1
بحيرات وجزر :ما تلك البحيرة الكبيرة جدا ً إالّ من هذه البحيرة الصغيرة جدا ً بقلم :فريد أبو سرايا .. .
.
بالنسبة لك ،إن البحيرة الصغيرة التي تحبها هي أكبر المحيطات ميهمت مورات إلدان
قد يخطر ببال البعض ويجرهم الوهم إلى أن الحديث هنا هو حول بحيرة فاقسفاتن الواقعة في جزيرة فاجار التابعة لجزر فارو الدانماركية ،وأن الشالل الذي نتكلم عنه هو شالل بوزداالفوسر ، Bøsdalafossurولكن هناك فرق شاسع بين شالل يسقط من إرتفاع ثالثين متراً وبين شالل يسقط من أعالي السماء السامقة .
مضى على ركوبي البحر تسعة أيام ،ولم يعكر صفو إبحارنا أي طارئ مزعج ،فقد كان البحر هادئا ً والرياح مؤاتية .خالل هذه المدة ،لم نر اليابسة على االطالق ،وكل ما هنالك هو أن البحر كان تحتنا ،والسماء كانت فوقنا ،كنا ببساطة نفترش البحر ،ونلتحف السماء .ولكن ال شيء يثبت على الدوام إالّ شيء واحد ،وهو التغير ؛ ففي اليوم العاشر ،اضطرب البحر ،واكفهرت السماء ،فعلت األمواج واشتدت الرياح .قاومت السفينة ثورة الطبيعة العنيفة ،واستنزفت كامل قواها خالل النهار ،وفي الليل بلغت حداً من اإلنهاك لم تعد معه قادرة على الصمود في مواجهة عنفوان العاصفة. اتكأت ابنة اليم على صدر أبيها ،وتفرقنا نحن ركابها شذر مذر وسط األمواه .وجدت نفسي عائما ً على لوح خشبي تسوقه األمواج أمامها ،ووسط الظلمة الرهيبة التي اكتنفتني لم أكن أحس بشيء سوى بحركة الماء من حولي ،وحركتي أنا مع التيار .بينما أنا في حالة من اليأس والقنوط ،تناهى إلى سمعي صوت خافت جعلني انتبه ،وأرهف سمعي لمعرفة كنه ذلك الصوت .ليس من باب الدقة القول أن ما سمعته كان خرير ماء ،ولكن األدق هو القول أن ما سمعته كان وشوشة أمواج البحر لرمال شاطئ . 2
القى بي البحر على الشاطئ وأنا في حالة من اإلعياء أكاد معها ال أقوى على الوقوف ،فاستلقيت على الرمال الجافة وسلمني اإلعياء إلى عهدة النوم .أيقظتني أشعة الشمس بدفأها وحنوها ،وكان أول ما تبادر إلى ذهني هو أن أعرف أين أنا .بعد جولة قصيرة في المكان أدركت أنني على ظهر جزيرة .وكانت أكثر أشجار هذه الجزيرة هي أشجار نخيل جوز الهند ،وتكاد النوارس تكون هي الطيور الوحيدة في تلك الجزيرة .إن للبطة بطبطة ،وللدجاجة نقنقة ،وللهدهد هدهدة ،وللقلق لقلقة ،وللصقر غقغقة ،وللعصفور زقزقة ،بيد أني ال أعرف بالضبط ما هو االسم الذي يطلق على صوت النورس ،ولكن أيا ً كان ذلك االسم فقد كان صياح النوارس عبارة عن ضجيج ال يُطاق .أل ُريح سمعي ،قررت أن أبتعد عن ساحل البحر حيث تحوم النوارس ،وأتجه إلى دواخل الجزيرة الستكشف المكان .توغلت في الغابة ،وبعد هنيهة قادتني رجالي إلى ساحل آخر تناثرت على شاطئه جذوع أشجار النخيل .دفعت جذع نخلة إلى الماء وركبت عليه وأخذت أجذف بغصن ذي طرف عريض. ما أن ابتعدت عن الشاطئ مسافة ليست بالقصيرة حتى الح لي في األفق طيف يابسة ،وفي نفس الوقت كنت مدركا ً لحقيقة أن اليابسة تحيط بي أيضا ً .على هذا األساس أدركت أنني كنت أعوم على جذع نخلة في بحيرة واقعة ضمن جزيرة ،وإن وجهتي ـ اليابسة التي رأيتها تلوح في األفق ـ هي عبارة عن جزيرة صغيرة نسبيا ً وسط البحيرة التي أمخر عبابها على جذع نخلة .بينما كنت مبحرا ً في تلك البحيرة ،تناهى إلى سمعي صوت إلي أن ما كنت أسمعه هو في الواقع صوت هدير خافت ،توحي نبرته الخافتة بأنه صادر من مكان بعيد ،وخيل ّ مياه متساقطة ،فعزمت على أن أتجه نحو مصدر ذلك الصوت ،إال أن أسرابا ً من األسماك أخذت تتقافز أمامي بأعداد مأهولة لدرجة أنها أصبحت حجر عثرة في طريقي ،وتعذر معي المضي إلى مصدر ذلك الصوت ،وكأن تلك األسماك كانت تحاول أن تعيقني عن المضي قدما ،لتوجهني إلى وجهة محددة بعينها .تشبه تلك األسماك إلى حد كبير ـ إن لم تكن كذلك بالفعل ـ أسماك الرنجة ،وقد خامرني سؤال محير :هل من الممكن أن تكون أسماك الرنجة تلك هي سمكة رنجة حمراء Red Herringوجدت في طريقي لتصرفني عن وجهتي التي أعتزمت التوجه إليها ؟ نظرا ً لكثرة تلك األسماك التي تشبه سمك الرنجة في هذه البحيرة ،فإن من الالئق أن تسمى هذه البحيرة باسم بحيرة أسماك الرنجة ،أو اختصاراً ببحيرة الرنجة .بعد مجهود شاق حط بي جذع النخلة على ساحل جزيرة ذات أشجار وأطيار ،ووجدت أن هذه الجزيرة مستنبة بالكامل بأشجار البرتقال ،وتحلق في أجواءها الطيور المعروفة باسم أمراء طيور غويانا بأعرافها الكبيرة Le prince des oiseaux de ، Guyaneوطيور األكيبا Akepaالتي تستوطن جزيرة هاواي ،وطيور الرفراف القزمة Sulawesi Dwarf Kingfisherالمستوطنة لجزيرة سوالويزي اإلندونيسية . من العجيب أن طيور جزيرة البرتقال هي طيور معروفة باستيطانها ألماكن متفرقة من العالم ،ولكن الغرابة تزول إذا علمنا أن القاسم المشترك بينها جميعا ً هو أنها كلها برتقالية اللون .إذن يمكننا القول وبدرجة كبيرة من المصداقية ،أن تعبير " الطيور على أشكالها تقع " في هذه الجزيرة ،هو في الواقع حقيقةً وليس مجاز . 3
قمت بجولة استكشافية في دواخل الجزيرة البرتقالية وتوغلت في مجاهلها ،ولفرط دهشتي اكتشفت أن في وسطها هناك بحيرة ،وبعد فترة من االحجام والتردد قررت أن اقتحم مياه تلك البحيرة ،فغطست في الماء، وأخذت أسبح مبتعداً عن ساحلها . لم تكن الرغبة في النجاة هي التي توجهني بل كانت الرغبة في االستكشاف إذا ليس في القفز من جزيرة إلى بحيرة ،ثم من بحيرة إلى جزيرة ،ومن جزيرة إلى بحيرة ..أي معنى من معاني النجاة .إن اإلنسان في األصل هو كائن فضولي ،مستكشف بغريزته ،واالستكشاف بالنسبة إليه هو عمل الستطالع المجهول ،واستجالء الغموض وإرضاء الفضول هما بمثابة المحرك الذي يحفزه إلى الذهاب إلى عوالم المجهول .بعد أن فقد اإلذهال علي ،لم تعد رؤية جزيرة في تلك البحيرة أمرا ً يدعو إلى الدهشة على االطالق ،ولذا فعندما الحت لي تأثيره ّ جزيرة أخرى من بعيد لم يكن األمر مستغربا ً أو مذهال ،بل كاد يكون أمرا ً طبيعيا ً ومتوقعاً. سبحت نحو الجزيرة ووصلتها بسالم بعد زمن ليس بالقصير .لم تكن الجزيرة الجديدة بالكبيرة ،وكانت تلك الجزيرة هي ثالث جزيرة تطأها قدماي خالل بعثتي اإلستكشافية ،ولم يكن في وسطها أي بحيرة كما كنت أتوقع ، ولكن كان هناك جبل عال يشبه إلى حد كبير في شكله فطر عيش الغراب.
في الواقع كان الجبل ـ الفطر عبارة عن جزيرة داخل جزيرة ،وهو بهذه الخاصية التداخلية ،وإن لم يكن من حيث الحجم والشكل يشبه التل الصغير الواقع داخل فوهة جزيرة أوغاشيما اليابانية الذي يخلق مرأه انطباع لدى المرء بأن ما يراه هو جزيرة داخل جزيرة . 4
تكثر في هذه الجزيرة أشجار البرقوق األسود ،وأشجار األفوكادو ذات الثمار الخضراء ،وأشجار الكرز األحمر ، وتتخلل هذه األشجار نباتات الباذنجان ،وتفترش نباتات الفراولة والبطيخ األخضر األرض ،وربما كتأثر للبيئة وألوانها ،يالحظ أن طيور الكتزال Quetzalهي الطيور المهيمنة على أجواء الجزيرة ،وتعيش هذ الطيور متنقلة بين طيف من األلوان الخضراء والحمراء والسوداء ،ونظراً لكثرة طيور الكتزال في هذه الجزيرة وهيمنتها على أجواءها ،فقد تساءلت ؛ أليس من العدل واإلنصاف أن تسمى هذه الجزيرة بجزيرة الكتزال ؟
ينبثق الجبل ـ الفطر من منبته كعمود ،ويرتفع العمود الصخري إلى إرتفاع شاهق حيث تتكلل قمته بمظلة هائلة، يتجاوز مدى ظلها مساحة الجزيرة البرتقالية .لقد ذكرني مرأى الجبل ـ الفطر بمثل فرنسي شهير يضرب لهيمنة الجزء على الكل ،وهو المثل القائل :
الشجرة التي تغطي الغابة
. L'arbre qui cache la forêt
علي رغبة عارمة في تسلق الجبل ـ الفطر ،وعندها فقط فهمت جواب المستكشف اإلنجليزي الشهير سيطرت ّ جورج مالوري عندما سئل ذات مرة عن السبب الذي دعاه إلى تسلق جبل إيفرست ،فقال ألنه موجود .
سئل المستكشف البريطاني الكبير جورج مالوري ،الذي كان سيالقي حتفه منذ سنوات عديدة ُ ، الحقا ً على جبل إيفرست ،عن السبب الذي جعله يرغب في تسلق ذلك الجبل .فأجاب قائالً : " ألنه موجود ". جون كينيدي ،الرئيس األمريكي الخامس والثالثين .خطاب القمر 12 .سبتمبر 1962 5
إلي ،فقد كان وجود ذلك الجبل هو ما دعاني إلى تسلقه . كذلك الحال بالنسبة ّ وفي هذا الصدد ،يقول أحد أركان أحد أسخف األنظمة الشمولية على مر التاريخ ،أن البعض يعتقد أن وجود الشئ هو في حد ذاته محفز الستعماله بغض النظر عما إذا كان ذلك االستعمال هو في سبيل الخير أم في سبيل الشر ،تماما ً كالقول أنه ؛ إذا كان لك أسنان فذلك مسوغ كاف لكي تعض بها الناس ،أو إذا كان لك رجلين فال بأس أن تركل كل من يقابلك في الطريق ،وال تثريب عليك ،وإنما اللوم يقع على األسنان والرجلين .هناك تشابه كبير بين هذا المعتقد ،وبين العقيدة التي تعتنقها إحدى الطوائف الدينية في الهند ،إذ يعتقد أتباع تلك الطائفة أنه إذا ضربك أحدهم بعصا ،فال يجب أن تلقي اللوم عليه ،بل اللوم يقع على العصا ألنها هي التي أوحت إليه بأن يلتقطها ويضربك بها على أم رأسك. أمنية كل عسكري أن يرى أرتاال من الدبابات وسط معسكره ،والمدافع مصفوفة جنب أسواره ،وآالف الجنود يهرولون ويتدربون ويصرخون .وهكذا كان ،وحقق هؤالء الضباط الشباب حلمهم . صفّت المدافع ،أصبحت الشهية للصدام والحرب ضرورية بحكم الغريزة بعد أن تكدست آالف الدبابات ،و ُ البشرية ،فعندما تكون أطباق الطعام أمام أي شخص تتهيج شهية األكل بشكل غريزي ،والمثل الشعبي يقول: القوة تعلم الصراع .سألني أحدهم مرة :لماذا أدخلتم في حرب مع تشاد؟ أجبت " :ألن لدينا سالح " . "أشخاص حول القذافي" ،عبد الرحمن شلقم تسلقت الجبل ـ الفطر حتى وصلت إلى نهاية العمود الحجري وبالتالي إلى سقفه .كان السقف سدا ً منيعا ً أمام أي محاولة للتقدم بيد أني اكتشفت ثقبا ً واسعا ً فيه ،فولجت من ذلك الثقب إلى قمة الجبل ـ الفطر. تملكتني الدهشة مجدداً عندما اكتشفت بحيرة صغيرة جدا ً على قمة الجبل ـ الفطر ،وهكذا فقد صحت توقعاتي بوجود بحيرة ضمن حدود جزيرة الكتزال ،ولكنها لم تكن في الجزيرة ،بل كانت فوقها .إن إتقان السباحة لوحدها ال يكفي للعوم في تلك البحيرة البالغة الصغر ،إذ يتعين على الراغب في ذلك أن يتقن أيضا ً فن التسلق، 6
تماما مثلما يحدث في مسابقات الخماسي الحديث ، Modern Pentathlonوالعشاري ، Decathlon والسباعي Heptathlonفي ألعاب القوى ،إذ يتعين على المشارك فيها أن يتسابق في عدة ألعاب رياضية . أمر غير ذكرني موضوع العوم والتسلق بثورة حدثت في أحد البلدان البائسة ــ قد يكون وصف البلدان بالبؤس ٌ صحيح من الناحية اللغوية ،إالّ إنني أ ُصر على هذا الوصف شاءت اللغة أم أبت ــ فعندما تفجرت الثورة في ذلك البلد البائس ،شمر كثير من المتسلقين عن سواعدهم للممارسة حرفتهم التي يتقنونها ،وقاموا بتسلق جبال الجثث واألشالء ،واعتلى راكبو األمواج موجة الثورة ،وسبحوا في بحار قانية من دماء الشهداء .حدث كل هذا أمام مرأى ومسمع بؤساء ذلك البلد البائس. من بعض النواحي تشبه تلك البحيرة الصغيرة جداً بحيرة تيتي كاكا ،المعلقة فوق جبال األنديز ،إالّ أن بحيرتنا الصغيرة جدا ً تقع فوق جبل شاهق منبثق من وسط جزيرة صغيرة ،وتعوم هذه الجزيرة الصغيرة في مياه بحيرة صغيرة ،وتقع البحيرة الصغيرة هذه ضمن حدود جزيرة كبيرة نسبيا ً ،وتتوسط هذه الجزيرة الكبيرة نسبيا ً مياه بحيرة كبيرة نسبياً ،وتقع هذه األخيرة ضمن حدود جزيرة أخرى كبيرة . ليس هناك أدنى شك ،أنه لو شاء القدر واطلعت الملكة سميراميس على هذه الماتريوشكا المذهلة من البحيرات والجزر وخاصةً تلك البحيرة البالغة الصغر المعلقة فوق الجبل ـ الفطر ،لما طلبت من زوجها نبوخذ نصر أن يبني لها حدائق معلقة في مدينة بابل والكتفت ببحيرة صغيرة جداً معلقة في أعالي جزيرة صغيرة . ينساب من البحيرة الصغيرة جداً نه ٌر علوي ،ويكاد هذا النهر بماءه الرقراق أن يجاور ماء السحاب ويمتزج به .يمضي النهر في طريقه حتى يصل إلى حافة الجبل ـ الفطر ،ثم يأخذ بالسقوط في الهوة أسفلها ،وتنهار مياهه متحوالً إلى شالل .هناك في األسفل تتساقط مياه الشالل على سطح بحيرة تتوسطها جزيرة ،وفي وسط تلك الجزيرة هناك بحيرة صغيرة ،و..... لم يجد ذلك النهر النابع من بحيرة صغيرة جدا ً إالّ بحيرة ليصب فيها .المنبع بحيرة ،والمصب أيضا ً بحيرة . أختلطت أمواه البحيرتين ببعضهما البعض ،فهذا االختالط المائي هو اللغة التي تتحدث بها البحيرات مع بعضها البعض. من أعجب ما رأيت في رحلتي هذه ،هو صعود أسماك السلمون الحمراء إلى هذا النهر العلوي عبر الشالل المتدفق منه ،متشبثةً بقطراته المتساقطة ،وهي تسبح ضد التيار ،وضد الجاذبية في آن واحد ،لتضع بيوضها في تلك البحيرة الصغيرة جدا ً . في الواقع ،إن ما يحدث في ذلك العالم ؛ هو أن البحيرة الصغيرة جداً كانت ترسل الماء إلى البحيرة الكبيرة جداً ،وكعرفان بالجميل ،كانت البحيرة الكبيرة جداً ترسل أسماك السلمون إلى البحيرة الصغيرة جداً .
وما توفيقي إالّ باهلل فريد أبو سرايا .
األول من رمضان من عام 1439هـ ،الموافق 17مايو 2018 7