البعد الرابع وقصص قصيرة أخرى بقلم الكاتب فريد أبوسرايا أبو سرايا

Page 1

1


‫يسألني الناس ‪ " ،‬هل تستطيع أن ترينا البعد الرابع ؟ "‬ ‫فأجيب قائالً ‪ " ،‬هل تستطيعوا أن تروني األول ‪ ،‬والثاني ‪ ،‬والثالث "‬ ‫عند الساعة الرابعة من صباح اليوم الرابع من الشهر الرابع من السنة الرابعة إلنشاء البلدة عال صراخ طفل‬ ‫مؤذنا بميالد شئ جديد ‪ ،‬وعند هذا الوقت بالضبط خرج طائر الكوكو من كوة بأعلى برج الساعة ‪ ،‬ولكنه لم‬ ‫ينبس ببنت منقار كما أعتاد على ذلك عند رأس كل ساعة ‪ .‬ظل الكوكو صامتا ً طيلة فترة خروجه ‪ ،‬ثم تراجع‬ ‫منسحبا ً إلى داخل البرج ‪ .‬أندهش أهل البلدة من مسلك طائر الكوكو هذا غير االعتيادي ‪ ،‬ثم تملكهم شعور غريب‬ ‫بالرهبة ‪ ،‬وتوجسوا خيفة من هذه العالمة الغريبة ‪.‬‬ ‫طفقت نساء البلدة يتحدثن عن سكوت طائر الكوكو ‪ ،‬ويتسألن هل هناك ارتباط بين سكوت طائر الكوكو والمولود‬ ‫الذي سقط برأسه في بلدتهن أثناء خروج الكوكو من برج الساعة ‪.‬‬ ‫لم يكن سكوت طائر الكوكو ‪ ،‬وتزامن ميالد القادم الجديد مع العدد أربعة هما العالمتان الوحيدتان اللتان تستوقفان‬ ‫الفكر ‪ ،‬وتقرران أن حدثا ً استثنائيا ً له عالقة بهذا القادم الجديد قد وقع ‪ ،‬بل بمجرد مجيء هذا المولود إلى الدنيا‪،‬‬ ‫خرجت أمه منها ‪ .‬أطلق عليه اسم الرابع لتوافق تاريخ ميالده مع العدد أربعة ‪ ،‬كما أن اسم الرابع هو صفة لشئ‬ ‫يتجانس مع أسماء الذكور واإلناث في البلدة وأحيانا ً يتطابق معها ‪ .‬حمل الكثير من ذكور البلدة أسماء من قبيل ‪:‬‬ ‫‪2‬‬


‫وقت ‪ ،‬وزمن‪ ،‬وزمان ‪ ،‬وعصر ‪ ،‬ودهر ‪ ،‬وأبد ‪ ،‬وسرمد ‪ ،‬وأزل ‪ ،‬وماضي ‪ ،‬وحاضر ‪ ،‬ومستقبل ‪ ،‬بينما تسمت‬ ‫اإلناث بأسماء من قبيل ‪ :‬برهة ‪ ،‬وفترة ‪ ،‬وحقبة ‪ ،‬وساعة ‪ ،‬وسويعة ‪ ،‬وثانية ‪ ،‬ودقيقة ‪.‬‬ ‫نما الرابع وترعرع ‪ ،‬وشب عن الطوق ‪ ،‬وبدأت فتيات البلدة يتوددن إليه ويخطبن وده ‪ ،‬ولكنه أعرض عنهن‬ ‫ً‬ ‫منهن ‪ .‬بسبب‬ ‫جميعا ً ‪ ،‬وصد جميع محاوالتهن ألنه كان يرى نفسه أعلى مقاما ً ‪ ،‬وأكبر قدرا من أي واحدة‬ ‫نرجسيته ال مفرطة ‪ ،‬أعتقد أنه أفضل من جميع حقب البلدة ‪ ،‬وفتراتها ‪ ،‬وبرهاتها ‪ ،‬وسنواتها وثوانيها ودقائقها ‪.‬‬ ‫بمرور الوقت صار له أصدقاء ال يكاد يفارقهم ‪ ،‬فقد أنعقدت أواصر الصداقة بينه وبين ثالثة من فتيان البلدة‪،‬‬ ‫وهم ‪ :‬ماضي ‪ ،‬وحاضر ‪ ،‬ومستقبل ‪ ،.‬وكان راضيا ً مغتبطا ً برفقتهم ‪ ،‬وكانوا عندما يقضون وقتهم في التنزه في‬ ‫المروج الخضراء المحيطة بالبلدة ‪ ،‬ينصرفون إلى المصارعة فوق األعشاب والزهور ‪ :‬مرة يصارعه ماضي ‪،‬‬ ‫ومرة يصارعه حاضر ‪ ،‬ومرة أخرى يتصارع مع مستقبل ‪ ،‬ومن العجيب أن تصارعه معهم لم يكن يشعره بأي‬ ‫نوع من التعب ‪ ،‬بل كان يتعجب من النشاط والحيوية اللتان تنبعثان في نفسه من جراء جوالت المصارعة تلك ‪.‬‬ ‫أراد الرابع أن يتزعم هذه العصبة ‪ ،‬وتكون يده هي العليا فوق أيدي أصدقائه الثالثة ‪ ،‬ويبسط سيطرة كاملة‬ ‫عليهم جميعا ‪ ،‬ولهذا فقد وضع نصب عينيه معرفة الحلقة األضعف والحلقة األقوى لهذا الثالوث فلجأ إلى‬ ‫المصارعة لتقرير ذلك ‪ ،‬ولكن بدالً من أن يتصارع‬ ‫معهم ‪ ،‬تركهم يتصارعون مع بعضهم البعض ‪ ،‬وصار‬ ‫يراقبهم ويالحظ بدقة نتائج تلك الجوالت ‪.‬‬ ‫بعد ‪ 1984‬جولة مصارعة بين ماضي وحاضر‬ ‫ومستقبل ‪ ،‬عرف الرابع موازين القوى التي تحكم رفاقه‬ ‫الثالثة‪ ،‬وأدرك أنه طالما أن حاضر أقوى من ماضي ‪،‬‬ ‫وماضي أقوى من مستقبل ‪ ،‬فالبد أن يكون مستقبل‬ ‫أقوى من حاضر وبالضرورة يتحكم به إذا أراد ذلك ‪.‬‬ ‫عرف الرابع أن الحلقة األقوى هي حاضر ‪ ،‬وعلم علم‬ ‫اليقين أنه إذا أراد أن يسيطر على أصدقائه الثالثة ‪ :‬ماضي ‪ ،‬وحاضر ‪ ،‬ومستقبل ‪ ،‬فما عليه سوى أن يتحكم في‬ ‫حاضر ويترك الباقي له ‪.‬‬ ‫لم يكن الرابع يعرف له أبا ‪ ،‬فقد قيل له أن أباه قد رحل عن البلدة قبل أن يولد ‪ ،‬وذات يوم من األيام ‪ ،‬بعد سنين‬ ‫أب للرابع ‪ ،‬وكانت أسماءهم ‪ :‬أبد ‪ ،‬وأزل ‪ ،‬وسرمد‪ .‬لم‬ ‫طويلة ‪ ،‬قدم على البلدة ثالثة رجال ‪ ،‬وأدعى كل منهم أنه ٌ‬ ‫يستطع حكماء البلدة وشيوخها البت في األمر ‪ ،‬وحسم النزاع ‪ ،‬على الرغم من تأييد ماضي ألزل فيما أدعاه ‪،‬‬ ‫ووقوف مستقبل مع أبد وتأكيده على ما يقول ‪ .‬أستمر هذا النزاع لفترة طويلة من الزمن ‪ ،‬وذات ليلة من الليالي‬

‫‪3‬‬


‫رأى الرابع فيما يراه النائم ‪ ،‬أمه تقول له أن سرمد هو أباه الحقيقي ‪ ،‬ومن أدرى بأب االبن من أمه ‪ ،‬وكانت هذه‬ ‫الرؤيا هي فصل الخطاب في هذا النزاع ‪ ،‬فقطعت جهيزة قول كل خطيب ‪ ،‬كما يقول المثل ‪.‬‬ ‫قرص أسود‬ ‫بعد أربع سنوات ‪ ،‬وأربعة أشهر ‪ ،‬وأربعة أيام من لقاء الرابع بأبيه سرمد ‪ ،‬الح في سماء البلدة‬ ‫ٌ‬ ‫ضخم ‪ ،‬يبدو من بعيد كالنجم ‪ ،‬ولكنه نجم يشع ظلمة ‪ .‬وبالضبط في الثانية الرابعة ‪ ،‬من الدقيقة الرابعة ‪ ،‬من‬ ‫الساعة الرابعة من ذلك اليوم المشهود ‪ ،‬أخذ لون الرابع يبهت ‪ ،‬وتميع جسمه حتى صار أشبه بشبح من األشباح ‪،‬‬ ‫وتحول بالكامل إلى شريط من دخان أو سديم ‪ ،‬وبدأ يتسامى إلى السماء بإتجاه القرص األسود ‪ .‬أبتعد الرابع عن‬ ‫األرض ‪ ،‬فأضحى بعيدا ً عنها ‪ ،‬وهكذا صار له بعد ‪ .‬في هذه اللحظة بالتحديد ‪ ،‬خرج طائر الكوكو من كوته‬ ‫ببرج الساعة على غير عادته في الخروج عند رأس كل ساعة ‪ ،‬وأخذ يتلفت يمينا ً وشماالً وكأنه يبحث عن شئ‬ ‫ما ‪ ،‬ثم تجمد في موقفه ملتفتا ً إلى شماله ‪ ،‬ولم يرتد الشريط الحامل له إلى داخل البرج ‪ ،‬وظلت الكوة مفتوحة ‪.‬‬ ‫حدث كل هذا وسط صمت مخيف لف البلدة بكاملها ‪.‬‬ ‫غادر الرابع البلدة ‪ ،‬فصار لألشياء ثالثة أبعاد فقط و توقفت الحركة بالكامل ‪ ،‬ولم يكن هذا الموقف من قبيل‬ ‫الوقوف دقيقة صمت احتراما ً وحزنا ً على فراق األعزاء واألحباب ‪ ،‬بل كان من قبيل إنعدام السبب ‪ ،‬فانعدم‬ ‫المسبب ‪.‬‬

‫‪4‬‬


‫أفضل حالة ممكنة‬ ‫للكاتب فريد أبوسرايا‬

‫يبدو لي أنه لن يكون بوسعنا أبدا ً التخلي عن رغباتنا الشديدة وأمانينا طالما إننا النزال‬ ‫على قيد الحياة ‪ .‬هناك أشياء معينة ‪ ،‬نشعر بأنها جميلة وجيدة ‪ ،‬ويجب أن نتوق إليها ‪.‬‬ ‫جورج إليوت‬ ‫األمنية هي السر الذي يبوح به األمل ‪ ،‬واآلهة التي تند عن صدر الشوق ‪ ،‬والطلسم الذي تتعوذ به الرغبة ‪،‬‬ ‫والحاشية التي يلجأ إليها الباحث هربا ً من صعوبة المتن ‪ .‬ومن المنظور الرياضي أو االقتصادي يمكن القول أن‬ ‫األماني هي فرضيات غير مؤكدة لتغيير معادلة المستقبل لكي ال يؤول مجموعها إلى الصفر ‪.‬‬ ‫كان فالحا ً فقيرا ً ‪ ،‬ومع ذلك لم يمنعه الفقر من اكتساب ثقافة رفيعة تنسيه في بعض األحيان وضعه وحالته التي‬ ‫كان يعتقد أنها من أسوأ الحاالت الممكنة ‪ ،‬وفوق ثقافته تلك تربع الشعر بدون منازع ‪ .‬على الرغم من احترامه‬ ‫ألحمد شوقي ‪ ،‬وتقديره لشعره ‪ ،‬وخاصة بيت الشعر القائل ‪:‬‬ ‫وما نيل المطالب بالتمني ‪ .....‬ولكن تؤخذ الدنيا غالبا ‪ ،‬إال أنه كان مهووسا ً بالتمني واألماني ‪ ،‬وقد غرق في‬ ‫أمانيه كما يغرق الحالم في أحالم يقظته ‪ .‬أحيانا ً تستحضر مخيلته مشاهير الشعراء ‪ ،‬فمرة يلم به طائف للمتنبي ‪،‬‬ ‫وهو ينشد قائالً ‪:‬‬ ‫ما كل ما يتمنى المرء يدركه ‪ .....‬تجري الرياح بما ال تشتهي السفن‬ ‫ثم يتخيل أبو العتاهية وهو يقول ‪:‬‬ ‫ما كل ما يتمنى المرء يدركه ‪ .....‬رب امرئ حتفه فيما تمناه‬ ‫ثم يعود المتنبي مرة أخرى ولكن هذه المرة أكثر تشأوما ً ‪ ،‬ويصور حالة يكون فيها الشفاء في الموت ‪ ،‬فيقول ‪:‬‬ ‫كفى بك دا ًء أن ترى الموت شافيا ً ‪ .....‬وحسب المنايا أن يكن أمانيا‬ ‫وفي هذا الساحة التي يزدحم فيها الشعراء تترأى له شخصية كعب بن زهير مدليا ً بدلوه في بئر األماني ‪ ،‬ويقول ‪:‬‬ ‫فال يغرنك ما منت وما وعدت ‪ .....‬إن األماني واألحالم تضليل‬ ‫لم تتحقق أيا ً من أمانيه ‪ ،‬ولم يكف هو عن التمني ‪ ،‬ولم تتوقف حلقة األماني المفرغة عن آداء وظيفتها المنوطة‬ ‫بها ‪ .‬لعل شظف العيش ‪ ،‬وقسوة الحياة ‪ ،‬وصعوبة عمله كفالح قد تظافرت جميعا لتغرقه في بحر حلو من‬ ‫األماني ‪ ،‬وتجعله يواصل التمني حتى لو كانت آمانيه تتجسد في طريقة ما تخلصه مما هو فيه ‪ ،‬أيا ً كانت هذه‬ ‫الطريقة ‪ ،‬ومهما بلغت قسوتها ‪.‬‬ ‫في بعض األحيان يلم به طيف الرياضي والفيلسوف البريطاني الكبير برتراند رسل ‪ ،‬ويسمعه وهو يقول ‪:‬‬ ‫‪5‬‬


‫تولد األماني المتطرفة من بؤس متطرف‬ ‫إن الحياة ليست كلها شعر وأماني ‪ ،‬بل أن مدارها وفحواها وصميمها هو العمل المنتج للمنفعة ‪ ،‬والجالب للفائدة ‪،‬‬ ‫وكما يقول ( كانديد ) ‪ " :‬يجب أن نزرع حديقتنا " ‪ ،‬أنطلق الفالح إلى حقله للعمل ‪ ،‬وبينما كان يفلح حقله ‪ ،‬شق‬ ‫المحراث األرض وقلب تربتها ‪ ،‬فالح للفالح من وسط التراب مصباحا ً قديما ً ‪.‬‬ ‫لقد كان العبقري جبران خليل جبران محقا ً عندما قال ‪:‬‬ ‫أحفر أنَّى شئت في األرض فسوف تلقى كنزا ً ‪ ،‬شريطة أن تحفر بإيمان فالح ‪.‬‬

‫أوقف الفالح الثور وألتقط المصباح ‪ ،‬ثم مسحه بيده ليزيل عنه ما علق به من تراب وحصى ‪ ،‬وإذ بدخان كثيف‬ ‫يخرج من المصباح ويتسامى إلى عنان السماء ‪ .‬تكشفت سحابة الدخان عن مارد ضخم من الجان ‪ ،‬عظيم الخلقة‪،‬‬ ‫متين البنيان ‪ ،‬وقال المارد ‪ :‬أيها الفالح ‪ ،‬ال تخيفك سحابة ا لبخور ‪ ،‬فأنا عبدك المأمور ‪ ،‬وخادمك المأسور ‪ ،‬فهل‬ ‫تطلب الحور أم الدر والقصور؟ ثم اردف قائالً ‪ :‬أيها الفالح ‪ ،‬لك أن تتمنى علي أمنية واحدة ‪ ،‬وحقيق علي أن‬ ‫أحققها لك ‪ ،‬فتمن وأحسن التمني ‪ .‬فكر الفالح قليالً ‪ ،‬ثم قال ‪ :‬أمنيتي التي أريدك أن تحققها لي ‪ ،‬هي أن تجعلني‬ ‫في حالة ال أتمنى معها أي شئ ‪.‬‬ ‫قال المارد ‪ :‬هذا طلب سهل ويسير ‪ ،‬ولذلك سأجعلك في أفضل حالة ممكنة ‪.‬‬ ‫‪6‬‬


‫لقد أختار الفالح هدفا ً بدالً من أن يتمنى أمنية ‪ ،‬وكأنه كان يستحسن ما قاله الكاتب األمريكي العظيم واشنطن‬ ‫إيرفنج في هذا الشأن ‪:‬‬ ‫للعقول الكبيرة أهداف ‪ ،‬وللعقول األخرى أماني ‪.‬‬ ‫وبينما هو في أفضل حالة ممكنة ترأى له طيف عمالق األدب العربي مصطفى صادق الرافعي وهو يقول له ‪:‬‬ ‫نؤمل‬ ‫تتم آمالنا حين ال ِّ‬ ‫وتذكر أيضا ً ما كان يقوله الكاتب اليوناني الكبير نيكوس كازانتزاكس ‪:‬‬ ‫أنا ال أأمل في أي شئ ‪ ،‬وال أخشى أي شئ ‪ .‬أنا حر ‪.‬‬

‫‪7‬‬


‫بلغ السيل الزبى‬ ‫للكاتب فريد أبوسرايا‬ ‫ال يطير البحر وال يحط إال حيث تدعو الحاجة التي قد تكون سيالً جارفا ً أو ريا ً منعشا ً‪.‬‬ ‫ميخائيل نعيمة‬ ‫بين الفينة والفينة تغير األسود على المملكة ‪ ،‬وتعيث فيها فسادا ً ‪ .‬في واقع األمر ‪ ،‬لم تكن المملكة بحاجة إلى‬ ‫مزيدا ً من الفساد فقد كانت تعج بالفاسدين والمفسدين الذين يزيدون عن حاجة الفساد ليبلغ مراده ويتم رسالته ‪ .‬لم‬ ‫يكن هناك بد من التعامل بجدية مع هذا الخطر الداهم الذي يهدد سالمة المملكة ‪ ،‬ولحماية مملكته من نيوب‬ ‫الليوث وابتساماتها قام الملك بحفر بعض الزبى على قمم بعض الربى المحيطة بمملكته ‪ ،‬وغطاها بأغصان‬ ‫وأوراق األشجار من أجل اإلخفاء والتمويه ‪.‬‬ ‫في جنوب المملكة يقع سد ( نازف ) ‪ ،‬وكان هذا السد يحجز مياه السيول ‪ ،‬ويحول دون أن تغمر هذه المياه‬ ‫أراضي المملكة ‪ .‬على أية حال ‪ ،‬لم تكن المملكة بالمدينة الفاضلة ‪ ،‬أو اليوتوبيا التي حدثنا عنها توماس مور ‪،‬‬ ‫وكانت األخطار تتهددها من الخارج ومن الداخل على حد سواء ‪ ،‬فإذا كانت األسود تشكل خطرا ً داهما ً عليها من‬ ‫الخارج ‪ ،‬ففي الداخل أفاعي تتلوى وتتقلب‪ ،‬ولكن األدهى واألمر ‪ ،‬أن سرحانا ً كان يسرح على المسرح ‪ ،‬وال‬ ‫يريد أن يبرح قبل أن يجرح ‪.‬‬ ‫أراد أحد أفراد الحاشية الملكية أن يبني طريقا ً يصل إلى مزرعته ‪ ،‬فقام باإلعتداء على سد نازف ‪ ،‬ونزع بعض‬ ‫حجارته ليستغلها في بناء طريقه ‪ .‬وبذلك أفسد السد ليبني طريقا ً ‪ ،‬فكان البناء متأسس على الدمار أو كما يقال‬ ‫على جرف هار‪.‬‬ ‫أنفتحت السماء فكأنها أفواه قرب ‪ ،‬وأمطرت كما لم تمطر من قبل ‪ ،‬وكان البرق يخطف األبصار ‪ ،‬وهزيم الرعد‬ ‫يصم األذان ‪ ،‬تشبعت األرض بالماء ‪ ،‬وبدأت البرك والغدران تتشكل على سطح األرض ‪ ،‬وأزداد منسوب الماء‬ ‫في البرك إلى درجة أنه أخذ يسيل ‪ .‬تدفق السيل في مجراه ‪ ،‬وطفت على سطحه بعض العالجم التي بعثها الماء‬ ‫إلى الحياة ‪ ،‬وأخذت تلك العالجم تنق وهي فرحة مسرورة بقدوم الماء‪.‬‬ ‫أصطدم السيل بسد نازف العليل ‪ ،‬ولكن في هذه المرة لم يصادف السيل درءا ً يصدعه ‪ .‬نزف سد نازف فكان‬ ‫نزيفه نزيفا ً داخليا ً نخر جسم مملكة بأكملها‪.‬‬ ‫‪8‬‬


‫طغى الماء حتى غمر الربى ودمر الزبى المحفورة هناك ‪ ،‬وأفسد تدابير الملك إلصطياد األسود ‪ .‬أنزعج الملك‬ ‫مما فعلته هذه الجائحة بالزبى التي حفرها ‪ ،‬فقال مقولته الشهيرة ( لقد بلغ السيل الزبى ) ‪ .‬أدرك الملك أن هناك‬ ‫خطرا ً كامنا ً في مملكته أسوأ من الخطر الذي تشكله األسود‪.‬‬

‫لقد وقف الملك لوحده في مواجهة هذه األخطار‪ ،‬ولكن السرحان كان يعدو بجد في المضمار ‪ ،‬ولم يجد في طريقه‬ ‫كالبا تنبحه وتحمي الذمار ‪ ،‬وقد قيل ‪ ،‬لو أن الملك ربى كالبا ً لنبحت عنه ‪ ،‬أو كما قالت نازك المالئكة ‪:‬‬ ‫أما في ديار العروبة كلب فينبح‬ ‫أما من نعاج فتنطح؟‬

‫‪9‬‬


‫الفيالن المتعاكسان ‪opposite-colored bishops‬‬ ‫للكاتب فريد أبوسرايا‬ ‫كنا مثل فيلين متعاكسين يتحركان على لونين متضادين‬ ‫بوريس سباسكي ‪ ،‬متحدثا ً عن زوجته السابقة‬

‫أختلف الملكان حول مسألة معينة كان لكل منهما وجهة‬ ‫نظر مختلفة حولها ‪ .‬لم يبح الملكان بموضوع الخالف‬ ‫بينهما‪ ،‬ولم يدر أحد برأيهما في هذا الموضوع ‪ .‬مع ذلك ‪،‬‬ ‫وكعادة الملوك منذ أن جلس أحدهم أول مرة على عرشا ً ‪،‬‬ ‫بصولجان في يده ‪ ،‬ووضع تاجا ً على رأسه ‪،‬‬ ‫وأمسك‬ ‫ٍ‬ ‫أستبد كل منهما برأيه ‪ ،‬وقررا سوية تسوية خالفهما‬ ‫بطريقة ملكية ‪ ،‬أال وهي االختالف ‪.‬‬ ‫أعلن كل ملك الحرب على مملكة اآلخر ‪ ،‬وحشد كل‬ ‫منهما جيشا ً عرمرم ‪ ،‬وبدأ الجيشان بالقيام بعمليات تعبئة‬ ‫لنشر قواتهما بغية السيطرة على أماكن إستراتيجية ‪ ،‬ثم‬ ‫حانت اللحظة التي يمكن تأريخ بدء الحرب عندها ‪ ،‬فاصطدم الجيشان ببعضهما البعض ‪ ،‬وعال صوت المعركة‪،‬‬ ‫ولم يكن يعلو فوق صوتها سوى نهيم الفيلة ‪ ،‬وصهيل الخيول ‪ ،‬وصياح األرخاخ ‪.‬‬ ‫الحرب ليست حدثا ً منفصالً في التاريخ ‪ ،‬بل هي عملية ‪ . Process‬في الواقع إنها ليست مجرد عملية تستغرق‬ ‫فترة زمنية محددة ثم تنتهي ‪ ،‬ولكنها عملية تتلوها عمليات ‪ ،‬ويكون لها أثارا ً عميقة على صفحة الزمن ‪ .‬وهلل در‬ ‫زهير بن أبي سلمى القائل ‪:‬‬

‫فَت ُ ْنتِّـجْ لَ ُك ْم ِّغ ْل َم َ‬ ‫ان أَشْأ َ َم ُكلُّ ُه ْم‬

‫ـع فَت َ ْف ِّط ِّم‬ ‫‪ .....‬كَأَحْ َم ِّـر عَا ٍد ث ُ َّم ت ُ ْر ِّض ْ‬

‫من الواضح أن الملكين كانا من المؤمنين برأي جورج كليمانصو عن الحرب ‪ ،‬وفيمن يجب أن يتولى إدارتها ‪،‬‬ ‫والذي عبر عنه بقوله ‪ " :‬الحرب شيء خطير‪ ،‬أخطر من أن تُترك في أيدي الجنراالت " ‪ ،‬ولذا فقد نزال‬ ‫بنفسيهما إلى ساحة المعركة وقد ركب كل منهما فيال ‪ ،‬لقيادة جيشه ‪.‬‬ ‫طال أمد الحرب ‪ ،‬وأنهك القتال الجيشان ‪ ،‬وأهلك جنودهما وأفراسهما وأرخاخهما ‪ ،‬ولم يتبق للملكين المتحاربين‬ ‫سوى فيالً واحدا ً لكل منهما ‪ .‬كان أحد الملكين ليليا ً ‪ ،‬أي أنه يجيد القتال تحت ضوء القمر ‪ ،‬بينما كان اآلخر‬ ‫‪10‬‬


‫نهاريا ً ‪ ،‬وال يجيد القتال إال تحت أشعة الشمس ‪ .‬ال يقف العجب والغرابة عند هذا الحد ‪ ،‬فقد كان فيل الملك الليلي‬ ‫( القمري ) أصماً‪ ،‬وكان فيل الملك النهاري ( الشمسي ) أعمى ‪ ،‬فإذا حدث قتال في النهار ‪ ،‬فإن ضوء الشمس ال‬ ‫يغني الملك النهاري وال يسمنه من جوع ‪ ،‬إذ أن فيله ال يرى ‪ ،‬في حين أن الفيل األصم يرى جيدا ً ولكن ملكه ال‬ ‫يجيد القتال في ضوء النهار ‪ ،‬والعكس صحيح ‪ ،‬فإذا حدث القتال ليالً ‪ ،‬ال يستطيع الملك النهاري القتال ليالً ألنه‬ ‫لم ييسر إلى ذلك ‪ ،‬على الرغم من تمتع فيله بحاسة سمع مرهفة ‪ ،‬وعلى الرغم من قدرة الملك الليلي على القتال‬ ‫ليالً إال أن فيله أصما ً ‪ ،‬واآلذان هي العيون في الظلمة الحالكة ‪ ،‬ومن عدم السمع في الظالم كان كاألعمى سواء‬ ‫بسواء‪.‬‬ ‫إنني على يقين أن الفيل األصم يحسد كعب بن زهير ويتمنى أن يكون مثله لما قاله في حق نفسه وزرايته بحاسة‬ ‫السمع لدى الفيل ‪:‬‬

‫لقد أقوم مقاما ً لو يقوم به ‪ .....‬أرى وأسمع ما لم يسمع الفي ُل‬ ‫كما أنني على ثقة بأن الفيل األعمى ‪ ،‬وهو يشعر بعجزه عن مجاراة ملكه في القتال أثناء النهار ‪ ،‬البد أنه يردد ما‬ ‫قاله ميخائيل نعيمة ‪:‬‬

‫أدخلني قلبك أيها الليل لعلني أبصر قلب النهار‬ ‫كانت حربا ً خاض غمارها ملك شمسي وفيل أعمى ضد ملك قمري وفيل أصم ‪ ،‬فلم تتشاجر فيها أنياب الفيلين ‪،‬‬ ‫ولم يتالمس خرطوماهما قط ‪ ،‬وظال فيالن أبيضان ‪ ، white elephants‬قد يصلحا للزينة والسير في المواكب‬ ‫الملكية في سيام القديمة ‪ ،‬ولكن لم ‪ ،‬ولن يشكال أي تهديد حقيقي على سالمة عدو كل منهما ‪.‬‬

‫‪11‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.