1
حوار مع صديقي الصرصور . .تأليف :فريد أبوسرايا .
التقيت مؤخراً بصرصور غريب ،ومن أوجه غرابة ذلك الصرصور هو أنه كان دائما ً في عجلة من أمره .كسائر الصراصير كان له ستة أرجل ،وفي حال التنقل السريع كان يحرك في كل خطوة من خطواته ثالثة أرجل من ب ،وفي الخطوة التالية األرجل الثالثة التي على الجانب اآلخر ،ثالثة من هنا في خطوة ،ثم ثالثة من هناك جان ٍ في الخطوة التالية ،وهكذا دواليك .من خالل هذه المالحظة عرفت أن الصرصور الغريب يتحرك بسرعة ،ألنني أعرف جيداً حركات الصراصير ،وأعرف أيضا ً كيف تتحرك ببطء .فعندما يتحرك الصرصور ببطء فهو يخطو بتحريك الرجلين الطرفيين من الجانب األيسر على سبيل المثال مع الرجل الوسطى من الجانب األيمن ،وفي الخطوة التالية يحرك الرجلين الطرفيين من الجانب األيمن مع الرجل الوسطى من الجانب األيسر .اثنان من هنا وواحد من هناك في خطوة ،واثنان من هناك وواحد من هنا في الخطوة التالية ،هكذا تسير الصراصير ببطء. بالطبع تلجأ الصراصير إلى هاتين الطريقتين في تنقلها من مكان إلى آخر كحيلة لتقليل نسبة اإلهتزازات Vibrationsالميكانيكية أثناء سيرها إلى أدنى مستوى ،ومن المعروف أنه إذا قلت اإلهتزازات ،قلت الخسائر وازدادت الكفاءة . كعالم حيوان ،توصلت في اآلونة األخيرة بعد أبحاث طويلة شاقة ،وجهود مضنية إلى معرفة لسان الصراصير، وأصبحت قادراً على فهم لغتها فهما ً ال يقل عن فهم جان فرانسوا شامبليون للغة الحجر .تواصلت مع الصرصور الغريب بغية اإلستفادة منه للتبحر في معرفة أحوال الصراصير وشؤونها ،وبعد فترة من الوقت ، 2
توطدت عرى الصداقة بيني وبينه .كان صديقي الصرصور على دراية بأحوال البشر وشؤونهم ،وكنت أنا على دراية بطباع الصراصير وخصالها ،ولم يكن اختالف الثقافات يشكل حاجزا ً أمام التفاهم األمثل بيننا. أثناء إحدى النقاشات ،قال لي صديقي الصرصور أنه يستغرب نبرة التعالي التي يتكلم بها البشر عند الحديث عن الصراصير ،وشدد على استهجانه أن تكون الصراصير مضربا ً لألمثال السيئة ،كما يفعل البشر عادةً ، وقال أن من القبيح أن يشير أفراد قبيلة الهوتو إلى قبيلة التوتسي بأنهم إنينزي ، Inyenziأي صراصير، باإلضافة إلى دأب جنراالت الهوتو على القول بأنه يجب القضاء على التوتسي بوصفهم صراصير .ثم بشيء من االمتعاض ،قال أنه شاهد ذات مرة حواراً على إحدى القنوات التلفزيوينة بين مذيعة ترفض فكرة تبني القرارات وتعتبر ذلك مخالفا ً للشرائع ،وبين العب كرة ال يختلف في عنصريته وحقده األعمى عن أفراد قبيلة الهوتو إالّ في كون الهوتو يطلقون على أعداءهم اسم "إنينزي" ،وهذا يطلق على أعداءه اسم "صراصير".
وأردف صديقي الصرصور قائالً ،لم ينجو من عنصرية ذلك السوقي أحد ،فقد سخر كذلك من علم البلد الذي تسمونه موزامبيق ،وسخر من أحدهم ألنه يعتمر طاقية حمراء ،وقد بلغ انحطاطه منتهاه عندما تساءل بحق االسم الذي يطلق على عضو التناسل الذكري عندكم بقوله :عالش الزب ؟ أي بحق عضو التناسل الذكري ،لماذا ؟ 3
بكثير من المرارة قال صديقي الصرصور أنه يشعر بالمهانة عندما يستمع ألمثال هؤالء الصراصيص ،وهم يلوكون بأفواههم كلمة الصراصير ليعبروا بها عن عنصريتهم وحقدهم الدفين ،ثم أردف قائالً بأن اإلهانة عندما تأتي ممن هو أقل شأنا ً منك تكون بمثابة الضغث على اإلبالة ،وقد ذكرني كالمه هذا بما جرى لسفانة بنت حاتم الطائي عندما لطمتها أمة وهي في األسر ،فقالت كلمتها الشهيرة " يا ليتها من حرة " .وعندما سألت صديقي الصرصور عن معنى كلمة الصراصيص التي ذكرها ،فقال لي بان هذه الكلمة هي اسم يطلقونه على مخلوقات دنيئة الطباع عندهم ،وهي صيغة جمع ،والواحد منها صرصيص .لم أملك إالّ أن أعقب على كالم صديقي الصرصور بالقول :كم من الصراصير عندكم ،وكم من الصراصيص عندنا ! انتابني شعور بأن العبارة اآلنفة الذكر التي قلتها قد وقعت في نفس صديقي الصرصور موقعا ً حسنا ً وأنه قد أستحسن كالمي ،والحظت أن قرنا استشعاره أخذا يتحركان حركات جانبية متتالية فيما ُخيِّّل إل ّي أنه نوع من علي البعض حدتي في الكالم ويقولون أن لهجتي التصفيق عندهم .وقال لي صديقي الصرصور ،قد يأخذ ّ قاسية نوعا ً ما فيما يتعلق بالصرصيص اآلنف الذكر ،ولكنني أقول أن أمة الصراصير هي أمة يغلب عليها طبع الحياء ،ولكنهم خلصوا من خالل احتكاكهم الطويل مع الصراصيص إلى قاعدة ذهبية مفادها ،أن الحياء مع أمثال هؤالء عهر ووقاحة ،وفسق وصفاقة ،وأن التهتك والتَبَذ ٌل بحقهم هو الحياء بعينه .
4
وبذكر الشيء بالشيء ،فإنني أتذكر ذلك الحاكم األفريقي آكل لحوم البشر ،وقاتل تالميذ المدارس ،الذي غير في سبتمبر من عام 1976دينه من المسيحية الكاثوليكية إلى اإلسالم مقابل أموال وعطايا ،ومقابل أن يغير اسمه ،وأن يُختن .وعندما ضمن صالح الدين أحمد بوكاسا ما أراد الحصول عليه ،قرر في ديسمبر من نفس العام أن يعود إلى المسيحية مجدداً ،وأن يتسمى باسمه األصلي وهو جان بيدل بوكاسا Jean-Bédel Bokassaوأن يصبح إمبراطوراً .عندها قال له ملك ملوك أفريقيا ،طالما أنك أرتددت عن اإلسالم وعدت إلى أكل لحوم البشر ،فأرجع لنا األموال التي أعطيناكها ،فكان رد اإلمبراطور بوكاسا قويا ً ومفحماً ،فقد قال لملك إلي قطعة اللحم التي اقتطعتموها من ملوك أفريقيا :إذا أردتم أن أرجع إليكم أموالكم ،فارجعوا ّ
...
لقد ذهب ملك الملوك بقطعة من اللحم ،وذهب اإلمبراطور بكل الدسم . أليست هذه قسمة ظيزى ؟
ثم عرج صديقي الصرصور على ما أعتبره كبوة ونبوة جواد ،وقال على الرغم من تقديره لكاتب ومفكر كبير أطلع مؤخراً على بعض مؤلفاته ،إالّ أنه ال يجد عذراً لذلك الكاتب وهو يحاول أن يضع صورة نمطية
5
للصراصير بأنها مخلوقات عديمة الكرامة ،وذكر لي فقرة تؤيد مزاعمه ،قال أنها مشتقة من كتاب لذلك الكاتب بعنوان "الحيوانات" . " يا ويلنا " قال رئيس الصراصير " يا ويلنا " كيف تريدنا أن نعتذر لك يا صاحب الحسب والنسب ؟ " كيف ؟ " قال القط ساخراً " ال أدري كيف ؟ لكنكم في العاادة معشار الصراصاير تبادأون كال شايء بإحضاار القهوة " . " الحيوانات " ،الصادق النيهوم
قال صديقي الصرصور ،أن أبناء قشرته ال يقتلون بعضهم البعض بالماليين ،وال يذكرون كلمة "الزب" وهم يتحدثون لوسائل اإلعالم ،كما أنهم ال يعرفون بالضبط ما هي القهوة ،وأن من يعرف القهوة هو أولى بإحضارها .انعقد لساني أمام قوة الحجج التي ساقها هذا الصرصور الحكيم ،وأدركت فعالً أننا نعاني من عقدة التعالي ،فنحاول دائما ً أن نعلق شرورنا ورذائلنا على الغير ذات مرة سألت صديقي الصرصور عن موطنه األصلي الذي تحدر منه ،فكان جوابه على سؤالي مدخالً لقصة لو كتبت باإلبر على آماق البشر لكانت عبرةً لمن أعتبر .وهاكم هذه القصة الشيقة التي رواها لي صديق أعتز بصداقته أيما اعتزاز: قال صديقي الصرصور أن بلده األصلي هو مملكة صرنصا ،وهو بالتحديد من سكان مدينة تسمى صاريس ،ثم توقف قليالً عن الكالم وقد خيمت عليه وجهه سحابة من الحزن ،وتقديراً لشعوره لذت أنا أيضا ً بالصمت .كان كأنه يستعيد شريطا ً من الذكريات المؤلمة ،وبعد لحظات عاد إلى الحديث مجددا ً ،واستطرد قائالً ،في اآلونة األخيرة أندلعت في بلدي ثورة عنيفة ،وقد انقدحت شرارة هذه الثورة في مدينة صاريس حيث تقيم العائلة
6
الحاكمة التي كانت هدفا ً لسخط الفقراء الشديد في المدينة ،وتعرف هذه الثورة في كتب التاريخ عندنا باسم "الثورة الصرصورية" أطلق الملك صرصوريس السادس عشر الحبل على الغارب لزوجته الملكة صاري صرصوريت ،فراحت تصول وتجول ،وتسرح وتمرح في طول مملكة صرنصا وعرضها .استطال قرنا استشعار الملكة لدرجة أثارت معها تململ وإنزعاج عامة الشعب الصرنصي ،وراجت بعض الشائعات التي تقول أن للملكة عالقات غرامية مع بعض الصراصير الماجنة ،وأن أحدهم قد أهداها فعالً عقدا ً من األلماس سالت شوارع وأزقة ودروب مدينة صاريس بالغوغاء ،وال أقصد بالغوغاء هنا ،االسم الذي تطلقونه أنتم على صغار الجراد وإنما أقصد بذلك فقراء مملكة صرنصا وبؤساءها .سار المتظاهرون وهم يصيحون بهتافات مضادة للملكية وللملوك ،ومن تلك الهتافات هتاف يرشح بمدى عمق الكراهية التي كان أهل مملكة صرنصا يكنونه ألسرتهم المالكة ،ويقول هذا الهتاف :أشنقوا آخر ملك بقرني استشعار آخر ملكة . شعر الملك صرصوريس السادس عشر والملكة صاري صرصوريت بتصاعد نقمة العامة ضدهما ،وخاصة بعد حادثة الروث الشهيرة ،عندما جاء مستشارون إلى الملكة ،وقالوا لها أن سكان مدينة صاريس ال يجدون بطيش والمباالة :فليأكلوا زبالً . روثا ً ليأكلوه ،فقالت لهم ٍ كانت حفرة الصراصتيل تمثل رمزاً لالستبداد والطغيان في عيون العامة لما كان يجري في أنفاقها ودهاليزها من الممارسات المنتهكة لحقوق الصراصير ،ولذا فقد صبت السوقة والدهماء جام غضبها على هذه الحفرة ، وقامت بردمها وسوتها باألرض ،فغدت كأنها لم تغن باألمس . قبض الثوار على الملك والملكة أثناء محاولتهما الهرب إلى خارج البالد ،وأصدرت المحاكم الثورية حكمها بإعدامهما في العاشر من أكتوبر من عام ، 1789اقترح الطبيب الماسوني صرصوريف صرصوتين استعمال آلة لتنفيذ أحكام اإلعدام في صرنصا ،كطريقة إعدام أقل إيالما ً .على الرغم من أنه لم يكن مخترع الصرصوتين ،إال أن هذه اآللة الجهنمية تسمت باسمه ،وكان مقدراً لها النجاح في أي مكان إال في مجتمع للصراصير وذلك ألسباب فسيولوجية بحتة. في الحادي والعشرين من يناير من سنة ، 1793سيق الملك صرصوريس السادس عشر إلى الصرصوتين لينفذ فيه حكم اإلعدام بتهمة الخيانة العظمى ،وذلك بفصل رأسه عن جسده .أضجع الملك على ظهره فأصبح عاجزا ً تماما ً عن الحركة كسلحفاة مقلوبة على صدفتها ،ثم أُسقطت شفرة الصرصوتين ففصلت رأسه عن 7
جسده .بعد ذلك وضع جسد الملك ورأسه في عربة تمهيدا ً لنقلهما إلى المدافن ،ولكن يبدو أن الملك لم يكن عاقدا ً العزم على االستسالم ،فعندما وضع جسد الملك في العربة في الوضع االعتيادي ،أخذ يتحرك على أرجله الستة ،ثم ترجل عن العربة وأخذ يتخبط على األرض كتخبط الصارة العشواء .استوقفت صديقي الصرصور وسألته عن معنى كلمة الصارة التي ذكرها ،فقال لي إنه حيوان يشبه من ناحية الشكل الجمل عندكم ،ولكنه أصغر كثيراً من الجمل . واصل صديقي الصرصور روايته فقال :سرت موجة من الرعب في صفوف الغوغاء ،ثم تحول الرعب إلى رهبة ممزوجة بنوع من اإلجالل .أضحى بؤساء مدينة صاريس ينظرون إلى مليكهم مقطوع الرأس وكأنه تجسيداً للشهيد الحي ،وتملكتهم حالة نادرة من التقديس والتعظيم تجاه ملكهم الذي كان يتحرك هنا وهناك ، ولم يكن غياب رأسه يؤثرفي تحركاته على اإلطالق ،فكان يسرع ويبطيء ولكنه ال يهتز . توقف صديقي الصرصور عن روايته ،وبدا كأنه يستجمع شتات ذكرياته . على أية حال ،لم يكن موضوع الحركة بعد قطع الرأس غريبا ً علي على اإلطالق ،فقد كنت أعرف بفضل ّ التجارب التي أجريتها على الصراصير ،أنه إذا ضرب عنق الصرصور وقطع رأسه ،فبإمكانه العيش لفترة من الزمن بجسد من غير رأس .كما أننا كبشر قد اختبرنا حالة مماثلة ،وهي حالة الديك مايك Mike the Headless Chickenالذي ظل حيا ً حوالي 18شهراً بعد أن قطع المزارع لويد أولسن رأسه في بلدة فرويتا بوالية كوالرادو األمريكية . ليس هناك أصدق ما يدعم رواية صديقي الصرصور عما حدث للملك صرصوريس السادس عشر من ظاهرة وهم األطراف أو ما يُعرف بمتالزمة األطراف الشبحية ، Phantom Limb Syndromeوهو احساس يتولد لدى الذين بُترت أو فُقدت أطرافهم ،بأن أطرافهم المبتورة أو المفقودة التزال ملتصقة بأجسامهم، وتتحرك بشكل مناسب مع أجزاء أخرى من الجسم . قد يبدو هذا الكالم مجافيا ً للمنطق ،فكيف تجهل الصراصير حقيقة أن بإمكانها العيش بعد قطع رؤوسها وأكون أنا على دراية بها ؟ إن السبب في غاية البساطة ،وهو أن هذه الظاهرة الغريبة لم تكن لتنشأ إالّ إذا تم قطع رأس أحد الصراصير وهو أم ٌر لم يحدث في مملكة صرنصا قبل أن تبدأ الصرصوتين في تنفيذ مهمتها الجهنمية ،ولذلك كان من الطبيعي أن تجهل الصراصير حقيقة أن بوسعها العيش حتى بدون رؤوسها .
8
إن الستر ـ وال أقول الجهل ـ نعمة ،فماذا لو عرفت الصراصير هذه الحقيقة ،وأدركت أن بإمكانها العيش بعد أن تتدحرج رؤؤوسها بعيدا َ عن أجسامها ،وما هي النوازع الشريرة التي كانت ستتولد في نفوسها بعد أن تضمن الحصول على شيء يقرب من فكرة الخلود ؟ بعد أن سرحت بأفكاري قليالً ،رجوت صديقي الصرصور أن يخبرني بما تمخضت عنه الثورة الصرصورية في بالده ،فقال لي أنتم تقولون في أمثالكم ،تمخض الجبل فولد فأراً ،ونحن نقول تمخض الجبل فولد صارا ً ، والصار عندنا هو حيوان ضئيل الجرم قليل الشأن ،ويجمع على صئران ،ثم أردف قائالً : بعد ذلك تأسس عندنا نادي سياسي يعرف بنادي الصراصرة ،وكان هذا النادي مسئوالً عن الجرائم التي حدثت في الفترة التاريخية التي عُرفت تاريخيا ً عندنا بعهد اإلرهاب ،وقد مجد قادة هذا الحزب اإلرهاب ،وبالذات اثنان منهم وهما ،صرصراند صاريري ،وصرصوريان صروصبير .ففي خطبة لألول في الخامس من سبتمبر من عام ، 1793قال صرصراند صاريري " ،دعونا نجعل اإلرهاب هو الحالة السائدة " ،وختم خطبته بقوله " :أن شجرة الحرية تنمو فقط عندما تروى بدماء الطغاة " وفي خطبة لصروصبير في فبراير من عام ، 1794شرح أهمية اإلرهاب بقوله: " إذا كان أساس الحكومة الناجحة في زمن السلم هو الفضيلة ،فإن أساس الحكومة الناجحة خالل الثورة هو كل من الفضيلة واإلرهاب؛ فالفضيلة ،بدون إرهاب تكون ُمهلكة؛ واإلرهاب بدون فضيلة يكون عاجزاً .ليس اإلرهاب أكثر من عدالة سريعة ،وصارمة وجامدة؛ وبالتالي فهو انبثاق عن الفضيلة ،وهو أقل من أن يكون مبدأ في حد ذاته ،من أن يكون نتيجة لمبدأ عام من مبادئ الديمقراطية " بعد ذلك سيقت الملكة صاري صرصوريت إلى الصرصوتين ،ولم يكن مصيرها أسوأ من مصير زوجها الذي سبقها ،وفي الثامن من نوفمبر من عام ، 1793اقتيدت مدام صرصوالن كذلك إلى الصرصوتين ،وفي الطريق أثناء مرورها بتمثال آللهة الحرية قالت تلك العبارة الشهيرة التي خلدها التاريخ : أوه ،أيتها الحرية ،كم من الجرئم ترتكب بأسمك ! خالل عهد اإلرهاب حصدت الصروصوتين حوالي 16000رأس من نخبة شعبنا الصرنصي ،ومقابل هذا كانت هناك آالف األجساد تتحرك من غير هدى في سعيها المحموم للبحث عن رؤوسها المفقودة .إلى حد ما كان المشهد يشبه ما جرى للفارس المرتزق الهيسي مقطوع الرأس الذي حدثنا عنه الكاتب الكبير واشنطن إيرفنج،والذي كان يهاجم أهالي قرية سليبي هولو ، Sleepy Hollowويقوم بقطع رأس كل من يجده منهم في طريقه ،ثم يأخذ الرأس ويختفي عن األنظار. 9
لم يكن النجاح حليفا ً للثورة الصرصورية ،وذلك ببساطة ألنها اهتمت بالرؤوس ،وتركت األجسام ،ولو أنها اهتمت باألجسام وأوكلتها إلى آلة شبيهة بآلة تمزيق الوثائق والمستندات Shredding machineعلى سبيل المثال لكان التوفيق لها ظهيرا والسداد لها نصيرا. إزاء األوضاع الحاصلة في بلدي ،قررت أن أصبح مهاجراً غير شرعي ،وقد ساقتني األقدار بعد كثير من التجوال إلى ذلك البلد المسمى تونس ،والذي كنت مطلعا ً على تاريخه وثقافته ورجاله ،ولكن لألسف الشديد وجدت إعالم ذلك البلد تتصدره شخصيات لو قورنت بصراصيصنا لبدت صراصيصنا معها وكأنها صراصير .ثم شددت الرحال ثانية وكلي أمل ورجاء في أن يأتي يوم تتطهر فيه تونس من مستنقعات البول التي تشوه صورة بلد كان من األجدر أن تتصدره بحيرات الماء الزالل ،ثم قادتني المقادير إلى بلدكم ،وها أنا ذا بين يديك ، أحكي لك قصتي ،وما جرى في بلدي من أحداث ،وملوك قُتلوا ولكنهم لم يُحالوا إلى األجداث . ثم أردف صديقي الصرصور قائالً ،إن ما جرى في القناة التاسعة في يوم األربعاء 15 ،نوفمبر ، 2017وقناة الحوار التونسي في يوم الثالثاء 28 ،نوفمبر 2017يُثبت أنه مهما بلغ البلد من طيبة ،ومهما اتصف الشعب بالكرم ،فحتى ذلك البلد الطيب ،وذلك الشعب الكريم ال يخلوان من إعالم فاسد يتصدره صراصيص من أمثال ، نوفل الورتاني ،وأمين قارا وطارق بعلوش ذلك المهرج الرخيص ،الهزاز لردفيه ،المضحك للساقطين والساقطات من أمثاله .
10
لقد شاهدت البرنامجين اللذين ذكرهما صديقي الصرصور ،وقد أدهشني عمق القاع الذي يمكن أن يصل إليه اإلعالم الهابط ،وحمدت هللا أنني عرفت أبي القاسم الشابي ،وانتشيت بقصائده ،وعرفت عبد العزيز الثعالبي وراعني ما تضمنته كتاباته من أفكار ،وعرفت صالح بن يوسف وقدرت نضاله من أجل استقالل تونس ، لي الشجاعة في قول الحق ،وكنت أعرف جامعة الزيتونة وعرفت الشيخ الطاهر بن عاشور وتجلت ّ ومشائخها األجالء ،وعرفت الكثير عن تونس الذي باإلمكان أن يكون مصدراً لفخر أي أمة عظيمة ..حمدت هللا أني عرفت كل ذلك قبل أن أعرف قناة الحوار التونسي ،ونوفل الورتاني ،وذلك الكذاب النيجيري المدعو محمد علي الشريف ،وبرنامج "أمور جدية" الذي لم يكن فيه شيئا ً جديا ً سوى اإلفتراء واإلفك والبهتان .
عاد بي شريط الذكريات إلى فترة ثمانينات القرن العشرين ،وتذكرت الخالف الذي نشب بين ملك الملوك ، والمجاهد األكبر ،واختالف البلدان الجاران على إثر خالف شخصي بين قاتلين فاسقين .من وجهة نظري ، لقد عزز هذا الحدث التاريخي المبدأ القائل أن الشعوب الجاهلة والبلدان المتخلفة هي على دين حكامها . لكي ينال من المجاهد األكبر ،قام ملك الملوك بطرد التونسيين العاملين في ليبيا ،وفي خضم تلك األزمة ، أجرت إحدى وسائل اإلعالم التونسية مقابلة مع أحد العمال التونسيين العائدين من ليبيا ،بعد قرار ملك الملوك بطردهم .تحدث العامل التونسي بمرارة عن قرار الطرد الظالم ،وقال أنهم كانوا ضحية لخالفات الحكام في البلدين الجارين ،ولو توقف ذلك العامل عند هذه النقطة من حديثه ،لعد ذلك من قبيل التنفيس عن كربة ألمت به ،وتسليا ً عن مصيبة أصابته ،بيد أن الحوار اإلذاعي أتخذ منحى آخراً مختلفا ً ،فقد صعد العامل المغتاظ ـ
11
الذي كان يعمل خبازاً في ليبيا ـ من لهجته اإلنتقامية تجاه ليبيا والليبيين ،ولم ينج من شره شئ سوى الحاكمين الذين كانا سبب القطيعة التي حدثت بين البلدين . حتى الخبز لم ينج من شر ذلك الخباز ،الذي ُ طرد إثر خالف نشب بين الصقر الوحيد والمجاهد األكبر . باستعادة لشريط الذكريات واألحداث الماضية flash backليشفي صدره ،ويروي غليله ،تحدث الخباز جهارا ً نهاراً ،وعلى رؤوس األشهاد من خالل وسيلة إعالم هابطة ،وقال أنه كان يعمل خبازاً في ليبيا ،وأنه كان أثناء عمله يبول على العجين ،ثم يخبز العجين المخلوط بالبول ليصنع منه خبزاً لليبيين . وكأن الشاعر التونسي آدم فتحي كان مطلعا ً على ما جرى عندما قال :
با َل الجنو ُد على تراب َم َح ِجها .....وتَوا َ غدوا أَيُ َح ُّج لألوغـاد؟! با َل الجنود ..فهل نَ ُم ُد أ َ ُك ْفنــــا .....كي ال يُعَك َّر زمزم األجداد؟!
إن التسلسل الزمني لألحداث يبين بوضوح أنه عندما كان ذلك الخباز المعترف بخيانته يضيف نكهة شخصية لخبز الليبيين ،لم يكن هناك خالف بين أمام المسلمين والمجاهد األكبر وقتها ،ولم تكن هناك قطيعة بين الجماهيرية العظمى وتونس الخضراء ،فلماذا إذن بال الخباز على العجين ،وخلط الخبز ببوله ؟ وبأي معيار إعالمي محترم وشريف قامت تلك الوسيلة اإلعالمية الهابطة بإذاعة ما أذاعته من سخف وإسفاف ؟ إن ما فعله ذلك الخباز ،وتلك الوسيلة اإلعالمية التي أرتضت أن تبث ذلك اللقاء المشهود ،قد ربط الشعبين الليبي والتونسي برابطة وثيقة ،أال وهي رابطة ( العيش والملح ) ،فالعيش هو الخبز الذي كان يشويه ذلك الخباز ،أما الملح فقد كان من لدن الخباز نفسه . لم يكن موقف ال ُمبال عليهم إال تجسيدا لما خلص إليه آدم فتحي بقوله :
ح فنغتدي .....منها ..ونَ ْ هو نحن ..ت ُ ْ ش ُك ُمها عن اإلخماد ش ِعلُنا الجرا ُ
12
إن ما قاله ذلك الخباز يُعد من الترهات التي يمكن إعتبارها صادرة عن شخص سفيه جاهل ،وقد ال يكون ما قاله حقيقيا ً بالمرة ،ولكن ما فعلته تلك الوسيلة اإلعالمية الهابطة ،ال يجب النظر إليه على أنه سقطة من سقطات إعالم هابط ،بل يجب أن ينظر إليه على أنه ترويج لخيانة حدثت في زمن لم يكن قد حدث الظلم الذي تتحجج به الخيانة على أنه مسوغ لها ،وأنها كانت تبرر تدنيس الخبز بالبول ،في وقت لم يكن هناك مبرر لعملية التدنيس تلك . إذا أردنا أن نرسم صورة أدبية موازية لحادثة ( بول في الخبز ) ،فإننا لن نجد أفضل من رواية بائعة للخبز للمؤلف الفرنسي كزافييه دو مونتبان ،فليبيا في هذه الحالة هي األرملة ( جان فورتيه ) ،بينما الموظف جاك جاورد الذي حاول إغواء األرملة هو تلك الوسيلة االعالمية التونسية الهابطة ،وليس ذلك الخباز الجاهل . ويتساءل آدم فتحي في معلقته ( القدس على كف بغداد ) قائالً :
ماذا يقول التونسي لظله .....والظل فَ ّخ الطائر الغراد
13