rقصة قصيرة للكاتب فريد أبوسرايا بعنوان ( زامر رقدالين الأشمط )

Page 1

1


‫زامر رقدالين األشمط‬ ‫فريد أبو سرايا‬

‫حل شهر فبراير على بلدة رقدالين الوادعة فأصيبت جرذانها بسعار غريب ‪ ،‬فهاجت وماجت وعاثت في البلدة‬ ‫فساداً ‪ .‬أعتدت على مخازن الحبوب والمطاعم ‪ .‬وطالت أسنانها فأضطرت إلى أن تحتها بأية وسيلة كانت‬ ‫فقرضت كل ما طالته بها ‪ ،‬بدأت بقرض الكتب في المكتبات والمتاحف ‪ ،‬ثم أرشيف الدواوين الحكومية ‪ ،‬وفي‬ ‫النهاية قرضت شعر شفشوف‪ .‬لقد شكلت األسنان سالحا ً رهيبا ً في أفواه الجرذان ‪.‬‬ ‫على الرغم من كل ما حدث فقد كان ينظر إليها في بداية األمر كمشكلة يجب التعايش معها كما يتعايش‬ ‫المصابين بمرض ضغط الدم المرتفع مع مصيبتهم وبلواهم ‪ ،‬أو كأمر واقع يتعين مجاراته ومداراته إلى أن‬ ‫جاء ذلك اليوم الذي ولجت فيه الج رذان غرفة نوم شفشوف ‪ ،‬حاكم بلدة رقدالين ‪ .‬قصت الجرذان بضع شعرات‬ ‫من شعر رأسه بأسنانها القاطعة ‪ ،‬ولكن الغريب والعجيب أنها لم تمس أي عضو من أعضاءه خال شعره‬ ‫األشمط ‪ .‬طورت الجرذان قابلية لقرض هذا الشئ الذي أستجد على قاموس مطبخها فتكررت غاراتها على‬ ‫غرفته لترضي ولعها وتشبع نهمها للعبث بشعر رأس شفشوف األشمط ‪.‬‬ ‫شعر شفشوف بأن شعره مهدد بالزوال ‪ ،‬وأن المسألة أضحت أن يكون أو ال يكون ‪ :‬شعره األشمط أو قواطع‬ ‫الجرذان ‪ .‬لم يكن سر قوته يكمن في شعر راسه كما كان الحال مع اإلسرائيلي القديم شمشون بل على العكس‬ ‫فقد كان نقطة ضعف رهيبة ‪ ،‬ولم يكن أعداءه من الجبارين الفلسطينيين بل كانوا مجرد جرذان ‪ ،‬ولكن كان‬ ‫هناك فارق بسيط بين شمشون وشفشوف ‪:‬‬

‫فإذا كان لشمشون " دليلة " واحدة ‪ ،‬فقد كان لشفشوف أكثر من "دليلة"‬ ‫‪2‬‬


‫باإلضافة إلى كونه حاكما ً لرقدالين ‪ ،‬فقد تميز شفشوف بأنه شخص متعدد المواهب ‪ ،‬فهو خطيب ‪ ،‬وكاتب‬ ‫‪،‬ومهندس ‪ ،‬ورياضي ‪ ،‬وكان قبل ذلك راعيا ً للغنم ‪ .‬قرر شفشوف اللجوء إلى مواهبه للتخلص من هذه‬ ‫المصيبة ‪ ،‬فتأمل المسألة وتدبرها بتمعن وروية ‪ ،‬وقال في نفسه ‪ ،‬إن الجرذان ال تتذوق البالغة والبديع ليلقي‬ ‫على مسامعها خطبة من خطبه العصماء يدعوها فيها إلى الرحيل عن البلدة واإلبتعاد بأسنانها القاطعة عن‬ ‫شعره ‪ ،‬كما أنها ليست مغرمة بالقراءة ليكتب لها فصوالً من النثر يحببها فيها إلى حالوة العيش كشركاء‬ ‫وليس كأعداء ‪ ،‬وأستبعد اللجوء إلى موهبته الرياضية لعلمه بأن التنافس مع الجرذان في مجاالت الجري‬ ‫والتسلق والسب احة لن يجديه نفعا ‪ ،‬ولكنه كان يعلم بأن لهذه القوارض الضارة حاسة فريدة من نوعها لتذوق‬ ‫بعض األنغام الموسيقية ‪ .‬فكر في ذلك وقال طالما أن الجرذان تستعذب الموسيقى فلم ال يستدرجها ببعض‬ ‫األنغام إلى حتفها ويغرقها في أحد اآلبار الواقعة خارج البلدة ‪.‬‬ ‫قال شفشوف ‪ :‬إن هوى الجرذان سيكون البحر الذي سيغرقها فيه كما تغرق النحلة في بحر من عسلها ‪.‬‬ ‫تعلم عزف المزمار عندما كان يرعى الضأن في البادية وهو صغير وبمرور الوقت أصبح زامراً حاذقا ً وتولدت‬ ‫عنده قدرة للتواصل مع نعاجه وخرافه ‪ ،‬فبمجرد النفخ في المزمار ‪ ،‬يصبح قطيعه أطوع إليه من بنانه ‪.‬‬ ‫وقال شفشوف إذا كانت النعاج والخراف تتخدر بفعل نغمات المزمار فلن تكون الجرذان أقل منها تلذذاً بسماع‬ ‫األنغام الشجية ‪ ،‬ولما ال فالحياة نفسها في أبسط أشكالها ما هي إال نغمة رسمت على سلم موسيقي ‪ ،‬لها‬ ‫أعاليها ولها أسافلها ‪.‬‬ ‫أس تحضر مزماره وذهب إلى السور المحيط بالبلدة ‪ ،‬ووقف في أحد أبراجه وأخرج المزمار وبدأ بالنفخ فيه‬ ‫فتجمعت بضعة جرذان عند أسفل السور بيد أن عددها كان قليل ‪ .‬لم يرق ذلك لشفشوف فصرخ من فوق السور‬ ‫قائالً ‪ :‬أيتها الجرذان ‪ ،‬هلموا إل ّي ‪ ،‬ألم ترددوا دائما مقولتي القائلة ‪ :‬إن الشعوب ال تنسجم إالّ مع فنونها‬ ‫وتراثها ؟‬ ‫أيتها الجرذان ‪ ،‬هلموا إل ّي ‪ .‬أال يطربكن مزماري ‪ ،‬أم أصبحتن مقتنعات بمقولة ‪ :‬زمار الحي ال يطرب ؟‬ ‫أيتها الجرذان ‪ ،‬ال تقلن زمار الحي ال يطرب ‪ ،‬بل قلن زامر الحي ال يطرب ‪ ،‬فقد تنعتن بالجهل فوق حمقكن ‪.‬‬ ‫أيتها الجرذان ‪ ،‬هلموا إل ّي ‪ ،‬ال تحبسن أنفسكن في حبس من الجهل واالنفصام ‪ ،‬ال تحبسن أنفسكن في حبس‬ ‫من األفكار السخيفة والتقاليد البالية ؟‬ ‫أيتها الجرذان ‪ ،‬أيطربكن غناء أليسا ‪ ،‬وال يطربكن أنغام مزماري ؟‬ ‫أيتها الجرذان ‪ ،‬أليست أليسا سوى مجرد طفرة جين أو سحابة صيف عابرة ؟‬ ‫أيتها الجرذان ‪ ،‬ال تقعدن حبيسات جهلكن وعنادكن كذاك الشخص الجاهل الذي حبسه جهله ورعونته ونزقه‬ ‫وحمقه عن التفريق بين األخضر واليابس ‪ ،‬وصار ينظر إلى كل شئ بمنظار أخضر فظن أن الكون كله‬ ‫أخضرا‪.‬‬ ‫أيتها الجرذان ‪ ،‬ال تصدقن كل من جاءكن يهرف بما ال يعرف ‪ ،‬وينعق بما ال يسمع ‪ ،‬ويقول لكن أنا ساحبس‬ ‫الشمس ‪ ،‬فهو ليس يوشع بن نون ‪ ،‬وهو لن يحبس إال جهله وحمقه ورعونته ‪ ،‬ويصبح في النهاية حبيسها‬ ‫كلها ‪ ،‬وهلل در القائل ‪:‬‬

‫فوهللا ما هذه بأحالم نائم ‪ .....‬ألمتْ بنا وال كان في الركب يوشع‬ ‫أيتها الجرذان ‪ ،‬أتطربن للحن (نخي نخي عالطبيلة جيناكم خطاب الليلة) ‪ ،‬وال تطربن ألنغام مزماري ؟‬ ‫غير شفشوف النغمة ‪ ،‬فاستقطبت الموسيقى الجديدة عدداً أكبر من الجرذان ‪ .‬وبطريقة الصح والخطأ أخذ‬ ‫شفشوف يجرب النغمات حتى وصل إلى عزف واحدة جذبت إليه جميع جرذان البلدة وفئرانها بل وحتى بعض‬ ‫‪3‬‬


‫الجرابيع من الضواحي القريبة ‪ .‬كان المشهد حول سور القلعة أشبه بمشاهد المهرجانات ولم يكن ينقصه شئ‬ ‫سوى الغناء والرقص ‪ ،‬فقد كانت أنغام شفشوف هي العامل المساعد الذي هيجه وسخنه إلى درجة حرارة‬ ‫الجمر األحمر ‪.‬‬ ‫نزل شفشوف إلى األرض مواصالً نفخ مزماره والجرذان مشدودة إليه ومشدوهة بفعل األنغام السحرية ‪،‬‬ ‫فأخذت تتبعه وهو يسير في طريقه إلى خارج البل دة ‪ .‬واصل مسيره على الطريق الصاعد إلى أعلى الجبل‬ ‫والجرذان تتعقبه ‪ ،‬مأخوذة باألنغام ‪ ،‬مقودة باألوهام ‪ .‬لم يكن ثمة كالب لتنبح قافلة زامر رقدالين األشمط ‪ ،‬كل‬ ‫ما هنالك كان طريق ترابي متعرج يتسلق الجبل ‪ ،‬كلما أكتسب من األرض شبراً ‪ ،‬كلما خسر من األجواء‬ ‫شهيقا ً‪.‬‬ ‫قل غاز الحياة في الجو فأختلت معادلة الشهيق والزفير فأختلف نغم المزمار فعادت الجرذان إلى سيرتها‬ ‫األولى وتذكرت اللذة العارمة التي كانت تجنيها من قرض شعر رأس شفشوف وبدالً من إتباعه أصبحت تتتبعه‬ ‫‪ ،‬والذ الزام ر األشمط بالفرار والجرذان تطارده بإصرار ‪ ،‬حريصة على الوصول إليه لتسلخ فروة رأسه كما‬ ‫كان الهنود الحمر من قبائل السو والشيروكي يفعلون بأعدائهم من اليانكي ‪ .‬كانت فروة رأس شفشوف في نظر‬ ‫الجرذان أغلى من الجزة الذهبية بالنسبة لجيسون ورفاقه المصارعين األغريق ‪.‬‬ ‫ألتجأ شفشوف إلى مغارة مظلمة بأعلى الجبل ‪ .‬تشعبت داخلها األنفاق والدهاليز والسراديب فكانت بجدارة‬ ‫متاهة يسهل الدخول إليها ‪ ،‬بينما الخروج منها أمر تستعظمه حتى الثقوب السوداء نفسها ‪ .‬مغارة ليست‬ ‫بحاجة إلى سمسم ليفتحها لك وتلج إليها ‪ ،‬ولكن لن يكن بإستطاعتك الخروج منها ولو أستعنت بألف سمسم‬ ‫وسمسم ‪.‬‬ ‫أهالت الجرذان الحجارة على مدخل المغارة ‪ ،‬فصنعت سداً منيعا ً محكما ً ال يستطيع حتى الضوء نفسه النفاذ منه‬ ‫‪ ،‬فباتت المغارة قبراً لزامر رقدالين األشمط ‪.‬‬

‫الثالثاء ‪ 12 ،‬ذو القعدة ‪ 2341‬هـ ‪ ،‬الموافق ‪ 21‬سبتمبر‪1123‬‬

‫‪4‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.