أدب فن المراسل:ت:
مـي زيـادة. سيدة القلم العربي و معشوقة الدباء . ) أدب فن المراسل ت ،رسائل الحب والدب ،قصة حب لم تكتمل ،قصة حزينة ونهاية مأساوية ،صالونها الثقافي الدبي ،جبران خليل جبران ،الديبة الريبة ،أديبة عصرها (.
/محمد ربيع الشلوي .تقديم
) خريف 2014م(.
تقديم الكتاب
حــاولت ان أثيــر فن ـاً مــن فنــون الدب العربـي ،وهـو فــن جديــد ؛ أل وهـو )أدب المراســل:ت ( ،
وكان لجــبران ومجلــوبته ،النســة مــي زيادة يرجع الفضــل فــي وضع أصــوله وفنونة ،فــآثر:ت أن ل يمــر علــي مــر الكرام دون أ:ت اتعرض له ،فقد كلفت بتلك الرسائل أشد الكلف ،واثار:ت إعجابي بشدة . بيد اني لم اتعرض لعرض او معالجة ) قصة حياة أديب او اديبــة ( ،كموضوع قصصــي ،أو عــرض
لقصـ ٍة عاطفيــة ،أو ســرد لوقـائع واحــداث ،او مجــرد حاكايــا:ت أو أحدوثة تــذكر ،وتلقــى علــى مســامع القـراء ، وترنى على مرآهم فحسب. بــل أرد:ت تســجيل و تــدوين ،و إماطــة اللثــام عــن ضــرب جديــد مــن ضــروب الدب ؛ يســمى ادب المراسل:ت ،جسدته رسائل الحبيبين العاشقين ،وهما قطبي هذا الفن الماثــل ،ســواءاً الديــب الشــاعر جــبران
خليــل جــبران ،وهـو فــي مهجــره فــي امريكــا ،وهـو يراســل ويـبرق لحــبيبته ،النســة )مــي زي ادة( ،ليســطر اجمــل
واعذب الرسائل والكلما:ت ،في بضٍع من الرسائل الخيالية ،الـتي تحـوي أدبـاً ،وعلمـاً ،ورقيـاً فكرياً ،وعاطفـة سامية ،ولخلق نبيلة . ولست أدري ما الذي دفعني نحـو كتابــة وجمـع ،رسائله ،بعــد بحـث مضــن ،وغن كـانت اغلـب الرسـائل قــد فقــد:ت ،وتعــرض بعضــها الخــر للضــياع ،فمــا بقــي إل النــذر القليــل ،الــذي اعرضـه بيــن أيــديكم
فحســب ،وأغلــب ظنــي اننــي قــد دفعــت إليهــا دفع ـاً ،ل لشــيٍئ إل لمــا وجـدته فيهــا مــن حلــو الدب ،وقـوة
السلوب ،والعاطفة الجياشة ،والذوق الرفيع .
كما وجد:ت فيها لذ ًة ومتعة أخاذة للقــارئ المهتــم والمعنــي بـالدب ،البــاحث فـي تـراث المكتبـة
العربية ،فهي ليست بالرسائل الغرامية الجوفاء ،او العاطفيــة البهمــاء ،فاالقــارئ المتامــل المتمعــن بدقــة وروية ، يجد انها رسائل فكرية مستنيرة ،هي أقرب إلى إثارة الذهن ،وقدح زتاد الفكر ،منها إلى العاطفة والحب . ومهمــا يكــن مــن شــيئ ،فســتبقى هــذه الرس ائل تراث ـاً أدبي ـاً وافــراً ،بجســد مرحلــة مــن اهــم مراحــل الدب العرب ي
المعاصر ،وغني لخلع عليه لفظة ؛ )العصر الــذهبي( ،تلــك لمرحلـة الــتي شــاء القــدر أن يجمـع فيهــا قــدر وافــر من أدباء العصر ،أرجالً كانوا أو نساءاً ،جاد بهـم الزمان ،وكانهمجيئوا علـى قـدٍر ،وسيقوا علـى مهـٍل ،هـم
الذين خلفوا تراثاً خالداً من الدب .
و اخيــرًا ..وللمانــة العلميــة ،قــد جمعــت شــتا:ت هــذا الكتــاب ،مــن العديــد مــن الســاتذة الــذين عنـوا
بـالدب ،فجمعــت المعلوما:ت عـن بطلــي الرسائل _ إن صـح التعــبير _ وهمــا غنيـان عــن البيـان ـ ولكــن كتقدمــة للرسائل ،قبل السهاب في عرضها على حضراتكم .
أرد:ت عرض هذه الرسائل على صفحا:ت الفيس بوك ،لتعم الفائدة ،ولما وجدته مــن كــم وافــر بــثري المنطــق واللغــة لــدى طــالبي تعلــم اللغــة ،وكذلك لمــا لقيتــه فــي هــذه الرسائل مــن أدب ،وتقوية للســلوب الركيك ،الذي أصيبت به مثقفي ومتعلمي المة ،بعد ان تجاهلوا اللغة والدب . وال من وراء القصد ،،،
الكاتب محمد ربيع الشلوي
مي زيادة ..من تكون؟! مي زيادة ..ليلى عصرها. هي أديبة وشاعرة متميزة ومثقفة ،وصاحبة مكانة متميزة في الوساط الدبيـة والثقافيـة مـي بيـن الدبــاء والصــحافيين بثقافتهــا الواســعة وتألقهــا الدبــي والفكــري ،وصالونها الدبــي الــذي كــان يزخر بالعديــد مــن
الدباء والمفكرين الذين يتبارون في عرض إنتــاجهم الدبــي والثقــافي ممــا كــان لــه تــأثير كــبير فــي تنشــيط الحركة الدبيــة فــي ذلــك الــوقت اشــتهر:ت مــي زيـادة بثقافتهــا الواســعة والــتي كــانت تعمــل دائم ـاً علــى زيادتهــا بــالقراءة
والدراسة وأطلعت على العديد من الكتب سواء العربية أو الغريبة ساعدها في ذلك إلمامها بالعديــد مــن اللغــا:ت، تعرفت مــي علـى العديــد مـن الشخصـيا:ت سـواء مـن الكتـاب أو الصـحفيين وعرفت كأديبـة وباحثــة وناقــدة ،كمـا كانت لديها قدرة رائعة على الخطابة. ب العذري بين مي زيادة وجبران خليل جبران . الح ّ إذا كان يحق لتراثنا العربي أن يفخر بأنه أنجب شعراً يتناول قصص الحــب العــذري ) قيــس وليلــى ،و جميل بثينة ،وقيس ولبنى ( ،فإننا اليوم نعايش امتداد هذه الظــاهرة فــي أدبنــا الحــديث بفضــل الحـب الســماوي الــذي بزغ ت أنــواره بيــن قلــبي الديــبين مــي زيادة وج بران خليــل جــبران ،رغم أنهمــا لــم يلتقيــا أبــدًا ،فقــد كــانت
الرسائل المتبادلة بين القاهرة حيث تقيم )مي( ونيويورك حيث يقيم )جبران( هي وثيقة هذا الحب الفريد.
ولكــن مــع الســف ضــاعت معظــم رس ائل المـرأة فــي الثلثينيــا:ت وبقيــت رسائل الرجل )كمــا ذاعــت فــي الســتينيا:ت رسـائل غــادة الســمان وبقيــت رسـائل غســان كنفــاني رغـم أن )جــبران( كــان يعيــش فــي أمريكــا ،حيــث تتــم العنايــة بكــل مــا يــتركه الديــب ،وفعلً هــذا مــا حصــل إثــر وفاة جــبران ،إذ حــافظت ســكرتيرته
وأخته على أعماله الدبية والفنية وأشيائه!! ...هنا لبد أن نتساءل :هل المرأة أكثر حرصاً على رسائل حبها مــن
الرجل؟ أم أن ميراث جبران قد تعرض لعملية سطو إثر وفاته ،كي ل نظلم الرجل؟
نعتقــد أن التســاؤل الول يخفــي تعصــباً نســوياً يهــاجم وفـاء الرج ل ،لــذلك نميــل إلــى التســاؤل
الثاني ،فقد ذكر ميخائيل نعيمة في كتابه عن حياة جبران أنه رأى تلك الرسائل لديه ،لهذا من الرجح أن تكــون تلــك الرسائل قــد ســرقت مــن قبــل امـرأة لبنانيــة أراد:ت أن تكــون حبيبــة جــبران الوحيــدة .مهمــا تكــن الجابــة فــإن النتيجة واحدة ،وهي غياب صو:ت المرأة في هذا الحب! كمــا غــاب صـوتها فـي الحـب العــذري الــذي خلّـده لنـا
الشعراء! وقد آلمني أن يضيع صو:ت المرأة في هذا العصر كمــا ضــاع فــي الماضــي ،فحــاولت نســج خيــوط هــذه العلقــة فــي "روايــة الحــب الســماوي بيــن مــي زيادة وج بران خليــل جــبران" ،لعلــي أقـّد مـ معانــاة المـرأة عــبر تخيــل
صوتها والقتراب من تجربة حب فريد تعيشه المرأة معاناة يومية منذ تفتحها وحتى موتها!.. مي ..رائدة عصرها في الدب.
لم تكن مي امرأة عادية ،فقد امتزجت في ملمح شخصيتها الريادة الدبية بالريادة الجتماعيــة فــي بداية القرن العشرين ،لهذا كانت أولى خطواتها في هذا المجال هي القبــال علـى التعليـم والتفـرغ للكتابـة ،وقد
دفعهــا حبهــا للغــة العربيــة أن تفتــح بيتهــا ،بتشــجيع مــن والــديها ،لرج ال الدب ،فكــانت تحــاورهم وتســتمع إلــى إبداعاتهم في صالونها الــذي كـانت تعقـده كـل يـوم ثلثـاء ،ممـا أثـر إيجابيـاً علـى عملهـا الصـحفي والدبــي ،فقـد
عملت مع أبيهــا فــي صـحيفته "المحروسة" الـتي افتتحهـا فـي القــاهرة ،كـل ذلــك فـي زمن لــم تكــن المـرأة العربيــة
تجرؤ على الخروج من المنزل وحدها. حاز:ت قصبة السبق ...وحطمت قيود وأغلل عصرها. لم تحاول مي الخروج من الغلل الخارجية التي تقيد المرأة فقط ،بل وجدناها تحــاول الخــروج مــن أغلل الذا:ت ،فكانت رائدة في محاولة التعبير عن أعماقهــا عــبر الدب ) الرسائل ،المقالــة ،الخــاطرة الوجدانيــة التي وجدناها في كتبها( أي عـبر أجنــاس أدبيــة تظهـر صـو:ت )النــا( صـريحاً واضـحًا ،وبذلك اسـتطعنا أن نعــايش
أعماقها بكــل مـا يعتلـج فيهــا مـن عواطـف وأحلم وص راعا:ت ،إذ مـن المعـروف أن الكاتبـة العربيـة لـم تجـرؤ علـى
الخوض في هذا المجال إل بعد )مي( بأكثر من خمسين سنة ،وهي ،غالبـًا ،حيــن تريد أن تعــبر عــن ذاتهــا تتخــذ
قناع الشخصية الروائية .
بداية العلقة فكرية أدبية ..تطور:ت إلى حب عذري. هنا يجدر بنا أن نوضح أن )مي( لم تكن في بداية علقتها بجبران امرأة منطلقة فــي التعــبير عــن ذاتهــا ،فقــد اكتفــت فــي البدايــة بالعلقــة الفكرية ،بــل دعــت جــبران لللــتزام بحــدودها ،فاتســمت لغتهــا بالحــذر، وتحصــنت باللهجــة الرسمية فــي الخطــاب ،فــأخفت مشــاعرها بــألف قنــاع ،حــتى وجدنا جــبران يتســاءل مســتغرباً شــدة ترددهــا وحذرها" :أهــو الخجــل أم الكبري اء أم الصــطلحا:ت الجتماعيــة" .لعلــه كــان يقارنهــا بــالمرأة الــتي التقى بها في الغرب ،والتي تتمتع بحرية التعبير عن أعماقها! دون أن يغفل عن خصوصية المرأة الشرقية وضـغط القيود الجتماعية عليها ،مما تضطرها إلى الحتماء بالخجل تارة وبالكبرياء تارة أخرى!..
مي ..وأدب المراسلة.. مـن المؤكد أن )مــي( فـي البدايـة ســعت إلــى توظيـف المراسـلة بينهــا وبيـن أديـب مشـهور ،كـي تجعلهـا ل فــي تطويره ا الفكــري والدبــي ،ولـم تتوقـع أن تقــع أســيرة كلمــاته ،لكنهــا حيــن أحســت أنهــا بــدأ:ت تحــرك عــام ً عواطفها وتمّتع ذائقتها الفنية معًا ،بدأ:ت بالتهرب منها!.
هنــا ل نســتطيع أن نفصــل بيــن مــي النســانة والديبــة ،فقــد عشــقت مــي الديبــة كلمــاته ربمــا قبــل المراســلة ،وازداد:ت عشــق اً لهــا بعــدها ،فــانقلب العشــق الفنــي إلــى عاطفــة متأججــة يأباهــا عقلهــا ،لهــذا مل الــتردد
ذاتهــا ،وشـاعت لــديها الص ـرامة فــي محاســبة الــذا:ت ومحاســبة الطــرف الخــر )المرسـل( علــى كــل كلمــة ،لهــذا
وصفها جـبران فـي إحــدى الرسائل ب ـ )الموسوسة( الـتي ل تعــرف سـوى الــتردد ،مــن هنــا لــن نســتغرب تكـرار هــذه
الفكــار والمواقــف الــتي نستشــفها مــن رسـائل جــبران ،فهــي محبــة يعجبهــا الســتمرار مــع جــبران فــي مثــل هــذه المغامرة ،لكن سرعان ما يؤرقها صو:ت العقل الذي يــذكرها بــالواقع الجتمــاعي الـذي يعلــي قيمـة الســرة والــزواج في حياة المرأة ،ولم يعتد مثل هذه علقا:ت الصداقة والحب بين المرأة والرجل دون رابــط شــرعي! كمــا يــذكرها صو:ت العقل بوقع الزمن الذي ل يرحم المرأة ،فكانت تنقطع عــن مراســلته أشــهراً طويلــة ،ثــم تعــود ،ومع عودتهــا كانت تضطر لمعاودة الحوار مع ذاتها لقناعها بضرورة علقتها مع جــبران ،وقد كــانت تعيــش صـراعاً دائمـاً مــع
ذاتهــا ،فتتكــرر محاســبتها لهــا ،لهــذا كــانت تتكــرر أســئلة جــبران مســتفهماً أســباب النقطــاع ،فكــانت تــدافع عــن
وجهة نظرها بترداد حججها نفسها ،التي تزداد مع اليام وجاهة وإقناعـًا! إذ تنطلـق باســم العقــل الــذي ل ينفصــل
عن المشاعر كما يعتقد الكثيرون!!
كما نجدها تنطق باسم المجتمع حيث كانت أمها أحد الصوا:ت القوية التي تـردد علــى مســامعها أن الزمن ل يرحم وأن الستقرار ضروري للمرأة! لهذا كله انتظر:ت حوالي اثنتي عشرة سنة لتصرح بعواطفها كتابة لجبران ،ولتبين له أن الــورق هــو الذي منحها الجرأة ،وأنه لو كـان يشــاركها العيــش فـي بلـدها لمــا جــرؤ:ت علـى ذلــك! لكــن يبـدو أن التصـريح لــم يجلب لهــا الراحــة المتواخــاة ،أو المـل بعــرض للــزواج يأتيهــا مــن جــبران! لـذلك تعـود إلــى ترددهــا وتهربهــا خاصـة بعد أن غزا الشيب مفرقها!.. لكــن عاطفتهــا القويــة تلــح عليهــا بالكتابــة ،يضــاف إلــى تلــك العاطفــة حــس إنســاني مرهـف بــآلم الخرين ،لهذا كان قلقها على صحة جبران من أسباب عودتها للكتابة إليه أحيانًا!.. لعــل هــذا الــتردد فــي قبـول مثــل هــذه العلقــة الســتثنائية أحــال حياتهــا إلــى مأســاة ،فعاشــت القلــق والمعاناة في علقة كان عزاؤهـا فيهــا هــو الخيـال والرحلــة عـبر الكلمــة إلــى عـوالم مدهشــة ،تنــأى بهــا عـن الواقـع واحتياجاته الطبيعية. لــم تســتطع )مــي( الركون إلــى هــذه العلقــة ســوى لحظــا:ت تحلــق بهــا بعيــدًا ،ثــم ترتطــم بــالرض،
فالمرأة المثقفة والديبة كانت تبحث عن علقة طبيعية ،تعيش فيها عواطفها وأمومتها! وفي الــوقت نفســه تحلــق روحها فيها بعيداً عن المألوف في علقة أقرب إلى الستثناء!..
أعتقــد أن روعـة شخصــية )مــي( تجلــت فــي كونهــا أنهــت ص ـراعها الــداخلي حيــن تأكــد:ت فــي النهايــة مــن مــرض جــبران ،فبــد:ت لنــا امـرأة عاشــقة وأمـاً حانيــة ،تســعى للوقوف إلــى جــانب جــبران فــي محنتــه!...
فتحيطه بعواطف الحب والمومة معًا!!..
إن المتأمل في قصة الحب هذه ،لبد أن تدهشه قدرة المرأة على الحــب والعطــاء ،فقــد منحــت رجلً لــم تــره أبــداً كــل حياتهــا ،حــتى أصــبح هــذا الحــب مأســاتها وعزاءهــا مع ـًا! فقــد أحبــت جــبران عــبر كلمـ ــاته ،وأخلصـ ــت لـ ــه ،حـ ــتى إنهـ ــا عاشـ ــت تسـ ــتمد القـ ــوة منهـ ــا سـ ــواء فـ ــي حيـ ــاة جـ ــبران أم بعـ ــد وف ــاته!..
مي ..صاحبة الصالون الدبي..الكثر شهرًة في عصرها . للوهلة الولى تبدو لنا )مي( امرأة تعيش حياة منطلقة بالقياس إلى نساء عصــرها الشــرقيا:ت ،إذ اســتطاعت أن تجمــع فــي صــالونها أبــرز أدبــاء عصــرها )طــه حســين ،العقــاد ،الرافعــي ،(...وذلــك بفضــل ســماتها الشخصــية )الثقافــة واللباقــة والــروح المرح ة والخل ص والصــدق( ممــا يــدفعني إلــى العتقــاد بأنهــا أســهمت فــي تطوير الحركة الثقافية في تلك الفترة ،خاصة أنها خلقت جــواً تنافسـياً بيــن الدبــاء ،فكــل واحــد منهــم كـان معنيـاً بكسب ودها ،بل عاطفتهـا! لكنهـا رغم ذلــك ظلـت امـرأة شـرقية متحفظـة فـي علقتهـا مـع الرجل ،إلــى درجة أن العقــاد قــال لهــا يوم ًا :أنــت تعيشــين كراهبــة فــي صــومعة! فهــي مــن الناحيــة الشــعورية ظلــت أمينــة لعــادا:ت الشــرق
وتقاليده ،لهذا استطاعت أن تنال احترام مجتمعها رغم اختلطهـا بالرجال هـذا مـن جهــة ،ومن جهــة أخــرى كـان
ذلك خير دليل على إخلصها لجبران!!.. لقد تجاوز:ت مي المألوف حين وجد:ت في كلما:ت الحب ملذاً عاطفياً لها ،فسجنت حياتهــا
فيها ،فاختار:ت حب اً أشبه بالخيـال علـى حيــاة عاديــة ،فحرمت نفســها مـن دفـء العائلـة وضحت بسـببها بالمومة
التي هي حلم كل امرأة!.. مي ..أرملة يل زوج .
ولعــل خيــر دليــل علــى أهميــة تلــك الكلمــا:ت فــي حيــاة )مــي( أنهــا عاشــت متألقــة فــي حياتهــا الجتماعية والدبية على وقع رسائل جبران ،ولم تتدهور حياتها النفسية إل بعد وفاة جــبران ) (1931إذ عـّد :تـ
نفسها أرملته ،فارتد:ت السواد عليه ،ومما فاقم بؤسها وفاة أمها في إثره ).(1932
لعلها في تلك الفترة بدأ:ت تشعر بعدم الرضى عـن نفســها ،واكتشــفت أن قرارها بعــدم الــزواج لــم يكــن صـائب ًا! وبدأ:ت تحاسـب نفسـها بقسـوة ،فقـد أحسـت بمـدى الظلـم الـذي ألحقتـه بحياتهـا حيــن تعلقـت بكلمـا:ت جبران ،ووهبت شبابها لحب سماوي ل علقة له بالواقع وبطبيعة البشر!..
معاناة مي ..وقسوة اليام عليها . ل يمكننا أن نح ّم لـ الكلمة المجنحــة المسـؤولية عــن تــدهور حالتهــا النفســية وإغراقهــا فــي الكآبــة ،لننــا
نلغي إرادتها في استمرار تلك العلقة ،التي جلبت لها الفرح واللم معًا!..
لكننا نستطيع أن نح ّم لـ أقاربها في مصر ثم في لبنان تلك المسؤولية ،إذ بــدؤوا بإزعاجهــا منــذ وفاة
أبيها ) ( 1930فطالبوها بالرث ،بل وصل بهم الطمع حد مطالبتهم بنصف ثروتها التي كونتهــا مـع أبيهــا! وحيــن رفضت زاد إزعاجهم لها ،حتى وصل شرهم حّد تدبير مكيدة إدخالها مشفى المجانين في لبنان! ولول مساعدة أهل المروءة من الدباء )أمين الريحاني( والشرفاء مـن أمثــال أولد الميـر عبــد القــادر الجزائري وغيرهم من الصحفيين والمحامين لما خرجت من محنتها!!..
رسائل الحبيب ..سلوان القلب وعزائه. المــدهش أن )مــي( حملــت رسائل جــبران معهــا ،فــي كــل مكــان رحلــت إليــه ،ورافقتهــا فــي مأســاتها فــي مشفى )ريفز( في بيرو:ت أطلعت عليها جارتها في الغرفة المجاورة ،فقد شكلت لها عزاء في مأساتها الرهيبة!.. فإننا نجد أ نفسنا أمام امـرأة غيـر عاديـة أخلصـت لحـب رجل ،يعيـش بعيـداً عنهـا ،ويعـترف لهـا،
في إحدى رسائله ،أن حياته موزعة بين امرأتين) ،امـرأة الحلـم وامـرأة الواقـع( فكـان نصـيب )مـي ) دور الملهمـة الــتي تحمــل روح الشــرق الــذي يحلــم بــالعودة إليــه دون أن يســتطيع ،فيرسل لهــا تلــك الكلمــا:ت المجنحــة ،الــتي ك أسرها! تعبر عن عواطفه لها ،فتشّد هـا إليه كلما حاولت ف ّ
في حين كانت امرأة الواقع )ماري هاسكل( تقف إلى جانبه فتسانده مادياً ليكمل رحلتــه فــي عــالم
الفن ،كما ساندته معرفي ًا ،حين كانت تصحح له نسخ كتبه التي كان يكتبها بالنكليزية! وتعترف ماري هاســكل
أنــه عــرض عليهــا الــزواج لكنهــا رفضــت ،ربمــا بســبب الفــارق الكــبير فــي الســن ،وربمــا بســبب علقــاته النســائية
المتعددة! المهم أن صداقتها بجبران تستمر رغم زواجها ،كما استمر:ت )مي( في حبها له رغم عدم زواجــه بهــا! فقد أسـرتها كلمــاته المدهشــة ،الـتي تســتلب الــروح والرادة بعنفوانهــا وصدقها "أنـت تحييــن بــي ،وأنــا أحيــا بــك" كما أسرتها صراحته ،فقد وجدناه يكشف لها عيوب نفسه فهو يعيش في ســجن طموحاته ،يلحقــه إحســاس أنــه لــم يقــل شــيئاً خالــداً بعــد ،وأنــه مــؤرق بهــاجس البــداع الــذي يحتــاج تفرغ اً كليـًا ،لعلــه يســتطيع أن يقــول كلمتــه،
وهكذا يوضح لها أنه يعيش أسير مشروعاته الفنية والدبية ،وأن المرأة في حيــاته ملهمــة ورفيقــة إبــداع بعيــدة عــن
الطر المألوفة! لقد عاش جبران في الغرب كما يروي صديقه ميخائيل نعيمة حياة منطلقة دون أية قيود ،فعــرف العديد من النســاء ،وطمـح إلــى أن يعيـش حيـاة خياليـة مـع امـرأة شـرقية ،تغـذي إبـداعه بنبـض خـا ص ،كـانت هــذه الزدواجية تريحه وربما مصدر إلهام له ،في حين كانت العلقة بالنسبة إلى )مي( حياتها بأكملها رغم أنها خيال أقرب إلى الحلم! فبد:ت كلماته تسري في عروقها لتمنحها دماء الحيــاة وألقهــا ،لقــد كــانت )مــي( ضـحية علقــة رسمها الرجل كما يريد له طموحه البداعي بمعزل عما تريده المرأة أو تحلم به. إذ اً لو كانت مي امرأة عادية لرفضت تلك العلقة التي كانت عبًء عليها!! هنا نتساءل :هل طغــت علــى )مــي(
رهافــة حــس الديبــة ،فعاشــت مخلصــة للكلمــة فــي حياتهــا الشخصــية وفـي حياتهــا العامــة! هــل رأ:ت فــي الخيــال
جمالً يفوق الواقع؟ هل كانت كلما:ت جبران حلماً لذ:ت به يعوضها عن بؤس الواقع؟ ...هل حياتها فــي مصــر أي في بيئة غريبة عن بيتها في الشام سبباً في تعلقها بجبران ،الذي رأ:ت فيه وطناً تنتمي إليــه!؟ هـل أحســت بــأن هذه البيئة العربية قد عجز:ت عن إنجاب كفء لها؟ ..فكان الخيال أرحم بها من الواقع!..
ربمــا افتقــد:ت فــي محيطهــا الرجل النــد لهــذا عاشــت قصــة حــب ترضي ذاتهــا ،ولو كــان ذلــك عــبر الــوهم والخيــال ،مــادام الواقــع لــم يطــرح أمامهــا مــن يــراه قلبهــا مناســباً فعاشــت الصــدق والخل ص لعلقــة أشــبه
بالحلم ،بل دعاها فيها جبران بامرأة الحلم.
لقد أدهشتني تضحية المرأة بشبابها من أجل حب سماوي ،كمــا آلمنــي ضـياع صـوتها الخــا ص بضياع معظم رسائلها ،رغم أنها ضحت بحياتها من أجل هذا الحب! لهذا تجـرأ:ت فــي كتــابي "الحــب الســماوي
بين مي زيادة وجبران خليل جبران" على تجسـيده عـبر الخيـال مســتعينة برسائل جــبران ،كـي أسـتطيع استشــفاف ردود فعــل مــي ،وأبّيــن أن الكلمــة لــم تكــن محــور حياتهــا الدبيــة فقــط ،وإنمــا محــور حياتهــا الشخصــية! ..لهــذا يمكنني القول بأن أبطال هذا الحب السماوي ثلثة )مي وجبران والكلمة المجنحة(.
ولكن ألم تكن الكلمة والخيال أحد أسباب كآبة ( مي( التي مل:ت الغصة حياتها؟
رسائل مي وجبران ..إضافة إلى الدب العربي. يعتبر جبران خليل جبران من الدباء الذين أثروا فن المراسله عند العـرب بمـا تركه مـن رسائل لفتـت نظـر البــاحثين وأثــار:ت فضــولهم ,فولجــوا عبرها إلــى عــالم جــبران المليــء بــالرموز والسـرار ..لقــد فتــح جــبران فتحـاً جديــداً ورائعـ ًا فــي دنيــا الدب العربي ,عنــدما تحــول عــن التــأليف بــالعربيه ألــى التــأليف بــالنجليزيه ..حــتى لمــع أسمه في كثير من الدول الجنبيه ..
حب فريد ونادر. وفي هــذا الموضوع أود أن أسـ ّلط الضــوء علــى الحــب الــذي نشــأ بيــن جــبران ومي زياده , ,حــب
فريـد لمثيــل لــه فــي تاريـخ الدب ,أو فــي ســير العشــاق ,مثــال للحــب النــادر المتجــرد عــن كــل مــاهو مــادي وسطحي لقد دامت تلك العاطفه بينهما زهاء عشرين عاماً ,دون أن يلتقيا الّ في عالم الفكر والروح ,والخيــال
الضبابي إذ كان جبران في مغارب الرض مقيماً وكانت مي في مشارقها ,كـا ن فــي امريكــا وكانت فــي القـاهره. ل ــم يك ــن ح ــب ج ــبران ولي ــد نظ ــره فابتس ــامه فس ــلم فكلم ب ــل ك ــان حبـ ـاً نش ــأ ونم ــا ع ــبر مراس ــله أدبي ــه طريف ــه
ومســاجل:ت فكريه وروحيــه ألفـت بيــن قلـبين وحيــدين ,وروحيـن مغـتربين .ومع ذلــك كانــا أقــرب قريبين وأشــغف
حبيبين .. بداية ..العلقة بينهما .. كان طبيعياً جد اً أن يتعارف بطل هذا الحب عن طريق الفكر والنشر في اوائل هذا القرن ,بعد ان
أصــاب كــل منهمــا شــهره كــبيره ..كــانت مــي معجبــه بمقــال:ت جــبران وافكــاره فبــدأ:ت بمراســلته عقــب أطلعهــا على قصته ) الجنحه المتكسـره ( الـتي نشــرها فـي المهجـر عـام 1912م ,كتبـت لـه تعـرب عـن أعجابهـا بفكـره واسلوبه ،وتناقش اراءه في الزواج وقيوده ,والحب وأطواره حسب رؤيته فـي هــذه القصــه الــتي قرأتهــا لـه وتعــرض عليه رأيها في وجهة نظره في حرية المرأه التي طالب بهــا والــتي اتفقـت معــه فـي أمـر وعارضته فــي جــانب آخــر , حيث قالت " :ليصح لكل أمرأه لم تجد في الزواج السعاده التي حلمت بها أن تبحـث عـن صـديق غيـر زوجهـا فل بد أن تتقيد المـرأه بواجبـا:ت الشـراكه الزوجيـه تقيـداً تـام حـتى لـو هـي سلسـل ثقيلــه ،فلـو توصل الفكـر الــى
كسـر قيـود الصـطلحا:ت والتقاليـد فلـن يتوصل الـى كسـر القيـود الطـبيعه لن أحكـام الطـبيعيه فـوق كـل شـيء,
وهذه تعتبر خيانه ولوفي مظهرها طاهر وتخون الهيأه الجتماعيه التي هي عضو عامل فيها. ومـن هنــا كــانت البــدايه ومـن ثــم تواصــل بالرسائل الــتي كــان كــل منهمــا يبحــث عــن روح الخــر فــي يقظتــه وأحلمــه ,كــان كــل منهمــا يســعى لرؤيـة ذاتــه فــي روح صــاحبه حــتى لكــأن تلــك الــروح هــي المــرآة الــتي ينعكس على صفحتها نور الخر ...وكلما قرأنا هـذه الرسائل النابضـه بالحيـاة الناضـحه بالصـدق ,كلمـا أزددنـا يقين اً بأن الحب الذي شد جبران الى مي ,وشغف مي بجبران ,حب عظيم ,بل عشق يكــاد يكــون صـوفياً لنــه تخطى حدود الزمان والمكان والحواس الى عالم تتحد فيه قوة الوجود.
ويتضح لنا لدى التأمل في بعض الرسائل برغم ضياع بعضها أن الصله بين جبران ومي توثقت شيئاً فشيئاً لن لهجته في مخاطبتها تد ّرجت من التحفـظ الـى التـودد ,ومن العجـاب الــى صـداقه حميمـه ,ومن ثـَم الى حب عام 1919م ما أن بلغ ذروته حتى عكر:ت صفوه سلسله مــن الخلفــا:ت بينهمــا الــتي عبّــر عنهــا جــبران
مرًة " هي معاكسا:ت الـتي تحـّو لـ عسـل القلـب ألــي مـراره " وقال" ان الغريب حقـاً فـي هـذه الصـله تأرجحهـا بيـن الحب الجامح والفتور ,بين التفاهم التام الذي كان يضفي عليهما شفافيه روحيه تغمرهما بالسعاده ,وبيــن ســوء
التفاهم الذي كان يؤلمهما ويؤدي الى القطيعه احياناً ولكن شدة ولع كل منهما الخر كانت تــدفعهما للتصــالح
مج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــدداً وبرغم كل هذا الحب كان كل منهمــا يخشــى التصــريح بعــواطفه فيلجــأ جــبران للتلميـح ,ويرمز
إليها ويضع عبارا:ت وصور مبتكره وجميله ..فلم ينادي مي قط بقوله )حبيبتي( ،
ولم يخاطبها باللغه المألوفه للعشاق ,غير أنه عّبر عن حبه بما هو أبلــغ عنــدما قــال أنــت تحييــن فـّي ,وانــا أحيــا في ِك " ووصف علقته بها " بأنها أصلب وأبقى بما ليقـاس مـن الروابـط الـدمويه والخلقيـه "وبعـد أن بـاح لهــا , رجاها ان تطعم النار رسالته اذا لم تجد لبوحه الصدى المرجوا في نفســها كــانت مــي فــي حيــاة جــبران الصــديقه, والحبيبه الملهمه ,وصلة الوصل بينه وبين وطنه ,وأكثر ماحبه فيها عقلها النيّرالذى تجلى في مقالتها وكتبها ,
وأحب فيها حبها له .
واعجابها بشخصيته وانتاجه الدبي والفني الــذي كــانت تتنــاوله بــالتقريظ والنقــد فــي مقالتهــا فــي مصر وعلى الرغم مـن كـل مـاُك تـب عـن علقـا:ت جـبران الغراميـه مـن النسـاء امثـال " مــاري هاســكل " وميشـلين " فأن حبه لمي كان الحب الوحيد الذي ملك قلبه وخياله ورافقه حتى نهاية حيــاته فقـد كـان حبـه لهـا معـادلً حبـه
العارم لوطنه لبنان ..ولروحانية الشرق ,وبالدم العربي الذي يجري في عروقه ,,وهذا ممـا تؤكده رسائل الشـعله الزرقاء ,التي هي جوهر النفس النسانيه في أسمى صفائها ,ويميل المحللـون للعتقــاد بــأنه لــم يكــن يفكــر فــي الزواج لعتلل في صحته منذ شبابه ,,ول ريب ان مي احبت جبران حباً جعل المقارنه بينــه وبيــن الــذين خطبــوا
ل ,برغـم تــردد مــي فــي العــراب عــن مشــاعرها وخشــيتها فــي النطلق علــى ســجيتها فــي وّده ــا أمــراً مســتحي ً
مراسلته ,وذلك بسبب ان جبران كان يعيش في عالم متطور تحرر:ت نساؤه من التقاليد ,وحيث أن مــي كــانت
مغلولة القلب والقلــم بتــأثير الـبيئه الـتي عاشــت فيهـا ..وبرغم انهــا جعلــت مـن بيتهــا صــالوناً أدبيـاً يلتقــي فيــه كـل
ثلثاء رجال الدب والفكر امثال احمد لطفي السـيد وخليـل مطـران وطه حسـين وعبـاس محمـود العقــاد وغيرهم
من الدباء والمفكرين ... لقد تمنى جبران ان تتحرر مي من عقدها النفسيه وشكوكها ! مــي عــانت صـراعاً نفســياً حــاداً فــي حبهــا لجــبران سـّبب لهــا الشــقاء ولجــبران العــذاب والرهاق ..وحيــن تجــاوز:ت الخامســه والثلثيــن مــن العمــر
لملمت كل شجاعتها وكتبت أجمل رسالة حب ..ولكن ألم تكن الكلمة والخيال أحد أسباب كآبة )مــي( الــتي
مل:ت الغصة حياتها؟ يعتــبر جــبران خليـل جـبران مــن الدبــاء الــذين أثــروا فـن المراســله عنــد العــرب بمــا تركه مــن رسائل لفتت نظر الباحثين وأثار:ت فضولهم ,فولجوا عبرها إلى عالم جبران المليء بالرموز والسرار ..لقد فتح جبران فتحاً جديداً ورائع اً فـي دنيـا الدب العربي ,عنـدما تحـول عـن التـأليف بـالعربيه ألــى التـأليف بـالنجليزيه.. حتى لمع أسمه في كثير من الدول الجنبية.
و هنا أود أن أس ّلط الضوء على الحب الذي نشأ بيــن جــبران ومي زياده , ,حــب فريد لمثيــل لــه
في تاريخ الدب ,أو في سير العشاق ,مثال للحب النادر المتجرد عن كل ماهو مادي وسطحي . قيس وليلى ..عصرهما.
لقد دامت تلك العاطفه بينهما زهاء عشرين عاماً ,دون أن يلتقيا الّ فـي عــالم الفكــر والـروح ,
والخيال الضبابي إذ كان جبران في مغارب الرض مقيماً وكانت مي في مشارقها ,كــا ن فــي امريكــا وكانت فــي القاهره .لم يكن حب جبران وليد نظره فابتسـامه فسـلم فكلم بـل كـان حبـاً نشـأ ونمـا عـبر مراسـله أدبيـه طريفـه
ومســاجل:ت فكريه وروحيــه ألفـت بيــن قلـبين وحيــدين ,وروحيـن مغـتربين .ومع ذلــك كانــا أقــرب قريبين وأشــغف
حبيبين .. كان طبيعياً جداً أن يتعارف بطل هذا الحب عن طريق الفكر والنشر في اوائل هذا القرن ,بعد
ان أصاب كل منهما شهره كبيره ..كانت مي معجبه بمقال:ت جبران وافكــاره فبــدأ:ت بمراســلته عقــب أطلعهــا على قصته ) الجنحه المتكسره ( التي نشرها في المهجر عام 1912م, كتبت له تعرب عن أعجابها بفكره واسـلوبه ,وتنـاقش اراءه فـي الـزواج وقيـوده ,والحـب وأطـواره حسـب رؤيتــه فــي هــذه القصــه الــتي قرأتهــا لــه وتعــرض عليــه رأيهــا فــي وجهــة نظــره فــي حريــة الم ـرأه الــتي طــالب بهــا والــتي اتفقت معه في أمر وعارضته في جانب آخر . حيــث قــالت ) مــي( " :ليصــح لكــل أم ـرأه لــم تجــد فــي الــزواج الســعاده الــتي حلمــت بهــا أن تبحث عن صديق غير زوجهــا فل بــد أن تتقيـد المـرأه بواجبــا:ت الشـراكه الزوجيــه تقيــداً تـام حــتى لـو هــي سلســل
ثقيله ،
فلو توصل الفكر الــى كسـر قيـود الصــطلحا:ت والتقاليــد فلــن يتوصل الــى كســر القيــود الطــبيعه لن أحكام الطبيعيه فوق كل شيء ,وهذه تعتـبر خيـانه ولوفي مظهرها طـاهر وتخـون الهيـأه الجتمـاعيه الـتي هـي عضو عامل فيها . ومن هنا كانت البدايه ومن ثم تواصل بالرسائل التي كان كل منهمـا يبحــث عـن روح الخـر فـي يقظتــه وأحلمــه ,كــان كــل منهمــا يســعى لرؤيـة ذاتــه فــي روح صــاحبه حــتى لكــأن تلــك الــروح هــي المــرآة الــتي
ينعكس على صفحتها نور الخر ...وكلما قرأنا هـذه الرسائل النابضـه بالحيـاة الناضـحه بالصـدق ,كلمـا أزددنـا يقين اً بأن الحب الذي شد جبران الى مي ,وشغف مي بجبران ,حب عظيم ,بل عشق يكــاد يكــون صـوفياً لنــه تخطى حدود الزمان والمكان والحواس الى عالم تتحد فيه قوة الوجود .
ويتضح لنا لدى التأمل في بعـض الرسائل برغم ضـياع بعضـها أن الصــله بيــن جــبران ومي تــوثقت شــيئاً فشيئاً لن لهجته في مخاطبتها تد ّرجت من التحفـظ الـى التـودد ,ومن العجـاب الــى صـداقه حميمـه ,ومن ثـَم الى حب عام 1919م ما أن بلغ ذروته حتى عكر:ت صفوه سلسله مــن الخلفــا:ت بينهمــا الــتي عبّــر عنهــا جــبران
مرًة " هي معاكسا:ت الـتي تحـّو لـ عسـل القلـب ألــي مـراره " وقال" ان الغريب حقـاً فـي هـذه الصـله تأرجحهـا بيـن الحب الجامح والفتور ,بين التفاهم التام الذي كان يضفي عليهما شفافيه روحيه تغمرهما بالسعاده ,وبيــن ســوء
التفــاهم الــذي كــان يؤلمهمــا ويـؤدي الــى القطيعــه احيان ـاً .ولكــن شــدة ولـع كــل منهمــا الخــر كــانت تــدفعهما للتصالح مجددًا..
الرسائل. القارئ لتلك الرسائل يجد انها رسائل متبادلة ،بين الحبيبين ،يذكر كل منهما للخر شكواه ،ويصف حاله ونجواه ،وماكان من امره ،فلمي رسائل قد كتبتها لجبران ،ولكنها كانت قليلة بعض الشيئ ،او فقد:ت كما ذكر:ت آنفاً ولم بيق منها إل القليل ،ولذلك بدأ:ت به الرسائل .
الفصل الول رسائل مي زيادة ( (.
رسائل مي زيادة إلى جبران خليل جبران الرسالة الولى من مي إلى جبران : جبران !...لقد كتبت كل هذه الصفحا:ت لتحايد كلمة الحـب .إن الــذين ل يتــاجرون بمظهـر الحـب ودعواه في المراقص والجتماعا:ت ،ينمي الحب في أعماقهم قوة ديناميكية قد يغبطون الذين يوزعون ع ـواطفهم في اللل السطحي لنهم ل يقاسون ضغط العواطف التي لم تنفجر ،ولكنهم يغبطون الخرين على راحتهم دون أن يتمنوها لنفوسهم ،ويفضلون وحدتهم ،ويفضــلون الســكو:ت ،ويفضــلون تضــليل القلـوب عـن ودائعهــا ،والتلهــي بما ل علقة له بالعاطفة.
ويفضــلون أي غربة وأي شــقاء )وهـل مــن شــقاءٍ فــي غيــر وحدة القلــب؟( علــى الكتفــاء بــالقطرا:ت الشـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــحيحة. مــا معنــى هــذا الــذي أكتبــه؟ إنــي ل أعــرف مــاذا أعنــي بــه ،ولكنــي أعــرف أنــك محبــوبي ،وأنــي أخــاف الحب .أقول هذا مع علمي أن القليل من الحب الكثير. الجفاف والقحط واللشيء بالحب خير من النزر اليسير .كيف أجسر على الفضاء إليــك بهــذا. وكيف أفرط فيه؟ ل أدري. الحمد ل أني أكتبه على الورق ول أتلفظ بــه لنــك لـو كــانت الن حاضــراً بالجســد لهربت خجلً ل ،فما أدعك تراني إل بعد أن تنسى .حتى الكتابة ألوم نفسي عليها ،لنــي بعد هذا الكلم ،ولختفيت زمناً طوي ً
بها حرة كل هذه الحرية..
أتذكر قول القــدماء مــن الشــرقيين :إن خيــر للبنــت أن ل تقــرأ ول تكتــب .إن القــديس توما يظهــر هنــا وليس ما أبدي هنا أثراً للوراثة فحسب ،بل هو شيء أبعد من الوراثة .ما هو؟ قل لي أنت ما هو.
وقل لي ما إذا كنت على ضلل أو هدى فإني أثق بك ..وسواء أكنت مخطئــة أم غيــر مخطئــة فــإن
قلــبي يســير إليــك ،وخيــر مــا يفعــل هــو أن يظــل حائمـاً حواليــك ،يحرسك ويحنــو عليــك ....غــابت الشــمس وراء
الفق ،ومن خلل السحب العجيبة الشكال واللوان حصحصت نجمة لمعة واحدة هــي الزهرة ،آلهــة الحــب، أترى يسكنها كأرضنا بشر يحبـون ويتشــوقون؟ ربمــا وجد فيهــا بنــت هــي مثلــي ،لهــا جـبران واحــد ،حلـو بعيــد هــو
القريب القريب.
تكتب إليه الن والشــفق يمل الفضــاء ،وتعلــم أن الظلم يخلـف الشــفق ،وأن النــور يتبـع الظلم، وأن الليل سيخلف النهار ،والنهار سيتبع الليل مرا:ت كثيرة قبل أن ترى الذي تحب ،فتتســرب إليهــا كــل وحشــة الشفق ،وكل وحشة الليل ،فتلقي بالقلم جانباً لتحتمي من الوحشة فاسم واحد :جبران(. ـــــــ
الرسالة الثانية مي زيادة إلى جبران خليل جبران. الرسالة الثانية إلى جبران.. صديقي جبران.. لقد توزع في المساء بريد أوروبة وأمريكة ,وهو الثاني من نوعه في هذا السبوع ,وقد فشل أملي بأن تصلني فيه كلمة منك .نعم إني تلقيت منك في السبوع الماضي بطاقة عليها وجه القديسة حنة الجميل ,ولكن هل تكفي الكلمة الواحدة على صورة تقوم مقام سكو:ت شهر كامل . ل أريد أن تكتب إلي إل عندما تشعر بحاجة إلى ذلك أو عندما تنيلك الكتابة سرورا ,ولكن أليس من الطبيعي أن أشرئب إلى أخبارك كلما دار موزع البريد على الصناديق يفرغ فيها جعبته أيمكن أن أرى الطوابع البريدية من مختلف البلدان على الرسائل ,حتى طوابع الوليا:ت المتحدة وعلى بعضها اسم نيويورك واضح ,فل أذكر صديقي ول أصبو إلى مشاهدة خط يده ولمس قرطاسه ولتحمل إليك رقعتي هذه عواطفي فتخفف من كآبتك إن كنت كئيبا ,وتواسيك إن كنت في حاجة إلى المواساة ، .ولتقوك إذا كنت عاكفا على عمل ولتزد في رغدك وانشراحك إذا كنت منشرحا سعيدا
مي زيادة آذار 1925 ـــــــــ
رسائل مي زيادة وجبران خليل جبران : الفصل الثاني رسائل )جبران خليل جبران( .. من جبران إلى مي.. نحــن اليــوم ره ن عاصــفة ثلجيــة جليلــة مهيبــة ،وأنــت تعلميــن يــا مــاري أنــا أحــب جميــع العواصــف وخاصــة الثلجيــة ،أحــب الثلــج ،أحــب بياضــه ،وأحــب هبــوطه ،وأحــب ســكوته العميــق .وأحــب الثلــج فــي الوديــة البعيــدة المجهول حتى يتساقط مرفرفًا ،ثم يتلل بنور الشمس ،ثم يذوب ويسير أغنيته المنخفضة.
أحــب الثلــج وأحــب النــار ،وهمــا مــن مصــدر واحــد ،ولكــن لــم يكــن حــبي لهمــا قــط ســوى شــكل مــن
الستعداد لحب أقوى وأعلى وأوسع .ما ألطف من قال: يا مي عيدك يوم وأنت عيد الزمان انظــري يــا محبوبتي العذبــة إلــى قــدس أقــداس الحيــاة ،عنــدما بلغــت هــذه الكلمــة ))رفيقــة(( ارتعــش قلــبي فــي صدري ،فقمت ومشيت ذهاباً في هذه الغرفة كمن يبحث عن رفيقه.
مــا أغــرب مــا تفعلــه بنــا كلمــة واحــدة فــي بعــض الحــايين! ومـا أشــبه تلــك الكلمــة الواحــدة برنيــن جــرس
الكنيسة عند الغروب! إنها تحول الذا:ت الخفية فينا من الكلم إلى السكو:ت ،ومن العمل إلى الصلة. تقولين لي أنك تخافين الحب لماذا تخفين يا صغيرتي؟ أتخافين نور الشمس؟
أتخافين مد البحر؟ أتخافين مجيء الربيع؟ لماذا يا ترى تخافين الحب؟ أنــا أعلــم أن القليــل مــن الحــب ل يرضيك ،كمــا أعلــم أن القليــل فــي الحــب ل يرضيني ،أنــت وأنــا ل ولن نرضى بالقليل .نحن نريد الكثير .نحن نريد كل شيء .نحن نريد الكمال. أقــول يــا مــاري إن فــي الرادة الحصــول ،فــإذا كــانت إرادتنــا ظلً مــن أظلل الــ ،فســوف نحصــل
بدون شك على نور من أنوار ال.
ل تخافي الحب يا ماري ،ل تخافي الحب يا رفيقة قلبي ،علينـا أن نستســلم إليــه رغم مـا فيــه مــن اللــم والحنيــن والوحشة ،ورغم ما فيه من اللتباس والحيرة. اسمعي يا ماري :أنا اليوم في سجن من الرغائب ،ولقـد ولد:ت هـذه الرغائب عنـدما ولد:ت .وأنـا اليوم مقيد بقيود فكرة قديمة ،قديمة كفصول السنة ،فهــل تســتطيعين الوقوف معــي فــي سـجني حـتى نخــرج إلــى نور النهار وهل تقفين إلى جانبي حتى تنكسر هذه القيود فنسير حرين طليقين نحو قمة جبالنا؟ والن قربي جبهتك. قربي جبهتك الحلوة وال يباركك ويحرسك يا رفيقة قلبي الحبيبة. ل بأس على أنني أخشى بلوغ النهاية قبل الحصول على هذا الشرف وهذا الثواب. لنعد هنيهة إلى ))عيدك(( أريد أن أعرف في أي يوم من أيام السنة قد ولد:ت صغيرتي المحبوبة. أريد أن أعرف لني أميل إلى العياد وإلى التعييد. وسيكون لعيد ماري الهمية الكبرى عندي .ستقولين لي ))كل يوم يوم مولدي يا جبران(( ل)) :نعم ،وأنا أعّيد لك كل يوم ،وكان ل بد من عيد خصوصي مرة كل سنة((. وسأجيبك قائ ً رسائل مي زيادة وجبران خليل جبران : من جبران إلى مي !!..
لقد أعاد:ت رسائلك إلى نفسي ذكرى ألف ربيع وألف خريف وأوقفتني ثانية أمام تلك الشباح التي كنــا نبتــدعها ونسيرها مركبـا إثــر مركب ..تلــك الشـباح الــتي مــا ثــار البركان فـي أوروبا حـتى انــزو:ت محتجـة بالســكو:ت ,وما أعمق ذلك السكو:ت وما أطوله ! هل تعلمين يا صديقتي بأني كنت أجد في حديثنا المتقطع التعزية والنس والطمأنينــة ,وهـل تعلميــن بــأني كنــت أقــول لــذاتي ,هنــاك فــي مشــارق الرض صــبية ليســت كالصــبايا ,قــد دخلــت الهيكــل قبــل ولدتهــا ووقفــت فــي قدس القداس فعرفت السر العلوي الذي اتخذه جبابرة الصباح ثم اتخذ:ت بلدي بلدا لها وقومي قوما لها . هــل تعلميــن بــأني كنــت أهمــس هــذه النشــودة فــي أذن خيــالي كمــا ورد:ت علــى رسـالة منــك ولـو علمــت لمــا انقطعت عن الكتابة إلي ,وربما علمت فانقطعت وهذا ل يخلو من أصالة الرأي والحكمة.
رسائل مي زيادة وجبران خليل جبران : من جبران لمي حضرة الديبة الفاضلة. قد فكر:ت بأمور كثيرة في تلك الشهور الخرساء التي مر:ت بدون خطاب ول جـواب ولكنــه لــم يخطـر علــى بــالي كونك " شــريرة" أمــا الن وقد صـ ّرحت لــي بوجود الشــر فــي روحك فل يجمــل بــي ســوى تصــديقك فأنــا أصــدق وأثـق بكـل كلمـة تقولينهـا لــي ! أنـت بــالطبع تفتخرين بقولك – أنـا شـريرة – ويحـق لـك الفتخـار لن الشـر قـوة
تضــارع الخيــر بعزمهــا وتأثيرها .ولكــن اســمحي لــي أن أقــول لــك مصــرحاً بأنــك مهمــا تمــاديت بالشــر فل تبلغيــن
نصف ما بلغته فأنا شرير كالشباح الساكنة في كهوف الجحيم بل أنا شرير كالروح السوداء التي تحرس أب ـواب
الجحيم ! وأنت بالطبع ستصدقين كلمي هذا !. غيـر أننـي للن لـم أفهـم السـباب الحقيقيـة الـتي دعتـك إلـى اسـتخدام الشــر ضـدي فهل تكرمت بافهــامي ؟ قـد أجبــت علــى كــل رسالة تكرمت بهــا علـّي واسترسلت متعمقـاً بمعــاني كــل لفظــة تعطفــت بهمســها فــي أذنــي فهــل
هنــاك أمــر آخــر كــان يجــب عل ـ ّي أن أفعلــه ؟ أو لــم تبــدعي لــي مــن " ل شــيء" ذنب ـاً لتــبيني لــي مقــدرتك علــى القتصــا ص ؟ لقــد فلحــت وأحســنت البيــان ,أمــا أنــا فقــد آمنــت باقنومـك الجديــد الكلــي المطلــق الجــامع بيــن أسياف " كالي" ربة الهند وسهام " ديانا" معبودة الغريق . والن وقـد فهــم كــل منــا مــا فــي روح الخــر مــن الشــر والميــل إلــى القتصــا ص فلنعــد إلــى متابعــة الحــديث الــذي ابتدأنا به منذ عامين .كيف أنت وكيف حالك ؟ هل أنت بصحة وعافية ) كما يقول سكان لبنان (؟ هل خلعت ذراعـ اً ثانيــة فــي الصــيف الماضــي أم منعتــك والــدتك مــن ركوب الخيــل فعــد:ت إلــى
مصر صـحيحة الــذراعين ؟ أمــا أنــا فصـحتي أشــبه شــيء بحــديث الســكران وقد صــرفت الصـيف والخريف متنقلً بين أعالي الجبال وشواطئ البحـر ثـم عـد:ت إلــى نيويورك أصـفر الـوجه نحيـل الجسـم لمتابعـة العمـال ومصـارعة الحلم – تلك الحلم الغريبة التي تصعد بي إلى قمة الجبل ثم تهبط بي إلى أعماق الوادي . وقد سرر:ت باستحسانك مجلة الفنون فهي أفضل ما ظهر من نوعهــا فــي العــالم العربي ,أمــا صــاحبها فهو فتى عذب النفس دقيق الفكر وله كتابا:ت لطيفة وقصائد مبتكرة ينشرها تحت اسم " ليــف" وممــا يســتدعي العجاب بهذا الشاب هو أنه لم يترك شيئاً مما كتبه الفرنج إل وعرفه حق المعرفة .أما صديقنا أمين الريحاني
فقد ابتدأ بنشر رواية جديدة طويلة في مجلة فنون وقد قرأ لي أكثر فصولها فوجدتها جميلة للغايــة ولقـد أخـبر:ت
صاحب الفنون بأنك سوف تبعثين إلّي بمقالة ففرح وبا:ت يترقب . بكــل أســف أقــول اننــي ل أحســن الضــرب علــى آلــة مــن آل:ت الطــرب ولكننــي أحــب الموسـيقى محبــتي الحيــاة ولـي ولـع خــا ص بــدرس قواعــدها ومبانيهــا والتعمــق بتاريـخ نشــأتها وارتقائهــا ,فــان ابقتنــي اليــام سأكتب رسالة طويلة في الدوائر العربية والفارسية وكيفية ظهورها وتدرجها وتناسخها ولي ميل للموسقى الغربيــة يضــارع ميلـي للنغــام الشــرقية فل يمـر أسـبوع إل وأذهـب مــرة أو مرتيـن إلــى الوبـرا غيــر أنــي أفضــل مــن البيــان الموسـيقي الفرنجــي تلــك المعروفـة بالســنفوني والســوناتا والكنتاتــا علــى الوبرا والسبب في ذلك خلّو الوبرا من البساطة الفنية التي تناسب أخلقي وتتمايل مع أميالي .
واسمحي لي الن أن أغبط يدك على عودك وعودك على يــدك وأرجوك أن تـذكري اســمي مشــفوعاً باستحســاني كلمــا ضـربت نغــم النهوند علــى الوتار فهــو نغــم أحبــه ولي رأي فيــه يشــابه رأي " كارليــل فــي النــبي محمد ". ) كارليل( :أديب ومؤرخ انكليزي درس بعضا مــن العربيــة فــي جامعــة كمــبردج ســنة 1795وكتــب عـن النــبي محمــد فصـل ضـمنه إعجــابه بشخصـيته البطوليــة فــي مــؤلفه " البطــال ,عبـادة البطــال ,والبطولة فــي التاريخ. وهل تكرمت بذكري أمام هيبة أبي الهول ؟ عندما كنت في مصر كنت أذهب مرتين في السبوع واصــرف السـاعا:ت الطـوال جالسـاً علــى الرمال الذهبيــة محـدقاً بــالهرام وكنـت فــي ذلــك العهــد صـبياً فـي الثامنــة
عشرة ذا نفس ترتعش أمام المظاهر الفنية ارتعاش العشاب أمام العاصفة ,أما أبو الهول فكان يبتسم لي ويمل
قلبي بحزن عذب وندبا:ت مستحبة . أنــا معجـب مثلـك بالـدكتور شـميل فهـو واحــد مــن القليليـن الـذين انبتهـم لبنـان ليقوم وا بالنهضـة الحديثة في الشرق الدنى وعندي أن الشرقيين يحتاجون إلى أمثال الدكتور شميل حاجة ماسة كـرد فعـل للتـأثير الذي أوجده الصوفيون والمتعبدون في القطرين مصر وسوريا. هــل قـرأ:ت الكتــاب الفرنســاوي الــذي وضعه خيــر الـ افنــدي خيــر الـ ؟ أنــا لــم أره بعــد وقد أخــبرني صــديق أن فــي الكتــاب فصــل عنــك وفصــل آخــر عنــي فــإذا كــان لــديك نســختان تكرمي بإرسال نســخة منهما إلّي وأجرك على ال ها قد انتصف الليل فليسعد ال مساءك ويبقيك للمخلص !!...
رد جبران على رسالة مي .. ماألطف قول من قال : يامي عيدك يوم ** وأن ِ ت عيد الزمان ّ مــا أغــرب مــاتفعله كلمــه واحــد فــي بعــض الحيــان ,أنهــا تحـّو لـ الــذا:ت الخفيــه فينــا مــن الكلم إلــى
السكو:ت ..تقولين أنك تخافين الحب ! لماذا تخافينه ؟ أتخافين نور الشمس ؟ أتخــافين مـّد البحــر ؟ أتخــافين طلوع الفجر ؟ أتخافين مجيء الربيع ؟ لماذا ياترى تخافين الحب ؟
أنا أعلم أن القليل في الحب ليرضي ِ ك ,كما أعلم أن القليل فــي الحــب ليرضيني ,أنـ ِ ت وأنــا ل ولن نرضى بالقليل ,نحن نريد الكمال ..الكثير ,كل شيء ! لتخافي الحب يارفيقــة قلــبي ,علينــا أن نستســلم إليه رغم مافيه من اللم والحنين والوحشه ,ورغم مافيه من اللتباس والحيره جبران .. ـــــــــ
ز ز رسائلز جبرانز إلىز َمّيز زيادة الشعلةز الزرقاءز نيويورك 2كانون الثاني حضرة الديبة الفاضلة. قد فكر:ت بأمور كثيرة في تلك الشهور الخرساء التي مر:ت بدون خطاب و ل جواب و لكنه لم يخطر على بالي كونك " شريرة " أما الن و قد صرح ِ ت لي بوجود الشر في روحك فل يجمل بي سوى ّ ك – أنا شريرة – و يحق ل ِ ت بالطبع تفتخرين بقول ِ تصديقك فأنا أصدق و أثق بكل كلمة تقولينها لي ! أن ِ ك الفتخار لن الشر قوة تضارع الخير بعزمها و تأثيرها .و لكن اسمحي لي أن أقول لك مصرحاً بأن ِ ك مهما
تماديت بالشر فل تبلغين نصف ما بلغُته فأنا شريٌر كالشباح الساكنة في كهوف الجحيم بل أنا شرير كالروح السوداء التي تحرس أبواب الجحيم ! و أن ِ ت بالطبع ستصدقين كلمي هذا!. غير أنني للن لم أفهم السباب الحقيقية التي دعت ِ ك إلى استخدام الشر ضدي فهل تكرمت بإفهامي ؟ قد أجبت على كل رسالة تكرمت بها علّي و استرسلت متعمقاً بمعاني كل لفظة تعطفت بهمسها في أذني فهل هناك أمر آخر كان يجب علّي أن أفعله ؟ أو لم تبدعي لي من " ل شيء " ذنباً لتبيني لي مقدرتك
على القتصا ص ؟ لقد فلحت و أحسنت البيان ,أما أنا فقد آمنت باقنومك الجديد الكلي المطلق الجامع بين
أسياف " كالي " ربة الهند و سهام " ديانا" معبودة الغريق. و الن و قد فهم كل منا ما في روح الخر من الشر و الميل إلى القتصا ص فلنعد إلى متابعة الحديث الذي ابتدأنا به منذ عامين .كيف أنت و كيف حالك ؟ هل أنت بصحة و عافية ) كما يقول سكان لبنان ( ؟ هل خلعت ذراعاً ثانية في الصيف الماضي أم منعتك والدتك من ركوب الخيل فعد:ت إلى
مصر صحيحة الذراعين ؟ أما أنا فصحتي أشبه شيء بحديث السكران و قد صرفت الصيف و الخريف متنقلً
بين أعالي الجبال و شواطئ البحر ثم عد:ت إلى نيويورك أصفر الوجه نحيل الجسم لمتابعة العمال و مصارعة الحلم – تلك الحلم الغريبة التي تصعد بي إلى قمة الجبل ثم تهبط بي إلى أعماق الوادي.
و قد سرر:ت باستحسانك مجلة الفنون فهي أفضل ما ظهر من نوعها في العالم العربي ,أما صاحبها فهو فتى عذب النفس دقيق الفكر و له كتابا:ت لطيفة و قصائد مبتكرة ينشرها تحت اسم " ليف " و مما يستدعي العجاب بهذا الشاب هو أنه لم يترك شيئاً مما كتبه الفرنج إل و عرفه حق المعرفة .
أما صديقنا أمين الريحاني فقد ابتدأ بنشر رواية جديدة طويلة في مجلة فنون و قد قرأ لي أكثر فصولها فوجدتها جميلة للغاية و لقد أخبر:ت صاحب الفنون بأن ِ ك سوف تبعثين إلّي بمقالة ففرح و با:ت يترقب.
بكل أسف أقول أنني ل أحسن الضرب على آلة من آل:ت الطرب و لكنني أحب الموسيقى محبتي الحياة و لي ولع خا ص بدرس قواعدها و مبانيها و التعمق بتاريخ نشأتها و ارتقائها ,فان أبقتني اليام سأكتب رسالة طويلة في الدوائر العربية و الفارسية و كيفية ظهورها و تدرجها و تناسخها .
و لي ميل للموسيقى الغربية يضارع ميلي للنغام الشرقية فل يمر أسبوع إل و أذهب مرة أو مرتين إلى الوبرا غير أني أفضل من البيان الموسيقي الفرنجي تلك المعروفة بالسنفوني و السوناتا و الكنتاتا على الوبرا و السبب في ذلك خلّو الوبرا من البساطة الفنية التي تناسب أخلقي و تتمايل مع أميالي. و اسمحي لي الن أن أغبط يدك على عودك و عودك على يدك و أرجوك أن تذكري اسمي مشفوع ًا باستحساني كلما ضربت نغم النهوند على الوتار فهو نغم أحبه و لي رأي فيه يشابه رأي " كارليل في النبي محمد.
) كارليل :أديب و مؤرخ انكليزي درس بعضا من العربية في جامعة كمبردج سنة 1795و كتب عن النبي محمد فصل ضمنه إعجابه بشخصيته البطولية في مؤلفه: ( .البطال ,عبادة البطال ,و البطولة في التاريخ )
و ه ّل تكرمت بذكري أمام هيبة أبي الهول ؟ عندما كنت في مصر كنت أذهب مرتين في السبوع و أصرف الساعا:ت الطوال جالساً على الرمال الذهبية محدقاً بالهرام و كنت في ذلك العهد صبياً في الثامنة عشرة ذا نفس ترتعش أمام المظاهر الفنية ارتعاش العشاب أمام العاصفة ,أما أبو الهول فكان
يبتسم لي و يمل قلبي بحزن عذب و ندبا:ت مستحبة.
أنا معجب مثلك بالدكتور شميل فهو واحد من القليلين الذين أنبتهم لبنان ليقوموا بالنهضة الحديثة في الشرق الدنى و عندي أن الشرقيين يحتاجون إلى أمثال الدكتور شميل حاجة ماسة كرد فعل للتأثير الذي أوجده الصوفيون و المتعبدون في القطرين مصر و سوريا.
هل قرأِ:ت الكتاب الفرنساوي الذي وضعه خير ال أفندي خير ال ؟ أنا لم أره بعد و قد أخبرني صديق أن في الكتاب فصل عنك و فصل آخر عني فإذا كان لديك نسختان تكرمي بإرسال نسخة منهما إلّي و أجرِك على ال. ها قد انتصف الليل فليسعد ال مساءك و يبقيك للمخلص جبران خليل جبران ز ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رسائل جبران إلى مي نيويورك 24كانون الثاني 1919 ـــــــ
حضرة الديبة الفاضلة النسة ماري زيادة المحترمة. سلم على روحك الطيبة الجميلة . و بعد ,فقد استلمت اليوم أعداد المقتطف التي تفضلت بإرسالها إلّي فقرأ:ت مقلتك الواحدة أثر الخرى و أنا بين السرور العميق و العجاب الشديد . و لقد وجد:ت في مقالتك سرباً من تلك الميول و المنازع التي طالما حامت حول فكرتي وتتبعت
أحلمي و لكن هناك مبادئ و نظريا:ت أخرى ودد:ت لو كان بإمكاننا البحث فيها شفاهاً . ,فلو كنت الساعة في القاهرة لستعطفتك لتسمحي لي بزيارتك فنتحدث مليا في " أرواح المكنة " و في " العقل والقلب " و
في بعض مظاهر " هنري برغسن " )
هنري برغسن فيلسوف فرنسي حاز على جائزة نوبل عام 1927وهو صاحب نظرية الروحانية ضد
هجما:ت المذاهب المادية .من مؤلفاته " المادية والذاكرة" ،التطور والخلق ،و غير أن القاهرة في مشارق الرض و نيويورك في مغاربها و ليس من سبيل إلى الحديث الذي أوده و أتمناه
إن مقالتك هذه تبين سحر مواهبك و غزارة إطلعك و ملحة ذوقك في النتقاء والنتخاب ,و علوة على ذلك فهي تبين بصورة جلية اختباراتك النفسية الخاصة – و عندي أّن الختبار أو القتناع النفسي يفوق كل علم و كل عمل – و هذا ما يجعل مباحثك من أفضل ما جاء من نوعها في اللغة العربية . و لكن لي سؤال استأذنك بطرحه لديك و هو هذا :أل يجيء يوم يا ترى تنصر فيه مواهبك السامية من البحث في مآتي اليام إلى إظهار أسرار نفسك و اختباراتها الخاصة و مخبآتها النبيلة ؟ أ فليس البتداع أبقى من البحث في المبدعين ؟ أل ترين أن نظم قصيدة أو نثرها أفضل من رسالة في الشعر و الشعراء ؟ إني كواحد من المعجبين بك أفضل أن اقرأ لك قصيدة في ابتسامة أبي الهول مثل من أن أقرأ لك رسالة في تاريخ الفنون المصرية و كيفية تدرجها من عهد إلى عهد و من دولة إلى دولة لن بنظمك قصيدة في ابتسامة أبي الهول تهبيني شيئاً نفسياً ذاتي اً أما بكتابتك رسالة في تاريخ الفنون المصرية فإنك تدلينني على شيء عمومي عقلي .و كلمي هذا ل ينفي كونك تستطيعين إظهار اختباراتك النفسية الذاتية في كتابة تاريخ الفنون
المصرية بيد أني أشعر بأن الفن – و الفن إظهار ما يطوف و يتمايل و يتجوهر في داخل الروح -هو أحرى و أخلق بمواهبك النادرة من البحث – و البحث إظهار ما يطوف و يتمايل و يتجوهر في الجتماع .ليس ما تقدم سوى شكل من الستعطاف باسم الفن فأنا استعطفك لني أريد أن أستميلك إلى تلك الحقول السحرية حيث سافو ) شاعرة إغريقية ولد:ت في مدينة ليزبوس في أوائل القرن السادس قبل الميلد ,لها تسع دواوين من الشعر الغنائي و الناشيد لم يصلنا منها سوى بضع قصائد ( و ايليزبيت براوننغ ) شاعرة بريطانية مبدعة تمتاز قصائدها بالعمق و الرقة والنزعة الصوفية .وهي زوج الشاعر النكليزي روبر:ت براوننغ الذي أحبها من خلل قصائدها قبل أن يتعرف إليها ثم زارها في بيتها فأحبته حباً عارماً جعلها تتغلب على مرض عضال كان قد أقعدها (. و أليس شراينر ) كاتبة انكليزية دعت في مؤلفاتها إلى تحرير النساء ( و غيرهن من أخواتك اللواتي بنين سّلما من الذهب و العاج بين الرض و السماء. أرجوك أن تثقي بإعجابي و أن تتفضلي بقبول احترامي الفائق
و ال يحفظك للمخلص. جبران خليل جبران ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رسائل جبران إلى مي نيويورك في 7شباط 1919 عزيزتي النسة مي. لقد أعاد:ت رسالتك إلى نفسي ذكرى ألف ربيع و ألف خريف و أوقفتني ثانية أمام تلك الشباح التي كنا نبتدعها و نسيرها موكباً إثر موكب . تلك الشباح التي ما ثار البركان ) يقصد بذلك الحرب العالمية الولى ( في أوربا حتى انزو:ت محتجبة بالسكو:ت – و ما أعمق ذلك السكو:ت و ما أطوله. هل تعلمين يا صديقتي أنني كنت أجد في حديثنا المتقطع التعزية و النس و الطمأنينة ,و هل تعلمين بأنني كنت أقول لذاتي هناك في مشارق الرض صبية ليست كالصبايا قد دخلت الهيكل قبل ولدتها و وقفت في قدس القداس فعرفت السر العلوي الذي تخفره جبابرة الصباح ثم اتخذ:ت بلدي بلداً لها و قومي قوم اً لها ,هل تعلمين بأنني كنت أهمس هذه النشودة في إذن خيالي كلما ورد:ت علّي رسالة منك ؟ لو علمت لما انقطعت عن الكتابة إلي.
و ربما علمت فانقطعت وهذا ل يخلو من أصالة الرأي و الحكمة . أما مقالة أبي الهول فالسماء تعلم بأنني لم أطلبها منك إل بعد إلحاح مستمر من صاحب مجلة
الفنون – سامحه ال .فان من طبعي استهجان اقتراح المواضيع على الدباء خصوصاً تلك الفئة القليلة التي ل تدون إل ما توحيه الحياة إليها – و أنت من تلك الفئة القليلة – و فوق ذلك فأنا أعلم أن الفن يطلب و ل
يطلب منه ,و أن في نفس اقتراح المواضيع شيئاً مانعاً عن الجادة فيها ,فلو كتبت إلي في ذلك الزمن قائلة " ل ميل لي الن إلى كتابة مقالة في أبي الهول " لقلت مترنماً:
لتعش م ّي طويل فهي ذا:ت مزاج فني ل غش فيه " الخلصة أنني سأسبقك في كتابة " مقالة ,في ابتسامة أبي الهول ! و بعد ذلك سأنظم قصيدة في ابتسامة مّي و لو كان لدي صورتها مبتسمة
لفعلت اليوم ,و لكن علّي أن أزور مصر لرى مّي و ابتسامتها .و ماذا عسى أن يقول الكاتب في ابتسامة المرأة ؟ أفلم يقل ليوناردو دافنشي آخر كلمة في الموضع عندما انتهى من صورة ل جوغندا " ؟ و لكن ,أليس في ابتسامة الصبية اللبنانية سر ل يستطيع إدراكه و إعلنه غير اللبناني ,أم هي المرأة لبنانية كانت أم ايطالية تبتسم لتخفي أسرار البدية وراء ذلك النقاب الرقيق الذي تحوكه الشفاه
و المجنون ) أول مؤلفا:ت جبران باللغة النكليزية ( و ماذا يا ترى أقول لك عن المجنون ؟ أنت تقولين أن فيه ما يدل على القسوة" بل و على " الكهوف المظلمة " . و أنا الن لم أسمع مثل هذا النتقاد مع أنني قرأ:ت الكثير مما نشرته جرائد و مجل:ت أمريكا و انكلترا في هذا الكتاب الصغير . و الغريب أن أكثر الدباء الغربيين قد استحسنوا القطعتين: My Minds و The Sleep Walkers ) مقالتان لجبران ,عقلي و السائرون في نومهم ( و استشهدوا بهما أو ذكروهما بصورة خاصة .أما أنت يا صديقتي فقد وجد:ت فيهما القسوة – و ماذا ينفع النسان إذا ربح استحسان العالم و خسر استحسان مّي ؟ و قد يكون ارتياح هؤلء الغربيين إلى المجنون و أخيلته ناتجاً عن مللهم أخيلة نفوسهم و عن ميلهم الطبيعي إلى الغريب و الغير مألوف خصوصاً إذا كان شرقي المظاهر .
أما تلك
المثال و القصائد المنثورة التي نشر:ت في الفنون فقد ترجمها عن الصل النكليزي أديب محبته لي أوسع
قليل من معرفته بدقائق البيان النكليزي.
و لقد رسمت بالحبر الحمر دائرة حول لفظة " اشمئزاز" التي جاء:ت في كلمك عن المجنون , فعلت ذلك لعلمي بأنك إذا وضعت كلما:ت : The Sleep Walkers بين شفاه المس و الغد بدل من وضعها على لسان أم و ابنتها لبدلت لفظة الشمئزاز بلفظة أخرى – أليس كذلك ؟ و ماذا أقول عن كهوف روحي ؟ تلك الكهوف التي تخيفك – أني التجئ إليها عندما أتعب من سبل الناس الواسعة و حقولهم المزهرة و غاباتهم المتعرشة .إني أدخل كهوف روحي عندما ل أجد مكاناً آخر
أسند إليه رأسي ,و لو كان لبعض من أحبهم الشجاعة لدخول تلك الكهوف لما وجدوا فيها سوى رجل راكع
على ركبتيه و هو يصلي . أما استحسانك الرسوم الثلثة في المجنون فقد سرني و دلني على وجود عين ثالثة بين عينيك ,و قد طالما عرفت أن وراء أذنيك آذان خفية تسمع تلك الصوا:ت الدقيقة الشبيهة بالسكو:ت – تلك الصوا:ت التي ل تحدثها الشفاه و اللسنة بل ما وراء اللسنة و الشفاه من الوحدة العذبة ,و اللم المفرح ,و الشوق إلى ذلك العالم البعيد الغير معروف. و أنت تسألين ما إذا كنت أريد أن يفهمني أحد بعد قولي: For those who understand us enslave something in us " لن الذين يدركون خبايا نفوسنا يأسرون شيئا منها " ل ,ل أريد أن يفهمني بشري إذا كان فهمه إياي ضرياً من العبودية المعنوية .
و ما أكثر الذين
يتوهمون أنهم يفهموننا لنهم وجدوا في بعض مظاهرنا شيئاً شبيهاً بما اختبروه مرة في حياتهم .و ليتهم يكتفون بادعائهم إدراك أسرارنا – تلك السرار التي نحن ذواتنا ل ندركها – و لكنهم يصموننا بعلما:ت و أرقام ثم
يضعوننا على رف من رفوف أفكارهم و اعتقاداتهم مثلما يفعل الصيدلي بقناني الدوية و المساحيق ! أو ليس ذلك الديب الذي يقول بأنك تقلدينني في بعض كتاباتك من هؤلء البشر الذين يدعون فهمنا و معرفة خفايانا ؟ و هل تستطيعين إقناعه بأن الستقلل هو محجة الرواح و إن أشجار السنديان و الصفصاف ل تنمو في ظلل بعضها البعض ؟
ها قد بلغت هذا الحد من رسالتي و لم أقل كلمة واحدة مما قصد:ت أن أقوله عندما ابتدأ:ت .و لكن من يا ترى يقدر أن يحول الضباب اللطيف إلى تماثيل و أنصاب ؟ و لكن الصبية اللبنانية التي تسمع ما وراء الصوا:ت سترى في الضباب الصور و الشباح. و السلم على روحك الجميلة و وجدانك النبيل و قلبك الكبير و ال يحرسك. المخلص جبران خليل جبران
رسائل جبران إلى مي نيويورك 11حزيران 1919م. عزيزتي النسة مّي .ـ رجعت اليوم من سفره مستطيلة إلى البرية فوجد:ت رسائلك الثلث و المقال الجميل الذي تفضلت بنشره في جريدة المحروسة ". "
و لقد علمت من خادمي أن هذه الرسائل بل هذه الثروة الجليلة قد وصلت معاً منذ أربعة أيام .
الظاهر أن البريد المصري قد توقف عن إصدار الرسائل من القطر مثلما حجز الرسائل الواردة إليه.
و لقد انصرفت عن كل ما وجدته بانتظاري في هذا المكتب لصرف نهاري مصغياً إلى حديثك الذي
يتمايل بين العذوبة و التعنيف – أقول التعنيف لنني وجد:ت في رسالتك الثانية بعض الملحظا:ت التي لو
سمحت لنفسي الفرحة أن تتألم لتألمت منها .و لكن كيف اسمح لنفسي النظر إلى شبه سحابة في سماء صافية مرصعة بالنجوم ؟ و كيف أحول عيني عن شجرة مزهرة إلى ظّل من أغصانها ؟ و كيف ل أقبل وخزة صغيرة من يد
عطرة مفعمة بالجواهر ؟ إن حديثنا الذي أنقذناه من سكو:ت خمسة أعوام ل و لن يتحول إلى عتاب أو
مناظرة ,فأنا أقبل بكل ما تقولينه لعتقادي بأنه يجمل بنا و سبعة آلف ميل تفصلنا أل نضيف ِفتراً واحداً إلى هذه المسافة الشاسعة بل أن نحاول تقصيرها بما وضعه ال فينا من الميل إلى الجميل و الشوق إلى المنبع و
العطش إلى الخالد .يكفينا يا صديقتي ما في هذه اليام. و هذه الليالي من الوجاع و التشويش و المتاعب و المصاعب .و عندي أن فكرة تستطيع الوقوف أمام المجرد المطلق ل تزعجها كلمة جاء:ت في كتاب أو ملحظة أتت في رسالة .إذا فلنضع خلفاتنا ,و أكثرها لفظية – في صندوق من ذهب و لنرِم بها إلى بحر من البتساما:ت . ما أجمل رسائلك يا مّي و ما أشهاها ,فهي كنهر من الرحيق يتدفق من العالي و يسير مترنماً في وادي أحلمي ,بل هي كقيثارة اورفيوس ) شاعر و موسيقي تحدثت عنه أساطير اليونان , سحر بأنغامه وحش الغاب و آلهة الجحيم (.تقّرب البعيد و تبعد القريب و تحول بارتعاشاتها
السحرية الحجارة إلى شعل:ت متقدة و الغصان اليابسة إلى أجنحة مضطربة .
إن يوم اً يجيئني منك برسالة واحدة لهو من اليام بمقام القمة من الجبل فما عسى أن أقول في يوم
يجيئني بثلث رسائل ؟ ذلك يوم انتحى فيه عن سبل الزمن لصرفه متجول في إرم ذا:ت العماد.
و بما أجيب على سؤالتك ؟ و كيف أستطيع متابعة الحديث و في النفس مال يسيل مع الحبر ؟ و لكن ل بد من متابعة الحديث .فما بقي صامتاً ليس بالغير مفهوم لديك ،
تقولين في رسالتك الولى " لو كنت أنا في نيويورك لكنت زر:ت مكتبك الفني في هذه اليام " أفلم
تزوري مكتبي قط ؟ أليس رواء أثواب الذكرى الظاهرة جسد خفي للذكرى ؟ إنما مكتبي هيكلي و صديقي و متحفي و جنتي و جحيمي .هو غابة تنادي فيها الحياة الحياة و هو صحراء خالية أقف في وسطها فل أرى سوى بحر من رمال و بحر من أثير .إن مكتبي يا صديقتي هو منزل بدون جدران و بدون سقف . و لكن في مكتبي هذا أشياء كثيرة أحبها و أحافظ عليها .أنا مولع بالثار القديمة و في زوايا هذا المكتب مجموعة صغيرة من طرائف الجيال و بعض نفائسها كتماثيل و ألواح مصرية و يونانية و رومانية و زجاج فينيقي و خزف فارسي و كتب قديمة العهد و رسوم إيطالية و فرنسية و آل:ت موسيقية تتكلم و هي صامتة .
و ل بد من الحصول يوما ما على تمثال كلداني من الحجر السود .
إني أميل بكليتي إلى كل شيء
كلداني فأساطير هذا الشعب و شعره و صلواته و هندسته بل و أصغر أثر أبقاه الدهر من فنونه و صنائعه ينّبه في داخلي تذكارا:ت غامضة بعيدة و يعود بي إلى الماضي الغابر و يجعلني أرى الحاضر من نافذة المستقبل . أحب الثار القديمة و أشغف بها لنها من أثمار الفكرة البشرية السائرة بألف قدم من الظلم نحو النور – تلك الفكرة الخالدة التي تغو ص بالفن إلى أعماق البحار و تصعد به إلى المجرة .
بسعيد .
أما قولك " ما أسعدك أنت القانع بفنك " فقد جعلني أفتكر طويلً ,ل يا مّي لست بقانع و ل أنا في نفسي شيء ل يعرف القناعة و لكنه ليس كالطمع ,و ل يدري ما السعادة غير أنه ل يشابه
التعاسة .في أعماقي خفقان دائم وألم مستمر و لكنني ل أريد إبدال هذا و ل تغيير ذاك – و من كان هذا شأنه فهو ل يعرف السعادة و ل يدري ما هي القناعة و لكّنه ل يشكو لن في الشكوى ضرباً من الراحة و
شكلً من التفوق.
و هل أنت سعيدة و قانعة بمواهبك العظيمة ؟ أخبريني يا مّي هل أنت قانعة و سعيدة ؟ أكاد أسمعك هامسة " :ل لست بقانعة و ل أنا بسعيدة " إن القناعة هي الكتفاء و الكتفاء محدود و أنت غير محدودة أما السعادة فهي أن يمل المرء نفسه من خمرة الحياة و لكن من كان كأسه سبعة آلف فرسخ بالطول و سبعة آلف فرسخ بالعرض ل و لن يعرف السعادة حتى تنسكب الحياة بكاملها في كأسه .أ فليس كأسك يا مّي سبعة آلف فرسخ و فرسخ ؟ و ماذا أقول عن " جّو يـ المعنوي ؟ " لقد كانت حياتي منذ عام أو عامين ل تخلو من
الهدوء و السلمة أما اليوم فقد تبدل الهدوء بالضجيج و السلمة بالنزاع .إن البشر يلتهمون أيامي و ليالّي و يغمرون أحلمي بمنازعهم و مراميهم فكم مرة هربت من هذه المدينة الهائمة إلى مكان قصّي لتخلص من
الناس و من أشباح نفسي أيض اً .إنما الشعب المريكي جبار ل يكل و ل يمل و ل يتعب و ل ينام و ل
ل قتله بالهمال و إذا أحبه قتله بالنعطاف فمن شاء أن يحيى في نيويورك يحلم ,فإذا بغض هذا الشعب رج ً
عليه أن يكون سيفاً سنيناً و لكن في غمد من العسل :السيف لروع الراغبين في قتل الوقت و العسل لرضاء
الجائعين! و سوف يجيء يوم أهرب فيه إلى الشرق .إن شوقي إلى وطني يكاد يذيبني و لول هذا القفص الذي حبكت قضبانه بيدي – لعتليت متن أول سفينة سائرة شرقاً .و لكن أي رجل يستطيع أن يترك بناًء
صرف عمره بنحت حجارته و صّف هـا ؟ حتى وإن كان ذلك البناء سجناً له فهو ل يقدر أو ل يريد أن يتخلص
منه في يوم واحد.
سامحيني أيتها الصديقة العزيزة فقد أزعجتك بالكلم عن نفسي و بشكواي من أمور أدعى إلى الجهاد منها إلى التذمر. إن استحسانك " المواكب " قد جعلها عزيزة لدّي .أما قولك بأنك ستستظهرين أبياتها فمّنة أحني أمامها رأسي ,غير أنني أشعر بأن حافظتك خليقة بقصائد أسمى و أبلغ و أنبل من كل ما جاء في المواكب ( ,بل و من كل ما كتبته و أكتبه . و أما قولك في رسوم الكتاب )
أنتم أهل الفن تبرزون هذه البدائع بقوى أثيرية احتفظتكم عليها
ملوك الجوزاء فنأتي بغباوتنا أشقياء مظلومون. و نحن بها أشقياء خاسرون " فكلم ل أقبله بل إني أستميحك بالتمرد عليه و _ ما أكثر تمردي _ أنت يا م ّي منا و فينا .بل و أنت بين بنا:ت الفن و أبنائه كالوردة بين أوراقها .إن ما جاء في مقالتك التي نشر:ت في )المحروسة( .عن رسوم " المجنون " لكبر دليل على شعور فني عميق و فكرة خاصة دقيقة و بصيرة نفاذة ترى ما ل يراه غير القليل من الناس .و لست بمبالغ إذا قلت بأنك أول صبية شرقية مشت في غابة " الخوا:ت التسع " ) إشارة إلى اللها:ت التسع في الميثولوجيا الغريقية المشرفا:ت على الداب و الفنون و قد عرفن بأسماء عديدة في عصور التاريخ القديم (.بقدم ثانية و رأس مرفوع و ملمح منفرجة كأنها في بيت أبيها .أل فأخبريني كيف عرفت كل ما تعرفين و في أي عالم جمعت خزائن نفسك و في أي عصر عاشت روحك قبل مجيئها إلى لبنان ؟ إن في النبوغ سراً أعمق من سر الحياة.
و أنت تريدين أن تسمعي ما يقوله الغربيون عني ,فألف شكر لك على هذه الغيرة و هذا الهتمام القومي .لقد قالوا الشيء الكثير و كانوا مبالغين في أقوالهم متطرفين في ظنونهم متوهمين وجود الَج َمـلـ في
وكر الرنب .و يعلم ال يا صديقتي بأنني ما قرأ:ت شيئاً حسناً عني إل و نحت في قلبي .إن الستحسان نوع من المسؤولية يضعها الناس على عواتقنا فتجعلنا نشعر بضعفنا
.
و لكن ل بد من المسير حتى و لو قّو سـ الحمل الثقيل ظهورنا ,و ل بد من استنباط القوة من
الضعف .أنا باعث إليك في غلف آخر بشيء من أقوال الجرائد و المجل:ت و ستعلمين منها أن الغربيين قد ملوا أشباح أرواحهم و ضجروا من ذواتهم فأصبحوا يتمسكون بالغريب الغير مألوف خصوصاً إذا كان شرقيا هكذا كان الشعب الثيني بعد انقضاء عصره الذهبي .لقد بعثت منذ شهر أو أكثر بمجموعة من أقوال الصحف في " المجنون " إلى إميل زيدان ) تولى رئاسة تحرير مجلة الهلل سنة 1914التي أسسها والده الديب العلمة جورجي زيدان (.و هو بالطبع من أصدقائك . أحمد ال و أشكره على انقضاء الزمة عندكم .و لقد كنت أقرأ أخبار تلك المظاهرا:ت فأتخيلك هائبة فأهاب ,مضطربة فاضطرب .و لكنني كنت أردد في الحالين قول شكسبير: Do not fear our person There’s such divinity doth hedge a king That treason can but peep to what it would Acts little of his will
ل تخافي منّـا فالملك تحيط به هالة من القداسة و ليس في مقدور الخيانة أن تبلغ ما ترمي إليه أو تحد من عزيمته
و أن ِ ك يحميه ال من كل مكروه ت يا مّي من المحروسين و في نفسك َملَـ ٌ و تسألين ما إذا كان لكم من صديق في ربوعنا ؟ أي و الحياة و ما في الحياة من حلوة جارحة و مرارة مقدسة إن لكم في ربوعنا صديقاً إرادته تدافع عنكم و نفسه ترغب في الخير لكم و إبعاد السوء عنكم و تحميكم من كل أذى .و قد يكون الصديق الغائب أدنى و أقرب من الصديق الحاضر .أ فليس الجبل أكثر هيبة و أشد وضوحاً و ظهوراً لسائٍر
في السهل منه لساكنيه ؟
ها قد غمر المساء هذا المكتب بوشاحه فلم أعد أرى ما تخطه يدي . و ألف تحية لك و ألف سلم عليك و ال يحفظك ويحرسك دائماً. صديقك المخلص جبران خليل جبران ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رسائل جبران إلى مي نيويورك 25تموز 1919 عزيزتي النسة مّي ت في خاطري .و لقد صرفت الساعا:ت الطوال مفكراً ب ِ منذ كتبت إليك حتى الن و أن ِ ك مخاطباً إياِك مستجوباً خفاياك مستقصياً أسرارِك .و العجيب أنني شعر:ت مرا:ت عديدة بوجود ذاتك الثيرية في هذا المكتب ترقب حركاتي و تكلمني
و تحاورني و تبدي رأيها في مآتّي و أعمالي. أنت بالطبع تستغربين هذا الكلم ،و أنا أستغرب حاجتي و اضطراري إلى كتابته إليك .و حبذا لو كان بإمكاني معرفة ذلك السر الخفي الكائن وراء هذا الضطراب و هذه الحاجة الماسة.
قد قلت لي مرًة " :أل إن بين العقول مساجلًة و بين الفكار تبادلً قد ل يتناوله الدراك الحسي و
لكن من ذا الذي يستطيع نفيه بتاتاً من بين أبناء الوطن الواحد ؟ "
إ ّن في هذه الفقرة الجميلة حقيقة أولية كنت فيما مضى أعرفها بالقياس العقلي ،أما الن فإني أعرفها بالختيار النفسي .ففي الونة الخيرة قد تحقق لي وجود رابطة معنوية دقيقة قوية غريبة تختلف بطبيعتها و مزاياها و تأثيرها عن كل رابطة أخرى ،فهي أشد و أصلب و أبقى بما ل يقاس من الروابط الدموية و الجينية حتى و الخلقية .و ليس بين خيوط هذه الرابطة خيط واحد من غزل اليام و الليالي التي تمر بين المهد و اللحد. .و ليس بين خيوطها خيط غزلته مقاصد الماضي أو رغائب الحاضر أو أماني المستقبل ،فقد تكون موجودة بين اثنين لم يجمعهما الماضي و ل يجمعهما الحاضر – و قد ل يجمعهما المستقبل. و في هذه الرابطة يا مّي ,في هذه العاطفة النفسية ،في هذا التفاهم الخفي ،أحلم أغرب و أعجب من كل ما يتمايل في القلب البشري – أحلم طّي أحلم طّي أحلم. و في هذا التفاهم يا " م ّي " أغنية عميقة هادئة نسمعها في سكينة الليل فتنتقل بنا إلى ما وراء الليل ، إلى ما وراء النهار ،إلى ما وراء الزمن ،إلى ما وراء البدية. صاـ:ت أليمة ل تزول و لكنها عزيزة لدينا و لو استطعنا لما أبدلناها بكل ما و في هذه العاطفة يا مّي غ ّ نعرفه و نتخيله من الملذا:ت و المجاد. لقد حاولت في ما تقدم إبلغك ما ل و لن يبلغك إياه إل ما يشابهه في نفسك .
فإن كنت قد أبنت
سراً معروف اً لديك كنت من أولئك الذين قد حبتهم الحياة و أوقفتهم أمام العرش البيض .و إن كنت قد أبنت أمراً خاصاً بي وحدي فل ِ ك أن تطعمي النار هذه الرسالة. استعطفك يا صديقتي أن تكتبي إلّي ،و استعطفك أن تكتبي إلّي بالروح المطلقة المجردة المجنحة التي تعلو فوق سبل البشر .أنت و أنا نعلم الشيء الكثير عن البشر ،و عن تلك الميول التي تقربهم إلى بعضهم البعض ،و تلك العوامل التي تبعد بعضهم عن البعض .فهل تنحينا و لو ساعة واحدة عن تلك السبل المطروقة و وقفنا محدقين و لو مرة واحدة بما وراء الليل ،بما وراء النهار ،بما وراء الزمن ،بما
وراء البدية ؟ و ال يحفظك يا مّي و يحرسك دائماً
صديقك المخلص جبران خليل جبران ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رسائل جبران إلى مي نيويورك 9تشرين الثاني 1919 عزيزتي النسة /مي. أن ِ ت حاقدة علّي ,ناقمة علّي ,و لك الحق ,و معك الحق ,و ما علّي سوى المتثال فهل نسيت إثماً اقترفته و أنا بعيد عن عالم المقاييس و الموازين ؟ هل و ضعت في " صندوق الذهب " ما ل يستحق الحفظ في الصندوق الثيري ؟
إن ما يعرفه الحاضر يجهله الغائب و ليس من العدالة أن تحسب جهل الغائب جريمة فالجرائم ل تكون إل في موضع الدراك و المعرفة ,و أنا ل أريد أن أسكب سهواً قليلً من الرصا ص المذوب أو الماء
الغالي على أصابع العارفين المدركين لعلمي أن الجريمة نفسها عقاب المجرمين و أن مصائب أكثر الناس في
ما أسند إليهم من العمال. لقد استأنست بذلك العنصر الشفاف الذي تتلشى أمامه المسافة و الحدود و الحواجز ,و النفس ت – أن ِ المستوحشة ل تستأنس إل بذلك العنصر و ل تستصرخ سواه و ل تستنجد غيره .و أن ِ ت التي تعيشين كثيراً في عالم المعنى تعلمين أن العنصر الشفاف فينا يتنحى عن جميع أعمالنا و يبتعد حتى و عن
أجمل ميولنا البيانية و أنبل رغائبنا الفنية ,فهو و إن جاور الشاعرية فينا ل ينظم ذاته نشيداً غنائياً و ل يضع
خفاياه في الخطوط و اللوان
.كل بشري يستطيع التكلف بمنازعه و اللعب بمطامعه و المتاجرة بأفكاره و لكن ليس بين البشر من يستطيع التكلف بوحشته أو اللعب بألمه أو المتاجرة بجوعه و عطشه .ليس بين الناس من يقدر أن يحول أحلمه من صورة إلى صورة أو ينقل أسرار نفسه من مكان إلى مكان .و هل بإمكان الضعيف و الصغير فينا أن يؤثر على القوي و العظيم فينا ؟ هل بإمكان الذا:ت المقتبسة و هي من الرض أن تحّو رـ و تغّير الذا:ت الوضعية و هي من
السماء ؟ إن تلك الشعلة الزرقاء تنير و ل تتغير و تحّو لـ و ل تتحول و تأمر و ل تأتمر .و هل تظنين حقيقةً ,
و أنت أبعد الناس فكراً ,أن:
التهكم الدقيق " ينبت في حقل يفلحه اللم و تزرعه الوحشة و يحصده الجوع و العطش؟ هل تظنين أن النكتة الفلسفية تسير بجانب الميل إلى الحقيقة و الرغبة في المجرد المطلق ؟
ل يا صديقتي ,أنت أرفع من الشك و الرتياب .الشك يلزم الخائفين السلبيين و الرتياب يلحق من ليس لهم الثقة بنفوسهم ,أما أنت فقوية إيجابية و ل ِ ك الثقة التامة بنفسك فهل كن ِ ت مؤمنة بكل
ت عيني ِ ما تضعه اليام في راحتيك ؟ هل حول ِ ك عن المظاهر الجميلة إلى الحقيقة الجميلة ؟
قد صرفت شهور الصيف في منزل منفرد منتصب كالحلم بين البحر و الغاب فكنت كلما أضعت نفسي في الغاب أذهب إلى البحر فأجدها و كلما فقدتها بين المواج أعود إلى ظل الشجار فألتقي بها .إن غابا:ت هذه البلد تختلف عن غابا:ت الرض كافًة ,فهي غضة كثيفة متعرشة تعود بالذكرى إلى الزمنة الغابرة ,إلى البدء إذ كان الكلمة عند ال و كان الكلمة ل ! أما بحرنا فبحركم و ذلك الصو:ت
المجنح الذي تسمعونه على شواطئ مصر نسمعه نحن على هذه الشواطئ ,و ذلك القرار الرهاوي الذي يمل صدوركم بهيبة الحياة و هولها يمل صدرنا بهول الحياة و هيبتها . لقد أصغيت إلى نغمة البحر في مشارق الرض و مغاربها فكانت و لم تزل هي هي الغنية الزلية البدية التي تعلو و تهبط بالروح فتكسبها تارًة الحزن و طوراً الطمأنينة . لقد أصغيت إلى تلك النغمة حتى و على رمال السكندرية – نعم على رمال السكندرية – و كان ذلك في صيف 1903فسمعت إذ ذاك حديث الدهور من بحر المدنية القديمة مثلما سمعته بالمس من بحر المدنية الحديثة ,ذلك الحديث الذي سمعته للمرة الولى و أنا في الثامنة فاحتر:ت بأمري و ألبست عل ّي حياتي فأخذ:ت أحارب بسؤالتي الكثيرة صبر المرحومة أمي و جلدها ,ذلك الحديث الذي أسمعه اليوم فأطرح السؤال:ت ذاتها و لكن على الم الكلية فتجيبني بغير الكلم و تفهمني أموراً كلما حاولت إظهارها للخرين تحولت اللفاظ في فمي إلى سكو:ت عميق .
أنا اليوم و قد صر:ت في )الثمانين؟؟؟؟( مثلما كنت و أنا في الثامنة ,أجلس على شط البحر و أنظر إلى أبعد نقطة من الفق الزرق و أسأل ألف سؤال و سؤال " :ترى هل لنا من مجيب في ربوعكم ؟ " ترى هل تتفتح البواب الدهرية و لو لدقيقة واحدة لنرى ما وراءها من السرار و الخفايا ؟ أليس بإمكانكم أن تقولوا لنا كلمة واحدة عن تلك النظمة السرية النافذة حولنا في الحياة قبل أن يضع المو:ت نقابه البيض على وجوهنا ؟" و أنت تسألين ما إذا كنت ل " أستطيب الفائدة في التفكه بل إجهاد " إني أستطيب الفائدة , أستطيبها إلى درجة قصوى و لكن بعد أن أترجم لفظها إلى لغتي الخاصة !!! أما الجهاد فسّلم نصعد عليه
لنبلغ العلّية .أنا بالطبع أفضل الصعود إلى عليتي طائراً و لكن الحياة لم تعّلم جناحّي الرفرفة و الطيران فماذا أفعل ؟ و أنا أفضل الحقيقة الخفية على الحقيقة الظاهرة ,و أفضل الحاسة الصامتة اكتفاًء و اقتناعاً على الحاسة التي تحتاج إلى التفسير و التعليل .
غير أنني وجد:ت أن السكو:ت العلوي يبتدئ دائما بكلمة علوية إني أستطيب الفائدة ,بل و أستطيب كل شيء في الحياة إل الحيرة ,فإذا جاء:ت الفائدة و على منكبيها غمر من الحيرة أغمضت عينّي و قلت في سري " هذا صليب آخر علي أن أحمله مع المائة صليب التي أحملها " و ليست الحيرة بذاتها من المور المكروهة و لكنني قد رافقتها حتى مللتها – قد أكلتها خبزاً و شربتها ماًء و
توسدتها فراشاً و لبستها رداًء حتى صر:ت أتبرم من لفظ اسمها و أهرب من ظل ظلها. .
أظن أن مقالتك في " المواكب " هي الولى من نوعها باللغة العربية .هي أول بحث في ما يرمي إليه الكاتب بوضع كتاب .حبذا لو كان بإمكان أدباء مصر و سوريا أن يتعلموا من ِ ك استجواب أرواح الكتب دون أجسادها و استفسار ميول الشعراء النفسية قبل استقصاء مظاهر الشعر الخارجية .يجب علّي أن ل أحاول إظهار امتناني الشخصي على تلك المقالة النفيسة لنني أعلم أنها كتبت و أنت منصرفة عن كل شيء شخصي .و إذا ما حاولت إظهار امتناني القومي بصورة عمومية أوجب علّي ذلك كتابة مقالة في تلك المقالة و هذا أمر يحسبه الشرقيون في الوقت الحاضر من المور التي ل تجاور الذوق السليم ! و لكن سيجيء يوم أقول فيه كلمتي في " مي " و مواهبها ,و ستكون كلمتي هائلة ! و ستكون طويلة عريضة ! و ستكون صادقة لنها ستكون جميلة. .
إن الكتاب الذي سيصدر في هذا الخريف هو كتاب رسوم خاٍل من " ضجيج التمرد و
العصيان ".و لول إضراب العمال في المطابع لظهر منذ ثلثة أسابيع .و في السنة القادمة سيصدر كتابان الول " المستوحد " و ربما دعوته باسم آخر " و هو مؤلف من قصائد و أمثال و الثاني كتاب رسوم رمزية باسم " نحو ال " وبهذا الخير انتهي من عهد و ابتدئ بعهد آخر .و أما " النبي " فكتاب فكر:ت به منذ ألف سنة و لكنني لم أكتب فصلً من فصوله حتى أواخر السنة الغابرة .و ماذا عسى أقول لك عن هذا النبي ؟ هو ولدتي الثانية و معموديتي الولى هو الفكرة الوحيدة التي تجعلني حرياً بالوقوف أمام وجه الشمس . و لقد وضعني هذا النبي قبل أن أحاول وضعه ,و ألّف نـي قبل أن أفكر بتأليفه
و سيّرني صامتاً وراءه سبعة آلف فرسخ قبل أن يقف ليملي علّي ميوله و منازعه أرجوك أن تسألي رفيقي و معاوني العنصر الشفاف عن هذا النبي و هو يقص عليك حكايته . اسألي العنصر الشفاف ,اسأليه في سكينة الليل عندما تنعتق النفس من قيودها و تتملص من أثوابها و هو يبوح ل ِ ك بأسرار هذا النبي و بخفايا من تقدمه من النبياء أجمعين. أنا أعتقد يا صديقتي أن في العنصر الشفاف من العزم ما لو وضعنا ذرًة منه تحت جبل لنتقل من
مكان إلى مكان آخر, .
و أعتقد ,بل و أعلم ,أننا نستطيع أن نمد ذلك العنصر سلكاً بين بلد و بلد فنعلم بواسطته كل ما
نريد أن نعلمه و نحصل على كل ما نشوق إليه و نبتغيه.
و ل ّد يـ أمور كثيرة أريد أن أقولها عن العنصر الشفاف و غيره من العناصر و لكن علّي أن أبقى صامتاً عنها .و سوف أبقى صامتاً حتى يضمحل الضباب و تنفتح البواب الدهرية و يقول لي ملك الرب " تكلم , فقد ذهب زمن الصمت و ِس ْر ـ فقد طال وقوفك في ظلل الحيرة أي متى يا ترى تنفتح البواب الدهرية ؟ هل تعلمين ؟ هل تعلمين أي متى تتفتح البواب الدهرية و يضمحل الضباب ؟ و ال يحفظك يا " مي" و يحرسك دائماً المخلص جبران خليل جبران
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رسائل جبران إلى مي نيويورك 15تشرين الثاني 1919
و في 15تشرين الثاني 1919تلقت مي زيادة رسالة يحمل مغلفها التاريخ النف الذكر كانت عبارة عن بطاقة دعوة لمعرض فني كبير أقيم في نيويورك لفنانين أجانب و أمريكان .و قد كتب جبران على تلك البطاقة إلى مي العبارة التالية:
)!! هذه دعوة إلى وليمة فنية فهل تكرمت و شّرفِتنا ( ـــــــــ
رسائل جبران إلى مي
نيويورك 30تشرين الثاني 1919
و بعد أسبوعين ,أي بتاريخ 30تشرين الثاني 1919استنادا إلى ختم البريد في مصر المسجل على المغلف تلقت مي رسالة أخرى تتضمن دعوة من نادي " ماكدويل " في نيويورك ,كما هو واضح في الصورة اللحقة ,لحضور أمسية فنية أدبية في 2كانون الول 1919يقرأ فيها جبران بعضاً من حكاياته و
أمثاله ,و ينشد فيها " ويتر باينرز " بعضاً من أناشيده ,وقد كتب جبران على هامش البطاقة بالنكليزية ما يلي
:
Would that you were here to lend wings to my voice and turn my " mutterings into songs . Yet I shall read knowing that among the strangers" an invisible " friend" is listening and smiling sweetly and .tenderly
)
حبذا لو كنت هنا لتعيري أجنحة إلى صوتي و تحيلي همهماتي إلى تراتيل .و مع ذلك فسوف
أقرأ و أنا واثق أن لي بين الغرباء صديقاً ل ُيرى يسمعني و يبتسم لي بعذوبة و حنان.
ــــــــــــــــــــــــــــ
رسائل جبران إلى مي نيويورك 28كانون الثاني 1920م. عزيزتي النسة /مي . تريدين أن تعلمي بالضبط معنى ندامتي و ما وراء طلبي المغفرة منك من السرار النفسية .و إليك بالضبط البسيط ما كان و سيكون وراء تلك الندامة و تلك المعاني و تلك السرار و تلك النفسيا:ت . لم أندم على كتابة تلك الرسالة المعروفة لديك " بالنشيد الغنائي " – و لن أندم .
لم أندم على أصغر حرف فيها ل و ل على أكبر نقطة فيها و لن أندم . لم أكن في ضلل لذلك لم أر داعياً للهتداء. و كيف يا ترى أندم على أمر موجود الن في نفسي مثلما كان موجوداً إذ ذاك ؟ و أنا لست ممن يندمون على وضع ما في نفوسهم بين شفاههم . و لست ممن ينفون في يقظتهم ما يثبتونه في أحلمهم ,لن أحلمي هي يقظتي و يقظتي هي أحلمي ,لن حياتي ل تقسم إلى خطوة إلى المام و خطوتين إلى الوراء أما الثم الذي اقترفته -أو توهمت بأني اقترفته و أنا بعيد عن عالم الموازين و الكمية -فهو هذا :بعد أن قرأ:ت كلمك عن ذلك اللبناني الذي زارك قبل مغادرتك القاهرة إلى رمال السكندرية -أعني ذلك الرجل الذي " بكل أسف لم تسكبي سهواً بعض قطرا:ت من الماء الغالي على يده " معاقبة له على " أمر
غير محمود " -بعد أن قرأ:ت كلمك هذا انتبهت لشيء كان من الواجب علّي أن أفطن له قبل أن أضع تلك الرسالة في صندوق البريد ,فظننت أو تخيلت ,أو تصور:ت ,أن تلك الرسالة قد سببت لك بعض النزعاج
من هذه الوجهة . و من منا ل يتأفف و يتبرم إذا علم أن الشياء المختصة به دون سواه قد مر:ت بين أصابع و أمام عيون من ليس لهم الحق بمعرفتها ؟ هذا هو المر الذي انتبهت له فندمت و هذا هو الشيء الوحيد الذي طلبت إليك وضعه في صندوق النسيان . و قد دعو:ت " قلم المراقبة " و السباب التي أوجدته و النتائج التي أوجدتها " بعالم الموازين و الكمية " دعوته بهذا السم لبعده عن العالم الذي كان يشغل فكري حينئذ بعد الجحيم عن غابة الحق .
و لقد عرفت في العام الغابر عن " قلم المراقبة " ما يضحك البوم بين القبور ! فقد كان بعض الفتيان الموظفين في تلك الدارة النبيلة يفتحون الرسائل الواردة إلّي من الشرق و يذيلونها بالحواشي و السلما:ت و التحيا:ت و الملحظا:ت السياسية و العمرانية و الدبية و بعضهم كان يطلب مني المال لغراض لم أسمع بمثلها . و أغرب من هؤلء جميعهم مراقب في دمشق وجد فسحة بيضاء واسعة في رسالة موجهة إلّي فنمقها و طرزها بقصيدة طويلة يمدحني بها ! و لو أخبرتك حكاية تلك القصيدة بتمامها لغضبت علّي .
أما تلك الرسالة المعروفة " بالنشيد الغنائي " فهي مني و بي و فّي ,و هي أنا مثلما كنت و مثلما سأكون ,و هي الن مثلما كانت بالمس و مثلما ستكون في الغد فهل آمنت و صدقت يا توما ) هو القديس توما أحد رسل المسيح الثني عشر .لم يؤمن بقيامته إل بعد أن رأى آثار جراحاته و وضع فيها إصبعه .و هو الذي أدخل المسيحية إلى الهند (.أتريدين وضع إصبعك في الجرح يا مّي ؟ و اسمحي لي أن أقول ثانية أنني أكره التهكم الدقيق و الغير دقيق بين الصدقاء ,و أكره النكتة الفلسفية و الغير فلسفية بين المتفاهمين بالروح ,و أكره التكلف و التصنع في كل أمر حتى و في الصعود إلى السماء . و أما سبب كرهي هذه الشياء فهو ما أراه حولي في كل دقيقة من مظاهر هذه المدنية اللية و نتائج هذا الجتماع السائر على دواليب لنه بدون أجنحة . أظن أن السبب الذي يجعلك أن تعزي إلّي " التهكم الدقيق " هو بعض ما جاء في " المجنون " و إذا صح ظني أكون أول ضحايا ذلك الكتاب لن " المجنون " ليس أنا بكليتي ,و الفكار و المنازع التي أرد:ت بيانها بلسان شخصية ابتدعتها ليست كل ما لدي من الفكار و المنازع ,و اللهجة التي وجدتها مناسبة لميول ذلك المجنون ليست اللهجة التي اتخذها عندما أجلس لمحادثة صديق أحبه و أحترمه . و لكن إذا كان ل بد من الوصول إلى حقيقتي بواسطة ما كتبته فما عسى يمنعك عن اتخاذ فتى الغاب في كتاب " المواكب " لهذه الغاية بدل من " المجنون " ؟ إن روحي يا مي أقرب بما ل يقاس إلى " فتى
الغاب " و نغمة نايه منها إلى " المجنون " و صراخه .و سوف يتحقق لديك بأن " المجنون " لم يكن سوى حلقة من سلسلة طويلة مصنوعة من معادن مختلفة .ل أنكر أن " المجنون " كان حلقة طويلة مصنوعة من معادن مختلفة .ل أنكر أن " المجنون " كان حلقة خشنة مصنوعة من حديد ,و لكن هذا ل يدل على أن السلسلة بكليتها ستكون من الحديد الخشن .لكل روح فصول يا مي ،و شتاء الروح ليس كربيعها ,و ل صيفها كخريفها . قد سرر:ت جداً لنتسابك إلى عائلة لوّية ) نسبة إلى لوي البن الثالث ليعقوب و قد خرج
اللويون ,كهنة بني إسرائيل ,من سبطة ( ,سرر:ت إلى درجة قصوى و سبب هذا السرور الهائل هو هذا أنا ابن كاهن ماروني !!
نعم فقد كان جدي ,والد أمي ,كاهنا متعمقاً بالسرار اللهوتية ! ) بيد أنه كان مولعاً بالموسيقى الكنائسية و الغير كنائسية و لهذا قد غفر:ت له كهنوتيته (.و قد كانت أمي أحب أبنائه إليه أشبههم به .و الغريب أنها عزمت و استعد:ت و هي في ربيع العمر للدخول إلى دير القديس سمعان للراهبا:ت في شمال لبنان . أما أنا فقد ورثت عن أمي تسعين بالمائة من أخلقي و ميولي ) ل أقصد بذلك أنني أماثلها من حيث الحلوة و الوداعة و كبر القلب ( و مع أنني أشعر بشيء من البغضاء نحو الرهبان فأنا أحب الراهبا:ت و أباركهن في قلبي . و قد يكون حبي لهن ناتجاً عن تلك الرغائب السرية التي كانت تشغل خيال أمي في صباها .و إني
أذكر قولها لي مرة ,و قد كنت في العشرين :
لو دخلت الدير لكان ذلك أفضل لي و للناس، فقلت لها:
لو دخل ِت الدير لما جئت أنا . فأجابت : أنت مقّد رـ يا ابني .فقلت :
نعم ,و لكن قد اخترت ِك أماً لي قبل أن أجيء بزمن بعيد .
فقالت :
-لو لم تجيء لبقيت ملكاً في السماء .
فقلت :
-لم أزل ملكاً !
فتبسمت و قالت :
أين جوانحك ؟ت يدها على كتفي قائلً : فوضع ُ هنافقالت: متكسرة !بعد هذا الحديث بتسعة أشهر ذهبت أمي إلى ما وراء الفق الزرق .أما كلمتها " متكسرة " فظلت تتمايل في نفسي و من هذه الكلمة قد غزلت ونسجت حكاية " الجنحة المتكسرة ". ل يا مي لم أكن قط من جدود جدود أمي .لقد كانت و لم تزل أما لي بالروح .و إني أشعر اليوم بقربها مني و تأثيرها عل ّي و مساعدتها لي أكثر مما كنت أشعر به قبل أن تذهب -أكثر بما ل يقاس .و لكن هذا الشعور ل ينفي الروابط الخرى الكائنة بيني و بين أمهاتي و أخواتي بالروح ,و ليس هناك من فرق بين شعوري نحو أمي و شعوري نحو أمهاتي سوى الفرق الموجود بين الذكرى الواضحة و الذكرى الضئيلة . هذا شيء قليل عن أمي . و إذا جمعتنا اليام أخبرتك الشيء الكثير عنها ,و إني ل أشك بأنك ستحبينها .ستحبينها لنها تحبك .و الرواح السابحة هناك تحب الرواح الجميلة السائرة هنا و أنت يا مي روح جميلة إذاًل تستغربي قولي " إنها تحبك ". أما الوجه الخر الذي نشر في " الفنون" فهو وجهها في حالة اللم النفسي .و الوجه المنشور في أول صفحة من " عشرون رسماً" ) عنوان لكتاب يتضمن رسوماً بريشة جبران كتبت مقدمته اليس
رافائيل نشر في نيويورك سنة (. 1919هو وجهها أيضاً ,و لقد دعوته " نحو اللنهاية " لنه يمثلها في آخر دقيقة من حياتها هنا و أول دقيقة من حياتها هناك .
و أما من جهة عائلة والدي فإني أستطيع أن أتبجح و أتباهى بثلثة أو أربعة من الكهان مثلما ت وتبجح ِ تباهي ِ ت بكهنة و قسس بيت زيادة !!!! أقّر لك بميزة واحدة و هي وجود القسس عندكم ,إن شجرتنا لم تثمر من هذا النوع ! و لكن قد ظهر عندنا خورو " سقفس" أي خوري ونصف خوري ,فهل ظهر عندكم من هذا الجنس ؟ و لقد كان هذا الخوروسقفس أو هذا المونسنيور الجبراني ,يصلي و يبتهل ل ليرجعني إلى حضن الكنيسة الجامعة الرسولية مثلما ارجع البن الشاطر إلى أبيه! و حضن الكنيسة كما تعلمين يشابه صدر أبينا إبراهيم -الول لراحة الخطأة و الثاني لراحة الموا:ت .و المسيحي المسكين ل يتملص من هذا حتى يهبط في ذاك و أنا و الحمد للسماء لم أكن من الخطأة و لن أصير من الموا:ت ! بيد أنني أشفق على إبراهيم إجمالً و على صدر إبراهيم خصوصاً ...
هذا و ل يغرب عن بال ِ ك أن نصف سكان شمال لبنان من الكهنة و القساوسة و النصف الثاني من أبناء و أحفاد الكهنة ! فهل في بلدكم – و أظنها غزير ) -قرية في لبنان تقع بالقرب من مسقط رأس مي زيادة أي من قرية شحتول ,كانت تؤمها للصطياف (.مثل ذلك ؟ أما في بلدنا -بشري ) مسقط رأس جبران( فمن الصعوبا:ت إحصاء عدد الكهان و الرهبان ! أجل لنتحدث عن كتاب " دمعة وابتسامة " فأنا لست بخائف ! ظهر هذا الكتاب قبل نشوب الحرب بمدة قصيرة .و قد بعثت إليك بنسخة منه يوم صدوره .نعم قد بعثت إليك بنسخة من كتاب " دمعة و ابتسامة " يوم صدوره من مطبعة الفنون و لكنني لم أسمع منك كلمة واحدة عن وصولها فتأثر:ت و لم أزل متأثراً !! أما مقال:ت " دمعة و ابتسامة " فهي أول شيء نشر لي في الجرائد .هي من حصرم كرمي و قد كتبتها قبل " عرائس المروج " بزمن و لقد شاء نسيب عريضة فجمعها و أضاف إليها مقالتين كتبتا في باريس منذ 12سنة .سامحه ال ! لقد كتبت و نظمت قبل " دمعة و ابتسامة" أعني بين الطفولية و الشباب المجلدا:ت الضخام ! و لكنني لم أقترف جريمة نشرها ,و لن أفعل .و أنا باعث إليك بنسخة ثانية من " دمعة و ابتسامة " مع المل بأنك ستنظرين إلى روحها ل إلى جسدها .
أنا من الميالين إلى شارل جيران ) شاعر فرنسي له عدة دواوين من الشعر العاطفي الرقيق (.و لكنني أشعر أن المدرسة التي ينتمي إليها أو الشجرة التي هو غصن من غصونها لم تكن في الغابة العلوية .إن الشعر الفرنسي في النصف الخير من القرن التاسع عشر و في أوائل القرن العشرين كان خاتمة لشيء وجد بدلً من أن يكون بداية لشيء غير موجود -أعني غير موجود في عالم الحواس .ففي عقيدتي أن رودان النحا:ت
-و هو المثّـال الفرنسي المشهور الذي تأثر به جبران-
و كيريار المصور ) رسام فرنسي اشتهر:ت لوحاته بأنها كانت تعتمد على أرضية من الضباب (.و
ديبوسي الموسيقي ) من أشهر مؤلفي الموسيقى و مجدديها في القرن العشرين (.قد ساروا على سبل جديدة فكانوا حقيقة من العظام .و لكن جيران و رفاقه كانوا و ما برحوا يسيرون حتى الساعة على السبل التي رسمتها لهم الحالة المعنوية في أوربا قبل زمن الحرب .و مع أنهم يشعرون بجمال الحياة و ما في الحياة من اللم و الغبطةو المظاهر و السرار فهم يمثلون مساء عهٍد بدلً من صباح عهِد آخر .و عندي أن كتاب و شعراء العالم العربي في أيامنا هذه يمثلون ,و لكن بصورة مصغرة جداً ,نفس الفكرة و نفس الحالة و نفس
العهد .
و على ذكر العالم العربي فإني أسألك :لماذا يا ترى ل تعلّم يـ كتاب و شعراء مصر المسير على ت وحدِك قادرة على ذلك فماذا يمنعك ؟ أن ِ السبل الجديدة ؟ أن ِ ت يا مي من بنا:ت الصباح الجديد فلماذا ل
تنبهي الراقدين ؟ إن الصبية الموهوبة كانت و ستكون بمقام ألف رجل موهوب .و إني ل أشك بأن ِ ك إذا ت تلك النفوس الضائعة الحائرة المستعبدة بقوة الستمرار أيقظ ِ نادي ِ ت فيها الحياة و العزم و الميل إلى الصعود نحو الجبل .افعلي هذا و ثقي بأن من يسكب الزيت في السراج يمل بيته نوراً – أ فليس العالم
العربي بيتك و بيتي ؟
أنت تتأسفين لنك لم تستطيعي الحضور إلى " الوليمة الفنية " و أنا أستغرب أسفك هذا ,أستغربه جداً أفل تذكرين ذهابنا سوية إلى المعرض ؟ هل نسيت انتقالنا من صورة إلى صورة ؟ هل نسيت كيف سرنا ببطء في تلك القاعة الواسعة نبحث و ننتقد و نستقصي ما وراء الخطوط و اللوان من الرموز و المعاني و المقاصد ؟
هل نسيت كل ذلك ؟ الظاهر أن " العنصر الشفاف " فينا يقوم بكثير من العمال و المآتي على غير معرفة منا ,فهو يسبح مرفرفاً إلى الجهة الثانية من الرض و نحن في غرفة صغيرة نقرأ جرائد المساء .و يزور الصدقاء البعيدين و نحن نجالس و نحدث الصدقاء القريبين ,و يسير في حقول و غابا:ت بعيدة
سحرية لم ت َرها عين بشري و نحن نسكب الشاي في فنجان سيدة تخبرنا عن الحتفال بعرس ابنتها . ما أغرب العنصر الشفاف فينا يا مي و ما أكثر أعماله المجهولة لدينا .و لكن عرفناه أو لم نعرفه فهو أملنا و محجتنا .و هو مصيرنا و كمالنا .و هو نحن في الحالة الربانية . ك إذا أجهد ِ :ت حافظت ِ هذا و أنا أعتقد بأن ِ ك قليلً تتذكرين زيارتنا إلى المعرض فهل فعلت ؟ لقد طالت رسالتي – و من يجد لذًة في شيء أطاله . قد ابتدأ:ت بهذا الحديث قبل نصف الليل و ها قد صر:ت بين نصف الليل و الفجر و لكنني للن لم أقل كلمة واحدة مما أرد:ت أن أقوله عندما ابتدأ:ت .إن الحقيقة الوضعية فينا ,ذلك الجوهر المجرد , ذلك الحلم الملتف باليقظة ل يتخذ غير السكو:ت مظهراً و بياناً .
نعم كان بقصدي أن أسألك ألف سؤال و سؤال و ها قد صاح الديك و لم أسألك شيئاً . كان بقصدي أن أسأل ِ ك مث لً ما إذا كانت لفظة " سيدي " موجودة حقيقة في قاموس الصداقة ؟ لقد فتشت
عن هذه اللفظة في النسخة الموجودة لدّي من هذا القاموس و لم أجدها ..فاحتر:ت بأمري غير أنني أشعر أن نسختي هي النسخة المصححة – و لكن قد أكون غير مصيب!
هذا سؤال صغير ,أما السؤال:ت الكبيرة فسأتركها إلى فرصة أخرى -إلى ليلة أخرى -فليلتي هذه قد شاخت و هرمت ,و أنا ل أريد أن أكتب إليك في ظلل الليالي المسنة .
و إني أرجو أن يمل العام الجديد راحتيك بالنجوم . و ال يحفظك يا مي و يحرسك صديقك المخلص جبران خليل جبران
ـــــــ
رسائل جبران إلى مي بعد أن ختمت هذه الرسالة فتحت نافذتي فوجد:ت المدينة متشحة برداء أبيض و الثلج يتساقط بهدوء و
عزم و غزارة ,فتهيبت لهذا المشهد الجليل بطهره و نقاوته ,و عد:ت بالفكر إلى شمال لبنان ,إلى أيام حداثتي عندما كنت أصنع التماثيل من الثلج ثم تطلع الشمس فتذيبها . إني أحب عواصف الثلج محبتي لكل أنواع العواصف .و سأخرج في هذه الدقيقة و أمشي تحت هذه العاصفة البيضاء . و لكنني ل و لن أمشي وحدي . جبران ـــــــ
قصيدة
)المساء(. للشاعر جبران خليل جبران. هذه القصيدة قد كتبها الشاعر العاشق تغزلً في محبوبته النسة )مي زيادة( ،أرد:ت ان اجمعها في
هذا الكتاب ،حتى ل يفوتني شيئ من جمع هذه القصة. نمشي الهوينا في الخل ء طربين من نغم الهوا ء
كنا وقد أزف المسا ء ثملين من خمر الهوى
وكثيرها محض اشتكا ء صو ت المؤذن بالعشا ء متطامن واهي البنا ء وثبا كما تثب الظبا ء فانتظر ت على استيا ء ذهبت إليه في الخفا ء أمشي ويثنيني الحيا ء في وجهها أثر البكا ء صبرا عجافا أشقيا ء حمر المحاجر كالدما ء ملك تكفل بالعزا ء ومن أياديها الرجا ء منها وعد ت إلى الورا ء فقلت كذا التلطف في العطا ء يسبق لها قول افترا ء فكان أصدق في السخا ء ول تكذب عين را ء كالصبح نم به الضيا ء فتراه أطيار السما ء ومل ء قلبينا صفا ء العذاب بما نشا ء من شرفة بيد القضا ء لم يبق منه سوى الذما ء جوعان يلتمس الغذا ء الضيف ليلى حين جا ء
متشاكيين همومنا حتى إذا عدنا على سرنا بجانب منزل فاستوقفتني وانبر ت حتى توار ت فيه عني وارتبت في المر الذي فتبعتها متضائل فرأيت أما باديا ورأيت ولدا سبعة سود الملبس كالدجى وكأن ليلى بينهم وهبت فأجزلت الهبا ت فخجلت مما رابني وبسمت إذ رجعت فتنصلت كذبا ولم ولربما كذب الجواد فأجبتها أني رأيت ل تنكري فضل بدا يخفي الكريم مكانه ثم انثنينا راجعين مفكهين من الحاديث فإذا عصيفير هوى عار صغير واجف ظمآن يطلب ريه ولشد ما سر ت بهذا
فرح المفارق باللقا ء
فرحت بطيب لقائه
الخاتمة وفي ختام تلك القطعه الوجدانيه المــؤثره الفائضــه بــالحب واللــوعه واليــأس ,أعربت مـّي عــن شــوقها للرحيــل ,ولكــن مشــيئة القــدر فــرض عليهــا ان تعيــش بعــد جــبران عشــر ســنوا:ت تقريب ـاً كــانت أس ـؤا مرحلــه فــي حياتها ,فقد أستبد بها الحزن ..وعاشت في غمرة الحزان تمّزقها الوحده والوحشه بعد فقده ,أصــيبت بانهيــار عصبي ,تبعه انهيار في صحتها ,فاعتزلت الناس ,أرسلت الى قريب لها في بيرو:ت دكتور جوزيف زياده رساله
مؤثره وصفت المها وترّدي صحتها ,تلك المحنــه قادتهـا الــى لبنــان موطنهـا الصــلي وأدخلتهــا ظلمـاً الــى مصـح
المراض العقليه مما طعنها في كرامتها ,وقضت ثلث سنوا:ت متنقله بين ) العصــفوريه ( كمــا يســمونه ,ومصــح
دكتور بيريز وبين بيت متواضع ,الى أن هّبوا اقاربائها لنقاذها ,وعاد:ت لى القاهره عاشت سنتين ونصف ,الى
أن ذو:ت شيئاً فشيئاً ,فتوفيت عام 1941م
ومـاهو جــدير بالــذكر ان مــي عنــدما كــانت فــي لبنــان اصــطحبت رسـائل جــبران معهــا ,وك انت تلج ـاً اليهــا علــى
انف ـ ـ ـ ـ ـراد ,حيـ ـ ـ ـ ــن يش ـ ـ ـ ـ ـ ّف هـا الوج ـ ـ ـ ــد ,وص ـ ـ ـ ــوره لجـ ـ ـ ـ ــبران كتبـ ـ ـ ـ ــت بخطهـ ـ ـ ـ ــا الـ ـ ـ ـ ــى جـ ـ ـ ـ ــانب الصـ ـ ـ ـ ــوره ... )وهذه مصيبتي منذ أعوام (.
وهكذا رأينا دخلت المـرأة قاعـا:ت الــدرس وأســفر:ت بعضــهن إمعانــا فـي الـدفاع عـن كرامتهـن وتعـبيرا عــن مســاواتهن بالرجل فــالمرأة ليســت كائنــا جنســيا وظيفتــه إمتــاع الرجل وإنجــاب الولد بــل إنســانا حيــا فــاعل خلقا ،وليست موضوعا غزليا يتغنى بالقد المياس والعين النجلء والخد السيل فقط. وقد أثمر:ت هذه الدعوة المباركة ثمارا طيبة تجلت في ظهور نســاء وقفــن نــدا للرجل فــي السياســة والفكــر والفــن والدب وكان منهــن لبيبــة هاشــم وملــك حفنــي ناصــف وعائشــة التيمورية وهـدى شــعراوي ومي زيادة وصول إلــى مفيدة عبد الرحمن وعائشة عبد الرحمن ونعما:ت فؤاد وفدوى طوقان ونازك الملئكة وسهير القلماوي وغيرهن. ول ري ب أن النســة مــي زي ادة كــانت أكــثرهن شــهرة وشـغل للــرأي العــام وإثــارة لطبقــة المثقفيــن ورج ال السياســة والدب ،فقــد جمعــت بيــن جمــال الــروح والجســد فــي تنــاغم عجيــب ،وألمــت بالثقافــة العربيــة والغربيــة إلمامــا مدهشــا.كمــا أتقنــت اللغــا:ت الجنبيــة وفضــل عــن ذلــك كــان جمالهــا الروح ي والجســدي مغريـا للدباء بحبها والتعلق بها وقد اشتهر بحبها مصطفى صادق الرافعي وعباس محمود العقاد . وك ذلك جــبران خليــل جــبران الــذي عرفهــا عــن بعــد وهـو فــي المهجــر المريكــي واقتصــر:ت العلقــة بينهما على تبادل الرسائل ول شك أن صالونها الدبي الــذي كــان يجتمـع فيــه كبــار مثقفــي العصــر ،زادهــا شــهرة وتقــديرا فالصــالون الدبــي فكــرة غربيــة محضــة اشــتهر:ت بهــا بعــض كاتبــا:ت الغــرب فضــل عــن كتــابه وإنشــاؤه وترسيخه في المجتمع العربي الخارج لتوه من عصرالظلما:ت فكــرة خلقــة مدهشــة تؤكد أن المـرأة ليســت مجــرد وجه جميل ورحم ولود ،هذا الصالون الذي أنشــأته النســة مــي زيادة زاد فــي شــهرتها وفي تقــدير المجتمـع لهــا , خاصة طبقة المثقفين. وللنس ــة م ــي ع ــدة مؤلف ــا:ت منه ــا " باحث ــة البادي ــة " و" بي ــن الم ــد والج ــزر" و"سـ ـوانح فت ــاة " و" كلما:ت وإشارا:ت " و"ظلما:ت وأشعة " و"ابتساما:ت ودموع " ولها ديوان شعر بالفرنســية بعنــوان "أزاهيــر حلــم" . لقد كانت مي زيادة محبة للعروبة ملمة بالدب العربي وعلومه إلماما أدهش الرواد من أدباء مصر وحبهــا للعربيــة
وتعلقها بالعروبة دفعهـا إلـى نحـت اسـم لهـا عربي خـالص مـن اسـم "مـاري" هـو الـذي عرفت بـه ،وإن كـان "ميـة" اسم عربي تردد وقـد كــان رحيــل مــي وانفضــاض مجلســها وغيــاب نبرتهــا الموسـيقية وملمحهــا الهادئــة الرشـيقة، وكلماتها العذبة المليئة بالفكــار الخلقــة والمعــاني البكــر ،كــان ذلــك حــدثا مؤلمــا لشــاعر القطرين خليــل مطـران الذي أقضته الذكرى ،وأبكته حسرة الرحيل ومرارة الفراق وغياب اللحظا:ت الجميلة وما أوجع الحــزن ،وما أشــد الغصة ،غصة الرحيل التي فعلت فعلهافي نفس الشاعر كما يــوحي بهــا البيتــان الخيـران .لقــد كــانت النســة مــي بأدبهــا وبثقافتهــا ،وبجمالهــا الروحي والجســدي رم زا للمـرأة العربيــة الطامحــة إلــى عصــر غيــر عصـر الحريم ،وإلــى شعر ليكتفي منهــا بوصف النهـود والرداف والخـدود ،بــل يشــيد بعبقريتهـا وإنســانيتها وعطائهـا وإنتاجهــا العلمـي والدبي .
أرشف صور الديبة مي زيادة .
صورة للديبة مي زيادة امام آلة البيانو.
الشاعر /جبران خليل جبران .
ماري زيادة.