المقال التاريخي في مجلة زهرة البارون

Page 1

‫إصدارات مؤسسة البارون للنشر االلكتروني الكتاب السادس‬

‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫‪1‬‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫للكلمات بريق‬ ‫للمجال االكادميي دور كبري يف بناء صرح الثقافة ومنها من يكون مشاعل نور للمستوى الثقايف يف‬ ‫البلدان والشعوب وهم املقياس احلقيقي ملستوى النوع الثقايف يف تلك الصروح ومنهم أيضا قامات عمالقة‬ ‫يف جماهلا االكادميي والثقايف يف رسم اخلارطة الثقافية ووضع حجر األساس لبعض املؤسسة‬ ‫الثقافية ومن تلك األمساء كانت الدكتور صاحل العطوان احليايل باحث واكادميي من الطراز األول‬ ‫وهو منذ اليوم األول كان لكلماته وقع مميز يف اعداد جملة زهرة البارون االلكرتونية من خالل‬ ‫املواضيع التارخيية املميزة اليت حتمل عبق التاريخ وصدق يف رواية احلدث دون احنياز جلهة معينة وحنن‬ ‫حباجة لتلك األقالم املميزة اليت هي شبه معدومة يف عصرنا احلديث والشخصية اليت حنن بصدد اصدار هلا‬ ‫هذا الكتاب‬ ‫هو نوع من التقييم للجهود املميزة اليت بذهلا البحث وحنن فخورين بانتماء هذه الشخصية ملؤسستنا وهلذا‬ ‫كانت تلك الكلمات‬ ‫البارون األخري‬ ‫حممود صالح الدين‬ ‫مؤسسة البارون للنشر االلكرتوني‬

‫‪2‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫احملتويات‬ ‫السلطان سليمان القانوني ‪4................................‬‬ ‫احلرية اإلنسانية بني حضارة اإلسالم وحضارة االخرين ‪17............‬‬ ‫الصحابي جمزاة بن ثور السدوسي ‪27.........................‬‬ ‫الصحابي سلمان الفارسي ‪35.............................‬‬ ‫الصحابي النعيمان بن عمر ‪46.............................‬‬ ‫امرأة من اهل اجلنة ‪55.................................‬‬ ‫الصحابي عمرو بن عبسة ‪62.............................‬‬ ‫االبعاد الدولية ملعركة وادي املخازن ‪73.....................‬‬

‫‪3‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫هو سليمان القانوني ابن سليم‪ ،‬ويُعرف يف الغرب بسليمان العظيم‪ ،‬وهو أحد أشهر السالطني‬ ‫العثمانيني‪ ،‬حكم مدَّة ‪ 48‬عامًا؛ منذ عام ‪926‬هـ‪ ،‬وبذلك يكون صاحب أطول فرتة‬ ‫حُكْم بني السالطني العثمانيني‪ .‬قضى السلطان سليمان القانوني ستة وأربعني عامًا على قمَّة‬ ‫السلطة يف دولة اخلالفة العثمانية‪ ،‬وبلغت يف أثنائها الدولة قمَّة درجات القوَّة والسلطان؛ حيث‬ ‫اتسعت أرجاؤها على حنوٍ مل تشهده من قبلُ‪ ،‬وبسطت سلطاهنا على كثري من دول العامل يف‬ ‫قاراته الثالث‪ ،‬وامتدَّت هيبتُها فشملت العامل كلَّه‪ ،‬وصارت سيدة العامل؛ ختطبُ ودَّهَا الدول‬ ‫واملمالك‪ ،‬وارتقت فيها النظم والقوانني اليت تُسَيِّرُ احلياة يف دقَّة ونظام‪ ،‬دون أن تُخالف الشريعة‬ ‫اإلسالمية اليت حرص آل عثمان على احرتامها وااللتزام هبا يف كل أرجاء دولتهم‪،‬‬ ‫وارتقت فيها الفنون واآلداب‪ ،‬وازدهرت العمارة والبناء‪.‬‬ ‫نشأة سليمان القانوني‬

‫‪4‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫والده السلطان سليم األول‪ ،‬ووالدته حفصة سلطان ابنة منكويل كراني خان القرم‪ ،‬وُلِدَ‬ ‫سليمان القانوني يف مدينة طرابزون عام (‪900‬هـ= ‪1495‬م)‪ ،‬وقد كان والده آنذاك واليًا‬ ‫عليها‪ ،‬واهتمَّ به والده اهتمامًا عظيمًا؛ فنشأ حمبًّا للعلم واألدب والعلماء واألدباء والفقهاء‪،‬‬ ‫واشتهر منذ شبابه باجلدية والوقار‪.‬‬

‫‪5‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫سليمان القانوني يتوىل مقاليد السلطة‬ ‫تولَّى السلطان سليمان القانوني اخلالفة بعد موت والده السلطان سليم األول يف (‪ 9‬من شوال‬ ‫‪926‬هـ= ‪ 22‬من سبتمرب ‪1520‬م)‪ ،‬وبدأ يف مباشرة أمور الدولة‪ ،‬وتوجيه سياستها‪ ،‬وكان‬ ‫يستهلُّ خطاباته باآلية الكرمية‪{ :‬إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اهللِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل‪:‬‬ ‫‪ ،]30‬وقد كانت األعمال اليت أجنزها السلطان يف فرتة حكمه كثرية وذات شأن يف‬ ‫حياة الدولة‪.‬‬ ‫ففي الفرتة األوىل من حكمه جنح يف بسط هيبة الدولة‪ ،‬والضرب على أيدي اخلارجني عليها‬ ‫من الوالة الطاحمني إىل االستقالل‪ ،‬معتقدين أن صغر سنِّ السلطان ‪-‬الذي كان يف السادسة‬ ‫والعشرين من عمره‪ -‬فرصة ساحنة لتحقيق أحالمهم‪ ،‬لكن فاجأهتم عزمية السلطان القويَّة‬ ‫اليت ال تلني‪ ،‬فقضى على مترُّد جان بردي الغزايل يف الشام‪ ،‬وأمحد باشا يف مصر‪ ،‬وقلندر‬ ‫جليب يف منطقيت قونية ومرعش؛ الذي كان شيعيًّا‪ ،‬وقد مجع حوله حنو ثالثني ألفًا من األتباع‬ ‫للثورة على الدولة‪.‬‬ ‫جهاد سليمان القانوني‬ ‫تعدَّدت ميادين القتال اليت حترَّكت فيها الدولة العثمانية لبسط نفوذها يف عهد سليمان؛ فشملت‬ ‫أوربا وآسيا وإفريقيا؛ فاستوىل على بلجراد سنة (‪927‬هـ= ‪1521‬م)‪ ،‬وحاصر فيينا سنة‬ ‫(‪935‬هـ= ‪1529‬م)؛ لكنه مل يُفلح يف فتحها‪ ،‬وأعاد الكَرَّة مرَّة أخرى‪ ،‬ومل يكن نصيبها‬

‫‪6‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫أفضل من األوىل‪ ،‬وضمَّ إىل دولته أجزاءً من اجملر مبا فيها عاصمتها بودابست‪ ،‬وجعلها والية‬ ‫عثمانية‪.‬‬ ‫ويف آسيا قام السلطان سليمان بثالث محالت كربى ضد الدولة الصفوية؛ ابتدأت من سنة‬ ‫(‪941‬هـ= ‪1534‬م)‪ ،‬وهي احلملة األوىل اليت جنحت يف ضمِّ العراق إىل سيطرة الدولة‬ ‫العثمانية‪ ،‬ويف احلملة الثانية سنة (‪955‬هـ= ‪1548‬م) أُضيف إىل أمالك الدولة تربيز‪ ،‬وقلعتا‪ :‬وان‬ ‫وأريوان‪ ،‬وأمَّا احلملة الثالثة فقد كانت سنة (‪962‬هـ= ‪1555‬م) وأجربت الشاه طهماسب على‬ ‫الصُّلح وأحقية العثمانيني يف كلّ من أريوان وتربيز وشرق األناضول‪.‬‬ ‫كما واجه العثمانيون يف عهده نفوذَ الربتغاليني يف احمليط اهلندي واخلليج العربي‪ ،‬فاستوىل‬ ‫أويس باشا وايل اليمن على قلعة تعز سنة (‪953‬هـ= ‪1546‬م)‪ ،‬ودخلت يف عهده عُمَان‬ ‫واألحساء وقطر ضمن نفوذ اخلالفة العثمانية‪ ،‬وأدَّت هذه السياسية إىل احلدِّ من نفوذ الربتغاليني‬ ‫يف مياه الشرق األوسط‪.‬‬ ‫ويف إفريقيا دخلت ليبيا‪ ،‬والقسم األعظم من تونس‪ ،‬وإريرتيا‪ ،‬وجيبوتي‪ ،‬والصومال ضمن‬ ‫نفوذ اخلالفة العثمانية‪.‬‬ ‫تطوير البحرية العثمانية‬ ‫كانت البحرية العثمانية قد منت منوًّا كبريًا منذ أيام السلطان بايزيد الثاني‪ ،‬وأصبحت مسئولة‬ ‫عن محاية مياه البحار اليت تطل عليها الدولة‪ ،‬ويف عهد سليمان ازدادت قوَّة البحرية على حنو مل‬

‫‪7‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫تشهده من قبل؛ وذلك بانضمام «خري الدين بربروس»‪ ،‬وكان يقود أسطوالً قويًّا يُهاجم به‬ ‫سواحل إسبانيا والسفن الصليبية يف البحر املتوسط‪ ،‬وبعد انضمامه إىل الدولة منحه السلطان لقب‬ ‫«قبودان»‪.‬‬ ‫وقد قام خري الدين بفضل املساعدات اليت كان يتلقَّاها من السلطان سليمان القانوني بضرب‬ ‫السواحل اإلسبانية‪ ،‬وإنقاذ آالف من املسلمني يف إسبانيا؛ فقام يف سنة (‪935‬هـ= ‪1529‬م)‬ ‫بسبع رحالت إىل السواحل اإلسبانية لنقل سبعني ألف مسلم من قبضة احلكومة اإلسبانية‪.‬‬ ‫وقد أوكل السلطان إىل خري الدين بربروس قيادة احلمالت البحرية يف غرب البحر املتوسط‪،‬‬ ‫وحاولت إسبانيا أن تقضي على أسطوله؛ لكنها كانت تُخفق يف كل مرَّة وتتكبَّد‬ ‫خسائر فادحة‪ ،‬ولعلَّ أقسى هزائمها كانت معركة بروزة سنة (‪945‬هـ= ‪1538‬م)‪.‬‬ ‫وقد انضمَّ أسطول خري الدين إىل األسطول الفرنسي يف حربه مع اهلابسيورج‪ ،‬وساعد‬ ‫الفرنسيني يف استعادة مدينة نيس (‪950‬هـ= ‪1543‬م)؛ وهذا ما أدَّى إىل تنازل فرنسا عن ميناء‬ ‫طولون الفرنسي برضاها لإلدارة العثمانية‪ ،‬وحتوَّل امليناء احلربي لفرنسا إىل قاعدة حربية‬ ‫إسالمية للدولة العثمانية يف غرب البحر املوسط‪.‬‬ ‫الدولة العثمانية يف عهد سليمان القانوني‬

‫‪8‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫واتَّسع نطاق عمل األسطول العثماني فشمل البحر األمحر؛ حيث استوىل العثمانيون على‬ ‫سواكن ومصوع‪ ،‬وأخرجوا الربتغاليني من مياه البحر األمحر‪ ،‬واستولوا على سواحل احلبشة؛‬ ‫وهو ما أدَّى إىل انتعاش حركة التجارة بني آسيا والغرب عن طريق البالد اإلسالمية‪.‬‬ ‫التطور احلضاري‬ ‫كان السلطان سليمان القانوني شاعرًا له ذوق فين رفيع‪ ،‬وخطَّاطًا يُجيد الكتابة‪ ،‬ومُلمًّا بعدد‬ ‫من اللغات الشرقية من بينها العربية‪ ،‬وكان له بصر باألحجار الكرمية‪ ،‬مغرمًا بالبناء‬ ‫والتشييد‪ ،‬فظهر أثر ذلك يف دولته‪ ،‬فأنفق بسخاء على املنشآت الكربى؛ فشيَّد املعاقل‬ ‫واحلصون يف رودس وبلجراد وبودا‪ ،‬وأنشأ املساجد والصهاريج والقناطر يف شتَّى أحناء‬ ‫الدولة‪ ،‬وخباصة يف دمشق ومكَّة وبغداد‪ ،‬باإلضافة إىل ما أنشأه يف عاصمته من روائع‬ ‫العمارة‪.‬‬ ‫ويُؤَكِّد الباحث مجال الدين فاحل الكيالني ‪-‬باحث عراقي متخصص يف الدراسات‬ ‫التارخيية‪ -‬أن عصر السلطان سليمان القانوني يُعترب العصر الذهيب للدولة العثمانية؛ حيث‬ ‫كانت الدولة األقوى يف العامل واملسيطرة على البحر األبيض املتوسط‪.‬‬ ‫وظهر يف عصره أشهر املهندسني املعماريني يف التاريخ اإلسالمي؛ كاملهندس سنان باشا؛‬ ‫الذي اشرتك يف احلمالت العثمانية‪ ،‬واطَّلع على كثري من الطرز املعمارية؛ حتى استقام له‬

‫‪9‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫أسلوب خاص‪ ،‬ويُعَدُّ مسجد سليمان القانوني أو جامع السليمانية يف إسطنبول ‪-‬الذي بناه للسلطان‬ ‫سليمان يف سنة (‪964‬هـ= ‪1557‬م)‪ -‬من أشهر األعمال املعمارية يف التاريخ اإلسالمي‪.‬‬ ‫ويف عهده وصل فنُّ املنمنمات (أي الرسوم) العثمانية إىل أوجه ازدهارها‪ ،‬وقد قدَّم‬ ‫«عاريف» وثائق احلوادث السياسية واالجتماعية اليت جرت يف عصر سليمان القانوني يف‬ ‫منمنمات زاهية‪ ،‬وملع يف هذا العصر عدد من اخلطَّاطني العظام؛ يأتي يف مُقَدِّمتهم حسن‬ ‫أفندي جليب القره حصاري؛ الذي كتب خطوط جامع السليمانية‪ ،‬وأستاذه أمحد بن قره‬ ‫حصاري‪ ،‬وله مصحف خبطِّه‪ ،‬وهو يُعَدُّ من روائع اخلطِّ العربي والفنِّ الرفيع‪ ،‬وهو حمفوظ مبتحف‬ ‫«طوبي قابي»‪.‬‬ ‫وظهر يف عهد السلطان سليمان عدد من العلماء يف مقدمتهم‪ :‬أبو السعود أفندي؛ صاحب‬ ‫التفسري املعروف باسم‪« :‬إرشاد العقل السليم إىل مزايا الكتاب الكريم»‪.‬‬ ‫القانون واإلدارة‬ ‫الذي اشتهر به السلطان سليمان القانوني واقرتن بامسه هو وضعه للقوانني اليت تُنَظِّم احلياة يف دولته‬ ‫الكبرية؛ هذه القوانني وضعها مع شيخ اإلسالم أبو السعود أفندي‪ ،‬وراعى فيها الظروف‬ ‫اخلاصة ألقطار دولته‪ ،‬وحرص على أن تَتَّفق مع الشريعة اإلسالمية والقواعد العرفية‪ ،‬وقد‬ ‫ظلَّت هذه القوانني ‪-‬اليت عُرفت باسم «قانون نامه سلطان سليمان»؛ أي دستور السلطان‬ ‫سليمان‪ -‬تُطَبَّق حتى مطلع القرن الثالث عشر اهلجري املوافق التاسع عشر امليالدي‪.‬‬

‫‪10‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫ومل يُطلق الشعبُ على السلطان سليمان لقب القانوني لوضعه القوانني؛ وإنَّما لتطبيقه هذه القوانني‬ ‫بعدالة؛ وهلذا يعدُّ العثمانيون األلقاب اليت أطلقها األوربيون على سليمان يف عصره ‪-‬مثل‪:‬‬ ‫الكبري‪ ،‬والعظيم‪ -‬قليلة األمهية واألثر إذا ما قُورنت بلقب «القانوني»‪ ،‬الذي يُمَثِّل العدالة‪.‬‬ ‫ومل يكن عهد سليمان القانوني العهد الذي بلغت فيه الدولة أقصى حدود هلا من االتساع‪ ،‬وإمنا هو‬ ‫العهد الذي متَّت فيه إدارة أعظم دولة بأرقى نظام إداري‪.‬‬ ‫وفاة سليمان القانوني‬ ‫مل يرتك السلطان سليمان القانوني اجلهاد قط‪ ،‬ويف أواخر أيام السلطان سليمان أصابه مرض‬ ‫النِّقْرِس‪ ،‬فكان ال يستطيع ركوب اخليل؛ ولكنه كان يتحامل –رمحه اهلل‪ -‬إظهارًا‬ ‫للقوَّة أمام أعدائه‪ ،‬وقد بلغ السلطان سليمان القانوني من العمر ‪ 74‬عامًا‪ ،‬ومع ذلك عندما علم بأن‬ ‫ملك اهلايسربج أغار على ثغر من ثغور املسلمني؛ قام السلطان سليمان القانوني للجهاد من فوره‪،‬‬ ‫ومع أنه كان يتألَّم من شدَّة املرض‪ ،‬فإنَّه قاد اجليش بنفسه‪ ،‬وخرج على رأس جيش عرمرم‬ ‫يف (‪ 9‬من شوال ‪973‬هـ= ‪ 29‬من أبريل ‪1566‬م)‪ ،‬ووصل إىل مدينة سيكتوار اجملرية‪،‬‬ ‫وكانت من أعظم ما شيَّده املسيحيون من القالع‪ ،‬وكانت مشحونة بالبارود واملدافع‪،‬‬ ‫وكان قبل خروجه للجهاد نصحه الطبيب اخلاص بعدم اخلروج لعلَّة النِّقْرِس اليت به‪ .‬فكان‬ ‫جواب السلطان سليمان الذي خلده له التاريخ‪« :‬أحب أن أموت غازيًا يف سبيل اهلل»‪.‬‬

‫‪11‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫سبحان اهلل! هذا السلطان كان قد بلغ من الكرب عتيًّا‪ ،‬وكان ميلك حتت قبضته نصف‬ ‫الدنيا‪ ،‬وملوك األرض طوع بنانه‪ ،‬وكان بإمكانه التمتُّع حبياة القصور‪ ،‬والتنقُّل بني الغرف‬ ‫واالستمتاع بامللذَّات‪ ،‬ومع ذلك أبى إلَّا أن خيرج غازيًا يف سبيل اهلل‪.‬‬ ‫وخرج بالفعل على رأس جيشه‪ ،‬وما كان يستطيع أن ميتطي جواده؛ الزدياد علَّة النِّقْرِس‬ ‫عليه‪ ،‬فكان يُحْمَل يف عربة؛ حتى وصل إىل أسوار مدينة سيكتوار‪ ،‬وابتدأ يف‬ ‫حصارها‪ ،‬ويف أقلَّ من أسبوعني احتلَّ معاقلها األمامية‪ ،‬وبدأ القتال واشتدَّ النزال‪ ،‬وكان‬ ‫أصعب قتال واجهه املسلمون؛ ملتانة األسوار‪ ،‬وضراوة املسيحيني يف الدفاع عن حصنهم‪.‬‬ ‫واستمرَّ القتال واحلصار قرابة ‪ 5‬شهور كاملة‪ ،‬وما ازداد أمر الفتح إلَّا صعوبة‪ ،‬وازداد همُّ‬ ‫املسلمني لصعوبة الفتح‪ ،‬وهنا اشتدَّ مرض السلطان‪ ،‬وشعر بدنوِّ األجل‪ ،‬فأخذ يتضرَّع إىل اهلل‬ ‫تعاىل‪ ،‬وكان من مجلة ما قاله‪« :‬يا رب العاملني؛ افتح على عبادك املسلمني‪ ،‬وانصرهم‪،‬‬ ‫وأضرم النار على الكفار»‪.‬‬ ‫فاستجاب اهلل دعاء السلطان سليمان‪ ،‬فأصاب أحدُ مدافع املسلمني خزانة البارود يف احلصن‪،‬‬ ‫فكان انفجارًا مهولًا‪ ،‬فأخذت جانبًا كبريًا من القلعة فرفعته إىل عنان السماء‪ ،‬وهجم‬ ‫املسلمون على القلعة‪ ،‬وفُتحت القلعة‪ ،‬ورُفعت الراية السليمانية على أعلى مكان من القلعة‪.‬‬ ‫وعند وصول خرب الفتح للسلطان فرِح‪ ،‬ومحد اهلل على هذه النعمة العظيمة‪ ،‬وقال‪« :‬اآلن طاب‬ ‫املوت‪ ،‬فهنيئًا هلذا السعيد هبذه السعادة األبدية‪ ،‬وطوبى هلذه النفس الراضية املرضية‪ ،‬من الذين‬

‫‪12‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫رضي اهلل عنهم ورضوا عنه»‪ .‬وخترج روحه إىل بارئها‪ ،‬إىل جنة اخللد ‪-‬إن شاء اهلل‪ -‬يف‬ ‫(‪ 20‬من صفر ‪974‬هـ= ‪ 5‬من سبتمرب ‪1566‬م)‪.‬‬ ‫وأخفى الوزير حممد باشا نبأ وفاة السلطان؛ حتى أرسل لويل عهده السلطان سليم الثاني‪ ،‬فجاء‬ ‫وتَسَلَّم مقاليد السلطنة يف سيكتوار‪ ،‬ثم دخل إسطنبول ومعه جثمان أبيه الشهيد‪ ،‬وكان‬ ‫يومًا مشهودًا مل يُرى مثله‪ ،‬إلَّا يف وفاة السلطان حممد الفاتح‪ ،‬وعلم املسلمون خرب وفاة السلطان‬ ‫سليمان القانوني‪ ،‬فحزنوا أشدَّ احلزن؛ أمَّا على اجلانب األوربي؛ فما فرح املسيحيون مبوت أحدٍ‬ ‫بعد بايزيد األول وحممد الفاتح كفرحهم مبوت السلطان سليمان اجملاهد الغازي يف سبيل‬ ‫اهلل‪ ،‬وجعلوا يوم وفاته عيدًا من أعيادهم‪ ،‬ودَقَّت أجراس الكنائس فرحًا مبوت مُجَدِّد جهاد‬ ‫األُمَّة يف القرن العاشر –رمحه اهلل‪.‬‬ ‫مل يكن يف ظنّ مريال أوكاي‪ ،‬اليت ولدت يف أنقرة سنة ‪ ،1959‬وهي كاتبة سيناريو‬ ‫مسلسل القرن العظيم أو ما ترجم عند العرب "حبريم السلطان"‪ ،‬والذي أثار ضجة‬ ‫كبرية يف تركيا حتى أوصلت بعض املتحمسني األتراك إىل التظاهر أمام القناة الرتكية‬ ‫املنتجة‪ .‬وكتبت الصحف عنه كثريا من املقاالت‪ ،‬خاصة حول شخصية أم السلطان‬ ‫سليم الثاني "روكسالن"‪ ،‬اليت ظهرت يف املسلسل بشكل غري الئق هبا وال ميت إىل‬ ‫تارخيها وال حقيقتها بصلة‪ ،‬ولكن السيناريست "أوكاي" أخذت ما كتبه األعداء عنها‬ ‫ومل يكتبه أحد من مؤرخي الدولة العثمانية فنسجت من خياهلا هذا الدور الفظيع‪.‬‬

‫‪13‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫والكاتبة أيضا ليست مؤرخة وال عالقة هلا بتاريخ بين عثمان‪ ،‬ولكنها كما أسلفت إمنا‬ ‫تنفذ ما يطلبه منها املنتج واملخرج هبدف اإلثارة والرتويج ولو على حساب احلقيقة التارخيية‪.‬‬ ‫وهي ليست بدعا من الكتّاب‪ ،‬بل أغلب مؤلفي القصص التارخيية يفعلون مثل فعلها عندما‬ ‫يكون نصب أعينهم حاجة املنتجني للربح وترويج أعماهلم التارخيية‪.‬‬ ‫الكاتب اإلماراتي مجال املهريي‪ ،‬مبينا أن السلطان سليمان هو أحد أهم سالطني الدولة‬ ‫العثمانية‪ ،‬فهو الذي قام بتوسيع حدودها إىل أبعد مدى وقام بوضع القانون األساسي ليكون أول‬ ‫دستور للدولة العثمانية وفتح بالد اجملر وبلغراد ورودس وحارب النمسا والربتغال وإيران وأقام‬ ‫حتالفا مع الفرنسيني وكان سببا يف تطور البحرية العثماينة وأرسى قواعد اجليش العثماني‬ ‫وكان يف نفس الوقت شاعرا وخطاطا وكان له باع كبري يف تطوير العمارة يف الدولة‬ ‫العثمانية كما أقام العديد من املدن اليت محلت امسه‪.‬‬ ‫رغم كل ما سبق‪ ،‬إال أن حياة السلطان كانت مليئة بالرتاجيديا‪ ،‬فالسلطان تزوج من‬ ‫جارية يهودية تدعى روكسيالنه كانوا قد سبوها أثناء إحدى الغارات على الروس من‬ ‫منطقة موجودة اآلن يف أوكرانيا‪ ،‬الفتاة استطاعت أن تسرق قلب السلطان فأعتقها وتزوجها‬ ‫وأعلنت هي اسالمها وأجنبت له ولدين وبنتا‪.‬‬ ‫روكسيالنه أرادت أن متهد ألحد أبنائها أن يتوىل العرش بعد أبيه رغم وجود ابنني أكرب‬ ‫من ابنائها للسلطان من زوجته األوىل‪ ،‬فاشتغلت بالدسائس وساعدها الصدر األعظم‬

‫‪14‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫رستم باشا على ذلك‪ ،‬فانتهز األخري فرصة سفر ابن السلطان مصطفى يف إحدى احلمالت‬ ‫العسكرية إىل بالد فارس وكاتب سليمان األول خيربه أن ابنه يريد أن يثور عليه كما ثار‬ ‫أبوه (سليم األول) على جده بايزيد الثاني‪ ،‬فانطلت احليلة على اخلليفة الذي سافر من فوره إىل‬ ‫معسكر اجليش يف بالد فارس‪ ،‬متظاهرا بقيادة اجليش بنفسه‪ ،‬واستدعى ابنه إىل خيمته‬ ‫وقتله فور دخوله إياها‪ ،‬وكان للسلطان سليمان ابن آخر يدعى جهانكري تويف أيضا بعد‬ ‫مقتل أخيه مصطفى بقليل من شدة احلزن‪.‬‬ ‫ولكن مسلسل قتل األبناء للسلطان سليمان مل يتوقف‪ ،‬فبعد وفاة روكسيالنه أراد سليم‬ ‫ابنها األصغر أن يكيد ألخيه األكرب بايزيد ويصبح هو السلطان‪ ،‬فتمكن من استئجار‬ ‫مربي بايزيد وجعله يسرب له معلومات خاطئة تفيد نية أبيه تولية ابنه األصغر السلطنة‪ ،‬وجعله‬ ‫يتبادل مراسالت مع سليم عن هذا املوضوع يف إحداها مس بايزيد بكرامة أبيهما‪ ،‬فأرسل‬ ‫سليم الكتاب إىل اخلليفة سليمان الذي غضب غضبا شديدا وكتب إىل بايزيد يوخبه ويأمره‬ ‫باالنتقال من إمارته يف قونية إىل مدينة أماسيا‪ ،‬فخشي بايزيد غدر أبيه فجمع قرابة عشرين ألفا‬ ‫من اجلنود وآثر التمرد على أبيه‪ ،‬إال أن سليمان استطاع إمخاد التمرد وأرسل من قتل ابنه وأحفاده‬ ‫األربعة‪.‬‬ ‫يشار أن سليمان القانوني ولد يف ‪ 6‬نوفمرب من عام ‪ 1494‬يف منطقة طرابزون ووالده السلطان‬ ‫سليم األول‪ ،‬وقد تربى على الفروسية ودرس األدب والتاريخ والعلوم‪ ،‬ثم التحق ببعض‬ ‫املدارس العسكرية يف اسطنبول‪ ،‬حيث تعلم العلوم العسكرية‪ .‬يف ‪ 22‬سبتمرب ‪1520‬‬

‫‪15‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫توىل سليمان احلكم بعد وفاة والده وهنج هنجاً عجيباً فذلل كل الصعوبات بعزمية قوية وقمع‬ ‫اخلارجني عليه وأمخد معظم الفنت يف أحناء الدولة العثمانية وبسط هيبة العثمانيني يف قلوب‬ ‫الناس يف كل مكان‪.‬‬

‫‪16‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫ان اية حضارة سادت يف عمق التاريخ ‪ ،‬امنا بدات من االنسان ‪ .‬فهو اهلدف وهو الغاية وهو‬ ‫الوسيلة يف آن واحد‪ .‬وحضارة االسالم تعترب االنسان حجر الزاوية ‪ ،‬وهلذا وردت‬ ‫تاكيدات متوالية يف القرآن الكريم علي كرامة االنسان ‪ :‬ـ“ ولقد كرمنا بين آدم‬ ‫ومحلناهم يف الرب والبحر “‪ “ .‬ولقد خلقنا االنسان يف احسن تقويم “‪.‬‬ ‫لكن اعتماد حضارة االسالم علي االنسان ‪ ،‬ليس كاعتماد احلضارات االخري عليه ـ‬ ‫والفرق يكمن يف ان االسالم يومن بان هدف احلضارة االسالمية هدف سامي ‪ ،‬البد لة ان‬ ‫يتحقق بوسيلة ربانية تتناسب مع مسو هذا اهلدف ‪ .‬وهلذا فان االنسان الذي هو باني احلضارة‬ ‫وصانعهامن الطبيعي ان تنعكس عليه اشعاعات احلضارة ـ لكنها يف االسالم تاخذ اطار‬ ‫اوسع وابعاد اعمق ‪.‬‬ ‫ولتوضيح هذا الفرق ‪ ،‬البد ان نذكر بان االنسان لة جانبان ‪ :‬جانب العقل ‪ ،‬وجانب اهلوي ‪.‬‬ ‫وجانب اهلوي ـ كما هو معلوم ـ يتشكل علي صورة غرائز ولدت مع االنسان وتاصلت فية‬

‫‪17‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫احلضارات االخري استفادت من االنسان يف بنائها من عقلة وهواة ‪ ،‬وهلذا وقعت يف تناقضات‬ ‫كبرية وتداخالت ال حصر هلا‪ .‬فهي من جهة استهدفت سعادة االنسان ‪ ،‬لكنها من جهة‬ ‫سحقت كرامتة ‪ .‬وهي من جهة خدمت االنسان بتقنياهتا وباجنازاهتا احلضارية ‪ ،‬ومن جهة‬ ‫اخرياخذت تتعامل مع االنسان علي انة آلة صماء‪ .‬بينما حضارة االسالم وتبع ملنطلقها العقائدي‬ ‫تعاملت مع االنسان بعقلة ال مع هواة ‪ ،‬بارادتة ال باحياءاتة الشيطانية ‪ .‬اذ كما يف نفس االنسان‬ ‫قابليات اخلري والصالح ‪ ،‬فاهنا ايض جممع حملفزات الشر والفساد‪ .‬وهلذافان احلضارة االسالمية‬ ‫ال تعترب من الصحة مبكان االستفادة من االنسان مطلق ‪ ،‬واال فان ذلك سوف ينعكس علي‬ ‫صورة البناء‪.‬‬

‫‪18‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫ان تعامل االسالم مع االنسان كانسان امنا يكمن يف العقل واالرادة واحلرية ‪ ،‬او بعبارة‬ ‫اخري االرادة احلرة الناضجة بعيدة عن اهلوي والشهوة ‪ .‬ولذلك فان آية اللة املدرسي يداب يف‬ ‫حديثة عن بناء الشخصية املومنة احلضارية علي تاكيد هذا االمر‪ ،‬ملا لة من تاثريعلي منو‬ ‫احلضارة علي اساس قوي وسليم ‪.‬‬ ‫وتظهر مثرة الفرق بني االجتاهني ان اخذ اهلوي مع العقل يف االنسان كما هو حال احلضارة‬ ‫القائمة قد يدمر كل افرازات العقل ومكاسب االرادة الواعية ‪ ،‬حيت لو كان علي‬ ‫حساب االنسان ‪ .‬بينما اذا اخذنا االنسان بعقلة ‪ ،‬فسوف حتدث عندنا ضمانات كافية للحفاظ‬ ‫علي االنسان كانسان ‪.‬‬ ‫وهلذا فان رسالة االسالم تبشر حبضارة العقل عرب تلك القيم اليت اراد اللة سبحانة وتعايل هلا‬ ‫ان حتكم هذا الكون ‪ .‬واحلضارة القائمة تسري يف خط متوازي مع اجلهل ‪ .‬فالعقل نور‬ ‫واجلهل ظالم ‪ ،‬وهذا يعين ان لكل من هاتينت احلالتني سلسلتني من اخلصال والصفات توثر شئنا‬ ‫ام ابينا علي صورة احلضارة املنشودة ‪ .‬فاالخالقيات احلسنة واملناقبيات احلضارية يف اي‬ ‫انسان متتد ايل العقل ‪ ،‬والصفات االخري املناقضة تتصل باجلهل ‪ ،‬وهاتان احلالتان مغروستان يف‬ ‫كيان االنسان الذاتي بداللة االية الشريفة ‪ :‬ـ “ ونفس وما سواها‪ ،‬فاهلمهافجورها وتقواها “‪.‬‬ ‫واجلهل الذي يقع علي راس السلسلة السلبية ميثل الطبيعة االولية لالنسان ‪ ،‬ولدية عشرات من‬ ‫اجلنود اخلفية مثل احلسد والعجلة وحب الذات واالنانية واالنسانية والعنصرية ‪ ..‬فصلها السيد‬

‫‪19‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫املدرسي يف كتاب املنطق االسالمي ‪ .‬غري ان هذه الطبيعة االولية تنعدم شيئفشيئ بوجود‬ ‫جنود العقل الذي يتصدر بنود العلم واملعرفة النافعة والكرم والصدق واالمانة والصرب‬ ‫وااليثار‪ .‬لكن مع ذلك ومهما مسا االنسان يف درجات العقل والعلم ‪ ،‬فان طبيعتة االولية‬ ‫املتصلة باجلهل تبقي يف ذاتة ‪ ،‬ولذلك فان االنسان ال ميكن ان يتجاوز تاثريات هذه الطبيعة ‪،‬‬ ‫اال اذا ارتبط حببل عقائدي رباني يعزز العقل والسلسلة اليت ترتبط بة ‪.‬‬ ‫وميكننا ان نضرب مثاال علي العقل يف احلضارة االنسانية باضاءة املصباح الكهربائي ‪،‬‬ ‫فاول ما يوصل االنسان التيار الكهربائي ايل املصباح جتدة يضي ء فاذا قطعنا عنة التيار فانة‬ ‫سوف ينطفي مباشرة ‪ .‬وهكذا احلضارة فاذا اتصلت مبصدر النور بسلسلة العقل ‪،‬‬ ‫سوفتكون حضارة ملوها السعادة واالطمئنان ‪ ،‬والعكس ايض ‪.‬‬ ‫ومبراجعة ملسرية احلضارة القائمة ندرك بوضوح التجاوزات اهلائلة اليت حدثت حبق االنسان ‪..‬‬ ‫هذه التجاوزات اليت جعلت االنسان خيدم احلضارة يف الوقت الذي كان فية العكس هو‬ ‫املطلوب ‪ .‬وحضارة االسالم اليت تنطلق من مبدا التوحيد وتعتمد علي االنسان اعتماد‬ ‫كبريتضع لالنسان قائمة طويلة من احلقوق ‪ ،‬حبيث ال ميكن جتاوز “االنسان “ ككيان‬ ‫مقدس الي مصلحة والي اعتبار متسرع ‪ .‬وهذه القائمة تنقسم ايل قسمني ‪ :‬ـ‬

‫‪20‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫‪ 1‬ـ احلقوق املادية ; وهي اليت تتصل بنتاج جهد االنسان طوال حياتة ‪ .‬فهذا اجلهد جيب احرتامة‬ ‫وتقديرة وعدم التجاوز عليه ‪ .‬فاالنسان حر يف التصرف يف مالة ‪ ،‬وعلي حسب القاعدة‬ ‫الفقهية “الناس مسلطون علي امواهلم “‪ ،‬ولكن بشرط ان ال يوثر علي حرية االخرين ‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـ احلقوق املعنوية ; وهذه احلقوق ال تتمثل يف مادة ملموسة ‪ ،‬بل يف االمور املعنوية ‪ .‬ومن هذه‬ ‫االمور علي سبيل املثال ال احلصر‪ ،‬احرتام شخصية االنسان ‪ .‬فتنمية االنسان لنفسة سواء‬ ‫بالعلم او املعرفة او املالكات والكفاءات االخري ال تتحقق خالل فرتةقصرية ‪ ،‬بل قد حيتاج‬ ‫ذلك منة ايل ان يقضي عمر مديد يتمتع فية بنمط اخالقي صارم او برنامج قاس الكتساب مثل‬ ‫هذه االمور‪ .‬ان االسالم ومن باب احلقوق املعنوية لالنسان ‪ ،‬حرم حتطيم شخصية االنسان‬ ‫اليت كلفتة عمرة ‪ .‬وهلذا قالوا ان االنسان عادة ما يهتم بشخصيتة اكثر من اهتمامة‬ ‫بشخصة ‪ ،‬فهو يعرض نفسة لالخطار واملغامرات من اجل مسو شخصيتة ‪ ،‬فهل حيق الحد الن‬ ‫يتجاهل هذه الشخصية بني عشية وضحاها؟!‬ ‫لقد وضع االسالم للحقوق املعنوية وصايا اخالقية كثرية من اجل تقدير قيمة االنسان وما يرتبط‬ ‫بة ‪ ،‬لكننا هنا ونظر لعدم اختصاص هذا الكتاب لذلك نذكر حق واحد فقط هو حق‬ ‫احلرية ‪.‬‬

‫‪21‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫ان التشريعات السماوية تسعي حنو حتقيق اهداف عظيمة من اجل صيانة العقيدة وحفظ الروح‬ ‫والعرض واملال ‪ .‬والتسلسل الطبيعي كما قلنا يبدا بالتوحيد وتنبثق منة عدة مثار منها‬ ‫االستقالل واالمن واحلرية ‪.‬‬ ‫وحديثنا يف هذا القسم عن مسالة احلرية اليت تشتمل علي عدة حلقات بعضها يكمل بعض ‪.‬‬ ‫اال ان احللقة االويل منها هي حرية الفرد‪ ،‬وتتجسد هذه احلرية يف ارادة االنسان احلرة ‪ ،‬او ما‬ ‫يسمي حبرية القرار لدية ‪ .‬وتاتي احللقة الثانية يف سلسلة احلرية يف االسالم‪ ،‬وهي حرية‬ ‫القانون اليت تضمن وتكفل حرية االنسان علي ضوء هذا القانون وبنودة ‪ .‬وتشريعات االسالم‬ ‫امنا شرعت من اجل ضمان هذه احلرية ‪ ،‬ذلك الن االنسان خلق بطبيعتة حر ‪ .‬لكن تداخل‬ ‫االوضاع وتشابك الظروف جعل من الضروري توضيح راي االسالم يف حرية الفرد‬ ‫كفرد او كمجتمع ‪ .‬واالسالم يضمن حرية الفرد عرب احلديث عن احلرمة ‪ ،‬هذه املفردة‬ ‫اليت تتكرر كثري يف آيات الذكر احلكيم ‪ ،‬دستور معامل احلضارة االسالمية ‪،‬‬ ‫ويف االحكام الفقهية االخري ‪ .‬واحلرمة كما يري السيد املدرسي بعد من ابعاد احلرية‬ ‫‪ ،‬ذلك الن احلرمة واحلرية صورتانلبصرية واحدة ‪ .‬واالسالم قبل ان يتحدث عن احلرية حتدث‬ ‫اوال عن احلرمة لتحديد قيمة احلرية وابعادها وتطبيقاهتا‪ .‬فمثال يقول االسالم ‪" :‬ان املسلم علي‬ ‫السلم حرام دمة ومالة وعرضة "‪.‬‬ ‫هذا الكالم يوكد يف البداية علي حرمة التجاوزات علي حقوق االنسان املسلم ‪ ،‬حيت لو‬ ‫كانت حتت شعار احلرية ‪ .‬ملاذا؟ الن هذه التجاوزات تتنافر يف حقيقتها مع مفهوم احلرية‬

‫‪22‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫‪ ،‬باعتبار ان لكل حرية حدود ‪ ،‬وحدود حرية كل فرد وكل جتمع تنتهي عند بداية‬ ‫حدود االخرين ‪ .‬فاالنسان لة احلق يف طلب حريتة ‪ ،‬ولكن بشرط ان ال تتعدي وال‬ ‫تتجاوز علي حرية االخرين ‪.‬‬ ‫لكن لالسف املشكلة احلادثة اليوم يف احلديث عن احلرية ‪ ،‬ان االنسان بذاتة ال يقدر‬ ‫حدود حرية االشياء‪ ،‬وهذا ما تنادي بة احلضارة القائمة ‪ .‬فمثال التطور والتقدم يف احلضارة‬ ‫القائمة اذا تعارض مع مصلحة االنسان ‪ ،‬فان التقدم يقدم عليه بال قياس ‪.‬‬ ‫بينما يعلن التمدن االسالمي باننا لو خرينا بني امرين ‪ ،‬احدمها ينفع االنسان واالخر ال يفيد اال‬ ‫التطور االقتصادي والصناعي ‪ ،‬فاننا ملزمون باختيار ما ينفع االنسان ولو كان علي حساب‬ ‫الصناعة او التطور او الرفاة ‪ .‬اما احلضارة القائمة فال تومن بذلك ‪...‬‬ ‫كان الرقُّ ظاهرةً عامليَّة‪ ،‬فَرَضتْ نفسَها على واقع املسلمني يومَ ظهر اإلسالم يف األرض‪،‬‬ ‫وما كان ممكنًا ‪ -‬عقليًّا أو إنسانيًّا ‪ -‬أن يرتكَ اإلسالمُ أبناءه يُستَرقون يف احلروب‪ ،‬وال يعامل‬ ‫األعداء باملثل‪.‬‬ ‫لكنَّ اإلسالم ‪ -‬مع ذلك ‪ -‬وضع مشروعًا هو أفضلُ املشروعات للقضاءِ على ظاهرة الرقِّ‬ ‫والعبوديَّة‪ ،‬وبدأ فورًا باالرتفاعِ بالعبيد يف احلقوق اإلنسانيَّة (الكرامة اآلدميَّة) إىل مستوى‬ ‫األحرار‪ ،‬لدرجة أنَّ هؤالءِ العبيد ظلُّوا يصعدون جبهادِهم وتفوُّقِهم احلربي إىل أن أصبحوا‬ ‫رؤساءَ دولٍ تُنسَب إليهم؛ كدولةِ املماليك يف الشَّام ومصر‪ ،‬ودولة املماليك يف اهلند‪.‬‬

‫‪23‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫فهل وقع مثل هذا يف صفحة احلضارة األوروأمريكية؟!‬ ‫نعم‪ ،‬لقد كان اإلسالم أسبقَ وأزكى من كُلِّ النُّظُم واحلضارات؛ حيث قرَّر حقَّ‬ ‫املساواة اإلنسانية بني البشر وبني األحرار والعبيد‪ ،‬إن الناس يف اإلسالم سواسيةٌ وال تفاضلَ‬ ‫بينهم؛ فكُلُّهم آلدمَ‪ ،‬وآدمُ من تراب‪ ،‬وال فرقَ يف ذلك بني الرجل واملرأة‪ ،‬والغين والفقري‪،‬‬ ‫والعبد واحلرِّ‪ ،‬إال بالعمل الصاحل والكفاءات املمتازة‪ ،‬ومبا يقدِّمه كُلُّ فردٍ لربِّه‪ ،‬وإلخوانه‪،‬‬ ‫ولوطنه‪.‬‬ ‫لقد قضى اإلسالم على النزعات القبليَّة والعصبيَّة اجلاهليَّة‪ ،‬فال تفرقةَ بني الطبقات‪ ،‬وال بني العبيد‬ ‫واألحرار‪ ،‬فكان الرسول ‪ -‬صلى اهلل عليه وسلم ‪ -‬يُقرِّب إليه كثريًا من العبيد‪،‬‬ ‫ويقدِّمهم على بعض الصحابة األحرار‪ ،‬كما كان يُرسِلهم قادةً على اجليوش اليت تضم‬ ‫بني صفوفهم خريةَ الصحابة‪ ،‬دون تفرقةٍ على أساس احلسب أو النسب‪.‬‬ ‫يقول اهلل ‪ -‬تعاىل ‪ ﴿ :-‬مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً‬ ‫ولَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل‪ ،]97 :‬ويقول‪ ﴿ :‬يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا‬ ‫خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ‬ ‫اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِريٌ ﴾ [احلجرات‪.]13 :‬‬ ‫يقول رسول اهلل ‪ -‬صلى اهلل عليه وسلم ‪ -‬يف خطبة الوداع‪(( :‬أيُّها الناسُ‪ ،‬إن ربَّكم واحدٌ‪،‬‬ ‫وإن أباكم واحدٌ‪ ،‬كلُّكم آلدمَ‪ ،‬وآدمُ من ترابٍ‪ ،‬إن أكرمَكم عند اهلل‬

‫‪24‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫أتقاكم‪ ،‬أال ال فضلَ لعربِيٍّ على عجميٍّ‪ ،‬وال لعجميٍّ على عربِيٍّ‪ ،‬وال ألمحرَ على أبيضَ‪،‬‬ ‫وال أبيضَ على أمحرَ‪ ،‬إال بالتقوى‪ ،‬أال هل بلَّغتُ؟))‪ ،‬قالوا‪ :‬بلى يا رسول اهلل‪ ،‬قال‪(( :‬اللهم‬ ‫فاشهدْ‪ ،‬فليبلِّغ الشاهدُ منكم الغائبَ))‪.‬‬ ‫يُروى أن أبا ذرٍّ الغِفَاري تَناقَش مرَّة يف حضرة النبِيِّ ‪ -‬صلى اهلل عليه وسلم ‪ -‬مع عبدٍ زجني‪،‬‬ ‫فاحتدَّ أبو ذرٍّ على العبد‪ ،‬وقال له‪" :‬يا بن السوداء"‪ ،‬فغَضِب الرسول ‪ -‬صلى اهلل عليه وسلم ‪-‬‬ ‫وقال‪(( :‬طفَّ الصاع‪ ،‬طفَّ الصاع (أي‪ :‬زاد األمر عن حدِّه) ليس البنِ البيضاء على ابن السوداء‬ ‫فضلٌ إال بالتقوى أو بعمل صاحل))؛ فحَزِن أبو ذرٍّ ووضَع خدَّه على األرض‪ ،‬وقال للعبد‪" :‬قُمْ‬ ‫فَطَأ على خدِّي"؛ فليس يف اإلسالم إنسانٌ أكرم من آخرَ بفضل حسبه ونسبه‪ ،‬بل الكُلُّ‬ ‫سواسية‪ ،‬وال تفاضل إال بالعمل الصاحل فقط‪.‬‬ ‫وهذا من الناحية اإلنسانية البحتة‪.‬‬ ‫أمَّا أمام قانون اإلسالم‪ ،‬فاملساواةُ قائمة كذلك بني األحرار والعبيد‪ ،‬قال اهلل ‪ -‬تعاىل ‪ ﴿ :-‬يَا‬ ‫أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى‬ ‫فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ﴾ [البقرة‪.]178 :‬‬ ‫وقال أيضًا‪ ﴿ :‬وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ‬ ‫وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ﴾ [املائدة‪.]45 :‬‬

‫‪25‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫وإذا قارنَّا هذا مبا فعله األوروبيُّون واألمريكان مع األفارقة األحرار الذين اختطفوا من‬ ‫إفريقيا السوداء‪ ،‬وكيف عُومِلوا على أنّهم عبيد ‪ -‬فور اختطافهم ‪ -‬ثم تعرَّضوا للجوع‬ ‫والقسوة‪ ،‬وأُلقِي كثريٌ منهم يف البحر وهم أحياء نتيجةَ األمراض وصور الضعف اليت‬ ‫حلقتهم‪ ،‬ولو قارنَّا قيمَ اإلسالم هذه أيضًا مبا فعلتْه الطوائف الزاحفة على أمريكا من أوربا‬ ‫مع اهلنود احلمر ‪( -‬وهم أصل أمريكا) ‪ -‬وكيف قتلتْ منهم حنو عشرين مليونًا‪ ،‬كما‬ ‫قتلتْ من األفارقة املخطوفني حنو عشرة ماليني‪ ،‬لو قمنا هبذه املقارنة‪ ،‬وتذكَّرنا صور اإلبادة‬ ‫األخرى ‪ -‬لعَرَفنا قيمة ديننا اإلسالمي وحضارتنا اإلسالمية ‪ -‬دين التسامح‪ ،‬وحضارة الرمحة‬ ‫لكُلِّ العالَمني ‪ -‬وصدق اهلل يف كتابه الكريم‪ ﴿ :‬ولَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ‬ ‫فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِريٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ﴾‬ ‫[اإلسراء‪ ﴿ ،]70 :‬وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِنيَ ﴾ [األنبياء‪....]107 :‬‬

‫‪26‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫هو الصحابي اجلليل مَجُزَأَةُ بن ثَورِ بن عُفَري بن زُهَري بن كعب بن عَمْرو بن سَدُوس السَّدُوسي‬ ‫‪ ،‬بطل من األبطال األجماد الذين خاضوا غمار احلروب واملعارك من أجل نصرة دين اإلسالم‪،‬‬ ‫قال عنه املؤرخون (( جمزأة بن ثور كمي باسل قتل مائة من املشركني مبارزة‪ ،‬فما بالك مبن‬ ‫قتلهم يف خضم املعارك !)) ولكن أشهر ما قيل عنه‪ ،‬هي قصته يوم فتح تسرت اليت سطرت‬ ‫يف هامة التاريخ اإلسالمي‪ ،‬ملا حدث فيها من تضحية وإقدام وبسالة‪.‬‬

‫‪27‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫األبطال األجماد من جند اهلل ينفضون عنهم غبار (القادسية) جذلني مبا آتاهم اهلل من نصر‬ ‫مغتبطني مبا كُتِبَ إلخواهنم الشهداء من أجر متشوقني إىل معركة أخرى تكون صنوا‬ ‫للقادسية (أختا هلا) يف روعتها وجالهلا مرتبصني أن يأتيهم أمر خليفة رسول اهلل عمر بن‬ ‫اخلطاب مبواصلة اجلهاد الجتثاث العرش الكسروي من جذوره ‪.‬مل يطل تشوق الغر امليامني‬ ‫وتشوفهم (تطلعهم وانتظارهم) كثرياً فها هو ذا رسول الفاروق يقدم من املدينة إىل‬ ‫الكوفة ومعه أمر من اخلليفة لواليها أبي موسى األشعري باملضي بعسكره واأللتقاء مع جند‬ ‫املسلمني القادمني من البصرة واالنطالق معا إىل األهواز لتتبع اهلرمزان (ملك الفرس) والقضاء‬ ‫عليه وحترير مدينة تسرت درة التاج الكسروي ولؤلؤة بالد فارس ‪.‬‬ ‫وقد جاء يف األمر الذي وجهه اخلليفة ألبي موسى األشعري أن يصحب معه الفارس الباسل‬ ‫(جمزأة بن ثور السدوسي) سيد بين (بكر) وأمريهم املطاع ‪ ،‬صدع أبو موسى األشعري بأمر‬ ‫خليفة املسلمني فعبأ جيشه وجعل على ميسرته جمزأة بن ثور السدوسي وانضم إىل جيوش‬ ‫املسلمني القادمة من البصرة ومضوا معا غزاة يف سبيل اهلل ‪.‬‬ ‫فما زالوا حيررون املدن ويطهرون املعاقل واهلرمزان يفر أمامهم من مكان إىل آخر حتى بلغ‬ ‫مدينة (تسرت) واحتمى حبماها كانت (تسرت) اليت احناز إليها (اهلرمزان) من أمجل مدن الفرس‬ ‫مجاال وأهباها طبيعة وأقواها حتصينا وهى إىل ذلك مدينة عريقة ضاربة فى أغوار التاريخ مبنية‬ ‫على مرتفع من األرض على شكل فرس يسقيها هنر كبري يدعى بنهر (دجيل) وفوقها‬

‫‪28‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫شاذروان (منهل ماء له حوض ونوافري ورمبا وجدت فيه متاثيل حيوانات خيرج املاء من أفواهها) بناه‬ ‫امللك (سابور) لريفع إليها ماء النهر من خالل أنفاق حفرها حتت األرض ‪.‬‬ ‫وشاذروان تسرت وأنفاقه عجيبة من عجائب البناء شيد باحلجارة الضخمة احملكمة ودعم‬ ‫بأعمدة احلديد الصلبة وبلط هو وأنفاقه بالرصاص ‪ ،‬وحول تسرت سور كبري سامق(سور عال)‬ ‫حييط هبا إحاطة السوار باملعصم ‪ ،‬قال املؤرخون عنه ‪ :‬إنه أول وأعضم سور بين على ظهر‬ ‫األرض ‪ ،‬ثم حفر اهلرمزان حول السور خندقا عظيما يتعذر اجتيازهوحشد وراءه خرية‬ ‫جنود فارس ‪.‬‬ ‫عسكرت جيوش املسلمني حول خندق (تسرت) وظلت مثانية عشر شهرا ال تستطيع اجتيازه‬ ‫‪ ،‬وخاضت مع جيوش (الفرس) خالل تلك املدة الطويلة مثانني معركة وكانت كل‬ ‫معركة تبدأ باملبارزة بني فرسان الفريقني ‪ ،‬ثم تتحول إىل حرب ضارية ضروس ‪.‬‬ ‫وقد أبلى جمزأة بن ثور يف هذة املبارزات بالء أذهل العقول وأدهش األعداء واألصدقاء يف‬ ‫وقت معا فقد متكن من قتل مائة كمي (تعين شجاع) من فرسان األعداء مبارزة فأصبح‬ ‫امسه يثري الرعب يف صفوف الفرس ويبعث النخوة والعزة يف صدور املسلمني ‪.‬‬ ‫وعند ذلك عرف الذين مل يكونوا قد عرفوه من قبل مل حرص أمري املؤمنني على أن يكون هذا‬ ‫البطل الباسل يف عداد اجليش الغازى ‪ ،‬ويف آخر معركة من تلك املعارك الثمانني محل‬

‫‪29‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫املسلمون على عدوهم محلة باسلة صادقة فأخلى الفرس هلم اجلسور املنصوبة فوق اخلندق‬ ‫والذوا باملدينة وأغلقوا عليهم أبواب حصنها امل‬ ‫فتح تسرت‬ ‫ـــــــــ قدم رسول الفاروق عمر بن اخلطاب من املدينة إىل الكوفة‪ ،‬و معه أمر من اخلليفة عمر‬ ‫بن اخلطاب لواليها أبي موسى األشعري باملضي بعسكره وااللتقاء مع جند املسلمني القادمني‬ ‫من البصرة‪ ،‬واالنطالق معا إىل األهواز لتتبع اهلرمزان ‪ -‬قائد جيوش الفرس‪ -‬والقضاء عليه‬ ‫وحترير مدينة تسرت درة التاج الكسروي و لؤلؤة بالد فارس‪ .‬وقد جاء يف األمر الذي وجهه‬ ‫اخلليفة ألبي موسى أن يصطحب معه الفارس الباسل جمزأة بن ثور السدوسي سيد بين بكر‬ ‫وأمريهم املطاع‪.‬‬ ‫صدع أبو موسى األشعري بأمر خليفة املسلمني‪ ،‬فعبأ جيشه‪ ،‬وجعل على ميسرته جمزأة بن ثور‬ ‫السدوسي‪ ،‬وانضم إىل جيوش املسلمني القادمة من البصرة‪ ،‬و مضوا معاً غزاة يف سبيل اهلل‪.‬‬ ‫فما زالوا حيررون املدن‪ ،‬ويطهرون املعاقل‪ ،‬واهلرمزان يفر من أمامهم من مكان إىل آخر‬ ‫حتى بلغ مدينة تسرت‪ ،‬واحتمى حبماها‪.‬‬ ‫عسكرت جيوش املسلمني حول خندق تسرت وظلت مثانية عشر شهراً ال تستطيع اجتيازه‪.‬‬ ‫وخاضت مع جيوش الفرس خالل تلك املدة الطويلة مثانني معركة‪ .‬وكانت كل معركة‬ ‫من هذه املعارك تبدأ باملبارزة بني فرسان الفريقني‪ ،‬ثم تتحول إىل حرب شديدة مهلكة‪.‬‬

‫‪30‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫وقد أبلى جمزأة بن ثور بالء حسنا فقد متكن من قتل مائة من شجعان فرسان العدو مبارزة‪،‬‬ ‫فأصبح امسه يثري الرعب يف صفوف الفرس‪ .‬وعند ذلك عرف الذين مل يكونوا قد عرفوه من‬ ‫قبل مل حرص أمري املؤمنني على أن يكون هذا البطل الباسل يف عداد اجليش الغازي‪.‬‬ ‫ويف آخر معركة من تلك املعارك الثمانني محل املسلمون على عدوهم محلة باسلة صادقة‬ ‫فأخلى الفرس هلم اجلسور املنصوبة فوق اخلندق‪ ،‬والذوا باملدينة‪ ،‬وأغلقوا عليهم أبواب‬ ‫حصنها املنيع‪.‬‬ ‫انتقل املسلمون بعد هذا الصرب الطويل من حال سيئة إيل أخرى أشد سوءًا‪ ،‬فقد أخذ الفرس‬ ‫ميطروهنم من أعايل األبراج بسهامهم الصائبة‪ .‬وجعلوا يدلون من فوق األسوار سالسل من‬ ‫احلديد‪ ،‬يف هناية كل سلسلة كالليب متوهجة من شدة ما محيت بالنار‪ .‬فإذا رام أحد‬ ‫جنود املسلمني تسلق السور أو االقرتاب منه‪ ،‬علقوها فيه وأدخلوها يف حلمه و جذبوه إليهم‪،‬‬ ‫فيحرتق جسده‪ ،‬و يتساقط حلمه ‪ ،‬و يقضى عليه‪.‬‬ ‫اشتد الكرب على املسلمني‪ ،‬و أخذوا يسألون اهلل بقلوب ضارعة خاشعة أن يفرج عنهم‪ ،‬و‬ ‫ينصرهم على عدوه و عدوهم‪ .‬و بينما كان أبو موسى األشعري يتأمل سور تسرت‬ ‫العظيم‪ ،‬يائساً من اقتحامه‪ ،‬سقط أمامه سهم قُذِفَ حنوه من فوق السور‪ ،‬فنظر فيه فإذا فيه‬ ‫رسالة تقول‪ :‬لقد وثقت بكم معشر املسلمني‪ ،‬و إني أستأمنكم على نفسي ومايل و أهلي‬ ‫و من تبعين‪ ،‬ولكم علي أن أدلكم على منفذ تنفذون منه إىل املدينة‪ .‬فكتب أبو موسى‬

‫‪31‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫أماناً لصاحب السهم‪ ،‬وقذفه إليه بالسهم‪ .‬فاستوثق الرجل من أمان املسلمني ‪ ،‬وتسلل إليهم‬ ‫حتت جناح الظالم‪ ،‬و أفضى ألبي موسى حبقيقة أمره فقال‪ :‬حنن من سادات القوم‪ ،‬و قد قتل‬ ‫"اهلرمزان" أخي األكرب‪ ،‬و تعدى على ماله و أهله‪ ،‬و أضمر يل الشر يف صدره حتى ما‬ ‫عدت آمنه على نفسي و أوالدي‪ ...‬فآثرت عدلكم على ظلمه‪ ،‬ووفاءكم على غدره‪،‬‬ ‫وعزمت على أن أدلكم على منفذ خفي تنفذون منه إىل تسرت‪ ،‬فأعطين إنساناً يتحلى باجلرأة‬ ‫والعقل‪ ،‬ويكون ممن يتقنون السباحة حتى أرشده إىل الطريق‪.‬‬ ‫استدعى أبو موسى األشعري جمزأة بن ثور السدوسي‪ ،‬و أسر إليه باألمر و قال‪ :‬أعنَّي برجل‬ ‫من قومك له عقل و حزم‪ ،‬وقدرة على السباحة‪ .‬فقال جمزأة‪ :‬اجعلين ذلك الرجل أيها األمري‪.‬‬ ‫فقال له أبو موسى ‪(( :‬إذا كنت قد شئت‪ ،‬فعلى بركة اهلل))‪.‬‬ ‫ثم أوصاه أن حيفظ الطريق‪ ،‬و أن يعرف موضع الباب‪ ،‬وأن حيدد مكان اهلرمزان‪ ،‬و أن يتثبت‬ ‫من شخصه‪ ،‬وأال حيدث أمراً غري ذلك‪.‬‬ ‫االسد يف املعركة‬ ‫ـــــــــــ مضى جمزأة بن ثور حتت جنح الظالم مع دليله الفارسي‪ ،‬فأدخله يف نفق حتت األرض‬ ‫يصل بني النهر واملدينة‪ .‬فكان النفق يتسع تارة حتى يتمكن من اخلوض يف مائه وهو ماشٍ‬ ‫على قدميه‪ ،‬ويضيق تارة أخرى حتى حيمله على السباحة محال‪ .‬و كان يتشعب و يتعرج مرة‪،‬‬ ‫و يستقيم مرة ثانية ‪ ...‬وهكذا حتى بلغ به املنفذ الذي ينفذ منه إىل املدينة‪ ،‬و أراه‬

‫‪32‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫"اهلرمزان" قاتل أخيه‪ ،‬و املكان الذي يتحصن فيه‪ .‬فلما رأى جمزأة "اهلرمزان"‪ ،‬همَّ بأن‬ ‫يرديه بسهم يف حنره‪ ,‬لكنه ما لبث أن تذكر وصية أبي موسى له بأال حيدث أمرا‪ ،‬فرد‬ ‫نفسه عن هواها و عاد من حيث جاء قبل بزوغ الفجر‪.‬‬ ‫أعد أبو موسى ثالمثائة من أشجع جند املسلمني قلباً‪ ،‬و أشدهم جلدا و صرباً‪ ،‬و أقدرهم على‬ ‫العوم و أمَّر عليهم جمزأة بن ثور وودَّعهم و أوصاهم‪ ...‬وجعل التكبري عالمة على دعوة‬ ‫جند املسلمني القتحام املدينة‪ .‬أمر جمزأة رجاله أن يتخففوا من مالبسهم ما استطاعوا حتى ال‬ ‫حتمل من املاء ما يثقلهم‪ ،‬وحذرهم من أن يأخذوا معهم غري سيوفهم‪ .‬و مضى هبم يف‬ ‫آخر الثلث األول من الليل‪.‬‬ ‫ظل جمزأة بن ثور وجنده البواسل حنوا من ساعتني يصارعون عقبات هذا النفق اخلطري‪،‬‬ ‫فيصرعوهنا تارة و تصرعهم تارة أخرى‪ .‬وملا بلغوا املنفذ املؤدي إىل املدينة وجد جمزأة أن النفق‬ ‫قد ابتلع مائتني وعشرين رجالً من رجاله ‪ ،‬و أبقى له مثانني ‪ ...‬وما أن وطئت أقدام جمزأة و‬ ‫صحبه أرض املدينة حتى جردوا سيوفهم‪ ،‬و انقضوا على محاة احلصن ‪ ،‬فأغمدوها يف‬ ‫صدورهم‪ .‬ثم وثبوا إىل األبواب و فتحوها و هم يكربون‪ .‬فتالقى تكبريهم من‬ ‫الداخل مع تكبري أخواهنم من اخلارج‪ ...‬و تدفق املسلمون على املدينة عند الفجر‪ .‬و‬ ‫دارت بينهم و بني أعداء اهلل رحى معركة ضروس قلما شهد تاريخ احلروب مثلها هوالً و‬ ‫رهبةً و كثرة يف القتلى‪.‬‬

‫‪33‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫و فيما كانت املعركة قائمة على قدم وساق أبصر جمزأة بن ثور اهلرمزان يف ساحها‪،‬‬ ‫فاجته حنوه‪ ،‬فوثب كل من جمزأة واهلرمزان بسيفيهما فضرب كل منهما صاحبه ضربة‬ ‫عظيمة‪ ،‬فارتد سيف جمزأة‪ ،‬وأصاب سيف اهلرمزان ‪ ...‬فخر البطل الكميُّ الباسل‬ ‫صريعا على أرض املعركة‪ ،‬وعينه قريرة مبا حقق اهلل على يديه ‪.‬وواصل جند املسلمني‬ ‫القتال‪ ،‬حتى كتب اهلل هلم النصر‪ ،‬ووقع اهلرمزان يف أيديهم أسرياً‪.‬‬ ‫انطلق املبشرون إىل املدينة املنورة يزفون إىل الفاروق بشائر الفتح‪ .‬و يسوقون أمامهم اهلرمزان‬ ‫وعلى كتفيه حلته املوشاة خبيوط الذهب لرياه اخلليفة‪ .‬و كان املبشرون حيملون مع ذلك‬ ‫تعزية حارة للخليفة بفارسه الباسل جمزأة بن ثور السدوسي‪.‬‬ ‫وفاته‬ ‫استشهد البطل املغوار جمزأة بن ثور السدوسي يف تلك املعركة عام ‪17‬هـ بعدما قتله‬ ‫اهلرمزان‪..‬‬

‫‪34‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫سلمان الفارسي (املتويف سنة ‪ 33‬هـ) صحابي‪ ،‬وموىل للنيب حممد صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وأحد‬ ‫رواة احلديث النبوي‪ ،‬وهو أول الفرس إسالمًا؛ أصله من بالد فارس‪ ،‬ترك أهله وبلده سعيًا وراء‬ ‫معرفة الدين احلق؛ فانتقل بني البلدان ليصحب الرجال الصاحلني من القساوسة‪ ،‬إىل أن وصف له‬ ‫أحدهم ظهور نيب يف بالد العرب‪ ،‬ووصف له عالمات ليتحقق منه‪ .‬اتفق سلمان مع قوم من بين‬ ‫كلب لينقلوه إىل بالد العرب‪ ،‬فغدروا به وباعوه إىل يهودي من وادي القرى‪ ،‬ثم اشرتاه يهودي‬ ‫آخر من يثرب من بين قريظة‪ ،‬ورحل به إىل بلده‪.‬‬ ‫وعند هجرة النيب حممد إىل يثرب‪ ،‬مسع به سلمان‪ ،‬فسارع ليتحقق من العالمات‪ ،‬فأيقن أنه النيب‬ ‫الذي يبحث عنه‪ .‬فأسلم‪ ،‬وأعانه النيب حممد وأصحابه على مُكاتبة مالكه‪ ،‬حتى أُعتق‪.‬‬ ‫بعد عتقه‪ ،‬شهد سلمان مع النيب حممد غزوة اخلندق‪ ،‬وهو الذي أشار على النيب حممد حبفر‬ ‫اخلندق حلماية املدينة من قريش وحلفائها‪ ،‬ثم شهد معه باقي املشاهد‪ .‬وبعد وفاة النيب حممد‪،‬‬ ‫شهد سلمان الفتح اإلسالمي لفارس‪ ،‬وتوىل إمارة املدائن يف خالفة عمر بن اخلطاب إىل أن تويف‬ ‫يف خالفة عثمان بن عفان‬

‫‪35‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫كان امسه روزبه يف بالد فارس‪ ،‬واسم أبيه خشفوذان من دهاقني فارس ـ وقيل من‬ ‫أساورهتا ـ ومن كبار الزرادشتيني يف أصبهان‪ ،‬له إمرة على بعض الفالحني من أبناء‬ ‫أصفهان‪ .‬كان واسع احلال ميلك بعض املزارع شأن غريه من الطبقة الوسطى يف اجملتمع‬ ‫الفارسي آنذاك‪ ،‬وكانت لولده سلمان مكانة خاصة يف نفسه جعلته يستأثر بالنصيب‬ ‫األكرب من اهتماماته‪.‬‬ ‫وقد حتدّث سلمان نفسه عن رحلته طلبا للحقيقة قائال‪ :‬كنت ابن دهقان (شيخ القرية يف بالد‬ ‫فارس) قرية جي من أصفهان‪ ،‬وبلغ من حبّ أبي يل أن حبسين يف البيت كما تُحبس اجلارية‪،‬‬ ‫فاجتهدت يف اجملوسية حتى صرت قطن (خادما) بيت النار‪ ،‬فأرسلين أبي يوما إىل ضيعة له‪،‬‬ ‫فمررت بكنيسة النصارى‪ ،‬فدخلت عليهم‪ ،‬فأعجبتين صالهتم‪ ،‬فقلت‪ :‬دين هؤالء خري‬ ‫من ديين‪ ،‬فسألتهم‪ :‬أين أصل هذا الدين؟ قالوا‪ :‬بالشام‪ ،‬فهربت من والدي حتى قدمت الشام‪،‬‬ ‫فدخلت على األسقف (من وظائف النصرانية‪ ،‬وهو فوق القسيس ودون املطران) فجعلت‬ ‫أخدمه وأتعلم منه‪ ،‬حتى حضرته الوفاة‪ ،‬فقلت‪ :‬إىل من توصي بي؟ فقال‪ :‬قد هلك الناس‪،‬‬ ‫وتركوا دينهم إال رجال باملوصل فاحلق به‪ ،‬فلما قضى حنبه حلقت بذلك الرجل فلم يلبث إال‬ ‫قليالً حتى حضرته الوفاة‪ ،‬فقلت‪ :‬إىل من توصي بي؟ فقال‪ :‬ما أعلم رجالً بقي على الطريقة‬ ‫املستقيمة إال رجالً بنصيبني‪ ،‬فلحقت بصاحب نصيبني‪..‬ثم احتضر صاحب نصيبني‪ ،‬فبعثين‬ ‫إىل رجل بعمورية من أرض الروم‪ ،‬فأتيته وأقمت عنده‪ ،‬واكتسبت بقريات وغنيمات‪ ،‬فلما‬ ‫نزل به املوت قلت له‪ :‬مبن توصي بي؟ فقال‪ :‬قد ترك الناس دينهم‪ ،‬وما بقي أحد منهم على احلق‪،‬‬

‫‪36‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫وقد أظل زمان نيب مبعوث بدين إبراهيم عليه السالم ‪ ،‬خيرج بأرض العرب مهاجراً إىل أرض‬ ‫بني حرتني‪ ،‬هلا خنل‪ ،‬قلت‪ :‬فما عالمته؟ قال‪ :‬يأكل اهلدية وال يأكل الصدقة‪ ،‬بني كتفيه‬ ‫خامت النبوة‪ ،‬قال‪ :‬ومر بي ركب من كلب‪ ،‬فخرجت معهم‪ ،‬فلما بلغوا بي وادي القرى‬ ‫ظلموني وباعونى من يهودي‪ ،‬فكنت أعمل له يف زرعه وخنله‪ ،‬فبينما أنا عنده إذ قدم ابن عم‬ ‫له‪ ،‬فابتاعين منه‪ ،‬ومحلين إىل املدينة‪.‬‬ ‫من عادات العرب الفخر بأنساهبم ولكن لصاحبنا اليوم شأن أخر وفخر آخر عندما سأل‬ ‫عن نسبه‪ ،‬حيث قيل أنه ملا اجتمع مع نفر من األعراب فسألوه عن نسبه‪ ،‬حيث يقول هذا‪“ :‬أنا‬ ‫قرشي”‪ ،‬وذاك يقول‪“ :‬أنا قيسي”‪ ،‬وذاك يقول‪“ :‬أنا متيمي”‪ ،‬فقال‪ :‬أبي اإلسالم ال أب يل سواه إذا‬ ‫افتخروا بقيس أو متيم‪.‬‬ ‫أنه سلمان اخلري ‪ ،‬سلمان احملمدي ‪،‬ابن اإلسالم‪ ،‬أبو عبد اهلل الفارسي‪ ،‬سابق الفرس إىل‬ ‫اإلسالم‪ ،‬صحب النيب – صلى اهلل عليه وسلم – ذاك الشاب اآلتي من بالد فارس باحثا عن‬ ‫اهلداية دافعا مثنها مقدما من حريته‪.‬‬ ‫هو روزبه بن يوذخشان بن مورشال بن هببوذان بن فريوز بن شهرك هذا أمسه عند الوالدة ولد‬ ‫يف أصبهان ببالد فارس يف قرية تسمى “جي” وكان أبوه دهقان “الرئيس الديين” لتلك القرية‬ ‫وكان روزبه أحب اخللق عند أبيه لذا حبسه ببيته وأجهد يف اجملوسية حتى صار قاطن‬ ‫النار أي خادمها الذي يوقدها‪ ،‬ال يرتكها ختبو ساعة‪ ،‬ولكن كان هلل أرادة أخرى ختالف‬

‫‪37‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫ما أراده له أبوه فلم يكن ذاك دينه وال دوره الذي خلق من أجله فسبب له األسباب كي‬ ‫خيرجه من تلك الدار وهذا العامل‪.‬‬ ‫فريوي لنا صاحبنا بداية قصته فيقول‪ :‬كانت ألبي ضيعة عظيمة‪ ،‬فَشُغِلَ يف بنيان له يوماً‪ ،‬فقال‬ ‫يل‪ :‬يا بين إني قد شُغِلتُ يف بنيان هذا اليوم عن ضيعيت‪ ،‬فاذهب فأطلعها‪ ،‬وأمرني فيها ببعض ما‬ ‫يريد‪ ،‬فخرجت أريد ضيعته‪ ،‬فمررت بكنيسة من كنائس النصارى‪ ،‬فسمعت‬ ‫أصواهتم فيها وهم يصلون‪ ،‬وكنت ال أدري ما أمر الناس حلبس أبي إياي يف بيته‪ ،‬فلما‬ ‫مررت هبم ومسعت أصواهتم‪ ،‬دخلت عليهم أنظر ما يصنعون‪ ،‬قال‪ :‬فلما رأيتهم أعجبتين‬ ‫صالهتم‪ ،‬ورغبت يف أمرهم‪ ،‬وقلت‪ :‬هذا واهلل خري من الدين الذي حنن عليه‪ ،‬فواهلل ما‬ ‫تركتهم حتى غربت الشمس‪ ،‬وتركت ضيعة أبي‪ ،‬ومل آهتا‪ ،‬فقلت هلم‪ :‬أين أَصلُ هذا‬ ‫الدين؟‪ ،‬قالوا‪ :‬بالشام‪.‬فرجعت إىل أبي‪ ،‬وقد بعث يف طليب‪ ،‬وشغلتُه عن عمله كلِّه‪ ،‬فلما‬ ‫جئته قال‪ :‬أي بين أين كنت؟‪ ،‬أمل أكن عهدتُ إليك ما عهدت؟‪ ،‬قال‪ :‬قلت‪ :‬يا أبت مررت‬ ‫بناس يصلون يف كنيسة هلم‪ ،‬فأعجبين ما رأيت من دينهم‪ ،‬فواهلل ما زلت عندهم حتى‬ ‫غربت الشمس‪ ،‬قال‪ :‬أي بين ليس يف ذلك الدين خري‪ ،‬دينك ودين آبائك خري منه‪ ،‬قلت‪ :‬كال‬ ‫واهلل‪ ،‬إنه خري من ديننا‪ ،‬قال‪ :‬فخافين‪ ،‬فجعل يف رجلي قيداً‪ ،‬ثم حبسين يف بيته‬ ‫قال‪ :‬فَبَعَثْتُ إىل النصارى فقلت هلم‪ :‬إذا قدم عليكم ركب من الشام جتار من‬ ‫النصارى فأخربوني هبم‪ ،‬قال‪ :‬فقدم عليهم ركب من الشام جتار من النصارى‪ ،‬فأخربوني‬ ‫هبم‪ ،‬فقلت هلم‪ :‬إذا قضوا حوائجهم‪ ،‬وأرادوا الرجعة إىل بالدهم فآذنوني هبم‪ ،‬فلما أرادوا‬

‫‪38‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫الرجعة إىل بالدهم أخربوني هبم‪ ،‬فألقيت احلديد من رجلي‪ ،‬ثم خرجت معهم حتى‬ ‫قدمت الشام‪.‬‬ ‫فلما قدمتها قلت‪ :‬من أفضل أهل هذا الدين؟‪ ،‬قالوا‪ :‬األسقف يف الكنيسة‪ ،‬قال‪ :‬فجئته‪،‬‬ ‫فقلت‪ :‬إني قد رغبت يف هذا الدين‪ ،‬وأحببت أن أكون معك‪ ،‬أخدمك يف كنيستك‪،‬‬ ‫وأتعلم منك وأصلي معك‪ ،‬قال‪ :‬فادخل فدخلت معه‪ ،‬قال‪ :‬فكان رجل سوء‪ ،‬يأمرهم‬ ‫بالصدقة ويرغبهم فيها‪ ،‬فإذا مجعوا إليه منها أشياء‪ ،‬اكتنزه لنفسه ومل يعطه املساكني‪ ،‬حتى‬ ‫مجع سبع قالل من ذهب وَوَرِق (فضة)‪ ،‬قال‪ :‬وأبغضته بغضاً شديداً ملا رأيته يصنع‪ ،‬ثم مات‪،‬‬ ‫فاجتمعَت إليه النصارى ليدفنوه‪ ،‬فقلت هلم‪ :‬إن هذا كان رجل سوء‪ ،‬يأمركم بالصدقة‬ ‫ويرغبكم فيها‪ ،‬فإذا جئتموه هبا اكتنزها لنفسه ومل يعط املساكني منها شيئاً‪ ،‬قالوا‪ :‬وما‬ ‫علمك بذلك؟ قال‪ :‬قلت‪ :‬أنا أدلكم على كنزه‪ ،‬قالوا‪ :‬فدلنا عليه‪ ،‬قال‪ :‬فأريتهم موضعه‪،‬‬ ‫قال‪ :‬فاستخرجوا منه سبع قالل مملوءة ذهباً وورقاً‪ ،‬قال‪ :‬فلما رأوها قالوا‪ :‬واهلل ال ندفنه أبداً‪،‬‬ ‫فصلبوه‪ ،‬ثم رمجوه باحلجارة‪ ،‬ثم جاؤوا برجل آخر فجعلوه مبكانه ‪.‬‬ ‫يقول سلمان‪ :‬فما رأيت رجالً ال يصلي اخلمس أرى أنه أفضل منه‪ ،‬أزهد يف الدنيا وال أرغب‬ ‫يف اآلخرة‪ ،‬وال أدأب ليالً وهناراً منه‪ ،‬قال‪ :‬فأحببته حباً مل أحبه مَن قبله‪ ،‬وأقمت معه زماناً‪ ،‬ثم‬ ‫حضرته الوفاة‪ ،‬فقلت له‪ :‬يا فالن! إني كنت معك‪ ،‬وأحببتك حباً مل أحبه أحداً من قبلك‪ ،‬وقد‬ ‫حضرك ما ترى من أمر اهلل‪ ،‬فإىل مَنْ توصي بي؟ وما تأمرني؟‪ ،‬قال‪ :‬أي بين! واهلل ما أعلم أحداً‬

‫‪39‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫اليوم على ما كنت عليه‪ ،‬لقد هلك الناس وبدلوا‪ ،‬وتركوا أكثر ما كانوا عليه إال رجالً‬ ‫باملوصِل وهو فالن‪ ،‬فهو على ما كنت عليه فالْحَقْ به ‪.‬‬ ‫قال‪ :‬فلما مات وغُيب‪ ،‬حلقت بصاحب املوصل ‪ ،‬وكان له مع صاحب املوصل نفس الشأن مع‬ ‫سابقه وملا حضرته الوفاة سأله إىل مَنْ توصي بي؟ وما تأمرني؟ فأخربه عن رجل بنصيبني فذهب‬ ‫إليه‪ ،‬فكان له معه نفس الشأن كسابقيه حتى حضرته الوفاة‪ ،‬فأعاد عليه نفس السؤال فأخربه‬ ‫عن رجل بعمورية‪ ،‬قال‪ :‬فلما مات وغيب‪ ،‬حلقت بصاحب عمورية‪ ،‬وأخربته خربي‪ ،‬فقال‪ :‬أقم‬ ‫عندي‪ ،‬فأقمت مع رجل على هدي أصحابه وأمرهم‪ ،‬قال‪ :‬واكتسبت حتى كان يل‬ ‫بُقَيْرَاتٌ وَغَنَيمَةٌ‪ ،‬قال‪ :‬ثم نزل به أمر اهلل‪ ،‬فلما حضر قلت له‪ :‬يا فالن إىل مَنْ توصي بي؟ وما‬ ‫تأمرني؟‬ ‫فقال له‪ :‬إني يا بين ال أعرف أحداً على مثل ما حنن عليه ولكن قد أظلك زمان نيب‪ ،‬من بين‬ ‫إمساعيل مبعوث على دين إبراهيم عليهما الصالة والسالم وهذا النيب سوف خيرجه قومه من‬ ‫أرضه مهاجراً إىل أرض بني حرتني بينهما خنل به عالمات ال ختفى يأكل اهلدية وال يأكل‬ ‫الصدقة وبني كتفيه خامت النبوة فإن استطعت أن تلحق هبذه البالد فافعل‪ ،‬ومات الرجل ودفن‬ ‫وخرج سلمان يبحث عن النيب املنتظر (رسول اهلل ) وبينما هو يف الطريق إذ خرج عليه نفر‬ ‫كانوا يف جتارة هلم فطلب إليهم أن حيملوه معهم إىل بالد العرب ويعطيهم ما معه من‬ ‫بقرات وغنيماته ولكنهم حني وصلوا إىل وادي القرى باعوه إىل رجل من اليهود فأصبح سلمان‬ ‫عبداً مملوكاً هلذا التاجر اليهودي ‪.‬‬

‫‪40‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫ورغم أمل الرق والعبودية على حر كسلمان إال أنه حني نظر حوله ووجد النخيل تفاءل‬ ‫واستبشر خرياً بأن تكون هذه البلدة هي اليت سيهاجر إليها النيب املنتظر‪ ،‬ثم باع التاجر‬ ‫اليهودي سلمان إىل قريب له يعيش يف يثرب وهكذا دخل سلمان املدينة املنورة عبداً مملوكاً‬ ‫هلذا التاجر اليهودي اجلديد وهو من بين قريظة ويعيش يف املدينة‪ ،‬ومل خيفف عن سلمان وقع الرق‬ ‫والعبودية إال وجوده يف هذه املدينة اليت كان يعلم أهنا مدينة النيب املنتظر كما وصفها له‬ ‫األسقف النصراني ‪.‬‬ ‫وبُعث رسول اهلل بدين احلق يف مكة واضطهدته قريش وأخرجته مهاجراً إىل املدينة فسمع‬ ‫به سليمان‪ ،‬وذات صباح وبينما كان سلمان يعمل يف حديقة اليهودي حني حضر إليه قريب له‬ ‫فأخذ يقص عليه قصة الرجل الذي جتتمع إليه الناس يف قباء ويزعمون أنه نيب‪ ،‬فما أن مسع سلمان‬ ‫ذلك حتى انتفض بدنه بشدة حتى ظن أنه سوف يقع على سيده ‪ . . .‬ونزل من على النخلة وأخذ‬ ‫يستفسر عن ذلك النيب املنتظر فغضب منه سيده فلكمه لكمة شديدة‪ .‬ولكن سلمان‬ ‫أخذ بعض العنب وذهب به إىل رسول اهلل ‪ ،‬وحدَّثَ سلمان نفسه ال بد وأنه الرسول املنتظر الذي‬ ‫أخرب عنه وظل له أن يتأكد من عالمته اليت يعرفها فهو ال يأكل الصدقة‪ ،‬فقال سلمان لرسول‬ ‫اهلل ‪ :‬لقد بلغين أنك رجل صاحل وأنك ومن معك غرباء هنا ومعي طعام كنت قد خرجت به‬ ‫للصدقة ورأيت أن أعطيه لكم فقال رسول اهلل ألصحابه‪( :‬كلوا منه) وأمسك يده فلم‬ ‫يتناول منه شيئاً‪ ،‬فقال سلمان لنفسه‪ (:‬هذه أوىل العالمات ) ثم دخل الرسول املدينة فأسرع إليه‬ ‫سلمان هبدية وقدمها إليه وهو يقول له‪( :‬إهنا هدية لك ألني رأيتك ال تأكل من الصدقات)‬

‫‪41‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫فأكل منها رسول اهلل و أكل أصحابه معه‪ ،‬فقال سلمان لنفسه‪ (:‬واهلل أهنا العالمة الثانية)‪ ،‬ثم‬ ‫جئت رسول اهلل – صلى اهلل عليه وسلم – وهو ببقيع الغرقد‪ ،‬قال‪ :‬وقد تبع جنازة من أصحابه‪،‬‬ ‫عليه مشلتان له‪ ،‬وهو جالس يف أصحابه‪ ،‬فسلمت عليه ثم استدرت أنظر إىل ظهره‪ ،‬هل أرى‬ ‫اخلامت الذي وصف يل صاحيب‪ ،‬فلما رآني رسول اهلل – صلى اهلل عليه وسلم ـ استدبرته‪ ،‬عرف‬ ‫أني أستثبت يف شيء وصف يل‪ ،‬قال‪ :‬فألقي رداءه عن ظهره‪ ،‬فنظرت إىل اخلامت فعرفته‪،‬‬ ‫فانكببت عليه أقبله وأبكي‪ ،‬فقال يل رسول اهلل – صلى اهلل عليه وسلم ‪ :-‬حتول‪ ،‬فتحولت‪،‬‬ ‫فقصصت عليه حديثي ‪.‬‬ ‫ولكن ظل سلمان عبداً عند اليهودي ففاتته غزوة بدر وغزوة أُحد‪ ،‬حني اشتد على سلمان‬ ‫الرق جاء إىل رسول اهلل معتذراً عن عدم قدرته يف املشاركة يف الغزوات وأمله لتخلفه‬ ‫عنه ألنه عبد مملوك ال ميلك أمره‪ .‬هنا قال رسول اهلل ‪(( :‬كاتب اليهودي على ثالمثائة خنلة‬ ‫وأربعني أوقية من الفضة)) والتفت إىل أصحابه وقال هلم‪(( :‬أعينوا أخاكم جزاكم اهلل‬ ‫خرياً)) فجمعوا له ثالمثائة ودية ثم أمره أن يرجع إىل اليهودي فيحفر هلا بأرضه وسوف يأتي‬ ‫رسول اهلل ويضعها بيديه الشريفـتني وبقي املال فأعطاه رسول اهلل مثل البيضة ذهباً فأدى هبا ما عليه‬ ‫من مال‪ ،‬وهكذا حترر سلمان من العبودية‪.‬‬ ‫* غزوة اخلندق‬

‫‪42‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫فيها جتلت عبقرية سلمان ففي شهر شوال من العام اخلامس من اهلجرة (املوافق مارس ‪627‬م)‬ ‫جاءت جيوش قريش إىل املدينة مقاتلة حتت قيادة أبي سفيان‪ ،‬ورأى املسلمون أنفسهم يف‬ ‫موقف عصيب‪ ،‬ومجع الرسول أصحابه ليشاورهم يف األمر‪ ،‬فتقدم سلمان وألقى من فوق‬ ‫هضبة عالية نظرة فاحصة على املدينة‪ ،‬فوجدها حمصنة باجلبال والصخور حميطة هبا‪ ،‬بيد أن هناك‬ ‫فجوة واسعة يستطيع األعداء اقتحامها بسهولة‪ ،‬وكان سلمان قد خرب يف بالد فارس الكثري‬ ‫من وسائل احلرب وخدعها‪ ،‬فتقدم من الرسول واقرتح أن يتم حفر خندق يغطي مجيع املنطقة‬ ‫املكشوفة حول املدينة‪ ،‬وبالفعل بدأ املسلمون يف حفر هذا اخلندق الذي صعق قريش حني‬ ‫رأته‪ ،‬وعجزت عن اقتحام املدينة‪.‬‬ ‫وعن كثري بن عبد اهلل املزني‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن جده أن رسول اهلل خطَّ اخلندق‪ ،‬وجعل لكل‬ ‫عشرة أربعني ذراعًا‪ ،‬فاحتج املهاجرون واألنصار يف سلمان‪ ،‬وكان رجالً قويًّا‪ ،‬فقال‬ ‫املهاجرون‪ :‬سلمان منا‪ .‬وقالت األنصار‪ :‬ال‪ ،‬بل سلمان منا‪ .‬فقال رسول اهلل ‪“ :‬سلمان منا آل‬ ‫البيت”‪ .‬وخالل حفر اخلندق اعرتضت معاول املسلمني صخرة عاتية مل يستطيعوا فلقها‪ ،‬فذهب‬ ‫سلمان إىل الرسول مستأذنا بتغيري مسار احلفر ليتجنبوا هذه الصخرة‪ ،‬فأتى الرسول مع سلمان‬ ‫وأخذ املعول بيديه‪ ،‬ومسى اهلل وهوى على الصخرة فإذا هبا تنفلق وخيرج منها وهجا عاليا مضيئا‬ ‫وهتف الرسول مكربًا‪ ” :‬اهلل أكرب أعطيت مفاتيح فارس‪ ،‬ولقد أضاء اهلل يل منها قصور‬ ‫احلرية‪ ،‬ومدائن كسرى‪ ،‬وإن أميت ظاهرة عليها ” ثم رفع املعول ثانية وهوى على الصخرة‪،‬‬ ‫فتكررت الظاهرة وبرقت الصخرة‪ ،‬وهتف الرسول ‪ ” :‬اهلل أكرب أعطيت مفاتيح الروم‪،‬‬

‫‪43‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫ولقد أضاء يل منها قصور احلمراء‪ ،‬وإن أميت ظاهرة عليها ” ثم ضرب ضربته الثالثة‬ ‫فاستسلمت الصخرة وأضاء برقها الشديد‪ ،‬وهلل الرسول واملسلمون معه وأنبأهم أنه يبصر‬ ‫قصور سورية وصنعاء وسواها من مدائن األرض‪ ،‬وصاح املسلمون “هذا ما وعدنا اهلل‬ ‫ورسوله‪ ،‬وصدق اهلل ورسوله”‪.‬‬ ‫* تواضعه وزهده ‪..‬‬ ‫لقد كان سلمان الفارسي يرفض اإلمارة ويقول إن استطعت أن تأكل الرتاب وال تكونن‬ ‫أمريا على اثنني فافعل‪ .‬يف األيام اليت كان فيها أمريًا على املدائن وهو سائر بالطريق‪ ،‬لقيه رجل‬ ‫قادم من الشام ومعه محل من التني والتمر‪ ،‬وكان احلمل يتعب الشامي‪ ،‬فلم يكد يرى أمامه‬ ‫رجال يبدو عليه من عامة الناس وفقرائهم حتى قال له امحل عين هذا فحمله سلمان ومضيا‪،‬‬ ‫وعندما بلغا مجاعة من الناس فسلم عليهم فأجابوا وعلى األمري السالم فسأل الشامي نفسه أي‬ ‫أمري يعنون؟ ودهش عندما رأى بعضهم يتسارعون ليحملوا عن سلمان احلمل ويقولون عنك أيها‬ ‫األمري فعلم الشامي أنه أمري املدائن سلمان الفارسي فسقط يعتذر ويأسف واقرتب ليأخذ‬ ‫احلمل‪ ،‬ولكن رفض سلمان وقال ال حتى أبلغك منزلك‪.‬‬ ‫سئل سلمان يوما ماذا يبغضك يف اإلمارة ؟ فأجاب (حالوة رضاعها‪ ،‬ومرارة فطامها)‪.‬‬ ‫* وفاته‬

‫‪44‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫جاء سعد بن أبي وقاص يعود سلمان يف مرضه‪ ،‬فبكى سلمان‪ ،‬فقال سعد ما يبكيك يا أبا‬ ‫عبد اهلل ؟ لقد تويف رسول اهلل وهو عنك راض‪ .‬فأجاب سلمان واهلل ما أبكي جزعا من‬ ‫املوت‪ ،‬وال حرصا على الدنيا‪ ،‬ولكن رسول اهلل عهد إلينا عهدا‪ ،‬فقال ليكن حظ‬ ‫أحدكم من الدنيا مثل زاد الراكب ؛ وهأنذا حويل هذه األساود! فنظر سعد فلم ير‬ ‫إال جفنة ومطهرة‪ ،‬فقال سعد‪ :‬يا أبا عبد اهلل اعهد إلينا بعهد نأخذه عنك فقال‪ :‬يا سعد اذكر‬ ‫اهلل عند مهك إذا مهمت‪ ،‬وعند حكمك إذا حكمت‪ ،‬وعند يدك إذا قسمت‪.‬‬ ‫و كان سلمان ميلك شيئاً حيرص عليه كثرياً‪ ،‬ائتمن زوجته عليه؛ ويف صبيحة اليوم الذي‬ ‫قُبض فيه ناداها هلمي خَبيَك الذي استخبأتك فجاءت هبا‪ ،‬فإذا هي صُرّة مِسك أصاهبا يوم فتح‬ ‫جلوالء‪ ،‬احتفظ هبا لتكون عِطره يوم مماته؛ ثم دعا بقدح ماءٍ نثر به املسك وقال لزوجته‬ ‫انضحيه حويل‪ ،‬فإنه حيضرني اآلن خلق من خلق اهلل‪ ،‬ال يأكلون الطعام وإمنا حيبون الطيب‪.‬‬ ‫فلما فعلت قال هلا اجفئي علي الباب وانزيل ففعلت ما أمر‪ ،‬وبعد حني عادت فإذا روحه قد‬ ‫فارقت جسده‪ ،‬وكان ذلك يف عهد عثمان بن عفان‪ .‬وقد تولّى دفنه والصالة عليه وجتهيزه‬ ‫علي بن أبي طالب وكان رضي اهلل عنه يلقبه بـ”لقمان احلكيم”‪ ،‬وسئل عنه بعد موته فقال‬ ‫ذاك أمرؤ منا وإلينا أهل البيت‪ ،‬من لكم مبثل لقمان احلكيم؟ أوتي العلم األول والعلم‬ ‫اآلخر‪ ،‬وقرأ الكتاب األول والكتاب اآلخر‪ ،‬وكان حبرا ال ينزف‪.‬‬ ‫رضي اهلل عن سلمان الفارسي وعن صحابة رسول اهلل أمجعني‪.‬‬

‫‪45‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫اإلسالم ‪-‬بوصفه دين الفطرة‪ -‬ال يتصور منه أن يصادر نزوع اإلنسان الفطري إيل الضحك‬ ‫واالنبساط بل هو علي العكس يرحب بكل ما جيعل احلياة بامسة طيبة‪ ،‬وحيب للمسلم أن‬ ‫تكون شخصيته متفائلة باشة‪ ،‬ويكره الشخصية املكتئبة املتطرية‪ ،‬اليت ال تنظر إيل احلياة‬ ‫والناس إال من خالل منظار قامت أسود‪.‬‬ ‫وأسوة املسلمني يف ذلك هو‪ :‬رسول اهلل ‪-‬صلي اهلل عليه وسلم‪ -‬فقد كان ‪-‬برغم مهومه‬ ‫الكثرية واملتنوعة‪ -‬ميزح وال يقول إال حقًا‪ ،‬وحييا مع أصحابه حياة فطرية عادية‪،‬‬ ‫يشاركهم يف ضحكهم ولعبهم ومزاحهم‪ ،‬كما يشاركهم آالمهم‬ ‫وأحزاهنم ومصائبهم‪.‬‬ ‫يقول زيد بن ثابت‪ ،‬وقد طلب إليه أن حيدثهم عن حال رسول اهلل ‪-‬صلي اهلل عليه وسلم‪-‬‬ ‫فقال‪ :‬كنت جاره‪ ،‬فكان إذا نزل عليه الوحي بعث إيل فكتبته له‪ ،‬فكان إذا ذكرنا‬ ‫الدنيا ذكرها معنا‪ ،‬وإذا ذكرنا اآلخرة ذكرها معنا‪ ،‬وإذا ذكرنا الطعام ذكره‬

‫‪46‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫معنا‪ ،‬وقال‪ :‬فكل هذا أحدثكم عن رسول اهلل ‪-‬صلي اهلل عليه وسلم‪ -‬؟ (رواه‬ ‫الطرباني بإسناد حسن كما يف جممع الزوائد "‪.)"17/9‬‬ ‫وقد وصفه أصحابه بأنه كان من أفكه الناس يف‪( .‬كنز العمال برقم ‪. )18400‬‬ ‫وقد رأيناه يف بيته ‪-‬صلي اهلل عليه وسلم‪ -‬ميازح زوجاته ويداعبهن‪ ،‬ويستمع إيل أقاصيصهن‪،‬‬ ‫كما يف حديث أم زرع الشهري يف صحيح البخاري‪.‬‬ ‫وكما رأينا يف تسابقه مع عائشة رضي اهلل عنها‪ ،‬حيث سبقته مرة‪ ،‬وبعد مدة تسابقا فسبقها‪،‬‬ ‫فقال هلا‪ :‬هذه بتلك!‬ ‫وقد روي أنه وطأ ظهره لسبطيه احلسن واحلسني‪ ،‬يف طفولتهما لريكبا‪ ،‬ويستمتعا دون تزمت‬ ‫وال حترج‪ ،‬وقد دخل عليه أحد الصحابة ورأي هذا املشهد فقال‪ :‬نعم املركب ركبتما‪،‬‬ ‫فقال عليه الصالة والسالم‪" :‬ونعم الفارسان مها"!‬ ‫ورأيناه ميزح مع تلك املرأة العجوز اليت جاءت تقول له‪ :‬ادع اهلل أن يدخلين اجلنة‪ ،‬فقال هلا‪" :‬يا أم‬ ‫فالن‪ ،‬إن اجلنة ال يدخلها عجوز" ! فبكت املرأة حيث أخذت الكالم علي ظاهره‪،‬‬ ‫فأفهمها‪ :‬أهنا حني تدخل اجلنة لن تدخلها عجوزًا‪ ،‬بل شابة حسناء‪.‬‬ ‫وتال عليها قول اهلل تعايل يف نساء اجلنة‪( :‬إنا أنشأناهن إنشاء‪ .‬فجعلناهن أبكارًا‪ .‬عربًا‬ ‫أترابًا)‪(.‬الواقعة‪ )37-35 :‬واحلديث أخرجه الرتمذي يف "الشمائل"‪ ،‬وعبد بن محيد‪ ،‬وابن‬ ‫املنذر‪ ،‬والبيهقي‪،‬وغريهم‪ ،‬وحسنه األلباني يف "غاية املرام")‬

‫‪47‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫وجاء رجل يسأله أن حيمله علي بعري‪ ،‬فقال له عليه الصالة والسالم‪" :‬ال أمحلك إال علي ولد الناقة"‬ ‫! فقال‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬وماذا أصنع بولد الناقة ؟ ! ‪-‬انصرف ذهنه إيل احلوار الصغري‪ -‬فقال‪:‬‬ ‫"وهل تلد إال النوق" ؟ (رواه الرتمذي‪ ،‬وقال‪ :‬حسن صحيح وأخرجه أبو داود أيضًا)‪.‬‬ ‫وقال زيد بن أسلم‪ :‬إن امرأة يقال هلا أم أمين جاءت إيل النيب ‪-‬صلي اهلل عليه وسلم‪ -‬فقالت‪:‬‬ ‫إن زوجي يدعوك‪ ،‬قال‪" :‬ومن هو ؟ أهو الذي بعينه بياض" ؟ قالت‪ :‬واهلل ما بعينه بياض فقال‪" :‬بلي‬ ‫إن بعينه بياضا" فقالت‪ :‬ال واهلل‪ ،‬فقال ‪-‬صلي اهلل عليه وسلم‪" :-‬ما من أحد إال بعينه بياض"‬ ‫(أخرجه الزبري بن بكار يف كتاب الفكاهة واملزاح‪ ،‬ورواه ابن أبي الدنيا من حديث‬ ‫عبيدة بن سهم الفهري مع اختالف‪ ،‬كما ذكر العراقي يف ختريج اإلحياء)‪ .‬وأراد به‬ ‫البياض احمليط باحلدقة‪.‬‬ ‫وقال أنس‪ :‬كان ألبي طلحة ابن يقال له أبو عمري‪ ،‬وكان رسول اهلل ‪-‬صلي اهلل عليه وسلم‪-‬‬ ‫يأتيهم ويقول‪" :‬يا أبا عمري ما فعل النغري" ؟ (متفق عليه)‪ .‬لنغري كان يلعب به وهو فرخ‬ ‫العصفور‪.‬‬ ‫وقالت عائشة رضي اهلل عنها‪ :‬كان عندي رسول اهلل ‪-‬صلي اهلل عليه وسلم‪ -‬وسودة بنت‬ ‫زمعة فصنعت حريرة ‪-‬دقيق يطبخ بلنب أو دسم‪ -‬وجئت به‪ ،‬فقلت لسودة‪ :‬كلي‪ ،‬فقالت‪ :‬ال‬ ‫أحبه‪ ،‬فقلت‪ :‬واهلل لتأكلن أو أللطخن به وجهك‪ ،‬فقالت‪ ،‬ما أنا بذائقته‪ ،‬فأخذت بيدي من‬ ‫الصحفة شيئًا منه فلطخت به وجهها‪ ،‬ورسول اهلل ‪-‬صلي اهلل عليه وسلم‪ -‬جالس بيين وبينها‪،‬‬

‫‪48‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫فخفض هلا رسول اهلل ركبتيه لتستقيد مين فتناولت من الصحفة شيئًا فمسحت به وجهي !‬ ‫وجعل رسول اهلل ‪-‬صلي اهلل عليه وسلم‪ -‬يضحك‪( .‬أخرجه الزبري بن بكار يف كتاب‬ ‫الفكاهة وأبو يعلي بإسناد جيد كما يف ختريج اإلحياء)‪.‬‬ ‫وروي أن الضحاك بن سفيان الكالبي كان رجالً دميمًا قبيحًا‪ ،‬فلما بايعه النيب ‪-‬صلي اهلل‬ ‫عليه وسلم‪ -‬قال‪ :‬إن عندي امرأتني أحسن من هذه احلمرياء ‪-‬ذلك قبل أن تنزل آية احلجاب‪-‬‬ ‫أفال أنزل لك عن إحداهن فتتزوجها !‪ ،‬وعائشة جالسة تسمع‪ ،‬فقالت‪ :‬أهي أحسن أم أنت ؟‬ ‫فقال‪ :‬بل أنا أحسن منها وأكرم‪ ،‬فضحك رسول اهلل ‪-‬صلي اهلل عليه وسلم‪ -‬من سؤاهلا إياه؛‬ ‫ألنه كان دميمًا‪( .‬قال احلافظ العراقي‪ :‬أخرجه الزبري بن بكار يف الفكاهة من رواية‬ ‫عبد اهلل بن حسن مرسالً أو معضالً وللدارقطين حنو هذه القصة مع عيينة بن حصن الفزاري بعد‬ ‫نزول احلجاب من حديث أبي هريرة)‪.‬‬ ‫وكان ‪-‬صلي اهلل عليه وسلم‪ -‬حيب إشاعة السرور والبهجة يف حياة الناس‪ ،‬وخصوصًا‬ ‫يف املناسبات مثل األعياد واألعراس‪.‬‬ ‫وملا أنكر الصديق أبو بكر ‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬غناء اجلاريتني يوم العيد يف بيته وانتهرمها‪،‬‬ ‫قال له "دعهما يا أبا بكر‪ ،‬فإهنا أيام عيد" ! ويف بعض الروايات‪" :‬حيت يعلم يهود أن يف ديننا‬ ‫فسحة"‪.‬‬

‫‪49‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫وقد أذن للحبشة أن يلعبوا حبراهبم يف مسجده عليه الصالة والسالم يف أحد أيام األعياد‪،‬‬ ‫وكان حيرضهم ويقول‪" :‬دونكم يا بين أرفدة" !‬ ‫وأتاح لعائشة أن تنظر إليهم من خلفه‪ ،‬وهم يلعبون ويرقصون‪ ،‬ومل ير يف ذلك بأسًا وال حرجًا‪.‬‬ ‫واستنكر يومًا أن تزف فتاة إيل زوجها زفافًا صامتًا‪ ،‬مل يصحبه هلو وال غناء‪ ،‬وقال‪" :‬هال‬ ‫كان معها هلو ؟ فإن األنصار يعجبهم اللهو‪ ،‬أو الغزل"‪ .‬ويف بعض الروايات‪" :‬هال بعثتم‬ ‫معها من تغين وتقول‪ :‬أتيناكم أتيناكم ‪ ..‬فحيونا حنييكم"‪.‬‬ ‫وكان أصحاب النيب ‪-‬صلي اهلل عليه وسلم‪ -‬ومن تبعهم بإحسان يف خري قرون األمة‬ ‫يضحكون وميزحون‪ ،‬اقتداءً بنبيهم ‪-‬صلي اهلل عليه وسلم‪ -‬واهتداء هبديه‪ .‬حيت إن رجالً‬ ‫مثل عمر بن اخلطاب ‪-‬علي ما عرف عنه من الصرامة والشدة‪ -‬يروي عنه أنه مازح جارية له‪،‬‬ ‫فقال هلا‪ :‬خلقين خالق الكرام‪ ،‬وخلقك خالق اللئام ! فلما رآها ابتأست من هذا القول‪ ،‬قال‬ ‫هلا مبينًا‪ :‬وهل خالق الكرام واللئام إال اهلل عز وجل ؟؟‬ ‫وقد عرف بعضهم بذلك يف حياته ‪-‬صلي اهلل عليه وسلم‪ ،-‬وأقره عليه‪ ،‬واستمر علي ذلك‬ ‫من بعده‪ ،‬وقبله الصحابة‪ ،‬ومل جيدوا فيه ما ينكر‪ ،‬برغم أن بعض الوقائع املروية يف ذلك لو‬ ‫حدثت اليوم ألنكرها معظم املتدينني أشد اإلنكار‪ ،‬وعدوا فاعلها من الفاسقني أو‬ ‫املنحرفني !‬

‫‪50‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫غري ان احد الصحابة كان معروفاً مبزاحه الذي يكاد يكون ثقيالً بعض األحيان‪ ،‬وخاصة‬ ‫انه كان ميازح رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪..‬‬ ‫إنه النعيمان بن عمرو أألنصاري‬ ‫نسب النعيمان بن عمرو‬ ‫النعيمان بن عمرو بن رفاعة بن احلارث بن سواد بن مالك بن النجار األنصاري‪ ،‬يتمتع النعيمان‬ ‫بن عمرو بكثري من الصفات العذبة والشمائل الكرمية منها‪ :‬الشجاعة واإلقدام على مواطن‬ ‫اجلهاد‪ ,‬قال ابن سعد‪ :‬شهد بدرًا وأحدًا واخلندق واملشاهد كلها‪.‬وكان من صفاته‬ ‫كذلك حب الفكاهة والطرفة وخاصة مع النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ ...‬قالت أم سلمة‬ ‫رضي اهلل عنها‪" :‬كان الضحاك مضحاكًا مزاحًا"‪.‬‬ ‫بعض مواقف النعيمان بن عمرو مع النيب صلى اهلل عليه وسلم ‪:‬‬ ‫كان ال يدخل املدينة إال اشرتى منها ثم جاء هبا إىل النيب صلى اهلل عليه وسلم فيقول‪ :‬هذا‬ ‫أهديته لك‪ ,‬فإذا جاء صاحبها يطلب نعيمان بثمنها أحضره إىل النيب صلى اهلل عليه وسلم وقال‪:‬‬ ‫أعط هذا مثن متاعه‪ ,‬فيقول‪" :‬أوَ مل هتده يل"‪ ,‬فيقول‪ :‬إنه واهلل مل يكن عندي مثنه‪ ،‬ولقد أحببت أن‬ ‫تأكله‪ ،‬فيضحك ويأمر لصاحبه بثمنه‪.‬‬ ‫ودخل أعرابي على النيب صلى اهلل عليه وسلم وأناخ ناقته بفنائه‪ ,‬فقال بعض الصحابة للنعيمان‬ ‫األنصاري‪ :‬لو عقرهتا فأكلناها‪ ,‬فإنا قد قرمنا اللحم ففعل‪ ,‬فخرج األعرابي وصاح‪:‬‬

‫‪51‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫واعقراه يا حممد‪ ,‬فخرج النيب صلى اهلل عليه وسلم وقال‪" :‬من فعل هذا؟"‪ ,‬فقالوا‪ :‬هو النعيمان‪,‬‬ ‫فأتبعه يسأل عنه حتى وجده قد دخل دار ضباعة بنت الزبري بن عبد املطلب واستخفى حتت‬ ‫سرب هلا فوقه جريد‪ ,‬فأشار رجل إىل النيب صلى اهلل عليه وسلم حيث هو فأخرجه فقال له‪:‬‬ ‫"ما محلك على ما صنعت؟"‪ ,‬قال‪ :‬الذين دلوك عليَّ يا رسول اهلل هم الذين أمروني بذلك‪ ,‬قال‪:‬‬ ‫فجعل ميسح الرتاب عن وجهه ويضحك‪ ,‬ثم غرمها لألعرابي‪.‬‬ ‫وهنا تتجلى عظمة النيب صلى اهلل عليه وسلم فلم ينكر على هذا الصحابي الذي عقر الناقة‬ ‫ما فعله ألنه حيب املزاح‪ ،‬فالرسول يعلم أن النفس البشرية تتفاوت من إنسان إىل آخر‪ ,‬فهناك من‬ ‫هو جاد يف كل شيء وهناك من حيب املزاح؛ ولكنه صلى اهلل عليه وسلم قد حكم‬ ‫لألعرابي بثمن الناقة‪.‬‬ ‫بعض مواقف النعيمان بن عمرو مع الصحابة ‪:‬‬ ‫كان من السمات املميزة هلذا الصحابي اجلليل‪ ،‬كثرة املزاح‪ ،‬وحب الضحك حتى قال عنه‬ ‫النيب صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬يدخل اجلنة وهو يضحك"‪.‬وكثرية هي املواقف الضاحكة من‬ ‫نعيمان‪ ،‬فعن أم سلمة رضي اهلل عنها أن أبا بكر الصديق رضي اهلل عنه خرج يف جتارة له‬ ‫إىل بُصري ‪-‬بلدة من بالد الشام‪ -‬ومعه نعيمان األنصاري‪ ،‬وسليط بن حرملة ‪-‬وكالمها ممن‬ ‫شهد بدرًا‪ -‬وكان سليط هو املسئول عن الزاد وتدبريه يف الرحلة‪ ،‬فبينما هم يف اسرتاحة‬ ‫من االسرتاحات أثناء الطريق‪ ،‬إذا بنعيمان جاع جوعًا شديدًا‪ ،‬فطلب من سليط أن يطعمه فأبى‬

‫‪52‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫عليه ذلك إال يف حضرة أبي بكر من اخلارج ‪-‬الذي يبدو أنه خرج لبعض شأنه‪ -‬فاغتاظ منه‬ ‫نعيمان وقال له‪ :‬ألغيظنك‪.‬‬ ‫ويف سفرهم ذاك مروا بقوم من العرب فاختلى هبم نعيمان وقال هلم‪ :‬أتشرتون مين عبدًا‪،‬‬ ‫قالوا‪ :‬نعم‪ ,‬وفرحوا كثريًا بذلك‪ ،‬ألنه ‪-‬على ما يبدو‪ -‬من النادر أن جيدوا عرضًا كهذا‪,‬‬ ‫والعرب كانوا حيتاجون ملن يسرتقوهنم خلدمتهم‪ ،‬فأشار نعيمان للقوم على صاحبه سليط‬ ‫وقال هلم‪ :‬إن هذا عبدي وله كالم‪ ،‬فسوف يقول لكم‪ :‬لست عبدًا وأنين ابن عمه‪ ،‬فإذا‬ ‫كنتم ستصدقونه فال داعي هلذه الصفقة وال تفسدوا عليَّ عبدي‪ ،‬قالوا‪ :‬ال‪ ,‬بل نشرتيه وال‬ ‫نكرتث لقوله‪ ،‬فدفعوا إليه عشرة من اإلبل حلرصهم على شراء العبد املزعوم ثم جاءوا معه‬ ‫ليستلموا الصفقة فامتنع سليط منهم‪ ,‬وقال للقوم‪ :‬إنه يستهزئ بي فلم يصدقوه‪ ,‬وقالوا له‪ :‬لقد‬ ‫أخربنا خربك وأخذوه بالقوة‪ ,‬ووضعوا فوق عنقه عمامة كعادة زي العبيد‪.‬‬ ‫وملا حضر أبو بكر رضي اهلل عنه وأخربوه باخلرب حلق بالقوم‪ ,‬وأكد هلم أن صاحبه ميزح‬ ‫ورد عليهم إبلهم‪ ,‬قال ابن عبد الرب‪ :‬فلما قدموا على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وقصوا‬ ‫عليه قصة نعيمان وبيعه لسليط ضحك رسول اهلل صلى اهلل عليه وأصحابه حوالً كامالً‪ ،‬أي‬ ‫إهنم كان يتملكهم الضحك كلما تذكروا القصة حلول بأكمله‪.‬‬ ‫تقول بعض الروايات أن اسم ذلك الصحابي الذي باعه نعيمان ‪-‬مزاحًا‪ -‬هو سويبط وليس‬ ‫سليطًا‪.‬‬

‫‪53‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫ولقي نعيمان أبا سفيان بن احلارث فقال‪ :‬يا عدو اهلل‪ ,‬أنت الذي هتجو سيد األنصار نعيمان بن‬ ‫عمرو؟ فاعتذر له‪ ,‬فلما وىل قيل ألبي سفيان‪ :‬إن نعيمان هو الذي قال لك ذلك فعجب منه‪.‬‬ ‫وفاة النعيمان بن عمرو ‪:‬‬ ‫وقد بقي النعيمان حتى تويف يف خالفة معاوية‬

‫‪54‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫ام أمين بركة بنت ثعلبة بن عمرو بن حصن احلبشية رضي اهلل عنها‪ ،‬حاضنة رسول اهلل حممد‬ ‫ومربيته من أيام أمه آمنة‪ ،‬ورثها الرسول من أمه‪ ،‬ثم أعتقها‪،‬‬ ‫فبقيت مالزمة له طيلة حياهتا‪.‬‬ ‫أم أمين بركة بنت ثعلبة بن عمرو بن حصن احلبشية رضي اهلل عنها‪ ،‬حاضنة رسول اهلل حممد‬ ‫ومربيته من أيام أمه آمنة‪ ،‬ورثها الرسول من أمه‪ ،‬ثم أعتقها‪،‬‬ ‫فبقيت مالزمة له طيلة حياهتا‪.‬‬ ‫أسلمت مبكرا بعد خدجية وعلي وزيد‪ ،‬زوّجها الرسول عبيداً اخلزرجي مبكة‪ ،‬فولدت‬ ‫له أمين‪ ،‬وملا مات زوجها‪ ،‬زوجها الرسول زيد بن حارثة‪ ،‬فولدت له أسامة أصغر قائد يف‬ ‫اإلسالم ‪،‬هاجرت إىل املدينة‪ ،‬وخرجت يوم أحد بالسيف تدافع عن رسول اهلل عندما رأت‬ ‫الناس تفر من حوله‪.‬‬

‫‪55‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫كانت أم أمين موالة لعبد اهلل بن عبد املطلب‪ ،‬وملا تويف عبد اهلل ووضعت آمنة‬ ‫مولودها‪ ،‬أخذته أم أمين وظلت حمتضنة به حتى بلغ أشده‪ .‬فلما تزوج السيدة‬ ‫خدجية بنت خويلد رضي اهلل عنها أعتقها‪ .‬وكان الرسول يقول عنها‪' :‬أم أمين‪،‬‬ ‫أمي بعد أمي'‪. .‬‬ ‫سريهتا‪:‬‬ ‫ــــــــــــ تُعدُّ أم أمين من أوىل املهاجرات يف سبيل اهلل‪ ،‬إذ هاجرت (رضوان اهلل عليها) هجرتني‪،‬‬ ‫األوىل‪ :‬إىل احلبشة‪ ،‬والثانية‪ :‬إىل املدينة املنورة‪.‬‬ ‫وكانت حتب النيب (ص) حبًا شديدًا وكان (ص) يبادهلا بنفس االحرتام والتقدير حتى قال‬ ‫النيب (ص) فيها‪(:‬أم أمين أُمي بعد أمي)‪ ،‬وقد بكت أم أمين على وفاة النيب (ص) بكاءً كثريًا‪،‬‬ ‫فسألوها ملاذا تبكني وتكثرين البكاء عليه؟‪ ،‬فقالت‪ :‬ال يبكيين موت رسول اهلل‪،‬‬ ‫ولكن أبكي على انقطاع الوحي‪.‬‬ ‫وقد شهدت أم أمين أُحدًا وحنينًا وخيربًا‪ ،‬وكانت تسقي املاء وتداوي اجلرحى‪ ،‬وكان‬ ‫رسول اهلل (ص) إذا نظر إليها يقول‪( :‬هذه بقية أهل بييت)‪.‬‬ ‫كما روت أم أمين كثريًا من األحاديث عن النيب (ص)‪ ،‬وروى عنها عدَّة من الصحابة‪.‬‬ ‫منزلتها‪:‬‬

‫‪56‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫ــــــــــــــــ توجد روايات كثرية تدل على علوِّ مكانتها‪ ،‬وأهنا من أهل اجلنة‪ ،‬نذكر منها ما‬ ‫يلي‪ :‬روي عن اإلمام الباقر (ع) أنه قال يف أم أمين‪( :‬أشهد أنّها من أهل اجلنّة)‪ .‬وروي يف رواية‬ ‫أخرى‪ ،‬أن أم أمين عطشت عطشًا شديدًا بني مكة واملدينة‪ ،‬وأشرفت على اهلالك‪ ،‬فتضرعت‬ ‫إىل اهلل تعاىل‪ ،‬وكانت صائمة‪ ،‬ولعلوِّ درجتها ومنزلتها عند اهلل استجاب هلا رهبا‪ ،‬فنزل عليها‬ ‫دلو من السماء‪ ،‬فشربت منه حتى رويت‪ ،‬وكانت تقول‪ :‬ما أصابين بعد ذلك عطش‪ ،‬وقد‬ ‫تعرضت للعطش بالصوم يف اهلواجر‪ ،‬فما عطشت بعد تلك الشربة‪.‬‬ ‫أم أمين‪ :‬صفحة مِن صفحات اخللود جتلَّت يف امرأة األمسِ‪ ،‬وُلدَت على الرقِّ فلم يَشعر أحد‬ ‫هبا‪ ،‬ومل يعبأ مبيالدها إنسان‪ ،‬وعاشَت يف مكة وهي بني أهلها جمهولة‪ ،‬ال ينظر املرء إىل سلعة‬ ‫مثنها دراهِم مَعدودة؛ لذلك مل يَذكر التاريخ يومَها الذي ولدت فيه‪ ،‬والسنَة اليت وُلدتْ فيها‪ ،‬بل‬ ‫ترَكها تدوِّن تارخيها بيدِها وتصنعه جبهادِها وجَاللِها‪ ،‬وكان من حسْن طالعها أن اتَّصل حبلُها‬ ‫حببل حممد ‪ -‬صلى اهلل عليه وسلم ‪ -‬وأن أصبَحت ضِمن مرياثه مِن أبيه عبداهلل‪ ،‬مِن ذلك اليوم‬ ‫سعدت جبواره فكانت له نعم اخلادِمُ الصادق‪ ،‬وملا بلغ الرسول مِن عمره اجمليد السادسة‪،‬‬ ‫وماتَتْ أمُّه باألبواء بعد قدومها مِن زيارة زوجِها عبداهلل املدفون باملدينة‪ ،‬قامت أم أمين على‬ ‫حضانتِه ‪ -‬صلى اهلل عليه وسلم ‪ -‬تَحنو عليه حنوَّ األب واألم معًا‪ ،‬وتَشمُّ فيه ريح احلبيبَني‬ ‫الذاهبَني يف أطباق الثَّرى‪ ،‬وكلما مضى عام مِن حياته‪ ،‬رأتْ فيه مشسَها الصاحيَة وأملها‬ ‫الباسم‪ ،‬تسري معه تارةً حبسِّها‪ ،‬وطورًا بنفسِها‪ ،‬والرسول يَنتقِل مِن طَور الطفولة إىل طَور‬ ‫الشباب فالرُّجولة وهي معه‪ ،‬حتى إذا بلغ سنَّ الزواج وتزوَّج خبدجيَة‪ ،‬زوَّجها عبيدًا املدنيَّ‪،‬‬

‫‪57‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫فعاشت معه ما شاء اهلل أن تعيش ثم رحلَت معه إىل بلده يثرب‪ ،‬وأقامت فيها ما شاء اهلل هلا أن‬ ‫تُقيم ورُزقت منه بولدها أمين ‪ -‬رضي اهلل عنه ‪ -‬حتى إذا مات أبو أمين جاءت إىل مكة ومعَها‬ ‫ولدها أمين ونزلت عند رسول اهلل‪ ،‬وأقامت يف جواره الكريم‪ ،‬ولكنه شغَله أن تنعَم‬ ‫باحلياة ما يَشغَل األب مِن أمر بناته ورَمحِه‪ ،‬فقال ألصحابه‪(( :‬مَن سرَّه أن يتزوج امرأةً مِن أهل‬ ‫اجلنة فليتزوَّج أم أمين))‪ ،‬وكثريًا ما كان الرسول يقول‪(( :‬أم أمين أمي بعد أمي))‪ ،‬فليس بعد‬ ‫ذلك مِن أن يسعى الرسول يف راحتِها‪ ،‬وأن يعمل إلسعادِها يف ظلِّ زوج كريم‪ ،‬وقد حتقَّق‬ ‫هلا ذلك بفضل اهلل فتزوَّجها زيد بن حارثة‪ ،‬وكان هلا منه أسامة‪ ،‬قائد اإلسالم الظافر وبطله‬ ‫الفاتح الذي مشَى يف ركابه خليفة الرسول أبو بكر ‪ -‬رضي اهلل عنه ‪ -‬وملا قال له القائد‬ ‫أسامة‪ :‬يا خليفة رسول اهلل إما أن أنزل أو تركَب‪ ،‬قال له‪ :‬واهلل ال نزلتَ وال ركبْتُ‪ ،‬وما‬ ‫ضرَّني أن أغبِّر قدمي ساعةً يف سبيل اهلل‪.‬‬ ‫أجنبَتْ بركة احلبشية أسامة القائد الذي انتَصر على الروم وأخَذ بثأر أبيه مِن قاتلِه يف موقعة‬ ‫مؤتة سنة ‪ 8‬هـ‪ ،‬وأصبح يَسري يف ركابه اخلليفة‪ ،‬ويَنقاد لقيادته رجال الصف األول من‬ ‫املسلمني‪ ،‬كما أجنبت أمين الذي ثبت كما ثبَت أخوه أسامة مع رسول اهلل يف غزوة حُنَني اليت‬ ‫حدثَت يف ‪ 10‬شوال سنة ‪ 8‬هـ‪.‬‬ ‫أما هي فكان هلا شأهنا يف اإلسالم‪ :‬هاجَرت إىل احلبَشة وإىل املدينة‪ ،‬ويف هجرهتا إىل املدينة‬ ‫فعَلتْ ما عجَز عنه أصحاب القوة مِن الرجال؛ حتدَّث التاريخ أن الرسول ‪ -‬صلى اهلل عليه وسلم‬ ‫‪ -‬ملا هاجَر مِن مكة إىل املدينة املنورة خرَجت يف أثره مُهاجِرةً إىل اهلل ورسوله ماشيةً ليس‬

‫‪58‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫معها راحلة‪ ،‬جائعة ليس معَها زاد‪ ،‬صائمة يف يوم شديد حرُّه عظيم كربه‪ ،‬أصابَها مع‬ ‫جوعها العطَش حتى إذا كانت بالرَّوحاء أكرمها اهلل مِن عنده‪ ،‬فأنزل هلا ما أزال به غصَّتها‬ ‫وما أذهب به كربَتها‪ ،‬وما أعاد عليها به حياهتا؛ فأسقاها وأرْواها‪ ،‬قالت‪ :‬كنتُ أطوف بعْدُ‬ ‫بالشمس كي أعطَش‪ ،‬وما عطشتُ بعدَها‪.‬‬ ‫وملا أقام الرسول األكرم باملدينة املنورة الزمَته‪ ،‬وملا أمَر باجلهاد كانت معه يف غزواته‬ ‫تقوم مبا يقوم به نساء اهلالل األمحر يف عَصرِنا‪ ،‬فكانت تطوف باجلرحى تُضمِّد جراحَهم‬ ‫وتُذهِب آالمهم‪ ،‬وتَمنحُهم مِن عطْف األمومة وحَناهنا فضْلَ ما يَمتلئ به قلبها الكريم‪،‬‬ ‫كانت مع رسول اهلل يف غزوة أحد اليت حدَثت يف شوال سنة ‪ 3‬هـ (يناير سنة ‪625‬م) ذات‬ ‫أثر ال يُنسى‪ ،‬ويدٍ ال تُنكَر‪ ،‬وكان هلا يف غزوة خيرب اليت وقعت يف شهر احملرم سنة ‪ 9‬هـ‬ ‫(أغسطس سنة ‪628‬م) العمل اجلليل الذي مألتْ به نفوس املَكلومني أمالً ورجاءً وحنُوًّا‪ ،‬ويف‬ ‫غزوة حُنني اليت كانت يف ‪ 10‬شوال سنة ‪ 8‬هـ األثر اخلالد والدعاء الصادق والرجاء احلارّ‬ ‫يف رهبا‪ ،‬رآها الرسول ‪ -‬صلى اهلل عليه وسلم ‪ -‬وهي تدعو رهبا بلغتِها األعجميَّة فتقول‪:‬‬ ‫"سبت اهلل أقدامكم"‪ ،‬فيقول هلا الرسول مُداعبًا‪(( :‬اسكيت يا أم أمين فإنك عسراء‬ ‫اللسان))‪.‬‬ ‫ترى ماذا كان أمرها يف هذه الغزوة وقد ضاقَت األرض مبا رَحُبَت‪ ،‬ومل يَثبُت مع الرسول‬ ‫إال فئة قليلة مِن املسلمني‪ ،‬وفيهم ولَداها أسامة وأمين‪ ،‬أكانت فَرِحةً بثباتِهما أم حزينة هبذا‬ ‫التمزيق الذي حدَث بني صفوف املسلمني‪ ،‬ال شكَّ أهنا كانت باكية وضاحِكةً‪ ،‬وفَرِحةً‬

‫‪59‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫وحزينةً‪ ،‬وداعيةً ومُناجيَةً‪ ،‬فَرِحةً مُستبشِرةً بثَبات ابنَيها‪ ،‬حزينةً على ما أصاب املسلمني مِن‬ ‫تشتيت ومتزيق ال جتد أمامها إال نبيَّها تدعو اهلل بلغتها وتستعني به على النصر‪.‬ولقد أنساها قتْلَ‬ ‫ابنِها ما أمتَّ اهلل به نعمته على نبيِّه آخِر هذه الغزوة‪ ،‬وهوَّن عليها فقدَه ‪ -‬بقاءُ رسول اهلل هلا‪ ،‬فلقد‬ ‫عاش رسول اهلل‪ ،‬وما زال يُناديها‪(( :‬يا أمه‪ ،‬يا أمه)) كلما رآها وحتدَّث إليها‪.‬بقيت السيدة أم‬ ‫أمين بركة احلبشية بعد أن رجَعت مِن غزوة حُنني باملدينة النبوية‪ ،‬ومل يَذكُرها التاريخ بعد‬ ‫حُنني يف غزوة مِن الغزوات الباقيَة‪ ،‬والظاهر أهنا أقامَت ال تَربَح املدينة؛ فلقد أصبَحت كبرية‬ ‫السنِّ قد أضعَفها الكِبَر‪ ،‬وأَضناها السَّقَم‪ ،‬بعد أن ذاقَت مِن احلياة أتراحَها وأفراحَها‪،‬‬ ‫وشَربت مِن مَعني الدنيا حُلوَها ومرَّها‪ ،‬وفقدت الزوج بعد الزوج‪ ،‬ثم مات فلذة الكبد ولدُها‬ ‫أمين‪ ،‬ومل يَبقَ هلا إال أسامة وحبيبُها األول رسول اهلل الكريم‪ .‬وكان الرسول يُمازِحها‬ ‫كي يُدخل على نفسها احلزينة بعض الفرح؛ سألته مرَّة أن يَحمِلها‪ ،‬فقال هلا‪(( :‬ال أمحل إال على‬ ‫ولد الناقة))‪ ،‬فتقول له‪ :‬إنه ال يُطيقين وال أريده‪ ،‬فيقول مُتضاحِكًا‪(( :‬ال أمحلك إال على ولد‬ ‫الناقة))‪ ،‬وبَقيتْ يف جوار الرسول تنعَم حببِّه وعَطفِه ويَسعى إليها ليَزورها حتى انتقل ‪ -‬صلى‬ ‫اهلل عليه وسلم ‪ -‬إىل الرفيق األعلى‪ ،‬فبكته ما شاء اهلل‪ ،‬كانت نظرهتا فوق ما تعوَّده الناس‬ ‫فهي تَبكيه ‪ -‬صلوات اهلل عليه ‪ -‬ألنه انقطَع بانتقاله نفْع الدُّنيا ونِعمة الوحي‪ ،‬وهُدى النبوة ونور‬ ‫اهلداية‪.‬‬ ‫حتدث التاريخ أن الرسول ‪ -‬صلوات اهلل عليه ‪ -‬ملا انتَقل إىل الرفيق األعلى قال أبو بكْر لعُمر‬ ‫‪ -‬رضي اهلل عنهما ‪ :-‬سِرْ بِنا إىل أم أمين؛ نَزورها كما كان رسول اهلل يَزورها‪ ،‬فلما‬

‫‪60‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫رأَهتما بكَتْ‪ ،‬فقاال هلا‪ :‬ما يُبكيك؟! فقالت‪ :‬ما أبكيه إني ألعلم أن رسول اهلل ‪-‬‬ ‫صلى اهلل عليه وسلم ‪ -‬قد صار إىل خَريٍ مما كان فيه‪ ،‬ولكين أبكي خلبَر السماء انقطَع‬ ‫عنَّا‪ ،‬فهيَّجَتهما على البكاء‪ ،‬فجعَال يَبكيان معها‪.‬‬ ‫وورى طارق بن شهاب ‪ -‬رضي اهلل عنه ‪ -‬قال‪ :‬ملا قُبض رسول اهلل بكَت أم أمين‪ ،‬فقيل هلا‪:‬‬ ‫ما يُبكيك؟ قالت‪ :‬انقطع عنَّا خرب السماء‪ ،‬وبَقيَتْ أم أمين يف جوار أصحاب الرسول‬ ‫األكرم تتنسَّم فيهم ريح النبوَّة‪ ،‬وتنعَم بولدها أسامة‪ ،‬وجتد فيه شجاعتها وجِالدها‬ ‫وشجاعَة أبيه وإخالصه‪ ،‬ومات خليفة الرسول أبو بكر ‪ -‬رضي اهلل عنه ‪ -‬وهي تعيش‬ ‫لعبادهتا طائعة لرهبا‪ ،‬ورأت عمر وقد توىل اخلالفة اإلسالمية وأقبلت الدنيا على املسلمني يف‬ ‫عهده‪ ،‬واتَّسعَت فتوحاته‪ ،‬ودوى صوت اإلسالم يف الدنيا‪ ،‬وأصبح اإلسالم يَسري مِن نصْر إىل‬ ‫نصر‪ ،‬ويَنتقِل مِن ظفَر إىل ظَفر‪ ،‬وحلق عمر مبحمد وصحبِه‪ ،‬وملا بلَغها موته بكتْ‪ ،‬فقيل هلا‪ :‬ما‬ ‫يُبكيك؟! قالت‪" :‬اآلن وهى اإلسالم"‪ .‬هلل أنتِ يا برَكة؛ لكأنَّك تَنظُرين بنور اهلل‪،‬‬ ‫ولكأنَّك تتكشَّفني خبايا احلدَثيَن وتبصرين ما وراء احلجُب‪ .‬نعم؛ لقد مات عُمر‪ ..‬وأين‬ ‫عمر؟ فحقَّ هلا أن تَبكيه‪ ،‬حقًّا إهنا كانت تَزن الرجال مبيزان احلق والعدل والشجاعة‬ ‫واإلميان‪ ،‬ومل ميضِ على موت عُمر إال بعض الوقت حتى حلقتْ به ولَحقتْ بأحباهبا حممد وأصحابه‬ ‫يف خالفة عثمان سنة ‪ 24‬هـ (نوفمرب سنة ‪ 644‬م)‪ ،‬وبذلك انطَفأ السِّراج‪ ،‬وانتقَلت إىل جوار اهلل‬ ‫مع الصدِّيقني والصالِحني‪ .‬فلله درُّ امرأة عاشَت جيالً مِن الزمن فرفعَت به املرأة إىل حياة اخللود‪.‬‬

‫‪61‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫امسه ونسبه‬ ‫‪--------‬‬‫اإلمام األمري أبو جنيح ويقال أبو شعيب عَمرو بن عَبَسَة بن عامر بن خالد بن غاضرة بن عتاب ‪-‬‬ ‫ويقال خفاف‪ -‬بن امرئ القيس بن بُهْثَة بن سليم بن منصور بن عكرمة بن خَصَفَة بن قيس‬ ‫عَيالن ‪-‬بالعني املهملة‪ -‬بن مضر بن نزار السلمي‪ ،‬الصحابي الصاحل‪.‬أسلم قدميًا‪ ،‬وثبت يف‬ ‫"صحيح مسلم" أنه كان رابعَ أربعة يف اإلسالم‪ ،‬وأنه قدم على رسول اهلل صلى اهلل عليه‬ ‫وسلم مكة‪ ،‬فأسلم رابع أربعة‪ ،‬وطلب من النيب صلى اهلل عليه وسلم اإلقامة معه‬ ‫مبكة‪ ،‬فقال‪(( :‬إنك ال تقدر على ذلك اآلن‪ ،‬ولكن ارجع إىل قومك‪ ،‬فإذا مسعتَ خبروجي‬ ‫فأتين))‪ ،‬وأنه أتى النيبَّ صلى اهلل عليه وسلم بعد ذلك إىل املدينة مهاجرًا‪ ،‬وحديث هجرته طويلٌ‬ ‫مشتمل على مجل من أنواع العلم واألصول والقواعد‪ ،‬وهو بطوله يف صحيح مسلم قبيل صالة‬ ‫اخلوف‪ ،‬وكان أخا أبي ذرٍّ ألمه‪ ،‬وقدم املدينة بعد اخلندق فسكنها‪ ،‬ثم نزل الشام‪.‬رُويَ‬

‫‪62‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫له عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مثانية وثالثون حديثًا‪ ،‬روى مسلم منها احلديثَ‬ ‫املذكور‪.‬‬ ‫روى عنه مجاعةٌ من الصحابة منهم‪ :‬ابن مسعود وأبو إمامة وسهل بن سعد ومجاعة من التابعني‪.‬‬ ‫سكن محصَ وتويف به‬ ‫اختذ املشركون العديد من الوسائل واألساليب حملاربة النيب صلى اهلل عليه وسلم والقضاء‬ ‫على دينه ودعوته‪ ،‬وكانت إحدى هذه الوسائل تلك احلرب اإلعالمية اليت شنتها قريش عليه‬ ‫صلى اهلل عليه وسلم حملاولة تشويه دينه ودعوته‪ ،‬واليت كانت سببًا يف تتبع بعض الباحثني عن‬ ‫احلق ألخبار النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وحماولة التعرف على الدين اجلديد الذي جاء به‪،‬‬ ‫وكان من هؤالء عمرو بن عبسة رضي اهلل عنه‪ ،‬فقد كان من احلنفاء املنكرين لعبادة غري‬ ‫اهلل تعاىل يف اجلاهلية‪ .‬قال الذهيب يف سري أعالم النبالء‪" :‬عمرو بن عبسة بن خالد بن حذيفة‪،‬‬ ‫أبو جنيح السلمي البجلي‪ ،‬أحد السابقني‪ ،‬ومن كان يقال هو ربع اإلسالم"‪ ،‬وقال عمرو بن عبسة‬ ‫عن نفسه‪" :‬لقد رأيتين وأنا ربع اإلسالم"‪ ،‬قال ابن كثري يف البداية والنهاية‪" :‬فلعله أخرب أنه ربع‬ ‫اإلسالم حبسب علمه‪ ،‬فإن املؤمنني كانوا إذ ذاك يستسرون بإسالمهم‪ ،‬ال يطلع على أمرهم‬ ‫كثري أحد من قراباهتم"‪ ،‬وقد أخرج مسلم يف صحيحه قصة إسالم عمرو بن عبسة‬ ‫رضي اهلل عنه‪ ،‬وسؤاله النيب صلى اهلل عليه وسلم عن أشياء من أمور الصالة وغريها‬ ‫قصة إسالم عمرو بن عبسة‬

‫‪63‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫روى الواقدي أن عمرو بن عبسة‪ ،‬قال‪ :‬رغبت عن آهلة قومي‪ ،‬فلقيت يهوديا من أهل تيماء‪ ،‬فقلت‪:‬‬ ‫إني ممن يعبد احلجارة‪ ،‬فيرتك احلي‪ ،‬فينزل الرجل‪ ،‬فيأتي بأربعة حجارة‪ ،‬فينصب ثالثة لقدره‪،‬‬ ‫وجيعل أحسنها إهلا يعبده‪ .‬فقال‪ :‬خيرج من مكة رجل يرغب عن األصنام‪ ،‬فإذا رأيته فاتبعه‪،‬‬ ‫فإنه يأتي بأفضل دين‪.‬‬ ‫حيدثنا عمرو بن عبسة رضي اهلل عنه عن قصة إسالمه فيقول‪" :‬كنت وأنا يف اجلاهلية‪ ،‬أظن‬ ‫أن الناس على ضاللة وأهنم ليسوا على شيء وهم يعبدون األوثان‪ ،‬فسمعت برجل مبكة خيرب‬ ‫أخبارًا‪ ،‬فقعدت على راحليت‪ ،‬فقدمت عليه‪ ،‬فإذا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مستخفيًا‪،‬‬ ‫جراء عليه قومه‪ ،‬فتلطفت حتى دخلت عليه مبكة‪ ،‬فقلت له‪ :‬ما أنت؟ قال‪« :‬أنا نيب»‪،‬فقلت‪:‬‬ ‫وما نيب؟ قال‪« :‬أرسلين اهلل»‪ ،‬فقلت‪ :‬وبأي شيء أرسلك؟ قال‪« :‬أرسلين بصلة األرحام‬ ‫وكسر األوثان‪ ،‬وأن يوحد اهلل ال يشرك به شيء»‪،‬قلت له‪ :‬فمن معك على هذا؟ قال‪« :‬حر‬ ‫وعبد»‪ ،‬قال‪ :‬ومعه يومئذ أبو بكر وبالل ممن آمن به‪ ،‬فقلت‪ :‬إني متبعك‪ ،‬قال‪« :‬إنك ال تستطيع‬ ‫ذلك يومك هذا‪ ،‬أال ترى حايل وحال الناس؟ ولكن ارجع إىل أهلك‪ ،‬فإذا مسعت بي قد ظهرت‬ ‫فأتين»‪ ،‬قال‪ :‬فذهبت إىل أهلي‪ ،‬وقدم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم املدينة‪ ،‬وكنت يف‬ ‫أهلي‪ ،‬فجعلت أخترب األخبار‪ ،‬وأسأل الناس حني قدم املدينة‪ ،‬حتى قدم علي نفر من أهل يثرب‬ ‫من أهل املدينة‪ ،‬فقلت‪ :‬ما فعل هذا الرجل الذي قدم املدينة؟ فقالوا‪ :‬الناس إليه سُراع‪ ،‬وقد أراد‬ ‫قومه قتله فلم يستطيعوا ذلك‪ ..‬فقدِمْتُ املدينة فدخلت عليه فقلت‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬أتعرفين؟‬ ‫قال‪« :‬نعم‪ ،‬أنت الذي لقيتين مبكة»‪ ،‬قال‪ :‬فقلت‪ :‬بلى‪ ،‬فقلت‪ :‬يا نيب اهلل‪ ،‬أخربني عما علمك‬

‫‪64‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫اهلل وأجهله‪ ،‬أخربني عن الصالة؟ قال‪« :‬صلِّ صالة الصبح‪ ،‬ثم أقصر عن الصالة حتى تطلع‬ ‫الشمس حتى ترتفع‪ ،‬فإهنا تطلع حني تطلع بني قرني شيطان‪ ،‬وحينئذ يسجد هلا الكفار‪ ،‬ثم‬ ‫صلَّ فإن الصالة مشهودة حمضورة‪ ،‬حتى يستقل الظل بالرمح‪ ،‬ثم أقصر عن الصالة‪ ،‬فإن حينئذ‬ ‫تسجر جهنم‪ ،‬فإذا أقبل الفيء فصل‪ ،‬فإن الصالة مشهودة حمضورة‪ ،‬حتى تصلي العصر‪ ،‬ثم‬ ‫أقصر عن الصالة‪ ،‬حتى تغرب الشمس‪ ،‬فإهنا تغرب بني قرني شيطان‪ ،‬وحينئذ يسجد هلا‬ ‫الكفار»‪ .‬قال‪ :‬فقلت‪ :‬يانيب اهلل فالوضوء؟ حدثين عنه‪ ،‬قال‪« :‬ما منكم رجل يقرب‬ ‫وضوءه فيتمضمض ويستنشق فينتثر إال خرت خطايا وجهه وفيه وخياشيمه‪ ،‬ثم إذا غسل‬ ‫وجهه كما أمره اهلل إال خرَّت خطايا وجهه من أطراف حليته مع املاء‪ ،‬ثم يغسل يديه إىل‬ ‫املرفقني إال خرت خطايا يديه من أنامله مع املاء‪ ،‬ثم ميسح رأسه إال خرت خطايا رأسه من‬ ‫أطراف شعره مع املاء‪ ،‬ثم يغسل قدميه إىل الكعبني إال خرت خطايا رجليه من أنامله مع املاء‪،‬‬ ‫فإن هو قام فصلى‪ ،‬فحمد اهلل وأثنى عليه‪ ،‬وجمده بالذي هو له أهل‪ ،‬وفرغ قلبه هلل‪ ،‬إال انصرف من‬ ‫خطيئته كهيئته يوم ولدته أمه»‪ .‬فحدث عمرو بن عبسة هبذا احلديث أبا أمامة صاحب رسول‬ ‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم فقال له أبو أمامة‪" :‬يا عمرو بن عبسة‪ ،‬انظر ما تقول يف مقام واحد‬ ‫يُعْطَى هذا الرجل؟" فقال عمرو‪" :‬يا أبا أمامة‪ ،‬لقد كربت سين‪ ،‬ورق عظمي‪ ،‬واقرتب أجلي‪،‬‬ ‫وما بي حاجة أن أكذب على اهلل‪ ،‬وال على رسول اهلل‪ ،‬لو مل أمسعه من رسول اهلل صلى اهلل عليه‬ ‫وسلم إال مرة أو مرتني أو ثالثًا حتى عدَّ سبع مرات ما حدثتُ به أبدًا‪ ،‬ولكين مسعته أكثر‬ ‫من ذلك" (رواه مسلم)‪ ،‬وقصة إسالم الصحابي اجلليل عمرو بن عبسة رضي اهلل عنه جديرة‬

‫‪65‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫بالدراسة‪ ،‬واستخالص العرب والفوائد وهي كثرية‪ ،‬ومنها‪ - :‬رسالة ودعوة النيب صلى اهلل عليه‬ ‫وسلم قامت على ركيزتني‪( :‬حق العباد‪ ،‬وحق اهلل)‪ ،‬فذكر النيب صلى اهلل عليه وسلم‬ ‫من األول صلة األرحام‪ ،‬وذكر من الثاني حماربة مظاهر الشِرك‪ ،‬ومن ثم قال النيب صلى‬ ‫اهلل عليه وسلم لعمرو‪« :‬أرسلين بصلة األرحام‪ ،‬وكسر األوثان»‪ ،‬ويف ذلك داللة على‬ ‫أمهية التوحيد وصلة األرحام يف اإلسالم‪ ،‬وعلى هذين احملورين دارت الرتبية النبوية يف دار‬ ‫األرقم‪ ،‬ويف املرحلة املكية‪ - .‬حكمة النيب صلى اهلل عليه وسلم وحرصه على‬ ‫سالمة وأمان صحابته‪ ،‬وإبعادهم عن التعرض لألذى ومواطن اخلطر‪ ،‬وقد ظهر ذلك حني قال‬ ‫لعمرو‪« :‬إنك ال تستطيع أن تعلن إسالمك يف هذا اليوم‪ ،‬ولكن اذهب فإذا مسعتَ أني‬ ‫خرجت فأتين»‪ ،‬وهذا احلرص النبوي ال يتعارض مع اإلميان بالقضاء والقدر‪ ،‬وأن ما أصاب‬ ‫اإلنسان ما كان ليخطئه‪ ،‬وما أخطأه ما كان ليصيبه‪ ،‬ولكنه من باب السياسة الشرعية‪،‬‬ ‫واألخذ باألسباب يف كل مرحلة من مراحل الدعوة‪ ،‬وقد ذهب عمرو بن عبسة إىل قومه يف‬ ‫قبيلة أسلم‪ ،‬وكان له دور كبري يف إسالم الكثري من أفرادها‪ ،‬ثم أتى رسول اهلل‬ ‫صلى اهلل عليه وسلم يف املدينة ‪-‬بعد حنو ثالثة عشرة سنة يف املدينة‪ -‬عندما ظهر أمره‪ ،‬وقال‬ ‫للنيب صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬أتعرفين؟ «قال نعم‪ ،‬أنت الذي لقيتين مبكة»‪ ،‬ويف ذلك داللة‬ ‫أيضًا على تذكر النيب صلى اهلل عليه وسلم أصحابه وعدم نسيان مواقفهم وأحواهلم‪.‬‬ ‫فضل إسباغ الوضوء‪ ،‬ومشروعية الصالة يف كل وقت‪ ،‬إال أوقات النهي‪ ،‬وأنَّ من صلَّى صالة‬ ‫ال حيدث فيها نفسه غُفِرت له ذنوبه‪ - .‬يقني النيب صلى اهلل عليه وسلم من أن اإلسالم سيقوَى‬

‫‪66‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫وتكون له شوكة ودولة‪ ،‬وأن عمرو بن عبسة رضي اهلل عنه سيُسْلِم وميتد به العمر‪ ،‬ولذا‬ ‫علمه النيب صلى اهلل عليه وسلم الصالة والوضوء‪ .‬إن من أعظم مقاصد دراسة السرية النبوية‬ ‫استخراج العرب والفوائد من أحداثها ومواقفها‪ ،‬ليستفيد املسلم منها يف واقع حياته‪ ،‬فيعيش يف‬ ‫جوها‪ ،‬ويستظل بظالهلا‪ ،‬وينعم بآداهبا وأحكامها‪ ،‬وتعلو مهته‪ ،‬وبذلك حيصل له التأسي‬ ‫واالقتداء بالرسول صلى اهلل عليه وسلم وصحابته الكرام‪ ،‬ومنهم عمرو بن عبسة رضي‬ ‫اهلل عنه‪.‬‬ ‫مالحظات يف قصة إسالم عمرو بن عبسة‬ ‫‪ -1‬أن عمرو بن عبسة رضي اهلل عنه كان من احلنفاء املنكرين لعبادة غري اهلل تعاىل يف‬ ‫اجلاهلية‪.‬‬ ‫‪ -2‬كانت احلروب اإلعالمية الضروس اليت شنتها قريش على رسول اهلل صلى اهلل عليه‬ ‫وسلم سببًا يف تتبع عمرو بن عبسة ألخبار الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬ ‫‪ -3‬جرأة وشدة قريش على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ,‬فقد وجده عمرو بن عبسة‬ ‫مستخفيًا وقومه جرآء عليه‪.‬‬ ‫‪ -4‬األدب يف الدخول على أهل الفضل واملنزلة‪ ,‬قال عمرو بن عبسة‪" :‬فتلطفت حتى دخلت‬ ‫عليه"‪.‬‬

‫‪67‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫‪ -5‬الرسالة احملمدية تقوم على ركيزتني‪ :‬حق اهلل‪ ،‬وحق اخللق‪ ،‬قال صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬ ‫"أرسلين بصلة األرحام‪ ،‬وكسر األوثان"‪ .‬ويف هذا دليل على أمهية صلة األرحام حيث‬ ‫كان هذا اخللق العظيم ألصق ما يكون بدعوة اإلسالم‪ ،‬مع اقرتانه بالدعوة إىل التوحيد‪ ،‬وقد‬ ‫ظهر يف هذا البيان اهلجوم على األوثان بقوة‪ ,‬مع أهنا كانت أقدس شيء عند العرب‪ ،‬ويف‬ ‫هذا داللة على أمهية إزالة معامل اجلاهلية‪ ،‬وأن دعوة التوحيد ال تستقر وال تنتشر إال بزوال هذه‬ ‫املعامل‪.‬‬ ‫وويف اهتمام النيب صلى اهلل عليه وسلم املبكر بإزالة األوثان مع عدم قدرته على تنفيذ‬ ‫ذلك يف ذلك الوقت داللة على أن أمور الدين ال جيوز تأخري بياهنا للناس حبجة عدم القدرة على‬ ‫تطبيقها‪ ،‬فالذين يبينون للناس من أمور الدين ما يستطيعون تطبيقه بسهولة وأمن‪ ،‬وحيجمون عن بيان‬ ‫أمور الدين اليت حيتاج تطبيقها إىل شيء من املواجهة واجلهاد‪ ,‬هؤالء دعوهتم ناقصة‪ ،‬ومل يقتدوا‬ ‫برسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم الذي واجه اجلاهلية وطغاهتا وهو يف قلة من أنصاره‪ ،‬والسيادة‬ ‫يف بلده ألعدائه‪.‬‬ ‫‪ -6‬حرص الرسول صلى اهلل عليه وسلم على أمان صحابته وتوفري اجلو اآلمن‪ ،‬والسري هبم إىل‬ ‫بر األمان وإبعادهم عن التعرض للمضايقات‪ ،‬قال لعمرو بن عبسة‪" :‬إنك ال تستطيع يومك‬ ‫هذا"‪.‬‬

‫‪68‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫‪ -7‬تذكر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ألحوال أصحابه وعدم نسيان مواقفهم‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫"أنت الذي لقيتين مبكة"‪.‬‬ ‫‪ -8‬يف قصة إسالم عمرو بن عبسة رضي اهلل عنه يبدو أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مل‬ ‫خيربه بأمساء سائر من أسلم وإمنا مسي أبا بكر وباللًا فقط حرصا على سالمة من أسلم من‬ ‫األذى‪ ،‬ورمبا ألنه إمنا أسلم بعد إجابة سؤاله عمن أسلم يومئذ وتعبري عمرو بن عبسة‪" :‬فلقد‬ ‫رأيتين إذ ذاك ربع اإلسالم"‪ ،‬إمنا هو حبسب ما بدا له‪ .‬وإال فقد كان عدد املسلمني أكثر‬ ‫من ذلك يف املرحلة اليت أظهرت فيها قريش جرأهتا على اإلسالم وأذاها للمسلمني كما يدل‬ ‫قول الرسول‪ :‬أال ترى حايل وحال الناس!!‬ ‫ومما يدل على أن املسلمني كانوا متكتمني يف أمر إسالمهم أن أبا ذر الغفاري رضي اهلل‬ ‫عنه كان يرى نفسه رابع اإلسالم أيضًا‪ .‬وقد علل بعض الرواة تعارض كالم أبي ذر مع‬ ‫كالم عمرو بن عبسة فقال‪" :‬كالمها ال يدري متى أسلم اآلخر"‪ .‬مما يشري إىل أن مبدأ‬ ‫سرية الدعوة كان يراعى يف بعض احلاالت حتى مرحلة الدعوة اجلهرية تبعا ملا تقتضيه‬ ‫مصلحة الدعوة الناشئة‪.‬‬ ‫‪ -9‬مل يكن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ليعطي كل من أسلم قائمة بأمساء أتباعه‪ ،‬فهذا‬ ‫ليس للسائل منه مصلحة وال يتعلق به بالغ؛ ولذلك ملا سأل عمرو بن عبسة عمن تبعه قال‪" :‬حر‬

‫‪69‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫وعبد"‪ ،‬وهذه تورية كما قال ابن كثري‪" :‬بأن هذا اسم جنس فهم منه عمرو أنه اسم‬ ‫عني"‪.‬‬ ‫‪ -10‬يف قوله صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬ارجع إىل أهلك‪ ،‬فإذا مسعت بي ظهرت فأتين"‪ ،‬نأخذ منه‬ ‫درسًا يف الدعوة‪ :‬إن تكديس املريدين واألعضاء حيث احملنة واإليذاء ليس هو األصل‪ ،‬فهذا‬ ‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يوجه حنو الرجوع إىل األقوام‪ ،‬وأمر كما نرى باهلجرتني إىل‬ ‫احلبشة‪ ،‬فذلك ختفيف عن املسلمني وإبعاد هلم عن مواطن اخلطر وسرت لقوة املسلمني‪ ،‬وإعطاء‬ ‫فرصة للقائد حتى ال ينشغل‪ ،‬وضمان للسرية‪ ،‬وإفادة للمكان املرسل إليه‪ ،‬وإعداد للمستقبل‬ ‫ومالحظة لضمان االستمرار وجتنب االستئصال‬ ‫عمرو بن عبسة بعد إسالمه‬ ‫ظل عمرو بن عبسة يف قومه على إسالمه‪ ،‬ثم كان قدومه املدينة بعد غزوات بدر‪ ،‬وأحد‪،‬‬ ‫واخلندق‪ ،‬ثم قدم املدينة فسكنها‪ .‬وعن معاوية بن صاحل بإسناد حسن‪ ،‬عن سليم بن عامر‪،‬‬ ‫عن عمرو بن عبسة رضي اهلل عنه‪ ،‬قال‪ :‬أسلمت‪ ،‬فقال يل النيب صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬احلق‬ ‫بقومك"‪ .‬ثم أتيته قبل الفتح‪.‬‬ ‫وبعد وفاة النيب صلى اهلل عليه وسلم نزل عمرو بن عبسة الشام‪ ،‬لذلك يعد رضي اهلل عنه يف‬ ‫الشاميني‪.‬‬

‫‪70‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫روى عنه من كبار الصحابة‪ :‬عبد اهلل بن مسعود‪ ،‬وأبو أمامة الباهلي‪ ،‬وسهل بن سعد‬ ‫الساعدي‪ .‬ومن كبار التابعني‪ :‬أبو إدريس اخلوالني‪ ،‬وجبري بن نفري‪ ،‬وكثري بن مرة‪،‬‬ ‫وضمرة بن حبيب‪ ،‬وعدي بن أرطاة‪ ،‬وحبيب بن عبيد‪ ،‬وسليم بن عامر‪ ،‬ومعدان بن أبي‬ ‫طلحة‪ ،‬وأبو ظبية الشامي‪ ،‬وعدة‪.‬‬ ‫وكان عمرو بن عبسة رضي اهلل عنه من أمراء جيش املسلمني يوم معركة الريموك‬ ‫وقد اشرتك عمرو بن عبسة رضي اهلل عنه يف حصار الطائف‪ ،‬روى أمحد وأبو داوود وابن‬ ‫حبان اوحلاكم عن عن معدان بن أبي طلحة عن أبي جنيح السلمي (عمرو بن عبسة) رضي‬ ‫اهلل عنه قال‪ :‬حاصرنا مع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قصر الطائف‪ ،‬فسمعت رسول اهلل‬ ‫صلى اهلل عليه وسلم يقول‪" :‬من بلغ بسهم فله درجة يف اجلنة"‪ ،‬فبلغتُ يومئذ ستة عشر‬ ‫سهمًا‪ .‬ومسعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول‪" :‬من رمى بسهم يف سبيل اهلل فهو عدل‬ ‫حمرر ‪،‬ومن شاب شيبة يف اإلسالم كانت له نورا يوم القيامة‪ ،‬وأميا رجل مسلم أعتق‬ ‫رجال مسلما فإن اهلل جاعل كل عظم من عظامه وفاء (يف رواية‪ :‬وقاء)كل عظم‬ ‫بعظم منه من النار‪ ،‬وأميا امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة فإن اهلل جاعل كل عظم من‬ ‫عظامها وفاء كل عظم من عظام حمررها من النار"‬ ‫وفاة عمرو بن عبسة‬

‫‪71‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫ذكر ابن حجر يف االصابة‪" :‬ويقال‪ :‬إنه مات حبمص‪ ،‬قلت‪ :‬وأظنه مات يف أواخر خالفة‬ ‫عثمان‪ ،‬فإنين مل أر له ذكرا يف الفتنة‪ ،‬وال يف خالفة معاوية"‬ ‫وذكر الذهبيي سري اعالم النبالء‪ :‬مل يؤرخوا موته‪ .‬ثم قال‪ :‬لعله مات بعد سنة ستني‪ ،‬واهلل‬ ‫أعلم‬

‫‪72‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫معركة القصر الكبري أو "معركة امللوك الثالث" أو "معركة وادي املخازن" (‪30‬‬ ‫مجادى األوىل ‪ 986‬هـ املوافق ‪ 4‬أغسطس ‪ )1578‬هي معركة قامت بني املغرب والربتغال يف‬ ‫‪ 4‬أغسطس ‪1578‬م‪ ،‬قام ملك الربتغال سباستيان حبملة صليبية جديدة على املغرب لكي‬ ‫يسيطر على مجيع شواطئ املغرب‪ ،‬وكي ال تعيد الدولة السعدية مبعاونة العثمانيني الكرّة‬ ‫على األندلس‪ .‬انتصر املغرب‪ ،‬وفقدت الربتغال يف هذه املعركة ملكها وجيشها و العديد‬ ‫من رجال دولتها‪ ،‬ومل يبق من العائلة املالكة إال شخص واحد‬ ‫سبب املعركة‬ ‫تربع (سبستيان) عام ‪1557‬م على عرش إمرباطورية الربتغال اليت ميتد نفوذها على سواحل‬ ‫إفريقيا وآسيا وأمريكيا‪ ،‬فتطلع إىل استخالص األماكن املقدسة املسيحية يف املشرق من‬

‫‪73‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫يد املسلمني‪ ،‬فاتصل خباله ملك أسبانيا فيليب الثاني ملك إسبانيا يدعوه للمشاركة حبملة صليبية‬ ‫جديدة على املغرب العربي كي ال تعيد الدولة السعدية مبعاونة العثمانيني الكرّة على‬ ‫األندلس ‪.‬‬ ‫وكان من حكامهم حممد املتوكل على اهلل وكان فظاً مستبداً ظاملاً قتل اثنني من إخوته‬ ‫عند وصوله إىل احلكم ‪ ،‬وأمر بسجن آخر ‪ ،‬فكرهته الرعية ‪ ،‬فرأى عمه عبد امللك أنه‬ ‫أوىل بامللك من ابن أخيه ‪ ،‬فأضمر املتوكل الفتك بعميه عبد امللك وأمحد ففرا منه مستنجدين‬ ‫بالعثمانيني ‪ ،‬الذين كتبوا إىل واليهم على اجلزائر ليبعث مع عبد امللك مخسة آالف من‬ ‫عسكر الرتك يدخلون معه أرض املغرب األقصى ليعيدوا له احلكم الذي سلبه منه‬ ‫املتوكل‪.‬‬ ‫وعندما دخل عبد امللك املغرب مع األتراك ‪ ،‬وانتصر يف معركة قرب مدينة فاس ‪ ،‬وفر‬ ‫املتوكل من املعركة ‪ ،‬ودخل عبد امللك فاس سنة ‪983‬هـ ووىل عيها أخاه أمحد ‪ ،‬ثم ضم‬ ‫مراكش ‪ ،‬ففر املتوكل إىل جبال السوس ‪ ،‬فالحقته جيوش عمه حتى فر إىل سبتة ‪ ،‬ثم‬ ‫دخل طنجة مستصرخاً مبلك الربتغال سبستيان ‪ ،‬بعد أن رفض ملك أسبانيا معونته ‪.‬‬ ‫أراد ملك الربتغال الشاب حمو ما وصم به عرش الربتغال خالل فرتة حكم أبيه من الضعف‬ ‫والتخاذل ‪ ،‬كما أراد أن يعلي شأنه بني ملوك أوروبا فجاءته الفرصة باستنصار املتوكل به‬ ‫على عميه وبن جلدته ‪ ،‬مقابل أن يتنازل له عن مجيع شواطئ املغرب ‪.‬‬

‫‪74‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫استعان سبستيان خباله ملك أسبانيا فوعده أن ميده باملراكب والعساكر ما ميلك به مدينة‬ ‫العرائش ألنه يعتقد أهنا تعدل *سائر مراسي املغرب ‪ ،‬ثم أمده بعشرين ألفاً من عسكر‬ ‫األسبان ‪ ،‬وكان سبستيان قد عبأ معه اثين عشر ألفاً من الربتغال ‪ ،‬كما أرسل إليه الطليان‬ ‫ثالثة آالف ‪ ،‬ومثلها من األملان وغريهم عددا ًكثرياً ‪ ،‬وبعث إليه البابا بأربعة آالف أخرى ‪،‬‬ ‫وبألف ومخس مائة من اخليل ‪ ،‬واثين عشر مدفعا ً‪ ،‬ومجع سبستيان حنو ألف مركب ليحمل هذه‬ ‫اجلموع إىل العدوة املغربية ‪ .‬وقد حذر ملك أسبانيا ابن أخته عاقبة التوغل يف أرض املغرب‬ ‫ولكنه مل يلتفت لذلك ‪.‬‬ ‫تظل معركة وادي املخازن اليت وقعت يف القرن ‪10‬هـ‪16/‬م‪ ،‬حدثًا تارخييًّا غنيًّا بدالالته‪،‬‬ ‫فهو احلقُّ األبلج الذي انتصر على العدوان والباطل اللجلج‪ ،‬وهو اإلسالم الذي ينتزع انتصارًا‬ ‫باهرًا يف تلك السلسلة الطويلة من احلروب الصليبيَّة اليت استهدفت بالد املسلمني منذ أزمان‪.‬‬ ‫تسمية املعركة‬ ‫تعدَّدت أمساء املعركة يف االساطري املغربيَّة‪ ،‬مثل‪ :‬معركة امللوك الثالثة‪ ،‬ومعركة‬ ‫القصر الكبري‪ ،‬ومعركة وادي املخازن‪ ،‬وهو االسم الذي دَرَجَ على استعماله املؤرخون‬ ‫املغاربة يف كتبهم‪ ،‬وربَّما خطر لبعض املؤرخني املعاصرين أنْ يسموها اليومَ بدافع تصحيح‬ ‫جاء متأخرًا عن موعده‪" :‬معركة امللوك األربعة"؛ ألنَّها إضافةً إىل امللوك الثالثة الذين ذهبوا‬

‫‪75‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫ضحايا هلا‪ ،‬كانت منطلقًا لربوز ملك رابع سطع جنمه عاليًا يف املغرب‪ ،‬أال وهو أمحد‬ ‫املنصور الذهيب ‪.‬‬ ‫الدولة السعدية‪ :‬الدولة اليت حكمت املغرب يف هذه املرحلة‪:‬‬ ‫يرجع أصل السعديِّني الذين كانوا حيكمون بالد املغرب إىل األشراف السعديني من احلجاز‪،‬‬ ‫ينتسبون إىل ولد حممد النَّفس الزَّكية‪ ،‬وسبب قدومهم من احلجاز إىل املغرب أنَّ أهل‬ ‫"درعة" كانت ال تصلح مثارهم‪ ،‬وتعرتيها األمراض كثريًا‪ ،‬فقيل هلم‪ :‬لو أتيتم بشريف‬ ‫إىل بالدكم‪ ،‬كما أتى أهل "سجلماسة"‪ ،‬لصَلَحَت مثاركم كما صَلَحت‬ ‫مثارهم‪ ،‬وكان أهل "سجلماسة" جاؤوا من أرض ينبع بشريف من آل البيت‪ ،‬فأتى أهل‬ ‫"درعة" باملوىل زيدان بن أمحد؛ لذلك يقال‪ :‬دولة األشراف السَّعديني من آل زيدان‪.‬‬ ‫وأمَّا تسميتهم بالسعديني‪ ،‬هذه النسبة اليت مل تكُن هلم يف القديم‪ ،‬ومل تظهر يف سجالتِهم‬ ‫ورسائلهم‪ ،‬بل مل جيرتئ أحدٌ على مواجهتهم هبذه التسمية؛ ألنَّه إنَّما يصفهم هبا مَن يقدح يف‬ ‫نسبهم‪ ،‬ويطعن يف شَرَفِهم‪ ،‬ويزعم أنَّهم من بين سعد بن بكر بن هوازن‪ ،‬الذين منهم‬ ‫حليمة السَّعدية مرضعة رسول اهلل ‪ -‬صلَّى اهلل عليه وسلَّم ‪ -‬وكثري من العامَّة يعتقدون أنَّهم‬ ‫إنَّما مسوا بذلك؛ ألنَّ الناس سعدوا هبم‪.‬‬ ‫قامت دولة السعديني بعد دولة بين وطَّاس‪ ،‬فوقعت على كاهلهم مهمة جهاد الربتغاليِّني الذين‬ ‫سيطروا على شواطئ املغرب األقصى‪.‬‬

‫‪76‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫بعد أن تويف الغالب باهلل‪ ،‬بويع ابنه حممد الذي لقَّب نفسه "املتوكل على اهلل"‪ ،‬وكان فظًّا غليظًا‬ ‫مستبدًّا ظاملًا‪ ،‬قَتل اثنني من إخوته عند وصوله إىل احلكم‪ ،‬وأمر بسَجن آخر‪ ،‬فكرهته‬ ‫الرَّعية‪ ،‬خصوصًا واملُلك يؤول إىل أكرب أمراء األسرة سنًّا؛ لذلك رأى عمه عبدامللك أنه أوىل‬ ‫بامللك من ابن أخيه‪ ،‬فأضمر املتوكِّل الفتك بعمَّيه عبدامللك وأمحد‪ ،‬ففرَّا منه مستنجدين‬ ‫بالعثمانيني‪.‬‬ ‫وُصف املتوكل بأنه كان فقيهًا أديبًا مشاركًا جميدًا قويَّ العارضة يف النَّظم والنثر‪،‬‬ ‫وكان مع ذلك متكبِّرًا تيَّاهًا غري مبالٍ بأحد‪ ،‬وال متوقفًا يف الدِّماء‪ ،‬عسوفًا على الرَّعية‪،‬‬ ‫ومن شعره قوله‪:‬‬ ‫فَقُمْ بِنَا نَصْطَبِحْ صَهْباءَ صَافِيَةً ‪ .....‬فِي وَجْهِهَا عَسْجَدٌ فِي وَجْهِهِ نُقَطُ‬ ‫وَانْهَضْ إِلَيْهَا عَلَى رَغْمِ العِدَا قَلِقًا ‪ ....‬فَإِنَّ تَأْخِريَ أَوْقَاتِ الصِّبَا غَلَطُ‬ ‫وأما عمه عبدامللك فقد كانت سجاياه محيدة‪ ،‬وسريته عطرة‪ ،‬مجع بني العلم والشَّجاعة‪ ،‬وهو‬ ‫سياسي حمنَّك‪ ،‬أتقن عدة لغات أوربيَّة وشرقية‪ ،‬أمُّه "سحابة الرَّمحانيَّة"‪ ،‬سارت به مع أخيه‬ ‫أمحد إىل اجلزائر‪ ،‬فهيَّأ الوايل العثماني هلم سُبُل السفر إىل األستانة؛ حيث التجأ إىل السلطان‬ ‫سليم بن سليمان طالبًا جندته ومعونته‪ ،‬فتثاقل عنه السلطان سليم‪ ،‬إىل أن بعث بأسطول حبري‬ ‫لفتح تونس‪ ،‬وختليصها من يد احلفصيِّني الذين استنجدوا باإلسبان‪ ،‬واستطاعت هذه العمارة‬ ‫البحرية حتقيقَ هدفها‪ ،‬وفرَّ احلسن بن حممد احلفصي إىل قشتالة‪ ،‬بعد أن فتح "خري الدين بربروس"‬

‫‪77‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫تونس‪ ،‬فشهد عبدامللك الفتح‪ ،‬وعاد بالبشرى إىل السلطان العثماني فأجنده‪ ،‬وكتب أمرًا‬ ‫للدَّوالتي صاحب اجلزائر؛ ليبعث معه مخسة آالف من عسكر التُّرك‪ ،‬يدخلون معه أرض‬ ‫املغرب األقصى؛ ليعيدوا إليه حقَّه يف احلكم‪ ،‬وعندما دخل عبدامللك املغرب مع األتراك‪،‬‬ ‫كاتب حاشية املتوكل وبطانته‪ ،‬ورؤوس أجناده‪ ،‬يَعِد طائعهم‪ ،‬ويتوعَّد عاصيهم‪،‬‬ ‫وكتب اهلل النصر لعبدامللك يف معركة قرب مدينة فاس‪ ،‬وفرَّ املتوكل من املعركة‪،‬‬ ‫وكان ذلك سبب خراب ملكه‪ ،‬وإقامة ملك عمه‪ ،‬ودخل عبدامللك مدينة فاس يوم األحد ‪7‬‬ ‫ذي احلجة سنة ‪983‬هـ‪ ،‬ثم ضمَّ مرَّاكش‪ ،‬ففرَّ املتوكل إىل جبال السُّوس‪ ،‬وجعل يتنقَّل بني‬ ‫قبائلها وأحيائها‪ ،‬إىل أن اجتمعت عليه طائفة من الصَّعاليك‪ ،‬وشكَّل ما يشبه اجليش استهوهتم‬ ‫منه األضاليل والوعود وقادهم إىل مرَّاكش فدخلها‪ ،‬إالَّ أن أمحد أخا عبدامللك جاء من مدينة‬ ‫فاس ففرَّ املتوكل إىل السُّوس ثانية‪ ،‬ومنها إىل سبتة ثم دخل طنجة مستصرخًا مبلك الربتغال‪،‬‬ ‫فكان ذلك سببًا من أسباب معركة وادي املخازن ‪.‬‬ ‫املعركة بني الفريقني‬ ‫املعركة بالنسبة للمغاربة معركة الفرقان‪:‬‬ ‫شبَّه أغلبُ اإلخباريني واملؤرخني املغاربة معركةَ وادي املخازن بغزوة بدر‪ ،‬اليت كانت‬ ‫انتصارًا لإلسالم وللملة احملمدية‪ ،‬واستبشر الفقهاء هبذا االنتصار ورأوا يف موت ثالثة ملوك‬ ‫رمزًا وإشارة إىل اهنزام التَّثليث‪ ،‬وذكر املغاربة ذلك يف نثرهم وشِعْرهم‪ ،‬وأشار ابن‬

‫‪78‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫القاضي يف كتابه "درة احلجال يف أمساء الرجال"‪ ،‬إىل املسألة يف شكل تعجُّب حني قال‪:‬‬ ‫"فانظر حلكمة اهلل القهار! أهلك ثالثة ملوك يف يوم واحد‪ ،‬وأقام واحدًا"‪ ،‬ويف قصيدة‬ ‫شعرية ألبي عبداهلل حممد بن علي القشتايل نقرأ‪:‬‬ ‫وَجَرَّدْتَ فِي ذَاتِ الْإِلَهِ صَوَارِمًا ‪...‬تَصُولُ بِهَا وَالْعَاجِزُونَ نِيَامُ‬ ‫ضَرَبْتَ بِهَا التَّثْلِيثَ لِلْحَتْفِ ضَرْبَةً ‪...‬فَلَمْ يَبْقَ بَعْدُ للصَّلِيبِ قِيَامُ‬ ‫وَأَمْطَرْتَ وَيْالً بِالْمَخَازِنِ قَطْرُهُ ‪...‬بِمَوْتِ الْأَعَادِي بُنْدُقٌ وَسِهَامُ‬ ‫املعركة بالنسبة للربتغاليني عقاب من اهلل‬ ‫تناولت املصادر والوثائق الربتغالية املعركة من زاوية دينية تشاؤمية‪ ،‬على عكس املصادر‬ ‫املغربية واإلسالمية؛ فرأى الربتغاليون يف اهنزامهم فيها عقابًا من اهلل‪ ،‬ومحَّلوا املسؤولية للنُّبالء‬ ‫ولرجال الدين (اإلكلريوس) الذين مل يعرفوا كيف يَحدُّون من اندفاعِ "دون سيباستيان"‬ ‫الناتج عن صغر سنِّه وقلة جتربته‪ ،‬وبالرغم من ذلك قدَّس الربتغاليون هذا األمري‪ ،‬ونزَّهوه‬ ‫وجعلوا منه مثريًا للمهدي املنتظر‪ ،‬وخلد الشاعر "فرناندو بْسُوَا" اسم "دون سيباستيان"‬ ‫بقصيدة يف هذا املعنى مساها بامسه‪:‬‬ ‫لتكن مآسي الرمال واملوت والشقاء فإني لن أعبأ هبا ما دمت مصونًا يف الرعاية الربانية‬

‫‪79‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫فمعنى ذلك أني عائد ال حمالة فامللِك حَسَبَ هذا املعتقد اخلرايف مل يَمُت يف معركة وادي‬ ‫املخازن‪ ،‬ولكنَّه ما زال أسريًا عند املغاربة يف جزيرة بعيدة‪ ،‬ومن هذه اجلزيرة سيعود؛‬ ‫ليحرر شعبه ‪.‬‬ ‫قادة املعركة‬ ‫شهد التاريخ بالعظمة واحلكمة والشجاعة لعبدامللك املعتصم باهلل وألخيه أمحد املنصور‪،‬‬ ‫كما يشهد أيضًا لعدد من القادة كان هلم دور بارز يف حتقيق هذا النصر املظفر‪،‬‬ ‫وتنجلي املعركة عن نصر خالد يف تاريخ اإلسالم‪ ،‬وعن موت ثالثة ملوك‪.‬‬ ‫لكنْ هناك اختالف كبري يف هنايتهم‪:‬‬ ‫* امللك األول‪ :‬صلييب جمندل‪ ،‬هو "دون سبستيان" ملك أعظم إمرباطورية على األرض يف‬ ‫هذه املرحلة بال منازع آنذاك‪.‬‬ ‫* امللك الثاني‪ :‬خائن غريق مسلوخ‪ ،‬هو حممد املتوكل‪ ،‬الذي منح للملك الربتغايل أحسنَ فرصة‬ ‫للتدخل يف شؤون املغرب؛ إذ تعهد بالتنازُل له عن الشواطئ املغربية‪ ،‬لقاء مساندته‪.‬‬ ‫* امللك الثالث‪ :‬شهيد ‪ -‬بإذن اهلل ‪ -‬بطل فاضت رُوحه‪ ،‬هو عبدامللك املعتصم باهلل‪ ،‬ازداد‬ ‫سنة ‪1541‬م‪ ،‬فقد حاول املعتصم باهلل أن خيرج املغرب من املتواتر املألوف؛ ليدخله إىل‬ ‫املؤسساتي‪ ،‬وتؤكد بعض املصادر أنَّ عبدامللك كان يسهر بنفسه على صَهْر احلديد الذي‬ ‫يستعمل يف صناعة األسلحة‪.‬‬

‫‪80‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫* أمَّا امللك أمحد املنصور‪ ،‬فقد بويع بعد انتصار وادي املخازن‪ ،‬بعد الفراغ من القتال مبيدان‬ ‫املعركة؛ إذ كلف الكاتب حممد بن عيسى بكتابة نص بيعته‪ ،‬ثم مجع كبار قادة‬ ‫اجليش ورجال الدولة والشرفاء‪ ،‬وأخربهم مبوت أخيه املعتصم‪ ،‬وتوليته هو شؤون‬ ‫احلكم‪.‬‬ ‫* ما الذي مهد للمعركة‬ ‫كل حدث تارخيي يتحتم وضعه يف سياقه التارخيي يظلُّ غامضًا ومستعصيًا على الفهم‬ ‫الصحيح‪ ،‬الشيء الذي يلزمنا بالنسبة هلذا احلدث الذي نعاجله اآلن أنْ نبحث عن األسباب اليت‬ ‫جعلت املغرب والعُدوان الربتغايل الصلييب يقفان وجهًا لوجه‪:‬‬ ‫إنَّها يف الواقع هناية مسلسل بدأ مع تدهور الدولة املرينية يف القرن الرابع عشر‪ ،‬وتفاقمت بضياع‬ ‫سبتة اليت احتلتها الربتغال سنة ‪1415‬م‪ ،‬وباحلصار الذي ضربته الدول اإليبريية (الربتغال‬ ‫وإسبانيا)‪.‬‬ ‫يضاف إىل ذلك ما عاشته الدولة املغربية من احنطاط ومشاكل داخليَّة مستعصية يف تلك‬ ‫الفرتة‪ ،‬فما أبعدنا عن عهد الدولة املوحدية اليت كانت هيبتها سارية يف غَرب البحر األبيض‬ ‫املتوسط بكامله‪ ،‬وكذلك يف ثُغُور لدى النصارى اإلسبان‪.‬‬

‫‪81‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫كما شهد القرن العاشر للهجرة‪ /‬السادس عشر امليالدي صراعًا قويًّا بني ثالث إمرباطوريات‬ ‫هي‪ :‬األتراك العثمانيون‪ ،‬واإلسبان‪ ،‬ثم الربتغال؛ من أجل السيطرة والتحكُّم يف حوض‬ ‫البحر األبيض املتوسط‪.‬‬ ‫وتَمرْكَز الصراع منذ منتصف ذلك القرن يف الشمال اإلفريقي‪ ،‬ويف بالد املغرب األقصى‬ ‫بوجه خاص‪ ،‬فقد سعى األتراك إىل ضمِّ املغرب يف مُحاولة منهم لتأمني حدود اخلالفة‬ ‫العثمانيَّة‪ ،‬ثم توظيف املوقع املغربي يف مهامجة غربي أوربا‪.‬‬ ‫كما اتَّجهت أطماع اإلسبان والربتغال حنو املغرب منذ االنتصارات األوىل‪ ،‬اليت أحرزوها‬ ‫يف األندلس يف إطار ما يسموهنا "حروب االسرتداد"‪ ،‬وازداد اهتمامهم باملغرب على إثر‬ ‫حركة االكتشافات اجلغرافيَّة وتوسُّعهم يف ميدان املالحة البحرية‪ ،‬وكانت بالد‬ ‫املغرب مُغرية بثرواهتا هلم‪ ،‬بثروهتا الزراعية‪ ،‬ومعادهنا وطرقها التِّجارية حنو إفريقيا‬ ‫السوداء‪ ،‬وموقعها اإلسرتاتيجي املطل على حوض البحر املتوسط من جهة احمليط األطلسي من‬ ‫جهة أخرى‪.‬‬ ‫من هنا ظهرت املبادرة الربتغالية لالستعداد للهجوم على املغرب‪ ،‬ومُحاولة القضاء على القُوَّة‬ ‫السعدية الناشئة‪.‬‬ ‫أسباب نشوب املعركة‬

‫‪82‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫يؤكد كثري من املؤرخني على أنَّ استنجاد حممد املتوكل املخلوع عن العرش السعدي مبلك‬ ‫الربتغال "دون سبستيان بن جان الثالث"‪ ،‬وطلبه احلماية واملساعدة ضد عمه أبي مروان عبدامللك‬ ‫ كان السبب الرئيس لقيام احلملة العسكرية الربتغالية على املغرب‪ ،‬واليت أدَّت إىل وقوع‬‫معركة وادي املخازن‪ ،‬وبذلك يُحمِّل هؤالء املؤرخون حممد املتوكل اخلائن مسؤوليةَ حَمْلة‬ ‫الصلييب "سبستيان" على املغرب‪.‬‬ ‫يف املقابل‪ ،‬الوثائق اليت عرضها "هنري دي كاسرتي" يف جمموعة "املصادر األصلية للتاريخ‬ ‫املغربي" تؤكد أنَّ عام ‪987‬هـ‪1570/‬م حيدد بداية مشروع احلملة الربتغالية على املغرب؛ أي‪:‬‬ ‫قبل إرساهلا فعالً بثماني سنوات‪ ،‬وجتدَّد احلماس ملشروع احلملة‪ ،‬عندما قام "سبستيان" بزيارة‬ ‫سبتة وطنجة‪ ،‬أهم مراكز االحتالل الربتغايل باملغرب‪ ،‬يف عام ‪982‬هـ ‪1574/‬م‪.‬‬ ‫كانت هناك أيضًا اتِّصاالت إلشراك متطوعني من الدُّول األوربية‪ ،‬فانضمَّ إىل احلملة كثري‬ ‫من األملان واإلجنليز واإليطاليني والنمساويني‪ ،‬فضالً عن اإلسبان؛ مما أغدق على احلملة طابعًا‬ ‫صليبيًّا‪ ،‬باركه البابا وحض عليه‪.‬‬ ‫قبيل املعركة‬ ‫اختار عبدامللك القصر الكبري مقرًّا لقيادته‪ ،‬وخصص مَن يراقب سبستيان وجيشه بدقَّة‪،‬‬ ‫ثم كتب إىل سبستيان مستدرجًا له‪" :‬إنِّي قد قطعت للمجيء إليك ستَّ عشرة مرحلة‪،‬‬ ‫فهال قطعت أنت مرحلة واحدة ملالقاتي"‪ ،‬فنصحه املتوكل ورجاله أالَّ يرتك "أصيال"‬

‫‪83‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫الساحلية؛ ليبقى على اتِّصال باملؤن والعتاد والبحر‪ ،‬ولكنه رفض النصيحة‪ ،‬فتحرك قاصدًا‬ ‫القصر الكبري‪ ،‬حتَّى وصل جسر وادي املخازن؛ حيث خيم قبالة اجليش املغربي‪ ،‬ويف‬ ‫جنح الليل أمر عبدامللك أخاه أمحد املنصور يف كتيبة من اجليش أنْ ينسف قنطرة جسر‬ ‫وادي املخازن‪ ،‬فالوادي ال معرب له سوى هذه القنطرة‪.‬‬ ‫وتواجه اجليشان باملدفعيَّتني‪ ،‬وبعدمها الرُّماة املشاة‪ ،‬وعلى اجملنبتني الفُرسان‪ ،‬ولدى اجليش‬ ‫املسلم قُوى شعبية متطوعة‪ ،‬إضافةً لكوكبة احتياطيَّة من الفرسان ستنقضُّ يف الوقت‬ ‫املناسب‪.‬‬ ‫املشاركون يف املعركة‪ ،‬اختالف التقديرات‬ ‫‪ : --‬اختلفت تقديرات املؤرخني حول عدد املشاركني ضمن احلملة الربتغالية‪ ،‬إالَّ أنَّ‬‫تقريرًا إسبانيًّا أفاد بأن امللك الربتغايل غادر لشبونة بـ (‪ )487‬سفينة من خمتلف األنواع محلت ‪24‬‬ ‫ألف جندي‪ ،‬بينهم ثالثة آالف فارس‪ ،‬والباقي من املشاة‪ ،‬وعند املؤرخني املغاربة أنَّ احلملة‬ ‫الربتغالية كانت ما بني ستني ألف و‪ 125‬ألفَ مقاتل‪ ،‬وما يلزمهم من املعدات‪ ،‬وأقل ما قيل يف‬ ‫عددهم مثانون ألفًا‪ ،‬وكان منهم ‪ 20000‬إسباني‪ 3000 ،‬أملاني‪ 7000 ،‬إيطايل‪ ،‬مع ألوف‬ ‫اخليل‪ ،‬وأكثر من أربعني مدفعًا‪ ،‬بقيادة امللك الشاب سبستيان‪ ،‬وكان معهم املتوكل‬ ‫بشرذمة ترتاوح ما بني ‪ 6000 - 300‬على األكثر‪.‬‬

‫‪84‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫أمَّا اجليش املغربي‪ ،‬فكان بقيادة عبدامللك املعتصم باهلل‪ ،‬ضم ‪ 40000‬جماهد من املغاربة‬ ‫املسلمني‪ ،‬ميلكون إميانًا قويًّا وتفوقًا يف اخليالة‪ ،‬مدافعهم أربعة وثالثون مدفعًا فقط‪ ،‬إضافة إىل‬ ‫القوات اليت بعثها باشا اجلزائر لصد الغزو الربتغايل؛ بناء على أوامر من السلطان العثماني مراد‬ ‫الثالث‪ ،‬واليت قدرت بنحو أربعة آالف أو مخسة آالف تركي‪.‬‬ ‫لكن دائمًا نستحضر قوله ‪ -‬تعاىل ‪ ﴿ :-‬كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِريَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ‬ ‫مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة‪.]249 :‬‬ ‫نعم‪ ،‬فئة قليلة‪ ،‬مؤمنون‪ ،‬صادقون‪ ،‬يذلون أكربَ جيش يف العامل يف تلك الفرتة‪.‬‬ ‫نعم‪ ،‬املعركة بني باطلني ال تنتهي‪ ،‬من هنا كان النصر االستحقاقي والنَّصر التفضُّلي‪،‬‬ ‫وهناك نصر كوني إذا كان املتحاربان شاردين عن اهلل ‪ -‬عزَّ وجلَّ ‪ -‬األقوى ينتصر‪ ،‬الذي‬ ‫معه سالح أحدث ينتصر‪ ،‬الذي ميلك قدرة على اإلصابة الدقيقة ينتصر‪ ،‬الذي ميلك طريانًا‬ ‫ينتصر‪ ،‬أمَّا إذا كان هناك إميان وكفر‪ ،‬فاملؤمن ينتصر‪.‬‬ ‫انطالق املعركة‬ ‫يف صباح االثنني ‪ 30‬مجادى اآلخرة ‪986‬هـ‪ ،‬املوافق ‪ 4‬أغسطس ‪1578‬م‪ ،‬وَقَف السُّلطان‬ ‫عبدامللك يُحرض اجليش على القتال‪ ،‬ومل يألُ القساوسة والرهبان جهدًا يف إثارة محاس جند‬ ‫أوربا‪ ،‬مذكرين أن البابا أحل من األوزار واخلطايا أرواحَ مَن يَلْقَون حتفهم يف هذه‬ ‫احلروب‪.‬‬

‫‪85‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫وانطلقت عشرات الطلقات النَّارية من الطرفني كليهما إيذانًا ببدء املعركة‪ ،‬وبرغم‬ ‫تدهور صحة السلطان عبدامللك الذي رافقه املرض وهو يف طريقه من مراكش إىل القصر‬ ‫الكبري‪ ،‬فإنَّه خرج بنفسه؛ لريد اهلجوم األول‪ ،‬ولكن املرض غالبه‪ ،‬فغلبه فعاد إىل حمفته‪ ،‬وما‬ ‫هي إال حلظات حتى لفظ أنفاسه األخرية‪ ،‬ومات وهو واضع سبابته على فمه مشريًا أن يكتموا‬ ‫األمر حتَّى يتم النَّصر‪ ،‬وال يضطربوا‪ ،‬وكذلك كان فلم يطَّلع على وفاته إال حاجبه‬ ‫وأخوه أمحد املنصور‪ ،‬وصار حاجبه يقول للجند‪" :‬السلطان يأمر فالنًا أن يذهب إىل موضع‬ ‫كذا‪ ،‬وفالنًا أن يلزم الراية‪ ،‬وفالنًا يتقدم‪ ،‬وفالنًا يتأخر"‪ ،‬ويف رواية‪ :‬إنَّ املتوكل دسَّ‬ ‫السم لعمه عبدامللك قبل اللقاء؛ ليموت يف املعركة‪ ،‬فتقع الفتنة يف معسكر املغاربة‪.‬‬ ‫ومال أمحد املنصور مبقدمة اجليش على مؤخرة الربتغاليني‪ ،‬وأوقدت النَّار يف بارود الربتغاليني‪،‬‬ ‫واتَّجهت موجة مهامجة ضد رماهتم أيضًا‪ ،‬فلم يقف الربتغاليون لقوة الصَّدمة‪ ،‬فتهالك قسم‬ ‫منهم صرعى‪ ،‬وولَّى الباقون األدبار قاصدين قنطرة هنر وادي املخازن‪ ،‬فإذا هي أَثَرٌ بعد عني‪،‬‬ ‫نسفها املسلمون‪ ،‬فارمتوا بالنَّهر‪ ،‬فغرق من غرق‪ ،‬وأسر من أسر‪ ،‬وقتل من قتل‪.‬‬ ‫وصرع سبستيان وألوف مِن حوله‪ ،‬بعد أن أبدى صمودًا وشجاعة تُذْكَر‪ ،‬وحاول املتوكل‬ ‫اخلائن الفرار مشاالً‪ ،‬فوقع غريقًا يف هنر وادي املخازن‪ ،‬ووجدت جثته طافية على املاء‪ ،‬فسلخ‬ ‫وملئ تبنًا وطيف به يف أرجاء املغرب حتى متزق وتفسخ‪.‬‬

‫‪86‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫دامت املعركة أربعَ ساعات وثلث الساعة‪ ،‬ومل يكن النَّصر فيها مصادفة‪ ،‬بل ملعنويات عالية‪،‬‬ ‫ونفوس شعرت باملسؤولية‪ ،‬وخلطة مدروسة مقررة حمكمة‪.‬‬ ‫أسباب النصر‬ ‫‪ -1‬آالم املسلمني من سقوط غرناطة وضياع األندلس وحماكم التفتيش جراح مل تندمل بعد‬ ‫‪ ،‬وهي ماثلة أمامهم ‪.‬‬ ‫‪ -2‬اخلطة احملكمة املرسومة بدقة ‪ ،‬واستدراج اخلصم مليدان جتول فيه اخليول وتصول ‪ ،‬مع‬ ‫قطع طرق متوينه وإمداده ‪ ،‬ثم نسف القنطرة الوحيدة على هنر وادي املخازن ‪.‬‬ ‫‪ -3‬املشاركة الفعالة للقوى الشعبية بقيادة العلماء والشيوخ ‪ ،‬مليئة باإلميان وحب الشهادة‬ ‫وبروح عالية لتحقيق النصر حتى قاتل البعض باملناجل والعصي ‪.‬‬ ‫‪ -4‬تفوق املدفعية املغربية على مدفعية اجليش الربتغايل مع مهارة يف التصويب والدقة ‪.‬‬ ‫‪ -5‬وكانت خيل املسلمني أكثر من خيل النصارى ويالئمها السهل الذي انتقاه السلطان‬ ‫للمعركة ‪.‬‬ ‫‪ -6‬وكان سبستيان يف جانب ومستشاروه وكبار رجاالته يف جانب آخ‬ ‫من نتائج معركة وادي املخازن‪:‬‬

‫‪87‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫‪ •1‬حتتل معركة وادي املخازن مكانة يف الصِّراع الطويل بني اإلسالم والنَّصرانية‪ ،‬ففي‬ ‫الوقت الذي كان يظهر فيه العامل اإلسالمي حتت قيادة الدَّولة العثمانية قويًّا باجلناح الشرقي يف‬ ‫جماهبته للعامل النصراني‪ ،‬الذي كانت متثله أسرة النمسا اإلمرباطورية‪ ،‬ويفوز يف كثري من‬ ‫األحيان بانتصارات باهرة‪ ،‬جنده يف اجلناح الغربي يعاني شيئًا غري قليل من الضَّعف؛ إذ كان‬ ‫يلتزم مواقفَ الدِّفاع السلبية‪ ،‬فجاء االنتصار املغربي يف معركة وادي املخازن؛ لريد للغرب‬ ‫اإلسالمي بعض هيبته‪ ،‬ويرفع من مسعة املغرب‪ ،‬ويضع حدًّا بصفة هنائية للمشاريع الصليبية‪.‬‬ ‫‪ •2‬كتبت املعركة صفحة ناصعة للعسكريَّة املغربية اإلسالمية‪ ،‬وأثبتت ألوربا‬ ‫النصرانية أنَّ أرض املغرب مقربة للغُزاة‪.‬‬ ‫‪ •3‬جنى املوىل أمحد أُوىل ثَمَرات النصر؛ إذ آل إليه احلكم عشية يوم املعركة‪ ،‬وتلقب بلقب‬ ‫املنصور باهلل‪.‬‬ ‫‪ •4‬زاد تسليح اجليش السعدي مبا غنمه من أسلحة العدو‪ ،‬كما تدفقت النقود الذهبيَّة والفضية‬ ‫على اخلزينة السعدية ‪ ،‬مقابل فك أسرى املعركة‪.‬‬ ‫‪ •5‬اكتسب املغرب مسعة طيبة يف العامل اإلسالمي‪ ،‬وهيبة يف العامل النَّصراني األوربي‪،‬‬ ‫كما توافدت عليه سفارات التهنئة بالنصر‪ ،‬وسفارات كسب الوُدِّ والصداقة وحسن‬ ‫اجلوار‪.‬‬

‫‪88‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫‪ •6‬فقدت الربتغال استقالهلا ومستعمراهتا؛ إذ احتلتها إسبانيا؛ نظرًا لضعف الربتغال بعد‬ ‫املعركة‪ ،‬وعدم وجود وريث للعرش‪ .‬وحتى "هنري ترياس" ‪ -‬املؤرخ احلاقد على اإلسالم‬ ‫واملسلمني‪ ،‬الذي أظهر كثريًا من التحفُّظ فيما خيص أمهية احلدث ‪ -‬مل يتمالك نفسه عن‬ ‫االعرتاف بانعكاساته اخلطرة على املستوى األوربي‪ ،‬وذلك حني يقول‪" :‬إنَّ انتصار املغرب‬ ‫على الربتغال يف معركة واحدة خوَّله سُمعة دولة كبرية‪ ،‬فربطت البالطات األوربيَّة‬ ‫العالقات معه وطلبت ‪ -‬يف بعض األحيان ‪ -‬مساندته‪ ،‬وقد استفاد أبو العباس أمحد من هذا اخلطأ‬ ‫يف التقدير بأوربا‪ ،‬وكان ملعركة امللوك الثالثة أثرها يف إضفاء جمد مبالغٍ فيه على الدولة‬ ‫السعدية‪ ،‬حتَّى يف وقت تدهورها"‪....‬‬

‫‪89‬‬

‫الكتاب السادس‬


‫مقاالتي في مجلة زهرة البارون‬

‫مقاالتي يف زهرة البارون‬

‫‪90‬‬

‫الدكتور صالح العطوان الحيالي‬

‫الكتاب السادس‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.