بلدي

Page 1

‫لينا الشاالتي‬

‫بلدي و بعض املتفرقات‬

‫جمموعة قصصية‬ ‫اإلمارات ‪4102‬‬

‫‪1‬‬


2


‫اإلهداء‬

‫جلريح‪ ,‬فقيد‪ ,‬شهيد‪...‬‬ ‫ملكلوم‪ ,‬و ثكلى‪ ,‬و مشردين‪...‬‬ ‫َ‬

‫ّ‬

‫لكل من فقد و فقد‪ ,‬تغرب ‪ ,‬حرم‪ ,‬و من بات يف كل األصقاع‪ ...‬بال وطن‬

‫لينا الشاالتي‬

‫‪3‬‬


‫إنني املشنوق أعاله‬ ‫على حبل القوايف‬ ‫وضعوا فوق فمي كلب حراسة‬ ‫و بنوا للكربياء يف دمي سوق خناسة‬ ‫و على صحوة عقلي‬

‫أمروا التخدير أن يسكب كاسه‬

‫أمحد مطر‬

‫‪4‬‬


‫بلدي‬ ‫مازلت أبحث بين كل تلك العبارات عن ثغر ٍة تجعلني أتراجع أو تجعلني أغلق عينيّ ألنام؟ عبثا ً محاوالتي‬ ‫كلّها‪ ...‬فتاة لم تتجاوز الثالثين من عمرها مشوّ هة الوجه و أدران الطرقات تتلبسها بشكل واضح‪ ,‬ثيابها مهترئة‬ ‫و كل قطعة من لون غير متناسقين مع بعضهم البعض‪ ,‬تجلس القرفصاء و هي تقوم بغسيل بعض األطباق‬ ‫المهترئة من طست صغير بجانبها‪ ...‬أمامها جلس رجل أسود الوجه‪ ...‬ليس ألنه من ذوي البشرة الداكنة‪ ...‬أبدا‪ً,‬‬ ‫بل ألنه حرم االستحمام حقا ً‪ ...‬ال ألنه من المجذوبين بل ألن سكنه الشارع بعد أن كان له غرفة مهترئة تؤويه‪.‬‬ ‫في سيارة تسمى لدينا (طريزينا أو طرطيرة) على حائط إحدى المقابر أوى و ابنته الم ّ‬ ‫شوهة‪ ...‬تجد بين يديه‬ ‫خبزاً عطنا ً و كأسا ً من الشاي فقط‪ .‬علبة تنك حديدية متفحّمة من لهيب الحطب الذي يتدفئان به‪ ...‬و المارّة‬ ‫بداع من الشفقة و يتمتون بالحمد و الدعاء! هل أصبحت الرأفة و الرحمة بين الناس فقط بالدعاء و‬ ‫ينظرون ٍ‬ ‫داع لها؟ اقتربت منهما أسألهما عن حالهما‪ ,‬أصبت بصدمة إذ أن الفتاة خرساء‪ .‬لم‬ ‫بعض العبارات و نظرات ال ٍ‬ ‫تخلق على هذه الحال بل ما رأته من أهوال هو ما عقد أوتارها الصوتية و شطر حنجرتها نصفين‪ .‬كان ينظر‬ ‫والدها إ ليها و هو مكسور الخاطر بعد أن رآهم يتناوبون عليها دون أن يستطيع ردعهم و قد أغدقوا عليه من‬ ‫أهوال العذاب ما ألجمه و ترك آثره على جسده بشكل فاضح‪.‬‬ ‫األب يتكلّم ببعض األحرف ليصمت فجأة لدقائق طويلة‪ ...‬حتى أمعنت النظر في وجهه فإذا ببعض الدموع‬ ‫تخذله لتنطق بآالم زاد حملها على ظهره أكثر مما يستطيع أن يحتمل‪ ...‬قد كان يعاني من الفقر و يجد في بعض‬ ‫األحمال ما تغنيه في معظم األيام عن أن يشحذ قوت يومهما‪ ,‬أ ّما اآلن ما عادت قدماه تقوى على حمله و هو‬ ‫يناهز السابعة و الستين من العمر‪ ,‬هزيل الجسد‪ ,‬مص ّفر األسنان‪ ,‬ترتجف يداه ج ّراء الكبر‪ .‬حبست أنفاسي كي‬ ‫ال يشعرا بلهيب ألم اح ّتلت جيوشه صدري‪ ...‬حاولت تمالك نفسي كي ال تنهمر منيّ دمعة تعاطف تشعرهما‬ ‫بسوء حالهما‪.‬‬ ‫إال أ ّني و بعد أكثر من ساعة و نصف تركتهما معتذرة بأني تأخرت و أ ّني أشكرهما و قد حاولت مواساتهما قدر‬ ‫اإلمكان‪ .‬و إذ بقدماي مثقلتان‪ ,‬شاردة الذهن و أنا أفكر بما آلت إليه أرضٌ احتوت الكثير من الالجئين على مرّ‬ ‫العصور إال أنها عاجزة عن إيواء شعبها‪ ...‬أوالدها‪ ...‬من ترابها عاشوا و عليه مشوا‪ ...‬كانوا ممن زرعوا‬ ‫أرضها و جنوا محاصيل نبتت من رحمها‪ ...‬لكنها ال تستطيع أن تؤمن لهم أمانا ً حرمت هي منه‪.‬‬ ‫آه عليك يا بلد الرساالت‪ ,‬اغتصبوك حيّة و شوّ هوا ترابك بقذائف ح ّقت أن تكون لمن يد ّنسك من مح ّتل ال من‬ ‫أبناءك‪ .‬جعلوك حقالً للدبابات كان عليها أن تضرب عدّوا لك ال أن تدّك أرضك‪ .‬زرعوا ألغاما ً في رحمك بعدما‬ ‫كنت تزرعين قمحا ً و قطنا ً‪ ...‬كان العاصي يجري بما ٍء زالل فأصبح يحمل جثثا ً حوّ لته إلى األحمر القاني‪ ...‬و‬ ‫يقولون عاشت سورية! ترى كيف عاشت؟ هذا ما سيسجله التاريخ ح ّقا ً‪.‬‬

‫‪5‬‬


‫بحبك و بعرف مش إلي أنت‬ ‫هي سنوات مضت‪ ...‬بلمح البصر‪ ...‬لكأنها البارحة‪ .‬أيام مرّة مرّت مذ آخر مرة استطعت أن ألمس يدها فيها و‬ ‫أسمع صوت أنفاسها عبر الهاتف‪ ...‬هل ستعرفني؟ أم أنها ستتجاهلني؟ ما زالت كما هي‪ ...‬ذات الضحكة‬ ‫الجميلة‪ ,‬عيناها الخضراوتين مازلتا ت ّ‬ ‫شعا بنفس األمل الذي عهدتهما به‪.‬‬ ‫تم إيالمي لعدم قدرتي على نسيانها حتى بت ال أستطيع االرتباط بغيرها‪ ...‬تناست عيناي معنى النوم‪ ...‬باتت‬ ‫المسك ّنات رفيقتي الدائمة القريبة وحدها من قلبي‪ .‬أصبح المبضع اليد الحنونة الوحيدة التي وضعت على ظهري‬ ‫مذ فارقتني‪ .‬إن ما يحترق معي و يؤنسني هو سيجارتي التي تعهدت إليك أن ال أعود لمصادقتها أبدا‪...‬‬ ‫عبثا ًبعدك حاولت أفي بوعودي‪.‬‬ ‫لم أتيت اآلن‪ ...‬أتسخر األقدار مني إلى هذا اليوم؟ عندما عكس زجاج المحال صورتك ظننت أن خيالي عاد‬ ‫ماض ما برئت منه بعد‪ ...‬إال أنني تحاملت على نفسي ألثبت لمخيلتي أنني في حلم يقظة‬ ‫يعبث معي و يسبح في ٍ‬ ‫ّ‬ ‫واقع ما ودته يوما بقدر ما أريده اآلن‪.‬‬ ‫آخر فوجدت نفسي في بركة‬ ‫ٍ‬ ‫هو أنت‪ ...‬ببشرتك البيضاء الناعمة‪ ...‬بأنوثتك التي مازلت أبحث عنها في نساء العالمين جميعا ً و ال أجدها‪.‬‬ ‫أرجوك أيها القلب توقف عن النبض‪ ...‬فستتخلع اضلعي‪ ,‬أخاف عليها من أن تسمع صوتك فتراني و تغضب أو‬ ‫تتأذى! أجل‪ ...‬ال أريد أن يعاودها جرح ما فتأت تداريه و تقسو على نفسها ألجلي و كنت بكامل أنانيتي ألومها‬ ‫على قسوة هي صاحبة الحق فيه آنذاك‪.‬‬ ‫أهو ابنها! حقا ً! يا إلهي‪ ...‬ليته كان من صلبي أنا‪ ...‬توقفي يا محاجري فأنا ال أريد أن أضعف اآلن‪ .‬كيف يضع‬ ‫يده حول خصرها و يقبل وجنتها؟ لم هو‪ ...‬و لست أنا؟ لم؟ آه‪ ...‬نسيت أنه زوجها‪ ,‬هو توأم روحها ال أنا‪ ,‬هو‬ ‫من فاز بها ال أنا‪ .‬وا ر ّباه‪ ...‬ال اعترض على ما قسّمت فيه األرزاق و األرواح إال أنني بحر مهجور من بحّ ارة‬ ‫تؤنس وحدته‪ ...‬حتى الرياح عافت زيارتي‪ ...‬هجرتني كل األسماك و ما بقي لي سوى هياكل قراصنة دفنت فيّ‬ ‫و أعشاب بحر تتراكم ال يوجد من يأكلها‪ ...‬زبدي بات يضم ّحل أكثر فأكثر‪ ...‬أال من مخرج؟ أال من شاطئ‬ ‫أريح عليه موجي المتكسر المتعب؟‬ ‫حاولت عبور الشارع‪ ...‬أردت أن ألتقيها وجها لوجه‪ ...‬ال أريد ان أكلمها بل أن أرى ردّة فعل تجعل من السكين‬ ‫التي ّ‬ ‫تحز رقبتي منذ سنوات أن تنهي األلم بتراً‪ ...‬أردت قطع الوداجيّ نهائيا‪ ...‬أن أصل قعر الهاوية و أسمع‬ ‫صوت ارتطام عظامي على أرض ثابتة علّي أصحو أخيرا على واقع ليس فيه سوى‪ ...‬الواقع‪ .‬الحقيقة بكل‬ ‫أحداثها و تواتراتها التي أغيب عنها وال تهم ّني بالرغم من ضخامتها و تسارعها‪.‬‬ ‫ساعاتي هي روتين يومي أجلس بعده على األريكة دون حركة‪ ,‬فكر‪ ,‬أو بصيرة‪ ...‬فأنا عبارة عن قرص مدمج‬ ‫ال شيء فيه سوى شاشة بيضاء ال تحمل أي نغمة أو قصة معبّرة‪ .‬قرص مدمج فارغ داخل مس ّج ٍل يعيد نفسه‬ ‫بذات العرض و الكيف و الكم من الال مبالة و التهميش لألحداث من حوله‪ ...‬الشعور الوحيد هو ألم جسدي‬ ‫اتفاداه بكثرة المسكنات الحادّة التي باتت لي كمن يشرب كوب ماء كل ساعة‪.‬‬ ‫أريد ان أصارحك حبيبتي‪ ..‬و اغفرلي لي جرأتي و نكثي لوعدي لك‪ ...‬إال أنني بعت مدادي‪ ,‬قلمي‪ ,‬و ورقي!‬ ‫صحيح ما عدّت نفسي بعدك لكن أرجوك ال تلومي نفسك فلست السبب‪ ...‬لسنا نحن‪ ...‬إنما هو قدر كتب منذ‬ ‫األزل و علينا السمع والطاعة لولي األمر‪ .‬كلماتي عافت مخيلتي بعدك‪ ...‬ما عاد لي ملهمة و ما كان لي قبلك‬ ‫سيدتي‪ ...‬ما عدت أجد البردي المناسب لي و جف حبري حتى انقطع تماما عن خط سمفونيات كنت سبب‬ ‫وجودها دائما في حياتي‪ .‬اعتزلت الشعر و توقفت عن بناء مدنك‪ّ ...‬‬ ‫عطلت خيالي عن نسج أروع المماليك و‬ ‫البالد العجائبية بعد أن غادرتي حياتي موالتي‪ ...‬ال عاد عندي مدن مقدسّة و ال طرقاتي بات فيها حياة‪ ,‬و حتى‬ ‫عطر الياسمين يا أميرتي لم يعد كما كان‪.‬‬

‫‪6‬‬


‫كنت أقف على الرصيف المقابل و أفكاري تعبث بي يمنة و شماال‪ ...‬أنظر بشغف و خوف طفل ضاع من أمه‬ ‫لسنوات و رآها فجأة أمامه‪ ...‬اآلن فقط أعرف شعوره‪ .‬أريد ان أقطع الشارع الذي يفصلني عن ماء الحياة‬ ‫بسرعة البرق و أن أنادي اسمك من جديد‪ ...‬أن أمسك بيدك بين يديّ ألشعر بدفئهما‪ ...‬أن أضع رأسي على‬ ‫كتفك و أترك تعبي يتناثر بعيدا عني كحبات المطر التي يلقيها غيم الشتاء المثقل من كثرة ما يحمل منه داخله‪.‬‬ ‫أرجوك ال ترحلي عني‪ ...‬ال تذهبي بعيدا‪ ...‬كفاني وحدة في صحرائي المتقعة من كثرة التجفاف و غياب الحياة‬ ‫منها‪ .‬أال من عودة إليّ يا واحتي الوحيدة! أم سبق السيف العزل و ّ‬ ‫بت في عداد المفقودين داخل دقائق الزمن‬ ‫الم ّملة‪ ,‬القاتلة‪ ,‬و الموبوءة بطاعون غيابك عن قصري المهجور البالي‪ ,‬و البارد‪.‬‬ ‫ما زلت أنتظر عودتك لي و إن كانت بعد سنوات عجاف‪ ,‬ال فرق لدي‪ ...‬ما زلت أتذكر حبك لرواية غارسيا‪...‬‬ ‫و الذي جعل من شخصية عاشق يحمل عشقا لمحبوبته مدّة تتجاوز الواحد و الخمسين سنة ليعيدها إليه و‬ ‫يتزوجها‪ ...‬ألنه أحبها هي‪ ...‬فقط هي فضالً عن نساء العالمين‪ .‬هل أكون مثله بالنسبة لك‪ ...‬أما أن الثرى ّ‬ ‫أرق‬ ‫عليّ من قربك مني!‬ ‫‪26/03/2011‬‬

‫‪7‬‬


‫بومٌ حكيم‬ ‫انتشلت بأعجوبة من براثن شيء أثيم كاد يقطع الوداجي كامال حتى الوريد‪ ,‬كم تعاقبوا عليها؟ لم تعد تذكر العدد‬ ‫تماما‪ ...‬انهارت مثيالتها و جاءتهّن حمّى هستيرية ما أفقدهن عقلّهن حتى ارتداء األبيض تحت التراب‪ .‬سائحة‬ ‫في أرض كانت ستحتضنها داخل أحشاءها كأمّها الرءوم‪ ...‬عافها أهلها و لفظها جيرانها و س ّكان منطقتها‪...‬‬ ‫لكن ما ذنبها؟‬ ‫لم تتجاوز الرابعة عشر من العمر‪ ...‬و في أحشاءها روح ليست محددة األبّ ‪ ,‬ت ّنقلت كثيراً بين القرى و المدن و‬ ‫ار جدا من أيام شهر‬ ‫هي تشعر بحركة داخلها ترفس و تنبض‪ ...‬حتى جاء وقت الوضع لديها في يوم صيّفي ّح ٍ‬ ‫مقفر ال ماء فيه و ال كوخ خرب حتى يؤويها‪ .‬الزواحف في أقبيتها و‬ ‫آب‪ ,‬لهبه يشوي الوجوه‪ ,‬و المكان‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫جحورها‪ .‬فاجأها أل ٌم ما عرفت كنهه إنما شعرت للمرّة األولى في حياتها كلها أن خناجر الدنيا تطعن خاصرتها‬ ‫و تنهش بطنها‪.‬‬ ‫صراخ ضجّت له غربان األرض قاطبة و نسو ٌر تحلّق فوق رأسها منتظرة‪ ...‬حيّات األرض اجتمعت حولها ال‬ ‫تعلم هل تريد مؤانستها أم التهام اآلتي من رحمها؟ ّ‬ ‫تذكرت كيف كان شيخ قريتهم يروي لهم قصص األنبياء‪,‬‬ ‫فسارعت ذاكرتها تستعيد قرابة سنة مضت ما سرد عليهم من قصّة السيدة مريم و كيف وضعت حملها في واد‬ ‫غير ذي زرع‪ .‬قطعت سلسلة أفكارها أالم ما عادت تطيق بها ذرعا‪ ...‬جف فمها و بدأت تدعوا هللا أن‬ ‫يرحمها‪ ...‬تريد شربة ماء‪ ...‬تنادي األم و األب اللذان حاوال ذبحها ال لذنب أرادته راضية بل ألنها سبّيت و‬ ‫اقتيدت أسيرة من قبل جنود كان واجبهم حمايتها‪ ...‬لكن‪ ...‬وارباه ما حال دنيا تبدّلت و جعلت من طفلة كانت‬ ‫تلعب مع قريناتها في باحة دارهم بدمىً صنعوها من إسفنج و قماش متهرئ تسوح على وجهها في بالدها‬ ‫الشاسعة الواسعة دون رقيب أو عتيد يحمي ظهرها؟ آه منك يا وطن كم أصبحت غريبا ً‪ ,‬قبيحا ً‪ ,‬و ذميما ً في‬ ‫نظري‪.‬‬ ‫جاءها ألم المخاض الذي سمعت به ألول مرّة عندما واجه أمّها‪ ,‬كانت في الحادية عشرة من عمرها‪ ...‬كانت‬ ‫تسمع صراخها و ألمها و ساءلت نفسها لم تصرخ أمّي و تجمع علينا الجارات؟ اآلن فقط عرفت جواب سؤالها‪.‬‬ ‫للمرّة األولى في حياتها مذ بدأت تعرف معنى الحياة بنظرتها الطفولية تصرخ من ملئ حنجرتها و تتأوه بسبب‬ ‫تلك اآلالم‪ ...‬تم ّنت أن تن ّ‬ ‫شق األرض من تحتها و تبتلعها عسى أن يخفف ذلك أوجاعها‪ ...‬أرادت أن يم ّتد لها‬ ‫حبل من السماء يلّف حول عنقها و ينهي تقلصّات رحمها التي ما عاد قلبها الصغير قادراً على أن يتحّملها‪...‬‬ ‫أحسّت بشرايينها ستنفجر‪ ...‬و أن أذنيها صمّتا تماما عن سماع أي شيء من شدّة الوجع‪.‬‬ ‫بعد مضيّ أكثر من ساعتين على حالتها تلك إذ بها تسمع صوت يؤنسها‪ ...‬صوتا ً ينادي عليها من دون كلمات‬ ‫مفهومة‪ ...‬صراخ شيء صغير له م ّكمالت اإلنسان‪ ...‬ذاك الذي أنهك أحشاءها و فاضت آالمها منه حتى ظ ّنت‬ ‫أن موتها قاب قوسين أو أدنى‪ ...‬يبكي بين قدميها بلونه األحمر و بقع بيضاء تغطي جلده‪ ...‬قلي ٌل من شعر‬ ‫الرأس مب ّتل‪ ,‬وهي ال تعرف ما تفعل‪ .‬قادها حدسها ألن ترفعه بين يديها و تضمّه إلى صدرها‪ ...‬أحسّت بفيض‬ ‫عارم في مشاعرها أنستها ساعات مضت من األوجاع التي ال حصر لها‪ ...‬فاضت جوارحها ب ّك ٍم هائل من‬ ‫الحنان أبكاها‪ ,‬إال أن مشاعرها لم تحدد معنى تلك الدموع‪ :‬أهي من شدّة األلم أم لفرح باغتها فجأة و ه ّز كيانها‬ ‫الغضّ ؟‬ ‫ّ‬ ‫الرث أن تلّفه خوفا عليه‪ ...‬فبقايا الشجرة الهرمة التي أظلّتها ال تسمن و ال تغني من جوع و ال‬ ‫حاولت بوشاحها‬ ‫ً‬ ‫رفيعة جداً‪ .‬لم تعرف ما تفعل تماما حتى تهدأ من روع ذاك الصغير‪ ...‬حاولت‬ ‫تحجب من الشمس سوى خطوطا‬ ‫أن تستذكر ما كانت تفعل أمها إال أن خيالها الصغير في ذاك الوقت تحديداً قد خانها‪ ...‬خذلتها مخيلّتها و بع ّ‬ ‫دت‬ ‫عنها الذاكرة‪ .‬انتبهت أن الصغير يبحث بفمه عن شيء في صدرها و هو يصرخ كالمستغيث من الغرق‪ ...‬لكنها‬ ‫لم تفقه شيئا ً فأصبحت تبكي معه ألنها عدمت الحيلة في إسكاته‪ ...‬هناك شي ٌء ما خرج منها تماما ما نبّه عقلها‬

‫‪8‬‬


‫الصغير أن تلتفت إلى بطن صغيرها فتراه مربوطا ً‬ ‫بحبل جلديّ مدمّى يتدلى منه و ينتهي بين ساقيها السابحتين‬ ‫ٍ‬ ‫في بركة دماء قرمزية قانية‪ ...‬لم تعلم ماذا تفعل بذاك الحبل إال أنها تذ ّكرت عبارة أمها مرّة أنه يسقط وحده‬ ‫فانتبهي على شقيقك و ال تلمسيه‪ ...‬ال تلمسيه أبدا‪.‬‬ ‫بعد مضيّ حوالي الساعة سكت فحدّثت نفسها بأنه عييّ و نام‪ ...‬بدأت تهمهم له و تمسح على رأسه كما كانت‬ ‫تفعل مع دماها و ألعابها‪ ...‬بدأت تجول ببصرها يمنة و يسارا عسى أن تجد سراب أح ٍد يم ّد ي ّد العون لها‪ ...‬عبثا ً‬ ‫حاولت‪ ...‬حرّكت جذعها الصغير البضّ و تثاقلت رغم ألمها بعد أن حادت الشمس عن محورها العمودي‬ ‫الحارق و بدأت بخطىً وئيدة منهكة و متعبة تسير في ال اتجاه‪ ...‬تحاول العثور على مأمن لها من وحوش الليل‬ ‫إذ بدأ يه ّل عليهما‪ .‬سارت لمسافة طويلة كانت تسقط فيها بين الفنيّة و األخرى متهالكة تج ّر وراءها حبال قرمزيا‬ ‫ّ‬ ‫ينقطع أبداً‪.‬‬ ‫على شكل نقاط ال‬ ‫وجدت بئراً تلوح لها مع آخر خيوط الشمس التي تودّع أبناءها على األرض بلونها األحمر الباكي على مصابهم‪,‬‬ ‫فحاولت أن تعجل بخطاها و هي تتخيّل كميّة الماء التي ستب ّل رمقها بها و تغسل عن وليدها ما هو فيه‪ .‬لم‬ ‫يشعرها قيظ النهار كم جسد الوليد بارد و أنه لم يتحرك حركة واحدة مذ بدأت مسيرها الشاق‪ .‬كانت تهمهم و‬ ‫تهلّوس من شدّة العطش و التعب و هي تحاكي قطعة اللحم الصغيرة التي تضمّها إلى صدرها بشد ٍة خوفا ً عليها‪.‬‬ ‫حبل تسحب به ما ًء زالالً‬ ‫وصلت البئر أخيرا‪ ...‬لمست حافته بقامتها الصغيرة و هي تحاول البحث عن دلّ ٍو و ٍ‬ ‫يرويهما‪ ...‬ال شيء‪ ...‬مستحيل! يا هللا أرجوك ساعدني‪ ...‬أتوسّل إليك‪ .‬أجهشت ببكاء حا ّر لو سمعه جالدوها و‬ ‫نابذوها لفطنوا ما فعلوا بها‪ ...‬فهي كما الموءودة التي ستسأل يوما ً بأي ذنب تركت و هي ذات األربعة عشر‬ ‫ربيعا في وطنها و أرض بالدها تهيم بآالمها و أوجاعها ال سند لها من البشر و ال حمىً يلوذ عنها ضباع الليل‪,‬‬ ‫ذئابه و وحوشه المفترسة‪.‬‬ ‫عانقت اللحم البارد و بكت بحرقة و هي تأسف لطفلها و تمسح وجهه الغضّ فأحسّت منه عدم حراك كما إسفنج‬ ‫لعبها‪ .‬حاولت أن تحركه ذات اليمين و ذات الشمال عبثا ً يتأتى بهمهمة أو حركة إصبع‪ ...‬أصبح بارداً جدا‬ ‫كقطعة جليد و تحّول لونه من األحمر الورديّ إلى األزرق الغامق‪ ...‬تبينت ذلك تحت ضوء قمر تلك الليلة‪.‬‬ ‫انهارت تماما ً‪ ...‬الدنيا تدور بها كما لعبة العيد التي كانت تضحك من ملئ قلبها حينما تركبها مع صديقاتها‬ ‫لينزلن بعدها مترّنحات من شدة الدوار و الضحك‪.‬‬ ‫فاضت عليها ذاكرتها عن ذلك اليوم عندما كسروا باب البيت العتيق بأسلحتهم الكبيرة و لباسهم المموّ ه‪ .‬بدءوا‬ ‫يقلبون المنزل رأسا على عقب ال يرحمون صراخ أ ّم و هلع ثمانية أطفال يصرخون و عويل األب الذي يدافع‬ ‫عن امرأته و أوالده السبعة و ابنته الوحيدة‪ ...‬أخذوا ما خفّ حمله من طعام‪ ,‬قتلوا الحمار وسيلة نقلهم الوحيدة و‬ ‫حّمال أثقالهم‪ ...‬ذبحوا البقرة و عجلها مورد رزقهم الوحيد‪ ...‬حرقوا األرض بما فيها من ثمر و مزروعات‬ ‫حتى أصبحت هبا ًء تذروه رياح جافة مقيتة ثم‪ ...‬ما كان من أحدهم إال أن سحب الصغيرة من يدها عنوّ ة و األم‬ ‫تولول و األب جاثيا ً يخبط بيديه على رأسه و يجهش ببكاء حا ّر‪.‬‬ ‫قتلوا اثنين من أكبر أوالده ثم أدخلوا الصغيرة خنّ الدجاج الميّت و الطلقات الفارغة تملئ أرضه مختلطة بلون‬ ‫غامق رائحته كالصدأ‪ ...‬ال تنسى مدى خوفها و ذعرها‪ ...‬هلعها المهول من شدّة ما رأت منهم‪ ...‬عرّوها ثم‬ ‫تناوبوا الواحد تلو اآلخر دون رحمة لدموعها و آالمها المبرحة التي كانت تكتمها خوفا ً من أن يفعلوا بها كما‬ ‫شقيقيّها‪ .‬لم يفعلون بنا هذا؟ أليسوا هم حماة ديارنا و أرضنا‪ ...‬كيف يعقل هذا؟ أليس أهلهم و ذويهم ممن كانوا‬ ‫يقطنون معنا‪ ...‬يأكلون من ذات الزرع‪ ...‬يتقاسمون األفراح و األتراح‪ ...‬يتزوجون م ّنا و نتزوج منهم؟ ما الذي‬ ‫عار ما أذنبت فيه من قريب و ال من بعيد!‬ ‫حصل‪ ...‬لم قلبت كل الموازين فجأة؟ ثم يحاول أهلي دفني على ٍ‬ ‫أيقظتها أصوات أبناء آوى تقترب منهما أجفلت حتى كاد قلبها ينخلّع و ي ّكسر أضلعها من شدّة الخوف التي‬ ‫انتابها في تلك البقعة الفسيحة التي ال يغطيّها فيها سوى كحل السماء الم ّرصعة بأثمن الجواهر‪ .‬بدأت تصرخ‬ ‫طالبة المساعدة‪ ...‬لكن ما من بشر يسمع أو حيوان يتأنى عنهما‪ .‬آه يا ربّ مالي و هذا الخراب حوالي‪ ...‬ربيّ‬ ‫أرجوك فقد تعبت من الهرب‪ ...‬تبرئ مني األهل و جحد بوجهي القاصي و الداني‪.‬‬

‫‪9‬‬


‫أغمي عليها من الفزع الشديد و الهلع المقيت‪ ...‬لكم من الوقت‪...‬؟ انتهى الحسّ لديها بالنسبة للمكان و الزمان‪.‬‬ ‫وجدت نفسها تحت سقف أبيض و غرفة بسيطة األثاث إنما أنيقة‪ ...‬سمعت صوتا ً نسائيا يهنئها بسالمتها و أنها‬ ‫صحت أخيراً‪ ...‬ثم غابت عنها ثرثرة السيدة ذات البشرة السمراء المجعد ّة و التي ّ‬ ‫خط الزمن يده عليها ليؤكد أنه‬ ‫م ّر من عمرها الكثير‪.‬‬ ‫أمضت أياما ً‪ ...‬أشهراً‪ ...‬ثم استطاعت أن تتأقلم مع محيطها الجديد‪ ,‬بدأت تعاون السيدّة في بعض األعمال لكنها‬ ‫ّ‬ ‫يخطه على صفحات الزمن‪ .‬لم‬ ‫لدهر كامل أن‬ ‫ما أن تتعب قليالً حتى يداهمها الوهن و آالم تعيد إليها ما ال يمكن‬ ‫ٍ‬ ‫تنظر مرّة واحدة في المرآة منذ مصابها‪ ...‬حتى طلبت منها السيدة أن تملئ جرّة الماء من النهر حينها فقط‬ ‫انعكست صورتها فوق صفحة العاصي فهالها ما رأت‪ ...‬تراجعت و كأنها اصطدمت بجدار زجاجيً ما كانت‬ ‫عالمة بوجوده‪ ...‬يا هللا‪ ...‬أتلك هي حقاً؟ غير معقول! ضفيرتها الذهبية اللّون أصبحت بيضاء كغيمة صيف‪...‬‬ ‫كثلج جبال الشيخ في رأس السنة‪ ,‬قد فقدت القدرة على الكالم من أثر الرعب الذي عانته المسكينة‪ ...‬لم يترك لك‬ ‫أهل البيت الطيّبين أية مرايا في المنزل خوفا ً عليها من أن تفقد ما بقي من عقلها إن هي رأت ذاتها و قد غزت‬ ‫جيوش الشيب جمال شعرها الطويل حتى نهاية ظهرها‪ ...‬اح ّتلته كما احتلت الكوابيس ليلها‪.‬‬ ‫إلى متى هذه المعاناة‪ ...‬لم تقتلون أصواتنا‪ ...‬و تستبيحون أعراضنا؟ إلى متى إذالل الكهول و التمثيل‬ ‫ً‬ ‫باألطفال‪ ...‬اتركوا لنا وطننا‪ ...‬أرضنا‪ ...‬أرجوكم ارحلوا ع ّنا يا من سكنتم بين ظهرانينا‪ ...‬أرجوكم كفانا سنة و‬ ‫ً‬ ‫ذليلة و قد أصبح‬ ‫نيّف على استعباد شعبكم و أهليكم‪ .‬أريد استرداد وطني‪ ,‬ذاتي‪ ...‬أريد حياة ح ّر ًة كريمة‪ ,‬ال‬ ‫عمري خمس عشرة ربيعا ً و ال معنى لتف ّتح األزهار فيه‪ ...‬أتمنى العودة إلى رحم أميّ ‪...‬‬

‫‪05-09-2012‬‬

‫‪11‬‬


‫توقف عن النبّض‪ ...‬أرجوك‬ ‫كتلة جسده داخل السرير‪ ,‬وسادته مبللّة كلّيا بماء حرقته‪ ...‬وضع يده ناحية قلبه يريد إسكاته‪ .‬تمنى أن يستطيع‬ ‫إدخال يده إلى قلبه يريد إمساكه عن النبض‪ ...‬عن ض ّخ الدم الذي بات يكسّر أضلعه‪ ,‬يريده أن يتوقف عن‬ ‫ارسال خناجره التي ت ّقطع شرايينه واحدا تلو اآلخر‪ ,‬أن يوقف ذبح أوردته واحدا تلو اآلخر‪ ...‬دون هوادة أو‬ ‫رحمة‪ .‬ألم مبرح رجاه أن يكفّ عن إقالق ليله و سهاد عينيه اللتين مل ّتا قلّة النوم‪ .‬ال طاقة لديه بعد اليوم عن‬ ‫التحّمل‪ ...‬أصبح يلتمس الرحمّة ممن عليه أن يكون أ ّحن عليه من نفسه‪ ...‬أال يسمعه يئن من شدة الوجد إليها أم‬ ‫هو مثلهم هوى التنكيل به؟‬ ‫شهران مضيا و لم تتعوّ د قدماه بعد على الشوارع الجديدة دونها‪ ...‬مش ّرد بين جسر غريب و ناصية موحشة‪ .‬لم‬ ‫كتب هللا عليه عشق روحها التي لم يجدها في غيرها و كان يعلم يقينا أنهما لن يرتبطا أبدا‪ ...‬أبدا‪ .‬كيف سمح‬ ‫لمشاعره أن تقوده نحو هاوية سحيقة يستحيل الخروج منها دون كسور و ندوب لن تندمل ما حيي‪.‬‬ ‫ستون يوما و هو يتن ّ‬ ‫شق هواء يقتل رئتيه بسقيع مقتع‪ .‬أصبح الجئا‪ ...‬ال‪ ,‬بل مش ّردا ال شيء يؤنس وحشة ليله‬ ‫و سكون الكون األصم حوله‪ .‬توقف عند إحدى الجسور الغريبة عنه‪ ...‬كان كوردة فيرساي البيضاء يعلو شوكه‬ ‫جمال شبابه الذي بدأ يخبو في عينيه الزرقاوتين‪ ,‬بات كالزهور االصطناعية دون رائحة أو روح تنبض‪.‬‬ ‫سحقا لكل المسميّات‪ ...‬تبّا لكل المسوغات التي تبيح بعد عاشقين لم يذنبا سوى أن قلبيهما أرسال تلك الكيمياء‬ ‫العجيبة و التي تسببت بتسميم جسديهما بعد أن غررّت بهما‪ .‬فلتغرق في المحيط الكبير تلك القيم التي جعلت من‬ ‫أناس سواسية أسيادا و عبيدا‪ ,‬أغنياء و خدما ً و فقراء‪.‬‬ ‫ما عادت تقو قدميه على حمله حتى أصبح وجهه مالصقا للقضبان الباردة‪ ...‬هي اآلن الحضن الدافئ الوحيد‬ ‫المتب ّقي له بعد يديها الدافئتين‪ ,‬الريّاح المرسلة من بينها هي بديل أنفاسها الحنونة التي كانت تشبع وجنتيه حينما‬ ‫كانت تحاول حمايته من ذات البرد‪ .‬أال من عودة؟‬ ‫مذ ح ّل الظالم على حياته و غادرته و هو يواظب على شراء الجرائد كل صباح يحاول تتبع أخبارها‪ ...‬عسى‬ ‫أن يرى صورتها بين المشاهير و األعيان الذين ي ّتوجون حياتهم بزواج فاشل‪ ...‬ذو مصالح متعددة و عبارات ال‬ ‫معنى لها سوى المال الوفير و السلطة األكبر‪ .‬كله إلى زوال‪.‬‬ ‫آه‪ ...‬هو يعلم يقينا كرهها لمن ارتضوه لها دون رغبتها ما جعله يفضّل الوحدة المخيفة عن أن يكون سبب إيذاء‬ ‫لها‪ .‬أليس لها كما مثيالتها في أن تحصل على ما حصلن عليه من حريّة االختيار؟ ترى كم واحد مثله يقاسي كما‬ ‫يطعن هو؟ كم من الناس هجر نفسه و موطنه ألن قلبه أخطأ االختيار أو تحدى من هم أكبر منه؟‬ ‫بلدي‪ ...‬سورية‪ ...‬حبيبتي‪ ...‬أرجوك توقفي عن ذرف الدموع الحمراء‪ ...‬أتوسل إليك ما عدّت أطيق رؤية‬ ‫رقصك كطائر مذبوح يتمايل ألما‪ .‬عشقي األوحد آهاتك و أ ّناتك أحسّ بها كما أشعر بدفقان الدم في جسدي‪.‬‬ ‫أحبك‪ ...‬أقولها بأعلى صوت لي‪ ...‬مع كل دمعة و نار زفراتي تلسع صدري و تحرق ما فيه من سخط‪...‬‬ ‫أعشقك من بين نساء العالمين جميعا‪ ...‬أبعدوني عنك كرها و هللا‪ .‬عائد إليك يا حبيبتي‪ ...‬ألكون إما بين ذراعيك‬ ‫أو في رحمك الدافئ‪ .‬أهواك يا ك ّل العمر‪.‬‬ ‫‪02-28-2012‬‬

‫‪11‬‬


‫جوريّةٌ و سيف‬ ‫ّ‬ ‫عدت أحتمل أكثر‪ ...‬أكره نفسي‪ ...‬أكرهها أكثر من أي يوم مضى في‬ ‫ذاك وصف تعدّى مراحله بكثير‪ ...‬ما‬ ‫دقائق حياتي‪ .‬كيف استطاع وصفي بذاك اللقب ( يا جوريّة بسيف) هل أنا واضحة أمامه لهذا الحدّ؟ سبع عشرة‬ ‫سنة مرّت ما تخيلت نفسي أسير خطوة دون أن يكون جانبي‪.‬‬ ‫كنت قد جرعّته األلم سابقا لشدّة خوفي! أخاف من ضعفي كأنثى أمامه‪ ,‬أمام رجولته هو‪ ...‬إال أنه حاول طمأنتي‬ ‫يوما أن الجوريّ مهما عال شوكه أو تغير لونه يحمل في طيّات بتاله قطرات ندى الفجر‪ .‬أ أستطيع أن أعود‬ ‫جورّية؟ أريد أن أكون كما جوريّ فيرساي األبيض الذي يعشقه هو‪ ...‬هو ال غيره‪.‬‬ ‫كم حاولت الهروب منه‪ ...‬حاولت أن أحب غيره ألهرب من عينيه اللتين ما استطعت يوما أن أكذب عليهما‪...‬‬ ‫قررت أن أبعده عن طريقي الوحيد إال أنّ قلبه كان أقوى من أن يتركني في دربي الشائكة‪ .‬وحيدة أبكي في‬ ‫سريري ألستيقظ صباحا و أنا أدّعي القوة و البأس‪ ,‬إال أنه يعلم ما بي بمجرد أن ينظر إلى عيني‪ّ .‬‬ ‫بت في العقد‬ ‫الرابع من العمر و ما زلت في نظره تلك الوردة البيضاء النضرة التي أحبها منذ سبع عشرة سنة‪.‬‬ ‫احترم خصوصيتي بكل جوانبها و لم أحترم قلبه يوما! أحب جانبي المظلم قبل المشرق‪ ...‬إال أنني لم أت ّنبه يوما‬ ‫أنه يعاني بسببي أشد أنواع األرق و الخوف‪ .‬لم أكتشف حاجتي إلى وجوده قبل اليوم‪ ...‬لماذا؟ كان يخفف ع ّني‬ ‫بمقولته‪ :‬ما م ّر م ّر و انتهى‪ ,‬ال تلتفتي لم ذهب‪ .‬كيف تركت سيف كبريائي يح ّ‬ ‫طم حلما جميال هو مبدعه‪ .‬هو‬ ‫نجمتي القطبية و دليلي في صحرائي المظلمة القاحلة‪ ...‬هو واحتي الوحيدة رغم وجود الحنظل و الصبّار في‬ ‫أرضي‪.‬‬ ‫إن كنت أريد ّ‬ ‫تذكر أيامي التي مرّت من دونه فهي درب وعرة مليئة بالثلوج و الصقيع الدائم‪ ,‬ال طعم أليامي‬ ‫بها‪ ,‬وحدة السير فيها مخيفة ح ّد الرعب‪ ,‬و ال معنى للسير أبدا‪ .‬كشفت له عمّا أحمله له‪ ...‬بعد فوات اآلوان!‬ ‫عندما أخبرته بسّري عن نفسي و ما أك ّنه له‪ ...‬قال أنه يعلم بذاك و قد انتظرني حتى أعترف له بما يعرفه مسبقا‬ ‫من صدق المشاعر نحوه‪ ,‬من هروبي المتكرر و من المحتوم علينا‪ .‬لم يقم بالضغط علّي مرّة‪ ...‬بل ترك الباب‬ ‫مواربا حتى فتحته أنا على مصراعيه و يا ليتني فعلتها من سنين!‬ ‫خمسة أيام‪ ...‬عشرون بعد المائة من الساعات مرّت لكأن سنين عمري مذ مولدي حتى صدحت بمكنونات قلبي‬ ‫له اختصرت فيها‪ ...‬ليح ّل ظالم دامس بسماء سوداء ال قمر فيها و ال نجم يمكن أن يهديني لطريقي في جبال‬ ‫عالية‪ ...‬السقطة من جرفها تفضي بالروح إلى بارئها‪ .‬كيف استطعت فعل هذا بي‪ ...‬أن تتركني دونك يا كل‬ ‫العمر‪.‬‬ ‫رفضتك بكل ما أوتيت من قوة عندما قلت لي‪ :‬أحبك‪ .‬و ضممتني إليك عندما أخبرتك أني‪ :‬أحببتك و ما زلت‬ ‫أحبك‪ .‬اآلن فقط عرفت كيف كنت تشعر خالل فترة جهلي بنفسي و كنت أنت معرفتي‪.‬‬ ‫لم أعد أسمع أي شيء حولي‪ ,‬صمت قاتل‪ ,‬أناس يتراكضون و أطفال يبكون‪ ,‬نساء تصرخ‪ ,‬صوت المدافع من‬ ‫كل جهات األرض تأتي‪ ,‬ز ّخات الرصاص من كل حدب و صوب‪ ,‬و وحدك هادئ هنا بجانبي‪ ,‬كم أحسد تلك‬ ‫الرصاصة التي است ّقرت في قلبك بدل مني‪ ,‬و كم أكرهها و أحنق عليها و أصرخ فيها‪ :‬مستحيل‪ ...‬ألنها سرقتك‬ ‫من بين يدي‪ ,‬أنا التي تعلمت على يديك خالل أيام كيف يكون العشق و الهوى‪ ,‬ما تعنيه المودّة والرحمة بين‬ ‫عاشقين‪.‬‬ ‫ما أجمل شعور أن أضع رأسك بين ذراعي و ا ّ‬ ‫شم عبيرك كما أزهار الكرز‪ .‬إنك أجمل رجال العالمين قاطبة‪.‬‬ ‫أتذكر وعدك لي بأن نبني بيتا جميال في حقل أخضر صغير قريب من البحر الذي عشقانه كثيرا و سرنا فوق‬ ‫رماله الذهبية سويا‪ ,‬كم رمينا بأسرار داخله‪ ,‬أتذكر يا من دربي هو دربه؟‪ ...‬اعذرني فأنا ال أستطيع منع عيني‬

‫‪12‬‬


‫عن البكاء رغم علمي بمدى ألمك إن رأيت دمعي‪ ...‬لم أقصد إيقاظك على صوت دقات قلبي التي تكاد من‬ ‫تسارعها أن تف ّجر شرايني و تفصل األبهر من موقعه‪.‬‬ ‫أتعرف أن قميصك ذا اللون األحمر القرمزي يليق بلون بشرتك البيضاء الجميلة و شعرك األشقر الذي عشقته‬ ‫مذ عرفتك في درب حياتي! صدقني‪ .‬أتعلم س ّرا لم أخبرك يوما به‪ ,‬و هو مدى عشقي لك و رؤويتك تتقلب على‬ ‫سرير الشوك خالل السنين الماضية سببه غباء أنثى تركت عنفوانها يحيل التراب إلى رماد ال فائدة منه‪.‬‬ ‫تشوه في وجهك ال غير‪ ...‬كم‪...‬‬ ‫ال تقلق فما زلت بجانبك يا عزيزي‪ ...‬كم أحب غمازتيك اللتين كنت تظن أنهما ّ‬ ‫و كم‪ ...‬عشقت وجهك و بحر عينيك السماويّ اللتين كانت تأخذني إلى شطئان ما عهدتها قبال ما جعلني أتحاشى‬ ‫النظر إليهما مباشرة حتى ال ترى مدى ضعفي أمامك‪ ...‬لكم ولهت بوضع رأسي على صدرك و يديك تطوقانني‬ ‫حتى أرتاح أو تهدأ عصبيتي‪ .‬هل أخبرك بشيء يا ملك قلبي‪ ...‬أحيانا كنت أفتعل غضبي فقط حتى تسحبني‬ ‫يديك إليك‪.‬‬ ‫سأبقيك مبتسما ً دائما و أقوم بواجبي كأنثى يا رجال ما كنت سأحصل عليه و إن طفت البالد و تعرّفت على كثير‬ ‫من العباد‪ .‬يا لحمقي المقتع‪ ,‬قد كانت سعادتي متاحة بين يدي طوال عقد و نصف و يزيد و كنت أوصد عليها‬ ‫األبواب و أصنع األقفال خوفا على نفسي من نفسي‪.‬‬ ‫ال ترحل عني‪ ...‬وعدتني أن تبقى دائما معي و لطالما و ّفيت بعهودك لي‪ ...‬ليس اآلن‪ ...‬ال تخذلني اآلن‪ ...‬أعلم‬ ‫أنك تسمعني‪ ...‬أشعر بك حولي‪ ,‬ما زالت أنفاسك تالمس وجهي‪ ...‬إنما أتوسل إليك ليس اآلن‪ .‬أبعد أن أذقتني‬ ‫حالوة ما عرفها النحل في زهر قط مهما طاف من بساتين و حقول‪ ...‬مهما تن ّقل بين القرنفل و الرياحين و‬ ‫الورود بش ّتى أنواعها‪.‬‬ ‫ما الذي سأقوله لوالديك‪ ...‬كيف أواسي جوارحي دونك‪ ...‬ال أستطيع أن أجعل التراب يحثو فوقك أخاف أن‬ ‫تجرح وجهك ذ ّراته الناعمة‪ ...‬لم أعد أملك قوّ ة تجعلني كما كنت يوما بجانبي في ذات الطريق‪...‬‬ ‫أرجـــــــــــــــــــوك ال ترحل عني‪ ...‬أرجـــــــــــــــــوك‪ .‬أنت في الجنان ترتع و أنا في نار الدنيا أبكي و اتألم‪.‬‬ ‫أملت فيك زوجا لعمري الباقي إال أن القدر ارتأى لي الوحدة دونك لما بقي من عمري‪ ...‬خمسة أيام معك هي‬ ‫زادي لما تبقى لي من أيام ال أعرف كيف ستمضي دونك يا نفسا أسكنها هللا في نفسي‪.‬‬ ‫يا رب‪ ...‬ع ّجل لي الشهادة حتى أكون حورية لمن جعلته توأم روحي في الدنيا‪...‬‬

‫‪03-29-2011‬‬

‫‪13‬‬


‫حظٌّجديد!‬ ‫مضى أكثر من اثنين و ثالثين يوما لم أره خاللها أبداً و قد عاهدت نفسي أن أنتهي من كل ما ّ‬ ‫يمت له بصلة‬ ‫تجعل مني ضعيفة مجدداً‪ .‬عدت لحياة طبيعية قدر اإلمكان‪ .‬يوم الميالد قد مضى و مضت معه ساعات جعلتها‬ ‫سلسة مرنة مع أصدقائي و عائلتي أحاول من خاللها التصرف بكل ما يحلو لي دون خوف‪ .‬احتفلنا برأس السنة‬ ‫في أفخر المطاعم حتى الصباح و لم أعد أفكر بشيء يعكرّ عليّ صفو دقائق و ثوان كدّت أنساها بسببه‪ ,‬اليوم‬ ‫األول من السنة الجديدة بدأتها بنشاط متجدد‪ ...‬ارتديت أجمل ثيابي و تبرجّت ألجلي‪ ...‬لنفسي ليس ألحد أو ألني‬ ‫أريد أن يلتفت إلي أحد‪ ...‬بل ألني أريد أن أفعل ما أريده ألجل سعادتي‪.‬‬ ‫خرجت من المنزل و توجهّت لمكتبي أبدأ نهارا شعرت معه بهواء يدخل رئتي دون أن يسألني أحد لماذا تدخلين‬ ‫الهواء إلى رئتيك‪ .‬كنت أضحك و أنا أسير في الطريق ألن الطير يغ ّرد لي و يمدح مظهري الجديد دون وجود‬ ‫من يقتل ذاك الغرّيد لمج ّرد أنه يمتدحني بذاك الر ّقي! فجأة أحسست أنّ أنوثتي تفرح قلبي المتعب عندما نظر‬ ‫أحدهم إلي نظرة إعجاب‪ ...‬مازلت مقبولة كأنثى رغم اإلرهاق المضني لمدة سنتين‪.‬‬ ‫ال أريد أحدا أن يدخل حياتي اآلن ألني أريد العيش لذاتي‪ ...‬أما المستقبل فليبقى مجهوال ال أريد قراءته من منجّ م‬ ‫أو من خالل األفالك‪ ...‬يكفيني من مساء يومي الجلوس مع نجمي المفضل و إخباره ما أريد من أسراري‪.‬‬ ‫للمرة األولى مذ ذاك الوقت أخلد إلى سريري عند العاشرة مساء‪ ...‬فيكون النوم حليفا لجفني دون أن يجعلني‬ ‫أتصارع مع نفسي للتفكير بأحد أو بموقف حدث جعل السهاد أقرب من أمّي إليّ ‪ ,‬القلق رفيق أعصابي باستمرار‬ ‫و الدمع طريق راحتي الدائم قبل أن أحصل على ساعات قليلة من النوم ألبدأ يوما مرهقا و ممال مشحونا بخوف‬ ‫أو قلق ال مبرر له‪.‬‬ ‫بدأت اليوم الثاني من السنة الجديدة بهمّة و نشاط‪ ,‬السرور يملئ صباحي‪ ...‬فتحت النافذة رغم برودة الجوّ إال‬ ‫أن الحرية تدخل منه و تتغلغل رئ ّتي لتصل حتى مجرى الدم كما يتنشق المدخن رائحة سيجارته كي تأخذه إلى‬ ‫عالم راحته‪.‬‬ ‫توجّهت إلى عملي كما البارحة ثم توجهت و صديقاتي كي نتسامر في أحد األماكن التي اعتدنا أن نذهب إليها‪.‬‬ ‫الساعة الثامنة مساء ع ّدت إلى المنزل و بعد أن بدلّت ثيابي و جلست مع والديّ حتى العاشرة و عشر دقائق‪...‬‬ ‫عندما أحسست أنني بحاجة كي أنام دخلت غرفتي و كما اعتدت أن أجعل عيني قبل أن تناما يتأمال لوحة السماء‬ ‫اإللهية المرصّعة بأجمل ماسات الكون‪ ...‬تلك هي عشقي الحقيقي في هذه الحياة‪ .‬غافل النوم عيني و سلب مني‬ ‫يقظتي كسارق محترف سلس اليد يعلم كيف يجعل محفظة الغير في جيبه دون أن يشعر به أحد أو يراه بشر‪.‬‬ ‫كان صوت الرنين عاليا إال أنني لم أمي ّز فيه الحقيقة من الحلم‪ ...‬لم أعلم إن كنت قد فتحت عيني مستيقظة فعال‬ ‫أم أنني في خيال النوم أسبح دون أن أرى شيئا حولي‪ ...‬شيء ما يومض بقربي‪ ,‬بقيت أنظر حوالي الدقيقة‬ ‫الكاملة حتى اعتادت عيناي على الظلمة‪ ...‬إنه هاتفي حقا ً‪ ,‬مددت يدي بصعوبة أحاول أن ألتقط جوالي ألرى كم‬ ‫الساعة اآلن‪ ...‬إنها الحادية عشر و عشرون دقيقة ليالً‪ ,‬يا يسوع ما هذا الشقاء‪ .‬طفقت أنظر للشاشة و هي‬ ‫تن ّبهني برسالة واردة و تل ّح علي أن أقرأها‪ ,‬توقعت صديقتي فهي على األغلب ستتغيب غدا و تريد أن تذكرّني‬ ‫أن أقدّم لها إجازة‪ ...‬ضغطت ز ّر المشاهدة و بقيت أحملق في الشاشة أمامي دون أن أعي ما حصل تماما‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫أسندت ظهري إلى السرير أحاول أن أتدبّر من أمري شيئا‪" ...‬سنة جديدة و حظ‬ ‫تحولّت إلى وضع الجلوس و‬ ‫جديد إنشاء هللا سنة خير عليك‪ ".‬ذاك كل ما كتب فيها‪ ...‬سطر واحد فقط يحتوي على ثالث جمل‪ ...‬كل جملة‬ ‫منها تجعل مني أشالء مبعثرة في كل اتجاهات الغرفة‪ ...‬أحرفها تبدد حواسي و تفقدني القدرة على التفكير‪...‬‬ ‫نقاطها تقف كحاجز أمني يمنع النوم أن يعود لجفني‪ ...‬لماذا اآلن؟‬

‫‪14‬‬


‫لم أشعر بطعم الحياة الحلو سوى ليومين‪ ,‬ما استنشقت الحرية إال لساعات ألتوقف فجأة فوق لغم إن تحر ّكت‬ ‫عنه انفجر و نثر دمي في كل مكان و إن أنا بقيت واقفة فوقه لن ينفعني منه سوى التعب لقدمي و التهاوي‬ ‫مترن ّحة من ح ّر الشمس و برد الشتاء ألتناثر قطعا محترقة في كل زاوية من زوايا نفسي التي بين جنبي في‬ ‫آخر المطاف‪.‬‬ ‫قررّت أن أتجاهل الرسالة‪ ...‬وجدّت صعوبة في حذفها بذات اللحظة‪ ...‬لم أستطع تقدير األمر بعد‪ ,‬فتلك السقطة‬ ‫مؤلمة جداً جداً‪ .‬حاولت النوم‪ ...‬عبثا كان‪ .‬عندما بدأت العصافير بالزقزقة معلنة الفجر ليوم غريب يحمل معه‬ ‫ماض ال أريده أن يعود لشخص أتركه ألجل من تحبه أكثر منيّ ‪ ...‬لمن يخاف على ولده من وجودي رغم ما‬ ‫يحمله لي من مشاعر و حبّ دفين‪.‬‬ ‫جلست في سريري أضّم قدميّ إلى صدري و أتأمل خروج جوهرة السلطان من مخدعها بعد ليل مرهق طال‪,‬‬ ‫أف ّكر مليّا بما سببّته لي رسالة مؤلفة من بضعة كلمات تريد أن توقظ فيّ شعورا ال أريده‪ ...‬ليس كرها لمن أتقن‬ ‫دوره و استطاع الكذب فقط‪ ...‬بل أيضا لمن أذاقني الحب و جعل من نفسه الرجل الذي تتمناه األنثى حتى بات‬ ‫يرهبني غيابه ألحسب كل حركة أو سكنة أقوم بها‪ .‬يا له من إحساس رهيب‪ ...‬أن تكون قدم لك في ج ّنة عدن و‬ ‫األخرى تحترق بلهيب جهنم و سعيرها‪ .‬كل ما جعلني أبنيه معه تهّدم بفعل رصاصة قامت بمساواته مع األرض‬ ‫كما فعل الزالزل‪.‬‬ ‫قررّت المضي قدما رغم الشوك الذي يجّرح قدماي‪ ...‬مع كل الطعنات المتوالية على قلبي الجريح‪ ...‬لن أعود‬ ‫للوراء أبدا‪ ...‬خطأ فادح أن أكسر قلب امرأة ألجل أنانية لن أحصد معها سوى الخراب و القلق و االضرابات‬ ‫النفسيه الغير مستقرّة لما تبقى من دقائق حياتي‪ .‬قمت بحذف الرسالة و كأن شيء لم يكن‪.‬‬ ‫مضت أيامي بشكل جيد‪ ...‬ستون يوما أو يزيدون‪ ...‬عائدة إلى منزلي قرابة السادسة مساء‪ ...‬وضعت المفتاح‬ ‫في الباب أريد ولوج البيت‪ ...‬و إذ بصوت يأتيني من الخلف‪.‬‬ ‫لويل‪ :‬كيف أنت؟ هل أنت بخير؟ لم لم أعد أراك؟‬ ‫واثقة من أنه استطاع سماع دقات قلبي و رأى مدى الرعشة التي انتابت قدماي و لم تعد تحمالني أبدا‪ ...‬تجمّدت‬ ‫دمائي داخل عروقي‪ ,‬ثبتت عيناي على قفل الباب ال أعلم إن كنت أريد فتحه و الهرب أم أبقيه مغلقا و من‬ ‫ورائي انتصبت مقصلتي تريد رأسي دون ذنب قمت به أو فعلته سوى أن ضحيت بسعادتي ألجل الحفاظ على‬ ‫استقراره‪.‬‬ ‫ال أعلم كيف فقدّت احساسي بالزمن الذي أوقف كل شيء من حولي حتى الشعور بالهواء الذي يجب أن يدخل‬ ‫رئتي ليساعدني على التنفس انقطع عن مسيرته نحوي‪ ...‬يا أم ّنا العذراء أنقذيني أرجوك‪ ...‬ال يسعفني تفكيري‬ ‫بشيء‪ ...‬يا إلهي إنه يتقدّم نحوي‪ ...‬أشعر بقربه‪ .‬هل أصرخ؟ لماذا؟ ما الذي سيفعله لي‪ ...‬ال شيء‪ .‬لكن لم أتى؟‬ ‫التفت إليه و حاولت التماسك أتمثل الشجاعة بكل أشكالها إال أنه يرى مدى ما بي من نظرة عيني و لون وجهي‬ ‫الذي اصف ّر من هول الموقف الذي جعلني فيه‪.‬‬ ‫سوير‪ :‬أهال‪ ...‬ما الذي تفعله هنا؟‬ ‫لويل‪ :‬لم أعد أراك فعّرجت ألطمئن عليك‪.‬‬ ‫بدت الدهشة على وجهه جرّاء سؤالي و كيف يبدو مظهري في تلك الدقائق‪ .‬إال انني كنت ضعيفة جدا أمام عينيه‬ ‫اللتين تستطيعان قراءتي دون أن أبوح بحرف منقوط حتى‪.‬‬ ‫سوير‪ :‬مشاغل الحياة كثيرة‪ ...‬نعم‪ ...‬كيف هي‪ ...‬عائلتك؟ هل هم بخير؟‬

‫‪15‬‬


‫قمت ببلع ريقي و ب ّل شفتيّ اللتين توقفتا عن الحركة و عيناي اللتين تتجاهالن النظر إليه مباشرة كمن يخاف‬ ‫النظر إلى جالده و هو في قمّة التعذيب‪.‬‬ ‫صمت برهة و قد وصلت رسالتي إليه و بوضوح أكبر من وهج شمس الصيف على رمال الصحراء الحارقة‬ ‫في ساعة ذروتها‪.‬‬ ‫لويل‪ :‬أجل هم بخير‪ ...‬رأيتك على خير‪.‬‬ ‫قاطعته بعصبية و خوف باد في رجفة صوتي التي لم أستطع التحكم بها‪.‬‬ ‫سوير‪ :‬و أنا أيضا‪ ...‬لكنني تأخرت عن المنزل و لدي أعمال كثيرة غداً‪ ...‬تصبح على خير‪ ...‬سيدي‪.‬‬ ‫لويل‪ :‬سيدي؟!‬ ‫لحظتها أدرت ظهري و بدأت دموعي تنهمر مني دون أن أستطيع إمساكها داخل محجريها‪ ...‬أسرعت بقطع‬ ‫العتبة و إغالق الباب ورائي‪ ...‬خانتني قدماي عن صعود الدرج‪ ...‬فطفقت على األرض جالسة ال أدري كيف‬ ‫حصل ما حصل‪ ...‬هل مازال واقفا خلف الباب؟ لم أقوى على الوقوف و النظر من عين الباب‪ ...‬لم أستطع‪.‬‬ ‫خفت من ضعفي أن يغلبني فأفتح باب أوصد ّته تواً بيديّ ‪ ,‬أرهبتني فكرة أ ال أجده ما يزال ينتظرني إن قمت‬ ‫بمواربة الباب و لو قليال‪.‬‬ ‫أكثر من ساعة أمضيتها في مكاني ذاك دون أن أبرحه أبدا‪ ...‬أليس األلم فظيعا‪ ...‬هو حمل هاجر وجب‬ ‫إجهاضه بكافة الوسائل و الطرق و إال أودى بحياتي‪ .‬بقي عقلي يحاور قلبي المذبوح و يواسيه أن ما فعلته هو‬ ‫الشيء الوحيد الصحيح و إال‪ ...‬لكنت السبب وراء تعاسة أخرى و كره أوال ٍد ألبيهم‪.‬‬ ‫لم تخلو الحياة بعد من الرجال‪ .‬إال أ ّني لم اتخيل يوما واحدا أبدا أن ما أسمعه من رفيقاتي أو ما نراه في األفالم‬ ‫و المسلسالت أن يحدث معي‪ ...‬أنا‪ .‬كرهت تلك النسوة و الفتيات القادرات على سلب امرأة أخرى حقهّا بسبب‬ ‫األنانية أو لعبة المكر التي جبلنا الربّ عليها‪ .‬لكن لست أنا‪ ...‬ال‪ ...‬لن يحصل ذالك لي أبدا‪.‬‬ ‫الحقيقة واضحة كما فارس النور‪ ...‬لن أطمسها بسبب ستار الحب‪ ...‬و ألنني أحببته فعال فسأحافظ على بقاء‬ ‫حياته مع عائلته‪ .‬سأرد له جميل صنعه أن جعلني أعلم كيف تشعر أنثى بحمى رجل أنار لها دربا ما سارت فيه‬ ‫قبال بأن أبتعد عن طريقه أبدا ما حييت‪.‬‬

‫آذار ‪1122‬‬

‫‪16‬‬


‫ذبح‬ ‫ما أنا سوى امرأة توقف ضخ الدم في شرايينها‬ ‫و باتت عن الناس في اعتزال‬ ‫فراق أوقف نبض الحياة‬ ‫و باتت من األلم طائرا مذبوحا‬ ‫يرقص ألما‬ ‫تصفق له الناس حين رؤيته‬ ‫ظنا منهم أ ّنه يمتعهم رقصا و فرحا‬ ‫أال من يشكو لغير الخالق بلواه‬ ‫بات من قبل من حوله همزا و لمزا‬ ‫لست ألومك على ما تراه ف ّي‬ ‫بل ألوم من جعل من حالي هرجا و مرجا‬ ‫يتداوله من حولي‬ ‫لكأني لإلعالن صورة‬ ‫و للصحافة أحرف ترقص مسخرة‬ ‫مات الدمع في محاجري‬ ‫و مات النبض في حياتي‬ ‫و ما بقي لي سوى أن أدعو الواحد القهّار‬ ‫ب ّرد الروح إليه مرتجية الرحمة و الغفران‬ ‫كم أتمنى أن تعود لي يوما‬ ‫أن تكون ذاك الحب السرمدي‬ ‫إال أ ّني أعلم يقينا أنك بين أيد المالئكة‬ ‫ترفرف معهم‬ ‫كم أحسدهم ألنهم يرونك‬ ‫و أنا وحدي على األرض أنتظر وقت إلتحاقي بك‬ ‫قد توقف نبضي مذ رحلت‬ ‫لكنه بدأ النبض فيك مذ ارتحلت‬ ‫فأي فرح بات لي بعدك حبيبي‬ ‫يا من تحملّت ألجلك أصعب األشهر و اللحظات‬ ‫يا من انتظرت أن يكون جانبي دائما‬ ‫اعذرني ألني لم أكن أنا المرتحلة عنك‬ ‫فلكان أسهل صدقني‬ ‫لكنك من سبقني الى السماء العليا‬ ‫فيا هناك و يا لتعاستي‬

‫‪17‬‬


‫و بؤسي و شقاءئي‬ ‫مازلت أذكرك بين يدي ترضع‬ ‫أراك في مشيتك األولى‬ ‫لكالمك األول و أنت تنادي أباك‬ ‫أرحلت و انتهى‬ ‫أتسمعني‬ ‫أتراني يا حبيبي‬ ‫مازال قميصك ملطخا بدمك‬ ‫أتمنى أن يشفي عليلي‬ ‫كما أعاد قميص يوسف نظر يعقوب‬ ‫يا ليت دعاء يونس بن متى يوصل الطريق بين السماء و األرض‬ ‫ألراك و لو للحظة‪ ,‬برهة‬ ‫زغردت لك و حضنت ألجلك نبات الصبار‬ ‫فال الشوك عاد يهم‬ ‫و ال الدمع يشفي غليل الفراق‬

‫‪18‬‬


‫مرآة‬ ‫أربعة عشر شهراً‪ ...‬و لم يخبو إحساسي تجاهها‪ ...‬لم أستطع إبعادها عن فكري أو نسيان صورتها‪ ...‬يا من‬ ‫جعلت مني شخصا ً آخر تماما‪ ,‬يا من عّدلت كياني‪ّ ,‬أثرت في تأريخي لذاتي‪ ,‬غيّرت منظومة األحرف و جعلتني‬ ‫أنطقها بشكلها الواضح و الدقيق مع معرفة أنواع التنوين التي و رغم أ ّني عربيّ إال أ ّني لم أعلم مواقعها قبالً‪.‬‬ ‫يداي تتع ّرقان بكثرة‪ ,‬أعصابي مشدودة كالحبل حول رقبة المذنب‪ ,‬ترتجف قدمّي لكأن جسدي سيتهاوى على‬ ‫اإلسفلت المترب‪ ,‬أشعر بعدم توازن مشيتي و الواضح من ترّنحي و أنا م ّتجه نحو مدخل العبور‪ ...‬يا هللا كم هو‬ ‫كئيب‪ ,‬حديديّ ذو ثقوب تسمح لعين الناظر أن تسعها‪ ,‬كبير حتى ليظن المارّ من خالله أنه قز ٌم أمام مارد‬ ‫مرعب سيبتلعه‪ .‬ال يوجد عتبة تقطعها حقا ً لكن بمجرد أن تضع قدما ً واحدة داخل تلك البوابّة حتى تشعر أنك‬ ‫زمن آخر ال ّ‬ ‫يمت للواقع بصلة‪ ...‬حياةٌ ليس بينها و بين الواقع من صل ٍة سوى وجود‬ ‫عالم آخر‪...‬‬ ‫ٍ‬ ‫أصبحت داخل ٍ‬ ‫زمنً‬ ‫صامت ال يتحرك حتى أني بدأت أفقد‬ ‫البشر فقط‪ ...‬وجود أشخاص بأجساد ال غير‪ ,‬لكأني دخلت في‬ ‫الشعور بالمكان‪.‬‬ ‫نظرت حولي بتمعّن و على م ّد بصري لم أجد سوى مساحات شاسعة من التراب و الغبار على شكل زوبعات‬ ‫صغيرة تتشكل بفعل الهواء الحار الذي يلفح الوجوه و تخدش حبات ال ّتراب الجباه كما و تعمي األبصار‪ .‬نظرت‬ ‫أمامي فإذا بناء من طبقات عدّة تحوطه ثالث أبراج عالية يقف في ك ّل منها شخصين بكامل عدّتهما و قدماهما ال‬ ‫ت ّكل الرواح و المجيء‪ .‬حجارة البناء الكبيرة المهولة لونها مقيت‪ ,‬من ّفر‪ّ ...‬‬ ‫طيور سوداء كبيرة تنعق و تطير‬ ‫فوق سطح تلك القلعّة المهولة‪ ....‬ت ّنبهت لصوت أحد الحّراس يخبرني أن أدخل من ذاك الباب المتآكل لونه و‬ ‫الذي يصدر صريراً مزعجا ً عندما فتحه أمامي ألدخل منه إلى ممرّ معت ٍم‪ ,‬جدرانه جرداء إال من لون دهان كان‬ ‫أبيضا ً فيما سبق و يميل اآلن إلى الصفرة ما يد ّل على أن زمنا ً طويالً مرّ من هنا‪.‬‬ ‫ت غير ذاتي تماما ً‪ ...‬أحسست برئتيّ و قد توقفتا عن عملهما في ابتالع األكسجين و نفث بقاياه‪...‬‬ ‫شعرت بذا ٍ‬ ‫عي ّني كادتا تخرجان من محاجرها ج ّراء اجتياح موجة رعب كبيرة تعصف بعقلي‪ .‬استطعت بصعوبة بالغة أن‬ ‫ً‬ ‫صرخة كادت تخرج غص ّبا ً‪ ...‬بدأت أتقهقر و كادت رجالي تخونانني و ت ّفران بي من ذاك السرداب‬ ‫أحبس‬ ‫القذر ذو الرائحة العطنة الن ّفاذة جداً و الدرجات المتآكلة بفعل الزمن و التي كدت أهوي منها عدّة م ّرات‪.‬‬ ‫وصلت أخيرا ّ إلى باب غرف ٍة ما ت ّنبهت حواسي عندما نطق رجل ذو صوت أجشّ بأن يدخل الطارق إليه‪ ,‬عندها‬ ‫ظهر ضوء أعمى بصري‪ ,‬فاتجاه الضوء المباشر لم يظهر لي سوى ظ ّل لرجل جالس قبالة الباب في أصقاع‬ ‫الغرفة دون أن أتبيّن مالمحه بادئ ذي بدء إلى حين جلست على إحدى الكراسّي ذي الجلد البنيّ الداكن و التي‬ ‫ً‬ ‫فخمة جداً هي و شقيقاتها الثالث داخل تلك المساحة الكبيرة‪ .‬المكتب الذي يجلس عليه صاحب الصوت‬ ‫بدت‬ ‫األجش كان مطعّما ً بالصدف الحقيقي ذو الذوق الرفيع جداً و مو ّ‬ ‫شى بزخارف ذهبيّة رائعة‪ ...‬أيعقل أن يكون في‬ ‫بناء كهذا غرفة ملكية على هذا النحو؟ تراءت لي أخيراً صورةٌ أوضح للشخص الجالس خلف الطاولة بعد أن‬ ‫اقتربت منه أكثر على نحو جلوسي‪ ,‬إال أنيّ لم أتوقع أنه بذاك القبح! ُّ‬ ‫كبت تقز ّزي و نفوري من شكله الدميم‪ ...‬ال‬ ‫أعلم كيف أصفه‪ ,‬حاولت أن أجد له اسما ً لك ّني عجزت تماما ً إذ قطع عليّ هذا (الوحش) أو (المسخ)_فلتسمّه ما‬ ‫شئت_ سلسلة أفكاري عندما أخبرني عن كتاب التوصية الخاص و أنه لم يسمح من قبل ألح ٍد أن يزور هذا‬ ‫المكان و من فيه‪......‬‬ ‫هنا‪ ...‬سبحت في أفكاري بعيداً و عيناي على الصحراء المقفرة المطلّة من شبّاك الغرفة الكبير‪ .‬صحيح! كيف‬ ‫يأتي هنا أح ٌد لزيارة أحد؟ كيف يعيش أح ٌد هنا أصالٍ؟ غبيّ حقا ً من يقوم بهكذا مغامرة! كادت تفلت من مقلتي‬ ‫دمعة و أن تف ّتر شفتاي عن بسمة استهزاء لوال تمالكي لنفسي فنظرت ناحية الوحش المترّبع على الكرسيّ‬ ‫الدوّ ار الفخم و قد وقف األخير بطوله المتوسط و ظهر انتفاخ بطنه الكبير المقرف و هو يقول ألحد الحرّاس أن‬ ‫يرافقني إلى حيث غايتي‪ .‬م ّد يده للمصافحة إال أنيّ ترددت عندما رأيت يداً كبيرة ذات أصابع قصيرة و سمينة و‬

‫‪19‬‬


‫مشعرة ح ّد القرف لكن وضعي الحرج يضّطرني إلى مصافحتة و رسم بسمة مقتضبة بينما بقي وجه المسخ دون‬ ‫أي تعبير يذكر‪ ,‬ثم مضيت إلى وجهتي‪.‬‬ ‫مجدداً نزلنا ذات الدرجات المتهرّئة و عادت رائحة العفن المشبعة برطوبة المكان حتى وصلنا البهو الذي دخلنا‬ ‫طابق ثم الثاني‬ ‫منه‪ ,‬ظننت لبرهة أننا سنخرج منه إلى باب آخر من جهة أخرى لكنهم استمروا بالهبوط إلى‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أغطي نصف وجهي بك ّم بزتي‬ ‫تحت سطح األرض‪ ...‬عندها تغيّرت الرائحة و أصبحت كريهة أكثر ما جعلني‬ ‫الب ّنية و التي ارتديتها خصيصا ً من أجلها‪ ...‬فهي تحبّ هذا اللون‪.‬‬ ‫كان المنظر في الطوابق السفلية أسوء من التي فوقها‪ ...‬أحسست أن الجدران المتصدّعة ستنهار من قدمها‪,‬‬ ‫األبواب ستنخلع من كثرة صريرها و صدئها‪ ,‬حتى السقف المتشقق و الذي يرشح بكثرة عند زواياه حسبته‬ ‫سيطبق علينا‪ .‬وصلت إلى باب غرفة يشبه أش ّقاءه‪ .‬فتح الحارس الباب و أدخلني إلى شبه غرفة ال تتجاوز‬ ‫الثالثة أمتار بين االرتفاع و الطول‪ .‬فيها طاولة خشبية قديمة قد بهت لونها و أكل الزمن من خشبها‪ ,‬على‬ ‫طرفيها كرسيّان حديديان تآكلهما الصدأ منذ أمد بعيد حتى ليخشى من يريد الجلوس على أحدهما أن يقع فيه‪.‬‬ ‫طلب منيّ المرافق ان أجلس على أحدهما ثم خرج و أغلق الباب خلفه‪.‬‬ ‫لم أستطع أن أجلس الهنيهة‪ ...‬لم أعلم كيف سأقابلها بعد كل تلك األيام و الساعات التي فرّقت بيننا فبدأت أحدّث‬ ‫ذاتي كيف أجيبها عن عدم سؤالي عنها ك ّل تلك الفترة؟ هل أقول لها‪ :‬أ ّني حاولت جاهداً اختيار غيرك إال أنك‬ ‫الوحيدة التي ما طفق خيالي يتذكر وقع كلماتها في أذني‪ ,‬نظرة عتابك لي التي أعشقها‪ ...‬ابتسامتك الهادئة‬ ‫الحنون‪ .‬كيف سأراك اآلن؟ لم أستطع الجلوس على الكرسّي األول حتى انتقلت إلى شقيقه‪ ,‬بقيت آخذاً الغرفة‬ ‫جيئة و ذهابا ً‪ ...‬قد طال بقائي هنا وحيداً و أفكاري ترمي بي بين شطئان مجهولة و عواصف ما أنزل هللا بها‬ ‫من سلطان‪ ...‬عقارب ساعتي تضيّق الخناق علّي حتى باتت كمقصلتي التي ال مف ّر منها‪ ...‬حاولت تناسي الوقت‬ ‫و أنا أفك ّر كيف أواجه عينيها‪ ,‬مشتاق ألن أرى وجهها المالئكي و خدّيها الورديين‪ ...‬أريد أن أرى ابتسامتها و‬ ‫هي تكشف عن أسنانها البيضاء التي أبدعها الخالق‪ ,‬شعرها الكستنائي الناعم‪ ...‬كم مرّت يدي من خالل‬ ‫خصالته‪ ,‬عنقها األبيض الذي يأسر أقوى سالطين العالم عند النظر إليه‪ ,‬بحر عينيها الصافي و شواطئه‬ ‫الالزوردية التي ال أريد الخروج منها ما حييت‪...‬‬ ‫فتح الباب أخيراً‪ .‬يجرّها امرأة و رجل ذو مالمح مخيفة‪ ,‬وجههما عبوسٌ قمطرير‪ .‬حاسرة الرأس‪ ,‬لباسها‬ ‫مهلهل‪ ,‬عريض‪ ,‬بلون حبّات ال ّكمون و يحوي شقوقا ً كثيرة‪ ...‬حافية القدمين‪ ,‬قد قيّدت يداها الناعمتان بسالسل‬ ‫حديدية سوداء اللون‪ .‬أجلساها على الكرسيّ األقرب‪ّ ,‬‬ ‫حال وثاقها و طفقا عائدين جهة الباب بلئم شديد و قد‬ ‫سمعت أحد الحرّ اس ينبّهني أن لدي ما يقارب الساعتين فقط ثم خرج و صفق الباب ب ّقوة‪ .‬ساعتين فقط! يا رحمن‬ ‫الدنيا و اآلخرة كيف بمائة و عشرين دقيقة أن تروي ظمأ أربعة عشر شهراً‪ .‬بقيت حائراً بين أن أجلس أو أبقى‬ ‫واقفا على مقربة منها؟‬ ‫كان الضوء ضعيفا ً في الغرفة ما يجعل من عينيك ضعيفتي الرؤيا لكن‪ ...‬ليس لدرجة أن ألحظ‪...‬ها بهذا الشكل‬ ‫أبداً‪ ...‬أبداً‪ ...‬مستحيل! هممت أن أقفز ناحية الباب الصدء و أخبرهم أنها ليست هي‪ ...‬ليست من أخذوها من‬ ‫حضني منذ سنة؟ حاولت أن أستجمع بعضا ً م ّما بقي لي من شجاعة ألسأل الكائن الذي أمامي عن اسمه‪ ,‬من أي‬ ‫الكواكب هو؟ انسّي أم من الجان؟ رجل أم امرأة؟‪ ...‬حتى جاءني صوت منهك‪ ,‬يرتجف‪ ,‬و يخرج الحروف‬ ‫ّ‬ ‫بشق األنفس‪:‬‬ ‫ورد‪ :‬كي ف أ تي ت ل هن ا؟ ك يف عر فت مك ا ن ي؟‬ ‫ثم صمتت و هي تنظر لي بعين‪ ...‬واحدة‪ ...‬فقط عين واحدة‪ ...‬و غاب لون البحر عن األخرى حتى بدت كتلة‬ ‫زجاجية‪ .‬ب ّ‬ ‫ت كالمذهول و أنا أتأملها‪ ...‬أدقق في تفاصيل وجهها‪ ,‬أريد أن أعرف من تلك التي تجلس أمامي‬ ‫حقيقة؟ تبدو كإنسانة بدائية من العصور الحجرية‪ ...‬عينها المتبّقية غائرة في محجرها‪...‬اختفى خدّاها الورديان و‬ ‫حلّت العظام بديالً‪ ,‬شفتاها البضّتان أصبحتا بلون أسود مخيف و متشققتان‪ ,‬رقبتها لكأنها جذع شجرة ميت‪,‬‬ ‫شعرها الطويل إلى ما بعد منتصف الظهر بات يحوي فراغات يظهر جلدة رأسها و قصي ٌر جداً‪ ,‬ملّبد‪,‬‬

‫‪21‬‬


‫مت ّ‬ ‫شعث‪ ...‬لكأن حشرات األرض جميعها تعيش داخله‪ .‬أنفها الناعم الجميل مكسو ٌر و مائل‪ .‬عندها‪ ...‬ضاقت بي‬ ‫األرض بما رحبت‪ ,‬انهمر دمعي دون أن أستطيع منعه‪ ...‬حاولت الوقوف ألقترب منها‪ ...‬إال أن قدمّي خانتاني‬ ‫فجثوت على ركب ّتي‪ ...‬شعرت بعقلي يتطاير قطعا ً دون استيعاب ما أنا فيه‪ ...‬مشيت جاثيا ً حتى وصلت إليها‬ ‫ّ‬ ‫يتدفق في العروق و ال قوّ ة تعين على تحمّل ما أرى أمامي‪ .‬ب ّحا ٌر وجد شاطئ أمانه بعد أن‪ ...‬أن‬ ‫منهاراً ال د ٌم‬ ‫كان تائها ً زمنا ً طويالً في بحر ل ّجي إال أن مركبه رسى في شاطئ للشياطين و أبالس ٍة ما أنزل هللا بهم من‬ ‫سلطان‪ .‬اقتربت منها‪ ...‬أمسكت يدها أريد أن ألثمها‪.‬‬ ‫هو‪ :‬و ا ربّــــاه‪ ...‬ما هذا يا حبيبتي؟ أين تلك اليد الحنون التي كانت تعطيني الدفء‪ ...‬إنها باردة كلوح الجليد!‬ ‫ما ذا فعلوا بها؟‬ ‫أمعن النظر فراعه المنظر‪.‬‬ ‫هو‪ :‬قلّعوا أظفارك‪ ,‬باتت التشققات تملؤها‪ ,‬إحدى أصابعك أزرق جداً‪ ,‬أين بنصرك؟ خاتم خطوبتنا‪ ...‬يستحيل‬ ‫ذلك‪ ...‬مبتور!‬ ‫كطفل يستنجد بأمه و ال يجدها‪ ...‬طوقت قدميها النحيلتين بيديّ كما‬ ‫وضعت رأسي في حضنها و أجهشت بالبكاء‬ ‫ٍ‬ ‫يمسك الصغير بأبيه خوفه أن يتركه وحيداً في شارع مزدحم‪ .‬ال أدري كم من الوقت بقيت أحرق أنفاسي بين‬ ‫يديها حتى شعرت بيدها المنهكة و التي حاولت بعد ألي أن ترفعها لتمسح على رأسي و تداعب خصالت‬ ‫شعري‪...‬‬ ‫ورد‪ :‬لم‪ ,‬لم تبكي يا حبيبي؟ كل شيء سيكون على ما يرام‪ ...‬ال تقلق‪.‬‬ ‫رفعت رأسي و أنا أنظر إليها خجالً‪...‬‬ ‫هو‪ :‬تركتك هنا وحدك دون أن أبحث عنك‪ ...‬سامحيني أرجوك‪ ,‬حاولت نسيانك ظ ّنا ً مني أنك انتقلت إلى الرفيق‬ ‫أرض‬ ‫األعلى إال أ ّني لم أستطع إال و أن أبحث عن أي بصيص نور ينفي أو يؤكد وجودك‪ .‬تركت البالد إلى‬ ‫ٍ‬ ‫جديدة علّي أبني فيها ما يعّوض فراغك‪ ,‬لك ّني فشلت و ما آتت الجديدة أكلها و ال أثمرت خيراً‪ .‬هربت إلى كل‬ ‫شاطئ قابلته فلم أجد السكينة أبداً‪ .‬أنظري يا عزيزتي لم أتخلى عن عهدنا‪ ,‬ما زلت أضعه‪ ...‬لكأنه ولد معي‪,‬‬ ‫سامحيني أرجوك‪ ...‬و إال صرت نسيا ً منسيّا‪...‬‬ ‫ورد‪ :‬لم أنسك يوما ً واحداً‪ ,‬و أعلم أن ما من رجل يطيق الوحدة مهما حاول أن يفي بنذوره فتلك س ّنة إلهية‪ ...‬و‬ ‫ال أظ ّنني نافعة لك بعد اليوم‪ ...‬و ما أنا خارجة من عذابي هذا حتى تفارق الروح هذا الجسد‪ ...‬عندها فقط‬ ‫سأحصل على حريّتي‪.‬‬ ‫رفعت نظرها إلى األعلى‪ ...‬الالمكان‪ ,‬تنهّدت و تابعت ببسمة ارتسمت على ثغرها فظهر ما بقي من أسنان ذات‬ ‫لون أصفر قاتم في فيّها‪.‬‬ ‫ورد‪ :‬ال تقلق يا ك ّل العمر إني أعفيك من كل التزام لك‪ ...‬أنت ح ّر و لك ّ‬ ‫حق اختيار غيري‪ ...‬فما عدّت صالحة‬ ‫كأنثى بعد أن تعاقب عليّ القاصي و الداني ظلما ً و عدوانا‪ ...‬ولجني الكثيرون و طعنوا شرفي بكل ما أوتيت بها‬ ‫يمنيهم كما فعلوا بأخريات غيري‪ ...‬صغيرات و طاعنات في السنّ حتى‪ ...‬تخيّل‪ .‬هل تعلم أن قتل األطفال مباح‬ ‫أمام أمهاتهن؟ و أن السفاح شيء مقدسّ كما اللواط هنا‪.‬‬ ‫هو‪ :‬أرجوك توقفي‪ ...‬ال أتحمّل المزيد‪ ...‬أتمنى عليك أن تلتزمي الصمت‪1‬‬ ‫قاطعتني بصرخة حادّة جعلت من جسدي يق ّ‬ ‫شعر‪.‬‬ ‫ورد‪ :‬اسمع‪ ...‬ستسجل ما سأقوله لك‪ ,‬هل تفهم‪ ...‬إن ما تراه علّي من آثار ليست بالكثير الذي يذكر أمام ما‬ ‫شهدته غيري هنا‪ ...‬إن كنت الرجل لم تحتمل هذا‪ ...‬فما بالك بنساء ذقن من العذاب أكثر من أصحاب األخدود‪.‬‬

‫‪21‬‬


‫م ّنا من علّقت من ثدييها‪ ,‬توضع الكهرباء بين أقدماء األخريات‪ ,‬تع ّرى النساء و تعرض أمام كل رجال السجن‬ ‫أو يحشرن عاريات مع بعضهن البعض في غرفة ال تكاد تتسع ألربعة أشخاص‪ ,‬تلبس أخريات ثوب المجانين و‬ ‫ت ّغرق بالماء حتى تفقد العقل أو الروح‪ ,‬و‪......‬‬ ‫بدأت تبكي و عال نشيجها و قد بدأت تتلمس وجهي و هي تقول بتوسل‪:‬‬ ‫ورد‪ :‬ال تعد يا نفسا ً سكنت نفسي إلى هنا أبداً‪ ,‬أبداً‪ ...‬أرجوك‪ .‬و إن كان من ب ٍد لعودتك‪ ...‬فأرجو أن تكون على‬ ‫صهوة جواد تنتشل ما بقي م ّنا هنا‪ .‬ما عاد شيء في هذه األرض يغريني على البقاء فيها‪ ...‬صدقني‪ ,‬إنما‬ ‫أوصيك أمراً واحداً‪ ,‬واحداً ال غير‪...‬‬ ‫هو‪ :‬أي طلب منك مطاع يا ك ّل العمر‪.‬‬ ‫ورد‪ :‬ال تترك أرضك يعيث فيها يأجوج و مأجوج على هواهم‪ ,‬ال تسمح لقارون العصر أن يتبختر مزهّواً‬ ‫بعربدته فوق رؤوس الخليقة‪ ...‬إيّاك و أن تدير ظهرك لرحم سهر الليالي‪ ,‬أفنى نهاره‪ ,‬أطعمك من خيراته حتى‬ ‫تشبّ و تساعده في محنته‪ .‬إال تفعل‪ ...‬فقد خسرت ذاتك و تهت في غياهب الجهل و ضياع الهويّة‪.‬‬ ‫فتح الباب بقوة أفزعتني و دخل الرجل و المرأة المخيفان‪ ,‬اقتربا من عشقي الوحيد و أعادا القيد إلى يديها‬ ‫النحيلتين‪ ,‬سحباها من بين يدّي محاوالً التمسك بها بأقصى ما أستطيع‪ ...‬فإذا بالحارس يجذبني من ياقتي و‬ ‫يذ ّكرني بانتهاء وقتي‪ .‬كان آخر ما سمعتها تقوله‪:‬‬ ‫ورد‪ :‬إلى لقاء قريب‪ ...‬سالمي إلى أهلي‪.‬‬ ‫كنت خائر القوى‪ ,‬سندني حارسان حتى وصلت إلى خارج البوابة التي دخلت منها‪ ,‬رميا بي دون أي اكتراث‬ ‫خارج البوابة ثم أغلقوها بعنف و إحكام‪ .‬بقيت جالسا ً ال أدري ما أفعل‪ ...‬ال أنا قادر على السير نحو سيارتي‬ ‫ألقودها و ال أفكار لدي تسعفني‪ .‬رأسي فارغ إال من صورتها‪ ...‬وحدها‪ .‬لم أشعر بقيظ الساعة الرابعة عصراً و‬ ‫ما زلت جالسا ً على اإلسفلت الساخن‪ ,‬لم أهتم بالغبار الذي يجرح جبهتي و يدخل عينيّ ‪ ...‬فقد كانت دموعي‬ ‫أقوى‪ ,‬لست أريد من أح ٍد أن يعيب مظهري المخيف‪ ,‬شعري المتشعّث‪ ,‬أو أن ّ‬ ‫بزتي الغالية متسّخة‪ ,‬فهي هناك‬ ‫ال تجد من يضّمد لها جرحا ً أو يمسح عن خدها دمعا ً‪ ,‬ال تجد ثوبا ً بسيطا ً خشنا ً يسترها حقا ً‪ .‬ما الذي أتى بي إلى‬ ‫هكذا دنيا و هكذا زمن؟ استغفرك ربّي ما قصدّت اعتراضا ً على حكم أنزلته إنما ضاقت بي الدنيا بما رحبت إال‬ ‫من عدلك‪.‬‬ ‫تحاملت على نفسي بعد أليٍ و اتجهت منهكا ً نحو سيارتي ألعود أدراجي‪ ...‬دخلت المنزل بعد منتصف الليل‬ ‫فوجدّت عائلتي بانتظاري قلقين علّي‪ ,‬حتى إذا رأوني اتجهت والدتي نحوي و قد راعها مظهري ظ ّنا ً منها أني‬ ‫قد خطفت أو مكروها ً حصل لي‪ .‬لم أنبس ببنت شفه إنما اتجهت نحو غرفتي و أغلقت مزالج الباب و بقيت‬ ‫ثمانية أيام أصارع نفسي التي بين جنبيّ ما بين أن أغادر و ال أعود‪ ,‬أو أن أبقى و أفي بوصيتها التي هي أمانة‬ ‫قد أبت الجبال حملها‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫متنطع‪ ,‬جحود‪ ...‬هذا ما توصّلت إليه أخيراً‪ ,‬لم تتحمل وحدها بينما ك ّنا قد تعاهدنا على الوفاء‬ ‫يا لي من خائن‪,‬‬ ‫ً‬ ‫لبعضنا في الس ّراء و الضرّاء و حين البأس‪ ...‬أولم تحبّني أيضا؟ من أجل كلمة ّ‬ ‫حق نالت ما هي فيه و ما زالت‬ ‫ّ‬ ‫أتستحق الشهادة و أحرم‬ ‫صابرة! فلم أحمّل كاهلها أكثر‪ ...‬أولست زوجا ً لنفسها‪ ,‬أين ذهبت الموّ دة و الرحمة؟‬ ‫منها؟ فليشهد ربّ العرش و مالئكته أني خطبتك يا ورد من مالك روحك على أن تكوني حوريتي في جنانه‪ ...‬و‬ ‫أشهد أن ال إله إال هللا و أن محمداً رسول هللا‪.‬‬

‫يا من قرأت كلماتي‪ ...‬إني قد قصصت عليك جزءاً يسيراً من حكاية بلدي الجريح‪ ...‬وطني السليب‪ .‬عن بالد‬ ‫أرض تناجي أبناءها في أصقاعها قاطبة لكن ما من صدىً‬ ‫الشام كما كانت في عهد الخلفاء الراشدين‪ .‬عن‬ ‫ٍ‬

‫‪22‬‬


‫يسمع‪ .‬بالدي سجينة على أيدي أبناء أرضها‪ ...‬فلسطين تباد و تهّجر‪ ,‬سوريا تذبح و س ّفاح بها يمرح‪ ,‬لبنان‬ ‫تدمّر و منافق فيها يت ّبطر‪ ,‬األردن ّ‬ ‫تقطع أال من نخوة فيكم‪ ...‬أم ران على قلوبكم ما كنتم به تعلمون؟‬

‫‪05-21-2012‬‬

‫‪23‬‬


‫عش اللحظة‪...‬‬ ‫ْ‬ ‫في كل مرة و بعد غياب أليام طال ليلها عل ّي وحدي نلتقي سويا ً‪ ...‬ال أعلم هل أنا مج ّرد حال ٍة ما بالنسبة إليك أم‬ ‫مزاجك المتقلب الذي مازال يبحث بين الفتيات‪ ...‬أم خوفك اإلقتراب أكثر؟ و ما ذنبي أنا؟‬ ‫يظ ّل يخبرني أنه سريع الملل‪ ,‬مدى استياءه من هذا الحال‪ .‬إنما ما ال يستطيع أن يعبّر به عن نفسه أنه يخاف‬ ‫البقاء على الشيء ذاته مخافة أن يتمّلكه و يصبح لديه عادة يصعب الخروج منها‪ ...‬فهو بعيد عن معنى االلتزام‬ ‫إلى ح ّد كبير‪ .‬ال ألوم عليه فقد تكبّد مؤخراً خسار ًة هي من فعل يده‪ ...‬لكن أن ال تسمّى األشياء بمسمياتها فهذا ما‬ ‫ال أستطيع الصفح عنه‪ .‬فقد أثبت أنه المتقوقع على ذاته و لست أنا‪ .‬دائما ً ما يتجرأ علّي بسلبيّاته على أنها‬ ‫أخطائي‪ ...‬لست من الكمال بمكان إال أ ّني لست بهذا السوء أبداً و لو علم ما كابدته ألنصفني إلى ما وصلت‬ ‫إليه‪ ...‬لم ألم عليه مرّة ما هو فيه فشدّة األلم تغيّر اإلنسان و إن أنا قسوت عليه كنت كالرحى على ما كان من‬ ‫تكسّره و أجهزت على ما بقي من كينونته‪ .‬أ ّما أن أكون حطبا ً لمدفأته يستمتع باحتراقها مع غيري؟ لم؟‬ ‫كنت أعلم أنني لن أراه بعدها و لفترة ما‪ ...‬و ليس عندي أدنى علم إن كان مع أخريات‪ ...‬أمّا أن يمسي على ما‬ ‫أصبح عليه فيّ ‪ ...‬هذا ما ال أدركه‪ .‬حاولت إخباره بما في نفسي و حاولت إيجاد كافة المفردات إال أنها اختنقت‬ ‫و تربّصت في حنجرتي‪ ...‬حاولت إخباره كيف استطاع مواربة باب كنت قد أغلقته منذ زمن‪ ...‬ال أريد أن‬ ‫أشعر بأي ألم أو أي جرح فقد سئمت من كل هذا‪ ...‬و رغم أن الرجل و األنثى مهما كابدا لن يستطيعا العيش‬ ‫دون أحدهما لآلخر‪ ...‬إال أ ّني لست بصدد أي ألم جديد فكفاني و إن كان صديقا ً حقا ً فأنا أعلم أنه من غير‬ ‫الممكن أن يبقى دائما ً فهو متقلب المزاج و من غير الممكن أن أجده حتى في أحلك المواقف عندما أحتاجه‪...‬‬ ‫لكن علّي التواجد بجانبه متى أراد هو ذاك؟ فمتى سيتوقف عن اإلدعاء أنه يتصرف بشكل طبيعي و أنه هو‪...‬‬ ‫هو؟‬ ‫باهلل عليك لست من كوكب آخر وال أنا من عالم األموات‪ ...‬فأنا من البشر أشعر‪ ,‬أحسّ ‪ ,‬و أتألم‪ ...‬أفهم من لغة‬ ‫الجسد ما قدرّني هللا عليه‪ ...‬إن كنت ستقنع ذاتك أن ما قمت به تجاهي لتعوضّني عن ما أردته و أ ّني إن "عشت‬ ‫اللحظة" بحسب مصطلحك أنت فسوف أكون سعيدة بغيابك أو خطبتك ألخرى‪ ...‬فلست سوى جالّد مقصلة و ما‬ ‫ستجنيه يداك بعدها ستذ ّكرك بي كأسوأ كارثة مرّت في حياتك‪ .‬لكن إياك ثم إياك أن تغيّر مفردات اللغة‬ ‫ٌ‬ ‫كلمة تنطقها لي تهمة تتلبسّك و ّ‬ ‫تزج بك في سجن الحياة ما حييت‪ ...‬أما أن تجعلها‬ ‫لمصلحتك مخافة أن تجعلك‬ ‫ح ّجة عليّ ؟ ما أنا بضعيفة حتى أحسب لما تريده أنت حسابا ً و لست بمحايدة عن طريقي و إن كنت أغلى ما‬ ‫جعله هللا في قلبي‪.‬‬ ‫كن عاقالً و ال تدع ضعفك يسيطر عليك و يحولّك من مظلوم إلى ظالم‪ ...‬فرفقا ً بالقوارير إن كيدنا لعظيم‪ ...‬و‬ ‫ُّ‬ ‫صمت أو‬ ‫أعلمك أنّ قلبي ليس ميّتا ً إنما هو مؤشر صحيح عندما يشعر بما تفكر فيه أنت‪ ...‬و أنت وحدك‪ .‬و إن‬ ‫تم ّنعت عن إخبارك فلعلمي أنك كأي رجل سيتهرّب من اإلجابة و يدعي الفضل و األخالق و أن الصداقة هي‬ ‫األساس و أن مخيلّتي "الواسعة" توهمني بما هو غير حقيقي‪......‬‬ ‫إن كنت أخطأت فيما قلت‪ ...‬فقد أخطأت أنت التصرّف‪ ...‬فال تلمني و لم نفسك فأنت من قمت بالعزف الخاطئ‬ ‫لنوتة واضحة ضاقت بها ذرعا ً أعظم دور األوبرا‪ .‬أمّا أن تجعلني في موقف من ستنتحر ألجلك‪ ...‬فلست منهن‪.‬‬ ‫و لست ممن تجعلها لمسة ي ّد أو حاجة لحنان رجل بضّمة أو نظرة و ال حتى قبلة تتهاوى إلى أسفل السافلين‪...‬‬ ‫فقد أخذت على نفسي أن بعدي عنك غنيمة لي و‪ ...‬لك‪ .‬فال أنا قادرة على أن أتجنب ضعفي تجاهك و ال أن‬ ‫عبور‬ ‫أجعل من اسم عائلتي مهبطا ً لكل عابر سبيل يريد أن يعبر من درب ضياعه من أنثى أن يجعلني جسر‬ ‫ٍ‬ ‫لب ّر أمانه‪ ...‬هو‪ .‬ما أنا بعود ثقاب تنير به شمعتك لترميه بعدها‪.‬‬ ‫عاملني كما تحب أن تعامل أختك أو أمك‪ ...‬وضعتك بمكان كما أحبّ أن أعامل أنا‪ ,‬و كما أتمنى من أخويّ أن‬ ‫يعامال غيري من الفتيات‪ ...‬إال أن أنانيتك‪ ,‬غشاوة قلبك‪ ,‬كبر نفسك التي بين جنبيك ال يري ّنك أبعد من أنفك‪...‬‬

‫‪24‬‬


‫لست من أرادت صحبتك بل أنت من سعى إليها‪ ...‬لست من بدأ حواراً و كالما ً و وضع حدوداً كي أفهم طبعك‬ ‫و فرض علّي الممنوع و أعلمني بالمرغوب‪ ...‬أنت من بدأ هذا كلّه‪ ,‬حاولت إيقافك في الكثير من األمور‪ ...‬فإما‬ ‫أن تعاملني كرجل راشد حكيم و تخبرني بما تريده تماما فلن أهتم بمدى صراحتك أو وقاحتك سواء كان األمر‬ ‫جارحا ً أو مفرحا ً إال أّنّ كرهي للتمثيل الفاشل بشكل فاضح يدع لي القدرة في أن أخرج من قاعتك وقت أشاء إال‬ ‫أن الوقت سيكون قاصما ً لك ح ّد جلوسك على كرسّي مدولّب لن تخرج منه حتى يقضي ربك أمره منك‪ .‬ال‬ ‫تجعلني أبلغ من الصبر عجز ٍا و من البكاء يأسا ً و من الشوق لك عت ّيا ً فقد وهن الحبّ مني‪.‬‬ ‫جعلتك بمكان ما سمحت لغيرك فيه‪ ...‬بعد أن وجد ّتك متربعا ً على عرش شرايني و متملكا ً زمام األبهر في‬ ‫ض ّخه للدم داخل عروقي‪ ...‬لك ّني أعلمك أن باسطاعتي أن أدمّر ما بنيته أنت بيدك في كينونتي و أخرجك من‬ ‫مستعمرتك و ما همّني الخراب الذي سيخلّف بعدك‪ ...‬لست دميّة بين يديك تفرح بجديدها و تدعّي أن اهتمامك‬ ‫بها ليس لشيء ما سكن جوارحك و تتخلى عنها ألنك حصلت على أخرى ال تختلف معها سوى باأللوان‪.‬‬ ‫أتدري‪ ...‬يا من تعلم ما أفكر فيه و تحزر ما أريده مسبقا ً‪ ,‬أنك ما تفعل من حسنى معي فقط لكي تخرج مما‬ ‫يعتريك‪ ...‬ال لتسعدني‪ ...‬فأنت تكتب عليّ شقا ًء و أوزاراً لست بخارجة منها إال و أنا في قعر جه ّنم و ألني‬ ‫أخاف عليك من نفسك التي بين جنبيك و أحرص على ذاتي منك فإن بعدي عنك أهون الشرّين معا ً‪ ...‬فمهما‬ ‫بلغت قسوتي معك عليك أن تعلم أنها لصالحك قبل كل شيء فليس من الهوان علّي بمكان أن أتخلى عنك إنما‬ ‫أريدك رجالً ألنثى‪ ...‬إال أن هذه الحّواء لن تكون مرغوبة في مجتمعك و ال في قلبك فألم غيري يرهقك ح ّد‬ ‫التنكيل بي و مخافتك من ثرثرة من حولك يجعل رصاصك يرديني قبل أن يقبض روحي من نفخها فيّ ‪ ...‬فكفّ‬ ‫عن هراء غربيتك و عولمتك فما زلت الشرقيّ الذي يناقض ذاته أمام نفسه‪.‬‬

‫‪25‬‬


‫نَ ِك َرةَ‬ ‫كانت األغاني تصدح مباشرة داخل مجرى السمع من خالل سمّاعات األذن التي سمحت لصوت الريح أن تمّر‬ ‫من خاللهما لكأنه الهمس اإللهي يعبرني و يجعل كياني في الالمكان و يلغي حتى صوت الموسيقى الصادح‪...‬‬ ‫صرفت نظري عن ك ّل ما حولي إال عنها‪ ...‬تلك التي ملكت عل ّي تفكيري كلّه حتى بات كل ما حولي مجرّ د‬ ‫صفحات من كرتون تنعكس عليه أضواء السيّارات فيجعل منه شيء من الخيال الال متناهي‪ .‬ذهلت عن كل ما‬ ‫يحيط بي و تشبثت مقلّتي عليها وحدها فأحسست بخ ّفة وزني و أن النسمات تداعب وجهي و خصالت شعري‬ ‫بحنان و حبّ بالغ كنت أحتاجهما بشدّة‪.‬‬ ‫كان حديثها لي فقط فشغلتني عن غيرها‪ ,‬ملكت علّي شغاف قلبي كامالً‪ ...‬شعرت كم أنا مهمة و أن هناك من‬ ‫يهتم بي‪ ,‬يصغي إلي دون ملل أو كلل و يفهم لغة الصمت التي أصبحت عليها‪ ,‬تشعر بمدى األلم الذي يعتصر‬ ‫جوارحي و ما أنا محتاجة له‪ .‬ال تعيب علّي طريقة تعبيري عن األشياء‪ ,‬و تصحح لي مفهومي عن كل األشياء‪.‬‬ ‫ال أريد أن أصحو مما أنا فيه‪ ...‬تلك الحالة التي‪ ...‬ال أعرف كيف أسميها إنما هي غياب كامل عن الحاضر‪.‬‬ ‫تضيء أكثر من مثيالتها‪ ...‬كانت تريني الح ّل من خالل تش ّكلها الغريب‪ ,‬أردتها أن تأخذني معها و هي تسير‬ ‫نحو المجهول‪ ...‬بالنسبة لي إال أنها تعرف الطريق‪ ...‬وحدها فقط ترى أين الوجهة الواجب علّي أن أسلكها‪.‬‬ ‫جعلتني أشعر بذاتي‪ ...‬أرى دفيئة نفسي بشكل واضح لم أعرفه قبالً‪ ...‬لم أكن أعلم أن المناطق المجهولة داخلي‬ ‫أو التي كنت أخاف أن أراها هي مج ّرد ال شيء‪ ...‬عبارة فقط عن الهبوط من على الرصيف أو الصعود إليه!‬ ‫جعلتني أبكي فمنذ زمن طويل قد ج ّفت عيوني‪.‬‬ ‫لم أع ّد أشعر بالزمن‪ ...‬توقف إحساسي بالوقت‪ ...‬أنستني ما كنت أخافه‪ ,‬اعطتني الطريق التي علّي السير فيها‪,‬‬ ‫أرتني المجهول فيها حتى ألفتها و ألفتني‪ ...‬إن غابت ع ّني في ليلة ارتعد و أقول لنفسي‪ :‬هل أزعجتها في شيء؟‬ ‫أغاضبة م ّني يا صديقتي الوفيّة؟ كم احتملت بكائي و شكواي‪ .‬كنت أعرف من تراقصها كم هي فرحة لفرحي‪...‬‬ ‫أي ربّ ‪ ,‬سبحانك على ما خلقت و سويت من جمالها و أبدعت فيها‪.‬‬ ‫كانت موجودة في أحلك األوقات بجانبي و إن غاب الدرّي عن البساط المخملّي‪ ...‬يكفي ان تط ّل وحدها حتى‬ ‫ترصّعه بألألتها فيمسى أغلى من الديباج و الحرير‪ ,‬نجمة السماء‪ ...‬صديقتي الوحيدة‪ ...‬شكراً لك فأنت الوحيدة‬ ‫التي ال تحسبيني (نكرة) بل ترين فيّ أنثى‪.‬‬

‫‪26‬‬


‫الفهرس‬ ‫‪ -5‬بلدي‪.‬‬ ‫‪ -8‬بومٌ حكيم‪.‬‬ ‫‪ -11‬توقف عن النبض‪ ...‬أرجوك‪.‬‬ ‫‪ -11‬جوريّةٌ و سيف‪.‬‬ ‫‪ -11‬حظٌّجديد!‬ ‫‪ -11‬ذبح‪.‬‬ ‫‪ -11‬مرآة‪.‬‬ ‫عش اللحظةَ!‬ ‫‪-11‬‬ ‫ْ‬ ‫‪ -12‬نَ ِك َرة‪.‬‬

‫‪27‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.