ ‫وحده سيكون كفيال بمعالجة أى ميل أو جور من أى حاكم ‪،‬‬ ‫والوقوف فى وجه الظلم مهما كان عنفوانه ‪ ،‬وصد أى افتراء‬ ‫مهما عظم ‪ ،‬وتلك يجب أن تكون مهمتى األولى ‪ ..‬إعادة‬ ‫تاهيل هذا الشعب من جديد !‬ ‫أما ابنى وتوليه األمر من بعدى فتلك أصبحت مسألة ثانويه‬ ‫رغم أنف حفصة زوجتى ‪ ،‬وحينما ألتقى بها يمكننى مناقشتها‬ ‫بهدوء ودون اندفاع وإقناعها بما أراه ‪.‬‬ ‫كانت مدينة النسائم ألنها فى الغرب بعيدة عن المدن الرئيسية‬ ‫وعن بؤرة إهتمامها تعانى من نقص فى أشياء عدة ‪ ،‬وذلك‬ ‫لضعف الميزانية المقدمة لها ‪ ،‬لذا كان أول قراراتى زيادة‬ ‫الميزانيه المخصصة لها فوراً ‪ ،‬وطلب تقرير إسبوعى عن‬ ‫المشروعات والخدمات التى يجب تقديمها للناس وبال إبطاء ‪،‬‬ ‫وبعد ذلك وبعد أن انفرجت حدة التحفظ وتعالت الضحكات‬ ‫‪120‬‬


‫والقفشات الرقيقة المحت بصورة عارضة إلى ولدى ‪،‬‬ ‫ووعدنى الرجل خيرا ً ‪ ،‬وأنا أرى فى عينيه رفضه البات لهذا‬ ‫األمر وتصميمه على معارضته بكل قواه ‪.‬‬ ‫لم أبال به ‪ ،‬فمصلحته تحتم عليه استمرار الحكم الحالى ‪،‬‬ ‫وهذا سيتحقق فى حالة تولية مسعود ‪ ،‬فال خوف إذن من‬ ‫معارضته ‪.‬‬ ‫قمت سريعا بزيارة بعض المصانع والشركات ‪.‬‬ ‫كلها يعانى ويشكو من زيادة الضرائب وارتفاع أسعار المواد‬ ‫الخام والكهرباء والماء ومستلزمات اإلنتاج وأجور العمال‬ ‫وعدم قدرتهم على اإلنتاج فى هذا الجو الغائم الشديد السواد ‪،‬‬ ‫خاصة أن المنتجات األجنبيه المستوردة تكتسح السوق‬ ‫وبأسعار زهيدة ‪ ،‬مما يضرب أى فرصة لإلنتاج ‪ ،‬أو تشغيل‬ ‫العمالة المحلية‬ ‫سألت ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫وماذا ترون ؟‬

‫قيل ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫إيقاف اإلستيراد للمنتجات البديلة التى تصنع محليا ً‬

‫أصدرت قرارا ً بهذا و طلبت البحث فوراً فى توفير المواد الخام‬ ‫وكذلك مراجعة أسعار الكهرباء والماء أو تقسيط أسعارها‬ ‫للنهوض بالصناعة من كبوتها ‪ ،‬وأكدت على ضرورة التصنيع‬ ‫وعدم توقف المصانع بأى حال ‪ ،‬وشددت على الرجوع إلى‬ ‫فورا ً عند مواجهة أى مشكلة تعوق عودة الصناعة لسابق‬ ‫عهدها ‪.‬‬

‫‪121‬‬


‫بعدها غادرت المدينة قاصدا ً العودة إلى العاصمة وفى رأسى‬ ‫أشياء وأشياء ‪ ،‬لعل أهمها مناقشة والبحث عن الوسائل‬ ‫الالزمة إلعادة تأهيل الشعب كما قلت ‪ ،‬ليعود من جديد إلى‬ ‫روحه القديمة وإلى قدرته على الرؤية ‪ ،‬واتخاذ الرأى‬ ‫الصواب ‪ ،‬وكذلك محاولة عالج أوجه القصور الموجودة فى‬ ‫الخدمات ‪.‬‬

‫(‪)14‬‬

‫مرض ليل‬

‫ال أعرف لماذا كنت أخشى المجهول دوما ً ‪.‬‬ ‫أشعر أن هناك شىء ما ينتظرنى ليقبض روحى ‪ ،‬يمزق‬ ‫شرايينى ‪ ،‬أو يفتت كبدى ‪ ،‬شىء ما ال أدرى كنهه وال أميز‬ ‫سيماه أو حقيقته‪ ،‬أنتظره ربما خلف باب ‪ ،‬أو داخل مركبة ‪،‬‬ ‫أو وسط الطريق ‪.‬‬ ‫ونتيجة لهذا اإلنتظار الممض كنت أرانى فى حالة قلق داهم ‪،‬‬ ‫أتربص بالنظرات وأهتم باللفتات وتشدنى جداً اإلشارات‬ ‫والتليمحات التى ربما تحمل مدلوالً أو شفرة أو إتفاقا ً على‬ ‫وشك التنفيذ ‪ ،‬فترانى لحظتها أبالغ فى رد الفعل إلى درجة‬ ‫الهيستريا‪ ،‬واليهدأ خاطرى وتستريح نفسى إال بعد الوصول‬ ‫إلى حقيقة ماجرى مهماكانت ‪.‬‬ ‫لذا يقول من حولى همسا ً أنى أهتم بتوافه األمور ‪ ،‬وأتوه فى‬ ‫سراديب التفاهات ‪.‬‬ ‫‪122‬‬


‫وال أبالى بالرد ‪ ،‬فعادة يكون الهمس أقل من أن يصل الى ‪،‬‬ ‫لكنها المخابرات سامحها هللا ‪.‬‬ ‫هذا من الخلق حولى ‪ ،‬أما مفاجآت القدر فتلك قصة أخرى‬ ‫تهزنى هزا ً ‪ ،‬أرانى أمامها أضعف من حجر منبوذ ملقى على‬ ‫الطريق ‪ ،‬أو ريشة بلهاء تتالعب بها أيدى الهواء بال مباالة ‪،‬‬ ‫وقد فوجئت اليوم بمرض ليلى ففجعت ‪ ،‬بكت سعاد ومألت‬ ‫الوجود عويالً وأصفر وجه عادل وهرعا ً إلى حفصة زوجتى ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫البنت تصرخ وتشكو رأسها‬

‫استدعيت الطبيب فورا ً ‪ ،‬اكفهر وجهه بعد الكشف وأمر بنقلها‬ ‫فورا ً للمستشفى ‪ ،‬دك قلبى خوف داهم ورأيتنى مثل سعاد أريد‬ ‫أن أترك للدموع مداها وللعويل دروبه لوال الوجوه المتربصة‬ ‫من حولى ‪ ،‬هرولت حفصة وسعاد وعادل معها وبقيت وحدى‬ ‫أتابع عملى وعقلى هناك معهم وبينهم وعينى التريان إال‬ ‫دموعا ً وجنائز وأحزان ودنيا يملؤها السواد ‪ ،‬وكلما أدرت‬ ‫وجهى إلى ناحية طن صوت خشن فى أعماقى ‪..‬لو جرى لليلى‬ ‫شىء سأموت معها ‪.‬‬

‫(‪ ) 16‬بريق الصحو‬

‫صارت فكرة البحث عن الوسائل الالزمة إلعادة تأهيل الشعب‬ ‫ليعود من جديد الى روحه القديمة وإلى قدرته على الرؤية ‪،‬‬ ‫واتخاذ الرأى الصواب مرافقا ً اليغادر مجلسه فى صدرى ‪.‬‬

‫‪123‬‬


‫ال أدرى حتى اآلن كيف احتلت رأسى ‪.‬‬ ‫ولماذا تغيرت نظرتى إلى الناس بهذه الصورة ‪.‬‬ ‫هل المحاكمة التى رأيتنى أقف فيها موقف المتهم هى السبب ؟‬ ‫أم إحساسى أن هذه المحاكمة لم تكن إال بروفة لمحاكمة كبرى‬ ‫لن ينفعنى ولن يساعدنى فيها أحد ‪ ،‬وسوف أواجه فيها الحق‬ ‫سبحانه ‪ ،‬ولن أفلت من سؤاله عن كل مافعلته ذرة ذرة ؟‬ ‫أم هو اإلشفاق عليهم حينما رأيت منهم مارأيت من انقيادهم‬ ‫األعمى لمن يقودهم ‪ ،‬مهما كان هذا القائد ‪ ،‬ومهما كانت‬ ‫الوجهة التى يقودهم إليها ‪ ،‬وشعرت بمسئوليتى المباشرة عما‬ ‫وصلوا اليه ؟‬ ‫أم هو إحساسى أن تاريخ هذه البلد يحتم أن تكون غير ماهى‬ ‫فيه األن بالمرة ؟‬ ‫أم ألننى كبرت ولم يعد بينى وبين الموت إال القليل ‪ ،‬فقررت‬ ‫أن أكفر عن سيئاتى بهذا العمل ؟‬ ‫ربما‬ ‫آه‬ ‫كم كانت فترة االعتقال والمحاكمة رغم مرارتها رائعة ‪،‬‬ ‫وغيرت تماما ً من أفكار كنت أظنها صائبة ‪.‬‬ ‫لنرى ماذا يصنع الغد‬

‫‪124‬‬


‫(‪)17‬‬

‫بدء خطة التأهيل‬

‫كنت رغم كل شىء أفكر فى أمر ولدى مسعود ‪.‬‬ ‫أريد مثل غيرى من األباء أن اطمئن على مستقبله قبل أن‬ ‫أودع الحياة ‪ ،‬لكنى كنت أخشى كل الخشية أن أحمله مسئولية‬ ‫شاقة تحتاج لجهد يفوق قدراته مرات ومرات ‪.‬‬ ‫قديما ً وتحت الحاح حفصة أمه كنت أريد أن أهبه مكانة رفيعة‬ ‫تليق به ‪ ،‬وأضع بين يديه صولجانا ً شامخا ً وكرسيا ً عاليا ً‬ ‫يفرض على الجميع طاعته والوالء له ‪ ،‬لكننى اليوم وأنا أرى‬ ‫الموضوع من زاوية جديدة أرى مسئوليات جسام اليجب أن‬ ‫يتصدى لها إال قلب حديدى ‪ ،‬وعزيمة التفتر ‪ ،‬وعقل اليعرف‬ ‫المستحيل ‪ ،‬وهذا كله اليملكه ولدى !‬ ‫إن تغيير الناس والظروف المحيطة التصلح لها البيئة التى نشأ‬ ‫فيها ‪ ،‬فهو بحاجة إلى الدعة واالسترخاء ‪ ،‬وإصدار األوامر ‪،‬‬ ‫وإنتفاخ األوداج ‪،‬وتقطيب الجبهة ‪،‬ونقد كل شىء ‪ ،‬واإلصغاء‬ ‫الجيد جدا ً لوالدته فقط ‪ ،‬خاصة وهى تحدثه عن مكانه الجديد‬ ‫المعد له خلف أبيه على الكرسى العالى ‪.‬‬ ‫وقد كنت إلى ماقبل إعتقالى فى مدينة العيون أرى رأيها تأثراً‬ ‫بإلحاحها الرهيب وزنها الذى اليهدأ فى أذنى ‪ ،‬طالبة تمهيد‬ ‫الطريق جيدا لتولية مسعود ‪ ،‬ألسباب عديدة كانت تعيد وتزيد‬ ‫فيها ‪ ،‬وأهمها أن هذا الشعب اليأبه إال لألقوياء ‪ ،‬وطالما أنت‬ ‫قوى وبيدك السلطة فلن يقترب منك لسان أو يد ‪ ،‬لكن ويل لك‬ ‫وويل ألهلك وكل معارفك معك لو تنازلت عن هذه السلطة‬ ‫‪125‬‬


‫لغيرك ‪ ،‬ساعتها سوف ينبشون قبرك إن مت أو ينهشون‬ ‫لحمك إن ظللت حيا !‬ ‫لذا التجد مسئوالً سابقا ً عندهم ‪ ،‬كل مسئوليهم عرفوا هذا‬ ‫جيدا ً ‪ ،‬لذا لم يتركوا السلطة بمزاجهم ورغبتهم ‪ ،‬بل بحكم‬ ‫الموت ‪ ،‬أو الثورات المتتالية ‪ ،‬لذلك ‪ -‬والكالم مايزال لها ‪ -‬لو‬ ‫تنازلت البنك فلن يجرؤ مخلوق على مسك بسوء ‪ ،‬بصفتك أبو‬ ‫الحاكم ‪ ،‬ولك من الحصانة والمنعة مايصد أى هجوم أو حقد‬ ‫ظاهر عليك ‪ ،‬ثم أن ابنك هذا قد ترعرع فى الجاه والسلطة وإن‬ ‫لم يتول الحكم فسوف يشقى بعدك ‪ ،‬وليس ببعيد أن يحملوه‬ ‫أخطاءك ويحاكموه عليها ‪ ،‬وإن لم يكن لك أخطاء اخترعوا لك‬ ‫أخطا ًء ليحاكموه عليها ‪ ،‬وهاأنت ترى البالد من حولنا‬ ‫وماتفعله بحكامها السابقين ‪.‬‬ ‫وقد كنت حقيقة أسمع لها واقتنع ‪ ،‬على أساس أن الولد‬ ‫يمكنه الجلوس على الكرسى ومراقبة الحكومه ومتابعة عملها‬ ‫وإصدار توجيهاته بخصوصها ‪ ،‬وينتهى األمر عند هذا ‪ ،‬لكن‬ ‫الرؤية تغيرت تماما ً بعدما حدث ‪ .‬إنكشف األمر لعينى كما لم‬ ‫ينكشف من قبل ‪ ،‬الجلوس على الكرسى العالى ورطة مابعدها‬ ‫ورطة ‪ ،‬ومسئولية من أخطر وأقسى المسئوليات ‪ ،‬ولن ينجو‬ ‫منها إال من يبذل روحه خالصة ألجلها ‪ ،‬خاصة فى ظل هذا‬ ‫الوضع الذى رأيته بعينى ‪ ،‬وعاينته بنفسى ‪ ،‬بعيداً عن‬ ‫التقارير والملفات واألقوال المحفوظة بأن ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫كل شىء تمام‬

‫‪-‬‬

‫وبانتظار أوامر سيادتك‬

‫‪-‬‬

‫وحسب توجيهات الكرسى العالى‬

‫‪-‬‬

‫والرؤية الحكيمة لصاحب الكرسى‬ ‫‪126‬‬


‫والشجاعة والشهامة وكل الصفات المجيدة التى يلصقونها‬ ‫بأى جالس على الكرسى‬ ‫ولوال اإلحراج واالحساس بأن االمر سيصبح مكشوفا ً جدا‬ ‫لشبهوه باألنبياء والمرسلين‬ ‫وقد حدثت أشياء مثل هذه فى بعض البلدان القريبة وغيرها‬ ‫الكثير ‪.‬‬ ‫رغم أن إظهار الجانب اإلنسانى لصاحب الكرسى أولى وأعقل‬ ‫‪.‬‬ ‫إظهار نقاط ضعفه كبشر ونقاط قوته ‪ ،‬والتركيز على قدرته‬ ‫على أداء واجبات وظيفته أنفع وأولى ‪.‬‬ ‫أما إخفاء العيوب فى أوج قوته وسلطانه إلظهارها بعد أفول‬ ‫شمسه وفضحه فى كل األنحاء فشىء مقزز اليقبله إال مجنون‬ ‫‪ ،‬هذا باالضافة الى أن فيه ضرر بالغ بالبلد ومصالحها ‪.‬‬ ‫لذلك فإننى اآلن أقولها جاداً ‪-:‬‬ ‫لقد كرهت الكرسى ‪ ،‬والجلوس عليه ‪ ،‬وتحمل مشاقه‬ ‫الحقيقية الصعبة ‪،‬وليس مشاكله السابقة التى كنت ال أعلم‬ ‫عنها شيئا ‪ ،‬وال أمتلك القدرة على إصالح أى منها ‪ ،‬ربما‬ ‫لتكاسلى ‪ ،‬وربما ألن التقارير والملفات ال تذكرها ‪ ،‬وتكتفى‬ ‫بنقل محبة الشعب لى رغم أن الحقيقة أنه يكرهنى أشد الكره ‪،‬‬ ‫ووضع األكليشيه الجاهز ‪ (..‬كل شىء تمام )‪ ..‬رغم أن كل‬ ‫شىء فى حالة يرثى لها ‪ ،‬وقد كنت نائما ً مطمئنا ً والبلد كلها‬ ‫تئن ‪ ،‬ولم أنتبه إال يوم اعتقلت ورأيت المشاعر الحقيقية تعلو‬ ‫الوجوه ‪ ،‬والكلمات المكبوتة تخرج قوية هادرة ‪ ،‬والعيون‬ ‫تطلق شرر كراهيتها وغضبها بال خوف ‪ ،‬وألن األمر كان‬ ‫أخطر من مجرد الثواب والعقاب ألنه يخص شعبا ً بكل طوائفة‬ ‫‪127‬‬


‫فكان البد لى أن اتحرك جادا لفعل شىء ‪ ،‬وسأفعله لعلى بهذا‬ ‫أصلح أخطاء سنوات ماضية لم أفعل فيها شيئا ‪ ،‬اكتفيت فيها‬ ‫بالقاء الخطب الحماسية والكلمات الرنانة التى لم تكن تعنى إال‬ ‫مزيدا ً من الكراهية ‪ ،‬وشعور العامة أننى أبيعهم الوهم ‪،‬‬ ‫وأمنحهم السراب لقاء استمرارى فى الحكم ‪ .‬لكن المشكلة اآلن‬ ‫تكمن فى امرأتى حفصه وفى الولد مسعود أيضا الذى تمكنت‬ ‫األمنية من عقله اآلن رغم إعالنه رفضه لها مراراً ‪ ،‬وصار‬ ‫يتصرف كولى عهد قادم المحالة ‪ ،‬وكذلك أمه التى التقبل‬ ‫مجرد فرض أن ابنها اليصلح لهذا المنصب خاصة فى األيام‬ ‫القادمة لجسامة المسئوليه التى ستلقى عليه ‪ ،‬وقد حاولت‬ ‫بعد عودتى وفى لحظة صفاء أن أنقل اليها أفكارى هذه‬ ‫وأطرح عليها مشروعى اإلصالحى الذى كتبته وجهزته للعرض‬ ‫على كبار المسئولين فى الدولة ليعرف كل منهم دوره ويتحمل‬ ‫فورا ‪ ،‬إال أنها ثارت ثورة لم أرها منذ‬ ‫مسئولياته ويبدأ التنفيذ ً‬ ‫زمان ‪ ،‬رمتنى بشرر نظراتها وجارح حروفها غيرمبالية بى‬ ‫وال بمشاعرى وكيانى كرجل أو حاكم كبير ‪ ،‬وبدأت فى توجيه‬ ‫اللوم والتأنيب إلى‪ ،‬بل ورمتنى بالحمق وقلة العقل والتفكير‬ ‫المعوج الذى سيضيع الولد ‪ ،‬ويضيعها ‪ ،‬ويضيع البلد معها‬ ‫‪ ،‬فالحلول الكثيرة التى كتبتها مجرد أحالم شيخ عجوز مخرف‬ ‫‪ ،‬لم يعد يرى من وجوده إال الموت ‪ ،‬ومادام كذلك فليترك‬ ‫الحياة ألصحابها ‪ ،‬بدالً من ضياع الكرسى والسلطة والجاه‬ ‫على يديه ‪ ،‬وربما عرض الجميع حتى نفسه للمحاكمة‬ ‫واإلعتقال بتهم اليعلمها إال هللا ‪.‬‬ ‫سرا إذا قلت أن كالمها قدترك أثرا فى نفسى ‪،‬‬ ‫وال أخفى ً‬ ‫وجعلنى أعود مرة أخرى للتفكير ‪ ،‬ولكن هذه المرة محاوالً‬ ‫التوفيق بين الصالح العام والصالح الخاص ‪ ،‬وبمعنى آخر‬ ‫إتمام مهمة االصالح ‪ ،‬وإشراك ابنى فيها منذ بدايتها ليكون‬ ‫شريكا ً فيها ‪ ،‬وقائما ً عليها ‪ ،‬ومسئوال عنها ً ‪ ،‬وبذلك استطيع‬ ‫‪128‬‬


‫تنفيذ مارأيته ضروريا ً لهذا البلد ليعود كما كان وأكثر ‪ ،‬وفى‬ ‫ذات الوقت فتح الباب على أقصى اتساعه للولد ليكون امتدادا‬ ‫ألبيه ‪ ،‬بل ويرحب به أيضا بصفته صاحب مشروع إصالحى‬ ‫سيعود على البلد كلها بالخير ‪.‬‬ ‫وهكذا قررت التنفيذ برؤية واضحة وخطة متكاملة وهدف‬ ‫محدد ‪.‬‬ ‫قمت بدعوة مسئولى المؤسسات المختلفة ( التعليم والقضاء‬ ‫وواالعالم و‪..‬و‪..‬الخ ) وعرضت عليهم األفكار المكتوبة ‪،‬‬ ‫وناقشتهم فيها ‪ ،‬كل على حدة وطلبت من كل منهم تطوير هذه‬ ‫األفكار ‪ ،‬ووضع خطط محددة بنقاط لها أمد زمنى يتم السير‬ ‫عليه باشراف مسعود ‪ ،‬وعرض األمر على الشعب بعدها‬ ‫ليشاركنا المشروع النهضوى الكبير لخير البلد وأجيالها القادمة‬

‫(‪)18‬‬

‫خطة حفصة‬

‫الشىء الذى لم امتلك القدرة على تغييره أو إيقاف خطورته‬ ‫مهما أوتيت من العقل أو القوة هو تفكير زوجتى حفصه ‪،‬‬ ‫خاصة حينما كانت تطلب شيئا ً ‪ ،‬فإنها لحظتها كانت تتحول إلى‬ ‫ميكروفون اليعرف الصمت ‪ ،‬والى جهاز رصد اليعرف‬ ‫السكينة والهدوء ‪ ،‬فتراها تحصى الحركات والهمسات وربما‬ ‫‪129‬‬


‫الخواطر أيضا ‪ ،‬وتدور حولك وتسير خلفك وتسير أمامك‬ ‫واليمنع أبدا أن تقفز فى صدرك وتنبش فى أعماق مشاعرك‬ ‫وتلكزك فى كل جزء من جسدك تطوله يدها ‪ ،‬افعل كذا ‪ ،‬افعل‬ ‫كذا ‪ ،‬افعل كذا ‪ ،‬وياويل ويلك إن لم تفعل ‪ ،‬زعابيب ورياح‬ ‫وبرق ورعد يمألون البيت ‪ ،‬وتصبح الحياة لحظتها التطاق ‪.‬‬ ‫وألننى فى بداياتى األولى كنت ال أمتلك القدرة على طالقها لما‬ ‫قد أتجشمه من صعاب خاصة مع عائلتها الغنية ذات الجاه ‪،‬‬ ‫وما قد أراه من بأس أنا فى غنى عنه ‪ ،‬فقد كنت أتحاشى‬ ‫التصعيد معها ‪ ،‬وأتركها تتكلم كما تشاء ‪ ،‬وأفعل أنا بعيداً عن‬ ‫عينيها ماأشاء بحذر شديد حتى التصل إليها ولو ذرة من حرف‬ ‫جامح من هنا أو من هناك ‪ ،‬ثم بعدما صرت صاحبا ً للكرسى‬ ‫صارت األسباب التى أتعلل بها لعدم مواجهتها مختلفة كل‬ ‫اإلختالف عن ذى قبل ‪ ،‬فهناك أعين راصدة لكل حركة تصدر‬ ‫منا ‪ ،‬ويمكن بسهولة أن تنتشر فى ربوع البلد وتسىء الى أوال‬ ‫‪ ،‬وقد تقلل من هيبتى ومن الصورة التى يجب أن ترانى العيون‬ ‫عليها ‪ ،‬خاصة أن مجتمعات كمجتمعاتنا يهمها جداً الشكل‬ ‫الخارجى والهيئة الظاهرة لألسرة ‪ ،‬أما مايجرى داخل الغرف‬ ‫المغلقة فال يهم فى شىء إال إذا تسربت الروائح العطنة‬ ‫وانتشرت وزكمت األنوف ‪ ،‬فلحظتها تكون الطامة الكبرى ‪،‬‬ ‫حيث تتأجج النيران وتشتعل بال هوادة وال فتور أياما عدة ‪،‬‬ ‫إلى أن تعود فتنطفىء مرة واحدة كأن لم يكن هناك شىء ‪،‬‬ ‫لذلك فمن أشد الذكاء حينما يتكهرب الجو وتغشى القلوب‬ ‫غاشية الغضب وتمأل األفاق حروف فضيحة ما هنا أو هناك‬ ‫فان أشد الذكاء أن يلتزم صاحبها الصمت ‪ ،‬يكتم مشاعره‬ ‫وآهاته وحروفه الباكية أو الغاضبة فى صدره إلى أن تمر‬ ‫الريح العاصفة ‪ ،‬بعدها يعود إلى طبيعته وطبيعة عالقته بمن‬ ‫حوله ‪ ،‬كأنما لم يحدث شىء ‪ ،‬إال منصب صاحب الكرسى‬ ‫الكبير لسبب بسيط جداً ‪ ،‬أال وهو تربص الجميع به ‪ ،‬فمن‬ ‫‪130‬‬


‫العار وأنا أعى هذا جيدا أن أترك لهؤالء فرصة التوغل إلى‬ ‫حجرات بيتى ‪ ،‬واإلنصات إلى حروف زوجتى الصاخبة التى‬ ‫التعرف الهدوء مهما تكبدت من ألم تحملها والتعايش مع‬ ‫حروفها ‪ ،‬وهذا اليعنى بحال أن كل تصرفاتها التطاق ‪ ،‬فهى‬ ‫والحق يقال حينما تكون راضية النفس تمأل البيت راحة‬ ‫وسكينة وودا ً مقيما ً ‪ ،‬تمأل السماحة البيضاء وجهها ‪ ،‬وتنثر‬ ‫عيناها البسمات ‪ ،‬وتتطاير حولها الحروف بأجنحة الرضاء‬ ‫والسرور‪.‬‬ ‫المشكلة كلها تقع حينما تمسك عليك خطأ ما ‪ ،‬فهنا لن تتركك‬ ‫دون تأنيب ولوم وعتاب وتوبيخ وماإلى هذا من مسميات ‪،‬‬ ‫وآخر مرة تم معى هذا بعدما عدت من مدينة العيون ونجوت‬ ‫من اإلعتقال ‪ ،‬بعدها ظلت أياما تهاجمنى لعفوى عن السيد‬ ‫سليمان والمتولى ‪ ،‬وتكرر أنه كان يجب معاقبتهما باإلعدام‬ ‫فورا ً ‪ ،‬قائلة أنه مادامت نيتهما كانت إعدامك فكان يجب عليك‬ ‫الرد بمثل مافكرا فيه ‪ ،‬أما هذا التراخى فلن تجنى منه إال الندم‬ ‫والحسرة !‬ ‫وأيضا حينما تريد شيئا فأمامى أمران ‪ ،‬أما أن البى طلبها‬ ‫فورا أو تصبح الحياة جحيما ً ‪ ،‬وهى للحقيقة أيضا التعرف حداً‬ ‫للغضب ‪ ،‬وال تقف عند لحظة للتراجع أو اإلستسالم وقانونها‬ ‫األزلى ‪..‬أما أن أنفذ ماأريد أو الجحيم ‪!.‬‬ ‫وقد كان كل هذا مقبوال إلى أن أوحت إلى بتوريث مسعود بعدى‬ ‫كصاحب للكرسى العالى حتى ال يخرج األمر عن عائلتنا بحال ‪،‬‬ ‫وألسباب كثيرة أعتقد أننى ذكرتها قبالً وللحقيقة أيضا وألننى‬ ‫رأيت أسبابها منطقية فقد بدأت فى اإلعداد لهذا األمر ‪ ،‬إلى أن‬ ‫حدث ماحدث فى مدينة العيون ‪ ،‬هناك تغيرت أفكارى ورؤاى‬ ‫بصورة كبيرة ‪ ،‬رأيت حقيقة أخرى غير التى كنت أظننى‬

‫‪131‬‬


‫أعرفها ‪ ،‬حقيقة أخرى واضحة وضوح الشمس تقول لى‬ ‫‪..‬انظر وتدبر إذا كنت تريد النجاة ‪.‬‬ ‫رأيتنى أحمل مسئولية أمام نفسى أوال ‪ ،‬وثانيا ً أمام أجيال‬ ‫كثيرة قادمة ‪ ،‬فقد انتبهت لسلوكيات غريبة عن عرف الشعب‬ ‫وتاريخه وحياته طوال سنوات عمر البلد ‪ ،‬سلوكيات اكتسبها‬ ‫من أطراف شتى وبرع فيها ‪ ،‬هذه السلوكيات المشينة هى‬ ‫الشىء الوحيد الذى برع فيه طوال سنواته األخيرة وتفوق فيه‬ ‫بالحدود ‪.‬‬ ‫وانتبهت إلى أنه لو ترك هكذا سينحدر أكثر إلى درك اليعلم إال‬ ‫هللا مداه ‪ ،‬العدوانية صارت سمة رئيسية من سماته ‪،‬‬ ‫والالمباالة ‪ ،‬وغياب الضمير وسيطرة النفاق و‪..‬ماذا أقول‬ ‫أكثر ؟‬ ‫لذلك كانت مهمتى التى نذرت روحى لها هى البدء فى تغيير‬ ‫كثير من هذه السلوكيات ‪ ،‬وإعادة الضبط والربط ليعود‬ ‫الشعب كما كان منذ قديم ‪ ،‬شعبا ً له موقفه وأراءه وتفكيره‬ ‫الذى يتسم بالعقل والحكمة واإلباء والشرف والكرامة ‪.‬‬ ‫وضعت خطتى على أساس هذا ‪ ،‬وجعلت من مسعود مشرفا ً‬ ‫على التنفيذ حتى يكون مؤهالً للتحكم فى زمام األمور من بعدى‬ ‫‪ ،‬إال أنها‪ -‬حفصة زوجتى ‪ -‬قد فاجئتنى بقرار جديد لم‬ ‫يخطر لى على بال من قبل ‪ ،‬فقد كنا فى لحظة صفاء نطل من‬ ‫شرفة القصر على إلتقاء نور البدر مع السكينة المترامية فى‬ ‫براح الخضرة ‪ ،‬وألق الصفاء يضمنا وخرير ماء يتدفق حانيا‬ ‫من نافورة فى مكان ما بقربنا حينما شق صوتها كل سكون‬ ‫الكون هاتفا ً ‪-:‬‬ ‫‪ -‬أتعرف أننى لم أعد أتحمس لمسعود ؟‬

‫‪132‬‬


‫كنا قد انتهينا منذ لحظات من لقائنا الزوجى ‪ ،‬ورمتنى كعادتها‬ ‫بكلمات غامزة المزة حول قدرتى التى لم تعد كما كانت رغم‬ ‫األدوية التى أتناولها سراً من وراءها ‪ ،‬شعرت بقلق خفى‬ ‫تجاوزته فورا قائالً ‪-:‬‬ ‫ كيف ؟‬‫ الولد يلهو ويلعب ‪ ،‬واليضع األمور فى نصابها‬‫ مازلت ال أفهم‬‫ الولد هكذا لو تسلم الكرسى غدا ً سيخلعونه بعد الغد‬‫ المهمة التى كلفته بها ستمنحه الفرصة للنضوج وتحمل‬‫المسئولية‬ ‫ منذ كلفته بها لم يفعل شيئا ً‬‫تقريرا عما يتم أوال بأول‬ ‫ سوف أزجره وأطلب منه‬‫ً‬ ‫ لدى فكرة أفضل حتى التغرق السفينة بكامل ركابها‬‫ وماهى ؟‬‫ زوج ابنتنا عادل إنسان عاقل ورزين ويتحمل المسئولية ‪،‬‬‫وفوق هذا فهو أصيل لن ينقلب علينا أبدا‪ ،‬ثم أنه ليس من‬ ‫عائلتنا وهذه ميزة ‪ ،‬حتى اليقال أنك قد أورثت ولدك الكرسى‬ ‫رغما ً عن أنف الناس‬ ‫ وولدك؟‬‫ ولدى سيكون نائبا ً له ‪ ،‬ومتى نضج واستحق أن يوكل اليه‬‫األمر تنازل له عنه‬ ‫‪133‬‬


‫ هكذا ‪ ،‬بكل بساطة ؟‬‫ هناك عقد سيكتب وشروط ستوضع‬‫ أى شروط؟‬‫ أن يحافظ على العائلة ‪ ،‬واليسمح بالمساس بها من قريب أو‬‫بعيد ‪ ،‬ويؤمن أموالها ومستقبلها وأفرادها‬ ‫ وإذا كتب العقود ووافق على الشروط وحينما اعتلى الكرسى‬‫ضرب بكل هذا عرض الحائط ‪ ،‬فماذا ستفعلين ؟‬ ‫ عادل !!؟؟ مستحيل‬‫ كيف؟‬‫ أنا أعرفه جيدا ‪ ،‬سر ورائى ولن تندم‬‫ فى الخطأ ؟‬‫ تذكر أنك سرت ورائى كثيرا ولم تعرف الندم قط‬‫تذكرت ال أعرف لماذا ‪ -‬جلدها الذى جف ماءه وراحت‬ ‫نضارته وسألت نفسى ‪ ،‬لماذا سار عقلها عكسه فهى كلما‬ ‫كبرت ازداد عقلها توهجا ونضارة ؟‬ ‫وحدقت فى الليل المتسارع الخطى على كأل األرض ‪ ،‬وهيكله‬ ‫المتسيد األرجاء بظلمة روحه وعنفوان سواده ‪ ،‬ورأيتنى أسير‬ ‫مبتعدا ً عنها ‪ ،‬شاعرا ً أن اإلفالت من براثن حروفها اآلن أولى‬ ‫من مواجهة أنا فى غنى عنها خاصة اآلن ‪.‬‬ ‫لكنها لم تستلم للهزيمة كما لم تعرف التسليم فى حواريخصنا‬ ‫قط ‪ ،‬لحقت بى إلى الفراش جاثمة عليه بكل ثقلها ‪ ،‬وألنه‬ ‫‪134‬‬


‫محدود واليمنح فرصة لإلفالت فقد ألقت بلسانها داخل أذنى‬ ‫واثقة من تمكنها منها لتكمل الحديث ‪ ،‬تشرح الفائدة المرجوة‬ ‫واألمال المعقودة والمستوى الذى اليليق بحال أن تتنازل عنه‬ ‫مهما كانت األسباب ‪ ،‬لم أستطع التحمل أكثر من هذا ‪ ،‬رفعت‬ ‫عينى إلى وجهها المحشو لحافته بالفكرة السوداء صارخا ً ‪-:‬‬ ‫ارجوك ‪ ،‬كفى‬‫قالت بهدوء متنمر ‪ -:‬ستفكر فى الموضوع ؟‬ ‫قلت ‪ -:‬مؤكد سأفعل‬ ‫واستدرت عنها ‪ ،‬لم تبال بى‬ ‫أدارت ظهرها هامسة بارتياح ‪ -:‬تصبح على خير‬

‫(‪ )19‬بداية النهاية‬

‫أن تتزوج امرأة فهذا خير ‪ ،‬هذا فقط إذا كنت روتينيا ً تعيش‬ ‫عبدا ً لعاداتك ورغباتك ‪ ،‬واليمكنك مقاومة إحساسك إنك رجل ‪،‬‬ ‫وإقتناعك أن الرجل يحتاج طول الوقت ألنثى مهما كانت‬ ‫عيوبها ‪ ،‬ومهما كان ماستجره عليك عالقتك الحميمة بها من‬ ‫‪135‬‬


‫قلق ومشكالت كنت فى غنى عنها وأنت فراشة خفيفة‬ ‫الجناحين ‪ ،‬تطلق غناءها الرشيق وهى تدور من زهرة الى‬ ‫أخرى ‪ ،‬متنسمة عبير الحرية ‪ ،‬وروعة التنقل ‪ ،‬وبهاء إختيار‬ ‫القرب والبعد حسبما تشاء ‪ ،‬أما إذا وقعت بين براثن زهرة من‬ ‫هؤالء فأول ماتفعله تخلع قناع الرقة ‪ ،‬وترمى حروف الكلمات‬ ‫الناعمة ‪ ،‬وتظهر حقيقتها جلية واضحة اللبس فيها والخفاء ‪،‬‬ ‫وتنشب أظفارها فى عنقك وتقتلع جناحيك إقتالعا لتضمن‬ ‫عجزك التام عن الطيران إلى زهرة أخرى ‪ ،‬أو إذا فكرت فى‬ ‫الطيران فتضمن أن ليس لديك مايغرى اآلخرى ‪ -‬أى آخرى ‪-‬‬ ‫باإلستيالء عليك ‪ ،‬وتلك هى المشكلة األزليه مشكلة اإلستيالء‬ ‫والتمكن بين الرجل والمرأة منذ بدء الخليقة ‪ ،‬الرجل يريد أن‬ ‫يحتفظ مدى الدهر بجناحيه ويتمنى لو استنشق عبير الزهور‬ ‫متنقال من زهرة ألخرى فى راحة وانسجام ‪ ،‬والمرأة التقبل‬ ‫شريكا ً فى رجلها ‪ ،‬فما أن تطأ قدماه عتبة حجرة النوم راغبا ً‬ ‫حتى تبدأ هى التفكير متحفزة فى كيفية اإلستيالء عليه ورفع‬ ‫رايتها عالية خفاقة على رأسه‬ ‫ورغم وعى الرجال أو معظمهم بهذا إال أنهم فى الغالب ونتيجة‬ ‫لظروف عديدة منها اإلقتصادية كالحاجة والعوز ‪ ،‬ومنها‬ ‫إجتماعية ككثرة العيال ‪ ،‬وفى هذا هناك أمثال عديدة تقال ‪،‬‬ ‫منها‪-:‬‬ ‫يغلبك بالمال ‪ ،‬اغلبيه بالعيال‬ ‫وعادة حينما تتحكم المرأة فى الرجل تتحكم ألسباب عديدة‬ ‫تتفنن فى إختراعها ‪ ،‬منها ضعف شخصيته أمامها لفقره أو‬ ‫ربما سذاجته أو حبه لها ‪ ،‬وربما لحاجته إلى جسدها وتمنعها‬ ‫عليه إال وفق شروطها ‪ ،‬ورغم كل هذه المشكالت يظل الزواج‬ ‫قائما ً ‪ ،‬ويزداد المتزوجون فى العدد ‪ ،‬وتبقى حرية الرجل‬ ‫رهن مشاعره وقدرته على التحكم فى رغباته ‪ ،‬ورفضه بيع‬ ‫‪136‬‬


‫حريته مهما كان الثمن ‪ ،‬ومهما كانت المغريات ‪ ،‬وهى عادة‬ ‫رغباته الفطرية واحتياجه لجسد المرأة وأحضانها ‪.‬‬ ‫وال أكذب إذا قلت أننى أعى منذ قديم هذا تماما ورغم هذا‬ ‫وقعت ولم أستطع القيام أو حتى التمرد على سيطرتها وقوة‬ ‫نفوذها فى البيت ‪.‬‬ ‫ليس لقوة شخصيتها وضعفى ‪.‬‬ ‫على فى الفراش ‪.‬‬ ‫وليس لتمنعها‬ ‫ً‬ ‫وليس لقوة وجاه أهلها أو ‪..‬أو ‪..‬ولكن للسانها !‬ ‫نعم ‪ ،‬فلسانها قد استطاع وحده إخضاعى وإجبارى على‬ ‫الصمت أمامها ‪.‬‬ ‫ليس لقدرتها على اإلقناع‬ ‫وليس لبالغتها فى الحديث‪.‬‬ ‫ولكن لقدرتها الفائقة على الكالم بقوة ودون انقطاع لساعات‬ ‫طويلة ‪ ،‬وبال وهن أو خوار ‪ ،‬فهى متى أرادت شيئا وبدأت‬ ‫الكالم واستولت على أذنى وصبت فيها حروفها فلن تنطفىء‬ ‫نارها إال وأنا أصرخ فيها ‪- :‬‬ ‫‪-‬‬

‫كفى ‪ ،‬اصمتى‬

‫فترمينى بسواد حدقيتها متسائلة ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫وتفعل ماأريد ؟‬

‫أقول منهيا ً الحوارألسكتها بأى شكل وبأى لون ‪-:‬‬

‫‪137‬‬


‫ لم أعد أتحمل المزيد من حروفك الطفيلية المتسلقة التى‬‫تنسل كالدود الى رأسى لتحرق تالفيفها ‪.‬‬ ‫وطبعا التأبه لكلماتى فى تلك الحالة ‪ ،‬بل تعاود السؤال ‪-:‬‬ ‫‬‫‪-‬‬

‫ستفعل ؟‬ ‫سأفعل ‪ ،‬اصمتى‬

‫فتعطينى ظهرها فى هدوء ‪ ،‬ويهدأ الضجيج تاركا ً فراغا ً‬ ‫كالصفير فى أذنى الينتهى إال بعد حين ‪ ،‬ونتيجة إلدراكى التام‬ ‫لطبيعة العالقة بيننا فقد توقفت طويالً أمام اقتراحها بتبديل‬ ‫األدوار بين مسعود وعادل زوج سعاد ‪ ،‬ورغم تخوفى وحذرى‬ ‫من عادل إال أنى لم أستطع إغفال رأيها ‪ ،‬ليس لوجاهته ولكن‬ ‫حذرا من وقوعى تحت طائلة لسانها ‪ ،‬لذا أمرت بانعقاد اللجنة‬ ‫الخاصة بالمتابعة والتى أمرت بتشكيلها لمناقشة وتنفيذ‬ ‫المقترحات التى تقدمت بها إلى الحكومة طالبا ً سرعة السير فى‬ ‫تنفيذها فورا ً ‪ ،‬ووضعت أسماء أعضائها ‪ ،‬وعلى رأسهم‬ ‫بطبيعة الحال مسعود كمشرف ومسئول عن التنفيذ ‪ ،‬ونظرا‬ ‫لتغير موقفى من رئاسته لهذه اللجنة فقد أمرت بانعقادها وانا‬ ‫أحاول قبل هذا اإلنعقاد أن أجد منفذاً أنفذ منه للهرب من توليه‬ ‫عادل هذه للحكم ‪ ،‬وماسوف تجره على من ويالت ‪ ،‬فأنا‬ ‫أدرك جيدًا أننى متى سلمته الكرسى فسوف أكون أول من‬ ‫ينقلب عليه ويهاجمه بشراسة ويطلق ذئابه للنهش فيه بال‬ ‫رحمة ‪ ،‬لكنى فى ذات الوقت ال أمتلك المقدرة على األقل حاليا ً‬ ‫للمغامرة بدفع مسعود لواجهة الصورة وهو راغب عنها وغير‬ ‫مستعد لتحمل تبعاتها ‪ ،‬وفى ذات الوقت أتقى شر لسان حفصة‪،‬‬ ‫وماسوف يفعله لتعكير حياتى إلى أن أرضخ لطلبها ‪ ،‬لذا‬ ‫طلبت إنعقاد اللجنة وتفكيرى اليتوقف كيف أخرج من هذه‬ ‫المعضلة ‪.‬‬

‫‪138‬‬


‫جاءتنى كالمعتاد تقارير المخابرات عن الحالة األمنية ونبض‬ ‫الشارع واألفكار المتداولة بين الناس وأقوال الصحف ووكاالت‬ ‫األنباء وماإليها ‪ ،‬وهى عادة ماتكون صادقة ودقيقة تبعا‬ ‫للجهة التى تقدمها ‪.‬‬ ‫فى استرخاء وبنظرات شاردة مددت يدى أللقى عليها نظرة‬ ‫كالعادة كى أحيلها الى اللجنة المنوط بها اإلطالع عليها وتوجيه‬ ‫مؤسسات الدوله على ضوء مافيها ‪ ،‬لكننى بمجرد إلقاء نظرة‬ ‫أولى على الكلمات رأيتنى اعتدل وأمعن النظر فى التقرير‬ ‫متابعا فى جد ماهناك ‪-:‬‬ ‫أوال‪ -‬الحالة االمنية ‪-:‬‬ ‫األمن بشكل عام هادىء ومستقر ‪ ،‬توجد احتجاجات قليلة غير‬ ‫مؤثرة هنا وهناك ‪ ،‬مع وجود مناقشات ومعارك جدلية كبيرة‬ ‫بخصوص اإلصالحات المزمع تنفيذها فى مجال التعليم ‪.‬‬ ‫الرأى السائد بين الناس أن هدف السلطات هو الربح بمزيد من‬ ‫الرسوم بحجة التطوير وقطع عيش مدرسى الدروس‬ ‫الخصوصية تمهيدا الستيالء الدولة على األرباح بدالً منهم ‪،‬‬ ‫أى أن الصراع بين حيتان تريد التهام الخيرات بعيداً عن‬ ‫الشعب ومصالحه‪.‬‬ ‫ثانيا ً ‪ -‬بالنسبة لإلعالم "‪-‬‬ ‫يقال أن الهدف هو توجيهها لصالح الحاكم الذى يعتلى‬ ‫الكرسى فقط ‪ ،‬وصالح فكرة التوريث التى يمهد لها بتكليف‬ ‫ابنه بمهام كبيرة فوق طاقته وقدراته ‪ ،‬من أجل دفعه العتالء‬ ‫الكرسى بعد أبيه ‪.‬‬ ‫أخذت أكمل القراءة ‪ ،‬وكلما توغلت فى غابة السطور أشعر‬ ‫باختناق يملك صدرى ويضغط روحى وأنا أرى كل مافكرت فيه‬ ‫‪139‬‬


‫يراه الناس على عكس أفكارى تماما ً ‪ ،‬بل وضدها على طول‬ ‫الخط ‪ ،‬طبعا إذا نحينا فكرة التوريث جانبا ً ‪ ،‬المشكلة لم تعد‬ ‫تداول أفكار بين الناس ‪ ،‬وال هو جدل مباح ومعارك فكرية لها‬ ‫‪ ،‬ونخرج منها بمحصلة وبرنامج عمل ‪ ،‬لكنها‬ ‫نتاج‬ ‫صارت عدم ثقة ونظرة شك كبرى فى كل ماأقول وأفعل ‪،‬‬ ‫وبطبيعة الحال إذا دخل الشك من الشباك خرج األمن والسالم‬ ‫من الباب ‪!.‬‬ ‫عدت للسطور األخيرة فى التقرير‪-:‬‬ ‫ توجد حاالت اعتصام فى الميدان الكبير ‪ ،‬عددها صغير‬‫اليتعدى أصابع اليد الواحدة ‪ ،‬وهم يرفعون شعارات منها ‪-:‬‬ ‫كفى ‪ ،‬ال للتوريث ‪.‬‬ ‫بكل ماأمتلك من حنق وضيق من هذا الغباء الشعبى المستحكم‬ ‫أمسكت القلم مؤشرا بجوار العبارة األخيرة الخاصة‬ ‫بالمعتصمين وكتبت‪( ......‬حمقى !!)‬ ‫و أمرت بمحاصرتهم والقبض عليهم ‪ ،‬ثم التحقيق معهم بتهمة‬ ‫الشغب والتسبب فى اضطراب األمن العام‪.‬‬

‫(‪ )20‬تأجج النيران‬

‫هل أقسم على نقاء ماأضمرت لهؤالء الناس ؟‬ ‫وماجدوى القسم اآلن ؟‬ ‫‪140‬‬


‫الطريق إلى جهنم كما يقولون يبدأ بالنوايا الحسنة‬ ‫ثم أن الفكرة عنك ‪ -‬وهذا هو األساس ‪ -‬تسبق كل ماتقدمه‬ ‫وكل ماتفكر فى تقديمه‪ ،‬ماداموا ينظرون إليك على أنك شيطان‬ ‫مريد فمهما قلت لن تمتلك المقدرة على تغيير فكرتهم ‪ ،‬وكل‬ ‫فعل تقوم به سيتم تفسيره على أساس الفكرة المسبقة عنك ‪،‬‬ ‫هذا ماأدركته اآلن ‪ ،‬واآلن فقط وأنا أجلس متفرغا ً السترجاع‬ ‫األحداث وترتيبها وبحث أسبابها ونتائجها ‪ ،‬وسألت نفسى‬ ‫مرارا ً وتكراراً‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫هل ماحدث كان سببه تقصير من األجهزة المعنية ‪ ،‬أم‬ ‫إرادة عليا التمتلك معها اإلرادة البشرية إال التسليم ؟‬

‫أرى اآلن وأثق أنه لم يكن هناك تقصير ‪ ،‬ولم تكن الظروف‬ ‫المحيطة تشى بشىء غير متوقع ‪ ،‬خاصة أن األجهزة األمنية‬ ‫كانت تسيطرعلى الموقف تماما ً ‪ ،‬وتتابع مايدور فى الخفاء‬ ‫هنا وهناك بقصد اإلثارة والفوضى وضرب النظام ‪ ،‬وكنت‬ ‫أرى من خالل التقارير والملفات والمتابعة الشخصية أيضاأن‬ ‫األمر لن يخرج عن مظاهرات يومية ‪ ،‬يمكن تجاوزها بإعطاء‬ ‫منحة للشعب ‪ ،‬أو شغله بأمر من األمور التى تجيد الجهات‬ ‫المختصة افتعالها وتشغل بها الرأى العام شهوراً وليس أياما ‪،‬‬ ‫لكننى فوجئت – حقيقة ‪ -‬أن األحداث تسارعت بشكل غير‬ ‫مسبوق بعد هذا اللقاء الذى تحدثت عنه منذ قليل ‪ ،‬فبعد‬ ‫ساعات قليلة وأنا أجلس فى استراحة خاصة بعيدا ً عن‬ ‫ضوضاء الحكم وإزعاج المسئوليات وربكة التقارير والملفات‬ ‫منغمسا ً فى لحظات ترف تنشط القلب وتبعث فى الروح نسائم‬ ‫الشباب وأريج السرور مع لوليتا جديدة بعيدا ً عن حفصة‬ ‫ولسانها جاءنى من همس فى أذنى أن هناك تجمعات جديدة فى‬ ‫الميدان الكبير‪ ،‬لكنها هذه المرة تطالب بإطالق صراح‬ ‫المعتقلين ‪ ،‬وأن هذه المظاهرات يقودها تلك المجموعة التى‬ ‫‪141‬‬


‫إلتقيت بها فى القصر ‪ ،‬وتحدثت إليها واحتفلت بقدرتى على‬ ‫إقناعها بوجهة نظرى ‪ ،‬ووعدهم لى بالوقوف إلى جوارى فى‬ ‫تحقيق األهداف التى أحاول تحقيقها ‪.‬‬ ‫أنشب الغضب أنيابه فى صدرى ‪ ،‬أمرت فوراً بتوجه القوات‬ ‫إليهم ‪ ،‬وإجالئهم عن الميدان بالقوة لو لزم ‪ ،‬وتركت‬ ‫اإلستراحة متجها إلى مقر القيادة لمتابعة األمر ‪ ،‬كان قائد‬ ‫القوات الرماح بجوارى يهون من األمر قائال ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫الموضوع أقل من أن يشغل بالك ‪ ،‬فهؤالء مجموعة‬ ‫مغيبة استغلها الموتورون لتحقيق أغراضهم ‪ ،‬و هذا‬ ‫الشعب من نوعية خاصة يسهل قيادها والتحكم فى‬ ‫حركتها كما تعرف ‪ ،‬ولكنهم سرعان مايفيقون ويعودون‬ ‫لرشدهم ‪،‬وال خوف منهم بالمرة ‪.‬‬

‫وضحك وهو يكمل‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫جندي واحد يافندم يمكنه السيطرة على الميدان وإخالئه‬ ‫‪ ،‬بل والقبض على العشرات ‪ ،‬ولن يستطيع أى منهم أن‬ ‫يفكر فى مقاومة أو حتى هرب خشية العقاب‬

‫حدقت فى عينيه السوداوين وهو يتكلم ‪ ،‬فيهما رغم خشونة‬ ‫العسكرية التى يحاول التحلى بها نوع من الطيبة يشدك إليه ‪،‬‬ ‫سيماه تفيض بنقاء قلب وصفاء روح ‪ ،‬عكس المطلوب فى‬ ‫الجندى بصفة عامة ‪ ،‬وفى القائد بصفة خاصة‪ .‬راودتنى للتو‬ ‫فكرة رأيت أنها يمكن أن تتحقق ببعض اإلعداد الجيد والترتيب‬ ‫الصحيح ‪ ،‬لكننى أرجأتها لحين اإلنتهاء من هذه المشاغبات‬ ‫التى يقوم بها هؤالء الشباب ‪.‬‬ ‫عدت إلى الشاشة المجهزة لهذا الغرض فى غرفة القيادة‬ ‫لمراقبة الوضع فى الميدان ‪ ،‬حدقت للحظة محاوالً استيعاب‬ ‫‪142‬‬


‫األمر وارتعدت ‪ ،‬اتسعت عيناى لدهشة عارمة اكتست روحى‬ ‫وأنا أرى الميدان يضج باألالف وهم يهتفون ضد الحكومة‬ ‫مطالبين باإلفراج الفورى عن المعتقلين األبرياء الذين تم‬ ‫تلفيق التهم لهم ‪ ،‬ومحاسبة كل من تسبب فى سجنهم بال ذنب‬ ‫جنوه ‪.‬‬ ‫عدت حامالً عالئم الدهشة جلية على وجهى إلى الرماح قائد‬ ‫القوات بجوارى متسائالً ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫كيف تجمعت كل هذه األعداد ‪ ،‬ومتى قاموا بكتابة هذه‬ ‫الالفتات ‪ ،‬وأعدوا هذه الهتافات ‪ ،‬ومن الذى يقودهم‬ ‫بالضبط ؟‬

‫كان الرجل ثابت الجنان ‪ ،‬ينظر هادىء العينين كأنما ليست‬ ‫هناك مشكلة بالمرة تمأل روحى قلقا‪ ،‬تحرك من مكانه ليقف‬ ‫فى مواجهتى ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫أرى أن نحتوى الموقف فوراً‬

‫‪-‬‬

‫كيف ؟‬

‫‪-‬‬

‫اإلفراج أوال عن المعتقلين‬

‫‪-‬‬

‫تقصد األوالد العمالء ؟‬

‫‪-‬‬

‫على أن يكونوا تحت أعيننا‬

‫‪-‬‬

‫ثم ؟‬

‫‪-‬‬

‫تسارع بإلقاء خطاب للتهدئة حتى التنضم اليهم أعداد‬ ‫أخرى يصعب التعامل معها ‪ ،‬أما بخصوص هؤالء‬ ‫المتظاهرين فسوف أكلف من يتوجه اليهم ‪ ،‬يندس بينهم‬ ‫يعرف توجهاتهم ‪ ،‬ومن يقودهم ‪ ،‬وفى ذات الوقت‬ ‫‪143‬‬


‫سأضرب حصارا ً على الميدان حتى أتمكن من السيطرة‬ ‫على الموقف معلنا ً أن من يريد اإلنصراف الغبار عليه ‪،‬‬ ‫وأمنع فى ذات الوقت إنضمام أعداد أخرى اليهم‬ ‫قلت بألية ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫موافق‬

‫وتركته إلى حيث أمرت بإعداد خطاب فورا ً إللقاءه عليهم ‪،‬‬ ‫وعدت إلى البيت لتغيير مالبسى ‪ ،‬قابلتنى حفصة بوجه مرتعد‬ ‫ونظرات زائغة ولسان اليعرف الصمت‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫أرأيت حجم المؤامرة ؟‬

‫‪-‬‬

‫دعينى اآلن ؟‬

‫‪-‬‬

‫مابك ‪ ،‬هل أنت نائم أم مغيب أم الترى؟‬

‫‪-‬‬

‫سنتصرف معهم ‪ ،‬القلق هناك‬

‫‪-‬‬

‫بل منتهى القلق ‪ ،‬هى مجموعة حاقدة استطاعت التأثير‬ ‫على السذج واألغبياء وقادتهم إلى الميدان إلحداث‬ ‫فوضى عارمة ‪ ،‬يريدون إزاحتك من مكانك ‪ ،‬إياك‬ ‫والرضوخ لمطالبهم‪ ،‬هؤالء اليصلح معهم إال الكرباج‬

‫تركتها إلى حجرتى الرتداء المالبس الرسمية إستعدادا للوقوف‬ ‫أمام الكاميرات إللقاء الخطاب ‪ ،‬جاء المساعدون ومعهم‬ ‫الديباجة المطلوبة لعرضها على وأخذ رأيى ‪ ،‬مدت يدها‬ ‫وأخذتها منهم وجلست تقرأها ‪ ،‬هبت كالريح قادمة نحوى ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫هل جننت لتتنازل بهذه الطريقة‬

‫‪-‬‬

‫كيف ؟‬ ‫‪144‬‬


‫انظر وتأمل‬‫ورفعت الورقة وقرأت منها‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫إننى هنا ألخدمكم وأكون رهن إشارتكم ‪ ،‬ولن أفعل إال‬ ‫مايكون فى صالحكم‪.‬‬

‫ثم رفعت رأسها إلى صارخة ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫هل الرضوخ صار عادة فيك ؟ أين العزيمة التى كانت‬ ‫تميزصوتك ‪ ،‬والدهاء الذى كان يتأجج فى عينيك ؟‬

‫مددت يدى واختطفت الخطاب من يدها مهروالً إلى الباب ‪،‬‬ ‫هاربا ً من بقايا كلمات مؤكد تريد إفراغها فوق رأسى كعادتها‬ ‫‪ ،‬سألت وأنا فى الطريق عن آخر مستجدات الموقف ‪ ،‬وطلبت‬ ‫فورا ً تقريرا ً بمطالب وأهداف المتظاهرين ‪.‬‬ ‫قيل ‪-:‬‬ ‫‪،‬‬ ‫ األعداد تزداد رغم اإلحتياطات واإلجراءات المتخذه‬‫والقوات تتحاشى اإلحتكاك بهم حتى التحدث أشياء نحن فى‬ ‫غنى عنها ‪.‬‬ ‫انتقلت إلى القاعة الرئيسية إستعدادا ً إللقاء البيان ‪ ،‬حاولت‬ ‫جاهدا التحكم فى نبرات صوتى وتعبيرات مالمحى حتى اليبدو‬ ‫الغضب المتأجج فى وجدانى لألعين الراصدة ‪ ،‬هو حقيقة لم‬ ‫يكن خوفا ً بالمرة ‪ ،‬فالخوف أمر ال أحسن التعامل معه وال‬ ‫أستسيغ الحديث عنه ‪ ،‬وأدرك جيدًا أن السيطرة على النفس‬ ‫كلما تأزمت األمور أسهل وسيلة للنجاح ‪ ،‬وأقرب طريق‬ ‫للوصول إليه ‪ ،‬أضيئت األنوار وركزت الكاميرات فوهاتها على‬ ‫وجهى ‪ ،‬وخيم الصمت على المكان ‪ ،‬وأنا أعرف وأثق أن‬

‫‪145‬‬


‫الجميع ينتظر كلماتى تلك ‪ ،‬وماسوف أقوله فيها ‪ ،‬توجهت‬ ‫بعينى إلى األمام فى هدوء واثق قائالً ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫من أجل الحفظ على كل فرد فيكم نبذل الجهد ‪ ،‬وال نبخل‬ ‫بالدماء ‪ ،‬حقوقكم علينا محفوظة ‪ ،‬وأمانة العهد مصانة‬ ‫‪ ،‬واليمكن أن نفرط فىها أبداً ومهما كانت األسباب ‪،‬‬ ‫وبخصوص مطالبكم فقد تم تنفيذها فوراً القتناعنا أنكم‬ ‫مصدر السطات وبيدكم األمر والنهى ‪.‬‬

‫وأخذت أعدد االنجازات التى تمت ‪ ،‬والجهد المبذول فيها ‪،‬‬ ‫والمشاريع التى نعمل على تنفيذها ‪ ،‬وأخيرا ختمت بيانى بآية‬ ‫من الكتاب المقدس حرصت أن تكون مناسبة للموقف ‪،‬‬ ‫واستدرت إلى القاعة باحثا عن رجال األمن والمخابرات‬ ‫لسرعة إرسال تقارير بردود األفعال فى قلب الميدان ‪.‬‬ ‫فى طريقى للمتابعة من الشاشة العمالقة فى قاعة المتابعة‬ ‫المركزية فكرت أن أحول مالمحى لصورة أخرى وأتجه إلى‬ ‫الطريق الستكشاف األمر بنفسى ‪ ،‬إال أنى خشيت من التعرض‬ ‫لموقف قد يؤذينى ‪ ،‬خاصة فى حالة الفوضى المتفشية فى‬ ‫البالد اآلن ‪.‬‬ ‫عدت إلى البيت لمراجعة بعض األوراق الخاصة التى احتفظ بها‬ ‫فى خزينتى الخاصة ‪ ،‬بعدها أعود لغرفة المتابعة من جديد ‪،‬‬ ‫قابلتنى زوجتى حاملة أطنانا ً من العبوس فوق سواد مالمحها‬ ‫‪-‬‬

‫ماهذا الذى فعلته ؟‬

‫أشحت بيدى دون أن أبالى بالرد متجها ً إلى غرفتى ‪ ،‬هرولت‬ ‫خلفى صارخة ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫أال تسمعنى؟‬ ‫‪146‬‬


‫‪-‬‬

‫ال أريد الرد اآلن ‪،‬ولن أرد‬

‫‪-‬‬

‫ستدمر كل شىء‬

‫‪-‬‬

‫الأريدك هنا ‪ ،‬اخرجى فورا ً واتركينى وحدى‬

‫زفرت أطنانا ً من الهواء الفاسد عكرت به جو الغرفة ‪ ،‬وألقت‬ ‫بكلمات لها رائحة عطنة ‪ ،‬وغادرت المكان إلى حيث ابتلعتها‬ ‫الظلمة ‪ ،‬دثرت عينى بأستار جفونى ‪ ،‬وغصت لقمة رأسى‬ ‫فى وديان فكر عميق فيما يجرى ‪ ،‬وكيف يجرى ‪ ،‬ومن خلفه‬ ‫‪ ،‬والمستفيد منه ‪،‬وهدفه ‪.‬‬ ‫المؤكد أن الناس عندنا لديها مايتعبها ويثير حنقها ‪ ،‬ولكنها‬ ‫عادة تتكلم وتشكو وتتذمر وينتهى األمر عند هذا ‪ ،‬أما أن‬ ‫تقاوم وتعتصم وتتحدى وتنذر وتطالب بأمور جماعية محددة ‪،‬‬ ‫منذرة إن لم تنفذ مطالبها بالتصعيد ‪ ،‬فهذا ماليس من شيمهم‬ ‫أبدا ً ‪ .‬هم ينظرون إلى الحاكم فى كل أحواله بعين اإلكبار ‪،‬‬ ‫وال يتورعون عن اإلنحناء أمامه والرضوخ له مهما كان‬ ‫ومهما كانت تصرفاته ‪ ،‬ربما هاجموه فى غرفهم المغلقة ‪ ،‬أو‬ ‫وصفوه بصفات قبيحة وسباب جارح على المقاهى وفى‬ ‫الحوانيت فى لحظات ضيق يفرجون فيها عن أنفسهم أمام الغير‬ ‫ويستريحون بعدها لظهورهم بمظاهر الجرأة والتحدى ‪ ،‬وبعدها‬ ‫ينتهى األمر عند هذا الحد ‪ ،‬أما أن يقفوا هكذا وتتجمع وفودهم‬ ‫وتتحد كلمتهم وتتحدد مطالبهم فهذا تخطيط خارجى ‪ ،‬ومؤامرة‬ ‫واردة ‪ ،‬وتخطيط له أهدافه التى البد أن أجهضها وأعمل‬ ‫للحليلولة دون تحقيقها ‪ ،‬مؤكد هؤالء األوالد الذين تدربوا على‬ ‫إحداث الفوضى ‪،‬وإفشاء التذمر ‪ ،‬والتأثير على الجموع من‬ ‫خالل تذكيرهم بمشاكلهم اليومية المعتادة هم السبب‪ ،‬فمنذ‬ ‫دهور ومشكلة الغالء التنتهى ‪ ،‬وكذلك الحديث عن الفساد‬ ‫وانتشار الرشوة والمحسوبية وماإلى هذا من أشياء يشكو منها‬ ‫‪147‬‬


‫الجميع ‪ ،‬ويقف األمر عند حد الشكوى اليزيد ‪ ،‬أما اآلن‬ ‫فالصوت يعلو ‪ ،‬والمثالب تتضخم ‪ ،‬والجموع تتكلم ‪ ،‬وكلها‬ ‫مطالبة بالتغيير ‪.‬‬ ‫المشكلة أن هؤالء البسطاء ‪ ،‬السذج‪ ،‬الطيبون ‪،‬أو قل عليهم‬ ‫ماشئت إذا توحدوا وضموا أيديهم إلى بعضها صاروا قوة‬ ‫اليقف أمامها شىء ‪.‬‬ ‫هذه الجموع حين تتوحد تصبح عمالقا ً كلمته تزلزل أعتى‬ ‫القوى وتدك أعتى الحصون ‪ ،‬واليمتلك كائن ماكان إال‬ ‫اإلنصياع لها ‪ ،‬وواضح ممن جمعهم ويثير فيهم الحمية‬ ‫للمواجهة أنه يدرك هذا ‪ ،‬ويضغط بهم على النظام إلسقاطه‬ ‫واإلستيالء على الحكم ‪ ،‬المشكلة أننى حتى اآلن ال أدرى هل‬ ‫هم هؤالء األوالد العمالء ‪ ،‬أم مجموعة أخرى لم تعلن عن‬ ‫نفسها بعد هى التى تقود هذا التذمر اآلن ‪.‬‬ ‫قمت متجها إلى الهاتف ‪ ،‬نقلت أفكارى لقائد القوات الرماح‬ ‫‪-:‬‬ ‫ هؤالء األوالد يمتلكون القدرة على إحداث الفوضى كما‬‫ظهر جليا ً ‪ ،‬ماهى خطتهم التالية ؟‬ ‫ التفاوض واستخدام المظاهرات الضخمة كأوراق ضغط ‪،‬‬‫وبعدها محاولة إسقاط النظام ككل ‪ ،‬وهذا اليقوم به إال تنظيم‬ ‫قائم يمتلك كوادر على غاية من الدراية والتدريب الكافى‬ ‫ تقصد أن هناك تنظيما ً خلف مايجرى ؟‬‫ هذا مؤكد‬‫تركته لقائد الحرس حمدان ‪ ،‬ذات الحوار تقريبا ً مع تسمية عدة‬ ‫تنظيمات متطرفة وطرق تعاملها وكيفية مجابهتها والتغلب‬ ‫‪148‬‬


‫عليها ‪ ،‬بعدها انتقلت لمحادثة قائد المخابرات البرعى وجاءت‬ ‫كلماته عبر الهاتف تؤكد صدق توقعى‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫( جماعة التطهير ) تحتل الميدان ‪ ،‬تنتشر فى كل‬ ‫األنحاء وتثير الجماهير مصعدة من شدة المواجهة ‪،‬‬ ‫وتطالب هذه المرة باقالة الحكومة ‪ ،‬ومحاكمة أعضائها‬ ‫!!‬

‫(‪ )21‬المجزرة وتوابعها‬

‫استدعيت لجنة مواجهة الطوارىء لبحث األمر ‪.‬‬ ‫كانت الصورة حية أمامى ‪ ،‬التغيب طوال بقائى فى غرفة‬ ‫المتابعة الرئيسية ‪.‬‬ ‫تنقل األحداث جلية ‪ ،‬ناطقة بكل مايمكن حدوثة فى الميدان‬ ‫أوال بأول‪.‬‬ ‫كنت أرى وجوها هازلة ‪ ،‬وألفاظا ً ساخرة ‪ ،‬وأغنيات وأناشيد‬ ‫ورقص جماعى تشارك فيه الفتيات والنسوة فى منظر لم أره‬ ‫من قبل طوال فترة حكمى التى امتدت ألمد بعيد ‪،‬أحدهم يتصيد‬ ‫الشاشة رافعا ً الفتة من الورق المقوى مكتوبا ً عليها‪-:‬‬

‫‪149‬‬


‫‪-‬‬

‫حكومة فاسدة‬

‫آخر يسير بالفتة علقها على صدره وبها‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫أنا حاكم نفسى‬

‫وثالث تجرأ وكتب على الفتة كبيرة‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫الفاسد يأتى بالفاسدين‬

‫ورابع ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫اقطعوا رأس األفعى ‪.‬‬

‫وغيرها كثير‪.‬‬ ‫لم تكن قبضتى حديدية إلى الدرجة التى أثير فيها الحنق‬ ‫وأكبت المشاعر كى تتفجر اآلن بهذه الصورة أبدا ‪ ،‬لم أكن‬ ‫سيئا ً إلى الدرجة التى تصبح فيها سيرتى واسمى وفترة حكمى‬ ‫كابوسا ً يريدون التخلص منه بهذه الصورة ‪ ،‬حكم البالد يحتاج‬ ‫مع العدل إلى القوة ‪ ،‬ويحتاج مع القوة إلى البطش ‪ ،‬ويحتاج‬ ‫مع البطش إلى شيوع الخوف من العقاب الصارم لتستقيم‬ ‫األمور وتسير الحياة كما يراد لها من األمن والسالم بين‬ ‫الجميع ‪ ،‬أما االسترخاء فاليولد إال خوارا ً وضعفا ً ‪ ،‬ويطمع‬ ‫فينا الدول المعادية ‪ ،‬وأعداء هذه األيام من الكثرة بحيث عليك‬ ‫أن تتيقظ لهم ‪ ،‬وتريهم فى كل لحظة أنك ممسك بزمام األمور‬ ‫‪ ،‬وأن حدودك جحيم لمن يفكر باإلقتراب منه ‪ ،‬وأعتقد أننى‬ ‫قد استطعت أن أفعل هذا ‪ ،‬وكذلك استطعت أن أوفر للجميع‬ ‫حياة يجد فيها الكساء والملبس والمسكن فى كل حين ‪،‬‬ ‫المشكلة الوحيدة التى اعترف بها وال أنكر تمسكى بها هى يد‬ ‫الدولة الباطشة وذلك لألسباب التى ذكرتها ‪ ،‬فلماذا هذه‬ ‫الكراهية المتأججة فى العيون ‪ ،‬والمنطوقة على كل األلسنة ‪،‬‬ ‫‪150‬‬


‫كأننى لم أكن واحدا ً منهم ‪ ،‬خرج من حارة من حوارى قرية‬ ‫فى أعمق أعماق الفالحين هناك ‪ ،‬حيث القلوب البكر التى‬ ‫غذتها األرض بنقائها ‪ ،‬وروتها الخضرة بصفائها ‪ ،‬ورأى‬ ‫وعرف معنى األهل واألصدقاء والجيران ‪ ،‬والروابط التى تربط‬ ‫الجميع برباط ود مقيم الينفصم مهما كانت األسباب ‪ ،‬أنا الذى‬ ‫وقفت يوما ً حامالً رأسى بين يدى راضيا أن أقدمها فداء للبلد‬ ‫وألهلها ‪ ،‬ثم أنهم حينما أختارونى لم يكن إختياراً عشوائيا ً وال‬ ‫هو إختيار غبى ‪ ،‬ولكنه إختيار قائم على أسس وأسباب قوية‬ ‫وثقة مؤكدة فى شخصى ‪ ،‬صحيح أننى فى فترة مضت قد‬ ‫شردت قليالً عن ميثاق الشرف الذى قطعته على نفسى يوم‬ ‫تقلدت مقاليد الحكم ‪ ،‬لكننى عدت ثانية أقوى من ذى قبل ‪،‬‬ ‫مقبال ًعلى كل فرد فيها بملء القلب حبا ً وسالما ً ‪ ،‬عاز ًما على‬ ‫إعادة الحياة فى هذا البلد الذى أحبه ومازلت مستعدا ألفديه‬ ‫بروحى على إعادة الوجه الحقيقى له ‪ ،‬ومحو كل مايمكن أن‬ ‫يسىء إليه ‪ ،‬وتغيير تقاليد فاسدة ترسخت فى تصرفات أفراده‬ ‫‪ ،‬وبناء كل ركن فيه من جديد كما ينبغى لبلد عظيم مثله ‪،‬‬ ‫فلماذا يجيئون اآلن إلفساد كل شىء ؟‬ ‫هؤالء األوالد العمالء البد من محاكمتهم محاكمة شعبية ليرى‬ ‫الجميع ويعرفون حجم المؤامرة التى تعرضوا لها ‪ ،‬وهذا‬ ‫التنظيم المخرب سوف أجابهه بكل القوة ألجهض تخطيطه‬ ‫الشيطانى ‪.‬‬ ‫اجتمعت اللجنة على عجل حول المائدة الرئيسية لمناقشة‬ ‫الوضع العام ‪ ،‬كانت األعداد كما يبدو على الشاشة تتزايد‬ ‫ناشرة فى الميدان ضوضاء السباب المقترن بالضحكات‬ ‫والرقص ‪ ،‬بينما الفتات جديدة تشق السماء كالسوارى‬ ‫صارخة وسط الشاشة‪-:‬‬ ‫اسقطوا الحكومة الفاشلة‬‫‪151‬‬


‫ لن نرحل قبل سقوط العصابة الحاكمة‬‫ نريد محاكمة أعضاء الحكومة اللصوص الذين نهبوا ثروات‬‫البلد ‪..‬الخ‬ ‫سائلت الوجوه المكفهرة واألعين المنطفئة الوميض واأليدى‬ ‫المرتعشة حولى ‪-:‬‬ ‫وماذا بعد ؟‬

‫‪-‬‬

‫قال قائل ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫نعاود القبض على العناصر المخربة‪.‬‬

‫قوبل اقتراحه برفض قاطع‬ ‫قال آخر ‪-:‬‬ ‫ننحنى للريح حتى تمر وبعدها لنا كالم آخر‬

‫‬‫تساءلت‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫ماالمقصود بكلمة ننحنى للريح ؟‬

‫قال ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫إقالة الوزارة ‪ ،‬وتشكيل وزارة جديدة لتهدئة الرأى‬ ‫العام‬

‫تساءلت ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫ثم ؟‬

‫‪-‬‬

‫بعد تهدئة األمور نقوم بتصفية الجيوب المخربة هنا‬ ‫وهناك ‪.‬‬ ‫‪152‬‬


‫قال ثالث ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫األمر سهل ‪ ،‬اعطونى ساعتين من اآلن وسوف ترون‬ ‫مايسركم‬

‫حدقت فى عينيه محاوالً سبر غورهما ‪ ،‬لمعة حدقتيه تنبىء‬ ‫عن ثقة وكلماته فيها تحديد لشىء يعرفه جيدا‪ ،‬قلت ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫البد أن أعرف ماذا ستفعل بالضبط ‪.‬‬

‫هز رأسه بثقة‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫دعنى اتصرف ولن نندم ‪ ،‬و الحظ أننا جميعا فى‬ ‫مركب واحد‬

‫قمت واقفاً‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫أمامك ساعتان ‪ ،‬وبعدها نرى مايجب فعله‬

‫واستدرت لبقية األعضاء‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫اللجنة ستظل مجتمعة لحين إنتهاء األزمة ‪ ،‬وأنا‬ ‫معكم بطبيعة الحال‬

‫وغادرت إلى غرفة أخرى أستطيع فيها أن أنفرد بأفكارى قليالً‬ ‫فى انتظار ماسوف تأتى به اللحظات القادمة ‪.‬‬ ‫كان يدور فى رأسى لحظتها شىءآخر تماما ً تمنيت لو أمتلك‬ ‫لإل قدام عليه ‪ ،‬كنت أتمنى ومن صميم‬ ‫الشجاعة‬ ‫القلب أن أترك األمر كله ‪ ،‬وأعلن تنازلى عن المشاركة فى أى‬ ‫شىء بعد اآلن ‪ ،‬وعودتى إلى القرية ‪ ،‬ارتمائى فى أحضان‬ ‫األرض ‪،‬أقضى ماتبقى لى من عمر فى رحاب دفئها وبرائتها ‪،‬‬ ‫أتنسم ريحها وأعاشر كما كنت قديما ً ناسها ‪ ،‬مفسحا ً الروح‬ ‫‪153‬‬


‫لبساطة حياتهم ‪ ،‬وتقارب أرواحهم ‪ ،‬ونقاء سريرتهم ‪،‬‬ ‫وحالوة كلماتهم ‪ ،‬أذوب من جديد فى نهر نقاء الينفذ ‪،‬‬ ‫وأرتوى من رحيق صفاء ممتد بال انقطاع وأرمى خلف ظهرى‬ ‫مافعلته ‪ ،‬ومافكرت فى فعله ‪ ،‬وماجابهته من رفض ومن‬ ‫معارضة وصلت إلى درجة اإلعتصام وإمالء األوامر وإال‬ ‫فالتصعيد والتحدى والرفض القاطع لكل النظام ‪.‬‬ ‫هل هناك غنيمة تساوى هذه المغارم والمعاناة ؟‬ ‫وماذا يجدى لى فى هذه السن الجاه أو المال ‪ ،‬أوحتى الكرسى‬ ‫العالى بكل مغرياته ومزاياه ؟‬ ‫قريبا ً جدا ً أودع كل شىء ‪ ،‬فما جدوى التكالب على أى شىء؟‬ ‫دق الباب دقات ثالث متعجلة ‪ ،‬يكسوها القلق واالندفاع ‪.‬‬ ‫كنت ممدا ً على األريكة محدقا ً فى السقف أرقب اللمبات‬ ‫البيضاوية المتألقة بالنور‪ ،‬متسائالً كيف انسل التيارإلى‬ ‫سلوكها فأجج فيها القدرة على التنوير ‪ ،‬مفكراً فى تلك‬ ‫المنظومة المتكاملة التى تؤدى فى النهاية إلى بث النور فى‬ ‫المكان ‪ ،‬متصوراً أن إنشاء منظومة كهذه فى البلد وبين الناس‬ ‫التحتاج إال الى فكر راق ‪ ،‬وتنفيذ دقيق ‪ ،‬وبث أفكار تكون‬ ‫بمثابة التيار الذى يسرى فى العقول فينيرها ويحول ظالمها‬ ‫إلى نهار ‪.‬‬ ‫لكن هذا لن يبدأ إال بعد أن تنتهى هذه الظروف ‪ ،‬البد أن‬ ‫تتغير القوانين وتكون محكمة ‪ ،‬وفى ذات الوقت شديدة الحزم‬ ‫لتجابه الخارجين على القانون والعمالء وأصحاب المصالح ‪.‬‬ ‫العدالة المرتعشة اليد تطيح بكل القيم ‪ ،‬وتمنح الفاسدين‬ ‫الفرصة لفرض أمراضهم وعاهاتهم على المجتمع‪.‬‬ ‫‪154‬‬


‫وكذلك العدالة البطيئة تقهر القلوب النقية ‪ ،‬وتفسح المجال‬ ‫لمزيد من الفوضى والضياع ‪.‬‬ ‫بعد هذه األحداث سوف أغير أشيا ًء كثيرة‪.‬‬ ‫انتبهت للدقات الثالث ‪ ،‬أذنت لصاحبها بالدخول ‪ ،‬رأيت وجها ً‬ ‫مرتعد السمات يستدعينى طالبا ً انتقالى إلى اللجنة لمتابعة‬ ‫مايتم اآلن بالميدان فورا ً ‪ ،‬قمت متوكآ على حافة المقعد‬ ‫وتحركت قدر استطاعتى الى هناك ‪ ،‬بمجرد دخولى الى الحجرة‬ ‫ارتعدت نظراتى فزعا ً وأنا أرى مالم أتخيله قط ‪ ،‬جياد عفية‬ ‫وسط الميدان وبين المتظاهرين تجرى بسرعتها بينهم ‪ ،‬تطأ‬ ‫مايقابلها دون أن تأبه لصراخ أو تهتم لعويل ودراجات نارية‬ ‫مجنونة ممتلئة بالحقد تضرب بأرجلها مهرولة وراكبوها‬ ‫يمسكون بسالسل وجنازير حديدية يضربون بها وجوه‬ ‫المتظاهرين ‪ ،‬وحولها بلطجية بأقنعة سوداء بسيوف ورماح‬ ‫‪ ،‬رافعين أيديهم دائرين بالمدى والسيوف مهددين ومروعين‬ ‫الخلق وسط حالة من صراخ وأنين ومحاوالت للتصدى لراكبى‬ ‫هذه الدرجات النارية والجياد بالعصى وأذرع الشماسى‬ ‫والعكاكيز ‪.‬‬ ‫صرخت بكل ماأوتيت من قوة ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫اوقفوا هذه المهزلة فورا ً‬

‫قيل ‪-:‬‬ ‫ مستحيل‬‫انهرت جالسا ً على مقعدى جاحظ العينين ‪ ،‬شاعرا أن هذه هى‬ ‫القشة التى ستقسم ظهر البعير ‪ ،‬فلم يعد األمر مظاهرات لها‬ ‫مطالب تسعى لتحقيقها ثم تعود للهدوء ‪ ،‬ولكنه تحول إلى نهر‬ ‫دماء ‪.‬‬ ‫‪155‬‬


‫وصمة عار ستالحق النظام أينما سار ‪.‬‬ ‫سألت عن صاحب هذا الفكر المخرف ‪ -:‬أين هو ؟‬ ‫قيل ‪ -:‬يدير المعركة من حجرة عمليات قريبة من الميدان‬ ‫طلبت حضوره فوراً ‪ ،‬وأنا الأتمالك نفسى من غضب جارف‬ ‫‪ ،‬وتوتر اليحد يمتلك روحى وينفذ إلى جميع خاليا عقلى ‪.‬‬ ‫كان يمكننى منذ البداية استخدام القوة ‪ ،‬ولم أفعل ‪.‬‬ ‫كان يمكننى رفض اإلفراج عن هؤالء األوالد العمالء ‪ ،‬ولم‬ ‫أفعل‬ ‫ويجىء هذا المخرف بكل بساطة ويوقعنى فى هذا الفخ !!‬ ‫رأيته مزهوا ً بنفسه يدخل من الباب ‪ ،‬أمرت فوراً بعزله من‬ ‫منصبة والقاءه فى السجن لحين التفرغ له ‪ ،‬وأمرت بسحب‬ ‫الخيول والدراجات النارية والبلطجية ذوى األقنعة السوداء‬ ‫فورا ً وبأى ثمن ‪ ،‬وكذلك إعالن عزل الحكومة الحالية وتشكيل‬ ‫حكومة جديدة تكون أولى مهامها اإلستجابة لمطالب‬ ‫المعتصمين ‪ ،‬وخرجت بنفسى إلعالن هذا على الناس مباشرة‬ ‫‪ ،‬راجيا ً أن أمحو األثر البالغ السوء الذى تركه هذا الهجوم‬ ‫الغادر البالغ الخسة والغباء ‪.‬‬

‫(‪ )22‬موت ليلى‬

‫‪156‬‬


‫عدت بعد إلقاء كلمتى إلى القاعة ‪ ،‬فجعت بمنظر جديد لم أره‬ ‫من قبل ‪،‬‬ ‫عادل زوج ابنتى فى أقصى القاعة يبكى !‬ ‫هوى قلبى مرتطما ً بكل أحجار الوجود ‪ ،‬مفتتا ً كما لم يتفتت‬ ‫من قبل ‪ ،‬عادل اليبكى بسهولة ‪ ،‬دموعه عزيزة المنال ‪،‬‬ ‫مشاعره ليست مباحة لألعين ‪ ،‬وتوجست شراً شاعراً أن‬ ‫المجهول الذى طالما خشيت منه يضرب روحى بقوة وعنف ‪،‬‬ ‫ودون أن يأبه لجسدى الواهن ‪ ،‬وال روحى المتآكلة وقلبى‬ ‫الذى غزاه المشيب ‪ ،‬حدقت فى عينيه صامتا ً وإن كانت‬ ‫نظراتى تصرخ ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫قل ماأخشى منه‬

‫قل ماسوف يمزق روحى ويدك بنيان قلبى‬ ‫انطق بالخبر المشئوم الذى تصرخ به دموعك‬ ‫وتحكيه قسماتك‬ ‫وتعبر عنه نظرات عينيك‬ ‫انطق باهلل عليك‬ ‫همس بحروف متقطعة كما توجست ‪--:‬‬ ‫‪-‬‬

‫ليلى ‪..‬ماتـــــــــــــــــــــــــــــــــــت !!‬

‫وتفجر قلبى نازفا ً حسراته ودموعه وشقاء نبضاته غير مبال‬ ‫بشىء سوى ماهو فيه ‪.‬‬

‫‪157‬‬


‫(‪ )23‬أبعاد المؤامرة‬

‫كان إختيار وزراء جدد فى ظل هذه األزمة المستعرة يشبه‬ ‫طلبك من العصافير أن تتساقط بين يديك لتنتف ريشها وتلقيها‬ ‫فى النار ‪ ،‬أو سؤالك مجموعة من البشر أن يذهبوا إلى الجحيم‬ ‫راضين ‪.‬‬ ‫ورغم هذا كان البد من اإلسراع ‪ ،‬وهذا يستلزم أن تقوم‬ ‫أجهزة الدولة باإلنتهاء من الفحص والتمحيص والتدقيق فى‬ ‫فترة التقاس أبدا بما يجب أن تتم فيه فى الظروف العادية ‪،‬‬ ‫ورغم هذا نجحنا فيما نريد ‪ ،‬وهذا ماأدهش له وأعجب ‪،‬‬ ‫فنحن إذا أردنا شيئا ً ‪ -‬مهما كان مانريد ‪ ،‬ومهما كانت‬ ‫صعوبته ‪ ،‬وربما استحالة فعله ‪ -‬نفعله ‪ ،‬بل ونتميز فى فعله‬ ‫ايضا ‪ ،‬لكننا لألسف قد فقدنا وعن جدارة اإلحساس بالعزم ‪ ،‬أو‬ ‫اإلرادة ‪ ،‬أو التصميم ‪ ،‬كأن الحياة قد صارت بالدة واسترخاء‬ ‫‪ ،‬أو أنه ليس هناك أبدع مما كان ‪ ،‬أو ربما داخليا ً نحن‬ ‫راضون بالفشل الذى غرقنا فيه إلى ذقوننا دون أن نفكر لحظة‬ ‫فى البحث عن مهرب مما نحن فيه ‪.‬‬ ‫تسلم الوزراء عملهم فورا ً ‪ ،‬وكانت أول مهمة لهم مجابهة‬ ‫التصعيد الخطير للموقف فى كافة المدن ‪ ،‬والتى تحولت إلى‬ ‫بؤر مشتعلة التعرف النوم وال الهدوء وال التفاهم وال حتى‬ ‫معنى كلمة الحوار ‪ .‬انتشرت حاالت القتل والسرقة والتخريب‬ ‫هنا وهناك ‪ ،‬وتشتت الشرطة فلم تعد تستوعب مايجرى ‪ ،‬مما‬ ‫حدا بأفرادها للتوقف عن محاولة الصد ‪ ،‬أو حتى الوقوف فى‬ ‫وجه مايجرى ‪ ،‬مما زاد من انهيار الموقف ‪ ،‬واستدعى نزول‬ ‫قوات الجيش إلى الشوارع والميادين ‪ ،‬وانتشار اآلليات‬ ‫العسكرية ‪ ،‬والقوات الخاصة بلباسها المميز وأقنعتها التى‬ ‫‪158‬‬


‫التظهر سوى العيون باألسلحة والنيران الحية لتفرض‬ ‫سيطرتها على بلد يعالج اإلنهيار ‪ ،‬وبطبيعة الحال انتهزت‬ ‫القوى المعادية فى الخارج هذه الحالة لتظهر أنيابها وتمد‬ ‫مخالبها باحثة عن غنيمة سريعة تقتنصها قبل غيرها ‪ ،‬وبدأت‬ ‫تلوح فى األفق أسرار مايدبر للبلد فى الخفاء ‪ ،‬فاألمر لم يكن‬ ‫أمر فتية تم غسيل عقولهم ليخونوا بلدهم فقط ‪ ،‬بل كانت‬ ‫خطة مدبرة إلسقاط النظام ككل ‪ ،‬ونشر الفوضى ‪ ،‬واقتناص‬ ‫الفرصة إلشعال الفتن هنا وهناك لتمزيق كل أواصر الصلة بين‬ ‫المدن وبعضها ‪ ،‬والعصبيات والعشائر التى تعايشت طوال‬ ‫عمرها فى أمن وسالم دون أن تفكر أو تتخيل أن تقف بالنار‬ ‫لبعضها مهما كانت األسباب ‪ .‬ونظرا لخطورة الموقف ككل‬ ‫رأيت من واجبى أن أناشد الجميع الركون إلى العقل ‪،‬والبعد‬ ‫عن السير وراء اإلنفعاالت اللحظية أو األفكار التى تروجها‬ ‫الجماعات إياها ‪ ،‬والعودة فوراً إلى الحوار ‪ ،‬وتغليب‬ ‫المصلحة العليا للبلد على أى شىء آخر ‪ ،‬وبدات أستعد‬ ‫لمخاطبة الشعب شارحا ً كل مالدى ‪.‬‬ ‫تحركت من قاعة المتابعة قاصداً التوجه إلصدار البيان الثالث‬ ‫لى منذ بدء األزمة ‪ ،‬ارتعدت يدى وأنا أستمع من الميدان إلى‬ ‫هتافهم الجديد‪-:‬‬ ‫ ارحل ارحل ياجبار ‪ ..‬انت خسيس ورمتنا فى نار‬‫ الشعب يريد إسقاط الحاكم الفاسد‬‫ لن نرحل قبل رحيلك من الحكم ‪..‬الخ‬‫عدت إلى القاعة من جديد ‪ ،‬تهاويت على مقعدى مكتفيا‬ ‫بالتحديق فى الشاشة التى زيادة فى إغاظتى أخذت تعيد وتزيد‬ ‫فى هتافاتهم ‪ ،‬كأنها تشعر وتحس بفرح إلزاحة ورقة التوت‬ ‫الوحيدة عن عورة الحكم ‪.‬‬ ‫‪159‬‬


‫تحركت بآلية إلى الكاميرات ‪ ،‬ألقيت بيانا ً رجوتهم فيه التريث‬ ‫قبل هدم المعبد على من فيه ‪ ،‬وطالبتهم بالروية والتفكير فى‬ ‫مصير البلد قبل مصير األفراد ‪ ،‬وعاهدتهم على اإلصالح‬ ‫مااستطعت ‪.‬‬ ‫بعدها عدت إلى مكتبى أجر قدمى جرا ً وقد شعرت بالعمر وهو‬ ‫يهرول أمامى مجتازا كل المراحل ليضعنى أمام شيخوخة كنت‬ ‫فى شرود عنها ‪ ،‬شيخوخة تسرى فى الروح والقلب وتمأل‬ ‫الجسد ببثورها وأدرانها وأنا ال أدرى ‪ ،‬لكننى اآلن واآلن فقط‬ ‫رأيتنى ال أمتلك القدرة على التحكم فى أعضائى كما كنت سابقا‬ ‫‪ ،‬تمردت هى اآلخرى ولم تعد تخشى بطشى وقوتى ‪ ،‬قابلتنى‬ ‫حفصة مذعورة الخطوات باهتة النظرات متخبطة فى سيرها‬ ‫وهى تنظر هنا وهناك فى حيرة التدرى أين يمكنها أن ترمى‬ ‫بنظراتها المرتعدة ‪ ،‬حدقت فى وجهى ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫األمر خطر ؟‬

‫حدقت فى عينيها صامتا ً مهزوم النظرات ‪ ،‬ال أعرف كيف‬ ‫واتانى هذا الشعور اآلن وأنا أراها أمامى عجوزً ا واهنة يكتسح‬ ‫المشيب وجهها ورأسها دون أن توقفه كل األشياء التى كانت‬ ‫تستخدمها لخداع نفسها أنها ماتزال فى طور النضج ‪ ،‬بينما‬ ‫الولد الخائب مسعود هناك يقف ناظراً فى حياد تام ‪ ،‬اليكلف‬ ‫نفسه مشقة معرفة ماآلت إليه األمور ‪ ،‬قلت أخيراً‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫خطر جداً‬

‫ومضيت عنها إلى المكتب ‪ ،‬استدعيت رماح فوراً وقد‬ ‫استشعرت بوادر سقوط المفر منه ‪ ،‬أغلقنا علينا الباب وبدأت‬ ‫الحديث معه ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫ماذا ترى ؟‬ ‫‪160‬‬


‫‪-‬‬

‫بلدًا يتهاوى أمام أعيننا ونكافح لمنع سقوطه‬

‫‪-‬‬

‫وهل سننجح ؟‬

‫‪-‬‬

‫البد ‪ ،‬من أجل البلد ال األشخاص‬

‫‪-‬‬

‫وماذا ترى ؟‬

‫‪-‬‬

‫هناك إصرار على إسقاط النظام الحالى ‪ ،‬ولألسف‬ ‫استغلوا معاناة الشعب وكمية الغضب الكامن فى‬ ‫الصدور لصالحهم ‪.‬‬

‫‪-‬‬

‫هذا صحيح‬

‫‪-‬‬

‫حجم المؤامرة كبير ‪ ،‬والبد من مواجهتها باتزان‬ ‫وتعقل بعيدًا عن اإلنفعال ‪ ،‬وإستغالل كل ذرة حكمة‬ ‫فى رؤسنا من أجل االفالت من المصيدة المنصوبة‬ ‫للبلد‬

‫‪-‬‬

‫هل ترى أن أعلن استقالتى ؟‬

‫‪-‬‬

‫هذا أمر المفر منه‬

‫‪-‬‬

‫وتقوم بصفتك قائد القوات بالحكم لحين إجراء‬ ‫انتخابات جديدة‬

‫‪-‬‬

‫لن أتردد إذا كان هذا فى مصلحة البلد‬

‫‪-‬‬

‫وأنا ‪ ،‬وأسرتى ؟‬

‫‪-‬‬

‫لك مطلق الحرية فيما تفعل‬

‫‪161‬‬


‫‪-‬‬

‫لن أغادر البلد ‪ ،‬أعرف أننى سأتعرض للسجن‬ ‫والمحاكمة ولكن العمر ليس بأهمية الشرف ‪ ،‬على‬ ‫األقل فى هذا العمر‬

‫‪-‬‬

‫أعدك بشرفى العسكرى أن أحميك طالما باستطاعتى‬ ‫هذا‬

‫‪-‬‬

‫وأنا أثق بك‪.‬‬

‫كتبت ديباجة البيان االخير ‪ ،‬استدعيت مساعدى الذى جاء‬ ‫مكفهر الوجه ‪ ،‬أمرته بإلقاء بيان اإلستقالة فورا ‪ ،‬وخرجت‬ ‫‪ ،‬مستسلما لرقاد لم أر مثل‬ ‫إلى حيث أويت إلى حجرتى‬ ‫آالمه من قبل ‪.‬‬ ‫لكننى فتحت عينى مرتاعا ً على أصوات هادرة قريبة إلى‬ ‫درجة مخيفة ‪ ،‬دكت أذنى دكا ً ‪ ،‬سألت مذعوراً‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫مااألمر ؟‬

‫قيل ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫الجماهير خلف األسوار مصرة على الدخول‪،‬‬ ‫والقبض عليك وعلى أسرتك والحرس يبذل جهده‬ ‫لمنعهم ‪.‬‬

‫ارتميت مكانى مشلول النظرات والفكر والحركة ‪ ،‬حتى الهواء‬ ‫لحظتها شعرت أنه تمرد على ‪ ،‬وكل ماأعيه من هذه اللحظات‬ ‫أننى رأيت وميضا ً كلمح البصر يخطف روحى ‪ ،‬يصور لى‬ ‫أشيا ًء أراها سريعة متالحقة دون أن امتلك القدرة على إيقاف‬ ‫تالحقها فى رأسى والحتى أتريث اللتقاط أنفاسى ‪ ،‬رأيتنى أقع‬ ‫بين أيديهم ‪ ،‬أتمزق بينهم ‪ ،‬أتهاوى ‪ ،‬أتبعثر ‪ ،‬تتوه عبر األزقة‬ ‫والحارات قطع جسدى ‪ ،‬اليستطيع مخلوق جمعها من جديد ‪،‬‬ ‫‪162‬‬


‫ويستديرون على مسعود ولدى ‪ ،‬على حفصة زوجتى ‪ ،‬على‬ ‫سعاد ابنتى ‪ ،‬يمزقون الثياب ‪ ،‬يكشفون العورة ‪ ،‬ال ‪.‬‬ ‫قمت ملتاعا ً وأنا أهز رأسى بكل قواى محاوال نثر الصور بعيدا ً‬ ‫عنى ‪ ،‬مضيت إلى أحد النوافذ ‪ ،‬األبواب الحديدية تهتز بفعل‬ ‫موجات البشر التى تدفعها بعنف ‪ ،‬النهار نوره نار ‪ ،‬والقصر‬ ‫الفسيح صار سجنا ً صغيرا ً اليتسع لإلحتماء به ‪ ،‬والعسكر‬ ‫على ‪،‬‬ ‫المساكين اليمتلكون القدرة على الصد ‪ ،‬الكون يضيق‬ ‫ً‬ ‫السماء الفسيحة التى كانت قريبة دوما ً تبتعد وتتوارى خلف‬ ‫حجاب ‪ ،‬األرض تفتح فوهتها إلى أعمق أعماقها لتبتلع قلبى‬ ‫الذى يتهاوى بال قرار ‪ ،‬ارتميت على مقعدى مهدما ً ‪ ،‬عاجز‬ ‫الفكر والجسد والروح متهالك القلب زائغ النظرات ‪ ،‬تنبهت‬ ‫لعينى قطة سوداء حانية النظرات ترمقنى على البعد عند مدخل‬ ‫الباب وتنطلق مولية إلى حيث ال أدرى ‪ ،‬لم أبال بها فما يجرى‬ ‫اآلن قد ترك عقلى صفحة بيضاء مطموسة الوعى واإلدراك ‪،‬‬ ‫تعالت الهتافات أكثر عن ذى قبل ‪ ،‬وسمعت طلقات نارية تنطلق‬ ‫متحدية ومصممة على إشعال مزيد من النيران ‪ ،‬اجتاحتنى‬ ‫رغبة أن ألقى بنفسى بين أيديهم وأنهى هذا األمر فوراً ‪،‬‬ ‫فوجئت بأعداد من القطط ال تحصى تسعى نحوى ‪ ،‬تشدنى إليها‬ ‫‪ ،‬أتحول إلى واحد منها ‪ ،‬أسير برفقتها ‪ ،‬أهرول ‪ ،‬أجتاز‬ ‫الطرقات ‪ ،‬أثب من النوافذ إلى الطريق فى ذات اللحظة التى‬ ‫تهاوت فيها األبواب وتراجع الجند وداست األقدام أرض القصر‬ ‫وامتدت األيدى الى مافيه ‪ ،‬وهرولت األعين تبحث فى أرجائه‬ ‫منقبة لتشفى غليلها وتنهى مرحلة البد أن تنتهى بأى حال ‪،‬‬ ‫هرولت وسط القطط خارجا ً إلى الطريق ‪ ،‬محاطا ً بالعشرات‬ ‫منهم أمنا ً مطمئنا ً ‪ ،‬شاعرا ً بامتنان كبير لتدخلهم فى وقت حرج‬ ‫كعادتهم معى ‪ ،‬التفت ألقدم الشكر ألحدهم ‪ ،‬رأيت أعداداً كبيرة‬ ‫من الكالب الوحشية الظاهرة األنياب ‪ ،‬الالهثة األنفاس ‪،‬‬ ‫بألسنتها المدالة أمامها تتقدم نحونا متحدية ‪ ،‬محاصرة لنا ‪،‬‬ ‫‪163‬‬


‫متوثبة علينا وصراخها يمأل األجواء ‪ ،‬تحفزت القطط لها‬ ‫‪،‬قوست ظهورها استعداداً للدخول فى صراع دام‪ ،‬رافضة‬ ‫اإلذعان أو اإلستسالم لها ‪ ،‬معلنة الثورة عليها وعلى تدخلها‬ ‫الدامى وعوائها المجنون ‪ ،‬الكالب أيضا زمجرت وعال‬ ‫عواؤها عن ذى قبل وهى تستعد لإلندفاع ‪ ،‬اندفع العواء ‪،‬‬ ‫صده المواء ‪ ،‬تراشقا بالسباب وكل منهما يتقدم خطوة ويتأخر‬ ‫أخرى ‪ ،‬ينتظر اللحظة التى ينقض فيها على اآلخر ‪ ،‬وهنا‬ ‫رأيت ذئابا ً شرسة تظهرقادمة لتقتحم المكان ‪ ،‬تهجم بكل‬ ‫الحنق ‪ ،‬وثعالب ماكرة تكر ‪ ،‬وضباع متوحشة تتحرك ‪ ،‬الكل‬ ‫انتهز الفرصة وكر بكل طاقته ليضرب بقوة ‪ ،‬بعنف ‪ ،‬بحنق ‪،‬‬ ‫بكراهية اليحدها حد وال تعرف توقف والتأبه لشىء إال إنزال‬ ‫مزيد من القهر والذل والهوان والقتل والتدمير بكل من تقابله‬ ‫إلى الدرجة التى وقفت فيها الكالب ناظرة إلى مايجرى وربما‬ ‫فكرت فى الدفاع عن القطط أمام هذا الجنون المطبق ‪ ،‬أخذت‬ ‫الكالب تنفذ بين صفوف القطط التى توقفت أمام هذا الفيضان‬ ‫الجارف ساكنة تحدق فى تسليم ‪ ،‬دارت حولها تتشمم الروائح‬ ‫وتحدق فى الوجوه حتى وصلوا الى ‪ ،‬أحاطوا بى واقتادونى‬ ‫مقيدا ً الى محبسى ‪ ،‬وحيدا ً إال من مرارة انتظار ال أدرى إلى‬ ‫متى سيطول ‪.‬‬ ‫بعدها علمت أن رماح قد تولى األمر ‪ ،‬سيطر بأقصى مايستطيع‬ ‫من سرعة على الكرسى ‪ ،‬تولى مطاردة الذئاب الغريبة‬ ‫والضباع والثعالب وغيرها ‪ ،‬تولى أمر الكالب ‪ ،‬أما القطط‬ ‫فمنذ سجنت وأنا ال أراها ولم أسمع عنها خبراً !‬ ‫وألننى وجدت منذ تم نقلى إلى هذا المنزل الكائن على حافة‬ ‫الكون أوراقا ً وأقالما ً فقد وجدتها فرصة ألشغل وقتى الذى امتد‬ ‫بال حدود أوالً ‪ ،‬وثانيا ً أقول مالدى لعل وعسى يأتى فى الغد‬ ‫أو بعد الغد منصف يقرأ مابين السطور ‪ ،‬يكشف المسئول‬

‫‪164‬‬


‫عما جرى ‪ ،‬يحدد الجانى والمتهم األصلى ‪ ،‬ويبرىء من‬ ‫يستحق التبرئة والغفران!!‬

‫تمت بحمد هللا‬ ‫األسكندرية فى ‪8/12/2015‬‬

‫‪165‬‬


‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬ ‫سيرة ذاتية‬ ‫على داود‬ ‫محمد عباس‬ ‫‪/‬‬ ‫االسم‬ ‫مهندس كهرباء وقوى كهربيه‬ ‫‪/‬‬ ‫المهنة‬ ‫العنوان ‪ /‬ص ب ‪ 596‬مركز الحركة‪ -‬محطة مصر‪-‬‬ ‫مصر‬ ‫اسكندرية‪-‬‬ ‫الكتابة قصه قصيرة ‪ -‬روايه ‪ -‬شعر‬

‫ايميل‬ ‫‪Mdawod58@yahoo.com‬‬ ‫‪abassalym@yahoo.com‬‬

‫‪mobil : 01273803190‬‬ ‫كتب مطبوعه‬ ‫ الوهم والضحكات‬‫حين تميل الجدران‬‫الطريق الى منبع الشمس‬‫الطريق الى منبع الشمس‬ ‫الملكه‬‫‪166‬‬

‫قصص‬ ‫قصص‬ ‫قصص ط‪1‬‬ ‫ط‪2‬‬ ‫قصص‬


‫أشياء التحدث مرتين‬ ‫حلم الذى هوى‬‫ثورة الحمير‬‫آنات وترمشدود‬‫فاطمة تعيش الحلم‬‫‪-‬حديث مع السكون‬

‫رواية‬ ‫روايه‬ ‫قصص اطفال‬ ‫قصص‬

‫قصص ) جائزة الطيب صالح‪(2015‬‬ ‫ديوان (عماد قطرى للنشر )‬

‫قصص وأشعار منشوره‬ ‫أوال ‪ -‬فى مجالت‬ ‫العربى ‪ -‬الحرس الوطنى ‪ -‬الفيصل– الكويت – الدوحه– الراوى‬ ‫–عبقر– الحركة الشعرية بالمكسيك ‪ -‬الثقافة الجديدة ‪ -‬حواء‪-‬‬ ‫القصه‪ -‬الهالل ‪-‬حسمى ‪-‬الرافد ‪ -‬المجلة العربية – نادى الجسرة‬ ‫الثقافى‬ ‫ثانيا ً فى جرائد‬ ‫االهرام‬ ‫األخبار‪ -‬الجمهوريه‪ -‬القاهره ‪ -‬المساء ‪ -‬طنجة األدبية‬ ‫النقاد‬ ‫أعماله‬ ‫ناقش‬ ‫المرحوم د ‪.‬مصطفى هدارة ‪ -‬د‪.‬سعيد الورقى‬‫الجيار‬ ‫د‪.‬مدحت‬ ‫الحميد‪-‬‬ ‫عبد‬ ‫د‪.‬محمد‬ ‫شوقى بدر يوسف‪ -‬د‪.‬مصطفى الضبع‪ -‬د‪.‬مجدى توفيق ‪-‬كمال‬‫عماره‬

‫‪167‬‬


‫جوائز أدبيه‬ ‫مجله النصروالقوات المسلحة‬ ‫جائزه نادى القصه‬ ‫جائزه هيئه قصور الثقافه (الطريق الى منبع الشمس) كأفضل‬‫مجموعة قصصية على مستوى مصر عام‪2002‬‬ ‫جائزة الطيب صالح فى القصة القصيرة عن مجموعة فاطمة‬‫تعيش الحلم‬ ‫جائزه نادى الطائف بالسعوديه‬ ‫العضوية األدبيه‬ ‫عضو عامل باتحاد كتاب مصر‬ ‫عضو اتحاد كتاب االنترنت العرب‬ ‫عضو نادى القصة‬ ‫عضو رابطة األدب اإلسالمى‬

‫‪168‬‬


169


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.