1
عزبة ايبيل :حكاية القرود رباح وسعدان وشادي وقشة وميمون وألفتها ألفعال مقيتة وفعلها لها دون أن تكون مدركة لألسباب التي دعتها لفعل تلك األفعال المقيتة ليس باالمكان تحويل قرد إلى إنسان إالّ ربما عبر عملية تطور تستغرق زمنا ً طويالً ،ولكن من أسهل األشياء أن تحول إنسان على قرد بأن تجعله يفعل أفعاال ال يعرف لها سببا ً وال يفقه لها حكمةً.
فريد أبوسرايا لو كان للشر المطلق مدينة ،فهي مدينة سكانها من الجهلة والعبيد ،ولو تجسد الشر المطلق في أكثر من صورة ، لكان أقنوماه هما الجهل والعبودية . إن حكاية االستالب العقلي التي يعاني منها الكثير من أهل عزبة ايبيل هي حكاية قديمة لها أصول ترجع إلى زمن حكم (عم مر) للعزبة ،فقد حول العزبة في عهده إلى أكبر حقل للتجارب اإلنسانية ،وقام بسلسلة من التجارب كان سكان العزبة هم فئران مختبراتها والمستهدفين بنتائجها في آن واحد ،وكان هدفه من هذه التجارب هو سلب االيبيليين وااليبيليات من أي محتوى علمي ومنطقي وتاريخي وثقافي قد يكونوا يملكونه ، وغرس بعض المقررات التي أرتضاها لهم بدالً منه ،ليصبحوا نسخا ً مصغرة عنه ،يكرهون ما يكره ومن يكره ،ويحبون ما يحب ومن يحب .يشبه مشروع (عم مر) هذا الرامي إلى استنساخ نفسه في أجساد االيبيليين وااليبيليات كثيراً ما حدث في معهد روزلين بأسكتلندا حيث أفرغت خلية من نواتها ،وحقنت بدالً منها نواة خلية أخرى أخذت من ضرع نعجة ،وهكذا ولدت نعجة صغيرة سميت دولي تيمنا ً بنهدي المغنية الشهيرة دولي بارتون . إن الفكرة العامة التي سعى (عم مر ) إلى تطبيقها ،هي أن يخلفه في العزبة الكثير من األعمام والعمات الذين واللواتي تنضح منهم ومنهن المرارة . أراد (عم مر) بحكم أنه كان الوحيد الذي يريد ،أن يصبغ أهل عزبة ايبيل بصبغة تجعلهم يفعلون ما يريد ويقولون ما يعيد .وقرر (عم مر) ،ولم يكن أحد في العزبة يقرر غيره أن يكون قراره هو القرار الذي يجب أن يقر دائما ً وأبداً . ليس هناك مكان في العالم يعج بأي شئ أكثر مما كانت عزبة ايبيل تعج بالقرود والحمير ،وبما أن حديثنا هنا يتعلق بالقرود لذلك سنترك موضوع الحمير للنقاش في باب آخر . من المعروف أن للقرود ولع خاص باللعب واللهو ،وهي في لهوها وعبثها تدمر وتخرب ،وتنشر الفوضى والضوضاء ،وتقفز وتثب وتنط هنا وهناك ،ويمأل ضحكها أرجاء العزبة ويفيض خارجها فيسمعه العالم بأسره. 2
ضحكت قرود ايبيل فضحكت الدنيا من ضحكها ،وكان حقيق أن يعتذر للمتنبي وينشد في ذلك بيت من الشعر يقول :
أغاية الحياة أن تَضحكوا وتُضحكوا .....يا أمة ضحكت من ضحكها األمم باإلضافة إلى الضحك ،تميزت قرود ايبيل بخاصية آخرى فريدة من نوعها ،وهي حبها لتقليد آفعال االخرين وخاصة السيئة منها ،وقد الحظ (عم مر) هذه الظاهرة فقرر اإلستفادة من هذه الخاصية الكامنة في نفوس قرود عزبته ،مثلما تقوم بعض الجهات بتدريب الدالفين للقيام بأعمال حربية وجاسوسية ،أو تدريب الخفافيش على إلقاء القنابل على تجمعات األعداء ،أو تدريب الكالب على إرشاد العميان.
أختار (عم مر) خميلة وارفة الظالل بعزبة ايبيل ،يجري فيها جدول رقراق متفرع من النهر العظيم لتكون مسرحا ً إلحدى أشهر تجاربه المجتمعية على اإلطالق ،وزرع فيها شجرة موز ،فنمت الشجرة وأطلعت أوراقا ً عريضة طويلة خضراء ندية ،وأنتجت ثماراً صفراء لونها تسر الناظرين وتغري باألكل الجائعين ،وأضحت عزبة ايبيل بشجرة موزها هذه كأنها قطعة من بالد اإلكوادور التي تنبت تربتها أكبر عدد من أشجار الموز في الدنيا ،وبات للشجرة التي تنتج طعاما ً للفالسفة وفاكهة للحكماء مكانةً خاصة عند أشهر فيلسوف سياسي شهدته عزبة ايبيل عبر تاريخها .كانت شجرة الموز هي قطب الرحى ومحور األحداث في الخميلة ،وبهذا البروز والتصدر طغت على المشهد الكلي للمكان ،فكانت كما يقول الفرنسيون :
الشجرة التي تخفي الغابة
L'arbre cache souvent la forêt. 3
حازت شجرة الموز أو باألحرى ثمارها على شهرة واسعة في عزبة ايبيل ،ففي وقت من األوقات حرم (عم مر) أهل ايبيل من ثمار الموز ،فكان إذا تحصل أحدهم على بنان موز ،جمع عائلته وألتقطوا صوراً تذكارية معه قبل أن يأكلوه ،وأعتبروا صورهم مع بنان الموز تذكاراً سيسليهم في المستقبل عن فقدان هذه الفاكهة الشهية إذا ما أفتقدوا يوما ً حالوتها . وذات مرة من المرات المرة ،حدث تدافع شديد على شراء الموز عندما كان (عم مر) يسمح في بعض المناسبات القليلة ببيعه في جمعياته االستهالكية ،وأثناء هذا التزاحم دفع رج ٌل إلى قارعة الطريق فدهسته عربة مارة ، وتوصف هذه الحادثة في تاريخ عزبة ايبيل بحادثة شهداء الموز وال غرو في ذلك ،فالموز يلقب بـ " قاتل أبيه" ،ألن شجرته يجب أن تقتلع بعد أن ينضج ثمرها لتكبر إحدى الشتالت الصغيرة التي حولها ،ويبدو أن هذا الصيت السئ ال يقتصر على مفهوم قتل األقارب بل يتجاوزه إلى قتل اآلخرين أيضا ً .
قام (عم مر) بإعداد الترتيبات الالزمة للتجربة ،فمأل مجموعة من الدالء بمياه النهر العظيم ووضعها فوق األشجار القريبة من شجرة الموز ،وجعل تلك الدالء متصلة بعرجون الموز بواسطة خيوط رفيعة بحيث إذا مست ثمار الموز أنقلبت الدالء وأنسكب الماء على من كان بأسفلها وأبتل حتى العظم . عندما يكون الحافز موزا فالبد أن يكون المحفز قرداً ،ومن يجعل أجرة العمل موزاً ،فالبد أن يكون أجراءه قرود . بنا ًء على هذا ،وضع (عم مر) مجموعة من قرود العزبة في الخميلة ،وكانت هذه القرود هي عبارة عن خنازير غينيا Guinea pigsالالزمة لتنفيذ مخططه ،وقد يكون اختياره للقرود نابعا ً من تأثره بالمذيع التلفزيوني البريطاني ديفيد آتينبرا الذي يؤثر عنه قوله : 4
ما يعنيني في الطيور ،هو بالضبط ما يعنيني في العناكب أو القرود ،وهو ما تفعله ؟ ولماذا تفعله ؟ بعد قيامه بترتيب جميع تجهيزات التجربة التي ستشتهر تاريخيا ً باسم تجربة ( عم مر ) وقرود عزبة ايبيل ، انتحى جانبا ً لمراقبة ما يجري ولما خال الجو للقرود في الخميلة رنت بأبصارها إلى ثمار الموز الصفراء الشهية ،فقد كان إغراءها شديد ال يقاوم .وقع أحد القرود أسيراً لإلغراء وكأنه كان متأثراً بشعر أبي نواس ، فألتبس عليه ما يعنيه الحسن بن هانئ بالصفراء حين قال :
هي الدّا ُء َد ْع َع ْنكَ لَ ْومي فإنّ اللّ ْو َم إ ْغـ َرا ُء .....و َداوني بالّتي كانَتْ َ سـ ّرا ُء صفرا ُء ال تَ ْنز ُل ُ سهـا َح َجـ ٌر َم ّ احتها .....لَ ْو َم ّ س ْتهُ َ س َ األحزان َ َ أقترب القرد من شجرة الموز ،ثم أخذ يتسلقها ،وبمجرد أن وضع يده على العرجون وجذبه حتى أنقطعت الخيوط الرفيعة ،فأنقلبت الدالء وأندلق الماء البارد على رؤوس بقية القرود القاعدة على األرض .عندئذ حدث هرج ومرج ،وقفز ووثب ونط ،وضحكت القرود المقرورة كثيراً معبرة عن سخطها وإستياءها لما لحق بها من بلل وقر . تكرر هذا الحدث عدة مرات ،و كلما صعد أحد القرود الشجرة ليقطف بعض الثمار ،أندلق الماء البارد على رؤوس القرود المتابعين للمشهد من على األرض .وقر في أذهان القرود ورسخ في رؤوسها ،أن هناك ارتباط وثيق correlationبين أي محاولة للتعدي على ثمار الموز وبين إندالق الماء البارد على رؤوسها ،وبذلك حققت التجربة هدفها المبدئي فتحولت تلك القرود إلى ما يشبه كلب الجاحظ مع فارق بسيط ،وهو أن أفعال كلب الجاحظ قد أرتبطت بسماع صوت شحذ سكين الذي أرتبط عنده برائحة اللحم ،بينما أرتبطت أفعال القرود بأي محاولة لقطف ثمار الموز والتي أرتبطت بدورها في رؤوسها بالبلل والقر بالماء البارد . شكلت قرود التجربة بما تعانيه وتتعرض له من بلل بالماء البارد ،ومن حالة سيئة تتمثل في كونها ترى بأعينها ما تحب وتشتهي ولكنها ال تناله ،كيانا ً أشبه ما يكون بجمهوريات الموز التي تزرع فيها أشجار الموز بينما تأتي تلك األشجار أكلها في بالد العم سام وشركاته . بعد رسوخ الفكرة في رؤوس القرود وتشعبها في تالفيف أدمغتها ،وإنغراسها في عقلها الباطن ،كان البلل والقر بالماء البارد هو أول ما سينقدح في أذهانها إذا مست ثمار الموز . وكما يقول كريس برادفورد في كتابه حلقة األرض :حتى القرود تسقط من األشجار ،فعندما أجرى (عم مر) التجربة مرة أخرى ،فما أن هم أحد القرود بتسلق الشجرة حتى أنقضت عليه بقية القرود وجذبته من ذيله 5
وطرحته أرضا ً ،وأوسعته ضربا ً وقرصا ً وخمشا ً وسحالً وعضا ً حتى كره الموز ،وكل ما قرب إليه من قول أو فعل ،وإذا كان الصادق النيهوم يقول :
لكن الجاهل يملك أعداء تحت كل حجر
فقد باتت القرود تنظر إلى الموز بمنظا ر أسود ،وتعتبره أصل متاعبها وقلة راحتها ،وتعتبر كل من يقترب منه عدو لها ،البد من إيقافه عند حده بأية وسيلة كانت . أدركت القرود جيداً عواقب القيام بأي محاولة ل قطف ثمرة من ثمار الموز ،وأدركت أن العقاب ال ينزل بالمسئ بل بمن شاهد سيئة المسئ ولم يحرك ساكنا ً .لم تكن السيئة تعم الجميع وفقا ً للقاعدة التي يتبعها جيش جزيرة لوبيا العظمى في تطبيق العقوبات القائلة :الحسنة تخص ولكن السيئة تعم ،والتي تفسر بأنه إذا قام أحد الجنود بعمل غير الئق ،وغير قانوني ،من تلك األعمال التي يعاقب عليها القانون ،ولم تعرف هوية ذلك الجندي لتستر بقية الجنود عليه وعدم إقراره هو بذلك ،فإن الكتيبة تعاقب بكاملها بناء على ذلك .وهذه القاعدة وغيرها من قواعد التدريب هي ما جعل تلك الجيوش تحقق االنتصار تلو االنتصار تلو االنتصار . في تجربته الشهيرة ،لم يستثن (عم مر) أحدا من العقاب بالماء البارد سوى المتعدي على عرجون الموز فلم يكن للسيئة في هذه الحالة ذاك العموم . في واقع األمر ،إن ما كان يطبقه (عم مر) فعالً هو الحكمة القائلة :
أضرب المربوط يخاف السائب وأصل هذا المثل ،يحكى أنه كان لجحا حماران ربطهما قرب حقل له ،وذات ليلة ليالء أستطاع أحد الحمارين أن يفك قيده وينطلق نحو الحقل ليأكل منه ما لذ وطاب .وفي صباح اليوم التالي ،أدرك جحا الصباح ،وأدرك 6
جحا حجم المصيبة التي مني بها ونزلت بساحته ،فما كان منه إالّ أن أخذ عصا غليظة ،وأنهال بها ضربا ً على الحمار المربوط ،فأستغرب الناس من فعله ذاك ،وعندما سألوه عن تفسير ضربه للحمار المربوط وتركه للحمار السائب الذي أعتدى على المزروعات بدون عقاب ،رد قائالً :إن الحمار السائب قد فعل فعلته ،وأنتهى األمر ،وال يمكن إسترجاع ما أكله من بطنه ،ومعاقبته لن تعيد إل ّي ما أكله من حقلي ،بينما هذا ـ وأشار إلى الحمار المربوط ـ لو فك قيده فإنه سيسبب لي ضرراً فادحا ً ،وقد يكون أكثر فداحة من الضرر الذي تسبب به رفيقه ،ولهذا فأنا أضربه ألحول دون أن تتخمر فكرة فك القيد واإلجتراء على الزرع في راسه . أدمج (عم مر ) حكمة جحا هذه في تجربته ،وبذلك خلط القديم بالعصري ،والكالسيكي بما ما بعد الحداثة ،لقد كانت حكمة جحا القديمة هي إحدى الركائز االجتماعية التي أستندت عليها تجربته الشهيرة ،كما كان ألفعال جحا وأقواله تأثيراً بالغا ً في كل ما كان (عم مر ) يفعله أو يقوله . حقا ً ،لقد كان (عم مر) تجسيداً واقعيا ً لنصرالدين الخوجة على األرض في عزبة ايبيل . عند هذه المرحلة من التجربة ،لم يعد أي من القرود يجرؤ على مس ثمار الموز ،وال السماح ألي قرد آخر باالقتراب منها ،وكانت القرود مدركة لعلة فعلها ذاك .أصبحت القرود بفعل رسوخ ارتباط شرطي في عقلها الباطن Subconsciousبين أي محاولة لالقتراب من الموز وبين معاقبتها بالماء البارد ،عبيداً ،بيد أنها كانت عبيد تعرف علة عبوديتها ،وهذا ما يعرف بأحلى األمرين ،فليس هناك ما هو أسوأ من أن تكون عبداً وال تعرف علة الستعبادك ألنك ستكون عبداً وال تدري بأنك كذلك ،وستكون راضيا ً عن نفسك كل الرضى . ليس أدل على هذه الحالة من مقولة الكاتبة النمساوية ماري فون إبنر إيشنباخ :
ألد أعداء الحرية هم العبيد السعداء إن جعل أفعال شئ ما أو أفعال مجموعة من األشياء ترتبط شرطيا ً بحدث ما ،فهذا يعني أن العقل الباطن هو المقرر لتلك األفعال ،وبالتالي تكون تلك األشياء الخاضعة لعملية االرتباط الشرطي في حالة من اإلستعباد وهي ال تدري بكونها كذلك ألن ما يعيه العقل الباطن غالبا ً ال يعيه العقل الظاهر .العبودية مرض عضال ،ولكن ليس هناك ما هو أسوأ من أن تكون جاهالً بعبوديتك .إنها عبودية وفوقها جهل ،ظلمات بعضها فوق بعض . ويربط عبدالرحمن منيف بين العبودية والجهل ،فيقول :
الجهل هو دائما ً الوجه اآلخر للعبودية . وبالسير على درب منيف ،وإقتفاء أثر خطاه ،أقول :إذا كانت العبودية كائن متعدد الرؤوس كالهيدرا ،فإن كل رأس من رؤوسها أجهل من الرأس الذي يليه ،الرأس الثاني أجهل من األول ،والرأس الثالث أجهل من الثاني ، والرابع أجهل من الثالث ،وهكذا جهاليك. العبودية هي حلقة مفرغة vicious circleمن الجهل المتعاظم . 7
بعد ذلك أبعد (عم مر) أحد قرود التجربة األساسية (القرود المؤسسين) ،تلك القرود التي ال ولن تجرؤ على االقتراب من ثمار الموز ،ولن تدع قرداً آخر يفعل ذلك ،وهي مدركة لعلة فعلها ذاك ،ثم قام بوضع قرد آخر محل القرد المستبعد ،وكان القرد الجديد أسمه رباح .لم يكن لدى فأر التجارب رباح أدنى معرفة بالمجريات السابقة للتجربة ،وبمجرد أن أستقر به المقام في الخميلة بين بقية القرود بجانب شجرة الموز حتى سولت له نفسه االقتراب من الشجرة ليقطف بعضا من ثمارها ،ولكن بمجرد أن هم بتحقيق مراده حتى هجمت عليه بقية القرود ــ التي تعرف علة فعلها ــ وأوسعته ضربا ً لتحول دون هطول الماء البارد على رؤوسها. تكرر هذ الحدث مع رباح أكثر من مرة ،وفي كل مرة حاول فيها االقتراب من ثمار الموز كانت القرود تهاجمه وتشده من ذيله وتطرحه ارضا ً ،وتوسعه ضربا ً وقرصا ً وخمشا ً وسحالً وعضا ً حتى كره الموز ،وكل ما قرب إليه من قول أو فعل .لقد كره رباح الموز بسبب ما تعرض له من ضرب مبرح ،ولكنه لم يكن يعرف السبب الحقيقي الذي دعا القرود إلى ضربه . بفعل األلفة والتكرار ،رسخت فكرة معاقبة من يتجرأ على االقتراب من ثمار الموز في عقل رباح ،ولكن دون أن يبتل بالماء البارد ،أي أن رباح قد تحول إلى إلى ما يشبه كلب من كالب الجاحظ ولكن دون أن يحصل عنده ارتباط بين صوت شحذ السكين وأكل اللحم ،فتحوله ذاك وسيالن لعابه قد تم فقط بفعل عشرته وألفته لكلب آخر يسيل لعابه بمجرد سماعه لصوت سكين يشحذ ،وأصبح رباح عبداً بحدوث ارتباطا ً شرطيا ً في عقله الباطن بين محاولته لقطف الموز وبين ضرب القرود له ومنعه من ذلك في كل مرة ،وبعبارة أدق أستعبد رباح دون أن يعلم بأنه مستعبد . ال تختلف حكاية رباح هذه عن حكاية الكلب األصم الذي كان كلما رأى الكالب مخرجة ألسنتها وهي تلهث من شدة الحرة ظنها تنبح شئ ما ،فأخذ ينبح بدوره هو اآلخر .
لم يكن نباح رباح يستند حتى على نباح بواح . مرة ثانية ،أبعد (عم مر ) أحد القرود األساسية ،تلك القرود التي ال ولن تجرؤ على االقتراب من ثمار الموز ، ولن تدع قرداً آخر يفعل ذلك ،والمدركة لعلة فعلها ذاك ،ثم وضع قرداً آخر محل القرد الذي أستبعده ،وكان القرد الجديد يسمى سعدان .وبالطبع لم يكن لدى سعدان أي معرفة بما تعرضت له القرود في المراحل السابقة من التجربة ،وبمجرد أن أستقر به المقام في الخميلة بين بقية القرود بجانب شجرة الموز والنهر العظيم حتى بدأت نفسه تحدثه بتسلق الشجرة للحصول على بعض ثمار الموز الصفراء الشهية ،ولما وضع سعدان حديث نفسه له موضع التطبيق ،أندفعت نحوه القرود بما فيهم رباح وطرحته أرضا ً وأوسعته ضربا ً . كررت هذه التجربة عدة مرات ،وفي كل مرة كان سعدان يضرب ضربا ً مبرحا ً حتى وقر في ذهنه أن هناك ارتباط بين محاوالته لالقتراب من ثمار الموز وبين ما تعرض له من ضرب على أيدي القرود في كل مرة يفعل ذلك ،وهكذا تحول سعدان بفعل هذا االرتباط الشرطي conditioned reflexإلى عبد آخر ،وكرباح عبد ال 8
يعرف علة لعبوديته فقد كان يجهل السبب الحقيقي الداعي إلى ضرب كل من يقترب من ثمار الموز .لقد ضربت القرود رباح وهي تعرف المحفز الذي حفزها لذلك الفعل ــ وهو تفادي إندالق الماء البارد من الدالء على رؤوسها ــ بيد أن رباح شارك القرود في ضرب سعدان ،ولم يندلق على رأسه ماء بارد قط ،وإنما فعل ذلك ألنه ألفى القرود تفعل ذلك ففعله ،وكما يقال ال يجهل الجاهل إال من وراءه جهالء .
ومرة ثالثة ،أبعد (عم مر ) أحد القرود األساسية المتبقية ،تلك القرود التي ال ولن تجرؤ على االقتراب من ثمار الموز ،ولن تدع قرداً آخر يفعل ذلك ،والمدركة لعلة فعلها ذاك ،ثم جلب قرداً آخرا ليحل محل القرد الذي أستبعده ،وكان القادم الجديد للتجربة يسمى شادي .أستقر المقام بشادي في الخميلة بين القرود بجانب شجرة الموز وجدول الماء الرقراق المتفرع من النهر العظيم ،ولم يكن على دراية بما حصل للقرود قبل مجيئه . ما حصل بعد ذلك يمكن وصفه بأنه كان حب من أول نظرة ،فمبجرد أن لمح شادي ثمار الموز الصفراء الشهية التي يعلوها نمش أسود حتى صمم على الحصول على بعض منها ،ومثلت تلك البقع السوداء الصغيرة التي تبرقش ثمار الموز على وجه الخصوص إغراء قويا ً لشادي .وكما يقول أوسكار وايلد فإن السبيل الوحيد للتخلص من اإلغراء هو االستسالم له ،فقرر شادي االستسالم لإلغراء واالنقياد للغواية ،ولكنه ما أن رفع 9
الراية البيضاء حتى أنقضت عليه بقية القرود وجذبته من ذيله وطرحته أرضا ً ،وأوسعته ضربا ً وقرصا ً وخمشا ً وسحالً وعضا ً .كررت هذه التجربة عدة مرات ،وفي كل مرة كان شادي ينال نصيبا ً وافراً من الضرب والقرص والخمش والسحل والعض حتى ترسخ لديه ارتباطا ً قويا ً بين محاوالته للحصول على ثمار الموز وبين ما تعرض له من ضرب ،وكسابقيه رباح وسعدان ،تحول شادي إلى عبد آخر يجهل أنه عبد ،وشارك كل من رباح وسعدان في ضرب شادي وهما ال يعرفان العلة التي دعتهما إلى ذلك سوى إنهما ألفيا القرود تفعل ذلك ففعاله .كان موقف رباح وسعدان كموقف كلبين أصمين شاهدا الكالب تلهث من شدة الحر فظنا أنها تنبح شئ ما، فأخذا بدورهما بالنباح . إن الجهل بؤس فكري ،وإذا سلمنا بهذه الحقيقة فيجب علينا أن نصغي جيداً لمن هو أقدر الناس على الحديث عن البؤس ،ففي هذا السياق يقول فيكتور هوغو ،صاحب البؤساء : Les Misérables
تبدأ الحرية حيث ينتهي الجهل La liberté commence où l'ignorance finit يفهم من عبارة هوغو هذه أنه طالما كان هناك جهل ،فلن يكون هناك حرية ،وحيثما ساد الجهل حوربت الحرية .لن تشرق للحرية شمس حتى يأفل الجهل ويأفل معه جميع مظاهره وتوابعه وآثاره . الحرية والجهل كالنور والظالم ،فلن يتنور المكان حتى ترفع الظلمة أستارها .
10
وفي المرة الرابعة ،أبعد (عم مر ) أحد القردين األساسيين المتبقيين اللذين ينتميان لتلك القرود التي ال ،ولن تجرؤ على االقتراب من ثمار الموز ،ولن تدع قرداً آخر يفعل ذلك والمدركة لعلة فعلها ذاك ،وأستبدل القرد المستبعد بقرد آخر أسمه قشة ،ومثلما جرى من قبل مع رباح وسعدان وشادي فقد جرى أيضا ً مع قشة ،فقد شاركت في ضربه القرود التي ال تعرف علة لفعلها باإلضافة إلى القرد األساسي الوحيد المتبقي الذي يعرف علة أفعاله ،وتحول قشة إلى عبد آخر جاهل بعبوديته . وآخيراً أبعد (عم مر ) آخر القرود األساسية التي ال ،ولن تجرؤ على االقتراب من ثمار الموز ،ولن تدع قرداً آخر يفعل ذلك والمدركة لعلة فعلها ذاك ،ثم قام بإشراك قرد آخر ليحل محل القرد المبعد ،وكان القادم الجديد للتجربة يسمى ميمون .لم يكن لدى خنزير غينيا الجديد ميمون أدنى معرفة بالمجريات السابقة للتجربة ، وبمجرد أن أستقر به المقام في الخميلة بين بقية القرود بجانب شجرة الموز حتى سولت له نفسه االقتراب من الشجرة ليقطف بعضا من ثمارها ،ولكن بمجرد أن هم بتحقيق مراده حتى هجمت عليه القرود رباح وسعدان وشادي وقشة ــ التي ال تعرف علة ألفعالها ــ وأوسعته ضربا ً ال لشئ إالّ ألنها ألفت من قبلها يفعل ذلك ففعلته. يقول الصادق النيهوم وكأنه يصف حالة القرود ،وهو على أية حال ليس بغريب على اإلطالق عن القرود:
إن الجاهل حارس مقبرة غير مرئية . أدرك ميمون ما أدركته القرود التي سبقته دون أن يكون لديه تفسيراً لما أدركه . وهكذا تحقق الهدف النهائي من التجربة ،وتمكن (عم مر) من تحويل مجموعة كاملة من القرود إلى أشياء تكره وال تعرف الداعي لكرهها ،وتفعل وال تدرك علة فعلها ،ولم تكن مجموعة القرود هذه إالّ النواة التي حول بواسطتها (عم مر) معظم من في عزبة ايبيل إلى حاويات للجهل وبذور للعبودية . شكلت القرود ،رباح وسعدان وشادي وقشة وميمون خط التجميع األول Assembly Lineفي مصنع الجهل ، ثم تتالت بعده خطوط تجميع أخرى ،وبدأ انتاج الجهل على نطاق واسع . في البداية عندما قامت القرود بضرب القرد المتعدي على الموز ،فإنها لم تكن تضربه حبا ً في الضرب لذاته ، بل تضربه لتفادي الكرب ،فالضرب أو الحرب في نظرها وسيلة تتخذها لضمان أمنها ولتعيش بها بسالم ،ولكن عندما يضرب الجهل أطنابه بين القرود فال يعد ينظر إلى الضرب على أنه مجرد وسيلة لتحقيق السالم ،بل ينظر إليه على أنه هو السالم بعينه ،وتصبح قضية القرود هي قضية الضرب من أجل الضرب ،والحرب من أجل سواد عيون الحرب .وتستمد القرود القوة الالزمة لدعم مجهودها الحربي من الجهل نفسه ،فالجهل عندها هو القوة المحركة آللة الحرب والعدوان ،ثم تنقلب المعايير رأسا ً على عقب ،فتصبح الحرية في نظرها عبودية، ويصبح األحرار هم العبيد الذين يجب إعتاقهم ،ورفع نير العبودية عن أعناقهم . يشبه هذا المآل كثيراً ما ذكره جورج أورويل في كتابه ( ألف وتسعمائة وأربعة وثمانون ) عن إيديولوجية إنغسوك وجمهورية أوشانيا التي يحكمها األخ األكبر وفق مقولة : 11
الحرب سالم ،والحرية عبودية ،والجهل قوة . إن للجهل عدة مظاهر ،وليس من قبيل الشطح أن نقول أن الظلم نفسه أحد هذه المظاهر ،فالظالم ال يظلم نفسه إالّ إذا كان جاهالً في األصل والمبتدأ. ويحدثنا عبدالرحمن الكواكبي عن الجهل وآثاره في كتاب ( طبائع االستبداد ومصارع االستعباد ) ،فيقول :
أضر شئ على اإلنسان هو الجهل ،وأضر آثار الجهل هو الخوف . أحسب أن الخوف الذي ذكره الكواكبي هو الخوف غير المنطقي ،أو الخوف غير المبرر ،فالخوف المستند على التجربة والخبرة ،هو خوف واقعي ،وهو سبب من أسباب الوقاية والسالمة واألمان ،وهو شئ محمود ،بينما الخوف المذموم هو الخوف الذي ينشأ في مخيلة الجاهل فيتصور أن األرض مسطحة ،وفي األفق ينتهي العالم عند هوة سحيقة تسقط فيها المراكب .إن مثل هذا الخوف الذي ال يستند إال على الترهات واألباطيل يمنع الجهلة من االبحار إلى ما بعد المحيط األطلسي ،ويظلوا متقوقعين في أماكنهم ال يستكشفون وال يكتشفون .إن الحديث عن الجهل وآثاره البد أن يجرنا إلى نجيب محفوظ وكالمه عن الجهل ،فنجده يثرثر فوق النيل قائالً :
إذا لم ينقرض الجهل من بالدنا ،سيأتي السواح ليتفرجوا علينا بدل اآلثار . لم يعالج نجيب محفوظ مسألة آثار الجهل المتولدة في النفوس والعقول ،ولكنه نظر إلى األمر من زاوية أخرى ، ومن منظور أكثر مأساوية ،فيقول أن مصيبة الجهل وبلواه ال تكمن فيما يخلفه من آثار قبيحة ومذمومة في نفوس الجهلة وعقولهم ،بل إنها تكمن في قدرة الجهل على تحويل الجهلة أنفسهم إلى آثار ،فالجهل يحول الجهلة إلى أكوام بشعة من الحجارة يقف عندها المرء متعجبا ً من قبحها وبشاعتها . يجعل الجهل من الجهلة فرجة للعبرة واالعتبار . عند فراره من العزبة ،ألتفت (عم مر) إلى خميلة القرود وأطلق من صدره زفرة حارة ،وقال :تحيا خميلة القرود .وإلى هذه اللحظة يطلق على هذه البقعة من عزبة ايبيل اسم ،الزفرة المرة ،نسبةً إلى المرارة التي أحسها (عم مر) وهو يزفر تلك الزفرة ،وعبر (عم مر) النهر العظيم ،ووقف على جسر التنهدات وأستدار موليا ً وجهه شطر العزبة وقال مناجيا ً نفسه وكأنه يوجه خطابا ً لاليبيليين ولاليبيليات :سأترككم وأنا أقول أن قرودي االيبيلية هي األمين والوصي على أفعالي وأقوالي ونواياي ،ولن تضيع لي تركة ،ولن يندثر لي إرث طالما لهذه القرود لسان يضحك ويضحك .
وما توفيقي إال باهلل فريد أبوسرايا السبت 28 ،فبراير 2015م الموافق 9جمادى األول 1436هـ 12