على نفسها جنت شلاقم ــ فريد أبوسرايا

Page 1

‫على نفسها جنت شالقم‬

‫‪1‬‬


‫على نفسها جنت شالقم‬ ‫فريد أبوسرايا‬ ‫ينبع النهر العظيم من منطقة تدعى وبرزات تقع في جنوب جزيرة لوبيا العظمى ويتدفق شماالً عبر متاهة من‬ ‫المستنقعات والبرك حيث يصب في بحر يسمى بحر العظمة ‪ .‬وفي هذا النهر العظيم العابر لجزيرة عظيمة‬ ‫والمتدفق في بحر العظمة ‪ ،‬عاشت دابة شنيعة الخلقة ‪ ،‬دنيئة الطبع تسعى وراء كل لحمة وعظمة ‪.‬‬ ‫في بعض األحيان تجد شالقم نفسها في أمس الحاجة إلى جرعات من الدفء فتسبح للخروج من النهر ‪ ،‬وما إن‬ ‫تصل إلى ضفة النهر حتى تبدأ بجر جسمها ذا الجلد السميك المحرشف ‪ ،‬وتأخذ بالزحف صوب بقعة رملية‬ ‫مشمسة أعتادت على اإلستلقاء فيها وهي تتلوى يمينا وشماال ‪ ،‬وذيلها الطويل يرسم على الرمال خطوطا ً ملتوية‬ ‫كتلك التي يرسمها قلم جهاز قياس حيوية القلب‪.‬‬ ‫ال يمكن لذيل شالقم باي حال من األحوال أن يخلف على الرمال خطوطا ً مستقيمة ‪ ،‬ألن اآلثار المستقيمة تعني‬ ‫السير على صراط مستقيم ‪ ،‬وهذا مخالف لطبيعتها ‪ ،‬فكما أن الخطوط المستقيمة التي يرسمها جهاز قياس‬ ‫نبضات القلب تعني الموت ‪ ،‬فكذلك االستقامة بالنسبة لشالقم تعني الموت ‪ ،‬واإللتواء واإلعوجاج هما الحياة‬ ‫بعينها ‪ ،‬ولو أن األوردية هي لسان شالقم ‪ ،‬لكان شعارها يقول ‪ :‬إلتواء زندباد ‪.‬‬ ‫ذات مرة ألقى حاكم سابق للوبيا محاضرة بعنوان ( العالم يتقلب ولكن ال يتغير ) ‪ ،‬وكانت شالقم في حينها يافعة ‪،‬‬ ‫قد شبت لتوها عن الطوق ‪ ،‬ويبدو أن خبر هذه المحاضرة قد تناهى إلى سمع شالقم اليافعة فأنطبعت تلك العبارة‬ ‫في ذهنها الصغير ‪ ،‬ومع مرور الوقت صارت تلك العبارة مبدأ ثم تأصلت حتى صارت عادة من عوائدها ‪ ،‬ثم‬ ‫جينا ً في صبغياتها‪ ،‬فشالقم كانت شالقم ‪ ،‬وهي اآلن شالقم ‪ ،‬وستظل شالقم مهما تشقلب الزمن ‪ ،‬تتقلب ولكنها ال‬ ‫تتغير ‪ .‬ومن أسهل األشياء التي يمكنها فعلها هي أن تقلب ظهر المجن لمن وثق بها ‪.‬‬ ‫لم تك ن شالقم قادرة على العيش خارج دائرة األضواء لكونها من ذوات الدم البارد إذ أن للشمس أهمية قصوى‬ ‫بالنسبة لها كأهمية الطعام والشراب ‪ ،‬ألن تنظيمها الحراري يعتمد على مؤثرات خارجية مثل تحكم درجة حرارة‬ ‫البيئة المحيطة بدرجة حرارة جسمها ‪ ،‬ولذلك فهي ال تفوت أي فرصة تسنح لها تستمد فيها أي قدر من الطاقة‬ ‫تقيم به أودها ‪ .‬في الليالي المقمرة تفترش شالقم رمال ضفة النهر معرضة جسمها لضوء القمر ‪ ،‬مستمتعة‬ ‫بنوبات طويلة من ( التقمر ) ‪ .‬يكاد المراقب لشالقم خالل تلك النوبات من التقمر يسمعها تنشد ‪:‬‬

‫وليس يصح في األفهام شئ ‪ .....‬إذا أحتاج القمر إلى قنديل‬ ‫أطلق عليها السكان المحليون اسم ( شالقم ) ‪ ،‬وكانوا يلقبونها بأم قشلم ‪ ،‬وهي بحسب لهجتهم كنية للخديعة ‪.‬‬ ‫ويقال أن سبب هذه التسمية راجعا إلى شغفها الشديد بأكل نباتي اللفت والجزر البريان بعد كل وجبة دسمة من‬ ‫اللحم ‪ ،‬وقد ربط سكان الجزيرة شغف شالقم هذا باللفت والجزر بما يفعله األتراك عند تناولهم كباب آضنة مع‬ ‫مشروب مصنوع من اللفت والجزر يعرف بالشلقم ‪ ،‬وهكذا سميت شالقم نسبة إلى عصير الشلقم ‪.‬‬ ‫أعتادت شالقم أثناء نوبات تشمسها على فتح فكيها إلى آخر مدى ممكن فتأتي بعض الطيور الصغيرة لتلتقط‬ ‫فضالت الطعام المتبقية بين أسنانها الرهيبة ‪ .‬وتأخذ بتنظيف فم شالقم وأسنانها ‪ .‬لم تكن وظيفة تلك الطيور‬ ‫تختلف عن الوظيفة التي تؤديها فرش األسنان سوى أن فرش األسنان ال تتلقى نظير خدماتها أي شئ‪ .‬إن‬ ‫السكون والهدوء والوداعة التي تبديها شالقم تشجع الكثير من الطيور على زيارة فمها ‪ ،‬وبعد أن تغدو الطيور‬ ‫بطانا ً أو ال تعد تجد ما تأكله تطير إلى الهواء الطلق ‪.‬‬

‫‪2‬‬


‫عندما ال يتبقى إال طائر واحد أو اثنين داخل فمها ‪ ،‬تطبق شالقم‬ ‫فكيها وتمزق أسنانها الحادة ما سنحت الفرصة ألن يتواجد بينها ‪.‬‬ ‫في الواقع ‪ ،‬لقد أتبعت شالقم تلك االستراتيجية الحكيمة لغرض‬ ‫وحيد وهو على الرغم من كون الصيد في كل مرة ليس وفيراً ‪،‬‬ ‫إال أنها أرادت المحافظة على صورة نمطية ‪ Stereotype‬عنها‬ ‫في عقول الطيور تقول أنها هادئة ومسالمة وال تمثل أي خطر‬ ‫على أحد ‪ ،‬وفي نفس الوقت تمارس بعض التمارين الرياضية‬ ‫بتحريك فكيها صعودا وهبوطا ً ‪ ،‬فحكمة شالقم في ذلك هي قليل‬ ‫دائم خير من كثير منقطع ‪.‬‬ ‫كان التريث والصبر هما دأبها ‪ ،‬وهي تؤمن بأن المنبت ال ظهرا‬ ‫أبقى وال أرضا قطع ‪ .‬أدركت شالقم أن بوسعها إغالق فكيها‬ ‫عندما يكون هناك الكثير من الطيور بينهما ‪ ،‬واقتناص العديد منها‬ ‫‪ ،‬ولكنها أدركت أيضا ً خطورة هذا المجازفة على سمعتها وصيتها‬ ‫الطيبين في حال إفالت طائر واحد أو أكثر ‪ ،‬وإشاعة خبر في‬ ‫أوساط الطيور يحذر من شالقم ‪ ،‬وينبه الطيور بعدم اإلنخداع بمظهرها الخارجي ودموعها الزائفة ‪.‬‬ ‫تنهمر الدموع من عيني شالقم وهي تمزق بأسنانها القاطعة العظام الرقيقة واللحم اللغض والريش الناعم بفعل‬ ‫تأثير متالزمة بوغوراد ‪ Bogorad Syndrome‬وليست دموعها نتاجا ً لبكاء ونحيب على القبور ‪ ،‬فحركة‬ ‫فكيها تضغط على عصبين صدغيين يحفزان غددها الدمعية فتنهمر منها الدموع‪.‬‬ ‫وفي لحظات سعادتها الغامرة تلك ‪ ،‬يكاد المرء يسمعها تعبر عن طمأنينتها بنبرة ديجولية خالصة بالقول ‪:‬‬

‫كيف ال أكون سعيدة في لوبيا ‪ ،‬وأنا في بلد به ‪ 642‬نوع من الطراطير والبله والمعاتيه وال ُهبل‬ ‫والمغفلين والجهلة والسذج والحمقى ‪.‬‬

‫‪3‬‬


‫أدرك شيوخ لوبيا باالستقراء ‪ ،‬أنه كلما ذرفت شالقم دموعا أكثر ‪ ،‬كلما كان عدد الطيور التي جنت على نفسها‬ ‫بالوثوق في هدوء شالقم أكبر ‪.‬‬ ‫إن األمر في غاية الوضوح ‪ ،‬ولكن ليس باإلمكان إنقاذ من ينظر إلى شراك المخادعين على أنها عالمات ودالئل‬ ‫عن الطيبة والمحبة واألمان ‪.‬‬ ‫إن المكون الرئيسي في عملية الخداع ‪ ،‬هو قابلية المخدوع لإلنخداع ‪ ،‬فقانون الخداع العام يقول أن من ينخدعون‬ ‫بسخين دموع المخادعين ‪ ،‬سيجرفهم بصاقهم ‪ ،‬ويغرقون في بولهم ‪.‬‬

‫ليست الدموع هي سالح شالقم الوحيد ‪ ،‬ففي بعض األحيان تكون في مخاضة النهر ‪ ،‬حيث تتدلى فوقها أغصان‬ ‫األشجار ‪ ،‬وتسمح لها ضحالة مياه النهر بأداء بعض الحركات البهلوانية‪ ،‬وإذا حدث في تلك اللحظات أن وقف‬ ‫طائر صغير على أحد هذه األغصان وهو يزقزق بسرور ‪ ،‬فرحان بالنور ‪ ،‬عندها تتخلى شالقم عن سياسة‬ ‫المخادعة والتمسكن وتنتصب قائمة على رجليها الخلفيتين ‪ ،‬وبدفعة قوية من ذيلها تنطلق مسرعة كالسهم ألعلى‬ ‫وتخطف العصفور بفكيها من على الغصن ‪.‬‬ ‫لشالقم رفيقة أخرى في مسرحية الدموع المذروفة ‪ ،‬وعلى الرغم من كونها أصغر من شالقم كما ً وكيفا ً ‪ ،‬إال أن‬ ‫قدرتها على ذرف الدموع واإلتكاء على األكتاف لم يكن بوسع شالقم مجاراتهما ‪ .‬ما يميز شالديبا عن شالقم هو‬ ‫قدرتها الفائقة على الطيران تحت مستوى الرادارات فكانت تعبر المناطق والمجاالت بدون أن ترصد وتكتشف ‪.‬‬ ‫شالديبا هي طائرة الشبح ‪ Stealth F117‬في جزيرة لوبيا ‪ .‬عادة ما تقضي هاتان الدابتان فترات طويلة وهما‬ ‫تتشمسان سوية على رمال جزيرة لوبيا ‪ ،‬ويبدو للناظر إليهما من بعيد أنهما كندماني جذيمة إال أن شالقم كانت‬ ‫تدرك جيداً االمكانيات ‪ potential‬التي كانت تتمتع بها شالديبا ‪ ،‬فلو أطلقت هذه األخيرة العنان لغددها الدمعية‬ ‫لسالت من مقلتيها دموع تكفي إلغراق شالقم نفسها ‪ ،‬ولذلك فقد كانت شالقم حسب تعبير طه حسين تب ِْغض‬ ‫شالديبا ب ْغضا ً شديداً وتزدريها ‪ ،‬ولكنها تصانعها ‪ .‬وكانت شالديبا تكره شالقم كرها ً عنيفا ً وتحتقرها ولكنها‬ ‫تتملقها ‪.‬‬ ‫تمكنت شالديبا بدموعها المدرارة من خداع جميع سكان جزيرة لوبيا خال بعض شيوخها المسنين ‪ ،‬الذين أدركوا‬ ‫أن دموعها الساخنة لم تكن من أجل القتيل ‪ ،‬بل من أجل القاتل ‪ ،‬ولم تكن من أجل الدماء المسفوكة ‪ ،‬بل من أجل‬ ‫السيف والنطع اللذان لوثتهما تلك الدماء ‪ ،‬ولم تكن من أجل األرواح بل من أجل السفاح الذي أزهقها ‪.‬‬ ‫من المؤكد أن العباس بن األحنف لم يكن مطلعا على شالديبا وأحوالها عندما أنشد شعراً عن العيون والدموع ‪،‬‬ ‫وإال لقال ‪:‬‬

‫نزف البكاء دموع عينك فا ‪ .....‬ستعر عينا ً لشالديبا دمعها مدرار‬ ‫منذا يعيرك عينـه تبكي بها ‪ .....‬أرأيت عينــا ً للدمــوع تعــــار !؟‬ ‫‪4‬‬


‫تكثر أشجار نخيل جوز الهند على شواطئ الجزيرة وتحديداً عند منطقة تسمى الفريغة ‪ ،‬بعضها بجذوع ملتوية ‪،‬‬ ‫منحنية على مياه البحر وكأنها تهمس في أذنه بأسرار لوبيا العظمى‪ ،‬وبعضها االخر مستقيمة الجذوع ‪ ،‬سامقة ‪،‬‬ ‫باسقة تناطح السماء ‪ .‬ترتبط شالقم برابطة قوية مع أشجار النخيل هذه ‪ ،‬أو باألحرى مع ثمارها ‪ ،‬ولكي نتوخى‬ ‫الدقة فهي ليست مهتمة باألشجار وال بجذوعها ‪ ،‬أو بأغصانها ‪ ،‬أو حتى بثمارها ذات اللحم األبيض المنعش‬ ‫اللذيذ ‪ ،‬بل كان اهتمامها منصبا ً على الماء الحلو الذي تحتويه هذه الثمار ‪ ،‬وهكذا فقد نشأت عالقة عشق بين تلك‬ ‫الدابة الخبيثة وبين السائل األبيض المنعش الذي تجود به ثمار نخيل جوز االهند ‪ ،‬ثم تطور العشق ليصبح تعاطي‬ ‫فمعاقرة فإدمان على ذلك الشراب الذي يسميه السكان المحليون ( قالبي ) ‪ ،‬ويقال أن اصل التسمية راجع إلى‬ ‫الخصائص التي يتميز بها ‪ ،‬إذ أن شربه يبعث النشوة في النفوس ‪ ،‬ويدير الرؤوس ‪ ،‬ويقلب العقول ‪ .‬وهكذا فإن‬ ‫خاصية قلبه لعقول شاربيه هي ما أكسبته اسم ( قالبي ) ‪ .‬لم يكن ينقص شالقم لتعيش حياة كاملة من التقلب ‪ ،‬قلبا ً‬ ‫وقالبا ً سوى أن ينقلب عقلها ‪ ،‬وقد حققت هذا بفضل معاقرتها لتلك القهوة الصهباء تحت نخيل منطقة الفريغة‬ ‫بجزيرة لوبيا العظمى ‪.‬‬ ‫لم يكن الحصول على شراب ال قالبي باألمر الهين ‪ ،‬فثمار جوز الهند لم تكن سهلة المنال كثمار األناناس أو ثمار‬ ‫الفراولة على سبيل المثال ‪ ،‬فهذه األخيرة طريحة األرض بينما ثمار جوز الهند معلقة في السماء ‪ .‬بالمعنى‬ ‫الحرفي للكامة ‪ ،‬كانت لوبيا بالنسبة لشالقم جنة تجري من تحتها األنهار ‪ ،‬وبالمعنى الحرفي أيضا ً كانت أشجار‬ ‫نخيل جوز الهند هي الشجرة المحرمة ‪ ،‬ولم ينقص شالقم لالقتراب من الشجرة المحرمة سوى وجود الشيطان ‪،‬‬ ‫األمر الذي لم يكن عسير التحقيق ‪ ،‬فجزيرة لوبيا تعج بالقرود التي يمكنها لعب دور ألف شيطان وشيطان ‪ .‬عند‬ ‫اقتراب شالقم تتسلق القرود أشجار النخيل وتتمركز في قممها ‪ ،‬فتخرج شالقم من جعبتها سهما ً آخر غير سهم‬ ‫الدموع ‪ ،‬فالدموع قد ت نطلي على العصافير والحمير ولكنها ال تنطلي على القرود ‪ ،‬فتقوم بالتكشير عن أنيابها في‬ ‫وجه القرود واستفزازها بإيماءات عدوانية فتلتقط القرود ثمار جوز الهند وترشق به شالقم المتربصة بها أسفل‬ ‫الشجرة كإجراء دفاعي أولي ‪ .‬تنهمر ثمار النخيل على الرمال ‪ ،‬فتسرع شالقم بجمعها ‪ ،‬ثم تناول شراب القالبي‬ ‫في حفلة قصف صاخبة ‪ ،‬بينما القرود تقصفها من أعلى األشجار فتنزل المقذوفات على جلدها السميك وهي ال‬ ‫تشعر إال بدبيب تأثير الشراب على عقلها المقلوب ‪.‬‬ ‫ال تقتصر قائمة وجبات شالقم على هذه الطيور الصغيرة فحسب ‪ ،‬بل كانت تتضمن وجبات دسمة توفرها بعض‬ ‫الحمير ‪ ،‬فعند اشتداد القيظ ‪ ،‬تأتي إلى ضفة النهر عانة من الحمير لتروي ضمئها وتنقع غليلها في ماء النهر ‪.‬‬ ‫تتحسب شالقم لقدوم الحمير بالنزول إلى النهر ‪ ،‬وتقترب من ضفة النهر وتغطس جسمها في الماء حتى ال يعود‬ ‫ظاهر منها للعيان إال العينان وجزء صغير من الظهر وتظل ساكنة في هذه الوضعية كأنها غواصة وكأن عينيها‬ ‫هما المئفاق ‪ Periscope‬الذي يمكنها من رؤية األهداف ‪.‬‬ ‫تستقر شالقم قبالة بقعة من اليابسة أو شبه جزيرة على شكل سهم أو مثلث متساو الساقين قمته في النهر وقاعدته‬ ‫في البر‪ ،‬وعند قمة المثلث بالضبط تنتظر شالقم قدوم الحمير ‪ ،‬وباختيارها لهذه الطوبوغرافيا النهرية كأنها تريد‬ ‫إجراء برهان عملي على صحة الهندسة االقليدية ‪ ،‬وبالتحديد على صحة نظرية جسر الحمير ‪pons‬‬ ‫‪ assinorum‬التي نصت عليها الفرضية الخامسة بالجزء األول من كتاب العناصر ألقليدس ‪ .‬وبمفارقة مضحكة‬ ‫يبدو كأن شالقم شيدت جسراً للحمير ‪ ،‬يكون الحمار الناجح باجتيازه هو الحمار الخاسر !‬ ‫تنجو حمير الملح ‪ ،‬ويهلك حمار األسفنج ‪ ،‬ال لشئ إالا ألن الملح واألسفنج هما األقدار التي تنجي هذا وتهلك ذاك‬ ‫‪ ،‬فما أكثر حمير األسفنج بيننا وما أقل الحاملة للملح ‪.‬‬ ‫تدنو الحمير من ضفة النهر ‪ ،‬وهي وتنهق وتبرطع بسرور وعندما تصل إلى الماء تخفض رؤوسها وتدلي‬ ‫بأفواهها في النهر لتنهل من ماءه البارد ‪ ،‬وال تعد أعينها ترى شيئا سوى الماء المتدفق أمام مناخيرها ‪ .‬وإذا كانت‬ ‫أعين الحمير ال ترى الخطر الماثل أمامها والمتربص بها ‪ ،‬فعيني شالقم كلها انتباه وهما ال تريان إالا كل فريسة ‪.‬‬ ‫لو كان في الحمير حمار واحد رشيد ‪ ،‬ولو راجعت الحمير ذاكرتها قليالً وقرأت فيها ما يحدث لها في كل مرة‬ ‫تأتي فيها إلى النهر لتشرب من ماءه ‪ ،‬ولو تفرست قليالً في صفحة مياه النهر الواقعة مباشرة أمام أعينها ‪،‬‬ ‫لتجسدت أمامها األنياب الرهيبة التي مزقت أحد رفاقها في آخر زيارة لها إلى النهر ‪ ،‬ولسمعت هاتفا ً محذراً يقول‬ ‫لها ‪:‬‬ ‫‪5‬‬


‫جاك اللي عاللميطة !‬ ‫لو قدرت السعادة للحمير ‪ ،‬الجتمعت على شالقم ‪ ،‬ورفستها وداستها بحوافرها حتى أنهكتها ثم قامت بجرها‬ ‫خارج النهر ‪ ،‬وأركبتها بوضع معكوس على ظهر أقوى حمار فيها ثم قامت بتجريسها في كل زنقة من زنقات‬ ‫الجزيرة والصبيان يتراكضون ويتصايحون خلفها ‪.‬‬ ‫على ذكر صيحة التحذير هذه فإن لها حكاية لو كتبت باإلبر على آماق البشر لكانت عبرة لمن أعتبر ‪ .‬وتقول‬ ‫الحكاية ‪:‬‬ ‫فييأواخر ييسوريني من الوريياوريرييساوريم ييسناو ييا وحييا وين نيياوريمرني ورمرسريرييفرفأو ييحاو مييروسيانييا وفييأو ييا س و‬ ‫خاسنله وإيىواخغ روي ي وص نرهوريس نسورألخغ يو‪.‬وخنتخرس ويلىواين ةوريماريةو سفيةوتريخ وااوريمرني ووريريفرفأو‬ ‫اسن واي ر رًوراوافسر وت ن وريرراخرةوري م نةو‪،‬وراون ااور ن ةو سر لسوخضخرحنهاوإيىوا غيا وافسنرنياويحرانيةو‬ ‫ين يوارناو‪،‬وخ ااوهؤالءو وا لغخرورن راًوفأو سر لسو أ ه وفره خاوإيىو سقويلر اس ةوفيأورحتايااللو ر اني ةو‬ ‫ين وريجالءو‪ .‬و‬ ‫ا لملو ه وري ا س وإيىواخغ روخه ونظ خاوا هي وفره يخاوإييىو يسقو‪،‬وخي ي راوه يلوري يا س و هيؤالءوريرنيا ناو‬ ‫رير خيناوفأورجاه وافسنرناوخا غايهاو ا واح ه ورتمج اًوي راوساىوريغا الوخرأل هاسو‪:‬و و‬ ‫و‬

‫وهللا طبرق ولت خضراء يا أوالد !‬ ‫خ ن راوه وفأوحنصو نصو‪،‬ونت رسنخاورخ اه وخريرح ةوريتأوه وفنهاو‪،‬و يس وترنيامورياوري هيسو‪،‬وخححيبو اتجيا و‬ ‫احي وهييؤالءوريرنييا ناوريرغي خسناو‪،‬وخهييخوفييأوغالييةوريياوارييس و‪،‬وخي يياواحي ه والحييظوريترنييامونتنييل و لييبوسفنرييهو‬ ‫فصسخورحفسروإنا و‪ :‬و‬ ‫و‬

‫جاك اللي عاللميطة ‪.‬‬ ‫إفوا هوي ون اونمسبورن وتلكوري ر يةوريراتسنيةو‪،‬وخي يهو ياه وصيخستهاوريرنيت رةويل يانيةوألحي وا يخر وو ياسرلو‬ ‫ريحال ةو(وريرمسخفةورحلناًو ان وريلرن ةو‪lametta‬و)و‪ .‬و‬

‫‪6‬‬


‫تثب شالقم بخفة ونشاط عجيبين وتنشب أنيابها في جسد أقرب حمار إليها ‪ ،‬ثم تجره إلى عالمها المائع والحمار‬ ‫المسكين ينهق مفزوعا ً ‪ .‬وعندما يصبح الحمار في الماء تبدأ شالقم بوضع أبرز مؤهالتها وهما التقلب واإللتواء‬ ‫حيز التنفيذ ‪ ،‬فبينما تطبق فكيها بإحكام على الحمار تأخذ بالتقلب في الماء بصورة شيطانية ‪ ،‬وبعد أن تجهز عليه‬ ‫تقوم بتقطيع جثته إلى قطع كبيرة وتبلعها الواحدة تلو األخرى ‪ .‬يكاد المراقب لشالقم في هذه الحالة يسمعها تنشد‬ ‫شعرا تقول فيه ‪:‬‬

‫وليس يصح في األفهام شئ ‪ .....‬إذا تعرف الحمار على السبيل‬ ‫من المحير أن الحمار المالك ألول أداة قتل في تاريخ البشرية نجده ال يستعملها بل يصاب بالشلل ويستسلم‬ ‫بالكامل لفكي شالقم بدالً من أن يعاجلها بفكه ويوردها حتفها ‪.‬ماذا لو كان قابيل شاهداً على هذا ‪ ،‬هل كان سيقول‬ ‫للحمار أستعمل فكك لتثبت وجودك ؟‬ ‫ولو عمل الحمار بنصيحة قابيل لحق أن يقال فيه ‪:‬‬

‫ذهب الحمار بأم قشلم ‪ .....‬فال رجعت وال رجع الحمار‬

‫إن أمة من الحمير تنخدع بدمعة مغشوشة يذرفها مخادع وتنسى وتتناسى مسيرة حياته الحافلة بالتوأطأ مع الظلمة‬ ‫والقتلة على مدار عقود من الزمن لهي أمة تستحق عن أهلية وجدارة مخلوق كشالقم يذرف عليها الدموع ليبللها‬ ‫ويرطبها ويلينها ويجعلها سهلة للبلع ‪ ،‬ويزدردها الحمار تلو الحمار ‪.‬‬ ‫إن الفاحص المدقق لسلوك شالقم البد أن يخرج بخالصة يجزم فيها أن ما تفعله تلك البهيمة المهيمنة على نهر‬ ‫لوبيا العظيم ليس ناشئا ً عن فطرتها الخبيثة ‪ ،‬ونفسيتها الشريرة ‪ ،‬ومعدنها السئ ‪ ،‬بل البد أن هناك عنصراً آخر‬ ‫مكتسب له أعظم األثر في تعديل دفتها وتوجيهها نحو الوجهة التي قدر لها أن تسعى إليها ‪.‬‬ ‫قد يبدو للبعض أن األمر غريبا ً كل الغرابة ‪ ،‬وعجيبا ً كل العجب ‪ ،‬ومذهالً كل االذهال أن تكون شالقم مطلعة‬ ‫على كتاب ( النباهة واالستحمار ) للدكتور علي شريعتي حتى تفهم تستوعب كالمه وتطبقه بحذافيره على حيز‬ ‫‪7‬‬


‫الواقع ‪ ،‬لكن يبدو أن األمر كذلك ‪ ،‬فهي تدرك أنه في غياب النباهة لن ينفع القوي قوته ‪ ،‬ولن تسعف السريع‬ ‫سرعته ‪ ،‬ولن تفيد البدين بدانته ‪ ،‬فشريعتي يقول في كتابه المذكور ‪:‬‬ ‫لكن حقيقة األمر غير ذلك ! فقد تكون لبعض الناس قوة جسمية ‪ ،‬كقوة الفيل أو الجمل ‪ ،‬بينما ليس لهم من‬ ‫النباهة النفسية حتى قوة العصفور ! وهنا أيضا ً تضر القدرة الجسمية بالوعي والنباهة ! ولقد قيل " العقل‬ ‫السليم في الجسم السليم " ! نعم ‪ ،‬هكذا ‪ ،‬لكن الجسم السليم ‪ ،‬غير الجسم " القوي " وغير الجسم "‬ ‫الالمتناسب " ولقد كان بعضهم يقول ‪:‬‬ ‫حتى لو بَ ُد ْنتَ ‪ ،‬فإنك لن تكون أضخم من البقرة ‪ ،‬ولو فرضنا ذلك ‪ ،‬فعندئذ يحلبونك ! وإذا ازددت قوة أيضا ً ‪،‬‬ ‫فلن تكون أقوى من الحمار ‪ ،‬ولو فرضنا ذلك ‪ ،‬فحينئذ يحملونك أسفاراً ! وإن ازددت سرعة في السير‬ ‫والركض ‪ ،‬فلن تكون أسرع من الفرس ‪ ،‬ولو فرضنا ذلك أيضا ً ‪ ،‬فساعتئذ يركبونك !‬ ‫ال يعوز شالقم النباهة وحمير لوبيا ليست بحاجة الستحمار ‪ ،‬ألنها في االساس حمير كاملة األوصاف ‪ ،‬أو ما‬ ‫يمكن تسميته حميرحتى الثمالة ‪ ،‬ويبدو أن الدكتور شريعتي رحمه هللا قد غفل عن نقطة جوهرية وهي أنه من‬ ‫غير الممكن أن تستحمر حماراً ‪.‬‬ ‫لشالقم فلسفة خاصة في تعاملها مع حمير جزيرة لوبيا فهي تعتبر أن كل حمار تبتلعه ‪ ،‬هو حمار مختلف عن بقيه‬ ‫الحمير األخرى ‪ ،‬ومن الواضح أنها من أتباع المبدأ القائل أن كل شئ في حالة سيالن دائم ‪ ،‬فهي ترى النهر في‬ ‫حالة تدفق متواصل ولذا فهو متجدد على الدوام ‪ .‬وبناء على هذا ‪ ،‬يمكن القول بثقة تامة أن موقف شالقم في‬ ‫بعض األحيان يتفق تماما ً مع مبادئ الفيلسوف اليوناني هرقليطس المعروف بالفيلسوف الغامض ‪ ،‬وفي أحيان‬ ‫اخرى يتجاوز إيمانها بمبادئ هرقليطس درجة الوسطية واالعتدال إلى حد الغلو والتطرف ‪ ،‬وحينئذ تصبح‬ ‫شالقم هرقليطسية أكثر من هرقليطس نفسه ‪.‬‬ ‫وهكذا يمكن تلخيص فلسفة شالقم بعبارة واحدة ‪:‬‬

‫ال يمكن ألي حمار ان ينزل في نفس النهر مرتين ‪.‬‬ ‫المشكلة الرئيسية التي تعاني منها تلك الحمير التي لها أجسام البغال وعقول العصافير ‪ ،‬وتلك الطيور التي لها‬ ‫أجسام العصافير وعقول البغال هي جهلها بال َخب ‪ ،‬ولذا تجدها تقع بسهولة في شراك ال ِخب وشباكه ‪.‬‬ ‫ويحق ألي امرئ حصيف أن يقول ‪ :‬لست بال ِخب ‪ ،‬ودموع شالقم ونحيب شالديبا ال يخدعني ‪ ،‬فلست من‬ ‫أصحاب أجسام البغال وعقول العصافير وال من أصحاب أجسام العصافير وعقول البغال ‪.‬‬ ‫في عام ‪ ، 2481‬أبتكر عالم التشريح البريطاني ريتشارد أوين كلمة ( ديناصور ) المشتقة من اللغة اليونانية ‪،‬‬ ‫والتي تعني ( السحلية المخيفة ) ‪ ،‬وبما أن شالقم تنتمي إلى نوع عاصر الديناصورات ‪ ،‬وحافظ على وجوده على‬ ‫األرض بعد إنقراضها الذي حدث قبل ‪ 56‬مليون سنة خلت ‪ ،‬فيجدر بعلماء الحيوان إطالق اسم شالصور أو‬ ‫شلقاصور على شالقم وبنات جلدتها كونهن وريثات شرعيات لتلك الزواحف التي جابت سطح األرض في‬ ‫العصر الجيوراسي ‪.‬‬ ‫ولكن يظل هناك سؤال ملح يطرح نفسه في هذا السياق ‪ ،‬وهو ‪:‬‬ ‫إذا كان القضاء على الديناصورات أستلزم قصف شبه جزيرة يوكاتان بنيزك ضخم ‪ ،‬فما الذي يتطلبه القضاء‬ ‫على شالقم وأخواتها ومحوهن نهائيا ً من على ظهر جزيرة لوبيا ؟‬ ‫من المؤكد أن شالقم لم تكن على دراية بالمثل القائل ‪ :‬ليس كل ما يطير يؤكل كالحمير‪ ،‬فهي تظن أن االبتالع هو‬ ‫آخر المشوار ومن المنظور العسكري كانت ترى أن المهمة قد أنجزت ‪ mission accomplished‬عندما‬ ‫يبتلع الهدف ‪ .‬لم يكن موقف شالقم يختلف عن موقف مدينة طروادة الغابرة التي فتحت بوابتها لتلتهم حصانا ً‬ ‫شاهدته يرتع خارج أسوارها ‪.‬‬ ‫‪8‬‬


‫في لحظات فارقة من الزمن ‪ ،‬وفدت على جزيرة لوبيا عصافير جميلة ناعمة الريش ‪ ،‬زاهية األلوان ‪ ،‬تشبه إلى‬ ‫حد كبيرالسمك النفاخ ‪ ،‬فلحمها ال يختلف كثيراً عن السم الزعاف ‪ .‬حطت العصافير الجميلة على ضفة النهر‬ ‫العظيم المقابلة للضفة التي أعتادت شالقم وشالديبا التشمس فيها ‪ .‬أرادت شالقم تطبيق استراتيجة الدموع مع‬ ‫العصافير الوافدة بلعب دور زهاد ونساك األشاعرة الصالحين ‪ ،‬ولكن يبدو أن هذه العصافير الجميلة كانت‬ ‫أشعرية أكثر من شالقم نفسها ‪ ،‬فقد ضمن لها تكوينها العضوي ( الفسيولوجي ) االنتصاف لنفسها ممن أعتدى‬ ‫عليها وأكلها ‪ .‬إن قدر هذه العصافير يدعو المرء للتأمل والتعجب والتبصر ‪ ،‬والتسأل بينه وبين نفسه ‪ ،‬ما الذي‬ ‫كان فرانسوا رينيه الفيكونت دوشاتوبريان سيقوله لو أطلع على هذه العصافير الجميلة وما تقوم به بعد هالكها ؟‬ ‫هل كان سيقول هذا ما يمكن تسميته بإنتقام من وراء القبر ؟‬ ‫وهل تعرف اإلمام شرف الدين البوصيري على شالقم وأحوالها حتى تستلهم قريحته فينشد أبياتا من الشعر‬ ‫تقول‪:‬‬

‫ُ‬ ‫س ِـم‬ ‫ســنَتْ لَـــ َّـذةً للمـــر ِء قاتِلَــــةً ‪ِ .....‬من‬ ‫حيث لم يَ ْد ِر أَنَّ ال ُّ‬ ‫َكـــم ح َّ‬ ‫س َّم في ال َّد َ‬ ‫ْ‬ ‫صـــ ٍة شَـــ ٌّر ِمـ َن التُّ َ‬ ‫ـخــ ِم‬ ‫س ِمن‬ ‫شبَ ٍع ‪ .....‬فَ ُر َّ‬ ‫ب مخ َم َ‬ ‫سائِ َ‬ ‫ش ال َّد َ‬ ‫واخ َ‬ ‫جوع و ِمن ِ‬ ‫ٍ‬ ‫عين قَـ ِد ا ْمتَـألتْ ‪ .....‬مـ ِن ال َم َحــا ِر ِم وا ْل َز ْم ِحميَــةَ َالنَّــ َد ِم‬ ‫غ الدمـ َع ِمن‬ ‫ٍ‬ ‫واستَف ِر ِ‬

‫أرتكز موقف شالقم العام على فهم أشعري للحياة ‪ ،‬يقيم األشياء وفقا لمالءمة بين صحيح المنقول وصريح‬ ‫المعقول ‪ ،‬بيد أن الصورة التي ينقلها البصر في بعض األحيان ال تعبر عن حقيقة األشياء ‪ ،‬فهي قد تكون صورة‬ ‫صحيحة ولكنها غير حقيقية ‪ ،‬وليس أصدق على ذلك من صور كهف أفالطون ‪ .‬كثيراً ما ينخدع العقل بظواهر‬ ‫األشياء فيقطع بالحكم بأمن بعض الحاالت والظروف و يكون في ثناياها الخطر العظيم ‪ .‬فليس كل معقول آمن ‪،‬‬ ‫وليس كل آمن معقول ‪ .‬وليس كل ما يؤكل لحمه هو طائر من الطيور ‪ ،‬وليس كل ما يطير يمكن أن يؤكل لحمه ‪.‬‬ ‫تتمتع هذه العصافير الجميلة ‪ ،‬الزاهية األلوان بآلية طبيعية تجعل من لحومها سما ً قاتال ‪ ،‬وكأنها تفخخ أجسادها‬ ‫حتى إذا سولت ألحدهم نفسه بتذوق لحومها ‪ ،‬سرى السم الزعاف في سائر جسم اآلكل وقضى عليه في دقائق‬ ‫معدودة ‪ ،‬وأصبح جسم اآلكل ضريحا ً للمأكول ‪ .‬وهي بذلك توفر هامشا ً لتصحيح المنقول بعد أن يصبح المعقول‬ ‫أشد صراحة ووضوحا ً ‪.‬‬ ‫إن المتأمل في أمر تلك العصافير ذوات الريش الملون يحق له القول ‪:‬‬

‫تسمع بعصافير لوبيا خير من أن تأكلها ‪.‬‬ ‫في حاالت بالغة الندرة ‪ ،‬تكون حياة شئ ما ‪ ،‬حياة عادية ال تتسم بالفعالية ‪ ،‬وال يكون له أي تأثير على أي شئ‬ ‫آخر ‪ ،‬ولكن ما أن يغادر ذلك الشئ مسرح األحداث الدنيوية حتى تكتسب أقواله ومواقفه وكتاباته رافعة طويلة‬ ‫تمنح تلك األقوال والمواقف والكتابات قوة تأثير مدهشة وحيوية إستثنائية وأحيانا ً مهابة وجالل ‪ .‬إن كلمة أثناء‬ ‫الحياة قد ال يأبه بها كثيراً ‪ ،‬وقد تعارض وتنتقد ‪ ،‬ولكنها بعد موت صاحبها تنتفض بقوة وتنزل إلى أرض الواقع‬ ‫وتترجم نفسها إلى أفعال ‪ .‬إن دور الموت في هذه الحاالت هو دور المظهر والملمع الذي يضفي على أعمال‬ ‫البعض حيوية وإشراق بعد أن كانت مركونة ومهملة في حياة صاحبها ‪.‬‬ ‫رب كلمة قيلت ود ارت من فم ألذن ولم تدخل عقل أحد أو تمس شغاف أي قلب ‪ ،‬ولكنها بموت صاحبها من أجلها‬ ‫تلج األذان وتطرق بوابات القلوب والعقول بقوة فتنفتح لها ابواب العقل بمفتاح المنطق ‪ ،‬وتنفتح لها أبواب القلب‬ ‫بمفتاح العاطفة ‪ ،‬فتتحول تلك القلوب والعقول إلى عمال ونواب تمثل غايات وأهداف تلك الكلمة ‪.‬‬ ‫لم يمثل الموت أي عائق أمام فارس قبيلة كنانة ‪ ،‬ربيعة بن مكدم في مواجهة أعدائه ‪ ،‬فقد حمى الظعن حيا ً وميتا ً ‪،‬‬ ‫ففي يوم الكديد أنهكته الجراح ونزف حتى الموت ‪ ،‬ولكنه ظل على ظهر فرسه فوق رابية ‪ ،‬متكئا ً على رمحه ‪،‬‬ ‫وأعدائه ينظرون إليه من بعيد وال يجسرون على االقتراب منه حتى أفلتت منهم الظعينة ‪.‬‬ ‫‪9‬‬


‫لقد حمى ربيعة بن مكدم الظعينة وهو حي ‪ ،‬ولكنه لم يلقب بحامي الظعن إال بعد أن حمى الظعينة ميتا ً ‪ ،‬فالموت‬ ‫هو ما أكسبه هذا اللقب وليست الحياة ‪ ،‬والموت هو ما جعل العرب في الجاهلية تعقر الجزر على قبره ‪ ،‬ولم تفعل‬ ‫ذلك على قبر أحد غيره ‪.‬‬ ‫على الرغم من إحتواء الكون ع لى مليارات النجوم الدائرة في أفالكها ومجراتها ‪ ،‬إال أن القليل منها نسبيا‬ ‫معروف ويحظى باهتمام وتقدير علماء الفلك وهواته ‪ .‬تدور الكثير من النجوم في أركان قصية من الكون يلفها‬ ‫االهمال والنسيان وتعاني من الهجر واإلقصاء ‪ ،‬فليس كل نجم يستحق عن جدارة اسم النجم ‪ ،‬فحتى األعشاب‬ ‫الدنيئة تدعي وصالً بهذا االسم وتنتسب إليه ‪ ،‬ولكن بمجرد أن يستهلك أحد هذه النجوم المغمورة هيدروجينه الذي‬ ‫هو مادة حياته وبقاءه ‪ ،‬حتى ينهار على نواته ويستعر في إنفجار عظيم مطلقا ً طاقة يشعر بها الكون العظيم نفسه‪.‬‬ ‫تستلفت حشرجة النجم وهو في نزعه المراصد الفلكية ‪ ،‬ويدون الفلكيون هذا الحدث في أزياجهم ويكثرون من‬ ‫التعليق حوله ‪.‬‬ ‫منذ اإلنفجار األزلي العظيم ‪ ، Big Bang‬عاش حياته مهمالً ‪ ،‬ومنبوذاً ‪ ،‬ومحتقراً ‪ ،‬وعندما مات مالوا إليه‬ ‫وأحاطوه بأكاليل الغار ‪ ،‬ويعبر أهل لوبيا عن هذا الموقف بمثل شعبي من تراثهم يقول ‪:‬‬ ‫عندما كان حيا ً ‪ ،‬كان يشتهي التمرة ‪ ،‬وعندما مات وضعوا على قبره عرجونا ً كامالً من الرطب ‪.‬‬ ‫ما الذي جعلهم يفعلون ذلك إن لم يكن الموت ؟‬ ‫بلى ‪ ،‬الموت هو الذي يجعل من النجم ثقبا اسودا يأسر الضوء نفسه ويبتلع كل ما يقترب منه ‪.‬‬ ‫الموت أيها السادة هو الذي يدون بأحرف من نور السير الذاتية لبعض النجوم ‪ ،‬فتصبح مهابة بعد احتقار وإزدراء‬ ‫‪ ،‬وشهيرة بعد اهمال واغفال ‪.‬‬ ‫شهد سجل الحياة ميالد وعيش ماليين القطط والسنوريات ‪ ،‬ولكن سجل التاريخ لم يحتفل إال بقطة واحدة أرتبطت‬ ‫بعالم فيزيائي شهير وهو إرفين شرودنجر ‪ ،‬وعلم ميكانيكا الكم ‪ ،‬بيد إن إحتفاء التاريخ بقطة شرودنجر ليس ناشئا ً‬ ‫عن عدد الفئران التي أصطادتها هذه القطة أثناء حياتها ‪ ،‬ولكن لكونها حية وميتة في آن واحد معا ‪.‬‬ ‫إن ما جعل قطة شرودنجر قادرة على توضيح القصور الذي يعاني منه تفسير كوبنهاجن لميكانيكا الكم هو أن‬ ‫احتمال كونها ميتة متساو مع احتمال كونها حية ‪ ،‬فالموت لم يضرها على اإلطالق بل كان سببا ً في دخولها إلى‬ ‫سجالت الخالدين ‪ .‬إن موقف عالم ميكانيكا الكم أمام الحاوية التي بها قطة شرودنجر مع قارورة من حمض‬ ‫الهيدروسيانيك القاتل يناظر موقف سليمى زوجة صخر بن عمرو بن الشريد السلمي‪ ،‬أخو الخنساء عندما تسأل‬ ‫عن حال زوجها المريض ‪ ،‬فتقول ‪ :‬ال هو حي فيرجى ‪ ،‬وال ميت فينعى ‪ ،‬فيسمعها صخر ويقول في ذلك شعراً‪:‬‬

‫لعمري لقد أنبهت من كان نائما ‪ ......‬وأسمـعـت من كانت لـه أذنـان‬ ‫وللمـوت خيـر من حيـاة كأنـهـا ‪ ......‬محلـة يعسـوب بـرأس سنـــان‬ ‫فالموت كان فأل خير على قطة شرودنجر ‪ ،‬كما كان مهيجا ً لعاطفة الخنساء فبكت اخاها صخر وجعلته علما ً وفي‬ ‫رأسه نار ‪.‬‬ ‫أدعت الجن العلم بالغيب ‪ ،‬ولم يفند هذا اإلدعاء ويفحمه إالا الموت ‪ ،‬فقد كانوا يتوهمون علم الغيب ويوهمون‬ ‫الناس بذلك وهم في واقع األمر جاهلين حتى بواقع حالهم ‪ .‬سخرت الجن للنبي سليمان عليه السالم ‪ ،‬فكأنوا‬ ‫يؤدون األعمال الشاقة وهو يراقبهم متكئا ً على عصاه ‪ ،‬ولما قبض سليمان عليه السالم لم تفطن الجن لمفارقة‬ ‫سيدهم للحياة وظلوا على حالهم من التعب والمشقة حتى جاءت نملة فأكلت العصا فسقط النبي سليمان إلى‬ ‫األرض ‪ .‬لقد هدم الموت صرح الوهم الذي بنته الجن ‪ ،‬وأضحى جليا ً لهم ولغيرهم أن علمهم بالغيب ال يتعدى‬ ‫قدرتهم على التمييز بين الميت والحي ‪.‬‬ ‫وليس أصدق على توضيح فكرة الموت مما قاله الدكتور مصطفى محمود رحمه هللا في كتابه لغز الموت ‪:‬‬ ‫" وبالموت تكون الحياة ‪ ..‬وتأخذ شكلها الذي نحسه ونحياه ‪ ..‬ألن ما نحسه ونحياه هو المحصلة بين القوتين معا ً‬ ‫الوجود والعدم ‪ ..‬وهما يتناوبان اإلنسان شداً وجذبا ً‪.‬‬ ‫‪10‬‬


‫ما السر إذن فى هذه الدهشة التى تصيبنا حينما يقع أحدنا ميت ‪" .‬‬ ‫وإذا كان الفيلسوف اليوناني أبيقور يقول ‪:‬‬

‫إذا كنا ال يكون الموت ‪ ،‬وإذا كان الموت ال نكون‪.‬‬ ‫فإن عصافير لوبيا ترد عليه قائلة ‪:‬‬

‫إذا كنا ال يكون الموت ‪ ،‬وإذا كان الموت ال نكون كما كنا ‪.‬‬ ‫عبرت شالقم النهر العظيم إلى الضفة األخرى ‪ ،‬ويشبه عبورها هذا عبور يوليوس قيصر لنهر الروبيكون في‬ ‫عام ‪ 84‬ق‪.‬م ‪ ،‬فقد كان بمثابة نقطة الالعودة ‪ ،‬أو كعبور الجيش المصري لخط بارليف في عام ‪ 2491‬فوقع في‬ ‫ثغرة الدافرسوار ‪.‬‬ ‫من سوء حظ شالقم أنها لم تطلع على كتاب تاريخ الحيوان للفيلسوف العظيم أرسطو الذي كتب في ثناياه عبارة‬ ‫تتضمن شؤما ً ونحسا ً ‪ ،‬ونذراً بالشر ‪:‬‬

‫من ليبيا دائما ً يأتي الشر ‪ /‬الجديد‬

‫وسواء أ كان نتاج لوبيا الشر أو كل ما هو جديد ‪ ،‬فإن األمر سيان بالنسبة لشالقم ‪ ،‬فالشر بالنسبة لها شر ‪،‬‬ ‫والجديد بالنسبة شئ غامض لم تختبر خيره من شره بعد ‪.‬‬ ‫أكلت شالقم عصفوراً جميالً ‪ ،‬فكان ذلك هو خطيئتها األخيرة التي أخلفتها حسرة بال دموع ‪ .‬فعل سم العصافير‬ ‫فعله في جسمها فأخذت تتقلب وتتلوى من األلم ‪ ،‬ولم ينفعها التقلب واإللتواء هذه المرة ‪ .‬ماتت شالقم فماتت‬ ‫الخديعة ‪ ،‬ومات أكبر شيطان أخرس عرفته جزيرة لوبيا العظمى ونهرها العظيم ‪ .‬يعتبر موت شالقم أعظم نعمة‬ ‫نزلت على جزيرة لوبيا بيد أنها أفلحت في خداع الكثيرين الذين ( تشلقموا ) حتى النخاع ‪ ،‬فهؤالء هم التربة‬ ‫الخصبة التي تنمو فيها بذور الطغيان واالستبداد ‪ ،‬وهم المناخ المناسب الذي يسمح بهطول أمطار حمضية تهلك‬ ‫الحرث والنسل ‪.‬‬ ‫أال بعدا لشالبيدا ‪ ،‬وأال بعدا لشالقم ‪ ،‬وأال بعدا لمن تشلبد وتشلقم معهما ‪.‬‬ ‫أنطرحت جثة هامدة على رمال جزيرة لوبيا العظمى ‪ ،‬وفي اليوم التالي مر بها بعض شيوخ الجزيرة ‪ ،‬وتعجبوا‬ ‫من نهايتها بعد أن كانت سيدة النهر العظيم بال منازع‪ .‬كيف ال وقد راجت خرافة في أوساط أهل لوبيا تقول أن‬ ‫دموع شالقم هي العين الحقيقية التي ينبع منها النهر العظيم نفسه‪ ،‬ولو كفت شالقم عن ذرف الدموع ألنخفض‬ ‫مستوى مياه النهر وألصبح ماءه غوراً ‪ .‬لقد كانت شالقم في نظر المخدوعين مثالً للوداعة وللمحبة فأصبحت في‬ ‫نظر التاريخ أمثولة للخداع والتزوير والتضليل ‪ ،‬فكما قيل أرادت أن تكون مثالً فأصبحت أمثولة !‬ ‫قال أحد الشيوخ وهو ينكزها بعكازه عبارة أصبحت بعد ذلك مثالً يضرب لمن جلب لنفسه البالء‪:‬‬

‫على نفسها جنت شالقم‬ ‫الثالثاء ‪ 44 ،‬ذو القعدة ‪ 4441‬هـ ‪ ،‬الموافق ‪ 9‬سبتمبر‪6144‬‬ ‫‪11‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.