الملحق الثقافي
بطاقة بيضاء
«رسالة أكرم إلى الفيلسوف ميشيل أونفري»
ترجمة هشام فهمي بموافقة الكاتب
متابعات
«كتاب عالميون زاولوا مهنا مختلفة»
عصب الكتابة «قصائد فيلينيوس»
جمال جمعة
نزهة المشتاق في اختراق اآلفاق
«يوم رمادي»
كرة اليد
مرئيات حوار مع النحات صاحبي شتيوي دريئة العدد
كتاب وشعراء مغاربة يزاولون «مهن القسوة»
أيوب المزين
رسالة باريس «هل ُ كنت سأكون مقاوما أم جالدا؟» عبد الله كرمون
lالعدد l 76 :الخميس 14فبراير 5 2013
الحب إال للحبيب األول ما ّ
إعداد هشام فهمي «دراجة تشرشل وينستون» ،سعيد الباز
لكل أجل كتاب
ّرد مديرية الكتاب بوزارة الثقافة على الناشر بشر بناني مدير «دار طارق»
دريئة العدد هشام فهمي
Hicham_fahmi@hotmail.com
يدي تفكر لوحدها بشكل مستقل ،وأحيانا أصدّق أن لها دماغا ال مرئيا ،أو أنه سقط منها ،يوما ،ولم متسكه بقوة .هي املؤرخ الرسمي حلياتي كاملة ،إنها تكتب وتخور ،تشير وترتعش ،...هي كل تلوح وتهدّد ،تلمس ّ وتصفع ،ترسم وتعجنّ ، حي ،وكلما التفت عاداتي السرية وموسوعة جرائمي ،والدليل الوحيد على أنني ّ ّ أدسها في اجليب وأطمئن على إلى املاضي تذكرت أنها لم تتخل عني أبداّ ، تتلمس طريقي إلى ز ّر النور. توتراتي .في الظلمة ّ ّ تخط قصائد رومانسية للبنات ،لكن بدأت عالقتي بيدي في سن مب ّكرة ،كانت العضل جعلها أقسى ،وأخرجها من رخاوة الشعر وتهومياته إلى تسديدات كروية دقيقة في الزاوية التسعني .عندما كنت يافعا صرت العب كرة يد .لعبت في صفوف فريق محترف هو «البريد املراكشي» .اكتشفت املهارات التي ميكن أن أسجل األهداف باليمنى كما باليسرى ،وأستطيع تصنعها يدي .ولم أكن أصدّق. ّ أن أسدّد عن مسافة أحد عشر مترا ،وألصقها في الزاوية السحرية. كل ذلك تفعله يدي وحدها ،ولست أنا .أحس أحيانا أنها عبقرية وأنا غبي ،ال أستطيع مجاراتها في ما ترتكب .يدي مد ّربة ورياضية ،لكنها حل ّد اآلن لم متسك بأي خيط .كل شيء منفلت .هي جت ّرني من يدي إلى املهالك .خبطت بها يوما واجهة زجاجية في حلظات من الطيش الشبابي اجلارف ،تسبب ذلك في أن ميوت منملة كل الوقت، جزء منها ،ويحفر فيها النمل طريقا سالكة مدى احلياة .يدي ّ وهذا ضاعف إحساسي بأن اليد فعال هي عتبة اجلسد وآالمه .عتبة اجلسد الفلسفي اإلغريقي العاري واملفتول. في بداية التسعينات ،أصبت بخيبة أمل كبيرة من اجلامعة ومن شعبة األدب العربي برتابتها القاتلة ،فقررت أن أطلق الرصاص على السنة الثانية وأقضي سنة بيضاء ،كي أج�� ّرب شيئا مختلفا عن محاضرات البالغة والشعر العربي املن ّفرة .خضعت ملزاج اليد ،ورافقت صديقي الراحل «رشيد» الذي كان تقنيا في ّ ومنشطا موسيقيا « »Disc jockeyباملالهي الليلية .كان صديقي اإللكترونيك الوماضة ،وكنت أتكفل بالبحث عن ماله ليلية مخترعا ملساليط األلعاب الضوئية ّ جديدة ترغب في تركيبها بأثمنة ج ّد معقولة ،فنجحنا في التعامل مع أكثر من ملهى ليلي مبراكش ،نحفر خدودا على سقوفها السفلية ،وندفن فيها خيوط الكهرباء املخ ّبلة ،فتتو ّرم اليد وهي تخبط اإلسمنت املس ّلح «باملاسيطة والبيران» أي املطرقة ّ كمنشط موسيقي ،يفرك والوتد .انتهت بي هذه التجربة إلى العمل في ملهى ليلي ّ أتخل أسطوانات 33باليد املوسيقية التي تسمع وتقوم بامليكساج .رغم ذلك ،لم أبدا عن الكتابة واحلصول على إجازة في تخصص اللسانيات هذه املرة .اشتغالي مع عمال الكهرباء والبنائني وصداقتي ملسوخات املالهي الليلية ،منحاني القدرة على أن أعيش الشعر في احلياة ،فأنا أبدا لم أكن أصرح ألحد بأنني شاعر ،كنت متحررا متاما من هذا الوهم ،فكل أولئك الذين صادفتهم كانوا جميعا شعراء، كل حسب لغته. عندما هاجرت إلى كندا ،كانت اليد تدفعني من اخللف ،قررت في األسبوع األول ّ كجل املهاجرين العرب الذين مبدينة مونريال ،أن أعتمد على نفسي ،وأال أفعل ّ التسول واالنتهازية ،لذلك حطموا رقما قياسيا ،مقارنة باجلاليات األخرى ،في ّ كانوا يستغ ّلون نظام اإلعانات االجتماعية ويطلقون عليه «ال َب ْسباس» ،يقبضون من الدولة راتبا عن عجزهم عن العمل ،ويقتاتون كاجلرذان من العمل األسود حتت الطاولة. في أيامي األولى ،حملت حقيبة الظهر واقتنيت جريدة «موريال» األولى التي عثرت بصفحاتها على إعالنات عمل ،وكانت أول مؤسسة يستقبلني مديرها الكيبيكي «ميشال» بوزرته البيضاء كممرض ،مألت استمارة العمل وتبادلت معه احلوار بصعوبة ،ألن فرنسية الكيبيكيني حتتاج في البداية إلى فك شفراتها ،أخبرته أنني مقيم جديد ،فر ّد علي باحلرف بابتسامة عريضة« :سوف أمنحك فرصتك». عندما عدت إلى البيت أخبرتني زوجتي أن شخصا اسمه «ميشال» أبلغها بأن علي االلتحاق بعملي اجلديد في اليوم نفسه على الساعة السادسة مساء .لم أكن أعرف ما هو بالضبط عملي اجلديد ،واستغربت لتوقيت العمل املسائي .بعد تصورت .خلف وصولي مهندَما كما يليق مبوظف جديد ،كانت صدمتي أقوى مما ّ املؤسسة التي كنت فيها صباحا ،وحدة صناعية ضخمة ،تع ّد األكبر في أمريكا الشمالية لصناعة اخلبز .دخلت املصنع مرعوبا من املاكينات الضخمة في كل مكان ،واملربوطة بشاشات كمبيوتر تتحكم في الهدير الذي يص ّم األذنني .اكتشفت أنني في مخبزة ما بعد حداثية واخلبازون الفرنسيون والكيبيكيون وقلة من العرب ،يقاومون بلباسهم األبيض املوحد عصر اآلالت فائقة الذكاء .سمعت من بعض التوانسة أن األجور مرتفعة هنا ،وأن جميع العمال يأتون بسيارات رباعية الدفع ولديهم «شاليهات» بالضواحي الغابوية .كان االستمرار في هذه املغامرة حتديا كبيرا .بعد ستة أشهر متاما ،أصبحت من أملع اخلبازين احملترفني ،يدي موهوبة ،واكتشفت أن داخلها تيرمومترا حقيقيا مينحك بالضبط درجة حرارة خلوه من امللح. العجني ،وأحيانا تصبح كاهنة تكشف ّ بعد انتهاء سنة بالكامل ،لم أصبح ثريا وال أي وهم ،بل كنت وراء تأسيس نقابة عمالية مع رفاق كيبيكيني ،دون العرب اجلبناء طبعا ،القادمني بثقافة اخلضوع والطاعة ،فأسقطنا أكبر قلعة رأسمالية في كندا ،تعلمت فيها أن الباطرون في كل اللغات واجلنسيات واألنظمة ،هو واحد يتشابه. بعدها مارست مهنا مختلفة ،اإليطاليون كانوا يتخاطفون على جتربتي الفرنسية في صناعة عجني البيتزا .كانوا ينظرون إلي بإعجاب وأنا أصنع كرتني من العجني بضربة واحدة،كل كرة في يد ،لكنني لم أكن أسدد في التسعني هذه املرة ،فقرفت من «مهن القسوة» ،واكتشفت أن يدي البروليتارية ميكنها توقيع شيكات فقط ،وتؤسس شركة إلنتاج اخليال واألفكار.
بطاقة بيضاء ُترجم هذا املقال باالتفاق مع ميشال أونفري (هـ .ف) تلقيت يوم اخلميس 22نونبر ،2012هذا «اإلمييل» من أكرم ،كان م��وض��وع��ه «اس��ت��ح��ق��اق األف��ض��ل». فأكرم هو من سيح ّرر مقالتي لهذا الشهر: صباح اخلير يوم ما ،بني ِس َّني العاشرة أو كنت مدفوعا احلادية عشرة، َ بإعجاب كبير ،فكتبت إلى شخص يدعى جان روستاند، رمبا آمال ،وبسذاجة ،أن ير ّد عليك. َ إليك ،بدوري اآلن ،رغم أنني أكتب أكبرك س ّنا مقارنة بتلك املرحلة كمتحمس أو ( 38ع��ام��ا) ،ل��ي��س ّ مريد ،يشيد بشكل أعمى بشيخه، رب أس��رة ،وعامل ولكن فقط مثل ّ بسيط يشتغل سائقا حلافلة ،وقبل كل ذلك ،كعاشق للقراءة. قبل أيام قليلة ،استدعاني رئيسي في العمل إلى مكتبه، ليستفسرني حول حادث بسيط ،مضيفا إليه وابال من املماحكة الزائدة .أثناء املقابلة ّ يطل قليال من يتفاجأ بكتاب جيب سترتي ،ظانا أنه مجلة
كتاب وشعراء يزاولون «مهن القسوة»
«البناء ومول الطاحونة واإلسكافي وحمال القوارب»
صاحبي شتيوي :أرغب في أن أصرخ في وجه كل املغاربة خذوا العبرة من تونس فما يحدث فيها اليوم فظيع جدا
«رسالة أكرم إلى الفيلسوف ميشيل أونفري» بورنوغرافية ،فطلب مني إزالته، لم يكن سوى كتابك «أفول الصنم» .وبشكل تلقائي ،المني لكوني لم أس ّلم شيئا ضائعا عثرت عليه في حافلتي إلى املختصة ،أوضحت له املصلحة ّ أن هذا الكتاب اشتريته وأنه لي .من هنا بدأت فعال قصتي ،ألن هذا الرئيس املعتوه ال يص ّدق كلمة واحدة مما قلته، لذلك طلب تلخيص ما فهمته رمبا من قراءتي .كان قلبي يخبط بقوة ،وأنا أرى حلظة تأ ّلقي قد حانت ،وها أنذا أكرم ،مهاجر الضواحي الباريسية البسيط، العامل احملت َقر في الغالب، واملعزول في عمل ُمستَلِ ب ،بال أخالق وال روح ،أنطلق في سرد حكاية األفول الفرويدية .وللحظة نسيت هدف مقابلتنا ،وحضوري إلى هذا املكتب أمام هذا اإلطار الصارم ،مستمتعا بالطرائف املقتطفة للتو من صفحات كتابي ..كان يقطر عرقا ،وميكنني وأي شيء، أن أحكي له كل شيء ّ وبشكل مفاجئ يقاطعني في قمة اندفاعي بخبط الطاولة التي إلي نظرة تفصل بيننا ،موجها ّ حاقدة..
ميشيل أونفري
• « كفى ،نطلب منك أن تسوق حافالت ال أن تتفلسف» تأم ٌل في • «هذه ليست فلسفة ،ولكنه ّ موضوع» • «اسمع ،سياقة حافلة ال تتطلب شيئا كبيرا ،وأيضا الر ّد على الزبائن، حافظ على التركيز في عملك ،وتفا َد الذهاب بعيدا ،ألنني لن أسامحك إن وقعت حادثة أخرى ..مفهوم؟» صدقني ،س ّيد أونفري ،ذلك اليوم غ ّير حياتي،كتاب صغير مستعمل اشتريته بثمن بخس ،جعل مني رجال محترما من طرف رئيس طاغية .واليوم أنوي التسجيل في «املركز الوطني للتعليم عبر املراسلة» ،واحلصول على «دبلوم الولوج إلى الدراسات اجلامعية»، والتسجيل في اجلامعة بشعبة العلوم االجتماعية ولِ َم ال ،علم االجتماع. اجلامعة الشعبية هي فرصة ثانية بالنسبة إلى بسطاء الناس مثلي، إنها متنح األمل ،وتسمح بالتأمالت البسيطة... شكرا لك س ّيد أونفري.. لقد أصدرت أخيرا كتاب «جعل العقل شعبيا» ،وهو بيان هذه اجلامعة الشعبية ،أحسست بأن وقتي لم يذهب سدى..