حـrب

Page 1

‫تصميم‬ ‫البارون االخير‬


‫حـ‪R‬ب‬ ‫قصص‬ ‫أمحد جار اهلل‬ ‫ياسني‬


‫اإلهداء‪..‬‬ ‫إىل أخي الشهيد الرسام‬ ‫رائد‬

‫َُ‬ ‫ُ‬ ‫لعل هذه القصص تكمل ما تركته من‬ ‫لوحاتك‬


1


‫كان ينتظر أحد أصدقائه في الممر الطويل‪ ،‬حين بزغ وجهها‬ ‫البيضوي المختوم بشامة سوداء أسفل الخد‪ ..‬ثمة طين خفيف يغطي‬ ‫أناملها‪ ،‬ويلطخ ببقع صغيرة ثوبها األسود‪..‬‬ ‫بعد ساعات ‪ ...‬في الطريق إلى بغداد‪ ..‬لم يجرؤ على مسح الطين املتراكم‬ ‫فوق نافذة الحافلة؛ كان يخش ى ضياع رائحته وتالش ي مالمح اكتشافه‬ ‫َّ‬ ‫الجديد الذي أطر حياته بخط بيضوي وترك بين كفيه شامة سوداء يخش ى‬ ‫أن تسقط منه فينكسر التاريخ العريق للون األسود‪..‬‬ ‫لكنه لم يزل يفكر في طريقة لالنتقال من مربع الشطرنج األسود في‬ ‫رقعة حياته‪ ..‬لم يزل ينتظر فتح أبواب إجابتها البيضاء‪ ..‬ليقفز‪..‬‬ ‫في الطريق الى بوابة بغداد‪ ..‬رافقه صوت صديقه الرسام‪ ،‬حين قال له‬ ‫ذات مرة‪:‬‬ ‫((في وحل الخنادق ال أحد يسأل بنقاء عن عمر َّ‬ ‫الزمن أو عن األكلة‬ ‫املفضلة!‪ ..‬كان أبولونير الشاعر الفرنس ي يتجول في الخنادق حين التقيت‬ ‫به في قصيدة‪ ،‬سألته عن أكلته املفضلة فأشار بدمعتين نحيلتين إلى‬ ‫الورق‪))..‬‬ ‫منذ ذلك الحين تعلم صديقه الرسام التهام الورق‪ ،‬فلم يبق في بيته سوى‬ ‫دفتر التجنيد!‬ ‫**‬ ‫بعد نصف ساعة‪..‬‬ ‫خرج من بغداد باعجوبة مسرعا نحو حافلة عابرة‪..‬‬

‫‪2‬‬


‫في الطريق إلى املوصل‪ ..‬استغرق في حلم طويل تبدد بإطالقات نارية‬ ‫اخترقت نافذة الحافلة لتستقر في جناح غراب عابر‪ -‬في ذلك الصباح‬ ‫َّ‬ ‫البارد‪ -‬داخل فضاء الحافلة املكتظة بوجوه متعبة ‪ ..‬ذابلة‪..‬‬ ‫حاول أن يراها ثانية‪ ..‬أن يشرح لها وللعالم العالقة بين طين السيراميك‬ ‫وطين اآلثار السومرية‪ ..‬حاول أن يقرب لها وجهة نظره في ملحمة كلكامش‪..‬‬ ‫وسيرة عنترة بن شداد‪ ..‬ورواية (الحب في زمن الكوليرا)‪ ..‬لكنه لم يستطع‬ ‫‪ ..‬فقد كان ظل املدير يرتسم بشكل مرعب وراء الباب في مشغلها الفني‪..‬‬ ‫مرة‪ ..‬وعبر الهاتف أجاب عن سؤالها قائال‪ :‬الفرق بين الحب والحرب‪ ..‬إن‬ ‫الحب نورس والحرب غراب شارد‪ ،‬فابتسمت‪ ..‬وكانت تضع في حقيبتها رمال‬ ‫ساحليا وحفنة من العشب‪..‬‬ ‫أدرك أنها لم تقتنع باإلجابة‪ ..‬فاسترسل قائال‪ :‬لكن قد تختلط الطيور‬ ‫واأللوان في أثناء العواصف‪ ،،‬لم يكن يتوقع أن يحفر هذا االسترسال قلقا‬ ‫في عينيها‪ ..‬فغابت وسط العشب‪ ،‬راكضة تذر الرمل هنا وهناك فوق‬ ‫العشب املحترق‪..‬‬ ‫ابتسم النتصاره أول مرة في حرب ضد امرأة يحبها‪ ،‬وواصل لعب الشطرنج‬ ‫مع ذراع صديقه الرسام الشهيد التي تتشبث بقضبان ذاكرته املقيدة منذ‬ ‫سنوات‪..‬‬ ‫عملها يتصدر قائمة االهتمامات في سجل أنوثتها املعلقة على مشجب‬ ‫الزمن‪ ،‬لم تكن تسمح له بأكثر من دقيقتين كي يمرر حوارا إليها‪ ..‬تدرك‬ ‫َّ‬ ‫خلوه من العفوية‪ ..‬ويدرك هو اآلخر أن ال فرصة لالقتراب من حافات‬ ‫أنوثتها سوى هذه الحوارات املصطنعة‪..‬‬

‫‪3‬‬


‫هي‪ ..‬تخش ى الحوار معه‪ ..‬ألن صوته الدافئ يوقظ طفلة محبوسة في‬ ‫أعماقها‪ ،‬ويوقف دوي اآللة التي تقمصت روحها منذ أول حرب خطفت‬ ‫والدها‪ ..‬وأصابع أخيها‪ ..‬ومشط ضفيرتيها اللتين كانتا مثل نهرين‪ ..‬ممتدين‬ ‫إلى ماالنهاية‪..‬‬ ‫بعد أسابيع‪..‬‬ ‫طرقت باب مشغلها‪ ،‬نهش االنتظار من أصابعي أربع دقائق‪ ،‬قبل أن‬ ‫تنبعث رائحة الطين لحظة فتح الباب‪ ..‬أخذت أصابعها تفتح صدري تنتزع‬ ‫من قضبان قفصه مادة حمراء‪ ..‬وتضع وسط القفص غرابا فارا من إحدى‬ ‫لوحات عالء بشير‪ ،‬ثم تختتم هذا العمل الفني باعتذار سريع توقعه‬ ‫بخدش عميق في أسفل وجهي رسمه صمتها الذي تجلى لي أبديا‪ ..‬السيما‬ ‫بعد أن أغلقت الباب‪ ..‬وتركتني‪ ..‬في مربع قاتم من السواد‪..‬‬ ‫أصبح الغراب يهتز في صدري مع كل خطوة في طريق العودة‪ ،‬حتى امتزج‬ ‫لونه األسود بما تبقى من رذاذ املادة الحمراء‪ .‬في حديقة الشهداء جلست‬ ‫مكورا فوق هضبة بيضوية خضراء صغيرة‪ ،‬فاجتمعت حولي العصافير‬ ‫بوصفي التمثال الجديد!‬ ‫اقتنعت بهذا العمل الجديد ملدة يومين‪ ،‬قبل أن اقتل العصافير كلها من‬ ‫دون قصد برذاذ من ذلك الخليط العجيب الذي امتأل به جوفي حين‬ ‫سعلت بشدة‪..‬‬ ‫ملحتها تمر خلف الشجرة‪ ..‬كانت أصابعها تدفع العصافير نحوي واحدا تلو‬ ‫اآلخر‪..‬‬ ‫ياه ما أشد قسوة أصابعها‪..‬‬ ‫‪4‬‬


‫بعد عام‪ ..‬كان املدير بمعطفه األسود الطويل يتجول في أروقة املكان‬ ‫بعد انتهاء الدوام حين غابت الشمس على عجل فمر على مشغلها وملح‬ ‫وردة بيضاء تنمو في عتمة خاصرة منضدتها البيضوية‪ ،‬فمد يده وقطف‬ ‫الوردة بعنف‪ ..‬ثم َّ‬ ‫مد يده األخرى فقطف من الخنادق ذراعين مع بندقية‪..‬‬ ‫بعد أشهر‪ ..‬طرقت باب املشغل أكثر من مرة‪ ..‬لكن من دون إجابة‪..‬‬ ‫مددت يدي نحو قبضة الباب فانفتح‪ ..‬إنها املرة األولى التي اخترق فيها‬ ‫حدود هذه اململكة الغامضة من دون استئذان‪ ..‬ثمة صمت كئيب كان‬ ‫يستولي على نبض كل مافيها‪ ..‬كانت هناك منضدة بيضوية كبيرة تجثو على‬ ‫َّ‬ ‫سطحها قطعة كبيرة من الزجاج املغطى بطبقة خفيفة من الغبار‪ ،‬قطع‬ ‫من الفخار موزعة بشكل فوضوي‪..‬‬ ‫ثمة قطعة من النحت جذبت انتباهي أكثر من غيرها‪ ..‬تمثل جسدا‬ ‫نحيال جدا إلمرأة تمد ذراعيها نحو األعلى‪ ..‬رفعتها بيدي ووضعتها فوق‬ ‫املنضدة وجلست أمامها كأنني استعد لحوار مهم معها‪ ..‬في تلك اللحظة‬ ‫تذكرت جياكوميتي النحات االيطالي‪ ،‬فسألته عن السبب الذي دفعها لنحت‬ ‫هذا الشكل األنثوي إلى هذا الحد املبالغ فيه من النحول؟ وما العالقة بين‬ ‫هذا الجسد النحيل وحركة رفع اليدين نحو األعلى؟ هل يعني ذلك‬ ‫االستسالم؟ أم االحتجاج؟ أتريد املرأة أن تصرخ بجسدها بدال من صوتها؟‬ ‫أتصرخ حقا؟ وملاذا؟‬ ‫ظلت ذاكرتي لدقائق تستقبل مطرا من األسئلة مما أزعج الغراب‪ ،‬ف َّ‬ ‫فر‬ ‫نحو زاوية أسفل املنضدة‪ ،‬وتوقف املطر وغادر جياكوميتي حين تجلى‬ ‫لسمعي الصوت املميز لخطواتها القادمة‪ .‬العجيب في األمر أنها لم تتفاجأ‬ ‫باقتحامي لعاملها كما يفترض أن تفعل ذلك املرأة عادة أمام أي متطفل‪..‬‬ ‫‪5‬‬


‫السيما حين يكون عاشقا‪،‬أو شاعرا أو مجنونا ‪ ،‬جلست أمامي‪ ..‬واتجهت‬ ‫بنظراتها نحو املنضدة‪ ..‬أحاطت التمثال بأصابعها البيض‪(( ..‬تذكرت‬ ‫أصابع صديقي الساخنة التي تركها في الخندق تحتضن حفنة من التراب‬ ‫األحمر))‪...‬‬ ‫لم أجرؤ على املبادرة بالكالم‪ ..‬وكذلك هي‪..‬‬ ‫نهضت وانحنيت قليال فوق املنضدة‪ ..‬رسمت بأصابعي فوق الزجاج‬ ‫عصفورا يفرد جناحيه في فضاء من الغبار ثم خرجت مسرعا‪..‬‬ ‫بعد أعوام‪ ..‬رأيت خيطا نحيال من السواد ينمو ثم يتفرع في الفضاء إلى‬ ‫خيطين آخرين نحيلين ينطلقان نحو األعلى مصحوبين بصراخ شديد وعويل‬ ‫أمام منزل مهدم‪ ..‬فكل ماتبقى بعد القصف امرأة على أعتاب األربعين‬ ‫تجثو على األرض وترفع ذراعيها نحو السماء‪ ..‬وثمة عصفور يبحث في الرماد‬ ‫بقربها عما تبقى من قش وأصابع‪..‬‬ ‫وبعد‪..‬‬ ‫رأيت خيطين كبيرين من الدخان األسود يرتفعان من األرض‬ ‫ورأيت األرض تتشبث بالعصافير‪ ..‬تتوسل بها أن التتركها وحيدة‪..‬‬ ‫وأخيرا حملت العصافير األرض بمناقيرها وطارت بها نحو األعلى‪ ..‬كنا‬ ‫نختض مع كل برق‪ ..‬ورعد وشظية‪ ..‬لكننا لم نسقط أبدا‪ ..‬بقينا في‬ ‫داخلها‪ ..‬حبسنا دموعنا كي النثقل جسد األرض‪ ،‬تشبثنا بنخيلها كي‬ ‫النتصادم في لحظات الطيران ولحظات مرور العواصف‪..‬‬

‫‪6‬‬


‫حين هدأت العاصفة األخيرة‪ ..‬أعادت العصافير األرض إلى مكانها‪ .‬بحثت‬ ‫عنك بين أشجار النخيل املرهقة‪ ..‬وبين أنقاض املشغل‪ ..‬لم أجدك‪،‬‬ ‫ووجدت تمثاال متفحما المرأة من دون ذراعين‪..‬‬

‫‪7‬‬


‫كرات احلزن‬

‫‪8‬‬


‫تقول أغنية ما ‪ (( :‬لو كانت األرض مربعة‪ ،‬كنا اختبأنا في إحدى‬ ‫زوايا‪ ،‬لكنها كروية‪ ..‬لذا علينا مواجهة العالم ))‪.‬‬ ‫نصحت مرارا من األهل‪ ،‬وماتبقى من األصدقاء‪ ،‬والجيران‪ ،‬والكتب الكثيرة‬ ‫التي علفتها؛ أن أتوقف عن كتمان أحزاني‪ ،‬وأن أبوح بها لآلخرين كي أتخلص‬ ‫من أضرارها النفسية‪. .‬لكنني أهملت النصائح كلها؛ وكان ذلك هو الخطأ‬ ‫الكبيرحسب قولهم؛ ألن تراكم األحزان في قبو صدري ازداد يوما بعد آخر‪،‬‬ ‫وها أنا اآلن منتفخ بأحزاني التي جعلت جسدي مثل كرة ضخمة تحتل‬ ‫فضاء الغرفة املستطيلة كحفر املوتى‪.‬‬ ‫مضت أسابيع وأنا مستقر في مكاني على هذه الصورة الغريبة‪ ،‬ال أستطيع‬ ‫الخروج من الغرفة‪ ،‬وال يستطيع أحد الدخول إلى غرفتي‪ ،‬أو يجرؤ ‪..‬على‬ ‫فتح بابها الذي يكاد ينخلع من مكانه بسبب الضغط الهائل الذي يتعرض‬ ‫له من جسدي الكروي‪ ،‬بحيث اضطر األهل بعد استشارة مختار الزقاق‬ ‫العجوز إلى أن يفتحوا فجوة دائرية في سقف الغرفة عبر سطح املنزل‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ألمد من خاللها رأس ي‪ ،‬وأتناول بفم متشقق الشفتين كسرة من الخبز‬ ‫األسمر اليابس‪ ،‬أو أشرب جرعة من املاء أو قطرات من القهوة املرة وأنا‬ ‫أنظر بعينين منكسرتين نحو األعلى‪ ..‬تشاهدني شمس محرقة‪ ..‬وطيور‬ ‫بيض عابرة ‪..‬‬ ‫في أثناء هذه املحنة زارني عدد من أقاربي‪ ،‬ولكنهم جميعا فشلوا في فك‬ ‫أقفال هذا الصمت امللغز الذي يقيد حركة لساني‪ ،‬وفي األيام األخيرة جلبوا‬ ‫لي طبيبا نفسيا‪ ،‬صعدوا به نحو السطح مندهشا لكي يشخص ‪-‬في األقل‪-‬‬ ‫بالحوار مع وجهي البارز من تلك الفجوة الوضع النفس ي لحالتي‪ ،‬ويجد‬

‫‪9‬‬


‫العالج املناسب لها‪ ،‬ألنني ما زلت أرفض البوح بما يحزنني‪ ،‬ويسهم في تدهور‬ ‫حياتي‪.‬‬ ‫وسط موج هذه األحزان‪ ،‬كنت مثل من يغوص غارقا بحمل ثقيل في أعماق‬ ‫البحر تحت قوارب النجاة التي ال تحس به‪ ،‬وال تفقه عذابات محنته‪،‬‬ ‫وأسرار حمله الثقيل املتشبث به‪ ،‬والذي يسحبه نحو القاع املظلم‪ .‬كنت‬ ‫أعتقد أن الناس جميعا قـد دفنوا مثل هذه الحقائق السرية أو لعلهم‬ ‫حملوها تحت قمصانهم البيض األنيقة لكنهم فيما بعد هربوا سريعا منها‬ ‫وابتعدوا عن زيارة قبورها في صحاري نفوسهم‪ ،‬أو ربما رفضوا االعتراف‬ ‫بوجود جثثها مرمية في قاع أعماقهم التي ستبعثها َّ‬ ‫حية في يوم ما‪ ..‬لتطفوا‬ ‫فوق سطح املاء‪ ..‬إال أنا فقد قررت املواجهة واآلن أصر على دفع الثمن‬ ‫مهما كان‪..‬‬ ‫كان قلق الجميع يتضخم من حولي يوما بعد آخر‪ ،‬السيما بعد أن َّ‬ ‫تسربت‬ ‫في آذان سكان الزقاق إشاعات وهمسات مريبة تتحدث عن احتمال‬ ‫انفجاري في املستقبل القريب إن بقيت على هذا الوضع الغريب الذي يزداد‬ ‫انتفاخا بمرور األيام‪.‬‬ ‫وكاآلخرين‪ ،‬لم يفلح الطبيب النفسي في انتزاع كلمة واحدة من نسيج‬ ‫صمتي الذي جعل وجهي مثل أبي الهول أمام نظاراته الالمعة‪ ،‬وثرثرته‬ ‫اآللية املزعجة التي سرد فيها كالببغاء كل أالعيب املعالجات النفسية وحيلها‬ ‫اململة التي شغلت نصف سنوات عمره‪ .‬كان يبدو أمامي بالحركات البهلوانية‬ ‫ليديه كاملهرج املغفل املتأرجح على حبل السيرك والذي يضحك املتفرجين‬ ‫في العلن‪ ،‬ويكتم في أعماقه حشدا من املخاوف‪.‬‬

‫‪10‬‬


‫أما جدتي؛ تلك املرأة العجوز الذكية‪ ،‬املجعدة الوجه واألفكار واللهجة‬ ‫والتي كثيرا ما استسعفنا بها لحل مشاكلنا العائلية ‪ ،‬فقد جاءت مسرعة‬ ‫من وسط غبار القرية ‪ ،‬لكنها لم تستطع أبدا اإلجابة عن األسئلة الصعبة‬ ‫التي كان يفرزها بإيقاع حزين صمتي املحير‪ ،‬فعادت إلى قريتها ينوء كتفها‬ ‫بحقيبة صوفية قديمة وبكم هائم من اإلحباط الذي سال بين منحدرات‬ ‫وجهها وأخاديده‪ ..‬إنها لم تتعود في يوم ما أن تترك َّ‬ ‫أي سؤال من دون‬ ‫إجابة في ورقة امتحان الحياة‪..‬‬ ‫بعد تسعة أيام‪ ،‬وفي الساعة الخامسة فجرا دوى انفجار هائل وعنيف‬ ‫زلزل بيوت الزقاق‪ ،‬وأثار غبارها املتراكم في الزوايا‪ ،‬وأربك السرد املتسلسل‬ ‫ألحالم النائمين فيها‪ ،‬أعقب ذلك ظهور دخان أسود كثيف انبعث من‬ ‫حطام أحد املنازل وحجبت خفافيشه السود أول خيوط‬ ‫وسرعان ما تكاثف الدخان وتجمع بصورة سحب سود مخيفة كأشباح‬ ‫كروية ضخمة ارتفعت في السماء بإيقاع جنائزي‪ ،‬لتنفجر فيما بعد‬ ‫ويتساقط من جثثها مطر اسود رشقت زخاته القوية َّ‬ ‫كوفية مختار الزقاق‬

‫الذي كان رأسه حينذاك يطل من ثقب في سقف غرفته‪ ،‬وكذلك َّ‬ ‫تعرضت‬ ‫َّ‬ ‫للرشق نظارات الطبيب النفس ي التي تضببت الرؤية في زجاجها أمام عينيه‬ ‫الصغيرتين املحفورتين مثل ثقبين عميقين في رأسه الذي خرج من فجوة‬ ‫ثقبت حديثا في سقف عيادته التي تقع في الطابق العلوي من عمارته‪..‬‬ ‫في حين تطايرت ‪ 1999‬قطرة من ذلك املطر األسود نحو فضاء القرية‪،‬‬ ‫حيث يبرز من بعيد رأس امرأة عجوز‪ ،‬يلتف بخمار رمادي جعل شفتيها‬ ‫الصفراوين تبرزان بشكل واضح‪ ،‬وقد علقت بهما قطرات من مطر هاجم‬

‫‪11‬‬


‫رأس تلك املرأة‪ ،‬بعد أن دفعته ليظهر من فجوة في سقف غرفتها الطينية‬ ‫التي َّ‬ ‫تشققت جدرانها بسبب كرة ضخمة انتفخت فيها‪..‬‬

‫‪12‬‬


13


‫انتبهوا جيدا إليه‪..‬‬ ‫انتبهوا جيدا إليه‪ ..‬هذا الرجل انتبهوا إليه‪..‬‬ ‫الرجل الذي يأكل بقدر ما ينصحه به األطباء وكتاب (دع القلق وابدأ‬ ‫الحياة)‪ ،‬وينام مبكرا‪ ،‬لكنه ال يستيقظ مبكرا‪ ،‬ويشرب املاء‪ ..‬أقسم أنه‬ ‫يشرب املاء‪ ،‬وأني رأيته بعيني هاتين يفعل ذلك‪ ..‬كما انه يشرب العصير‪،‬‬ ‫واملواقف املحرجة برحابة صدر‪ ،‬وله قدرة عجيبة في صعود السيارات‬ ‫والعمارات‪ ..‬يشهد له بذلك أصدقاؤه والقطط الليلية‪.‬‬ ‫ويتحدث كثيرا مع اآلخرين وقليال مع نفسه‪ ،‬وفي أحيان نادرة يصمت لثواني‬ ‫معدودة‪ ،‬ويحفظ أفكارا كثيرة من هنا وهناك‪ ،‬ولديه ببغاء جميل يردد‬ ‫أمام الضيوف‪ :‬انتبهوا‪ ..‬انتبهوا‪ ..‬انتبهوا‪ ،‬لكن ال أحد ينتبه‪.‬‬ ‫هذا الرجل يدندن األغاني املشهورة في الطريق‪ ،‬ويشاهد أفالم السهرة‬ ‫املعادة للمرة الرابعة والخمسين‪ ،‬ويدون في دفتر خاص وردي الغالف أسماء‬ ‫محالت األلبسة التي تشيد بها اإلعالنات‪ ،‬وال تسبقه –كما يتصور‪ -‬في‬ ‫الحضور الى دائرته حيث يعمل محاسبا سوى قطة سوداء‪ ،‬ال يعلم أنها‬ ‫تبيت في الدائرة من دون موافقة الحارس مسترخية فوق السطح وغير‬ ‫مبالية باحتجاج املدير على مواء أبنائها الصغار‪..‬‬ ‫انتبهوا إليه‪ ..‬إنه يفتح صنبور املاء وباب الثالجة بكل ثقة‪ ،‬ويفتح أزرار‬ ‫القمصان الشفافة بكل حذر أبطال السينما‪ ،‬ويغلق األبواب والنوافذ‬ ‫بإحكام عندما ينام‪ ..‬وعندما‪ ........‬وله أطفال‪ ،‬عشرة أطفال‪ ،‬تسعة ذكور‬ ‫يحلمون بالحصول على مقاعد في كلية الطب‪ ،‬وبنت واحدة تحلم‬ ‫بالفراشات‪ ،‬وتأخذ قطع الحلوى مسرورة لوحدها‪ ،‬حينما يأخذ اخوتها‬ ‫اإلعجاب من نظرات الضيوف وكلماتهم المادحة‪.‬‬ ‫‪14‬‬


‫ويزور األقارب‪ ،‬واألصدقاء‪ ،‬واملقابر‪ ،‬واألعراس‪ ،‬وحديقة الحيوانات‪ .‬وله‬ ‫صورتان؛ األولى شخصية التقطها في فترة السبعينات تزين حائط الغرفة‬ ‫يقلد فيها بشكل واضح عبد الحليم حافظ‪ ،‬والثانية عائلية‪ ،‬يبرز فيها‬ ‫بقميصه البرتقالي اللون وبربطة عنقه الخضراء‪.‬‬ ‫وله فم‪ ،‬نعم‪ ..‬له فم‪ ،‬وعينان‪ ،‬ويدان‪ ،‬وقدمان‪ ،‬وصندوق توفير‪..‬‬ ‫انتبهوا إليه‪ ..‬أرجوكم‪ ..‬ألنه يمر يوميا في شارع الحياة‪ ..‬وال أحد يراه‪..‬‬ ‫هذا الرجل انتبهو اليه‪ ..‬أرجوكم‬

‫‪15‬‬


16


‫ولد في ‪ 1931/5/16‬في الساعة السابعة إال ربعا مساء يوم األربعاء‪.‬‬ ‫وكان‪..‬‬ ‫يهتم بتربية الطيور قليال‪ ،‬وأحيانا يميل نحو االهتمام بالقطط األليفة‪،‬‬ ‫ويدخن أنواع السكائر من دون تمييز بين نوع وآخر‪ ،‬ويأكل بأصابعه كلها‬ ‫أو بامللعقة‪ ،‬ويلتهم الطعام على دفعات في فمه مثل اآلخرين‪ ،‬وأحيانا يلتهم‬ ‫الطعام دفعة واحدة مثل اآلخرين أيضا‪ .‬وكان يزور جدته في كل اسبوع‪،‬‬ ‫يقبل يدها املعبقة برائحة البصل‪ ،‬ويساعد الجيران في غسل الجدران‬ ‫واألحزان‪ ،‬ورفع األحجار واألشخاص السيئين عن الطريق‪.‬‬ ‫وكان‪..‬‬ ‫يحلق ذقنه قبل تناول الطعام‪ ،‬ويرجل شعره بما تبقى من دهون الثريد أو‬ ‫الزوجة أو السيارة!‪ ،‬السيما حين يستعد ملقابلة موظفة البريد التي سيودع‬ ‫في صناديق دائرتها آخر الرسائل الرومانسية التي يكتبها منذ مراهقته المرأة‬ ‫أخرى الوجود لها سوى في أحالمه‪ ..‬فقد كان يهوى املراسلة والتعارف‪.‬‬ ‫وكان‪..‬‬ ‫يعبر وفقا لمزاج اإلشارات الضوئية ذات اللون الواحد‪ ،‬ويجمع حبات‬ ‫المطر في إناء صغير‪ ،‬يحتفظ بها لإلفادة منها في أيام الجفاف أو شحة‬ ‫الدموع السيما حين يستدعى للبكاء في أي عزاء‪.‬‬ ‫وكان‪..‬‬ ‫يرعى األغنام مع الصالحين عندما يقرأ قصصهم‪ ،‬ويسافر مع املغامرين‬ ‫حين يشاهد أفالمهم‪ ،‬ومثلما يتابع املسلسالت اليومية في التلفاز فإنه يتابع‬

‫‪17‬‬


‫تسلسل الدورات االوملبية من أجل املشاركة في املسابقة املعلنة في‬ ‫الصحف‪ ،‬والتي لن يفوز بها أبدا‪..‬‬ ‫َّ‬ ‫ينفق ساعات كثيرة في متاهات التسلية أو األزقة القديمة‪ ،‬لكنه يحل ببراعة‬ ‫الكلمات املتقاطعة‪ ،‬غير أنه يفشل في العثور على كلمة السر أو الفروق‬ ‫املئة بين صورتين ويرافق بطاعة على قدميه أو قدميه ورجليه زوجته إلى‬ ‫املطبخ والسوق وبيت والدتها والسيرك‪ ،‬ويستمع إلى املوسيقى مرات في‬ ‫الطريق‪ ،‬وقد يسب شخصا أو اثنين نهاية كل شهر ألسباب معقولة‪.‬‬ ‫وكان يشارك في كتابة الواجبات البيتية ألطفاله‪ ،‬ويقلد ابتسامة املوناليزا‬ ‫عندما يدفع قائمة أجور ‪ :‬املاء‪ ،‬والصداقة‪ ،‬ولعبة الدومينو‪ ،‬والشاي في‬ ‫املقاهي ‪ ،‬ولكنه اآلن في هذه الساعة الواحدة وعشر دقائق بعد منتصف‬ ‫الليل الهادئ يوم االثنين ‪ 2000/11/13‬وهو مستلق قرب زوجته فإنه ال‬ ‫يفعل َّ‬ ‫أي ش يء‪ ،‬ألنه قد…………………‬

‫مـــــات‬ ‫‪18‬‬


‫أخطاء‬ ‫‪19‬‬


‫قبل أن تفتح الشمس أجفانها الثقيلة‪ ..‬يشرق وجهها بأخاديده السبعينية‬ ‫على محلة ( البدن ) ‪ ..‬يوميا تلملم أصابعها املرتجفة عباءتها السوداء في‬ ‫حضنها وتــجلس بصمت على عتبة الباب ‪ ،‬تسابق الشمس في إرسال أول‬ ‫خيوط نظراتها نحو مرآب سيارات املسافرين البعيد املعروف باسم‬ ‫( كراج بغداد ) حيث تترقب قدوم الحافالت الكبيرة من فضاءات بعيدة‬ ‫جدا ‪..‬‬ ‫تنتظره ‪...‬‬ ‫تقلقني رؤيتها في كل صباح وأنا أتوجه بعكازي نحو املقهى ‪ ..‬أود أن‬ ‫اخبرها بأنه لن يأتي أبدا وان ال حافلة ستحمل إليها في يوم ما قدميه‬ ‫وحقيبته البنية ‪ ..‬لكنني ال استطيع البوح بهذا السر الذي يؤرقني حبسه‬ ‫أمامها منذ سنوات عديدة ‪..‬‬ ‫لم يبق معها سوى ابنتها الوحيدة الذابلة التي خطفت منها الحروب‬ ‫كل أيدي الرجال التي فكرت أن تمتد إلى باب بيتها وتطرقه برفق من‬ ‫اجل خطبتها ‪..‬‬ ‫الخراب اكتسح املدينة كلها وامتدت مخالبه إلى ذاكرتها ‪..‬لكن األم‬ ‫العجوز لم تزل تذكر أنها قد وضعت في حقيبته املصحف ‪ ..‬والخبز املوصلي‬ ‫املنقوش بالسمسم ‪ ..‬واملعبق برائحة الهيل الذي اشترته من أفضل‬ ‫العطارين ‪ ..‬وأنها أوصته دامعة العينين أن يتقاسمه مع هذا اليتيم –‬ ‫وتعني أنا – لم تزل تذكر أنها قطفت من شفتيه وعدا بان ال يتأخر حنينه‬ ‫في العودة ‪..‬إلي قهوتها‪ ..‬وخبزها ‪..‬وأنها وشمت جبهته بقبلة أم حنون لولدها‬ ‫املدلل ‪..‬الذي تذكرها ابتسامته بزوج شاب فقدته في حرب سابقة‪ ..‬لم‬ ‫تزل تذكر أنني وعدتها مازحا باني لن أعود في اإلجازة القادمة إال ويدي بيد‬ ‫‪20‬‬


‫حامد واني ساخذه مباشرة من محطة الوصول إلى املحكمة إلتمام عقد‬ ‫زواجه من ابنة عمه التي طال انتظارها له في محطة الخطبة ‪ ..‬وما عدا‬ ‫تلـك الذكريات فإن ( أم حامد ) ال تتذكر شيئا آخر أبدا ‪..‬‬ ‫ومع ذلك كله‪ ..‬وبعد هذه السنوات الطويلة ‪ ..‬كنت ال أزال أريد أن‬ ‫اخبرها بان تلك القبلة الحنون تشظت بين يدي وأنا امسح الدم النازف‬ ‫من جبهته اثر إصابته بشظية من قذيفة انفجرت قرب امللجأ (( وعلى‬ ‫الرغم من مرور عشرين عاما على انتهاء الحرب إال أن ذلك الدم لم يزل‬ ‫ينزف بين يدي كلما رايتها على عتبة الباب ‪))...‬‬ ‫وحين جاءت سيارة اإلسعاف متأخرة حملته لوحدي إليها ‪ ..‬حينذاك لم‬ ‫يمنحني سوى ابتسامة خاطفة من شفتين معبقتين برائحة الهيل ‪ ..‬قبل‬ ‫أن تصعد روحه الطاهرة نحو السماء من دون أن يتساقط من فمه‬ ‫السمسم‪..‬‬ ‫كان إيقاع القصف يزداد كثافة ووحشية والقذائف تتساقط هنا وهناك‬ ‫كالندم ‪ ..‬إحداهن انفجرت قرب سيارة اإلسعاف فتالش ى االثنان من بعيد‬ ‫إلى قطع صغيرة ‪ ..‬السيارة ‪ ..‬وجثمان الشهيد حامد الذي أصر آمر وحدتنا‬ ‫– كما قيل لي فيما بعد – على تسجيله في سجل املفقودين ‪ ..‬على الرغم‬ ‫من مكاملتي الهاتفية له من املستشفى وشهادتي له بما حصل لحامد‪ ..‬وأنني‬ ‫على الرغم من إصابتي الشديدة كنت مستعدا ألخذه إلى مكان االنفجار ‪..‬‬ ‫حيث لم أزل اذكر أين سقط منه خاتم الخطوبة ‪ ..‬بعد أن انفلت من‬ ‫اصبعه املقطوعة ‪ ...‬لكن الضابط بعناده املخضرم املعروف ومكابرته‬ ‫العسكرية أصر على رأيه الخاطئ ‪ ..‬ففي الحرب تتناسل األخطاء بسرعة‬ ‫وال مجال للتصحيح أو التراجع كما كان يردد على مسامعنا دوما ‪...‬‬ ‫‪21‬‬


‫كان تناثر جثمان حامد هو آخر منظر رايته في تلك الحرب قبل أن‬ ‫أجد نفسي محموال كدمية ممزقة األطراف في سيارة إسعاف أخرى‬ ‫سارت بسرعة هستيرية نحو املستشفى املتنقل في الخطوط الخلفية‬ ‫‪..‬لتنتشلني من بركة دم أغرقتني فيها إحدى القذائف ‪..‬‬ ‫ثم بعد اقل من نصف ساعة ‪ ..‬نقلت إلى املستشفى الكبير في املدينة‬ ‫حيث خرجت بعد شهرين بيد واحدة‪ ..‬وساق اصطناعية بليدة باردة مع‬ ‫عكاز ثقيل‪ ..‬أمر بهم مساء كل يوم أمام ( ام حامد ) املزخرف وجهها‬ ‫بالشيخوخة والصبر ‪ ..‬تراني وتتعجب من عودتي وحيدا ‪ ..‬فتلملم عباءتها‬ ‫باحتجاج وتنهض استعدادا لليوم الثاني بانتظار عودة حامد برفقتي ‪ ..‬فهي‬ ‫تقول لي معاتبة حين تستوقفني أحيانا ‪ (( :‬ألم تذهبا للحرب معا ‪ ..‬فال‬ ‫بد أن تعودا معا أيضا في يوم ما ‪ ..‬وإن كنت سبقته في العودة منذ عشرين‬ ‫عاما ‪ ..‬فلعله لم يجد حتى اآلن حافلة للعودة إلى املوصل ‪))...‬‬ ‫في املقهى املكتظ بالعاطلين عن العمل ‪ ..‬صباح اليوم‪ ..‬وألول مرة ‪..‬‬ ‫كنت أفكر جديا بما تقوله لي ( أم حامد ) وأنني ربما عدت إلى املكان‬ ‫الخاطئ وانه كان األجدر بي أن ال أتسرع بالعودة إال معه كما وعدتها !! ‪..‬‬ ‫أو أن الحق به إلى حيث ذهب ‪ ..‬فأنا منذ عودتي قبل عشرين عاما لم‬ ‫أجد في بيتي سوى هذه الساق االصطناعية البغيضة التي تنتظرني قرب‬ ‫السرير ‪ ..‬وهذا النزيف الذي لم يتوقف في ذاكرتي ‪ ..‬لكن هل ثمة فرصة‬ ‫لتصحيح األخطاء التي ترتكبها حرب ‪ ..‬يبدو أن العقم ال يصيبها أبدا ‪..‬يا‬ ‫أم حامد‪..‬‬

‫‪22‬‬


‫حبثا عن عمل مناسب‬

‫‪23‬‬


‫في الصباح‪ ،‬دقت الساعة دقتها التاسعة بكسل كالعانس‪ ..‬سمعتها‬ ‫بصعوبة وسحبت جسدي النحيل الثقيل من تحت قماش الغطاء األبيض‬ ‫البارد‪ ..‬ربما كانت رائحة الغرفة كريهة‪ ،‬حاولت الوقوف متكئا على ركبتي‪،‬‬ ‫ولقد وقفت ‪..‬إنها معجزة!‬ ‫واجهت عيني مباشرة املرآة املعلقة على الحائط املتصدع في غرفة‬ ‫مستطيلة خلت من كل ش يء باستثناء جسدي والغطاء األبيض واملرآة‬ ‫ولوحاتي‪ .‬هذه املرآة منحتني فرصة مجانية للتأكد من أحوال التضاريس‬ ‫التشكيلية لوجهي ‪ ..‬ذلك املصفر البارد الذي لم أره منذ مدة طويلة‪..‬‬ ‫ثالثة أيام‪ ..‬أو ثالثة عشر عاما‪ ..‬لست أدري‪ ..‬أذني كانت موجودة‪ ..‬ملستها‬ ‫حين كنت أستعد للمغادرة نحو العمل في العاشرة والنصف من صباح‬ ‫هذا اليوم‪ .‬لكنني أحسست أنه وجه قبيح ال يصلح مع وظيفتي في‬ ‫االستعالمات التي اكرهها‪ ..‬لكن الوقت كان يركض وااللتزام الدقيق بموعد‬ ‫العمل كابوس يطاردني ويجبرني على التفكير به بدال من االنشغال بهذا‬ ‫الوجه القبيح‪.‬‬ ‫خرجت من الغرفة مسرعا نحو فناء البيت الفارغ املعطر بالبخور‪،‬‬ ‫فلم أجد أحدا‪ .‬لقد ذهب الجميع إلى أعمالهم‪ .‬اجتزت الطريق نحو الباب‬ ‫الخارجي وتعثرت بأكثر من قنينة بالستيكية فارغة مرمية بشكل عشوائي‬ ‫هنا وهناك‪.‬‬ ‫في الشارع الذي تجعد جلده األسود تحت الشمس كانت أطرافي شبه يابسة‬ ‫تعرقل رغبتي باملش ي سريعا كما كنت أفعل عادة‪ ،‬ولذلك قررت صعود أول‬ ‫حافلة تصادفني في الطريق إلى العمل‪ ..‬لكن الحافلة األولى مرت مسرعة‬ ‫بما فيها من آالف الركاب فوق مشط قدمي‪ ،‬أما الحافلة الثانية فإنها‬ ‫‪24‬‬


‫أبطأت السير قليال عند اقترابها مني لكنها سرعان ما تجاهلتني وكأنني غير‬ ‫موجود في أرض الشارع‪.‬‬ ‫الحافلة الثالثة مرّ ت بأكملها فوق جسدي فوجدت صعوبة بالغة في‬ ‫التنفس وأنا أجد نفسي محشورا للحظات بين عجالت الحافلة وتجاعيد‬ ‫الشارع تكاسلت عن الصراخ ألنه غير مفيد في مثل هذه املواقف املألوفة!‬ ‫ظل جسدي مرميا وسط الشارع تحت الشمس فترة من الزمن لم تنفث‬ ‫خاللها مساماته قطرة عرق واحدة‪ ..‬كان جسدي مترددا بين النهوض أو‬ ‫البقاء على وضعه‪ ..‬وحين نهض تساقطت منه أوساخ علقت به من عجالت‬ ‫الحافلة‪.. .‬وثمة رضوض تجاهلتها كي الحق بالحافلة العاشرة التي علقت‬ ‫مؤخرتها بيدي من دون قصد حين رفعتها ألدفع ضوء الشمس عن عيني‪..‬‬ ‫وسرعان ما انحشرت في الحافلة ذات املحرك الصاخب الذي يبصق‬ ‫الدخان في الفضاء كالتنين الهائج‪.‬‬ ‫فزت بموقع اصبع صغير في املمر بين املقاعد املزدحمة بالركاب الجالسين‪،‬‬ ‫في الممر تكدس آخرون؛ منهم من حصل مثلي على موقع اصبع‬ ‫صغير‪ ،‬أو فاز بإصبعين أو ثالثة من مساحة املمر‪ ..‬وأفضل الواقفين‪..‬‬ ‫من كان يملك موقع قدم ‪.‬‬ ‫كانت يدي مثل أيدي اآلخرين‪ ،‬مصلوبة نحو األعلى حيث يوجد سقف‬ ‫الحافلة األزرق اللون الذي تتكئ عليه أصابع الجميع املفتوحة امللتصقة‬ ‫به بقوة كي ال يسقط أصحابها‪ .‬ظل صوت محرك الحافلة سيدا مهيمنا‬ ‫على املكان‪ ،‬كان يثرثر بلغة غير مفهومة‪ .‬اكتفينا جميعا بالصمت واالنتظار‬ ‫داخل هذه العلبة املستطيلة التي تسير بنا‪.‬‬

‫‪25‬‬


‫في إحدى املحطات ظننت َّأن جسدي أصبح مهددا بالتخلي عن‬ ‫موقع اإلصبع الصغير الذي ال يملك سواه حين صعدت امرأة تتلوى في‬ ‫عينيها التماعة أنوثة ثالثينية جذابة‪ ،‬يحاصرها كحل شديد السواد مثل‬ ‫لون فستانها‪ ،‬لكنها لم تختر مجاورة اصبعي بعد أن تخلى لها عن موقع‬ ‫نصف قدم شاب أنيق ممن كانوا يملكون في ممر الحافلة موقع قدم‪..‬‬ ‫كانت مالبسه معطرة بنحو مبالغ فيه‪.‬‬ ‫والعجيب في هذه الرحلة الغامضة‪ ،‬أن الجالسين ذوي البطون‬ ‫املنتفخة كانوا شبه منقطعين عن اإلحساس بحال الواقفين‪َّ ،‬‬ ‫وأن الحافلة‬ ‫كلما توقفت في محطة جديدة رأيت الكثير من النسوة املتشحات باملالبس‬ ‫السود يصعدن فيها َّ‬ ‫وهن يحملن قناني بالستيكية فيها سائل شفاف‪ ،‬كلما‬ ‫اختضت القنينة تكورت قطراته على جدرانها الداخلية سائلة مثل الدموع‪.‬‬ ‫وحين توقفت الحافلة عند املحطة األخيرة في منطقة عارية إال‬ ‫من الحجارة والتراب والشمس والنخيل املحترق وبقايا العظام‪ ،‬توجب علينا‬ ‫النزول‪ ،‬فقد انتهى خط سير الحافلة كما قال السائق ذو الصوت الجهوري‬ ‫الذي كان يحص ي النقود بين أصابعه أمام إحدى النساء ممن فسحن‬ ‫الفرصة لتورد خفيف على الوجنتين ويرغبن بالبقاء في الحافلة التي‬ ‫استدارت بسرعة نحو الوراء‪ ..‬وحجبت بدخانها األسود طريق الرجوع‬ ‫خلفنا‪..‬‬ ‫انتشرت جموع النساء كحشود من النمل األسود في أرجاء تلك‬ ‫املنطقة‪ ،‬وهن يحملن القناني البالستيكية التي وجدت أكثر من امرأة‬ ‫تفتحها سرا في أثناء السير وتحت العباءة تبلل بالسائل الشفاف عينيها‪..‬‬

‫‪26‬‬


‫ثم رأيت أولئك النسوة يتجمعن بصورة حلقات صغيرة‬ ‫ويجلسن حول قمم ترابية ترتفع قليال عن األرض‪ ..‬أما أنا فقد أمسيت‬ ‫مصلوبا لوحدي واقفا في تلك البقعة من األرض الصفراء التي تحلق في‬ ‫فضائها الغربان‪ ..‬ال أدري ماذا أفعل وال أعرف الدور الجديد الذي سأكلف‬ ‫به‪ ..‬ثم تذكرت فجأة موعد العمل فارتجفت من الرعب وارتبكت وبدأت‬ ‫تهاجم ذاكرتي صور عديدة‪ ،‬مثل شريط لألخبار‪ ،‬بصعوبة كنت أميز هوية‬ ‫أصحابها‪ ..‬فتلك صورهم‪ ..‬وتلك‪ ..‬ال‪ ..‬إنها صورة امرأة ربما أعرفها‪ ..‬بل‬ ‫هي نفسها أنا ال أنس ى فستانها األنيق األبيض وضحكتها الهادئة وشعرها‬ ‫املنثور بتلقائية على كتفيها‪ ..‬تلك هي نفسها التي هجرت املدينة إلى أطرافها‬ ‫لتسد فراغا شاسعا في السرير املزدوج الذهبي ألحدهم‪ ..‬صور أخرى‪..‬‬ ‫ألولئك‪ ..‬لهن‪ ..‬ألحد األصدقاء ذلك الذي استدان مني حذاء واختفى‪..‬‬ ‫تركني حافيا حتى هذه اللحظة‪.‬‬ ‫بعد قليل أمست الصور تظهر مشوهة غير واضحة املعالم‪ ..‬وجدت‬ ‫الظالم يحاصرني من الجهات كلها فوق هذه األرض القاحلة‪ ..‬كنت أسمع‬ ‫أصواتا غريبة في أذني‪ ..‬تمنيت لو أني اقطعها لكنني انتبهت إلى نفس ي‪..‬‬ ‫حين دقت الساعة بنشاط دقتها العاشرة في ساعتي اليدوية التي كانت‬ ‫رفيقي الوحيد‪ ..‬بعد خروجي من البيت صباحا‪.‬‬ ‫وجدت جسدي يتسلل بأطرافه الثقيلة اليابسة نحو بقايا بيت طيني مهدم‪..‬‬ ‫ثم يستقر في حفرة عميقة مستطيلة وسط األرض الجرداء‪ ..‬نزلت فيها‬ ‫وتمددت من دون أية عوائق‪ ..‬كانت مقاسات الحفرة تناسب حجم جسدي‬ ‫بدقة‪ ..‬أحسست وكأنني أعود إلى سريري‪ ..‬أو كأنني أجد –أخيرا‪ -‬الدور‬

‫‪27‬‬


‫املناسب لوجودي في هذه األرض الصفراء‪ ..‬بدال من عملي السابق املكروه‬ ‫في االستعالمات‪.‬‬ ‫تراخت أطراف جسدي بسرعة‪ ..‬فنمت نوما عميقا جدا‪ ..‬لم تزرني فيه‬ ‫الكوابيس املخيفة التي كثيرا ما أرقتني‪ ..‬وعلى العكس من‬ ‫ذلك حلمت بحبيبتي قادمة إلي بشعر غجري منثور وفستان برتقالي اللون‬ ‫وعباءة قروية مذهبة الحواش ي‪ ..‬تخفي تحت سوادها قنينة ماء بالستيكية‬ ‫صغيرة ‪..‬‬

‫‪28‬‬


‫جرد سنوي‬

‫‪29‬‬


‫في الساعة الثامنة تماما على عجل تأتي ‪ ،‬وأحيانا تأتي قبل الثامنة ‪،‬‬ ‫لها منضدة دائرية تضع فوق خشبها القاحل زهورا اصطناعية ‪،‬‬ ‫ومنفضة زجاجية نظيفة ‪ ،‬لم تستضف حتى اآلن عقب (سيكار) واحد ‪،‬‬ ‫ولها كرس ي أخفيت كسوره الثالثون تحت قماش قد بهت لونه األخضر ‪،‬‬ ‫ولها صباح للخير من عدة شفاه ‪ ،‬وعيون ‪ ،‬وألسنة ‪ ،‬ولها نافذة صغيرة‬ ‫‪ ،‬تفصل بين غرفتها والشارع ‪ ،‬وبين وجهها واملراجعين ‪ ،‬تمسح غبارها‬ ‫املتراكم فوق الزجاج أنفاس املراجعين الساخنة ‪ ،‬وفي أحيان أخرى‬ ‫تمسحها قطرات املطر إذا ما فكرت بفتح أبواب النافذة نحو الشارع الذي‬ ‫انتصبت فوق الرصيف املحاذي له شجرة للتفاح ‪.‬‬ ‫تجلس في غرفتها املستطيلة مثل خمسين امرأة أخرى في غرف مستطيلة‬ ‫أخرى ‪ ،‬بجوار غرفتها املستطيلة ‪.‬‬ ‫تجلس بوجه نحته الصمت ‪ ،‬وأصابعها تعبث بقلم جاف ‪ ،‬يرسم باللون‬ ‫األسود دوائر عشوائية على قصاصات ورقية مصفرة فارغة ‪ ،‬كانت قد‬ ‫جلبتها منذ مدة طويلة للمالحظات املهمة ‪.‬‬ ‫تجلس وتحدق حتى الساعة الواحدة ظهرا في التقويم السنوي ‪ ،‬الذي‬ ‫يحرص الجميع هنا على شرائه ‪ ،‬وتعليقه على جدران الغرف ‪ ،‬والذاكرة‬ ‫‪ ،‬واملمرات ‪ ،‬واملصعد ‪ ،‬أو حمله في الجيوب بصورته املصغرة ‪.‬‬ ‫تجلس ‪ ،‬وتفتش في التقويم بحرص عن عيد العمال ‪ ،‬وأيام الجمع ‪،‬‬ ‫وتتجنب النظر إلى يوم الخميس ‪ ،‬وتعد على أصابعها في الظلمة تحت‬ ‫املنضدة ‪ ،‬نهاية كل شهر ‪ :‬نقود الراتب ‪ ،‬والصديقات املخلصات في العمل‬ ‫‪ ،‬والصديقات املزعجات ‪ ،‬والفساتين التي استهلكت ‪ ،‬أو انتهت موضتها ‪،‬‬

‫‪30‬‬


‫أو رحلت إلى دوالب اختها الوسطى ‪ ،‬التي كانت ترتديها ‪ ،‬أو تصنع منها‬ ‫أثوابا صغيرة لدمى اختها الصغرى ‪.‬‬ ‫تجلس وترى في اصبعها اإلبهام ‪ ،‬الذي قشط طالء ظفره ‪ ،‬صورة للمدير‬ ‫العام ‪ ،‬القصير ‪ ،‬األصلع صيفا وشتاء ‪ .‬أحيانا تفكر سرا بإجراء بعض‬ ‫التغييرات في ترتيب أيام االسبوع ‪ ،‬فتستبدل بيوم السبت يوم األحد ‪ ،‬أو‬ ‫بالعكس ‪ ،‬أو تستبدل باالثنين األربعاء أو الثالثاء أو الخميس ‪ ،‬وأحيانا‬ ‫تستبدل بيوم الثالثاء أيام األسبوع جميعها ‪ ،‬لكنها ال تفكر أبدا بإضافة‬ ‫يوم ثامن جديد إلى أيام األسبوع ‪.‬‬ ‫يقول عنها املدير العام نهاية كل شهر ‪(( :‬إنها تستحق مكافأة)) ويقول –‬ ‫بالطبع – الش يء نفسه عن زميالتها ‪ ،‬لكن املكافأة تبقى طوال العام في‬ ‫خزانة املدير العام ‪.‬‬ ‫يقول املحاسب عنها ‪(( :‬إنها أمينة)) ‪ ،‬ويقول الفراش ‪(( :‬إنهـا تمتاز بالكرم‪،‬‬ ‫وهي موظفة عطوف)) ‪ ،‬وتقول عنها أقرب صديقاتها ‪(( :‬إنها متزنة ‪ ،‬وأنيقة‬ ‫جدا)) ثم تضيف ((إنها أجمل مني … ولكنني حقيقة … أحترمها وأتمنى‬ ‫لها الخير)) ‪.‬‬ ‫يقول لها موظف االستعالمات ‪(( :‬صباح الخي ـ ـ ــر)) ويمد بلسانها املرتخي‬ ‫صوت الياء ‪..‬‬ ‫وسيقول لها ذلك أيضا ‪ ،‬خالل العام القادم ‪ ،‬أو بعد ثمانية أعوام ‪ ،‬أو‬ ‫أكثر ‪ ،‬أو أقل ‪ ،‬مثلما قال لها ذلك ولزميالتها قبل أيام ‪ ،‬أو أسابيع ‪ ،‬أو‬ ‫سنوات ‪.‬‬ ‫ذات مرة …‬ ‫‪31‬‬


‫وبينما كانت تجلس لوحدها ‪ ،‬تستعد للتحديق في التقويم السنوي ‪ ،‬ورائحة‬ ‫التفاح الناضج ‪ ،‬تتسرب إليها من الشارع عبر النافذة ‪ ،‬التي فتحت أبوابها‬ ‫نحو الخارج بفعل أحد أكثر املراجعين ترددا عليها … فكرت وألول مرة‬ ‫بأن تصغي ملا سيقوله لها ‪ ،‬قلبها ‪...‬‬ ‫وفعال أصغت بكل تركيز ‪ ،‬ولهفة ‪ ،‬لصوت قلبها ‪ ،‬من الفتحة الصغيرة‬ ‫لقميصها األسود ‪ ،‬فلم تسمع شيئا !‬

‫‪32‬‬


‫عصا ‪ ..‬ومملكة ‪ ..‬وكرة‬

‫‪33‬‬


‫عصاه تندلق أوال من باب بيته نحو الزقاق الموصلي القديم‬ ‫‪,‬يليها كرشه الكروي ‪ ,‬فبرميل النفط الصغير الذي اتخذ منه كرسيا‬ ‫يجلس فوقه أمام عتبة الباب يوميا منذ الساعات األولى للصباح وحتى‬ ‫ظهور اللمسات األولى املعتمة للمساء ‪..‬‬ ‫حدود مملكته الصغيرة التي يحكمها من فوق البرميل تمتد داخليا من بيته‬ ‫الشرقي الصامت الذي ال يشغل فضاء غرفته الوحيدة سوى سرير حديدي‬ ‫ورثه عن والدته‪ ,‬وبضعة أوان بسيطة للطعام ‪..‬أما حدودها الخارجية فإنها‬ ‫ال تتجاوز أمتارا قليلة محيطة بواجهة البيت وتشطرها ساقية الزقاق إلى‬ ‫رصيفين يخضعان لسلطة النظافة الصارمة التي يفرضها العم (نوري )‬ ‫يوميا على كل شبر من الرصيفين ‪ ..‬فيمنع أي ش يء من األوساخ أو املهمالت‬ ‫من املكوث فوقهما ‪...‬حتى تجاوز حرصه على النظافة الحد املعقول ودخل‬ ‫في إطار الفعل الوسواس ي الذي جعله مناسبة للتندر عليه من أهل الزقاق‬ ‫‪....‬‬ ‫يتناثر حقل خفيف من الشعر األبيض على ذقنه‪ ..‬ويمتد البياض‬ ‫نحو األعلى ليحاصر صلعته الدائرية التي بدأت تكبر مساحتها وسط رأسه‬ ‫الكروي الكبير الذي أحس به مترنحا ما بين اليمين واليسار كلما‬ ‫نهض‪....‬حتى أنني أتوقع تدحرجه في أية لحظة نحو ظهره الذي يكاد يكتمل‬ ‫تقوسه لوال العصا التي يتكيء عليها‪ ,‬وتمنح عموده الفقري شيئا من‬ ‫االستقامة ‪,‬وهي نفسها التي يمارس بمساعدتها طقوسه اليومية منذ أكثر‬ ‫من خمسة وعشرين عاما‪ ,‬وبها يدفع أي جسم غريب من املهمالت من‬ ‫حصاة أو حجارة أو عقب سيجارة يتطفل على جانبي الرصيف ‪..‬وبرأسها‬ ‫املعدني املدبب يعبد مجرى املاء في ساقية الزقاق ‪...‬‬

‫‪34‬‬


‫منذ أعوام غادر اللون قميصه القاحل الوحيد حتى لم نعد نذكر‬ ‫اللون األصلي الذي كنا نلمحه عليه في أيام طفولتنا ‪..‬أما ذيل القميص‬ ‫فانه يغيب في سرواله الفضفاض الرمادي القاحل لتتراجع أطرافه عند‬ ‫األسفل نحو األعلى بهيئة انثناءات متتالية كاشفة عن ساقين مقوستين‬ ‫تجعالن من مشية العم(نوري) مرجوحة ال تهدأ لوال العصا التي صاحبته‬ ‫في السنوات األخيرة ‪...‬‬ ‫ال أسرة للعم( نوري) سوى العابرين أمامه من املارة‪...‬يتشبث‬ ‫بلحظات مرورهم الخاطف من أجل الحصول على كلمتين قد تقتصران‬ ‫على رد السالم‪ ,‬أو قد تزيدان عليه بسؤال سريع عن الوقت يتكرر يوميا‬ ‫‪....‬ويجعلني أزيد من سرعة خطواتي حين أمر به صباحا ‪ ..‬لعله يستثنيني‬ ‫من هذا االضطهاد اليومي ‪..‬فاالهتمام بقيمة الزمن آخر ما أتوقعه من‬ ‫رجل مثله ‪..‬عاطل عن كل ش يء ‪..‬باستثناء التنفس‪...‬والقلب النظيف‪..‬‬ ‫ومن هذه األسرة العابرة من يقدم له رغيفا من الخبز الحار ‪..‬أو‬ ‫تفاحة ‪..‬أو أي ش يء يؤكل مما يحمله املارة العائدون من أعمالهم ‪..‬أو من‬ ‫جولة للتبضع في السوق ‪...‬‬ ‫أما جيرانه من النساء فإنهن اليبخلن عليه بماعون من الطعام ظهرا‬ ‫أو مساء ‪,‬وجاره األقدم(أبووسام) الضابط املتقاعد يجلس أحيانا قربه‬ ‫على برميل آخر يبادله الحوار ويعيد عليه بنشوة سرد أسرار الحروب التي‬ ‫خاضها قبل أن تشل ذراعه شظية من الحرب األخيرة ‪,‬لتقذفه نحو طوابير‬ ‫املتقاعدين‪ ,‬وإذا ما غادر الضابط عند الظهيرة فان الحمال الشاب( صابر)‬ ‫يجد في ظل بيت العم (نوري) مكانا الستراحة قصيرة من عناء سحب عربة‬ ‫‪35‬‬


‫( النخالة ) الثقيلة التي ورثها من والده املفقود في حرب أخرى غير التي‬ ‫شلت ذراع الضابط ‪ .....‬وعادة ال يكف العم( نوري) من دون قصد عن‬ ‫تكرار أسئلته االستفزازية لصابر حول مقدار ما يكسبه من عربة (‬ ‫النخالة) ‪..‬لكن الظل البارد املتسرب في ثنايا جسد صابر املتعب يثمر‬ ‫ابتسامة هادئة يردفها بقسم للعم( نوري) مؤكدا بان ما يكسبه ال يكاد‬ ‫يغطي نفقات عائلته الكبيرة‪..‬‬ ‫ومن هذه األسرة أيضا أطفال الزقاق الذي ال يكرههم ‪ ...‬لكنه‬ ‫ال يحب ألعابهم املشاكسة حين تقترب من حدود مملكته السيما لعبة كرة‬ ‫القدم ‪..‬لذلك هم ينفرون منه‪.....‬ويزداد نفورهم منه حين يكلف احدهم‬ ‫بحمل سالل األوساخ لرميها بعيدا عن حدود مملكة النظافة التي يقيمها‬ ‫حول بيته ‪....‬‬ ‫منذ سنوات عديدة يجلس يوميا على برميله األزرق ‪...‬مرت به مئات‬ ‫الوجوه‪ ..‬املعروفة له ‪..‬والغريبة عنه ‪..‬وجوه عجائز وكهول ‪ ،‬وجوه‬ ‫فضوليين وشباب ولصوص وأطفال ونساء ومجانين وطلبة وأرامل ومشردين‬ ‫ومطلقات ‪..‬أثرياء وفقراء ‪..‬عمال وعاطلون عن العمل ‪..‬جنود يعرفهم‬ ‫وآخرون غرباء‪..‬‬ ‫مرت به جنائز شهداء ومواكب عرائس ‪ ..‬وأسراب نمل ‪..‬وحمام‬ ‫‪..‬وغيوم‪ ..‬وغبار‪ ..‬وطائرات ‪..‬وكالعادة فان الدوام الرسمي للعم( نوري)‬ ‫ينتهي بحلول املساء ‪..‬باستثناء هذا اليوم ويبدو لي انه قد أضاف ساعات‬ ‫أخرى على جدوله ‪,‬فحين مررت ببيته بعد أذان العشاء تفاجأت بوجوده‬ ‫أمام البيت ‪ ..‬ألقيت التحية عليه لكنني لم اسمع الرد املعتاد منه ‪..‬ظننت‬ ‫‪36‬‬


‫أن الشيخوخة قد بدأت تسلبه الكثير من طاقات حواسه ولعل أولها‬ ‫السمع ‪..‬وربما لم يرني جيدا وسط الزقاق شبه املظلم ‪..‬ومع ذلك فإنني‬ ‫بعد أن اجتزت بيته بأمتار قليلة التفت إليه أل تأكد من وجوده أوال‪ ..‬فربما‬ ‫هو غير موجود‪ ...‬وأنا توهمت رؤيته ألني تعودت على مكانه هنا ‪...‬لكنني‬ ‫ملحته جالسا وقد اتكأ‪ -‬على غير عادته – بجبهته على اليد املقوسة للعصا‪..‬‬ ‫لم أكن راغبا بحمل املزيد من الهواجس والظنون بشأن تفسير صمته‬ ‫‪..‬فمضيت اشق طريقي وسط الظالم في طريقي نحو البيت ‪...‬استعدادا‬ ‫لصوم اليوم األخير من رمضان‪..‬‬ ‫بعد نصف ساعة تزين الزقاق بالضوء الساطع بعد عودة التيار‬ ‫الكهربائي الذي أنس ى األطفال الحظر الذي يفرضه العم(نوري) على لعب‬ ‫الكرة في أثناء وجوده فخرجوا فرحين يتبادلون فيما بينهم ضرب الكرة‬ ‫الصغيرة التي سرعان ما تدحرجت من دون قصد نحو بيت‬ ‫العم(نوري)لترتطم به وبعصاه فيسقطان معا ‪..‬‬ ‫توقف الصغار ينظرون من بعيد ‪..‬مذهولين ‪..‬مما حصل ‪ ...‬فهم لم‬ ‫يتوقعوا وجوده في مثل هذا الوقت ‪..‬ولم تلبث دهشتهم أن تالشت حين‬ ‫هرب احدهم راكضا نحو بيته في آخر الزقاق تبعه آخرون ‪..‬ممن باغت‬ ‫َ‬ ‫انطالقتهم الظالم حين انقطع التيار الكهربائي ثانية ‪..‬‬ ‫ومثلما لم تثر حياته أية ضجة عند املئات ممن عرفوه أو من الغرباء‬ ‫ممن مروا به‪ ..‬فإن رحيل العم (نوري) لم يثر أيضا أية ضجة في الحي‬ ‫سوى تلك التي انبعثت لثوان من صوت ارتطام عصاه وجسده باألرض‬ ‫مساء بعد أصطدمت الكرة بهما وكشفت غموض صمته املريب الذي لم‬ ‫أفقه سره‪..‬‬ ‫‪37‬‬


‫تبرع بعض شباب املقهى القريب بحمل الجنازة إلى الجامع بعد أن‬ ‫طلب منهم ذلك الضابط املتقاعد وقمت بمساعدتهم ‪ ..‬واستأجر صابر‬ ‫الحمال سيارة لنقلها إلى مقبرة ما في أطراف املدينة ‪ ..‬بعيدا جدا عن بيته‬ ‫وأسرته!! ‪..‬وأطفال الزقاق الذين تركوا الكرة تتدحرج ببطء خلف جنازة‬ ‫(العم نوري) في الشارع املنحدر نحو منعطف تراكمت على جانبيه املهمالت‬ ‫‪ ....‬في ليلة العيد‪..‬‬

‫‪38‬‬


‫شوكوالتة مغطسة باحلـ‪ ...‬رب‬

‫‪39‬‬


‫لم ألتق بالقلة ممن أعرفهم منذ يومين ‪..‬فقد قررت البدء بالتمهيد‬ ‫لقرار العزلة التامة الذي أرغب بتجربته‪ ..‬أقفلت باب املنزل ورائي بعد‬ ‫أن عدت من السوق محمال بمؤونة تكفي لعشرة أيام أو أكثر بما في ذلك‬ ‫الطعام الخاص بأنثى طائر الكناري التي احتفظ بها في قفص رصاص ي‬ ‫اللون وكنت قد تلقيتها هدية من أرملة تسكن بجواري حين عدت ساملا‬ ‫من الحرب األخيرة ‪ ..‬التي قيل بأنها توقفت‪..‬‬ ‫ولكي أحدد بداية العزلة بدقة كنت قد تعمدت الوصول إلى البيت في‬ ‫الساعة الثانية ظهرا حيث ال أتوقع أن أصادف أحدا في الزقاق املحترق‬ ‫بلهيب منتصف تموز‪...‬ومن هذه اللحظة سأبدأ رسميا االنسالخ عن العالم‬ ‫الخارجي تماما‪........‬‬ ‫قبل ذلك ‪..‬كنت قد أخذت إجازة ملدة اسبوعين من مدير دائرة البريد‬ ‫التي أعمل فيها‪..‬مانع املدير بشدة في أول األمر لكنه وافق على طلبي بعد‬ ‫أن شرحت له أسباب اإلجازة ‪،‬على الرغم من أنها لم تكن األسباب‬ ‫الحقيقية ‪،‬فقد أخبرته بأنني سأقوم ببعض الترميمات املعمارية في داري‬ ‫القديم الذي ورثته من والدي ‪ ..‬أعلم أن الكذب مجازفة ال تليق بي فيما‬ ‫لو زارني املدير في الدار‪ ،‬وقد فعل ذلك مرتين سابقا ‪،‬في األولى تعرف على‬ ‫الدار حين أصبت بشظية صغيرة كادت تخترق أعماق أذني وتجهز تماما‬ ‫على االتصال السمعي بيني وبين العالم ‪،‬وفي الثانية تعرف على جارتي‬ ‫األرملة‪............‬‬ ‫لكنني مصر على مغامرة العزلة التامة أيا كانت النتائج‪....‬‬ ‫الخطوة الثانية في عزلتي هي االستلقاء ممدا على بطني فوق السرير‬ ‫الحديدي والبدء بالتأمل في سيرتي الذاتية ومراجعتها ربما بحثا فيها عما‬ ‫‪40‬‬


‫يصفه مديري – مازحا‪ -‬بالخطأ التاريخي التعيس الذي أدى إلى قذفي نحو‬ ‫دائرته ذات يوم بمعطف قاحل‪ ،‬صحراوي اللون ووجه بال مالمح مميزة‪.....‬‬ ‫باشرت باالستذكار بدءا من مرحلة الطفولة التي بعثرت نصف سنواتها‬ ‫األولى في سطح الدار لوحدي أشن الحروب واحدة تلو األخرى ما بين‬ ‫األلعاب التي أهديت لي في عدة مناسبات ‪ ،‬وأغرتني بلعبة الحرب األل ــعاب‬ ‫نفسها !!‬ ‫فمازلت أتذكر تلك الطائرة املقاتلة الصغيرة التي جلبها لي والدي في‬ ‫إحدى إجازاته الدورية ‪،‬وكذلك تلك الدبابة‪...‬بل الدبابتان‪...‬فاألولى هدية‬ ‫من إدارة املدرسة ألني كنت أفضل طالب في االنضباط واملواظبة على‬ ‫الدوام على الرغم من أنني لم أكن من الطلبة املتفوقين ‪..‬وقد تعطلت هذه‬ ‫الدبابة مرة بفعل القصف !!والدبابة الثانية جلبها عمي هدية لي حين‬ ‫اندلعت إحدى الحروب ‪ ......‬وثمة ألعاب أخرى ‪ ..‬مسدسات‬ ‫بالستكية ‪..‬رشاشات‪ ..‬مدافع تجرها مركبات ‪..‬سيوف كأنها حقيقية‬ ‫بنقوشها الجميلة ‪ ..‬وفي كثير من األحيان كنت أنس ى األلعاب فوق السطح‬ ‫وأنزل مهروال عند حلول املغيب ‪،‬ألجدها في الصباح متناثرة بفعل الرياح‬ ‫أو األمطار أو فضول القطط الليلية ‪ ..‬وربما بفعل العدو‪....‬الذي كنت‬ ‫أتخيل وجوه جنوده بأشكال شتى ‪...‬‬ ‫كنت أتعجب من هذه األلعاب التي لم تتعب من الحرب والشجار فيما‬ ‫بينها طوال الليل وهي التي كانت تتقاتل طوال النهار أمامي ‪..‬لكن ما كان‬ ‫ينقصني في لعبة الحرب هو الجثث ‪..‬ومرة وجدت في قط جارنا امليت الهزيل‬ ‫جثة مناسبة لتعبر فوقها دبابتي ‪..‬رفضت الفكرة في البداية ‪ ..‬لكنني حين‬

‫‪41‬‬


‫نفذتها شعرت بنشوة النصر‪ ..‬حتى أنني احتفلت ملتهما قطعة كبيرة من‬ ‫الشوكوالته ‪!!..‬‬ ‫اذكر أنني في أول أيامي في املدرسة االبتدائية عدت مسرعا برفقة‬ ‫ابنة الجيران ذات العيون الخضر التي أطبقت بيدها الناعمة على يدي‬ ‫وقادتني نحو البيت بعد أن تناثر زجاج النافذة في القاعة الدراسية بفعل‬ ‫غارة جوية عنيفة‪...‬‬ ‫مازلت احتفظ للذكرى بقطعة صغيرة من جناح تلك الطائرة التي‬ ‫تحطمت فيما بعد قريبا من املدرسة‪ ،‬وكنت أعلق تلك القطعة لوحدها‬ ‫على الحائط املحاذي للممر الداخلي أمام باب الدار ‪..‬ومرة ملحتها جارتي‬ ‫األرملة من الباب ونصحتني برميها في سلة املهمالت‪.......‬‬ ‫سقف الغرفة الرطب الذي أتأمل فيه مستذكرا املاض ي أثار في ذاكرتي‬ ‫صورة لسقف آخر في اإلعدادية ‪ ..‬قمنا بطالئه باللون الرصاص ي أنا وبعض‬ ‫الطالب ‪..‬فقد كان طالؤه القديم األصفر يتناثر فوق رؤوسنا كلما اهتزت‬ ‫بناية اإلعدادية في لحظات القصف الذي كنت اشعر بأنه لن يتوقف أبدا‪..‬‬ ‫طوال السنوات القادمة ‪..‬ومنذ أن بدأ مع أول قنبلة جربت إسقاطها‬ ‫بطريقة القصف العنيف فوق الدبابة املهداة لي من إدارة املدرسة‪.....‬‬ ‫وكانت القنبلة عبارة عن حجارة ضخمة من الجص اقتلعتها من جدار‬ ‫السطح القديم‪..‬‬ ‫فترة االمتحانات الوزارية في مرحلة السادس اإلعدادي كانت عصيبة‬ ‫جدا اضطررت في أثنائها إلى قراءة مئات األوراق تحت ضوء الشمعة منعزال‬ ‫عن الظالم الذي يحيط بي وكأنني حشرة صغيرة ‪ ،‬بسبب انقطاع التيار‬ ‫الكهربائي بعد أن دمر القصف محطة توليد الكهرباء ‪...‬‬ ‫‪42‬‬


‫عبرت املرحلة الجامعية بسرعة فاقت سرعة شظايا القصف الذي لم‬ ‫يتوقف يوما ‪،‬والذي في كثير من األحيان تسابقنا معه في الطريق إلى قاعة‬ ‫املحاضرات أو املالجئ ‪..‬وال اذكر أبدا أنني كنت أول الواصلين ‪....‬إال مرة‬ ‫واحدة أثبتت الشظايا أنها في املركز الثاني ورائي حين تركت في ظهري قطعة‬ ‫صغيرة تأبى الخروج من أضالعي حتى اليوم ‪....‬وربما خرجت كما توقع‬ ‫معظم األطباء الذين زرتهم ‪....‬‬ ‫ياه لقد أصابتني الذكريات بالصداع ‪...‬نهضت من السرير ألتناول قدحا‬ ‫من املاء وقطعة من الشوكوالتة وهذه هي إحدى عادات الطفولة التي‬ ‫الزمتني حتى اليوم ‪،‬فقد كنت أتناول الشوكوالتة كلما أحسست بالتعب أو‬ ‫العزلة الشديدة عما حولي ‪..........‬‬ ‫إن حالوتها تغريني باالندماج مجددا في الحياة ‪..‬لكن ‪...‬‬ ‫ما هذا ؟؟ألم أقرر العزلة ‪...‬فلم الشوكوالتة‪.......‬إذن؟؟!‬ ‫وقبل أن أوقف زحف الشوكوالتة وهجومها في فمي ‪،‬ووسط معركة‬ ‫الفوض ى التي لحقت بقرار العزلة سمعت طرقا على باب الدار مثل‬ ‫الرصاص البعيد ‪..‬ترددت في فتح الباب الن ذلك سيعني خرقا آخر لقرار‬ ‫العزلة‪ ..‬وأي زائر هذا الذي سيأتي إلى رجل أعزب وحيد على مشارف‬ ‫الخمسين ‪ ..‬ال عالقات متينة تربطه بالقلة ممن يعرفهم ؟!‬ ‫مواء القطة مثل صافرة اإلنذار في سطح الدار كان خرقا آخر ‪،‬تبعه‬ ‫صوت آخر مجهول ربما لقصف بعيد متقطع ‪،‬فالحرب الجديدة لم‬ ‫تتوقف‪ ..‬اقتربت من الباب ‪،‬حاولت التعرف على الزائر من ثقب صغير‬ ‫فيه‪،‬فلم استطع جمع مالمحه في نظرة واحدة ‪........‬‬

‫‪43‬‬


‫رجعت خطوة إلى الوراء ‪..‬ثم استدرت يمينا‪ ..‬بعد هذا اإليعاز أدركت بأن‬ ‫العزلة لم يبق من طوقها ش يء بعد الشوكوالتة ‪..‬والقطة‪ ..‬والقصف‬ ‫البعيد‪ ..‬وأخيرا هذا الباب الذي يطرق برقة‪....‬‬ ‫إذن ‪..‬ال مفر من فتحه‪..‬‬ ‫حقول واسعة من العشب األخضر ممتدة في عيني جارتي اندلقت عند‬ ‫فتح الباب وتراكمت أمام عيني ‪..‬لتطلب مني استضافة أنثى طائر الكناري‬ ‫في منزلها حتى تكتمل ترميمات الدار!!‬ ‫زيارتها املفاجئة وطلبها الغريب كانا أشبه بقنبلة أخيرة دمرت مشروع العزلة‬ ‫الذي كنت انوي إقامة أسالكه الشائكة حولي ‪...‬‬ ‫لم يكن أمامي سوى االنقياد لطلبها ‪..‬السيما أنها أردفته بقطعة كبيرة‬ ‫من الشوكوالتة قدمتها لي ‪....‬لكن أصابعي ارتجفت ‪...‬وأنا آخذها منها ‪-‬‬ ‫وتلك عادة أخرى لم أتخلص منها كلما تقلصت املسافة إلى سنتمترات بيني‬ ‫وبين الشوكوالتة ‪ -‬فسقطت الشوكوالتة على عتبة الباب وتناثرت إلى‬ ‫شظايا كما تتناثر ألعاب الطفولة ‪ ..‬والنوافذ الزجاجية‪ ..‬والطالء القديم‪..‬‬ ‫والشظايا‪ ..‬وخضرة العشب‪...‬‬ ‫قدمت اعتذاري لها ‪،‬لكنها ابتسمت ووعدتني بقطعة أخرى ‪..‬أكبر‪..‬‬ ‫في املرة القادمة ‪ ..‬السيما أن الدار في الزيارة القادمة‪ -‬كما قالت لي‪-‬‬ ‫ستكون بعد الترميمات بحلة جديدة !!‬ ‫بعد يومين اتصل بي املدير يسألني عن أخبار الترميمات‪ ..‬والقصف‪..‬‬ ‫والشوكوالتة التي تبعثرت!!‬ ‫فلم اجب‪...‬لكنني ابتسمت ابتسامة عريضة!!‬ ‫‪44‬‬


‫في تلك الليلة‪ ..‬للمرة األولى لم اسمع دوي أي قصف في أذني‪ ..‬وأنا ممد‬ ‫على ظهري ‪ ..‬أصغي لصوت أنثى الكناري التي كانت تغرد من بعيد‪ ..‬خلف‬ ‫أكثر من جدار قديم‪!!.‬‬

‫‪45‬‬


46


‫لم أجد سوى علبة أعواد الثقاب شبيها للغرفة المستطيلة‬ ‫الصغيرة التي حشرت فيها مثل صرصار (كافكا) فجأة بعد منتصف‬ ‫الليل ‪ ،‬فهي تمتد مترين طوال ‪ ،‬وارتفاعها اقل من ذلك بقليل ‪ ،‬أما عرضها‬ ‫فلم يتجاوز مترا واحدا ‪ ،‬ونافذتها املدورة الوحيدة الصغيرة في الباب مغلقة‬ ‫بإحكام خرافي من الخارج ‪ ،‬ربما كي اليستحم من هو مثلي بضوء القمر أو‬ ‫– في األقل – بضوء املصباح األبيض الذي تسللت منه إلي خيوط نحيلة‬ ‫أسفل الباب‪ ،‬واالستحمام بالضوء عادة رومانسية كنت قد أضفتها قبل‬ ‫ساعات إلى العادات السيئة التي يجب أن أتوقف عنها في صيف تموز ألغير‬ ‫مجرى مياه حياتي التي بدت في السنوات األخيرة مملة من شدة تكرار‬ ‫طقوسها وعاداتها حتى أمست راكدة ‪..‬آسنة ‪ ..‬سوداء مثل رغيف خبز‬ ‫منس ي في قاع تنور ضيق الفوهة ! ‪.‬‬ ‫عادات كثيرة جدا تراكمت حولي بشكل دائري حتى طوقت حركتي ‪،‬‬ ‫وتفكيري ‪ ،‬وطريقة حياتي ‪،‬فأمسيت تحت ضغوطها مثل قطعة العجين‬ ‫تقلبني ضرباتها كيفما تشاء‪،‬لذلك قررت في الساعة العاشرة من مساء ذلك‬ ‫اليوم التاريخي أن أتوقف عنها ‪ ..‬فلعل قلبها نحو العكس سيحرك بركة‬ ‫أيامي ألني ال امتلك مثل كثيرين موهبة الضفادع في القفز من البرك‬ ‫ألتجاوز وحلها الثقيل ‪ ..‬وطحالبها الزلقة ‪ ...‬السيما بعد أن طردت من‬ ‫عملي أكثر من مرة ‪ ..‬بسبب عادة الصدق املثالي مع اآلخرين ‪ -‬التي يبدو‬ ‫لي أنني ورثتها من جدي وليس من أبي – فاألعذار التي كنت اسردها لتبرير‬ ‫قدومي املتأخر غالبا إلى الفرن ‪..‬أصبحت خرافات وأوهاما لدى صاحب‬ ‫الفرن الحاج عبدالغفار األسمر ‪ ..‬وهي اكبر من حجم املغفرة التي يمكن‬ ‫أن يقدمها لي ‪ ..‬وهو يعتذر من زبائن الفرن على التأخير في تزويدهم‬

‫‪47‬‬


‫بحصصهم اليومية من الخبز ألن أمهر عماله يأتي متأخرا دائما بحجة غلق‬ ‫الشوارع ألسباب أمنية ‪ ..‬أو أزمة البنزين وارتفاع أجور النقل ‪...‬‬ ‫حاولت مرارا تطبيق نصائحه بالنوم مبكرا أو غلق ملف األرق‬ ‫بمساعدة أدوية الطبيب لكنني نادرا ماكنت انهض قبل الثامنة صباحا ‪..‬‬ ‫إذ لم يبق حينذاك من زبائن (فرن السعادة) إال بضعة أفراد ممن يتناولون‬ ‫طعام الفطور بعد التاسعة أو العاشرة وهؤالء كان عددهم يتناقص‬ ‫تدريجيا أمام الخطوط الحمر املستعرة في عيون عبدالغفار األسمر وهو‬ ‫يبحث أمامهم عن شتائم جديدة يرسلها إلى جدي السابع الذي لم يورثني‬ ‫سوى الكسل كما زعم أبي أمامه مرات ‪ -‬أما اآلخرون وهم كثر ممن‬ ‫يتناولون طعام الفطور في السادسة أو السابعة فقد وجدوا لهم أرغفة‬ ‫ساخنة تسعدهم نكهتها منذ الفجر في فرن آخر مجاور يقع في الشارع‬ ‫الخلفي من الحي القديم‪..‬‬ ‫لذلك كله ‪ ..‬قررت في ذلك املساء أن أنفذ قرار االنقالب العكس ي‬ ‫على عاداتي السيئة – الحسنة ربما سابقا – فورا وبدأت باألسوأ منها ‪..‬‬ ‫الشك أنها عادة النوم مبكرا التي اتخمتني معلمة املدرسة بذكر فوائدها في‬ ‫أيام الطفولة فاقتنعت بها مجبرا ‪..‬ولم أزل حتى ليلة االنقالب التزم بطقسها‬ ‫من دون أن تفارق أحالمي العصا الغليظة لتلك املعلمة ‪.‬‬ ‫كانت الساعة تشير إلى العاشرة ‪ ..‬سأتجاوز هذا املوعد الرسمي إلقفال‬ ‫عيني بالقوة ‪ ،‬وأسهر ‪ ..‬أسهر حتى الرابعة فجرا ‪ ..‬مثل جرو ضال‬ ‫‪..‬سأتناول القهوة التي منعني الطبيب من شربها ‪ ..‬وأشاهد التلفاز الذي‬ ‫كنت قد هجرته في الفترة األخيرة ‪ ..‬سأهجر األفالم العربية و األجنبية‬ ‫القديمة الهادئة التي كنت أتذوقها بإعجاب شديد وبليد‪ ..‬وسأختار فيلما‬ ‫‪48‬‬


‫أجنبيا عنيفا جدا يمتلئ بأصوات الرصاص ‪ ..‬كي يهرب النوم املبكر وعصاه‬ ‫الغليضة من مرافقتي‪ ..‬وسأحارب سكون النعاس بالصخب ‪..‬‬ ‫ها‪ ..‬ثمة عادة أخرى رافقتني طوال مراحل الدراسة وما بعد تخرجي من‬ ‫الجامعة ‪ ..‬احسبها اآلن من السيئات ‪ ..‬إنها القراءة ‪ ..‬سأضع كتبي كلها في‬ ‫الدوالب الخشبي الذي ورثته من جدي وأنظف الرفوف من غبارها ‪ ..‬أتسلى‬ ‫بهذا العمل ربما حتى مطلع الشمس التي سأخرج لها لساني متحديا بالسهر‬ ‫طلعتها‪ ..‬لكن قبل مللمة كتبي الكثيرة وتهجيرها إلى مقبرة الدوالب علي أن‬ ‫اختار فيلما مناسبا لهذا اليوم العظيم التاريخي ‪..‬‬ ‫كنت محظوظا إذ وجدت في إحدى القنوات فلما من أفالم الكاوبوي‬ ‫‪ ..‬بطله (كلينت ايستود) ‪ ..‬ومنذ بدايته لم يتوقف تبادل إطالق الرصاص‬ ‫بين أبطاله ‪ ..‬حتى ظننت أن شاشة التلفاز أصبحت مثل ذلك الغربال‬ ‫املثالي من الزمن املاض ي الذي أدمن الحديث عنه عبدالغفار األسمر في‬ ‫كل مناسبة يطل منها علينا بشاربيه االنكشاريين‪ ،‬ونحن نيهئ الطحين ملرحلة‬ ‫العجن باستخدام غربال هزاز كهربائي لم يرض يوما عن إنتاجه الن الشعير‬ ‫اليمكن أن ينفذ منه ‪ ..‬كما انه حسب قوله أورثنا الكسل والكروش الكبيرة‬ ‫‪...‬وكان يقصد باملالحظة الثانية ر َّ‬ ‫فيقي في الفرن حسام ومهند ‪..‬ألنني كنت‬ ‫من ساللة خيطية البطون !!‪..‬قد أدمنت طعم الشعير الذي أورثها هيجانا‬ ‫مستمرا في القولون واملزاج !‪.‬‬ ‫الرصاص الغزير أعجبني صخبه في الغرفة ‪ ..‬حتى ظننت أنني أحد‬ ‫أبطال الفيلم فكلما توجهت املسدسات نحو الشاشة تنحيت ال إراديا إلى‬ ‫الجوانب محتميا بالوسادة املحشوة بأوصال من مالبس ي القديمة ‪..‬حابسا‬ ‫أنفاس ي بانتظار توقف زخات الرصاص ‪..‬تاركا أمام الشاشة تماما صورة‬ ‫‪49‬‬


‫أبي املعلقة على الجدار‪ ،‬فكم تمنيت أن اختبر شجاعته في مثل هذه‬ ‫املواقف التي يكون املرء فيها صادقا بمشاعره وخوفه وقلقه وحيرته ‪ ..‬في‬ ‫مواجهة رصاصة يتحكم بها خصمه ‪ ..‬فإما أن يعفو عنه أو يقض ي عليه‬ ‫‪ ..‬أتذكر أنني شخصيا شاهدت مواقف حقيقية مشابهة قبل خمسة‬ ‫عشر عاما في الحرب‪..‬‬ ‫كرهت (كلينت ايستود ) ليس ألنه شرير بل ألن نظراته الحادة‬ ‫تذكرني بنظرات عبدالغفار األسمر حين يشتمني ‪ ..‬وأحببت الخيول وهي‬ ‫تشرب املاء من واحة في صحراء تكساس ‪ ..‬ذكرتني بخيل املتنبي ‪ ..‬وهي‬ ‫ترتسم في ذاكرتي كلما شعرت بالحنين إلى عادة قراءة الشعر الذي غرقت‬ ‫دواوينه في تلك البركة اآلسنة من حياتي السوداء من شدة سوء عاداتي‬ ‫أو من سواد حبر الكتب الذي سال فيها ‪..‬وأفسد دمي وعقلي كما يردد‬ ‫ذلك أبي دائما ‪..‬في كل مجلس عزاء كان يقودني إليه عنوة الحتساء مرارة‬ ‫القهوة واملوت والثرثرة عن الحرب ‪..‬‬ ‫كتابة الشعر لم أحسم أمرها ‪ ..‬فلم أضعها حتى اآلن في أية خانة ‪..‬‬ ‫أهي من العادات السيئة أم الحسنة ؟؟ السيما بالنسبة لخباز مثلي لم‬ ‫يجد في أي من دوائر الدولة من يحتاج الثقافة الجامعية التي اكتسبها‬ ‫من قسم التاريخ‪ ..‬فالبالد – كما يبدو – قد استغنت عن تاريخها كله‬ ‫‪..‬وليست بحاجة – في األقل – إلى معلم يذكر تالميذها بان أجدادهم هم‬ ‫أول من اخترع العجلة ثم انفلتت منهم لتسحقنا من بعدهم بدورانها السريع‬ ‫الذي لم يتوقف حتى يومنا هذا ‪..‬‬

‫‪50‬‬


‫آه كم يتعبني االستذكار ‪ ..‬أظنه من العادات السيئة ‪ ..‬ألن استغراقي‬ ‫فيه يقودني إلى تحريف ذكرياتي وإجراء التعديالت عليها عبر تطعيمها بش يء‬ ‫من أحالم اليقظة كي تصلح الستدعائها كلما ضاق فرن الحياة بي وطوقنتني‬ ‫فوهة التنور بنيران جهنمية ‪ ..‬دعوت مرارا وتكرارا أن يكون مصير األسمر‬ ‫فيها ‪..‬السيما حين أنظر إليه بطرف عيني ألجد صلعته الكبيرة تتنعم بهواء‬ ‫(املبردة) قريبا من باب الفرن حيث يجلس خلف منضدة عتيقة متسخة‬ ‫السطح ‪..‬يجمع النقود في درجها الوحيد قبل أن يحولها إلى مقبرة جيبه‬ ‫الذي كان ينتفخ مثل حبلى كل يوم أمام جيوبنا العقيمة اليابسة ‪..‬‬ ‫اعترف لكم أنني – ولألسف الشديد ‪ -‬بفضل طريقتي املميزة السابقة‬ ‫في االستذكار لم أعد امتلك ذكرى حقيقية واحدة ‪ ..‬وأكبر دليل على ذلك‬ ‫أن ذكرياتي كلها تغمرها السعادة الفائقة والبطوالت العنترية ‪..‬واملواقف‬ ‫التي المثيل لها تاريخيا !!‪.‬‬ ‫لكنني اآلن في علبة أعواد الثقاب ال امتلك أيضا سوى االستذكار وسيلة‬ ‫للتسلية ولن أضيف – صدقوني ‪ -‬أي ش يء هذه املرة إلى استذكار ما حدث‬ ‫الليلة ألنه ال يمكن أن يكون حدثا سعيدا أبدا ‪...‬مهما أضفت إليه ‪..‬‬ ‫أتذكر أن الساعة كانت تقترب من الواحدة ليال حين خرق طبلة أذني‬ ‫صوت انفجار هيروشيمي هائل حطم باب املنزل ‪ ..‬ولم تمر سوى ثوان‬ ‫معدودة حتى وجدت سريري محاصرا بمجموعة من الرجال الغرباء‬ ‫العمالقة ذوي النظارات السود واملدججين بالبنادق املصوبة نحوي ‪...‬يا‬ ‫الهي ما الذي ارتكبته هذه املرة من أخطاء بحق األسمر ألطوق بكل هذا‬ ‫الرصاص ‪...‬الذي يكفي – لو انطلق – ليجعلني مثل غرباله العتيق ‪..‬‬

‫‪51‬‬


‫لكن األمر كما بدا لي لحظة تخلصت من ظنوني السيئة ‪ ..‬ال عالقة له‬ ‫باألسمر أو بغرباله ‪..‬‬ ‫كذلك كنت على يقين من أن (كلينت ايستود ) قد تصالح في هذه اللحظات‬ ‫مع خصومه وغفر لهم وأن البنادق اختفت من شاشة التلفاز بعد صفقة‬ ‫مريبة بين الطرفين !‬ ‫لكن ما الذي أتى بعشرين بندقية إلى غرفتي ؟؟‬ ‫أنا لم اقتل أحدا من أبطال فيلم ايستود ( التغفر ) * ‪ ..‬ولم اشترك‬ ‫في سرقة املصارف ‪..‬ولم أقم أية عالقة غرامية مع أي انثى من سبايا‬ ‫( ايستود ) ‪ ..‬كما أن اسمي ليس ضمن قائمة املطلوبين في الفلم من‬ ‫قطاع الطرق وال يستحق القبض علي دوالرا واحدا ‪..‬فخباز كسول مثلي ال‬ ‫يمكن أن يكون السبب – مثال – وراء املجاعة في دارفور كي يلقى القبض‬ ‫علي بهذا الهجوم الكاسح ‪..‬‬ ‫يا الهي ‪ ..‬كنت مجرد مشاهد عادي جدا ‪ ..‬ربما سيصفني مخرج الفلم‬ ‫بالتافه لو رآني وأنا اضحك من بعض املشاهد الجادة في الفلم واصفا إياها‬ ‫بالهندية ؟؟‬ ‫ولعل من حسن الحظ أنني لم اشطب عاداتي الحسنة السابقة‬ ‫كلها ومنها اتقاني جانبا كبيرا من اللغة االنكليزية بحكم عادة اإلدمان على‬ ‫مشاهدة األفالم األجنبية السيما األفالم البوليسية ‪ ،‬لذلك فهمت من‬ ‫أحدهم بعد أن اقتربت مني فوهة بندقيته أنه علي أن أرفع يدي نحو‬ ‫األعلى ‪ ..‬بهدوء وإال سيجعل راس ي قطعة من (الهمبرغر) املتناثر برصاصة‬ ‫واحدة ‪..‬‬

‫‪52‬‬


‫كنت مستعدا ألداء الحركة املطلوبة باتقان المثيل له ‪ ..‬فقد فعلت ذلك‬ ‫في مواقف كثيرة سابقة ‪ ،‬حتى ظننت أني ولدت رافع اليدين أمام القابلة‬ ‫خشية من مقصها الرهيب ‪ ..‬ولم أزل أتذكر – يا للعادة السيئة – أن‬ ‫آخر مرة رفعت فيها بصدق يدي نحو األعلى كانت قبل شهرين أمام رجل‬ ‫ملثم أوقف سيارتي وصوب مسدسه نحو راس ي ‪ ..‬ثم رايته بعد ثوان يغادر‬ ‫بالسيارة ‪ -‬من دون استئذاني‪..‬أو إخباري كم من الوقت سيستعير سيارتي‬ ‫ مسرعا بها بعيدا أمام يدي اللتين ظلتا مرتفعتين نحو السماء تحت‬‫شمس رشقتني بنظرات ساخرة وساخنة ‪..‬‬ ‫أما املرة الثانية فكانت قبل عام في السوق أمام امرأة مرت ببطء قربي‬ ‫وصرخت تطلب النجدة من العابرين متهمة إياي بسرقة محفظة نقودها ‪..‬‬ ‫ولم يكن أمامي من رد فعل سريع سوى رفع يدي نحو األعلى – كالعادة‬ ‫– في الهواء ألبين بحركة اشارية صامتة براءتي أمام الناس الذين تحلقوا‬ ‫حولي وأنا في وضع استعداد للتفتيش ‪ ..‬لكنني في ثوان تحولت إلى كيس‬ ‫للمالكمة تدرب عليه أكثر من خمسة أشخاص حسبتهم من أبطال العالم‬ ‫في الوزن الثقيل ممن يستعدون لالوملبياد القادمة‪ ..‬وحين انتهت الجولة‬ ‫األخيرة وجدتني أشبه بجثة جرذ ملقاة على الرصيف وقد تناثرت حولي‬ ‫أزرار قميص ي األبيض املمزق ‪ ..‬الذي أصبح مرقطا باللون األحمر ‪..‬ألجد‬ ‫رجال شيخا مسنا يأخذ بيدي ‪ ..‬فانهض ثم ينصحني‪ -‬هامسا‪ -‬بالهرب في‬ ‫أقرب سيارة أجرة قبل مجيء الشرطة ‪ ..‬وكأنني لص حقيقي الخيار أمامه‬ ‫بعد فشل محاولة السرقة سوى الهرب ‪.‬‬ ‫لم تنس السماء في ذلك اليوم أن ثمة جرذا بحاجة للمساعدة فأرسلت‬ ‫لي على عجل سائق أجرة رحيما ودودا غمرته السعادة الروحية وهو يشفق‬ ‫‪53‬‬


‫علي بتخليه عن أجرته ألن محفظة نقودي قد غادرت جيبي – كما يبدو‬ ‫مع تلك املرأة التي أتقنت برفقة رجال الكومبارس الخمسة وشيخهم تنفيذ‬ ‫سيناريو السرقة املعد ألمثالي ممن ينسون – كالعادة – نصف محفظة‬ ‫نقودهم يطل من الجيب الخلفي للسروال‪..‬‬ ‫ومرة – تحملوا رجاء عادة االستذكار عندي‪ -‬في شتاء ثلجي ماض‬ ‫أمرني العريف جدعان في ساحة املعسكر مع مجموعة من الجنود برفع‬ ‫أذرعنا العارية نحو األعلى ألننا لم نحصد الشعر جيدا من صحاري ذقوننا‬ ‫بعد ليل طويل من التدريب القاس ي ‪ ..‬وظلت أذرعنا متجهة إلى السماء‬ ‫ساعة كاملة ‪ ..‬لم ننزلها لوال حاجة الوطن املستعجلة إلرسال جنود‬ ‫إضافيين إلى جبهات القتال ‪ ..‬ولم حينذاك في املعسكر من جنود يصلحون‬ ‫ألداء هذه املهمة في الخطوط األمامية سوى الجنود املعاقبين الجاهزين‬ ‫ألداء ذلك الواجب العاجل كي يغفر لهم الوطن وجدعان أخطاءهم‬ ‫التاريخية الكبيرة الواضحة على ذقونهم ‪..‬فذهبنا مسرعين قاتلنا بشراسة‬ ‫أبطال الساموراي ‪ ..‬ثم اضطررنا إلى رفع أيدينا مجددا أمام عدو باغت‬ ‫مواقعنا ليال لنؤخذ غدرا ‪ ..‬أسرى عشرة أعوام ‪ ...‬ثم عدنا أبطاال ‪..‬‬ ‫استقبلتنا مئات األيدي املرفوعة نحو األعلى ترحب بعودتنا البيضاء فقد‬ ‫اشتعلت أذقاننا شيبا ‪ ..‬ومعظمنا لم يتجاوز الخامسة والثالثين من العمر‬ ‫‪..‬رفعنا أيدينا أيضا ملوحين لهم ‪..‬لنضعها بعد قليل في جيوبنا الفارغة إال‬ ‫من تلك البطوالت ‪..‬ونحن نتسكع على رصيف العمر أعواما طويلة جدا‬ ‫من دون أن ترافقنا – في األقل‪ -‬امرأة مثل لبنى عبد العزيز‪...‬قبل أن نعود‬ ‫إلى وسائدنا الخالية !‪.‬‬

‫‪54‬‬


‫ماذا لو حلق كل واحد منا ذقنه في ذلك اليوم ‪ ..‬قبل عشرة‬ ‫اعوام‪ ..‬فلم يعاقبنا العريف !!**‬ ‫ألم أقل لكم إن االستذكار عادة سيئة جدا ولها نتائج‬ ‫خطيرة أيضا ‪ ،‬إذ إن صاحب النظارات السود نفد صبر بندقيته الحديثة‬ ‫بعد أن تأخرت كثيرا في الخروج إليه من ذاكرتي مرفوع اليدين !! فسحبني‬ ‫من ياقة قميص ي ثم رماني على وجهي نحو األرض بعد أن شد معصمي‬ ‫بوثاق بالستيكي قوي جدا ‪ ..‬ال يمكن أن يهرب منه اشرس أسد بابلي في‬ ‫الحلة ‪..‬حاجبا عيني بشريط اسود ‪ ..‬وكانت آخر لقطة استطعت أن‬ ‫أشاهدها من فلم السهرة هي لقبعة كلينت ايستود املكسيكية وهو يغادر‬ ‫الحدود بصحبة آالف الدوالرات ‪..‬تمنيت لو سمح لي بمرافقته ‪..‬لكن‬ ‫املسافة بين العراق واملكسيك واسعة جدا ‪..‬وال اعتقد أن لدى الرجل صبرا‬ ‫يكفي النتظار خباز ‪..‬فخسرت فرصة للسفر خارج تنور البالد ‪..‬‬ ‫سحبت مجددا من ذراعي ألنهض برفقة أصوات صاخبة حولي فهمت‬ ‫منها أنهم يفتشون املنزل ‪ ..‬وأنهم تركوا أبي في غرفة أخرى ‪..‬على الرغم من‬ ‫سمرته املريبة التي تذكرني‪ -‬كالعادة‪ -‬دائما بزعماء الهنود الحمر ‪..‬السيما‬ ‫حين تلتصق بشعره السبعيني األشيب الطويل بضع ريشات من أجنحة‬ ‫الطيور التي يربيها ويعاقبها – عادة – بالنتف إن عصت أوامره شبه‬ ‫العرفية‪ ..‬أتذكر (صابونيا) بصدر رجولي بارز لم يبق أبي لفحولة جناحيه‬ ‫ريشة محترمة بعد أن خرق األخير القانون الهندي ألبي الذي منع تعدد‬ ‫الزيجات بين الطيور ‪..‬ألن ذلك يعني توفير مزيد من الطعام لنسلهم الجديد‬ ‫‪ ..‬في وقت كان املواطن نفسه‪ -‬بسبب الحصار كما يردد أبي ‪ -‬ال يجد له‬ ‫لقمة تمال معدته الفارغة‪ ..‬وبعد أيام وجد أبي فحله املنتوف ميتا في‬ ‫‪55‬‬


‫معتقله االنفرادي داخل علبة قديمة من الصفيح لدهن الطعام ‪..‬كنت‬ ‫متأكدا من انتحاره ‪..‬وكان أبي مصرا على أن املسالة ليست سوى قضاء‬ ‫وقدر ‪..‬فأضفت لقدره صفة الهندي !!‬ ‫أعود إلى ما حصل في ليلة تموز ‪..‬فقد سمعت نباح كالب‬ ‫تزمجر قريبا مني وأنا أسير برفقتهم خارج البيت – ربما باتجاه املكسيك‬ ‫مع خطوات ثقيلة غريبة ‪ ..‬بعيدا بعيدا جدا عن عاداتي الكثيرة التي احتاج‬ ‫إلى غربلتها مجددا ألعرف ما هو س يء منها وما هو حسن ‪..‬‬ ‫بعد ساعتين ‪ ..‬أدركت أن عادة فتح علبة أعواد الثقاب في الفرن‬ ‫مبكرا إلضرام النيران في التنور أفضل بكثير من السكن داخل العلبة نفسها‬ ‫‪ ..‬بانتظار من يسحبني من نيرانها ليعيدني إلى عاداتي أيا كانت ‪..‬لكن ذلك‬ ‫اليمكن أن يحدث قبل أن يقتنعوا بأنني مجرد خباز بسيط قد أدمن حب‬ ‫طحين الوطن وشعيره ‪..‬ولست مؤرخا محنكا يمكن أن يغير التاريخ الجديد‬ ‫للوطن ‪..‬كما اخبرهم بذلك عبد الغفار األسمر ‪..‬وهو يعبر الحدود منتفخا‬ ‫‪...‬‬ ‫* ( التغفر) عنوان احد أفالم الكابوي للممثل الشهير كلينت ايستود ‪.‬‬ ‫* *ثمة إشارة في هذه العبارة إلى قصيدة للشاعر عدنان الصائغ ( تكوينات‬ ‫) التي يقول فيها ‪:‬‬ ‫الجندي‬ ‫الذي غدا متنزها للمدينة‬ ‫ماذا لو كان قد حلق ذقنه ‪ ،‬ذلك الصباح‬ ‫‪56‬‬


‫احملتويات‬ ‫ح‪R‬رب ‪1...........................................................................‬‬ ‫كرات احلزن ‪8....................................................................‬‬ ‫هذا الرجل انتبهوا اليه ‪ ..‬ارجوكم ‪13.......................................‬‬ ‫سرية ذاتية لرجل قرن العشرين ‪16..........................................‬‬ ‫أخطاء ‪16...........................................................................‬‬ ‫حبثا عن عمل مناسب ‪19......................................................‬‬ ‫جرد سنوي ‪29...................................................................‬‬ ‫عصا و مملكة وكرة ‪33..........................................................‬‬ ‫شوكوالتة مغطسة باحل‪R‬رب ‪39..............................................‬‬ ‫عادات ‪46.........................................................................‬‬


‫امحد جار اهلل ياسني‬ ‫سيرة موجزة‬ ‫ احمد جارهللا ياسين من مواليد مدينة املوصل ‪ -‬العراق‬‫_حصل على املاجستير في األدب الحديث عن رسالته (التدوير في شعر حسب الشيخ جعفر)‪1998‬‬ ‫بتقدير امتياز‪.‬‬ ‫_حصل على الدكتوراه عن اطروحته(اثر الرسم في الشعر العراقي الحر)‪ 2002‬بتقدير امتياز‪.‬‬ ‫_نشر عشرات املقاالت الصحفية في االدب والفن والنقد‪.‬‬ ‫_صدرت مجموعته الشعرية األولى (هوامش)عام ‪.1999‬‬ ‫صدرت له مجموعة شعرية مشتركة مع عدد من الشعراء(تخطيطات مفتوحة)عام ‪.1999‬‬ ‫_صدرت له مجموعة قصصية مشتركة (قصص من نينوى)عام‪.2003‬‬ ‫_أقام عدة معارض شخصية للرسم في جامعة املوصل ‪.‬‬ ‫ صدرت مجموعته الشعرية ( الى ‪ ....‬برقيات وصلت متأخرة ) عام ‪.2010‬‬‫ صدرت مجموعته الشعرية ( يرحل العراقي ) ‪.2013‬‬‫ حصلت قصيدته ( قبور عراقية منفردة ) على املرتبة الرابعة في مسابقة جريدة الغد ‪ /‬بابل التي‬‫شارك فيها عشرات الشعراء العراقيين عام ‪.2009‬‬ ‫ نال كتابه النقدي ( مدرسة اإلحياء بين االتصال بالشعرية التراثية واالنفصال عنها ) املرتبة األولى‬‫في مجال النقد االدبي في مسابقة الشارقة لإلبداع بدولة اإلمارات العربية عام ‪.2011‬‬ ‫ نال كتابه (فضاء االقتناء الفني في العالم العربي ) املرتبة الثانية في البحث النقدي التشكيلي في‬‫الشارقة بدولة اإلمارات العربية عام ‪.2013‬‬ ‫ نال عدة جوائز في مسابقة الفنون اإلبداعية بجامعة املوصل في مجاالت الرسم والشعر والقصة‬‫القصيرة والخاطرة واملقال وللسنوات ‪.2013/2011 /2010 /1998 /1994 /1993‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.