1
ثالث سنوات وثالثة أشهر بقلم :فريد أبو سرايا
يمكن تعريف اللصوصية بأنها هي حالة أن يكون المرء لصا ً ،وللصوصية عدة أشكال وصور ،ومن هذه الصور هو أنه عندما يُؤدى لك عم ٌل لقاء أمواالً طائلة ،ويستغرق أداء ذلك العمل مدة زمنية طويلة جدا ً ،في حين أن ذلك العمل يُؤدى على بعد مرمى حجر منك بأقل أجر ،وفي أقصر زمن .هناك أيضا ً صورة نمطية للصوص مترسخة في عقولنا ،وهي أنهم مرتبطون بشخصية علي بابا الخرافية ،وأن عددهم أربعون .هذا ال يصح دائما ً ،فقد يرتبط اللصوص بعلي بابا ،أو علي ماما ،أو علي تاتا ،كما أنه ليس من الضروري أن يكون عددهم أربعين فقد يكونوا مئتين ،وقد يكونوا ستين . اعتاد علي تاتا في الماضي أن يتجول في طرقات مدينة بغزاز ،دار السالم ،ويصيح بأعلى صوته معلنا ً عن قدوم الخير .ظن أهل بغزاز بصياح علي تاتا خيرا ً ،وكانوا يرددون مثالً من أمثالهم الشعبية يقول : علي صياحها تشرب لبنها ،على الرغم من أنهم لم يكن يروا أي بوادر لقدوم الخير . في تلك اآلونة تصادف مرور رحالة من بالد الشام بمدينة بغزاز فسمع مقالة علي تاتا تلك ،فعلق عليها قائالً : لو كان بدها تشتي ،كان غيمت . احتفظ علي تاتا بستين صالً في مغارة بالقرب من مدينة بغزاز ،وكان يستخدم هذه األصالل في أعمال الحواة فيجعلها تنتصب في الهواء على أنغام مزماره وتتمايل ،فتلتهب أكف النظارة بالتصفيق اعجابا ً بمخاريقه . 2
بمرور الوقت تجاوز سحر علي تاتا األصالل ،وأخذ بالتأثير في أهل بغزاز أنفسهم .سحر علي تاتا أعين أهل بغزاز فوقعوا أسرى ألعمال الدجل والشعوذة التي يأتي بها ،ونتيجة لحالة اإلستالب هذه ،لم يعد يروا طريقا ً للخير إالّ وعلي تاتا قيما ً عليه . كلف أهل بغزاز علي تاتا بأن ينظم من أمالهم وأمانيهم عَقدا ً أو ِعقدا ً ليفاخروا به األمم ،واشترطوا عليه أن تكون واسطة العقد هي جوهرة الخير ،وعلى كل جانب منها اثنتا عشرة جوهرة كريمة . أراد علي تاتا أن تكون االثنتا عشرة جوهرة كريمة األولى هي ،لؤلؤة ،وفريدة ،وزبرجدة ،وجمانة ، ومرجانة ،وياقوتة ،وجوهرة ،وزمردة ،ودرة ،ويتيمة ،وعسجدة ،ومجنبة ،وتكون االثنتا عشرة األخرى في الجانب اآلخر من الواسطة صورة مرآة للجواهر األولى .أراد علي تاتا أن يصنع عقدا ً منظوما ً من جواهر كريمة فيه من كل صنف جوهرتان إالّ الواسطة ،ويكاد يكون في منهجه هذا متأثرا ً بكتاب العقد الفريد الذي صنفه األديب األندلسي الشهير ،أبو عمر أحمد بن محمد بن عبدربه .لم يكن علي تاتا يملك من مقومات العقد إال الخيط وجوهرة الخير ،أما بقية الجواهر األربعة والعشرين األخرى فلم يكن معه منها شيئا ً . رافقت النسور علي تاتا في حله وفي ترحاله ،وكانت تحجب عنه الشمس الحارقة ،وتظلل طريقه ،ويقال أن السبب وراء تحويمها فوق رأس علي تاتا ،هو أنها كانت متيمة بشواربه وتجد في الوقوف عليها إغرا ًء ال يقاوم. في زمن غابر ،عرف أحد أبناء بغزاز النابهين العالقة الوثيقة التي تربط النسور بالشوارب ،وقد دون مالحظاته حول هذه العالقة في كتبه .
ال بد من التنويه بمالحظة هامة وهي أنه لم يكن هناك أي مودة ومحبة بين النسور وأصالل علي تاتا ،وربما يكون ذلك راجعا ً إلى أن النسور لم تجد في األصالل ما يستدعي التحويم فوقها .دبت عقارب الغيرة في قلوب األصالل ،فهي التي تقوم بكل شيء بما في ذلك الرقص والتمايل ومع ذلك فها هي النسور تفضل علي تاتا عليها ال لشيء إال إلمتالكه شوارب هي تفتقدها .نكايةً في علي تاتا ،طفقت األصالل تقول أن النسور طيور 3
قمامة ،وال تحوم إالّ على الجثث والرمم .في الواقع كانت األصالل تردد ما كان يرفضه بنجامين فرانكلين بأن يكون النسر شعارا ً لدولته لكون النسر طائر قمام ،وال فخر بتحويم طائر قمام إال للقمامة .على الرغم من هذا فإن ألحمد مطر رأي آخر في موضوع النسور فهو يقول:
ليست الشوارب بالشيء الهين حتى لو كانت صالل علي تاتا تعتقد خالف ذلك ،فإن عزة الدوري ،نائب رئيس مجلس قيادة الثورة العراقي في مؤتمر القمة اإلسالمي التاسع ،وخالل مشادة كالمية مع الوزير الكويتي أحمد فهد الصباح ،لم يجد ما يصب عليه لعناته سوى شوارب الوزير الكويتي ،وهذا دليل قاطع على أهمية الشوارب حتى في النزاعات الدولية .
4
في تلك اآلونة ،قدم على مدينة بغزاز ساحر من بالد شنقيط ،ونصب الساحر خيمتة قرب سوق األقواس الشهير .كان الساحر الشنقيطي يروج لبضاعة معه ،ويقول أنها تفعل األفاعيل وتصنع العجائب .لم تكن بضاعة الساحر تلك إالّ زهم مستخلص من طيور النعام ،وكان الساحر يدّعي أنه إذا وضع الرجل قليالً من ذلك الزهم على شواربه ،ويردد عبارة سحرية معينة ثالث مرات ،فحينها تنشق األرض ويطلع منها جني من أهل الخفاء ،يكون رهن مشيئته ،وطوع أمره .لم يكن ينقص علي تاتا ال اإلرادة ،وال الشوارب ،وكما يقول المثل العربي ،مكره أخاك ال بطل .التجأ علي تاتا إلى خيمة الساحر وتحدث مع الساحر برهة من الزمن ،ثم خرج منها متأبطا ً شيئا ً ،ولما رأه باعة سوق األقواس قالوا عنه ،خرج علي تاتا وقد تأبط شيئا ً ،وهكذا التصق به اللقب الذي أشتهر به بعد ذلك وهو ،تأبط شيئا ً . تقول إحدى الروايات أن الحديث الذي جرى في خيمة الساحر الشنقيطي كان مفاده أن علي تاتا سأل الساحر عن إمكانية فعل الزهم لمفعوله السحري مع ربات الحجال ،فقال له الساحر إن كان ألحداهن شوارب فلتضعه على شواربها ،وإن كان ليس لها شوارب ،فما عليها سوى أن تدهن به ظفائرها .أخذ علي تاتا الزهم السحري من الساحر ،ولكنه أستأثر به لنفسه ولم يود أن يشاركه فيه أحد ،وتحصل أيضا ً على العبارة السحرية بعد أن سأله الساحر عن اسمه ،وعندما خال بنفسه دهن شواربه بالزهم ،وقال بصوت عا ٍل:
انشقت األرض وخرج منها مارد هائل الحجم ،منكر الخلقة ،ووقف أمامه وقفة الخادم المنتظر ألوامر سيده . ما لم يكن علي تاتا يعرفه عن آلية فعل الزهم في نفوس الناس ،هو أنه يجعل مستعمله ينطق بما وقر في نفسه من رغبات وأماني ،وما يريده فعالً وحقا ً ،ولذا فبدالً من أن يطلب علي تاتا من المارد جواهرا ً لينظم منها عقدا ً ألهل بغزاز ،طلب منه أن يطيل له شواربه .استطالت شوارب علي تاتا ،وأصبحت شواربه مهوى أفئدة النسور من كل حدب وصوب ،واكتظت سماء بغزاز بالنسور التي كان كل منها يريد الوقوف على شوارب علي تاتا ولو للحظة واحدة .
5
في سعيه المحموم لنظم عقد ألهل بغزاز قرر علي تاتا أن يذهب إلى مدينة لصاصة وهي من أمالك السلطان سوابق ،ومن عجائب القدر أن أرض السلطان سوابق لم تكن في سالف الدهر أكثر من مربطٍ للحمير كما وصفها أحد الحكماء الغابرين . أمر علي تاتا النسور بالهبوط ،وطار هو وأصالله على ظهورها إلى مدينة لصاصة ،وبعد حوالي ثالثة وعشرين شهرا ً حطت النسور على األرض ،ووصل علي تاتا وصالله إلى لصاصة .لم يكن موقف علي تاتا هذا يختلف عن موقف اختبره المثقب العبدي من قبل وعبر عنه بقوله :
عندما أمّل علي تاتا أهل بغزاز ،ومناهم األماني بمقولته الشهيرة ( الخير جاي ) ،لم يكن مخطئا ً بشأن الخير ،ولكنه كان مخطئا ً بشأن إتجاه الخير ،فالخير لم يأت إلى رهطه ,ولكن علي تاتا هو الذي ذهب إلى الخير . يختلف الخير في فلسفة علي تاتا كثيرا ً عن البابور عند المغني موفق بهجت ،فالخير عند علي تاتا أحادي اإلتجاه ،فهو يجيء فقط ،ولكن بابور موفق بهجت يروح ويجيء
فوجئ أهل بغزاز بذهاب علي تاتا إلى مدينة لصاصة ،وعلموا أنه ذهب في رحلة للبحث عن حليب األتن ليعالج به بعض صالله التي أصيبت بمرض السعال الديكي .وللبحث أيضا ً عن جواهر لينظم منها عقدا ً ألهل بغزاز . لقد ظن علي تاتا أنه لن يجد حليب األتن إال في مربطٍ للحمير ،ولهذا فقد طار إلى أرض السلطان سوابق ، ولكن تجري رياح لصاصة بما ال تشتهي صالل علي تاتا . لم يجد علي تاتا جواهرا ً عند السلطان سوابق ،كما أنه لم يجد هناك حميرا ً ليحلبها ويشفي صالله بحليبها ، فلم تعد لصاصة مربطا ً للحمير كما وصفها أحد حكماء بغزاز الغابرين ،ولكنها ولمفارقات القدر أصبحت مربطا ً لعائلة ذلك الحكيم نفسه .أهدى السلطان سوابق علي تاتا خفين ،فرجع علي تاتا هو وأصالله على متن نسوره إلى مدينة بغزاز بخفي سوابق . بعد أن طاف وساح في األمصار والبلدان ،لم يعثر علي تاتا على الجواهر المنشودة لينظم منها عقدا ألهل بغزاز ،فبدأت حالة من التمرد والعصيان تحل بأوساط الصالل ،ولم تعد الصالل تنتصب في الهواء وتتمايل 6
عندما ينفخ في مزماره ،بل أن بعضها بدأ ينفخ أوداجه ويفح في وجهه في سابقة عدوانية غير معهودة ، وحتى النسور التي كانت مغرمة بالتحليق فوقه ،أخذت تحلق على ارتفاعات شاهقة وكأنها أرادت بذلك أن تتناسى ما كان أثير لديها باألمس ،ويصح أن يقال في هذه الحالة :بعيدا ً في السحاب ،بعيدا ً عن األحباب . جفت النسور علي تاتا ،وناصبته الصالل العداء ،وخاب أمل أهل بغزاز فيه وانقطع رجاءهم من الحصول على عقد كقرطي مارية يتباهون ويتفاخرون به أمام أهالي األمصار األخرى .لم يعد هناك من مفر لعلي تاتا إالّ الفرار ،ولم يكن له بد من أن يطلق ساقيه للريح بعد أن تركته النسور .هرب علي تاتا ،وأخذ معه جوهرة الخير ،تاركا أهل مدينة بغزاز لوحدهم في مواجهة األصالل . هذه باختصار هي قصة علي تاتا والستين صالً مع أهل مدينة بغزاز ،والتي دامت أحداثها ثالث سنوات وثالثة أشهر ،ولتوخي الدقة ثالث سنوات وثالثة أشهر وثمانية أيام حسوما ً .
7