من نحن و متفرقات

Page 1

‫لينا الشاالتي‬

‫من حنن و أخريات‬

‫جمموعة قصصية‬ ‫دمشق ‪1122‬‬

‫‪1‬‬


2


‫اإلهداء‬

‫ملن مل يسمح لعصرنا من جرفه مع تيار الال إنسانية‬

‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫إىل ليلك أحب من ادعى عشقه و ارتد عنه خوفا و هربا من احلب‬ ‫ّ‬

‫نفسه‪.‬‬

‫لينا الشاالتي‬ ‫‪3‬‬


‫احلب ال يعطي إال ذاته‬

‫وال يأخذ إال من ذاته‬ ‫ُ ً‬ ‫َ‬ ‫وهو ال يم ِلك وال يملك‬ ‫ّ‬

‫فحسبه أنه احلب‪.‬‬

‫جربان خليل جربا‬

‫‪4‬‬


‫وجه آخر للحياة‬ ‫عندما تتوقف الصياغة للكلمة عند الورق فقط‪ ..‬و نشعر بوقع الحياة ذات الطعم‬ ‫المختلف‪ ..‬ليس الحلو منها وال العلقم حتى‪ ..‬مذاق ليس في األحالم فقط‪ ,‬ليست‬ ‫األحداث جديدة العهد بنا‪ ..‬إنما وقع الموقف نفسه هو المتغير‪ ..‬عندما تدخل هناك‬ ‫لتجدها بصغر حجمها و نحولها تجلس أمام نافذة مليئة بحبات المطر المنهمر كأنه‬ ‫من شالل عيونها ذات اللّون األزرق القاني الشبيه بالبحر في أوج هدوءه و‬ ‫صفاءه‪ ..‬كانتا تتابعان تكسّر حبات المطر ذاتها‪ ..‬كيف تتحول ألجزاء متناثرة‬ ‫كالبلّور المه ّ‬ ‫شم‪ .‬تبتسم بصفاء يجعل سريان الد ّم في األوردة والشرايين يغ ّني وحده‬ ‫ليصبّ أخيرا في وعاء القلب فيبتهج و يطرب لمجرد الجلوس جانبها‪ ..‬كانت‬ ‫أوراقها تخبر أنها يتيمة األب و األم‪ ..‬أختها متزوجة خارج البالد‪ ..‬أخوها متزوج‬ ‫وال يستطيع تحمّل نفقتها‪ ..‬كانت قد ردّت من منزل حاول تربيتها فعجزوا‬ ‫التواصل معها بكل األشكال و الطرق‪.‬‬ ‫عادتها هنا_في الميتم_أن تجلس مع أحالمها التي كنت أتمنى الدخول فيها فأعرف‬ ‫كيف تهجس بها و ما ينعكس على مخليتها مما تراه و يتدفق فيها‪.‬‬

‫‪5‬‬


‫بسنواتها التسع التي أتمتها منذ شهرين كان جمالها أخاذا لمن ينظر إليها‪ .‬ليست‬ ‫بلهاء أبدا‪ ..‬بل هي ذك ّية إلى حّد ال يوصف‪ .‬رفعت إصبعها للسماء مشيرة لشيء‬ ‫ما‪ ,‬عندما نظرت رأيت حمامة تطير وسط التلّبد الرمادي‪ ..‬أخبرتها أنها حمامة‬ ‫تعود ألوالدها و بيتها كي تكون معهم‪ ..‬رفعت بصرها و تمتمت بشفتين ورديتين‬ ‫كلون خديّها‪ ..‬و تناثر شعرها األشقر الطويل حولها‪ ..‬رفعت دميّة صغيرة متهرئة‬ ‫ترفض بأي حال كان أن تتنازل عنها أبدا في حلّها و ترحالها‪ ..‬ضحكت بصمت و‬ ‫ضمّت إليها الدمية‪ ..‬سألتها من أين لك اللعبة يا (جمان)‪ ..‬نطقت دون وقع للكلمة‬ ‫(بابا)‪ ..‬كأنما شبهّت على الحمامة أبوها الذي ما ضنّ عليها يوما في حياته حبا‪...‬‬ ‫ّ‬ ‫يخط كبرى النقوش ألعظم‬ ‫شغفي لها كوقع قلم الرصاص على ورق الرسم عندما‬ ‫رسّامي الدنيا‪ ...‬هي تلك الدقّة المتناهية التحبير لذاك اإلبداع اإللهي ليغدو في‬ ‫عرضه األخير‪ ...‬هي زخرفة محفورة على جدران األموي يبهرك بصمته ليدخل‬ ‫عقلك في متاهات الذهول لعظمة تأثيره على بصيرتك قبل بصرك‪( ...‬جمان) ذاك‬ ‫السحر السرمدي الذي تسكر منه دون تذوقه حتى‪ ...‬تلك حالي بعد دخول (جمان)‬ ‫إليها‪.‬‬ ‫كنت قد حرمت األوالد و زوجي بسبب ال يعلمه سوى هللا رغم جهدنا خالل زواج‬ ‫دام أكثر من اثنا عشرة سنة‪ ,‬ال طائل من الطب وال األدوية أو العقاقير‪ ..‬توجهنا‬

‫‪6‬‬


‫نحو التبني‪ ..‬زرت مبان كثيرة للصبية و الفتيات‪ ..‬لكن (جمان) أسرت اللّب لمجرد‬ ‫النظر إليها‪ ..‬مجرد الجلوس معها متعة ما بعدها في الحياة‪ ..‬نظرت لزوجي بعد‬ ‫مرات ع ّدة عدنا فيها للميتم لرؤيتها و تناقشنا بالكثير فيما بيننا و بعد أن أك ّد أخوها‬ ‫للميتم أنه لن يطالب بها أبدا و ما فيه خيرها فهو سعيد به‪ ,‬لذلك وخالل أشهر‬ ‫جهزت أوراق التبني و كنت اشتعل نارا حتى صارت بيننا‪ ..‬أخيرا‪ ...‬دخلت‬ ‫المنزل ألول مرّة بثياب ّ‬ ‫رثة قلّما تقي البرد أو القيظ‪ ..‬قدمين متسختين فيهما صندل‬ ‫مخاط عدة مرات‪ ..‬شعر أشعث‪ .‬أدخلها زوجي معه البيت‪ ..‬عندما رأتني ابتسمت‬ ‫باستحياء‪ ..‬رفعت يديّ أستقبلها أريد أن أحملها‪ ..‬اتجهت نحوي ببطء و خجل‬ ‫فضمت رقبتي بيديها الصغيرتين النحيلتين تماما‪ ..‬انهمرت دموعي غصبا و إذ بها‬ ‫ترمقني باستغراب و تمسح بأصابعها الصغيرة ما ينهمر من فرحي بها‪ ..‬أمسكت‬ ‫يديها داخل يدي و أرشدتها غرفتها‪ ..‬عندما نظرت إليها تألّق بريق عينيها‬ ‫الزرقاوتين و نظرت إلّي كأنما تطلب توثيقا أنها غرفتها‪ ..‬ابتسمت و أخبرتها أنها‬ ‫لها وحدها‪ ..‬كنت قد جهزتها كما تحبها هي و باأللوان التي اختارتها عندما كنت‬ ‫ّ‬ ‫مشطت شعرها‬ ‫أزورها هناك‪ .‬حممّتها و ألبستها بيجامة جديدة بلون الرمّان‪..‬‬ ‫األشقر المنسدل بحنان أ ّم حرمت الطفل فترة طويلة‪ ..‬جلست (جمان) معنا تلتهم‬

‫‪7‬‬


‫الطعام بنهم ي ّنم عن مدى الجوع الذي كانت تعاني منه لسنوات ما علم بها سوى‬ ‫الخالق‪ ..‬و نحن بعد أكثر من ست عشرة سنة‪.‬‬ ‫أن تشعر بها أو تعرفها‪ ..‬ما عليك سوى انتظار هطول المطر بغزارة في يوم‬ ‫شتوي بارد لتسير دون مظلّة تحت ز ّخاته المتسارعة فتشعر بها حولك تدفئ حياتك‬ ‫المثلجة بعد سبات دام سنوات‪ ...‬شعورك بالقطرة تلتطم بوجهك بسكون‪ ...‬هو‬ ‫معنى وجود (جمان)‪.‬‬ ‫عملت جاهدة تعليمها الكتابة في البيت‪ ..‬تفرّغت لها فقط و ذاك بعد أن تشاورت و‬ ‫زوجي عن إيقاف عملي ألجلها‪ ..‬ما اعترض أبدا كون حالنا ميسورة جدا‪..‬‬ ‫فزوجي فرح بها أكثر مني‪ ..‬حتى أنه كان يقرأ لها قصصا مصورة قبل النوم‬ ‫فتمسك بيده و تنام‪ .‬دخلت مرّة غرفتها‪ ..‬إذ به يبكي و هو يعانقها‪ ..‬اقتربت بلطف‬ ‫منه و مسحت دموعه‪ ..‬أخبرني كم الحياة حلوة بوجودها‪ ..‬قد أسدلت على قلبه كل‬ ‫حنان الكون الذي فقده وما شعر به سابقا‪ ...‬علم معنى الح ّنو بعد أسى طويل‪ ...‬و‬ ‫أن البيوت قبور مهجورة دون أرواح أطفال يذهبون و يجيئون فيها‪ ...‬وجودها ليّن‬ ‫عريكته حدا كبيرا‪ ,‬نعم‪ ...‬ابنتنا (جمان) أرشدتنا و أذاقتنا لطعم الحياة‪.‬‬ ‫بعد حلول سنة و نصف من أجمل لحظات الحياة التي تلوّ نت لنا بعد أن كانت‬ ‫باألبيض و األسود‪ ...‬قررنا إدخال (جمان) المدرسة‪ ..‬واجهتنا صعوبات كثيرة إال‬

‫‪8‬‬


‫أنه و بعد ألي قبلت المدرسة بها بعد اختبار كتابي شديد اجتازته تحت تأثير‬ ‫دهشتنا جميعا‪ ..‬بسالسة و صبر‪.‬‬ ‫في يوم خريفي لطيف‪ ...‬كانت عائدة من المدرسة و كنت أعمل بالمونتاج على‬ ‫حاسوبي الشخصّي و إذ بها تجلس جانبي و تراني كيف أعمل على الحاسب‪..‬‬ ‫طلبت م ّني أن أخبرها ما أفعل‪ ..‬ثم طلبت أن أعلمّها العمل على الحاسب‪ ..‬بلغت‬ ‫ذاك الوقت من العمر الحادية عشر‪ ..‬و حصل ما أرادت‪ .‬أح ّبت التعلّم‪ ..‬لكنها لم‬ ‫تتخلى عن حبها في أن تسرح أمام النافذة أبدا‪ ..‬خصوصا في األيام الممطرة‪ ,‬حتى‬ ‫عندما نذهب البحر‪ ..‬تجلس على الشاطئ تتمّعن في الموج الذي يأتي و يذهب‪..‬‬ ‫فهي تشعر به حياتها التي لم تكن ترتاح من الترحال قبال‪ ..‬و أن زبد البحر كأهلها‬ ‫الذين لم يسألوا عنها قط و تأمل عن خبر منهم‪ .‬ما فارقت دميتها قط بل و اكتسبت‬ ‫باإلضافة لها ورقا و قلما‪ ..‬وهما وسيلة التواصل الوحيدة بينها و بين العالم الذين‬ ‫لم يتعلّموا لغتها قط‪ ..‬لغة اإلشارات!‬ ‫ال تعجب ف (جمان) فتاة صمّاء‪ ..‬بكماء‪ ..‬إنما مجرد أن تكتب كلمة (بابا) و‬ ‫(ماما) لنا على الورق نشعر بهول حبها لنا‪ ..‬كم نحتاجها لنستمر و زوجي بحب‬ ‫الحياة الم ّ‬ ‫شعة بعد أن لفّ ضباب انكلترا حياتنا لوقت طويل جدا‪ ..‬جدا‪(..‬جمان)‬ ‫هي جزء من ح ّريتي و عهودي المكتوبة‪..‬هي حبات النور التي أضاءت سماءنا‪.‬‬

‫‪9‬‬


‫أحبّت (جمان) الحروف‪ ..‬الجمل المتراصّة ذات المعنى‪ ..‬أحبّت الكلمة رغم عدم‬ ‫قدرة حبالها الصوتية النطق بها‪ ..‬حاولنا معالجتها‪ ..‬لكن مصابها مذ كانت في‬ ‫ظلمات ثالث و قبل أن تبصر عيناها نور الحياة األول‪ .‬الزلت أذكر دخولنا لعيادة‬ ‫طبيب مخ ّتص بأمراض السمع‪ ,‬عندها كان معنا في غرفة االنتظار شاب لم‬ ‫يتجاوز الثالثين من عمره‪ ..‬يضع نظارة سوداء حالكة‪ ..‬جميل المحّيى‪ ..‬يرتدي‬ ‫سرواال بنيا و قميصا أزرقا‪ ..‬يحمل عكازا حديديا‪ ..‬ثم ت ّنبهت لسمّاعة األذن الطبّية‬ ‫في األذن اليسرى‪ ..‬كان يصيخ السمع لما حوله و ابتسامة ال تفارق وجهه أبدا‪..‬‬ ‫لطيف‪ ..‬هادئ‪ ..‬عرفت من ابتسامته أنه يقول‪" :‬ال تشفقوا عليّ ‪ ..‬ال أريد نظرة‬ ‫رثاء لحالي‪ ..‬فأنا بالرغم من فقد حبيب ّتي‪ ..‬عوّ ضني هللا بأن أبصر نور الحياة و‬ ‫أستمتع به عبر استنشاق الهواء حولي‪ .‬و رغم قلّة سمعي‪ ..‬أنطق أحرف الحكمة‬ ‫أكثر من غيري‪ ..‬و الصمت دليل الحكمة يا بشر الدنيا‪ ..‬ليس الجمال أن نسمع و‬ ‫نرى‪ ..‬بل أن نلمس و نست ّ‬ ‫شف و نشعر بمن هم حولنا و ما حولنا‪ ...‬حتى الجماد له‬ ‫حروفه الخاصة به يا من فق ّدتم البصيرة و تعيشون على البصر‪ .‬بالبصيرة تستطيع‬ ‫أن تشعر بدنياك كملمس جورّية مخمل ّية‪ ,‬قرم ّزية اللون تستمتع بشذاها لتشعر‬ ‫بنفسك في صباح خريفي على شرفة دمش ّقية عتيقة تحتسي فيه فنجان قهوة‬ ‫الصباح‪ .‬إن لي روح يا من ماتت أرواحكم منذ زمن بعيد"‪ ...‬راودني ذاك‬

‫‪11‬‬


‫اإلحساس و تلك األفكار سكنتني‪ ...‬لكأنه يريد ح ّقا أن يوصل رسائله عبر الهواء‬ ‫الذي نستنشقه بذات غرفة االنتظار‪ .‬استيقظت مما أنا فيه على وقع كلمات أخيه‬ ‫الذي خرج من عند الطبيب ليمسك بيده معلنا بذلك انتهاء المعاينة‪.‬‬ ‫تأملت (جمان)‪ ..‬ترى‪ ...‬كيف ترى العالم من حولها؟ ال يهمني كيف يراها هو‪..‬‬ ‫بل ما تعنيه لها نسمة عليلة دون أن تسمع صفيرها! كيف يمكن لصوتها أن يكون‬ ‫جذابا عند نطق األحرف و الكلمات! عندما ترى العصافير‪..‬كيف تتخيل أصواتها و‬ ‫ما يعزف داخلها؟ أعرف أن لها عالمها الخاص الذي تتخيل أصواته و كلماته و‬ ‫ترسم سيمفونياته بطريقتها الفريدة كما كان موزارت يؤلف نوتات لتراتيل أدهشت‬ ‫العالم حتى يومنا هذا‪.‬‬ ‫يوم خريفي جميل‪ ...‬كنت قد لمحتها تدمع قرب النافذة دون بكاء يسمع‪ ..‬لعبتها في‬ ‫حضنها‪ ..‬قلم يقصّ ألمها على ورق قد تبلل من بحر عينيها‪ ..‬تركتها دون أن‬ ‫أقترب منها خوفا من أن أن ّفرها‪ ,‬بعد أ ّقل من ساعتين‪ ..‬دخلت غرفتها وكانت نائمة‬ ‫دون أن تغطي نفسها‪ ..‬تعانق دميتها كمن تخاف على كنز ثمين من الياقوت و‬ ‫المرجان أن يسرق من بحرها الل ّجي العميق الذي لم يسبر أحد حتى نحن أغواره‬ ‫أبدا‪ ,‬نظرت قرب الشرفة التي انعكست أشعة الشمس البرتقالية عليه‪ ..‬فإذا بورقها‬

‫‪11‬‬


‫مسند عليه قلمها فلم أستطع منع نفسي من القراءة‪ ..‬ففضول األ ّم أكبر من جبال‬ ‫األنديز العالية‪.‬‬ ‫ما كتب فوق الورق هو أصل حياتها و ما تتذكره عن أهلها و ماض سنوات‬ ‫طفولتها‪ ..‬كانت مغرمة بأبيها الذي أعطاها ذات مساء اللعبة الصغيرة وهي ذات‬ ‫األعوام الست‪ ,‬وقتها كان عائدا للبيت في يوم مثلج وهو ذات اليوم الذي تو ّفي فيه‬ ‫من أثر الحّمى ألنه ما وجد ما ير ّد البرد عنه بحاله الفقيرة‪ .‬أما أختها التي ساعدتها‬ ‫على تعلم بعض األحرف و كانت تعمل خادمة لدى البيوت لتكسب ما ت ّسد رمق‬ ‫العائلة به حتى مجيء رجل كبير في السن من بالد بعيدة خطبها و أخذها بعيدا‬ ‫معه و ما عاد أحد يسمع عنها أبدا‪ ..‬مازالت تشتاقها و تتمنى آن تراها هذا إن ما‬ ‫زالت األخت على قيد الحياة؟ أما شقيقها الذي تزوج من بنت ح ّيهم التي أحبّها فقد‬ ‫رفضت أن تحمل هّم أخته صاحبة العاهة و التي لم تحمل عناء مسايرتها أو الحنوّ‬ ‫عليها و أذعن هو لهذا األمر فأودعها الميتم بعد أن فقدت أمّه عقلها‪.‬‬ ‫بالنسبة للألم و بحسب ما وصفتها ابنتها‪ :‬كانت قاسية متجرئة‪ ..‬لم تكتفي بضربها‬ ‫و نعرها وقد خلعت كتفها مرة ج ّراء شدّها من أمام النافذة تنتظر أبيها علّه يجلسها‬ ‫في حضنه و يداعبها ثم يضعها في السرير على األرض لتنام‪.‬‬

‫‪12‬‬


‫ترى‪ ...‬أكانت تعتقد أن أمها تمازحها و تضحك لها؟ أم علمت معنى الرعب و‬ ‫الخوف لمجرد النظر إليها؟ ثم كتبت كيف إلتقيتها بعد سنتين في الميتم‪.‬‬ ‫سمع زوجي بكائي‪ ..‬سحب الورق من بين يديّ ليقرأ ما جعلني أجهش بالبكاء‪...‬‬ ‫عندما قرأ ذلك و تحققنا منه أصرّيت على أن أعلمّها خير تعليم و أدعو أن أزوجها‬ ‫لمن يحبّها و يقدّرها‪.‬‬ ‫بعد كل تلك السنوات ما زالت حتى اليوم ال تفارقها لعبتها المهترئة‪ ..‬و الزلت‬ ‫حتى اليوم أحترم رغبتها تلك‪ .‬ال يستطيع أحد حرماننا من أجمل ماض لنا عبر‬ ‫أشخاص أهدونا قلوبهم‪ ..‬خصوصا أن وجودها أزاح جبال الجليد عن سنين كئيبة‬ ‫طويلة‪.‬‬ ‫( ال تقسو على نفسك فتقسو الدنيا عليك‪ ..‬ابتسامة منك تجعل الشمس تدفئ قلبك‬ ‫مهما علت همومه‪ .‬أحب الناس كما تحب نفسك‪ ..‬فستجد أن الن ّعمة قد غلبت عليك‬ ‫النقمة‪ .‬لن تجد الحب إن لم تفتح قلبك ليجدك هو بعد اعتقادك أن الموت الرحيم في‬ ‫مقابل ظلم البشر)‪.‬‬

‫‪26-12-2009‬‬

‫‪13‬‬


‫أسبوعان فقط‬ ‫لم أنم منذ أسبوعين‪ ..‬يريدون الرد اليوم‪ ..‬ما الذي ينتظره حقا‪ ..‬أخبرته بكل ما‬ ‫لديّ ‪ ..‬رأيت كيف بدى وقتها‪ ...‬لكن ال رد‪ ..‬كاد لؤلؤ العين أن تنفلت حباله مني‬ ‫فأمسكت بزمام نفسي‪ ..‬ساعات فقط و تنتهي جميع أوجاع الروح‪ ..‬تذكرت ما‬ ‫حصل قبل أسبوعين و كيف أخرجت مكنونات تلك الصدفة بعد كل تلك السنوات‬ ‫داخل البحر اللّجي دون خوف أو وجل‪ ..‬بكل هدوء و تؤده‪ ..‬توقعت منه أحد‬ ‫أمرين إما أنه سيعترف بكل ما لديه‪ ..‬ثانيا‪ -‬العدول و الخوف كأن األرض ما كانت‬ ‫قبال! أهذا ما يحدث فعال اآلن!! أحس بنفسي على األرجوحة كطفلة صغيرة ال‬ ‫تريد أن توقفها لتنزل أبدا‪ ..‬لكن ال بد من انتهاء الوقت أخيرا لتعود للبيت عندما‬ ‫تبدأ الشمس بالغياب‪ ...‬فاالحتماالت في حاالت النزع مرفوضة في السنن الكونية‪.‬‬ ‫أحد أيام الشتاء و المطر ينهمر خارجا‪..‬كان ينظر من نافذة مكتبه‪ ..‬و إذ بهما‬ ‫تطلبان الحديث معه على عجل و بخوف كبير ألمر جد هام‪.‬‬ ‫سيلفا‪ :‬نرجوك اتصل بها‪ ..‬كلّمها للعدول عن تهورّها‪.‬‬ ‫مارال‪ :‬ستقبل بالزواج من شخص ال تعرفه‪ ..‬ال تريده و للمرة الثانية‪ ..‬نرجوك‬ ‫كلّمها‪.‬‬

‫‪14‬‬


‫سيلفا‪ :‬إنها تتصرف دون وعيّ ‪ ..‬تتحدث بترهات ال نفقه منها شيئا‪ ..‬أزعجها‬ ‫الكالم المثار حولكما هذه المرة حتى باتت تبتعد ع ّنا بشكل ظاهر‪.‬‬ ‫نظر بذهول‪ :‬ما الذي تتحدثان عنه؟‬ ‫بدأ يشعر بالتوتر‪ ..‬علم عمن تتحدثان فأوجس الخيفة حقا‪ ..‬احتقنت وجنتاه لتدال‬ ‫على نار اشتعلت فجأة داخله ال تخمدها مائة سيارة إطفاء‪ ..‬بدأ العرق يتصبب‬ ‫ناحية الجبهة سببه بدء ارتفاع الضغط‪ ..‬أحقا ما يسمع؟ ستذهب بعيدا عن ناظريه؟‬ ‫هو في أواسط العقد الرابع‪ ..‬قد صبغ اللون الرمادي أجزاء صغيرة من خصالت‬ ‫شعره األسود‪ ..‬لونت الشمس بياض وجهه و يديه لما فوق المرفقين‪ ..‬عيناه‬ ‫عسليتان تشوبهما خضرة خفيفة‪ ..‬مهندس من عائلة برجوازية‪ ..‬يقطن بأحد‬ ‫األحياء الراقية‪ ..‬جميل المحيىّ ‪ ..‬ذو ذوق جيد في انتقاء ثيابه و أحذيته‪ ..‬طويل‬ ‫القامة بطول محبب‪ ..‬انفصل و زوجته مذ أكثر من عشر سنوات ليشرف على‬ ‫والديه الطاعنين بالسن‪ ..‬لم يتزوج بعد ذلك خوفا من تكرار الفشل رغم وجود‬ ‫الصديقات حوله‪ ...‬لكن دون محاولته التفكير بذاك القرار‪ ..‬ما جعله من األشخاص‬ ‫المغرمين بإثبات وجودهم‪ ..‬يحب الظهور فيتفوه بترهات تجعل من حوله‬ ‫ينزعجون‪ ..‬معجباته تفقن ال ّحد‪ ..‬مدحه لنفسه أنه صادق و يتصرف بطبيعته كبير‬ ‫و كثير‪ ..‬يدّعي ّرد الواجب و الوفاء بالوعود لكن عبثا تجده‪ ..‬حتى جعلني أتربص‬

‫‪15‬‬


‫التنكيل به بسبب سخافات كثيرة ما جعلني أكرهه بأغلب األحيان‪ ..‬أثار ثائرتي‬ ‫أكثر بعدم ردّه على رسائل معايدة أو اتصال ضروري بسبب العمل‪ ..‬تمنيت اليوم‬ ‫بالذات قبل إعطاء الرد أن يرسل هللا عليه حجارة من سج ّيل بسبب ما أصابني منه‪.‬‬ ‫بالنسبة لي‪ ..‬الكثير مما مررت به جعلني أصّر على أن أكمل من حيث بدأت‪..‬‬ ‫عدت لعملي بإصرار أكبر مما عرف عني‪ ..‬كبريائي جعل من يراني يتمنى التودد‬ ‫مني‪ ..‬عبثا حاولوا‪ ..‬أي مطب من مط ّبات الحياة لن و لم يوقفني قبال وال مستقبال‪..‬‬ ‫لست ممن يتوقفن ليذرفن الدموع على قارعة الطريق ثم أكتب عن المنطق‪ ..‬لم‬ ‫أتقبل فكرة دخول أي رجل حياتي بعد األلم الذي تعرضت له سابقا‪.‬‬ ‫مضت سنتان‪ ..‬هاهي الثالثة ‪ ..‬ما زلت أذكر أول مرة التقت عينانا بمعنى متبادل‪..‬‬ ‫أحسست برعشة‪ ..‬خفقان قلب لم أذقهما منذ زمن‪ ..‬مذ نظر إليّ أول مرّة‪ ...‬جعل‬ ‫النوم يعافني مدة أسبوع كامل و أنا أحاول معرفة مصابي منه‪ ,‬من هو؟ كيف تجرأ‬ ‫على الوقوف بتلك الطريقة و التب ّحر بعيني دون وجل ممن كانوا معنا؟ ذاك جعلني‬ ‫أتجنب النظر إليه طوال الوقت بعد غياب عنه لمدة خمسة عشر يوم كاملة‪ ..‬أبعدت‬ ‫أي فكرة عنه بشكل قاطع‪ ..‬حاولت جاهدة‪ ..‬لكن في فترة الحقة لم أعد أستطيع‬ ‫إبعاده ‪ ...‬حتى بات معي في حلّي و ترحالي‪ ..‬كم تمنيت أن أستيقظ ليال على رنين‬ ‫الهاتف يطلبني ليتحدث معي بأي أمر كان _هو حب القرن العشرين_ لكن عبثا‪..‬‬

‫‪16‬‬


‫كم وددت أن أضبط ياقة سترته بيدّي‪ ..‬أن أبقى متأملة وجهه و ذقنه المشوّ بة‬ ‫باللون الفض ّي الرائع‪ .‬كان يخفق قلبي معظم األحيان كبحارة مركب لم يرى وطنه‬ ‫منذ دهور غابرة‪ ..‬هل تعلم كيف يشعر عندما يرى مرفأ شاطئه؟ روحه ترفعه عن‬ ‫ظهر مركبه لتطير به يلقى أهله‪ ..‬أصدقائه‪ ..‬من تركها تنتظره‪ ..‬آمال منها‬ ‫استمرار عهدهما المقدّس‪ ..‬لم أدع ذلك ظاهرا عليّ قدر اإلمكان‪ ..‬إلى أن جاء يوم‬ ‫سألتني فيه سيلفا و المار عند خروجنا مباشرة من اجتماعنا معه‪.‬‬ ‫سيلفا‪ :‬ألم تلحظيه كيف كان ينظر إليك كأنك الوحيدة داخل القاعة!‬ ‫كانت تقولها بخبث جميل‪ ..‬أعلم بأننا نستلطف بعضنا‪ ..‬لم أسمح ألبعد من ذلك‪.‬‬ ‫أجبت‪ :‬من ؟‬ ‫المار‪ :‬فيرسن‪...‬‬ ‫أجبت‪ :‬أبلهاء تتحدث أم أنكما أصبتما بالعته‪ ..‬ما الذي تتحدثان عنه!‬ ‫سيلفا‪ :‬لم يبق أحد من الحاضرين إال تهامس عن كيفية نظراته لك أو بتوقفه أمامك‬ ‫مطوال‪.‬‬ ‫أجبت‪ :‬يستحيل على برجوازي متبجح‪ ..‬قليل ذوق مثله أن يفكر في موظفة تعمل‬ ‫في قسمه‪ ..‬و إن حدث! سيطلب يدها مباشرة دون أن يجعل نفسه حديث الشائعات‪.‬‬ ‫سيلفا‪ :‬ماذا لو أراد هو هذا الدخان من تلك النار التي سبب اشتعالها يديه؟‬

‫‪17‬‬


‫أجبت‪ :‬فلتحرقه وحده إذا فلن أثير حديثا فيه كلمة واحدة‪ ..‬ال تنسيا أني من طبقة‬ ‫اجتماعية مرموقة و مركز أبي ال يسمح لي أن أقع بخطأ كهذه أبدا‪.‬‬ ‫المار‪ :‬ليست المرة األولى‪ ..‬متأكدة‪...‬‬ ‫قطعت الحديث عليهما‪ :‬ليس هذا مجاال للنقاش‪ ..‬لن أدخل دوامة الخيال‪ ..‬لم آت‬ ‫هنا ألحب أو أبحث عن زوج ثري تافه‪ ..‬بل ألعمل فأتعلم‪.‬‬ ‫أنهيت النقاش أقلّه على الجبهة الداخلية عندي‪ ..‬لكن لم تكن لتنتهي عند فيرسن أو‬ ‫ممن حولي‪ ,‬فقد تناهى لمسمعي أقاويل تافهة‪ ..‬صاعقتها األخيرة أننا متزوجان‬ ‫سرا‪ ..‬خصوصا من يحاولن رميه بشباكهن ولم يعرهنّ انتباهه‪ ..‬يظن نفسه الدون‬ ‫جوان الوحيد هنا‪ ..‬كنت بالالمباالة الكافية ألنظر لهكذا أمر غير متاح لديّ في‬ ‫الوقت الحاضر أبدا‪ ..‬والدتي و أصدقائي حاولوا جاهدين تزويجي دون جدوى‪.‬‬ ‫كنت أجد أنني إذا تحدثت معه إلسكات تلك المهاترات هو إذعان مني أنني أضمر‬ ‫له شيئا‪ ..‬هو شيء ضد مبادئي‪.‬‬ ‫سأكون صريحة أكثر‪ ...‬فقد كنت مميزة عنده فعال‪ ..‬رغم استماتتي كي ال أقع‬ ‫فريسة قلبي‪ ..‬ففي الرابع عشر من شباط اتصل بي! ذهلت قبل أن أستطيع الرد‪..‬‬ ‫كانت الحجة غير مقنعة أصال‪ ..‬جعلني أدخل دوامة المشاعر الال متناهية‪ ..‬شيئا‬ ‫فشيئا جعل مسيره في قلبي‪ ..‬فكان الصمت الصارخ منه والكبرياء المدلل مني‪..‬‬

‫‪18‬‬


‫كأننا في لعبة الغميّضة أو لعبة العضّ على األصابع‪ ,‬فمن يتح ّمل األلم أكثر و‬ ‫الصبر سيكون الرابح في الجولة‪ ..‬كل ّمنا ينتظر اآلخر ليقول أو يأتي بأقل‬ ‫تصرف يدّل على ما بداخل اآلخر‪.‬‬ ‫كثيرة هي األيام التي تساءلت فيها‪ :‬ثم ماذا؟ كيف سننتهي؟ هل يأتي يوم يعلن‬ ‫زواجه كأن شيئا لم يكن؟ أهي سنيّ الجهل؟ أم سيأتيني اتصال منه بأحد الليالي‬ ‫ليفيض الفرات أخيرا على كل تلك األراضي القاحلة ليغنيها بعد جفافها و تشقق‬ ‫أرضها القاحلة؟‬ ‫تعلمون كيف أحالم المراهقات الوردية وأملهّن أن من يردّنه سيتقدم ليحمل ّهن بين‬ ‫يديه لتكنّ ملكات القلب دون منازع‪ ...‬كنت أستخفّ بهنّ ‪ ...‬و ها أنا اآلن واحدة‬ ‫منهنّ ‪.‬‬ ‫تقدم لي الكثيرون‪ ..‬كنت أجد الحجج الواهية هريا و خوفا في الحقيقة من تكرار‬ ‫فشل جديد‪ ..‬عدم معرفتي بالشخص تخيفني جدا‪ ..‬كيف أسمح ألحد من أن يمسك‬ ‫يدي أو يتعدى خطوطي الحمراء! بالنسبة لي‪ ,‬كان هو سبب سقوطي في هوّ ة ال‬ ‫قرار فيها‪.‬‬ ‫أيقنت أخيرا بعد معرفتي به أن من أعرفه وال أعرفه سواء‪ ..‬إن كان الحجر لن‬ ‫ينطق فلن أتوقف أكثر‪ ..‬أخبرت سيلفا و مارال لتفرحا بي أو باألحرى‪ ...‬كي‬

‫‪19‬‬


‫تواسيانني‪ ..‬لكنهما حاولتا ث ّنيي عن قراري بشتى الطرق ‪ ..‬دون جدوى‪ ..‬ما‬ ‫ّ‬ ‫يهتز‬ ‫جعلهما يلجأن إلخباره دون علمي لخوفهما من غضبي‪ ..‬ع ّل جبل طارق أن‬ ‫و ينشأ جيشا يح ّرر اسبانيا و يعيد أمجادها من جديد‪.‬‬ ‫فيرسن‪ :‬أين هي اآلن؟‬ ‫مارال‪ :‬تستعد للعودة للمنزل‪ ..‬نرجوك اتصل بها اآلن‪ ..‬حاول تصحيح حمقها‪.‬‬ ‫حاول أن ال يظهر قلقة‪ ..‬بركانه كان مستعدا لينفجر و يبيد األرض عن بكرة‬ ‫أبيها‪ ..‬تظاهر ببعض البرود لتهدئتهما‪.‬‬ ‫فيرسن‪ :‬تلك خياراتها لكني سأحاول نصحها بالتأكيد‪ ..‬هو ّنا عليكما اآلن‪.‬‬ ‫مضت خمس دقائق بعد خروجهما تزيد أو تنقص لم يحرك فيها ساكنا من هول‬ ‫المفاجئة‪ ..‬رأيت رقمه يومض على شاشة هاتفي المحمول‪ ..‬كنت على الطريق‬ ‫العام أ ّهم آلخذ سيارة أجرة‪.‬‬ ‫أجبت‪ :‬آلو‪.‬‬ ‫فيرسن‪ :‬كيف الحال!‬ ‫مستغربة‪ :‬حمدا هلل‪ ! ..‬أهناك مشكلة ما‪ ..‬قد خرجت توا من المكتب‪...‬‬ ‫مقاطعا‪ :‬أريد محادثتك اآلن‪.‬‬ ‫أجبت‪ :‬إذا علّي العودة للمكتب أم‪...‬‬

‫‪21‬‬


‫مقاطعا‪ :‬سأنزل مباشرة ابقي حيث أنت‪.‬‬ ‫أقفل الخط دون أي زيادة أو نقصان‪ ..‬بقيت شاردة ذاهلة حتى وصوله‪.‬‬ ‫فيرسن‪ :‬سيارتي من هنا‪ ..‬تفضلي بالركوب‪.‬‬ ‫كالمصعوقة أجبت‪ :‬أبدا‪ ..‬فذاك ما كان ينقص ترهات من يريدون لغط الحديث‪..‬‬ ‫سنركب بالحافلة‪.‬‬ ‫مشمئزا‪ :‬ماذا!‬ ‫أجبت‪ :‬إذا تفضل بالحديث هنا‪.‬‬ ‫صمت برهة ثم قال‪ :‬كما تريدين اركبي الحافلة‪.‬‬ ‫أوقف حافلة ليست توصلنا ألي مكان قريب من بيتي‪ ..‬حتى هو لم يكن يعلم أين‬ ‫وجهتها‪ ..‬اعترتني رعشة كبيرة تسلل الخوف و الرعب نفسي‪ ..‬كمن رمى نفسه‬ ‫من أعلى برج للعالم وال يعلم كيف أو متى سيصل األرض ليشعر بقوة االرتطام‪..‬‬ ‫ما سيحدث بجسده؟ كان حديثه عصبيا جدا‪ ..‬للمرة األولى أرتعد منه كطفلة‬ ‫صغيرة تخاف العتمة ليال في غرفتها من ظهور شبح النوم‪ ..‬حاولت أن أنير‬ ‫الضوء الصغير جانب السرير علّه يواسي الموقف ويخفف من حدّته‪ ,‬بعد مضيّ‬ ‫أكثر من عشرين دقيقة ال يتحدث فيها أحدنا مع اآلخر‪.‬‬ ‫توليب‪ :‬حسنا يمكنك أن تتكلم اآلن إن كان ذاك يريحك‪.‬‬

‫‪21‬‬


‫فيرسن‪ :‬حتى نجد مقهى ننزل فيه‪.‬‬ ‫نظرت إليه بتمعّن و كنت أعرف أين يودي ذاك الطريق‬ ‫توليب‪ :‬لن تجد هنا على طول ساعة من الزمن أي مقهى تستطيع الجلوس فيه‪.‬‬ ‫نظر إلّي كأن إشارات المرور تعطلت جميعها فتخابطت السيارات بشدة و عنف‪..‬‬ ‫أحسست إعصارا هائال سيطيح بكل الحافلة‪.‬‬ ‫ندهت بصوت عال‪ :‬سننزل هنا أرجوك‪.‬‬ ‫نظر إلّي متفاجئ على تلك المباغتة‪.‬‬ ‫جاءه صوتي مبتعدا‪ :‬ستبقى هنا أم ماذا؟‬ ‫رآني من النافذة أنتظره و السائق ينتظر سرعة قراره‪ ..‬إذا به ينزل يتوقف‬ ‫جانبي‪ ..‬كنت أنتظر أن تنطق شجرة الزيتون الفلسطينية‪ ..‬لكن ليس اآلن ونحن‬ ‫على مفترق زلق كما طريق ظهر البيدر عند تساقط الثلوج‪ ..‬كان الطريق يخلوا‬ ‫من كل حياة بشرية عدا بعض البيوت‪ ,‬و حتى نصل أقرب موقف حافلة يحتاج‬ ‫ألكثر من ربع ساعة‪.‬‬ ‫فيرسن‪ :‬أين نحن اآلن؟‬ ‫أجبت‪ :‬طريق سيدي بوحامد‪.‬‬

‫‪22‬‬


‫نظر مذعورا فبا ّغته‪ :‬سنبدأ بالمسير حتى تهدأ أعصابك علّك تخبرني سبب حنقك‬ ‫المفاجئ‪.‬‬ ‫فيرسن‪ :‬ستتزوجين حقا من شخص ال ترغبينه‪ ..‬و ال تعلمين له أي جانب أيضا؟‬ ‫ران صمت ثقيل بيننا لكأن ّ‬ ‫الطامة حلّت بكامل ثقلها علينا‪ ..‬لم أدري كم بقينا ننظر‬ ‫لبعضنا البعض دون أن يقطع علينا أحد ما نحن فيه‪ ..‬قرب المسافة بيننا ي ّنم عن‬ ‫شخص قد فاض به األمر‪ ..‬أيطوقني بذراعيه مانعا إيّاي من اإلقدام على أي حمق‬ ‫أو جنون يودي بحياة أي واحد م ّنا‪.‬‬ ‫أجبت‪ :‬أخبرتاك‪ ..‬ها‪ ...‬لم تستطيعا معي صبرا‪ .....‬لكن‪ ,‬ما ه ّمك بي؟‬ ‫فيرسن‪ :‬قلت أنك لن تقبلي أن يلمسك شخص ال تعرفين‪...‬‬ ‫توليب‪ :‬ستمشي أم ستبقى كما سور الصين في مكانه؟‬ ‫وقبل أن أشعر بهول المفاجأة أمسك مرفقي بيده الضخمة مكررا سؤاله‪ ..‬رائحة‬ ‫نفسه زكيّة وصلت ألنفي‪ ..‬أحسست بقلبي كأنه زلزال ياباني عنيف‪ ..‬صوته الهادر‬ ‫كقنبلة هيروشيما التي ستحرق جميع السفن قاطبة إل ّي مهما كانت‪ ..‬سيقولها‬ ‫صحيح؟ كنت أنظر إليه رغم هول الموقف و ألم يدي‪ ..‬إال أني انتظرت شفاهه‬ ‫لتتحرك بها‪ ..‬كمن تنتظر حلول المساء لترى قبّة السماء الجميلة ترص ّعها ماسات‬

‫‪23‬‬


‫تقطف منها ما تحب أي أنثى ارتداءه‪ ..‬عشقت صوت موج البحر الهائج كما‬ ‫حديثه اآلن‪.‬‬ ‫أجبته بهدوء و مكر حواء‪ :‬من أعرفه وال أعرفه في بيدق واحد‪ ..‬هذا ما أثب ّته لي‬ ‫أنت‪ ...‬فما عاد الفرق يه ّمني‪.‬‬ ‫رأيت الدم يختنق داخل وجنتيه لكأن صاعقة من السماء ادلهمت عليه‪ ..‬بقي يحدّق‬ ‫بي دون أن ينفلت حرف واحد من حنجرته التي بان أنه استصعب بلع ريقه‬ ‫خاللها‪ ..‬بدأ المطر بالهطول غزيرا‪ ..‬بدأنا نب ّتل دون أن يهدئ ذلك من الثورة‬ ‫الفرنسية داخله‪ ..‬سمعت دقات قلبه‪ ..‬صدقوني!‪ ..‬رغم قسوة يده كانت حنونة‪..‬‬ ‫رقيقة‪ ...‬نسبة لرجل مثله و في موقفه‪.‬‬ ‫غسلت حبّات المطر آثار الج ّل عن شعره _ كنت أكره جل الشعر للرجل بشكل‬ ‫عام_ وبدأ الشيب بالظهور أكثر‪ ..‬ألول مرة أعشق بكل ذاك الحمق المتناهي‪..‬‬ ‫أراه وسيما أكثر من أي مرة رأيته فيها‪ ..‬أو يشعر بي اآلن؟‬ ‫توليب‪ :‬إلى متى أنتظرك؟ ألم تسأل نفسك أبدا كيف احتملت كل تلك التفاهات بين‬ ‫الزمالء المعتوهين؟ ألم تشعر بنفسك كيف تكون حواسك حين نكون معا في ذات‬ ‫المكان؟ كيف تتصرف إن وجدت أحدا قربي تتغير مالمح وجهك فجأة‪ ..‬إن جاءني‬ ‫اتصال تستميت لتعرف رجل كان أم امرأة و في أي شأن كانت المكالمة!‪ ..‬ها نحن‬

‫‪24‬‬


‫على مفترق طرق اآلن أحدهما يوصلني ألكون بين ذراعي رجل ال أعرفه‬ ‫غيرك‪ ..‬و اآلخر يصل فيما بيننا‪ ,‬حمدا هلل فلوال هذا ما كنت لتحرّ ك ساكنا حتى‬ ‫اآلن‪ .‬ما كنت تنتظر باهلل عليك؟‬ ‫حاول المقاطعة بعد أن أرخى يدي من قبضته شاعرا بنفسه على ما يفعل‪.‬‬ ‫استطردت‪ :‬استمعت لكل حماقاتك‪ ..‬أمجادك‪ ..‬كلماتك دون أن أقاطعك‪ ..‬قبلت‬ ‫سخيف أعذارك‪ ..‬ألن قاطعت حديثي اآلن سأوريك ظهري و على الدنيا السالم‪.‬‬ ‫نظر إلي غير مصدّقا‪ ..‬إني من تمسك خيوط النول فتكمل حياكة السجادة اآلن‪..‬‬ ‫عقله و قلبه لم يحتمال رؤيتي أغيب عنه دون رجعة أبدا‪ ..‬أهو تعوّ د و تسير حياته‬ ‫كما كانت ساعة رحيلي بعيدا عن ناظريه؟ أم أحبني كما يحب الحجاج الطواف‬ ‫بالبيت العتيق‪ ,‬أم كعشق (أكبر) ملك الهند لملكته تاج م ّحل فأقام ألجلها صرحا يعّد‬ ‫من عجائب الدنيا السبع‪.‬‬ ‫توليب‪ :‬تعلّم يقينا كيف أشعر تجاهك فال تخبرني أنك كنت تخاف من أن أص ّد‬ ‫طلبك‪ ..‬جلّي كيف تلمع عيناك لدى رؤيتي في ردهات العمل‪ ..‬كنت تنتفض لؤما‬ ‫إن لم أرحب بك أو أنتبه لوجودك‪ ..‬كنت أتقص ّدها فعال ع ّل الماء أن تنبع من بين‬ ‫الصخور بعد شتاء طويل فتروي األرض بعد طول جدب‪ ..‬حتى كنت تدعو هللا أن‬

‫‪25‬‬


‫أقف بجانبك لتمسك بي أبدا كي ال أغيب عن ناظريّك ثانية واحدة‪ ...‬علوّ صوتك‬ ‫عندما أم ّر جانب مكتبك معلنا بذاك كل اآلهات المكبوتة لديك‪ ,‬ماذا كنت لتسمّه؟‬ ‫اقتربت منه بتؤدة‪ ..‬سحبت نظارة الشمس بعيدا عن عينيه‪ ..‬كنت أعشقهما رغم‬ ‫عدم وساعتهما لكنهما تخفيان بحرا يريد أن يثور بعد هدوء الماضي ليعطي جاذبا‬ ‫أخاذا‪ ..‬تمنيت أن يجرفني وحيدة في عرضه الواسع بين أمواجه الرائعة و نسيمه‬ ‫الذي تر ّتد له الروح بعد سبات شتوي طويل بيننا‪ ..‬رأيت دالفين تتراقص فرحا‪..‬‬ ‫ترحب بقدومي إليه‪ ..‬حتى شمس الغروب عدلت عن الذهاب للنوم‪ ..‬دمعة في‬ ‫إحدى عينيه تخاف من تعكيّر صفو بحره الهادئ‪ ..‬تمنيت اللحظة عاصفة ترمي‬ ‫بقاربي بين أحضان شاطئه‪ ..‬تر ّد الروح فينا بعد نأي طويل‪.‬‬ ‫أكملت‪ :‬تظن اختيارك العدسات الالصقة بدال من النظارة بعد كل تلك السنين التي‬ ‫مضت عليك دون تغيير يذكر هو مجرد تغيّير؟ إبدال البنطلونات الرسمية بالجينز‬ ‫هو إتباعا للموضة؟ أم تخفيض وزنك بسبب ارتفاع الضغط فقط! جيّل الشعر يمنع‬ ‫تطاير شعرك بوجود الهواء؟ ماذا ستخبرني لتج ّنب أني كنت صاحبة كل تلك‬ ‫المسببات و التغييرات التي ما فتأت الكثيرات ممن حولك من الصديقات بهمسها‬ ‫بأذنك سابقا دون أن تلقى الصدى المحبب لديك‪.‬‬

‫‪26‬‬


‫بقي صامتا يحّدق بي‪ ..‬لم تقوى قدماه على حمله أكثر‪ ..‬جلس على قارعة الطريق‪,‬‬ ‫صراحة‪ ...‬خفت عليه من البرد إال أني أتممت بهدوء‪ :‬لست اسما على قائمتك‪..‬‬ ‫بل اسم يتوج منتصف ما بقي من صفحات كتاب عمرك‪ ..‬أمستعد على ردم برجك‬ ‫الذي عمّرت أيها المهندس المعماري أم لم تعد خارطة الطريق تعنيك و ليكن ما‬ ‫يكون من سلبيات العولمة و االنهيارات االقتصادية في العالم‪ ..‬ستقول في نفسك‪:‬‬ ‫"األمر بسيط‪ ..‬غيرها كثيرات‪ ..‬كانت المساهمة الوحيدة لشراء أسهم الماضي‬ ‫لتخرجني من عزلة السوق‪ ..‬سأشتري األفضل‪ ..‬بعد أن كنت أسيرا في كرسيّ‬ ‫مدولّب ألكثر من عشر سنوات‪ ..‬لست براغب كبير إن باعت أسهمي و أصبحت‬ ‫لغيرها اآلن"‬ ‫فيرسن‪ :‬كفى‪ ..‬أرجوك‬ ‫كنت أبكي و بسمة ترتسم فوق شفاهي‪ ..‬جثوت قبالته‪ ..‬نظرت بعينيه نظرة ود ّدت‬ ‫أنه قال خاللها شيئا سوى استغرابه رؤيتي أبكي ألول مرة مذ عرفني‪ ..‬تمنيت أن‬ ‫أدخل روحه ألعرف ما يحدّث نفسه به اآلن‪ ..‬أريد أن أدخل تال فيف دماغه‬ ‫فأالحق الومضات الكهربائية علّي أحصل على ترجمة ما يدور في مخيلته‪ ..‬ما‬ ‫سيكون قراره األخير‪ ..‬كنت أصمت لبرهات دون أن يجيب‪ ..‬أردّته أن يمسك بي‬ ‫و يهّزني بقوة ليتح ّدث‪ ..‬لم أتوقع أن وقع كلماتي ألجمت فمه و جعلت رياح البحر‬

‫‪27‬‬


‫تعلو فجأة حتى أن أشرعة مركبي لم تعد تنجدني داخل معمعة موجاته القوية‪..‬‬ ‫الصمت يثيرني‪ ..‬يفقدني صوابي‪ .‬في هذا الوقت بالذات أفلتت زمام الكلمات مني‪..‬‬ ‫ضقت ذرعا‪ ..‬خوفي الشديد من المجهول‪ ..‬ما ستؤول األحوال بعد هذا‪.‬‬ ‫أصبحت لسعات الهواء باردة جدا و المطر لم يتوقف أو يهدأ ثانية واحدة‪ ..‬اقتربت‬ ‫منه‪ ..‬رفعت ياقة سترته خوفا عليه من البرد‪...‬‬ ‫توليب‪ :‬أيها اإلقطاعي علّك تشعر بحال من تركتهن وراءك في طريق الضياع‪..‬‬ ‫كأن النظام الجديد ج ّردك من كل أرض كانت لك ليأممها لمن أهنتهن قبلي‪ ..‬علّي‬ ‫الر ّد قبل مضّي أسبوعين من اآلن بالقبول أو الرفض فانظر في أمرك‪ ,‬قد‬ ‫تأخرت‪ ..‬الطريق من هنا إن أردت العودة أو اتصل بإحداهن لتقلّك‪.‬‬ ‫كان كمن خسر كامل ثروته‪ ..‬بقي يقنع نفسه أنه كابوس ال غير‪ ..‬المرة األولى‬ ‫التي يراها فيها تبكي‪ ..‬وجهها ّ‬ ‫جذاب ف ّتان‪ ..‬تخضّل عينيها العسليتان‪ ..‬رقّة يديها‪..‬‬ ‫كالمها الهادئ الالذع‪ ..‬جعلوه بحال سبات سريري‪ ..‬شلّوا حركته و نطق لسانه‪..‬‬ ‫حركة الحبال الصوتية لديه اختفت جميعها‪ ..‬أراد مسح دموعها بيده‪ ..‬أراد ضمّها‬ ‫بشدة إلى صدره‪ ..‬تقبيل ثغرها الذي لم تفارقه ابتسامة أنثى تعبت ظلمه‪ ..‬امرأة‬ ‫احتملت وقاحته‪ ..‬عجرفته‪ ..‬حماقاته‪ ..‬حتى غباءه الال متناهي‪..‬قرأته من األلف‬ ‫حتى الياء‪ ...‬لم تقدر امرأة قبلها أن تفك طالسمه بهذه الطريقة أبدا‪ ...‬لكنّ حالة‬

‫‪28‬‬


‫الشلل التي أصابته فجأة حولّته لصنم خوفو‪ ..‬جاءه صوتي تحت هدير المطر و ّكل‬ ‫م ّنا مبت ّل حتى الثمالة من دموع السماء الطاهرة‪ ..‬كنت قد أعدت ّ‬ ‫النظارة لداخل‬ ‫ك ّفه‪ ..‬بقيت ممسكة بيده دون وعيّ مني‪ ..‬سألته علّني أجد كلمة تتوه مّنه تريح‬ ‫كلينا‪.‬‬ ‫توليب‪ :‬لم دخلت عنوة لشرايين دمي حتى أصر ّيت العيش في األبهر لديّ ؟ تتحكم‬ ‫بقوة ضخ الدم‪ ,‬سمحت لنفسك بسلب الكرت األخضر دون ّ‬ ‫حق كما سلب المغول‬ ‫مكتبة بغداد‪ .‬أصبحت حلمي‪ ..‬يقظتي‪ ..‬تدور في تال فيف الدماغ عندي مع كل أمر‬ ‫يدور في ذهني! أم حسبت أني أرض أجدادك و أموال آباءك لك الحق باستمالكي؟‬ ‫أجبني أرجوك‪ ..‬دخولي حياتك أذهلك كما الفن األندلسي في زهوه حتى اآلن‪ّ ..‬‬ ‫ثق‬ ‫أن الحبّ عندي كما دخول اليهود لفلسطين ليسوا بخارجين من مسجدها األقصى و‬ ‫ال بمتخليّن عن هيكل سليمان المزعوم حتى تقوم الساعة‪ ..‬فهل أنت قادر على‬ ‫احتماله؟‬ ‫تركته ألفكاره‪ ..‬ابتعدت عنه أج ّر قدميّ غصبا‪ ..‬بدأت أبتعد عن ناظريه رويدا‬ ‫رويدا‪ ..‬حاولت أن ألتفت ألراه‪ ..‬لم أستطع‪ ..‬كنت أبكي مع السماء على ما ألّم بنا‪.‬‬ ‫ركبت الحافلة‪ ..‬بقيت أنظر للطريق خلفي عّله لحق بي يخبرني بشيء‪ ..‬لكن‬ ‫الطريق انتهى و انتهت الكلمات‪ ..‬عدّت للبيت وحيدة‪ ..‬حاولت أن أبتسم أمام األهل‬

‫‪29‬‬


‫و أن أجاريهم في السهرة قدر اإلمكان لكن ما أن أصبحت على وسادتي حتى‬ ‫بكيت بحرقة شديدة‪ ..‬ما زلت أضّم يدي أتذكر من خاللها كيف ّ‬ ‫شد على يدي ال‬ ‫يريد تركها‪ ..‬لكن إلى متى؟‬ ‫بقي جالسا ألكثر من ثالثة أرباع الساعة يفكر‪ ..‬أراد أن يجيبها‪ ,‬أن يلحق بها‬ ‫ليخبرها بردّه‪ ..‬لم تحمله قدماه وخانته قوّ ته‪.‬‬ ‫ح ّدث نفسه‪ :‬أسبوعان فقط! هل أريد وقتا أكثر بعد مضّي كل تلك السنوات حتى‬ ‫أقول ما أريد؟ مازلت أشعر برعشة يدها عندما أعادت لي النظارة‪ ..‬ألول مرة في‬ ‫حياتي أشعر بنعمة المطر عند مالمستها أرضا عجفاء‪ ..‬أريدها دونا عن أي امرأة‬ ‫صادفتها مرة في حياتي‪ ..‬تذ ّكر دقات قلبه و كيف ت ّ‬ ‫شع عينيه لدى رؤيتها تدخل‬ ‫ّ‬ ‫لتحدثه بأمر العمل‪ ..‬ضحكتها التي تجعل نهاره يرقص طربا كحفلة‬ ‫المكتب‬ ‫صغيرة داخل مقهى اسكتلندي‪ ..‬كم تمنى أن يحدّثها عن أحاسيسه‪ ..‬كانت جوارحه‬ ‫تتحرك دون وعيّ كامل‪ ..‬حتى في هذه اللحظة خانته جميع صاالت األوبرا التي‬ ‫أقفلت دورها بوجهه‪ ..‬كل المعزوفات التي ف ّكر بها ليال كثيرة هربت عالماتها‬ ‫الموسيقية لتترك الصفحات فارغة‪ ..‬خانته حباله الصوتية من تراتيل أجمل‬ ‫المعزوفات العالمية‪.‬‬

‫‪31‬‬


‫عند وصوله البيت استقبلته أخته فزعة‪ ..‬حاولت معرفة أين سيارته! سبب تأخره؟‬ ‫لم هو مب ّتل هكذا؟ دون أن يأتيها حرف واحد‪ ..‬أتته بمنشفة يجفف البلل الذي لحق‬ ‫به‪ ..‬فما كان منه سوى أن صعد الساللم خائر القوى‪ ..‬أغلق باب غرفته و تمدد‬ ‫على فراشه ينظر من نافذته على لون السماء الكئيب‪ ..‬عصفور‪ ...‬تجاهد أجنحته‬ ‫الصغيرة حتى يصل عّشه ليدفأ محبوبته و صغاره‪ ..‬ما همّه شدة القطرات رغم‬ ‫حجمه الصغير‪ ..‬إال أنه يخاطر‪ ,‬وصل أم ال؟ يجازف ألجل من يعشق هو ذو حظ‬ ‫وفير فعال‪ .‬أجهش بالبكاء! لم يعلم إلى متى بقي حتى غافله النوم‪ ..‬ج ّل ما كان‬ ‫يتناهى إلى سمعه صوت أخته يطلب الثلج لخفض حرارته المرتفعة‪ ..‬بقي يهلّوس‬ ‫بكلمات غير ذات معنى سوى أن اسمها تكرر دائما مع موجات الحمى المترددة‬ ‫على جسده المنهك‪.‬‬ ‫بقي الحال على ما هو خالل العشرة األيام التالية‪ ..‬لم تستطع االتصال به و‬ ‫االطمئنان عليه إال عبر سيلفا و مارال اللتيّن كانتا تأتيان بأخبار تقدم شفاءه‪ .‬حتى‬ ‫عندما أرسال الورود و الهدايا جعلتا اسمها متصدرا فيها عسى أن يفيده ذلك بحال‬ ‫من األحوال‪.‬‬ ‫اليوم هو الخامس عشر‪ ...‬اليوم المشهود‪ .‬بدأت أح ّدث نفسي أمام المرآة‪ :‬ما الذي‬ ‫ينتظره حتى اآلن‪ ..‬هو في إجازة مذ تركته تحت المطر آخر مرة‪ ..‬بم يف ّكر حقا؟‬

‫‪31‬‬


‫أيتخذ خطوة ما؟ لألمام أم للوراء‪ ..‬أم سيبقى في مكانه متأثرا بالصدمة حتى يرتدي‬ ‫األبيض تحت التراب؟ أأذهب إليه و أجلس جانبه في مرضه‪ ..‬فال أهتم بكل ما‬ ‫حولي؟ أم أن األمر سيان!‬ ‫كل تلك األسئلة و أنا أه ّم الرتداء ثيابي احتفاء مني ألحدد مصيرا طال عليه األمد‬ ‫كما تزعم والدتي‪ ..‬كنت أفكر كما النهايات السعيدة في أي فيلم أمريكي‪ ..‬أنه سيأتي‬ ‫لدارنا و ينهي الموضوع و نكون سعيدين أخيرا‪ ,‬أخرى تحملني ألنهي األمر على‬ ‫غرار التراجيدية اليابانية حيث أ ّني سافرت بعيدا مع الذي ال أعرفه فإما سعيدة أو‬ ‫ش ّقية‪ .‬كل منا تائه في جبال األلب وسط الثلوج الباردة ال يبلغ واحدنا القمة أبدا‪..‬‬ ‫توسعت حدقتا عيني فجأة أمام المرآة‪ ..‬إنه ناقوس الخطر ّ‬ ‫يدق‪ ..‬الواجب يدعوا أن‬ ‫ننزل الملجأ لحين انقشاع الحرب اآلتية‪ ,‬إنهم هنا‪ ..‬يبشّ بهم أهلي و يرحبّون‪.‬‬ ‫والدتي‪ :‬أسرعي هيا إنهم هنا‪ ..‬عليك تقديم العصير لهم‪.‬‬ ‫أحدّ ث نفسي‪ :‬لن أستطيع المسير حتى‪ ..‬ال أقوى أن أحمل الصينية بين يديّ ‪..‬‬ ‫أردت الهرب من النافذة‪ ..‬للفرار بعيدا عن هنا‪ ..‬عن الجميع‪ ..‬عنه حتى‪ ..‬عن كل‬ ‫األفكار‪ .‬أردّت أن يتوقف الدماغ عن إعطاء أمر إفراز األدرنالين لساعة فقط‪..‬‬ ‫ساعة واحدة‪ ..‬يا رب أرجوك مدّني بالقوة‪ ..‬بالجواب الصائب ألكمل حياتي بشكلها‬ ‫الصحيح‪ ..‬أعلم أن زمن المعجزات قد انتهى منذ عهد األنبياء و الرسل و أن القدر‬

‫‪32‬‬


‫مكتوب في اللوح المرقوم قبل خلق األرض ومن عليها‪ ..‬لكن ما الذي سيحصل‬ ‫فعال‪ ..‬هل عليّ الدخول إليهم اآلن؟‬ ‫خالل مدة جلوسي لم أعي شيئا سوى تفكيري كيف أصبحت صحته اآلن‪ .‬قطع‬ ‫عليّ رنين الهاتف فجأة ما كنت أرسمه و جعل قلبي يهت ّز بين األضلع لكأن كل‬ ‫جالس رآه و سمع صوته‪ ..‬أحدث نفسي كمن عاقر الخمر حتى الثمالة و يهذي بين‬ ‫حناياه‪ :‬هو؟ أكيد؟‬ ‫والدي‪ :‬خالتك تسأل عنكم‪ ..‬أجبتها‪.....‬‬ ‫سرحت بكامل ذهني بعيدا‪ ..‬لم أسمع كلمة بعد ذلك‪ ..‬أخذتني مخيلتي بعيدا حيث‬ ‫أكون أميرة تقف وسط ساحة معركة لفارسين يتبارزان لنيل يدها أحدهما موجود‬ ‫دون جهد سيبذله ألخذها بالد ما بين النهرين أمّا اآلخر فلم يأت بعد ألن طريقه‬ ‫محفوفة بالمخاطر و ساحرة عجوز تضع له العوائق في طريقه إليّ ‪ ,‬أما األميرة‬ ‫فما زالت تنتظر العد التنازلي حتى اآلن‪.‬‬ ‫صحوت مرتعدة على يد والدي تهز ّني بسؤاله المباغت‪.‬‬ ‫أبي‪ :‬ما رأي حبيبتي الصغيرة‪ ..‬أموافقة على ما أشترط عليه بيننا أم ستضيفين‬ ‫شيئا ما عزيزتي (توليب)!‬

‫‪33‬‬


‫نظرت إليه بعد غفلتي‪ ..‬جلت ببصري على من حولي‪ ..‬خانتي مقلتي فجأة‪ ..‬و‬ ‫صمت‪...‬‬

‫‪10 / 7 / 2009‬‬

‫‪34‬‬


‫الثقب األسود‬ ‫عندما نسمع باسمه‪ ...‬يتبادر إلى األذهان تلك المنطقة الكونية في ذاك الفضاء‬ ‫الواسع كما فسّره علماء ناسا (الزمكان)‪ .‬هو ذاك الفراغ المجهول الذي يبتلع كل‬ ‫ما يأتي إليه حتى الضوء ليرسله إلى بعد آخر وعوالم منسية مجهولة أو إلى مقبرة‬ ‫محتومة‪ .‬هو ذاك الظالم المتقع المخيّم على الفضاء كفم وحش مروّ ع يأكل كل ما‬ ‫يجده أمامه ليستق ّر في جوفه المجهول الكامل العمى و األص ّم‪.‬‬ ‫إال أن فلسفته ت ّكشفت لدي عندما جالست مكاني ذاته ألرشف صباحي من مدخل‬ ‫هوّ ته ببضعة قطرات مرّة أبدأ بها نهارا‪ ...‬القدير وحده يعلم منتهاه‪.‬‬ ‫في ذات المكان‪ ...‬المطر يتقاطر من سماء رمادية اللّون لكأن الغيوم تغسل أدرانها‬ ‫و تودعها األرض كي تحفظ األخيرة سرّها في غياباتها العميقة جدا‪ ,‬جدا‪ .‬اللون‬ ‫األخضر عاد لرونقه بعد صيف طويل و الحقيقة باتت مع ّراة عن أغصان فقدت‬ ‫أوراقها المصفرّة التعبة من أسرار حملتها فترة طويلة أنهكتها حدّا ال يوصف‪.‬‬ ‫جالسة وحدي في المقهى‪ ...‬تاركة بصري يبحث في البعيد علّه يفهم سببا من أجل‬ ‫سبب أو ال سبب إلى أن قطع الساقي تفكيري حين أحضر فنجان قهوتي التي أحبها‬ ‫دون سكر أو إضافات تجعل نكهتها و صفاء لونها يختفي كما عجوز تجمّل نفسها‬

‫‪35‬‬


‫بمساحيق تعتقد أنها تقتل مرور الوقت و تتصابى كي تهرب من س ّني عمر لن‬ ‫تخبو تجاعيده مهما حاولت‪.‬‬ ‫هممت أن أبدأ برشف قطرات الندى من ثغره إال أنني و دون وعي مسبق أصبحت‬ ‫أنظر مباشرة إلى الفنجان أمامي‪ ,‬سطحه األسود الصافي الذي يعكس تماما‪...‬‬ ‫الالشيء كبوابة سوداء كبيرة جدا تحجب ما بداخلها حتى القعر‪ ,‬و بين كل ما‬ ‫ينعكس على سطحها القاتم الداكن و الصغير‪ .‬تأملت ذاك الفراغ لوقت ال أعلمه فإذ‬ ‫بحدقة عيني تتشكل سطحا آخر على تلك البقعة كمدخل يريني ذاتي‪ ,‬أفكاري‪,‬‬ ‫ذكرياتي‪ ,‬و ما أستطيع إبداعه أو أن أكونه حتى‪ .‬كانت إعصارا مخيفا حملني إلى‬ ‫فضاء نفسي الواسع الذي لم أكتشفه بعد‪ .‬شعرت بطاقة تحرّ ضني ألم ّد إصبعي‬ ‫فأخترق ذاك الكون الواسع و أصل عميقا حتى نهايته المخيفة و التي ال أعلم إلى‬ ‫أين ستودي بي علّي أجد تعريفا ما في تلك المنطقة الغير مكتشفة بعد داخل عقلي‪.‬‬ ‫شعرت بها تسحبني دون مقاومة مني إلى‪ ...‬فراغ‪ ,‬لكأن الزمن توقف فجأة‪...‬‬ ‫أشعر بشيء ما ينسّل مني و يدخل جوفه الالنهائي‪ .‬ال ينبعث منه أي شرارة أو‬ ‫إشارة‪ ...‬لم أعد أرى ضوءا حولي أو أسمع صوتا حتى‪ ,‬ليس لي ظل منعكس وال‬ ‫انعكاس لذاتي في أية جهة حولي‪ ...‬سوى أ ّني أتنفس فقط و أني ما زلت موجودة‪.‬‬ ‫أحاول البحث عن بقعة ضوء صغيرة‪ ...‬ثغرة ما‪ ...‬بت أتحرك في كل اتجاه‬

‫‪36‬‬


‫ممكن‪ ...‬دون جدوى ألي شيء‪ .‬ظالم ال محدود‪ ...‬ال شيء آخر‪ ...‬سكون قاتل ح ّد‬ ‫الجنون‪.‬‬ ‫ركنت فجأة فقد هدّني التعب و أنا أحوم حول الال مكان الذي غرقت فيه رغما‬ ‫ع ّني‪ ...‬أصبحت أعي أ ّني أسبح في عمق محيط ل ّجي ال أعلم ماهية الخروج منه‬ ‫سوى ب‪ ...‬الركود‪ .‬عدت إلى نفسي و هدأت قليال‪ ,‬ال أعلم إن كنت في وضعية‬ ‫الجلوس أو الوقوف إال أ ّني ال أشعر بجاذبية جسدي أبدا‪ .‬بدأ تفكيري يعمل برويّة‬ ‫و أنني في محض خيال و سأستيقظ منه فجأة‪ ,‬لن أهدر طاقتي على خوفي من الال‬ ‫ّ‬ ‫صمت طويال‪ ...‬سكن روعي‪ ,‬ال أعلم كم من الوقت لكن فجأة تبادر‬ ‫شيء‪ .‬سكت‪,‬‬ ‫إلى خاطري أشياء كثيرة‪ ...‬صور أناس و حاالت للبشر لم أعيها قبال‪.‬‬ ‫تلك الظلمة الحالكة ح ّد مفارقة الروح للجسد‪ ...‬هل الكفيف يعيش ذات األمر؟ ترى‬ ‫كيف يسبح خياله في تصّور أشكال الطيور و مناظر الشجر؟ ما هي تصوراته عن‬ ‫شكل الجبال و الجداول المتفجرّة منها؟ ما يعنيه الربيع له إذا أراد استحضاره في‬ ‫مخيلته التي لم ترى الربيع يوما أبدا؟ كيف يترجم لنفسه نبض الحياة التي ما عدنا‬ ‫نحن المبصرون نقرأها اآلن؟ هل حاولنا يوما السماح له بأن يعبّر عن مخيلته‬ ‫لنا‪ ...‬أم أننا سنستهزئ به ألنه سيتكلم عن خيال محض بعيد حتى عن مخيلة أي‬ ‫طفل كان‪ .‬هكذا نقتلهم‪ ...‬أن ال نعير مشاعرهم أو كالمهم حقه كي نقنع أنفسنا و‬

‫‪37‬‬


‫محيطنا بأنهم مساكين إذ أن التواصل معهم صعب؟ بينما نحن‪ ,‬أجل نحن‬ ‫المبصرون من ال نملك أي وسيلة تعبير أو تواصل‪.‬‬ ‫ران علّي صمت قاتل‪ ...‬ثم تبادر إلى ذهني المتعب‪ :‬أهذا ما يعنيه الصمم؟ هل من‬ ‫فقد سمعه يعيش بزنزانة منفردة ال حركة فيها و ال دبيب لنمل يسمع! السكون‬ ‫شيء رائع فهو يصقل النفس البشرية و يصلها بالسماء إال أنها في ذاك الح ّد الذي‬ ‫أنا فيه اآلن هي ضرب من الجنون‪ ...‬توصل صاحبها لجرف سحيق ال قرار فيه‪.‬‬ ‫ترى‪ ...‬إن كان األصم يرى الطير حوله كيف يصوغ عقله له صوت تلك‬ ‫المخلوقات التي تشبع صباحاتنا ّ‬ ‫بألذ موسيقى‪ .‬كيف يترجم له دماغه صوت إنسان‬ ‫يقول له‪ :‬أحبك؟ تلك الكلمة البسيطة الجلل التي مللناها نحن السامعون من كثرة ما‬ ‫فقدت معناها بيننا‪ .‬كيف يعمل عقله على تخيل خرير الجداول أو عزف قطرات‬ ‫المطر ما إذا المست وجهه الح ّي‪ ,‬كيف حفيف الشجر يترجم على سلّمه الموسيقي؟‬ ‫ال أعلم إن كنت أتكلم حقا أو أن نفسي التي بين جنبّي هي التي تتكلم و تفكر‬ ‫عني‪ ...‬فحاولت أن أصرخ ع ّل صدى صوتي يرتد و يؤنسني في ظلمة وحشتي‬ ‫التي أحسست فيها كأني في قبري و قد ابتلع جسدي الغض الطري حيا‪ ,‬لكن ما من‬ ‫شيء أتاني سوى السكون يلفّ المكان حولي كيفما اتفق‪ .‬اآلن فقط شعرت بمعنى‬ ‫أن يكون الخرس مصيبة اإلنسان‪ .‬إن من يفقد لغة اللسان يكون قد فقط اإلحساس‬

‫‪38‬‬


‫بذاته‪ .‬مهما حاول التعويض بالمداد و البردي‪ ...‬ستبقى الحبال الصوتية تعطي‬ ‫ّ‬ ‫أدق حالة لما نشعر به و توصله لمن حولنا‪ ...‬رغم أن معظم من حولنا قد أصابهم‬ ‫الصمم رغم سالمة سمعهم و بات العمى صديقهم رغم سالمة بصرهم‪ .‬أن تستطيع‬ ‫التكلم مع أقرب الناس إليك و أن تخبره ما يعتريك في أسوء حاالتك هي هبة ال‬ ‫نقدرها إال عند الكذب و النفاق و التملّص ممن هم بحاجة إلينا فقط ألننا‪ ...‬في زمن‬ ‫ال نهتم فيه سوى ألن نعيش كل يوم بيومه و كفانا‪ .‬ال نريد سوى أن ننفس عن‬ ‫ألمنا و عندما يريد الغير إصغاءنا‪ ...‬فنتأفف و ندّعي انشغالنا بما ليس عندنا‪.‬‬ ‫هدأ روعي‪ ...‬أحسست أن عقلي قد فرغ من ك ّل فكرة ممكنة أن تسلي عني ذاك‬ ‫الغياب عن الواقع و أنني ّ‬ ‫بت في هوة سحيقة تسبح بي نحو المجهول‪ .‬هل يوجد‬ ‫عوالم أخرى حقا كما تصورها السينما و يص ّدرها الغرب لنا؟ أ من الممكن أن‬ ‫أكتشف عوالم عجز علماء الفلك و روّ اد الفضاء عن الوصول إليها؟ تناثرت‬ ‫أفكاري كما ذ ّرات الطيف من حولي مبعثرة‪ ,‬عشوائية‪ ,‬حاولت أن أحرّك يدي علّي‬ ‫أجمعها و أعيدها سيرتها األولى‪ ...‬عبثا جهدي قد ذهب‪ .‬أدركت وقتئذ أنني عبارة‬ ‫عن معاقة فقدت أذرعها‪ .‬و أطرافها‪ ...‬إنني مجرد جسد و رأس فقط‪ .‬أي حسّ بقي‬ ‫لدينا عندما نرى ذوي اإلعاقات سوى أن ننظر بشفقة و نقول ألنفسنا (الحمد هلل‬ ‫الذي عافانا مما ابتلى به غيرنا)‪ .‬أ حقا تلك العبارة كافية ألن نشعر بما يعتريهم و‬

‫‪39‬‬


‫هم ال يستطيعون عمل األشياء بشكل طبيعي‪ ...‬أن يشربوا كأس ماء بيد فيها خمسة‬ ‫أصابع كما نفعل نحن؟ أن ال يستشعروا جمال الطبيعية بخطى أقدامهم أو برد الثلج‬ ‫و ّلذته أيام الشتاء؟ إن انفلت منهم شيء ال يقدرون على التقاطه فهو ينسكب منهم‬ ‫كما الحياة تنساب من بين أيدنا نحن األصحاء‪ .‬هم يقدرّون معنى السعادة فعال أما‬ ‫نحن فنستبيح الشكوى و نرمي ما تبقى في قمامة بيوتنا و نرتدي عجزنا النفسي‬ ‫داخل منازلنا و ننسى أننا معافون في أبداننا‪.‬‬ ‫عقلي ال يحمل أية أفكار اآلن‪ ...‬كصفاء السماء في يوم صيفي ال يحمل في أفقه‬ ‫سوى قرص الشمس الذهبي‪ ...‬ال أعلم المدّة التي بت فيها على تلك الحال و كأنه‬ ‫أسطوانة انتهت مما عليها و بقيت تل ّتف على فراغ‪ ...‬ال كلمات‪ ,‬أحرف‪ ,‬أو نقاط‬ ‫تتجمع مع بعضها‪ ....‬صفحة بيضاء فقط‪ .‬هو الجنون بعينه‪ ,‬هو العقل ذاته و قد‬ ‫فرّغ شحناته السالبة جميعها و أتبعها بالموجبة أيضا‪ .‬أتراها نهاية العالم أم نهايتي؟‬ ‫كيف بدأت في كل هذا؟ كيف أنتهي منه باهلل عليكم؟ أمن مجيب فيوقظني؟ أمن‬ ‫مجيب فيرشدني؟ إلى أين يأخذني ذاك الثقب األسود في فضاء الخالق؟‬ ‫مللت األسئلة دون العثور عن إجابة واحدة‪ ...‬أترى روحي قد فارقت جسدي حقا و‬ ‫أنني في البرزخ أرزح في كل تلك المتناقضات داخلي‪ .‬استذكرت من الالشيء‬ ‫نجمة القطب التي عشقت النظر إلى السماء ألجلها‪ ...‬أحببت النظر إليها أكثر من‬

‫‪41‬‬


‫القمر‪ ...‬فقد كانت بالنسبة لي تستمد قوتها من ذاتها ال من غيرها‪ ...‬مضيئة دوما‬ ‫ال تتغير أو يق ّل سطوعها مع أيام الشهر‪ .‬هي الدليل الموثوق في الصحراء و التي‬ ‫بها يستهدي من يتوه‪ .‬هي الشيء الثابت دائما عند ظهور القمر‪ .‬هي عشقي التي‬ ‫أتلذذ بالنظر إليها في سهري و تؤنس وحدتي‪ ...‬تسمع بكائي‪ ...‬أأتمنها سرّ ي‪.‬‬ ‫وحدها ترى انسكاب الدمع من مقلتيّ ‪.‬‬ ‫حاولت استذكارها جاهدة فهي مالكي الحارس في غياهب الجبّ الذي وقعت فيه‪...‬‬ ‫علّها تظهر لي و ترشدني إلى الطريق داخل الظلمة التي أنا فيها‪ .‬بقيت أدعوها و‬ ‫أناديها و أنا داخل ذاك الفضاء األسود الال متناهي‪ ...‬يحاول عقلي استحضارها‬ ‫قبل أن أصل إلى قعر تلك الهوّ ة السحيقة التي ربما ترمي بي إلى أرض المفترسين‬ ‫و الجهلة و آكلي لحوم بعضهم البعض أو ربما تجعلني في مملكة آمنة مترفة‬ ‫بجمال الطبيعة و طيبة المسكن فآمن على نفسي أخيرا‪ .‬ال أملك الحسّ بالزمن‪.‬‬ ‫نقطة بيضاء شبه معدومة الرؤية بدأت تتجلى لي‪ ...‬بعد برهة ازدادت اتساعا‪ ...‬ثم‬ ‫ما لبث إحساس باالنجراف نحوها إال أن ازداد كمن يهبط من على األفعوانية دون‬ ‫هوادة و ال يوجد مكابح أو شيء أتمسك به خوفا من أن أسقط فتكسر رقبتي‪.‬‬ ‫ال بد و أنها سمعت نداء قلبي و عرفت مدى عشقي لها في كل تلك الليالي التي‬ ‫كانت تتجلى لي لتسمع غزلي بها أو تسمع آهة تصدر مني فجاءت تسعفني من‬

‫‪41‬‬


‫ضياعي في ذاك الجرف المخيف و المهيب‪ .‬عاد لي صوتي ثانية عندما مررت‬ ‫بجانبها و هي تتألق فقد أخبرتها كم أنا شاكرة لها أنها جاءت لمساعدتي رغم كل‬ ‫الخطر المحدق لدخولها الثقب‪ .‬لمست أحد أشع ّتها الب ّراقة فأحسست بدفئها يمرّ من‬ ‫بين أصابعي و يا له من شعور ال يوصف بالحسّ باألشياء‪.‬‬ ‫صحوت فجأة على صوت هاتفي الن ّقال ينبّهني أن الوقت قد حان كي أتوجه نحو‬ ‫عملي‪ ...‬نظرت حولي متمع ّنة بكل شيء‪ ...‬بأشعة الشمس الضئيلة أيام الشتاء‪...‬‬ ‫ّ‬ ‫بزخات المطر التي يعبق بها نهاري‪ .‬حرّكت قدمي ألتأكد أني بخير‪ ...‬ثم ندهت‬ ‫الساقي أطلب منه فاتورة الحساب و عندما أجابني بالقبول تأكدت أنني لم أفقد‬ ‫قدرتي عن الكالم‪ .‬ترى هل كل تلك األفكار تتالت فجأة لمجرد النظر لتلك البقعة‬ ‫السوداء داخل فنجان قهوتي و التي ال تعكس شيء حقا؟ إنما هي مجرد بقعة داكنة‬ ‫وقعت عليها عيناي‪ .‬جميلة فعال‪ ,‬ملهمة لك ّل من يحاول أن يبحث عن فكرة ليبدأ‬ ‫بها طريقا ما‪ .‬أو يحاول إيجاد نفسه في زمن بات الضياع فيه شيء اعتياديا‪.‬‬ ‫وصلت لحقيقة زماننا و ذلك أ ّنه من يجد نفسه البشرية التائهة في دورة أرضنا‬ ‫اآلنية فهو غريب‪ ,‬مخ ّتل العقل‪ ,‬خارج عن المألوف‪ ,‬و من ذوي االحتياجات‬ ‫الخاصة فعال‪.‬‬ ‫‪Lina Al-Shalati‬‬ ‫‪09/12/2011‬‬

‫‪42‬‬


‫أو لست الرجل!‬ ‫لن تستسيغ األنس بعدي مع أحد‪ ..‬أيا كان ذاك الشخص‪ ,‬تلك لعنتي التي ألقيتها‬ ‫عليك مذ طلبتك من العزيز القدير سكنا لي‪ .‬أنت‪ ..‬يا من لم تؤمن يوما بالحب من‬ ‫النظرة األولى‪ ,‬أصبحت لها رهينا و مسلوب اللّب‪.‬‬ ‫هو‪ :‬الرجل الذي لم تستعص يوما عليه امرأة قط‪ ..‬ظهرت أمامه فجأة‪ ..‬بكل‬ ‫أنوثتها الحيّة لتجعل منه رجال آخر‪ ..‬بساعات فقط ! لم هي بالذات ؟ ما المميز فيها‬ ‫دونا عن بنات حواء ؟ رغم أن من عرفهن‪ ..‬و يعرفهن يفقنها جماال و يفضن أنوثة‬ ‫صاخبة!‬ ‫لكأنه البارحة‪ ..‬رغم مضّي أكثر من أسبوعين على مجيئها مكتبه‪ ..‬فجأة و دون‬ ‫إعالن مسبق‪ ,‬محتقنة العينين‪ ,‬طلبت رؤيته ألمر هام‪ .‬رحب بها و قد بادره قلبه‬ ‫بخفقان سريع‪ ,‬سرى الدم في جميع أوصاله بسرعة بركان فيجي فجأة‪ ..‬انتفت‬ ‫البسمة عن محيّياه عندما قابلته عيناها الدامعتين و رموشها المبتلّة ح ّد الثمالة دون‬ ‫صوت بكاء‪.‬‬ ‫طلب إليها الجلوس و قد تسلل الرعب قلبه‪ ..‬أجل! هو الرجل الذي يحسب له كل‬ ‫حساب مذ دخوله حتى انتهاءه من عمله‪ ..‬يخاف منها هي! بل و عليها‪ .‬لم تجعل له‬ ‫بادرة أن يت ّفوه بشيء فقد بادرته بكلمات شعر فيها بتوقف الزمن من حوله‪ ..‬لكأنه‬

‫‪43‬‬


‫الصمم قد حجبه عن كل ما حوله عدا صوتها المتش ّنج الخارج من حنجرة ملّت‬ ‫الصمت و الصبر على جفوته‪.‬‬ ‫هي‪ :‬ستسمعني فقط‪ ..‬دون أن تنبس ببنت شفه‪.‬‬ ‫لم يستطع لسانه أن يتحرك بحرف واحد أبدا‪ ..‬مسلوب اإلرادة و الحركة كان‬ ‫تجاهها‪.‬‬ ‫هي‪ :‬أما زلت تذكر يوم وقفت مسلوب الحيلة تحدق بعينيّ من تلك الزاوية‪ ..‬كنت‬ ‫ترتدي بنطاال رماديا و قميصا أبيضا!‬ ‫هو‪ :‬أنا‪ ..‬طبعا‪..‬‬ ‫هي‪ :‬وقتها‪ ..‬أكنت تحاول معرفة ما إذا كان تأثيرك على السيدات كما هو‪ ,‬أم زال؟‬ ‫أم كنت تقضي أوقات فراغك مع جميعهن على ذات المنوال؟ كنت ساذجة ألنني‬ ‫سمحت لك استعمار قلبي و احتكار األبهر فيه ّ‬ ‫توزع الدم فيّ كيف شئت‪ .‬نصبّت‬ ‫نفسك ملكا على مكنونات عقلي و كياني حتى ّ‬ ‫بت ال أكلّم رجال في غيابك خوفا‬ ‫عليك أو منك‪ ..‬ال فرق‪ ,‬لكأ ّني تحت جناحك و انتهى‪ ..‬صدقني سيدي‪ ..‬ما عرفت‬ ‫الحب يوما‪ ..‬لكنك جعلته يتسلل داخلي كما جنيّة األطفال تأتيهم ليال بهدايا‬ ‫صغيرة‪ ..‬تفرح قلوبهم رغم تفاهتها‪ .‬نصبّت نفسك ملكا على قلب‪ ..‬ال أنت تركته‬ ‫بسيادته مستقال بخراب سببته فيه‪ ,‬وال أنت أعلنته مملكتك األبدية؟ ّ‬ ‫بت أعشق‬

‫‪44‬‬


‫الوحدة في غيابك‪ ,‬حتى لم أعد آنس من البشر أحدا و قد أصبح مزاجي متقلبا جدا‬ ‫و مذاق الطعام لم أعد أشعر به‪ ..‬سوى أنني آكل لمجرد إطعام جسدي الفاني في‬ ‫النهاية‪ .‬ما استفدته من وجودك داخل شرايني هو بمعرفة حقيقة واحدة تجلّت أمامي‬ ‫ّ‬ ‫الحق يد ّل على الحب السرمديّ بين العبد\األمة و الخالق الواحد‬ ‫بوضوح‪" :‬الحب‬ ‫األحد‪ ".‬أتيت اليوم ألقول لك‪ :‬ما رأيت قط كقسوة قلبك! كم كتمتها جوارحي حتى‬ ‫ما عادت تطيق وجودها بين الحنايا‪ ..‬أعلنها على المأل و دون خوف منك‪,‬‬ ‫الصحراء باتت جرداء حتى من أشباه الواحات المرئية‪ ,‬حتى السراب‪ ..‬ما عاد له‬ ‫ضرورة فيها‪ .‬إنك جلف أكثر من أ ّ‬ ‫شد الناس قسوة خلقوا على هذه األرض‪ .‬انظر‬ ‫نفسك سيدي كيف كنت و ما أصبحت عليه ساعة رضيت بي في حياتك التي كانت‬ ‫باألبيض و األسود‪ ..‬تحولت إلى شخص إن نظرت في مرآتك لم تكن لتتصور أن‬ ‫تكونه أبدا‪ .‬ك ّل مرّة كنت تقابلني بها‪ ..‬توّ د أن أسمعك ما يجعلك مطمئنا لي‪ ,‬لم‬ ‫أبخل بها عليك‪ ..‬بينما ضننت علّي بما يجعلني أشعر أنني أتنفس ذات الهواء معك!‬ ‫تمنيت أن أكون علبة سجائرك الموضوعة في جيب قميصك ناحية قلبك‪ ..‬علّني‬ ‫أسمع دقاته كيفما حللت و ارتحلت‪ ,‬أحسد سيجارتك التي تحملها بين أصابعك و‬ ‫التي ال تستغني عنها و تالمس شفتيك اللتان أنتظر منهما أن ينطقا اسمي يوما‪..‬‬ ‫دخانك الذي كنت تستمتع بحرقه كما تحرقني دون أن تهتم من أنه يضرّ بك أو‬

‫‪45‬‬


‫يضّر بغيرك و يقتلك‪ .‬أو لست الرجل! المبادر‪ ..‬الطالب لألنثى! أم كنت لعبة‬ ‫جديدة لم تستطع ح ّل لغزها و سبر غورها رغم وضوحها و التزامها بك‪ ..‬فآثرت‬ ‫التراجع و اللهو بأخرى‪ ..‬أسهل‪ .‬لم آت هنا ألضع ضعفي نقطة علّي‪ ..‬بل ألريك‬ ‫تشويه ذاتك‪ ,‬مدى ضعفك‪ ,‬و قلّة حيلتك من دون أن تتفوه بكلمة بسيطة تشعرك‬ ‫بإنسانيتك‪ ,‬حياتك‪ ,‬و أن مشاعرك و قلبك الذي يسكن بين حناياك مازال ينبض‬ ‫فيك‪ .‬ليس ذاك عيبا أو نقصا لفحولتك صدقني‪ ..‬إنما أعجب لكم معشر الرجال‪ ..‬ال‬ ‫تشربون من الحياة سوى قسوتها‪ ..‬لتصّبوا جامها علينا! في آخر مطافكم‪..‬‬ ‫تخرجون بال ناقة وال جمل‪.‬‬ ‫صمتت و هي تحاول جمع شتاتها و إمساك دمعها‪ ...‬و هو ينظر إليها بعينين‬ ‫زائغتين و أحرف الهجاء مبعثرة أمامه‪ ..‬حاول بخالل صمتها أن يجمع بضعة‬ ‫أحرف‪ ...‬لكنه فشل‪ ...‬عجز عن التعبير ألن ضعفه تراءى له جليا بصورة أنثى‬ ‫أحبهّا بشغف دون أن يقدّر ذاك قبل اللحظة‪ .‬تنبّه لصوتها المخنوق يتم ّم له الهدم‬ ‫الثلجي الذي أغرقه و جعله في ذالك الجرف العميق‪ :‬سأتركك وحدك اآلن و لست‬ ‫نادمة عمّا جئت ألجله أو ما قلته لك‪ ..‬إال أ ّني أطلب منك أن تقصد البحر و تتأمل‬ ‫قدرة الرحمن فيه‪ ..‬عسى أن يأتيك ذاك بالصواب ليليّن قلبك‪ ,‬و يفتح بصيرتك التي‬ ‫عفا عنها الزمن‪ .‬أو‪ ..‬اصعد جبال عاليا‪ ,‬خيّم هناك و تأمل لوحة إلهية تدلّك على‬

‫‪46‬‬


‫معنى الحياة و أن الكبر داخلك هو ال شيء أمام ما تبصره عيناك من إبداع نحن‬ ‫أمامه أعجاز نخل خاوية‪ .‬ستعرف عندئذ معنى "رفقا بالقوارير" التي تبدءون النقر‬ ‫عليها أو فيها‪ ..‬ال يهم‪ ,‬فهي أخيرا ستتحطم بين يديكم معشر المرّ يخيين‬ ‫الصندوقيين‪ ,‬عندها فقط لن تنفع دمعة أو كلمة أسف تحيينا‪ ..‬أبدا‪ .‬ريثما تحصل‬ ‫على إجابتك و تعود روحك حياتها السّوية لترى بوضوح و بصيرة! ربما تجدني‬ ‫أو يواري التراب‪ ..‬التراب‪ ..‬إال أ ّني أعرف أنك لن تظلم غيري بعدها‪.‬‬ ‫وقفت برفق و ودعّته بدمع ينسكب دون كلل أو ملل‪ ...‬من عينيها اللتين ذاق‬ ‫بسببهما الخمر ألول مرّة في حياته‪ ,‬كان مخدرا كليا‪ ..‬حتى أنه لم يعرف ماهية‬ ‫اللحظة‪ ,‬الدقيقة‪ ,‬حتى الساعة التي قضتها مواجهته معها و هو يسمع دون أن‬ ‫ينطق لسانه بكلمة واحدة يدافع فيها عن نفسه أو يكبح غضبها بلباقته و كياسته‬ ‫المعهودتان عنه‪ .‬بعد رحيلها‪ ..‬لم يطق عقله الصورة التي خلّفتها لديه‪ ..‬ما أخرجه‬ ‫عن تحفظه في كل شيء‪ ..‬أصبح يرمي كل ما أمامه بكل االتجاهات‪ ..‬بقي مزاجه‬ ‫سيئا طوال أسبوعه ذاك‪ ,‬حتى ق ّرر الهروب من نفسه و منها‪.‬‬ ‫قصد البحر‪ ..‬فالتخييم عادة غير متأصلة لدينا‪ ..‬لم يخبر أحدا عن المدة الني‬ ‫سيغيبها‪ ..‬لعدم قدرته على فهم ما حصل له فجأة‪ ,‬ما الذي جعل كيانه كما‬ ‫"السكربتس" لعبة األحجية ذات المكعبات الملونة‪ ,‬بعشوائيتها المطلقة تشبه بعثرة‬

‫‪47‬‬


‫فكره‪ ,‬نطقه‪ ,‬و حتى تصرفاته و نظرته لمن حوله‪ ..‬ال يعرف كيف يحّ ل معضلتها‬ ‫و تبقى المكعبات مبعثرة ك ّل في اتجاه مختلف‪.‬‬ ‫عندما المست قدماه الرمل الناعم للمرة األولى‪ ..‬داعبت نسمات البحر وجهه و‬ ‫تخللت ثيابه كما تداعب األم طفلها و يحاول األخير أن يحوم حول رقبتها باشتياق‬ ‫كبير‪.‬‬ ‫لم يمض على وجوده أكثر من ثالثة أيام‪ ..‬و ها هو اليوم الثالث يهّم باألفول عنه‬ ‫كما البارحة‪ ..‬نظر بين قدميه اللتان يالمسهما دفء ماء البحر و ح ّنوه على الرمل‬ ‫المتشبع من ماءه حتى الجوف‪ ..‬هي تارة قوية و أخرى ضعيفة‪ ..‬انهمرت منه‬ ‫فجأة‪ ..‬دمعة‪ ..‬اثنتان‪ ..‬و تتالت األخريات على وجهه‪ ...‬م ّد يده يتحسس الدمع‪ ,‬هو‬ ‫يبكي‪ ...‬رجل يبكي‪ ,‬و ما المعيب في ذالك‪ ..‬ألم نخلق بشر سواسية لم ّ‬ ‫يحق لهن‬ ‫البكاء و حرّمنا ما يريحنا على أنفسنا‪ .‬عاملها بكل ما أوتي من برود و سطوة‬ ‫الرجل التي ت ّ‬ ‫شربها في عمره و سنواته التي تعدّت العقد الرابع بقليل‪ ..‬جعلها داخل‬ ‫صدفته ليقذفها بعيدا جدا‪ ..‬ظنا منه أنها ستعود طيّعة إليه‪ ,‬ما فطن ذهنه بسبب‬ ‫عجرفته وال عملت مخيلته حتى على رسم ذاك السيناريو الذي قلب حياته رأسا‬ ‫على عقب‪.‬‬

‫‪48‬‬


‫هل آذاها حقا؟ أغرس خنجره فيها و استقر في صميمها؟ أيمكنه العودة إليها؟‬ ‫أيطلبها اآلن و يخبرها كيف أنها تسري منه مجرى الدم في عروقه‪ ..‬أن اسمها‬ ‫الذي لم يقو يوما على أن ينادي به تلفظه كل مسامة في جسده الجاف و العفن‪.‬‬ ‫أيستقبله قلبها إن طرق بابها؟‬ ‫للمرة األولى في حياته يفقد السيطرة و التحكم بقراراته أو اإلتيان بخطوة‪ .‬لم‬ ‫تصّرف معها دونا عن األخريات اللواتي عرفهنّ في حياته من بنات حواء على‬ ‫ذاك النحو من الجفاء الغير مبرر‪ ,‬و بنى حائطا كما في برلين بينهما؟ لم يفعل كل‬ ‫هذا بنفسه؟ أيتها األسئلة البلهاء‪ ..‬سحقا ألجوبتكم المعادية‪ ..‬المضللّة‪.‬‬ ‫كان الغسق قد تالشى لت ّحل بدال عنه أولى نجمات المساء‪ ..‬بدأت تتألأل أمام‬ ‫ناظريه كما عيناها العسليتان‪ ..‬للمرة األولى يتنبّه لوميضها الذي يجعل حواسه‬ ‫جميعها تعمل باتجاه واحد‪ ..‬حيث تكون قبالته‪ ..‬تذكر كيف ينبئه قلبه بمقدمها كما‬ ‫الطير قبيل هطول المطر‪ ..‬عندها ترتعد أوصاله شوقا كما األرض لثلج الشتاء بعد‬ ‫طول جدب‪ ,‬ح ّر‪ ,‬و قيظ‪ .‬حتى أن شفاهه تتلعثم و هو يم ّد يده مصافحا يدها الباردة‬ ‫أيام الشتاء‪ ..‬آآآه‪ ,‬كم تمنى أن يبقي يدها بين يديه و يبقيهما محتجزتان ألطول فترة‬ ‫ممكنة خوفا عليها من البرد‪ ..‬لكن عجزه عن إظهار مشاعره تجاه األنثى بقيت‬ ‫حائال عن أن تفيض كما الفرات‪ .‬تبّا لمجتمع عل ّم الرجل ما يخصّه فقط من العقد‬

‫‪49‬‬


‫بين آدم و حواء‪ ..‬ما جعله يتغافل عن حق الطرف اآلخر فيه! لقد جعل من كبرياء‬ ‫أوالد آدم و عنفوانهم يطغيان على تصرفاتهم ‪ ..‬ما يؤذي و يكسر ذاك الضلع‬ ‫الحامي لقلوبهم و يكون سببا لينغرس في أفئدتهم و يقضي عليهم و يجعلهم‬ ‫يحرمون ّلذة تذوق الشعور بالح ّنو و طعم الحياة الحلو‪.‬‬ ‫أما زالت تشعر به رغم بعدهما؟‪ ..‬هي ساهرة كل ليلة تنادم ذات النجمة التي‬ ‫تبصرها عيناه‪ ..‬تشكوه لخالق األكوان؟‬ ‫استلقى على ظهره‪ ..‬باتت عندها القبّة السماوية الداكنة و هي تموج ببحر متأللئ‬ ‫ال نهائي‪ ..‬أروع صورة نظرت إليها عيناه حتى اآلن‪ ,‬أين كان من كل ذاك؟ أعمى‬ ‫البصيرة فعال‪ ..‬غبي‪ ,‬أحمق‪.‬‬ ‫أيّ ربّ ‪ ..‬أسألك يا من خلقت السبع الشداد‪ ,‬و رفعت السماء بغير عمد نراها ثم‬ ‫زينتها بمصابيح‪ ..‬أن تعطيني من أمري رشدا‪ ..‬مع أنثى بات وجودها بالنسبة إلي‬ ‫كما الروح داخل الجسد‪ .‬اسمها هو ج ّل ما يذكره لساني بعد تمجيد اسمك يا إلهي‪.‬‬ ‫شعر بحرقة الدموع ما جعله يظن أن قلبه سيتوقف من كثرة ألمه على من يعشقها‪.‬‬ ‫اعتدل في مجلسه مجددا‪ ..‬عندها عكست اإلنارة البعيدة خلفه موجات البحر و هي‬ ‫تداعب قدميه و ترسل حبّات الرمل الدافئة المحملّة ببعض األصداف الصغيرة تارة‬ ‫منه و أخرى إليه‪ ,‬عندها شعر بح ّنو غريب‪ ..‬لم يستلّذ به قبال‪ ..‬طفق به صدره‬

‫‪51‬‬


‫بكل و ّد‪ ..‬ألول مرّة يسمع هدير البحر معزوفة إلهية لها وقع يبعث كل قلب قتلته‬ ‫الدنيا القاسية‪ .‬غاب عن كل ما حوله عدا غناء البحر و ح ّنو الرمل و دموع يشعر‬ ‫معها بحريته الكاملة رغم حرارتها التي تلسع وجنتيه‪.‬‬ ‫صوت نورس البحر‪ ,‬ضوء لطيف بدأ يتسرّب و يداعب جفنيه المغلقين‪ ..‬كما األم‬ ‫الحنون على ولدها بعد سهده المضني يصارع مرضا عضاال‪ .‬كان نائما على‬ ‫الشاطئ‪ ..‬أحس ذاك الصباح أن نبض الحياة يتغلغل داخله بعد موت طويل‪ ..‬لكأنه‬ ‫بعث من جديد‪ ..‬بأيام قليلة فقط قضاها يسبح و يتأمل في ملكوت الودود‪ ,‬ذو‬ ‫العرش المجيد‪.‬‬ ‫قرر العودة أخيرا للمنزل‪ ...‬و إليها بعد مضي عشرون يوما عن تلك المحادثة التي‬ ‫قلبت كيانه عن بكرة أبيه‪ ...‬يريد العودة إليها هي‪ ...‬و هي فقط‪ .‬ما أن وصل منزله‬ ‫حتى سارعت أصابعه ضغط أرقام جوالها و أذنه تسمع رنين الهاتف متله ّفة لسماع‬ ‫موسيقى جدول الربيع بعد شتاء قارص موحل‪ ...‬قلبه كما شجر الربيع يتف ّتح‬ ‫برعما تلو اآلخر‪ .‬ال إجابة‪ ...‬مرة أخرى‪ ...‬دون مجيب‪ ,‬بقي يناظر جواله فترة‬ ‫من الزمن ع ّل صوتها يأتيه‪ .‬بقي ألكثر من ساعتين يتخبّط مع ذاته‪ ...‬ما أن يترك‬ ‫الكرسي حتى يناظر النافذة ليتنقل بين غرف البيت واحدة تلو األخرى و يحلم‬ ‫كيف ستكون تنقالتها داخله‪ ,‬ستضفى بهجة على قصره المظلم الكريه الذي ال حياة‬

‫‪51‬‬


‫فيه‪ ...‬حاول تهدئة نفسه و النظر للتلفاز علّه يضيع بعض الوقت لحين اتصالها‬ ‫به‪ ...‬عبثا كل ما يفعله‪.‬‬ ‫عاجلته قدماه نحو الباب للخروج و عالّقة مفاتيحه تزمجر من شدّة لهفته أنه‬ ‫سيذهب باحثا عن منزلها‪ ...‬كان يعلم المنطقة التي تقطن بها لكن ليس مكان‬ ‫المنزل بالتحديد‪ ...‬سأل بعض المحال عن المنزل الذي تقطنه عائلتها حتى وصل‬ ‫إلى منزل أنيق و بسيط‪ .‬جلس داخل السيارة و قلبه يرتعش كطفل صغير في أول‬ ‫يوم له في المدرسة‪ ...‬يداه‪ ,‬ال يكاد يشعر بهما من شدة البرودة التي لحقت بهما‪...‬‬ ‫حتى أنه لم يقو على فتح باب السيارة ليخرج منها من شدة الرعشة التي انتابته‪...‬‬ ‫تحامل على قدميه أن تحمالنه حتى يصل باب المنزل ليقرع جرسه و تراه‬ ‫عيناها‪ ...‬ستقفز إليه تتعلق برقبته‪ ,‬ال‪ ...‬ال ستلجم لسانها الفرحة و ستقف مشدوهة‬ ‫و تبكي من الفرح‪ ,‬حينها سيم ّد يده يمسح دمعها و يضمّها إليه ليخبرها كم يحتاج‬ ‫نورها لتضيء عتمة أيامه‪ ...‬لم يت ّم أفكاره إذ أنه أصبح قبالة باب المنزل‪ ...‬أخذ‬ ‫نفسا عميقا‪ ..‬ثم آخر حتى عانته يده لضغط جرس اإلنذار الذي لم يعلم ما سيحصل‬ ‫بعده‪.‬‬

‫‪52‬‬


‫بقي دقيقة دون إجابة‪ ...‬هل هم موجودون في المنزل؟ ال بأس سأبقى مجالسا العتبة‬ ‫حتى يأتوا‪ .‬ثم ه ّم بالقرع مرة أخرى فما كان من الباب سوى أن فتح على‬ ‫مصراعيه و وقف قبالته سيدة في العقد السادس من العمر تقريبا‪.‬‬ ‫السيدة‪ :‬نعم‬ ‫هو‪ :‬م‪ ...‬مس‪ ...‬مساء الخير‪ ...‬سيدتي‬ ‫السيدة‪ :‬مساء النور‪ ...‬هل أنت أحد أصدقاء آدم؟‬ ‫هو‪ :‬ال‪ ...‬ال يا سيدتي‪ ...‬لكنني‪ ...‬أتيت ألرى‪ ...‬اآلنسة‪ ...‬شهد‪.‬‬ ‫صمتت السيدة عند الباب و اتسع محجر عينيها و صمتت‪ ...‬لم يتنب ّه ما كانت‬ ‫ترتدي‪.‬‬ ‫السيدة‪ :‬أ أنت ينال؟‬ ‫وقف مشدوها‪ ...‬و بدأت نفسه التي بين جنبيه تسأله و تجيب عنه‪ :‬كيف عرفت‬ ‫باسمي؟ ال بد أنها أخبرتهم! لكن ما أن تمّعن بوجه السيدة حتى رأى دمعها ينساب‬ ‫على وجهها‪.‬‬ ‫السيدة‪ :‬تفضّل يا بني‪ ..‬و أغلق الباب خلفك من فضلك‪.‬‬

‫‪53‬‬


‫بقي ينظر إلى عتبة الباب دون أن تستطيع قدمه تجاوزها‪ ...‬شعر برهبة و خوف‬ ‫شديدين‪ ...‬هناك شيء ما‪ ...‬أهي متوعكة؟ أم هناك خطب ما أسوء؟ ال‪ ...‬ال بد‬ ‫أنها ستظهر اآلن هي بخير‪.‬‬ ‫سمع صوت (السيدة) تخبره أن يدخل للمرة الثانية‪ ,‬فأمسك رجله بيده حتى يرفعها‬ ‫فوق العتبة ليجبرها على الدخول‪ .‬عندما أغلق الباب خلفه و نظر إلى الداخل‪...‬‬ ‫وجد نفسه أمام ردهة أنيقة في يسارها سلّم خشبي أنيق يرتقي لألعلى و يمينه‬ ‫حمّالة ثياب نحاسية عتيقة الطراز مذهلة للعين بنقوشها‪ ,‬هل ستنزل درجات السلّم‬ ‫لترى من الطارق في هذه الساعة؟ أم هي مجالسة ألهلها؟ ال بد و أنها نائمة في‬ ‫مثل هذا الوقت إذ ال أصوات أقدام تنزل السلّم‪ .‬بدأت خطواته تتجه نحو ضوء‬ ‫أمامه‪ ...‬و مازال يناظر ما حوله ليرى أين تسكن حبيبته فعال‪ .‬وصل إلى الغرفة‬ ‫حيث تجلس (السيدة)‪ ...‬و وجد (سيدا) يجاريها بالعمر تقريبا أو يكبرها ببضع‬ ‫سنوات فقط‪ ....‬و شاب وسيم ذو عيون زرقاء و شعر كستنائي فاتح‪ ,‬متشعث‪...‬‬ ‫ضعيف الجسم‪ ...‬قد ترك لحيته تنمو دون اهتمام‪.‬‬ ‫دعاه (السيد) للجلوس‪ ,‬لكن ما أن المس جسده الكنبة حتى تنبّه للسواد الذي‬ ‫يتشحّون به جميعهم‪ ...‬لم يسعفه عقله بأية فكرة إطالقا‪ ..‬سوى أنه نطق دون وعي‬

‫‪54‬‬


‫منه‪ :‬يبدو أن الوقت غير مناسب‪ ...‬عذرا على إزعاجكم في مثل هذه األوقات‬ ‫_صمت برهة_ إال أ ّني أتيت كي أرى كريمتكم اآلنسة شهد و أن‪...‬‬ ‫فما كان من (األم) سوى أن بدأت بالبكاء و زوجها يحتضنها و هو يبكي أيضا‪ .‬أما‬ ‫(آدم)‪ ...‬فلم يتحم ّل الموقف‪ ...‬ما جعله يهبّ واقفا‪ ...‬فظنّ (ينال) أنه سيتلقى لك ّمة‬ ‫تعلّمه درسا قاسيا‪ ...‬إال أن الشاب تو ّجه إلى غرفة أخرى غاب فيها لدقائق ثم عاد‬ ‫يمسك بين يديه شيئا مستطيل الشكل متوسطا في الحجم و ملفوفا بعناية فائقة‪ ,‬قدمه‬ ‫إليه بعصبيّة و قطرات دمعه تتناثر فوق العلبة‪.‬‬ ‫آدم‪ :‬تركتها لك‪ ...‬باهلل عليك أين كنت طوال الواحد و العشرين يوما الماضية؟ لقد‬ ‫جعلتني أفعل ذاك بنفسي و بها‪ ...‬أين كنت؟‬ ‫كان صوته ينفذ لداخل قلب (ينال) و عقله مباشرة منبها إلى مدى حنق و ألم‬ ‫الرجل الواقف أمامه‪ ...‬مدى األذى الذي سب ّبه دون علم منه بما يدور حوله في‬ ‫اللحظات التي هو فيها اآلن‪ ...‬شعر أن عقله يرفض العمل‪ ...‬د ّقات قلبه تضعف‬ ‫تدريجيا‪ ...‬و بات ينظر إليهم و سأل نفسه‪ :‬من أكون؟ ماذا فعلت؟ ما الذي غاب‬ ‫عني خالل الواحد و العشرون يوما؟ ألم تكن نصيحتها لي أن أبحث عن ذاتي كي‬ ‫أجدها هي؟ أ ليست من طلب مني أن أترجم خطأي بتأمل ملكوت هللا حتى أعود‬ ‫إليها طاهرا من أي دنس قد يحرمني حبهّا مدى الحياة؟‬

‫‪55‬‬


‫نظر إلى العلبة التي أصبحت بين يديه و نظر إلى أهلها من حوله‪ ...‬تالقت نظرته‬ ‫و أخوها معا‪ ...‬كان يرى أمامه أناس متألمون حقا من خطب جلل لم يرد أن يفكر‬ ‫ما هو‪ ...‬إن فكرة أن مكروه قد حصل لها سيجعل منه أبشع مخلوق يدبّ على هذه‬ ‫األرض بطولها و عرضها‪ ,‬شرقها و غربها‪.‬‬ ‫ينال‪ :‬هل أستطيع أن أسأل أين شهد!‬ ‫ما من مجيب‪ ...‬ما من سميع‪ ...‬لكأنه يحدث نفسه و يرت ّد علّيه صدى صوته من‬ ‫جدران صمّاء‪ ,‬بكماء‪ ,‬خرساء‪.‬‬ ‫ينال‪ :‬أستحلفكم بخالق السماوات السبع و األرضين السبع أين هي شهد؟‬ ‫األب‪ :‬هي بين يديك يا بني‪ ...‬هي بين يديك‪.‬‬ ‫لم يستوعب ما قيل له‪ ...‬أين هي بين يديه؟‪ ...‬ليس يراها وال هو ممسك بيدها‪...‬‬ ‫ليست في حضنه وال يسمع صوت مشيتها‪ ...‬لكن‪ ...‬يستطيع أن يشم رائحة‬ ‫عطرها‪ ...‬هي رائحتها حقا‪.‬‬ ‫ينال‪ :‬ما تعني يا سيدي أنها بين يدي؟ فأنا ال أراها‪.‬‬ ‫األم‪ :‬قد أخبرتنا أن نعطيك هذه العلبة ألنها بهذا ستكون دائما بين يديك‪.‬‬ ‫أعاد النظر للعلبة الملفوفة مجددا‪ ...‬من دون أن يعي ما الذي تفعله أنامله‪ ...‬باتت‬ ‫يديه تعمل غصبا عن إرادته و تفتح ورق اللف بخوف‪ ...‬برهبة شديدة‪ ...‬خوف‬

‫‪56‬‬


‫من مجهول يضعه في حضنه‪ .‬كانت علبة من الفضّة الخالصة منقوشة بشكل دقيق‬ ‫جدا مف ّرغة ليظهر منها علبة زجاجية‪ ...‬كان يعلم عشقها للفضة من كثرة ما كانت‬ ‫ترتدي من خواتم و أساور فضية تتناسب مع ما كانت ترتدي من ثياب‪ ,‬كانت‬ ‫تختار بعناية و ترتدي أزياءها برقيّ سلب لبّه‪ .‬بقي يتأمل العلبة بذهول إذ أنها‬ ‫كانت دقيقة الصنع و وجد مفتاحا صغيرا معلقا في إحدى زواياها ليفتح قفل ذاك‬ ‫الكنز الذي يجعلها تكون بين يديه‪ .‬ما أن أدار المفتاح حتى فتح الغطاء نصفه‪...‬‬ ‫فم ّد يده يمسكه بين أنامله ليراها بين يديه‪ ...‬شهق بقوة‪ ...‬هل هو ينظر إليها‬ ‫فعال‪ ...‬استحالة أن تكون هي‪ ...‬من غير الممكن!‬ ‫وجد ورقة صغيرة داخل العلبة فوق زجاج الكريستال الذي كانت تحويه‪ ,‬فضّها و‬ ‫بدأ يقرأ ما فيها‪:‬‬ ‫إليك وحدك أكتب‪ ...‬أعلم أنك ستأتي لكن لم أعلم الوقت بالتحديد‪ ...‬و بما أنك‬ ‫تسلّمت رسالتي فالوقت‪ ...‬هو الذي لن أراك بعده أبدا‪ ...‬أحببتك كحب النحل‬ ‫للعسل‪ ...‬جعلتني أرى جمال الدنيا من حولي‪ ...‬في كل شجرة أمرّ أمامها‪ ...‬عند‬ ‫النظر لكل غيمة في زرقة السماء‪ ...‬عندما أنظر ألمي و أبي كنت أراك‪ ,‬في ح ّنو‬ ‫أخي كنت أشعر بك‪ ..‬عند تغريد عصافير السماء كنت أسمع صوتك‪ ...‬ألمحك‬ ‫على صفحة الماء‪ ...‬أشم عطرك مع النسيم الذي يلفح وجهي عندما أسير في‬

‫‪57‬‬


‫خطواتي‪...‬ألمحك تنظر إلي مع كل نجمة تظهر في المساء‪ ...‬إال أنك لم تراني‬ ‫يوما إال من خالل فحولتك فقط‪ ...‬ألجل أن ترضي غرور رجل تهتم به أنثى‪...‬‬ ‫رأيتني من خالل حالة حب سطحي جعلك تخرج من قمقمك لتصبح حرا أبدا من‬ ‫كل قيد‪ ...‬شكرا ألنك جعلت معنى لحياتي‪ ...‬أشكرك أنك كنت جالّدي و جعلتني‬ ‫أدمن قسوتك كدواء لحب حقنت به شراييني دون إذن مني‪ ...‬أقدّر لك تعليمي عن‬ ‫القناعة التي ال نرضى بها أبدا‪ ...‬و ألني أحببتك و جعلتني ألتزم بحبك رغما عن‬ ‫إرادتي أهديك قلبي الذي م ّل صمتك و تعب انتظارك‪ ...‬هو لك حتى إذا نظرت‬ ‫إليه علمت أنك لن تسمح ألحد أن يؤذي ابنك ‪ /‬ابنتك أبدا مستقبال‪ ...‬أن تحتفظ بهذا‬ ‫الشيء الصغير منيّ هو تعهد منك أنك لن تؤذي المرأة التي سترتبط بك بعدي ما‬ ‫حييت‪ .‬هو لك وحدك (ينال)‪ .‬كم تمنيت أن ألفظ حروف اسمك في أذنك عند مساء‬ ‫صيفي تحت قبة الماس‪.‬‬ ‫من القلب‬ ‫شهد‬

‫كان في العلبة قلبها‪ ...‬هو قلبها حقا؟ هي التي أرادت أن يحفظ داخل علبة كريستال‬ ‫تمنع تعف ّنه‪ .‬كانت قد أوصت بها خصيّصا له و طلبت من أحد صيّاغ الفضّة أن‬

‫‪58‬‬


‫يشغله يدويا‪ ...‬لتهديه لحبيب فشل عن أن يعبّر عن حبه لجبنه و خوفه من أن يقدم‬ ‫عن خطوة واحدة فقط تقطع به الصراط من الجحيم إلى النعيم‪.‬‬ ‫األم‪ :‬لم تكن تعاني من شيء قبال‪ ...‬لم تشكو أبدا من أي ألم في قلبها‪ ...‬بقيت أربعة‬ ‫أيام في المشفى و توفيت بعدها‪ ...‬اليوم هو السابع على وفاة طفلتي الصغيرة‪.‬‬ ‫األب‪ :‬كانت تردد في المشفى أنها كتبت شيئا ما و طلبت من أخيها أن ين ّفذ ما‬ ‫فيها‪ ...‬لم نستطع أن نقوم بذلك عند وفاتها لكن (آدم) أص ّر على تنفيذ وصيتها و لم‬ ‫نكن نعلم أين نجدك وال من أنت‪ ...‬و بما أنك حضرت فال بد أنها لم تخطأ باختيار‬ ‫الشخص الذي أرادت‪...‬‬ ‫آدم‪ :‬أين كنت؟‪ ...‬بقيت تنظرك و هي على يقين أنك ستأتي _يبكي بشدة_ لكنك لم‬ ‫تظهر أبدا‪.‬‬ ‫احتدمت لهجة األخ حتى غافل (ينال) ليجده األخير أمامه ممسكا به من ياقة‬ ‫قميصه و يه ّزه بشدة و عاجله بلكمة قوية جعلت أنفه يزف بشدة‪ ...‬و ما أن رأى‬ ‫(آدم) ما فعل حتى ابتعد عنه و هو يبكي و كان أبوه قد قام من مجلسه ليهدئ من‬ ‫روع أخ ثكل أخته الصغيرة بين يديه و ن ّفذ وصيتها و أوصل قلبها ليد قاتلها‪ ,‬و إن‬ ‫علم أنه سبب موتها‪ ...‬فما ستكون ردة الفعل؟ ليته يقتلني اآلن‪ ...‬أريد أن تنتهي‬ ‫حياتي اآلن‪ ...‬أن تتوقف رئتي عن ضخ األكسجين و أن يتجمّد الدم في العروق‬

‫‪59‬‬


‫فقد كانت سبب الضحكة في منزل بات مسكنا لألشباح فقط‪ ,‬كانت رقيقة على أمها‪,‬‬ ‫حنونة على أبيها‪ ...‬لطيفة المعشر ألخيها إال أنها رحلت بكل ما تعنيه كلمة الرحيل‬ ‫من معنى‪.‬‬ ‫كان (ينال) ينزف بشدة لكنه لم يهتم بمدى األلم الذي لحق به إذ أن الطعنة الخرساء‬ ‫التي وجهت إليه عبر علبة صغيرة هدية منها إليه جعلته يفقد الشعور بمعنى‬ ‫األلم‪ ...‬هي إصابة الرصاصة للقلب حيث يتوقف معها الشعور بكل ما حولك و‬ ‫ترى شاشة بيضاء أمامك ليس إال‪ .‬هي الواحد و العشرون غراما الذي نفقده عند‬ ‫خروج الروح من الجسد ليصبح كل شيء حولنا مشبع برائحة الموت و الرطوبة‬ ‫العفنة‪ ...‬هي قلب سيحتفظ به دون أن يخونه ما دامت رئتيه تتنفسان‪ ,‬هي حنوّ‬ ‫على شيخين كبيرين محاولة منه أن يردم هوّ ة غياب ابنتهم التي كان سبب مذبحها‪,‬‬ ‫هي ر ّد جميل بسيط تجاه أنثى جعلت منه رجال شبه متكامل يعرف معنى (رفقا‬ ‫بالقوارير)‪.‬‬ ‫إليك يا شهد‪ ...‬يا أنشودة األلب‪.‬‬ ‫‪28-1-2.11‬‬

‫‪61‬‬


‫رصاصة تسأل القتيل؟‬ ‫سمعت صوته يتجهّز من بعيد‪ ...‬ال أعلم السبب الذي جعل سمعي قويا ح ّد أن أتنبه‬ ‫له فإذا بي قد تنبّهت لطفل من بعيد و سمعت نفسي أصرخ بعزم و قوة أن يبتعد‬ ‫فأنا ال أعلم اسمه‪ ...‬كان صغيرا ال يتجاوز الست سنوات و يبكي من الرعب‬ ‫المتهالك حولنا‪ ...‬لم أرى حولي أي أحد أو أي شيء عداه‪ ...‬ذاك البريء المرتعد‬ ‫الفرائص و ال يعلم حقا ما يجري‪ .‬تحركت قدماي غصبا عن إرادتي و وجدت‬ ‫نفسي أت ّجه بأقصى سرعة ممكنة أريد أن أمسكه بعيدا عن المرمى الذي يع ّج‬ ‫بمئات المتراكضين الذين يحاولون الفرار و قد غشي قلوبهم الخوف و الهلع من‬ ‫ج ّراء ما يجري‪ .‬اصطدمت بأحدهم و كدّت أسقط أرضا لوال أنني تداركت نفسي‬ ‫بأعجوبة‪ ...‬لم أعد أسمع شيء أو أرى سوى هدفي الذي يجب أن أصل إليه‪ ,‬لم‬ ‫أنتبه أن الهطول كان قويا جدا فكيف لم أسقط بسببه بعد‪ ...‬أحسست بالهواء حولي‬ ‫بدأ ينفذ و أن الساعة هي ثوان ضئيلة فقط ستحدد مصيرا ال أريد أن أراه أبدا‪,‬‬ ‫أبدا‪ .‬كانت قدماي تسعفانني بكل ما بقي لهما من قوة تحمّل‪ .‬حملته كمن يحمل‬ ‫ريشة بين يديه‪ ...‬يا هللا كيف أتيت لي بالقوة كي أصل إليه‪ ,‬ضممته بحب األب‬ ‫على ابنه رغم أ ّني ال أعرفه و لم أره سوى اآلن‪.‬‬

‫‪61‬‬


‫ال أعلم في أي اتجاه أذهب‪ ...‬كنت أسلك طرقا ما عهدتها قبال‪ ...‬ما زال يبكي و‬ ‫هو ي ّ‬ ‫شد ذراعيه الصغيرتان حول عنقي شعور جعلني أتمسك بالحياة ال لنفسي بل‬ ‫كي ال أره متهالكا أمامي‪ ...‬لم أحفل بنفسي بل أريد الوصول حتى نقطة الهدوء‬ ‫كي أضعه هناك‪ ...‬اختبأت مرّة خلف تلك الحاوية و تارة وراء جدار أو بقايا حائط‬ ‫ما‪ .‬حاولت تهدئته حتى ال يسمع لنا صوت رغم أنه من الصعب أن تسمع أصواتنا‬ ‫تحت وابل الرصاص و القصف الذي نحن فيه‪ .‬ال أملك ساعة لك ّني قدرّت الوقت‬ ‫في حدود الثالثة بقليل و كان يجب أن أجد طريقة حتى نرسو على شاطئ آمن‬ ‫قريب‪.‬‬ ‫هدأت األصوات فجأة من حولنا‪ ...‬أمسكت بالصغير أخبره أن يكون هادئا‪ ,‬زحفت‬ ‫ببطء أتبين من خلف الحائط الذي تس ّترنا وراءه فلم يكن هناك حركة‪ ,‬مجرّ د سكون‬ ‫ينبئ بعاصفة هوجاء كالمعتاد‪ .‬كنت أعلم أنها مجازفة كبيرة‪ ...‬لكن نقطة النهاية ال‬ ‫تبعد عني سوى فراسخ قليلة علّي الوصول إليها بطريقة ما دون أن تتأذى أمانة‬ ‫حملتها في عنقي سأسأل عنها يوما ما‪.‬‬ ‫انتظرت دقائق طويلة حتى تبي ّنت أنني أستطيع المجازفة بالعبور‪ ,‬حملت الصغير‬ ‫بين يدي‪ ...‬تبينت أنه قد بلل سرواله فقد كان يرتجف من الخوف‪ ...‬همس في أذني‬ ‫بصوت يرتعد و شفاه مب ّتلة من دمع صامت أن ال أتركه‪ .‬نظرت إلى عينيه فإذا‬

‫‪62‬‬


‫براءة ما رأيتها قبال تنبع من مقلتين خضراوين و دمع ينساب على خد متسّخ من‬ ‫أثر الغبار المتناثر في األجواء‪.‬‬ ‫لم أكن قد تزوجت بعد و ال أعلم عن األطفال إال ما عهدت من أبناء أخي الصغار‬ ‫عندما يأتون لزيارتنا في الصيف‪ .‬ضممته إلي بشدّة‪ ,‬قبلّت جبينه‪ ,‬و همست له أن‬ ‫ال يخاف فلن أتركه أبدا و بقلبي دعوت القدير أن يعينني حتى أصل بمالك له على‬ ‫األرض ب ّر األمان‪.‬‬ ‫أخذت نفسا عميقا و‪ ...‬ركضت أناشد المساعدة ممن هم عند نقطة النهاية‪ ,‬تناهت‬ ‫إلى سمعي أوالهم‪ ..‬ثم الثانية‪ ...‬و تتالت حتى باتت ز ّخاة قوية أوليتها ظهري‬ ‫خوفا على روح من أمر ربّي أمانة بين يدي‪ .‬أحسست بقيمة عقرب الثانية في‬ ‫الساعة ذاك الذي يسير بسرعة عن باقي عقاربها إال أن لسعته أشد و أقوى‪ ,‬فمعنى‬ ‫اللد ّغة الواحدة منه تنهي أسوأ صورة أو تكون بداية أسوأ حياة‪.‬‬ ‫شعرت بأيد تلتقط الطفل مني ففتحت عيني أبصر أين أنا فإذا هم أصدقائي و أناس‬ ‫عرفتهم قد سحبوني نحوهم و أخذوا الطفل مني يستودعوه مكانا آمنا حتى نجد‬ ‫ذويه أو يكون الملجأ بيته حتى يشبّ ‪.‬‬ ‫سمعت ذات الصوت مرّة أخرى‪ ...‬كانت تتجهز ألحد ما‪ ...‬أخبرت الجميع أن‬ ‫يبتعدوا عن بداية نقطة النهاية ألنها تعاود تجهيز نفسها ثانية‪ ,‬أردّتهم أن يختبئوا‬

‫‪63‬‬


‫ّ‬ ‫أردت أن أنظر إليها علّي أعلم من‬ ‫بعيدا عنها‪ .‬راودني ذاك الشعور مجددا حيث‬ ‫أين ستبدأ و في أي اتجاه تريد هذه المرّة‪ ,‬و بعد أن أبعدّت أحدهم من أمام عينيها‬ ‫كي ال يقع أسيرا في حبها فتقتله إال أنني أحببت المجازفة بمغامرة معها لنفسي هذه‬ ‫المرّة‪ ...‬يا ألنانيتي!‬ ‫وجهّت وجهي قبالة عينها الكحيلة فإذا بسهم ذهبي اللّون يتراقص من مقلتها قد‬ ‫حمله ملك الحب بين يديه فيكون سهما لن ّ‬ ‫شابه السحري الذي يزف رعشة الحب‬ ‫بين شخصين بلحظة مباغتة لتبدأ أسطورة جديدة‪ .‬أحسست بها بطيئة تتراءى بين‬ ‫عيني واضحة كمن تعلم مسبقا عند من يكون سكناها‪ ...‬و تخبرني أنني لك اآلن‪...‬‬ ‫ملكك يا حبيبي و بين يديك‪ ,‬استقبلني بقلبك فأنا شريكتك في هذه الحياة‪.‬‬ ‫كانت دافئة جدا‪ ...‬لم أشعر بقسوتها‪ ,‬بل ناعمة الملمس آسرة النظرة‪ ..‬توقفت‬ ‫األصوات من حولي فجأة‪ ,‬لم أعد أرى شيئا‪ ...‬أين أنا اآلن؟ أين ذهب الجميع‪...‬‬ ‫مازلت هنا ال تخافوا‪ ...‬هل هناك من يسمعني‪ ...‬أشعر بدفء غريب هل عاد‬ ‫الربيع؟ انتهى كانون الثاني أخيرا‪ ...‬ذابت الثلوج عن جبالنا‪ .‬ال أشعر بصوتي‪,‬‬ ‫حاولت تحريك يدي علّي ألمس مصدر الدفء المفاجئ في طرفي األيسر‪ ...‬هل‬ ‫كان فعال الطرف األيسر؟ ناحية قلبي‪ ...‬تبت يداك قد أصبتني حقا في مقتلي‪...‬‬ ‫لكني رأيت من فوهتك حياتي يا حبيبتي‪.‬‬

‫‪64‬‬


‫عاد لي سمعي‪ ,‬كنت أه ّتز بطريقة ما و أصوات من حولي تناشدني أن أتماسك و‬ ‫أخرى تريدني أن أنطق بالشهادتين‪ ,‬أحدهم يطلب المساعدة‪ ...‬أخبرتهم أن‬ ‫يضعوني جانبا‪ ,‬رجوتهم أن يهدءوا فما من قلق علي بعد اآلن‪ ...‬لم هم مرتاعين‬ ‫إلى هذا الحد‪.‬‬ ‫رأيت األحمر يغطي وجه صديق لي و آخر يديه ملطختان بلون قان جميل‪ ,‬إال‬ ‫أنهم انصاعوا إلى رغبتي و ركنوا إلى إحدى الحارات‪ .‬وضعوني على األرض و‬ ‫صوت الموت يحوم حولنا و آهات تترد‪ ...‬أصوات تكبّر‪ ,‬كلمات تدعوا البتول و‬ ‫عيسى عليه السالم أن يذهب بالءهم ع ّنا‪ ,‬و أخرى تناشد إخوانها أن يتيق ّنوا قبل أن‬ ‫يهلكوا‪.‬‬ ‫كنت أنظر إليهم بطريقة غريبة‪ ...‬نعم‪ ,‬رأيت مسيرتي معهم و أنا أمرّ بوجوههم‬ ‫تم ّر أمامي بكل ما فيها‪ ,‬كيف تعر ّفت على فارس طبيب جيد ترك أهله و مساعدة‬ ‫والده في أرضه إرضاء ألب أراد ولدا ذو مكانة مرموقة‪ ,‬ك ّنا في الثانوية معا‪...‬‬ ‫درسنا أسوأ المواد‪ ..‬استذكرنا جميع الفروض‪ ...‬كان ذو شخصية مرحة جدا‪ .‬أما‬ ‫خالد فهو من أبناء جيراني الذين عهدت فيهم الثقافة و القوة في الحديث يدرس‬ ‫التاريخ و يتكلم العبرية و العربية و االنكليزية‪ ...‬أجل فهو فلسطيني المنشأ عربي‬ ‫الجنسيّة‪ ,‬متمكن من المناقشة عندما يريد أن يسكت أحدهم دون أن يهينه فقد كان‬

‫‪65‬‬


‫المنطق منهجه‪ .‬بالنسبة إلى توم و هو ابن الب ّقال في حيينا فقد تعودنا أن نلعب مع‬ ‫بعضنا أيام الطفولة عندما يأتي به والده إلى الدكان كي يساعده لكنه كان يقضي‬ ‫معظم وقته معي نلعب بكرات الزجاج و نركض لنمسك بعضنا البعض و نتسلق‬ ‫شجرّة التوت نأكل منها ما نشاء من غير حساب هو من أبرز دارسي المحاماة‬ ‫اآلن‪ .‬جوان و أخوه ينال ولدا عمتي و الذين تربيت معهما على المرّ قبل الحلو في‬ ‫دقائق الحياة التي مررنا بها أحدهما درس التسويق و اآلخر يختص في العلوم‬ ‫السياسية‪ .‬آه‪ ...‬كيف كبرنا‪.‬‬ ‫أجل‪ ...‬الحياة ليست سنوات عجاف و أعوام رخاء فقط بل هي عبارة عن يوم أو‬ ‫بعض يوم‪ ,‬دقائق نعيشها نحسبها دهورا‪ .‬تذكرت مقولة‪" :‬أن الجسد يخسر واحدا و‬ ‫عشرون غراما فقط من وزنه بسبب عودة الروح إلى بارئها"‪ ,‬كم أنا خفيف الوزن‬ ‫اآلن أشعر أ ّني في الفضاء وال وزن لي‪ .‬عاد الصوت مجدا يندد بي أن انطقها‪...‬‬ ‫هيا انطق الشهادتين‪ ,‬ثم غابت األصوات عنيّ تماما‪.‬‬ ‫رأيت خالتي و التي أحببتها كأمي و قد ز ّفت عروسا إلى مثواها بسبب مرضها مذ‬ ‫أكثر من ‪ 6‬سنوات‪ ,‬ها هي ذي قادمة باتجاهي‪ ...‬هللا كم اشتقتك يا خالتي‪ .‬ال‬ ‫أصدق ما أراه‪ ...‬جدي! مازلت كما أنت شديد البنيان‪ .‬جدتي تقرأك السالم فقد‬

‫‪66‬‬


‫رفضت الزواج بعدك ألنها ال تريد رجال تبدأ معه من حرف األلف بعد أن أنهت‬ ‫األحرف األبجدية معك‪.‬‬ ‫كانت ثوان فقط‪ ,‬بل‪ ...‬جزء من لسعاتها حتى يتم نقلنا من عالم األحياء إلى عالم‬ ‫األرواح‪ ...‬هل البرزخ مهيب إلى هذه الدرجة‪ ...‬النور حولي في كل مكان‪ .‬خالتي‬ ‫من هؤالء‪ ...‬لهم وجوه جميلة جدا‪ ...‬يا هللا‪ .‬أريد أن أخبر أصدقائي و أهلي عن‬ ‫هذا أرجوك جدي دعني أقول لهم عنكما‪ ....‬صحيح ال أستطيع العودة‪.‬‬ ‫كل هذا بسببك أنت أيتها الفاتنة فمن فهوتك نرى السرمدية‪ ...‬و بسببك فقط توقفت‬ ‫عن سؤال رصاصك‪ :‬ترى هل يختار القتيل قبل أن ينطلق أو بعد أن يرى النور‬ ‫عن طريق فوه ّتك؟‬

‫‪27/11/2011‬‬

‫‪67‬‬


‫بعثرة النهايات‬ ‫أنهى روايته و وقف أمام شرفته في الصباح البااكر‪ ..‬رياح الشاتاء بااردة قوياة و إذ‬ ‫باااألوراق تتطاااير أمااام ناظريااه دون أن يمسااك بأي اة منهااا‪ .‬كاناات ابتسااامته رائعااة‬ ‫بغ ّمازة ظاهرة تزيين وجنتيه اللتان أحب ّتهماا كثيارا‪ ..‬ساقطت ماساة مان إحادى عيناه‬ ‫و هو يرى تطااير أوراق روايتاه علاى حريّتهاا‪ ...‬ألناه يرياد الحصاول علاى حريّاة‬ ‫روحااه تمامااا كطااائر فااي القفااص تاارك لااه الباااب مفتوحااا ليطياار حاارّ ا فااي السااماء‬ ‫الواسعة‪ ,‬لكنه ال يعلم أن في السماء طيور غيره أكبر منه بكثير قد تلتهماه إلطعاام‬ ‫أوالدها المنتظرين في العش البارد جياع‪ .‬أراد أن ينهي كل شخص جازءه الخااص‬ ‫من تلك الرواية بعد أن انتهت حياته‪.‬‬ ‫فمنها سيصل أليديّ من لن يهتموا بها و يرموها‪ ..‬بعضهم سيستمتع بالقراءة فقاط‪..‬‬ ‫آخرون سيفكرون و يبدءون لكن لان يصالوا لنهاياة أبادا‪ ,‬مانهم مان ينهيهاا تراجياديا‬ ‫مأساوية أو سخافة حالمة رومانسية‪ ,‬إال أن يد القدر قد أنهتها له و فني كل ماا كاان‬ ‫لديه‪ ..‬بدأت الشمس بالتحليق و رغم ضوءها الباهت إال أنه جلس يحادق مان خلاف‬ ‫الستائر في قرصها األصفر‪ ..‬أيقن أنه برغم فراغات النسيج الدقيقة في الساتارة إال‬ ‫أنهاا تساتطيع أن تحجااب وهجاك أيتهااا المحرقاة الساااطعة‪ .‬شارب ماان فنجاان القهااوة‬ ‫الباردة فوق المكتب و حاول جاهدا أن يبقى مسيطرا على أن ال ينام فمازال يخااف‬

‫‪68‬‬


‫من ذات الكابوس األسود الذي عاف تركاه فاي أي لحظاة أطباق جفنيّاه بهاا محااوال‬ ‫الراحة من تعبه‪ ...‬بقي نظره على آخر ورقة فوق الطاولة الصغيرة البنية التي بادأ‬ ‫لونها بالزوال متأثرة بقدمها‪.‬‬ ‫رافي‪ :‬أنت أيضا مرهقة مثلي‪ ..‬مثقلة بكل ما ألقيت به عليك من مداد؟ أم من دموع‬ ‫صاارخة ميتااة مااا عااادت تملااك عالمااات موساايقية لتنطااق بهااا أي اة حبااال صااوتية؟‬ ‫اذهبي‪ ..‬فالريح ستحملك و تقرر مصيرك مع من ستكونين‪ ..‬أفاي الساالل المهملاة؟‬ ‫أم بين يدي من لن يعرف أن يزيد عليك ثقال مهما حاول؟ أو في أحد الادروج حتاى‬ ‫تخرجي مهترئة مع الزمن‪.‬‬ ‫كان النوم قد غلباه تلاك اللحظاة عنادما حملات الاريح آخار تعباه التاي بقيات تتقاذفهاا‬ ‫الرياح ما بين السماء و األرض‪ ..‬كما زفراته تتصاعد و تهبط مع صدره المتعب‪..‬‬ ‫مع كل ما م ّر به‪ ..‬لم يكن ليهتم أين؟ مع من؟ كيف؟‬ ‫شعر بثقل جسمه فجأة يرتطم باألرض جرّاء سقوطه من فوق فراشه‪ ..‬فتح عينيه و‬ ‫بقي جالسا في العتمة التي يتخللها ضوء النافذة التي ما زالات مفتوحاة مناذ الصاباح‬ ‫الباكر‪ .‬لم يعي بعد أين هو فما زال كابوسه يحيط بهالته القوية داخل عقلاه‪ ..‬حااول‬ ‫أن ينظر في ساعته لمعرفة الوقت‪ ..‬لم يستطع‪ ..‬جاهاد نفساه حتاى وقاف مترنحاا و‬ ‫كأنه قد شرب زجاجة نبيذ كاملة و هو الذي لم يشرب يوما واحدا في حياته‪ ..‬خوفاا‬

‫‪69‬‬


‫من أن يعيد ماض يشبه والده فياه‪ .‬وصال لمفتااح الضاوء فأناارت الغرفاة الصاغيرة‬ ‫فجأة ضوءها الذي أعمى بصره لدقائق حتى اعتاد عليه‪ ..‬نظر ألول مرة منذ شاهر‬ ‫تقريبا في المرآة المعلقة على الحائط المشقق في الحماام‪ ..‬لكأناه روبنساون كروساو‬ ‫عناادما علااق فااي الجزياارة المهجااورة‪ ..‬ذات المنظاار المش ا ّرد‪ .‬باادأ يدناادن بأغنيتهااا‬ ‫باااالالوعي‪ ..‬لكااام أحااابّ صاااوتها المخملّاااي‪ ..‬عيونهاااا الخضاااراء كحااادائق فرسااااي‬ ‫الواسعة‪ ..‬رنين ضحكتها الطفولي التي ت ّفتح قلبه عليها مذ سمعها أول مرة‪.‬‬ ‫وضع صابون الحالقاة علاى ذقناه الخشانة‪ ..‬تحساس شاعيراتها القاساية‪ ...‬كام كانات‬ ‫يدها حريرية الملمس عندما كانت تم ّررها على وجهاه‪ ..‬لايس لاه اآلن ساوى شافرة‬ ‫الحالقة الحادّة تحنو على وجهه المرهق‪.‬‬ ‫وجد نفسه يبكي بمرارة‪ ..‬لم يعاد ينظار فاي المارآة‪ ..‬إذا بعلقام الادموع ينازف داخال‬ ‫الحوض بلون قان أخا ّذ كلون شفتيها البضّتين اللتين كانتاا تخرجاان األحارف بلحان‬ ‫متناسق كأن أوبرا كاملة تعزف في أرجاء المنزل‪ .‬غسل وجهه بماء بارد كان يمارّ‬ ‫عباار الصاانبور المهتاارئ كمااا ماارّت حياتهمااا لتتوقااف فجااأة بلاافّ رأس الصاانبور‬ ‫فتتوقف المياه دون أن تبقى قطرة واحدة هاربة كما لحظاتهما‪.‬‬

‫‪71‬‬


‫علااى نااار هادئااة كمااا دقااائق حياتااه بطيئااة سااوّ ى قهوته اا المعتااادة دون سااكر‪ ..‬دون‬ ‫حليااب ّ‬ ‫مكثااف‪ ..‬تااذكر صااوتها عناادما سأأألها مأأرة‪ :‬كيااف تسااتطيعين اجتراعهااا إنهااا‬ ‫كالحنظل تماما؟‬ ‫سيدرى‪ :‬أليست الحياة بذات الطعم‪ ..‬إال أننا نستمتع بكل رشفة فيها؟‬ ‫و نظرت إليه بحنوّ جذب قلبه لتكاون ملكتاه أبادا‪ ..‬برموشاها الساوداء الطويلاة التاي‬ ‫أسرت لبّه‪ ..‬بقي يتأمل وقتها كل ما فيها‪ ..‬تناسق الخلق اإللهي فيها‪ ..‬لم تكن كبااقي‬ ‫الفرنساايات ذات قااوام تااوب مودياال‪ ..‬إنمااا رآهااا الساايدة األولااى لجمهوريااة حياتااه‬ ‫األبدية‪ ..‬كما يعشق العالم لوحة الموناليزا و يتسابقون إليها معلقة على حائط اللوفر‬ ‫دون اسطاعة مساسها‪ ,‬إال أن الموناليزا كانت بين يديه كل ليلاة‪ ..‬كال مسااء‪ ..‬يلافّ‬ ‫خصرها بيديه ليغفو‪.‬‬ ‫لم يتخيل أبدا أن أول ليلة ستزهر فيهاا ورود فرسااي البيضااء ساتكون بكال بسااطة‬ ‫نهاية اعتيادية كأي قدر مكتوب على أي بشر تحكمه السنن اإللهية‪.‬‬ ‫مرة رأتها عيناه سألته‪ :‬هال أحببتناي مان المارة األولاى التاي رأيتناي فيهاا‬ ‫في آخر ّ‬ ‫هناك؟‬ ‫رافي‪ :‬حقيقة‪ .....‬ال!‬ ‫فنظرت إليه و قد لوت ش ّفتها الس ّفلى و قطبّت حاجبيها‪...‬‬

‫‪71‬‬


‫رافي‪ :‬بل قبال ذلاك باأعوام‪ ..‬مناذ الطفولاة البااكرة‪ ..‬ماذ بادأت كلماة الحاب تعصاف‬ ‫أرجاء بيتي‪ ,‬بدأت حينها أرى طيفك يغزو حياتي حتى تبينت مالمحاه كاملاة عنادما‬ ‫سلبت م ّني قلبي من بين أضلعي و أسرته داخل عينيك و عذب صوتك‪ .‬و‬ ‫طباع قبلااة علااى خاادها ثاام حماال محفظتاه كمااا اآلن و التااي تحااوي بضااعة فرنكااات‪..‬‬ ‫وضع حمّالة المفااتيح الجلدياة و دسّاها فاي جيباه و خارج كماا فاي كا ّل ليلاة ماذ ذاك‬ ‫الوقت‪.‬‬ ‫عندما وصل باب البناء صفعته بقسوة نسمة ثلجية قارصة البرد ما جعلاه يرفاع قباة‬ ‫سترته الصوفية ليقي وجهه قدر اإلمكان من قوة الصفعات المتتالية‪ ..‬عنادما تركهاا‬ ‫كما اليوم‪ ...‬ما توقع أن يعود فال يجادها‪ .‬ماا زالات جميلاة‪ ,‬هادئاة‪ ..‬ببيجامتهاا التاي‬ ‫بلون الد ّراق‪ ..‬مستغرقة بنوم هانئ‪ ..‬وقتها فقط استلقى جانبها ليشعر بعدمية رائحاة‬ ‫نفسها الشهية‪ ..‬لمس برودة يدها فقط‪ ..‬أحسّ بثقل جسدها دون روحها‪...‬‬ ‫غريبة هي الدنيا‪ ..‬كأنها خلجان البحر المليئة بقناديل جميلة األلوان‪ ,‬شا ّفافة اللّاون‪,‬‬ ‫و بهيّة المنظر‪ ..‬ما أن تقترب منها لتساعد بهاا حتاى تباغات جلادك لساعة حاشاى أن‬ ‫تبرى عالءمها مناك أبادا‪ ..‬فحاين تنظار مكاان اللدغاة تاذكرّت األلام و الادموع التاي‬ ‫بقياات تباغتااك وقتهااا‪ ..‬سااتبقى مخيلتااك تشااعرك بلذعااة الخاا ّل التااي صاابوها علااى‬ ‫الجرح‪ ..‬كم اعتصر قلبك حتى بات يتوقف من شدة ألم الكيّ ‪.‬‬

‫‪72‬‬


‫وصل ساحة مارتيو‪ ..‬الشوارع مس ّقية من كرم السماء‪ ..‬مازالت مبتلّة حتاى الثمالاة‬ ‫فهي لم تستوعب بعد الكمية الكبيرة من الجود اإللهي الذي بذخ عليها‪ ..‬نظر بعشاق‬ ‫إلى الساحة أمامه كمن يودّع أمّه لحظاة سافر مفاجاأ و يغياب طاويال عنهاا‪ ..‬عانقات‬ ‫نظراته كل زاوية فيها‪ ..‬ثام أدار لهاا ظهاره و اتجاه نحاو مطاار المغاادرة‪ .‬خطواتاه‬ ‫هادئة‪ ..‬أفكاره عشاوائية‪ ..‬ذكرياتاه شابه ممحياة‪ ..‬إال صاورتها عنادما تساير بجانباه‬ ‫وتمسك بيده بشدة معلنة له خوفها من شوارع الليل الفرنساية و ممان يكوناون بهاا‪..‬‬ ‫كااان يطمئنهااا أنااه لاان يتركهااا أباادا‪ ..‬لتبقااى ضاااغطة علااى يااده بأصااابعها الناعمااة‬ ‫المتشابكة مع يده الرجولية فيبقى ممسكا بها بقوة مؤكدا لها أنه بجانبهاا‪ ..‬حياتاه فاي‬ ‫مدنها فقط‪ ..‬قلبه أسير دائم إلرادتها‪.‬‬ ‫شارع مارسييه طويل جدا‪ ..‬رومانساي حاالم أياام الشاتاء‪ ..‬وقاف عناد عاامود إناارة‬ ‫ينظر يمنة و يسارة‪ ..‬يتأمال كال تفصايل دقياق فياه كمان يبصار لوحتاه األبدياة التاي‬ ‫سرقت منه بغتة‪ ..‬ما كان ليبيعها بأموال وال جاواهر أو قصاور العاالم أجماع‪ ..‬فهاو‬ ‫من تارك غنااه و فااحش ثاراء عائلتاه ليحياا جانبهاا‪ ..‬يشاعر بأنفاساها فاوق صادره‪..‬‬ ‫شعرها المنسدل على وجنتيه بجانبه‪ ..‬يسمع دقاات قلبهاا تعازف طرباا عنادما تكاون‬ ‫صامتة تنظر إليه بكلّية ذائبة و انصهار أشد من انصهار الحديد فاي أعلاى درجاات‬

‫‪73‬‬


‫غليانه في المراجل‪ .‬رفع بصره ناحية السماء فرآها سوداء كما فحم المناجم ال لون‬ ‫فيها و ال حياة‪ ..‬وال حتى نجمة واحدة‪.‬‬ ‫رافي‪ :‬حتى أنت بت بخيلة عليّ ال تريدين أن تفرحيني بماسة صغيرة ت ّقارين عيناي‬ ‫بهااا‪ ..‬يااا ماان ال تضاانين علااى األرض بقطاارة واحاادة‪َ ,‬أو تجااافيني اآلن ألنااي بااأمسّ‬ ‫الحاجة إلى حنوّ ك! كانات تحباك أكثار مان أي شايء آخار فقاد كنات تازينين شاعرها‬ ‫بناادفك األباايض الاادافئ‪ ..‬تلااونين وجنتيهااا و أنفهااا باااللون األحماار المخملااي مااا كااان‬ ‫يزيدها حالوة و ألق في مثل هذه األوقات من السنة‪ .‬جعلتني أعشقها حا ّد الفنااء‪ ..‬و‬ ‫تشاايحين وجهااك عنااي اآلن! ألساات تلبسااين عليهااا الحااداد اآلن؟ أكيااد أنااك اشااتقتها‬ ‫مثل اي‪ ..‬لعيونهااا التااي لاام تمّلااك يومااا‪ .‬إن كناات أحببتهااا حقااا‪ ..‬ال تتركينااي لوحاادتي‬ ‫أرجوك!‬ ‫جلس على الرصيف بعد أن أوهنه البرد و المساير ألكثار مان سااعتين فاي شاوارع‬ ‫كانا يجوبانها معا‪ ..‬أخرج لفافة تبغ و هو الذي كره الدخان و رائحته طيلة عماره‪..‬‬ ‫إال أنه بات صديقه الوحيد اآلن‪ ,‬فهو يحترق مع كال نفاس كماا يحتارق هاو شاوقا و‬ ‫ألما عند كل نفس يتنفسّه أو خفقة قلب بين حناياه تذكرّه كم هي بعيدة عنه‪.‬‬ ‫نظاار فااي ساااعته‪ ..‬الرابعااة و خمااس و ثالثااون دقيقااة بعااد منتصااف اللياال‪ ..‬لاام يكاان‬ ‫الدمع دافئا بقادر ألام البكااء الاذي اجتاحاه فجاأة فقاد و ّجاه بصاره إلاى األرض حياث‬

‫‪74‬‬


‫نادف القطاان باادأت تعلااق عليهاا و حيااث وجاادها‪ ,‬تاارددت ياداه فااي أن يمسااكها‪ ,‬هااي‬ ‫ذاتهااا‪ ...‬يااا للسااخرية‪ ..‬أليساات ماان كااان يح ا ّدثها صااباحا! تلااك المجاهاادة المتشا ّ‬ ‫ابثة‬ ‫بالسطح الب ّني األملس! آآآه‪ ...‬ما كان يثقلها صباحا قد رشح من البلل و خفّ حملهاا‬ ‫قليال‪.‬‬ ‫بعد شرود و تأمل داما أكثر من ثلث ساعة بأحادياث متضااربة داخال جنبياه‪ ..‬رفاع‬ ‫الورقة حتى يمعن النظر بما تبقى من نوتات موسيقية عليها علّه يقرأ نهايته بعاد أن‬ ‫عايشااها بااأ ّم عينيااه ماان شااهر‪ .‬إذ بااه يضااحك بهسااتيرية تنبااع ماان الصااميم و دمااوع‬ ‫الذعة تحفر أخاديدها على وجهه كما الجدري ي ّ‬ ‫شاوه الوجاوه بقدوماه ليتارك عالماة‬ ‫تدّل على أن صاحبه عانى أوجاع الدنيا كلها‪.‬‬ ‫ما كان مكتوب مؤلم مفرح‪ ..‬عاودت عيونه النظر والدموع تحتلهاا مساتوطنة ثميناة‬ ‫كمناجم الماس اإلفريقية‪ ..‬يمعن النظر أكثار فاأكثر دون أن يادري بالكلماات‪ ..‬عقلاه‬ ‫يريه لوحة فنان مبتدأ يمزج األلوان حديثا إال أنه يتفوق علاى أساتاذه رغام بسااطتها‬ ‫و ّقلة خبرتها ليكون مكانها حائط اللوفر جانب لوحة العشاء األخير‪.‬‬ ‫ما بقي على الورقة من كلمات ّ‬ ‫خطها مداده هي‪ ":‬شاكرا علاى سانوات حباك كلهاا‪..‬‬ ‫بخريفها‪ ,‬شتائها‪ ..‬غيمها‪ ,‬صحوتها‪ ,‬وتناقضات سمائها‪ ..‬شكرا على زمن البكاء ‪,‬‬

‫‪75‬‬


‫مواسم السهر الطويل‪ ..‬شكرا على الحزن الجميال‪ ..‬شاكرا ألناك أحببتناي‪ ..‬حبيبتاي‬ ‫سيدرا"‬ ‫ذات السيمفونية التي عزفها يوم عودته إليها ليجد الروح قاد غادرتهاا دون رجعاة‪..‬‬ ‫دون ألاام‪ ..‬دون أوجاااع‪ ..‬و ال حتااى دمعااة واحاادة‪ .‬لاام تفااارق البساامة شاافتيها اللتااان‬ ‫قبلهما ذاك اليوم األخير قبل أن يعاود التاراب الاذي أحبّاه إلاى التاراب ليتركاه تراباا‬ ‫تذروه رياح شتاء بارد‪ ..‬فقاط ألن وقات الرحيال قاد حاان‪ ..‬تاذكرة ال يمكان إعادتهاا‬ ‫لمكتااب السااياحة و الساافر فتلااك الرحلااة الوحياادة فااي كاال أرجاااء العااالم قاطبااة وعنااد‬ ‫جميع وكاالت السفر التي تعطياك تاذكرة التجااه واحاد إجبااريّ ال عاودة مناه‪ ..‬ألي‬ ‫سبب كان‪.‬‬ ‫بدأت ندف القطن األبيض تح ّل زائرة على الورقة‪ ,‬يديه‪ ,‬جفونه المت ّهدلاة‪ ,‬و دمعتاه‬ ‫جمدت من شدة صقيع ليلة الميالد في شارع مارساييه الكئياب الفاارغ مان أياة حيااة‬ ‫بشرّية تلوح فيه‪.‬‬ ‫وجدوا جثته هامدة ال حياة فيها في صباح المايالد عناد شاروق الشامس الفااترة‪ ..‬دم‬ ‫أزرق في عروق ضامرة‪ ..‬فقال أحدهم يحدّث صاحبه الذي كاان يطلاب اإلساعاف‪:‬‬ ‫ال بد أنه عاشق مات قهرا من ظلم أنثى‪ ,‬مسكين لم يتحمّل الطعنة منهاا فكاان موتاه‬ ‫ّ‬ ‫المعذبين‪.‬‬ ‫مح ّتما‪ .‬إيييه‪ ...‬هذه هي فرنسا يا صديقي‪ ...‬أرض‬

‫‪76‬‬


‫إن كان سمعه (رافي) لنطق بأحب الكلمات لديه‪ :‬من مات حبيبه قبله علم أن نهايته‬ ‫وشاايكة‪ ..‬ألن رحياال أحاادهما ياادل علااى قاارب نهايااة اآلخاار ليركب اا ذات الحافلااة‪..‬‬ ‫فيجتمعا أبدا‪ ..‬دائما‪ ..‬معا‪.‬‬ ‫‪10/ 22 / 2009‬‬

‫‪77‬‬


‫ستائر خرق اء‬ ‫ليست باالسم الالمع الذي يوحي بقراءتها‪ ..‬إنما عند النظر من زوايا موشور‬ ‫أبيض‪ ...‬كل منا سيرى معنى مختلف لها كما نرى ألوان الطيف المنبعثة‪ .‬سأعطي‬ ‫مثاال متكررا و العبرة هنا‪ ,‬كم منا ف ّكر بتفصيل فيه قد أغفل نتيجة روعة الحب‬ ‫بالقصة كما في "روميو و جولييت"‪ ,‬قصة الكاتب االنكليزي الشهير "شكسبير"‪..‬‬ ‫عندما تذكر هذه الحالة يذكران كحبيبين فقط‪ ..‬إنما من أهم ما يم ّيزها فعال أنها عن‬ ‫زوجين لم يبقيهما كاتبهما في خرافة األسطورة دون رابط مقدّس يجمعهما‪ .‬مفاجأة!‬ ‫لكن ذاك ما جعل منها األسطورة الباقية للتصوّ ر و تطبق و تذكر حتى األجيال‬ ‫القادمة‪ ,‬تلك أحد الستائر الحمقاء التي طغت على أساس حقيقي‪.‬‬ ‫إن لم يكن اإلقناع قد أزاح شيئا‪ ..‬فلنذكر ستارة أخرى‪ ..‬من م ّنا لم يعشق؟ سؤال‬ ‫غبي حقا‪ ...‬جميعنا‪ .‬لكن‪ ...‬من جمعه هللا بمن أحبّ فعال؟ أو بقي مع من أحب بعد‬ ‫الزواج؟ أعلم‪ ..‬منكم من سيقول "يوجد"‪ ,‬لكن كم من مائة أو ألف؟ الحال هو‪ ...‬أن‬ ‫فخه أو يختاره القلب‪ ..‬ليس سوى مرآة معدنية ترينا الت ّ‬ ‫من نحب و نقع في ّ‬ ‫شوه‬ ‫الحاصل فينا فقط‪ ...‬خوفنا من إبعادها ع ّنا خشية البقاء وحيدين منعزلين من‬ ‫المشاعر‪ ..‬الشغف‪ ..‬األلم‪ ..‬االشتياق و معنى الفراق‪ ,‬حتى البكاء هو ما يجعلنا كما‬

‫‪78‬‬


‫"نرسيس" الهائم بجماله قرب صفحة النهر حتى وقع فيه و مات غرقا لشدّة خوفه‬ ‫و تعلّقه بذاك الجمال الذي كان‪ ...‬هو‪.‬‬ ‫شأننا جميعا‪ ..‬أن نبتعد عن صورتنا فقط أو عمن يرينا أنفسنا دون تشوهاتها و أن‬ ‫ننتبه أين سنسقط أخيرا‪ .‬إن أبصرنا مليّا حولنا مرات و كرات‪ ,‬سن ّتنبه لمن يروننا‬ ‫منذ أمد بعيد و ينتظرون م ّنا إيماءة بسيطة‪ ..‬فقط بسيطة‪ ..‬ليجعلونا نرى روعة‬ ‫ّ‬ ‫المغطاة بتفصيل رهف جدا أدمغ بسبب نرجسيتنا ألنفسنا‪.‬‬ ‫الحياة الحقيقة‬ ‫عايشتها بنفسي بأشكال مختلفة‪ ...‬أما أن يكون ذات المكان الذي أتردد عليه مذ‬ ‫أكثر من أربع سنوات‪ ...‬أنتظر فيه شخصا لم يحضره سوى مرتان فقط‪..‬‬ ‫سيوقظني على ّ‬ ‫ألذ رعشة لقلب كنت فقد ّتها من سنين و تحجرت الشرايين حتى ما‬ ‫عادت الدماء تسري فيها ليتحّول صحراء الربع الخالي إلى واحات‪ ...‬أيامي‬ ‫تالشت ولم يبقى فيها ناقة وال نخلة ف ّتية حتى و اآلن هي مرتع لقبائل تحّ ل و‬ ‫ترتحل‪ .‬توقفت مرارا تحت سماءها الجرداء أردد بصري مع أي نجم قد يدلّني‬ ‫على وجهة ما‪ ..‬أسأل نفسي "ما يحدث هنا؟" دون الحصول على شيء سوى حرّ‬ ‫شمسها الحارقة نهارا دون وجود ما يقيني منها و نخز بردها القاتل ليال دون أية‬ ‫إشارة تهدي فيه غريبا مسافرا يقطعها مشيا برمالها الالذعة و الناعمة المحت ّكة‬

‫‪79‬‬


‫بقدميه المتقرح ّتين‪ ..‬حتى بات شيئا يعتاد المرء عليه كما رياحها الرملية التي‬ ‫تعمي األبصار‪.‬‬ ‫إن تنبهّت باكرا لوجدت أجمل سهل تراه عيني ألشرب من أعذب ينابيع األرض‬ ‫مياهها الجبلية في فصل ربيع ما شهدّته قبال‪ ,‬و أتمتع بسماء صافية بغيوم بيضاء‬ ‫كما ندف القطن و أشتم رائحة األرض البضّة بعشبها النديّ و أرتوي من قطرات‬ ‫الندى المتراكمة على ورودها المختلفة و عندما يحين المساء أرتقي بمقلتين‬ ‫ناعستين خجولتين ألرى روعة الماسات المتأللئة المزي ّنة على بساطها المخمليّ‬ ‫الواسع و التي تج ّمعت بكلّيتها حول دريّ أبيض كبير تأبى حوريات البحر إال أن‬ ‫تعشقنه حتى تفنى و تصير زبد بحر يبقى يرغي و يطوف شطئان العالم يخبر‬ ‫قصة عشق عذرية بريئة لجمال ما أبدعه إال الخالق في لوحة كونية معجزة بحق‪.‬‬ ‫أجل‪ ...‬لكل منا ستائره الغبية التي تمنعه من متابعة أجمل مسرحية "كومي‬ ‫تراجيدية\ميلودرامية" بحلوها‪ ,‬مرّها‪ ,‬ضحكها‪ ,‬و بكاءها‪.‬‬ ‫كم مر ّة أحسسنا أننا فراشة خسرت أجنحتها و أن الماء الذي نشرب ما عاد يروينا‬ ‫أو فيه خطب ما‪ ,‬و ألي سبب نشربه حتى‪ .‬بات نوم الطائر مرعبا خوفا من أن‬ ‫ينقطع نفسه ليختنق فيموت؟ أريد الشعور بقلبي بحق‪ ...‬أن يتوقف الباقي من يومي‬ ‫عند لحظة الفرح دون دمعة واحدة؟ فعندما نتوقع أن اللحظة جاءت‪ ..‬تذروها‬

‫‪81‬‬


‫الرياح دون رحمة أو رجاء يسمع‪ ..‬ليسمح لنا أن نحتفظ بها داخل صندوق خزفي‬ ‫صغير نريده أن يدفن معنا في النهاية‪ ,‬ألن فصول حياتنا لم تكن بالترتيب الصحيح‬ ‫أبدا جزاء بما فعلته أيدينا‪.‬‬ ‫سيقال عني"متشائمة حذقه"‪ ...‬بينما أصف نفسي "المستيقظة أخيرا"‪ .‬كم صفعة‬ ‫على الوجه بعد بقي لي؟ ال أعلم‪ .‬حتى مكاني معربة بشكل صحيح ّ‬ ‫بت أبحث عنه‬ ‫في جوامع الكلم و قواميس اللغة العربية حتى انتهى بي المطاف داخل معاجم‬ ‫اللغات المختلفة من فارسية‪ ,‬أوردية‪ ,‬و سنسكريتية‪ ,‬و مازلت أبحث حتى أجد لي‬ ‫مكانا و إن كان كعش طائر في جدار دار‪ ...‬المهم أن تكون الدار الصحيحة آخر‬ ‫المطاف‪.‬‬ ‫أخبرتني إحدى صديقاتي و هي كاتبة أنها مذ تزوجت لم تستطع كتابة سطر و ال‬ ‫حتى جملة متراصّة أبدا؟ ابتسمت حقا و دمعي يغرغر داخل مقلة ملّت البكاء المرّ‬ ‫"لم تريدين حبس أجمل لحظات كتابتك على صفحة الحياة الجميلة التي أتيحت لك‬ ‫أن تعيشي حروفها ملموسة بدقائقها‪ ,‬ساعاتها‪ ,‬و أيامها إلى مداد و بردي يفنى مع‬ ‫األيام‪...‬اكتبي أيامك الحاضرة بسعادتك حتى يتسنى لك ملئها على الورق فيما‬ ‫بعد‪ ..‬حين ال يتبقى للمرء سوى أجمل ذكرياته مع شخص أدفئ ليله و أسكن نار‬ ‫جوارحه ببرد إلهي نقي و صافي‪ ,‬و كفانا ما كفانا صدقيني"‬

‫‪81‬‬


‫أردتها أن تكون كما جدتي عندما كانت في المستشفى و هي تناهز السبعين من‬ ‫العمر بقوام محني تنظر إلى جدي‪ ..‬ال ككهل جار عليه زمانه و أصيب بعلل‬ ‫السكر و نقص النظر الشيخي‪ ...‬بل ذاك الشاب ذي الخامسة و العشرين‬ ‫ربيعا‪...‬طويل القامة‪ ..‬شعر ذهبي‪ ..‬يرتدي ب ّزته العسك ّرية و يف ّتر ثغره عن‬ ‫ابتسامة أخا ّذة أسرت لبّها و هي ابنة الستة عشر ربيعا فقط‪ .‬عندما تمعّنت النظر‬ ‫في بريق عينيها وجدّتها عاشقة مسحورة لم تعلم أن بداية عذاباتها يوم طرق جدي‬ ‫باب بيتهم خاطبا قلبها قبل يدها‪ ,‬فبرغم ما عايشته من جحيم ويالت الحرب و‬ ‫التنقالت بسبب منصبه‪ ..‬إال أنّ ّلذة و حالوة بقربه وجدتها‪ ..‬أسفرت عن خمسة‬ ‫شباب و فتاتان أنستها تم ّرد زمان جار عليها ما يناهز األربعة و الخمسين سنة‪...‬‬ ‫أخبرتني أنه ما خانها يوما و ال أحب غيرها أبدا‪ ..‬و أنه ما ف ّكر أن ّ‬ ‫يتخذ عشقها‬ ‫ذريعة ليكسر قلبها أو يذ ّل أنوثتها‪ ..‬رغم أنها خافته بسبب لصرامته كعقيد بارز‪.‬‬ ‫هي ملكة قلبه و فؤاده‪ .‬ما ترك يدها أبدا و هو فوق السرير األبيض بارد الجسد‪.‬‬ ‫أح ّبته اليوم أكثر من أول مرة رأته فيها في يوم صيفي بارد المساء‪ ,‬كانت تدمع‬ ‫ألنها لم تكن تعلم كيف ستعتاد على ما تبقى لها دون وجود صوته‪ ,‬بريق عينيه‪ ,‬و‬ ‫حنوّ ه؟‬

‫‪82‬‬


‫جميعنا يوما ما سنجد طريق المنزل‪ ..‬وننظر حولنا للحياة الجميلة ونتنفس بحرية‬ ‫دون خوفنا من االختناق المفاجئ‪ ,‬متى تختفي األصوات من حولي حتى أسمع‬ ‫صوتي أنا؟ متى تتوقف تلك الضحكات حتى أسمع صوت ضحكتي أنا؟ اشتقت‬ ‫الوقوف أمام مرآة نظيري ألرى نفسي بعينيه‪ ..‬ال عين نفسي فقط أو كما يريدني‬ ‫الغير أن أكون‪ .‬جميل أن نرى أنفسنا بنظر من يحبوننا على عالّتنا‪ ...‬عدا األهل و‬ ‫أقرب األصدقاء ألنهم بجميع الحاالت يحبوننا كما نحن‪.‬‬ ‫قادتني القدرة اإللهية إلى أن تغيير صديقتي موعدنا للذهاب حيث اعتدت مذ أربع‬ ‫سنوات‪ ,‬ال كي أنتظر من لن يأتي‪ ..‬بل ألرى من ينتظرني‪ ...‬ال أعلم شخصه‬ ‫فعال؟ ج ّل ما أتمناه كأنثى و أذكره لكم و أنا أحاول حبس آخر دمع لي‪ ,‬أن يتقدم‬ ‫م ّني ليكلّمني بصراحة بت أشتهيها كما قلب الفقير يغرف أمام رائحة الخبز و‬ ‫منظره‪ ...‬آمال أن يقدم صاحب المخبز تحديدا ما يس ّد رمقه و يطلب منه أن يأتي‬ ‫إليه كل يوم فيأخذ حاجته‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫التمزق على أرصفة‬ ‫ص ّدقوني إنها أبسط مثاال على الحنوّ ‪ ,‬العطف‪ ,‬تب ّني قلب م ّل‬ ‫باردة و معدة خاوية و عقل بات ال يعلم من الدنيا سوى تم ّني التوقف عن النبض‬ ‫بلحظة قريبة جدا‪ ..‬جدا‪.‬‬

‫‪83‬‬


‫مللت الوقوف تحت المطر وحيدة في غابة ال أرى سوى أغصانها العارية و أنا‬ ‫أحاول رسم سيناريوهات مختلفة رغم يقيني أن ال أحدها سيجدينني نفعا أبدا أمامه‪,‬‬ ‫فالمكتوب هو ما سيحصل فقط و عنفواني كامرأة يقف عائقا كبيرا جدا‪ .‬لكن كما‬ ‫يقال "يكفيني شرف المحاولة"‪ ...‬دون نوم‪ ,‬عقل شارد‪ ,‬يدين باردتين‪ ,‬و قلب تشبّع‬ ‫بالرهّبة و الخوف من أن تلتقي نظراتنا أو تمضي الجلسة دون أن ينبس ببنت شفة‬ ‫تسّد رمقي أو أعود أدراجي كأم ثكلى فقدت آخر أطفالها في حرب العراق دون‬ ‫سبب واضح‪ ...‬فقط أنه خرج وحيدا يلعب مع أوالد الجيران بوقت خاطئ‪.‬‬ ‫أوهام اليقظة من أجمل ما يشجّع اإلنسان على المضي قدما رغم أي إحباط يمكن‬ ‫أن يقابله من الغير‪ ,‬لكن كما أخبرني أحد أصدقائي يوما "الطريق من هنا يمكنك‬ ‫العودة‪ ...‬أو أن تتصلي بأحدهم ليقتلك و يجعل من قبرك مبكى"‪ .‬فهمتها و تجاهلتها‬ ‫خوف من يعلم أن القتل يودي به لعذاب جهنم و بئس المصير‪ ...‬لكن مازلت أتأمل‬ ‫فعفوّ هللا موجود‪.‬‬ ‫لست أعلم نهاية واضحة لما بدأته سوى أني تجرأت فجأة على كتابة ما تسميّه‬ ‫صديقاتي "تتمة مجموعتي الثانية" لك ّني كأنثى تريد أن تشعر أنها موجودة‪ ,‬تتنفس‪,‬‬ ‫تحسّ أنها محّط اهتمام شخص يريدها فعال ألنها هي‪ ...‬فقد ّ‬ ‫سطرت معزوفة لي‪..‬‬ ‫أحسست عندها كيف يتوقف الهواء عن ورود الرئتين ال كي أموت‪ ,‬بل ألني‬

‫‪84‬‬


‫شعرت بحالوة لثوان‪ ...‬هللا وحده يعلم منتهاها كما جعلها تبدأ‪ .‬يمكن لكل من تصله‬ ‫أسطري أن يف ّكر في نفسه و خياراته و األسطح العاكسة التي تريه ما خلفه‪ ..‬ليس‬ ‫فقط وجهه و ما ليس أبعد من أنفه‪ .‬و كل من يريد أن يرضي غروره على‬ ‫حساباتنا‪ ...‬هو شيء ما على قارعة الطريق فقط‪ ...‬فلن أتصل بأحدهم ليقتلني‪...‬‬ ‫طريقي أصبح واضحا أمامي‪ .‬سأبدأ من جديد‪ ,‬ال كي أعود للخطأ ذاته ثانية! بل‬ ‫لتفاديه مستقبال‪ .‬و يبقى الحب رصاصة لن تسأل يوما قتيلها قبل أن تستهدف قلبه‪.‬‬

‫‪05-02-2010‬‬

‫‪85‬‬


‫غباء األميرة‬ ‫راحت األميرة تلملم ورودها وتنسج من اللؤلؤ عقدا جديدا تتزين به ألميرها الجديد‬ ‫‪ ,‬بقيت تنتظره طيلة الليل ولم يأتي‪ ...‬الريح ترقص مع الستائر دون أن توقف‬ ‫األميرة صراخهم‪ .‬باألمس كانت قصائده المنثورة على طاولتها وتحت وسادتها‬ ‫هي سلوى ليلها وعالمها الذي لم تم ّل السفر إليه‪ ...‬حروفه‪ ,‬ياسمينه‪ ,‬عطره‪,‬‬ ‫وهوائه هي مفردات ال تستطيع حروف الشوق إليه أن تترجمها أو تحكي‬ ‫أسرارها‪ .‬فقد حاولت مرارا أن تكتب له أسرارها أو أن تجاريه ببعض حروف ال‬ ‫أكثر‪ ,‬لكنه دوما يقتل حيرتها وصمتها بجمال حروفه‪ .‬كانت تذوب شوقا َ لحروفه‬ ‫فقد ت ّعودت أن يهديها ع ّ‬ ‫شاقها اللؤلؤ والماس‪ ,‬ما يتجرأ أحد من قبل أن يكتب عن‬ ‫عينيها أو أن يهرب إلى حجرتها دون أذنها ويكتب عن تفاصيل ال يعلمها إال هو‪,‬‬ ‫هي تعلم أن طيفه كان يراودها كل ليلة آالف المرات ينشر الياسمين على فراشها‬ ‫ويحكي لها أسرارها‪.‬‬ ‫هي اليوم مشتاقة للون الفجر في عيونه‪ ..‬أفال يدله قلبه عليها؟ و لم رحل عنها؟‬ ‫يراودها تراتيل األحرف األخيرة بينهما كيف رحل و كل أحالمه في عطرها؟ لم‬ ‫رحل و بقي في المدينة؟‬

‫‪86‬‬


‫هي حتى ال تعلم لماذا لم ينبت الياسمين في حديقة قصرها و هي أميرة مدينة‬ ‫الياسمين‪ ,‬و قد نذر الياسمين نفسه لكل البيوت والطرقات في مدينتها! فتحت باب‬ ‫غرفتها و توش ّحت ثوب أحد الخدم لتطرق أبواب المدينة‪ ,‬علّها تجد حبيبها بين‬ ‫أسوارها وعلى أرصفتها‪.‬‬ ‫بدء الليل يبدو مظلما خارج القصر فالكالب هنا تعوي بكليّتها واألميرة تسير‬ ‫وحدها لترى أن الجياع قد افترشوا الطرقات بدال من السجاد‪ ...‬هي المرة األولى‬ ‫التي تطرق بها األميرة أبواب المدينة دون استئذان‪ ...‬لم تكن تعلم يوما أن الحياة‬ ‫هنا ال تشبه رفاهية القصور وال األواني الذهبية على مائدتها إال أنها كانت تعلم‬ ‫جيدا طريقها إليه‪.‬‬ ‫على باب منزله أطفئت األميرة سراجها وسألت روحها أن توقظه‪ .‬بقيت منتظرة‬ ‫تحت شرفته عسى أن يحمل عطرها سر وجودها ويجعله يشتاق إليها‪ ,‬لك ّنها حين‬ ‫اقتربت سمعت صوته يردد أحد قصائده‪:‬‬ ‫ال تبكي الليلة أيتها األميرة‬ ‫ال تبكي يا عاشقة يذوب الندى على خدودك‬ ‫و تصبح نيران العرب بين يديك ورود صغيرة‬ ‫ال تبكي فباألمس كنت طفلتي‬

‫‪87‬‬


‫و اليوم أنت أجمل أميرة‬ ‫أنت الطيف يسرح بين العربان كجواد لم تتعبه الصحراء‬ ‫ولم تجعله مرارة القهوة أن ال يحمل وروده‬ ‫أنت اليوم أميرة‬ ‫و ليست يا حبيبتي كل من تسكن القصور أميرة‬ ‫بلون الشمس خدودك‬ ‫و كحل عربي في عيونك‬ ‫فأنت يا )هال( أجمل أميرة‬ ‫اضطربت األميرة وبدء الرعد يصرخ في نفسها‪ ,‬من هي هذه األميرة التي يحدّثها‬ ‫في شعره؟ أو لست أنا األميرة! كيف لهذا األحمق أن يعشق غيري و يخونني؟ ألم‬ ‫يكفه أنني عشقته وجعلته يعشق‪ ...‬أميرة‪.‬‬ ‫عادت األميرة لقصرها و بدأت تمزق أوراق ذاك الخائن‪ ,‬فكم من عاشق ال يعلم‬ ‫صها‬ ‫من عشقه سوى تراتيل حروف (أحبك) وال يجيد من الهوى سوى ترهات يق ّ‬ ‫كل يوم كما ألف ليلة وليلة دون اكتراث إن ماتت أميرته في نهاية كل ليلة‪ .‬ففي كل‬ ‫ليلة سيعشق أميرة جديدة أو يجد حمقاء أخرى يكتب لها بضع حروف تنسيها‬ ‫ضعفه وتكتم عنه غروره‪ .‬بدأت األميرة تسأل نفسها باضطراب‪ :‬أيعقل أنه لم‬

‫‪88‬‬


‫يحبني؟ كيف له أن يكتب لغيري ويدوّ ن داخل أوراقه حرف ال يحمل شوقه إلي‪,‬‬ ‫هل يعقل أن تكون المشاعر بهذا الثمن البخس؟‬ ‫أو لم يقل لي ماليين المرات أن حروفه هي أغلى شيء لديه‪ ...‬يا له من كاذب‪.‬‬ ‫هؤالء هم أصحاب المشاعر المعلّبة من ي ّدعون أن حروفهم هي سحر الليل وعشق‬ ‫القمر‪ ,‬من يرون في عطر الياسمين تاج المدينة هم فعال كتاب مهرة يتقنون كل‬ ‫فنون الحياة وخصوصا الخداع والهجر‪ ...‬فما أكثر الحروف وما أسهل كتابتها‪.‬‬ ‫باتت األميرة تجلد روحها بعشرات األسئلة‪ :‬كيف لي أن صدقت بوحه و رفضت‬ ‫كل الدنيا ألجله؟ كيف كانت حروفه تجعلني أهرب من قصوري ألكون معه في‬ ‫كوخ! يا لي من حمقاء‪ ,‬اليوم فقط عرفت أن الحياة ال تقاس إال بكل ما هو حقيقي‬ ‫وأن الحب هو عطر المساء‪ ...‬هو مدائن أكون أنا أميرتها فقط‪.‬‬ ‫أعادت األميرة جمع ما تبقى من أوراق ذاك العاشق لتجد حروف (هال) مدو ّنة‬ ‫فيها‪ ,‬استسلمت للنوم أخيرا بعد أن جعلت نار المدفئة تحتضن أوراقه وهذيانه‪.‬‬ ‫في الصباح وكمثل كل يوم استفاقت األميرة لتجد رسالة عشق جديدة من عاشقها‬ ‫التائه قد ل ّفت على أحد أغصان الياسمين‪ ,‬فتحت الرسالة وبدأت تقرأها باستهزاء‬ ‫فقد نفض عنها النوم كل وهم الكلمات‪ ,‬إال أن رسالته لم تكن خاطرة فقط‪ ...‬فقد‬ ‫سبقها ببضع أسطر‪ ,‬فبدأت قراءتها بصوت متعال‪:‬‬

‫‪89‬‬


‫حبيتي األميرة‬ ‫اليوم لن أدون أسمك فقط كأميرة على حروفي وأشواقي‬ ‫بل سأدع أسراري تخبرك عن شوقي لعينيك‬ ‫عن لون السماء حين تشرقين على مدني‬ ‫على سمائي وقمري كأجمل أميرة‬ ‫اليوم حبيبتي‬ ‫لن أناديك أميرتي‬ ‫بل سأدعوك باسمك فهو عندي أجمل من كل أزهاري وأشواقي‬ ‫أحبك )هال(‬ ‫يا أجمل أميرة‬ ‫وهل يعقل أن ال يكون اسمك حبيتي هو أسم األميرة؟‬

‫‪2002-2-71‬‬

‫‪91‬‬


‫فقد اإلحساس‬ ‫لم تكن تشعر بشيء‪ ..‬نسيت اإلحساس بالبرد تماما‪ ..‬غائبة عن كل ما حولها‪ ,‬هي‬ ‫حقا وحيدة في مكانها إال دموعها المالحة و الحارّة التي تذيب الثلج و تساعد يداها‬ ‫بإبعاد األبيض من حوله في محاولة منها إنقاذ ما يمكنها‪ ,‬فقد قتلتها وحدتها‪ ,‬لم يعد‬ ‫عقلها يحتمل أنه سيتركها وحيدة لعتمة الليل بسرير بارد‪.‬‬ ‫هاهو التراب بدأ يختلط بدموع السماء البيضاء و يع ّكر نقاءه بعد نحيب مالئكي دام‬ ‫أليام متتالية‪ ..‬فقد تضافرت السماء مع ألمها‪ .‬هي وحيدة في تلك البقعة من األرض‬ ‫ال حبيب معها وال قريب و الرياح تحمل الثلج بكل اتجاهاته المختلفة لترتطم‬ ‫بوجهها كصفعات تحاول إيقاظها مما هي فيه‪.‬‬ ‫عندما وصلت إليه‪ ..‬شهقت بحرقة الثكلى و راحت تمّرغ وجهها بتراب األرض و‬ ‫رحمة السماء‪ ..‬انحنت لتقبّله‪ ,‬تهمهم له في أذنه‪ ..‬إال أن غصّة تحول دون إتمام‬ ‫ترانيمها له‪.‬‬ ‫هي ساعة‪ ..‬اثنتان‪ ..‬توقف الشعور لديها بالوقت ألنها معه‪ ..‬بقربه و نسيت كيف‬ ‫يكون الشعور بالبرد و هي تحاول تدفئته بكلّيتها خوفا من أن تؤذيه دموعها‪ .‬هو‬ ‫من جعل لحياتها ذاك النور بعد ضباب دام لسنوات كدفء شمس الربيع بعد شتاء‬ ‫قطبي طويل‪.‬‬

‫‪91‬‬


‫همّها الوحيد الجلوس مقابلته‪ ..‬مراقبته أثناء نومه‪ ..‬كيف يتنفس‪ ..‬حركته‪ ..‬سكنته‪..‬‬ ‫كل ذاك و كأنها تشاهد أحد أفضل أفالمها دون أن تملّها‪.‬‬ ‫جاءها صوت تعرفه تماما و تعلم مدى غضبه و قلقله عليها‪ ..‬يظهر عليه من‬ ‫رعشة مخارج حروفه كم سار في الثلج حتى وصل إليها‪.‬‬ ‫الصوت‪ :‬إلى متى‪ ..‬إلى متى تعذبين نفسك و تقتلينني معك‪ ..‬لقد انتهى‪ ..‬إلى متى‬ ‫سأبقى أبحث عنك هنا؟ متى توقفين نحيبك؟ أرجوك‪ ..‬ما زلت إلى جانبك‪ ..‬كفانا‪.‬‬ ‫هي‪ :‬لن اتركه هنا وحده أبدا‪ ..‬إنه يشعر بالوحدة‪ ..‬يبكي طوال ليله‪ ..‬إنه يناديني‪..‬‬ ‫يريدني جانبه‪ ..‬أسمعه‪.‬‬ ‫اقترب منها و هو يشفق حالها‪ ..‬يعلم تماما كم عانت خالل السنوات الماضية حتى‬ ‫ال ّتم شملهما معا‪ .‬لكن ما باليد حيلة‪ .‬شدّها نحوه بعنف عاشق يخاف على‬ ‫معشوقته‪ ..‬ضمّها إليه بشدّة فهو يحبّها جدا أكثر من أي شيء آخر في هذا الكون‪,‬‬ ‫هو يشعر بألمها‪..‬ألنه يتجرع ذات األلم‪.‬‬ ‫الصوت‪ :‬ما زلت موجودا معك‪ ..‬ما انتهت الحياة ها هنا‪ .‬أعلم صدق معاناتك حتى‬ ‫رأيته قربك‪ ..‬ضممته إليك‪ ..‬شعرت بنفسه يختلط بجميع ما حولك‪ ,‬لكن العالم ما‬ ‫انتهى بعد‪.‬‬

‫‪92‬‬


‫هي‪ :‬اخذ قلبي برحيله‪ ..‬سيبقى ذاك االنفتاق الذي لن يضمدّه الوقت أبدا‪ .‬ما زلت‬ ‫أسمع صوت تن ّفسه قربي‪ ,‬نعومة بشرته‪ ..‬كنت أسكر لمجرد رؤيته يغمض عينيه‬ ‫و رأسه بين يدي‪ ..‬أضمّه لصدري حتى ال يشعر بوحدته‪ ..‬تلك األشهر معه كانت‬ ‫ثوان فقط‪ ..‬لمحة بصر خاطفة‪.‬‬ ‫أصبحت تعبّر عن كامل غضبها بضربه كيفما اتفق‪ ..‬بيديها العاريتين‪ ..‬تشنج‬ ‫صوتها و بكاءها الجارح الذي يخلع القلوب من أمكنتها‪ ..‬حرقة قلب تذيب القطبين‬ ‫جميعهما و تغيّر جغرافية األرض عن بكرة أبيها‪.‬‬ ‫أمسكها بكل ما استطاع من ّقوة‪ ..‬احتواها بين ذراعيه كي تهدأ‪ ..‬قبّل رأسها‪..‬‬ ‫جبينها‪ ..‬يديها‪ ..‬راجيا إياها أن ترحمهما‪.‬‬ ‫الصوت‪ :‬علينا العودة إلى البيت‪ ..‬أرجوك‪ ..‬أرجوك‪ ,‬الجو بارد جدا هنا‪ ..‬و يكفيني‬ ‫فقده فلن أتحمل بعده خسارتك أيضا‪.‬‬ ‫نظرت إليه بعينها المتعبتين من كثرة السهر و البكاء‪ ..‬كان بكامل ضعفه البشرّ ي‪..‬‬ ‫عرّته المحنة بصورته الكاملة‪ ,‬لقد أحبّه كما عشقته هي‪ ..‬أولم يكن بجانبها حين‬ ‫أبصرت عينيه النور ألول مرة؟ أوليس هو األمل الذي تمنيّاه بعد رحلة طويلة‬ ‫لمحاولة اإلنجاب‪ ..‬انتظراه معا بكل دقيقة؟ عاشا الرحلة مذ بدأ يركل في رحم أمه‬

‫‪93‬‬


‫حتى الصرخة األولى عند مقدمه‪ .‬الترتيبات التي ستكون له‪ ..‬أي مدرسة يرتاد؟‬ ‫أصدقاءه‪ ..‬حتى زوجته‪.‬‬ ‫انتهى كل شيء بثانية واحدة‪ ..‬رمشت عين‪ ..‬أصبح الجسد الغض‪ ..‬متصلبا باردا‬ ‫بين أيديهما‪ ..‬ليدفن بذلك أحالمهما معه تحت األبيض‪ ..‬و تبقى شاهدة قبره هي‬ ‫الشيء الوحيد الذي يدين عذابهما و ما آلت إليه أحوالهما‪.‬‬ ‫إن وفاة الولد أمام ناظر والديه لهو ألم ال يعلم مداه إال من رآه‪ ...‬هو النزع األخير‬ ‫ألم سهرت و ربّت‪ ,‬هو طعنة خنجر ألب شهد كل حركة و سكنة البنه‪ ...‬أمسكا‬ ‫بيده عند الخطوة األولى‪ ...‬حماله عند أول بكاء له‪ ...‬سهّد عيناهما ألجل أن يراياه‬ ‫يكبر‪.‬‬ ‫إال أن القضاء و القدر كان أسرع إليه منهما‪.‬‬

‫‪94‬‬


‫لوحة إلهية‬ ‫غيوم مصبوغة بلون بنفسجي جميل بعد مغيب الذهبية خلف الجبل الوحيد الظاهر‬ ‫أمام الرائي‪ ..‬وريقات زهر الكرز تعبق رائحتها الزكية كيفما اتج ّهت في تلك‬ ‫البقعة الغ ّناء‪ ,‬تحملها نسمات باردة تشفي كل معلول من علّته‪ ..‬تحمل أوراق الزهر‬ ‫األبيض الذي تشرّبت وريقاته لونا زهريا رائقا جدا لكأن الناظر إليها يحسبها‬ ‫أسراب السنونو المهاجرة‪ .‬رائحة العشب األخضر المندّى و المختلط بتراب‬ ‫األرض الرطب بعد ذوبان ثلج الشتاء تجعل جوارحك متنبّهة لتأمل لوحة الجمال‬ ‫اإللهي التي مهما حاول أشهر رسّامي العالم صهرها بمزيج ألوانهم على قماشهم‬ ‫األبيض و جعل من يدفع أغلى األثمان عليها حتى تزين جدرانهم الفاخرة‪ ,‬أن‬ ‫يستشعروا أو يستش ّفوا عبق تلك الطبيعة التي توقظ أي إحساس قد مات فينا‪ .‬أن‬ ‫يسمعوا نبضات األرض من خالل قوّ ة تدفق الدم القاني داخل شرايينها و أوردتها‬ ‫بعد موسم سبات طويل‪ .‬كانت الجداول تفيض عذوبة بفضّة رقراقة ما رأيت مثل‬ ‫فتنتها قبال‪.‬‬ ‫تعلّقت عيناه بنجمة قد ظهرت وحدها في الفضاء‪ ,‬فاف ّتر ثغره عن بسمة دافئة و هو‬ ‫مستلق على ظهره يستشعر مع كل رمشت عين ما حوله‪ ,‬تلك الماسة تبادله الغزل‬ ‫بوميضها المتكرر‪ ...‬هي حبيبته ظهرت وحدها حتى تنفرد بشرودها داخل بريق‬

‫‪95‬‬


‫عينيه العسليتين‪ .‬هل كان سيعرفها أو ينظر إليها بعشق إن كانت بين األخريات؟‬ ‫أرادت أن تكون األولى في الصفحة الكونية الظاهرة أمامه‪ ...‬غارت عليه من‬ ‫غيرها‪.‬‬ ‫بقي يحدّث نفسه بكل الكلمات و األحرف و يصّف الجمل حتى اغرورقت عيناه‪..‬‬ ‫أ ّنى له قلب يحبّه بعدها؟ كيف يهدي كلماته ألنثى أخرى؟ لون عينيها المائل‬ ‫للرمادي مازال يالحقه في صحوته ثم نومه‪.‬‬ ‫قطع حبل أفكاره صوت أجش يبلغه قرب الرحيل‪ ...‬هو أخوه يساعده على الجلوس‬ ‫داخل كرسيّه المدوّ لب‪ ...‬جلس في المقعد األمامي في السيارة التي بدأت مسيرها‬ ‫عائدة إلى الشوارع المزدحمة المتسارعة في تسابقها مع العصر من ضوضاء و‬ ‫ازدحام البشر الذين يركضون فيها دون وعي أو بصيرة‪.‬‬ ‫كان تركيزه على األضواء المتسارعة و الالفتات المضيئة‪ ,‬أسماء ألشهر المحال و‬ ‫السوبر ماركات الشهيرة منها و الصغيرة‪ ,‬الحارات الضيقة بين األبنية التي تخلو‬ ‫غالبيتها من اإلنارة مما يصعب على المرء أن يمّر خاللها خوفا من أ ّية واقعة ال‬ ‫تحمد عقباها‪ ...‬بقي يتأمل شارات المرور بهيئتها التي تعطيك األضواء الثالثة‬ ‫معلّمة إياك متى تتوقف‪ ,‬تستعد‪ ,‬ثم تسير‪ ...‬إن كان الوقت يعطيك ذات الشارة‬

‫‪96‬‬


‫الواضحة ما كنت رأيت أحدا يموت دون أن يعلم حتى يتهيأ و يودع من يحبونه‬ ‫قبال‪.‬‬ ‫ك ّل ما كان ينشده معها بعد حفل الزواج هو أسبوعان في جزيرة (فيجي) التي حلما‬ ‫دائما بارتيادها‪.‬‬ ‫بقيا معا ألكثر من ثالث سنوات حتى حازا برضى و مباركة األهل ارتباطهما‬ ‫أخيرا‪ ,‬عدا ذكر المنازعات الحاّدة التي ما كان لها سبب أصال لممانعة هذا‬ ‫الزواج‪ ...‬سوى أنهما ال يليقا ببعض ألن مصالح العائلتين فيها متضاربة! أي سبب‬ ‫تافه هذا‪.‬‬ ‫تنبّه عند المنعطف أ ّنهما وصال البيت‪ ..‬ساعده أخوه في جلوسه و أكمل وحده‬ ‫الدخول للمنزل‪ ..‬استقبله كبير الخدم‪ ,‬إال أنه رفض أن يكمل معه األخير إلى‬ ‫غرفته فتركه رئيس الخدم و قد شعر أنه في مزاج غير جيد‪ .‬ارتدى بيجامته‬ ‫الخمرية ذات النقشات البيج _ تلك التي أهدته إياها قبيل يوم الزفاف_ و رفع‬ ‫جسده بيديه كي يتمدد فوق السرير و قد حملقت عيناه مطوال في سقف الغرفة‬ ‫الواسع الذي طلب أن تلصق عليه صورتهما في يوم الزفاف ليتسنى له رؤيتها عند‬ ‫آخر لحظة يغلق فيها جفناه و عند أول نظرة في صحوه صباحا‪.‬‬

‫‪97‬‬


‫إذا جلت داخل غرفته ف ّجل ما تراه هو صورها في كل مكان‪ ,‬هدايا زواجهما التي‬ ‫رفض التخل ّي عنها بأي شكل كان‪ ,‬ثوب زفافها المعلّق على مانيكان جانب سريره‪,‬‬ ‫كل أشياءها حوله كيفا التفت‪.‬‬ ‫مضت سنة مذ فقدها‪ ,‬فقط بعد أربعة أيام من وصولهما (فيجي)‪ ,‬انتظرا ما يناهز‬ ‫الثالث سنوات حتى تتركه وحيدا بعد أيام فقط‪.‬‬ ‫أيقظته صباحا و هي ترتدي رداء نوم حريري بلون المرجان‪ ..‬ينساب فوقه‬ ‫شعرها الكستنائي حتى منتصف الظهر‪ ,‬كان ينعكس على لون عينيها الرماديتين‬ ‫ألوانا تجعل المتأمل فيها لكأنه ينظر إلى رائعة من روائع مايكل أنجلو داخل أروقة‬ ‫الفاتيكان الم ّ‬ ‫شعة‪ .‬أجبرته على اإلسراع في تناول الفطور حتى يلحقوا الركب ليروا‬ ‫أسواق الجزيرة الجميلة‪ .‬من فرط نشاطها كان يتابعها بإمعان كما يتابع مشاهدوا‬ ‫كرة التنس تحرك الكرة بين المضربين‪ ..‬و يبتسم عند كل حركة تقوم بها و هو ما‬ ‫يزال في جالسا في السرير يكمل إفطاره‪ ..‬فهي ما بين الخزانة تنتقي ثيابا تتناسب‬ ‫و السوق‪ ..‬و ما بين المرآة تتم تبّرجها ثم تعود ثانية للخزانة لتبحث عن شيء‬ ‫آخر‪ ..‬و تبقى تحدّثه بر ّقة و تترجاه أن ال يتأخرا عن الركب فهم ينتظرونهم في‬ ‫قاعة االستقبال لبدء المسير‪ .‬ج ّل ما تذكره فعال‪ ,‬أنه أنهى فطوره قبل أن ينتهي‪...‬‬ ‫وقام ليقف خلفها ينظر عبر المرآة آلية حركة يديها و هي تتم زينتها‪ ..‬فاقترب منها‬

‫‪98‬‬


‫و أحاط خصرها بكل قوة بين ذراعيه‪ ,‬ي ّ‬ ‫شم رائحتها الزكية بكل ما يملك من أنفاس‬ ‫الدنيا‪ ,‬ال يريدها أن تنفلت منه أبدا‪ ..‬أحسّت فعال بما يجول في خاطره‪ ,‬فاستكانت‬ ‫بين ذراعيه و قد شدّت على يديه أن يبقيا مكانهما أكبر وقت ممكن و قد بدأ بطبع‬ ‫القبالت على عنقها بحرارة ما شهدتها براكين العالم جميعها‪ ..‬إال أن رنين هاتف‬ ‫الغرفة أيقظهما مباغتا‪ ...‬فطلبت منه أن يرتدي أسرع ما يمكن و ستسبقه حتى‬ ‫قاعة استقبال الفندق‪.‬‬ ‫ركبا الحافلة المخصصة لهم و بدأت بتصوير كل ما يمّر أمامها و يلفت انتباهها‪,‬‬ ‫حتى وصلوا السوق‪ ..‬أمرهم قائد الرحلة و هو شخص من سكان (فيجي) أن ال‬ ‫يبتعدوا عن بعضهم و إن حصل ذالك فبطاقات الفندق معهم و أعلمهم أين سيجدون‬ ‫الحافلة و من أين يركبون سيارة أجرة للعودة‪ ..‬على أن ال يتأخروا بعد الساعة‬ ‫الخامسة مساء ألن في ذاك خطر كبير على حياتهم‪ ..‬فالسوق مكان مخيف‬ ‫للمرتزقة هنا بعد الساعة السادسة مساء‪.‬‬ ‫عندما بدءا المسير كانت الساعة قد قاربت عقاربها الحادية عشرة صباحا‪ ...‬لم‬ ‫يتركا بائعا وال بائعة إال توقفا عنده\عندها إما ليريا المعروض أو يشتريا شيئا مع‬ ‫التقاط الصور قربهم‪ .‬عندما نظر إلى ساعته كانت الخامسة إال ربعا‪ ...‬أخبرها أن‬ ‫عليهم العودة سريعا إلى الحافلة حتى يلحقوا الركب و يعودوا للعشاء في الفندق‪.‬‬

‫‪99‬‬


‫سلكا طريقهما بين المحال و بائعي الخضار حتى تراءت لهم الحافلة فصاح بأعلى‬ ‫صوته أنهما قد وصال‪ ..‬تنبّه قائد الرحلة لهما و لوّ ح بيده أنهم ينتظرونهما‪ .‬إال أنه‬ ‫عند اجتياز بعض الباعة المتجولّين ما كان من أحدهم إال أن أطاح بعربته تجاههما‬ ‫فوقع أرضا و أصيبت هي بالجزع و بدأت تصرخ طالبة المساعدة‪ ,‬فما كان من‬ ‫الرجل إال أن صرخ فيهما بلغة غير مفهومة يطلب شيئا‪ ..‬أخبرها أن تصل للحافة‬ ‫في الطرف اآلخر لكنها أبت تركه و اقتربت منه‪ ..‬عندما عاد للوقوف مجددا و قد‬ ‫التوى كاحله بشدة من أثر السقوط‪ ...‬نظر ناحية الرجل الذي مازال يرفع مسدسه‬ ‫أمامهما‪ ...‬كان قائد الرحلة قد وصل إلى مكان العراك و بدأ بالترجمة و أن الرجل‬ ‫يريد المال الذي يملكانه و بينما الجدال قائم‪ ...‬سمعت أصوات سيارات الشرطة‪...‬‬ ‫و سمع صوت أول طلقة‪ ...‬الثانية‪ ...‬ثم ران صمت عميق‪ .‬وجد نفسه يصحو في‬ ‫إحدى المستشفيات ليعود بعدها من شهر عسلهما وحيدا دونها‪ ,‬مقعدا دون حراك‪.‬‬ ‫هذه هي الحياة يا صديقي‪ ...‬ما خلقت إال‪ ...‬لتأخذ منك ما تعطيك‪.‬‬

‫‪111‬‬


‫ما ال نتخلّى عنه‬ ‫ال تندمل الجراح بسرعة‬ ‫تبدأ ذاكرتنا تأخذنا ألبعد مما نتصور‬ ‫تبين لنا ما لم نراه سابقا‬ ‫و نقول‪ :‬لن نعود لكل هذا ثانية‪ ..‬لن تزل قدمنا مجددا كمن سبقونا في وعورة هذا‬ ‫الزمن الذي ال يرحم‪.‬‬ ‫نكذب على أنفسنا أمام المرآة و نقول‪ :‬لست أنا‪.‬‬ ‫نفكر فيه مرارا و تكرارا بالالوعي ‪ ..‬منجرفين وراء تدفق الدم في أوردتنا و‬ ‫شراييننا بسرعة هائلة‪ ,‬تصبح مشاعرنا ّ‬ ‫أرق و أرهف‪ ...‬نت ّقبل األلم بكل أشكاله و‬ ‫نتعلم الصبر و نتجاوز أخطاءنا السابقة لنقع في زال ّت ما عرفناها قبال‪ .‬نخاف‬ ‫العودة للوحشة ولكربة الطريق وحدنا‪ ..‬يصبح العقل يفكر بكل ما هو غير موجود‬ ‫و ربما يكون‪ .‬نحاول االستعانة بمن ليسوا معنا في وسط ّ‬ ‫خط النار الذي يمتعنا‬ ‫صوت رصاصاته و نتلذذ بطعم إصابته لكل حاسة و كل شبر فينا‪.‬‬ ‫نأمل استمرارها للمستقبل السعيد‪ ...‬و ننسى لعبة القدر و عدمية صفاء األيام إلى‬ ‫مال نهايتها‪ .‬ربما‪ ...‬يظهر شيء قديم يعيد لهم الذاكرة فجأة فينسوننا في آخر‬ ‫الطريق للعودة إلى ماضيهم هم‪.‬‬

‫‪111‬‬


‫أتتحقق؟ عندما يريدها المرء و لو م ّرة واحدة؟ أم يجب أن نرى سخرية القدر أمام‬ ‫نجاحها مع من يحيطون بنا ليزداد ألمنا‪ ..‬و تحترق دموعنا داخلنا فيكون آخر ما‬ ‫تبقى من خفقة قلب قد فاجأتها طعنة مميتة لن تحيينا أبدا‪ .‬بل نقبل بكل ما يقدم لنا‬ ‫بعدها لننهي عذاباتنا كما تفعل النار لتنهي لهبها بأكل نفسها قبل أن تأكل ما يحيط‬ ‫بها‪.‬‬ ‫سيدي‪ ...‬لست سائلتك كغيري من بنات (حواء)‪ :‬لم ؟ فأنا شبه عليمة بك‪ ..‬لكنني‬ ‫أسألك‪ :‬أخلقت لتكون ( حواء ) فوضى لحياة رجل ما عرف الفوضى؟ أم نظاما‬ ‫لرجل ما عرف معناه يوما؟‬ ‫بكلتا الحالتين‪ :‬هي وجود يحتاجه‪ ...‬يؤثر و يغير فيه بطريقة أو بأخرى‪ .‬إنما‬ ‫طريقة هو يحتاجها بكافة أشكالها (سلبا كانت أم إيجابا)‪ .‬كيف هي داخل قاموسك‬ ‫الذي عشقت التبحر في متاهته‪ ..‬أهاب منطقه الملغم ‪ ..‬أقف عاجزة أمام مفرداته‬ ‫الحادة‪ ...‬خائفة مما تخفيه من معان جريئة ضمن السطور و الصفحات ال تخبرني‬ ‫بها (رغم إدعاءك الصراحة المطلقة و أن قولك حقيقة ال لغط فيها)‪ .‬أشعر بها‬ ‫رغم سجنك لها و بطلب غير صريح منك إلي بأال أح ّدث حتى نفسي التي بين‬ ‫جنبي بها‪.‬‬

‫‪112‬‬


‫أخبرني عزيزي‪ ..‬أهي العقارب المس ّيرة لوقت أو ساعة ما كانت أبدا‪ ..‬ستوجدها‬ ‫حواء؟ أم دواء لداء هي سبب ظهوره دون علمها و ستحاسب على انتشار عدواه‬ ‫يوما!‬ ‫أيتغاضى عنها (آدم ) إن أخطأت يوما أو كانا في محطة القدر دون علمهما ليكونا‬ ‫باتجاه ال يحملهما لناحية واحدة! فيتركها ساخطا لها‪ ...‬حاقدا عليها‪ ,‬منتقما بتعذيب‬ ‫أخرى هربا من ألم سابقتها؟‬ ‫سؤال لسؤال ‪ .....‬أ هذه إجابته؟ أم هو السؤال المستحيل الحل ‪ ...‬و انتهى كل‬ ‫شيء هنا كما بدأ‪ ...‬وهذه هي الحياة‪ ..‬فكفى!‬ ‫لم نتح ّمل أخطاء ارتكبها غيرنا‪ ..‬لنكون مجاال ي ّفرغ فيه الحقد السابق كلّه‪ ..‬أو‬ ‫حتى الحتمال سماع ر ّد لم نكن من ارتكبنا حمقه حقا‪ ..‬فقط لمجرّ د انتقام من‬ ‫الماضي نت ّحمل نتائجه مرارة كدواء العلقم مجبرين على تناوله بداعي أنه شفاءنا!‬ ‫أتعودنا الوحدة و العزلة رغم ضحكنا الظاهر لبكاء قلب ما برأ جراحا سببها‬ ‫طيشنا‪ ,‬اندفاع تهور الشباب فينا‪ ,‬اختيار خاطئ كنا سببه يوما دونما التفكير مليا‬ ‫بما سيجعلنا نؤول إليه‪.‬‬ ‫أالننا قد اعتدنا سقوطنا دوما في مادتي (الحياة و الحب) و العودة للطريق دون‬ ‫نزيف ظاهر أو صوت مذبوح مسموع على المأل‪ ..‬و انتهى‪.‬‬

‫‪113‬‬


‫أجبني دونما صمت‪ ...‬دونما إيماء‪ ..‬دون كلمات تحمل ألف معنى؟ كيف هي‬ ‫الحياة؟ ما هو الحب؟ من هو (آدم) و ما تكون له (حواء)؟‬

‫‪114‬‬


‫مجتمعنا واضح‬ ‫عندما تتوجه أنظار المجتمع ألنثى على أنها‪ :‬دون مشاعر‪ ,‬باردة القلب‪ ,‬أو أنها‬ ‫دون رجل يكمل معها دربها حتى اآلن‪ ....‬لكأن أصابع االتهام تنهش بها كما ذئاب‬ ‫الليل في يوم ثلجي قارص البرودة بأحد الجبال و قد اصطادت غنيمة ثمينة‪.‬‬ ‫أعليها االنتحاب ليل نهار حتى يتأكد من حولها أن ليلها كئيب ح ّد الموت؟ أم‬ ‫مالحقتها لكل رجل تستلطفه هو دليل أنوثة فيها؟ بل سيتهمونها بالمجون و‬ ‫األعمال الفاحشة حتى!‬ ‫متى سننتهي من متاهة الثرثرة و الهمز و اللمّز التي تحدوا بمجتمعنا نحو هوّ ة‬ ‫سحيقة ال قرارا بها‪ ...‬متى تنتهي عبارة‪( :‬ألنه ذكر يستطيع فعل ما شاء)!‬ ‫و ألن المطلقة _سببها عادات المجتمع البالية_ هي حرف ناقص بأعين الناس‪..‬‬ ‫علما أن سبب زواجها أنها وصلت ح ّد السادسة و العشرين أو يزيد و مازالت‬ ‫بكرا! فهي إما عاشقة ولهانة؟ و هذا حرام‪ ,‬أو ميولها الجنسية خاطئة! أو يجب‬ ‫أن تقبل بمن ارتضوه أهلها لها حتى تسكت كل من حولها بمن فيهم عائلتها و التي‬ ‫اعتقدتهم المذبوحة خطأ (ديمقراطيين)؟ و بعد عدد من األشهر تطلق المسكينة و‬ ‫دون ذنب منها‪ ...‬و لديها طفل أيضا!‪ ..‬أي عار جلبته السم عائلتها‪ ,‬تالم ألنها هي‬ ‫من قبلت أن تتزوج بل و هي من زوجّت نفسها!‬

‫‪115‬‬


‫مسألة قديمة ستقولون‪ ..‬و أنها تذكر منذ قرون! صحيح‪.‬‬ ‫من لم تجلس عائلته أمام التلفاز يستمعون لحديث شيخ جليل أو يجلسون في الكنيسة‬ ‫ليسمعوا موعظة قسّ عن أنبياءنا و كيف كانوا يرفعون من قدر نساءهم و‬ ‫يستوصون بهم كل الخير‪ ...‬لكن ما أن ت ّحل طامّة بهم ألجل أمر يخص زواج‬ ‫بناتهم أو عملهّن حتى يقولوا‪ :‬هكذا هو مجتمعنا‪ ..‬ال يصّح فعل ذاك ألنه ليس من‬ ‫العادات و التقاليد‪ ...‬ال تقوم بتلك حتى ال تتقوّ ل عليك األقاويل‪...‬‬ ‫رغم أنها ال تفعل ما يشين أبدا‪ ...‬صدقوني‪ ,‬عملها يتطلب منها االحتكاك مع كافة‬ ‫البشر أو مشروع عمل لها داخل الجامعة يتطلب عدد طالب و من ضمنهم ش ّبان‪,‬‬ ‫لكن ال تخرجي معهم فليس جميل أن يراك الناس تضحكين مع أحد؟ فقط ضمن‬ ‫الجامعة! أفهمت‪ ..‬ال تثق بأي رفيقة أبدا‪ ,‬من الجامعة ‪ /‬المدرسة إلى البيت‪ ..‬ال‬ ‫تح ّتك بمن حولك كثيرا‪ ....‬بينما أخوها على هواه يعيش!‬ ‫سؤالي هنا‪ :‬ما الفرق بين الجامعة التي تضّم أكثر من ستة آالف طالب و طالبة و‬ ‫بين السيتي مول الذي يضّم أقل العدد؟ و في كال المنطقتين ال يوجد خلوة بينهم و‬ ‫أمام خلق هللا كلهم يجلسون؟ أو ليسوا أهلنا من ربّونا؟ إذا‪ ...‬فهم ال يثقون في‬ ‫أنفسهم و بقيم تربيتهم لنا!‬

‫‪116‬‬


‫أي مجتمع ذاك الذي ي ّحرم أن تحب أرملة أو مطل ّقة أحدا غير متزوج؟ لكن أهله‬ ‫رافضون تماما ألنها ليست بكرا و ابنهم لم (ي ّقبل فمه سوى أمّه) فعليه بالبكر فقط‬ ‫و إن كانت تصغره ب ‪ 20‬أو ‪ 00‬سنة ال يهم! و ستبقى المسكينة بعقدة رهاب من‬ ‫أن تحبّ أحدا و أن ال تبوح بشيء مخافة ّ‬ ‫المذلة أو النظرة الشزر التي ستحظى بها‬ ‫من قبله ألنه سيعطيها ظهره أو يراها مطمعا لهواه‪ ...‬حتى من قبل مجتمعها كله‬ ‫ّ‬ ‫الحق باإلعجاب و المشاعر داخلها ليس حقا لها‪.‬‬ ‫فذاك‬ ‫إن خان الرجل‪ ...‬فذاك أن زوجته ال تشبع عينه و تنقص من واجباتها تجاهه‪ ...‬و‬ ‫إن تزوجت هي بعده‪ ..‬إما كانت عاشقة للجديد أو أن ال حّق لها سوى أن تبقى‬ ‫لتربية أوالدها بين أربعة جدران تحت رحمة األخ و الصهر و العم و الخال‪ ...‬و‬ ‫هلّم جرّة سيدي على ذاك‪ ...‬ليوروها التراب أخيرا بجانب أو حتى في قبر زوجها‬ ‫نفسه‪.‬‬ ‫شريعة الغاب أرحم من شريعة خلقها الناس و حادوا عن كل الكتب السماوية فيها‬ ‫ح ّد الهاوية‪ ...‬أصبحت حياتنا حول ما يجب أن يراه الناس ال ما يسعدنا‪ ...‬ما يراه‬ ‫اآلخر مناسبا لنا ال ما نريده نحن ألنفسنا‪ ...‬أن تتطبّع المرأة بصفات زوجها و إن‬ ‫كانت خاطئة كليا هو فرض عين‪...‬‬

‫‪117‬‬


‫لست ممن يقفن ض ّد الزواج التقليدي و ال ممن ّ‬ ‫يحق لهن تشريع الزواج بطرق‬ ‫أخرى ممن يحبوّ ن‪ ..‬لكن مهما كانت الوسيلة (ما يبدأ بالخطأ سينتهي ال محالة‬ ‫بخطأ أكبر)‪.‬‬

‫ما ال يفهمه أحد و تفهمه السيدة التي كتب نصيبها في السماء بأن تكون أرملة أو‬ ‫مطلقة و حتى عانس هو شيء مقدّر ال دخل لها فيه‪ ...‬و إن حلّت المصيبة بغيرها‬ ‫فتلك (يا حرام) أو (حوالينا وال علينا)‪.‬‬ ‫صدقوني مهما كانت األنثى تدعّي القوة ستبقى (الوردة وردة مهما عال شوكها‬ ‫لتخفى عبقها و جمال أوراقها) فهي بأمس الحاجة لمن يزيح شوكها ليعتني بها‬ ‫بحنان و دفء ينسيانها أ ّ‬ ‫شد عذاباتها‪ ..‬ليشرب من الندى المتساقط عن أوراقها‬ ‫صباحا ليعرف معنى القلب العذب الذي تحمله بين حناياها بعدما أرّق الليل البارد‬ ‫كل سهاد لها‪.‬‬ ‫الخوف من إظهار مشاعرنا و حساب ّ‬ ‫أدق تفاصيل حركاتنا يمحى عفويتنا و ما‬ ‫تبقى من براءة األطفال فينا‪ ..‬أن تبكي يا سيدي أنثى بين يديك فهي تعشقك و‬ ‫تراك مالكها الحارس‪ ...‬هي تحب العيش حتى آخر نفس فيها بجانبك و أنت تحيط‬

‫‪118‬‬


‫خصرها بيديك بقوة حتى تكون أنغام قلبك هي آخر ما تسمعه‪ ...‬و لو لم تكن‬ ‫الروح من أمر هللا ألهدتك إياها راضية‪.‬‬ ‫أن تنظر إليك بعينيها الخجلتين فهي ستنتظرك حتى آخر رمق لها‪ ..‬فأنت تاجها‬ ‫الذي جعلها ملكة شرعية في قلبك‪ ,‬كل ما تحتاجه منك‪ :‬كلمة طيبة‪ ,‬مودة‪ ,‬و أنها‬ ‫الهواء الذي تتنفسه أنت لتبقى تنبض بكامل معاني الحياة‪ .‬أخبرني يا موالي أين‬ ‫العيب في ذاك‪ ...‬أين األحجية الصعبة فيه!‬ ‫ّ‬ ‫يتشكالن من أصعب معادلة على وجه الكرة األرضية‪...‬‬ ‫حب‪ :‬هي كلمة من حرفان‬ ‫حتى الفالسفة و العباقرة عجزوا عن حلّها‪ ...‬رغم بساطة تعويض المجهول فيها‬ ‫لتصبح أجمل عشّ لطائر الشحرور‪ ,‬الكناري‪ ,‬و حتى البالبل‪.‬‬ ‫أن يمسح أحدهم دمعنا لمجرد أنه أحبنا على ّ‬ ‫عالتنا كما نحّبه‪ ...‬هي معضلة‬ ‫العولمة اآلن‪ ...‬أن تبوح أنثى مكسورة الجناح بمشاعرها هي ّ‬ ‫مذلّة أمام كل‬ ‫المجتمع الدولي‪ ...‬أن تعجب إحدانا برجل ما يعتبر خرق ألحد قوانين حقوق المرأة‬ ‫و المجتمع‪ ...‬و عليك بالتتمة داخل أخبار إحدى مجالت السيدات الهابطة و التي‬ ‫يقرأها حقا الرجل صاحب المجلة أوال‪.‬‬

‫‪119‬‬


‫أن تفصح المرأة عن غضبها من أوالدها و زوجها و كثرة الضغوط ممن حولها‬ ‫(جريمة ال تغتفر) أما أن يتملّص الرجل من مسؤولية البيت و يهجر أطفاله فهي‬ ‫(مسألة فيها نظر)‪.‬‬ ‫صراحة‪ ...‬أعتذر من الرجال الذين هم ما بين ‪ 0 – 7‬من األلف الذين يحترمون‬ ‫نساءهم بصدق و يعلمون حق هللا فيهن‪ ...‬و أحد أصدقائي منهم حقا‪ ...‬أعلم أنه‬ ‫سيستهزئ و يقول‪ :‬شكرا صديقتي العزيزة‪ ,‬رغم علمك بما قاسيت منكن أنتن‬ ‫النساء إال انك لم تبغضينا حقنا نحن األقل من األقلية حتى‪ ..‬فأي نيشان سأضعه في‬ ‫مكتبتي اآلن‪ ...‬و يا له من فخر‪.‬‬ ‫أن نحب و نهوى هو عيب زمان بات المال و الشهوة أهم عناصره و ليس عيبا‬ ‫فينا!‪ ...‬تحديد مصائرنا بيد مجتمع يرزح تحت عادات جاهلية ما كانت على زمن‬ ‫أنبياءنا‪ ...‬هي التشريع بين أيدي أكبر قضاتنا‪.‬‬ ‫أحب‪ ...‬بأعلى الصوت أقولها و ليكن ما يكون‪ ..‬سأتصرف على سجيتي و بطيش‬ ‫شبه مدروس و محبب ألجله‪ ..‬ألني أراه رجال في نظري‪ ..‬و ألنه جعلني أشعر‬ ‫بذلك‪ ..‬و إن تطلب األمر كل مجهود حتى أجعله يبقى ألجلي‪.‬‬ ‫ما من عيب في قلوبنا و بصائرنا‪ ...‬العيب بمجتمعنا الواضح كما الطريق الوعر‬ ‫يغطيه ضباب ما شهدته إنكلترا قبال عبر التاريخ‪ ...‬فتعلمّي سيدتي كيفية اصطياد‬

‫‪111‬‬


‫الرجل باحترام فتكسبين رضاه‪ .‬و إن أحببت أو لم تحبّ سيبقى مجتمعنا في سيرتك‬ ‫و ت ّقول األقاويل عليك في نهاية المطاف‪.‬‬ ‫كوني أنت كما يجب أن تكوني‪ ..‬بعقل و قلب شغوفين يحبّان الحياة بحلوها و مرّها‬ ‫و كفى‪ .‬و على جميع البشر من حولك السالم‪.‬‬ ‫‪06-28-2010‬‬

‫‪111‬‬


‫معنى الوحدة و االنتظار‬ ‫اعتدت في كل مساء المجيء مع أمي بعد انتهاء عملها إلى هنا‪ ,‬تشتري لي كيسا‬ ‫من الفشار و أكرر عليها‪ :‬ماما بالون برتقالي‪ ..‬أرجوك ماما و أمسك بتالبيب‬ ‫تنورتها و أشدّها بقوة حتى تستكين لي‪.‬‬ ‫أحببت عند دخولي للعب أن أبدأ الزحلقة‪ ,‬ال أم ّل الصعود على درجها الحديدّي ذي‬ ‫الطالء المكشوط مرارا و تكرارا ألشعر بعدها بهول سقوطي من على سطحها‬ ‫األملس ما يجعل قلبي يهبط بفرحة عارمة و ضحكة كانت أميّ تهواها من طفلها‬ ‫ذي األعوام الستة لتر ّد عليّ بعينيها التعبتين من آثار دوام عملها الطويل‪.‬‬ ‫في معظم األحيان كانت أمي تبقى جالسة على المقعد تشاهدني و أنا ألعب لم تكن‬ ‫تلعب معي‪ ..‬فهي تقول لي‪ :‬أنني مرهقة من العمل اذهب و العب أنت فأنا أراقبك‪.‬‬ ‫نادرا ما يكون هناك أطفال أللعب معهم في ذاك الوقت من المساء‪ ...‬لم تكن مشكلة‬ ‫من أن ألعب وحدي فقد اعتدت ذلك و ألنني الوحيد عند والديّ ‪.‬‬ ‫كانا يخافان علّي فال تسمح أميّ أن أقترب من أوالد الجيران كثيرا فمعظمهم‬ ‫يكبرونني بسنوات عدّة‪ ...‬لذا أصبح اللعب مع ذاتي شيئا شائعا عندي‪ ,‬حتى لكأن‬ ‫ظلّي بقي صديقي المفضّل لفترة ما‪ ,‬و لم أعد أراه أبدا بعد ذاك اليوم أبدا‪.‬‬

‫‪112‬‬


‫كانت عيونها تشاهدني بحذر و خوف‪ ,‬تبقى تنبّهني دائما و تقول‪( :‬جود) ال تتسلق‬ ‫الشجرة‪( ,‬جود) ال تتأرجح بقوة‪ ,‬ال تركض بين األرجوحات‪..‬ال ال ال ال ال‪ ..‬كانت‬ ‫تهددني دائما بحرماني المجيء مرة أخرى إلى الحديقة إن لم أطع أوامرها‪ .‬بعض‬ ‫األحيان أكون منزعجا جدا منها‪ ..‬فأخبرها أ ّني كبير و أعلم كيف ألعب!‬ ‫أحببت الرسم على الرمل ألشكال مختلفة أو أحرف تعلم ّتها في المدرسة مع‬ ‫معلمتي التي علمّتني كيف أحبّ المدرسة في أول يوم لي فيها بعد إحساسي الغريب‬ ‫أ ّني انسلخت عن بيتي و ابتعدت عنه حتى وصلت الصفّ و قابلت معلّمتي (غنوه)‬ ‫اللطيفة ذات الصوت الهادئ‪ ..‬كم اشترت لي من األكالت اللذيذة حتى ّ‬ ‫بت ال أنقطع‬ ‫عن المدرسة أبدا‪ ..‬كم أشتاق لرؤيتها مجددا مضت أيام طويلة مذ آخر مرة كانت‬ ‫في الصف تجعلنا نلّون على دفاتر الرسم وترى مهارتنا‪ ,‬ما زلت أذكر إطراءها‬ ‫على لوحتي التي عدّت بها للمنزل و علق ّتها أمي على الحائط قرب سريري‪ ..‬حتى‬ ‫أن أبي أعجب بها حقا و أخبرني أنه يريد واحدة لمكتبه‪ .‬نمت وقتها و أنا سعيد و‬ ‫مشتاق للصباح حتى اذهب المدرسة في اليوم التالي‪.‬‬ ‫من بضعة أيام و نحن في الحديقة مع أمي و أبي كما جرت العادة أن أتزحلق أوال‬ ‫ثم أصعد األرجوحة ألستمتع عند دفعها عاليا بنسمات عليلة ترتطم بوجهي ما‬ ‫يطربني فرحا و أضحك ملئ قلبي استمتاعا بذاك الشعور الحالم من النشوة‪ ...‬فجأة‬

‫‪113‬‬


‫توقفت عن األرجحة و ركضت حتى ساحة الرمل ألرسم من مخيلتي الصغيرة‬ ‫التي ترى األحالم شيئا حقيقيا و ت ّخط يديّ خرابيش مختلفة و أحرف متك ّسرة‬ ‫تعلّمتها حديثا‪.‬‬ ‫كنت أتمنى من والدتي اللعب معي على الرمل‪ ...‬إال أنها تمتنع دائما‪ ,‬حتى أبي‬ ‫يجلس جوارها يقرأ فيما يسمّيه الكبار (الجريدة) وال أعلم ما هي سوى أني أرى‬ ‫صفحات بيضاء مخطوط عليها باللون األسود‪.‬‬ ‫ينظر إليّ بطرفه مبتسما و يخبرني أنه و أمي متعبان من العمل‪ ,‬فاذهب و العب‬ ‫مع ذاك الطفل أو تلك الصغيرة الجميلة‪ ...‬ال تهتم بنا‪ ...‬عليك اللعب حتى تكبر‪,‬‬ ‫هيا يا صغيري‪ ,‬أم أنك تعبت و تريد العودة للمنزل؟‬ ‫كنت عندما أسمع كلمة المنزل‪ ,‬أ ّفر هاربا لأللعاب مجددا خوفا من انتهاء أجمل‬ ‫حلم لي عند كل مساء‪ .‬ذاك اليوم بعد أن تزحلقت و تأرجحت و خربشت على رمل‬ ‫الحديقة ال أعلم لم انتقلت بعدها على القرص الدوّ ار‪ ,‬يبدو أ ّني أطلت اللعب عليه‬ ‫فقد انتابني دوار لم أحسب له باال‪ ..‬كوني صغير و أردت اللعب فقط‪ ...‬علما أن‬ ‫أبي وبخني مرة ألني ركبته و تقيأت عليه‪ ..‬فنهرني من العودة لتلك اللعبة المؤذية‬ ‫ثانية‪ .‬لكن في ذاك اليوم بعده مباشرة تسلّقت القوس الحديدي الصغير الحجم ذو‬ ‫الطالء األصفر المهترئ‪ ...‬ما جعلني أخرج بشقوتي بأن أعلّق قدمي بين درجتين‬

‫‪114‬‬


‫فيه و أقلب رأسي لألسفل و ّ‬ ‫بت أصرخ لوالديّ فينظران البنهما البطل المقدام كما‬ ‫في أفالم الكرتون التي اعتدت مشاهدتها‪.‬‬ ‫ال أعلم ما حصل تماما‪ ,‬سوى أن إحدى ساقيّ تعبت من حملي فتفلّتت من بين‬ ‫الدرجتين‪ ...‬و سقطت على رأسي مباشرة‪.‬‬ ‫ما شعرت به هو شيء دافئ تماما تحت رأسي و إذ بأبي يصرخ طالبا اإلسعاف‪..‬‬ ‫صوت أزرار جوال أبي الذي يتحدث مع أحد ما بعصبية متناهية و أمي تبكي‬ ‫بجانبي و تطلب المساعدة‪ ....‬لم أسمع بعدها شيء أبدا كنت في ظلمة حالكة‪...‬‬ ‫حتى أ ّني حاولت أن أنادي على أمي لتنير لي الضوء داخل غرفتي‪ ...‬كنت أخاف‬ ‫من وحش النوم أن يأتي و يأكلني أو يسحبني بعيدا من حضن أمي و ح ّنو أبي‪...‬‬ ‫أو لعلني ال أرى معلمتي (غنوه) مجددا!‬ ‫عندما صحوت‪ ...‬وجدت نفسي في الحديقة وحيدا‪ ,‬كالفراشة الوحيدة قرب ضوء‬ ‫الحديقة تحوم وحدها دون أبويها أو رفيقات تلعبن معها‪ ..‬لم أجد أمي أو أبي‪ ,‬وال‬ ‫أطفال في ذاك الوقت من المساء‪ .‬فأنا أصحو دائما في ذات المكان و بنفس الوقت‪.‬‬ ‫الجوّ لطيف و بدأ الشجر يتعّرى من ثيابه الخضراء‪ ..‬لعبت األرجوحة و تزحلقت‬ ‫حتى مللت الصعود و الهبوط‪ ,‬رسمت على الرمل‪ ...‬لكني لم أصعد على القوس‬ ‫الحديدّي مرة أخرى خوفا من السقوط مجددا‪ ,‬فما زال رأسي يؤلمني حتى اليوم‪,‬‬

‫‪115‬‬


‫خفت إن رأتني أمي أن تنهرني و تغضب علي‪ .‬مللت الوحدة ‪...‬تعودت الكتابة‬ ‫على الشجرة العريضة الموجودة في الحديقة‪ ,‬مذ أصبحت وحيدا‪ ,‬ألعود فأجلس‬ ‫على الكرسي أنتظر انتهاء أمي من عملها لتصحبني إلى المنزل‪ ...‬إال أنها لم تعد‬ ‫تأتي‪ ...‬و لم أرى أبي أبدا مذ ذاك اليوم‪ .‬كم مضى من األيام التي تحسبونها أنتم‬ ‫الكبار ال أعلم‪ ...‬إال أنه في يوم ما كانت هناك فتاة صغيرة جميلة‪ ,‬سمعت أبوها‬ ‫يناديها (كنانة) وجدت نفسي أركض إليها أطلب منها اللعب معي‪ ...‬ناديتها فلم‬ ‫تجبني! عاودت مناشدتها اللعب معي فقد مللت الوحدة القاتلة حتى ظلّي لم يكن‬ ‫يظهر لي‪ ...‬عندما لم تعرني (كنانة) انتباهها ركضت نحوها أريد أن أمسك يدها و‬ ‫أشدّها ناحيتي للعب معي‪ ...‬إذ بيدها تتفلت منيّ دون أن أدركها‪ ...‬أجهشت‬ ‫بالبكاء‪ ...‬شعرت بخوف كبير دون أمي و أبي‪ .‬بقيت أبكي و أصرخ أني أريد‬ ‫أمي‪ ...‬أريد الذهاب للبيت‪ ,‬دون أذن تصغي إلي أو أحد يتل ّفت نحوي‪ ...‬بدأت‬ ‫األمطار حولي تكثر و الهواء يشت ّد على أشجار الحديقة و تصطك األغصان شبه‬ ‫العارية‪ ,‬لم أبت ّل‪ ..‬لم أشعر حتى بقطرة المطر‪ ,‬رغم أنني أذكر أول شعور لي‬ ‫بارتطام حباتها على رأسي و وجنتيّ و كم كان أبي خائفا من أن أتبلل و أمرض‪..‬‬ ‫لكنه كان فرحة عارمة لي أن تالمس حبات المطر وجهي و أفتح فمي فأرتوي‬ ‫منها قدر ما أشاء‪ ..‬أما اآلن فأنا ال أشعر بها أبدا‪.‬‬

‫‪116‬‬


‫الت ّفت و إذ بوالد (كنانة) يحملها و يركض بها خارج الحديقة و يضعها في السيارة‬ ‫و هي ترفض مغادرة الحديقة‪.‬‬ ‫نظرت حولي‪ ...‬بكل االتجاهات‪ ,‬ال أحد! أصرخ و أبكي و أنتحب‪ ..‬لكن ما من‬ ‫أحد يسمع!‬ ‫بعد أن أنهكتني الدموع الحارقة‪ ...‬أصبحت جفوني تطبق على بعضها‪ ,‬توجهت‬ ‫نحو الكرسي الذي اعتاد أبي و أمي الجلوس عليه‪ ,‬جلست عليه أنتظر ع ّل أمي‬ ‫تأتي اآلن فتراني من خارج سور الحديقة فتدخل متله ّفة لحملي بين يديها الحانيتين‬ ‫تعيدني لسريري في المنزل و تحكي لي حكاية قبل النوم و هي تداعب شعري‬ ‫حتى أنام‪.‬‬ ‫بين االنتظار و الوحدة و الخوف‪ ..‬غلبني النوم‪ ,‬على الكرسي ذاته أطبقت‬ ‫جفوني‪ ...‬كم من الوقت نمت؟ ال أعلم‪ .‬سمعت بكاء بالقرب مني تماما على ذات‬ ‫الكرسي الذي كنت ممدا عليه‪ ...‬عندما رفعت بصري‪ ...‬إنها أمي! تبكي بحرقة‬ ‫وهي تنظر إلى األلعاب الصارخة بالوحدة‪ ...‬المجرّ دة من كل حياة يمكن أن تدّب‬ ‫فيها في المساء المتأخر‪ ,‬صرخت من فرحتي‪( :‬ماما) حبيبتي‪ ..‬لم تأخرت عليّ ‪..‬‬ ‫كنت خائفا وحدي يا (ماما)‪ ..‬أرجوك أعيديني إلى البيت‪ ...‬خائف أنا يا (ماما)‬ ‫أرجوك‪ .‬عندما اقتربت منها محاوال مسك يدها‪ ..‬إذ بيدها تم ّر خالل يديّ‬

‫‪117‬‬


‫ّ‬ ‫همت بالرحيل وحدها‪ ...‬لم‬ ‫الصغيرتين لصبي الست سنوات‪ ...‬نظرت إليها و قد‬ ‫تسمعني إذا؟ بدأت الصراخ‪ :‬أمي‪ ...‬ماما‪ ...‬ال تتركيني‪ ,‬أرجوك‪ ...‬خائف وحدي‬ ‫هنا‪ ...‬أحبك ماما‪ ,‬اشتقت لصرامتك معي‪ ...‬لقبالتك لي قبيل النوم‪ ...‬اشتقت حضن‬ ‫أبي و حمله إياي بين يديه الكبيرتين الدافئتين‪.‬‬ ‫لم تكن تسمعني أبدا‪ ,‬نزلت من على الكرسي أتبعها حتى حال باب الحديقة بيني و‬ ‫بين خروجي وراء أمي أمسك بيدها الدافئة التي لم أعد أشعر بها بعد ذاك اليوم‬ ‫أبدا‪.‬‬ ‫لم أعد أبكي بعدها‪ ..‬فقد اعتدت أن أكون وحيدا‪ ...‬بال أمل‪ ...‬دون حنان‪ ...‬بدموع‬ ‫و بكاء ال يسمعه أحد غيري‪.‬‬ ‫‪01-15-2010‬‬

‫‪118‬‬


‫من نحن؟‬ ‫كانت تجالسه‪ ,‬نهارها و ليلها‪ ..‬أم ّر جانبها دوما دون أن تلتفت إلى شخص معين‬ ‫من المارّين أمامها‪ .‬جذبت انتباهي من قرابة الشهر‪ ,‬ظننته سيأتي‪ ...‬ثم اليوم‬ ‫التالي‪ ..‬الذي يليه‪ ...‬دونما أحد‪ .‬لكنها ما زالت تجالسه‪.‬‬ ‫تجرأت مرّة من خلف زجاج نافذتي و سمحت لنفسي بتصويرها‪ ..‬صورة‪ ,‬ثم‬ ‫أخرى‪ ,‬و تتالت علّي األمور‪ ..‬حتى باتت هاجسي بأن ألتقط لها صورا‪ ...‬أردت‬ ‫البحث فيها‪ ...‬عما فيها‪ ..‬ما لديها‪ ...‬إلى أين تترقب‪ ..‬و كيف تنظر لم حولها‪....‬‬ ‫ّ‬ ‫التقطت صورة الفتاة الصغيرة في الشارع و التي نلت بسببها جائزة‬ ‫كنت قد‬ ‫عالمية! صحيح‪ ...‬هذا هو عملي‪ ,‬أن ألتقط صور بشرية‪ ,‬ألشخاص عميّت‬ ‫بصائرنا التي في الصدور عن رؤيتهم النهماكنا الشديد بمدنية فانية و أحداث‬ ‫العصر المتسارعة‪ ,‬المتتابعة‪ ,‬و المتصارعة المزعجة‪ ..‬ما عدنا نرى ما يحوم‬ ‫بيننا من بشر و أناس رغم قربهم م ّنا‪ ,‬فهم‪ ....‬منسيّون تماما مبعدون من إطارا‬ ‫لوحتنا للنظر‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫بت على حالي هذا قرابة الشهر إال أيام معدودات‪ ..‬صراحة‪ ..‬كنت أحسبها‬ ‫عمياء‪ ...‬فقد مررت أمامها أتظاهر أنني أصوّ ر بعض الورود من الحديقة و‬ ‫الفراشات المتطايرة حتى ألتقط لها صور قريبة‪ ...‬ما أبدت حركة أو سوء مني‪,‬‬

‫‪119‬‬


‫لوال أن صبيا صغيرا ال يتجاوز الخمس سنوات م ّر من خلفي و سمعته يصيح‬ ‫بفرح‪ :‬صباح الخير يا عمّة‪ .‬فابتسمت و أومأت برأسها‪ ..‬و بصوت مرتعش‪,‬‬ ‫لطيف‪ :‬صباح الخير ميركو جميلة هي ثيابك الجديدة‪ ,‬تليق بك حقا‪.‬‬ ‫ج ّل ما فعلته‪ ,‬هو أنني بقيت واقفة كأعجاز النخل الخاوية دونما حراك‪ ,‬فإذا بنسمة‬ ‫هواء ناعمة أحسست معها بحرارة بدأت تنساب على وجنتي‪ .‬ما كان مني سوى أن‬ ‫عدّت أدراجي محاولة تذ ّكر نظرتها عند رؤية الصبي‪ ...‬كيف غافلتها لؤلؤة من‬ ‫ّ‬ ‫خطت سنون حياتها عليهما ما يد ّل‬ ‫إحدى مقلتيها‪ ,‬و مازالت ابتسامتها تالزم شفتين‬ ‫على عمر يقارب السبعين يزيد أو ينقص‪ .‬نظرة إن أردت تسميتها أو وصفها فلن‬ ‫أوفيها ّ‬ ‫حق أنثى وال حتى امرأة تعلّمت لغة الصمت مبكرّة عن قريناتها عند عجز‬ ‫األحرف عن الوصف‪.‬‬ ‫عند دخولي سكني‪ ,‬كنت أتخبط في ذاتي كما لم أكن قبال‪ ,‬نظرت إلى المرآة‬ ‫مرارا‪ ..‬دونما نتيجة‪ ,‬لذا قررت أن أخرج الصور من رحمها األسود إلى نور‬ ‫الحياة‪ ,‬لم أتع ّجل ذاك األمر قبال‪ ...‬هي المرّة األولى التي أجهض رحم آلة‬ ‫تصويري قبل أوانها رغم أنها تتحمل كثيرا من الصور بعد‪ ...‬المرّة األولى التيٍ‬ ‫أعي فيها معنى المخاض المبكر!‬

‫‪121‬‬


‫شيء ما جعلني أدور البيت دونما هدوء أو سكينة‪ ...‬متمنيّة أن تجفّ المعل ّقات‬ ‫داخل غرفة المخاض الحمراء اللون ذي الرائحة الن ّفاذة لألنوف من جرّ اء المواد‬ ‫المستخدمة في التحميض قبل أن تبلغها أرضة ال علم لي بمنشأها و جديّة وجودها‬ ‫سوى في النفس البشرية التي جبلت على العجل‪ .‬كان عليّ انتظارها حتى اليوم‬ ‫التالي‪ .‬ما أطبق جف ّني لحظة‪ ,‬و ما استق ّر جسدي فوق الفراش هنيهة‪ ...‬شيء ما‬ ‫استرعى اهتمامي كي أنظر إلى منزلها علّي ألحظها في مكانها مجالسة له‪ ,‬على‬ ‫ذات الكرسي‪ ...‬الخشبي اللون‪ ,‬العتيق الطراز لكنه ي ّنم عن ذوق جميل و ّ‬ ‫مهذب‪.‬‬ ‫كلمّا رأيتها كانت ثغرها يهمهم بشكل دائم‪ ,‬لم أرى بيدها كتاب أو سبحة‪ ,‬و ال‬ ‫سمعت صوت مذياع أو رائي علّها تردد بعده‪ ...‬ربما هي ترانيم تحفظها من زمنها‬ ‫عن ظهر قلب تخطر على بالها فجأة‪ ...‬لكن لم أسمع لها نوتة و لو شاذة تخرج من‬ ‫بين شفتيها‪ .‬عساها مصابة بإحدى األمراض العصبية التي يصاب بها كبار السن‪.‬‬ ‫توجهت نحو المرآة‪ ,‬أردّت رؤية نفسي‪ ..‬ج ّل ما ظهر أمامي هو نصف وجهي من‬ ‫خالل الضوء المنسّل من انعكاس القمر في تلك الليلة عبر شرفتي‪ .‬وقفت طويال‬ ‫أنظر نفسي‪ ...‬بدأت أتحدث مع ذاتي المنعكسة في المرآة مطوال‪ ,‬محاولة فهم سرّ‬ ‫ذاك االهتمام بسيدة عجوز ربما هي خرفه تماما! ما الشيء الذي استرعى اهتمامي‬ ‫بها! رغم وجود سيدات مثلها‪ .‬إن أردت‪ ...‬استقبلتني أرقى دور العجزة التي تمتلئ‬

‫‪121‬‬


‫بها النمسا إذ أنها ستصبح ذات أهمّية ألن ّني سأجعل دورها تظهر بأشهر المجالت‬ ‫المحلّية و العالمية و ستستقبل الهبات من كل حدب و صوب‪ ...‬إنما في حالتي مع‬ ‫تلك السيدة‪ ...‬المجهولة‪ ...‬كنت كمن ترى مستقبلها عبر بلّورة السحرة و تقرأ بكل‬ ‫ث ّقة و وضوح أوراق التاروت المخيفة‪.‬‬ ‫جلت بمخيلتي و أنا أبتدع كافة المواقف التي من الممكن مساعدتي على أن أبتدئ‬ ‫معها حديث يجعلني أتقرّب منها‪ ...‬عساني أجد مكمن الحيرة التي جعلت فيه النوم‬ ‫يتخلّى عني‪ ,‬ثم! من ذا الذي تنتظره مجالسة شرفتها ال تخالفها إال قليال و بخطوات‬ ‫ضعيفة جدا‪.‬‬ ‫ما أن المست غرفتي أول أشعة الدفء حتى ّ‬ ‫بت أتراكض نحو الغرفة الحمراء‬ ‫الملغومة كطفل صغير في صباح الميالد يسعى نحو شجرة الربّ عساه يجد ما‬ ‫تمنى‪ ...‬إنما الفرق بينه و بيني؟ أنه يعلم مسبقا ما سيجد‪ ,‬بينما ال أعلم حقا ما‬ ‫سأرى عند تلك الشجرة السحرية الغريبة التي أتتني من بالد العجائب‪.‬‬ ‫بدأت أجمع كل ما ت ّم تعليقه على ذاك السلك الرفيع الشبيه بالحافة ما بين الجحيم و‬ ‫النعيم‪ ,‬الماضي و المستقبل‪ ,‬الحقيقة و الخيال‪ .....‬عدت مسرعة حتى غرفة‬ ‫الجلوس و جلست متربّعة على األرض _نسيت الشعور بالبرد في أكتوبر من ذاك‬

‫‪122‬‬


‫الوقت_ و جلست أصّف لوحات ال علم لي بكنهها أو كيفية تسييرها لي نحو بحر‬ ‫لجّ ي لم أحسب أن خوض غماره سيكون مؤلما ح ّد الذبح من الوريد حتى الوداجي‪.‬‬ ‫بسمة ال تفارق ثغرا م ّل الكالم و صفصفة األحرف المتملّقة لبشر نسوا نعمة‬ ‫اإلصغاء و التي بها تحيى القلوب الضامرة فينا‪ ,‬عينان عسليتان أصفى من شهد‬ ‫جبال األلب فيهما براءة طفل لم نعد نشهدها في معظم أطفال اليوم اللذين تفتحّت‬ ‫براعمهم على أشواك القنوات الفضائية و الرائي الم ّ‬ ‫شوه لعقولهم‪ ...‬بضع خصالت‬ ‫من شعرها الفضّي اللون و التي برزت من تحت غطاء رأس مجركش بألوان‬ ‫ترابية صافية تناسب بشرتها القمحية اللون تد ّل على ع ّزة نفس المرأة تحملّت من‬ ‫مشاهد حياتها ما يشيب له الولدان‪ ...‬دافئة‪ ,‬حنونة‪ ,‬لديها إيمان و ثقة ندر وجودهما‬ ‫بين البشر في عصر التكنولوجيا و السرعة و حب المال و اللهاث خلف دنيا لن‬ ‫تعطينا ما نتمناه أبدا‪ ...‬أبدا‪.‬‬ ‫بعد أكثر من ساعتين جلوسا على األرض و بعد أن أحسست فجأة بألم حاد في‬ ‫ظهري‪ ...‬حاولت الوقوف متوجهة نحو النافذة‪ ,‬أناظر شرفتها التي ما مل ّتها مذ‬ ‫عرفتها و انتبهت حينها لوجودها كجارة لي‪ ...‬مضى وقت لم أعلمه بوقوفي‪...‬‬ ‫فجأة شعرت بنفسي‪ ...‬بشعور مرعب حقا‪ ...‬مخيف ح ّد أن قلبي بات يتوقف عن‬ ‫ض ّخه لألبهر‪ ,‬عدّت أنظر للصّور المصفوفة فوق بالط المنزل‪ ...‬اقتربت منها‬

‫‪123‬‬


‫الهوينة‪ ...‬خطوة‪ ...‬تلتها أختها‪ ...‬لم أدرك إال و أنا أنظر لمصفوفة عجيبة إن أراد‬ ‫فيثاغورث أو أرخميدس حلّها ما توصال ّ لمثل تراتبيّتها‪ ...‬ركضت الهثة نحو آلة‬ ‫ّ‬ ‫التقطت صورا لتلك المصفوفة العجيبة‪ ...‬سيدة مس ّنة بكل حركة و‬ ‫التصوير و‬ ‫سكنة‪ ...‬لكل نظرة و ر ّفة جفن‪ ...‬لمقلة تغافل صاحبتها ببضع قطرات من الرحمة‬ ‫اإللهية التي تجد طريقها عبر تجاعيد وجه نسي معنى الثغر‪ ,‬اللمسة الحنون من يد‬ ‫زوج‪ ,‬ولد‪ ,‬وحتى ابنة‪.‬‬ ‫جلست على األريكة أضم ركبتيّ بين يدي‪ ,‬أحدّق بلوحة تمنيت لو أن دانتي أو‬ ‫أنجلو كانا موجدان ليبديا رأيهما بها‪ّ ,‬‬ ‫بت أهذي‪ :‬لو أن شكسبير و حتى غارسيّا‪...‬‬ ‫كيف سيعبّران عن ذاك المشهد! بأي جملة‪ ,‬كلمة‪ ,‬أو عبارة سيصفون زمنا باتت‬ ‫دور العجزة فيه ّ‬ ‫أرق و أحّن على وحدة عجائز من يد ابن ‪ /‬ابنة ملّى هرم والدهم ‪/‬‬ ‫والدتهم‪ ,‬فكان األيسر و األسهل للتملّص من مسؤوليّة ر ّد جميل بسيط بإرسال‬ ‫بطاقة في العيد‪ ...‬زيارة في المناسبات‪ ...‬هي الواجب و الوسيلة لكسب الرضى و‬ ‫الو ّد دون حمل عبء ما تملّص األب و األم منه يوما‪.‬‬ ‫بقيت شاردة بما رسم على أرض الغرفة من صور و قلبي يخفق على غير هدى‬ ‫بما ال أستطيع تفسيره‪ ...‬ساعتان‪ ...‬نصف النهار انقضى‪ ,‬و رنين الهاتف لم‬

‫‪124‬‬


‫يتوقف حتى أن الرسائل الصوتية لم يعد لها مكان إضافي في الذاكرة‪ ...‬لم أكن‬ ‫عابئة بكل ما حولي‪ ...‬غائبة عن الشعور بالزمان و المكان‪...‬‬ ‫تك‪ ...‬تكك‪ ...‬تك تتك‪ ...‬نظرت دون أن أعي إلى ما تراه عيناي‪ ,‬بشرود بالغ‪...‬‬ ‫جوّ رمادي‪ ...‬ماء يرتطم بكل ما يصادفه و هو يتساقط من عيون السماء‪ ...‬نظرت‬ ‫نحو الحائط فإذا ساعته تخبرني أن الوقت قد حان لخروجي من زوبعة الالوعي‪.‬‬ ‫ثالث ساعات واقفة فيها على قدميّ أدندن ألحانا مختلفة بسرور و خوف‬ ‫يتملّكني‪ ...‬إال أنني آثرت المجازفة بما أوحاه لي عقلي و وافقه عليه قلبي‪ ,‬ارتديت‬ ‫فستانا بلون النبيذ األحمر و حذاء مخمليا أسود اللون و حملت معي ما استغرق‬ ‫ثالث ساعات من وقتي‪ ...‬كان رذاذ المطر الخفيف منعشا‪ ...‬قطعت الشارع و يدي‬ ‫ال تكادان تحمال ما فيهما رغم خ ّفة وزنه‪ ,‬يخفق الفؤاد لسبب ال أجهله‪ ...‬الخوف‬ ‫يتملكني و أصابع يديّ تتجمدان‪ ...‬و بدأ الخدر يتسلل ألطرافي‪ ...‬وقفت أناظر‬ ‫الخشب أمامي‪ ,‬هل أنقر نقرا؟ أم أضغط جرس الباب أفضل؟ كنت كمن يذهب‬ ‫لمقابلة تحدد مصير حياته بكاملها‪ ,‬كيوم الحساب بين يدي الربّ و لم يبق لدي‬ ‫سوى قطع الصراط المخيف حتى أنجو‪ ...‬فهل! بقي قلبي متوجسا من مجهول‪.‬‬ ‫تعدّت التاسعة مساء‪ ...‬أخذت نفسا عميقا‪ ,‬جمعت ما بقي فيّ من شجاعة فقرعت‬

‫‪125‬‬


‫الباب بيدي‪ ..‬خوفا من أن أزعجها إن كان وقت نومها أل ّني لم أرها تجالس نافذتها‬ ‫اليوم‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ضغط الجرس‪ ...‬ال أعلم لم انتابني خوف‬ ‫عدّت للقرع ثانية‪ ,‬بعد برهة تجرأت و‬ ‫أن يكون سوء قد مسّها أو أن فضولي أدى بي للتد ّخل بحياة سيدة ما أرادت‬ ‫مجهوال أن يعبر ذاك الجسر إليها‪ ...‬يا لتفاهتي حقا‪ .‬بعد برهة أدرت ظهري و‬ ‫نزلت الدرجات عائدة إلى منزلي‪ ,‬نظرت مرّة أخيرة إلى الخلف‪ ...‬نحو باب‬ ‫منزلها‪ ...‬علّي أرى نورا منبعثا يد ّل أنها استجابت للطرق‪ ...‬فما كان من قدميّ إال‬ ‫أن قادتاني مجددا نحو درجات السلم المهترئة ألجلس على إحداها و قد وضعت‬ ‫الطبق الذي كنت أحمله جانبي‪ .‬بدأت أنظر حولي‪ ...‬أمعن النظر و أرهف السمع‬ ‫بكل شيء‪.‬‬ ‫خطر إلى ذهني أن أرى بعي ّني ما تراه عند جلوسها‪ ...‬ما الذي تطرب له و كيف‬ ‫األفق من شرفتها! أله جمال مختلف؟ هل الطريق من شرفتها تحوم فيه المالئكة‬ ‫التي ال نراها من شبابيك منازلنا؟ نظرت نحو منزلي‪ ...‬فإذا هو مظلم‪ ...‬خاو من‬ ‫الحياة‪ ...‬ال نبض فيه‪ ...‬ساكن كما الليل في الصحراء‪ ,‬بارد كالقطب المتجمّد‪.‬‬ ‫صرت أبكي و أبكي‪ ...‬ال أعلم كيف هاجت مشاعري‪ ,‬أمي و أبي اللذين تركاني‬ ‫وحيدة بعمر الست سنوات‪ ,‬ألصحو بين أحضان أم عجوز و أب هرم‪ ...‬أحبّاني‬

‫‪126‬‬


‫جدا إال أنني لم أحاول إظهار الحب لهما بطريقته الصحيحة خوفا من شعوري‬ ‫باأللم عند فقدانهما في وقت ما‪ ,‬رغم االحترام الكبير و المشاعر التي اضطرت‬ ‫لدفنها داخلي لهما‪ .‬أل ّني لم أغفر لوالدّي قط تركهما إياي‪ .‬في تلك اللحظة تناذر‬ ‫إلى ذهني أنه لم يكن لهما ذنب‪ ...‬إنما رسالتهما هي التي انتهت‪ ...‬فحان وقت‬ ‫رحيلهما من جحيم األحالم إلى واقع سرمدّي ال نصب فيه و ال تعب‪ .‬لذا أحببت أن‬ ‫يكون لكل لحظة في حياتي صورة أحتفظ بها حتى يتسنى لي رؤية من سأفقد‬ ‫مستقبال‪ ...‬ما حاولت التعرف على الحبّ ألن يقيني ثابت أني سأفقده يوما ما‪ ...‬لذا‬ ‫آثرت البعد عن كل ما يتعلق بتلك الكلمة من صالت و حفالت و أصدقاء‪ .‬تفرّ غت‬ ‫للسفر و التقاط صور ذات معنى‪ ,‬لها تعبير يحي ضمير أناس نسوا أنهم يحملون‬ ‫قلوب تخفق بي أضلعهم‪ ...‬و منهم (أنا) نفسي‪.‬‬ ‫صورا ألمهات يعشن على رغيف خبز ال يذقنه ألن أوالدهن ّ‬ ‫أحق به منهن‪ ,‬ألب‬ ‫يحمل بين يديه طفلته التي اجتاحها شبح الموت لقلّة حيلته تجاه سمسرة الدواء في‬ ‫مجتمع جشع و دموعه تدين عنجهية االحتكار و شجعه بكل صورها‪ .‬شيخ على‬ ‫قارعة الطريق رماه أوالده‪ ...‬ال لقلة حيلتهم‪ ...‬بل ألنهم استنزفوه كفيء شجرة‬ ‫استظلوا تحتها و عند حلول الشتاء عليها و تعريتها من أوراقها‪ ,‬تركوها و رحلوا‬

‫‪127‬‬


‫عنها‪ ,‬ما حملوا لها معروفا أنها أظلتهم و أطعمتهم ثمارها حتى اش ّتد عودهم و‬ ‫أصبحوا ما هم عليه اآلن‪........‬‬ ‫كنت أبكي و أنا مجالسة درجات بيتها‪ ...‬لم أعلم سبب اجتياح تلك الجنود الجرّارة‬ ‫ّ‬ ‫محطات طفتها بخالل حياتي القصيرة و التي لم أتجاوز فيها الثامنة‬ ‫من ذكريات و‬ ‫و العشرين بعد‪ ...‬لم أشعر يوما أن الدمع يحرق إلى هذا الح ّد‪ ...‬أو أنني أحتاجه‬ ‫كي أخرج ما أحبسه من مشاعر حقد لبشرية حمقاء و قسوة أناس يهيمون في مدنية‬ ‫سلبت الرحمة من أفئدتهم و المنطق من عقولهم‪.‬‬ ‫م ّر ميركو و أخوه من جانبي‪ ,‬فلم ألتفت لهما لوال أن الصغير ركض نحوي و‬ ‫لمس يدي عندما تن ّبه أنني لم أسمعه يناديني‪ :‬هي ليست هنا‪ ,‬قد نقلت المشفى‬ ‫عصر هذا اليوم‪.‬‬ ‫لم أعلم سببا النهيار ثلجي باغتني و جعلني أبكي بشهقة كبيرة كمن خسرت عرش‬ ‫روما‪ ,‬أمسكت يده البضّة الصغيرة و سألته بصوت مخنوق‪ :‬أيّ مشفى؟ فأجابني‬ ‫ببراءة أين‪ .‬تم ّنيت حينها فقط لو أنيّ لم أكبر قط‪ ,‬و أكمل بصوته الطفولي‪ :‬ال ال‬ ‫هي اآلن نجمة في السماء‪ ...‬ورفع عينيه الزرقاوتين نحو القبّة السماوية و هو‬ ‫يضحك‪ :‬إنها هناك تنظر إلينا‪ ,‬أحسد المالئكة ألنها معهم و بين ظهرانيهم‪ .‬أهذا‬ ‫طبق لحم محمّر؟ دون أي تردد و ألني لمست من نبرة صوته مدى حبّه لها و‬

‫‪128‬‬


‫كيف ترجم ذاك الحب لفرحه أنها مازالت تراقبه من األعلى‪ ...‬أعطيته الطبق و‬ ‫قلت له‪ :‬كان لها و هو لك اآلن‪ ...‬ألنك أحببتها أكثر مني‪ ,‬ألنك عرفتها خيرا مني‪,‬‬ ‫ألنك شعرت بلمستها و ح ّنوها وهو الشيء الذي حرمت منه بسبب‪ ....‬تفاهة ماض‬ ‫لم أنتهي منه يوما‪ ,‬و مشاغل حياة ال معنى لها‪ .‬قلتها و ألم يعتصر داخل حناياي‪.‬‬ ‫توجهت بقدمين كأنهما حديد صلب ال يرتفعان لماما من على اإلسفلت الذي تفوح‬ ‫منه رائحة االمبالة‪ ,‬الكره‪ ,‬العنجهيّة‪ ...‬و ركبت سيارتي متوجهة نحو المستشفى‬ ‫أسأل عنها‪ :‬تياش روشكامان‪ ,‬فقادوني نحو ب ّراد الموتى‪ ...‬كنت أرتعش من شدّة‬ ‫الخوف‪ ...‬ما الذي تعنيه لي هذه السيدة العجوز التي لم أعلم اسمها قبل أقل من‬ ‫ساعة‪ ..‬سألني المم ّرض‪ :‬ال بد و أنك ابنتها؟ طفقت أنظر إليه و عالمات الذهول‬ ‫تطفر من وجهي‪ ...‬آثرت الصمت‪ ...‬و لم يكلّف الممرض نفسه عناء النظر إلى‬ ‫ّ‬ ‫عدت عليه بجوابي‪.‬‬ ‫وجهي للتأكد مما أصابني و ال إن كنت قد‬ ‫عندما فتح إحدى أبواب المبّرد الشبيهة بخزانات الصاالت الرياضية _و يالها من‬ ‫سخرية في التشبيه_ سحب المنصّة التي عليها الجثمان كمن يفتح علبة سردين‪ ,‬لم‬ ‫يعبأ إن كان هذا سيزعج جسدا غادر من توّ ه دنيا األحالم و الترهات عائدا موطنه‬ ‫األصلي‪ ...‬وقفت أنظر إلى شيء طويل مغطى باألبيض‪ .‬باغتني بصوته األجش‪:‬‬ ‫سأكشف الغطاء عن وجهها و أتركك معها برهة‪ .‬سرت رعدة قوية‪ ,‬لم تعد رجالي‬

‫‪129‬‬


‫قادرتان على حملي عندما رأيت وجه أبيض و ليس قمحيا‪ ...‬ثغر يف ّتر عن ابتسامة‬ ‫سكينة و وقار‪ ...‬وجهها كان لشابة ال لعجوز تناهز السبعين من العمر‪ ...‬عادت بي‬ ‫إلى ماض كنت قد هربت منه منذ زمن طويل حيث تركت بعده وحيدة أصارع‬ ‫حياتي دونما اهتمام أو رعاية‪ .‬اقتربت منها‪ ...‬قبلّت جبينها المثلج‪ ...‬و بكيت‪...‬‬ ‫بندم‪ ...‬حرقة‪ ...‬ألم قد ّ‬ ‫قطع أوصالي و دمّر شراييني و تركني خربة كما قانا و‬ ‫غ ّزة‪ ...‬أحسست بنفسي مدينة بابل المهجورة و التي لم يبقى منها سوى أعمدة‬ ‫متآكلة و حجارة مهدمّة توصف باآلثار المهمّة‪ ...‬لكن أين األهميّة فيها؟‬ ‫لم أعرفها حقا‪ ...‬لكنها كانت ماضيّ الذي لم أمسك به يوما أو أعش لحظته بهذا‬ ‫الوعي القاتل المدّمر‪.‬‬ ‫أين نحن؟ من نكون؟ في تلك اللحظة فقط تراءى لي مستقبلي‪ ...‬علمت حقا‪ ....‬من‬ ‫هي‪ .....‬أنا‪.‬‬

‫‪08/10/2011‬‬

‫‪131‬‬


‫وقت ضائع‬ ‫نظر مطوال في ساعته‪ ..‬بقي يحرك الهاتف بيده‪ ..‬تارة يضغط زر االتصال ليعود‬ ‫فيطفئه مجددا و تارة يطارد أفكاره عبر النافذة‪ ..‬حاله مذ أشهر لم يتغير أبدا‪ .‬بدأ‬ ‫يخسر الوزن‪ ..‬ازداد أرقه‪ ..‬يسرح ببصره غائبا تماما ع ّما حوله في هذا العالم لم‬ ‫يعد يت ّنبه لحركات جسده عندما تكون قريبة منه فقد كان موقنا أنها تشعر به تماما‬ ‫كما يخفق قلبه بوجودها‪ ..‬ترقص عيناه طربا مسموعا لدى كل من يراه حين تتكلم‬ ‫و يسمع صوتها يناجي أذنه‪ .‬تخونه الجرأة ليخبرها بما يعتريه من عواصف ثلجية‬ ‫تذروه خائفا من شيء ما ال يريدها أن تعرفه خوفا من أن تلوذ بالفرار بعيدا عنه‬ ‫تاركة له قصره الفاره باردا مظلما بعدما اسطاعت وحدها‪ ..‬نعم‪ ..‬وحدها بعث‬ ‫الدفء فيه‪ ..‬بعد سنيّ عجاف بات الموت لديه ألذ من طعم الفرحة بكل ما حققه من‬ ‫نجاحات وحيدا دون أنثى تهتم لفرحه‪ ..‬حزنه‪ ..‬همه‪ ..‬أرقه‪.‬‬ ‫كان عالما بشدة كبريائها كأنثى ما أغرقه في عشقها حتى بات يسكر لمجرد ذكر‬ ‫اسمها‪ ..‬تستطيع سماع ضربات قلبه يمزق أضالعه من شدة توتره عندما تتعمد‬ ‫تجاهله‪ ..‬يحاول ضرب األرض بحذائه على األرض أو بدء أي حديث يجعلها‬ ‫تنظر إليه ليرشف من لون عينيها عسال إلهيا صافيا يشفي علله جميعا فتحاول‬ ‫بدورها تجنب نظراته بغنج و حياء محببان ما يغرقه في بحرها الرائق دون أن‬

‫‪131‬‬


‫يطلب اإلنقاذ حتى‪ ...‬اآلن فقط عاش معنى االنتحار غرقا برضا نفس و ليس‬ ‫مجبرا‪.‬‬ ‫أتحبه؟ أتشعر به كما يعشق لفظ اسمها خلسة بينه و بين ذاته؟ (إيالف)‪ ...‬سألها‬ ‫م ّرة عن معنى اسمها‪ ..‬فأجابته بعنفوانها المعروف عنها (هو العهد والميثاق)‪.‬‬ ‫يذكر تماما كيف أصابه الذهان عند حركة شفتيها كمن نوّ م مغناطيسيا على أنغام‬ ‫سلّم موسيقي ساحر في صالة أوبرّ ا كبيرة وحيدا يستمتع بتلك المعزوفات‪...‬‬ ‫فنظرت إليه بخبث أنثى و قد اعترى الحياء وجهها جرّاء أمارات وجهه السارح ما‬ ‫أعادها لمكتبها بهدوء تاركة له أحالم يقظته‪.‬‬ ‫أتراه فارسا كما يراها ينبوع حياته القادمة؟ كانت لديه الكثير من السبل‪ ..‬إنما‬ ‫خوفه من سابق حياته يدفعه حتى حافة االنهيار لمجرد تفكيره لثانية أنها لن تقبل‬ ‫قلبه‪.‬‬ ‫جاءه رنين الهاتف‪ ..‬نظر إليه بشغاف قلبه و لثمه ببصره ع ّل صوتها يأتيه عبر‬ ‫شبكة االتصال‪ ..‬خانه الحظ إنه صديقه يدعوه للخروج‪ ..‬فجميع األصدقاء و‬ ‫الصديقات مجتمعون‪ ..‬سأل عنها فجاءه الجواب بالنفي كالمعتاد‪.‬‬ ‫كان موقنا بغيرتها لمجرد أن تنظر إليه إن أكثر الحديث مع إحداهن فكان يحترم‬ ‫مشاعرها و ينهي الحديث لعلمه التام احترامها ذات األمر معه‪.‬‬

‫‪132‬‬


‫أعاده للواقع إلحاح صديقه على الهاتف ما جعله يرتدي ثيابه و يخرج معهم هربا‬ ‫من كل األفكار التي ترمي خناجرها إليه دون رحمة تطفئ غليان الدم في األبهر‪.‬‬ ‫اثنتان من صديقاته يعلمن عن قلبه الملتاع الذي لم تستطيعا يوما سكنه‪ ..‬حاولتا‬ ‫جاهدتين جعله فرحا‪ ..‬ف ّ‬ ‫تمثل ذلك قدر المستطاع‪ ,‬لكن ما أن انتهت السهرة و دخل‬ ‫بيته حتى أحسّ مدى وحدته‪ ..‬خالجته قشعريرة سرت من أعلى ظهره حتى آخره‪..‬‬ ‫صعد غرفته و بكامل ثيابه ارتطم جسده بالسرير‪ ..‬نظر من نافذة غرفته نحو‬ ‫السماء الدامعة المضيئة بومضات العشق اإللهي لألرض العطشى‪ ..‬التي تشتعل‬ ‫بين الفنية و األخرى كقلبه التي أضرمت نار العشق أرجاءه البالية‪ .‬سمع مناجاة‬ ‫الحبيب لحبيبته األرض بقصف الرعد المتكرر‪ ..‬كما يعصف كيانه و يه ّتز طربا‬ ‫م ّجرد تذ ّكر صورتها تبتسم له بطرف عينها‪ .‬طرق حبات المطر مع البرد الناعم‬ ‫على شباك غرفته كدخولها حياته بعد موت دام عشر سنوات مضت‪.‬‬ ‫وجد قدميه تج ّرانه نحو الشرفة ليقف تحت قطرات السماء يبكي معها! أجل‪..‬‬ ‫يبكي‪ ..‬أليس من البشر‪ ..‬أال يملك أحاسيس و مشاعر‪ ..‬ألم يبك بيتهوفن أبدا عندما‬ ‫يتعذب عشقا ألحب معزوفاته إليه في آخر أيامه بعد أن بات السمع شبه معدوم‬ ‫لديه؟‬

‫‪133‬‬


‫بالنسبة لما تبقى من حياته هي صوته الذي يتحدث به‪ ..‬كلماته التي ينطق بها‬ ‫لسانه‪ ..‬هي الشعور باأللم و الفرح‪ ..‬ذاته و نفسه التي ترنو لالستقرار بعد ترحال‬ ‫ما عاد يجدي رجال بعمره لديه كل ما تتمناه أنثى لكن‪ ...‬أين التي تملئ شغاف ما‬ ‫بين حناياه؟ متى تفرح واحات الصحراء شبه الجافة بماء المطر الذي طال غيابه و‬ ‫أكثر من نمّو نبات الحنظل حول ضفافها‪.‬‬ ‫بدّل ثيابه و ارتمى في سريره‪ ..‬تعبق بغرفته رائحة المطر ممزوجا بتراب حديقتهم‬ ‫و عطر السماء‪ ..‬أخذ يفكر بمن يريد أن يشاطرها وسادته الباردة و سريره‬ ‫الثلجي‪ ..‬تذكر رائحة عطرها‪ ..‬هل تذكر هي عطره؟‬ ‫حنطيه البشرة‪ ..‬عسلية العينين‪ ..‬أخا ّذة بسمتها‪ ..‬آسرة لبّه‪ ..‬مت ّزنة باختيار ثيابها و‬ ‫اكسسواراتها‪ ..‬لكأن دور األزياء الفرنسية تستلهم ذوقها منها وحدها‪.‬‬ ‫كم لبث يفكر‪ ..‬ال يعلم حتى غافله النوم أخيرا‪.‬‬ ‫الساعة السادسة صباحا عندما أعلن رنين المنبّه الحرب على نعاسه‪ ..‬لم يذق من‬ ‫النوم سوى بضع ساعات لم تتجاوز األربع منها‪ ..‬وقف أمام المرآة بعد أن وضع‬ ‫رغوة الحالقة‪ ..‬الشيء الوحيد الناعم الذي يالطف وجنتيه و ذقنه عند كل صباح‬ ‫منذ عقد من الزمن لتأتي بعدها شفرة الحالقة الخشنة فتجرف كما الفرات كل نبات‬ ‫و محصول عن ضفافه دون رأفة‪ .‬غسل وجهه بماء بارد علّه يمحى آثار إرهاق‬

‫‪134‬‬


‫جفنيه‪ ..‬توجه نحو الخزانة محاوال التفكير فيما سترتدي‪ ..‬هي! بأي األلوان ستفكر‬ ‫اليوم؟ مضى أكثر من نصف ساعة يجّرب و يبدّل ثيابه‪ ..‬طلب من مدبّرة منزله‬ ‫كوب قهوة دون سكر! تنبّهت األخيرة أنه لم يتجرّع مرة أي فنجان قهوة حتى‪...‬‬ ‫نظر إليها و قد علم مصابها إال أنه تجاهل ذهولها و ّ‬ ‫حثها على أنه تأخر عن عمله‪.‬‬ ‫شرب قهوته ليس حبا بحبيباتها الم ّرة أو رائحتها الزكية التي تلهم كل مف ّكر و‬ ‫كاتب و حتى عازف‪ ...‬بل حبا لمن تحبها متجاوزا مرارة طعمها ألجلها فقط‪.‬‬ ‫خرج مسرعا يقود سيارته ليراها‪ ..‬و حين وصل مكتبه لم تكن قد وصلت بعد‪..‬‬ ‫هي ال تتأخر أبدا؟ مضى نصف النهار‪ّ ..‬‬ ‫ظن أنها بإجازة منه ثم أعلنت ساعة‬ ‫المكتب انتهاء دوام العمل! سمع همس صديقه في أذنه يخبره بسفرها لمدة شهر‬ ‫إلى اسبانيا و أن قريب عائلتها طلبها للزواج فسافرت مع ذويها هناك‪ ...‬وال واحدة‬ ‫من صديقاتها تعلم إن كانت تعود أو تبقى هناك‪.‬‬ ‫أحسّ بعدمية ذ ّرات األكسجين في صدره و ثقل الجاذبية‪ ...‬توقفت عيناه عن‬ ‫الرؤية‪ ..‬لكأن أثقال الدنيا وضعت في قدميه‪ .‬لم يعد يسمع‪ ..‬يشعر‪ ..‬أو ينطق حتى‬ ‫بآهة‪ .‬سأله صديقه إن كان بخير فه ّز رأسه دون وعي بالموافقة‪.‬‬ ‫ات ّجه خارجا من حيث أتى صباحا‪ ..‬عائدا بخ ّفي حنين‪ ...‬ومطارق تنهال دراكا‬ ‫على رأسه الذي بات ال يشعر بثقله بين كتفيه‪.‬‬

‫‪135‬‬


‫الزمته الحمى أسبوعا ثم طلب له طبيبه نقاهة ألسبوعين آخرين‪ .‬لكن!‪ ..‬كيف‬ ‫سيقضي األسبوع األخير وعلمه يقينا أنها ربما رحلت دون عودة‪.‬‬ ‫حاول صديقه التخفيف عنه دون جدوى‪ ..‬حتى أن إحدى صديقاته حاولت انتهاز‬ ‫الفرصة علّها تفوز بقلبه حالة ضعفه تلك فانتهت مهزومة و منكفئة على نفسها بعد‬ ‫أن أخبرها‪" :‬أن الحب أخالق‪ ..‬قبل أن يكون كلمة و أشواق‪ ..‬و الرصاصة ال‬ ‫تكذب أبدا‪ ..‬فهي تصيب دون أن تسأل‪ ..‬متى أصابت قتلت من فورها"‪.‬‬ ‫يومان على انتهاء النقاهة ومازال يهزل جسده و تذبل حواسه‪ ..‬مات بريق عينيه‬ ‫الخضراوتين و مازال قلبه يحترق كحطب المدفأة أيام الشتاء القارص داخل أحد‬ ‫البيوت في ناحية ما من جبال األلب العالية الوعرة‪ .‬بات كمريض السّل عندما تبدأ‬ ‫روحه باالنفصال عن جسده‪.‬‬ ‫الساعة الرابعة و عشر دقائق عندما رنّ الهاتف‪ ..‬سمع مدبرة منزله تخبر المتصل‬ ‫أنها سترى إن كان الس ّيد صاحيا‪.‬‬ ‫جاءه صوت صديقه يخبره أنها عادت‪ ..‬آلمها أنك مريض‪ ..‬و أنك لست هنا في‬ ‫العمل‪ ......‬قاطعه و أمر صديقه محاولة استبقائها حين قدومه‪.‬‬ ‫أغلق السماّعة‪ ..‬ارتدى بيجامة رياضية بعد أن غسل وجهه دون أن ينظر لنفسه‬ ‫في المرآة حتى‪ ..‬هو غير حليق! قاد سيارته مسرعا و ج ّل ما يفكر فيه هو أن‬

‫‪136‬‬


‫يخبرها بما تعنيه له‪ .‬يريد رؤيتها فقط‪ ..‬لم يعلم ما سيكون أبدا‪ ...‬لم يهتم سوى أن‬ ‫يلتقي بشمسه بعد ظالم حالك دام أسابيع بدقائق و ثوان قاتلة‪.‬‬ ‫أق ّل من نصف ساعة اتصل بصديقه و طلب منه أن يقودها خارج البناء حتى‬ ‫يراها‪.‬‬ ‫يريد أن يرمي بين يديها مكنونات بحره الذي لم تسبر غوره أنثى غيرها مذ عقد‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫بمعذب تعس أودى به‬ ‫استطاع صديقه بعد جهد إخراجها من بين الحشد لتلتقي‬ ‫عشقه ح ّد الهالك‪.‬‬ ‫كان المطر شديدا ممزوجا بثلج دافئ‪ ..‬ال يملك أحدهما أ ّية مظلّة‪ .‬نظرت لصديقه‬ ‫الذي ودّعها دون أن تفهم شيئا‪.‬‬ ‫"اشتقتك إيالف"‪ ...‬نظرت ناحية الصوت الذي لفظ اسمها كما لم يلفظه أحد قبال‬ ‫أبدا ما جعل وجنتيها بلون فراولة الصيف‪ ..‬كان التعب باد عليه‪ ..‬السهر أخذ من‬ ‫جمال عينيه‪ ..‬ثيابه مب ّتلة‪ ..‬أشعث غير حليق الذقن كما عهدته‪ ..‬خبا بريق عينيه‬ ‫في مغارتين مخيفتين لكأن التجفاف قد أصاب جسده و استعمره كما استيطان‬ ‫االنكليز للهند لعقود‪.‬‬ ‫نظرت إليه غير مصدقة تسأله عما جرى له‪ ..‬ما علمت أن المرض شديد عليه‬ ‫لهذا الح ّد‪ .‬أخذها بغتة بين ذراعيه‪ ..‬ضمّها بشدة طفل يخاف فراق أمه‪ ..‬سمعت‬

‫‪137‬‬


‫بكاءه و أحسّت حرارة دموعه فوق جبينها البارد‪ ..‬أصبحت شبه مخدّرة من فجأة‬ ‫الموقف‪ ..‬لثم يدها كنحلة تجمع رحيق األزهار و فاجأها بقوله‪ " :‬أطلبك زوجة‪..‬‬ ‫شريكة لما تبقى لي من وقت أعيشه‪ ..‬أتقبلين بي يا نفسا سكنت نفسي؟ أتمطرين‬ ‫على صحرائي ما يحيّها بعد جفاف سنين؟ اآلن (إيالف) أرجوك قوليها و أنهي‬ ‫طاعونا أنهكني في بعدك ع ّني"‪.‬‬ ‫ذاهلة نظرت إليه‪ ...‬بعد أن ألقى بثقل جبل طارق عليها و ارتاح هو من عبئه‪..‬‬ ‫صاعقة السماء أخذت بعقلها‪ ..‬خانتها قدماها عن حمل جسدها فتوسدت الرصيف‬ ‫تلومه بعبارة واحدة بعد أن حضنت رأسه بكلتا يديها الباردتين‪" :‬انتظرتك سنتان‪...‬‬ ‫فلم اآلن!"‬ ‫حجبت شدة المطر بكائها‪ ..‬أخذ صوت الرعد مكان صوتها الذي حبس دون‬ ‫رجعة‪ ..‬كم بقيت من الوقت زائغة البصر بعينين محتقنتين لترفع يدها اليمنى أخيرا‬ ‫إليه فتدلّهم الطامّة عن ماسة قد زينت بنصرها األيمن‪.‬‬ ‫عرف لحظتها فقط‪ ...‬قيمة الوقت! معنى ضياعه‪ ..‬و كم هو مؤلم أن تجعل لحظة‬ ‫الخوف من سعادته كابوسا لم تبق من حياته‪.‬‬

‫‪138‬‬


‫جلسا جنبا على قارعة الطريق‪ ..‬كم من الوقت؟ ال أحد منهما يدري لكن دون‬ ‫حرف واحد يعزف بينهما‪ ...‬فقد تركا العزف لحبّات السماء المرتطمة على زجاج‬ ‫السيارات و أرصفة الطريق الخاوية من أي حياة بشرية‪.‬‬

‫‪2002 – 72 - 72‬‬

‫‪139‬‬


‫الفهرس‬ ‫‪ -5‬وجه آخر للحياة‬ ‫‪ -41‬أسبوعان فقط‬ ‫‪ -55‬الثقب األسود‬ ‫‪ -15‬أو لست الرجل؟‬ ‫‪ -14‬رصاصة تسأل القتيل‬ ‫‪ -16‬بعثرة النهايات‬ ‫‪ -76‬ستائر خرق اء‬ ‫‪ -61‬غباء األميرة‬ ‫‪ -14‬فقد اإلحساس‬ ‫‪ -15‬لوحة إلهية‬ ‫‪ -414‬ما ال نتخلى عنه‬ ‫‪ -411‬مجتمعنا واضح‬ ‫‪ -442‬معنى الوحدة و االنتظار‬ ‫‪ -441‬من نحن؟‬ ‫‪ -454‬وقت ضائع‬

‫‪141‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.