لينا الشاالتي
من حنن و أخريات
جمموعة قصصية دمشق 1122
1
2
اإلهداء
ملن مل يسمح لعصرنا من جرفه مع تيار الال إنسانية
ّ ّ إىل ليلك أحب من ادعى عشقه و ارتد عنه خوفا و هربا من احلب ّ
نفسه.
لينا الشاالتي 3
احلب ال يعطي إال ذاته
وال يأخذ إال من ذاته ُ ً َ وهو ال يم ِلك وال يملك ّ
فحسبه أنه احلب.
جربان خليل جربا
4
وجه آخر للحياة عندما تتوقف الصياغة للكلمة عند الورق فقط ..و نشعر بوقع الحياة ذات الطعم المختلف ..ليس الحلو منها وال العلقم حتى ..مذاق ليس في األحالم فقط ,ليست األحداث جديدة العهد بنا ..إنما وقع الموقف نفسه هو المتغير ..عندما تدخل هناك لتجدها بصغر حجمها و نحولها تجلس أمام نافذة مليئة بحبات المطر المنهمر كأنه من شالل عيونها ذات اللّون األزرق القاني الشبيه بالبحر في أوج هدوءه و صفاءه ..كانتا تتابعان تكسّر حبات المطر ذاتها ..كيف تتحول ألجزاء متناثرة كالبلّور المه ّ شم .تبتسم بصفاء يجعل سريان الد ّم في األوردة والشرايين يغ ّني وحده ليصبّ أخيرا في وعاء القلب فيبتهج و يطرب لمجرد الجلوس جانبها ..كانت أوراقها تخبر أنها يتيمة األب و األم ..أختها متزوجة خارج البالد ..أخوها متزوج وال يستطيع تحمّل نفقتها ..كانت قد ردّت من منزل حاول تربيتها فعجزوا التواصل معها بكل األشكال و الطرق. عادتها هنا_في الميتم_أن تجلس مع أحالمها التي كنت أتمنى الدخول فيها فأعرف كيف تهجس بها و ما ينعكس على مخليتها مما تراه و يتدفق فيها.
5
بسنواتها التسع التي أتمتها منذ شهرين كان جمالها أخاذا لمن ينظر إليها .ليست بلهاء أبدا ..بل هي ذك ّية إلى حّد ال يوصف .رفعت إصبعها للسماء مشيرة لشيء ما ,عندما نظرت رأيت حمامة تطير وسط التلّبد الرمادي ..أخبرتها أنها حمامة تعود ألوالدها و بيتها كي تكون معهم ..رفعت بصرها و تمتمت بشفتين ورديتين كلون خديّها ..و تناثر شعرها األشقر الطويل حولها ..رفعت دميّة صغيرة متهرئة ترفض بأي حال كان أن تتنازل عنها أبدا في حلّها و ترحالها ..ضحكت بصمت و ضمّت إليها الدمية ..سألتها من أين لك اللعبة يا (جمان) ..نطقت دون وقع للكلمة (بابا) ..كأنما شبهّت على الحمامة أبوها الذي ما ضنّ عليها يوما في حياته حبا... ّ يخط كبرى النقوش ألعظم شغفي لها كوقع قلم الرصاص على ورق الرسم عندما رسّامي الدنيا ...هي تلك الدقّة المتناهية التحبير لذاك اإلبداع اإللهي ليغدو في عرضه األخير ...هي زخرفة محفورة على جدران األموي يبهرك بصمته ليدخل عقلك في متاهات الذهول لعظمة تأثيره على بصيرتك قبل بصرك( ...جمان) ذاك السحر السرمدي الذي تسكر منه دون تذوقه حتى ...تلك حالي بعد دخول (جمان) إليها. كنت قد حرمت األوالد و زوجي بسبب ال يعلمه سوى هللا رغم جهدنا خالل زواج دام أكثر من اثنا عشرة سنة ,ال طائل من الطب وال األدوية أو العقاقير ..توجهنا
6
نحو التبني ..زرت مبان كثيرة للصبية و الفتيات ..لكن (جمان) أسرت اللّب لمجرد النظر إليها ..مجرد الجلوس معها متعة ما بعدها في الحياة ..نظرت لزوجي بعد مرات ع ّدة عدنا فيها للميتم لرؤيتها و تناقشنا بالكثير فيما بيننا و بعد أن أك ّد أخوها للميتم أنه لن يطالب بها أبدا و ما فيه خيرها فهو سعيد به ,لذلك وخالل أشهر جهزت أوراق التبني و كنت اشتعل نارا حتى صارت بيننا ..أخيرا ...دخلت المنزل ألول مرّة بثياب ّ رثة قلّما تقي البرد أو القيظ ..قدمين متسختين فيهما صندل مخاط عدة مرات ..شعر أشعث .أدخلها زوجي معه البيت ..عندما رأتني ابتسمت باستحياء ..رفعت يديّ أستقبلها أريد أن أحملها ..اتجهت نحوي ببطء و خجل فضمت رقبتي بيديها الصغيرتين النحيلتين تماما ..انهمرت دموعي غصبا و إذ بها ترمقني باستغراب و تمسح بأصابعها الصغيرة ما ينهمر من فرحي بها ..أمسكت يديها داخل يدي و أرشدتها غرفتها ..عندما نظرت إليها تألّق بريق عينيها الزرقاوتين و نظرت إلّي كأنما تطلب توثيقا أنها غرفتها ..ابتسمت و أخبرتها أنها لها وحدها ..كنت قد جهزتها كما تحبها هي و باأللوان التي اختارتها عندما كنت ّ مشطت شعرها أزورها هناك .حممّتها و ألبستها بيجامة جديدة بلون الرمّان.. األشقر المنسدل بحنان أ ّم حرمت الطفل فترة طويلة ..جلست (جمان) معنا تلتهم
7
الطعام بنهم ي ّنم عن مدى الجوع الذي كانت تعاني منه لسنوات ما علم بها سوى الخالق ..و نحن بعد أكثر من ست عشرة سنة. أن تشعر بها أو تعرفها ..ما عليك سوى انتظار هطول المطر بغزارة في يوم شتوي بارد لتسير دون مظلّة تحت ز ّخاته المتسارعة فتشعر بها حولك تدفئ حياتك المثلجة بعد سبات دام سنوات ...شعورك بالقطرة تلتطم بوجهك بسكون ...هو معنى وجود (جمان). عملت جاهدة تعليمها الكتابة في البيت ..تفرّغت لها فقط و ذاك بعد أن تشاورت و زوجي عن إيقاف عملي ألجلها ..ما اعترض أبدا كون حالنا ميسورة جدا.. فزوجي فرح بها أكثر مني ..حتى أنه كان يقرأ لها قصصا مصورة قبل النوم فتمسك بيده و تنام .دخلت مرّة غرفتها ..إذ به يبكي و هو يعانقها ..اقتربت بلطف منه و مسحت دموعه ..أخبرني كم الحياة حلوة بوجودها ..قد أسدلت على قلبه كل حنان الكون الذي فقده وما شعر به سابقا ...علم معنى الح ّنو بعد أسى طويل ...و أن البيوت قبور مهجورة دون أرواح أطفال يذهبون و يجيئون فيها ...وجودها ليّن عريكته حدا كبيرا ,نعم ...ابنتنا (جمان) أرشدتنا و أذاقتنا لطعم الحياة. بعد حلول سنة و نصف من أجمل لحظات الحياة التي تلوّ نت لنا بعد أن كانت باألبيض و األسود ...قررنا إدخال (جمان) المدرسة ..واجهتنا صعوبات كثيرة إال
8
أنه و بعد ألي قبلت المدرسة بها بعد اختبار كتابي شديد اجتازته تحت تأثير دهشتنا جميعا ..بسالسة و صبر. في يوم خريفي لطيف ...كانت عائدة من المدرسة و كنت أعمل بالمونتاج على حاسوبي الشخصّي و إذ بها تجلس جانبي و تراني كيف أعمل على الحاسب.. طلبت م ّني أن أخبرها ما أفعل ..ثم طلبت أن أعلمّها العمل على الحاسب ..بلغت ذاك الوقت من العمر الحادية عشر ..و حصل ما أرادت .أح ّبت التعلّم ..لكنها لم تتخلى عن حبها في أن تسرح أمام النافذة أبدا ..خصوصا في األيام الممطرة ,حتى عندما نذهب البحر ..تجلس على الشاطئ تتمّعن في الموج الذي يأتي و يذهب.. فهي تشعر به حياتها التي لم تكن ترتاح من الترحال قبال ..و أن زبد البحر كأهلها الذين لم يسألوا عنها قط و تأمل عن خبر منهم .ما فارقت دميتها قط بل و اكتسبت باإلضافة لها ورقا و قلما ..وهما وسيلة التواصل الوحيدة بينها و بين العالم الذين لم يتعلّموا لغتها قط ..لغة اإلشارات! ال تعجب ف (جمان) فتاة صمّاء ..بكماء ..إنما مجرد أن تكتب كلمة (بابا) و (ماما) لنا على الورق نشعر بهول حبها لنا ..كم نحتاجها لنستمر و زوجي بحب الحياة الم ّ شعة بعد أن لفّ ضباب انكلترا حياتنا لوقت طويل جدا ..جدا(..جمان) هي جزء من ح ّريتي و عهودي المكتوبة..هي حبات النور التي أضاءت سماءنا.
9
أحبّت (جمان) الحروف ..الجمل المتراصّة ذات المعنى ..أحبّت الكلمة رغم عدم قدرة حبالها الصوتية النطق بها ..حاولنا معالجتها ..لكن مصابها مذ كانت في ظلمات ثالث و قبل أن تبصر عيناها نور الحياة األول .الزلت أذكر دخولنا لعيادة طبيب مخ ّتص بأمراض السمع ,عندها كان معنا في غرفة االنتظار شاب لم يتجاوز الثالثين من عمره ..يضع نظارة سوداء حالكة ..جميل المحّيى ..يرتدي سرواال بنيا و قميصا أزرقا ..يحمل عكازا حديديا ..ثم ت ّنبهت لسمّاعة األذن الطبّية في األذن اليسرى ..كان يصيخ السمع لما حوله و ابتسامة ال تفارق وجهه أبدا.. لطيف ..هادئ ..عرفت من ابتسامته أنه يقول" :ال تشفقوا عليّ ..ال أريد نظرة رثاء لحالي ..فأنا بالرغم من فقد حبيب ّتي ..عوّ ضني هللا بأن أبصر نور الحياة و أستمتع به عبر استنشاق الهواء حولي .و رغم قلّة سمعي ..أنطق أحرف الحكمة أكثر من غيري ..و الصمت دليل الحكمة يا بشر الدنيا ..ليس الجمال أن نسمع و نرى ..بل أن نلمس و نست ّ شف و نشعر بمن هم حولنا و ما حولنا ...حتى الجماد له حروفه الخاصة به يا من فق ّدتم البصيرة و تعيشون على البصر .بالبصيرة تستطيع أن تشعر بدنياك كملمس جورّية مخمل ّية ,قرم ّزية اللون تستمتع بشذاها لتشعر بنفسك في صباح خريفي على شرفة دمش ّقية عتيقة تحتسي فيه فنجان قهوة الصباح .إن لي روح يا من ماتت أرواحكم منذ زمن بعيد" ...راودني ذاك
11
اإلحساس و تلك األفكار سكنتني ...لكأنه يريد ح ّقا أن يوصل رسائله عبر الهواء الذي نستنشقه بذات غرفة االنتظار .استيقظت مما أنا فيه على وقع كلمات أخيه الذي خرج من عند الطبيب ليمسك بيده معلنا بذلك انتهاء المعاينة. تأملت (جمان) ..ترى ...كيف ترى العالم من حولها؟ ال يهمني كيف يراها هو.. بل ما تعنيه لها نسمة عليلة دون أن تسمع صفيرها! كيف يمكن لصوتها أن يكون جذابا عند نطق األحرف و الكلمات! عندما ترى العصافير..كيف تتخيل أصواتها و ما يعزف داخلها؟ أعرف أن لها عالمها الخاص الذي تتخيل أصواته و كلماته و ترسم سيمفونياته بطريقتها الفريدة كما كان موزارت يؤلف نوتات لتراتيل أدهشت العالم حتى يومنا هذا. يوم خريفي جميل ...كنت قد لمحتها تدمع قرب النافذة دون بكاء يسمع ..لعبتها في حضنها ..قلم يقصّ ألمها على ورق قد تبلل من بحر عينيها ..تركتها دون أن أقترب منها خوفا من أن أن ّفرها ,بعد أ ّقل من ساعتين ..دخلت غرفتها وكانت نائمة دون أن تغطي نفسها ..تعانق دميتها كمن تخاف على كنز ثمين من الياقوت و المرجان أن يسرق من بحرها الل ّجي العميق الذي لم يسبر أحد حتى نحن أغواره أبدا ,نظرت قرب الشرفة التي انعكست أشعة الشمس البرتقالية عليه ..فإذا بورقها
11
مسند عليه قلمها فلم أستطع منع نفسي من القراءة ..ففضول األ ّم أكبر من جبال األنديز العالية. ما كتب فوق الورق هو أصل حياتها و ما تتذكره عن أهلها و ماض سنوات طفولتها ..كانت مغرمة بأبيها الذي أعطاها ذات مساء اللعبة الصغيرة وهي ذات األعوام الست ,وقتها كان عائدا للبيت في يوم مثلج وهو ذات اليوم الذي تو ّفي فيه من أثر الحّمى ألنه ما وجد ما ير ّد البرد عنه بحاله الفقيرة .أما أختها التي ساعدتها على تعلم بعض األحرف و كانت تعمل خادمة لدى البيوت لتكسب ما ت ّسد رمق العائلة به حتى مجيء رجل كبير في السن من بالد بعيدة خطبها و أخذها بعيدا معه و ما عاد أحد يسمع عنها أبدا ..مازالت تشتاقها و تتمنى آن تراها هذا إن ما زالت األخت على قيد الحياة؟ أما شقيقها الذي تزوج من بنت ح ّيهم التي أحبّها فقد رفضت أن تحمل هّم أخته صاحبة العاهة و التي لم تحمل عناء مسايرتها أو الحنوّ عليها و أذعن هو لهذا األمر فأودعها الميتم بعد أن فقدت أمّه عقلها. بالنسبة للألم و بحسب ما وصفتها ابنتها :كانت قاسية متجرئة ..لم تكتفي بضربها و نعرها وقد خلعت كتفها مرة ج ّراء شدّها من أمام النافذة تنتظر أبيها علّه يجلسها في حضنه و يداعبها ثم يضعها في السرير على األرض لتنام.
12
ترى ...أكانت تعتقد أن أمها تمازحها و تضحك لها؟ أم علمت معنى الرعب و الخوف لمجرد النظر إليها؟ ثم كتبت كيف إلتقيتها بعد سنتين في الميتم. سمع زوجي بكائي ..سحب الورق من بين يديّ ليقرأ ما جعلني أجهش بالبكاء... عندما قرأ ذلك و تحققنا منه أصرّيت على أن أعلمّها خير تعليم و أدعو أن أزوجها لمن يحبّها و يقدّرها. بعد كل تلك السنوات ما زالت حتى اليوم ال تفارقها لعبتها المهترئة ..و الزلت حتى اليوم أحترم رغبتها تلك .ال يستطيع أحد حرماننا من أجمل ماض لنا عبر أشخاص أهدونا قلوبهم ..خصوصا أن وجودها أزاح جبال الجليد عن سنين كئيبة طويلة. ( ال تقسو على نفسك فتقسو الدنيا عليك ..ابتسامة منك تجعل الشمس تدفئ قلبك مهما علت همومه .أحب الناس كما تحب نفسك ..فستجد أن الن ّعمة قد غلبت عليك النقمة .لن تجد الحب إن لم تفتح قلبك ليجدك هو بعد اعتقادك أن الموت الرحيم في مقابل ظلم البشر).
26-12-2009
13
أسبوعان فقط لم أنم منذ أسبوعين ..يريدون الرد اليوم ..ما الذي ينتظره حقا ..أخبرته بكل ما لديّ ..رأيت كيف بدى وقتها ...لكن ال رد ..كاد لؤلؤ العين أن تنفلت حباله مني فأمسكت بزمام نفسي ..ساعات فقط و تنتهي جميع أوجاع الروح ..تذكرت ما حصل قبل أسبوعين و كيف أخرجت مكنونات تلك الصدفة بعد كل تلك السنوات داخل البحر اللّجي دون خوف أو وجل ..بكل هدوء و تؤده ..توقعت منه أحد أمرين إما أنه سيعترف بكل ما لديه ..ثانيا -العدول و الخوف كأن األرض ما كانت قبال! أهذا ما يحدث فعال اآلن!! أحس بنفسي على األرجوحة كطفلة صغيرة ال تريد أن توقفها لتنزل أبدا ..لكن ال بد من انتهاء الوقت أخيرا لتعود للبيت عندما تبدأ الشمس بالغياب ...فاالحتماالت في حاالت النزع مرفوضة في السنن الكونية. أحد أيام الشتاء و المطر ينهمر خارجا..كان ينظر من نافذة مكتبه ..و إذ بهما تطلبان الحديث معه على عجل و بخوف كبير ألمر جد هام. سيلفا :نرجوك اتصل بها ..كلّمها للعدول عن تهورّها. مارال :ستقبل بالزواج من شخص ال تعرفه ..ال تريده و للمرة الثانية ..نرجوك كلّمها.
14
سيلفا :إنها تتصرف دون وعيّ ..تتحدث بترهات ال نفقه منها شيئا ..أزعجها الكالم المثار حولكما هذه المرة حتى باتت تبتعد ع ّنا بشكل ظاهر. نظر بذهول :ما الذي تتحدثان عنه؟ بدأ يشعر بالتوتر ..علم عمن تتحدثان فأوجس الخيفة حقا ..احتقنت وجنتاه لتدال على نار اشتعلت فجأة داخله ال تخمدها مائة سيارة إطفاء ..بدأ العرق يتصبب ناحية الجبهة سببه بدء ارتفاع الضغط ..أحقا ما يسمع؟ ستذهب بعيدا عن ناظريه؟ هو في أواسط العقد الرابع ..قد صبغ اللون الرمادي أجزاء صغيرة من خصالت شعره األسود ..لونت الشمس بياض وجهه و يديه لما فوق المرفقين ..عيناه عسليتان تشوبهما خضرة خفيفة ..مهندس من عائلة برجوازية ..يقطن بأحد األحياء الراقية ..جميل المحيىّ ..ذو ذوق جيد في انتقاء ثيابه و أحذيته ..طويل القامة بطول محبب ..انفصل و زوجته مذ أكثر من عشر سنوات ليشرف على والديه الطاعنين بالسن ..لم يتزوج بعد ذلك خوفا من تكرار الفشل رغم وجود الصديقات حوله ...لكن دون محاولته التفكير بذاك القرار ..ما جعله من األشخاص المغرمين بإثبات وجودهم ..يحب الظهور فيتفوه بترهات تجعل من حوله ينزعجون ..معجباته تفقن ال ّحد ..مدحه لنفسه أنه صادق و يتصرف بطبيعته كبير و كثير ..يدّعي ّرد الواجب و الوفاء بالوعود لكن عبثا تجده ..حتى جعلني أتربص
15
التنكيل به بسبب سخافات كثيرة ما جعلني أكرهه بأغلب األحيان ..أثار ثائرتي أكثر بعدم ردّه على رسائل معايدة أو اتصال ضروري بسبب العمل ..تمنيت اليوم بالذات قبل إعطاء الرد أن يرسل هللا عليه حجارة من سج ّيل بسبب ما أصابني منه. بالنسبة لي ..الكثير مما مررت به جعلني أصّر على أن أكمل من حيث بدأت.. عدت لعملي بإصرار أكبر مما عرف عني ..كبريائي جعل من يراني يتمنى التودد مني ..عبثا حاولوا ..أي مطب من مط ّبات الحياة لن و لم يوقفني قبال وال مستقبال.. لست ممن يتوقفن ليذرفن الدموع على قارعة الطريق ثم أكتب عن المنطق ..لم أتقبل فكرة دخول أي رجل حياتي بعد األلم الذي تعرضت له سابقا. مضت سنتان ..هاهي الثالثة ..ما زلت أذكر أول مرة التقت عينانا بمعنى متبادل.. أحسست برعشة ..خفقان قلب لم أذقهما منذ زمن ..مذ نظر إليّ أول مرّة ...جعل النوم يعافني مدة أسبوع كامل و أنا أحاول معرفة مصابي منه ,من هو؟ كيف تجرأ على الوقوف بتلك الطريقة و التب ّحر بعيني دون وجل ممن كانوا معنا؟ ذاك جعلني أتجنب النظر إليه طوال الوقت بعد غياب عنه لمدة خمسة عشر يوم كاملة ..أبعدت أي فكرة عنه بشكل قاطع ..حاولت جاهدة ..لكن في فترة الحقة لم أعد أستطيع إبعاده ...حتى بات معي في حلّي و ترحالي ..كم تمنيت أن أستيقظ ليال على رنين الهاتف يطلبني ليتحدث معي بأي أمر كان _هو حب القرن العشرين_ لكن عبثا..
16
كم وددت أن أضبط ياقة سترته بيدّي ..أن أبقى متأملة وجهه و ذقنه المشوّ بة باللون الفض ّي الرائع .كان يخفق قلبي معظم األحيان كبحارة مركب لم يرى وطنه منذ دهور غابرة ..هل تعلم كيف يشعر عندما يرى مرفأ شاطئه؟ روحه ترفعه عن ظهر مركبه لتطير به يلقى أهله ..أصدقائه ..من تركها تنتظره ..آمال منها استمرار عهدهما المقدّس ..لم أدع ذلك ظاهرا عليّ قدر اإلمكان ..إلى أن جاء يوم سألتني فيه سيلفا و المار عند خروجنا مباشرة من اجتماعنا معه. سيلفا :ألم تلحظيه كيف كان ينظر إليك كأنك الوحيدة داخل القاعة! كانت تقولها بخبث جميل ..أعلم بأننا نستلطف بعضنا ..لم أسمح ألبعد من ذلك. أجبت :من ؟ المار :فيرسن... أجبت :أبلهاء تتحدث أم أنكما أصبتما بالعته ..ما الذي تتحدثان عنه! سيلفا :لم يبق أحد من الحاضرين إال تهامس عن كيفية نظراته لك أو بتوقفه أمامك مطوال. أجبت :يستحيل على برجوازي متبجح ..قليل ذوق مثله أن يفكر في موظفة تعمل في قسمه ..و إن حدث! سيطلب يدها مباشرة دون أن يجعل نفسه حديث الشائعات. سيلفا :ماذا لو أراد هو هذا الدخان من تلك النار التي سبب اشتعالها يديه؟
17
أجبت :فلتحرقه وحده إذا فلن أثير حديثا فيه كلمة واحدة ..ال تنسيا أني من طبقة اجتماعية مرموقة و مركز أبي ال يسمح لي أن أقع بخطأ كهذه أبدا. المار :ليست المرة األولى ..متأكدة... قطعت الحديث عليهما :ليس هذا مجاال للنقاش ..لن أدخل دوامة الخيال ..لم آت هنا ألحب أو أبحث عن زوج ثري تافه ..بل ألعمل فأتعلم. أنهيت النقاش أقلّه على الجبهة الداخلية عندي ..لكن لم تكن لتنتهي عند فيرسن أو ممن حولي ,فقد تناهى لمسمعي أقاويل تافهة ..صاعقتها األخيرة أننا متزوجان سرا ..خصوصا من يحاولن رميه بشباكهن ولم يعرهنّ انتباهه ..يظن نفسه الدون جوان الوحيد هنا ..كنت بالالمباالة الكافية ألنظر لهكذا أمر غير متاح لديّ في الوقت الحاضر أبدا ..والدتي و أصدقائي حاولوا جاهدين تزويجي دون جدوى. كنت أجد أنني إذا تحدثت معه إلسكات تلك المهاترات هو إذعان مني أنني أضمر له شيئا ..هو شيء ضد مبادئي. سأكون صريحة أكثر ...فقد كنت مميزة عنده فعال ..رغم استماتتي كي ال أقع فريسة قلبي ..ففي الرابع عشر من شباط اتصل بي! ذهلت قبل أن أستطيع الرد.. كانت الحجة غير مقنعة أصال ..جعلني أدخل دوامة المشاعر الال متناهية ..شيئا فشيئا جعل مسيره في قلبي ..فكان الصمت الصارخ منه والكبرياء المدلل مني..
18
كأننا في لعبة الغميّضة أو لعبة العضّ على األصابع ,فمن يتح ّمل األلم أكثر و الصبر سيكون الرابح في الجولة ..كل ّمنا ينتظر اآلخر ليقول أو يأتي بأقل تصرف يدّل على ما بداخل اآلخر. كثيرة هي األيام التي تساءلت فيها :ثم ماذا؟ كيف سننتهي؟ هل يأتي يوم يعلن زواجه كأن شيئا لم يكن؟ أهي سنيّ الجهل؟ أم سيأتيني اتصال منه بأحد الليالي ليفيض الفرات أخيرا على كل تلك األراضي القاحلة ليغنيها بعد جفافها و تشقق أرضها القاحلة؟ تعلمون كيف أحالم المراهقات الوردية وأملهّن أن من يردّنه سيتقدم ليحمل ّهن بين يديه لتكنّ ملكات القلب دون منازع ...كنت أستخفّ بهنّ ...و ها أنا اآلن واحدة منهنّ . تقدم لي الكثيرون ..كنت أجد الحجج الواهية هريا و خوفا في الحقيقة من تكرار فشل جديد ..عدم معرفتي بالشخص تخيفني جدا ..كيف أسمح ألحد من أن يمسك يدي أو يتعدى خطوطي الحمراء! بالنسبة لي ,كان هو سبب سقوطي في هوّ ة ال قرار فيها. أيقنت أخيرا بعد معرفتي به أن من أعرفه وال أعرفه سواء ..إن كان الحجر لن ينطق فلن أتوقف أكثر ..أخبرت سيلفا و مارال لتفرحا بي أو باألحرى ...كي
19
تواسيانني ..لكنهما حاولتا ث ّنيي عن قراري بشتى الطرق ..دون جدوى ..ما ّ يهتز جعلهما يلجأن إلخباره دون علمي لخوفهما من غضبي ..ع ّل جبل طارق أن و ينشأ جيشا يح ّرر اسبانيا و يعيد أمجادها من جديد. فيرسن :أين هي اآلن؟ مارال :تستعد للعودة للمنزل ..نرجوك اتصل بها اآلن ..حاول تصحيح حمقها. حاول أن ال يظهر قلقة ..بركانه كان مستعدا لينفجر و يبيد األرض عن بكرة أبيها ..تظاهر ببعض البرود لتهدئتهما. فيرسن :تلك خياراتها لكني سأحاول نصحها بالتأكيد ..هو ّنا عليكما اآلن. مضت خمس دقائق بعد خروجهما تزيد أو تنقص لم يحرك فيها ساكنا من هول المفاجئة ..رأيت رقمه يومض على شاشة هاتفي المحمول ..كنت على الطريق العام أ ّهم آلخذ سيارة أجرة. أجبت :آلو. فيرسن :كيف الحال! مستغربة :حمدا هلل ! ..أهناك مشكلة ما ..قد خرجت توا من المكتب... مقاطعا :أريد محادثتك اآلن. أجبت :إذا علّي العودة للمكتب أم...
21
مقاطعا :سأنزل مباشرة ابقي حيث أنت. أقفل الخط دون أي زيادة أو نقصان ..بقيت شاردة ذاهلة حتى وصوله. فيرسن :سيارتي من هنا ..تفضلي بالركوب. كالمصعوقة أجبت :أبدا ..فذاك ما كان ينقص ترهات من يريدون لغط الحديث.. سنركب بالحافلة. مشمئزا :ماذا! أجبت :إذا تفضل بالحديث هنا. صمت برهة ثم قال :كما تريدين اركبي الحافلة. أوقف حافلة ليست توصلنا ألي مكان قريب من بيتي ..حتى هو لم يكن يعلم أين وجهتها ..اعترتني رعشة كبيرة تسلل الخوف و الرعب نفسي ..كمن رمى نفسه من أعلى برج للعالم وال يعلم كيف أو متى سيصل األرض ليشعر بقوة االرتطام.. ما سيحدث بجسده؟ كان حديثه عصبيا جدا ..للمرة األولى أرتعد منه كطفلة صغيرة تخاف العتمة ليال في غرفتها من ظهور شبح النوم ..حاولت أن أنير الضوء الصغير جانب السرير علّه يواسي الموقف ويخفف من حدّته ,بعد مضيّ أكثر من عشرين دقيقة ال يتحدث فيها أحدنا مع اآلخر. توليب :حسنا يمكنك أن تتكلم اآلن إن كان ذاك يريحك.
21
فيرسن :حتى نجد مقهى ننزل فيه. نظرت إليه بتمعّن و كنت أعرف أين يودي ذاك الطريق توليب :لن تجد هنا على طول ساعة من الزمن أي مقهى تستطيع الجلوس فيه. نظر إلّي كأن إشارات المرور تعطلت جميعها فتخابطت السيارات بشدة و عنف.. أحسست إعصارا هائال سيطيح بكل الحافلة. ندهت بصوت عال :سننزل هنا أرجوك. نظر إلّي متفاجئ على تلك المباغتة. جاءه صوتي مبتعدا :ستبقى هنا أم ماذا؟ رآني من النافذة أنتظره و السائق ينتظر سرعة قراره ..إذا به ينزل يتوقف جانبي ..كنت أنتظر أن تنطق شجرة الزيتون الفلسطينية ..لكن ليس اآلن ونحن على مفترق زلق كما طريق ظهر البيدر عند تساقط الثلوج ..كان الطريق يخلوا من كل حياة بشرية عدا بعض البيوت ,و حتى نصل أقرب موقف حافلة يحتاج ألكثر من ربع ساعة. فيرسن :أين نحن اآلن؟ أجبت :طريق سيدي بوحامد.
22
نظر مذعورا فبا ّغته :سنبدأ بالمسير حتى تهدأ أعصابك علّك تخبرني سبب حنقك المفاجئ. فيرسن :ستتزوجين حقا من شخص ال ترغبينه ..و ال تعلمين له أي جانب أيضا؟ ران صمت ثقيل بيننا لكأن ّ الطامة حلّت بكامل ثقلها علينا ..لم أدري كم بقينا ننظر لبعضنا البعض دون أن يقطع علينا أحد ما نحن فيه ..قرب المسافة بيننا ي ّنم عن شخص قد فاض به األمر ..أيطوقني بذراعيه مانعا إيّاي من اإلقدام على أي حمق أو جنون يودي بحياة أي واحد م ّنا. أجبت :أخبرتاك ..ها ...لم تستطيعا معي صبرا .....لكن ,ما ه ّمك بي؟ فيرسن :قلت أنك لن تقبلي أن يلمسك شخص ال تعرفين... توليب :ستمشي أم ستبقى كما سور الصين في مكانه؟ وقبل أن أشعر بهول المفاجأة أمسك مرفقي بيده الضخمة مكررا سؤاله ..رائحة نفسه زكيّة وصلت ألنفي ..أحسست بقلبي كأنه زلزال ياباني عنيف ..صوته الهادر كقنبلة هيروشيما التي ستحرق جميع السفن قاطبة إل ّي مهما كانت ..سيقولها صحيح؟ كنت أنظر إليه رغم هول الموقف و ألم يدي ..إال أني انتظرت شفاهه لتتحرك بها ..كمن تنتظر حلول المساء لترى قبّة السماء الجميلة ترص ّعها ماسات
23
تقطف منها ما تحب أي أنثى ارتداءه ..عشقت صوت موج البحر الهائج كما حديثه اآلن. أجبته بهدوء و مكر حواء :من أعرفه وال أعرفه في بيدق واحد ..هذا ما أثب ّته لي أنت ...فما عاد الفرق يه ّمني. رأيت الدم يختنق داخل وجنتيه لكأن صاعقة من السماء ادلهمت عليه ..بقي يحدّق بي دون أن ينفلت حرف واحد من حنجرته التي بان أنه استصعب بلع ريقه خاللها ..بدأ المطر بالهطول غزيرا ..بدأنا نب ّتل دون أن يهدئ ذلك من الثورة الفرنسية داخله ..سمعت دقات قلبه ..صدقوني! ..رغم قسوة يده كانت حنونة.. رقيقة ...نسبة لرجل مثله و في موقفه. غسلت حبّات المطر آثار الج ّل عن شعره _ كنت أكره جل الشعر للرجل بشكل عام_ وبدأ الشيب بالظهور أكثر ..ألول مرة أعشق بكل ذاك الحمق المتناهي.. أراه وسيما أكثر من أي مرة رأيته فيها ..أو يشعر بي اآلن؟ توليب :إلى متى أنتظرك؟ ألم تسأل نفسك أبدا كيف احتملت كل تلك التفاهات بين الزمالء المعتوهين؟ ألم تشعر بنفسك كيف تكون حواسك حين نكون معا في ذات المكان؟ كيف تتصرف إن وجدت أحدا قربي تتغير مالمح وجهك فجأة ..إن جاءني اتصال تستميت لتعرف رجل كان أم امرأة و في أي شأن كانت المكالمة! ..ها نحن
24
على مفترق طرق اآلن أحدهما يوصلني ألكون بين ذراعي رجل ال أعرفه غيرك ..و اآلخر يصل فيما بيننا ,حمدا هلل فلوال هذا ما كنت لتحرّ ك ساكنا حتى اآلن .ما كنت تنتظر باهلل عليك؟ حاول المقاطعة بعد أن أرخى يدي من قبضته شاعرا بنفسه على ما يفعل. استطردت :استمعت لكل حماقاتك ..أمجادك ..كلماتك دون أن أقاطعك ..قبلت سخيف أعذارك ..ألن قاطعت حديثي اآلن سأوريك ظهري و على الدنيا السالم. نظر إلي غير مصدّقا ..إني من تمسك خيوط النول فتكمل حياكة السجادة اآلن.. عقله و قلبه لم يحتمال رؤيتي أغيب عنه دون رجعة أبدا ..أهو تعوّ د و تسير حياته كما كانت ساعة رحيلي بعيدا عن ناظريه؟ أم أحبني كما يحب الحجاج الطواف بالبيت العتيق ,أم كعشق (أكبر) ملك الهند لملكته تاج م ّحل فأقام ألجلها صرحا يعّد من عجائب الدنيا السبع. توليب :تعلّم يقينا كيف أشعر تجاهك فال تخبرني أنك كنت تخاف من أن أص ّد طلبك ..جلّي كيف تلمع عيناك لدى رؤيتي في ردهات العمل ..كنت تنتفض لؤما إن لم أرحب بك أو أنتبه لوجودك ..كنت أتقص ّدها فعال ع ّل الماء أن تنبع من بين الصخور بعد شتاء طويل فتروي األرض بعد طول جدب ..حتى كنت تدعو هللا أن
25
أقف بجانبك لتمسك بي أبدا كي ال أغيب عن ناظريّك ثانية واحدة ...علوّ صوتك عندما أم ّر جانب مكتبك معلنا بذاك كل اآلهات المكبوتة لديك ,ماذا كنت لتسمّه؟ اقتربت منه بتؤدة ..سحبت نظارة الشمس بعيدا عن عينيه ..كنت أعشقهما رغم عدم وساعتهما لكنهما تخفيان بحرا يريد أن يثور بعد هدوء الماضي ليعطي جاذبا أخاذا ..تمنيت أن يجرفني وحيدة في عرضه الواسع بين أمواجه الرائعة و نسيمه الذي تر ّتد له الروح بعد سبات شتوي طويل بيننا ..رأيت دالفين تتراقص فرحا.. ترحب بقدومي إليه ..حتى شمس الغروب عدلت عن الذهاب للنوم ..دمعة في إحدى عينيه تخاف من تعكيّر صفو بحره الهادئ ..تمنيت اللحظة عاصفة ترمي بقاربي بين أحضان شاطئه ..تر ّد الروح فينا بعد نأي طويل. أكملت :تظن اختيارك العدسات الالصقة بدال من النظارة بعد كل تلك السنين التي مضت عليك دون تغيير يذكر هو مجرد تغيّير؟ إبدال البنطلونات الرسمية بالجينز هو إتباعا للموضة؟ أم تخفيض وزنك بسبب ارتفاع الضغط فقط! جيّل الشعر يمنع تطاير شعرك بوجود الهواء؟ ماذا ستخبرني لتج ّنب أني كنت صاحبة كل تلك المسببات و التغييرات التي ما فتأت الكثيرات ممن حولك من الصديقات بهمسها بأذنك سابقا دون أن تلقى الصدى المحبب لديك.
26
بقي صامتا يحّدق بي ..لم تقوى قدماه على حمله أكثر ..جلس على قارعة الطريق, صراحة ...خفت عليه من البرد إال أني أتممت بهدوء :لست اسما على قائمتك.. بل اسم يتوج منتصف ما بقي من صفحات كتاب عمرك ..أمستعد على ردم برجك الذي عمّرت أيها المهندس المعماري أم لم تعد خارطة الطريق تعنيك و ليكن ما يكون من سلبيات العولمة و االنهيارات االقتصادية في العالم ..ستقول في نفسك: "األمر بسيط ..غيرها كثيرات ..كانت المساهمة الوحيدة لشراء أسهم الماضي لتخرجني من عزلة السوق ..سأشتري األفضل ..بعد أن كنت أسيرا في كرسيّ مدولّب ألكثر من عشر سنوات ..لست براغب كبير إن باعت أسهمي و أصبحت لغيرها اآلن" فيرسن :كفى ..أرجوك كنت أبكي و بسمة ترتسم فوق شفاهي ..جثوت قبالته ..نظرت بعينيه نظرة ود ّدت أنه قال خاللها شيئا سوى استغرابه رؤيتي أبكي ألول مرة مذ عرفني ..تمنيت أن أدخل روحه ألعرف ما يحدّث نفسه به اآلن ..أريد أن أدخل تال فيف دماغه فأالحق الومضات الكهربائية علّي أحصل على ترجمة ما يدور في مخيلته ..ما سيكون قراره األخير ..كنت أصمت لبرهات دون أن يجيب ..أردّته أن يمسك بي و يهّزني بقوة ليتح ّدث ..لم أتوقع أن وقع كلماتي ألجمت فمه و جعلت رياح البحر
27
تعلو فجأة حتى أن أشرعة مركبي لم تعد تنجدني داخل معمعة موجاته القوية.. الصمت يثيرني ..يفقدني صوابي .في هذا الوقت بالذات أفلتت زمام الكلمات مني.. ضقت ذرعا ..خوفي الشديد من المجهول ..ما ستؤول األحوال بعد هذا. أصبحت لسعات الهواء باردة جدا و المطر لم يتوقف أو يهدأ ثانية واحدة ..اقتربت منه ..رفعت ياقة سترته خوفا عليه من البرد... توليب :أيها اإلقطاعي علّك تشعر بحال من تركتهن وراءك في طريق الضياع.. كأن النظام الجديد ج ّردك من كل أرض كانت لك ليأممها لمن أهنتهن قبلي ..علّي الر ّد قبل مضّي أسبوعين من اآلن بالقبول أو الرفض فانظر في أمرك ,قد تأخرت ..الطريق من هنا إن أردت العودة أو اتصل بإحداهن لتقلّك. كان كمن خسر كامل ثروته ..بقي يقنع نفسه أنه كابوس ال غير ..المرة األولى التي يراها فيها تبكي ..وجهها ّ جذاب ف ّتان ..تخضّل عينيها العسليتان ..رقّة يديها.. كالمها الهادئ الالذع ..جعلوه بحال سبات سريري ..شلّوا حركته و نطق لسانه.. حركة الحبال الصوتية لديه اختفت جميعها ..أراد مسح دموعها بيده ..أراد ضمّها بشدة إلى صدره ..تقبيل ثغرها الذي لم تفارقه ابتسامة أنثى تعبت ظلمه ..امرأة احتملت وقاحته ..عجرفته ..حماقاته ..حتى غباءه الال متناهي..قرأته من األلف حتى الياء ...لم تقدر امرأة قبلها أن تفك طالسمه بهذه الطريقة أبدا ...لكنّ حالة
28
الشلل التي أصابته فجأة حولّته لصنم خوفو ..جاءه صوتي تحت هدير المطر و ّكل م ّنا مبت ّل حتى الثمالة من دموع السماء الطاهرة ..كنت قد أعدت ّ النظارة لداخل ك ّفه ..بقيت ممسكة بيده دون وعيّ مني ..سألته علّني أجد كلمة تتوه مّنه تريح كلينا. توليب :لم دخلت عنوة لشرايين دمي حتى أصر ّيت العيش في األبهر لديّ ؟ تتحكم بقوة ضخ الدم ,سمحت لنفسك بسلب الكرت األخضر دون ّ حق كما سلب المغول مكتبة بغداد .أصبحت حلمي ..يقظتي ..تدور في تال فيف الدماغ عندي مع كل أمر يدور في ذهني! أم حسبت أني أرض أجدادك و أموال آباءك لك الحق باستمالكي؟ أجبني أرجوك ..دخولي حياتك أذهلك كما الفن األندلسي في زهوه حتى اآلنّ .. ثق أن الحبّ عندي كما دخول اليهود لفلسطين ليسوا بخارجين من مسجدها األقصى و ال بمتخليّن عن هيكل سليمان المزعوم حتى تقوم الساعة ..فهل أنت قادر على احتماله؟ تركته ألفكاره ..ابتعدت عنه أج ّر قدميّ غصبا ..بدأت أبتعد عن ناظريه رويدا رويدا ..حاولت أن ألتفت ألراه ..لم أستطع ..كنت أبكي مع السماء على ما ألّم بنا. ركبت الحافلة ..بقيت أنظر للطريق خلفي عّله لحق بي يخبرني بشيء ..لكن الطريق انتهى و انتهت الكلمات ..عدّت للبيت وحيدة ..حاولت أن أبتسم أمام األهل
29
و أن أجاريهم في السهرة قدر اإلمكان لكن ما أن أصبحت على وسادتي حتى بكيت بحرقة شديدة ..ما زلت أضّم يدي أتذكر من خاللها كيف ّ شد على يدي ال يريد تركها ..لكن إلى متى؟ بقي جالسا ألكثر من ثالثة أرباع الساعة يفكر ..أراد أن يجيبها ,أن يلحق بها ليخبرها بردّه ..لم تحمله قدماه وخانته قوّ ته. ح ّدث نفسه :أسبوعان فقط! هل أريد وقتا أكثر بعد مضّي كل تلك السنوات حتى أقول ما أريد؟ مازلت أشعر برعشة يدها عندما أعادت لي النظارة ..ألول مرة في حياتي أشعر بنعمة المطر عند مالمستها أرضا عجفاء ..أريدها دونا عن أي امرأة صادفتها مرة في حياتي ..تذ ّكر دقات قلبه و كيف ت ّ شع عينيه لدى رؤيتها تدخل ّ لتحدثه بأمر العمل ..ضحكتها التي تجعل نهاره يرقص طربا كحفلة المكتب صغيرة داخل مقهى اسكتلندي ..كم تمنى أن يحدّثها عن أحاسيسه ..كانت جوارحه تتحرك دون وعيّ كامل ..حتى في هذه اللحظة خانته جميع صاالت األوبرا التي أقفلت دورها بوجهه ..كل المعزوفات التي ف ّكر بها ليال كثيرة هربت عالماتها الموسيقية لتترك الصفحات فارغة ..خانته حباله الصوتية من تراتيل أجمل المعزوفات العالمية.
31
عند وصوله البيت استقبلته أخته فزعة ..حاولت معرفة أين سيارته! سبب تأخره؟ لم هو مب ّتل هكذا؟ دون أن يأتيها حرف واحد ..أتته بمنشفة يجفف البلل الذي لحق به ..فما كان منه سوى أن صعد الساللم خائر القوى ..أغلق باب غرفته و تمدد على فراشه ينظر من نافذته على لون السماء الكئيب ..عصفور ...تجاهد أجنحته الصغيرة حتى يصل عّشه ليدفأ محبوبته و صغاره ..ما همّه شدة القطرات رغم حجمه الصغير ..إال أنه يخاطر ,وصل أم ال؟ يجازف ألجل من يعشق هو ذو حظ وفير فعال .أجهش بالبكاء! لم يعلم إلى متى بقي حتى غافله النوم ..ج ّل ما كان يتناهى إلى سمعه صوت أخته يطلب الثلج لخفض حرارته المرتفعة ..بقي يهلّوس بكلمات غير ذات معنى سوى أن اسمها تكرر دائما مع موجات الحمى المترددة على جسده المنهك. بقي الحال على ما هو خالل العشرة األيام التالية ..لم تستطع االتصال به و االطمئنان عليه إال عبر سيلفا و مارال اللتيّن كانتا تأتيان بأخبار تقدم شفاءه .حتى عندما أرسال الورود و الهدايا جعلتا اسمها متصدرا فيها عسى أن يفيده ذلك بحال من األحوال. اليوم هو الخامس عشر ...اليوم المشهود .بدأت أح ّدث نفسي أمام المرآة :ما الذي ينتظره حتى اآلن ..هو في إجازة مذ تركته تحت المطر آخر مرة ..بم يف ّكر حقا؟
31
أيتخذ خطوة ما؟ لألمام أم للوراء ..أم سيبقى في مكانه متأثرا بالصدمة حتى يرتدي األبيض تحت التراب؟ أأذهب إليه و أجلس جانبه في مرضه ..فال أهتم بكل ما حولي؟ أم أن األمر سيان! كل تلك األسئلة و أنا أه ّم الرتداء ثيابي احتفاء مني ألحدد مصيرا طال عليه األمد كما تزعم والدتي ..كنت أفكر كما النهايات السعيدة في أي فيلم أمريكي ..أنه سيأتي لدارنا و ينهي الموضوع و نكون سعيدين أخيرا ,أخرى تحملني ألنهي األمر على غرار التراجيدية اليابانية حيث أ ّني سافرت بعيدا مع الذي ال أعرفه فإما سعيدة أو ش ّقية .كل منا تائه في جبال األلب وسط الثلوج الباردة ال يبلغ واحدنا القمة أبدا.. توسعت حدقتا عيني فجأة أمام المرآة ..إنه ناقوس الخطر ّ يدق ..الواجب يدعوا أن ننزل الملجأ لحين انقشاع الحرب اآلتية ,إنهم هنا ..يبشّ بهم أهلي و يرحبّون. والدتي :أسرعي هيا إنهم هنا ..عليك تقديم العصير لهم. أحدّ ث نفسي :لن أستطيع المسير حتى ..ال أقوى أن أحمل الصينية بين يديّ .. أردت الهرب من النافذة ..للفرار بعيدا عن هنا ..عن الجميع ..عنه حتى ..عن كل األفكار .أردّت أن يتوقف الدماغ عن إعطاء أمر إفراز األدرنالين لساعة فقط.. ساعة واحدة ..يا رب أرجوك مدّني بالقوة ..بالجواب الصائب ألكمل حياتي بشكلها الصحيح ..أعلم أن زمن المعجزات قد انتهى منذ عهد األنبياء و الرسل و أن القدر
32
مكتوب في اللوح المرقوم قبل خلق األرض ومن عليها ..لكن ما الذي سيحصل فعال ..هل عليّ الدخول إليهم اآلن؟ خالل مدة جلوسي لم أعي شيئا سوى تفكيري كيف أصبحت صحته اآلن .قطع عليّ رنين الهاتف فجأة ما كنت أرسمه و جعل قلبي يهت ّز بين األضلع لكأن كل جالس رآه و سمع صوته ..أحدث نفسي كمن عاقر الخمر حتى الثمالة و يهذي بين حناياه :هو؟ أكيد؟ والدي :خالتك تسأل عنكم ..أجبتها..... سرحت بكامل ذهني بعيدا ..لم أسمع كلمة بعد ذلك ..أخذتني مخيلتي بعيدا حيث أكون أميرة تقف وسط ساحة معركة لفارسين يتبارزان لنيل يدها أحدهما موجود دون جهد سيبذله ألخذها بالد ما بين النهرين أمّا اآلخر فلم يأت بعد ألن طريقه محفوفة بالمخاطر و ساحرة عجوز تضع له العوائق في طريقه إليّ ,أما األميرة فما زالت تنتظر العد التنازلي حتى اآلن. صحوت مرتعدة على يد والدي تهز ّني بسؤاله المباغت. أبي :ما رأي حبيبتي الصغيرة ..أموافقة على ما أشترط عليه بيننا أم ستضيفين شيئا ما عزيزتي (توليب)!
33
نظرت إليه بعد غفلتي ..جلت ببصري على من حولي ..خانتي مقلتي فجأة ..و صمت...
10 / 7 / 2009
34
الثقب األسود عندما نسمع باسمه ...يتبادر إلى األذهان تلك المنطقة الكونية في ذاك الفضاء الواسع كما فسّره علماء ناسا (الزمكان) .هو ذاك الفراغ المجهول الذي يبتلع كل ما يأتي إليه حتى الضوء ليرسله إلى بعد آخر وعوالم منسية مجهولة أو إلى مقبرة محتومة .هو ذاك الظالم المتقع المخيّم على الفضاء كفم وحش مروّ ع يأكل كل ما يجده أمامه ليستق ّر في جوفه المجهول الكامل العمى و األص ّم. إال أن فلسفته ت ّكشفت لدي عندما جالست مكاني ذاته ألرشف صباحي من مدخل هوّ ته ببضعة قطرات مرّة أبدأ بها نهارا ...القدير وحده يعلم منتهاه. في ذات المكان ...المطر يتقاطر من سماء رمادية اللّون لكأن الغيوم تغسل أدرانها و تودعها األرض كي تحفظ األخيرة سرّها في غياباتها العميقة جدا ,جدا .اللون األخضر عاد لرونقه بعد صيف طويل و الحقيقة باتت مع ّراة عن أغصان فقدت أوراقها المصفرّة التعبة من أسرار حملتها فترة طويلة أنهكتها حدّا ال يوصف. جالسة وحدي في المقهى ...تاركة بصري يبحث في البعيد علّه يفهم سببا من أجل سبب أو ال سبب إلى أن قطع الساقي تفكيري حين أحضر فنجان قهوتي التي أحبها دون سكر أو إضافات تجعل نكهتها و صفاء لونها يختفي كما عجوز تجمّل نفسها
35
بمساحيق تعتقد أنها تقتل مرور الوقت و تتصابى كي تهرب من س ّني عمر لن تخبو تجاعيده مهما حاولت. هممت أن أبدأ برشف قطرات الندى من ثغره إال أنني و دون وعي مسبق أصبحت أنظر مباشرة إلى الفنجان أمامي ,سطحه األسود الصافي الذي يعكس تماما... الالشيء كبوابة سوداء كبيرة جدا تحجب ما بداخلها حتى القعر ,و بين كل ما ينعكس على سطحها القاتم الداكن و الصغير .تأملت ذاك الفراغ لوقت ال أعلمه فإذ بحدقة عيني تتشكل سطحا آخر على تلك البقعة كمدخل يريني ذاتي ,أفكاري, ذكرياتي ,و ما أستطيع إبداعه أو أن أكونه حتى .كانت إعصارا مخيفا حملني إلى فضاء نفسي الواسع الذي لم أكتشفه بعد .شعرت بطاقة تحرّ ضني ألم ّد إصبعي فأخترق ذاك الكون الواسع و أصل عميقا حتى نهايته المخيفة و التي ال أعلم إلى أين ستودي بي علّي أجد تعريفا ما في تلك المنطقة الغير مكتشفة بعد داخل عقلي. شعرت بها تسحبني دون مقاومة مني إلى ...فراغ ,لكأن الزمن توقف فجأة... أشعر بشيء ما ينسّل مني و يدخل جوفه الالنهائي .ال ينبعث منه أي شرارة أو إشارة ...لم أعد أرى ضوءا حولي أو أسمع صوتا حتى ,ليس لي ظل منعكس وال انعكاس لذاتي في أية جهة حولي ...سوى أ ّني أتنفس فقط و أني ما زلت موجودة. أحاول البحث عن بقعة ضوء صغيرة ...ثغرة ما ...بت أتحرك في كل اتجاه
36
ممكن ...دون جدوى ألي شيء .ظالم ال محدود ...ال شيء آخر ...سكون قاتل ح ّد الجنون. ركنت فجأة فقد هدّني التعب و أنا أحوم حول الال مكان الذي غرقت فيه رغما ع ّني ...أصبحت أعي أ ّني أسبح في عمق محيط ل ّجي ال أعلم ماهية الخروج منه سوى ب ...الركود .عدت إلى نفسي و هدأت قليال ,ال أعلم إن كنت في وضعية الجلوس أو الوقوف إال أ ّني ال أشعر بجاذبية جسدي أبدا .بدأ تفكيري يعمل برويّة و أنني في محض خيال و سأستيقظ منه فجأة ,لن أهدر طاقتي على خوفي من الال ّ صمت طويال ...سكن روعي ,ال أعلم كم من الوقت لكن فجأة تبادر شيء .سكت, إلى خاطري أشياء كثيرة ...صور أناس و حاالت للبشر لم أعيها قبال. تلك الظلمة الحالكة ح ّد مفارقة الروح للجسد ...هل الكفيف يعيش ذات األمر؟ ترى كيف يسبح خياله في تصّور أشكال الطيور و مناظر الشجر؟ ما هي تصوراته عن شكل الجبال و الجداول المتفجرّة منها؟ ما يعنيه الربيع له إذا أراد استحضاره في مخيلته التي لم ترى الربيع يوما أبدا؟ كيف يترجم لنفسه نبض الحياة التي ما عدنا نحن المبصرون نقرأها اآلن؟ هل حاولنا يوما السماح له بأن يعبّر عن مخيلته لنا ...أم أننا سنستهزئ به ألنه سيتكلم عن خيال محض بعيد حتى عن مخيلة أي طفل كان .هكذا نقتلهم ...أن ال نعير مشاعرهم أو كالمهم حقه كي نقنع أنفسنا و
37
محيطنا بأنهم مساكين إذ أن التواصل معهم صعب؟ بينما نحن ,أجل نحن المبصرون من ال نملك أي وسيلة تعبير أو تواصل. ران علّي صمت قاتل ...ثم تبادر إلى ذهني المتعب :أهذا ما يعنيه الصمم؟ هل من فقد سمعه يعيش بزنزانة منفردة ال حركة فيها و ال دبيب لنمل يسمع! السكون شيء رائع فهو يصقل النفس البشرية و يصلها بالسماء إال أنها في ذاك الح ّد الذي أنا فيه اآلن هي ضرب من الجنون ...توصل صاحبها لجرف سحيق ال قرار فيه. ترى ...إن كان األصم يرى الطير حوله كيف يصوغ عقله له صوت تلك المخلوقات التي تشبع صباحاتنا ّ بألذ موسيقى .كيف يترجم له دماغه صوت إنسان يقول له :أحبك؟ تلك الكلمة البسيطة الجلل التي مللناها نحن السامعون من كثرة ما فقدت معناها بيننا .كيف يعمل عقله على تخيل خرير الجداول أو عزف قطرات المطر ما إذا المست وجهه الح ّي ,كيف حفيف الشجر يترجم على سلّمه الموسيقي؟ ال أعلم إن كنت أتكلم حقا أو أن نفسي التي بين جنبّي هي التي تتكلم و تفكر عني ...فحاولت أن أصرخ ع ّل صدى صوتي يرتد و يؤنسني في ظلمة وحشتي التي أحسست فيها كأني في قبري و قد ابتلع جسدي الغض الطري حيا ,لكن ما من شيء أتاني سوى السكون يلفّ المكان حولي كيفما اتفق .اآلن فقط شعرت بمعنى أن يكون الخرس مصيبة اإلنسان .إن من يفقد لغة اللسان يكون قد فقط اإلحساس
38
بذاته .مهما حاول التعويض بالمداد و البردي ...ستبقى الحبال الصوتية تعطي ّ أدق حالة لما نشعر به و توصله لمن حولنا ...رغم أن معظم من حولنا قد أصابهم الصمم رغم سالمة سمعهم و بات العمى صديقهم رغم سالمة بصرهم .أن تستطيع التكلم مع أقرب الناس إليك و أن تخبره ما يعتريك في أسوء حاالتك هي هبة ال نقدرها إال عند الكذب و النفاق و التملّص ممن هم بحاجة إلينا فقط ألننا ...في زمن ال نهتم فيه سوى ألن نعيش كل يوم بيومه و كفانا .ال نريد سوى أن ننفس عن ألمنا و عندما يريد الغير إصغاءنا ...فنتأفف و ندّعي انشغالنا بما ليس عندنا. هدأ روعي ...أحسست أن عقلي قد فرغ من ك ّل فكرة ممكنة أن تسلي عني ذاك الغياب عن الواقع و أنني ّ بت في هوة سحيقة تسبح بي نحو المجهول .هل يوجد عوالم أخرى حقا كما تصورها السينما و يص ّدرها الغرب لنا؟ أ من الممكن أن أكتشف عوالم عجز علماء الفلك و روّ اد الفضاء عن الوصول إليها؟ تناثرت أفكاري كما ذ ّرات الطيف من حولي مبعثرة ,عشوائية ,حاولت أن أحرّك يدي علّي أجمعها و أعيدها سيرتها األولى ...عبثا جهدي قد ذهب .أدركت وقتئذ أنني عبارة عن معاقة فقدت أذرعها .و أطرافها ...إنني مجرد جسد و رأس فقط .أي حسّ بقي لدينا عندما نرى ذوي اإلعاقات سوى أن ننظر بشفقة و نقول ألنفسنا (الحمد هلل الذي عافانا مما ابتلى به غيرنا) .أ حقا تلك العبارة كافية ألن نشعر بما يعتريهم و
39
هم ال يستطيعون عمل األشياء بشكل طبيعي ...أن يشربوا كأس ماء بيد فيها خمسة أصابع كما نفعل نحن؟ أن ال يستشعروا جمال الطبيعية بخطى أقدامهم أو برد الثلج و ّلذته أيام الشتاء؟ إن انفلت منهم شيء ال يقدرون على التقاطه فهو ينسكب منهم كما الحياة تنساب من بين أيدنا نحن األصحاء .هم يقدرّون معنى السعادة فعال أما نحن فنستبيح الشكوى و نرمي ما تبقى في قمامة بيوتنا و نرتدي عجزنا النفسي داخل منازلنا و ننسى أننا معافون في أبداننا. عقلي ال يحمل أية أفكار اآلن ...كصفاء السماء في يوم صيفي ال يحمل في أفقه سوى قرص الشمس الذهبي ...ال أعلم المدّة التي بت فيها على تلك الحال و كأنه أسطوانة انتهت مما عليها و بقيت تل ّتف على فراغ ...ال كلمات ,أحرف ,أو نقاط تتجمع مع بعضها ....صفحة بيضاء فقط .هو الجنون بعينه ,هو العقل ذاته و قد فرّغ شحناته السالبة جميعها و أتبعها بالموجبة أيضا .أتراها نهاية العالم أم نهايتي؟ كيف بدأت في كل هذا؟ كيف أنتهي منه باهلل عليكم؟ أمن مجيب فيوقظني؟ أمن مجيب فيرشدني؟ إلى أين يأخذني ذاك الثقب األسود في فضاء الخالق؟ مللت األسئلة دون العثور عن إجابة واحدة ...أترى روحي قد فارقت جسدي حقا و أنني في البرزخ أرزح في كل تلك المتناقضات داخلي .استذكرت من الالشيء نجمة القطب التي عشقت النظر إلى السماء ألجلها ...أحببت النظر إليها أكثر من
41
القمر ...فقد كانت بالنسبة لي تستمد قوتها من ذاتها ال من غيرها ...مضيئة دوما ال تتغير أو يق ّل سطوعها مع أيام الشهر .هي الدليل الموثوق في الصحراء و التي بها يستهدي من يتوه .هي الشيء الثابت دائما عند ظهور القمر .هي عشقي التي أتلذذ بالنظر إليها في سهري و تؤنس وحدتي ...تسمع بكائي ...أأتمنها سرّ ي. وحدها ترى انسكاب الدمع من مقلتيّ . حاولت استذكارها جاهدة فهي مالكي الحارس في غياهب الجبّ الذي وقعت فيه... علّها تظهر لي و ترشدني إلى الطريق داخل الظلمة التي أنا فيها .بقيت أدعوها و أناديها و أنا داخل ذاك الفضاء األسود الال متناهي ...يحاول عقلي استحضارها قبل أن أصل إلى قعر تلك الهوّ ة السحيقة التي ربما ترمي بي إلى أرض المفترسين و الجهلة و آكلي لحوم بعضهم البعض أو ربما تجعلني في مملكة آمنة مترفة بجمال الطبيعة و طيبة المسكن فآمن على نفسي أخيرا .ال أملك الحسّ بالزمن. نقطة بيضاء شبه معدومة الرؤية بدأت تتجلى لي ...بعد برهة ازدادت اتساعا ...ثم ما لبث إحساس باالنجراف نحوها إال أن ازداد كمن يهبط من على األفعوانية دون هوادة و ال يوجد مكابح أو شيء أتمسك به خوفا من أن أسقط فتكسر رقبتي. ال بد و أنها سمعت نداء قلبي و عرفت مدى عشقي لها في كل تلك الليالي التي كانت تتجلى لي لتسمع غزلي بها أو تسمع آهة تصدر مني فجاءت تسعفني من
41
ضياعي في ذاك الجرف المخيف و المهيب .عاد لي صوتي ثانية عندما مررت بجانبها و هي تتألق فقد أخبرتها كم أنا شاكرة لها أنها جاءت لمساعدتي رغم كل الخطر المحدق لدخولها الثقب .لمست أحد أشع ّتها الب ّراقة فأحسست بدفئها يمرّ من بين أصابعي و يا له من شعور ال يوصف بالحسّ باألشياء. صحوت فجأة على صوت هاتفي الن ّقال ينبّهني أن الوقت قد حان كي أتوجه نحو عملي ...نظرت حولي متمع ّنة بكل شيء ...بأشعة الشمس الضئيلة أيام الشتاء... ّ بزخات المطر التي يعبق بها نهاري .حرّكت قدمي ألتأكد أني بخير ...ثم ندهت الساقي أطلب منه فاتورة الحساب و عندما أجابني بالقبول تأكدت أنني لم أفقد قدرتي عن الكالم .ترى هل كل تلك األفكار تتالت فجأة لمجرد النظر لتلك البقعة السوداء داخل فنجان قهوتي و التي ال تعكس شيء حقا؟ إنما هي مجرد بقعة داكنة وقعت عليها عيناي .جميلة فعال ,ملهمة لك ّل من يحاول أن يبحث عن فكرة ليبدأ بها طريقا ما .أو يحاول إيجاد نفسه في زمن بات الضياع فيه شيء اعتياديا. وصلت لحقيقة زماننا و ذلك أ ّنه من يجد نفسه البشرية التائهة في دورة أرضنا اآلنية فهو غريب ,مخ ّتل العقل ,خارج عن المألوف ,و من ذوي االحتياجات الخاصة فعال. Lina Al-Shalati 09/12/2011
42
أو لست الرجل! لن تستسيغ األنس بعدي مع أحد ..أيا كان ذاك الشخص ,تلك لعنتي التي ألقيتها عليك مذ طلبتك من العزيز القدير سكنا لي .أنت ..يا من لم تؤمن يوما بالحب من النظرة األولى ,أصبحت لها رهينا و مسلوب اللّب. هو :الرجل الذي لم تستعص يوما عليه امرأة قط ..ظهرت أمامه فجأة ..بكل أنوثتها الحيّة لتجعل منه رجال آخر ..بساعات فقط ! لم هي بالذات ؟ ما المميز فيها دونا عن بنات حواء ؟ رغم أن من عرفهن ..و يعرفهن يفقنها جماال و يفضن أنوثة صاخبة! لكأنه البارحة ..رغم مضّي أكثر من أسبوعين على مجيئها مكتبه ..فجأة و دون إعالن مسبق ,محتقنة العينين ,طلبت رؤيته ألمر هام .رحب بها و قد بادره قلبه بخفقان سريع ,سرى الدم في جميع أوصاله بسرعة بركان فيجي فجأة ..انتفت البسمة عن محيّياه عندما قابلته عيناها الدامعتين و رموشها المبتلّة ح ّد الثمالة دون صوت بكاء. طلب إليها الجلوس و قد تسلل الرعب قلبه ..أجل! هو الرجل الذي يحسب له كل حساب مذ دخوله حتى انتهاءه من عمله ..يخاف منها هي! بل و عليها .لم تجعل له بادرة أن يت ّفوه بشيء فقد بادرته بكلمات شعر فيها بتوقف الزمن من حوله ..لكأنه
43
الصمم قد حجبه عن كل ما حوله عدا صوتها المتش ّنج الخارج من حنجرة ملّت الصمت و الصبر على جفوته. هي :ستسمعني فقط ..دون أن تنبس ببنت شفه. لم يستطع لسانه أن يتحرك بحرف واحد أبدا ..مسلوب اإلرادة و الحركة كان تجاهها. هي :أما زلت تذكر يوم وقفت مسلوب الحيلة تحدق بعينيّ من تلك الزاوية ..كنت ترتدي بنطاال رماديا و قميصا أبيضا! هو :أنا ..طبعا.. هي :وقتها ..أكنت تحاول معرفة ما إذا كان تأثيرك على السيدات كما هو ,أم زال؟ أم كنت تقضي أوقات فراغك مع جميعهن على ذات المنوال؟ كنت ساذجة ألنني سمحت لك استعمار قلبي و احتكار األبهر فيه ّ توزع الدم فيّ كيف شئت .نصبّت نفسك ملكا على مكنونات عقلي و كياني حتى ّ بت ال أكلّم رجال في غيابك خوفا عليك أو منك ..ال فرق ,لكأ ّني تحت جناحك و انتهى ..صدقني سيدي ..ما عرفت الحب يوما ..لكنك جعلته يتسلل داخلي كما جنيّة األطفال تأتيهم ليال بهدايا صغيرة ..تفرح قلوبهم رغم تفاهتها .نصبّت نفسك ملكا على قلب ..ال أنت تركته بسيادته مستقال بخراب سببته فيه ,وال أنت أعلنته مملكتك األبدية؟ ّ بت أعشق
44
الوحدة في غيابك ,حتى لم أعد آنس من البشر أحدا و قد أصبح مزاجي متقلبا جدا و مذاق الطعام لم أعد أشعر به ..سوى أنني آكل لمجرد إطعام جسدي الفاني في النهاية .ما استفدته من وجودك داخل شرايني هو بمعرفة حقيقة واحدة تجلّت أمامي ّ الحق يد ّل على الحب السرمديّ بين العبد\األمة و الخالق الواحد بوضوح" :الحب األحد ".أتيت اليوم ألقول لك :ما رأيت قط كقسوة قلبك! كم كتمتها جوارحي حتى ما عادت تطيق وجودها بين الحنايا ..أعلنها على المأل و دون خوف منك, الصحراء باتت جرداء حتى من أشباه الواحات المرئية ,حتى السراب ..ما عاد له ضرورة فيها .إنك جلف أكثر من أ ّ شد الناس قسوة خلقوا على هذه األرض .انظر نفسك سيدي كيف كنت و ما أصبحت عليه ساعة رضيت بي في حياتك التي كانت باألبيض و األسود ..تحولت إلى شخص إن نظرت في مرآتك لم تكن لتتصور أن تكونه أبدا .ك ّل مرّة كنت تقابلني بها ..توّ د أن أسمعك ما يجعلك مطمئنا لي ,لم أبخل بها عليك ..بينما ضننت علّي بما يجعلني أشعر أنني أتنفس ذات الهواء معك! تمنيت أن أكون علبة سجائرك الموضوعة في جيب قميصك ناحية قلبك ..علّني أسمع دقاته كيفما حللت و ارتحلت ,أحسد سيجارتك التي تحملها بين أصابعك و التي ال تستغني عنها و تالمس شفتيك اللتان أنتظر منهما أن ينطقا اسمي يوما.. دخانك الذي كنت تستمتع بحرقه كما تحرقني دون أن تهتم من أنه يضرّ بك أو
45
يضّر بغيرك و يقتلك .أو لست الرجل! المبادر ..الطالب لألنثى! أم كنت لعبة جديدة لم تستطع ح ّل لغزها و سبر غورها رغم وضوحها و التزامها بك ..فآثرت التراجع و اللهو بأخرى ..أسهل .لم آت هنا ألضع ضعفي نقطة علّي ..بل ألريك تشويه ذاتك ,مدى ضعفك ,و قلّة حيلتك من دون أن تتفوه بكلمة بسيطة تشعرك بإنسانيتك ,حياتك ,و أن مشاعرك و قلبك الذي يسكن بين حناياك مازال ينبض فيك .ليس ذاك عيبا أو نقصا لفحولتك صدقني ..إنما أعجب لكم معشر الرجال ..ال تشربون من الحياة سوى قسوتها ..لتصّبوا جامها علينا! في آخر مطافكم.. تخرجون بال ناقة وال جمل. صمتت و هي تحاول جمع شتاتها و إمساك دمعها ...و هو ينظر إليها بعينين زائغتين و أحرف الهجاء مبعثرة أمامه ..حاول بخالل صمتها أن يجمع بضعة أحرف ...لكنه فشل ...عجز عن التعبير ألن ضعفه تراءى له جليا بصورة أنثى أحبهّا بشغف دون أن يقدّر ذاك قبل اللحظة .تنبّه لصوتها المخنوق يتم ّم له الهدم الثلجي الذي أغرقه و جعله في ذالك الجرف العميق :سأتركك وحدك اآلن و لست نادمة عمّا جئت ألجله أو ما قلته لك ..إال أ ّني أطلب منك أن تقصد البحر و تتأمل قدرة الرحمن فيه ..عسى أن يأتيك ذاك بالصواب ليليّن قلبك ,و يفتح بصيرتك التي عفا عنها الزمن .أو ..اصعد جبال عاليا ,خيّم هناك و تأمل لوحة إلهية تدلّك على
46
معنى الحياة و أن الكبر داخلك هو ال شيء أمام ما تبصره عيناك من إبداع نحن أمامه أعجاز نخل خاوية .ستعرف عندئذ معنى "رفقا بالقوارير" التي تبدءون النقر عليها أو فيها ..ال يهم ,فهي أخيرا ستتحطم بين يديكم معشر المرّ يخيين الصندوقيين ,عندها فقط لن تنفع دمعة أو كلمة أسف تحيينا ..أبدا .ريثما تحصل على إجابتك و تعود روحك حياتها السّوية لترى بوضوح و بصيرة! ربما تجدني أو يواري التراب ..التراب ..إال أ ّني أعرف أنك لن تظلم غيري بعدها. وقفت برفق و ودعّته بدمع ينسكب دون كلل أو ملل ...من عينيها اللتين ذاق بسببهما الخمر ألول مرّة في حياته ,كان مخدرا كليا ..حتى أنه لم يعرف ماهية اللحظة ,الدقيقة ,حتى الساعة التي قضتها مواجهته معها و هو يسمع دون أن ينطق لسانه بكلمة واحدة يدافع فيها عن نفسه أو يكبح غضبها بلباقته و كياسته المعهودتان عنه .بعد رحيلها ..لم يطق عقله الصورة التي خلّفتها لديه ..ما أخرجه عن تحفظه في كل شيء ..أصبح يرمي كل ما أمامه بكل االتجاهات ..بقي مزاجه سيئا طوال أسبوعه ذاك ,حتى ق ّرر الهروب من نفسه و منها. قصد البحر ..فالتخييم عادة غير متأصلة لدينا ..لم يخبر أحدا عن المدة الني سيغيبها ..لعدم قدرته على فهم ما حصل له فجأة ,ما الذي جعل كيانه كما "السكربتس" لعبة األحجية ذات المكعبات الملونة ,بعشوائيتها المطلقة تشبه بعثرة
47
فكره ,نطقه ,و حتى تصرفاته و نظرته لمن حوله ..ال يعرف كيف يحّ ل معضلتها و تبقى المكعبات مبعثرة ك ّل في اتجاه مختلف. عندما المست قدماه الرمل الناعم للمرة األولى ..داعبت نسمات البحر وجهه و تخللت ثيابه كما تداعب األم طفلها و يحاول األخير أن يحوم حول رقبتها باشتياق كبير. لم يمض على وجوده أكثر من ثالثة أيام ..و ها هو اليوم الثالث يهّم باألفول عنه كما البارحة ..نظر بين قدميه اللتان يالمسهما دفء ماء البحر و ح ّنوه على الرمل المتشبع من ماءه حتى الجوف ..هي تارة قوية و أخرى ضعيفة ..انهمرت منه فجأة ..دمعة ..اثنتان ..و تتالت األخريات على وجهه ...م ّد يده يتحسس الدمع ,هو يبكي ...رجل يبكي ,و ما المعيب في ذالك ..ألم نخلق بشر سواسية لم ّ يحق لهن البكاء و حرّمنا ما يريحنا على أنفسنا .عاملها بكل ما أوتي من برود و سطوة الرجل التي ت ّ شربها في عمره و سنواته التي تعدّت العقد الرابع بقليل ..جعلها داخل صدفته ليقذفها بعيدا جدا ..ظنا منه أنها ستعود طيّعة إليه ,ما فطن ذهنه بسبب عجرفته وال عملت مخيلته حتى على رسم ذاك السيناريو الذي قلب حياته رأسا على عقب.
48
هل آذاها حقا؟ أغرس خنجره فيها و استقر في صميمها؟ أيمكنه العودة إليها؟ أيطلبها اآلن و يخبرها كيف أنها تسري منه مجرى الدم في عروقه ..أن اسمها الذي لم يقو يوما على أن ينادي به تلفظه كل مسامة في جسده الجاف و العفن. أيستقبله قلبها إن طرق بابها؟ للمرة األولى في حياته يفقد السيطرة و التحكم بقراراته أو اإلتيان بخطوة .لم تصّرف معها دونا عن األخريات اللواتي عرفهنّ في حياته من بنات حواء على ذاك النحو من الجفاء الغير مبرر ,و بنى حائطا كما في برلين بينهما؟ لم يفعل كل هذا بنفسه؟ أيتها األسئلة البلهاء ..سحقا ألجوبتكم المعادية ..المضللّة. كان الغسق قد تالشى لت ّحل بدال عنه أولى نجمات المساء ..بدأت تتألأل أمام ناظريه كما عيناها العسليتان ..للمرة األولى يتنبّه لوميضها الذي يجعل حواسه جميعها تعمل باتجاه واحد ..حيث تكون قبالته ..تذكر كيف ينبئه قلبه بمقدمها كما الطير قبيل هطول المطر ..عندها ترتعد أوصاله شوقا كما األرض لثلج الشتاء بعد طول جدب ,ح ّر ,و قيظ .حتى أن شفاهه تتلعثم و هو يم ّد يده مصافحا يدها الباردة أيام الشتاء ..آآآه ,كم تمنى أن يبقي يدها بين يديه و يبقيهما محتجزتان ألطول فترة ممكنة خوفا عليها من البرد ..لكن عجزه عن إظهار مشاعره تجاه األنثى بقيت حائال عن أن تفيض كما الفرات .تبّا لمجتمع عل ّم الرجل ما يخصّه فقط من العقد
49
بين آدم و حواء ..ما جعله يتغافل عن حق الطرف اآلخر فيه! لقد جعل من كبرياء أوالد آدم و عنفوانهم يطغيان على تصرفاتهم ..ما يؤذي و يكسر ذاك الضلع الحامي لقلوبهم و يكون سببا لينغرس في أفئدتهم و يقضي عليهم و يجعلهم يحرمون ّلذة تذوق الشعور بالح ّنو و طعم الحياة الحلو. أما زالت تشعر به رغم بعدهما؟ ..هي ساهرة كل ليلة تنادم ذات النجمة التي تبصرها عيناه ..تشكوه لخالق األكوان؟ استلقى على ظهره ..باتت عندها القبّة السماوية الداكنة و هي تموج ببحر متأللئ ال نهائي ..أروع صورة نظرت إليها عيناه حتى اآلن ,أين كان من كل ذاك؟ أعمى البصيرة فعال ..غبي ,أحمق. أيّ ربّ ..أسألك يا من خلقت السبع الشداد ,و رفعت السماء بغير عمد نراها ثم زينتها بمصابيح ..أن تعطيني من أمري رشدا ..مع أنثى بات وجودها بالنسبة إلي كما الروح داخل الجسد .اسمها هو ج ّل ما يذكره لساني بعد تمجيد اسمك يا إلهي. شعر بحرقة الدموع ما جعله يظن أن قلبه سيتوقف من كثرة ألمه على من يعشقها. اعتدل في مجلسه مجددا ..عندها عكست اإلنارة البعيدة خلفه موجات البحر و هي تداعب قدميه و ترسل حبّات الرمل الدافئة المحملّة ببعض األصداف الصغيرة تارة منه و أخرى إليه ,عندها شعر بح ّنو غريب ..لم يستلّذ به قبال ..طفق به صدره
51
بكل و ّد ..ألول مرّة يسمع هدير البحر معزوفة إلهية لها وقع يبعث كل قلب قتلته الدنيا القاسية .غاب عن كل ما حوله عدا غناء البحر و ح ّنو الرمل و دموع يشعر معها بحريته الكاملة رغم حرارتها التي تلسع وجنتيه. صوت نورس البحر ,ضوء لطيف بدأ يتسرّب و يداعب جفنيه المغلقين ..كما األم الحنون على ولدها بعد سهده المضني يصارع مرضا عضاال .كان نائما على الشاطئ ..أحس ذاك الصباح أن نبض الحياة يتغلغل داخله بعد موت طويل ..لكأنه بعث من جديد ..بأيام قليلة فقط قضاها يسبح و يتأمل في ملكوت الودود ,ذو العرش المجيد. قرر العودة أخيرا للمنزل ...و إليها بعد مضي عشرون يوما عن تلك المحادثة التي قلبت كيانه عن بكرة أبيه ...يريد العودة إليها هي ...و هي فقط .ما أن وصل منزله حتى سارعت أصابعه ضغط أرقام جوالها و أذنه تسمع رنين الهاتف متله ّفة لسماع موسيقى جدول الربيع بعد شتاء قارص موحل ...قلبه كما شجر الربيع يتف ّتح برعما تلو اآلخر .ال إجابة ...مرة أخرى ...دون مجيب ,بقي يناظر جواله فترة من الزمن ع ّل صوتها يأتيه .بقي ألكثر من ساعتين يتخبّط مع ذاته ...ما أن يترك الكرسي حتى يناظر النافذة ليتنقل بين غرف البيت واحدة تلو األخرى و يحلم كيف ستكون تنقالتها داخله ,ستضفى بهجة على قصره المظلم الكريه الذي ال حياة
51
فيه ...حاول تهدئة نفسه و النظر للتلفاز علّه يضيع بعض الوقت لحين اتصالها به ...عبثا كل ما يفعله. عاجلته قدماه نحو الباب للخروج و عالّقة مفاتيحه تزمجر من شدّة لهفته أنه سيذهب باحثا عن منزلها ...كان يعلم المنطقة التي تقطن بها لكن ليس مكان المنزل بالتحديد ...سأل بعض المحال عن المنزل الذي تقطنه عائلتها حتى وصل إلى منزل أنيق و بسيط .جلس داخل السيارة و قلبه يرتعش كطفل صغير في أول يوم له في المدرسة ...يداه ,ال يكاد يشعر بهما من شدة البرودة التي لحقت بهما... حتى أنه لم يقو على فتح باب السيارة ليخرج منها من شدة الرعشة التي انتابته... تحامل على قدميه أن تحمالنه حتى يصل باب المنزل ليقرع جرسه و تراه عيناها ...ستقفز إليه تتعلق برقبته ,ال ...ال ستلجم لسانها الفرحة و ستقف مشدوهة و تبكي من الفرح ,حينها سيم ّد يده يمسح دمعها و يضمّها إليه ليخبرها كم يحتاج نورها لتضيء عتمة أيامه ...لم يت ّم أفكاره إذ أنه أصبح قبالة باب المنزل ...أخذ نفسا عميقا ..ثم آخر حتى عانته يده لضغط جرس اإلنذار الذي لم يعلم ما سيحصل بعده.
52
بقي دقيقة دون إجابة ...هل هم موجودون في المنزل؟ ال بأس سأبقى مجالسا العتبة حتى يأتوا .ثم ه ّم بالقرع مرة أخرى فما كان من الباب سوى أن فتح على مصراعيه و وقف قبالته سيدة في العقد السادس من العمر تقريبا. السيدة :نعم هو :م ...مس ...مساء الخير ...سيدتي السيدة :مساء النور ...هل أنت أحد أصدقاء آدم؟ هو :ال ...ال يا سيدتي ...لكنني ...أتيت ألرى ...اآلنسة ...شهد. صمتت السيدة عند الباب و اتسع محجر عينيها و صمتت ...لم يتنب ّه ما كانت ترتدي. السيدة :أ أنت ينال؟ وقف مشدوها ...و بدأت نفسه التي بين جنبيه تسأله و تجيب عنه :كيف عرفت باسمي؟ ال بد أنها أخبرتهم! لكن ما أن تمّعن بوجه السيدة حتى رأى دمعها ينساب على وجهها. السيدة :تفضّل يا بني ..و أغلق الباب خلفك من فضلك.
53
بقي ينظر إلى عتبة الباب دون أن تستطيع قدمه تجاوزها ...شعر برهبة و خوف شديدين ...هناك شيء ما ...أهي متوعكة؟ أم هناك خطب ما أسوء؟ ال ...ال بد أنها ستظهر اآلن هي بخير. سمع صوت (السيدة) تخبره أن يدخل للمرة الثانية ,فأمسك رجله بيده حتى يرفعها فوق العتبة ليجبرها على الدخول .عندما أغلق الباب خلفه و نظر إلى الداخل... وجد نفسه أمام ردهة أنيقة في يسارها سلّم خشبي أنيق يرتقي لألعلى و يمينه حمّالة ثياب نحاسية عتيقة الطراز مذهلة للعين بنقوشها ,هل ستنزل درجات السلّم لترى من الطارق في هذه الساعة؟ أم هي مجالسة ألهلها؟ ال بد و أنها نائمة في مثل هذا الوقت إذ ال أصوات أقدام تنزل السلّم .بدأت خطواته تتجه نحو ضوء أمامه ...و مازال يناظر ما حوله ليرى أين تسكن حبيبته فعال .وصل إلى الغرفة حيث تجلس (السيدة) ...و وجد (سيدا) يجاريها بالعمر تقريبا أو يكبرها ببضع سنوات فقط ....و شاب وسيم ذو عيون زرقاء و شعر كستنائي فاتح ,متشعث... ضعيف الجسم ...قد ترك لحيته تنمو دون اهتمام. دعاه (السيد) للجلوس ,لكن ما أن المس جسده الكنبة حتى تنبّه للسواد الذي يتشحّون به جميعهم ...لم يسعفه عقله بأية فكرة إطالقا ..سوى أنه نطق دون وعي
54
منه :يبدو أن الوقت غير مناسب ...عذرا على إزعاجكم في مثل هذه األوقات _صمت برهة_ إال أ ّني أتيت كي أرى كريمتكم اآلنسة شهد و أن... فما كان من (األم) سوى أن بدأت بالبكاء و زوجها يحتضنها و هو يبكي أيضا .أما (آدم) ...فلم يتحم ّل الموقف ...ما جعله يهبّ واقفا ...فظنّ (ينال) أنه سيتلقى لك ّمة تعلّمه درسا قاسيا ...إال أن الشاب تو ّجه إلى غرفة أخرى غاب فيها لدقائق ثم عاد يمسك بين يديه شيئا مستطيل الشكل متوسطا في الحجم و ملفوفا بعناية فائقة ,قدمه إليه بعصبيّة و قطرات دمعه تتناثر فوق العلبة. آدم :تركتها لك ...باهلل عليك أين كنت طوال الواحد و العشرين يوما الماضية؟ لقد جعلتني أفعل ذاك بنفسي و بها ...أين كنت؟ كان صوته ينفذ لداخل قلب (ينال) و عقله مباشرة منبها إلى مدى حنق و ألم الرجل الواقف أمامه ...مدى األذى الذي سب ّبه دون علم منه بما يدور حوله في اللحظات التي هو فيها اآلن ...شعر أن عقله يرفض العمل ...د ّقات قلبه تضعف تدريجيا ...و بات ينظر إليهم و سأل نفسه :من أكون؟ ماذا فعلت؟ ما الذي غاب عني خالل الواحد و العشرون يوما؟ ألم تكن نصيحتها لي أن أبحث عن ذاتي كي أجدها هي؟ أ ليست من طلب مني أن أترجم خطأي بتأمل ملكوت هللا حتى أعود إليها طاهرا من أي دنس قد يحرمني حبهّا مدى الحياة؟
55
نظر إلى العلبة التي أصبحت بين يديه و نظر إلى أهلها من حوله ...تالقت نظرته و أخوها معا ...كان يرى أمامه أناس متألمون حقا من خطب جلل لم يرد أن يفكر ما هو ...إن فكرة أن مكروه قد حصل لها سيجعل منه أبشع مخلوق يدبّ على هذه األرض بطولها و عرضها ,شرقها و غربها. ينال :هل أستطيع أن أسأل أين شهد! ما من مجيب ...ما من سميع ...لكأنه يحدث نفسه و يرت ّد علّيه صدى صوته من جدران صمّاء ,بكماء ,خرساء. ينال :أستحلفكم بخالق السماوات السبع و األرضين السبع أين هي شهد؟ األب :هي بين يديك يا بني ...هي بين يديك. لم يستوعب ما قيل له ...أين هي بين يديه؟ ...ليس يراها وال هو ممسك بيدها... ليست في حضنه وال يسمع صوت مشيتها ...لكن ...يستطيع أن يشم رائحة عطرها ...هي رائحتها حقا. ينال :ما تعني يا سيدي أنها بين يدي؟ فأنا ال أراها. األم :قد أخبرتنا أن نعطيك هذه العلبة ألنها بهذا ستكون دائما بين يديك. أعاد النظر للعلبة الملفوفة مجددا ...من دون أن يعي ما الذي تفعله أنامله ...باتت يديه تعمل غصبا عن إرادته و تفتح ورق اللف بخوف ...برهبة شديدة ...خوف
56
من مجهول يضعه في حضنه .كانت علبة من الفضّة الخالصة منقوشة بشكل دقيق جدا مف ّرغة ليظهر منها علبة زجاجية ...كان يعلم عشقها للفضة من كثرة ما كانت ترتدي من خواتم و أساور فضية تتناسب مع ما كانت ترتدي من ثياب ,كانت تختار بعناية و ترتدي أزياءها برقيّ سلب لبّه .بقي يتأمل العلبة بذهول إذ أنها كانت دقيقة الصنع و وجد مفتاحا صغيرا معلقا في إحدى زواياها ليفتح قفل ذاك الكنز الذي يجعلها تكون بين يديه .ما أن أدار المفتاح حتى فتح الغطاء نصفه... فم ّد يده يمسكه بين أنامله ليراها بين يديه ...شهق بقوة ...هل هو ينظر إليها فعال ...استحالة أن تكون هي ...من غير الممكن! وجد ورقة صغيرة داخل العلبة فوق زجاج الكريستال الذي كانت تحويه ,فضّها و بدأ يقرأ ما فيها: إليك وحدك أكتب ...أعلم أنك ستأتي لكن لم أعلم الوقت بالتحديد ...و بما أنك تسلّمت رسالتي فالوقت ...هو الذي لن أراك بعده أبدا ...أحببتك كحب النحل للعسل ...جعلتني أرى جمال الدنيا من حولي ...في كل شجرة أمرّ أمامها ...عند النظر لكل غيمة في زرقة السماء ...عندما أنظر ألمي و أبي كنت أراك ,في ح ّنو أخي كنت أشعر بك ..عند تغريد عصافير السماء كنت أسمع صوتك ...ألمحك على صفحة الماء ...أشم عطرك مع النسيم الذي يلفح وجهي عندما أسير في
57
خطواتي...ألمحك تنظر إلي مع كل نجمة تظهر في المساء ...إال أنك لم تراني يوما إال من خالل فحولتك فقط ...ألجل أن ترضي غرور رجل تهتم به أنثى... رأيتني من خالل حالة حب سطحي جعلك تخرج من قمقمك لتصبح حرا أبدا من كل قيد ...شكرا ألنك جعلت معنى لحياتي ...أشكرك أنك كنت جالّدي و جعلتني أدمن قسوتك كدواء لحب حقنت به شراييني دون إذن مني ...أقدّر لك تعليمي عن القناعة التي ال نرضى بها أبدا ...و ألني أحببتك و جعلتني ألتزم بحبك رغما عن إرادتي أهديك قلبي الذي م ّل صمتك و تعب انتظارك ...هو لك حتى إذا نظرت إليه علمت أنك لن تسمح ألحد أن يؤذي ابنك /ابنتك أبدا مستقبال ...أن تحتفظ بهذا الشيء الصغير منيّ هو تعهد منك أنك لن تؤذي المرأة التي سترتبط بك بعدي ما حييت .هو لك وحدك (ينال) .كم تمنيت أن ألفظ حروف اسمك في أذنك عند مساء صيفي تحت قبة الماس. من القلب شهد
كان في العلبة قلبها ...هو قلبها حقا؟ هي التي أرادت أن يحفظ داخل علبة كريستال تمنع تعف ّنه .كانت قد أوصت بها خصيّصا له و طلبت من أحد صيّاغ الفضّة أن
58
يشغله يدويا ...لتهديه لحبيب فشل عن أن يعبّر عن حبه لجبنه و خوفه من أن يقدم عن خطوة واحدة فقط تقطع به الصراط من الجحيم إلى النعيم. األم :لم تكن تعاني من شيء قبال ...لم تشكو أبدا من أي ألم في قلبها ...بقيت أربعة أيام في المشفى و توفيت بعدها ...اليوم هو السابع على وفاة طفلتي الصغيرة. األب :كانت تردد في المشفى أنها كتبت شيئا ما و طلبت من أخيها أن ين ّفذ ما فيها ...لم نستطع أن نقوم بذلك عند وفاتها لكن (آدم) أص ّر على تنفيذ وصيتها و لم نكن نعلم أين نجدك وال من أنت ...و بما أنك حضرت فال بد أنها لم تخطأ باختيار الشخص الذي أرادت... آدم :أين كنت؟ ...بقيت تنظرك و هي على يقين أنك ستأتي _يبكي بشدة_ لكنك لم تظهر أبدا. احتدمت لهجة األخ حتى غافل (ينال) ليجده األخير أمامه ممسكا به من ياقة قميصه و يه ّزه بشدة و عاجله بلكمة قوية جعلت أنفه يزف بشدة ...و ما أن رأى (آدم) ما فعل حتى ابتعد عنه و هو يبكي و كان أبوه قد قام من مجلسه ليهدئ من روع أخ ثكل أخته الصغيرة بين يديه و ن ّفذ وصيتها و أوصل قلبها ليد قاتلها ,و إن علم أنه سبب موتها ...فما ستكون ردة الفعل؟ ليته يقتلني اآلن ...أريد أن تنتهي حياتي اآلن ...أن تتوقف رئتي عن ضخ األكسجين و أن يتجمّد الدم في العروق
59
فقد كانت سبب الضحكة في منزل بات مسكنا لألشباح فقط ,كانت رقيقة على أمها, حنونة على أبيها ...لطيفة المعشر ألخيها إال أنها رحلت بكل ما تعنيه كلمة الرحيل من معنى. كان (ينال) ينزف بشدة لكنه لم يهتم بمدى األلم الذي لحق به إذ أن الطعنة الخرساء التي وجهت إليه عبر علبة صغيرة هدية منها إليه جعلته يفقد الشعور بمعنى األلم ...هي إصابة الرصاصة للقلب حيث يتوقف معها الشعور بكل ما حولك و ترى شاشة بيضاء أمامك ليس إال .هي الواحد و العشرون غراما الذي نفقده عند خروج الروح من الجسد ليصبح كل شيء حولنا مشبع برائحة الموت و الرطوبة العفنة ...هي قلب سيحتفظ به دون أن يخونه ما دامت رئتيه تتنفسان ,هي حنوّ على شيخين كبيرين محاولة منه أن يردم هوّ ة غياب ابنتهم التي كان سبب مذبحها, هي ر ّد جميل بسيط تجاه أنثى جعلت منه رجال شبه متكامل يعرف معنى (رفقا بالقوارير). إليك يا شهد ...يا أنشودة األلب. 28-1-2.11
61
رصاصة تسأل القتيل؟ سمعت صوته يتجهّز من بعيد ...ال أعلم السبب الذي جعل سمعي قويا ح ّد أن أتنبه له فإذا بي قد تنبّهت لطفل من بعيد و سمعت نفسي أصرخ بعزم و قوة أن يبتعد فأنا ال أعلم اسمه ...كان صغيرا ال يتجاوز الست سنوات و يبكي من الرعب المتهالك حولنا ...لم أرى حولي أي أحد أو أي شيء عداه ...ذاك البريء المرتعد الفرائص و ال يعلم حقا ما يجري .تحركت قدماي غصبا عن إرادتي و وجدت نفسي أت ّجه بأقصى سرعة ممكنة أريد أن أمسكه بعيدا عن المرمى الذي يع ّج بمئات المتراكضين الذين يحاولون الفرار و قد غشي قلوبهم الخوف و الهلع من ج ّراء ما يجري .اصطدمت بأحدهم و كدّت أسقط أرضا لوال أنني تداركت نفسي بأعجوبة ...لم أعد أسمع شيء أو أرى سوى هدفي الذي يجب أن أصل إليه ,لم أنتبه أن الهطول كان قويا جدا فكيف لم أسقط بسببه بعد ...أحسست بالهواء حولي بدأ ينفذ و أن الساعة هي ثوان ضئيلة فقط ستحدد مصيرا ال أريد أن أراه أبدا, أبدا .كانت قدماي تسعفانني بكل ما بقي لهما من قوة تحمّل .حملته كمن يحمل ريشة بين يديه ...يا هللا كيف أتيت لي بالقوة كي أصل إليه ,ضممته بحب األب على ابنه رغم أ ّني ال أعرفه و لم أره سوى اآلن.
61
ال أعلم في أي اتجاه أذهب ...كنت أسلك طرقا ما عهدتها قبال ...ما زال يبكي و هو ي ّ شد ذراعيه الصغيرتان حول عنقي شعور جعلني أتمسك بالحياة ال لنفسي بل كي ال أره متهالكا أمامي ...لم أحفل بنفسي بل أريد الوصول حتى نقطة الهدوء كي أضعه هناك ...اختبأت مرّة خلف تلك الحاوية و تارة وراء جدار أو بقايا حائط ما .حاولت تهدئته حتى ال يسمع لنا صوت رغم أنه من الصعب أن تسمع أصواتنا تحت وابل الرصاص و القصف الذي نحن فيه .ال أملك ساعة لك ّني قدرّت الوقت في حدود الثالثة بقليل و كان يجب أن أجد طريقة حتى نرسو على شاطئ آمن قريب. هدأت األصوات فجأة من حولنا ...أمسكت بالصغير أخبره أن يكون هادئا ,زحفت ببطء أتبين من خلف الحائط الذي تس ّترنا وراءه فلم يكن هناك حركة ,مجرّ د سكون ينبئ بعاصفة هوجاء كالمعتاد .كنت أعلم أنها مجازفة كبيرة ...لكن نقطة النهاية ال تبعد عني سوى فراسخ قليلة علّي الوصول إليها بطريقة ما دون أن تتأذى أمانة حملتها في عنقي سأسأل عنها يوما ما. انتظرت دقائق طويلة حتى تبي ّنت أنني أستطيع المجازفة بالعبور ,حملت الصغير بين يدي ...تبينت أنه قد بلل سرواله فقد كان يرتجف من الخوف ...همس في أذني بصوت يرتعد و شفاه مب ّتلة من دمع صامت أن ال أتركه .نظرت إلى عينيه فإذا
62
براءة ما رأيتها قبال تنبع من مقلتين خضراوين و دمع ينساب على خد متسّخ من أثر الغبار المتناثر في األجواء. لم أكن قد تزوجت بعد و ال أعلم عن األطفال إال ما عهدت من أبناء أخي الصغار عندما يأتون لزيارتنا في الصيف .ضممته إلي بشدّة ,قبلّت جبينه ,و همست له أن ال يخاف فلن أتركه أبدا و بقلبي دعوت القدير أن يعينني حتى أصل بمالك له على األرض ب ّر األمان. أخذت نفسا عميقا و ...ركضت أناشد المساعدة ممن هم عند نقطة النهاية ,تناهت إلى سمعي أوالهم ..ثم الثانية ...و تتالت حتى باتت ز ّخاة قوية أوليتها ظهري خوفا على روح من أمر ربّي أمانة بين يدي .أحسست بقيمة عقرب الثانية في الساعة ذاك الذي يسير بسرعة عن باقي عقاربها إال أن لسعته أشد و أقوى ,فمعنى اللد ّغة الواحدة منه تنهي أسوأ صورة أو تكون بداية أسوأ حياة. شعرت بأيد تلتقط الطفل مني ففتحت عيني أبصر أين أنا فإذا هم أصدقائي و أناس عرفتهم قد سحبوني نحوهم و أخذوا الطفل مني يستودعوه مكانا آمنا حتى نجد ذويه أو يكون الملجأ بيته حتى يشبّ . سمعت ذات الصوت مرّة أخرى ...كانت تتجهز ألحد ما ...أخبرت الجميع أن يبتعدوا عن بداية نقطة النهاية ألنها تعاود تجهيز نفسها ثانية ,أردّتهم أن يختبئوا
63
ّ أردت أن أنظر إليها علّي أعلم من بعيدا عنها .راودني ذاك الشعور مجددا حيث أين ستبدأ و في أي اتجاه تريد هذه المرّة ,و بعد أن أبعدّت أحدهم من أمام عينيها كي ال يقع أسيرا في حبها فتقتله إال أنني أحببت المجازفة بمغامرة معها لنفسي هذه المرّة ...يا ألنانيتي! وجهّت وجهي قبالة عينها الكحيلة فإذا بسهم ذهبي اللّون يتراقص من مقلتها قد حمله ملك الحب بين يديه فيكون سهما لن ّ شابه السحري الذي يزف رعشة الحب بين شخصين بلحظة مباغتة لتبدأ أسطورة جديدة .أحسست بها بطيئة تتراءى بين عيني واضحة كمن تعلم مسبقا عند من يكون سكناها ...و تخبرني أنني لك اآلن... ملكك يا حبيبي و بين يديك ,استقبلني بقلبك فأنا شريكتك في هذه الحياة. كانت دافئة جدا ...لم أشعر بقسوتها ,بل ناعمة الملمس آسرة النظرة ..توقفت األصوات من حولي فجأة ,لم أعد أرى شيئا ...أين أنا اآلن؟ أين ذهب الجميع... مازلت هنا ال تخافوا ...هل هناك من يسمعني ...أشعر بدفء غريب هل عاد الربيع؟ انتهى كانون الثاني أخيرا ...ذابت الثلوج عن جبالنا .ال أشعر بصوتي, حاولت تحريك يدي علّي ألمس مصدر الدفء المفاجئ في طرفي األيسر ...هل كان فعال الطرف األيسر؟ ناحية قلبي ...تبت يداك قد أصبتني حقا في مقتلي... لكني رأيت من فوهتك حياتي يا حبيبتي.
64
عاد لي سمعي ,كنت أه ّتز بطريقة ما و أصوات من حولي تناشدني أن أتماسك و أخرى تريدني أن أنطق بالشهادتين ,أحدهم يطلب المساعدة ...أخبرتهم أن يضعوني جانبا ,رجوتهم أن يهدءوا فما من قلق علي بعد اآلن ...لم هم مرتاعين إلى هذا الحد. رأيت األحمر يغطي وجه صديق لي و آخر يديه ملطختان بلون قان جميل ,إال أنهم انصاعوا إلى رغبتي و ركنوا إلى إحدى الحارات .وضعوني على األرض و صوت الموت يحوم حولنا و آهات تترد ...أصوات تكبّر ,كلمات تدعوا البتول و عيسى عليه السالم أن يذهب بالءهم ع ّنا ,و أخرى تناشد إخوانها أن يتيق ّنوا قبل أن يهلكوا. كنت أنظر إليهم بطريقة غريبة ...نعم ,رأيت مسيرتي معهم و أنا أمرّ بوجوههم تم ّر أمامي بكل ما فيها ,كيف تعر ّفت على فارس طبيب جيد ترك أهله و مساعدة والده في أرضه إرضاء ألب أراد ولدا ذو مكانة مرموقة ,ك ّنا في الثانوية معا... درسنا أسوأ المواد ..استذكرنا جميع الفروض ...كان ذو شخصية مرحة جدا .أما خالد فهو من أبناء جيراني الذين عهدت فيهم الثقافة و القوة في الحديث يدرس التاريخ و يتكلم العبرية و العربية و االنكليزية ...أجل فهو فلسطيني المنشأ عربي الجنسيّة ,متمكن من المناقشة عندما يريد أن يسكت أحدهم دون أن يهينه فقد كان
65
المنطق منهجه .بالنسبة إلى توم و هو ابن الب ّقال في حيينا فقد تعودنا أن نلعب مع بعضنا أيام الطفولة عندما يأتي به والده إلى الدكان كي يساعده لكنه كان يقضي معظم وقته معي نلعب بكرات الزجاج و نركض لنمسك بعضنا البعض و نتسلق شجرّة التوت نأكل منها ما نشاء من غير حساب هو من أبرز دارسي المحاماة اآلن .جوان و أخوه ينال ولدا عمتي و الذين تربيت معهما على المرّ قبل الحلو في دقائق الحياة التي مررنا بها أحدهما درس التسويق و اآلخر يختص في العلوم السياسية .آه ...كيف كبرنا. أجل ...الحياة ليست سنوات عجاف و أعوام رخاء فقط بل هي عبارة عن يوم أو بعض يوم ,دقائق نعيشها نحسبها دهورا .تذكرت مقولة" :أن الجسد يخسر واحدا و عشرون غراما فقط من وزنه بسبب عودة الروح إلى بارئها" ,كم أنا خفيف الوزن اآلن أشعر أ ّني في الفضاء وال وزن لي .عاد الصوت مجدا يندد بي أن انطقها... هيا انطق الشهادتين ,ثم غابت األصوات عنيّ تماما. رأيت خالتي و التي أحببتها كأمي و قد ز ّفت عروسا إلى مثواها بسبب مرضها مذ أكثر من 6سنوات ,ها هي ذي قادمة باتجاهي ...هللا كم اشتقتك يا خالتي .ال أصدق ما أراه ...جدي! مازلت كما أنت شديد البنيان .جدتي تقرأك السالم فقد
66
رفضت الزواج بعدك ألنها ال تريد رجال تبدأ معه من حرف األلف بعد أن أنهت األحرف األبجدية معك. كانت ثوان فقط ,بل ...جزء من لسعاتها حتى يتم نقلنا من عالم األحياء إلى عالم األرواح ...هل البرزخ مهيب إلى هذه الدرجة ...النور حولي في كل مكان .خالتي من هؤالء ...لهم وجوه جميلة جدا ...يا هللا .أريد أن أخبر أصدقائي و أهلي عن هذا أرجوك جدي دعني أقول لهم عنكما ....صحيح ال أستطيع العودة. كل هذا بسببك أنت أيتها الفاتنة فمن فهوتك نرى السرمدية ...و بسببك فقط توقفت عن سؤال رصاصك :ترى هل يختار القتيل قبل أن ينطلق أو بعد أن يرى النور عن طريق فوه ّتك؟
27/11/2011
67
بعثرة النهايات أنهى روايته و وقف أمام شرفته في الصباح البااكر ..رياح الشاتاء بااردة قوياة و إذ باااألوراق تتطاااير أمااام ناظريااه دون أن يمسااك بأي اة منهااا .كاناات ابتسااامته رائعااة بغ ّمازة ظاهرة تزيين وجنتيه اللتان أحب ّتهماا كثيارا ..ساقطت ماساة مان إحادى عيناه و هو يرى تطااير أوراق روايتاه علاى حريّتهاا ...ألناه يرياد الحصاول علاى حريّاة روحااه تمامااا كطااائر فااي القفااص تاارك لااه الباااب مفتوحااا ليطياار حاارّ ا فااي السااماء الواسعة ,لكنه ال يعلم أن في السماء طيور غيره أكبر منه بكثير قد تلتهماه إلطعاام أوالدها المنتظرين في العش البارد جياع .أراد أن ينهي كل شخص جازءه الخااص من تلك الرواية بعد أن انتهت حياته. فمنها سيصل أليديّ من لن يهتموا بها و يرموها ..بعضهم سيستمتع بالقراءة فقاط.. آخرون سيفكرون و يبدءون لكن لان يصالوا لنهاياة أبادا ,مانهم مان ينهيهاا تراجياديا مأساوية أو سخافة حالمة رومانسية ,إال أن يد القدر قد أنهتها له و فني كل ماا كاان لديه ..بدأت الشمس بالتحليق و رغم ضوءها الباهت إال أنه جلس يحادق مان خلاف الستائر في قرصها األصفر ..أيقن أنه برغم فراغات النسيج الدقيقة في الساتارة إال أنهاا تساتطيع أن تحجااب وهجاك أيتهااا المحرقاة الساااطعة .شارب ماان فنجاان القهااوة الباردة فوق المكتب و حاول جاهدا أن يبقى مسيطرا على أن ال ينام فمازال يخااف
68
من ذات الكابوس األسود الذي عاف تركاه فاي أي لحظاة أطباق جفنيّاه بهاا محااوال الراحة من تعبه ...بقي نظره على آخر ورقة فوق الطاولة الصغيرة البنية التي بادأ لونها بالزوال متأثرة بقدمها. رافي :أنت أيضا مرهقة مثلي ..مثقلة بكل ما ألقيت به عليك من مداد؟ أم من دموع صاارخة ميتااة مااا عااادت تملااك عالمااات موساايقية لتنطااق بهااا أي اة حبااال صااوتية؟ اذهبي ..فالريح ستحملك و تقرر مصيرك مع من ستكونين ..أفاي الساالل المهملاة؟ أم بين يدي من لن يعرف أن يزيد عليك ثقال مهما حاول؟ أو في أحد الادروج حتاى تخرجي مهترئة مع الزمن. كان النوم قد غلباه تلاك اللحظاة عنادما حملات الاريح آخار تعباه التاي بقيات تتقاذفهاا الرياح ما بين السماء و األرض ..كما زفراته تتصاعد و تهبط مع صدره المتعب.. مع كل ما م ّر به ..لم يكن ليهتم أين؟ مع من؟ كيف؟ شعر بثقل جسمه فجأة يرتطم باألرض جرّاء سقوطه من فوق فراشه ..فتح عينيه و بقي جالسا في العتمة التي يتخللها ضوء النافذة التي ما زالات مفتوحاة مناذ الصاباح الباكر .لم يعي بعد أين هو فما زال كابوسه يحيط بهالته القوية داخل عقلاه ..حااول أن ينظر في ساعته لمعرفة الوقت ..لم يستطع ..جاهاد نفساه حتاى وقاف مترنحاا و كأنه قد شرب زجاجة نبيذ كاملة و هو الذي لم يشرب يوما واحدا في حياته ..خوفاا
69
من أن يعيد ماض يشبه والده فياه .وصال لمفتااح الضاوء فأناارت الغرفاة الصاغيرة فجأة ضوءها الذي أعمى بصره لدقائق حتى اعتاد عليه ..نظر ألول مرة منذ شاهر تقريبا في المرآة المعلقة على الحائط المشقق في الحماام ..لكأناه روبنساون كروساو عناادما علااق فااي الجزياارة المهجااورة ..ذات المنظاار المش ا ّرد .باادأ يدناادن بأغنيتهااا باااالالوعي ..لكااام أحااابّ صاااوتها المخملّاااي ..عيونهاااا الخضاااراء كحااادائق فرسااااي الواسعة ..رنين ضحكتها الطفولي التي ت ّفتح قلبه عليها مذ سمعها أول مرة. وضع صابون الحالقاة علاى ذقناه الخشانة ..تحساس شاعيراتها القاساية ...كام كانات يدها حريرية الملمس عندما كانت تم ّررها على وجهاه ..لايس لاه اآلن ساوى شافرة الحالقة الحادّة تحنو على وجهه المرهق. وجد نفسه يبكي بمرارة ..لم يعاد ينظار فاي المارآة ..إذا بعلقام الادموع ينازف داخال الحوض بلون قان أخا ّذ كلون شفتيها البضّتين اللتين كانتاا تخرجاان األحارف بلحان متناسق كأن أوبرا كاملة تعزف في أرجاء المنزل .غسل وجهه بماء بارد كان يمارّ عباار الصاانبور المهتاارئ كمااا ماارّت حياتهمااا لتتوقااف فجااأة بلاافّ رأس الصاانبور فتتوقف المياه دون أن تبقى قطرة واحدة هاربة كما لحظاتهما.
71
علااى نااار هادئااة كمااا دقااائق حياتااه بطيئااة سااوّ ى قهوته اا المعتااادة دون سااكر ..دون حليااب ّ مكثااف ..تااذكر صااوتها عناادما سأأألها مأأرة :كيااف تسااتطيعين اجتراعهااا إنهااا كالحنظل تماما؟ سيدرى :أليست الحياة بذات الطعم ..إال أننا نستمتع بكل رشفة فيها؟ و نظرت إليه بحنوّ جذب قلبه لتكاون ملكتاه أبادا ..برموشاها الساوداء الطويلاة التاي أسرت لبّه ..بقي يتأمل وقتها كل ما فيها ..تناسق الخلق اإللهي فيها ..لم تكن كبااقي الفرنساايات ذات قااوام تااوب مودياال ..إنمااا رآهااا الساايدة األولااى لجمهوريااة حياتااه األبدية ..كما يعشق العالم لوحة الموناليزا و يتسابقون إليها معلقة على حائط اللوفر دون اسطاعة مساسها ,إال أن الموناليزا كانت بين يديه كل ليلاة ..كال مسااء ..يلافّ خصرها بيديه ليغفو. لم يتخيل أبدا أن أول ليلة ستزهر فيهاا ورود فرسااي البيضااء ساتكون بكال بسااطة نهاية اعتيادية كأي قدر مكتوب على أي بشر تحكمه السنن اإللهية. مرة رأتها عيناه سألته :هال أحببتناي مان المارة األولاى التاي رأيتناي فيهاا في آخر ّ هناك؟ رافي :حقيقة .....ال! فنظرت إليه و قد لوت ش ّفتها الس ّفلى و قطبّت حاجبيها...
71
رافي :بل قبال ذلاك باأعوام ..مناذ الطفولاة البااكرة ..ماذ بادأت كلماة الحاب تعصاف أرجاء بيتي ,بدأت حينها أرى طيفك يغزو حياتي حتى تبينت مالمحاه كاملاة عنادما سلبت م ّني قلبي من بين أضلعي و أسرته داخل عينيك و عذب صوتك .و طباع قبلااة علااى خاادها ثاام حماال محفظتاه كمااا اآلن و التااي تحااوي بضااعة فرنكااات.. وضع حمّالة المفااتيح الجلدياة و دسّاها فاي جيباه و خارج كماا فاي كا ّل ليلاة ماذ ذاك الوقت. عندما وصل باب البناء صفعته بقسوة نسمة ثلجية قارصة البرد ما جعلاه يرفاع قباة سترته الصوفية ليقي وجهه قدر اإلمكان من قوة الصفعات المتتالية ..عنادما تركهاا كما اليوم ...ما توقع أن يعود فال يجادها .ماا زالات جميلاة ,هادئاة ..ببيجامتهاا التاي بلون الد ّراق ..مستغرقة بنوم هانئ ..وقتها فقط استلقى جانبها ليشعر بعدمية رائحاة نفسها الشهية ..لمس برودة يدها فقط ..أحسّ بثقل جسدها دون روحها... غريبة هي الدنيا ..كأنها خلجان البحر المليئة بقناديل جميلة األلوان ,شا ّفافة اللّاون, و بهيّة المنظر ..ما أن تقترب منها لتساعد بهاا حتاى تباغات جلادك لساعة حاشاى أن تبرى عالءمها مناك أبادا ..فحاين تنظار مكاان اللدغاة تاذكرّت األلام و الادموع التاي بقياات تباغتااك وقتهااا ..سااتبقى مخيلتااك تشااعرك بلذعااة الخاا ّل التااي صاابوها علااى الجرح ..كم اعتصر قلبك حتى بات يتوقف من شدة ألم الكيّ .
72
وصل ساحة مارتيو ..الشوارع مس ّقية من كرم السماء ..مازالت مبتلّة حتاى الثمالاة فهي لم تستوعب بعد الكمية الكبيرة من الجود اإللهي الذي بذخ عليها ..نظر بعشاق إلى الساحة أمامه كمن يودّع أمّه لحظاة سافر مفاجاأ و يغياب طاويال عنهاا ..عانقات نظراته كل زاوية فيها ..ثام أدار لهاا ظهاره و اتجاه نحاو مطاار المغاادرة .خطواتاه هادئة ..أفكاره عشاوائية ..ذكرياتاه شابه ممحياة ..إال صاورتها عنادما تساير بجانباه وتمسك بيده بشدة معلنة له خوفها من شوارع الليل الفرنساية و ممان يكوناون بهاا.. كااان يطمئنهااا أنااه لاان يتركهااا أباادا ..لتبقااى ضاااغطة علااى يااده بأصااابعها الناعمااة المتشابكة مع يده الرجولية فيبقى ممسكا بها بقوة مؤكدا لها أنه بجانبهاا ..حياتاه فاي مدنها فقط ..قلبه أسير دائم إلرادتها. شارع مارسييه طويل جدا ..رومانساي حاالم أياام الشاتاء ..وقاف عناد عاامود إناارة ينظر يمنة و يسارة ..يتأمال كال تفصايل دقياق فياه كمان يبصار لوحتاه األبدياة التاي سرقت منه بغتة ..ما كان ليبيعها بأموال وال جاواهر أو قصاور العاالم أجماع ..فهاو من تارك غنااه و فااحش ثاراء عائلتاه ليحياا جانبهاا ..يشاعر بأنفاساها فاوق صادره.. شعرها المنسدل على وجنتيه بجانبه ..يسمع دقاات قلبهاا تعازف طرباا عنادما تكاون صامتة تنظر إليه بكلّية ذائبة و انصهار أشد من انصهار الحديد فاي أعلاى درجاات
73
غليانه في المراجل .رفع بصره ناحية السماء فرآها سوداء كما فحم المناجم ال لون فيها و ال حياة ..وال حتى نجمة واحدة. رافي :حتى أنت بت بخيلة عليّ ال تريدين أن تفرحيني بماسة صغيرة ت ّقارين عيناي بهااا ..يااا ماان ال تضاانين علااى األرض بقطاارة واحاادةَ ,أو تجااافيني اآلن ألنااي بااأمسّ الحاجة إلى حنوّ ك! كانات تحباك أكثار مان أي شايء آخار فقاد كنات تازينين شاعرها بناادفك األباايض الاادافئ ..تلااونين وجنتيهااا و أنفهااا باااللون األحماار المخملااي مااا كااان يزيدها حالوة و ألق في مثل هذه األوقات من السنة .جعلتني أعشقها حا ّد الفنااء ..و تشاايحين وجهااك عنااي اآلن! ألساات تلبسااين عليهااا الحااداد اآلن؟ أكيااد أنااك اشااتقتها مثل اي ..لعيونهااا التااي لاام تمّلااك يومااا .إن كناات أحببتهااا حقااا ..ال تتركينااي لوحاادتي أرجوك! جلس على الرصيف بعد أن أوهنه البرد و المساير ألكثار مان سااعتين فاي شاوارع كانا يجوبانها معا ..أخرج لفافة تبغ و هو الذي كره الدخان و رائحته طيلة عماره.. إال أنه بات صديقه الوحيد اآلن ,فهو يحترق مع كال نفاس كماا يحتارق هاو شاوقا و ألما عند كل نفس يتنفسّه أو خفقة قلب بين حناياه تذكرّه كم هي بعيدة عنه. نظاار فااي ساااعته ..الرابعااة و خمااس و ثالثااون دقيقااة بعااد منتصااف اللياال ..لاام يكاان الدمع دافئا بقادر ألام البكااء الاذي اجتاحاه فجاأة فقاد و ّجاه بصاره إلاى األرض حياث
74
نادف القطاان باادأت تعلااق عليهاا و حيااث وجاادها ,تاارددت ياداه فااي أن يمسااكها ,هااي ذاتهااا ...يااا للسااخرية ..أليساات ماان كااان يح ا ّدثها صااباحا! تلااك المجاهاادة المتشا ّ ابثة بالسطح الب ّني األملس! آآآه ...ما كان يثقلها صباحا قد رشح من البلل و خفّ حملهاا قليال. بعد شرود و تأمل داما أكثر من ثلث ساعة بأحادياث متضااربة داخال جنبياه ..رفاع الورقة حتى يمعن النظر بما تبقى من نوتات موسيقية عليها علّه يقرأ نهايته بعاد أن عايشااها بااأ ّم عينيااه ماان شااهر .إذ بااه يضااحك بهسااتيرية تنبااع ماان الصااميم و دمااوع الذعة تحفر أخاديدها على وجهه كما الجدري ي ّ شاوه الوجاوه بقدوماه ليتارك عالماة تدّل على أن صاحبه عانى أوجاع الدنيا كلها. ما كان مكتوب مؤلم مفرح ..عاودت عيونه النظر والدموع تحتلهاا مساتوطنة ثميناة كمناجم الماس اإلفريقية ..يمعن النظر أكثار فاأكثر دون أن يادري بالكلماات ..عقلاه يريه لوحة فنان مبتدأ يمزج األلوان حديثا إال أنه يتفوق علاى أساتاذه رغام بسااطتها و ّقلة خبرتها ليكون مكانها حائط اللوفر جانب لوحة العشاء األخير. ما بقي على الورقة من كلمات ّ خطها مداده هي ":شاكرا علاى سانوات حباك كلهاا.. بخريفها ,شتائها ..غيمها ,صحوتها ,وتناقضات سمائها ..شكرا على زمن البكاء ,
75
مواسم السهر الطويل ..شكرا على الحزن الجميال ..شاكرا ألناك أحببتناي ..حبيبتاي سيدرا" ذات السيمفونية التي عزفها يوم عودته إليها ليجد الروح قاد غادرتهاا دون رجعاة.. دون ألاام ..دون أوجاااع ..و ال حتااى دمعااة واحاادة .لاام تفااارق البساامة شاافتيها اللتااان قبلهما ذاك اليوم األخير قبل أن يعاود التاراب الاذي أحبّاه إلاى التاراب ليتركاه تراباا تذروه رياح شتاء بارد ..فقاط ألن وقات الرحيال قاد حاان ..تاذكرة ال يمكان إعادتهاا لمكتااب السااياحة و الساافر فتلااك الرحلااة الوحياادة فااي كاال أرجاااء العااالم قاطبااة وعنااد جميع وكاالت السفر التي تعطياك تاذكرة التجااه واحاد إجبااريّ ال عاودة مناه ..ألي سبب كان. بدأت ندف القطن األبيض تح ّل زائرة على الورقة ,يديه ,جفونه المت ّهدلاة ,و دمعتاه جمدت من شدة صقيع ليلة الميالد في شارع مارساييه الكئياب الفاارغ مان أياة حيااة بشرّية تلوح فيه. وجدوا جثته هامدة ال حياة فيها في صباح المايالد عناد شاروق الشامس الفااترة ..دم أزرق في عروق ضامرة ..فقال أحدهم يحدّث صاحبه الذي كاان يطلاب اإلساعاف: ال بد أنه عاشق مات قهرا من ظلم أنثى ,مسكين لم يتحمّل الطعنة منهاا فكاان موتاه ّ المعذبين. مح ّتما .إيييه ...هذه هي فرنسا يا صديقي ...أرض
76
إن كان سمعه (رافي) لنطق بأحب الكلمات لديه :من مات حبيبه قبله علم أن نهايته وشاايكة ..ألن رحياال أحاادهما ياادل علااى قاارب نهايااة اآلخاار ليركب اا ذات الحافلااة.. فيجتمعا أبدا ..دائما ..معا. 10/ 22 / 2009
77
ستائر خرق اء ليست باالسم الالمع الذي يوحي بقراءتها ..إنما عند النظر من زوايا موشور أبيض ...كل منا سيرى معنى مختلف لها كما نرى ألوان الطيف المنبعثة .سأعطي مثاال متكررا و العبرة هنا ,كم منا ف ّكر بتفصيل فيه قد أغفل نتيجة روعة الحب بالقصة كما في "روميو و جولييت" ,قصة الكاتب االنكليزي الشهير "شكسبير".. عندما تذكر هذه الحالة يذكران كحبيبين فقط ..إنما من أهم ما يم ّيزها فعال أنها عن زوجين لم يبقيهما كاتبهما في خرافة األسطورة دون رابط مقدّس يجمعهما .مفاجأة! لكن ذاك ما جعل منها األسطورة الباقية للتصوّ ر و تطبق و تذكر حتى األجيال القادمة ,تلك أحد الستائر الحمقاء التي طغت على أساس حقيقي. إن لم يكن اإلقناع قد أزاح شيئا ..فلنذكر ستارة أخرى ..من م ّنا لم يعشق؟ سؤال غبي حقا ...جميعنا .لكن ...من جمعه هللا بمن أحبّ فعال؟ أو بقي مع من أحب بعد الزواج؟ أعلم ..منكم من سيقول "يوجد" ,لكن كم من مائة أو ألف؟ الحال هو ...أن فخه أو يختاره القلب ..ليس سوى مرآة معدنية ترينا الت ّ من نحب و نقع في ّ شوه الحاصل فينا فقط ...خوفنا من إبعادها ع ّنا خشية البقاء وحيدين منعزلين من المشاعر ..الشغف ..األلم ..االشتياق و معنى الفراق ,حتى البكاء هو ما يجعلنا كما
78
"نرسيس" الهائم بجماله قرب صفحة النهر حتى وقع فيه و مات غرقا لشدّة خوفه و تعلّقه بذاك الجمال الذي كان ...هو. شأننا جميعا ..أن نبتعد عن صورتنا فقط أو عمن يرينا أنفسنا دون تشوهاتها و أن ننتبه أين سنسقط أخيرا .إن أبصرنا مليّا حولنا مرات و كرات ,سن ّتنبه لمن يروننا منذ أمد بعيد و ينتظرون م ّنا إيماءة بسيطة ..فقط بسيطة ..ليجعلونا نرى روعة ّ المغطاة بتفصيل رهف جدا أدمغ بسبب نرجسيتنا ألنفسنا. الحياة الحقيقة عايشتها بنفسي بأشكال مختلفة ...أما أن يكون ذات المكان الذي أتردد عليه مذ أكثر من أربع سنوات ...أنتظر فيه شخصا لم يحضره سوى مرتان فقط.. سيوقظني على ّ ألذ رعشة لقلب كنت فقد ّتها من سنين و تحجرت الشرايين حتى ما عادت الدماء تسري فيها ليتحّول صحراء الربع الخالي إلى واحات ...أيامي تالشت ولم يبقى فيها ناقة وال نخلة ف ّتية حتى و اآلن هي مرتع لقبائل تحّ ل و ترتحل .توقفت مرارا تحت سماءها الجرداء أردد بصري مع أي نجم قد يدلّني على وجهة ما ..أسأل نفسي "ما يحدث هنا؟" دون الحصول على شيء سوى حرّ شمسها الحارقة نهارا دون وجود ما يقيني منها و نخز بردها القاتل ليال دون أية إشارة تهدي فيه غريبا مسافرا يقطعها مشيا برمالها الالذعة و الناعمة المحت ّكة
79
بقدميه المتقرح ّتين ..حتى بات شيئا يعتاد المرء عليه كما رياحها الرملية التي تعمي األبصار. إن تنبهّت باكرا لوجدت أجمل سهل تراه عيني ألشرب من أعذب ينابيع األرض مياهها الجبلية في فصل ربيع ما شهدّته قبال ,و أتمتع بسماء صافية بغيوم بيضاء كما ندف القطن و أشتم رائحة األرض البضّة بعشبها النديّ و أرتوي من قطرات الندى المتراكمة على ورودها المختلفة و عندما يحين المساء أرتقي بمقلتين ناعستين خجولتين ألرى روعة الماسات المتأللئة المزي ّنة على بساطها المخمليّ الواسع و التي تج ّمعت بكلّيتها حول دريّ أبيض كبير تأبى حوريات البحر إال أن تعشقنه حتى تفنى و تصير زبد بحر يبقى يرغي و يطوف شطئان العالم يخبر قصة عشق عذرية بريئة لجمال ما أبدعه إال الخالق في لوحة كونية معجزة بحق. أجل ...لكل منا ستائره الغبية التي تمنعه من متابعة أجمل مسرحية "كومي تراجيدية\ميلودرامية" بحلوها ,مرّها ,ضحكها ,و بكاءها. كم مر ّة أحسسنا أننا فراشة خسرت أجنحتها و أن الماء الذي نشرب ما عاد يروينا أو فيه خطب ما ,و ألي سبب نشربه حتى .بات نوم الطائر مرعبا خوفا من أن ينقطع نفسه ليختنق فيموت؟ أريد الشعور بقلبي بحق ...أن يتوقف الباقي من يومي عند لحظة الفرح دون دمعة واحدة؟ فعندما نتوقع أن اللحظة جاءت ..تذروها
81
الرياح دون رحمة أو رجاء يسمع ..ليسمح لنا أن نحتفظ بها داخل صندوق خزفي صغير نريده أن يدفن معنا في النهاية ,ألن فصول حياتنا لم تكن بالترتيب الصحيح أبدا جزاء بما فعلته أيدينا. سيقال عني"متشائمة حذقه" ...بينما أصف نفسي "المستيقظة أخيرا" .كم صفعة على الوجه بعد بقي لي؟ ال أعلم .حتى مكاني معربة بشكل صحيح ّ بت أبحث عنه في جوامع الكلم و قواميس اللغة العربية حتى انتهى بي المطاف داخل معاجم اللغات المختلفة من فارسية ,أوردية ,و سنسكريتية ,و مازلت أبحث حتى أجد لي مكانا و إن كان كعش طائر في جدار دار ...المهم أن تكون الدار الصحيحة آخر المطاف. أخبرتني إحدى صديقاتي و هي كاتبة أنها مذ تزوجت لم تستطع كتابة سطر و ال حتى جملة متراصّة أبدا؟ ابتسمت حقا و دمعي يغرغر داخل مقلة ملّت البكاء المرّ "لم تريدين حبس أجمل لحظات كتابتك على صفحة الحياة الجميلة التي أتيحت لك أن تعيشي حروفها ملموسة بدقائقها ,ساعاتها ,و أيامها إلى مداد و بردي يفنى مع األيام...اكتبي أيامك الحاضرة بسعادتك حتى يتسنى لك ملئها على الورق فيما بعد ..حين ال يتبقى للمرء سوى أجمل ذكرياته مع شخص أدفئ ليله و أسكن نار جوارحه ببرد إلهي نقي و صافي ,و كفانا ما كفانا صدقيني"
81
أردتها أن تكون كما جدتي عندما كانت في المستشفى و هي تناهز السبعين من العمر بقوام محني تنظر إلى جدي ..ال ككهل جار عليه زمانه و أصيب بعلل السكر و نقص النظر الشيخي ...بل ذاك الشاب ذي الخامسة و العشرين ربيعا...طويل القامة ..شعر ذهبي ..يرتدي ب ّزته العسك ّرية و يف ّتر ثغره عن ابتسامة أخا ّذة أسرت لبّها و هي ابنة الستة عشر ربيعا فقط .عندما تمعّنت النظر في بريق عينيها وجدّتها عاشقة مسحورة لم تعلم أن بداية عذاباتها يوم طرق جدي باب بيتهم خاطبا قلبها قبل يدها ,فبرغم ما عايشته من جحيم ويالت الحرب و التنقالت بسبب منصبه ..إال أنّ ّلذة و حالوة بقربه وجدتها ..أسفرت عن خمسة شباب و فتاتان أنستها تم ّرد زمان جار عليها ما يناهز األربعة و الخمسين سنة... أخبرتني أنه ما خانها يوما و ال أحب غيرها أبدا ..و أنه ما ف ّكر أن ّ يتخذ عشقها ذريعة ليكسر قلبها أو يذ ّل أنوثتها ..رغم أنها خافته بسبب لصرامته كعقيد بارز. هي ملكة قلبه و فؤاده .ما ترك يدها أبدا و هو فوق السرير األبيض بارد الجسد. أح ّبته اليوم أكثر من أول مرة رأته فيها في يوم صيفي بارد المساء ,كانت تدمع ألنها لم تكن تعلم كيف ستعتاد على ما تبقى لها دون وجود صوته ,بريق عينيه ,و حنوّ ه؟
82
جميعنا يوما ما سنجد طريق المنزل ..وننظر حولنا للحياة الجميلة ونتنفس بحرية دون خوفنا من االختناق المفاجئ ,متى تختفي األصوات من حولي حتى أسمع صوتي أنا؟ متى تتوقف تلك الضحكات حتى أسمع صوت ضحكتي أنا؟ اشتقت الوقوف أمام مرآة نظيري ألرى نفسي بعينيه ..ال عين نفسي فقط أو كما يريدني الغير أن أكون .جميل أن نرى أنفسنا بنظر من يحبوننا على عالّتنا ...عدا األهل و أقرب األصدقاء ألنهم بجميع الحاالت يحبوننا كما نحن. قادتني القدرة اإللهية إلى أن تغيير صديقتي موعدنا للذهاب حيث اعتدت مذ أربع سنوات ,ال كي أنتظر من لن يأتي ..بل ألرى من ينتظرني ...ال أعلم شخصه فعال؟ ج ّل ما أتمناه كأنثى و أذكره لكم و أنا أحاول حبس آخر دمع لي ,أن يتقدم م ّني ليكلّمني بصراحة بت أشتهيها كما قلب الفقير يغرف أمام رائحة الخبز و منظره ...آمال أن يقدم صاحب المخبز تحديدا ما يس ّد رمقه و يطلب منه أن يأتي إليه كل يوم فيأخذ حاجته. ّ التمزق على أرصفة ص ّدقوني إنها أبسط مثاال على الحنوّ ,العطف ,تب ّني قلب م ّل باردة و معدة خاوية و عقل بات ال يعلم من الدنيا سوى تم ّني التوقف عن النبض بلحظة قريبة جدا ..جدا.
83
مللت الوقوف تحت المطر وحيدة في غابة ال أرى سوى أغصانها العارية و أنا أحاول رسم سيناريوهات مختلفة رغم يقيني أن ال أحدها سيجدينني نفعا أبدا أمامه, فالمكتوب هو ما سيحصل فقط و عنفواني كامرأة يقف عائقا كبيرا جدا .لكن كما يقال "يكفيني شرف المحاولة" ...دون نوم ,عقل شارد ,يدين باردتين ,و قلب تشبّع بالرهّبة و الخوف من أن تلتقي نظراتنا أو تمضي الجلسة دون أن ينبس ببنت شفة تسّد رمقي أو أعود أدراجي كأم ثكلى فقدت آخر أطفالها في حرب العراق دون سبب واضح ...فقط أنه خرج وحيدا يلعب مع أوالد الجيران بوقت خاطئ. أوهام اليقظة من أجمل ما يشجّع اإلنسان على المضي قدما رغم أي إحباط يمكن أن يقابله من الغير ,لكن كما أخبرني أحد أصدقائي يوما "الطريق من هنا يمكنك العودة ...أو أن تتصلي بأحدهم ليقتلك و يجعل من قبرك مبكى" .فهمتها و تجاهلتها خوف من يعلم أن القتل يودي به لعذاب جهنم و بئس المصير ...لكن مازلت أتأمل فعفوّ هللا موجود. لست أعلم نهاية واضحة لما بدأته سوى أني تجرأت فجأة على كتابة ما تسميّه صديقاتي "تتمة مجموعتي الثانية" لك ّني كأنثى تريد أن تشعر أنها موجودة ,تتنفس, تحسّ أنها محّط اهتمام شخص يريدها فعال ألنها هي ...فقد ّ سطرت معزوفة لي.. أحسست عندها كيف يتوقف الهواء عن ورود الرئتين ال كي أموت ,بل ألني
84
شعرت بحالوة لثوان ...هللا وحده يعلم منتهاها كما جعلها تبدأ .يمكن لكل من تصله أسطري أن يف ّكر في نفسه و خياراته و األسطح العاكسة التي تريه ما خلفه ..ليس فقط وجهه و ما ليس أبعد من أنفه .و كل من يريد أن يرضي غروره على حساباتنا ...هو شيء ما على قارعة الطريق فقط ...فلن أتصل بأحدهم ليقتلني... طريقي أصبح واضحا أمامي .سأبدأ من جديد ,ال كي أعود للخطأ ذاته ثانية! بل لتفاديه مستقبال .و يبقى الحب رصاصة لن تسأل يوما قتيلها قبل أن تستهدف قلبه.
05-02-2010
85
غباء األميرة راحت األميرة تلملم ورودها وتنسج من اللؤلؤ عقدا جديدا تتزين به ألميرها الجديد ,بقيت تنتظره طيلة الليل ولم يأتي ...الريح ترقص مع الستائر دون أن توقف األميرة صراخهم .باألمس كانت قصائده المنثورة على طاولتها وتحت وسادتها هي سلوى ليلها وعالمها الذي لم تم ّل السفر إليه ...حروفه ,ياسمينه ,عطره, وهوائه هي مفردات ال تستطيع حروف الشوق إليه أن تترجمها أو تحكي أسرارها .فقد حاولت مرارا أن تكتب له أسرارها أو أن تجاريه ببعض حروف ال أكثر ,لكنه دوما يقتل حيرتها وصمتها بجمال حروفه .كانت تذوب شوقا َ لحروفه فقد ت ّعودت أن يهديها ع ّ شاقها اللؤلؤ والماس ,ما يتجرأ أحد من قبل أن يكتب عن عينيها أو أن يهرب إلى حجرتها دون أذنها ويكتب عن تفاصيل ال يعلمها إال هو, هي تعلم أن طيفه كان يراودها كل ليلة آالف المرات ينشر الياسمين على فراشها ويحكي لها أسرارها. هي اليوم مشتاقة للون الفجر في عيونه ..أفال يدله قلبه عليها؟ و لم رحل عنها؟ يراودها تراتيل األحرف األخيرة بينهما كيف رحل و كل أحالمه في عطرها؟ لم رحل و بقي في المدينة؟
86
هي حتى ال تعلم لماذا لم ينبت الياسمين في حديقة قصرها و هي أميرة مدينة الياسمين ,و قد نذر الياسمين نفسه لكل البيوت والطرقات في مدينتها! فتحت باب غرفتها و توش ّحت ثوب أحد الخدم لتطرق أبواب المدينة ,علّها تجد حبيبها بين أسوارها وعلى أرصفتها. بدء الليل يبدو مظلما خارج القصر فالكالب هنا تعوي بكليّتها واألميرة تسير وحدها لترى أن الجياع قد افترشوا الطرقات بدال من السجاد ...هي المرة األولى التي تطرق بها األميرة أبواب المدينة دون استئذان ...لم تكن تعلم يوما أن الحياة هنا ال تشبه رفاهية القصور وال األواني الذهبية على مائدتها إال أنها كانت تعلم جيدا طريقها إليه. على باب منزله أطفئت األميرة سراجها وسألت روحها أن توقظه .بقيت منتظرة تحت شرفته عسى أن يحمل عطرها سر وجودها ويجعله يشتاق إليها ,لك ّنها حين اقتربت سمعت صوته يردد أحد قصائده: ال تبكي الليلة أيتها األميرة ال تبكي يا عاشقة يذوب الندى على خدودك و تصبح نيران العرب بين يديك ورود صغيرة ال تبكي فباألمس كنت طفلتي
87
و اليوم أنت أجمل أميرة أنت الطيف يسرح بين العربان كجواد لم تتعبه الصحراء ولم تجعله مرارة القهوة أن ال يحمل وروده أنت اليوم أميرة و ليست يا حبيبتي كل من تسكن القصور أميرة بلون الشمس خدودك و كحل عربي في عيونك فأنت يا )هال( أجمل أميرة اضطربت األميرة وبدء الرعد يصرخ في نفسها ,من هي هذه األميرة التي يحدّثها في شعره؟ أو لست أنا األميرة! كيف لهذا األحمق أن يعشق غيري و يخونني؟ ألم يكفه أنني عشقته وجعلته يعشق ...أميرة. عادت األميرة لقصرها و بدأت تمزق أوراق ذاك الخائن ,فكم من عاشق ال يعلم صها من عشقه سوى تراتيل حروف (أحبك) وال يجيد من الهوى سوى ترهات يق ّ كل يوم كما ألف ليلة وليلة دون اكتراث إن ماتت أميرته في نهاية كل ليلة .ففي كل ليلة سيعشق أميرة جديدة أو يجد حمقاء أخرى يكتب لها بضع حروف تنسيها ضعفه وتكتم عنه غروره .بدأت األميرة تسأل نفسها باضطراب :أيعقل أنه لم
88
يحبني؟ كيف له أن يكتب لغيري ويدوّ ن داخل أوراقه حرف ال يحمل شوقه إلي, هل يعقل أن تكون المشاعر بهذا الثمن البخس؟ أو لم يقل لي ماليين المرات أن حروفه هي أغلى شيء لديه ...يا له من كاذب. هؤالء هم أصحاب المشاعر المعلّبة من ي ّدعون أن حروفهم هي سحر الليل وعشق القمر ,من يرون في عطر الياسمين تاج المدينة هم فعال كتاب مهرة يتقنون كل فنون الحياة وخصوصا الخداع والهجر ...فما أكثر الحروف وما أسهل كتابتها. باتت األميرة تجلد روحها بعشرات األسئلة :كيف لي أن صدقت بوحه و رفضت كل الدنيا ألجله؟ كيف كانت حروفه تجعلني أهرب من قصوري ألكون معه في كوخ! يا لي من حمقاء ,اليوم فقط عرفت أن الحياة ال تقاس إال بكل ما هو حقيقي وأن الحب هو عطر المساء ...هو مدائن أكون أنا أميرتها فقط. أعادت األميرة جمع ما تبقى من أوراق ذاك العاشق لتجد حروف (هال) مدو ّنة فيها ,استسلمت للنوم أخيرا بعد أن جعلت نار المدفئة تحتضن أوراقه وهذيانه. في الصباح وكمثل كل يوم استفاقت األميرة لتجد رسالة عشق جديدة من عاشقها التائه قد ل ّفت على أحد أغصان الياسمين ,فتحت الرسالة وبدأت تقرأها باستهزاء فقد نفض عنها النوم كل وهم الكلمات ,إال أن رسالته لم تكن خاطرة فقط ...فقد سبقها ببضع أسطر ,فبدأت قراءتها بصوت متعال:
89
حبيتي األميرة اليوم لن أدون أسمك فقط كأميرة على حروفي وأشواقي بل سأدع أسراري تخبرك عن شوقي لعينيك عن لون السماء حين تشرقين على مدني على سمائي وقمري كأجمل أميرة اليوم حبيبتي لن أناديك أميرتي بل سأدعوك باسمك فهو عندي أجمل من كل أزهاري وأشواقي أحبك )هال( يا أجمل أميرة وهل يعقل أن ال يكون اسمك حبيتي هو أسم األميرة؟
2002-2-71
91
فقد اإلحساس لم تكن تشعر بشيء ..نسيت اإلحساس بالبرد تماما ..غائبة عن كل ما حولها ,هي حقا وحيدة في مكانها إال دموعها المالحة و الحارّة التي تذيب الثلج و تساعد يداها بإبعاد األبيض من حوله في محاولة منها إنقاذ ما يمكنها ,فقد قتلتها وحدتها ,لم يعد عقلها يحتمل أنه سيتركها وحيدة لعتمة الليل بسرير بارد. هاهو التراب بدأ يختلط بدموع السماء البيضاء و يع ّكر نقاءه بعد نحيب مالئكي دام أليام متتالية ..فقد تضافرت السماء مع ألمها .هي وحيدة في تلك البقعة من األرض ال حبيب معها وال قريب و الرياح تحمل الثلج بكل اتجاهاته المختلفة لترتطم بوجهها كصفعات تحاول إيقاظها مما هي فيه. عندما وصلت إليه ..شهقت بحرقة الثكلى و راحت تمّرغ وجهها بتراب األرض و رحمة السماء ..انحنت لتقبّله ,تهمهم له في أذنه ..إال أن غصّة تحول دون إتمام ترانيمها له. هي ساعة ..اثنتان ..توقف الشعور لديها بالوقت ألنها معه ..بقربه و نسيت كيف يكون الشعور بالبرد و هي تحاول تدفئته بكلّيتها خوفا من أن تؤذيه دموعها .هو من جعل لحياتها ذاك النور بعد ضباب دام لسنوات كدفء شمس الربيع بعد شتاء قطبي طويل.
91
همّها الوحيد الجلوس مقابلته ..مراقبته أثناء نومه ..كيف يتنفس ..حركته ..سكنته.. كل ذاك و كأنها تشاهد أحد أفضل أفالمها دون أن تملّها. جاءها صوت تعرفه تماما و تعلم مدى غضبه و قلقله عليها ..يظهر عليه من رعشة مخارج حروفه كم سار في الثلج حتى وصل إليها. الصوت :إلى متى ..إلى متى تعذبين نفسك و تقتلينني معك ..لقد انتهى ..إلى متى سأبقى أبحث عنك هنا؟ متى توقفين نحيبك؟ أرجوك ..ما زلت إلى جانبك ..كفانا. هي :لن اتركه هنا وحده أبدا ..إنه يشعر بالوحدة ..يبكي طوال ليله ..إنه يناديني.. يريدني جانبه ..أسمعه. اقترب منها و هو يشفق حالها ..يعلم تماما كم عانت خالل السنوات الماضية حتى ال ّتم شملهما معا .لكن ما باليد حيلة .شدّها نحوه بعنف عاشق يخاف على معشوقته ..ضمّها إليه بشدّة فهو يحبّها جدا أكثر من أي شيء آخر في هذا الكون, هو يشعر بألمها..ألنه يتجرع ذات األلم. الصوت :ما زلت موجودا معك ..ما انتهت الحياة ها هنا .أعلم صدق معاناتك حتى رأيته قربك ..ضممته إليك ..شعرت بنفسه يختلط بجميع ما حولك ,لكن العالم ما انتهى بعد.
92
هي :اخذ قلبي برحيله ..سيبقى ذاك االنفتاق الذي لن يضمدّه الوقت أبدا .ما زلت أسمع صوت تن ّفسه قربي ,نعومة بشرته ..كنت أسكر لمجرد رؤيته يغمض عينيه و رأسه بين يدي ..أضمّه لصدري حتى ال يشعر بوحدته ..تلك األشهر معه كانت ثوان فقط ..لمحة بصر خاطفة. أصبحت تعبّر عن كامل غضبها بضربه كيفما اتفق ..بيديها العاريتين ..تشنج صوتها و بكاءها الجارح الذي يخلع القلوب من أمكنتها ..حرقة قلب تذيب القطبين جميعهما و تغيّر جغرافية األرض عن بكرة أبيها. أمسكها بكل ما استطاع من ّقوة ..احتواها بين ذراعيه كي تهدأ ..قبّل رأسها.. جبينها ..يديها ..راجيا إياها أن ترحمهما. الصوت :علينا العودة إلى البيت ..أرجوك ..أرجوك ,الجو بارد جدا هنا ..و يكفيني فقده فلن أتحمل بعده خسارتك أيضا. نظرت إليه بعينها المتعبتين من كثرة السهر و البكاء ..كان بكامل ضعفه البشرّ ي.. عرّته المحنة بصورته الكاملة ,لقد أحبّه كما عشقته هي ..أولم يكن بجانبها حين أبصرت عينيه النور ألول مرة؟ أوليس هو األمل الذي تمنيّاه بعد رحلة طويلة لمحاولة اإلنجاب ..انتظراه معا بكل دقيقة؟ عاشا الرحلة مذ بدأ يركل في رحم أمه
93
حتى الصرخة األولى عند مقدمه .الترتيبات التي ستكون له ..أي مدرسة يرتاد؟ أصدقاءه ..حتى زوجته. انتهى كل شيء بثانية واحدة ..رمشت عين ..أصبح الجسد الغض ..متصلبا باردا بين أيديهما ..ليدفن بذلك أحالمهما معه تحت األبيض ..و تبقى شاهدة قبره هي الشيء الوحيد الذي يدين عذابهما و ما آلت إليه أحوالهما. إن وفاة الولد أمام ناظر والديه لهو ألم ال يعلم مداه إال من رآه ...هو النزع األخير ألم سهرت و ربّت ,هو طعنة خنجر ألب شهد كل حركة و سكنة البنه ...أمسكا بيده عند الخطوة األولى ...حماله عند أول بكاء له ...سهّد عيناهما ألجل أن يراياه يكبر. إال أن القضاء و القدر كان أسرع إليه منهما.
94
لوحة إلهية غيوم مصبوغة بلون بنفسجي جميل بعد مغيب الذهبية خلف الجبل الوحيد الظاهر أمام الرائي ..وريقات زهر الكرز تعبق رائحتها الزكية كيفما اتج ّهت في تلك البقعة الغ ّناء ,تحملها نسمات باردة تشفي كل معلول من علّته ..تحمل أوراق الزهر األبيض الذي تشرّبت وريقاته لونا زهريا رائقا جدا لكأن الناظر إليها يحسبها أسراب السنونو المهاجرة .رائحة العشب األخضر المندّى و المختلط بتراب األرض الرطب بعد ذوبان ثلج الشتاء تجعل جوارحك متنبّهة لتأمل لوحة الجمال اإللهي التي مهما حاول أشهر رسّامي العالم صهرها بمزيج ألوانهم على قماشهم األبيض و جعل من يدفع أغلى األثمان عليها حتى تزين جدرانهم الفاخرة ,أن يستشعروا أو يستش ّفوا عبق تلك الطبيعة التي توقظ أي إحساس قد مات فينا .أن يسمعوا نبضات األرض من خالل قوّ ة تدفق الدم القاني داخل شرايينها و أوردتها بعد موسم سبات طويل .كانت الجداول تفيض عذوبة بفضّة رقراقة ما رأيت مثل فتنتها قبال. تعلّقت عيناه بنجمة قد ظهرت وحدها في الفضاء ,فاف ّتر ثغره عن بسمة دافئة و هو مستلق على ظهره يستشعر مع كل رمشت عين ما حوله ,تلك الماسة تبادله الغزل بوميضها المتكرر ...هي حبيبته ظهرت وحدها حتى تنفرد بشرودها داخل بريق
95
عينيه العسليتين .هل كان سيعرفها أو ينظر إليها بعشق إن كانت بين األخريات؟ أرادت أن تكون األولى في الصفحة الكونية الظاهرة أمامه ...غارت عليه من غيرها. بقي يحدّث نفسه بكل الكلمات و األحرف و يصّف الجمل حتى اغرورقت عيناه.. أ ّنى له قلب يحبّه بعدها؟ كيف يهدي كلماته ألنثى أخرى؟ لون عينيها المائل للرمادي مازال يالحقه في صحوته ثم نومه. قطع حبل أفكاره صوت أجش يبلغه قرب الرحيل ...هو أخوه يساعده على الجلوس داخل كرسيّه المدوّ لب ...جلس في المقعد األمامي في السيارة التي بدأت مسيرها عائدة إلى الشوارع المزدحمة المتسارعة في تسابقها مع العصر من ضوضاء و ازدحام البشر الذين يركضون فيها دون وعي أو بصيرة. كان تركيزه على األضواء المتسارعة و الالفتات المضيئة ,أسماء ألشهر المحال و السوبر ماركات الشهيرة منها و الصغيرة ,الحارات الضيقة بين األبنية التي تخلو غالبيتها من اإلنارة مما يصعب على المرء أن يمّر خاللها خوفا من أ ّية واقعة ال تحمد عقباها ...بقي يتأمل شارات المرور بهيئتها التي تعطيك األضواء الثالثة معلّمة إياك متى تتوقف ,تستعد ,ثم تسير ...إن كان الوقت يعطيك ذات الشارة
96
الواضحة ما كنت رأيت أحدا يموت دون أن يعلم حتى يتهيأ و يودع من يحبونه قبال. ك ّل ما كان ينشده معها بعد حفل الزواج هو أسبوعان في جزيرة (فيجي) التي حلما دائما بارتيادها. بقيا معا ألكثر من ثالث سنوات حتى حازا برضى و مباركة األهل ارتباطهما أخيرا ,عدا ذكر المنازعات الحاّدة التي ما كان لها سبب أصال لممانعة هذا الزواج ...سوى أنهما ال يليقا ببعض ألن مصالح العائلتين فيها متضاربة! أي سبب تافه هذا. تنبّه عند المنعطف أ ّنهما وصال البيت ..ساعده أخوه في جلوسه و أكمل وحده الدخول للمنزل ..استقبله كبير الخدم ,إال أنه رفض أن يكمل معه األخير إلى غرفته فتركه رئيس الخدم و قد شعر أنه في مزاج غير جيد .ارتدى بيجامته الخمرية ذات النقشات البيج _ تلك التي أهدته إياها قبيل يوم الزفاف_ و رفع جسده بيديه كي يتمدد فوق السرير و قد حملقت عيناه مطوال في سقف الغرفة الواسع الذي طلب أن تلصق عليه صورتهما في يوم الزفاف ليتسنى له رؤيتها عند آخر لحظة يغلق فيها جفناه و عند أول نظرة في صحوه صباحا.
97
إذا جلت داخل غرفته ف ّجل ما تراه هو صورها في كل مكان ,هدايا زواجهما التي رفض التخل ّي عنها بأي شكل كان ,ثوب زفافها المعلّق على مانيكان جانب سريره, كل أشياءها حوله كيفا التفت. مضت سنة مذ فقدها ,فقط بعد أربعة أيام من وصولهما (فيجي) ,انتظرا ما يناهز الثالث سنوات حتى تتركه وحيدا بعد أيام فقط. أيقظته صباحا و هي ترتدي رداء نوم حريري بلون المرجان ..ينساب فوقه شعرها الكستنائي حتى منتصف الظهر ,كان ينعكس على لون عينيها الرماديتين ألوانا تجعل المتأمل فيها لكأنه ينظر إلى رائعة من روائع مايكل أنجلو داخل أروقة الفاتيكان الم ّ شعة .أجبرته على اإلسراع في تناول الفطور حتى يلحقوا الركب ليروا أسواق الجزيرة الجميلة .من فرط نشاطها كان يتابعها بإمعان كما يتابع مشاهدوا كرة التنس تحرك الكرة بين المضربين ..و يبتسم عند كل حركة تقوم بها و هو ما يزال في جالسا في السرير يكمل إفطاره ..فهي ما بين الخزانة تنتقي ثيابا تتناسب و السوق ..و ما بين المرآة تتم تبّرجها ثم تعود ثانية للخزانة لتبحث عن شيء آخر ..و تبقى تحدّثه بر ّقة و تترجاه أن ال يتأخرا عن الركب فهم ينتظرونهم في قاعة االستقبال لبدء المسير .ج ّل ما تذكره فعال ,أنه أنهى فطوره قبل أن ينتهي... وقام ليقف خلفها ينظر عبر المرآة آلية حركة يديها و هي تتم زينتها ..فاقترب منها
98
و أحاط خصرها بكل قوة بين ذراعيه ,ي ّ شم رائحتها الزكية بكل ما يملك من أنفاس الدنيا ,ال يريدها أن تنفلت منه أبدا ..أحسّت فعال بما يجول في خاطره ,فاستكانت بين ذراعيه و قد شدّت على يديه أن يبقيا مكانهما أكبر وقت ممكن و قد بدأ بطبع القبالت على عنقها بحرارة ما شهدتها براكين العالم جميعها ..إال أن رنين هاتف الغرفة أيقظهما مباغتا ...فطلبت منه أن يرتدي أسرع ما يمكن و ستسبقه حتى قاعة استقبال الفندق. ركبا الحافلة المخصصة لهم و بدأت بتصوير كل ما يمّر أمامها و يلفت انتباهها, حتى وصلوا السوق ..أمرهم قائد الرحلة و هو شخص من سكان (فيجي) أن ال يبتعدوا عن بعضهم و إن حصل ذالك فبطاقات الفندق معهم و أعلمهم أين سيجدون الحافلة و من أين يركبون سيارة أجرة للعودة ..على أن ال يتأخروا بعد الساعة الخامسة مساء ألن في ذاك خطر كبير على حياتهم ..فالسوق مكان مخيف للمرتزقة هنا بعد الساعة السادسة مساء. عندما بدءا المسير كانت الساعة قد قاربت عقاربها الحادية عشرة صباحا ...لم يتركا بائعا وال بائعة إال توقفا عنده\عندها إما ليريا المعروض أو يشتريا شيئا مع التقاط الصور قربهم .عندما نظر إلى ساعته كانت الخامسة إال ربعا ...أخبرها أن عليهم العودة سريعا إلى الحافلة حتى يلحقوا الركب و يعودوا للعشاء في الفندق.
99
سلكا طريقهما بين المحال و بائعي الخضار حتى تراءت لهم الحافلة فصاح بأعلى صوته أنهما قد وصال ..تنبّه قائد الرحلة لهما و لوّ ح بيده أنهم ينتظرونهما .إال أنه عند اجتياز بعض الباعة المتجولّين ما كان من أحدهم إال أن أطاح بعربته تجاههما فوقع أرضا و أصيبت هي بالجزع و بدأت تصرخ طالبة المساعدة ,فما كان من الرجل إال أن صرخ فيهما بلغة غير مفهومة يطلب شيئا ..أخبرها أن تصل للحافة في الطرف اآلخر لكنها أبت تركه و اقتربت منه ..عندما عاد للوقوف مجددا و قد التوى كاحله بشدة من أثر السقوط ...نظر ناحية الرجل الذي مازال يرفع مسدسه أمامهما ...كان قائد الرحلة قد وصل إلى مكان العراك و بدأ بالترجمة و أن الرجل يريد المال الذي يملكانه و بينما الجدال قائم ...سمعت أصوات سيارات الشرطة... و سمع صوت أول طلقة ...الثانية ...ثم ران صمت عميق .وجد نفسه يصحو في إحدى المستشفيات ليعود بعدها من شهر عسلهما وحيدا دونها ,مقعدا دون حراك. هذه هي الحياة يا صديقي ...ما خلقت إال ...لتأخذ منك ما تعطيك.
111
ما ال نتخلّى عنه ال تندمل الجراح بسرعة تبدأ ذاكرتنا تأخذنا ألبعد مما نتصور تبين لنا ما لم نراه سابقا و نقول :لن نعود لكل هذا ثانية ..لن تزل قدمنا مجددا كمن سبقونا في وعورة هذا الزمن الذي ال يرحم. نكذب على أنفسنا أمام المرآة و نقول :لست أنا. نفكر فيه مرارا و تكرارا بالالوعي ..منجرفين وراء تدفق الدم في أوردتنا و شراييننا بسرعة هائلة ,تصبح مشاعرنا ّ أرق و أرهف ...نت ّقبل األلم بكل أشكاله و نتعلم الصبر و نتجاوز أخطاءنا السابقة لنقع في زال ّت ما عرفناها قبال .نخاف العودة للوحشة ولكربة الطريق وحدنا ..يصبح العقل يفكر بكل ما هو غير موجود و ربما يكون .نحاول االستعانة بمن ليسوا معنا في وسط ّ خط النار الذي يمتعنا صوت رصاصاته و نتلذذ بطعم إصابته لكل حاسة و كل شبر فينا. نأمل استمرارها للمستقبل السعيد ...و ننسى لعبة القدر و عدمية صفاء األيام إلى مال نهايتها .ربما ...يظهر شيء قديم يعيد لهم الذاكرة فجأة فينسوننا في آخر الطريق للعودة إلى ماضيهم هم.
111
أتتحقق؟ عندما يريدها المرء و لو م ّرة واحدة؟ أم يجب أن نرى سخرية القدر أمام نجاحها مع من يحيطون بنا ليزداد ألمنا ..و تحترق دموعنا داخلنا فيكون آخر ما تبقى من خفقة قلب قد فاجأتها طعنة مميتة لن تحيينا أبدا .بل نقبل بكل ما يقدم لنا بعدها لننهي عذاباتنا كما تفعل النار لتنهي لهبها بأكل نفسها قبل أن تأكل ما يحيط بها. سيدي ...لست سائلتك كغيري من بنات (حواء) :لم ؟ فأنا شبه عليمة بك ..لكنني أسألك :أخلقت لتكون ( حواء ) فوضى لحياة رجل ما عرف الفوضى؟ أم نظاما لرجل ما عرف معناه يوما؟ بكلتا الحالتين :هي وجود يحتاجه ...يؤثر و يغير فيه بطريقة أو بأخرى .إنما طريقة هو يحتاجها بكافة أشكالها (سلبا كانت أم إيجابا) .كيف هي داخل قاموسك الذي عشقت التبحر في متاهته ..أهاب منطقه الملغم ..أقف عاجزة أمام مفرداته الحادة ...خائفة مما تخفيه من معان جريئة ضمن السطور و الصفحات ال تخبرني بها (رغم إدعاءك الصراحة المطلقة و أن قولك حقيقة ال لغط فيها) .أشعر بها رغم سجنك لها و بطلب غير صريح منك إلي بأال أح ّدث حتى نفسي التي بين جنبي بها.
112
أخبرني عزيزي ..أهي العقارب المس ّيرة لوقت أو ساعة ما كانت أبدا ..ستوجدها حواء؟ أم دواء لداء هي سبب ظهوره دون علمها و ستحاسب على انتشار عدواه يوما! أيتغاضى عنها (آدم ) إن أخطأت يوما أو كانا في محطة القدر دون علمهما ليكونا باتجاه ال يحملهما لناحية واحدة! فيتركها ساخطا لها ...حاقدا عليها ,منتقما بتعذيب أخرى هربا من ألم سابقتها؟ سؤال لسؤال .....أ هذه إجابته؟ أم هو السؤال المستحيل الحل ...و انتهى كل شيء هنا كما بدأ ...وهذه هي الحياة ..فكفى! لم نتح ّمل أخطاء ارتكبها غيرنا ..لنكون مجاال ي ّفرغ فيه الحقد السابق كلّه ..أو حتى الحتمال سماع ر ّد لم نكن من ارتكبنا حمقه حقا ..فقط لمجرّ د انتقام من الماضي نت ّحمل نتائجه مرارة كدواء العلقم مجبرين على تناوله بداعي أنه شفاءنا! أتعودنا الوحدة و العزلة رغم ضحكنا الظاهر لبكاء قلب ما برأ جراحا سببها طيشنا ,اندفاع تهور الشباب فينا ,اختيار خاطئ كنا سببه يوما دونما التفكير مليا بما سيجعلنا نؤول إليه. أالننا قد اعتدنا سقوطنا دوما في مادتي (الحياة و الحب) و العودة للطريق دون نزيف ظاهر أو صوت مذبوح مسموع على المأل ..و انتهى.
113
أجبني دونما صمت ...دونما إيماء ..دون كلمات تحمل ألف معنى؟ كيف هي الحياة؟ ما هو الحب؟ من هو (آدم) و ما تكون له (حواء)؟
114
مجتمعنا واضح عندما تتوجه أنظار المجتمع ألنثى على أنها :دون مشاعر ,باردة القلب ,أو أنها دون رجل يكمل معها دربها حتى اآلن ....لكأن أصابع االتهام تنهش بها كما ذئاب الليل في يوم ثلجي قارص البرودة بأحد الجبال و قد اصطادت غنيمة ثمينة. أعليها االنتحاب ليل نهار حتى يتأكد من حولها أن ليلها كئيب ح ّد الموت؟ أم مالحقتها لكل رجل تستلطفه هو دليل أنوثة فيها؟ بل سيتهمونها بالمجون و األعمال الفاحشة حتى! متى سننتهي من متاهة الثرثرة و الهمز و اللمّز التي تحدوا بمجتمعنا نحو هوّ ة سحيقة ال قرارا بها ...متى تنتهي عبارة( :ألنه ذكر يستطيع فعل ما شاء)! و ألن المطلقة _سببها عادات المجتمع البالية_ هي حرف ناقص بأعين الناس.. علما أن سبب زواجها أنها وصلت ح ّد السادسة و العشرين أو يزيد و مازالت بكرا! فهي إما عاشقة ولهانة؟ و هذا حرام ,أو ميولها الجنسية خاطئة! أو يجب أن تقبل بمن ارتضوه أهلها لها حتى تسكت كل من حولها بمن فيهم عائلتها و التي اعتقدتهم المذبوحة خطأ (ديمقراطيين)؟ و بعد عدد من األشهر تطلق المسكينة و دون ذنب منها ...و لديها طفل أيضا! ..أي عار جلبته السم عائلتها ,تالم ألنها هي من قبلت أن تتزوج بل و هي من زوجّت نفسها!
115
مسألة قديمة ستقولون ..و أنها تذكر منذ قرون! صحيح. من لم تجلس عائلته أمام التلفاز يستمعون لحديث شيخ جليل أو يجلسون في الكنيسة ليسمعوا موعظة قسّ عن أنبياءنا و كيف كانوا يرفعون من قدر نساءهم و يستوصون بهم كل الخير ...لكن ما أن ت ّحل طامّة بهم ألجل أمر يخص زواج بناتهم أو عملهّن حتى يقولوا :هكذا هو مجتمعنا ..ال يصّح فعل ذاك ألنه ليس من العادات و التقاليد ...ال تقوم بتلك حتى ال تتقوّ ل عليك األقاويل... رغم أنها ال تفعل ما يشين أبدا ...صدقوني ,عملها يتطلب منها االحتكاك مع كافة البشر أو مشروع عمل لها داخل الجامعة يتطلب عدد طالب و من ضمنهم ش ّبان, لكن ال تخرجي معهم فليس جميل أن يراك الناس تضحكين مع أحد؟ فقط ضمن الجامعة! أفهمت ..ال تثق بأي رفيقة أبدا ,من الجامعة /المدرسة إلى البيت ..ال تح ّتك بمن حولك كثيرا ....بينما أخوها على هواه يعيش! سؤالي هنا :ما الفرق بين الجامعة التي تضّم أكثر من ستة آالف طالب و طالبة و بين السيتي مول الذي يضّم أقل العدد؟ و في كال المنطقتين ال يوجد خلوة بينهم و أمام خلق هللا كلهم يجلسون؟ أو ليسوا أهلنا من ربّونا؟ إذا ...فهم ال يثقون في أنفسهم و بقيم تربيتهم لنا!
116
أي مجتمع ذاك الذي ي ّحرم أن تحب أرملة أو مطل ّقة أحدا غير متزوج؟ لكن أهله رافضون تماما ألنها ليست بكرا و ابنهم لم (ي ّقبل فمه سوى أمّه) فعليه بالبكر فقط و إن كانت تصغره ب 20أو 00سنة ال يهم! و ستبقى المسكينة بعقدة رهاب من أن تحبّ أحدا و أن ال تبوح بشيء مخافة ّ المذلة أو النظرة الشزر التي ستحظى بها من قبله ألنه سيعطيها ظهره أو يراها مطمعا لهواه ...حتى من قبل مجتمعها كله ّ الحق باإلعجاب و المشاعر داخلها ليس حقا لها. فذاك إن خان الرجل ...فذاك أن زوجته ال تشبع عينه و تنقص من واجباتها تجاهه ...و إن تزوجت هي بعده ..إما كانت عاشقة للجديد أو أن ال حّق لها سوى أن تبقى لتربية أوالدها بين أربعة جدران تحت رحمة األخ و الصهر و العم و الخال ...و هلّم جرّة سيدي على ذاك ...ليوروها التراب أخيرا بجانب أو حتى في قبر زوجها نفسه. شريعة الغاب أرحم من شريعة خلقها الناس و حادوا عن كل الكتب السماوية فيها ح ّد الهاوية ...أصبحت حياتنا حول ما يجب أن يراه الناس ال ما يسعدنا ...ما يراه اآلخر مناسبا لنا ال ما نريده نحن ألنفسنا ...أن تتطبّع المرأة بصفات زوجها و إن كانت خاطئة كليا هو فرض عين...
117
لست ممن يقفن ض ّد الزواج التقليدي و ال ممن ّ يحق لهن تشريع الزواج بطرق أخرى ممن يحبوّ ن ..لكن مهما كانت الوسيلة (ما يبدأ بالخطأ سينتهي ال محالة بخطأ أكبر).
ما ال يفهمه أحد و تفهمه السيدة التي كتب نصيبها في السماء بأن تكون أرملة أو مطلقة و حتى عانس هو شيء مقدّر ال دخل لها فيه ...و إن حلّت المصيبة بغيرها فتلك (يا حرام) أو (حوالينا وال علينا). صدقوني مهما كانت األنثى تدعّي القوة ستبقى (الوردة وردة مهما عال شوكها لتخفى عبقها و جمال أوراقها) فهي بأمس الحاجة لمن يزيح شوكها ليعتني بها بحنان و دفء ينسيانها أ ّ شد عذاباتها ..ليشرب من الندى المتساقط عن أوراقها صباحا ليعرف معنى القلب العذب الذي تحمله بين حناياها بعدما أرّق الليل البارد كل سهاد لها. الخوف من إظهار مشاعرنا و حساب ّ أدق تفاصيل حركاتنا يمحى عفويتنا و ما تبقى من براءة األطفال فينا ..أن تبكي يا سيدي أنثى بين يديك فهي تعشقك و تراك مالكها الحارس ...هي تحب العيش حتى آخر نفس فيها بجانبك و أنت تحيط
118
خصرها بيديك بقوة حتى تكون أنغام قلبك هي آخر ما تسمعه ...و لو لم تكن الروح من أمر هللا ألهدتك إياها راضية. أن تنظر إليك بعينيها الخجلتين فهي ستنتظرك حتى آخر رمق لها ..فأنت تاجها الذي جعلها ملكة شرعية في قلبك ,كل ما تحتاجه منك :كلمة طيبة ,مودة ,و أنها الهواء الذي تتنفسه أنت لتبقى تنبض بكامل معاني الحياة .أخبرني يا موالي أين العيب في ذاك ...أين األحجية الصعبة فيه! ّ يتشكالن من أصعب معادلة على وجه الكرة األرضية... حب :هي كلمة من حرفان حتى الفالسفة و العباقرة عجزوا عن حلّها ...رغم بساطة تعويض المجهول فيها لتصبح أجمل عشّ لطائر الشحرور ,الكناري ,و حتى البالبل. أن يمسح أحدهم دمعنا لمجرد أنه أحبنا على ّ عالتنا كما نحّبه ...هي معضلة العولمة اآلن ...أن تبوح أنثى مكسورة الجناح بمشاعرها هي ّ مذلّة أمام كل المجتمع الدولي ...أن تعجب إحدانا برجل ما يعتبر خرق ألحد قوانين حقوق المرأة و المجتمع ...و عليك بالتتمة داخل أخبار إحدى مجالت السيدات الهابطة و التي يقرأها حقا الرجل صاحب المجلة أوال.
119
أن تفصح المرأة عن غضبها من أوالدها و زوجها و كثرة الضغوط ممن حولها (جريمة ال تغتفر) أما أن يتملّص الرجل من مسؤولية البيت و يهجر أطفاله فهي (مسألة فيها نظر). صراحة ...أعتذر من الرجال الذين هم ما بين 0 – 7من األلف الذين يحترمون نساءهم بصدق و يعلمون حق هللا فيهن ...و أحد أصدقائي منهم حقا ...أعلم أنه سيستهزئ و يقول :شكرا صديقتي العزيزة ,رغم علمك بما قاسيت منكن أنتن النساء إال انك لم تبغضينا حقنا نحن األقل من األقلية حتى ..فأي نيشان سأضعه في مكتبتي اآلن ...و يا له من فخر. أن نحب و نهوى هو عيب زمان بات المال و الشهوة أهم عناصره و ليس عيبا فينا! ...تحديد مصائرنا بيد مجتمع يرزح تحت عادات جاهلية ما كانت على زمن أنبياءنا ...هي التشريع بين أيدي أكبر قضاتنا. أحب ...بأعلى الصوت أقولها و ليكن ما يكون ..سأتصرف على سجيتي و بطيش شبه مدروس و محبب ألجله ..ألني أراه رجال في نظري ..و ألنه جعلني أشعر بذلك ..و إن تطلب األمر كل مجهود حتى أجعله يبقى ألجلي. ما من عيب في قلوبنا و بصائرنا ...العيب بمجتمعنا الواضح كما الطريق الوعر يغطيه ضباب ما شهدته إنكلترا قبال عبر التاريخ ...فتعلمّي سيدتي كيفية اصطياد
111
الرجل باحترام فتكسبين رضاه .و إن أحببت أو لم تحبّ سيبقى مجتمعنا في سيرتك و ت ّقول األقاويل عليك في نهاية المطاف. كوني أنت كما يجب أن تكوني ..بعقل و قلب شغوفين يحبّان الحياة بحلوها و مرّها و كفى .و على جميع البشر من حولك السالم. 06-28-2010
111
معنى الوحدة و االنتظار اعتدت في كل مساء المجيء مع أمي بعد انتهاء عملها إلى هنا ,تشتري لي كيسا من الفشار و أكرر عليها :ماما بالون برتقالي ..أرجوك ماما و أمسك بتالبيب تنورتها و أشدّها بقوة حتى تستكين لي. أحببت عند دخولي للعب أن أبدأ الزحلقة ,ال أم ّل الصعود على درجها الحديدّي ذي الطالء المكشوط مرارا و تكرارا ألشعر بعدها بهول سقوطي من على سطحها األملس ما يجعل قلبي يهبط بفرحة عارمة و ضحكة كانت أميّ تهواها من طفلها ذي األعوام الستة لتر ّد عليّ بعينيها التعبتين من آثار دوام عملها الطويل. في معظم األحيان كانت أمي تبقى جالسة على المقعد تشاهدني و أنا ألعب لم تكن تلعب معي ..فهي تقول لي :أنني مرهقة من العمل اذهب و العب أنت فأنا أراقبك. نادرا ما يكون هناك أطفال أللعب معهم في ذاك الوقت من المساء ...لم تكن مشكلة من أن ألعب وحدي فقد اعتدت ذلك و ألنني الوحيد عند والديّ . كانا يخافان علّي فال تسمح أميّ أن أقترب من أوالد الجيران كثيرا فمعظمهم يكبرونني بسنوات عدّة ...لذا أصبح اللعب مع ذاتي شيئا شائعا عندي ,حتى لكأن ظلّي بقي صديقي المفضّل لفترة ما ,و لم أعد أراه أبدا بعد ذاك اليوم أبدا.
112
كانت عيونها تشاهدني بحذر و خوف ,تبقى تنبّهني دائما و تقول( :جود) ال تتسلق الشجرة( ,جود) ال تتأرجح بقوة ,ال تركض بين األرجوحات..ال ال ال ال ال ..كانت تهددني دائما بحرماني المجيء مرة أخرى إلى الحديقة إن لم أطع أوامرها .بعض األحيان أكون منزعجا جدا منها ..فأخبرها أ ّني كبير و أعلم كيف ألعب! أحببت الرسم على الرمل ألشكال مختلفة أو أحرف تعلم ّتها في المدرسة مع معلمتي التي علمّتني كيف أحبّ المدرسة في أول يوم لي فيها بعد إحساسي الغريب أ ّني انسلخت عن بيتي و ابتعدت عنه حتى وصلت الصفّ و قابلت معلّمتي (غنوه) اللطيفة ذات الصوت الهادئ ..كم اشترت لي من األكالت اللذيذة حتى ّ بت ال أنقطع عن المدرسة أبدا ..كم أشتاق لرؤيتها مجددا مضت أيام طويلة مذ آخر مرة كانت في الصف تجعلنا نلّون على دفاتر الرسم وترى مهارتنا ,ما زلت أذكر إطراءها على لوحتي التي عدّت بها للمنزل و علق ّتها أمي على الحائط قرب سريري ..حتى أن أبي أعجب بها حقا و أخبرني أنه يريد واحدة لمكتبه .نمت وقتها و أنا سعيد و مشتاق للصباح حتى اذهب المدرسة في اليوم التالي. من بضعة أيام و نحن في الحديقة مع أمي و أبي كما جرت العادة أن أتزحلق أوال ثم أصعد األرجوحة ألستمتع عند دفعها عاليا بنسمات عليلة ترتطم بوجهي ما يطربني فرحا و أضحك ملئ قلبي استمتاعا بذاك الشعور الحالم من النشوة ...فجأة
113
توقفت عن األرجحة و ركضت حتى ساحة الرمل ألرسم من مخيلتي الصغيرة التي ترى األحالم شيئا حقيقيا و ت ّخط يديّ خرابيش مختلفة و أحرف متك ّسرة تعلّمتها حديثا. كنت أتمنى من والدتي اللعب معي على الرمل ...إال أنها تمتنع دائما ,حتى أبي يجلس جوارها يقرأ فيما يسمّيه الكبار (الجريدة) وال أعلم ما هي سوى أني أرى صفحات بيضاء مخطوط عليها باللون األسود. ينظر إليّ بطرفه مبتسما و يخبرني أنه و أمي متعبان من العمل ,فاذهب و العب مع ذاك الطفل أو تلك الصغيرة الجميلة ...ال تهتم بنا ...عليك اللعب حتى تكبر, هيا يا صغيري ,أم أنك تعبت و تريد العودة للمنزل؟ كنت عندما أسمع كلمة المنزل ,أ ّفر هاربا لأللعاب مجددا خوفا من انتهاء أجمل حلم لي عند كل مساء .ذاك اليوم بعد أن تزحلقت و تأرجحت و خربشت على رمل الحديقة ال أعلم لم انتقلت بعدها على القرص الدوّ ار ,يبدو أ ّني أطلت اللعب عليه فقد انتابني دوار لم أحسب له باال ..كوني صغير و أردت اللعب فقط ...علما أن أبي وبخني مرة ألني ركبته و تقيأت عليه ..فنهرني من العودة لتلك اللعبة المؤذية ثانية .لكن في ذاك اليوم بعده مباشرة تسلّقت القوس الحديدي الصغير الحجم ذو الطالء األصفر المهترئ ...ما جعلني أخرج بشقوتي بأن أعلّق قدمي بين درجتين
114
فيه و أقلب رأسي لألسفل و ّ بت أصرخ لوالديّ فينظران البنهما البطل المقدام كما في أفالم الكرتون التي اعتدت مشاهدتها. ال أعلم ما حصل تماما ,سوى أن إحدى ساقيّ تعبت من حملي فتفلّتت من بين الدرجتين ...و سقطت على رأسي مباشرة. ما شعرت به هو شيء دافئ تماما تحت رأسي و إذ بأبي يصرخ طالبا اإلسعاف.. صوت أزرار جوال أبي الذي يتحدث مع أحد ما بعصبية متناهية و أمي تبكي بجانبي و تطلب المساعدة ....لم أسمع بعدها شيء أبدا كنت في ظلمة حالكة... حتى أ ّني حاولت أن أنادي على أمي لتنير لي الضوء داخل غرفتي ...كنت أخاف من وحش النوم أن يأتي و يأكلني أو يسحبني بعيدا من حضن أمي و ح ّنو أبي... أو لعلني ال أرى معلمتي (غنوه) مجددا! عندما صحوت ...وجدت نفسي في الحديقة وحيدا ,كالفراشة الوحيدة قرب ضوء الحديقة تحوم وحدها دون أبويها أو رفيقات تلعبن معها ..لم أجد أمي أو أبي ,وال أطفال في ذاك الوقت من المساء .فأنا أصحو دائما في ذات المكان و بنفس الوقت. الجوّ لطيف و بدأ الشجر يتعّرى من ثيابه الخضراء ..لعبت األرجوحة و تزحلقت حتى مللت الصعود و الهبوط ,رسمت على الرمل ...لكني لم أصعد على القوس الحديدّي مرة أخرى خوفا من السقوط مجددا ,فما زال رأسي يؤلمني حتى اليوم,
115
خفت إن رأتني أمي أن تنهرني و تغضب علي .مللت الوحدة ...تعودت الكتابة على الشجرة العريضة الموجودة في الحديقة ,مذ أصبحت وحيدا ,ألعود فأجلس على الكرسي أنتظر انتهاء أمي من عملها لتصحبني إلى المنزل ...إال أنها لم تعد تأتي ...و لم أرى أبي أبدا مذ ذاك اليوم .كم مضى من األيام التي تحسبونها أنتم الكبار ال أعلم ...إال أنه في يوم ما كانت هناك فتاة صغيرة جميلة ,سمعت أبوها يناديها (كنانة) وجدت نفسي أركض إليها أطلب منها اللعب معي ...ناديتها فلم تجبني! عاودت مناشدتها اللعب معي فقد مللت الوحدة القاتلة حتى ظلّي لم يكن يظهر لي ...عندما لم تعرني (كنانة) انتباهها ركضت نحوها أريد أن أمسك يدها و أشدّها ناحيتي للعب معي ...إذ بيدها تتفلت منيّ دون أن أدركها ...أجهشت بالبكاء ...شعرت بخوف كبير دون أمي و أبي .بقيت أبكي و أصرخ أني أريد أمي ...أريد الذهاب للبيت ,دون أذن تصغي إلي أو أحد يتل ّفت نحوي ...بدأت األمطار حولي تكثر و الهواء يشت ّد على أشجار الحديقة و تصطك األغصان شبه العارية ,لم أبت ّل ..لم أشعر حتى بقطرة المطر ,رغم أنني أذكر أول شعور لي بارتطام حباتها على رأسي و وجنتيّ و كم كان أبي خائفا من أن أتبلل و أمرض.. لكنه كان فرحة عارمة لي أن تالمس حبات المطر وجهي و أفتح فمي فأرتوي منها قدر ما أشاء ..أما اآلن فأنا ال أشعر بها أبدا.
116
الت ّفت و إذ بوالد (كنانة) يحملها و يركض بها خارج الحديقة و يضعها في السيارة و هي ترفض مغادرة الحديقة. نظرت حولي ...بكل االتجاهات ,ال أحد! أصرخ و أبكي و أنتحب ..لكن ما من أحد يسمع! بعد أن أنهكتني الدموع الحارقة ...أصبحت جفوني تطبق على بعضها ,توجهت نحو الكرسي الذي اعتاد أبي و أمي الجلوس عليه ,جلست عليه أنتظر ع ّل أمي تأتي اآلن فتراني من خارج سور الحديقة فتدخل متله ّفة لحملي بين يديها الحانيتين تعيدني لسريري في المنزل و تحكي لي حكاية قبل النوم و هي تداعب شعري حتى أنام. بين االنتظار و الوحدة و الخوف ..غلبني النوم ,على الكرسي ذاته أطبقت جفوني ...كم من الوقت نمت؟ ال أعلم .سمعت بكاء بالقرب مني تماما على ذات الكرسي الذي كنت ممدا عليه ...عندما رفعت بصري ...إنها أمي! تبكي بحرقة وهي تنظر إلى األلعاب الصارخة بالوحدة ...المجرّ دة من كل حياة يمكن أن تدّب فيها في المساء المتأخر ,صرخت من فرحتي( :ماما) حبيبتي ..لم تأخرت عليّ .. كنت خائفا وحدي يا (ماما) ..أرجوك أعيديني إلى البيت ...خائف أنا يا (ماما) أرجوك .عندما اقتربت منها محاوال مسك يدها ..إذ بيدها تم ّر خالل يديّ
117
ّ همت بالرحيل وحدها ...لم الصغيرتين لصبي الست سنوات ...نظرت إليها و قد تسمعني إذا؟ بدأت الصراخ :أمي ...ماما ...ال تتركيني ,أرجوك ...خائف وحدي هنا ...أحبك ماما ,اشتقت لصرامتك معي ...لقبالتك لي قبيل النوم ...اشتقت حضن أبي و حمله إياي بين يديه الكبيرتين الدافئتين. لم تكن تسمعني أبدا ,نزلت من على الكرسي أتبعها حتى حال باب الحديقة بيني و بين خروجي وراء أمي أمسك بيدها الدافئة التي لم أعد أشعر بها بعد ذاك اليوم أبدا. لم أعد أبكي بعدها ..فقد اعتدت أن أكون وحيدا ...بال أمل ...دون حنان ...بدموع و بكاء ال يسمعه أحد غيري. 01-15-2010
118
من نحن؟ كانت تجالسه ,نهارها و ليلها ..أم ّر جانبها دوما دون أن تلتفت إلى شخص معين من المارّين أمامها .جذبت انتباهي من قرابة الشهر ,ظننته سيأتي ...ثم اليوم التالي ..الذي يليه ...دونما أحد .لكنها ما زالت تجالسه. تجرأت مرّة من خلف زجاج نافذتي و سمحت لنفسي بتصويرها ..صورة ,ثم أخرى ,و تتالت علّي األمور ..حتى باتت هاجسي بأن ألتقط لها صورا ...أردت البحث فيها ...عما فيها ..ما لديها ...إلى أين تترقب ..و كيف تنظر لم حولها.... ّ التقطت صورة الفتاة الصغيرة في الشارع و التي نلت بسببها جائزة كنت قد عالمية! صحيح ...هذا هو عملي ,أن ألتقط صور بشرية ,ألشخاص عميّت بصائرنا التي في الصدور عن رؤيتهم النهماكنا الشديد بمدنية فانية و أحداث العصر المتسارعة ,المتتابعة ,و المتصارعة المزعجة ..ما عدنا نرى ما يحوم بيننا من بشر و أناس رغم قربهم م ّنا ,فهم ....منسيّون تماما مبعدون من إطارا لوحتنا للنظر. ّ بت على حالي هذا قرابة الشهر إال أيام معدودات ..صراحة ..كنت أحسبها عمياء ...فقد مررت أمامها أتظاهر أنني أصوّ ر بعض الورود من الحديقة و الفراشات المتطايرة حتى ألتقط لها صور قريبة ...ما أبدت حركة أو سوء مني,
119
لوال أن صبيا صغيرا ال يتجاوز الخمس سنوات م ّر من خلفي و سمعته يصيح بفرح :صباح الخير يا عمّة .فابتسمت و أومأت برأسها ..و بصوت مرتعش, لطيف :صباح الخير ميركو جميلة هي ثيابك الجديدة ,تليق بك حقا. ج ّل ما فعلته ,هو أنني بقيت واقفة كأعجاز النخل الخاوية دونما حراك ,فإذا بنسمة هواء ناعمة أحسست معها بحرارة بدأت تنساب على وجنتي .ما كان مني سوى أن عدّت أدراجي محاولة تذ ّكر نظرتها عند رؤية الصبي ...كيف غافلتها لؤلؤة من ّ خطت سنون حياتها عليهما ما يد ّل إحدى مقلتيها ,و مازالت ابتسامتها تالزم شفتين على عمر يقارب السبعين يزيد أو ينقص .نظرة إن أردت تسميتها أو وصفها فلن أوفيها ّ حق أنثى وال حتى امرأة تعلّمت لغة الصمت مبكرّة عن قريناتها عند عجز األحرف عن الوصف. عند دخولي سكني ,كنت أتخبط في ذاتي كما لم أكن قبال ,نظرت إلى المرآة مرارا ..دونما نتيجة ,لذا قررت أن أخرج الصور من رحمها األسود إلى نور الحياة ,لم أتع ّجل ذاك األمر قبال ...هي المرّة األولى التي أجهض رحم آلة تصويري قبل أوانها رغم أنها تتحمل كثيرا من الصور بعد ...المرّة األولى التيٍ أعي فيها معنى المخاض المبكر!
121
شيء ما جعلني أدور البيت دونما هدوء أو سكينة ...متمنيّة أن تجفّ المعل ّقات داخل غرفة المخاض الحمراء اللون ذي الرائحة الن ّفاذة لألنوف من جرّ اء المواد المستخدمة في التحميض قبل أن تبلغها أرضة ال علم لي بمنشأها و جديّة وجودها سوى في النفس البشرية التي جبلت على العجل .كان عليّ انتظارها حتى اليوم التالي .ما أطبق جف ّني لحظة ,و ما استق ّر جسدي فوق الفراش هنيهة ...شيء ما استرعى اهتمامي كي أنظر إلى منزلها علّي ألحظها في مكانها مجالسة له ,على ذات الكرسي ...الخشبي اللون ,العتيق الطراز لكنه ي ّنم عن ذوق جميل و ّ مهذب. كلمّا رأيتها كانت ثغرها يهمهم بشكل دائم ,لم أرى بيدها كتاب أو سبحة ,و ال سمعت صوت مذياع أو رائي علّها تردد بعده ...ربما هي ترانيم تحفظها من زمنها عن ظهر قلب تخطر على بالها فجأة ...لكن لم أسمع لها نوتة و لو شاذة تخرج من بين شفتيها .عساها مصابة بإحدى األمراض العصبية التي يصاب بها كبار السن. توجهت نحو المرآة ,أردّت رؤية نفسي ..ج ّل ما ظهر أمامي هو نصف وجهي من خالل الضوء المنسّل من انعكاس القمر في تلك الليلة عبر شرفتي .وقفت طويال أنظر نفسي ...بدأت أتحدث مع ذاتي المنعكسة في المرآة مطوال ,محاولة فهم سرّ ذاك االهتمام بسيدة عجوز ربما هي خرفه تماما! ما الشيء الذي استرعى اهتمامي بها! رغم وجود سيدات مثلها .إن أردت ...استقبلتني أرقى دور العجزة التي تمتلئ
121
بها النمسا إذ أنها ستصبح ذات أهمّية ألن ّني سأجعل دورها تظهر بأشهر المجالت المحلّية و العالمية و ستستقبل الهبات من كل حدب و صوب ...إنما في حالتي مع تلك السيدة ...المجهولة ...كنت كمن ترى مستقبلها عبر بلّورة السحرة و تقرأ بكل ث ّقة و وضوح أوراق التاروت المخيفة. جلت بمخيلتي و أنا أبتدع كافة المواقف التي من الممكن مساعدتي على أن أبتدئ معها حديث يجعلني أتقرّب منها ...عساني أجد مكمن الحيرة التي جعلت فيه النوم يتخلّى عني ,ثم! من ذا الذي تنتظره مجالسة شرفتها ال تخالفها إال قليال و بخطوات ضعيفة جدا. ما أن المست غرفتي أول أشعة الدفء حتى ّ بت أتراكض نحو الغرفة الحمراء الملغومة كطفل صغير في صباح الميالد يسعى نحو شجرة الربّ عساه يجد ما تمنى ...إنما الفرق بينه و بيني؟ أنه يعلم مسبقا ما سيجد ,بينما ال أعلم حقا ما سأرى عند تلك الشجرة السحرية الغريبة التي أتتني من بالد العجائب. بدأت أجمع كل ما ت ّم تعليقه على ذاك السلك الرفيع الشبيه بالحافة ما بين الجحيم و النعيم ,الماضي و المستقبل ,الحقيقة و الخيال .....عدت مسرعة حتى غرفة الجلوس و جلست متربّعة على األرض _نسيت الشعور بالبرد في أكتوبر من ذاك
122
الوقت_ و جلست أصّف لوحات ال علم لي بكنهها أو كيفية تسييرها لي نحو بحر لجّ ي لم أحسب أن خوض غماره سيكون مؤلما ح ّد الذبح من الوريد حتى الوداجي. بسمة ال تفارق ثغرا م ّل الكالم و صفصفة األحرف المتملّقة لبشر نسوا نعمة اإلصغاء و التي بها تحيى القلوب الضامرة فينا ,عينان عسليتان أصفى من شهد جبال األلب فيهما براءة طفل لم نعد نشهدها في معظم أطفال اليوم اللذين تفتحّت براعمهم على أشواك القنوات الفضائية و الرائي الم ّ شوه لعقولهم ...بضع خصالت من شعرها الفضّي اللون و التي برزت من تحت غطاء رأس مجركش بألوان ترابية صافية تناسب بشرتها القمحية اللون تد ّل على ع ّزة نفس المرأة تحملّت من مشاهد حياتها ما يشيب له الولدان ...دافئة ,حنونة ,لديها إيمان و ثقة ندر وجودهما بين البشر في عصر التكنولوجيا و السرعة و حب المال و اللهاث خلف دنيا لن تعطينا ما نتمناه أبدا ...أبدا. بعد أكثر من ساعتين جلوسا على األرض و بعد أن أحسست فجأة بألم حاد في ظهري ...حاولت الوقوف متوجهة نحو النافذة ,أناظر شرفتها التي ما مل ّتها مذ عرفتها و انتبهت حينها لوجودها كجارة لي ...مضى وقت لم أعلمه بوقوفي... فجأة شعرت بنفسي ...بشعور مرعب حقا ...مخيف ح ّد أن قلبي بات يتوقف عن ض ّخه لألبهر ,عدّت أنظر للصّور المصفوفة فوق بالط المنزل ...اقتربت منها
123
الهوينة ...خطوة ...تلتها أختها ...لم أدرك إال و أنا أنظر لمصفوفة عجيبة إن أراد فيثاغورث أو أرخميدس حلّها ما توصال ّ لمثل تراتبيّتها ...ركضت الهثة نحو آلة ّ التقطت صورا لتلك المصفوفة العجيبة ...سيدة مس ّنة بكل حركة و التصوير و سكنة ...لكل نظرة و ر ّفة جفن ...لمقلة تغافل صاحبتها ببضع قطرات من الرحمة اإللهية التي تجد طريقها عبر تجاعيد وجه نسي معنى الثغر ,اللمسة الحنون من يد زوج ,ولد ,وحتى ابنة. جلست على األريكة أضم ركبتيّ بين يدي ,أحدّق بلوحة تمنيت لو أن دانتي أو أنجلو كانا موجدان ليبديا رأيهما بهاّ , بت أهذي :لو أن شكسبير و حتى غارسيّا... كيف سيعبّران عن ذاك المشهد! بأي جملة ,كلمة ,أو عبارة سيصفون زمنا باتت دور العجزة فيه ّ أرق و أحّن على وحدة عجائز من يد ابن /ابنة ملّى هرم والدهم / والدتهم ,فكان األيسر و األسهل للتملّص من مسؤوليّة ر ّد جميل بسيط بإرسال بطاقة في العيد ...زيارة في المناسبات ...هي الواجب و الوسيلة لكسب الرضى و الو ّد دون حمل عبء ما تملّص األب و األم منه يوما. بقيت شاردة بما رسم على أرض الغرفة من صور و قلبي يخفق على غير هدى بما ال أستطيع تفسيره ...ساعتان ...نصف النهار انقضى ,و رنين الهاتف لم
124
يتوقف حتى أن الرسائل الصوتية لم يعد لها مكان إضافي في الذاكرة ...لم أكن عابئة بكل ما حولي ...غائبة عن الشعور بالزمان و المكان... تك ...تكك ...تك تتك ...نظرت دون أن أعي إلى ما تراه عيناي ,بشرود بالغ... جوّ رمادي ...ماء يرتطم بكل ما يصادفه و هو يتساقط من عيون السماء ...نظرت نحو الحائط فإذا ساعته تخبرني أن الوقت قد حان لخروجي من زوبعة الالوعي. ثالث ساعات واقفة فيها على قدميّ أدندن ألحانا مختلفة بسرور و خوف يتملّكني ...إال أنني آثرت المجازفة بما أوحاه لي عقلي و وافقه عليه قلبي ,ارتديت فستانا بلون النبيذ األحمر و حذاء مخمليا أسود اللون و حملت معي ما استغرق ثالث ساعات من وقتي ...كان رذاذ المطر الخفيف منعشا ...قطعت الشارع و يدي ال تكادان تحمال ما فيهما رغم خ ّفة وزنه ,يخفق الفؤاد لسبب ال أجهله ...الخوف يتملكني و أصابع يديّ تتجمدان ...و بدأ الخدر يتسلل ألطرافي ...وقفت أناظر الخشب أمامي ,هل أنقر نقرا؟ أم أضغط جرس الباب أفضل؟ كنت كمن يذهب لمقابلة تحدد مصير حياته بكاملها ,كيوم الحساب بين يدي الربّ و لم يبق لدي سوى قطع الصراط المخيف حتى أنجو ...فهل! بقي قلبي متوجسا من مجهول. تعدّت التاسعة مساء ...أخذت نفسا عميقا ,جمعت ما بقي فيّ من شجاعة فقرعت
125
الباب بيدي ..خوفا من أن أزعجها إن كان وقت نومها أل ّني لم أرها تجالس نافذتها اليوم. ّ ضغط الجرس ...ال أعلم لم انتابني خوف عدّت للقرع ثانية ,بعد برهة تجرأت و أن يكون سوء قد مسّها أو أن فضولي أدى بي للتد ّخل بحياة سيدة ما أرادت مجهوال أن يعبر ذاك الجسر إليها ...يا لتفاهتي حقا .بعد برهة أدرت ظهري و نزلت الدرجات عائدة إلى منزلي ,نظرت مرّة أخيرة إلى الخلف ...نحو باب منزلها ...علّي أرى نورا منبعثا يد ّل أنها استجابت للطرق ...فما كان من قدميّ إال أن قادتاني مجددا نحو درجات السلم المهترئة ألجلس على إحداها و قد وضعت الطبق الذي كنت أحمله جانبي .بدأت أنظر حولي ...أمعن النظر و أرهف السمع بكل شيء. خطر إلى ذهني أن أرى بعي ّني ما تراه عند جلوسها ...ما الذي تطرب له و كيف األفق من شرفتها! أله جمال مختلف؟ هل الطريق من شرفتها تحوم فيه المالئكة التي ال نراها من شبابيك منازلنا؟ نظرت نحو منزلي ...فإذا هو مظلم ...خاو من الحياة ...ال نبض فيه ...ساكن كما الليل في الصحراء ,بارد كالقطب المتجمّد. صرت أبكي و أبكي ...ال أعلم كيف هاجت مشاعري ,أمي و أبي اللذين تركاني وحيدة بعمر الست سنوات ,ألصحو بين أحضان أم عجوز و أب هرم ...أحبّاني
126
جدا إال أنني لم أحاول إظهار الحب لهما بطريقته الصحيحة خوفا من شعوري باأللم عند فقدانهما في وقت ما ,رغم االحترام الكبير و المشاعر التي اضطرت لدفنها داخلي لهما .أل ّني لم أغفر لوالدّي قط تركهما إياي .في تلك اللحظة تناذر إلى ذهني أنه لم يكن لهما ذنب ...إنما رسالتهما هي التي انتهت ...فحان وقت رحيلهما من جحيم األحالم إلى واقع سرمدّي ال نصب فيه و ال تعب .لذا أحببت أن يكون لكل لحظة في حياتي صورة أحتفظ بها حتى يتسنى لي رؤية من سأفقد مستقبال ...ما حاولت التعرف على الحبّ ألن يقيني ثابت أني سأفقده يوما ما ...لذا آثرت البعد عن كل ما يتعلق بتلك الكلمة من صالت و حفالت و أصدقاء .تفرّ غت للسفر و التقاط صور ذات معنى ,لها تعبير يحي ضمير أناس نسوا أنهم يحملون قلوب تخفق بي أضلعهم ...و منهم (أنا) نفسي. صورا ألمهات يعشن على رغيف خبز ال يذقنه ألن أوالدهن ّ أحق به منهن ,ألب يحمل بين يديه طفلته التي اجتاحها شبح الموت لقلّة حيلته تجاه سمسرة الدواء في مجتمع جشع و دموعه تدين عنجهية االحتكار و شجعه بكل صورها .شيخ على قارعة الطريق رماه أوالده ...ال لقلة حيلتهم ...بل ألنهم استنزفوه كفيء شجرة استظلوا تحتها و عند حلول الشتاء عليها و تعريتها من أوراقها ,تركوها و رحلوا
127
عنها ,ما حملوا لها معروفا أنها أظلتهم و أطعمتهم ثمارها حتى اش ّتد عودهم و أصبحوا ما هم عليه اآلن........ كنت أبكي و أنا مجالسة درجات بيتها ...لم أعلم سبب اجتياح تلك الجنود الجرّارة ّ محطات طفتها بخالل حياتي القصيرة و التي لم أتجاوز فيها الثامنة من ذكريات و و العشرين بعد ...لم أشعر يوما أن الدمع يحرق إلى هذا الح ّد ...أو أنني أحتاجه كي أخرج ما أحبسه من مشاعر حقد لبشرية حمقاء و قسوة أناس يهيمون في مدنية سلبت الرحمة من أفئدتهم و المنطق من عقولهم. م ّر ميركو و أخوه من جانبي ,فلم ألتفت لهما لوال أن الصغير ركض نحوي و لمس يدي عندما تن ّبه أنني لم أسمعه يناديني :هي ليست هنا ,قد نقلت المشفى عصر هذا اليوم. لم أعلم سببا النهيار ثلجي باغتني و جعلني أبكي بشهقة كبيرة كمن خسرت عرش روما ,أمسكت يده البضّة الصغيرة و سألته بصوت مخنوق :أيّ مشفى؟ فأجابني ببراءة أين .تم ّنيت حينها فقط لو أنيّ لم أكبر قط ,و أكمل بصوته الطفولي :ال ال هي اآلن نجمة في السماء ...ورفع عينيه الزرقاوتين نحو القبّة السماوية و هو يضحك :إنها هناك تنظر إلينا ,أحسد المالئكة ألنها معهم و بين ظهرانيهم .أهذا طبق لحم محمّر؟ دون أي تردد و ألني لمست من نبرة صوته مدى حبّه لها و
128
كيف ترجم ذاك الحب لفرحه أنها مازالت تراقبه من األعلى ...أعطيته الطبق و قلت له :كان لها و هو لك اآلن ...ألنك أحببتها أكثر مني ,ألنك عرفتها خيرا مني, ألنك شعرت بلمستها و ح ّنوها وهو الشيء الذي حرمت منه بسبب ....تفاهة ماض لم أنتهي منه يوما ,و مشاغل حياة ال معنى لها .قلتها و ألم يعتصر داخل حناياي. توجهت بقدمين كأنهما حديد صلب ال يرتفعان لماما من على اإلسفلت الذي تفوح منه رائحة االمبالة ,الكره ,العنجهيّة ...و ركبت سيارتي متوجهة نحو المستشفى أسأل عنها :تياش روشكامان ,فقادوني نحو ب ّراد الموتى ...كنت أرتعش من شدّة الخوف ...ما الذي تعنيه لي هذه السيدة العجوز التي لم أعلم اسمها قبل أقل من ساعة ..سألني المم ّرض :ال بد و أنك ابنتها؟ طفقت أنظر إليه و عالمات الذهول تطفر من وجهي ...آثرت الصمت ...و لم يكلّف الممرض نفسه عناء النظر إلى ّ عدت عليه بجوابي. وجهي للتأكد مما أصابني و ال إن كنت قد عندما فتح إحدى أبواب المبّرد الشبيهة بخزانات الصاالت الرياضية _و يالها من سخرية في التشبيه_ سحب المنصّة التي عليها الجثمان كمن يفتح علبة سردين ,لم يعبأ إن كان هذا سيزعج جسدا غادر من توّ ه دنيا األحالم و الترهات عائدا موطنه األصلي ...وقفت أنظر إلى شيء طويل مغطى باألبيض .باغتني بصوته األجش: سأكشف الغطاء عن وجهها و أتركك معها برهة .سرت رعدة قوية ,لم تعد رجالي
129
قادرتان على حملي عندما رأيت وجه أبيض و ليس قمحيا ...ثغر يف ّتر عن ابتسامة سكينة و وقار ...وجهها كان لشابة ال لعجوز تناهز السبعين من العمر ...عادت بي إلى ماض كنت قد هربت منه منذ زمن طويل حيث تركت بعده وحيدة أصارع حياتي دونما اهتمام أو رعاية .اقتربت منها ...قبلّت جبينها المثلج ...و بكيت... بندم ...حرقة ...ألم قد ّ قطع أوصالي و دمّر شراييني و تركني خربة كما قانا و غ ّزة ...أحسست بنفسي مدينة بابل المهجورة و التي لم يبقى منها سوى أعمدة متآكلة و حجارة مهدمّة توصف باآلثار المهمّة ...لكن أين األهميّة فيها؟ لم أعرفها حقا ...لكنها كانت ماضيّ الذي لم أمسك به يوما أو أعش لحظته بهذا الوعي القاتل المدّمر. أين نحن؟ من نكون؟ في تلك اللحظة فقط تراءى لي مستقبلي ...علمت حقا ....من هي .....أنا.
08/10/2011
131
وقت ضائع نظر مطوال في ساعته ..بقي يحرك الهاتف بيده ..تارة يضغط زر االتصال ليعود فيطفئه مجددا و تارة يطارد أفكاره عبر النافذة ..حاله مذ أشهر لم يتغير أبدا .بدأ يخسر الوزن ..ازداد أرقه ..يسرح ببصره غائبا تماما ع ّما حوله في هذا العالم لم يعد يت ّنبه لحركات جسده عندما تكون قريبة منه فقد كان موقنا أنها تشعر به تماما كما يخفق قلبه بوجودها ..ترقص عيناه طربا مسموعا لدى كل من يراه حين تتكلم و يسمع صوتها يناجي أذنه .تخونه الجرأة ليخبرها بما يعتريه من عواصف ثلجية تذروه خائفا من شيء ما ال يريدها أن تعرفه خوفا من أن تلوذ بالفرار بعيدا عنه تاركة له قصره الفاره باردا مظلما بعدما اسطاعت وحدها ..نعم ..وحدها بعث الدفء فيه ..بعد سنيّ عجاف بات الموت لديه ألذ من طعم الفرحة بكل ما حققه من نجاحات وحيدا دون أنثى تهتم لفرحه ..حزنه ..همه ..أرقه. كان عالما بشدة كبريائها كأنثى ما أغرقه في عشقها حتى بات يسكر لمجرد ذكر اسمها ..تستطيع سماع ضربات قلبه يمزق أضالعه من شدة توتره عندما تتعمد تجاهله ..يحاول ضرب األرض بحذائه على األرض أو بدء أي حديث يجعلها تنظر إليه ليرشف من لون عينيها عسال إلهيا صافيا يشفي علله جميعا فتحاول بدورها تجنب نظراته بغنج و حياء محببان ما يغرقه في بحرها الرائق دون أن
131
يطلب اإلنقاذ حتى ...اآلن فقط عاش معنى االنتحار غرقا برضا نفس و ليس مجبرا. أتحبه؟ أتشعر به كما يعشق لفظ اسمها خلسة بينه و بين ذاته؟ (إيالف) ...سألها م ّرة عن معنى اسمها ..فأجابته بعنفوانها المعروف عنها (هو العهد والميثاق). يذكر تماما كيف أصابه الذهان عند حركة شفتيها كمن نوّ م مغناطيسيا على أنغام سلّم موسيقي ساحر في صالة أوبرّ ا كبيرة وحيدا يستمتع بتلك المعزوفات... فنظرت إليه بخبث أنثى و قد اعترى الحياء وجهها جرّاء أمارات وجهه السارح ما أعادها لمكتبها بهدوء تاركة له أحالم يقظته. أتراه فارسا كما يراها ينبوع حياته القادمة؟ كانت لديه الكثير من السبل ..إنما خوفه من سابق حياته يدفعه حتى حافة االنهيار لمجرد تفكيره لثانية أنها لن تقبل قلبه. جاءه رنين الهاتف ..نظر إليه بشغاف قلبه و لثمه ببصره ع ّل صوتها يأتيه عبر شبكة االتصال ..خانه الحظ إنه صديقه يدعوه للخروج ..فجميع األصدقاء و الصديقات مجتمعون ..سأل عنها فجاءه الجواب بالنفي كالمعتاد. كان موقنا بغيرتها لمجرد أن تنظر إليه إن أكثر الحديث مع إحداهن فكان يحترم مشاعرها و ينهي الحديث لعلمه التام احترامها ذات األمر معه.
132
أعاده للواقع إلحاح صديقه على الهاتف ما جعله يرتدي ثيابه و يخرج معهم هربا من كل األفكار التي ترمي خناجرها إليه دون رحمة تطفئ غليان الدم في األبهر. اثنتان من صديقاته يعلمن عن قلبه الملتاع الذي لم تستطيعا يوما سكنه ..حاولتا جاهدتين جعله فرحا ..ف ّ تمثل ذلك قدر المستطاع ,لكن ما أن انتهت السهرة و دخل بيته حتى أحسّ مدى وحدته ..خالجته قشعريرة سرت من أعلى ظهره حتى آخره.. صعد غرفته و بكامل ثيابه ارتطم جسده بالسرير ..نظر من نافذة غرفته نحو السماء الدامعة المضيئة بومضات العشق اإللهي لألرض العطشى ..التي تشتعل بين الفنية و األخرى كقلبه التي أضرمت نار العشق أرجاءه البالية .سمع مناجاة الحبيب لحبيبته األرض بقصف الرعد المتكرر ..كما يعصف كيانه و يه ّتز طربا م ّجرد تذ ّكر صورتها تبتسم له بطرف عينها .طرق حبات المطر مع البرد الناعم على شباك غرفته كدخولها حياته بعد موت دام عشر سنوات مضت. وجد قدميه تج ّرانه نحو الشرفة ليقف تحت قطرات السماء يبكي معها! أجل.. يبكي ..أليس من البشر ..أال يملك أحاسيس و مشاعر ..ألم يبك بيتهوفن أبدا عندما يتعذب عشقا ألحب معزوفاته إليه في آخر أيامه بعد أن بات السمع شبه معدوم لديه؟
133
بالنسبة لما تبقى من حياته هي صوته الذي يتحدث به ..كلماته التي ينطق بها لسانه ..هي الشعور باأللم و الفرح ..ذاته و نفسه التي ترنو لالستقرار بعد ترحال ما عاد يجدي رجال بعمره لديه كل ما تتمناه أنثى لكن ...أين التي تملئ شغاف ما بين حناياه؟ متى تفرح واحات الصحراء شبه الجافة بماء المطر الذي طال غيابه و أكثر من نمّو نبات الحنظل حول ضفافها. بدّل ثيابه و ارتمى في سريره ..تعبق بغرفته رائحة المطر ممزوجا بتراب حديقتهم و عطر السماء ..أخذ يفكر بمن يريد أن يشاطرها وسادته الباردة و سريره الثلجي ..تذكر رائحة عطرها ..هل تذكر هي عطره؟ حنطيه البشرة ..عسلية العينين ..أخا ّذة بسمتها ..آسرة لبّه ..مت ّزنة باختيار ثيابها و اكسسواراتها ..لكأن دور األزياء الفرنسية تستلهم ذوقها منها وحدها. كم لبث يفكر ..ال يعلم حتى غافله النوم أخيرا. الساعة السادسة صباحا عندما أعلن رنين المنبّه الحرب على نعاسه ..لم يذق من النوم سوى بضع ساعات لم تتجاوز األربع منها ..وقف أمام المرآة بعد أن وضع رغوة الحالقة ..الشيء الوحيد الناعم الذي يالطف وجنتيه و ذقنه عند كل صباح منذ عقد من الزمن لتأتي بعدها شفرة الحالقة الخشنة فتجرف كما الفرات كل نبات و محصول عن ضفافه دون رأفة .غسل وجهه بماء بارد علّه يمحى آثار إرهاق
134
جفنيه ..توجه نحو الخزانة محاوال التفكير فيما سترتدي ..هي! بأي األلوان ستفكر اليوم؟ مضى أكثر من نصف ساعة يجّرب و يبدّل ثيابه ..طلب من مدبّرة منزله كوب قهوة دون سكر! تنبّهت األخيرة أنه لم يتجرّع مرة أي فنجان قهوة حتى... نظر إليها و قد علم مصابها إال أنه تجاهل ذهولها و ّ حثها على أنه تأخر عن عمله. شرب قهوته ليس حبا بحبيباتها الم ّرة أو رائحتها الزكية التي تلهم كل مف ّكر و كاتب و حتى عازف ...بل حبا لمن تحبها متجاوزا مرارة طعمها ألجلها فقط. خرج مسرعا يقود سيارته ليراها ..و حين وصل مكتبه لم تكن قد وصلت بعد.. هي ال تتأخر أبدا؟ مضى نصف النهارّ .. ظن أنها بإجازة منه ثم أعلنت ساعة المكتب انتهاء دوام العمل! سمع همس صديقه في أذنه يخبره بسفرها لمدة شهر إلى اسبانيا و أن قريب عائلتها طلبها للزواج فسافرت مع ذويها هناك ...وال واحدة من صديقاتها تعلم إن كانت تعود أو تبقى هناك. أحسّ بعدمية ذ ّرات األكسجين في صدره و ثقل الجاذبية ...توقفت عيناه عن الرؤية ..لكأن أثقال الدنيا وضعت في قدميه .لم يعد يسمع ..يشعر ..أو ينطق حتى بآهة .سأله صديقه إن كان بخير فه ّز رأسه دون وعي بالموافقة. ات ّجه خارجا من حيث أتى صباحا ..عائدا بخ ّفي حنين ...ومطارق تنهال دراكا على رأسه الذي بات ال يشعر بثقله بين كتفيه.
135
الزمته الحمى أسبوعا ثم طلب له طبيبه نقاهة ألسبوعين آخرين .لكن! ..كيف سيقضي األسبوع األخير وعلمه يقينا أنها ربما رحلت دون عودة. حاول صديقه التخفيف عنه دون جدوى ..حتى أن إحدى صديقاته حاولت انتهاز الفرصة علّها تفوز بقلبه حالة ضعفه تلك فانتهت مهزومة و منكفئة على نفسها بعد أن أخبرها" :أن الحب أخالق ..قبل أن يكون كلمة و أشواق ..و الرصاصة ال تكذب أبدا ..فهي تصيب دون أن تسأل ..متى أصابت قتلت من فورها". يومان على انتهاء النقاهة ومازال يهزل جسده و تذبل حواسه ..مات بريق عينيه الخضراوتين و مازال قلبه يحترق كحطب المدفأة أيام الشتاء القارص داخل أحد البيوت في ناحية ما من جبال األلب العالية الوعرة .بات كمريض السّل عندما تبدأ روحه باالنفصال عن جسده. الساعة الرابعة و عشر دقائق عندما رنّ الهاتف ..سمع مدبرة منزله تخبر المتصل أنها سترى إن كان الس ّيد صاحيا. جاءه صوت صديقه يخبره أنها عادت ..آلمها أنك مريض ..و أنك لست هنا في العمل ......قاطعه و أمر صديقه محاولة استبقائها حين قدومه. أغلق السماّعة ..ارتدى بيجامة رياضية بعد أن غسل وجهه دون أن ينظر لنفسه في المرآة حتى ..هو غير حليق! قاد سيارته مسرعا و ج ّل ما يفكر فيه هو أن
136
يخبرها بما تعنيه له .يريد رؤيتها فقط ..لم يعلم ما سيكون أبدا ...لم يهتم سوى أن يلتقي بشمسه بعد ظالم حالك دام أسابيع بدقائق و ثوان قاتلة. أق ّل من نصف ساعة اتصل بصديقه و طلب منه أن يقودها خارج البناء حتى يراها. يريد أن يرمي بين يديها مكنونات بحره الذي لم تسبر غوره أنثى غيرها مذ عقد. ّ بمعذب تعس أودى به استطاع صديقه بعد جهد إخراجها من بين الحشد لتلتقي عشقه ح ّد الهالك. كان المطر شديدا ممزوجا بثلج دافئ ..ال يملك أحدهما أ ّية مظلّة .نظرت لصديقه الذي ودّعها دون أن تفهم شيئا. "اشتقتك إيالف" ...نظرت ناحية الصوت الذي لفظ اسمها كما لم يلفظه أحد قبال أبدا ما جعل وجنتيها بلون فراولة الصيف ..كان التعب باد عليه ..السهر أخذ من جمال عينيه ..ثيابه مب ّتلة ..أشعث غير حليق الذقن كما عهدته ..خبا بريق عينيه في مغارتين مخيفتين لكأن التجفاف قد أصاب جسده و استعمره كما استيطان االنكليز للهند لعقود. نظرت إليه غير مصدقة تسأله عما جرى له ..ما علمت أن المرض شديد عليه لهذا الح ّد .أخذها بغتة بين ذراعيه ..ضمّها بشدة طفل يخاف فراق أمه ..سمعت
137
بكاءه و أحسّت حرارة دموعه فوق جبينها البارد ..أصبحت شبه مخدّرة من فجأة الموقف ..لثم يدها كنحلة تجمع رحيق األزهار و فاجأها بقوله " :أطلبك زوجة.. شريكة لما تبقى لي من وقت أعيشه ..أتقبلين بي يا نفسا سكنت نفسي؟ أتمطرين على صحرائي ما يحيّها بعد جفاف سنين؟ اآلن (إيالف) أرجوك قوليها و أنهي طاعونا أنهكني في بعدك ع ّني". ذاهلة نظرت إليه ...بعد أن ألقى بثقل جبل طارق عليها و ارتاح هو من عبئه.. صاعقة السماء أخذت بعقلها ..خانتها قدماها عن حمل جسدها فتوسدت الرصيف تلومه بعبارة واحدة بعد أن حضنت رأسه بكلتا يديها الباردتين" :انتظرتك سنتان... فلم اآلن!" حجبت شدة المطر بكائها ..أخذ صوت الرعد مكان صوتها الذي حبس دون رجعة ..كم بقيت من الوقت زائغة البصر بعينين محتقنتين لترفع يدها اليمنى أخيرا إليه فتدلّهم الطامّة عن ماسة قد زينت بنصرها األيمن. عرف لحظتها فقط ...قيمة الوقت! معنى ضياعه ..و كم هو مؤلم أن تجعل لحظة الخوف من سعادته كابوسا لم تبق من حياته.
138
جلسا جنبا على قارعة الطريق ..كم من الوقت؟ ال أحد منهما يدري لكن دون حرف واحد يعزف بينهما ...فقد تركا العزف لحبّات السماء المرتطمة على زجاج السيارات و أرصفة الطريق الخاوية من أي حياة بشرية.
2002 – 72 - 72
139
الفهرس -5وجه آخر للحياة -41أسبوعان فقط -55الثقب األسود -15أو لست الرجل؟ -14رصاصة تسأل القتيل -16بعثرة النهايات -76ستائر خرق اء -61غباء األميرة -14فقد اإلحساس -15لوحة إلهية -414ما ال نتخلى عنه -411مجتمعنا واضح -442معنى الوحدة و االنتظار -441من نحن؟ -454وقت ضائع
141