مجموعة قصصية اغتيال لحظة كره

Page 1

‫بسم ا الرحمن الرحيم‬

‫إغتيال لحظة كره‬ ‫مجموعة قصصية‬

‫بقلم‬

‫محمد عباس على‬ ‫‪1‬‬


‫إهداء‬ ‫الى تلك التى صارت دنياى‬ ‫أقدم بعضا ا من عالمى‬

‫فهرس‬ ‫‪........‬‬ ‫‪2‬‬


‫‪-1‬‬ ‫‪-2‬‬ ‫‪-3‬‬ ‫‪-4‬‬ ‫‪-5‬‬ ‫‪-6‬‬ ‫‪-7‬‬ ‫‪-8‬‬ ‫‪-9‬‬ ‫‪-10‬‬ ‫‪-11‬‬ ‫‪-12‬‬ ‫‪-13‬‬ ‫‪-14‬‬ ‫‪-15‬‬ ‫‪-16‬‬ ‫‪-17‬‬ ‫‪-18‬‬ ‫‪-19‬‬ ‫‪-20‬‬ ‫‪-21‬‬ ‫‪-22‬‬ ‫‪-23‬‬ ‫‪-24‬‬ ‫‪-25‬‬

‫إغتيال لحظة كره‬ ‫الكرسى‬ ‫الوصية‬ ‫هرولة‬ ‫البيت‬ ‫الباب المغلق‬ ‫معنى فى القلب‬ ‫المضمار‬ ‫الكلب‬ ‫الهبوط من لحظة حلم‬ ‫كارت شحن‬ ‫خواء‬ ‫السوط‬ ‫لسعة برد‬ ‫ليل وضحكات‬ ‫الشجرة‬ ‫الخصم‬ ‫الحذاء‬ ‫مشوار‬ ‫نواقيس اللم‬ ‫غيبة‬ ‫لحظة شروق الشمس‬ ‫الجنة‬ ‫بسمة أبى‬ ‫حفلة عرس‬ ‫‪3‬‬


‫‪-26‬‬ ‫‪-27‬‬ ‫‪-28‬‬ ‫‪-29‬‬ ‫‪-30‬‬ ‫‪-31‬‬ ‫‪-32‬‬ ‫‪-33‬‬ ‫‪-34‬‬ ‫‪-35‬‬ ‫‪-36‬‬ ‫‪-37‬‬ ‫‪-38‬‬ ‫‪-39‬‬ ‫‪-40‬‬ ‫‪-41‬‬ ‫‪-42‬‬ ‫‪-43‬‬ ‫‪-44‬‬ ‫‪-45‬‬ ‫‪-46‬‬ ‫‪-47‬‬ ‫‪-48‬‬ ‫‪-49‬‬

‫عودة الميت‬ ‫فقد صديق‬ ‫ترقية‬ ‫تحريات‬ ‫الهاتف‬ ‫انتظار‬ ‫زيارة ليلية‬ ‫الفراشة البيضاء‬ ‫ثورة ظل‬ ‫طقوس ليلية‬ ‫تصوير‬ ‫أزمة مرور‬ ‫اللوحة‬ ‫مغادرة‬ ‫القرار‬ ‫مهوى‬ ‫الشاهد‬ ‫الغائب‬ ‫إبتسامة أمى‬ ‫اللغز‬ ‫الخر‬ ‫القطار‬ ‫المنطقة الخطرة‬ ‫الستاذ‬ ‫‪4‬‬


‫‪1‬‬

‫إغتيال لحظة كره‬ ‫‪5‬‬


‫رغم القناع الجديد الذى يرتديه عرفته‪.‬‬

‫حدقت فى وجهه ‪..‬العيو ن المنطفأة الوميض ‪..‬السارحة الى أفا ة‬ ‫ق مجهولةة ‪..‬التغضنات المترسبة فى أديم‬

‫الوجه والرقبة ‪..‬اليدين النحيلتين اللتين تبرز عروقهما بلونها الزرعى الغامق ‪..‬وأخيرا تلك الجلسة التى لم‬

‫يكن يعرفها ‪..‬رفع عينيه نحوى ‪..‬غير أنه –مؤكد – لم يعرفنى ‪..‬استدرت بوجهى عنه ‪..‬رأيت وجهه القديم‬

‫ماثل لعينى ‪..‬يجلس فارد ا جناحيه على المكان ‪..‬مفرود الصدر ‪..‬واثق النظرات ‪..‬لمع الحداق ‪..‬باسم الثغر‬ ‫بتلك البسمة التى تحملها الوجوه التى تعتلى المقاعد العالية ‪..‬لحظتها كان بل قناع ‪..‬يؤدى دو ار يقتنع أنه‬

‫ل بالقلب رهبة وبين عينى خضوع ‪..‬واثقا أن هناك من يقف خلفى‬ ‫ل للمر ‪..‬حام ا‬ ‫خلق له ‪..‬تقدمت ممتث ا‬

‫متأهب ا ‪..‬من يقف بجوارى متربص ا ‪..‬ومن يتفحص وجهى ‪..‬يق أر افكارى ‪..‬يحلل نظراتى ويتتبع إنفعالتى‬

‫‪..‬بينما هو من عليائه يطل عللى ‪..‬ناظ ار اللى كشىء يشرف بالمثول بين يديه‪..‬يشير ناحيتى ‪..‬يتحدث عنى‬

‫وليتحدث اللى ‪..‬صدرت أوامره ‪..‬شعرت به يشتط ‪..‬همست راجيا أن يسمح لى بالكلم ‪..‬برقت عيناه وهو‬ ‫يصرخ ‪ - :‬ل أحديتكلم غيرى‪.‬‬

‫أحاطت بى اليدى والقيود فورا ‪..‬قلت وهم يسحبوننى من أمامه ‪- :..‬أريد‪....‬‬

‫ولم اكمل ‪..‬أغلقوا فمى وعينى ‪ .‬بعدها حاولت فهم سر غضبه ‪..‬ضحكت الوجوه منى ‪..‬كيف سمحت لنفسى‬

‫أن أتكلم فى حضرته ‪..‬أن أريد بدون إذنه ‪..‬تسائلت وهل هذاممنوع ؟‪..‬نظر اأحدهم اللى متعجابا ولم ينبس‬ ‫بحرف ‪..‬ضايقتنى النظرة ‪..‬لست صغي ار و لأبله ‪..‬صرخت ‪ -:‬سأتكلم ‪.‬‬

‫واستدرت ثانياة اليه ‪..‬كان قابع ا فى سكونه ‪..‬متكورا حول نفسه ‪..‬مرتدي ا قناعه الجديد ‪..‬أثارنى صمته‬

‫‪..‬شعرت به يتوارى خلف قناعه ‪،‬وتدل نظراته على عدم معرفته بى ‪..‬حاولت التحديق فى عينيه قائلا أننى‬

‫سأظل أتكلم ‪..‬أقول مالدى ‪..‬أصف ما أشعر به ‪..‬أحكى عما أفكر به ‪..‬رفع يدا كليلاة مستوضحا ماذا‬

‫أقول ‪..‬إتسعت عيناى وانا ل أملك إبعادهما عنه ‪..‬عدت أتكلم ‪..‬أريدك أن تعرف أن هذا مصير محتوم ‪..‬رفع‬

‫صوت ا واهن ا ‪:‬ماذا تقول ؟ ‪..‬أشحت بيدى يائس ا ‪- :‬لن يكون بيننا حوار اليوم ‪..‬كما لم يكن بالمس‬

‫‪..‬واستدرت أريد السير بعيد ا ‪..‬صك أذنى رجاءه أن أساعده ليقوم من مكانه ‪..‬هزتنى المباغته ‪..‬عدت اليه‬

‫بقوة‪!..‬‬

‫‪6‬‬


‫‪2‬‬

‫الكرسى‬

‫انتشر الخبر فى الدارة فوراا‬

‫‪7‬‬


‫ضبط متلبس اا بالسرقة (‪...‬الكل رفض التصديق ‪..‬قالوا ‪ -:‬محال ‪،‬الرجل شب‬ ‫)رمضان الصاوى ض‬ ‫وشاب على الستقامة ‪ ،‬ربى أولده عليها ‪ ،‬ثم إنه بعد أشهر قليلة سيخرج الى المعاش ‪..‬فكيف‬ ‫يلوو ث سمعته الن ؟‬ ‫قال العالمون ببواطن المور ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫بل سرق ‪ ،‬المن ضبطه وهو يخرج من الباب الرئيسى وفى عز النهار ‪.‬‬

‫سأل أحد المتطفلين ‪ -:‬وماهى المسروقات ؟‬ ‫قيل ‪ -:‬كرسى رئيس مجلي الدارة !!‬ ‫‪...............‬‬ ‫سئل الستاذ حامد رئيس مجلس الدارة الجديد فى هذا قال ‪-:‬‬ ‫حينما ض‬ ‫‪-‬‬

‫رمضان لم يشد انتباهى ‪..‬ل أعرفه ‪..‬وبالتالى ل أملك الحكم عليه ‪..‬هو رجل ينظف المكتب‬ ‫فى غيابى ‪،‬يجلس أمام الباب فى وجودى ‪،‬يحضر المشروبات اذا طلبتها ‪،‬غير هذا ل‬ ‫أعرف عنه شيئاا‪.‬‬

‫سأله المحقق ‪ -:‬هل ترى أن نتغاضى عن فعلته ؟‬ ‫أشاح بيده فى لمبالة ‪ -:‬أمره متروك لكم‬ ‫‪...............‬‬ ‫بسؤال الستاذ صالح الرئيس السابق لمجلس الدارة أثنى على رمضان ‪ ،‬قال إنه طيب القلب‪،‬‬ ‫بسيط ‪ ،‬لم ير منه طوال عشرته الطويلة معه ال وجها ا باسما ا وعينين راضيتين ‪.‬‬ ‫قيل له ‪ -:‬وماذا فعلت حينما أتى اليك بالكرسى ؟‬ ‫قال ‪ -:‬رددته فوراا‬ ‫سئل ثانية ‪ -:‬ولماذا أخذ الكرسى أصلا وأتى به اليك ؟‬ ‫أجاب وقد تغير وجهه‪ -:‬اسألوه فى هذا ‪.‬‬ ‫‪........................‬‬

‫‪8‬‬


‫نظر المحقق الى رمضان مدققاا ‪،‬فحصه من أسفل الى أعلى ‪..‬يرتدى جلبابا ا أزرق اللون ‪،‬يتعثر‬ ‫فى مشيته بقامته القصيرة ‪،‬أسمر اللون ‪،‬منبسط السارير ‪،‬أشيب شعر اللحية والرأس ‪،‬تمل‬ ‫الخاديد وجهه ‪..‬أشار اليه بالجلوس ‪..‬سأله عن أمره ‪..‬قال ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫الستاذ صالح عزيز عولى ‪..‬رجل متواضع وسلوكه طيب معى ‪..‬تأثرت كثيراا لفراقه ‪..‬‬ ‫سمعت أنه حزن جداا لنه ترك الكرسى ‪..‬صار ضعيفا ا ‪..‬بائسا ا ‪..‬طاعنا ا فى السن ‪..‬هو الذى‬ ‫كان قبل أن يفقد الكرسى سليماا باسم الوجه‪..‬عرفت أن سبب هذا هو الكرسى ‪ ،‬وأنه بدونه‬ ‫جرى له ماجرى ‪..‬أخذت الكرسى اليه ‪..‬هو بحاجة له ‪..‬رئيس المجلس الجديد يستطيع أن‬ ‫يطلب غيره ‪.‬‬

‫تبسم المحقق ‪ ،‬سأله وهو يتابع تعبيرات وجهه‪-:‬‬ ‫ لكنه رفضه ياعم رمضان‬‫عبست أساريره واندفع قائ ا‬ ‫ل ‪ -:‬وهذا مايحيرنى !!‬

‫‪3‬‬

‫‪9‬‬


‫الوصية‬

‫تقدمت الحذية بقوة ‪ ،‬دفعت الباب بعنف‪ ،‬إرتطم بالحائط‪،‬إهتز بقوة قبل أن ينهار فى مكانه ‪،‬‬ ‫تدفقوا الى الداخل ‪ ،‬تكاثروا وأحاطوا بالجالسين ‪.‬‬ ‫‪.............‬‬ ‫كان أبى يمد يد اا حذرة الى كسرة الخبز أمامه ‪ ،‬يقطع منها لقمة صغيرة يغمسها فى طبق العسل‬ ‫السود ‪ ،‬وباليد الخرى يتحسس طريقه أسفل اللقمة خشية أن تقع منها نقاط على الحصيرة ‪،‬‬ ‫بينما أمى فى الناحية المقابلة من الطبلية تعجن الجبن القديم بلقمتها ‪ ،‬تفرده فى قاع الطبق ‪،‬‬ ‫تزيد من مساحتة ليكفى عشاءنا ‪ ،‬وتمسح اللقمة فى الحافة قبل أن تلقى بها الى بلعومها ‪ ،‬وانا‬ ‫فى الوسط بينهما أقضم لقيمات عجلى من الجبن استعداداا لكى أستدير الى العسل ‪ ،‬ووجدتهم‬ ‫فوق رؤسنا ‪ ،‬الوجوه الغليظة بعيونها النارية تحيط بنا ‪..‬مد أبى يديه حوله ‪،‬مط وجهه الى‬ ‫المام صارخا ‪ -:‬إيه ياولد ؟ القت أمى باللقمة التى كادت تغوص فى بلعومها الى الطبق‬ ‫ورفعت يدها كمن ضبط متلبسا ا بالسرقة ‪-:‬‬ ‫ الحقنا ياأبو حسين‬‫سألنى أحدهم بعد أن قيدنى رجاله وشولوا حركتى ‪ -:‬أنت حسين ؟‬ ‫صرخ أبى وهو يتحسس المكان حوله قائما من الطبلية ‪ ،‬ماداا يديه أمامه ‪..‬نظرت الى وجهه‬ ‫الممصوص وكفى يديه المعروقتين ‪ ،‬تركته اليهم ‪ ،‬أكفهم الواحدة منها تزن طنا ا ‪ ،‬انتبهت لمى‬ ‫تصرخ ‪ ،‬زمجر كبيرهم ‪،‬دفع الطبلية بقدمه ‪ ،‬تطاير العسل السود ووقع فوق الجبن القديم على‬ ‫الحصير وضاع العشاء ‪..‬بكى أبى ‪ ،‬ظلت أمى على صراخها ‪ ،‬بينما العسل والجبن على‬ ‫الحصير ‪.‬‬ ‫‪................‬‬ ‫على ذات الطبلية جلست أتحسس مكان كسرة الخبز ‪ ،‬أقطع منها لقمة صغيرة ‪ ،‬أبح ث عن بقايا‬ ‫العسل السود فى القاع ‪ ،‬بينما زوجتى تجلس أمامى ‪ ،‬بيدها كسرة خبز أخرى وقطعة جبن‬ ‫قديمة صغيرة الحجم ‪ ،‬تهرسها بلقمة تمسحها فى حافة الطبق قبل أن تلقيها الى بلعومها ‪،‬‬ ‫‪10‬‬


‫وبيننا جلس ولدنا الشاب يأكل الجبن وينتظر العسل ‪ ،‬حينما فتح الباب عنوة ‪ ،‬ارتطم بالجدار قبل‬ ‫أن يتهاوى ‪ ،‬تدافعت الحذية الثقيلة الى الحجرة ‪ ،‬أحاطت بنا ‪ ،‬مددت يدى أمامى وأخذت أمط‬ ‫وجهى للمام صارخا ا ‪ -:‬إيه ياولد ؟‬ ‫قيدوا ولدى ‪ ،‬شلوا حركته ‪ ،‬تحسست عينوى الممسوحتين بحسرة وصراخ أمه يهز الجدران ‪،‬‬ ‫انتفضت واقف اا أحول بينهم وبينه ‪ ،‬دفعنى أحدهم فى صدرى بحذائه الغليظ ‪ ،‬انقلبت على ظهرى‬ ‫فوق الطبلية ‪ ،‬طار العسل ليختلط بالجبن القديم فوق الحصير ‪ ،‬حملت جزعى وهممت بالقيام‬ ‫ثانية ‪ ،‬خذلتنى ساقاى ‪ ،‬جلست الى جوار الجدار أرزح تحت ضعفى ‪ ،‬بينما زوجتى لتهدأ ‪.‬‬ ‫قليل ا وتذكرت حفيدى ‪ ،‬ناديته وانا أدور بوجهى متلهفاا ‪ ،‬أتحسس صوته بأذنى ‪ -:‬نعم ياجدى‬ ‫ى‬ ‫مددت يدى اليه ‪ ،‬اقترب منى ‪ ،‬أمسكت بيده وأخذت أوصيه بما لد و‬

‫‪11‬‬


‫‪4‬‬

‫هروله‬

‫رأيته هناك ‪..‬يجلس وحده فى مدخل المقهى ‪ ..‬على يمين الداخل وحده ‪ ..‬كانت مائدته صغيرة ‪ ،‬تكفى بالكاد‬ ‫صينية الشاى ‪..‬انجذبت اليه ‪ ..‬الوجه أعرفه ‪ ..‬شعرت بهذا ‪ ..‬رأيته من قبل ‪ ..‬ليست غريبة عللى تلك الملمح‬ ‫القروية الرقيقة ‪ ،‬بسمرتها الرائقة ذات الطابع القمحاوى المميز ‪ ..‬أعرفه ‪..‬نعم ‪..‬لكن أين ومتى؟ ل أدرى‬ ‫‪..‬نظرت اليه من مكانى على يسار الباب ‪..‬انتبهت الى أنه يبادلنى النظرات ‪..‬مؤكد يتساءل عنى ‪..‬عيناه تقول ن‬ ‫هذا ‪..‬رفع كوب الشاى الى فمه ‪..‬تذكرت كوب الشاى أمامى ‪.‬‬ ‫المقهى فسيح ‪..‬أرضه مغطاة بنشارة الخشب ‪..‬موائده مصفوفة‪..‬مقاعده مرصوصة‪..‬أصوات قواشيط الطاولة‬ ‫والدومينو تزغرد بين الحين والحين ‪.‬أضواء اللمبات الفلورسنت يختلط بها دخا ن المعسل ‪ ،‬وهو يجلس‬ ‫هناك ‪..‬الحظ أيضا أ ن مائدتى صغيرة تكفى بالكاد صينية الشاى ‪،‬وأنا ايضا وحدى ‪.‬تتلقى عيناى بعينيه عبر‬ ‫فرجة من رؤس لعبى الطاولة‪..‬أين رأيتك؟ يصرخ صوت‪ -:‬شيش بيش تانى !!‬ ‫يعبس و جه كا ن يستعد للبتسام‪..‬يكركر الماء فى قلب زجاجى للشيشة‪..‬ليزال وجهه مألوفا لى ‪..‬لكن أين ؟‬ ‫‪..‬أنادى عامل المقهى ‪..‬أشير اليه بطرف خفى ‪..‬أسأله عنه ‪..‬يهز العامل رأسه قائل ‪-:‬‬ ‫ هو مثل آخرين يجيئو ن ويمضو ن فى هدوء ‪،‬ليشعر به أحد ‪ ..‬ليترك أثرا ما ‪،‬اللهم ال أثر حذائه على نشارة‬‫الخشب ‪،‬غير أ ن أقداما تجىء لتطمس ماقبلها‪.‬‬ ‫كا ن الخر قد قام ‪..‬اتجه الى الخارج ‪..‬التفلت الى عامل المقهى أسأله ‪-:‬‬ ‫ هل سيعود ؟‬‫‪12‬‬


‫ لأدرى‬‫شكرته وأسرعت نحو الباب ‪..‬تنبهت الى أ ن آثار أقدامنا قد توحدت قبل أ ن أخرج بعدة خطوات ‪..‬أكملت‬ ‫السير ‪..‬سألحق به ‪..‬أسأله ‪ -:‬من أنت ؟ ‪..‬سرت فى اصرار ‪..‬كا ن أمامى ‪..‬رفعت صوتى ‪..‬ناديته ‪..‬زمجرة‬ ‫العربات المارة وهدير الصوات المتداخلة أضاع صوتى ‪..‬وسعت طول الخطوات ‪..‬ازداد الزحام بدخولنا‬ ‫السوق ‪..‬بذلت جهدا لتتبع بعينى خطواته ‪..‬الوجوه كثيرة ‪..‬الملمح غريبة ‪..‬والوا ن الغروب تظلل‬ ‫الشياء‪..‬يجب أ ن أتحدث اليه قبل أ ن يطوى الليل أستار النهار ‪..‬لو غاب عن عينى ‪-‬أشعر أننى – لن أعثر‬ ‫عليه ثانية ‪..‬تزداد المسافة بيننا طول ‪..‬أبدأ الهرولة ‪..‬يزداد العزم ‪..‬يقوى الصرار ‪..‬لبد أ ن أكلمه ‪..‬صحيح‬ ‫أننى حتى ال ن لأعرف ماذا سأقول له ‪..‬لكن حينما سنكو ن معا مؤكد سأجد ما أقول ‪..‬تزداد الظلمة توغل‬ ‫‪..‬تتلطم المناكب ‪..‬تختلط الوجوه ‪..‬تزداد الهرولة ‪..‬قدماى تصرخا ن ‪..‬دقات قلبى تضج ‪..‬أحاول التوقف ‪..‬ل‬ ‫أستطيع ‪..‬أظل أسير ‪..‬أبحث عنه ‪..‬ل ألمل من البحث‬

‫‪5‬‬

‫البيت‬ ‫‪13‬‬


‫حينما مضت عنك زوجتك انكسرت ‪..‬أنت نفسك‪ -‬فى داخلك – اعترفت بهذا ‪..‬دموعك‬ ‫التى جفت فى عينيك ظلت فياضة فى القلب ‪ ،‬وشعرت بأنياب الفراغ تتناوشك وأنت بل‬ ‫حول‪ ،‬ترى الدنيا من حولك خالية ‪..‬تتذكر ضيقك منها وصبرك عليها وتحملك لها ‪،‬‬ ‫وتعود الى لحظاتك الحالية بدونها فتتمنى لو تعود وتفعل ماتريد‪ ،‬فقد كانت هى الوجود‬ ‫بالنسبة لك أو هى الدنيا كما قال الشاعر )قد تغدو إمرأة ياولدى يهواها القلب هى الدنيا‬ ‫( ‪..‬صحيح أنك لم تحبها يوما ا ‪،‬كنت تستسيغ زواجكما مضطراا ‪ ،‬إل أن الععشرة فى‬ ‫النهاية تحولت الى تفاهم أقرب للحب ‪ ،‬أو هو استسلم لقدرر ل مفر منه ‪ ،‬رأيت أنت‬ ‫فيه تحقيق حياة مستقرة أفضل من حياة أخرى بل لون ول طعم‪ ،‬أو هو حب حد ث‬ ‫وأنت لتدرى بدليل ذلك الفراغ الذى حل و بعدها ‪.‬‬ ‫تجلس الن فى حجرتك \حجرتكما ‪..‬تراها قادمة من عملها فى حدود الرابعة بعد الظهر‬ ‫‪..‬وجهها كقرص شمس الغروب ‪ ،‬مقطوعة النفس تلعن المواصلت واضطرارها للعمل‬ ‫بسبب كسلك وتقاعسك ‪ ،‬فلو أنك بحثت عن عمرل آخر بعد الظهر لتيت بما يكفى‬ ‫البيت ‪ ،‬ولما اضطرت هى الى مذلة الخروج من بيتها‪ ،‬والتعرض لما تتعرض له يوميا ا‬ ‫سواء فى العمل أو المواصلت ‪ ،‬خاصة أن المشوار طويل بين بيتكما فى أطراف‬ ‫المدينة ومكان العمل فى الضواحى ‪..‬قديماا كنت ترد عليها بأنك حتى لو وجدت عملا‬ ‫آخر وأتيت بمال قارون فلن تترك عملها قط ‪ ،‬وتدخلن فى جدال لينتهى‪ ..‬بعدذلك‬ ‫تعلمت الصمت ‪ ،‬ربما لشعورك بل جدوى هذه المناقشات ‪ ،‬وربما لحساسك بما فى‬ ‫قولها من صواب ‪ ،‬وربما أيضا وهذا القرب خشيتك من التكرار شبه اليومى لهذه‬ ‫الحرب التى لتتحملها أعصابك‪ ،‬خاصة أنها –كانت – تمتلك لسانا لينضب له معين ‪،‬‬ ‫ولديها قدرة هائلة على التحد ث لساعات بل ملل أو اجهاد ‪..‬لذا فقد تعلمت الصمت ‪،‬‬ ‫تتركها تتكلم لحظات تطول أو تقصر‪ ،‬ثم تقوم الى المطبخ ‪ ،‬توعد الغذاء وتنسى ماكان‬

‫‪14‬‬


‫وتتكلم معك عما جرى اليوم قائلة أن أجمل مافى المر أنكما أصبحتما صديقين ‪..‬تبتسم‬ ‫أنت وتلزم الصمت ‪.‬‬ ‫يناديك ولدك الكبر‪..‬تلتفت عنها اليه ‪..‬بابا ‪..‬نريد طعاماا ‪..‬تعود اليها ‪..‬يلفحك الفراغ‬ ‫بنيرانه ‪..‬ينزف القلب أنينه من جديد ‪.‬‬ ‫‪-------------‬‬‫لنكم أربعة أرواح كان المكان دافئاا تنتشر فيه حرارة النفاس والكلمات ‪ ،‬يموج‬ ‫بالحركة ‪ ،‬ول يخلو من حروف متطايرة‪ ،‬خاصة منها فهى لتستريح للصمت ‪ ،‬وكثيراا‬ ‫ماكنت تضبطها وحدها تأتنس بالغناء بصوتها الحاد الذى يزعج السكون‪ ،‬فتضحك منها‬ ‫ومن كلماتها التى تخترعها لنها تنسى الكلمات الصلية ‪.‬‬ ‫ف المكان ‪..‬صارت البرودة تسكن الجدران والفراش‬ ‫الن ورغم أنكم ثلثة غادر الد ف‬ ‫وقلبك ‪ ،‬ورغم الحركة يسكن الفراغ المكان ‪..‬تنظر الى ولديك ‪..‬أحدهما يجلس الى‬ ‫الكمبيوتر مشغول بمحادثة هامة مع وجه أنثوى أصفر على الشاشة البيضاء ‪،‬بينما‬ ‫سلماا عينيه لشاشة التليفزيون‪ ،‬بينما‬ ‫الخر هناك يرقد نصف رقدة على الفراش ‪ ،‬م و‬ ‫المكان كله يعوم على بحيرة فوضى لم ترها من قبل ‪..‬تنظر حولك‪ .‬تبدو لك وهى‬ ‫تصرخ حينما تعود من عملها وترى الصحون على المائدة وفي كل منها بقية من‬ ‫طعام ‪،‬والردهة والتراب المنسل الى المقاعد وأعلى السجاجيد ‪..‬تدور فى البيت‬ ‫وصراخها يسبقها على الجريمة التى حدثت فى غيابها فقد تركت المكان كله منسقا ا‬ ‫ليوجد به ذرة من تراب ‪ -:‬لن أتحمل هذا ‪..‬ل أملك الوقت ول الجهد لهذا الشقاء‬ ‫اليومى ‪.‬‬ ‫تطلب من ولديك الهتمام بالمر ‪..‬تتوه كلماتك فى الفراغ ‪..‬تعود من عملك يوميا ا قبلها‬ ‫بساعة تقريب اا تنظف المكان بقدر ماتستطيع ‪..‬تعود هى من عملها ‪..‬تقول لك فى غضب‬ ‫زائف لتفعل شيئا ا ‪..‬أنت تزيد المر سوءاا ‪..‬تدور بعينيك باحثا ا عنها لتقول لها فى رفق‬ ‫من ليرحم لضيرحم ‪..‬لتجد ال الفراغ وبرودة تسرى فى عظامك وظلمة تزحف الى‬ ‫عينيك ‪..‬تطفر الدموع رغماا عنك‪..‬أنت هكذا الن ‪..‬دموعك تسبق كلماتك ‪..‬تتحرك الى‬ ‫الردهة بين الكمبيوتر والتليفزيون مصاحبا ا مرضك ‪..‬البيت فوضى‪ .‬النظافة‬ ‫فارقته‪..‬فوق طاقتك أن تقوم بالمر كله وحدك‪..‬تسألهما –ولداك ‪ -‬الجلوس معا ا لتحمل‬ ‫‪15‬‬


‫المسئولية الجديدة فى حدود المعاش الذى تقبضه كل شهر ‪..‬يضيع صوتك بين فوضى‬ ‫الصوات ‪.. ..‬تتحرك نحو الكمبيوتر ‪..‬تصرخ ‪ -:‬دع هذا وقم لنرى مايجب عمله‬ ‫يواجهك بعينى اللمبالة ‪ -:‬سأقوم ‪..‬لكن ليس الن‬ ‫تتركه الى التليفزيون ‪..‬يدهمك رده ‪..-:‬حينما يقوم هو سأقوم أنا‬ ‫يصرخ الول من مكانه ‪ -:‬مالك بى ؟‬ ‫يرد الثانى ‪ -:‬لتشعر بما حولك‬ ‫يرد الول ‪..‬يصرخ الثانى ‪..‬يتمدد الوقت على حد الصرخات مذبوحا ا ‪. .‬‬ ‫تبكى وتتحرك نحو الباب قائل‪-:‬‬ ‫‪ -:‬لن أبقى معكما‬ ‫‪..‬تطغى الصوات العالية على صوتك ‪..‬تفتح الباب ودموعك تسبق الكلمات‪-:‬‬ ‫‪ -:‬لن أبقى معكما‬ ‫‪..‬وتواجه الطريق !‬

‫‪16‬‬


‫‪6‬‬

‫الباب المغلق‬

‫إرتفع رنين الجرس فى فضاء الردهة‪..‬هب مفيد من مرقده ‪..‬إتجه نحو الباب وهو يتساءل عمن‬ ‫سمح لنفسه بالمجىء الن ‪..‬رمى بعينه يميناا ‪..‬حجرة الولد مغلقة حي ث يخلعون ملبس‬ ‫المدرسة ‪ ،‬ويرتبون أشياءهم إنتظار اا لتناول الطعام ثم المذاكرة ‪..‬إتجه بعينه الى أقصى اليسار‬ ‫حي ث المطبخ ‪ ،‬وسناءالتى تدور فى أرجاءه دون توقف ‪ ،‬تسابق اللحظات لتجهيز الطعام ‪..‬أكمل‬ ‫السير سريع اا ‪..‬خطوات معدودة هى ‪ ،‬يرى بعدها ذلك الذى أخذه من رقدته وجريدة اليوم التى‬ ‫كان يتصفحها ‪..‬فتح الباب ‪..‬صرخ من الفرح والدهشة معا ا ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫حنان !!‬

‫وشدها من يدها ‪..‬أطلت سناء من فرجة باب المطبخ ‪..‬إنقلب تقلص ملمحها الى ترحيب‬ ‫وانبساط ‪..‬تلقتها بالقبلت وهى تسأل نفسها عن سر هذه الزيارة التى لم تكن فى الحسبان ‪،‬‬ ‫فمنذ زمن ر ليس بالقليل لم تفكر فى زيارتهم ‪ ،‬هم أيضا ا لم يزوروها ‪ ،‬وأكتفى الطرفان‬ ‫بمحادثات هاتفية من وقت لخر‪ ،‬وزيارات فى العياد للمجاملة ‪ ،‬أما فى اليام العاديةوفى وقت‬ ‫العصر مثل الن فالمر يحتاج الى تفسير ‪.‬‬ ‫إستأذنت سناء فى العودة الى الطبخ ‪..‬أكدت عليها أن تجلس الى أخيها قليلا حتى توعد الطعام‬ ‫‪..‬تولون وجه حنان ‪..‬همست أنها لتريد طعاماا ‪..‬نظر مفيد اليها بجواره ‪..‬الوجه غزته شيخوخة‬ ‫مبكرة ‪..‬مؤكد من أثر المجهود الذى تبذله والتوتر المستمر فى العمل ‪..‬سناء أيضا ا تترك عملها‬ ‫عند الظهر ‪..‬تمر على السوق ‪..‬تدخل الشقة ‪..‬تجد الولد سبقوها وجلسوا فى حجرتهم ينتظرون‬ ‫‪..‬تفد وخل المطبخ ‪..‬يكون هو قد وقف فى طابور العيش أمام الفرن بعد إنتهاء‬ ‫عمله ثم يعود للبيت‪.‬‬ ‫‪17‬‬


‫عاد اليها بجواره ‪..‬عيناها فقدتا بريقهما القديم ‪..‬صارتا تحملن دقائق وثوانى الزمن ‪..‬تهرولن‬ ‫بينها بل توقف ‪..‬بينما الشعر القديم الذى كانت تفرده خلف ظهرها كأسلك الحرير مقيد الن‬ ‫خلف منديل أبيض يدور حول الوجه فى شحوب ‪.‬‬ ‫ض من حنان ‪..‬كانت أقرب شقيقاته اليه‬ ‫منذ شهور لم يرها ‪..‬مؤكد جاءت لتراه ‪..‬هى هكذا في ض‬ ‫ومازالت ‪..‬هو أيضا كان قريب اا اليها ‪..‬تصرفاتها معه كانت تقول هذا‪ ،‬رغم أنهما فى الصغر كانا‬ ‫دائمى الشجار لنهما ولدا فوق رأس بعضهما‪ ،‬كما كانت تقول المرحومة أمه ‪..‬همست ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫مفيد‪..‬أريدك فى أمر هام‬

‫حدق فى عينيها ‪..‬أكملت وعيناها تبحثان عن مهرب منه ويداها تضغطان بعضهما فى حجرها ‪-:‬‬ ‫أومر وزوجى بضائقة ‪،‬ولم أجد سواك‬‫إرتفع صوت سناء قادم اا من المطبخ ‪..‬سألته أن يساعدها فى إعداد المائدة ‪..‬همس وهو يقوم ‪-:‬‬ ‫نتناول الطعام أول‬ ‫همس صوتها ملحقاا خطواته المبتعدة‪ -:‬لم آت لكل ‪.‬‬ ‫مضى الى المطبخ ‪..‬همس لسناء بما لديه وعاد ينادى الولد ‪..‬التوفوا حول عمتهم فى حبورر ‪،‬‬ ‫بينما هى تتابع أخاها وهو يتحرك ‪..‬صورته القادمة من الماضى شدتها ‪..‬شتان بينه وبين ماكان‬ ‫بعد الطعام دعاها الى حجرته ‪..‬كانت سناء بجواره ‪..‬حادثها أمامها ‪..‬مضت الى الباب محنية‬ ‫الرأس فى صمت ‪..‬جلس بحجرته هادئ اا يحاد ث سناء ‪..‬إنتبه لمه أمامه ترميه بنظرات الحنق‬ ‫‪..‬تقلصت ملمحه وضاقت عيناه ‪..‬سألته سناء عما به ‪..‬لم يرد ‪..‬هرول نحو الباب ومن أعلى‬ ‫السلم صرخ ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫حنان ‪..‬تعالى‬

‫‪18‬‬


‫‪7‬‬

‫معنى فى القلب‬ ‫‬‫‬‫‬‫‬‫‪-‬‬

‫‪-‬‬

‫‬‫‬‫‪-‬‬

‫‬‫‬‫‬‫‬‫‬‫‬‫‬‫‪-‬‬

‫شعرت بهبوب عاصفة بين جنبوى اقتلعت القلب من موضعه ‪ ،‬هى بذاتها ‪ ،‬لم تتغوير ‪.‬‬ ‫تفرست فيها تاركا ا المارة حولنا يتبعثرون فى الطرقات ‪ ،‬الحسنة الصغيرة أسفل يمين‬ ‫أنفها ‪،‬الفم الدقيق كنبضة السحر ‪ ،‬الجسد الممتلىء المتناسق ‪ ،‬العيون الدافئة النظرات‬ ‫‪..‬كأننى ماتركتها ال المس ‪.‬‬ ‫توقف تدفق العربات فى الميدان الكبير إثر إحمرار إشارة المرور ‪،‬هتفت باسمها ‪ ،‬رأيتها‬ ‫تحدق فى وجهى ‪ ،‬تتسع عيناها ‪ ،‬تتألق إبتسامتها ‪ ،‬وتنطق باسمى كأنها تبعثه من جب‬ ‫عميق ‪.‬‬ ‫تلقت الكف ‪ ،‬زغردت النظرات ‪ ،‬قالت وهى تقترب منى خطوة ‪ -:‬أنت!!‬ ‫وتطايرت من حولنا الشياء ‪ ،‬تبعثرت واختفت ولم يعد هناك سواى وسواها‬ ‫‪ ،‬تدفقت الكلمات من شفاهنا معاا ‪ ،‬ضحكنا حينما اكتشفنا هذا ‪ ..‬كنا نفعل هذاقبل ا ‪ ،‬تركت‬ ‫نفسى لشعورى الفائر بقربها ‪ ،‬غير أنى رغما عنى لحظت أن صوتها تغوير قليلا ‪ ،‬لم يعد‬ ‫له تدفقه الول ‪ ،‬وهناك تغضنات براعة المساحيق تخفيها ‪ ،‬ثم هذا البريق فى يدها‬ ‫اليسرى ‪..‬هويت من حالق ‪ ،‬كأننى لم اتوقع هذا أو اكتشفه الن فقط ‪ ،‬نظرت اليها لئما ا‬ ‫‪،‬انتبهت أنها ترمق خاتم الزواج فى يدى أيضاا‪ ،‬وتدير عينيها الى حي ث تنظر الى المارة‬ ‫الذين يمرون فى صمت من حولنا ‪.‬‬ ‫قلت قاطعا ا لحظات الشرود ‪ -:‬تزوج ع‬ ‫ت؟‬ ‫تبسمت عيناها ‪،‬ربما لسذاجة سؤالى ‪،‬قالت وهى تتجه بنظراتها الى يدى‪ -:‬سنة الحياه‬ ‫" كان يمكن أن أذهب اليها ‪ ،‬مجرد أن أذهب كانت ستنسى أى خلف بيننا ‪ ،‬والدها قال لو‬ ‫رضيت هى لن أمانع "‬ ‫أدير وجهى فيما حولنا ‪،‬الشارات الحمراء تصنع مظاهرة فى نهر الطريق ‪،‬‬ ‫يأتينى صوتها متسائلا ‪ -:‬أين ذهبت بك الفكار ؟‬ ‫أهمل سؤالها متعمداا ‪،‬أعود الى وجهها ‪ -:‬إبتسامتك ماتزال رائعة ‪.‬‬ ‫أدارت وجهها الى عرض الطريق ‪ ،‬قالت ‪ -:‬لم تتب من الكذب‬ ‫سألت ل أعرف لماذا ‪ -:‬عندك أولد ؟‬ ‫‪19‬‬


‫‬‫‬‫‪-‬‬

‫‪-‬‬

‫‬‫‬‫‬‫‬‫‬‫‬‫‪-‬‬

‫‬‫‬‫‪-‬‬

‫غامت عيناها ‪ ،‬هزت رأسها نفياا‪ ..‬اضطربت ‪،‬غمغمت معتذراا للسؤال ‪..‬رسمت ضحكة على‬ ‫شفتيها ‪،‬قالت ‪ -:‬وأنت ؟‬ ‫هززت رأسى باليجاب ‪..‬ارتفعت أصوات أبواق السيارت من حولنا ‪،‬تدافعت المناكب‬ ‫وتلطمت الصوات ‪ ،‬تكلمت أنا وهى فى ذات اللحظة ‪ -:‬كنا ‪....‬‬ ‫انتبهنا لما جرى ‪ ،‬ضحكت أعيننا من جديد وعدنا الى الصمت ‪..‬رمقت عينيها ‪،‬لم يعد لهما‬ ‫ذات السحر القديم ‪..‬نظرت ناحيتى شاردة ‪،‬عيناها متاهاتان ‪ ..‬كدت أصرخ فيها ‪" -:‬لماذا‬ ‫تعاملت معى بعقلك فى الوقت الذى كنت أعاملك فيه بقلبى فقط ‪ ،‬ال يملك القلب إقامة حياة‬ ‫وصنع مستقبل ؟ "‬ ‫غير أننى لم أجد معنى لعتاب الن ‪،‬أخذت أتأملها ‪،‬كأننى للمرة الولى أراها ورغما ا عنى‬ ‫أبح ث عن المشاعر القديمة ‪،‬اللهفة ‪، ،‬الخوف ‪،‬الرجاء ‪،‬وأتسائل كيف صار كل منا صورة‬ ‫مكررة لشخص قديم ضاع ‪ ،‬فأنا لم أعد أنا وهى لم تعد هى ‪ ،‬صرنا ننظر الى أنفسنا‬ ‫ومشاعرنا من الخارج ‪ ،‬تهنا وتاهت منا تلك اليام ‪ ،‬حتى المشاعر التى فارت حين رأيتها‬ ‫عادت وبردت من جديد ‪،‬غريبان يلقى كل منهما الخر ‪..‬ثم !! كأن الذين كانا بالمس‬ ‫إثنان آخران غيرنا ‪ ،‬كل مايربطنا بهما أننا فقط نتذكر حكايتهما ‪.‬‬ ‫عدت الى وجهها ‪ ،‬صارت شخصا ا آخر ‪،‬كأنها لم تكن بالمس ال معنى فى القلب ‪،‬أو طيف‬ ‫يمر بخيال ‪ ،‬فل نذكر الملمح وإن كنا نعرفه ونفكر فيه وربما تشوقنا اليه ‪.‬‬ ‫قلت استمراراا للحوار ‪ -:‬حدثينى عن حياتك الن‬ ‫تبسمت ‪ -:‬قل أنت أول ماشكل حياتك‬ ‫شاركتها البتسام قائلا ‪ -:‬بدونك لمعنى لها‬ ‫شعرت بها تبذل جهداا لتبتسم ‪ ،‬عيناها مجهدتان ‪ ،‬مؤكد العمل ‪،‬الزوج ‪،‬الفكر‬ ‫صراا على الكذب ‪.‬‬ ‫قالت ‪ -:‬مازلت م و‬ ‫ازداد صراخ أبواق السيارات ‪..‬رأيتها تنظر فى ساعتها ‪،‬شعرت بضيق مفاجىء ‪ ،‬تصر‬ ‫على التعامل معى بعقلها فى كل المواقف ‪ ،‬فتحت فمى لتكلم ‪،‬رأيت الصمت أجدى ‪،‬نظرت‬ ‫بحركة مرسومة الى ساعتى أيضاا‪ ،‬وهمست متسائل فى حيادية ‪ -:‬أراك ثانية ؟‬ ‫انتبهت لخضرار إشارة المرور ‪،‬رفعت عينيها بنظرة ذات حدود وأبعاد‬ ‫‪ ،‬قالت ‪ -:‬مؤكد سنلتقى‬ ‫ومدت يدها مسلمة ‪،‬بعدها أدارت ظهرها لى ومضت ‪ ،‬تذكرت أننى لم أسألها أين أو‬ ‫متى ‪..‬هى أيضاا لم تشغل بالها بهذا ‪،‬فكرت أن أناديها ‪ ،‬لم أجد جدوى لهذا ‪ ،‬تركت‬ ‫الميدان ‪ ..‬ومضيت !‬

‫‪20‬‬


‫‪8‬‬

‫المضمار‬ ‫‬‫‬‫‬‫‬‫‪-‬‬

‫اركض‬ ‫لتتوقف هكذا ‪..‬نعم‬ ‫ادفع هذا الذى كولت قدماه‪..‬المضمار ليقبل الضعفاء‪..‬اركض وانظر أمامك ‪ ..‬نعم‬ ‫‪..‬ولتبالى بهؤلء الذين يمرقون بجانبك ‪ ،‬فهم ليبالون بك ‪ ،‬ول ينظرون اليك ال لتحديد‬ ‫الخطوة التى ستكون أمامك ‪ ..‬فى البيت سيهللون لك اذا سبقت ‪..‬سوف ترى فى العين‬ ‫السرور ‪،‬وسوف يظلون على فخرهم بك طالما أنت تواصل الركض داخل المضمار بنفس‬ ‫‪21‬‬


‫‬‫‬‫‪-‬‬

‫‪-‬‬

‫العزم ‪ ،‬وربما تطوع أحدهم راضيا ا أن يمضى معك ‪ ،‬يتعلم منك ‪،‬عازما ا فى نفسه إن‬ ‫استطاع أن يسبقك ذات يوم ‪.‬‬ ‫‪.................‬‬ ‫آااااااه‬ ‫هذا ماكنت تخشاه طول الوقت قد حد ث ‪ ،‬السقوط وسط المضمار ‪ ،‬تدوسك القدام ‪ ،‬تطأ‬ ‫رأسك ‪ ،‬يحملوك خارجا ا‪ ،‬يتركونك وحيداا لتبالى بك عين ول يأبه لك سمع ‪ ،‬بالكشف‬ ‫يتضح وجود كسر ر فى إحدى ساقيك يمنعك من العودة ‪ ،‬تصرخ ‪ ،‬ترفض العتراف بالمر ‪،‬‬ ‫تحاول النهوض‬ ‫لمواصلة السباق ‪ ،‬لتستطيع ‪ ،‬تتجه عيناك الى قبة السماء ‪،‬ولنها المرة الولى لك‬ ‫لتعرف مالذى يجب أن يقال ‪ ،‬تسقط رأسك فى إعياء على براح صدرك ‪ ،‬تذكر والدك‬ ‫الفران وذرات الدقيق تغطى جسده ‪ ،‬وأنت ذاهب اليه تأخذ مصروفك منه ‪ ،‬صورة تشغل‬ ‫ركن اا فى ذاكرتك ليمحى ‪ ،‬رحمه ا لم يكن يحسن العدو ‪ ،‬كان بالكثير يمشى ‪ ،‬خطوته‬ ‫البطيئة جعلته فى المؤخرة دوما ا ‪ ،‬سبقه آخرون ‪ ،‬قطعوا المسافت بعيداا وتركوه مكانه ‪،‬‬ ‫كان السفح بالنسبة له آمناا ‪ ،‬ليرى فيه خشية السقوط التى تنتاب أهل القمم ‪ ،‬كانت لديه‬ ‫مقولت محفوظة من جدوده أصحاب الكهوف والسراديب والحفر أن القناعة كنز‪ ،‬والصبر‬ ‫ثروة ‪ ،‬ومحاولة تسلق المرتفعات مغامرة غير مأمونة العواقب ‪ ،‬لذا حينما نزلت أنت الى‬ ‫المضمار بدل امنه إتجهت اليك أنصاف النظار ‪ ،‬بعضها مشفق من طول السباق ومن قلة‬ ‫الخبرة بقانون الركض وحيل الراكضين ‪ ،‬والبعض الخر إستهزأ بك قائل ا أن الولد سر‬ ‫أبيه ‪ ،‬ومؤكد يحفظ عبر سراديب عقله الممتلئة بخفافيش الظلمة المتوارثة مقولت أبيه ‪،‬‬ ‫وأنك بالكثير ستهرول قلي ا‬ ‫ل فى براح السفوح ثم تنقطع منك النفاس لن لين عظامك لن‬ ‫يساعدك على الستمرار ‪ ،‬وانطلقت الى المام ‪،‬رأيت الحواجز تعترض طريقك ‪ ،‬والليل‬ ‫يدور بك والعين ترصدك ‪ ،‬والسقوط يتعقبك ‪ ،‬لم تبال بشىء ‪،‬هرولت بكل جهدك وصورة‬ ‫أبيك لتفارقك ‪،‬هرولت ولم تضع فى حسابك إمكانية التعثر أو احتمال السقوط ‪ ،‬حتى الن‬ ‫وأنت فى مكانك على جانب الطوار وحيداا ال من عينيك اللتان ترصان المضمار ومن فيه ‪،‬‬ ‫وصدرك الذى لتهدأ ناره لتفكر فى الشكوى ‪ ،‬ولتلعن من أوقعك ‪ ،‬ولتبكى لعدم وجود‬ ‫ساق جاهزة بدل ا من تلك التى لم تعد ذات جدوى ‪ ،‬بل تستند على عكازك وتواصل‬ ‫العدو ‪،‬صحيح أن خطوتك تأثرت كثيرا ا باصابتك لكنك تمضى ماوسعك المضى ‪ ،‬المهم أن‬ ‫تكون داخل المضمار ‪،‬وهذا يحسب لك !!‬

‫‪22‬‬


‫‪9‬‬

‫‪-‬‬

‫الكلب‬ ‫بالمس بعت الكلب الباقى من العائلة ‪..‬حاولت أن أبدو أصيل أمامه فأجريت دمعة أو إثنتين‬ ‫على خدى فى صمت ‪..‬فى الحقيقة ‪..‬هو ايضا كان حزينا ‪..‬بدا حزنه نبيل مثله وظل صامتا‬ ‫طول الوقت ‪.‬‬ ‫كنت قد شرحت له المر بالتفصيل قبل أن نخرج الى الطريق ‪..‬اجلسته على مقعد مقابل فى‬ ‫‪23‬‬


‫الردهة وتحدثت اليه ‪..‬لم يأخذ المر وقتا اذ وجدت لديه استعدادا طيبا لتفهم المر‬ ‫‪..‬ضممته الى صدرى فى رفق ومضيت الى الطريق ‪..‬وصلت السوق ‪..‬وقفت صامتا اتذكر‬ ‫كلمات ) كريمه ( خطيبتى الحالية وزوجة المستقبل ‪..‬ل أعرف لماذا اهتم بعباراتها‬ ‫‪..‬ارددها واحفظها وأنفذ ماتريد‪....‬أعيش عبر الحروف ‪..‬واستلهم من العبارات حياة‬ ‫أعيشها وأتنسم ريحها بلهفة لمثيل لها ‪..‬وقفت إذن أتذكر كلماتها وهى تقول ‪- :‬‬ ‫ أريد بيتا خاليا من الغراب‬‫ولننى أحبها وأتوق الى الزفاف سريعا ليس لغرض سوى أن أكون بجوارها كل ‪ -‬وليس‬ ‫بعض ‪ -‬الوقت فقد تحمست للمر ‪..‬انتحيت بكلبى جانبا ‪..‬اعدت عليه ماقالت ‪ ،‬واضفت ‪- :‬‬ ‫ إياك أن تظننى أطيعها وأفعل المستحيل لرضيها من أجل جاه أبيها ‪،‬أو مركزه ‪،‬أو أننى‬‫أعمى ل أرى دمامتها ‪..‬كل ‪.‬‬ ‫ واقسمت له تأكيدا على ما أقول‪..‬حرك ذيله ‪..‬ادركت أنه اقتنع ‪..‬اكملت ‪- :‬‬‫ أننى أريد زواجا سعيدا ‪..‬هل تفهم ما أعنى ؟‬‫ حدق فى وجهى ونبح مرة أو اثنتين ‪..‬قالت عيناه أنه يقدر ما أقول وليجد فى صدره‬‫شيئا من ناحيتى ‪..‬تبسمت له وحملته بين يودى وانا اؤكد انه ليس غريبا عنى ‪ ،‬فأبوه كان‬ ‫صر على‬ ‫يحرس البيت قبله ومات فى حادثة مشهورة ‪،‬كتبت عنها الصحف فى حينها ‪،‬فقد أ و‬ ‫مطاردة لص اطلق عليه النار ليكف عنه ‪،‬ولم يكف ولم يتركه ال حينما رأى رجال الشرطة‬ ‫‪،‬لحظتها تركه لهم واتخذ ركنا مات فيه بهدؤ ودون ضوضاء ‪،‬بعدها ونتيجة للذكرى الليمة‬ ‫المرتبطة بالمكان لم تتحمل الكلبة الم المعيشة معنا وهجرت البيت ‪،‬وبقى هو موظفا امينا‬ ‫قليل الطلبات ‪..‬يأخذ مايصل اليه بصدر رحب ‪..‬ليطلب المزيد وليفكر مجرد تفكير فيه‬ ‫‪،‬ومتى رآنى يهب واقفا فى احترام نبيل وهو يهتف بلغته هتافات مدوية تخجلنى فأنظر اليه‬ ‫فى عطف وارفع يدى نصف رفعة وابتسم نصف ابتسامة واسأله عن حاله وهل هو سعيد‬ ‫فى مكان عمله ام ل ‪،‬وهل يأتيه طعامه فى موعده ام ل ‪،‬واتركه شاعرا اننى فعلت‬ ‫مابوسعى تجاهه ‪ .‬لكننى امام الظرف الجديد كان لبد ان اضحى ‪.‬فأخذته رغما عن ايجابية‬ ‫مشاعرى نحوه ومضيت الى السوق ‪ ..‬حملته ووقفت جانبا ‪..‬غارقا فى بحيرة صمت راكدة‬ ‫راسما ملمح اسى ‪،‬كلما ادار وجهه ناحيتى يراها فيطلق عقيرته بالنباح تضامنا معى‬ ‫‪..‬اقترب رجل بدا من ملمحه انه يريد الشراء ‪..‬مد نظراته اول ‪..‬ازداد وجهى تغضنا ‪..‬مد‬ ‫يده ‪..‬لم اتحرك ‪..‬سأل ان كنت اريد بيعه ‪..‬همست مبديا مزيدا من السى انه اصيل ‪،‬من‬ ‫النوع النادر ولول الظروف مااضطررت لبيعه ‪..‬سأل ‪- :‬بكم تبيعه ؟‬ ‫سألت ‪ - :‬بكم تشتريه ؟‬ ‫قال الثمن ‪..‬وافقت فور اا دون نقاش ومددت يدى اليه ‪..‬حمله ونسى أن يعطينى النقود ‪..‬انا‬ ‫ايضا تشاغلت عنه بفرحة العودة الى كريمه ملبيا طلبها ‪ ..‬كان الوقت ظهرا ‪..‬جلست على‬ ‫طرف المائدة اتناول ماوضعوه امامى من طعام ‪..‬هبت تاركة مكانها‪..‬لم انتبه لهذا ال حينما‬ ‫سمعتها تنطق إسمى مشفوعا بالفاظ ل اعتقد أنها تقصدها مثل )الدناءه – الجرثومه –وما‬ ‫اليها ( وتطلب منى مغادرة المائدة فوراا و المثول بين يديها‪..‬تمنيت أن اطلب منها النتظار‬ ‫‪24‬‬


‫لحين شعورى بالشبع ‪..‬لم استطع ‪..‬رأيتنى اهرول نحوها ‪..‬اطأطىء رأسى هامسا ‪ - :‬نعم‬ ‫سألتنى ‪- :‬ماذا فعلت ؟‬ ‫قلت بفرحة ‪ -:‬لن يوجد بيننا أغراب بعد الن ‪..‬لقد بعت الكلب ‪.‬‬ ‫وانتظرت أن تفرح مثلى ‪..‬غير أننى فوجئت بعينيها تضيقان وتحدق فى وجهى ‪- :‬‬ ‫ لم اقصد الكلب ‪..‬انا اقصد أباك‬‫ اتسعت عيونى‬‫ ودق قلبى فى عنف ‪..‬جال بخاطرى لحظتها إننى نسيت أن آخذ ثمن بيع الكلب ‪..‬نحيت‬‫هذا الخاطر جانبا واتجهت بعينى الى وجهها‪ ..‬البثور المنثورة فيه متوترة ‪..‬النقاط السوداء‬ ‫منفعلة ‪ ،‬والسنان بفكها العلوى النافر توشك على عقرى ‪..‬ابتعدت ‪..‬سألتنى ‪..‬فيم تفكر ؟‪..‬‬

‫سريعا قلت ‪ -:‬فى كيفية بيع أبى!!‬

‫‪10‬‬

‫الهبوط من لحظة حلم‬ ‫‪-‬‬

‫حين فتح الباب رآهم‪..‬ارتعد ‪..‬نظراته وشت لهم بما لديه ‪..‬تحركوا نحوه ‪..‬مدوا أيديهم اليه‬ ‫‪..‬زادت إرتجافه جفونه وهو يرقب مايفعلون ‪.‬‬ ‫كان منذ قليل وهو يصعد السلم يمنى النفس بدقائق يقضيها ممداا على الفراش قبل أن يفكر‬ ‫فى تناول طعامه المجمع إفطار وغداء وعشاء ‪..‬دقائق يريح فيها رأسه قبل ظهره من‬ ‫الفكار المتأججة التى تشتعل فيها بل إنتهاء ‪ ،‬فهو فى تلك المدينة فرع ل أصول له ‪..‬عود‬ ‫يابس يكافح للبقاء ‪..‬صمته أنيسه كأنما نسي الكلمات أو نسيته ‪..‬يقوم كل صباح ‪..‬يمضى‬ ‫الى مقهى العمال على قمة الطريق فى أول الميدان ‪..‬يوضع كوب الشاى أمامه‪..‬يرتشفه‬ ‫وهو يرقب العربات المارة ‪..‬تقف إحداها يحتاجون لعمالة يوميه‪..‬حينما يشيرون اليه يتجه‬ ‫الى الخلف ‪..‬دائماا الى الخلف ‪..‬يصعد الى الصندوق حي ث يجلس القرفصاء وسط بقية‬ ‫العمال ‪ ..‬عادة ليكون معه ثمن إفطاره ‪..‬يقوم بما يوكل اليه من عمل ‪..‬وقت الراحة يجلس‬ ‫وسط رفاقه ‪..‬هم يتسامرون وهو سادر فى صمته ‪..‬يتخذ له ركنا ا يرى منه مايجرى عن‬ ‫بعد ‪..‬يقرصه الجوع أو تشكو رأسه من صداع ‪..‬يمنى نفسه بلحظة إنفراده بالطعام فى‬ ‫حجرته حينما يعود اليها مساء ‪..‬ينتهى العمل ‪..‬يأخذ أجره ويعود مع طعامه راضى‬ ‫‪25‬‬


‫النفس ‪..‬يواجه السلم بدرجاته المتآكلة وجدرانه العارية من الطلء ‪ ،‬برائحة الرطوبة‬ ‫المحملة بالعطن المعششة فى أركانه بعينين هادئتين ‪ ،‬ينفذ وسط الظلمة منذ ولوجه من‬ ‫باب البيت ‪ ،‬حافظا خطواته ‪،‬متقدما ا فى حذر الى المام ‪ ،‬قاطعا ا الممر القصير الى السلم ‪،‬‬ ‫يمد يده الى الدرابزين الخشبى ‪،‬ماداا قدمه اليمنى الى المام حالما ا باللحظة التى يرى فيها‬ ‫الفراش ليلقى بإجهاد يومه بين يديه ‪.‬‬ ‫فى أيام أخرى وهو يقف أول الميدان تأتى العربات النقل ذات الصندوق المعدنى الكبير‬ ‫‪..‬تختار آخرين دونه ‪..‬يعود الى حجرته دون طعام ‪..‬يبح ث بين بقايا الخبز البائت عما يسد‬ ‫جوعه ويلهى معدته ‪..‬يجلس القرفصاء على فرشته محملقا فى الظلمة ‪،‬أو واضعا ا رأسه‬ ‫بين ساقيه ‪..‬تمر به رؤى شتى ‪..‬عمل يومى لينقطع ‪..‬طعام لتعافه النفس ‪..‬تغيير فرشته‬ ‫التى يرقد عليها ‪..‬ثوب جديد ليام عطلته ‪..‬تمضى به الرؤى ‪..‬يغرق فى النوم ‪..‬توقظه‬ ‫صرخات أم السيد فى البيت المجاور ‪..‬شباكها يواجه شباك حجرته ‪..‬تقابل زوجها العائد‬ ‫بعد منتصف الليل بصراخها المعتاد‪..‬ترميه بكل مالديها من سباب‪..‬يرد عليها ‪..‬يهتكان‬ ‫بصوتهما ستر الليل ‪..‬ينظر من وراء الشيش منتظرا لحظات بعينها تحد ث كل يوم وبذات‬ ‫الترتيب ‪ ،‬وربما بذات النبرات وتعبيرات الوجوه ‪ ،‬اذ يهدأ الصوتان رويداا ‪..‬يسود الصمت‬ ‫قليل ‪..‬تبدأ أم السيد فى البكاء حسرة على ماتلقيه فى حياتها ‪..‬يقترب أبو السيد مطيبا ا‬ ‫خاطرها ‪..‬يتطور المر بينهما ‪..‬يحاصرهما بنظراته من وراء الشيش ‪..‬يعيش معهما لحظة‬ ‫بلحظة ‪..‬يدقق متابعاا يد أبى العربى وشفتيه‪..‬يشتعل جسده بالنيران ‪..‬نيرانه تتأجج ‪..‬يرتمى‬ ‫على فرشته لهثاا‪..‬بعدها يسود صمت حالم‬ ‫تضيع بين جنباته الفكار والرؤى ويغمض عينيه طلبا ا للنوم ‪.‬‬ ‫فى الصباح يلج النور الحجرة عبر الشيش المغلق ‪..‬يبتسم للنور ويمضى الى المقهى‬ ‫‪.‬اليوم بالذات عاد متهالكا ‪ ..‬يتوكأ على عصا خشبية وجدها على الطريق ‪..‬طعامه بيمينه ‪،‬‬ ‫وشماله تتحسس رأسه بين الحين والخر ‪ ،‬وهو يشعر بالم يصعد من ساقه الى أم رأسه‬ ‫مباشرة ‪ ،‬معجون بفرحة لم يعرفها منذ زمان ‪ ،‬لنهم طلبوا منه أن يعمل عندهم شهراا‬ ‫كام ا‬ ‫ل ‪..‬فتح الباب ‪..‬وسط الظلمة رأى اشباحا ا تتربص به ‪..‬أعينا ا متجهمة تترصده ‪ ..‬وأيدى‬ ‫تمتد اليه ‪..‬ارتعد ‪..‬فكر أن يصرخ ‪..‬لم يجد كلمات او حروفا ا تسعفه ‪..‬اكتفى بعلمات‬ ‫الدهشة التى كسا بها ملمحه ‪ ،‬فاغراا فاه الى أقصى مدى ‪..‬انزلقت العصا مرتطمة ببلط‬ ‫الحجرة مصدرة صوتا ا خشناا ‪ ..‬لم يبال به ‪..‬صرخت أم السيد فى زوجها كالمعتاد ‪..‬لم‬ ‫يتحرك نحو الشيش ‪..‬رآهم يقتربون منه ‪..‬نسى الم ساقه والعمل الذى ينتظره بالغد ‪..‬ضم‬ ‫كيس الطعام الى صدره ووقف ينتظر‬

‫‪26‬‬


11

27


‫شحن كارت‬ ‫لول مرة يفعل هذا‪ ،‬يتخلى عن حرصه ويطلب الكلم عبر الهاتف المحمول‪ ،‬ذلك الذى طالماسماه بالهراء‬ ‫الذى يسعى أهل الفراغ اليه ‪،‬الليلة بالذات هو الذى سعى اليه‪ ،‬ولو وصل المر الى الرجاء لفعل وهو على‬ ‫سريره مسنداا ظهره على الوساده‪ ،‬مواجهاا للتليفزيو ن الذى أصر الليلة على إطفاءه‪ ،‬رضوخا ا لذلك الشعور‬ ‫الذى اجتاحه مع بداية الغروب وهو يلعب الطاوله كعادته مع أصدقاء المقهى‪ ،‬يداعب هذا ويشاغب ذاك‪،‬‬ ‫ويشد أنفاس الشيشة مطلق اا الدخا ن فى وجه الدقائق الفارة من بين يديه‪ ،‬غير عابىء بوقت يمر أو ليل على‬ ‫متن الظلم يأتى‪ ،‬فهو يعرف أنه سيعود الى الصمت يقضم فتات اللحظات أمام التليفزيو ن‪ ،‬أو منغمسا ا بين‬ ‫طيات النت والحوارات الملونة بالخداع ‪ ،‬حتى اذا لمل انزلق الى سريره‪ ،‬مستتراا بغطاءه من أعين الليل‪،‬‬ ‫والكلمات المغسولة بالدموع‪ ،‬التى ليعرف هل تترقرق على حواف جفونه أم على ضفاف شفتيه كلما راجعت‬ ‫ذاكرته صورة إمرأته وهى بين راحتى سريرها ‪ ،‬باسمة الوجه كلوحة أتم راسمها تزيينها بنقوش الملئكة‬ ‫وتركها تحفة ‪ ،‬تنتظر عودته من مقهاه آخر الليل بعد أ ن قضى سهرته مع الصحاب ‪،‬رآها فتبسم لها كعادته‪،‬‬ ‫داعبها ببعض الكلمات قاصداا أ ن يوقظها لتعد له طعامه ‪ ،‬لم تبال به ‪،‬هز ها‪ ،‬لم تجبه ‪،‬الوجه نوره يفيض‬ ‫على المكا ن حاني اا ‪ ،‬والجسد دافء كحلم ‪،‬عاود المداعبة وقد بدأت خفافيش الخوف تعشش فى جوفه ‪،‬لم يتأكد‬ ‫من ظنونه ال حينما قال الدكتور الذى استدعاه كلمته ‪،‬لحظتها نظر الى وجهه فى المرآة ‪،‬الوجه هزيل‬ ‫النظرات‪ ،‬ذابل التغضنات يبكى الصمت على شفتيه إمرأة واجهت الموت وحيدة ‪ ،‬واستقبلته ببسمة هادئة ولم‬ ‫تشك من شىء ‪ ،‬فقط رحلت وتركته‪..‬الليلة بالذات داهمه هذا الشعور ‪،‬شعر أ ن دوره قد حا ن عليه ‪ ،‬هب من‬ ‫جلسة المقهى مهرول الى البيت خشية أ ن يجىء ملك الموت بمنجله ليحصد روحه فى الطريق‪ ،‬يتعرض‬ ‫جثمانه لما يخشى منه من إيذاء وتقليب وتفتيش ‪ ،‬وربما تشريح لمعرفة سبب الوفاة ‪ ،‬ثم إيداعه‬ ‫الثلجةانتظار اا لتقدم احد لستلمه‪ ،‬وحيث أنه لأحد سيتقدم لتلقيم فوهة الرض به لجهل أولده بما جرى له‪،‬‬ ‫لعدم انتظام زيارتهم له‪ ،‬فسوف يظل أسير الثلجة‪ ،‬أو ربما باعوه لحد طلبة الطب فيظل جسده يتقطع أبد‬ ‫الدهر‪ ..‬العودة الى البيت أجدى على فراشه داخل شقته يلقى الموت‪ ،‬يباركه ‪ ،‬ويمضى معه مودعا ا الوجود‬ ‫ببسمة كما فعلت هى من قبل ‪ ،‬ول مانع من محادثة بعض معارفه الليلة ‪ ،‬حتى اذا غاب وطالت غيبته فكروا‬ ‫فيه وسألوا عنه‪ ،‬وقد يدور طائر القلق امام أعينهم ويأتو ن الى شقته‪ ،‬أو يتصلوا بأولده لحضهم على‬ ‫زيارته واكتشاف سبب غيابه‪ ،‬وساعتها سيكونو ن مسئولين عن جثمانه الى أ ن يواره التراب ‪..‬أخذ يضغط‬ ‫الزر باصبعه متنقلا من إسم الى آخر باحثاا عن معارفه‪ ،‬متغاضيا عن الرصيد الذى طالما حرص أشد الحرص‬ ‫عليه ‪ ،‬لم يبال به وهو يتهاوى امامه مع كل كلمة عجفاء تخرج من بين شفتيه‪ ،‬وهو ينظر عبر المرآة الى‬ ‫هيكل آدمى متيبس العظام‪ ،‬سقط شعره الثلجى من قبة رأسه تاركاا بقاياه متناثرة فى الركا ن‪ ،‬محيطة بأعين‬ ‫متهدلة الجفا ن‪ ،‬أحداقها برمادية لونها ترى الدقائق المارة بالنات‪ ،‬وحوله صمت كصمت القبور ‪ ،‬يقطعه‬ ‫من لحظة لخرى صوته المتصاعد من تجويف صدره متشبثاا بحياة يشعر بها تنسحب من أطرافه ‪،‬ضرب رقما ا‬ ‫جديد اا ‪،‬رصيدك الحالى ليكفى لتمام المكالمة ‪،‬ارتعد ‪،‬السماء المهمة لم يحدثها بعد ‪،‬جرت الرقام أمام عينيه‬ ‫أولده وهواتفهم المغلقة ‪،‬أعز أصدقائه‪ ،‬معارفه ‪،‬هب من مرقده بقدر ماوسعته الحركة قاصداا شراء كارت‬ ‫شحن جديد ‪ ،‬أغلق الباب خلفه ‪ ،‬على السلم رأى جارته الكركوبة كماتعود أ ن يسميها ‪ ،‬تستند على خشب‬ ‫درابزين السلم صاعدة الى شقتها فى الدور العلى ‪ ،‬تعيش وحيدة ايضاا ‪،‬وجهها كلما رآه تذكر الفراعنة‬ ‫والعهد القديم ‪ ،‬لذا كا ن يتحاشى النظر اليها مكتفياا برد سلمها وهو محنى الرأس ‪ ،‬ليس خجلا ولكن لكى‬ ‫‪28‬‬


‫ليتطلع الى وجهها وهيئتها‪ ،‬أو يعطيها الفرصة لبدء حوار ليملك اكماله بأى حال معها ‪..‬هذه المرة وقف‬ ‫أعلى السلم مترقبا ا صعودهاا ‪،‬القت التحية كعادتها ‪ ،‬سألها فوراا ‪ -:‬تتجوزينى‬

‫‪12‬‬

‫خواء‬ ‫صم ض‬ ‫ت وظلم ضة يحيطان به ‪..‬يحاديانه أثناء سيره ‪..‬يسمع لهما طنينا ا يدق رأسه ‪..‬يحاول‬ ‫السراع ‪..‬تصر خطواته على السير متمهلة تتحسس الماكن ‪،‬وعيناه تتشممان الطريق ‪..‬بينما‬ ‫تراب ناعم تثيره قدماه ‪،‬ينتقض لهث اا خلفه‪ ،‬يعلق بملبسه ‪،‬يصل الى فمه وعينيه ‪..‬يكمل السير‬ ‫شاقا ا حجب الليل والصمت ‪،‬ماضياا خلف فكرة تتمثل له ‪ ،‬يرى فيها نهراا سوف يطهر روحه‬ ‫‪..‬الظلمة ستار يستتر خلفه‪ ،‬والهدوء مركب يقوده الى غايته‪ ،‬والدقائق رفيق يمضى بجواره‬ ‫قاصد اا ذات المكان الذى يقصده ‪..‬يكمل سيره‪..‬تبدو له المقبرة أخيراا ‪..‬ذات المقبرة بعينها ‪..‬بذات‬ ‫ملمحها التى تخترق حدقتيه على ضوء نجمة تولد فى تلك اللحظة‪..‬يدقق فيها ‪..‬فجوة فى باطن‬ ‫الرض يغطى وجهها تراب أكثف من سابقه ‪،‬وحروف مطموسة تبدو أثارها على قطعة رخام‬ ‫ملصقة على جدار متآكل ‪،‬يعلوه إصفرار شاحب ليكاد يبين لونه ‪،‬يحده سواد باهت يكسو‬ ‫الطراف ‪..‬تقدم قليل منها متفحصاا‪..‬شعر بالتراب يعاود ثورته ‪..‬يعلو عينيه ‪..‬يطمر أفكاره‬ ‫‪..‬وليبقى هناك ال هو وذلك الراقد على مقربه منه والذى – من المؤكد – يراه ويشعر به‬ ‫ويعرف أنه جاء من أجله ‪..‬ذلك الراقد الذى ينعم فى جنان السكينة والهدوء ويتركه فى آتون‬ ‫الفكر يتقلب على جمر اللحظات ‪..‬حدق فى إتجاهه شاعراا أنهما لم يكونا قريبين فى يوم مثل الن‬ ‫‪..‬الن هما ميتان ليفصلهما ال جدار‪ ،‬لكن كل منهما مي ض‬ ‫ت على طريقته‪ ،‬فأحدهما يرقد تحت‬ ‫التراب هانئا ا مستقراا فى مكانه‪ ،‬أما الخر فمات ومضى حام ا‬ ‫ل جثته على كاهله باحثا ا عن‬ ‫مستقر ‪..‬تصلبت نظراته على اللوحة ‪..‬حاول أن يتمتم ببعض الكلمات ‪..‬عصته الحروف ‪..‬إنتبه‬ ‫للرجل ينفض عن نفسه التراب ‪ ..‬يخرج اليه‪..‬يتجه نحوه ‪..‬يمسك كتفيه ‪..‬يهزه صارخا ا ‪..‬لن‬ ‫أسامحك أبد اا ‪..‬إرتعد‪..‬شعر بقلبه يتوقف‪ ،‬بحلقه يجف‪ ،‬وبعينيه تجحظان ‪..‬فتح فمه ل إراديا ا‬ ‫ليعرف إن كان يريد الصراخ مستغيثا ا طالب اا النجدة فى هذا المكان\الزمان الخاوى‪ ،‬أم أراد أن‬ ‫يشرح له ماخفى عنه ‪،‬غير أنه فى محاولته فتح فمه رفع رأسه لعلى فالتقت نظراته بذات‬ ‫النجمة الوليدة ذات الضوء الفضى ‪..‬فتح عينيه على إتساعهما وهو يدير رأسه حوله ‪..‬صم ض‬ ‫ت‬ ‫ض فى الرجاء ‪،‬وعتمضة شفافضة تشى بجو الحلم أو الكوابيس ‪ ،‬وقلب يرفرف بين جنبيه‬ ‫راب ض‬ ‫ليعرف إن كان هلعا ا أم تأثراا بما حوله ‪..‬رفع يديه الى أمام شفتيه هامسا ا ببعض كلمات مرتجفة‬ ‫الحروف اعتقد انها ترحم اا عليه‪ ،‬بينما على وجهه تبدو ملمح مشاعر شتى من خوف وبلدة‬ ‫‪29‬‬


‫وأسف وتقزم جارف لحد له ‪..‬إنتبه لدموعه تهطل معجونة بندم لم يشعر بمثله من قبل ‪،‬ورأى‬ ‫رأسه ينحنى طالابا الصفح والغفران ‪ ،‬هامسا ا أنه جاء‪ ..‬وهذا مالم يكن يتخيل و وقوعه قبل‬ ‫الن !!‬

‫‪13‬‬ ‫السوط‬

‫يقترب الليل من منتصفه ‪..‬تدب على أرض المحطة بعض القدام‪..‬البرودة تقتحم العظام ‪ ،‬وقطار الضواحى‬ ‫على رصيف جانبى يقف متهالكا ا حاملا عناء يوام فات ‪ ،‬النوار داخله خافته والبعض يجلس بانتظار لحظة‬ ‫القلع ‪..‬آخر قطار هذه الليلة لذا يقف طوي ا‬ ‫ل ليعطى الفرصة لصدقاء الليل من الركاب للحاق به ‪..‬أجلس فى‬ ‫العربة الخيرة منه‪..‬العربة ممتلئة بالوجوه المغلفة بالنعاس ‪..‬أغلق عينوي مسنداا رأسى على زجاج النافذة‬ ‫المغلق ‪..‬يرتفع بكاء رضيع بجوارى مخترقا ا تلفيف رأسى ‪..‬ينفرج جفناى قصراا أرى فى مواجهتى إمرأة‬ ‫تحمله ‪،‬بجوارها رجل هو زوجها على الرجح‪..‬أدير وجهى متشاغل بالرصفة الخالية والليل الذى يجوس‬ ‫فى أرجاءها‪ ،‬تهتز العربة برفق ‪،‬ينطلق صوت القطار مؤذنا ا بالتحرك‪ ،‬تهدهد المرأة طفلها ‪..‬يبدأ القطار‬ ‫رحلته ‪،‬يرتفع الضجيج من صراع العجلت مع القضبان ‪..‬أعاود إغلق عينيوى ‪..‬كان يجب أن أصمت ‪..‬المزيد‬ ‫من الشكوى معناه المتاعب ‪..‬الولد بالبيت ليفكرون ال فى النقود ‪..‬أما أنا‪!..‬‬ ‫عاد الطفل للبكاء ‪..‬اختلط بأنين عجلت القطار ‪..‬وقفت به المرأة وسط المقاعد ‪..‬حمله زوجها عنها ووقف‬ ‫لتجلس هى‪..‬أخذت أراقب نجمة يلمع نورها ساطعا ا على قبة السماء‪.‬‬ ‫‪30‬‬


‫لم أخطىء حينما أرسلت الخطاب للمدير ‪..‬كان يجب أن يعلم مابى ‪..‬ليس كثيراا أن أطلب منه حمل لسانه‬ ‫بعيداا عنى ‪..‬الكلمات السنضة من نار تلسع‬ ‫‪..‬إرتفع صوت الوليد عن ذى قبل ‪..‬صوته مشروخ من كثرة البكاء ‪..‬العيون المغلفة بالنعاس تضيق ‪..‬الم‬ ‫تعاود حمله ‪..‬تلقمه ثديها وهى تستتر من العين ‪..‬أهرول بعينيى الى الخارج باحثا ا عن نقطة الضوء وسط‬ ‫بحر الظلم‪..‬أعلن المدير أن من حقه إطلق لسانه و تشكيله كما يريد ‪..‬يصنع منه مشنقة ‪،‬يجعل منه‬ ‫سوطا ‪ ،‬أو حتى مسطرة خشبية حادة السن ‪..‬رفضت فكرته ‪..‬أردت أن أنبهه الى كره الخلق للسانه وأنه من‬ ‫الفضل التخلص منه ‪..‬حملت مقص كان أمامه وطلبت منه فتح فمه‪.‬ا‪.‬صرخ ‪..‬حاولت أن أشرح له أننى أريد‬ ‫صالحه ‪..‬رفض الستماع ‪..‬تجومع البعض ‪..‬تعالت الصوات ‪..‬إمتزجت ببكاء الصغير وأنين العجلت وظلمة‬ ‫الليل وسؤال المحقق ‪ -:‬مذنب ؟‬ ‫دون أن أنطق بحرف تركت المكان وأنطلق مغادراا المحطة الخيرة فى صمت‬

‫‪14‬‬

‫لسعة برد‬ ‫تبلغ الفرحة مداها حينما أفتح عينى وأرى وجه امى ‪،‬أبتسم لها صباح الخير ‪،‬تلقانى بسمتها‬ ‫الحنون ‪،‬صباح الشمس والشراق ‪،‬أغوص فى احضانها ‪،‬أشعر برحيق الدفء وطزاجة‬ ‫الحنان ‪،‬تحيطنى بجناحيها ‪..‬أوقن ان الشمس ليست نوراا فقط لكنها حرارة ايضا ا‬ ‫‪........‬‬

‫‪31‬‬


‫سلم مهروال نحو الباب للحق بموعد‬ ‫أقوبل أبى ‪،‬تسعدنى بسمته ‪،‬أضع الطعام فى الحقيبة وأ و‬ ‫المدرسة ‪..‬حينما أخرج من باب البيت تهلل الضياء ‪ ،‬تصنع لى ظلا بديعا ا أتيه به‬ ‫‪......‬‬ ‫حينما أعود ظهر اا أضرب الجرس ‪ ،‬يتلقانى حضن أمى عند باب الشقة ‪ ،‬أشم عبير الشوق فى‬ ‫عينيها ‪ ،‬يحوطنى الحنان وانا بين يديها ‪ ،‬تسألنى عن يومى وعن دروسى وأصحابى ‪، ،‬أغوص‬ ‫فى طزاجة الدفء من جديد ‪ ،‬ينسل الظلم عبر الستائر وزجاج النافذة الى عيونى ‪،‬أشعر بلفحة‬ ‫برد تمتد نحوى ‪،‬صدرأمى يمنحنى الدفء ‪،‬ابادلها البتسام ‪.‬‬ ‫‪......‬‬ ‫اليوم ضربت الجرس ‪ ،‬ظل المكان بارداا والجو مثقل بصمت شديد الظلم ‪،‬ولم اجدها عند‬ ‫الباب ‪،‬ضربت الجرس أكثر واكثر ‪،‬ظل الباب مغلقا ا ‪..‬شعرت بالبرد يلسع جسدى !!‬

‫‪32‬‬


‫‪15‬‬

‫ليل وضحكات‬

‫حقيبة صغيرة هى ‪ ،‬تكفى بالكاد غيار داخلى واحد ‪ ،‬قميص ‪ ،‬بنطال ‪ ،‬ومعهم كتاب قديم الطباعة عنوانه‬ ‫)العلج بالضحكات ( حملهم صالح ومضى نحو الباب قاصداا الطريق ‪ ،‬السفر ليلا عادته مذ كان صغيراا ‪،‬‬ ‫يهرب من ملل النتظار الذى ليطيقه بالنوم ‪ ،‬قطار منتصف الليل دائما ا يروق له ‪ ،‬ركابه قليلون ‪ ،‬يختار‬ ‫مقعدين خاليين ويفرد جسده شاغل نفسه بالكتاب الى أن ينام ‪ ،‬وليصحو ال عند الوصول ‪ ..‬كانت الطريق‬ ‫ناعسة شبه مظلمة يطويها أنين الصمت وهو يمضى وحده ‪ ،‬وبدر هرم تآكلت حوافه يرافقه فى ملل ‪ ،‬بينما‬ ‫الشجار على الجانبين تصنع ظلل فضية تؤانسه فى سيره ‪ ،‬رأى مقهى أنواره قاتمة على البعد ‪ ،‬اقترب‬ ‫منه ‪ ،‬جلس على أول مقعد قابله طلباا لطاقة يستمدها من كوب شاى ساخن قبل أن يواصل السير ‪ ،‬وضع‬ ‫الحقيبة بجواره ‪ ،‬تقدم العامل منه شبه نائم ‪ ،‬يحمل بين طيات سماته مل ا‬ ‫ل لحد له ‪ ..‬ملمحه منقبضة تلئم‬ ‫المكان ‪،‬هكذا قال صالح لنفسه وهو يستقبله بمشروع إبتسامة ‪ ،‬رآه يوقوس ظهره محنيا ا جزعه نحوه هامسا ا‬ ‫كمن يخصه بسر ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫ماذا تريد ؟‬

‫بدأت ملمح البتسامة تظهر وهو يقول‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫شاى‬

‫‪33‬‬


‫أدار العامل وجهه حوله قلقا ا بعد أن حدق فى عينيه ورأى البتسامة جيداا ‪..‬كانت العيون نصف الناعسة‬ ‫تتجه اليهما ‪ ،‬أشاح بيده فى اضطراب ومضى بعيداا دون أن ينطق بحرف ‪ ،‬اتبعه صالح بعين الدهشة‬ ‫‪،‬انتبه لبعض النظرات مازالت عالقة بوجهه ‪ ،‬رأى أيدى مفرودة الذرع تشير اليه وانطلقت كلمات بأصوات‬ ‫غامضة مهمهمة ‪-:‬‬ ‫لنريد مشاكل هنا‬‫ اطردوه فوراا‬‫ ابعدوه عنا‬‫اتسعت مساحة الحيرة فى صدره ‪ ،‬عاد العامل قادما بالشاى همس يسأله عما يرى ‪ ،‬اقترب ثانيه من‬ ‫أذنه ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫انتبه لنفسك ‪،‬المكان مراقب‬

‫اتسعت حيرته باتساع الظلمة فى المكان ‪ ،‬أدار نظرات القلق حوله ‪ ،‬العيون مازالت متربصة به ‪ ،‬اليدى‬ ‫مفرودة الذرع مسكونة بالغضب ‪ ..‬غادر المقهى واكمل السير ‪ ،‬على بعد خطوات فى منطقة تقطنها وحشة‬ ‫وظلم أحس بكف غليظة تنحط بثقلها على كتفه ‪ ،‬انتفض شاعراا بقلبه ينزلق من بين أضلعه ‪ ،‬استدار بفعل‬ ‫الرعب خلفه ‪ ،‬اصطدمت عيناه بعينين حانقتين تحاصرانه فى مكانه وتصبان عليه جحيم نظراتهما ‪،‬وسمع‬ ‫صوتا متحجر النبرات يسأله ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫لماذا كنت تضحك ؟‬

‫‪..........‬‬ ‫اكمل السير وسط الظلمة بأقدام دهشة وأنفاس متحيرة ‪ ،‬وقد قرر تدريب نفسه ليس على العبوس فهو يراه‬ ‫كثير اا فى الوجوه حوله ‪ ،‬ولكن على إجاده ممارسته بعد أن عرف بصدور قرار رسمى بتحريم الضحك ‪ ،‬فقد‬ ‫اكتشفوا أخير اا أن سبب المشاكل التى تعانى منها المدينة هو الضحك ‪ ،‬فهو يؤدى الى التسيب والل مباله‬ ‫وأشياء أخرى كثيرة ‪ ،‬وحرصا على دفع عجلة النتاج وقطار التنمية فقد تقرر تحريم الضحك تماما ا وتغريم‬ ‫فاعله بغرامة كبيرة ‪ ،‬من الن فصاعداا سيلزم العبوس مثل الخرين ‪ ،‬يكفيه ماجرى له ‪ ،‬طالبوه بدفع‬ ‫الغرامة ‪ ،‬لم يكن معه نقود تكفى ‪،‬أخذوا غياره الداخلى والقميص والبنطال ‪ ،‬أما الكتاب فقد تركوه له مع‬ ‫تحذير شديد اللهجة ال يستعمله ‪.‬‬ ‫‪.................‬‬ ‫وصل محطة السكة الحديد ‪،‬على رصيف القطار رأى عيونا ا متناثرة ذابلة النظرات ‪ ،‬وصمتا ا يترسب فى‬ ‫الركان ‪ ..‬مضى ناحية القطار مسرعا ا ‪ ،‬دخل عربة قليلة الركاب ‪ ،‬اختار مقعدا مريحا ا ‪ ،‬فتح شباكه طلبا ا‬ ‫للهواء ‪ ،‬ارتفع صفير القطار بعد دهور ‪ ،‬لفظ الهمود وبدأ الحركة ملقيا ا بما خلفه الى هاوية الظلمات ‪،‬‬ ‫هب صالح من مجلسه ‪ ،‬أخرج رأسه من النافذة ‪ ،‬وأطلق الضحكات عالية !!‬

‫‪34‬‬


‫‪16‬‬

‫الشجرة‬

‫على الرض‬ ‫تدق عصاه على مراحل زمنية ثابتة ‪ ،‬الرض أسفلتية سوادها يمتد بامتداد البصر ‪،‬‬ ‫لوقع الرتطام المنتظم رنين يهز قلب الليل الغارب ‪ ،‬يحدق فى شجرة السدر ذات‬ ‫الفروع الكثيرة والوراق الصغيرة وهى ملتحفة بالعتمة ‪ ،‬واقفة كحارس ر على مدخل‬ ‫بيت )المجدور( ‪ ،‬الذى تاهت حدوده فى طيات الظلمة فلم يبد منه السواد هلمى ل‬ ‫حدود له ‪..‬تواصل العصا دقاتها وهو ينظر الى الشجرة وثمارها الصغيرة الملقاة على‬ ‫الرض التى أفترشها ضوء اللمبة الصفر الهابط من أعلى الباب الحديدى الباهت‬ ‫السواد ‪ ،‬وعلى غير رغبته يواصل السير مديراا وجهه عن الثمار الصغيرة ) النبق (‬ ‫‪35‬‬


‫والتى كان يومياا قبل الفجر مثل الن وهو متجه الى المسجد يجمعها فرحا ا بكثرتها ‪،‬‬ ‫قائ ا‬ ‫ل أن هذا ليس رزقه وحده بل رزق المصلين القلئل الذين يشاركونه القيام فى هذا‬ ‫الوقت ‪ ،‬يجمع النبق فى كيس صغير ‪ ،‬وحينما يصل المسجد يفتح الصنبور عليه ثم‬ ‫يوزعه على الموجودين مؤكداا أنه علج ناجع لمرض السكر وأشياء أخرى ‪ ،‬يقولها‬ ‫مداعب اا الكبار وأصحاب اللحى البيضاء مثله ‪ ،‬الى أن جاءت مرة أقعى فيها أسفل‬ ‫الشجرة يجمع النبق كعادته واذا به يرتعد فى مكانه وترتجف نبضاته فزعا ا وهو يرى‬ ‫الى جواره ظلا أسود يطوى الفراغ صاعداا لعلى‪ ،‬وحاجزاا عن عينيه النور تماما ا‬ ‫وصوت حاد يحاصره ‪ -:‬هذه الثمار ملكى وحدى‬ ‫رفع رأسه بالكاد الى مصدر الصوت محاوال لم شتات نفسه والتحكم فى ارتجافة يديه‬ ‫ليجد المجدور أمامه يرميه بنظرات موبخة ‪،‬اهتزت الحروف على شفتيه قليلا قبل أن‬ ‫يتمكن من تجميعها هامسا ا ‪ -:‬أعرف‬ ‫ويصمت قليلا قبل أن يجد حروفاا أخرى وجدها ملئمة للموقف ‪ -:‬لكنها على‬ ‫الرض ‪..‬مشاع للمارة !‬ ‫إعترض المجدور بحدة ‪ -:‬بدون إذنى ؟‬ ‫عاودت الحروف النكماش على شفتيه وهو يشعر بساقيه المتهالكتين أصلا تهددان‬ ‫بانهيار كامل ‪،‬همس محاول ا التعلق بأى قشة تنجيه من بحر خجله هذا ‪ -:‬وهل‬ ‫ترفض ؟‬ ‫قال الخر بجفاء ‪ -:‬نعم أرفض ومضى عنه ‪.‬‬ ‫يتذكر تلك الحادثة وهو يمضى يومياا على ذات الطريق تدق عصاه الرض السفلتية‬ ‫وسط الطريق بعيداا عن بيت المجدور والشجرة وحبات النبق الصغيرة التى يلفها‬ ‫الضوء الصفر بوشاحه فيصقل صفرتها امام عينيه ال أنه يدير وجهه عنه ويمضى ‪،‬‬ ‫وحين يسأله أحدهم عن سبب انقطاع هداياه اليومية يكتفى بابتسامة صغيرة قائلا أن‬ ‫الشجرة لم تعد تعطى قاصداا أنها لم تعد تعطيه ‪ ،‬الى أن جاء اليوم ووجد المجدور‬ ‫أمامه بعد الصلة ‪ ،‬مد يده مسولماا واستعد للخروج غير أن الخر اعتقل يده المعروقة‬ ‫بارتجافتها فى باطن كفه وهو يهمس له ‪ -:‬أذنت لك‬

‫‪36‬‬


‫أدار عينيه نحوه ‪ ،‬نور المصابيح السارى فى المكان ينهمر على ملمحه المجدورة من‬ ‫أثر مرض قديم الم به فى صغره وترك علماته على وجهه مما جعل الناس يتركون‬ ‫إسمه الحقيقى شعبان وينادونه المجدور ‪،‬حدق فى وجهه بعين العجب ‪،‬بدت الرحمة‬ ‫رائقة الماء فى أعماق عينيه بينما على شفتيه ملمح اعتذار على هيئة ابتسامة‬ ‫خجلى ‪..‬افلتت اليد المعروقة من باطن اليد الخرى فى رفق وقد أدرك ماهناك وهو‬ ‫مالمر ؟‬ ‫يسأل ‪-:‬‬ ‫أحنى المجدور رأسه هامسا ا ‪ -:‬لم تعد الشجرة تعطى ثمراا ‪.‬‬ ‫حدق فى وجهه قليلا قبل أن يستدير عنه عائداا من ذات الطريق‬

‫‪17‬‬

‫الخصم‬

‫التفتت العين الي بهجت حسين ‪ ،‬حملت النظرات آيات عجب لدخوله القاعة وفى تلك اللحظات‬ ‫بالذات ‪ .‬كان الجميع بما فيهم حسن منصور نفسه يوقنون بأن طلوع الشمس من مغربها أقرب‬ ‫من تفكيره ‪ -‬مجرد تفكير ‪ -‬فى حضور هذا الحفل ‪ ،‬تركوا المدير العام والمائدة الرئيسية‬ ‫‪37‬‬


‫والكلمات الروتينية المعدة لتلك المناسبات والتفتوا اليه ‪ ،‬تقدم بجسده الفارع محنيا ا رأسه فى‬ ‫هدوء الى حي ث يجلس حسن ‪ ،‬صمت المتحد ث ‪ ،‬ساد سكون منذر ‪ ،‬العين تترصد حركته‬ ‫والذان مشرعة للتقاط أدق ما قد يصدرمنه ‪ ،‬فاليوم هو آخر عهد حسن بالعمل ‪ ،‬وحسب‬ ‫الروتين المتبع أقيم الحفل للحتفاء به ‪ ،‬تم دعوة الجميع ماعدا بهجت لمعرفتهم الوثيقة‬ ‫بالخصام المستعر بينهما والذى لم يفلح معه تدخل من أى نوع ‪ ،‬فالرجلن قد أصرا على‬ ‫البتعاد ‪ ،‬ورفض أى حوار بينهما رغم وجودهما معاا فى ادارة واحدة ‪ ،‬كل هذا فى تحرد‬ ‫ت حي ث لم ينبس أحدهما بكلمة عن الخر ‪ ،‬لم يشكو منه أو يشرح حتى سبب هذا الخلف‬ ‫صام ر‬ ‫‪ ،‬واذا ضذكر أحدهما أمام الخر أغلق فمه ولم ينطق بحرف ‪ ،‬الغريب أن كل الرجلين يمتاز بالخلق‬ ‫وطيب النفس ‪ ،‬وكانا صديقين حميمين ‪ ،‬بينهما عشرة سنوات طويلة فى العمل وخارجه ‪،‬‬ ‫ورغم محاولة البعض التوغل فى الموضوع ال أن صمت الثنين لم يعط أحداا الفرصة للوصول‬ ‫الى شىء ‪ ،‬حتى كان اليوم وحسن يجلس بين رجال الدارة الكبار فى حجرة الجتماعات‬ ‫وأمامهم كالعادة فى مثل هذه المناسبات قطع الجاتوه والمثلجات ‪ ،‬والميكروفون يتنقل من فم‬ ‫الى آخر معدداا مناقب حسن ‪ ،‬راجياا له حياة أفضل بعد الستين ‪ ،‬وحولهم بعض الشباب‬ ‫بأجهزة المحمول يصورون الحفل ‪ ،‬ويتسابقون للتقاط الصور مع الرجل الذى كان بالمس‬ ‫رئيس ورشة الصيانة المهيب ‪ ،‬الذى يعرفون جيداا طبيعته وأسلوبه ‪ ،‬ويخشون من صوته‬ ‫الجهورى الذى يستخدمه كسلح رادع ضد أى مقصر أو متوارن عن بذل الجهد فى عمله ‪ ،‬دون‬ ‫أن يفكر طوال عمره فى إيذاء أى منهم بجزاء أو خصم من الراتب ‪ ،‬مكتفيا ا حين يرد عليه‬ ‫أحدهم رد اا ليعجبه أن يكتب مذكرة جزاء عنيفة اللهجة مايلب ث أن يمزقها حينما يأتيه المذنب‬ ‫معتذر اا ‪..‬يتسابق الشباب للتقاط الصور معه اليوم وهم يعرفون أنه سوف يأفل نجمه ويصبح‬ ‫ذكرى مصحوبة بالكلمة المتوارثة ) كان ( ‪ ،‬ول يبقى منه فى الذهان ال سيرة تمتد الى‬ ‫سنوات طوال ‪ ،‬تغيب فيها ملمحه عن الذاكرة‪ ،‬ويتوه صوته عن الذان ‪ ،‬ول تبقى ال كلمات‬ ‫تقال عنه أم بخير أو بشر ‪ ،‬فهم يتذكرون الى الن الحاج حامد رئيس الورشة القديم ومواقفه‬ ‫فى الدفاع عن رجاله وخوفه عليهم ‪ ،‬وفى الوقت نفسه سيطرته ودفعه لهم لبذل أقصى ماعندهم‬ ‫مستخدم اا فى ذلك يده قبل لسانه ‪ ،‬وهم راضون لنهم يرونه يتصدرهم فى أى عمل مهما كان ‪،‬‬ ‫ويذكرون غيره ممن كانوا ليتوانون عن اليذاء والحاق الضرر بأى منهم لى خطأ ‪ ،‬وكلما‬ ‫خرج واحد من الكبار انضم فور اا للواء )كان ( ومعه سيرته ‪ ،‬وهاهو الدور يجىء اليوم على‬ ‫حسن الذى يجلس محنى الرأس محاو ال إخفاء ملمح التأثر على وجهه ‪ ،‬وكبت دموعه بقدر‬ ‫مايستطيع ‪ ،‬فهو هكذا فى كل أموره ‪ ،‬مشاعره متوقدة متدفقة تبدو على محياه فوراا ‪ ،‬وقد أشار‬ ‫المدير العام فى كلمته الى هذه النقطة بالذات مؤكداا أن الصدق مع النفس والخرين هو ماكان‬ ‫يميزه ‪..‬وهنا فى تلك اللحظة دخل بهجت القاعة ‪ ،‬التفتت اليه النظار والذان ‪ ،‬صمت المدير‬ ‫العام ‪ ،‬استدارت الكاميرات اليه بقامته المديدة وهو يتحرك هادئا ا كعادته وبحكم سنه ايضا ا فهو‬ ‫‪38‬‬


‫يقارب حسن فى العمر ول يفرق بينهما البضعة شهور ‪ ،‬وهو أيضا رئيس ورشة الصيانة فى‬ ‫نفس الدارة ‪ ،‬لكنه يختلف عن حسن فى إسلوبه ‪ ،‬فهو خفيض الصوت قليل الكلمات ‪ ،‬وإن كان‬ ‫يماثله فى نبذه للذى ‪..‬تحرك اذن حتى وقف أمام حسن الذى وقف لشعوريا ا ليجد نفسه مواجها ا‬ ‫له ‪ ،‬تتلقى العين ‪ ،‬تتشابك النظرات ‪،‬يقول بهجت بصوته الخفيض‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫جئت أشكرك على خصومة كنت فيهاخصما ا نزيها ا‬

‫والكاميرات تسجل والعين تتابع والذان تلتقط الكلمات وهدوء جارف يغمر المكان ‪..‬فتح‬ ‫بهجت ذراعيه ‪ ،‬فاضت الدموع من عينى حسن ‪ ،‬ضجت القاعة بالتصفيق ‪!!.‬‬

‫‪18‬‬

‫الحذاء‬

‫تعملقت جذور الحيرة فى صدرى وانا أحدق فى الشاشة الفضية ‪ ،‬الرجل يبدو وقوراا جاد الملمح ‪ ،‬يتكلم‬ ‫بتؤدة مفكر وبعلم خبير ‪ ،‬حروفه مرتبه ولغته سليمة‪ ،‬يوظف ملمح وجهه بإتقان وهو يتحد ث عن الحذاء‬ ‫العجيب الذى هو ثورة ستزيل الغباء من الكون ‪ ،‬والذى تم تصميمه ليمنح النسان من خلل دائرة الكترونية‬ ‫فيه الذكاء ‪ ،‬الشاشة الفضية كبيرة تعلو مدخل حانوت لبيع الحذية ‪،‬المحل صارخ اللوان ‪ ،‬ذو واجهات‬ ‫زجاجية مضيئة بأضواء ملونة بالوان مبهرة ‪ ،‬تحيط بالحذية الجديدة ذات اللوان والمقاسات المختلفة‬ ‫‪،‬أحدق فيها لعلى أصل الى جديد فى شكلها أو إضافة الى تركيبها ‪،‬لشىء ‪،‬أرى وجها ا يحمل سمات الجد‬

‫‪39‬‬


‫تغطى عينيه نظارة طبية ‪ ،‬تعلوها رأس ملساء يحيط بجوانبها شعر خفيف ‪ ،‬ويحمل بين يديه حذاوءا جديداا‬ ‫ويخرج من الحانوت فى كبرياء قاصداا الطريق ‪ ،‬اتصدى له بسؤال غبى لمفرمنه ‪-:‬‬ ‫مارأيك فيه ؟‬

‫‪‬‬

‫مشيراا الى الحذاء‬

‫ينظر الاى من خلف نظارته الطبية مباغتا ا ‪ ،‬يحدق منقبا ا فى وجهى قبل أن يلفظ حروفه بجفاف ‪-:‬‬ ‫‬‫‬‫‪-‬‬

‫معجزة‬ ‫جربته ؟‬ ‫سأجربه‬

‫مضيت مع إنحناءة الطريق لجد الشارع الكبير أمامى حي ث الحوانيت أكبر واللفتات تشد العين وتسلب‬ ‫النظر بحروف النور المنبعثة منها بشتى اللوان ‪ ،‬و التى تروح وتجىء وتصعد وتهبط وتدور فى حلقات‬ ‫لتهدأ ‪..‬تنبهت لحدهم يقف وسط الشارع داعياا الى أوكازيون وتخفيض هائل فى سعر الحذاء الجديد ‪ ،‬الذى‬ ‫يحمل مميزات ستقلب الموازين وتغير الفكار وتبدل القيم ‪ ،‬فهو الحذاء الذكى المناسب لكل المهن‬ ‫والعمال‪ ،‬والذى سيمحو الفوارق تماما ا بين الذكياء والغبياء ‪ ،‬وسيجعل من الكرة الرضية شعلة ذكاء‬ ‫تتأجج فى سماء الكون ‪ ،‬اندفعت الى الحانوت ‪ ،‬صفا ا طويل وقفت فى آخره على مضض خشية أن ينتهى‬ ‫العرض قبل أن أفوز بما أريد ‪ ،‬وصلت الى المام ‪ ،‬وجدتنى أمام حاسب آلى سألنى عن إسمى وعن عملى ‪،‬‬ ‫قلت انا الدكتور يوسف مكتشف النزيم المسئول عن درجة الذكاء فى جسد النسان ‪ ،‬نظر الوى الرجل‬ ‫الجالس خلف الحاسب متسائلا ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫هل لهذا الكتشاف فائدة الن ؟‬

‫لم أفهم مايعنى ‪،‬أوضح ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫فى وجود الحذاء المعجزة لن تحتاج لهذا النزيم‬

‫لم أرد ‪ ،‬جربت الحذاء فى البيت ‪ ،‬لم الحظ جديداا ‪ ،‬حدقت فى ملمحى عبر المرآة ‪ ،‬كل شىء عادى ‪،‬اختبرت‬ ‫مستوى ذكائى بالحذاء وبدونه ‪ ،‬لم يتغير ‪ ،‬هرولت الى الطريق والحذاء فى يدى وعلمة إستفهام كبرى‬ ‫تتراقص أمام عين وى كيف استطاعوا إغلق عقلى والخرين و دفعنا الى الشراء بهذا القبال الذى لم يحد ث‬ ‫من قبل ‪ ،‬وكيف يمكن خداع كل هؤلء الخلق وبنفس الدرجة وبذات الكيفية دون أن يخرج منهم من يقول‬ ‫لقد ضخدعت ‪ ،‬دخلت الشارع الكبير ‪ ،‬كان مزدحما ا ‪ ،‬حادثت نفسى ساخراا أن الخديعة تسرى فى النفوس‬ ‫الساذجة وتعبرها الى العقول المغوية و القلوب الواهنةالتى تلغى كل مساحات التفكير لتضع مكانها مساحات‬ ‫أكبر للغفلة والغباء ‪ ،‬مؤكد هؤلء جميعا ا يتسارعون على أسبقية الشراء لمجرد الفخر بأنهم حصلوا على‬ ‫الحذاء الجديد ‪ ،‬اقتربت أكثر ‪ ،‬سمعت عبارات التذمر تسرى عبر الفواه ‪،‬إنفرج همى قليل ا ‪،‬تطايرت‬ ‫العبارات مزمجرة وسط الحوانيت ذات الواجهات الزجاجية بالوانها الصارخة وشاشتها العملقة التى ماتزال‬ ‫تتحد ث عن المعجزة القادمة من الغرب والتى ستحيل ظلم الغباء الى نور من الذكاء والفهم ‪ ،‬كان المن‬ ‫ينتشر تحسب اا لحدو ث مشاغبات ‪ ،‬ترنحت وانا أسمع الهتافات تعلو ‪ ،‬تهز الشارع والحوانيت والمن معا ا‬ ‫منددة بالحذاء وبمن باعوه ‪ ،‬تسللت عبر الجساد المتلحمة نافذا ا الى الحانوت الذى باعنى الحذاء ‪ ،‬قدمت‬ ‫شكواى طالبا ا رد نقودى ‪ ،‬رد الكمبيوتر ‪-:‬‬ ‫‪40‬‬


‫‪-‬‬

‫غبى ‪..‬لم يعرف كيف يستعمل الحذاء !!‬

‫‪19‬‬

‫مشوار‬ ‫رأيتها تقترب وتتوسل ‪ -:‬أرجوك لتتركنى وحدى ‪..‬معه !!‬ ‫اتسعت عيناى بملء مافيهما من عجب معجون بدهشة ممزوجة باستنكار ‪ ،‬حدقت فى عينيها أرقب تقاطيع‬ ‫وجهها المجهدة ‪ ،‬ذلك الوجه التى كانت تمنحه جل اهتمامها فيما مضى ‪ ،‬الن صار خاليا ا ال من حمرة‬ ‫النفعال ‪ .‬تضمه الى صدرها ‪،‬تهدهده فى رفق ‪،‬وهو غير آبه بما تفعله ‪..‬قلت وانا أكبت غيظى ‪ -:‬لن أتأخر‬ ‫واستدرت أريد الباب‪ ،‬فتحت المزلج ‪ ،‬هرولت صرختها خلفى ‪-:‬‬ ‫‪41‬‬


‫أشرف مريض‬‫قلت متشبثاا بهدوء زائف ‪ -:‬سأذهب الى أبى أطلب سلفة جديدة‬ ‫همست برجاء ‪ -:‬ليس الن‬ ‫ارتميت على أقرب مقعد ‪ ،‬قائل بصبر نافذ ‪-:‬‬ ‫ضميه الى صدرك أكثر ‪،‬سيشعر بالدفء‬‫أشاحت بيدها فى عجز ‪ -:‬تهرب كلما احتجت اليك‬ ‫وعيناها آخر مابقى من الحسن القديم تلمع فيها حبيبات الدموع‪ ،‬وهى تسير به جيئة وذهابا ‪،‬وهو عنداا فوى‬ ‫يواصل البكاء ‪ ،‬أخذت أرقبهما معاا وخاطرة تدور فى فراغ رأسى ‪ ،‬لقد تغيرت رائحتها مذ جاء أشرف ‪،‬‬ ‫صارت رائحة أم بكل مافيها من دفء وبراءة ‪ ،‬نقلت عينى بين صورتها على الجدار وصورتها الن وأشرف‬ ‫بين يديها ‪..‬نسمة إشفاق مرت بصدرى ‪ ،‬همست متلطفا ا ‪ -:‬هيا نذهب الى الطبيب‬ ‫استمرت ذراعاها فى حركتهما البندولية دون رد ‪ ،‬مضت لحظات وانا أجلس مترقبا ا الموقف بصدر ضيق ‪،‬‬ ‫فجأة رأيت وجهها يشرق ببسمة عذبة الملمح ‪ ،‬عيناها تتألقان ‪ ،‬تضع راحتها تحت خدها بمعنى أنه‬ ‫سينام ‪..‬شغلنى هذا الكتشاف ‪ ،‬أسلوبها ‪ ،‬سمات وجهها ‪ ،‬ونظراتها ذاتها تغيرت ‪ ،‬أشرف نقلها من من‬ ‫حالة الى أخرى ‪ ،‬وهبها روحاا جديدة لم تكن لديها من قبل ‪..‬انتبهت لصمت كالشلل يغطى فضاء المكان ‪،‬‬ ‫خلخلة الهواء من حولى ‪ ،‬كأن جدرانا كانت تحيط بى وتضغط رأسى قد تهدمت مرة واحدة وساد بعدها‬ ‫سكون ‪..‬تابعتها وهى تسير محاذرة الى حي ث أرقدته ‪ ،‬ورأيتها تعود معلنة بأحداق متألقة أننى يمكننى‬ ‫الخروج الن بشرط ال أغيب ‪.‬هرولت نحو الباب ‪ ،‬سبقنى صوتها ‪-:‬‬ ‫ هات معك مانحتاج اليه‬‫قلت مشفقا ا ‪ -:‬المهم أن أجد أبى‬ ‫أخذتنا المناقشة ‪ ،‬هربا ا منها أعدت الهرولة نحو الباب ‪ ،‬فتحت المزلج ‪ ،‬وضعت قدمى خارجه ‪،‬شدتنى رنة‬ ‫فرح غامر فى ثنايا صوتها‪-:‬‬ ‫ تعالى بسرعه‬‫هرولت اليها ‪ ،‬وجهها ينير بابتسامة مبهرة ‪ ،‬فيه نضارة ‪ ،‬وأشرف بين يديها ضاحك الثغر ‪ ،‬مدت يدها به‬ ‫اولى ‪ ،‬رنت ضحكته فى فراغ الحجرة ‪..‬نسيت المشوار !!‬

‫‪20‬‬

‫‪42‬‬


‫نواقيس اللم‬

‫رأيته عاقداا ذراعيه على صدره ‪ ،‬واقفاا على باب الحانوت ينتظر ‪ ،‬عيناه مصلوبتان على أول‬ ‫الشارع ‪ ،‬حدقاتهما ثابتتان على المنحنى حي ث يجب أن يدور أى قادم اليه ‪ ،‬هودأت سرعة‬ ‫السيارة التى أقودها وأنا أقترب منتظراا الهلك على يديه نتيجة فعلتى اليوم ‪ ،‬جريمة عظمى‬ ‫فعلتها ‪ ،‬عطلت العمل يوم اا كامل ابالمطعم ‪ ،‬الزبائن فروا الى مطاعم أخرى ‪ ،‬المكسب اليومى‬ ‫تبخر‪ ،‬وأجور العمال خسارة يتحملها وحده ‪ ،‬له الحق فى شنقى على باب الشارع جزاء ما‬ ‫فعلت ‪..‬أخذت أتابع ملمحه وانا أقترب بالسيارة وقد تجهز الموتور للموقعة فهدأ صوته تماما ا ‪،‬‬ ‫وبداا يقترب حثيث اا لتوازى السيارة طول الطوار وتنحدر مذعنة الى حي ث يقف‪ ..‬لم يكن لودى‬ ‫ماأقول الخطأ ‪ ،‬أكبر من أى تبرير ‪ ،‬منذ عملت عنده وانا أعرف أن المهمة مقدسة ‪ ،‬وأن عولى‬ ‫ال يمنعنى عن إحضار البضاعة ال الموت ‪ ،‬فأنا قبل تنبه الطيور من رقادها أخرج مع الليل‬ ‫والظلمة للحق ببواكير السوق ‪ ،‬أحمل الخضر والفاكهة اللزمة لعمل اليوم وأعود الى المطعم‬ ‫ليبدأ العمل ‪ ،‬حتى اذا جاء وقت الظهيرة افترشنا المقاعد إنتظاراا لوفود القادمين ‪.‬‬ ‫أخذت اتابع ملمحه وأنا أقترب بالسيارة لحاذى الطوار ‪ ،‬البضاعة لم أحضرها ‪ ،‬زوجتى‬ ‫مريضة نقلتها للمستشفى فجر اا ‪ ،‬لم أذهب للسوق ‪ ،‬أعرف العقوبة ‪ ،‬الطرد ‪ ،‬فكرت ال آتى‬ ‫وأن أوفر على أذنى سماع مال يليق ‪ ،‬غير أن الهرب ليس طبيعتى ‪ ،‬ليكن مايكون‪..‬اذا لم يعطنى‬ ‫الفرصة للشرح سأعطيه ظهرى وأمضى ‪..‬اقتربت على مهل ‪،‬الن تبدأ المواجهة ‪ ،‬لن أستودر‬ ‫عطفه ‪ ،‬المطعم تعطل ‪،‬هذا ذنبى الكبير ‪ ،‬إقتربت أكثر ‪،‬وجهه عابس ‪ ،‬جبينه مقطب ‪ ،‬فمه‬ ‫مذموم ‪،‬القيت السلم بصوت خافت ليكاد يبين ‪ ،‬ظل محدقا فى وجهى دون كلم ‪ ،‬محاصراا‬ ‫عين وى فى قوة ‪..‬مؤكد يبح ث عن كلمات يبلغنى بها القرار ‪ ،‬وضع يده على كتفى ‪ ،‬يده ثقيلة ‪،‬‬ ‫كفها ضخمة ‪ ،‬هدوء ماقبل العاصفة هذا ‪ ،‬خرجت الحروف من فمه بطيئة النبرات ‪ - :‬لماذا لم‬ ‫تقل لى؟‬ ‫أقل ماذا ‪ ،‬لم يكن لد وى وقت لكلم ‪،‬كان الموت يتعملق أمام عينى وإمرأتى تهوى عبر بئر النهاية‬ ‫بل حول ‪ ،‬مد يده فى جيب سترته ‪ ،‬سيعطينى بقية حسابى ‪،‬أخرج النقود ‪ ،‬دسها فى يدى ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫اذهب الى المستشفى ‪ ،‬اذا احتجت شيئا ا اتصل بى ‪.‬‬ ‫‪43‬‬


‫للحظة لم أع المر ‪ ،‬رميت بنظراتى على براح وجهه فى شرود ‪ ،‬وحينما فهمت اهتزت‬ ‫نواقيس اللم فى صدرى ‪ ،‬الم جارف هزنى ‪ ،‬حاولت الكلم ‪ ،‬تاهت الحروف من شفتى ‪ ،‬بكيت‬ ‫!!‬

‫‪21‬‬

‫غيبة‬ ‫مغلف بالفقر ‪ ،‬يريد زاداا‬ ‫هكذا قلت لنفسى واناأحدق فى وجهه حينما اقترنا منه ‪ ،‬لم يكن على حافة الطريق كالمعتاد ‪ ،‬ولم يكن محنى‬ ‫الرأس كما تعودت أن أرى ‪ ..‬أشار الينا بالوقوف ‪..‬تعاطفت معه ‪..‬وضعت يدى فى جيبى ‪ ،‬وكذلك فعل‬ ‫صاحبى ‪..‬لم تكن هيئته وسيماه تدلن عليه ‪..‬بدا رغم نحول وجهه شديد لمعة الحداق ‪ ،‬نظرته تشى‬ ‫باعتداد قديم ليتناسب مع طلب الحسان ‪..‬مددت يدى مقبوضة الصابع ببعض النقود ‪ ..‬ردها وحدق فى‬ ‫عين وى ‪ ،‬رأيت على ضفتى أجفانه بلورات دموع متجرة ‪ ،‬وبدا وجهه بمشاعره المتأججة فى حبتى عينيه‬ ‫لوحةعبقرية التعبير عن السى ‪..‬لح لى ظله على الرض جزاء ملتصقا ا به يمتد من قدميه الى عرض‬ ‫الطريق تطأه العربات والخلق ‪..‬أقبل بوجهه نحوى سائلا‬ ‫‪-:‬‬

‫‪-‬هل رأيت محمود ؟‬

‫نظرت الى صاحبى ونظر اولى ‪..‬عدت اليه ‪..‬هززت رأسى يمنة ويسرى هامسا ا ‪ -:‬ل‬ ‫ظل محاصر اا وجهى لبرهة ‪ ،‬ربما يحاول استيعاب ردى أو يتيقن من صدق قولى ‪ ،‬بعدها أدار وجهه عنا‬ ‫ومضى‪..‬تحرك ظله معه ‪..‬سألنى صاحبى ‪ -:‬ماله ؟‬ ‫‪44‬‬


‫لم أجبه ‪..‬كنت أرقب الخر ‪ ،‬أراه وهو يمضى متمهل ا ‪..‬يحدق فى الوجوه ‪..‬يسأل البعض ينصت‬ ‫للجابة ‪..‬يستوعبها ويمضى ليسأل من جديد ‪..‬مضيت اليه ‪ -:‬أين ذهب محمود ؟‬ ‫من خلل العرق الثائر على ملمحه السمراءارتسمت على عينيه معالم حيرة ‪ ،‬شرد قليلا وهو يساءل نفسه‬ ‫بصوت خافت كمن يحاول استيعاب أمر جديد عليه ‪ -:‬ذهب !!‬ ‫ثم عاد اولى بلمعة حدقتيه ‪ ،‬غارزاا نظراته فى عيونى ‪ ،‬رافعا ا يدوا معروقة مقبوضة الكف ال من إصبع السبابة‬ ‫أمام وجهى ‪ ،‬وقال بحسم ‪-:‬‬ ‫ لم يذهب ‪ ،‬وسوف يعود‬‫وتركنى ليسأل آخر‪ -:‬هل رأيت محمود ؟‬

‫‪22‬‬

‫لحظة شروق الشمس‬ ‫‪45‬‬


‫لم تشرق شمس اليوم ‪ ،‬صحا الناس فلم يجدوها تعتلى قبة السماء كعادتها‪ ،‬بحثوا عنها ‪ ،‬لم يسفر بحثهم‬ ‫عن شىء ‪ ،‬تحركت أجهزة العلم قاصدة المراصد الفلكية ‪ ،‬خرج النبأ فى كلمات مقتضبة ‪ -:‬لم تشرق‬ ‫شمس اليوم ‪ ،‬سنوالى البح ث عن السبب ‪.‬‬ ‫تساءل الكثيرون ماالعمل ؟‬ ‫‪..............‬‬ ‫أراح الظلم الفلحين ‪ ،‬أسعد البهائم ‪ ،‬الموظفون أيضا ا وأصحاب العمال انقطعوا عن أعمالهم ‪ ،‬الحانات‬ ‫وأوكار الليل تعللت باستمرار الظلمة ولم يبرحها روادها ‪..‬صرخت وزارة الكهرباء من زيادة الستهلك ‪،‬‬ ‫فزعت مصلحة المياه من إنخفاض منسوب النيل ‪ ،‬أعلن جهاز تنظيم السرة أن المر خرج عن التنظيم‬ ‫وسيصبح العدد فى الليمون ‪................... .‬‬ ‫انشغلت الفضائيات بالمر ‪ ،‬كثرت التحليلت ‪ ،‬زادت التصريحات خاصة من المسئولين ‪ ،‬قال أحدهم‬ ‫مهدئا ا ثائرة الثائرين ‪-:‬‬ ‫ نحن لتقهرنا شمس ول قمر ونستطيع العيش بدونها ‪.‬‬‫تعالت ضحكات ساخطة عليه ‪.‬‬ ‫تناثرت التعليقات‬ ‫‪ -:‬لم نصنها فكان الحرمان‬ ‫‪..‬تلك علمة يوم القيامة‬ ‫‪..‬لن يقف العلم عاجزاا عن إيجاد حل ولو بصناعة شمس صناعية ؟‬ ‫طال وقت الظلمة ‪ ،‬تعملق القلق ‪ ،‬بكت العيون ‪ ،‬تضرعت القلوب ‪ ،‬بدأت قطرات النور تتساقط من خلف‬ ‫الغمام ‪ ،‬كسا الفق لون وردى تحول تدريجياا الى إصفرار ‪ ،‬من وراء نجم هائل الحجم عابر فى الفضاء‬ ‫ظهرت الشمس !‬

‫‪46‬‬


‫‪23‬‬ ‫‬‫‪-‬‬

‫الجنة‬ ‫‬‫‬‫‬‫‬‫‬‫‪-‬‬

‫صباح هذا اليوم‬ ‫رأيت وجه أمى يطفح بالبشر على غير عادتها ‪..‬قالت‬ ‫إن أبى زارها لي ا‬ ‫ل ‪..‬تحد ث اليها ثم مضى ‪..‬حاولت‬ ‫إحتمال فضولى لمعرفة ماأولم به فى تلك الجنة التى‬ ‫حكت لى عنها ‪..‬حدقت فى وجهها أتفحص قسماته بعد‬ ‫مطالعته له ‪..‬سألتها كثيراا عنه ‪ ،‬عن السكن الذى فضله‬ ‫على شقتنا هذه الضيقة التى بالكاد تتسع لنا‪ ،‬وتخيلته‬ ‫حامل ا قسماته الطيبة ونظرات عينيه المترعة بالحنان‬ ‫وهو يدخل عليها حجرتها ‪ ،‬وهى تسوبح كعادتها بعد‬ ‫‪47‬‬


‫‬‫‬‫‪-‬‬

‫‬‫‪-‬‬

‫‬‫‬‫‬‫‬‫‪-‬‬

‫صلة العشاء ‪..‬مؤكد سألها عنى و إخوتى الكبار وقالت‬ ‫له مالديها ‪.‬لحظتها شعرت بأنفاسه حولى ‪..‬بادلت‬ ‫صورته على الجدار البسمات ‪ ،‬قررت أن أترك‬ ‫المدرسة والسكن‪ ،‬أذهب اليه فى جنته تلك أشكو له‬ ‫طول غيابه وشوقنا اليه ‪ ،‬وأرجو منه العودة معى الى‬ ‫البيت ‪ ،‬أو السماح لى بالعيش معه وحين أشتاق لرؤية‬ ‫أمى أعود لراها ‪..‬واجهتنى مشكلة لم تكن فى الحسبان‬ ‫أين أجد تلك الجنة وكيف أصل اليها ‪..‬قلت لمى هذا‬ ‫تقهقرت النظرات فى عينيها ‪ ،‬رأيتها تمسك بكتفى‬ ‫وتشدنى الى أحضانها ‪ ،‬أتدثر بسواد ملبسها شاعراا‬ ‫بنقاط مالحة من الماء تدق ظهرى ‪.‬‬ ‫‪...........‬‬ ‫عند سطوع شمس الظهيرة وإعتلئها قبة السماء ذهبت‬ ‫أمى ‪.‬‬ ‫رأيتها بين يدى مرضها عاجزة حتى عن طلب‬ ‫العون ‪..‬عيناها تغوصان رويداا فى ماء بحر آسن لقاع‬ ‫له ‪..‬احتضنت يدها ‪..‬دف ء الحياة ينبض واهنا ا ‪..‬يخف‬ ‫رويداا ‪..‬حاولت إستخلص جسدها من بين براثن الغياب‬ ‫‪..‬لم استطع ‪..‬ضمتنى أختى الكبرى الى صدرها ‪..‬أمك‬ ‫ذهبت للجنة مع أبيك ‪..‬بقوة الفقد صرخت أريد الذهاب‬ ‫معهما ‪..‬أغرقت كتفى سيول الدمع من جديد ‪.‬‬ ‫‪.................‬‬ ‫الن وانا على أعتاب المغرب أحمل الشوق لبى‬ ‫واللهفة لمى‪ ..‬ينفذ حفيدى باسما ا من بين السيقان‬ ‫المتزاحمة حولى ‪ ..‬تضمه عيناى قبل يدى ‪..‬له حروف‬ ‫خاصة به‪ ..‬أحبها من شفتيه ‪..‬يسأل وهو يقف بجوار‬ ‫سرير مرضى‪ ..‬وجهه بالكاد يحاذى وجهى ‪ :-‬مالك‬ ‫ياجدى ؟‬ ‫‪ -:‬بوهن الصوت أهمس يطالعنى وجه أمى وصورة‬ ‫أبى ‪..‬‬ ‫‪ :‬سأذهب الى الجنة‬ ‫ضرب قدمه بالرض وقال غاضبا ا ‪-:‬‬ ‫‪ :‬خذنى معك‬‫حدقت فى عينيه وظل إبتسامة يرتسم على شفتى‬

‫‪48‬‬


‫‪24‬‬ ‫بسمة أبى‬ ‫سعادة باكتشاف جديد مرت بى ‪..‬رأيتنى أحمل فيضا ا من لهفة لخوض تجربة كثيراا مانأيت بنفسى عنها ‪،‬‬ ‫شاعر اا بلجدوى النغماس فى ماءها السن برائحته المميزة‪..‬اليوم مضيت وأبى حامل أعين الشوق لتلك‬ ‫الممارسة بعد أن تحرك الماء وفار ‪ ،‬غازلا من ذراته حروفا ا مبهجة بارزة للعين ‪ ،‬حاملة روائح ذكية‬ ‫تمل الروح أملا وتبع ث فى النفس نشاطا ا ورغبة فى الحركة والتدفق ‪.‬‬ ‫كان والدى مايزال يحمل شكوك المس فى قلبه ‪ ،‬ينظر صامتا ا بينما عيناه تبوحان بتردد مثير ‪ .‬أشرت له الى‬ ‫البوابة الحديدية ‪..‬أمامها صف بشرى ينتظم بطول الشارع الكبير ‪،‬ل أحد يحاديه أو يرقب خطوته ‪..‬برقت‬ ‫نظراتى وهى تتجه لعينى أبى وهمست ‪ -:‬شخصية غريبة نحن ‪..‬نمتلك المقومات ولدينا الساس ونعرف‬ ‫كيف نتصرف ورغم هذا يحكمنا مزاجنا الشخصى وفكرتنا المسبقة ول نعرف من اللوان ال البيض الناصع‬ ‫البرىء من متاهات السواد أو السود العميق الذى يأكل نظرات العيون ‪.‬‬ ‫هدأت خطى أبى ولم يرد ‪..‬هو هكذا حينما تهاجمه بالحجة البينة ‪ ،‬تنطق عيناه بالرضا أما لسانه فيد ور فى‬ ‫متاهة الصمت ‪ .‬مددت يدى اليه فتشابكت ذراعانا وأكملنا السير ‪..‬مضينا الى آخر الصف لننضم الى‬ ‫الوقوف ‪..‬أشار أحدهم الينا ‪ -:‬الكبار )يقصد أبى ( لهم إعفاء من الصف ‪.‬‬ ‫واشار نحو الباب ‪..‬حملت سنوات عمرى قرير النفس ومضيت خلف أبى ‪..‬قدمت بطاقة هويتى وتسلمت‬ ‫ورقة القتراع ‪..‬لن الماء السن تحرك وفار قاذفاا بالخب ث والنفايات خارج مجراه أتى الناس اليوم‪..‬فاجئنى‬ ‫خاطر ‪..‬لم يكن أمام الباب سماسرة الصوات ‪..‬لم تمتد يد بنقود عطنة الرائحة ‪،‬ولم يرجونى أحدهم ن أقول‬ ‫مايريد ‪..‬أدرت البصر حولى ‪..‬مكتب قديم تجلس خلفه وجوه جديدة ذات سمات بيضاء رغم قمحيتها‬ ‫‪..‬نظراتها تطلق طيور اا بديعة التغريد تدفعنى دفعا ا لفتح فمى ورسم ابتسامة وردية على شفتى ‪..‬يعلوها إطار‬ ‫ذهبى الحواف أبيض القلب يحمل عبارة ا أكبر ‪..‬أشير لوالدى بطرف عينى اليه ‪..‬تتبسم عيناه مدركا‬ ‫ماأقصد ‪.. ..‬أتجه الى صندوق القتراع الخشبى ‪..‬جدرانه من الزجاج الشفاف ‪..‬داخلها أصوات الناخبين‬ ‫‪..‬أمسك القلم ‪..‬أشير الى خانة نعم بل تردد ‪..‬أضع الورقة عبر الفتحة العلوية فى الصندوق ‪..‬بمجرد عبورها‬ ‫الفتحة تفرد أجنحتها محلقة فى فضاء المكان راضية ‪..‬أنظر لبى ‪..‬أرى عينيه باسمتين ‪..‬ابتسم له !!‬

‫‪49‬‬


‫‪25‬‬

‫حفلة عرس‬

‫‪ ..‬تفجرت ينابيع الخوف فى تجويف صدرها وانقبض قلبها ل تعرف لم ‪ ،‬كانت تداعب الزملء ‪،‬‬ ‫تسخر من تأخرهم عن العمل واختراع الحجج للهروب منه ‪ ،‬دق الهاتف الجوال فى حقيبتها ‪،‬‬ ‫اخرجته ‪ ،‬اندفع صوت هشام مترنحاا على السلك الى أن وصل سمعها ‪..‬الحقى بابا !! وانقطع‬ ‫الصوت ‪..‬حاولت التصال به ‪..‬الخط مغلق أو خارج الخدمة‪..‬ابتلعت ضحكة كانت تزين شفتيها ‪..‬‬ ‫المفروض أنه ذهب الى الكلية الن ‪..‬إمتحان المادة الخيرة فى البكالريوس ‪..‬بد ت على وجهها‬ ‫زوابع مابعد المكالمة ‪..‬حملت حقيبتها ودون كلمة هرولت نحو الباب ‪..‬حاول البعض معرفة‬ ‫المر ‪..‬اشاحت بيدها قائلة للفراغ الذاهبة اليه ‪ -:‬ظروف قاهرة‬ ‫‪50‬‬


‫وطارت عبر الطريق ‪.‬‬ ‫‪.................‬‬ ‫صرخ مفصل الباب بين يديها ‪..‬تركته الى عتمة تحتل الردهة الداخلية‪..‬قابلها هشام بوجه لم تره‬ ‫من قبل ‪..‬لم تجد وقتا لسؤاله عما به ‪..‬هرولت الى غرفة النوم ‪..‬رأته هناك على سريره ‪..‬وجهه‬ ‫منبسط السارير ‪ ،‬يحمل ابتسامة فى طور البزوغ ‪..‬عيناه مغلقتان ‪ ،‬وجبينه عليه نقاط تترنح‬ ‫على حوافها الشعة النافذة من الضوء أعلى الجدار ‪..‬أمسكت بيده‪..‬تحسست رسغه ‪..‬ازداد ت‬ ‫دقات قلبها صراخ اا ‪..‬تيبست الكلمات على شفتيها ورأت الحجرة والمرئيات تدور حولها بعنف ‪..‬‬ ‫من بين سحب الضباب الناشب أنيابه فى أحداقها عادت الى هشام ‪..‬يقف هناك أمام الباب فى لجة‬ ‫جزع ر جارف ‪..‬عيناه تصرخان ‪..‬تضربان أسطح الجدران بهدير النظرات المتلطمة تارة‬ ‫والمترنحة أخرى بل حول ‪....‬مدت يد اا واجفة اليه محاولة تثبيتها قدر المستطاع وهى تهمس‬ ‫بصوت غريب على أذنيها ‪ -:..‬مايزال هناك متسع لديك ‪.‬‬ ‫قاصدة أن يلحق بامتحانه ‪.‬‬ ‫تراجع خطوة للخلف راسما اعلى ملمحه فجر دهشة صارخة‪ -:‬ماما !!‬ ‫أحنت رأسها قائلة فى حدة ‪ -:‬انا معه ‪..‬اذهب انت‬ ‫اقترب قليل معترضا ا ‪ -:‬ماما !!‬ ‫رفعت عينيها اليه ‪..‬قالت قبل أن تنهار أمام دموعها ‪ -:‬قلت اذهب ‪..‬اذهب‬ ‫واستدارت عنه ‪..‬حدقت فى الوجه السابح فى سماء سكونه ‪..‬رأته شابا ا يطاردها حتى ترضى‬ ‫به‪..‬يذهب الى أمها ‪ -:‬أريد إبنتك ‪..‬تواجهه هى‪ -:‬وانا ل أريدك ‪..‬يحدق فى عينيها بقوة ‪-:‬‬ ‫سأتزوجك ‪..‬يصارعان اليام بعد الرتباط ‪..‬يغوصان فى غمرة الظروف ومتاهات اللم ‪..‬يظللن‬ ‫الصغار بروحيهما‪..‬يقع مريض اا ‪..‬تقوم بتمريضه ‪..‬تمضى لحظاتها فى العمل و تهرول اليه‬ ‫‪..‬تحكى له ماكان ‪..‬تحادثه عن يومها وزملئها ‪..‬تقدم له الجرائد ‪..‬تحلق له لحيته ‪..‬تساعده فى‬ ‫تغيير ملبسه‪ ..‬أخيراا ترقد الى جواره منبسطة السارير ‪ ،‬راضية برحيق أنفاسه الى جوارها‬ ‫‪..‬اما الن !!‬ ‫عادت الى وجهه ‪..‬مدت يدها تتحسسه ‪..‬تهمس له بكل مايمر فى سماء روحها من حروف ‪..‬‬ ‫تدعوه أن يهل ببسمته كما عودها ‪..‬رأت فمه ينفرج ‪..‬رأته ‪ -‬وتقسم على هذا‪ -‬ينفرج‬ ‫‪..‬صحيح أنها فرجة لتكاد تبين ‪..‬لكن النور أضاء وجهه ‪..‬امسكت بصدغيه فى حنان ‪..‬تكلم‬ ‫‪..‬افتح عينيك ‪..‬اعد ابتسامتك ‪..‬لم يرد ‪ ..‬هبت من مكانها ‪..‬اتجهت الى دولب ملبسهما‬ ‫‪51‬‬


‫‪..‬اختارت بذلة عرسه وعادت اليه‪..‬بدأت تغير ملبسه ‪..‬تمشط شعره ‪..‬نثرت العطر الذى يحبه‬ ‫بعدها ارتد ت فستان عرسها وصعدت الى جواره على السرير ‪..‬أخذت يده فى يدها ‪ ،‬والقت على‬

‫شفتيها ابتسامة مبللة بماء الدموع‬

‫‪26‬‬

‫عودة الميت‬ ‫إختار سيد وظيفته الخيرة بناء على إقتراح أحد الزملء على المقهى‪ ،‬همس فى أذنه أن يعمل ميتا ا ‪ ،‬من‬ ‫يومها وهو يسمى سيد الميت ‪ ،‬وهى وظيفة والحق يقال قد عادت عليه وزميله بإيراد يومى لم يكن يحلم‬ ‫به ‪ ،‬فقد عمل فى أشياء كثيرة أما الموت فلم يخطر بباله من قبل وبهذه الطريقة الشيك التى لتكلفه‬ ‫اللحظات من الصمت والجمود ‪ ،‬يقوم فيها بالتمثيل وسط تجمع من البشر يلتفون حوله ‪ ،‬يقولبون فى جيوبه‬ ‫بحثا ا عن شخصيته ‪ ،‬بعدها يتدخل صاحبه ‪ ،‬يقوم بعمل اللزم من إستدرارعطف القلوب على هذا الميت‬ ‫المسكين الذى ترك خلفه أسرة كبيرة لعائل لها ‪ ،‬تحتاج مساعدة عاجلة ‪ ،‬بالضافة لمصاريف الدفن‬ ‫ومواراته التراب ‪ ،‬وبسرعة تمتد اليدى ‪ ،‬يجمع الزميل النقود ‪ ،‬يساعده المارة على نقل الجثة الى إحدى‬ ‫العربات التى تنطلق بهما الى حي ث يقتسمان الغلة ويذهب كل منهما فى طريق ‪ ،‬على وعد بلقاء جديد‬ ‫ومنطقة أخرى يستخدم فيها مواهبه ‪ ،‬ورغم سهولة المهمة ال إنه دائم الشكوى منها ‪ ،‬من اليدى التى‬ ‫تمتد اليه ‪ ،‬تقولب جسده وجيوبه ‪ ،‬وعليه مهما فعلوا به عليه أن يظل ساكنا ا مقطوع النفس وال فشلت مهمته‬ ‫‪52‬‬


‫‪،‬أ مر آخر فى هذا العمل يقلقه وهو أمانة زميله‪،‬إذ انه يأخذ النقود ‪ ،‬يبتلعها ‪ ،‬وحين يطالبه بالتقسيم يخرج‬ ‫له القليل مقسم اا بأغلظ اليمان أنها كل مالديه ‪ ،‬يحدق فى عينيه متهما ا ‪ ،‬يصر الخر على إبعاد التهمة‬ ‫عنه ‪ ،‬أما غير هذا فل شىء هناك ‪ ،‬العمل سهل يشعر وهو يؤديه بمتعة التحدى اليومى لمهاراته ‪ ،‬خاصة‬ ‫والعيون ترصده متربصة بأقل حركة قد تصدر منه ‪ ،‬وهم يقلبون فى جسده أو وهم ينقلونه الى العربة التى‬ ‫اتفق وزميله مع صاحبها‪ ،‬لتنقلهما الى الماكن المختلفة التى يختاراها بعناية ‪ ،‬وتكون جاهزة حين يصيح‬ ‫سترة‬ ‫زميله طالب اا عربة لحمل الميت الى بيته بدل امن الذهاب الى المستشفى وتشريح الجثة ‪ ،‬متعلل بأن ض‬ ‫الميت دفنه ‪،‬وقد اعتاد ا الذهاب الى مناطق الثرياء للمبالغ الكبيرة التى تقدم لهما ‪ ،‬اليوم والعربة تمضى‬ ‫بهما الى ضاحية مشهورة بمستوى قاطنيها شعرسيد بقلبه يدق بسرعة مخترقا ا حاجز الصمت الذى يسود‬ ‫عادة جو العربة مشحون اا بتوتر اللحظات السابقة لكل عملية ‪ ،‬رأى العرق يغطى وجهه وانتبه لطرافه تتثلج‬ ‫‪،‬همس صاحبه وهو يرمقه بطرف عينه أن هذا سيسهل مهمته ‪،‬رسم إبتسامة بالكاد على شفتيه ولم يرد ‪،‬‬ ‫اقترب المكان المختار ‪،‬هبط من السيارة ‪ ،‬سار قلي ا‬ ‫ل قبل أن يقع أرضا ا وسط الطريق وبين العربات‬ ‫المارة ‪ ،‬مما استرعى إنتباه العين والتفاف الجساد حوله ‪ ،‬تقدم صاحبه ليقوم بعمله المعتاد من شرح‬ ‫ظروف الميت وظروف أسرته‪ ،‬إنتبه لحدهم يقاطعه صارخا ا أن هذا الميت قد مات كثيرا ا من قبل فى أماكن‬ ‫أخرى ‪ ،‬تسلل الزميل من بين السيقان هاربا ا ‪ ،‬موقنا ا بالهلك إن أمسكوا به ‪ ،‬أما سيد فقد سمع جيداا مايقال‬ ‫‪ ،‬حاول أن يستمر فى دوره ‪،‬لم يستطع ‪ ،‬فتح عينيه بالكاد مديراا حدقتيهما فى الوجوه المتحلقة حوله ‪ ،‬كان‬ ‫وجهه مايزال ممتقعا ا والعرق يغمر قسماته ‪ ،‬صرخ أحدهم مهل ا‬ ‫ل بأن الميت قد عاد للحياة ‪ ،‬هللت الصوات‬ ‫خلفه فرحا بحدو ث هذه المعجزة أمامها ‪ ،‬ضاع الصوت الول فى مهرجان الصوات الجديد ‪ ،‬أما سيد فلم‬ ‫ينطق بحرف !!‬

‫‪27‬‬

‫فقد صديق‬

‫‪53‬‬


‫فرت من عينيه نظرة عجب ر الى الطوار المقابل ‪..‬ذاك الطوارالذى زامله سنوات ‪ ،‬وجوده يوميا‬ ‫معه الغى المسافات بينهما ‪ ،‬كان يقف كل صباح يهمس لنفسه بما لديه ‪ ،‬ينظر هنا ويحدق هناك‬ ‫‪ ،‬انتبه لهذا الطوار ‪ ،‬انتابته خاطرة شعر معها للحظه بتشابه بينهما ‪ ،‬هذا التشابه جعله يطيل‬ ‫النظر اليه ‪ ،‬يحكى ويضحك معه وربما بكى بين يديه ‪ ،‬شاعراا بسعادة لنه يزيح عن صدره‬ ‫مايؤلمه ‪ ،‬وفى ذات الوقت يجد من يشاركه المه ‪ ،‬يتوحد معه فى الطباع وفى الحاسيس ‪،‬‬ ‫وحتى فى الملمح ‪ ،‬فهنا أثر الزمن على قسمات الطوار حفراا ونتؤات وأتربة ‪ ،‬وهناك ذات‬ ‫الثر على وجهه أيضا ا تغضنات وإنطفاء بريق الحداق‪ ،‬حتى إنتظاره اليومى لمفاجأة يأتى بها‬ ‫القدر ‪ ،‬ترحمه من الذهاب لعمله الكئيب ‪ ،‬شعر أيضا ا أن ذاك الطوار ينتظر مفاجأة قدرية‬ ‫مثلها‪..‬ماهى ؟‪..‬ليدرى ‪..‬اليوم فقط إهتز بعنف وهو يرى مفاجأة القدر تأتى للطوار دونه ‪ ،‬يبدو‬ ‫وجهه جديد اا بهى الطلعة يتألق تحت ضوء الشمس ‪ ،‬البيض زاه ر ‪ ،‬السود لمع ‪ ،‬وكلهما له‬ ‫بريق يشد العين ‪ ،‬أما الحفر والنتؤات فقد استطاعت يد ماهرة أن تخفيهما بمهارة‪ .‬لقد انتبهوا‬ ‫للطوار أخيرا ا ‪ ،‬مدوا أيديهم اليه ‪ ،‬أزالوا عن وجهه ماأعتراه من تحولت ‪ ،‬أما هو فلم يره‬ ‫أحدهم ‪ ،‬أو ربما رآه ولم ينتبه أنه والطوار شريكان فى المكان وفى التحول أيضا ‪ ،‬لقد رآه‬ ‫ف لفقد صديق ‪،‬‬ ‫بالمس كما اعتاد أن يراه ‪ ،‬لم يتوقع هذا ‪ ..‬هز رأسه مرات وهو يشعر بأس ر‬ ‫مؤكد لن يعرفه بعد اليوم لن حالته تغيرت ‪ ،‬وحتى اذا عرفه فلن يشعر به كما كان ‪ .‬اجتاحه‬ ‫شعور لم يدر كنهه‪ ، .‬هل هو إحساس بتقزم ‪ ،‬أم هى غربة غلفت نظراته ؟‪..‬ظلت عيناه‬ ‫مصلوبتين على ملمحه قلي ا‬ ‫ل ‪ ،‬تشرق فيهما الفرحة وهو يحدق فى اللون البيض بنضرته ‪،‬‬ ‫سعيد اا بما حد ث لصديقة ‪ ،‬وتغيض منهما الشراقة وتحل محلها غيرة ‪،‬وهو يغوص بنظراته فى‬ ‫اللون السود ‪ ..‬أخيراا هز رأسه مبتعداا فى تثاقل عنه‬

‫‪54‬‬


‫‪28‬‬

‫ترقية‬

‫فوق الجميع هو‬ ‫فوق الناس والعربات والبيوت ‪،‬يراهم من أعلى ويبتسم للجميع ‪،‬يأخذ من سعادته وينثر فى الرجاء ‪،‬ليبخل‬ ‫على أحد ‪،‬الكل لديه سواء ‪،‬وإن كان أصحاب القلوب النقية مثله لهم نصيب أكبر لديه ‪.‬‬ ‫يمرق وسط العربات‪ ،‬لمباتها البيضاء والحمراء تبتسم له‪ ،‬تحييه‪ ،‬يرد تحيتها‪ ،‬يتجه الى شارع جانبى ‪،‬‬ ‫ضؤه الخافت يستقبله ‪ ،‬الشجار حرس شرف على الجانبين ‪ ،‬ضوء القمر ينفذ من بين الفروع والوراق‬ ‫التى تصنع ظلل راقصة تداعبه فى سيره ‪ ،‬يضحك من القلب ‪ ،‬ترتفع ضحكته ‪ ،‬ينتبه بعض المارة له ‪،‬‬ ‫يشير محيي اا هامسا لنفسه لو عرفوا سوف يشاركوننى الفرح ‪ ،‬الوظيفة التى لم تخطر لى على بال سوف‬ ‫أنالها ‪،‬الكبار الذين كنت أراهم على البعد سأكون منهم ‪.‬‬ ‫عاد الى الظلل المتراقصة والنوار الملئكية الرائقة‪ ،‬اليام القادمة ستشهد انقلبا ا فى حياته‪ ،‬سيترك‬ ‫التوبيس والزحام والمنازعات ويركب سيارة وحده ‪،‬يقودها سائق خاص يحترمه ويطلب رضاه ‪،‬أيضا‬ ‫سيكون له سكرتير ‪،‬ليريد سكرتيرة فهو ضعيف أمام النساء ‪ ،‬لن يتحمل نظرة ناعسة أو كلمة رقيقة‬ ‫‪،‬الفضل سكرتير ويكون وقوراا ‪ ،‬ثم تلك الوظيفة الجديدة‪ ..‬لبد أن يشعر الجميع إنه أضاف اليها ‪،‬وغير فيها‬ ‫ولم تستطع هى أن تغويره كما فعلت بغيره ‪ ،‬سيفعل هذا‪ ،‬ويجعل أولده وبناته يفتخرون به وزوجته‬ ‫تتباهى ‪..‬آه بمناسبة الزوجة ‪،‬لبد أن يتغير نظام البيت فوراا‪ ،‬لصراخ مع الجيران ‪،‬لجدال مع بائع جوال‬ ‫من الشرفة ‪،‬لسباب للولد بصوت زاعق‪ ..‬الولد أيضا عليهم التزام الهدوء والبنات عليهن التحلى‬ ‫بالحشمة ‪،‬زوجته نفسها عليها أن تكتسى بتواضع معجون بالعظمة فهى ستصبح زوجة رجل ذى حيثية‬ ‫‪،‬صحيح أنه انتظر طوي ا‬ ‫ل ‪ ،‬لكنها فى النهاية جاءته ‪،‬يكفى أن السيارة ستنتظره كل صباح أمام باب البيت‬ ‫ويسارع السائق بفتح الباب له‪ ،‬لذا فالمر لن يخلو من هيبة وإن كان سيلتزم فى أحاديثه وتعاملته‬ ‫بالتواضع والصفح ‪،‬سوف ينسى إساءة جاره فى الطابق العلى ‪،‬وتطاول جاره فى الطابق الدنى‪ ،‬عن‬ ‫‪55‬‬


‫سخرية زملئه وهزلهم معه ‪ ،‬سوف يتغاضى عن كل هذا ويرتفع فوقه لعلى ‪،‬لعلى ‪..‬ورفع رأسه فى‬ ‫شموخ ‪،‬تلقت نظراته والقمر ‪ ،‬تبسم له وهو يعبر الشارع ‪ ،‬لم ينتبه لحمرار إشارة المرور !!‬

‫‪29‬‬

‫تحريات‬ ‫كان ضخم الجثة كبير الرأس‪ ،‬ذو عينين متسعتين كعينى ثعبان زجاجيتين‪ ،‬وذراعه حديدية‬ ‫كذراع ونش لتعرف اللين‪ ،‬هبطت على قفا أحدهم فى الطريق‪ ،‬تصلبت قبضته على ياقة قميصه‬ ‫من الخلف وهو يفوح بقوة )قفشتك يابن الكلب ( ‪..‬لم يملك الرجل لحظتها الرجاء أن يفك يده‬ ‫قلي ا‬ ‫ل عن ياقة القميص ‪،‬خاصة أنه يعتصرها من الخلف فيخنقنه من المام‪ ،‬وهو ل يعرف على‬ ‫وجه اليقين ماذا فعل بالضبط ‪..‬الشارع الكبير يزدحم بالوجوه المختلفة‬ ‫وأصناف البشر ‪،‬ماذا رأى فى وجهه ليختاره من بينهم ‪..‬دون تحذير أو حتى مقدمات شده اليه‬ ‫من الخلف ‪ ،‬ترنح جسده فى يده ‪ ،‬قبل أن يولم أطراف الدهشة ليواجهه بها سمعه يرميه بوابل‬ ‫‪56‬‬


‫من الشتائم وهو يتوعده بالويل ‪..‬جاهد ليفتح فمه صارخا ا فى وجهه متسائ ا‬ ‫ل من أنت وكيف تفعل‬ ‫هذا ؟‪..‬خرج صوته واهن اا بحروف غير مترابطة لتؤدى الى معنى ‪ ،‬ورأي نفسه يشير بيد الوهن‬ ‫متسائ ا‬ ‫ل عما فعل‪ ،‬والناس يلتفون حولهما ‪ ،‬تزداد كثافتهم وتتسع دائرتهم باحثين فى وجهه عن‬ ‫سمات الجريمة ‪ ،‬متسائلون فيما بينهم ماذا فعل هذا اللص؟‪ ..‬تطوع بعضهم للجابة عن السؤال‬ ‫بثقة مؤكدين أنه ارتكب هذا‪ ،‬رد آخرون بل جنى ذاك‪ ،‬كثرت القاويل حوله وهو يستمع‬ ‫مرتجف البدن متسع العينين وقلبه يهوى الى ركبتيه ‪..‬رأى الرجل الغليظ الوجه هذا الجمع‬ ‫حولهما ‪..‬زادت قبضته تصلب اا على قفاه ‪ ،‬رأى أن الظروف مواتية لستخدام يده الخرى ‪ ،‬بدأ‬ ‫يهوى بها حي ث شاءت وهو يواصل شتيمته‪ ..‬فجأة صمت قلي اا‬ ‫ل ‪ ،‬حدق بعينى الثعبان فى وجهه‬ ‫متسائ ا‬ ‫ل ‪ -:‬إنت شغلتك إيه؟‪..‬فتح فمه بالكاد ‪ -:‬سواق ‪..‬صرخ ليسمعه الجمع المتلحم حوله‪..‬‬ ‫)بطاقتك يا‪...‬أمك( ‪ ..‬ناوله بيد الرجفة البطاقة ‪..‬دسها فى جيبه واستدار الى الخلق‪ -:‬ياله‬ ‫ياجماعه كل واحد يروح لحاله خلونا نشوف شغلنا‪..‬قالت له إمرأة باهتة الملمح‪ -:‬ارموه فى‬ ‫السجن ‪ ،‬نظفوا البلد من أمثاله ‪..‬التقط طرف الخيط رجل كاره للحياة صرخ فى وجهه‪ -:‬تستحق‬ ‫الشنق لعمالك السوده ‪..‬كسر الدائرة قدوم رجل آخر ضخم الجثة كبير الرأس‪ ،‬ذو عينين‬ ‫متسعتين كعينى ثعبان زجاجتين‪ ،‬يقبض على قفا رجل جديد ‪..‬أزاح الخلق بصوته الغليظ حتى‬ ‫وصل اليهما ‪..‬نظر الى الرجل فى قبضة زميله وهو يسأله بازدراء ‪ -:‬مين ده ؟‬ ‫قال‪ -:‬اللص‬ ‫هز رأسه سلباا‪ -:‬ل ده اللص ‪،‬أنا ظبطته متلبس‬ ‫وهو يهوى على وجهه بباطن يده ‪..‬انحلت عقدة الغليظ الول عن ياقة القميص ‪ ،‬قال وهو يتجه‬ ‫الى اللص ليكيل له اللكمات ‪ -:‬معلشى يافندى ‪..‬خطأ فى التحريات‬

‫‪30‬‬

‫الهاتف‬ ‫‪57‬‬


‫ضرب رنين الهاتف ركام الصمت حوله ‪ ،‬اتجه بعين السخط اليه ‪ ،‬مؤكد الطالب سميحه زوجته ‪،‬‬ ‫تريد العتذار ‪..‬لحت صورتها له وهى ترميه بكلماتها الثلجية بالمس ‪ -:‬لن أبقى معك بعد اليوم‬ ‫وهو ينظراليها ‪ ،‬الى وجهها الذى اكتسى بملمح لم يرها عليه من قبل ‪ ،‬اتسعت عيناه ‪،‬‬ ‫اضطربت أنفاسه ‪ ،‬صرخ ‪ ،‬ضرب الجدران ‪ ،‬حطم الثا ث وهى لتبالى به ‪،‬عيناها بحيرتان‬ ‫تغطيهما الثلوج ‪ ،‬تفتح الباب ‪،‬لتكلف نفسها مشقة النظر الى الخلف وتمضى ‪.‬‬ ‫هز رأسه مراراا هرباا من تتابع الصور فى مخيلته ‪ ،‬رفع يده قاصداا الرد ‪،‬عاد وخفضها ‪ ،‬لن أرد‬ ‫عليك ‪ ،‬مواجه اا الهيكل البارد فى عناد ‪ ،‬حادثته نفسه قد يكون حسام إبنه ‪ ،‬يريد تبرير جريمة‬ ‫أمه ‪ ،‬لول مرة منذ تزوجها تقف أمامه ‪ ،‬تنطق بحروف لترضيه ‪ ،‬مادامت تمردت فعليها أن‬ ‫تتحمل ‪ ،‬هى التى عادت بعد حفل زفاف آخر بناتها الى البيت ‪ ،‬جهزت حقيبتها وقالت له ‪ -:‬الن‬ ‫إنتهت مهمتى ‪ ،‬وسأرحل ‪ ،‬قسماا لن يعود عن عقابها ‪ ،‬لن يسامحها لنه ليوجد ذنب بدون‬ ‫عقاب‬ ‫‪..‬مد يده الى الهاتف ‪..‬عاد وسحبها ‪،‬حتى لو كان حسام لن أرد عليه ‪،‬‬ ‫ظل الهاتف يزأر فى جنون ‪ ،‬صراخه يزلزل أذنيه ‪،‬يرج أرجاء دماغه ‪ ،‬اتجهت نظراته الملتهبة‬ ‫الى برودة كيانه الرمادى ‪ ،‬مد يده قاصداا قذفه على الرض كما كان يفعل ‪..‬توقفت يده فى‬ ‫منتصف الطريق ‪ ،‬قد تكون سماح إبنته تريد أن تعتذر له ‪ ،‬تقول أن أمها لديها ‪ ،‬تطلب منه أن‬ ‫ينسى جريمتها من أجلها وأجل أخيها ‪،‬هى سماح ‪،‬مؤكد ستقول هذا ‪،‬ترجوه أن يقبل العفو عن‬ ‫أمها ‪،‬امتدت يده الى الهاتف ‪ ،‬صمت الرنين قبل أن تصل يده اليه ‪ ،‬غاصت نظراته فى طيات‬ ‫شعور جارف بهزيمة لم يعرفها قبل ‪..‬دارت عيناه شاردتين فى بثور ونتؤات تحيط به على‬ ‫الجدران ‪ -‬لم ينتبه لها من قبل ‪ -‬تتعملق أمام عينيه ‪ ،‬تتحول من نقاط صغيرة الى مساحات‬ ‫عملقة يبدو أمامها قزما لحول له ‪ ،‬هرول بنظراته الى صورته بملبسه الرسمية فى‬ ‫الطارالمذهب على الجدار المقابل‪ ،‬الرأس مرفوع ‪ ،‬البتسامة عالية تليق به‪ ،‬الذقن حليق ‪،‬‬ ‫والحدقات لمعتها توحى بمكانته ‪.‬فرد جسده بعد انكماش ورفع رأسه ‪ ،‬عاوده الم ظهره ‪ ،‬عاد‬ ‫وانكمش لعنا ا من أجبروه على ترك عمله ‪.‬‬ ‫ارتفع رنين الهاتف ثانية ‪،‬اتجه اليه بسخط نظراته ‪ ،‬لن يرد عليه مهما كان ‪ ،‬اذا ارادت‬ ‫العتذار عليها أن تأتى اليه ‪ ،‬تقدم الطاعة وتعترف بالذنب ‪ ،‬بعدها ينظر فى أمر العفو عنها من‬ ‫عدمه ‪ .‬تواصل الرنين ‪ ،‬قرر البتعاد عنه نهائياا ‪ ،‬غير أنه فوجى بيده واهنة تمتد ‪ ،‬ترفع‬ ‫السماعة الى أذنيه ‪ ،‬ورأى نفسه يقول بصوت غريب على أذنيه ‪ -:‬الو‬ ‫‪58‬‬


‫‪31‬‬

‫إنتظار‬ ‫بين يديها تتلكأ اللحظات‪،‬عقارب ملعونة تأبى ال التباطؤ الى حد الموت‪ ،‬سكين‬ ‫اللحظة باردة على رقبتها‪ ،‬تحز العظام‪ ،‬تجحظ عيناها وهى تعاود النظر الى سواد‬ ‫الساعةوتجد العقارب مكانها تبادلها التحد يق بأعين زجاجية النظرات‪ ،‬تحمل إناء‬ ‫الزهور الخزفى الملقى على المائدة الصغيرة فى غرفة الصالون‪ ،‬ترفعه قاصدة قذف‬ ‫هذه الساعة الجاحدة به ‪ ،‬ينطلق رنين الهاتف ‪،‬تنتفض ‪،‬تلقى الناء جانبا ا وتهرول اليه‬ ‫‪،‬تطير اللحظات معها لهف اا ‪،‬ترى الرقم الطالب ‪،‬تتألق عيناها بلون الفرح ‪،‬تهتف من‬ ‫قلبها ‪ -:‬الو ‪.‬‬ ‫تهرول فى أرجاء المكان الذى يتسع بالكاد لحلمها‪ ،‬يشرق فى نواحيه ضياء يلمس‬ ‫قلبها فينتشى‪ ،‬ترتب المقاعد والريكة‪ ،‬تزيل ترابها‪ ،‬تنسق الحشايا فى أركانها‪،‬‬ ‫تنشر أريج العطر فى نواحيها‪ ،‬تلمس الناء الملقى على جانبه فى رفق بباطن كفها‪،‬‬ ‫تمر على ثنايا جسده الخزفى متأملة وتضعه حانية مكانه منتصف المائدة‪ ،‬يدق جرس‬ ‫الهاتف ثانية قاطعا اتدفق صمت هانىء يضمها ‪ ،‬تنظر الى الرقم ‪ ،‬تشيح بيدها‬ ‫وتمضى عنه ‪ ،‬تتجه الى دولب ملبسها على بساط من هناء‪ ،‬تسكن الحيرة عينيها‬ ‫ونظراتها تتقافز من ثوب الى آخر ‪،‬تحدق فى الحمر ‪،‬الشقاوة تكون معه ‪،‬شعر ثائر‬ ‫يتموج حول النحر وعطر ساحر ونيران لتهدأ ‪..‬ترسل طرفها الى البيض ‪،‬الرومانسية‬ ‫‪59‬‬


‫معه والشعر المنسدل على الكتفين والعطر الخجول والنظرة الناعسة ‪..‬اتجهت الى‬ ‫السود ‪،‬الوقار والشعر السارح فى ضفيرة هادئة على بساط الظهر والعطر‬ ‫النفاذ‪..‬لمحت عيناها الثوب الصفر بحيرة خيوطه ‪،‬تركته الى الزرق السماوى‬ ‫بخيالته ‪،‬عادت الى البيض وتبسمت فى خفر وهى تضمه الى صدرها بحنو ‪.‬‬ ‫بدت المائدة وضوء الشموع يتراقص حول الطباق معطراا برائحة الطعام رقعة من نعيم‬ ‫‪..‬الى الجوار استقر جهاز التسجيل الصغير محتضناا شريط الموسيقى المفضل‪ ،‬وهى‬ ‫هناك تمر بها اللحظات وردية حالمة ‪ ،‬تداعب خديها وثوبها البيض وشعرها المنسدل‬ ‫على كتفيها‪.‬‬ ‫عاد جرس الهاتف يزغرد احتوته بحنان ‪،‬رسالة منه ‪ ،‬قرأتها فوراا ‪ ،‬سقط الهاتف‬ ‫على الرض‬

‫!‬

‫‪32‬‬ ‫زيارة ليلية‬ ‫كانوا يتوجهون الى باب البيت ‪..‬عددهم ليحصى ‪..‬يصعدون السلم وثبا ا ‪ ،‬وكلما غاب بعضهم ظهر بعض آخر‬ ‫كأنهم ينقسمون‪ ،‬والليل يفترش الطرقات متشحاا بسواد متراكم ‪ ،‬تزداد كثافته كلما وطأت القدام أرض‬ ‫الحارة هابطة من غور العربات‪..‬أنوار كثيرة أضيئت خلف البواب ‪ ،‬ومن خلف شيشان النوافذ والشرفات‬ ‫المغلقة على أعين راصدة تحدق فى حرص بالغ فى العربات السوداء الجاثمة أمام باب البيت ملتفة‬ ‫بالظلمة ‪ ،‬والتى خرجت من رحمها القدام تسعى الى باب البيت‪ ،‬ومنه الى السلم المكفن بالسواد‪ ،‬ثم الى‬ ‫الشقة المقصودة التى تهاوى بابها على أثر دفعه بالقدام التى طارت الى الداخل منقبة فى الركان عن‬ ‫‪60‬‬


‫هدفها‪ ،‬بينما فتحت شرفة الشقة التى لتفتح عادة على الحارة فانطلق من صدرها موجة نور كسحت الظلمة‬ ‫المترسبة‪ ،‬وخرجت امرأة مغضنة الوجه بشعرها الفضى الذى فشل منديلها البيض فى إحتواءه ‪ ،‬وثيابها‬ ‫ممزقة أعلى الصدر والكتف اليمن وهى تصرخ ‪..‬صرختها بددت الظلمة فوراا اذ إنفتحت الشرفات والنوافذ‬ ‫المغلقة وأطلت من خلفها العين الراصدة بينما العداد الغفيرة التى صعدت تعود وقد زاد عددها واحداا كان‬ ‫هو الوحيد فيها المنفرج القسمات ‪ ،‬يهبط مترويا ا وهم يحيطون به ‪ ،‬يترقبون حركاته ويعدون أنفاسه‬ ‫ويترصدون نظراته ‪ ،‬حتى اذا هبط السلم اقتادوه فوراا الى إحدى العربات ‪ ،‬بينما المرأة العجوز ترمى بالجزء‬ ‫العلى من جسدها فوق سور الشرفة الحديدى صارخة خلف العربات المارقة ‪ -:‬ياصابر‬

‫‪61‬‬


‫‪33‬‬

‫الفراشة البيضاء‬ ‫)‪(1‬‬

‫ارقدت نوال فستانها على السرير فى ذات مكانها ‪ ،‬وقفت بعينين محمرتين تنظر اليه ‪،‬تركته الى صورة لها‪،‬‬ ‫حملتها ووضعتها أعلى الياقةمسندة ظهرها على حافة الوسادة‪ ،‬ووقفت تنظر من جديد ‪.‬المكان هو هو لم‬ ‫يتغير ‪،‬الفستان التى كانت تحبه ‪ ،‬وصورتها بضحكتها البيضاء ووجهها برىء العينين تعلوه ‪ .‬عادت ينابيع‬ ‫الدموع فى عينيها المحمرتين الى التدفق ‪،‬حبستها بالكاد‪ .‬وهى تمسح مكانها بكم جلبابها لحظت فراشة‬ ‫بيضاء تطوف بالمكان ‪،‬تدور حول فستانها ‪،‬تحط على صورتها ‪،‬دارت معها بجمر عينيها والصمت يدور فى‬ ‫المكان ‪،‬همست تحادثها ‪ -:‬إن كنت روحها تعالى هنا وأشارت الى الفستان ‪،‬رفرت الفراشة بجناحيها‬ ‫‪،‬اقتربت‪ ،‬وعلى ذات البقعة التى اشارت اليها توقفت ‪،‬تبسمت العيون من خلف غمامة السى ‪ ،‬الروح تعود‬ ‫لذات المكان ‪،‬تحن اليه ‪،‬تعرف صورة الجسد وتبح ث عنه‪،‬الفراشة البيضاء ظهرت بعد موت لطيفة‬ ‫مباشرة ‪،‬حامت حول سريرها ‪،‬توقفت على الفراش ‪،‬تغيب عن الحجرة وحين تعود تتجه لذات المكان ‪،‬نوال‬ ‫لحظت هذا ‪،‬وضعت الفستان على الفراش تعلوه الصورة ‪،‬وبدأت تراقبها ‪،‬تناديها وتناجيها على أنها روحها‬ ‫‪،‬تحادثها وتدور بعينيها معها ثم لتلب ث أن تتابعها بعين العجب وهى تخرج من النافذة متسائلة لماذا تغادرها‬ ‫وهى تعرف كم أفتقدتها ‪.‬‬

‫)‪(2‬‬

‫الشمس منشور من الشعة يشق ظلم الحجرة ‪،‬يرتمى على السرير ‪،‬ونوال هناك تنشطر نظراتها بين الباب‬ ‫المغلق والشباك نصف المفتوح بانتظارها ‪.‬لم تعد روحها منذ انطلقت الى فضاء الكون ‪،‬هى التى لم‬ ‫تبرح حجرتها منذ سنين ‪ ،‬جسدها كان صغيراا واهنا ا عظامه هشة وقلبه ضعيف يملك عينين راضيتين ولسانا ا‬ ‫أبيض ‪،‬مقيد الى سرير صغير فى حجرة ضيقة الحدود تدخله الشمس مرغمة صباحا ا ‪،‬تقف أشعتها على‬ ‫‪62‬‬


‫الشباك لبعض الوقت ‪،‬تنفذ من بين ضلفتى الشيش منشوراا من الضوء ‪،‬بمرور الوقت يتقلص الى أن‬ ‫يغيب ‪،‬يخرج الخوة والخوات كل الى دنياه أما هى فنوال دنياها ‪ ،‬تحملها بين يديها الى ا لحمام فى خفاء‬ ‫عن العين حتى لترى نظرة مشفقة أو عينين راثيتين ‪ ،‬تعود بها لتجلسها على الريكة وسط الردهة فى‬ ‫مواجهة القادمين‪ ،‬تجلس مغلفة باتسامة بيضاء مثل قلبها ‪ ،‬فى أيامها الخيرة كان صدرها يشكو مما به ‪،‬‬ ‫تدير عينيها باحثة عن الشمس ‪ ،‬الشمس على مقربة من الشباك ‪،‬ليصل شعاعها اليها ‪،‬تنظر نحوه ‪،‬تسأله‬ ‫أن يقترب لتخفف من ضاثر الرطوبة التى تسرى فى جسدها ‪،‬تراه يتحرك ‪،‬يخترق فضاء الحجرة مرتميا ا على‬ ‫صدرها ‪،‬تقول لنوال بفرح ‪ -:‬قلت للشمس تعالى ‪،‬فأتت الوى ‪.‬‬ ‫تعاود ينابيع الدموع التفجر فى عيني نوال ‪ ،‬تتجه للفستان الملتصق بالسرير ‪،‬تنتبه للفراشة تحوم حوله‬ ‫‪،‬والصورة تبتسم هناك ‪،‬من خلل الدموع ترد ببسمة‪.‬‬ ‫)‪(3‬‬

‫حينما ماتت حامت الفراشة البيضاء حول فراشها‪ ،‬ربطت نوال بينها وبين فراشة أخرى كبيرة لونها يميل‬ ‫للسواد ظهرت بعد موت أبيها‪ ،‬حامت داخل حجرته ‪،‬حول فراشه ثم مضت‪ .‬فى بداية المر تساءلت نوال‬ ‫كيف أتت الى هذا الطابق الرضى فى تلك الناحية المتطرفة من المدينة ‪ ،‬هل قطعت المسافة هابطة من‬ ‫السماء أم قادمة من أقاصى الرض ؟‪ ..‬تمنت لو تحادثها ‪،‬تبوح لها بما لديها ‪،‬فكرت فى وضع زير من‬ ‫الفخار به ماء سبيل أمام الباب صدقة على روحها ‪ ..‬رأتها تعود ‪،‬تحوم حولها‪،‬تحط على الصورة أعلى‬ ‫ياقة الفستان ‪،‬الصورة عيناها ضاحكتان ‪،‬لمعة الحداق تطلق أشعتها رباطا ا بعينيها ‪،‬تشدها مترفقة بها‬ ‫‪،‬تضمها ‪،‬تحتويها وهى راضية مطمئنة كما كانت تحتويها قبل ‪،‬فهى كانت الم الثانية بعد وفاة أمهم‬ ‫‪،‬مصروف البيت بيدها ‪،‬تدبر المر ‪،‬تتحمل الشكوى ‪،‬ورغم عجز ساقيها كانت تعمل بتطريز الملبس لجارة‬ ‫لهم خياطة نظير أجر ‪،‬الكثر من هذا انها كانت تسمع للجميع ‪،‬ولم يكن لدى أحدهم وقت ليسمع لها ‪.‬‬ ‫تركت الفراشة إطار الصورة عائدة الى الفضاء ‪،‬تعرف نوال أنها لتريد مفارقتها ‪،‬يبتسم الدمع فى عينيها‬ ‫‪،‬تهمس ‪ -:‬إن كنت روحها اقتربى لراك‬ ‫‪،‬وسط المنشور الضوئى المنسل من الشباك وقفت قليل قبل ان تأخذ طريقها الى الفضاء الفسيح ‪.‬‬

‫)‪(4‬‬ ‫لم تدرك نوال حجم الفراق ال حينما افتقدت حميمية وجود الفراشة حولها ‪،‬تركت الباب مفتوحا ا والشباك‬ ‫‪،‬تفجرت ينابيع دمعها طويل ‪،‬لم تعد اليها ‪..‬‬ ‫رغم هذا والى الن كلما رأت فراشة بيضاء صغيرة تعبر منشور الضوء الى داخل الحجرة يتهلل الدمع فى‬ ‫عينيها تتابعها مرحبة ‪،‬تحادثها برفق ‪،‬وفى أثناء الحدي ث تهمس لها ‪ -:‬إن كنت روحها اقتربى !!‬

‫‪63‬‬


‫‪34‬‬

‫ثورة ظل‬

‫إهتز الباب بعنف ‪ ،‬أفلت المزلج وظهر كيان ضخم لملمح له ‪ ،‬ارتددت بأقدام الرعب الى الخلف ‪ ،‬تقدم‬ ‫وسط العتمة من مدخل الشقة عبر الممر الصغير الى الردهة‪ ،‬رمى بعينيه منوقبا ا ‪ ،‬عاد وأمرنى باغلق الباب‪،‬‬ ‫غمرتنى سيول الدهشة ‪..‬القيت عنى عباءة الخوف صارخا ا ‪-:‬‬ ‫ من أنت ‪،‬وماذا تريد ؟‬‫اندفعت يداه اولى ‪ ،‬مخالب حادة فى أطراف أصابعه شعرت بها تنغرز فى مسام وجهى وتخمش جلدى ‪،‬‬ ‫إندفعت بكم الرعب قاذفا ا وجهه بمقعد طالته يدى‪ ،‬أفوتر فمه عن فرجة لم أدرك كنهها ‪،‬وإن ظننتها بسمة‬ ‫هازئة‪..‬هرولت الى هراوة ورثتها عن المرحوم والدى ‪..‬بكل ماأملك من بطش هويت بها فوق رأسه‪ ،‬زادت‬ ‫إنفراجة فمه ودفع جسدى بيده ‪ ،‬إنطرحت أرضاا على ظهرى ‪ ،‬رفعنى من ملبسى وعاد يقذفنى فاصطدمت‬ ‫بالجدار ‪،‬وأنا على الرض أعالج المى أتى المر بصوت كالفحيح‬ ‫‪-‬‬

‫أغلق الباب‬

‫‪-----------------‬‬‫بدت الردهة بعتمتها الخفيفة كهفا ا ممتداا ‪ ،‬تكسر حدة ظلمته شمعة يتلعب النسيم بشعلتها ‪،‬ل أحدد جيداا‬ ‫ملمح وجهه على هداها‪ ،‬وإن كنت أميز منظر ظله على الجدار المواجه بهيئته وتكوينه الهلمى‪ ،‬والى‬ ‫جواره ظلى صغير‪ .‬كلما تحرك ابتلع ظله ظلى ‪ .‬شغلنى ذلك الظل بامتداده الذى يشغل حيزاا من الجدار يجعل‬ ‫النفس تهيم فى سراديب رهبة تصنعها العتمة ‪ ،‬فأغيب فى متاهة نظرات محملة بأنين مكتوم منطفىء‬ ‫الوميض ‪ ،‬ليكاد يبين‪ ،‬ربما خوف اا من رد من ردوده الهوجاء ‪ ،‬وإن كان هذا ليمنع من نقل البصر بين الظل‬ ‫‪64‬‬


‫والحقيقة ‪..‬الظل يمل الجدار‪ ،‬الحقيقة تكوين جسدى غير محدد البعاد ‪ ،‬وجهه قسماته منفرجة أبداا لتعرف‬ ‫إن كانت سخرية سرمدية عالقة بفمه ‪ ،‬أو هو رسم طبيعى ضخلق به ‪ ،‬أو ربما هو عبوس على طريقته ‪..‬عاد‬ ‫صوته يتردد ثاقبا ا آذان الجدران ‪ -:‬إياك وإضاءة النوار‬ ‫صرخت بل وعى ‪..‬ربما من فرط الغضب المكبوت ‪-:‬‬ ‫ لكنه بيتى‬‫‪-‬‬

‫تقصد بيتنا‬ ‫شعرت بتلفيف مخى تعوم فوق بحيرة من جنون ‪..‬تحركت محاولا الوصول الى عصاى ‪..‬كانت فتحتا‬ ‫عينيه الغائرتين أعلى وجهه بسوادهما الداهم تتابعانى ‪ ،‬إنغرزت مخالبه أعلى ظهرى وهو يجرنى الى‬ ‫مكانى بكلتا يديه بعيداا عما أبتغى ‪..‬صرخت ‪ -:‬سأقتلك‬

‫‪-‬‬

‫صدرت عنه أصوات مبهمة ذات ذبذبات عالية هزت قلب الصمت من حولى ‪..‬قودرت أنها‪ -‬قد تكون ‪-‬‬ ‫ضحكات ذات طعم ساخر المذاق‬

‫‪----------‬‬‫هذا الظل لن أتركه ‪..‬تكوينه على الجدار يرهق عيونى ‪ ..‬ثم إنه يحتمى بظله ‪..‬يرمقه من حين الى حين وقد‬ ‫ي وغير وقفته ويعاود تتبعه حتى يصل الى أضخم مايريد ‪..‬تحركت فى غفلة منه ‪..‬أنرت المصباح‪ ..‬رددت‬ ‫الجدران أصوات صراخه ‪..‬هجم بمخالبه عولى‪ ..‬على هدى الضواء قدرت المسافة بينى وبينه ‪..‬عرفت فى‬ ‫اللحظة المناسبة كيف أفلت من بين يديه ‪..‬أشعل بقية النوار‪ ..‬أفتح النوافذ‪ ..‬يدخل ضوء الشمس ‪ ..‬تزداد‬ ‫صرخاته ‪..‬ينكمش جسده ‪ ..‬يبدو ظله صغيراا‪ ..‬أرى ظلى كبيراا ‪..‬سعدت كثيراا لرؤية ظلى يحتوى ظله!!‬

‫‪65‬‬


‫‪35‬‬

‫طقوس ليلية‬

‫وقفت تنظر الى الليل من خلف زجاج النافذة المغلق ‪ .‬كان الصمت يهيم فى الطرقات ‪،‬والرض تتشح‬ ‫بالسواد ‪ .‬ومض ضوء سيارته قادماا على البعد ‪،‬عرفته من صوت النفير واللون الصفر الباهت الذى كسا‬ ‫الرض ‪..‬أسرعت برفع يديها كل يرد الى عين ‪ ،‬تلحق الدموع المهرولة الى خديها ‪ ،‬واتجهت الى السرير‬ ‫المرتب الغطاء ‪،‬القت جسدها عليه ‪.‬‬ ‫‪--------‬‬‫تحركت أقدامه صاعدة الدرجات القليلة الموصلة للباب ‪..‬عل صوت المفتاح مثل كل ليلرة يرتطم بالخشب‬ ‫مرات قبل أن يلتقمه ثقب الباب ‪..‬بعدها بدأ يصدر همسات مترنحة تلعن المفتاح الخائب والثقب الذى لينقاد‬ ‫له‪.‬‬ ‫‪66‬‬


‫تنبهت فى فراشها له يخلع الحذاء فى الردهة الخارجية ‪..‬عادت الدموع تراود عينيها ‪..‬كتمتها بالكاد ‪..‬حرك‬ ‫المزلج داخلا الحجرة اليها ‪.‬‬ ‫‪-------‬‬‫فك أزرار رداءه ‪..‬بح ث عن الكمام ليخلعها ‪..‬شد البنطال بالكاد ومضى الى ملبس النوم ‪..‬أخذ وقتا ا الى أن‬ ‫استطاع ترويضها ‪..‬جلس على السرير الى جوارها‪ ..‬أحست بأنين السرير ‪..‬طافت برأسها فكرة أن تفتح‬ ‫ت عارل قبل أن يلقى بجسده‬ ‫عينيها ‪..‬تشعره بأنها معه ‪..‬وئدتها فوراا وأغمضت عينيها أكثر ‪..‬تثائب بصو ر‬ ‫كتلاة واحداة عليه‪..‬وارتفع شخيره فوراا‬ ‫تسللت من جواره الى الرض ‪..‬ارتطمت عيناها بصورتها فى المرآة ‪..‬وقفت على ضوء النور الخافت النافذ‬ ‫ف مظلضم يصدر منه صو ض‬ ‫ت‬ ‫من الردهة تترقب جسدها ‪..‬تدور حوله ‪..‬تتفحصه ‪...‬بعدها استدارت اليه ‪..‬فمه كه ض‬ ‫متتابع خشن النبرات ‪..‬كرشه قبة تعلو مسطح جسده وهو مستلق على ظهره ‪..‬اقتربت منه ‪..‬مدت يدها‬ ‫تحاول إيقاظه ‪..‬أزاحها بيده وصوته يشرخ الصمت متسائ ا‬ ‫ل عما هناك ‪..‬اتجهت الى النافذة ‪..‬فتحتها ‪..‬وعلى‬ ‫ضوء الليل فردت جناحيها وطارت الى بعيد !!‬

‫‪36‬‬

‫تصوير‬ ‫‪67‬‬


‫انقبضت تجاعيد وجهه‪..‬الصورة لن تكون كما يريد ‪..‬تلك الطريقة العجيبة فى تصفيف شعره جنون‪..‬يشده‬ ‫بطول منتصف الرأس لعلى ‪ ،‬يسحبه بباطن يده كالعرف على رأس الديك ‪..‬لن يصوره ولو كان هو الوحيد‬ ‫الذى يدخل المحل اليوم ‪..‬تشاغل بالكاميرا المثبتة على الحامل الحديدى وسط الحجرة ‪..‬الكشاف الكبير‬ ‫المواجه لها ليضاء ال أثناء التصوير‪..‬نوره الوهاج صار يؤثر كثيراا على عينيه ‪..‬الكمبيوتر هناك فى‬ ‫الركن موصل بالكاميرا عن طريق كابل أسود ينقل الصوره اليه ‪..‬يراها الزبون ‪..‬إن أعجبته يتم الطبع والوو‬ ‫صوور غيرها ‪..‬قديم اا كان الحال يختلف‪..‬لقطة واحدة وينتهى المر ‪..‬ومضت فى رأسه خاطرة ‪..‬فاقد الشىء‬ ‫يبح ث عنه ‪..‬مثل هذا يشعر أنه بحاجة لشىء يحدد جنسه ‪..‬يؤكد نوعه ‪..‬إختار عرف الديك ‪..‬أزاح الكاميرا‬ ‫جانب اا ‪..‬مهنة التصوير هذه تضطرك للتعامل مع من يأتى اليك ‪..‬محل مفتوح الباب لمن يقصده ‪..‬ادار عينيه‬ ‫حوله ‪..‬الصور على الجدران‬ ‫بأحجام مختلفة ‪..‬كلها تبرز جهد سنين مرت ‪ ،‬رأى فيها الوانا ا من الوجوه ‪ ،‬كانت كل صورة فيها إمتحان‬ ‫جديد له ‪،‬يحد د نظرة الناس الى عمله ‪،‬عاش فيها أحاسيس شتى حرص دوما ا على كتمانها ‪،‬كان يكتفى‬ ‫بالنظرفى صمت ‪،‬واذا لم يعجبه شىء حاول لفت النظر اليه بكلمة عابرة ‪..‬أما هذا ‪!..‬‬ ‫رأى نفسه يستدير اليه ثانية فى قوة ‪..‬يقيسه بعينيه ‪..‬يحدق فى ملمحه‪..‬يقول له ‪ -:‬هل أنت مقتنع بشكل‬ ‫شعرك هكذا ؟‬ ‫صمت الخر مكتفياا باتساع حدقتيه المصلوبتين على الوجه العجوز بنظراته الصقرية المتجهمة ‪.‬‬ ‫عاد يسأله ‪ -:‬هل ضايقتك ؟‬ ‫انفرجت أساريره قليل ا‪ -:‬ل ياحاج ‪..‬لكن !‬ ‫اهتز قلبه رفقاا به ‪..‬شعر أنه أحد أولده جاء يطلب مشورته ‪..‬أولده جميعا ا تعودوا التشاور معا ا دون‬ ‫حساسية والفيصل بينهم فى حال الختلف رأيه هو ‪..‬استمع الى الشاب يكمل كلمه‪ -:‬هذه ‪..‬موضه‪.‬‬ ‫تفجرت البتسامة على شفتيه ‪..‬اندفع قائلا فى ود‪ -:‬من شجعك عليها ؟‬ ‫أجاب بتلقائية ‪ -:‬ل أحد‬

‫‪68‬‬


‫اقترب منه ‪ -:‬وتلك هى المشكلة ‪..‬تأخذ دون أن تعرض ماأخذت على ميزان بلدك ‪..‬مارأيك فى هيئة تليق‬ ‫بك ؟‪..‬اسمع ‪..‬سلم لى رأسك عشر دقائق فقط وسوف ترى‬ ‫وقبل أن يستوعب الشاب ماقيل ‪ ،‬أو يحاول الستفسار عما غمض عليه من حروف ‪ ،‬نادى العجوز حلقا ا‬ ‫بجوار ه‪،‬همس فى أذنه ببضع كلمات ‪،‬قام الرجل على إثرها بقص شعر الشاب المتعثر فى ذهوله ‪ ،‬وغادر‬ ‫فى صمت تاركا الشاب يصرخ فى وجه المصور‪ -:‬ماذا فعلت ؟‬ ‫لم يرد الخير ‪..‬اكتفى بسحبه من يده الى المرآة ‪..‬بدت الصورة أنقى ‪..‬قال بهدوء ‪ -:‬هذا أنت‬ ‫نظر متفحصا ا ولم يرد‪،‬اما هو فقد استدار الى الكاميرا ‪ ،‬ضبطها قائلا ‪ -:‬الن يبدأ التصوير‬ ‫‪........‬‬ ‫انتبه لصوت الشاب يعلو من خلفه ‪ -:‬انت ‪..‬انت ‪ ..‬هل تسمعنى ؟‬ ‫استدار اليه ببطء ‪ -:‬ماذا تريد ؟‬ ‫رد الخر بغضب ‪ -:‬ناديتك كثيراا ولم ترد ‪..‬أريدالتصوير‬ ‫صب نظراته على رأسه التى يعلوها عرف الديك قائلا ‪ -:‬الكاميرا بها عطل‬

‫‪69‬‬


‫‪37‬‬ ‫أزمة مرور‬ ‫فى شارع أبى قير توقف الزمن ‪..‬شد لجام حصانه ووقف عاجز اا عن المرور ‪..‬السيارات متلحمة سلحفائية الحركة ذات أبواق تنهش الذا ن‬ ‫‪..‬الرض تتلوى من السنة اللهب المنصبة من فوهة الشمس ‪..‬البيوت على الجانبين معتمة المداخل مغلقة الشبابيك والشيشا ن وجوهها مقطبة‬ ‫الملمح بلونها الصفر الكابى ‪.‬‬ ‫تتحرك السلحفاة قليل ناقلة قدم اا الى المام وأخرى الى الخلف ‪..‬يتصاعد أنين الرض ‪..‬تزأر البواق صانعة مهرجانا ا من الضوضاء‪ ..‬تتغيرملمح‬ ‫الطريق فعلى اليمين يتمطى مبنى مستشفى جمال عبد الناصربلونه البيض‪ ،‬فارداا ذراعيه العملقتين بغطائهما السمنتى نحو السحاب ‪ ،‬اما‬ ‫الحديقة الخضراءأمامه ببعض الجساد المسترخية على إخضرار عشبها فهى فى حلمها الزاهى بعيدة عما يجرى‪ ،‬وعلى اليسار تقف كلية الهندسة‬ ‫بهيكلها الفرعونى العتيق شامخة‪ ،‬تنظر الى ذات المكا ن من علل ‪..‬تنطلق من سيارة فيات قديمة الطراز لعنة على ذلك الزحام الذى يشوه هدوء‬ ‫ونقاء السكندرية فى مثل هذا الوقت من كل عام ‪..‬يجاوبه فوراا من سيارة مرسيدس حديثة أغنية غربية اليقاع تشد العين بصراخها‬ ‫المتكرر‪..‬ترتفع من عربة ‪ bmw‬تقصد التجاه المعاكس أغنية تبدو كأنها تسجيل لمعركة شعبية استخدمت فيها الموسيقى ‪،‬وأكتفى ببعض‬ ‫الحروف عوض اا عن الكلمات ‪..‬ينطلق آذا ن الظهر من مسجد المواساة القريب ‪ ،‬تصارعة البواق الهادرة ‪ ،‬تتلوى رأس السلحفاة وهى تفكر بنقل‬ ‫قدمها من جديد ‪.‬على الرصيف فى منتصف الطريق تبدو إمرأة أكلتها السنو ن ‪ ،‬مكللة الرأس بغطاء أسود مثل ثوبها الذى ينتهى الى حذاء عرك‬ ‫خ ‪ -:‬ياسيد‬ ‫جلده الحياة ‪..‬تتحرك المرأة رغم ثقلها بوجهها المغطى بماء العرق المعجو ن بالدموع أسرع من السلحفاة ‪ ،‬منادية بصو ل‬ ‫ت مشرو ل‬ ‫تبتلع هوجة الصوات صوتها وهى تمضى مصرة على السير رغم مشاقه ‪ ،‬وعلى النداء رغم خفوت صوتها ‪..‬تقل حركتها رويداا ويخفت الصوت‬ ‫الى أ ن يصير همس اا قبل أ ن تتوقف تماما ‪ ،‬وتبدأ مرحلة الهبوط الضطرارى الى أسفل وهى تفتح فمها دو ن صوت منادية فى اصرار ‪ -:‬ياسيد‬ ‫بينما السلحفاة على مهل تمد قدما للمام وأخرى الى الخلف‪ ،‬وهوجة الصوات هادرة ‪ ،‬والذا ن يرتفع الى السماء عاليا ا ‪ -:‬ا اكبر ا اكبر‬ ‫وعلى الرصيف الذى يتوسط الطريق جسد إمرأة مازال ينبض بنداء ليسمع ‪ -:‬ياسيد‬ ‫ولمجيب‪.‬‬ ‫‪38‬‬

‫اللوحه‬ ‫فى وقت الظهيرة والشمس مستلقية على عرش السماء‪ ،‬متمتعة بصب نارها على الرؤوس‪ ،‬وشارع الرحمة‬ ‫المجاور‪ -‬طولي اا‪ -‬لسور مقابر عامود السوارى يموج بالحركة‪ ،‬مابين غدو ورواح أو ثابت مكانة ليمتلك‬ ‫الرغبة فى الحراك ‪..‬هدأت الحركة رويداا ‪..‬صمتت الصوات ‪،‬وبدا المشهد المتحرك يتحول الى لوحة ترابية‬ ‫‪70‬‬


‫اللون ‪،‬على يمينها منازل متهالكة ‪ ،‬مداخلها الواسعة مفتوحة على مصراعيها ‪ ،‬تجرى أمامها فى تدفق‬ ‫صامت مياه المجارى الطافحة من البالوعات أو المواسير المكسورة هنا أو هناك‪ ،‬تجلس بالقرب منها وأمام‬ ‫البواب نسوة بدينات بأثدارء مدلة من وراء ملبسهن الكاشفة كالقرب على بطونهن‪ ،‬ذوات وجوه أكل عليها‬ ‫الدهر‪ ،‬ينظرن أمامهن وليبدين مالديهن من مهارات التوغل باللسنة والشارات فى الوان وفنون السباب ‪،‬‬ ‫ربما بسبب حرارة الجو وربما بسبب همود طارىء على الرواح الجم اللسنة ‪..‬وبين البيوت وعلى‬ ‫مسافات متباعدة بعض حوانيت وورش يعمل داخلها من يعمل‪ ،‬ويجلس على باب بعض منها معلم أو صاحب‬ ‫ورشة ‪،‬ومبسم الشيشة ليفارق فمه دون أن يصدر صوتا ا أيضا ‪ ..‬فى الناحية اليسرى من الشارع السور‬ ‫الحجرى لمقابر العامود‪ ،‬يمتد الى الشارع الرئيسى الكبير المواجه لشريط الترام فى منطقة البياصة ‪ ،‬وقد‬ ‫رصت على حجارته المتآكلة ورش وحوانيت أخرى ‪ ،‬فمرة ترى ورشة اصلح دراجات وقد علقت على‬ ‫بابها قطع غيار عديدة‪ ،‬ومرة ترى شادر من القماش يحجز الخراف والماشية‪ ،‬ومرة ترى مقهى مقام تمتد‬ ‫مقاعده وموائده أمامه بل حدود‪..‬والكل فى تلك اللحظة من الظهيرة قد أكلهم الصمت يمينا ا وشماال‪ ،‬أما فى‬ ‫نهر الشارع فقد انعدمت حركة الرجل‪ ،‬وهى عادة إما جنازة متحركة وصرخات تهز الجدران ‪ ،‬أو خطوات‬ ‫السكان أنفسهم تقطع الحفر والمطبات على مهل ‪...‬ساد اللوحة الصمت لحظات قبل أن تقطعه صرخة أنثوية‬ ‫حادة مزقت السكون‪ ،‬وأعادت الحركة الى الوجوه فاستدارت الى مصدر الصوت‪ ،‬لترى إمرأة مهوشة‬ ‫الشعر حافية القدمين ممزقة الثياب تهرول ‪،‬غير مبالية بلسع الرض لقدميها الحافيتين ول لنظرات الذكور‬ ‫اللزجةالتى ترامت على ماظهر من جسدها وهى تصرخ ‪ -:‬يامحمود‬ ‫تقع على الرض ‪..‬تتعثر فى حجر ‪..‬تهب من جديد ‪..‬تصل الى باب المقابر الحديدى الصدىءعلى شريط‬ ‫الترام ‪..‬الباب مفتوح على مصراعيه انتظاراا للموتى والحياء ‪..‬يمنعها الحراس من الدخول‪..‬تمسك الحديد‬ ‫الصدىء ‪..‬تنادى من خلف خطوطه المتقاطعة ‪ -:‬يامحمود‬ ‫يهز صراخها اللوحة‪..‬تتبع ث الصوات والحركة عبر أرجائها‪..‬يعلو صوت أبواق السيارت المارة ‪ ،‬ويتعالى‬ ‫ضجيج وسباب النسوة المتربعات على البواب‪ ،‬وتكركر المياه فى القلوب الزجاجية للشيشة هنا وهناك ‪،‬‬ ‫ويغمز أحدهم لفتاة مارة ـوتأتى على البعد صرخات جنازة قادمة ‪ ،‬بينما المرأة تبتعد فى بطء محنية الرأس‬ ‫نازفة العينين ‪ ،‬تسير على جمر الرض وصوتها الواهن ينادى ‪ -:‬يامحمود‬

‫‪71‬‬


‫‪39‬‬

‫مغادرة‬ ‫إهتزت عربات القطار بفعل تشغيل المحرك الرئيسى‪..‬الرصيف المزدحم بالرجل‬ ‫إضطرب ‪..‬إحتضن أحدهم الخر مودعا ا وهو يهمس فى أذنه موصيا ا ‪..‬قوبل آخر طفال‬ ‫صغيراا توعلق برقبته باكيا ا رافضاا أن يدعه يمضى‪..‬أشارت سيدة ذات معطف أسود يمتد‬ ‫بامتداد براح جسدها السارح الى ماتحت ركبتيها بيدها المغضنة ذات العروق‬ ‫النافرةلخر يتحرك بظهره ناحية القطاروهو يرمقها من خلف سحابة المياه المتجمعة‬ ‫صر اا على عناق النظرات لخر مدى ‪..‬وقف الى جوارباب المقطورة‬ ‫فى مآقيه الشابة ‪،‬م و‬ ‫الولى شاب نحيل القوام مثل ث الوجه له عينان عميقتا الغور شديدتا سواد الحدقات‬ ‫محاولل التماسك‪،‬وكفواه ملتصقتان بكفوى فتاة عسلية العينين شعرها السود منكفىء على‬ ‫ظهرها ‪،‬وهى تحبس دموعها بالكاد وتتحد ث بسرعة غير مبالية بألم كفيها من‬ ‫اعتصاره لهما‪ ،‬وعلى باب المقطورة الخيرة كانت إمرأة بجلباب باهت الخضرار تنزل‬ ‫طست اا من اللمونيوم كبير‪ ،‬به جبن وزبد وبيض من فوق رأسها وتدفع به الى الباب‬ ‫المفتوح‪ ،‬طالبة ممن حولها أن يساعدوها لدفعه ناحية الباب المغلق فى الجانب‬ ‫المقابل‪،‬وخلفها طالب يحمل كتبه مغادراا الى كليته ‪..‬وبين المسافة بين المقطورة‬ ‫الولى والخيرة تقريباا وعلى مقعد من المقاعد الحجرية المنتشرةعلى الرصيف كانت‬ ‫إمرأة ترتدى جلباب اا أسود يعلوه غطاء رأس بذات اللون به ثقوب ‪،‬ينفر من بينها شيب‬ ‫شعرها الناصع البياض وقد التصق بعضه بجبهتها بفعل العرق المعجون بالدموع‬ ‫السارح عبر مسام جسدها واخزاا‪ ،‬وهى جالسة مربعة الساقين تنظر أمامها الى حي ث‬ ‫لتدرى ‪،‬منادية من خلل الدموع وارتجافة الصوت‪ -:‬ياسيد‬ ‫والقدام حولها تسعى ‪..‬أطلق القطار صفيره مؤذنا ا بالرحيل ‪..‬ترك أحدهم معانقه‬ ‫وصعد لعلى ‪..‬فك آخر يودى صغيره من رقبته وسلمه لمه مودعا ا ‪..‬أدارت المرأة ذات‬ ‫المعطف السود ظهرها للقطار وأفرجت عن دموعها ‪،‬مسلموة إياها لمنديل حريرى‬ ‫صغير أودعته يدها اليمنى ‪..‬ودع الشاب النحيل الفتاة بمزيد من الضغط على كفيها‬ ‫‪..‬وقفت المرأة ذات الطست محاولة اللتصاق بالباب المغلق خوفا ا من كلمات مفتش‬ ‫‪72‬‬


‫القطار ‪..‬أخذ الطالب ركنا ا بعيداا أسند ظهره اليه وكتبه فى يمينه وعينيه على وجه‬ ‫فاتنة تجلس أمامه ‪..‬تحرك القطار مغادراا‬ ‫ظلت المرأة ذات الجلباب السود مكانها على المقعد وسط الرصيف الذى خل من الناس‬ ‫على المقعد الحجرى تنظر أمامها بذات النظرات التائهة من خلف الدموع المعجونة‬ ‫بالعرق وهى تنادى بصوت مشروخ ‪ -:‬ياسيد‬ ‫ولمجيب!‬

‫‪40‬‬

‫القرار‬ ‫برقت عيناها وأخذ جمر وجهها يشتعل رويداا بعد أن القى زوجها كلمته واستدارعنها‬ ‫متجه اا الى خارج حجرة النوم‪..‬مامعنى أن يسافرفى الغد‪ ،‬يتركها بعد أيام من الزفاف‬ ‫تعد على أصابع اليد الواحدة ويمضى ؟‪ ..‬ليذهب الى عمل ساعة أو ساعتين ويعود‪،‬‬ ‫بل يركب طائرةويغيب أياما ا ويتركها تحاد ث الجدران‪.‬‬ ‫ركلت الرض بقدمها‪..‬رمت الشباك بشرر نظراتها ‪،‬وهوبت واقفة تدور فى الحجرة كنمر‬ ‫سجين ‪..‬ذات الحجرة التى رأت ماظنته فجر سعادتها ‪..‬لم تدر أن المر كله حلم ليلة‬ ‫وأنقشع الضباب عن حقيقة هى كالعادة ظلم لبدر فيه ول نجوم ‪..‬سترفض هذا‬ ‫السفر ‪..‬مهما كانت النتائج عليه أن يبقى ‪..‬هى أهم من الكون ‪..‬على القل من أجل‬

‫‪73‬‬


‫شكل ر إجتماعى لمفر منه ‪..‬من أجلها ‪..‬من أجل صورتها امام أعين راصدرة لترحم‬ ‫‪..‬إن كان عليها تستطيع الستغناء عنه فى أى وقت تشاء ‪..‬لكن الن ‪..‬ل‪.‬‬ ‫ثم ماذا يظن نفسه ليفكر وحده ويصدر القرار ‪،‬يقول لها بكل بساطة كأنه يلقى خبراا‬ ‫س آخرين أنه سيسافر لهم هام !!‬ ‫عاديا ا أو يتحد ث عن إنا ر‬ ‫ركلت المقعد الصغير أمام مرآة التسريحة بقدمها ‪..‬إنقلب مرتطما ا بضلفة الدولب على‬ ‫ظهره فى صمت ‪..‬شردت قليل مع همسة أمها ليلة الزفاف ‪)..‬زوجك كما تعوديه‬ ‫‪..‬وابنك كما تربيه ( ‪..‬تبسمت لها ‪ -:‬لست صغيرة‬ ‫قالت جادة ‪ -:‬الخطأ منذ البداية فى هذا المر يكون عادة خطأ العمر ‪.‬‬ ‫هزت رأسها الصغير المتصلب الملمح فى مواجهة صورته المؤطرة باطار ذهبى على‬ ‫التسريحة ‪..‬لن تتركه يذبح لها القطةوهى مكتوفة اليدى‪..‬لكل فعل رد فعل مضاد له فى‬ ‫التجاه لكنه بالتأكيد ‪ -‬معها ‪ -‬لن يساويه ‪..‬وسوف يرى‪.‬أمسكت بالهاتف ‪..‬ستعود غداا‬ ‫الى عملها ‪..‬ستطلب قطع الجازة وحين يعود الن ستبلغه بالقرار ‪..‬هرولت الرقام‬ ‫خلف بعضها فى ذعر ‪..‬الخط مشغول ‪..‬أطلقت صيحة ضيق وهى ترقب الباب ‪..‬ليجب‬ ‫ان يدخل قبل أن تنتهى ‪..‬أعادت الطلب ‪ )..‬يمكنك ارسال رسالة صوتية ‪.. (...‬رمت‬ ‫السماعة بقوة على الهاتف ‪..‬رأت خيالا قادماا من الخارج وصوت أقدام تقترب ‪..‬رفعت‬ ‫السماعة بسرعة الى أذنها كأنها تتكلم ‪..‬دخل الحجرة متألق العينين ‪..‬وجهه يحمل‬ ‫إشراقة صبح باسم حام ا‬ ‫ل صينية صغيرة عليها فناجين الشاى والحليب وبعض‬ ‫السندوتشات ‪..‬زغردت نظراته حين رآها ‪..‬وضع الصينية جانبا ا ‪..‬قرب وجهه من‬ ‫وجهها ‪ -:‬ماذا تفعلين ؟‬ ‫أحاد ث رئيسى فى العمل‬ ‫لماذا ؟‬ ‫سأعود باكر‬ ‫لن تعودين‬ ‫نعم!!؟‬ ‫‪74‬‬


‫ستسافرين معى بطبيعة الحال ‪.‬‬ ‫القت بجفنيها ستاراا بين عينيها وبينه وهى تهمس ‪ -:‬لكنى مضطرة للعودة ‪.‬‬ ‫اتسعت عيناه ‪ -:‬لماذا ؟‬ ‫لنى أبلغتهم بهذا‬ ‫بدأ يرجوها العدول عن قرارها !‬

‫‪41‬‬

‫مهوى‬

‫ال ن فقط يلتف الكل حولها‪..‬العيو ن تصب لهفتها على الوجه‪..‬اليدى تتحسس‬ ‫الجبهة ‪،‬والسئلة تدور حول صمتهاوضرورة استدعاء طبيب ‪.‬‬ ‫يحاصرها الحنا ن التى طالما تاقت اليه ‪..‬تغمض عينيها على صورة تخشى ذوبانها فى‬ ‫متاهة اللحظات ‪،‬وتلزم الصمت ‪.‬‬ ‫‪.............................................‬‬ ‫فى الساحة الواسعة امام البيت سرادق كبير ‪..‬زحام ملو ن ‪..‬زغاريد منتشية ‪..‬ضحكات‬ ‫مرحة‪..‬وفرقة موسيقية ليسمعها احد من تلطم الصوات وبحر الضجيج‪..‬خلفها والى‬ ‫‪75‬‬


‫جوار الباب مباشرة تقف ) هى ( متشحة بالصمت ‪..‬عيناها‬ ‫سارحتا ن عبر فيافى النين ‪..‬تفيض الدموع ‪..‬تسدل استارها الشفافة على المرئيات‬ ‫حولها ‪..‬يبدو الكو ن متأرجحا ليثبت على حال ‪.‬بينماالزغاريد عويل ‪.‬‬ ‫بالداخل فى مقدمة السرادق تبدو )حنا ن ( كما لم تبد من قبل ‪..‬بيضاء الثياب‬ ‫والوجه‪..‬دافئة العينين ‪..‬تبعثر البسمات بل حساب على الحضور‪ .‬جبل الجليد ‪ -‬كما‬ ‫طالما سماها ابوها من قبل ‪ -‬تحرك ‪..‬تحول الى جبل من نور ‪..‬فيض من حنا ن ‪..‬كأنما‬ ‫لم يكن بالمس جامدا حتى النخاع ‪.‬‬ ‫حنا ن ذات القناع الزجاجى تتفتح امامها البواب ‪..‬شامخة تبدو ‪..‬متألقة العينين بلمعة‬ ‫الظفر ‪..‬شبابها الغض يفرض ياسمينه على الحضور ‪..‬ترمقها العيو ن كما لم ترمقها من‬ ‫قبل ‪..‬خلعت قناعها وانفرجت قسماتها وارتدت الى انوثتها ناضجة ‪..‬شهية ‪..‬يغزو‬ ‫شبابها العيو ن ‪ .‬اما ) هى ( فتنزوى الى جوار جدار متهالك الطلء ‪..‬تنهش اللحظات‬ ‫لحمها دو ن ا ن تبدى الما ‪..‬تقتبص من الوجوه حولها بسمات ملصقة بعناية فوق‬ ‫انقباض الملمح ‪..‬تتجه لمها ‪..‬نور الفرح يغزو وجهها ‪ ..‬تفرح لحنا ن الصغرى‬ ‫وتنساها ‪!..‬‬ ‫بالمس بكت من اجلها ‪..‬سألتها كما سألتها مرارا ‪- :‬‬ ‫ اليس لك اصدقاء ‪ ،‬زملء عمل ‪ ،‬شله مثل حنا ن ؟‬‫كا ن ابوها يدعوها جبل النار لثورة لسانها التى لتهدأ ‪،‬وصراحتها الزائدة ‪..‬جبل النار‬ ‫ال ن صار رمادا ‪..‬لم يعد هناك جدوى من استعمال حروف متهالكة لتكوين عبارات غير‬ ‫ذات جدوى ‪.‬‬ ‫تتحرك الزفة ‪..‬تعلو الزغاريد ‪..‬تصرخ الموسيقى ‪..‬تتدافع الجساد ‪..‬يترنح الكو ن حولها‬ ‫‪..‬تختلط الشياء ‪..‬تتباعد وتغيم الوجوه ‪..‬تتحول الشفاه المفتوحة للبتسام الى كهوف‬ ‫سوداء يبرز من احشائها انياب ماصة للدماء ‪..‬تحاول المساك بدقائق اللحظة ‪ ،‬يترنح‬ ‫الجسد ‪..‬تحاول الصراخ ‪..‬الستناد على الجدار ‪..‬تمد يديها بعد ا ن اعياها البحث عن‬ ‫لسانها وفمها ‪..‬اليد تستغيث ‪..‬ل أحد يسمع اشارة اليد او يفهم لغة الصابع ‪..‬تتفجر‬ ‫عروقها بالدماء اللهثة عبر دروبها ‪..‬تذكر امهاو هى ترد تحية المدعوات بزغرودة‬ ‫اعلى واطول ‪ ،‬وتمتطى جواد الفرحة غير عابئة بنظراتها الكسيرة وهى ترقبها على‬ ‫البعد ‪..‬امها التى بكت من اجلها بالمس تنساها ال ن وتعيش لحنا ن ‪..‬رمقتها بلوم ‪..‬لم‬ ‫تبال بنيرا ن نظراتها ‪،‬وطارت من ركن الى آخر‬ ‫فى خفة ‪ ،‬تداعب المدعوين والمدعوات ‪،‬تمطر عيناها الفرحة نقاطا تتناثر حولها‬ ‫‪..‬تشدها من يدها ‪ -:‬اريدك يا امى‬ ‫تربت خدها برفق ‪ - :‬سأعود اليك‬ ‫وتغيب ‪..‬تبصق عيناها الدموع وينطق الجسد كلمته ‪.‬‬ ‫‪76‬‬


‫وتهوى‬

‫‪42‬‬

‫الشاهد‬ ‫للحظة لم يستوعب عادل مايرى‪ ،‬وقف فاتحاا عينيه والصور تتوالى أمامه دون ترجمة الى معنى لشلل‬ ‫مفاجىء فى عقله‪ ،‬شلل لحظى جعله يتسمر فاتحا ا عينيه وفمه‪ ،‬ممسكا بستارة النافذة‪ ،‬قابضا ا عليها بل وعى‬ ‫وهو يحدق فيما أمامه‪ ،‬وقلبه يتقافز لعلى وأسفل فى جوفه فزعاا‪ ..‬السرقة تتم فى الطريق وفى وضح‬ ‫النهار ‪ ،‬السارق يشهر سلحه فى وجه المسروق بيد بينما الخرى ممدودة لسلب المسروقات ‪.‬‬ ‫تحركت خلف النافذة أجفانه صعوداا وهبوطا وعقله يعود رويداا لمنطقة الوعى‪ ،‬هرول ناحية الباب هابطا ا‬ ‫اليه ‪ ،‬عاد وتوقف قائل لنفسه ‪-:‬‬ ‫‪77‬‬


‫ السلح بيده ‪ ،‬لن أتمكن منه‬‫رجع الى النافذة‪ ،‬رأى السارق يأمر المسروق بخلع ملبسه ‪ ،‬اشتعلت النيران فى جسده ‪ ،‬هرول نحو‬ ‫الهاتف ‪ ،‬اتصل بنقطة الشرطة ‪ ،‬الخط مشغول ‪ ،‬عاد الى النافذة ‪ ،‬السارق يقف مطمئناا‪ ،‬الطريق خالى‬ ‫من المارة ‪ ،‬الضاحية بعيدة عن صخب المدينة‪ ،‬عاد الى الهاتف ثانية‪ ،‬تحد ث الى بعض الجيران ‪،‬‬ ‫تحركوا مجموعة لمواجهة المر ‪ ..‬رأى اللص عدداا من الرجال يحيطون به ‪ ،‬شهر سلحه فى وجوههم ‪،‬‬ ‫فرهارباا ‪ ،‬لم يلحظ الملءة البيضاء التى وضعت كساتر خلفه‪ ،‬لفوها حوله سريعا ا ‪ ،‬حملوه فى عربة أحدهم‬ ‫من فيكم قبض عليه ؟‬‫وأقتادوه الى الشرطة ‪ ..‬شكرهم المسئول هناك ‪ ،‬فتح أوراقه‪ ،‬سأل‬ ‫قالوا ‪ -:‬كلنا‬ ‫ابتسم راضيا ا قال بود ‪-:‬‬

‫يكفينى واحد فقط كشاهد‬

‫تقدم عادل ‪ ،‬قال‪ -:‬أنا‬ ‫اتجه اليه ‪ -:‬غداا صباحا ا تحضر للشهادة‬ ‫فى غرفة التحقيق وقف عادل ‪ ،‬أمامه لوحة سوداء الخطوط مؤطرة بإطار ذهبى )واذا حكمتم بين الناس‬ ‫أن تحكموا بالعدل ( أعلى مكتب المحقق ‪ ،‬تبسمت عيناه ‪ ،‬فكرة الملءةفكرته ‪ ،‬خدع بها السارق وتمكن‬ ‫منه ‪..‬نادى المحقق عليه ‪،‬تقدم ‪،‬سأله عما رأى ‪،‬حكى ماكان ‪،‬تركه الى السارق ‪ -:‬هل تعترف بجريمتك ؟‬ ‫رد بثقة وهو يحق فى وجهه بعينين زجاجيتين ماؤهما ليهتز ‪-:‬‬ ‫ انا المجنى عليه‬‫أشرق وجه المحقق بدهشة ‪ -:‬والخر !!؟‬ ‫مشيراا الى المسروق منه‬ ‫قال بتؤدة ‪ -:‬الجانى‬ ‫خطف المحقق نظرة الى وجه عادل قبل أن يمضى الى المسروق منه‪-:‬‬ ‫ مارأيك ؟‬‫أحنى رأسه فوق صدره مخفيا ا آثاراا زرقاء وحمراء تعلوه ‪ ،‬ولم يرد ‪ ،‬صرخ المحقق مكرراا السؤال ‪،‬أجاب‬ ‫بصوت خافت ورأسه محنية ‪ -:‬انا الجانى‬ ‫اتسعت عينا عادل وهو يحاول جاهد اا استيعاب المر ‪ ،‬حدق فى وجه السارق الذى يشرق بعلمات النصر ‪،‬‬ ‫تركه الى المسروق ‪ ،‬صرخ ‪ -:‬هناك خطأ‬ ‫تجهم وجه المحقق ‪ ،‬ضاقت عيناه وسدد اليه سهام الحنق المغموسة فى ماء عينيه متسائل ‪ -:‬ماذا قلت ؟‬ ‫‪78‬‬


‫أجاب ‪ -:‬هذا هو اللص‬ ‫وأشار اليه‬ ‫قال المحقق من بين أسنانه وهو يرميه بنيران نظراته ‪ -:‬العتراف سيد الدلة ‪..‬الخر اعترف دون إكراه‬ ‫أو ضغط ‪..‬فهمت ؟‬ ‫بل تفكير قال عادل ‪ -:‬ل‬ ‫ضاقت عينا المحقق أكثر‪ ،‬قال ببطء وهو يحاصره بسهام نظراته ‪-:‬‬ ‫ستفهم –‬ ‫وطلب الحارس !!‬

‫‪43‬‬

‫الغائب‬

‫‪79‬‬


‫صرخت نظراتى إنه هو ‪..‬غرد القلب فى قفصه وفاض بصدرى شوقه القديم ‪ ..‬بدا قادما ا من‬ ‫بعيد ‪..‬اقتربت منه ‪.‬توقفت‪..‬هذا شائب الشعر والنظرات ‪..‬جبهته استطالت وتمدد وجهه بتغضناته‬ ‫طو ال‪..‬يسير هادىء القدمين ‪..‬خطواته ثابتة‪ ..‬وبيده حقيبة جلدها حائل اللون يميل الى البياض‬ ‫الباهت تحت أضواء العربات المارقة ‪ ،‬ويغيم اذا انتقل الى الظل ‪ ..‬يهز يده اليمنى هزات واهنة‬ ‫متمه ا‬ ‫ل ‪ ،‬بينما اليسرى ثابتة الى جانبه لتكاد تهتز‪ .‬صرخت عيناى‪..‬‬ ‫الخر كانت خطواته شقية ‪..‬تتقافز على بساط الرض ‪..‬يداه ثائرتان تناطحان اللحظات ‪ ،‬وذقنه‬ ‫تخاصم منطقة صدره ‪ ،‬بينما عيناه جبلن فى أعلى وجهه يصدان النظرات عنه‪ ،‬مالت عيناى‬ ‫‪ ،‬الوقت تمدد والوجوه لعبة أيدى الزمن العابثة ‪. .‬عادت‬ ‫عنه ‪ ،‬هاجس طاف برأسى‬ ‫عيناى الى ملبسه ‪..‬لم تتغير ‪..‬ذات التنسيق واللوان الهامسة ‪..‬واصلت إقترابى منه‪..‬همست‬ ‫لنفسى ‪ -‬حينما طالته أضواء العربات المارة ‪ -‬إنه هومع بعض التغيير ‪ ،‬عاودت الهمس ‪-‬‬ ‫حينما طوته غيمة الظل و رأيت كائن اا آخر ليمت للقديم بصلة ‪ -‬بأنه ليس هو ‪..‬اقتربت اكثر ‪،‬‬ ‫حدقت محاول ا إصطياد عينيه ‪ ،‬لم ينتبه لى ‪..‬إتجهت نظراته الى شىء خلفى ‪ ،‬حاولت أن‬ ‫أعرف ماهو ‪ ،‬لم أصل الى شىء ‪..‬همد تغريد القلب وانطفأت لمعة الحداق ‪ ،‬لم يعد هناك ال‬ ‫تساؤل حائر عنه ‪ ،‬قطعته بالتقدم خطوات جديدة نحوه هاتفا ا‬ ‫مرحبا ‪-‬‬ ‫وانا أمد يدى مسولم اا ‪ ،‬تبسمت عيناه وهو ينقلهما من البعيد المجهول الى عينى ‪ ،‬وأفتر فمه عن بسمة‬ ‫متغضنة الحواف ‪..‬كنا على حافة الطوار ‪..‬العربات المارقة لتهدأ صرخاتها ‪..‬الظلمة تغفو فى مكان ر ‪ ،‬تجثم‬ ‫على آخر ‪ ،‬والظلل على الجدران تركض بل توقف‪.‬ظلت يدى ممدود اة وانا أجهز الحروف على شفتى‬ ‫لسؤاله عن غيبته وأين كان ومتى عاد و‪..‬أطل من حبتى عينيه تساؤل ‪ -:‬هل تساعدنى على عبور الطريق‬ ‫؟‬

‫‪80‬‬


‫‪44‬‬

‫إبتسامة أمى‬ ‫نوع من الفرح جديد أطل من حدقتي أمى ‪..‬كساهما بلمعة متألقة ‪..‬أبى أيضا ا رأيته حليق الذقن ‪..‬يجلس‬ ‫راسم اا على شفتيه إبتسامة مرحبة بضيوفه الكرام ‪ ،‬بينما صورة جدى على الجدار جالسا ا فى إطاره الداكن‬ ‫مفرود الصدر ‪ ،‬مستقيم الطربوش أعلى الرأس ‪ ،‬شاربه يبدو من خلف الزجاج مبروما ا على جانبى وجهه ‪،‬‬ ‫ونظراته مغلفة بقوة وإعتداد ‪ ..‬تركته رامياا بنظرتى حولى ‪..‬أضواء النجفة تهطل من السقف صفراء‬ ‫مشرقة‪ ،‬تتألق على بياض الجدران ‪ ،‬الستائرحرس شرف تقف زاهية حول الشرفة المفتوحة الشيش ‪ ،‬بينما‬ ‫منال أختى هناك بالداخل تعد المشروبات التى ستقدمها للضيوف ‪ .‬همست أمى فى أذنى بصوت يشى بتوترها‬ ‫‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫أختك تأخرت ‪.‬‬

‫هرولت الى الداخل أبح ث عنها ‪..‬مرتبكة كانت ‪..‬زائغة العينين ‪..‬تطل على المرآة مد ققة‪ ..‬تلمحنى بطرف‬ ‫عينها ‪..‬تهمس وهى مازالت تفحص فستانها الجديد وزينتها ‪ -:‬مارأيك ؟‬ ‫تبتسم عيناى ‪..‬أقول بمكر ‪-:‬‬

‫رأيي أنا ؟!‬

‫تصطنع الغضب ‪..‬أتركها الى المرآة ‪..‬وجهى يحمل بسمة هائلة ‪..‬حافظت عليها لواجه بها الضيوف ‪.‬‬ ‫‪......‬‬ ‫عبر الممر الضيق الواصل بين الغرف الداخلية والردهة الواسعة حي ث نجلس والضيوف سارت منال‬ ‫‪..‬مضت كأنما تعبر برزخ اا الى ميلد جديد ‪..‬مرفوعة الرأس كانت‪ ..‬باسمة الوجه ‪..‬يمتد شعرها ذيل حصان‬ ‫ناعم اا حالك السواد خلف ظهرها‪..‬بينما أنوار النجفة تغلف بصفرتها بياض الحوائط ‪ ،‬وطاقم النتريه‬ ‫الطوبى ‪ ،‬والسجادة الحمر فاء المزركشة بالخطوط والتعاريج الزرقاء ‪..‬تحمل منال الصينية وفوقها العصير‬ ‫فى أكواب مزينة الزجاج بفروع الشجر الخضرفاء ‪ ،‬ومعها فناجين القهوة المزركشة بماء الذهب ذات الوجه‬ ‫الثقيل الذى يدل على تمرسها ومهارتها ‪..‬تقدمت الى أم العريس وخداها يلتهبان إحمراراا ‪..‬لقتها المرأة‬ ‫ببسمة حانية وحملت أقرب الكواب اليها ‪..‬تركتها الى والده الذى هش لها ‪ -:‬مرحبا ا بعروس إبنى ‪..‬أرخت‬ ‫جفنيها ستار اا يخفى ماأعتراها ‪..‬استدارت الي العريس ‪..‬تل قت العين فى نظرة ذات مغزى ‪..‬جفلت‬ ‫‪81‬‬


‫واهتزت الصينية بين يديها ‪..‬هب لمساعدتها‪ ..‬تلمست اليدى ‪..‬إزداد ارتعاد الصينية ‪..‬فرت الى أمها‬ ‫‪..‬جلست تحت جناحها مرخية أهدابا ا ترقب من تحتها مايجرى ‪.‬‬ ‫‪.......‬‬ ‫رأيت عينى أمى تتألقان ‪..‬ترفع يدها أعلى فمها وتطلق زغرودة مدوية ‪..‬مشرقة الوجه كانت بعد قراءة‬ ‫الفاتحة وتحديد موعد العرس ‪..‬شفتاها ضتنوغمان الزغرودة ووجهها رغم التجاعيد يتفتح عن سعادة وهى‬ ‫تطيل وتمد فى صوتها ‪..‬تشاركها أم العريس بزغرودة أكبر ‪..‬أحدق فى الشرفة التى تعمدت أمى أن تتركها‬ ‫مفتوحة ‪..‬مؤكد الجيران الن يتحرقون شوقا ا لنتهفاء الزيارة كى تأتى وفودهم للتهنئة ‪..‬أتطلع الى صورة‬ ‫جدى على الجدار ‪..‬يقولون أن الموتى يحسون بالحياء ‪..‬ترى ماشعورك الن ياجدى؟ ‪ ..‬بدأت عبارات‬ ‫المجاملة تنتقل كطيور مرحة بين الشفاه ‪..‬فجأة وسط هذا سقط أبى ‪..‬رأيته يميل على جانبه اليسر فاقداا‬ ‫القدرة على الحركة‪ ،‬ناظراا الينا بعينين متسعتين تشعان ببريق دهشة ‪..‬غطت وجه أمى صفرة‪..‬تصلبت‬ ‫قسماتهاوهى تهرول اليه ‪..‬تنسى الفرح والضيوف وتحدق فى عينيه هامسة بصوت كأنما يصدر من غور‬ ‫عميق ‪ -:‬مالك؟‬ ‫وهو يبادلها النظر مذموم الفم‪.‬‬

‫‪..................‬‬ ‫كما أمرتنى أمى وقفت أمام الباب أستقبل المدعوين‪..‬أقودهم الى الداخل حي ث عرس منال ‪ ،‬بينما أمى هناك‬ ‫فى كل مكان ‪..‬تشرف على كل مايجرى حولها فى تمرس شديد‪..‬كانت قد رفضت الغاء الموعد الذى تم‬ ‫التفاق عليه ‪..‬أصرت أن يتم العرس قائلة أنها لن تخلف وعداا قطعه المرحوم والدى ‪..‬تذكرتها قبل الحفل‬ ‫بأيام وهى تتحد ث اولى ‪..‬كان وجهها غير الوجه الذى أعرفه وكلماتها غير الكلمات التى تعودتها ‪ .‬حدقت فى‬ ‫عوينى وهى ممسكة بيدى بين كفيها فى قوة وهى تقول‬ ‫‪-‬‬

‫‪ -:‬لقد كبرت الن ‪..‬صرت رجل البيت ‪..‬هل تعى ماأقول ؟‬ ‫هززت رأسى ‪..‬نعم ‪..‬وقلبى يرفرف داخل صدرى بقوة ‪..‬أردت أن أقول شيئا ا ‪..‬لم أجد بين شفتى حروفا ا‬ ‫تصف مابى ‪..‬تريدنى كبيراا‪..‬كيف ‪ ،‬وماذا أفعل‪..‬همست ببطء ‪ -:‬ماذا أفعل لكون كبيراا ؟‬ ‫صور تلك اللحظات بالكاميرا ‪..‬الشاب‬ ‫قطع أفكارى قدوم العروسين والضجة التى ثارت حولهما ‪..‬درت أ و‬ ‫الذى حمل مديتين وأخذ يرقص بهما وسط الزفة ‪..‬تصفيق الخرين ‪..‬زغاريد النساء ‪..‬السعادة التى تغلف‬ ‫نظرات منال وعريسها‪ ،‬بينما أمى هناك تتابع عيناها مايجرى حتى اذا جلسا فى الكوشة تنهدت بعمق‬ ‫ملقية بجسدها على مقعد قريب ‪.‬‬ ‫تركتها اليهما ‪..‬الورود يانعة حولهما ‪..‬النوار خلفهما على هيئة قلبين‬ ‫يضمان مقعديهما‪ ،‬وأمامهما الموسيقى والغناء‪.‬‬ ‫استدرت لمى أسألها أن تأتى ‪..‬أريد تصويرها معهما ‪..‬كانت تبكى ‪..‬إرتعدت الكاميراا فى يدى ‪..‬لول مرة منذ‬ ‫وفاة أبى تفرج عن دموعها ‪..‬تترك لها العنان لتنطلق سهلة على ثنايا وجهها دون أن تفكر فى ملحقتها‪،‬‬ ‫أو اعتقالها قبل أن تفكر فى البزوغ كما كانت تفعل ‪.‬‬ ‫‪82‬‬


‫أدرت الكاميرا اليها ‪ ..‬انتبهت لى ‪..‬من بين الدموع بزغت بسمة صغيرة حيية أضاءت وجهها كأنما هى نهار‬ ‫صحو بهى الطلعة ‪ ،‬يطل حييا ا من خلف أستار الليل مؤذنا ا بزوال الظلمة‪..‬شد نى المنظر ‪..‬التقطت‬ ‫الصورة ‪..‬بعدها حين طبعت الفيلم تأملت بسمتها بشغف ‪.‬‬ ‫والى الن أنتقل من صورة الى أخرى متعج ا‬ ‫ل‪ ،‬لكننى دائما ا أقف أمام هذه الصورة بالذات ‪ ،‬ألبس نظارتى‬ ‫ذات العدسات السميكة لراها بوضوح وعادة كلما نظرت اليهاأسأل ا لها الرحمة و أسألها جاداا ‪..‬ماذا أفعل‬ ‫لكون كبيراا ؟‪..‬ورغم الشجون أبتسم ‪.‬‬

‫‪45‬‬

‫اللغز‬ ‫‪83‬‬


‫شده صوت منصور من شروده ‪-:‬‬ ‫ دكتور ‪ ..‬أحضرت التصريح الخاص بموافقة السلطات؟‬‫رد فوراا وهو يغرز نظراته فى حبتى عينيه ‪- :‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪-‬‬

‫‬‫‬‫‬‫‬‫‬‫‪-‬‬

‫ تم الستعداد لكل شىء‬‫هز رأسه الضخم راضي اا‪ ..‬تابع الدكتور قفاه وهو يستدير عنه ‪..‬رغم نفوره منه وشعوره كلما رآه أنه‬ ‫بين لحظة وأخرى سيتناثر التراب من خليا وجهه ويديه‪ ،‬أو يخرج له من جيب جلبابه الباهت الزرقة‬ ‫جمجمة غائرة العينين والوجنات ‪ ،‬ال أنه هو ذاته الشخص المطلوب بصفته مندوب إدارة المدافن الذى‬ ‫سيتعاون معه ‪ ،‬بهدف تسهيل إجراء تجربة علمية تستخدم فيها أحد ث التقنيات لبح ث ماهية الروح‪،‬‬ ‫وطريقة مغادرتها البدن ‪ ،‬والتغيرات التى تطرأ على الجسد بمجرد تجرده منها وتحوله الى مادة خالصة‪.‬‬ ‫بدأت الترتيبات حسب الخطة التى أعدها فريق البح ث بواسطة الحاسب اللى ‪..‬اللت ‪..‬التوصيلت‬ ‫‪..‬الضاءة ‪..‬الكشافت الساسية ‪..‬الكاميرات ‪..‬أجهزة التسجيل ‪ ..‬جهاز النذار الفرعى‪ ..‬وأخيراا جهاز‬ ‫النذار الرئيسى الذى ماإن يضغط على زره الحمر حتى يقوم بالغاء العملية بالكامل ‪ .‬تحرك الدكتور‬ ‫متابع اا مايجرى ‪..‬اصطدمت عيناه بعينى مندوب إدارة المدافن المعلم منصور شيخ الترابية من‬ ‫جديد ‪..‬عيناه واسعتان ‪.‬حدقاتهما بهت لونها وصار قريبا ا من الطين ‪..‬كلما نظر اليه شعر فى نظراته‬ ‫بسخرية متواريةخلف قناع من ثلج ‪ .‬ملمحه متجمدة على تعبير ليتغير ‪..‬يشعر وهو ينظر اليه أنه إما‬ ‫إبله ليفقه شيئ اا أو هو رجل عميق الغور يخفى مشاعره وأفكاره فى الوقت الذى يقرأ فيه مابداخلك‬ ‫‪..‬باغته صوته متسائلا ‪-:‬‬ ‫هل تشعر أنك ستصل الى شىء؟‬‫عاد يغرز نظراته فى بؤبؤ عينيه ‪..‬العينان فيهما دهشة سرمدية لتغيب ‪..‬قال له ‪ -:‬ل أعرف إن كنت‬ ‫ستفهم أم ل ‪..‬لكن العلم فتح كل البواب‬ ‫تركه المعلم منصور الى المقابر المتناثرة حولهما ثم عاد متسائل ‪-:‬‬ ‫حتى باب المقبرة ؟‬‫اتسعت عينا الدكتور وتاهت فى سراديب سؤاله المباغت ‪..‬هل يعرف ماهية هذه المهمة ؟‪..‬حاول العودة‬ ‫من رحلة شروده اليه ‪ -:.‬ماذا تقصد ؟‬ ‫حدقت العينان الواسعتان فى وجهه وسمعه يقول ‪-:‬‬ ‫ أقصد سلمتك داخل المقبرة‬‫إهتز قلبه بعنف فى فراغ صدره وتداخلت دقاته ‪..‬هز رأسه محاول التشب ث بالل مبالة وهو يسأل راسما‬ ‫بسمة استخفاف على شفتيه ‪-:‬‬ ‫ ما الذى سيجرى ؟‬‫باغته الرجل بسؤال ‪ -:‬الم يقل لك الكمبيوتر ؟‬ ‫أدار وجهه عنه ‪..‬تشاغل بمتابعة التجهيزات مع طاقم الفنيين ‪..‬ارتفع صوت الرجل بسؤال جديد ‪-:‬‬ ‫ واذا حد ث لك شىء بالداخل ؟‬‫‪84‬‬


‫‬‫‬‫‬‫‬‫‬‫‪-‬‬

‫‬‫‬‫‪-‬‬

‫‬‫‬‫‪-‬‬

‫‬‫‪-‬‬

‫إمتل صدره ضيقاا منه ‪..‬استدار اليه ووجهه ينطق بحقيقة مشاعره ‪-:‬‬ ‫ ماذا تريد ؟‬‫لم يبال بقراءة ملمحه ‪..‬قال بقوة ‪-:‬‬ ‫ تكتب إقراراا بإخلء مسئوليتى تماما ا‬‫أدار وجهه عنه ‪ -:‬لك ماتريد ‪.‬‬ ‫ومضى الى الملف الذى يضم تفاصيل العملية ‪..‬راجع وضع اللت ومكان الجثة القادمة وكذلك الغرفة‬ ‫الزجاجية الصغيرة التى سيجلس فيها داخل المقبرة للمراقبة وتسجيل الملحظات ‪..‬باغته صوت منصور‬ ‫‪-:‬‬ ‫ ستبدأ الن ؟‬‫من فوق إطار نظارته الطبية رماه بشرر نظراته قائ ا‬ ‫ل ‪ -:‬أنت تابع تنفذ مانريد ‪..‬حينما نريد‬ ‫واستدار عنه ‪..‬التجربة أجريت من قبل فى ظروف مشابهة للواقع ‪..‬وضعت اللت اللزمة فى إحدى‬ ‫المقابر ‪.‬؟‪.‬تم دفن ميت فيها وضأعيد إغلقها ‪ ،‬لكن اللت فشلت فتقرر أن تعاد التجربة على أن ينزل‬ ‫الدكتور بنفسه مراقبا ا ‪ ،‬وبدال من وضع ميت سوف يوضع رجل قارب على الموت لتصبح التجربة أكثر‬ ‫صدقاا ويصبح والموت وجها ا لوجه ‪..‬لكن هل يمكن رؤية الموت ؟‬ ‫رفع عينيه عن الورق‪ ..‬وجههما ل أراديا الى منصور ‪ ..‬النسان ابن بيئته وهذه حقيقة ‪..‬هل يدرك‬ ‫ماهنالك بحكم معايشته للموتى؟‪ ..‬سأله فجأة ‪ -:‬هل رأيت الموت من قبل ؟‬ ‫لحظ فى تعبيرات وجهه الثلجية تموجاا ‪..‬تحركت الجفان وفتح الفم عن أسنان مثرومة وبرقت عيناه‬ ‫قائل ا ‪-:‬‬ ‫ورأيت منها‬ ‫) انا فى شبابى كنت أعمل بيدى ‪..‬أفتح مدافن المنطقة ‪..‬أعرفها‬ ‫‬‫وبدأت أفك كفنه فاذا بعينيه مفتوحتين ينظر‬ ‫الكثير ‪..‬الميت الذى أرقدته ووجهت وجهه للقبلة‬ ‫الي متسائ ا‬ ‫؟ ‪..‬والميت الذى التقطه من يدى ثعبان فمه باتساع فتحة‬ ‫ل ‪..‬أين انا‬ ‫‪..‬والميت الذى اشتعل ناراا بمجرد وضعه فى مضجعه والميت الذى رأيته هيكل عظميا و‬ ‫المقبرة‬ ‫جذعه على الجدار ‪..‬هذا الميت بالذات أفزعنى ‪ ..‬فهمت‬ ‫راكعا ا على ركبتيه مستند اا بيديه بانحناء‬ ‫‪.‬لحظتها كان المفروض أن أزيح‬ ‫ماجرى له وحده فى الظلم ومحاولته الفرار من الموت ‪.‬‬ ‫جديد ‪..‬لكننى توقفت وانا أرى هذا الهيكل ناشبا ا أظفاره فى‬ ‫العظام القديمة استعداداا لقادم‬ ‫ماأملك من مشاعر فجرها‬ ‫الجدار مكافح اا الفناء حتى أخر لحظة من عمره ‪..‬صرخت بكل‬ ‫كما لم أره من قبل ‪(.‬‬ ‫هذا المنظر فى صدرى وتمثل لى الموت‬ ‫ضأعلن عن وصول سيارة السعاف بالمطلوب ‪..‬لمعت عينا الدكتور ومرت رجفه على جفنيه ‪..‬لحظ‬ ‫منصور هذا ‪..‬رآه يتحرك نحو رجال قادمين يحملون شخصا ا على محفة تحيط به الجهزة متجهين به‬ ‫الى الداخل ‪..‬قال أحدهم أنه غائب عن الوعى منذ شهور ‪..‬يعيش على أجهزة التنفس الصناعى ‪..‬قلبه‬ ‫لتكاد تسمع دقاته ‪..‬أهله انصرفوا عنه بعد أن كلفتهم اقامته بالمستشفى كل مالديهم ‪..‬قرر الطباء رفع‬ ‫أجهزة التنفس عنه وافقوا على النتفاع به فى التجربة مادام مصيره قد تقرر ‪..‬توجهت المحفة الى‬ ‫داخل المقبرة ومعها اللت وأجهزة قياس الضغط واشارات المخ والقلب وما اليها ‪..‬إندس المعلم‬ ‫منصور بين الجساد الى حي ث رأى وجها شاحبا ا يتطلع اليه ‪..‬سأل ‪ -:‬دكتور ‪..‬ماذا ستفعلون بهذا‬ ‫الرجل ؟‬

‫لم يبال به‬ ‫‪85‬‬


‫عاد يسأل ‪ -:‬هل ستتركونه يموت ؟‬ ‫استدار عنه ‪..‬لحظة رفع أجهزة التنفس الصناعى تقترب ‪..‬عليه الن أن يهبط الى المقبرة ‪..‬يتحصن‬ ‫بصندوقه الزجاجى ‪..‬يرقب بعينيه ويسجل ملحظاته ‪ ..‬لكن لماذا يرتجف وتصعد من جوفه هزات متوالية‬ ‫تمنعه من الحركة ؟‪ ..‬سمع صوتا ا يناديه ‪..‬تزلزل جوفه ‪..‬بذل جهداا ليقول أنه جاهز وتقدم نحو المقبرة ‪..‬مد‬ ‫ساق اا للداخل ‪..‬لم تطاوعه الخرى وغاصت الدماء من وجهه ‪..‬أدار نظراته فى الجهزة واللت والجسد‬ ‫المسجى والغرفة المحصنة بزجاجها الشفاف ثم تقدم الى حي ث جلس فى مكمنه مراقبا ا الباب وهو يغلق‬ ‫والنوار الصناعية وهى تمل المكان بيضاء زاهية تتربص بالموت وتستعد له ‪..‬اتجهت عيناه الى عدادات‬ ‫القياس أمامه‪..‬المؤشرات ‪..‬القراءات ‪..‬الكاميرات المثبتة فى الركان وشاشة الكمبيوتر التى تتلقى البيانات‬ ‫اول بأول ‪..‬مد يده الى زر أزرق أمامه ‪..‬ضغطه بعزم ليفصل فوراا أجهزة التنفس الصناعى ‪..‬اتسعت عيناه‬ ‫وهو يرى الجسد الذى كان ساكنا منذ شهور ينتفض انتفاضة ملحوظة فى أقل من ثانية قبل أن يهمد الى‬ ‫البد وتتحرك أجهزة القياس امامه ‪..‬تجحظ عيناه ‪ ،‬يرتعد جوفه ‪..‬يحاول أن يتحرك فى مكانه ‪..‬يضغط على‬ ‫أى زر ‪..‬يصرخ حتى ‪..‬لم يملك ال إذعانا ا كام ا‬ ‫ل لسطوة شلل مفاجى ينشب اظافره فى ثنايا عقله ‪.‬‬ ‫اما فى الخارج فقد استمر سيل الصور القادمة للجثة وماحولها‪ ،‬والقراءات والبيانات المعتادة تمل شاشة‬ ‫الكمبيوتر‪ ،‬مما يعنى أن كل شىءتحت السيطرة ‪..‬انتهت التجربة‪..‬ضفتحت المقبرة‪..‬كان مكانه‪..‬سألوه عما‬ ‫كان ‪..‬لم ينطق بحرف‪ ،‬وحتى الن ماتزال المحاولت جارية معه!‬

‫‪46‬‬

‫الخر‬

‫تلقاها على ظهره ‪ -‬بين منكبيه ‪ -‬ضربة قوية ‪،‬كاد أن ينكفىء على أثرها على وجهه ‪.‬‬ ‫إجتاح صدره إعصار من غضب ‪،‬وكور يده واستدار استعداداا للكمة باطشة ‪ ،‬وجدها إمرأة شابة تقف متنمرة‬ ‫له والشرر يتطاير من عينيها‪ ،‬وهى تصرخ فيه ‪ -:‬الى متى ستهرب ؟‬ ‫إنداح الغضب مفسحا ا براحا ا واسعاا لدهشة هائلة فى نفسة‪ ،‬شعر برأسه يدور وتوازنه يخوتل‪ ،‬بينماالمارة‬ ‫يتوقفون تمام اا صانعين دائرة حولهما ‪..‬صعدها من أسفل الى أعلى متفحصا ملبسها وتعبيراتها الوحشية‬ ‫وهى تحاصره بلهب نظراتها حتى ليفلت من يدها ‪..‬نحيلة هى ‪..‬جسدها الصغير يشبه أجساد الصبية لول‬ ‫كرتيها أعلى الصدر‪ ،‬وتحمل وجهاا رغم وحشيته فى نضرة صباح بكر ‪..‬غمغم فى غضب جامح ‪ -:‬كيف‬ ‫تجرؤين ؟‬ ‫‪86‬‬


‫ولم يكمل ‪..‬إندفع صوتها عالياا وهى تقتحم البراح بينها وبينه قابضة على اعلى قميصه‪ -:‬الم يكفك مافعلت‬ ‫؟‬ ‫خلص ملبسه بصعوبة من بين يديها ودماغه يغلى ‪،‬و الناس حولهما أجساد تتكون من عيون وآذان ‪..‬صرخ‬ ‫‪ -:‬من تظعننى بالضبط؟‬ ‫وهو يحدق فى بؤبؤ حدقتيها ‪ ..‬أكمل ‪ -:‬انا ل أعرفك‬ ‫دقت صدرها هو ال وهى تسأله صارخة ‪ -:‬لتعرفنى ياحسن ‪ ،‬لتعرف زوجتك‪،‬إمرأتك‪،‬أم أولدك ‪،‬تصر على‬ ‫الهرب ؟‬ ‫لمعت عيناه ببريق الظفر ‪،‬تلفت الى العين المتربصة به وهو يمد يده الى حافظته ويرفعها عاليا ا وهو‬ ‫يؤكد ‪ -:‬هاهى بطاقتى ‪..‬إسمى رفعت وليس حسن‬ ‫قبل أن يدير وجهه اليها اندفعت الى يده بسرعة‪ ،‬التقطت البطاقة وهى تقول كمن عثرت على دليل إدانته ‪-:‬‬ ‫بطاقة مزورة ‪،‬وصل المر لهذا ؟‬ ‫هجم على يدها محاو ال استرداد ها منها ‪،‬دستها فى صدرها ‪ ،‬مدت يدها الى حقيبتها وأخرجت صورة لهما‬ ‫معاا ‪..‬وجهتها الى عينيه بقوة ‪ -:‬انظر ‪..‬من هذا ؟‪..‬انكمشت يده فى التومبالغتة وهو يرى صورته الى‬ ‫جوارها ضاحك الفم ‪،‬شعور بالعجز أمامها تسرب الى نفسه ‪ -:‬ماذا تريدين ؟‬ ‫قالت بهدوء ‪ -:‬أن تأتى معى ‪.‬‬ ‫عاد الى الحتجاج ‪ -:‬لكنى ل أعرفك‬ ‫ارتفع صوت ‪ -:‬الفضل الذهاب لمركز الشرطة ‪.‬‬ ‫أيدته أصوات اخرى ‪..‬استدارت اليهم فى غضب ‪ -:‬وأضويع زوجى بعد أن وجدته ؟‬ ‫ثم عادت اليه ‪ -:‬الم توحشك أمك العجوزالمرضة وأولدك ‪ ،‬الم أوحشك أنا زوجتك عطيات ؟‬ ‫وشدته من يده لتخرج به من الطوق البشرى المحيط بهما ‪..‬بعد خطوات ربتت كتفه بحنو قائلة ‪ -:‬انا بحاجة‬ ‫اليك‬ ‫ارتجف ‪..‬ل يدرى غضبا ا منها ام دهشة وصرخ ‪ -:‬انا ل أعرفك‬ ‫ابتسمت مهدئة من ثورته ‪ -:‬قل هذا بعد أن نعود من مشاويرنا‬ ‫‬‫‬‫‬‫‬‫‪-‬‬

‫بأى صفة أسير معك ؟‬ ‫بصفتك زوجى حسن‬ ‫لست هو‬ ‫صدقنى انا بحاجة اليك‪،‬أعدك ال أضايقك ثانية ‪،‬واذا سألتك عن شىء أو طلبت منك شيئا ا اتركنى‬ ‫من جديد‬ ‫أرجوك ‪!..‬‬ ‫‪87‬‬


‫ انا التى ترجوك‬‫ أسف‬‫ إذن سنعود للصراخ وفرجة الناس وصورتنا معا ا‬‫أحنى رأسه وترك لقدميه حرية الحركة ‪.‬‬ ‫خطوات قليلة سارها وعاد اليها متسائلا ‪-:‬‬ ‫‪ -:‬لماذا انا بالذات ؟‬ ‫حدقت فى حبتى عينيه محاولة اكتشاف ماخلف الحداق‪ ،‬استدارت الى الطريق من جديد ‪ -:‬ستعرف‬ ‫عاد يسأل ‪ -:‬وماهو المطلوب منى بالضبط ؟‬ ‫استمرت فى السير ‪ -:‬لشىء ‪..‬احتاج وجودك بجوارى فقط ‪.‬‬ ‫حدق فى رأسها الصغير المرفوع فى وجه الطريق ‪..‬هل تعى ماتفعل ‪،‬أم ستزج به فى ورطة ‪،‬وماذا سيقول‬ ‫اذا حد ث هذا ‪ ،‬ومن سيصدق أنه يحد ث له ماحد ث ؟‬ ‫استدارت له كأنما تقرأ أفكاره ‪..‬قالت بهدوء ‪ -:‬ل تقلق‬ ‫وعادت الى الطريق ‪..‬اقتربت من أحد البيوت الرقيقة الحال ‪،‬مضت الى مدخله الضيق ‪ ،‬صعدت على سللم‬ ‫متهالكة الحواف متساندة على درابزين بل ملمح ‪،‬توقفت أمام أحد البواب ‪،‬دقت الجرس ‪..‬فتح الباب عن‬ ‫إمرأة كبيرة تغضنات الوجه‪ ،‬ملونة الملمح ‪ ،‬بمجرد أن رأتهما زادت عبوس وجهها عبوسا ا وتساءلت عما‬ ‫يريدان ‪،‬قالت عطيات بقرف‪ -:‬محمود‬ ‫خرج شاب يافع ناضج العود بملبسه الداخلية اليهما ‪ ،‬بمجرد أن رآهماتعثر فى ارتباكه ‪ ،‬حمل وجهه معالم‬ ‫دهشة ممزوجة بذعر‪،‬قبل أن يرتمى على صدره باكيا ا ‪ -:‬سامحنى ياأبى‬ ‫وقف ليفقه شيئ اا ‪ ،‬تدخلت عطيات ‪ -:‬أبوك غاضب عليك وانت تعرف لماذا ولول الحاحى ماجاء الن ‪.‬‬ ‫اندفع محمود يقبل يديه ‪ -:‬ادخل ‪..‬تعالى ‪..‬تعالى ياأمى‬ ‫حدقت فى عينيه ‪..‬عيناها بئراا لورم وتقريرع ليس لهما قاع ‪..‬تساءلت بصوت مغسول بالقهر ‪ -:‬تظننا ندخل ؟‬ ‫واستدارت عنه مغادرة ‪.‬‬ ‫فى الطريق سألها عن تفسير مارأى ‪..‬بزاوية عينيها نظرت اليه‪-:‬‬ ‫ال تعرف ؟‬ ‫اضطرب ‪ ،‬بدت على جفنيه ارتعادة خفيفة وهو يهمس ‪ -:‬ل‬ ‫قالت ووجهها للطريق مازال‪ -:‬سترى بنفسك ‪.‬‬ ‫وصلت الى أحدى المستشفيات ‪..‬دخل معاا ‪..‬أمام أحد السرة توقفت ‪..‬رأى فتاة شابة ترقد على ظهرها فى‬ ‫إعياء واضح ‪..‬قالت عطيات بعطف ‪ -:‬وفاء ‪..‬انظرى من جاء يراك ‪.‬‬ ‫‪88‬‬


‫رفعت اليها وجه اا اعتله الذبول ‪ ،‬امتصه المرض ‪ ،‬فتحت فمها لتتكلم وقد اكتست نظراتها بدهشة بالغة‬ ‫لرؤيته‪ -:‬أين كنت ياأبى ؟‬ ‫ربتت عطيات كتفها برفق ‪ -:‬رغم غضبه من محاولتك النتحار جاء يراك‬ ‫ارتعدت بضع دمعات عجاف على حواف عينيها ‪،‬مدت يداا ناحلة الى يده ‪ ،‬القريبة ‪ ،‬ضغطها مترفقا ا ‪.‬‬ ‫فى الطريق عاد يسأل‪ -:‬لماذا ؟‬ ‫مشيراا الى مافعلته وفاء ‪..‬ردت عطيات باقتضاب ‪ -:‬ستعرف‬ ‫‪.‬وهى مازالت تواجه الطريق‪ ،‬أسرع فى خطوه حتى وقف أمامها قاطعا ا عليها الطريق ‪ -:‬إن لم تشرحى لى‬ ‫المر سأضطر الى الرحيل ‪.‬‬ ‫تبسمت بغم وهى تواجهه بعينين متسعتين تغطى حدقاتهما قطرات من ماء عزيز الهطول ‪ -:‬ترحل ‪ ..‬ثانيه !!‬ ‫انتفض ‪ -:‬لست انا‬ ‫صرخت ‪ -:‬إذن من ؟‬ ‫ازدادت الحيرة تعملق اا فى مقلتيه ‪ ..‬كيف يقنعها ؟‪ ..‬دلفت الى بيت منفرج الشبابيك يتقدمه مدخل بل باب‬ ‫وهو الى جوارها ‪،‬صعدت سللم قليلة نظيفة رغم ضيقها‪،‬توقفت أمام أحد البواب ‪،‬فتحته ودخلت ‪،‬أضاءت‬ ‫المصباح وأشارت اليه ‪،‬تقدم محاذر اا وهو ينظر حوله فى تأفف ‪..‬كانت هناك أريكة فى المواجهة ترقد عليها‬ ‫عجوز مستغرقة فى النوم ‪،‬الى جوارها من اليسار ممر يؤدى الى الداخل‪ ،‬ومن اليمين حجرة مغلقة زجاج‬ ‫بابها مكسور ومكانه قطعة من ورق مقوى‬ ‫‪..‬مدت عطيات يداا حانية توقظ العجوز ‪ - :‬اماه ‪..‬هذا حسن ‪..‬إبنك‬ ‫فتحت العجوز عينيها وفمها معاا ‪..‬الفم مثروم تماما ا ‪،‬وشعيرات قطنها ناصع البياض بلله العرق يلتصق‬ ‫بوجنتها ‪..‬همست ‪ -:‬تقولين من ؟‬ ‫وهى تحاول العتدال بلهفة من رقدتها دون أن تسمع أو تنتبه لرد‪ ،‬أخذت تتمتم ‪ -:‬حسن ولدى‬ ‫ومدت يديها المعروقتين تتلمسه مما اضطره للقتراب منها‪ ،‬أمسكت يده ورفعتها الى وجهها تمسح بها‬ ‫قسماتها ‪ ،‬تقبلها ودموعها العجوز تنزلق ناحلة عبر تغضنات وجهها ‪،‬شعر بجسده يرتجف ‪..‬قشعريرة هائلة‬ ‫تدغدغ حواسه والمرأة تشده نحوها‪،‬تحتويه بين ذراعيها وهى تبكى ‪ -:‬سلمتك ياحسن‬ ‫وهو بين يديها عاد بنظراته الى عطيات ‪..‬كانت تبكى‪.‬‬ ‫رآهاتفر من دموعها الى الممر الواصل الى الداخل ‪..‬مضى خلفها ‪ ،‬فتحت بابا فى المواجهة ‪،‬وقفت مشيرة‬ ‫اليه بالدخول وهى تمسح عينيها‪..‬رأى سريراا خشبيا ا قديما ا يأخذ ركناا‪ ،‬يجاوره دولب باهت اللون إحدى دلفه‬ ‫منزوعة ‪،‬ومائدة صغيرة عليها تليفزيون صغير‪ ،‬وحصير قديم مهترىء الطراف يفترش الرض ‪،‬وعلى‬

‫‪89‬‬


‫حافة الشباك صينية من اللومنيوم عليها قلة من الفخار مغطاه بقطعة قماش بيضاء‪ ،‬سمعها تتكلم وهى تمد‬ ‫اليه يدها ببطاقة هويته ‪-:‬‬ ‫ لول حاجتى ‪..‬ماسعيت اليك‪.‬‬‫همس ‪ -:‬لست حسن‬ ‫حدقت فى عينيه بنظرات حديدية ولم ترد ‪،‬أشارت الى جلباب معلق على مسمار خلف الباب ‪ -:‬جلبابك‬ ‫نظيف ينتظرك‬ ‫وغادرته الى الخارج ‪.‬‬ ‫صرخ فى مواجهة السرير والدولب والحصير والشباك وجدران الحجرة المتساقطة الطلء ‪ -:‬لست حسن ‪.‬‬ ‫انتبه لصورة على الجدار تجمعه وعطيات فى ملبس العرس ‪..‬أشاح بناظريه عنها ‪..‬رأى الجلباب المشنوق‬ ‫من رقبته بالمسمار خلف الباب‪..‬نظر اليه بعداء!‬

‫‪90‬‬


‫‪47‬‬

‫القطار‬

‫رأيته جالسا ا وحده‬ ‫مواجها ا للداخل ‪،‬السيجارة بين يديه دخانها يصنع ستاراا ضبابيا ا بينى وبينه‪ ،‬من خلف الضباب رأيت عينيه‬ ‫تبرقان ‪،‬نجمتان يخترق نورهما ضبابية اللحظة‪،‬لكنهما شاردتان ‪،‬تائهتان فى فضاء لنهائى ‪،‬يرمحان عبر‬ ‫براحه ‪،‬ليهدآن ‪.‬‬ ‫لحظتها فهمت معنى أن يفقد النسان عزيزاا ‪ .‬اطلق بعض الدخان من فمه ‪،‬ازدادت ضبابية اللحظة بيننا ‪،‬من‬ ‫خلفها واصلت النظر ناحيته ‪.‬كان ينتظر منى الخبر ‪،‬ينتظر أن انطق به ‪،‬أهز ركود الصمت الذى يحتوى كلينا‬ ‫‪،‬لكنى لم استطع النطق به ‪.‬رأيتنى أعود اليها ‪،‬أتصورها تصرخ ذاهلة ‪،‬ترفع يديها أمامها ‪،‬تحاول رد‬ ‫القدر ‪،‬يطلق القطار صفيره ‪،‬أفزع ‪،‬تعاودنى الرعدة ‪،‬أنفجر فى وجه الضباب والدخان ‪ -:‬دهسها القطار‬ ‫قاصداا أختى ‪..‬قال ببطرء ‪ -:‬أعرف‬ ‫ونفخ مزيد اا من الدخان ‪..‬تفجرت الدموع من عينى ‪..‬القطار حديد يتحرك ‪،‬و الحديد لقلب له ‪،‬مهما ارتفعت‬ ‫حرارته ليحس ‪،‬ليلين ‪،‬قلت ‪-:‬‬ ‫‬‫‬‫‬‫‪-‬‬

‫أبى ‪..‬ل أحب القطار ‪-‬‬ ‫من خلف السحابة المضببة بلونها الرمادى قال ‪-:‬‬ ‫ لم يكن لها أن تقف أمامه‬‫الردهة ممتلئة بالسواد ‪،‬دنوت من أمى ‪،‬عيناها حمراوان ‪،‬قسماتها ذابلة يعلوها اصفرار ‪.‬تمنيت أن‬ ‫أعتذر لها لننى تأخرت ‪.‬لو أسرعت قليل وقلت لها الخبرالذى لودى كانت ستفرح لبعض الوقت قبل أن‬ ‫يدهمها الحزن‪.‬‬ ‫‪91‬‬


‫‬‫‪-‬‬

‫‬‫‬‫‪-‬‬

‫‪-‬‬

‫مددت لها يدى ‪،‬اعتمدت عليها ‪،‬همست وهى تنظر فى حبتى عيونى ‪ -:‬لن ترى أختك ثانية‬ ‫إنشرخ صدرى من الحزن ‪،‬عاد القطار يرسل صفيره المشئوم ‪،‬يصرخ منذراا ‪،‬مهدداا ‪،‬مطلقا ا طيوره‬ ‫السوداء تحلق أمام عيونى ‪،‬تحجب ضوء الشمس ‪،‬وأختى هناك ‪،‬تستدير ‪،‬ترتعد‪ ،‬تتصلب فى مكانها‬ ‫‪،‬وتمد يد ها ظنا ا منها أنها تملك القدرة على صده والنجاة منه ‪،‬يدووى الصفير فى الفاق ‪،‬يزداد شعورى‬ ‫بالذنب ‪،‬اليوم بالذات كنت سعيداا ‪،‬باسماا طول الطريق بعد أن رأيت نتيجة المتحان ‪،‬كنت الول ‪،‬شىء لم‬ ‫يحد ث من قبل ‪،‬كنت محلقاا كعصفور نبت له جناحان منذ قليل ‪،‬يضرب بهما الهواء ويمضى‪..‬اقتربت من‬ ‫البيت ‪،‬من أول الشارع أخذت أسابق اللحظات وحين اقتربت ارتجف بدنى ‪،‬دخلت الشقة ‪،‬بياض الجدران‬ ‫غطاه سواد الثياب ‪.‬زفة النوار حجبتها ظلمة الدموع ‪..‬حكت لى إحداهن عن القطار ‪..‬قالت إنه كان‬ ‫يركض ‪،‬ليتوقف ‪،‬قلبه الحديدى ليدق ‪،‬وعيناه لتبصران ‪..‬اطلقه القدر ليراه الناس ‪..‬يحكون عنه‬ ‫ويخشون منه ‪..‬ل أعرف لحظتها لماذا رفرف العصفور الصغير بجناحيه الرقيقين عاجزاا عن حمل نفسه‬ ‫وهوى أرضا ا ‪..‬شعرت أننى بحاجة لوجود أبى ‪..‬ابتعدت صامتا ا ابح ث عنه وحين وجدته كانت سحابة‬ ‫ضبابية تفصل بينى وبينه ‪..‬كان لودى الخبر الذى أعرف أنه يتوق لسماعه ‪..‬لكننى لم أجد له معنى الن‬ ‫‪..‬بكيت !‬ ‫‪..............‬‬ ‫خرج أبى من حجرته ‪،‬وجهه قسماته جامدة ‪،‬عيناه نظراتهما حادة ‪،‬والسيجارة فى يده متأججة‬ ‫النيران ‪..‬فتح باب الحجرة ومضى عبر الممر الواصل الى الردهة وهناك توقف ‪..‬رفع صوته الجهورى‬ ‫آمر اا النسوة بالصمت ‪..‬رفعت أمى حدقتى عينيها نحوه محتجة ‪..‬العينان حمراوان ‪،‬يركض عبر‬ ‫ساحتهما النين ‪،‬تدور الدموع ‪،‬غير أنها لم تنبس بحرف ‪..‬شبكت ذراعيها أعلى صدرها وأحنت رأسها‬ ‫ومضت تدور فى متاهة أفكارها فى صمت ‪..‬قال أبى موضحا ا ‪ -:‬لتؤذوها فى مرقدها‬ ‫وعاد الى حجرته ‪..‬شدنى وجه أمى ‪..‬نظراتها نظرات حمامة بل جناح ‪..‬تجلس ساكنة تنتظر شيئا ا ما‬ ‫لتدرى كنهه ‪..‬فكرت أن أهبها لحظة فسحة من الحزن ‪..‬أخبرها فيها بالخبر الذى لودى ‪..‬أشعر اننى‬ ‫منحت الحمامة جناحين جديدين ‪..‬فتحت فمى ‪..‬لم أر جدوى للكلمات ‪..‬لن تشفى جرحا ا ‪..‬لن تعيد روحا ا‬ ‫الى جسد بلى ‪..‬والحمامة حين ينكسر جناحاها لتفيدها عبارات تعزية مهما كان صدقها ‪.‬‬ ‫ انتبهت لبى قادما عبر الردهة ‪،‬متسع العينين كأنه فى حالة دهشة دائمة وكان محنى‬‫الظهر ‪..‬تقدمت نحوه ‪..‬استند بيده على كتفى ومضينا نحو الباب ‪..‬فى الطريق وانا امضى‬ ‫الى جواره مهدئا ا من خطوتى لسايره قلت هامسا ا ‪ -:‬أننى نجحت وأن ترتيبى الول هذا‬ ‫العام ‪..‬شد على كتفى فى صمت ‪..‬داهمنى فيض من مشاعر ‪..‬رأيت القطار من جديد يطلق‬ ‫صفارته قادما كقدرر لفكاك منه‪ ،‬والطيور السوداء والتى كانت من المؤكد انها حلقت فى‬ ‫مكان الحاد ث‪ ،‬وأختى وهى تمد يديها وتقف مكانها ‪ ،‬والقطار يتقدم وصفيره يعلو‬ ‫‪..‬يعلو ‪..‬يصم أذنى ‪..‬صرخت ‪..‬عادت اليد تشد على كتفى وسمعته يهمس كأنما ينتزع‬ ‫الكلمات من جب ‪ -:‬لتنسى أنك رجل‬

‫حنان ‪..‬تعالى‬

‫‪92‬‬


‫‪48‬‬

‫المنطقة الخطرة‬

‫‪93‬‬


‫القى منصور بنظراته الى الطريق ‪ ،‬الظلمة يطفح بها الهواء خارج القطار ‪،‬على البعد تبدو أشباح أبنية‬ ‫متسارعة وراء بعضها الى الخلف ‪ .‬امتص رحيق سيجارته بنهم ‪..‬الغريب أنه لم يحد ث شىء حتى‬ ‫الن ‪.‬‬ ‫همس لزميله مخلوف الذى يقف الى جواره ‪ -:‬المواجهة تقترب‬ ‫تبسم مخلوف ‪ ،‬سأل ‪ -:‬خائف ؟‬ ‫هز رأسه ‪ -:‬ل‬ ‫وهو يتحسس مكان الجرح ‪ ،‬بسبب الحجر الذى ضالقى عليه ظل ينزف ‪ ،‬الحجر أتى من ذات المنطقة‬ ‫الخطرة ‪ ،‬شخص ما أو ربما أشخاص يمطرون القطارات المارة بالحجارة ويتخفون بالظلم ‪.‬‬ ‫هل أنت راض ر عما أنتويت ؟‬ ‫يفكر فى‬ ‫استدار لمخلوف ‪ ،‬حدق فى قروية ملمحه متأمل ا ‪ ،‬الغريب ال‬ ‫الخطر بات يهدد القطارات المارة فى هذه المنطقة‪ ،‬قطارات الضواحى‬ ‫الثأر ‪ ،‬هو يعرف جيد اا أن‬ ‫كلما‬ ‫التى تشق المدينة من المحطة الرئيسية الى الضواحى صارت ترتعد‬ ‫مرت بهذه المنطقة خوفاا من دفعات الحجارة التى تصيب الركاب دون تمييز ‪ .‬قال مؤنباا‪ -:‬هل نترك‬ ‫الجانى دون عقاب ؟‬ ‫رد مخلوف ‪ -:‬لسنا جهة عقاب ‪.‬‬ ‫استدار اليه محتجا ا ‪ -:‬نترك الخفافيش والبوم يتحكمون فينا؟‬ ‫ هناك قانون‬‫ وعلينا أن ننفذه‬‫ لسنا فى غابة‬‫تركه الى الطريق من خلل الباب المفتوح ‪ ،‬أخذ يتأمل السماء والظلمة المبذورة فى الرجاء ‪،‬مسنداا‬ ‫ظهره الى العمود المعدنى ‪ ،‬متحسساا مكان الجرح اعلى جبهته ‪ ،‬كاد الحجر يرتطم بعينه اليمنى ‪ ،‬قال‬ ‫لنفسه يومها أنه حجر عشوائى أطلقه عاب ث ‪،‬غير أن المر تكررمن ذات المنطقة ‪ ،‬أصاب أحد‬ ‫السائقين وعورض القطار للخطر ‪.‬‬ ‫تمددت دوائر الحيرة أمام عينيه وهو يسأل نفسه كيف يترك حقه دون رد ‪..‬غاصت نظراته فى بحر‬ ‫الظلمة حوله ‪ ،‬هناك بقع ضوئية تتناثر عبر الطريق ‪ ،‬انتبه انها تختفى وتمل الظلمة الرجاء ‪ ،‬مد‬ ‫رأسه الى خارج القطار متعقباا أثر الضوء ‪ ،‬اتسعت عيناه ‪ ،‬شعر بجسده يترنح ويكاد يهوى لول أن‬ ‫تمسك بالعمود المعدنى ‪ ،‬القطار يشق الرض منحدراا فى سرعة مذهلة الى أدنى حاملا الركاب معه ‪،‬‬ ‫ب ‪ ،‬هرول الى كابينة السائق يحذره ‪ ،‬يطلب منه إيقاف القطار ‪ ،‬وجد‬ ‫الحجارة تنهال عليه من كل صو ر‬ ‫الكابينة مغلقة ‪ ،‬دق بيديه بابها ‪ ،‬صرخ ‪ ،‬بكى ‪ ،‬لم يأبه له مخلوق ‪ ،‬استدارعائداا الى الركاب ‪ ،‬غارقين‬ ‫فى متاهة صمت ونظرات ثلجية التعبير ‪،‬ارتفعت صرخاته محذراا ‪ ،‬لم يبال به أحد ‪ ،‬فكر أن يقفز ‪،‬‬ ‫السرعة عالية ‪،‬هوى أرضا ا واضعا ا رأسه بن راحتيه وجلس منتظراا مصيره ‪ ،‬شعر بيرد تهزه من كتفه‬ ‫بقوة وصوت يسأله ‪ -:‬مابك ؟‬

‫‪94‬‬


‫ادار عينى الشرود حوله ‪،‬القطار فى طريقه المعتاد وبقع الضوء تتناثر فى الرجاء ومخلوف زميله‬ ‫يحدق فيه بعينيه الواسعتين ‪..‬تركه الى دفتر التذاكر فى جيب سترته الزرقاء ‪ ،‬مضى بين المقاعد‬ ‫والجساد المتلحمة يدق بقلمه الجاف الحمر على الحوامل المعدنية وهو يكرر بآلية ‪ -:‬تذاكر‬ ‫‪.‬‬ ‫‪.....................‬‬ ‫اطلق القطار صفيره يشق به أستار الصمت المطبق على الرجاء ‪ ،‬انتبهت العيون الى اقتراب منطقة‬ ‫الخطر ‪ ،‬امتدت اليدى لغلق النوافذ والبواب ‪ ،‬صرخ منصور بأعلى صوته ‪ -:‬العين بالعين‬ ‫ضحكوا منه ‪،‬أشاروا الى إصابته فى عينه ساخرين ‪ ،‬وقف وسط الممر له ث النفاس والوقت يمر ‪،‬‬ ‫مرة واحدة هرول يفتح البواب والنوافذ المغلقة ويمد الركاب بالحجارة ‪ ،‬طلب منهم أن يكون رد الفعل‬ ‫بنفس مستوى الفعل ‪ ،‬عادت الكلمات الهازلة تحاصره‪ ،‬لم يبال بها ومضى نحو باب العربة ‪ ،‬فتحه ‪،‬‬ ‫وقف خلفه والحجارة فى يده ‪ ،‬اقتربت المنطقة الخطرة ‪ ،‬تلشى الهزل ‪ ،‬تآ كلت الضحكات وساد‬ ‫ترقب حذر العين ‪ ،‬اطلق القطار كالعاده صفيره ‪،‬علت أصوات العجلت فى سيرها الحثي ث على‬ ‫القضبان ‪ ،‬بينما الليل يهرول حول القطار ‪.‬افترب مخلوف متوجسا ا ‪ -:‬أخشى أن يحد ث شىء !!‬ ‫بنصف عين اتجه اليه ‪ -:‬واذا حد ث ؟‬ ‫اندفع ‪ -:‬ستكون انت المسئول‬ ‫ادار وجه عنه ‪..‬انطلق حجضر قاد ضم من الظلمة ‪ ،‬تلته أحجار‪ ،‬ارتطمت بجسد القطار كمقذوفات غاضبة‬ ‫تنذر بالويل ‪ ،‬فزع البعض ‪،‬علت صيحات انطلقت صرخات ‪ ،‬اطلق منصور قذيفته الولى نحو‬ ‫الظلمة ‪ ،‬تبعها بالثانية ‪،‬رآه البعض ‪،‬فعلوا مثله ‪ ،‬تشوجع آخرون ‪،‬مضت الحجارة تشق الهواء‬ ‫متجهة الى الظلمة فى الجهة التى جاء منها الهجوم ‪ ،‬بينما القطار يطلق صفيره والعجلت تصلصل‬ ‫بعزم ماضية فى طريقها دون خوف ‪.‬‬

‫‪95‬‬


‫‪49‬‬

‫الستاذ‬

‫قست ملمحه ‪..‬قطع المسافة بينه وبين الفتى طائراا ‪..‬وقف على رأسه‬ ‫المحنية أسفل الدرج ينظر معه ‪..‬عل اللغط حوله ‪..‬انتبه الفتى ‪..‬رفع‬ ‫رأسه ‪..‬أنشب الستاذ زيدان مخالبه فى الموبايل المتوارى عن عينيه‬ ‫‪..‬نظر فى شاشته ‪..‬غرق فى بحور بلهة طارئة وأبعد عينيه مرتاعا ا ‪،‬‬ ‫أما الفتى فقد وقف داخل درجه منبسط الملمح بدون حراك ‪ ..‬فتح‬ ‫زيدان فمه باحثاا عن كلمات تناسب موقفأ لم يره قبل ‪ .‬عاجله الفتى‬ ‫قائ ا‬ ‫ل وهو يحدق فى عينيه بذات هدؤه أنه ليريد سماع شىء ‪..‬سيخرج‬ ‫وينتهى المر ‪.‬انهارت كلمات زيدان‪..‬حدق عاجز الحروف والكلمات‬ ‫مكتفياا بنظرات تشى بما فى جوفه من نيران أخيراا قال فى بطء‬ ‫ أخرج من الفصل ‪..‬لتعد ال بولى أمرك‬‫‪96‬‬


‫ضحك الولد ضحكة معجونة بل مبالة ومضى متمهل ا نحو الخارج‬ ‫‪..‬ركل الباب بقدمه بعد خروجه ليعاود إغلقه‪..‬صرخ زيدان أنه سيشكو‬ ‫لبيه ‪ ..‬سيجبره على احترام الدرس ‪.‬هدأ قليلا ثم أكمل‪-:‬‬ ‫ الولد خسارة ‪..‬ياي مرن لول بعض الصدأالذى يعوق حركته‪..‬‬‫واستدار خارجا ا من الحصة‬ ‫‪..................‬‬ ‫فى مكتب المدير أخذت صورة الولد تبدو لعينيه وهو يقول بملمحه‬ ‫المتراخية أنه ليريد أى كلم ‪.‬يقول هذا بل خوف ‪..‬ليخشى حتى من‬ ‫ضربة عصا أو ركلة قدم ‪..‬وقوف زيدان أمام السبورة كاشفا ا ظلمتها‬ ‫ببياض الطباشير عمره كله لم يشفع له اليوم أمام هذا الولد ‪ ،‬وقال له‬ ‫أمام الفصل ماقال ‪..‬طوال عمرك يازيدان تتعامل معهم على أنهم يايات‬ ‫تتفاوت قابليتها للنضغاط حسب مرونتها ونوع معدنها ‪ ،‬وتقول أن‬ ‫مهمتك الكبرى الحفاظ على ال يصدأ منها ياي‪ ..‬الولد أحداقهم تبرق‬ ‫بالذكاء لكنهم ليفقهون شيئاا ‪..‬يضغط عليهم ‪..‬يغيبون عن المدرسة‬ ‫‪..‬يطلب أولياء امورهم‪ ..‬لجدوى منهم ‪ ، .‬فما الذى جرى ؟‬ ‫‬‫‬‫‬‫‪-‬‬

‫سأله المدير ‪ -:‬مابك ؟‬ ‫هز رأسه وهو يتحامل على نفسه تاركا ا المدرسه ومن فيها الى البيت‬ ‫‪..................‬‬ ‫تحرك متوجسا ا شراا من ساقيه ‪ ..‬طالما حملتاه وسط الفصل روحة‬ ‫وإيابا ا ووقوفاا لساعات وأيام وسنين ‪ ..‬الن كولتا ‪ ،‬لم تعودا تساعداه‬ ‫على السير ‪ ،‬يضطر الى البطء فى حركته ‪ ،‬ولول حرجه من اهل‬ ‫المنطقة الذين يعرفونه ويوقرونه لجلس على أقرب مقعد أو رصيف‬ ‫يقابله بين مسافة واخرى ‪..‬اليوم بالذات يشعر أن شقاء العمر لم‬ ‫‪97‬‬


‫‪-‬‬

‫‬‫‬‫‪-‬‬

‫يثمر ‪...‬اليايات صدأت وضرب أحدها قلبه ‪..‬أصابه فى الصميم‬ ‫‪..‬الولد دوماا يخشون من صوته ‪..‬يهرولون أمام عصاته التى لم يعد‬ ‫يستعملها ‪..‬لم يحد ث قط أن تجرأ منهم لسان على الرتفاع امامه ولم‬ ‫تجرؤ رأس على عدم الخضوع لوامره ‪..‬صرت عاجزاا يازيدان ‪،‬‬ ‫وعجوزاا لجدوى منك ‪..‬لم تعد لك هيبة أمام أولدك فى البيت ول‬ ‫حتى فى المدرسة ‪..‬حتى وظيفة خيال المآتة لم تعد تصلح لها ‪!.‬‬ ‫تمنى الوصول سريعاا الى البيت ليمدد جسده على الفراش شاعراا أنه‬ ‫بين لحظة وأخرى سيسقط رغما ا عنه ‪..‬سار يحرك قدميه بالكاد‬ ‫‪..‬سمع صوتا ا‬ ‫خشنا ا ينطق باسمه آمراا إياه بالوقوف ‪ ،‬ورأى جسداا مربعا ا ينتهى‬ ‫س مظلمة يواجهه ‪ -:‬أنت زيدان ؟‬ ‫برأ ر‬ ‫رفع عينيه الى الوجه الجاحظ العينين ‪ -:‬ماذا تريد؟‬ ‫الولد الذى طردته اليوم سيعود غدا الى المدرسة ‪..‬لن‬‫تنظرنحوه‪..‬لن تفكر فى توجيه كلمة اليه ‪..‬أفهمت ؟‬

‫حدق فى وجهه الذى يحاصره بحدقتين تعومان وسط بحيرتين من دماء‬ ‫‪ ..‬نسى الم ساقيه وهمود جسده ‪..‬تنبهت حواسه ولمعت أحداقه وأقترب‬ ‫منه معترضا‪ -:‬الكلم فى المدرسة وليس هنا‬ ‫زمجر الخر ‪ -:‬بل هنا ‪.‬والن‬ ‫وامسكه من ياقة قميصه جاذباا إياه الى المام بقوة ‪ -:‬هل لديك إعتراض‬ ‫؟‬ ‫تخاذلت ساقاه نتيجة الهزة المفاجئة ولول أن الخر يمسك بياقة قميصه‬ ‫لتهاوى أرضاا ‪..‬تحامل على المه ليستمر فى الوقوف ‪ ،‬بينما أطلقه‬ ‫الخر واعطاه ظهره مدمدماا بكلمات غير مفهومة ومضى ‪..‬نظر زيدان‬ ‫‪98‬‬


‫حوله ‪..‬عيون المقهى تتابعه ‪..‬آذان الشرفات والنوافذ تترصده ‪..‬احنى‬ ‫رأسه ومضى ‪.‬‬ ‫‪.............‬‬ ‫قالت إمرأته ‪ -:‬مابك؟‬ ‫وقد طالعها وجهه على باب الشقة كاشفا ا عما بداخله ‪..‬أشاح بيده دون‬ ‫أن يمتلك ناصية الحروف ومضى الى غرفته ‪..‬أغلق بابها خلفه وهوى‬ ‫على سريره مستعيداا ماجرى ‪ ،‬تاركا ا لدموعه العنان لتنهمر على خديه‬ ‫بل توقف ‪ ،‬وكلما أجهده البكاء استعاد ماجرى فتعاود دموعه النهمار‬ ‫موبخاا نفسه انه صمت ولم يمتلك القدرة على المواجهة ‪ ،‬ولم يصر‬ ‫على رفض أى حوار بالطريق ‪ ..‬تحدثه نفسه أن الصمت فى هذه الحالة‬ ‫أجدى وأقل ضرراا ‪ ،‬يتهمها بالجبن والتخاذل ‪ ،‬شاعراا أنه بعد الن لن‬ ‫يجد وجهاا ول كرامة يواجه بها الولد ‪..‬مؤكد تناثر الخبر هنا وهناك‬ ‫وحسم المر ‪..‬غداا سيضحكون منه ‪ ،‬تمتلىء الفواه بالضحكات وهى‬ ‫تروى حكايته ‪ ،‬تتوارى العين بسخريتها منه ‪..‬الولى به أن ينسحب‬ ‫بكرامته أو ماتبقى منها ول يجازف بتلك البقية فى معركة خاسرة لن‬ ‫يجديه منها شيئاا ‪..‬دخلت زوجته تدعوه للغداء ‪..‬أغمض عينيه ولم يرد‬ ‫‪..............‬‬ ‫مجهد العقل والجسد لعلبر باب المدرسة ‪..‬التف حوله الولد ‪..‬تطايرت‬ ‫عبارات صغيرة محملة بالمشاعر ‪..‬حدق فى الوجوه ‪ ..‬صارخة بالرفض‬ ‫‪ ..‬اتسعت عيناه ‪..‬اليايات تتحرك ‪..‬لم تصدأ بعد !‪ ..‬إتسع صدره ‪..‬صار‬ ‫بحراا يهدر ماؤه بالغضب ‪..‬رفع رأسه ‪..‬تألقت عيناه فى وجه الشمس ‪،‬‬ ‫ومضى الى المام ‪..‬قابله المدير ‪.‬‬ ‫‪99‬‬


‫ لن أسكت وسوف ترى‬‫‪.‬هز رأسه بهدوء‪ -:‬بل أرى أن تسكت ‪..‬الموضوع بسيط‬ ‫وتحرك نحو الفصل ‪ ..‬رأى الولد جالسا ا فى هدوء ينظر اليه بذات‬ ‫النظرة المعجونة باللمبالة ‪..‬أشار اليه‪-:‬‬ ‫ أنت ‪ ..‬قف ‪..‬قلت لتحضر بدون ولى أمرك ‪.‬‬‫‪-‬‬

‫‪100‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.