1
................................
.................
.. .. .
.المشي إلى فنزويال بحذاء سندريال . . .بقلم :فريد أبوسرايا .....
........
.....
.....
........
مكان إلى يعرف الراغب األصفهاني المشي في كتابه ( المفردات في غريب القرآن ) ،بأنه االنتقال من ٍ مكان بإرادة ،ويفرق بين المشي والسعي بقوله :السعي المشي السريع ،وهو دون العدو ،ويستعمل للجد في ٍ األمر خيرا كان أو شرا ،قال تعالى :وسعى في خرابها . يختلف المشي باختالف الوسائل ،وتباين األهداف والغايات ،وتنوع الطرق ،فهناك مشي على السجاد األحمر ، وهناك مشي على الجمر األحمر كالذي يفعله السحرة الهنود ،وهناك مشي على البطون الذي حدثنا عنه نابليون بونابرت عندما قال :إن الجيوش تمشي على بطونها ،وعلى ذكر الجيوش فهناك مشي في حقول األلغام حيث تكون الخطوة الواحدة منه هي الفرق بين الحياة والموت ،وهناك مشي الفقراء ،الذي ذكره العباس بن األحنف الو ِح ُل ، الوجي َ في شعره قائالً :فعندما يمشي الفقير فإن كل شئ ضده ،وهناك من تَمشِي ال ُه َوينا كما َيمشِي َ وهناك مشي على القمر كما فعل نيل أرمسترونج ،ووصف الخطوة الصغيرة منه بأنها قفزة لإلنسانية جمعاء ، وهناك مشي في الفضاء كما مشى أليكسي ليونوف ،وهناك مشي على الماء كما مشى المسيح عليه السالم إلى السفينة التي بها تالميذه وسط بحر متالطم األمواج ،وهناك من يمشون أثناء نومهم ،وهناك من يمشون وهم بكامل وعيهم ،وهناك من يمشي على حبال مشدودة على ارتفاعات شاهقة ،والبعض يمشون حفاة ،والبعض االخر ناعلين ،وهناك قبيلة كاملة تسمى المشاشية ،يسمى الفرد منها المشاي ،وهناك من يمشي على بطنه ، وهناك من يمشي على رجلين ،وهناك من يمشي على أربع ،وهناك من يمشي مكبا ً على وجهه ،وهناك من يمشي سويا ً على صراط مستقيم ،وهناك من تمشي على استحياء ،وهناك من يمشي في األسواق ،وهناك قرآنا ً ض ه َْونًا ،وهناك من يجعل هللا له نورا ً الر ْح َم ِن الَّذِينَ َي ْم ُ علَى ْ يمشي على األرض (ص) ،وهناك ِع َباد ُ َّ األر ِ شونَ َ يمشي به في الناس ،وهناك من يحبه هللا فيكون رجله التي يمشي بها . وكما أن هناك من يجعل هللا له نورا ً يمشي به في الناس ،فإن هناك من يمشي بالنميمة بين الناس ليفسد َ ( :ه َّماز َّاء بنميم ) القلم ، 11وال يقتصر المشي على اإلنسان والحيوان ،فهو ينسب أيضا ً إلى المالئكة ( :قُ ْل لَ ْو ك َ َان َمش ٍ س ً ُون ُم ْط َمئِ ِن َ ض َم َالئِكَةٌ يَ ْمش َ وال ) اإلسراء . 95 ين لَنَ َّز ْلنَا َ س َم ِ علَي ِْه ْم ِم َن ال َّ اء َم َلكًا َر ُ فِي األ َ ْر ِ 2
يختلف المشي بإختالف المشائين ،ولكل مشاء مشيته الخاصة ،والمشية تدل على المشاء ،وهي تعبير عنه ، ومظهر من مظاهره ،وسمة من سمات شخصيته ،وإلى حد ما فإن المشي ليس بعدد الخطوات ولكن بسعة هذه الخطوات ،فالجمال بخطواتها الواسعة الرتيبة ال يستطيع الحادي مجاراتها بجريه .الجمال والحادي في نفس القافلة ،ولكن للجمال مشيتها ،وللحادي مشيته ،وال تستطيع الجمال أن تمشي كما الحادي ،وال يستطيع الحادي أن يمشي كما الجمال ،فلكل مشيته .إن مثل الجمال والحادي كمثل الحمامة والغراب ،فللحمامة مشيتها ، وللغراب مشيته ،وال يستطيع أيا ً منهما أن يمشي مشية اآلخر كما تقول حكاية ( الحمامة والغراب ) الشهيرة ،أن غرابا ً أعجبته مشية الحمامة ،فحدثته نفسه بأن يقلد مشيتها ،وبعد عدة محاوالت بذلها الغراب ليمشي كما الحمام باءت كلها بالفشل ،قرر أن يعود إلى مشيته األولى ،ولكن وفقا ً للمثل الشعبي القائل ( اللي تسيبها تسيبك ) ،فقد اختلط األمر على الغراب ولم يعد قادرا ً حتى على المشي كما تمشي الغربان . من الحوادث التي وقعت في جماهيرية الصقر األوحد ،ذلك الفردوس األرضي المأمول ،والتي يعد وقوعها هناك منسجما مع مقتضيات الحال ،ومتوافقا ً مع مجريات األمور ،أن كثير من الحمائم أفلحت في تقليد مشية الغربان ،وأتقنتها غاية اإلتقان ،ونست في الوقت نفسه مشيتها السابقة نسيانا ً تاما ً .عندما يحاول الغراب عبثا ً أن يقلد مشية الحمامة ،وينسى مشية أباءه اآلولين ،يسمى حينها ( حمراب ) ،ولكن عندما تمشي الحمامة كما يمشي الغراب ،فهي لم تعد حمامة ،ولن تصبح غرابا ً ،وإنما تتحول إلى مسخ آخر يسمى ( غرامة ) ،وما أكثر الغرامات في جماهيرية الصقر األوحد ،أول جماهيرية في التاريخ ! ومن هذه الغرامات ،غرامة لها قصة شهيرة لو كتبت باإلبر على آماق البشر لكانت عبرة لمن أعتبر :كانت في زمنها الجميل حمامة جميلة بريشها الناصع البياض ،ورجليها الحمراوتين ،وكان هديلها يمأل األجواء بهجةً وسرورا ،ومع روعة هذه العناصر الجمالية كلها ،إال أنها تتضآل عندما تمشي حمامتنا ،فقد كانت مشيتها جلوة للعين ومسرة للناظر ،ولكن كما يقال ما طار طائر وأرتفع ،إال كما طار وقع ،فقد أصيبت حمامتنا بداء غريب ،فتغير لون رجليها من األحمر القاني إلى األخضر ،وأنعقف منقارها إلى األسفل مثلما تنعقف مناقير الصقور ،وأخشوشن ريشها ففقد نعومته ولمعانه ،ثم بدأت تختلط بالغربان وتلتصق بهم ،وتمشي كما يمشون ،وإلى حيث يمشون .وفي آخر المطاف ساءت حالتها إلى درجة أنها باتت تنعق معهم وكأنها لم تكن في يوم من األيام حمامة ذات هديل وريش أبيض ورجلين حمراوتين ،وبذلك تحولت حمامتنا بالكامل إلى ( غرامة ) ،ثم رميت بثالثة األثافي فبدأت الغرامة تهذي بجهنم وتدعو إلى الفرار إليها ،وتسب بلسان سليط كل من حاول أن يذكرها بأنها في األصل كانت حمامة . للمشي أحوال وصفات وظروف ،وقد يكون باإلمكان القول بأن للمشي معايير ،ومواصفات ،فلكل مشية ظرفها وصفتها ،ففي بعض األحيان يرغب المرء في أن يحث خطاه ،ويسرع في مشيه ،وفي أحيان أخرى ال تكون السرعة هي المعيار الرئيسي للمشي ،وإنما بعد المسافة التي ينبغي قطعها مشيا ً ،وفي هذا الخصوص يقول مثل
3
أفريقي :إذا أردت أن تسرع في مشيك ،فامش لوحدك ،وإذا أردت المشي إلى مكان بعيد ،فامش برفقة آخرين. للفكر االشتراكي تأثير واضح على آراء الفيلسوف الفرنسي الكبير ألبير كامو ،فله في موضوع المشي رأي ملفت للنظر ،وجدير باالهتمام ،فهو يرى أن رفيقه في المشي يجب أن يمشي بجانبه ،ال في أي مكان آخر ، ويلخص فكرته هذه بقوله : ال تمش خلفي ،فقد ال اقودك .وال تمش أمامي ،فقد ال أتبعك .أمش بجانبي فقط ،وكن صديقي .
ووظف الشعراء والكتاب مفردة المشي في استعاراتهم وتشبيهاتهم ،فها هو الشاعر إبراهيم ناجي يصف في قصيدته ( األطالل ) من يمشي بخطى ثابتة بال َملك ،فيقول : واثق الخطوة يمشي ملكا ً .....ظالم الحسن شهي الكبرياء ويرسم الشاعر سميح القاسم صورة للمناضل يكون المشي أحد عناصرها البارزة ،فيقول : زيتون ،وعلى كتفي نعشي وأنا أمشي وأنا منتصب القام ِة أمشي ،مرفوع الهامة أمشي .في كفي قصفة َ ٍ نارا حي ًنا ،حبًا أحيان أمشي .قلبي ٌ قمر أحمر ،قلبي بستان فيه فيه العوسج فيه الريحان شفتاي سما ٌء تمطر ً زيتون وعلى كتفي نعشي وأنا أمشي وأنا أمشي . في كفي قصفة ٍ وفي مسرحية ماكبث ،يصف شاعر اإلنجليزية العظيم وليم شكسبير الحياة نفسها بأنها وهم من األوهام فيقول : ليست الحياة إال ظل يمشي . 4
ولإلمام البوصيري شعر في مدح حضرة الرسول (ص) يقول فيه :
محمد أشرف األعراب والعجم .....محمد خير من يمشي على قدم وللكاتب محمد الرطيان قول جميل في موضوع المشي : من يمشي أمامك ..ال يراك .الذين يرونك ،وينشغلون بالحديث عنك ،ونقد مشيتك :هم الذين كانوا ـ وما زالوا ـ يركضون وراءك. وفي الملحمة التاريخية الليبية المعروفة باسم ( تجريدة حبيب ) ،يتساءل حبيب أثناء رحلته لطلب يد العون للثأر لمقتل والده ( عبدالمولى األبح ) ،هل مطيته بطيئة المشي ،أم أن المكان الذي يقصده اليزال بعيدا ً ؟ : أما جملي مو مشاي ،وإال وطن مازال مبعدة ! وللتدليل على صعوبة أو إستحالة نيل المطالب وحصول المراد ،يقول المثل الشعبي " :ممشى بعيد وشوك " ،ومن الغريب أن كلمة ( ماشي ) في القاموس العامي المصري تدل على معنى الموافقة واإليجاب ،فإذا أُمر أحدهم بفعل شئ ما ،ورد على اآلمر بكلمة ( ماشي ) ،فكأنه قد قال :أمرك نافذ ،وللفنان محمد قنديل أغنية بعنوان ماشى كالمك يقول مطلعها :ماشي كالمك ماشى على عينى على عينى وعلى راسى ،كما تدل كلمة ( ماشي ) على إنسجام األشياء مع بعضها البعض ،فيقال :كالم ماشي مع بعضه ،وعندما يريد المواطن الليبي البسيط أن يعبر عن رضاه بالقسمة والنصيب فيقول :ماشي الحال ،وقد يقول : ماشي الحال ،كلمة في في عز الوجع تنقال . قد يُبتلى المرء بمن يتصيد أخطاءه ،ويُحصى عثراته وزالته ،وفي هذه الحالة لن ينجو من سهام النقد حتى لو كان عمله مبرء من العطل ومنزها ً عن الخطل ،فالناقد غير الموضوعي يكون تفكيره غير موضوعي ،ورغباته هي اآلخرى غير موضوعية ،ويكون محصلة هذا كله تفكير رغبوي ، wishful thinkingوال يمكننا القول بأن محصلة ذلك تكون تفكير رغبوي غير موضوعي ،ألننا بذلك سنقع في متاهة الحشو واإلطناب ،فأي تفكير رغبوي ال يمكن إال أن يكون غير موضوعي ،وتلخص رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت ثاتشر ،هذه الفكرة في مقولة رائعة ،توظف فيها مفردة المشي ( وهي ما يهمنا في هذ البحث ) ،فتقول : لو أن نقادي رأوني ماشية على مياه نهر التايمز ،لقالوا إنها تفعل ذلك ،ألنها ال تجيد السباحة . أدرك األقدمون فوائد المشي ومنافعه ،وما له من أثر في زيادة حيوية المشاء ونشاطه ،فربطوه بالتعلم والتعليم ، ففي عام 335ق.م أسس الفيلسوف اليوناني أرسطو مدرسة فلسفية قيل أنه كان يحاضر فيها ماشيا ً ،فأطلق عليها اسم المدرسة المشائية . peripatetic school يعتبر المشي رياضة مفيدة وسهلة نسبيا ً ،بإمكان الجميع ممارستها .والمشي أفيد حين يكون في أحضان الطبيعة ،سواء في الغابات بين األشجار ،أو على رمال شاطئ البحر ،أو على دروب السفوح الجبلية ،حينها 5
ينسجم المشاء مع الطبيعة ،وقد يصل إلى درجة يتماهى فيها مع الطبيعة التي هي مهد اإلنسان األول وقرينه ، ويصبح في حالة طبيعية خالصة .في أحضان الطبيعة ،حيث تنعدم الضوضاء والضجيج ويسود الصفاء ،ترق النفس ويتكثف العقل ويزداد تركيزا ً ،ويلف الهدوء والصمت الغابات ،وال يسمع فيها إال حفيف األوراق ،أو خرير الماء ،أو زقزقة العصافير ،أو رفرفة أجنحة الطيور المجفلة ،أو طنين الحشرات الحائمة فوق الزهر، فتنشط دورة الدم في عروق المشاء ،وتزداد حيويته وينتعش ذهنه .إن هذه الحالة بالذات هي التي دعت الفيلسوف األلماني الكبير فريدريك نيتشه للظن بأن المشي هو القابلة التي تخرج األفكار العظيمة من رحمها وتهيء لها مهدا ً في رؤوس المشائين ،وقال معبرا ً عن ذلك :كل األفكار العظيمة بحق تولد بالمشي .
والمشي في نواحي األرض وجوانبها هو وسيلة لكسب الرزق ،فأمر به الحق سبحانه وتعالى بقوله ُ ( :ه َو الَّذِي ض ذَلُ ً ُور ) الملك ، 15وهناك المشي َجعَ َل لَ ُك ُم األ َ ْر َ وال فَ ْ امشُوا فِي َمنَا ِكبِ َها َو ُكلُوا ِم ْن ِر ْزقِ ِه َو ِإلَ ْي ِه النُّش ُ بين رسوم وأطالل ومساكن األقوام الغابرة ،لالعتبار واالتعاظ ،فيقول أعز من قائل ( :أَفَلَ ْم َي ْه ِد لَ ُه ْم َك ْم أ َ ْهلَ ْكنَا ون يَ ْمش َ ت ِألُو ِلي النُّ َهى ) طه ، 128وفي نفس السياق يقول سا ِكنِ ِه ْم ِإ َّن فِي ذَ ِلكَ ََلَيَا ٍ ُون فِي َم َ قَ ْبلَ ُه ْم ِم َن القُ ُر ِ ون َي ْمش َ ت أَفَ َال سا ِكنِ ِه ْم ِإ َّن فِي ذَ ِلكَ ََلَيَا ٍ ُون فِي َم َ الحق جل شأنه ( :أ َ َولَ ْم يَ ْه ِد لَ ُه ْم َك ْم أ َ ْهلَ ْكنَا ِم ْن َق ْب ِل ِه ْم ِم َن القُ ُر ِ س َمعُ َ ون ) السجدة . 26 يَ ْ وكما أن للمشي وسائل وأدوات ،وطرق ومسالك ودروب ،فإن له آداب ،فيقول هللا سبحانه وتعالى على لسان لقمان ( :وأقصد في مشيك وأغضض من صوتك ) لقمان ، 19وينهى الحق سبحانه وتعالى عن المرح أثناء المشي بقوله ( :وال تصعر خدك للناس وال تمش في األرض مرحا ً إن هللا ال يحب كل مختال فخور ) لقمان .18 وفي مكان آخر يقول (:وال تمش في األرض مرحا ً ،إنك لن تخرق األرض ولن تبلغ الجبال طوال ) اإلسراء 37 إنها لحقيقة ناصعة ،أن اإلنسان مهما بلغ من القوة والجبروت فلن يكون بإمكانه أن يخرق األرض ،أو أن يبلغ الجبال طوال ،ولكن على الرغم من وضوح منطق هذه المسلمة ،إال أن أعضاء اللجان الثورية إبان حكم القائد األممي ألول جماهيرية في التاريخ ،وأرض كل العرب كانوا يخاطبون موالهم بالقول :سر بنا فسوف نخرق األرض ونبلغ الجبال طوال ،ولكن عندما حمي الوطيس لم نر األرض تنخرق ،ولم نر للجبال نظائر وأنداد ،بل رأينا اقزاما ً دنيئة تلوذ بالفرار ،ويتفرقون أيدي سبا . في العهد الجماهيري الذي أرخى سدوله على ليبيا طيلة أربعة عقود من الزمن المهدور ،كانت األبواق والطبول والمزامير تضخم األمور ،فتجعل من القزم عمالقا ً ،ومن الكسيح عدا ًء ،ومن الخائن أمينا ً ،ومن ضمن أفعال هذه األبواق أنها قامت بطباعة صورة لرسول الصحراء كتب تحتها عبارة تقول : قد أكون بطيء المشي ،ولكنني ال أمشي إلى الخلف مطلقا ً . نسبت الطبول والمزامير هذه المقولة للقائد المفكر ،وهي في الواقع مقولة للرئيس األمريكي إبراهام لنكولن ، وتقبل القائد المعلم ما نسبته إليه الطبول. 6
لم تستح الطبول من أفعالها ،وأنى لها أن تفعل ذلك ؟ وتقبل القائد الملهم قرع الطبول ،وأنى له أن ال يفعل ذلك ؟ تتناسب الوسائل واألدوات طرديا ً مع الغايات واألهداف ،فإذا كانت الغاية سامية ،والهدف نبيل ،فالبد أن تكون الوسيلة سامية ونبيلة ،ولما كانت الصالة هي لقاء العبد بربه ،فمن الطبيعي أن تنسجم اإلجراءات المؤدية لهذا اللقاء مع قدر ومكانة الملتقى به ،فيقول المصطفى عليه الصالة والسالم : " إذا سمعتم اإلقامة فامشوا إلى الصالة وعليكم السكينة والوقار ،وال تسرعوا ،فما أدركتم فصلوا ،وما فاتكم فأتموا" . ومن المشي ،التبختر ،فإذا مشى الرجل ببطء وتمايل وغنج معجبا ً بنفسه ،فهو يتبختر في مشيته .وشبيه بالتبختر ،االختيال ،فإذا تمايل الرجل ِكبرا ً وهو يمشي ،فهو يختال في مشيته ،وليس االختيال مذموما ً بوجه عام ،فالبحتري ينقل لنا صورة مجيء الربيع ،فيقول :أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا ً ،كما أن أبا دجانة ، ِس َماك بن خ ََرشة قد أعلم يوم أحد بعصابة حمراء ،وكان يختال بين الصفين ،ولم ير النبي (ص) ضير في اختيال أبي دجانة ذاك ،وقال :إنها مشية يبغضها هللا إال في هذا الموضع . ليس الحذاء من عناصر المشي الرئيسية ،كاإلرادة ،واألرجل ،والوسط الذي تدوسه األقدام أثناء المشي ، والمسافة التي ينبغي قطعها مشيا ً ،ولكن ال شك أنه يرفع من كفاءة المشي ،ويحافظ على سالمة األقدام ،والحذاء الجيد ،المريح يغري صاحبه بالمشي ،فالمشوار الذي يستصعبه الحافي ،أو صاحب الحذاء الضيق ،يجده الناعل نزهة وسياحة ،أما إذا كان الحذاء ضيقا ً لدرجة اإليالم ،فأن يحفى المرء خير له من أن ينتعل مثل هذا الحذاء ويمشي به .ليس الحذاء هو كل شئ ،ومع ذلك فهو شئ ،وال يمكن القول أنه بدون الحذاء ال يمكن المشي ،إال أنه يساعد كثيرا ً على ذلك ،ومن اإلستثناءات في هذا الشأن ،أن العداءة الجنوب أفريقية الشابة ( زوال بد ) لم تكن تستسيغ الجري في السباقات الدولية وهي منتعلة حذاء ،ولذا فقد كانت تجري حافية ومع ذلك كانت تحقق النتائج المبهرة. إذا ذكر المشي فالبد أن يقترن ذكره بمسافة لكي تكتمل الصورة ،ويتضح المشهد ،وإذا ذكرت المسيرة الطويلة فالبد من ذكر المسافة التي قطعها الجيش األحمر الصيني للهروب من قوات الكومنتانغ ،والتي تبلغ حوالي 9000كيلومتر ،بيد أن ماو تسي تونغ وأتباعه لم يقطعوا هذه المسافة الطويلة اختيارا ً بل كرها ً ،فهناك فرق كبير بين أن ترفض المشي وتظل في مكانك وتقتل ،وبين أن تمشي ،ويوفر لك المشي فرصة للنجاة بحياتك . لقد كان المشي بالنسبة لماو وأتباعه مسألة حياة أو موت ،ولذا فقد كانوا مستعدين للمشي حتى للشمس .في بعض األحيان يكون المشي هو الوسيلة التي تستعيد بها ملكك ،مثلما جرى مع اإلمبراطور الروماني المقدس هنري الرابع في يناير من عام 1077م ،بعد أن أصدر البابا جريجوري السابع بحقه حرمانا ً كنسيا ً ،فقد أدرك أنه ال مناص من الرضوخ إلمالءات البابا وقطع المسافة من ألمانيا إلى إيطاليا مشيا ً على األقدام فيما يعرف تاريخيا ً بالمسير إلى كانوسا ،أو مذلة كانوسا .Walk to Canossaأرتمى االمبراطور على بوابة قلعة 7
كانوسا وجثا على ركبتيه لمدة ثالثة أيام وثالثة ليال وسط عاصفة ثلجية حتى سمح له البابا بالدخول والمثول بين يديه ،ثم رفع عنه الحرمان الكنسي .لم يكن االمبراطور هنري الرابع من هواة رياضة المشي ،ولم يحبطه طول المسافة من سبير speyerإلى كانوسا والتي تقدر بحوالي 550كيلومتر ،ولم يؤثر فيه اإلذالل على أبواب قلعة كانوسا والوقوف صاغرا ً في حضرة هيلدبراند ،فقد رأى أنه إذا مشى أستعاد ملكه ورفع عنه الحرمان الكنسي ، وإذا لم يمش تأمر عليه األمراء األلمان وقتلوه .لم يكن المشي بالنسبة لإلمبراطور هنري الرابع وسيلة بل ضرورة واجبة التحقيق .وفي 12مارس ، 1930ضمن منهج الالعنف في المطالبة بالحقوق ( الساتياجراها )، أنطلق موهنداس غاندي وبعض أتباعه من بلدة ( سبارماتي أشرام ) القريبة من مدينة ( أحمد أباد ) مشيا ً على األقدام ،قاصدين قرية داندي الساحلية بوالية قجرات ،فيما عرف تاريخيا ً بمسيرة الملح أو مسيرة داندي .لم يكن غاندي وهو يمشي ،هاربا ً من القتل كما فعل ماو تسي تونغ ،أو طالبا ً للملك كما فعل االمبراطور المقدس هنري الرابع ،وإنما رافضا ً لقوانين الملح البريطانية وضريبة الملح المجحفة التي تفرضها هذه القوانين ، وممارسا ً لعصيان مدني من أجل إستقالل بلده الهند عن بريطانيا . يقو ل الفيلسوف الصيني الو تزو ،وهو أحد األنقياء الثالثة في الطاوية :أن مشوار األلف ميل يبدأ بخطوة ، ولكن ماذا عن مشوار الخمسة آالف ميل ؟ إن مسافة شاسعة كالمسافة بين ليبيا وفنزويال ،والتي تبلغ حوالي 8000كيلومتر تجعل المرء يفكر مرتين أو ثالث مرات قبل أن يوافق على فكرة المشي إلى فنزويال حتى لو كان تحت تصرفه ترسانة أحذية كتلك التي كانت ألميلدا ماركوس . إن مسألة المشي من ليبيا إلى فنزويال تطرح تحديا ً يصعب قبوله حتى من قبل قائد النصر والتحدي ،أو ممن أشتهروا بالمشي أو بإقتناء أحذية أشتهرت بين الناس ودخلت التاريخ من أوسع أبوابه ،فعلى سبيل المثال ،هل لو قبلت هريرة أن تمشي إلى فنزويال أكان باستطاعة األعشى أن يقول :
جارتِ َها .....مر السحابة ِ ،ال ٌ كَأن ِم ْ ريث وال عج ُل شيَت َ َها ِم ْن بَ ْي ِ ت َ وهل كان بوسع أبو القاسم الطنبوري أن يمشي بحذائه الشهير من بلد كليبيا إلى فنزويال ،أم أن ثقل حذائه الذي يضرب به المثل كان سيثبط من عزيمته ،ويجعله يتثاقل على األرض ؟ وهل لو أخبرت سندريال الجميلة بأن في فنزويال أمير جميل يحب الفقراء ،أكانت ستغامر بالذهاب إليه هناك لت رقص معه أم أن حذائها الزجاجي كان سيقف حجر عثرة في طريق تحقيق هذه األمنية ،ولتمنت حينها لو كان حذائها من الفراء بدال من الزجاج ؟ على أية حال ،سواء كان حذاء سندريال من الزجاج verreأو من الفراء ، vairفإن زوجة أبيها الشريرة وأبنتيها القبيحتين كن سيمنعنها من المشي إلى فنزويال للرقص مع األمير الجميل ،كما أن فكرة الرجوع من فنزويال إلى أول جماهيرية في التاريخ ،وأرض كل العرب بفردة حذاء واحدة ليست بالفكرة المغرية على االطالق . 8
أمر ال يروق كثيرا ً لمارتن لوثر كنج االبن ،فهو ال يرى أن عدم القدرة على المشي يجب إن إستصعاب المشي ٌ أن يكون حجر عثرة في طريق المرء ،وأن يحول بينه وبين التقدم إلى األمام ،ويقول في هذا الشأن : إن لم يكن باستطاعتك الطيران ،أجر ،وإن لم تستطع الجري ،أمش ،وإن لم تستطع المشي فازحف .. ولكن أيا ما كنت فاعالً ،فعليك اإلستمرار بالتحرك إلى األمام . على ذكر حذاء سندريال ،فإن للحذاء حكاية مع قائد النصر والتحدي ،فقد كان قائد الثورة ينظر إلى الحذاء نظرة شاملة ،فلم تكن وظيفة الحذاء في نظره مقتصرة على كونه لباس لألقدام ،بل كان يعي داللة الحقارة والوضاعة والدونية المرتبطة المرتبطة به ،فوظف الحذاء ال ليمشي به على بساط األرض فقط ،بل ليدوس به على وجوه الناس ،وإلبداء إستحقاره وإستخفافه بهم أيضا ً . في عام ، 1991وأثناء بث حلقة من حلقات برنامج األسبوع الرياضي الذي يقدمه محمد بن تاهية ،وأُستضيف فيه العب فريق االتحاد سالم مانا ،والمدرب الجزائري كمال لموي وإداري نادي االتحاد محمد عجاج ،وكان الحوار يدور حول سبب خروج نادي االتحاد من بطولة أفريقيا أمام فريق آسيك أبيدجان العاجي ،وتطرق النقاش إلي المشاكل التي تعتري الرياضة الليبية وسبب اإلخفاقات التي تمنى بها ،وفجأة قطع بث التلفزيون الحكومي ، وظهرت على شاشة التلفزيون صورة حذاء مرسوم ،ونعله مواجها ً المشاهدين .لقد جعل قائد الثورة الشعب الليبي ( أو كل من كان يشاهد التلفزيون الليبي ) في مواجهة مع نعل حذاء .ليس هناك أي تأويل أو تفسير هذه الفعلة سوى أن القائد قد اراد أن يدوس على وجوه الليبيين كلهم بحركة واحدة ،وفي مرة واحدة . وفي خطاب ( الذئاب وحدها هي التي تأكل اللحم ) ،كان القائد المعلم يقلب صفحات سجل كبير بحركات نزقة ، مستكبرة ال تدل على أدنى إحترام لمن كان يوجه إليهم كالمه ،وقال أثناء مناقشته لواردات الشركة العامة للمنتجات الجلدية من أحذية مصنعة في الخارج بما قيمته ماليين الدينارات ،أنه يجب على كل من يملك حذاء أن يصلحه ( يخصفه ) ،وأن على الليبيين أن يشجعوا األساكفة ( الخرازين ) على ممارسة حرفتهم ،حتى إذا أحتاج مداس أحدهم لتصليح ذهب إلى اإلسكاف ( الخراز ) ليصلحه له ،ثم ختم حديثه بقوله :ال نريد أحذية . فيما يلي الحوار الذي جرى مع القائد الملهم بخصوص الحذاء : أحذية هذي .الشركة العامة للمنتجات الجلدية .جميع أنواع الجلود واألحذية .قاري فيها حتى الماليين تجميع من بره . قولوا اللي عنده حذاء بيرقعه .ديروا الـ ،....شن أسماه اللي يصلح في األحذية هذا ؟ ـ خراز . مالخ ،وإال مراس ،وإال ..شن قلت ؟ ـ خراز آه ؟ ـ خراز خراز ،أيوه .ديرونا خرازين بس ،بيش بعد يتقطع مداسنا نمشوله .يا ريت كل واحد يخرز الكندرة اللي عنده ،تقعد عنده عامين ثالثة ،هيا .يرقعها بيش نستغنوا ،نسكروا هالباب بكل .ما نبوش أحذية . 9
من عانى معاناة حقيقية وصادقة من هذه الوقاحة والصفاقة ،وكان يشعر بهذه اإلهانات في بؤرة شعوره ،وهو مغلوب على أمره ،ثم قضى هللا أمرا ً كان مفعوال ،وأخذ هذا الوقح الصفيق أخذا ً وبيال ،ولم يستذكر هذا المهان الذي أنقذ بعد فترة هذه التجارب المحزنة ،ويستخلص منها دروسا ً وحكما ً تعينه على عدم الوقوع فريسة لإلهانة واالحتقار مجددا ً ،ونسى كل ذلك التاريخ المهين ،فسينسيه هللا نفسه .ونعوذ باهلل من الحور بعد الكور ، وليعذرني الفيلسوف الكبير جورج سانتيانا على تحريف كلماته وتشويهها:
أولئك الذين ال يستطيعون تذكر الماضي سيحكم عليهم بتكراره مجددا ً
10
في شهر مارس من عام ، 2011أنطلق رج ٌل من قاعدة معيتيقة الجوية بمدينة طرابلس ماشيا ً على قدميه في إتجاه الشرق ،وبعد خمسة عشر يوما ً وصل إلى مدينة مصراتة .كان ذلك الرجل يمشي على أديم األرض ، ولكنه ما أن بلغ مصراتة حتى بدأ يمشي على درب آخر يختلف تمام االختالف ،درب شاق ،خطر .بدأ علي حدوث يمشي على شفرات السيوف ،ومن المعلوم أن هذا النوع من المشي يتطلب الكثير من اإلتزان والثبات والصبر ألن أقل نسمة كفيلة بأن تطيح بالمشاء من أعالي السماء إلى قيعان الفناء ،فكما أن في االخرة مشي على الصراط ،تزل فيه قدم من يزل ،وتثبت فيه قدم من يثبت ،فإن في الدنيا نسخة مصغرة جدا ً منه ،وهو المشي على شفرات السيوف .لقد أدرك علي حدوث أن شفرة السيف ،هي الصراط المؤدي إلى باب المنية ،ولم يكن يريد أن يأتي المنية إالّ من بابها ،لتتم المقابلة وجها ً لوجه وبدون حجاب ،وقال معبرا ً عن موقفه :
وسوف يبقى هو في مزبلة التاريخ ،وسوف يبقى هو الجرذ .فليظهر أمام النسور وأمام األسود .نحن نمشوا على شفرات السيوف ونأتوا المنية من بابها . العميد طيار علي عطية هللا حدوث وسط ثوارمصراتة .الثالثاء 5 ،أبريل 2011
11
وفي يوم األربعاء ،بتاريخ 6يوليو من عام ، 2011توقف علي حدوث عن المشي ،وترجل عن صهوة سيفه ، وبيده المضرجة ،وبأشد ما يكون الدق أخذ يدق باب المنية ،وبأقوى ما يكون العزم أتى بالعزائم . وقبل هذا ،وتحديدا ً في يوم الخميس ،بتاريخ األول من أبريل من عام ، 1965ترجل الشاعر المجاهد محمد محمود الزبيري عن صهوة سيفه ،وهو الخبير بالمرور على شفرات السيوف ،وإتيان المنايا من أبوابها ،ولكن الزبيري لم يحدد الكيفية التي يمر بها على شفرات السيوف ،أكان ذلك مشيا ً أم عدوا ً أم هرولةً ،فيقول:
خرجنا إلى الموت شم األنوف .....كما تخرج االُسد من غابها نَ ُمر على شفـــــرات السيوف .....ونأتي المنيـــــــة من بابها ثم يؤكد على أن اإليمان بالقضاء والقدر ال يتعارض مع األخذ باألسباب :
ونعلم أن القضـــا واقع .....وأن األمــــــور بأسبابها و يحدد الخاتمة بكلمتين ،وهما :فيا طالما ،وفيا حبذا .إما نصر ،وإما شهادة .وحسب راي عبدالرحيم محمود، ( إما وإما ) :إما حياة تسر الصديق ،وإما ممات يغيظ العدا :
فإن نحن فزنا فيا طالما .....تذِل الصعـــــاب لطالبها نلق حتفا ً فيا حبـذا .....المنايا ...تجيء لخطابها وإن َ لم يرغب ابن أفريقيا البار ،وملك ملوك أفريقيا ،وصانع االتحاد األفريقي ،وحكيم أفريقيا في أن يترك أفريقيا ويتخلى عن جماهيريته ،بلد المليون حافظ ،وأن " يمشي " إلى فنزويال على الرغم من أنه كان يواجه تمردا ً خطيرا ً تقوده بعض الجرذان العميلة ،بيد أن هناك سؤاالً يطرح نفسه ويلح على األذهان مستجوبا ً ،وهو :لماذا تمسك صانع المجد ،وصانع الحياة ،وصانع عصر الجماهير بالبقاء على أرض جماهيريته ،ولم " يمش " إلى فنزويال ،كما مشت القطط السمان التي كانت تموء حوله إلى بقاع مختلفة من األرض وتركته وحيدا ً في مواجهة عصي الجرذان ؟ يجب أن نستدرك التعميم بالتخصيص ،ونقول كلمة للحق وللتاريخ ،وهي أن ليس كل القطط السمان قد "مشت" مخلفة الجماهيرية وراء ظهورها ( أو باألحرى وراء ذيولها ) ،فبعض هذه القطط بقى في الجماهيرية وتحالف مع الجرذان ،بل أن بعضها قد تنكر ألصله ( السنوري ) ،وأنتسب إلى رتبة القوارض ،وقاد حركة الجرذان وتزعمها . ويطرح تحالف الجرذان مع القطط السمان سؤاالً محيرا ً ،وهو :
أيهما أفضل جيش من القطط السمان يقوده جرذ ،أم جيش من الجرذان يقوده قط سمين ؟
12
ربما ال يمكننا تمثيل أحد طرفي النزاع بدالة متغيراتها محددة فقط بمتغيرين ،وهما :القطط السمان والجرذان ، ولكن قد يكون التمثيل أدق وأصح بدالة أخرى يكون متغيراها هما :هي القطط والجرذان السمان . من المحتمل أن يكون السبب الذي حال دون " مشي " القائد إلى فنزويال ( ليس بالطبع مشيا ً على األقدام ،وإنما عن طريق الجو ) ،هو وجود الحيوان المسمى خنزير الماء Capybaraبكثرة في فنزويال ،فإذا كانت الجرذان تتبع رتبة القوارض ،فإن خنزير الماء هو أعظم القوارض الحية على اإلطالق .
و بما أن الجرذان ( القوارض ) هي التي نغصت على األخ القائد عيشه في الجماهيرية ،فليس من الحكمة في شئ أن يستبدل القائد قوارض بقوارض أخرى ،وأن يقفز من سفينة موبؤة بالجرذان إلى بحر يعج بخنازير الماء ، فهنا قوارض ،وهناك قوارض ،بل إن القوارض هناك أعظم خلقة ،والبد أن قائد الثورة قد ترأى له أنه في كلتا الحالتين سيكون ضحية ألسنان القوارض .كما أن لخنازير الماء نقيصة أخرى باإلضافة إلى كونها من القوارض ،وهي نقيصة تكمن في أسمها ،فالقائد ال يحب الخنازير ،سواء كانت خنازير الماء أو كانت خنازير الجزيرة .ولكن من المفارقات العجيبة ،أنه على الرغم من كرهه للخنازير ففي آخر عهده حاول أن يتقرب من خنازير الجزيرة ويطلب عونها ،ولكن تقربه ذاك قوبل بالصدود والرفض . قد يكون هذا هو التصور الذي أنتهى إليه ملك الملوك وبنى عليه موقفه بعدم المشي إلى فنزويال ،ولكن هناك احتمال آخر قد يكون هو الذي ثبط من عزيمة القائد ،وحال دون " مشيه " إلى فنزويال :ال شك أن األخ القائد كان يعلم ب أنه " سيمشي " إلى بلد يفخر بوجود أعلى شالل في العالم على أرضه ،وهو شالل أنجل ،ويفتخر أيضا ً بوجود معالم مائية أخرى على أراضيه كبحيرة ماراكيبو ،ونهر أورينوكو ودلتاه الرائعة التي تعد معلما ً طبيعيا ً جاذبا ً للسياح من مختلف بقاع العالم .ال يغرب عن بال رسول الصحراء ،ومهندس النهر الصناعي العظيم ،أنه ليس هناك ما يذكر المرء بالماء أكثر من الماء نفسه ،فتصور أن وجوده وسط هذه المعالم المائية 13
بفنزويال سيذكره حتما ً بالنهر الصناعي العظيم ،وال شك أن هذه الذكريات ستؤرقه وتقض مضجعه ،وتجعله في حنين متصل لالتصال بمياه ذلك النهر ،والخوض بجواده في مياهه .بهذه الوضعية لن يتغير المشهد كثيرا ً على بوعباة ،وولد الخيمة ،وشراب حليب الناقة ،فهنا قوارض ،وهناك قوارض .وهنا نهر ،وهناك نهر ،وهنا ماء ،وهناك ماء ،أو كما قال علي بن سودون اليشبغاوي :
كأننا والمــــــــــــــاء من حولنـا .....قوم جلوس حولهم مـــــــاء واألرض أرض والسماء سمــاء .....والماء ماء والهواء هــواء والبحر بحر والجبال رواســـــخ .....والنور نور والظالم عمـــاء والحر ضد البرد قول صــــــادق .....وجميع أشياء الورى أشياء ويقال أن الناس تنطق مثلنـــــــا .....أما الخراف فقولها مـأمــاء مر والحالوة حلـــــــــــوةٌ .....والنار قيل بأنها حمــــــراء والمر ٌ صعب ُُ والركوب نزاهـةٌ ُُ .....والنوم فيه راحةٌ وهنــــــاء والمشي ٌ كل الرجال على العموم مذكـــــر .....أما النساء فكلهن نســــــاء صعب ،ويتفق مع ولد الخيمة ،الفقيه ،في ويؤكد ابن سودون المصري هنا على حقيقة هامة ،وهي أن المشي ٌ أن الرجال ذكور ،وأن النساء إناث .لقد كتب بوعباة ،شراب حليب الناقة ،أثناء أحد تجلياته الفكرية كالما ً يكاد يكون تفسيرا ً لشعر ابن سودون ،وقال في كالمه ذاك : المرأة إنسان والرجل إنسان ليس في ذلك خالف وال شك .إذن المرأة والرجل متساويان إنسانيا ً بداهة .وأن التفريق بين الرجل والمرأة إنسانيا ً هو ظلم صارخ ليس له مبرر .فالمرأة تأكل وتشرب كما يأكل الرجل ويشرب ..والمرأة تكره وتحب كما يكره الرجل ويحب ...والمرأة تفكر وتتعلم وتفهم كما يفكر الرجل ويتعلم ويفهم ..والمرأة تحتاج إلى المأوى والملبس والمركوب كما يحتاج الرجل إلى ذلك ..والمرأة تجوع وتعطش كما يجوع الرجل ويعطش ..والمرأة تحيا وتموت كما يحيا الرجل ويموت . وقال أيضا ً في نفس السياق : المرأة أنثى والرجل ذكر ..والمرأة طبقا ً لذلك يقول طبيب أمراض النساء ( أنها تحيض أو تمرض كل شهر والرجل ال يحيض لكونه ذكرا ً فهو ال يمرض شهريا ً بالعادة وهذا المرض الدوري أي كل شهر هو نزيف ..أي أن المرأة لكونها أنثى تتعرض طبيعيا ً لمرض نزيف كل شهر والمرأة إن لم تحيض تحمل ..وإذا حملت تصبح بطبيعة الحمل مرضعة قرابة سنة ..أي مشلولة النشاط الطبيعي حتى تضع .وعندما تضع أو تجهض فإنها تصاب بمرض النفاس وهو مرض مالزم لكل عملية وضع أو إجهاض ،والرجل ال يحمل وبالتالي ال يصاب طبيعيا ً بهذه األمراض التي تصاب بها المرأة لكونها أنثى والمرأة بعد ذلك ترضع ما كانت تحمله ..والرضاعة الطبيعية قرابة العامين ..والرضاعة الطبيعية تعني أن المرأة يالزمها طفلها وتالزمه بحيث تصبح كذلك 14
مشلولة النشاط ومسئولة مباشرة عن إنسان آخر هي التي تقوم بمساعدته في القيام بكل الوظائف البيولوجية، وبدونها يموت ) والرجل ال يحمل وال يرضع .أنتهى شرح الطبيب .
لو أن النائبة األوروبية ليتشيا رونزولي Licia Ronzulliأقتنعت بكالم الفاتح العظيم ،وقائد اإلنسانية ، والمفكر الثائر ،وقائد المسيرة المظفرة ،والقائد المنتصر ألصبحت مشلولة النشاط ،ولسلبت القدرة على ممارسة عملها كنائبة في البرلمان األوروبي ،ولكنها كانت امرأة امرأة ،وأنثى أنثى كجداتنا وبعض أمهاتنا اللواتي كان يأتيهن المخاض في غمرة أعمالهن الشاقة ،فيضعن مواليدهن ويقطعن الحبل السري بأيديهن ،ثم يقمن بربطه بأعمالهن الشاقة ،وال خوف عليهن من شلل وال هم يحزنون . إن أي مجتمع إنساني يفرض عليه العفن األخضر اآلنف الذكر لعقود من الزمن ،ثم تتدخل العناية اإللهية لتنتشل هذا المجتمع من المستنقع الفكري الذي كان غارقا ً فيه ،وال يستذكر أفراده بين الفينة والفينة نتانة ذلك المستنقع وقذارته من باب اإلتعاظ ،فالبد أن تغمرهم مياه ذلك المستنقع اآلسنة عاجالً أم أجالً ،وسيفرض عليهم ليس كتابا ً أخضرا هذه المرة ،بل كتابا ً أسود ،حالك السواد ،وليعذرني الفيلسوف الكبير جورج سانتيانا مجددا ً على تحريف كلماته وتشويهها: 15
أولئك الذين ال يستطيعون تذكر الماضي سيحكم عليهم بتكراره مجددا ً
من المؤكد أن العفن األخضر اآلنف الذكر لم تسمع به كحالة ليبية أشتهرت بإعجابها الشديد بكتابات رسول الصحراء ،والفارس الخامس ،وإال لكانت قد أقامت الدنيا ولم تقعدها ،وهي تدعو الناس إلى قراءته بحماسة كتلك الحماسة التي يبديها أفراد جماعة شهود يهوه أثناء دعوتهم الناس إلى الدخول في مملكة الرب يهوه .ومن غرائب وعجائب هذه الكحالة الليبية أنها تقول الشئ ،ثم تأتي بعد فترة قصيرة وتقول نقيضه ،وليس هناك وصف لهذه الحالة أصدق من قوله سبحانه وتعالى ( :وال تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا ً ) النحل . 91 إذا كان العرب يطلقون على طبيب العيون اسم الكحال ،ألنه كان يصف حجر األثمد ( الكحل ) لمرضاه ،فإن كحالتنا الليبية هي أولى بالكحل من مرضاها ،فإنه ال تعمى األبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور. في واقع األمر ،إن حالة هذه الكحالة ،هي حالة مستعصية ألزمة نفسية من أهم أعراضها مغالطات منطقية في غاية الوض وح .لقد تعلمنا باإلستقراء ،عدم التسرع بإبداء إعجابنا بما تكتبه هذه الكحالة ،ألننا علمنا من خالل الواقع أنها ستأتي بعد فترة قصيرة بما يناقض ما كتبته .إن المطلع على كتاباتها وأقوالها ال يملك أن يمنع نفسه علّي وطي ) التي يلعبها األطفال ،حيث يجلس طفالن متقابالن على لوح أن يتصور أنه إزاء لعبة النَّواسة ( ِ خشبي ويتناوبان الحركة صعودا ً وهبوطا ً ،وال بأس من ذكر مثل واحد يوضح ما نعنيه بقولنا ( لعبة النواسة ) ، ففي األول من سبتمبر من عام ، 2010كتبت كحالتنا مقالة بعنوان ( وطني ،إلى أين ؟ ) ،وصفت فيها الصقر األوحد بالعقيد المريض ،وسفاح ليبيا األول ،والحاكم الفاسق الذي أخذته العزة باإلثم حتى أصبح يتباهى بممارسته للظلم جهارا : " حين حلقت طائرات البحرية اإليطالية في سماء ليبيا مشاركة للقذافي في إحتفاله المشؤوم ،صبغت سماء وطننا بالعلم اإليطالي ،وقد إستنكر الكثير منا ذلك ،ولكن نظام العقيد المريض لم ير في ذلك ما يمس شعبنا وسيادته ،وبحجة إصرار الطيارين على إستخدام العلم اإليطالي وتهديدهم بعدم القيام باستعراضهم ،إنحنت إرادة النظام البالي وخضعت إلرادة الضيوف ،والمدفوع لهم من أموال الشعب الليبي مسبقا للقيام بهذا 16
اإلستعراض! وال أجد في هذا السياق وصفا لذلك العذر سوى أنه عذر أقبح من الذنب ،ولكن ،ال يُالم الذئب في عدوانه ،إن يكُ الراعي عدوا للغنم" . ثم تطرقت في مقالتها إلى مناقشة قبلة بيرلسكوني ليد القذافي وشككت في دوافعها ،وقالت فيها ما يلي : " تبع هذا قُبلة برلوسكوني الشهيرة على يد القذافي! وقد إستنكرها اإليطاليون كما إستنكرها شعبنا األبي لما لف ذلك السلوك ،إال أن بها من غرابة تدعو إلى الشك في دوافعها .وال يخفى على أحد أنه رغم الغموض الذي َّ عمال كهذا من قبل رئيس وزراء لدولة لها سيادتها تجاه رئيس دولة أخرى يفتح الباب أمام الكثير من التكهنات ،كما أن ماضي الرجلين المشين والشبهات التي تحوم حولهما فيما يخص تحركاتهما اإلرهابية تدفعنا إلى التساؤل عن الدافع الذي أدى ببرلوسكوني لكي يتخذ تلك الخطوة الجديدة في تعامله مع القذافي ،وتدفعنا جميعا إلى السؤال :من هو معمر القذافي؟ وما وراءه؟ " وفي الخامس من يوليو من عام ، 2015كتبت ( حالة التناقض هذه ) على حسابها بموقع التواصل االجتماعي الفيس بوك ما يلي : " #كلمة #حق في #معمر #القذافي ليقبل يد من ـ سواء إتفقنا معه أو لم نتفق ،لم يكن خائنا أو عميال ،ولم يبع وطنه ،ولم يَركع م ٌ ستعمر سابق ِ أستعمر إال له ..ولن يتكرر هذا من جديد. ـ اعلم مسبقا بأن ألسنة السوء ستنهال علي بما لم يقله مالك في الخمر ،ولن تعكس سوى السقوط االخالقي ألصحابها الذين أبهروا العالم ..وال يزالون ... أقول لهم :هاتوا من عندكم رجال يركع له رئيس دولة كما فعل برلسكوني ...لقد فقدت ليبيا هيبتها.. إن#عدونا هو من #فرقنا و #قسمنا ..وانبطح للمستعمر... وعلى رأي المثل الليبي القديم: #اللي #اتبدد #ما #اتجي #مليانة... د فاطمة الحمروش " 05/07/2015 هذا مثال واضح لما نعنيه بـ " النواسة الفكرية " التي تعاني منها حالة التناقض المستعصية هذه .إن الرد على مثل هذه النواسة الفكرية ال يحتاج إلى بذل كثير عناء ،فكما يقال ( من فمك أدينك أيها العبد الشرير ) ،ولكنني ال أريد أن أبتعد كثيرا ً عن السياق العام لهذا البحث ،ولذلك سأتناول موضوع هذه الكحالة بالتفصيل في بحث آخر مسلي. 17
تعني كلمة فنزويال حرفيا ً فينيسيا الصغيرة ،وفينيسيا هي أحدى المدن اإليطالية ،وإيطاليا هي الدولة التي أحتلت ليبيا وأرتكبت أثناء احتاللها العديد من المخازي بحق الليبيين ،وكما تقول الكحالة الليبية اآلنفة الذكر فإن القائد الثائر هو من أجبر رئيس وزراء إيطاليا سلفيو بيرلسكوني على تقبيل يد ابن عمر المختار وتقبيل يده هو بنفسه ، فكيف إذن سيطيب للمفكر الثائر العيش في بلد أسمه هو تصغير إلحدى مدن المحتل ؟ وقد يكون السبب الذي منع المجد ،وصانع المجد ،والصخرة الصماء من عدم المشي إلى فنزويال هو أن هذا البلد ينتمي إليه أكبر عدد من الحسناوات الفائزات بمسابقتي ملكة جمال العالم وملكة جمال الكون ،وعندما " يمشي " القائد لفنزويال ،الشك أن الدكتورة عائشة الملقبة بـ ( كلوديا شيفر الليبية ) ستكون من ضمن الركب المرافق للقائد في " مشيه " إلى هناك ،وفي هذه الحالة ،أين ستجد كلوديا شيفر الليبية مكانا ً يليق بجمالها وشعرها األشقر وسط بلد يعج بملكات جمال العالم وملكات جمال الكون ؟ كما أن إيلين سكاف زوج القبطان هانيبال ستكون هي األخرى من ضمن ركب القائد األممي بعد أن رفض بلدها األم لبنان إستقبالها ،ومن المعلوم أن في فنزويال جالية لبنانية كبيرة ،ومن المؤكد أن هذه الجالية ستعتبر ابنة جلدتها إيلين شخصية غير مرغوب فيها ، persona non grataومن المؤكد أيضا ً أن أي مجتمع حر كريم سيتبرأ من هذه الفاجرة التي جعلت طفلها البرئ مطية للكالب ،ومن كل من له صلة بها . ينتصب في أبرشية سان بيدرو بالعاصمة الفنزويلية كاراكاس تمثال نصفي للمجاهد عمر المختار ،وقد يكون هذا التمثال بالذات هو ما جعل القائد يحجم عن " المشي" إلى فنزويال ،فتمثال عمر المختار هناك سيذكر القائد بتالعبه برفات المجاهد وإزالته لضريحه من على وجه األرض بعد أن جعله مكان يتبول فيه العمال والمتسكعين في مدينة بنغازي .لم يرض القائد أن يكون ضريح المختار حتى " مبولة " تنبعث منها رائحة تزكم األنوف بعد أن كان رمزا ً لمدينة بنغازي يقصده القادمون إليها ليقرأوا سورة الفاتحة ترحما ً على روح المجاهد .والبد أن القائد خشي أن يستحضر وجود هذا التمثال روح صاحبه ،فيسأله سؤاالً محرجا ً : ما الذي دعاك يا حفيدي ،إلى القول في ذكرى إستشهادي ،في اجتماع بمشائخ القبائل واألعيان بمنطقة سلوق ، إثر هزيمة وادي الدوم ،بأنني مت وخلفت بنات فقط ؟ ثم ما العيب في البنات ،حتى يعير بهن المشائخ ؟
.
قاد سيمون بوليفار حركات التحرر من أسبانيا في معظم بلدان القارة ،وهو من مواليد العاصمة الفنزويلية 18
كاراكاس .إن إنتماء مثل هذا المحرر العظيم لفنزويال هو أمر من شأنه أن يكسف سيرة قائد الثورة ويقزم جهوده في مساعدة كثير من حركات التمرد ،والتي لم تكلل بتحرير شبر واحد من األرض . فينيسيا الصغيرة ،وخنازير الماء ،وملكات الجمال ،ودلتا نهر أورينوكو وشالل أنجل ،وتمثال نصفي لعمر المختار ،وسيمون بوليفار ،وإيلين سكاف وفجورها ،قد يكون أحد هذه األشياء أو بعضها أو كلها مجتمعة هي التي حالت دون أن " يمشي " الرياضي األول ،والفارس األول ،والفارس الخامس ،والمهندس األول ،والمعلم األول ،والكشاف األول إلى فنزويال ،وهي التي جعلته يرد على اإلشاعة التي روجتها الجرذان ،ويقول متهكما ً في خطاب زنقة زنقة الذي ألقاه يوم الثالثاء 22 ،فبراير : 2011
" أنا نمشي لفنزويال ..وهللا !؟ "
ليس المشي إلى فنزويال ببدعة في مسيرة قائد الثورة ،القائد األوحد ،والقائد المظفر ،وقائد مسيرة اإلنسانية في رحلة االنعتاق النهائي ،وقائد النصر والتحدي ،و قائد القيادة الشعبية اإلسالمية ،فقد مشى إليها في يوم االثنين بتاريخ 28سبتمبر 2009لحضور قمة زعماء أمريكا الجنوبية وأفريقيا ،حيث قلده صديقه الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز في بورلمار ،المنتجع الكاريبي بجزيرة مارغاريتا وسام المحرر ،وهو أعلى أوسمة الشرف في فنزويال ،وأهداه نسخة من سيف بطل االستقالل سيمون بوليفار .
.
وقال محرر العبيد ،وضمير العالم الحر ،وباني ومحرر ليبيا الحديثة في القمة بأن المنطقتين يجب أن تتحدا وأن تشكال تحالفا ً دفاعيا ً " ،ناتو للجنوب " ،وأبتكر له اسم " ساتو " ،وأردف القائد األوحد ،والقائد الملهم ، 19
والقائد األممي ،والقائد المظفر ،والقائد المعلم قائالً :نحن اَلن نقول للذين يراهنون على الناتو ،بأننا سوف نراهن على الساتو ،وسيكون لدينا أيضا ً إتفاقية ،وكان يقصد باالتفاقية ،شيئا ً مماثالً التفاقية حلف شمال األطلسي المعروفة اختصارا بـ " ناتو " .لقد كان ملك الملوك ،وأمين القومية العربية ،وإمام المسلمين ،وعميد القادة العرب يستشعر خطر داهم من قبل حلف الناتو ،فراهن على الساتو وهو شئ إفتراضي ،ليس له وجود إالّ في مخيلته ،ولكن الناتو أقتنصه في آخر المطاف ،بينما الساتو لم يكن قد خرج إلى حيز الوجود بعد . بعد فنزويال طار ضمير العالم الحر إلى بالد العم سام ،لحضور اجتماع الجمعية العامة لألمم المتحدة الرابع والستين ،حيث ألقى في مدينة نيويورك خطابا ً تاريخيا ً مطوالً آتى فيه على ذكر نوع آخر من المشي ،وهو المشي إلى المحاكم ،وقال في يوم األربعاء ،بتاريخ 23سبتمبر : 2009
.
ساهل تقول للبشير يمشي للمحكمة ،ساهل سلوبودان يمشي للمحكمة ،ساهل تايلور يمشي للمحكمة ،ساهل هبري يمشي للمحكمة ،ساهل الـ ..من ثاني مطلوب للمحكمة ؟
.
ذكر القائد األممي في خطابه مقتل أكثر من مليون ونصف عراقي ،ولكنه لم يأتي على ذكر العراقيين الذين قتلوا بنيران صواريخ السكود التي كان يبعثها لإليرانيين مع طواقم التشغيل إبان الحرب العراقية اإليرانية ،وقال أنه من السهل القول بأن يمشي الرئيس السوداني عمر حسن البشير إلى محكمة الجنايات الدولية ( أي يمثل أمامها )، 20
ومن السهل القول بأن يمشي الرئيس الصربي سلوبودان ميلوسوفيتش إلى محكمة الجنايات الدولية ،وكذلك الرئيس الليبيري تايلور ،والرئيس التشادي هبري ،ثم طرح سؤاالً مثيرا ً لالهتمام وهو :
.
من هو التالي الذي سيكون على الئحة المطلوبين لمحكمة الجنايات الدولية ؟
.
كان األخ القائد بسؤاله هذا يتحسس ورم ( بطحة ) كبيرة على رأسه ،ولم تكن هذه البطحة وليدة تلك اللحظة ،بل لقد ظهرت قبل ذلك ،ففي مؤتمر القمة العربية العشرين الذي عقد بمدينة دمشق في يوم السبت ،بتاريخ 29 مارس من عام ، 2008قال :بأننا نحن أصدقاء أمريكا قد توافق أمريكا على شنقنا في يوم ما .
.
في هذه اللحظة أيضا ً كان قائد الثورة يتحسس البطحة .
وقال الفارس األول ،والفارس الخامس بأن أميركا قاتلت مع صدام حسين ضد الخميني ،ولكنه لم يأت على ذكر قتاله مع الخميني ضد صدام حسين .كان يتباكى على صدام حسين ،وهو أول من أطلق الصواريخ عليه . إذا كان للحذاء حكاية مع الصقر الوحيد ،فإن للمشي معه ألف حكاية وحكاية ،وحكايته مع المشي حكاية قديمة، ففي بداية فترة االستعباد وإنسجاما ً مع حالة العبودية ،أنتشر شعر شعبي يتغزل بحسن مشيته ،وجمال نظرة 21
المعتوه جلود ،ويستهزئ بالتابع المطيع أبوبكر يونس جابر ،ويشبه الشاعر مشية حبيبته بمشية القائد الثائر فيقول : مشيتا مشية قذافي ،خزرتا خزرة جلود . ترمها كيف ترم بوجابر ،غير ترم بوجابر سود إن التاريخ هو عبارة عن ركام من األحداث eventsوالعمليات ، processesواألحداث والعمليات هي في حد ذاتها أعمال ،واألعمال ال تخرج عن أن تكون إما أقوال ،وإما أفعال .إذن وبكلمة واحدة ،يمكننا القول أن التاريخ في أساسه هو عبارة عن أقوال وأفعال ،فاألقوال هي النظريات ،واألفكار ،والمفاهيم ،والمبادئ ، واألشعار ،والحكم ،واألقوال المأثورة ،واألمثال ،وكل ما جاد به لسان اإلنسان أو يراعه ،أما األفعال فهي نتاج ما قامت به جوارح اإلنسان من مجازر وحروب ،وبناء ،وإختراعات ،وإكتشافات ،وأكل وشرب ، وتناسل وتوالد ،باإلضافة إلى ما تفعله يد القدر من زالزل ،وبراكين ،وفيضانات ،وأعاصير ،ورياح ، وأمطار . تمتلئ صفحات التاريخ الحقيقي الصحيح ،بالمظلم والمنير ،وبالغث والسمين ،وبالمرارة والحالوة ،وبإبر النحل والشهد ،وبالخيانة واألمانة ،وإن اإلقتصار في تدوين األعمال المنيرة دون المظلمة في سجل التاريخ ، سيجعل من ذلك السجل ،سجالً مظلما كتب بكلمات تحمل معاني النور والبهاء .إن إسقاط كلمة تافهة ،قيلت في حقبة معينة ،وعدم تدوينها في سجل التاريخ بحجة أنها مجافية للذوق السليم ،هو في حد ذاته صورة من صور تزوير التاريخ .إن التاريخ ك ٌل ال يتجزأ ،فإما أن تقبله كامالً ويكون تاريخا ً ،وإما أن تنتقي منه األحداث التي تتمشى مع ذوقك السليم ،وال يكون حينها إال شيئا ً تراه أنت فقط تاريخا ً . وفي سبعينات القرن العشرين ألقى صانع عصر الجماهير خطابا قال فيه :
" أنا لما نحكم بنفسي ،سنكون حكم ديكتاتوري مطلق وعادل ،ونقلكم للجنة بالسالسل .مش يفرشها بالحرير ..على السكاكين .يمشوا على الشوك للجنة ،واللي ما يمشي ينقطع رأسه " .
لقد كان في نية الصقر األوحد أن يحكم حكما ً ديكتاتوريا لو أتيحت له الفرصة أن يحكم بنفسه ( منفردا ً ) ،ويجر شعبه إلى الجنة بالسالسل ،ويجعلهم يمشون إليها على الشوك ،ومن يرفض المشي يقطع رأسه ،وباللسان 22
المصري الدارج ،كان في نيته أن يجعل الشعب " يمشي على العجين وما يلخبطه " ،ولكن حمدا ً هلل أنه لم يحكم بنفسه ،وإال لكانت أقدام الليبيين قد أدماها المشي على الشوك قبل أن يصلوا إلى الجنة .وفي قصة قصيرة بعنوان ( الفرار إلى جهنم ) يتنبأ الصقر األوحد بما سيؤول إليه حاله من فرار ومطاردة الصبيان ومضايقتهم له، وحرمانه من الراحة ،ومن المشي في الشوارع ،ويقول وكأنه ينظر عبر حجب الغيب : " لماذا تطاردونني وتعرفونني على صبيانكم ؟ حتى أصبحوا هم أيضا ً يضايقونني في كل مكان ..ويجرون ورائي ..ويقسمون أنه هو ..لماذا تحرمونني من الراحة ؟ ..بل حتى من المشي في شوارعكم ؟ " وفي قصة قصيرة بعنوان ( إنتحار رائد الفضاء ) ،ينتحر في نهايتها رائد الفضاء بعد أن يئس من الحصول على عمل يعيش به فوق األرض ،يقول القائد المفكر : " وبُ ْعد األرض عن القمر قرابة 400ألف كم ،وإنه إذا كان لديك سيارة تسير بسرعة 100كم في الساعة ، فإنك تصل القمر بعد 146يوما ً من مغادرتك األرض ،وإذا كنت ال تملك سيارة ،وغادرت األرض مشيا ً على األقدام ،فإنك تصل القمر بعد ثماني سنوات ومئة يوم " يبدو إن علم القائد الملهم بالحساب ال يختلف عن علمه ببقية األشياء ،فالزمن الالزم لقطع المسافة من األرض إلى القمر بسيارة تتحرك بسرعة 100كم /الساعة هو 166يوم ،وليس 146يوم .لقد سرق القائد 20يوما ً من زمن المعادلة ،كما سرق حوالي 42سنة من الزمن الليبي . أدرك الصقر األوحد أن المشي ليس كله سواء ،وكان يعي أن المشي إلى فنزويال هذه المرة سيكون مختلفا ً ، وبالتأكيد لن يكون مشيا ً على سجاد أحمر ،بل سيكون مشيا ً على حبل مشدود وعلى إرتفاع شاهق ،وبدون عصا. كان القائد المعلم يعلم أن المشي إلى فنزويال سيكون أشبه بالمشي على صفيح ساخن ،فالجرذان تنفخ على النار وتنقل الحطب ،ولن يكون مشيا ً بالمعنى المفهوم ،بل سيكون أشبه برقص خيول اإلستعراضات العسكرية ،ألن المحفز واحد في كلتا الحالتين ،وهو الحرارة الشديدة ،ال غيرها . أما المشي فكان البد منه ،إما على الحرير أو على الشوك أو على السكاكين ،وإما منتعالً حذاء أبي القاسم الطنبوري أو حذاء سندريال ،وإما على رمال متحركة ،أو على الماء ..لقد حانت ساعة المشي وبعبارة أدق ( لقد دقت ساعة المشي ) وكان لزاما ً عليه أن يمشي . من كان المشي مصيره فالبد أن يمشي في النهاية ولو حرن بحرونة حمير األرض كلها . أما الوجهة فكانت إلى مكان آخر غير فنزويال ،وإن أفضل تمثيل لهذه الحالة هو شعر ينسب إلى ابن فارس اللغوي ،يقول :
مشيناها ُخطى كتبت علينا ً ـه بأرض ومن كانت منيتُ ُ
ومن ُك ِت َبت عليه خطى مشاها ً يموت في أرض سواها فليس ُ َ 23
من كان بائسا ً وشقيا ً ومهانا ً ،وعانى من ذلك وشعر به شعورا ً حقيقيا ً ،فشكل وضعه آنذاك مرارة في حلقه وغصة في قلبه ،ثم فرجت بعد أن كان يظن أنها ال تفرج ،ثم نسى بعد ذلك المرارات التي تجرعها ،والغصات التي أحتبست في قلبه ،فسوف يتناسخ البؤس والشقاء واإلهانة في حاضره ،ولن يكون مستقبله مختلفا ً عن ماضيه إن لم يكن أسوأ منه ،أما من كان غارقا ً في في الظلم واإلهانة وهو ال يشعر بهما ،وال يحس بوقعهما على جسده وعلى نفسه ،فهذا مثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث ،أو تتركه يلهث ،أو كما قال شاعر العربية العظيم ،أبو الطيب المتنبي :
من يهن يسهل الهوان عليه .....ما لجرح بميت إيالم وليعذرني الفيلسوف الكبير جورج سانتيانا مجددا ً على تحريف كلماته وتشويهها:
أولئك الذين ال يستطيعون تذكر الماضي سيحكم عليهم بتكراره مجددا ً
وما توفيقي إال باهلل فريد أبوسرايا الثالثاء 15 ،سبتمبر 2015م الموافق 1من ذي الحجة 1436هـ
24