تصميم البارون االخير
حـRب قصص أمحد جار اهلل ياسني
اإلهداء.. إىل أخي الشهيد الرسام رائد
َُ ُ لعل هذه القصص تكمل ما تركته من لوحاتك
1
كان ينتظر أحد أصدقائه في الممر الطويل ،حين بزغ وجهها البيضوي المختوم بشامة سوداء أسفل الخد ..ثمة طين خفيف يغطي أناملها ،ويلطخ ببقع صغيرة ثوبها األسود.. بعد ساعات ...في الطريق إلى بغداد ..لم يجرؤ على مسح الطين املتراكم فوق نافذة الحافلة؛ كان يخش ى ضياع رائحته وتالش ي مالمح اكتشافه َّ الجديد الذي أطر حياته بخط بيضوي وترك بين كفيه شامة سوداء يخش ى أن تسقط منه فينكسر التاريخ العريق للون األسود.. لكنه لم يزل يفكر في طريقة لالنتقال من مربع الشطرنج األسود في رقعة حياته ..لم يزل ينتظر فتح أبواب إجابتها البيضاء ..ليقفز.. في الطريق الى بوابة بغداد ..رافقه صوت صديقه الرسام ،حين قال له ذات مرة: ((في وحل الخنادق ال أحد يسأل بنقاء عن عمر َّ الزمن أو عن األكلة املفضلة! ..كان أبولونير الشاعر الفرنس ي يتجول في الخنادق حين التقيت به في قصيدة ،سألته عن أكلته املفضلة فأشار بدمعتين نحيلتين إلى الورق)).. منذ ذلك الحين تعلم صديقه الرسام التهام الورق ،فلم يبق في بيته سوى دفتر التجنيد! ** بعد نصف ساعة.. خرج من بغداد باعجوبة مسرعا نحو حافلة عابرة..
2
في الطريق إلى املوصل ..استغرق في حلم طويل تبدد بإطالقات نارية اخترقت نافذة الحافلة لتستقر في جناح غراب عابر -في ذلك الصباح َّ البارد -داخل فضاء الحافلة املكتظة بوجوه متعبة ..ذابلة.. حاول أن يراها ثانية ..أن يشرح لها وللعالم العالقة بين طين السيراميك وطين اآلثار السومرية ..حاول أن يقرب لها وجهة نظره في ملحمة كلكامش.. وسيرة عنترة بن شداد ..ورواية (الحب في زمن الكوليرا) ..لكنه لم يستطع ..فقد كان ظل املدير يرتسم بشكل مرعب وراء الباب في مشغلها الفني.. مرة ..وعبر الهاتف أجاب عن سؤالها قائال :الفرق بين الحب والحرب ..إن الحب نورس والحرب غراب شارد ،فابتسمت ..وكانت تضع في حقيبتها رمال ساحليا وحفنة من العشب.. أدرك أنها لم تقتنع باإلجابة ..فاسترسل قائال :لكن قد تختلط الطيور واأللوان في أثناء العواصف ،،لم يكن يتوقع أن يحفر هذا االسترسال قلقا في عينيها ..فغابت وسط العشب ،راكضة تذر الرمل هنا وهناك فوق العشب املحترق.. ابتسم النتصاره أول مرة في حرب ضد امرأة يحبها ،وواصل لعب الشطرنج مع ذراع صديقه الرسام الشهيد التي تتشبث بقضبان ذاكرته املقيدة منذ سنوات.. عملها يتصدر قائمة االهتمامات في سجل أنوثتها املعلقة على مشجب الزمن ،لم تكن تسمح له بأكثر من دقيقتين كي يمرر حوارا إليها ..تدرك َّ خلوه من العفوية ..ويدرك هو اآلخر أن ال فرصة لالقتراب من حافات أنوثتها سوى هذه الحوارات املصطنعة..
3
هي ..تخش ى الحوار معه ..ألن صوته الدافئ يوقظ طفلة محبوسة في أعماقها ،ويوقف دوي اآللة التي تقمصت روحها منذ أول حرب خطفت والدها ..وأصابع أخيها ..ومشط ضفيرتيها اللتين كانتا مثل نهرين ..ممتدين إلى ماالنهاية.. بعد أسابيع.. طرقت باب مشغلها ،نهش االنتظار من أصابعي أربع دقائق ،قبل أن تنبعث رائحة الطين لحظة فتح الباب ..أخذت أصابعها تفتح صدري تنتزع من قضبان قفصه مادة حمراء ..وتضع وسط القفص غرابا فارا من إحدى لوحات عالء بشير ،ثم تختتم هذا العمل الفني باعتذار سريع توقعه بخدش عميق في أسفل وجهي رسمه صمتها الذي تجلى لي أبديا ..السيما بعد أن أغلقت الباب ..وتركتني ..في مربع قاتم من السواد.. أصبح الغراب يهتز في صدري مع كل خطوة في طريق العودة ،حتى امتزج لونه األسود بما تبقى من رذاذ املادة الحمراء .في حديقة الشهداء جلست مكورا فوق هضبة بيضوية خضراء صغيرة ،فاجتمعت حولي العصافير بوصفي التمثال الجديد! اقتنعت بهذا العمل الجديد ملدة يومين ،قبل أن اقتل العصافير كلها من دون قصد برذاذ من ذلك الخليط العجيب الذي امتأل به جوفي حين سعلت بشدة.. ملحتها تمر خلف الشجرة ..كانت أصابعها تدفع العصافير نحوي واحدا تلو اآلخر.. ياه ما أشد قسوة أصابعها.. 4
بعد عام ..كان املدير بمعطفه األسود الطويل يتجول في أروقة املكان بعد انتهاء الدوام حين غابت الشمس على عجل فمر على مشغلها وملح وردة بيضاء تنمو في عتمة خاصرة منضدتها البيضوية ،فمد يده وقطف الوردة بعنف ..ثم َّ مد يده األخرى فقطف من الخنادق ذراعين مع بندقية.. بعد أشهر ..طرقت باب املشغل أكثر من مرة ..لكن من دون إجابة.. مددت يدي نحو قبضة الباب فانفتح ..إنها املرة األولى التي اخترق فيها حدود هذه اململكة الغامضة من دون استئذان ..ثمة صمت كئيب كان يستولي على نبض كل مافيها ..كانت هناك منضدة بيضوية كبيرة تجثو على َّ سطحها قطعة كبيرة من الزجاج املغطى بطبقة خفيفة من الغبار ،قطع من الفخار موزعة بشكل فوضوي.. ثمة قطعة من النحت جذبت انتباهي أكثر من غيرها ..تمثل جسدا نحيال جدا إلمرأة تمد ذراعيها نحو األعلى ..رفعتها بيدي ووضعتها فوق املنضدة وجلست أمامها كأنني استعد لحوار مهم معها ..في تلك اللحظة تذكرت جياكوميتي النحات االيطالي ،فسألته عن السبب الذي دفعها لنحت هذا الشكل األنثوي إلى هذا الحد املبالغ فيه من النحول؟ وما العالقة بين هذا الجسد النحيل وحركة رفع اليدين نحو األعلى؟ هل يعني ذلك االستسالم؟ أم االحتجاج؟ أتريد املرأة أن تصرخ بجسدها بدال من صوتها؟ أتصرخ حقا؟ وملاذا؟ ظلت ذاكرتي لدقائق تستقبل مطرا من األسئلة مما أزعج الغراب ،ف َّ فر نحو زاوية أسفل املنضدة ،وتوقف املطر وغادر جياكوميتي حين تجلى لسمعي الصوت املميز لخطواتها القادمة .العجيب في األمر أنها لم تتفاجأ باقتحامي لعاملها كما يفترض أن تفعل ذلك املرأة عادة أمام أي متطفل.. 5
السيما حين يكون عاشقا،أو شاعرا أو مجنونا ،جلست أمامي ..واتجهت بنظراتها نحو املنضدة ..أحاطت التمثال بأصابعها البيض(( ..تذكرت أصابع صديقي الساخنة التي تركها في الخندق تحتضن حفنة من التراب األحمر))... لم أجرؤ على املبادرة بالكالم ..وكذلك هي.. نهضت وانحنيت قليال فوق املنضدة ..رسمت بأصابعي فوق الزجاج عصفورا يفرد جناحيه في فضاء من الغبار ثم خرجت مسرعا.. بعد أعوام ..رأيت خيطا نحيال من السواد ينمو ثم يتفرع في الفضاء إلى خيطين آخرين نحيلين ينطلقان نحو األعلى مصحوبين بصراخ شديد وعويل أمام منزل مهدم ..فكل ماتبقى بعد القصف امرأة على أعتاب األربعين تجثو على األرض وترفع ذراعيها نحو السماء ..وثمة عصفور يبحث في الرماد بقربها عما تبقى من قش وأصابع.. وبعد.. رأيت خيطين كبيرين من الدخان األسود يرتفعان من األرض ورأيت األرض تتشبث بالعصافير ..تتوسل بها أن التتركها وحيدة.. وأخيرا حملت العصافير األرض بمناقيرها وطارت بها نحو األعلى ..كنا نختض مع كل برق ..ورعد وشظية ..لكننا لم نسقط أبدا ..بقينا في داخلها ..حبسنا دموعنا كي النثقل جسد األرض ،تشبثنا بنخيلها كي النتصادم في لحظات الطيران ولحظات مرور العواصف..
6
حين هدأت العاصفة األخيرة ..أعادت العصافير األرض إلى مكانها .بحثت عنك بين أشجار النخيل املرهقة ..وبين أنقاض املشغل ..لم أجدك، ووجدت تمثاال متفحما المرأة من دون ذراعين..
7
كرات احلزن
8
تقول أغنية ما (( :لو كانت األرض مربعة ،كنا اختبأنا في إحدى زوايا ،لكنها كروية ..لذا علينا مواجهة العالم )). نصحت مرارا من األهل ،وماتبقى من األصدقاء ،والجيران ،والكتب الكثيرة التي علفتها؛ أن أتوقف عن كتمان أحزاني ،وأن أبوح بها لآلخرين كي أتخلص من أضرارها النفسية. .لكنني أهملت النصائح كلها؛ وكان ذلك هو الخطأ الكبيرحسب قولهم؛ ألن تراكم األحزان في قبو صدري ازداد يوما بعد آخر، وها أنا اآلن منتفخ بأحزاني التي جعلت جسدي مثل كرة ضخمة تحتل فضاء الغرفة املستطيلة كحفر املوتى. مضت أسابيع وأنا مستقر في مكاني على هذه الصورة الغريبة ،ال أستطيع الخروج من الغرفة ،وال يستطيع أحد الدخول إلى غرفتي ،أو يجرؤ ..على فتح بابها الذي يكاد ينخلع من مكانه بسبب الضغط الهائل الذي يتعرض له من جسدي الكروي ،بحيث اضطر األهل بعد استشارة مختار الزقاق العجوز إلى أن يفتحوا فجوة دائرية في سقف الغرفة عبر سطح املنزل، َّ ألمد من خاللها رأس ي ،وأتناول بفم متشقق الشفتين كسرة من الخبز األسمر اليابس ،أو أشرب جرعة من املاء أو قطرات من القهوة املرة وأنا أنظر بعينين منكسرتين نحو األعلى ..تشاهدني شمس محرقة ..وطيور بيض عابرة .. في أثناء هذه املحنة زارني عدد من أقاربي ،ولكنهم جميعا فشلوا في فك أقفال هذا الصمت امللغز الذي يقيد حركة لساني ،وفي األيام األخيرة جلبوا لي طبيبا نفسيا ،صعدوا به نحو السطح مندهشا لكي يشخص -في األقل- بالحوار مع وجهي البارز من تلك الفجوة الوضع النفس ي لحالتي ،ويجد
9
العالج املناسب لها ،ألنني ما زلت أرفض البوح بما يحزنني ،ويسهم في تدهور حياتي. وسط موج هذه األحزان ،كنت مثل من يغوص غارقا بحمل ثقيل في أعماق البحر تحت قوارب النجاة التي ال تحس به ،وال تفقه عذابات محنته، وأسرار حمله الثقيل املتشبث به ،والذي يسحبه نحو القاع املظلم .كنت أعتقد أن الناس جميعا قـد دفنوا مثل هذه الحقائق السرية أو لعلهم حملوها تحت قمصانهم البيض األنيقة لكنهم فيما بعد هربوا سريعا منها وابتعدوا عن زيارة قبورها في صحاري نفوسهم ،أو ربما رفضوا االعتراف بوجود جثثها مرمية في قاع أعماقهم التي ستبعثها َّ حية في يوم ما ..لتطفوا فوق سطح املاء ..إال أنا فقد قررت املواجهة واآلن أصر على دفع الثمن مهما كان.. كان قلق الجميع يتضخم من حولي يوما بعد آخر ،السيما بعد أن َّ تسربت في آذان سكان الزقاق إشاعات وهمسات مريبة تتحدث عن احتمال انفجاري في املستقبل القريب إن بقيت على هذا الوضع الغريب الذي يزداد انتفاخا بمرور األيام. وكاآلخرين ،لم يفلح الطبيب النفسي في انتزاع كلمة واحدة من نسيج صمتي الذي جعل وجهي مثل أبي الهول أمام نظاراته الالمعة ،وثرثرته اآللية املزعجة التي سرد فيها كالببغاء كل أالعيب املعالجات النفسية وحيلها اململة التي شغلت نصف سنوات عمره .كان يبدو أمامي بالحركات البهلوانية ليديه كاملهرج املغفل املتأرجح على حبل السيرك والذي يضحك املتفرجين في العلن ،ويكتم في أعماقه حشدا من املخاوف.
10
أما جدتي؛ تلك املرأة العجوز الذكية ،املجعدة الوجه واألفكار واللهجة والتي كثيرا ما استسعفنا بها لحل مشاكلنا العائلية ،فقد جاءت مسرعة من وسط غبار القرية ،لكنها لم تستطع أبدا اإلجابة عن األسئلة الصعبة التي كان يفرزها بإيقاع حزين صمتي املحير ،فعادت إلى قريتها ينوء كتفها بحقيبة صوفية قديمة وبكم هائم من اإلحباط الذي سال بين منحدرات وجهها وأخاديده ..إنها لم تتعود في يوم ما أن تترك َّ أي سؤال من دون إجابة في ورقة امتحان الحياة.. بعد تسعة أيام ،وفي الساعة الخامسة فجرا دوى انفجار هائل وعنيف زلزل بيوت الزقاق ،وأثار غبارها املتراكم في الزوايا ،وأربك السرد املتسلسل ألحالم النائمين فيها ،أعقب ذلك ظهور دخان أسود كثيف انبعث من حطام أحد املنازل وحجبت خفافيشه السود أول خيوط وسرعان ما تكاثف الدخان وتجمع بصورة سحب سود مخيفة كأشباح كروية ضخمة ارتفعت في السماء بإيقاع جنائزي ،لتنفجر فيما بعد ويتساقط من جثثها مطر اسود رشقت زخاته القوية َّ كوفية مختار الزقاق
الذي كان رأسه حينذاك يطل من ثقب في سقف غرفته ،وكذلك َّ تعرضت َّ للرشق نظارات الطبيب النفس ي التي تضببت الرؤية في زجاجها أمام عينيه الصغيرتين املحفورتين مثل ثقبين عميقين في رأسه الذي خرج من فجوة ثقبت حديثا في سقف عيادته التي تقع في الطابق العلوي من عمارته.. في حين تطايرت 1999قطرة من ذلك املطر األسود نحو فضاء القرية، حيث يبرز من بعيد رأس امرأة عجوز ،يلتف بخمار رمادي جعل شفتيها الصفراوين تبرزان بشكل واضح ،وقد علقت بهما قطرات من مطر هاجم
11
رأس تلك املرأة ،بعد أن دفعته ليظهر من فجوة في سقف غرفتها الطينية التي َّ تشققت جدرانها بسبب كرة ضخمة انتفخت فيها..
12
13
انتبهوا جيدا إليه.. انتبهوا جيدا إليه ..هذا الرجل انتبهوا إليه.. الرجل الذي يأكل بقدر ما ينصحه به األطباء وكتاب (دع القلق وابدأ الحياة) ،وينام مبكرا ،لكنه ال يستيقظ مبكرا ،ويشرب املاء ..أقسم أنه يشرب املاء ،وأني رأيته بعيني هاتين يفعل ذلك ..كما انه يشرب العصير، واملواقف املحرجة برحابة صدر ،وله قدرة عجيبة في صعود السيارات والعمارات ..يشهد له بذلك أصدقاؤه والقطط الليلية. ويتحدث كثيرا مع اآلخرين وقليال مع نفسه ،وفي أحيان نادرة يصمت لثواني معدودة ،ويحفظ أفكارا كثيرة من هنا وهناك ،ولديه ببغاء جميل يردد أمام الضيوف :انتبهوا ..انتبهوا ..انتبهوا ،لكن ال أحد ينتبه. هذا الرجل يدندن األغاني املشهورة في الطريق ،ويشاهد أفالم السهرة املعادة للمرة الرابعة والخمسين ،ويدون في دفتر خاص وردي الغالف أسماء محالت األلبسة التي تشيد بها اإلعالنات ،وال تسبقه –كما يتصور -في الحضور الى دائرته حيث يعمل محاسبا سوى قطة سوداء ،ال يعلم أنها تبيت في الدائرة من دون موافقة الحارس مسترخية فوق السطح وغير مبالية باحتجاج املدير على مواء أبنائها الصغار.. انتبهوا إليه ..إنه يفتح صنبور املاء وباب الثالجة بكل ثقة ،ويفتح أزرار القمصان الشفافة بكل حذر أبطال السينما ،ويغلق األبواب والنوافذ بإحكام عندما ينام ..وعندما ........وله أطفال ،عشرة أطفال ،تسعة ذكور يحلمون بالحصول على مقاعد في كلية الطب ،وبنت واحدة تحلم بالفراشات ،وتأخذ قطع الحلوى مسرورة لوحدها ،حينما يأخذ اخوتها اإلعجاب من نظرات الضيوف وكلماتهم المادحة. 14
ويزور األقارب ،واألصدقاء ،واملقابر ،واألعراس ،وحديقة الحيوانات .وله صورتان؛ األولى شخصية التقطها في فترة السبعينات تزين حائط الغرفة يقلد فيها بشكل واضح عبد الحليم حافظ ،والثانية عائلية ،يبرز فيها بقميصه البرتقالي اللون وبربطة عنقه الخضراء. وله فم ،نعم ..له فم ،وعينان ،ويدان ،وقدمان ،وصندوق توفير.. انتبهوا إليه ..أرجوكم ..ألنه يمر يوميا في شارع الحياة ..وال أحد يراه.. هذا الرجل انتبهو اليه ..أرجوكم
15
16
ولد في 1931/5/16في الساعة السابعة إال ربعا مساء يوم األربعاء. وكان.. يهتم بتربية الطيور قليال ،وأحيانا يميل نحو االهتمام بالقطط األليفة، ويدخن أنواع السكائر من دون تمييز بين نوع وآخر ،ويأكل بأصابعه كلها أو بامللعقة ،ويلتهم الطعام على دفعات في فمه مثل اآلخرين ،وأحيانا يلتهم الطعام دفعة واحدة مثل اآلخرين أيضا .وكان يزور جدته في كل اسبوع، يقبل يدها املعبقة برائحة البصل ،ويساعد الجيران في غسل الجدران واألحزان ،ورفع األحجار واألشخاص السيئين عن الطريق. وكان.. يحلق ذقنه قبل تناول الطعام ،ويرجل شعره بما تبقى من دهون الثريد أو الزوجة أو السيارة! ،السيما حين يستعد ملقابلة موظفة البريد التي سيودع في صناديق دائرتها آخر الرسائل الرومانسية التي يكتبها منذ مراهقته المرأة أخرى الوجود لها سوى في أحالمه ..فقد كان يهوى املراسلة والتعارف. وكان.. يعبر وفقا لمزاج اإلشارات الضوئية ذات اللون الواحد ،ويجمع حبات المطر في إناء صغير ،يحتفظ بها لإلفادة منها في أيام الجفاف أو شحة الدموع السيما حين يستدعى للبكاء في أي عزاء. وكان.. يرعى األغنام مع الصالحين عندما يقرأ قصصهم ،ويسافر مع املغامرين حين يشاهد أفالمهم ،ومثلما يتابع املسلسالت اليومية في التلفاز فإنه يتابع
17
تسلسل الدورات االوملبية من أجل املشاركة في املسابقة املعلنة في الصحف ،والتي لن يفوز بها أبدا.. َّ ينفق ساعات كثيرة في متاهات التسلية أو األزقة القديمة ،لكنه يحل ببراعة الكلمات املتقاطعة ،غير أنه يفشل في العثور على كلمة السر أو الفروق املئة بين صورتين ويرافق بطاعة على قدميه أو قدميه ورجليه زوجته إلى املطبخ والسوق وبيت والدتها والسيرك ،ويستمع إلى املوسيقى مرات في الطريق ،وقد يسب شخصا أو اثنين نهاية كل شهر ألسباب معقولة. وكان يشارك في كتابة الواجبات البيتية ألطفاله ،ويقلد ابتسامة املوناليزا عندما يدفع قائمة أجور :املاء ،والصداقة ،ولعبة الدومينو ،والشاي في املقاهي ،ولكنه اآلن في هذه الساعة الواحدة وعشر دقائق بعد منتصف الليل الهادئ يوم االثنين 2000/11/13وهو مستلق قرب زوجته فإنه ال يفعل َّ أي ش يء ،ألنه قد…………………
مـــــات 18
أخطاء 19
قبل أن تفتح الشمس أجفانها الثقيلة ..يشرق وجهها بأخاديده السبعينية على محلة ( البدن ) ..يوميا تلملم أصابعها املرتجفة عباءتها السوداء في حضنها وتــجلس بصمت على عتبة الباب ،تسابق الشمس في إرسال أول خيوط نظراتها نحو مرآب سيارات املسافرين البعيد املعروف باسم ( كراج بغداد ) حيث تترقب قدوم الحافالت الكبيرة من فضاءات بعيدة جدا .. تنتظره ... تقلقني رؤيتها في كل صباح وأنا أتوجه بعكازي نحو املقهى ..أود أن اخبرها بأنه لن يأتي أبدا وان ال حافلة ستحمل إليها في يوم ما قدميه وحقيبته البنية ..لكنني ال استطيع البوح بهذا السر الذي يؤرقني حبسه أمامها منذ سنوات عديدة .. لم يبق معها سوى ابنتها الوحيدة الذابلة التي خطفت منها الحروب كل أيدي الرجال التي فكرت أن تمتد إلى باب بيتها وتطرقه برفق من اجل خطبتها .. الخراب اكتسح املدينة كلها وامتدت مخالبه إلى ذاكرتها ..لكن األم العجوز لم تزل تذكر أنها قد وضعت في حقيبته املصحف ..والخبز املوصلي املنقوش بالسمسم ..واملعبق برائحة الهيل الذي اشترته من أفضل العطارين ..وأنها أوصته دامعة العينين أن يتقاسمه مع هذا اليتيم – وتعني أنا – لم تزل تذكر أنها قطفت من شفتيه وعدا بان ال يتأخر حنينه في العودة ..إلي قهوتها ..وخبزها ..وأنها وشمت جبهته بقبلة أم حنون لولدها املدلل ..الذي تذكرها ابتسامته بزوج شاب فقدته في حرب سابقة ..لم تزل تذكر أنني وعدتها مازحا باني لن أعود في اإلجازة القادمة إال ويدي بيد 20
حامد واني ساخذه مباشرة من محطة الوصول إلى املحكمة إلتمام عقد زواجه من ابنة عمه التي طال انتظارها له في محطة الخطبة ..وما عدا تلـك الذكريات فإن ( أم حامد ) ال تتذكر شيئا آخر أبدا .. ومع ذلك كله ..وبعد هذه السنوات الطويلة ..كنت ال أزال أريد أن اخبرها بان تلك القبلة الحنون تشظت بين يدي وأنا امسح الدم النازف من جبهته اثر إصابته بشظية من قذيفة انفجرت قرب امللجأ (( وعلى الرغم من مرور عشرين عاما على انتهاء الحرب إال أن ذلك الدم لم يزل ينزف بين يدي كلما رايتها على عتبة الباب ))... وحين جاءت سيارة اإلسعاف متأخرة حملته لوحدي إليها ..حينذاك لم يمنحني سوى ابتسامة خاطفة من شفتين معبقتين برائحة الهيل ..قبل أن تصعد روحه الطاهرة نحو السماء من دون أن يتساقط من فمه السمسم.. كان إيقاع القصف يزداد كثافة ووحشية والقذائف تتساقط هنا وهناك كالندم ..إحداهن انفجرت قرب سيارة اإلسعاف فتالش ى االثنان من بعيد إلى قطع صغيرة ..السيارة ..وجثمان الشهيد حامد الذي أصر آمر وحدتنا – كما قيل لي فيما بعد – على تسجيله في سجل املفقودين ..على الرغم من مكاملتي الهاتفية له من املستشفى وشهادتي له بما حصل لحامد ..وأنني على الرغم من إصابتي الشديدة كنت مستعدا ألخذه إلى مكان االنفجار .. حيث لم أزل اذكر أين سقط منه خاتم الخطوبة ..بعد أن انفلت من اصبعه املقطوعة ...لكن الضابط بعناده املخضرم املعروف ومكابرته العسكرية أصر على رأيه الخاطئ ..ففي الحرب تتناسل األخطاء بسرعة وال مجال للتصحيح أو التراجع كما كان يردد على مسامعنا دوما ... 21
كان تناثر جثمان حامد هو آخر منظر رايته في تلك الحرب قبل أن أجد نفسي محموال كدمية ممزقة األطراف في سيارة إسعاف أخرى سارت بسرعة هستيرية نحو املستشفى املتنقل في الخطوط الخلفية ..لتنتشلني من بركة دم أغرقتني فيها إحدى القذائف .. ثم بعد اقل من نصف ساعة ..نقلت إلى املستشفى الكبير في املدينة حيث خرجت بعد شهرين بيد واحدة ..وساق اصطناعية بليدة باردة مع عكاز ثقيل ..أمر بهم مساء كل يوم أمام ( ام حامد ) املزخرف وجهها بالشيخوخة والصبر ..تراني وتتعجب من عودتي وحيدا ..فتلملم عباءتها باحتجاج وتنهض استعدادا لليوم الثاني بانتظار عودة حامد برفقتي ..فهي تقول لي معاتبة حين تستوقفني أحيانا (( :ألم تذهبا للحرب معا ..فال بد أن تعودا معا أيضا في يوم ما ..وإن كنت سبقته في العودة منذ عشرين عاما ..فلعله لم يجد حتى اآلن حافلة للعودة إلى املوصل ))... في املقهى املكتظ بالعاطلين عن العمل ..صباح اليوم ..وألول مرة .. كنت أفكر جديا بما تقوله لي ( أم حامد ) وأنني ربما عدت إلى املكان الخاطئ وانه كان األجدر بي أن ال أتسرع بالعودة إال معه كما وعدتها !! .. أو أن الحق به إلى حيث ذهب ..فأنا منذ عودتي قبل عشرين عاما لم أجد في بيتي سوى هذه الساق االصطناعية البغيضة التي تنتظرني قرب السرير ..وهذا النزيف الذي لم يتوقف في ذاكرتي ..لكن هل ثمة فرصة لتصحيح األخطاء التي ترتكبها حرب ..يبدو أن العقم ال يصيبها أبدا ..يا أم حامد..
22
حبثا عن عمل مناسب
23
في الصباح ،دقت الساعة دقتها التاسعة بكسل كالعانس ..سمعتها بصعوبة وسحبت جسدي النحيل الثقيل من تحت قماش الغطاء األبيض البارد ..ربما كانت رائحة الغرفة كريهة ،حاولت الوقوف متكئا على ركبتي، ولقد وقفت ..إنها معجزة! واجهت عيني مباشرة املرآة املعلقة على الحائط املتصدع في غرفة مستطيلة خلت من كل ش يء باستثناء جسدي والغطاء األبيض واملرآة ولوحاتي .هذه املرآة منحتني فرصة مجانية للتأكد من أحوال التضاريس التشكيلية لوجهي ..ذلك املصفر البارد الذي لم أره منذ مدة طويلة.. ثالثة أيام ..أو ثالثة عشر عاما ..لست أدري ..أذني كانت موجودة ..ملستها حين كنت أستعد للمغادرة نحو العمل في العاشرة والنصف من صباح هذا اليوم .لكنني أحسست أنه وجه قبيح ال يصلح مع وظيفتي في االستعالمات التي اكرهها ..لكن الوقت كان يركض وااللتزام الدقيق بموعد العمل كابوس يطاردني ويجبرني على التفكير به بدال من االنشغال بهذا الوجه القبيح. خرجت من الغرفة مسرعا نحو فناء البيت الفارغ املعطر بالبخور، فلم أجد أحدا .لقد ذهب الجميع إلى أعمالهم .اجتزت الطريق نحو الباب الخارجي وتعثرت بأكثر من قنينة بالستيكية فارغة مرمية بشكل عشوائي هنا وهناك. في الشارع الذي تجعد جلده األسود تحت الشمس كانت أطرافي شبه يابسة تعرقل رغبتي باملش ي سريعا كما كنت أفعل عادة ،ولذلك قررت صعود أول حافلة تصادفني في الطريق إلى العمل ..لكن الحافلة األولى مرت مسرعة بما فيها من آالف الركاب فوق مشط قدمي ،أما الحافلة الثانية فإنها 24
أبطأت السير قليال عند اقترابها مني لكنها سرعان ما تجاهلتني وكأنني غير موجود في أرض الشارع. الحافلة الثالثة مرّ ت بأكملها فوق جسدي فوجدت صعوبة بالغة في التنفس وأنا أجد نفسي محشورا للحظات بين عجالت الحافلة وتجاعيد الشارع تكاسلت عن الصراخ ألنه غير مفيد في مثل هذه املواقف املألوفة! ظل جسدي مرميا وسط الشارع تحت الشمس فترة من الزمن لم تنفث خاللها مساماته قطرة عرق واحدة ..كان جسدي مترددا بين النهوض أو البقاء على وضعه ..وحين نهض تساقطت منه أوساخ علقت به من عجالت الحافلة.. .وثمة رضوض تجاهلتها كي الحق بالحافلة العاشرة التي علقت مؤخرتها بيدي من دون قصد حين رفعتها ألدفع ضوء الشمس عن عيني.. وسرعان ما انحشرت في الحافلة ذات املحرك الصاخب الذي يبصق الدخان في الفضاء كالتنين الهائج. فزت بموقع اصبع صغير في املمر بين املقاعد املزدحمة بالركاب الجالسين، في الممر تكدس آخرون؛ منهم من حصل مثلي على موقع اصبع صغير ،أو فاز بإصبعين أو ثالثة من مساحة املمر ..وأفضل الواقفين.. من كان يملك موقع قدم . كانت يدي مثل أيدي اآلخرين ،مصلوبة نحو األعلى حيث يوجد سقف الحافلة األزرق اللون الذي تتكئ عليه أصابع الجميع املفتوحة امللتصقة به بقوة كي ال يسقط أصحابها .ظل صوت محرك الحافلة سيدا مهيمنا على املكان ،كان يثرثر بلغة غير مفهومة .اكتفينا جميعا بالصمت واالنتظار داخل هذه العلبة املستطيلة التي تسير بنا.
25
في إحدى املحطات ظننت َّأن جسدي أصبح مهددا بالتخلي عن موقع اإلصبع الصغير الذي ال يملك سواه حين صعدت امرأة تتلوى في عينيها التماعة أنوثة ثالثينية جذابة ،يحاصرها كحل شديد السواد مثل لون فستانها ،لكنها لم تختر مجاورة اصبعي بعد أن تخلى لها عن موقع نصف قدم شاب أنيق ممن كانوا يملكون في ممر الحافلة موقع قدم.. كانت مالبسه معطرة بنحو مبالغ فيه. والعجيب في هذه الرحلة الغامضة ،أن الجالسين ذوي البطون املنتفخة كانوا شبه منقطعين عن اإلحساس بحال الواقفينَّ ، وأن الحافلة كلما توقفت في محطة جديدة رأيت الكثير من النسوة املتشحات باملالبس السود يصعدن فيها َّ وهن يحملن قناني بالستيكية فيها سائل شفاف ،كلما اختضت القنينة تكورت قطراته على جدرانها الداخلية سائلة مثل الدموع. وحين توقفت الحافلة عند املحطة األخيرة في منطقة عارية إال من الحجارة والتراب والشمس والنخيل املحترق وبقايا العظام ،توجب علينا النزول ،فقد انتهى خط سير الحافلة كما قال السائق ذو الصوت الجهوري الذي كان يحص ي النقود بين أصابعه أمام إحدى النساء ممن فسحن الفرصة لتورد خفيف على الوجنتين ويرغبن بالبقاء في الحافلة التي استدارت بسرعة نحو الوراء ..وحجبت بدخانها األسود طريق الرجوع خلفنا.. انتشرت جموع النساء كحشود من النمل األسود في أرجاء تلك املنطقة ،وهن يحملن القناني البالستيكية التي وجدت أكثر من امرأة تفتحها سرا في أثناء السير وتحت العباءة تبلل بالسائل الشفاف عينيها..
26
ثم رأيت أولئك النسوة يتجمعن بصورة حلقات صغيرة ويجلسن حول قمم ترابية ترتفع قليال عن األرض ..أما أنا فقد أمسيت مصلوبا لوحدي واقفا في تلك البقعة من األرض الصفراء التي تحلق في فضائها الغربان ..ال أدري ماذا أفعل وال أعرف الدور الجديد الذي سأكلف به ..ثم تذكرت فجأة موعد العمل فارتجفت من الرعب وارتبكت وبدأت تهاجم ذاكرتي صور عديدة ،مثل شريط لألخبار ،بصعوبة كنت أميز هوية أصحابها ..فتلك صورهم ..وتلك ..ال ..إنها صورة امرأة ربما أعرفها ..بل هي نفسها أنا ال أنس ى فستانها األنيق األبيض وضحكتها الهادئة وشعرها املنثور بتلقائية على كتفيها ..تلك هي نفسها التي هجرت املدينة إلى أطرافها لتسد فراغا شاسعا في السرير املزدوج الذهبي ألحدهم ..صور أخرى.. ألولئك ..لهن ..ألحد األصدقاء ذلك الذي استدان مني حذاء واختفى.. تركني حافيا حتى هذه اللحظة. بعد قليل أمست الصور تظهر مشوهة غير واضحة املعالم ..وجدت الظالم يحاصرني من الجهات كلها فوق هذه األرض القاحلة ..كنت أسمع أصواتا غريبة في أذني ..تمنيت لو أني اقطعها لكنني انتبهت إلى نفس ي.. حين دقت الساعة بنشاط دقتها العاشرة في ساعتي اليدوية التي كانت رفيقي الوحيد ..بعد خروجي من البيت صباحا. وجدت جسدي يتسلل بأطرافه الثقيلة اليابسة نحو بقايا بيت طيني مهدم.. ثم يستقر في حفرة عميقة مستطيلة وسط األرض الجرداء ..نزلت فيها وتمددت من دون أية عوائق ..كانت مقاسات الحفرة تناسب حجم جسدي بدقة ..أحسست وكأنني أعود إلى سريري ..أو كأنني أجد –أخيرا -الدور
27
املناسب لوجودي في هذه األرض الصفراء ..بدال من عملي السابق املكروه في االستعالمات. تراخت أطراف جسدي بسرعة ..فنمت نوما عميقا جدا ..لم تزرني فيه الكوابيس املخيفة التي كثيرا ما أرقتني ..وعلى العكس من ذلك حلمت بحبيبتي قادمة إلي بشعر غجري منثور وفستان برتقالي اللون وعباءة قروية مذهبة الحواش ي ..تخفي تحت سوادها قنينة ماء بالستيكية صغيرة ..
28
جرد سنوي
29
في الساعة الثامنة تماما على عجل تأتي ،وأحيانا تأتي قبل الثامنة ، لها منضدة دائرية تضع فوق خشبها القاحل زهورا اصطناعية ، ومنفضة زجاجية نظيفة ،لم تستضف حتى اآلن عقب (سيكار) واحد ، ولها كرس ي أخفيت كسوره الثالثون تحت قماش قد بهت لونه األخضر ، ولها صباح للخير من عدة شفاه ،وعيون ،وألسنة ،ولها نافذة صغيرة ،تفصل بين غرفتها والشارع ،وبين وجهها واملراجعين ،تمسح غبارها املتراكم فوق الزجاج أنفاس املراجعين الساخنة ،وفي أحيان أخرى تمسحها قطرات املطر إذا ما فكرت بفتح أبواب النافذة نحو الشارع الذي انتصبت فوق الرصيف املحاذي له شجرة للتفاح . تجلس في غرفتها املستطيلة مثل خمسين امرأة أخرى في غرف مستطيلة أخرى ،بجوار غرفتها املستطيلة . تجلس بوجه نحته الصمت ،وأصابعها تعبث بقلم جاف ،يرسم باللون األسود دوائر عشوائية على قصاصات ورقية مصفرة فارغة ،كانت قد جلبتها منذ مدة طويلة للمالحظات املهمة . تجلس وتحدق حتى الساعة الواحدة ظهرا في التقويم السنوي ،الذي يحرص الجميع هنا على شرائه ،وتعليقه على جدران الغرف ،والذاكرة ،واملمرات ،واملصعد ،أو حمله في الجيوب بصورته املصغرة . تجلس ،وتفتش في التقويم بحرص عن عيد العمال ،وأيام الجمع ، وتتجنب النظر إلى يوم الخميس ،وتعد على أصابعها في الظلمة تحت املنضدة ،نهاية كل شهر :نقود الراتب ،والصديقات املخلصات في العمل ،والصديقات املزعجات ،والفساتين التي استهلكت ،أو انتهت موضتها ،
30
أو رحلت إلى دوالب اختها الوسطى ،التي كانت ترتديها ،أو تصنع منها أثوابا صغيرة لدمى اختها الصغرى . تجلس وترى في اصبعها اإلبهام ،الذي قشط طالء ظفره ،صورة للمدير العام ،القصير ،األصلع صيفا وشتاء .أحيانا تفكر سرا بإجراء بعض التغييرات في ترتيب أيام االسبوع ،فتستبدل بيوم السبت يوم األحد ،أو بالعكس ،أو تستبدل باالثنين األربعاء أو الثالثاء أو الخميس ،وأحيانا تستبدل بيوم الثالثاء أيام األسبوع جميعها ،لكنها ال تفكر أبدا بإضافة يوم ثامن جديد إلى أيام األسبوع . يقول عنها املدير العام نهاية كل شهر (( :إنها تستحق مكافأة)) ويقول – بالطبع – الش يء نفسه عن زميالتها ،لكن املكافأة تبقى طوال العام في خزانة املدير العام . يقول املحاسب عنها (( :إنها أمينة)) ،ويقول الفراش (( :إنهـا تمتاز بالكرم، وهي موظفة عطوف)) ،وتقول عنها أقرب صديقاتها (( :إنها متزنة ،وأنيقة جدا)) ثم تضيف ((إنها أجمل مني … ولكنني حقيقة … أحترمها وأتمنى لها الخير)) . يقول لها موظف االستعالمات (( :صباح الخي ـ ـ ــر)) ويمد بلسانها املرتخي صوت الياء .. وسيقول لها ذلك أيضا ،خالل العام القادم ،أو بعد ثمانية أعوام ،أو أكثر ،أو أقل ،مثلما قال لها ذلك ولزميالتها قبل أيام ،أو أسابيع ،أو سنوات . ذات مرة … 31
وبينما كانت تجلس لوحدها ،تستعد للتحديق في التقويم السنوي ،ورائحة التفاح الناضج ،تتسرب إليها من الشارع عبر النافذة ،التي فتحت أبوابها نحو الخارج بفعل أحد أكثر املراجعين ترددا عليها … فكرت وألول مرة بأن تصغي ملا سيقوله لها ،قلبها ... وفعال أصغت بكل تركيز ،ولهفة ،لصوت قلبها ،من الفتحة الصغيرة لقميصها األسود ،فلم تسمع شيئا !
32
عصا ..ومملكة ..وكرة
33
عصاه تندلق أوال من باب بيته نحو الزقاق الموصلي القديم ,يليها كرشه الكروي ,فبرميل النفط الصغير الذي اتخذ منه كرسيا يجلس فوقه أمام عتبة الباب يوميا منذ الساعات األولى للصباح وحتى ظهور اللمسات األولى املعتمة للمساء .. حدود مملكته الصغيرة التي يحكمها من فوق البرميل تمتد داخليا من بيته الشرقي الصامت الذي ال يشغل فضاء غرفته الوحيدة سوى سرير حديدي ورثه عن والدته ,وبضعة أوان بسيطة للطعام ..أما حدودها الخارجية فإنها ال تتجاوز أمتارا قليلة محيطة بواجهة البيت وتشطرها ساقية الزقاق إلى رصيفين يخضعان لسلطة النظافة الصارمة التي يفرضها العم (نوري ) يوميا على كل شبر من الرصيفين ..فيمنع أي ش يء من األوساخ أو املهمالت من املكوث فوقهما ...حتى تجاوز حرصه على النظافة الحد املعقول ودخل في إطار الفعل الوسواس ي الذي جعله مناسبة للتندر عليه من أهل الزقاق .... يتناثر حقل خفيف من الشعر األبيض على ذقنه ..ويمتد البياض نحو األعلى ليحاصر صلعته الدائرية التي بدأت تكبر مساحتها وسط رأسه الكروي الكبير الذي أحس به مترنحا ما بين اليمين واليسار كلما نهض....حتى أنني أتوقع تدحرجه في أية لحظة نحو ظهره الذي يكاد يكتمل تقوسه لوال العصا التي يتكيء عليها ,وتمنح عموده الفقري شيئا من االستقامة ,وهي نفسها التي يمارس بمساعدتها طقوسه اليومية منذ أكثر من خمسة وعشرين عاما ,وبها يدفع أي جسم غريب من املهمالت من حصاة أو حجارة أو عقب سيجارة يتطفل على جانبي الرصيف ..وبرأسها املعدني املدبب يعبد مجرى املاء في ساقية الزقاق ...
34
منذ أعوام غادر اللون قميصه القاحل الوحيد حتى لم نعد نذكر اللون األصلي الذي كنا نلمحه عليه في أيام طفولتنا ..أما ذيل القميص فانه يغيب في سرواله الفضفاض الرمادي القاحل لتتراجع أطرافه عند األسفل نحو األعلى بهيئة انثناءات متتالية كاشفة عن ساقين مقوستين تجعالن من مشية العم(نوري) مرجوحة ال تهدأ لوال العصا التي صاحبته في السنوات األخيرة ... ال أسرة للعم( نوري) سوى العابرين أمامه من املارة...يتشبث بلحظات مرورهم الخاطف من أجل الحصول على كلمتين قد تقتصران على رد السالم ,أو قد تزيدان عليه بسؤال سريع عن الوقت يتكرر يوميا ....ويجعلني أزيد من سرعة خطواتي حين أمر به صباحا ..لعله يستثنيني من هذا االضطهاد اليومي ..فاالهتمام بقيمة الزمن آخر ما أتوقعه من رجل مثله ..عاطل عن كل ش يء ..باستثناء التنفس...والقلب النظيف.. ومن هذه األسرة العابرة من يقدم له رغيفا من الخبز الحار ..أو تفاحة ..أو أي ش يء يؤكل مما يحمله املارة العائدون من أعمالهم ..أو من جولة للتبضع في السوق ... أما جيرانه من النساء فإنهن اليبخلن عليه بماعون من الطعام ظهرا أو مساء ,وجاره األقدم(أبووسام) الضابط املتقاعد يجلس أحيانا قربه على برميل آخر يبادله الحوار ويعيد عليه بنشوة سرد أسرار الحروب التي خاضها قبل أن تشل ذراعه شظية من الحرب األخيرة ,لتقذفه نحو طوابير املتقاعدين ,وإذا ما غادر الضابط عند الظهيرة فان الحمال الشاب( صابر) يجد في ظل بيت العم (نوري) مكانا الستراحة قصيرة من عناء سحب عربة 35
( النخالة ) الثقيلة التي ورثها من والده املفقود في حرب أخرى غير التي شلت ذراع الضابط .....وعادة ال يكف العم( نوري) من دون قصد عن تكرار أسئلته االستفزازية لصابر حول مقدار ما يكسبه من عربة ( النخالة) ..لكن الظل البارد املتسرب في ثنايا جسد صابر املتعب يثمر ابتسامة هادئة يردفها بقسم للعم( نوري) مؤكدا بان ما يكسبه ال يكاد يغطي نفقات عائلته الكبيرة.. ومن هذه األسرة أيضا أطفال الزقاق الذي ال يكرههم ...لكنه ال يحب ألعابهم املشاكسة حين تقترب من حدود مملكته السيما لعبة كرة القدم ..لذلك هم ينفرون منه.....ويزداد نفورهم منه حين يكلف احدهم بحمل سالل األوساخ لرميها بعيدا عن حدود مملكة النظافة التي يقيمها حول بيته .... منذ سنوات عديدة يجلس يوميا على برميله األزرق ...مرت به مئات الوجوه ..املعروفة له ..والغريبة عنه ..وجوه عجائز وكهول ،وجوه فضوليين وشباب ولصوص وأطفال ونساء ومجانين وطلبة وأرامل ومشردين ومطلقات ..أثرياء وفقراء ..عمال وعاطلون عن العمل ..جنود يعرفهم وآخرون غرباء.. مرت به جنائز شهداء ومواكب عرائس ..وأسراب نمل ..وحمام ..وغيوم ..وغبار ..وطائرات ..وكالعادة فان الدوام الرسمي للعم( نوري) ينتهي بحلول املساء ..باستثناء هذا اليوم ويبدو لي انه قد أضاف ساعات أخرى على جدوله ,فحين مررت ببيته بعد أذان العشاء تفاجأت بوجوده أمام البيت ..ألقيت التحية عليه لكنني لم اسمع الرد املعتاد منه ..ظننت 36
أن الشيخوخة قد بدأت تسلبه الكثير من طاقات حواسه ولعل أولها السمع ..وربما لم يرني جيدا وسط الزقاق شبه املظلم ..ومع ذلك فإنني بعد أن اجتزت بيته بأمتار قليلة التفت إليه أل تأكد من وجوده أوال ..فربما هو غير موجود ...وأنا توهمت رؤيته ألني تعودت على مكانه هنا ...لكنني ملحته جالسا وقد اتكأ -على غير عادته – بجبهته على اليد املقوسة للعصا.. لم أكن راغبا بحمل املزيد من الهواجس والظنون بشأن تفسير صمته ..فمضيت اشق طريقي وسط الظالم في طريقي نحو البيت ...استعدادا لصوم اليوم األخير من رمضان.. بعد نصف ساعة تزين الزقاق بالضوء الساطع بعد عودة التيار الكهربائي الذي أنس ى األطفال الحظر الذي يفرضه العم(نوري) على لعب الكرة في أثناء وجوده فخرجوا فرحين يتبادلون فيما بينهم ضرب الكرة الصغيرة التي سرعان ما تدحرجت من دون قصد نحو بيت العم(نوري)لترتطم به وبعصاه فيسقطان معا .. توقف الصغار ينظرون من بعيد ..مذهولين ..مما حصل ...فهم لم يتوقعوا وجوده في مثل هذا الوقت ..ولم تلبث دهشتهم أن تالشت حين هرب احدهم راكضا نحو بيته في آخر الزقاق تبعه آخرون ..ممن باغت َ انطالقتهم الظالم حين انقطع التيار الكهربائي ثانية .. ومثلما لم تثر حياته أية ضجة عند املئات ممن عرفوه أو من الغرباء ممن مروا به ..فإن رحيل العم (نوري) لم يثر أيضا أية ضجة في الحي سوى تلك التي انبعثت لثوان من صوت ارتطام عصاه وجسده باألرض مساء بعد أصطدمت الكرة بهما وكشفت غموض صمته املريب الذي لم أفقه سره.. 37
تبرع بعض شباب املقهى القريب بحمل الجنازة إلى الجامع بعد أن طلب منهم ذلك الضابط املتقاعد وقمت بمساعدتهم ..واستأجر صابر الحمال سيارة لنقلها إلى مقبرة ما في أطراف املدينة ..بعيدا جدا عن بيته وأسرته!! ..وأطفال الزقاق الذين تركوا الكرة تتدحرج ببطء خلف جنازة (العم نوري) في الشارع املنحدر نحو منعطف تراكمت على جانبيه املهمالت ....في ليلة العيد..
38
شوكوالتة مغطسة باحلـ ...رب
39
لم ألتق بالقلة ممن أعرفهم منذ يومين ..فقد قررت البدء بالتمهيد لقرار العزلة التامة الذي أرغب بتجربته ..أقفلت باب املنزل ورائي بعد أن عدت من السوق محمال بمؤونة تكفي لعشرة أيام أو أكثر بما في ذلك الطعام الخاص بأنثى طائر الكناري التي احتفظ بها في قفص رصاص ي اللون وكنت قد تلقيتها هدية من أرملة تسكن بجواري حين عدت ساملا من الحرب األخيرة ..التي قيل بأنها توقفت.. ولكي أحدد بداية العزلة بدقة كنت قد تعمدت الوصول إلى البيت في الساعة الثانية ظهرا حيث ال أتوقع أن أصادف أحدا في الزقاق املحترق بلهيب منتصف تموز...ومن هذه اللحظة سأبدأ رسميا االنسالخ عن العالم الخارجي تماما........ قبل ذلك ..كنت قد أخذت إجازة ملدة اسبوعين من مدير دائرة البريد التي أعمل فيها..مانع املدير بشدة في أول األمر لكنه وافق على طلبي بعد أن شرحت له أسباب اإلجازة ،على الرغم من أنها لم تكن األسباب الحقيقية ،فقد أخبرته بأنني سأقوم ببعض الترميمات املعمارية في داري القديم الذي ورثته من والدي ..أعلم أن الكذب مجازفة ال تليق بي فيما لو زارني املدير في الدار ،وقد فعل ذلك مرتين سابقا ،في األولى تعرف على الدار حين أصبت بشظية صغيرة كادت تخترق أعماق أذني وتجهز تماما على االتصال السمعي بيني وبين العالم ،وفي الثانية تعرف على جارتي األرملة............ لكنني مصر على مغامرة العزلة التامة أيا كانت النتائج.... الخطوة الثانية في عزلتي هي االستلقاء ممدا على بطني فوق السرير الحديدي والبدء بالتأمل في سيرتي الذاتية ومراجعتها ربما بحثا فيها عما 40
يصفه مديري – مازحا -بالخطأ التاريخي التعيس الذي أدى إلى قذفي نحو دائرته ذات يوم بمعطف قاحل ،صحراوي اللون ووجه بال مالمح مميزة..... باشرت باالستذكار بدءا من مرحلة الطفولة التي بعثرت نصف سنواتها األولى في سطح الدار لوحدي أشن الحروب واحدة تلو األخرى ما بين األلعاب التي أهديت لي في عدة مناسبات ،وأغرتني بلعبة الحرب األل ــعاب نفسها !! فمازلت أتذكر تلك الطائرة املقاتلة الصغيرة التي جلبها لي والدي في إحدى إجازاته الدورية ،وكذلك تلك الدبابة...بل الدبابتان...فاألولى هدية من إدارة املدرسة ألني كنت أفضل طالب في االنضباط واملواظبة على الدوام على الرغم من أنني لم أكن من الطلبة املتفوقين ..وقد تعطلت هذه الدبابة مرة بفعل القصف !!والدبابة الثانية جلبها عمي هدية لي حين اندلعت إحدى الحروب ......وثمة ألعاب أخرى ..مسدسات بالستكية ..رشاشات ..مدافع تجرها مركبات ..سيوف كأنها حقيقية بنقوشها الجميلة ..وفي كثير من األحيان كنت أنس ى األلعاب فوق السطح وأنزل مهروال عند حلول املغيب ،ألجدها في الصباح متناثرة بفعل الرياح أو األمطار أو فضول القطط الليلية ..وربما بفعل العدو....الذي كنت أتخيل وجوه جنوده بأشكال شتى ... كنت أتعجب من هذه األلعاب التي لم تتعب من الحرب والشجار فيما بينها طوال الليل وهي التي كانت تتقاتل طوال النهار أمامي ..لكن ما كان ينقصني في لعبة الحرب هو الجثث ..ومرة وجدت في قط جارنا امليت الهزيل جثة مناسبة لتعبر فوقها دبابتي ..رفضت الفكرة في البداية ..لكنني حين
41
نفذتها شعرت بنشوة النصر ..حتى أنني احتفلت ملتهما قطعة كبيرة من الشوكوالته !!.. اذكر أنني في أول أيامي في املدرسة االبتدائية عدت مسرعا برفقة ابنة الجيران ذات العيون الخضر التي أطبقت بيدها الناعمة على يدي وقادتني نحو البيت بعد أن تناثر زجاج النافذة في القاعة الدراسية بفعل غارة جوية عنيفة... مازلت احتفظ للذكرى بقطعة صغيرة من جناح تلك الطائرة التي تحطمت فيما بعد قريبا من املدرسة ،وكنت أعلق تلك القطعة لوحدها على الحائط املحاذي للممر الداخلي أمام باب الدار ..ومرة ملحتها جارتي األرملة من الباب ونصحتني برميها في سلة املهمالت....... سقف الغرفة الرطب الذي أتأمل فيه مستذكرا املاض ي أثار في ذاكرتي صورة لسقف آخر في اإلعدادية ..قمنا بطالئه باللون الرصاص ي أنا وبعض الطالب ..فقد كان طالؤه القديم األصفر يتناثر فوق رؤوسنا كلما اهتزت بناية اإلعدادية في لحظات القصف الذي كنت اشعر بأنه لن يتوقف أبدا.. طوال السنوات القادمة ..ومنذ أن بدأ مع أول قنبلة جربت إسقاطها بطريقة القصف العنيف فوق الدبابة املهداة لي من إدارة املدرسة..... وكانت القنبلة عبارة عن حجارة ضخمة من الجص اقتلعتها من جدار السطح القديم.. فترة االمتحانات الوزارية في مرحلة السادس اإلعدادي كانت عصيبة جدا اضطررت في أثنائها إلى قراءة مئات األوراق تحت ضوء الشمعة منعزال عن الظالم الذي يحيط بي وكأنني حشرة صغيرة ،بسبب انقطاع التيار الكهربائي بعد أن دمر القصف محطة توليد الكهرباء ... 42
عبرت املرحلة الجامعية بسرعة فاقت سرعة شظايا القصف الذي لم يتوقف يوما ،والذي في كثير من األحيان تسابقنا معه في الطريق إلى قاعة املحاضرات أو املالجئ ..وال اذكر أبدا أنني كنت أول الواصلين ....إال مرة واحدة أثبتت الشظايا أنها في املركز الثاني ورائي حين تركت في ظهري قطعة صغيرة تأبى الخروج من أضالعي حتى اليوم ....وربما خرجت كما توقع معظم األطباء الذين زرتهم .... ياه لقد أصابتني الذكريات بالصداع ...نهضت من السرير ألتناول قدحا من املاء وقطعة من الشوكوالتة وهذه هي إحدى عادات الطفولة التي الزمتني حتى اليوم ،فقد كنت أتناول الشوكوالتة كلما أحسست بالتعب أو العزلة الشديدة عما حولي .......... إن حالوتها تغريني باالندماج مجددا في الحياة ..لكن ... ما هذا ؟؟ألم أقرر العزلة ...فلم الشوكوالتة.......إذن؟؟! وقبل أن أوقف زحف الشوكوالتة وهجومها في فمي ،ووسط معركة الفوض ى التي لحقت بقرار العزلة سمعت طرقا على باب الدار مثل الرصاص البعيد ..ترددت في فتح الباب الن ذلك سيعني خرقا آخر لقرار العزلة ..وأي زائر هذا الذي سيأتي إلى رجل أعزب وحيد على مشارف الخمسين ..ال عالقات متينة تربطه بالقلة ممن يعرفهم ؟! مواء القطة مثل صافرة اإلنذار في سطح الدار كان خرقا آخر ،تبعه صوت آخر مجهول ربما لقصف بعيد متقطع ،فالحرب الجديدة لم تتوقف ..اقتربت من الباب ،حاولت التعرف على الزائر من ثقب صغير فيه،فلم استطع جمع مالمحه في نظرة واحدة ........
43
رجعت خطوة إلى الوراء ..ثم استدرت يمينا ..بعد هذا اإليعاز أدركت بأن العزلة لم يبق من طوقها ش يء بعد الشوكوالتة ..والقطة ..والقصف البعيد ..وأخيرا هذا الباب الذي يطرق برقة.... إذن ..ال مفر من فتحه.. حقول واسعة من العشب األخضر ممتدة في عيني جارتي اندلقت عند فتح الباب وتراكمت أمام عيني ..لتطلب مني استضافة أنثى طائر الكناري في منزلها حتى تكتمل ترميمات الدار!! زيارتها املفاجئة وطلبها الغريب كانا أشبه بقنبلة أخيرة دمرت مشروع العزلة الذي كنت انوي إقامة أسالكه الشائكة حولي ... لم يكن أمامي سوى االنقياد لطلبها ..السيما أنها أردفته بقطعة كبيرة من الشوكوالتة قدمتها لي ....لكن أصابعي ارتجفت ...وأنا آخذها منها - وتلك عادة أخرى لم أتخلص منها كلما تقلصت املسافة إلى سنتمترات بيني وبين الشوكوالتة -فسقطت الشوكوالتة على عتبة الباب وتناثرت إلى شظايا كما تتناثر ألعاب الطفولة ..والنوافذ الزجاجية ..والطالء القديم.. والشظايا ..وخضرة العشب... قدمت اعتذاري لها ،لكنها ابتسمت ووعدتني بقطعة أخرى ..أكبر.. في املرة القادمة ..السيما أن الدار في الزيارة القادمة -كما قالت لي- ستكون بعد الترميمات بحلة جديدة !! بعد يومين اتصل بي املدير يسألني عن أخبار الترميمات ..والقصف.. والشوكوالتة التي تبعثرت!! فلم اجب...لكنني ابتسمت ابتسامة عريضة!! 44
في تلك الليلة ..للمرة األولى لم اسمع دوي أي قصف في أذني ..وأنا ممد على ظهري ..أصغي لصوت أنثى الكناري التي كانت تغرد من بعيد ..خلف أكثر من جدار قديم!!.
45
46
لم أجد سوى علبة أعواد الثقاب شبيها للغرفة المستطيلة الصغيرة التي حشرت فيها مثل صرصار (كافكا) فجأة بعد منتصف الليل ،فهي تمتد مترين طوال ،وارتفاعها اقل من ذلك بقليل ،أما عرضها فلم يتجاوز مترا واحدا ،ونافذتها املدورة الوحيدة الصغيرة في الباب مغلقة بإحكام خرافي من الخارج ،ربما كي اليستحم من هو مثلي بضوء القمر أو – في األقل – بضوء املصباح األبيض الذي تسللت منه إلي خيوط نحيلة أسفل الباب ،واالستحمام بالضوء عادة رومانسية كنت قد أضفتها قبل ساعات إلى العادات السيئة التي يجب أن أتوقف عنها في صيف تموز ألغير مجرى مياه حياتي التي بدت في السنوات األخيرة مملة من شدة تكرار طقوسها وعاداتها حتى أمست راكدة ..آسنة ..سوداء مثل رغيف خبز منس ي في قاع تنور ضيق الفوهة ! . عادات كثيرة جدا تراكمت حولي بشكل دائري حتى طوقت حركتي ، وتفكيري ،وطريقة حياتي ،فأمسيت تحت ضغوطها مثل قطعة العجين تقلبني ضرباتها كيفما تشاء،لذلك قررت في الساعة العاشرة من مساء ذلك اليوم التاريخي أن أتوقف عنها ..فلعل قلبها نحو العكس سيحرك بركة أيامي ألني ال امتلك مثل كثيرين موهبة الضفادع في القفز من البرك ألتجاوز وحلها الثقيل ..وطحالبها الزلقة ...السيما بعد أن طردت من عملي أكثر من مرة ..بسبب عادة الصدق املثالي مع اآلخرين -التي يبدو لي أنني ورثتها من جدي وليس من أبي – فاألعذار التي كنت اسردها لتبرير قدومي املتأخر غالبا إلى الفرن ..أصبحت خرافات وأوهاما لدى صاحب الفرن الحاج عبدالغفار األسمر ..وهي اكبر من حجم املغفرة التي يمكن أن يقدمها لي ..وهو يعتذر من زبائن الفرن على التأخير في تزويدهم
47
بحصصهم اليومية من الخبز ألن أمهر عماله يأتي متأخرا دائما بحجة غلق الشوارع ألسباب أمنية ..أو أزمة البنزين وارتفاع أجور النقل ... حاولت مرارا تطبيق نصائحه بالنوم مبكرا أو غلق ملف األرق بمساعدة أدوية الطبيب لكنني نادرا ماكنت انهض قبل الثامنة صباحا .. إذ لم يبق حينذاك من زبائن (فرن السعادة) إال بضعة أفراد ممن يتناولون طعام الفطور بعد التاسعة أو العاشرة وهؤالء كان عددهم يتناقص تدريجيا أمام الخطوط الحمر املستعرة في عيون عبدالغفار األسمر وهو يبحث أمامهم عن شتائم جديدة يرسلها إلى جدي السابع الذي لم يورثني سوى الكسل كما زعم أبي أمامه مرات -أما اآلخرون وهم كثر ممن يتناولون طعام الفطور في السادسة أو السابعة فقد وجدوا لهم أرغفة ساخنة تسعدهم نكهتها منذ الفجر في فرن آخر مجاور يقع في الشارع الخلفي من الحي القديم.. لذلك كله ..قررت في ذلك املساء أن أنفذ قرار االنقالب العكس ي على عاداتي السيئة – الحسنة ربما سابقا – فورا وبدأت باألسوأ منها .. الشك أنها عادة النوم مبكرا التي اتخمتني معلمة املدرسة بذكر فوائدها في أيام الطفولة فاقتنعت بها مجبرا ..ولم أزل حتى ليلة االنقالب التزم بطقسها من دون أن تفارق أحالمي العصا الغليظة لتلك املعلمة . كانت الساعة تشير إلى العاشرة ..سأتجاوز هذا املوعد الرسمي إلقفال عيني بالقوة ،وأسهر ..أسهر حتى الرابعة فجرا ..مثل جرو ضال ..سأتناول القهوة التي منعني الطبيب من شربها ..وأشاهد التلفاز الذي كنت قد هجرته في الفترة األخيرة ..سأهجر األفالم العربية و األجنبية القديمة الهادئة التي كنت أتذوقها بإعجاب شديد وبليد ..وسأختار فيلما 48
أجنبيا عنيفا جدا يمتلئ بأصوات الرصاص ..كي يهرب النوم املبكر وعصاه الغليضة من مرافقتي ..وسأحارب سكون النعاس بالصخب .. ها ..ثمة عادة أخرى رافقتني طوال مراحل الدراسة وما بعد تخرجي من الجامعة ..احسبها اآلن من السيئات ..إنها القراءة ..سأضع كتبي كلها في الدوالب الخشبي الذي ورثته من جدي وأنظف الرفوف من غبارها ..أتسلى بهذا العمل ربما حتى مطلع الشمس التي سأخرج لها لساني متحديا بالسهر طلعتها ..لكن قبل مللمة كتبي الكثيرة وتهجيرها إلى مقبرة الدوالب علي أن اختار فيلما مناسبا لهذا اليوم العظيم التاريخي .. كنت محظوظا إذ وجدت في إحدى القنوات فلما من أفالم الكاوبوي ..بطله (كلينت ايستود) ..ومنذ بدايته لم يتوقف تبادل إطالق الرصاص بين أبطاله ..حتى ظننت أن شاشة التلفاز أصبحت مثل ذلك الغربال املثالي من الزمن املاض ي الذي أدمن الحديث عنه عبدالغفار األسمر في كل مناسبة يطل منها علينا بشاربيه االنكشاريين ،ونحن نيهئ الطحين ملرحلة العجن باستخدام غربال هزاز كهربائي لم يرض يوما عن إنتاجه الن الشعير اليمكن أن ينفذ منه ..كما انه حسب قوله أورثنا الكسل والكروش الكبيرة ...وكان يقصد باملالحظة الثانية ر َّ فيقي في الفرن حسام ومهند ..ألنني كنت من ساللة خيطية البطون !!..قد أدمنت طعم الشعير الذي أورثها هيجانا مستمرا في القولون واملزاج !. الرصاص الغزير أعجبني صخبه في الغرفة ..حتى ظننت أنني أحد أبطال الفيلم فكلما توجهت املسدسات نحو الشاشة تنحيت ال إراديا إلى الجوانب محتميا بالوسادة املحشوة بأوصال من مالبس ي القديمة ..حابسا أنفاس ي بانتظار توقف زخات الرصاص ..تاركا أمام الشاشة تماما صورة 49
أبي املعلقة على الجدار ،فكم تمنيت أن اختبر شجاعته في مثل هذه املواقف التي يكون املرء فيها صادقا بمشاعره وخوفه وقلقه وحيرته ..في مواجهة رصاصة يتحكم بها خصمه ..فإما أن يعفو عنه أو يقض ي عليه ..أتذكر أنني شخصيا شاهدت مواقف حقيقية مشابهة قبل خمسة عشر عاما في الحرب.. كرهت (كلينت ايستود ) ليس ألنه شرير بل ألن نظراته الحادة تذكرني بنظرات عبدالغفار األسمر حين يشتمني ..وأحببت الخيول وهي تشرب املاء من واحة في صحراء تكساس ..ذكرتني بخيل املتنبي ..وهي ترتسم في ذاكرتي كلما شعرت بالحنين إلى عادة قراءة الشعر الذي غرقت دواوينه في تلك البركة اآلسنة من حياتي السوداء من شدة سوء عاداتي أو من سواد حبر الكتب الذي سال فيها ..وأفسد دمي وعقلي كما يردد ذلك أبي دائما ..في كل مجلس عزاء كان يقودني إليه عنوة الحتساء مرارة القهوة واملوت والثرثرة عن الحرب .. كتابة الشعر لم أحسم أمرها ..فلم أضعها حتى اآلن في أية خانة .. أهي من العادات السيئة أم الحسنة ؟؟ السيما بالنسبة لخباز مثلي لم يجد في أي من دوائر الدولة من يحتاج الثقافة الجامعية التي اكتسبها من قسم التاريخ ..فالبالد – كما يبدو – قد استغنت عن تاريخها كله ..وليست بحاجة – في األقل – إلى معلم يذكر تالميذها بان أجدادهم هم أول من اخترع العجلة ثم انفلتت منهم لتسحقنا من بعدهم بدورانها السريع الذي لم يتوقف حتى يومنا هذا ..
50
آه كم يتعبني االستذكار ..أظنه من العادات السيئة ..ألن استغراقي فيه يقودني إلى تحريف ذكرياتي وإجراء التعديالت عليها عبر تطعيمها بش يء من أحالم اليقظة كي تصلح الستدعائها كلما ضاق فرن الحياة بي وطوقنتني فوهة التنور بنيران جهنمية ..دعوت مرارا وتكرارا أن يكون مصير األسمر فيها ..السيما حين أنظر إليه بطرف عيني ألجد صلعته الكبيرة تتنعم بهواء (املبردة) قريبا من باب الفرن حيث يجلس خلف منضدة عتيقة متسخة السطح ..يجمع النقود في درجها الوحيد قبل أن يحولها إلى مقبرة جيبه الذي كان ينتفخ مثل حبلى كل يوم أمام جيوبنا العقيمة اليابسة .. اعترف لكم أنني – ولألسف الشديد -بفضل طريقتي املميزة السابقة في االستذكار لم أعد امتلك ذكرى حقيقية واحدة ..وأكبر دليل على ذلك أن ذكرياتي كلها تغمرها السعادة الفائقة والبطوالت العنترية ..واملواقف التي المثيل لها تاريخيا !!. لكنني اآلن في علبة أعواد الثقاب ال امتلك أيضا سوى االستذكار وسيلة للتسلية ولن أضيف – صدقوني -أي ش يء هذه املرة إلى استذكار ما حدث الليلة ألنه ال يمكن أن يكون حدثا سعيدا أبدا ...مهما أضفت إليه .. أتذكر أن الساعة كانت تقترب من الواحدة ليال حين خرق طبلة أذني صوت انفجار هيروشيمي هائل حطم باب املنزل ..ولم تمر سوى ثوان معدودة حتى وجدت سريري محاصرا بمجموعة من الرجال الغرباء العمالقة ذوي النظارات السود واملدججين بالبنادق املصوبة نحوي ...يا الهي ما الذي ارتكبته هذه املرة من أخطاء بحق األسمر ألطوق بكل هذا الرصاص ...الذي يكفي – لو انطلق – ليجعلني مثل غرباله العتيق ..
51
لكن األمر كما بدا لي لحظة تخلصت من ظنوني السيئة ..ال عالقة له باألسمر أو بغرباله .. كذلك كنت على يقين من أن (كلينت ايستود ) قد تصالح في هذه اللحظات مع خصومه وغفر لهم وأن البنادق اختفت من شاشة التلفاز بعد صفقة مريبة بين الطرفين ! لكن ما الذي أتى بعشرين بندقية إلى غرفتي ؟؟ أنا لم اقتل أحدا من أبطال فيلم ايستود ( التغفر ) * ..ولم اشترك في سرقة املصارف ..ولم أقم أية عالقة غرامية مع أي انثى من سبايا ( ايستود ) ..كما أن اسمي ليس ضمن قائمة املطلوبين في الفلم من قطاع الطرق وال يستحق القبض علي دوالرا واحدا ..فخباز كسول مثلي ال يمكن أن يكون السبب – مثال – وراء املجاعة في دارفور كي يلقى القبض علي بهذا الهجوم الكاسح .. يا الهي ..كنت مجرد مشاهد عادي جدا ..ربما سيصفني مخرج الفلم بالتافه لو رآني وأنا اضحك من بعض املشاهد الجادة في الفلم واصفا إياها بالهندية ؟؟ ولعل من حسن الحظ أنني لم اشطب عاداتي الحسنة السابقة كلها ومنها اتقاني جانبا كبيرا من اللغة االنكليزية بحكم عادة اإلدمان على مشاهدة األفالم األجنبية السيما األفالم البوليسية ،لذلك فهمت من أحدهم بعد أن اقتربت مني فوهة بندقيته أنه علي أن أرفع يدي نحو األعلى ..بهدوء وإال سيجعل راس ي قطعة من (الهمبرغر) املتناثر برصاصة واحدة ..
52
كنت مستعدا ألداء الحركة املطلوبة باتقان المثيل له ..فقد فعلت ذلك في مواقف كثيرة سابقة ،حتى ظننت أني ولدت رافع اليدين أمام القابلة خشية من مقصها الرهيب ..ولم أزل أتذكر – يا للعادة السيئة – أن آخر مرة رفعت فيها بصدق يدي نحو األعلى كانت قبل شهرين أمام رجل ملثم أوقف سيارتي وصوب مسدسه نحو راس ي ..ثم رايته بعد ثوان يغادر بالسيارة -من دون استئذاني..أو إخباري كم من الوقت سيستعير سيارتي مسرعا بها بعيدا أمام يدي اللتين ظلتا مرتفعتين نحو السماء تحتشمس رشقتني بنظرات ساخرة وساخنة .. أما املرة الثانية فكانت قبل عام في السوق أمام امرأة مرت ببطء قربي وصرخت تطلب النجدة من العابرين متهمة إياي بسرقة محفظة نقودها .. ولم يكن أمامي من رد فعل سريع سوى رفع يدي نحو األعلى – كالعادة – في الهواء ألبين بحركة اشارية صامتة براءتي أمام الناس الذين تحلقوا حولي وأنا في وضع استعداد للتفتيش ..لكنني في ثوان تحولت إلى كيس للمالكمة تدرب عليه أكثر من خمسة أشخاص حسبتهم من أبطال العالم في الوزن الثقيل ممن يستعدون لالوملبياد القادمة ..وحين انتهت الجولة األخيرة وجدتني أشبه بجثة جرذ ملقاة على الرصيف وقد تناثرت حولي أزرار قميص ي األبيض املمزق ..الذي أصبح مرقطا باللون األحمر ..ألجد رجال شيخا مسنا يأخذ بيدي ..فانهض ثم ينصحني -هامسا -بالهرب في أقرب سيارة أجرة قبل مجيء الشرطة ..وكأنني لص حقيقي الخيار أمامه بعد فشل محاولة السرقة سوى الهرب . لم تنس السماء في ذلك اليوم أن ثمة جرذا بحاجة للمساعدة فأرسلت لي على عجل سائق أجرة رحيما ودودا غمرته السعادة الروحية وهو يشفق 53
علي بتخليه عن أجرته ألن محفظة نقودي قد غادرت جيبي – كما يبدو مع تلك املرأة التي أتقنت برفقة رجال الكومبارس الخمسة وشيخهم تنفيذ سيناريو السرقة املعد ألمثالي ممن ينسون – كالعادة – نصف محفظة نقودهم يطل من الجيب الخلفي للسروال.. ومرة – تحملوا رجاء عادة االستذكار عندي -في شتاء ثلجي ماض أمرني العريف جدعان في ساحة املعسكر مع مجموعة من الجنود برفع أذرعنا العارية نحو األعلى ألننا لم نحصد الشعر جيدا من صحاري ذقوننا بعد ليل طويل من التدريب القاس ي ..وظلت أذرعنا متجهة إلى السماء ساعة كاملة ..لم ننزلها لوال حاجة الوطن املستعجلة إلرسال جنود إضافيين إلى جبهات القتال ..ولم حينذاك في املعسكر من جنود يصلحون ألداء هذه املهمة في الخطوط األمامية سوى الجنود املعاقبين الجاهزين ألداء ذلك الواجب العاجل كي يغفر لهم الوطن وجدعان أخطاءهم التاريخية الكبيرة الواضحة على ذقونهم ..فذهبنا مسرعين قاتلنا بشراسة أبطال الساموراي ..ثم اضطررنا إلى رفع أيدينا مجددا أمام عدو باغت مواقعنا ليال لنؤخذ غدرا ..أسرى عشرة أعوام ...ثم عدنا أبطاال .. استقبلتنا مئات األيدي املرفوعة نحو األعلى ترحب بعودتنا البيضاء فقد اشتعلت أذقاننا شيبا ..ومعظمنا لم يتجاوز الخامسة والثالثين من العمر ..رفعنا أيدينا أيضا ملوحين لهم ..لنضعها بعد قليل في جيوبنا الفارغة إال من تلك البطوالت ..ونحن نتسكع على رصيف العمر أعواما طويلة جدا من دون أن ترافقنا – في األقل -امرأة مثل لبنى عبد العزيز...قبل أن نعود إلى وسائدنا الخالية !.
54
ماذا لو حلق كل واحد منا ذقنه في ذلك اليوم ..قبل عشرة اعوام ..فلم يعاقبنا العريف !!** ألم أقل لكم إن االستذكار عادة سيئة جدا ولها نتائج خطيرة أيضا ،إذ إن صاحب النظارات السود نفد صبر بندقيته الحديثة بعد أن تأخرت كثيرا في الخروج إليه من ذاكرتي مرفوع اليدين !! فسحبني من ياقة قميص ي ثم رماني على وجهي نحو األرض بعد أن شد معصمي بوثاق بالستيكي قوي جدا ..ال يمكن أن يهرب منه اشرس أسد بابلي في الحلة ..حاجبا عيني بشريط اسود ..وكانت آخر لقطة استطعت أن أشاهدها من فلم السهرة هي لقبعة كلينت ايستود املكسيكية وهو يغادر الحدود بصحبة آالف الدوالرات ..تمنيت لو سمح لي بمرافقته ..لكن املسافة بين العراق واملكسيك واسعة جدا ..وال اعتقد أن لدى الرجل صبرا يكفي النتظار خباز ..فخسرت فرصة للسفر خارج تنور البالد .. سحبت مجددا من ذراعي ألنهض برفقة أصوات صاخبة حولي فهمت منها أنهم يفتشون املنزل ..وأنهم تركوا أبي في غرفة أخرى ..على الرغم من سمرته املريبة التي تذكرني -كالعادة -دائما بزعماء الهنود الحمر ..السيما حين تلتصق بشعره السبعيني األشيب الطويل بضع ريشات من أجنحة الطيور التي يربيها ويعاقبها – عادة – بالنتف إن عصت أوامره شبه العرفية ..أتذكر (صابونيا) بصدر رجولي بارز لم يبق أبي لفحولة جناحيه ريشة محترمة بعد أن خرق األخير القانون الهندي ألبي الذي منع تعدد الزيجات بين الطيور ..ألن ذلك يعني توفير مزيد من الطعام لنسلهم الجديد ..في وقت كان املواطن نفسه -بسبب الحصار كما يردد أبي -ال يجد له لقمة تمال معدته الفارغة ..وبعد أيام وجد أبي فحله املنتوف ميتا في 55
معتقله االنفرادي داخل علبة قديمة من الصفيح لدهن الطعام ..كنت متأكدا من انتحاره ..وكان أبي مصرا على أن املسالة ليست سوى قضاء وقدر ..فأضفت لقدره صفة الهندي !! أعود إلى ما حصل في ليلة تموز ..فقد سمعت نباح كالب تزمجر قريبا مني وأنا أسير برفقتهم خارج البيت – ربما باتجاه املكسيك مع خطوات ثقيلة غريبة ..بعيدا بعيدا جدا عن عاداتي الكثيرة التي احتاج إلى غربلتها مجددا ألعرف ما هو س يء منها وما هو حسن .. بعد ساعتين ..أدركت أن عادة فتح علبة أعواد الثقاب في الفرن مبكرا إلضرام النيران في التنور أفضل بكثير من السكن داخل العلبة نفسها ..بانتظار من يسحبني من نيرانها ليعيدني إلى عاداتي أيا كانت ..لكن ذلك اليمكن أن يحدث قبل أن يقتنعوا بأنني مجرد خباز بسيط قد أدمن حب طحين الوطن وشعيره ..ولست مؤرخا محنكا يمكن أن يغير التاريخ الجديد للوطن ..كما اخبرهم بذلك عبد الغفار األسمر ..وهو يعبر الحدود منتفخا ... * ( التغفر) عنوان احد أفالم الكابوي للممثل الشهير كلينت ايستود . * *ثمة إشارة في هذه العبارة إلى قصيدة للشاعر عدنان الصائغ ( تكوينات ) التي يقول فيها : الجندي الذي غدا متنزها للمدينة ماذا لو كان قد حلق ذقنه ،ذلك الصباح 56
احملتويات حRرب 1........................................................................... كرات احلزن 8.................................................................... هذا الرجل انتبهوا اليه ..ارجوكم 13....................................... سرية ذاتية لرجل قرن العشرين 16.......................................... أخطاء 16........................................................................... حبثا عن عمل مناسب 19...................................................... جرد سنوي 29................................................................... عصا و مملكة وكرة 33.......................................................... شوكوالتة مغطسة باحلRرب 39.............................................. عادات 46.........................................................................
امحد جار اهلل ياسني سيرة موجزة احمد جارهللا ياسين من مواليد مدينة املوصل -العراق_حصل على املاجستير في األدب الحديث عن رسالته (التدوير في شعر حسب الشيخ جعفر)1998 بتقدير امتياز. _حصل على الدكتوراه عن اطروحته(اثر الرسم في الشعر العراقي الحر) 2002بتقدير امتياز. _نشر عشرات املقاالت الصحفية في االدب والفن والنقد. _صدرت مجموعته الشعرية األولى (هوامش)عام .1999 صدرت له مجموعة شعرية مشتركة مع عدد من الشعراء(تخطيطات مفتوحة)عام .1999 _صدرت له مجموعة قصصية مشتركة (قصص من نينوى)عام.2003 _أقام عدة معارض شخصية للرسم في جامعة املوصل . صدرت مجموعته الشعرية ( الى ....برقيات وصلت متأخرة ) عام .2010 صدرت مجموعته الشعرية ( يرحل العراقي ) .2013 حصلت قصيدته ( قبور عراقية منفردة ) على املرتبة الرابعة في مسابقة جريدة الغد /بابل التيشارك فيها عشرات الشعراء العراقيين عام .2009 نال كتابه النقدي ( مدرسة اإلحياء بين االتصال بالشعرية التراثية واالنفصال عنها ) املرتبة األولىفي مجال النقد االدبي في مسابقة الشارقة لإلبداع بدولة اإلمارات العربية عام .2011 نال كتابه (فضاء االقتناء الفني في العالم العربي ) املرتبة الثانية في البحث النقدي التشكيلي فيالشارقة بدولة اإلمارات العربية عام .2013 نال عدة جوائز في مسابقة الفنون اإلبداعية بجامعة املوصل في مجاالت الرسم والشعر والقصةالقصيرة والخاطرة واملقال وللسنوات .2013/2011 /2010 /1998 /1994 /1993