1
ِعزبة ايبيل :مرام في العذق : فريد أبوسرايا .
كان العام عام مسغبة ،وأستبد الفقر بالبلد ،فضج الناس من الجوع ومن كل ما ذكرهم به ،وكعادتهم بتأريخ األعوام حسب الوقائع التي جرت خاللها ،فقد عرفوا هذا العام بالعام الذي يذم فيه الفقر ،وكانوا إذا أرادوا اإلشارة إلى هذا الزمن يقولون على سبيل المثال ،لقد حدث في عهد ( عام ذم الفقر ) . قد يكون مجيئه في هذا العام نذير بما سيحدث بعد ذلك .سار في صحراء لوبيا الكبرى ،هائما على وجه كاليهودي التائه الذي ذكر أنه لكم المسيح على ظهره بقبضة يده ،وهتف به :أسرع ،لماذا تتمهل ؟ فرد المسيح قائال له :سأذهب سريعا ،أما أنت فستبقى . تهادت جمال القافلة في سيرها وهي تخطو بأرجلها الطويلة على رمال الصحراء الناعمة ،ومن بعيد لمح أحد المسافرين سرابا في األفق ،وخيل إليه أن السراب قد أتخذ هيئة البشر .قصد أفراد من القافلة إتجاه ذلك السراب ليستطلعوا كنهه ،ويستجلوا خبره . عندما وصلوا إلى هدفهم ،وجدوه يدور حول نخلة ويردد قول : والذي أخرج العذق من الجريمة .
2
أقتربوا منه بحذر ،وعندما أصبح في مرمى ألسنتهم ،صاح به أحدهم :من أنت يا هذا ؟ وما مرامك ؟ رد عليهم قائال :
مرام في العذق . تشاوروا بينهم فيما يجب أن يصنعوا بهذا الغريب ،وبعد طول جدال أستقر رأيهم على أن يأخذوه معهم ويضموه إلى القبيلة لعله يكون ذا نفع في يوم من األيام . أطلقوا عليه اسم ( مرام في العذق ) ،ومنذ ذلك الحين بات الناس يعرفونه بهذا االسم وينادونه به .أستقر به المقام وسط القبيلة ،ونال مرامه وجنى العذق ،وبمرور الوقت توطدت مكانته وعز جانبه ،فأستطيب ما آلت إليه أحواله ،وتذوق الخيرات التي أغدقت عليه وأستعذب مذاقها فوصف حالته تلك بأنها حالة ( مذاق في العمر ) . أحب ( مرام في العذق ) الوحدة كثيرا ،فقد كان بطبعه ال يتآلف بسهولة مع الناس ،ولم يكن له إالّ صديق واحد يدعى رفيق وقد أتخذه رفيقا له .كان رفيق و( مرام في العذق ) لحقبة من الزمن كندماني جذيمة اللذين قيل أنهما لن يتصدعا ،وكانا يشاهدان وهما يصليان في الصحراء ،مأموما وإماما . وذات يوم ربيعي ،أغارت مجموعة معادية مسلحة على مضارب القبيلة وأعملوا السيف في رقاب أهلها ، وأحرقوا البيوت ،ونهبوا كل ما يمكن نهبه وما يحرم نهبه ،وسلبوا كل ما يمكن سلبه وما يحرم سلبه .لم يملك ( مرام في العذق ) إزاء هذه الغارة سوى أن يلوذ بالفرار ويطلق ساقيه للريح ليتفادى الوقوع في األسر والذل والهوان ،وأثناء فراره سأله أحدهم : ماذا جرى هناك ؟ ولماذا أنت تجري هنا ؟ فأجاب مرام في العذق :قمع في الذمار . لجأ ( مرام في العذق ) إلى سرداب قريب ،وأختار أن يغيب نفسه لبرهة من الزمن ،ثم يخرج بعد ذلك كمهدي منتظر ،ال كهارب من وجه العدو وموليا الدبر يوم الزحف . تساءل رجال القبيلة عن مكان ( مرام في العذق ) ،وأستغربوا عدم وجوده في ساحة الوغى للذود عن حمى القبيلة التي أوته بعد أن كان ضاال في الصحراء ،لكن أحدهم قال :لقد فر إلى قاع قبو وهو به ذميم ،ويجدر بنا أن نسميه ( :فر ذميم القاع ) ،وعندما سمع رفيق ما يقال بحق رفيقه أنبرى للدفاع عنه وتبرير أفعاله ، فقال :إذا كان ما يقال حقيقي ،فإن (مرام في العذق ) كان ( في مقام الذعر ) ،ومن كان كذلك فقد يكون 3
( عذر في المقام ) ،فلنتمهل حتى يأوب ونستطلع أحواله ،ونستفهم منه عن سبب غيابه أو تغيبه عن سطح األرض وعن أشعة الشمس . بعد إنقشاع غبار الغارة ورحيل المغيرين ،خرج ( مرام في العذق ) من قاع القبو الذي كان قابعا فيه وقصد مضارب القبيلة ،وهو يردد مقولة :قمع في الذمار ،حتى ظن رجال القبيلة أن هول الغارة قد ذهب بالبقية المتبقية من عقله . كان الناس يفقدون أشياء وأصدقاء وأحباب ،أما هو فقد كان يكسب دائما ،فبعد الغارة أكتسب اسما جديدا ، فصار أسمه :
.قمع في الذمار . ألتصق به االسم الجديد ،وصار الناس ينادونه به ،ونسوا أن هذا المنادى قد كان مرامه في العذق في اليوم الذي وقعت فيه أبصارهم عليه . بعد أن نال مرامه وجنى العذق ،تحول إلى قمع في الذمار ،اسما ومسمى وقلبا وقالبا وشكال ومضمونا فساءت األحوال كما ساءت أحوال بالد الجرمان ( مذ قام العريف ) فيهم . بعد برهة من الزمن ،عاد الغزاة مجددا ،وأعملوا سيوفهم وحرابهم وسهامهم في رقاب أبناء القبيلة وأهلها ، فكان قمعا لم يكن لـ ( قمع في الذمار ) حيلة في منعه أو التصدي له . أخيرا عرف ( قمع في الذمار ) المعنى الحقيقي للقمع ،فكرع من الكأس التي سقى اآلخرين منها . أراد رفيق أن يلعب دور الرفيق والفريق فنالته سيوف الغزاة وسقط قتيال وعلى وجهه غبرة ترهقها قترة ، سقط رفيق قتيال على مذبح الوفاء ،واصبح رمزا للوفاء ،وفاء لمن ال وفاء له . أدى مقتل رفيق إلى زعزعة ( قمع في الذمار ) ،وشكل ذلك ضربة قوية جعلته يترنح ويهذي في كالمه . وعندما أمسك به المغيرون وأخذوا يقودونه أمامهم ،صار يقول لهم ( :ماذا عمل رفيق ؟ )
فريد أبوسرايا الثالثاء 7 ،أكتوبر 4102
4