مقالة بعنوان ( المشي إلى فنزويلا بحذاء سندريلا ) للكاتب فريد أبوسرايا أبو سرايا

Page 1

1


‫‪................................‬‬

‫‪.................‬‬

‫‪.. .. .‬‬

‫‪.‬المشي إلى فنزويال بحذاء سندريال ‪.‬‬ ‫‪.‬‬ ‫‪.‬بقلم ‪ :‬فريد أبوسرايا‬ ‫‪.....‬‬

‫‪........‬‬

‫‪.....‬‬

‫‪.....‬‬

‫‪........‬‬

‫مكان إلى‬ ‫يعرف الراغب األصفهاني المشي في كتابه ( المفردات في غريب القرآن ) ‪ ،‬بأنه االنتقال من‬ ‫ٍ‬ ‫مكان بإرادة ‪ ،‬ويفرق بين المشي والسعي بقوله ‪ :‬السعي المشي السريع ‪ ،‬وهو دون العدو ‪ ،‬ويستعمل للجد في‬ ‫ٍ‬ ‫األمر خيرا كان أو شرا ‪ ،‬قال تعالى ‪ :‬وسعى في خرابها ‪.‬‬ ‫يختلف المشي باختالف الوسائل ‪ ،‬وتباين األهداف والغايات ‪ ،‬وتنوع الطرق ‪ ،‬فهناك مشي على السجاد األحمر ‪،‬‬ ‫وهناك مشي على الجمر األحمر كالذي يفعله السحرة الهنود ‪ ،‬وهناك مشي على البطون الذي حدثنا عنه نابليون‬ ‫بونابرت عندما قال ‪ :‬إن الجيوش تمشي على بطونها ‪ ،‬وعلى ذكر الجيوش فهناك مشي في حقول األلغام حيث‬ ‫تكون الخطوة الواحدة منه هي الفرق بين الحياة والموت‪ ،‬وهناك مشي الفقراء ‪ ،‬الذي ذكره العباس بن األحنف‬ ‫الو ِح ُل ‪،‬‬ ‫الوجي َ‬ ‫في شعره قائالً ‪ :‬فعندما يمشي الفقير فإن كل شئ ضده ‪ ،‬وهناك من تَمشِي ال ُه َوينا كما َيمشِي َ‬ ‫وهناك مشي على القمر كما فعل نيل أرمسترونج ‪ ،‬ووصف الخطوة الصغيرة منه بأنها قفزة لإلنسانية جمعاء ‪،‬‬ ‫وهناك مشي في الفضاء كما مشى أليكسي ليونوف ‪ ،‬وهناك مشي على الماء كما مشى المسيح عليه السالم إلى‬ ‫السفينة التي بها تالميذه وسط بحر متالطم األمواج ‪ ،‬وهناك من يمشون أثناء نومهم ‪ ،‬وهناك من يمشون وهم‬ ‫بكامل وعيهم ‪ ،‬وهناك من يمشي على حبال مشدودة على ارتفاعات شاهقة ‪ ،‬والبعض يمشون حفاة ‪ ،‬والبعض‬ ‫االخر ناعلين ‪ ،‬وهناك قبيلة كاملة تسمى المشاشية ‪ ،‬يسمى الفرد منها المشاي ‪ ،‬وهناك من يمشي على بطنه ‪،‬‬ ‫وهناك من يمشي على رجلين ‪ ،‬وهناك من يمشي على أربع ‪ ،‬وهناك من يمشي مكبا ً على وجهه ‪ ،‬وهناك من‬ ‫يمشي سويا ً على صراط مستقيم ‪ ،‬وهناك من تمشي على استحياء ‪ ،‬وهناك من يمشي في األسواق ‪ ،‬وهناك قرآنا ً‬ ‫ض ه َْونًا ‪ ،‬وهناك من يجعل هللا له نورا ً‬ ‫الر ْح َم ِن الَّذِينَ َي ْم ُ‬ ‫علَى ْ‬ ‫يمشي على األرض (ص) ‪ ،‬وهناك ِع َباد ُ َّ‬ ‫األر ِ‬ ‫شونَ َ‬ ‫يمشي به في الناس ‪ ،‬وهناك من يحبه هللا فيكون رجله التي يمشي بها ‪.‬‬ ‫وكما أن هناك من يجعل هللا له نورا ً يمشي به في الناس ‪ ،‬فإن هناك من يمشي بالنميمة بين الناس ليفسد ‪َ ( :‬ه َّماز‬ ‫َّاء بنميم ) القلم ‪ ، 11‬وال يقتصر المشي على اإلنسان والحيوان ‪ ،‬فهو ينسب أيضا ً إلى المالئكة ‪ ( :‬قُ ْل لَ ْو ك َ‬ ‫َان‬ ‫َمش ٍ‬ ‫س ً‬ ‫ُون ُم ْط َمئِ ِن َ‬ ‫ض َم َالئِكَةٌ يَ ْمش َ‬ ‫وال ) اإلسراء ‪. 95‬‬ ‫ين لَنَ َّز ْلنَا َ‬ ‫س َم ِ‬ ‫علَي ِْه ْم ِم َن ال َّ‬ ‫اء َم َلكًا َر ُ‬ ‫فِي األ َ ْر ِ‬ ‫‪2‬‬


‫يختلف المشي بإختالف المشائين ‪ ،‬ولكل مشاء مشيته الخاصة ‪ ،‬والمشية تدل على المشاء ‪ ،‬وهي تعبير عنه ‪،‬‬ ‫ومظهر من مظاهره ‪ ،‬وسمة من سمات شخصيته ‪ ،‬وإلى حد ما فإن المشي ليس بعدد الخطوات ولكن بسعة هذه‬ ‫الخطوات ‪ ،‬فالجمال بخطواتها الواسعة الرتيبة ال يستطيع الحادي مجاراتها بجريه ‪ .‬الجمال والحادي في نفس‬ ‫القافلة ‪ ،‬ولكن للجمال مشيتها ‪ ،‬وللحادي مشيته ‪ ،‬وال تستطيع الجمال أن تمشي كما الحادي ‪ ،‬وال يستطيع الحادي‬ ‫أن يمشي كما الجمال ‪ ،‬فلكل مشيته ‪ .‬إن مثل الجمال والحادي كمثل الحمامة والغراب ‪ ،‬فللحمامة مشيتها ‪،‬‬ ‫وللغراب مشيته ‪ ،‬وال يستطيع أيا ً منهما أن يمشي مشية اآلخر كما تقول حكاية ( الحمامة والغراب ) الشهيرة ‪ ،‬أن‬ ‫غرابا ً أعجبته مشية الحمامة ‪ ،‬فحدثته نفسه بأن يقلد مشيتها ‪ ،‬وبعد عدة محاوالت بذلها الغراب ليمشي كما الحمام‬ ‫باءت كلها بالفشل ‪ ،‬قرر أن يعود إلى مشيته األولى ‪ ،‬ولكن وفقا ً للمثل الشعبي القائل ( اللي تسيبها تسيبك ) ‪ ،‬فقد‬ ‫اختلط األمر على الغراب ولم يعد قادرا ً حتى على المشي كما تمشي الغربان ‪.‬‬ ‫من الحوادث التي وقعت في جماهيرية الصقر األوحد ‪ ،‬ذلك الفردوس األرضي المأمول ‪ ،‬والتي يعد وقوعها‬ ‫هناك منسجما مع مقتضيات الحال ‪ ،‬ومتوافقا ً مع مجريات األمور ‪ ،‬أن كثير من الحمائم أفلحت في تقليد مشية‬ ‫الغربان ‪ ،‬وأتقنتها غاية اإلتقان ‪ ،‬ونست في الوقت نفسه مشيتها السابقة نسيانا ً تاما ً ‪ .‬عندما يحاول الغراب عبثا ً‬ ‫أن يقلد مشية الحمامة ‪ ،‬وينسى مشية أباءه اآلولين ‪ ،‬يسمى حينها ( حمراب ) ‪ ،‬ولكن عندما تمشي الحمامة كما‬ ‫يمشي الغراب ‪ ،‬فهي لم تعد حمامة ‪ ،‬ولن تصبح غرابا ً ‪ ،‬وإنما تتحول إلى مسخ آخر يسمى ( غرامة ) ‪ ،‬وما أكثر‬ ‫الغرامات في جماهيرية الصقر األوحد ‪ ،‬أول جماهيرية في التاريخ ! ومن هذه الغرامات ‪ ،‬غرامة لها قصة‬ ‫شهيرة لو كتبت باإلبر على آماق البشر لكانت عبرة لمن أعتبر ‪ :‬كانت في زمنها الجميل حمامة جميلة بريشها‬ ‫الناصع البياض ‪ ،‬ورجليها الحمراوتين ‪ ،‬وكان هديلها يمأل األجواء بهجةً وسرورا ‪ ،‬ومع روعة هذه العناصر‬ ‫الجمالية كلها ‪ ،‬إال أنها تتضآل عندما تمشي حمامتنا ‪ ،‬فقد كانت مشيتها جلوة للعين ومسرة للناظر ‪ ،‬ولكن كما‬ ‫يقال ما طار طائر وأرتفع‪ ،‬إال كما طار وقع ‪ ،‬فقد أصيبت حمامتنا بداء غريب ‪ ،‬فتغير لون رجليها من األحمر‬ ‫القاني إلى األخضر ‪ ،‬وأنعقف منقارها إلى األسفل مثلما تنعقف مناقير الصقور ‪ ،‬وأخشوشن ريشها ففقد نعومته‬ ‫ولمعانه ‪ ،‬ثم بدأت تختلط بالغربان وتلتصق بهم ‪ ،‬وتمشي كما يمشون ‪ ،‬وإلى حيث يمشون ‪ .‬وفي آخر المطاف‬ ‫ساءت حالتها إلى درجة أنها باتت تنعق معهم وكأنها لم تكن في يوم من األيام حمامة ذات هديل وريش أبيض‬ ‫ورجلين حمراوتين ‪ ،‬وبذلك تحولت حمامتنا بالكامل إلى ( غرامة ) ‪ ،‬ثم رميت بثالثة األثافي فبدأت الغرامة تهذي‬ ‫بجهنم وتدعو إلى الفرار إليها ‪ ،‬وتسب بلسان سليط كل من حاول أن يذكرها بأنها في األصل كانت حمامة ‪.‬‬ ‫للمشي أحوال وصفات وظروف ‪ ،‬وقد يكون باإلمكان القول بأن للمشي معايير ‪ ،‬ومواصفات ‪ ،‬فلكل مشية ظرفها‬ ‫وصفتها ‪ ،‬ففي بعض األحيان يرغب المرء في أن يحث خطاه ‪ ،‬ويسرع في مشيه ‪ ،‬وفي أحيان أخرى ال تكون‬ ‫السرعة هي المعيار الرئيسي للمشي ‪ ،‬وإنما بعد المسافة التي ينبغي قطعها مشيا ً ‪ ،‬وفي هذا الخصوص يقول مثل‬

‫‪3‬‬


‫أفريقي ‪ :‬إذا أردت أن تسرع في مشيك ‪ ،‬فامش لوحدك ‪ ،‬وإذا أردت المشي إلى مكان بعيد ‪ ،‬فامش برفقة‬ ‫آخرين‪.‬‬ ‫للفكر االشتراكي تأثير واضح على آراء الفيلسوف الفرنسي الكبير ألبير كامو ‪ ،‬فله في موضوع المشي رأي‬ ‫ملفت للنظر ‪ ،‬وجدير باالهتمام ‪ ،‬فهو يرى أن رفيقه في المشي يجب أن يمشي بجانبه ‪ ،‬ال في أي مكان آخر ‪،‬‬ ‫ويلخص فكرته هذه بقوله ‪:‬‬ ‫ال تمش خلفي ‪ ،‬فقد ال اقودك ‪ .‬وال تمش أمامي ‪ ،‬فقد ال أتبعك ‪ .‬أمش بجانبي فقط ‪ ،‬وكن صديقي ‪.‬‬

‫ووظف الشعراء والكتاب مفردة المشي في استعاراتهم وتشبيهاتهم ‪ ،‬فها هو الشاعر إبراهيم ناجي يصف في‬ ‫قصيدته ( األطالل ) من يمشي بخطى ثابتة بال َملك ‪ ،‬فيقول ‪:‬‬ ‫واثق الخطوة يمشي ملكا ً ‪ .....‬ظالم الحسن شهي الكبرياء‬ ‫ويرسم الشاعر سميح القاسم صورة للمناضل يكون المشي أحد عناصرها البارزة ‪ ،‬فيقول ‪:‬‬ ‫زيتون ‪ ،‬وعلى كتفي نعشي وأنا أمشي وأنا‬ ‫منتصب القام ِة أمشي ‪ ،‬مرفوع الهامة أمشي ‪ .‬في كفي قصفة‬ ‫َ‬ ‫ٍ‬ ‫نارا حي ًنا ‪ ،‬حبًا أحيان‬ ‫أمشي ‪ .‬قلبي ٌ‬ ‫قمر أحمر ‪ ،‬قلبي بستان فيه فيه العوسج فيه الريحان شفتاي سما ٌء تمطر ً‬ ‫زيتون وعلى كتفي نعشي وأنا أمشي وأنا أمشي ‪.‬‬ ‫في كفي قصفة‬ ‫ٍ‬ ‫وفي مسرحية ماكبث ‪ ،‬يصف شاعر اإلنجليزية العظيم وليم شكسبير الحياة نفسها بأنها وهم من األوهام فيقول ‪:‬‬ ‫ليست الحياة إال ظل يمشي ‪.‬‬ ‫‪4‬‬


‫ولإلمام البوصيري شعر في مدح حضرة الرسول (ص) يقول فيه ‪:‬‬

‫محمد أشرف األعراب والعجم ‪ .....‬محمد خير من يمشي على قدم‬ ‫وللكاتب محمد الرطيان قول جميل في موضوع المشي ‪:‬‬ ‫من يمشي أمامك‪ ..‬ال يراك ‪.‬الذين يرونك‪ ،‬وينشغلون بالحديث عنك‪ ،‬ونقد مشيتك‪ :‬هم الذين كانوا ـ وما زالوا ـ‬ ‫يركضون وراءك‪.‬‬ ‫وفي الملحمة التاريخية الليبية المعروفة باسم ( تجريدة حبيب ) ‪ ،‬يتساءل حبيب أثناء رحلته لطلب يد العون للثأر‬ ‫لمقتل والده ( عبدالمولى األبح ) ‪ ،‬هل مطيته بطيئة المشي ‪ ،‬أم أن المكان الذي يقصده اليزال بعيدا ً ؟ ‪:‬‬ ‫أما جملي مو مشاي ‪ ،‬وإال وطن مازال مبعدة !‬ ‫وللتدليل على صعوبة أو إستحالة نيل المطالب وحصول المراد ‪ ،‬يقول المثل الشعبي ‪ " :‬ممشى بعيد وشوك "‬ ‫‪ ،‬ومن الغريب أن كلمة ( ماشي ) في القاموس العامي المصري تدل على معنى الموافقة واإليجاب ‪ ،‬فإذا أُمر‬ ‫أحدهم بفعل شئ ما ‪ ،‬ورد على اآلمر بكلمة ( ماشي ) ‪ ،‬فكأنه قد قال ‪ :‬أمرك نافذ ‪ ،‬وللفنان محمد قنديل أغنية‬ ‫بعنوان ماشى كالمك يقول مطلعها ‪ :‬ماشي كالمك ماشى على عينى على عينى وعلى راسى ‪ ،‬كما تدل كلمة‬ ‫( ماشي ) على إنسجام األشياء مع بعضها البعض ‪ ،‬فيقال ‪ :‬كالم ماشي مع بعضه ‪ ،‬وعندما يريد المواطن الليبي‬ ‫البسيط أن يعبر عن رضاه بالقسمة والنصيب فيقول ‪ :‬ماشي الحال ‪ ،‬وقد يقول ‪:‬‬ ‫ماشي الحال ‪ ،‬كلمة في في عز الوجع تنقال ‪.‬‬ ‫قد يُبتلى المرء بمن يتصيد أخطاءه ‪ ،‬ويُحصى عثراته وزالته ‪ ،‬وفي هذه الحالة لن ينجو من سهام النقد حتى لو‬ ‫كان عمله مبرء من العطل ومنزها ً عن الخطل ‪ ،‬فالناقد غير الموضوعي يكون تفكيره غير موضوعي ‪ ،‬ورغباته‬ ‫هي اآلخرى غير موضوعية ‪ ،‬ويكون محصلة هذا كله تفكير رغبوي ‪ ، wishful thinking‬وال يمكننا القول‬ ‫بأن محصلة ذلك تكون تفكير رغبوي غير موضوعي ‪ ،‬ألننا بذلك سنقع في متاهة الحشو واإلطناب ‪ ،‬فأي تفكير‬ ‫رغبوي ال يمكن إال أن يكون غير موضوعي ‪ ،‬وتلخص رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت ثاتشر ‪ ،‬هذه‬ ‫الفكرة في مقولة رائعة ‪ ،‬توظف فيها مفردة المشي ( وهي ما يهمنا في هذ البحث ) ‪ ،‬فتقول ‪:‬‬ ‫لو أن نقادي رأوني ماشية على مياه نهر التايمز ‪ ،‬لقالوا إنها تفعل ذلك ‪ ،‬ألنها ال تجيد السباحة ‪.‬‬ ‫أدرك األقدمون فوائد المشي ومنافعه ‪ ،‬وما له من أثر في زيادة حيوية المشاء ونشاطه ‪ ،‬فربطوه بالتعلم والتعليم ‪،‬‬ ‫ففي عام ‪ 335‬ق‪.‬م أسس الفيلسوف اليوناني أرسطو مدرسة فلسفية قيل أنه كان يحاضر فيها ماشيا ً ‪ ،‬فأطلق عليها‬ ‫اسم المدرسة المشائية ‪. peripatetic school‬‬ ‫يعتبر المشي رياضة مفيدة وسهلة نسبيا ً ‪ ،‬بإمكان الجميع ممارستها ‪ .‬والمشي أفيد حين يكون في أحضان‬ ‫الطبيعة‪ ،‬سواء في الغابات بين األشجار ‪ ،‬أو على رمال شاطئ البحر ‪ ،‬أو على دروب السفوح الجبلية ‪ ،‬حينها‬ ‫‪5‬‬


‫ينسجم المشاء مع الطبيعة ‪ ،‬وقد يصل إلى درجة يتماهى فيها مع الطبيعة التي هي مهد اإلنسان األول وقرينه ‪،‬‬ ‫ويصبح في حالة طبيعية خالصة ‪ .‬في أحضان الطبيعة ‪ ،‬حيث تنعدم الضوضاء والضجيج ويسود الصفاء ‪ ،‬ترق‬ ‫النفس ويتكثف العقل ويزداد تركيزا ً ‪ ،‬ويلف الهدوء والصمت الغابات ‪ ،‬وال يسمع فيها إال حفيف األوراق ‪ ،‬أو‬ ‫خرير الماء ‪ ،‬أو زقزقة العصافير ‪ ،‬أو رفرفة أجنحة الطيور المجفلة ‪ ،‬أو طنين الحشرات الحائمة فوق الزهر‪،‬‬ ‫فتنشط دورة الدم في عروق المشاء ‪ ،‬وتزداد حيويته وينتعش ذهنه ‪ .‬إن هذه الحالة بالذات هي التي دعت‬ ‫الفيلسوف األلماني الكبير فريدريك نيتشه للظن بأن المشي هو القابلة التي تخرج األفكار العظيمة من رحمها‬ ‫وتهيء لها مهدا ً في رؤوس المشائين ‪ ،‬وقال معبرا ً عن ذلك ‪ :‬كل األفكار العظيمة بحق تولد بالمشي ‪.‬‬

‫والمشي في نواحي األرض وجوانبها هو وسيلة لكسب الرزق ‪ ،‬فأمر به الحق سبحانه وتعالى بقوله ‪ُ ( :‬ه َو الَّذِي‬ ‫ض ذَلُ ً‬ ‫ُور ) الملك ‪ ، 15‬وهناك المشي‬ ‫َجعَ َل لَ ُك ُم األ َ ْر َ‬ ‫وال فَ ْ‬ ‫امشُوا فِي َمنَا ِكبِ َها َو ُكلُوا ِم ْن ِر ْزقِ ِه َو ِإلَ ْي ِه النُّش ُ‬ ‫بين رسوم وأطالل ومساكن األقوام الغابرة ‪ ،‬لالعتبار واالتعاظ ‪ ،‬فيقول أعز من قائل ‪( :‬أَفَلَ ْم َي ْه ِد لَ ُه ْم َك ْم أ َ ْهلَ ْكنَا‬ ‫ون يَ ْمش َ‬ ‫ت ِألُو ِلي النُّ َهى ) طه ‪ ، 128‬وفي نفس السياق يقول‬ ‫سا ِكنِ ِه ْم ِإ َّن فِي ذَ ِلكَ َ​َلَيَا ٍ‬ ‫ُون فِي َم َ‬ ‫قَ ْبلَ ُه ْم ِم َن القُ ُر ِ‬ ‫ون َي ْمش َ‬ ‫ت أَفَ َال‬ ‫سا ِكنِ ِه ْم ِإ َّن فِي ذَ ِلكَ َ​َلَيَا ٍ‬ ‫ُون فِي َم َ‬ ‫الحق جل شأنه ‪( :‬أ َ َولَ ْم يَ ْه ِد لَ ُه ْم َك ْم أ َ ْهلَ ْكنَا ِم ْن َق ْب ِل ِه ْم ِم َن القُ ُر ِ‬ ‫س َمعُ َ‬ ‫ون ) السجدة ‪. 26‬‬ ‫يَ ْ‬ ‫وكما أن للمشي وسائل وأدوات ‪ ،‬وطرق ومسالك ودروب ‪ ،‬فإن له آداب ‪ ،‬فيقول هللا سبحانه وتعالى على لسان‬ ‫لقمان ‪ ( :‬وأقصد في مشيك وأغضض من صوتك ) لقمان ‪ ، 19‬وينهى الحق سبحانه وتعالى عن المرح أثناء‬ ‫المشي بقوله ‪ ( :‬وال تصعر خدك للناس وال تمش في األرض مرحا ً إن هللا ال يحب كل مختال فخور ) لقمان ‪.18‬‬ ‫وفي مكان آخر يقول ‪ (:‬وال تمش في األرض مرحا ً ‪ ،‬إنك لن تخرق األرض ولن تبلغ الجبال طوال ) اإلسراء ‪37‬‬ ‫إنها لحقيقة ناصعة ‪ ،‬أن اإلنسان مهما بلغ من القوة والجبروت فلن يكون بإمكانه أن يخرق األرض ‪ ،‬أو أن يبلغ‬ ‫الجبال طوال ‪ ،‬ولكن على الرغم من وضوح منطق هذه المسلمة ‪ ،‬إال أن أعضاء اللجان الثورية إبان حكم القائد‬ ‫األممي ألول جماهيرية في التاريخ ‪ ،‬وأرض كل العرب كانوا يخاطبون موالهم بالقول ‪ :‬سر بنا فسوف نخرق‬ ‫األرض ونبلغ الجبال طوال ‪ ،‬ولكن عندما حمي الوطيس لم نر األرض تنخرق ‪ ،‬ولم نر للجبال نظائر وأنداد ‪ ،‬بل‬ ‫رأينا اقزاما ً دنيئة تلوذ بالفرار ‪ ،‬ويتفرقون أيدي سبا ‪.‬‬ ‫في العهد الجماهيري الذي أرخى سدوله على ليبيا طيلة أربعة عقود من الزمن المهدور ‪ ،‬كانت األبواق والطبول‬ ‫والمزامير تضخم األمور ‪ ،‬فتجعل من القزم عمالقا ً ‪ ،‬ومن الكسيح عدا ًء ‪ ،‬ومن الخائن أمينا ً ‪ ،‬ومن ضمن أفعال‬ ‫هذه األبواق أنها قامت بطباعة صورة لرسول الصحراء كتب تحتها عبارة تقول ‪:‬‬ ‫قد أكون بطيء المشي ‪ ،‬ولكنني ال أمشي إلى الخلف مطلقا ً ‪.‬‬ ‫نسبت الطبول والمزامير هذه المقولة للقائد المفكر ‪ ،‬وهي في الواقع مقولة للرئيس األمريكي إبراهام لنكولن ‪،‬‬ ‫وتقبل القائد المعلم ما نسبته إليه الطبول‪.‬‬ ‫‪6‬‬


‫لم تستح الطبول من أفعالها ‪ ،‬وأنى لها أن تفعل ذلك ؟ وتقبل القائد الملهم قرع الطبول ‪ ،‬وأنى له أن ال يفعل ذلك ؟‬ ‫تتناسب الوسائل واألدوات طرديا ً مع الغايات واألهداف ‪ ،‬فإذا كانت الغاية سامية ‪ ،‬والهدف نبيل ‪ ،‬فالبد أن تكون‬ ‫الوسيلة سامية ونبيلة ‪ ،‬ولما كانت الصالة هي لقاء العبد بربه ‪ ،‬فمن الطبيعي أن تنسجم اإلجراءات المؤدية لهذا‬ ‫اللقاء مع قدر ومكانة الملتقى به ‪ ،‬فيقول المصطفى عليه الصالة والسالم ‪:‬‬ ‫" إذا سمعتم اإلقامة فامشوا إلى الصالة وعليكم السكينة والوقار ‪ ،‬وال تسرعوا ‪ ،‬فما أدركتم فصلوا ‪ ،‬وما فاتكم‬ ‫فأتموا‪" .‬‬ ‫ومن المشي ‪ ،‬التبختر ‪ ،‬فإذا مشى الرجل ببطء وتمايل وغنج معجبا ً بنفسه ‪ ،‬فهو يتبختر في مشيته ‪ .‬وشبيه‬ ‫بالتبختر ‪ ،‬االختيال ‪ ،‬فإذا تمايل الرجل ِكبرا ً وهو يمشي ‪ ،‬فهو يختال في مشيته ‪ ،‬وليس االختيال مذموما ً بوجه‬ ‫عام ‪ ،‬فالبحتري ينقل لنا صورة مجيء الربيع ‪ ،‬فيقول ‪ :‬أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا ً ‪ ،‬كما أن أبا دجانة ‪،‬‬ ‫ِس َماك بن خ َ​َرشة قد أعلم يوم أحد بعصابة حمراء‪ ،‬وكان يختال بين الصفين ‪ ،‬ولم ير النبي (ص) ضير في اختيال‬ ‫أبي دجانة ذاك ‪ ،‬وقال‪ :‬إنها مشية يبغضها هللا إال في هذا الموضع ‪.‬‬ ‫ليس الحذاء من عناصر المشي الرئيسية ‪ ،‬كاإلرادة ‪ ،‬واألرجل ‪ ،‬والوسط الذي تدوسه األقدام أثناء المشي ‪،‬‬ ‫والمسافة التي ينبغي قطعها مشيا ً ‪ ،‬ولكن ال شك أنه يرفع من كفاءة المشي‪ ،‬ويحافظ على سالمة األقدام ‪ ،‬والحذاء‬ ‫الجيد ‪ ،‬المريح يغري صاحبه بالمشي ‪ ،‬فالمشوار الذي يستصعبه الحافي ‪ ،‬أو صاحب الحذاء الضيق ‪ ،‬يجده‬ ‫الناعل نزهة وسياحة ‪ ،‬أما إذا كان الحذاء ضيقا ً لدرجة اإليالم ‪ ،‬فأن يحفى المرء خير له من أن ينتعل مثل هذا‬ ‫الحذاء ويمشي به ‪ .‬ليس الحذاء هو كل شئ ‪ ،‬ومع ذلك فهو شئ ‪ ،‬وال يمكن القول أنه بدون الحذاء ال يمكن‬ ‫المشي‪ ،‬إال أنه يساعد كثيرا ً على ذلك ‪ ،‬ومن اإلستثناءات في هذا الشأن ‪ ،‬أن العداءة الجنوب أفريقية الشابة‬ ‫( زوال بد ) لم تكن تستسيغ الجري في السباقات الدولية وهي منتعلة حذاء ‪ ،‬ولذا فقد كانت تجري حافية ومع ذلك‬ ‫كانت تحقق النتائج المبهرة‪.‬‬ ‫إذا ذكر المشي فالبد أن يقترن ذكره بمسافة لكي تكتمل الصورة ‪ ،‬ويتضح المشهد ‪ ،‬وإذا ذكرت المسيرة الطويلة‬ ‫فالبد من ذكر المسافة التي قطعها الجيش األحمر الصيني للهروب من قوات الكومنتانغ ‪ ،‬والتي تبلغ حوالي‬ ‫‪ 9000‬كيلومتر ‪ ،‬بيد أن ماو تسي تونغ وأتباعه لم يقطعوا هذه المسافة الطويلة اختيارا ً بل كرها ً ‪ ،‬فهناك فرق‬ ‫كبير بين أن ترفض المشي وتظل في مكانك وتقتل ‪ ،‬وبين أن تمشي ‪ ،‬ويوفر لك المشي فرصة للنجاة بحياتك ‪.‬‬ ‫لقد كان المشي بالنسبة لماو وأتباعه مسألة حياة أو موت ‪ ،‬ولذا فقد كانوا مستعدين للمشي حتى للشمس ‪ .‬في‬ ‫بعض األحيان يكون المشي هو الوسيلة التي تستعيد بها ملكك ‪ ،‬مثلما جرى مع اإلمبراطور الروماني المقدس‬ ‫هنري الرابع في يناير من عام ‪ 1077‬م ‪ ،‬بعد أن أصدر البابا جريجوري السابع بحقه حرمانا ً كنسيا ً ‪ ،‬فقد أدرك‬ ‫أنه ال مناص من الرضوخ إلمالءات البابا وقطع المسافة من ألمانيا إلى إيطاليا مشيا ً على األقدام فيما يعرف‬ ‫تاريخيا ً بالمسير إلى كانوسا ‪ ،‬أو مذلة كانوسا ‪ .Walk to Canossa‬أرتمى االمبراطور على بوابة قلعة‬ ‫‪7‬‬


‫كانوسا وجثا على ركبتيه لمدة ثالثة أيام وثالثة ليال وسط عاصفة ثلجية حتى سمح له البابا بالدخول والمثول بين‬ ‫يديه‪ ،‬ثم رفع عنه الحرمان الكنسي ‪ .‬لم يكن االمبراطور هنري الرابع من هواة رياضة المشي ‪ ،‬ولم يحبطه طول‬ ‫المسافة من سبير ‪ speyer‬إلى كانوسا والتي تقدر بحوالي ‪ 550‬كيلومتر ‪ ،‬ولم يؤثر فيه اإلذالل على أبواب قلعة‬ ‫كانوسا والوقوف صاغرا ً في حضرة هيلدبراند ‪ ،‬فقد رأى أنه إذا مشى أستعاد ملكه ورفع عنه الحرمان الكنسي ‪،‬‬ ‫وإذا لم يمش تأمر عليه األمراء األلمان وقتلوه ‪ .‬لم يكن المشي بالنسبة لإلمبراطور هنري الرابع وسيلة بل‬ ‫ضرورة واجبة التحقيق ‪ .‬وفي ‪ 12‬مارس ‪ ، 1930‬ضمن منهج الالعنف في المطالبة بالحقوق ( الساتياجراها )‪،‬‬ ‫أنطلق موهنداس غاندي وبعض أتباعه من بلدة ( سبارماتي أشرام ) القريبة من مدينة ( أحمد أباد ) مشيا ً على‬ ‫األقدام ‪ ،‬قاصدين قرية داندي الساحلية بوالية قجرات ‪ ،‬فيما عرف تاريخيا ً بمسيرة الملح أو مسيرة داندي ‪ .‬لم‬ ‫يكن غاندي وهو يمشي ‪ ،‬هاربا ً من القتل كما فعل ماو تسي تونغ ‪ ،‬أو طالبا ً للملك كما فعل االمبراطور المقدس‬ ‫هنري الرابع ‪ ،‬وإنما رافضا ً لقوانين الملح البريطانية وضريبة الملح المجحفة التي تفرضها هذه القوانين ‪،‬‬ ‫وممارسا ً لعصيان مدني من أجل إستقالل بلده الهند عن بريطانيا ‪.‬‬ ‫يقو ل الفيلسوف الصيني الو تزو ‪ ،‬وهو أحد األنقياء الثالثة في الطاوية ‪ :‬أن مشوار األلف ميل يبدأ بخطوة ‪،‬‬ ‫ولكن ماذا عن مشوار الخمسة آالف ميل ؟ إن مسافة شاسعة كالمسافة بين ليبيا وفنزويال‪ ،‬والتي تبلغ حوالي‬ ‫‪ 8000‬كيلومتر تجعل المرء يفكر مرتين أو ثالث مرات قبل أن يوافق على فكرة المشي إلى فنزويال حتى لو كان‬ ‫تحت تصرفه ترسانة أحذية كتلك التي كانت ألميلدا ماركوس ‪.‬‬ ‫إن مسألة المشي من ليبيا إلى فنزويال تطرح تحديا ً يصعب قبوله حتى من قبل قائد النصر والتحدي ‪ ،‬أو ممن‬ ‫أشتهروا بالمشي أو بإقتناء أحذية أشتهرت بين الناس ودخلت التاريخ من أوسع أبوابه ‪ ،‬فعلى سبيل المثال ‪ ،‬هل‬ ‫لو قبلت هريرة أن تمشي إلى فنزويال أكان باستطاعة األعشى أن يقول ‪:‬‬

‫جارتِ َها ‪ .....‬مر السحابة ِ‪ ،‬ال ٌ‬ ‫كَأن ِم ْ‬ ‫ريث وال عج ُل‬ ‫شيَت َ َها ِم ْن بَ ْي ِ‬ ‫ت َ‬ ‫وهل كان بوسع أبو القاسم الطنبوري أن يمشي بحذائه الشهير من بلد كليبيا إلى فنزويال ‪ ،‬أم أن ثقل حذائه الذي‬ ‫يضرب به المثل كان سيثبط من عزيمته ‪ ،‬ويجعله يتثاقل على األرض ؟‬ ‫وهل لو أخبرت سندريال الجميلة بأن في فنزويال أمير جميل يحب الفقراء ‪ ،‬أكانت ستغامر بالذهاب إليه هناك‬ ‫لت رقص معه أم أن حذائها الزجاجي كان سيقف حجر عثرة في طريق تحقيق هذه األمنية ‪ ،‬ولتمنت حينها لو كان‬ ‫حذائها من الفراء بدال من الزجاج ؟‬ ‫على أية حال ‪ ،‬سواء كان حذاء سندريال من الزجاج ‪ verre‬أو من الفراء ‪ ، vair‬فإن زوجة أبيها الشريرة‬ ‫وأبنتيها القبيحتين كن سيمنعنها من المشي إلى فنزويال للرقص مع األمير الجميل ‪ ،‬كما أن فكرة الرجوع من‬ ‫فنزويال إلى أول جماهيرية في التاريخ ‪ ،‬وأرض كل العرب بفردة حذاء واحدة ليست بالفكرة المغرية على‬ ‫االطالق ‪.‬‬ ‫‪8‬‬


‫أمر ال يروق كثيرا ً لمارتن لوثر كنج االبن ‪ ،‬فهو ال يرى أن عدم القدرة على المشي يجب‬ ‫إن إستصعاب المشي ٌ‬ ‫أن يكون حجر عثرة في طريق المرء ‪ ،‬وأن يحول بينه وبين التقدم إلى األمام ‪ ،‬ويقول في هذا الشأن ‪:‬‬ ‫إن لم يكن باستطاعتك الطيران ‪ ،‬أجر ‪ ،‬وإن لم تستطع الجري ‪ ،‬أمش ‪ ،‬وإن لم تستطع المشي فازحف ‪..‬‬ ‫ولكن أيا ما كنت فاعالً ‪ ،‬فعليك اإلستمرار بالتحرك إلى األمام ‪.‬‬ ‫على ذكر حذاء سندريال ‪ ،‬فإن للحذاء حكاية مع قائد النصر والتحدي ‪ ،‬فقد كان قائد الثورة ينظر إلى الحذاء نظرة‬ ‫شاملة ‪ ،‬فلم تكن وظيفة الحذاء في نظره مقتصرة على كونه لباس لألقدام ‪ ،‬بل كان يعي داللة الحقارة والوضاعة‬ ‫والدونية المرتبطة المرتبطة به ‪ ،‬فوظف الحذاء ال ليمشي به على بساط األرض فقط ‪ ،‬بل ليدوس به على وجوه‬ ‫الناس ‪ ،‬وإلبداء إستحقاره وإستخفافه بهم أيضا ً ‪.‬‬ ‫في عام ‪ ، 1991‬وأثناء بث حلقة من حلقات برنامج األسبوع الرياضي الذي يقدمه محمد بن تاهية ‪ ،‬وأُستضيف‬ ‫فيه العب فريق االتحاد سالم مانا ‪ ،‬والمدرب الجزائري كمال لموي وإداري نادي االتحاد محمد عجاج ‪ ،‬وكان‬ ‫الحوار يدور حول سبب خروج نادي االتحاد من بطولة أفريقيا أمام فريق آسيك أبيدجان العاجي ‪ ،‬وتطرق النقاش‬ ‫إلي المشاكل التي تعتري الرياضة الليبية وسبب اإلخفاقات التي تمنى بها‪ ،‬وفجأة قطع بث التلفزيون الحكومي ‪،‬‬ ‫وظهرت على شاشة التلفزيون صورة حذاء مرسوم ‪ ،‬ونعله مواجها ً المشاهدين ‪ .‬لقد جعل قائد الثورة الشعب‬ ‫الليبي ( أو كل من كان يشاهد التلفزيون الليبي ) في مواجهة مع نعل حذاء ‪ .‬ليس هناك أي تأويل أو تفسير هذه‬ ‫الفعلة سوى أن القائد قد اراد أن يدوس على وجوه الليبيين كلهم بحركة واحدة ‪ ،‬وفي مرة واحدة ‪.‬‬ ‫وفي خطاب ( الذئاب وحدها هي التي تأكل اللحم ) ‪ ،‬كان القائد المعلم يقلب صفحات سجل كبير بحركات نزقة ‪،‬‬ ‫مستكبرة ال تدل على أدنى إحترام لمن كان يوجه إليهم كالمه ‪ ،‬وقال أثناء مناقشته لواردات الشركة العامة‬ ‫للمنتجات الجلدية من أحذية مصنعة في الخارج بما قيمته ماليين الدينارات ‪ ،‬أنه يجب على كل من يملك حذاء أن‬ ‫يصلحه ( يخصفه ) ‪ ،‬وأن على الليبيين أن يشجعوا األساكفة ( الخرازين ) على ممارسة حرفتهم ‪ ،‬حتى إذا أحتاج‬ ‫مداس أحدهم لتصليح ذهب إلى اإلسكاف ( الخراز ) ليصلحه له ‪ ،‬ثم ختم حديثه بقوله ‪ :‬ال نريد أحذية ‪.‬‬ ‫فيما يلي الحوار الذي جرى مع القائد الملهم بخصوص الحذاء ‪:‬‬ ‫أحذية هذي ‪ .‬الشركة العامة للمنتجات الجلدية ‪ .‬جميع أنواع الجلود واألحذية ‪ .‬قاري فيها حتى الماليين تجميع‬ ‫من بره ‪.‬‬ ‫قولوا اللي عنده حذاء بيرقعه ‪ .‬ديروا الـ ‪ ،....‬شن أسماه اللي يصلح في األحذية هذا ؟‬ ‫ـ خراز ‪.‬‬ ‫مالخ ‪ ،‬وإال مراس ‪ ،‬وإال ‪ ..‬شن قلت ؟‬ ‫ـ خراز‬ ‫آه ؟‬ ‫ـ خراز‬ ‫خراز ‪ ،‬أيوه ‪ .‬ديرونا خرازين بس ‪ ،‬بيش بعد يتقطع مداسنا نمشوله ‪ .‬يا ريت كل واحد يخرز الكندرة اللي‬ ‫عنده‪ ،‬تقعد عنده عامين ثالثة ‪ ،‬هيا ‪ .‬يرقعها بيش نستغنوا ‪ ،‬نسكروا هالباب بكل ‪ .‬ما نبوش أحذية ‪.‬‬ ‫‪9‬‬


‫من عانى معاناة حقيقية وصادقة من هذه الوقاحة والصفاقة ‪ ،‬وكان يشعر بهذه اإلهانات في بؤرة شعوره ‪ ،‬وهو‬ ‫مغلوب على أمره ‪ ،‬ثم قضى هللا أمرا ً كان مفعوال ‪ ،‬وأخذ هذا الوقح الصفيق أخذا ً وبيال ‪ ،‬ولم يستذكر هذا المهان‬ ‫الذي أنقذ بعد فترة هذه التجارب المحزنة ‪ ،‬ويستخلص منها دروسا ً وحكما ً تعينه على عدم الوقوع فريسة لإلهانة‬ ‫واالحتقار مجددا ً ‪ ،‬ونسى كل ذلك التاريخ المهين ‪ ،‬فسينسيه هللا نفسه ‪ .‬ونعوذ باهلل من الحور بعد الكور ‪،‬‬ ‫وليعذرني الفيلسوف الكبير جورج سانتيانا على تحريف كلماته وتشويهها‪:‬‬

‫أولئك الذين ال يستطيعون تذكر الماضي سيحكم عليهم بتكراره مجددا ً‬

‫‪10‬‬


‫في شهر مارس من عام ‪ ، 2011‬أنطلق رج ٌل من قاعدة معيتيقة الجوية بمدينة طرابلس ماشيا ً على قدميه في‬ ‫إتجاه الشرق ‪ ،‬وبعد خمسة عشر يوما ً وصل إلى مدينة مصراتة ‪ .‬كان ذلك الرجل يمشي على أديم األرض ‪،‬‬ ‫ولكنه ما أن بلغ مصراتة حتى بدأ يمشي على درب آخر يختلف تمام االختالف ‪ ،‬درب شاق ‪ ،‬خطر ‪ .‬بدأ علي‬ ‫حدوث يمشي على شفرات السيوف ‪ ،‬ومن المعلوم أن هذا النوع من المشي يتطلب الكثير من اإلتزان والثبات‬ ‫والصبر ألن أقل نسمة كفيلة بأن تطيح بالمشاء من أعالي السماء إلى قيعان الفناء ‪ ،‬فكما أن في االخرة مشي على‬ ‫الصراط ‪ ،‬تزل فيه قدم من يزل ‪ ،‬وتثبت فيه قدم من يثبت ‪ ،‬فإن في الدنيا نسخة مصغرة جدا ً منه ‪ ،‬وهو المشي‬ ‫على شفرات السيوف ‪ .‬لقد أدرك علي حدوث أن شفرة السيف ‪ ،‬هي الصراط المؤدي إلى باب المنية ‪ ،‬ولم يكن‬ ‫يريد أن يأتي المنية إالّ من بابها ‪ ،‬لتتم المقابلة وجها ً لوجه وبدون حجاب ‪ ،‬وقال معبرا ً عن موقفه ‪:‬‬

‫وسوف يبقى هو في مزبلة التاريخ ‪ ،‬وسوف يبقى هو الجرذ ‪ .‬فليظهر أمام النسور وأمام‬ ‫األسود ‪ .‬نحن نمشوا على شفرات السيوف ونأتوا المنية من بابها ‪.‬‬ ‫العميد طيار علي عطية هللا حدوث وسط ثوارمصراتة ‪ .‬الثالثاء ‪ 5 ،‬أبريل ‪2011‬‬

‫‪11‬‬


‫وفي يوم األربعاء ‪ ،‬بتاريخ ‪ 6‬يوليو من عام ‪ ، 2011‬توقف علي حدوث عن المشي ‪ ،‬وترجل عن صهوة سيفه ‪،‬‬ ‫وبيده المضرجة ‪ ،‬وبأشد ما يكون الدق أخذ يدق باب المنية ‪ ،‬وبأقوى ما يكون العزم أتى بالعزائم ‪.‬‬ ‫وقبل هذا ‪ ،‬وتحديدا ً في يوم الخميس ‪ ،‬بتاريخ األول من أبريل من عام ‪ ، 1965‬ترجل الشاعر المجاهد محمد‬ ‫محمود الزبيري عن صهوة سيفه ‪ ،‬وهو الخبير بالمرور على شفرات السيوف ‪ ،‬وإتيان المنايا من أبوابها ‪ ،‬ولكن‬ ‫الزبيري لم يحدد الكيفية التي يمر بها على شفرات السيوف ‪ ،‬أكان ذلك مشيا ً أم عدوا ً أم هرولةً ‪ ،‬فيقول‪:‬‬

‫خرجنا إلى الموت شم األنوف ‪ .....‬كما تخرج االُسد من غابها‬ ‫نَ ُمر على شفـــــرات السيوف ‪ .....‬ونأتي المنيـــــــة من بابها‬ ‫ثم يؤكد على أن اإليمان بالقضاء والقدر ال يتعارض مع األخذ باألسباب ‪:‬‬

‫ونعلم أن القضـــا واقع ‪ .....‬وأن األمــــــور بأسبابها‬ ‫و يحدد الخاتمة بكلمتين ‪ ،‬وهما ‪ :‬فيا طالما ‪ ،‬وفيا حبذا ‪ .‬إما نصر ‪ ،‬وإما شهادة ‪ .‬وحسب راي عبدالرحيم محمود‪،‬‬ ‫( إما وإما ) ‪ :‬إما حياة تسر الصديق ‪ ،‬وإما ممات يغيظ العدا ‪:‬‬

‫فإن نحن فزنا فيا طالما ‪ .....‬تذِل الصعـــــاب لطالبها‬ ‫نلق حتفا ً فيا حبـذا ‪ .....‬المنايا‪ ...‬تجيء لخطابها‬ ‫وإن َ‬ ‫لم يرغب ابن أفريقيا البار ‪ ،‬وملك ملوك أفريقيا ‪ ،‬وصانع االتحاد األفريقي ‪ ،‬وحكيم أفريقيا في أن يترك أفريقيا‬ ‫ويتخلى عن جماهيريته ‪ ،‬بلد المليون حافظ ‪ ،‬وأن " يمشي " إلى فنزويال على الرغم من أنه كان يواجه تمردا ً‬ ‫خطيرا ً تقوده بعض الجرذان العميلة ‪ ،‬بيد أن هناك سؤاالً يطرح نفسه ويلح على األذهان مستجوبا ً ‪ ،‬وهو ‪ :‬لماذا‬ ‫تمسك صانع المجد ‪ ،‬وصانع الحياة ‪ ،‬وصانع عصر الجماهير بالبقاء على أرض جماهيريته ‪ ،‬ولم " يمش " إلى‬ ‫فنزويال ‪ ،‬كما مشت القطط السمان التي كانت تموء حوله إلى بقاع مختلفة من األرض وتركته وحيدا ً في مواجهة‬ ‫عصي الجرذان ؟‬ ‫يجب أن نستدرك التعميم بالتخصيص ‪ ،‬ونقول كلمة للحق وللتاريخ ‪ ،‬وهي أن ليس كل القطط السمان قد "مشت"‬ ‫مخلفة الجماهيرية وراء ظهورها ( أو باألحرى وراء ذيولها )‪ ،‬فبعض هذه القطط بقى في الجماهيرية وتحالف‬ ‫مع الجرذان ‪ ،‬بل أن بعضها قد تنكر ألصله ( السنوري ) ‪ ،‬وأنتسب إلى رتبة القوارض ‪ ،‬وقاد حركة الجرذان‬ ‫وتزعمها ‪.‬‬ ‫ويطرح تحالف الجرذان مع القطط السمان سؤاالً محيرا ً ‪ ،‬وهو ‪:‬‬

‫أيهما أفضل جيش من القطط السمان يقوده جرذ ‪ ،‬أم جيش من الجرذان يقوده قط سمين ؟‬

‫‪12‬‬


‫ربما ال يمكننا تمثيل أحد طرفي النزاع بدالة متغيراتها محددة فقط بمتغيرين ‪ ،‬وهما ‪ :‬القطط السمان والجرذان ‪،‬‬ ‫ولكن قد يكون التمثيل أدق وأصح بدالة أخرى يكون متغيراها هما ‪ :‬هي القطط والجرذان السمان ‪.‬‬ ‫من المحتمل أن يكون السبب الذي حال دون " مشي " القائد إلى فنزويال ( ليس بالطبع مشيا ً على األقدام ‪ ،‬وإنما‬ ‫عن طريق الجو ) ‪ ،‬هو وجود الحيوان المسمى خنزير الماء ‪ Capybara‬بكثرة في فنزويال ‪ ،‬فإذا كانت الجرذان‬ ‫تتبع رتبة القوارض ‪ ،‬فإن خنزير الماء هو أعظم القوارض الحية على اإلطالق ‪.‬‬

‫و بما أن الجرذان ( القوارض ) هي التي نغصت على األخ القائد عيشه في الجماهيرية ‪ ،‬فليس من الحكمة في شئ‬ ‫أن يستبدل القائد قوارض بقوارض أخرى ‪ ،‬وأن يقفز من سفينة موبؤة بالجرذان إلى بحر يعج بخنازير الماء ‪،‬‬ ‫فهنا قوارض ‪ ،‬وهناك قوارض ‪ ،‬بل إن القوارض هناك أعظم خلقة ‪ ،‬والبد أن قائد الثورة قد ترأى له أنه في‬ ‫كلتا الحالتين سيكون ضحية ألسنان القوارض ‪ .‬كما أن لخنازير الماء نقيصة أخرى باإلضافة إلى كونها من‬ ‫القوارض ‪ ،‬وهي نقيصة تكمن في أسمها ‪ ،‬فالقائد ال يحب الخنازير ‪ ،‬سواء كانت خنازير الماء أو كانت خنازير‬ ‫الجزيرة ‪ .‬ولكن من المفارقات العجيبة ‪ ،‬أنه على الرغم من كرهه للخنازير ففي آخر عهده حاول أن يتقرب من‬ ‫خنازير الجزيرة ويطلب عونها ‪ ،‬ولكن تقربه ذاك قوبل بالصدود والرفض ‪.‬‬ ‫قد يكون هذا هو التصور الذي أنتهى إليه ملك الملوك وبنى عليه موقفه بعدم المشي إلى فنزويال ‪ ،‬ولكن هناك‬ ‫احتمال آخر قد يكون هو الذي ثبط من عزيمة القائد ‪ ،‬وحال دون " مشيه " إلى فنزويال ‪ :‬ال شك أن األخ القائد‬ ‫كان يعلم ب أنه " سيمشي " إلى بلد يفخر بوجود أعلى شالل في العالم على أرضه ‪ ،‬وهو شالل أنجل ‪ ،‬ويفتخر‬ ‫أيضا ً بوجود معالم مائية أخرى على أراضيه كبحيرة ماراكيبو ‪ ،‬ونهر أورينوكو ودلتاه الرائعة التي تعد معلما ً‬ ‫طبيعيا ً جاذبا ً للسياح من مختلف بقاع العالم ‪ .‬ال يغرب عن بال رسول الصحراء ‪ ،‬ومهندس النهر الصناعي‬ ‫العظيم ‪ ،‬أنه ليس هناك ما يذكر المرء بالماء أكثر من الماء نفسه ‪ ،‬فتصور أن وجوده وسط هذه المعالم المائية‬ ‫‪13‬‬


‫بفنزويال سيذكره حتما ً بالنهر الصناعي العظيم ‪ ،‬وال شك أن هذه الذكريات ستؤرقه وتقض مضجعه ‪ ،‬وتجعله في‬ ‫حنين متصل لالتصال بمياه ذلك النهر ‪ ،‬والخوض بجواده في مياهه ‪ .‬بهذه الوضعية لن يتغير المشهد كثيرا ً على‬ ‫بوعباة ‪ ،‬وولد الخيمة ‪ ،‬وشراب حليب الناقة ‪ ،‬فهنا قوارض ‪ ،‬وهناك قوارض ‪ .‬وهنا نهر ‪ ،‬وهناك نهر ‪ ،‬وهنا‬ ‫ماء ‪ ،‬وهناك ماء ‪ ،‬أو كما قال علي بن سودون اليشبغاوي ‪:‬‬

‫كأننا والمــــــــــــــاء من حولنـا ‪ .....‬قوم جلوس حولهم مـــــــاء‬ ‫واألرض أرض والسماء سمــاء ‪ .....‬والماء ماء والهواء هــواء‬ ‫والبحر بحر والجبال رواســـــخ ‪ .....‬والنور نور والظالم عمـــاء‬ ‫والحر ضد البرد قول صــــــادق ‪ .....‬وجميع أشياء الورى أشياء‬ ‫ويقال أن الناس تنطق مثلنـــــــا ‪ .....‬أما الخراف فقولها مـأمــاء‬ ‫مر والحالوة حلـــــــــــوةٌ ‪ .....‬والنار قيل بأنها حمــــــراء‬ ‫والمر ٌ‬ ‫صعب ُ​ُ والركوب نزاهـةٌ ُ​ُ ‪ .....‬والنوم فيه راحةٌ وهنــــــاء‬ ‫والمشي‬ ‫ٌ‬ ‫كل الرجال على العموم مذكـــــر ‪ .....‬أما النساء فكلهن نســــــاء‬ ‫صعب ‪ ،‬ويتفق مع ولد الخيمة ‪ ،‬الفقيه ‪ ،‬في‬ ‫ويؤكد ابن سودون المصري هنا على حقيقة هامة ‪ ،‬وهي أن المشي‬ ‫ٌ‬ ‫أن الرجال ذكور ‪ ،‬وأن النساء إناث ‪ .‬لقد كتب بوعباة ‪ ،‬شراب حليب الناقة ‪ ،‬أثناء أحد تجلياته الفكرية كالما ً يكاد‬ ‫يكون تفسيرا ً لشعر ابن سودون ‪ ،‬وقال في كالمه ذاك ‪:‬‬ ‫المرأة إنسان والرجل إنسان ليس في ذلك خالف وال شك ‪ .‬إذن المرأة والرجل متساويان إنسانيا ً بداهة ‪ .‬وأن‬ ‫التفريق بين الرجل والمرأة إنسانيا ً هو ظلم صارخ ليس له مبرر ‪ .‬فالمرأة تأكل وتشرب كما يأكل الرجل‬ ‫ويشرب ‪ ..‬والمرأة تكره وتحب كما يكره الرجل ويحب ‪ ...‬والمرأة تفكر وتتعلم وتفهم كما يفكر الرجل ويتعلم‬ ‫ويفهم ‪ ..‬والمرأة تحتاج إلى المأوى والملبس والمركوب كما يحتاج الرجل إلى ذلك ‪ ..‬والمرأة تجوع وتعطش‬ ‫كما يجوع الرجل ويعطش ‪ ..‬والمرأة تحيا وتموت كما يحيا الرجل ويموت ‪.‬‬ ‫وقال أيضا ً في نفس السياق ‪:‬‬ ‫المرأة أنثى والرجل ذكر ‪ ..‬والمرأة طبقا ً لذلك يقول طبيب أمراض النساء ( أنها تحيض أو تمرض كل شهر‬ ‫والرجل ال يحيض لكونه ذكرا ً فهو ال يمرض شهريا ً بالعادة وهذا المرض الدوري أي كل شهر هو نزيف ‪ ..‬أي‬ ‫أن المرأة لكونها أنثى تتعرض طبيعيا ً لمرض نزيف كل شهر والمرأة إن لم تحيض تحمل ‪ ..‬وإذا حملت تصبح‬ ‫بطبيعة الحمل مرضعة قرابة سنة ‪ ..‬أي مشلولة النشاط الطبيعي حتى تضع ‪ .‬وعندما تضع أو تجهض فإنها‬ ‫تصاب بمرض النفاس وهو مرض مالزم لكل عملية وضع أو إجهاض ‪ ،‬والرجل ال يحمل وبالتالي ال يصاب‬ ‫طبيعيا ً بهذه األمراض التي تصاب بها المرأة لكونها أنثى والمرأة بعد ذلك ترضع ما كانت تحمله ‪ ..‬والرضاعة‬ ‫الطبيعية قرابة العامين ‪ ..‬والرضاعة الطبيعية تعني أن المرأة يالزمها طفلها وتالزمه بحيث تصبح كذلك‬ ‫‪14‬‬


‫مشلولة النشاط ومسئولة مباشرة عن إنسان آخر هي التي تقوم بمساعدته في القيام بكل الوظائف البيولوجية‪،‬‬ ‫وبدونها يموت ) والرجل ال يحمل وال يرضع ‪ .‬أنتهى شرح الطبيب ‪.‬‬

‫لو أن النائبة األوروبية ليتشيا رونزولي ‪ Licia Ronzulli‬أقتنعت بكالم الفاتح العظيم ‪ ،‬وقائد اإلنسانية ‪،‬‬ ‫والمفكر الثائر ‪ ،‬وقائد المسيرة المظفرة ‪ ،‬والقائد المنتصر ألصبحت مشلولة النشاط ‪ ،‬ولسلبت القدرة على‬ ‫ممارسة عملها كنائبة في البرلمان األوروبي ‪ ،‬ولكنها كانت امرأة امرأة ‪ ،‬وأنثى أنثى كجداتنا وبعض أمهاتنا‬ ‫اللواتي كان يأتيهن المخاض في غمرة أعمالهن الشاقة ‪ ،‬فيضعن مواليدهن ويقطعن الحبل السري بأيديهن ‪ ،‬ثم‬ ‫يقمن بربطه بأعمالهن الشاقة ‪ ،‬وال خوف عليهن من شلل وال هم يحزنون ‪.‬‬ ‫إن أي مجتمع إنساني يفرض عليه العفن األخضر اآلنف الذكر لعقود من الزمن ‪ ،‬ثم تتدخل العناية اإللهية لتنتشل‬ ‫هذا المجتمع من المستنقع الفكري الذي كان غارقا ً فيه ‪ ،‬وال يستذكر أفراده بين الفينة والفينة نتانة ذلك المستنقع‬ ‫وقذارته من باب اإلتعاظ ‪ ،‬فالبد أن تغمرهم مياه ذلك المستنقع اآلسنة عاجالً أم أجالً ‪ ،‬وسيفرض عليهم ليس كتابا ً‬ ‫أخضرا هذه المرة ‪ ،‬بل كتابا ً أسود ‪ ،‬حالك السواد ‪ ،‬وليعذرني الفيلسوف الكبير جورج سانتيانا مجددا ً على‬ ‫تحريف كلماته وتشويهها‪:‬‬ ‫‪15‬‬


‫أولئك الذين ال يستطيعون تذكر الماضي سيحكم عليهم بتكراره مجددا ً‬

‫من المؤكد أن العفن األخضر اآلنف الذكر لم تسمع به كحالة ليبية أشتهرت بإعجابها الشديد بكتابات رسول‬ ‫الصحراء ‪ ،‬والفارس الخامس ‪ ،‬وإال لكانت قد أقامت الدنيا ولم تقعدها ‪ ،‬وهي تدعو الناس إلى قراءته بحماسة‬ ‫كتلك الحماسة التي يبديها أفراد جماعة شهود يهوه أثناء دعوتهم الناس إلى الدخول في مملكة الرب يهوه ‪ .‬ومن‬ ‫غرائب وعجائب هذه الكحالة الليبية أنها تقول الشئ ‪ ،‬ثم تأتي بعد فترة قصيرة وتقول نقيضه ‪ ،‬وليس هناك‬ ‫وصف لهذه الحالة أصدق من قوله سبحانه وتعالى ‪( :‬وال تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا ً ) النحل‬ ‫‪. 91‬‬ ‫إذا كان العرب يطلقون على طبيب العيون اسم الكحال ‪ ،‬ألنه كان يصف حجر األثمد ( الكحل ) لمرضاه ‪ ،‬فإن‬ ‫كحالتنا الليبية هي أولى بالكحل من مرضاها ‪ ،‬فإنه ال تعمى األبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور‪.‬‬ ‫في واقع األمر ‪ ،‬إن حالة هذه الكحالة ‪ ،‬هي حالة مستعصية ألزمة نفسية من أهم أعراضها مغالطات منطقية في‬ ‫غاية الوض وح ‪ .‬لقد تعلمنا باإلستقراء ‪ ،‬عدم التسرع بإبداء إعجابنا بما تكتبه هذه الكحالة ‪ ،‬ألننا علمنا من خالل‬ ‫الواقع أنها ستأتي بعد فترة قصيرة بما يناقض ما كتبته ‪ .‬إن المطلع على كتاباتها وأقوالها ال يملك أن يمنع نفسه‬ ‫علّي وطي ) التي يلعبها األطفال ‪ ،‬حيث يجلس طفالن متقابالن على لوح‬ ‫أن يتصور أنه إزاء لعبة النَّواسة ( ِ‬ ‫خشبي ويتناوبان الحركة صعودا ً وهبوطا ً ‪ ،‬وال بأس من ذكر مثل واحد يوضح ما نعنيه بقولنا ( لعبة النواسة ) ‪،‬‬ ‫ففي األول من سبتمبر من عام ‪ ، 2010‬كتبت كحالتنا مقالة بعنوان ( وطني ‪ ،‬إلى أين ؟ ) ‪ ،‬وصفت فيها الصقر‬ ‫األوحد بالعقيد المريض ‪ ،‬وسفاح ليبيا األول ‪ ،‬والحاكم الفاسق الذي أخذته العزة باإلثم حتى أصبح يتباهى‬ ‫بممارسته للظلم جهارا ‪:‬‬ ‫" حين حلقت طائرات البحرية اإليطالية في سماء ليبيا مشاركة للقذافي في إحتفاله المشؤوم‪ ،‬صبغت سماء‬ ‫وطننا بالعلم اإليطالي‪ ،‬وقد إستنكر الكثير منا ذلك‪ ،‬ولكن نظام العقيد المريض لم ير في ذلك ما يمس شعبنا‬ ‫وسيادته‪ ،‬وبحجة إصرار الطيارين على إستخدام العلم اإليطالي وتهديدهم بعدم القيام باستعراضهم‪ ،‬إنحنت‬ ‫إرادة النظام البالي وخضعت إلرادة الضيوف‪ ،‬والمدفوع لهم من أموال الشعب الليبي مسبقا للقيام بهذا‬ ‫‪16‬‬


‫اإلستعراض! وال أجد في هذا السياق وصفا لذلك العذر سوى أنه عذر أقبح من الذنب‪ ،‬ولكن‪ ،‬ال يُالم الذئب في‬ ‫عدوانه‪ ،‬إن يكُ الراعي عدوا للغنم‪" .‬‬ ‫ثم تطرقت في مقالتها إلى مناقشة قبلة بيرلسكوني ليد القذافي وشككت في دوافعها ‪ ،‬وقالت فيها ما يلي ‪:‬‬ ‫" تبع هذا قُبلة برلوسكوني الشهيرة على يد القذافي! وقد إستنكرها اإليطاليون كما إستنكرها شعبنا األبي لما‬ ‫لف ذلك السلوك‪ ،‬إال أن‬ ‫بها من غرابة تدعو إلى الشك في دوافعها‪ .‬وال يخفى على أحد أنه رغم الغموض الذي َّ‬ ‫عمال كهذا من قبل رئيس وزراء لدولة لها سيادتها تجاه رئيس دولة أخرى يفتح الباب أمام الكثير من‬ ‫التكهنات‪ ،‬كما أن ماضي الرجلين المشين والشبهات التي تحوم حولهما فيما يخص تحركاتهما اإلرهابية تدفعنا‬ ‫إلى التساؤل عن الدافع الذي أدى ببرلوسكوني لكي يتخذ تلك الخطوة الجديدة في تعامله مع القذافي‪ ،‬وتدفعنا‬ ‫جميعا إلى السؤال‪ :‬من هو معمر القذافي؟ وما وراءه؟ "‬ ‫وفي الخامس من يوليو من عام ‪ ، 2015‬كتبت ( حالة التناقض هذه ) على حسابها بموقع التواصل االجتماعي‬ ‫الفيس بوك ما يلي ‪:‬‬ ‫" ‪#‬كلمة ‪#‬حق في ‪#‬معمر ‪#‬القذافي‬ ‫ليقبل يد من‬ ‫ـ سواء إتفقنا معه أو لم نتفق‪ ،‬لم يكن خائنا أو عميال‪ ،‬ولم يبع وطنه ‪ ،‬ولم يَركع م‬ ‫ٌ‬ ‫ستعمر سابق ِ‬ ‫أستعمر إال له‪ ..‬ولن يتكرر هذا من جديد‪.‬‬ ‫ـ اعلم مسبقا بأن ألسنة السوء ستنهال علي بما لم يقله مالك في الخمر ‪ ،‬ولن تعكس سوى السقوط االخالقي‬ ‫ألصحابها الذين أبهروا العالم‪ ..‬وال يزالون ‪...‬‬ ‫أقول لهم ‪ :‬هاتوا من عندكم رجال يركع له رئيس دولة كما فعل برلسكوني‪ ...‬لقد فقدت ليبيا هيبتها‪..‬‬ ‫إن‪#‬عدونا هو من ‪#‬فرقنا و ‪#‬قسمنا‪ ..‬وانبطح للمستعمر‪...‬‬ ‫وعلى رأي المثل الليبي القديم‪:‬‬ ‫‪#‬اللي ‪#‬اتبدد ‪#‬ما ‪#‬اتجي ‪#‬مليانة‪...‬‬ ‫د فاطمة الحمروش‬ ‫‪" 05/07/2015‬‬ ‫هذا مثال واضح لما نعنيه بـ " النواسة الفكرية " التي تعاني منها حالة التناقض المستعصية هذه ‪ .‬إن الرد على‬ ‫مثل هذه النواسة الفكرية ال يحتاج إلى بذل كثير عناء ‪ ،‬فكما يقال ( من فمك أدينك أيها العبد الشرير ) ‪ ،‬ولكنني‬ ‫ال أريد أن أبتعد كثيرا ً عن السياق العام لهذا البحث ‪ ،‬ولذلك سأتناول موضوع هذه الكحالة بالتفصيل في بحث‬ ‫آخر مسلي‪.‬‬ ‫‪17‬‬


‫تعني كلمة فنزويال حرفيا ً فينيسيا الصغيرة ‪ ،‬وفينيسيا هي أحدى المدن اإليطالية ‪ ،‬وإيطاليا هي الدولة التي أحتلت‬ ‫ليبيا وأرتكبت أثناء احتاللها العديد من المخازي بحق الليبيين ‪ ،‬وكما تقول الكحالة الليبية اآلنفة الذكر فإن القائد‬ ‫الثائر هو من أجبر رئيس وزراء إيطاليا سلفيو بيرلسكوني على تقبيل يد ابن عمر المختار وتقبيل يده هو بنفسه ‪،‬‬ ‫فكيف إذن سيطيب للمفكر الثائر العيش في بلد أسمه هو تصغير إلحدى مدن المحتل ؟‬ ‫وقد يكون السبب الذي منع المجد ‪ ،‬وصانع المجد ‪ ،‬والصخرة الصماء من عدم المشي إلى فنزويال هو أن هذا‬ ‫البلد ينتمي إليه أكبر عدد من الحسناوات الفائزات بمسابقتي ملكة جمال العالم وملكة جمال الكون ‪ ،‬وعندما‬ ‫" يمشي " القائد لفنزويال ‪ ،‬الشك أن الدكتورة عائشة الملقبة بـ ( كلوديا شيفر الليبية ) ستكون من ضمن الركب‬ ‫المرافق للقائد في " مشيه " إلى هناك ‪ ،‬وفي هذه الحالة ‪ ،‬أين ستجد كلوديا شيفر الليبية مكانا ً يليق بجمالها‬ ‫وشعرها األشقر وسط بلد يعج بملكات جمال العالم وملكات جمال الكون ؟‬ ‫كما أن إيلين سكاف زوج القبطان هانيبال ستكون هي األخرى من ضمن ركب القائد األممي بعد أن رفض بلدها‬ ‫األم لبنان إستقبالها ‪ ،‬ومن المعلوم أن في فنزويال جالية لبنانية كبيرة ‪ ،‬ومن المؤكد أن هذه الجالية ستعتبر ابنة‬ ‫جلدتها إيلين شخصية غير مرغوب فيها ‪ ، persona non grata‬ومن المؤكد أيضا ً أن أي مجتمع حر كريم‬ ‫سيتبرأ من هذه الفاجرة التي جعلت طفلها البرئ مطية للكالب ‪ ،‬ومن كل من له صلة بها ‪.‬‬ ‫ينتصب في أبرشية سان بيدرو بالعاصمة الفنزويلية‬ ‫كاراكاس تمثال نصفي للمجاهد عمر المختار ‪ ،‬وقد يكون‬ ‫هذا التمثال بالذات هو ما جعل القائد يحجم عن " المشي"‬ ‫إلى فنزويال ‪ ،‬فتمثال عمر المختار هناك سيذكر القائد‬ ‫بتالعبه برفات المجاهد وإزالته لضريحه من على وجه‬ ‫األرض بعد أن جعله مكان يتبول فيه العمال والمتسكعين‬ ‫في مدينة بنغازي ‪ .‬لم يرض القائد أن يكون ضريح‬ ‫المختار حتى " مبولة " تنبعث منها رائحة تزكم األنوف‬ ‫بعد أن كان رمزا ً لمدينة بنغازي يقصده القادمون إليها‬ ‫ليقرأوا سورة الفاتحة ترحما ً على روح المجاهد ‪ .‬والبد‬ ‫أن القائد خشي أن يستحضر وجود هذا التمثال روح صاحبه ‪ ،‬فيسأله سؤاالً محرجا ً ‪:‬‬ ‫ما الذي دعاك يا حفيدي ‪ ،‬إلى القول في ذكرى إستشهادي ‪ ،‬في اجتماع بمشائخ القبائل واألعيان بمنطقة سلوق ‪،‬‬ ‫إثر هزيمة وادي الدوم‪ ،‬بأنني مت وخلفت بنات فقط ؟ ثم ما العيب في البنات ‪ ،‬حتى يعير بهن المشائخ ؟‬

‫‪.‬‬

‫قاد سيمون بوليفار حركات التحرر من أسبانيا في معظم بلدان القارة ‪ ،‬وهو من مواليد العاصمة الفنزويلية‬ ‫‪18‬‬


‫كاراكاس ‪ .‬إن إنتماء مثل هذا المحرر العظيم لفنزويال هو أمر من شأنه أن يكسف سيرة قائد الثورة ويقزم جهوده‬ ‫في مساعدة كثير من حركات التمرد ‪ ،‬والتي لم تكلل بتحرير شبر واحد من األرض ‪.‬‬ ‫فينيسيا الصغيرة ‪ ،‬وخنازير الماء ‪ ،‬وملكات الجمال ‪ ،‬ودلتا نهر أورينوكو وشالل أنجل ‪ ،‬وتمثال نصفي لعمر‬ ‫المختار ‪ ،‬وسيمون بوليفار ‪ ،‬وإيلين سكاف وفجورها ‪ ،‬قد يكون أحد هذه األشياء أو بعضها أو كلها مجتمعة هي‬ ‫التي حالت دون أن " يمشي " الرياضي األول ‪ ،‬والفارس األول ‪ ،‬والفارس الخامس ‪ ،‬والمهندس األول ‪ ،‬والمعلم‬ ‫األول ‪ ،‬والكشاف األول إلى فنزويال ‪ ،‬وهي التي جعلته يرد على اإلشاعة التي روجتها الجرذان ‪ ،‬ويقول متهكما ً‬ ‫في خطاب زنقة زنقة الذي ألقاه يوم الثالثاء ‪ 22 ،‬فبراير ‪: 2011‬‬

‫" أنا نمشي لفنزويال ‪ ..‬وهللا !؟ "‬

‫ليس المشي إلى فنزويال ببدعة في مسيرة قائد الثورة ‪ ،‬القائد األوحد ‪ ،‬والقائد المظفر ‪ ،‬وقائد مسيرة اإلنسانية في‬ ‫رحلة االنعتاق النهائي ‪ ،‬وقائد النصر والتحدي ‪ ،‬و قائد القيادة الشعبية اإلسالمية ‪ ،‬فقد مشى إليها في يوم االثنين‬ ‫بتاريخ ‪ 28‬سبتمبر ‪ 2009‬لحضور قمة زعماء أمريكا الجنوبية وأفريقيا ‪ ،‬حيث قلده صديقه الرئيس الفنزويلي‬ ‫هوغو تشافيز في بورلمار ‪ ،‬المنتجع الكاريبي بجزيرة مارغاريتا وسام المحرر ‪ ،‬وهو أعلى أوسمة الشرف في‬ ‫فنزويال ‪ ،‬وأهداه نسخة من سيف بطل االستقالل سيمون بوليفار ‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫وقال محرر العبيد ‪ ،‬وضمير العالم الحر ‪ ،‬وباني ومحرر ليبيا الحديثة في القمة بأن المنطقتين يجب أن تتحدا وأن‬ ‫تشكال تحالفا ً دفاعيا ً ‪ " ،‬ناتو للجنوب " ‪ ،‬وأبتكر له اسم " ساتو " ‪ ،‬وأردف القائد األوحد ‪ ،‬والقائد الملهم ‪،‬‬ ‫‪19‬‬


‫والقائد األممي ‪ ،‬والقائد المظفر ‪ ،‬والقائد المعلم قائالً ‪ :‬نحن اَلن نقول للذين يراهنون على الناتو‪ ،‬بأننا سوف‬ ‫نراهن على الساتو ‪ ،‬وسيكون لدينا أيضا ً إتفاقية ‪ ،‬وكان يقصد باالتفاقية ‪ ،‬شيئا ً مماثالً التفاقية حلف شمال‬ ‫األطلسي المعروفة اختصارا بـ " ناتو " ‪ .‬لقد كان ملك الملوك ‪ ،‬وأمين القومية العربية ‪ ،‬وإمام المسلمين ‪ ،‬وعميد‬ ‫القادة العرب يستشعر خطر داهم من قبل حلف الناتو ‪ ،‬فراهن على الساتو وهو شئ إفتراضي ‪ ،‬ليس له وجود إالّ‬ ‫في مخيلته ‪ ،‬ولكن الناتو أقتنصه في آخر المطاف ‪ ،‬بينما الساتو لم يكن قد خرج إلى حيز الوجود بعد ‪.‬‬ ‫بعد فنزويال طار ضمير العالم الحر إلى بالد العم سام ‪ ،‬لحضور اجتماع الجمعية العامة لألمم المتحدة الرابع‬ ‫والستين ‪ ،‬حيث ألقى في مدينة نيويورك خطابا ً تاريخيا ً مطوالً آتى فيه على ذكر نوع آخر من المشي ‪ ،‬وهو‬ ‫المشي إلى المحاكم ‪ ،‬وقال في يوم األربعاء ‪ ،‬بتاريخ ‪ 23‬سبتمبر ‪: 2009‬‬

‫‪.‬‬

‫ساهل تقول للبشير يمشي للمحكمة ‪ ،‬ساهل سلوبودان يمشي للمحكمة ‪ ،‬ساهل تايلور يمشي‬ ‫للمحكمة ‪ ،‬ساهل هبري يمشي للمحكمة ‪ ،‬ساهل الـ ‪ ..‬من ثاني مطلوب للمحكمة ؟‬

‫‪.‬‬

‫ذكر القائد األممي في خطابه مقتل أكثر من مليون ونصف عراقي ‪ ،‬ولكنه لم يأتي على ذكر العراقيين الذين قتلوا‬ ‫بنيران صواريخ السكود التي كان يبعثها لإليرانيين مع طواقم التشغيل إبان الحرب العراقية اإليرانية ‪ ،‬وقال أنه‬ ‫من السهل القول بأن يمشي الرئيس السوداني عمر حسن البشير إلى محكمة الجنايات الدولية ( أي يمثل أمامها )‪،‬‬ ‫‪20‬‬


‫ومن السهل القول بأن يمشي الرئيس الصربي سلوبودان ميلوسوفيتش إلى محكمة الجنايات الدولية ‪ ،‬وكذلك‬ ‫الرئيس الليبيري تايلور ‪ ،‬والرئيس التشادي هبري ‪ ،‬ثم طرح سؤاالً مثيرا ً لالهتمام وهو ‪:‬‬

‫‪.‬‬

‫من هو التالي الذي سيكون على الئحة المطلوبين لمحكمة الجنايات الدولية ؟‬

‫‪.‬‬

‫كان األخ القائد بسؤاله هذا يتحسس ورم ( بطحة ) كبيرة على رأسه ‪ ،‬ولم تكن هذه البطحة وليدة تلك اللحظة ‪ ،‬بل‬ ‫لقد ظهرت قبل ذلك ‪ ،‬ففي مؤتمر القمة العربية العشرين الذي عقد بمدينة دمشق في يوم السبت ‪ ،‬بتاريخ ‪29‬‬ ‫مارس من عام ‪ ، 2008‬قال ‪ :‬بأننا نحن أصدقاء أمريكا قد توافق أمريكا على شنقنا في يوم ما ‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫في هذه اللحظة أيضا ً كان قائد الثورة يتحسس البطحة ‪.‬‬

‫وقال الفارس األول ‪ ،‬والفارس الخامس بأن أميركا قاتلت مع صدام حسين ضد الخميني ‪ ،‬ولكنه لم يأت على ذكر‬ ‫قتاله مع الخميني ضد صدام حسين ‪ .‬كان يتباكى على صدام حسين ‪ ،‬وهو أول من أطلق الصواريخ عليه ‪.‬‬ ‫إذا كان للحذاء حكاية مع الصقر الوحيد ‪ ،‬فإن للمشي معه ألف حكاية وحكاية ‪ ،‬وحكايته مع المشي حكاية قديمة‪،‬‬ ‫ففي بداية فترة االستعباد وإنسجاما ً مع حالة العبودية ‪ ،‬أنتشر شعر شعبي يتغزل بحسن مشيته ‪ ،‬وجمال نظرة‬ ‫‪21‬‬


‫المعتوه جلود ‪ ،‬ويستهزئ بالتابع المطيع أبوبكر يونس جابر ‪ ،‬ويشبه الشاعر مشية حبيبته بمشية القائد الثائر‬ ‫فيقول ‪:‬‬ ‫مشيتا مشية قذافي ‪ ،‬خزرتا خزرة جلود ‪.‬‬ ‫ترمها كيف ترم بوجابر ‪ ،‬غير ترم بوجابر سود‬ ‫إن التاريخ هو عبارة عن ركام من األحداث ‪ events‬والعمليات ‪ ، processes‬واألحداث والعمليات هي في حد‬ ‫ذاتها أعمال ‪ ،‬واألعمال ال تخرج عن أن تكون إما أقوال ‪ ،‬وإما أفعال ‪ .‬إذن وبكلمة واحدة ‪ ،‬يمكننا القول أن‬ ‫التاريخ في أساسه هو عبارة عن أقوال وأفعال ‪ ،‬فاألقوال هي النظريات ‪ ،‬واألفكار ‪ ،‬والمفاهيم ‪ ،‬والمبادئ ‪،‬‬ ‫واألشعار ‪ ،‬والحكم ‪ ،‬واألقوال المأثورة ‪ ،‬واألمثال ‪ ،‬وكل ما جاد به لسان اإلنسان أو يراعه ‪ ،‬أما األفعال فهي‬ ‫نتاج ما قامت به جوارح اإلنسان من مجازر وحروب ‪ ،‬وبناء ‪ ،‬وإختراعات ‪ ،‬وإكتشافات ‪ ،‬وأكل وشرب ‪،‬‬ ‫وتناسل وتوالد ‪ ،‬باإلضافة إلى ما تفعله يد القدر من زالزل ‪ ،‬وبراكين ‪ ،‬وفيضانات ‪ ،‬وأعاصير ‪ ،‬ورياح ‪،‬‬ ‫وأمطار ‪.‬‬ ‫تمتلئ صفحات التاريخ الحقيقي الصحيح ‪ ،‬بالمظلم والمنير ‪ ،‬وبالغث والسمين ‪ ،‬وبالمرارة والحالوة ‪ ،‬وبإبر‬ ‫النحل والشهد ‪ ،‬وبالخيانة واألمانة ‪ ،‬وإن اإلقتصار في تدوين األعمال المنيرة دون المظلمة في سجل التاريخ ‪،‬‬ ‫سيجعل من ذلك السجل ‪ ،‬سجالً مظلما كتب بكلمات تحمل معاني النور والبهاء ‪ .‬إن إسقاط كلمة تافهة ‪ ،‬قيلت في‬ ‫حقبة معينة ‪ ،‬وعدم تدوينها في سجل التاريخ بحجة أنها مجافية للذوق السليم ‪ ،‬هو في حد ذاته صورة من صور‬ ‫تزوير التاريخ ‪ .‬إن التاريخ ك ٌل ال يتجزأ ‪ ،‬فإما أن تقبله كامالً ويكون تاريخا ً ‪ ،‬وإما أن تنتقي منه األحداث التي‬ ‫تتمشى مع ذوقك السليم ‪ ،‬وال يكون حينها إال شيئا ً تراه أنت فقط تاريخا ً ‪.‬‬ ‫وفي سبعينات القرن العشرين ألقى صانع عصر الجماهير خطابا قال فيه ‪:‬‬

‫" أنا لما نحكم بنفسي ‪ ،‬سنكون حكم ديكتاتوري مطلق وعادل ‪ ،‬ونقلكم للجنة بالسالسل ‪ .‬مش‬ ‫يفرشها بالحرير ‪ ..‬على السكاكين ‪ .‬يمشوا على الشوك للجنة ‪ ،‬واللي ما يمشي ينقطع رأسه ‪" .‬‬

‫لقد كان في نية الصقر األوحد أن يحكم حكما ً ديكتاتوريا لو أتيحت له الفرصة أن يحكم بنفسه ( منفردا ً )‪ ،‬ويجر‬ ‫شعبه إلى الجنة بالسالسل ‪ ،‬ويجعلهم يمشون إليها على الشوك ‪ ،‬ومن يرفض المشي يقطع رأسه ‪ ،‬وباللسان‬ ‫‪22‬‬


‫المصري الدارج ‪ ،‬كان في نيته أن يجعل الشعب " يمشي على العجين وما يلخبطه " ‪ ،‬ولكن حمدا ً هلل أنه لم‬ ‫يحكم بنفسه ‪ ،‬وإال لكانت أقدام الليبيين قد أدماها المشي على الشوك قبل أن يصلوا إلى الجنة ‪ .‬وفي قصة قصيرة‬ ‫بعنوان ( الفرار إلى جهنم ) يتنبأ الصقر األوحد بما سيؤول إليه حاله من فرار ومطاردة الصبيان ومضايقتهم له‪،‬‬ ‫وحرمانه من الراحة ‪ ،‬ومن المشي في الشوارع ‪ ،‬ويقول وكأنه ينظر عبر حجب الغيب ‪:‬‬ ‫" لماذا تطاردونني وتعرفونني على صبيانكم ؟ حتى أصبحوا هم أيضا ً يضايقونني في كل مكان ‪ ..‬ويجرون‬ ‫ورائي ‪ ..‬ويقسمون أنه هو ‪ ..‬لماذا تحرمونني من الراحة ؟ ‪ ..‬بل حتى من المشي في شوارعكم ؟ "‬ ‫وفي قصة قصيرة بعنوان ( إنتحار رائد الفضاء ) ‪ ،‬ينتحر في نهايتها رائد الفضاء بعد أن يئس من الحصول على‬ ‫عمل يعيش به فوق األرض ‪ ،‬يقول القائد المفكر ‪:‬‬ ‫" وبُ ْعد األرض عن القمر قرابة ‪ 400‬ألف كم ‪ ،‬وإنه إذا كان لديك سيارة تسير بسرعة ‪ 100‬كم في الساعة ‪،‬‬ ‫فإنك تصل القمر بعد ‪ 146‬يوما ً من مغادرتك األرض ‪ ،‬وإذا كنت ال تملك سيارة ‪ ،‬وغادرت األرض مشيا ً على‬ ‫األقدام‪ ،‬فإنك تصل القمر بعد ثماني سنوات ومئة يوم "‬ ‫يبدو إن علم القائد الملهم بالحساب ال يختلف عن علمه ببقية األشياء ‪ ،‬فالزمن الالزم لقطع المسافة من األرض‬ ‫إلى القمر بسيارة تتحرك بسرعة ‪ 100‬كم ‪ /‬الساعة هو ‪ 166‬يوم ‪ ،‬وليس ‪ 146‬يوم ‪ .‬لقد سرق القائد ‪ 20‬يوما ً من‬ ‫زمن المعادلة ‪ ،‬كما سرق حوالي ‪ 42‬سنة من الزمن الليبي ‪.‬‬ ‫أدرك الصقر األوحد أن المشي ليس كله سواء ‪ ،‬وكان يعي أن المشي إلى فنزويال هذه المرة سيكون مختلفا ً ‪،‬‬ ‫وبالتأكيد لن يكون مشيا ً على سجاد أحمر ‪ ،‬بل سيكون مشيا ً على حبل مشدود وعلى إرتفاع شاهق ‪ ،‬وبدون عصا‪.‬‬ ‫كان القائد المعلم يعلم أن المشي إلى فنزويال سيكون أشبه بالمشي على صفيح ساخن ‪ ،‬فالجرذان تنفخ على النار‬ ‫وتنقل الحطب ‪ ،‬ولن يكون مشيا ً بالمعنى المفهوم ‪ ،‬بل سيكون أشبه برقص خيول اإلستعراضات العسكرية ‪ ،‬ألن‬ ‫المحفز واحد في كلتا الحالتين ‪ ،‬وهو الحرارة الشديدة ‪ ،‬ال غيرها ‪.‬‬ ‫أما المشي فكان البد منه ‪ ،‬إما على الحرير أو على الشوك أو على السكاكين ‪ ،‬وإما منتعالً حذاء أبي القاسم‬ ‫الطنبوري أو حذاء سندريال ‪ ،‬وإما على رمال متحركة ‪ ،‬أو على الماء ‪ ..‬لقد حانت ساعة المشي وبعبارة أدق‬ ‫( لقد دقت ساعة المشي ) وكان لزاما ً عليه أن يمشي ‪.‬‬ ‫من كان المشي مصيره فالبد أن يمشي في النهاية ولو حرن بحرونة حمير األرض كلها ‪.‬‬ ‫أما الوجهة فكانت إلى مكان آخر غير فنزويال ‪ ،‬وإن أفضل تمثيل لهذه الحالة هو شعر ينسب إلى ابن فارس‬ ‫اللغوي ‪ ،‬يقول ‪:‬‬

‫مشيناها ُخطى كتبت علينا‬ ‫ً‬ ‫ـه بأرض‬ ‫ومن كانت منيتُ ُ‬

‫ومن ُك ِت َبت عليه خطى مشاها‬ ‫ً‬ ‫يموت في أرض سواها‬ ‫فليس‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫‪23‬‬


‫من كان بائسا ً وشقيا ً ومهانا ً ‪ ،‬وعانى من ذلك وشعر به شعورا ً حقيقيا ً ‪ ،‬فشكل وضعه آنذاك مرارة في حلقه‬ ‫وغصة في قلبه ‪ ،‬ثم فرجت بعد أن كان يظن أنها ال تفرج ‪ ،‬ثم نسى بعد ذلك المرارات التي تجرعها ‪ ،‬والغصات‬ ‫التي أحتبست في قلبه ‪ ،‬فسوف يتناسخ البؤس والشقاء واإلهانة في حاضره ‪ ،‬ولن يكون مستقبله مختلفا ً عن‬ ‫ماضيه إن لم يكن أسوأ منه ‪ ،‬أما من كان غارقا ً في في الظلم واإلهانة وهو ال يشعر بهما ‪ ،‬وال يحس بوقعهما‬ ‫على جسده وعلى نفسه ‪ ،‬فهذا مثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث ‪ ،‬أو تتركه يلهث ‪ ،‬أو كما قال شاعر العربية‬ ‫العظيم ‪ ،‬أبو الطيب المتنبي ‪:‬‬

‫من يهن يسهل الهوان عليه ‪ .....‬ما لجرح بميت إيالم‬ ‫وليعذرني الفيلسوف الكبير جورج سانتيانا مجددا ً على تحريف كلماته وتشويهها‪:‬‬

‫أولئك الذين ال يستطيعون تذكر الماضي سيحكم عليهم بتكراره مجددا ً‬

‫وما توفيقي إال باهلل‬ ‫فريد أبوسرايا‬ ‫الثالثاء ‪ 15 ،‬سبتمبر ‪ 2015‬م الموافق ‪ 1‬من ذي الحجة ‪ 1436‬هـ‬

‫‪24‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.