ثأر كريمه رواية
أطلق آهة عميقة من أغوار قلبه وهو ينقلب على وجهه ،آهة مفاجئة كمفاجئة الضربة المرتعدة التى أصابت مؤخرة رأسه فهزت الكون أمام عينيه ،ولم يدر بنفسه اال وهو يطير الى أعلى ،يرتفع بكل ثقله ، اليمتلك فرصة لمقاومة وال يستوعب اللحظة ومايراد فيها منه ،محموالً بأيدى سوداء التقطته وطارت به الى الباب الحديدى الموروب ،أغلقوه بدفعة من يد أحدهم أو إحداهن ،وبدأ العمل الذى من أجله اجتمعوا طيلة نهار األمس وبعضا ً من الليل يتباحثون حول الوسيلة التى تحقق لهم مايريدون بسهولة ويسر ،قال أحدهم لحظة بدء االجتماع -: ال أريد غلطة واحدة مهما كانت الخطة .طمأنه اآلخر قائالً -: ندرك جيدا ً مانحن مقدمون عليه ،وفوق هذا سيأتى أصحابىللمساعدة اعترض األول -: بهذا سنضع أنفسنا راضين تحت رحمة هؤالء ،وقد يتكلم أحدهم ويقولكل شىء ،ولحظتها سينتقم رضوان ومن وراء رضوان وكل من يعرفه بكل ماأوتى من حقد وكراهيه . قال الثانى -:ننتهز فرصة سفر الحاج محمد بطه ونضرب ضربتنا ، ننتظره فجرا ً وهو عائد من المسجد ونقوم عليه قومة رجل واحد . 1
عاد األول يعترض -: ولحظتها تصحو المنطقة كلها ويهرع اليه أوالده وأقاربه وال ننال االالخزى .البد من عقابه عقابا يستظل بظله طوال عمره ،ويتوغل فى قلبه ويرسخ فى روحه مهما طال به العمر . استيقظت إمرأة عجوز وجهها مظلم كروحها ،حاملة على مال محها فى منتصف الليل حقدا ً تنضح به القسمات وتنطق به العيون ،رمتهم بنظرات فيها أشواك وضيق ،قالت وهى تتجه الى دورة المياه -: ستظلون سنينا ً غارقين فى الحيرة بينما الحل على بعد خطوة منكم .قال األول وهو يحدق فى نيران عينيها-: كيف ؟اشاحت بوجهها عنه وهى تقول -: انتظر حتى أعود اليكمضت لشأنها حاملة تجهمها معها الى حيث افرغت جزءا ً منه فى الحمام ، حينما عادت أزاحت الثانى عن مقعده وأخذت مكانه ،حدقت فيهم طويالً وهم يتحاشون حثها على الكالم حتى التوجه سهام توبيخها اليهم ،أمسكت بحرف المقعد وقالت بحسم -: بعد صالة الفجر سيمر من أمام الباب الخارجى ،الباب سيكونموروبا ً ،اسحبوه الى الداخل وحذارى من إصدار أى صوت ،الكل ينقض عليه ،يدخل به ساحة البيت ،يغلق الباب ،يضربه مرة واحدة باألحذية والشوم ،حاذروا من استخدام أى سالح ،باشارة منى ينسحب الرجال ،تبقى النسوة وحدهن حوله يكملن المهمة ، بعدها نركله جميعا ً الى الطريق أمام بيت شتا ،ونغلق الباب ونذهب للنوم . تربصت األعين واألحقاد ليالً طويالً حتى أتى الفجر ،أذن المؤذن للصالة ، تابعته األعين المغلفة بالسواد من خلف األبواب والنوافذ وهو يمضى متجها ً الى المسجد ،تحفزت األحذية والشوم لإلنقضاض عليه وهو عائد شريطة أن يكون وحده والطريق خال والسكون مقيم ،رأوه وحده قادما ً ،خلف الباب الموروب تجمعوا والظلمة معهم ،األعين تنطق بالحقد واآلذان تتربص بأى صوت قد يفسد عليهم مانذروا أنفسهم له ،اقترب من الباب ، انطلقت الشياطين من الصدور مقتحمة الظلمة منقضة عليه ،رفعته األيدى ألعلى ،أيدى مذعورة متوترة وقلوب واجفة وأعين حذرة تعرف جيدا ً وتعى 2
تمام الوعى أنه لو اتملك نفسه للحظة ألطاح بهم بال رحمة ،ولحظتها لن تنفعهم أحذية وال شوم ولصاروا مسخة وعارا ً أبد الدهر ،هرولت األقدام داخلة به باب الجحيم ،رمته أرضا ً وأنهالت األقدام والظلمة عليه ،وقد توحدت معها حيرة وطنين جامح فى أذنيه جعله فى حالة اليدرى معها ماذا يجرى معه أو له ،امتدت يداه تلقائيا ً للصد أو الهجوم أو كليهما معا ً ،قيدت أيدى كثيرة يديه وقدميه بحيث لم تعطه فرصة لشىء . غزا خوف جامح له أسنان وأنياب وأشواك قلبه للمرة األولى فى حياته ، هبط عليه أو صعد اليه أو حتى أحاط كالسوار بكيانه ،فامتألت روحه برجفة لم يدر معها ولم يفكر حتى ماذا يجب عليه بالضبط أن يفعل ، صارت تصرفاته كلها تبعا ً إلحساسه وحده وردود فعله الطبيعية بعيدا ً عن اإلدراك والفهم والتفكير وماالى هذا مما يقع فى دائرة القدرة واإلختيار ، صار كيانا ً أسيرا ً تماما ً لما يجرى له ،رفعوه ألعلى ،فارتفع ،ساروا به داخلين من البوابة الحديدية المظلمة التى تفيض بسوادها وتقطر بحقدها وكراهيتها ،فدخل معهم ،والقوه أرضا ً ،فارتمى ،وبدأت الضربات باأليدى وما تحمله من عصى وشوم واألقدام وماترتديه من أحذية أختيرت بعناية فائقة ،مد يديه محاوالً صد الضربات والتأوه بصوت لم يكد يخرج من الوهن واأللم الذى يجتاح روحه خاصة إنها أول مرة يواجه فيها موقفا ً كهذا اليجد فيه فرصة لدفاع أو صد أو حتى هجوم بكل مايمتلك من قوة طالما تباهى بها وفاخر وسط الناس ،حاول التحرك والقيام ،لم يعطوه الفرصة لهذا ،حتى اذا كلت أيديهم عادوا يرفعونه ألعلى فانتفضت صرخاته ،شقت جدران الهدوء ودكت أسوار الصمت ،صرخات ال إرادية فاضت من روحه وهم يحملونه من يديه وقدميه ،مما اضطرهم لكتم فمه بقطعة قماش كانت بيد أحدهم ويلقوه بعيدا ً وهم يحاذرون من أعين متربصة أو أذان تلتقط مايدور ،وعاد الباب الحديدى يغلق من جديد . كانت الخطة أن يكسروا روحه بقدر ما ،قدر يجعله محنى القامة طالما بقى فى المنطقة ،ال يفتح فمه يوما ً والينظر بعينيه وال ينطق بشىء ،قدر يجعله الينسى فعلتهم مادام حيا ً ،وفى ذات الوقت اليمتلك الجرأة على اإلفصاح عنهم وعما فعلوه معه حتى اليصبح معيرة وسط المنطقة كلها ،لذا كان المخطط له علقة بأيدى قوية تنسحب متسترة بالظلمة وتبقى النسوة حوله بعدها ،يراهم ويعرفهم ويفهم جيدا ً أنهن الفاعالت الغيرهن ،فيمضى الى بيته وقد تحطمت روحه تماما ً ولبسه عار الفكاك منه ،اال أنهم وتحت لذة 3
ضربه وربما خوفا ً من رد فعله اذا تمكن من أحدهم ببنيانه المتين تمادوا فى ضربه ،ولم يعد الهدف كسر روح بل تحطيم جسد بكل مايمتلكون من إصرار حتى التقوم له ريح من جديد . انسحب الرجال حسب االتفاق متلفعين بظلمة مازالت تبسط سلطانها على الكون ،وبقيت النسوة حوله ،تحدق فيه أعينهن متنمرة قاصدة أن يرى ويعرف ويتيقن أنهن نساء وإنهن الالتى قهرن رجولته ،رفعنه من أطرافه األربعة فارتفع بينهن مثل كيس من القطن الحراك وال قوة به والقينه على جانب الطريق . قالت العجوز بشماتة -: درس صغير ،ال أكثرورمت العمامة التى كانت منذ لحظات عالية متبرجة تتيه فى فضاء مجدها بجواره ،ومضين عنه الى حيث أغلقن الباب ،وعاد السكون ينسل خاسئا ً الى المكان ،بينما الظلمة تنحسر رويدا ً عن جسد اليمتلك من أمره اال تأوهات تخرج بالكاد من بقايا روح . .................... من مكانه على أرض الحارة أمام بيت شتا رأى فيما يرى التائه الذى اليمتلك اال الرؤية فى الغياب أو الغياب فى الرؤية رأى بنصف عينيه اذ كانت جفونه مطبقة على النصف اآلخر أن الظلمة بأمر أنسوى حانق قد تحولت لنور أسود يحيق به ويقيد عينيه وجسده وروحه ،و رأى حوله نسوة يعرفهن جيدا ،نسوة يحطن به وقد كشفن وجوهن وحدقن فيه بأعين حداد وقالت له كبيرتهن العجوز -: نحن الالتى فعلن بك هذا ،فإن كنت رجالً فاقتص مناوحملته من يديه وقدميه أربعه نسوة كل واحدة من ناحية وخرجن من الباب ،سرن مسافة وسط الظالم الذى تآمر معهن والهدوء الخائن الذى ستر خطواتهن و القينه بعيدا ..لم يدر لحظتها ماالذى يجرى له بالضبط هل هو كابوس أشد وأعتى من كوابيسه القديمة أم هو واقع جديد لم يتخيل حدوثه من قبل يحدث له ،وعليه أن يعيشه ويتذكره ويحفظ تفاصيله لكى يقتص وهذا مؤكد ،يجتاحه ذهول لما جرى ،تشتعل ذرات جسده نارا ً وهو يقسم بكل مقدس أن يفعل بكل من أذوه مافعلوا به وأكثر ..حاول القيام مستندا ً على كوعه األيمن صرخ من ظهره والنار التى سرت فى عاموده 4
الفقرى ،ارتمى ثانيه مكبالً بعجز الفكاك منه اضطره اضطرارا الى النظر وسط الظلمة محاوالً النفاذ الى وجه السماء مستغيثا ً ،عل أحدهم يراه ويعرفه وينقذه مما هو فيه ..رأى فيما يرى التائه الذى اليمتلك اال الرؤية فى الغياب أو الغياب فى الرؤية ،رأى بنصف عينيه اذ كانت جفونه مطبقة على النصف اآلخر حياة لم يكن فيها مجال لضعف مهما كانت األسباب ، بدايتها قطار من سوهاج القاه فى محطة مصر منذ سنوات طوال ،اليستر جسده اال جلباب أزرق باهت الخطوط وفى جيبه قروش تكفيه بالكاد يوما ً أو بعض يوم ،وفى رأسه تطن كلمات أبيه وتوصياته (..تنزل ميدان المحطة ، تسأل عن أتوبيس ميدان الحسين ،ومن هناك تسأل عن شارع سوق السمك رقم خمسه ) ،..يرددها بين الحين حتى الينسى ،وحينما يصل لمبتغاه يدق الباب على محمود حسنين ابن عم حسنين مؤذن المسجد الوحيد بالقرية ، والذى سبقه الى القاهرة ،وعمل بها ويجىء كل عدة أشهر ليمنح والده ماأدخره فى سفرته من أجل بناء دار له ليتزوج بها ،يتذكر كيف جهز له محمود بقجة قماش ومتر خشبى قديم ليدور بهم فى األزقة مناديا ً -: معى قماش كذا وكذاوكيف تجمع معه مبلغ أراد أن يرسله ألبيه من أجل أن تكون له دار كما يفعل الجميع لوال أن همس المقدس حليم فى أذنه أن يشترى دكانا ً فى سوق القماش قرب الموسكى ،ويقف فيه بدالً من بهدلة الطرقات ،وسوف يرى أن مكسبه أفضل بكثير مما سبق ،يرى نفسه وأخوه السيد يلحق به فى مصر ،وأخوه كمال ثم محمد ،وكيف تحولت الحجرة التى ينام فيها خمسة عشر فرد الى شقة فى شارع خان أبو طاقية ،ثم كيف اشترى البيت الذى يسكن وأوالده فيه حتى اآلن من مزاد كان يومها مطمع الكثيرين واستطاع أن يفوز به ،يتذكر أقاربه الذين اكتشف وجودهم بكثرة رهيبة فى القاهرة وفى وظائف سهلت له الكثير من األمور وجعلته فى سوق القماش والموسكى وحارة اليهود وسوق السمك من أكبر وأقوى الصعايدة جميعا والذى يستظل بظله الكثيرون راضين ،والذى يخشاه الكبير قبل الصغير فى المنطقة ،واليستطيع كائن ماكان أن يرد كلمته ،يتذكر أيام الفوضى التى ضربت البلد فترة االضطرابات السابقة ،وهاجس األمن الذى اجتاح الجميع ونزول أبناءه وأبناء إخوته وأبناء عمومته وأخواله لحراسة المنطقة كلها من الموسكى الى الخرنفش بهدوء وسالسة وثقة المتناهية فى النفس وفى قدرتهم على إعادة األمن المفقود ،يتذكر العمارة التى يبنيها ألوالده 5
بالقرب من مسجد خان أبوطاقية ،وسعيد ابن محمد بطه الشهير ب ( سيعا) الذى انتهز الفرصة هو وبعض زمالءه الضائعين مثله وأراد فرض إتاوة على المحالت وأماكن العمل والورش ومااليها ،وكيف اتصل به العمال يوما ً قائلين أن سيعا أمرهم بايقاف العمل لحين تحقيق مطالبه ، وحين سأل ماهى مطالبه ،قالوا يريد شقة كاملة كإتاوة مقابل سماحه لهم باستمرار العمل ،يتذكر ذهابه اليه فورا ً وأبناء العائلة حوله وكيف تم القبض عليه وعلى الثالثة الذين معه ،وكيف ترفق به واكتفى بضربه على قدميه مقسما ً أنه لوال خاطر أبيه لقتله ،يومها خرجت أمه وأخته وأرادتا الصراخ والعويل وفرجة الخلق لوال أن أمر فورا ً باعادتهن الى بيتهن بال إهانة تقديرا ً للحاج محمد بطه صديقه الذى يعرف جيدا ً أنه لن يغضب ليس عن ضعف وال عن خزى ولكن لثقته به وتقديره له واعتباره أبا ً ثانيأ ألوالده ،وفوق هذا فهو قد فاض به الكيل من سعيد وتصرفاته والشلة التى تسير معه وتشجعه على الفساد وعجزه عن ترويضه أو إثناءه عن تصرفاته التى ضجر منها القريب والبعيد ،يتذكر رضوان فى رقدته كيف اتصلت أم سعيد بالحكومه لكى تنتقم إلبنها منه وتنجده من بين يديه ،وكيف جاء الضابط واثقا ً يريد القبض على سعيد وكل الموجودين والتحقيق معهم ، وكيف وقف رضوان له مؤكدا ً أنه اليسلم أبناءالمنطقة للحكومة مهما كان ،واذا أخطأ أحد فهناك كبار يمكنهم حل مشاكلهم بأنفسهم ،أمر الضابط مخبريه وعساكره بالتصرف فورا ً بالقوة ،أخرج رضوان مسدسه وأقسم إن لم يمض الضابط لحال سبيله سيرديه قتيالً ،هاج الرجل لكرامته خاصة أمام مخبريه ،توعده بأقصى العقاب ومضى ،بعد ذهابه مرغما اتصل رضوان بالمأمور موبخا ً وساخطا ً على الضباط الذين اليعرفون طباع ومبادىء المنطقة وأهلها ..يتذكر رضوان ايضا فى لمحة خاطفة كامل صاحب وكاله النحاس وشجاره معه هناك فى مقهى محمد بطه ،وإعالنه أمام الجميع أنه لن يشاركه فى شىء بعد اآلن لغدره بالرجل المسمى بالضبع فى منطقة الجمرك فى األسكندرية ،والذى كان ينقل لهما أخبار المزادات ومواعيدها والداخلين فيها وكيفية التصرف معهم ،ووشايته للحكومة عنه،و كيف حاول كامل أن يبرر فعلته مقسما ً أن الضبع هو الذى بدأ بالغدر وليس هو ،وأن كل دوره كان الدفاع عن نفسه ومصالحه ،وكيف حاول محمد بطه التوسط بينهما لوال رفض رضوان وإعالنه أنه سيعمل وحده بال حاجه لشريك أو
6
غيره بعد اآلن ،تتالشى صورة كامل وتبرز صورة أم سعد بوجهها العريض وعينيها اللوزيتين ولسانها الذى يتدلى السعا ً أيا ً كان من حولها وهى تقف فى الفرن فى أخر حارة خان أبوطاقية بجوار ورشة الخشب وكيف اصطدم بها فى أول أمره بسبب ثوب قماش لم يعجبها فعادت لترده اليه وتطور األمر الى مشادة رفع يده فيها ولطمهاعلى وجهها قائالً أن النساء ليس من حقهن رفع صوتهن هكذا وأنه لن يتحرك من هنا وسينتظر زوجها وكل أهلها ليريهم أنفسهم ويعلمهم كيف تتم تربية النساء ،يومها انقلب سوق الموسكى وخان أبو طاقية والخرنفش وسوق القماش عنده فى الدكان وتحولت المنطقة كلها الى مؤتمر عام تدور فيه مجادالت ومحاورات سمع بها القاصى والدانى وانتهى األمر لمجلس عرفى يجمع كبار المنطقة لتسوية األمر وانهاء الخالف وديا ً وبعيدا ً عن المنازعات التى قد تطول بال داع ٍ ،يومها تم تغريمه بمبلغ كبير وفرض عليه ترضية المعلمة أم سعد ،وكذلك كتابة شيك على بياض على كل منهما فى حالة إخالله باالتفاق يتم تقديمه للنيابه مهما كان المخالف . يومها مد يده بالنقود الى أم سعد ،أخذتهم منه ثم بهدوء وأنفة ثم أعادتهم اليه وقالت لست بحاجة لنقود ،تكفينى كلمة اعتذار أمام الناس خاصة حينما تجىء من رضوان ،وبدأت بعدها مسيرة صداقة واعجاب انتهت بزواج لم يستمر طويال واتفقا بعدها على الطالق .تتالشى صورة أم سعد ويعود الظالم ثانية والوجوه الشبحية والنسوةالمتوحشات وهن يحطن به ، ،يقسمن أن يجعلنه عبرة لمن يعتبر ،يوجهن اليه رسالة مفادها أنه لن يرفع رأسه بعد اآلن ولن يمتلك القدرة على التصريح بأن الفاعالت نسوة ..تجحظ عيناه وتختنق أنفاسه يحدق فى بواكير الصباح التى تصر على اقتحام عينيه متشبثا ً بكل مافى روحه من حنق ،رافضا ً كلمة االنهيار أو معناها ،نابشا ً بأصابعه فى التراب محاوال ً التحرك وقهر اللحظة بكل مافيها من ضعف ،محاوالً كتم تأوهات التليق بمثله مهما كانت الظروف التى تحيط به ،يتحسس جسده ،تنغمس أصابعه فى دماء اليدرى من أين ،تثور الرياح فى فضاء روحه عاتية ،يحاول الحركة مستميتا ً للقيام أو على األقل للعودة الى بيته القريب ،يسب الضعف والضعفاء والعجز الذى يقهر الرجال لكنه لن يقهره مهما أوتى من عنف ومهما اجتاح جسده أو أجهز على حركته وعنفوانه ،يمد يديه على ضوء الصبح النابض بالحياة ناشبا ً 7
أظفاره فى األرض بكل مابقى من قواه مواجها ً اللحظة ورهبتها وحينما يرى أن الفكاك من مماهو فيه ،يصب جام غضبه على األرض التى التعى من تحمل وال كيف تتعامل معه ،يخمش وجهها بأصابعه بكل مابقى من قوته ويحفر على محياها وجوها ً اليريد للحظة أن تفلت سماتها من مخيلته ، مقسما ً أنه لو قدر له أن يعيش ويقف على قدميه من جديد سيجعلهن وكل من يمت اليهن بصلة عبرة للجمالية كلها ................... . إستيقظت أم جابر كعادتها في موعد إستيقاظ الطيور في الفناء الخلفي للبيت ،قامت برغم شكواها المستمرة من الم ساقيها ومايسببه لها -خاصة فى أيامها األخيرة -من معاناة وهى تتحرك رغما ً عنها محنية الظهر قليالً بوزنها الثقيل ،محاولة االستمرار فى بذل جهد لم تعد تستطيعه رغم محاولتها المضية قهره ،أو حتى مجرد التعايش معه أو تناسيه خاصة فيما زمن مكتفيا ً يخص زوجها رضوان ،الذى بدأ واقعيا ً البعد عنها جسديا ً منذ ٍ بابداء ود خالص وتقدير صادق لها ورعاية واهتمام يغنيها عن قول شىء أو مجرد التلميح الى شىء ،فهى قد عبرت المرحلة التى تطلب فيها أو حتى ترغب عنادا ً وتحديا ً حقها الجسدى من زوجها ،ربما لعمرها ،وربما لمرضها الذى حول اهتمامها الى أشياء أخرى ،وتكتفى حاليا ً بالرضاء والسرور كلما تذكر أن يقضى ليلة الى جوارها بسريرها ،فإن لم يفعل فالشىء عليه ،وهى لو ذبحوها لن تجرؤ أو يدور بخلدها لحظة واحدة أن تبدى له شيئا ً أو حتى تشعره بشىء ،كريمه هناك أصغر وأصبى وطوال عمرها أرق طبعا وأحلى سمات وحجرتها مثلها تفيض بما تبديه بنات المدينة من سحر ودالل . قامت من سريرها محاولة التغلب على الم ينشب مخالبه فى ساقيها ،رافعة صوتها بأنين خافت واثقة أنها بالحجرة وحدها ولن يرى أو يسمع أحد ما صوتها ،مضت أوال ً الى المطبخ .أخرجت أواني الطعام من الثالجة الى البوتجاز وأشعلت النار ،جاعلة مفاتيح الغاز على أقل درجة لحين عودتها ، وتركت المكان الى الطيور فى الفناء ،تبسمت عيناها كعادتها كلما اقتربت 8
من الحظيرة صباحا ً وهشوا لها وصاحوا مرحبين بقدومها ،لحظتها تشعر أنهم شىء عزيز منها ،أقارب تعيش معهم الصدق والبراءة والبعد عن النفاق الذى التتقنه وال تحب حتى سيرته ،تبسمت عيناها وهى تقترب منهم ،هؤالء العفاريت يعرفون خطوتها ،يدورون فى مكانهم مستقبلين الباب وهى تقترب ،وحينما تمد يدها يرفعون أفواههم اليها ،تراهم أطفاالً مثل أوالدها وهم صغار ،تسعد بالقرب منهم ،كثيرا ً ماكانت تأتى بمقعد المطبخ الصغير وتعطى ظهرها للحظيرة وتجلس سابحة فى ملكوت هللا ،تشكو له سبحانه مايفور بقلبها من الم غيرة التطاق التستطيع أن تنطق بحرف منها وال حتى تبدى تلميحا ً وال تصريحا ً مايؤرق ليلها ويسلب الراحة من قلبها ويمأل صدرها بنيران اليهدأ لها إوار ،زواج رضوان بهذه المرأة قسم ظهرها ،هى التى لم تعتد أن تظهر له اال االحترام الواجب على الزوجة أما اكثر من هذا وخاصة ماتبديه بنات المدينة من االعيب وسحر ونعومة فى القول والحركات كلها أشياء التجيدها ،بل هى تأباها وتأبى أن تقرب شيئا ً منها ،هى مثالً لم تجرؤ يوما ً أن تقول له أحبك يارضوان ،تشعر أنها لو نطقتها يوما ً سيهيج الصعيد كله عليها وربما قاطعها أهلها أو طلقها زوجها وعايرها بقولها ،رغم أن أفعالها جميعا ً منذ أتى بها من سوهاج تنطق وتصرخ وتؤكد بأغلظ االيامانات أنه رجلها الذى الرجل فى الكون غيره وأنه اآلمر الناهى وأنه السيد الذى السيد غيره ،وفوق هذا فهى تقرأ وجهه جيدا ً ،تغوص فى عينيه ،تنغمس كليا ً فى سماته وتعبيرات وجهه وتهتم بكل بادرة تلوح منه ،فاذا ماأراد محادثتها وبثها بعضا ً مما به وجد آذانا ً صاغية وعقالً راجحا ً ورأيا جادا ً مثمرا ً ،تتكلم معه ،تحاوره وتناقشه وتسأله وتقنعه بما تريد ،لذا فرغم تحول العالقة بينهما ظل رضوان يصادقها ويجىء اليها راغبا ً وإن كانت األسباب قد اختلفت عن ذى قبل . فى هذا الصباح جاءت الى الطيور فى الفناء الخلفى للبيت ،سيرها الوئيد رغما ً عنها يشعرها بكسل هؤالء األوالد الذين لم تعد فى قلوبهم أحاسيس
9
وال مشاعر مثل األمس ،أوالد األمس كانوا يشعرون بأبائهم وأمهاتهم ، كانوا يخجلون من أى فعل قد تغضب األهل ،أما شباب اليوم !! تحلقت الطيور حولها مظهرة بهجة وصياحا ً عاليا ً فابتهجت نظراتها ،راحت تنظف أنية الماء وتعيد ملئها وتنقى أنية الطعام وتضعه فيها ،ترقبهم وقد تشاغلوا عنها بالصراع على الوثوب للوصول الى الطعام أوال وربما خطفه من أفواه بعضهم ،حتى إذا إطمأنت اليهم عادت الى المطبخ وبدأت في إعداد أطباق اإلفطار ،انتظارا ً إلستيقاظ الحاج رضوان من نومه ليأخذ حمامه ويجىء الى حجرتها ،يجلس الى المائدة ،يجد كما تعود الطعام ساخنا ً ،وهى الى جواره تقوم على خدمته ،حتى إذا ما انتهى كانت كوب الشاي جاهزة ،يرتشفها ويسأل أسئلته اليومية المعتادة عن األوالد وظروف البيت وماجد من مشكالت خاتما ً كالمه بسؤالها هل تحتاج لشىء بعدها يلقي السالم ويمضي الى حال سبيله ،أما هي فتبدأ مرحلة جديدة من يومها .توقظ رضا لتساعدها في عمل البيت ،ومتى قامت تركتها الى أخوتها جابر ومحمد ،ليقوم كل منهما من نومه فيجد إفطاره ويلبس مالبسه ،يذهب جابر الى عمله ومحمد الى المدرسة .وبإنتهاء هذه المرحلة تكون قد تفرغت ورضا للبيت ،تنظيف هذا وفرش تلك دون كالل ،الى أن يأتي جابر بالخضر والفاكهة قبل الظهر بقليل ،وهنا تبدأ مرحلة جديدة إلعداد الطعام. وصل الخبر الى البيت . كان الباب موروبا ً مايزال ،قدر ضئيل اليكاد يرى على البعد منذ تركه رضوان قبل الفجر ،الهدوء يدور فى الطريق كعادته باحثا ً عن صوت هنا أو هناك ،بينما الشمس تسطو على جدار ويمتنع عليها آخر ،وجابر واقع فى تحقيق يحذر منه عادة وهو يرد على استفسارات أمه بخصوص الدكان ومايحتاجه من بضاعة وتكاسل المصنع المورد وماعليه أن يفعله حتى اليفاجىء بالدكان فارغا ً ولحظتها لن ينفع ندم والتبرير ،وأخيه محمد 10
يغتسل ويجهز مالبس المدرسة ويسأل عن سندوتشاته الذى سيأخذها معه ، وأختهم رضا بين الحجرة والمطبخ منهمكة فى نقل األنية الى المائدة . سمعوا الصوت يعبر الباب الحديدي الى الفناء صارخا ً :- ياأهل البيت ..الحقوا الحاج رضواناتسعت الصدور لبراح من قلق دهمهم ،فارت فى العيون براكين دهشة وانطلقوا يهرولون مندفعين الى الخارج ،كانت كريمه الزوجة الثانية للحاج والتى بات بحجرتها ليلة البارحة قد ظنته بعد الصالة قد مضى لحجرة إعتماد فى شأن من شؤونه كعادته فلم تلق باالً لغيابه ،فلما جاء الناعى وقفت على السور الحديدي تطل من الدور الثاني تستطلع األمر ،سمعت الخبر ،دقت صدرها بيدها واطلقت صيحة هائلة هرولت على أثرها الى أسفل حافية القدمين الى الطريق ،الى جوارها إبنها سالمة بمالبس المدرسة ،حدجتها إعتماد بنظرة غاضبة وهى تراها بمالبس البيت الخفيفة تهرول الى الطريق ،لكن الوقت لم يسمح بأكثر من هذا ،وكذلك الخوف الغامر الذى فاض على قلبها ،كان أهل المنطقة قد تجمعوا ،وجوه لم تغتسل بعد ،ووجوه تحمل عيونا ً صماء ترى وال تبصر ،ووجوه تحمل عيونا ً نارها تتأجج بال انتهاء ،ووجوه بها عيون يفيض ثليجها على براح السمات ،بدأت أعدادهم تكثر في فناء البيت ،تطوع الحاج كامل الذى جاء دون عمامته مرتديا ً جلباب النوم بذقنه النابتة وعينيه المتسعتين الممتلئتين بالعماص وجسده العريض بفتح الباب الحديدي على إتساعه ليزيد من األعداد الداخلة .صرخت كريمه تحادث الغيم الراكض فى براح صدرها :- ماذا جرى ؟لم يبال أحد بالرد ،عال اللغط وكثرت األصوات واختلطت الى الدرجة التي لم تفهم منها شيئاً .صرخت إعتماد التى جاءت بجسدها الثقيل تكافح لتتسع خطوتها ،ويدها تستند على يد رضا التى فاضت دموعها وتحول لون وجهها الى اصفرار مقيم :-
11
ماله الحاج ؟قال الناعي باكيا ً :- وجدته هكذاكان الجسد الفارع ممدا ً على األرض والدماء تغطى مالبسه والى جواره أمام بيت شتا بمدخله الكبير بدا رسم على األرض بالدماء لوجه أنثوى على مايبدو ذو حجم كبير والى جواره وبحجم أصغر وجوه ثالثة أخرى أحدهم تقريبا ً ألنثى ثانية واآلخرين لرجال ،حاول الجمع الحاشد تحديد ماهيتهم ، ولمن بالضبط دون جدوى ،واضح أنه رسمهم بأصابعه قبل أن يغيب عن الوعي . وصل جابر الى بيت شتا ،مضى الى جسد والده الساكن متفحصا ً وعيناه تفيضان بصراخ صامت ،ويداه ترجفان وهو يحاول قدر االمكان التماسك أمام الخلق ،اقترب من جسد أبيه ،أمسك رسغه ،وضع رأسه على صدره ،قال لكامل الذى كان بجواره-: اطلب االسعافاقترب الحاج محمد بطه مقترحاً-: نحمله بعربتى الى المستشفىمبتعدا ً ليحضرها ،اقترب بها سريعا ً ،مدوا أيديهم جابر ومحمد بطه وكامل لرفعه عن األرض ،ارتفعت صرخة خاقته منه جعلتهم يبتعدون عنه ، واتصل بطه باالسعاف فورا ً . وقف جابر أمام جسد والده ال يكاد يصدق ما يرى .يتأمل المنظر ويحاول إستيعابه ،يدور حول المكان مترقبا ً متربصا ً باحثا ً عن إشارة او شئ يجلي له األمر دون جدوى.
12
يحدق فى الصور المرسومة بدماء أبيه ،يسأل نفسه ويدور بعينيه على من حوله لعل أحدهم يفسر أو يفهم أو يعرف لمن هذه الرسوم ولماذا رسمها ولماذا هم امرأتان ورجالن وليس أربعة رجال مثال ؟ عيناه فيهما حيرة من يستيقظ من حلم حلو على واقع كئيب ،أو من يسقط فجأة من فوق األرض الى هاوية كان عنها بمنأى ،وقلبه يضرب الدماء بقوة ،يدفعها بعنف ،يدقها الى سائر الجسد بقسوة ،ويداه تتصلبان ، تتكور قبضتهما ،ويكز على أسنانه محاوال ً كتم صرخة تأبى إال أن تصدر عنه. وحوله أهل البيت وصراخهم يسبقهم ،بينما رجال من العائلة يحيطون بالمكان ،أخوة رضوان السيد وكمال ومحمد وأبناء عمومته وأخواله يسألون ويتقصون عمن فعلوا هذا دون جدوى. تعالت الصرخات المحزونة المقهورة من كريمه ياحبيبي يا خوياومعها رضا -: يا حبيبي يابابااما اعتماد فقد انزوت فى مكانها جاحظة العيون وعلى محياها ذهول ينشب أظفاره فى سماتها كلها ،يشل جسدها وهى تتمتم يا حرقة قلبي بعدك السيد شقيق رضوان رأى أن األمر قد زاد عن حده ،الخالئق تتفرج بال مبرر بالمرة ،حريم أخيه وأوالده فقدوا وعيهم وادراكهم وتركوا العيون تأكلهم ..تقدم وهو يزيح بكفه العريض األجساد المتراصة من حوله ، عمامته البيضاء تسبقه ،شاربه الكث يتحرك حركات ترددية ثابتة ،بينما صدره الضخم يمور مورا ً ،وتكسو نظرات عينيه حدة تهز القلوب .قال بصوت حاول قدر إمكانه أن يكسوه الثبات:- 13
جابر ..خذ أمك وأخوتك للبيت وارجع الىوإستدار الى كريمه بهدوء مفتعل وبقوة متحكمة-: وانتي يا أم سالمة معهم .واستدار مواجها ً الوجوه المتراصة واآلذان المحلقة -: خالص ياجماعه اذهبوا اآلنوهو يدفعهم بيديه دون أن يفرق بين قريب وغريب . ........................ جلس جابر بين أمه وأخوته في حجرة األم صامتين .يغوص كل منهم في مشاعره وأفكاره .يدور في هوة خواطره ويسيح مع فضاء أحاسيسه غير منتبه لمن حوله ،وإن كانت األفكار كلها والمشاعر رغم تباينها تدور حول شخص واحد ..رضوان ..والمستشفى العام فى الدراسة ،وحديث األطباء الذين شرحوا كيف تعرض لضرب مبرح أدى الى كسر بالعودى الفقارى ، أدى بدوره الى تأثيرات أخرى على أجزاء من الجسد شملت الجانب األيمن منه وأن األمر يحتاج الى عمليه عاجلة ،بعدها نرى اذا كان الوضع سيتحسن أم سيحتاج لعمليات أخرى ..الحجرة واسعة من البناء القديم ،بها أربع من النوافذ ذات الشيش الطويل المقسوم نصفين أعلى واسفل .األسفل طوله ضعف األعلى تقريبا ً ،ولكل منهما ضلفتان يتم فتحهما على الحارة عند الحاجة .نافذتان تطالن على الحارة من جهة ،ونافذتان تطالن عليها من جهة أخرى ،يبنما السقف يسمق الى أعلى في شموخ برسومه وزيناته والوانه التى رغم قدمها ماتزال تحتفظ برحيق الجمال ،أما الباب وخشب النوافذ فمن نوع مصقول مدكوك يمتاز بالمتانة ،وفي ذات الوقت برقة الذوق وجمال الصنعة. تجلس إعتماد على سريرها في أقصى الحجرة ،عيناها قد جف دمعها ،ولم تعد تدرك مما حولها إال أجسادا ً تتحرك ،ال تهتم بماهيتها وال لمن ،وجهها 14
مرفوع ألعلى ينظر الى الشئ ،تدور بنظراتها بين الحين والحين في المكان ،ثم ترمي برأسها الى أدنى وتنطق بكلمة أو تشير بيدها ،ثم تعود الى ماكانت عليه ،بينما السرير النحاسي بأعمدته األربعة وبأستاره المسدلة يبدو كعرين مضى ساكنه ولم يعد له إال الدموع. والى اليمين مستندا ً على الدوالب الكبير ( الذي يأخذ نصف الجدار تقريبا ً بنقوشه وتعاريجه وقوة بنيانه ) جلس جابر على حشية فوق السجادة المفروشة على األرض ،يده اليمنى مسندة على ركبته ،وكفها يسند خده. ،يبحث فى فراغ مخيلته عن صور بالمنطقة تطابق أصحاب الصور األربعة الذى رسمها أبوه على األرض أمام بيت شتا ،أبوه ترك رسالة له وحده ، حفرها بأظافره ورسمها بدماءه ولن يهدأ ولن يستقر قبل أن يقرأ مافيها ويفهم مدلولها ويعرف أصحابها وينتقم منهم ولو كانو فى أقصى مكان فى األرض أو أعلى مكان فى الكون ،المشكلة أن الصور على مافهم منها إلمرأتين ورجلين ،لماذا قسمها هكذا وهل شارك فى االعتداء نساء؟ أبوه لن يفعل هذا هباء ،ولن يخرج من دائرة األلم ليرسم هذه الصور لغير ماغرض ،هو يدلهم على الجناه وعليهم أن يصلوا اليهم ،وسأصل ياأبى ، أقسم لك . بينما رضا الى جواره تنظر هنا وهناك بعينين قلقتين ،تنتظر فرصة لتخرج أيهما عن صمته ،رضا إبنة الخامسة عشرة عاما ،تدرك جيدا ً مايدور حولها ، ،هى أم أمها وحبيبتها ،تدور فى فلكها والتبرح الدائرة من حولها ،خاصة بعد مرضها وقلة حركتها ،علمتها إعتماد منذ كانت صغيرة كيف تعتمد على نفسها فى شئون البيت ،كيف تدير تلك المملكة الصغيرة بجدارة واتقان الى الدرجة التى صار اإلعتماد عليها شيئا ً عاديا ً وأمرا ً مفروغا ً منه برضا ها ورضاءالجميع بما فيهم والدها الذى كان يرى فيها أم أمها ، يضحك العتماد ويسألها عن أمها التى تتولى رعايتها ،تقول بجد -: البنت فى الصعيد تتولى المسئولية وهى أصغر من هذا بكثير ،مثلالولد تماما ً ،تتولى منذ صغرها أمور الحياة اليومية وتعيشها وتتحمل 15
مشاقها ليشتد عودها ويقوى وتكون وتدا ً لبيت وجدارا ً صلدا ً متى أراد رجلها أن يستند عليه . ظل السكون فاردا ً جناحيه في المكان ،معششا ً في األركان بينما صورة الحاج في مواجهة الداخل من الباب مصرة على التحديق فيه ومعرفة كينونته ،صورة كبيرة تأخذ مساحة من الجدار ،في إطارها المزخرف بماء الذهب ،الذي يشد النظر بروعته .ينظر الحاج في ثقة بشاربه المنمق وخدوده المتوردة وجبهته الشماء نظرة تحمل بين الطيبة والحسم ،القوة والعطف ،والشدة والتسامح .بينما يبدو من جلبابه األزرق والشال اللبني الذي يرتمي على كتفه األيمن الى جوار فتحة الجلباب التي تكشف أزرار الصديري األبيض ،يبدو من كل هذا حسن هندامه ومكانته في المنطقة . أخذ جابر بين الحين والحين يلقي بنظرات خاطفة الى الصورة ،يتأمل العينين ..محال أن يكون هذا الوجه لعاجز اآلن ،إنه ينبض بالصحة .حدقتاه فى الصورة تبرقان كعادته وهو ينظر اليك .هذا الحاج التي كانت كف يده تشهد بها المنطقة كلها والمناطق التي حولها والذي كانت تهابه األيدي اآلثمة وتحسب له الف حساب ،الذي كان صديق الفتوات وحبيب الكبراء من معلمين الحارات ..معقول يحدث هذا له ،وعلى يد جبناء خونة لم يستطيعوا مواجهته فى النور فاصطادوه فى الظالم ،ولم يستطيعوا إتيانه من الوجه فتسللوا اليه وضربوه فى الظهر ؟ ينظر جابر الى العينين ،العينان تنطقان . جابر إنتبه ألبيك.الصوت صوته بهدوئه وقوته. لبيك يا أبتي.يرفع جابر رأسه محدقا ً في وجه أبيه .القسمات تتحرك ..يقسم أنها تتحرك.. الكلمات ينطق بها اللسان .تخرج من الفم.
16
ابحث عمن تجرأ وفعلها ؟ أقسم سأعرف ،ولن أتركه.تتكور اليد ويتصلب الجسد ،تتفجر الدماء فى كافة أنحاء الجسد راسمة ثورة التهدأ ،تستجيب لها الخاليا وتشارك فيها النبضات ،تعبر عنها السنة اللهيب المتطاير من جحيم العيون ،يتلقى دفعة في كتفه ،ينتفض خارجا ً من سطوة شرودة الى عينى رضا المتربصتين به ،يرمقها بغضب ،تشير الى أمه إعتماد التي نامت وهي جالسة ،يذهب إليها ،يربت كتفها لترفع رأسها التي مالت على صدرها-: إفردي جسدك على السرير.تنظر بحدقتين ثابتين اليه .رموشها ال تتحرك .تمسك بيده :- لن يخرج األمر عن إثنينإما أم سعد وهذا أرجح أو المعلم كامل ولم التقولين الولد ابن محمد بطه ؟ ال ،ال ،اليجرؤ على فعل كهذا ،أبوه يمنعه ولو قتلهتتدخل رضا -:أو قد يكون الضابط الذى طرده أبوك من المنطقة يستدير بوجهه نحوها -: انتقل من القسم وال أظنه يعود فى الفجر ويؤجر قوما ً ليفعل هذاتعاود إعتماد الكالم -: هو كما قلت لك.يربت كتفها برفق:- لن نترك ثأرنا.تتنمر عيناها ويفور الغضب على براح وجهها -: 17
ثأرك أنت ..أنت وحدك .تحرم علي ليومالدين إن تركت غيرك يأخذ ثأر أبيك. يعلو صوتها الواهن ،يمنحه الغضب قوة ،تعيد تأكيدها عليه ،يدور عنها الى الردهة خارجا ً ،معها الحق ،لن يخرج األمر عن إثنين ،المعلم كامل الذي أراد أن يتطاول على الحاج في محله وسط المعلمين ،فعلمه كيف يتحدث معه وكيف يكون الوقوف امامه أو أم سعد وظني يقول انها هي. لن يجئ هذا التدبير إال منها ،طالق الحاج لها بعد زواج لم يدم شهرا ً غرس في قلبها الحقد ،فأطلقت لسانها عليه ،فلما لم يجد إضطرت للعنف .لكن يصل للقتل يا أم سعد ؟ لم يكفها الفرن الذي ورثته عن زوجها الثاني ،ولم يمأل عينيها – سعد وشعراوي وصفاء أوالدها –فشاغلت الحاج رضوان حتى شغلته ،بدأ يعرف طريق الفرن ،وحين أحست منه الميل تزوجته وهي تمني النفس بمكانة وسط التجار ،ونقود سائلة تعيد بها تأسيس الفرن وتجديده وتوسيعه على حسابه .ولما رفض طلبتها المتوالية وشعرت أن أمرها مكشوف له إفتعلت الخالفات معه ،لم يكفها أنه ترك زوجتيه إعتماد وكريمه في البيت الكبير وتفرغ لها .األكثر من ذلك أن أوالدها سعد وشعراوي أرادا أن يجربا حظهما معه ،كأنهما ال يعرفان من هو ،يومها وقفت الحارة على ساق واحدة تتفرج على رجال بشوارب يجرون صارخين ،وتم الطالق .أرسل لها ورقتها وعاد لبيته .ولم تنسها له. أكيد هي .وإال من يكون ؟ كانت الردهة التي يجلس فيها تحتوي على مائدة سفرة ذات زجاج مصقول وحواف منقوشة بنقوش دقيقة يدوية لورود وطيور صادحة بينما قوائمها قد قدت بأشكال حيوانات باهرة الصنعة وقد صفت حولها مقاعد من طراز 18
رغم عراقته مازال محتفظا ً بمتانته ولونه البنى الخفيف ،والى يسار المائدة قليالً صف أنتريه من األرابيسك المطعم بالصدف التقطه الحاج من أحد المزادات منذ سنوات .وفي مواجهة األنتريه مباشرة وعلى بعد أمتار قليلة منه باب الشقة الذي يقع في الممر الدائري الفاصل بين شقتي إعتماد والدور الذى يليه وبه شقة كريمه وأوالدها . خرجت رضا تمسح أنفها بمنديل صغير في يدها ،تقاوم دموعا ً تأبى إال النزول ،حدق جابر في وجهها شاردا ً ،البد من حل وحل سريع أيضاً. مرض الحاج يجب أال يكون نهاية المطاف ،هذا البيت يحتاج رعاية ،حادي يحدو الركب ،قبطان يلم الشمل ويسير السفينة ،البكاء لن يجدي ،أمامك يا جابر الثأر والدكان وأمك وزوجة أبيك ومصروف البيت واألوالد واألهل! ارتفع جرس الباب فشده اليه ،حدقت عيناه فيه بقوة .تابع رضا وهي تفتح وسمع سالمة إبن كريمه يقول ولهاثه يعلو من أثر صعوده السلم وثبا ً:- عاوزين جابر في القسمعسكري تحت ينتظره. قام جابر متثاقالً بجسده الفارع الذي يشبه جسد والده وفتوته ،متوجها ً الى الخارج في صمت .تعلقت رضا بذراعه أروح معكنزع يده برفق مؤكد سؤال وأرجع.ومضى الى السلم ،هبط الدرجات متمهالً ومضى مع الجندي الى الخارج . سار في الطريق صامتا ً يحدق في الحوانيت واألزقة كأنه يراها للمرة األولى. منذ مرض الحاج وهو ال يرى وال يسمع شيئا ً عدا ما جرى له ،أما اليوم فعيناه تتعرفان على الدنيا بمنظارها الجديد .تنبه للعسكري يربت كتفه:-
19
-
شفاه هللا .كان رجالً بحق .
إستدار محدقا ً فيه .كان قصيرا ً فأخذ ينظر اليه من أعلى .قال ببطء:- سيشفى ويعود ثانية كما كانغمغم العسكري بكلمات مدغومة وأكمل السيرفي صمت حتى وصال الى القسم ،هناك رأى جابر ما جعل جسده يرتجف إنفعاالً .كان أخوه والده وأقاربهم وبلدياتهم كلهم هناك أمام الباب ،عمائم عالية ووجوه متجهمة وحدقات ثابتة التبرح المكان متربصة بكل مايدور من حولها ،التفوا حوله كالسوار للمعصم ونطق عمه السيد نيابه عن الجميع -: فاهم كيف تقول للوكيل ؟الحنق والغضب يحيطون بالمكان ،بينما العسكر في حالة إستنفار .حدق فى عينى السيد عمه بشاربه المنتصب ورقبته الغليظة وحاجبيه الكثيين: وهز رأسه ببطء -:فاهم لحظتها فتحت ثغرة ضئيلة من الدائرة انسل منها الى الداخل وقد إمتأل صدره بعزم جديد ،نسى البيت وكل المسئوليات ولم يعد أمام عينيه إال أبيه واإلنتقام له،اإلنتقام ولو من المنطقة كلها بكل مافيها من بشر. أجلسه وكيل النيابة أمامه مبديا التقدير للوالد الذى كان يشهد له البعيد قبل القريب بالنبل واألخالق ،ومتمنيا له الشفاء سريعا ليعود ويدل على الجناه ليتم تقديمهم الى العدالة واالقتصاص منهم وممن وراءهم مهما كان ،شكره جابر على مشاعره .. وفتح الكاتب دفتره ليسجل الحوار 20
تظن من فعلها ؟ ال أدري
هل لكم أعداء ؟ال
-والقتلة هل تعرفهم ؟
ومامدلول الصور األربعة التى حفرها الحاج بدمائه على األرض أمامبيت شتا فى رأيك ؟ ال أعرف-
هل.......
-
ال
-
هل...... -
ال
نظر الرجل اليه في هدوء ،الجدوى من مناقشته والحوار معه ،لن يتراجع عن الثأر...لكن ممن ؟ ................ بدا المساء ثقيالً ،يحمل في أعماقه ظلمة مبكرة ،ومزيدا ً من أمطار تبشر بشتاء حافل يغرق الحارة ،ويصنع األوحال على طول الطريق .يفرد صمت كالح ثقيل ظله على البيت الكبير ،يخفي وراءه نيرانا ً تستعر وجحيما ً خلف الصدور ،تداريه النظرات الفاترة واألفواه التي يقيد حروفها ما وراء األستار . يدور جابر بعينيه في المكان شاردا ً ،تنحدر من عمق األحداق طيور قلق سوداء ،ضاربة بأجنحتها الجدران والوجوه والسكون المهمين على األركان ،يحملق في األثاث والجدران وصورة أبيه ،عازفا ً عن الحديث ، حتى الى أمه التي مافتأت تهيم في واديها ،محدقة فى رؤاها البعيدة 21
متجاوزة عن المكان ومافيه ،ومتى عادت الى ماحولها نادته بصوت يفور بثورة غضب جامح الحدود لمداه -: ياجابر
-
يجيب وهو يدرك جيدا ً فيم تفكر وماذا تريد أن تقول ،تسأله للمرة المليون عما انتواه وماذا سيفعل ،أم سيركن الى الدعة ويترك غيره يبحث عن ثأر أبيه. يكاد يسألها -: أبحث أين وكيف ؟لكنه ال يجرؤ .لقد حددت الجانى وانتهى األمر ،فهي تقول وتؤكد أنها أم سعد ،لن يجرؤ على تلك الفعلة غيرها ،امرأة قادرة ،عفية ،اليقف أمام جمود قلبها عائق والحدود ،تفعل ماتريد ضاربة عرض الحائط بكل من يعترض طريقها بال شفقة ،وهو يكاد يفكر مثل أمه ،لكن هناك ايضا ً كامل وله نفس الباعث تقريبا ً ،لكن من فيهما فعلها ،واذا أراد الحركة واالنتقام هل يفترض ويبنى رده على هذا االفتراض ؟ يزفر الهواء من رئتيه حارقا ً ،اليجد هوا ًء جديدا ً ليبرد مابجوفه من نيران ، تضيق به الشقة بمن فيها ،يمضي نحو الباب الى السلم ،يستند على خشبه القديم المتهالك ،بدرجاته التى كلح لونها منذ بعيد ،شئ ما يوقفه وسط السلم ينظر الى حال البيت وما جرى فيه ..الحوائط التي مال لونها لإلصفرار ،الوجوه التي أظلمت ،والحجرات التي تحولت لقبور. يغمض عينيه محاوال ً تذكر هذا البيت قبل مرض والده .الدور األرضي الذي كان خاصا ً به يقابل فيه زواره من الصحاب واألهل ،بفنائه الواسع الذي حوله الحاج لحديقة غناء تفيض بزهورها وعطورها وبديع منظرها ، وحولها بعض األرائك والمقاعد والحشيات ،المفروش تحتها سجاجيد قطيفة رائعة ،لسهراته وليالي السمر ،التي تنتهي عادة بعد منتصف الليل 22
،حيث يودع الضيوف ويغلق الباب الحديدي بالرتاج الطويل الذي طاله الصدأ ،وكان ينوي دهانه لوال أن عاجله المرض ،فإذا عاد الى حجرته وأراد البقاء في الدور األرضي وقف في فضاء الفناء ،وسعل سعلة خفيفة ، تتبعه على أثرها إحدى زوجته أو صعد هو الى حيث يريد. آ...ه فتح جابر عينيه إتجه الى أريكه متآكلة كبقية األشياء وجلس عليها..سيهدأ الجو بعد قليل. تخف األقدام من المنطقة بعد أن يهدأ العسكر والمخبرون ،وتسكن حركتهم ،ويضمن القسم األمن والهدوء ،ويحس أن األمور عادت الى سابق عادتها ،ساعتها تبدأ حركتك يا جابر وال بد أن تكون حركة سريعة تضرب فيها ضربتك وتعود صامتا ً دون أن تعلن فيها عن نفسك ،حتى ألقاربك المتعطشين للثأر. لكن من يضمن لك أن أم سعد فعالً هي التي دبرتها ؟ آه يا جابر ..مالك ال تصدق إنها فعالً مجرمة ؟ حدقت عيناه في سماء تركض فيها قطع من السحاب متناثرة كأنها تبحث عن مالذ ،للسحب وجوه مغبره ،نافرة العروق ،متجهمة الوجوه ،ظامئة الى الثأر ،وجوه آدمية وأخرى لحيوانات كما يراها ويطيور يتبع بعضها بعضا ً ولكها تدور فى متاهة الجموح ،تتسابق مالحقة أذيال من سبقها ، ربما لتمتلك فرصة الضرب بكل مالديها من إصرار .أدار وجهه عنها و أخذ يدور في المكان ،ذراعه خلف ظهره و هو يتسائل بال جواب ..من غيرها يفكر هذا التفكير ؟ هرول خياله الى الفرن الكائن في حارة خان أبو طاقية .هناك وكالة الخشب. يستطيع أن يكمن بظلمة بابها الضخم حتى إذا رأى بغيته قام بالالزم وعاد من حيث أتى ،المهم أن يتأكد أوالً من صدق ظنه وبعدها يفعل هللا ما يشاء. 23
جابرانتبه لرضا ..إستدار اليها ..وجهها المدور على ذلك الضوء الهادئ السحري الذي يلون األشياء بالصفاء تبدو مالمحه رقيقة عذبة بها دفء البراءة المحبب الذي يدخل القلب بال إستئذان .يبتسم ثغره لهارغما عن ظالم يغلف ليلته ،تهمس في جد :- عاوزة أكلمك في موضوعكبرت يا رضا وأصبح لك مواضيع .يدور بعينيه حول جسدها الذى بدأ خراط البنات يعمل عمله فيه نعم يا رضا الدكان ...الزم...تفتحهيحدق في وجهها وكأنه إكتشف أمرا ً ذا بال .يهمس بجد معاك حقلكن أمك ستوافق ؟ حاول اقناعها وحدى ال أستطيع ،مارأيك فى مشاركه كريمه معنا أم سالمه !! تعالى نكلمهاصعدا الى الدور الثانى ،دق الجرس ،فتحت كريمه الباب ،كانت الغسالة بموتورها عالى الصوت تمأل الجو بتوتر زاعق مما دفعه لطلب إيقافها فورا ً ،حدقت فى وجهه الذى اكتسى منذ مرض أبيه بمسحة هم وحزن عميقين ، قالت لنفسها مؤكد هناك أمر هام دفعه ورضا للصعود معا اليها اآلن ،رفعت صوتها أن ينتظرا قليالً الحضار مشروب لهما ،قال جابر-: ال وقت لهذاأكملت رضا -:نريدك فى موضوع حدقت فيما وراء الحدقات التى القت بلمعتها على الليل فمنحته رونقا ً رغم سواده-:
24
هاتوا مالديكمحدثتها رضا عن موضوع الدكان ،رغم أن كريمه كانت أصغر سنا ً من إعتماد ،وأحلى ،ولونها فاتح كثيرا ً عنها إال إنها تمتلك عقالً تحسد عليه. لهذا رغم المصاب الجليل وقفت تفكر قليالً ثم أعلنت موافقتها .إغالق الدكان لن يؤدي لحل ،ثم إن زبون المكان سيطفش ،وفوق هذا البضاعة ستبور ، وأخيرا ً البيت كبير ويحتاج مصاريف. قال جابر -:جميل .تعالوا ننزل ألمي نكلمها. هنا تبسمت كريمة خجالً و تراجعت بصدرها تراجعا ً ال تلتقطه إال عين خبير. إنتبهت رضا له .كانت المحنة قد قربت بين الضرتين كثيرا ً ،وصارتا تقضيان وقتا ً طويالً معا ً في صمت وشرود ،او كلمات قليلة تدور كسلى من هنا لهناك ،وكانت كريمه فى كل األحوال تحاذر من إغضاب إعتماد خوفا ً من لسانها أوالً ثم من سطوتها ثانياً .همست ببسمة محدودة األطراف متراجعه :- إال أمكضحكت رضا:- ال تخافي .أنا معكما.همس جابر :- لنرى ما تقول .اضطرت للقبول فارخت جفنيها على نصف حدقيتها وعادت ترفعهما اعالنا للقبول ،ومضوا اليها .كانت مكانها في السرير .تحمل نظراتها الشاردة وصمتها المقيم ،رأتهم يدخلون تباعا ً ،إنتبهت لهم لكنها لم تنطق بحرف . إقتربت رضا تعيد تنظيم السرير ،تنظم الوسائد خلفها وتقرد الغطاء ،بينما ركنت كريمه ظهرها الى الدوالب وجلست على حشية من القطن بعد أن
25
القت السالم ،وتركت جابرا ً يقف محدقا ً في أمه التي أحست أن هناك شىء ما ،سألته -: مالك ؟وكأنما أمرته بالكالم .إندفع قائالً:- أريد فتح الدكان .سأفتحه باكر إن شاء هللاليفاجئ بها تفتح عينيها وتصرخ فيه بقوة:- الدكان...ال لماذا ؟ لن يفتح اآلن. ومن أين نأكل ،والبضاعة الموجودة فيه ،والزبائن ؟ عاوز تفتح الدكان يابن بطني وتقف تتفرج عليك الخالئقوأنت رأسك في الطين ؟ في الطين !! أنا!!-
سيقولون هذا واكل ناسه ،تارك ثأره
ومال الدكان بالثأر ؟واستدار مستجيرا ً بكريمة -: اتكلمى ياأم سالمه هي كلمة ..ثأر أبوك أوال ًنظر الى رضا .تركها الى كريمه .اإلثنان غشى عليهما صمت شل منهما عضالت النطق .همس بهدوء وهو يستدير :- ال فائدة من الحوار معك.ومضى عنها. ...................... 26
مستترا ً بالظالم الممتد أمام ورشة الباجوري كمن جابر ليالً ،نور حارة خان أبو طاقية فى ذلك الوقت من الليل ضعيف يتسرسب من بعض النوافذ ، أو من لمبات صفراء شاحبة ،ويرتمي بقعا ً مضيئة هنا وهناك ،تاركا ً بقعا ً أخرى تركن الى الظالم. ورشة الباجوري بها منشار الخشب بابها سميك ،يغلق ليالً بعد خروج العمال ،يسد الفتحة تماما ً ،تاركا ً مسافة بقدر سمك الجدار ،حوالي أربعين سنتيمتر في ظلمة ال يكاد يهتم بها أو يرى منها أحد من المارة ،أو من يضطر للنظر من النوافذ ،وعلى مبعدة مائة متر تقريبا ً منها يقع الفرن ببابه الصغير نوعا ً والذى تعلوه لمبة شاحبة االصفرار تغلق قلب الليل بالكاد. أما في الليل وخاصة بعد إغالق المقهى والمحال المجاورة له وكذا بوابة الوكالة فالصمت هو السيد ،والظلمة هي مالذ السكون ،ال يكاد صوت يرتفع إال لمار ،قادما ً أو رائحا ً تدق قدماه األرض ،فيدوي اإلرتطام في الجنبات عاليا ً ثم يبتلعه النسيان .وعادة ال يتحرك أحد ليالً –عدا عمال الفرن –إال بين الحين والحين ،قادم من وردية عمل أو ساهرفي مقهى أو خالفه ،أما الفرن الذي يظل طوال الليل والنهار في عمل ،وردية بعد آخرى ،تحت إشراف سعد وشعرواي بالتبادل ،فإن أحدهما على األقل البد أن يعبر الحارة ليالً .وحده أو مصادفة مع أخيه .وهذا ما قصد اليه جابر ودبر له ، أن يدفع األبناء ثمن غدر أمهم أم سعد ،وليت الذى يمر اآلن يكون شعراوى ألن له معه حديث ذو شجون ،فقديما عندما كانا يلعبان معا ً فترة زواج رضوان بأمه كانا اليكفان عن الشجار ،واذا تصالحا وهذا كان قليالً جدا ً كانا دوما ً يتنافسان من فيهما أقوى ،ومن فيهما أشد ،وبعد وقوع الطالق حاول شعراوى أن يفرد قامته فى المنطقة مطلقا ً لسانه فى أبيه فوقف له وتشاجر معه ،ولم يكف يده عنه اال أبوه الذى عنفه وأمره اال يتدخل فى أمر اال بعد مشورته ،أما هذه األمور الشائكه فهو وحده القادر على حلها سواء بتأديب من يفكر مجرد تفكير فى مس سيرته بكلمة سوء ،أو من يظن أنه 27
يستطيع الوقوف أمامه مهما كان ومهما كان من يسانده ،وشعراوى هذا ايضا الذى ينافسه على سعدية إبنه فتحية بائعة الخضارأشهى نساء المنطقة ،التى تزوجها عبده زياده بائع الحشيش ،ورحل عنها الى المعتقل متهما ً بمقاومة السلطات والمتاجرة فى الصنف وحكم عليه بالمؤبد مما دعاها وبتشجيع البعض ممن لهم الغرض منها أن يحرضوها على طلب الطالق منه ،ثم التسابق على من ينال ودها ويفوز بالقرب منها ،يتذكر جابر فى تلك اللحظة سعديه وعينيها الواسعتين الشهيتى النظرات بأحداقهما السوداء وعودها الفارع الممتد السارح الناعم النحيل الذى التشوبه شائبة وال يعيبه عيب ،المرأة تعرف عاشقيها ،تمنيهم بنظرات العين لكنها التنطق اال بالصمت ،تحتج بعدم رغبتها فى االرتباط بعد عبده زياده ..يقول الكثيرون أنها تفعل هذا حتى تتفرغ لتجارتها الخفية فى الصنف ،وأنها لم تهجر عبده وتتنكر له كما يظن اآلخرون بل هى خطة لها معه لإلستمرار فى تجارة تجنى الشهد ،لكنها على كل حال التمتلك القدرة على صد جابر لما لها من أحاديث قديمة معه ،قبل زواجها من عبده ،وهى ايضا تعرف جيدا ً من أبوه ومن هم أهله لذا تتقرب منه بحذر فتبسط األمر مرة وتقبضه أخرى وهى فى كل الحاالت سعدية أشهى النساء. يستند على عصاه في الظالم ،عيناه ترقبان المكان ،أذناه تتربصان بأي صوت مار ،وقلبه يدق عنيفا ً صاخبا ً ،يفكر فيما إذا صرخ الضحية حينما يخرج له ،وهل يستنجد بمن في الفرن أم ال ؟ يجب أن يكون الهجوم مباغتا ً ال يعطي فرصة لصراخ ،لو خرج عليه العمال ستكون كارثة، سيذهب دمه هدراً .وبدالً من الثأر سيضيع هو ،وتنتكس رؤس العائلة الى األبد ..عادت له صورة أبيه وهويراه ألول مرة مطروحا ً أرضا ،هز رأسه مرات وهو يحاول إبعاد ذهنه عن صورة الدماء المتناثرة على األرض ، عمامة أبيه وهى ملقاة الى جواره بال حول ،والرسوم األربعة التى تصرخ فى وجهه ليل نهار (..اياك أن تنسى أو تتناسى ماحاق بأبيك ) ، يتذكر كل هذا وتفور أمام عينيه صورة الدماء التي قد تتناثر فوق رأسه ألي
28
خطأ يرتكبه ،خاصة أنه هنا بين فكي وحش ال يرحم ،يجب عليه -كما خطط من قبل –أن يضرب ضربته ويمضي في هدوء ،يصمت ال يتكلم ، يترك األمور تسير والكلمات تكثر واألصابع تشير ،وهو ينظر ويرى وال يفتح فاه بكلمة .هكذا يكون الثأر والعين بالعين والبادئ األظلم .القتل ليس غاية في حد ذاته لكن ما جرى أقوى منه ،ثم أنه لن يقتل لذا أتى بشومة معه ولم يفكر فى اصطحاب مدية أو سيف أو حتى مسدس أبيه التسعة مللى الذى يحتفظ به منذ سنين ،ثم أن شعرواى نطق كالما ً فيه رائحة تشفى تشير وربما أكدت أنه الفاعل ومعه أخرون ،إن تركه جابر اليوم ماذا يقول عنه أهله وأهل أبيه وأمه غدا ً ؟ ترك ثأر أبيه!! سيكتب العار عليهم جميعا ً إن هو لم يتحرك سريعا ً ويظهر فتوته ..التقطت إذناه أصوات أقدام آتيه .أكثر من قدمين تأتيان من ناحية السوق ،دق قلبه بعنف ،لو تقدم وقابلهم في منتصف الطريق وقطع عليهم سكة الفرن فسيعرف كيف يتعامل معهم بسرعة وقوة ويفلت فى ستر من الليل ،شرط أال يزيد عددهم عن اثنين سعد وشعرواي. إنزلق كفهد بجوار الجدران الغافية الى األمام ،رأى على البعد شبحين قادمين ،جثة ضخمة تتحدر فى سيرها ،تهتز يدها اليسرى جيئة وذهابا ً فى سيرها ورأسها الضخمة بعروقها النافرة مسددة لألمام فى عنف ،وأخرى نحيلة الجسد تتحرك مسرعة ويداه تتسابقان فى الحركة مسايرة لحركته ورأسه تتحرك يمنة ويسرى بال توقف ،إرتاحت النبضات في جوفه .هؤالء بغيته سعد وشعرواي ،بوثبة كان أمامهما وعصاه في يده .أنفرد جسده المارد في العتمة ألعينهم .فزع سعد وأرتد الى الخلف ،أرتجف شعرواي للحظة تمالك بعدها نفسه وهتف:- من ؟ولم يتلق رداً .أرتفعت العصا ألعلى .لمحها بسرعة البرق وأنحرف عن مسارها ،مد جابر يديه بسرعة مطيحا ً بالهواء .تحجرت نظراته وإنقبضت 29
عضالته أكثر ،إرتفعت حرارة الدماء في عروقه .هجم على شعرواي ثانياً. تلقى الضربة بذراعه ،صرخ من األلم ،إرتفع عويل سعد-: الحقونا يا ناسبينما شعرواي يحاول اإلفالت ما إستطاع من ضربات غريمه ،انشق الليل عن أقدام تسعى ،وجوه تحدق وآذان تتنصت باحثة عن مصدر النداء ، هرولت األقدام ساعية نحوهم ،إرتعدت عينا جابروهو يرى حلقة تكتمل حوله ،فكر في اإلرتداد للخلف .قطع عليه تفكيره قدوم آخرين من ناحية السوق من البيوت المجاورة على الصفين ،واَنوار من النوافذ تتألق ومن الشرفات تنتشر ،رفع عصاه محاوالً كسر الدائرة الجهنمية التى أحاطت به والمرورمنها ،القى أحدهم بعصا لشعرواي الذي كان تنفسه هادرا ً كزئير، تواجه الخصمان .تالقت العصا و العيون واألزرع .زمجر شعراوي بصوت راعد:- لماذا جئت ؟واجهه بذات الصوت: ثأر أبياحتد الصوت أكثر وهدر فى فراغ الحارة -:هنا!! صرخ جابر مؤكدا -:أمك وراء الموضوع دفعه شعراوي حانقاً .ارتد جسده الى الخلف .إعتدل سريعاً .رفع يديه ألعلى لترتطم عصاه بعصا غريمه عاتية .صرخ شعرواي: الم تعرف ما جرى ألمي منذ سماعها الخبر ؟ارتجف صوت جابر قليالً -:أنت كذاب جاوبه شعراوى بقوة -:وأنت أعمى 30
إرتد اإلثنان للخلف ،تقدم سعد يؤازر شقيقه من ناحية ،استدار رمضان الفران الذى يلعب المصارعه فى الساحة الشعبية بشارع بورسعيد من الناحية الثانية ،والى الخلف تسلل محمود وحمدان العامالن بالفرن وبدأ الجميع االستعداد لالنقاض على الفريسة التى وجدوها سهلة الصيد واهية الريح ،أخذت العيون تبرق واألفواه تزمجر وبدأت العصى تهز قلب الليل بكثرتها ،تتقدم منه قوية غاضبة تنذر بالويل ،وهو يتأخر نحو الحائط ، يحمي به ظهره ،وعصاه في يده يرد بها من مهاجميه ..يأس قاتل راوده وهذه العصى تحيط به ،ال نجاة منهم إال بالموت ،لكنه لن يموت ، سيوسعونه ضربا ً ويخرجوه من الحارة مهانا ً وربما حاصروه بزفة شامتة الى بيت أبيه ،تدافعت الدماء صارخة فى عروقه ،لن أسمح لهم باإليقاع بي حيا ً..تعالت األصوات مطالبة بتقييده وتلقينه درسا ً الينساه ،وتعليمه أن للحارات حرمة كحرمة البيوت اليمتلك هو وال غيره االعتداء عليها أو دخولها حتى بدون استئذان . إندفعت األيدي مخالب متوحشة تتناوشه من هنا وهناك وهو يتلقى الضربات على عصاه محاذرا ً أن تطوله ضربة ،أو تخور قواه ويقع مثل أبيه فريسة سهلة ينهشها الناهشون وهم هنا كثر ،بدت له صورة أبيه من جديد وهى تخايل عينيه ،رآه وهو يسير معتدال هادر الخطوات مرفوع العمامة نظراته ثاقبة كعينى صقر تخترقان القلوب قبل األعين ،بدت له صورته وهو يدفع كامل أمام رواد مقهى محمد بطه وكامل يهمس متوسالً اال يحرجه أمام أهل المنطقة ،وبدت له صورته وهو يجمع شلة األوالد الذين تخيلوا أنفسهم قادرين على فرض إتاوات على الناس ببعض المدى ومسدسين وكيف ربط سيعا إبن محمد بطه من قدميه وضربه عليهما أمام الخلق ،وجاء محمد بطه شاكرا ً له صنيعه قائالً أمام الجميع إبنه ورباه ، ورآه وهو يمسك بعصاه ويجرى وراء شعراوى وسعد وهما يهروالن أمامه طالبين النجاه ،ورآه وهو يصرخ فى ضابط القسم مطالبا ً إياه بالرحيل فورا ً دون أن يقبض على مخلوق فى حضوره ،ثم رآه وهو ملقى على األرض 31
والدماء حوله وعمامته بجواره يعلوها التراب وهو فى غيبوبة اليدرى ماالذى جرى له ،كل هذا فى لحظة خاطفة أو أقل من لحظة شعر بعدها بذات المصير يلح فى طلبه ويسعى جاهدا ً اليه ،فاستماتت يداه على العصا عازما ً برغم كل شىء اال ينالوه حيا ً مهما كلفه هذا من جهد ..أخذ يناوش مهاجميه وظهره للحائط والعيون نيران تنصب على وجهه وشباك ومصائد تنتظر منه غفلة لتنقض عليه واأليدى والعصا تحاوره ،بينما الصراخ من حوله وفوق رأسه اليهدأ له ضجيج .بدا الهالك حتميا ً في وقفته هذه وسط الحارة والكل يريده ،و دم أبيه يخايل عينيه هنا وهناك ،وجسده مسجى على األرض ساكنا ً حتى من اإلحساس بألم الهوان األخير . ستلقى مصيره ياجابر بتهورك .العصا تصد هنا وتصد هناك وقد بدأت عضالت يديه تحتج على هذا الجهد ،والعرق يغزو وجهه ،ويتخلل منابت الشعر في جسده ،وهو كراكب الموج قاب قوسين أو أدنى من الموت ومع هذا ال يسلم له .ترتفع به موجة ألعلى ،وتهبط به آخرى ألدنى ،وهو يحاول ماوسعه الجهد .حتى إذا غفل ثانية عن جهة ،ثانية واحدة أو أقل من ثانية ،أتته ضربة على جنبه ،أطاحت أخرى بعصاه ،ورأى نفسه وحيدا ً وسط غابة من وحوش ،أعين نارية تحاصره ،وكلمات شامتة تلقى فوق رأسه وأيدى لها مخالب وأفواه لها أنياب تمتد لتنهش لحمه وهو وحده بالحول ،يرفع يديه أمامه اليدرى كيف يصد كل هذا العدد وكل تلك الكراهية فى العيون وكيف يتقى الضربات التى البد ستكال له من العصى المتربصة به ،وأمتدت المخالب واألنياب لتنهش لحمه وتسحق عظامه كما تشاء ،لوال أن إرتفع صوت واهن على بعد ابعدوا أيديكم عنه.سرت الحروف الواهنة مسرى الكهرباء فى ثوان ،كفت األيدى ،ارتدت األظافر ،تحجمت األنياب ،وتقدمت أم سعد قادمة من عمق العتمة عظيمة
32
الهامة بجسدها الضخم ذو الشحم المديد ،بثديييها الكبيرين الذين يمتدان فى اعتداد أمامها وهى تستند على ذراع إبنتها صفاء. سارت يسبقها صوتها العريض ،بوجهها العريض المسطح الشاحب الذي يحمل إمارات حزن ال تغيب. تقدمت على مهل ،وقد أطاع الكل كلمتها ،حتى شعرواي المعروف عنه تهوره وجنونه وقف يلهث الى جانب سعد ،مواجهين لجابر ومحيطين به مع بقية العمال استعدادا ً إلفتراسه. إقتربت من الجمع ،وسع لها الناس الطريق ،واجهته ،كانت عيناها حمراوين وخدودها ذابلة ونظراتها منطفأة على غير ما تعود منها. قالت له نفسه جاءت لتشمت بك ،تلقى عليك نيران كلماتها قبل أن تأمر بالتهامك ،مؤكد أمرك أنتهى ،والذي حدث مع أبيك من المهانة سيحدث معك ،أبوك اصطادوه غدراً .أما أنت فقد أتيت بنفسك ،دخلت جحر الثعابين بقدميك ،قدمت نفسك فريسة سهلة ألنياب الترحم ومخالب التطيش ،انتظر الوثاق واإلهانة ولتصبح بسبب تهورك وسوء تقديرك عبرة لمن يعتبر ،ظننت نفسك وحدك تستطيع أن تفعل شيئا ً ما ،وحدك تستطيع أن تخطط وتنفذ وترفع رأسك والناس تصفق لك ،ظننت األمور سهلة وأن الكل سيرتعد وهو يراك قادما ً لتعتدى عليه متجبرا ً باسم عائلتك وقوتهم وشدة بأسهم ونسيت أن أباك رمز هذه العائلة وكبيرها ذاته قد ذاق الهوان برغم كل شىء . عال صوت أم سعد قاطعا ً رحلة شروده -: صحيح يا أوالد الولد سر أبيهثم حدقت فى عينيه ،لعينيها بريق العنفوان ،لحدقيتها مقدرة على الغوص فى األعماق رغما ً عن ارادتك واستالب روحك منك ومد نفوذها الى أعماق
33
قلبك حاكمة على نبضاته وبحار مشاعره ،ضربت بحديد نظراتها فى بؤبؤ عينيه -: -
ما الذي آتى بك الى هنا ؟
حدق في عينيها .ذات العيون القادرة المحتدة اآلمرة الناهية ذات القوة والسلطان .رفع رأسه بقوة .لن يكون هناك أسوأ من هذا .ليجري ما يجري. أموت بكرامة أفضل من التذلل أمامها. ثأر أبي لن أتركه.تبسمت بسخرية باكية المالمح وهى ترد عليه -: -
وجئت ليالً مثل اللصوص لتأخذه ؟
لن أترك ثأري وإذا مت فلن يتركه أهلي.أشاحت بيدها الغليظة قائلة – ثأرك يابني أبحث عنه وانا أساعدك. تساعديني!!أدارت وجهها عنه الى الوجوه المحلقة حولها. ال فائدة.قالتها وهي تشيح بيدها .عادت األصوات تهدر والعصى تلوح. رفعت يدها وهي تحاول التحدث بالقوة قدر ما تستطيع اتركوه يمضيصرخ شعرواي ألول مرة منذ جائت لن أتركه.34
وتجرأ سعد - :سأشرب من دمه. حدقت في وجهيهما معاَ .قالت بإشفاق -: حمله ثقيل ياولداه .مسئولية بيت وعائلة وثأرربنا يعينك يابني .مع السالمة. وسع له الخلق ليمضي قالت وهي تتوكأ على يد صفاء عائدة في هدوء:- الحارة من اآلن يتم إضاءتها طوال الليل...................... إهتزت المنطقة لمقدم أم سعد. رآها المعلم محمد بطة صاحب مقهى األنوار قادمة ،اكتسى وجهه بقناع من دهشة كبير ،تتوكأ على ذراع صفاء إبنتها فى هدوء واثق ،محدقة امامها بذات النظرات الحديدية الثاقبة ،محركة قدميها على مهل وإن كانت تعرف جيدا ً أين تسير ،هب من جلسته على باب المقهى مرحبا ً وهو يسأل نفسه ماالذى جاء بها وهى المريضة منذ حين هنا ،خاصة بعد مرض رضوان ، وبعد ماجرى فى حارة خان أبو طاقية بين أوالدها وعمالها وبين جابر ، الجرأة فاضت وطفحت منها ،أو ربما هى كسرة رضوان وماجرى إلبنه أطمعها أن تأتى وتتشفى بنفسها . هنا هز رأسه سلبا ً رفضا ً لهذه الفكرة ،عادت خواطره تشاطره البحث ، ليست أم سعد التى تفعل هذا ،شخصها وسيرتها اكبر من هذا ،إسمها ايضا وحده فى حارة اليهود له وقعه وقوته بالرغم من أن الفرن طوال عمره يسمى فرن أوالد عثمان اال أنها ومنذ تسلمت إدارته بعد موت محمد عثمان زوجها قبل األخير والفرن يعرف بفرن أم سعد ،وفوق هذا فكل معلمى المنطقة يعرفون من هى أم سعد ،هو يتذكر جيدا ً وقعتها مع
35
رضوان وكيف وقفت فى دكان القماش قرب الموسكى تناطحه الكلمة بالكلمة وحينما صرخ فيها -: خدى بالك أنت تتحدثين مع رضوان عبد العالحدقت فى عينيه بنيران نظراتها المتأججة والتى تكاد تحرق المكان كله بمن فيه -: والتنسى إنك تكلم أم سعدالقى بالقماش التى أتت لتعيده اليه أرضا ً ،طلب منها المغادرة فورا ً ،شدته من ياقة جلبابه صارخة فيه -: مثلما القيته على األرض ستأتى بهلطمها على وجهها غاضبا ً وبدنه ينتفض من الغضب وشاربه يتأرجح بقوة على ضفاف شفتيه الصاخبتين ،وهو يسب ويلعن ويقسم اال يفلتها ومن وراءها ،مدت يدها تريد رد القلم ،تجمع الخلق فى سوق القماش المزدحم دوما ً فى مثل هذا الوقت من النهار وحالوا بين اإلثنين ،وكان يوما ً مشهودا ً فى تاريخ الحارة الطويل . معقول أم سعد في حارتنا ؟تعالي ...تعالي ..إستريحي من المشوار. همست وصوتها يتهدج:- ال يوجد وقت يا محمد .كلمتين وأمشي. خير أن شاء هللا. -إن شاء هللا خير.
36
هرول بنفسه حامالً مقعده اليها ،الى جوار باب المقهى جلست الى جواره تلتقط أنفاسها ،صرخ فى صبيان المقهى أن يأتوه بزجاجتى مياه غازية ، أشاحت بيدها رافضة ،قالت -: جئت ألمر وجدته هاما ً وسأعود فورا ً آتى بالعربة ألكون معك ليس الى هذه الدرجة ،معى صفاء الى أين ؟ الى بيت رضواناتسعت عيناه وصدره وروحه لمزيد من إمارات الدهشة والعجب لجرأتها ، هذه المرأة جنت ،لم يغلب جنونه فى المنطقة سواها ،قلبها ميت اليعرف التردد ولو لبرهة مهما صغرت .اتسعت ابتسامته ،سألها -: هل لى أن أعرف لماذا ؟دون أن تتغير تعبيرات وجهها الصارمة قالت -: لحظات وستعرفكانت صفاء ابنتها من النوع الشاحب الوجه الحلو التقاطيع ،الذي يمتاز بنحول الجسد ورقة النظرات وهدوء الصفات عكس أخويها سعد وشعرواي. كانت قد توقفت عن الدراسة بعد أن رسبت في السنة السادسة في المدرسة اإلبتدائية ،وقررت أمها أن تبقى في البيت إنتظارا ً للعريس. أكملت السير مع أمها لتقابل الحاج كامل الذي كان كعادته يجلس أمام وكالته ،والخيش من حوله أكوام متراصة ،والعمال بالداخل وسط األتربة وأكوام الغبار والخيش المتراص يعملون. ،اتسعت حدقتاه عن ذى قبل وهو يلتهم كل مافى الكون من دهشة ، ترك مبسم الشيشة جانبا ً وكذلك الضيف الذي كان يجلس اليه وأتجه اليها متهلل الوجه .-: ما هذا النور ؟ أم سعد بحالها!37
تعالي..تعالي كيف حالك يا كامل ؟ الحمد هلل..تعالي ال ،إبقى تعالى أنت .أريدك في موضوع آمري .لكن .الى أين ؟ كلمتين هنا وأمشي أجي معاك ؟ ال ،المهم أال تنسى موعدنا. حاضرهمست صفاء في أذنها ماما .أنا خائفةتبسمت فى وجهها بإستهانة أنا معكوتقدمتها الى أن وصلت الى دار رضوان ،انطلقت قدماها بعد وهن واستطاعت أن تطوعهما إلرادتها ،أو ربما هو الهدف التى جاءت من أجله دفعها دفعا ً أن تتقدم وتتجه الى البيت التى رفضت قديما ً أن تقيم فيه مع رضوان ،وأصرت أن يكون لهما سكنهما الخاص فكان لها ماأرادت واستأجر لها شقة فى شارع الخرنفش مالبث أن تركها بعد الطالق . دقت صفاء جرس الباب ،هرولت رضا لتفتح ظنا ً منها أنه جابر الذى خرج باكرا ً ولم يعد حتى اآلن ،وجدت أمامها إمرأة هائلة الهامة ،تحدق بعينيها الواسعتين فى وجهها الصغير سائلة بصوتها العريض -: 38
أين أمك يارضا ؟وتقدمت الى الداخل فورا ً ،آمرة ابنتها صفاء برد الباب خلفهما ،إرتجفت إعتماد غضبا ًحينما وصفت لها رضا شكل المرأة ودخولها الباب بجرأة دون أن تدعوها أو حتى تطلب منها االنتظار لسؤال أهل البيت ،غريمتها القديمة العتية القوية الشرسة ،المرأة البجحة التى لم تتورع عن فرض شروطها على رضوان سيد المنطقة كلها ووقفت أمامها هنا وهو يطلب منها أن تتفرج على البيت وعلى شقتها التى خصصها لها فيه ويؤكد لها أنها ستكون مستقلة تماما ً عمن فيه ،لم تتورع عن مواجهته بالرفض ،األكثر من هذا لم تكترث بها وال بمشاعرها كزوجة أولى لرضوان بل تعاملت معها كسيدة لها قدرها وارتفاعها أمام خادمة وأقل من خادمة وحتى حينما كانت تزورهم فى المناسبات لم تفكر مرة واحدة أن تحادثها حديث الند أو الشريك فى رجل أو حتى المساواة كامرأتين قبل كل شىء ،لماذا تجىء اآلن ووحيدة بطولها دون خوف أو جزع أو حتى خشية من ردفعل طائش نتيجة لما فعلته وأبناءها بجابر وهو فى قبضتهم ،جابر الخائب الذى يالحقه الفشل أينما راح ،ابن كبدها الذى هز صورة العائلة كلها ومرغ إسمها فى التراب دون أن يترك لهم فرصة لرد أو حتى ايالم .لماذا تجىء اآلن تلك المرأة ،هل وصل بها التشفى مداه للتجرؤ بالحضور الى هنا ،ومتى طلبت مقابلة اعتماد ؟ ضاع الضعف والوهن والمرض منها ،ذهبت األحزان والحسرة ولم يتبق إال كره وغضب ،وأم سعد ! حدقت فيمن حولها شاردة النظرات ،وقد أكتسى وجهها األسمر بحقد وعناد ،أزاحت الغطاء عن جسدها بعيدا ً ،تحرك الجسد المنهك بقوة الغضب ، مضت نحو الباب ومنه الى السور الحديدي تحدق من أعلى لتتيقن من الخبر .كانت أم سعد لحظتها قد وصلت الى منتصف الفناء فصارت تحتها مباشرة تلتقط أنفاسها ،والى جوارها صفاء التى أخذت تحدق في األرض وهي تدعو هللا بالسالمة والرجوع بأقصى ما يستطيعون. 39
عال صوت إعتماد حادا ً قاطعا ً مليئا ً بالغضب :- ما الذي أتى بك يا رئيفة ؟رفعت أم سعد رأسها الى الدور األول حيث تقف إعتماد .قالت بصوت هادئ: جئت ألجلك يا إعتمادإستدارت إعتماد بحدة الى الداخل وهي تشيح بيدها وأنا لن أقابل أحدا ً.ليعلو صوت أم سعد العريض خلفها -: بل ستقابليني وتسمعيني من أجل جابرإضطرمت النيران في صدر إعتماد .المرأة تتطاول عليها في بيتها !!رئيفة جنت وجاءت تهينها هنا في بيتها .صرخت تهدديني في بيتي يا رئيفة ،هل هي وصلت لهذا ؟نفخت أم سعد الهواء بقوة وهى تكافح لإلستمرار فى الوقوف هاتفة -: إفهمي يا إعتماد تقتلي القتيل ولك عين تدخلي بيته ؟ لم ولن يحدث ولماذا جئت ؟ لتتفرجي علينا ؟ بل ألحمي جابر جابر!! -كثرة كالمك ودفعك له جعله يتصرف بجنون.
40
ال يفكر ،وال يتدبر ،وال يسأل حتى من اعتدى على أبيه ماذا تقولين ؟كانت المنطقة قد إحتشدت أمام الباب الحديدي ،عيونا ً ترقب وتتابع وتحدد وتقارن ،وأذانا َ تسمع ،وأيادي تتزاحم لترى أكثر وتسجل أكثر .صرخ فيهم محمد بطة الذي قام من مكانه أمام مقهاه على عجل ٍ وجاء يستطلع األمر . طلب من الجمع أن يمضي الى حاله ووقف صامتا ً ،رافضا ً التدخل بين المرأتين .مهما كان األمر ،فكلتاهما إمرأة لرضوان هللا يرحمه. أما الحاج كامل فقد مد بوزه وأخذ يرقب البيت من أسفله ألعاله ومن أعاله ألسفله .يحدق في الدور األرضي بما فيه وخاصة مجلس رضوان القديم. ويمد عينيه الى أعلى .الدور العلوي وكريمه بثيابها البيضاء التي زادتها جماالً وكشفت بياضها ،والمنديل أعلى رأسها يظهر الشعر الكستنائى المحيط بالوجه الرائق والعينين العذبتين .ثم ينقل نظراته للناحية اآلخرى ورضا الحلوة التي بدأت تمتلئ وتتشكل لتهز قلوب شباب وعواجيز الحارة. تقدم وهو يفرد ذراعيه بجلبابه الملئ بالتراب والغبار الى الداخل يريد الكالم .أمسك المعلم بطه بكم جلبابه -: ال داعي يا كامل.حدق فيه بحدة ،لو كان أحد غيره لرأى منه الويل .أما هو فال يملك له إال اللين .يعرف أنه يتخذ مقهاه هذا مركزا َ لنشاطه في تجارة الكيف .وأنه له صبيانه ورجاله والناضورجية وكذلك الفتوات إذا لزم األمر ،إذا إحتاج الى أحدهم ،وهو عادة في أي معركة ال يحتاج ،قوته ومهارته وقلبه الميت في النزال تتحدث وحدها عنه .لم يكن يمأل عينيه في المنطقة كلها إال رضوان وقد رقد ،وقف كامل حانقا ً وإن لم يبد ما لديه. رأى بطة جابر قادما ً من بعد .صرخ فيه أن يسرع ،دفعه الى الداخل لتلقف عيناه أم سعد في وقفتها ،إضطرب ،كاد يعترف لها إنه عاد الى بيته ليلتها 41
وكسر عصاه ،وأنه ألول مرة في حياته يعرف مرارة الندم وحرارة البكاء، وأنه بكى كم لم يبك من قبل ،وأنه حين حكى لعمه السيد ما جرى كاد يقتله على فعلته ،وأنه أمره إال يفعل شيئا ً بعدها قبل الرجوع اليه .كان للمرأة جميل في عنقه فلم ينطق بحرف ،لوال تدخلها وفى اللحظة الحرجة لكان األمر غير ماكان ،كلما تذكر ورطته واأليدى تستعد لنهشه ،والعصى فوق رأسه ،والبعض وقد فتح مطواته استعدادا ً لإلنقاض عليه ترتعد روحه غضبا ً وحنقا ً على نفسه وعلى تهوره الذى قاده لمثل هذا الموقف الذى لن ينسىاه مادام فى صدره نبض يثور ،حدق في وجهها مأخوذاً .غير أن صراخ أمه الحقه :- يا خيبة أملي فيك يا ابن بطني .جئت برئيفة تكسرني بكتعايرني بك ،تذكرني بخيبتك ؟ سأعطي لبنت من البنات السالح تأخذ ثأري. قالت أم سعد بنفاذ صبر:- أسمع يا جابر .أنت رجل مثل أبيك ولن تترك ثأرك.وهللا العظيم ثالثا ً يا بني أمام الناس جميعا ً وهللا الشاهد وهو الوكيل ليس انا وال أوالدي .ولكي تتأكد انا مستعدة أضع يدي في يدك لمعرفة القاتل. ومدت يدها اليه .غير أن أمه عادت تصرخ تحرم علي ليوم الدين لو وضعت يدك في يدهاخطافة الرجال .القاتلة صرخت أم سعد وقد فاض بها الكيل كفاية غل يااعتماد42
إن لم يأخذ بثأر أبيه لن يلزمنيكانت اليد ماتزال ممدودة .همس جابر وهو ال يعرف كيف يداري ضيقه بتصرفات أمه وحدتها -:انا مصدق يمينك .وكفاية حضورك الى هنا وأستدار تاركا ً المكان كله عائدا ً الى الطريق ،دون أن يضع يده في يدها ......................... امتأل شارع سوق السمك لحافته بأقارب وبلديات وأصدقاء رضوان ،جاؤوا جميعا ً بقلوب مترعة بدهشة عارمة لرجل كان ملء العين تهابه القلوب واألبصار ،تلوذ بحماه النفوس وهى تعرف جيدا ً من هو ،تراه وتتابعه وتعرفه وتعجب له وبه ،فقد كانت له طريقة فى سيره يعرفها القاصى والدانى ،يمضى فاردا ً صدره العريض بجلبابه الذى تعلوه الكوفيه على كتفه األيمن وعمامته السامقة البيضاء بنظراته الحادة الثاقبة ويداه المديدتان اللتان تتأرجحان أمامه وخلفه أثناء سيره ،وكلماته الصريحة التى رغم حدتها اليمتلك سامعها أن يقول أنه يحيد عن الحق فيها أبدا ً ،قد يجرح بكلمة أحدا ً وقد يغضب أحدا ً آخر ،وقد يفاجىء ثالث برأى يستفزه لكنه فى كل األحوال يصدر عن نفس صافية العوج فيها ،يحافظ على الصالة ويؤديها حسب ظروفه اما فى المسجد أو البيت اليفوته وقت واليتقاعس عن صالة ويمد يده بالعطاء لمن يرى أنه يستحق أما غير هذا فالينظر اليه وبسبب صراحته أو جرأته الزائدة هذه تعرض كثيرا ً لمواقف كان دوما ً يخرج منها مرفوع الرأس الينحنى أبدا ً مهما كانت الظروف ومن أشد هذه المواقف التى التنساها المنطقة كلها والتى يتحاكون عنها الى اآلن ماجرى له يوما وهو فى طريقه الى الدكان عندما وصل تقاطع نهاية حارة اليهود مع بداية الموسكى خرج عليه خمسة من األشقياء .أجساد ممدودة وعضالت مفتولة ،ووجوه مقنعة ال تظهر منها إال العيون – وثبوا عليه ، أرادوا طرحه أرضا ً ،وتقييد حركته ،وضربه أمام أبناء الحارة كلهم ، ليهينوه إهانة ال يرفع رأسه بعدها .لكن الرجل لم يمكنهم منه رغم المباغتة. 43
جسده الضخم وعضالته القوية رغم تقدم عمره حاال دون ذلك ،إستطاع أمام الجمع الذي احتشد من األنحاء أن يمسك بأحدهم من ساق ويد ،ويقذف به إثنين من زمالئه ،ويبادر الى اإلثنين اآلخريين ويتلقاهما بكلتا يديه في وجهيهما ،فيلقيهما على ظهريهما ،وهرول الى دكان العطارة أمامه على قمة الحارة وسحب عصا الشمسية المفرودة أمام الدكان ،وعاد من جديد. غير أنه فوجئ بزجاجات المياه الغازية الفارغة تنهمر عليه ،وبأثنين يحمالن أسلحة بيضاء يتقدمان منه .عيونهم الجاحظة من وراء األقنعة ترسل شررا ً نافذا ً ،وأيديهم مشرعة نحوه في عزم .داست قدماه الزجاج المكسور المتناثر ،وتفجرت منها الدماء غير أنه لم يبال ،صرخت النسوة في البيوت .وتعالت الصيحات ،لعبت العصا بين يديه في ثقة ولم يأبه للزجاجات المنهمرة عليه كأنها ال تؤلمه .يتفادى إرتطامها برأسه قدر المستطاع ،ويمضي لألمام واثقا ً حذرا ً مثل نمر يأخذ وضع اإلستعداد قبل أن يقفز قفزته ،ورغم أن المدي هي التي كانت تهاجم إال إنها أمام ثبات نظراته وتقدمه الوئيد تراجعت ،بينما العيون في النوافذ والشرفات وعلى قارعة الطريق تنظر مبهورة ،تتابع هذا الموقف الذي لم تر مثله من قبل. صحيح أن معظمهم سمع عنه ،وما كان له من صيت في الحي كله ،وما قيل عنه ،غير أن القول مهما تعاظم غير الرؤية بالعين .تقدم الرجل وسط إنهمار الزجاج نحو المدي المشرعة .لم يبال بما خلفه .وكيف يبال وقد رهب المهاجمون جانبه ،وبدأوا يظهرون خوفهم الشديد بتحاشيهم اإللتحام به ،تحرك لألمام ،تراجعوا للخلف ،تشجع البعض ممن حضرواالموقف وبادروهم بالهجوم بالعصى مما اضطرهم للفرار ،بينما الرجل واقفا ً مايزال ،دمائه تنهمر كشالل من دم أحمر قاني مسيرته طويلة بطول الرجل وإرتفاعه يغطي وجهه ورقبته والصديري األبيض تحت جلبابه األزرق الصوف ،وشاله ملقى على األرض مغطى بالتراب والدم ،وحذاءه كل فرده فى ناحية ،بينما عيناه من وسط بحار الدم تبرقان والعصا ثابتة الجنان بين يديه ،سامقة الهامة للسماء التعرف ارتجافا ً والتشعر بخوف ،
44
و الرجال من حوله في المحالت المجاورة والحارة والنسوة من النوافذ والشرفات كأن على رؤسهم الطير ،يحدقون وعيونهم مصلوبة على البقعة التي تحتويه دون أن يجرؤ أحدهم على فعل شئ الى أن صرخ فيهم صارخ اطلبوا االسعاف وهب البعض لتنظيف األرض من زجاجات المياه الغازيه المكسوره ،أرادوه أن يرقد على حشية أتوا بها من أحد البيوت المجاورة لحين حضور االسعاف ،رفض وصمم على الجلوس على مقعد أمام دكان العطارة المجاور الى أن حضرت عربة االسعاف ودخلها سائرا ً على قدميه متناسيا كم الدماء التى أغرقت األرض من حوله والتى رضى بالكاد أن يكتموها بالبن لوقف النزيف لحين ذهابه للمستشفى ،بعدها بحث وتقصى ووصل الى الحقيقة ،عرف مهاجميه ومن وراءهم ،وذهب الى سليمان البيومى صاحب محل األقمشة المقابل له فى سوق القماش ووسط المارة والتجار جميعا وقف أمام باب الدكان ،صرخ فيه -: قففهب واقفا ً ،طلب منه الخروج من الدكان والوقوف أمامه وسط السوق ، انتبهت األعين اليه وتحلقت اآلذان ،رفع صوته الجهورى أمام الجميع قائالً له -:من باكر تبيع هذا الدكان وتبيع منزلك وال أراك ثانية فى المنطقة ألى سبب من األسباب ،وقد كان !! يعرف الجميع هذا ،لذا تكاد الحيرة تمأل األفاق ،كيف استطاعوا هذه المرة النيل منه ،وكيف استطاعوا أن يفلتوا بفعلتهم دون أن يعرفهم أو يصل اليهم أحد ؟ امتأل شارع سوق السمك لحافته بأقاربه وبلدياته وأصدقاءه بانتظار سيارة االسعاف التى ستقله عائدا الى بيته من جديد ،لكنه هذه المرة يعود محموالً على األكتاف رغما ً عنه ،اليمتلك القدرة على الحركة واليستطيع النطق بعد إجراؤه عمليات عده فى عاموده الفقرى ،وقد رأت المستشفى أن 45
يبقى فيها لتوافر الرعاية الطبية ،لكن السيد وكذلك كمال وأخوته ومعهم جابر إبنه رأوا أن يعود وتتم رعايته بالبيت وتحت اشراف األطباء ايضا . كانت المشكلة التى قابلت اعتماد حينما قيل هذا أنه تم االتفاق على أن ترعاه كريمه لقدرتها على بذل الجهد معه وألن اعتماد مريضة التستطيع هذا ، المها هذا الرأى وورأت اجحافا ً بحقها كسيدة أولى ووحيدة للبيت ومن حقها أن تكون هى صاحبة الرأى والمشورة والقدرة على فرض إرادتها كما تشاء ،أما أن تأتى األوامر من السيد أو غيره فهذا مااليليق وال يجب ، لكنها لم تستطع النطق أو حتى الخوض فى مثل هذا األمر اآلن لكون الموقف اليحتمل النزاع ،ولكونها للحقيقة ايضا مريضة وتحتاج الى من يرعاها ،ورضا لن تقوم بمفردها برعايتها ورعاية أبيها معها وكريمه هناك التفعل شيئا ً ،لذا لزمت صمتا ً مخذوالً ،وأعلنت القبول والرضا ودعت لكريمه بالتوفيق فى مهمتها الجديدة . ............ في طريقه الى مدرسته الثانوية ومعه أخوه الصغير محمد سار سالمة خارجا ً من البيت ،حامالً هم ذلك اليوم وكيف يفلت منه .أستاذ اللغة اإلنجليزية لن يرحمه اليوم من عقاب رادع ،أقسم له في الحصة الفائتة أنه إن لم يحفظ الدروس ويسمعها أمام الفصل كله كلمات وقواعد فأنه سيعرف شغله معه. المشكلة أنه يمسك الكتاب ويجلس أمام أمه ليذاكر تنفيذا ً لرغبتها ،ومع هذا ال يفقه منه شيئا ً ،الكلمات أمام عينيه طالسم ،ينظر اليها ،يتأمل تكوينها دون أن يفقه لها معنى ،ال يرى منها اال صورة نوال ،نوال باإلنجليزيه ،وبالعربية ،نوال حسابات وضرب وطرح وقسمة ،نوال تضاريس ،سهول وهضاب وأغوار ،ونوال وفى كل حين ،يمسك القلم ليكتب الحروف المعجمة ليحفظها ،يندفع الشعر باللغة العربية الى سن القلم ،يحادث نوال ،يشرح لها ،ويصف حسنها ،الغريب أنه يكتب صفحات وصفحات اليدرى 46
من أين تأتيه كل تلك المعانى وكل هاتيك الصفات وكل هذا الشعر ،كأنه ماخلق اال ليكتب لها وعنها ،أما المذاكرة وبخاصة هذه المادة التى وضعوها لقهر الطالب اللغة االنجليزيه فهو اليكاد يفقه واليريد أن يفقه منها شيئا ً ،ويخشى أن يعترف بهذا ألمه حتى ال تعايره بفشله ،وتذكره أنها تريده أن يتعلم ليكون له مقامه بين أخوته ،ليقف ويعلن عن نفسه ،يكون له مقام أمام أبناء إعتماد ،فإذا كان جابر قد أخذها من قصيره ،وترك المدرسة بعد سنة ستة إبتدائي ،وذهب مع والده في الدكان يبيع ويشتري ، ويعرف السوق ويتعامل مع الناس ،ويملك المقدرة على اإللتحام بهم ، ويعتبر اليوم رجل البيت بعد أبيه ،رغم أنه لم يتعد الثامنة والعشرين ،وإذا كانت رضا في اإلعدادية ومحمد الصغير مايزال في الصف الرابع فإنه الوحيد في البيت الذي تعلو أسهمه بالتعليم وإذا اجتهد سيتخرج ضابطا ً او طبيبا ً وال يقولوا إبن كريمه خاب. هو يعرف تفكيرها وكالمها .لكن ماذا يفعل ونوال له بالمرصاد ؟ ومحال أن يقول محتاج درسا ً خصوصيا ً ،لعل المدرس الخصوصى يضغط عليه ويجبره على االنتباه لدروسه ،خاصة في هذه الظروف . الغريب أنه شاطر في بقية المواد ،شاطر فيها ،ألنه فى الحصة ينتبه رغما ً عنه للضوضاء التى يحدثها المدرس ،مما يجبره على االنتباه له ، وبالتالى فهم الدرس جيدا ً ،واليحتاج األمر اال الى قراءة سريعة ليثبت فى رأسه ،وبالتالى يحصل على درجات جيدة بأقل مجهود .فلماذا اإلنجليزي بالذات ؟ ربما لصوت األستاذ محروس الرفيع الذى يصل بالكاد الى أذنيه . إقتربت مدرسة محمد .ربت رأسه بلطف ،أوصاه بنفسه خيرا ً ،ومضى الى األمام نحو مدرسته .غير أنه رأى أعينا ً ترقبه على بعد .تبسمت عيناه ومضى عابرا ً الطريق اليها في الرصيف المقابل:- -تأخرت عليك ؟
47
إضطربت خطواتها وأسرعت بالسير ،مضى خلفها وأمسك بيدها ليوقفها بس يا مجنون..بابا يكون شايفنا ياريت ،اطلبك منه ولن يمانع لو رأني معك يقتلني لست معى ،بل داخلى داخلك فراغ بل نور من فيض هواك الهوى نور ؟ هوى نوال نور سأتوه مع كلماتك ،سالم إذن أين أراك ؟ سوف أرسل اليكمد يده الى جيب حقيبتها المفتوح عمدا ً له ووضع فيه رسالة من اثنى عشر صفحة كتبها ليالً وأعدها ليعطيها لها فى الصباح ،بعدها أرسل قبلة عبر الهواء اليها .أدارت ظهرها له بعد أن رمته بنظرة باسمة حملتها فيضا ً من حروف وأحاسيس التقرأ اال بالعيون ،وأكملت السير ،أما هو فقد أطلق صوته بإغنية تشرح سعادته ،مضى يرددها طوال سيره نحو مدرسته. ..................... قام كامل عن مقعده معترضا ً طريق جابر.
48
كان الوقت مساء والعمال يستعدون لتشطيب العمل في الوكالة ،وغسل أبدانهم من التراب والعفار الالصقين بها طوال النهار ،خيش من كل نوع وصنف يتعاملون معه ،يرتقون جوانبه ،ويشذبون حوافه ،وينظفون داخله ليعاد توريده مرة آخرى إلستخدامات جديدة .شغلة رغم أنها تكسب ، إال إنها تورث أمراضا ً صدرية ال ترحم . جلس كامل أمام الوكالة ومبسم الشيشة فى يده ،يسحب منه نفسا ً يرميه للهواء عبر فتحتى أنفه وهو يحدق فى باب بيت رضوان ومعه خواطر شتى ،رضوان الرجل الذى فض الشراكة بينهما فى لعبة المزادات التى فتح له أبوابها من قبل وشرح له دروبها ومسالكها ،وعرفه على أشخاص من هنا وهناك فى كل أنحاء مصر ،يتابعون له البضاعة وأسعارها وأوقاتها والفرص المتاحة لها تحت بند المنفعة للجميع ،والطعام للكل ،وكلما فتحت عينك مع من حولك فتحوا أعينهم معك ،وكلما مددت يدك لهم بالمودة لن يردوها بالغدر أبدا ً طالما يرون منك الجد بعيدا ً عن العاب السوق وهواة النصب واالحتيال ،رضوان هذا قبل مرضه بشهور اختلف معه بسبب ولد من األسكندرية اسمه الضبع ،هذا الضبع أراد أن يلعب مع كامل ويتحداه ويقف له فى السوق فما كان منه اال أن ازاحه من طريقه ،وصل الخبر لرضوان ،غضب وجاءه معنفا ً ورافضا ً تماما اسلوب الغدر كما أسماه يومها ،ووسط مقهى محمد بطه وهو ممتلىء آلخره بالزبائن صرخ فيه أنه اليستحق التعامل معه ،وأنه يفض الشراكة بينهما وكل تعامل من اآلن وعليه أن يحمل حمله وحده ويسير مشواره بال تعاون وال حتى مشاورة وأنه ،سوف يبلغ كل معارفهم على مستوى البلد كلها بما فعله بالضبع ، أراد كامل يومها أن يشرح له حقيقة األمر ،لكن الغضب أعماه يومها عن سماع شىء منه ،كما إن محمد بطه همس فى أذنه ناصحا أن يترك العاصفة تمر ،وبعدها لهم جلسة معا ً يبحثان فيها سبل وصل ماانقطع وايضاح مالم يتضح
49
،صحيح رضوان بعدها صفا وعاد يحادثه ،وربما جلس معه فى وقت الفراغ على المقهى ومعهم محمد بطه والسيد وغيرهم ،لكن الشغل انقطع ولم يقبل رضوان أى كالم فيه متعلالً بصورته فى السوق ،أما كامل فقد توقفت عالقته بالمزادات من يومها ،ابتعد عنه البعض بحجة عدم وجود مايستحق والبعض اآلخر قالها صريحة -: كلم رضوان وتفاهم معه ،ونحن تحت أمركولم يجد أمامه اال مناطق بعيده لم تشبع نهمه كما كان من قبل ،لذا وجدها فرصة بعد مرض رضوان ورقاده أن يتقرب من جابر ،ولكى يقتنع ويشاركه معه فال مانع من دخول محمد بطه معهما وتصبح شراكة ثالثة بدال من اثنين . كان جابر يحمل بين عينيه لهفة الى الخروج من البيت والحارة بل والحي كله ،زهد الحياة ورأى الوجود حوله لعبة بلهاء التليق به ،وهو ايضا اليفهم مراميها وأبعادها وماتفعله بمثله من السذج الذين اليعرفون واليفهمون اال ماتراه أعينهم ،األمور األخرى التى تحتاج للدهاء والمكر هو اليفهم منها شيئا ً ،هو يفهم ويدرك مايراه وما يلمسه أما الخبث واللؤم والمكر وماالى هذا من مسميات فليس له منها شىء ،المرأة سعدية التى كانت عيناها تفصحان وبسمتها تعد وخطوتها تصرح بما لديها نحوه عرف من البعض أنها ارتبطت بولد صائغ له محل فى الصاغة اسمه اسحاق وأنها رمت بشباكها عليه ملقية بكل من قبله خلفها كأن حديثها معه واقترابها منه ومعرفتها التامة لعائلته ومركزها وقوتها فى المنطقة كل هذا راح هباء، وهللا الذى ال اله اال هو لو أرادها أن تركع بين يديه لفعل ،ولو أراد اعتقالها فى بيته لفعل ،ولو أراد ضربها وسط السوق وطرها من المنطقة كلها لفعل ،ولن يستطيع اسحاق هذا أو غيره الوقوف له ،يكفيه أن يقف وسط السوق ويحكى ماكان بينهما ،يشرح تفاصيل ال يعرفها أحد سواه عن جسدها ،يتكلم عن أحداث بينهما اليعرفها سواهما ،تكفى لجعلها تدفن نفسها حية طول العمر ،لكن هناك ماهو أهم ياجابر ،هناك ماهو أهم . 50
،حتى حسان الذي كان يظنه فعلها بأبيه عرف أنه مات قبلها بأيام ، وصارت المهمة أصعب إن لم تكن محال. يهاجم من ويضرب من ؟ ثم هذه العصا التي يحملها لم تعد تليق بعراك اليوم ،عراك اليوم له شأن آخر أكبر وأخطر من العصا وفعلها .صحيح هو ماهر مثل والده في حملها واللعب بها .لكن الطرق اآلخرى األحدث البد منها وسهل تعلمها. المهم مع من يستخدمها ؟ أبوه يرقد اآلن ،والجانى طليق وال أحد يعرف أو يفهم شيئاً .وهو هكذا وحسب فرمان أمه سيظل حبيس المنزل ،ستبور البضاعة ويضيع الزبون وفرصة معايشة الناس والتحدث اليهم ،وإكتشاف المغاليق من األمور ستضيع عليه .هو واثق أنه بفتح الدكان والوقوف فيه سيصل يوما ً الى قاتل والده. لكن كيف وأمه تقف وله وأعمامه يقولون له ال تغضبها؟ قال كامل وهو يربت كتفه ،ويقوده الى مقعد بجوار مقعده حيث الشيشة المعسل يخرج من أعالها دخان أبيض يتصاعد في الهواء متبخترا ً على مهل ،والى جوارها صينية الشاي على التربيزة الصاج الصفراء اللون وبها كوب شاي به نصفه وكوب ماء ممتلئ حتى حافته -: عاوزك في موضوع ياجابر.سار معه في هدوء،غير أن صدره كان يموج بتساؤالت شتى –غريب أمرك ياكامل .تعرف أنني ال أقبلك .كما أعرف أنك ال تقبلني وإننا نكتفي بإلقاء السالم والتحية كلما تالقتت أعيننا بالكاد ،فما الذي جرى اليوم ؟ اطلب لك شاى؟ ال51
ترى ما ورائك يا كامل ؟ همس جابر لنفسه وهو يحدق في عينيه بهدوء ،عيناه واسعتان ،فيهما شيطان مارد قوى ،ترى ماذا يريد ؟ ..صحيح أنه كانت بينك وبين المرحوم عالقات عمل ،كانت تضطره أحيانا ً للجلوس معك ،وربما مشاركتك شرب الشاي والشيشة من قهوة بطة .لكنه في أواخر أيامه إبتعد عنك .حدثت جفوة بينك وبينه .لم يكن خصاما ً فكل منكما كان إذا رأى الثاني حياه .لكنها ليست التحية التي تعودتما عليها ،وقد حكت كريمه أم سالمة أن السبب كما روى لها الحاج هو مزاد من المزادات التي كانوا يدخلون فيها ، إما شركة أو كل بمفرده ،روت كريمه أن المزاد األخير دخل رضوان وحده ،وأن كامل حاول مشاركته لما رأى العملية ومكسبها ،غير أن رضوان رفض قائالً إن مكسبها سيذهب كله لعائلة الضبع فى اسكندرية الذين ضاعوا من بعده عاتبه كامل وكانت قعدة تجار كبار تطايرت فيها الكلمات. الضبع هو الذى بدأ الغدر-
كنت ارجع لى أوال
أردت رد القلم ،لم أفكر أنك ستغضب
الضربة سمعت جامد ،الناس خافت ،وكان ممكن تبعد ،المصلحةتقول اتصرف بسرعه ،صلح الخطأ كيف ؟ أن تبتعد قليالً حتى يهدأ الجو وتلعب فى الساحة وحدك -بدالً من الجلوس نندب حظنا ونبكى اللبن المسكوب معا ً
52
-
أنت هكذا تبيعنى
الى حينكلمات كثيرة وعتاب طويل غير إنه لم يزد عن هذا ،فكامل ذكي وهو يعرف رضوان وعائلته في المنطقة بأسرها ،وفوق هذا يطمع أن تعود المياه الى مجاريها ذات يوم قريب ،لذا لزم الصمت ورضى أن تظهر الجفوة وإن تغلف بصمت من الجانبين على أمل أن يذوب الجليد بعد حين . فما الذي يريده اليوم ؟ مد كامل يده بالمبسم :- أعرف أنك تشرب الشيشة النحاها جابر جانبا ً بيده ،أعادها كامل الى فمه بهدوء ،ناظرا ً اليه بعينيه الواسعتين متفحصا ً ،وهو يمد يده الى أعلى ليضبط وضع العمامة على قمة رأسه ،وقد مضت عيناه وسط ضبابة من شرود طارئ ،صحيح يا أوالد، الولد سر أبيه ،فولة وأنقسمت نصفين ،نفس الوجه األسمر والذقن المدببة واألنف المستقيم والجبهة العريضة ونفس النظرة المتحدية ،لوال خجله مني لجلس مثله بالضبط . آه يا رضوان .كثيرا ً ما قلت لك خليك معي ،انا وأنت نستطيع هز السوق كله ،لن نترك مزادا ً إال ودخلنا فيه،كافة شئ معا ً سنتاجر فيه ،واللقمة تنقسم إثنين ،لكن الغبي رفض من أجل رجل بعيد النعرفه ولسنا بحاجة ملحة اليه ،رجل أراد أن يغدر بنا فسبقناه نحن وغدرنا به ،قائالً أنه عندما يحتاجني سيطلبني ،مطلوب مني أن أجلس أمام الوكالة أتفرج في صمت .أراه وأفرح به وهو يلف السوق وحده. هه .هللا يشفيه بقى. مرحب يا بني53
مرحب ياحاج .كنت عاوزني في حاجة ؟ وهللا كان عندي كلمتينبخصوص الدكان .أنت تعرف طبعا ً أنا كنت حبيب المرحوم وتهمني مصلحة والده. ظل جابر صامتا ً يبحث عن كلمات تصلح للرد ،السؤال نزل على قلبه جمرا ً ،كلمات كامل لن تجىء عفو الخاطر ولكن مؤكد هناك غيرها كثير يدور فى األذهان وفى الجلسات الخاصة وعلى المقاهى والحوانيت ،مؤكد كل الناس تسأل عن السر فى غلق الدكان ،كأنه لم يكن هناك اال الحاج رضوان وقد رقد !! ومؤكد السؤال سيظل بدون جواب ألن أمي تريد هذا. عال صوت كامل كالطنين فى أذنيه من جديد -:يا بني .الدكان الزم يتم فتحه ،وهذا لن يتعارض مع الحزن أو البحث عن الفاعل اللئيم . لكن لقمة العيش ورزق البيت ال تقطعوه بأيديكم. فاهم ياحاج.حدقت العيون الواسعة من تحت العمامة البيضاء في وجه جابر ومالمح إرتياح تلوح في أحداقها ،شجعه تجاوب جابر ،أكمل بعد أن أخذ نفسا َ سريعا ً من الشيشة- : الحياة يا بني لن تقف بسبب الثأر. الدكان سيفتح ،والثأر لن أتركه هللا المعين ياولدى .حدق جابر في وجهه .في سمرته وأنفه المفلطح ،وفي عمامته ،سمعه وهو يكمل 54
أنت مثل يولدى يا جابر ،أي شئ يمسك لن أسكتسأحميك ولو بنفسي ،بأوالدي. تبسم جابر ،وجهه الفتى إنبسطت أساريره ،وهو يرقب إنفعاالت كامل وكلماته ،أين كانت كل هذه العواطف أيام أبيه ؟ معقول ينسى ماكان ؟ على كل يشكر على النصيحة .جاءت بفائدة .على األقل عرفت ماذا يدور في أذهان الناس شكرا ً يا حاج .سالم عليكموقام مسلماً .قام كامل يودعه تاركا ً مبسم الشيشة مؤقتا ً . ...................... لم تجد كريمه اال البكاء تعتصر فيه روحها وهى ترى سالمه سادرا ً فى غيه ،تائها ً بين دروب سراب الحد له ،يرى ظالالً على جدار حياته فيظنها واقعا ً يسير خلفه ،واليدرى إنه سيؤدى به الى ضياع مقيم ،وكلما حاولت نصحه يسمعها ويطمئنها بكلمات هى تعرف وهو ايضا أنها مجرد حروف المعنى والكيان لها ،وليست أكثر من مخدر يراد به اسكاتها ليفعل بعدها مايريد ،ورغم حدة نقدها له والحاحها عليه ليهتم بدروسه وينأى عن أوهامه اال أنها لم تحاول أن تشرك معها أخوه جابر وال أعمامه السيد أو محمد أو كمال ،التريدهم أن يقولوا أن ابن كريمه فشل أو أن مرض رضوان أثر سلبا ً على أوالده ،لم تستطع كريمة أن تفعل شيئا ً لهم وساروا فى طريق الضياع ،لذا أجبرت نفسها مرارا ً على التوسل لسالمه كى ينتبه ويدرك ماحوله ،فقد صار اآلن رجالً يجب عليه أن يقف بجوار أخيه جابر يعينه ويسانده ،ويكون ذراعه اليمنى ورأسه ايضا اذا لزم األمر ،سالمه عاقل وذكى وداخله طيب وهى تعرف هذا لكن الجرى وراء هذه البنت الحرباء بنت كامل سيورده الهالك ،البنت لن تطير ويمكنها أن تدبر فى الوقت المناسب للربط بينهما برباط الزواج ،لكن اآلن محال ألسباب عديدة 55
منها مرض رضوان ،ومنها أن سالمه مازال تلميذا يأخذ مصروفه ، ومنها أن مجرد التفكير فى هذا وفى هذا التوقيت بالذات عار عليها وعليه واليجب بحال أن يعرف به مخلوق ..حادثت سالمه بكل هذا ورجته وتوسلت اليه أن يكافح هوى نفسه ،و أن يصبر قليالً وهى ستقف بجواره ولن تخذله وستساعده بكل طاقتها شرط أن يأخذ الشهادة ويدخل الجامعة ويحقق أملها فيه ويرفع رأسه وسط عائلة رضوان ،هو اليعرف كم عانت وكم رأت من نظرات إعتماد وتصرفاتها معها ،وكم دارت االمها وابتلعت كرامتها مرارا ً من أجل حياة أجبرت عليها ولم تطلبها يوما ً ما ،لقد كانت تعيش وأبيها الفران فى حارة البرقوقية فى الخرنفش ،حياة الكفاف مثل كثيرين وكانت راضية ،دخلت المدرسة االبتدائية وكانت متفوقة وحصلت على درجات عالية فيها ،وتقدمت لإلعدادية وعبرت السنة األولى ،وفى السنة الثانية مرض والدها مصدر رزقهم الوحيد هى وأمها ،ودخل المستشفى وبدأت مرحلة الدموع والشقاء وأولها انقطاعها عن المدرسة ،وكان البد أن تسير الحياة حاملة معها االم الفقراء ،دارت أمها على بعض بيوت الحى ومنها بيت رضوان كخادمة تنظف البيت وتغسل المالبس ومااليها ، لكن جمالها وأنوثتها جذبا اليها أعين الطامعين الذين حاولوا الوثوب الى الفراش الخالى ،وأخذ مكان مريض اليملك من أمره شيئا فى مستشفى ينال فيه بالكاد عالجه ،وفى ليلة التنساها رأت أمها قادمة الى الحجرة الوحيدة التى تأويهم ،والتى تنتظرها فيها الى أن تعود من أحد البيوت التى تخدم فيها ،رأتها قادمة تحمل على كاهلها قهرا ً تنوء منه الجبال ،وفى عينيها دموع تكاثفت وصنعت دوائر حمراء نارية الصرخات والمجيب ، يداها ترجفان وأنفاسها بالكاد تعلن أنها ماتزال مقيدة بقيود تلك الحياة ، وهى تهمس فى رعب غطينى ياكريمة بردانه ،وتنشج غير واعية لما حولها ،يومها بكت كريمة كما لم تبك من قبل ،ولم تعرف ماذا تفعل بالضبط ،والى من تذهب وليس لهم أقارب أو جيران يمكن الوثوق بهم ، اللهم اال جيرانهم فى الحجرات المجاورة داخل الشقة التى تجمع أربع عائالت كل منها فى حجرتها ،أتى أهل الشقة على بكاء كريمه وتحلقوا 56
حول األم محاولين تهدئتها أو فهم ماجرى لهاولم يصلوا الى شىء ،فى الصباح قامت أمها ذابلة الروح ،هامدة القلب ودموعها ماتزال سادرة فى غيها ،ارتدت مالبسها واتجهت الى بيت رضوان ،اختلت به قليالً وعادت الى حجرتها رافضة أن تبارحها ،وكلما حادثها أحد فى الخروج أو معاودة السعى فى البيوت بكت ولم تبح بشىء ،بعدها تعددت زيارات رضوان وسط تطلع كل من فى الحارة وتساؤلهم عن سبب مجيئه واهتمامه بهذه العائلة بالذات ،وإن كانت الظنون لم تذهب الى شىء يشينه أو يشين المرأة الجميلة التى انكمشت فى حجرتها رافضة مجرد النظر من النافذة الى الطريق ،الى أن جاء يوم ودخل رضوان الحارة ومعه ثلة من الرجال بينهم رجل متوسط الطول على وجهه أثار ضربات ولكمات ،مبعثر النظرات أشعث الشعر ،مقطع الثياب ،يمضى مستسلما ً بين أيديهم وقد قيدوا يديه وراء ظهره ،ونزعوا عنه حذاءه ليسير حافيا ً ،وامسكوا به من يديه يقودونه الى حيث يتجهون ،دقوا الباب ،فتحت كريمه ،حدقت أمها فيهم برهة وحدقتاها تدوران بينهم الى أن استقرت على وجه هذا الرجل ، وانفجرت فى البكاء مندفعة نحوه بهدير ثورة عمياء ،تضربه بيديها وقدميها وتصرخ بكلمات لم تفهم منها كريمه شيئا ً ،والرجال ينظرون صامتين ،مكتفين بالتحلق حولهما دون تدخل أو إبعاد الرجل المقيد عن براثنها وحقدها ،الى أن هدأت ثورتها وبدأت تكتفى ببكاء هادىء ونشيج مكتوم ،بعدها قام رضوان بتسليم الرجل للقسم وعاد اليهن ،أعلن أنه مسئول عنهن الى أن يقوم الزوج المريض ،وحتى يقطع األلسنة التى قد تتقول عليه أو تظن به الظنون سيتزوج كريمه على سنة هللا ورسوله ،ولم يكن هناك مجال لرأى أو مشورة أو حتى تفكير من أمها التى بدأت فى التعافى قليالً وإن كانت نظراتها ظلت منكسرة وروحها تعانى من اكتئاب مقيم ،ولم يكن هذا نهاية العذاب كما ظنت كريمة بل إن عذابها بدأ بمجرد دخولها بيت رضوان ومقابلة الست إعتماد أم جابر وتحمل معاملتها وكلماتها النارية التى الترحم وهى تذكرها بين الحين والحين بحجرتهم فى حارة البرقوقية وأمها الخادمة التى انتشرت سيرتها وتناقلتها األلسنة بطول 57
شارع سوق السمك والخرنفش وحارة اليهود .ورغم هذا سارت الحياة بكريمة زوجة لرضوان ،الترى سواه رجال وأبا ً حانيا ً ،والتعرف سوى فضله عليها وعلى أمها وأيضا على أبيها الذى خرج من المستشفى عاجزا ً وساعده زوجها فى عمل كشك خشبى صغير فى مدخل الخرنفش يبيع فيه الخضر ،ويعيش من ريعه هو وأمها حتى اآلن ..تذكر كريمه كل هذا وتنظر الى رضوان الذى يرقد على سريره عاجزا ً وهى تتعجب من تصاريف القدر التى اختصتها بالذات لترد لهذا الرجل معروفه الذى أدركته ووعته جيدا ً حينما كبرت ،ورأت كيف كان نبيالً حينما عرف بمأساة أمها ومن اعتدى عليها ،وكيف عاقبه وسط الحارة وبين العيون واآلذان المتحلقة ، وأكد للجميع نقاء أمها وشرفها ،وحتى يكون لدخوله حجرتهم ومده يدالمساعدة اليهم تزوجها ،هو الرجل الذى تتمناه أى بنت أجمل منها وأعز ،ومن بيت أعلى جاها ً وشرفا ً من بيتها ،تنظر اليه فى رقدته وهو ينظر اليها بعينيه وال يمتلك القدرة على النطق كما كان من قبل ،تحادثه وتسرى عنه وتقوم على خدمته راضية ،متناسية أنها ماتزال فى بدايات عمرها الذى كان من الممكن أن يضيع لواله ،الجميل فى األمر أن الولد محمد إبنها الصغير يصاحب أباه اآلن ،يجلس الى جواره على السرير، يريه الواجب الذى أخذه فى المدرسه ويكتبه أمامه ويداعبه ويلعب معه ، وهو الوحيد الذى ترى فى عينى رضوان طيف بسمة وهو بالقرب منه ،أما سالمه فهو رغم كلماته الحانية على أبيه تراه بعيدا ً عنه ،يكتفى بالكلمات المعسولة والتمنيات الطيبة واليجلس اليه اال قليالً ،تفتش حاجياته فى غيابه فال ترى اال أشعارا ً وكلمات بلهاء لتلك الفتاة المسماه نوال التى أكلت عقله وسرقته من نفسه ومن مذاكرته ودروسه ،هى فى كل األحوال تجبره على الجلوس للمذاكره ولكنها التملك المكوث معه ومتابعه مذاكرته ،لذا فهو يجلس ليس للمذاكره ولكن لكتابة الخطابات لهذه الحرباء إبنة كامل ، لو كان رضوان بعافيته لعرفت كيف تجبره على نسيان هذه الفتاه رغما ً عنه ،هذا المجنون الذى اليعيش واليريد العيش فى عصره هذا الذى لم يعد فيه للرومانسية مكان ! 58
........................
تيقظت صفاء في عز الليل على صوت أمها يتألم ،يتدفق بال توقف ويدور فى األركان قويا ً أكثر مما اعتادت منها ،غزا الرعب قلب ،هبت من نومها اليها ،رأتها تمسك برأسها وتدور في الشقة سريعاً ،هي التي كانت تتوكأ على أحد في سيرها ،تحركت قدماها ومضت تتحرك في الشقة ،تدور بين أرجائها ،تمسك برأسها وتشتكي ضغطا ً يكاد يفجر عظام الجمجمة ،وبين الحين والحين تهتف من أعماقها -: دماغي تتفتت ،الضغط سيعميني يا أوالد.حدقت فى مالمح أمها التى تبدلت أمامها ولم تعد تلك الحادة المتنمرة التى ترتسم على شفتيها دوما ً بوادر ابتسامة إما ساخرة ترمى بها من تشاء ممن اليعجبها تصرف أو قول يلفظون به ،وربما مشجعة تهديها لمن تراه جديرا ً بها فى لحظتها ،لم تعد هناك ابتسامة والحتى مالمح هادئة كما كانت تراها وهما وحدهما فى البيت ،صارت اآلن مالمح معذبة مقهورة ،تتألم وتعانى والتمتلك القدرة على الصمت كما تعودت منها ،بل هى مالمح مفتتة مغسولة بماء األلم ،تصرخ وتستجير وتطلب النجدة وتفر من مكان الى آخر دون أن تدرى الى أين ..حاولت صفاء أن تجلسها وقد أخذ الرعب بمخالبه منها مأخذه ،لكنها رفضت فاأللم أكبر من أن تتحمله ،هربت الدماء من وجه صفاء ،زاد اضطراب نبضات قلبها المتوغل فى دهاليز رعبه ، هرولت توقظ سعد ،تتصل بالفرن لتستدعي شعرواي ،تطلب منه سرعة إحضار طبيب معه للكشف على أمه ،وعادت الى أمها مهرولة وعيناها تزرفان دموعا ً التدرى كيف والمن أين ،وهى تتابعها بعينيها وروحها ، والخوف عليها يتعملق ويفرز فى دمائها مزيدا ً من النيران التى تتأجج بال مغيث ،وجدتها قد إرتمت على مقعد في الصالة تلتقط أنفاسها بالكاد ،رأت بعين الرعب بشائر إزرقاق بدأت تنبض بها العروق النافرة في الوجه وخاصة الجبهة ،لطمت خديها والرعب يتوغل فى مسام وخاليا جسدها أكثر 59
،وعيناها يقتحمهما رعب مشاهدة أحداث لم ترها ولم تعرفها من قبل ،وإن كانت تدرك جيدا ً أن هناك خطر داهم يحيق بأمها ،هرولت مرتعدة اليها ، أخذتها في حضنها ،أرتمى الرأس المجهد كقطعة قماش مبللة على صدرها ،وأخذت تئن أنينا ً خافتا ً بعد أن بح صوتها ،والعرق يغمر وجهها ،وال يكاد نفسها يصعد وهي التدري مما حولها شيئا ً ،أخذ قلب صفاء يدق بقوة ،وبعينيها تحدق في الوجه الملتصق بصدرها ،وهو ينزف أنفاسه نزيفاً. كانت الصرخات هديرا ً في داخلها غير أن الرعب الجمها ،وهي تشعر شعورا ً غامرا ً أن هناك شىء جد خطير ،أمها لم يحدث لها هذا من قبل . ما الذي جرى؟ مرق بخاطرها صورة أمها وهى تجلس خلف مكتبها الصغير فى مدخل الفرن بجسدها الممتلىء وصدرها العالى ووجهها العريض وعينيها المقتحمتين ،والعمال يسعون حولها ،وصوتها يهدر فى المكان ،والكل يحنى راسه سمعا ً وطاعة لها ،رأتها وشعراوى بجسده المتين ورأسه الضخم وعينيه المتوحشتين وهو يقف أمامها صامتا ً اليجرؤ على رد كلمتها ورأت سعد ابنها البكرى وهو يقف أمامها رغم حبها الكبير له ورغم أنها دوما كانت تأخذ رأيه وتستشيره فى أمور الفرن والعمال والدقيق وباقى حاجيات الفرن ،اال أنه وقت غضبها كان يحنى رأسه ويكتم الحروف فى حلقه واليمتلك اال الطاعة وتنفيذ ماتريد فورا ً وبال جدال ،ومرق بخاطرها ايضا لوهلة التكاد تحصى صورة أمها والحاج رضوان معها يجلسان على باب الفرن وأمامهما صينية الشاى وحدهما دون أن يجرؤ أحد على التفكير فى الجلوس معهما وهى تحادثه وتستمع اليه بوجه غير الوجه المعتاد لها وبكلمات غير الكلمات التى ترميها اليهم فى الفرن فهو كما كانت دوما ً تقول رضوان ياوالد ،الرجل الوحيد الذى له قدر وله هيبة ..ضمت يدها على كتفها بقوة حانية وهى تتابع وجهها وجبهتها وقد أغمضت عينيها وغابت فى اغماءة ،قطعتها بتأوه جديد وصوت لم تدر صفاء ماهو بالضبط لكونها تراه وتسمعه للمرة األولى ،فجأة شعرت كأن روحها تنزع منها ،شئ ما 60
أمسك قلبها ،هزه بعنف ،هزه كما لم يهتز من قبل ،وشعرت بجوفها ينتفض ،قلبها يرتعد وجوفها يفرغ مرة واحدة من شىء كان يمأله أمنا ً ، تشعر بنفسها وحيدة تواجه وحشا ً التراه وإن كانت تشعر بمخالبه وهى تنهش روحها ،إنطلقت رغما ً عنها الصرخات :- أمي ،أميكان الطبيب قد وصل ،حدق فى الوجه جيدا ً ،أمر فورا ً بنقل الجثمان الى السرير بالداخل ،بعدها أمر الكل بالخروج من الحجرة عدا شعراوى ولدها ، أخذ يدلك مكان القلب ،دلك بقوة ،أجرى تنفسا ً صناعيا ً مرة وإثنين ،غير أنه بعد وقت قصير إستدار ليعلن وفاة أم سعد !! نظر شعرواي اليه محاوالً إستيعاب ما قال ،نظر الى وجهه ،شفتيه، رأسه التي تدلت في أسف ،ثم إستدار ناحية أمه ،إقترب من الجثمان محدقا ً ،مترقبا ً متربصا ً بإقل إشارة تصدر منه . ال،ال ،أمي لم تمتال تموت لن تموت و تتركنا معقول !! ال،ال أم سعد تموت !! كان الوجه ساكنا ً ،قسماته هادئة وقد إستراح بعد عناء ،بينما تغير لون العروق على الجبهة الى إزرقاق ،ومال لون الوجه الى األصفر وظلت حبيبات من العرق تأبى أن تبرح الجسد ،إقترب يحدق ،يترقب .مؤكد ستصحو ،ربما ستشكو المرض لكنها لن تموت ،دنا فمه ال شعوريا ً وقبل
61
الجبين البارد ،رأى أثار الموت في خالياه ،فارت فى رأسه خاطرة ..هل الموت هو السكينة بعد عناء والم الدنيا ؟ طالت نظرته الى وجهها. كانت تعاني من أمراض شتى ،ورغم هذا ظلت أم سعد التي يعرفها الجميع ،ويطيع أمرها الكبير قبل الصغير .حتى حينما تزوجت رضوان وأعلنت هذا. قلت لها أرفض هذا الزواج .لم تهتم وقالت بال مباالة من ال يعجبه تصرفاتي يرحل عن بيتي.وكانت هي األقوى واألصح. حتى حينما قررت الطالق منه بعد أسابيع معدودة وأخذت أحذرها من كالم الناس وتساؤالتهم لماذا تزوجته ولماذا تطلق منه .نهرتني وقالت في ثقة يا ولد انا أم سعد .هل تعرف معنى أم سعد ؟وفي عز مرضها لم يهمد جسدها ،قاومته وقاومت المرض وتحركت وذهبت حتى الى إعتماد رغم ما بينهما من عداء لتبصرها للحفاظ على ولدها وعدم التضحية به ،وفوق كل هذا ورغم إنها تعرف إننا نكره رضوان ونكره سيرته إال إنها طلبت مني وسعد معي أن نستقصي ونبحث لنصل الى قاتل رضوان. آه يا أمي .مالك ساكتة ال تتكلمين ؟ عال صوته مفجوعا ً -: أمي ،أمي.لم ترد ،ظل الوجه ساكنا ً ،عيناه مغلقتان والعرق يأبى أن يبارحه ،بينما توغل اإلصفرار في الخاليا.
62
انفجر فى البكاء خرج الدكتور حامالً حقيبته مغادرا ً المكان محنى الرأس معتذرا ً للموجودين ،إندفعت صفاء صارخة بكل ما فيها وهي ترتمي على الجسد الهامد - : يا حبيبتي يا أميوخلفها سعد مرتجف األوصال .يكاد ال يقوى على السير ووجهه شاحب وعيناه زائغتان وهو يهمس متسائالً -: أمي ماتت !! ماتت بجد ؟ومثلما كان وجود أم سعد يهز أي مكان تذهب اليه ،هز خبر موتها الحي بأكمله . ....................... طار سالمه عابرا ً المسافة بين بيتهم وبيت كامل محاذرا ً أن يلمحه أحد ، خاصة من عمال الوكالة فى أقصى الشارع الذين يروحون ويجيئون بمالبسهم المتربة ووجوهم الممتلئة بالغبار والدقيق ،صعد سريعا ً الى الدور الثالث مقاوما ً دقات قلبه الغارقة فى رعبها ،وارتجاف بدنه الذى اليمتلك التحكم فيه ،ونظرات عينيه المترددة القلقة وحدقاتها التى تدور هنا وهناك دون إرادة منه ،رأى الباب مفتوحا ً ،كان واثقا ً تمام الثقة أن أم عالء قد غادرت المنزل منذ لحظات ،رآها من فوق سطح بيته من خالل النافذة الصغيرة فى سلم بيتها وهى تغادر الشقة وحدها ،ورأى نوال تحادثها على الباب ،تشير لها باشارات لم يفهم مغزاها وإن كانت مالمح الوجوه منفرجة بما يعنى أن األمور تسير على مايرام ،وثق تمام الثقة أن نوال وحدها بالشقة فقرر أن يأتى اليها ،مغامرة رغم معرفته بخطورتها أقدم عليها متناسيا ً مبررات العقل والخوف ومااليها ،مصرا ً على التنفيذ مهما كانت األسباب ،متعلالً بوجود صداقة بينه وبين عالء أخيها ،دق الباب بلطف، إنتظر قليالً وعاد يدق وقلبه دقاته تهرول فى فضاء صدره بال ضابط وال نظام ،وحين أطلت نوال كادت الرغبة تنهمر من عينيه بين يديها ،هي 63
أيضا ً لمعت حدقتا عينيها وارتجف جسدها بعنف ،القت بنظرات مرتعدة على السلم ،وبدأ قلبها ينتفض فى فضاء صدرها هلعا ً بينما صدرها يعلو ويهبط سريعا ً ،تشير بيدها وحدقتاها تكادان تخرجان من محجريهما -: ما الذي آتى بك الى هنا وعالء غير موجود ؟حاول التحكم في صوته وهو يسأل بعينيه ويده وإرتجافة شفتيه عن صاحبه ،غير أن صوت أقدام هابطة على السلم أربك نوال أكثر ،جعلها تشده الى الداخل وتغلق الباب ،تقف أمامه حائرة ماذا تفعل وهي تواجه نظراته المستفسرة ،التي يشوب تساؤالتها شقاوة تخشى منها وإن كانت تحبها. همس ببسمة مغسولة بماء اللؤم وهو يكاد يلتهم وجهها بنظراته :- خالتي أم عالء موجودة ؟مدت يدها تفتح الباب ،أمسكها بلطف ليمنعها وهو يقترب بوجهه من وجهها المكسو باالصفرار ،قالت عيناها التى تحجرت نظراتها فى مآقيها:- الزغردت نظراته -: والحاج كامل ؟هزت رأسها سلبا ً وهى تحاول تخليص يدها من قبضة يده -: الكان صوت األقدام قد إبتعد هابطا ً الى الحارة ،وعاد السكون يظلل الحبيبين من جديد .
64
همس بصوت مبحوح وبدنه يرتجف رغبة بين يديها وعيناه تغوصان بشوق فى نهر عينيها وهو يتقدم نحوها مشوقا ً يحمل إبتسامة نصر مبين وهو يعرف جيدا ً جواب أسئلته من قبل أن تنطق به :- وعالء ؟خلصت يدها بقوة من قبضة يده ،و صدته بيديها وهي تمثل العبوس ، وتتجه نحو الباب إلعادة فتحه:- ال أريد أن أندم لثقتي فيك.عاد يمسك يدها وأبعدها عن الباب من جديد وهو يقترب –باسما ً مايزال- واثقا ً دافئ النظرات ،يفور شوقا ً لن تندميتباعدت بضعف وهى تهمس -أخشى أن يأتي أحد اآلن إقترب ،تباعدت ،اقترب أكثر ،عادت تهمس بصوت أقل ضعفا ً -: ارجوكتالمس الجسدان ،ازدادت رجفتها بين يديه ،تجاذبا ،ارتفعت الحرارة الى أقصاها ،تقاربا ،تأججت النيران ،تالصقا ،صارت النيران سعيرا ً ،همست وهي تحاول اإلفالت من قبضة شفتيه بضعف انا مرعوبة ال تخافيوهو يلهث منتشيا ً ،ويداه تضمان جسدها الفائر اليه ،يقبل الفم ،الخدود، العينين ،تسير أصابعه قدما ً لألمام والخلف والشرق والغرب ،وحين دق الباب توقف قلبه عن النبض!!
65
هي أيضا ً إصفر وجهها ،فاض الرعب سيوالً من عينيها ،ولطمت وجهها بدون صوت ،هرول دون أن ينطق بحرف نحو باب المطبخ المجاور لباب الشقة وأشار لها أن تفتح .كان عالء قادما ً من المدرسة مع أحد أصحابه ليعطيه كتابا ً في حاجة اليه ،حاولت أن تسدل على مالمحها ستارا ً من هدوء هى أبعد ماتكون عنه وفتحت الباب ،دخل وكعادته لم يفكر فى النظر الى وجهها مكتفيا ً باصدار أمر سريع اليها أن تتوارى ،نادى صاحبه وأغلق الباب ومضى به نحو حجرة الصالون وقبل أن يغلق الغرفة عال صوته طالبا ً الشاي. هرولت نوال من الداخل ،فتحت باب الشقة بحذر وقلبها دقاته تكاد تمزق صدرها وعيناها تكاد محاجرهما تلقي بالحدقات ،وهي تحدق في حجرة الصالون خشية أن يفتح عالء الباب فجأة ويقع المحذور ،ساعتها ال تعرف ما الذي يمكن أن يظن ،رغم أنها لم تسع لهذا ،ولم تفكر فيه ولم تدبره وأنه لوال هذه القدم على السلم وخوفها من أن يراها أحد تحادث شابا َ امام الباب وأمها غير موجودة ما شدته الى الداخل ،ثم أنها لم تقترب منه،هو الذي إقترب و!!... تقدم سالمة سريعا ً خفيف الخطا محدقا بنصف عين من باب المطبخ الى الخارج ،عيناه ال تريان إال الباب التى فتحته برفق محاذره أن يصدر صوته المعتاد ،هرول على أطراف أصابع قدميه نحوه ،وصل اليه ،توقف أمامه سريعا ً وهو يقلب نظراته حوله ،كانت تقف ذاهلة النظرات ،مرتعدة النبضات ،تدارى قدر طاقتها رعبا ً لم تعتد عليه ،قبلها على وجنتها سريعا ً ،تفجرت عيناها غيظاً .حدقت فيه بحدة وصرخت نظراتها ضيقا ً من جرأته وتهوره دون أن تجرؤ على رفع صوتها ،وما كاد بخطو نحو الخارج حتى سارعت بإغالق الباب ،وهرولت الى المطبخ تلتقط أنفاسها ،غير أنها سمعت صوت الجرس من جديد ،تحركت نحوه شاعره أن بقدميها أثقاالً تحركها بالكاد ،وأنها بعد هذا المجهود التستطيع الوقوف على قدميها اال
66
بصعوبة ،قتحت الباب من جديد لتفاجئ به ثانية يقف أمامها باسم الوجه متألق النظرات يحمل على سيماه هدوئا ً وهو يسأل بسذاجة :- عالء موجود ؟.......................... خيم غيم سواده كثيف أمام الوكالة وغير بعيد من بيت رضوان ،وضربت طيور سوداء المكان بأجنحتها ،ناشرة حالة من ترقب قلق وحيرة رامية بجذورها فى أديم األعين المتحلقة هناك حول مشكلة جديدة يفجرها هذه المرة سعد وشعرواي أبناء أم سعد ،طالبين من كامل التوسط لهما فى حلها مع آل رضوان ،الشيشة أمامهم وأكواب الشاي والكلمات المتأججة وهم يتحاورون ،كامل يحدق بعينيه الواسعتين هنا وهناك ،خاصة ناحية البيت المغلق ببابه الحديدى الذى بدأت مخالب اإلهمال منذ مرض الرجل ورقد فى سريره تنهش بنيانه ،يحدق فى الباب ،حتى الجماد يمرض ويصيبه مايصيب البشر من االم ،عيناه تالحظان هذا على الباب الحديدى وعلى المبنى كله الذى كان يبدو للعيان شامخا ً ،له سيماه المميزة عما حوله ، خاصة حينما يدخل رضوان أو يخرج بعمامته العالية فوق جبهته الشماء وهو يحدق بعينيه ثاقبا ً أيه رأس تكون أمامه ،ضاربا ً األرض بفتوة قدميه فاذا ماالتقاه أمام وكالته حدق فيه متفحصا ً قبل أن يلقى السالم مناديا ً -: كاملفيترك كل مافى رأسه فورا ً ومن يحادثه مهما كان ليرد تحيته-: اتفضل ياحاجكم تتبدل األحوال وتتغير الظروف وكم تنزوى من وجوه ماكان المرء يظن أن لها انزواء ،الغريب أن يحدث لرضوان ماحدث وبتلك الطريقة وعلى يد مجهولين التعرفهم والتصل اليهم أيدى العائلة الباطشة القادرة بكل مافيها من فتوة وجبروت ،يذهب ثأر الرجل هبا ًء واليبقى من شموخه وسموق 67
أمسه اال حطام ،وال تترك األحداث أهله يلعقون جراحهم فى هدوء بل ترميهم بمزيد من األالم ،فهاهو سعد ومعه شعراوى يجيئا ن اآلن حاملين شرا ً جديدا ً اليعلم اال هللا سبحانه الى أين سيقود الجميع ،وما مدى المواجهة القادمة بينهم ،الغريب أن شعرواى وسعد لم يجدوا غيره فى المنطقة كلها يلجأون اليه ،وأمام األعين المحدقة واآلذان المتربصة يجلسون على باب الوكالة ليقولوا لكل من يراهم أن كامل صديقنا ومؤيدنا ايضا فيما نريد ،عداوة يجد نفسه مرغما ً عليها واليمتلك المقدرة على الرفض ،ربما تقديرا ً لروح أم سعد رحمها هللا ،ثم هل كان رضوان بهذه السذاجة التى يتحدثان بها وهما يشيران الى مطالبهما ؟ عاد اليهما بناظريه وأذنيه معا ً ،حديثهم هامس وعيونهم على الرائح والغادي نظراتها حريق . قال محذرا ً وهو يشير الى ماتمر به عائلة رضوان -: ليس هذا وقتهأشاح شعرواي بيده-: بل وقته ،وقد نلجأ للمحكمة إذا اجبرونا على هذا.قال سعد متشككأ-: وهل تتصور أنهم سيوافقون هكذابمجرد أن نظهر لهم األوراق ؟ قال شعرواي شامخا ً برقبته الغليظة ووجهه العريض -: دعونا نرىواجهه كامل- : المهم أن أكون أنا على الحياد.68
رد وهو يرفع رأسه فى وجه الريح -: التقلق يا حاج ،نحن وحدنا نأكل الحديدهمس سعد- : كل شئ سيتم في حدود القانونعال صوت شعرواي-: به أو بدونه سنأخذ حقناانتبه كامل لصوت المزالج وتزييق الباب الحديدى وهو يفتح ،ثم ظهور جابر ميمما ً وجهه ناحية حارة اليهود ،شد ذراع شعرواي بقوة -: جابر قادم.اعتدل شعراوى فورا ً ملقيا ً بمبسم الشيشة من يده الى سعد بجواره ، وأرتفع صوته متحفزا ً -: نكلمهكانت الساعة تقترب من السابعة مساء ،وقد سادت الظلمة األجواء ،وبدأ العمال ينهون شغلهم ،ينفضون عن مالبسهم ماعالها من غبار وأتربة وذرات دقيق متطايرة طوال النهار ويغتسلون من الحنفيه الصغيرة بجوار باب الوكالة ويتجهزون للمغادرة بعد يوم من العناء تحرك جابر متقدما ً ناحية حارة اليهود على مهل ،مشغوالً بأمر هذا الدكان الذي طال غلقه بأمر أمه ،حائرا ً كيف يرضيها وفى ذات الوقت يفتح الدكان واليتركه هكذا خاصة أنه العمل له اال الدكان ويستطيع تماما ً أن يقوم مقام أبيه فيه ولن يعجزه إدارة األمر أو الخبرة فقد عمل بجوار والده بما يكفى ليكون امتدادا ً له الى أن يهبه هللا الشفاء ،لكن أمه زادت عصبيتها بطريقة التطاق ،بدأت تظن أن الكون كله بسمائه وأرضه وكائناته قد توقف 69
عن الحركة لمجرد أن أبيه رقد فى الفراش ،هو يعرف ويقدر ويفهم األمر جيدا ً ،لم يكن االعتداء جهارا ً ووسط السوق أو أمام البيت هنا فى سوق السمك أو حتى واجهوه مهما كان عددهم واعطوه الفرصة للدفاع عن نفسه وهو على هذا قادر ،لكنهم أخذوه غدرا ً ،ضربوه فى ظهره وأفلتوا كما تفلت الجرذان هاربين ،قاصدين اال يتركوا أثرا ً ليكون األمر سبة فى جبين العائلة ومذلة اليعرفون واليقدرون على ازالتها مهما مرت السنين ،لكنه لن يسكت وسوف يبحث ويتقصى ويأخذ بثأره ولو من عين الشيطان ،أبوه غالي عليه جدا ً وفوق ما كان يتخيل ،أنه يشعر بالقهر اآلن .يشعر بالقهر بحق .وهو اليستطيع أن يهبه صحته وشبابه ويأخذ منه مرضه ،ال أعمام وال أخوال وال رجال األرض كلهم يمألون مكانه ،لكنه ترك هما ً ثقيالً ،ترك تركة إن لم يثبت جابر أمام مسئوليتها ستنهار المركب بمن فيها ،أمه ال تشعر بهذا ،تعيش في ملكوتها ،تحسب الحياه ملك يمينها ،ال تدري شيئا ً عن المصاريف والحاجيات المطلوبة واألشياء الضرورية والديون واألقساط والفواتير والشيكات واألبواب المفتوحة كأفواه القرب المثقوبة ،التي مهما أعطيتها ال تمتأل ..البد أن يفتح الدكان ويكون هذا غدا ً بمشيئة هللا .سيخبر عمه بهذا و!!..... جابرتلفت الى مصدر الصوت ،اتسعت عيناه لبراح الدهشة وهو يرى شعراوى وسعد يجالسان كامل وبجوار باب البيت ،أعينهم المحدقة به والمحاصرة له لم تعجبه نظراتها ،فيها شىء لم يشعره بارتياح ،وإن كان هو أصال ً اليرتاح لثالثتهم ،الثالثة جالسين مشدودوا القامات ،متحفزوا النظرات كالديوك الشرسة ذات العرف المجنون ،شد عينيه منظر سعد وشعرواي ونيران القلق تحرق صدريهما وهما يمدان رقبتهما نحوه بأعين حداد ،لم يرهما في الحارة من قبل ،ما الذي جاء بهما اليهم ؟
70
لم يبال بهما ولم يوجه نظراته نحوهما نائيا ً بناظريه عنهما ،سامقا ً بعينيه الى حيث صب نظراته فى وجه كامل متسائلة مستفسرة ،تبسم الرجل بإفتعال وهو يقول له:- عاوزينك في موضوعضاقت عيناه وتوترت نظراته ،وهو يتساءل أي موضوع هذا الذي يجمعه بهؤالء. موضوع !!رد كامل محاوالً رسم ابتسامة على شفتيه فجاءات باهتة ذات مذاق السع - :تعالى ومد يده يجهز مقعدا ً رابعا ً الى جواره ،تقدم جابر ،القى السالم مثلجا ً ،ذا حروف خافتة النبرات باهتة كصباح به غيوم ،وجلس ،رد اإلثنان بالكاد ، بينما تعالى صوت كامل محيياً .قال شعراوي فورا ً -: الموضوع بإختصار يا جابر .نحن لنا شقة فى هذا البيتمشيرا ً الى الباب الحديدى المغلق ومن خلفه البناء الذى كان شامخا ً واصبح اآلن يلعق جراحه دون صوت ،لم يفهم جابر ما يقصده بالضبط ، .إتسعت عيناه وهو يحاول استيعاب ماقيل ،أعاد شعرواي كلماته من جديد وهو يوجه نيران حدقاته فى عينيه المتسعتين ،تمتم جابر وهو ال يزال غير ملم بالمعنى-: شقة فى بيتنا !!!هز شعرواي رأسه موافقا ً فى إصرار ،تساءل جابر -:لماذا ؟ رد شعرواي - :الحاج رضوان كتبها بيع وشراء للمرحومه
71
اشتعلت نيران متأججة غاضبة فى صدره وعينيه وخاليا جسده ،ورأى الوجود كله أمامه يتقيا ً خبائثه وجنونه ،أى شقة وأى بيع وأى كالم ال أساس له ،إستدار مزمجرا ً الى كامل:- هل فهمت شيئا ً ؟تراجع بظهره فورا ً الى الوراء متنصالً من األمر:- إبعدني انا عن الموضوع.حاول جابر التحكم فى درجة انفعاله بقدرمايستطيع -: فهموني بهدوء ،ما هو المطلوب ؟قال سعد موضحا ً -:أبوك حينما تزوج أمى كتب لها شقة فى البيت والعقد معنا ،وجدناه فى حاجياتها بخط يده ،بيع وشراء ،ونحن نطالب اآلن بحقنا. همس جابر بصوت متورم بغضب مكبوت -: وجئتم ألخذه اآلن ؟رد شعرواي :بالضبط عاد جابر يتسائل -: وأمك لم تطالب به فى حياتها !!قال سعد -:لم تهتم قال جابر وهو بالكاد يتحكم في حروف كلماته :وأنتم إهتممتم ؟ أكد شعرواي :انا وأخوتي إستدار جابر لكامل متفرسا ً فى وجهه وتعبيرات عينيه 72
ما رأيك ؟رد األخير : -يا بني أنا غريب بينكم قال شعرواي منذراً- : أنا جئت مختارا ً المودة والذوقبدا األمر اآلن مؤامرة سخيفة المعنى لها والمدلول ،مجرد مخلب خائب جاء يبحث عن لقمة ضائعة أو فريسة بلهاء ال أكثر ،إستدار الى شعراوي صارخا ً - : أي مودة وأي ذوق وأنت تطالبنيبشقة فى بيتنا ؟ قال سعد بهدوء منذر -: أبوك كتبها ألمي بعقد بيع ،لم يضربه أحد على يده ليفعلها ،أو ربما لميع مافعل إنفجر جابر بال وعي -:اخرس ولطمه على وجهه - : عاوزين تورثونا بالحياه يا والد الكلبليتصدى له شعرواي بلكمة في صدره:- حق أمنا ولن نتركههدر صوته وهو يطيح بأكواب الشاى من فوق المائدة الحديدية الصغيرة ويهجم بها عليهما -: -لن تخرجوا من الحارة أحياء
73
رفع شعراوى الكرسى الذى كان يجلس عليه ،صرخ سعد العنا أهل الغباء الذين اليعرفون اال العنف ،واليدركون أن هناك فى هذا الكون شىء اسمه تفاهم ،اشتعلت المنطقة فورا ً بعشرات األيدى المتدافعة واألعين الحانقة واآلذان المتنصتة يدورون جميعا ً حول المتعاركين ،بينما كامل يفصل بينهم قدر استطاعته بجرمه الهائل وعينيه المذعورتين وقد شعر أن األمر أفلت منه ،لم يكن يريد للموضوع أن يتطور الى التماسك باأليدي هكذا ،صرخ في رجاله الذين خرجوا من الوكالة حيث الخيش والعفار واألتربة أن يفصلوا بين المتعاركين قدر استطاعتهم ،سيطروا على الموقف سريعا ً وبعد أن تم إبعاد كل طرف عن اآلخر ،أشار كامل لبعض صبيانه أن يصحبوا سعد وشعراوى الى أول حارة خان أبو طاقية حيث األمان بعيدا ً عن أيدى وبطش آل رضوان ،واثقا أنهم اذا عرفوا الخبر وجاؤوا اآلن لن يتركوا االثنين يفلتان من أيديهم مهما كانت األسباب وربما دفع أحدهما روحه بال ثمن لمجيئه الى هنا فى وكر األسود ومنازلتهم فى عقر دارهم ، رأى محمد بطه قادما ً من المقهى ،حامالً نظراته النارية ويديه العفيتين ومعه السيد عم جابر ،توجس شرا ً ! لن يفلت من اللوم ألنه استضافهما وقبل أن يتوسط بينهما وبين عائلة رضوان ،صرخ محمد بطه -: ايه ياكامل ؟هتف فورا ً -: الشىء ياحاجوانثنى الى الخلق مطالبا ً كل منهم بالكف عن الفضول وليذهب كل منهم الى طريقه ،اندفع السيد صارخا ً بصوته الجهورى فى الجميع -: قسما ً لن أترك أحدا ً يتجرأ علينا اال قسمتهثم استدار محادثا ً جابر -: كيف تركتهم يفلتون ؟74
لم يأبه جابر بالرد عليه واستدار محدقا ً فى عينى كامل ،مستفسرا ً ومتهما ً فى ذات الوقت شعر األخير أنه قد أحيط به وأنه قد يحاصر فى زاوية لن يفلت فيها من التوبيخ ،صرخ مواجها جابر -: طلبوا منى الكالم معك ألمر هام ،قلت مرحبا ً ،هل أخطأت ؟ نعم أخطأت حينما سمحت لهما بالجلوس وفرد الصدور ورفع الرؤسوالتحدث بهذه الطريقة . لم أكن أعرف ماذا يريدان. وهاقد عرفت فما رأيك ؟ قاال أن معهما أوراقا ً رسمية بامضاء الحاج رضوان ولو معهم كل أوراق الكون ،لن يستطيعوا شيئا ًصرخ كامل -: سيلجأون للمحكمة وأنت تتحدث باسمهم اآلن ؟ عيب يا جابر انا في مقام والدك والدى كان يعرف حدوده ويزن تصرفاته هل يعجبك تطاول ابن أخيك ياحاج سيد ؟حدجه السيد بقوة ،قرب وجهه منه صارخا ً -: لماذا قبلتهم عندك ياابن أبوى؟رأى المعلم محمد بطة أن األمر سيتطور الى أبعد من مجرد جدال ،رفع صوته طالبا ً الكلمة -:
75
واضح أن كامل لم يعرف مقصدهما واال كان طردهما فورا ً ،هذه نقطةأولى ،النقطة الثانية واألهم هى بحث الموضوع قانونيا ً بالعقل وليس بالعراك . ثم وجه كالمه للسيد مباشرة-: تعالى معى للمحامى فى آخر الخرنفش ،نأخذ رأيه وبعدها نتحدثرمى جابر كامل بنظرة متأججة ،قابلها بمثلها وهو يعاود الجلوس العنا ً كل من يجبره على االشتراك فى أشياء ليس له بها صلة ،ولن تأتيه من وراءها اال رياح السموم ،صرخ طالبا ً أحد صبيانه ،زاعقا فيه -: هات شيشة بسرعهوجلس بعد ذهابه يتساءل لماذا اختاره سعد وشعراوى أصالً ورموه فى بحر ماؤه عكر . .................... دفع الباب الحديدي الرجال الى الساحة الواسعة فى الدور األرضى ،وأغلق خلفهم ،أثناء الغلق أصدر الباب صراخه المعتاد ،لم يبال به أحد ،عاد للنعاس باحثا ً عن السكينة التى تلم به عادة فى مثل هذا الوقت من الليل ، جلس الثالثة جابر وعمه السيد ومحمد بطه على الحشيات القطنية المتراصة فوق الحصير الممتد على األرض والذى لم يقربه كائن منذ حدث للحاج رضوان ماحدث ،للمرة األولى يجمع المكان وجوها اليكون رضوان بينها ،يبسط ظله عليها ،ويحتوى ظاللها ،كمن الثالثة فى الفناء تائهى النظرات وكل منهم يدور بعينيه فى المكان الذى بدا موحشا ً محمالً فى كل ركن منه بذكرى مع رضوان ،محمد بطه يهيم فى أماسى قديمة جمعته به هنا وهما يتسامران ليالً ،يشاهدان التليفزيون والمسرحيات المذاعة أو األفالم وماتشات الكرة ،خاصة أنه لم يكن هناك بالمنطقة كلها اال عدد صغير من هذه األجهزة ،منها واحد فى المقهى أعد له صالة صغيرة بمقاعد متراصة وجعل الدخول بأجر لمشاهدة ماتشات الكرة أو األفالم ، 76
أويتبحثان فى أمور المزادات والسفر اليها فى عموم مصر ،والسماسرة الذين يتعاملون معهم والذين يتصلون بهم لإلبالغ عن المزادات الكبيرة خاصة فى الجمرك فى إسكندرية ،يرى محمد بطه بعينى ذاكرته رضوان متوسطا ً المكان بقامته المديدة وعمامته العالية ،وعينيه المتقدتين اللتين تومضان ببريق القوة والذكاء ،والشيشة التى التنطفأ نارها طوال الليل والراديو الكبير الخشبى ذى األزرار الذى يحتفظ به منذ قديم قائالً أنه عشرة عمر ،والذى يرتفع سامقا ً على الرف هناك أعلى الجدار فى شموخ واعتداد بقيمته ومكانته ،فمنه يستمعون لحفالت أم كلثوم وفريد األطرش وغيرهما ومنه كانوا يستمعون الى تواشيح نصر الدين طوبار وقرآن عبد الباسط عبد الصمد خاصة فى أوقات الفجر ،وقد يعرفون أثناء االستماع أنهما قريبين منهم هنا فى الحسين فيأخذون بعضهم رضوان و بطه وكامل والسيد ومحمد ويذهبون الى مسجد الحسين مخترقين بيت القاضى الى شارع أمير الجيوش ومنه الى المسجد مباشرة ،يحضرون صالة الفجر فى جو من صفاء وهدوء وجو مفعم بالراحة يفيض على األرواح ،بعدها يعرجون الى الساحة الفضاء أمام المسجد حيث يقف إبراهيم بطاولته الكبيرة التى يضعها على حامل بجوار الرصيف وعليها سندوتشات البيض والجبن والفالفل ومااليها ،العيش ساعتها يكون طازجا رائحته نفاذة طيبة ،يراهم ويهش لهم ،يسلم عليهم تاركا ً كل من حوله وطوال عمل السندوتشات المطلوبة والتى يحفظها وبمجرد رؤيته لهم يجهزها فورا ً يظل يتحدث مرحبا ً بهم وداعيا ً هللا سبحانه اال يقطع لهم عادة ،يأخذون السندوتشات والتى عادة ماتكون محشوة بالبيض ومعه الفالفل الساخنة ومع السندوتشات قليل من الجرجير أو الكرات ومعه بعض قطع الطماطم ويتجهون الى المقهى فى مواجهة باب المسجد من اليسار وفى مدخل خان الخليلى الذى يكون فى ذلك الوقت مغلق الحوانيت ناعس فى ظل نور خافت يترامى من اللمبات الصغيرة المعلقة بأعلى الحوانيت ،يأكلون ويشربون الشاى والشيشة ،يكون النهار قد أهل محمالً بروائح الندى والبكور فيعودون بحالة انتشاء كل الى بيته ..يحنى بطه رأسه سائالً عن جدوى 77
حياة تأخذ منا أعمارنا وقوتنا وتتركنا نتسول بعض الصحة لنواجه بها ماتبقى من عمر . أما جابر فقد بدت على محياه إمارات ضيق وهو يرى المكان الذى كان اليهدأ له ضجيج قد ارتمى فى أحضان صمت خانع وسكون ذليل يعانى من وحشة تلم بأطرافه من كل الجهات ،فال قدم تسعى والصوت يرتفع وال نور يحتوى المكان ناشرا ً األلفة والفرح فى األرجاء ،يحدق جابر بعينيه السوداوين فى أرجاء الفناء وماعال الحصير من تراب قد يكون قليالً لكنه كان كافيا ً ليقلب أبوه البيت على من فيه ،وهذه الحشيات التى لم تمتد اليها يد منذ زمن طال تشكو االهمال ايضا ،ترتد بصيرته الى حشية أبيه المختارة التى تتوسط الحشيات بالمسند العالى الذى يجاورها من اليمين والنرجيلة الطويلة العنق بمائها الذى كان يتغير يوميا ً وقلبها الذى ينظف بعناية واتقان وزجاجها الذى يبرق وينطلق منه صوت كركرة الماء رائقا ً وعذبا ً كأنه موسيقى المزاج الرائق فى سكون الليالى الطويل ،وبريق عينيه وهو يتحدث وقوة حجته ورأيه الذى طالما فرضه باالقناع وقوة الصوت ورنينه الذى يبث فى النفوس الهيبة وفى ذات الوقت الثقة بصدقه وكذلك األرادة التى التلين ،يدير جابر وجهه حوله ،يرى فيما سلف أهل البيت وقد تحلقوا حول التليفزيون فى أقصى الفناء والذى كان يعتبر فاكهة البيت فليس فى المنطقة كلها اال هو وعدة أجهزة تعد على أصابع اليد الواحدة يتيه أصحابها بأنهم يمتلكونها ويرون فيها النشرات واألفالم وماتشات الكرة ،كان للتليفزيون أيامها بهجته وكان يصنع له إطار من الخشب المزين بالنقوش الجميله وغطاء من القماش يصنع خصيصا ً له ليغطيه وهو مغلق خوفا ً عليه من األتربة و الغبار المتطاير فى الجو خاصة من وكالة كامل التى التترك منزالً فى الشارع اال رمته بغبارها وذرات الدقيق المتطايرة طول النهار ،كان جابر يتمدد هنا على حافة الحصير وبجواره رضا وسالمه الذى كان يحبو أيامها وأمه وأم سالمه جالستان قريبا من السلم الصاعد الى أعلى لتلبية أى طلب للحاج الذى كان يطلب
78
أحيانا العشاء فتمتد الطبالى فورا ً وتتحرك النسوة رائحات غاديات باألطباق وأدوات الطعام ،يتكلم أبوه ويشاركه األخرون ،التفارق البسمة وجوههم وال تغيب الضحكة عن العيون ،ومن يخطىء فعقابه معروف ،صرخة غاضبة وسباب فورى وطرده من المكان ،وهذا كان أقصى عقاب قد يتلقاه أحدهم ويظل زمنا ً يشكو ويتألم منه ،يرمى جابر بذاكرته أكثر لتغوص فى تلك األيام ،كان بعض الجيران يستأذنون الحاج أو يوجهون طلبهم ألمه أم جابر راغبين فى الفرجة على التليفزيون ويؤذن لهم فيصبح هذا الفناء بكل البراح واالتساع ضيقا ً يكفى بالكاد لألجساد المتراصة والعيون المحدقة واآلذان المنصتة وايضا للهمسات المبثوثة هنا وهناك ،أيامها كانت سعدية تأتى مع أمها ،تجلسان قريبا ً من أمه اعتماد أو بجوار كريمة امرأة أبيه وتدور النظرات بينه وبين سعدية ،نظرات تنطق وتبوح بكل مالد ى قلبيهما الصغيرين من أشواق صبيانية فائرة ،يذكر جابر حينما جاءت جلسته بجوارها فى أقصى الفناء بعيدا ً عن عينى أبيه ومد يده تحت الغطاء وأمسك بيدها وكم تاه بهذا األمر وعاش أياما يتساءل كيف واتته الجرأة لهذا الفعل وفى حضرة أبيه ،و يوما ً جاءت وحدها وحين انتهى الفيلم وأرادت العودة طلب منه والده أن يصحبها ويطمئن لدخولها بيتهم ويعود سريعا ً ،ليلتها ذاق أول قبلة من أنثى فى حياته ،قبلة سرت فى شرايينه وأوردته وخاليا طائر على جناحى أعصابه وروحه دفقة واحدة محدثة زلزاالً جعله يعود ً نشوة عارمة وفرح مقيم شاعرا ً أنه قد صار أميرا ً ،فارسا ً ،صار رجالً حقيقيا ً فاردا ً ذراعيه على الكون بسماه ونجومه وكواكبه وأفالكه ،وكيف ال وهو قد احتضن بذراعيه هاتين -وينظر الى ذراعيه فخورا ً بها – سعدية أجمل وأبهى وأرق بنات المنطقة كلها وبشفتيه هاتين التقم شفتيها وذاق رحيق الخلود من نبعهما ،ذلك الرحيق الذى من فيض بهاه لم يستطع نسيانه لزمن طال ،وكم حاول بعدها أن يمد حبال الوصال اال أنها كانت لها أفكار وتطلعات أخرى ،يحدق جابر فى الفناء ،يرى طيف أبيه فى مكانه المختار ،ترتعد نظراته خشية أن يقرأ أبوه أفكاره وتصبح مشكلة القبل له
79
بها ،يرى أباه جالسا ً يحدق فيه بعينيه ،يشعر أن النظرات تنطلق لتنغرز فى سويداء قلبه ،تزفر الدموع من عينيه ،بالكاد يقيد حركتها . أما السيد فقد بدا النور لعينيه مظلما ً ،فيه مسحة حزن وأسى على أخيه الراقد الذى اليدرى من أمره شيئا ً ،لو كان ينطق – حتى -ألنتهى األمر ، المحامى طلب العقد لإلطالع ،العقد هناك عند شعراوى وسعد ،طبيعى لن يقدموه اال للمحكمة أولمحامى عند التفاوض اذا أمكن هذا ،المحامى العجوز جلس خلف مكتبه العتيق مثله محدقا ً فيهم من وراء زجاج نظارته السميك سائالً -: هل تفكرون فى التسوية ؟صرخ جابر -:ال ،هم كاذبون ومحال أن يفعلها أبى . جابهه بعينى الثعلب اللتين تبخان مكرهما فى فضاء المكان -: يابنى النفس البشرية متقلبه وال تثبت على حال ،األمور التؤخذ ألىسبب من األسباب خاصة مع انسان بحجم الحاج كما حدثتونى عنه بنعم والولكن بتقصى الحقائق ،بالنظر فى الظروف ،برؤية األمر بعين حيادية ومناقشته وتفنيده بالمنطق وليس بالمشاعر واألحاسيس ،هل تفهمنى ؟ بدا على جابر أنه لم يفقه نصف أو ثالث أرباع كالمه ،ومع هذا هز رأسه موافقا ً والتزم الصمت ،استدار المحامى للسيد -: أمامنا طريقان ال ثالث لهما ،طريق التفاوض ،اتصل انا بهم بصفتىمحامى عنكم ،اطلب االطالع على العقد والتأكد من صحة توقيع الحاج بمضاهاته بتوقيع آخر تأتونى به وأعرضه على خبير خطوط صديق لى بصفة ودية ،أو نتركهم يتقدمون للمحكمة ونشكك فى صحة التوقيع ونطلب عرضه على خبير خطوط ،وهذا سيأخذ وقتا ً طويالً ومشقة ومصاريف .
80
تدخل محمد بطه -: ومارأيك أنت ياأستاذ ؟أشار بإصبعه الغليظ الى وجه السيد قائالً -: هذا يرجع اليكم ،ماذا تريدون ؟تجهم وجه السيد ،وتكرمشت تغضنات وجهه وهو يحدق فى عينيه الضيقتين -: ماذا ترى أنت بالقانون ؟ أرى الرأى األول ،نرسل اليهم ،نتباحث وديا ً ،نطلع على العقد ونقارنالتوقيع بآخر ،فاذا كان يشبهه أو مثله ننتقل الى مرحلة أخرى وهى التفاوض ،أما اذا كان مختلفا ً فهنا نقول لهم اخبطوا ادمغتكم الخرقاء فى أقرب جدار . تفكر السيد قليالً ثم مال على جابر سائالً -:هل تستطيع إحضار ورقة عليها توقيع قديم ألبيك ؟ شرد قليالً قبل أن يرد باإليجاب . ..................... كانت كريمة بجوار باب شقتها تتنصت ،علها تلتقط كلمة ما ،بينما في الناحية األخرى كانت رضا تقف الى جوار الباب أيضا ً لنفس المهمة .بينما اعتماد على سريرها تكاد تحترق شوقا ً للقيام ،تريد أن تهب كاعصار لصد هذا الطارئ الجديد ،الخبر الذي إنتشر سريعا ً بمجرد تشابك جابر و سعد وشعرواي حفزها ألن تثور مدافعة عن البيت ومن فيه ،مقسمة أن رضوان محال أن يفعل هذا ،محال أن يضع نفسه أو يضعهم فى موقف كهذا أو حتى يخطىء دون قصد فيه ،تريد أن تقوم ،تتكلم ،تصرخ ،تسب وتلعن ،غير أن األمر مايزال بعيدا ً عن يديها ،الرجال وحدهم يسيطرون عليه اآلن ،إكتفت بإرسال رضا لتتابع األمر ،علها تتحين فرصة للتدخل .
81
إرتفعت األصوات من الدور األرضي تؤكد أن رضوان شفاه هللا مستحيل أن يفعل هذا ،رضوان أذكى من أن يتصرف بغباء. قال السيد:- رضوان لم يكن مزواجا ً ،تزوج أم سعد لغاية في نفسه ،ليسمجرد رغبة ،بل أن الرغبة لم تمر بذهنه أساسا ، لكنها المصالح ،ثم أنه وقف لها حينما شعر بمطامعها ،لم يهتم بأي كالم قد يقال ،طلقها ولم يمكنها من إستغالله أبدا ً ،فكيف يكتب لها نصف البيت ؟ قال جابر:- عاوز أعرف صلة كامل بما جرى الليلة.هرولت رضا الى أمها بالخبر اليقين ،تبعتها كريمة التى لمحتها منذ قدمت للتنصت على مايقال ،وبدأ إجتماع نسوي في الدور األول في حجرة أم جابر ،اتجهت اعتماد بحدقتيها الناريتين الى وجه كريمه التى تكرهه منذ وقعت عيناها عليه ،كريمه بصفتها الصغيرة البيضاء اللعوب التى كانت تعرف كيف تأكل عقل الحاج وقلبه ايضا ،التي كان الحاج يبوح لها بمالديه في أوقات الصفاء ،ويأتمنها على أسراره-: مارأيك ياكريمه ؟تعرف كريمه جيدا ً مشاعر اعتماد نحوها وتبادلها ذات الشعور ،لكنها تعرف ايضا أنها صاحبة الكلمة فى البيت رغم كل شىء ،وأن األمر بيدها ، وأن الناطح معها يضرب رأسه فى جدران صلده الحيله معها وال مجال ، وأن رضوان رغم ميله لها – لكريمه -اال أنه دوما ً كان يرفع من شأن اعتماد ،يقول مؤكدا ً أنها رفيقة عمر وزميلة كفاح وأنه يتخلى عن روحه 82
واليتخلى عنها ،وويل لمن يغضبها أو يفكر فى مضايقتها وهو حى ،لذا كانت كريمة تتقى غضبها ،وتتحايل لدفع أذاها وكلماتها الحادة المسنونة عنها . دقت كريمه صدرها بيدها في حماس وهي تغمغم مستنكرة:- أي شقة عاوزينها أوالد المجانين ؟صمتت قليالً وهي تنظر الى أم جابر الجالسة على سريرها تتلوى ألما ً وحنقا ً ،كانت مكتومة رغما ً عنها كبركان يأبى اال االنطالق ،لم تفرغ ما في صدرها الى اآلن ،هذه الرقدة أنهكتها .لو تستطيع القيام!! أكملت كريمه :- رضوان تزوجها من أجل مصلحة .يريدها أنتعرفه بمعلم في بحري يشتغل في الميناء ،كان عاوز يوسع تجارته .لكنه أحس أنها ترسم على كبير ،قام طلقها،هو طمني قبل زواجه منها ،قال يا كريمة هذا زواج عمل مثل عشاء عمل وغذاء العمل وقعد يضحك وعمره ما قال شئ مثل هذا. في الدور اإلرضي كانت الضجة ماتزال تدق أبواب العقول ،تتصاعد تارة وتهدأ أخرى حسب مرارة المتحدثين. تسائل جابر :ياعمي معاهم عقد. صرخ السيد :ال عقد وال يحزنون ،من يدخل دارنا نقطع ساقه. قال جابر بتمهل :أريد أن أثبت إنها مزورة.
83
عاد السيد يصرخ - :قلت التشغل بالك بها . نظر فى الساعة ،هب واقفا ً -: عاوز حاجة ؟ومد يده يضبط عمامته على رأسه وهو يهم بالقيام .تذكر جابر موضوع الدكان ،قال بهدوء :- -سأفتح الدكان غدا ًقال بطه وهو يتجه الى الباب -:على بركة هللا قال السيد وهو يتحرك الى جواره -: على بركة هللا.عاد جابر الى حيث تلقته النسوة بسيول األسئلة وأكوام المجادالت. .................. جلس إسحاق داخل دكانه الصغير في حارة خان أبو طاقية خلف الفاترينة الزجاجية القابعة في المدخل ،والتي تسده تماما ً وال تسمح ألحد بالنفاذ الى الداخل ،وتجعل التعامل فقط عبر زجاجها المترب المشرب بآثار األكواب والكئوس الزجاجية الرخيصة ،والخمر التي يصبها فيها من داخل برميل بجانبه له صنبور قرب قاعدته الدائرية ،يمأل منها ويقدم للزبون الذي ال يجد أمامه إال التراص بجوار الجدار محتميا ً بالعتمة التى ترمى بثقلها على المكان ومن فيه ،وإحتساء الخمر التي يسمونها سخرية (..منقوع الصرم ( . تبدو الدكان صغيرة تسع بالكاد إسحاق الذي يجلس على مقعده الدوار ، ويمارس من خالله عمله ،ومن خلفه أرفف عديدة على الجدار ،عليها زجاجات خمور وبيره من أنواع مختلفة ،جهزها لزبائنه من المستويات األعلى قليالً في المناطق المجاورة .وإكتفى للزبائن الكا لحة بالبراميل 84
واألكواب ،سواء الصاج أو الزجاجية ،يفتح لهم الدكان بعد الغروب وبعد أن تكون معظم إن لم تكن كل الورش قد أغلقت أبوابها ،وسار متاحا ً أمام زبائنه أن يقفوا كما يريدون ،ويقولوا ما يشاؤن شريطة أال يعلو لهم صوت فوق المعتاد ،جلبا ً لصمت الجيران وعدم شكواهم ،وتساعد إسحاق فى الدكان إبنة غاية في الجمال في نظر زبائنه ،الذين كانوا ينهون أعمالهم عادة ويأتون اليه .يتطلعون الى وجه اإلبنة األبيض بشعره األصفر السائح على الكتفين ،ويشربون منقوع الصرم وهم يلعنون نسائهم والحظ الذي لم يوقعهم مع واحدة مثل هذه ذات الدالل والمرح والوجه الطلق والكلمات المحشوة برقائق الحروف ،فهى تشفي العليل بطلتها وبهاء بسمتها التى تالقى بها كل الوجوه الكالح منها والسمج والعابس والمحزون ،تقدم لهم الخمر بدالً من والدها الذي يجلس بعيدا ً بجوار األرفف وراء مكتب صغير ، يرتب الزجاجات أو يحضر برميالً جديدا ً أو ما شابه .وعلى البعد يرقب أبنته بإبتسامتها ولمة السكارى من وراء الفاترينة حولها ،واثقا ً أن البنت ال تزيد عن جرعة اإلبتسامة ألي منهم ،حتى سعد نفسه إبن أم سعد ،صاحب الفرن وشقيق شعرواي ،تبدو متحفظة غاية في التحفظ معه وفى ذات الوقت متقبلة غمزاته التى يظن أن ال أحد يراها ،وهباته القليلة التى يظنها كبيرة بما يكفى لجذبها اليه والميل نحوه ،ترقب البنت تصرفاته وعين والدها رادار ثاقب عن بعد ،يرمى بظهره العريض الى الخلف محدقا ً وسط الضوء القليل التى ترميه اللمبة المعلقة فى السقف والتى تصنع جوا ً غامضا ً يحيط بالمكان فال يبدو من مالمح من بداخل الدكان اال سيماه ومحيط وجهه أما النظرات فيصعب تحديد مسارها أو مكان انصبابها ،والبنت تعرف هذا وتتصرف واثقة أنها فى أى لحظة حرجة ستجد أباها بجوارها ،وربما أزاحها جانبا ً مالطفا ً الزبون مبالغا ً فى ترضيته حذرا ً من ارتفاع األصوات وسط الحارة الهاجعة ليالً ،والتى تنظر اليه والى خمارته بعين الضيق وفى ذات الوقت راغبا ً االيخسر زبونا ً من زبائن المكان ،وقد حاول سعد مرات أن يغريها بالنقود ،غله الفرن وثمن الدقيق الذي يكون في جيبه ،ولما لم يجد منها تجاوبا ً معه تركها ،وأكتفي بالوقوف لحظات كل مساء يتجرع 85
كأسين قبل التوجه الى البيت .غير أنه في هذه الليلة كان صامتا ً على غير عادته ،تبدو فى بؤرة عينيه أكواما ً من الهموم ،يزفر من فمه وأنفه زخات من ضيق ،إذ أن األمر تطور بصورة سريعة مع عائلة رضوان ،وأصبحت المواجهة حتمية وال شك فيها ،شعراوي بعد الذي جرى مع جابر في الحارة ذهب الى محامي قريب للحاج كامل ،مكتبه في شارع الموسكى ورفع قضية ،يطالب فيها باستالم الشقة التى باعها رضوان ألمه بعقد بيع ابتدائى موقع عليه منه ،ووصى المحامي أن يفعل المستحيل لكسب القضية ووعده بأجر اليتخيله لو تم له هذا ،مقسما ً اال يتنازل عن حقه حتى لو دفع أضعاف ثمن الشقة فى سبيل أن يكسر عناد وغرور جابر ومن معه ،كل مايطمح اليه الحصول على الشقة بالقانون ،دخول البيت فى وجود كل عائلة رضوان ورغم أنفهم ،و ليضربوا دماغهم في كل جدران المنطقة ، نصحه البعض قائلين أن عائلة رضوان كبيرة ولهم وزنهم في المنطقة ومؤكد لن يقبلوا بهذا ،وقد يهاجموا الفرن وليس بعيدا ً أن يتربص بعضهم له أو ألخيه وينتقموا منهما ،اتهمهم بالجبن وبأنهم يخافون من خياالت وأشباح التوجد اال فى مخيلتهم المريضة ،شامخا ً بأنفه مؤكدا ً أن له هو أيضا أهله وعمال فرنه وبعد العلقة التي أخذها جابر فى خان أبو طاقية ال يعقل أن يأتي هنا ثانية. الحظت إبنة إسحاق أن سعدا ً على غير عادته فد تجرع الليلة كثيرا ً من الخمر ويطلب المزيد ،نظرت لوالدها بنصف عين فلم يزد على أن هز رأسه وهو وراء مكتبه على البعد هزة يسيرة ،معناها أن وافقيه على ما يريد واعطه ما يطلب من الخمر ،فليس هذا الذي يقال له كفى مادامت النقود في جيبه. أخذ سعد كأسه ومضى الى جانب الجدار ،ممسكا ً بكأسه متفكرا ً في جابر هذا ،الذي يظن نفسه أهالً لألخذ بالثأر ،أي ثأر هذا الذي يطلبه وهو لم يستطع أن يحمي نفسه عندهم في خان أبو طاقية ،جابر هذا ليس رجالً..
86
دار برأسه فيمن حوله ،رأى جابر بجانبه ،كأسه في يده ،وطبق به بعض المزات على حجر بجواره ،صرخ فيه بقوة-: جابر يا رضوان ،أنت لست رجالًورفع الكأس الى فمه ،غير أنه تلقى ضربة على رأسه من الخلف وسمع زمجرة أدار على إثرها دماغه ،ليرى رجالً غير جابر في مواجهته ،كاد يسأله عن جابر وكيف هرب ومضى خوفا ً منه .غير أن الرجل عاجله بالسؤال:- لماذا تشتمني ؟أشاح بيده .قال في ال مباالة:- انا أشتم جابر جابر!! ...من ؟ جابررضوان وماذا قلت له؟ أنت لست رجالً ...وال إمرأةضحك الرجل منه ،أخذ يقهقه ،أعجبت سعد الحكاية ،فكر فيها فوجدها رائعة ،يجرد جابر من جنس البشر ،هو ال يستحق أن يكون بشرا ً ، سيتركه بال جنس ،ال رجل وال إمرأة ،وسيواجهه بهذا ليعذبه ،ليثبت له أنه ال شئ ..تحرك ناحية الدكان ،وضع الكأس دون أن يشير إلبنة إسحاق مثل كل ليلة ومضى تاركا ً الفرن خلفه متجها ً الى بيت رضوان ،ناداه إسحاق-: الى أين ؟قال دون أن يدير وجهه اليه - :
87
مشوار وراجع.وأكمل السير ،وصل الى الباب الحديدي ،دقه بكل قوته وهو ينادي بأعلى صوته جابر يا رضوانفتحت النوافذ واألبواب وأنتبهت العيون ،ظل صوته يعلو وهو يحاول الثبات فى مكانه أنت لست رجالً ،ولست إمرأةأنت ال شئ ،أنا نفيتك من جنس البشر. وإستدار يريد العودة من حيث أتى .غير أن يدا ً ثقيلة سقطت على قفاه وأخرى الى ما بين فخذيه من الخلف .أرتفع ألعلى وسقط مرة واحدة على األرض. بدت في عينيه نظرة رعب وهو يرى شبحا ً ماردا ً يقف فوق جسده متحفزا ً وهو يلقي اليه بنظرات اإلحتقار ،غير أنه حينما رآه يستدير عائدا ً الى الداخل عاد يضحك مصرا ً على أنه قد نفاه من جنس البشر . .رأى كامل قادما ً وعينيه الواسعتين تكافحان آثار النوم والفزع الذى انتابه من الضجيج المفاجىء فى مثل هذا الوقت من الليل ،أشار اليه أن يقترب وهمس له بصوت ظن أنه همس قائالً-: جابر ليس رجالً ،وليس امرأة ايضا !!فلما رآه راغبا ً عن االستماع اليه مد يده مستجيبا ً لليد الممدودة اليه ، محاوال ً القيام ،سعيدا ً بقراره الذى أعلنه على الجميع ،عائدا ً من حيث جاء .......................... بكت كريمة كما لم تبك من قبل ،حدقت فى عينى سالمة الهادئتين ،منصتة الى صوته المحايد وهو يجابهها بالمباالة كانت كافية لتشعر نيران سنينا ً 88
مضت ،نيرانا ً احتفظت برمادها فى صدرها خشية أن يطلع عليها أو يرى بقاياها أحد ما ،فالنيران أبدا ً مهما انزوت ومهما خمدت التغيب أثارها والتنمحى ،ولكن تترك أثرها شاهدا ً عليها راويا ً لتاريخها محدثا ً عن فعلها ،تفجر البركان فى صدرها لدهشتها هى أوال قبل أن يكون لمن حولها خاصة رضوان الراقد فى مرقده على بعد خطوات منها مرسالً عينيه ترصدان وتتبعان بريق النظرات وسيماء الوجوه وأحاسيس الصدور التى تبدو فى لفتات العيون ،مكتفيا ً فى كل األحوال بتحريك جفنيه باغالقهما أو بشى معلنا ً عن رفضه له فتحهما أو الرجفة التى تعتريه حينما يضيق صدره ْ ،انتبهت لنفسها وقد تناثرت شظايا أمام باب الشقة التى فتحته توا متلهفة لسماع خبر تأخر عنها ثالث سنوات هى عمر امتحان سالمه فى الثانوية راجية هذه المرة أن تطلق زغرودة فى فضاء تشبع من األحزان والهموم التى لم تبرحه منذ جثمت على صدره وكتمت أنفاسه ،لكن الوجه الذى طالعها لم يكن وجه النجاح التى ترجوه ،فالنجاح كالعدوى ينتشر وتفوح رائحته وتعلو رايته واليتحدث عن نفسه تاركا ً لمن حوله الحديث عنه والفرح به واللذة بامتالكه والظفر به ،رأت أمامها وجها ً آخر كرهت مطالعته والتحديق فيه وكتم مشاعرها حتى ال يوجه أحد اليها اللوم وربما قال لها (..مالك به ؟ ينجح أو يسقط ،هذا شأنه وشأن أبيه ،هو يتصرف معه ،دعيه له والتشغلى بالك بحاله ) كانت تخشى من هذا الرد خاصة من اعتماد التى التترك فرصة إلظهارها بمظهر الخطأ اال رمتها بها هى تعرف هذا وتعرف أن فى يد سالمة وحده أن ينصفها ويرفع رأسها ويفرد صدرها ويهب عينيها بريق النصرة والفوز ،وفى يديه ايضا أن يكسر رقبتها ويمأل عينيها بالتراب ،وهاهو قد فعلها كأنه لم يكفه ماالقته طوال سنوات عمرها التى كتمت فيها مشاعرها كأنثى رافضة مجرد التفكير فى شىء اال ارضاء رجل تكرم عليها ومنحها اسمه وحياته وبيته وأوالدا ً سعدت بهم ورجت ربها أن يكون فيهم العزاء عن كل شىء ،لكن هذا لم يمنع أبدا ً أن تفيض بصدرها مشاعر األنثى التى تتوق الى أعاصير االحتواء التى يمنحها اياها ند لها يروى وينعش ويمنح بفحولة ورغبة جامحة 89
المجرد اعتياد ،قد تخبو ناره أياما ً فإن تأججت فذلك للحظات عاجلة يلهث بعدها ويرتمى الى جوارها ،راميا ً الكون بسعاله وصوت تنفسه الذى يزعج السكون ،تطوف بها هذه المشاعر أحيانا كثيرة فتغضب لمرورها بخاطرها ،تطردها وترفض االستمرار بها أو حتى معاودة تقبلها ،فيد الرجل على أسرتها بيضاء الى الدرجة التى عليها أن تحنى رأسها وتخلص بروحها له ،وتمنحه كيانها بالقيد وال مشاعر خاصة بها ،مهما كانت تلك المشاعر ،عاهدت نفسها منذ سنين أن توفر له مشاعرها كلها لحين قربه منها واحتواؤه لها فالتبخل بشىء والتنكر شىء راضية مطمئنة الى رضوخها وتقبلها لقربه مهما كان ثمن هذا القرب ،يكفيه أنه منح دون أن يسأل شيئا ً أو يطلب مقابالً كما قد يفعل الكثيرون .رأت الرأس المحنية التى تخفى عنها عينى ولدها الالهيتين اللتين تحمالن مكرا ً تعرفه جيدا ً وال مباالة قاسية تنكرها وتكرهها وهو يقول لها كلمات لم تسمعها فقد صرخت مالمحه ونظرات عينيه بكل شىء ،الفشل اليحتاج الى كلمات تعبر عنه ، يعرف جيدا ً كيف يفصح عن نفسه باشارة من عين ،أو لفتة من وجه ،أو حتى تقطيبة جبين ،رأت الوجه وقرأت المالمح و بكت ضياع األمل ونفاذ اليأس المقيم ،الولد الحيلة الذي خرجت به من الدنيا أبى أن يسعدها ،أصر االيحقق أملها ،خاب وفرح فيه وفيها الكل ،سيشمت فيه كل من يحمل لها بغضا ً أو ينتظر منها عثرة أو يترقب لها كبوة فى طريق .عادت الى أبيه بعد أن استطاعت جمع شتات نفسها من جديد ،عادت بدموعها وظهرها المكسور وعمرها الذى أهدر سنواته هذا الولد العاق الذى جاء ليقهر آخر مالديها من جهد على المقاومة واالستمرار -: أرأيت يارضوان الولد ؟ارتجفت األجفان بقوة وتطاير من العينين شرر وهو يحدق في وجهها المغسول بالقهر ،كان محمد الصغير قريبا ً من أبيه يحمل مجلة فى يده يشير ألبيه الى صورة فيها ،رآى وجهه يشتد احمراره وتتأجج نيران نظراته فأخذ ركنا ً بجواره ملقيا ً المجلة ومتابعا ً الموقف الجدي ،اقتربت 90
كريمه شاكية فشلها فى تربية نبتة عوجاء لم تستقم ورفضت محاوالت زارعها لرعايتها ،انتبه محمد لنظرات أبيه للمجلة بجواره ،بتردد رفعها قليالً أمامه ،انصبت النظرات عليها ،قربها من عينيه ،لم تفهم كريمه مغزى مايجرى أمامها ،خرست الكلمات على لسانها وهى تتابع األمر العينان تحدقان ،الولد يقرب المجلة منها ،يشير الى صورة ،يقرأ المكتوب ،اغماضة العين وانفراجها جعله يتوقف ،يقرأ كلمة ،تنغلق العينان وتنفتحان ،يتهجى الكلمة ،تسرى امارات سرور فى بؤبؤ العينين ،ينطق الحروف ببطء ،يزداد اتسع مساحة الرضاء فى براح النظرات ،يصرخ الولد -: فهمت ماتريديتبعه صوت أمه معترضا ً-: ماذا فهمت ؟يجاوبهاوهو يمارس عمله بسرعة -:انتظرى ووسط الردهة يحضر ورقة كبيرة ،يكتب عليها حروف اللغة الثمانية والعشرين ،ويعود لوالده -:سأمر على الحروف ،الحرف الذى تريده اغمض عينيك ،والذى التريده التحركهما ،اتفقنا ؟ تهتز الجفون بلطف وارتياح كبير مرحبة بالفكرة ،وتبدأ التجربة وكريمة تتابع التكاد تفهم شيئا ً ،بينما محمد بين لحظة وأخرى يكتب كلمة على هامش المجلة بجواره ،بعد لحظات اقترب منها وقبلها سعيدا ً وهو يبلغها بقرار والده ..اتركي سالمه لمصيره !! اتسعت مساحة الدهشة الممزوجة بعدم التصديق فى عينيها وهى تحدق فى عينى رضوان -: -أأنت قلت هذا ؟
91
اغمض عينيه وفتحهما عالمة الموافقة ،مسحت عينيها وجلست الى جانبه محنية الرأس راضية بقراره ،فهو فى كل األحوال رجلها الذى عليها طاعته والرضاء بما يريد .سمع سالمه ماقيل وهو خارج الحجرة ،دخل مخذوال ً الى حجرة أبيه ،عيناه منكسة النظرات ،كتفاه متهدالن ،ويداه الى جانبه فى تسليم ،فهو يعرف جيدا ً مشاعر أبيه اآلن ،ويعرف أنه لو كان بصحته لتفجرت ينابيع غضبه وناله منه مايطيق وماال يطيق من تقريع ولكمات ، أما وهو هكذا فقد كفاه مايالقيه من نفسه من التقريع واللوم ،فهناك وقت تنتظر فيه أن تسمع عتابا ً أو حتى كلمة تأنيب فإن فوجئت بغير هذا استدرت لنفسك موبخا ً ومؤنبا ً وملقيا ً بكل كلمات التأنيب عليها لما فعلته كأنك تأخذ لحظتها صفة القاضى طالما أن القاضى الذى تنتظر حكمه الرادع قد غاب ، اآلن ياسالمه تبتعد بعينيك عن وجه أبيك خشية أن تلتقط منهما اشارت تخشى منها ،تستمع الى هدير نفسك القارس الحروف ،وصراخ عقلك الذى يسألك اآلن ماذا جنيت عليه وعلى أمك معه ،وهل لهذا كنت تسعى منذ بداية العام ،التعليم لم تعد ترغب فيه ،ولم يعد لديك أمل أن تصل فيه الى شىء ،ليس من أجل نوال أو غيرها ،ولكن المواد ذاتها لم تعد تدخل عقلك ،العقل يرفضها ،يأبى حفظها أو حتى االنصياع لمجرد مطالعتها ، تجلس الى كتبك ،تطالع صفحاتها ،تأبى نفسك االستمرار وتبحث عن وسيلة للهرب ،وكثيرا ً ماتكون هذه الوسيلة نوال ال أكثر ،نوال وسيلة وأنت تعرف هذا وليست سببا ً ،ارتباطك بالحب يمنحك القوة والتحدى وليس الخذالن والعار ،حبك يدفعك لألمام وليس الخلف ،لذا عليك أن تعترف أنك لم ترد وال تريد ولن تريد اكمال التعليم ،يكفى هذا اآلن ،ولتبحث لك عن عمل وطبعا العمل موجود مع عمك السيد ،عربته نصف النقل وهو لن يرفض لك طلبا ً أن تكون سائقا ً لها نصف الوقت وهو النصف اآلخر بدال من الغرباء ،ثم إن كلمات قليلة تسر بها الى والديك لن تقتلك بل ستحل المشكلة وترضيهم وتطمئن بالهم عليك وعلى مستقبلك ،أما إحساسك بأنك زدت تعاسة بيت يحتاج الى بسمة صغيره تضىء ليله وتحيل برودة جدرانه الى
92
دفء وتمنح للنفوس المتلفعة باألسى نوعا ً من سرور ولو ضئيل فهذا يمكنك محوه بأمل تنبض كلماتك اآلن وترتضيه نفوسهم . حدقت فيه كريمه وهو يدخل على أبيه محنى النظرات ،صرخت عيناها أن حلم عمرها قد ضاع ،رأت العيون شامتة والحروف متطايرة فى أنحاء المعمورة تنشر الخبر على الكون ..ابن كريمه فاشل ..تعالى نشيجها من جديد ،صرخت فيه:- ستقعد بجانبي مثل الواليا ؟ صمت قليالً ثم تكلم بهدوء :- أنا مكاني السوق .افهميني كمان .عاوز تخيب أكثر ؟ السوق ليس خيبة. وماهى الخيبة يابن كريمة ؟قبل وجنتيها مترفقا ً -: السوق هو مكاني ،طريقي ،وهدفي .أرجوك أتركيني براحتي. يابني خذ الثانوية فقط. ال أريدهاواستدار الى عينى أبيه -: -سأكون بجوار عمى السيد ،أقود عربته نصف الوقت ،ارجوك التغضب
93
وقبل يده الراقدة بجواره بالحول ،ارتخت األجفان بلطف وعادت لإلنفراج ، كفت كريمه عن النواح !! …............................. أمام مقهاه القى محمد بطة بجسده على مقعده األثير صامتا ً ،يتأمل الرائح والغادي بعينين شاردتين ،تائهتين في دوامة ال يعرف كيف يبلورها ،ويضعها موضع التنفيذ .فكرة لو تمت ستكون بابا ً جديدا ً يفتحه ويدخل منه الى رحابة المكسب ،وحياة البغددة من جديد .خاصة أن تجارة الصنف لم تعد بالنسبة له الطريق األفضل للحياة ،أصبحت أعين البوليس ال تتركه ، تعد عليه لمحاته ،وتبذر حوله بذور الشك ،وال يأتي الى القسم ظابط جديد إال إستدعاه بصفته من المشبوهين وقال له نفس الكلمات ،وعرض عليه أن يكون مرشدا ً لهم ،ويرد محمد بطة نفس الرد " حينما سأرى شيئا ً سأبلغكم " ويمضي ،لكن ال يجرؤ ضابط على إيقافه وحبسه يوما ً أو يومين كما يفعل مع غيره ،إذ أن سمعته تسبقه واتصاالته وحذره تجعله مقنعا ً على الدوام ،فهو حينما أعلن أنه قطع عالقته بالصنف وكل ما يمت له بصلة كان فعالً قد فعل ذلك ،ليس عن وهن أصاب القلب وال هو خوار مس الروح والنفس طواها كرالسنوات فلم يعد لها اال السكون واالنزواء ،فهو كما عرفه القاصى قبل الدانى قد تشرب من المخاطر عصيرها ومن المطاردات ريحها واستطاع حينما دخل المعتقل أن يفرض وجوده على من حوله بالداخل كما فرض وجوده سابقا ً على كل من قابله بالخارج ،وحينما خرج ورأى أن الحياة أقصر من أن يضيعها فى جرى الجدوى منه قرر التوقف واالستقرار والبعد عن حياة المغامرة التى كان يتوق اليها ويتيه بها ،ذهب الى الحج وأدى الفريضة لوجه هللا حقا ً وبقصد التوبة ،و لم يعد اليها ،وإن كان وقوفه فى أي معركة له وضعه وهيبته ،ليس شرطا أن يكون له يد فيها أو حتى لسان ،يكفى أن ينظر ولو من بعد ليضع
94
المتعاركون فى اعتبارهم مهما كان عددهم ،ومهما كانت درجة فتوتهم أن محمد بطه موجود وأن عليهم اال يتخطوا حدودهم واال !.. هكذا هى المعادلة التى توارثها الوارثون أن األقوى يسود ،والقوة فى كل األحوال على األقل بالنسبة للعامة هى قوة البدن ،القوة الجسدية ، يصاحبها نوع من الجرأة تمتد مساحته أو تقصر معطية لصاحبها نفوذا ً أكبر وخطرا ً أعمق فيهابه من حوله ويحسبون له الف حساب ،أما اذا صاحب القوة الجسدية قوة أخرى مثل الجاه أو النفوذ فهنا تكون للمعادلة قوانين أخرى ومبادىء جديدة تسير عليها ،وفى حالة محمد بطه فهو وكما يعرفه الجميع هنا يمتلك القوة الجسدية والجرأة التى تجتاح المدى وكذلك القلب الحديدى الذى اليعرف الخوف واليهاب الموت ،هذا باالضافة الى الثروة التى حققت له نوعا ً من االستقرار الذى أرسى لحياته قواعد وأسس قامت عليها وامتدت حتى اآلن .هو محمد بطة فى كل األحوال ،ومن ال يعرف أو يتظاهر بأنه اليعرف فهناك من يقوم بتعريفه وافهامه وتعليمه من هو محمد بطه ،وال تنسى المنطقة كلها ما جرى منذ عدة سنوات حينما كان محمد بطة مايزال يتاجر فى الصنف ،يقوم بنشاطه ويضج القسم منه وكلما حاولوا اصطياده أفلت منهم ،مما أجبر إدارة المكافحة على إرسال ضابط من أشرس رجالها للقبض عليه ،إستدعى الضابط محمدا ً وحاول الوصول معه الى حل وسط ،يريح اإلدارة منه ويريحه هو من الحركة والحذر الذى يكلفه الجهد والمال ،لكنهما لم يتفقا معا ً ،ال يعرف أحد ما دار في هذا اللقاء .ماذا طلب الضابط وبماذا رد بطة .الذي يعرفه الجميع ورأوه رأي العين أن الضابط أمر بإلقاء بطة في الحجز وتوضيبه حتى باكر ،ليرى إن كان سينفذ ما يريد أم ال .ضحك بطة بإستخفاف وقال له-: بالش.إستشاط هذا الضابط وكان أسمه إبراهيم حسين غضبا ً ،ورفع يده يريد ضربه ،امسك بطة اليد وعاد يقول وعيناه تلتهمان وحه الرجل - : قلت لك بالش .95
لكنه لم يرتدع ،وفوق هذا طلب أرذل مخبريه ،وأمرهم أمامه وفورا َ بتأديب بطة .ويقسم الذي شاهد هذه الواقعة أن المخبرين رفضوا .صرخ فيهم الضابط وهددهم دون جدوى ،إنفجر في بطة سبابا َ من أقذع السباب ومضى اليه ثانية ليضربه غير أن بطة عاد وأمسك اليد ،لكنه هذه المرة ثناها خلفه بقوة جعلته يجاهر بألمه .وقال له -: قلت لك بالش ،مصمم تعمل مشاكل ؟ورفع التليفون أمامه واتصل بشخص ما ،صرخ فيه -: ياباشا اسحب هذا الرجل من هنا ،نتفاهم انا وأنت أحسنانصت قليالً الى الرد ،بعدها شغل الميكروفون فى الهاتف ليسمعه الجميع وقال بصوت عال ٍ-: اتفضل ياباشا ،هو يسمعك اآلنجاء الصوت عبر الهاتف واضحا ً اللبس فيه -: حضرة الضابط إبراهيم ارجع المديرية فورا ًبعدها أغلق الهاتف فى هدوء واثق وعلى مهل وبال بادرة خوف أو قلق ، واستدار عائدا ً الى مقهاه دون أن يأبه له . حكايات وحكايات عن محمد بطه كلها مضت مثلما مضت أيام الشقاوة ،وإن كان الرجل هو الرجل بهيبته وكلمته المسموعه واحترامه بين الجميع ، يجىء الى المقهى التى افتتحها أيام الشقاوة ليدارى بها نشاطه ،يجلس على الباب بعيدا ً عن الضوضاء وحيدا ً والشيشة أمامه ،ينظر فى صمت ، وإن تكلم فوجهه ضاحك أو تعلوه بسمة خفيفة تليق بالهدوء من حوله ، وقد يجلس اليه بعض األصدقاء المقربين أمثال السيد و كامل ورضوان قبل أن يدهمه المرض فيتهامسون ويضحكون فى ركنهم بعيدا ً عن الشباب الصغير الذين تمتلىء المقهى بهم هذه األيام . وقد اقترح عليه كامل اقتراحا ً فى لحظة صفاء وهما جالسان وحدهما على باب المقهى ،جعله يشرد هكذا ،سابحا ً فى ملكوت أفكاره بجناحى الحلم دائرا ً فى فضاء الحدود له ،يتأمل ويتعمق ويبحث ويتسائل ويرى هل تنفع أم ال ،قال له كامل همسا ً وهما وحدهما فى ركنهما المفضل -: -أريد الحركة من جديد بتوسع
96
قال بطه بهدوء وهو يسحب الدخان من المبسم باسطا ً نظراته على المدى أمامه -:تحرك حدق فيه كامل بحدقتيه السواداوين معترضا ً -:وحدى ؟!! شد بطه نفسا جديدا ً من الشيشه اطلقه الى الفضاء وهو يقول المباليا ً -: ال أفهمأمسك أذنه وراح يصب فيها كلماته عن المزادات التى كان هو ورضوان يشتركان فيها ،والمكاسب التى كانا يحصالن عليها وكيف أن رضوان هو الذى فتح له الطريق ،وهو الذى عاونه وأوقفه على قدميه ،غير أنه قبل الحادثة التى تعرض لها ونتيجة لسوء الفهم بينهما لم يشركه معه ،صمت قليالً ثم تنهد قائالً -:رضوان كان رجالً حقا ً ،كان من ذلك النوع ذو الخط الواحد المستقيم اذا أحبك صرح بها ،واذا كرهك صرخ بها بال خوف ، لكنه كان عنيدا ً بصورة مخيفة ،اليتراجع مهما كان األمر . همس بطه -:ادعو له بالشفاء ورفع عينيه ليواجه بها عينيه -: لكن قل لى ،اال تعرف من فعل به هذا ؟تغير وجه كامل وامتألت التجاعيد والتغضنات أسفل عينيه بجبال من ضيق ،بحث عن كلمات يستطيع التفوه بها أمام بطه فهو على كل حال ومهما بلغ به األمر اليريد أن يخسره ،قال -: اتظننى أعرف ؟استمرت حدقتا بطه تحاصران عينيه وهو يقول -: ماحدث له فعل خسيس من شخص بيننا .رأى كامل الكالم يدور حول معنى بعينه ،نظرات بطه واشاراته لها مدلول واضح ،هناك جبال من شك تمأل صدره ،تنغز فى أفكاره وتلوث مشاعره نحوه ،اندفع قائالً بقوة وهو يعتدل مواجها ً له محدقا ً فى عينيه -: أتظننى فعلتها ؟بادله بطه التحديق متفكرا ً ،هل يقول له أشك فى هذا ،واذا قالها أين الدليل ،ثم إن كامل يتكلم كثيرا ً وينفعل كثيرا ً لكنه فى النهاية سطحى بال أغوار ،اليؤذى واليجرى وراء األذى ،هو من ذلك النوع الذى يتشرنق بخيوط الحذر والحيطة ويخشى أن تمتد اليه يد بأذى ،فلحظتها ونتيجة لرعبه وخوفه الداخلى يمد يديه ويخمش اليد التى تمتد نحوه ،وذلك أخطر مافيه ،أن تجعله يفقد السيطره على مشاعره ويتواله الخوف ،لحظتها 97
التعرف رد فعله نتيجه لهستيريا القلق والخوف التى تتواله ،أما غير هذا فهو أرق من دجاجة ،من يراه وهو فى أتون انفعاالته يقول أنه جبار فى األرض ،لكن من خبره وعرف طباعه يتأكد له أنه من أعماقه أبيض ،لكن ايضا خسارة المال تحرق ،والمعامله المهينة تجرح واالزدراء يميت ، وهذا ماواجهه به رضوان وماتحدث به اليه على المقهى وأمام الجميع يوم أن واجهه قائالً أن التعامل بينهما بعد اليوم طالما غدر كامل بالضبع . انتبه بطه من خواطره ،سائل نفسه -:مالك يابطه تفتح اليوم مواضيعا ً اليجب فتحها ؟ وعاد اليه ،رفع عينيه فى مواجهته ،الظواهر تقول أنه أصغر من أن يدبر هذه المكيدة ،كامل اليعرف االلتواء ،على كل لن تظل األسرار أسرارا ً طول العمر .قال محدثا ً نفسه -: نفسى أعرف من فعلها .اندفع كامل مؤيدا ً -:قسما سأمزقه بيدى ،المهم اآلن أن تسمعنى ،أريدك شريكا ً لى تبسم بطه بسمة يفهمها كامل جيدا ً -لك أنت ؟ تغاضى كامل مرغما ً عنها قائالً -: نعم ومعنا جابرضاقت عينا بطه قليالً حينما جاء ذكر جابر وقد بدأت الحكاية تلوح خيوطها واضحة جلية أمام عينيه ،كامل اليريده لذاته بل ليجذب جابر به ،صعيدى واعر وليس سهالً هو ايضا .عادت االبتسامة تتألق على شفتيه ،حدق فى عينيه سائالً -: وهل يقبل ؟ البركة فيكولماذا ادخل بينكما أصالً؟ المصلحة ستعم ياأخوى لكن !! انا اخترتك لثفة جابر بك وألنه ابن رضوان ،ونحن الثالثة سيكون لناثقل فى السوق ،قل وافقت نظر محمد بطه الى الطريق ،طالما سمع رضوان يتحدث هنا فى المقهى عن المزادات وطريقة دخولها والتعامل معها وكان عادة يصحب جابر معه ،
98
ثم شارك كامل بعض الوقت ،هنا أثنان لديهما الخبرة أى أن احتمال الخسارة قليل ،تبسم من جديد وهو يعلن موافقته . ............................ وقفت كريمه أمامه التدرى هل تحمل بين عينيها بردا ً وسالما ً ألنها وصلت الى ماتريد ،أم تتأجج نارا ً طلبا ً لثأر طال انتظاره دون أن يدرى أحد كيف وممن يأخذوه ،هاهو يرقد ساكنا ً تعبر عيناه المسافة من رقدته وسط بحار صمته الذى طال الى وجهها بالكاد ،رجلها التى كانت تحتمى بظله وترى فيه رجال الكون ،تغيرت السمات وتهدلت وانطوت العينين تحت لواء الم وخنوع التدرى كيف ، ،إشاراته صارت رجا ًء وحركات جفنيه التى تربطه بالكون من حوله أصبحت جهادا ً ،ولم يعد هو رضوان القديم التى تعرفه وتحفظ لفتاته وتفهم نظراته وإشاراته ،بل هو آخر له سمات قريبة منه ،لكن هذه محنية الخاليا ً ،خاضعة التكوين ،كأنها ماخلقت لكبرياء وأنفة من قبل ،هاهى تحادثه ،تشير عليه ،ترى نظراته قابعة فى قاع عينيه دون هدير ،وهل يكون الرجل رجالً اال بالهدير ،وهل يسمع الناس له صوتا ً إن لم يكن مع الصوت برق ورعد ؟ قم يارضوان من رقدتك ،انفض عنك العجز ،فما خلقت له ،واشتمل بعباءة القدرة والحسم كعادتك ،قل لعينيك أن تسمق بنظراتها ،فالنظرات المحنية التليق بالرجال ،خاصة ممن كانوا مثلك أو شبيهون بك . مدت يدها الى يده المسجاة الى جواره على السرير وضغطتها برفق ، طلبت من محمد ولدها مغادرة الحجرة ،قام الى الكمبيوتر بالخارج يلعب عليه أحد األلعاب ،أغلقت الباب خلفه وعادت الى رجلها ،حدقت فى عينيه أعرف أنك تواق لنيل بغيتك ممن آذوك ،وأنك لو .. قمت اآلن ألشعلتها نيرانا ً التهدأ والبست من خدعوك وغدروا بك ثياب العار ليوم الدين ،لكننى أقولها لك اترك مكر المرأة يدخل الحلبة ،يواجه الصراع ويتحدى الشر ،وأنا لها ،أذا وافقتنى على ماأنوى فعله سترى يوما ً تشهد به المنطقة طوال سنينها القادمة ،وترويه األجيال ،سأجعلهم عبرة تتندر
99
بها األفواه ،وتتذكر صورتها األعين وتحفظها الصدور ،لن أقتل األرواح فازهاق األرواح جريمة يحاسب القانون عليها ولكنى سأقتل النفوس ،نعم يارضوان سأقتل نفوسهم ،أسحقها وأتركهم بعدها يواجهون الكون بال نفوس ،هل رأيت إناسا من قبل بال نفوس ؟ ارجوك أن تقبل ،توافق ،تعلن رضاك والترفض قائالً أن اآلعراف تأبى هذا ،وأن هناك رجاالً يمتلكون القدرة على تحويل المنطقة بكاملها وبكل عائالتها ورجالها وشبابها الى جحيم ،أعرف هذا وأحفظه ولكنى أريد رد الدين الذى فى عنقى لك ،هل تترك األمر لى ؟ لمعة حدقتيه وهو يواجهها جعلتها ترتد الى نفسها قليالً مبتعدة عن مجاهل االنفعال اللحظى ،همست عاتبة -:االتحب أن آخذ بثأرك ،أتظننى ال أستطيع ،اال تعرف مكر المرأة ؟ ظلت حدقتاه تحاصرانها وتصبان فى بؤبؤ عينيها رفضه لما تقول ،اجتاحه إعصار غضب وهو يعود الى ماقبل رقاده الطويل هذا ،وهيبة القلوب قبل العيون له ،واحساسه أنه يمتلك القدرة على الفعل ،أى فعل وضد أيا ً كان ،فكم دقت على الرأس الطبول ،وكم أراد البعض اختبار قدرته ،وكم فكر الكثيرون فى حارة اليهود بالذات وأمام دكانه فى سوق القماش أن يتحدوه ويتحدوا عائلته وأقاربه الذين يسدون عين الشمس من كثرتهم ،بعد كل هذا تجىء كريمه لتأخذ ثأره !! أى ثأر تريد هذه المرأة التى التعرف من دنياها اال راحة البكاء ومشقة العويل ،التى التجرؤ على الخروج وحدها الى الشارع دون رفيق ،والتى تخشى الظلمة وترتعب من سراديب الظالم ،عادته كما تعوده دوما ً أحداث ليلته التى التنسى والتمحى من مخيلته ،رأى من جديد الظلمة تتربص به ، تمنحه أمانا ً لم يفطن أن خلفه غدر ،وتسلمه ألناس لو واجهوه لنفخ فيهم فبعثر أرواحهم ومزق قلوبهم من الرعب ،الوجوه الحاقدة المغسولة فى ماء الجحيم اصطادته من ظهره ،الضربات الجبانة المذعورة على رأسه 100
وفوق ظهره لم تمكنه من الدوران لتلقى وصد غدرهم وسوء تدبيرهم ، لحظة أن انهالوا على مؤخرة رأسه متسترين بالظلمة دارت الدنيا به لحظة خاطفة ،لحظة وربما هى أقل من لحظة كانت كافية ليكملوا مؤامرتهم الرهيبة ،انهالوا على ظهره بالشوم ،كانوا يعرفون ماذا يريدون وكيف يفعلون ،لم تكن الحكاية حكاية إهانة يكسروه بها ،كانت تهدف الى كسر ظهره كى اليقوم ثانية ،وهاقد كان ،قسما ً برب السموات ورب اآلراضين كل رجال الصعيد سيطلب حضورهم ،يحملون سالحهم وإصرارهم وعزمهم ،وكما فعل الجناة به يفعلون بهم ، ،قسما ً برب الكون لن يهدأ له قرار فى رقدته تلك أو قبره اال حين يرى وجوههم تعانى من نفس االمه وأشد ، وأعينهم تجأر بشكوى أقوى وأمر ،والسنتهم تعجز عن البوح بما يعانون ، أين السيد ليحادثه ويأمره بما يريد ؟ رفع ثقل جفنيه عن حدقات تموج فيها السنة النيران منذرة بالويل ،همست كريمه -:اسمعنى فقط واذا لم تقتنع سأصمت ولن أتكلم ثانية ،مارأيك ؟ أغمض جفنيه لبرهة وأعاد فتحهما عالمة الموافقة ،لمعت عيناها ببريق المكر وبدأت تشرح له مالديها ،تدقق فى تفاصيل كل حركة وتفسرله كل لفتة وتشرح كل أمر ،حين انتهت رفعت عينين راجيتين الى عينيه منتظرة القرار األخير ،عاد يغمض جفنين تلوح خلفهما بشائر بسمة صغيرة راضية وعاد يرفعهما عالمة الموافقة ،تهللت أساريرها ،هتفت -: سأطلب السيد ،أحادثه وأرتب معه األمر بحيث اليخرج عن ثالثتنا أناوأنت وهو ،مارأيك ؟ أغمض جفنيه ثانية وأعاد فتحهما عالمة الموافقة ،قبضت على راحة يده بقوة وقد برقت عيناها ببريق أمل أن تسير خطتها كما تريد لتعرف اعتماد ورجال العائلة كلها كيف يؤخذ الثأر وكيف يكون االنتقام ،الضرب بالنيران أو حتى بالعصى يدمى األجساد وهى التفكر بهذا والتطيقه ،هى تريد شيئا ً أوقع وأقوى ،قالت وهى ترمى بحنو نظراتها الى براح حدقتيه -:
101
هذه األولى ،الثانية أسهل بكثير ،لقد أخرجت الورقة من الخزينةكما قلت لى ،سأعطيها لجابر ليقدمها للمحكمة باكر إن شاء هللا ..هل لك رأى أخر ؟ حدقت عيناه فى وجهها الصغير الذى كساه االنفعال إحمرارا ً طالما أعجبه وشده اليها ،هذه الهرة الصغيرة التى كانت تستطيع بالكاد أن تخمش بأظافرها فالتجرح بل تدعو الى الضحك والسخرية ،والتى التمتلك لنفسها اال الدموع والتصبر هامسة له أنه مادام راض عنها فلن تنطق بحرف حتى ولو كان أنينا ً ،غرها أنه كان يشاورها ويسمع لها فى أمور صغيرة ، وربما ضحك منها وسفه رأيها ،وإن كان كثيرا ً مارأى الصواب يفيض من شفتيها وينفذ مارأت ،وهو يقول لنفسه ضاحكا ً ضاع الصعايدة جميعا ً لو فعلوا مثله واعطوا آذانهم للنساء تنفخ فيها ماتشاء من هراء ،تشتط اآلن هذه الهرة الصغيرة وتدفس أنفها فى عظيم األمور ،تتحدث عن ثأر تقوم به هى وال أحد غيرها ،كأنها طبخة جديدة تريد تجربتها فيه كما كثيرا ً مافعلت ،تبسمت نظراته وهو يتصورها حاملة مسدسا ً بيد ترتعش وقلب تتوالى نبضاته مهرولة مرتعدة وهى توجه فوهته الى المعتدين ومعها مئات بل االف الشتائم والسباب الذى يليق بالمناسبة ،الغريب أنه وافق على سماعها ال يعرف كيف ،ربما ألنه ليس لديه مايفعله سوى السماع اآلن ، هكذا هى الحياة ،تفعل ببنيها ماتشاء ،تجعلهم يوما يتكلمون وال يمتلك غيرهم اال السماع واالنصياع لما يقولون ،وربما قلبت وجهها لهم واحالت السنتهم الى جماد اليمتلك اال الكمون فى األفواه خانعا ً مرتعدا ً ،واكتفت بمنح اآلذان متسعا ً لتمتلك المقدرة والوقت لتسمع ماتشاء ،كان يمكنه أن يطلب منها الصمت واستدعاء إخوته وأبناءه ،ويجبرها على ترك األمر لهم ،على ك ٍل سيتركها للسيد تقترح عليه ماتشاء ،وهو فى كل األحوال يتصرف ،السيد يمكن االعتماد عليه ،فيه حكمة وهدوء وبعد نظر بخالف جابر الذى يقتله انفعاله المستمر والذى اليعطيه فرصة لتروى أو إعمال عقل ،سيكون بجوارها يسمعها ويناقشها ويوقفها عند اللزوم فهى مهما كانت امرأة ،السيد لديه عقل ويستطيع التفكير به وهو قادر أن يردعها اذا 102
رآها تشتط ،أو تجتاز خطوطا ً محذور على مثلها مهما كان أمرها أن تتخطاها فهى فى النهاية امرأة رجل صعيدى ،وعليها االلتزام بأعراف وتقاليد الصعيد . .......................... وقف األستاذ إبراهيم المحامى أمام قاعة المحكمة فاردا ً جناحيه حوله ، سامقا ً بنظراته الى مستوى أعلى ممن حوله ،منتظرا ً حضور جابر وعمه السيد قبيل بدء الجلسة ،الحقيبة الجلدية السوداء فى يده شامخة بأنفها وهى تحمل المستندات التى يواجه بها أصحاب السعادة القضاة ملقيا ً فى وجوههم بنتاج قريحته وحصاد جهده وبليغ حروفه التى يباهى الزمالء ويتيه بها وسط القاعة اذا أتيح له الكالم ،رافعا ً صوته الرفيع محاوالً إعادة أمجاد المحامين العظام الذين طالما ً قرأ عن مرافعاتهم التى هزت القاعات ،والتى صنعت تاريخهم وخلدت أسماءهم على مدى التاريخ مثل مكرم عبيد وإبراهيم الهلباوى وغيرهم . اليوم بالذات يشعر بأنه على أبواب فتح جديد يضاف الى انتصاراته السابقة ،والتى يحاول قدر إمكانه أن ينشرها بين زبائنه ليعرفوا قدره ومدى حنكته ،اليوم سيقف محدقا ً فى وجوه خصومه تاركا ً لهم الحديث كامالً فى بداية الجلسة ،وسامحا ً لهم باالنتشاء والفرح وهم يرونه صامتا ً يستمع اليهم والى مطالبهم وشروطهم فى هدوء يرونه عجزا ً منه ،وقد يتيهون بنصرهم القريب والمنتظر ،وربما انتشت قلوبهم وجهزوا انفسهم الحتفال مهيب ينالون فيه من جوائز ماتتوف اليه رغائبهم . ففى المجادالت اللفظية والسباقات التى تعتمد على الكلمة يكون للصمت معنى العجز والعى عن المنطق وبليغ الحروف ،عكس مايقال أنه اذا كان الكالم من فضة فالسكوت من ذهب ،فالسكوت احيانا يكون من زجاج يتهشم
103
ويصيب صاحبه بشظاياه فيجرح قلبه أوال وكبرياءه وكرامته بعد ذلك دون شفقة أو احساس . سيقف ناظرا ً الى محامى شعراوى وسعد األستاذ خضير ،يتابعه وهو يطالب بتمكين موكليه من الشقة مثار النزاع والتى يملكونها بنص العقد المورث لهم من المرحومة والدتهم ،والذى باع بموجبه المدعو رضوان الى المرحومة رئيفة الشقة بالرضاء والموافقة من الطرفين ،وهو مايعضد حجتهم ويثبت أحقيتهم فى استرداد الشقة محل النزاع ،وبعد أن ينتهى خضير المحامى من كالمه واثقا ً أنه قد أكل الجو واكتسح المجال كله وابتلع المحكمة بقضاتها فى جوفه الكبير ويجلس بانتظار االعالن الرسمى النتصاره ،محدقا ً فى الوجوه من حوله ،مترقبا ً رد فعلهم لحظة إعالن انتصاره وأثر فوزه على الوجوه جميعا ً فى القاعة ،لحظتها بالضبط وحين يقول القاضى أين وكيل المدعى عليه فى القضية سيقوم هادئا ً ينطق باسمه فى تواضع العظماء ،يتقدم من المنصة العالية يقدم الوثيقة المفاجئة ، الورقة الذهبية التى ستقلب القضية رأسا ً على عقب ،وتجعل الموضوع كله كأن لم يكن .هاأنت ذا ياابراهيم تلعب باألوراق كما تشاء ،األوراق التى تلعب بمصائر الناس ،فترفع أقواما ً وتخفض آخرين ،هاهى بين يديك تفردها وتطويها ،ترفعها وتخفضها ،تقدمها لينجو شخص من عقاب وتقدمها ايضا لينال آخر جزاءه العادل أو الجائر ،الفرق ،المهم انك تعرف كيف تتعامل مع الورق ،تحبه وتحنو عليه ،وتترفق به ،وتحفظه وتنال عنه األجرفى كل حين ،وللحقيقة ياابراهيم فان الورق يرد لك المعروف دوما ً واليخذلك ،وفوق هذا يمنحك مالال يمنحه لغيرك ،فهو يستوى أمامك لتغوص فى طيات الحروف المعلقة على سطوره ،مستورة عن أعين الجهالء الذين يمتلكون أعينا ً ويرون ،لكنهم اليفقهون مهما قرأوا ،يخفى عنهم الكثير كأنما الورق يأبى أن يمنح كنوزه والباب أسراره اال لمن يفقه ويرى بعينيه وروحه وليس عينيه فقط .
104
لمح جابر والسيد قادمين ،هش لهما وهو يقبض على حقيبته بقوة ، صافحهما وتبادل معهما عبارت المجاملة التى حفظها من كثرة تداولها بين الزبائن وبينه ،واصراره على عدم استخدام غيرها أو استحداث ماهو أرقى او أحدث منها ،تقدم نحو القاعة ،تعمد أن يحدق فى عينى االستاذ خضير على البعد ،محاوال ً قدر االمكان أن يخفى أفكاره التى ربما تناثرت حروفها على حدقتيه فيستشف الخصم منها مايخفيه ،فعادة تفور الخواطر الى الدرجة التى تصل فيها الى مالمح الوجه فتكسوه بما تحمله من أحاسيس ، لحظتها اذا نظرت الى العينين سترى ماوراء الحدقات ،واذا فحصت خاليا ً الوجه ستدرك جيدا ً ماتحت السمات الظاهرة من سمات نفسية التحتاج لقرائتها اال الى عينى خبير .نودى على القضية ،قام محامى الخصوم خضير كما قدر ابراهيم بالضبط ،صال وجال رافعا ً عقد البيع فى يده دائرا ً به أمام األعين المحدقة لتراه جيدا ً وفى ذات الوقت محاوالً التأثير على القضاه بصحة حجته وصدق كالمه ،ويكسب القضية مهما كانت قوة خصمة و حجته ،فالقضايا فى كل األحوال حجة أمام حجة وبرهان أمام برهان ،وكل منهما يحاول دحض اآلخر ،واظهار كذبه ،وقد يكون االثنان كاذبان ،وقد يكون أحدهما فقط ،لكن فى كل األحوال الغلبة لمن يتكلم ويشرح ويقدم حجته ودليل صدقه ليقنع به عقول القضاه والمستشارين . الميزة فى هذه القضية بالذات أنه التوجد أى حجة يمكن أن يقدمها أى محامى مهما بلغت قدرته أو ثغرة ممكن أن ينفذ منها ليدحض رأيه ويكسب القضية منه ،لن يجد أمامه اال التشكيك فى التوقيع وفى تلك الحالة سيقوم القاضى بتحويل القضية الى خبير خطوط ،وقد أكد له شعراوى أن التوقيع بخط رضوان فعالً ،ولن يستطيع أحد التشكيك فيه ،وبالتالى سيكسب خضير القضية فى كل األحوال ،تقدم من المنصة بعد أن القى كلماته مقدما ً العقد الى القاضى الذى قرأ بيانته بحرص قبل أن يسأل عن محامى المدعى عليهم ،تقدم إبراهيم مقدما ً نفسه كما رسم بالضبط ،متحدثا ً عن الزواج الذى حدث والذى لم يستمر طويالً لظروف خاصة باالثنين ،وهما من كبار التجار فى السوق وممن يتعاملون بعقولهم أكثر من مشاعرهم ، 105
والذيت يزنون األمور جيدا ً قبل أن يقدموا عليها ،واذا كان رضوان قد كتب لزوجته الجديدة عقد شقة بيع وشراء لتسكن فيها طالما الزواج مستمر والوفاق موجود ،ورفضت هى السكن مفضلة أن تعيش بعيدا ً عن ضرتها فى نفس البيت التى تقع فيه الشقة ،فقد أتفقا حينما وقع الطالق وانتفى السبب الذى من أجله كتب لها الشقة بيع وشراء على اتفاق عقلى ايضا ووقعا سويا ً عليه وهو كما سترى ياسيادة القاضى عقد تنازل عن الشقة من رئيفه الزوجه التى تم طالقها الى المدعو رضوان زوجها الذى قام بالطالق على أثر تنازلها عن الشقة محل النزاع ..و تقدم إبراهيم بالعقد الى القاضى وسط صمت فشى وانتشر وهيمن على الجميع .مد القاضى يده الى العقد وضمه الى العقد اآلخر ،تأججت نيران خضير وتململ فى جلسته محاوالً الثبات دون جدوى ،الى أن وجد فسحة من صمت تمتد أمامه فهب واقفا ً رافعا ً صوته طالبا ً الكلمة ،مشككا ً فى العقد الجديد ..قال القاضى بصوت محايد -: تحول األوراق جميعا ً الى خبير خطوط الثبات صحتهارفعت الجلسة. .................
أمام وكالته جلس كامل في الصباح باسطا ً براح نظراته على أشعة الشمس ، متأمالً ذهب خيوطها ،ورقيق سهامها الممتدة فى قوة وحسم الى حيث تريد ،اليمتلك مخلوق القدرة على إيقافها أو حتى تبديل مسارها ،تنفذ فى قلب الظلمة بنصال حسمها فتبدد وتشتت وتروى الكون من نورها فى صمت وكبرياء ،وبال ضجة والحديث معاد ،تألقت على حدقات عينيه السوداء زهوة النور فانتشى ،القى على عماله من حوله نظرات رائقة اللباب ، أخذ يمازحهم ويتبادل القفشات معهم على غير عادته ،فهو يقوم عادة من سريره حامالً الظلمة بين عينيه ،متحركا ً والنعاس قائدة ،اليرى اال البعد 106
قدر استطاعته عن اليقظة والغوص فى مزيد من األحالم ،ولما اليتيسر له هذا تنطلق غمامات الضيق زفرات هائلة من صدره ،اليمتلك معها من يراه اال البعد عن طريقه لحين عودته من متاهة الوجوم الصباحى ،فالوجوم اليفارقه الى الوكاله ،يتيه فى عوالم فكره و ويتوه فى دروب كوابيسه أو أحالمه وهو جالس على مقعده ،عيناه متسعتان للنظر لكنهما التبصران ، يسمع وينصت جيدا ً لما يقول،ثم يعود بعد انتهاء الحديث ليسأل ماذا قيل ، أو يحادثه أحدهم فيفزعه ،يصرخ فيه العنا ً الساعة التى عمل فيها عنده ويرميه بكل ماهو شائع من شتائم وسباب ،بعدها حينما يفلت من أسر حالته المزمنة ويعود الى الوكالة بجسده وروحه معا ً يسأله -: ماذا كنت تريد ؟ولماذا لم تنتظر حتى أفيق وتحادثنى كما تشاء ؟ ياولد أبوى البد من الشيشة وكوب الشاى الثقيل وبعض الوقت حتى استطيع االنتباه لك ويرضيه العنا ً أم لسانه الفالت الذى يلسع كالسوط فى أوقات يحتاج فيها الى الهدوء والسالم خاصة فى الصباح ،بعدها ينادي على شيشته وشاي المخصوص ،يرمق الخيش المكدس في الداخل متفحصا ً ،ويرقب العمال وأكوام خيش أخرى أمام كل منهم وهم يرتقون األجزاء المقطوعة ، وينظمون الصفوف وسط األتربة والغبار ،اليوم بالذات أتى على غير عادته متيقظ الفؤاد ،مفتوح العينين ،قد غادره النوم مرغما ً منذ الفجر ،وترك له الفكر ،يدور ويمرح فى عاولمه وزواياه راكضا بعقله وأمانيه كما يشاء يرسم الخطط المستقبلة بعد عودة مياه الود الى مجاريها ،و فتح الطريق من جديد الى أسواق ومزادات رضوان ذات الخير الوفير ..جلس على الباب مبسوط الروح والسمات ،بين اللحظة واآلخرى يبتسم في سعادة وهو يتذكر الصلح القادم ،والتعاون الجديد ،ضربة معلم ضربها بحديثه لمحمد بطه ،آه يارضوان لو كنت تسامحت ومددت يدك الي يدي من جديد . 107
جاء أحد الصبيان بالشيشة بيضاء زجاجها وماؤها رائق يموج فى أعماقه الصفاء ،القلب النحاس نظيف ،والالي قماشه سميك مزركش بالوان حمراء وصفراء متألقة ،وضعها أمامه وهويلقي تحية مقتضبة خشية أن يلقيه بكلمة غاضبة أو لكمة حمقاء ،تبسم له ،مأل العجب وجه الفتى وهو يهش له ،ويفرج عن كلمات التحية التى يرددها عادة على غيره من زبائن الصباح ،ومضى وهو يتساءل -:ماذا جرى لكامل اليوم ؟ عال صوت محمد بطة على بعد:- النهاردة يا كامل ،ال تنسىعال صوت كامل متفاخرا ً فاردا ً الصدر وعاوجا ً العمة الى أعلى في رضا:- على بركة هللاحسنا ً تفعل يا كامل بصلح عائلة رضوان ،عالم ال يجئ من ورائهم إال وجع الدماغ ،إتقاء شرهم خير ،صباح الخير يا جاري وهم على كل حال جيران اليضاهون تبسمت شفتاه الغليظتان وهو يهمس لنفسه مؤكدا ً ..اليضاهون ..وسحب نفسا ً من الدخان فضجت الشيشة وعال صوت نحيبها. .................... فى الموعد المحدد رأت الشيشة السيد شقيق رضوان قادما ً ،بشاربه المنتصب ورقبته الغليظة ونظراته تحت حاجبيه الكثيين ،والى جواره جابر. فخفت صوتها والذت بالسكون ،القيا عليه السالم الذعا ً الطعم له واكمال السير الى مقهى محمد بطة الذى استقبلهما بترحاب حار وقادهما الى ركن بعيد عن ضوضاء وثرثرة الزبائن ،هرول الصبي ينادي كامل الذي قام ببطء يعدل ثيابه قادما ً الى المقهى وقلبه يصرخ من السرور ،وينظر بعينيه الواسعتين ناحية المقهى بلهفة . 108
دخل المقهى فرأى الثالثة يجلسون في زاوية تفيض بهدوء يليق بالمناسبة ، أخلى المعلم بطة المكان من زبائنه من أجل هذا اللقاء .كانت الواح المرايات مصقولة والمعة الزجاج تدور في المكان في منتصف الجدار ، بينما الموائد ذات القواعد الخشبية التي يتم عليها لعب الدومنيو أو الكوتشينة متراصة بعيدا ً تضج بآسريها والمعتلين رقبتها رغما ً عنها ، وحولها المقاعد تنوء بأجساد التبالى بأنينها ،وقد جلس الثالثة فى ركنهم تحت ضوء يفيض نعومه بازرقاق لونه وضياه الرائقة النقاء يتحدثون السالم عليكم.حدجه جابر بحدة ،بينما رماه السيد برد بارد ،أما بطه فقد حياه قاصدا رفع صوته ترحيبا ً به ،جلس الى جواره في هدوء وبدأت الجلسة وسط عواصف ورياح وهدير موج عات تسير ،معتمدة كل االعتماد على ربانها الماهر محمد بطه فى اإلفالت الى بر أمان . جاءت نوال الى الوكالة تسأل عن أبيها ،قيل لها في القهوة مع المعلم محمد بطة ،اتجهت اليه وأرسلت من يناديه ،رأته يخرج ويده في يد جابر ، وفمه تعلوه آيات ابتسام بينما المعلم سيد والمعلم بطة خلفهما يخرجان ضاحكين ،إمتأل قلبها بالبشر ،سترى سالمة ،ستراه ،ياما أنت كريم يارب ،هي تعرف عالقة أبيها بالحاج رضوان .يا سالم! لمحها كامل تقف بعيدا ً ولمح على محياها سعادة تفيض منه على المكان حولها فهرع اليها يسألها عما تريد .شردت عيناها وهمست :- نسيت....................... حينما أنهت كريمة الى السيد مالديها من معلومات عن الجناه الذين ارتكبوا الجرم فى حق رضوان بهت قليالً وهو يحدق فى عينيها ،يقيس درجة وعيها وإدراكها لما تقول ،وايضا يحاول استيعاب ماقالت كلمة بكلمة وحرفا ً بحرف 109
،وهو يطلب منها أن تتروى وتتكلم بتمهل وبحروف واضحة ليستطيع لم شتات نفسه واستيعاب كل مايقال ،بعدها اتسعت عيناه لكم من الغضب هائل الحدود واألبعاد وهب واقفا ً يصرخ بحروف مدغومة والنيران لهيب فى عينيه ،وهو يقسم ضاغطا ً أسنانه وعروق رقبته تنبض بكل مالديها من جنون -: أقسم أن أخرج توا ً ألجمع الرجال وأجعلها ليلة تحلف بها المنطقة سنينا ًوسنين ،الدماء ستكون انهارا ً ،وستأخذ النقمة الجميع ،لن ينجو منها قريب أو بعيد ،بيت الجناة من أوله بكل من فيه سأجعله غرباال ً بالرصاص المنهمر مطرا ً على رؤس من فيه . تركته يهذى بكلماته الحارقة الى أن هدأت حروفه تماما ً وقالت له-: اذا فعلت هذا ستكون معركة ونيران ال أكثر ،أنا أريد ثأرا ًخالدا ً اليموت رمى فى وجهها بسعير نظراته وفحيح حروفه الصادمة -: ومن أنت حتى تريدين ؟هل أنت رجل من رجال العائلة ،وعليك أن تمحى الثأر لترفعى رأسك بين الناس ؟ تذرعت بالصبر قدر استطاعتها -: اريدك فقط أن تسمعنىاستدار الى عينى رضوان محتجا ً ،كانت العينان تلتمع على حدقتيهما نيران هادئة تتوهج بها النظرات ،وهى تفيض على وجه أخيه الزاعق بالغضب . لدى خطة تكسر الروح وال تقتل قالت بصوت هادىء وهى تقف خلفه -: ّ الجسد استدار محتدا ً اليها -: أى روح وأى جسد ياست أنت ِ؟و عال صوته طالبا ً منها الصمت ،رافضا ً أن يستمر هذا الهراء وأن تتقبله أذناه أساسا ً ،مشيحا ً بيده فى الهواء ميمما ً وجهه شطر باب الخروج زافرا ً الهواء الذى استنشقه فى هذه الحجرة البلهاء كما يقول ،محدثا ً نفسه بصوت عا ٍل -: الحياة انقلب حالها وهللا ،لم تعد كما كانت وكما نعرفها وعرفها منقبل أباء كان لهم الهيبة والوقار ،أى عار تريد الحاقه بنا هذه المرأة ، 110
وماذا تظن نفسها ،أم أنها تنتهز فرصة مرض زوجها لتفعل ماتري ،ورب العزة أدفنها مكانها لو فكرت مجرد تفكير فى عمل شىء ،حينما تعدم العائلة الرجال فلتتقدم هى وأمثالها ،أما والرجال موجودن فما عليها اال الصمت . رسم على شفتيه ابتسامة ساخرة وهو يكمل متسائالً -: تريدين الثأر لعائلة رضوان ؟؟!!وفتح الباب خارجا ً ،تاركا ً كريمه جالسه على حافة الفراش محمرة العينين خافضة الرأس تنزف الما ً ،وهى تراه ألول مرة يرفض مجرد سماعها ، ويتطاول عليها كأنها لم تكن زوجه أخيه و لها ماألخيه من تقدير ،ثم أنها لن تفعل شيئا ً أكثر من التخطيط لألمر ،والتنفيذ سيقوم به الرجال فما العيب فى هذا ،وأى عار تلحقه بهم ؟ حدقت فى عينى رضوان أغمض عينيه وفتحهما ،ادركت مايعنى نادت بقوة -: ياسيدعاد بنصف رأسه اليها وبنصف عين حدجها بقسوة ،وإحدى قدميه خارج الباب رضوان يريد التحدث اليكعاد القهقرى راسما ً على مالمحه ظالما ً وغماما كثيفا ً يطالن من عينيه وهو يغمغم بكلمات التكاد تبين أو تفصح عن تفسها .عادت تغلق الباب من جديد وهى تراه يجلس على مقعده بجوار سرير أخيه متسائالً بعينيه ماذا يريد وكيف يحادثه ؟ قالت بهدوء حذر -: يريد منك فقط أن تسمع وبعدها القرار لك والفعل لك واألمر كلهموكول اليك من أعلى نظر اليها متفرسا ً -: هو قال هذا ؟111
هزت رأسها بتؤدة عالمة الموافقة -: كالم ماسخ لن أسمعه ،وقسما ً باهلل لن تخرجى من بيتك ولن تشاركىفى شىء اتفقنا ؟ أحنت رأسها موافقة -:سمعت كالمك وأقبل شرطك وأطيع أمرك فيما تريد فهل تسمعنى ؟ تبسمت عيناه بنصف سخرية وهو يقول لها -: هات ماعندك ..مادام رضوان يقبل بهذاواجهت عينى الحاج وهى تتكلم موجهة كالمها ألخيه السيد ،شرحت مالديها وماتود فعله حتى يكون الرد قاسيا ً بحجم الفعل وأكثر ،وفى ذات الوقت بعيدا ً عن القتل والسجن وربما االعدام الذى سيعقبه ،كماأنه سيكون مذلة وإنكسارا ً لن تنساه المنطقة طالما فيها حياة تتحرك وأحاديث تقال . حينما انتهت سألت زوجها الراقد أمامها محدقا ً فى سيماها بنظرات حداد -: هل توافقنى ؟أرخى جفنيه على تأجج األحداق موافقا ً ،وعاد يرفعهما .قال السيد -: مامعنى هذا ؟ردت وهى تحاصر عينيه الصارمتين -: موافقمن تحت حاجبيه الكثين رمقها بقوة مدققا ً فى عسل عينيها ،ووجهها الدقيق القسمات الذى يفيض بنعومة ورقة التتتناسبان بالمرة مع مافاضت به كلماتها من قوة وحسم ،قال وهو يهب واقفا ً -: طلعت وعرة ياكريمةقالت -:هناك شىء أخر 112
رماها بعينى االهتمام -:ماهو ؟ السر لن يخرج عن ثالثتنا ،والتنفيذ سيمضى فى طى الكتمان ،ولنيعرف به قريب مهما كان . تبسمت عيناه بجد وهو يقول مغادرا ً -:قلت أنك وعرة . وفتح الباب مغادرا ً الى الطريق . ............... وجد قرار سالمه بالعمل بعيدا ً عن الدكان ترحيبا ً خفيا ً من إعتماد ،هى وحدهاالتى وجدت فى صدرها راحة ،فلم تبد قوالً ،اكتفت بالنظر الى كريمه وسماع حديثها فى صمت ،وإن كانت أعلنت أسفها لتركه المدرسة ورفضه اكمال مسيرة التعليم ،اشتكى جابر من وقوفه وحده فى السوق وحاجته الى أخيه الذى رفض مساندته ،حدجته بنظرتها التى يقرأها جيدا ً ،أدارت وجهها عنه وهى تشيح بيدها -: أبوك لم يفكر فى الشكوى يوما ًأراد جابر أن يحتج بأن أبوه كان يعتمد عليه كثيرا ً فى عمله ،كان يروح ويجىء ويسافر ويعود وهو واثق أن الدكان مفتوح وأن الحال مستقر وحتى وهو موجود كان يجلس أمام الباب يحادث المعلمين من حوله ،أو يذهب الى المقهى يجلس مع محمد بطه أو كامل .يتفق على صفقة من الصفقات ، والوقت معه ،والكالم كثير ،والمواضيع التنتهى ،أما هو وحده فماذا يفعل ؟ التجارة ليست محال ً يقف فيه ،بل بضاعة يحضرها من تجار الجملة ،وهى كذلك مزادات يسافر اليها مكمالً دور أبيه ،خاصة أن محمد بطه فاتحه فى أمر اشتراكه و كامل معه ،وطلب منه نسيان مامضى ،ورغم عدم ارتياح جابر لهذا األخير وشعوره الدائم نحوه بالكره لغير سبب واضح اال أنه وافق محمد بطه على طلبه لسببين ،أولهما أنه محمد بطه الذى يثق به كما كان أبوه يثق به ،ثانيا ً وهو األهم أن خبرة كامل أصبحت كبيرة بهذا المجال لمرافقته للحاج رضوان زمنا ً ،ووجود محمد بطه سيجبره أن يعتدل فى تعامله معه ،وإن لم يعتدل أو رأى منه مايريب فلن يتردد لحظة فى فض الشراكة ،واعالن هذا على المأل كما فعل أبوه من قبل ،لهذا 113
وافق وترك أمر الدكان ومن سيقف فيه فى غيابه الى الظروف ،مؤكد ساعتها لن يعدم شخصا ً يثق به يحل محله ،وقد جاءت الفرصة عندما أعلن سالمه عن مراده ،لكن هاهى أمه دون أن تدرك أبعاد األمر ترحب بعدم وقوفه معه ،كأنه اليمت لرضوان بصلة وليس من صلبه مثل جابر تماما ً . رفع عينيه الى أمه الجالسة الى سريرها والغطاء يستر نصفها السفلى ،وقد تحول وجهها الى شحوب ذاهل وعينين باهتتين وعناد ليس له حد .صارت فى ضعفها هذا أقوى مما كانت من قبل ،صارت تأمر وتنهى وليس عليه حفاظا على صحتها وخوفا ً على حياتها اال أن يوافق ،حتى فتح الدكان نفسه كانت ترفضه وتأبى اال اال البحث عن الجانى أيا ً كان والقصاص منه ،وهل وجد هو أو أى شخص من العائلة الجانى ولم يقتصوا منه ؟ ثم إن البيت مفتوح واألفواه التكف عن الطعام ،والطلبات التنتهى ،وكل هذا يحتاج لمصاريف يعلم هللا وحده كيف كان الحاج يدبرها . ترك المكان ومضى نحو السلم متمهالً يرشق الجدران بأعين حداد وهو يفكر كيف يقنع أخاه سالمه بالعمل معه وترك مهنة السواقة هذه التى يحلم بها ، سواقة تاكسى أو عربة أجرة لنقل البضائع للتجارحتى مع عمه السيد لن تجعل منه رجالً ذا شأن ،بل ربما حطت من قدره ،أما الوقوف فى دكان أبيه فهو الذى سيضعه فى مكانه المناسب ،ويجعل له قدرا ً ومكانة بين التجار . لكن كيف يقنعه ؟ انتبه لصوت كريمه يهرول خلفه ،وقف وسط السلم يحدق فيها ورضا الى جوارها ،حيرة فى عينيها وحزن يشع من حدقاتها والتدرى ماذا تقول وماذا تفعل ،كلمت السيد شقيق رضوان ليؤثر على سالمه ابن أخيه ويمنعه من تنفيذ رأيه وترك المدرسة ،اال أن السيد خيب أملها ولم يفلح فى إثناءه عن عزمه ،بل رحب بعرضه للعمل معه على سيارته ،قائالً إنها فرصة جاءته فهو لن يجد خيرا ً من ابن أخيه للعمل معه بنظام الورادى ،لكل منهما ورديه اثنا عشر ساعة فى اليوم ،والعمل لن ينتهى ،وبدالً من عودة سالمه عن رأيه إ زداد أصرارا ً ،واآلن أملها فى جابر هو مهما كان أخوه وسنده والوحيد الذى سيخاف على ماله ،ثم إن جابر مخلص وقلبه يحمل كل الود وكل الخير لسالمه ،عكس أمه اعتماد التى ترى فى سالمه 114
الولد الخرع ابن البحراوية اللعوب كما تقول ،وكما سمعت كريمه منها مرارا ً ،دون أن تمتلك المقدرة على الرد ،أو حتى اظهار الغضب واالمتعاض لما تقول ،جابر غيرها ومؤكد هو غير راضى عما ينتويه سالمه . حدق فيها على البعد سائالً بنظراته عما تريد ،أشارت اليه أنها تريد محادثته ،عاد اليها ،دخلت ورضا معهما الى شقتها وتبعهما جابر ،ايقظت سالمه الذى كان نائما ً الى وقت الظهيرة غير مبال بما يجرى حوله من أمور شاك -: قالت بصوت ٍ أخوك يبحث لى عن القهر ،عن شماتة األعداء ،أخوك يجازينىبالشر ،أخوك !.. قاطعها جابر بقوة -: انتظرى ياأم سالمهواستدار اليه -: انا بحاجة اليك فى الدكان ألنى وحدى ،لن آتى بغريب وأنتموجود دعك سالمه عينيه وهو يسمعه حتى اذا انتهى هب من مكانه قائال ً -: افهمونى ،انا ألاصلح اال لما أريدلمعت عينا جابر بقوة وهو يتابعه فى تحركه عبر الحجرة قاصدا ً دورة المياه ،القى بسهمه األخير منذرا ً -: اذن التريد مساعدتىاستدار اليه سالمه بهدوء -: انت تعرف مالدى اذن كن معى انا معك متى احتاج األمر الىأما التجارة فلست لها واذن ؟ ادع لى بالنجاح................. استمرارا ً لمسلسل االعتراضات وجد سالمه نفسه مضطرا ً للسماع فقط دون تعليق الى كلمات باكية من نوال ،كلمات لم تبح بها من قبل عن أمها وعن 115
البيت وعن الحلم فى أن تخرج من هذا القمقم لترى الكون ،تراه بعينيها هى وليس بعينى أمها التى تحصى عليها أنفاسها ،حياه كلها عصبية وتوتر من أم رغم أنها مخلصة الى درجة الجنون اال أنها تحب بطريقتها ،تصرخ وتزمجر وتنهر وتنفجر الكلمات على شفتيها زالزل وبراكين ،تهب فى ثانية فتقلب الدنيا وترعد السماء وتنشق األرض ،وتهدأ فكأنما هى لم تفعل شيئا ً ، تعاود التحدث برفق وكأنما كان الجو صحوا ً طول الوقت ،واذا مارأت أحدا ً غاضبا ً منها أو يحادثها بصورة متوترة تساءلت جادة عما به ولماذا يحادثها هكذا ،فاذا قيل لها لقد فعلت كذا وكذا ،تساءلت هل انا على خطأ ؟ والغريب انها التخطىء ابدا ً حتى مع كامل زوجها حينما تتفجر أمامه زوابعها عاصفة وتضطره اضطرارا ً الى الصمت التكون مخطأه ،تحكى الموضوع ألى كان فال يجد عليها من خطأ اال اندفاعها فى عصبيتها ،وتسألها فى هذا فتقول لك أنه رغما ً عنها ،وأنها التملك زمام أمرها متى انفعلت ،وأنها تعرف أنها تزيد عن الحد أحيانا ،اال أن عذرها أنها التحمل ضغينة والتشغل قلبها بحمل سوء ألحد ،وأ نها متى هدأت عادت بيضاء حتى بالنسبة لمن تسبب فى غضبها . قالت نوال وكررت وهى فى حالة تبدو من عينيها وإحمرار وجهها وتهدج صوتها واندفاع الكلمات على شفتيها ،أخذسالمه يستمع صامتا ً الى أن صمتت تلتقط أنفاسها ،تبسم قائالً -: ماذا تريدين بالضبط ؟ اال تترك المدرسه واذا حدث ولم أتركها ،متى نتزوج ؟ ومن أين ؟رفعت عينيها الى مستوى عينيه ،يتزوجان مثل بقية الناس ،عندما يتخرج وتتخرج يتقدم لها ،ثم !! لم ينتظر ردها ،أجاب -: انا هكذا سأوفر عدة سنوات من عمرينا ال أفهم الحياه من حولناتغيرت والظروف تبدلت وأنت ؟ اخترت طريقى ،سائق -وتترك تجارة أبيك ؟
116
أدار وجهه عنها ،هو هكذا مهما فعلت اليتزحزح عن موقفه ،صحيح أنه اليصدها واليصطدم معها ،لكنه أيضا اليرضخ لغير رأيه ،التدرى لماذا هذا العناد ،ماالذى سيجرى لو أنه استمع اليها ومشى بمشورتها ؟ على كل ٍ هو فى جميع األحوال رجل تثق فى قراره .تابعته بعينيها ،سارت على خطاه ................ على مقهى النن العتيق الممتد على حواف الجمرك جلس سالمه منتظرا ً شحن البضاعة على عربته ليعود بها الى المعلم كامل كما طلب منه ،مشوار سهل ولذيذ يخرج منه بقرشين خاصة أن السوق هذه األيام نائم وعدد الطلعات بالسيارة قليل ،وليست كما كان يظن من قبل ،أمسك بالحمية يشد أنفاسها بهدوء وهو يدور بعينيه فى المكان ،يشم رائحة أزمنة كانت لها روعتها ،وإناس أكثر إنسانية من اآلن ،وحياة كان لها معنى ،وكان فيها رونق ولها بهاء .العتمة التى تلم المكان تصنع ظالالً ،تنتشر بين المقاعد المتهالكة والموائد الباهتة ،والوجوه المنتشرة فى األركان تبدو كأنها معششة هنا منذ قديم . قال البورى أكبر تجار بحرى والذى سيورد البضاعه لكامل -: لم تقل من أنت ،ومن أين ؟تبسم وهو يعود من رحلته فى روح المكان اليه ،أراد أن يقول وهل هذا يهم ؟ غيرأن الظروف لم تكن تسمح بهذا ،الرجل استضافه وأ كرمه وواضح أنه يريد أن يسامره ،أجاب - : انا ابن الحاج رضوان رضوان عبد العال ؟هز رأسه عالمة اإليجاب ،انفرجت عينا الرجل بابتسامة ترحيب ومد يده مسلما ً من جديد ،متسائالً -: وكيف حاله اآلن ؟ الحمد هلل ،الدكتور المعالج له بشرنا باألمس أن خبيرا ً أجنبيا ً سيزورمستشفى الحسين وسوف يعرضه عليه ،واألمل فى هللا بانت فى عينى الرجل آيات التأثر ،حدق فى عينيه قائالً أن مثله لن يجود به الزمان ثانية ،وأن هذا الذى غدر به خسيس ،ولو عرفه الناس لقطعوه 117
قبل أن يسلموه الى العداله .ارتفعت من أحد الوائد القريبة أصوات تلعن الخيانة والخونة الذين باعوا الصداقة وضيعوا األمانة وخانوا العيش والملح ،رفع سالمه عينيه اليه ،رجل أسمر الوجه مشوه العين اليسرى تماما ً ، يلبس جلباب أزرق قديم ،على حوافه بقع زيت أو شحم أو ماشابه ،وفوق رأسه طاقية صوف رماديه اللون ،يحدق بعينه اليمنى فى اتجاههم وهو مايزال يسب الخائنين . قال البورى بصوت هامس -: هذا هو الضبع ،فتوة بحرىرماه سالمه بنظرة استخفاف مستقالً جسده ونحافته الظاهره وعاهته المستديمة ،تساءل -: كيف يتعارك هذا ؟ملمحا ً الى عينه تبسم البورى موضحاً-: التغرك المظاهر ،لقد صار أشرس بعد أن طارتوأشار بيده أنها مسحت ،صمت قليالً ثم أكمل -هو هكذا بهيئته تلك يعرفه الجميع ،يهابونه ويتحاشون االصطدام بهتحيرت أفكار سالمه بين مايرى ومايسمع ،عاد يتساءل - : لماذا ؟ قلبه ميت ،يعرف أنه هالك المحالة فى أحد هذه المعارك ،لذا يندفعكاعصار وبيده سالحه ،ويجبر من أمامه على الفرار هذا ؟ نعم هذا ومن الذى كسر عينه ؟تبسم البورى نصف ابتسامه ،فتح فمه ليتكلم لكنه رأى الضبع يقترب فالتزم الصمت ،جلس الضبع على المائده دون كالم ،وجه عينه اليمنى الى سالمه الذى مافتأ يحدق فى وجهه صامتا ً ،قال أخيرا ً -: إذن انت ابن رضوانهز سالمه رأسه موافقا ً -:نعم قال الضبع بحزن -: لدى ،الرجل الوحيد الذى أقدره حق قدره التعرف مقدار هذا الرجل ّمااسمك ؟ 118
سالمهابن كريمه ؟ نعم !! التغضب ،أبوك حبيبى واسأل البورىحدق البورى فى عينيه متسائالً عما يرمى اليه ،ولماذا ترك مكانه وجاء الى سالمه وهو الذى يطلب من الناس أن يأتوا اليه برضاهم أو رغما ً عنهم ، يجلس واضعا ً ساقا ً على األخرى راميا ً محدثه بعينه الوحيدة ملقيا ً اليه بكلماته مبتورة ،واذا ضحك فبنصف ابتسامة ال أكثر ،وويل لمن يرد عليه أو يجادله أو يفكر فى الوقوف له ،شعر البورى أن الكالم سيطول والمساحة ستمتد ولن تنتهى سريعا ً ،والضبع بحوره عميقه وال يدرى مالذى يرمى اليه ،رأى أنه من األصلح أن يبتعد حتى الينجرف معه الى قول مااليريد ، استأذن لبعض شأنه ،أحس سالمه أنه يتحاشى الجلوس مع هذا الرجل ..لهذه الدرجة يهابونه !! رحب به الضبع ثانية ،نادى على صبى المقهى طالبا ً حجر معسل إلبن حبيبه كما قال وحاجه ساقعة على حسابه الخاص ،اتسعت عينا الصبى وهو يتلقى طلبه مبهوتا ً دون أن يجرؤ على البوح بما لديه ،هرول ملبيا ً الطلب ،سأل الضبع فجأة -: أول مرة تجىء االسكندرية ؟ نعم وماهى أخبار الفسحة ؟ لم أجد وقتا ً لهذا حتى اآلن يمكننى أن اطلعك على االسكندرية الحقيقية ،منبع الحقيقة وبئراألسرارالذى اليراه اال خاصة الخاصة صمت قليالً وهو يتابع الولد وهو يضع حجر المعسل على شيشة سالمه والحاجة الساقعه على المائدة األلومنيوم الصغيرة أ مامه ،بعدها اكمل -: األسكندرية مدينة ذات أسرار ،يمكنك أن تقول أنثىغامضة ،عميقة الغور التمنح نفسها للعابرين ،ولكن لمن يمنحها روحه ،لحظتها تنفرج كوتها ويرى من خاللها مالم يحلم به . شوقتنى لها جدا ً متى تسافر ؟119
بعد لحظات خسارة ،كنت أتمنى أن أرد لرضوان بعضا من معروفهصمت قليالً وصب نظرات عينه الوحيدة على بؤبؤ عينى سالمه سائالً -: الم تعثروا على الجانى بعد ؟اعتدل سالمه فى جلسته مباغتا ً ،ترك الشيشة جانبا ً ،جادا ً فى مالحقة عينه اليمنى علها تبوح بشىء قال اآلخر بهدوء ظاهر -واذا قلت لك من هو ؟ اشتعلت النيران فى حدقتى سالمه -: من ؟ كامل عبد الرحيم كامل عبد الرحيم ؟؟!! هل تعرف مكانه ؟ طبعا دلنى عليه ألثأر لرضوان منه أنت ؟!!كهرباء عالية الفولت سرت فى خالياه ،انتفض بقوة واتسع مدى عينيه لمساحة دهشة الحدود لها ودارت األرض به ،شعر برأسه مجوفة تتساقط منها الكلمات فال يفقه شيئا ً ،الضبع يريد الثأر لرضوان ،كامل الذى فعلها ، وعائلة رضوان تعجز عن الفعل ليجىء هذا ويعرض خدماته ؟ ماذا يعنى كل هذا ؟ وماذا يعنى أن كامل هو الذى اعتدى على أبيه ؟ كامل فعلها ؟!! كامل والد نوال شريك جابراآلن هو المعتدى ،الجانى ،الرجل الذى بكى أباه وأقسم على القصاص ممن آذاه مهما كان ،هو المعتدى !! واجه الرجل بعينى الشك -: كيف عرفت ؟بذات الهدوئه أجاب الضبع -:استأجر أشقياء من هنا تدلنى عليهم ؟ منهم من اعتقل ،ومنهم من مات120
وكيف عرفت ؟ضاقت العين الوحيدة واكتسى الوجه الكالح بامارات غضب طارىء- : حتى هنا نقف ياابن أخى ،ال أطيق التحقيق وال كثرة الكالم .وقام عنه متجها ً الى الظالم . حدق سالمه فى متاهات تحيط به ،مؤكد هناك شىء اليفهمه ،كيف ولماذا ومتى واالف األسئله تحيط به ،تحاصره وتضغط رأسه . كامل هو الفاعل ؟!! لم اليكون هو ؟ هل ألن نوال إبنته ؟ اال هذا ياسالمه اثأر منه مهما كانت نوال بالنسبة لك كما فعل بأبيك افعل به. ونوال ؟ ليذهب كل شىء الى الجحيم عدا أبى . نادى بأعلى صوته. يامعلم بورىو انطلق لألمام مرتعد الوجيب والروح والجسد ،تتطاير شظايا ً نيرانه المتأججة فى صدره من غور عينيه ،قابله البورى فى منتصف الطريق ، حدق فى وجهه مأخوذا ً -: مالك يابنى ؟ ثأر أبى سأدركه من فعلها ؟ كامل عبد الرحيم حذار من الضبع لن أتركهومضى من أمامه ،وقف البورى يقلب األمر فى رأسه ،هل يعقل أن يكون كامل قد فعلها وخاصة مع رضوان ؟ وحتى اذا فعلها اليس من الخير أن ينبهه لثورة سالمه ،فيحمى سالمه من نفسه وفى ذات الوقت يحمية من سالمه ،الولد صغير ،وأفكاره طائشة ،ومؤكد سيتصرف بدون عقل ..لكن لماذا قال له الضبع ماقال ، وماذا بينه وبين كامل ليشى به ؟ 121
هو مؤكد لم يفعل هذا لوجه الحق .هرول متجها ً الى حيث وجد الضبع أمام بيته يقف وسط الظلمة محدقا ً فى سماء بال نجوم وليل الحدود لمتاهة ظلماته وعمق أسراره ،اقترب مسرعا ً نحوه وجد العين اليمنى بانتظاره-: كما سلط على سلطت عليه بثأر هو برىء منه ؟ برىء أو مذنب اليهمنى مادمت قد رددت القلم قلمينهرول الى الخارج باحثا ً بعينيه هنا وهناك ،البد أن يحادث سالمه ،يقنعه بالوقيعة التى أرادها الضبع وهدفه من ورائها ،هو شعر بهذا منذ ترك مكانه واقترب منهما ،كلماته كلها كانت تشى أنه انتهز الفرصة ليضرب ضربته وينتقم من كامل الذى لن ينجو من غضب عائلة رضوان ونيران ثأرها ،هو يعرفهم ويعرف سطوة الثأر عليهم خاصة مع رجل مثل رضوان ،هرول باحثا ً عن العربة وسالمه ،لم يجد لهما أصرا ً ،سأل من حوله راجيا ً أن يكون هنا أو هناك قريبا ً من المكان ،قيل عاد الى القاهره ،رفع الهاتف الى أذنيه فورا ً ،جاءه صوت كامل مرحبا ً ،لم يرد التحية ،قال فورا ً مالديه ،أبلغه بما جرى من الضبع وأوصاه أن يتصرف . ..................... طار كامل الى محمد بطه يطلب نجدته ،قص عليه أمر المكالمة وماقاله البورى فيها ،عاد بطه يسأله ملحا ً -: هل لك يد فيما جرى لرضوان ؟ اقسم لم يحدثجلسا يدرسان األمر ،الولد سالمه طائش ،مؤكد سيتصرف فورا ً دون الرجوع ألحد ،يمكن فى هذه الحالة مراقبته وتنبيهه لما سيقع فيه من خطأ ،لكنه شاب وهو ثائر ومؤكد لن يصدق ..اقترح كامل أن يتم استدعاء جابر وشرح األمر له ،مؤكد هو أكبر وسيتفهم الوضع ،ضحك بطه منه مؤكدا َ أن جابر بالذات هو مصدر الخطر عليه ،ألنه الوحيد الذى أثر فيه مرض والده ،والوحيد الذى يحمل عبء األخذ بالثأر ،والوحيد الذى الينى عن البحث ،وشىء مثل هذا مهما اقسمت واكدت برائتك منه مؤكد سيترك أثرا ً فى نفسه ،وهو بطبيعة الحال كما تعرفه مندفع وقد يتصرف بطريقة ما ليس وقتها اآلن . 122
اتسعت حدقتا كامل عن ذى قبل ،ترنج قلبه فى فراغ صدره هلعا ً ،ليس خوفا ً من الثإر فى حد ذاته ،وإن كان هذا ومن عائلة رضوان بالذات يحتاج الحتياط كبير وحراسة دائمة ،لكن القلق األكبر كان من ضياع الشراكة التى رسم لها طويالً بعد مرض رضوان ،والتى تمناها ورجا هللا سبحانه أن تعود لتضىء لياليه وترمى بنورها ونقودها ايضا عليه ،وهاهى كما أفلتت منه مرة فى وجود رضوان تفلت منه ثانية مع جابر ،تساءلت التغضنات تحت عينيه -:وما الحل ؟ حدق محمد بطه فيه مراقبا ً وجهه األسمر الغليظ بعمامته المرتفعة وتقاطيعه المتضخمة وعينيه الواسعتين ..دائما ً أبدا ً ياكامل تثير وراءك الغبار وتكثر األقاويل ،الغريب أننى لم أتعلم من رضوان حينما اقتصر عنك تجنبا ً للمشاكل التى تصنعها بتصرفاتك ،المشكلة أننى بعد هذا السن وهذه الخبرة بالحياة مازلت أسأل نفسى هل تدرك أفعالك ،أم أن األقدار هى التى ترسم لك وتخطط وأنت بسذاجة تندفع ،ولماذا أرادك هذا الضبع أنت بالذات ولم يرد غيرك ؟ فتح بطه فمه أخيرا ً بتساؤل -: ماصلتك بهذا الضبع ؟ كان يريد فرض إتاوة على بضاعة لى بالميناء ،سألت عنه ،عرفتماأريد أن أعرف ،وأبلغت البوليس وبالطبع لم ترجع لرضوانال لماذا ؟ كما فهمت كان له تعامل معه وبالتالى معك لم يعرفنى عليه ،هو فقط قال أن له رجالً فى الميناء ،وأن عمله هناكسيكون عن طريقه كنتما شريكين أنت ورضوان ،ورضوان هو الذى يتعامل مع الضبع علىحد قولك ،فكيف ذهبت وحدك للميناء وكيف اصطدمت بالضبع؟ أقول لك الحق ؟ وهل هناك وقت لغير الحق ؟ شغلة بسيطة اشتغلتها وحدى وحدك !! -هى مرة وندمت عليها .
123
ورفض الضبع أن تمر من تحت يده ،أو ربما عرف رضوان وأراد أنيلقنك درسا ً ربما . ولهذا أردت رد القلم قلمين فأبلغت الشرطة عن الضبع أردت رد القلم للضبع وليس رضوان فى هذه الحالة كالهما على حق وأنت المخطىءلكن كيف عرف الضبع بما جرى لرضوان ومن قال له أن سالمه ولده ؟ ال أدرى اسمع ،لدى فكرة ،استأجر لنا عربة أجرة أوالً ،وسوف أعود اليكبعد قليل وقام عنه الى داخل المقهى ،غاب لحظات ورجع باسم الثغر قائالً -: سنذهب الى الضبع معاً ،آتى به هنا أمام سالمه وكل من يريد أن يعرفأنك برىء من هذه التهمة . وهل سيرضى أن يجىء ؟اندفعت الضحكة الى شفتى بطه -: لن يأتى برضاه كيف ؟ هذا شغلى أنا وسالمه ،هل يصدق ؟ هل لديك حل آخر ؟اضطر للصمت . هذا الضبع جاء فى غير وقته بالمرة ،التجارة كانت قد بدأت تؤتى بثمارها مع جابروبطه ،واألمور بدأت تهدأ ،و جاء هذا والقى حجرا ً فى الماء الراكد ،ماذا أفعل لك ياضبع ؟ جاءت العربة التى ارسل أحد صبيانه الحضارها ،ركب ومعه محمد بطه واثنين من رجال األخير وانطلقت الى األسكندرية . ................ عادت النيران تتأجج فى صدر جابر ،تتصاعد ،تزأر ،تهز جنبات جوفه بال رحمة ،دار حول نفسه وهو اليرى حوله اال سواد ليل كاسح بهيم ،يطوق رقبته وروحه ويصر على النفاذ الى سويداء قلبه ،ناشبا ً فيه أنياب المقت 124
والكراهية والعناد ،دار فى المنطقة ثائر الخطوات متربصا ً بكامل كاتما ً عن الجميع أنه هو الخائن الذى غدر بوالده ،غير أنه لم ير كامالً ولم يعثر له على أثر ..قال لسالمه أن يتتبع خطاه ويترك كل شىء ويتفرغ له وحذارى أن يفكر فى فعل شىء معه ،كل ماعليه أن يأتى ويخبره وهو سيتصرف ، شريطة اال يخبر كائنا ً ماكان بماهناك . سأله سالمه -: وماالذى تنوى فعله ؟قال والنيران سوادها يغطى روحه-: سأجعله عبرة لمن يعتبرومثلما جرى ألبى سيجرى لهمضى سالمه الى حيث تربص للبيت بعد أن اطمئن أنه ليس فى الوكاله وسألهم عنه قالوا أنه ذهب مع الحاج محمد بطه فى مشوار ،ولم يقل متى سيعود ..طال الوقت بجابر وهو فى دكانه والليل يرميه بظلمته موجات إثر موجات ،الوقوف ومعاملة الناس اآلن صار عبئا ً ثقيالً عليه ،أصبح كأنه يقف على جمر ،يتمنى لو يستطيع أن يجرى بالوقت ،أعصابه لم تعد تتحمل االنتظار بعد أن وصل الى بغيته ،اللئيم عرف كيف يفلت منه ،لكنه مهما أفلت سوف يتعقبه ولن يتركه يفلت بجريمته بحال ،عيون الناس يشعر بها تنصب عليه منذ مقتل والده ،تسأله عن الثأر وكرامة العائلة ورؤس أعمامه وأخواله التى لن ترتفع اال بادراكه لثأره .عيون الناس يشعر بها تتعقبه تذكره بخيبته وفشله فى إراحة أبيه فى مرضه ،البد ياأبى أن أهدى اليك خبر الثأر لمن آذاك البد أن أشفى غليلى وأرفع رأسى وأواجه العيون المحدقة بى ،ليس ضعفا ً صمتى وليس عجزا ً انتظارى ،لكن !! كيف أعثر عليه األن ،أين أبحث عنه وأنال منه ،هل أدخل بيته ؟ البد أن أطوله ولو على فراشه . حل الظالم ثقيالً على األمكنة بينما الثوانى إبر مسننة تنفذ الى جسد ه ، بينما سالمه هناك أمام البيت يجلس داخل عربته متربص ً بالرائح والغادى فى انتظار أن تطل الفريسة برأسها فيبلغ جابر فوراً .جلس متيقظ الحواس ، مشتعل األفكار ،والنيران تأكل صدره ،فهو من ناحية يخشى أن تراه نوال وتعرف دوره فيما سيجرى ،وإن كانت لهفته على األخذ بثأر أبيه من الناحية األخرى تمأل وجدانه وروحه ،وهو يتساءل كل مرة محدثا ً نفسه ماذا يفعل اذا كان كامل هو الجانى ؟ وفى كل مرة يجابه قلبه صارخا ً لن أترك ثأر أبى ولو خسرت نوال . 125
أغلق النهار عينيه ،وخلت الطرقات من روادها وساد صمت جهول فى األرجاء لم يستطع جابر معه االنتظار ،قالت له ظنونه أن الرجل عرف بما هناك فاختبأ فى بيته رافضا ً الخروج الى مقتله ،حمل سكينه وتحرك على جمر من النار متصاعد الدخان يقبض روحه ،سيصل اليه و لو على فراشه ،سأله سالمه أن يرافقه ،رفض بشده وتسلل فى ستر من الليل كثيف . .................. قال كامل بغم -: حينما طلبناه اختفىكانت غرزة النن فى ذلك الوقت من المساء محفوفة ببشر متشابهى الوجوه وتعبيرات العيون وحتى زمة الشفاه والحروف المضغوطه التى تخرج فى غفلة من أهل اللغة ومحترفيها .تتقيأ المقهى كل حين بشرا ً على قارعة الطريق ،يتساءل بطه كيف يحتملهم هذا المكان الصغير ،وأين يوجد بالداخل الهواء الالزم لكل هذه األعداد . يخرج كامل عن صمته -: فى هذا المكان تعقد صفقات باأللوفيشيح بطه بيده -: األلوف اآلن صارت لغة الفقراء ومحدودى الدخليدير وجهه حوله ،هواء البحر منعش ،به لسعه برد لطيفة تدغدغ الجلد وال تضايقه ،لكن وبرغم زينة الكورنيش واالهتمام بجداره الحجرى وجمال المنظر والرمال التى عادت العين تراها من الطريق وامتداد البحر بهديره العذب قويا ً مهيبا ً للرائح والغادى رغم كل هذا اال أن رائحه اليود ماتزال غائبة بنوع ما . يقول كامل متبرما ً -: والعمل ياحاج ؟يرد بطه بصبر -: لن نبرح المكان قبل أن نعود به .ويدير رأسه الى الطريق . السيارة التى يحتلون مقاعدها تقف فى مدخل شارع جانبى يؤدى الى الطرق الداخليه للمدينه ،وفى ذات الوقت اليشد العيون الى العربه وراكبيها بينماالبورى هناك فى المقهى ينتظر الرجل المطلوب . 126
يحدق محمد بطه فى المدى باحثا ً عن نقطة ضوء بعيدة تبزغ فى عمق الظلمة ،كان تقديره أنه ابتعد تماما ً عن الشقاوة وأيامها ولم يعد له منهااال الذكرى ،وكان يرى أنه لم يعد لديه الالشباب وال القلب الذى يفل الحديد ، لكنه ولغرابة األمر ولدهشته هو نفسه رأى األمور تسير والعجلة تدور وينغمس رغما ً عنه فى مغامرة اليدرى الى أين ستؤدى به ،وإن كان هذه المرة يسعى الى الخير ،خير الجميع بما فيهم أوالد رضوان . يحدق كامل فيه بطرف عينه سائالً نفسه كيف خطر له هذا الخاطر ،أن يخطف الضبع ومن قلب منطقته ،يخطف الضبع الذى تهتز أشد القلوب قوة لمرآه ،صحيح يامحمد يابطه قادر ،لكن هل سيقدر على الضبع ؟ الغريب أن هذا الرجل يحاسبه حساب الملكين على حادثة مرت عليها سنوات ،ينسى قانون السوق الغالب فى كل حين والذى يتطلب أن تمد يدك الى أقصى ماتستطيع وتخطف اللقمة قبل أن يخطفها سواك ،كانت عمليه بسيطة ظن رضوان لن يعرفها وسوف تمر كما مر غيرها لوال وقوف الضبع له ،واصراره على أخذ إتاوته واال أفسد عليه العملية من أساسها ..شردت نظراته فى فضاء الظلمة حوله وضباب الحيرة الذى يغلف وجيب قلبه ،وهل كان بيدى اال أن أفعل مافعلت ،أسلم وسيلة أن تتقى شر مثل هذا الشيطان بالبوليس ،وقد فعلت . قطع مسيرة أفكاره سماعه لإلشارة المتفق عليها صوت البورى وهو ينادى صبى المقهى ناعتا ً إياه بالخائب كما هو معتاد أن يناديه حتى اليشعر أحد بما هناك. هبط الرجالن خلف بطه الذى القى الضبع قبل المقهى بخطوات .نظر كامل من مكانه بالسيارة الى ظهر بطه الذى يسير الى هدفه دون أن يهتز ، جسده متين وواثق فى قدراته ،وجاء الى مكان غريب والى رجل سمع عنه مايرجف القلوب ومع هذا يدخل عليه بهذا الثبات .حدق كامل أكثرالى الساعة ،الحادية عشرة والنصف مساء ً ،للحظ التوجد أقدام تسعى والعيون ترى وال آذان تسمع ،حجاب العتمة خلق نوعا ً من الكتمان فلم يرى الرجل ما خلفه ،اقترب بطه منه ،قبل أن يستدير بوجهه ليراه جيدا ً بعينه اليمنى تلقاه بلكمة شمالية طاحنة أعقبها بيمنى ثم امسك برأسه بكلتا يديه وتلقاه بضربة رأس هائلة ،تركه على إثرها واستدار عائدا ً الى العربة بينما حمله الرجالن قبل أن يسقط أرضا ً ومضيا خلف بطه ،أدخاله العربة وركبا الى جانبه من الناحيتين ،تابعهم كامل مبهور األنفاس وأطرافه ترتعد 127
الشعوريا ً ،وعيناه بؤرتان عريضتان تتنفسان قلقا ً وحيرة أمام مشهد يحبس األنفاس رغم أنه صامت يكاد يكون بال صوت ،تنفس أخيرا ً الصعداء وهو يراهم حاملين صيدهم ،أراح ظهره على مقعده ،تابعهم وهم يودعونه العربة ،وقفل الكل عائدين فى صمت . ........................ فى تمام الثانية عشرة مساء سارت أقدام مترقبة متجهة الى بيت كامل ، عبرت األقدام الباب فى هدوء ،صعدت السلم فى ثبات ،توقفت عند باب بعينه ،قفزت من شباك صغير يطل على المنور الى ماسورة الصرف الصحى ومنها الى شباك الحمام الذى تلقى دفعة ارتد منها الى الخلف مفسحا ً الطريق للجسد المتحفز بالوثوب الى الداخل ..كانت الشقة مألوفة له فلم يفكر كثيرا ً ،اتجه الى غرفة النوم راجيا ً أن يكون صيده هناك قابعا ً فى ركنه مرتعدا ً من خوفه واحساسه بما ينتظره من هالك جراء جريمة هزت الكون ،وسط الظلمة الممتدة كانت عيناه متربصتين ،تتسع محاجرهما وتبرق األحداق ،اقترب من الفراش ،أحس بحركة من الراقد ،ومضت السكين فى يده استعدادا ً للحظة الفاصلة ،مؤكد هو ،رفع يده ،ساورته الظنون ،كامل ممتلىء الجسد وهذا الذى أمامى نحيل ،أراه أوالً ،قد يستيقظ ،اضرب ضربتك وامض ،ال لن أمضى سأوقظه وأحاكمه ولو أمام أهله ولو أدى األمر سأضربه وأضرب من وراءه وبعدها أقتله .مد يده يرفع الغطاء عن الوجه النائم ،وجدها امرأة كامل ،ارتد الى الخلف منكسا ً السكين ألقصى ماتستطيع يده ..كامل هرب حتى من البيت ..كيف ؟ كانت المرأة قد أحست به ،لكنها لم تتحرك ،ظلت وسط الظلمة ومن خلف أهدابها ترقبه لتعرف من هو وماذا يريد ،وحينما رأته جابر والسكين بيده فهمت مايقصد وحمدت هللا على غياب زوجها ،لكن لماذا يريد قتله ؟ لم تصل لسبب ،اقترب كاشفا ً عن عينين ذاهلتين ،حائرا ً ،اليدرى هل يعود من حيث أتى محمالً بفشل جديد ،أم يقتل المرأة ويكون قد أنتقم جزئيا ً لحين ظهور الخائن ؟ ال ،قتل المرأة معيرة لم تأت لترتكب عارا ً يالحقك طول العمر امض بفشلك السرمدى ،الجدوى من المحاولة 128
استدار مغادرا ً الحجرة ،طاف به خاطر ،قد يكون بحجرة أخرى ،مضى نحو الباب ،فتحت المرأة عينيها ،تبعته الى حجرة الضيوف ،دخلها وجالت عيناه بارجائها المظلمة ،شعر بالباب يغلق من الخارج ،سمع المرأة تفتح النوافذ ،تصرخ بأعلى صوتها -: الحقونىجن جنونه ،دفع الباب بقدمه ،انطلق دوى هائل لحطام زجاجه ،صرع أنفاس السكون ولم يفتح ،عاد يدفعهبكل هلعه وحيرته حتى فتحه قصرا ً ومضى الى الخارج محاوالً الفرا بكل مالديه من رعدة تجتاح القلب وتهز الوجدان ،شعر بدفعة فى ظهره ،بمالبسه تتمزق ،وأظافر أنثوية متوحشة تنغرز فى ظهره ،استدار اليها جاحظ العينين ،تائه النظرات ، دفعها بقوة ،اصطدم جسدها بالحائط ،عادت تقوم وهى ماتزال تصرخ ورأى النور حريقا ً يشتعل فى المكان وباب الشقة كفوهة بركان ينفجر مطلقا ً أفواجا ً من البشر الحد لعددها ،نوال وأخوها يقفان بآثار النوم والدهشة ، والجيران واألقارب من كل حدب يمألون المكان . انتفض القلب متصاغرا ً فى فناء جوفه ،منكسا ً نبضاته ،خائرا ً اليمتلك اال عويل القهر والجنون ،القى بذراعين مشلولتين الى جانبه ووقف ينتظر مصيره ،ولم يدرك جيدا ً معنى اقتراح أحدهم استدعاء بالشرطة . ....................... بدا األمر شائكا ً ومريرا ً أمام العيون . جابر كان يقصد كامل ،أراد قتله والدليل السكين ،الشهود رأوا هذا ،كلهم حضروا المشهد كامالً ،رأوه يقف منكسا ً راٍه ممزق الثياب والروح والسكين بيده ،التهمة ثابتة . لكن المرأة زوجة كامل من ناحية أخرى ممزقة الثياب ومعتدى عليها بالضرب داخل حجرة نومها ،وهى لن تتورع عن اتهامه بأى شىء فى سبيل انقاذ زوجها ،واذا قالت أنه أراد اغتصابها فمن سيكذبها ؟ خاصة أن مالبسه هو أيضا ممزقة وأظافرها معلمة على جسده . قال قائل من الجيران لصاحبه -: أرى أنه كان يقصد كامل وبعد ماجرى محال أن يعيدها ثانية ماذا تقصد ؟ الداعى لتدخل الشرطه129
نرجع لزوجها لو رجعنا له لن يتوانى عن تسليه للشرطه والحل ؟ نتصرف قبل حضوره انقاذا ً للولد وتقديرا ً لوالده المرأه قد تتكلم ،تشكو ،ومعها شهود نحاول معهاانفرد بها االثنان ،سألتهما أن يأتيا به ،نظرت اليه فى ذهوله وصمته وانكسار عينيه ،الغريب أنها تشعر أنه اليستحق هذا ،تشعر بعد أن جرى ماجرى أنها قد اندفعت واوقعته فى مصيدة قد تقضى عليه ،لكنه هو المخطىء ،كيف يفكر أن يصل الى كامل فى غرفة نومه ؟ الم يقدر عواقب عمله واحتماالت كشفه ووقوفه هذا الموقف المهين ؟ ثم أنه شريك زوجها وفوق هذا لم تسمع عنه ولم تر منه اال مايشرف . سألته -: ماذا أردت من كامل .؟رفع عينيه اليها ،إمرأة غادرة استغلت ضعفها أحسن استغالل ،لو كان رجالً لفتك به ،لكنه عجز عنها ،فقد عقله أمامها ،ماذا يقول اآلن ؟ أقتله لماذا ؟ ألنه غدر بأبى هل أنت واثق مما تقول ؟ارتفعت أصوات بالخارج بوصول الحاج كامل . ساد صمت مترقب األرجاء . ................................... أدرك محمد بطه الموقف من اللحظة األولى ،نادى أحدهم متسائالً عن األمر ، لخص له ماكان ،تألقت عيناه ببريق غضب جامح دفعه لشق األجساد المتالحمة المصرة على التهام الحدث دون أن يفوتها شىء ،معنفا ً العيون المتعطشة للفرجة واآلذان المتلهفة اللتقاط أدق التفاصيل ،صارخا ً فى كل منهم طالبا ً كسر هذا الحصار الذى فرضوه على المكان ،ملوحا ً بيده متوعدا ً من يصر على البقاء بالويل ،بعدها سحب جابرا ً من المكان كله ،أعطاه مفاتيح
130
المقهى طالبا ً منه فتحه واالنتظار هناك حتى يأتي اليه ،واتصل بأعمامه وأخواله طالبا ً منهم الحضور فورا ً ،بعدها اتجه لكامل صارخا ً فيه-: خذ زوجتك وأوالدك ،اغلق عليهم باب الشقة ،والحق بى فى المقهى. كان الرجال حول الضبع يأخذون ركنا قصيا ً فى أول الشارع من ناحية خان أبو طاقية ،و الضبع يقف وسطهم دائرا ً بعينه فى وجوههم متسائالً فى نفسه عمن يكونون ،ولماذا يتركونه حرا ً واليقيدوا يديه ،وماذا يريدون منه ،متشمما ً السمات وتعبيرات الوجوه ،محاوالً اختراق العيون ليرى ماوراءها ، ومتربصا ً فى ذات الوقت ينتظر غفلة من هذا أو ذاك لينقض عليهما ويفلت من أسر اليعرف لماذا والمايراد منه ..أشار بطه الى رجليه فقادا الضبع الى المقهى ،جلس مواجها ً جابر حامالً حيرة تسع الكون لهذا االختطاف العجيب الذى لم يره أو يسمع به من قبل ،وإن كانت أنفه تتشمم رائحة رضوان فى الهواء المحيط به .اقترب بطه وخلفه بقليل كامل عبد الرحيم رافعا ً رأسه وسط الظلمة الى عنان السماء ،وجه بطه كالمه للضبع معتذرا ً عن الطريقة التى اضطر الحضاره بها ،مؤكدا عليه أن الوقت لم يكن يسمح بغير هذا .كان يطيل فى الكالم متعمدا ً لغاية فى نفسه فلما بدأ أقارب جابر فى التوافد واكتظ المكان برواده دخل فى الموضوع مباشرة ، شرح فى كلمات قالئل األمر للجميع ،مستشهدا ً بالضبع الذى جاء به من األسكندرية خصيصا ً ليقر بما لديه .استدار باسما ً الى الضبع راجيا ً منه قول حقيقة ستوقف نزيف دم سيكون بحورا ً فى المنطقة إن لم يوقفه بكلمة حق أمام خالقه ،دار الضبع بعينه اليمنى باحثا ً الى أن استقرت على وجه كامل وقال بصوته الغليظ المثقل بضيقه وحنقه للطريقة التى تعاملوا بها معه من أجل شهادة كان يمكن أن يقولها وهو فى مكانه دون تجشم مشقة الضرب واالختطاف واالهانة بهذا ،والتى من المؤكد ستكون سبه فى جبينه وعارا ً يلحق به أبد الدهر ،هو الذى لم يجرؤ مخلوق من قبل على الوقوف له ، وليس ضربه بهذه الطريقة وخطفه رغما ً عنه .قال الضبع مالديه ،قص عليهم ماجرى له مع كامل الذى خان شريكه رضوان وأراد أن يلعب من وراءه ،وحين عرض الضبع األمر على رضوان كان رده-: تعمال معه كما تشاءاستأذنه الضبع أن يعامل كامل معاملة الغرباء ،أذن رضوان له ،طلب منه
131
اإلتاوة التى يطلبها من كل غريب تدب قدماه على أرض ،وكان جزاءه أن وشى به كامل للشرطة ،قبضت عليه ،ولم يقف بجواره مدة سجنه اال رضوان ،و حينما رأى سالمه باالسكندرية واتته فكر أن يرد له القلم الذى تلقاه منه قلمين ،لتنتقم أسرة رضوان منه وبهذا يكون قد نال جزاءه على يديه وهو بعيد عنه .قال بطه لجابر حينما انتهى الضبع من روايته -:مارأيك ؟ أحنى رأسه ولم يرد ،شاعرا ً أنه وسط بركة من ضياع يغوص فيه بروحه وقلبه دون مغيث ،واحساس غامر يجتاحه أنه يقف عاريا ً وسط أعين الترحم وال تعرف الغفران ،وطالما جاء أقاربه وأعمامه لحضور الجلسة فهذا معناه القصاص وطلب رد الشرف ومجلس عرفى يفرض عليه فيه جزاء ماصنعت يداه من ترويع الناس فى بيوتهم بغير حق ،ولن يستطيع الدفاع عن نفسه بحرف ،فهو بشهادة الشهود مدان . قام بطه الى الضبع معانقا ً ،راجيا ً منه العفو ،دس في يده مبلغا ً ماليا ً ، طلب من السائق الذى أحضره أن يعيده الى مسكنه معززا ً مكرما ً ،وعده أمام الجميع أن يزوره هناك ،ويقدم له االعتذار اذا أحب على رؤس األشهاد ،بعدها عاد الى المجلس من جديد ،سأل السيد مباشرة -: هل كنت تعلم مسبقا بما فعله جابر ؟هز السيد رأسه سلبا ً ،استدار بطه الى باقى العائلة بذات السؤال ،بعدها عاد الى جابر من جديد -: قد أقول لك أن معك الحقفى الثأر لوالدك ،ولكن دون التعرض ألبرياء ،اليس كذلك ؟ لقد دخلت بيتا ً دون وجه حق ،اعتديت على حرمتة وروعت من فيه من النساء ،وحملت سالحك فى وجوههن ،وكل هذا سيرا ً وراء وهم صور لك أن كامل هو الجانى ،لم تتحرى ولم تتيقن واندفعت وحدك ودون أن تشاور أحدا ً من كبار العائلة ،فماذا ترى فيما فعلت وبماذا تحكم على نفسك ؟ محنى الرأس والروح قال جابر -: -انا مخطىء وأقبل الجزاء الذى تحكمون به
132
وقف السيد متعهدا ً بدفع مائة الف جنيه جزاء على جابر ،هذا اذا وافق الجميع بما فيهم كامل ،اتجهت األعين اليه ،هز رأسه حامالً سيماء المظلوم معلنا ً موافقته على المبلغ ،مشترطا ً اعتذار جابر له أمام الجميع عن فعلته ومتعهدا بعدم تكرارها ،تجرع جابر السم رغما ً عنه وقام بصوت غريب عنه باالعتذار المطلوب متعهدا ً باال يكرر فعلته ثانية ،بعدها سحبه السيد من يده الى البيت لمحاكمة أخرى بعيدا ً عن أعين الغرباء . كان المخطط الذى اتفق عليه السيد مع كريمه أن يتم التنفيذ فى ذات الليلة عند الفجر ،ولكن جاء جابر ليفسد كل شىء ،غضب السيد وتمنى لو يصرخ فيه موبخا ً وشارحا ً كيف أضاع عليهم فرصة ماكانت لتضيع ،وفى ذات الوقت أضعف همتهم بهذه المغامرة التى كبدتهم الكثير معنويا ً وماديا ً، لكنه لم يجرؤ على قول شىء ،اكتفى بالصراخ فى وجهه-: منذ متى وأنت التأخذ برأي والترجع لعائلة ؟ الثأر ثأرى أنا بهذه الخيبة وهذا الخزى ؟ كنت موقنا ً أنه هو لقد أفسدت الكثير ياابن أخىحدق فيه جابر باحثا ً عن معنى كلمته األخيرة ،ولم يجد لديه القدرة على االستفسار عنها وهو يراه وبقية أهله يغادرون الدار متجهمين ،ودون سالم !!
............................... ألنها لم تقل له شيئا ً ولم تشاوره فى األمر ،بل ولم تخبره بما فعلته فقد خافت من لحظة معرفته بما جرى ،هى تعرفه جيدا وتعرف درجة انفعاله التى تتأجج فيها النيران فى روحه فال يرى واليسمع واليحس اال بما يتملكه من غضب ولحظتها القوة تستطيع أن تثنيه عما انتواه ،وقد يؤذى نفسه قبل أى شىء فى سبيل أن ينثر غضبه ساحقا ً كل مايلقاه أمامه قريب أو غريب ،اليبالى بشىء وال يأبه لشىء ،وال يفكر حتى أو يتدبر أو يقول اهدأ لسبب ما ،فهو فى لحظته تلك اليعرف اال االنصياع لمشاعرة المتوهجة المتأججة 133
السوداء الالفحة التى التبقى والتذر ،والتى تأكل فى طريقها ماتراه وال تعرف الهدوء واالنزواء اال بعدما تنطفىء فى قلبها شعلة االنفعال وقوته الساحقة ،بعدها يهدأ تماما ً ويعود الى بسمته الودود وسيماه المنبسطة وعينيه اللتين يفيض من بحورهما ماء الرضاء والتسامح ،لحظتها فقط يمكن أن تتحدث اليه ،تعاتبه وتشكو له منه أما غير هذا فال ..كل هذا تعرفه أم سعيد عن زوجها محمد بطه وتعرف أكثر أنه تألم لما جرى لرضوان واقسم أكثر من مرة أنه لو عرف الجانى ألنتقم منه شر انتقام مهما كان هو ومهما كان من وراءه ،وهاهى اآلن وابنها سعيد وابنتها صباح وزوجها محمود يقعون فريسة ألمرين كالهما أمر من أخيه ،فمن الواضح أن عائلة رضوان قد توصلت اليهم ،وتجهز العدة للتشهير بهم وفضحهم على رؤس األشهاد ،والتدرى بعد ذلك مايفعلون بهم وهل يصل األمر الى القتل أم يكتفون باصابتهم بالعجز كما فعلوا هم برضوان ، وفى ذات الوقت فان هناك زوجها محمد بطه والذى لو عرف ألنتقم منها وممن ساندها..صارحت صباح بما لديها فلم تجد منها وال من زوجها اال العجز مرسوما ً على العيون ،منطوقا ً على الشفاه ، والرعب يمأل القلوب واألرواح ،اختلت بسعيد ولدها فرأته غائبا ً عمن حوله ،منفصالً عن مشكلته كأنه اليدرك مداها وال يعرف خطورتها ،مهونا ً من كل شىء ومستصغرا ً كل ماحوله ،فعائلة رضوان التجرؤ على مس شعره منه ،حوله أصحابه يساندونه ووقت الجد سيقفون كاألسود أمام أعتى وأشد من تلك العائلة المخرفة التى تقتات الكلمات الجوفاء والكبرياء األجوف ،أما أبوه اذا عرف فلن يستطيع له شىء ،قد يصرخ فيه وربما ضربه قلمين ،وهذا أقصى ماعنده ،بعدها سيقف لعائلة رضوان يناجزهم عنه ولن يستطيع أحد االقتراب منه ،فهو فى كل األحوال ابن محمد بطه . تركته ألوهامه وخواطره السابحة فى بحار التيه ،وجلست وحدها تتدبر األمر ،لقد فعلت المستحيل لتمحو الصور التى رسمها 134
مرارا متوارية خلف السكون متلفعة رضوان أمام بيت شتا ،خرجت ً بالظلمة لتمحوها بنفسها قبل أن يدقق فيها أحدهم ويحل لغزها ، وفى كل مرة كانت تكافح الهلع الساكن روحها والرهبة من األعين التى قد تلحظ وجودها فى قاع الليل دون مبرر ،وايضا تخشى من تيقظ بطه لسبب ما ،واكتشافه خروجها وسؤاله الذى من المؤكد سيوجهه اليها حينها ..أين كنت ؟ ولم تفلح ،خوف غريب كان يشل حركتها ،يقيد أرجلها ويبطىء خطوتها ،يمنع يدها من المساس بالرسوم المشئومة ،أو حتى االقتراب منها ،دوما ً كانت البقعة ذاتها تضج بالنور كأن عليهاتعويذة تحرسها ،وحين امطرت السماء توسمت خيرا ً ، فاألمطار بقوة اندفاعها وايضا باألوحال التى تصنعها فى عرض الطريق سوف تقوم بعملها خير قيام ،تنهى هذه االآلثار وتقضى عليها ،وينسى الخلق حكاية رضوان و ماجرى له ،واليبقى دافع لإلنتقام مادامت السنون واأليام تقوم بعملها فى تهدئة النفوس الى درجة اإلعتياد ثم النسيان ،اال أن األمطار اللعينة لم تقربها ،أخذت تنداح وتتمدد فى أرض الشارع صانعة حفرا ً وأوحال ،وغسلت األرض اال أمام بيت شتا كأنها تتآمر عليها ،أو هى تصر على تذكير الكون بمافعلته ذات فجر ،لكنها اآلن وأمام تسارع األحداث صارت تنظر الى الوقت بعين الرجاء ،تسأله أن يتمهل فى خطاه ، يهدىء من تسارعه ،وتدعو هللا أن يحدث شىء ما ينجيها من شر قادم المحاله ،التعرف مداه ،وال تدرك حدوده ،لكنها تعرف جيدا ً أنه اذا ذاع وعرف الجميع أنها وبنيها الجناة وحتى بدون ايذاء ستكون الطامة الكبرى . لن تجرؤ على مواجهة زوجها أو رفع عينيها لمستوى عينيه مرة أخرى ،ولن تستطيع أن ترفع رأسها فى وجه مخلوق فى الشارع ثانية ،فهى فى كل األحوال لن تنجو من العقاب بدنيا أو نفسيا ً ، واألولى لها أن تترك الساحة لبعض الوقت ،تبتعد لعل هللا يجعل لها مخرجا ً ،فهى فى كل األحوال لم تفعل مافعلت بدافع حب األذى أو 135
الرغبة فى الشر ،ولكنه دفاعا ً عن ولدها الذى أذاه رضوان فى الشارع وأمام الخلق ،كسر نفسه ومرغ كبرياءه فى التراب ،ولم يستطع أبوه محمد بطه أن يأخذ حقه ،اشترى رضوان وباع ولده ،أصر على أن الخطأ يستحق العقاب ،ورضوان فى منزلة أبيه ، والد وعاقب ابنه فالشىء هناك . قررت أن تغادر عند الفجر الى أهلها فى الفيوم الى أن تنجلى الغمة وعندها تعود من جديد .اتصلت بأخيها هاتفيا ً :- قل لمحمد زوجى أنك مريض وتحتاجنى الى جوارك.انا الذى ابلغه ؟زوجتك أو ولدك ..المهم يتم هذا اليومماألمر ؟سأشرح لك حين نلتقىقام بطه من نومه فى حدود العاشرة صباحا ً ،مشرق الوجه كان ،ناداها قائالً أن الجناة قد وقعوا أخيرا ً ،وأنه سيراهم ويكون أول من ينتقم منهم ،وفوق هذا سيرى الخلق جميعا ً مالم يروه من قبل ، أقفاص حديدية معلقة فى سماء الشارع ،وبها وحوش أدمية اعتدت على رجل مسالم وضربته فى ظهره ،خافوا من مواجهته فهم يعرفونه جيدا ً ،لو واجهوه رجالً لرجال مهما كان عددهم سيفتك بهم ..انصتت اليه محاولة االهتمام بما يقول وهى فى ذات الوقت تصرخ فى وجه أخيها البعيد وفى روحه اذا كانت األرواح تحس وتشعر أن يتصل فورا ً قبل أن تقع الطامة الكبرى ،وكأنما األرواح قد اتصلت ببعضها حتى وهى تحمل فى أعماقها بذور شر مستطير ارتفع صوت الهاتف راسما ً على شاشته السوادء اسم أخيها باللون األزرق ،حدق بطة فى الشاشة لحظة وعيناه تسأالن مااألمر ،فتح الهاتف ،هانم زوجة محمود شقيق أم سعيد ،اتسعت عيناه لبعض دهشة طارئة وهو يقول :- من ؟انا هانم136
مرحبا ً محمود مريض ،وقعت له حادثة باألمسسأحضر بنفسى فوراًليس الى هذه الدرجة ،النريد ازعاجك ،يكفى أم سعيدبل انا قبلها ،سالمواغلق الهاتف ،سألته وقلبها يرجف من القلق:- ماذا تريد ؟أخوك مريض ،هيا لنذهب اليهمارتعدت خاليا روحها وفاض القلق من عينيها بحورا ً وهى ترى األمور تسير على غيرهواها ،تبحث عن حجج مقنعة لتفلت من عثرات حياتها اال أن العثرات تصر على مالحقتها. واتتهاخاطرة تمسكت بأذيالها فورا:- لكنك تقول أن عائلة رضوان ستمسك الجناة قريبا ً جداحدق فى وجهها مستفسرا ً:- أرى أن تبقى ،واذا رأيت األمر يستحق وجودك سأتصل بكصمت قليالً يتدبر األمر ،قال بحزم:- خذى سعيد معك ،السيارة التى ستقلك الى هناك ستنتظر أمامالباب بعد ساعة ،بمجرد وصلك طمنينى إن شاء هللاانبسطت أسارياها وكسا محياها ماء البهجة ،هرولت الى ابنتها صباح تهمس فى أذنها بما تريد :- اذهبى الى أبيك ،اطلبى منه مرافقتى الى الفيوم حاضرزاد تورد خديها وتألق عينيها وفردت صدرهاامام المرآة وهى تتأنق استعدادا ً للفرار. .......................... رأى سالمه نفسه طائرا ً فوق بحر ٍ من دماء ،تحمله حمامة عمالقة 137
بياضها لم ير له مثيالً من قبل ،حولها حمامات سود تحاول التحرش بها ،وهى تفلت من بين مناقيرهم مولية األدبار فى فضائها العريض الذى ينذر بليل تدق خطاه المدى ،مقتربة فى سير حثيث الى عينيها ،حيث التملك اال التحديق محاولة كسر حدة العتمة المتقدمة ،وفى ذات الوقت استمرار الطيران لعدم وجود مكان آمن فوق البحر تستريح فيه ،وهى كذلك التستطيع التوقف حتى التصطادها الحمامات المغيرات ،والتعب كما يبدو قد أخذ منها كل مأخذ ،وهو بين جناحيها صاعداً معها وهابطا ً ،وجسده يرتعد ، وعيناه زاغتان ،وهو فى كل خفقة ينتظر أن يهوى من حالق الى حيث القرار ،اقتربت الحمامات المغيرات ،وجوههن ليست غريبة عليه ،هى وجوه يعرفها ألناس يعيشون حوله ،يراهن رؤية العين مرارا ً ،لكن من هن ؟ اليدرى . شرعت كل منهن منقارها وهى تقترب أكثر ،تفرد جناحها أكثر ، تنثر شرر نظراتها فوق حدقتيه ،يزداد ارتعاداً ،يتشبث قدر استطاعته بطوق الحمامة وهن يقتربن ،ينتظراللحظة التى تنغرز المناقير فيها فى بؤبؤ عينيه وصدره ، ،لدهشته اليبالين به بل يوجهن جل حقدهن على الحمامة التى تحمله ،تعمل المناقير فى جسدها والليل يزحف ماردا ً أسود ناعم الملمس قوى الهيبة شديد االنحدار ،والحمامة تنزف ،دمها يختلط ببحر الدماء تحتها ، يصطدن عينيها ،ينتفن ريشها ،تهتز فى فضاها الوسيع ،تكافح السقوط ،تصر على التوغل فى المسير ،التعينها قوتها المستنزفة وعينيها المظلمتين فتهوى وهو معها ،يشعر بروحه وهى تهوى معه نفسا ً نفسا ً ونبضة نبضة وهى تشق الفضاء ساقطة من أعلى وهو اليملك اال اطالق صرخة بحجم الكون ..آآآآآآآآآآآآآآآآه والحمامة النازفة تهتز بقوة فى سقوطها وهو يهتز معها ،يهتز بقوة وهو مغمض العينين اليمتلك الجرأة على فتحهما ،لكنه على أثر ارتطام شىء حاد بجسده يفتح عينيه مرغما ً والعرق بحر يبتلع 138
أنفاسه ،يرى أمه أمامه مرتعدة النظرات تحدق به وهى تربت صدره وتمسح عرقه بفوطه فى يدها ،وهى تهمس بما تحفظ من آيات القرآن محوقلة وداعية له بأدعية اليفقه منها شيئا ً ،يدير عينيه حوله باحثا ً عن بحر الدماء والحمامة المنقذة والحمامات المغيرات ،الشىء اال أمه وحجرة نومه والعرق والخوف الجامح الذى يغشى صدره ،انداحت الدهشة رويدا ً فى األرجاء الى أن أدرك أنه على سريره ولم يسقط بعد. كابوس مريعألنك التذكر هللا قبل النوم.رأيت ! ..قبل أن تقص على مارأيت اتصل بمحمد بطه لترى مايريد منكلماذا ؟اتصل بك منذ قليل ،دخلت ألوقظك رأيتك غارقا ً فى كابوسك هذاأمسك الهاتف متبرما ً وقد خمن ماذا يريد ،مؤكد مشوار هنا أو هناك فمنذ أن ترك عمه السيد وعمل على التاكسى وال شغلة لبطه اال طلبه لمشاويره الخاصة ،صحيح هو يجزل له العطاء لكنه يطلبه فى أوقات مستحيلة مثل اآلن. فتح الخط معه هامسا ً :- صباح الخير يامعلمأهال ياسالمه ،عاوزك فى مشوار لحد الفيوم ،توصل أم سعيد،أخوها تعبان ،تطمن عليها هناك وتجيى تطمنى .أمامك نصف ساعة تجهز نفسك ماشى ياحاج.وقام الى الحمام مزمجرا ً ،مقلدا ً الصوت الهادىء الواثق الذى يأمر بنعومة كما لو كان يرجو ويتوسل ،وعلى سالمه أن يجيب ويقبل ويظهر الرضا ،ماله هو بأم سعيد وكل عائلة سعيد ،لتذهب هى وكل من يمت اليها بصلة الى الجحيم ..انتبهت أمه لتمتمته فتساءلت ماذا به ،اقتربت من الحمام المغلق وخاطبته من خلفه:- 139
كفاك حديثا ً الى نفسك يابن المجانينصرخ من الداخل :- الزم أقول حاضر وانا كلى رفض لما يقول ،والزم أظهر الرضاءوأنا أحترق من هذه المعاملة التى التليق بحيوان ،يريدنى تحت أمره فى أى وقت وأى مكان ،تعالى ياسالمه ،حاضر ،جهز نفسك ياسالمه ،حاضر انفرجت شفتاها عن بسمة رثاء وهى تهمس له:- لو أكملت تعليمك ألختلف األمرصرخ -:ليس هذا وقته ،ارجوك ،المشوار طويل بما يكفى للضيق والندم معا ً الى أين ؟الى الفيوم ،أم سعيد ستذهب ألخيها المريض ،أوصلها واطمئنعلى أخيها وأجىء للحاج. انتبهت آذان كريمه لما يقول ،اتسعت عيناها لبحار من كلمات وخواطر وأفكار جمة وتفسيرات عديدة كلها تصب فيما يجرى فى الشارع هذه األيام ،وكلها تعطى معنى واحداً الثانى له ،المرأة اللئيمة تريد الفرار ،تعرف أنها قد انكشف أمرها وأنها ستنال جزاء فعلتها فتتعلل بمرض أخيها لتلوذ بالفرار ،ومؤكد سيكون معها سعيد ابنها وابنتها وزوجها لكى تتم الحلقة وينتهى األمر الى فشل لرضوان وعائلة رضوان ،ويتندر الخلق بما فعلوا ومانالوا من الخزى ..هرولت الى الهاتف ،اتصلت بالسيد شقيق زوجها ،ابلغته الخبر ،قال باقتضاب اليليق بالخطر الداهم التى تشعر به -: سأتصرفوأغلق الخط .................
140
وقف الرجالن ينظران الى الباب المغلق والصمت الشائك يمد أنيابه فى بؤبؤ أعينهما ،يتقاربان الشعوريا ً باكتافهما كأنهما يستمدان العزم من وجودهما معا ً فى مهمة فرضت عليهما وهما لها كارهين ، وهل هناك أصعب من الوقوف بحضرة مريض له بالقلب مكانته ؟ وفى ذات الوقت له -أو كانت له -هيبته ووقاره وصوته الذى يجبر الكبير قبل الصغير على االنصات اليه ،البنك كله يعرف الحاج رضوان عبد العال ،كان يمكن للمدير اختيار غيرهما ،يجنبهما الحرج الذى يعصف بروحيهما اآلن عصفا ً ،فهما جيران العائلة ويعرفون الرجل معرفة وثيقة ،وفوق هذا فهما يتابعان حالته ويعرفان أن الطبيب المعالج له فى مستشفى الحسين قد أبلغ األسرة أن طبيبا المانيا ً متخصصا ً فى حالته سيزور المستشفى قريبا ً الجراء عدة عمليات بها ،وهو يرى عرضه عليه وطلب مشورته فى إجراء عمليه قد ينتج عنها تحسن كبير فى حالته ،صحيح المصاريف ستكون كبيرة نوعا ً ما ،لكنها فى النهاية صحة الرجل ، قالت اعتماد :- مالدى من مجوهرات وذهب أبيعّ تلتها كريمة بذات القول:- وانا ايضاقال السيد -:رضوان له حساب كبيرفى البنك تساءل جابر:- وهل يمكننا سحب جزء منه دون إرادته ؟قالت كريمه -:ولماذا دون إرادته ؟ انا أحادثه وآخذ الموافقة منه حدق السيد فى عينيها هامسا ً لنفسه أنها التعرف المستحيل ،ونقل عينه الى اعتماد ،تعتمدعلى اخالصها واثقة أنها قد تكون عنيفة اللفظ ،جهمة المالمح اال أن اخالصها يكفيها لتفوز بثقة من حولها دون تردد ،قال بهدوء -: ليس موافقته هو ،بل موافقة البنكردت كريمة -: 141
يمكننا االستعانة به
األستاذ حسان جارنا موظف هناكقال جابر -: أذهب اليه واستشيره كيف نسحب مانريد من حساب أبىومضى الى حسان فى بيته المجاور لبيتهم ،شرح له األمر ،طلب منه حسان زيارة البنك فى الغد ،وسوف يدبر له األمر. فى البنك رحب المدير بالطلب ،شرح لجابر اإلجراءات المتبعة فى مثل هذه الحالة ،راجيا ً منه اال يضيق بها فهى فى نهاية األمر روتين .قال -: والروتين كما تعرف هو حياتنا التى الغنى لنا عنها منذ قديماألزل ،قلنا مرارا ً تعالوا نحطم الروتين ،تعالوا نكسر الروتين ولم يتحطم سوى أعصابنا وعالقتنا باآلخرين . صمت قليالً ثم أكمل -: وبالنسبة لمثل حالة الحاج رضوان اذا كان العميل غير معروفللبنك وطلب أقاربه سحب مبالغ مودعة باسمه وهو مريض اليمتلك التوقيع أو الكالم ففى تلك الحالة تؤخذ بصمته ونتصل بوزارة الداخلية لمضاهاتها بالموجودة لديهم ،والتأكد أنها لنفس الشخص قبل الصرف واال نقوم بتحويل األمر الى النيابة للشك واالرتياب ،أما فى حالة الحاج رضوان فهو معروف للموظفين جميعا ً والحاجة لمثل هذه االجراءات وسوف يتم فقط التوجه اليه والسالم عليه كعملية روتينيه ال أكثر ،ثم الصرف فورا ً . حدد الطبيب المصاريف المطلوبة على وجه التقريب ،والموعد الذى سيتم فيه الكشف ،طالبا ً منهم احضاره الى المستشفى بعد غد صباحا ً ،مع ايداع المصروفات تحت حساب رضوان عبد العال بالحسابات بالمستشفى. جاء حسان وزميله مندوبان عن البنك ،رحب بهما جابر ،صعدوا جميعا ً الى شقة كريمه ،بدا األمر فى نظر حسان محرجا ً غاية اإلحراج ،فهو لم يعتد زيارة الحاج منذ فترة ويكتفى كلما قابل أحدا ً من العائلة أن يسأله عنه كنوع من المجاملة ال أكثر ،أما أن يأتى 142
لمهمة كان يجب أن تكون انسانية بالدرجة األولى وليس فرضا ًعليه وعليهم بحكم وظيفة فهذا مايشعره بحرج يمزق نظراته فال يمتلك معها المقدرة على النظر فى عينى أحدهم أو الرد على ترحيبهم به. قالت كريمة لرضوان أن هناك زواراً يسألون عنه ويريدون االطمئنان عليه ،أومىء بعينيه موافقا ً ،فتح جابر الباب ومد يده مرحبا ً:- تفضالالقيا السالم بحروف أجنحتها أضعف من أن تستقيم فى براح الحجرة ،تمنيا له الشفاء واستدارا عنه خارجين ،نظر أحدهما لآلخر وعيناه تبوحان بما لديه ..ماذا لو طلب منا المدير بصمته ؟ .................. فرت العربة بحملها الثقيل من شارع سوق السمك الى شارع بورسعيد ،وهناك طلبت أم سعيد من سالمه التوقف ،مدت يدها ببضعة جنيهات وبسمة رحبة وهى تقول له أنها ستمر على بعض األقارب هنا ثم تتصرف بالسفر الى أخيها ،اعترض قائالً أن الحاج محمد طلب منه مرافقتها الى الفيوم ،واالطمئنان بنفسه على أخيها ،اتسعت ابتسامتها وهى تقول له أن األمر غاية فى البساطة ، حينما تصل الى هناك ستتصل به هاتفيا وتبلغه بنفسها بالحالة ، وهو بالتالى يطمئن الحاج ،ونزلت من العربة ومعها سعيد وصباح وزوجها ،فيما انطلق سالمة عائداً من حيث جاء. لكنه بعد أمتار قليلة شم رائحة فى الموضوع لم تعجبه ،ورأى فى األمر شىء مريب اليكاد يعقله ،الحاج يطلب منه توصيلهم واالطمئنان بنفسه على المصاب ،وهى تؤكد للحاج أمامه أنها بمجرد وصولها ستطمئنه بنفسها ،ثم بمجرد الخروج لشارع بورسعيد وقبل أن يتقدم خطوة على الطريق تطلب مغادرة العربة بحجة زيارة أقارب ،زيارة أقارب وأخوها مصاب ؟! 143
وفوق هذا ال يبدو عليها أى انزعاج أو قلق ،أو حتى تذكر سيرته بأى حديث ؟ أخذ صدره يموج بهدير أمواج من شك وريب كبير ،دوامة عميقة الغور سحبته لقاعها ،هزت وجدانه هزا ً ودفعته إلدارة وجهه عائدا ً من جديد الى حيث تركهم ،وجد سعيد يصعد بعدهم الى عربة أجرة انطلقت بهم الى األمام ،مما زاد من مساحة القلق فى صدره ،فكر أن يبلغ الحاج بما جرى ،قال فى نفسه ربما تكون وجهتهم مختلفه عن الفيوم وحين يبلغ الحاج قد يلومه ألنه لم يقتف آثرهم ويعرف أين مضوا بالضبط ،سار خلفهم على مبعدة وهم يتقدمون فى طريقهم المرسوم ،انحرفت السيارة الى طريق األسكندرية الصحراوى ،ازداد األمر انغالقا ً على فكره وأصر على استمرار المتابعة ،دق الهاتف فى جيبه ،عمه السيد يسأله دون مقدمات -: أين أنت ؟ فى طريقى الى األسكندرية ،لماذا ؟ ال أدرى معك أم سعيد وأوالدها ؟ ال نهارك أسود كيف ؟ نزلوا من السيارة وتركونى وركبوا أخرى اال تعرف أين هم ؟ أمامى اتبع خطاهمالتتركهم يغيبون عن عينيك بأى وسيلة ،سأتصل بك ثانية وأغلق الخط ،بدأ اللغز يزداد تعقيدا ً ،والصورة تزداد قتامة ، وهو اليدرى ماالذى يربط السيد بأم سعيد والحاج محمد ،ولماذا يسأله عن وجهتهم ويؤكد عليه مراراً اال يغبوا عن عينيه ؟ 144
عند مدخل كفر الدوار انحدرت السيارة األولى يمينا أخذة الطريق الى داخل المركز ،خلفها على البعد سار سالمه بحيرته الجامحة وعينيه المتسعتين ومدى القلق على مايدور من حوله ،دون أن يدرك معناه ..انطلق الهاتف صاخبا ً من جديد ،قال السيد -: أين أنت ؟ دخلت كفر الدوار انا خلفك سأدخل اآلن دع الهاتف مفتوحا ً وصف لى الطريق سنصعد الكوبرى اآلنهناك بعض االصالحات مما يعوق الحركة هناك أمن أو بوليس أمامك ؟ ال تقدم واقطع الطريق عليهم بأقصى ماتستطيع لماذا ؟ الوقت ألسئلة اسرعانتهز فرصة تحرك العربات ببطء الى األمام تاركة الكوبرى الى داخل البلدة وانطلق الى حيث تقدم السيارة األولى وضرب الفرامل واقفا ً أمامها بالعرض ،فتح باب السيارة وانطلق اليهم وهو اليدرى ماذا يقول ،وماهو المطلوب منه بالضبط -: انتم فى خطر ،انزلواصرخت أم سعيد -: مااألمر ،هل ستمسكون بنا ؟أصفر وجه صباح -: كيف وصلت الينا ؟هل تتبعتنا ؟ وتحرك سعيد خارجا ً بهيكلة العريض مثل أبيه ،فاتحا ً مطواته هادرا ً فى قوة -: 145
ماذا تريد ياسالمه ؟يتبعه محمود زوج صباح مزمجرا ً ،متقدما من سالمه قاصدا ً لكمه واالنقضاض عليه ،تراجع سالمه متسع العينين غارقا ً فى متاهات الدهشة والقلق ،محاوالً ادراك مايجرى ،دون جدوى ،طرحه محمود أرضا ً ،وهو يلكمه بكل مايملك فى وجهه بكلتا يديه ، وسعيد راكع فوقه مباشرة ينتظر أى بادرة ليستعمل مطواته معه ، لحظتها انشقت األرض عن عمائم بيض حاصرت المكان فى حلقة كاملة ،انقضت على الجميع وحملتهم دون صوت ودون أن يملكوا أى فرصة لمقاومة ،ونقلتهم الى عربات معدة للتحفظ عليهم ،طلب السيد من سالمه العودة الى القاهرة وعدم الظهور أو االتصال بمحمد بطه ألى سبب ،ومضى عنه وهو مايزال يتساءل حائراً -: مااألمر ؟...................... اطلقت العربة البيضاء سرينتها المعروفة فتأججت النيران فى قلب اللحظات ،السكون الناعس فى األرجاء تحول الى شعلة من لهيب ، والترقب الصامت الذى كانت تبذره العيون حولها تحول الى تحفز ، والصمت الى نهر من حروف ،اطلق السيد تعليماته لجابر بالهبوط فورا ً لمصاحبة الرجال الى أعلى ،عاد الى كريمة ملحا ً فى النظر الى رضوان وماقد يكون محتاجا ً اليه ولم تفعله بعد ،صارخا ً فى سالمة أن يخلى الطريق من الحجرة وعبر السلم الى الشارع تماما لتتم عملية النقل بسهولة ودون معوقات ،وعاد الى رضوان محدقا ً فى عينيه الملتهبتين بنيران أمل التهدأ هامسا ً فى جد :- سترى اآلن حينما تهبط الى الشارع منظراً سيمأل قلبك ارتياحا ًوسالما ً ،الجناة الذين ارتكبوا فعلتهم فى الظالم سنعاقبهم فى النور وعلى مرأى ومشهد من الكون ،ومن يعترض أو ينطق بكلمة جوفاء سنعرف جيدا ً كيف نرد عليه ،األربعة الذين تزعموا ماجرى وضعناهم فى أقفاص حديدية معلقة امام البيت ،أم سعيد وابنها وابنتها وزوج ابنتها معلقين كما ،وأصحاب سعيد ابنها الذين 146
ساعدوهم ،قبضنا عليهم وقيدناهم بالحديد أمام بيت شتا ،ولن يكون ألحد رأى فى شىء اال أنت ،انزل اآلن وسترى مايثلج قلبك ارتعدت الجفون بقوة ولمعت األحداق وبدا على صفحتها سعير يتميز بالغيظ ،وألول مرة منذ جرى ماجرى تنطلق دمعة صغيرة بللورية الحدود عفية الجسد من خلف األجفان ،تنطلق رغم محاولته السيطرة عليها ومنعها من مغادرة حدقتيه ،ورفضه أن يرى مخلوق مهما كان دمعه تنم عما به. هبت اعتماد من جلستها واقفة الهية عن االم ساقيها حينما رأت الرجال يدورون حولها ،كل فى شغله ،يأخذه الجد تماما ً وهى مكانها التمتلك اال التحديق فى عينى رضوان وبين الحين والحين تدعو هللا أن يمن عليه بالشفاء ويعود لما كان .أما كريمه فقد كانت تتحرك بهدوء واثق ،وعيناها فى كل حين تلتقيان للحظة خاطفة بعينى السيد ،تتشاوران بنظرة وتبتعدان ،وهى تدعو فى نفسها أن يسير األمر كما يريدون ،المفاجأة ستكون مدوية تشد القلوب قبل األعين ،ستهز أهل المنطقة جميعا ً ،وتشعل نيراًنا لن يهدأ لها إوار ، فالمواجهة ستكون مع محمد بطه ،وماادراك مامحمد بطه ،المهم أن يرى رضوان مايثلج صدره ،يعرف ويوقن أن المجرمين قد انكشف أمرهم ،وأن العقاب سيالحقهم مهما حاولوا الفرار منه ، بعدها يصحبه جابر وسالمه الى المستشفى ،ويتفرغ السيد وبقية األقارب للمواجهة المرتقبة مع محمد بطه ،مؤكد سيجد نفسه فى موقف لم يره طيله عمره ،رغم اعترافه بمدى الجرم الذى حدث سيرفض العقاب ،مهما كان تعاطفه مع رضوان وتأثره بما جرى له ،وادانته للجناة مقسما ً أن ينتقم منهم بيديه مهما كانوا ستأبى نفسه الصمت وهو يرى ماينتقص من هيبته وقدره بين الخلق ، األمراآلن سيختلف ،سيكون من المحال عليه أن يحنى رأسه متغاضيا ً عمن ينتقم من امرأته وولديه صباح وسعيد ،مؤكد سيحسب حساب هيبته ووضعه فى المنطقة ،وسيضع فى اعتباره تاريخه الطويل فى الشقاوة واالجرام ،وسيشعلها نارا ً أليام إن لم 147
يكن لسنين قادمة .كان السيد مع جابر وسالمه يشرفون على اإلجراءات التى ستتم فورا ً ،يتابعون الرجال وهم حاملين النقالة صاعدين الى حيث يرقد رضوان الذى وشت عيناه بما يحدوه من أمل فى غد أقل الما ً مما فات ،مالبسه نظيفة وذقنه حليق وجسده يتململ أمال ً أن تبدأ االجراءات فوراً ليطير الى هناك ،قاد جابر الرجال الى الداخل ،وضعوا النقالة بجوار السرير ،أحاطت بهم األعين الراصدة محاولة تالفى أى خطأ قد يحدث ،أو إبعاد أى أذى قد يحيق بالمريض ،رفعوا الجسد على مهل من كتفيه ووسطه وقدميه فى حرص وهم يتخوفون من العمائم المرفوعة واألعين السوداء المتربصة واأللسنة ذات األسواط الملساء ،رفعوا النقالة خارجين من الحجرة ،انهمرت دموع كريمة صاخبة وقلبها يرجف أسى وهى تراه محموالً اليمتلك من أمره شيئا ً ،طافت بها رؤى شتى له وهو يدخل عليها سامق الهامة مالئا الكون حوله ،حامالً اليها األمن والراحة والخوف ايضا ،ثم وهو يخرج اآلن محموالً على أعناق رجال يضمرون له الشفقة والرثاء الالهيبة ،مسحت دمعتها فوراً وانطلقت الى النافذة ترقب ماسوف يكون ،وقف الموكب على الباب ،تقدمت العربة ليكون بابها فى محاذاة النقاله تماما ً ،أخرج الرجال المتحلقون حول العربة البنادق اآللية واطلقوا فى الجو سيوالً منهمرة الى أعلى ،رصاص غضبهم ووعيدهم فى إشارة الى استعدادهم لما سيكون ،من النوافذ المطلة على الطريق والشرفات انطلقت األعين محدقة واألعين منصتة وأقبل الخلق أفواجا ً على المكان ،األقفاص الحديدية تحمل أثقالها معلقة فى الهواء ،األوالد أصحاب سيعا ً مقيدين بالسالسل أمام بيت شتا ورضوان على النقالة يقف به الرجال لعله يرى وتعود الى صدره أحاسيس رضا غابت عنه طويالً ،أقبل بطه على صوت الرصاص مهنئا ً -:تلقاه السيد قبل دخوله الى الشارع والجناة المعلقين فى أقفاصهم:- بصفتك صديق رضوان ،وكبيرا ً فى المنطقة نريدك قاضيا ً يحكم148
بالحق قبضتم عليهم ؟الحقناهم وهم يفرون حتى قبضنا عليهم داخل كفر الدوار.العين بالعين والسن بالسنحتى لوكانوا من المنطقة ؟حتى لوكان سعيد ابنىليس سعيد وحدههو وأصحابه !!ليسوا وحدهمسعيد فى الفيوم عند خالهخاله ليس جريحا ً كما قيل ،بل كانت خطة للفرارماذا تقول ؟امرأتك وولديك نزلوا من سيارة سالمه فى شارع بورسعيد حتىاليدل عليهم واستقلوا سيارة أخرى اتجهت بهم للفرار الى كفر الدوار وليس الفيوم. أى جنون هذا ؟تلك هى الحقيقة واعترافهم كامال ً بالصوت والصورة.انطلق بطه متحسسا ً مسدسه الى حيث رأى الخلق مجتمين ،رافعى رؤسهم يتملون فى األقفاص الراسخة بأثقالها فى الهواء ،وكلماتهم حروفها تتطاير وتتخبط وتدور بالمقر وال اتجاه .شق صدره غضب هادر وهو يدير عينيه فى قاع األقفاص دون أن يرى وجوها ً أو يسمع أصوات. سيدانطلقت عشرات الطلقات الى قلب السماء متوثبة الى مواجهة قادمة المحالة ،قال وشرر النظرات يتطاير متأججا ً فى المدى :- من فى هذه األقفاص بالضبط ؟صاح السيد فى أحدهم -:انزل القفص األول رأى بطه زوجته أم سعيد كما لم يرها من قبل منكسرة النظرات 149
والقلب والروح ،لطم خديه -:وأنت معهم ؟!! واستدار الى العمائم المتحفزة ساخطا ً ،انتبه الى صدور صوت عال تردد صداه فى األنحاء جميعا ً ،صوت يعرفه جيدا ً ويحفظ رنينه ونبراته فى حدته وفى عنفوانه وفى تلطفه ،صوت طالما تردد فى مسامعه وطالما جاوبت جدران بيته صداه وهو ينطلق فى فضاء المكان معترفا ً بما جناه من ذنب فى حق رضوان ..مد بصره وجسده تمضغه أنياب الدهشة وهو يحاول ادراك مايجرى حوله الى مصدر الصوت ،رأى شاشة عريضة معلقة على الجدار الخالى بجوار وكالة كامل ووجه امرأته يمألها سابحا ً فى خزيه وهو اليمتلك المقدرة على التحديق فى وجه محدثها ،وتحكى بالتفصيل ماجرى منها منذ بداية غضبها الهانة ولدها على يد رضوان ثم تفكير سيعا فى االنتقام منه وتخطيطها لما جرى ثم تنفيذه بواسطة ابنها واخته وزوج اخته محمود وأصحاب ولدها ايضا ً. انصت بطه بعيون تتأجج نارها وصدره ينتفض محدقا ً فى وجه المرأة الحائل لونه إلصفرار مقيت:- رميتنى بالخزى والعارياسعاد .أشار السيد فعاد القفص يرتفع من جديد ،وهبط قفص آخر ،رآه بطه فرمى صاحبه ببصقة هائلة مألت وجهه وهو يصرخ فيه :- عرفت نهاية الضياع يابن سعاد ؟................. هاأنت ذا ياجابر تقف فى المستشفى حيث يجب أن يتوجه الخلق باحثين عن عالج ،ليس عالج للبدن فقط ،وال عالج للعقل ،لكن عالج اعوجاج التفكير ،عالج اإلندفاع والرعونة وعدم التقدير ، منذ متى وأنت تدور فى متاهة اندفاعك وإصرارك على السير فى ذات الطريق ،وبذات الخطوات دون امتالك المقدرة على التغيير أو حتى التفكير فى التغيير ؟
150
منذ نشأت وأنت هكذا تفعل ماتشاء فى لحظة مروره على خاطرك وبعدها تتساءل كيف فعلته ،ولماذا لم أفكر قبل الفعل ،أو حتى أتدبر ماذا أريد . هل نسيت خسارتك لسعدية نتيجة رعونتك واندفاعك وتطاولك عليها بالطريق ،مما جعلها تتحاشى االقتراب منك ،وتبتعد بروحها وقلبها عنك خوفا ً من تقلبك ،وماقد تجره عليها من مشاكل ، وذهبت لغيرك ،هى التى كنت تراها ملكا ً خالصا ً لك . وسامية ابنة خالتك التى اقتربت بروحك منها وبدأت تالحقها بكلماتك المسننة الصلدة الحروف وايضا فرت منك . تذكر ياجابر وأنت هنا مامضى وحذار اال تنتبه له أو تتناسى معناه ، المستشفى مكان للعالج ،عالج بدن ،وعالج نفس ،لكن عالج الروح واألفكار هذا يحتاج منك أن تقف أمام نفسك فاحصا ً ومدققا ً ومتسائال ً فى ذات الوقت ماالخطأ فيما كان ؟ كن الطبيب والمريض ايضا ،فاالنسان طبيب نفسه ،هو القادر على الغوص فى أعماقها والبحث فى أغوارها واستخراج مايساعده على الخالص من مرضه مهما تعاظم . عد بذاكرتك قليالً الى خان أبو طاقية واندفاعك الى هناك وحدك وتعرضك لشعراوى وسعد ،وحصار الناس لك ،وانكسار روحك لحظتها واحساسك العميق باالنهيار الداخلى السحيق وقد أحيط بك ولم يعد أمامك اال لحيظة صغيرة وتنال منك العصى والمدى واأليدى المتوثبة للعنف ،لوال أن دافعت عنك امرأة وأمرتهم بالكف عنك ، ورغم هذا لم تتعلم ،لم تنتبه لخطأ كان يجب اال يغيب عن عينيك وايضا اندفعت الى بيت كامل وحدك ،اندفعت كأنك تمتلك الكون وقهرتك امرأة كامل ،اال تذكر ياجابر ؟ اآلن تقف فى المستشفى ،أمام حجرة بيضاء فى صالة بيضاء تحدق فى زجاج الباب المغبش الذى اليكشف ماخلفه ،راجيا ً أن يبزغ نور أمل جديد يشرق فى األفاق ،تغوص فى خالياه وتعاريجه سابحا ً ً فى بحار أفكارك ،مطاوعا ً تالطم خواطرك ،تستمع لما جرى بعد مروق 151
سيارة االسعاف حاملة أبيك الى حيث يرقد اآلن منتظرا ً مولده من جديد ،تستمع الى ماكان كأنك ترى ،وترى كأنك قد حضرت ماكان ،فأسرتكم الكبيرة المشتتة األفكار المتباعدة األجساد المتغاضبة العقول ،التى ترمى لبعضها سالم بارد عبر الهاتف فى األعياد والمواسم عادت للتجمع عند أول نداء ،عادت لحظة أن شعرت القلوب والعقول أن الخطر جد قريب ،وأنهم إن لم يقفوا مع رضوان فلن يكون لهم مقام بعد اليوم ،تجمعت األفئدة قبل األيدى ،واأليدى قبل الكلمات ،وارتفع بيت رضوان بعد الخزى سامقا ً وسط المنطقة يناطح السحاب من جديد ..كل هذا وأنت بعيد ،ثأرك أخذه غيرك بعد فشلك مرة واثنتين ،ثأرك تواله من استطاع أن يجعله سيرة تروى وحديث يحفظ على مدى الدهر ،أما أنت فسوف تكون سيرتك سيرة الفشل الذى اليغيب ،كل هذا وأنت بعيد ،تكتفى بمرافقة أبيك فى محنة التعرف هل هى محنتك أنت أم محنته هو ،الثأر ثأرك ورغم هذا لم تكن فاعالً ،ولم تكن مشاركا ً حتى ،واكتفيت مثلك مثل أمك اعتماد واختك رضا بالسماع ،بعيدا ً عن الثأر وأهله ومنفذيه ، التملك اال االنصات والتحديق بعينيك الكبيرتى األحداق بال معنى ، فمتى تبدأ التغيير ؟ متى تتكلم ياجابر وتستمع لك اآلذان ،متى تنفض عنك ركام الفشل ، تحطم التخاذل وتمضى خارجا من شرنقة االنكسار ، وترفع رأسك فى ثبات ؟ هذه فرصتك ياجابر فرصتك وأنت هنا لتعالج ماكان . تنظر تدقق تتساءل تقرر وتبدأ التغيير تستطيع أن تفعل هذا 152
فقط عليك أن تبدأ لحظتها سوف يستمع اآلخرون اليك ،يرون فيك الوريث القادر على الحفاظ على ميراث األجداد ،خاصة جنة رضوان . نعم ياجابر جنة رضوان التى عليك أن تعيد تشييدها بعزم يديك ونفاذ بصيرتك من جديد تذكر هذا ياجابر ،وتذكر ايضا أنها يجب أن تعود كما كانت من قبل !! جنة رضوان
153