1
يسألني الناس " ،هل تستطيع أن ترينا البعد الرابع ؟ " فأجيب قائالً " ،هل تستطيعوا أن تروني األول ،والثاني ،والثالث " عند الساعة الرابعة من صباح اليوم الرابع من الشهر الرابع من السنة الرابعة إلنشاء البلدة عال صراخ طفل مؤذنا بميالد شئ جديد ،وعند هذا الوقت بالضبط خرج طائر الكوكو من كوة بأعلى برج الساعة ،ولكنه لم ينبس ببنت منقار كما أعتاد على ذلك عند رأس كل ساعة .ظل الكوكو صامتا ً طيلة فترة خروجه ،ثم تراجع منسحبا ً إلى داخل البرج .أندهش أهل البلدة من مسلك طائر الكوكو هذا غير االعتيادي ،ثم تملكهم شعور غريب بالرهبة ،وتوجسوا خيفة من هذه العالمة الغريبة . طفقت نساء البلدة يتحدثن عن سكوت طائر الكوكو ،ويتسألن هل هناك ارتباط بين سكوت طائر الكوكو والمولود الذي سقط برأسه في بلدتهن أثناء خروج الكوكو من برج الساعة . لم يكن سكوت طائر الكوكو ،وتزامن ميالد القادم الجديد مع العدد أربعة هما العالمتان الوحيدتان اللتان تستوقفان الفكر ،وتقرران أن حدثا ً استثنائيا ً له عالقة بهذا القادم الجديد قد وقع ،بل بمجرد مجيء هذا المولود إلى الدنيا، خرجت أمه منها .أطلق عليه اسم الرابع لتوافق تاريخ ميالده مع العدد أربعة ،كما أن اسم الرابع هو صفة لشئ يتجانس مع أسماء الذكور واإلناث في البلدة وأحيانا ً يتطابق معها .حمل الكثير من ذكور البلدة أسماء من قبيل : 2
وقت ،وزمن ،وزمان ،وعصر ،ودهر ،وأبد ،وسرمد ،وأزل ،وماضي ،وحاضر ،ومستقبل ،بينما تسمت اإلناث بأسماء من قبيل :برهة ،وفترة ،وحقبة ،وساعة ،وسويعة ،وثانية ،ودقيقة . نما الرابع وترعرع ،وشب عن الطوق ،وبدأت فتيات البلدة يتوددن إليه ويخطبن وده ،ولكنه أعرض عنهن ً منهن .بسبب جميعا ً ،وصد جميع محاوالتهن ألنه كان يرى نفسه أعلى مقاما ً ،وأكبر قدرا من أي واحدة نرجسيته ال مفرطة ،أعتقد أنه أفضل من جميع حقب البلدة ،وفتراتها ،وبرهاتها ،وسنواتها وثوانيها ودقائقها . بمرور الوقت صار له أصدقاء ال يكاد يفارقهم ،فقد أنعقدت أواصر الصداقة بينه وبين ثالثة من فتيان البلدة، وهم :ماضي ،وحاضر ،ومستقبل ،.وكان راضيا ً مغتبطا ً برفقتهم ،وكانوا عندما يقضون وقتهم في التنزه في المروج الخضراء المحيطة بالبلدة ،ينصرفون إلى المصارعة فوق األعشاب والزهور :مرة يصارعه ماضي ، ومرة يصارعه حاضر ،ومرة أخرى يتصارع مع مستقبل ،ومن العجيب أن تصارعه معهم لم يكن يشعره بأي نوع من التعب ،بل كان يتعجب من النشاط والحيوية اللتان تنبعثان في نفسه من جراء جوالت المصارعة تلك . أراد الرابع أن يتزعم هذه العصبة ،وتكون يده هي العليا فوق أيدي أصدقائه الثالثة ،ويبسط سيطرة كاملة عليهم جميعا ،ولهذا فقد وضع نصب عينيه معرفة الحلقة األضعف والحلقة األقوى لهذا الثالوث فلجأ إلى المصارعة لتقرير ذلك ،ولكن بدالً من أن يتصارع معهم ،تركهم يتصارعون مع بعضهم البعض ،وصار يراقبهم ويالحظ بدقة نتائج تلك الجوالت . بعد 1984جولة مصارعة بين ماضي وحاضر ومستقبل ،عرف الرابع موازين القوى التي تحكم رفاقه الثالثة ،وأدرك أنه طالما أن حاضر أقوى من ماضي ، وماضي أقوى من مستقبل ،فالبد أن يكون مستقبل أقوى من حاضر وبالضرورة يتحكم به إذا أراد ذلك . عرف الرابع أن الحلقة األقوى هي حاضر ،وعلم علم اليقين أنه إذا أراد أن يسيطر على أصدقائه الثالثة :ماضي ،وحاضر ،ومستقبل ،فما عليه سوى أن يتحكم في حاضر ويترك الباقي له . لم يكن الرابع يعرف له أبا ،فقد قيل له أن أباه قد رحل عن البلدة قبل أن يولد ،وذات يوم من األيام ،بعد سنين أب للرابع ،وكانت أسماءهم :أبد ،وأزل ،وسرمد .لم طويلة ،قدم على البلدة ثالثة رجال ،وأدعى كل منهم أنه ٌ يستطع حكماء البلدة وشيوخها البت في األمر ،وحسم النزاع ،على الرغم من تأييد ماضي ألزل فيما أدعاه ، ووقوف مستقبل مع أبد وتأكيده على ما يقول .أستمر هذا النزاع لفترة طويلة من الزمن ،وذات ليلة من الليالي
3
رأى الرابع فيما يراه النائم ،أمه تقول له أن سرمد هو أباه الحقيقي ،ومن أدرى بأب االبن من أمه ،وكانت هذه الرؤيا هي فصل الخطاب في هذا النزاع ،فقطعت جهيزة قول كل خطيب ،كما يقول المثل . قرص أسود بعد أربع سنوات ،وأربعة أشهر ،وأربعة أيام من لقاء الرابع بأبيه سرمد ،الح في سماء البلدة ٌ ضخم ،يبدو من بعيد كالنجم ،ولكنه نجم يشع ظلمة .وبالضبط في الثانية الرابعة ،من الدقيقة الرابعة ،من الساعة الرابعة من ذلك اليوم المشهود ،أخذ لون الرابع يبهت ،وتميع جسمه حتى صار أشبه بشبح من األشباح ، وتحول بالكامل إلى شريط من دخان أو سديم ،وبدأ يتسامى إلى السماء بإتجاه القرص األسود .أبتعد الرابع عن األرض ،فأضحى بعيدا ً عنها ،وهكذا صار له بعد .في هذه اللحظة بالتحديد ،خرج طائر الكوكو من كوته ببرج الساعة على غير عادته في الخروج عند رأس كل ساعة ،وأخذ يتلفت يمينا ً وشماالً وكأنه يبحث عن شئ ما ،ثم تجمد في موقفه ملتفتا ً إلى شماله ،ولم يرتد الشريط الحامل له إلى داخل البرج ،وظلت الكوة مفتوحة . حدث كل هذا وسط صمت مخيف لف البلدة بكاملها . غادر الرابع البلدة ،فصار لألشياء ثالثة أبعاد فقط و توقفت الحركة بالكامل ،ولم يكن هذا الموقف من قبيل الوقوف دقيقة صمت احتراما ً وحزنا ً على فراق األعزاء واألحباب ،بل كان من قبيل إنعدام السبب ،فانعدم المسبب .
4
أفضل حالة ممكنة للكاتب فريد أبوسرايا
يبدو لي أنه لن يكون بوسعنا أبدا ً التخلي عن رغباتنا الشديدة وأمانينا طالما إننا النزال على قيد الحياة .هناك أشياء معينة ،نشعر بأنها جميلة وجيدة ،ويجب أن نتوق إليها . جورج إليوت األمنية هي السر الذي يبوح به األمل ،واآلهة التي تند عن صدر الشوق ،والطلسم الذي تتعوذ به الرغبة ، والحاشية التي يلجأ إليها الباحث هربا ً من صعوبة المتن .ومن المنظور الرياضي أو االقتصادي يمكن القول أن األماني هي فرضيات غير مؤكدة لتغيير معادلة المستقبل لكي ال يؤول مجموعها إلى الصفر . كان فالحا ً فقيرا ً ،ومع ذلك لم يمنعه الفقر من اكتساب ثقافة رفيعة تنسيه في بعض األحيان وضعه وحالته التي كان يعتقد أنها من أسوأ الحاالت الممكنة ،وفوق ثقافته تلك تربع الشعر بدون منازع .على الرغم من احترامه ألحمد شوقي ،وتقديره لشعره ،وخاصة بيت الشعر القائل : وما نيل المطالب بالتمني .....ولكن تؤخذ الدنيا غالبا ،إال أنه كان مهووسا ً بالتمني واألماني ،وقد غرق في أمانيه كما يغرق الحالم في أحالم يقظته .أحيانا ً تستحضر مخيلته مشاهير الشعراء ،فمرة يلم به طائف للمتنبي ، وهو ينشد قائالً : ما كل ما يتمنى المرء يدركه .....تجري الرياح بما ال تشتهي السفن ثم يتخيل أبو العتاهية وهو يقول : ما كل ما يتمنى المرء يدركه .....رب امرئ حتفه فيما تمناه ثم يعود المتنبي مرة أخرى ولكن هذه المرة أكثر تشأوما ً ،ويصور حالة يكون فيها الشفاء في الموت ،فيقول : كفى بك دا ًء أن ترى الموت شافيا ً .....وحسب المنايا أن يكن أمانيا وفي هذا الساحة التي يزدحم فيها الشعراء تترأى له شخصية كعب بن زهير مدليا ً بدلوه في بئر األماني ،ويقول : فال يغرنك ما منت وما وعدت .....إن األماني واألحالم تضليل لم تتحقق أيا ً من أمانيه ،ولم يكف هو عن التمني ،ولم تتوقف حلقة األماني المفرغة عن آداء وظيفتها المنوطة بها .لعل شظف العيش ،وقسوة الحياة ،وصعوبة عمله كفالح قد تظافرت جميعا لتغرقه في بحر حلو من األماني ،وتجعله يواصل التمني حتى لو كانت آمانيه تتجسد في طريقة ما تخلصه مما هو فيه ،أيا ً كانت هذه الطريقة ،ومهما بلغت قسوتها . في بعض األحيان يلم به طيف الرياضي والفيلسوف البريطاني الكبير برتراند رسل ،ويسمعه وهو يقول : 5
تولد األماني المتطرفة من بؤس متطرف إن الحياة ليست كلها شعر وأماني ،بل أن مدارها وفحواها وصميمها هو العمل المنتج للمنفعة ،والجالب للفائدة ، وكما يقول ( كانديد ) " :يجب أن نزرع حديقتنا " ،أنطلق الفالح إلى حقله للعمل ،وبينما كان يفلح حقله ،شق المحراث األرض وقلب تربتها ،فالح للفالح من وسط التراب مصباحا ً قديما ً . لقد كان العبقري جبران خليل جبران محقا ً عندما قال : أحفر أنَّى شئت في األرض فسوف تلقى كنزا ً ،شريطة أن تحفر بإيمان فالح .
أوقف الفالح الثور وألتقط المصباح ،ثم مسحه بيده ليزيل عنه ما علق به من تراب وحصى ،وإذ بدخان كثيف يخرج من المصباح ويتسامى إلى عنان السماء .تكشفت سحابة الدخان عن مارد ضخم من الجان ،عظيم الخلقة، متين البنيان ،وقال المارد :أيها الفالح ،ال تخيفك سحابة ا لبخور ،فأنا عبدك المأمور ،وخادمك المأسور ،فهل تطلب الحور أم الدر والقصور؟ ثم اردف قائالً :أيها الفالح ،لك أن تتمنى علي أمنية واحدة ،وحقيق علي أن أحققها لك ،فتمن وأحسن التمني .فكر الفالح قليالً ،ثم قال :أمنيتي التي أريدك أن تحققها لي ،هي أن تجعلني في حالة ال أتمنى معها أي شئ . قال المارد :هذا طلب سهل ويسير ،ولذلك سأجعلك في أفضل حالة ممكنة . 6
لقد أختار الفالح هدفا ً بدالً من أن يتمنى أمنية ،وكأنه كان يستحسن ما قاله الكاتب األمريكي العظيم واشنطن إيرفنج في هذا الشأن : للعقول الكبيرة أهداف ،وللعقول األخرى أماني . وبينما هو في أفضل حالة ممكنة ترأى له طيف عمالق األدب العربي مصطفى صادق الرافعي وهو يقول له : نؤمل تتم آمالنا حين ال ِّ وتذكر أيضا ً ما كان يقوله الكاتب اليوناني الكبير نيكوس كازانتزاكس : أنا ال أأمل في أي شئ ،وال أخشى أي شئ .أنا حر .
7
بلغ السيل الزبى للكاتب فريد أبوسرايا ال يطير البحر وال يحط إال حيث تدعو الحاجة التي قد تكون سيالً جارفا ً أو ريا ً منعشا ً. ميخائيل نعيمة بين الفينة والفينة تغير األسود على المملكة ،وتعيث فيها فسادا ً .في واقع األمر ،لم تكن المملكة بحاجة إلى مزيدا ً من الفساد فقد كانت تعج بالفاسدين والمفسدين الذين يزيدون عن حاجة الفساد ليبلغ مراده ويتم رسالته .لم يكن هناك بد من التعامل بجدية مع هذا الخطر الداهم الذي يهدد سالمة المملكة ،ولحماية مملكته من نيوب الليوث وابتساماتها قام الملك بحفر بعض الزبى على قمم بعض الربى المحيطة بمملكته ،وغطاها بأغصان وأوراق األشجار من أجل اإلخفاء والتمويه . في جنوب المملكة يقع سد ( نازف ) ،وكان هذا السد يحجز مياه السيول ،ويحول دون أن تغمر هذه المياه أراضي المملكة .على أية حال ،لم تكن المملكة بالمدينة الفاضلة ،أو اليوتوبيا التي حدثنا عنها توماس مور ، وكانت األخطار تتهددها من الخارج ومن الداخل على حد سواء ،فإذا كانت األسود تشكل خطرا ً داهما ً عليها من الخارج ،ففي الداخل أفاعي تتلوى وتتقلب ،ولكن األدهى واألمر ،أن سرحانا ً كان يسرح على المسرح ،وال يريد أن يبرح قبل أن يجرح . أراد أحد أفراد الحاشية الملكية أن يبني طريقا ً يصل إلى مزرعته ،فقام باإلعتداء على سد نازف ،ونزع بعض حجارته ليستغلها في بناء طريقه .وبذلك أفسد السد ليبني طريقا ً ،فكان البناء متأسس على الدمار أو كما يقال على جرف هار. أنفتحت السماء فكأنها أفواه قرب ،وأمطرت كما لم تمطر من قبل ،وكان البرق يخطف األبصار ،وهزيم الرعد يصم األذان ،تشبعت األرض بالماء ،وبدأت البرك والغدران تتشكل على سطح األرض ،وأزداد منسوب الماء في البرك إلى درجة أنه أخذ يسيل .تدفق السيل في مجراه ،وطفت على سطحه بعض العالجم التي بعثها الماء إلى الحياة ،وأخذت تلك العالجم تنق وهي فرحة مسرورة بقدوم الماء. أصطدم السيل بسد نازف العليل ،ولكن في هذه المرة لم يصادف السيل درءا ً يصدعه .نزف سد نازف فكان نزيفه نزيفا ً داخليا ً نخر جسم مملكة بأكملها. 8
طغى الماء حتى غمر الربى ودمر الزبى المحفورة هناك ،وأفسد تدابير الملك إلصطياد األسود .أنزعج الملك مما فعلته هذه الجائحة بالزبى التي حفرها ،فقال مقولته الشهيرة ( لقد بلغ السيل الزبى ) .أدرك الملك أن هناك خطرا ً كامنا ً في مملكته أسوأ من الخطر الذي تشكله األسود.
لقد وقف الملك لوحده في مواجهة هذه األخطار ،ولكن السرحان كان يعدو بجد في المضمار ،ولم يجد في طريقه كالبا تنبحه وتحمي الذمار ،وقد قيل ،لو أن الملك ربى كالبا ً لنبحت عنه ،أو كما قالت نازك المالئكة : أما في ديار العروبة كلب فينبح أما من نعاج فتنطح؟
9
الفيالن المتعاكسان opposite-colored bishops للكاتب فريد أبوسرايا كنا مثل فيلين متعاكسين يتحركان على لونين متضادين بوريس سباسكي ،متحدثا ً عن زوجته السابقة
أختلف الملكان حول مسألة معينة كان لكل منهما وجهة نظر مختلفة حولها .لم يبح الملكان بموضوع الخالف بينهما ،ولم يدر أحد برأيهما في هذا الموضوع .مع ذلك ، وكعادة الملوك منذ أن جلس أحدهم أول مرة على عرشا ً ، بصولجان في يده ،ووضع تاجا ً على رأسه ، وأمسك ٍ أستبد كل منهما برأيه ،وقررا سوية تسوية خالفهما بطريقة ملكية ،أال وهي االختالف . أعلن كل ملك الحرب على مملكة اآلخر ،وحشد كل منهما جيشا ً عرمرم ،وبدأ الجيشان بالقيام بعمليات تعبئة لنشر قواتهما بغية السيطرة على أماكن إستراتيجية ،ثم حانت اللحظة التي يمكن تأريخ بدء الحرب عندها ،فاصطدم الجيشان ببعضهما البعض ،وعال صوت المعركة، ولم يكن يعلو فوق صوتها سوى نهيم الفيلة ،وصهيل الخيول ،وصياح األرخاخ . الحرب ليست حدثا ً منفصالً في التاريخ ،بل هي عملية . Processفي الواقع إنها ليست مجرد عملية تستغرق فترة زمنية محددة ثم تنتهي ،ولكنها عملية تتلوها عمليات ،ويكون لها أثارا ً عميقة على صفحة الزمن .وهلل در زهير بن أبي سلمى القائل :
فَت ُ ْنتِّـجْ لَ ُك ْم ِّغ ْل َم َ ان أَشْأ َ َم ُكلُّ ُه ْم
ـع فَت َ ْف ِّط ِّم .....كَأَحْ َم ِّـر عَا ٍد ث ُ َّم ت ُ ْر ِّض ْ
من الواضح أن الملكين كانا من المؤمنين برأي جورج كليمانصو عن الحرب ،وفيمن يجب أن يتولى إدارتها ، والذي عبر عنه بقوله " :الحرب شيء خطير ،أخطر من أن تُترك في أيدي الجنراالت " ،ولذا فقد نزال بنفسيهما إلى ساحة المعركة وقد ركب كل منهما فيال ،لقيادة جيشه . طال أمد الحرب ،وأنهك القتال الجيشان ،وأهلك جنودهما وأفراسهما وأرخاخهما ،ولم يتبق للملكين المتحاربين سوى فيالً واحدا ً لكل منهما .كان أحد الملكين ليليا ً ،أي أنه يجيد القتال تحت ضوء القمر ،بينما كان اآلخر 10
نهاريا ً ،وال يجيد القتال إال تحت أشعة الشمس .ال يقف العجب والغرابة عند هذا الحد ،فقد كان فيل الملك الليلي ( القمري ) أصماً ،وكان فيل الملك النهاري ( الشمسي ) أعمى ،فإذا حدث قتال في النهار ،فإن ضوء الشمس ال يغني الملك النهاري وال يسمنه من جوع ،إذ أن فيله ال يرى ،في حين أن الفيل األصم يرى جيدا ً ولكن ملكه ال يجيد القتال في ضوء النهار ،والعكس صحيح ،فإذا حدث القتال ليالً ،ال يستطيع الملك النهاري القتال ليالً ألنه لم ييسر إلى ذلك ،على الرغم من تمتع فيله بحاسة سمع مرهفة ،وعلى الرغم من قدرة الملك الليلي على القتال ليالً إال أن فيله أصما ً ،واآلذان هي العيون في الظلمة الحالكة ،ومن عدم السمع في الظالم كان كاألعمى سواء بسواء. إنني على يقين أن الفيل األصم يحسد كعب بن زهير ويتمنى أن يكون مثله لما قاله في حق نفسه وزرايته بحاسة السمع لدى الفيل :
لقد أقوم مقاما ً لو يقوم به .....أرى وأسمع ما لم يسمع الفي ُل كما أنني على ثقة بأن الفيل األعمى ،وهو يشعر بعجزه عن مجاراة ملكه في القتال أثناء النهار ،البد أنه يردد ما قاله ميخائيل نعيمة :
أدخلني قلبك أيها الليل لعلني أبصر قلب النهار كانت حربا ً خاض غمارها ملك شمسي وفيل أعمى ضد ملك قمري وفيل أصم ،فلم تتشاجر فيها أنياب الفيلين ، ولم يتالمس خرطوماهما قط ،وظال فيالن أبيضان ، white elephantsقد يصلحا للزينة والسير في المواكب الملكية في سيام القديمة ،ولكن لم ،ولن يشكال أي تهديد حقيقي على سالمة عدو كل منهما .
11