ثأر كريمه pdf

Page 1

‫ثأر كريمه‬ ‫رواية‬

‫أطلق آهة عميقة من أغوار قلبه وهو ينقلب على وجهه ‪ ،‬آهة مفاجئة‬ ‫كمفاجئة الضربة المرتعدة التى أصابت مؤخرة رأسه فهزت الكون أمام‬ ‫عينيه ‪ ،‬ولم يدر بنفسه اال وهو يطير الى أعلى ‪ ،‬يرتفع بكل ثقله ‪،‬‬ ‫اليمتلك فرصة لمقاومة وال يستوعب اللحظة ومايراد فيها منه ‪ ،‬محموالً‬ ‫بأيدى سوداء التقطته وطارت به الى الباب الحديدى الموروب ‪ ،‬أغلقوه‬ ‫بدفعة من يد أحدهم أو إحداهن ‪ ،‬وبدأ العمل الذى من أجله اجتمعوا طيلة‬ ‫نهار األمس وبعضا ً من الليل يتباحثون حول الوسيلة التى تحقق لهم‬ ‫مايريدون بسهولة ويسر ‪ ،‬قال أحدهم لحظة بدء االجتماع ‪-:‬‬ ‫ ال أريد غلطة واحدة مهما كانت الخطة ‪.‬‬‫طمأنه اآلخر قائالً ‪-:‬‬ ‫ ندرك جيدا ً مانحن مقدمون عليه ‪ ،‬وفوق هذا سيأتى أصحابى‬‫للمساعدة‬ ‫اعترض األول ‪-:‬‬ ‫ بهذا سنضع أنفسنا راضين تحت رحمة هؤالء ‪ ،‬وقد يتكلم أحدهم ويقول‬‫كل شىء ‪ ،‬ولحظتها سينتقم رضوان ومن وراء رضوان وكل من يعرفه‬ ‫بكل ماأوتى من حقد وكراهيه ‪.‬‬ ‫قال الثانى ‪ -:‬ننتهز فرصة سفر الحاج محمد بطه ونضرب ضربتنا ‪،‬‬ ‫ننتظره فجرا ً وهو عائد من المسجد ونقوم عليه قومة رجل‬ ‫واحد ‪.‬‬ ‫‪1‬‬


‫عاد األول يعترض ‪-:‬‬ ‫ ولحظتها تصحو المنطقة كلها ويهرع اليه أوالده وأقاربه وال ننال اال‬‫الخزى ‪ .‬البد من عقابه عقابا يستظل بظله طوال عمره ‪ ،‬ويتوغل فى قلبه‬ ‫ويرسخ فى روحه مهما طال به العمر ‪.‬‬ ‫استيقظت إمرأة عجوز وجهها مظلم كروحها ‪ ،‬حاملة على مال محها فى‬ ‫منتصف الليل حقدا ً تنضح به القسمات وتنطق به العيون ‪ ،‬رمتهم بنظرات‬ ‫فيها أشواك وضيق ‪ ،‬قالت وهى تتجه الى دورة المياه ‪-:‬‬ ‫ ستظلون سنينا ً غارقين فى الحيرة بينما الحل على بعد خطوة منكم ‪.‬‬‫قال األول وهو يحدق فى نيران عينيها‪-:‬‬ ‫ كيف ؟‬‫اشاحت بوجهها عنه وهى تقول ‪-:‬‬ ‫ انتظر حتى أعود اليك‬‫مضت لشأنها حاملة تجهمها معها الى حيث افرغت جزءا ً منه فى الحمام ‪،‬‬ ‫حينما عادت أزاحت الثانى عن مقعده وأخذت مكانه ‪ ،‬حدقت فيهم طويالً‬ ‫وهم يتحاشون حثها على الكالم حتى التوجه سهام توبيخها اليهم ‪ ،‬أمسكت‬ ‫بحرف المقعد وقالت بحسم ‪-:‬‬ ‫ بعد صالة الفجر سيمر من أمام الباب الخارجى ‪ ،‬الباب سيكون‬‫موروبا ً ‪ ،‬اسحبوه الى الداخل وحذارى من إصدار أى صوت ‪ ،‬الكل‬ ‫ينقض عليه ‪ ،‬يدخل به ساحة البيت ‪ ،‬يغلق الباب ‪ ،‬يضربه مرة‬ ‫واحدة باألحذية والشوم ‪ ،‬حاذروا من استخدام أى سالح ‪ ،‬باشارة‬ ‫منى ينسحب الرجال ‪ ،‬تبقى النسوة وحدهن حوله يكملن المهمة ‪،‬‬ ‫بعدها نركله جميعا ً الى الطريق أمام بيت شتا‪ ،‬ونغلق الباب ونذهب‬ ‫للنوم ‪.‬‬ ‫تربصت األعين واألحقاد ليالً طويالً حتى أتى الفجر ‪ ،‬أذن المؤذن للصالة ‪،‬‬ ‫تابعته األعين المغلفة بالسواد من خلف األبواب والنوافذ وهو يمضى متجها ً‬ ‫الى المسجد ‪ ،‬تحفزت األحذية والشوم لإلنقضاض عليه وهو عائد شريطة‬ ‫أن يكون وحده والطريق خال والسكون مقيم ‪ ،‬رأوه وحده قادما ً ‪ ،‬خلف‬ ‫الباب الموروب تجمعوا والظلمة معهم ‪ ،‬األعين تنطق بالحقد واآلذان‬ ‫تتربص بأى صوت قد يفسد عليهم مانذروا أنفسهم له ‪،‬اقترب من الباب ‪،‬‬ ‫انطلقت الشياطين من الصدور مقتحمة الظلمة منقضة عليه ‪ ،‬رفعته األيدى‬ ‫ألعلى ‪ ،‬أيدى مذعورة متوترة وقلوب واجفة وأعين حذرة تعرف جيدا ً وتعى‬ ‫‪2‬‬


‫تمام الوعى أنه لو اتملك نفسه للحظة ألطاح بهم بال رحمة ‪ ،‬ولحظتها لن‬ ‫تنفعهم أحذية وال شوم ولصاروا مسخة وعارا ً أبد الدهر ‪ ،‬هرولت األقدام‬ ‫داخلة به باب الجحيم ‪ ،‬رمته أرضا ً وأنهالت األقدام والظلمة عليه ‪ ،‬وقد‬ ‫توحدت معها حيرة وطنين جامح فى أذنيه جعله فى حالة اليدرى معها ماذا‬ ‫يجرى معه أو له‪ ،‬امتدت يداه تلقائيا ً للصد أو الهجوم أو كليهما معا ً‬ ‫‪،‬قيدت أيدى كثيرة يديه وقدميه بحيث لم تعطه فرصة لشىء ‪.‬‬ ‫غزا خوف جامح له أسنان وأنياب وأشواك قلبه للمرة األولى فى حياته ‪،‬‬ ‫هبط عليه أو صعد اليه أو حتى أحاط كالسوار بكيانه ‪ ،‬فامتألت روحه‬ ‫برجفة لم يدر معها ولم يفكر حتى ماذا يجب عليه بالضبط أن يفعل ‪،‬‬ ‫صارت تصرفاته كلها تبعا ً إلحساسه وحده وردود فعله الطبيعية بعيدا ً عن‬ ‫اإلدراك والفهم والتفكير وماالى هذا مما يقع فى دائرة القدرة واإلختيار ‪،‬‬ ‫صار كيانا ً أسيرا ً تماما ً لما يجرى له ‪ ،‬رفعوه ألعلى ‪ ،‬فارتفع ‪ ،‬ساروا به‬ ‫داخلين من البوابة الحديدية المظلمة التى تفيض بسوادها وتقطر بحقدها‬ ‫وكراهيتها ‪ ،‬فدخل معهم ‪ ،‬والقوه أرضا ً ‪ ،‬فارتمى ‪ ،‬وبدأت الضربات‬ ‫باأليدى وما تحمله من عصى وشوم واألقدام وماترتديه من أحذية أختيرت‬ ‫بعناية فائقة ‪ ،‬مد يديه محاوالً صد الضربات والتأوه بصوت لم يكد يخرج‬ ‫من الوهن واأللم الذى يجتاح روحه خاصة إنها أول مرة يواجه فيها موقفا ً‬ ‫كهذا اليجد فيه فرصة لدفاع أو صد أو حتى هجوم بكل مايمتلك من قوة‬ ‫طالما تباهى بها وفاخر وسط الناس ‪ ،‬حاول التحرك والقيام ‪ ،‬لم يعطوه‬ ‫الفرصة لهذا ‪ ،‬حتى اذا كلت أيديهم عادوا يرفعونه ألعلى فانتفضت‬ ‫صرخاته ‪ ،‬شقت جدران الهدوء ودكت أسوار الصمت ‪ ،‬صرخات ال إرادية‬ ‫فاضت من روحه وهم يحملونه من يديه وقدميه‪ ،‬مما اضطرهم لكتم فمه‬ ‫بقطعة قماش كانت بيد أحدهم ويلقوه بعيدا ً وهم يحاذرون من أعين‬ ‫متربصة أو أذان تلتقط مايدور ‪ ،‬وعاد الباب الحديدى يغلق من جديد ‪.‬‬ ‫كانت الخطة أن يكسروا روحه بقدر ما ‪ ،‬قدر يجعله محنى القامة طالما بقى‬ ‫فى المنطقة‪ ،‬ال يفتح فمه يوما ً والينظر بعينيه وال ينطق بشىء ‪،‬قدر يجعله‬ ‫الينسى فعلتهم مادام حيا ً ‪،‬وفى ذات الوقت اليمتلك الجرأة على اإلفصاح‬ ‫عنهم وعما فعلوه معه حتى اليصبح معيرة وسط المنطقة كلها ‪،‬لذا كان‬ ‫المخطط له علقة بأيدى قوية تنسحب متسترة بالظلمة وتبقى النسوة حوله‬ ‫بعدها ‪ ،‬يراهم ويعرفهم ويفهم جيدا ً أنهن الفاعالت الغيرهن ‪ ،‬فيمضى الى‬ ‫بيته وقد تحطمت روحه تماما ً ولبسه عار الفكاك منه ‪ ،‬اال أنهم وتحت لذة‬ ‫‪3‬‬


‫ضربه وربما خوفا ً من رد فعله اذا تمكن من أحدهم ببنيانه المتين تمادوا فى‬ ‫ضربه ‪ ،‬ولم يعد الهدف كسر روح بل تحطيم جسد بكل مايمتلكون من‬ ‫إصرار حتى التقوم له ريح من جديد ‪.‬‬ ‫انسحب الرجال حسب االتفاق متلفعين بظلمة مازالت تبسط سلطانها على‬ ‫الكون ‪ ،‬وبقيت النسوة حوله ‪ ،‬تحدق فيه أعينهن متنمرة قاصدة أن يرى‬ ‫ويعرف ويتيقن أنهن نساء وإنهن الالتى قهرن رجولته ‪ ،‬رفعنه من أطرافه‬ ‫األربعة فارتفع بينهن مثل كيس من القطن الحراك وال قوة به والقينه على‬ ‫جانب الطريق ‪.‬‬ ‫قالت العجوز بشماتة ‪-:‬‬ ‫ درس صغير ‪ ،‬ال أكثر‬‫ورمت العمامة التى كانت منذ لحظات عالية متبرجة تتيه فى فضاء مجدها‬ ‫بجواره ‪ ،‬ومضين عنه الى حيث أغلقن الباب ‪ ،‬وعاد السكون ينسل خاسئا ً‬ ‫الى المكان ‪ ،‬بينما الظلمة تنحسر رويدا ً عن جسد اليمتلك من أمره اال‬ ‫تأوهات تخرج بالكاد من بقايا روح ‪.‬‬ ‫‪....................‬‬ ‫من مكانه على أرض الحارة أمام بيت شتا رأى فيما يرى التائه الذى اليمتلك‬ ‫اال الرؤية فى الغياب أو الغياب فى الرؤية رأى بنصف عينيه اذ كانت جفونه‬ ‫مطبقة على النصف اآلخر أن الظلمة بأمر أنسوى حانق قد تحولت لنور‬ ‫أسود يحيق به ويقيد عينيه وجسده وروحه ‪ ،‬و رأى حوله نسوة يعرفهن‬ ‫جيدا ‪ ،‬نسوة يحطن به وقد كشفن وجوهن وحدقن فيه بأعين حداد وقالت له‬ ‫كبيرتهن العجوز ‪-:‬‬ ‫ نحن الالتى فعلن بك هذا ‪ ،‬فإن كنت رجالً فاقتص منا‬‫وحملته من يديه وقدميه أربعه نسوة كل واحدة من ناحية وخرجن من‬ ‫الباب ‪ ،‬سرن مسافة وسط الظالم الذى تآمر معهن والهدوء الخائن الذى‬ ‫ستر خطواتهن و القينه بعيدا ‪..‬لم يدر لحظتها ماالذى يجرى له بالضبط هل‬ ‫هو كابوس أشد وأعتى من كوابيسه القديمة أم هو واقع جديد لم يتخيل‬ ‫حدوثه من قبل يحدث له ‪ ،‬وعليه أن يعيشه ويتذكره ويحفظ تفاصيله لكى‬ ‫يقتص وهذا مؤكد ‪ ،‬يجتاحه ذهول لما جرى ‪ ،‬تشتعل ذرات جسده نارا ً وهو‬ ‫يقسم بكل مقدس أن يفعل بكل من أذوه مافعلوا به وأكثر ‪..‬حاول القيام‬ ‫مستندا ً على كوعه األيمن صرخ من ظهره والنار التى سرت فى عاموده‬ ‫‪4‬‬


‫الفقرى‪ ،‬ارتمى ثانيه مكبالً بعجز الفكاك منه اضطره اضطرارا الى النظر‬ ‫وسط الظلمة محاوالً النفاذ الى وجه السماء مستغيثا ً ‪،‬عل أحدهم يراه‬ ‫ويعرفه وينقذه مما هو فيه ‪ ..‬رأى فيما يرى التائه الذى اليمتلك اال الرؤية‬ ‫فى الغياب أو الغياب فى الرؤية ‪ ،‬رأى بنصف عينيه اذ كانت جفونه مطبقة‬ ‫على النصف اآلخر حياة لم يكن فيها مجال لضعف مهما كانت األسباب ‪،‬‬ ‫بدايتها قطار من سوهاج القاه فى محطة مصر منذ سنوات طوال ‪ ،‬اليستر‬ ‫جسده اال جلباب أزرق باهت الخطوط وفى جيبه قروش تكفيه بالكاد يوما ً أو‬ ‫بعض يوم ‪،‬وفى رأسه تطن كلمات أبيه وتوصياته ‪ (..‬تنزل ميدان المحطة ‪،‬‬ ‫تسأل عن أتوبيس ميدان الحسين ‪ ،‬ومن هناك تسأل عن شارع سوق السمك‬ ‫رقم خمسه )‪ ،..‬يرددها بين الحين حتى الينسى ‪ ،‬وحينما يصل لمبتغاه يدق‬ ‫الباب على محمود حسنين ابن عم حسنين مؤذن المسجد الوحيد بالقرية ‪،‬‬ ‫والذى سبقه الى القاهرة ‪ ،‬وعمل بها ويجىء كل عدة أشهر ليمنح والده‬ ‫ماأدخره فى سفرته من أجل بناء دار له ليتزوج بها ‪ ،‬يتذكر كيف جهز له‬ ‫محمود بقجة قماش ومتر خشبى قديم ليدور بهم فى األزقة مناديا ً ‪-:‬‬ ‫ معى قماش كذا وكذا‬‫وكيف تجمع معه مبلغ أراد أن يرسله ألبيه من أجل أن تكون له دار كما‬ ‫يفعل الجميع لوال أن همس المقدس حليم فى أذنه أن يشترى دكانا ً فى سوق‬ ‫القماش قرب الموسكى ‪ ،‬ويقف فيه بدالً من بهدلة الطرقات ‪ ،‬وسوف يرى‬ ‫أن مكسبه أفضل بكثير مما سبق ‪ ،‬يرى نفسه وأخوه السيد يلحق به فى‬ ‫مصر ‪ ،‬وأخوه كمال ثم محمد ‪ ،‬وكيف تحولت الحجرة التى ينام فيها خمسة‬ ‫عشر فرد الى شقة فى شارع خان أبو طاقية ‪ ،‬ثم كيف اشترى البيت الذى‬ ‫يسكن وأوالده فيه حتى اآلن من مزاد كان يومها مطمع الكثيرين واستطاع‬ ‫أن يفوز به ‪ ،‬يتذكر أقاربه الذين اكتشف وجودهم بكثرة رهيبة فى القاهرة‬ ‫وفى وظائف سهلت له الكثير من األمور وجعلته فى سوق القماش‬ ‫والموسكى وحارة اليهود وسوق السمك من أكبر وأقوى الصعايدة جميعا‬ ‫والذى يستظل بظله الكثيرون راضين ‪ ،‬والذى يخشاه الكبير قبل الصغير فى‬ ‫المنطقة ‪ ،‬واليستطيع كائن ماكان أن يرد كلمته ‪ ،‬يتذكر أيام الفوضى التى‬ ‫ضربت البلد فترة االضطرابات السابقة ‪ ،‬وهاجس األمن الذى اجتاح الجميع‬ ‫ونزول أبناءه وأبناء إخوته وأبناء عمومته وأخواله لحراسة المنطقة كلها‬ ‫من الموسكى الى الخرنفش بهدوء وسالسة وثقة المتناهية فى النفس وفى‬ ‫قدرتهم على إعادة األمن المفقود ‪ ،‬يتذكر العمارة التى يبنيها ألوالده‬ ‫‪5‬‬


‫بالقرب من مسجد خان أبوطاقية ‪ ،‬وسعيد ابن محمد بطه الشهير ب (‬ ‫سيعا) الذى انتهز الفرصة هو وبعض زمالءه الضائعين مثله وأراد فرض‬ ‫إتاوة على المحالت وأماكن العمل والورش ومااليها ‪،‬وكيف اتصل به‬ ‫العمال يوما ً قائلين أن سيعا أمرهم بايقاف العمل لحين تحقيق مطالبه ‪،‬‬ ‫وحين سأل ماهى مطالبه ‪،‬قالوا يريد شقة كاملة كإتاوة مقابل سماحه لهم‬ ‫باستمرار العمل ‪ ،‬يتذكر ذهابه اليه فورا ً وأبناء العائلة حوله وكيف تم‬ ‫القبض عليه وعلى الثالثة الذين معه ‪ ،‬وكيف ترفق به واكتفى بضربه على‬ ‫قدميه مقسما ً أنه لوال خاطر أبيه لقتله ‪ ،‬يومها خرجت أمه وأخته وأرادتا‬ ‫الصراخ والعويل وفرجة الخلق لوال أن أمر فورا ً باعادتهن الى بيتهن بال‬ ‫إهانة تقديرا ً للحاج محمد بطه صديقه الذى يعرف جيدا ً أنه لن يغضب ليس‬ ‫عن ضعف وال عن خزى ولكن لثقته به وتقديره له واعتباره أبا ً ثانيأ‬ ‫ألوالده ‪ ،‬وفوق هذا فهو قد فاض به الكيل من سعيد وتصرفاته والشلة التى‬ ‫تسير معه وتشجعه على الفساد وعجزه عن ترويضه أو إثناءه عن تصرفاته‬ ‫التى ضجر منها القريب والبعيد ‪ ،‬يتذكر رضوان فى رقدته كيف اتصلت أم‬ ‫سعيد بالحكومه لكى تنتقم إلبنها منه وتنجده من بين يديه ‪ ،‬وكيف جاء‬ ‫الضابط واثقا ً يريد القبض على سعيد وكل الموجودين والتحقيق معهم ‪،‬‬ ‫وكيف وقف رضوان له مؤكدا ً أنه اليسلم أبناءالمنطقة للحكومة مهما كان‬ ‫‪،‬واذا أخطأ أحد فهناك كبار يمكنهم حل مشاكلهم بأنفسهم ‪ ،‬أمر الضابط‬ ‫مخبريه وعساكره بالتصرف فورا ً بالقوة ‪ ،‬أخرج رضوان مسدسه وأقسم إن‬ ‫لم يمض الضابط لحال سبيله سيرديه قتيالً ‪،‬هاج الرجل لكرامته خاصة أمام‬ ‫مخبريه ‪ ،‬توعده بأقصى العقاب ومضى ‪ ،‬بعد ذهابه مرغما اتصل رضوان‬ ‫بالمأمور موبخا ً وساخطا ً على الضباط الذين اليعرفون طباع ومبادىء‬ ‫المنطقة وأهلها ‪ ..‬يتذكر رضوان ايضا فى لمحة خاطفة كامل صاحب وكاله‬ ‫النحاس وشجاره معه هناك فى مقهى محمد بطه ‪ ،‬وإعالنه أمام الجميع أنه‬ ‫لن يشاركه فى شىء بعد اآلن لغدره بالرجل المسمى بالضبع فى منطقة‬ ‫الجمرك فى األسكندرية ‪ ،‬والذى كان ينقل لهما أخبار المزادات ومواعيدها‬ ‫والداخلين فيها وكيفية التصرف معهم‪ ،‬ووشايته للحكومة عنه‪،‬و كيف حاول‬ ‫كامل أن يبرر فعلته مقسما ً أن الضبع هو الذى بدأ بالغدر وليس هو ‪ ،‬وأن‬ ‫كل دوره كان الدفاع عن نفسه ومصالحه ‪ ،‬وكيف حاول محمد بطه التوسط‬ ‫بينهما لوال رفض رضوان وإعالنه أنه سيعمل وحده بال حاجه لشريك أو‬

‫‪6‬‬


‫غيره بعد اآلن ‪ ،‬تتالشى صورة كامل وتبرز صورة أم سعد بوجهها‬ ‫العريض وعينيها‬ ‫اللوزيتين ولسانها الذى يتدلى السعا ً أيا ً كان من حولها وهى تقف فى الفرن‬ ‫فى أخر حارة خان أبوطاقية بجوار ورشة الخشب وكيف اصطدم بها فى أول‬ ‫أمره بسبب ثوب قماش لم يعجبها فعادت لترده اليه وتطور األمر الى مشادة‬ ‫رفع يده فيها ولطمهاعلى وجهها قائالً أن النساء ليس من حقهن رفع‬ ‫صوتهن هكذا وأنه لن يتحرك من هنا وسينتظر زوجها وكل أهلها ليريهم‬ ‫أنفسهم ويعلمهم كيف تتم تربية النساء ‪ ،‬يومها انقلب سوق الموسكى وخان‬ ‫أبو طاقية والخرنفش وسوق القماش عنده فى الدكان وتحولت المنطقة‬ ‫كلها الى مؤتمر عام تدور فيه‬ ‫مجادالت ومحاورات سمع بها القاصى والدانى وانتهى األمر لمجلس عرفى‬ ‫يجمع كبار المنطقة لتسوية األمر وانهاء الخالف وديا ً وبعيدا ً عن المنازعات‬ ‫التى قد تطول بال داع ٍ ‪ ،‬يومها تم تغريمه بمبلغ كبير وفرض عليه ترضية‬ ‫المعلمة أم سعد ‪ ،‬وكذلك كتابة شيك على بياض على كل منهما فى حالة‬ ‫إخالله باالتفاق يتم تقديمه للنيابه مهما كان المخالف ‪.‬‬ ‫يومها مد يده بالنقود الى أم سعد ‪ ،‬أخذتهم منه ثم بهدوء وأنفة ثم أعادتهم‬ ‫اليه وقالت لست بحاجة لنقود ‪ ،‬تكفينى كلمة اعتذار أمام الناس خاصة‬ ‫حينما تجىء من رضوان ‪ ،‬وبدأت بعدها مسيرة صداقة واعجاب انتهت‬ ‫بزواج لم يستمر طويال واتفقا بعدها على الطالق ‪ .‬تتالشى صورة أم سعد‬ ‫ويعود الظالم ثانية والوجوه الشبحية والنسوةالمتوحشات وهن يحطن به ‪،‬‬ ‫‪ ،‬يقسمن أن يجعلنه عبرة لمن يعتبر ‪ ،‬يوجهن اليه رسالة مفادها أنه لن‬ ‫يرفع رأسه بعد اآلن ولن يمتلك القدرة على التصريح بأن الفاعالت نسوة‬ ‫‪..‬تجحظ عيناه وتختنق أنفاسه يحدق فى بواكير الصباح التى تصر على‬ ‫اقتحام عينيه متشبثا ً بكل مافى روحه من حنق ‪ ،‬رافضا ً كلمة االنهيار أو‬ ‫معناها ‪ ،‬نابشا ً بأصابعه فى التراب محاوال ً التحرك وقهر اللحظة بكل مافيها‬ ‫من ضعف ‪ ،‬محاوالً كتم تأوهات التليق بمثله مهما كانت الظروف التى تحيط‬ ‫به ‪ ،‬يتحسس جسده ‪ ،‬تنغمس أصابعه فى دماء اليدرى من أين ‪ ،‬تثور‬ ‫الرياح فى فضاء روحه عاتية ‪ ،‬يحاول الحركة مستميتا ً للقيام أو على األقل‬ ‫للعودة الى بيته القريب ‪ ،‬يسب الضعف والضعفاء والعجز الذى يقهر الرجال‬ ‫لكنه لن يقهره مهما أوتى من عنف ومهما اجتاح جسده أو أجهز على‬ ‫حركته وعنفوانه ‪ ،‬يمد يديه على ضوء الصبح النابض بالحياة ناشبا ً‬ ‫‪7‬‬


‫أظفاره فى األرض بكل مابقى من قواه مواجها ً اللحظة ورهبتها وحينما يرى‬ ‫أن الفكاك من مماهو فيه ‪ ،‬يصب جام غضبه على األرض التى التعى من‬ ‫تحمل وال كيف تتعامل معه ‪ ،‬يخمش وجهها بأصابعه بكل مابقى من قوته‬ ‫ويحفر على محياها وجوها ً اليريد للحظة أن تفلت سماتها من مخيلته ‪،‬‬ ‫مقسما ً أنه لو قدر له أن يعيش ويقف على قدميه من جديد سيجعلهن وكل‬ ‫من يمت اليهن بصلة عبرة للجمالية كلها ‪................... .‬‬ ‫إستيقظت أم جابر كعادتها في موعد إستيقاظ الطيور في الفناء الخلفي للبيت‬ ‫‪ ،‬قامت برغم شكواها المستمرة من الم ساقيها ومايسببه لها ‪-‬خاصة فى‬ ‫أيامها األخيرة ‪ -‬من معاناة وهى تتحرك رغما ً عنها محنية الظهر قليالً‬ ‫بوزنها الثقيل ‪ ،‬محاولة االستمرار فى بذل جهد لم تعد تستطيعه رغم‬ ‫محاولتها المضية قهره ‪ ،‬أو حتى مجرد التعايش معه أو تناسيه خاصة فيما‬ ‫زمن مكتفيا ً‬ ‫يخص زوجها رضوان ‪ ،‬الذى بدأ واقعيا ً البعد عنها جسديا ً منذ‬ ‫ٍ‬ ‫بابداء ود خالص وتقدير صادق لها ورعاية واهتمام يغنيها عن قول شىء‬ ‫أو مجرد التلميح الى شىء ‪ ،‬فهى قد عبرت المرحلة التى تطلب فيها أو‬ ‫حتى ترغب عنادا ً وتحديا ً حقها الجسدى من زوجها ‪ ،‬ربما لعمرها ‪ ،‬وربما‬ ‫لمرضها الذى حول اهتمامها الى أشياء أخرى ‪ ،‬وتكتفى حاليا ً بالرضاء‬ ‫والسرور كلما تذكر أن يقضى ليلة الى جوارها بسريرها ‪ ،‬فإن لم يفعل‬ ‫فالشىء عليه ‪،‬وهى لو ذبحوها لن تجرؤ أو يدور بخلدها لحظة واحدة أن‬ ‫تبدى له شيئا ً أو حتى تشعره بشىء ‪ ،‬كريمه هناك أصغر وأصبى وطوال‬ ‫عمرها أرق طبعا وأحلى سمات وحجرتها مثلها تفيض بما تبديه بنات‬ ‫المدينة من سحر ودالل ‪.‬‬ ‫قامت من سريرها محاولة التغلب على الم ينشب مخالبه فى ساقيها ‪ ،‬رافعة‬ ‫صوتها بأنين خافت واثقة أنها بالحجرة وحدها ولن يرى أو يسمع أحد ما‬ ‫صوتها ‪ ،‬مضت أوال ً الى المطبخ ‪ .‬أخرجت أواني الطعام من الثالجة الى‬ ‫البوتجاز وأشعلت النار ‪،‬جاعلة مفاتيح الغاز على أقل درجة لحين عودتها ‪،‬‬ ‫وتركت المكان الى الطيور فى الفناء ‪ ،‬تبسمت عيناها كعادتها كلما اقتربت‬ ‫‪8‬‬


‫من الحظيرة صباحا ً وهشوا لها وصاحوا مرحبين بقدومها‪ ،‬لحظتها تشعر‬ ‫أنهم شىء عزيز منها ‪ ،‬أقارب تعيش معهم الصدق والبراءة والبعد عن‬ ‫النفاق الذى التتقنه وال تحب حتى سيرته ‪ ،‬تبسمت عيناها وهى تقترب منهم‬ ‫‪ ،‬هؤالء العفاريت يعرفون خطوتها ‪ ،‬يدورون فى مكانهم مستقبلين الباب‬ ‫وهى تقترب ‪ ،‬وحينما تمد يدها يرفعون أفواههم اليها ‪ ،‬تراهم أطفاالً مثل‬ ‫أوالدها وهم صغار ‪ ،‬تسعد بالقرب منهم ‪ ،‬كثيرا ً ماكانت تأتى بمقعد المطبخ‬ ‫الصغير وتعطى ظهرها للحظيرة وتجلس سابحة فى ملكوت هللا ‪ ،‬تشكو له‬ ‫سبحانه مايفور بقلبها من الم غيرة التطاق التستطيع أن تنطق بحرف منها‬ ‫وال حتى تبدى تلميحا ً وال تصريحا ً مايؤرق ليلها ويسلب الراحة من قلبها‬ ‫ويمأل صدرها بنيران اليهدأ لها إوار ‪ ،‬زواج رضوان بهذه المرأة قسم‬ ‫ظهرها ‪ ،‬هى التى لم تعتد أن تظهر له اال االحترام الواجب على الزوجة أما‬ ‫اكثر من هذا وخاصة ماتبديه بنات المدينة من االعيب وسحر ونعومة فى‬ ‫القول والحركات كلها أشياء التجيدها ‪ ،‬بل هى تأباها وتأبى أن تقرب شيئا ً‬ ‫منها ‪ ،‬هى مثالً لم تجرؤ يوما ً أن تقول له أحبك يارضوان ‪ ،‬تشعر أنها لو‬ ‫نطقتها يوما ً سيهيج الصعيد كله عليها وربما قاطعها أهلها أو طلقها زوجها‬ ‫وعايرها بقولها ‪ ،‬رغم أن أفعالها جميعا ً منذ أتى بها من سوهاج تنطق‬ ‫وتصرخ وتؤكد بأغلظ االيامانات أنه رجلها الذى الرجل فى الكون غيره وأنه‬ ‫اآلمر الناهى وأنه السيد الذى السيد غيره ‪ ،‬وفوق هذا فهى تقرأ وجهه جيدا ً‬ ‫‪ ،‬تغوص فى عينيه ‪ ،‬تنغمس كليا ً فى سماته وتعبيرات وجهه وتهتم بكل‬ ‫بادرة تلوح منه ‪ ،‬فاذا ماأراد محادثتها وبثها بعضا ً مما به وجد آذانا ً صاغية‬ ‫وعقالً راجحا ً ورأيا جادا ً مثمرا ً ‪ ،‬تتكلم معه ‪ ،‬تحاوره وتناقشه وتسأله‬ ‫وتقنعه بما تريد ‪ ،‬لذا فرغم تحول العالقة بينهما ظل رضوان يصادقها‬ ‫ويجىء اليها راغبا ً وإن كانت األسباب قد اختلفت عن ذى قبل ‪.‬‬ ‫فى هذا الصباح جاءت الى الطيور فى الفناء الخلفى للبيت ‪ ،‬سيرها الوئيد‬ ‫رغما ً عنها يشعرها بكسل هؤالء األوالد الذين لم تعد فى قلوبهم أحاسيس‬

‫‪9‬‬


‫وال مشاعر مثل األمس ‪ ،‬أوالد األمس كانوا يشعرون بأبائهم وأمهاتهم ‪،‬‬ ‫كانوا يخجلون من أى فعل قد تغضب األهل ‪ ،‬أما شباب اليوم !!‬ ‫تحلقت الطيور حولها مظهرة بهجة وصياحا ً عاليا ً فابتهجت نظراتها ‪ ،‬راحت‬ ‫تنظف أنية الماء وتعيد ملئها وتنقى أنية الطعام وتضعه فيها ‪،‬ترقبهم وقد‬ ‫تشاغلوا عنها بالصراع على الوثوب للوصول الى الطعام أوال وربما خطفه‬ ‫من أفواه بعضهم ‪ ،‬حتى إذا إطمأنت اليهم عادت الى المطبخ وبدأت في‬ ‫إعداد أطباق اإلفطار ‪ ،‬انتظارا ً إلستيقاظ الحاج رضوان من نومه ليأخذ‬ ‫حمامه ويجىء الى حجرتها ‪ ،‬يجلس الى المائدة ‪ ،‬يجد كما تعود الطعام‬ ‫ساخنا ً ‪ ،‬وهى الى جواره تقوم على خدمته ‪ ،‬حتى إذا ما انتهى كانت كوب‬ ‫الشاي جاهزة ‪ ،‬يرتشفها ويسأل أسئلته اليومية المعتادة عن األوالد‬ ‫وظروف البيت وماجد من مشكالت خاتما ً كالمه بسؤالها هل تحتاج لشىء‬ ‫بعدها يلقي السالم ويمضي الى حال سبيله ‪ ،‬أما هي فتبدأ مرحلة جديدة من‬ ‫يومها‪ .‬توقظ رضا لتساعدها في عمل البيت ‪ ،‬ومتى قامت تركتها الى‬ ‫أخوتها جابر ومحمد ‪ ،‬ليقوم كل منهما من نومه فيجد إفطاره ويلبس‬ ‫مالبسه ‪ ،‬يذهب جابر الى عمله ومحمد الى المدرسة‪ .‬وبإنتهاء هذه المرحلة‬ ‫تكون قد تفرغت ورضا للبيت ‪ ،‬تنظيف هذا وفرش تلك دون كالل ‪ ،‬الى أن‬ ‫يأتي جابر بالخضر والفاكهة قبل الظهر بقليل ‪ ،‬وهنا تبدأ مرحلة جديدة‬ ‫إلعداد الطعام‪.‬‬ ‫وصل الخبر الى البيت ‪.‬‬ ‫كان الباب موروبا ً مايزال ‪ ،‬قدر ضئيل اليكاد يرى على البعد منذ تركه‬ ‫رضوان قبل الفجر ‪ ،‬الهدوء يدور فى الطريق كعادته باحثا ً عن صوت هنا‬ ‫أو هناك ‪ ،‬بينما الشمس تسطو على جدار ويمتنع عليها آخر‪ ،‬وجابر واقع‬ ‫فى تحقيق يحذر منه عادة وهو يرد على استفسارات أمه بخصوص الدكان‬ ‫ومايحتاجه من بضاعة وتكاسل المصنع المورد وماعليه أن يفعله حتى‬ ‫اليفاجىء بالدكان فارغا ً ولحظتها لن ينفع ندم والتبرير ‪ ،‬وأخيه محمد‬ ‫‪10‬‬


‫يغتسل ويجهز مالبس المدرسة ويسأل عن سندوتشاته الذى سيأخذها معه ‪،‬‬ ‫وأختهم رضا بين الحجرة والمطبخ منهمكة فى نقل األنية الى المائدة ‪.‬‬ ‫سمعوا الصوت يعبر الباب الحديدي الى الفناء صارخا ً ‪:-‬‬ ‫ ياأهل البيت‪ ..‬الحقوا الحاج رضوان‬‫اتسعت الصدور لبراح من قلق دهمهم ‪ ،‬فارت فى العيون براكين دهشة‬ ‫وانطلقوا يهرولون مندفعين الى الخارج ‪ ،‬كانت كريمه الزوجة الثانية‬ ‫للحاج والتى بات بحجرتها ليلة البارحة قد ظنته بعد الصالة قد مضى لحجرة‬ ‫إعتماد فى شأن من شؤونه كعادته فلم تلق باالً لغيابه ‪ ،‬فلما جاء الناعى‬ ‫وقفت على السور الحديدي تطل من الدور الثاني تستطلع األمر ‪ ،‬سمعت‬ ‫الخبر ‪ ،‬دقت صدرها بيدها واطلقت صيحة هائلة هرولت على أثرها الى‬ ‫أسفل حافية القدمين الى الطريق ‪ ،‬الى جوارها إبنها سالمة بمالبس‬ ‫المدرسة ‪ ،‬حدجتها إعتماد بنظرة غاضبة وهى تراها بمالبس البيت الخفيفة‬ ‫تهرول الى الطريق ‪ ،‬لكن الوقت لم يسمح بأكثر من هذا ‪ ،‬وكذلك الخوف‬ ‫الغامر الذى فاض على قلبها ‪ ،‬كان أهل المنطقة قد تجمعوا ‪ ،‬وجوه لم‬ ‫تغتسل بعد ‪ ،‬ووجوه تحمل عيونا ً صماء ترى وال تبصر ‪ ،‬ووجوه تحمل‬ ‫عيونا ً نارها تتأجج بال انتهاء‪ ،‬ووجوه بها عيون يفيض ثليجها على براح‬ ‫السمات ‪ ،‬بدأت أعدادهم تكثر في فناء البيت ‪ ،‬تطوع الحاج كامل الذى جاء‬ ‫دون عمامته مرتديا ً جلباب النوم بذقنه النابتة وعينيه المتسعتين الممتلئتين‬ ‫بالعماص وجسده العريض بفتح الباب الحديدي على إتساعه ليزيد من‬ ‫األعداد الداخلة‪ .‬صرخت كريمه تحادث الغيم الراكض فى براح صدرها ‪:-‬‬ ‫ ماذا جرى ؟‬‫لم يبال أحد بالرد ‪ ،‬عال اللغط وكثرت األصوات واختلطت الى الدرجة التي لم‬ ‫تفهم منها شيئاً‪ .‬صرخت إعتماد التى جاءت بجسدها الثقيل تكافح لتتسع‬ ‫خطوتها ‪ ،‬ويدها تستند على يد رضا التى فاضت دموعها وتحول لون‬ ‫وجهها الى اصفرار مقيم ‪:-‬‬

‫‪11‬‬


‫ ماله الحاج ؟‬‫قال الناعي باكيا ً ‪:-‬‬ ‫ وجدته هكذا‬‫كان الجسد الفارع ممدا ً على األرض والدماء تغطى مالبسه والى جواره أمام‬ ‫بيت شتا بمدخله الكبير بدا رسم على األرض بالدماء لوجه أنثوى على‬ ‫مايبدو ذو حجم كبير والى جواره وبحجم أصغر وجوه ثالثة أخرى أحدهم‬ ‫تقريبا ً ألنثى ثانية واآلخرين لرجال ‪ ،‬حاول الجمع الحاشد تحديد ماهيتهم ‪،‬‬ ‫ولمن بالضبط دون جدوى‪ ،‬واضح أنه رسمهم بأصابعه قبل أن يغيب عن‬ ‫الوعي ‪.‬‬ ‫وصل جابر الى بيت شتا ‪ ،‬مضى الى جسد والده الساكن متفحصا ً وعيناه‬ ‫تفيضان بصراخ صامت ‪ ،‬ويداه ترجفان وهو يحاول قدر االمكان التماسك‬ ‫أمام الخلق ‪ ،‬اقترب من جسد أبيه ‪ ،‬أمسك رسغه ‪ ،‬وضع رأسه على صدره‬ ‫‪ ،‬قال لكامل الذى كان بجواره‪-:‬‬ ‫ اطلب االسعاف‬‫اقترب الحاج محمد بطه مقترحاً‪-:‬‬ ‫ نحمله بعربتى الى المستشفى‬‫مبتعدا ً ليحضرها ‪ ،‬اقترب بها سريعا ً ‪ ،‬مدوا أيديهم جابر ومحمد بطه وكامل‬ ‫لرفعه عن األرض ‪ ،‬ارتفعت صرخة خاقته منه جعلتهم يبتعدون عنه ‪،‬‬ ‫واتصل بطه باالسعاف فورا ً ‪.‬‬ ‫وقف جابر أمام جسد والده ال يكاد يصدق ما يرى‪ .‬يتأمل المنظر ويحاول‬ ‫إستيعابه ‪ ،‬يدور حول المكان مترقبا ً متربصا ً باحثا ً عن إشارة او شئ يجلي‬ ‫له األمر دون جدوى‪.‬‬

‫‪12‬‬


‫يحدق فى الصور المرسومة بدماء أبيه ‪ ،‬يسأل نفسه ويدور بعينيه على من‬ ‫حوله لعل أحدهم يفسر أو يفهم أو يعرف لمن هذه الرسوم ولماذا رسمها‬ ‫ولماذا هم امرأتان ورجالن وليس أربعة رجال مثال ؟‬ ‫عيناه فيهما حيرة من يستيقظ من حلم حلو على واقع كئيب ‪ ،‬أو من يسقط‬ ‫فجأة من فوق األرض الى هاوية كان عنها بمنأى ‪ ،‬وقلبه يضرب الدماء‬ ‫بقوة ‪ ،‬يدفعها بعنف ‪ ،‬يدقها الى سائر الجسد بقسوة ‪ ،‬ويداه تتصلبان ‪،‬‬ ‫تتكور قبضتهما ‪ ،‬ويكز على أسنانه محاوال ً كتم صرخة تأبى إال أن تصدر‬ ‫عنه‪.‬‬ ‫وحوله أهل البيت وصراخهم يسبقهم ‪ ،‬بينما رجال من العائلة يحيطون‬ ‫بالمكان ‪ ،‬أخوة رضوان السيد وكمال ومحمد وأبناء عمومته وأخواله‬ ‫يسألون ويتقصون عمن فعلوا هذا دون جدوى‪.‬‬ ‫تعالت الصرخات المحزونة المقهورة من كريمه‬ ‫ ياحبيبي يا خويا‬‫ومعها رضا ‪-:‬‬ ‫ يا حبيبي يابابا‬‫اما اعتماد فقد انزوت فى مكانها جاحظة العيون وعلى محياها ذهول ينشب‬ ‫أظفاره فى سماتها كلها ‪ ،‬يشل جسدها وهى تتمتم يا حرقة قلبي بعدك‬ ‫السيد شقيق رضوان رأى أن األمر قد زاد عن حده‪ ،‬الخالئق تتفرج بال‬ ‫مبرر بالمرة ‪ ،‬حريم أخيه وأوالده فقدوا وعيهم وادراكهم وتركوا العيون‬ ‫تأكلهم ‪..‬تقدم وهو يزيح بكفه العريض األجساد المتراصة من حوله ‪،‬‬ ‫عمامته البيضاء تسبقه ‪ ،‬شاربه الكث يتحرك حركات ترددية ثابتة ‪ ،‬بينما‬ ‫صدره الضخم يمور مورا ً ‪ ،‬وتكسو نظرات عينيه حدة تهز القلوب‪ .‬قال‬ ‫بصوت حاول قدر إمكانه أن يكسوه الثبات‪:-‬‬ ‫‪13‬‬


‫ جابر‪ ..‬خذ أمك وأخوتك للبيت وارجع الى‬‫وإستدار الى كريمه بهدوء مفتعل وبقوة متحكمة‪-:‬‬ ‫ وانتي يا أم سالمة معهم ‪.‬‬‫واستدار مواجها ً الوجوه المتراصة واآلذان المحلقة ‪-:‬‬ ‫ خالص ياجماعه اذهبوا اآلن‬‫وهو يدفعهم بيديه دون أن يفرق بين قريب وغريب ‪.‬‬ ‫‪........................‬‬ ‫جلس جابر بين أمه وأخوته في حجرة األم صامتين‪ .‬يغوص كل منهم في‬ ‫مشاعره وأفكاره‪ .‬يدور في هوة خواطره ويسيح مع فضاء أحاسيسه غير‬ ‫منتبه لمن حوله ‪ ،‬وإن كانت األفكار كلها والمشاعر رغم تباينها تدور حول‬ ‫شخص واحد‪ ..‬رضوان‪ ..‬والمستشفى العام فى الدراسة ‪ ،‬وحديث األطباء‬ ‫الذين شرحوا كيف تعرض لضرب مبرح أدى الى كسر بالعودى الفقارى ‪،‬‬ ‫أدى بدوره الى تأثيرات أخرى على أجزاء من الجسد شملت الجانب األيمن‬ ‫منه وأن األمر يحتاج الى عمليه عاجلة ‪ ،‬بعدها نرى اذا كان الوضع‬ ‫سيتحسن أم سيحتاج لعمليات أخرى ‪..‬الحجرة واسعة من البناء القديم ‪ ،‬بها‬ ‫أربع من النوافذ ذات الشيش الطويل المقسوم نصفين أعلى واسفل‪ .‬األسفل‬ ‫طوله ضعف األعلى تقريبا ً ‪ ،‬ولكل منهما ضلفتان يتم فتحهما على الحارة‬ ‫عند الحاجة‪ .‬نافذتان تطالن على الحارة من جهة ‪ ،‬ونافذتان تطالن عليها‬ ‫من جهة أخرى ‪ ،‬يبنما السقف يسمق الى أعلى في شموخ برسومه وزيناته‬ ‫والوانه التى رغم قدمها ماتزال تحتفظ برحيق الجمال ‪ ،‬أما الباب وخشب‬ ‫النوافذ فمن نوع مصقول مدكوك يمتاز بالمتانة ‪ ،‬وفي ذات الوقت برقة‬ ‫الذوق وجمال الصنعة‪.‬‬ ‫تجلس إعتماد على سريرها في أقصى الحجرة ‪ ،‬عيناها قد جف دمعها ‪ ،‬ولم‬ ‫تعد تدرك مما حولها إال أجسادا ً تتحرك ‪ ،‬ال تهتم بماهيتها وال لمن ‪ ،‬وجهها‬ ‫‪14‬‬


‫مرفوع ألعلى ينظر الى الشئ ‪ ،‬تدور بنظراتها بين الحين والحين في المكان‬ ‫‪ ،‬ثم ترمي برأسها الى أدنى وتنطق بكلمة أو تشير بيدها ‪ ،‬ثم تعود الى‬ ‫ماكانت عليه ‪ ،‬بينما السرير النحاسي بأعمدته األربعة وبأستاره المسدلة‬ ‫يبدو كعرين مضى ساكنه ولم يعد له إال الدموع‪.‬‬ ‫والى اليمين مستندا ً على الدوالب الكبير ( الذي يأخذ نصف الجدار تقريبا ً‬ ‫بنقوشه وتعاريجه وقوة بنيانه ) جلس جابر على حشية فوق السجادة‬ ‫المفروشة على األرض ‪ ،‬يده اليمنى مسندة على ركبته ‪ ،‬وكفها يسند خده‪.‬‬ ‫‪ ،‬يبحث فى فراغ مخيلته عن صور بالمنطقة تطابق أصحاب الصور األربعة‬ ‫الذى رسمها أبوه على األرض أمام بيت شتا ‪ ،‬أبوه ترك رسالة له وحده ‪،‬‬ ‫حفرها بأظافره ورسمها بدماءه ولن يهدأ ولن يستقر قبل أن يقرأ مافيها‬ ‫ويفهم مدلولها ويعرف أصحابها وينتقم منهم ولو كانو فى أقصى مكان فى‬ ‫األرض أو أعلى مكان فى الكون ‪ ،‬المشكلة أن الصور على مافهم منها‬ ‫إلمرأتين ورجلين ‪ ،‬لماذا قسمها هكذا وهل شارك فى االعتداء نساء؟ أبوه‬ ‫لن يفعل هذا هباء ‪ ،‬ولن يخرج من دائرة األلم ليرسم هذه الصور لغير‬ ‫ماغرض ‪ ،‬هو يدلهم على الجناه وعليهم أن يصلوا اليهم ‪ ،‬وسأصل ياأبى ‪،‬‬ ‫أقسم لك ‪.‬‬ ‫بينما رضا الى جواره تنظر هنا وهناك بعينين قلقتين ‪ ،‬تنتظر فرصة لتخرج‬ ‫أيهما عن صمته ‪ ،‬رضا إبنة الخامسة عشرة عاما ‪ ،‬تدرك جيدا ً مايدور‬ ‫حولها ‪ ، ،‬هى أم أمها وحبيبتها ‪ ،‬تدور فى فلكها والتبرح الدائرة من حولها‬ ‫‪ ،‬خاصة بعد مرضها وقلة حركتها‪ ،‬علمتها إعتماد منذ كانت صغيرة كيف‬ ‫تعتمد على نفسها فى شئون البيت ‪ ،‬كيف تدير تلك المملكة الصغيرة بجدارة‬ ‫واتقان الى الدرجة التى صار اإلعتماد عليها شيئا ً عاديا ً وأمرا ً مفروغا ً منه‬ ‫برضا ها ورضاءالجميع بما فيهم والدها الذى كان يرى فيها أم أمها ‪،‬‬ ‫يضحك العتماد ويسألها عن أمها التى تتولى رعايتها ‪ ،‬تقول بجد ‪-:‬‬ ‫ البنت فى الصعيد تتولى المسئولية وهى أصغر من هذا بكثير ‪ ،‬مثل‬‫الولد تماما ً ‪ ،‬تتولى منذ صغرها أمور الحياة اليومية وتعيشها وتتحمل‬ ‫‪15‬‬


‫مشاقها ليشتد عودها ويقوى وتكون وتدا ً لبيت وجدارا ً صلدا ً متى أراد‬ ‫رجلها أن يستند عليه ‪.‬‬ ‫ظل السكون فاردا ً جناحيه في المكان ‪ ،‬معششا ً في األركان بينما صورة‬ ‫الحاج في مواجهة الداخل من الباب مصرة على التحديق فيه ومعرفة‬ ‫كينونته ‪ ،‬صورة كبيرة تأخذ مساحة من الجدار ‪ ،‬في إطارها المزخرف‬ ‫بماء الذهب ‪ ،‬الذي يشد النظر بروعته‪ .‬ينظر الحاج في ثقة بشاربه المنمق‬ ‫وخدوده المتوردة وجبهته الشماء نظرة تحمل بين الطيبة والحسم ‪ ،‬القوة‬ ‫والعطف ‪ ،‬والشدة والتسامح‪ .‬بينما يبدو من جلبابه األزرق والشال اللبني‬ ‫الذي يرتمي على كتفه األيمن الى جوار فتحة الجلباب التي تكشف أزرار‬ ‫الصديري األبيض ‪ ،‬يبدو من كل هذا حسن هندامه ومكانته في المنطقة ‪.‬‬ ‫أخذ جابر بين الحين والحين يلقي بنظرات خاطفة الى الصورة ‪ ،‬يتأمل‬ ‫العينين‪ ..‬محال أن يكون هذا الوجه لعاجز اآلن ‪ ،‬إنه ينبض بالصحة‪ .‬حدقتاه‬ ‫فى الصورة تبرقان كعادته وهو ينظر اليك ‪ .‬هذا الحاج التي كانت كف يده‬ ‫تشهد بها المنطقة كلها والمناطق التي حولها والذي كانت تهابه األيدي‬ ‫اآلثمة وتحسب له الف حساب‪ ،‬الذي كان صديق الفتوات وحبيب الكبراء من‬ ‫معلمين الحارات‪ ..‬معقول يحدث هذا له ‪ ،‬وعلى يد جبناء خونة لم يستطيعوا‬ ‫مواجهته فى النور فاصطادوه فى الظالم ‪ ،‬ولم يستطيعوا إتيانه من الوجه‬ ‫فتسللوا اليه وضربوه فى الظهر ؟‬ ‫ينظر جابر الى العينين ‪ ،‬العينان تنطقان ‪.‬‬ ‫ جابر إنتبه ألبيك‪.‬‬‫الصوت صوته بهدوئه وقوته‪.‬‬ ‫ لبيك يا أبتي‪.‬‬‫يرفع جابر رأسه محدقا ً في وجه أبيه‪ .‬القسمات تتحرك‪ ..‬يقسم أنها تتحرك‪..‬‬ ‫الكلمات ينطق بها اللسان‪ .‬تخرج من الفم‪.‬‬

‫‪16‬‬


‫ ابحث عمن تجرأ وفعلها ؟‬‫ أقسم سأعرف‪ ،‬ولن أتركه‪.‬‬‫تتكور اليد ويتصلب الجسد‪ ،‬تتفجر الدماء فى كافة أنحاء الجسد راسمة ثورة‬ ‫التهدأ ‪ ،‬تستجيب لها الخاليا وتشارك فيها النبضات ‪ ،‬تعبر عنها السنة‬ ‫اللهيب المتطاير من جحيم العيون ‪ ،‬يتلقى دفعة في كتفه‪ ،‬ينتفض خارجا ً‬ ‫من سطوة شرودة الى عينى رضا المتربصتين به ‪ ،‬يرمقها بغضب‪ ،‬تشير‬ ‫الى أمه إعتماد التي نامت وهي جالسة ‪ ،‬يذهب إليها ‪ ،‬يربت كتفها لترفع‬ ‫رأسها التي مالت على صدرها‪-:‬‬ ‫ إفردي جسدك على السرير‪.‬‬‫تنظر بحدقتين ثابتين اليه‪ .‬رموشها ال تتحرك‪ .‬تمسك بيده ‪:-‬‬ ‫ لن يخرج األمر عن إثنين‬‫إما أم سعد وهذا أرجح أو المعلم كامل‬ ‫ ولم التقولين الولد ابن محمد بطه ؟‬‫ ال ‪ ،‬ال ‪ ،‬اليجرؤ على فعل كهذا ‪ ،‬أبوه يمنعه ولو قتله‬‫تتدخل رضا‪ -:‬أو قد يكون الضابط الذى طرده أبوك من المنطقة‬ ‫يستدير بوجهه نحوها ‪-:‬‬ ‫ انتقل من القسم وال أظنه يعود فى الفجر ويؤجر قوما ً ليفعل هذا‬‫تعاود إعتماد الكالم ‪-:‬‬ ‫ هو كما قلت لك‪.‬‬‫يربت كتفها برفق‪:-‬‬ ‫ لن نترك ثأرنا‪.‬‬‫تتنمر عيناها ويفور الغضب على براح وجهها ‪-:‬‬ ‫‪17‬‬


‫ ثأرك أنت‪ ..‬أنت وحدك‪ .‬تحرم علي ليوم‬‫الدين إن تركت غيرك يأخذ ثأر أبيك‪.‬‬ ‫يعلو صوتها الواهن ‪ ،‬يمنحه الغضب قوة‪ ،‬تعيد تأكيدها عليه‪ ،‬يدور عنها‬ ‫الى الردهة خارجا ً ‪ ،‬معها الحق ‪ ،‬لن يخرج األمر عن إثنين ‪ ،‬المعلم كامل‬ ‫الذي أراد أن يتطاول على الحاج في محله وسط المعلمين ‪ ،‬فعلمه كيف‬ ‫يتحدث معه وكيف يكون الوقوف امامه‬ ‫أو أم سعد وظني يقول انها هي‪.‬‬ ‫لن يجئ هذا التدبير إال منها‪ ،‬طالق الحاج لها بعد زواج لم يدم شهرا ً غرس‬ ‫في قلبها الحقد ‪ ،‬فأطلقت لسانها عليه ‪ ،‬فلما لم يجد إضطرت للعنف‪ .‬لكن‬ ‫يصل للقتل يا أم سعد ؟‬ ‫لم يكفها الفرن الذي ورثته عن زوجها الثاني ‪ ،‬ولم يمأل عينيها – سعد‬ ‫وشعراوي وصفاء أوالدها –فشاغلت الحاج رضوان حتى شغلته ‪ ،‬بدأ‬ ‫يعرف طريق الفرن ‪ ،‬وحين أحست منه الميل تزوجته وهي تمني النفس‬ ‫بمكانة وسط التجار‪ ،‬ونقود سائلة تعيد بها تأسيس الفرن وتجديده وتوسيعه‬ ‫على حسابه‪ .‬ولما رفض طلبتها المتوالية وشعرت أن أمرها مكشوف له‬ ‫إفتعلت الخالفات معه ‪ ،‬لم يكفها أنه ترك زوجتيه إعتماد وكريمه في البيت‬ ‫الكبير وتفرغ لها‪ .‬األكثر من ذلك أن أوالدها سعد وشعراوي أرادا أن يجربا‬ ‫حظهما معه ‪ ،‬كأنهما ال يعرفان من هو‪ ،‬يومها وقفت الحارة على ساق‬ ‫واحدة تتفرج على رجال بشوارب يجرون صارخين ‪ ،‬وتم الطالق‪ .‬أرسل لها‬ ‫ورقتها وعاد لبيته‪ .‬ولم تنسها له‪.‬‬ ‫أكيد هي ‪ .‬وإال من يكون ؟‬ ‫كانت الردهة التي يجلس فيها تحتوي على مائدة سفرة ذات زجاج مصقول‬ ‫وحواف منقوشة بنقوش دقيقة يدوية لورود وطيور صادحة بينما قوائمها‬ ‫قد قدت بأشكال حيوانات باهرة الصنعة وقد صفت حولها مقاعد من طراز‬ ‫‪18‬‬


‫رغم عراقته مازال محتفظا ً بمتانته ولونه البنى الخفيف ‪ ،‬والى يسار‬ ‫المائدة قليالً صف أنتريه من األرابيسك المطعم بالصدف التقطه الحاج من‬ ‫أحد المزادات منذ سنوات‪ .‬وفي مواجهة األنتريه مباشرة وعلى بعد أمتار‬ ‫قليلة منه باب الشقة الذي يقع في الممر الدائري الفاصل بين شقتي إعتماد‬ ‫والدور الذى يليه وبه شقة كريمه وأوالدها ‪.‬‬ ‫خرجت رضا تمسح أنفها بمنديل صغير في يدها ‪ ،‬تقاوم دموعا ً تأبى إال‬ ‫النزول ‪ ،‬حدق جابر في وجهها شاردا ً ‪ ،‬البد من حل وحل سريع أيضاً‪.‬‬ ‫مرض الحاج يجب أال يكون نهاية المطاف ‪ ،‬هذا البيت يحتاج رعاية‪ ،‬حادي‬ ‫يحدو الركب‪ ،‬قبطان يلم الشمل ويسير السفينة‪ ،‬البكاء لن يجدي ‪ ،‬أمامك يا‬ ‫جابر الثأر والدكان وأمك وزوجة أبيك ومصروف البيت واألوالد واألهل!‬ ‫ارتفع جرس الباب فشده اليه ‪ ،‬حدقت عيناه فيه بقوة‪ .‬تابع رضا وهي تفتح‬ ‫وسمع سالمة إبن كريمه يقول ولهاثه يعلو من أثر صعوده السلم وثبا ً‪:-‬‬ ‫ عاوزين جابر في القسم‬‫عسكري تحت ينتظره‪.‬‬ ‫قام جابر متثاقالً بجسده الفارع الذي يشبه جسد والده وفتوته ‪ ،‬متوجها ً الى‬ ‫الخارج في صمت‪ .‬تعلقت رضا بذراعه‬ ‫ أروح معك‬‫نزع يده برفق‬ ‫ مؤكد سؤال وأرجع‪.‬‬‫ومضى الى السلم ‪ ،‬هبط الدرجات متمهالً ومضى مع الجندي الى الخارج ‪.‬‬ ‫سار في الطريق صامتا ً يحدق في الحوانيت واألزقة كأنه يراها للمرة األولى‪.‬‬ ‫منذ مرض الحاج وهو ال يرى وال يسمع شيئا ً عدا ما جرى له ‪ ،‬أما اليوم‬ ‫فعيناه تتعرفان على الدنيا بمنظارها الجديد‪ .‬تنبه للعسكري يربت كتفه‪:-‬‬

‫‪19‬‬


‫‪-‬‬

‫شفاه هللا‪ .‬كان رجالً بحق ‪.‬‬

‫إستدار محدقا ً فيه‪ .‬كان قصيرا ً فأخذ ينظر اليه من أعلى‪ .‬قال ببطء‪:-‬‬ ‫ سيشفى ويعود ثانية كما كان‬‫غمغم العسكري بكلمات مدغومة وأكمل السيرفي صمت حتى وصال الى‬ ‫القسم ‪ ،‬هناك رأى جابر ما جعل جسده يرتجف إنفعاالً‪ .‬كان أخوه والده‬ ‫وأقاربهم وبلدياتهم كلهم هناك أمام الباب‪ ،‬عمائم عالية ووجوه متجهمة‬ ‫وحدقات ثابتة التبرح المكان متربصة بكل مايدور من حولها ‪ ،‬التفوا حوله‬ ‫كالسوار للمعصم ونطق عمه السيد نيابه عن الجميع ‪-:‬‬ ‫ فاهم كيف تقول للوكيل ؟‬‫الحنق والغضب يحيطون بالمكان ‪ ،‬بينما العسكر في حالة إستنفار‪ .‬حدق‬ ‫فى عينى السيد عمه بشاربه المنتصب ورقبته الغليظة وحاجبيه الكثيين‪:‬‬ ‫وهز رأسه ببطء ‪ -:‬فاهم‬ ‫لحظتها فتحت ثغرة ضئيلة من الدائرة انسل منها الى الداخل وقد إمتأل‬ ‫صدره بعزم جديد ‪ ،‬نسى البيت وكل المسئوليات ولم يعد أمام عينيه إال أبيه‬ ‫واإلنتقام له‪،‬اإلنتقام ولو من المنطقة كلها بكل مافيها من بشر‪.‬‬ ‫أجلسه وكيل النيابة أمامه مبديا التقدير للوالد الذى كان يشهد له البعيد قبل‬ ‫القريب بالنبل واألخالق ‪ ،‬ومتمنيا له الشفاء سريعا ليعود ويدل على الجناه‬ ‫ليتم تقديمهم الى العدالة واالقتصاص منهم وممن وراءهم مهما كان ‪ ،‬شكره‬ ‫جابر على مشاعره ‪..‬‬ ‫وفتح الكاتب دفتره ليسجل الحوار‬ ‫‬‫‬‫‪20‬‬

‫تظن من فعلها ؟‬ ‫ال أدري‬


‫ هل لكم أعداء ؟‬‫ال‬

‫‬‫‪ -‬والقتلة هل تعرفهم ؟‬

‫ ومامدلول الصور األربعة التى حفرها الحاج بدمائه على األرض أمام‬‫بيت شتا فى رأيك ؟‬ ‫ ال أعرف‬‫‪-‬‬

‫هل‪.......‬‬

‫‪-‬‬

‫ال‬

‫‪-‬‬

‫هل‪......‬‬ ‫‪-‬‬

‫ال‬

‫نظر الرجل اليه في هدوء‪ ،‬الجدوى من مناقشته والحوار معه‪ ،‬لن يتراجع‬ ‫عن الثأر‪...‬لكن ممن ؟‬ ‫‪................‬‬ ‫بدا المساء ثقيالً ‪ ،‬يحمل في أعماقه ظلمة مبكرة ‪ ،‬ومزيدا ً من أمطار تبشر‬ ‫بشتاء حافل يغرق الحارة ‪ ،‬ويصنع األوحال على طول الطريق ‪ .‬يفرد صمت‬ ‫كالح ثقيل ظله على البيت الكبير ‪ ،‬يخفي وراءه نيرانا ً تستعر وجحيما ً خلف‬ ‫الصدور ‪ ،‬تداريه النظرات الفاترة واألفواه التي يقيد حروفها ما وراء‬ ‫األستار ‪.‬‬ ‫يدور جابر بعينيه في المكان شاردا ً ‪ ،‬تنحدر من عمق األحداق طيور قلق‬ ‫سوداء ‪ ،‬ضاربة بأجنحتها الجدران والوجوه والسكون المهمين على‬ ‫األركان ‪ ،‬يحملق في األثاث والجدران وصورة أبيه ‪ ،‬عازفا ً عن الحديث ‪،‬‬ ‫حتى الى أمه التي مافتأت تهيم في واديها ‪ ،‬محدقة فى رؤاها البعيدة‬ ‫‪21‬‬


‫متجاوزة عن المكان ومافيه ‪ ،‬ومتى عادت الى ماحولها نادته بصوت يفور‬ ‫بثورة غضب جامح الحدود لمداه ‪-:‬‬ ‫ياجابر‬

‫‪-‬‬

‫يجيب وهو يدرك جيدا ً فيم تفكر وماذا تريد أن تقول ‪ ،‬تسأله للمرة المليون‬ ‫عما انتواه وماذا سيفعل ‪ ،‬أم سيركن الى الدعة ويترك غيره يبحث عن ثأر‬ ‫أبيه‪.‬‬ ‫يكاد يسألها ‪-:‬‬ ‫ أبحث أين وكيف ؟‬‫لكنه ال يجرؤ‪ .‬لقد حددت الجانى وانتهى األمر‪ ،‬فهي تقول وتؤكد أنها أم‬ ‫سعد ‪ ،‬لن يجرؤ على تلك الفعلة غيرها ‪ ،‬امرأة قادرة ‪ ،‬عفية ‪ ،‬اليقف أمام‬ ‫جمود قلبها عائق والحدود ‪ ،‬تفعل ماتريد ضاربة عرض الحائط بكل من‬ ‫يعترض طريقها بال شفقة ‪ ،‬وهو يكاد يفكر مثل أمه ‪ ،‬لكن هناك ايضا ً كامل‬ ‫وله نفس الباعث تقريبا ً ‪ ،‬لكن من فيهما فعلها ‪ ،‬واذا أراد الحركة واالنتقام‬ ‫هل يفترض ويبنى رده على هذا االفتراض ؟‬ ‫يزفر الهواء من رئتيه حارقا ً ‪ ،‬اليجد هوا ًء جديدا ً ليبرد مابجوفه من نيران ‪،‬‬ ‫تضيق به الشقة بمن فيها ‪ ،‬يمضي نحو الباب الى السلم‪ ،‬يستند على خشبه‬ ‫القديم المتهالك ‪ ،‬بدرجاته التى كلح لونها منذ بعيد ‪ ،‬شئ ما يوقفه وسط‬ ‫السلم ينظر الى حال البيت وما جرى فيه‪ ..‬الحوائط التي مال لونها‬ ‫لإلصفرار ‪ ،‬الوجوه التي أظلمت‪ ،‬والحجرات التي تحولت لقبور‪.‬‬ ‫يغمض عينيه محاوال ً تذكر هذا البيت قبل مرض والده‪ .‬الدور األرضي الذي‬ ‫كان خاصا ً به يقابل فيه زواره من الصحاب واألهل ‪ ،‬بفنائه الواسع الذي‬ ‫حوله الحاج لحديقة غناء تفيض بزهورها وعطورها وبديع منظرها ‪،‬‬ ‫وحولها بعض األرائك والمقاعد والحشيات ‪ ،‬المفروش تحتها سجاجيد‬ ‫قطيفة رائعة ‪ ،‬لسهراته وليالي السمر ‪ ،‬التي تنتهي عادة بعد منتصف الليل‬ ‫‪22‬‬


‫‪ ،‬حيث يودع الضيوف ويغلق الباب الحديدي بالرتاج الطويل الذي طاله‬ ‫الصدأ ‪ ،‬وكان ينوي دهانه لوال أن عاجله المرض‪ ،‬فإذا عاد الى حجرته‬ ‫وأراد البقاء في الدور األرضي وقف في فضاء الفناء ‪ ،‬وسعل سعلة خفيفة ‪،‬‬ ‫تتبعه على أثرها إحدى زوجته أو صعد هو الى حيث يريد‪.‬‬ ‫آ‪...‬ه‬ ‫فتح جابر عينيه‬ ‫إتجه الى أريكه متآكلة كبقية األشياء وجلس عليها‪..‬سيهدأ الجو بعد قليل‪.‬‬ ‫تخف األقدام من المنطقة بعد أن يهدأ العسكر والمخبرون ‪ ،‬وتسكن حركتهم‬ ‫‪ ،‬ويضمن القسم األمن والهدوء ‪ ،‬ويحس أن األمور عادت الى سابق عادتها‬ ‫‪ ،‬ساعتها تبدأ حركتك يا جابر وال بد أن تكون حركة سريعة تضرب فيها‬ ‫ضربتك وتعود صامتا ً دون أن تعلن فيها عن نفسك ‪ ،‬حتى ألقاربك‬ ‫المتعطشين للثأر‪.‬‬ ‫لكن من يضمن لك أن أم سعد فعالً هي التي دبرتها ؟‬ ‫آه يا جابر‪ ..‬مالك ال تصدق إنها فعالً مجرمة ؟‬ ‫حدقت عيناه في سماء تركض فيها قطع من السحاب متناثرة كأنها تبحث‬ ‫عن مالذ‪ ،‬للسحب وجوه مغبره ‪ ،‬نافرة العروق ‪ ،‬متجهمة الوجوه ‪ ،‬ظامئة‬ ‫الى الثأر ‪ ،‬وجوه آدمية وأخرى لحيوانات كما يراها ويطيور يتبع بعضها‬ ‫بعضا ً ولكها تدور فى متاهة الجموح ‪ ،‬تتسابق مالحقة أذيال من سبقها ‪،‬‬ ‫ربما لتمتلك فرصة الضرب بكل مالديها من إصرار ‪ .‬أدار وجهه عنها‬ ‫و أخذ يدور في المكان‪ ،‬ذراعه خلف ظهره و هو يتسائل بال جواب ‪..‬من‬ ‫غيرها يفكر هذا التفكير ؟‬ ‫هرول خياله الى الفرن الكائن في حارة خان أبو طاقية‪ .‬هناك وكالة الخشب‪.‬‬ ‫يستطيع أن يكمن بظلمة بابها الضخم حتى إذا رأى بغيته قام بالالزم وعاد‬ ‫من حيث أتى ‪ ،‬المهم أن يتأكد أوالً من صدق ظنه وبعدها يفعل هللا ما يشاء‪.‬‬ ‫‪23‬‬


‫ جابر‬‫انتبه لرضا‪ ..‬إستدار اليها‪ ..‬وجهها المدور على ذلك الضوء الهادئ‬ ‫السحري الذي يلون األشياء بالصفاء تبدو مالمحه رقيقة عذبة بها دفء‬ ‫البراءة المحبب الذي يدخل القلب بال إستئذان‪ .‬يبتسم ثغره لهارغما عن‬ ‫ظالم يغلف ليلته ‪ ،‬تهمس في جد ‪:-‬‬ ‫ عاوزة أكلمك في موضوع‬‫كبرت يا رضا وأصبح لك مواضيع‪ .‬يدور بعينيه حول جسدها الذى بدأ خراط‬ ‫البنات يعمل عمله فيه‬ ‫ نعم يا رضا‬‫ الدكان‪ ...‬الزم‪...‬تفتحه‬‫يحدق في وجهها وكأنه إكتشف أمرا ً ذا بال‪ .‬يهمس بجد‬ ‫ معاك حق‬‫لكن أمك ستوافق ؟‬ ‫ حاول اقناعها‬‫ وحدى ال أستطيع ‪ ،‬مارأيك فى مشاركه كريمه معنا‬‫ أم سالمه !! تعالى نكلمها‬‫صعدا الى الدور الثانى ‪ ،‬دق الجرس ‪ ،‬فتحت كريمه الباب ‪ ،‬كانت الغسالة‬ ‫بموتورها عالى الصوت تمأل الجو بتوتر زاعق مما دفعه لطلب إيقافها فورا ً‬ ‫‪ ،‬حدقت فى وجهه الذى اكتسى منذ مرض أبيه بمسحة هم وحزن عميقين ‪،‬‬ ‫قالت لنفسها مؤكد هناك أمر هام دفعه ورضا للصعود معا اليها اآلن ‪ ،‬رفعت‬ ‫صوتها أن ينتظرا قليالً الحضار مشروب لهما ‪ ،‬قال جابر‪-:‬‬ ‫ ال وقت لهذا‬‫أكملت رضا ‪ -:‬نريدك فى موضوع‬ ‫حدقت فيما وراء الحدقات التى القت بلمعتها على الليل فمنحته رونقا ً رغم‬ ‫سواده‪-:‬‬

‫‪24‬‬


‫ هاتوا مالديكم‬‫حدثتها رضا عن موضوع الدكان‪ ،‬رغم أن كريمه كانت أصغر سنا ً من‬ ‫إعتماد ‪ ،‬وأحلى ‪ ،‬ولونها فاتح كثيرا ً عنها إال إنها تمتلك عقالً تحسد عليه‪.‬‬ ‫لهذا رغم المصاب الجليل وقفت تفكر قليالً ثم أعلنت موافقتها ‪.‬إغالق الدكان‬ ‫لن يؤدي لحل ‪ ،‬ثم إن زبون المكان سيطفش ‪ ،‬وفوق هذا البضاعة ستبور ‪،‬‬ ‫وأخيرا ً البيت كبير ويحتاج مصاريف‪.‬‬ ‫قال جابر ‪ -:‬جميل ‪ .‬تعالوا ننزل ألمي نكلمها‪.‬‬ ‫هنا تبسمت كريمة خجالً و تراجعت بصدرها تراجعا ً ال تلتقطه إال عين خبير‪.‬‬ ‫إنتبهت رضا له‪ .‬كانت المحنة قد قربت بين الضرتين كثيرا ً ‪ ،‬وصارتا‬ ‫تقضيان وقتا ً طويالً معا ً في صمت وشرود ‪ ،‬او كلمات قليلة تدور كسلى من‬ ‫هنا لهناك ‪ ،‬وكانت كريمه فى كل األحوال تحاذر من إغضاب إعتماد خوفا ً‬ ‫من لسانها أوالً ثم من سطوتها ثانياً‪ .‬همست ببسمة محدودة األطراف‬ ‫متراجعه ‪:-‬‬ ‫ إال أمك‬‫ضحكت رضا‪:-‬‬ ‫ ال تخافي‪ .‬أنا معكما‪.‬‬‫همس جابر ‪:-‬‬ ‫ لنرى ما تقول ‪.‬‬‫اضطرت للقبول فارخت جفنيها على نصف حدقيتها وعادت ترفعهما اعالنا‬ ‫للقبول ‪ ،‬ومضوا اليها ‪ .‬كانت مكانها في السرير‪ .‬تحمل نظراتها الشاردة‬ ‫وصمتها المقيم‪ ،‬رأتهم يدخلون تباعا ً ‪ ،‬إنتبهت لهم لكنها لم تنطق بحرف ‪.‬‬ ‫إقتربت رضا تعيد تنظيم السرير ‪ ،‬تنظم الوسائد خلفها وتقرد الغطاء ‪ ،‬بينما‬ ‫ركنت كريمه ظهرها الى الدوالب وجلست على حشية من القطن بعد أن‬

‫‪25‬‬


‫القت السالم ‪ ،‬وتركت جابرا ً يقف محدقا ً في أمه التي أحست أن هناك شىء‬ ‫ما ‪ ،‬سألته ‪-:‬‬ ‫ مالك ؟‬‫وكأنما أمرته بالكالم‪ .‬إندفع قائالً‪:-‬‬ ‫ أريد فتح الدكان‪ .‬سأفتحه باكر إن شاء هللا‬‫ليفاجئ بها تفتح عينيها وتصرخ فيه بقوة‪:-‬‬ ‫ الدكان‪...‬ال‬‫ لماذا ؟‬‫ لن يفتح اآلن‪.‬‬‫ ومن أين نأكل ‪ ،‬والبضاعة الموجودة فيه ‪ ،‬والزبائن ؟‬‫ عاوز تفتح الدكان يابن بطني وتقف تتفرج عليك الخالئق‬‫وأنت رأسك في الطين ؟‬ ‫ في الطين !! أنا!!‬‫‪-‬‬

‫سيقولون هذا واكل ناسه ‪ ،‬تارك ثأره‬

‫ ومال الدكان بالثأر ؟واستدار مستجيرا ً بكريمة ‪-:‬‬‫ اتكلمى ياأم سالمه‬‫ هي كلمة‪ ..‬ثأر أبوك أوال ً‬‫نظر الى رضا‪ .‬تركها الى كريمه‪ .‬اإلثنان غشى عليهما صمت شل منهما‬ ‫عضالت النطق‪ .‬همس بهدوء وهو يستدير ‪:-‬‬ ‫ ال فائدة من الحوار معك‪.‬‬‫ومضى عنها‪.‬‬ ‫‪......................‬‬ ‫‪26‬‬


‫مستترا ً بالظالم الممتد أمام ورشة الباجوري كمن جابر ليالً ‪ ،‬نور حارة‬ ‫خان أبو طاقية فى ذلك الوقت من الليل ضعيف يتسرسب من بعض النوافذ ‪،‬‬ ‫أو من لمبات صفراء شاحبة ‪ ،‬ويرتمي بقعا ً مضيئة هنا وهناك ‪ ،‬تاركا ً بقعا ً‬ ‫أخرى تركن الى الظالم‪.‬‬ ‫ورشة الباجوري بها منشار الخشب بابها سميك ‪ ،‬يغلق ليالً بعد خروج‬ ‫العمال ‪ ،‬يسد الفتحة تماما ً ‪ ،‬تاركا ً مسافة بقدر سمك الجدار ‪ ،‬حوالي أربعين‬ ‫سنتيمتر في ظلمة ال يكاد يهتم بها أو يرى منها أحد من المارة ‪ ،‬أو من‬ ‫يضطر للنظر من النوافذ ‪ ،‬وعلى مبعدة مائة متر تقريبا ً منها يقع الفرن‬ ‫ببابه الصغير نوعا ً والذى تعلوه لمبة شاحبة االصفرار تغلق قلب الليل‬ ‫بالكاد‪.‬‬ ‫أما في الليل وخاصة بعد إغالق المقهى والمحال المجاورة له وكذا بوابة‬ ‫الوكالة فالصمت هو السيد ‪ ،‬والظلمة هي مالذ السكون‪ ،‬ال يكاد صوت‬ ‫يرتفع إال لمار ‪ ،‬قادما ً أو رائحا ً تدق قدماه األرض ‪ ،‬فيدوي اإلرتطام في‬ ‫الجنبات عاليا ً ثم يبتلعه النسيان‪ .‬وعادة ال يتحرك أحد ليالً –عدا عمال‬ ‫الفرن –إال بين الحين والحين ‪ ،‬قادم من وردية عمل أو ساهرفي مقهى أو‬ ‫خالفه ‪ ،‬أما الفرن الذي يظل طوال الليل والنهار في عمل ‪ ،‬وردية بعد آخرى‬ ‫‪ ،‬تحت إشراف سعد وشعرواي بالتبادل ‪ ،‬فإن أحدهما على األقل البد أن يعبر‬ ‫الحارة ليالً‪ .‬وحده أو مصادفة مع أخيه‪ .‬وهذا ما قصد اليه جابر ودبر له ‪،‬‬ ‫أن يدفع األبناء ثمن غدر أمهم أم سعد‪ ،‬وليت الذى يمر اآلن يكون شعراوى‬ ‫ألن له معه حديث ذو شجون ‪ ،‬فقديما عندما كانا يلعبان معا ً فترة زواج‬ ‫رضوان بأمه كانا اليكفان عن الشجار‪ ،‬واذا تصالحا وهذا كان قليالً جدا ً كانا‬ ‫دوما ً يتنافسان من فيهما أقوى ‪ ،‬ومن فيهما أشد ‪ ،‬وبعد وقوع الطالق حاول‬ ‫شعراوى أن يفرد قامته فى المنطقة مطلقا ً لسانه فى أبيه فوقف له وتشاجر‬ ‫معه ‪ ،‬ولم يكف يده عنه اال أبوه الذى عنفه وأمره اال يتدخل فى أمر اال بعد‬ ‫مشورته ‪ ،‬أما هذه األمور الشائكه فهو وحده القادر على حلها سواء‬ ‫بتأديب من يفكر مجرد تفكير فى مس سيرته بكلمة سوء ‪ ،‬أو من يظن أنه‬ ‫‪27‬‬


‫يستطيع الوقوف أمامه مهما كان ومهما كان من يسانده ‪ ،‬وشعراوى هذا‬ ‫ايضا الذى ينافسه على سعدية إبنه فتحية بائعة الخضارأشهى نساء المنطقة‬ ‫‪ ،‬التى تزوجها عبده زياده بائع الحشيش ‪ ،‬ورحل عنها الى المعتقل متهما ً‬ ‫بمقاومة السلطات والمتاجرة فى الصنف وحكم عليه بالمؤبد مما دعاها‬ ‫وبتشجيع البعض ممن لهم الغرض منها أن يحرضوها على طلب الطالق‬ ‫منه ‪ ،‬ثم التسابق على من ينال ودها ويفوز بالقرب منها ‪ ،‬يتذكر جابر فى‬ ‫تلك اللحظة سعديه وعينيها الواسعتين الشهيتى النظرات بأحداقهما السوداء‬ ‫وعودها الفارع الممتد السارح الناعم النحيل الذى التشوبه شائبة وال يعيبه‬ ‫عيب ‪ ،‬المرأة تعرف عاشقيها ‪ ،‬تمنيهم بنظرات العين لكنها التنطق اال‬ ‫بالصمت ‪ ،‬تحتج بعدم رغبتها فى االرتباط بعد عبده زياده ‪..‬يقول الكثيرون‬ ‫أنها تفعل هذا حتى تتفرغ لتجارتها الخفية فى الصنف ‪ ،‬وأنها لم تهجر عبده‬ ‫وتتنكر له كما يظن اآلخرون بل هى خطة لها معه لإلستمرار فى تجارة‬ ‫تجنى الشهد ‪ ،‬لكنها على كل حال التمتلك القدرة على صد جابر لما لها من‬ ‫أحاديث قديمة معه ‪ ،‬قبل زواجها من عبده ‪ ،‬وهى ايضا تعرف جيدا ً من أبوه‬ ‫ومن هم أهله لذا تتقرب منه بحذر فتبسط األمر مرة وتقبضه أخرى وهى فى‬ ‫كل الحاالت سعدية أشهى النساء‪.‬‬ ‫يستند على عصاه في الظالم ‪ ،‬عيناه ترقبان المكان ‪ ،‬أذناه تتربصان بأي‬ ‫صوت مار‪ ،‬وقلبه يدق عنيفا ً صاخبا ً ‪ ،‬يفكر فيما إذا صرخ الضحية حينما‬ ‫يخرج له ‪ ،‬وهل يستنجد بمن في الفرن أم ال ؟ يجب أن يكون الهجوم‬ ‫مباغتا ً ال يعطي فرصة لصراخ ‪ ،‬لو خرج عليه العمال ستكون كارثة‪،‬‬ ‫سيذهب دمه هدراً‪ .‬وبدالً من الثأر سيضيع هو ‪ ،‬وتنتكس رؤس العائلة الى‬ ‫األبد‪ ..‬عادت له صورة أبيه وهويراه ألول مرة مطروحا ً أرضا ‪ ،‬هز رأسه‬ ‫مرات وهو يحاول إبعاد ذهنه عن صورة الدماء المتناثرة على األرض ‪،‬‬ ‫عمامة أبيه وهى ملقاة الى جواره بال حول ‪ ،‬والرسوم األربعة التى‬ ‫تصرخ فى وجهه ليل نهار‪ (..‬اياك أن تنسى أو تتناسى ماحاق بأبيك ) ‪،‬‬ ‫يتذكر كل هذا وتفور أمام عينيه صورة الدماء التي قد تتناثر فوق رأسه ألي‬

‫‪28‬‬


‫خطأ يرتكبه ‪ ،‬خاصة أنه هنا بين فكي وحش ال يرحم ‪ ،‬يجب عليه ‪ -‬كما‬ ‫خطط من قبل –أن يضرب ضربته ويمضي في هدوء‪ ،‬يصمت ال يتكلم ‪،‬‬ ‫يترك األمور تسير والكلمات تكثر واألصابع تشير ‪ ،‬وهو ينظر ويرى وال‬ ‫يفتح فاه بكلمة ‪ .‬هكذا يكون الثأر والعين بالعين والبادئ األظلم‪ .‬القتل ليس‬ ‫غاية في حد ذاته لكن ما جرى أقوى منه‪ ،‬ثم أنه لن يقتل لذا أتى بشومة‬ ‫معه ولم يفكر فى اصطحاب مدية أو سيف أو حتى مسدس أبيه التسعة مللى‬ ‫الذى يحتفظ به منذ سنين ‪ ،‬ثم أن شعرواى نطق كالما ً فيه رائحة تشفى‬ ‫تشير وربما أكدت أنه الفاعل ومعه أخرون ‪ ،‬إن تركه جابر اليوم ماذا يقول‬ ‫عنه أهله وأهل أبيه وأمه غدا ً ؟ ترك ثأر أبيه!!‬ ‫سيكتب العار عليهم جميعا ً إن هو لم يتحرك سريعا ً ويظهر فتوته‪ ..‬التقطت‬ ‫إذناه أصوات أقدام آتيه‪ .‬أكثر من قدمين تأتيان من ناحية السوق ‪ ،‬دق‬ ‫قلبه بعنف ‪ ،‬لو تقدم وقابلهم في منتصف الطريق وقطع عليهم سكة الفرن‬ ‫فسيعرف كيف يتعامل معهم بسرعة وقوة ويفلت فى ستر من الليل ‪ ،‬شرط‬ ‫أال يزيد عددهم عن اثنين سعد وشعرواي‪.‬‬ ‫إنزلق كفهد بجوار الجدران الغافية الى األمام ‪ ،‬رأى على البعد شبحين‬ ‫قادمين‪ ،‬جثة ضخمة تتحدر فى سيرها ‪ ،‬تهتز يدها اليسرى جيئة وذهابا ً فى‬ ‫سيرها ورأسها الضخمة بعروقها النافرة مسددة لألمام فى عنف ‪ ،‬وأخرى‬ ‫نحيلة الجسد تتحرك مسرعة ويداه تتسابقان فى الحركة مسايرة لحركته‬ ‫ورأسه تتحرك يمنة ويسرى بال توقف ‪ ،‬إرتاحت النبضات في جوفه ‪.‬هؤالء‬ ‫بغيته سعد وشعرواي‪ ،‬بوثبة كان أمامهما وعصاه في يده‪ .‬أنفرد جسده‬ ‫المارد في العتمة ألعينهم‪ .‬فزع سعد وأرتد الى الخلف‪ ،‬أرتجف شعرواي‬ ‫للحظة تمالك بعدها نفسه وهتف‪:-‬‬ ‫ من ؟‬‫ولم يتلق رداً‪ .‬أرتفعت العصا ألعلى‪ .‬لمحها بسرعة البرق وأنحرف عن‬ ‫مسارها ‪ ،‬مد جابر يديه بسرعة مطيحا ً بالهواء‪ .‬تحجرت نظراته وإنقبضت‬ ‫‪29‬‬


‫عضالته أكثر‪ ،‬إرتفعت حرارة الدماء في عروقه‪ .‬هجم على شعرواي ثانياً‪.‬‬ ‫تلقى الضربة بذراعه‪ ،‬صرخ من األلم‪ ،‬إرتفع عويل سعد‪-:‬‬ ‫ الحقونا يا ناس‬‫بينما شعرواي يحاول اإلفالت ما إستطاع من ضربات غريمه‪ ،‬انشق الليل‬ ‫عن أقدام تسعى ‪ ،‬وجوه تحدق وآذان تتنصت باحثة عن مصدر النداء ‪،‬‬ ‫هرولت األقدام ساعية نحوهم ‪ ،‬إرتعدت عينا جابروهو يرى حلقة تكتمل‬ ‫حوله ‪ ،‬فكر في اإلرتداد للخلف‪ .‬قطع عليه تفكيره قدوم آخرين من ناحية‬ ‫السوق من البيوت المجاورة على الصفين‪ ،‬واَنوار من النوافذ تتألق ومن‬ ‫الشرفات تنتشر ‪ ،‬رفع عصاه محاوالً كسر الدائرة الجهنمية التى أحاطت به‬ ‫والمرورمنها ‪ ،‬القى أحدهم بعصا لشعرواي الذي كان تنفسه هادرا ً كزئير‪،‬‬ ‫تواجه الخصمان‪ .‬تالقت العصا و العيون واألزرع‪ .‬زمجر شعراوي بصوت‬ ‫راعد‪:-‬‬ ‫ لماذا جئت ؟‬‫واجهه بذات الصوت‪:‬‬ ‫ ثأر أبي‬‫احتد الصوت أكثر وهدر فى فراغ الحارة ‪ -:‬هنا!!‬ ‫صرخ جابر مؤكدا‪ -:‬أمك وراء الموضوع‬ ‫دفعه شعراوي حانقاً‪ .‬ارتد جسده الى الخلف‪ .‬إعتدل سريعاً‪ .‬رفع يديه ألعلى‬ ‫لترتطم عصاه بعصا غريمه عاتية‪ .‬صرخ شعرواي‪:‬‬ ‫ الم تعرف ما جرى ألمي منذ سماعها الخبر ؟‬‫ارتجف صوت جابر قليالً ‪ -:‬أنت كذاب‬ ‫جاوبه شعراوى بقوة ‪ -:‬وأنت أعمى‬ ‫‪30‬‬


‫إرتد اإلثنان للخلف ‪ ،‬تقدم سعد يؤازر شقيقه من ناحية ‪ ،‬استدار رمضان‬ ‫الفران الذى يلعب المصارعه فى الساحة الشعبية بشارع بورسعيد من‬ ‫الناحية الثانية ‪ ،‬والى الخلف تسلل محمود وحمدان العامالن بالفرن وبدأ‬ ‫الجميع االستعداد لالنقاض على الفريسة التى وجدوها سهلة الصيد واهية‬ ‫الريح ‪ ،‬أخذت العيون تبرق واألفواه تزمجر وبدأت العصى تهز قلب الليل‬ ‫بكثرتها ‪ ،‬تتقدم منه قوية غاضبة تنذر بالويل ‪ ،‬وهو يتأخر نحو الحائط ‪،‬‬ ‫يحمي به ظهره ‪ ،‬وعصاه في يده يرد بها من مهاجميه‪ ..‬يأس قاتل راوده‬ ‫وهذه العصى تحيط به‪ ،‬ال نجاة منهم إال بالموت ‪ ،‬لكنه لن يموت ‪،‬‬ ‫سيوسعونه ضربا ً ويخرجوه من الحارة مهانا ً وربما حاصروه بزفة شامتة‬ ‫الى بيت أبيه ‪ ،‬تدافعت الدماء صارخة فى عروقه ‪ ،‬لن أسمح لهم باإليقاع‬ ‫بي حيا ً‪..‬تعالت األصوات مطالبة بتقييده وتلقينه درسا ً الينساه ‪ ،‬وتعليمه أن‬ ‫للحارات حرمة كحرمة البيوت اليمتلك هو وال غيره االعتداء عليها أو‬ ‫دخولها حتى بدون استئذان ‪.‬‬ ‫إندفعت األيدي مخالب متوحشة تتناوشه من هنا وهناك وهو يتلقى‬ ‫الضربات على عصاه محاذرا ً أن تطوله ضربة ‪ ،‬أو تخور قواه ويقع مثل‬ ‫أبيه فريسة سهلة ينهشها الناهشون وهم هنا كثر ‪،‬بدت له صورة أبيه من‬ ‫جديد وهى تخايل عينيه ‪ ،‬رآه وهو يسير معتدال هادر الخطوات مرفوع‬ ‫العمامة نظراته ثاقبة كعينى صقر تخترقان القلوب قبل األعين ‪ ،‬بدت له‬ ‫صورته وهو يدفع كامل أمام رواد مقهى محمد بطه وكامل يهمس متوسالً‬ ‫اال يحرجه أمام أهل المنطقة ‪ ،‬وبدت له صورته وهو يجمع شلة األوالد‬ ‫الذين تخيلوا أنفسهم قادرين على فرض إتاوات على الناس ببعض المدى‬ ‫ومسدسين وكيف ربط سيعا إبن محمد بطه من قدميه وضربه عليهما أمام‬ ‫الخلق ‪ ،‬وجاء محمد بطه شاكرا ً له صنيعه قائالً أمام الجميع إبنه ورباه ‪،‬‬ ‫ورآه وهو يمسك بعصاه ويجرى وراء شعراوى وسعد وهما يهروالن أمامه‬ ‫طالبين النجاه ‪ ،‬ورآه وهو يصرخ فى ضابط القسم مطالبا ً إياه بالرحيل فورا ً‬ ‫دون أن يقبض على مخلوق فى حضوره ‪ ،‬ثم رآه وهو ملقى على األرض‬ ‫‪31‬‬


‫والدماء حوله وعمامته بجواره يعلوها التراب وهو فى غيبوبة اليدرى‬ ‫ماالذى جرى له ‪ ،‬كل هذا فى لحظة خاطفة أو أقل من لحظة شعر بعدها‬ ‫بذات المصير يلح فى طلبه ويسعى جاهدا ً اليه ‪ ،‬فاستماتت يداه على العصا‬ ‫عازما ً برغم كل شىء اال ينالوه حيا ً مهما كلفه هذا من جهد ‪..‬أخذ يناوش‬ ‫مهاجميه وظهره للحائط والعيون نيران تنصب على وجهه وشباك ومصائد‬ ‫تنتظر منه غفلة لتنقض عليه واأليدى والعصا تحاوره ‪ ،‬بينما الصراخ من‬ ‫حوله وفوق رأسه اليهدأ له ضجيج ‪ .‬بدا الهالك حتميا ً في وقفته هذه وسط‬ ‫الحارة والكل يريده‪ ،‬و دم أبيه يخايل عينيه هنا وهناك‪ ،‬وجسده مسجى على‬ ‫األرض ساكنا ً حتى من اإلحساس بألم الهوان األخير ‪.‬‬ ‫ستلقى مصيره ياجابر بتهورك‪ .‬العصا تصد هنا وتصد هناك وقد بدأت‬ ‫عضالت يديه تحتج على هذا الجهد ‪ ،‬والعرق يغزو وجهه ‪ ،‬ويتخلل منابت‬ ‫الشعر في جسده ‪ ،‬وهو كراكب الموج قاب قوسين أو أدنى من الموت ومع‬ ‫هذا ال يسلم له‪ .‬ترتفع به موجة ألعلى ‪ ،‬وتهبط به آخرى ألدنى ‪ ،‬وهو‬ ‫يحاول ماوسعه الجهد‪ .‬حتى إذا غفل ثانية عن جهة ‪ ،‬ثانية واحدة أو أقل من‬ ‫ثانية ‪ ،‬أتته ضربة على جنبه ‪ ،‬أطاحت أخرى بعصاه ‪ ،‬ورأى نفسه وحيدا ً‬ ‫وسط غابة من وحوش ‪ ،‬أعين نارية تحاصره ‪ ،‬وكلمات شامتة تلقى فوق‬ ‫رأسه وأيدى لها مخالب وأفواه لها أنياب تمتد لتنهش لحمه وهو وحده‬ ‫بالحول ‪ ،‬يرفع يديه أمامه اليدرى كيف يصد كل هذا العدد وكل تلك الكراهية‬ ‫فى العيون وكيف يتقى الضربات التى البد ستكال له من العصى المتربصة‬ ‫به ‪،‬وأمتدت المخالب واألنياب لتنهش لحمه وتسحق عظامه كما تشاء‪ ،‬لوال‬ ‫أن إرتفع صوت واهن على بعد‬ ‫ ابعدوا أيديكم عنه‪.‬‬‫سرت الحروف الواهنة مسرى الكهرباء فى ثوان ‪ ،‬كفت األيدى ‪ ،‬ارتدت‬ ‫األظافر ‪ ،‬تحجمت األنياب ‪ ،‬وتقدمت أم سعد قادمة من عمق العتمة عظيمة‬

‫‪32‬‬


‫الهامة بجسدها الضخم ذو الشحم المديد ‪ ،‬بثديييها الكبيرين الذين يمتدان‬ ‫فى اعتداد أمامها وهى تستند على ذراع إبنتها صفاء‪.‬‬ ‫سارت يسبقها صوتها العريض ‪ ،‬بوجهها العريض المسطح الشاحب الذي‬ ‫يحمل إمارات حزن ال تغيب‪.‬‬ ‫تقدمت على مهل ‪ ،‬وقد أطاع الكل كلمتها ‪ ،‬حتى شعرواي المعروف عنه‬ ‫تهوره وجنونه وقف يلهث الى جانب سعد ‪ ،‬مواجهين لجابر ومحيطين به‬ ‫مع بقية العمال استعدادا ً إلفتراسه‪.‬‬ ‫إقتربت من الجمع‪ ،‬وسع لها الناس الطريق ‪ ،‬واجهته‪ ،‬كانت عيناها‬ ‫حمراوين وخدودها ذابلة ونظراتها منطفأة على غير ما تعود منها‪.‬‬ ‫قالت له نفسه جاءت لتشمت بك ‪ ،‬تلقى عليك نيران كلماتها قبل أن تأمر‬ ‫بالتهامك ‪ ،‬مؤكد أمرك أنتهى‪ ،‬والذي حدث مع أبيك من المهانة سيحدث‬ ‫معك ‪ ،‬أبوك اصطادوه غدراً‪ .‬أما أنت فقد أتيت بنفسك ‪ ،‬دخلت جحر‬ ‫الثعابين بقدميك ‪ ،‬قدمت نفسك فريسة سهلة ألنياب الترحم ومخالب التطيش‬ ‫‪ ،‬انتظر الوثاق واإلهانة ولتصبح بسبب تهورك وسوء تقديرك عبرة لمن‬ ‫يعتبر‪ ،‬ظننت نفسك وحدك تستطيع أن تفعل شيئا ً ما ‪ ،‬وحدك تستطيع أن‬ ‫تخطط وتنفذ وترفع رأسك والناس تصفق لك ‪ ،‬ظننت األمور سهلة وأن الكل‬ ‫سيرتعد وهو يراك قادما ً لتعتدى عليه متجبرا ً باسم عائلتك وقوتهم وشدة‬ ‫بأسهم ونسيت أن أباك رمز هذه العائلة وكبيرها ذاته قد ذاق الهوان برغم‬ ‫كل شىء ‪.‬‬ ‫عال صوت أم سعد قاطعا ً رحلة شروده ‪-:‬‬ ‫ صحيح يا أوالد الولد سر أبيه‬‫ثم حدقت فى عينيه ‪ ،‬لعينيها بريق العنفوان ‪ ،‬لحدقيتها مقدرة على الغوص‬ ‫فى األعماق رغما ً عن ارادتك واستالب روحك منك ومد نفوذها الى أعماق‬

‫‪33‬‬


‫قلبك حاكمة على نبضاته وبحار مشاعره ‪ ،‬ضربت بحديد نظراتها فى بؤبؤ‬ ‫عينيه ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫ما الذي آتى بك الى هنا ؟‬

‫حدق في عينيها‪ .‬ذات العيون القادرة المحتدة اآلمرة الناهية ذات القوة‬ ‫والسلطان‪ .‬رفع رأسه بقوة‪ .‬لن يكون هناك أسوأ من هذا‪ .‬ليجري ما يجري‪.‬‬ ‫أموت بكرامة أفضل من التذلل أمامها‪.‬‬ ‫ ثأر أبي لن أتركه‪.‬‬‫تبسمت بسخرية باكية المالمح وهى ترد عليه ‪-:‬‬ ‫‪-‬‬

‫وجئت ليالً مثل اللصوص لتأخذه ؟‬

‫ لن أترك ثأري وإذا مت فلن يتركه أهلي‪.‬‬‫أشاحت بيدها الغليظة قائلة –‬ ‫ ثأرك يابني أبحث عنه وانا أساعدك‪.‬‬‫ تساعديني!!‬‫أدارت وجهها عنه الى الوجوه المحلقة حولها‪.‬‬ ‫ ال فائدة‪.‬‬‫قالتها وهي تشيح بيدها‪ .‬عادت األصوات تهدر والعصى تلوح‪.‬‬ ‫رفعت يدها وهي تحاول التحدث بالقوة قدر ما تستطيع‬ ‫ اتركوه يمضي‬‫صرخ شعرواي ألول مرة منذ جائت‬ ‫ لن أتركه‪.‬‬‫‪34‬‬


‫وتجرأ سعد ‪ - :‬سأشرب من دمه‪.‬‬ ‫حدقت في وجهيهما معاَ‪ .‬قالت بإشفاق ‪-:‬‬ ‫ حمله ثقيل ياولداه‪ .‬مسئولية بيت وعائلة وثأر‬‫ربنا يعينك يابني‪ .‬مع السالمة‪.‬‬ ‫وسع له الخلق ليمضي قالت وهي تتوكأ على يد صفاء عائدة في هدوء‪:-‬‬ ‫ الحارة من اآلن يتم إضاءتها طوال الليل‪.‬‬‫‪.....................‬‬ ‫إهتزت المنطقة لمقدم أم سعد‪.‬‬ ‫رآها المعلم محمد بطة صاحب مقهى األنوار قادمة ‪ ،‬اكتسى وجهه بقناع من‬ ‫دهشة كبير ‪ ،‬تتوكأ على ذراع صفاء إبنتها فى هدوء واثق ‪ ،‬محدقة امامها‬ ‫بذات النظرات الحديدية الثاقبة ‪ ،‬محركة قدميها على مهل وإن كانت تعرف‬ ‫جيدا ً أين تسير ‪ ،‬هب من جلسته على باب المقهى مرحبا ً وهو يسأل نفسه‬ ‫ماالذى جاء بها وهى المريضة منذ حين هنا ‪ ،‬خاصة بعد مرض رضوان ‪،‬‬ ‫وبعد ماجرى فى حارة خان أبو طاقية بين أوالدها وعمالها وبين جابر ‪،‬‬ ‫الجرأة فاضت وطفحت منها ‪ ،‬أو ربما هى كسرة رضوان وماجرى إلبنه‬ ‫أطمعها أن تأتى وتتشفى بنفسها ‪.‬‬ ‫هنا هز رأسه سلبا ً رفضا ً لهذه الفكرة ‪ ،‬عادت خواطره تشاطره البحث ‪،‬‬ ‫ليست أم سعد التى تفعل هذا ‪ ،‬شخصها وسيرتها اكبر من هذا ‪ ،‬إسمها‬ ‫ايضا وحده فى حارة اليهود له وقعه وقوته بالرغم من أن الفرن طوال‬ ‫عمره يسمى فرن أوالد عثمان اال أنها ومنذ تسلمت إدارته بعد موت محمد‬ ‫عثمان زوجها قبل األخير والفرن يعرف بفرن أم سعد ‪ ،‬وفوق هذا فكل‬ ‫معلمى المنطقة يعرفون من هى أم سعد ‪ ،‬هو يتذكر جيدا ً وقعتها مع‬

‫‪35‬‬


‫رضوان وكيف وقفت فى دكان القماش قرب الموسكى تناطحه الكلمة بالكلمة‬ ‫وحينما صرخ فيها ‪-:‬‬ ‫ خدى بالك أنت تتحدثين مع رضوان عبد العال‬‫حدقت فى عينيه بنيران نظراتها المتأججة والتى تكاد تحرق المكان كله بمن‬ ‫فيه ‪-:‬‬ ‫ والتنسى إنك تكلم أم سعد‬‫القى بالقماش التى أتت لتعيده اليه أرضا ً ‪ ،‬طلب منها المغادرة فورا ً ‪ ،‬شدته‬ ‫من ياقة جلبابه صارخة فيه ‪-:‬‬ ‫ مثلما القيته على األرض ستأتى به‬‫لطمها على وجهها غاضبا ً وبدنه ينتفض من الغضب وشاربه يتأرجح بقوة‬ ‫على ضفاف شفتيه الصاخبتين ‪ ،‬وهو يسب ويلعن ويقسم اال يفلتها ومن‬ ‫وراءها ‪ ،‬مدت يدها تريد رد القلم ‪ ،‬تجمع الخلق فى سوق القماش المزدحم‬ ‫دوما ً فى مثل هذا الوقت من النهار وحالوا بين اإلثنين ‪ ،‬وكان يوما ً مشهودا ً‬ ‫فى تاريخ الحارة الطويل ‪.‬‬ ‫ معقول أم سعد في حارتنا ؟‬‫تعالي‪ ...‬تعالي‪ ..‬إستريحي من المشوار‪.‬‬ ‫همست وصوتها يتهدج‪:-‬‬ ‫ ال يوجد وقت يا محمد ‪ .‬كلمتين وأمشي‪.‬‬‫ خير أن شاء هللا‪.‬‬‫‪ -‬إن شاء هللا خير‪.‬‬

‫‪36‬‬


‫هرول بنفسه حامالً مقعده اليها ‪ ،‬الى جوار باب المقهى جلست الى جواره‬ ‫تلتقط أنفاسها ‪ ،‬صرخ فى صبيان المقهى أن يأتوه بزجاجتى مياه غازية ‪،‬‬ ‫أشاحت بيدها رافضة ‪ ،‬قالت ‪-:‬‬ ‫ جئت ألمر وجدته هاما ً وسأعود فورا ً‬‫ آتى بالعربة ألكون معك‬‫ ليس الى هذه الدرجة ‪ ،‬معى صفاء‬‫ الى أين ؟‬‫ الى بيت رضوان‬‫اتسعت عيناه وصدره وروحه لمزيد من إمارات الدهشة والعجب لجرأتها ‪،‬‬ ‫هذه المرأة جنت ‪ ،‬لم يغلب جنونه فى المنطقة سواها ‪ ،‬قلبها ميت اليعرف‬ ‫التردد ولو لبرهة مهما صغرت ‪ .‬اتسعت ابتسامته ‪ ،‬سألها ‪-:‬‬ ‫ هل لى أن أعرف لماذا ؟‬‫دون أن تتغير تعبيرات وجهها الصارمة قالت ‪-:‬‬ ‫ لحظات وستعرف‬‫كانت صفاء ابنتها من النوع الشاحب الوجه الحلو التقاطيع ‪ ،‬الذي يمتاز‬ ‫بنحول الجسد ورقة النظرات وهدوء الصفات عكس أخويها سعد وشعرواي‪.‬‬ ‫كانت قد توقفت عن الدراسة بعد أن رسبت في السنة السادسة في المدرسة‬ ‫اإلبتدائية ‪ ،‬وقررت أمها أن تبقى في البيت إنتظارا ً للعريس‪.‬‬ ‫أكملت السير مع أمها لتقابل الحاج كامل الذي كان كعادته يجلس أمام وكالته‬ ‫‪ ،‬والخيش من حوله أكوام متراصة ‪ ،‬والعمال بالداخل وسط األتربة وأكوام‬ ‫الغبار والخيش المتراص يعملون‪.‬‬ ‫‪ ،‬اتسعت حدقتاه عن ذى قبل وهو يلتهم كل مافى الكون من دهشة ‪،‬‬ ‫ترك مبسم الشيشة جانبا ً وكذلك الضيف الذي كان يجلس اليه وأتجه اليها‬ ‫متهلل الوجه ‪.-:‬‬ ‫ ما هذا النور ؟ أم سعد بحالها!‬‫‪37‬‬


‫تعالي‪..‬تعالي‬ ‫ كيف حالك يا كامل ؟‬‫ الحمد هلل‪..‬تعالي‬‫ ال ‪ ،‬إبقى تعالى أنت‪ .‬أريدك في موضوع‬‫ آمري‪ .‬لكن ‪ .‬الى أين ؟‬‫ كلمتين هنا وأمشي‬‫ أجي معاك ؟‬‫ ال ‪ ،‬المهم أال تنسى موعدنا‪.‬‬‫ حاضر‬‫همست صفاء في أذنها‬ ‫ ماما ‪ .‬أنا خائفة‬‫تبسمت فى وجهها بإستهانة‬ ‫ أنا معك‬‫وتقدمتها الى أن وصلت الى دار رضوان ‪ ،‬انطلقت قدماها بعد وهن‬ ‫واستطاعت أن تطوعهما إلرادتها ‪ ،‬أو ربما هو الهدف التى جاءت من أجله‬ ‫دفعها دفعا ً أن تتقدم وتتجه الى البيت التى رفضت قديما ً أن تقيم فيه مع‬ ‫رضوان‪ ،‬وأصرت أن يكون لهما سكنهما الخاص فكان لها ماأرادت واستأجر‬ ‫لها شقة فى شارع الخرنفش مالبث أن تركها بعد الطالق ‪.‬‬ ‫دقت صفاء جرس الباب ‪ ،‬هرولت رضا لتفتح ظنا ً منها أنه جابر الذى خرج‬ ‫باكرا ً ولم يعد حتى اآلن ‪ ،‬وجدت أمامها إمرأة هائلة الهامة ‪ ،‬تحدق بعينيها‬ ‫الواسعتين فى وجهها الصغير سائلة بصوتها العريض ‪-:‬‬ ‫‪38‬‬


‫ أين أمك يارضا ؟‬‫وتقدمت الى الداخل فورا ً ‪،‬آمرة ابنتها صفاء برد الباب خلفهما ‪ ،‬إرتجفت‬ ‫إعتماد غضبا ًحينما وصفت لها رضا شكل المرأة ودخولها الباب بجرأة دون‬ ‫أن تدعوها أو حتى تطلب منها االنتظار لسؤال أهل البيت ‪ ،‬غريمتها القديمة‬ ‫العتية القوية الشرسة ‪ ،‬المرأة البجحة التى لم تتورع عن فرض شروطها‬ ‫على رضوان سيد المنطقة كلها ووقفت أمامها هنا وهو يطلب منها أن‬ ‫تتفرج على البيت وعلى شقتها التى خصصها لها فيه ويؤكد لها أنها ستكون‬ ‫مستقلة تماما ً عمن فيه ‪ ،‬لم تتورع عن مواجهته بالرفض ‪ ،‬األكثر من هذا‬ ‫لم تكترث بها وال بمشاعرها كزوجة أولى لرضوان بل تعاملت معها كسيدة‬ ‫لها قدرها وارتفاعها أمام خادمة وأقل من خادمة وحتى حينما كانت تزورهم‬ ‫فى المناسبات لم تفكر مرة واحدة أن تحادثها حديث الند أو الشريك فى‬ ‫رجل أو حتى المساواة كامرأتين قبل كل شىء ‪ ،‬لماذا تجىء اآلن ووحيدة‬ ‫بطولها دون خوف أو جزع أو حتى خشية من ردفعل طائش نتيجة لما فعلته‬ ‫وأبناءها بجابر وهو فى قبضتهم ‪ ،‬جابر الخائب الذى يالحقه الفشل أينما‬ ‫راح ‪ ،‬ابن كبدها الذى هز صورة العائلة كلها ومرغ إسمها فى التراب دون‬ ‫أن يترك لهم فرصة لرد أو حتى ايالم ‪ .‬لماذا تجىء اآلن تلك المرأة ‪ ،‬هل‬ ‫وصل بها التشفى مداه للتجرؤ بالحضور الى هنا ‪ ،‬ومتى طلبت مقابلة‬ ‫اعتماد ؟‬ ‫ضاع الضعف والوهن والمرض منها ‪ ،‬ذهبت األحزان والحسرة ولم يتبق إال‬ ‫كره وغضب ‪ ،‬وأم سعد !‬ ‫حدقت فيمن حولها شاردة النظرات ‪ ،‬وقد أكتسى وجهها األسمر بحقد وعناد‬ ‫‪ ،‬أزاحت الغطاء عن جسدها بعيدا ً ‪ ،‬تحرك الجسد المنهك بقوة الغضب ‪،‬‬ ‫مضت نحو الباب ومنه الى السور الحديدي تحدق من أعلى لتتيقن من‬ ‫الخبر‪ .‬كانت أم سعد لحظتها قد وصلت الى منتصف الفناء فصارت تحتها‬ ‫مباشرة تلتقط أنفاسها ‪،‬والى جوارها صفاء التى أخذت تحدق في األرض‬ ‫وهي تدعو هللا بالسالمة والرجوع بأقصى ما يستطيعون‪.‬‬ ‫‪39‬‬


‫عال صوت إعتماد حادا ً قاطعا ً مليئا ً بالغضب ‪:-‬‬ ‫ ما الذي أتى بك يا رئيفة ؟‬‫رفعت أم سعد رأسها الى الدور األول حيث تقف إعتماد‪ .‬قالت بصوت هادئ‪:‬‬ ‫ جئت ألجلك يا إعتماد‬‫إستدارت إعتماد بحدة الى الداخل وهي تشيح بيدها‬ ‫ وأنا لن أقابل أحدا ً‪.‬‬‫ليعلو صوت أم سعد العريض خلفها ‪-:‬‬ ‫ بل ستقابليني وتسمعيني من أجل جابر‬‫إضطرمت النيران في صدر إعتماد‪ .‬المرأة تتطاول عليها في بيتها !!رئيفة‬ ‫جنت وجاءت تهينها هنا في بيتها‪ .‬صرخت‬ ‫ تهدديني في بيتي يا رئيفة ‪ ،‬هل هي وصلت لهذا ؟‬‫نفخت أم سعد الهواء بقوة وهى تكافح لإلستمرار فى الوقوف هاتفة ‪-:‬‬ ‫ إفهمي يا إعتماد‬‫ تقتلي القتيل ولك عين تدخلي بيته ؟‬‫ لم ولن يحدث‬‫ ولماذا جئت ؟ لتتفرجي علينا ؟‬‫ بل ألحمي جابر‬‫ جابر!!‬‫‪ -‬كثرة كالمك ودفعك له جعله يتصرف بجنون‪.‬‬

‫‪40‬‬


‫ال يفكر ‪ ،‬وال يتدبر ‪ ،‬وال يسأل حتى من اعتدى على أبيه‬ ‫ ماذا تقولين ؟‬‫كانت المنطقة قد إحتشدت أمام الباب الحديدي ‪ ،‬عيونا ً ترقب وتتابع وتحدد‬ ‫وتقارن ‪ ،‬وأذانا َ تسمع ‪ ،‬وأيادي تتزاحم لترى أكثر وتسجل أكثر‪ .‬صرخ فيهم‬ ‫محمد بطة الذي قام من مكانه أمام مقهاه على عجل ٍ وجاء يستطلع األمر ‪.‬‬ ‫طلب من الجمع أن يمضي الى حاله ووقف صامتا ً ‪ ،‬رافضا ً التدخل بين‬ ‫المرأتين‪ .‬مهما كان األمر‪ ،‬فكلتاهما إمرأة لرضوان هللا يرحمه‪.‬‬ ‫أما الحاج كامل فقد مد بوزه وأخذ يرقب البيت من أسفله ألعاله ومن أعاله‬ ‫ألسفله‪ .‬يحدق في الدور األرضي بما فيه وخاصة مجلس رضوان القديم‪.‬‬ ‫ويمد عينيه الى أعلى‪ .‬الدور العلوي وكريمه بثيابها البيضاء التي زادتها‬ ‫جماالً وكشفت بياضها ‪ ،‬والمنديل أعلى رأسها يظهر الشعر الكستنائى‬ ‫المحيط بالوجه الرائق والعينين العذبتين‪ .‬ثم ينقل نظراته للناحية اآلخرى‬ ‫ورضا الحلوة التي بدأت تمتلئ وتتشكل لتهز قلوب شباب وعواجيز الحارة‪.‬‬ ‫تقدم وهو يفرد ذراعيه بجلبابه الملئ بالتراب والغبار الى الداخل يريد‬ ‫الكالم‪ .‬أمسك المعلم بطه بكم جلبابه ‪-:‬‬ ‫ ال داعي يا كامل‪.‬‬‫حدق فيه بحدة ‪ ،‬لو كان أحد غيره لرأى منه الويل‪ .‬أما هو فال يملك له إال‬ ‫اللين‪ .‬يعرف أنه يتخذ مقهاه هذا مركزا َ لنشاطه في تجارة الكيف‪ .‬وأنه له‬ ‫صبيانه ورجاله والناضورجية وكذلك الفتوات إذا لزم األمر‪ ،‬إذا إحتاج الى‬ ‫أحدهم ‪ ،‬وهو عادة في أي معركة ال يحتاج ‪ ،‬قوته ومهارته وقلبه الميت‬ ‫في النزال تتحدث وحدها عنه‪ .‬لم يكن يمأل عينيه في المنطقة كلها إال‬ ‫رضوان وقد رقد ‪ ،‬وقف كامل حانقا ً وإن لم يبد ما لديه‪.‬‬ ‫رأى بطة جابر قادما ً من بعد‪ .‬صرخ فيه أن يسرع‪ ،‬دفعه الى الداخل لتلقف‬ ‫عيناه أم سعد في وقفتها ‪ ،‬إضطرب ‪ ،‬كاد يعترف لها إنه عاد الى بيته ليلتها‬ ‫‪41‬‬


‫وكسر عصاه ‪ ،‬وأنه ألول مرة في حياته يعرف مرارة الندم وحرارة البكاء‪،‬‬ ‫وأنه بكى كم لم يبك من قبل ‪ ،‬وأنه حين حكى لعمه السيد ما جرى كاد يقتله‬ ‫على فعلته ‪ ،‬وأنه أمره إال يفعل شيئا ً بعدها قبل الرجوع اليه‪ .‬كان للمرأة‬ ‫جميل في عنقه فلم ينطق بحرف ‪ ،‬لوال تدخلها وفى اللحظة الحرجة لكان‬ ‫األمر غير ماكان ‪ ،‬كلما تذكر ورطته واأليدى تستعد لنهشه ‪ ،‬والعصى فوق‬ ‫رأسه ‪ ،‬والبعض وقد فتح مطواته استعدادا ً لإلنقاض عليه ترتعد روحه‬ ‫غضبا ً وحنقا ً على نفسه وعلى تهوره الذى قاده لمثل هذا الموقف الذى لن‬ ‫ينسىاه مادام فى صدره نبض يثور ‪ ،‬حدق في وجهها مأخوذاً‪ .‬غير أن‬ ‫صراخ أمه الحقه ‪:-‬‬ ‫ يا خيبة أملي فيك يا ابن بطني‪ .‬جئت برئيفة تكسرني بك‬‫تعايرني بك ‪ ،‬تذكرني بخيبتك ؟‬ ‫سأعطي لبنت من البنات السالح تأخذ ثأري‪.‬‬ ‫قالت أم سعد بنفاذ صبر‪:-‬‬ ‫ أسمع يا جابر‪ .‬أنت رجل مثل أبيك ولن تترك ثأرك‪.‬‬‫وهللا العظيم ثالثا ً يا بني أمام الناس جميعا ً وهللا الشاهد وهو الوكيل ليس انا‬ ‫وال أوالدي‪ .‬ولكي تتأكد‬ ‫انا مستعدة أضع يدي في يدك لمعرفة القاتل‪.‬‬ ‫ومدت يدها اليه‪ .‬غير أن أمه عادت تصرخ‬ ‫ تحرم علي ليوم الدين لو وضعت يدك في يدها‬‫خطافة الرجال‪ .‬القاتلة‬ ‫صرخت أم سعد وقد فاض بها الكيل‬ ‫ كفاية غل يااعتماد‬‫‪42‬‬


‫ إن لم يأخذ بثأر أبيه لن يلزمني‬‫كانت اليد ماتزال ممدودة‪ .‬همس جابر وهو ال يعرف كيف يداري ضيقه‬ ‫بتصرفات أمه وحدتها ‪ -:‬انا مصدق يمينك‪ .‬وكفاية حضورك الى هنا‬ ‫وأستدار تاركا ً المكان كله عائدا ً الى الطريق ‪ ،‬دون أن يضع يده في يدها‬ ‫‪.........................‬‬ ‫امتأل شارع سوق السمك لحافته بأقارب وبلديات وأصدقاء رضوان ‪ ،‬جاؤوا‬ ‫جميعا ً بقلوب مترعة بدهشة عارمة لرجل كان ملء العين تهابه القلوب‬ ‫واألبصار ‪ ،‬تلوذ بحماه النفوس وهى تعرف جيدا ً من هو‪ ،‬تراه وتتابعه‬ ‫وتعرفه وتعجب له وبه ‪ ،‬فقد كانت له طريقة فى سيره يعرفها القاصى‬ ‫والدانى ‪ ،‬يمضى فاردا ً صدره العريض بجلبابه الذى تعلوه الكوفيه على كتفه‬ ‫األيمن وعمامته السامقة البيضاء بنظراته الحادة الثاقبة ويداه المديدتان‬ ‫اللتان تتأرجحان أمامه وخلفه أثناء سيره ‪ ،‬وكلماته الصريحة التى رغم‬ ‫حدتها اليمتلك سامعها أن يقول أنه يحيد عن الحق فيها أبدا ً ‪ ،‬قد يجرح‬ ‫بكلمة أحدا ً وقد يغضب أحدا ً آخر ‪ ،‬وقد يفاجىء ثالث برأى يستفزه لكنه فى‬ ‫كل األحوال يصدر عن نفس صافية العوج فيها ‪ ،‬يحافظ على الصالة‬ ‫ويؤديها حسب ظروفه اما فى المسجد أو البيت اليفوته وقت واليتقاعس‬ ‫عن صالة ويمد يده بالعطاء لمن يرى أنه يستحق أما غير هذا فالينظر اليه‬ ‫وبسبب صراحته أو جرأته الزائدة هذه تعرض كثيرا ً لمواقف كان دوما ً‬ ‫يخرج منها مرفوع الرأس الينحنى أبدا ً مهما كانت الظروف ومن أشد هذه‬ ‫المواقف التى التنساها المنطقة كلها والتى يتحاكون عنها الى اآلن ماجرى‬ ‫له يوما وهو فى طريقه الى الدكان عندما وصل تقاطع نهاية حارة اليهود‬ ‫مع بداية الموسكى خرج عليه خمسة من األشقياء‪ .‬أجساد ممدودة‬ ‫وعضالت مفتولة ‪ ،‬ووجوه مقنعة ال تظهر منها إال العيون – وثبوا عليه ‪،‬‬ ‫أرادوا طرحه أرضا ً ‪ ،‬وتقييد حركته ‪ ،‬وضربه أمام أبناء الحارة كلهم ‪،‬‬ ‫ليهينوه إهانة ال يرفع رأسه بعدها‪ .‬لكن الرجل لم يمكنهم منه رغم المباغتة‪.‬‬ ‫‪43‬‬


‫جسده الضخم وعضالته القوية رغم تقدم عمره حاال دون ذلك ‪ ،‬إستطاع‬ ‫أمام الجمع الذي احتشد من األنحاء أن يمسك بأحدهم من ساق ويد ‪ ،‬ويقذف‬ ‫به إثنين من زمالئه ‪ ،‬ويبادر الى اإلثنين اآلخريين ويتلقاهما بكلتا يديه في‬ ‫وجهيهما ‪ ،‬فيلقيهما على ظهريهما ‪ ،‬وهرول الى دكان العطارة أمامه على‬ ‫قمة الحارة وسحب عصا الشمسية المفرودة أمام الدكان ‪ ،‬وعاد من جديد‪.‬‬ ‫غير أنه فوجئ بزجاجات المياه الغازية الفارغة تنهمر عليه ‪ ،‬وبأثنين‬ ‫يحمالن أسلحة بيضاء يتقدمان منه‪ .‬عيونهم الجاحظة من وراء األقنعة‬ ‫ترسل شررا ً نافذا ً ‪ ،‬وأيديهم مشرعة نحوه في عزم‪ .‬داست قدماه الزجاج‬ ‫المكسور المتناثر ‪ ،‬وتفجرت منها الدماء غير أنه لم يبال ‪ ،‬صرخت النسوة‬ ‫في البيوت‪ .‬وتعالت الصيحات ‪ ،‬لعبت العصا بين يديه في ثقة ولم يأبه‬ ‫للزجاجات المنهمرة عليه كأنها ال تؤلمه ‪.‬يتفادى إرتطامها برأسه قدر‬ ‫المستطاع ‪ ،‬ويمضي لألمام واثقا ً حذرا ً مثل نمر يأخذ وضع اإلستعداد قبل أن‬ ‫يقفز قفزته ‪ ،‬ورغم أن المدي هي التي كانت تهاجم إال إنها أمام ثبات‬ ‫نظراته وتقدمه الوئيد تراجعت ‪ ،‬بينما العيون في النوافذ والشرفات وعلى‬ ‫قارعة الطريق تنظر مبهورة ‪ ،‬تتابع هذا الموقف الذي لم تر مثله من قبل‪.‬‬ ‫صحيح أن معظمهم سمع عنه ‪ ،‬وما كان له من صيت في الحي كله ‪ ،‬وما‬ ‫قيل عنه ‪ ،‬غير أن القول مهما تعاظم غير الرؤية بالعين ‪.‬تقدم الرجل وسط‬ ‫إنهمار الزجاج نحو المدي المشرعة‪ .‬لم يبال بما خلفه‪ .‬وكيف يبال وقد‬ ‫رهب المهاجمون جانبه ‪ ،‬وبدأوا يظهرون خوفهم الشديد بتحاشيهم اإللتحام‬ ‫به‪ ،‬تحرك لألمام ‪ ،‬تراجعوا للخلف ‪ ،‬تشجع البعض ممن حضرواالموقف‬ ‫وبادروهم بالهجوم بالعصى مما اضطرهم للفرار ‪ ،‬بينما الرجل واقفا ً‬ ‫مايزال‪ ،‬دمائه تنهمر كشالل من دم أحمر قاني مسيرته طويلة بطول الرجل‬ ‫وإرتفاعه يغطي وجهه ورقبته والصديري األبيض تحت جلبابه األزرق‬ ‫الصوف ‪ ،‬وشاله ملقى على األرض مغطى بالتراب والدم ‪ ،‬وحذاءه كل‬ ‫فرده فى ناحية ‪ ،‬بينما عيناه من وسط بحار الدم تبرقان والعصا ثابتة‬ ‫الجنان بين يديه ‪ ،‬سامقة الهامة للسماء التعرف ارتجافا ً والتشعر بخوف ‪،‬‬

‫‪44‬‬


‫و الرجال من حوله في المحالت المجاورة والحارة والنسوة من النوافذ‬ ‫والشرفات كأن على رؤسهم الطير‪ ،‬يحدقون وعيونهم مصلوبة على البقعة‬ ‫التي تحتويه دون أن يجرؤ أحدهم على فعل شئ الى أن صرخ فيهم صارخ‬ ‫اطلبوا االسعاف وهب البعض لتنظيف األرض من زجاجات المياه الغازيه‬ ‫المكسوره ‪ ،‬أرادوه أن يرقد على حشية أتوا بها من أحد البيوت المجاورة‬ ‫لحين حضور االسعاف ‪ ،‬رفض وصمم على الجلوس على مقعد أمام دكان‬ ‫العطارة المجاور الى أن حضرت عربة االسعاف ودخلها سائرا ً على قدميه‬ ‫متناسيا كم الدماء التى أغرقت األرض من حوله والتى رضى بالكاد أن‬ ‫يكتموها بالبن لوقف النزيف لحين ذهابه للمستشفى ‪ ،‬بعدها بحث وتقصى‬ ‫ووصل الى الحقيقة ‪ ،‬عرف مهاجميه ومن وراءهم ‪ ،‬وذهب الى سليمان‬ ‫البيومى صاحب محل األقمشة المقابل له فى سوق القماش ووسط المارة‬ ‫والتجار جميعا وقف أمام باب الدكان ‪ ،‬صرخ فيه ‪-:‬‬ ‫ قف‬‫فهب واقفا ً ‪ ،‬طلب منه الخروج من الدكان والوقوف أمامه وسط السوق ‪،‬‬ ‫انتبهت األعين اليه وتحلقت اآلذان ‪ ،‬رفع صوته الجهورى أمام الجميع قائالً‬ ‫له ‪ -:‬من باكر تبيع هذا الدكان وتبيع منزلك وال أراك ثانية فى المنطقة ألى‬ ‫سبب من األسباب‬ ‫‪ ،‬وقد كان !!‬ ‫يعرف الجميع هذا ‪ ،‬لذا تكاد الحيرة تمأل األفاق ‪ ،‬كيف استطاعوا هذه‬ ‫المرة النيل منه ‪ ،‬وكيف استطاعوا أن يفلتوا بفعلتهم دون أن يعرفهم أو‬ ‫يصل اليهم أحد ؟‬ ‫امتأل شارع سوق السمك لحافته بأقاربه وبلدياته وأصدقاءه بانتظار سيارة‬ ‫االسعاف التى ستقله عائدا الى بيته من جديد ‪ ،‬لكنه هذه المرة يعود‬ ‫محموالً على األكتاف رغما ً عنه ‪ ،‬اليمتلك القدرة على الحركة واليستطيع‬ ‫النطق بعد إجراؤه عمليات عده فى عاموده الفقرى ‪ ،‬وقد رأت المستشفى أن‬ ‫‪45‬‬


‫يبقى فيها لتوافر الرعاية الطبية ‪ ،‬لكن السيد وكذلك كمال وأخوته ومعهم‬ ‫جابر إبنه رأوا أن يعود وتتم رعايته بالبيت وتحت اشراف األطباء ايضا ‪.‬‬ ‫كانت المشكلة التى قابلت اعتماد حينما قيل هذا أنه تم االتفاق على أن ترعاه‬ ‫كريمه لقدرتها على بذل الجهد معه وألن اعتماد مريضة التستطيع هذا ‪،‬‬ ‫المها هذا الرأى وورأت اجحافا ً بحقها كسيدة أولى ووحيدة للبيت ومن حقها‬ ‫أن تكون هى صاحبة الرأى والمشورة والقدرة على فرض إرادتها كما‬ ‫تشاء ‪ ،‬أما أن تأتى األوامر من السيد أو غيره فهذا مااليليق وال يجب ‪،‬‬ ‫لكنها لم تستطع النطق أو حتى الخوض فى مثل هذا األمر اآلن لكون‬ ‫الموقف اليحتمل النزاع ‪ ،‬ولكونها للحقيقة ايضا مريضة وتحتاج الى من‬ ‫يرعاها ‪ ،‬ورضا لن تقوم بمفردها برعايتها ورعاية أبيها معها وكريمه هناك‬ ‫التفعل شيئا ً ‪ ،‬لذا لزمت صمتا ً مخذوالً ‪ ،‬وأعلنت القبول والرضا ودعت‬ ‫لكريمه بالتوفيق فى مهمتها الجديدة ‪.‬‬ ‫‪............‬‬ ‫في طريقه الى مدرسته الثانوية ومعه أخوه الصغير محمد سار سالمة‬ ‫خارجا ً من البيت ‪ ،‬حامالً هم ذلك اليوم وكيف يفلت منه‪ .‬أستاذ اللغة‬ ‫اإلنجليزية لن يرحمه اليوم من عقاب رادع ‪ ،‬أقسم له في الحصة الفائتة أنه‬ ‫إن لم يحفظ الدروس ويسمعها أمام الفصل كله كلمات وقواعد فأنه سيعرف‬ ‫شغله معه‪.‬‬ ‫المشكلة أنه يمسك الكتاب ويجلس أمام أمه ليذاكر تنفيذا ً لرغبتها‪ ،‬ومع هذا‬ ‫ال يفقه منه شيئا ً ‪ ،‬الكلمات أمام عينيه طالسم ‪ ،‬ينظر اليها ‪ ،‬يتأمل تكوينها‬ ‫دون أن يفقه لها معنى ‪،‬ال يرى منها اال صورة نوال ‪ ،‬نوال باإلنجليزيه‬ ‫‪،‬وبالعربية ‪ ،‬نوال حسابات وضرب وطرح وقسمة ‪ ،‬نوال تضاريس ‪ ،‬سهول‬ ‫وهضاب وأغوار ‪ ،‬ونوال وفى كل حين ‪ ،‬يمسك القلم ليكتب الحروف‬ ‫المعجمة ليحفظها ‪ ،‬يندفع الشعر باللغة العربية الى سن القلم ‪ ،‬يحادث نوال‬ ‫‪ ،‬يشرح لها ‪ ،‬ويصف حسنها ‪ ،‬الغريب أنه يكتب صفحات وصفحات اليدرى‬ ‫‪46‬‬


‫من أين تأتيه كل تلك المعانى وكل هاتيك الصفات وكل هذا الشعر ‪ ،‬كأنه‬ ‫ماخلق اال ليكتب لها وعنها ‪ ،‬أما المذاكرة وبخاصة هذه المادة التى‬ ‫وضعوها لقهر الطالب اللغة االنجليزيه فهو اليكاد يفقه واليريد أن يفقه منها‬ ‫شيئا ً ‪ ،‬ويخشى أن يعترف بهذا ألمه حتى ال تعايره بفشله ‪ ،‬وتذكره أنها‬ ‫تريده أن يتعلم ليكون له مقامه بين أخوته ‪ ،‬ليقف ويعلن عن نفسه ‪ ،‬يكون‬ ‫له مقام أمام أبناء إعتماد ‪ ،‬فإذا كان جابر قد أخذها من قصيره ‪ ،‬وترك‬ ‫المدرسة بعد سنة ستة إبتدائي ‪ ،‬وذهب مع والده في الدكان يبيع ويشتري ‪،‬‬ ‫ويعرف السوق ويتعامل مع الناس ‪ ،‬ويملك المقدرة على اإللتحام بهم ‪،‬‬ ‫ويعتبر اليوم رجل البيت بعد أبيه ‪ ،‬رغم أنه لم يتعد الثامنة والعشرين ‪ ،‬وإذا‬ ‫كانت رضا في اإلعدادية ومحمد الصغير مايزال في الصف الرابع فإنه‬ ‫الوحيد في البيت الذي تعلو أسهمه بالتعليم وإذا اجتهد سيتخرج ضابطا ً او‬ ‫طبيبا ً وال يقولوا إبن كريمه خاب‪.‬‬ ‫هو يعرف تفكيرها وكالمها‪ .‬لكن ماذا يفعل ونوال له بالمرصاد ؟‬ ‫ومحال أن يقول محتاج درسا ً خصوصيا ً ‪ ،‬لعل المدرس الخصوصى يضغط‬ ‫عليه ويجبره على االنتباه لدروسه ‪ ،‬خاصة في هذه الظروف ‪.‬‬ ‫الغريب أنه شاطر في بقية المواد ‪ ،‬شاطر فيها‪ ،‬ألنه فى الحصة ينتبه رغما ً‬ ‫عنه للضوضاء التى يحدثها المدرس ‪ ،‬مما يجبره على االنتباه له ‪،‬‬ ‫وبالتالى فهم الدرس جيدا ً ‪ ،‬واليحتاج األمر اال الى قراءة سريعة ليثبت فى‬ ‫رأسه ‪ ،‬وبالتالى يحصل على درجات جيدة بأقل مجهود‪ .‬فلماذا اإلنجليزي‬ ‫بالذات ؟ ربما لصوت األستاذ محروس الرفيع الذى يصل بالكاد الى أذنيه ‪.‬‬ ‫إقتربت مدرسة محمد‪ .‬ربت رأسه بلطف ‪ ،‬أوصاه بنفسه خيرا ً ‪ ،‬ومضى الى‬ ‫األمام نحو مدرسته‪ .‬غير أنه رأى أعينا ً ترقبه على بعد‪ .‬تبسمت عيناه‬ ‫ومضى عابرا ً الطريق اليها في الرصيف المقابل‪:-‬‬ ‫‪ -‬تأخرت عليك ؟‬

‫‪47‬‬


‫إضطربت خطواتها وأسرعت بالسير ‪ ،‬مضى خلفها وأمسك بيدها ليوقفها‬ ‫ بس يا مجنون‪..‬بابا يكون شايفنا‬‫ ياريت ‪ ،‬اطلبك منه ولن يمانع‬‫ لو رأني معك يقتلني‬‫ لست معى‪ ،‬بل داخلى‬‫ داخلك فراغ‬‫ بل نور من فيض هواك‬‫ الهوى نور ؟‬‫ هوى نوال نور‬‫ سأتوه مع كلماتك ‪ ،‬سالم‬‫ إذن أين أراك ؟‬‫ سوف أرسل اليك‬‫مد يده الى جيب حقيبتها المفتوح عمدا ً له ووضع فيه رسالة من اثنى عشر‬ ‫صفحة كتبها ليالً وأعدها ليعطيها لها فى الصباح‬ ‫‪ ،‬بعدها أرسل قبلة عبر الهواء اليها‪ .‬أدارت ظهرها له بعد أن رمته بنظرة‬ ‫باسمة حملتها فيضا ً من حروف وأحاسيس التقرأ اال بالعيون ‪ ،‬وأكملت‬ ‫السير‪ ،‬أما هو فقد أطلق صوته بإغنية تشرح سعادته ‪ ،‬مضى يرددها طوال‬ ‫سيره نحو مدرسته‪.‬‬ ‫‪.....................‬‬ ‫قام كامل عن مقعده معترضا ً طريق جابر‪.‬‬

‫‪48‬‬


‫كان الوقت مساء والعمال يستعدون لتشطيب العمل في الوكالة ‪ ،‬وغسل‬ ‫أبدانهم من التراب والعفار الالصقين بها طوال النهار‪ ،‬خيش من كل نوع‬ ‫وصنف يتعاملون معه ‪ ،‬يرتقون جوانبه ‪ ،‬ويشذبون حوافه ‪ ،‬وينظفون‬ ‫داخله ليعاد توريده مرة آخرى إلستخدامات جديدة‪ .‬شغلة رغم أنها تكسب ‪،‬‬ ‫إال إنها تورث أمراضا ً صدرية ال ترحم ‪.‬‬ ‫جلس كامل أمام الوكالة ومبسم الشيشة فى يده ‪ ،‬يسحب منه نفسا ً يرميه‬ ‫للهواء عبر فتحتى أنفه وهو يحدق فى باب بيت رضوان ومعه خواطر شتى‬ ‫‪ ،‬رضوان الرجل الذى فض الشراكة بينهما فى لعبة المزادات التى فتح له‬ ‫أبوابها من قبل وشرح له دروبها ومسالكها ‪ ،‬وعرفه على أشخاص من هنا‬ ‫وهناك فى كل أنحاء مصر‪ ،‬يتابعون له البضاعة وأسعارها وأوقاتها‬ ‫والفرص المتاحة لها تحت بند المنفعة للجميع ‪ ،‬والطعام للكل ‪ ،‬وكلما‬ ‫فتحت عينك مع من حولك فتحوا أعينهم معك ‪ ،‬وكلما مددت يدك لهم‬ ‫بالمودة لن يردوها بالغدر أبدا ً طالما يرون منك الجد بعيدا ً عن العاب السوق‬ ‫وهواة النصب واالحتيال ‪ ،‬رضوان هذا قبل مرضه بشهور اختلف معه‬ ‫بسبب ولد من األسكندرية اسمه الضبع ‪ ،‬هذا الضبع أراد أن يلعب مع كامل‬ ‫ويتحداه ويقف له فى السوق فما كان منه اال أن ازاحه من طريقه ‪ ،‬وصل‬ ‫الخبر لرضوان ‪ ،‬غضب وجاءه معنفا ً ورافضا ً تماما اسلوب الغدر كما أسماه‬ ‫يومها ‪ ،‬ووسط مقهى محمد بطه وهو ممتلىء آلخره بالزبائن صرخ فيه أنه‬ ‫اليستحق التعامل معه ‪ ،‬وأنه يفض الشراكة بينهما وكل تعامل من اآلن‬ ‫وعليه أن يحمل حمله وحده ويسير مشواره بال تعاون وال حتى مشاورة‬ ‫وأنه ‪ ،‬سوف يبلغ كل معارفهم على مستوى البلد كلها بما فعله بالضبع ‪،‬‬ ‫أراد كامل يومها أن يشرح له حقيقة األمر ‪ ،‬لكن الغضب أعماه يومها عن‬ ‫سماع شىء منه ‪ ،‬كما إن محمد بطه همس فى أذنه ناصحا أن يترك‬ ‫العاصفة تمر ‪ ،‬وبعدها لهم جلسة معا ً يبحثان فيها سبل وصل ماانقطع‬ ‫وايضاح مالم يتضح‬

‫‪49‬‬


‫‪ ،‬صحيح رضوان بعدها صفا وعاد يحادثه ‪ ،‬وربما جلس معه فى وقت‬ ‫الفراغ على المقهى ومعهم محمد بطه والسيد وغيرهم ‪ ،‬لكن الشغل انقطع‬ ‫ولم يقبل رضوان أى كالم فيه متعلالً بصورته فى السوق ‪ ،‬أما كامل فقد‬ ‫توقفت عالقته بالمزادات من يومها ‪ ،‬ابتعد عنه البعض بحجة عدم وجود‬ ‫مايستحق والبعض اآلخر قالها صريحة ‪-:‬‬ ‫ كلم رضوان وتفاهم معه ‪ ،‬ونحن تحت أمرك‬‫ولم يجد أمامه اال مناطق بعيده لم تشبع نهمه كما كان من قبل ‪ ،‬لذا وجدها‬ ‫فرصة بعد مرض رضوان ورقاده أن يتقرب من جابر ‪ ،‬ولكى يقتنع‬ ‫ويشاركه معه فال مانع من دخول محمد بطه معهما وتصبح شراكة ثالثة بدال‬ ‫من اثنين ‪.‬‬ ‫كان جابر يحمل بين عينيه لهفة الى الخروج من البيت والحارة بل والحي‬ ‫كله ‪ ،‬زهد الحياة ورأى الوجود حوله لعبة بلهاء التليق به ‪ ،‬وهو ايضا‬ ‫اليفهم مراميها وأبعادها وماتفعله بمثله من السذج الذين اليعرفون‬ ‫واليفهمون اال ماتراه أعينهم ‪ ،‬األمور األخرى التى تحتاج للدهاء والمكر هو‬ ‫اليفهم منها شيئا ً ‪ ،‬هو يفهم ويدرك مايراه وما يلمسه أما الخبث واللؤم‬ ‫والمكر وماالى هذا من مسميات فليس له منها شىء ‪ ،‬المرأة سعدية التى‬ ‫كانت عيناها تفصحان وبسمتها تعد وخطوتها تصرح بما لديها نحوه عرف‬ ‫من البعض أنها ارتبطت بولد صائغ له محل فى الصاغة اسمه اسحاق وأنها‬ ‫رمت بشباكها عليه ملقية بكل من قبله خلفها كأن حديثها معه واقترابها منه‬ ‫ومعرفتها التامة لعائلته ومركزها وقوتها فى المنطقة كل هذا راح هباء‪،‬‬ ‫وهللا الذى ال اله اال هو لو أرادها أن تركع بين يديه لفعل ‪ ،‬ولو أراد اعتقالها‬ ‫فى بيته لفعل ‪ ،‬ولو أراد ضربها وسط السوق وطرها من المنطقة كلها لفعل‬ ‫‪ ،‬ولن يستطيع اسحاق هذا أو غيره الوقوف له ‪ ،‬يكفيه أن يقف وسط‬ ‫السوق ويحكى ماكان بينهما ‪ ،‬يشرح تفاصيل ال يعرفها أحد سواه عن‬ ‫جسدها ‪ ،‬يتكلم عن أحداث بينهما اليعرفها سواهما ‪ ،‬تكفى لجعلها تدفن‬ ‫نفسها حية طول العمر ‪ ،‬لكن هناك ماهو أهم ياجابر ‪ ،‬هناك ماهو أهم ‪.‬‬ ‫‪50‬‬


‫‪ ،‬حتى حسان الذي كان يظنه فعلها بأبيه عرف أنه مات قبلها بأيام ‪،‬‬ ‫وصارت المهمة أصعب إن لم تكن محال‪.‬‬ ‫يهاجم من ويضرب من ؟‬ ‫ثم هذه العصا التي يحملها لم تعد تليق بعراك اليوم ‪ ،‬عراك اليوم له شأن‬ ‫آخر أكبر وأخطر من العصا وفعلها‪ .‬صحيح هو ماهر مثل والده في حملها‬ ‫واللعب بها‪ .‬لكن الطرق اآلخرى األحدث البد منها وسهل تعلمها‪.‬‬ ‫المهم مع من يستخدمها ؟‬ ‫أبوه يرقد اآلن ‪ ،‬والجانى طليق وال أحد يعرف أو يفهم شيئاً‪ .‬وهو هكذا‬ ‫وحسب فرمان أمه سيظل حبيس المنزل‪ ،‬ستبور البضاعة ويضيع الزبون‬ ‫وفرصة معايشة الناس والتحدث اليهم ‪ ،‬وإكتشاف المغاليق من األمور‬ ‫ستضيع عليه‪ .‬هو واثق أنه بفتح الدكان والوقوف فيه سيصل يوما ً الى قاتل‬ ‫والده‪.‬‬ ‫لكن كيف وأمه تقف وله وأعمامه يقولون له ال تغضبها؟‬ ‫قال كامل وهو يربت كتفه ‪ ،‬ويقوده الى مقعد بجوار مقعده حيث الشيشة‬ ‫المعسل يخرج من أعالها دخان أبيض يتصاعد في الهواء متبخترا ً على مهل‬ ‫‪ ،‬والى جوارها صينية الشاي على التربيزة الصاج الصفراء اللون وبها‬ ‫كوب شاي به نصفه وكوب ماء ممتلئ حتى حافته ‪-:‬‬ ‫ عاوزك في موضوع ياجابر‪.‬‬‫سار معه في هدوء‪،‬غير أن صدره كان يموج بتساؤالت شتى –غريب أمرك‬ ‫ياكامل‪ .‬تعرف أنني ال أقبلك ‪ .‬كما أعرف أنك ال تقبلني وإننا نكتفي بإلقاء‬ ‫السالم والتحية كلما تالقتت أعيننا بالكاد ‪ ،‬فما الذي جرى اليوم ؟‬ ‫ اطلب لك شاى؟‬‫ ال‬‫‪51‬‬


‫ترى ما ورائك يا كامل ؟‬ ‫همس جابر لنفسه وهو يحدق في عينيه بهدوء ‪ ،‬عيناه واسعتان‪ ،‬فيهما‬ ‫شيطان مارد قوى ‪ ،‬ترى ماذا يريد ؟‪ ..‬صحيح أنه كانت بينك وبين‬ ‫المرحوم عالقات عمل ‪ ،‬كانت تضطره أحيانا ً للجلوس معك ‪ ،‬وربما‬ ‫مشاركتك شرب الشاي والشيشة من قهوة بطة‪ .‬لكنه في أواخر أيامه إبتعد‬ ‫عنك‪ .‬حدثت جفوة بينك وبينه ‪.‬لم يكن خصاما ً فكل منكما كان إذا رأى الثاني‬ ‫حياه‪ .‬لكنها ليست التحية التي تعودتما عليها‪ ،‬وقد حكت كريمه أم سالمة أن‬ ‫السبب كما روى لها الحاج هو مزاد من المزادات التي كانوا يدخلون فيها ‪،‬‬ ‫إما شركة أو كل بمفرده ‪ ،‬روت كريمه أن المزاد األخير دخل رضوان وحده‬ ‫‪ ،‬وأن كامل حاول مشاركته لما رأى العملية ومكسبها ‪ ،‬غير أن رضوان‬ ‫رفض قائالً إن مكسبها سيذهب كله لعائلة الضبع فى اسكندرية الذين ضاعوا‬ ‫من بعده‬ ‫عاتبه كامل وكانت قعدة تجار كبار تطايرت فيها الكلمات‪.‬‬ ‫ الضبع هو الذى بدأ الغدر‬‫‬‫‪-‬‬

‫كنت ارجع لى أوال‬

‫أردت رد القلم ‪ ،‬لم أفكر أنك ستغضب‬

‫ الضربة سمعت جامد ‪،‬الناس خافت ‪ ،‬وكان ممكن تبعد ‪ ،‬المصلحة‬‫تقول اتصرف بسرعه ‪ ،‬صلح الخطأ‬ ‫ كيف ؟‬‫ أن تبتعد قليالً حتى يهدأ الجو‬‫ وتلعب فى الساحة وحدك‬‫‪ -‬بدالً من الجلوس نندب حظنا ونبكى اللبن المسكوب معا ً‬

‫‪52‬‬


‫‪-‬‬

‫أنت هكذا تبيعنى‬

‫ الى حين‬‫كلمات كثيرة وعتاب طويل غير إنه لم يزد عن هذا ‪ ،‬فكامل ذكي وهو يعرف‬ ‫رضوان وعائلته في المنطقة بأسرها‪ ،‬وفوق هذا يطمع أن تعود المياه الى‬ ‫مجاريها ذات يوم قريب ‪ ،‬لذا لزم الصمت ورضى أن تظهر الجفوة وإن‬ ‫تغلف بصمت من الجانبين على أمل أن يذوب الجليد بعد حين ‪.‬‬ ‫فما الذي يريده اليوم ؟‬ ‫مد كامل يده بالمبسم ‪:-‬‬ ‫ أعرف أنك تشرب الشيشة‬‫ ال‬‫نحاها جابر جانبا ً بيده ‪ ،‬أعادها كامل الى فمه بهدوء ‪ ،‬ناظرا ً اليه بعينيه‬ ‫الواسعتين متفحصا ً ‪ ،‬وهو يمد يده الى أعلى ليضبط وضع العمامة على قمة‬ ‫رأسه ‪ ،‬وقد مضت عيناه وسط ضبابة من شرود طارئ ‪ ،‬صحيح يا أوالد‪،‬‬ ‫الولد سر أبيه ‪ ،‬فولة وأنقسمت نصفين ‪ ،‬نفس الوجه األسمر والذقن المدببة‬ ‫واألنف المستقيم والجبهة العريضة ونفس النظرة المتحدية ‪ ،‬لوال خجله‬ ‫مني لجلس مثله بالضبط ‪.‬‬ ‫آه يا رضوان‪ .‬كثيرا ً ما قلت لك خليك معي ‪ ،‬انا وأنت نستطيع هز السوق‬ ‫كله‪ ،‬لن نترك مزادا ً إال ودخلنا فيه‪،‬كافة شئ معا ً سنتاجر فيه‪ ،‬واللقمة تنقسم‬ ‫إثنين ‪ ،‬لكن الغبي رفض من أجل رجل بعيد النعرفه ولسنا بحاجة ملحة اليه‬ ‫‪ ،‬رجل أراد أن يغدر بنا فسبقناه نحن وغدرنا به ‪ ،‬قائالً أنه عندما يحتاجني‬ ‫سيطلبني ‪ ،‬مطلوب مني أن أجلس أمام الوكالة أتفرج في صمت‪ .‬أراه وأفرح‬ ‫به وهو يلف السوق وحده‪.‬‬ ‫هه‪ .‬هللا يشفيه بقى‪.‬‬ ‫ مرحب يا بني‬‫‪53‬‬


‫ مرحب ياحاج‪ .‬كنت عاوزني في حاجة ؟‬‫ وهللا كان عندي كلمتين‬‫بخصوص الدكان‪ .‬أنت تعرف طبعا ً أنا كنت حبيب‬ ‫المرحوم وتهمني مصلحة والده‪.‬‬ ‫ظل جابر صامتا ً يبحث عن كلمات تصلح للرد ‪ ،‬السؤال نزل على قلبه‬ ‫جمرا ً‪ ،‬كلمات كامل لن تجىء عفو الخاطر ولكن مؤكد هناك غيرها كثير‬ ‫يدور فى األذهان وفى الجلسات الخاصة وعلى المقاهى والحوانيت ‪ ،‬مؤكد‬ ‫كل الناس تسأل عن السر فى غلق الدكان ‪ ،‬كأنه لم يكن هناك اال الحاج‬ ‫رضوان وقد رقد !! ومؤكد السؤال سيظل بدون جواب ألن أمي تريد هذا‪.‬‬ ‫عال صوت كامل كالطنين فى أذنيه من جديد ‪ -:‬يا بني‪ .‬الدكان الزم يتم‬ ‫فتحه‪ ،‬وهذا لن يتعارض مع الحزن أو البحث عن الفاعل اللئيم ‪.‬‬ ‫لكن لقمة العيش ورزق البيت ال تقطعوه بأيديكم‪.‬‬ ‫ فاهم ياحاج‪.‬‬‫حدقت العيون الواسعة من تحت العمامة البيضاء في وجه جابر ومالمح‬ ‫إرتياح تلوح في أحداقها‪ ،‬شجعه تجاوب جابر ‪ ،‬أكمل بعد أن أخذ نفسا َ‬ ‫سريعا ً من الشيشة‪- :‬‬ ‫ الحياة يا بني لن تقف بسبب الثأر‪.‬‬‫ الدكان سيفتح ‪ ،‬والثأر لن أتركه‬‫ هللا المعين ياولدى ‪.‬‬‫حدق جابر في وجهه‪ .‬في سمرته وأنفه المفلطح ‪ ،‬وفي عمامته ‪ ،‬سمعه‬ ‫وهو يكمل‬ ‫‪54‬‬


‫ أنت مثل يولدى يا جابر‪ ،‬أي شئ يمسك لن أسكت‬‫سأحميك ولو بنفسي ‪ ،‬بأوالدي‪.‬‬ ‫تبسم جابر‪ ،‬وجهه الفتى إنبسطت أساريره ‪ ،‬وهو يرقب إنفعاالت كامل‬ ‫وكلماته ‪ ،‬أين كانت كل هذه العواطف أيام أبيه ؟ معقول ينسى ماكان ؟ على‬ ‫كل يشكر على النصيحة‪ .‬جاءت بفائدة‪ .‬على األقل عرفت ماذا يدور في‬ ‫أذهان الناس‬ ‫ شكرا ً يا حاج‪ .‬سالم عليكم‬‫وقام مسلماً‪ .‬قام كامل يودعه تاركا ً مبسم الشيشة مؤقتا ً ‪.‬‬ ‫‪......................‬‬ ‫لم تجد كريمه اال البكاء تعتصر فيه روحها وهى ترى سالمه سادرا ً فى غيه‬ ‫‪ ،‬تائها ً بين دروب سراب الحد له ‪ ،‬يرى ظالالً على جدار حياته فيظنها‬ ‫واقعا ً يسير خلفه ‪ ،‬واليدرى إنه سيؤدى به الى ضياع مقيم ‪ ،‬وكلما حاولت‬ ‫نصحه يسمعها ويطمئنها بكلمات هى تعرف وهو ايضا أنها مجرد حروف‬ ‫المعنى والكيان لها ‪ ،‬وليست أكثر من مخدر يراد به اسكاتها ليفعل بعدها‬ ‫مايريد ‪ ،‬ورغم حدة نقدها له والحاحها عليه ليهتم بدروسه وينأى عن‬ ‫أوهامه اال أنها لم تحاول أن تشرك معها أخوه جابر وال أعمامه السيد أو‬ ‫محمد أو كمال ‪ ،‬التريدهم أن يقولوا أن ابن كريمه فشل أو أن مرض‬ ‫رضوان أثر سلبا ً على أوالده ‪ ،‬لم تستطع كريمة أن تفعل شيئا ً لهم وساروا‬ ‫فى طريق الضياع ‪ ،‬لذا أجبرت نفسها مرارا ً على التوسل لسالمه كى ينتبه‬ ‫ويدرك ماحوله ‪ ،‬فقد صار اآلن رجالً يجب عليه أن يقف بجوار أخيه جابر‬ ‫يعينه ويسانده ‪ ،‬ويكون ذراعه اليمنى ورأسه ايضا اذا لزم األمر ‪ ،‬سالمه‬ ‫عاقل وذكى وداخله طيب وهى تعرف هذا لكن الجرى وراء هذه البنت‬ ‫الحرباء بنت كامل سيورده الهالك ‪ ،‬البنت لن تطير ويمكنها أن تدبر فى‬ ‫الوقت المناسب للربط بينهما برباط الزواج ‪ ،‬لكن اآلن محال ألسباب عديدة‬ ‫‪55‬‬


‫منها مرض رضوان ‪ ،‬ومنها أن سالمه مازال تلميذا يأخذ مصروفه ‪،‬‬ ‫ومنها أن مجرد التفكير فى هذا وفى هذا التوقيت بالذات عار عليها وعليه‬ ‫واليجب بحال أن يعرف به مخلوق ‪..‬حادثت سالمه بكل هذا ورجته وتوسلت‬ ‫اليه أن يكافح هوى نفسه ‪ ،‬و أن يصبر قليالً وهى ستقف بجواره ولن‬ ‫تخذله وستساعده بكل طاقتها شرط أن يأخذ الشهادة ويدخل الجامعة ويحقق‬ ‫أملها فيه ويرفع رأسه وسط عائلة رضوان ‪ ،‬هو اليعرف كم عانت وكم رأت‬ ‫من نظرات إعتماد وتصرفاتها معها ‪ ،‬وكم دارت االمها وابتلعت كرامتها‬ ‫مرارا ً من أجل حياة أجبرت عليها ولم تطلبها يوما ً ما ‪ ،‬لقد كانت تعيش‬ ‫وأبيها الفران فى حارة البرقوقية فى الخرنفش ‪ ،‬حياة الكفاف مثل كثيرين‬ ‫وكانت راضية ‪ ،‬دخلت المدرسة االبتدائية وكانت متفوقة وحصلت على‬ ‫درجات عالية فيها ‪ ،‬وتقدمت لإلعدادية وعبرت السنة األولى ‪ ،‬وفى السنة‬ ‫الثانية مرض والدها مصدر رزقهم الوحيد هى وأمها ‪ ،‬ودخل المستشفى‬ ‫وبدأت مرحلة الدموع والشقاء وأولها انقطاعها عن المدرسة ‪ ،‬وكان البد‬ ‫أن تسير الحياة حاملة معها االم الفقراء ‪ ،‬دارت أمها على بعض بيوت‬ ‫الحى ومنها بيت رضوان كخادمة تنظف البيت وتغسل المالبس ومااليها ‪،‬‬ ‫لكن جمالها وأنوثتها جذبا اليها أعين الطامعين الذين حاولوا الوثوب الى‬ ‫الفراش الخالى ‪ ،‬وأخذ مكان مريض اليملك من أمره شيئا فى مستشفى‬ ‫ينال فيه بالكاد عالجه ‪ ،‬وفى ليلة التنساها رأت أمها قادمة الى الحجرة‬ ‫الوحيدة التى تأويهم ‪ ،‬والتى تنتظرها فيها الى أن تعود من أحد البيوت التى‬ ‫تخدم فيها ‪ ،‬رأتها قادمة تحمل على كاهلها قهرا ً تنوء منه الجبال ‪ ،‬وفى‬ ‫عينيها دموع تكاثفت وصنعت دوائر حمراء نارية الصرخات والمجيب ‪،‬‬ ‫يداها ترجفان وأنفاسها بالكاد تعلن أنها ماتزال مقيدة بقيود تلك الحياة ‪،‬‬ ‫وهى تهمس فى رعب غطينى ياكريمة بردانه ‪ ،‬وتنشج غير واعية لما‬ ‫حولها ‪ ،‬يومها بكت كريمة كما لم تبك من قبل ‪ ،‬ولم تعرف ماذا تفعل‬ ‫بالضبط ‪ ،‬والى من تذهب وليس لهم أقارب أو جيران يمكن الوثوق بهم ‪،‬‬ ‫اللهم اال جيرانهم فى الحجرات المجاورة داخل الشقة التى تجمع أربع‬ ‫عائالت كل منها فى حجرتها ‪ ،‬أتى أهل الشقة على بكاء كريمه وتحلقوا‬ ‫‪56‬‬


‫حول األم محاولين تهدئتها أو فهم ماجرى لهاولم يصلوا الى شىء ‪ ،‬فى‬ ‫الصباح قامت أمها ذابلة الروح ‪ ،‬هامدة القلب ودموعها ماتزال سادرة فى‬ ‫غيها ‪ ،‬ارتدت مالبسها واتجهت الى بيت رضوان ‪ ،‬اختلت به قليالً وعادت‬ ‫الى حجرتها رافضة أن تبارحها ‪ ،‬وكلما حادثها أحد فى الخروج أو معاودة‬ ‫السعى فى البيوت بكت ولم تبح بشىء ‪ ،‬بعدها تعددت زيارات رضوان‬ ‫وسط تطلع كل من فى الحارة وتساؤلهم عن سبب مجيئه واهتمامه بهذه‬ ‫العائلة بالذات ‪ ،‬وإن كانت الظنون لم تذهب الى شىء يشينه أو يشين‬ ‫المرأة الجميلة التى انكمشت فى حجرتها رافضة مجرد النظر من النافذة الى‬ ‫الطريق ‪ ،‬الى أن جاء يوم ودخل رضوان الحارة ومعه ثلة من الرجال بينهم‬ ‫رجل متوسط الطول على وجهه أثار ضربات ولكمات ‪ ،‬مبعثر النظرات‬ ‫أشعث الشعر‪ ،‬مقطع الثياب ‪ ،‬يمضى مستسلما ً بين أيديهم وقد قيدوا يديه‬ ‫وراء ظهره ‪ ،‬ونزعوا عنه حذاءه ليسير حافيا ً ‪ ،‬وامسكوا به من يديه‬ ‫يقودونه الى حيث يتجهون ‪ ،‬دقوا الباب ‪ ،‬فتحت كريمه ‪ ،‬حدقت أمها فيهم‬ ‫برهة وحدقتاها تدوران بينهم الى أن استقرت على وجه هذا الرجل ‪،‬‬ ‫وانفجرت فى البكاء مندفعة نحوه بهدير ثورة عمياء ‪ ،‬تضربه بيديها‬ ‫وقدميها وتصرخ بكلمات لم تفهم منها كريمه شيئا ً ‪ ،‬والرجال ينظرون‬ ‫صامتين ‪ ،‬مكتفين بالتحلق حولهما دون تدخل أو إبعاد الرجل المقيد عن‬ ‫براثنها وحقدها ‪ ،‬الى أن هدأت ثورتها وبدأت تكتفى ببكاء هادىء ونشيج‬ ‫مكتوم ‪ ،‬بعدها قام رضوان بتسليم الرجل للقسم وعاد اليهن ‪ ،‬أعلن أنه‬ ‫مسئول عنهن الى أن يقوم الزوج المريض ‪ ،‬وحتى يقطع األلسنة التى قد‬ ‫تتقول عليه أو تظن به الظنون سيتزوج كريمه على سنة هللا ورسوله ‪ ،‬ولم‬ ‫يكن هناك مجال لرأى أو مشورة أو حتى تفكير من أمها التى بدأت فى‬ ‫التعافى قليالً وإن كانت نظراتها ظلت منكسرة وروحها تعانى من اكتئاب‬ ‫مقيم ‪ ،‬ولم يكن هذا نهاية العذاب كما ظنت كريمة بل إن عذابها بدأ بمجرد‬ ‫دخولها بيت رضوان ومقابلة الست إعتماد أم جابر وتحمل معاملتها‬ ‫وكلماتها النارية التى الترحم وهى تذكرها بين الحين والحين بحجرتهم فى‬ ‫حارة البرقوقية وأمها الخادمة التى انتشرت سيرتها وتناقلتها األلسنة بطول‬ ‫‪57‬‬


‫شارع سوق السمك والخرنفش وحارة اليهود ‪ .‬ورغم هذا سارت الحياة‬ ‫بكريمة زوجة لرضوان ‪ ،‬الترى سواه رجال وأبا ً حانيا ً ‪ ،‬والتعرف سوى‬ ‫فضله عليها وعلى أمها وأيضا على أبيها الذى خرج من المستشفى عاجزا ً‬ ‫وساعده زوجها فى عمل كشك خشبى صغير فى مدخل الخرنفش يبيع فيه‬ ‫الخضر ‪ ،‬ويعيش من ريعه هو وأمها حتى اآلن ‪ ..‬تذكر كريمه كل هذا‬ ‫وتنظر الى رضوان الذى يرقد على سريره عاجزا ً وهى تتعجب من تصاريف‬ ‫القدر التى اختصتها بالذات لترد لهذا الرجل معروفه الذى أدركته ووعته‬ ‫جيدا ً حينما كبرت ‪ ،‬ورأت كيف كان نبيالً حينما عرف بمأساة أمها ومن‬ ‫اعتدى عليها ‪ ،‬وكيف عاقبه وسط الحارة وبين العيون واآلذان المتحلقة ‪،‬‬ ‫وأكد للجميع نقاء أمها وشرفها ‪ ،‬وحتى يكون لدخوله حجرتهم ومده‬ ‫يدالمساعدة اليهم تزوجها ‪ ،‬هو الرجل الذى تتمناه أى بنت أجمل منها‬ ‫وأعز ‪ ،‬ومن بيت أعلى جاها ً وشرفا ً من بيتها ‪ ،‬تنظر اليه فى رقدته وهو‬ ‫ينظر اليها بعينيه وال يمتلك القدرة على النطق كما كان من قبل ‪ ،‬تحادثه‬ ‫وتسرى عنه وتقوم على خدمته راضية ‪ ،‬متناسية أنها ماتزال فى بدايات‬ ‫عمرها الذى كان من الممكن أن يضيع لواله ‪ ،‬الجميل فى األمر أن الولد‬ ‫محمد إبنها الصغير يصاحب أباه اآلن ‪ ،‬يجلس الى جواره على السرير‪،‬‬ ‫يريه الواجب الذى أخذه فى المدرسه ويكتبه أمامه ويداعبه ويلعب معه ‪،‬‬ ‫وهو الوحيد الذى ترى فى عينى رضوان طيف بسمة وهو بالقرب منه ‪ ،‬أما‬ ‫سالمه فهو رغم كلماته الحانية على أبيه تراه بعيدا ً عنه ‪ ،‬يكتفى بالكلمات‬ ‫المعسولة والتمنيات الطيبة واليجلس اليه اال قليالً ‪ ،‬تفتش حاجياته فى‬ ‫غيابه فال ترى اال أشعارا ً وكلمات بلهاء لتلك الفتاة المسماه نوال التى أكلت‬ ‫عقله وسرقته من نفسه ومن مذاكرته ودروسه ‪ ،‬هى فى كل األحوال تجبره‬ ‫على الجلوس للمذاكره ولكنها التملك المكوث معه ومتابعه مذاكرته ‪ ،‬لذا‬ ‫فهو يجلس ليس للمذاكره ولكن لكتابة الخطابات لهذه الحرباء إبنة كامل ‪،‬‬ ‫لو كان رضوان بعافيته لعرفت كيف تجبره على نسيان هذه الفتاه رغما ً‬ ‫عنه ‪ ،‬هذا المجنون الذى اليعيش واليريد العيش فى عصره هذا الذى لم يعد‬ ‫فيه للرومانسية مكان !‬ ‫‪58‬‬


‫‪........................‬‬

‫تيقظت صفاء في عز الليل على صوت أمها يتألم ‪ ،‬يتدفق بال توقف ويدور‬ ‫فى األركان قويا ً أكثر مما اعتادت منها ‪ ،‬غزا الرعب قلب ‪ ،‬هبت من نومها‬ ‫اليها ‪ ،‬رأتها تمسك برأسها وتدور في الشقة سريعاً‪ ،‬هي التي كانت تتوكأ‬ ‫على أحد في سيرها ‪ ،‬تحركت قدماها ومضت تتحرك في الشقة ‪ ،‬تدور بين‬ ‫أرجائها ‪ ،‬تمسك برأسها وتشتكي ضغطا ً يكاد يفجر عظام الجمجمة ‪ ،‬وبين‬ ‫الحين والحين تهتف من أعماقها ‪-:‬‬ ‫ دماغي تتفتت ‪ ،‬الضغط سيعميني يا أوالد‪.‬‬‫حدقت فى مالمح أمها التى تبدلت أمامها ولم تعد تلك الحادة المتنمرة التى‬ ‫ترتسم على شفتيها دوما ً بوادر ابتسامة إما ساخرة ترمى بها من تشاء ممن‬ ‫اليعجبها تصرف أو قول يلفظون به ‪ ،‬وربما مشجعة تهديها لمن تراه‬ ‫جديرا ً بها فى لحظتها ‪ ،‬لم تعد هناك ابتسامة والحتى مالمح هادئة كما كانت‬ ‫تراها وهما وحدهما فى البيت ‪ ،‬صارت اآلن مالمح معذبة مقهورة ‪ ،‬تتألم‬ ‫وتعانى والتمتلك القدرة على الصمت كما تعودت منها ‪ ،‬بل هى مالمح‬ ‫مفتتة مغسولة بماء األلم ‪ ،‬تصرخ وتستجير وتطلب النجدة وتفر من مكان‬ ‫الى آخر دون أن تدرى الى أين ‪ ..‬حاولت صفاء أن تجلسها وقد أخذ الرعب‬ ‫بمخالبه منها مأخذه ‪ ،‬لكنها رفضت فاأللم أكبر من أن تتحمله ‪،‬هربت الدماء‬ ‫من وجه صفاء ‪ ،‬زاد اضطراب نبضات قلبها المتوغل فى دهاليز رعبه ‪،‬‬ ‫هرولت توقظ سعد ‪ ،‬تتصل بالفرن لتستدعي شعرواي ‪ ،‬تطلب منه سرعة‬ ‫إحضار طبيب معه للكشف على أمه ‪ ،‬وعادت الى أمها مهرولة وعيناها‬ ‫تزرفان دموعا ً التدرى كيف والمن أين ‪ ،‬وهى تتابعها بعينيها وروحها ‪،‬‬ ‫والخوف عليها يتعملق ويفرز فى دمائها مزيدا ً من النيران التى تتأجج بال‬ ‫مغيث ‪ ،‬وجدتها قد إرتمت على مقعد في الصالة تلتقط أنفاسها بالكاد ‪ ،‬رأت‬ ‫بعين الرعب بشائر إزرقاق بدأت تنبض بها العروق النافرة في الوجه‬ ‫وخاصة الجبهة ‪ ،‬لطمت خديها والرعب يتوغل فى مسام وخاليا جسدها أكثر‬ ‫‪59‬‬


‫‪ ،‬وعيناها يقتحمهما رعب مشاهدة أحداث لم ترها ولم تعرفها من قبل ‪ ،‬وإن‬ ‫كانت تدرك جيدا ً أن هناك خطر داهم يحيق بأمها ‪ ،‬هرولت مرتعدة اليها ‪،‬‬ ‫أخذتها في حضنها ‪ ،‬أرتمى الرأس المجهد كقطعة قماش مبللة على صدرها‬ ‫‪ ،‬وأخذت تئن أنينا ً خافتا ً بعد أن بح صوتها ‪ ،‬والعرق يغمر وجهها ‪ ،‬وال‬ ‫يكاد نفسها يصعد وهي التدري مما حولها شيئا ً ‪ ،‬أخذ قلب صفاء يدق بقوة‬ ‫‪ ،‬وبعينيها تحدق في الوجه الملتصق بصدرها ‪ ،‬وهو ينزف أنفاسه نزيفاً‪.‬‬ ‫كانت الصرخات هديرا ً في داخلها غير أن الرعب الجمها ‪ ،‬وهي تشعر‬ ‫شعورا ً غامرا ً أن هناك شىء جد خطير‪ ،‬أمها لم يحدث لها هذا من قبل ‪.‬‬ ‫ما الذي جرى؟‬ ‫مرق بخاطرها صورة أمها وهى تجلس خلف مكتبها الصغير فى مدخل‬ ‫الفرن بجسدها الممتلىء وصدرها العالى ووجهها العريض وعينيها‬ ‫المقتحمتين ‪ ،‬والعمال يسعون حولها ‪ ،‬وصوتها يهدر فى المكان ‪ ،‬والكل‬ ‫يحنى راسه سمعا ً وطاعة لها ‪ ،‬رأتها وشعراوى بجسده المتين ورأسه‬ ‫الضخم وعينيه المتوحشتين وهو يقف أمامها صامتا ً اليجرؤ على رد كلمتها‬ ‫ورأت سعد ابنها البكرى وهو يقف أمامها رغم حبها الكبير له ورغم أنها‬ ‫دوما كانت تأخذ رأيه وتستشيره فى أمور الفرن والعمال والدقيق وباقى‬ ‫حاجيات الفرن ‪ ،‬اال أنه وقت غضبها كان يحنى رأسه ويكتم الحروف فى‬ ‫حلقه واليمتلك اال الطاعة وتنفيذ ماتريد فورا ً وبال جدال ‪ ،‬ومرق بخاطرها‬ ‫ايضا لوهلة التكاد تحصى صورة أمها والحاج رضوان معها يجلسان على‬ ‫باب الفرن وأمامهما صينية الشاى وحدهما دون أن يجرؤ أحد على التفكير‬ ‫فى الجلوس معهما وهى تحادثه وتستمع اليه بوجه غير الوجه المعتاد لها‬ ‫وبكلمات غير الكلمات التى ترميها اليهم فى الفرن فهو كما كانت دوما ً تقول‬ ‫رضوان ياوالد ‪ ،‬الرجل الوحيد الذى له قدر وله هيبة ‪ ..‬ضمت يدها على‬ ‫كتفها بقوة حانية وهى تتابع وجهها وجبهتها وقد أغمضت عينيها وغابت‬ ‫فى اغماءة ‪ ،‬قطعتها بتأوه جديد وصوت لم تدر صفاء ماهو بالضبط لكونها‬ ‫تراه وتسمعه للمرة األولى ‪ ،‬فجأة شعرت كأن روحها تنزع منها‪ ،‬شئ ما‬ ‫‪60‬‬


‫أمسك قلبها ‪ ،‬هزه بعنف‪ ،‬هزه كما لم يهتز من قبل ‪ ،‬وشعرت بجوفها‬ ‫ينتفض ‪،‬قلبها يرتعد وجوفها يفرغ مرة واحدة من شىء كان يمأله أمنا ً ‪،‬‬ ‫تشعر بنفسها وحيدة تواجه وحشا ً التراه وإن كانت تشعر بمخالبه وهى‬ ‫تنهش روحها ‪ ،‬إنطلقت رغما ً عنها الصرخات ‪:-‬‬ ‫ أمي ‪ ،‬أمي‬‫كان الطبيب قد وصل ‪ ،‬حدق فى الوجه جيدا ً ‪ ،‬أمر فورا ً بنقل الجثمان الى‬ ‫السرير بالداخل ‪ ،‬بعدها أمر الكل بالخروج من الحجرة عدا شعراوى ولدها ‪،‬‬ ‫أخذ يدلك مكان القلب ‪ ،‬دلك بقوة ‪ ،‬أجرى تنفسا ً صناعيا ً مرة وإثنين‪ ،‬غير‬ ‫أنه بعد وقت قصير إستدار ليعلن وفاة أم سعد !!‬ ‫نظر شعرواي اليه محاوالً إستيعاب ما قال ‪ ،‬نظر الى وجهه ‪ ،‬شفتيه‪،‬‬ ‫رأسه التي تدلت في أسف ‪ ،‬ثم إستدار ناحية أمه ‪ ،‬إقترب من الجثمان‬ ‫محدقا ً ‪ ،‬مترقبا ً متربصا ً بإقل إشارة تصدر منه ‪.‬‬ ‫ ال‪،‬ال‪ ،‬أمي لم تمت‬‫ال تموت‬ ‫لن تموت و تتركنا‬ ‫معقول !!‬ ‫ال‪،‬ال‬ ‫أم سعد تموت !!‬ ‫كان الوجه ساكنا ً ‪ ،‬قسماته هادئة وقد إستراح بعد عناء‪ ،‬بينما تغير لون‬ ‫العروق على الجبهة الى إزرقاق ‪ ،‬ومال لون الوجه الى األصفر وظلت‬ ‫حبيبات من العرق تأبى أن تبرح الجسد‪ ،‬إقترب يحدق ‪ ،‬يترقب‪ .‬مؤكد‬ ‫ستصحو‪ ،‬ربما ستشكو المرض لكنها لن تموت ‪ ،‬دنا فمه ال شعوريا ً وقبل‬

‫‪61‬‬


‫الجبين البارد ‪ ،‬رأى أثار الموت في خالياه ‪ ،‬فارت فى رأسه خاطرة ‪ ..‬هل‬ ‫الموت هو السكينة بعد عناء والم الدنيا ؟‬ ‫طالت نظرته الى وجهها‪.‬‬ ‫كانت تعاني من أمراض شتى ‪ ،‬ورغم هذا ظلت أم سعد التي يعرفها الجميع‬ ‫‪ ،‬ويطيع أمرها الكبير قبل الصغير‪ .‬حتى حينما تزوجت رضوان وأعلنت هذا‪.‬‬ ‫قلت لها أرفض هذا الزواج‪ .‬لم تهتم وقالت بال مباالة‬ ‫ من ال يعجبه تصرفاتي يرحل عن بيتي‪.‬‬‫وكانت هي األقوى واألصح‪.‬‬ ‫حتى حينما قررت الطالق منه بعد أسابيع معدودة وأخذت أحذرها من كالم‬ ‫الناس وتساؤالتهم لماذا تزوجته ولماذا تطلق منه‪ .‬نهرتني وقالت في ثقة‬ ‫ يا ولد انا أم سعد‪ .‬هل تعرف معنى أم سعد ؟‬‫وفي عز مرضها لم يهمد جسدها‪ ،‬قاومته وقاومت المرض وتحركت وذهبت‬ ‫حتى الى إعتماد رغم ما بينهما من عداء لتبصرها للحفاظ على ولدها وعدم‬ ‫التضحية به‪ ،‬وفوق كل هذا ورغم إنها تعرف إننا نكره رضوان ونكره‬ ‫سيرته إال إنها طلبت مني وسعد معي أن نستقصي ونبحث لنصل الى قاتل‬ ‫رضوان‪.‬‬ ‫آه يا أمي‪ .‬مالك ساكتة ال تتكلمين ؟‬ ‫عال صوته مفجوعا ً ‪-:‬‬ ‫ أمي‪ ،‬أمي‪.‬‬‫لم ترد‪ ،‬ظل الوجه ساكنا ً ‪ ،‬عيناه مغلقتان والعرق يأبى أن يبارحه‪ ،‬بينما‬ ‫توغل اإلصفرار في الخاليا‪.‬‬

‫‪62‬‬


‫انفجر فى البكاء‬ ‫خرج الدكتور حامالً حقيبته مغادرا ً المكان محنى الرأس معتذرا ً للموجودين‬ ‫‪ ،‬إندفعت صفاء صارخة بكل ما فيها وهي ترتمي على الجسد الهامد ‪- :‬‬ ‫ يا حبيبتي يا أمي‬‫وخلفها سعد مرتجف األوصال‪ .‬يكاد ال يقوى على السير ووجهه شاحب‬ ‫وعيناه زائغتان وهو يهمس متسائالً ‪-:‬‬ ‫ أمي ماتت !! ماتت بجد ؟‬‫ومثلما كان وجود أم سعد يهز أي مكان تذهب اليه ‪ ،‬هز خبر موتها الحي‬ ‫بأكمله ‪.‬‬ ‫‪.......................‬‬ ‫طار سالمه عابرا ً المسافة بين بيتهم وبيت كامل محاذرا ً أن يلمحه أحد ‪،‬‬ ‫خاصة من عمال الوكالة فى أقصى الشارع الذين يروحون ويجيئون‬ ‫بمالبسهم المتربة ووجوهم الممتلئة بالغبار والدقيق ‪ ،‬صعد سريعا ً الى الدور‬ ‫الثالث مقاوما ً دقات قلبه الغارقة فى رعبها ‪ ،‬وارتجاف بدنه الذى اليمتلك‬ ‫التحكم فيه ‪ ،‬ونظرات عينيه المترددة القلقة وحدقاتها التى تدور هنا وهناك‬ ‫دون إرادة منه ‪ ،‬رأى الباب مفتوحا ً ‪ ،‬كان واثقا ً تمام الثقة أن أم عالء قد‬ ‫غادرت المنزل منذ لحظات ‪ ،‬رآها من فوق سطح بيته من خالل النافذة‬ ‫الصغيرة فى سلم بيتها وهى تغادر الشقة وحدها ‪ ،‬ورأى نوال تحادثها على‬ ‫الباب ‪ ،‬تشير لها باشارات لم يفهم مغزاها وإن كانت مالمح الوجوه منفرجة‬ ‫بما يعنى أن األمور تسير على مايرام ‪ ،‬وثق تمام الثقة أن نوال وحدها‬ ‫بالشقة فقرر أن يأتى اليها ‪ ،‬مغامرة رغم معرفته بخطورتها أقدم عليها‬ ‫متناسيا ً مبررات العقل والخوف ومااليها ‪ ،‬مصرا ً على التنفيذ مهما كانت‬ ‫األسباب ‪ ،‬متعلالً بوجود صداقة بينه وبين عالء أخيها ‪ ،‬دق الباب بلطف‪،‬‬ ‫إنتظر قليالً وعاد يدق وقلبه دقاته تهرول فى فضاء صدره بال ضابط وال‬ ‫نظام ‪ ،‬وحين أطلت نوال كادت الرغبة تنهمر من عينيه بين يديها ‪ ،‬هي‬ ‫‪63‬‬


‫أيضا ً لمعت حدقتا عينيها وارتجف جسدها بعنف ‪ ،‬القت بنظرات مرتعدة‬ ‫على السلم ‪ ،‬وبدأ قلبها ينتفض فى فضاء صدرها هلعا ً بينما صدرها يعلو‬ ‫ويهبط سريعا ً ‪ ،‬تشير بيدها وحدقتاها تكادان تخرجان من محجريهما ‪-:‬‬ ‫ ما الذي آتى بك الى هنا وعالء غير موجود ؟‬‫حاول التحكم في صوته وهو يسأل بعينيه ويده وإرتجافة شفتيه عن‬ ‫صاحبه‪ ،‬غير أن صوت أقدام هابطة على السلم أربك نوال أكثر‪ ،‬جعلها‬ ‫تشده الى الداخل وتغلق الباب ‪ ،‬تقف أمامه حائرة ماذا تفعل وهي تواجه‬ ‫نظراته المستفسرة ‪ ،‬التي يشوب تساؤالتها شقاوة تخشى منها وإن كانت‬ ‫تحبها‪.‬‬ ‫همس ببسمة مغسولة بماء اللؤم وهو يكاد يلتهم وجهها بنظراته ‪:-‬‬ ‫خالتي أم عالء موجودة ؟‬‫مدت يدها تفتح الباب ‪ ،‬أمسكها بلطف ليمنعها وهو يقترب بوجهه من‬ ‫وجهها المكسو باالصفرار ‪ ،‬قالت عيناها التى تحجرت نظراتها فى مآقيها‪:-‬‬ ‫ ال‬‫زغردت نظراته ‪-:‬‬ ‫ والحاج كامل ؟‬‫هزت رأسها سلبا ً وهى تحاول تخليص يدها من قبضة يده ‪-:‬‬ ‫ ال‬‫كان صوت األقدام قد إبتعد هابطا ً الى الحارة‪ ،‬وعاد السكون يظلل الحبيبين‬ ‫من جديد ‪.‬‬

‫‪64‬‬


‫همس بصوت مبحوح وبدنه يرتجف رغبة بين يديها وعيناه تغوصان بشوق‬ ‫فى نهر عينيها وهو يتقدم نحوها مشوقا ً يحمل إبتسامة نصر مبين وهو‬ ‫يعرف جيدا ً جواب أسئلته من قبل أن تنطق به ‪:-‬‬ ‫ وعالء ؟‬‫خلصت يدها بقوة من قبضة يده ‪ ،‬و صدته بيديها وهي تمثل العبوس ‪،‬‬ ‫وتتجه نحو الباب إلعادة فتحه‪:-‬‬ ‫ ال أريد أن أندم لثقتي فيك‪.‬‬‫عاد يمسك يدها وأبعدها عن الباب من جديد وهو يقترب –باسما ً مايزال‪-‬‬ ‫واثقا ً دافئ النظرات‪ ،‬يفور شوقا ً‬ ‫ لن تندمي‬‫تباعدت بضعف وهى تهمس ‪ -‬أخشى أن يأتي أحد اآلن‬ ‫إقترب‪ ،‬تباعدت ‪ ،‬اقترب أكثر ‪ ،‬عادت تهمس بصوت أقل ضعفا ً ‪-:‬‬ ‫ ارجوك‬‫تالمس الجسدان‪ ،‬ازدادت رجفتها بين يديه ‪ ،‬تجاذبا‪ ،‬ارتفعت الحرارة الى‬ ‫أقصاها ‪ ،‬تقاربا‪ ،‬تأججت النيران ‪ ،‬تالصقا‪ ،‬صارت النيران سعيرا ً ‪ ،‬همست‬ ‫وهي تحاول اإلفالت من قبضة شفتيه بضعف‬ ‫ انا مرعوبة‬‫ ال تخافي‬‫وهو يلهث منتشيا ً‪ ،‬ويداه تضمان جسدها الفائر اليه‪ ،‬يقبل الفم ‪ ،‬الخدود‪،‬‬ ‫العينين ‪ ،‬تسير أصابعه قدما ً لألمام والخلف والشرق والغرب ‪ ،‬وحين دق‬ ‫الباب توقف قلبه عن النبض!!‬

‫‪65‬‬


‫هي أيضا ً إصفر وجهها ‪ ،‬فاض الرعب سيوالً من عينيها‪ ،‬ولطمت وجهها‬ ‫بدون صوت ‪ ،‬هرول دون أن ينطق بحرف نحو باب المطبخ المجاور لباب‬ ‫الشقة وأشار لها أن تفتح‪ .‬كان عالء قادما ً من المدرسة مع أحد أصحابه‬ ‫ليعطيه كتابا ً في حاجة اليه ‪ ،‬حاولت أن تسدل على مالمحها ستارا ً من هدوء‬ ‫هى أبعد ماتكون عنه وفتحت الباب ‪ ،‬دخل وكعادته لم يفكر فى النظر الى‬ ‫وجهها مكتفيا ً باصدار أمر سريع اليها أن تتوارى ‪ ،‬نادى صاحبه وأغلق‬ ‫الباب ومضى به نحو حجرة الصالون وقبل أن يغلق الغرفة عال صوته طالبا ً‬ ‫الشاي‪.‬‬ ‫هرولت نوال من الداخل ‪ ،‬فتحت باب الشقة بحذر وقلبها دقاته تكاد تمزق‬ ‫صدرها وعيناها تكاد محاجرهما تلقي بالحدقات ‪ ،‬وهي تحدق في حجرة‬ ‫الصالون خشية أن يفتح عالء الباب فجأة ويقع المحذور‪ ،‬ساعتها ال تعرف‬ ‫ما الذي يمكن أن يظن ‪ ،‬رغم أنها لم تسع لهذا ‪ ،‬ولم تفكر فيه ولم تدبره‬ ‫وأنه لوال هذه القدم على السلم وخوفها من أن يراها أحد تحادث شابا َ امام‬ ‫الباب وأمها غير موجودة ما شدته الى الداخل ‪ ،‬ثم أنها لم تقترب منه‪،‬هو‬ ‫الذي إقترب و‪!!...‬‬ ‫تقدم سالمة سريعا ً خفيف الخطا محدقا بنصف عين من باب المطبخ الى‬ ‫الخارج ‪ ،‬عيناه ال تريان إال الباب التى فتحته برفق محاذره أن يصدر صوته‬ ‫المعتاد ‪ ،‬هرول على أطراف أصابع قدميه نحوه ‪ ،‬وصل اليه ‪ ،‬توقف أمامه‬ ‫سريعا ً وهو يقلب نظراته حوله‪ ،‬كانت تقف ذاهلة النظرات ‪ ،‬مرتعدة‬ ‫النبضات ‪ ،‬تدارى قدر طاقتها رعبا ً لم تعتد عليه ‪ ،‬قبلها على وجنتها‬ ‫سريعا ً ‪ ،‬تفجرت عيناها غيظاً‪ .‬حدقت فيه بحدة وصرخت نظراتها ضيقا ً من‬ ‫جرأته وتهوره دون أن تجرؤ على رفع صوتها‪ ،‬وما كاد بخطو نحو الخارج‬ ‫حتى سارعت بإغالق الباب ‪ ،‬وهرولت الى المطبخ تلتقط أنفاسها‪ ،‬غير أنها‬ ‫سمعت صوت الجرس من جديد‪ ،‬تحركت نحوه شاعره أن بقدميها أثقاالً‬ ‫تحركها بالكاد ‪ ،‬وأنها بعد هذا المجهود التستطيع الوقوف على قدميها اال‬

‫‪66‬‬


‫بصعوبة ‪ ،‬قتحت الباب من جديد لتفاجئ به ثانية يقف أمامها باسم الوجه‬ ‫متألق النظرات يحمل على سيماه هدوئا ً وهو يسأل بسذاجة ‪:-‬‬ ‫ عالء موجود ؟‬‫‪..........................‬‬ ‫خيم غيم سواده كثيف أمام الوكالة وغير بعيد من بيت رضوان ‪ ،‬وضربت‬ ‫طيور سوداء المكان بأجنحتها ‪ ،‬ناشرة حالة من ترقب قلق وحيرة رامية‬ ‫بجذورها فى أديم األعين المتحلقة هناك حول مشكلة جديدة يفجرها هذه‬ ‫المرة سعد وشعرواي أبناء أم سعد ‪ ،‬طالبين من كامل التوسط لهما فى حلها‬ ‫مع آل رضوان ‪ ،‬الشيشة أمامهم وأكواب الشاي والكلمات المتأججة وهم‬ ‫يتحاورون ‪ ،‬كامل يحدق بعينيه الواسعتين هنا وهناك ‪ ،‬خاصة ناحية البيت‬ ‫المغلق ببابه الحديدى الذى بدأت مخالب اإلهمال منذ مرض الرجل ورقد فى‬ ‫سريره تنهش بنيانه ‪ ،‬يحدق فى الباب ‪ ،‬حتى الجماد يمرض ويصيبه‬ ‫مايصيب البشر من االم ‪ ،‬عيناه تالحظان هذا على الباب الحديدى وعلى‬ ‫المبنى كله الذى كان يبدو للعيان شامخا ً ‪ ،‬له سيماه المميزة عما حوله ‪،‬‬ ‫خاصة حينما يدخل رضوان أو يخرج بعمامته العالية فوق جبهته الشماء‬ ‫وهو يحدق بعينيه ثاقبا ً أيه رأس تكون أمامه ‪ ،‬ضاربا ً األرض بفتوة قدميه‬ ‫فاذا ماالتقاه أمام وكالته حدق فيه متفحصا ً قبل أن يلقى السالم مناديا ً ‪-:‬‬ ‫ كامل‬‫فيترك كل مافى رأسه فورا ً ومن يحادثه مهما كان ليرد تحيته‪-:‬‬ ‫ اتفضل ياحاج‬‫كم تتبدل األحوال وتتغير الظروف وكم تنزوى من وجوه ماكان المرء يظن‬ ‫أن لها انزواء ‪ ،‬الغريب أن يحدث لرضوان ماحدث وبتلك الطريقة وعلى‬ ‫يد مجهولين التعرفهم والتصل اليهم أيدى العائلة الباطشة القادرة بكل مافيها‬ ‫من فتوة وجبروت ‪ ،‬يذهب ثأر الرجل هبا ًء واليبقى من شموخه وسموق‬ ‫‪67‬‬


‫أمسه اال حطام ‪ ،‬وال تترك األحداث أهله يلعقون جراحهم فى هدوء بل‬ ‫ترميهم بمزيد من األالم ‪ ،‬فهاهو سعد ومعه شعراوى يجيئا ن اآلن حاملين‬ ‫شرا ً جديدا ً اليعلم اال هللا سبحانه الى أين سيقود الجميع ‪ ،‬وما مدى‬ ‫المواجهة القادمة بينهم ‪ ،‬الغريب أن شعرواى وسعد لم يجدوا غيره فى‬ ‫المنطقة كلها يلجأون اليه ‪ ،‬وأمام األعين المحدقة واآلذان المتربصة‬ ‫يجلسون على باب الوكالة ليقولوا لكل من يراهم أن كامل صديقنا ومؤيدنا‬ ‫ايضا فيما نريد ‪ ،‬عداوة يجد نفسه مرغما ً عليها واليمتلك المقدرة على‬ ‫الرفض ‪ ،‬ربما تقديرا ً لروح أم سعد رحمها هللا ‪ ،‬ثم هل كان رضوان بهذه‬ ‫السذاجة التى يتحدثان بها وهما يشيران الى مطالبهما ؟‬ ‫عاد اليهما بناظريه وأذنيه معا ً ‪ ،‬حديثهم هامس وعيونهم على الرائح‬ ‫والغادي نظراتها حريق ‪.‬‬ ‫قال محذرا ً وهو يشير الى ماتمر به عائلة رضوان ‪-:‬‬ ‫ ليس هذا وقته‬‫أشاح شعرواي بيده‪-:‬‬ ‫ بل وقته ‪ ،‬وقد نلجأ للمحكمة إذا اجبرونا على هذا‪.‬‬‫قال سعد متشككأ‪-:‬‬ ‫وهل تتصور أنهم سيوافقون هكذا‬‫بمجرد أن نظهر لهم األوراق ؟‬ ‫قال شعرواي شامخا ً برقبته الغليظة ووجهه العريض ‪-:‬‬ ‫ دعونا نرى‬‫واجهه كامل‪- :‬‬ ‫ المهم أن أكون أنا على الحياد‪.‬‬‫‪68‬‬


‫رد وهو يرفع رأسه فى وجه الريح ‪-:‬‬ ‫ التقلق يا حاج ‪ ،‬نحن وحدنا نأكل الحديد‬‫همس سعد‪- :‬‬ ‫ كل شئ سيتم في حدود القانون‬‫عال صوت شعرواي‪-:‬‬ ‫ به أو بدونه سنأخذ حقنا‬‫انتبه كامل لصوت المزالج وتزييق الباب الحديدى وهو يفتح ‪ ،‬ثم ظهور‬ ‫جابر ميمما ً وجهه ناحية حارة اليهود ‪ ،‬شد ذراع شعرواي بقوة ‪-:‬‬ ‫ جابر قادم‪.‬‬‫اعتدل شعراوى فورا ً ملقيا ً بمبسم الشيشة من يده الى سعد بجواره ‪،‬‬ ‫وأرتفع صوته متحفزا ً ‪-:‬‬ ‫ نكلمه‬‫كانت الساعة تقترب من السابعة مساء ‪ ،‬وقد سادت الظلمة األجواء ‪ ،‬وبدأ‬ ‫العمال ينهون شغلهم ‪،‬ينفضون عن مالبسهم ماعالها من غبار وأتربة‬ ‫وذرات دقيق متطايرة طوال النهار ويغتسلون من الحنفيه الصغيرة بجوار‬ ‫باب الوكالة ويتجهزون للمغادرة بعد يوم من العناء‬ ‫تحرك جابر متقدما ً ناحية حارة اليهود على مهل ‪ ،‬مشغوالً بأمر هذا الدكان‬ ‫الذي طال غلقه بأمر أمه ‪ ،‬حائرا ً كيف يرضيها وفى ذات الوقت يفتح‬ ‫الدكان واليتركه هكذا خاصة أنه العمل له اال الدكان ويستطيع تماما ً أن يقوم‬ ‫مقام أبيه فيه ولن يعجزه إدارة األمر أو الخبرة فقد عمل بجوار والده بما‬ ‫يكفى ليكون امتدادا ً له الى أن يهبه هللا الشفاء ‪ ،‬لكن أمه زادت عصبيتها‬ ‫بطريقة التطاق ‪ ،‬بدأت تظن أن الكون كله بسمائه وأرضه وكائناته قد توقف‬ ‫‪69‬‬


‫عن الحركة لمجرد أن أبيه رقد فى الفراش ‪ ،‬هو يعرف ويقدر ويفهم األمر‬ ‫جيدا ً ‪ ،‬لم يكن االعتداء جهارا ً ووسط السوق أو أمام البيت هنا فى سوق‬ ‫السمك أو حتى واجهوه مهما كان عددهم واعطوه الفرصة للدفاع عن نفسه‬ ‫وهو على هذا قادر ‪ ،‬لكنهم أخذوه غدرا ً ‪ ،‬ضربوه فى ظهره وأفلتوا كما‬ ‫تفلت الجرذان هاربين ‪ ،‬قاصدين اال يتركوا أثرا ً ليكون األمر سبة فى جبين‬ ‫العائلة ومذلة اليعرفون واليقدرون على ازالتها مهما مرت السنين ‪ ،‬لكنه لن‬ ‫يسكت وسوف يبحث ويتقصى ويأخذ بثأره ولو من عين الشيطان ‪ ،‬أبوه‬ ‫غالي عليه جدا ً وفوق ما كان يتخيل‪ ،‬أنه يشعر بالقهر اآلن‪ .‬يشعر بالقهر‬ ‫بحق‪ .‬وهو اليستطيع أن يهبه صحته وشبابه ويأخذ منه مرضه ‪ ،‬ال أعمام‬ ‫وال أخوال وال رجال األرض كلهم يمألون مكانه ‪ ،‬لكنه ترك هما ً ثقيالً ‪ ،‬ترك‬ ‫تركة إن لم يثبت جابر أمام مسئوليتها ستنهار المركب بمن فيها ‪ ،‬أمه ال‬ ‫تشعر بهذا‪ ،‬تعيش في ملكوتها ‪ ،‬تحسب الحياه ملك يمينها‪ ،‬ال تدري شيئا ً‬ ‫عن المصاريف والحاجيات المطلوبة واألشياء الضرورية والديون واألقساط‬ ‫والفواتير والشيكات واألبواب المفتوحة كأفواه القرب المثقوبة ‪ ،‬التي مهما‬ ‫أعطيتها ال تمتأل ‪ ..‬البد أن يفتح الدكان ويكون هذا غدا ً بمشيئة هللا‪ .‬سيخبر‬ ‫عمه بهذا و‪!!.....‬‬ ‫ جابر‬‫تلفت الى مصدر الصوت ‪،‬اتسعت عيناه لبراح الدهشة وهو يرى شعراوى‬ ‫وسعد يجالسان كامل وبجوار باب البيت ‪ ،‬أعينهم المحدقة به والمحاصرة له‬ ‫لم تعجبه نظراتها ‪ ،‬فيها شىء لم يشعره بارتياح ‪ ،‬وإن كان هو أصال ً‬ ‫اليرتاح لثالثتهم ‪ ،‬الثالثة جالسين مشدودوا القامات ‪ ،‬متحفزوا النظرات‬ ‫كالديوك الشرسة ذات العرف المجنون ‪ ،‬شد عينيه منظر سعد وشعرواي‬ ‫ونيران القلق تحرق صدريهما وهما يمدان رقبتهما نحوه بأعين حداد ‪ ،‬لم‬ ‫يرهما في الحارة من قبل ‪ ،‬ما الذي جاء بهما اليهم ؟‬

‫‪70‬‬


‫لم يبال بهما ولم يوجه نظراته نحوهما نائيا ً بناظريه عنهما ‪ ،‬سامقا ً بعينيه‬ ‫الى حيث صب نظراته فى وجه كامل متسائلة مستفسرة ‪ ،‬تبسم الرجل‬ ‫بإفتعال وهو يقول له‪:-‬‬ ‫ عاوزينك في موضوع‬‫ضاقت عيناه وتوترت نظراته ‪ ،‬وهو يتساءل أي موضوع هذا الذي يجمعه‬ ‫بهؤالء‪.‬‬ ‫ موضوع !!‬‫رد كامل محاوالً رسم ابتسامة على شفتيه فجاءات باهتة ذات مذاق السع‬ ‫‪ - :‬تعالى‬ ‫ومد يده يجهز مقعدا ً رابعا ً الى جواره ‪ ،‬تقدم جابر‪ ،‬القى السالم مثلجا ً ‪ ،‬ذا‬ ‫حروف خافتة النبرات باهتة كصباح به غيوم ‪ ،‬وجلس‪ ،‬رد اإلثنان بالكاد ‪،‬‬ ‫بينما تعالى صوت كامل محيياً‪ .‬قال شعراوي فورا ً ‪-:‬‬ ‫ الموضوع بإختصار يا جابر‪ .‬نحن لنا شقة فى هذا البيت‬‫مشيرا ً الى الباب الحديدى المغلق ومن خلفه البناء الذى كان شامخا ً واصبح‬ ‫اآلن يلعق جراحه دون صوت ‪ ،‬لم يفهم جابر ما يقصده بالضبط‪ ، .‬إتسعت‬ ‫عيناه وهو يحاول استيعاب ماقيل ‪ ،‬أعاد شعرواي كلماته من جديد وهو‬ ‫يوجه نيران حدقاته فى عينيه المتسعتين ‪ ،‬تمتم جابر وهو ال يزال غير ملم‬ ‫بالمعنى‪-:‬‬ ‫ شقة فى بيتنا !!!‬‫هز شعرواي رأسه موافقا ً فى إصرار ‪ ،‬تساءل جابر ‪ -:‬لماذا ؟‬ ‫رد شعرواي ‪ - :‬الحاج رضوان كتبها بيع وشراء للمرحومه‬

‫‪71‬‬


‫اشتعلت نيران متأججة غاضبة فى صدره وعينيه وخاليا جسده ‪ ،‬ورأى‬ ‫الوجود كله أمامه يتقيا ً خبائثه وجنونه ‪ ،‬أى شقة وأى بيع وأى كالم ال‬ ‫أساس له ‪ ،‬إستدار مزمجرا ً الى كامل‪:-‬‬ ‫ هل فهمت شيئا ً ؟‬‫تراجع بظهره فورا ً الى الوراء متنصالً من األمر‪:-‬‬ ‫ إبعدني انا عن الموضوع‪.‬‬‫حاول جابر التحكم فى درجة انفعاله بقدرمايستطيع ‪-:‬‬ ‫ فهموني بهدوء‪ ،‬ما هو المطلوب ؟‬‫قال سعد موضحا ً ‪ -:‬أبوك حينما تزوج أمى كتب لها شقة فى البيت والعقد‬ ‫معنا ‪ ،‬وجدناه فى حاجياتها بخط يده ‪ ،‬بيع وشراء ‪ ،‬ونحن نطالب اآلن‬ ‫بحقنا‪.‬‬ ‫همس جابر بصوت متورم بغضب مكبوت ‪-:‬‬ ‫وجئتم ألخذه اآلن ؟‬‫رد شعرواي ‪ :‬بالضبط‬ ‫عاد جابر يتسائل ‪-:‬‬ ‫ وأمك لم تطالب به فى حياتها !!‬‫قال سعد ‪ -:‬لم تهتم‬ ‫قال جابر وهو بالكاد يتحكم في حروف كلماته ‪ :‬وأنتم إهتممتم ؟‬ ‫أكد شعرواي ‪ :‬انا وأخوتي‬ ‫إستدار جابر لكامل متفرسا ً فى وجهه وتعبيرات عينيه‬ ‫‪72‬‬


‫ ما رأيك ؟‬‫رد األخير ‪ : -‬يا بني أنا غريب بينكم‬ ‫قال شعرواي منذراً‪- :‬‬ ‫ أنا جئت مختارا ً المودة والذوق‬‫بدا األمر اآلن مؤامرة سخيفة المعنى لها والمدلول‪ ،‬مجرد مخلب خائب جاء‬ ‫يبحث عن لقمة ضائعة أو فريسة بلهاء ال أكثر ‪ ،‬إستدار الى شعراوي‬ ‫صارخا ً ‪- :‬‬ ‫ أي مودة وأي ذوق وأنت تطالبني‬‫بشقة فى بيتنا ؟‬ ‫قال سعد بهدوء منذر ‪-:‬‬ ‫ أبوك كتبها ألمي بعقد بيع ‪ ،‬لم يضربه أحد على يده ليفعلها ‪ ،‬أو ربما لم‬‫يع مافعل‬ ‫إنفجر جابر بال وعي ‪ -:‬اخرس‬ ‫ولطمه على وجهه ‪- :‬‬ ‫ عاوزين تورثونا بالحياه يا والد الكلب‬‫ليتصدى له شعرواي بلكمة في صدره‪:-‬‬ ‫ حق أمنا ولن نتركه‬‫هدر صوته وهو يطيح بأكواب الشاى من فوق المائدة الحديدية الصغيرة‬ ‫ويهجم بها عليهما ‪-:‬‬ ‫‪-‬لن تخرجوا من الحارة أحياء‬

‫‪73‬‬


‫رفع شعراوى الكرسى الذى كان يجلس عليه ‪،‬صرخ سعد العنا أهل الغباء‬ ‫الذين اليعرفون اال العنف ‪ ،‬واليدركون أن هناك فى هذا الكون شىء اسمه‬ ‫تفاهم ‪ ،‬اشتعلت المنطقة فورا ً بعشرات األيدى المتدافعة واألعين الحانقة‬ ‫واآلذان المتنصتة يدورون جميعا ً حول المتعاركين ‪ ،‬بينما كامل يفصل بينهم‬ ‫قدر استطاعته بجرمه الهائل وعينيه المذعورتين وقد شعر أن األمر أفلت‬ ‫منه ‪ ،‬لم يكن يريد للموضوع أن يتطور الى التماسك باأليدي هكذا ‪ ،‬صرخ‬ ‫في رجاله الذين خرجوا من الوكالة حيث الخيش والعفار واألتربة أن‬ ‫يفصلوا بين المتعاركين قدر استطاعتهم ‪ ،‬سيطروا على الموقف سريعا ً‬ ‫وبعد أن تم إبعاد كل طرف عن اآلخر ‪ ،‬أشار كامل لبعض صبيانه أن‬ ‫يصحبوا سعد وشعراوى الى أول حارة خان أبو طاقية حيث األمان بعيدا ً عن‬ ‫أيدى وبطش آل رضوان ‪ ،‬واثقا أنهم اذا عرفوا الخبر وجاؤوا اآلن لن‬ ‫يتركوا االثنين يفلتان من أيديهم مهما كانت األسباب وربما دفع أحدهما‬ ‫روحه بال ثمن لمجيئه الى هنا فى وكر األسود ومنازلتهم فى عقر دارهم ‪،‬‬ ‫رأى محمد بطه قادما ً من المقهى ‪ ،‬حامالً نظراته النارية ويديه العفيتين‬ ‫ومعه السيد عم جابر ‪ ،‬توجس شرا ً !‬ ‫لن يفلت من اللوم ألنه استضافهما وقبل أن يتوسط بينهما وبين عائلة‬ ‫رضوان ‪ ،‬صرخ محمد بطه ‪-:‬‬ ‫ ايه ياكامل ؟‬‫هتف فورا ً ‪-:‬‬ ‫ الشىء ياحاج‬‫وانثنى الى الخلق مطالبا ً كل منهم بالكف عن الفضول وليذهب كل منهم الى‬ ‫طريقه ‪ ،‬اندفع السيد صارخا ً بصوته الجهورى فى الجميع ‪-:‬‬ ‫ قسما ً لن أترك أحدا ً يتجرأ علينا اال قسمته‬‫ثم استدار محادثا ً جابر ‪-:‬‬ ‫ كيف تركتهم يفلتون ؟‬‫‪74‬‬


‫لم يأبه جابر بالرد عليه واستدار محدقا ً فى عينى كامل ‪ ،‬مستفسرا ً ومتهما ً‬ ‫فى ذات الوقت‬ ‫شعر األخير أنه قد أحيط به وأنه قد يحاصر فى زاوية لن يفلت فيها من‬ ‫التوبيخ ‪ ،‬صرخ مواجها جابر ‪-:‬‬ ‫ طلبوا منى الكالم معك ألمر هام ‪ ،‬قلت مرحبا ً ‪ ،‬هل أخطأت ؟‬‫ نعم أخطأت حينما سمحت لهما بالجلوس وفرد الصدور ورفع الرؤس‬‫والتحدث بهذه الطريقة ‪.‬‬ ‫ لم أكن أعرف ماذا يريدان‪.‬‬‫ وهاقد عرفت فما رأيك ؟‬‫ قاال أن معهما أوراقا ً رسمية بامضاء الحاج رضوان‬‫ ولو معهم كل أوراق الكون ‪ ،‬لن يستطيعوا شيئا ً‬‫صرخ كامل ‪-:‬‬ ‫ سيلجأون للمحكمة‬‫ وأنت تتحدث باسمهم اآلن ؟‬‫ عيب يا جابر انا في مقام والدك‬‫ والدى كان يعرف حدوده ويزن تصرفاته‬‫ هل يعجبك تطاول ابن أخيك ياحاج سيد ؟‬‫حدجه السيد بقوة ‪ ،‬قرب وجهه منه صارخا ً ‪-:‬‬ ‫ لماذا قبلتهم عندك ياابن أبوى؟‬‫رأى المعلم محمد بطة أن األمر سيتطور الى أبعد من مجرد جدال ‪ ،‬رفع‬ ‫صوته طالبا ً الكلمة ‪-:‬‬

‫‪75‬‬


‫ واضح أن كامل لم يعرف مقصدهما واال كان طردهما فورا ً ‪ ،‬هذه نقطة‬‫أولى ‪ ،‬النقطة الثانية واألهم هى بحث الموضوع قانونيا ً بالعقل وليس‬ ‫بالعراك ‪.‬‬ ‫ثم وجه كالمه للسيد مباشرة‪-:‬‬ ‫ تعالى معى للمحامى فى آخر الخرنفش ‪ ،‬نأخذ رأيه وبعدها نتحدث‬‫رمى جابر كامل بنظرة متأججة ‪ ،‬قابلها بمثلها وهو يعاود الجلوس العنا ً‬ ‫كل من يجبره على االشتراك فى أشياء ليس له بها صلة ‪ ،‬ولن تأتيه من‬ ‫وراءها اال رياح السموم ‪ ،‬صرخ طالبا ً أحد صبيانه ‪ ،‬زاعقا فيه ‪-:‬‬ ‫ هات شيشة بسرعه‬‫وجلس بعد ذهابه يتساءل لماذا اختاره سعد وشعراوى أصالً ورموه فى‬ ‫بحر ماؤه عكر ‪.‬‬ ‫‪....................‬‬ ‫دفع الباب الحديدي الرجال الى الساحة الواسعة فى الدور األرضى ‪ ،‬وأغلق‬ ‫خلفهم ‪،‬أثناء الغلق أصدر الباب صراخه المعتاد ‪ ،‬لم يبال به أحد ‪،‬عاد‬ ‫للنعاس باحثا ً عن السكينة التى تلم به عادة فى مثل هذا الوقت من الليل ‪،‬‬ ‫جلس الثالثة جابر وعمه السيد ومحمد بطه على الحشيات القطنية‬ ‫المتراصة فوق الحصير الممتد على األرض والذى لم يقربه كائن منذ حدث‬ ‫للحاج رضوان ماحدث ‪ ،‬للمرة األولى يجمع المكان وجوها اليكون رضوان‬ ‫بينها ‪ ،‬يبسط ظله عليها ‪ ،‬ويحتوى ظاللها ‪ ،‬كمن الثالثة فى الفناء تائهى‬ ‫النظرات وكل منهم يدور بعينيه فى المكان الذى بدا موحشا ً محمالً فى كل‬ ‫ركن منه بذكرى مع رضوان ‪ ،‬محمد بطه يهيم فى أماسى قديمة جمعته به‬ ‫هنا وهما يتسامران ليالً ‪ ،‬يشاهدان التليفزيون والمسرحيات المذاعة أو‬ ‫األفالم وماتشات الكرة ‪ ،‬خاصة أنه لم يكن هناك بالمنطقة كلها اال عدد‬ ‫صغير من هذه األجهزة ‪ ،‬منها واحد فى المقهى أعد له صالة صغيرة‬ ‫بمقاعد متراصة وجعل الدخول بأجر لمشاهدة ماتشات الكرة أو األفالم ‪،‬‬ ‫‪76‬‬


‫أويتبحثان فى أمور المزادات والسفر اليها فى عموم مصر‪ ،‬والسماسرة‬ ‫الذين يتعاملون معهم والذين يتصلون بهم لإلبالغ عن المزادات الكبيرة‬ ‫خاصة فى الجمرك فى إسكندرية ‪ ،‬يرى محمد بطه بعينى ذاكرته رضوان‬ ‫متوسطا ً المكان بقامته المديدة وعمامته العالية ‪ ،‬وعينيه المتقدتين اللتين‬ ‫تومضان ببريق القوة والذكاء ‪ ،‬والشيشة التى التنطفأ نارها طوال الليل‬ ‫والراديو الكبير الخشبى ذى األزرار الذى يحتفظ به منذ قديم قائالً أنه‬ ‫عشرة عمر ‪ ،‬والذى يرتفع سامقا ً على الرف هناك أعلى الجدار فى شموخ‬ ‫واعتداد بقيمته ومكانته ‪ ،‬فمنه يستمعون لحفالت أم كلثوم وفريد األطرش‬ ‫وغيرهما ومنه كانوا يستمعون الى تواشيح نصر الدين طوبار وقرآن عبد‬ ‫الباسط عبد الصمد خاصة فى أوقات الفجر ‪ ،‬وقد يعرفون أثناء االستماع‬ ‫أنهما قريبين منهم هنا فى الحسين فيأخذون بعضهم رضوان و بطه وكامل‬ ‫والسيد ومحمد ويذهبون الى مسجد الحسين مخترقين بيت القاضى الى‬ ‫شارع أمير الجيوش ومنه الى المسجد مباشرة ‪ ،‬يحضرون صالة الفجر‬ ‫فى جو من صفاء وهدوء وجو مفعم بالراحة يفيض على األرواح‪ ،‬بعدها‬ ‫يعرجون الى الساحة الفضاء أمام المسجد حيث يقف إبراهيم بطاولته الكبيرة‬ ‫التى يضعها على حامل بجوار الرصيف وعليها سندوتشات البيض والجبن‬ ‫والفالفل ومااليها ‪ ،‬العيش ساعتها يكون طازجا رائحته نفاذة طيبة ‪ ،‬يراهم‬ ‫ويهش لهم ‪ ،‬يسلم عليهم تاركا ً كل من حوله وطوال عمل السندوتشات‬ ‫المطلوبة والتى يحفظها وبمجرد رؤيته لهم يجهزها فورا ً يظل يتحدث‬ ‫مرحبا ً بهم وداعيا ً هللا سبحانه اال يقطع لهم عادة ‪ ،‬يأخذون السندوتشات‬ ‫والتى عادة ماتكون محشوة بالبيض ومعه الفالفل الساخنة ومع‬ ‫السندوتشات قليل من الجرجير أو الكرات ومعه بعض قطع الطماطم‬ ‫ويتجهون الى المقهى فى مواجهة باب المسجد من اليسار وفى مدخل خان‬ ‫الخليلى الذى يكون فى ذلك الوقت مغلق الحوانيت ناعس فى ظل نور خافت‬ ‫يترامى من اللمبات الصغيرة المعلقة بأعلى الحوانيت ‪ ،‬يأكلون ويشربون‬ ‫الشاى والشيشة ‪ ،‬يكون النهار قد أهل محمالً بروائح الندى والبكور‬ ‫فيعودون بحالة انتشاء كل الى بيته ‪ ..‬يحنى بطه رأسه سائالً عن جدوى‬ ‫‪77‬‬


‫حياة تأخذ منا أعمارنا وقوتنا وتتركنا نتسول بعض الصحة لنواجه بها‬ ‫ماتبقى من عمر ‪.‬‬ ‫أما جابر فقد بدت على محياه إمارات ضيق وهو يرى المكان الذى كان‬ ‫اليهدأ له ضجيج قد ارتمى فى أحضان صمت خانع وسكون ذليل يعانى من‬ ‫وحشة تلم بأطرافه من كل الجهات ‪ ،‬فال قدم تسعى والصوت يرتفع وال نور‬ ‫يحتوى المكان ناشرا ً األلفة والفرح فى األرجاء ‪ ،‬يحدق جابر بعينيه‬ ‫السوداوين فى أرجاء الفناء وماعال الحصير من تراب قد يكون قليالً لكنه‬ ‫كان كافيا ً ليقلب أبوه البيت على من فيه ‪ ،‬وهذه الحشيات التى لم تمتد اليها‬ ‫يد منذ زمن طال تشكو االهمال ايضا ‪ ،‬ترتد بصيرته الى حشية أبيه‬ ‫المختارة التى تتوسط الحشيات بالمسند العالى الذى يجاورها من اليمين‬ ‫والنرجيلة الطويلة العنق بمائها الذى كان يتغير يوميا ً وقلبها الذى ينظف‬ ‫بعناية واتقان وزجاجها الذى يبرق وينطلق منه صوت كركرة الماء رائقا ً‬ ‫وعذبا ً كأنه موسيقى المزاج الرائق فى سكون الليالى الطويل ‪ ،‬وبريق‬ ‫عينيه وهو يتحدث وقوة حجته ورأيه الذى طالما فرضه باالقناع وقوة‬ ‫الصوت ورنينه الذى يبث فى النفوس الهيبة وفى ذات الوقت الثقة بصدقه‬ ‫وكذلك األرادة التى التلين ‪ ،‬يدير جابر وجهه حوله ‪ ،‬يرى فيما سلف أهل‬ ‫البيت وقد تحلقوا حول التليفزيون فى أقصى الفناء والذى كان يعتبر فاكهة‬ ‫البيت فليس فى المنطقة كلها اال هو وعدة أجهزة تعد على أصابع اليد‬ ‫الواحدة يتيه أصحابها بأنهم يمتلكونها ويرون فيها النشرات واألفالم‬ ‫وماتشات الكرة ‪ ،‬كان للتليفزيون أيامها بهجته وكان يصنع له إطار من‬ ‫الخشب المزين بالنقوش الجميله وغطاء من القماش يصنع خصيصا ً له‬ ‫ليغطيه وهو مغلق خوفا ً عليه من األتربة و الغبار المتطاير فى الجو خاصة‬ ‫من وكالة كامل التى التترك منزالً فى الشارع اال رمته بغبارها وذرات‬ ‫الدقيق المتطايرة طول النهار ‪ ،‬كان جابر يتمدد هنا على حافة الحصير‬ ‫وبجواره رضا وسالمه الذى كان يحبو أيامها وأمه وأم سالمه جالستان‬ ‫قريبا من السلم الصاعد الى أعلى لتلبية أى طلب للحاج الذى كان يطلب‬

‫‪78‬‬


‫أحيانا العشاء فتمتد الطبالى فورا ً وتتحرك النسوة رائحات غاديات باألطباق‬ ‫وأدوات الطعام ‪ ،‬يتكلم أبوه ويشاركه األخرون ‪ ،‬التفارق البسمة وجوههم‬ ‫وال تغيب الضحكة عن العيون‪ ،‬ومن يخطىء فعقابه معروف ‪ ،‬صرخة‬ ‫غاضبة وسباب فورى وطرده من المكان ‪ ،‬وهذا كان أقصى عقاب قد يتلقاه‬ ‫أحدهم ويظل زمنا ً يشكو ويتألم منه ‪ ،‬يرمى جابر بذاكرته أكثر لتغوص فى‬ ‫تلك األيام ‪ ،‬كان بعض الجيران يستأذنون الحاج أو يوجهون طلبهم ألمه أم‬ ‫جابر راغبين فى الفرجة على التليفزيون ويؤذن لهم فيصبح هذا الفناء بكل‬ ‫البراح واالتساع ضيقا ً يكفى بالكاد لألجساد المتراصة والعيون المحدقة‬ ‫واآلذان المنصتة وايضا للهمسات المبثوثة هنا وهناك ‪ ،‬أيامها كانت سعدية‬ ‫تأتى مع أمها ‪ ،‬تجلسان قريبا ً من أمه اعتماد أو بجوار كريمة امرأة أبيه‬ ‫وتدور النظرات بينه وبين سعدية‪ ،‬نظرات تنطق وتبوح بكل مالد ى قلبيهما‬ ‫الصغيرين من أشواق صبيانية فائرة ‪ ،‬يذكر جابر حينما جاءت جلسته‬ ‫بجوارها فى أقصى الفناء بعيدا ً عن عينى أبيه ومد يده تحت الغطاء وأمسك‬ ‫بيدها وكم تاه بهذا األمر وعاش أياما يتساءل كيف واتته الجرأة لهذا الفعل‬ ‫وفى حضرة أبيه ‪ ،‬و يوما ً جاءت وحدها وحين انتهى الفيلم وأرادت العودة‬ ‫طلب منه والده أن يصحبها ويطمئن لدخولها بيتهم ويعود سريعا ً ‪ ،‬ليلتها‬ ‫ذاق أول قبلة من أنثى فى حياته ‪ ،‬قبلة سرت فى شرايينه وأوردته وخاليا‬ ‫طائر على جناحى‬ ‫أعصابه وروحه دفقة واحدة محدثة زلزاالً جعله يعود‬ ‫ً‬ ‫نشوة عارمة وفرح مقيم شاعرا ً أنه قد صار أميرا ً ‪ ،‬فارسا ً ‪ ،‬صار رجالً‬ ‫حقيقيا ً فاردا ً ذراعيه على الكون بسماه ونجومه وكواكبه وأفالكه ‪ ،‬وكيف‬ ‫ال وهو قد احتضن بذراعيه هاتين ‪ -‬وينظر الى ذراعيه فخورا ً بها – سعدية‬ ‫أجمل وأبهى وأرق بنات المنطقة كلها وبشفتيه هاتين التقم شفتيها وذاق‬ ‫رحيق الخلود من نبعهما ‪ ،‬ذلك الرحيق الذى من فيض بهاه لم يستطع‬ ‫نسيانه لزمن طال ‪ ،‬وكم حاول بعدها أن يمد حبال الوصال اال أنها كانت لها‬ ‫أفكار وتطلعات أخرى ‪ ،‬يحدق جابر فى الفناء ‪ ،‬يرى طيف أبيه فى مكانه‬ ‫المختار ‪ ،‬ترتعد نظراته خشية أن يقرأ أبوه أفكاره وتصبح مشكلة القبل له‬

‫‪79‬‬


‫بها ‪ ،‬يرى أباه جالسا ً يحدق فيه بعينيه ‪ ،‬يشعر أن النظرات تنطلق لتنغرز‬ ‫فى سويداء قلبه ‪ ،‬تزفر الدموع من عينيه ‪ ،‬بالكاد يقيد حركتها ‪.‬‬ ‫أما السيد فقد بدا النور لعينيه مظلما ً ‪ ،‬فيه مسحة حزن وأسى على أخيه‬ ‫الراقد الذى اليدرى من أمره شيئا ً ‪ ،‬لو كان ينطق – حتى ‪ -‬ألنتهى األمر ‪،‬‬ ‫المحامى طلب العقد لإلطالع ‪ ،‬العقد هناك عند شعراوى وسعد ‪ ،‬طبيعى لن‬ ‫يقدموه اال للمحكمة أولمحامى عند التفاوض اذا أمكن هذا ‪ ،‬المحامى العجوز‬ ‫جلس خلف مكتبه العتيق مثله محدقا ً فيهم من وراء زجاج نظارته السميك‬ ‫سائالً ‪-:‬‬ ‫ هل تفكرون فى التسوية ؟‬‫صرخ جابر ‪-:‬ال ‪ ،‬هم كاذبون ومحال أن يفعلها أبى ‪.‬‬ ‫جابهه بعينى الثعلب اللتين تبخان مكرهما فى فضاء المكان ‪-:‬‬ ‫ يابنى النفس البشرية متقلبه وال تثبت على حال ‪ ،‬األمور التؤخذ ألى‬‫سبب من األسباب خاصة مع انسان بحجم الحاج كما حدثتونى عنه بنعم‬ ‫والولكن بتقصى الحقائق ‪ ،‬بالنظر فى الظروف ‪ ،‬برؤية األمر بعين حيادية‬ ‫ومناقشته وتفنيده بالمنطق وليس بالمشاعر واألحاسيس ‪ ،‬هل تفهمنى ؟‬ ‫بدا على جابر أنه لم يفقه نصف أو ثالث أرباع كالمه ‪ ،‬ومع هذا هز رأسه‬ ‫موافقا ً والتزم الصمت ‪ ،‬استدار المحامى للسيد ‪-:‬‬ ‫ أمامنا طريقان ال ثالث لهما ‪ ،‬طريق التفاوض ‪ ،‬اتصل انا بهم بصفتى‬‫محامى عنكم ‪ ،‬اطلب االطالع على العقد والتأكد من صحة توقيع الحاج‬ ‫بمضاهاته بتوقيع آخر تأتونى به وأعرضه على خبير خطوط صديق لى‬ ‫بصفة ودية ‪ ،‬أو نتركهم يتقدمون للمحكمة ونشكك فى صحة التوقيع‬ ‫ونطلب عرضه على خبير خطوط ‪ ،‬وهذا سيأخذ وقتا ً طويالً ومشقة‬ ‫ومصاريف ‪.‬‬

‫‪80‬‬


‫تدخل محمد بطه ‪-:‬‬ ‫ ومارأيك أنت ياأستاذ ؟‬‫أشار بإصبعه الغليظ الى وجه السيد قائالً ‪-:‬‬ ‫ هذا يرجع اليكم ‪ ،‬ماذا تريدون ؟‬‫تجهم وجه السيد ‪ ،‬وتكرمشت تغضنات وجهه وهو يحدق فى عينيه‬ ‫الضيقتين ‪-:‬‬ ‫ ماذا ترى أنت بالقانون ؟‬‫ أرى الرأى األول ‪ ،‬نرسل اليهم ‪ ،‬نتباحث وديا ً ‪ ،‬نطلع على العقد ونقارن‬‫التوقيع بآخر‪ ،‬فاذا كان يشبهه أو مثله ننتقل الى مرحلة أخرى وهى‬ ‫التفاوض ‪ ،‬أما اذا كان مختلفا ً فهنا نقول لهم اخبطوا ادمغتكم الخرقاء‬ ‫فى أقرب جدار ‪.‬‬ ‫تفكر السيد قليالً ثم مال على جابر سائالً ‪ -:‬هل تستطيع إحضار ورقة عليها‬ ‫توقيع قديم ألبيك ؟‬ ‫شرد قليالً قبل أن يرد باإليجاب ‪.‬‬ ‫‪.....................‬‬ ‫كانت كريمة بجوار باب شقتها تتنصت ‪ ،‬علها تلتقط كلمة ما ‪ ،‬بينما في‬ ‫الناحية األخرى كانت رضا تقف الى جوار الباب أيضا ً لنفس المهمة‪ .‬بينما‬ ‫اعتماد على سريرها تكاد تحترق شوقا ً للقيام ‪ ،‬تريد أن تهب كاعصار‬ ‫لصد هذا الطارئ الجديد ‪ ،‬الخبر الذي إنتشر سريعا ً بمجرد تشابك جابر و‬ ‫سعد وشعرواي حفزها ألن تثور مدافعة عن البيت ومن فيه ‪ ،‬مقسمة أن‬ ‫رضوان محال أن يفعل هذا ‪ ،‬محال أن يضع نفسه أو يضعهم فى موقف كهذا‬ ‫أو حتى يخطىء دون قصد فيه ‪ ،‬تريد أن تقوم ‪ ،‬تتكلم ‪ ،‬تصرخ ‪ ،‬تسب‬ ‫وتلعن ‪ ،‬غير أن األمر مايزال بعيدا ً عن يديها ‪ ،‬الرجال وحدهم يسيطرون‬ ‫عليه اآلن ‪ ،‬إكتفت بإرسال رضا لتتابع األمر ‪ ،‬علها تتحين فرصة للتدخل ‪.‬‬

‫‪81‬‬


‫إرتفعت األصوات من الدور األرضي تؤكد أن رضوان شفاه هللا مستحيل أن‬ ‫يفعل هذا‪ ،‬رضوان أذكى من أن يتصرف بغباء‪.‬‬ ‫قال السيد‪:-‬‬ ‫ رضوان لم يكن مزواجا ً ‪ ،‬تزوج أم سعد لغاية في نفسه‪ ،‬ليس‬‫مجرد رغبة‪ ،‬بل أن الرغبة لم تمر بذهنه أساسا ‪،‬‬ ‫لكنها المصالح ‪ ،‬ثم أنه وقف لها حينما شعر‬ ‫بمطامعها ‪ ،‬لم يهتم بأي كالم قد يقال ‪ ،‬طلقها ولم يمكنها‬ ‫من إستغالله أبدا ً‪ ،‬فكيف يكتب لها نصف البيت ؟‬ ‫قال جابر‪:-‬‬ ‫ عاوز أعرف صلة كامل بما جرى الليلة‪.‬‬‫هرولت رضا الى أمها بالخبر اليقين ‪ ،‬تبعتها كريمة التى لمحتها منذ قدمت‬ ‫للتنصت على مايقال ‪ ،‬وبدأ إجتماع نسوي في الدور األول في حجرة أم‬ ‫جابر ‪ ،‬اتجهت اعتماد بحدقتيها الناريتين الى وجه كريمه التى تكرهه منذ‬ ‫وقعت عيناها عليه ‪ ،‬كريمه بصفتها الصغيرة البيضاء اللعوب التى كانت‬ ‫تعرف كيف تأكل عقل الحاج وقلبه ايضا ‪ ،‬التي كان الحاج يبوح لها‬ ‫بمالديه في أوقات الصفاء ‪ ،‬ويأتمنها على أسراره‪-:‬‬ ‫ مارأيك ياكريمه ؟‬‫تعرف كريمه جيدا ً مشاعر اعتماد نحوها وتبادلها ذات الشعور ‪ ،‬لكنها‬ ‫تعرف ايضا أنها صاحبة الكلمة فى البيت رغم كل شىء ‪ ،‬وأن األمر بيدها ‪،‬‬ ‫وأن الناطح معها يضرب رأسه فى جدران صلده الحيله معها وال مجال ‪،‬‬ ‫وأن رضوان رغم ميله لها – لكريمه ‪ -‬اال أنه دوما ً كان يرفع من شأن‬ ‫اعتماد ‪ ،‬يقول مؤكدا ً أنها رفيقة عمر وزميلة كفاح وأنه يتخلى عن روحه‬ ‫‪82‬‬


‫واليتخلى عنها ‪ ،‬وويل لمن يغضبها أو يفكر فى مضايقتها وهو حى ‪ ،‬لذا‬ ‫كانت كريمة تتقى غضبها ‪ ،‬وتتحايل لدفع أذاها وكلماتها الحادة المسنونة‬ ‫عنها ‪.‬‬ ‫دقت كريمه صدرها بيدها في حماس وهي تغمغم مستنكرة‪:-‬‬ ‫ أي شقة عاوزينها أوالد المجانين ؟‬‫صمتت قليالً وهي تنظر الى أم جابر الجالسة على سريرها تتلوى ألما ً وحنقا ً‬ ‫‪ ،‬كانت مكتومة رغما ً عنها كبركان يأبى اال االنطالق ‪ ،‬لم تفرغ ما في‬ ‫صدرها الى اآلن‪ ،‬هذه الرقدة أنهكتها‪ .‬لو تستطيع القيام!!‬ ‫أكملت كريمه ‪:-‬‬ ‫ رضوان تزوجها من أجل مصلحة‪ .‬يريدها أن‬‫تعرفه بمعلم في بحري يشتغل في الميناء ‪ ،‬كان عاوز‬ ‫يوسع تجارته‪ .‬لكنه أحس أنها ترسم على كبير‪ ،‬قام‬ ‫طلقها‪،‬هو طمني قبل زواجه منها‪ ،‬قال يا كريمة هذا‬ ‫زواج عمل مثل عشاء عمل وغذاء العمل وقعد يضحك‬ ‫وعمره ما قال شئ مثل هذا‪.‬‬ ‫في الدور اإلرضي كانت الضجة ماتزال تدق أبواب العقول ‪ ،‬تتصاعد تارة‬ ‫وتهدأ أخرى حسب مرارة المتحدثين‪.‬‬ ‫تسائل جابر‪ :‬ياعمي معاهم عقد‪.‬‬ ‫صرخ السيد‪ :‬ال عقد وال يحزنون ‪ ،‬من يدخل دارنا نقطع ساقه‪.‬‬ ‫قال جابر بتمهل‪ :‬أريد أن أثبت إنها مزورة‪.‬‬

‫‪83‬‬


‫عاد السيد يصرخ ‪ - :‬قلت التشغل بالك بها ‪.‬‬ ‫نظر فى الساعة ‪ ،‬هب واقفا ً ‪-:‬‬ ‫ عاوز حاجة ؟‬‫ومد يده يضبط عمامته على رأسه وهو يهم بالقيام‪ .‬تذكر جابر موضوع‬ ‫الدكان ‪ ،‬قال بهدوء ‪:-‬‬ ‫‪ -‬سأفتح الدكان غدا ً‬‫قال بطه وهو يتجه الى الباب ‪ -:‬على بركة هللا‬ ‫قال السيد وهو يتحرك الى جواره ‪-:‬‬ ‫ على بركة هللا‪.‬‬‫عاد جابر الى حيث تلقته النسوة بسيول األسئلة وأكوام المجادالت‪.‬‬ ‫‪..................‬‬ ‫جلس إسحاق داخل دكانه الصغير في حارة خان أبو طاقية خلف الفاترينة‬ ‫الزجاجية القابعة في المدخل ‪ ،‬والتي تسده تماما ً وال تسمح ألحد بالنفاذ الى‬ ‫الداخل ‪ ،‬وتجعل التعامل فقط عبر زجاجها المترب المشرب بآثار األكواب‬ ‫والكئوس الزجاجية الرخيصة ‪ ،‬والخمر التي يصبها فيها من داخل برميل‬ ‫بجانبه له صنبور قرب قاعدته الدائرية ‪ ،‬يمأل منها ويقدم للزبون الذي ال‬ ‫يجد أمامه إال التراص بجوار الجدار محتميا ً بالعتمة التى ترمى بثقلها على‬ ‫المكان ومن فيه ‪ ،‬وإحتساء الخمر التي يسمونها سخرية ‪ (..‬منقوع‬ ‫الصرم ( ‪.‬‬ ‫تبدو الدكان صغيرة تسع بالكاد إسحاق الذي يجلس على مقعده الدوار ‪،‬‬ ‫ويمارس من خالله عمله ‪ ،‬ومن خلفه أرفف عديدة على الجدار ‪ ،‬عليها‬ ‫زجاجات خمور وبيره من أنواع مختلفة ‪ ،‬جهزها لزبائنه من المستويات‬ ‫األعلى قليالً في المناطق المجاورة‪ .‬وإكتفى للزبائن الكا لحة بالبراميل‬ ‫‪84‬‬


‫واألكواب ‪ ،‬سواء الصاج أو الزجاجية‪ ،‬يفتح لهم الدكان بعد الغروب وبعد‬ ‫أن تكون معظم إن لم تكن كل الورش قد أغلقت أبوابها ‪ ،‬وسار متاحا ً أمام‬ ‫زبائنه أن يقفوا كما يريدون ‪ ،‬ويقولوا ما يشاؤن شريطة أال يعلو لهم صوت‬ ‫فوق المعتاد ‪ ،‬جلبا ً لصمت الجيران وعدم شكواهم ‪ ،‬وتساعد إسحاق فى‬ ‫الدكان إبنة غاية في الجمال في نظر زبائنه ‪ ،‬الذين كانوا ينهون أعمالهم‬ ‫عادة ويأتون اليه‪ .‬يتطلعون الى وجه اإلبنة األبيض بشعره األصفر السائح‬ ‫على الكتفين ‪ ،‬ويشربون منقوع الصرم وهم يلعنون نسائهم والحظ الذي لم‬ ‫يوقعهم مع واحدة مثل هذه ذات الدالل والمرح والوجه الطلق والكلمات‬ ‫المحشوة برقائق الحروف ‪ ،‬فهى تشفي العليل بطلتها وبهاء بسمتها التى‬ ‫تالقى بها كل الوجوه الكالح منها والسمج والعابس والمحزون ‪ ،‬تقدم لهم‬ ‫الخمر بدالً من والدها الذي يجلس بعيدا ً بجوار األرفف وراء مكتب صغير ‪،‬‬ ‫يرتب الزجاجات أو يحضر برميالً جديدا ً أو ما شابه‪ .‬وعلى البعد يرقب أبنته‬ ‫بإبتسامتها ولمة السكارى من وراء الفاترينة حولها ‪ ،‬واثقا ً أن البنت ال‬ ‫تزيد عن جرعة اإلبتسامة ألي منهم ‪ ،‬حتى سعد نفسه إبن أم سعد ‪ ،‬صاحب‬ ‫الفرن وشقيق شعرواي‪ ،‬تبدو متحفظة غاية في التحفظ معه وفى ذات‬ ‫الوقت متقبلة غمزاته التى يظن أن ال أحد يراها ‪ ،‬وهباته القليلة التى يظنها‬ ‫كبيرة بما يكفى لجذبها اليه والميل نحوه ‪ ،‬ترقب البنت تصرفاته وعين‬ ‫والدها رادار ثاقب عن بعد ‪ ،‬يرمى بظهره العريض الى الخلف محدقا ً وسط‬ ‫الضوء القليل التى ترميه اللمبة المعلقة فى السقف والتى تصنع جوا ً غامضا ً‬ ‫يحيط بالمكان فال يبدو من مالمح من بداخل الدكان اال سيماه ومحيط وجهه‬ ‫أما النظرات فيصعب تحديد مسارها أو مكان انصبابها ‪ ،‬والبنت تعرف هذا‬ ‫وتتصرف واثقة أنها فى أى لحظة حرجة ستجد أباها بجوارها ‪ ،‬وربما‬ ‫أزاحها جانبا ً مالطفا ً الزبون مبالغا ً فى ترضيته حذرا ً من ارتفاع األصوات‬ ‫وسط الحارة الهاجعة ليالً ‪ ،‬والتى تنظر اليه والى خمارته بعين الضيق وفى‬ ‫ذات الوقت راغبا ً االيخسر زبونا ً من زبائن المكان ‪ ،‬وقد حاول سعد مرات‬ ‫أن يغريها بالنقود ‪ ،‬غله الفرن وثمن الدقيق الذي يكون في جيبه ‪ ،‬ولما لم‬ ‫يجد منها تجاوبا ً معه تركها ‪ ،‬وأكتفي بالوقوف لحظات كل مساء يتجرع‬ ‫‪85‬‬


‫كأسين قبل التوجه الى البيت ‪ .‬غير أنه في هذه الليلة كان صامتا ً على غير‬ ‫عادته ‪ ،‬تبدو فى بؤرة عينيه أكواما ً من الهموم ‪ ،‬يزفر من فمه وأنفه زخات‬ ‫من ضيق ‪ ،‬إذ أن األمر تطور بصورة سريعة مع عائلة رضوان ‪ ،‬وأصبحت‬ ‫المواجهة حتمية وال شك فيها‪ ،‬شعراوي بعد الذي جرى مع جابر في‬ ‫الحارة ذهب الى محامي قريب للحاج كامل ‪ ،‬مكتبه في شارع الموسكى‬ ‫ورفع قضية ‪ ،‬يطالب فيها باستالم الشقة التى باعها رضوان ألمه بعقد بيع‬ ‫ابتدائى موقع عليه منه ‪ ،‬ووصى المحامي أن يفعل المستحيل لكسب‬ ‫القضية ووعده بأجر اليتخيله لو تم له هذا ‪ ،‬مقسما ً اال يتنازل عن حقه حتى‬ ‫لو دفع أضعاف ثمن الشقة فى سبيل أن يكسر عناد وغرور جابر ومن معه‬ ‫‪ ،‬كل مايطمح اليه الحصول على الشقة بالقانون ‪ ،‬دخول البيت فى وجود كل‬ ‫عائلة رضوان ورغم أنفهم ‪ ،‬و ليضربوا دماغهم في كل جدران المنطقة ‪،‬‬ ‫نصحه البعض قائلين أن عائلة رضوان كبيرة ولهم وزنهم في المنطقة‬ ‫ومؤكد لن يقبلوا بهذا ‪ ،‬وقد يهاجموا الفرن وليس بعيدا ً أن يتربص بعضهم‬ ‫له أو ألخيه وينتقموا منهما‪ ،‬اتهمهم بالجبن وبأنهم يخافون من خياالت‬ ‫وأشباح التوجد اال فى مخيلتهم المريضة ‪ ،‬شامخا ً بأنفه مؤكدا ً أن له هو‬ ‫أيضا أهله وعمال فرنه وبعد العلقة التي أخذها جابر فى خان أبو طاقية ال‬ ‫يعقل أن يأتي هنا ثانية‪.‬‬ ‫الحظت إبنة إسحاق أن سعدا ً على غير عادته فد تجرع الليلة كثيرا ً من‬ ‫الخمر ويطلب المزيد ‪ ،‬نظرت لوالدها بنصف عين فلم يزد على أن هز رأسه‬ ‫وهو وراء مكتبه على البعد هزة يسيرة ‪ ،‬معناها أن وافقيه على ما يريد‬ ‫واعطه ما يطلب من الخمر‪ ،‬فليس هذا الذي يقال له كفى مادامت النقود في‬ ‫جيبه‪.‬‬ ‫أخذ سعد كأسه ومضى الى جانب الجدار ‪ ،‬ممسكا ً بكأسه متفكرا ً في جابر‬ ‫هذا ‪ ،‬الذي يظن نفسه أهالً لألخذ بالثأر ‪ ،‬أي ثأر هذا الذي يطلبه وهو لم‬ ‫يستطع أن يحمي نفسه عندهم في خان أبو طاقية‪ ،‬جابر هذا ليس رجالً‪..‬‬

‫‪86‬‬


‫دار برأسه فيمن حوله ‪ ،‬رأى جابر بجانبه ‪ ،‬كأسه في يده ‪ ،‬وطبق به‬ ‫بعض المزات على حجر بجواره ‪ ،‬صرخ فيه بقوة‪-:‬‬ ‫ جابر يا رضوان‪ ،‬أنت لست رجالً‬‫ورفع الكأس الى فمه ‪ ،‬غير أنه تلقى ضربة على رأسه من الخلف وسمع‬ ‫زمجرة أدار على إثرها دماغه ‪ ،‬ليرى رجالً غير جابر في مواجهته‪ ،‬كاد‬ ‫يسأله عن جابر وكيف هرب ومضى خوفا ً منه‪ .‬غير أن الرجل عاجله‬ ‫بالسؤال‪:-‬‬ ‫ لماذا تشتمني ؟‬‫أشاح بيده‪ .‬قال في ال مباالة‪:-‬‬ ‫ انا أشتم جابر‬‫ جابر!!‪ ...‬من ؟‬‫ جابررضوان‬‫ وماذا قلت له؟‬‫ أنت لست رجالً‪ ...‬وال إمرأة‬‫ضحك الرجل منه ‪ ،‬أخذ يقهقه ‪ ،‬أعجبت سعد الحكاية ‪ ،‬فكر فيها فوجدها‬ ‫رائعة‪ ،‬يجرد جابر من جنس البشر‪ ،‬هو ال يستحق أن يكون بشرا ً ‪،‬‬ ‫سيتركه بال جنس ‪ ،‬ال رجل وال إمرأة‪ ،‬وسيواجهه بهذا ليعذبه‪ ،‬ليثبت له‬ ‫أنه ال شئ‪ ..‬تحرك ناحية الدكان ‪ ،‬وضع الكأس دون أن يشير إلبنة إسحاق‬ ‫مثل كل ليلة ومضى تاركا ً الفرن خلفه متجها ً الى بيت رضوان‪ ،‬ناداه‬ ‫إسحاق‪-:‬‬ ‫ الى أين ؟‬‫قال دون أن يدير وجهه اليه ‪- :‬‬

‫‪87‬‬


‫ مشوار وراجع‪.‬‬‫وأكمل السير ‪ ،‬وصل الى الباب الحديدي ‪ ،‬دقه بكل قوته وهو ينادي بأعلى‬ ‫صوته‬ ‫ جابر يا رضوان‬‫فتحت النوافذ واألبواب وأنتبهت العيون‪ ،‬ظل صوته يعلو وهو يحاول الثبات‬ ‫فى مكانه‬ ‫ أنت لست رجالً ‪ ،‬ولست إمرأة‬‫أنت ال شئ ‪ ،‬أنا نفيتك من جنس البشر‪.‬‬ ‫وإستدار يريد العودة من حيث أتى‪ .‬غير أن يدا ً ثقيلة سقطت على قفاه‬ ‫وأخرى الى ما بين فخذيه من الخلف‪ .‬أرتفع ألعلى وسقط مرة واحدة على‬ ‫األرض‪.‬‬ ‫بدت في عينيه نظرة رعب وهو يرى شبحا ً ماردا ً يقف فوق جسده متحفزا ً‬ ‫وهو يلقي اليه بنظرات اإلحتقار ‪ ،‬غير أنه حينما رآه يستدير عائدا ً الى‬ ‫الداخل عاد يضحك مصرا ً على أنه قد نفاه من جنس البشر‪ . .‬رأى كامل‬ ‫قادما ً وعينيه الواسعتين تكافحان آثار النوم والفزع الذى انتابه من الضجيج‬ ‫المفاجىء فى مثل هذا الوقت من الليل ‪ ،‬أشار اليه أن يقترب وهمس له‬ ‫بصوت ظن أنه همس قائالً‪-:‬‬ ‫ جابر ليس رجالً ‪ ،‬وليس امرأة ايضا !!‬‫فلما رآه راغبا ً عن االستماع اليه مد يده مستجيبا ً لليد الممدودة اليه ‪،‬‬ ‫محاوال ً القيام ‪ ،‬سعيدا ً بقراره الذى أعلنه على الجميع ‪ ،‬عائدا ً من حيث جاء‬ ‫‪..........................‬‬ ‫بكت كريمة كما لم تبك من قبل ‪ ،‬حدقت فى عينى سالمة الهادئتين ‪ ،‬منصتة‬ ‫الى صوته المحايد وهو يجابهها بالمباالة كانت كافية لتشعر نيران سنينا ً‬ ‫‪88‬‬


‫مضت ‪ ،‬نيرانا ً احتفظت برمادها فى صدرها خشية أن يطلع عليها أو يرى‬ ‫بقاياها أحد ما ‪ ،‬فالنيران أبدا ً مهما انزوت ومهما خمدت التغيب أثارها‬ ‫والتنمحى ‪ ،‬ولكن تترك أثرها شاهدا ً عليها راويا ً لتاريخها محدثا ً عن فعلها‬ ‫‪ ،‬تفجر البركان فى صدرها لدهشتها هى أوال قبل أن يكون لمن حولها‬ ‫خاصة رضوان الراقد فى مرقده على بعد خطوات منها مرسالً عينيه‬ ‫ترصدان وتتبعان بريق النظرات وسيماء الوجوه وأحاسيس الصدور التى‬ ‫تبدو فى لفتات العيون ‪ ،‬مكتفيا ً فى كل األحوال بتحريك جفنيه باغالقهما أو‬ ‫بشى معلنا ً عن رفضه له‬ ‫فتحهما أو الرجفة التى تعتريه حينما يضيق صدره‬ ‫ْ‬ ‫‪ ،‬انتبهت لنفسها وقد تناثرت شظايا أمام باب الشقة التى فتحته توا متلهفة‬ ‫لسماع خبر تأخر عنها ثالث سنوات هى عمر امتحان سالمه فى الثانوية‬ ‫راجية هذه المرة أن تطلق زغرودة فى فضاء تشبع من األحزان والهموم‬ ‫التى لم تبرحه منذ جثمت على صدره وكتمت أنفاسه ‪ ،‬لكن الوجه الذى‬ ‫طالعها لم يكن وجه النجاح التى ترجوه ‪ ،‬فالنجاح كالعدوى ينتشر وتفوح‬ ‫رائحته وتعلو رايته واليتحدث عن نفسه تاركا ً لمن حوله الحديث عنه‬ ‫والفرح به واللذة بامتالكه والظفر به ‪ ،‬رأت أمامها وجها ً آخر كرهت‬ ‫مطالعته والتحديق فيه وكتم مشاعرها حتى ال يوجه أحد اليها اللوم وربما‬ ‫قال لها ‪ (..‬مالك به ؟ ينجح أو يسقط ‪ ،‬هذا شأنه وشأن أبيه ‪ ،‬هو‬ ‫يتصرف معه ‪ ،‬دعيه له والتشغلى بالك بحاله ) كانت تخشى من هذا الرد‬ ‫خاصة من اعتماد التى التترك فرصة إلظهارها بمظهر الخطأ اال رمتها بها‬ ‫هى تعرف هذا وتعرف أن فى يد سالمة وحده أن ينصفها ويرفع رأسها‬ ‫ويفرد صدرها ويهب عينيها بريق النصرة والفوز ‪ ،‬وفى يديه ايضا أن‬ ‫يكسر رقبتها ويمأل عينيها بالتراب ‪ ،‬وهاهو قد فعلها كأنه لم يكفه ماالقته‬ ‫طوال سنوات عمرها التى كتمت فيها مشاعرها كأنثى رافضة مجرد التفكير‬ ‫فى شىء اال ارضاء رجل تكرم عليها ومنحها اسمه وحياته وبيته وأوالدا ً‬ ‫سعدت بهم ورجت ربها أن يكون فيهم العزاء عن كل شىء ‪ ،‬لكن هذا لم‬ ‫يمنع أبدا ً أن تفيض بصدرها مشاعر األنثى التى تتوق الى أعاصير االحتواء‬ ‫التى يمنحها اياها ند لها يروى وينعش ويمنح بفحولة ورغبة جامحة‬ ‫‪89‬‬


‫المجرد اعتياد ‪ ،‬قد تخبو ناره أياما ً فإن تأججت فذلك للحظات عاجلة يلهث‬ ‫بعدها ويرتمى الى جوارها ‪ ،‬راميا ً الكون بسعاله وصوت تنفسه الذى‬ ‫يزعج السكون ‪ ،‬تطوف بها هذه المشاعر أحيانا كثيرة فتغضب لمرورها‬ ‫بخاطرها ‪ ،‬تطردها وترفض االستمرار بها أو حتى معاودة تقبلها ‪ ،‬فيد‬ ‫الرجل على أسرتها بيضاء الى الدرجة التى عليها أن تحنى رأسها وتخلص‬ ‫بروحها له ‪ ،‬وتمنحه كيانها بالقيد وال مشاعر خاصة بها ‪ ،‬مهما كانت تلك‬ ‫المشاعر ‪ ،‬عاهدت نفسها منذ سنين أن توفر له مشاعرها كلها لحين قربه‬ ‫منها واحتواؤه لها فالتبخل بشىء والتنكر شىء راضية مطمئنة الى‬ ‫رضوخها وتقبلها لقربه مهما كان ثمن هذا القرب ‪ ،‬يكفيه أنه منح دون أن‬ ‫يسأل شيئا ً أو يطلب مقابالً كما قد يفعل الكثيرون ‪ .‬رأت الرأس المحنية التى‬ ‫تخفى عنها عينى ولدها الالهيتين اللتين تحمالن مكرا ً تعرفه جيدا ً وال مباالة‬ ‫قاسية تنكرها وتكرهها وهو يقول لها كلمات لم تسمعها فقد صرخت‬ ‫مالمحه ونظرات عينيه بكل شىء ‪ ،‬الفشل اليحتاج الى كلمات تعبر عنه ‪،‬‬ ‫يعرف جيدا ً كيف يفصح عن نفسه باشارة من عين ‪ ،‬أو لفتة من وجه ‪ ،‬أو‬ ‫حتى تقطيبة جبين ‪ ،‬رأت الوجه وقرأت المالمح و بكت ضياع األمل ونفاذ‬ ‫اليأس المقيم ‪ ،‬الولد الحيلة الذي خرجت به من الدنيا أبى أن يسعدها ‪ ،‬أصر‬ ‫االيحقق أملها‪ ،‬خاب وفرح فيه وفيها الكل ‪ ،‬سيشمت فيه كل من يحمل لها‬ ‫بغضا ً أو ينتظر منها عثرة أو يترقب لها كبوة فى طريق ‪ .‬عادت الى أبيه‬ ‫بعد أن استطاعت جمع شتات نفسها من جديد ‪ ،‬عادت بدموعها وظهرها‬ ‫المكسور وعمرها الذى أهدر سنواته هذا الولد العاق الذى جاء ليقهر آخر‬ ‫مالديها من جهد على المقاومة واالستمرار ‪-:‬‬ ‫ أرأيت يارضوان الولد ؟‬‫ارتجفت األجفان بقوة وتطاير من العينين شرر وهو يحدق في وجهها‬ ‫المغسول بالقهر ‪ ،‬كان محمد الصغير قريبا ً من أبيه يحمل مجلة فى يده‬ ‫يشير ألبيه الى صورة فيها ‪ ،‬رآى وجهه يشتد احمراره وتتأجج نيران‬ ‫نظراته فأخذ ركنا ً بجواره ملقيا ً المجلة ومتابعا ً الموقف الجدي ‪ ،‬اقتربت‬ ‫‪90‬‬


‫كريمه شاكية فشلها فى تربية نبتة عوجاء لم تستقم ورفضت محاوالت‬ ‫زارعها لرعايتها ‪ ،‬انتبه محمد لنظرات أبيه للمجلة بجواره ‪ ،‬بتردد رفعها‬ ‫قليالً أمامه ‪ ،‬انصبت النظرات عليها ‪ ،‬قربها من عينيه ‪ ،‬لم تفهم كريمه‬ ‫مغزى مايجرى أمامها ‪ ،‬خرست الكلمات على لسانها وهى تتابع األمر‬ ‫العينان تحدقان ‪ ،‬الولد يقرب المجلة منها ‪ ،‬يشير الى صورة ‪ ،‬يقرأ المكتوب‬ ‫‪ ،‬اغماضة العين وانفراجها جعله يتوقف ‪ ،‬يقرأ كلمة ‪ ،‬تنغلق العينان‬ ‫وتنفتحان ‪ ،‬يتهجى الكلمة ‪ ،‬تسرى امارات سرور فى بؤبؤ العينين ‪ ،‬ينطق‬ ‫الحروف ببطء ‪ ،‬يزداد اتسع مساحة الرضاء فى براح النظرات ‪،‬يصرخ‬ ‫الولد ‪-:‬‬ ‫ فهمت ماتريد‬‫يتبعه صوت أمه معترضا ً‪-:‬‬ ‫ ماذا فهمت ؟‬‫يجاوبهاوهو يمارس عمله بسرعة ‪ -:‬انتظرى‬ ‫ووسط الردهة يحضر ورقة كبيرة ‪ ،‬يكتب عليها حروف اللغة الثمانية‬ ‫والعشرين ‪ ،‬ويعود لوالده ‪ -:‬سأمر على الحروف ‪ ،‬الحرف الذى تريده‬ ‫اغمض عينيك ‪ ،‬والذى التريده التحركهما‪ ،‬اتفقنا ؟‬ ‫تهتز الجفون بلطف وارتياح كبير مرحبة بالفكرة ‪ ،‬وتبدأ التجربة وكريمة‬ ‫تتابع التكاد تفهم شيئا ً ‪ ،‬بينما محمد بين لحظة وأخرى يكتب كلمة على‬ ‫هامش المجلة بجواره ‪ ،‬بعد لحظات اقترب منها وقبلها سعيدا ً وهو يبلغها‬ ‫بقرار والده‪ ..‬اتركي سالمه لمصيره !!‬ ‫اتسعت مساحة الدهشة الممزوجة بعدم التصديق فى عينيها وهى تحدق فى‬ ‫عينى رضوان ‪-:‬‬ ‫‪ -‬أأنت قلت هذا ؟‬

‫‪91‬‬


‫اغمض عينيه وفتحهما عالمة الموافقة ‪ ،‬مسحت عينيها وجلست الى جانبه‬ ‫محنية الرأس راضية بقراره ‪ ،‬فهو فى كل األحوال رجلها الذى عليها طاعته‬ ‫والرضاء بما يريد ‪ .‬سمع سالمه ماقيل وهو خارج الحجرة ‪ ،‬دخل مخذوال ً‬ ‫الى حجرة أبيه ‪ ،‬عيناه منكسة النظرات ‪ ،‬كتفاه متهدالن ‪ ،‬ويداه الى جانبه‬ ‫فى تسليم ‪ ،‬فهو يعرف جيدا ً مشاعر أبيه اآلن ‪ ،‬ويعرف أنه لو كان بصحته‬ ‫لتفجرت ينابيع غضبه وناله منه مايطيق وماال يطيق من تقريع ولكمات ‪،‬‬ ‫أما وهو هكذا فقد كفاه مايالقيه من نفسه من التقريع واللوم ‪ ،‬فهناك وقت‬ ‫تنتظر فيه أن تسمع عتابا ً أو حتى كلمة تأنيب فإن فوجئت بغير هذا استدرت‬ ‫لنفسك موبخا ً ومؤنبا ً وملقيا ً بكل كلمات التأنيب عليها لما فعلته كأنك تأخذ‬ ‫لحظتها صفة القاضى طالما أن القاضى الذى تنتظر حكمه الرادع قد غاب ‪،‬‬ ‫اآلن ياسالمه تبتعد بعينيك عن وجه أبيك خشية أن تلتقط منهما اشارت‬ ‫تخشى منها ‪ ،‬تستمع الى هدير نفسك القارس الحروف ‪ ،‬وصراخ عقلك‬ ‫الذى يسألك اآلن ماذا جنيت عليه وعلى أمك معه ‪ ،‬وهل لهذا كنت تسعى‬ ‫منذ بداية العام ‪ ،‬التعليم لم تعد ترغب فيه ‪ ،‬ولم يعد لديك أمل أن تصل فيه‬ ‫الى شىء ‪ ،‬ليس من أجل نوال أو غيرها ‪ ،‬ولكن المواد ذاتها لم تعد تدخل‬ ‫عقلك ‪ ،‬العقل يرفضها ‪ ،‬يأبى حفظها أو حتى االنصياع لمجرد مطالعتها ‪،‬‬ ‫تجلس الى كتبك ‪ ،‬تطالع صفحاتها ‪ ،‬تأبى نفسك االستمرار وتبحث عن‬ ‫وسيلة للهرب ‪ ،‬وكثيرا ً ماتكون هذه الوسيلة نوال ال أكثر‪ ،‬نوال وسيلة وأنت‬ ‫تعرف هذا وليست سببا ً ‪ ،‬ارتباطك بالحب يمنحك القوة والتحدى وليس‬ ‫الخذالن والعار ‪ ،‬حبك يدفعك لألمام وليس الخلف ‪ ،‬لذا عليك أن تعترف أنك‬ ‫لم ترد وال تريد ولن تريد اكمال التعليم ‪ ،‬يكفى هذا اآلن ‪ ،‬ولتبحث لك عن‬ ‫عمل وطبعا العمل موجود مع عمك السيد ‪ ،‬عربته نصف النقل وهو لن‬ ‫يرفض لك طلبا ً أن تكون سائقا ً لها نصف الوقت وهو النصف اآلخر بدال من‬ ‫الغرباء ‪ ،‬ثم إن كلمات قليلة تسر بها الى والديك لن تقتلك بل ستحل المشكلة‬ ‫وترضيهم وتطمئن بالهم عليك وعلى مستقبلك ‪ ،‬أما إحساسك بأنك زدت‬ ‫تعاسة بيت يحتاج الى بسمة صغيره تضىء ليله وتحيل برودة جدرانه الى‬

‫‪92‬‬


‫دفء وتمنح للنفوس المتلفعة باألسى نوعا ً من سرور ولو ضئيل فهذا‬ ‫يمكنك محوه بأمل تنبض كلماتك اآلن وترتضيه نفوسهم ‪.‬‬ ‫حدقت فيه كريمه وهو يدخل على أبيه محنى النظرات ‪ ،‬صرخت عيناها أن‬ ‫حلم عمرها قد ضاع ‪ ،‬رأت العيون شامتة والحروف متطايرة فى أنحاء‬ ‫المعمورة تنشر الخبر على الكون ‪..‬ابن كريمه فاشل ‪ ..‬تعالى نشيجها من‬ ‫جديد‬ ‫‪ ،‬صرخت فيه‪:-‬‬ ‫ستقعد بجانبي مثل الواليا ؟‬ ‫صمت قليالً ثم تكلم بهدوء ‪:-‬‬ ‫ أنا مكاني السوق ‪ .‬افهميني‬‫ كمان‪ .‬عاوز تخيب أكثر ؟‬‫ السوق ليس خيبة‪.‬‬‫ وماهى الخيبة يابن كريمة ؟‬‫قبل وجنتيها مترفقا ً ‪-:‬‬ ‫ السوق هو مكاني ‪ ،‬طريقي ‪ ،‬وهدفي‪ .‬أرجوك أتركيني براحتي‪.‬‬‫ يابني خذ الثانوية فقط‪.‬‬‫ ال أريدها‬‫واستدار الى عينى أبيه ‪-:‬‬ ‫‪ -‬سأكون بجوار عمى السيد ‪ ،‬أقود عربته نصف الوقت ‪ ،‬ارجوك التغضب‬

‫‪93‬‬


‫وقبل يده الراقدة بجواره بالحول ‪ ،‬ارتخت األجفان بلطف وعادت لإلنفراج ‪،‬‬ ‫كفت كريمه عن النواح !!‬ ‫…‪.............................‬‬ ‫أمام مقهاه القى محمد بطة بجسده على مقعده األثير صامتا ً ‪ ،‬يتأمل‬ ‫الرائح والغادي بعينين شاردتين ‪ ،‬تائهتين في دوامة ال يعرف كيف يبلورها‬ ‫‪ ،‬ويضعها موضع التنفيذ‪ .‬فكرة لو تمت ستكون بابا ً جديدا ً يفتحه ويدخل منه‬ ‫الى رحابة المكسب ‪ ،‬وحياة البغددة من جديد ‪.‬خاصة أن تجارة الصنف لم‬ ‫تعد بالنسبة له الطريق األفضل للحياة ‪ ،‬أصبحت أعين البوليس ال تتركه ‪،‬‬ ‫تعد عليه لمحاته ‪ ،‬وتبذر حوله بذور الشك ‪ ،‬وال يأتي الى القسم ظابط جديد‬ ‫إال إستدعاه بصفته من المشبوهين وقال له نفس الكلمات ‪ ،‬وعرض عليه‬ ‫أن يكون مرشدا ً لهم ‪ ،‬ويرد محمد بطة نفس الرد " حينما سأرى شيئا ً‬ ‫سأبلغكم " ويمضي ‪ ،‬لكن ال يجرؤ ضابط على إيقافه وحبسه يوما ً أو يومين‬ ‫كما يفعل مع غيره ‪ ،‬إذ أن سمعته تسبقه واتصاالته وحذره تجعله مقنعا ً‬ ‫على الدوام ‪ ،‬فهو حينما أعلن أنه قطع عالقته بالصنف وكل ما يمت له‬ ‫بصلة كان فعالً قد فعل ذلك ‪ ،‬ليس عن وهن أصاب القلب وال هو خوار مس‬ ‫الروح والنفس طواها كرالسنوات فلم يعد لها اال السكون واالنزواء ‪ ،‬فهو‬ ‫كما عرفه القاصى قبل الدانى قد تشرب من المخاطر عصيرها ومن‬ ‫المطاردات ريحها واستطاع حينما دخل المعتقل أن يفرض وجوده على من‬ ‫حوله بالداخل كما فرض وجوده سابقا ً على كل من قابله بالخارج ‪ ،‬وحينما‬ ‫خرج ورأى أن الحياة أقصر من أن يضيعها فى جرى الجدوى منه قرر‬ ‫التوقف واالستقرار والبعد عن حياة المغامرة التى كان يتوق اليها ويتيه بها‬ ‫‪ ،‬ذهب الى الحج وأدى الفريضة لوجه هللا حقا ً وبقصد التوبة ‪ ،‬و لم يعد‬ ‫اليها ‪ ،‬وإن كان وقوفه فى أي معركة له وضعه وهيبته ‪ ،‬ليس شرطا أن‬ ‫يكون له يد فيها أو حتى لسان ‪ ،‬يكفى أن ينظر ولو من بعد ليضع‬

‫‪94‬‬


‫المتعاركون فى اعتبارهم مهما كان عددهم ‪ ،‬ومهما كانت درجة فتوتهم أن‬ ‫محمد بطه موجود وأن عليهم اال يتخطوا حدودهم واال ‪!..‬‬ ‫هكذا هى المعادلة التى توارثها الوارثون أن األقوى يسود ‪ ،‬والقوة فى كل‬ ‫األحوال على األقل بالنسبة للعامة هى قوة البدن ‪ ،‬القوة الجسدية ‪،‬‬ ‫يصاحبها نوع من الجرأة تمتد مساحته أو تقصر معطية لصاحبها نفوذا ً‬ ‫أكبر وخطرا ً أعمق فيهابه من حوله ويحسبون له الف حساب ‪ ،‬أما اذا‬ ‫صاحب القوة الجسدية قوة أخرى مثل الجاه أو النفوذ فهنا تكون للمعادلة‬ ‫قوانين أخرى ومبادىء جديدة تسير عليها ‪ ،‬وفى حالة محمد بطه فهو وكما‬ ‫يعرفه الجميع هنا يمتلك القوة الجسدية والجرأة التى تجتاح المدى وكذلك‬ ‫القلب الحديدى الذى اليعرف الخوف واليهاب الموت ‪ ،‬هذا باالضافة الى‬ ‫الثروة التى حققت له نوعا ً من االستقرار الذى أرسى لحياته قواعد وأسس‬ ‫قامت عليها وامتدت حتى اآلن ‪ .‬هو محمد بطة فى كل األحوال ‪ ،‬ومن ال‬ ‫يعرف أو يتظاهر بأنه اليعرف فهناك من يقوم بتعريفه وافهامه وتعليمه من‬ ‫هو محمد بطه ‪ ،‬وال تنسى المنطقة كلها ما جرى منذ عدة سنوات حينما‬ ‫كان محمد بطة مايزال يتاجر فى الصنف ‪ ،‬يقوم بنشاطه ويضج القسم منه‬ ‫وكلما حاولوا اصطياده أفلت منهم ‪ ،‬مما أجبر إدارة المكافحة على إرسال‬ ‫ضابط من أشرس رجالها للقبض عليه ‪ ،‬إستدعى الضابط محمدا ً وحاول‬ ‫الوصول معه الى حل وسط ‪ ،‬يريح اإلدارة منه ويريحه هو من الحركة‬ ‫والحذر الذى يكلفه الجهد والمال ‪ ،‬لكنهما لم يتفقا معا ً ‪ ،‬ال يعرف أحد ما‬ ‫دار في هذا اللقاء‪ .‬ماذا طلب الضابط وبماذا رد بطة‪ .‬الذي يعرفه الجميع‬ ‫ورأوه رأي العين أن الضابط أمر بإلقاء بطة في الحجز وتوضيبه حتى باكر‬ ‫‪ ،‬ليرى إن كان سينفذ ما يريد أم ال‪ .‬ضحك بطة بإستخفاف وقال له‪-:‬‬ ‫ بالش‪.‬‬‫إستشاط هذا الضابط وكان أسمه إبراهيم حسين غضبا ً ‪ ،‬ورفع يده يريد‬ ‫ضربه ‪ ،‬امسك بطة اليد وعاد يقول وعيناه تلتهمان وحه الرجل ‪- :‬‬ ‫ قلت لك بالش ‪.‬‬‫‪95‬‬


‫لكنه لم يرتدع ‪ ،‬وفوق هذا طلب أرذل مخبريه ‪ ،‬وأمرهم أمامه وفورا َ‬ ‫بتأديب بطة‪ .‬ويقسم الذي شاهد هذه الواقعة أن المخبرين رفضوا‪ .‬صرخ‬ ‫فيهم الضابط وهددهم دون جدوى ‪ ،‬إنفجر في بطة سبابا َ من أقذع السباب‬ ‫ومضى اليه ثانية ليضربه غير أن بطة عاد وأمسك اليد ‪ ،‬لكنه هذه المرة‬ ‫ثناها خلفه بقوة جعلته يجاهر بألمه‪ .‬وقال له ‪-:‬‬ ‫ قلت لك بالش ‪ ،‬مصمم تعمل مشاكل ؟‬‫ورفع التليفون أمامه واتصل بشخص ما ‪ ،‬صرخ فيه ‪-:‬‬ ‫ ياباشا اسحب هذا الرجل من هنا ‪ ،‬نتفاهم انا وأنت أحسن‬‫انصت قليالً الى الرد ‪ ،‬بعدها شغل الميكروفون فى الهاتف ليسمعه الجميع‬ ‫وقال بصوت عال ٍ‪-:‬‬ ‫ اتفضل ياباشا ‪ ،‬هو يسمعك اآلن‬‫جاء الصوت عبر الهاتف واضحا ً اللبس فيه ‪-:‬‬ ‫ حضرة الضابط إبراهيم ارجع المديرية فورا ً‬‫‬‫بعدها أغلق الهاتف فى هدوء واثق وعلى مهل وبال بادرة خوف أو قلق ‪،‬‬ ‫واستدار عائدا ً الى مقهاه دون أن يأبه له ‪.‬‬ ‫حكايات وحكايات عن محمد بطه كلها مضت مثلما مضت أيام الشقاوة ‪ ،‬وإن‬ ‫كان الرجل هو الرجل بهيبته وكلمته المسموعه واحترامه بين الجميع ‪،‬‬ ‫يجىء الى المقهى التى افتتحها أيام الشقاوة ليدارى بها نشاطه ‪ ،‬يجلس‬ ‫على الباب بعيدا ً عن الضوضاء وحيدا ً والشيشة أمامه ‪ ،‬ينظر فى صمت ‪،‬‬ ‫وإن تكلم فوجهه ضاحك أو تعلوه بسمة خفيفة تليق بالهدوء من حوله ‪،‬‬ ‫وقد يجلس اليه بعض األصدقاء المقربين أمثال السيد و كامل ورضوان قبل‬ ‫أن يدهمه المرض فيتهامسون ويضحكون فى ركنهم بعيدا ً عن الشباب‬ ‫الصغير الذين تمتلىء المقهى بهم هذه األيام ‪.‬‬ ‫وقد اقترح عليه كامل اقتراحا ً فى لحظة صفاء وهما جالسان وحدهما على‬ ‫باب المقهى ‪ ،‬جعله يشرد هكذا ‪ ،‬سابحا ً فى ملكوت أفكاره بجناحى الحلم‬ ‫دائرا ً فى فضاء الحدود له ‪ ،‬يتأمل ويتعمق ويبحث ويتسائل ويرى هل تنفع‬ ‫أم ال ‪ ،‬قال له كامل همسا ً وهما وحدهما فى ركنهما المفضل ‪-:‬‬ ‫‪ -‬أريد الحركة من جديد بتوسع‬

‫‪96‬‬


‫قال بطه بهدوء وهو يسحب الدخان من المبسم باسطا ً نظراته على المدى‬ ‫أمامه ‪ -:‬تحرك‬ ‫حدق فيه كامل بحدقتيه السواداوين معترضا ً‪ -:‬وحدى ؟!!‬ ‫شد بطه نفسا جديدا ً من الشيشه اطلقه الى الفضاء وهو يقول المباليا ً ‪-:‬‬ ‫ ال أفهم‬‫أمسك أذنه وراح يصب فيها كلماته عن المزادات التى كان هو ورضوان‬ ‫يشتركان فيها ‪ ،‬والمكاسب التى كانا يحصالن عليها وكيف أن رضوان هو‬ ‫الذى فتح له الطريق ‪ ،‬وهو الذى عاونه وأوقفه على قدميه ‪ ،‬غير أنه قبل‬ ‫الحادثة التى تعرض لها ونتيجة لسوء الفهم بينهما لم يشركه معه ‪ ،‬صمت‬ ‫قليالً ثم تنهد قائالً ‪ -:‬رضوان كان رجالً حقا ً ‪ ،‬كان من ذلك النوع ذو الخط‬ ‫الواحد المستقيم اذا أحبك صرح بها ‪ ،‬واذا كرهك صرخ بها بال خوف ‪،‬‬ ‫لكنه كان عنيدا ً بصورة مخيفة ‪ ،‬اليتراجع مهما كان األمر ‪.‬‬ ‫همس بطه ‪ -:‬ادعو له بالشفاء‬ ‫ورفع عينيه ليواجه بها عينيه ‪-:‬‬ ‫ لكن قل لى ‪ ،‬اال تعرف من فعل به هذا ؟‬‫تغير وجه كامل وامتألت التجاعيد والتغضنات أسفل عينيه بجبال من ضيق‬ ‫‪ ،‬بحث عن كلمات يستطيع التفوه بها أمام بطه فهو على كل حال ومهما بلغ‬ ‫به األمر اليريد أن يخسره ‪ ،‬قال ‪-:‬‬ ‫ اتظننى أعرف ؟‬‫استمرت حدقتا بطه تحاصران عينيه وهو يقول ‪-:‬‬ ‫ ماحدث له فعل خسيس من شخص بيننا ‪.‬‬‫رأى كامل الكالم يدور حول معنى بعينه ‪ ،‬نظرات بطه واشاراته لها مدلول‬ ‫واضح ‪ ،‬هناك جبال من شك تمأل صدره ‪ ،‬تنغز فى أفكاره وتلوث مشاعره‬ ‫نحوه ‪ ،‬اندفع قائالً بقوة وهو يعتدل مواجها ً له محدقا ً فى عينيه ‪-:‬‬ ‫ أتظننى فعلتها ؟‬‫بادله بطه التحديق متفكرا ً ‪ ،‬هل يقول له أشك فى هذا ‪ ،‬واذا قالها أين‬ ‫الدليل ‪ ،‬ثم إن كامل يتكلم كثيرا ً وينفعل كثيرا ً لكنه فى النهاية سطحى بال‬ ‫أغوار‪ ،‬اليؤذى واليجرى وراء األذى ‪ ،‬هو من ذلك النوع الذى يتشرنق‬ ‫بخيوط الحذر والحيطة ويخشى أن تمتد اليه يد بأذى ‪ ،‬فلحظتها ونتيجة‬ ‫لرعبه وخوفه الداخلى يمد يديه ويخمش اليد التى تمتد نحوه ‪ ،‬وذلك أخطر‬ ‫مافيه ‪ ،‬أن تجعله يفقد السيطره على مشاعره ويتواله الخوف ‪ ،‬لحظتها‬ ‫‪97‬‬


‫التعرف رد فعله نتيجه لهستيريا القلق والخوف التى تتواله ‪ ،‬أما غير هذا‬ ‫فهو أرق من دجاجة ‪ ،‬من يراه وهو فى أتون انفعاالته يقول أنه جبار فى‬ ‫األرض ‪ ،‬لكن من خبره وعرف طباعه يتأكد له أنه من أعماقه أبيض ‪ ،‬لكن‬ ‫ايضا خسارة المال تحرق ‪ ،‬والمعامله المهينة تجرح واالزدراء يميت ‪،‬‬ ‫وهذا ماواجهه به رضوان وماتحدث به اليه على المقهى وأمام الجميع يوم‬ ‫أن واجهه قائالً أن التعامل بينهما بعد اليوم طالما غدر كامل بالضبع ‪.‬‬ ‫انتبه بطه من خواطره ‪ ،‬سائل نفسه ‪ -:‬مالك يابطه تفتح اليوم مواضيعا ً‬ ‫اليجب فتحها ؟‬ ‫وعاد اليه ‪ ،‬رفع عينيه فى مواجهته ‪ ،‬الظواهر تقول أنه أصغر من أن يدبر‬ ‫هذه المكيدة ‪ ،‬كامل اليعرف االلتواء ‪ ،‬على كل لن تظل األسرار أسرارا ً‬ ‫طول العمر ‪ .‬قال محدثا ً نفسه ‪-:‬‬ ‫ نفسى أعرف من فعلها ‪.‬‬‫اندفع كامل مؤيدا ً ‪ -:‬قسما سأمزقه بيدى ‪ ،‬المهم اآلن أن تسمعنى ‪ ،‬أريدك‬ ‫شريكا ً لى‬ ‫تبسم بطه بسمة يفهمها كامل جيدا ً ‪ -‬لك أنت ؟‬ ‫تغاضى كامل مرغما ً عنها قائالً ‪-:‬‬ ‫ نعم ومعنا جابر‬‫ضاقت عينا بطه قليالً حينما جاء ذكر جابر وقد بدأت الحكاية تلوح خيوطها‬ ‫واضحة جلية أمام عينيه ‪ ،‬كامل اليريده لذاته بل ليجذب جابر به ‪،‬صعيدى‬ ‫واعر وليس سهالً هو ايضا ‪ .‬عادت االبتسامة تتألق على شفتيه ‪ ،‬حدق فى‬ ‫عينيه سائالً ‪-:‬‬ ‫ وهل يقبل ؟‬‫ البركة فيك‬‫ولماذا ادخل بينكما أصالً؟‬‫ المصلحة ستعم ياأخوى‬‫ لكن !!‬‫ انا اخترتك لثفة جابر بك وألنه ابن رضوان ‪ ،‬ونحن الثالثة سيكون لنا‬‫ثقل فى السوق ‪ ،‬قل وافقت‬ ‫نظر محمد بطه الى الطريق ‪ ،‬طالما سمع رضوان يتحدث هنا فى المقهى‬ ‫عن المزادات وطريقة دخولها والتعامل معها وكان عادة يصحب جابر معه ‪،‬‬

‫‪98‬‬


‫ثم شارك كامل بعض الوقت ‪ ،‬هنا أثنان لديهما الخبرة أى أن احتمال‬ ‫الخسارة قليل ‪ ،‬تبسم من جديد وهو يعلن موافقته ‪.‬‬ ‫‪............................‬‬ ‫وقفت كريمه أمامه التدرى هل تحمل بين عينيها بردا ً وسالما ً ألنها وصلت‬ ‫الى ماتريد ‪ ،‬أم تتأجج نارا ً طلبا ً لثأر طال انتظاره دون أن يدرى أحد كيف‬ ‫وممن يأخذوه ‪ ،‬هاهو يرقد ساكنا ً تعبر عيناه المسافة من رقدته وسط‬ ‫بحار صمته الذى طال الى وجهها بالكاد ‪ ،‬رجلها التى كانت تحتمى بظله‬ ‫وترى فيه رجال الكون ‪ ،‬تغيرت السمات وتهدلت وانطوت العينين تحت لواء‬ ‫الم وخنوع التدرى كيف ‪ ، ،‬إشاراته صارت رجا ًء وحركات جفنيه التى‬ ‫تربطه بالكون من حوله أصبحت جهادا ً ‪ ،‬ولم يعد هو رضوان القديم التى‬ ‫تعرفه وتحفظ لفتاته وتفهم نظراته وإشاراته ‪ ،‬بل هو آخر له سمات قريبة‬ ‫منه ‪ ،‬لكن هذه محنية الخاليا ً ‪ ،‬خاضعة التكوين ‪ ،‬كأنها ماخلقت لكبرياء‬ ‫وأنفة من قبل ‪ ،‬هاهى تحادثه ‪ ،‬تشير عليه ‪ ،‬ترى نظراته قابعة فى قاع‬ ‫عينيه دون هدير‪ ،‬وهل يكون الرجل رجالً اال بالهدير ‪ ،‬وهل يسمع الناس‬ ‫له صوتا ً إن لم يكن مع الصوت برق ورعد ؟‬ ‫قم يارضوان من رقدتك ‪ ،‬انفض عنك العجز ‪ ،‬فما خلقت له ‪ ،‬واشتمل‬ ‫بعباءة القدرة والحسم كعادتك ‪ ،‬قل لعينيك أن تسمق بنظراتها ‪ ،‬فالنظرات‬ ‫المحنية التليق بالرجال ‪ ،‬خاصة ممن كانوا مثلك أو شبيهون بك ‪.‬‬ ‫مدت يدها الى يده المسجاة الى جواره على السرير وضغطتها برفق ‪،‬‬ ‫طلبت من محمد ولدها مغادرة الحجرة ‪ ،‬قام الى الكمبيوتر بالخارج يلعب‬ ‫عليه أحد األلعاب ‪ ،‬أغلقت الباب خلفه وعادت الى رجلها ‪ ،‬حدقت فى عينيه‬ ‫أعرف أنك تواق لنيل بغيتك ممن آذوك ‪ ،‬وأنك لو‬ ‫‪..‬‬ ‫قمت اآلن ألشعلتها نيرانا ً التهدأ والبست من خدعوك وغدروا بك ثياب العار‬ ‫ليوم الدين ‪ ،‬لكننى أقولها لك اترك مكر المرأة يدخل الحلبة ‪ ،‬يواجه الصراع‬ ‫ويتحدى الشر ‪ ،‬وأنا لها ‪ ،‬أذا وافقتنى على ماأنوى فعله سترى يوما ً تشهد‬ ‫به المنطقة طوال سنينها القادمة ‪ ،‬وترويه األجيال ‪ ،‬سأجعلهم عبرة تتندر‬

‫‪99‬‬


‫بها األفواه ‪ ،‬وتتذكر صورتها األعين وتحفظها الصدور ‪ ،‬لن أقتل األرواح‬ ‫فازهاق األرواح جريمة يحاسب القانون عليها ولكنى سأقتل النفوس ‪ ،‬نعم‬ ‫يارضوان سأقتل نفوسهم ‪ ،‬أسحقها وأتركهم بعدها يواجهون الكون بال‬ ‫نفوس ‪ ،‬هل رأيت إناسا من قبل بال نفوس ؟‬ ‫ارجوك أن تقبل ‪ ،‬توافق ‪ ،‬تعلن رضاك والترفض قائالً أن اآلعراف تأبى هذا‬ ‫‪ ،‬وأن هناك رجاالً يمتلكون القدرة على تحويل المنطقة بكاملها وبكل‬ ‫عائالتها ورجالها وشبابها الى جحيم ‪ ،‬أعرف هذا وأحفظه ولكنى أريد رد‬ ‫الدين الذى فى عنقى لك ‪ ،‬هل تترك األمر لى ؟‬ ‫لمعة حدقتيه وهو يواجهها جعلتها ترتد الى نفسها قليالً مبتعدة عن مجاهل‬ ‫االنفعال اللحظى ‪ ،‬همست عاتبة ‪ -:‬االتحب أن آخذ بثأرك ‪ ،‬أتظننى ال‬ ‫أستطيع ‪ ،‬اال تعرف مكر المرأة ؟‬ ‫ظلت حدقتاه تحاصرانها وتصبان فى بؤبؤ عينيها رفضه لما تقول ‪ ،‬اجتاحه‬ ‫إعصار غضب وهو يعود الى ماقبل رقاده الطويل هذا ‪ ،‬وهيبة القلوب قبل‬ ‫العيون له ‪ ،‬واحساسه أنه يمتلك القدرة على الفعل ‪ ،‬أى فعل وضد أيا ً كان‬ ‫‪ ،‬فكم دقت على الرأس الطبول ‪ ،‬وكم أراد البعض اختبار قدرته ‪ ،‬وكم فكر‬ ‫الكثيرون فى حارة اليهود بالذات وأمام دكانه فى سوق القماش أن يتحدوه‬ ‫ويتحدوا عائلته وأقاربه الذين يسدون عين الشمس من كثرتهم ‪ ،‬بعد كل‬ ‫هذا تجىء كريمه لتأخذ ثأره !!‬ ‫أى ثأر تريد هذه المرأة التى التعرف من دنياها اال راحة البكاء ومشقة‬ ‫العويل ‪ ،‬التى التجرؤ على الخروج وحدها الى الشارع دون رفيق ‪ ،‬والتى‬ ‫تخشى الظلمة وترتعب من سراديب الظالم ‪،‬عادته كما تعوده دوما ً أحداث‬ ‫ليلته التى التنسى والتمحى من مخيلته ‪ ،‬رأى من جديد الظلمة تتربص به ‪،‬‬ ‫تمنحه أمانا ً لم يفطن أن خلفه غدر‪ ،‬وتسلمه ألناس لو واجهوه لنفخ فيهم‬ ‫فبعثر أرواحهم ومزق قلوبهم من الرعب ‪ ،‬الوجوه الحاقدة المغسولة فى‬ ‫ماء الجحيم اصطادته من ظهره ‪ ،‬الضربات الجبانة المذعورة على رأسه‬ ‫‪100‬‬


‫وفوق ظهره لم تمكنه من الدوران لتلقى وصد غدرهم وسوء تدبيرهم ‪،‬‬ ‫لحظة أن انهالوا على مؤخرة رأسه متسترين بالظلمة دارت الدنيا به لحظة‬ ‫خاطفة ‪ ،‬لحظة وربما هى أقل من لحظة كانت كافية ليكملوا مؤامرتهم‬ ‫الرهيبة ‪ ،‬انهالوا على ظهره بالشوم ‪ ،‬كانوا يعرفون ماذا يريدون وكيف‬ ‫يفعلون ‪ ،‬لم تكن الحكاية حكاية إهانة يكسروه بها ‪ ،‬كانت تهدف الى كسر‬ ‫ظهره كى اليقوم ثانية ‪ ،‬وهاقد كان ‪ ،‬قسما ً برب السموات ورب اآلراضين‬ ‫كل رجال الصعيد سيطلب حضورهم ‪ ،‬يحملون سالحهم وإصرارهم وعزمهم‬ ‫‪ ،‬وكما فعل الجناة به يفعلون بهم ‪ ، ،‬قسما ً برب الكون لن يهدأ له قرار فى‬ ‫رقدته تلك أو قبره اال حين يرى وجوههم تعانى من نفس االمه وأشد ‪،‬‬ ‫وأعينهم تجأر بشكوى أقوى وأمر ‪ ،‬والسنتهم تعجز عن البوح بما يعانون ‪،‬‬ ‫أين السيد ليحادثه ويأمره بما يريد ؟‬ ‫رفع ثقل جفنيه عن حدقات تموج فيها السنة النيران منذرة بالويل ‪ ،‬همست‬ ‫كريمه ‪ -:‬اسمعنى فقط واذا لم تقتنع سأصمت ولن أتكلم ثانية ‪ ،‬مارأيك ؟‬ ‫أغمض جفنيه لبرهة وأعاد فتحهما عالمة الموافقة ‪ ،‬لمعت عيناها ببريق‬ ‫المكر وبدأت تشرح له مالديها ‪ ،‬تدقق فى تفاصيل كل حركة وتفسرله كل‬ ‫لفتة وتشرح كل أمر ‪ ،‬حين انتهت رفعت عينين راجيتين الى عينيه منتظرة‬ ‫القرار األخير ‪ ،‬عاد يغمض جفنين تلوح خلفهما بشائر بسمة صغيرة راضية‬ ‫وعاد يرفعهما عالمة الموافقة ‪ ،‬تهللت أساريرها ‪ ،‬هتفت ‪-:‬‬ ‫ سأطلب السيد ‪ ،‬أحادثه وأرتب معه األمر بحيث اليخرج عن ثالثتنا أنا‬‫وأنت وهو ‪ ،‬مارأيك ؟‬ ‫أغمض جفنيه ثانية وأعاد فتحهما عالمة الموافقة ‪ ،‬قبضت على راحة يده‬ ‫بقوة وقد برقت عيناها ببريق أمل أن تسير خطتها كما تريد لتعرف اعتماد‬ ‫ورجال العائلة كلها كيف يؤخذ الثأر وكيف يكون االنتقام ‪ ،‬الضرب بالنيران‬ ‫أو حتى بالعصى يدمى األجساد وهى التفكر بهذا والتطيقه ‪ ،‬هى تريد شيئا ً‬ ‫أوقع وأقوى ‪ ،‬قالت وهى ترمى بحنو نظراتها الى براح حدقتيه ‪-:‬‬

‫‪101‬‬


‫ هذه األولى ‪ ،‬الثانية أسهل بكثير ‪ ،‬لقد أخرجت الورقة من الخزينة‬‫كما قلت لى ‪ ،‬سأعطيها لجابر ليقدمها للمحكمة باكر إن شاء هللا‬ ‫‪..‬هل لك رأى أخر ؟‬ ‫حدقت عيناه فى وجهها الصغير الذى كساه االنفعال إحمرارا ً طالما أعجبه‬ ‫وشده اليها ‪ ،‬هذه الهرة الصغيرة التى كانت تستطيع بالكاد أن تخمش‬ ‫بأظافرها فالتجرح بل تدعو الى الضحك والسخرية ‪ ،‬والتى التمتلك لنفسها‬ ‫اال الدموع والتصبر هامسة له أنه مادام راض عنها فلن تنطق بحرف حتى‬ ‫ولو كان أنينا ً ‪ ،‬غرها أنه كان يشاورها ويسمع لها فى أمور صغيرة ‪،‬‬ ‫وربما ضحك منها وسفه رأيها ‪ ،‬وإن كان كثيرا ً مارأى الصواب يفيض من‬ ‫شفتيها وينفذ مارأت ‪ ،‬وهو يقول لنفسه ضاحكا ً ضاع الصعايدة جميعا ً لو‬ ‫فعلوا مثله واعطوا آذانهم للنساء تنفخ فيها ماتشاء من هراء ‪ ،‬تشتط اآلن‬ ‫هذه الهرة الصغيرة وتدفس أنفها فى عظيم األمور ‪ ،‬تتحدث عن ثأر تقوم به‬ ‫هى وال أحد غيرها ‪ ،‬كأنها طبخة جديدة تريد تجربتها فيه كما كثيرا ً مافعلت‬ ‫‪ ،‬تبسمت نظراته وهو يتصورها حاملة مسدسا ً بيد ترتعش وقلب تتوالى‬ ‫نبضاته مهرولة مرتعدة وهى توجه فوهته الى المعتدين ومعها مئات بل‬ ‫االف الشتائم والسباب الذى يليق بالمناسبة ‪ ،‬الغريب أنه وافق على‬ ‫سماعها ال يعرف كيف ‪ ،‬ربما ألنه ليس لديه مايفعله سوى السماع اآلن ‪،‬‬ ‫هكذا هى الحياة ‪ ،‬تفعل ببنيها ماتشاء ‪ ،‬تجعلهم يوما يتكلمون وال يمتلك‬ ‫غيرهم اال السماع واالنصياع لما يقولون ‪ ،‬وربما قلبت وجهها لهم واحالت‬ ‫السنتهم الى جماد اليمتلك اال الكمون فى األفواه خانعا ً مرتعدا ً ‪ ،‬واكتفت‬ ‫بمنح اآلذان متسعا ً لتمتلك المقدرة والوقت لتسمع ماتشاء ‪ ،‬كان يمكنه أن‬ ‫يطلب منها الصمت واستدعاء إخوته وأبناءه ‪ ،‬ويجبرها على ترك األمر لهم‬ ‫‪ ،‬على ك ٍل سيتركها للسيد تقترح عليه ماتشاء ‪ ،‬وهو فى كل األحوال‬ ‫يتصرف ‪ ،‬السيد يمكن االعتماد عليه ‪ ،‬فيه حكمة وهدوء وبعد نظر بخالف‬ ‫جابر الذى يقتله انفعاله المستمر والذى اليعطيه فرصة لتروى أو إعمال‬ ‫عقل ‪ ،‬سيكون بجوارها يسمعها ويناقشها ويوقفها عند اللزوم فهى مهما‬ ‫كانت امرأة ‪ ،‬السيد لديه عقل ويستطيع التفكير به وهو قادر أن يردعها اذا‬ ‫‪102‬‬


‫رآها تشتط ‪ ،‬أو تجتاز خطوطا ً محذور على مثلها مهما كان أمرها أن‬ ‫تتخطاها فهى فى النهاية امرأة رجل صعيدى ‪ ،‬وعليها االلتزام بأعراف‬ ‫وتقاليد الصعيد ‪.‬‬ ‫‪..........................‬‬ ‫وقف األستاذ إبراهيم المحامى أمام قاعة المحكمة فاردا ً جناحيه حوله ‪،‬‬ ‫سامقا ً بنظراته الى مستوى أعلى ممن حوله ‪ ،‬منتظرا ً حضور جابر وعمه‬ ‫السيد قبيل بدء الجلسة ‪ ،‬الحقيبة الجلدية السوداء فى يده شامخة بأنفها‬ ‫وهى تحمل المستندات التى يواجه بها أصحاب السعادة القضاة ملقيا ً فى‬ ‫وجوههم بنتاج قريحته وحصاد جهده وبليغ حروفه التى يباهى الزمالء‬ ‫ويتيه بها وسط القاعة اذا أتيح له الكالم ‪ ،‬رافعا ً صوته الرفيع محاوالً‬ ‫إعادة أمجاد المحامين العظام الذين طالما ً قرأ عن مرافعاتهم التى هزت‬ ‫القاعات ‪ ،‬والتى صنعت تاريخهم وخلدت أسماءهم على مدى التاريخ مثل‬ ‫مكرم عبيد وإبراهيم الهلباوى وغيرهم ‪.‬‬ ‫اليوم بالذات يشعر بأنه على أبواب فتح جديد يضاف الى انتصاراته‬ ‫السابقة ‪ ،‬والتى يحاول قدر إمكانه أن ينشرها بين زبائنه ليعرفوا قدره‬ ‫ومدى حنكته ‪ ،‬اليوم سيقف محدقا ً فى وجوه خصومه تاركا ً لهم الحديث‬ ‫كامالً فى بداية الجلسة ‪ ،‬وسامحا ً لهم باالنتشاء والفرح وهم يرونه صامتا ً‬ ‫يستمع اليهم والى مطالبهم وشروطهم فى هدوء يرونه عجزا ً منه‪ ،‬وقد‬ ‫يتيهون بنصرهم القريب والمنتظر‪ ،‬وربما انتشت قلوبهم وجهزوا انفسهم‬ ‫الحتفال مهيب ينالون فيه من جوائز ماتتوف اليه رغائبهم ‪.‬‬ ‫ففى المجادالت اللفظية والسباقات التى تعتمد على الكلمة يكون للصمت‬ ‫معنى العجز والعى عن المنطق وبليغ الحروف ‪ ،‬عكس مايقال أنه اذا كان‬ ‫الكالم من فضة فالسكوت من ذهب ‪ ،‬فالسكوت احيانا يكون من زجاج يتهشم‬

‫‪103‬‬


‫ويصيب صاحبه بشظاياه فيجرح قلبه أوال وكبرياءه وكرامته بعد ذلك دون‬ ‫شفقة أو احساس ‪.‬‬ ‫سيقف ناظرا ً الى محامى شعراوى وسعد األستاذ خضير ‪ ،‬يتابعه وهو‬ ‫يطالب بتمكين موكليه من الشقة مثار النزاع والتى يملكونها بنص العقد‬ ‫المورث لهم من المرحومة والدتهم ‪ ،‬والذى باع بموجبه المدعو رضوان‬ ‫الى المرحومة رئيفة الشقة بالرضاء والموافقة من الطرفين ‪ ،‬وهو مايعضد‬ ‫حجتهم ويثبت أحقيتهم فى استرداد الشقة محل النزاع ‪ ،‬وبعد أن ينتهى‬ ‫خضير المحامى من كالمه واثقا ً أنه قد أكل الجو واكتسح المجال كله وابتلع‬ ‫المحكمة بقضاتها فى جوفه الكبير ويجلس بانتظار االعالن الرسمى‬ ‫النتصاره ‪ ،‬محدقا ً فى الوجوه من حوله ‪ ،‬مترقبا ً رد فعلهم لحظة إعالن‬ ‫انتصاره وأثر فوزه على الوجوه جميعا ً فى القاعة ‪ ،‬لحظتها بالضبط وحين‬ ‫يقول القاضى أين وكيل المدعى عليه فى القضية سيقوم هادئا ً ينطق باسمه‬ ‫فى تواضع العظماء ‪ ،‬يتقدم من المنصة العالية يقدم الوثيقة المفاجئة ‪،‬‬ ‫الورقة الذهبية التى ستقلب القضية رأسا ً على عقب ‪ ،‬وتجعل الموضوع كله‬ ‫كأن لم يكن ‪.‬هاأنت ذا ياابراهيم تلعب باألوراق كما تشاء ‪ ،‬األوراق التى‬ ‫تلعب بمصائر الناس ‪ ،‬فترفع أقواما ً وتخفض آخرين ‪ ،‬هاهى بين يديك‬ ‫تفردها وتطويها ‪ ،‬ترفعها وتخفضها ‪ ،‬تقدمها لينجو شخص من عقاب‬ ‫وتقدمها ايضا لينال آخر جزاءه العادل أو الجائر‪ ،‬الفرق ‪ ،‬المهم انك‬ ‫تعرف كيف تتعامل مع الورق ‪ ،‬تحبه وتحنو عليه ‪ ،‬وتترفق به ‪ ،‬وتحفظه‬ ‫وتنال عنه األجرفى كل حين ‪ ،‬وللحقيقة ياابراهيم فان الورق يرد لك‬ ‫المعروف دوما ً واليخذلك ‪ ،‬وفوق هذا يمنحك مالال يمنحه لغيرك ‪ ،‬فهو‬ ‫يستوى أمامك لتغوص فى طيات الحروف المعلقة على سطوره ‪ ،‬مستورة‬ ‫عن أعين الجهالء الذين يمتلكون أعينا ً ويرون ‪ ،‬لكنهم اليفقهون مهما قرأوا‬ ‫‪ ،‬يخفى عنهم الكثير كأنما الورق يأبى أن يمنح كنوزه والباب أسراره اال‬ ‫لمن يفقه ويرى بعينيه وروحه وليس عينيه فقط ‪.‬‬

‫‪104‬‬


‫لمح جابر والسيد قادمين ‪ ،‬هش لهما وهو يقبض على حقيبته بقوة ‪،‬‬ ‫صافحهما وتبادل معهما عبارت المجاملة التى حفظها من كثرة تداولها بين‬ ‫الزبائن وبينه ‪ ،‬واصراره على عدم استخدام غيرها أو استحداث ماهو أرقى‬ ‫او أحدث منها ‪ ،‬تقدم نحو القاعة ‪ ،‬تعمد أن يحدق فى عينى االستاذ خضير‬ ‫على البعد ‪ ،‬محاوال ً قدر االمكان أن يخفى أفكاره التى ربما تناثرت حروفها‬ ‫على حدقتيه فيستشف الخصم منها مايخفيه ‪ ،‬فعادة تفور الخواطر الى‬ ‫الدرجة التى تصل فيها الى مالمح الوجه فتكسوه بما تحمله من أحاسيس ‪،‬‬ ‫لحظتها اذا نظرت الى العينين سترى ماوراء الحدقات ‪ ،‬واذا فحصت خاليا ً‬ ‫الوجه ستدرك جيدا ً ماتحت السمات الظاهرة من سمات نفسية التحتاج‬ ‫لقرائتها اال الى عينى خبير ‪ .‬نودى على القضية ‪ ،‬قام محامى الخصوم‬ ‫خضير كما قدر ابراهيم بالضبط ‪ ،‬صال وجال رافعا ً عقد البيع فى يده دائرا ً‬ ‫به أمام األعين المحدقة لتراه جيدا ً وفى ذات الوقت محاوالً التأثير على‬ ‫القضاه بصحة حجته وصدق كالمه ‪ ،‬ويكسب القضية مهما كانت قوة‬ ‫خصمة و حجته ‪ ،‬فالقضايا فى كل األحوال حجة أمام حجة وبرهان أمام‬ ‫برهان ‪ ،‬وكل منهما يحاول دحض اآلخر‪ ،‬واظهار كذبه ‪ ،‬وقد يكون االثنان‬ ‫كاذبان ‪ ،‬وقد يكون أحدهما فقط ‪،‬لكن فى كل األحوال الغلبة لمن يتكلم‬ ‫ويشرح ويقدم حجته ودليل صدقه ليقنع به عقول القضاه والمستشارين ‪.‬‬ ‫الميزة فى هذه القضية بالذات أنه التوجد أى حجة يمكن أن يقدمها أى‬ ‫محامى مهما بلغت قدرته أو ثغرة ممكن أن ينفذ منها ليدحض رأيه ويكسب‬ ‫القضية منه ‪ ،‬لن يجد أمامه اال التشكيك فى التوقيع وفى تلك الحالة سيقوم‬ ‫القاضى بتحويل القضية الى خبير خطوط ‪ ،‬وقد أكد له شعراوى أن التوقيع‬ ‫بخط رضوان فعالً ‪ ،‬ولن يستطيع أحد التشكيك فيه ‪ ،‬وبالتالى سيكسب‬ ‫خضير القضية فى كل األحوال ‪ ،‬تقدم من المنصة بعد أن القى كلماته مقدما ً‬ ‫العقد الى القاضى الذى قرأ بيانته بحرص قبل أن يسأل عن محامى المدعى‬ ‫عليهم ‪ ،‬تقدم إبراهيم مقدما ً نفسه كما رسم بالضبط ‪ ،‬متحدثا ً عن‬ ‫الزواج الذى حدث والذى لم يستمر طويالً لظروف خاصة باالثنين ‪ ،‬وهما‬ ‫من كبار التجار فى السوق وممن يتعاملون بعقولهم أكثر من مشاعرهم ‪،‬‬ ‫‪105‬‬


‫والذيت يزنون األمور جيدا ً قبل أن يقدموا عليها ‪ ،‬واذا كان رضوان قد كتب‬ ‫لزوجته الجديدة عقد شقة بيع وشراء لتسكن فيها طالما الزواج مستمر‬ ‫والوفاق موجود ‪ ،‬ورفضت هى السكن مفضلة أن تعيش بعيدا ً عن ضرتها‬ ‫فى نفس البيت التى تقع فيه الشقة ‪ ،‬فقد أتفقا حينما وقع الطالق وانتفى‬ ‫السبب الذى من أجله كتب لها الشقة بيع وشراء على اتفاق عقلى ايضا‬ ‫ووقعا سويا ً عليه وهو كما سترى ياسيادة القاضى عقد تنازل عن الشقة من‬ ‫رئيفه الزوجه التى تم طالقها الى المدعو رضوان زوجها الذى قام بالطالق‬ ‫على أثر تنازلها عن الشقة محل النزاع ‪..‬و تقدم إبراهيم بالعقد الى‬ ‫القاضى وسط صمت فشى وانتشر وهيمن على الجميع ‪ .‬مد القاضى يده‬ ‫الى العقد وضمه الى العقد اآلخر ‪ ،‬تأججت نيران خضير وتململ فى جلسته‬ ‫محاوالً الثبات دون جدوى ‪ ،‬الى أن وجد فسحة من صمت تمتد أمامه فهب‬ ‫واقفا ً رافعا ً صوته طالبا ً الكلمة ‪ ،‬مشككا ً فى العقد الجديد ‪..‬قال القاضى‬ ‫بصوت محايد ‪-:‬‬ ‫ تحول األوراق جميعا ً الى خبير خطوط الثبات صحتها‬‫رفعت الجلسة‪.‬‬ ‫‪.................‬‬

‫أمام وكالته جلس كامل في الصباح باسطا ً براح نظراته على أشعة الشمس ‪،‬‬ ‫متأمالً ذهب خيوطها ‪ ،‬ورقيق سهامها الممتدة فى قوة وحسم الى حيث تريد‬ ‫‪ ،‬اليمتلك مخلوق القدرة على إيقافها أو حتى تبديل مسارها ‪ ،‬تنفذ فى قلب‬ ‫الظلمة بنصال حسمها فتبدد وتشتت وتروى الكون من نورها فى صمت‬ ‫وكبرياء ‪ ،‬وبال ضجة والحديث معاد ‪ ،‬تألقت على حدقات عينيه السوداء‬ ‫زهوة النور فانتشى ‪ ،‬القى على عماله من حوله نظرات رائقة اللباب ‪،‬‬ ‫أخذ يمازحهم ويتبادل القفشات معهم على غير عادته ‪،‬فهو يقوم عادة من‬ ‫سريره حامالً الظلمة بين عينيه ‪ ،‬متحركا ً والنعاس قائدة ‪ ،‬اليرى اال البعد‬ ‫‪106‬‬


‫قدر استطاعته عن اليقظة والغوص فى مزيد من األحالم ‪ ،‬ولما اليتيسر له‬ ‫هذا تنطلق غمامات الضيق زفرات هائلة من صدره ‪ ،‬اليمتلك معها من يراه‬ ‫اال البعد عن طريقه لحين عودته من متاهة الوجوم الصباحى ‪ ،‬فالوجوم‬ ‫اليفارقه الى الوكاله ‪ ،‬يتيه فى عوالم فكره و ويتوه فى دروب كوابيسه أو‬ ‫أحالمه وهو جالس على مقعده ‪ ،‬عيناه متسعتان للنظر لكنهما التبصران ‪،‬‬ ‫يسمع وينصت جيدا ً لما يقول‪،‬ثم يعود بعد انتهاء الحديث ليسأل ماذا قيل ‪،‬‬ ‫أو يحادثه أحدهم فيفزعه ‪ ،‬يصرخ فيه العنا ً الساعة التى عمل فيها عنده‬ ‫ويرميه بكل ماهو شائع من شتائم وسباب ‪ ،‬بعدها حينما يفلت من أسر‬ ‫حالته المزمنة ويعود الى الوكالة بجسده وروحه معا ً يسأله ‪-:‬‬ ‫ ماذا كنت تريد ؟‬‫ولماذا لم تنتظر حتى أفيق وتحادثنى كما تشاء ؟‬ ‫ياولد أبوى البد من الشيشة وكوب الشاى الثقيل وبعض‬ ‫الوقت حتى استطيع االنتباه لك‬ ‫ويرضيه العنا ً أم لسانه الفالت الذى يلسع كالسوط فى أوقات يحتاج فيها‬ ‫الى الهدوء والسالم خاصة فى الصباح ‪ ،‬بعدها ينادي على شيشته وشاي‬ ‫المخصوص ‪ ،‬يرمق الخيش المكدس في الداخل متفحصا ً ‪ ،‬ويرقب العمال‬ ‫وأكوام خيش أخرى أمام كل منهم وهم يرتقون األجزاء المقطوعة ‪،‬‬ ‫وينظمون الصفوف وسط األتربة والغبار ‪ ،‬اليوم بالذات أتى على غير عادته‬ ‫متيقظ الفؤاد ‪ ،‬مفتوح العينين ‪ ،‬قد غادره النوم مرغما ً منذ الفجر ‪ ،‬وترك‬ ‫له الفكر ‪ ،‬يدور ويمرح فى عاولمه وزواياه راكضا بعقله وأمانيه كما يشاء‬ ‫يرسم الخطط المستقبلة بعد عودة مياه الود الى مجاريها ‪ ،‬و فتح الطريق‬ ‫من جديد الى أسواق ومزادات رضوان ذات الخير الوفير ‪ ..‬جلس على‬ ‫الباب مبسوط الروح والسمات ‪،‬بين اللحظة واآلخرى يبتسم في سعادة وهو‬ ‫يتذكر الصلح القادم ‪ ،‬والتعاون الجديد ‪ ،‬ضربة معلم ضربها بحديثه لمحمد‬ ‫بطه ‪ ،‬آه يارضوان لو كنت تسامحت ومددت يدك الي يدي من جديد ‪.‬‬ ‫‪107‬‬


‫جاء أحد الصبيان بالشيشة بيضاء زجاجها وماؤها رائق يموج فى أعماقه‬ ‫الصفاء ‪ ،‬القلب النحاس نظيف ‪،‬والالي قماشه سميك مزركش بالوان حمراء‬ ‫وصفراء متألقة ‪ ،‬وضعها أمامه وهويلقي تحية مقتضبة خشية أن يلقيه‬ ‫بكلمة غاضبة أو لكمة حمقاء ‪ ،‬تبسم له ‪ ،‬مأل العجب وجه الفتى وهو يهش‬ ‫له ‪ ،‬ويفرج عن كلمات التحية التى يرددها عادة على غيره من زبائن‬ ‫الصباح ‪ ،‬ومضى وهو يتساءل ‪ -:‬ماذا جرى لكامل اليوم ؟‬ ‫عال صوت محمد بطة على بعد‪:-‬‬ ‫ النهاردة يا كامل ‪ ،‬ال تنسى‬‫عال صوت كامل متفاخرا ً فاردا ً الصدر وعاوجا ً العمة الى أعلى في رضا‪:-‬‬ ‫ على بركة هللا‬‫حسنا ً تفعل يا كامل بصلح عائلة رضوان ‪،‬عالم ال يجئ من ورائهم إال وجع‬ ‫الدماغ‪ ،‬إتقاء شرهم خير‪ ،‬صباح الخير يا جاري وهم على كل حال جيران‬ ‫اليضاهون‬ ‫تبسمت شفتاه الغليظتان وهو يهمس لنفسه مؤكدا ً ‪..‬اليضاهون ‪ ..‬وسحب‬ ‫نفسا ً من الدخان فضجت الشيشة وعال صوت نحيبها‪.‬‬ ‫‪....................‬‬ ‫فى الموعد المحدد رأت الشيشة السيد شقيق رضوان قادما ً ‪ ،‬بشاربه‬ ‫المنتصب ورقبته الغليظة ونظراته تحت حاجبيه الكثيين ‪ ،‬والى جواره جابر‪.‬‬ ‫فخفت صوتها والذت بالسكون ‪ ،‬القيا عليه السالم الذعا ً الطعم له واكمال‬ ‫السير الى مقهى محمد بطة الذى استقبلهما بترحاب حار وقادهما الى ركن‬ ‫بعيد عن ضوضاء وثرثرة الزبائن ‪ ،‬هرول الصبي ينادي كامل الذي قام‬ ‫ببطء يعدل ثيابه قادما ً الى المقهى وقلبه يصرخ من السرور ‪ ،‬وينظر‬ ‫بعينيه الواسعتين ناحية المقهى بلهفة ‪.‬‬ ‫‪108‬‬


‫دخل المقهى فرأى الثالثة يجلسون في زاوية تفيض بهدوء يليق بالمناسبة ‪،‬‬ ‫أخلى المعلم بطة المكان من زبائنه من أجل هذا اللقاء ‪ .‬كانت الواح‬ ‫المرايات مصقولة والمعة الزجاج تدور في المكان في منتصف الجدار ‪،‬‬ ‫بينما الموائد ذات القواعد الخشبية التي يتم عليها لعب الدومنيو أو‬ ‫الكوتشينة متراصة بعيدا ً تضج بآسريها والمعتلين رقبتها رغما ً عنها ‪،‬‬ ‫وحولها المقاعد تنوء بأجساد التبالى بأنينها ‪ ،‬وقد جلس الثالثة فى ركنهم‬ ‫تحت ضوء يفيض نعومه بازرقاق لونه وضياه الرائقة النقاء يتحدثون‬ ‫ السالم عليكم‪.‬‬‫حدجه جابر بحدة ‪ ،‬بينما رماه السيد برد بارد ‪ ،‬أما بطه فقد حياه قاصدا‬ ‫رفع صوته ترحيبا ً به ‪ ،‬جلس الى جواره في هدوء وبدأت الجلسة وسط‬ ‫عواصف ورياح وهدير موج عات تسير ‪ ،‬معتمدة كل االعتماد على ربانها‬ ‫الماهر محمد بطه فى اإلفالت الى بر أمان ‪.‬‬ ‫جاءت نوال الى الوكالة تسأل عن أبيها‪ ،‬قيل لها في القهوة مع المعلم محمد‬ ‫بطة‪ ،‬اتجهت اليه وأرسلت من يناديه ‪ ،‬رأته يخرج ويده في يد جابر ‪،‬‬ ‫وفمه تعلوه آيات ابتسام بينما المعلم سيد والمعلم بطة خلفهما يخرجان‬ ‫ضاحكين‪ ،‬إمتأل قلبها بالبشر‪ ،‬سترى سالمة ‪ ،‬ستراه‪ ،‬ياما أنت كريم‬ ‫يارب‪ ،‬هي تعرف عالقة أبيها بالحاج رضوان‪ .‬يا سالم!‬ ‫لمحها كامل تقف بعيدا ً ولمح على محياها سعادة تفيض منه على المكان‬ ‫حولها فهرع اليها يسألها عما تريد‪ .‬شردت عيناها وهمست ‪:-‬‬ ‫ نسيت‪.‬‬‫‪......................‬‬ ‫حينما أنهت كريمة الى السيد مالديها من معلومات عن الجناه الذين ارتكبوا‬ ‫الجرم فى حق رضوان بهت قليالً وهو يحدق فى عينيها ‪ ،‬يقيس درجة وعيها‬ ‫وإدراكها لما تقول ‪ ،‬وايضا يحاول استيعاب ماقالت كلمة بكلمة وحرفا ً بحرف‬ ‫‪109‬‬


‫‪ ،‬وهو يطلب منها أن تتروى وتتكلم بتمهل وبحروف واضحة ليستطيع لم‬ ‫شتات نفسه واستيعاب كل مايقال ‪ ،‬بعدها اتسعت عيناه لكم من الغضب هائل‬ ‫الحدود واألبعاد وهب واقفا ً يصرخ بحروف مدغومة والنيران لهيب فى‬ ‫عينيه ‪ ،‬وهو يقسم ضاغطا ً أسنانه وعروق رقبته تنبض بكل مالديها من‬ ‫جنون ‪-:‬‬ ‫ أقسم أن أخرج توا ً ألجمع الرجال وأجعلها ليلة تحلف بها المنطقة سنينا ً‬‫وسنين ‪ ،‬الدماء ستكون انهارا ً ‪ ،‬وستأخذ النقمة الجميع ‪ ،‬لن ينجو منها‬ ‫قريب أو بعيد ‪ ،‬بيت الجناة من أوله بكل من فيه سأجعله غرباال ً بالرصاص‬ ‫المنهمر مطرا ً على رؤس من فيه ‪.‬‬ ‫تركته يهذى بكلماته الحارقة الى أن هدأت حروفه تماما ً وقالت له‪-:‬‬ ‫ اذا فعلت هذا ستكون معركة ونيران ال أكثر ‪ ،‬أنا أريد ثأرا ً‬‫‬‫خالدا ً اليموت‬ ‫رمى فى وجهها بسعير نظراته وفحيح حروفه الصادمة ‪-:‬‬ ‫ ومن أنت حتى تريدين ؟‬‫هل أنت رجل من رجال العائلة ‪ ،‬وعليك أن تمحى الثأر لترفعى رأسك بين‬ ‫الناس ؟‬ ‫تذرعت بالصبر قدر استطاعتها ‪-:‬‬ ‫ اريدك فقط أن تسمعنى‬‫استدار الى عينى رضوان محتجا ً ‪ ،‬كانت العينان تلتمع على حدقتيهما نيران‬ ‫هادئة تتوهج بها النظرات ‪ ،‬وهى تفيض على وجه أخيه الزاعق بالغضب ‪.‬‬ ‫لدى خطة تكسر الروح وال تقتل‬ ‫قالت بصوت هادىء وهى تقف خلفه ‪-:‬‬ ‫ّ‬ ‫الجسد‬ ‫استدار محتدا ً اليها ‪-:‬‬ ‫ أى روح وأى جسد ياست أنت ِ؟‬‫و عال صوته طالبا ً منها الصمت ‪ ،‬رافضا ً أن يستمر هذا الهراء وأن تتقبله‬ ‫أذناه أساسا ً ‪ ،‬مشيحا ً بيده فى الهواء ميمما ً وجهه شطر باب الخروج زافرا ً‬ ‫الهواء الذى استنشقه فى هذه الحجرة البلهاء كما يقول ‪ ،‬محدثا ً نفسه‬ ‫بصوت عا ٍل ‪-:‬‬ ‫ الحياة انقلب حالها وهللا ‪ ،‬لم تعد كما كانت وكما نعرفها وعرفها من‬‫قبل أباء كان لهم الهيبة والوقار ‪ ،‬أى عار تريد الحاقه بنا هذه المرأة ‪،‬‬ ‫‪110‬‬


‫وماذا تظن نفسها ‪ ،‬أم أنها تنتهز فرصة مرض زوجها لتفعل ماتري ‪ ،‬ورب‬ ‫العزة أدفنها مكانها لو فكرت مجرد تفكير فى عمل شىء ‪ ،‬حينما تعدم‬ ‫العائلة الرجال فلتتقدم هى وأمثالها ‪ ،‬أما والرجال موجودن فما عليها اال‬ ‫الصمت ‪.‬‬ ‫رسم على شفتيه ابتسامة ساخرة وهو يكمل متسائالً ‪-:‬‬ ‫ تريدين الثأر لعائلة رضوان ؟؟!!‬‫وفتح الباب خارجا ً ‪ ،‬تاركا ً كريمه جالسه على حافة الفراش محمرة العينين‬ ‫خافضة الرأس تنزف الما ً ‪ ،‬وهى تراه ألول مرة يرفض مجرد سماعها ‪،‬‬ ‫ويتطاول عليها كأنها لم تكن زوجه أخيه و لها ماألخيه من تقدير ‪ ،‬ثم أنها‬ ‫لن تفعل شيئا ً أكثر من التخطيط لألمر‪ ،‬والتنفيذ سيقوم به الرجال فما العيب‬ ‫فى هذا ‪ ،‬وأى عار تلحقه بهم ؟ حدقت فى عينى رضوان أغمض عينيه‬ ‫وفتحهما ‪ ،‬ادركت مايعنى نادت بقوة ‪-:‬‬ ‫ ياسيد‬‫عاد بنصف رأسه اليها وبنصف عين حدجها بقسوة ‪،‬وإحدى قدميه خارج‬ ‫الباب‬ ‫ رضوان يريد التحدث اليك‬‫عاد القهقرى راسما ً على مالمحه ظالما ً وغماما كثيفا ً يطالن من عينيه وهو‬ ‫يغمغم بكلمات التكاد تبين أو تفصح عن تفسها ‪ .‬عادت تغلق الباب من جديد‬ ‫وهى تراه يجلس على مقعده بجوار سرير أخيه متسائالً بعينيه ماذا يريد‬ ‫وكيف يحادثه ؟ قالت بهدوء حذر ‪-:‬‬ ‫ يريد منك فقط أن تسمع وبعدها القرار لك والفعل لك واألمر كله‬‫موكول اليك‬ ‫من أعلى نظر اليها متفرسا ً ‪-:‬‬ ‫ هو قال هذا ؟‬‫‪111‬‬


‫هزت رأسها بتؤدة عالمة الموافقة ‪-:‬‬ ‫ كالم ماسخ لن أسمعه ‪ ،‬وقسما ً باهلل لن تخرجى من بيتك ولن تشاركى‬‫فى شىء اتفقنا ؟‬ ‫أحنت رأسها موافقة ‪ -:‬سمعت كالمك وأقبل شرطك وأطيع أمرك فيما تريد‬ ‫فهل تسمعنى ؟‬ ‫تبسمت عيناه بنصف سخرية وهو يقول لها ‪-:‬‬ ‫ هات ماعندك ‪ ..‬مادام رضوان يقبل بهذا‬‫واجهت عينى الحاج وهى تتكلم موجهة كالمها ألخيه السيد ‪ ،‬شرحت‬ ‫مالديها وماتود فعله حتى يكون الرد قاسيا ً بحجم الفعل وأكثر ‪ ،‬وفى ذات‬ ‫الوقت بعيدا ً عن القتل والسجن وربما االعدام الذى سيعقبه ‪ ،‬كماأنه سيكون‬ ‫مذلة وإنكسارا ً لن تنساه المنطقة طالما فيها حياة تتحرك وأحاديث تقال ‪.‬‬ ‫حينما انتهت سألت زوجها الراقد أمامها محدقا ً فى سيماها بنظرات حداد ‪-:‬‬ ‫هل توافقنى ؟‬‫أرخى جفنيه على تأجج األحداق موافقا ً ‪،‬وعاد يرفعهما ‪ .‬قال السيد ‪-:‬‬ ‫ مامعنى هذا ؟‬‫ردت وهى تحاصر عينيه الصارمتين ‪-:‬‬ ‫ موافق‬‫من تحت حاجبيه الكثين رمقها بقوة مدققا ً فى عسل عينيها ‪ ،‬ووجهها‬ ‫الدقيق القسمات الذى يفيض بنعومة ورقة التتتناسبان بالمرة مع مافاضت‬ ‫به كلماتها من قوة وحسم ‪ ،‬قال وهو يهب واقفا ً ‪-:‬‬ ‫ طلعت وعرة ياكريمة‬‫قالت‪ -:‬هناك شىء أخر‬ ‫‪112‬‬


‫رماها بعينى االهتمام ‪ -:‬ماهو ؟‬ ‫ السر لن يخرج عن ثالثتنا ‪ ،‬والتنفيذ سيمضى فى طى الكتمان ‪ ،‬ولن‬‫يعرف به قريب مهما كان ‪.‬‬ ‫تبسمت عيناه بجد وهو يقول مغادرا ً ‪ -:‬قلت أنك وعرة ‪.‬‬ ‫وفتح الباب مغادرا ً الى الطريق ‪.‬‬ ‫‪...............‬‬ ‫وجد قرار سالمه بالعمل بعيدا ً عن الدكان ترحيبا ً خفيا ً من إعتماد ‪ ،‬هى‬ ‫وحدهاالتى وجدت فى صدرها راحة ‪ ،‬فلم تبد قوالً ‪ ،‬اكتفت بالنظر الى كريمه‬ ‫وسماع حديثها فى صمت ‪ ،‬وإن كانت أعلنت أسفها لتركه المدرسة ورفضه‬ ‫اكمال مسيرة التعليم ‪ ،‬اشتكى جابر من وقوفه وحده فى السوق وحاجته الى‬ ‫أخيه الذى رفض مساندته ‪ ،‬حدجته بنظرتها التى يقرأها جيدا ً ‪،‬أدارت‬ ‫وجهها عنه وهى تشيح بيدها ‪-:‬‬ ‫ أبوك لم يفكر فى الشكوى يوما ً‬‫أراد جابر أن يحتج بأن أبوه كان يعتمد عليه كثيرا ً فى عمله ‪ ،‬كان يروح‬ ‫ويجىء ويسافر ويعود وهو واثق أن الدكان مفتوح وأن الحال مستقر وحتى‬ ‫وهو موجود كان يجلس أمام الباب يحادث المعلمين من حوله ‪ ،‬أو يذهب‬ ‫الى المقهى يجلس مع محمد بطه أو كامل ‪ .‬يتفق على صفقة من الصفقات ‪،‬‬ ‫والوقت معه ‪ ،‬والكالم كثير ‪ ،‬والمواضيع التنتهى ‪ ،‬أما هو وحده فماذا‬ ‫يفعل ؟ التجارة ليست محال ً يقف فيه ‪ ،‬بل بضاعة يحضرها من تجار الجملة‬ ‫‪ ،‬وهى كذلك مزادات يسافر اليها مكمالً دور أبيه ‪ ،‬خاصة أن محمد بطه‬ ‫فاتحه فى أمر اشتراكه و كامل معه‪ ،‬وطلب منه نسيان مامضى ‪ ،‬ورغم‬ ‫عدم ارتياح جابر لهذا األخير وشعوره الدائم نحوه بالكره لغير سبب واضح‬ ‫اال أنه وافق محمد بطه على طلبه لسببين ‪ ،‬أولهما أنه محمد بطه الذى يثق‬ ‫به كما كان أبوه يثق به ‪ ،‬ثانيا ً وهو األهم أن خبرة كامل أصبحت كبيرة‬ ‫بهذا المجال لمرافقته للحاج رضوان زمنا ً ‪ ،‬ووجود محمد بطه سيجبره أن‬ ‫يعتدل فى تعامله معه ‪ ،‬وإن لم يعتدل أو رأى منه مايريب فلن يتردد لحظة‬ ‫فى فض الشراكة ‪ ،‬واعالن هذا على المأل كما فعل أبوه من قبل ‪ ،‬لهذا‬ ‫‪113‬‬


‫وافق وترك أمر الدكان ومن سيقف فيه فى غيابه الى الظروف‪ ،‬مؤكد‬ ‫ساعتها لن يعدم شخصا ً يثق به يحل محله ‪ ،‬وقد جاءت الفرصة عندما‬ ‫أعلن سالمه عن مراده ‪ ،‬لكن هاهى أمه دون أن تدرك أبعاد األمر ترحب‬ ‫بعدم وقوفه معه ‪ ،‬كأنه اليمت لرضوان بصلة وليس من صلبه مثل جابر‬ ‫تماما ً ‪.‬‬ ‫رفع عينيه الى أمه الجالسة الى سريرها والغطاء يستر نصفها السفلى ‪ ،‬وقد‬ ‫تحول وجهها الى شحوب ذاهل وعينين باهتتين وعناد ليس له حد ‪ .‬صارت‬ ‫فى ضعفها هذا أقوى مما كانت من قبل ‪ ،‬صارت تأمر وتنهى وليس عليه‬ ‫حفاظا على صحتها وخوفا ً على حياتها اال أن يوافق ‪ ،‬حتى فتح الدكان نفسه‬ ‫كانت ترفضه وتأبى اال اال البحث عن الجانى أيا ً كان والقصاص منه ‪ ،‬وهل‬ ‫وجد هو أو أى شخص من العائلة الجانى ولم يقتصوا منه ؟‬ ‫ثم إن البيت مفتوح واألفواه التكف عن الطعام ‪ ،‬والطلبات التنتهى ‪ ،‬وكل‬ ‫هذا يحتاج لمصاريف يعلم هللا وحده كيف كان الحاج يدبرها ‪.‬‬ ‫ترك المكان ومضى نحو السلم متمهالً يرشق الجدران بأعين حداد وهو يفكر‬ ‫كيف يقنع أخاه سالمه بالعمل معه وترك مهنة السواقة هذه التى يحلم بها ‪،‬‬ ‫سواقة تاكسى أو عربة أجرة لنقل البضائع للتجارحتى مع عمه السيد لن‬ ‫تجعل منه رجالً ذا شأن ‪ ،‬بل ربما حطت من قدره ‪ ،‬أما الوقوف فى دكان‬ ‫أبيه فهو الذى سيضعه فى مكانه المناسب ‪ ،‬ويجعل له قدرا ً ومكانة بين‬ ‫التجار ‪.‬‬ ‫لكن كيف يقنعه ؟‬ ‫انتبه لصوت كريمه يهرول خلفه ‪ ،‬وقف وسط السلم يحدق فيها ورضا الى‬ ‫جوارها ‪ ،‬حيرة فى عينيها وحزن يشع من حدقاتها والتدرى ماذا تقول‬ ‫وماذا تفعل ‪ ،‬كلمت السيد شقيق رضوان ليؤثر على سالمه ابن أخيه ويمنعه‬ ‫من تنفيذ رأيه وترك المدرسة ‪ ،‬اال أن السيد خيب أملها ولم يفلح فى إثناءه‬ ‫عن عزمه ‪ ،‬بل رحب بعرضه للعمل معه على سيارته ‪ ،‬قائالً إنها فرصة‬ ‫جاءته فهو لن يجد خيرا ً من ابن أخيه للعمل معه بنظام الورادى ‪ ،‬لكل‬ ‫منهما ورديه اثنا عشر ساعة فى اليوم ‪ ،‬والعمل لن ينتهى ‪ ،‬وبدالً من‬ ‫عودة سالمه عن رأيه إ زداد أصرارا ً ‪ ،‬واآلن أملها فى جابر هو مهما كان‬ ‫أخوه وسنده والوحيد الذى سيخاف على ماله ‪ ،‬ثم إن جابر مخلص وقلبه‬ ‫يحمل كل الود وكل الخير لسالمه ‪ ،‬عكس أمه اعتماد التى ترى فى سالمه‬ ‫‪114‬‬


‫الولد الخرع ابن البحراوية اللعوب كما تقول ‪ ،‬وكما سمعت كريمه منها‬ ‫مرارا ً ‪ ،‬دون أن تمتلك المقدرة على الرد ‪ ،‬أو حتى اظهار الغضب‬ ‫واالمتعاض لما تقول ‪ ،‬جابر غيرها ومؤكد هو غير راضى عما ينتويه‬ ‫سالمه ‪.‬‬ ‫حدق فيها على البعد سائالً بنظراته عما تريد ‪ ،‬أشارت اليه أنها تريد‬ ‫محادثته ‪ ،‬عاد اليها ‪ ،‬دخلت ورضا معهما الى شقتها وتبعهما جابر ‪ ،‬ايقظت‬ ‫سالمه الذى كان نائما ً الى وقت الظهيرة غير مبال بما يجرى حوله من أمور‬ ‫شاك ‪-:‬‬ ‫قالت بصوت‬ ‫ٍ‬ ‫ أخوك يبحث لى عن القهر ‪ ،‬عن شماتة األعداء ‪ ،‬أخوك يجازينى‬‫بالشر ‪ ،‬أخوك ‪!..‬‬ ‫قاطعها جابر بقوة ‪-:‬‬ ‫ انتظرى ياأم سالمه‬‫واستدار اليه ‪-:‬‬ ‫ انا بحاجة اليك فى الدكان ألنى وحدى ‪ ،‬لن آتى بغريب وأنت‬‫موجود‬ ‫دعك سالمه عينيه وهو يسمعه حتى اذا انتهى هب من مكانه قائال ً ‪-:‬‬ ‫ افهمونى ‪ ،‬انا ألاصلح اال لما أريد‬‫لمعت عينا جابر بقوة وهو يتابعه فى تحركه عبر الحجرة قاصدا ً دورة المياه‬ ‫‪ ،‬القى بسهمه األخير منذرا ً ‪-:‬‬ ‫ اذن التريد مساعدتى‬‫استدار اليه سالمه بهدوء ‪-:‬‬ ‫ انت تعرف مالدى‬‫ اذن كن معى‬‫ انا معك متى احتاج األمر الى‬‫أما التجارة فلست لها‬ ‫ واذن ؟‬‫ ادع لى بالنجاح‬‫‪.................‬‬ ‫استمرارا ً لمسلسل االعتراضات وجد سالمه نفسه مضطرا ً للسماع فقط دون‬ ‫تعليق الى كلمات باكية من نوال ‪ ،‬كلمات لم تبح بها من قبل عن أمها وعن‬ ‫‪115‬‬


‫البيت وعن الحلم فى أن تخرج من هذا القمقم لترى الكون ‪ ،‬تراه بعينيها هى‬ ‫وليس بعينى أمها التى تحصى عليها أنفاسها ‪ ،‬حياه كلها عصبية وتوتر من‬ ‫أم رغم أنها مخلصة الى درجة الجنون اال أنها تحب بطريقتها ‪ ،‬تصرخ‬ ‫وتزمجر وتنهر وتنفجر الكلمات على شفتيها زالزل وبراكين ‪ ،‬تهب فى ثانية‬ ‫فتقلب الدنيا وترعد السماء وتنشق األرض ‪ ،‬وتهدأ فكأنما هى لم تفعل شيئا ً ‪،‬‬ ‫تعاود التحدث برفق وكأنما كان الجو صحوا ً طول الوقت ‪ ،‬واذا مارأت أحدا ً‬ ‫غاضبا ً منها أو يحادثها بصورة متوترة تساءلت جادة عما به ولماذا يحادثها‬ ‫هكذا ‪ ،‬فاذا قيل لها لقد فعلت كذا وكذا ‪ ،‬تساءلت هل انا على خطأ ؟ والغريب‬ ‫انها التخطىء ابدا ً حتى مع كامل زوجها حينما تتفجر أمامه زوابعها عاصفة‬ ‫وتضطره اضطرارا ً الى الصمت التكون مخطأه ‪ ،‬تحكى الموضوع ألى كان‬ ‫فال يجد عليها من خطأ اال اندفاعها فى عصبيتها ‪،‬وتسألها فى هذا فتقول لك‬ ‫أنه رغما ً عنها ‪ ،‬وأنها التملك زمام أمرها متى انفعلت ‪ ،‬وأنها تعرف أنها‬ ‫تزيد عن الحد أحيانا ‪ ،‬اال أن عذرها أنها التحمل ضغينة والتشغل قلبها بحمل‬ ‫سوء ألحد ‪ ،‬وأ نها متى هدأت عادت بيضاء حتى بالنسبة لمن تسبب فى‬ ‫غضبها ‪.‬‬ ‫قالت نوال وكررت وهى فى حالة تبدو من عينيها وإحمرار وجهها وتهدج‬ ‫صوتها واندفاع الكلمات على شفتيها ‪ ،‬أخذسالمه يستمع صامتا ً الى أن‬ ‫صمتت تلتقط أنفاسها ‪ ،‬تبسم قائالً ‪-:‬‬ ‫ ماذا تريدين بالضبط ؟‬‫ اال تترك المدرسه‬‫ واذا حدث ولم أتركها ‪ ،‬متى نتزوج ؟ ومن أين ؟‬‫رفعت عينيها الى مستوى عينيه ‪ ،‬يتزوجان مثل بقية الناس ‪،‬عندما يتخرج‬ ‫وتتخرج يتقدم لها ‪ ،‬ثم !!‬ ‫لم ينتظر ردها ‪ ،‬أجاب ‪-:‬‬ ‫انا هكذا سأوفر عدة سنوات من عمرينا‬‫ ال أفهم‬‫ الحياه من حولناتغيرت والظروف تبدلت‬‫ وأنت ؟‬‫ اخترت طريقى ‪ ،‬سائق‬‫‪ -‬وتترك تجارة أبيك ؟‬

‫‪116‬‬


‫أدار وجهه عنها ‪ ،‬هو هكذا مهما فعلت اليتزحزح عن موقفه ‪ ،‬صحيح أنه‬ ‫اليصدها واليصطدم معها ‪ ،‬لكنه أيضا اليرضخ لغير رأيه ‪ ،‬التدرى لماذا هذا‬ ‫العناد ‪ ،‬ماالذى سيجرى لو أنه استمع اليها ومشى بمشورتها ؟‬ ‫على كل ٍ هو فى جميع األحوال رجل تثق فى قراره ‪ .‬تابعته بعينيها ‪ ،‬سارت‬ ‫على خطاه‬ ‫‪................‬‬ ‫على مقهى النن العتيق الممتد على حواف الجمرك جلس سالمه منتظرا ً‬ ‫شحن البضاعة على عربته ليعود بها الى المعلم كامل كما طلب منه ‪ ،‬مشوار‬ ‫سهل ولذيذ يخرج منه بقرشين خاصة أن السوق هذه األيام نائم وعدد‬ ‫الطلعات بالسيارة قليل ‪ ،‬وليست كما كان يظن من قبل ‪ ،‬أمسك بالحمية يشد‬ ‫أنفاسها بهدوء وهو يدور بعينيه فى المكان ‪ ،‬يشم رائحة أزمنة كانت لها‬ ‫روعتها ‪ ،‬وإناس أكثر إنسانية من اآلن ‪ ،‬وحياة كان لها معنى ‪ ،‬وكان فيها‬ ‫رونق ولها بهاء ‪ .‬العتمة التى تلم المكان تصنع ظالالً ‪ ،‬تنتشر بين المقاعد‬ ‫المتهالكة والموائد الباهتة ‪ ،‬والوجوه المنتشرة فى األركان تبدو كأنها‬ ‫معششة هنا منذ قديم ‪.‬‬ ‫قال البورى أكبر تجار بحرى والذى سيورد البضاعه لكامل ‪-:‬‬ ‫ لم تقل من أنت ‪ ،‬ومن أين ؟‬‫تبسم وهو يعود من رحلته فى روح المكان اليه ‪ ،‬أراد أن يقول وهل هذا‬ ‫يهم ؟‬ ‫غيرأن الظروف لم تكن تسمح بهذا ‪ ،‬الرجل استضافه وأ كرمه وواضح أنه‬ ‫يريد أن يسامره ‪ ،‬أجاب ‪- :‬‬ ‫ انا ابن الحاج رضوان‬‫ رضوان عبد العال ؟‬‫هز رأسه عالمة اإليجاب ‪ ،‬انفرجت عينا الرجل بابتسامة ترحيب ومد يده‬ ‫مسلما ً من جديد ‪ ،‬متسائالً ‪-:‬‬ ‫ وكيف حاله اآلن ؟‬‫ الحمد هلل ‪ ،‬الدكتور المعالج له بشرنا باألمس أن خبيرا ً أجنبيا ً سيزور‬‫مستشفى الحسين وسوف يعرضه عليه ‪ ،‬واألمل فى هللا‬ ‫بانت فى عينى الرجل آيات التأثر ‪ ،‬حدق فى عينيه قائالً أن مثله لن يجود به‬ ‫الزمان ثانية ‪ ،‬وأن هذا الذى غدر به خسيس ‪ ،‬ولو عرفه الناس لقطعوه‬ ‫‪117‬‬


‫قبل أن يسلموه الى العداله ‪.‬ارتفعت من أحد الوائد القريبة أصوات تلعن‬ ‫الخيانة والخونة الذين باعوا الصداقة وضيعوا األمانة وخانوا العيش والملح‬ ‫‪ ،‬رفع سالمه عينيه اليه ‪ ،‬رجل أسمر الوجه مشوه العين اليسرى تماما ً ‪،‬‬ ‫يلبس جلباب أزرق قديم ‪ ،‬على حوافه بقع زيت أو شحم أو ماشابه ‪ ،‬وفوق‬ ‫رأسه طاقية صوف رماديه اللون ‪ ،‬يحدق بعينه اليمنى فى اتجاههم وهو‬ ‫مايزال يسب الخائنين ‪.‬‬ ‫قال البورى بصوت هامس ‪-:‬‬ ‫ هذا هو الضبع ‪ ،‬فتوة بحرى‬‫رماه سالمه بنظرة استخفاف مستقالً جسده ونحافته الظاهره وعاهته‬ ‫المستديمة ‪،‬تساءل ‪-:‬‬ ‫ كيف يتعارك هذا ؟‬‫ملمحا ً الى عينه‬ ‫تبسم البورى موضحاً‪-:‬‬ ‫ التغرك المظاهر ‪ ،‬لقد صار أشرس بعد أن طارت‬‫وأشار بيده أنها مسحت ‪ ،‬صمت قليالً ثم أكمل‬ ‫‪ -‬هو هكذا بهيئته تلك يعرفه الجميع ‪ ،‬يهابونه ويتحاشون االصطدام به‬‫تحيرت أفكار سالمه بين مايرى ومايسمع ‪ ،‬عاد يتساءل ‪- :‬‬ ‫ لماذا ؟‬‫ قلبه ميت ‪ ،‬يعرف أنه هالك المحالة فى أحد هذه المعارك ‪ ،‬لذا يندفع‬‫كاعصار وبيده سالحه ‪ ،‬ويجبر من أمامه على الفرار‬ ‫ هذا ؟‬‫ نعم هذا‬‫ ومن الذى كسر عينه ؟‬‫تبسم البورى نصف ابتسامه ‪ ،‬فتح فمه ليتكلم لكنه رأى الضبع يقترب فالتزم‬ ‫الصمت ‪ ،‬جلس الضبع على المائده دون كالم ‪ ،‬وجه عينه اليمنى الى‬ ‫سالمه الذى مافتأ يحدق فى وجهه صامتا ً ‪ ،‬قال أخيرا ً ‪-:‬‬ ‫ إذن انت ابن رضوان‬‫هز سالمه رأسه موافقا ً ‪ -:‬نعم‬ ‫قال الضبع بحزن ‪-:‬‬ ‫لدى ‪ ،‬الرجل الوحيد الذى أقدره حق قدره‬ ‫ التعرف مقدار هذا الرجل ّ‬‫مااسمك ؟‬ ‫‪118‬‬


‫ سالمه‬‫ابن كريمه ؟‬‫ نعم !!‬‫ التغضب ‪ ،‬أبوك حبيبى واسأل البورى‬‫حدق البورى فى عينيه متسائالً عما يرمى اليه ‪ ،‬ولماذا ترك مكانه وجاء الى‬ ‫سالمه وهو الذى يطلب من الناس أن يأتوا اليه برضاهم أو رغما ً عنهم ‪،‬‬ ‫يجلس واضعا ً ساقا ً على األخرى راميا ً محدثه بعينه الوحيدة ملقيا ً اليه‬ ‫بكلماته مبتورة ‪ ،‬واذا ضحك فبنصف ابتسامة ال أكثر ‪ ،‬وويل لمن يرد عليه‬ ‫أو يجادله أو يفكر فى الوقوف له ‪ ،‬شعر البورى أن الكالم سيطول والمساحة‬ ‫ستمتد ولن تنتهى سريعا ً ‪ ،‬والضبع بحوره عميقه وال يدرى مالذى يرمى‬ ‫اليه ‪ ،‬رأى أنه من األصلح أن يبتعد حتى الينجرف معه الى قول مااليريد ‪،‬‬ ‫استأذن لبعض شأنه‪ ،‬أحس سالمه أنه يتحاشى الجلوس مع هذا الرجل ‪..‬لهذه‬ ‫الدرجة يهابونه !!‬ ‫رحب به الضبع ثانية ‪ ،‬نادى على صبى المقهى طالبا ً حجر معسل إلبن حبيبه‬ ‫كما قال وحاجه ساقعة على حسابه الخاص ‪ ،‬اتسعت عينا الصبى وهو يتلقى‬ ‫طلبه مبهوتا ً دون أن يجرؤ على البوح بما لديه ‪ ،‬هرول ملبيا ً الطلب ‪،‬سأل‬ ‫الضبع فجأة ‪-:‬‬ ‫ أول مرة تجىء االسكندرية ؟‬‫ نعم‬‫ وماهى أخبار الفسحة ؟‬‫ لم أجد وقتا ً لهذا حتى اآلن‬‫ يمكننى أن اطلعك على االسكندرية الحقيقية ‪ ،‬منبع الحقيقة وبئر‬‫األسرارالذى اليراه اال خاصة الخاصة‬ ‫صمت قليالً وهو يتابع الولد وهو يضع حجر المعسل على شيشة سالمه‬ ‫والحاجة الساقعه على المائدة األلومنيوم الصغيرة أ مامه ‪،‬بعدها اكمل ‪-:‬‬ ‫ األسكندرية مدينة ذات أسرار ‪ ،‬يمكنك أن تقول أنثى‬‫‬‫غامضة ‪ ،‬عميقة الغور التمنح نفسها للعابرين ‪ ،‬ولكن‬ ‫لمن يمنحها روحه ‪ ،‬لحظتها تنفرج كوتها ويرى من‬ ‫خاللها مالم يحلم به ‪.‬‬ ‫ شوقتنى لها جدا ً‬‫‬‫ متى تسافر ؟‬‫‪119‬‬


‫ بعد لحظات‬‫‬‫ خسارة ‪ ،‬كنت أتمنى أن أرد لرضوان بعضا من معروفه‬‫صمت قليالً وصب نظرات عينه الوحيدة على بؤبؤ عينى سالمه سائالً ‪-:‬‬ ‫ الم تعثروا على الجانى بعد ؟‬‫‬‫اعتدل سالمه فى جلسته مباغتا ً ‪ ،‬ترك الشيشة جانبا ً ‪ ،‬جادا ً فى مالحقة عينه‬ ‫اليمنى علها تبوح بشىء‬ ‫قال اآلخر بهدوء ظاهر ‪ -‬واذا قلت لك من هو ؟‬ ‫اشتعلت النيران فى حدقتى سالمه ‪-:‬‬ ‫ من ؟‬‫ كامل عبد الرحيم‬‫‬‫ كامل عبد الرحيم ؟؟!!‬‫‬‫ هل تعرف مكانه ؟‬‫‬‫ طبعا‬‫‬‫ دلنى عليه ألثأر لرضوان منه‬‫‬‫ أنت ؟!!‬‫كهرباء عالية الفولت سرت فى خالياه ‪ ،‬انتفض بقوة واتسع مدى عينيه‬ ‫لمساحة دهشة الحدود لها ودارت األرض به ‪ ،‬شعر برأسه مجوفة تتساقط‬ ‫منها الكلمات فال يفقه شيئا ً ‪ ،‬الضبع يريد الثأر لرضوان ‪ ،‬كامل الذى فعلها ‪،‬‬ ‫وعائلة رضوان تعجز عن الفعل ليجىء هذا ويعرض خدماته ؟‬ ‫ماذا يعنى كل هذا ؟‬ ‫وماذا يعنى أن كامل هو الذى اعتدى على أبيه ؟‬ ‫كامل فعلها ؟!!‬ ‫كامل والد نوال‬ ‫شريك جابراآلن‬ ‫هو المعتدى ‪ ،‬الجانى ‪ ،‬الرجل الذى بكى أباه وأقسم على القصاص ممن آذاه‬ ‫مهما كان ‪ ،‬هو المعتدى !!‬ ‫واجه الرجل بعينى الشك ‪-:‬‬ ‫ كيف عرفت ؟‬‫بذات الهدوئه أجاب الضبع ‪ -:‬استأجر أشقياء من هنا‬ ‫ تدلنى عليهم ؟‬‫ منهم من اعتقل ‪ ،‬ومنهم من مات‬‫‪120‬‬


‫ وكيف عرفت ؟‬‫ضاقت العين الوحيدة واكتسى الوجه الكالح بامارات غضب طارىء‪- :‬‬ ‫ حتى هنا نقف ياابن أخى ‪ ،‬ال أطيق التحقيق وال كثرة الكالم ‪.‬‬‫وقام عنه متجها ً الى الظالم ‪.‬‬ ‫حدق سالمه فى متاهات تحيط به ‪ ،‬مؤكد هناك شىء اليفهمه ‪ ،‬كيف ولماذا‬ ‫ومتى واالف األسئله تحيط به ‪ ،‬تحاصره وتضغط رأسه ‪.‬‬ ‫كامل هو الفاعل ؟!!‬ ‫لم اليكون هو ؟‬ ‫هل ألن نوال إبنته ؟‬ ‫اال هذا ياسالمه‬ ‫اثأر منه مهما كانت نوال بالنسبة لك‬ ‫كما فعل بأبيك افعل به‪.‬‬ ‫ونوال ؟‬ ‫ليذهب كل شىء الى الجحيم عدا أبى ‪.‬‬ ‫نادى بأعلى صوته‪.‬‬ ‫ يامعلم بورى‬‫و انطلق لألمام مرتعد الوجيب والروح والجسد ‪ ،‬تتطاير شظايا ً نيرانه‬ ‫المتأججة فى صدره من غور عينيه ‪ ،‬قابله البورى فى منتصف الطريق ‪،‬‬ ‫حدق فى وجهه مأخوذا ً ‪-:‬‬ ‫ مالك يابنى ؟‬‫ ثأر أبى سأدركه‬‫ من فعلها ؟‬‫ كامل عبد الرحيم‬‫ حذار من الضبع‬‫ لن أتركه‬‫ومضى من أمامه ‪ ،‬وقف البورى يقلب األمر فى رأسه ‪ ،‬هل يعقل أن يكون‬ ‫كامل قد فعلها وخاصة مع رضوان ؟‬ ‫وحتى اذا فعلها اليس من الخير أن ينبهه لثورة سالمه ‪ ،‬فيحمى سالمه‬ ‫من نفسه وفى ذات الوقت يحمية من سالمه ‪ ،‬الولد صغير ‪ ،‬وأفكاره‬ ‫طائشة ‪ ،‬ومؤكد سيتصرف بدون عقل ‪..‬لكن لماذا قال له الضبع ماقال ‪،‬‬ ‫وماذا بينه وبين كامل ليشى به ؟‬ ‫‪121‬‬


‫هو مؤكد لم يفعل هذا لوجه الحق ‪ .‬هرول متجها ً الى حيث وجد الضبع أمام‬ ‫بيته يقف وسط الظلمة محدقا ً فى سماء بال نجوم وليل الحدود لمتاهة‬ ‫ظلماته وعمق أسراره ‪ ،‬اقترب مسرعا ً نحوه‬ ‫وجد العين اليمنى بانتظاره‪-:‬‬ ‫ كما سلط على سلطت عليه‬‫ بثأر هو برىء منه ؟‬‫ برىء أو مذنب اليهمنى مادمت قد رددت القلم قلمين‬‫هرول الى الخارج باحثا ً بعينيه هنا وهناك ‪،‬البد أن يحادث سالمه ‪ ،‬يقنعه‬ ‫بالوقيعة التى أرادها الضبع وهدفه من ورائها ‪ ،‬هو شعر بهذا منذ ترك‬ ‫مكانه واقترب منهما ‪ ،‬كلماته كلها كانت تشى أنه انتهز الفرصة ليضرب‬ ‫ضربته وينتقم من كامل الذى لن ينجو من غضب عائلة رضوان ونيران‬ ‫ثأرها ‪ ،‬هو يعرفهم ويعرف سطوة الثأر عليهم خاصة مع رجل مثل رضوان‬ ‫‪ ،‬هرول باحثا ً عن العربة وسالمه ‪،‬لم يجد لهما أصرا ً ‪ ،‬سأل من حوله راجيا ً‬ ‫أن يكون هنا أو هناك قريبا ً من المكان ‪ ،‬قيل عاد الى القاهره ‪ ،‬رفع الهاتف‬ ‫الى أذنيه فورا ً ‪ ،‬جاءه صوت كامل مرحبا ً ‪ ،‬لم يرد التحية ‪ ،‬قال فورا ً مالديه‬ ‫‪ ،‬أبلغه بما جرى من الضبع وأوصاه أن يتصرف ‪.‬‬ ‫‪.....................‬‬ ‫طار كامل الى محمد بطه يطلب نجدته ‪ ،‬قص عليه أمر المكالمة وماقاله‬ ‫البورى فيها ‪ ،‬عاد بطه يسأله ملحا ً ‪-:‬‬ ‫ هل لك يد فيما جرى لرضوان ؟‬‫ اقسم لم يحدث‬‫جلسا يدرسان األمر ‪ ،‬الولد سالمه طائش ‪ ،‬مؤكد سيتصرف فورا ً دون‬ ‫الرجوع ألحد ‪ ،‬يمكن فى هذه الحالة مراقبته وتنبيهه لما سيقع فيه من خطأ‬ ‫‪ ،‬لكنه شاب وهو ثائر ومؤكد لن يصدق ‪..‬اقترح كامل أن يتم استدعاء جابر‬ ‫وشرح األمر له ‪ ،‬مؤكد هو أكبر وسيتفهم الوضع ‪ ،‬ضحك بطه منه مؤكدا َ‬ ‫أن جابر بالذات هو مصدر الخطر عليه ‪ ،‬ألنه الوحيد الذى أثر فيه مرض‬ ‫والده ‪ ،‬والوحيد الذى يحمل عبء األخذ بالثأر ‪ ،‬والوحيد الذى الينى عن‬ ‫البحث ‪ ،‬وشىء مثل هذا مهما اقسمت واكدت برائتك منه مؤكد سيترك أثرا ً‬ ‫فى نفسه ‪ ،‬وهو بطبيعة الحال كما تعرفه مندفع وقد يتصرف بطريقة ما‬ ‫ليس وقتها اآلن ‪.‬‬ ‫‪122‬‬


‫اتسعت حدقتا كامل عن ذى قبل ‪ ،‬ترنج قلبه فى فراغ صدره هلعا ً ‪ ،‬ليس‬ ‫خوفا ً من الثإر فى حد ذاته ‪ ،‬وإن كان هذا ومن عائلة رضوان بالذات يحتاج‬ ‫الحتياط كبير وحراسة دائمة ‪ ،‬لكن القلق األكبر كان من ضياع الشراكة التى‬ ‫رسم لها طويالً بعد مرض رضوان ‪ ،‬والتى تمناها ورجا هللا سبحانه أن‬ ‫تعود لتضىء لياليه وترمى بنورها ونقودها ايضا عليه ‪ ،‬وهاهى كما أفلتت‬ ‫منه مرة فى وجود رضوان تفلت منه ثانية مع جابر ‪ ،‬تساءلت التغضنات‬ ‫تحت عينيه ‪ -:‬وما الحل ؟‬ ‫حدق محمد بطه فيه مراقبا ً وجهه األسمر الغليظ بعمامته المرتفعة وتقاطيعه‬ ‫المتضخمة وعينيه الواسعتين ‪..‬دائما ً أبدا ً ياكامل تثير وراءك الغبار وتكثر‬ ‫األقاويل ‪ ،‬الغريب أننى لم أتعلم من رضوان حينما اقتصر عنك تجنبا ً‬ ‫للمشاكل التى تصنعها بتصرفاتك ‪ ،‬المشكلة أننى بعد هذا السن وهذه الخبرة‬ ‫بالحياة مازلت أسأل نفسى هل تدرك أفعالك ‪ ،‬أم أن األقدار هى التى ترسم‬ ‫لك وتخطط وأنت بسذاجة تندفع ‪ ،‬ولماذا أرادك هذا الضبع أنت بالذات ولم‬ ‫يرد غيرك ؟‬ ‫فتح بطه فمه أخيرا ً بتساؤل ‪-:‬‬ ‫ ماصلتك بهذا الضبع ؟‬‫ كان يريد فرض إتاوة على بضاعة لى بالميناء ‪ ،‬سألت عنه ‪ ،‬عرفت‬‫ماأريد أن أعرف ‪ ،‬وأبلغت البوليس‬ ‫ وبالطبع لم ترجع لرضوان‬‫ال‬‫ لماذا ؟ كما فهمت كان له تعامل معه وبالتالى معك‬‫ لم يعرفنى عليه ‪ ،‬هو فقط قال أن له رجالً فى الميناء ‪ ،‬وأن عمله هناك‬‫سيكون عن طريقه‬ ‫ كنتما شريكين أنت ورضوان ‪ ،‬ورضوان هو الذى يتعامل مع الضبع على‬‫حد قولك ‪ ،‬فكيف ذهبت وحدك للميناء وكيف اصطدمت بالضبع؟‬ ‫ أقول لك الحق ؟‬‫ وهل هناك وقت لغير الحق ؟‬‫ شغلة بسيطة اشتغلتها وحدى‬‫ وحدك !!‬‫‪ -‬هى مرة وندمت عليها ‪.‬‬

‫‪123‬‬


‫ ورفض الضبع أن تمر من تحت يده ‪ ،‬أو ربما عرف رضوان وأراد أن‬‫يلقنك درسا ً‬ ‫ ربما ‪.‬‬‫ ولهذا أردت رد القلم قلمين فأبلغت الشرطة عن الضبع‬‫ أردت رد القلم للضبع وليس رضوان‬‫ فى هذه الحالة كالهما على حق وأنت المخطىء‬‫لكن كيف عرف الضبع بما جرى لرضوان ومن قال له أن سالمه ولده ؟‬ ‫ ال أدرى‬‫ اسمع ‪ ،‬لدى فكرة ‪ ،‬استأجر لنا عربة أجرة أوالً ‪ ،‬وسوف أعود اليك‬‫بعد قليل‬ ‫وقام عنه الى داخل المقهى ‪ ،‬غاب لحظات ورجع باسم الثغر قائالً ‪-:‬‬ ‫ سنذهب الى الضبع معاً‪ ،‬آتى به هنا أمام سالمه وكل من يريد أن يعرف‬‫أنك برىء من هذه التهمة ‪.‬‬ ‫ وهل سيرضى أن يجىء ؟‬‫اندفعت الضحكة الى شفتى بطه ‪-:‬‬ ‫ لن يأتى برضاه‬‫ كيف ؟‬‫ هذا شغلى أنا‬‫ وسالمه ‪ ،‬هل يصدق ؟‬‫ هل لديك حل آخر ؟‬‫اضطر للصمت ‪.‬‬ ‫هذا الضبع جاء فى غير وقته بالمرة ‪ ،‬التجارة كانت قد بدأت تؤتى بثمارها‬ ‫مع جابروبطه ‪ ،‬واألمور بدأت تهدأ ‪ ،‬و جاء هذا والقى حجرا ً فى الماء‬ ‫الراكد ‪ ،‬ماذا أفعل لك ياضبع ؟‬ ‫جاءت العربة التى ارسل أحد صبيانه الحضارها ‪ ،‬ركب ومعه محمد بطه‬ ‫واثنين من رجال األخير وانطلقت الى األسكندرية ‪.‬‬ ‫‪................‬‬ ‫عادت النيران تتأجج فى صدر جابر ‪ ،‬تتصاعد ‪ ،‬تزأر ‪ ،‬تهز جنبات جوفه بال‬ ‫رحمة ‪ ،‬دار حول نفسه وهو اليرى حوله اال سواد ليل كاسح بهيم ‪ ،‬يطوق‬ ‫رقبته وروحه ويصر على النفاذ الى سويداء قلبه ‪ ،‬ناشبا ً فيه أنياب المقت‬ ‫‪124‬‬


‫والكراهية والعناد ‪ ،‬دار فى المنطقة ثائر الخطوات متربصا ً بكامل كاتما ً عن‬ ‫الجميع أنه هو الخائن الذى غدر بوالده ‪ ،‬غير أنه لم ير كامالً ولم يعثر له‬ ‫على أثر ‪..‬قال لسالمه أن يتتبع خطاه ويترك كل شىء ويتفرغ له وحذارى‬ ‫أن يفكر فى فعل شىء معه ‪ ،‬كل ماعليه أن يأتى ويخبره وهو سيتصرف ‪،‬‬ ‫شريطة اال يخبر كائنا ً ماكان بماهناك ‪.‬‬ ‫سأله سالمه ‪-:‬‬ ‫ وماالذى تنوى فعله ؟‬‫قال والنيران سوادها يغطى روحه‪-:‬‬ ‫ سأجعله عبرة لمن يعتبرومثلما جرى ألبى سيجرى له‬‫مضى سالمه الى حيث تربص للبيت بعد أن اطمئن أنه ليس فى الوكاله‬ ‫وسألهم عنه قالوا أنه ذهب مع الحاج محمد بطه فى مشوار ‪ ،‬ولم يقل متى‬ ‫سيعود ‪..‬طال الوقت بجابر وهو فى دكانه والليل يرميه بظلمته موجات إثر‬ ‫موجات ‪ ،‬الوقوف ومعاملة الناس اآلن صار عبئا ً ثقيالً عليه ‪ ،‬أصبح كأنه‬ ‫يقف على جمر ‪ ،‬يتمنى لو يستطيع أن يجرى بالوقت ‪ ،‬أعصابه لم تعد‬ ‫تتحمل االنتظار بعد أن وصل الى بغيته ‪ ،‬اللئيم عرف كيف يفلت منه ‪ ،‬لكنه‬ ‫مهما أفلت سوف يتعقبه ولن يتركه يفلت بجريمته بحال ‪ ،‬عيون الناس‬ ‫يشعر بها تنصب عليه منذ مقتل والده ‪ ،‬تسأله عن الثأر وكرامة العائلة‬ ‫ورؤس أعمامه وأخواله التى لن ترتفع اال بادراكه لثأره ‪ .‬عيون الناس‬ ‫يشعر بها تتعقبه تذكره بخيبته وفشله فى إراحة أبيه فى مرضه ‪ ،‬البد ياأبى‬ ‫أن أهدى اليك خبر الثأر لمن آذاك البد أن أشفى غليلى وأرفع رأسى وأواجه‬ ‫العيون المحدقة بى ‪ ،‬ليس ضعفا ً صمتى وليس عجزا ً انتظارى ‪ ،‬لكن !!‬ ‫كيف أعثر عليه األن ‪ ،‬أين أبحث عنه وأنال منه ‪ ،‬هل أدخل بيته ؟‬ ‫البد أن أطوله ولو على فراشه ‪.‬‬ ‫حل الظالم ثقيالً على األمكنة بينما الثوانى إبر مسننة تنفذ الى جسد ه ‪،‬‬ ‫بينما سالمه هناك أمام البيت يجلس داخل عربته متربص ً بالرائح والغادى‬ ‫فى انتظار أن تطل الفريسة برأسها فيبلغ جابر فوراً‪ .‬جلس متيقظ الحواس ‪،‬‬ ‫مشتعل األفكار ‪ ،‬والنيران تأكل صدره ‪ ،‬فهو من ناحية يخشى أن تراه نوال‬ ‫وتعرف دوره فيما سيجرى ‪ ،‬وإن كانت لهفته على األخذ بثأر أبيه من‬ ‫الناحية األخرى تمأل وجدانه وروحه ‪ ،‬وهو يتساءل كل مرة محدثا ً نفسه‬ ‫ماذا يفعل اذا كان كامل هو الجانى ؟ وفى كل مرة يجابه قلبه صارخا ً لن‬ ‫أترك ثأر أبى ولو خسرت نوال ‪.‬‬ ‫‪125‬‬


‫أغلق النهار عينيه ‪ ،‬وخلت الطرقات من روادها وساد صمت جهول فى‬ ‫األرجاء لم يستطع جابر معه االنتظار ‪ ،‬قالت له ظنونه أن الرجل عرف بما‬ ‫هناك فاختبأ فى بيته رافضا ً الخروج الى مقتله ‪ ،‬حمل سكينه وتحرك على‬ ‫جمر من النار متصاعد الدخان يقبض روحه ‪ ،‬سيصل اليه و لو على‬ ‫فراشه ‪ ،‬سأله سالمه أن يرافقه ‪ ،‬رفض بشده وتسلل فى ستر من الليل‬ ‫كثيف ‪.‬‬ ‫‪..................‬‬ ‫قال كامل بغم ‪-:‬‬ ‫ حينما طلبناه اختفى‬‫كانت غرزة النن فى ذلك الوقت من المساء محفوفة ببشر متشابهى الوجوه‬ ‫وتعبيرات العيون وحتى زمة الشفاه والحروف المضغوطه التى تخرج فى‬ ‫غفلة من أهل اللغة ومحترفيها ‪ .‬تتقيأ المقهى كل حين بشرا ً على قارعة‬ ‫الطريق ‪ ،‬يتساءل بطه كيف يحتملهم هذا المكان الصغير ‪ ،‬وأين يوجد‬ ‫بالداخل الهواء الالزم لكل هذه األعداد ‪.‬‬ ‫يخرج كامل عن صمته ‪-:‬‬ ‫ فى هذا المكان تعقد صفقات باأللوف‬‫يشيح بطه بيده ‪-:‬‬ ‫ األلوف اآلن صارت لغة الفقراء ومحدودى الدخل‬‫يدير وجهه حوله ‪ ،‬هواء البحر منعش ‪ ،‬به لسعه برد لطيفة تدغدغ الجلد‬ ‫وال تضايقه ‪ ،‬لكن وبرغم زينة الكورنيش واالهتمام بجداره الحجرى وجمال‬ ‫المنظر والرمال التى عادت العين تراها من الطريق وامتداد البحر بهديره‬ ‫العذب قويا ً مهيبا ً للرائح والغادى رغم كل هذا اال أن رائحه اليود ماتزال‬ ‫غائبة بنوع ما ‪.‬‬ ‫يقول كامل متبرما ً ‪-:‬‬ ‫ والعمل ياحاج ؟‬‫يرد بطه بصبر ‪-:‬‬ ‫ لن نبرح المكان قبل أن نعود به ‪.‬‬‫ويدير رأسه الى الطريق ‪.‬‬ ‫السيارة التى يحتلون مقاعدها تقف فى مدخل شارع جانبى يؤدى الى الطرق‬ ‫الداخليه للمدينه ‪ ،‬وفى ذات الوقت اليشد العيون الى العربه وراكبيها‬ ‫بينماالبورى هناك فى المقهى ينتظر الرجل المطلوب ‪.‬‬ ‫‪126‬‬


‫يحدق محمد بطه فى المدى باحثا ً عن نقطة ضوء بعيدة تبزغ فى عمق‬ ‫الظلمة ‪ ،‬كان تقديره أنه ابتعد تماما ً عن الشقاوة وأيامها ولم يعد له منهااال‬ ‫الذكرى ‪ ،‬وكان يرى أنه لم يعد لديه الالشباب وال القلب الذى يفل الحديد ‪،‬‬ ‫لكنه ولغرابة األمر ولدهشته هو نفسه رأى األمور تسير والعجلة تدور‬ ‫وينغمس رغما ً عنه فى مغامرة اليدرى الى أين ستؤدى به ‪ ،‬وإن كان هذه‬ ‫المرة يسعى الى الخير ‪ ،‬خير الجميع بما فيهم أوالد رضوان ‪.‬‬ ‫يحدق كامل فيه بطرف عينه سائالً نفسه كيف خطر له هذا الخاطر ‪ ،‬أن‬ ‫يخطف الضبع ومن قلب منطقته ‪ ،‬يخطف الضبع الذى تهتز أشد القلوب قوة‬ ‫لمرآه ‪ ،‬صحيح يامحمد يابطه قادر ‪ ،‬لكن هل سيقدر على الضبع ؟‬ ‫الغريب أن هذا الرجل يحاسبه حساب الملكين على حادثة مرت عليها‬ ‫سنوات ‪ ،‬ينسى قانون السوق الغالب فى كل حين والذى يتطلب أن تمد يدك‬ ‫الى أقصى ماتستطيع وتخطف اللقمة قبل أن يخطفها سواك ‪ ،‬كانت عمليه‬ ‫بسيطة ظن رضوان لن يعرفها وسوف تمر كما مر غيرها لوال وقوف‬ ‫الضبع له ‪ ،‬واصراره على أخذ إتاوته واال أفسد عليه العملية من أساسها‬ ‫‪..‬شردت نظراته فى فضاء الظلمة حوله وضباب الحيرة الذى يغلف وجيب‬ ‫قلبه ‪ ،‬وهل كان بيدى اال أن أفعل مافعلت ‪ ،‬أسلم وسيلة أن تتقى شر مثل‬ ‫هذا الشيطان بالبوليس ‪ ،‬وقد فعلت ‪.‬‬ ‫قطع مسيرة أفكاره سماعه لإلشارة المتفق عليها صوت البورى وهو ينادى‬ ‫صبى المقهى ناعتا ً إياه بالخائب كما هو معتاد أن يناديه حتى اليشعر أحد‬ ‫بما هناك‪.‬‬ ‫هبط الرجالن خلف بطه الذى القى الضبع قبل المقهى بخطوات ‪ .‬نظر كامل‬ ‫من مكانه بالسيارة الى ظهر بطه الذى يسير الى هدفه دون أن يهتز ‪،‬‬ ‫جسده متين وواثق فى قدراته ‪ ،‬وجاء الى مكان غريب والى رجل سمع عنه‬ ‫مايرجف القلوب ومع هذا يدخل عليه بهذا الثبات ‪ .‬حدق كامل أكثرالى‬ ‫الساعة ‪ ،‬الحادية عشرة والنصف مساء ً ‪ ،‬للحظ التوجد أقدام تسعى‬ ‫والعيون ترى وال آذان تسمع ‪ ،‬حجاب العتمة خلق نوعا ً من الكتمان فلم‬ ‫يرى الرجل ما خلفه ‪ ،‬اقترب بطه منه ‪ ،‬قبل أن يستدير بوجهه ليراه جيدا ً‬ ‫بعينه اليمنى تلقاه بلكمة شمالية طاحنة أعقبها بيمنى ثم امسك برأسه بكلتا‬ ‫يديه وتلقاه بضربة رأس هائلة ‪،‬تركه على إثرها واستدار عائدا ً الى العربة‬ ‫بينما حمله الرجالن قبل أن يسقط أرضا ً ومضيا خلف بطه ‪ ،‬أدخاله العربة‬ ‫وركبا الى جانبه من الناحيتين ‪ ،‬تابعهم كامل مبهور األنفاس وأطرافه ترتعد‬ ‫‪127‬‬


‫الشعوريا ً ‪ ،‬وعيناه بؤرتان عريضتان تتنفسان قلقا ً وحيرة أمام مشهد‬ ‫يحبس األنفاس رغم أنه صامت يكاد يكون بال صوت ‪ ،‬تنفس أخيرا ً‬ ‫الصعداء وهو يراهم حاملين صيدهم ‪ ،‬أراح ظهره على مقعده ‪ ،‬تابعهم وهم‬ ‫يودعونه العربة ‪ ،‬وقفل الكل عائدين فى صمت ‪.‬‬ ‫‪........................‬‬ ‫فى تمام الثانية عشرة مساء سارت أقدام مترقبة متجهة الى بيت كامل ‪،‬‬ ‫عبرت األقدام الباب فى هدوء ‪ ،‬صعدت السلم فى ثبات ‪ ،‬توقفت عند باب‬ ‫بعينه ‪ ،‬قفزت من شباك صغير يطل على المنور الى ماسورة الصرف‬ ‫الصحى ومنها الى شباك الحمام الذى تلقى دفعة ارتد منها الى الخلف‬ ‫مفسحا ً الطريق للجسد المتحفز بالوثوب الى الداخل ‪..‬كانت الشقة مألوفة له‬ ‫فلم يفكر كثيرا ً ‪ ،‬اتجه الى غرفة النوم راجيا ً أن يكون صيده هناك قابعا ً فى‬ ‫ركنه مرتعدا ً من خوفه واحساسه بما ينتظره من هالك جراء جريمة هزت‬ ‫الكون ‪ ،‬وسط الظلمة الممتدة كانت عيناه متربصتين ‪ ،‬تتسع محاجرهما‬ ‫وتبرق األحداق ‪ ،‬اقترب من الفراش ‪ ،‬أحس بحركة من الراقد ‪ ،‬ومضت‬ ‫السكين فى يده استعدادا ً للحظة الفاصلة ‪ ،‬مؤكد هو ‪ ،‬رفع يده ‪ ،‬ساورته‬ ‫الظنون ‪ ،‬كامل ممتلىء الجسد وهذا الذى أمامى نحيل ‪ ،‬أراه أوالً ‪ ،‬قد‬ ‫يستيقظ ‪ ،‬اضرب ضربتك وامض ‪،‬ال لن أمضى سأوقظه وأحاكمه ولو أمام‬ ‫أهله ولو أدى األمر سأضربه وأضرب من وراءه وبعدها أقتله ‪ .‬مد يده‬ ‫يرفع الغطاء عن الوجه النائم ‪ ،‬وجدها امرأة كامل ‪ ،‬ارتد الى الخلف منكسا ً‬ ‫السكين ألقصى ماتستطيع يده ‪ ..‬كامل هرب حتى من البيت ‪..‬كيف ؟‬ ‫كانت المرأة قد أحست به ‪ ،‬لكنها لم تتحرك ‪ ،‬ظلت وسط الظلمة ومن خلف‬ ‫أهدابها ترقبه لتعرف من هو وماذا يريد ‪ ،‬وحينما رأته جابر والسكين بيده‬ ‫فهمت مايقصد وحمدت هللا على غياب زوجها ‪ ،‬لكن لماذا يريد قتله ؟ لم‬ ‫تصل لسبب ‪ ،‬اقترب كاشفا ً عن عينين ذاهلتين ‪ ،‬حائرا ً ‪ ،‬اليدرى هل يعود‬ ‫من حيث أتى محمالً بفشل جديد ‪ ،‬أم يقتل المرأة ويكون قد أنتقم جزئيا ً لحين‬ ‫ظهور الخائن ؟‬ ‫ال ‪ ،‬قتل المرأة معيرة‬ ‫لم تأت لترتكب عارا ً يالحقك طول العمر‬ ‫امض بفشلك السرمدى ‪ ،‬الجدوى من المحاولة‬ ‫‪128‬‬


‫استدار مغادرا ً الحجرة ‪ ،‬طاف به خاطر ‪ ،‬قد يكون بحجرة أخرى ‪ ،‬مضى‬ ‫نحو الباب ‪ ،‬فتحت المرأة عينيها ‪ ،‬تبعته الى حجرة الضيوف ‪ ،‬دخلها‬ ‫وجالت عيناه بارجائها المظلمة ‪ ،‬شعر بالباب يغلق من الخارج ‪ ،‬سمع‬ ‫المرأة تفتح النوافذ ‪ ،‬تصرخ بأعلى صوتها ‪-:‬‬ ‫الحقونى‬‫جن جنونه ‪ ،‬دفع الباب بقدمه ‪ ،‬انطلق دوى هائل لحطام زجاجه ‪ ،‬صرع‬ ‫أنفاس السكون ولم يفتح ‪ ،‬عاد يدفعهبكل هلعه وحيرته حتى فتحه قصرا ً‬ ‫ومضى الى الخارج محاوالً الفرا بكل مالديه من رعدة تجتاح القلب وتهز‬ ‫الوجدان ‪ ،‬شعر بدفعة فى ظهره ‪ ،‬بمالبسه تتمزق ‪ ،‬وأظافر أنثوية‬ ‫متوحشة تنغرز فى ظهره ‪ ،‬استدار اليها جاحظ العينين ‪ ،‬تائه النظرات ‪،‬‬ ‫دفعها بقوة ‪ ،‬اصطدم جسدها بالحائط ‪ ،‬عادت تقوم وهى ماتزال تصرخ‬ ‫ورأى النور حريقا ً يشتعل فى المكان وباب الشقة كفوهة بركان ينفجر مطلقا ً‬ ‫أفواجا ً من البشر الحد لعددها ‪ ،‬نوال وأخوها يقفان بآثار النوم والدهشة ‪،‬‬ ‫والجيران واألقارب من كل حدب يمألون المكان ‪.‬‬ ‫انتفض القلب متصاغرا ً فى فناء جوفه ‪ ،‬منكسا ً نبضاته ‪ ،‬خائرا ً اليمتلك اال‬ ‫عويل القهر والجنون ‪ ،‬القى بذراعين مشلولتين الى جانبه ووقف ينتظر‬ ‫مصيره ‪ ،‬ولم يدرك جيدا ً معنى اقتراح أحدهم استدعاء بالشرطة ‪.‬‬ ‫‪.......................‬‬ ‫بدا األمر شائكا ً ومريرا ً أمام العيون ‪.‬‬ ‫جابر كان يقصد كامل ‪ ،‬أراد قتله والدليل السكين ‪،‬الشهود رأوا هذا ‪ ،‬كلهم‬ ‫حضروا المشهد كامالً ‪ ،‬رأوه يقف منكسا ً راٍه ممزق الثياب والروح‬ ‫والسكين بيده ‪ ،‬التهمة ثابتة ‪.‬‬ ‫لكن المرأة زوجة كامل من ناحية أخرى ممزقة الثياب ومعتدى عليها‬ ‫بالضرب داخل حجرة نومها ‪ ،‬وهى لن تتورع عن اتهامه بأى شىء فى‬ ‫سبيل انقاذ زوجها ‪ ،‬واذا قالت أنه أراد اغتصابها فمن سيكذبها ؟‬ ‫خاصة أن مالبسه هو أيضا ممزقة‬ ‫وأظافرها معلمة على جسده ‪.‬‬ ‫قال قائل من الجيران لصاحبه ‪-:‬‬ ‫ أرى أنه كان يقصد كامل وبعد ماجرى محال أن يعيدها ثانية‬‫ ماذا تقصد ؟‬‫ الداعى لتدخل الشرطه‬‫‪129‬‬


‫ نرجع لزوجها‬‫ لو رجعنا له لن يتوانى عن تسليه للشرطه‬‫ والحل ؟‬‫ نتصرف قبل حضوره انقاذا ً للولد وتقديرا ً لوالده‬‫ المرأه قد تتكلم ‪ ،‬تشكو ‪ ،‬ومعها شهود‬‫ نحاول معها‬‫انفرد بها االثنان ‪ ،‬سألتهما أن يأتيا به ‪ ،‬نظرت اليه فى ذهوله وصمته‬ ‫وانكسار عينيه ‪ ،‬الغريب أنها تشعر أنه اليستحق هذا ‪ ،‬تشعر بعد أن جرى‬ ‫ماجرى أنها قد اندفعت واوقعته فى مصيدة قد تقضى عليه ‪ ،‬لكنه هو‬ ‫المخطىء ‪ ،‬كيف يفكر أن يصل الى كامل فى غرفة نومه ؟‬ ‫الم يقدر عواقب عمله واحتماالت كشفه ووقوفه هذا الموقف المهين ؟‬ ‫ثم أنه شريك زوجها وفوق هذا لم تسمع عنه ولم تر منه اال مايشرف ‪.‬‬ ‫سألته ‪-:‬‬ ‫ ماذا أردت من كامل ‪.‬؟‬‫رفع عينيه اليها ‪ ،‬إمرأة غادرة استغلت ضعفها أحسن استغالل ‪ ،‬لو كان‬ ‫رجالً لفتك به ‪ ،‬لكنه عجز عنها ‪ ،‬فقد عقله أمامها ‪ ،‬ماذا يقول اآلن ؟‬ ‫ أقتله‬‫ لماذا ؟‬‫ ألنه غدر بأبى‬‫ هل أنت واثق مما تقول ؟‬‫ارتفعت أصوات بالخارج بوصول الحاج كامل ‪.‬‬ ‫ساد صمت مترقب األرجاء ‪.‬‬ ‫‪...................................‬‬ ‫أدرك محمد بطه الموقف من اللحظة األولى ‪ ،‬نادى أحدهم متسائالً عن األمر ‪،‬‬ ‫لخص له ماكان ‪ ،‬تألقت عيناه ببريق غضب جامح دفعه لشق األجساد‬ ‫المتالحمة المصرة على التهام الحدث دون أن يفوتها شىء ‪ ،‬معنفا ً العيون‬ ‫المتعطشة للفرجة واآلذان المتلهفة اللتقاط أدق التفاصيل ‪ ،‬صارخا ً فى كل‬ ‫منهم طالبا ً كسر هذا الحصار الذى فرضوه على المكان ‪ ،‬ملوحا ً بيده متوعدا ً‬ ‫من يصر على البقاء بالويل ‪ ،‬بعدها سحب جابرا ً من المكان كله ‪ ،‬أعطاه مفاتيح‬

‫‪130‬‬


‫المقهى طالبا ً منه فتحه واالنتظار هناك حتى يأتي اليه ‪ ،‬واتصل بأعمامه‬ ‫وأخواله طالبا ً منهم الحضور فورا ً ‪ ،‬بعدها اتجه لكامل صارخا ً فيه‪-:‬‬ ‫ خذ زوجتك وأوالدك ‪ ،‬اغلق عليهم باب الشقة ‪ ،‬والحق بى فى المقهى‬‫‪.‬‬ ‫كان الرجال حول الضبع يأخذون ركنا قصيا ً فى أول الشارع من ناحية خان أبو‬ ‫طاقية ‪ ،‬و الضبع يقف وسطهم دائرا ً بعينه فى وجوههم متسائالً فى نفسه عمن‬ ‫يكونون ‪ ،‬ولماذا يتركونه حرا ً واليقيدوا يديه ‪ ،‬وماذا يريدون منه ‪ ،‬متشمما ً‬ ‫السمات وتعبيرات الوجوه ‪ ،‬محاوالً اختراق العيون ليرى ماوراءها ‪،‬‬ ‫ومتربصا ً فى ذات الوقت ينتظر غفلة من هذا أو ذاك لينقض عليهما ويفلت من‬ ‫أسر اليعرف لماذا والمايراد منه ‪..‬أشار بطه الى رجليه فقادا الضبع الى‬ ‫المقهى ‪ ،‬جلس مواجها ً جابر حامالً حيرة تسع الكون لهذا االختطاف العجيب‬ ‫الذى لم يره أو يسمع به من قبل ‪ ،‬وإن كانت أنفه تتشمم رائحة رضوان فى‬ ‫الهواء المحيط به ‪.‬اقترب بطه وخلفه بقليل كامل عبد الرحيم رافعا ً رأسه وسط‬ ‫الظلمة الى عنان السماء ‪ ،‬وجه بطه كالمه للضبع معتذرا ً عن الطريقة التى‬ ‫اضطر الحضاره بها ‪ ،‬مؤكدا عليه أن الوقت لم يكن يسمح بغير هذا ‪ .‬كان‬ ‫يطيل فى الكالم متعمدا ً لغاية فى نفسه فلما بدأ أقارب جابر فى التوافد واكتظ‬ ‫المكان برواده دخل فى الموضوع مباشرة ‪،‬‬ ‫شرح فى كلمات قالئل األمر للجميع ‪ ،‬مستشهدا ً بالضبع الذى جاء به من‬ ‫األسكندرية خصيصا ً ليقر بما لديه ‪ .‬استدار باسما ً الى الضبع راجيا ً منه قول‬ ‫حقيقة ستوقف نزيف دم سيكون بحورا ً فى المنطقة إن لم يوقفه بكلمة حق‬ ‫أمام خالقه ‪ ،‬دار الضبع بعينه اليمنى باحثا ً الى أن استقرت على وجه كامل‬ ‫وقال بصوته الغليظ المثقل بضيقه وحنقه للطريقة التى تعاملوا بها معه من‬ ‫أجل شهادة كان يمكن أن يقولها وهو فى مكانه دون تجشم مشقة الضرب‬ ‫واالختطاف واالهانة بهذا ‪ ،‬والتى من المؤكد ستكون سبه فى جبينه وعارا ً‬ ‫يلحق به أبد الدهر ‪ ،‬هو الذى لم يجرؤ مخلوق من قبل على الوقوف له ‪،‬‬ ‫وليس ضربه بهذه الطريقة وخطفه رغما ً عنه ‪ .‬قال الضبع مالديه ‪ ،‬قص‬ ‫عليهم ماجرى له مع كامل الذى خان شريكه رضوان وأراد أن يلعب من‬ ‫وراءه ‪ ،‬وحين عرض الضبع األمر على رضوان كان رده‪-:‬‬ ‫ تعمال معه كما تشاء‬‫استأذنه الضبع أن يعامل كامل معاملة الغرباء ‪ ،‬أذن رضوان له ‪ ،‬طلب منه‬

‫‪131‬‬


‫اإلتاوة التى يطلبها من كل غريب تدب قدماه على أرض ‪ ،‬وكان جزاءه أن‬ ‫وشى به كامل للشرطة ‪ ،‬قبضت عليه ‪ ،‬ولم يقف بجواره مدة سجنه اال‬ ‫رضوان ‪ ،‬و حينما رأى سالمه باالسكندرية واتته فكر أن يرد له القلم‬ ‫الذى تلقاه منه قلمين ‪ ،‬لتنتقم أسرة رضوان منه وبهذا يكون قد نال جزاءه‬ ‫على يديه وهو بعيد عنه ‪ .‬قال بطه لجابر حينما انتهى الضبع من روايته‬ ‫‪ -:‬مارأيك ؟‬ ‫أحنى رأسه ولم يرد ‪ ،‬شاعرا ً أنه وسط بركة من ضياع يغوص فيه بروحه‬ ‫وقلبه دون مغيث ‪ ،‬واحساس غامر يجتاحه أنه يقف عاريا ً وسط أعين‬ ‫الترحم وال تعرف الغفران ‪ ،‬وطالما جاء أقاربه وأعمامه لحضور الجلسة‬ ‫فهذا معناه القصاص وطلب رد الشرف ومجلس عرفى يفرض عليه فيه‬ ‫جزاء ماصنعت يداه من ترويع الناس فى بيوتهم بغير حق ‪ ،‬ولن يستطيع‬ ‫الدفاع عن نفسه بحرف‪ ،‬فهو بشهادة الشهود مدان ‪.‬‬ ‫قام بطه الى الضبع معانقا ً ‪ ،‬راجيا ً منه العفو ‪ ،‬دس في يده مبلغا ً ماليا ً ‪،‬‬ ‫طلب من السائق الذى أحضره أن يعيده الى مسكنه معززا ً مكرما ً ‪ ،‬وعده‬ ‫أمام الجميع أن يزوره هناك ‪ ،‬ويقدم له االعتذار اذا أحب على رؤس‬ ‫األشهاد ‪ ،‬بعدها عاد الى المجلس من جديد ‪ ،‬سأل السيد مباشرة ‪-:‬‬ ‫ هل كنت تعلم مسبقا‬‫‬‫ بما فعله جابر ؟‬‫هز‬ ‫‬‫السيد رأسه سلبا ً ‪ ،‬استدار بطه الى باقى العائلة بذات السؤال ‪ ،‬بعدها‬ ‫عاد الى جابر من جديد ‪-:‬‬ ‫ قد أقول لك أن معك الحق‬‫‬‫فى الثأر لوالدك ‪ ،‬ولكن دون التعرض ألبرياء ‪،‬اليس كذلك ؟‬ ‫لقد دخلت بيتا ً دون وجه‬ ‫‬‫حق ‪ ،‬اعتديت على حرمتة وروعت من فيه من النساء ‪ ،‬وحملت‬ ‫سالحك فى وجوههن ‪ ،‬وكل هذا سيرا ً وراء وهم صور لك أن كامل هو‬ ‫الجانى ‪ ،‬لم تتحرى ولم تتيقن واندفعت وحدك ودون أن تشاور أحدا ً من‬ ‫كبار العائلة ‪ ،‬فماذا ترى فيما فعلت وبماذا تحكم على نفسك ؟‬ ‫محنى الرأس والروح قال جابر ‪-:‬‬ ‫‪ -‬انا مخطىء وأقبل الجزاء الذى تحكمون به‬

‫‪132‬‬


‫وقف السيد متعهدا ً بدفع مائة الف جنيه جزاء على جابر ‪ ،‬هذا اذا وافق‬ ‫الجميع بما فيهم كامل ‪ ،‬اتجهت األعين اليه ‪ ،‬هز رأسه حامالً سيماء‬ ‫المظلوم معلنا ً موافقته على المبلغ ‪ ،‬مشترطا ً اعتذار جابر له أمام الجميع‬ ‫عن فعلته ومتعهدا بعدم تكرارها ‪ ،‬تجرع جابر السم رغما ً عنه وقام بصوت‬ ‫غريب عنه باالعتذار المطلوب متعهدا ً باال يكرر فعلته ثانية ‪ ،‬بعدها سحبه‬ ‫السيد من يده الى البيت لمحاكمة أخرى بعيدا ً عن أعين الغرباء ‪.‬‬ ‫كان المخطط الذى اتفق عليه السيد مع كريمه أن يتم التنفيذ فى ذات الليلة‬ ‫عند الفجر ‪ ،‬ولكن جاء جابر ليفسد كل شىء ‪ ،‬غضب السيد وتمنى لو‬ ‫يصرخ فيه موبخا ً وشارحا ً كيف أضاع عليهم فرصة ماكانت لتضيع ‪ ،‬وفى‬ ‫ذات الوقت أضعف همتهم بهذه المغامرة التى كبدتهم الكثير معنويا ً وماديا ً‪،‬‬ ‫لكنه لم يجرؤ على قول شىء ‪ ،‬اكتفى بالصراخ فى وجهه‪-:‬‬ ‫ منذ متى وأنت التأخذ برأي والترجع لعائلة ؟‬‫ الثأر ثأرى أنا‬‫ بهذه الخيبة وهذا الخزى ؟‬‫ كنت موقنا ً أنه هو‬‫ لقد أفسدت الكثير ياابن أخى‬‫حدق فيه جابر باحثا ً عن معنى كلمته األخيرة ‪ ،‬ولم يجد لديه القدرة على‬ ‫االستفسار عنها وهو يراه وبقية أهله يغادرون الدار متجهمين ‪ ،‬ودون‬ ‫سالم !!‬

‫‪...............................‬‬ ‫ألنها لم تقل له شيئا ً ولم تشاوره فى األمر ‪،‬بل ولم تخبره بما فعلته‬ ‫فقد خافت من لحظة معرفته بما جرى ‪ ،‬هى تعرفه جيدا وتعرف‬ ‫درجة انفعاله التى تتأجج فيها النيران فى روحه فال يرى واليسمع‬ ‫واليحس اال بما يتملكه من غضب ولحظتها القوة تستطيع أن تثنيه‬ ‫عما انتواه ‪ ،‬وقد يؤذى نفسه قبل أى شىء فى سبيل أن ينثر غضبه‬ ‫ساحقا ً كل مايلقاه أمامه قريب أو غريب ‪ ،‬اليبالى بشىء وال يأبه‬ ‫لشىء ‪ ،‬وال يفكر حتى أو يتدبر أو يقول اهدأ لسبب ما ‪ ،‬فهو فى‬ ‫لحظته تلك اليعرف اال االنصياع لمشاعرة المتوهجة المتأججة‬ ‫‪133‬‬


‫السوداء الالفحة التى التبقى والتذر ‪ ،‬والتى تأكل فى طريقها ماتراه‬ ‫وال تعرف الهدوء واالنزواء اال بعدما تنطفىء فى قلبها شعلة‬ ‫االنفعال وقوته الساحقة ‪ ،‬بعدها يهدأ تماما ً ويعود الى بسمته الودود‬ ‫وسيماه المنبسطة وعينيه اللتين يفيض من بحورهما ماء الرضاء‬ ‫والتسامح ‪ ،‬لحظتها فقط يمكن أن تتحدث اليه ‪ ،‬تعاتبه وتشكو له‬ ‫منه أما غير هذا فال‪ ..‬كل هذا تعرفه أم سعيد عن زوجها محمد بطه‬ ‫وتعرف أكثر أنه تألم لما جرى لرضوان واقسم أكثر من مرة أنه لو‬ ‫عرف الجانى ألنتقم منه شر انتقام مهما كان هو ومهما كان من‬ ‫وراءه ‪ ،‬وهاهى اآلن وابنها سعيد وابنتها صباح وزوجها محمود‬ ‫يقعون فريسة ألمرين كالهما أمر من أخيه ‪ ،‬فمن الواضح أن عائلة‬ ‫رضوان قد توصلت اليهم ‪ ،‬وتجهز العدة للتشهير بهم وفضحهم‬ ‫على رؤس األشهاد ‪ ،‬والتدرى بعد ذلك مايفعلون بهم وهل يصل‬ ‫األمر الى القتل أم يكتفون باصابتهم بالعجز كما فعلوا هم برضوان ‪،‬‬ ‫وفى ذات الوقت فان هناك زوجها محمد بطه والذى لو عرف ألنتقم‬ ‫منها وممن ساندها‪..‬صارحت صباح بما لديها فلم تجد منها وال من‬ ‫زوجها اال العجز مرسوما ً على العيون ‪ ،‬منطوقا ً على الشفاه ‪،‬‬ ‫والرعب يمأل القلوب واألرواح ‪ ،‬اختلت بسعيد ولدها فرأته غائبا ً‬ ‫عمن حوله ‪ ،‬منفصالً عن مشكلته كأنه اليدرك مداها وال يعرف‬ ‫خطورتها ‪ ،‬مهونا ً من كل شىء ومستصغرا ً كل ماحوله ‪ ،‬فعائلة‬ ‫رضوان التجرؤ على مس شعره منه ‪ ،‬حوله أصحابه يساندونه‬ ‫ووقت الجد سيقفون كاألسود أمام أعتى وأشد من تلك العائلة‬ ‫المخرفة التى تقتات الكلمات الجوفاء والكبرياء األجوف ‪ ،‬أما أبوه‬ ‫اذا عرف فلن يستطيع له شىء ‪ ،‬قد يصرخ فيه وربما ضربه قلمين‬ ‫‪ ،‬وهذا أقصى ماعنده ‪ ،‬بعدها سيقف لعائلة رضوان يناجزهم عنه‬ ‫ولن يستطيع أحد االقتراب منه ‪ ،‬فهو فى كل األحوال ابن محمد بطه‬ ‫‪.‬‬ ‫تركته ألوهامه وخواطره السابحة فى بحار التيه ‪ ،‬وجلست وحدها‬ ‫تتدبر األمر ‪ ،‬لقد فعلت المستحيل لتمحو الصور التى رسمها‬ ‫‪134‬‬


‫مرارا متوارية خلف السكون متلفعة‬ ‫رضوان أمام بيت شتا‪ ،‬خرجت‬ ‫ً‬ ‫بالظلمة لتمحوها بنفسها قبل أن يدقق فيها أحدهم ويحل لغزها ‪،‬‬ ‫وفى كل مرة كانت تكافح الهلع الساكن روحها والرهبة من األعين‬ ‫التى قد تلحظ وجودها فى قاع الليل دون مبرر ‪ ،‬وايضا تخشى من‬ ‫تيقظ بطه لسبب ما ‪ ،‬واكتشافه خروجها وسؤاله الذى من المؤكد‬ ‫سيوجهه اليها حينها‪ ..‬أين كنت ؟‬ ‫ولم تفلح ‪ ،‬خوف غريب كان يشل حركتها ‪ ،‬يقيد أرجلها ويبطىء‬ ‫خطوتها ‪ ،‬يمنع يدها من المساس بالرسوم المشئومة ‪ ،‬أو حتى‬ ‫االقتراب منها ‪ ،‬دوما ً كانت البقعة ذاتها تضج بالنور كأن‬ ‫عليهاتعويذة تحرسها ‪ ،‬وحين امطرت السماء توسمت خيرا ً ‪،‬‬ ‫فاألمطار بقوة اندفاعها وايضا باألوحال التى تصنعها فى عرض‬ ‫الطريق سوف تقوم بعملها خير قيام ‪ ،‬تنهى هذه االآلثار وتقضى‬ ‫عليها ‪ ،‬وينسى الخلق حكاية رضوان و ماجرى له ‪ ،‬واليبقى دافع‬ ‫لإلنتقام مادامت السنون واأليام تقوم بعملها فى تهدئة النفوس الى‬ ‫درجة اإلعتياد ثم النسيان ‪ ،‬اال أن األمطار اللعينة لم تقربها ‪ ،‬أخذت‬ ‫تنداح وتتمدد فى أرض الشارع صانعة حفرا ً وأوحال ‪ ،‬وغسلت‬ ‫األرض اال أمام بيت شتا كأنها تتآمر عليها ‪ ،‬أو هى تصر على‬ ‫تذكير الكون بمافعلته ذات فجر ‪ ،‬لكنها اآلن وأمام تسارع األحداث‬ ‫صارت تنظر الى الوقت بعين الرجاء ‪ ،‬تسأله أن يتمهل فى خطاه ‪،‬‬ ‫يهدىء من تسارعه ‪ ،‬وتدعو هللا أن يحدث شىء ما ينجيها من شر‬ ‫قادم المحاله ‪ ،‬التعرف مداه ‪ ،‬وال تدرك حدوده ‪ ،‬لكنها تعرف جيدا ً‬ ‫أنه اذا ذاع وعرف الجميع أنها وبنيها الجناة وحتى بدون ايذاء‬ ‫ستكون الطامة الكبرى ‪.‬‬ ‫لن تجرؤ على مواجهة زوجها أو رفع عينيها لمستوى عينيه مرة‬ ‫أخرى ‪ ،‬ولن تستطيع أن ترفع رأسها فى وجه مخلوق فى الشارع‬ ‫ثانية ‪ ،‬فهى فى كل األحوال لن تنجو من العقاب بدنيا أو نفسيا ً ‪،‬‬ ‫واألولى لها أن تترك الساحة لبعض الوقت ‪ ،‬تبتعد لعل هللا يجعل لها‬ ‫مخرجا ً ‪ ،‬فهى فى كل األحوال لم تفعل مافعلت بدافع حب األذى أو‬ ‫‪135‬‬


‫الرغبة فى الشر‪ ،‬ولكنه دفاعا ً عن ولدها الذى أذاه رضوان فى‬ ‫الشارع وأمام الخلق ‪ ،‬كسر نفسه ومرغ كبرياءه فى التراب ‪ ،‬ولم‬ ‫يستطع أبوه محمد بطه أن يأخذ حقه ‪ ،‬اشترى رضوان وباع ولده‬ ‫‪،‬أصر على أن الخطأ يستحق العقاب ‪ ،‬ورضوان فى منزلة أبيه ‪،‬‬ ‫والد وعاقب ابنه فالشىء هناك ‪.‬‬ ‫قررت أن تغادر عند الفجر الى أهلها فى الفيوم الى أن تنجلى الغمة‬ ‫وعندها تعود من جديد ‪.‬اتصلت بأخيها هاتفيا ً ‪:-‬‬ ‫قل لمحمد زوجى أنك مريض وتحتاجنى الى جوارك‪.‬‬‫انا الذى ابلغه ؟‬‫زوجتك أو ولدك ‪..‬المهم يتم هذا اليوم‬‫ماألمر ؟‬‫سأشرح لك حين نلتقى‬‫قام بطه من نومه فى حدود العاشرة صباحا ً ‪ ،‬مشرق الوجه كان‬ ‫‪،‬ناداها قائالً أن الجناة قد وقعوا أخيرا ً ‪ ،‬وأنه سيراهم ويكون أول‬ ‫من ينتقم منهم‪ ،‬وفوق هذا سيرى الخلق جميعا ً مالم يروه من قبل ‪،‬‬ ‫أقفاص حديدية معلقة فى سماء الشارع ‪ ،‬وبها وحوش أدمية‬ ‫اعتدت على رجل مسالم وضربته فى ظهره ‪ ،‬خافوا من مواجهته‬ ‫فهم يعرفونه جيدا ً ‪ ،‬لو واجهوه رجالً لرجال مهما كان عددهم سيفتك‬ ‫بهم ‪..‬انصتت اليه محاولة االهتمام بما يقول وهى فى ذات الوقت‬ ‫تصرخ فى وجه أخيها البعيد وفى روحه اذا كانت األرواح تحس‬ ‫وتشعر أن يتصل فورا ً قبل أن تقع الطامة الكبرى ‪ ،‬وكأنما األرواح‬ ‫قد اتصلت ببعضها حتى وهى تحمل فى أعماقها بذور شر مستطير‬ ‫ارتفع صوت الهاتف راسما ً على شاشته السوادء اسم أخيها باللون‬ ‫األزرق ‪ ،‬حدق بطة فى الشاشة لحظة وعيناه تسأالن مااألمر ‪ ،‬فتح‬ ‫الهاتف ‪ ،‬هانم زوجة محمود شقيق أم سعيد ‪ ،‬اتسعت عيناه لبعض‬ ‫دهشة طارئة وهو يقول ‪:-‬‬ ‫ من ؟‬‫انا هانم‬‫‪136‬‬


‫مرحبا ً‬‫ محمود مريض ‪ ،‬وقعت له حادثة باألمس‬‫سأحضر بنفسى فوراً‬‫ليس الى هذه الدرجة ‪ ،‬النريد ازعاجك ‪ ،‬يكفى أم سعيد‬‫بل انا قبلها ‪ ،‬سالم‬‫واغلق الهاتف ‪ ،‬سألته وقلبها يرجف من القلق‪:-‬‬ ‫ماذا تريد ؟‬‫أخوك مريض ‪ ،‬هيا لنذهب اليهم‬‫ارتعدت خاليا روحها وفاض القلق من عينيها بحورا ً وهى ترى‬ ‫األمور تسير على غيرهواها ‪ ،‬تبحث عن حجج مقنعة لتفلت من‬ ‫عثرات حياتها اال أن العثرات تصر على مالحقتها‪.‬‬ ‫واتتهاخاطرة تمسكت بأذيالها فورا‪:-‬‬ ‫ لكنك تقول أن عائلة رضوان ستمسك الجناة قريبا ً جدا‬‫حدق فى وجهها مستفسرا ً‪:-‬‬ ‫أرى أن تبقى ‪ ،‬واذا رأيت األمر يستحق وجودك سأتصل بك‬‫صمت قليالً يتدبر األمر‪ ،‬قال بحزم‪:-‬‬ ‫خذى سعيد معك ‪ ،‬السيارة التى ستقلك الى هناك ستنتظر أمام‬‫الباب بعد ساعة ‪ ،‬بمجرد وصلك طمنينى‬ ‫إن شاء هللا‬‫انبسطت أسارياها وكسا محياها ماء البهجة ‪ ،‬هرولت الى ابنتها‬ ‫صباح تهمس فى أذنها بما تريد ‪:-‬‬ ‫اذهبى الى أبيك ‪ ،‬اطلبى منه مرافقتى الى الفيوم‬ ‫‬‫حاضر‬‫زاد تورد خديها وتألق عينيها وفردت صدرهاامام المرآة وهى تتأنق‬ ‫استعدادا ً للفرار‪.‬‬ ‫‪..........................‬‬ ‫رأى سالمه نفسه طائرا ً فوق بحر ٍ من دماء ‪ ،‬تحمله حمامة عمالقة‬ ‫‪137‬‬


‫بياضها لم ير له مثيالً من قبل ‪ ،‬حولها حمامات سود تحاول‬ ‫التحرش بها ‪ ،‬وهى تفلت من بين مناقيرهم مولية األدبار فى فضائها‬ ‫العريض الذى ينذر بليل تدق خطاه المدى ‪ ،‬مقتربة فى سير حثيث‬ ‫الى عينيها ‪ ،‬حيث التملك اال التحديق محاولة كسر حدة العتمة‬ ‫المتقدمة ‪ ،‬وفى ذات الوقت استمرار الطيران لعدم وجود مكان آمن‬ ‫فوق البحر تستريح فيه ‪ ،‬وهى كذلك التستطيع التوقف حتى‬ ‫التصطادها الحمامات المغيرات ‪ ،‬والتعب كما يبدو قد أخذ منها كل‬ ‫مأخذ ‪ ،‬وهو بين جناحيها صاعداً معها وهابطا ً ‪ ،‬وجسده يرتعد ‪،‬‬ ‫وعيناه زاغتان ‪ ،‬وهو فى كل خفقة ينتظر أن يهوى من حالق الى‬ ‫حيث القرار ‪،‬اقتربت الحمامات المغيرات ‪ ،‬وجوههن ليست غريبة‬ ‫عليه ‪ ،‬هى وجوه يعرفها ألناس يعيشون حوله ‪ ،‬يراهن رؤية العين‬ ‫مرارا ً ‪ ،‬لكن من هن ؟‬ ‫اليدرى ‪.‬‬ ‫شرعت كل منهن منقارها وهى تقترب أكثر ‪ ،‬تفرد جناحها أكثر ‪،‬‬ ‫تنثر شرر نظراتها فوق حدقتيه ‪،‬يزداد ارتعاداً ‪،‬يتشبث قدر‬ ‫استطاعته بطوق الحمامة وهن يقتربن ‪ ،‬ينتظراللحظة التى تنغرز‬ ‫المناقير فيها فى بؤبؤ عينيه وصدره ‪ ، ،‬لدهشته اليبالين به بل‬ ‫يوجهن جل حقدهن على الحمامة التى تحمله ‪ ،‬تعمل المناقير فى‬ ‫جسدها والليل يزحف ماردا ً أسود ناعم الملمس قوى الهيبة شديد‬ ‫االنحدار ‪ ،‬والحمامة تنزف ‪ ،‬دمها يختلط ببحر الدماء تحتها ‪،‬‬ ‫يصطدن عينيها ‪ ،‬ينتفن ريشها ‪ ،‬تهتز فى فضاها الوسيع ‪ ،‬تكافح‬ ‫السقوط ‪ ،‬تصر على التوغل فى المسير ‪ ،‬التعينها قوتها المستنزفة‬ ‫وعينيها المظلمتين فتهوى وهو معها ‪ ،‬يشعر بروحه وهى تهوى‬ ‫معه نفسا ً نفسا ً ونبضة نبضة وهى تشق الفضاء ساقطة من أعلى‬ ‫وهو اليملك اال اطالق صرخة بحجم الكون ‪..‬آآآآآآآآآآآآآآآآه‬ ‫والحمامة النازفة تهتز بقوة فى سقوطها وهو يهتز معها ‪ ،‬يهتز‬ ‫بقوة وهو مغمض العينين اليمتلك الجرأة على فتحهما ‪ ،‬لكنه على‬ ‫أثر ارتطام شىء حاد بجسده يفتح عينيه مرغما ً والعرق بحر يبتلع‬ ‫‪138‬‬


‫أنفاسه ‪ ،‬يرى أمه أمامه مرتعدة النظرات تحدق به وهى تربت‬ ‫صدره وتمسح عرقه بفوطه فى يدها ‪ ،‬وهى تهمس بما تحفظ من‬ ‫آيات القرآن محوقلة وداعية له بأدعية اليفقه منها شيئا ً ‪ ،‬يدير‬ ‫عينيه حوله باحثا ً عن بحر الدماء والحمامة المنقذة والحمامات‬ ‫المغيرات ‪ ،‬الشىء اال أمه وحجرة نومه والعرق والخوف الجامح‬ ‫الذى يغشى صدره ‪ ،‬انداحت الدهشة رويدا ً فى األرجاء الى أن أدرك‬ ‫أنه على سريره ولم يسقط بعد‪.‬‬ ‫كابوس مريع‬‫ألنك التذكر هللا قبل النوم‪.‬‬‫رأيت ‪! ..‬‬‫قبل أن تقص على مارأيت اتصل بمحمد بطه لترى مايريد منك‬‫لماذا ؟‬‫اتصل بك منذ قليل ‪ ،‬دخلت ألوقظك رأيتك غارقا ً فى كابوسك هذا‬‫أمسك الهاتف متبرما ً وقد خمن ماذا يريد ‪ ،‬مؤكد مشوار هنا أو هناك‬ ‫فمنذ أن ترك عمه السيد وعمل على التاكسى وال شغلة لبطه اال طلبه‬ ‫لمشاويره الخاصة ‪ ،‬صحيح هو يجزل له العطاء لكنه يطلبه فى‬ ‫أوقات مستحيلة مثل اآلن‪.‬‬ ‫فتح الخط معه هامسا ً ‪:-‬‬ ‫ صباح الخير يامعلم‬‫أهال ياسالمه ‪ ،‬عاوزك فى مشوار لحد الفيوم ‪ ،‬توصل أم سعيد‬‫‪،‬أخوها تعبان ‪ ،‬تطمن عليها هناك وتجيى تطمنى ‪ .‬أمامك نصف‬ ‫ساعة تجهز نفسك‬ ‫ماشى ياحاج‪.‬‬‫وقام الى الحمام مزمجرا ً ‪ ،‬مقلدا ً الصوت الهادىء الواثق الذى يأمر‬ ‫بنعومة كما لو كان يرجو ويتوسل ‪ ،‬وعلى سالمه أن يجيب ويقبل‬ ‫ويظهر الرضا ‪ ،‬ماله هو بأم سعيد وكل عائلة سعيد ‪ ،‬لتذهب هى‬ ‫وكل من يمت اليها بصلة الى الجحيم ‪..‬انتبهت أمه لتمتمته فتساءلت‬ ‫ماذا به ‪ ،‬اقتربت من الحمام المغلق وخاطبته من خلفه‪:-‬‬ ‫‪139‬‬


‫كفاك حديثا ً الى نفسك يابن المجانين‬‫صرخ من الداخل ‪:-‬‬ ‫الزم أقول حاضر وانا كلى رفض لما يقول ‪ ،‬والزم أظهر الرضاء‬‫وأنا أحترق من هذه المعاملة التى التليق بحيوان ‪ ،‬يريدنى تحت‬ ‫أمره فى أى وقت وأى مكان ‪ ،‬تعالى ياسالمه ‪ ،‬حاضر ‪ ،‬جهز نفسك‬ ‫ياسالمه ‪ ،‬حاضر‬ ‫انفرجت شفتاها عن بسمة رثاء وهى تهمس له‪:-‬‬ ‫ لو أكملت تعليمك ألختلف األمر‬‫صرخ ‪ -:‬ليس هذا وقته ‪ ،‬ارجوك‪ ،‬المشوار طويل بما يكفى للضيق‬ ‫والندم معا ً‬ ‫الى أين ؟‬‫الى الفيوم‪ ،‬أم سعيد ستذهب ألخيها المريض ‪ ،‬أوصلها واطمئن‬‫على أخيها وأجىء للحاج‪.‬‬ ‫انتبهت آذان كريمه لما يقول ‪ ،‬اتسعت عيناها لبحار من كلمات‬ ‫وخواطر وأفكار جمة وتفسيرات عديدة كلها تصب فيما يجرى فى‬ ‫الشارع هذه األيام ‪،‬وكلها تعطى معنى واحداً الثانى له ‪ ،‬المرأة‬ ‫اللئيمة تريد الفرار ‪ ،‬تعرف أنها قد انكشف أمرها وأنها ستنال جزاء‬ ‫فعلتها فتتعلل بمرض أخيها لتلوذ بالفرار ‪ ،‬ومؤكد سيكون معها‬ ‫سعيد ابنها وابنتها وزوجها لكى تتم الحلقة وينتهى األمر الى فشل‬ ‫لرضوان وعائلة رضوان ‪ ،‬ويتندر الخلق بما فعلوا ومانالوا من‬ ‫الخزى ‪..‬هرولت الى الهاتف ‪ ،‬اتصلت بالسيد شقيق زوجها ‪ ،‬ابلغته‬ ‫الخبر ‪ ،‬قال باقتضاب اليليق بالخطر الداهم التى تشعر به ‪-:‬‬ ‫ سأتصرف‬‫وأغلق الخط‬ ‫‪.................‬‬

‫‪140‬‬


‫وقف الرجالن ينظران الى الباب المغلق والصمت الشائك يمد أنيابه‬ ‫فى بؤبؤ أعينهما‪ ،‬يتقاربان الشعوريا ً باكتافهما كأنهما يستمدان‬ ‫العزم من وجودهما معا ً فى مهمة فرضت عليهما وهما لها كارهين ‪،‬‬ ‫وهل هناك أصعب من الوقوف بحضرة مريض له بالقلب مكانته ؟‬ ‫وفى ذات الوقت له ‪ -‬أو كانت له ‪ -‬هيبته ووقاره وصوته الذى يجبر‬ ‫الكبير قبل الصغير على االنصات اليه ‪ ،‬البنك كله يعرف الحاج‬ ‫رضوان عبد العال ‪ ،‬كان يمكن للمدير اختيار غيرهما ‪ ،‬يجنبهما‬ ‫الحرج الذى يعصف بروحيهما اآلن عصفا ً ‪ ،‬فهما جيران العائلة‬ ‫ويعرفون الرجل معرفة وثيقة ‪ ،‬وفوق هذا فهما يتابعان حالته‬ ‫ويعرفان أن الطبيب المعالج له فى مستشفى الحسين قد أبلغ األسرة‬ ‫أن طبيبا المانيا ً متخصصا ً فى حالته سيزور المستشفى قريبا ً‬ ‫الجراء عدة عمليات بها ‪ ،‬وهو يرى عرضه عليه وطلب مشورته‬ ‫فى إجراء عمليه قد ينتج عنها تحسن كبير فى حالته ‪ ،‬صحيح‬ ‫المصاريف ستكون كبيرة نوعا ً ما ‪ ،‬لكنها فى النهاية صحة الرجل ‪،‬‬ ‫قالت اعتماد ‪:-‬‬ ‫مالدى من مجوهرات وذهب‬ ‫ أبيع‬‫ّ‬ ‫تلتها كريمة بذات القول‪:-‬‬ ‫وانا ايضا‬‫قال السيد‪ -:‬رضوان له حساب كبيرفى البنك‬ ‫تساءل جابر‪:-‬‬ ‫وهل يمكننا سحب جزء منه دون إرادته ؟‬‫قالت كريمه ‪ -:‬ولماذا دون إرادته ؟ انا أحادثه وآخذ الموافقة منه‬ ‫حدق السيد فى عينيها هامسا ً لنفسه أنها التعرف المستحيل ‪ ،‬ونقل‬ ‫عينه الى اعتماد ‪ ،‬تعتمدعلى اخالصها واثقة أنها قد تكون عنيفة‬ ‫اللفظ ‪ ،‬جهمة المالمح اال أن اخالصها يكفيها لتفوز بثقة من حولها‬ ‫دون تردد ‪ ،‬قال بهدوء ‪-:‬‬ ‫ ليس موافقته هو ‪ ،‬بل موافقة البنك‬‫ردت كريمة ‪-:‬‬ ‫‪141‬‬


‫يمكننا االستعانة به‬

‫ األستاذ حسان جارنا موظف هناك‬‫قال جابر ‪-:‬‬ ‫ أذهب اليه واستشيره كيف نسحب مانريد من حساب أبى‬‫ومضى الى حسان فى بيته المجاور لبيتهم ‪ ،‬شرح له األمر ‪ ،‬طلب‬ ‫منه حسان زيارة البنك فى الغد ‪ ،‬وسوف يدبر له األمر‪.‬‬ ‫فى البنك رحب المدير بالطلب ‪ ،‬شرح لجابر اإلجراءات المتبعة فى‬ ‫مثل هذه الحالة ‪ ،‬راجيا ً منه اال يضيق بها فهى فى نهاية األمر‬ ‫روتين ‪ .‬قال ‪-:‬‬ ‫ والروتين كما تعرف هو حياتنا التى الغنى لنا عنها منذ قديم‬‫األزل ‪ ،‬قلنا مرارا ً تعالوا نحطم الروتين ‪ ،‬تعالوا نكسر الروتين ولم‬ ‫يتحطم سوى أعصابنا وعالقتنا باآلخرين ‪.‬‬ ‫صمت قليالً ثم أكمل ‪-:‬‬ ‫ وبالنسبة لمثل حالة الحاج رضوان اذا كان العميل غير معروف‬‫للبنك وطلب أقاربه سحب مبالغ مودعة باسمه وهو مريض اليمتلك‬ ‫التوقيع أو الكالم ففى تلك الحالة تؤخذ بصمته ونتصل بوزارة‬ ‫الداخلية لمضاهاتها بالموجودة لديهم ‪ ،‬والتأكد أنها لنفس الشخص‬ ‫قبل الصرف واال نقوم بتحويل األمر الى النيابة للشك واالرتياب ‪ ،‬أما‬ ‫فى حالة الحاج رضوان فهو معروف للموظفين جميعا ً والحاجة لمثل‬ ‫هذه االجراءات وسوف يتم فقط التوجه اليه والسالم عليه كعملية‬ ‫روتينيه ال أكثر ‪ ،‬ثم الصرف فورا ً ‪.‬‬ ‫حدد الطبيب المصاريف المطلوبة على وجه التقريب ‪ ،‬والموعد الذى‬ ‫سيتم فيه الكشف ‪ ،‬طالبا ً منهم احضاره الى المستشفى بعد غد‬ ‫صباحا ً ‪ ،‬مع ايداع المصروفات تحت حساب رضوان عبد العال‬ ‫بالحسابات بالمستشفى‪.‬‬ ‫جاء حسان وزميله مندوبان عن البنك ‪ ،‬رحب بهما جابر ‪ ،‬صعدوا‬ ‫جميعا ً الى شقة كريمه ‪ ،‬بدا األمر فى نظر حسان محرجا ً غاية‬ ‫اإلحراج ‪ ،‬فهو لم يعتد زيارة الحاج منذ فترة ويكتفى كلما قابل أحدا ً‬ ‫من العائلة أن يسأله عنه كنوع من المجاملة ال أكثر ‪ ،‬أما أن يأتى‬ ‫‪142‬‬


‫لمهمة كان يجب أن تكون انسانية بالدرجة األولى وليس فرضا ًعليه‬ ‫وعليهم بحكم وظيفة فهذا مايشعره بحرج يمزق نظراته فال يمتلك‬ ‫معها المقدرة على النظر فى عينى أحدهم أو الرد على ترحيبهم به‪.‬‬ ‫قالت كريمة لرضوان أن هناك زواراً يسألون عنه ويريدون‬ ‫االطمئنان عليه ‪ ،‬أومىء بعينيه موافقا ً ‪ ،‬فتح جابر الباب ومد يده‬ ‫مرحبا ً‪:-‬‬ ‫ تفضال‬‫القيا السالم بحروف أجنحتها أضعف من أن تستقيم فى براح الحجرة‬ ‫‪ ،‬تمنيا له الشفاء واستدارا عنه خارجين ‪ ،‬نظر أحدهما لآلخر‬ ‫وعيناه تبوحان بما لديه ‪..‬ماذا لو طلب منا المدير بصمته ؟‬ ‫‪..................‬‬ ‫فرت العربة بحملها الثقيل من شارع سوق السمك الى شارع‬ ‫بورسعيد ‪ ،‬وهناك طلبت أم سعيد من سالمه التوقف ‪ ،‬مدت يدها‬ ‫ببضعة جنيهات وبسمة رحبة وهى تقول له أنها ستمر على بعض‬ ‫األقارب هنا ثم تتصرف بالسفر الى أخيها ‪ ،‬اعترض قائالً أن الحاج‬ ‫محمد طلب منه مرافقتها الى الفيوم ‪ ،‬واالطمئنان بنفسه على أخيها‬ ‫‪ ،‬اتسعت ابتسامتها وهى تقول له أن األمر غاية فى البساطة ‪،‬‬ ‫حينما تصل الى هناك ستتصل به هاتفيا وتبلغه بنفسها بالحالة ‪،‬‬ ‫وهو بالتالى يطمئن الحاج ‪ ،‬ونزلت من العربة ومعها سعيد وصباح‬ ‫وزوجها ‪ ،‬فيما انطلق سالمة عائداً من حيث جاء‪.‬‬ ‫لكنه بعد أمتار قليلة شم رائحة فى الموضوع لم تعجبه ‪ ،‬ورأى فى‬ ‫األمر شىء مريب اليكاد يعقله ‪ ،‬الحاج يطلب منه توصيلهم‬ ‫واالطمئنان بنفسه على المصاب ‪ ،‬وهى تؤكد للحاج أمامه أنها‬ ‫بمجرد وصولها ستطمئنه بنفسها ‪ ،‬ثم بمجرد الخروج لشارع‬ ‫بورسعيد وقبل أن يتقدم خطوة على الطريق تطلب مغادرة العربة‬ ‫بحجة زيارة أقارب ‪ ،‬زيارة أقارب وأخوها مصاب ؟!‬ ‫‪143‬‬


‫وفوق هذا ال يبدو عليها أى انزعاج أو قلق ‪ ،‬أو حتى تذكر سيرته‬ ‫بأى حديث ؟‬ ‫أخذ صدره يموج بهدير أمواج من شك وريب كبير ‪ ،‬دوامة عميقة‬ ‫الغور سحبته لقاعها ‪ ،‬هزت وجدانه هزا ً ودفعته إلدارة وجهه عائدا ً‬ ‫من جديد الى حيث تركهم ‪ ،‬وجد سعيد يصعد بعدهم الى عربة أجرة‬ ‫انطلقت بهم الى األمام ‪ ،‬مما زاد من مساحة القلق فى صدره ‪ ،‬فكر‬ ‫أن يبلغ الحاج بما جرى ‪ ،‬قال فى نفسه ربما تكون وجهتهم مختلفه‬ ‫عن الفيوم وحين يبلغ الحاج قد يلومه ألنه لم يقتف آثرهم ويعرف‬ ‫أين مضوا بالضبط ‪ ،‬سار خلفهم على مبعدة وهم يتقدمون فى‬ ‫طريقهم المرسوم ‪ ،‬انحرفت السيارة الى طريق األسكندرية‬ ‫الصحراوى ‪ ،‬ازداد األمر انغالقا ً على فكره وأصر على استمرار‬ ‫المتابعة ‪ ،‬دق الهاتف فى جيبه ‪ ،‬عمه السيد يسأله دون مقدمات ‪-:‬‬ ‫ أين أنت ؟‬‫ فى طريقى الى األسكندرية ‪ ،‬لماذا ؟‬‫ ال أدرى‬‫ معك أم سعيد وأوالدها ؟‬‫ ال‬‫ نهارك أسود‬‫ كيف ؟‬‫ نزلوا من السيارة وتركونى وركبوا أخرى‬‫ اال تعرف أين هم ؟‬‫ أمامى‬‫ اتبع خطاهم‬‫التتركهم يغيبون عن عينيك‬ ‫بأى وسيلة ‪ ،‬سأتصل بك ثانية‬ ‫وأغلق الخط ‪ ،‬بدأ اللغز يزداد تعقيدا ً ‪ ،‬والصورة تزداد قتامة ‪،‬‬ ‫وهو اليدرى ماالذى يربط السيد بأم سعيد والحاج محمد ‪ ،‬ولماذا‬ ‫يسأله عن وجهتهم ويؤكد عليه مراراً اال يغبوا عن عينيه ؟‬ ‫‪144‬‬


‫عند مدخل كفر الدوار انحدرت السيارة األولى يمينا أخذة الطريق‬ ‫الى داخل المركز ‪ ،‬خلفها على البعد سار سالمه بحيرته الجامحة‬ ‫وعينيه المتسعتين ومدى القلق على مايدور من حوله ‪ ،‬دون أن‬ ‫يدرك معناه ‪..‬انطلق الهاتف صاخبا ً من جديد ‪ ،‬قال السيد ‪-:‬‬ ‫ أين أنت ؟‬‫ دخلت كفر الدوار‬‫ انا خلفك‬‫ سأدخل اآلن‬‫ دع الهاتف مفتوحا ً وصف لى الطريق‬‫ سنصعد الكوبرى اآلن‬‫هناك بعض االصالحات مما يعوق الحركة‬‫ هناك أمن أو بوليس أمامك ؟‬‫ ال‬‫ تقدم واقطع الطريق عليهم بأقصى ماتستطيع‬‫ لماذا ؟‬‫ الوقت ألسئلة اسرع‬‫انتهز فرصة تحرك العربات ببطء الى األمام تاركة الكوبرى الى‬ ‫داخل البلدة وانطلق الى حيث تقدم السيارة األولى وضرب الفرامل‬ ‫واقفا ً أمامها بالعرض ‪ ،‬فتح باب السيارة وانطلق اليهم وهو اليدرى‬ ‫ماذا يقول ‪ ،‬وماهو المطلوب منه بالضبط ‪-:‬‬ ‫ انتم فى خطر ‪،‬انزلوا‬‫صرخت أم سعيد ‪-:‬‬ ‫ مااألمر ‪،‬هل ستمسكون بنا ؟‬‫أصفر وجه صباح ‪-:‬‬ ‫ كيف وصلت الينا ؟‬‫هل تتبعتنا ؟‬ ‫وتحرك سعيد خارجا ً بهيكلة العريض مثل أبيه ‪ ،‬فاتحا ً مطواته‬ ‫هادرا ً فى قوة ‪-:‬‬ ‫‪145‬‬


‫ ماذا تريد ياسالمه ؟‬‫يتبعه محمود زوج صباح مزمجرا ً ‪ ،‬متقدما من سالمه قاصدا ً لكمه‬ ‫واالنقضاض عليه ‪ ،‬تراجع سالمه متسع العينين غارقا ً فى متاهات‬ ‫الدهشة والقلق ‪ ،‬محاوالً ادراك مايجرى ‪ ،‬دون جدوى ‪ ،‬طرحه‬ ‫محمود أرضا ً ‪ ،‬وهو يلكمه بكل مايملك فى وجهه بكلتا يديه ‪،‬‬ ‫وسعيد راكع فوقه مباشرة ينتظر أى بادرة ليستعمل مطواته معه ‪،‬‬ ‫لحظتها انشقت األرض عن عمائم بيض حاصرت المكان فى حلقة‬ ‫كاملة ‪ ،‬انقضت على الجميع وحملتهم دون صوت ودون أن يملكوا‬ ‫أى فرصة لمقاومة ‪ ،‬ونقلتهم الى عربات معدة للتحفظ عليهم ‪ ،‬طلب‬ ‫السيد من سالمه العودة الى القاهرة وعدم الظهور أو االتصال‬ ‫بمحمد بطه ألى سبب ‪ ،‬ومضى عنه وهو مايزال يتساءل حائراً ‪-:‬‬ ‫ مااألمر ؟‬‫‪......................‬‬ ‫اطلقت العربة البيضاء سرينتها المعروفة فتأججت النيران فى قلب‬ ‫اللحظات ‪ ،‬السكون الناعس فى األرجاء تحول الى شعلة من لهيب ‪،‬‬ ‫والترقب الصامت الذى كانت تبذره العيون حولها تحول الى تحفز ‪،‬‬ ‫والصمت الى نهر من حروف ‪ ،‬اطلق السيد تعليماته لجابر بالهبوط‬ ‫فورا ً لمصاحبة الرجال الى أعلى ‪ ،‬عاد الى كريمة ملحا ً فى النظر الى‬ ‫رضوان وماقد يكون محتاجا ً اليه ولم تفعله بعد ‪ ،‬صارخا ً فى سالمة‬ ‫أن يخلى الطريق من الحجرة وعبر السلم الى الشارع تماما لتتم‬ ‫عملية النقل بسهولة ودون معوقات ‪،‬وعاد الى رضوان محدقا ً فى‬ ‫عينيه الملتهبتين بنيران أمل التهدأ هامسا ً فى جد ‪:-‬‬ ‫ سترى اآلن حينما تهبط الى الشارع منظراً سيمأل قلبك ارتياحا ً‬‫وسالما ً ‪ ،‬الجناة الذين ارتكبوا فعلتهم فى الظالم سنعاقبهم فى النور‬ ‫وعلى مرأى ومشهد من الكون ‪ ،‬ومن يعترض أو ينطق بكلمة‬ ‫جوفاء سنعرف جيدا ً كيف نرد عليه ‪ ،‬األربعة الذين تزعموا ماجرى‬ ‫وضعناهم فى أقفاص حديدية معلقة امام البيت ‪ ،‬أم سعيد وابنها‬ ‫وابنتها وزوج ابنتها معلقين كما ‪ ،‬وأصحاب سعيد ابنها الذين‬ ‫‪146‬‬


‫ساعدوهم ‪ ،‬قبضنا عليهم وقيدناهم بالحديد أمام بيت شتا ‪ ،‬ولن‬ ‫يكون ألحد رأى فى شىء اال أنت ‪ ،‬انزل اآلن وسترى مايثلج قلبك‬ ‫ارتعدت الجفون بقوة ولمعت األحداق وبدا على صفحتها سعير يتميز‬ ‫بالغيظ ‪ ،‬وألول مرة منذ جرى ماجرى تنطلق دمعة صغيرة بللورية‬ ‫الحدود عفية الجسد من خلف األجفان ‪ ،‬تنطلق رغم محاولته‬ ‫السيطرة عليها ومنعها من مغادرة حدقتيه ‪ ،‬ورفضه أن يرى‬ ‫مخلوق مهما كان دمعه تنم عما به‪.‬‬ ‫هبت اعتماد من جلستها واقفة الهية عن االم ساقيها حينما رأت‬ ‫الرجال يدورون حولها ‪ ،‬كل فى شغله ‪ ،‬يأخذه الجد تماما ً وهى‬ ‫مكانها التمتلك اال التحديق فى عينى رضوان وبين الحين والحين‬ ‫تدعو هللا أن يمن عليه بالشفاء ويعود لما كان ‪ .‬أما كريمه فقد كانت‬ ‫تتحرك بهدوء واثق ‪ ،‬وعيناها فى كل حين تلتقيان للحظة خاطفة‬ ‫بعينى السيد ‪ ،‬تتشاوران بنظرة وتبتعدان ‪ ،‬وهى تدعو فى نفسها‬ ‫أن يسير األمر كما يريدون ‪ ،‬المفاجأة ستكون مدوية تشد القلوب قبل‬ ‫األعين ‪ ،‬ستهز أهل المنطقة جميعا ً ‪،‬وتشعل نيراًنا لن يهدأ لها إوار ‪،‬‬ ‫فالمواجهة ستكون مع محمد بطه ‪ ،‬وماادراك مامحمد بطه ‪ ،‬المهم‬ ‫أن يرى رضوان مايثلج صدره ‪ ،‬يعرف ويوقن أن المجرمين قد‬ ‫انكشف أمرهم ‪ ،‬وأن العقاب سيالحقهم مهما حاولوا الفرار منه ‪،‬‬ ‫بعدها يصحبه جابر وسالمه الى المستشفى ‪ ،‬ويتفرغ السيد وبقية‬ ‫األقارب للمواجهة المرتقبة مع محمد بطه ‪ ،‬مؤكد سيجد نفسه فى‬ ‫موقف لم يره طيله عمره ‪ ،‬رغم اعترافه بمدى الجرم الذى حدث‬ ‫سيرفض العقاب ‪ ،‬مهما كان تعاطفه مع رضوان وتأثره بما جرى له‬ ‫‪ ،‬وادانته للجناة مقسما ً أن ينتقم منهم بيديه مهما كانوا ستأبى‬ ‫نفسه الصمت وهو يرى ماينتقص من هيبته وقدره بين الخلق ‪،‬‬ ‫األمراآلن سيختلف ‪ ،‬سيكون من المحال عليه أن يحنى رأسه‬ ‫متغاضيا ً عمن ينتقم من امرأته وولديه صباح وسعيد ‪ ،‬مؤكد‬ ‫سيحسب حساب هيبته ووضعه فى المنطقة ‪ ،‬وسيضع فى اعتباره‬ ‫تاريخه الطويل فى الشقاوة واالجرام ‪ ،‬وسيشعلها نارا ً أليام إن لم‬ ‫‪147‬‬


‫يكن لسنين قادمة ‪ .‬كان السيد مع جابر وسالمه يشرفون على‬ ‫اإلجراءات التى ستتم فورا ً ‪ ،‬يتابعون الرجال وهم حاملين النقالة‬ ‫صاعدين الى حيث يرقد رضوان الذى وشت عيناه بما يحدوه من‬ ‫أمل فى غد أقل الما ً مما فات ‪ ،‬مالبسه نظيفة وذقنه حليق وجسده‬ ‫يتململ أمال ً أن تبدأ االجراءات فوراً ليطير الى هناك ‪ ،‬قاد جابر‬ ‫الرجال الى الداخل ‪ ،‬وضعوا النقالة بجوار السرير ‪ ،‬أحاطت بهم‬ ‫األعين الراصدة محاولة تالفى أى خطأ قد يحدث ‪ ،‬أو إبعاد أى أذى‬ ‫قد يحيق بالمريض ‪ ،‬رفعوا الجسد على مهل من كتفيه ووسطه‬ ‫وقدميه فى حرص وهم يتخوفون من العمائم المرفوعة واألعين‬ ‫السوداء المتربصة واأللسنة ذات األسواط الملساء ‪ ،‬رفعوا النقالة‬ ‫خارجين من الحجرة ‪ ،‬انهمرت دموع كريمة صاخبة وقلبها يرجف‬ ‫أسى وهى تراه محموالً اليمتلك من أمره شيئا ً ‪ ،‬طافت بها رؤى‬ ‫شتى له وهو يدخل عليها سامق الهامة مالئا الكون حوله ‪ ،‬حامالً‬ ‫اليها األمن والراحة والخوف ايضا ‪ ،‬ثم وهو يخرج اآلن محموالً‬ ‫على أعناق رجال يضمرون له الشفقة والرثاء الالهيبة ‪ ،‬مسحت‬ ‫دمعتها فوراً وانطلقت الى النافذة ترقب ماسوف يكون ‪ ،‬وقف‬ ‫الموكب على الباب ‪ ،‬تقدمت العربة ليكون بابها فى محاذاة النقاله‬ ‫تماما ً‪ ،‬أخرج الرجال المتحلقون حول العربة البنادق اآللية واطلقوا‬ ‫فى الجو سيوالً منهمرة الى أعلى ‪ ،‬رصاص غضبهم ووعيدهم فى‬ ‫إشارة الى استعدادهم لما سيكون ‪ ،‬من النوافذ المطلة على الطريق‬ ‫والشرفات انطلقت األعين محدقة واألعين منصتة وأقبل الخلق‬ ‫أفواجا ً على المكان ‪ ،‬األقفاص الحديدية تحمل أثقالها معلقة فى‬ ‫الهواء ‪ ،‬األوالد أصحاب سيعا ً مقيدين بالسالسل أمام بيت شتا‬ ‫ورضوان على النقالة يقف به الرجال لعله يرى وتعود الى صدره‬ ‫أحاسيس رضا غابت عنه طويالً‪ ،‬أقبل بطه على صوت الرصاص‬ ‫مهنئا ً ‪ -:‬تلقاه السيد قبل دخوله الى الشارع والجناة المعلقين فى‬ ‫أقفاصهم‪:-‬‬ ‫بصفتك صديق رضوان ‪ ،‬وكبيرا ً فى المنطقة نريدك قاضيا ً يحكم‬‫‪148‬‬


‫بالحق‬ ‫قبضتم عليهم ؟‬‫الحقناهم وهم يفرون حتى قبضنا عليهم داخل كفر الدوار‪.‬‬‫العين بالعين والسن بالسن‬‫حتى لوكانوا من المنطقة ؟‬‫حتى لوكان سعيد ابنى‬‫ليس سعيد وحده‬‫هو وأصحابه !!‬‫ليسوا وحدهم‬‫سعيد فى الفيوم عند خاله‬‫خاله ليس جريحا ً كما قيل ‪ ،‬بل كانت خطة للفرار‬‫ماذا تقول ؟‬‫امرأتك وولديك نزلوا من سيارة سالمه فى شارع بورسعيد حتى‬‫اليدل عليهم واستقلوا سيارة أخرى اتجهت بهم للفرار الى كفر‬ ‫الدوار وليس الفيوم‪.‬‬ ‫أى جنون هذا ؟‬‫تلك هى الحقيقة واعترافهم كامال ً بالصوت والصورة‪.‬‬‫انطلق بطه متحسسا ً مسدسه الى حيث رأى الخلق مجتمين ‪ ،‬رافعى‬ ‫رؤسهم يتملون فى األقفاص الراسخة بأثقالها فى الهواء ‪ ،‬وكلماتهم‬ ‫حروفها تتطاير وتتخبط وتدور بالمقر وال اتجاه ‪ .‬شق صدره غضب‬ ‫هادر وهو يدير عينيه فى قاع األقفاص دون أن يرى وجوها ً أو‬ ‫يسمع أصوات‪.‬‬ ‫سيد‬‫انطلقت عشرات الطلقات الى قلب السماء متوثبة الى مواجهة قادمة‬ ‫المحالة ‪ ،‬قال وشرر النظرات يتطاير متأججا ً فى المدى ‪:-‬‬ ‫من فى هذه األقفاص بالضبط ؟‬‫صاح السيد فى أحدهم ‪ -:‬انزل القفص األول‬ ‫رأى بطه زوجته أم سعيد كما لم يرها من قبل منكسرة النظرات‬ ‫‪149‬‬


‫والقلب والروح ‪ ،‬لطم خديه ‪ -:‬وأنت معهم ؟!!‬ ‫واستدار الى العمائم المتحفزة ساخطا ً ‪ ،‬انتبه الى صدور صوت عال‬ ‫تردد صداه فى األنحاء جميعا ً ‪ ،‬صوت يعرفه جيدا ً ويحفظ رنينه‬ ‫ونبراته فى حدته وفى عنفوانه وفى تلطفه ‪ ،‬صوت طالما تردد فى‬ ‫مسامعه وطالما جاوبت جدران بيته صداه وهو ينطلق فى فضاء‬ ‫المكان معترفا ً بما جناه من ذنب فى حق رضوان ‪..‬مد بصره وجسده‬ ‫تمضغه أنياب الدهشة وهو يحاول ادراك مايجرى حوله الى مصدر‬ ‫الصوت ‪ ،‬رأى شاشة عريضة معلقة على الجدار الخالى بجوار‬ ‫وكالة كامل ووجه امرأته يمألها سابحا ً فى خزيه وهو اليمتلك‬ ‫المقدرة على التحديق فى وجه محدثها ‪ ،‬وتحكى بالتفصيل ماجرى‬ ‫منها منذ بداية غضبها الهانة ولدها على يد رضوان ثم تفكير سيعا‬ ‫فى االنتقام منه وتخطيطها لما جرى ثم تنفيذه بواسطة ابنها واخته‬ ‫وزوج اخته محمود وأصحاب ولدها ايضا ً‪.‬‬ ‫انصت بطه بعيون تتأجج نارها وصدره ينتفض محدقا ً فى وجه‬ ‫المرأة الحائل لونه إلصفرار مقيت‪:-‬‬ ‫ رميتنى بالخزى والعارياسعاد ‪.‬‬‫أشار السيد فعاد القفص يرتفع من جديد ‪ ،‬وهبط قفص آخر ‪ ،‬رآه‬ ‫بطه فرمى صاحبه ببصقة هائلة مألت وجهه وهو يصرخ فيه ‪:-‬‬ ‫عرفت نهاية الضياع يابن سعاد ؟‬‫‪.................‬‬ ‫هاأنت ذا ياجابر تقف فى المستشفى حيث يجب أن يتوجه الخلق‬ ‫باحثين عن عالج ‪ ،‬ليس عالج للبدن فقط ‪ ،‬وال عالج للعقل ‪ ،‬لكن‬ ‫عالج اعوجاج التفكير ‪ ،‬عالج اإلندفاع والرعونة وعدم التقدير ‪،‬‬ ‫منذ متى وأنت تدور فى متاهة اندفاعك وإصرارك على السير فى‬ ‫ذات الطريق ‪ ،‬وبذات الخطوات دون امتالك المقدرة على التغيير أو‬ ‫حتى التفكير فى التغيير ؟‬

‫‪150‬‬


‫منذ نشأت وأنت هكذا تفعل ماتشاء فى لحظة مروره على خاطرك‬ ‫وبعدها تتساءل كيف فعلته ‪ ،‬ولماذا لم أفكر قبل الفعل ‪ ،‬أو حتى‬ ‫أتدبر ماذا أريد ‪.‬‬ ‫هل نسيت خسارتك لسعدية نتيجة رعونتك واندفاعك وتطاولك عليها‬ ‫بالطريق ‪ ،‬مما جعلها تتحاشى االقتراب منك ‪ ،‬وتبتعد بروحها‬ ‫وقلبها عنك خوفا ً من تقلبك ‪ ،‬وماقد تجره عليها من مشاكل ‪،‬‬ ‫وذهبت لغيرك ‪،‬هى التى كنت تراها ملكا ً خالصا ً لك ‪.‬‬ ‫وسامية ابنة خالتك التى اقتربت بروحك منها وبدأت تالحقها‬ ‫بكلماتك المسننة الصلدة الحروف وايضا فرت منك ‪.‬‬ ‫تذكر ياجابر وأنت هنا مامضى وحذار اال تنتبه له أو تتناسى معناه ‪،‬‬ ‫المستشفى مكان للعالج ‪ ،‬عالج بدن ‪ ،‬وعالج نفس ‪ ،‬لكن عالج‬ ‫الروح واألفكار هذا يحتاج منك أن تقف أمام نفسك فاحصا ً ومدققا ً‬ ‫ومتسائال ً فى ذات الوقت ماالخطأ فيما كان ؟‬ ‫كن الطبيب والمريض ايضا ‪ ،‬فاالنسان طبيب نفسه ‪ ،‬هو القادر على‬ ‫الغوص فى أعماقها والبحث فى أغوارها واستخراج مايساعده على‬ ‫الخالص من مرضه مهما تعاظم ‪.‬‬ ‫عد بذاكرتك قليالً الى خان أبو طاقية واندفاعك الى هناك وحدك‬ ‫وتعرضك لشعراوى وسعد ‪ ،‬وحصار الناس لك ‪ ،‬وانكسار روحك‬ ‫لحظتها واحساسك العميق باالنهيار الداخلى السحيق وقد أحيط بك‬ ‫ولم يعد أمامك اال لحيظة صغيرة وتنال منك العصى والمدى واأليدى‬ ‫المتوثبة للعنف ‪ ،‬لوال أن دافعت عنك امرأة وأمرتهم بالكف عنك ‪،‬‬ ‫ورغم هذا لم تتعلم ‪ ،‬لم تنتبه لخطأ كان يجب اال يغيب عن عينيك‬ ‫وايضا اندفعت الى بيت كامل وحدك ‪ ،‬اندفعت كأنك تمتلك الكون‬ ‫وقهرتك امرأة كامل ‪ ،‬اال تذكر ياجابر ؟‬ ‫اآلن تقف فى المستشفى ‪ ،‬أمام حجرة بيضاء فى صالة بيضاء تحدق‬ ‫فى زجاج الباب المغبش الذى اليكشف ماخلفه ‪ ،‬راجيا ً أن يبزغ نور‬ ‫أمل جديد يشرق فى األفاق ‪ ،‬تغوص فى خالياه وتعاريجه سابحا ً ً فى‬ ‫بحار أفكارك ‪ ،‬مطاوعا ً تالطم خواطرك ‪ ،‬تستمع لما جرى بعد مروق‬ ‫‪151‬‬


‫سيارة االسعاف حاملة أبيك الى حيث يرقد اآلن منتظرا ً مولده من‬ ‫جديد ‪ ،‬تستمع الى ماكان كأنك ترى ‪ ،‬وترى كأنك قد حضرت ماكان‬ ‫‪ ،‬فأسرتكم الكبيرة المشتتة األفكار المتباعدة األجساد المتغاضبة‬ ‫العقول ‪ ،‬التى ترمى لبعضها سالم بارد عبر الهاتف فى األعياد‬ ‫والمواسم عادت للتجمع عند أول نداء ‪ ،‬عادت لحظة أن شعرت‬ ‫القلوب والعقول أن الخطر جد قريب ‪ ،‬وأنهم إن لم يقفوا مع رضوان‬ ‫فلن يكون لهم مقام بعد اليوم ‪ ،‬تجمعت األفئدة قبل األيدى ‪ ،‬واأليدى‬ ‫قبل الكلمات ‪ ،‬وارتفع بيت رضوان بعد الخزى سامقا ً وسط المنطقة‬ ‫يناطح السحاب من جديد ‪ ..‬كل هذا وأنت بعيد ‪ ،‬ثأرك أخذه غيرك بعد‬ ‫فشلك مرة واثنتين ‪ ،‬ثأرك تواله من استطاع أن يجعله سيرة تروى‬ ‫وحديث يحفظ على مدى الدهر ‪ ،‬أما أنت فسوف تكون سيرتك سيرة‬ ‫الفشل الذى اليغيب ‪ ،‬كل هذا وأنت بعيد ‪ ،‬تكتفى بمرافقة أبيك فى‬ ‫محنة التعرف هل هى محنتك أنت أم محنته هو ‪ ،‬الثأر ثأرك ورغم‬ ‫هذا لم تكن فاعالً ‪ ،‬ولم تكن مشاركا ً حتى ‪ ،‬واكتفيت مثلك مثل أمك‬ ‫اعتماد واختك رضا بالسماع ‪ ،‬بعيدا ً عن الثأر وأهله ومنفذيه ‪،‬‬ ‫التملك اال االنصات والتحديق بعينيك الكبيرتى األحداق بال معنى ‪،‬‬ ‫فمتى تبدأ التغيير ؟‬ ‫متى تتكلم ياجابر وتستمع لك اآلذان ‪ ،‬متى تنفض عنك ركام الفشل ‪،‬‬ ‫تحطم التخاذل وتمضى خارجا من شرنقة االنكسار ‪،‬‬ ‫وترفع رأسك فى ثبات ؟‬ ‫هذه فرصتك ياجابر‬ ‫فرصتك وأنت هنا لتعالج ماكان ‪.‬‬ ‫تنظر‬ ‫تدقق‬ ‫تتساءل‬ ‫تقرر‬ ‫وتبدأ التغيير‬ ‫تستطيع أن تفعل هذا‬ ‫‪152‬‬


‫فقط عليك أن تبدأ‬ ‫لحظتها سوف يستمع اآلخرون اليك ‪ ،‬يرون فيك الوريث القادر‬ ‫على الحفاظ على ميراث األجداد ‪ ،‬خاصة جنة رضوان ‪.‬‬ ‫نعم ياجابر جنة رضوان التى عليك أن تعيد تشييدها بعزم يديك ونفاذ‬ ‫بصيرتك من جديد‬ ‫تذكر هذا ياجابر ‪ ،‬وتذكر ايضا أنها يجب أن تعود كما كانت من قبل‬ ‫!!‬ ‫جنة رضوان‬

‫‪153‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.