العدد الرابع السنة الرابعة

Page 1






    

    

    

           

           

              

     

     

     

  











 





  

     

          

 



            



2




‫افتتاحية العدد‬

‫اإلسالميون والهجرة النبوية‬ ‫�آذى م�شركوا مكة ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم �إيذا ًء‬ ‫بليغاً يف النف�س واملال والأهل �إيذا ًء ع�صف بقلب فاطمة‬ ‫الزهراء ر�ضي اهلل عنهما ع�صفاً �أبكاها‪ ،‬ر�أت دماّ زكياً وجروحاً‬ ‫راعفة على �أطهر وجه ‪ ،‬وجه الأب الرحيم‪ ...‬دموع الأمل‬ ‫واحل�سرة تنهمر على الوجنات الطاهرة ‪ ،‬فما زاد الر�سول‬ ‫�صلى اهلل عليه و�سلم �إليها �إال " �أتبكني يا فاطمة واهلل ليتمن‬ ‫اهلل هذا الأمر حتى ي�سري الراكب من �صنعاء �إىل ح�ضرموت‬ ‫ال يخ�شى اال اهلل والذئب على غنمه"‪.‬‬ ‫ولئن ح ّل ب�أ�صحاب الدعوات طوفان من الأذى والأمل‪،‬‬ ‫�إال �أ َّن مكانتهم عند ربهم جتعلهم مطمئنني اىل لطف قدره‬ ‫‪ ،‬جتعلهم يب�صرون خلف �ستائر الأحداث يد اهلل و�أقداره‬ ‫‪ ،‬وجتعلهم ي�سمعون با�ستمرار ( َو َلنْ َي ْج َع َل اهلل ِل ْل َكا ِف ِر َ‬ ‫ين‬ ‫ني َ�س ِب اً‬ ‫َعلَى المْ ُ�ؤْمِ ِن َ‬ ‫يل) (الن�ساء ‪ ،)141:‬و�أ َّن اهلل لن يدع �أو يكل‬ ‫عباده و�أولياءه �إىل �أعدائه‪ ،‬ولكنه الإمتحان الذي تكون بعده‬ ‫اجلوائز‪.‬‬ ‫ترى هل جال بخاطر �أ�سماء وهي ت�سعى �إىل ر�سول اهلل‬ ‫�صلى اهلل عليه و�سلم و�أبيها‪ ،‬وهما طريدا مكة يوم الهجرة‬ ‫�أن �أعالم �أبي بكر وعمر ر�ضي اهلل عنهما ‪ ،‬و�صوت بالل ر�ضي‬ ‫اهلل عنه �سيعلو يف �سماء مكة يوماً ‪ ،‬و�أن رايات �أبي جهل‬ ‫و�أ�صنام مكة �ست�سقط وتتنك�س ‪ ،‬ما �أجمل �سنن اهلل وهي تبدو‬ ‫الَ َّيا ُم ُندَا ِو ُلهَا‬ ‫‪ ،‬وما �أجمل الت�أمل فيها وهي تعمل ( َو ِت ْل َك ْ أ‬ ‫ا�س ) (ال عمران ‪.)140:‬‬ ‫َبينْ َ ال َّن ِ‬ ‫كانت تون�س كما م�صر تغرق يف ظلمات الظلم والبعد‬ ‫عن ربها ‪ ،‬وكان دعاتها وخرية رجالها بني طريد ومقيد‬ ‫باحلديد ‪ ،‬يوم �أن تعامى ُحكامها عن حقائق و�سنن اهلل‬

‫م‪ .‬مروان الفاعوري‬

‫تعاىل ‪ ،‬ف�صادموا دينه ونوامي�سه ‪ ،‬و�ضعوا احلجاب ‪ ،‬وغ ّلقوا‬ ‫الأبواب �أمام النا�س وخياراتهم ‪ ،‬وما هي �إال �أيام قالئل يف‬ ‫ميزان اهلل تعاىل ‪ ،‬و �إذ ب�صوت امل�ؤذن يردد اهلل �أكرب ‪ ،‬اهلل �أكرب‬ ‫‪ ،‬و �إذ ب�ضمري الأمة ينطق ( َب ْل َظ َن ْن ُت ْم �أَ ْن َلنْ َي ْن َقل َِب ال َّر ُ�س ُ‬ ‫ول‬ ‫َوالمْ ُ�ؤْمِ ُنو َن �إِلىَ �أَهْ لِي ِه ْم �أَ َبدًا َو ُز ِّي َن َذل َِك فيِ ُق ُلو ِب ُك ْم َو َظ َن ْن ُت ْم َظنَّ‬ ‫ال�س ْو ِء َو ُك ْن ُت ْم َق ْو ًما ُبو ًرا) (الفتح ‪. )12:‬‬ ‫َّ‬ ‫من كان يظن قبل عام ان حاكم تون�س �سيخرج ال يكاد‬ ‫يجد بلداً ي�ؤويه ‪ ،‬و�أ َّن الغنو�شي و�إخوانه �سيعودون �إىل تون�س‬ ‫و�سيحكمون‪ ،‬من كان يظن �أن مبارك �سيثوي خلف الق�ضبان‪،‬‬ ‫و�أ َّن من غ َّلهم خلف الق�ضبان �سيحاكمونه‪.‬‬ ‫�إنها �آية عظيمة ودرو�س كبرية من درو�س التاريخ ملن يت�أمل‬ ‫ويتعلم‪ ....‬‬

‫‪3‬‬


‫وسـطيـتنا‬

‫عناصر الخطاب الوسطي وضوابطه‬ ‫�إن جتديد اخلطاب الو�سطي الإ�سالمي‬ ‫�أمر حتتاجه الظروف احلا�ضرة‪ ،‬وهذا‬ ‫التجديد �أ�صيل يف االلتزام بال�شرع‬ ‫و�ضوابطه‪ ،‬ويف الوقت ذاته يجب �أن يكون‬ ‫مرناً حيوياً ومتجدداً يف �أ�ساليبه‪ ،‬ويف‬ ‫معاجلة احلوادث واال�ستجابة للتحديات‪،‬‬ ‫واخلطاب الو�سطي الإ�سالمي بعيد عن‬ ‫اجلمود والتزمت‪ ،‬وال يعتمد التفريط‬ ‫باملبادئ والقيم متذرعاً باحلداثة‬ ‫والتحديث‪� ،‬إن جمتمعاتنا العربية‬ ‫والإ�سالمية بحاجة ما�سة �إىل بناء‬ ‫ال�شخ�صية امللتزمة بالو�سطية القادرة‬ ‫على ن�شر ثقافة العدل املقرتنة ببعدين‬ ‫�أ‪.‬د‪ .‬حممد �أحمد ح�سن الق�ضاة‬ ‫�أ�سا�سيني هما‪ :‬العزة وال�سماحة‪ ،‬لأن هذين‬ ‫البعدين تتحقق بهما كرامة الإن�سان وبهما‬ ‫ت�سود احلرية‪ ،‬وهذا يقود �إىل جمتمع ينتفي فيه الظلم واال�ستبداد الو�سطي الإ�سالمي‪.‬‬ ‫والت�سلط واال�ستعباد‪.‬‬ ‫حتتاج �أمتنا حلركة �إ�صالح �شاملة تتجاوز املوروثات امليتة‪ ،‬وتلفظ املطلب الأول‪ :‬عنا�صر اخلطاب الو�سطي وفيه ثالثة فروع‪:‬‬ ‫املخاطب‬ ‫كل وافد م�سموم من الأجنبي‪ ،‬فحركات الإ�صالح وم�شروعات الإ�صالح الفرع الأول‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫يجب �أن ت�ستنبت من �أر�ض الأمة‪ ،‬وتنمو يف رحم معاناتها وخ�صائ�صها‪� ،‬أما املخاطب فينبغي �أن يتوافر فيه عنا�صر ال بد منها من �أهمها‪:‬‬ ‫�أو ًال‪ :‬القدرة اللغوية لي�سلم من اخلط�أ واللحن وليلقى القبول من‬ ‫لأن الإ�صالح ال ي�ستورد يف حقيبة م�سافر‪ ،‬فلكل جمتمع ما ينا�سبه‪.‬‬ ‫ولنا عربة يف ر�سالة الإ�سالم التي خاطب بها الر�سول الكرمي �صلى امل�ستمعني‪.‬‬ ‫اهلل عليه و�سلم �أمة عربية بقر�آن عربي‪ ،‬وانتقل بها �إىل كمال التوحيد ثانيا‪ :‬كرثة املحفوظات‪ ،‬وعلى ر�أ�س ما ينبغي �أن يحفظ القر�آن الكرمي‬ ‫املعجزة اخلالدة وما ا�شتمل عليه وهو الأ�صل الأول يف حياة الأمة‪ ،‬ثم‬ ‫من خالل معاجلة الق�ضايا الإجتماعية وال�سيا�سية واالقت�صادية التي‬ ‫الأ�صل الثاين لهذا الدين بعد كتاب اهلل عز وجل كما عرب عن ذلك‬ ‫ً‬ ‫ً ً‬ ‫كانت تهم املخاطبني‪ ،‬واتبع يف ذلك منهجا مرنا ومتدرجا‪ ،‬ويبدو ذلك الر�سول الأمني " تركت فيكم ما �إن مت�سكتم به لن ت�ضلوا بعدي �أبداً‬ ‫وا�ضحاً �أي�ضاً يف االختالف بني القر�آن املكي والقر�آن املدين‪ ،‬حيث كان‬ ‫كتاب اهلل و�سنتي " (�أخرجه احلاكم يف امل�ستدرك ‪.)245/4‬‬ ‫الأول يركز على ق�ضايا الإميان باهلل واليوم الآخر‪ ،‬والأ�صول العقدية ثالث ًا‪ :‬العناية بالدرا�سات النف�سية والإجتماعية والتاريخية‪ ،‬مع العناية‬ ‫التي يقوم عليها النظام االجتماعي يف املجتمع امل�سلم‪ ،‬بينما ركز القر�آن الفائقة بال�سرية النبوية وحياة ال�صحابة الكرام والتابعني الأخيار‪.‬‬ ‫املدين على بناء املجتمع اجلديد والت�شريعات التي حتكم عالقاته‪.‬‬ ‫رابع ًا‪ :‬وتربية الدعاة ينبغي �أن تركز على �إك�سابهم ال�شخ�صية القوية‬ ‫و�إذا كنا اليوم نريد �أن نتوجه نحو خطاب �إ�سالمي معا�صر‪ ،‬ف�إن املمتلئة بال�شجاعة واجلر�أة‪ ،‬واالعتزاز بالنف�س‪ ،‬والتم�سك بالكرامة‬ ‫الواجب علينا �أن نبد�أ من نقطة �صحيحة وهي �أن يعود الإ�سالم العظيم والنظرة الثاقبة �إىل الأمور بال خوف‪ ،‬لأن اخلوف يفقد االن�سان القدرة‬ ‫�إىل حياتنا العامة ومرافقنا كلها‪ ،‬بحيث ي�صبح الإ�سالم كله هو املهيمن على القول �أو الإجادة فيه‪ ،‬و�أن يكون اخلوف من اهلل وحده الدافع لقول‬ ‫على حياتنا كلها‪ ،‬وعلى جميع ت�صرفاتنا‬ ‫و�سلوكياتنا وعالقاتنا مع اهلل‪ ،‬ومع �أنف�سنا‪،‬‬ ‫ومع الآخرين‪ ،‬ثم ي�أتي بعد ذلك دور‬ ‫اخلطاب الو�سطي يوجه وي�صون ويذكر‪،‬‬ ‫وعملية اخلطاب الو�سطي الإ�سالمي‬ ‫تتكون من عنا�صر و�ضوابط لذا �أحببت �أن‬ ‫�أف�صلها يف مطلبني‪:‬‬ ‫املطلب الأول ‪ :‬عنا�صر اخلطاب الو�سطي‬ ‫وفيه ثالثة فروع‪:‬‬ ‫الفرع الأول ‪ :‬املخاطِ ب وما يجب �أن‬ ‫يتوافر فيه‪.‬‬ ‫َ‬ ‫املخاطب به‪.‬‬ ‫الفرع الثاين ‪:‬‬ ‫َ‬ ‫املخاطب وما يجب �أن‬ ‫الفرع الثالث ‪:‬‬ ‫يتوافر فيه‪.‬‬ ‫املطلب الثاين ‪� :‬ضوابط اخلطاب‬

‫‪4‬‬


‫ا�ص َد ْع مِبَا ُت�ؤْ َم ُر‬ ‫احلق وبيانه والتم�سك به‪ ،‬م�صداقاً لقوله تعاىل‪َ ( :‬ف ْ‬ ‫ني ‪� ،‬إِ َّنا َك َف ْي َن َ‬ ‫َو�أَ ْعر ْ‬ ‫اك المْ ُ ْ�س َت ْه ِز ِئ َ‬ ‫ِ�ض ع َِن المْ ُ ْ�ش ِر ِك َ‬ ‫ني)(احلجر‪.)95-94:‬‬ ‫خام�س ًا‪� :‬أن يتحلى الداعية املخاطِ ب بال�صالح والإخال�ص والتقوى‬ ‫والتطبيق العملي للقر�آن الكرمي وال�سنة املطهرة‪ ،‬قوله وعمله ي�صدقان‬ ‫ما وقر يف قلبه من �إميان لأنه يقر�أ قوله تعاىل‪َ (:‬يا �أَ ُّيهَا ا َّل َ‬ ‫ذِين �آ َم ُنوا‬ ‫لمِ َ َت ُقو ُلو َن مَا اَل َت ْف َع ُلو َن‪َ ،‬كبرُ َ َم ْق ًتا عِ ْن َد اللهَّ ِ �أَنْ َت ُقو ُلوا مَا اَل َت ْف َع ُلو َن)‬ ‫(ال�صف‪ ،)3-2:‬وباملقابل فعلى الأمة العربية والإ�سالمية �أن توفر‬ ‫للدعاة احلياة الالئقة الكرمية‪ ،‬و�أن تكفل لهم احلاجات الأ�سا�سية‪،‬‬ ‫ليكون مظهرهم العام م�ؤثراً يف الآخرين‪ ،‬باعتبارهم القدوة والنموذج ملا‬ ‫يدعون �إليه يف الظاهر والباطن والقول والعمل وال�سلوك‪.‬‬ ‫َ‬ ‫املخاطب به‬ ‫الفرع الثاين ‪:‬‬ ‫املخاطب به فيجب �أن يكون الدين ال�صحيح‪ ،‬نفهم �أ�صوله فهماً‬ ‫َ‬ ‫�أما‬ ‫�صحيحاً دون و�ساطة‪ ،‬والقر�آن الكرمي �أحد هذه الأ�صول‪ ،‬بل هو �أ�صلها‬ ‫القومي‪ ،‬يخاطب يف الإن�سان عقله وم�شاعره‪ ،‬ويدعوه �إىل عبادة ربه‬ ‫واخل�ضوع له والإذعان لأمره‪ ،‬ي�ستنبط منه العامل �شتى �أوجه الدالالت‪،‬‬ ‫وهو الطريق وحده �إىل معرفة الغيب وحقائقه‪ ،‬على حني �أن غريه من‬ ‫ال وال تروي غلي ً‬ ‫الطرق واملناهج ال ت�شفي غلي ً‬ ‫ال‪ ،‬وهو يحتوي على كل‬ ‫الرباهني‪ ،‬التي يدركها العقل النري‪ ،‬ويربط الإن�سان بالوجود الواقعي‬ ‫يف عامل الغيب وال�شهادة‪ ،‬بطريقة جتعله يتفاعل معه وينفعل به‪ ،‬ويدرك‬ ‫من خالله �آثار اهلل وقدرته و�إرادته و�أما الأ�صل الثاين فهو ال�سنة‬ ‫امل�شرفة ف�إنها �صادرة ممن �أوتي جوامع الكلم قال تعاىل‪َ (:‬ومَا َي ْنطِ ُق ع َِن‬ ‫وحى)(النجم ‪.)4-3‬‬ ‫ا ْل َه َوى‪� ،‬إِنْ هُ َو �إِ اَّل َو ْح ٌي ُي َ‬ ‫ون�صو�ص القر�آن الكرمي وال�سنة ال�شريفة حفظت من الت�أويل‬ ‫والتحريف وتلك ميزة متيز الإ�سالم بها عن غريه من الأديان املوجودة‬ ‫يف العامل اليوم‪ ،‬كما متيزه عن املذاهب الفكرية والفل�سفات الو�ضعية‬ ‫التي قامت على �أ�س�س احلادية‪ ،‬والتي �أ�صبحت اليوم وبعد جتربة ال‬ ‫حتقق �سعادة الإن�سان وا�ستقراره‪ ،‬وال تهديه �سواء ال�سبيل‪ ،‬و�أ�صبح‬ ‫اتباعها اليوم يف حالة �شك دائم‪ ،‬كلما بدت لهم فكرة هرولوا نحوها‪،‬‬ ‫وظنوا اخلال�ص فيها‪ ،‬وعندما ي�صلون ال يجدون �إال ال�سراب‪ ،‬و�صدق‬ ‫ذِين َك َف ُروا �أَ ْع َما ُل ُه ْم َك َ�س َرابٍ ِبقِي َع ٍة َي ْح َ�س ُب ُه َّ‬ ‫اهلل العظيم‪َ (:‬وا َّل َ‬ ‫الظ ْم� ُآن مَا ًء‬ ‫َح َّتى �إِ َذا َجا َء ُه لمَ ْ يَجِ ْد ُه َ�ش ْي ًئا َو َو َج َد اللهَّ َ عِ ْن َد ُه َف َو َّفا ُه حِ َ�سا َب ُه َواللهَّ ُ َ�سرِي ُع‬ ‫الحْ ِ َ�سابِ )(النور‪.)39 :‬‬ ‫لقد متيز الإ�سالم الذي نخاطب به النا�س مبزايا عديدة منها‪:‬‬ ‫�أو ًال‪ :‬فهو دين �شامل متكامل فيه العقيدة ال�صحيحة‪ ،‬والعبادة‬ ‫املربية للإن�سان واملجتمع‪ ،‬املحققة له ال�سعادة والطم�أنينة‪ ،‬واال�ستقرار‬

‫النف�سي‪ ،‬املف�ضية �إىل طاعة اهلل واالمتثال لأوامره والتحاكم �إليه‪ ،‬لذا‬ ‫من ال�ضرورة �أن يكون اخلطاب الإ�سالمي اليوم مراعياً كل اجلوانب يف‬ ‫احلياة املعا�صرة‪ ،‬علماً ب�أن احلياة املعا�صرة لي�ست كلها �شرور و�آثام‪ ،‬بل‬ ‫ال بد �أن نكون من�صفني‪ ،‬فنعرتف مبا فيها من جوانب خري‪ ،‬هي نتيجة‬ ‫جهود قامت بها الب�شرية عرب ال�سنني و�ساهم فيها امل�سلمون ب�أوفر‬ ‫ن�صيب‪.‬‬ ‫ثاني ًا‪ :‬ومن مزايا الإ�سالم كذلك �أنه دين يت�ضمن النظام الذي يحفظ‬ ‫الأمن وي�صون احلقوق‪ ،‬ويردع الإن�سان الذي ت�سول له نف�سه فعل‬ ‫اجلرمية‪ ،‬فيحمي املجتمع‪ ،‬ويحمي اجلاين على ال�سواء‪ ،‬والعقوبات‬ ‫التي �شرعها الإ�سالم رادعة وعادلة ومعتمدة على امل�صلحة‪ ،‬وهي طهارة‬ ‫و�إ�صالح‪ ،‬ويكفي �أن اهلل العادل العليم بالإن�سان هو الذي قررها و�أوجبها‪.‬‬ ‫ثالثا‪ :‬والإ�سالم الذي نخاطب النا�س على �أ�سا�سه دين عاملي �إن�ساين‬ ‫النزعة‪ ،‬وهذا يعزز دور الداعية ويجعل القبول يف نفو�س الآخرين �أ�سلم‬ ‫و�أحكم‪.‬‬ ‫رابع ًا‪ :‬والإ�سالم يدعو �إىل العلم النافع ويفتح �أبوابه �أمام اجلميع ‪،‬قال‬ ‫تعاىل‪َ (:‬يا �أَ ُّيهَا ا َّل َ‬ ‫ذِين �آ َم ُنوا �إِ َذا قِي َل َل ُك ْم َت َف َّ�س ُحوا فيِ المْ َ َجال ِ​ِ�س َفا ْف َ�س ُحوا‬ ‫َي ْف َ�س ِح اللهَّ ُ َل ُك ْم َو�إِ َذا قِي َل ا ْن ُ�ش ُزوا َفا ْن ُ�ش ُزوا َي ْر َف ِع اللهَّ ُ ا َّل َ‬ ‫ذِين �آ َم ُنوا مِ ْن ُك ْم‬ ‫َوا َّل َ‬ ‫ري )(املجادلة ‪،)11:‬‬ ‫ذِين �أُو ُتوا ا ْل ِع ْل َم َد َر َجاتٍ َواللهَّ ُ مِبَا َت ْع َم ُلو َن َخ ِب ٌ‬ ‫ويقول الر�سول الكرمي‪ ":‬ف�ضل العامل على العابد كف�ضلي على �أدناكم"‬ ‫(�أخرجه الرتمذي رقم ‪.)2685‬‬ ‫خام�س ًا‪ :‬و�إذا كان الكالم على اخلطاب الإ�سالمي الو�سطي املعا�صر‪،‬‬ ‫ف�إن املعا�صرة تقت�ضي املعرفة التامة مبا يف الع�صر من علوم وتيارات‬ ‫ونظم وعالقات‪ ،‬وعلينا �أن نتعلم �أن الدعوة �إىل خطاب �إ�سالمي‬ ‫معا�صر دعوة ح�سنة وهادفة‪ ،‬وهي �شاملة لنواحي احلياة قو ًال وعم ً‬ ‫ال‬ ‫وتوجيهاً و�أ�سلوباً وطرقاً‪ ،‬وهي دعوة ت�ستفيد من م�ستجدات الع�صر‪،‬‬ ‫وال تتخلى عن �أ�صالتها‪ ،‬وما جاءت به الدعوة الإ�سالمية من اال�صول‪،‬‬ ‫ِيم)‬ ‫ا�س َت ْم�سِ ْك بِا َّلذِي �أُوحِ َي �إِ َل ْي َك ِ�إ َّن َك َعلَى ِ�ص َر ٍ‬ ‫قال تعاىل‪َ (:‬ف ْ‬ ‫اط م ُْ�س َتق ٍ‬ ‫(الزخرف‪ ،)43 :‬وقال عز وجل ( ُث َّم َج َع ْل َن َ‬ ‫الَ ْم ِر‬ ‫اك َعلَى َ�شرِي َع ٍة مِ َن ْ أ‬ ‫َفا َّت ِب ْعهَا َو اَل َت َّت ِب ْع �أَهْ َوا َء ا َّل َ‬ ‫ذِين اَل َي ْعلَ ُمو َن )(اجلاثية ‪.)18:‬‬ ‫َ‬ ‫املخاطب‬ ‫الفرع الثالث ‪:‬‬ ‫َ‬ ‫املخاطب فينبغي �أن يب�صر بواجبه‪ ،‬و�أن يح�س مب�س�ؤوليته نحو‬ ‫�أما‬ ‫دينه و�أمته‪ ،‬و�أن يحميه من الت�شويه والت�شوي�ش بو�سائل الهدم التي‬ ‫حتملها �إليه و�سائل الإعالم املتنوعة خا�صة الف�ضائيات‪ ،‬وعلينا �أن نعلم‬ ‫�أن ب�ساطة التفكري لدى املخاطبني من النا�س جتعل الطريق �إىل تغيري‬ ‫�سلوكهم مير �أ�سا�ساً عرب القلب ولي�س العقل‪ ،‬فلغة امل�شاعر والعواطف‬

‫‪5‬‬


‫مفهومة لديهم �أكرث من لغة املنطق و الرباهني‪ ،‬ومن املهم لك�سب‬ ‫عقولهم �أن نك�سب قلوبهم‪ ،‬وهذا يتطلب �أن يكونوا �أثناء خماطبتهم يف‬ ‫و�ضع نف�سي مريح‪.‬‬ ‫املطلب الثاين ‪� :‬ضوابط اخلطاب الإ�سالمي الو�سطي ‪:‬‬ ‫تنطلق قواعد اخلطاب الإ�سالمي من قيم ٍة من �أهم القيم الإ�سالمية‬ ‫�أال وهي االعرتاف بالآخر‪ ،‬وهذا االعرتاف بالآخر ي�ستتبع بطبيعة‬ ‫احلال االلتزام ب�أدب احلوار‪ ،‬كما ن�ص عليه القر�آن الكرمي قال تعاىل‪َ (:‬يا‬ ‫�أَ ُّيهَا ا َّل َ‬ ‫ذِين �آ َم ُنوا ا َّت ُقوا اللهَّ َ َو ُقو ُلوا َق ْو اًل َ�سدِ يدًا)(االحزاب‪ ،)70:‬وتتفرع‬ ‫عن هذه القيمة الرئي�سية فرعيتان‪� :‬أولهما ‪ :‬االنفتاح على الآخر‬ ‫فاهلل عز وجل قد جعل النا�س �شعوباً وقبائل ليتعارفوا ‪،‬وما كان النا�س‬ ‫ليتعارفوا ما مل يفتح كل منهم �أبواب عقله وقلبه على م�صاريعها ملا عند‬ ‫الآخر ‪،‬والنبي الكرمي يقول ‪ ":‬احلكمة �ضالة امل�ؤمن ‪،‬فحيث وجدها‬ ‫فهو �أحق بها " (�سنن الرتمذي ‪�، )51/5‬أما القيمة الفرعية الثانية فهي‬ ‫االعرتاف باالختالف ‪،‬فاهلل عز وجل يبني �أنه قد خلق النا�س خمتلفني‬ ‫ا�س �أُ َّم ًة َواحِ َد ًة َو اَل َي َزا ُلو َن مخُ ْ َت ِل ِف َ‬ ‫ني)‬ ‫قال تعاىل‪َ (:‬و َل ْو َ�شا َء َر ُّب َك لجَ َ َع َل ال َّن َ‬ ‫(هود ‪ ،)118:‬وما كان اهلل لي�أذن بقمع هذا االختالف وهو قد خلق النا�س‬ ‫له‪.‬‬ ‫�أهم �ضوابط اخلطاب الإ�سالمي الو�سطي ‪:‬‬ ‫�أوال‪� :‬أن نتجنب يف خطابنا الإ�سالمي الهجوم على املوروث الثقايف‬ ‫احلميد وكرمي العادات للآخرين‪ ،‬وتر�سيخ وت�أكيد معنى الوالء يف‬ ‫الدولة ذات التنوع الثقايف ي�ؤ�س�س على عقد املواطنة بني امل�سلمني‬ ‫وغريهم‪ ،‬وذلك جتنباً لإثارة الع�صبيات واجلهويات‪ ،‬و�إ�شعار الأقليات‬ ‫ب�أنها مه�ضومة احلقوق‪.‬‬ ‫ثاني ًا‪ :‬على خطابنا الإ�سالمي �أن يتجنب جعل الدين مادة للخالف‬ ‫بني �أبناء الأمة الواحدة‪ ،‬بل �أن ي�سعى لأن يكون مادة للوفاق يف جتاوز‬ ‫اخلالف التاريخي بني املذاهب الإ�سالمية والنظر �إىل امل�ستقبل‪.‬‬ ‫ثالث ًا‪ :‬على خطابنا الإ�سالمي �أن يتجنب احلدية التي تق�سم �أبناء‬ ‫الوطن الواحد �إىل مواطنني من الدرجة الأوىل والثانية‪ ،‬ح�سب الدين‬ ‫�أو العرق �أو الثقافة‪ ،‬والت�أكيد على معاين احلرية وامل�ساواة و�إزالة‬ ‫اال�ضطراب الذي يت�سم به خطاب بع�ض اجلماعات الإ�سالمية‪.‬‬ ‫رابع ًا‪ :‬على خطابنا الإ�سالمي جتنب �إلغاء الآخر و�أن يعمل على �إزالة‬ ‫احلواجز امل�صطنعة بينه وبني التيارات الوطنية الأخرى‪ ،‬ولي�س له �أن‬ ‫يدعي احلقيقة لوحده �أو الرعاية والأبوة للأخرين‪.‬‬ ‫خام�س ًا‪ :‬على خطابنا الإ�سالمي �أن يخرج من املحلية �إىل العاملية‪،‬‬ ‫فيطرح الإ�سالم كح�ضارة وثقافة ومنهاج حياة جتمع بني الأ�صالة‬ ‫واملعا�صرة‪ ،‬ويطرح ر�ؤى جديدة يف معاجلة م�شكالت العامل اليوم (املر�أة‬

‫‪،‬ال�شباب‪ ،‬العدالة‪ ،‬نبذ العنف‪ ،‬حل النزاعات عرب احلوار‪ ،‬التطرف‪،‬‬ ‫حماربة الفقر)‪ ،‬وعليه ُتبنى ق�ضايا ال�شعوب يف الإ�صالح ال�سيا�سي‬ ‫واالقت�صادي والتعامل ب�إيجابيه مع املبادرات الداعية لذلك‪.‬‬ ‫�ساد�س ًا ‪ :‬على اخلطاب الإ�سالمي الرا�شد �أن يكون عقلياً ولي�س غيبياً‪،‬‬ ‫�إال ما ثبت بالدليل القاطع‪ ،‬فالوحي قد انقطع وانتهى نزوله‪ ،‬قال‬ ‫‪(:‬ح ِّرمَتْ َعلَ ْي ُك ُم المْ َ ْي َت ُة َوال َّد ُم َولحَ ْ ُم الخْ ِ ْنزِي ِر َومَا �أُهِ َّل ِل َغيرْ ِ‬ ‫اهلل تعاىل ُ‬ ‫َ‬ ‫ال�س ُب ُع �إِ اَّل مَا‬ ‫اللهَّ ِ ِب ِه َوالمْ ُ ْن َخ ِن َق ُة َوالمْ َ ْو ُقو َذ ُة َوالمْ ُترَ َ ِّد َي ُة َوال َّنطِ َ‬ ‫يح ُة َومَا �أ َك َل َّ‬ ‫ِالَ ْز اَل ِم َذ ِل ُك ْم ف ِْ�س ٌق ا ْل َي ْو َم‬ ‫َذ َّك ْي ُت ْم َومَا ُذ ِب َح َعلَى ال ُّن ُ�صبِ َو�أَنْ َت ْ�س َت ْق�سِ ُموا ب ْ أ‬ ‫َيئ َِ�س ا َّل َ‬ ‫ذِين َك َف ُروا مِ نْ دِي ِن ُك ْم َف اَل َتخْ َ�ش ْوهُ ْم َو ْاخ َ�ش ْونِ ا ْل َي ْو َم �أَ ْك َم ْلتُ َل ُك ْم‬ ‫ال ْ�س اَل َم دِي ًنا َف َم ِن ْ‬ ‫ا�ض ُط َّر فيِ‬ ‫دِي َن ُك ْم َو�أَتمْ َ ْمتُ َعلَ ْي ُك ْم ِن ْع َمتِي َو َر ِ�ضيتُ َل ُك ُم ِْ إ‬ ‫مخَ ْ َم َ�ص ٍة َغيرْ َ ُم َت َجان ٍِف ِ إِل ْث ٍم َف�إِ َّن اللهَّ َ َغ ُفو ٌر َرحِ ي ٌم )(املائدة‪ ،)3 :‬وعلينا‬ ‫�أال نرتدد يف اال�ستفادة من جتارب غرينا‪ ،‬ثقافاتهم‪ ،‬طبيعية تفكريهم‪،‬‬ ‫الإرث الإن�ساين يف البحث العلمي والتكنولوجيا‪.‬‬ ‫�سابع ًا‪ :‬على خطابنا الإ�سالمي �أن يتجه نحو امل�ؤ�س�سية واالبتعاد عن‬ ‫الفردية والديكتاتورية‪ ،‬وذلك ب�إحياء امل�ؤ�س�سات املختلفة وتعزيز دورها‬ ‫ك�أداة لل�شورى‪ ،‬وعدم الترب�ؤ من امل�صطلحات احلديثة مثل الدميقراطية‬ ‫وعليه �أن ي�ستخدمها كجزء من جتديد اخلطاب الإ�سالمي املعا�صر‪.‬‬ ‫ثامن ًا‪ :‬على اخلطاب الإ�سالمي �أن يقدم الأمر باملعروف على النهي‬ ‫عن املنكر يف معاجلة �أمرا�ض املجتمعات الإ�سالمية مثل ( ال�شذوذ‬ ‫والإنحراف ) بد ًال عن عزلهم ونبذهم خ�شية �أن يتحولوا �إىل عنا�صر‬ ‫فا�سدة ومدمرة يف املجتمع‪.‬‬ ‫تا�سع ًا‪ :‬على اخلطاب الإ�سالمي الو�سطي نبذ الغلو ب�أ�شكاله املادية‬ ‫واملعنوية من خالل اللقاءات واملحا�ضرات وتبادل الأفكار مع ال�سا�سة‬ ‫والقياديني �سواء على امل�ستوى الديني �أو الثقايف �أو الأكادميي‪.‬‬ ‫عا�شر ًا‪ :‬على خطابنا الو�سطي الإ�سالمي �أال تخيفه �أ�شباح العوملة‪،‬‬ ‫مادمنا ن�ؤمن ب�أ�صالتنا ونفهم ثقافتنا‪ ،‬ون�ؤمن يف الوقت نف�سه باحلوار‬ ‫واالنفتاح على الآخر‪ ،‬ون�ؤمن بالعلم النافع �إمياناً لي�س له حدود‪ ،‬ف�إن‬ ‫هذه العوملة متثل بالن�سبة �إلينا �إذا �أح�سنا اال�ستفادة منها جواً �صحياً يتيح‬ ‫لنا تعريف النا�س ب�أفكارنا وقيمنا و�أخالقنا‪ ،‬كما يتيح لنا جما ًال نحقق‬ ‫فيه ذاتنا من خالل رفد العلم العاملي واحل�ضارة العاملية مبا ن�ستطيع‪.‬‬ ‫حادي ع�شر‪ :‬ال يعادي اخلطاب الو�سطي الإ�سالمي الثقافات الأخرى‪،‬‬ ‫و�إمنا يناق�شها ويحاورها بالتي هي �أح�سن‪ ،‬وهو ال يخرج على ح�ضارة‬ ‫الع�صر‪ ،‬مبمار�سته ا�ست�شراقاً معكو�ساً‪ ،‬بل يحافظ على ح�ضارته العربية‬ ‫الإ�سالمية القيمة وي�أخذ النافع من ح�ضارة الع�صر‪ ،‬ويطمح �أن ي�ضيف‬ ‫�إىل احل�ضارة العاملية ما ينق�صها من روح وخلق ومثل وقيم‪.‬‬ ‫اجلامعة الأردنية ‪ /‬كلية ال�شريعة ‪ -‬ورقة عمل قدمت مل�ؤمتر الو�سطية الإ�سالمية"‬ ‫املفهوم ‪ ،‬التحديات‪ ،‬الأدوار" �صنعاء ‪/‬اليمن‪ ،‬من ‪2010/5/20-19‬‬

‫‪6‬‬


‫الرقابة الشعبية‬ ‫في المجتمع اإلسالمي‬ ‫بعد تنامي حركة ال�شعوب وثورات ما ي�سمى بالربيع العربي‬ ‫�أ�صبحت الرقابة ال�شعبية تت�صدر حديث ال�سا�سة والإعالميني‪،‬‬ ‫بعد �أن غابت عن املجتمعات الإ�سالمية مدة طويلة يف الوقت‬ ‫الذي كانت ثقافة �سائدة يف املجتمعات الغريبة منذ �أن انطلقت‬ ‫الثورة الفرن�سية حتمل �شعار احلرية والإخاء وامل�ساواة‬ ‫وت�أ�س�ست يف املجتمعات الغربية م�ؤ�س�سات وجمعيات ومنظمات‬ ‫للمجتمع املدين تقوم بدورها الرقابي وحت�سب احلكومات لها‬ ‫�ألف ح�ساب‪.‬‬ ‫فما هي الرقابة ال�شعبية وما �أ�شكالها وما ميزاتها؟ وهل‬ ‫عرف الإ�سالم هذا النوع من الرقابة وهل كانت ثقافة �سائدة يف‬ ‫املجتمع الإ�سالمي؟ هذا ما �س�أو�ضحه يف هذه الورقة‪.‬‬ ‫مفهوم الرقابة ال�شعبية‪:‬‬ ‫يق�صد بالرقابة ال�شعبية دور ال�شعب �أو الأمة يف رقابة �أداء ال�سلطة‬ ‫التنفيذية والتزامها بالقوانني والأنظمة املنبثقة عنها ويف الت�صدي‬ ‫لظاهرة الف�ساد بكل �أ�شكاله‪.‬‬ ‫وتو�صف الدولة احلديثة ب�أنها دولة القانون وامل�ؤ�س�سات‪ ،‬وامل�س�ؤولية‬ ‫يف الدولة احلديثة تعادل ال�سلطة‪ ،‬فبقدر ما يتمتع به �شاغل الوظيفة‬ ‫العامة من �سلطات واخت�صا�صات تكون م�س�ؤوليته‪.‬‬ ‫والرقابة على ال�سلوك الوظيفي ت�أخذ عدة �أ�شكال هي‪:‬‬ ‫الأول‪ :‬الرقابة الداخلية التي متار�سها �أجهزة الدولة نف�سها على‬ ‫�سلوك هيئاتها والعاملني فيها مثل �أجهزة الرقابة والتفتي�ش الإداري‬ ‫وهيئة مكافحة الف�ساد وغريها وهذا ما يعرف يف الفقه الإ�سالمي بنظام‬ ‫احل�سبة واالحت�ساب‪.‬‬ ‫الثاين‪ :‬رقابة الق�ضاء ومرجعيته للبت يف �صحة �أو خط�أ القرارات‬ ‫الإدارية عرب �أجهزة الق�ضاء املتنوعة‪.‬‬ ‫الثالث‪ :‬رقابة املجل�س الت�شريعي النيابي املمثل لل�شعب على �سلوك‬ ‫ال�سلطة التنفيذية‪.‬‬ ‫الرابع‪ :‬رقابة الر�أي العام عرب �أجهزة الإعالم امل�سموعة واملقروءة واملرئية‬ ‫(ما ي�سمى بال�سلطة الرابعة) ويدخل يف هذا النوع رقابة املعار�ضة‬ ‫والأحزاب والنقابات واجلمعيات وكافة م�ؤ�س�سات املجتمع املدين‪.‬‬ ‫وقد �أعطى الد�ستور الأردين للمواطنني احلق يف الرقابة على ال�سلطة‬

‫د‪ .‬حممد احلاج‬ ‫التنفيذية عرب حرية التعبري وت�شكيل الأحزاب واجلمعيات وعرب الأخذ‬ ‫مببد�أ �سماع العرائ�ض التي يقدمها املواطنون �إىل ال�سلطات فقد ن�صت‬ ‫املادة (‪ )17‬على (للأردنيني احلق يف خماطبة ال�سلطات العامة فيما‬ ‫ينوبهم من �أمور �شخ�صية �أو فيما له �صلة بال�ش�ؤون العامة بالكيفية‬ ‫وال�شروط التي يعينها القانون) ‪ .‬كما و�ضح النظام الداخلي ملجل�س‬ ‫النواب �إجراءات تقدمي العرائ�ض وحتويلها من قبل املجل�س �إىل اللجنة‬ ‫الإدارية التي تقدم قرارها �إىل املجل�س وما ي�صدر عن املجل�س يحول‬ ‫�إىل اجلهة احلكومية املخت�صة ويكون قرارا ملزما‪ ،‬كما ت�أ�س�س يف الأردن‬ ‫ديوان املظامل للنظر يف هذه ال�شكاوى واالعرتا�ضات‪.‬‬ ‫ومن �أهم ميزات هذه الرقابة ال�شعبية‪:‬‬ ‫�أوال‪� :‬أنها حتد من الت�سلط والفردية وت�شكل �ضابطا ل�سلوك املوظف‬ ‫فيح�س ب�أنه لي�س مطلق احلرية يف �أن يفعل ما يريد بل هو حتت املراقبة‬ ‫واملحا�سبة وامل�س�ؤولية وهذا بال �شك من �ش�أنه حت�سني �أداء املوظف‬ ‫و�ضبط ت�صرفاته ح�سب القانون ال ح�سب هواه ال�شخ�صي‪.‬‬ ‫ثانيا‪� :‬أنها تنمي الإح�سا�س بامل�س�ؤولية وامل�شاركة عند �أفراد املجتمع‬ ‫بحيث يح�س كل مواطن ب�أن له دورا يف بناء املجتمع الذي ينتمي �إليه‪،‬‬

‫‪7‬‬


‫وبالتايل فهي ت�سهم يف خلق روح االنتماء ال�صادق‪.‬‬ ‫ثالثا‪ :‬ات�ساع رقعة هذه املراقبة و�شمولها كل مرافق املجتمع لأنها ال‬ ‫تعتمد على جهد م�ؤ�س�سة معينة يبقى دورها حمدودا مهما كانت بل‬ ‫ت�شمل رقابة معظم �أفراد ذلك املجتمع‪.‬‬ ‫الرقابة ال�شعبية يف الإ�سالم‪:‬‬ ‫عند هذا املو�ضوع تقفز عدة �أ�سئلة منها‪:‬‬ ‫• هل و�ضع الإ�سالم نظاما للرقابة ال�شعبية كما تفعل الدول‬ ‫الدميقراطية احلديثة؟‬ ‫• هل احلكم يف الإ�سالم فردي وهل �سلطة اخلليفة مطلقة؟‬ ‫• وهل �أعطى الإ�سالم احلق للأمة الرقابة ال�شعبية على الدولة بكل‬ ‫م�ؤ�س�ساتها ملراقبة مدى تطبيقها لد�ستور الأمة والتزامها للقوانني‬ ‫والأنظمة؟‬ ‫ومن خالل الإجابة على هذه الأ�سئلة تبني �أن الإ�سالم قد عرف الرقابة‬ ‫ال�شعبية و�أعطاها دورها يف الرقابة وحتمل امل�س�ؤولية ومكافحة الف�ساد‬ ‫واخللل الذي تقع فيه ال�سلطة التنفيذية يف �سلوكها وتطبيقاتها‬ ‫وميكننا القول بكل ثقة �أن الإ�سالم قد عرف الرقابة ال�شعبية و�أكد على‬ ‫�ضرورة قيامها بدورها الرقابي وقبل �أن �أحتدث عن مظاهر الرقابة‬ ‫ال�شعبية يف الإ�سالم �أود �أن �أ�ؤكد على �أن احلكم يف الإ�سالم لي�س فرديا‬ ‫مبعنى �سلطة اخلليفة املطلقة و�أن ال�شورى ملزمة ولي�س لال�ستئنا�س‬ ‫كما يحلو للبع�ض �أن يقول و�أن الإ�سالم مل يحدد لقبا معينا للحاكم‬ ‫(الإمام‪ ،‬اخلليفة‪� ،‬أمري امل�ؤمنني‪ ،‬ال�سلطان‪ ،‬امللك) كل هذه الألقاب‬ ‫وغريها ميكن �إطالقها على من يتوىل �أمر امل�سلمني‪.‬‬ ‫كما �أن الإ�سالم مل يحدد طريقة معينة الختيار الإمام والأمر الوحيد‬ ‫املتفق عليه هو قبول الأمة لهذا ال�سلطان عرب ما كان يعرف بالبيعة‬ ‫بغ�ض النظر عن طريقة و�أ�سلوب هذه البيعة ونالحظ تنوع طريقة‬ ‫االختيار للخلفاء الرا�شدين فيمكن للأمة �أن تبايع اخلليفة مبا�شرة‬ ‫�أو تختار من �أهل احلل والعقد (باالنتخاب �أو بالتوافق) من ي�ؤدي هذه‬ ‫البيعة‪.‬‬ ‫ومن �أهم مظاهر الرقابة ال�شعبية يف الإ�سالم‪:‬‬ ‫ نظام احل�سبة‬‫واحل�سبة عند الفقهاء �أمر باملعروف �إذا ظهر تركه ونهي عن املنكر �إذا‬ ‫ظهر فعله لقوله �سبحانه( َوالمْ ُ�ؤْمِ ُنو َن َوالمْ ُ�ؤْمِ َن ُ‬ ‫ات َب ْع ُ�ض ُه ْم َ�أ ْو ِل َيا ُء َب ْع ٍ�ض‬ ‫وف َو َي ْن َه ْو َن ع َِن المْ ُ ْن َكر)(التوبة‪.)71 :‬‬ ‫َي�أْ ُم ُرو َن ِبالمْ َ ْع ُر ِ‬ ‫يقول ابن خلدون (�أما احل�سبة فهي وظيفة دينية من باب الأمر‬ ‫باملعروف والنهي عن املنكر الذي هو فر�ض على القائم ب�أمور امل�سلمني‬ ‫�أن يعني لذلك من يراه �أه ً‬ ‫ال له)‪.‬‬ ‫واملحت�سب و�إن كان يعني من احلاكم �إال �أن امل�سلمني كذلك عرفوا‬ ‫احل�سبة ال�شعبية وي�سمى �صاحبها املطوع‪.‬‬

‫ونظام احل�سبة �أعطى للمحت�سب حق الرقابة واملحا�سبة لأي خلل �أو‬ ‫ف�ساد يراه املحت�سب بغ�ض النظر عن فاعله‪.‬‬ ‫ الأمة م�صدر ال�سلطات‪.‬‬‫لقد �أعطى الإ�سالم للأمة �سلطانا يف حقها باختيار من ينوب عنها‬ ‫يف �إدارة �ش�ؤونها‪ ،‬فقد جاء يف املغني (من اتفق امل�سلمون على �إمامته‬ ‫وبيعته‪ ،‬ثبتت �إمامته ووجبت معونته) وهذا يعني �أن الأمة هي �صاحبة‬ ‫احلق يف اختيار اخلليفة‪ ،‬كما �أن لها احلق يف حما�سبته ومراقبته وعزله‬ ‫حال عدم ا�ستقامته‪.‬‬ ‫فاخلليفة يف نظر الإ�سالم نائب عن الأمة يحكم با�سمها وما �أجمل‬ ‫ما قاله املاوردي ( و�إذا كان تقليد الأمري من قبل اخلليفة مل ينعزل‬ ‫مبوت اخلليفة‪ ،‬و�إن كان من قبل الوزير انعزل مبوت الوزير‪ ،‬لأن تقليد‬ ‫اخلليفة نيابة عن امل�سلمني �أما تقليد الوزير فهو نيابة عن نف�سه)‪.‬‬ ‫والأدلة على حق الأمة يف حما�سبة احلاكم ومراقبته كثرية منها الآيات‬ ‫القر�آنية املطلقة يف الأمر باملعروف والنهي عن املنكر ‪ ،‬ومنها قوله �صلى‬ ‫اهلل عليه و�سلم ( �إذا ر�أيت �أمتي تهاب �أن تقول للظامل يا ظامل فقد تودع‬ ‫منها )‪ .‬وقال �صلى اهلل عليه و�سلم( من ر�أى �سلطانا جائرا م�ستحال‬ ‫حلرم اهلل ناكثا لعهد اهلل خمالفا ل�سنة ر�سول اهلل يعمل يف عباد اهلل‬ ‫بالإثم والعدوان فلم يغري بقول وال فعل كان حقا على اهلل �أن يدخله‬ ‫مدخله)‪.‬‬ ‫والأحاديث النبوية يف الأمر باملعروف والنهي عن املنكر والتحذير‬ ‫من تركه كثرية منها قوله �صلى اهلل عليه و�سلم( لت�أمرن باملعروف‬ ‫ولتنهون عن املنكر �أو لي�سلطن اهلل عليكم �شراركم فيدعو خياركم فال‬ ‫ي�ستجاب لهم ) ويف رواية (�أو لي�ضربن اهلل قلوب بع�ضكم ببع�ض)‪.‬‬ ‫وكان اخللفاء يف الإ�سالم يدركون هذه احلقيقة وال يتنكرون لها‪ ،‬فهذا‬ ‫�أبو بكر يقول يف خطبته عند توليه اخلالفة (�إن �أح�سنت ف�أعينوين و�إن‬ ‫�أ�س�أت فقوموين �أطيعوين ما �أطعت اهلل فيكم ف�إن ع�صيت فال طاعة يل‬ ‫عليكم)‪.‬‬ ‫وهذا عمر يقول (من ر�أى منكم يف اعوجاجا فليقومه) ويقول‬ ‫(الأخري فيكم �إن مل تقولوها وال خري فينا �إن مل ن�سمعها) وقد رد‬ ‫�أبو بكر الأمر �صراحة للأمة حني قال( �إن الذي ر�أيتم مني مل يكن‬ ‫حر�صا على واليتكم ولكني خفت الفتنة وقد رددت �أمركم �إليكم فولوا‬ ‫من �شئتم)‪.‬‬ ‫ومن �أبرز مظاهر الرقابة ال�شعبية الدور الذي �أعطاه الإ�سالم للعلماء‬‫حيث عرف التاريخ الإ�سالمي دورا بارز لعلماء امل�سلمني يف حما�سبة‬ ‫احلكام ومراقبتهم وم�ساءلتهم والت�صدي لظلمهم �أو انحرافهم �أو‬ ‫ف�سادهم ومواقف العلماء يف ذلك كثرية يف كافة الع�صور الإ�سالمية‪.‬‬ ‫و�صلى اهلل على نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه و�سلم‪.‬‬

‫‪8‬‬


‫وسائل تحقيق الوسطية‬ ‫ودفع الغلو‬

‫د‪� .‬إبراهيم بن �سعيد الدو�سري‬

‫ِّل ْل ُم�ؤْمِ ِن َ‬ ‫ِ�صا ُل ُه‬ ‫ن�سا َن ِب َوا ِل َد ْي ِه َح َملَ ْت ُه �أُ ُّم ُه وَهْ ًنا َعلَى وَهْ ٍن َوف َ‬ ‫ني َو َو َّ�ص ْي َنا ْ إِ‬ ‫ال َ‬ ‫ري)(لقمان‪َ (،)14 :‬و ِ�إن‬ ‫فيِ عَا َمينْ ِ �أَنِ ْا�ش ُك ْر ليِ َو ِل َوا ِل َد ْي َك ِ�إليَ َّ المْ َ ِ�ص ُ‬ ‫َجا َهد َ‬ ‫َاك عَلى �أَن ُت ْ�شر َِك بِي مَا َل ْي َ�س َل َك ِب ِه عِ ْل ٌم َف اَل ُتطِ ْع ُه َما َو َ�صاحِ ْب ُه َما‬ ‫اب �إِليَ َّ ُث َّم �إِليَ َّ َم ْرجِ ُع ُك ْم َف�أُ َن ِّب ُئ ُكم مِبَا‬ ‫فيِ الدُّ ْن َيا َم ْع ُرو ًفا َوا َّت ِب ْع َ�سبِي َل َمنْ �أَ َن َ‬ ‫ُكن ُت ْم َت ْع َم ُلو َن)(لقمان‪َ (،)15:‬يا ُب َن َّي �إِ َّنهَا �إِن َت ُك مِ ْث َقا َل َح َّب ٍة ِّمنْ َخ ْردَلٍ‬ ‫الَ ْر ِ�ض َي ْ�أتِ ِبهَا اللهَّ ُ �إِ َّن اللهَّ َ َلطِ ٌ‬ ‫يف‬ ‫ال�س َما َواتِ �أَ ْو فيِ ْ أ‬ ‫َف َت ُكن فيِ َ�صخْ َر ٍة �أَ ْو فيِ َّ‬ ‫وف َوا ْن َه ع َِن المْ ُن َك ِر‬ ‫ال�ص اَل َة َو�أْ ُم ْر ِبالمْ َ ْع ُر ِ‬ ‫ري )(لقمان‪َ (،)16:‬يا ُب َن َّي �أَق ِ​ِم َّ‬ ‫َخ ِب ٌ‬ ‫الُمُو ِر )(لقمان‪َ (،)17:‬و اَل‬ ‫ا�صبرِ ْ َعلَى مَا �أَ َ�صا َب َك ِ�إ َّن َذل َِك مِ نْ َع ْز ِم ْ أ‬ ‫َو ْ‬ ‫الَ ْر ِ�ض َم َر ًحا �إِ َّن اللهَّ َ اَل يُحِ ُّب ُك َّل مخُ ْ َتالٍ‬ ‫ا�س َو اَل تمَ ْ ِ�ش فيِ ْ أ‬ ‫ُت َ�ص ِّع ْر َخد َ​َّك لِل َّن ِ‬ ‫َف ُخورٍ)(لقمان‪َ ( ،)18:‬وا ْق ِ�ص ْد فيِ م َْ�شي َِك َو ْاغ ُ�ض ْ‬ ‫�ض مِ ن َ�ص ْوت َِك ِ�إ َّن َ�أن َك َر‬ ‫ري )(لقمان‪.)19:‬‬ ‫ْأ‬ ‫الَ ْ�صوَاتِ َل َ�ص ْو ُت الحْ َ مِ ِ‬ ‫واملوعظة ت�أتي يف القر�آن الكرمي �صريحة كما يف الآيات ال�سابقة‪،‬‬ ‫وت�أتي من خالل االعتبار مبن �سبق ‪ ،‬قال ال�شيخ حممد الطاهر بن‬ ‫عا�شور‪:‬‬ ‫(وقوله‪َ :‬يا �أَهْ َل ا ْل ِك َتابِ َال َت ْغ ُلواْ فيِ دِي ِن ُك ْم)وقوله ( َف َما َر َع ْوهَا َح َّق‬ ‫ِرعَا َي ِتهَا) ف�إن ذلك متعلق ب�أهل الكتاب ابتداء ‪ ،‬ومراد منه موعظة هذه‬ ‫الأمة لتجتنب الأ�سباب التي �أوجبت غ�ضب اهلل على الأمم ال�سابقة‬ ‫و�سقوطها‪ ،‬وت�صديق ذلك يف القر�آن الكرمي حيث يقول احلق تبارك‬ ‫ال�س ْبتِ َف ُق ْل َنا َل ُه ْم ُكو ُنواْ‬ ‫وتعاىل ( َو َل َق ْد َع ِل ْم ُت ُم ا َّلذِ َ‬ ‫ين ْاع َتدَواْ مِ ن ُك ْم فيِ َّ‬ ‫ِق َر َد ًة َخا�سِ ِئ َ‬ ‫ني )(البقرة‪َ ()65 :‬ف َج َع ْل َناهَا َن َكا ًال لمِّ َا َبينْ َ َي َد ْيهَا َومَا َخ ْل َفهَا‬ ‫َو َم ْوعِ َظ ًة ِّل ْل ُم َّت ِق َ‬ ‫ني )(البقرة‪.)66:‬‬ ‫‪ -2‬ال�صحبة‪ :‬ال يخفى ما لل�صحبة من �أثر فاعل يف اكت�ساب الأخالق‬ ‫�سلبا �أو �إيجابا‪ ،‬وم�سارقة الطبع ت�ؤدي يف ذلك دورا كبريا‪�( ،‬إذ الطبع‬ ‫ي�سرق من الطبع ال�شر واخلري جميعا)‪ .‬وق�صة �أ�صحاب اجلنة يف �سورة‬ ‫القلم �شاهد حي على ما لل�صحبة من �أهمية يف ا�ستمداد القرناء بع�ضهم‬ ‫من بع�ض الطاقات الأخالقية حيث يقول اهلل تبارك وتعاىل(�إ َّنا َبلَ ْو َناهُ ْم‬ ‫اب الجْ َ َّن ِة �إِ ْذ �أَ ْق َ�س ُموا َل َي ْ�ص ِر ُم َّنهَا م ُْ�صبِحِ َ‬ ‫ني َو اَل َي ْ�س َت ْثنون‬ ‫َك َما َبلَ ْو َنا �أَ ْ�ص َح َ‬ ‫َف َط َ‬ ‫مي َف َت َنادَوا‬ ‫اف َعلَ ْيهَا َطائ ٌِف مِّن َّر ِّب َك َوهُ ْم َنا ِئ ُمو َن َف�أَ ْ�ص َب َحتْ َك َّ‬ ‫ال�ص ِر ِ‬ ‫ني َف َ‬ ‫ني �أَنِ ْاغدُوا َعلَى َح ْر ِث ُك ْم �إِن ُكن ُت ْم َ�صارِمِ َ‬ ‫م ُْ�صبِحِ َ‬ ‫انطلَ ُقوا َوهُ ْم‬

‫�إن الرتبية الأخالقية �أحد الدعائم الأ�سا�سية يف بناء‬ ‫الفرد امل�سلم �إذ هي عملية ت�ؤدي �إىل بناء فكر وفعل �أخالقي‬ ‫مبا حوته من و�سائل كفيلة ميكن من خاللها تطبيق د�ستور‬ ‫الأخالق يف القر�آن الكرمي وهذه الو�سائل ت�ؤول �إىل جمموعتني‬ ‫‪ :‬و�سائل دافعة وو�سائل مانعة‪� ،‬أما الو�سائل الدافعة فهي التي‬ ‫تنمي اال�ستعداد النف�سي لفعل اخلريات مثل القدوة ال�صاحلة‬ ‫واملوعظة وال�صحبة‪ ،‬واملجموعة الثانية هي الو�سائل املانعة‬ ‫وهي التي حتول بني املرء ورغبته يف �سيئ الأخالق‪ ،‬وتعطل‬ ‫�إرادته وا�ستعداده من الوقوع فيها ومن بني تلك الو�سائل املانعة‬ ‫االعتبار والرتهيب والعقوبة ‪.‬‬ ‫�إن الرتبية الأخالقية يف نظرة الإ�سالم تت�سم بالعمق‬ ‫وال�شمول‪ ،‬حيث �إنها تتناول جميع اجلوانب الإيجابية للرتبية‬ ‫املتكاملة‪ ،‬من �أهمها تكوين الب�صرية عند املرء ليميز بني �سلوكي‬ ‫اخلري وال�شر وحتذير الغري منها‪،‬وحتليلها بف�ضائل اخلري‪،‬‬ ‫والداللة �إليها ‪.‬‬ ‫واحلق �أن القر�آن الكرمي قد ز ّود نظامه الأخالقي بقاعدة تربوية‬ ‫غاية يف الكمال‪ ،‬وقد انتظم يف هذه القاعدة جملة من الو�سائل الكفيلة‬ ‫بتفعيل التعاليم الأخالقية‪ ،‬و�إيجاد العالج واحللول املنا�سبة لكل‬ ‫انحراف �أو ت�سيب يف الأخالق‪ ،‬ومعنى هذا �أنها ذات طابع �إ�صالحي‬ ‫ودعوي فاحلاجة �إىل �إبرازها و�إعمالها �ضرورة اجتماعية‪.‬‬ ‫�أوال ‪ :‬الو�سائل الدافعة وهي الو�سائل التي تنمي اال�ستعداد لفعل‬ ‫اخلريات واملداومة عليها والرتقي يف معارج الف�ضيلة ‪ ،‬ومنها ‪:‬‬ ‫‪ -1‬املوعظة ‪ :‬وهي التذكري باخلري فيما يرق له القلب ‪ ،‬وتعد املوعظة‬ ‫من �أقوى الأ�ساليب و�أجنع الو�سائل ‪ ،‬ولهذا �س ّمى اهلل القر�آن الكرمي‬ ‫ا�س َق ْد َجاء ْت ُكم َّم ْوعِ َظ ٌة مِّن‬ ‫موعظة كما يف قوله تعاىل( َيا �أَ ُّيهَا ال َّن ُ‬ ‫ال�صدُو ِر َوهُ دًى َو َر ْح َم ٌة ِّل ْل ُم�ؤْمِ ِن َ‬ ‫ني)( يون�س‪.)57 :‬‬ ‫َّر ِّب ُك ْم َو�شِ َفاء لمِّ َا فيِ ُّ‬ ‫وقد ا�ستعمل القر�آن الكرمي املوعظة يف ال�سياق الرتبوي يف كثري من‬ ‫املنا�سبات‪ ،‬ويظهر ذلك جليا يف مواعظ لقمان احلكيم البنه‪َ (:‬يا �أَ ُّيهَا‬ ‫ال�صدُو ِر َوهُ دًى َو َر ْح َم ٌة‬ ‫ا�س َق ْد َجاء ْت ُكم َّم ْوعِ َظ ٌة مِّن َّر ِّب ُك ْم َو�شِ َفاء لمِّ َا فيِ ُّ‬ ‫ال َّن ُ‬

‫‪9‬‬


‫َي َت َخا َف ُتو َن �أَن اَّل َيد ُْخلَ َّنهَا ا ْل َي ْو َم َعلَ ْي ُكم م ِّْ�س ِك ٌ‬ ‫ني َو َغ َد ْوا َعلَى َح ْر ٍد َقا ِدر َ‬ ‫ِين‬ ‫َفلَ َّما َر�أَ ْوهَا َقا ُلوا ِ�إ َّنا َل َ�ضا ُّلو َن َب ْل َن ْح ُن محَ ْ ُرومُو َن َقا َل �أَ ْو َ�س ُط ُه ْم �أَلمَ ْ‬ ‫�أَ ُقل َّل ُك ْم َل ْو اَل ُت َ�س ِّب ُحو َن َقا ُلوا ُ�س ْب َحا َن َر ِّب َنا �إِ َّنا ُك َّنا َظالمِ ِ َ‬ ‫ني َف�أَ ْق َب َل َب ْع ُ�ض ُه ْم‬ ‫َعلَى َب ْع ٍ�ض َي َت اَل َومُو َن َقا ُلوا َيا َو ْيلَ َنا �إِ َّنا ُك َّنا َطاغِ َ‬ ‫ني ع َ​َ�سى َر ُّب َنا �أَن ُي ْبدِ َل َنا‬ ‫َخيرْ ً ا ِّم ْنهَا �إِ َّنا �إِلىَ َر ِّب َنا َراغِ ُبو َن َك َذل َِك ا ْل َع َذ ُاب َو َل َع َذ ُاب ْالآخِ َر ِة �أَ ْكبرَ ُ َل ْو‬ ‫َكا ُنوا َي ْعلَ ُمو َن)(القلم‪� . )33-17:‬أو�سطهم �أي ‪� (:‬أعدلهم قوال وعقال‬ ‫وخلقا)‪،‬والآية تدل على �أن هذا الأو�سط حذرهم من الوقوع يف املع�صية‬ ‫قبل وقوع العذاب فلم يطيعوه ‪ ،‬فلما ر�أوا العذاب ذكرهم ذلك الكالم‪،‬‬ ‫( َقا ُلوا ُ�س ْب َحا َن َر ِّب َنا �إِ َّنا ُك َّنا َظالمِ ِ َ‬ ‫ني)(القلم‪ )29 :‬فكان تذكري �أو�سطهم‬ ‫�أحد �أ�سباب توبتهم‪ ،‬ولو ا�ستجابوا له �أوال النتفعوا ب�ستانهم‪ ،‬بيد �أنهم‬ ‫ا�ستطاعوا �أن ي�ؤثروا عليه‪ ،‬حتى �أزرى به بخله ف�أ�صابه ما �أ�صابهم‪.‬‬ ‫وقد جاء التنويه بال�صحبة وما لها من �أثر فاعل يف �آيات كثرية ومنها‬ ‫الظالمِ ُ َعلَى َي َد ْي ِه َي ُق ُ‬ ‫قوله تعاىل‪َ (:‬و َي ْو َم َي َع ُّ�ض َّ‬ ‫ول َيا َل ْي َتنِي ا َّت َخ ْذ ُت َم َع‬ ‫ال َّر ُ�سولِ َ�سب اً‬ ‫ِيل )(الفرقان‪ .)27:‬وقوله تعاىل( ُق ْل �أَ َن ْدعُو مِ ن دُونِ اللهّ ِ مَا‬ ‫َال َين َف ُع َنا َو َال َي ُ�ض ُّر َنا َو ُن َر ُّد َعلَى �أَ ْع َقا ِب َنا َب ْع َد �إِ ْذ َهدَا َنا اللهّ ُ َكا َّلذِ ي ْا�س َت ْه َو ْت ُه‬ ‫َّ‬ ‫ال�ش َياطِ ُ‬ ‫اب َي ْدعُو َن ُه �إِلىَ ا ْل ُهدَى ا ْئ ِت َنا ُق ْل �إِ َّن‬ ‫ني فيِ الأَ ْر ِ�ض َحيرْ َ ا َن َل ُه �أَ ْ�ص َح ٌ‬ ‫هُ دَى اللهّ ِ هُ َو ا ْل ُهدَىَ َو�أُمِ ْر َنا ِل ُن ْ�س ِل َم ِل َر ِّب ا ْل َعالمَ ِ َ‬ ‫ني)(الأنعام‪.)72 :‬‬ ‫‪ -3‬القدوة احل�سنة ‪ :‬وهي و�سيلة عملية يف البناء اخللقي‪ ( ،‬ولن ت�صلح‬ ‫الرتبية �إال �إذا اعتمدت على الأ�سوة احل�سنة )‪ ،‬والقر�آن الكرمي حافل‬ ‫بنماذج حية لل�شخ�صيات الأخالقية الكرمية ‪ ،‬للرتغيب يف �أخالقهم ‪،‬‬ ‫وحماكاة احل�سن منها ‪ ،‬قال تعاىل‪�(:‬أُ ْو َلـئ َِك ا َّلذِ َ‬ ‫ين َهدَى اللهّ ُ َف ِب ُهدَاهُ ُم‬ ‫ا ْق َتدِ هْ)(الأنعام‪ ،)90:‬كما حفل بنماذج �أخرى �ضدها للتنفري من‬ ‫حماكاتها‪ ،‬قال ابن حزم ‪ (:‬ولهذا يجب �أن ت�ؤرخ الف�ضائل والرذائل ‪،‬‬ ‫ليفر �سامعها من القبيح امل�أثور عن غريه‪ ،‬ويرغب يف احل�سن املنقول‬ ‫عمن تقدمه ويتعظ مبا �سلف )‪ .‬ومن ثم �سيق يف القر�آن الكرمي جتارب‬ ‫الأنبياء الأخيار لينتفع منها النبي �صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬فلما �أمر‬ ‫حممد عليه ال�صالة وال�سالم ب�أن يقتدي بالكل‪ ،‬فك�أنه �أمر مبجموع ما‬ ‫كان متفرقا فيهم‪ ،‬وملا كان ذلك درجة عالية مل تتي�سر لأحد من الأنبياء‬ ‫قبله ال جرم و�صف اهلل خلقه ب�أنه عظيم ‪ ،‬وبهذا يت�ضح مفاد التعبري‬ ‫يم)(القلم‪،)4 :‬‬ ‫بحرف اال�ستعالء يف قوله تعاىل( َو�إِ َّن َك َل َعلى ُخ ُلقٍ عَظِ ٍ‬ ‫�إذ دل على ا�ستعالء الر�سول �صلى اهلل عليه و�سلم على جميع الأخالق‬ ‫اجلميلة ومتكنه منها‪ ،‬وال �سيما �أنه بعث ليتمم مكارم الأخالق‪ ،‬ويف‬ ‫احلديث ال�شريف‪� (:‬إمنا بعثت لأمتم مكارم الأخالق)‪.‬و�إذا كانت طريقة‬ ‫القر�آن فيما يذكره اهلل عن �أهل العلم والأنبياء واملر�سلني على وجه‬ ‫املدح للت�أ�سي بهم ‪ ،‬فال جرم �أن ما امتدح اهلل به ر�سوله �صلى اهلل عليه‬

‫‪10‬‬

‫و�سلم من عظيم اخللق يقت�ضي اتخاذه مثال �أعلى ‪ ،‬ثم �إنه قد جاء ذلك‬ ‫�صريحا يف قوله تعاىل‪َ (:‬ل َق ْد َكا َن َل ُك ْم فيِ َر ُ�سولِ اللهَّ ِ �أُ ْ�س َو ٌة َح َ�س َن ٌة)‪ ،‬قال‬ ‫ابن حزم ‪ (:‬من �أراد خري الآخرة وحكمة الدنيا وعدل ال�سرية واالحتواء‬ ‫على حما�سن الأخالق كلها وا�ستحقاق الف�ضائل ب�أ�سرها فليقتد مبحمد‬ ‫ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم ‪ ،‬ولي�ستعمل �أخالق �سريته ما �أمكنه)‪.‬‬ ‫ثانيا ‪ :‬الو�سائل املانعة ‪ :‬وهي التي حتول دون فاعلية الرغبة يف الأخالق‬ ‫ال�سيئة وتعطل الإرادة واال�ستعداد لفعلها ‪ ،‬فهي طرق وقاية وعالج ملا‬ ‫يطر�أ على الأخالق من عوامل االنحراف واالنحالل اخللقي الذي‬ ‫يعتور النف�س ب�سبب الهوى �أو ال�شيطان �أو غريهما ‪.‬‬ ‫وال ريب �أن تلك الو�سائل من الأ�ساليب الناجعة يف جمال الرتبية‬ ‫الأخالقية‪ ،‬ملا لها من �سلطة على كبح اجلرم اخللقي‪ ،‬وتهذيب ال�سلوك‪،‬‬ ‫ف�إن كان ثمة مكنة من التوبة من قبل الفاعل فذلك مق�صد �أ�سمى من‬ ‫مقا�صد العقوبة يف الإ�سالم مهما كانت �ضخامة الذنب‪ ،‬ف�إن مل يكن ف�إن‬ ‫العربة قائمة ملن بعدها ‪.‬‬ ‫و�إذا كان ب�صدد حتقيق الو�سطية ودفع الغلو ؛فمن املنا�سب التنبيه‬ ‫�إىل �أن معاقبة الغالة واملبتدعة �إحدى و�سائل العالج التي ت�ضمنتها‬ ‫�آيات احلدود والق�صا�ص والتعزيز‪ ،‬وهي كثرية جدا‪ ،‬والعقوبة لهذا‬ ‫ال�صنف من النا�س تختلف بح�سب نوع اجلرم الذي رمبا ي�صل بغلوه‬ ‫�إىل حد الكفر وقد يعاقب بالق�صا�ص حني يقتل م�سلما مع�صوم الدم‬ ‫‪ ،‬وبهذا يتبني �أن الغلو قد ي�صل �إىل درجة الإف�ساد يف الأر�ض فحينئذ‬ ‫ينطبق عليه قول اهلل تعاىل ‪�(:‬إِنمَّ َ ا َج َزاء ا َّلذِ َ‬ ‫ين ُي َحا ِر ُبو َن اللهّ َ َو َر ُ�سو َل ُه‬ ‫َو َي ْ�س َع ْو َن فيِ الأَ ْر ِ�ض َف َ�سادًا �أَن ُي َق َّت ُلواْ �أَ ْو ُي َ�ص َّل ُبواْ �أَ ْو ُت َق َّط َع �أَ ْيدِ ي ِه ْم َو َ�أ ْر ُج ُلهُم‬ ‫الف �أَ ْو ُين َف ْواْ مِ َن الأَ ْر ِ�ض َذل َِك َل ُه ْم خِ ْزيٌ فيِ الدُّ ْن َيا َو َل ُه ْم فيِ الآخِ َر ِة‬ ‫ِّمنْ خِ ٍ‬ ‫َع َذ ٌاب عَظِ ي ٌم)(املائدة‪ ،)33:‬ويلحظ يف هذه الآية �أنها تناولت �أنواعا من‬ ‫العقوبات‪ ،‬فمنها ما يقع على اجل�سد‪ ،‬وذلك يف �أول الآية وهو التقتيل �أو‬ ‫ال�صلب �أو التقطيع ‪ ،‬ومنها عقوبات نف�سية وذلك باخلزي الذي يلحق‬ ‫بهم‪ ،‬ومنها عقوبات اجتماعية ت�أديبية وذلك بالنفي‪ ،‬ومنها عقوبات‬ ‫�أخروية‪ (،‬ولهم يف الآخرة عذاب عظيم ) ن�س�أل اهلل العافية‪ ،‬وملا كانت‬ ‫العقوبة �أحد املقا�صد الأخالقية التي جاء القر�آن الكرمي لي�ؤكد عليها‬ ‫�ضمن �أجزيته الإ�صالحية لذلك جند �أن الدعوة �إىل التوبة تعقب ذكر‬ ‫تلك العقوبات لتفتح طريقا �إىل العودة‪ ،‬وذلك ما جنده عقب هذه الآية‬ ‫و�أمثالها‪ ،‬حيث يقول اهلل تعاىل بعد �آية احلرابة املذكورة �آنفا(�إِ َّال ا َّل َ‬ ‫ذِين‬ ‫َتا ُبواْ مِ ن َق ْبلِ �أَن َت ْقدِ ُرواْ َعلَ ْي ِه ْم َف ْاعلَ ُمواْ �أَ َّن اللهّ َ َغ ُفو ٌر َّرحِ ي ٌم )(املائدة‪.)34 :‬‬


‫وسطية شيخ اإلسالم ابن تيمية ‪..‬‬ ‫�إنَّ من �أنفع ما يقدم للنا�س‪ ،‬ما ينفعهم يف دينهم ودنياهم‪،‬‬ ‫خ�صو�ص ًا �إذا كان ما يقدم لهم‪ ،‬قائم ًا على فهم �صحيح دقيق‪ ،‬ال‬ ‫جماملة فيه وال خمادعة‪ ،‬ال غلو وال تق�صري‪� ،‬إذ �سمة العدل يف‬ ‫القول والعمل‪� ،‬صفة هذه الأ َّمة‪ ،‬التي تتمثل خطى ر�سول اهلل‬ ‫�صلى اهلل عليه و�سلم‪ -‬وخري من ميثلها هم ورثة ر�سول اهلل‬‫�صلى اهلل عليه و�سلم‪ -‬العلماء‪ ،‬ومما ال �شك فيه �أنَّ ابن تيمية‬‫كان من فحول علماء هذه الأ َّمة‪ ،‬الأمر الذي جعل الكثريين‬ ‫يدر�سون �آراءه‪ ،‬وي�ستقون منها ليطبقوها واقع ًا وعم ًال‪ ،‬وهو �أهل‬ ‫لذلك‪ ،‬وقد ُعرف عن �شيخ الإ�سالم �سعة علمه واطالعه‪ ،‬الأمر‬ ‫الذي جعل لقوله ور�أيه قبو ًال‪ ،‬خ�صو�ص ًا �أنه ميتاز باملو�ضوعية‬ ‫واحلياد فيما يطرح من �آراء‪ ،‬ومن املعلوم �أنَّ من �أراد �أن يخرج‬ ‫بر�أي �صواب لعامل كرث كالمه وتفرق‪ ،‬فله يف ذلك �أحد طريقني‪:‬‬ ‫الأول‪� :‬أن ينظر فيه �إن كان جمم ً‬ ‫ال �أو عاماً �أو مطلقاً‪ ،‬فال بد و�أن يكون‬ ‫له كالم �آخر‪ ،‬يبني ما �أجمل‪ ،‬ويخ�ص�ص ما عمم‪ ،‬ويقيد ما �أطلق‪ ،‬فال‬ ‫يحل الأخذ بقوله دون حمله ‪.‬‬ ‫الثاين‪� :‬أن تكون امل�س�ألة �أو املو�ضوع‪ ،‬له حيثيات متعددة‪ ،‬لكرثة تعلقاته‪،‬‬ ‫فعندها ال بد من بحث كل ما تناوله العامل‪ ،‬وجمعه يف مكان واحد‪ ،‬ثم‬ ‫ا�ستقرا�ؤه مبا يدل عليه كالمه منطوقاً �أو مفهوماً‪ ،‬ثم يذكر ر�أيه فيما‬ ‫بعد‪.‬‬ ‫وم�س�ألتنا من النوع الثاين‪ ،‬الذي نحتاج لأجل الو�صول �إىل ر�أي‬ ‫ال�شيخ ابن تيمية‪ ،‬لنربز اعتداله فيما نحن ب�صدده‪ ،‬هي من النوع‬ ‫الثاين‪ ،‬لذا �سيتم الإ�شارة ب�إجمالٍ �إىل املو�ضوعات التي تبني ر�أي ال�شيخ‪،‬‬ ‫ثم التدليل على ذلك من كالمه يف كتبه –رحمه اهلل تعاىل‪.-‬‬ ‫تعريف اجلهاد‪:‬‬ ‫اجلهاد‪� :‬أ�صله من اجلهد‪ ،‬بفتح اجليم و�ضمها‪ ،‬الطاقة‪ .‬واجلهاد‪:‬‬ ‫الأر�ض امل�ستوية‪ ،‬وقيل الغليظة‪ ،‬وقال �أبو عمرو‪ :‬الأر�ض اجلدبة‪،‬‬ ‫واجلهاد‪ :‬املبالغة وا�ستفراغ الو�سع يف احلرب �أو الل�سان �أو ما �أطاق من‬ ‫�شيء‪ .‬ا‪.‬هـ الل�سان‪ :‬جهد‪133/3 ،‬‬ ‫قلت‪ :‬ومن �أ�صل هذه املادة‪� ،‬صاغ الفقهاء عبارتهم يف تعريف اجلهاد‪،‬‬

‫�أ‪� .‬سمري مراد‬ ‫ومنهم ابن تيمية –رحمه اهلل تعاىل– فقال‪" :‬واجلهاد‪ :‬هو بذل‬ ‫الو�سع‪ ،‬وهو القدرة يف ح�صول حمبوب احلق‪ ،‬ودفع ما يكرهه احلق"‬ ‫ا‪.‬هـ جمموع الفتاوى ‪.192/10‬‬ ‫لأ َّن اجلهاد حقيقة االجتهاد يف ح�صول ما يحبه اهلل من الإميان والعمل‬ ‫ال�صالح‪ ،‬ومن دفع ما يبغ�ضه اهلل من الكفر والف�سوق والع�صيان ا‪.‬هـ‬ ‫جمموع الفتاوى ‪.191/10‬‬ ‫وقال‪" :‬واجلهاد ينق�سم �أق�ساماً ثالثة‪� :‬أحدها‪ :‬الدعاء �إىل اهلل تعاىل‬ ‫بالل�سان‪ .‬والثاين‪ :‬اجلهاد عند احلرب بالر�أي والتدبري‪ .‬والثالث‪:‬‬ ‫اجلهاد باليد يف الطعن وال�ضرب‪ ...‬الق�سم الثالث‪ ،‬وهو الطعن‬ ‫وال�ضرب واملبارزة‪ ،‬فوجدناه �أقل مراتب اجلهاد بربهان �ضروري‪،‬‬ ‫وهو �أ َّن ر�سول اهلل ‪�-‬صلى اهلل عليه و�سلم‪ -‬ال �شك عند كل م�سلم يف �أنه‬ ‫املخ�صو�ص بكل ف�ضيلة‪ ،‬فوجدنا جهاده –�صلى اهلل عليه و�سلم– �إمنا‬ ‫كان يف �أكرث �أعماله و�أحواله بالق�سمني الأولني من الدعاء �إىل اهلل عز‬ ‫وجل والتدبري والإرادة‪ ،‬وكان �أقل عمله الطعن وال�ضرب واملبارزة‪ ،‬ال‬ ‫عن جنب‪ ،‬بل كان �أ�شجع �أهل الأر�ض قاطبة نف�ساً ويداً‪ ،‬و�أمتهم جندة‪،‬‬ ‫ولكنه كان ي�ؤثر الأف�ضل فالأف�ضل من الأعمال‪ ،‬فيقدّمه وي�شتغل به"‪.‬‬ ‫ا‪.‬هـ منهاج ال�سنة النبوية ‪.88،87/8‬‬

‫‪11‬‬


‫مقا�صده وغايته‪:‬‬ ‫لكل ما �شرعه اهلل تعاىل من �أوامر ونواهٍ‪ ،‬مقا�صد وحكم‪ ،‬لأجلها‬ ‫كان الت�شريع‪ ،‬وحتى تكون هذه املقا�صد واحلكم والعلل‪� ،‬ضابطاً يف‬ ‫ثبوت احلكم �أو انتفائه‪ ،‬ومن هذه الت�شريعات التي ق�صد منها �أمور‬ ‫عظيمة‪ ،‬اجلهاد يف �سبيل اهلل تعاىل‪ ،‬ويف هذا يقول ابن تيمية –رحمه‬ ‫اهلل تعاىل‪" :-‬و�إذا كان �أ�صل القتال امل�شروع هو اجلهاد‪ ،‬ومق�صوده هو‬ ‫�أن يكون الدين كله هلل‪� ،‬أن تكون كلمة اهلل هي العليا ‪ ...‬وذلك �أ َّن اهلل‬ ‫تعاىل �أباح من قتل النفو�س ما ُيحتاج �إليه يف �صالح اخللق‪ ،‬كما قال‬ ‫تعاىل‪َ (:‬وا ْل ِف ْت َن ُة �أَ ْكبرَ ُ مِ َن ا ْل َق ْتلِ )(البقرة‪� ،)217 :‬أي �أ َّن القتل و�إن كان‬ ‫فيه �شر وف�ساد ففي فتنة الكفار من ال�شر والف�ساد ما هو �أكرب" ا‪.‬هـ‬ ‫جمموع الفتاوى ‪354/28‬‬ ‫وقال‪" :‬واجلهاد مق�صوده �أن تكون كلمة اهلل هي العليا‪ ،‬و�أن يكون الدين‬ ‫كله هلل‪ ،‬فمق�صوده �إقامة دين اهلل‪ ،‬ال ا�ستيفاء الرجل حظه" ا‪,‬هـ جمموع‬ ‫الفتاوى ‪.170/15‬‬ ‫قلت‪ :‬وعلى هذا فيكون مق�صود اجلهاد يف �سبيل اهلل تعاىل حتقيق‬ ‫م�صلحة التوحيد هلل تعاىل يف العبادة‪ ،‬ودفع فتنة الكفر عن النا�س‪� ،‬أو‬ ‫ح�صرها يف �صاحبها فال تتعدى �إىل غريه‪� ،‬إذ بذلك تبقى مف�سدته على‬ ‫نف�سه فال ي�ضر غريه‪ ،‬ولهذا قال –رحمه اهلل‪ ": -‬من املعلوم �أ َّن القتال‬ ‫�إمنا �شرع لل�ضرورة‪ ،‬ولو �أ َّن النا�س �آمنوا بالربهان والآيات ملا احتيج‬ ‫واجب مطلقاً وجوباً �أ�صلياً‪ ،‬و�أما‬ ‫للقتال‪ ،‬فبيان �آيات الإ�سالم وبراهينه ٌ‬ ‫اجلهاد فم�شروع لل�ضرورة" ا‪.‬هـ اجلواب ال�صحيح ‪.238/1‬‬ ‫مراحل ت�شريع اجلهاد‪:‬‬ ‫من الأحكام التكليفية‪ ،‬ما �شرع على دفعات‪ ،‬ينتقل ال�شرع بالنا�س من‬ ‫حال �إىل حال‪ ،‬كتحرمي اخلمر مث ً‬ ‫ال‪ ،‬وكعقوبة مرتكب الفاح�شة‪ ،‬ومن‬ ‫هذا النوع عند ابن تيمية‪ ،‬اجلهاد يف �سبيل اهلل‪� ،‬إذ مل ت�شرع جماهدة‬ ‫الكفار �أول الإ�سالم‪ ،‬حتى �إذا و�صل امل�سلمون �إىل حال ي�ؤهلهم من‬ ‫ممار�سة هذه ال�شعرية‪ ،‬انتقل الإ�سالم بهم �إىل مواجهة �أهل الكفر ‪.‬‬ ‫يقول ابن تيمية –رحمه اهلل تعاىل‪" : -‬ولأ َّن اهلل ملا بعث نبيه‪ ،‬و�أمره‬ ‫بدعوة اخللق �إىل دينه‪ ،‬مل ي�أذن له يف قتل �أحد على ذلك وال قتاله‪ ،‬حتى‬ ‫هاجر �إىل املدينة‪ ،‬ف�أذن له وللم�سلمني بقوله‪�( :‬أُ ِذ َن ِل َّلذِ َ‬ ‫ين ُي َقا َت ُلو َن‬ ‫ِب�أَ َّن ُه ْم ُظ ِل ُموا َو�إِ َّن اللهَّ َ َعلَى َن ْ�صرِهِ ْم َل َقدِ ي ٌر ا َّلذِ َ‬ ‫ين �أُ ْخر ُِجوا مِ نْ ِد َيارِهِ ْم‬ ‫ا�س َب ْع َ�ض ُه ْم ِب َب ْع ٍ�ض‬ ‫ِب َغيرْ ِ َح ٍّق ِ�إ اَّل �أَنْ َي ُقو ُلوا َر ُّب َنا اللهَّ ُ َو َل ْو اَل َد ْف ُع اللهَّ ِ ال َّن َ‬ ‫ريا‬ ‫َل ُه ِّدمَتْ َ�صوَامِ ُع َو ِب َي ٌع َو َ�صلَ َو ٌات َوم َ​َ�ساجِ ُد ُي ْذ َك ُر فِيهَا ْا�س ُم اللهَّ ِ َك ِث ً‬

‫َو َل َي ْن ُ�ص َر َّن اللهَّ ُ َمنْ َي ْن ُ�ص ُر ُه �إِ َّن اللهَّ َ َل َقوِيٌّ َعزِي ٌز ا َّلذِ َ‬ ‫ين �إِنْ َم َّك َّناهُ ْم فيِ‬ ‫وف َو َن َه ْوا ع َِن المْ ُ ْن َك ِر‬ ‫ْأ‬ ‫ال�ص اَل َة َو�آ َت ُوا ال َّز َكا َة َو َ�أ َم ُروا ِبالمْ َ ْع ُر ِ‬ ‫الَ ْر ِ�ض �أَ َقامُوا َّ‬ ‫الُمُو ِر )(احلج‪ ، )41-40-39 :‬ثم �إنه �أوجب عليهم القتال‬ ‫َوللِهَّ ِ عَا ِق َب ُة ْ أ‬ ‫بقوله تعاىل‪ُ ( :‬كت َِب َعلَ ْي ُك ُم ا ْل ِق َت ُال َوهُ َو ُك ْر ٌه َل ُك ْم َوع َ​َ�سى �أَنْ َت ْك َرهُ وا َ�ش ْي ًئا‬ ‫َوهُ َو َخيرْ ٌ َل ُك ْم َوع َ​َ�سى �أَنْ تحُ ِ ُّبوا َ�ش ْي ًئا َوهُ َو َ�ش ٌّر َل ُك ْم َواللهَّ ُ َي ْعلَ ُم َو�أَ ْن ُت ْم اَل‬ ‫َت ْعلَ ُمو َن )(البقرة ‪ )216‬ا‪.‬هـ جمموع الفتاوى ‪.349/28‬‬ ‫وقال –رحمه اهلل تعاىل‪ " :-‬كان النبي –�صلى اهلل عليه و�سلم–‬ ‫يف �أول الأمر م�أموراً �أن يجاهد الكفار ال بيده‪ ،‬فيدعوهم ويعظهم‪،‬‬ ‫ويجادلهم بالتي هي �أح�سن‪ ،‬وكان م�أموراً بالكف عن قتالهم لعجزه‬ ‫وعجز امل�سلمني عن ذلك‪ ،‬ثم ملا هاجر �إىل املدينة �صار له بها �أعوان �أذن‬ ‫له يف اجلهاد‪ ،‬ثم ملا قووا كتب عليهم القتال‪ ،‬ومل يكتب عليهم قتال من‬ ‫�ساملهم‪ ،‬لأنهم مل يكونوا يطيقون قتال جميع الكفار‪ ،‬فلما فتح اهلل مكة‬ ‫ووفدت �إليه وفود العرب بالإ�سالم‪� ،‬أمره اهلل بقتال الكفار كلهم �إال من‬ ‫كان له عهد م�ؤقت‪ ،‬و�أمره بنبذ العهود املطلقة" ا‪.‬هـ اجلواب ال�صحيح‬ ‫‪.227/1‬‬ ‫ويتفرع عن هذا م�س�ألة مهمة‪ ،‬وهي‪ :‬هل القتال للكفر وحده‪� ،‬أم‬ ‫ال بد معه من ال�صد واملقاتلة؟‬ ‫يقول ابن تيمية ‪-‬رحمه اهلل تعاىل‪ ": -‬و�أما من مل يكن من �أهل‬ ‫املمانعة واملقاتلة‪ ،‬كالن�ساء وال�صبيان والراهب‪ ،‬وال�شيخ الكبري‪ ،‬والأعمى‪،‬‬ ‫والزمِ ن ونحوهم‪ ،‬فال يقتل عند جمهور العلماء‪� ،‬إال �أن يقاتل بقوله �أو‬ ‫فعله‪ ،‬و�إن كان بع�ضهم يرى �إباحة قتل اجلميع ملجرد الكفر‪� ،‬إال الن�ساء‬ ‫وال�صبيان لكونهم ما ًال للم�سلمني‪ ،‬والأول هو ال�صواب‪ ،‬لأ َّن القتال هو‬ ‫ملن يقاتلنا �إذا �أردنا �إظهار ديننا‪ ،‬كما قال تعاىل‪َ ( :‬و َقا ِت ُلوا فيِ َ�سبِيلِ اللهَّ ِ‬ ‫ين ُي َقا ِت ُلو َن ُك ْم َو اَل َت ْع َتدُوا �إِ َّن اللهَّ َ اَل يُحِ ُّب المْ ُ ْع َتدِ َ‬ ‫ا َّلذِ َ‬ ‫ين)(البقرة‪)190 :‬ا‪.‬هـ‬ ‫جمموع الفتاوى ‪.354/28‬‬ ‫وعليه‪ :‬ف�إ َّن قتل من مل يقاتل من الكفار لي�س واجباً وال مطلوباً‪،‬‬ ‫�إال �إذا با�شرنا باملقاتلة‪ ،‬فنقتله دفعاً ل�شره‪ ،‬ولذا قال ابن تيمية –رحمه‬ ‫اهلل تعاىل‪� " :-‬إ َّن الأ�صل �أن دم الآدمي مع�صوم ال يقتل �إال باحلق‪ ،‬ولي�س‬ ‫القتل للكفر من الأمر الذي اتفقت عليه ال�شرائع وال العقول" ا‪.‬هـ‬ ‫ال�صارم امل�سلول �ص‪.104‬‬ ‫�شروط حتقق اجلهاد‪:‬‬ ‫�إ َّن اجلهاد كغريه من التكاليف ال�شرعية‪ ،‬بل يزيد عليها ب�أنه يحتاج‬ ‫�إىل قدرات بدنية ومادية ومعنوية‪،‬تفوق باقي التكاليف‪ ،‬ولذا كان له‬

‫‪12‬‬


‫من ال�شروط وال�ضوابط ما ي�صح به التكليف‪ ،‬وذلك �أنه ال ب َّد فيه من‬ ‫االجتماع‪ ،‬فال بد فيه من رئي�س ومر�ؤو�س‪� ،‬إذ بغري ذلك ال يتم‪ ،‬وكذلك‬ ‫ال ب َّد فيه من القدرة التي متكن امل�سلمني من حتقيق ما يريدون من‬ ‫الدعوة والن�صر �أو ال�شهادة‪.‬‬ ‫القدرة‪ :‬كان هذا من ال�شروط لوجوب اجلهاد عند ابن تيمية رحمه‬ ‫اهلل تعاىل‪ -‬قال –رحمه اهلل تعاىل‪�" :-‬إ َّن اهلل تعاىل قد �أخرب يف غري‬ ‫مو�ضع �أنه ال يكلف نف�ساً �إال و�سعها ‪.‬ا‪.‬هـ جمموع الفتاوى ‪.216/19‬‬ ‫وقال‪" :‬وباجلملة ال خالف بني امل�سلمني �أن من كان يف دار الكفر وقد‬ ‫�آمن وهو عاجز عن الهجرة‪ ،‬ال يجب عليه من ال�شرائع ما يعجز عنها‪،‬‬ ‫بل الوجوب بح�سب الإمكان‪ ،‬وكذلك ما مل يعلم حكمه" ا‪.‬هـ جمموع‬ ‫الفتاوى ‪.225/19‬‬ ‫وقال‪" :‬الأمر والنهي الذي ي�سميه بع�ض العلماء التكليف ال�شرعي‪،‬‬ ‫هو م�شروط باملمكن من العلم والقدرة‪ ،‬فال جتب ال�شريعة على من‬ ‫ال ميكنه العلم كاملجنون والطفل‪ ،‬وال جتب على من يعجز كالأعمى‬ ‫والأعرج واملري�ض يف اجلهاد‪ ،‬وكما ال جتب الطهارة باملاء‪ ،‬وال�صالة‬ ‫قائماً‪ ،‬وال�صوم وغري ذلك على من يعجز عنه" ا‪.‬هـ جمموع الفتاوى‬ ‫‪.344/10‬‬ ‫وابن تيمية ي�ؤكد على بقاء املرحلية والتدرج يف التكاليف‪ ،‬و�أنها‬ ‫�سنة باقية �إىل يوم الدين‪ ،‬يقول –رحمه اهلل تعاىل‪ " :-‬ف�إذا ح�صل من‬ ‫يقوم بالدين من العلماء �أو الأمراء �أو جمموعهما‪ ،‬كان بيانه ملا جاء به‬ ‫الر�سول �شيئاً ف�شيئاً‪ ،‬مبنزلة بيان الر�سول ملا بعث به �شيئاً ف�شيئاً‪ ،‬ومعلوم‬ ‫�أ َّن الر�سول ال يبلغ �إال ما �أمكن علمه والعمل به‪ ،‬ومل ت�أت ال�شريعة‬ ‫جملة‪ ،‬كما يقال‪� :‬إذا �أردت �أن تطاع ف�أمر مبا ي�ستطاع‪ ،‬فكذلك املجدد‬ ‫واملحيي ل�سنته‪ ،‬ال يبلغ �إال ما �أمكن عمله والعمل به‪ ،‬كما �أ َّن الداخل يف‬ ‫الإ�سالم ال ميكن حني دخوله �أن يلقن جميع �شرائعه وي�ؤمر بها كلها‪،‬‬ ‫وكذلك التائب من الذنوب واملتعلم وامل�سرت�شد‪ ،‬ال ميكن يف �أول الأمر‬ ‫�أن ي�ؤمر بجميع الدين ويذكر له جميع العلم‪ ،‬ف�إنه ال يطيق ذلك‪ ،‬و�إذا‬ ‫مل يطقه مل يكن واجباً عليه يف هذه احلال‪ ،‬و�إذا مل يكن واجباً عليه‬ ‫للعلم والأمر �أن يوجبه جميعه ابتداء‪ ،‬بل يعفو عن الأمر والنهي مبا‬ ‫ال ميكن علمه وعمله �إىل وقت الإمكان‪ ،‬كما عفا الر�سول عما عفا عنه‬ ‫�إىل وقت الإمكان‪ ،‬وال يكون ذلك من باب �إقرار املحرمات وترك الأمر‬ ‫بالواجبات‪ ،‬لأ َّن الوجوب والتحرمي م�شروط ب�إمكان العلم والعمل‪ ،‬وقد‬ ‫فر�ضنا انتفاء هذا ال�شرط‪ ،‬فتدبر هذا الأ�صل ف�إنه نافع" ا‪.‬هـ ‪.59،60/20‬‬

‫ومبا �سبق بيانه من �أ َّن اجلهاد مرحلي‪ ،‬و�أن القدرة �شرط يف حت�صيل‬ ‫التكاليف‪ ،‬و�أنها ال جتب مع عدم الإمكان‪ ،‬تبني �أ َّن اجلهاد ي�سقط وجوبه‬ ‫عند عدم التمكن منه �إما ل�ضعف يف العلم والعمل‪ ،‬و�إما ل�ضعف يف‬ ‫الإعداد لكن يجب الإعداد ما �أمكن ‪.‬‬ ‫قال ابن تيمية‪" :‬وكما يجب اال�ستعداد للجهاد‪ ،‬ب�إعداد القوة ورباط‬ ‫اخليل يف وقت �سقوطه للعجز‪ ،‬ف�إ َّن ما ال يتم الواجب �إال به فهو واجب"‬ ‫ا‪.‬هـ جمموع الفتاوى ‪.259/28‬‬ ‫�إذن ويل الأمر‪ :‬ويل الأمر م�صطلح �شرعي �أ�صيل‪ ،‬بات كثري من‬ ‫النا�س ي�ستحيون من ذكره ومذاكرته‪ ،‬وحتى ندلل على بقائه وعدم‬ ‫انتهائه قبل اخلو�ض يف �أ�صل امل�س�ألة‪ ،‬ف�أنا �أبني �أن تعدد احلكام والأئمة‬ ‫ال ينفي عنهم هذه ال�صفة قط‪ ،‬بل �إنه يثبت لكل واحد منهم‪ ،‬ما يثبت‬ ‫للإمام العام‪ ،‬يقول ابن تيمية ‪-‬رحمه اهلل تعاىل‪" :-‬وال�سنة �أن يكون‬ ‫للم�سلمني �إمام واحد‪ ،‬والباقون نوابه‪ ،‬ف�إذا فر�ض �أ َّن الأ َّمة خرجت عن‬ ‫ذلك ملع�صية من بع�ضها �أو عجز من الباقني �أو غري ذلك‪ ،‬فكان لها عدة‬ ‫�أئمة‪ ،‬لكان يجب على كل �إمام �أن يقيم احلدود‪ ،‬وي�ستويف احلقوق" ا‪.‬هـ‬ ‫جمموع الفتاوى ‪.175/34‬‬ ‫ومن كان له �إقامة احلدود‪ ،‬وا�ستيفاء احلقوق‪ ،‬فال �شك �أ َّن له حق‬ ‫الوالية والطاعة على الرعية‪� ،‬إذ لوال واليته ما كان له حق الت�صرف‬ ‫على الرعية‪ ،‬نعم؛ مل �أجد ن�صاً �صريحاً البن تيمية يف ا�ستئذان الويل‪،‬‬ ‫لكن ميكن �أن يقا�س بالأدنى على الأعلى‪ ،‬حيث ا�شرتط �إذن الوالدين‪،‬‬ ‫فمن باب �أوىل �إذن الويل‪ ،‬لأ َّن م�صلحة العامة من الأ َّمة‪� ،‬أوىل من‬ ‫م�صلحة الوالدين‪ ،‬لأنها م�صلحة قا�صرة‪.‬‬ ‫يقول ابن تيمية‪ " :‬ف�إذا �أراد العدو الهجوم على امل�سلمني ‪ ...‬ويجب‬ ‫النفري �إليه ‪-‬قلت‪� :‬أي العدو‪ -‬بغري �إذن الوالد وال الغرمي" ا‪.‬هـ‬ ‫االختيارات الفقهية �ص‪ ،311‬قلت‪ :‬واملفهوم املخالف‪� :‬إن مل يكن من‬ ‫ذلك �شيء‪� ،‬أي‪ :‬كان جهاد طلب‪ :‬وجب �إذن الوالدين‪ ،‬والويل من باب‬ ‫�أوىل‪.‬‬ ‫تعلق اجلهاد بامل�صلحة واملف�سدة‪ :‬كل عبادة �شرعها اهلل تعاىل‪� ،‬إما‬ ‫جللب م�صلحة‪� ،‬أو لدفع مف�سدة‪ ،‬و�أحياناً تتقاطع الأمور وتتعار�ض‪،‬‬ ‫فقد تعار�ض مف�سد ٌة م�صلحة‪ ،‬والعك�س‪ ،‬فعندها ال ب َّد للفقيه من توجيه‬ ‫الأحكام لتحقيق امل�صلحة‪ ،‬التي قد تكون بدفع مف�سدة‪ ،‬بل قد تكون‬ ‫بدفع مف�سدة كربى ب�أخرى �أ�صغر منها‪ ،‬وهذه قاعدة امل�صالح‪.‬‬ ‫يقول ابن تيمية –رحمه اهلل تعاىل‪" :-‬وقد تكلمت على قتال الأئمة يف‬

‫‪13‬‬


‫غري هذا املو�ضع‪ ،‬وجماع ذلك داخل يف القاعدة العامة‪ ،‬فيما �إذا تعار�ضت‬ ‫امل�صالح واملفا�سد‪ ،‬واحل�سنات وال�سيئات �أو تزاحمت‪ ،‬ف�إنه يجب ترجيح‬ ‫الراجح منها ‪ ،...‬ف�إ َّن الأمر والنهي و�إن كان مت�ضمناً لتح�صيل م�صلحة‬ ‫ودفع مف�سدة‪ ،‬فينظر يف املعار�ض له‪ ،‬ف�إن كان الذي يفوت من امل�صالح‪،‬‬ ‫�أو يح�صل من املفا�سد �أكرث‪ ،‬مل يكن م�أموراً به‪ ،‬بل يكون حمرماً �إذا‬ ‫كانت مف�سدته �أكرث من م�صلحته" ا‪.‬هـ جمموع الفتاوى ‪.129/28‬‬ ‫وقال‪" :‬ولهذا ا�ستقر يف عقول النا�س �أنه عند اجلدْب يكون نزول‬ ‫املطر لهم رحمة‪ ،‬و�إن كان يتقوى مبا ينبته �أقوام على ظلمهم‪ ،‬لكن‬ ‫عدمه �أ�شد �ضرراً عليهم‪ ،‬ويرجحون وجود ال�سلطان مع ظلمه على عدم‬ ‫ال�سلطان‪ ،‬كما قال بع�ض العقالء‪� :‬ستون �سنة من �سلطان ظامل خري‬ ‫من ليلة واحدة بال �سلطان" ا‪.‬هـ جمموع الفتاوى ‪54/20‬‬ ‫وقال‪" :‬ف�إ َّن مدار ال�شريعة على قوله تعاىل‪َ ( :‬فا َّت ُقوا اللهَّ َ مَا‬ ‫ْا�س َت َط ْع ُت ْم َو ْا�س َم ُعوا َو�أَطِ ي ُعوا َو�أَ ْن ِف ُقوا َخيرْ ً ا ِ أَل ْن ُف�سِ ُك ْم َو َمنْ ُيو َق ُ�ش َّح‬ ‫َن ْف�سِ ِه َف ُ�أو َلئ َِك هُ ُم المْ ُ ْفل ُِحو َن)(التغابن‪ ، )16:‬وعلى قول النبي –�صلى‬ ‫اهلل عليه و�سلم‪�( :‬إذا �أمرتكم ب�أمر ف�أتوا منه ما ا�ستطعتم) �أخرجاه يف‬ ‫ال�صحيحني‪ ،‬وعلى �أنَّ الواجب‪ :‬حت�صيل امل�صالح وتكميلها‪ ،‬وتعطيل‬ ‫املفا�سد وتقليلها‪ ،‬ف�إذا تعار�ضت‪ ،‬كان حت�صيل �أعظم امل�صلحتني بتفويت‬ ‫�أدناهما‪ ،‬ودفع �أعظم املف�سدتني مع احتمال �أدناهما هو امل�شروع" ا‪.‬هـ‬ ‫جمموع الفتاوى ‪.283/28‬‬ ‫وقال –رحمه اهلل تعاىل‪" :-‬فلهذا يجب على كل ويل �أمر �أن ي�ستعني‬ ‫ب�أهل ال�صدق والعدل‪ ،‬و�إذا ت�ضرر ذلك ا�ستعان بالأمثل فالأمثل‪ ،‬و�إن‬ ‫كان فيه كذب وظلم‪ ،‬ف�إ َّن اهلل ي�ؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر‪ ،‬وب�أقوام‬ ‫ال خالق لهم ‪ ،...‬فالواجب �إمنا هو الأر�ضى من املوجود‪ ،‬والغالب �أنه‬ ‫ال يوجد كامل‪ ،‬فيفعل خري اخلريين‪ ،‬ويدفع �شر ال�شرين" ا‪.‬هـ جمموع‬ ‫الفتاوى ‪.67/28‬‬ ‫ومن مل يكن من �أهل اخلربة بال�شرع والواقع‪ ،‬كان �صعباً عليه �أن‬ ‫يقدر امل�صالح واملفا�سد‪ ،‬ف� ً‬ ‫ضال عن �أن يكون ذا قدرة يف تقدمي �شيء على‬ ‫�آخر منها‪ ،‬ولذا قالوا‪" :‬لي�س الفقيه من عرف اخلري من ال�شر‪ ،‬ولكن‬ ‫الفقيه من عرف خري اخلريين و�شر ال�شرين"‪.‬‬ ‫ال�صلح مع الكفار‪ :‬لي�س من املعقول بقاء احلروب بني النا�س‪ ،‬بل ال‬ ‫ب َّد من فرتات ا�سرتاحة تتخللها‪ ،‬وقد تكون عن �صلح بيتهم‪ ،‬ولذا كان‬ ‫لهذا ال�صلح �أحكام عند امل�سلمني‪ ،‬يتعاملون بها مع الكفار حني احلاجة‬ ‫�إليها‪ ،‬يقول ابن تيمية تعليقاً على حديث ر�سول اهلل –�صلى اهلل عليه‬

‫و�سلم‪�" :-‬إ َّن ابني هذا �سيد –قلت‪ :‬يعني احل�سن‪ -‬و�إ َّن اهلل �سي�صلح به‬ ‫بني فئتني عظيمتني من امل�سلمني" قال‪" :‬وهذا احلديث يدل على �أن‬ ‫ما فعله احل�سن من ترك القتال على الإمامة‪ ،‬وق�صد الإ�صالح بني‬ ‫امل�سلمني كان حمبوباً‪ ،‬يحبه اهلل ور�سوله‪ ،‬ومل يكن ذلك م�صيبة‪ ،‬بل كان‬ ‫ذلك �أحب �إىل اهلل ور�سوله من اقتتال امل�سلمني‪ ،‬ولهذا �أحبه اهلل و�أحب‬ ‫�أ�سامة بن زيد ودعا لهما‪ ،‬ف�إ َّن كالمهما كان يكره القتال يف الفتنة" ا‪.‬هـ‬ ‫منهاج ال�سنة ‪. 40/4‬‬ ‫وهذا يحمل عليه ما ي�شاركه يف امل�صلحة ولو كان مع الكفار‪ ،‬وي�ؤيده‬ ‫حديث ر�سول اهلل –�صلى اهلل عليه و�سلم– عند �أبي داوود يف م�صاحلة‬ ‫الروم‪ ،‬وكذلك �صلح احلديبية‪ ،‬فقال ابن تيمية‪" :‬و�صالح امل�شركني‬ ‫�صلح احلديبية امل�شهور‪ ،‬وبذلك ال�صلح ح�صل من الفتح ما ال يعلمه‬ ‫�إال اهلل؛ مع �أنه قد كان كرهه خلق من امل�سلمني؛ ومل يعلموا ما فيه من‬ ‫ح�سن العاقبة حتى قال �سهل بن حنيف‪� :‬أيها النا�س! اتهموا الر�أي‪ ،‬فقد‬ ‫ر�أيتني يوم �أبي جندل ولو �أ�ستطيع �أن �أرد على ر�سول اهلل ‪�-‬صلى اهلل‬ ‫عليه و�سلم– �أمره لرددت" ا‪.‬هـ جمموع الفتاوى ‪.60/35‬‬ ‫ومما �أفاده الإمام ابن القيم وهو خري من ترجم عن �شيخ الإ�سالم‬ ‫قوله حيث قال‪" :‬جواز ابتداء الإمام بطلب �صلح العدو �إذا ر�أى امل�صلحة‬ ‫للم�سلمني فيه‪ ،‬وال يتوقف ذلك على �أن يكون ابتداء الطلب منهم" ا‪.‬هـ‬ ‫زاد املعاد ‪.304/3‬‬ ‫اخلامتــة‪:‬‬ ‫من خالل ما ذكر عن ابن تيمية‪ - ،‬ف� ً‬ ‫ضال عن كونه يو�ضح �أحوال‬ ‫الأحكام و�أنها تختلف ح�سب الظروف والأ�شخا�ص‪ -‬ف�إنه ال يحق لأحد‬ ‫�أن يطبق بع�ض فتاوى ابن تيمية على واقعنا‪ ،‬ملزماً بها النا�س يف هذا‬ ‫الزمان‪ ،‬مع �أن ظروف الأ َّمة و�أحوالها –حم ً‬ ‫ال على قواعد ال�شرع‪-‬‬ ‫تختلف متام االختالف عن زمانه‪ ،‬وعليه فال يجوز تطبيق تلك الأحكام‬ ‫لتغري ظروف و�أحوال النا�س‪.‬‬

‫‪14‬‬


‫التحديات التي تواجه تيار الوسطية‬ ‫د‪.‬عبد املح�سن عبد احلميد‬ ‫لقد ورد لفظ ( الو�سط ) يف القر�آن الكرمي يف قوله تعاىل‬ ‫ا�س َو َي ُكو َن‬ ‫( َو َك َذل َِك َج َع ْل َنا ُك ْم �أُ َّم ًة َو َ�س ًطا ِل َت ُكو ُنوا ُ�ش َهدَا َء َعلَى ال َّن ِ‬ ‫ال َّر ُ�س ُ‬ ‫ول َعلَ ْي ُك ْم َ�شهِيدًا)(البقرة‪ )143:‬ومعنى الو�سط هنا هو العدل‬ ‫واخليار‪.‬‬ ‫قال الإمام الطربي �إمنا و�صفهم ب�أنهم و�سطا لتو�سطهم يف‬ ‫الدين فال هم �أهل غلو فيه غلو الن�صارى ‪ .‬الذين غلوا بالرتهيب‬ ‫وميلهم يف عي�سى ما قالوا فيه وال هم �أهل تق�صري فيه تق�صري‬ ‫اليهود الذين بدلوا كتاب اهلل وقتلوا �أنبياءهم وكذبوا على ربهم‬ ‫وكفروا به ولكنهم �أهل تو�سط واعتدال فيه فو�صفهم اهلل بذلك �إذا‬ ‫كان �أحب الأمور �إىل اهلل �أو�سطها ‪.‬‬ ‫ويقول ال�شيخ ر�شيد ر�ضا "قالوا �إن الو�سط هو العدل واخليار‬ ‫وذلك �إن الزيادة على املطلوب يف الأمر �إفراط والنق�ص عنه تفريط‬ ‫وتق�صري وكل من الإفراط والتفريط ميل عن اجلادة القومية فهو‬ ‫�شر مذموم فاخليار هو الو�سط بني طريف الأمر املتو�سط بينهما‬ ‫" ‪ ،‬ويتو�سع �سيد قطب يف تطبيقات معنى الو�سط فتنداح كلماته‬ ‫النف�سية لت�شمل الو�سطية يف الت�صور والإعتقاد والتفكري وال�شعور‬ ‫والتنظيم والتن�سيق والإرتباطات والعالقات واملكان والزمان‪.‬‬ ‫ولقد طبق ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم يف حياته الو�سطية‬ ‫تطبيقا عمليا لكي تكون �أمثلة حية عليها فتنقلها من التجريد �إىل‬ ‫احلركة والعمل‪ ،‬فهو يقول ملن جتاوز احلد ( هلك املتنطعون ) �أي‬ ‫املغالون الذين جازوا حدود الو�سط من جانبيه املتطرفني وهو ما‬ ‫رواه عبد اهلل بن م�سعود قال ‪ :‬قال ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم‬ ‫( هلك املتنطعون ) قالها ثالثا ‪.‬‬ ‫وعن �أبي هريرة ر�ضي اهلل عنه عن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم‬ ‫قال‪�( :‬إن هذا الدين ي�سر ولن ي�شاد الدين �أحد �إال غلبه ف�سددوا‬ ‫وقاربوا واب�شروا وا�ستعينوا بالغدوة والروحة و�شيء من الدجلة)‬ ‫�إىل غري ذلك من الأحاديث الكثرية وال�سنة العملية املعروفة التي‬ ‫تدل داللة قاطعة على �أن حياة النبي �صلى اهلل عليه و�سلم كانت‬

‫متثل هذا احلد الو�سط الذي به �صار ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم‬ ‫�شهيدا على امل�سلمني والنا�س �أجمعني والقواعد التي ا�ستنبطها‬ ‫الفقهاء من الكتاب وال�سنة تعرب عن هذه الو�سطية وتر�شد‬ ‫امل�سلمني �إىل تطبيق الأمثل حلقائق الإ�سالم وعقيده و�شريعة‬ ‫و�سلوكا بال جتاوز وال غلو وال تطرف وال انغالق فمثال ذكر – على‬ ‫�سبيل املثال – ال ح�صر امل�شقة جتلب التي�سري واحلرج يرفع وتنزيل‬ ‫احلاجات منزلة ال�ضرورات مينع التع�سف يف ا�ستعمال احلقوق‬ ‫واملجاالت تالحظ والعدالة تراعي العقل‪ ،‬يعمل به والذرائع ت�سد‬ ‫وال�ضرورات تبيح املحظورات ويعمل بالرخ�ص كما يعمل بالعزمية‬ ‫والتطبيق منوط بالإ�ستطاعة وحتقيق امل�صالح يف �ضوء املقا�صد‬ ‫وهكذا تنزل الن�صو�ص على الوقائع يف ظل تلك الأ�صول والقواعد‬ ‫وهي متنح ال�شريعة الإ�سالمية خ�صوبة حتت�ضن ارفع م�شكالت‬ ‫احلياة فحينئذ ال يبقى �شيء ال يندرج حتت ال�ضرورات �أو احلاجات‬ ‫والتح�سينات وال ميكن �أن يخرج من اطار احلكم التكليفي يف‬ ‫الواجب واملحرم املندوب واملكروه واملباح وقد و�ضعت ال�شريعة لكل‬ ‫ق�سم من هذه االق�سام �أمورا تتفرع عليها وت�سهل تطبيقها وكان‬ ‫النبي �صلى اهلل عليه و�سلم يف �ضوء ذلك ينتقل من البالغ املبني‬ ‫�إىل ر�سم ال�سيا�سة ال�شرعية وتبعه اخللفاء الرا�شدون ر�ضوان اهلل‬ ‫عليهم يف م�سرية احلياة دون اخلروج من هذا املنهج الو�سط الذي‬ ‫ميثل اخلط امل�ستقيم يف حدود العدل واحلرية واجلدير هنا �أن‬ ‫ن�شري �إىل �أمر مهم وهو �أن الو�سطية تنبع من الوحي الإلهي يف‬ ‫الكتاب وال�سنة منطوقا ومفهوما والتحديات التي جابهتها �صنعها‬ ‫تاريخ ال�صراعات التي واجهت امل�سلمني غري �أن هذه الو�سطية التي‬ ‫حملها ال�صحابة الكرام والتابعون لهم ب�إح�سان واملجتهدون الكبار‬ ‫من بعدهم مل تنطم�س معاملها عرب تلك ال�صراعات �إمنا تظهر‬ ‫دائما �شاخ�صة لت�شهد �أن الو�سط هو جوهر الإ�سالم �أ�صوال وفروعا‬ ‫لذلك ف�إنهم رف�ضوا الإنحرافات املتنوعات التي ظهرت يف زمانهم‬ ‫و�أحاطوا بها وا�ستطاعوا �أن يعزلوها عن م�سار الأمة فاخلوارج‬

‫‪15‬‬


‫يف �إنحرافاتهم وجهلهم ب�أ�صول الإ�سالم و�ضوابط الت�أويل وفرق‬ ‫من ال�شيعة الغالية من الباطنية وغريها الذين دخلوا بالإ�سالم‬ ‫فيما لي�س منه وحتريفات الفل�سفات فيما بعد وحماوالتها ت�أويل‬ ‫املنهج الإ�سالمي لكي يوافق ما جاءهم من باطل اليونان والتع�صب‬ ‫للمذاهب الفقهية والطرق ال�صوفية التي خرجت عن موازين‬ ‫امل�شايخ الكبار ال�سابقني الذين فرقوا بني ال�شريعة واحلقيقة‬ ‫مل ت�ستطع �أن تنال حتريف الغالني و�إنحراف املبطلني وت�أويل‬ ‫اجلاهلني ولقد كانت ا�ستجابة املنهج الو�سطي لهذه التحديات‬ ‫ال�ضخمة التاريخية وا�ضحة ولكن ال�سيا�سة وم�صالح الدنيا‬ ‫وال�صراعات االقت�صادية والإجتماعية مكنت املجتمع الإ�سالمي‬ ‫للإنحرافات فقامت بتخريب كبري و�سببت متزيقا وفرقة و�إ�ضرابا‬ ‫بني �أبناء الأمة العربية الواحدة مما كان من �أ�سباب �سقوط‬ ‫املجتمع الإ�سالمي �أيام العدو الترتي من امل�شرق وال�صليبي من‬ ‫املغرب وكان املنقذ دائما هو هذا املنهج الو�سطي الذي �أ�صر على‬ ‫االحتفاظ به ال�سا�سة الواعون والعلماء الرا�سخون املجاهدون يف‬ ‫فرتات التاريخ فانتهى �إىل رد املعتدين كما ح�صل مع جمموعة‬ ‫ال�شيخ عبد القادر الكيالين وال�شيخ عدي بن م�سافر املتعاونني مع‬ ‫�سيا�سة نظام امللك و�آل زنكي و�صالح الدين‪.‬‬ ‫غري �أن الذيول حتديات معينة تلك حتدثنا عنها والتي متكنت‬ ‫يف فرتة من مواجهة الغزو ال�صليبي والترتي وا�ست�سلمت الأمة �إىل‬ ‫قرون اجلهل واجلوع واملر�ض والغفلة‪ .‬واليوم وبعد حماوالت جتديد‬ ‫الفكر الإ�سالمي ا�ستيقظ املارد ومتوجت معه ال�صحوة الإ�سالمية‬ ‫بقيادة املنهج الو�سطي الذي يربط الوحي بالع�صر احلديث والذي‬ ‫قادته يف القرن الرابع ع�شر الهجري مدر�سة ( الأفغاين ‪ ،‬عبده ‪،‬‬ ‫ر�شيد ) ومدر�سة الإمام �سعيد النور�سي يف تركيا واملدر�سة ال�سلفية‬ ‫امل�ستنرية يف �شمال افريقيا ومنذ بداية هذه النه�ضة الإ�سالمية‪،‬‬ ‫ظهرت حتديات يف غاية اخلطورة �أمام حركة الفكر الإ�سالمي‬ ‫الو�سطي اجلديد حماولة �إعاقتها و�إرجاع عجلة التطور �إىل الوراء‬ ‫بالعودة �إىل �صراعات القرون املا�ضية واثارت م�شكالته من جديد‬ ‫تلك التي اوجدتها ظروف االختالط احل�ضاري واالمتزاج الثقايف‬ ‫مع الأمم الأخرى التي كانت حتيط بح�ضارة اال�سالم والتي نقلت‬ ‫حركة امل�سلمني احل�ضارية من عامل ال�شهادة اىل عامل الغيب‬ ‫و�صراعاته التي �أ�ضرت ب�أهداف املجتمع الإ�سالمي من جديد‪.‬‬

‫لقد تغريت الدنيا تغريا بالغاً وظهرت فيها م�شكالت جديدة‬ ‫و�صراعات خطرية متنوعة وال �سيما يف ع�صر العوملة الطاغية‬ ‫التي حولت الكرة االر�ضية اىل قرية �صغرية ومع هذا الو�ضع‬ ‫املت�أزم تتجدد حتديات املا�ضي زيادة على حتديات جديدة تدخل يف‬ ‫مواجهات خطرية �ضد املنهج الو�سطي واالعتدايل يف فهم اال�سالم‬ ‫واملر�شح لقيادة امل�شروع النه�ضوي اال�سالمي اجلديد وهو يواجه‬ ‫خماطر العلمانية واملادية الإباحية الغازية‪.‬‬

‫‪16‬‬


‫مقاالت الوسطية‬

‫ِّ‬ ‫مقومات بناء الحضارة ‪ ....‬المقاصد‬ ‫عملية بناء احل�ضارة هي رحلة تتم يف عقل الفرد ي�ستك�شف حول قاعدة واحدة‪ ،‬وهي حتقيق امل�صالح ودفع املفا�سد‪ ،‬وهذا هو‬ ‫فيها قواعد تفكريه وعقله ويحدد فيها �سمات هويته ووجدانه‪ ،‬ثم الهدف الأ�سمى من جميع العبادات واملعامالت والأحكام ال�شرعية‬ ‫تبد�أ �آثار هذه الرحلة من خالل الظهور يف احلياة والآداب والفنون بل الدين يف جممله‪ ،‬وامل�صلحة احلقيقية هي التي تعم اجلماعة‬ ‫لتحفر مكانها يف تاريخ الب�شرية‪ ،‬ولبناء ح�ضارة الإ�سالم‪ ،‬كانت وال تخ�ص فئة دون �أخرى‪ ،‬وتنق�سم �إىل ثالثة �أق�سام‪ :‬املقا�صد‬ ‫اخلطوة الأوىل حتديد حمور هذه احل�ضارة وهو باالتفاق «الن�ص» ال�ضرورية‪ ،‬واملقا�صد احلاجية‪ ،‬واملقا�صد التح�سينية‪.‬‬ ‫واملقا�صد ال�ضرورية هي ما تقوم عليه حياة النا�س وال بد منها‬ ‫وال�سنة‪ ،‬ثم يبد�أ امل�سلم يف اخلطوة الثانية بتحديد‬ ‫ب�شقيه الكتاب ُّ‬ ‫ال�ستقامة م�صاحلهم‪ ،‬و�إذا ُفقدت‬ ‫قواعد تفكريه التي �ستبنى عليها هذه‬ ‫اختل نظام حياتهم‪ ،‬ومل ت�ستقم‬ ‫احل�ضارة‪ ،‬ثم بعد ذلك تبد�أ اخلطوة‬ ‫م�صاحلهم‪ ،‬وع ّمت فيهم الفو�ضى‬ ‫الثالثة والأخرية يف حتديد مقا�صد‬ ‫واملفا�سد‪ ،‬وقد اتفق العلماء على‬ ‫وغايات هذه احل�ضارة‪ ،‬وفيها يحدد‬ ‫حتديدها يف خم�سة مقا�صد كلية‪،‬‬ ‫امل�سلم هدف وجوده والغاية من‬ ‫وهي‪ :‬حفظ الدين‪ ،‬والنف�س‪ ،‬والعقل‪،‬‬ ‫خلقه يف هذا الكون‪ ،‬وهو ما يعرف‬ ‫والعر�ض (الكرامة الإن�سانية)‪ ،‬واملال‬ ‫يف الرتاث الإ�سالمي بـ«بق�ضية‬ ‫(الأمالك)‪ ،‬والإ�سالم �شرع لكل واحد‬ ‫التكليف»‪ ،‬فبناء احل�ضارة لي�س ب�أمر‬ ‫من هذه اخلم�سة �أحكاماً َت ْك ُفل �إيجاده‬ ‫اختياري لكنه واجب مكلف به كل‬ ‫وتكوينه‪ ،‬و�أحكاماً َت ْك ُفل حفظه‬ ‫م�سلم‪.‬‬ ‫و�صيانته‪ ،‬وهذه الكليات اخلم�س‬ ‫و�أ�س�س هذا التكليف ثالثة‪� ،‬أولها‪:‬‬ ‫�ضرورة لبقاء نظام العامل وحفظه‪،‬‬ ‫عبادة اهلل‪ ،‬تلك العبادة التي يجب‬ ‫ولذلك مل تختلف فيها �أو حولها‬ ‫�أن ُتن�شئ �إن�سان العمارة واحل�ضارة‪،‬‬ ‫د‪.‬علي جمعة‬ ‫قال �سبحانه وتعاىل‪َ ( :‬ومَا َخلَقْتُ‬ ‫�شريعة من ال�شرائع‪ ،‬بل هي مطبقة‬ ‫على حفظها‪ .‬يقول ال�شاطبي‪« :‬فقد‬ ‫ن�س �إِ َّال ِل َي ْع ُبدُونِ * مَا �أُرِي ُد‬ ‫اجلِ نَّ َوالإِ َ‬ ‫مِ ْنهُم مِّن ِّر ْزقٍ َومَا �أُرِي ُد �أَن ُي ْط ِع ُمونِ * �إِ َّن اللهَّ َ هُ َو ال َّر َّز ُاق ُذو ال ُق َّو ِة اتفقت الأمة بل �سائر امللل على �أن ال�شريعة و�ضعت للمحافظة على‬ ‫امل َ ِت ُ‬ ‫ني) (الذاريات‪ ،)58-56:‬وثانيها‪ :‬عمارة الأر�ض‪ ،‬وذلك بن�شاط ال�ضروريات اخلم�س‪ ،‬وهي الدين والنف�س والن�سل واملال والعقل‪،‬‬ ‫التعمري واالمتناع عن ن�شاط التدمري‪ ،‬قال تعاىل‪( :‬هُ َو �أَ َ‬ ‫ن�ش�أَ ُكم وعلمها عند الأمة كال�ضروري» (املوافقات ‪.)31/1‬‬ ‫ومل يتفق العلماء على ترتيب معني لهذه املقا�صد‪ ،‬لأن كال‬ ‫م َِّن الأَ ْر ِ�ض َو ْا�س َت ْع َم َر ُك ْم فِيهَا) (هود‪� ،)61:‬أي طلب منكم عمارتها‪،‬‬ ‫وقال �سبحانه‪َ (:‬و َال َت ْع َث ْوا فيِ الأَ ْر ِ�ض ُم ْف�سِ دِ َ‬ ‫ين) (البقرة‪ ،)60:‬منهم نظر �إليها من وجهة معينة‪ .‬وقد �أ�شار تاج الدين ال�سبكي‬ ‫وثالثها‪ :‬تزكية النف�س قال عز من قائل‪َ ( :‬ق ْد �أَ ْفلَ َح مَن َز َّكاهَا * �إىل �أن ال�ضروري قد يكون دينياً وقد يكون دنيوياً‪ ،‬وعند تعار�ضهما‬ ‫اب مَن د ََّ�ساهَا) (ال�شم�س‪ ،)10-9:‬وهذه الأ�س�س الثالثة تدور يالحظ �أن بع�ض العلماء يرى تقدمي ال�ضروري املتعلق بالدين‬ ‫َو َق ْد َخ َ‬

‫‪17‬‬


‫على ال�ضروري املتعلق بالدنيا‪ ،‬لأن الأول ثمرته ال�سعادة الأبدية‪،‬‬ ‫والثاين ثمرته ال�سعادة الفانية‪ .‬وذهب بع�ض العلماء �إىل القول‬ ‫بتقدمي ال�ضروري املتعلق بالدنيا على ال�ضروري املتعلق بالآخرة‪،‬‬ ‫وذلك لأن حق الآدمي مبني على ال�شح وامل�ضايقة‪ ،‬وحق اهلل تعاىل‬ ‫مبني على امل�ساحمة وامل�ساهلة‪ ،‬ولهذا كان حق الآدمي مقدماً على‬ ‫حق اهلل ملا ازدحم احل َّقان يف حمل واحد وتعذر ا�ستيفا�ؤهما منه‪،‬‬ ‫كما ُي َق َّد ُم �أدا ُء ال َّد ْين على زكاتي املال والفطر‪( .‬الإبهاج �شرح املنهاج‬ ‫‪.)241/3‬‬ ‫و�أرى �أن الرتتيب املنطقي لهذه املقا�صد �أو الكليات اخلم�س‬ ‫هو‪ :‬النف�س ثم العقل ثم الدِّين ثم العر�ض (الكرامة الإن�سانية)‬ ‫ثم املال‪ ،‬ومدار منطقيته �أن املحافظة جتب �أو ًال على النف�س التي‬ ‫بها تقوم الأفعال والأحكام والتكاليف‪ ،‬ثم على العقل‪ ،‬لأن التكليف‬ ‫يناط به‪ ،‬ثم على الدين الذي يهذب النف�س بالعبادات‪ ،‬ثم ت�أتي‬ ‫بعد ذلك الكرامة ال�شخ�صية والأمالك العينية‪ ،‬ومثال ما �أقره‬ ‫ال�شرع من تقدمي ما يتعلق بالنف�س على ما يتعلق مبطلق التعبد‬ ‫�أن ال�شرع �أباح �أكل امليتة للم�ضطر‪ ،‬وفيه تقدمي املحافظة على‬ ‫النف�س على الأمر ال�شرعي‪ ،‬فمن �أو�شكت نف�سه على الهالك لزمه‬ ‫�شرعاً �أكل امليتة �أو اخلنزير �أو �شرب اخلمر‪ ،‬لأن تاركه �سا ٍع يف هالك‬ ‫نف�سه وقد قال تعاىل‪َ ( :‬و اَل َت ْق ُت ُلوا �أَ ْن ُف َ�س ُك ْم �إِ َّن اللهَّ َ َكا َن ِب ُك ْم َرحِ ي ًما)‬ ‫(الن�ساء‪.)29:‬‬ ‫�أما املقا�صد احلاجية‪ ،‬فقد ع ّرفها ال�شاطبي فقال‪« :‬ما يفتقر‬ ‫�إليه من حيث التو�سعة‪ ،‬ورفع ال�ضيق امل�ؤدي يف الغالب �إىل‬ ‫احلرج وامل�شقة الالحقة بفوت املطلوب‪ ،‬ف�إذا مل ُت َراعَ‪ ،‬دخل على‬ ‫املكلفني على اجلملة احلرج وامل�شقة‪ ،‬ولكنه ال يبلغ مبلغ الف�ساد‬ ‫العادي املتوقع يف امل�صالح العامة» (املوافقات ‪ ،)21/2‬فاحلاجيات‬ ‫َم ْر َت َب ٌة دون ال�ضروريات‪ ،‬لأنه ال يرتتب على فقدها اختالل نظام‬ ‫احلياة‪ .‬وقد راعت ال�شريعة حتقيق املقا�صد احلاجية ورفع احلرج‬ ‫ِّين مِ نْ َح َر ٍج)‬ ‫عن املكلفني‪ ،‬قال تعاىل‪َ ( :‬ومَا َج َع َل َعلَ ْي ُك ْم فِى الد ِ‬ ‫(احلج‪ ،)78:‬وتقول ال�سيدة عائ�شة �أم امل�ؤمنني عن ُخ ُلق ر�سول اهلل‬ ‫�صلى اهلل عليه و�سلم‪َ « :‬و َال ُخيرِّ َ َبينْ َ �أَ ْم َر ْي ِن َق ُّط �إِ َّال ْاخ َتا َر �أَ ْي َ�س َرهُ َما»‬ ‫(رواه �أحمد)‪ ،‬ولأجل احلاجيات �شرعت الرخ�ص والكفارات والفدية‬ ‫وغري ذلك‪ ،‬و�ش ّرع التيمم بد ًال عن التطهر باملاء عند فقده‪ ،‬واجلمع‬

‫بني ال�صالتني‪ ،‬وق�صر ال�صالة الرباعية يف ال�سفر‪ ،‬و�إباحة الفطر‬ ‫للمري�ض وامل�سافر‪.‬‬ ‫�أما املقا�صد التح�سينية فع ّرفها ال�شاطبي ب�أنها‪« :‬الأخذ مبا‬ ‫يليق من حما�سن العادات‪ ،‬وجتنب الأحوال املدن�سات‪ ،‬التي ت�أنفها‬ ‫العقول الراجحات‪ ،‬ويجمع ذلك ق�سم مكارم الأخالق» (املوافقات‬ ‫‪ ،)22/2‬والأمثلة على ذلك كثرية مثل انتخاب الأطيب يف الزكاة‬ ‫والنفقة‪ ،‬قال تعاىل‪َ ( :‬يا �أَ ُّيهَا ا َّلذِ َ‬ ‫ين �آ َم ُنوا �أَ ْن ِف ُقوا مِ نْ َط ِّي َباتِ مَا‬ ‫الَ ْر ِ�ض َو اَل َت َي َّم ُموا الخْ َ ِب َ‬ ‫يث مِ ْن ُه‬ ‫َك َ�س ْب ُت ْم َوممِ َّ ا �أَ ْخ َر ْج َنا َل ُك ْم مِ َن ْ أ‬ ‫ُت ْن ِف ُقو َن) (البقرة‪ ،)267:‬ومثل معا�شرة الزوجة بالإح�سان والرفق‪،‬‬ ‫وف َف�إِ ْن َكرِهْ ُت ُموهُ نَّ َف َع َ�سى �أَ ْن‬ ‫قال تعاىل‪َ ( :‬وعَا�شِ ُروهُ نَّ ِبالمْ َ ْع ُر ِ‬ ‫ريا) (الن�ساء‪.)19:‬‬ ‫َت ْك َرهُ وا َ�ش ْي ًئا َو َي ْج َع َل اللهَّ ُ فِي ِه َخيرْ ً ا َك ِث ً‬ ‫وبذلك جنح امل�سلمون الأوائل يف بناء ح�ضارتهم‪ ،‬فجابوا بها‬ ‫الآفاق و�أ�صبحوا مثا ًال مل ينجح �أحد يف تكراره �إىل يومنا هذا‪،‬‬ ‫والدور الآن على الأجيال احلا�ضرة يف العودة مرة �أخرى لبناء‬ ‫احل�ضارة و�أعمار الأر�ض وتزكية النف�س وعبادة اهلل حق عبادته‪،‬‬ ‫واهلل امل�ستعان‪.‬‬

‫‪18‬‬


‫نكران الذات والمددُ الرباني‬ ‫كنا تائهني �ضائعني م�ش َّردين هنا وهناك‪ ،‬ف�أدر َكنا اهلل برحمته‬ ‫�أيها البطل الذي نذر روحه للحقيقة! هذا هو القلق الذي‬ ‫َ‬ ‫و�أبلغنا بف�ضله وكرمه‬ ‫مواطن من اخلري والعطاء يتعذر �أن ن�صل ينبغي �أن ميور يف �أح�شائك مورا‪ ،‬ويهز كيانك هزا كي ال تنقطع‬ ‫�إليها بحولنا وقوتنا‪� .‬إننا ن�ؤمن‬ ‫جتليات الرعاية الربانية‪ .‬ومن ثم‪ ،‬كلما عظم النجا ُح الذي مت على‬ ‫�إميانا قاطعا �أننا نتفي�أ يف‬ ‫يديك‪ ،‬بال ْغ يف نكران ذاتك‪ ،‬و�أوغِ ْل يف حمو نف�سك‪ ،‬وتذ ّل ْل �أمام‬ ‫ظالل العناية الربانية‪.‬‬ ‫اهلل‪ ،‬وانك�سر بني يديه‪ ،‬و�أمعِنْ يف العبودية له‪ .‬ذلك �أحرى بك‬ ‫بعد الت�أكيد على هذه‬ ‫ِ�س هذه الفكرة يف‬ ‫كي ال تن�سحق حتت �أثقال �أنانيتك‪ .‬اغر ْ‬ ‫احلقيقة‪ ،‬من املفيد �أن‬ ‫روحك‪ ،‬وث ّب ْتها يف قلبك حتى ت�صبح جزءا من كيانك وبعدا‬ ‫�أنبه �إىل �أمور مهمة‬ ‫من �أبعاد طبيعتك‪ .‬كان النبي �صلى اهلل عليه و�سلم يبكي‬ ‫ينبغي االلتزام بها حتى‬ ‫�صباح م�ساء مت�ضرعا ويقول‪" :‬يا حي يا قيوم‪ ،‬برحمتك‬ ‫ال ينقطع الت�أييد الإلهي‬ ‫�أ�ستغيث‪� ،‬أ�صلح يل �ش�أين ك َّله وال تكلني �إىل نف�سي‬ ‫َ‬ ‫والعطاء الرباين الذي‬ ‫اتخذت هذا الدعاء وِردا لك‪،‬‬ ‫طرفة عني"‪ .‬ف�إن‬ ‫ال يفت�أ يهطل على ر�ؤو�سنا‬ ‫ال يفارق ل�سا َنك وال قل َبك‪ ،‬فقد ُوقِيتَ من‬ ‫كالغيث يف هذه الأيام‪.‬‬ ‫االن�سحاق حتت حوافر النف�س‬ ‫اجلموح‪.‬‬

‫محَ ْ ُو الذات‬

‫ينبغي �أن نقنع "�أنف�سنا" �أنه لي�س لنا ي ٌد يف ح�صول هذا اخلري‬ ‫العميم‪ .‬فالنجاح كل النجاح لطف من اهلل وف�ضل من لدنه و�إح�سان‪.‬‬ ‫�شوائب ال�شرك‪ ،‬و�أجنيناها من‬ ‫أنف�سنا‬ ‫َ‬ ‫ف�إذا �آم ّنا بذلك فقد ج ّنبنا � َ‬ ‫النف�س َت ُ�ض ّخها يف دواخلنا لكي ّ‬ ‫ت�ضخم �أنانيتنا‪.‬‬ ‫الأوهام التي تظل‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫بل يح�سن �أن نقول‪" :‬يف احلقيقة‪ ،‬لو مل �أقحِ ْم نف�سي يف هذا الأمر‪،‬‬ ‫لوجد له رجاال خريا مني يف �إخال�صهم و�صدق متثيلهم‪ ،‬ولقطعتْ‬ ‫القافل ُة م�سافات وا�سعة � َ‬ ‫أ�ضعاف ما قطع ْته حتى اليوم‪ .‬وا �أ�سفاه‪ ،‬فلوال‬ ‫كدورة نف�سي لتج ّلى املد ُد الإلهي وفق �صفائه املقد�س على اخلدمة‬ ‫الإميانية‪ .‬وا ح�سرتاه‪ ،‬فقد ارتطمت جتلياته بفريو�سات �أنانيتي‬ ‫وحتطمت على �ضعفي و�سيئاتي‪� .‬أجل ب�سببي �أنا تعرثنا وت�أخرنا‬ ‫عن املواقع التي ق�صدناها‪ ،‬وابتعدنا عن املراقي التي حلمنا بها"‪ .‬بل‬ ‫ينبغي تكرار هذا ال�س�ؤال‪" :‬يا نف�س‪ ،‬كم �إن�سانا قتلتِ حتى اليوم!؟‪..‬‬ ‫كم �إن�سانا كان يبحث عن احلقيقة فتعرث بك وفقدها �إىل الأبد!؟"‪.‬‬

‫فتح اهلل كولن‬

‫جعجعة الأنانية‬

‫ينبغي �أن نعلم يقينا �أن اخللل والف�شل ال يقعان �إال مبا ك�سبت‬ ‫ُ‬ ‫العائق الأكرب لكل خدمة �إميانية‪ .‬وما يتم‬ ‫�أيدينا‪ ،‬و�أن النف�س هي‬ ‫ُ‬ ‫حم�ض �إكرا ٍم منه ج ّل وعال‪ ،‬فاخلري كل‬ ‫من توفيق و�إجناز‪ ،‬فهو‬ ‫اخلري من اهلل وحده‪� .‬أما مقولة (�إِنمَّ َ ا �أُوتِي ُت ُه َعلَى عِ ْل ٍم عِ ْندِ ي)‬ ‫(الق�ص�ص‪ ،)78:‬فلم يقلها �إال "قارون" حينما ظن نف�سه م�صدر‬ ‫الأرزاق والنعم‪ .‬و�إنها َلعبارة مل يزل كل قارون وفرعون يرددها‬ ‫عرب التاريخ‪� .‬أما الأنبياء وعلى ر�أ�سهم �سيد الأنبياء �صلى اهلل عليه‬ ‫و�سلم فقد كانت كلمتهم واحدة‪َ ( :‬ال �أَ ْمل ُِك ِل َن ْف�سِ ي َن ْف ًعا َو َال َ�ض ًّرا‬ ‫�إِ َّال مَا َ�شا َء ُ‬ ‫اهلل)(الأعراف‪ .)188:‬فمن ْ‬ ‫يقل‪" :‬فعلتُ �أنا‪ُ � ،‬‬ ‫أجنزت �أنا‪،‬‬ ‫جنحتُ �أنا‪ ،‬لو مل �أكن �أنا‪ "...‬فمعناه �أنه واقع يف م�ستنقع �آ�سن من‬ ‫التفكري الفرعوين‪ .‬يقول �سيدنا ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم‬ ‫ري لك من ُح ْمر ال َّن َعم"‪ .‬فلو‬ ‫"ل ْأن َيهدي اهلل بك رجال واحدا خ ٌ‬ ‫هدى اهلل ماليني من النا�س على يديك‪ ،‬فن�سبتَ تلك الهداية �إىل‬

‫‪19‬‬


‫نف�سك‪ ،‬فقد �أحبطتَ عملك‪ ،‬ورميت بنف�سك يف َلظى النار وحرمتها "ما بال هذا الرجل يطيل احلديث عن نف�سه‪ ،‬وين�سب اخلري �إليها‪،‬‬ ‫يف حني �أن اهلل تعاىل هو �صاحب املواهب واملنن كلها‪ ،‬وهو امل�ستحق‬ ‫من النعيم املقيم‪.‬‬ ‫الوحيد للحديث عنه"‪.‬‬ ‫ال َغرية املقد�سة‬ ‫ُنظر حيث �أقم َته‬ ‫عندما ي�ستقر يف قلب امل�ؤمن ال�شعو ُر التا ّم ب�أن اخلري كله‬ ‫ا ْ‬ ‫�إذا � َ‬ ‫وهمه‬ ‫أردت �أن تعرف عند اهلل مقامك‪ ،‬فانظر حيث �أقم َته من‬ ‫والتوفيق كله من اهلل وحده‪ ،‬ي�أبى �إال �أن يكون �شغ ُله ال�شاغ ُل ُّ‬ ‫الدائم هو احلديث عنه �سبحانه‪ ،‬وال َغري َة من كل قول يقال يف نف�سك‪ .‬ما مدى حبك له؟ ما نوعية ال�صلة التي �أقمتها بينك‬ ‫علي وبينه؟ عليك �أن تراقب �سلوكك �إزاء هذا الأمر دائما‪ ،‬وتظل يقظا‬ ‫غريه عز �ش�أنه‪ .‬ي�أتي بع�ض النا�س �أحيانا فيقول ب�إ�سهاب "قر�أ ّ‬ ‫الكتاب الفال َّ‬ ‫ين كذا عد ٌد من النا�س‪� "...‬أو "ي�شارك يف درو�سي كذا ومتحفزا با�ستمرار‪ .‬ف�إذا كانت عالقتنا به وثيقة متينة‪ ،‬ف�سوف‬ ‫َ‬ ‫عد ٌد من �أ�صحاب الثقافة العالية‪ ،"...‬بينما ال�صحيح �أن ُن�سهِب ن�ستغ ّل كل �سانحة للو�صول �إليه وللحديث عنه‪ ،‬وبالتايل �سيكون‬ ‫يف احلديث عن �ش�ؤون اهلل دائما‪ ،‬و�أن نكون غيورين يف ذلك �أميا وحده هو املعروف‪ ،‬هو املذكور‪ ،‬هو امل�شكور‪ ،‬و�سوف يخفق قلبنا‬ ‫غرية‪.‬‬ ‫مبعيته يف قيامنا وقعودنا‪ ،‬و�سوف َن َرى �أثره على الكائنات يف كل‬ ‫كثريا ما جند عاطفة الأبوة والأمومة ت�سيطر على بع�ضهم‪ ،‬طرفة عني‪ ،‬و�سوف نغلق �أبواب ت�أمالتنا على ما �سواه‪.‬‬ ‫ف�إذا ما جاء ذكر الأبناء يف جمل�س ما‪ ،‬انتهزوا الفر�صة لكي‬ ‫�سر التوفيق‬ ‫يتحدثوا عن �أبنائهم‪ .‬كذلك نرى من يتحني الفر�ص للحديث‬ ‫�إن �أعظم و�سيلة جللب العون الإلهي والتوفيق الرباين ت�أ�سي�س‬ ‫عن مهاراته يف الكتابة وبراعته يف اخلطابة‪ .‬وهذا �سلوك �سيء ال التوافق وحتقيق التوحد بني �أفراد املجتمع‪ .‬فغنيمة التوفيق لها‬ ‫يقظ �أبدا‪ .‬فالأحرى بنا �أن نرتقب الفر�صة بعد ُغرمُها‪ُ .‬‬ ‫يليق ب�إن�سان نا�ضج ٍ‬ ‫وغر ُمها هو تر�سيخ الوعي اجلماعي‪ ،‬واحلفاظ على �سر‬ ‫الأخرى لكي نتحدث عن اهلل �سبحانه‪ .‬ف�إذا جاء ذكر الوفاء مثال‪ ،‬التوافق وروح االتفاق‪ ،‬واالبتعاد عن كل نزاع و�شقاق‪ .‬ف�إذا �أ�صبحنا‬ ‫ينبغي �أن نخرتق الكالم فنقول "ومن �أعظ ُم من اهلل وفاء؟! �إن كيانا متوحدا وك ًّ‬ ‫ال متوافقا‪ ،‬ف�سوف تتنزل علينا من الألطاف ما‬ ‫اهلل �أوفى الأوفياء!‪ "..‬ثم ن�سرت�سل يف احلديث عن وفاء اهلل عز ال عني ر�أت وال �أذن �سمعت وال خطر على قلب ب�شر‪ ،‬و�سوف منتلك‬ ‫ُ‬ ‫التوافق‬ ‫وجل لعباده‪ .‬و�إذا ما َتط ّر َق �أحدُهم �إىل مفهوم احلق و�إحقاقه القدرة على رفع �أحمالٍ �أثق َل من جبل قاف‪� .‬أما �إذا زال‬ ‫لأهله مثال‪ ،‬علينا �أن ن�سرع فنقول‪َ ( :‬ومَا َق َد ُروا َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫اهلل َح َّق َق ْد ِرهِ)‬ ‫�ضعاف من حولنا‪ ،‬فلن‬ ‫االتفاق‪ ،‬ومل يبق �سوى ب�ضعة رجال‬ ‫وتبخر‬ ‫ٍ‬ ‫أخرجنا من العدم ووهبنا لبا�س الوجود‪ ،‬ومل ي�أتي املدد الإلهي حتى لو بذلنا ق�صارى جهودنا‪ .‬ف�إننا �إن قطعنا‬ ‫(الزمر‪ ،)67:‬فقد � َ‬ ‫منحنا احلياة‪ ،‬ومل يكتفِ بنفخ الروح يف �أبداننا‪ ،‬حبل االتفاق فيما بيننا ان َت�سفتْ مناج ُم قوتنا ومناب ُع طاقتنا‪ ،‬وكنا‬ ‫يرتكنا جمادا‪ ،‬بل َ‬ ‫بل ك ّرمنا ورفعنا �إىل مقام الإن�سانية‪ ،‬ثم �ش ّرفنا بالإميان‪ ،‬ومل �سببا يف انقطاع ُغيوث الرحمة علينا والعون لنا‪ .‬لذا‪ ،‬يجب �أن نركز‬ ‫ينقطع ف�ضله عند هذا احلد‪ ،‬بل �أكرمنا ب�أن �أدخلنا رحاب خدمة جهودنا كلها لكي نبقى متما�سكني متا�سك الفوالذ وم�شدودين �إىل‬ ‫الإميان والقر�آن"‪ .‬نعم‪ ،‬علينا �أن ن�ؤكد ذلك‪ ،‬ونبدي غرية ‪-‬يف هذا بع�ضنا كالبنيان املر�صو�ص‪ .‬وها هو القر�آن يعلن عن مر�سومه‬ ‫ال�ش�أن‪ -‬منقطعة النظري‪.‬‬ ‫هلل َف ْو َق �أَ ْيدِ ي ِه ْم)(الفتح‪ ،)10:‬ومن هنا ف�إن‬ ‫اخلالد بقوله‪َ ( :‬ي ُد ا ِ‬ ‫فما بالنا ندور باحلديث حول هذا الأمر �أو ذاك ال�شخ�ص‪ ،‬يف اللطف وال�سند الذي ينزل على الأفراد لن يداين حج َم اللطف‬ ‫ني �أن هناك واحدا �أحدا جديرا ب�أن تدور كل الأحاديث حوله ليل وال�سند الذي ينزل على اجلماعة املتوحدة �أبدا‪ ،‬حتى و�إن كان‬ ‫ح ِ‬ ‫نهار‪ .‬بل �إذا �سم ْعنا �أحدَهم يقول "لقد �ألقيتُ كلمة يف حفل كذا‪ ،‬ه�ؤالء الأفراد عمالقة يف العلم والعرفان‪ ،‬جباال يف الزهد والتقوى‪،‬‬ ‫فت�أثر النا�س من كالمي و�سالت دموعهم‪ ،‬وقالوا عن كلمتي كذا وحيدي �أزمانهم يف مواهبهم الذاتية و�إقبال النا�س عليهم وتقربهم‬ ‫وكذا‪ "...‬فينبغي �أن يبلغ بنا اال�ستياء �إىل حد املر�ض والت�أمل فنقول من اهلل جل وعال‪.‬‬

‫‪20‬‬


‫اصطفوا وطني ًا‪ ..‬اصطفوا ديمقراطي ًا‬ ‫يثور بني الفينة والأخرى احلديث عن مو�ضوع احلوار بني �أخرى‪ .‬ويف �أحايني �أخرى‪ ،‬تنجر بع�ض ال�صحف �إىل ت�ضخيم‬ ‫«الإ�سالميني» و«العلمانيني»‪ ،‬ك�أننا �أمام مو�ضوع بكر مل يلجه �أحد‪ ،‬اخلالف والتوتر‪ ،‬على �أ�سا�س �أن كل ما يت�سم بالهدوء والرزانة ال‬ ‫ي�ستحق الن�شر وال يعطي مادة �إعالمية مثرية وذات حيوية‪ ،‬وهي‬ ‫�أو �أمام ابتكار مل ي�أت به �أحد من قبل‪.‬‬ ‫واحلقيقة �أ َّن جميع الفرتات احل�سا�سة من التاريخ املغربي يف ذلك تطبق املقولة املعروفة «�إذا ع�ض كلب �إن�ساناً فذلك خرب ال‬ ‫ي�ستحق الن�شر‪ ،‬و�إذا ع�ض �إن�سان كلباً‬ ‫املعا�صر ‪-‬كما يف تاريخ جمتمعات‬ ‫فهو خرب للن�شر»‪.‬‬ ‫كثرية مماثلة‪� -‬شهدت جتارب غنية‬ ‫ويف كثري من املجتمعات‪ ،‬تقوم‬ ‫من التفاهم والتعاون بني الفئات‬ ‫جهات من �أ�صحاب امل�صالح با�صطناع‬ ‫الأو�سع من الطرفني‪ ،‬و�أ�ضحى‬ ‫ا�صطفاف مماثل بني طرفني‪،‬‬ ‫االدعاء بوجود تناق�ض مطلق‬ ‫وت�ضخيمه‪ ،‬وا�ستغالله؛ ففي‬ ‫بينهما �إىل درجة تعذر احلوار‬ ‫م�صر‪ ،‬مث ً‬ ‫ال‪ ،‬تقف جهات نافذة وراء‬ ‫وتعذر التالقي والتعاون يف �أمور‬ ‫التوترات التي تتفجر بني الفينة‬ ‫م�شرتكة متجاوزا منذ زمن‪ ،‬بفعل‬ ‫والأخرى بني امل�سلمني وامل�سيحيني‪.‬‬ ‫الواقع وبفعل التجارب الغنية التي‬ ‫وقد حتدثت التقارير عن �أ َّن وزير‬ ‫ت�سري يف االجتاه املعاك�س‪ ،‬فالفئات‬ ‫الداخلية ال�سابق يف عهد الرئي�س‬ ‫الأو�سع من الفريقني منخرطة فيه‪،‬‬ ‫املخلوع مبارك‪ ،‬حبيب العاديل‪ ،‬كان‬ ‫وهي التي ت�شغل منطقة الو�سط يف‬ ‫�أ‪.‬د‪�.‬سعد الدين العثماين‬ ‫وراء تفجري كني�سة القدي�سني‪ ،‬و�أ َّن‬ ‫كليهما‪ ،‬بعيداً عن الت�شنج والت�شدد‬ ‫م�صاحله كانت وراء اختيار املنفذين‬ ‫والإق�صاء؛ فيقرتب م�سمى العلمانية‬ ‫والتوقيت و�أدوات التنفيذ‪.‬‬ ‫من كونها تدبرياً �إجرائياً ل�ش�ؤون‬ ‫وتقوم جهات معينة يف �أوروبا بت�أجيج التوجهات العن�صرية‬ ‫املجتمع والدولة‪ ،‬وتدبرياً �سلمياً للخالف بني الفرقاء ال�سيا�سيني‬ ‫واملدنيني‪ ،‬وتتبنى الإ�سالمية مرجعية جامعة للأمة حتافظ على و�صنع التوترات بني امل�سلمني وامل�سيحيني �أو اليهود هناك‪ ،‬منعاً‬ ‫احلريات العامة واخلا�صة وتعترب االختالف �إثراء للفكر والتدافع لأي ا�ستقرار �أو اندماج بني امل�سلمني‪.‬‬ ‫وت�ستغل اجلهات التي ت�ؤجج التوتر بني «الإ�سالميني»‬ ‫ال�سلمي والدميقراطي �أ�سا�س العالقة بني الفرقاء داخل املجتمع‪.‬‬ ‫لكن �سرعان ما تثور التوترات اجلانبية بفعل عدم التب�صر من و«العلمانيني»‪ ،‬مع الأ�سف ال�شديد‪ ،‬نقاط �ضعف كثرية يف واقعنا‬ ‫جهة‪ ،‬وبفعل ت�ضخيم فرتات التوتر التي تظهر يف ظروف �أو ال�سيا�سي واالجتماعي‪.‬‬ ‫فهناك‪� ،‬أو ًال‪ ،‬ثقافة التفرق والنزوع نحو التف�سريات الب�سيطة‬ ‫�سياقات خا�صة‪ ،‬وخ�صو�صاً فرتات االن�سداد ال�سيا�سي‪ ،‬من جهة‬

‫‪21‬‬


‫لتف�سري الأحداث والأمور؛ وهي جتد جذورها يف حالة التخلف‬ ‫التي تعرفها دولنا و�شعوبنا‪ ،‬وتظهر �سماتها لي�س فقط يف ت�ضخيم‬ ‫ما ي�سمى «ال�صراع الإ�سالمي العلماين»‪ ،‬و�إمنا �أي�ضاً يف تفجري‬ ‫�صراعات داخل كل منظومة على �أ�س�س طائفية �أو عرقية �أو مذهبية‬ ‫�أو غريها‪ .‬وهي مقاربات ال متلك من �سبيل للتعامل مع املجتمع‬ ‫واجلهات املدنية وال�سيا�سية والدولة والعامل اخلارجي غري �سبيل‬ ‫االتهام والقطيعة‪ ،‬و�أحيانا ال�ضغينة وا�ستعمال العنف‪.‬‬ ‫وهناك‪ ،‬ثانياً‪ ،‬التوظيف ال�سيا�سي لل�صراع بني الطرفني من‬ ‫قبل �أطراف خارجية �أو داخلية‪ ،‬وهي يف الغالب لي�س من م�صلحتها‬ ‫تو�سيع امل�شاركة ال�سيا�سية وتطوير الدميقراطية ون�شر العدالة‬ ‫االجتماعية‪ .‬ويقف وراء كثري منها لوبيات تريد احلفاظ على‬ ‫هيمنتها ال�سيا�سية واحتكارها للرثوات‪ ،‬ومن ثم فهذه اللوبيات‬ ‫ت�سعى �إىل عرقلة �أي عمل جبهوي يف االجتاه املذكور‪ ،‬وتعمل على‬ ‫تغذية اخلالفات وال�صراعات‪.‬‬ ‫كما �أ َّن الكثري من ال�صراعات لي�ست ب�سبب اخلالف الفكري �أو‬ ‫اختالف وجهات النظر‪ ،‬و�إمنا ب�سبب ت�ضارب امل�صالح وحماوالت‬ ‫الإق�صاء من �أحد الطرفني للآخر‪.‬‬ ‫واليوم‪ ،‬تعي�ش �شعوب املنطقة هبة دميقراطية مباركة‪ ،‬يبا�شرها‬ ‫كل �شعب بطريقته‪ .‬وحاول الكثريون ا�ستعمال ذات الأ�سلوب‪� ،‬أ�سلوب‬ ‫التفرقة و�صنع ال�صراعات الداخلية‪ ،‬ملنع التوجهات الدميقراطية‬ ‫والإ�صالحية‪ ،‬وكرثت اال�صطفافات امل�صطنعة‪ ،‬وبد�أ �ضرب بع�ض‬ ‫الدميقراطيني ببع�ض‪ ،‬تكري�سا للهيمنات املوجودة‪.‬‬ ‫ومن هنا يعترب الوعي برهان التخلي عن �أي �صراعات جانبية‬ ‫والرتكيز على معركة الدميقراطية والإ�صالحات ال�سيا�سية‪،‬‬ ‫حتقيقاً ال�ستقرار دولنا و�شعوبنا وتقدمها ومنائها‪� ،‬أمراً م�ستعج ً‬ ‫ال‬ ‫ونقطة انطالق لبناء امل�ستقبل‪ .‬وعندما يتحقق احلد املقبول من‬ ‫الدميقراطية‪� ،‬آنذاك ميكن للجميع �أن يدافع عن فكره ور�أيه‬ ‫بحرية ودون �أي �إق�صاء‪.‬‬ ‫و�أمام التحوالت التي تعرفها بالدنا اليوم‪ ،‬والتي يريد منها‬ ‫ال�شعب حتوال دميقراطيا حقيقيا‪ ،‬من ال�ضروري وقوف كل‬

‫الدميقراطيني وكل من ين�شدون الدميقراطية يف �صف واحد‪.‬‬ ‫وكالعادة‪� ،‬ست�ؤجج جهات م�صلحية الرتا�شقات بني الأطراف‪،‬‬ ‫و�ستحاول جهات باحثة عن منافع �شخ�صية �آنية �إبقاء ال�صراعات‬ ‫املزعومة م�شتعلة‪ ،‬لكن املطلوب من اجلميع الوعي ب�أن اللحظة‬ ‫الدميقراطية تقت�ضي �أال ي�صطفوا م�صلحياً و�أال ي�صطفوا‬ ‫�إيديولوجيا‪ ،‬و�إمنا تقت�ضي �أن ي�صطفوا وطنياً وي�صطفوا‬ ‫دميقراطياً‪.‬‬

‫امل�ساء املغربية‬

‫‪22‬‬


‫الشباب ُ َّ‬ ‫صناع التغيير‬ ‫كان جي�ش الر�سول ‪� -‬صلى اهلل عليه و�سلم ‪ -‬يف بدر �شبابا خرجوا‬ ‫معه لإخراج النا�س من الظلمات �إىل النور‪ ،‬فحطموا الأ�صنام‪ ،‬ودا�سوا‬ ‫الأزالم‪ ،‬وحذفوا ر�ؤو�س الأقزام‪ ،‬وا�ستمر ال�شباب يف كل �أمة ويف كل جيل‬ ‫ي�صنعون �أملها املن�شود وجمدها املوعود‪.‬‬ ‫والذي �شرح خاطري يف �شباب تون�س وم�صر الذين �صنعوا التغيري‬ ‫�أنهم جمعوا بني الإميان والعمل‪ ..‬الإميان باهلل ربا‪ ،‬وبالإ�سالم دينا‪،‬‬ ‫ومبحمد ‪� -‬صلى اهلل عليه و�سلم ‪ -‬ر�سوال‪ ،‬والعمل من �أجل حياة كرمية‬ ‫وح�ضارة راقية وجمتمع �سليم معافى‪ ،‬كانوا ي�صلون ال�صلوات اخلم�س‬ ‫يف امليدان‪ ،‬ويحفظون الأمن‪ ،‬وينظفون ال�سكك‪ ،‬ويداوون اجلرحى‪،‬‬ ‫وينظمون املرور‪ ،‬جمعوا بني ثقافة امل�سجد وامل�صنع‪ ،‬وامل�صلى وال�شركة‪،‬‬ ‫وامل�صحف وامليدان‪ ،‬والقلم وامل�شرط والري�شة‪ ،‬ف�أذهلوا العامل ب�إميانهم‬ ‫و�صربهم وثقافتهم‪.‬‬ ‫كنت قبل �أ�سبوع يف الهند مع بع�ض الدعاة ال�سعوديني‪ ،‬فزرنا خم�س‬ ‫جامعات يف والية كجريات وجمعية العلماء بنيودلهي وندوة العلماء‬ ‫بلكنو‪ ،‬فوجدنا �شبابا م�ؤمنا باهلل جمع بني درا�سة �صحيح البخاري‬ ‫والـ«في�س بوك»‪ ،‬بني الت�سبيح وتعلم الكيمياء‪ ،‬بني �إتباع ال�سنة ودرا�سة‬ ‫الكون‪ ،‬وكان �أ�ستاذهم يف الهند الدكتور �أبو الكالم الفيزيائي امل�سلم‬ ‫امل�صلي الذي اكت�شف القنبلة الذرية‪ ،‬ف�أكرمه ال�شعب الهندي ب�أن توجه‬ ‫رئي�سا للهند‪ ،‬كان عنده معمل فيزيائي معه ثمانية موظفني‪� ،‬إذا �أذن‬ ‫امل�ؤذن ترك العمل‪ ،‬وذهب �إىل امل�سجد‪ ،‬وهذا الذي نريده من ال�شباب‪.‬‬ ‫وعجبي من �شباب مفل�سني حمبطني فا�شلني لي�سوا ناجحني يف الدين‬ ‫وال يف الدنيا‪ ،‬بل جتدهم متذمرين من الطاعة هلل‪ ،‬عندهم خجل‬ ‫من التدين‪ ،‬ما �أخذوا من الغرب �إال ركوب الـ«بنز»‪ ،‬ولب�س اجلنز‪،‬‬ ‫ف�صار �أحدهم كالعنز‪ ،‬قلوبهم فارغة من الإميان‪ ،‬و�أدمغتهم فا�ضية‬ ‫من الثقافة واملعرفة‪ ،‬وهم ممتازون يف ال�سهر ال�ضائع وقتل الوقت يف‬ ‫نفث �سجائر الدخان والأحالم الوردية والو�ساو�س ال�شيطانية‪� ..‬صلينا‬ ‫�صالة اجلمعة يف الهند يف اليوم الذي �سقط فيه ر�أ�س النظام امل�صري‬ ‫فيما يقارب ع�شرين �ألف �شاب م�سلم در�سوا علم ال�شريعة والريا�ضيات‬ ‫والكيمياء والفيزياء‪ ،‬و�أخذوا يدعون اهلل �أن ين�صر ال�شعب امل�صري كما‬ ‫ن�صر ال�شعب التون�سي‪ ،‬فهم يحملون ر�سالة الإ�سالم التي جمعت بني‬ ‫الأبي�ض والأحمر والأ�سود‪ ،‬وبني العربي والهندي والفار�سي والرتكي‬ ‫والكردي وكل �أجنا�س الب�شر‪.‬‬ ‫�إن الأمة الإ�سالمية ال ي�صنع تغيريها �إىل الأف�ضل والأجمل والأكمل‬ ‫�إال �شباب م�ؤمن يعرتف بالقبلة وامل�صحف وال�شريعة‪ ،‬م�ؤمن بالعمل‪،‬‬

‫د‪.‬عائ�ض القرين‬

‫وينت�شر بعد ال�صالة �إىل املكتب والثكنة والعيادة واملزرعة واجلندية‬ ‫واجلامعة وال�سوق‪ ،‬ي�شارك يف �صنع احلياة‪ ،‬فيبني ويعمر‪ ،‬ويخطط‬ ‫ويهند�س‪ ،‬ويحرث الأر�ض‪ ،‬ويبيع وي�شرتي‪ ،‬ويحر�س الأمة‪ ،‬ويكون‬ ‫ع�ضوا �صاحلا يف املجتمع امل�سلم‪.‬‬ ‫ال نريد �شبابا فاجرا ي�ستهزئ بالديانة‪ ،‬ويخون الأمانة‪ ،‬ال ي�شارك يف‬ ‫�صنع احلياة‪ ،‬و�إمنا هو غدة زائدة يف اجل�سم‪ ،‬و�صفر مهمل يف عدد الأمة‪،‬‬ ‫من �أين �أتتهم الفكرة التي تقول‪ :‬لن يح�صل تقدم دنيوي �إال بالتنكر‬ ‫للدين؟! «كربت كلمة تخرج من �أفواههم �إن يقولون �إال كذبا»‪ .‬لقد‬ ‫�شاهدنا ال�شباب امل�سلم الناجح يف ال�شرق والغرب الذي ح�صل على �أعلى‬ ‫ال�شهادات و�أعظم اجلوائز يف كل تخ�ص�ص‪ ،‬وهو يحافظ على ال�صلوات‬ ‫اخلم�س‪ ،‬ور�أينا ال�شباب الفا�شل املهزوم امل�سحوق وقد تنكر للعبادة‪،‬‬ ‫فف�شل يف الدرا�سة والوظيفة والإنتاج‪ ..‬نريد �أن جنمع بني امل�سجد‬ ‫وامل�صنع‪ ،‬واجلامعة وامليدان‪ ،‬وامل�صحف واملخترب‪ ،‬بني املجد يف الدنيا‬ ‫والنجاة يف الآخرة‪ ،‬و�أعوذ باهلل من الكفر والفقر والفجور والك�سل‪.‬‬ ‫يقول اهلل تعاىل يف كتابه عن ال�شباب امل�ؤمن �صانع التغيري‪�( :‬إِ َّن ُه ْم ِف ْت َي ٌة‬ ‫�آ َم ُنوا ِب َر ِّب ِه ْم َو ِز ْد َناهُ ْم هُ دًى) (الكهف‪.)13 :‬‬

‫‪23‬‬


‫االتجاه نحو الوسطية‬

‫د‪.‬الهادي بوحمره‬

‫مع �أن املقرر �شرعا وعقال �إن خري الأمور �أو�سطها وان �ضرورة التمييز بني التعبري احلر والتعبري احلاقد ورف�ض‬ ‫الف�ضيلة بني رذيلتني‪� ،‬إال �إن الو�صول �إىل ما ميكن اعتباره عدال اخلطاب الذي يح�ض على الكراهية ويتعار�ض مع ثوابت املجتمع‪.‬‬ ‫بني م�سلكني يحتاج �إىل قدر من التجربة على امل�ستوى الفردي ومن ال�سرت املطلق �إىل الدعوة �إيل ال�شفافية املطلقة ومنهما‬ ‫واجلماعي التي حتتاج بدورها �إىل قدر من الزمن قد يتقل�ص �إيل نهج يعتمد ال�شفافية كالزم من لوازم النهو�ض والردع مع‬ ‫باال�ستفادة من التجارب املقارنة‪ .‬كما �إن ذلك قد يحتاج يف بع�ض �إحاطتها ب�سياج ي�ستوجبه �سرت الأعرا�ض والأمن الوطني وغريه‬ ‫امل�سائل �إىل جتربة �أو على الأقل �إىل الفح�ص النظري الدقيق من امل�صالح العليا للدولة‪.‬‬ ‫ومن �سيطرة القطاع العام �أو القطاع اخلا�ص على الن�شاط‬

‫لنقي�ضي الو�سطية للتمكن من االنتهاء �إليها‪ .‬ف�إدراك �أن �سبيال‬

‫ما هو ال�سبيل الو�سط ال ميكن �إال بعد جتربة �أو فح�ص �سلبيات االقت�صادي �إىل الإقرار باحلاجة �إىل كليهما مع حتديد جمال كل‬ ‫وايجابيات غريه من ال�سبل‪ .‬واالنتقال من التفريط يكون –عادة‪ -‬منهما مع �إ�ضافة احلاجة �إىل م�ؤ�س�سات املجتمع املدين‪.‬‬ ‫ومن النظر �إيل الرتاث الإ�سالمي باعتبار �أن العالقة به عالقة‬

‫�إىل الإفراط قبل �أن ي�صل �إىل االعتدال اخلايل من الإفراط‬ ‫والتفريط‪.‬‬

‫ات�صال وارتباط ال انف�صال لها �إىل القول ب�ضرورة نفي �أي اثر له‬

‫فالو�سطية التي هي البديل الثالث غالبا ما تتحدد يف نتيجة يف حا�ضرنا باعتباره نتاجا جتاوزه التاريخ ومنهما �إىل الت�أكيد‬ ‫ينتهي �إليها النظر عند البحث عن التوازن بني قيم وم�صالح على �ضرورة النظر �إليه من خالل م�ستوياته املتنوعة ومراحله‬ ‫متعار�ضة �أو تبدو �أنها كذلك جتمع بني ايجابيات البدلني وتتفادى التاريخية املختلفة وتوظيفه للتجديد والبناء من خالل الإميان‬ ‫�سلبياتهما‪.‬‬

‫بجدلية العالقة بني املا�ضي واحلا�ضر وامل�ستقبل‪� .‬أي اعتباره‬

‫فمن االختالف بني الأفراد ب�سبب اختالف اجلن�س �أو العرق مرجعا مهما‪ ،‬مع �إدراك التمايز بني املا�ضي واحلا�ضر دون نكران‬ ‫�أو الدين �إىل الدعوة �إىل امل�ساواة املطلقة �إىل �أن انتهى الأمر �إىل‬ ‫القول بامل�ساواة التنا�سبية التي ت�أخذ ظروف و�إمكانيات كل فرد‬ ‫يف االعتبار واىل �ضرورة تدخل الدولة للحد من اثر التفاوت‬ ‫االجتماعي والثقايف يف احل�صول على املنافع ب�إعادة توزيع املنافع‬ ‫والأعباء على نحو ميكن الأكرث حرمانا من االنتفاع ببع�ض ما‬ ‫ينعم به الأكرث حظا‪ ،‬ما �أدى �إىل �إقرار غالبية النظم القانونية‬ ‫ل�ضمان احلد الأدنى للمعي�شة لكل �أفراد املجتمع‪.‬‬ ‫ومن كبت الآراء �إىل الدعوة �إىل حرية التعبري ومنهما �إيل‬

‫للرتاث ودون العمل على تكراره‪.‬‬ ‫البحث عن التوازن( �أي الو�سطية) هو الأ�سا�س الفل�سفي للقول‬ ‫بان لكل قاعدة ا�ستثناء وان اال�ستثناء ي�ؤكد القاعدة ال يلغيها‪.‬‬ ‫�إذ انه الو�سيلة لتفادي �سلبياتها وللحيلولة دون التطرف يف‬ ‫�إعمالها‪ .‬ومن ذلك �إننا كقانونني ن�ؤمن ب�أهمية القاعدة التي تقرر‬ ‫�أن الإن�سان بريء حتى تثبت �إدانته ونقر يف نف�س الوقت ب�أهمية‬ ‫الإجراءات املا�سة باحلرية ال�شخ�صية يف مواجهته قبل �أن ي�صدر‬ ‫حكم بات ب�إدانته متكينا لل�سلطات اجلنائية من حماية املجتمع من‬ ‫�أخطار حمتملة وتوفريا ملتطلبات الفاعلية الإجرائية‪.‬‬

‫‪24‬‬


‫ومن ذلك –�أي�ضا‪ -‬اعتماد الف�صل بني ال�سلطات الثالث‬

‫تظهر فيه تناق�ضات ال ميكن اجلمع بينها يف �إطار جمتمع واحد‪.‬‬

‫(الت�شريعية‪ ،‬والتنفيذية‪ ،‬والق�ضائية) ك�إطار د�ستوري لتنظيم ومن هنا فان م�س�ألة ظهور الإفراط �أو التفريط نقي�ض ما كان‬ ‫الدولة ك�ضمانة ل�صون احلرية ومنع اال�ستبداد وكركيزة لتق�سيم �سائدا يف جمتمع ما قبل حدوث التغيري فيه‪ ،‬ال يجب �أن يكون‬ ‫العمل وح�صر امل�س�ؤولية‪ ،‬مل مينع الأنظمة املختلفة من �إقرار �سببا لل�شعور بالي�أ�س �أو للتذمر �أو �أن ي�صل الأمر لكراهية حدوت‬ ‫التعاون بني ال�سلطات الثالث ومن القبول بحلول احدها حمل التغيري �أو لتمني الرجوع �إىل �سابق العهد‪ ،‬مادام هناك اجتاه ولو‬ ‫الأخرى‪ .‬فبالإ�ضافة �إىل الت�شريعات التي ت�صدر عن ال�سلطة بطيء للتوازن‪ .‬يف مقابل ذلك‪ ،‬يجب �أن حت�شد الهمم ملحاولة‬ ‫الت�شريعية هناك ت�شريعات ت�صدرها ال�سلطة التنفيذية مبوجب تق�صري فرتة البقاء يف �أي نقي�ض للو�سطية واجلد يف البحث يف‬ ‫التفوي�ض الت�شريعي �أو على �أ�سا�س ما تقرره بع�ض الد�ساتري من معايريها ا�ستفادة من جتارب الدول الأخرى يف كل جمال على‬ ‫تقا�سم ل�سلطة الت�شريع‪ ،‬وبالإ�ضافة للوائح التنفيذية هناك ما حدة‪ .‬مع �إدراك �أن ما مير به املجتمع هو �أمر طبيعي ال يتعار�ض‬ ‫يعرف باللوائح املن�شئة‪ ،‬وبالإ�ضافة �إيل وظيفة املحاكم يف تطبيق مع نوامي�س الطبيعة الب�شرية مادام هناك �صراع فكري ال تهمي�ش‬ ‫القوانني على املنازعات التي ترفع �إليه‪ ،‬يقوم الق�ضاء بوظيفة وال �إق�صاء فيه ودون �أن يكون لأي طرف فيه �إمكانية ا�ستخدام �أي‬ ‫رقابة �صحة الت�شريعات‪.‬‬

‫و�سيلة من و�سائل العنف املادي �أو املعنوي النتهاك احلقوق التي‬

‫كما �أن بناء النظام القانوين على فكرة امللكية الفردية مقد�سة‪ ،‬تعترب �أولية مثل احلق يف ال�سالمة البدنية �أو اال�ستقالل الذاتي‪.‬‬ ‫مل مينع من الأخذ يف االعتبار وظيفتها االجتماعية وما يقت�ضيه‬ ‫الأمر من تقييد القانون لكيفية ا�ستغاللها وفر�ض �ضريبة عليها‬ ‫وال من �إمكانية نزعها للمنفعة العامة مقابل تعوي�ض عادل‪.‬‬ ‫ومن �أمثلة ذلك‪�-‬أي�ضا‪ -‬القول بامل�ساواة قانونا بني الرجل‬ ‫واملر�أة ال مينع امل�شرع وال�سلطة الإدارية من �إقرار �أحكام خا�صة‬ ‫لإحداث تنا�سب بني عوامل البيئة وطبيعة الوظيفة وم�س�ؤولياتها‬ ‫والتكوين اجل�سدي والنف�سي للرجل واملر�أة‪.‬‬ ‫و�إذا كان الأمر كذلك‪ ،‬فان االنتقال من طرف �إىل طرف عند‬ ‫حدوث حتول يف املجتمع هو �أمر حمتمل يف كثري منها‪ .‬فاملجتمع‬ ‫الذي يظل حمكوما بفرد �أو حزب واحد مهدد بان تتكاثر فيه‬ ‫الأحزاب لدرجة �أن ت�صبح مهددة للحمته ووحدته‪ ،‬واملجتمع الذي‬ ‫ال يكون فيه جمال حلرية الر�أي والتعبري مهدد ولو بعد حني ب�أن‬ ‫تنطلق فيه احلريات بدون حدود ب�شكل يهدد حريات الآخرين‬ ‫و�سمعتهم وكرامتهم ويختلط فيه احلق بالباطل لأمد طويل وان‬

‫‪25‬‬


‫وسطية األمة اإلسالمية‬

‫�أ‪.‬د‪.‬حممد عمارة‬ ‫يف الو�سطية الإ�سالمية تتمثل ال�سمة والق�سمة التي جتد ‪-‬بحق‪-‬‬ ‫�أخ�ص ما يخ�ص به املنهج الإ�سالمي عن مناهج �أخرى ملذاهب و�شرائع‬ ‫وفل�سفات؛ بها انطبعت احل�ضارة الإ�سالمية يف كل القيم واملعايري‬ ‫والأ�صول واملعامل واجلزئيات‪ ،‬حتى لن�ستطيع �أن نقول‪� :‬إن هذه‬ ‫الو�سطية‪ ،‬بالن�سبة للمنهج الإ�سالمي وح�ضارته هي «عد�سته ال ّ‬ ‫المة»‬ ‫لأ�شعة �ضوئه‪ ،‬وزاوي ُة ر�ؤيته كمنهج‪ ،‬وزاوية الر�ؤية به �أي�ضاً‪.‬‬ ‫وهي قد بلغت وتبلغ هذا املقام‪ ،‬لأنها ‪ -‬بنفيها الغلو الظامل‬ ‫والتطرف الباطل‪� -‬إمنا متثل الفطرة الإن�سانية قبل �أن تعر�ض لها‬ ‫وتعد َو عليها عوار�ض وعاديات الآفات‪ ...‬متثل الفطرة الإن�سانية يف‬ ‫ب�ساطتها وبداهتها وعمقها و�صدق تعبريها عن فطرة اهلل التي فطر‬ ‫النا�س عليها‪� .‬إنها �صبغة اهلل‪� ،‬أراد �سبحانه وتعاىل لها �أن تكون �صبغة‬ ‫�أمة الإ�سالم‪ ،‬و�أخ�ص خ�صو�صيات منهج الإ�صالح بالإ�سالم‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫ا�س َو َي ُكو َن ال َّر ُ�س ُ‬ ‫ول‬ ‫( َو َك َذل َِك َج َع ْل َنا ُك ْم �أُ َّم ًة َو َ�س ًطا ِل َت ُكو ُنوا ُ�ش َهدَا َء َعلَى ال َّن ِ‬ ‫َعلَ ْي ُك ْم َ�شهِيدًا) (البقرة‪� .)143 :‬إنها احلق بني باطلَني؛ والعدل بني‬ ‫ظل َمني؛ واالعتدال بني تطر َفني؛ واملوقف العادل اجلامع لأطراف‬ ‫احلق والعدل واالعتدال‪ ،‬الراف�ض للغل ّو �إفراطا وتفريطا؛ لأن الغلو‬ ‫الذي يتن ّكب الو�سطية هو انحياز من الغالة �إىل �أحد قطـ َبي الظاهرة‪،‬‬ ‫ووقوف عند �إحدى كفتي امليزان‪ ،‬يفتقر تو�سط الو�سطية الإ�سالمية‬ ‫اجلامعة و�إمكانات ال�شهادة وال�شهود‪.‬‬ ‫وهذه الو�سطية الإ�سالمية اجلامعة لي�ست ما يح�سبه العامة انعدام‬ ‫املوقف الوا�ضح واملحدد �أمام الق�ضايا وامل�شكالت‪ ،‬لأنها هي املوقف‬

‫الأ�صعب الذي ال ينحاز االنحياز ال�سهل �إىل �أحد القطبني وفقط‪ ،‬فهي‬ ‫بريئة من املعاين "ال�سوقية" التي �شاعت عن دالالت م�صطلحها بني‬ ‫العوام‪ ،‬وهي كذلك لي�ست "الو�سطية الأر�سطية" كما يح�سب كثري من‬ ‫املثقفني ودار�سي الفل�سفة الغربية وطالبها؛ لأن الو�سطية الأر�سطية‬ ‫التي ر�أى بها �أر�سطو (‪ 322-384‬ق‪.‬م) �أن الف�ضيلة هي‬ ‫و�سط بني رذيلتني هي يف العرف الأر�سطي �أ�شبه‬ ‫ما تكون يف تو�سطها "بالنقطة الريا�ضية"‬ ‫التي تف�صلها عن القطبني ‪-‬الرذيلتني‪ -‬م�سافة‬ ‫مت�ساوية‪ ،‬ت�ضمن لها التو�سط والو�سطية‪.‬‬ ‫�إنها نقطة ريا�ضية‪ ،‬وموقف �ساكن‪ ،‬و�شيء‬ ‫�آخر ال عالقة له بالقطبني اللذين يتو�سطهما‪،‬‬ ‫ولي�ست هكذا الو�سطية يف ا�صطالح الإ�سالم‪.‬‬ ‫�إنها يف الت�صور الإ�سالمي موقف ثالث‬ ‫حقا‪ ،‬وموقف جديد حقا‪ ،‬ولكن تو�سطه بني‬ ‫النقي�ضني املتقابلني ال يعني �أنه منبت ال�صلة ب�سماتهما وق�سماتهما‬ ‫ومكوناتهما‪� .‬إنه خمالف لهما‪ ،‬لكن لي�س يف كل �شيء؛ و�إمنا خالفه‬ ‫لهما منح�صر يف رف�ض االنح�صار واالنغالق على �سمات كل قطب من‬ ‫الأقطاب وحدها دون غريها‪ ،‬منح�صر يف رف�ضه الإب�صار بعني واحدة‪،‬‬ ‫الترى �إال قطبا واحداً‪ ..‬منح�صر يف رف�ضه االنحياز املغايل‪ ،‬وغلو‬ ‫االنحياز‪ .‬ولذلك‪ ،‬ف�إنها ‪-‬كموقف ثالث‪ ،‬وجديد‪� -‬إمنا يتمثل مت ّيزها‪،‬‬ ‫ومتمثل جدّتها يف �أنها جتمع وت�ؤلف كل ما ميكن جمعه وت�أليفه ‪-‬كن�سق‬ ‫غري متنافر وال ملفق‪ -‬من ال�سمات والق�سمات واملكونات املوجودة يف‬ ‫القطبني النقي�ضني كليهما‪ .‬وهي لذلك و�سطية "جامعة"‪ ،‬تتميز عن‬ ‫تلك التي قال بها حكيم اليونان‪.‬‬ ‫الو�سطية اجلامعة‬ ‫�إن "العدل" ‪-‬والو�سطية هي العدل بني ظلمني‪ -‬ال يعتدل ميزانه‬ ‫بتجاهل كفتيه‪ ،‬واالنفراد دونهما‪ ،‬كما �أنه ال يعتدل ميزانه باالنحياز‬ ‫�إىل �إحدى الكفتني‪ .‬و�إمنا يعتدل بالو�سطية اجلامعة التي جتمع احلكم‬ ‫العادل من حقائق ووقائع وحجج وب ّينات الفريقني املخت�صمني ‪-‬كفتي‬ ‫امليزان‪ .-‬ولهذا كان قول ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم‪" :‬الو�سط‪:‬‬ ‫العدل‪ ،‬جعلناكم �أمة و�سطا" (رواه الإمام �أحمد)‪ ،‬كان التعبري عن‬ ‫حقيقة مفهوم الو�سطية يف الإ�سالم‪.‬‬ ‫ويف �ضوء هذا امل�ضمون الإ�سالمي مل�صطلح "الو�سطية" ‪-‬وهو‬ ‫امل�ضمون الذي م ّيزها بو�صف "اجلامعة"‪ -‬نقر�أ كل الآيات القر�آنية التي‬ ‫�أ�شارت �إىل هذه اخل�صي�صة من خ�صائ�ص املنهج الإ�سالمي يف الإ�صالح‪.‬‬

‫‪26‬‬


‫ف�أمة الإ�سالم هم‪َ ( :‬وا َّلذِ َ‬ ‫ين �إِ َذا �أَ ْن َف ُقوا لمَ ْ ُي ْ�س ِر ُفوا َولمَ ْ َيقْترُ ُ وا َو َكا َن‬ ‫َبينْ َ َذل َِك َق َوا ًما)(الفرقان‪ .)67 :‬واملنهاج الو�سطي يف الإنفاق ت�شري �إليه‬ ‫�آيات من مثل‪َ ( :‬و�آتِ َذا ا ْل ُق ْر َبى َح َّق ُه َوالمْ ِْ�س ِك َ‬ ‫ال�سبِيلِ َو َال ُت َبذِ ْر‬ ‫ني َوا ْب َن َّ‬ ‫َت ْبذِ ي ًرا) (الإ�سراء‪َ ( ،)26 :‬و َال تجَ ْ َع ْل َيد َ​َك َم ْغ ُلو َل ًة �إِلىَ ُع ُنق َِك َو َال َت ْب ُ�س ْطهَا‬ ‫ُك َّل ا ْل َب ْ�س ِط َف َت ْق ُع َد َم ُلو ًما محَ ْ ُ�سو ًرا) (الإ�سراء‪ .)29 :‬فال الرهبانية‬ ‫الن�صرانية وال ُّن�سك الأعجمي وال احليوانية ال�شهوانية والتحلل من‬ ‫التكاليف‪.‬‬ ‫و�إذا نحن �شئنا معرفة االمتياز العظيم الذي متثله "الو�سطية‬ ‫اجلامعة" وحتققه للمنهج الإ�سالمي يف الإ�صالح‪ ،‬وال�شمول الذي‬ ‫تبلغه ت�أثرياتها عندما ُتراعى وتو�ضع يف املمار�سة والتطبيق‪ ،‬ف�إننا‬ ‫ن�ستطيع ذلك عندما ندرك كيف مثلت هذه الو�سطية ‪-‬ومتثل‪ -‬بالن�سبة‬ ‫للإ�صالح الإ�سالمي طوق النجاة من متزق وان�شطارية وثنائية‬ ‫املتقابالت املتناق�ضة‪ ،‬على النحو الذي حدث يف ح�ضارات �أخرى‪ ،‬ويف‬ ‫احل�ضارة الغربية على وجه التحديد‪.‬‬ ‫فبهذه الو�سطية اجلامعة مل يعرف املنهاج الإ�سالمي التناق�ض الذي‬ ‫مل يجد له ح ًّ‬ ‫ال بني‪ :‬الروح واجل�سد‪ ،‬الدنيا والآخرة‪ ،‬الدين والدولة‪،‬‬ ‫الذات واملو�ضوع‪ ،‬الفرد واملجموع‪ ،‬الفكر والواقع‪ ،‬املادية واملثالية‪،‬‬ ‫املقا�صد والو�سائل‪ ،‬الثابت واملتغري‪ ،‬القدمي واجلديد‪ ،‬العقل والنقل‪،‬‬ ‫احلق والقوة‪ ،‬االجتهاد والتقليد‪ ،‬الدين والعلم‪� ...‬إىل �آخر الثنائيات‪،‬‬ ‫التي عندما افتقد منهج النظر �إليها ق�سمة "الو�سطية اجلامعة" حدث‬ ‫االنق�سام احلاد وال�شهري يف فل�سفة احل�ضارة الغربية �إىل "ماديني"‬ ‫و"مثاليني" و"مادية" و"مثالية"‪ ،‬و"عقالنيني" و"الهوتيني"‪،‬‬ ‫و"متدينني"‪ ،‬و"فال�سفة" و"م�ؤمنني"‪ ...‬منذ العهود اليونانية لتلك‬ ‫احل�ضارة وحتى نه�ضتها احلديثة وواقعها املعا�صر‪.‬‬ ‫لقد مثلت الو�سطية الإ�سالمية اجلامعة حل�ضارتنا وملنهاج‬ ‫الإ�صالح الإ�سالمي طوق النجاة من هذه الثنائيات ومتزقاتها وغلوها‪.‬‬ ‫ولذلك‪ ،‬كانت املعيار لإ�سالمية مناهج النظر الفكري ومناهج الإ�صالح‬ ‫بالإ�سالم‪.‬‬ ‫ولقد ت�ألقت الدعوة الإ�صالحية للإمام حممد عبده حول بدايات‬ ‫القرن الرابع ع�شر الهجري يف واقع ح�ضاري متيز ب�سيادة اجلمود‬ ‫والتقليد يف دوائر طالب العلم الديني ‪-‬وهو غلو يحجب الدين‬ ‫والإ�صالح الإ�سالمي عن الواقع واحلياة‪ -‬فيخلق الفراغ الديني احلق‬ ‫يف هذا الواقع‪ ،‬ويبعد املنهاج الإ�صالحي الإ�سالمي عن �أن يكون هو‬ ‫�سبيل الأمة للنه�ضة والتقدم‪.‬‬ ‫كما متيز هذا الواقع احل�ضاري بزحف النموذج الغربي يف التقدم‬ ‫والتحديث على ال�شرق الإ�سالمي‪ ،‬ذلك النموذج الذي وفد �إىل بالدنا يف‬ ‫ركاب الغزوة اال�ستعمارية الغربية احلديثة لعامل الإ�سالم‪ .‬وهو منوذج‬

‫قد متيز بالغلو ال�شديد‪ ،‬وذلك عندما انحاز �إىل عامل ال�شهادة راف�ضا‬ ‫عامل الغيب‪ ،‬و�إىل الدنيا يف مواجهة الدين‪ ،‬و�إىل الفردية يف مقابلة‬ ‫اجلماعة‪ ،‬و�إىل الأر�ض يف رف�ضه حلاكمية ال�سماء و�شريعتها‪ ،‬و�إىل‬ ‫املادية والو�ضعية يف مقابلة الروح‪ ،‬و�إىل القوة يف مواجهة العدل‪ ،‬و�إىل‬ ‫ال�صراع بدال من التدافع‪ ،‬و�إىل العقل يف مقابلة النقل والوجدان‪...‬‬ ‫فملأ هذا النموذج الغربي الف�ضاء الفل�سفي والثقايف وال�سيا�سي بح�شد‬ ‫غفري من "الثنائيات املتناق�ضة" التي عربت وتعرب عن غلو التفريط‪،‬‬ ‫املقابل لغلو الإفراط الذي مثله اجلمود والتفكري والتقليد ال�سائدَين‬ ‫بني طالب علوم الدين يف �شرقنا الإ�سالمي يف ذلك التاريخ‪.‬‬ ‫وملجافاة كال املوقفني ‪-‬جمود طالب علوم الدين‪ ،‬وجحود طالب‬ ‫العلوم الغربية‪ -‬ملنهاج الو�سطية الإ�سالمية يف الإ�صالح والنهو�ض‪،‬‬ ‫كان حر�ص الإمام حممد عبده على متيز منهاجه يف الإ�صالح ب�سمة‬ ‫الو�سطية الإ�سالمية اجلامعة‪ .‬فكتب عن متيز موقفه ومنهجه ودعوته‬ ‫بهذه الو�سطية عن �أهل اجلمود والتقليد للموروث‪ ،‬و�أهل اجلمود‬ ‫والتقليد للوافد الغربي فقال‪" :‬ولقد خالفتُ يف الدعوة �إليه (�أي �إىل‬ ‫منهجه يف الإ�صالح) ر�أي الفئتني العظيمتني اللتني يرتكب منهما‬ ‫ج�سم الأمة‪ :‬طالب علوم الدين ومن على �شاكلتهم‪ ،‬وطالب فنون هذا‬ ‫الع�صر ومن هو يف ناحيتهم"‪)1(.‬‬ ‫ثم حتدث عن �أن هذه الو�سطية التي انحاز �إليها ومتيز بها منهاجه‬ ‫الإ�صالحي لي�ست خياراً ذات ّياً‪ ،‬و�إمنا هي منهاج الإ�سالم‪ ،‬الذي متيز به‬ ‫عن الغلو الذي �أ�صاب �أهل ال�شرائع الأخرى‪" ،‬فلقد ظهر الإ�سالم‪ ،‬ال‬ ‫روحيا جمرداً‪ ،‬وال ج�سديا جامداً‪ ،‬بل �إن�سانيا و�سطا بني ذلك‪� ،‬آخذا‬ ‫من كال القبيلني بن�صيب‪ ،‬فتوافر له من مالزمة الفطرة الب�شرية‬ ‫ما مل يتوافر لغريه‪ .‬ولذلك �سمى نف�سه دين الفطرة وعرف له ذلك‬ ‫خ�صومه اليوم‪ ،‬وعدّوه املدر�سة الأوىل التي يرقى فيها الربابرة على‬ ‫�سلم املدنية"‪)2(.‬‬ ‫فالو�سطية هي ال�سمة املميزة للإ�سالم‪ ،‬وهي ال�سبب الذي جعل‬ ‫الإ�سالم دين الفطرة الب�شرية ال�سوية‪ ،‬فكان لذلك �سلم االرتقاء على‬ ‫درب املدنية‪ ،‬ب�شهادة اخل�صوم قبل الأ�صدقاء‪.‬‬ ‫وبهذه الو�سطية التي متيز بها الإ�سالم متيزت �أمة الإ�سالم عن‬ ‫وح ّرف بع�ضها‬ ‫�أمم ال�شرائع ال�سابقة التي ُح ّرف بع�ضها �إىل الغلو املادي‪ُ ،‬‬ ‫الآخر �إىل الغلو الروحاين‪ ،‬وبعبارة الإمام حممد عبده‪" :‬ذلك �أن النا�س‬ ‫كانوا قبل ظهور الإ�سالم على ق�سمني‪ :‬ق�سم تق�ضي عليه تقاليده املادية‬ ‫املح�ضة‪ ،‬فال ه ّم له �إال احلظوظ اجل�سدية‪ ،‬كاليهود وامل�شركني؛ وق�سم‬ ‫حتكم عليه تقاليده بالروحانية اخلال�صة‪ ،‬وترك الدنيا وما فيها من‬ ‫اللذات اجل�سمانية‪ ،‬كالن�صارى وال�صابئني وطوائف من و َثن ّيي الهند‬ ‫�أ�صحاب الريا�ضات‪ .‬و�أما الأمة الإ�سالمية فقد جمع اهلل لها يف دينها‬

‫‪27‬‬


‫احلقني؛ حق الروح وحق اجل�سد‪ ،‬فهي روحانية ج�سمانية‪ .‬و�إن �شئت‬ ‫قلت‪� :‬إنه �أعطاها جميع حقوق الإن�سانية‪ ،‬ف�إن الإن�سان ج�سم وروح‪،‬‬ ‫حيوان و َملَك‪ ،‬فك�أنه قال‪ :‬جعلناكم �أمة و�سطا‪ ،‬تعرفون احل ّقني وتبلغون‬ ‫الكما َلني"‪)3(.‬‬ ‫ولأن ال�سنة النبوية هي البيان النبوي للبالغ القر�آين‪ ،‬كانت �سنة‬ ‫ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم وطريقته يف العمل والقول التج�سيد‬ ‫ملنهاج الو�سطية الإ�سالمية‪ .‬ويكفي �أن نت�أمل مع �سريته ال�شريفة قوله‬ ‫�صلى اهلل عليه و�سلم‪�" :‬إن هذا الدين متني‪ ،‬ف�أوغلوا فيه برفق" (رواه‬ ‫الإمام �أحمد)‪ ،‬و"�إن دين اهلل عز وجل ي�سر" (رواه البخاري)‪ ،‬و"�إن اهلل‬ ‫مي�سراً" (رواه م�سلم والإمام‬ ‫عز وجل مل يبعثني مع ِّنفا‪ ،‬ولكن بعثني ِّ‬ ‫�أحمد)‪ ،‬وعن عائ�شة ر�ضي اهلل عنها‪" :‬ما ُخيرِّ ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه‬ ‫و�سلم بني �أمرين يف الإ�سالم �إال اختار �أي�سرهما مامل يكن �إثما‪ ،‬ف�إن كان‬ ‫�إثما كان �أبعد النا�س منه" (رواه البخاري)‪.‬‬ ‫الو�سطية منهاج الإ�سالم‬ ‫ولأن هذه الو�سطية اجلامعة بهذا املعنى‪ ،‬هي منهاج الإ�سالم يف‬ ‫احلياة‪ ،‬مبختلف ميادين احلياة الفردية واالجتماعية؛ ف�إن العقل‬ ‫امل�سلم ي�ستطيع �أن يفقهها ويطبقها يف �سائر امليادين‪:‬‬ ‫ فـ"الكرم" وهو خلق و�سلوك و�سط لي�س غريبا متاما عن القطبني‬‫النقي�ضني‪" :‬ال�ش ّح" و"الإ�سراف"‪ ،‬و�إمنا هو جامع منهما �سمات هذا‬ ‫الكرم ومكوناته‪ ،‬جامع لقدر من "التدبري واالقت�صاد" ولقدر من‬ ‫"البذل والعطاء"‪ ،‬ففيه اجتماع لعنا�صر احلق والعدل من القطبني‬ ‫املتناق�ضني‪.‬‬ ‫ وكذلك "ال�شجاعة" جندها و�سطا بني "اجلنب" و"التهور"‪ ،‬لكنها‬‫جامعة بني مقادير من "حذر" اجلبان‪ ،‬ومقادير من "�إقدام" املتهور‪،‬‬ ‫فال هي منحازة لأحد النقي�ضني‪ ،‬وال هي مغايرة كل املغايرة لهما معا‪.‬‬ ‫ ويف فل�سفة الإ�سالم يف االقت�صاد والرثوات والأموال‪ ،‬جند‬‫"اال�ستخالف" و�سطا بني "احلرية املطلقة" يف الأموال‪ ،‬وبني الإلغاء‬ ‫الكامل للحرية يف الأموال‪ .‬فالإن�سان مالك وحر وم�ستثمر ومنفق‬ ‫وم�ستمتع‪ ،‬لكن كوكيل وخليفة يف امللكية االجتماعية عن املالك احلقيقي‬ ‫وهو اهلل �سبحانه وتعاىل‪ .‬فكل حقوق الإن�سان يف الرثوات والأموال‬ ‫حمكومة بحقوق اهلل وفرائ�ضه يف التوازن والتكافل بني الأمة‪.‬‬ ‫ ويف املوقف من متايز النا�س �إىل طبقات اجتماعية‪ ،‬يقف الإ�سالم‬‫بو�سطيته اجلامعة بني احلرية املطلقة التي تثمر التفاوت الفاح�ش‬ ‫بني الطبقات‪ ،‬وبني "الطوباوية" التي حلت مبجتمعات ال طبقية‪.‬‬ ‫فطبيعي و�ضروري ‪-‬بناء على تفاوت الطاقات والهمم واجلهود‪� -‬أن‬ ‫يتمايز النا�س يف املكا�سب واحلظوظ‪ ،‬لكن الو�سطية تفر�ض وقوف هذا‬ ‫التمايز عند حدود التوازن والتكافل‪ ،‬الذي يجعل الأمة ج�سداً واحد‪،‬‬

‫تتكافل �أع�ضا�ؤه‪ ،‬مع تفاوت الأهمية والعطاء واحلاجات لكل ع�ضو من‬ ‫هذه الأع�ضاء‪.‬‬ ‫وبعبارة الإمام علي بن �أبي طالب ر�ضي اهلل عنه يف عهده �إىل واليه على‬ ‫م�صر "الأ�شرت النخعي"‪" :‬واعلم �أن الرعية طبقات ال ي�صلح بع�ضها �إال‬ ‫ببع�ض وال غنى ببع�ضها عن بع�ض"‪)4(.‬‬ ‫ ويف املوقف من العالقات بني احل�ضارات تقدم الو�سطية الإ�سالمية‬‫منهاج "التفاعل" الذي هو و�سط بني غلو يف "االنغالق والعزلة"‪،‬‬ ‫و"التبعية والتقليد"‪ .‬ففي "التفاعل" ا�ستلهام لكل ما هو م�شرتك‬ ‫�إن�ساين عام‪ ،‬مع التمايز يف اخل�صو�صيات املتعلقة بالهويات العقدية‬ ‫والثقافية‪.‬‬ ‫ كما تقدم الو�سطية الإ�سالمية منهاج "التدافع" عندما يختل‬‫التوازن يف العالقات بني احل�ضارات وكذلك الطبقات‪ ،‬لأن هذا‬ ‫"التدافع" هو منت و�سط‪ ،‬ميثل احلراك االجتماعي الذي يزيل اخللل‪،‬‬ ‫ويعيد العالقات �إىل م�ستوى التوازن والعدل‪ ،‬مع احلفاظ على تعدد‬ ‫وتنوع ومتايز الفرقاء املختلفني‪ .‬فهو "التدافع" و�سط بني "ال�سكون"‬ ‫الذي ينـزل اخللل لي�ستفحل‪ ،‬وبني "ال�صراع" الذي ي�صرع فيه القوي‬ ‫ال�ضعيف‪ ،‬فينهي التعددية والتمايز واالختالف‪.‬‬ ‫لقد رف�ض القر�آن منهاج "ال�صراع" لأنه يزيل �سنة التعددية‬ ‫(�س َّخ َرهَا َعلَ ْي ِه ْم َ�س ْب َع َل َيالٍ َو َث َما ِن َي َة �أَ َّيا ٍم ُح ُ�سوماً َفترَ َ ى ا ْل َق ْو َم فِيهَا َ�ص ْرعَى‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َك�أَ َّن ُه ْم �أ ْع َجا ُز نَخْ لٍ َخا ِو َي ٍة فهَل ت َرى ل ُه ْم مِ نْ َبا ِق َيةٍ)(احلاقة‪ )8-7:‬بينما‬ ‫"التدافع" حراك يعدل املواقف‪ ،‬مع املحافظة على التعدد والتنوع‬ ‫ال�س ِي َئ ُة ا ْد َف ْع بِا َّلتِي هِ َي �أَ ْح َ�س ُن َف�إِ َذا‬ ‫واالختالف ( َو َال َت ْ�س َتوِي الحْ َ َ�س َن ُة َو َال َّ‬ ‫ا َّلذِ ي َب ْي َن َك َو َب ْي َن ُه َعدَا َو ٌة َك�أَ َّن ُه َوليِ ٌّ َحمِ ي ٌم) (ف�صلت‪.)34:‬‬ ‫تلك هي الو�سطية الإ�سالمية اجلامعة‪� ،‬صبغة اهلل التي �أرادها‬ ‫لأمة الإ�سالم‪ ،‬والفطرة الإ�سالمية املطهرة من العوار�ض والآفات‪،‬‬ ‫وعد�سة الر�ؤية ال ّ‬ ‫المة لق�سمات املنهج الإ�سالمي ومعامل ت�صوره يف‬ ‫"الفكر" و"احلياة"‪ .‬و�صدق اهلل العظيم �إذ يقول( َو َك َذل َِك َج َع ْل َنا ُك ْم‬ ‫ا�س َو َي ُكو َن ال َّر ُ�س ُ‬ ‫ول َعلَ ْي ُك ْم َ�شهِيدًا)‬ ‫�أُ َّم ًة َو َ�س ًطا ِل َت ُكو ُنوا ُ�ش َهدَا َء َعلَى ال َّن ِ‬ ‫(البقرة‪ .)143:‬و�صدق ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم عندما قال‪:‬‬ ‫"الو�سط‪ :‬العدل‪ ،‬جعلناكم �أمة و�سطا"‪.‬‬ ‫الـهــوامــــــ�ش‬ ‫‪.1‬الأعمال الكاملة للإمام حممد عبده؛ ج‪� 2‬ص ‪ .310‬درا�سة وحتقيق‪ :‬د‪.‬حممد عمارة‪ .‬ط‪.‬دار ال�شروق‪ /‬القاهرة‬ ‫‪1993‬م‪.‬‬ ‫‪ .2‬امل�صدر ال�سابق‪ .‬ج‪� 3‬ص ‪.287‬‬ ‫‪.3‬امل�صدر ال�سابق‪ .‬ج‪� 4‬ص ‪.333‬‬ ‫‪.4‬نهج البالغة" �ص ‪ - 337‬ب�شرح الإمام حممد عبده‪ .‬وحتقيق وتعليق‪ :‬حممد �أحمد عا�شور‪ ،‬حممد �إبراهيم‬ ‫البنا‪ .‬طبعة دار ال�شعب ‪ /‬القاهرة‪.‬‬

‫‪28‬‬


‫األمر بالمعروف والنهي عن المنكر‬ ‫وواجب التغيير‬ ‫تتعاىل اليوم يف العامل العربي دعوات الإ�صالح والتغيري وهي‬ ‫دعوات م�شروعة بل واجبة ب�سبب ما �آل �إليه الواقع العربي من‬ ‫�ضعف وتفرق وف�ساد وتفرد وظلم وهدر للموارد‪ ،‬مما يوجب على‬ ‫كل عاقل �شريف ينتمي �إىل هذه الأمة ويحر�ص عليها �أن ينطلق‬ ‫ويبادر �إىل الإ�صالح والتغيري ‪.‬‬ ‫�إن ال�سعي والتغيري والإ�صالح هو تنفيذ لواجب الأمر باملعروف‬ ‫والنهي عن املنكر الذي يعد من �أوجب الواجبات على امل�سلم بل‬ ‫هو اليوم واجب الوقت‪ ،‬قال تعاىل( َو ْل َت ُكنْ مِ ْن ُك ْم �أُ َّم ٌة َي ْدعُو َن �إِلىَ‬ ‫وف َو َي ْن َه ْو َن ع َِن المْ ُ ْن َك ِر َو�أُو َلئ َِك هُ ُم المْ ُ ْفل ُِحو َن)‬ ‫الخْ َ يرْ ِ َو َي�أْ ُم ُرو َن ِبالمْ َ ْع ُر ِ‬ ‫(�آل عمران‪. )104:‬‬ ‫فال فالح للأمة وال جناح وال نهو�ض دون القيام بهذا الواجب‬ ‫العظيم والذي بغيابه يكرث ال�سوء ويتعاظم العفن وي�ستعلي‬ ‫الفا�سدون‪.‬‬ ‫د‪.‬هايل عبد احلفيظ الداود‬ ‫ومن هنا كان ترك هذا الواجب �أول مراحل ال�سقوط احل�ضاري‬ ‫للأمة‪ ،‬لأنه ي�ؤدي �إىل كرثة اخلبث والف�ساد وال�سوء‪ ،‬وقد �أكد ذلك‬ ‫�إن الذي يخاف من دعوات الإ�صالح والتغيري هو الفا�سد الذي‬ ‫ر�سولنا الكرمي �صلى اهلل عليه و�سلم عندما �س�أله بع�ضهم" �أنهلك يخاف على ف�ساده �أن يك�شف �أو م�صاحله ال�شخ�صية �أن ت�ضيع‪.‬‬ ‫وفينا ال�صاحلون؟ ‪ ...‬قال ‪ :‬نعم‪� ،‬إذا كرث اخلبث" ‪ ،‬وها هو اخلبث‬ ‫�أما �صاحب النهج احلق والطريق احلق ف�شعاره " �إين قد‬ ‫يكرث وي�ستطيل وينت�شر م�ؤذنا بالهالك واخلراب ‪ ،‬ويجب علينا وليت عليكم ول�ست بخريكم ف�إن �أ�صبت ف�أعينوين و�إن �أخط�أت‬ ‫جميعا حكاما وحمكومني �أن ال نخاف من ال�صيحات املطالبة فقوموين"‪ ،‬و�شعاره " رحم اهلل �أمرءا �أهدى �إلينا عيوبنا"‪.‬‬ ‫بالإ�صالح‪ ،‬ما دامت �شريفة منتمية غري مرتبطة ب�أجندة م�شبوهة‬ ‫�أو م�صالح �شخ�صية قريبة ما دامت تبغي اخلري للأمة ‪ ،‬بل علينا‬ ‫�أن ن�شجعها ون�ستمع �إليها ون�أخذ بال�صالح من دعواتها ما دامت‬ ‫ملتزمة بالو�سائل والغايات امل�شروعة‪.‬‬

‫‪29‬‬


‫هل غابت فكرة األمة عن المسلمين؟‬

‫د‪ .‬رفيق حبيب‬ ‫مع تفكك البالد العربية والإ�سالمية �إىل دول قومية قطرية‪،‬‬ ‫�أ�صبح البحث عن الوجود الفعلي للأمة مهما‪ ،‬فهل غابت الأمة؟‬ ‫وهل غابت فكرتها؟ ف�إذا كانت الأمة قد غابت بالكامل‪ ،‬وغابت معها‬ ‫فكرتها‪ ،‬ف�إنها ت�صبح �أمام احتمال �أن تبنى من جديد‪� ،‬أو تبنى من‬ ‫عدم مرة �أخرى‪� ،‬أو تختفي وال تعود للظهور‪ .‬و�إذا كانت الأمة مل‬ ‫تغب‪ ،‬فهي �إذن موجودة يف حيز ما وب�صورة ما‪ ،‬وت�صبح عودتها‬ ‫للظهور مرة �أخرى‪ ،‬متوقفة على حيوية الأمة وقدرتها على‬ ‫�إحداث التغيري يف حياتها‪.‬‬ ‫مرجعية احل�ضارة‬

‫والأمة هي رابطة من ال�شعوب والقوميات‪ ،‬تقوم على �أخوة‬ ‫الدين‪ ،‬وت�ستظل مبرجعية احل�ضارة الإ�سالمية‪ ،‬وهي تتكون �أي�ضاً‬ ‫من كل اجلماعات غري امل�سلمة التي ت�شاركت مع اجلماعة امل�سلمة‬ ‫يف احل�ضارة الإ�سالمية ويف بنائها‪ ،‬و�أ�صبحت املرجعية الإ�سالمية‬ ‫بالن�سبة لها ح�ضارة‪ ،‬كما �أنها بالن�سبة للم�سلم دين وح�ضارة‪.‬‬ ‫الأمة �إذن‪ ،‬جماعة من الب�شر ت�شرتك يف منظومة قيم‪ ،‬جتعل لها‬ ‫مرجعية عليا واحدة‪ ،‬وم�صرياً واحداً‪ ،‬وغايات واحدة‪.‬‬ ‫وعندما وجدت الأمة �أو ًال يف �صدر الإ�سالم‪ ،‬ت�شكلت اجلماعة‬ ‫امل�ؤمنة الأوىل‪ ،‬ثم �أقامت دولتها الأوىل‪ .‬وبهذا فالأمة �سابقة‬ ‫للدولة‪ ،‬لأ َّن وعي اجلماعة بوحدة مرجعيتها و�إميانها بتلك‬

‫املرجعية‪ ،‬ي�سبق ت�أ�سي�س الدولة التي تعرب عن تلك املرجعية وتلتزم‬ ‫بها‪ .‬فالدولة القومية تت�أ�س�س على وجود قومية معينة ميكن‬ ‫تعريفها ب�صورة دقيقة ومتييزها عن غريها وحتديد حدودها‬ ‫اجلغرافية‪ ،‬ف�إذا مل توجد القومية بتلك ال�صورة الوا�ضحة‪ ،‬ت�أ�س�ست‬ ‫الدولة �أوال‪ ،‬ثم �أقامت �صورة قوميتها وحددت حدودها اجلغرافية‪،‬‬ ‫وعرفت مالمح ولغة و�سمات تلك القومية‪ ،‬وبذلك تكون الدولة‬ ‫قد بنت القومية‪ ،‬وبنت املجتمع‪.‬‬ ‫ولكن الدولة يف امل�شروع الإ�سالمي ال ت�أتي بجديد من عندها‪،‬‬ ‫وال ت�ؤ�س�س و�ضعاً لي�س قائماً‪ ،‬بل ت�أتي تعبرياً عن و�ضع قائم‪ ،‬وهو‬ ‫وجود �أمة ت�ؤمن باملرجعية الإ�سالمية‪ ،‬وت�شكل جماعة مرتابطة‪،‬‬ ‫عابرة للقومية والأعراق‪.‬‬ ‫وملا قامت الدولة الإ�سالمية عرب مراحلها التاريخية املتعددة‪،‬‬ ‫كانت تعبرياً عن وجود الأمة‪ ،‬وحتقيقا ملا ت�ؤمن به الأمة من‬ ‫مرجعية‪ .‬ف�أ�صبحت الدولة حامية للأمة‪ ،‬ومنفذة ملرجعيتها‪،‬‬ ‫وخا�ضعة ملا توافقت عليه الأمة‪ ،‬بل وخا�ضعة �أي�ضاً الجتهادات‬ ‫الأمة وعلمائها‪ .‬ف�أ�صبحت الدولة حتمل املرجعية التي ت�ؤمن‬ ‫بها الأمة‪ ،‬ومل تكن الدولة هي التي �أ�س�ست املرجعية‪� ،‬أو هي التي‬ ‫اختارتها‪ .‬ولكن الدولة �أ�صبحت تبني احل�ضارة مع الأمة‪ ،‬ومل‬ ‫تكن �أي�ضا هي امل�س�ؤولية عن النه�ضة وحدها‪ ،‬بل كانت م�س�ؤولة‬

‫‪30‬‬


‫عن متهيد الطريق لقيام النه�ضة‪ ،‬و�إقامة الدين‪ ،‬وظلت الدولة‬ ‫حار�سة للأمة وحامية لها‪ .‬وظلت الأمة فاعلة بجانب الدولة‪،‬‬ ‫وتقيم ح�ضارتها وحتقق نه�ضتها‪.‬‬ ‫من الذي غاب؟‬

‫لقد غابت الدولة الإ�سالمية‪ ،‬وتفككت �أوطانها‪ ،‬وزرعت الدولة‬ ‫القومية القطرية مكانها‪ ،‬وا�ستبدلت املرجعية العليا للدولة‬ ‫بالعلمانية بد ًال من املرجعية الإ�سالمية‪� .‬إذن الدولة هي �أول من‬ ‫غاب عن �أوطان الأمة‪ ،‬نق�صد الدولة الإ�سالمية‪ .‬ومع غياب الدولة‬ ‫الإ�سالمية‪ ،‬غابت �أي�ضاً الوحدة ال�سيا�سية للأمة‪ ،‬وغابت الدولة‬ ‫التي متثل املرجعية الإ�سالمية‪ ،‬ومل ت�ستطع الأمة �إعادة بناء‬ ‫الدولة �أو احلفاظ عليها‪ ،‬مما يعني �أ َّن الأمة كانت يف حالة �ضعف‪،‬‬ ‫متنعها من حماية الدولة‪ ،‬والوقوف �أمام عملية جتزئة �أوطان‬ ‫الأمة الإ�سالمية‪ ،‬والت�صدي للدولة القومية القطرية‪ ،‬التي قامت‬ ‫كبديل عن الدولة الإ�سالمية‪.‬‬ ‫بالطبع كان غياب الدولة م�ؤثراً‪ ،‬فرغم �أن فعل النه�ضة يظل‬ ‫م�س�ؤولية الأمة‪ ،‬ولكن الأمة ال تنه�ض �إال من خالل وحدتها‪ ،‬ومن‬ ‫خالل مرجعيتها‪ ،‬وعندما ق�سمت الأمة غابت وحدتها‪ ،‬وعندما مت‬ ‫علمنة الدولة‪ ،‬غابت مرجعيتها عن النظام ال�سيا�سي الد�ستوري‪.‬‬ ‫وبهذا فقد غابت الدولة والوحدة واملرجعية معا‪ ،‬ومل تعد الأمة‬ ‫تتحرك داخل �إطار جامع لها‪ ،‬بل مت متزيقها �إىل قوميات‪ ،‬وكانت‬ ‫الأمة من ال�ضعف بحيث �أنها مل ت�ستطع حماية نف�سها مما حاق‬ ‫بها‪.‬‬ ‫ولأ َّن الأمة مل ت�ستطع حماية الدولة‪ ،‬ومل تقدر على ا�ستعادتها‪،‬‬ ‫لذا �أ�صبحت الأمة يف حالة �ضعف وتفكك‪ ،‬ومل تعد الأمة القادرة‬ ‫على النهو�ض‪ .‬وحالة الأمة املفككة‪ ،‬لي�ست كحالة الأمة وهي يف‬ ‫طور الت�أ�سي�س الأول‪ ،‬لأنها يف مرحلة الت�أ�سي�س تكون جماعة‬ ‫�صغرية تتكون منها الأمة بعد ذلك‪ ،‬وتقوم تلك اجلماعة على‬ ‫الإميان بالفكرة‪ ،‬ثم تن�شر فكرتها بني النا�س‪ ،‬حتى ت�ؤ�س�س الأمة‪،‬‬ ‫ومن ثم ت�ؤ�س�س الدولة‪.‬‬ ‫ولكن الأمة بعد �أن حلق بها التفكك‪ ،‬مل تغب عنها فكرتها‬ ‫كلياً‪ ،‬ومل تغب عنها مرجعيتها كليا‪ ،‬ومل تغب تلك املرجعية عن‬ ‫احلياة اخلا�صة واالجتماعية كليا‪ ،‬ومل تغب �أي�ضا حقيقة الأمة‬ ‫عن الذاكرة اجلمعية للأمة‪ ،‬كما مل يغب تاريخ الأمة نف�سه‪ .‬فقد‬ ‫�أ�صبحت الأمة واقعاً تاريخياً‪ ،‬و�أ�صبحت ال�شعوب املنتمية للأمة‬ ‫تعرف تلك احلقيقة التاريخية‪ ،‬وتعرف ما حدث يف تاريخها‪،‬‬

‫وتعرف �أي�ضا كيف تفككت‪ ،‬وكذلك تعرف �أنها تفككت رغماً عنها‪،‬‬ ‫و�أن اال�ستعمار الغربي هو الذي فككها‪ ،‬و�أ َّن النخب التي حملت‬ ‫امل�شروع الغربي وحكمت البالد العربية والإ�سالمية‪ ،‬هي التي‬ ‫حمت هذا التفكك وكر�سته‪.‬‬ ‫كل تلك احلقائق تعرفها الأمة‪� ،‬أو على الأقل �أغلبيتها‪ ،‬لذا‬ ‫فحالة التفكك لي�ست كحالة الت�أ�سي�س الأوىل‪ ،‬فهي حالة �ضعف‪،‬‬ ‫ت�ضعف فيها الأمة‪ ،‬ولكن ال تفقد كل تاريخها وهويتها ووعيها‪،‬‬ ‫ولكن تفقد القدرة على الفعل القادر على تغيري واقعها‪ ،‬وتكون يف‬ ‫حالة ا�ست�سالم لو�ضع ترف�ضه‪ ،‬ولكنها مل تقدر بعد على مواجهته‪.‬‬ ‫فهل غابت الأمة‬

‫من حيث كون الأمة جماعة من الب�شر‪ ،‬تتكون من العديد‬ ‫من الأعراق والقوميات‪ ،‬وت�ؤمن باملرجعية الدينية واحل�ضارية‬ ‫للإ�سالم‪ ،‬فالأمة مل تغب‪ ،‬ومن حيث �إنها جماعة من الب�شر لها‬ ‫تاريخ م�شرتك وتدرك �أ َّن م�صريها واحد‪ ،‬و�أنها كانت �أمة موحدة‬ ‫�سيا�سية‪ ،‬فالأمة مل تغب‪ ،‬ومن حيث �إ َّن الأمة هي جماعة من الب�شر‬ ‫لها قيم م�شرتكة‪ ،‬وتريد الو�صول لغايات م�شرتكة‪ ،‬فهي �أي�ضاً مل‬ ‫تغب‪.‬‬ ‫فبعد غياب الدولة والوحدة والنه�ضة‪ ،‬غابت �إرادة الأمة القادرة‬ ‫على حتقيق غاياتها واخلروج من �أزمتها‪ ،‬ولكن وعيها مل يغب‪،‬‬ ‫وهويتها مل تغب �أي�ضا‪ ،‬فالأمة كانت وما زالت‪ ،‬ولكن قدرتها على‬ ‫حتقيق ذاتها احل�ضارية يف الواقع التاريخي‪ ،‬مل تتبلور بعد بالقدر‬ ‫املنا�سب لتغيري م�سار تاريخ الأمة‪ ،‬حتى ت�ستعيد دولتها ووحدتها‬ ‫وتنه�ض من جديد‪ ،‬ولكن ا�ستمرار بقاء الأمة كوعي وهوية‬ ‫موجودة ومتحققة لدى جماعة من الب�شر‪ ،‬ال ينفي �أن فئات من‬ ‫الأمة قد خرجت من تلك الهوية‪� ،‬أو خرجت عليها‪ ،‬و�أ َّن نخباً من‬ ‫الأمة هي التي تبني الدولة القومية العلمانية‪ ،‬وهي التي ت�ساعد‬ ‫القوى الغربية على تفكيك الأمة‪.‬‬ ‫وهذا ال ينفي �أي�ضاً وجود فئات ت�شككت يف هوية الأمة‪� ،‬أو عملت‬ ‫بالفعل على �إخراج نف�سها من الهوية اجلامعة‪ ،‬و�أ�صبحت تعمل من‬ ‫�أجل هويتها القومية‪ ،‬ولكن بقاء الأمة جت�سد �أ�سا�ساً �أ َّن فكرتها مل‬ ‫تغب‪ ،‬و�أ َّن هويتها مل تغب‪ ،‬وظلت فكرة وهوية ووعياً حا�ضراً مل‬ ‫يغب‪ ،‬ف�أ�صبح التحدي الذي يواجه الأمة‪ ،‬لي�س �إعادة اكت�شافها‬ ‫�أو تكوينها من جديد‪ ،‬بل تن�شيط قدراتها حتى ت�صبح قادرة على‬ ‫احلركة التاريخية الفاعلة والقادرة على �إعادة بناء الوحدة والدولة‬ ‫وحترير كل �أرا�ضي الأمة من اال�ستعمار بكل �أ�شكاله‪.‬‬

‫‪31‬‬


‫من �أهم مظاهر ا�ستمرار الوجود التاريخي واحل�ضاري للأمة‪ ،‬ما‬ ‫يتمثل يف ا�ستمرار طليعة الأمة يف اجلهاد من �أجل ا�ستعادة وحدتها‬ ‫وبناء الكيان ال�سيا�سي الواحد املعرب عنها‪ ،‬وحتقيق النهو�ض‬ ‫احل�ضاري‪ ،‬فمع كل مرحلة من مراحل الرتاجع احل�ضاري‪ ،‬ومع‬ ‫كل مرحلة من مراحل تفكك الأمة‪ ،‬كانت تظهر طليعة الإ�صالح‬ ‫الثقايف واحل�ضاري‪� ،‬أو الطليعة احلركية الداعية للإ�صالح‪ ،‬والتي‬ ‫حتمل هموم الأمة‪ ،‬وحتاول ا�ستعادة بناء وحدة الأمة من جديد‪،‬‬ ‫فقبل �سقوط الدولة العثمانية كانت حماوالت الإ�صالحيني‬ ‫تتوا�صل‪ ،‬منذ جمال الدين الأفغاين وحممد عبده ور�شيد ر�ضا‪.‬‬ ‫ولأ َّن حلظة ال�صمت الطويل مل تتحقق‪ ،‬لذا مل تغب الأمة‪،‬‬ ‫فقد كانت دائما ترى حلم الوحدة حولها‪ ،‬والرغبة يف النهو�ض ال‬ ‫تفارق طليعتها‪ ،‬لذا بقيت الأمة حا�ضرة كوعي وهوية‪ ،‬وبقيت �أي�ضاً‬ ‫حماوالت �إنها�ضها م�ستمرة مل تتوقف‪ ،‬ولكن فعل النهو�ض مل‬ ‫يبلغ بعد امل�ستوى الالزم كي يقف �أمام فعل التفكيك امل�ضاد له‪ ،‬ومل‬ ‫تبلغ الأمة بعد درجة من اليقظة والهمة‪ ،‬التي متكنها من مواجهة‬ ‫التحديات التي تتعر�ض لها‪.‬‬ ‫بقاء الوعي وغياب الفعل‬

‫تلك ميكن �أن تكون حالة الأمة الإ�سالمية‪ ،‬فالوعي بالأمة‬ ‫وحقيقتها ما زال موجوداً‪ ،‬رغم تراجعه �أحياناً‪� ،‬إال �أنه مل يغب‬ ‫بالكامل‪ ،‬ومل يرتاجع بالكلية‪ ،‬وظل حا�ضرا يف وعي الأمة‪ ،‬بو�صفه‬ ‫وعياً تاريخياً حتقق بالفعل‪ ،‬وما زالت الأمة حتلم با�ستعادته مرة‬ ‫�أخرى‪ .‬ولكن الذي غاب هو الفعل‪ ،‬ولكنه مل يغب بالكلية‪ ،‬ولكن‬ ‫غاب يف �أغلب الأحيان‪ ،‬وغاب عن �أغلب �أبناء الأمة‪.‬‬ ‫فظل الوعي حا�ضراً لدى الأغلبية‪ ،‬وبقي الفعل ن�شطا لدى‬ ‫الأقلية‪ .‬فظلت الفكرة‪ ،‬ومل تتحقق بالفعل اجلهادي القادر على‬ ‫حتويلها �إىل حقيقة تاريخية‪ ،‬لهذا مل ت�صل الأمة ملرحلة املوت‪،‬‬ ‫ومل تبلغها‪ ،‬لأ َّن وعيها مل ميت بالكامل‪ ،‬ولأ َّن هويتها مل متت‬ ‫بالكامل‪ ،‬ولأ َّن رغبتها يف ا�ستعادة حقيقتها التاريخية واحل�ضارية‪،‬‬ ‫ظلت تراودها‪ ،‬لذا بقيت الأمة فكرة ووعياً وقيمة وحقيقة متج�سدة‬ ‫يف جمهور الأمة‪.‬‬ ‫وكلما زاد فعل الأمة الن�شط نحو بناء هويتها احل�ضارية وحتقيق‬ ‫وحدتها‪ ،‬زاد اقرتابها من مرحلة الفعل امل�ؤثر‪ .‬فمع تزايد الفعل‬ ‫املعرب عن وحدة الأمة‪ ،‬ورغبتها يف ا�ستعادة وحدتها‪ ،‬تزيد احتماالت‬ ‫قرب الأمة من مرحلة النهو�ض‪ ،‬وكلما انخف�ض م�ستوى الفعل‬ ‫الن�شط داخل الأمة ال�ستعادة وحدتها‪ ،‬بات نهو�ض الأمة م�ؤج ً‬ ‫ال‪.‬‬

‫فالقاعدة وا�ضحة‪� :‬إذا ن�شطت الأمة مرجعيتها وحققت وحدتها‬ ‫وحررت بلدانها‪� ،‬سوف تنه�ض يف النهاية‪ ،‬و�إذا تقاع�ست �أو عجزت‬ ‫عن ذلك‪ ،‬ا�ستمر تفككها وتزايد تراجعها احل�ضاري‪ ،‬وكلما باتت‬ ‫الأمة يف خطر‪� ،‬صحت جماهريها على نداء الوحدة‪ ،‬وا�ست�شعرت‬ ‫بخطر ما تتعر�ض له‪.‬‬ ‫لذا جند الأمة حتول وعيها �إىل يقظة‪ ،‬ولكن مقدار ما يتحقق‬ ‫من يقظة ون�شاط وفعل جهادي‪ ،‬يحدد قدرة الأمة على حتقيق‬ ‫الوحدة والنه�ضة‪ ،‬ويحدد �أي�ضا املوعد الذي حتقق فيه الأمة‬ ‫م�ستقبلها املن�شود‪.‬‬ ‫وما الثورات ال�شعبية التي ت�ؤ�س�س ملرحلة جديدة يف املنطقة‬ ‫العربية والإ�سالمية‪� ،‬إال بداية للفعل الن�شط جلماهري الأمة‪،‬‬ ‫وهو فعل ن�شط يتجه �أوال نحو اال�ستبداد‪ ،‬باعتباره الأداة التي‬ ‫حرمت الأمة من دورها‪ ،‬وحجبت خياراتها احلرة‪ .‬لذا ميكن‬ ‫اعتبار الثورات ال�شعبية حركة لتحرير الإرادة ال�شعبية‪ ،‬فالثورة‬ ‫امل�صرية حررت الإرادة ال�شعبية‪ ،‬وبعدها �سوف تبد�أ مرحلة تبلور‬ ‫توجه الإرادة ال�شعبية‪ ،‬حتى تت�شكل مالمح امل�ستقبل املن�شود‪ .‬وهنا‬ ‫ميكن لوعي الأمة �أن يتحول �إىل فعل ن�شط‪ ،‬بعد �أن تتحرر الإرادة‬ ‫ال�شعبية جلماهري الأمة بالكامل‪.‬‬

‫‪32‬‬


‫الفرح‪ ...‬عنوان السعادة الباطنية‬

‫جمال �أمني‬

‫كل فرد‪ ،‬كل �أمة‪ ،‬كل كائن‪ ،‬ال يقدر على اجتياز م�سافة نف�سه‪،‬‬ ‫يتخطى حواجزها املانعة‪ ،‬يجتازها يف طرفة عني بطولية‪ ،‬فهو �أعجز‬ ‫وال �شك عن اجتياز ما خرج عن ذاته من م�سافات وعبور غاباتها املظلمة‬ ‫وجبالها ال�شاهقة‪.‬‬ ‫�إن الأمر يغدو بهذا ال�شكل الهند�سي‪� ،‬صارما يف تك ّونه وحتققه‪،‬‬ ‫قاطعاً كال�سكني يف نفاذه‪ ،‬لأنه يدخل ذلك يف �إطار ال�سنن القهرية‬ ‫الغالبة‪.‬‬ ‫�أنت ‪-‬كلك‪ -‬تنبع من قلبك‪ ،‬من �أر�ضية نف�سك‪� ،‬أي �إن داخلك‬ ‫يتحكم يف خارجك‪ ،‬خارجك لي�س �إال نباتاً ينمو ويكرب من �أر�ضية‬ ‫نف�سك‪ ،‬ف�إما ورداً ويا�سميناً و�إما �شوكاً وزقوماً‪ .‬لذا فالف�سحة ال�شعورية‬ ‫والباحة النف�سية‪ ،‬وامل�ساحات الهائلة التي ت�ؤ�س�س مملكة نف�سك‪ ،‬بحاجة‬ ‫�إىل مزيد من "املراقبة" و"العناية" و"اال�ست�صالح"‪ ،‬كي ت�سلم من �شر‬ ‫الطفليات املت�سللة عرب ال�سياج‪ ،‬ومن �شر كل �أذى يتل�ص�ص من النوافذ‬ ‫امل�شرعة‪ ،‬ويتنكر يف �شعاعة نور �أو هبة هواء‪ .‬ولن يتم هذا اال�ست�صالح‬ ‫الداخلي �إال ب�ضبط �شبكة املفاهيم احلياتية التي ت�ؤطر حركية الإن�سان‬ ‫يف هذا الوجود‪ ،‬ومن �أخطرها مفهوم "الفرح" والذي ت�ضع له الآية‬ ‫هلل َو ِب َر ْح َم ِت ِه‬ ‫الكرمية حمددات �ضابطة‪ ،‬يقول تعاىل ( ُق ْل ِب َف ْ�ضلِ ا ِ‬ ‫َف ِب َذل َِك َف ْل َي ْف َر ُحوا هُ َو َخيرْ ٌ ممِ َّ ا َي ْج َم ُعو َن)(يون�س‪.)58:‬‬ ‫فاملفهوم احلقيقي للفرح يف �ضوء هذه الآية‪ ،‬هو الفرح احلياتي‬ ‫الكياين‪ ،‬لي�س الفرح امل�ؤقت يف عمر الإن�سان‪ ،‬والذي يدوم حلظة �أو يوماً‬ ‫�أو �شهراً �أو �سنة‪ ،‬بل هو الفرح الدائم امل�ستمر ال�صادر عن كيان الإن�سان‬ ‫كله‪ ،‬النابع من روحه ال�سماوية ومن �إميانه الكوين‪ .‬فهو لي�س بالفرح‬ ‫الدنيوي الذي يح�صر الإن�سان يف ذاته ال�ضيقة‪ ،‬ويرتكه �أ�سري حياته‬ ‫الدنيوية القف�صية‪ ،‬فال يتطلع �إىل �أفق وال يب�صر ما خلفه؛ بل هو‬ ‫الفرح الأخروي الذي يرفع الر�أ�س عالياً ‪-‬فيب�صر َم َّد الب�صر وي�سمع‬ ‫َم َّد ال�سمع‪ -‬ويرى ويعرف وي�ؤمن فيلتزم لي�سعد‪ .‬الفرح هو ال�سعادة‬ ‫الباطنية التي ال ترتبط وال ت�ستند على "الأحياء" و"الأ�شياء"‪ ،‬بل تنبع‬ ‫كاجلدول الرقراق من "عل"‪ ،‬وحتفر جمراها يف روح الإن�سان ال يف بدنه‬ ‫و�شهواته‪ ،‬وت�صب وراء �سدود الدنيا‪.‬‬ ‫ذلك هو الفرح الذي هو ال�سعادة؛ نبعها من عل (بالدين)‪،‬‬ ‫وجمراها روح الإن�سان (باطنه)‪ ،‬وم�صبها وراء الكوالي�س واحلواجز‬ ‫الدنيئة (بالأ�شواق الروحية)‪ ،‬و�آثارها‪ :‬اخل�ضرة املمرعة والنماء‬ ‫والغنى (الطم�أنينة واال�ستقامة)‪.‬‬ ‫وتك�شف الآية عن �أعماق الإن�سان ‪-‬كل �إن�سان‪ -‬يف الأر�ض �أية �أر�ض‪،‬‬

‫حينما تربط فرحه امل�ؤقت املحدود مبتاع الدنيا �أو بعن�صر "اجلمع"‪،‬‬ ‫فمن طبيعته "اجلمع" و"التكاثر" يف الأموال والأوالد والن�ساء…‬ ‫وهي مقتنيات ومعطيات "الدنيا"‪ ،‬والإن�سان الذي يربط حياته بها يف‬ ‫�سعادتها و�شقائها‪ ،‬يكون قد عر�ض نف�سه للأرجحة واالهتزاز والتمزق‪،‬‬ ‫بني احلزن مرة والقلق مرة والفرح العابر مرة �أخرى‪ ،‬ويظل عر�ضة‬ ‫للهز واجلذب‪ ،‬فال حياته �إىل قرار وال هي يف ا�ستقرار‪ .‬وميار�س مع ذاته‬ ‫لعبة "ع�صب العيون" �أمداً طوي ً‬ ‫ال �إىل �أن تتحول اللعبة اخلطرية عادة‬ ‫م�ستحكمة ال يجد منها فكاكاً‪.‬‬ ‫والآية حتذر من خطر هذه اللعبة التي ميار�سها الأ�شقياء من‬ ‫الب�شر‪ ،‬فريبطون �أخطر مك ّون نف�سي وهو "الفرح" يف مفهومه القر�آين‪،‬‬ ‫ب�أخطر فتنة مزلقة وهي مقتنيات احلياة‪ ،‬ويغفلون ‪-‬كما �شاءت لهم‬ ‫اللعبة الطفولية– عن اليد ال�ساهرة الكالئة املنعمة‪ ،‬فهي �سذاجة وهي‬ ‫عناية تبعدهم عن م�صدر العطاء والرزق واملقتنيات‪.‬‬ ‫وهكذا فالآية حتدد ال�سند احلقيقي للفرح الب�شري يف الدنيا‪،‬‬ ‫�إنه "الف�ضل" و"الرحمة"‪ ،‬وبهما يحيا الإن�سان "�سعادة الفرح" و"فرح‬ ‫ال�سعادة"‪ ،‬لي�س بال�ضحك فقط‪ ،‬لأنه يف معظم احلاالت قتل للروح‪،‬‬ ‫وخنق للتطلعات‪ ،‬وتعبري عن اخلواء وال�س�أم‪ ،‬خ�صو�صاً وقد و�ضعه‬ ‫الإطار احل�ضاري املعا�صر يف �صيغ فنية حداثية جذابة‪ ،‬ف ُز ْخرِف‬ ‫وج ِع َل وقد �أخذ �شكله ال�سرطاين‬ ‫بتحا�سني املدنية وتقنياتها الفنية‪ُ ،‬‬ ‫املتورم "بوابة" الفرح‪ ،‬ومنفذ ال�سرور‪ ،‬وعنوان ال�سعادة الباطنية‪.‬‬ ‫وهي جرمية تزوير يف حق هذا املفهوم اخلطري (الفرح)‪ ،‬متار�س‬ ‫�ضد �سعادة الإن�سان‪ .‬جاء الإ�سالم لكي يحد من �شرها‪ ،‬ويبني للب�صائر‬ ‫حقيقتها‪ ،‬بعد �أن يقلع عنها الع�صاب اللعني الذي ر�ضيت بداءة و�ضعه‬ ‫للعب‪ ،‬ثم ا�ستحكم ف�صار عادة و�ألفة �آ�سرة‪ ،‬وال�شياطني اجلدد وراء‬ ‫املغفلني يهرجون وي�ضحكون‪ ،‬وي�ضعون ع�صاباً جديداً لكل مغفل‬ ‫جديد‪.‬‬ ‫ومن بداهات ال�سنة القهرية الغالبة‪� ،‬أن كل ح�ضارة يف منحناها‬ ‫املنحدر‪ ،‬تعج مبفاهيم مغلوطة حت�سبها �صوابية قومية‪ ،‬وال تراها كما‬ ‫يراها التاريخ الفاح�ص اخلبري بتوراً مر�ضية ُتقرح اجل�سم‪ ،‬وتتلف فيه‬ ‫احلياة الناب�ضة‪.‬‬ ‫�إنها لي�ست يف الواقع �إال �صخوراً تثقل عربة احل�ضارة املنحدرة‪،‬‬ ‫لكنها ح�ضارة بعجلة واحدة‪ ،‬وهي "املادية املبهظة"‪� ،‬أما العجلة الثانية‬ ‫فتعاين من الهزال وال�ضعف ما تعاين‪ ،‬فتنحدر بعجلة واحدة‪ ،‬وهي‬ ‫مثقلة مبفاهيم خاطئة كال�صخور الثقال… �أفجع بها‪.‬‬

‫‪33‬‬


‫االختالف في الرأي ُ َّ‬ ‫سنة كونية‬

‫د‪.‬قي�س املعايطة‬

‫مفهوم االختالف‬ ‫االختالف واملخالفة يف اللغة تعني �أن ينهج كل �شخ�ص طريقا‬ ‫مغايرا للآخر يف حالة �أو يف قوله‪ .‬واخلالف �أعم من ال�ضد‪ ،‬لأن كل‬ ‫�ضدين خمتلفان ولكن لي�س كل خمتلفني �ضدين‪ .‬وتت�سع مقولة‬ ‫اخلالف واالختالف لت�شمل �أحيانا املنازعة واجلدل واجلدال وما �إىل‬ ‫ذلك‪ .‬لكن االختالف يبقى �سنة كونية ال منا�ص منها‪.‬‬ ‫الت�أ�صيل ال�شرعي ملبد�أ االختالف‬ ‫وقد جاء ذكرها يف القر�آن الكرمي‪ ،‬وهو مرجع امل�سلمني من حيث‬ ‫البالغة والبديع والبيان �أيا كانت معتقداتهم وانتماءاتهم واختالف‬ ‫�آرائهم‪ ،‬جاء يف منا�سبات كثرية نذكر منها على �سبيل املثال ال احل�صر‬ ‫عددا من الآيات الكرمية لت�أ�سي�س ملقولة �إن االختالف �سنة كونية ال‬ ‫مفر منها‪ ،‬وهي ( �إنكم لفي قول خمتلف)‬ ‫وعلى هذا ميكن القول‪� :‬إن اخلالف واالختالف يراد بهما مطلق‬ ‫املغايرة يف القول �أو الر�أي �أو الفعل �أو احلالة �أو الهيئة �أو املوقف‪.‬‬ ‫وعليه ف�إن هذا االختالف �سيفرز اختالفا يف العقول واملدارك والأل�سنة‬ ‫والألوان مبا هو‪� :‬آية من اخللق املق�صودة لغايات يعلمها اهلل وحلكمة هو‬ ‫�أدرى مبكنوناتها‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫لجَ‬ ‫َّ‬ ‫ا�س �أُ َّم ًة َواحِ َد ًة َو اَل َي َزا ُلو َن مخُ ْ َت ِل ِف َ‬ ‫ني)‬ ‫ن‬ ‫ال‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫ك‬ ‫ب‬ ‫ر‬ ‫ء‬ ‫ا‬ ‫�ش‬ ‫قال تعاىل ( َو َل ْو َ َ َ ُّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫(هود‪.)118:‬‬ ‫ولنت�أمل روعة الو�صف وجمال البيان واحلكمة املتعالية فيما بني‬ ‫�سطور هذه الآية الكرمية لو �شاء اهلل لرفع االختالف نهائيا من على‬ ‫وجه الب�سيطة لكنه �أراده �سنة دائمة‪.‬‬ ‫ولذلك خلقهم‪� ،‬أي ليبني لهم �أن االختالف جزء من هدف الن�ش�أة‬ ‫والتكوين واخللق لأن فيه اختبارا ورحمة‪.‬‬ ‫وقد وفرت ال�سنة النبوية بيئة خ�صبة لهذا التباين �إغرتف منه �أ�صحاب‬ ‫من املذاهب وقعدوا على �ضوئها تلك القواعد‪.‬‬ ‫ومن النماذج الرائعة التي من خاللها ميكن الت�أ�صيل ملبد�أ االختالف‬ ‫يف ال�سنة النبوية‪ ،‬فبعد االنتهاء من غزوة الأحزاب توجه النبي �صلى‬ ‫اهلل عليه و�سلم لغزو بني قريظة‪ ،‬يف ذلك املوقف قال كلمته امل�شهورة‬ ‫" ال ي�صلني �أحدكم الع�صر �إال يف بني قريظة" فهم الفريق الأول من‬ ‫ال�صحابة هذا احلديث �أن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم �أراد ال�صالة يف‬ ‫بني قريظة لذلك �أحذ بظاهر هو قال لن ن�صل �إال �إذا حط الرحل يف‬ ‫تلك القبيلة‪ ،‬بينما الفريق الثاين �سار يف فهم احلديث منحى �آخر وقال‬ ‫�إمنا �أراد النبي �صلى اهلل عليه و�سلم اال�ستعجال يف امل�سري وبناء عليه‬ ‫�صلوا يف الطريق‪ ،‬وملا و�صلوا الحظ �أن الفريق الأول قد �سلك يف قراءته‬ ‫للحديث النبوي م�سلك الظاهر ومن هنا تبلورت مدر�سة " ظاهرة‬ ‫الن�ص " يف حني �أن الفريق الثاين قد �سلك �سبيل "الباطن" ومن هذا‬

‫املنطلق كان قوام مدر�سة " روح الن�ص "‪ ،‬فال جرم ملن ا�ستوعب هذه‬ ‫احلادثة و�أحاط بها �أن يوقر يف قلبه االختالف املعترب – مع الرتكيز‬ ‫على كلمة معترب – قدر ال منا�ص منه وهو ميزة لأمة الإ�سالم ورحم "‬ ‫اهلل ابن قدامه �إذ قال " الإجماع قاطعة واالختالف رحمة وا�سعة‪.‬‬ ‫مق�صود االختالف �سنة كونية‬ ‫االختالف �سنة كونية واعية وهادفة مل ت�أت هكذا من عبث �أو فراغ‬ ‫�أو فعل ب�شر جاهل �أو �أمر باطل والعياذ باهلل‪ ،‬بل هو جزء ال يتجز�أ من‬ ‫اخللق الهادف �إذا التزم به العبد – و�أقر قوانينه و�آليات حركته – كان‬ ‫ظاهره �إيجابية يف املجتمع ‪ .‬نعم قد يتحول �إىل م�شكلة فقط عندما‬ ‫يتحول �إىل نزاع وجدل عقيم و�شقاق فتذهب ريح الأفراد واجلماعات‬ ‫والأقوام‪ .‬وتف�شل جهودهم وم�ساعيهم يف �إعمار الأر�ض ومن عليها‬ ‫وت�شيع احلروب واخلرائب يف الديار والنفو�س وذلك �سيكون من فعل‬ ‫الب�شر الذين مل يرعوا �أو يتعلموا قانون اخللق والن�شور‪.‬‬ ‫�أن نقبل باالختالف �سنة كونية يجعلنا �أن نحول االختالف �إىل �أمر‬ ‫حممود وجمال يدفع بنا �إىل بذل �أف�ضل ما لدينا من �إمكانات لتنويع‬ ‫حياتنا التي من حولنا وتزيينها بكل �ألوان الفعل واالنفعاالت‪.‬‬ ‫خطورة عدم �إدراك �سنة االختالف‬ ‫ومعنى هذا �أن االختالف والتعدد والتنوع ال تزال تفهم �أنها مورد‬ ‫لالحرتاب والقتال والتنابذ ومل يرتفع الوعي �إىل م�ستوى اعتبار‬ ‫االختالف �أو التنوع قيمة ح�ضارية و�إن�سانية ودليل �سمو ورقي‪.‬‬ ‫من هنا ال بد من القول �أن التمذهب الأعمى يف الدين‪ ،‬والتع�صب‬ ‫البغي�ض يف الدين‪ ،‬لي�س �إال �شذوذا وانحرافا يف املوقف جتاه الدين‬ ‫نف�سه‪ ،‬ونظرة �سلبية للمذاهب التي هي يف الأ�سا�س طرق لفهم الدين‪،‬‬ ‫ولي�س انت�سابا مغلقا على نظام ال يجد ملقارعة خ�صومه �إال القتل‬ ‫والنبذ‪ .‬و�إذا كانت قد ازدادت يف الأعوام الأخرية م�شاعر الطائفية بفعل‬ ‫التوترات ال�سيا�سية اخلطرية‪ ،‬ف�إن على �إتباع الأديان الذين ميلكون‬ ‫الوعي والإميان املجرد عن الأهواء والع�صبيات وامل�صالح‪� ،‬أن ي�صونوا‬ ‫االختالف والتنوع وحرية الفكر واالجتهاد واالختيار‪ .‬وان يرف�ضوا كل‬ ‫متييز على �أ�سا�س ديني �أو عرقي �أو اجتماعي‪ .‬وان االختالف يف الأل�سن‬ ‫والألوان كاالختالف يف الليل والنهار وال�سماوات والأر�ض‪ ،‬فهذه وتلك‬ ‫قاعدة تكوينية والإن�سان مل ي�شذ عن هذه القاعدة‪.‬‬ ‫ماذا يعني �أن يكون الإن�سان خمتلفا عن �أخيه الإن�سان ؟ يعني �أن‬ ‫يكون حرا يف اختياره ويف موقفه و�سلوكه‪ ،‬وحرا يف فكره و�سعيه‪ ،‬وحرا‬ ‫يف انت�سابه ووالئه وانتمائه‪� ،‬سواء ملجموعة �سيا�سية �أو دينية‪ ،‬وحرا يف‬ ‫�إبراز ثقافة ومزاولة عاداته‪ .‬ف�أهلية الإن�سان للحياة وت�شكله وتفتحه‬ ‫م�ستمدة من االختالف احلر واحلرية يف االختالف‪.‬‬

‫‪34‬‬


‫الشاطبي‪ ..‬المفترى عليه‬ ‫ال �أظنّ �أن �أحداً من العلماء قد ُقدّم بحالة خمتلفة عن‬ ‫�صورته احلقيقية كما ح�صل مع الإمام �أبي �إ�سحاق �إبراهيم بن‬ ‫مو�سى ال�شاطبي (ت ‪790‬هـ)‪ .‬فلقد حر�ص كثري من املنحرفني‬ ‫على و�ضع ا�سم (ال�شاطبي) يف واجهة ت�أويالتهم املنحرفة للأحكام‬ ‫والن�صو�ص ال�شرعية‪ ،‬واتخذوا من (موافقات) ال�شاطبي ذريعة‬ ‫للتهوين من الن�صو�ص اجلزئية كا ّفة بدعوى امل�صلحة �أو العقل‬ ‫�أو التم�سك بالأ�صول والكليات و(بذلك يكون ال�شاطبي قد د�شن‬ ‫قطيعة ايبي�ستمولوجية حقيقية مع طريقة ال�شافعي وكل‬ ‫الأ�صوليني الذين جا�ؤوا بعده)(‪.)1‬‬ ‫فال�شاطبي بهذا قد انف�صل مب�شروعه املقا�صدي عن جادّة‬ ‫العلماء يف تتبع الفروع الفقهية والعناية بالن�صو�ص اجلزئية لأنه‬ ‫قد‪( :‬دعا �إىل �ضرورة بنائها �أعني الأ�صول على مقا�صد ال�شارع‬ ‫بدل بنائها على ا�ستثمار �ألفاظ الن�صو�ص الدينية كما د�أب على‬ ‫العمل بذلك علماء الأ�صول انطالقاً من ال�شافعي)(‪.)2‬‬ ‫وحني تقر�أ لل�شاطبي كما هو �ستجد �أن ال�صورة خمتلفة‬ ‫متاماً‪ ،‬و� ّأن هذا الت�ص ّور ال يحكي حقيقة ال�شاطبي وال موافقاته‪،‬‬ ‫فهو ت�صوير لل�شاطبي بح�سب ما يريد لل�شاطبي �أن يكون‪ ،‬وعلى‬ ‫وفق ما يراد من موافقاته �أن تخدم م�شاريع التخ ّفف من الأحكام‬ ‫ال�شرعية‪.‬‬ ‫�إن �أدنى قراءة عابرة لر�سالة (املوافقات) التي كتبها ال�شاطبي‬ ‫تك�شف حقيقة هذا اخلداع واالفرتاء الذي بغي به على هذا الإمام‪،‬‬ ‫و�ستجد �أن (تعظيم ال�شريعة) ومراعاة ن�صو�صها وجزئياتها‬ ‫وتقدمي الدليل ال�شرعي على ك ّل ما �سواه من عقل وم�صلحة‬ ‫واجتهاد؛ �أ�صل حمكم وثابت قطعي يعتمده ال�شاطبي �أ�سا�ساً لك ّل‬ ‫�شيء يكتبه يف املوافقات‪ ،‬فهو على جادّة الأئمة الأ�سالف يف تعظيم‬ ‫الن�صو�ص ال�شرعية واالنقياد لها ويف كيفية ا�ستنباط �أحكامها‪.‬‬ ‫فالعقل عند ال�شاطبي ال يتقدّم على النقل بل‪( :‬العقل �إمنا ينظر‬ ‫من وراء ال�شرع)(‪.)3‬‬ ‫فهو تابع منقاد له‪ ،‬بل حتى امل�سائل ال�شرعية التي ُي ّ‬ ‫�ستدل‬ ‫�صحة النقل ف�إمنا هي عنده على كيفية‪�( :‬إذا‬ ‫بالعقل فيها على ّ‬ ‫تعا�ضد النقل والعقل على امل�سائل ال�شرعية فعلى �شرط �أن يتقدم‬ ‫النقل فيكون متبوعاً ويت�أخر العقل فيكون تابعاً)(‪.)4‬‬

‫فهد بن �صالح العجالن‬

‫والن�صو�ص اجلزئية لها عناية تا ّمة‪ :‬وقد �أخلى لها يف‬ ‫(موافقاته) حيزاً وا�سعاً لإدراكه بخطر التهاون بها‪( :‬ف�إن ما يخرم‬ ‫قاعدة �شرعية �أو حكماً �شرعياً لي�س ّ‬ ‫بحق يف نف�سه)(‪.)5‬‬ ‫وقد َك َ�سر �أيّ ا�ستغاللٍ لنظريته يف املقا�صد ب�أن ق ّرر بكل و�ضوح‪:‬‬ ‫(� ّأن من �أخذ باجلزئي معر�ضاً عن كل ّيه فهو خمطئ‪ ،‬كذلك من‬ ‫�أخذ بالكلي معر�ضاً عن جزئيه)(‪ .)6‬فال مكان لنظريته املقا�صدية‬ ‫ملنطق ن�سف اجلزئيات مت�سكاً باملقا�صد‪.‬‬ ‫ث ّم �صعد بالدليل اجلزئي لأعلى درجات الأهمية واالحتياط‬ ‫حني جعل ثبوته كافياً جلعله �أ� ً‬ ‫صال بر�أ�سه‪ :‬فـ (ك ّل دليل �شرعي‬ ‫خ�صه‬ ‫ميكن �أخذه كلياً و�سواء علينا �أكان كلياً �أم جزئياً �إال ما ّ‬ ‫الدليل)(‪.)7‬‬ ‫واتباع الهوى‪ :‬مزلق خطر ينحرف بال�شريعة عن �أ�صل و�ضعها‬ ‫فـ‪( :‬املق�صد ال�شرعي من و�ضع ال�شريعة �إخراج املك ّلف عن داعية‬

‫‪35‬‬


‫هواه حتى يكون عبداً هلل اختياراً كما هو عبد اهلل ا�ضطراراً)(‪.)8‬‬ ‫وتفريعاً على هذا الأ�صل �شدّد ال�شاطبي على حرمة اتباع رخ�ص‬ ‫الفقهاء يف الأقوال الفقهية ل ّأن‪( :‬تتبع الرخ�ص ٌ‬ ‫ميل مع �أهواء‬ ‫النفو�س‪ ،‬وال�شرع جاء بالنهي عن اتباع الهوى فهذا م�ضا ّد لذلك‬ ‫الأ�صل املتفق عليه)(‪.)9‬‬ ‫و�أوجب على املفتي �أن يختار للم�ستفتي �أرجح القولني‪ ،‬وال‬ ‫يفتيه بجميع القولني معاً حتى ال يكون هذا �سبباً التباع الهوى يف‬ ‫الأحكام‪( :‬ف�إنه �إذا �أفتى بالقولني معاً على التخيري فقد �أفتى يف‬ ‫النازلة بالإباحة و�إطالق العنان وهو قول ثالث خارج عن القولني)‬ ‫(‪ .)10‬لأن حا�صل هذا مناق�ضة �أ�صل و�ضع ال�شريعة فـ‪( :‬متى‬ ‫خرينا املقلدين يف مذاهب الأئمة لينتقوا منها �أطيبها عندهم مل‬ ‫يبق لهم مرجع �إال اتباع ال�شهوات يف االختيار‪ ،‬وهذا مناق�ض ملق�صد‬ ‫و�ضع ال�شريعة فال ي�ص ّح القول بالتخيري على حال)(‪.)11‬‬ ‫ويعتني بتعظيم (ال�سلف ال�صالح) ومنهجهم وفقههم يف نف�س‬ ‫قارئ موافقاته‪ ،‬فيخاطبه مبنطق العامل النا�صح‪( :‬احلذر احلذر‬ ‫من خمالفة الأولني فلو كان ث ّم ٌ‬ ‫ف�ضل ما لكان الأولون � ّ‬ ‫أحق به)‬ ‫(‪.)12‬‬ ‫فاتباع منهج ال�سلف �أ�صل يعرف به امل�سلم �صحة طريقه‬ ‫ّ‬ ‫ا�ستدل ب�أمثال ذلك‪ :‬هل وجد هذا‬ ‫و�سالمة منهجه‪( :‬فيقال ملن‬ ‫املعنى الذي ا�ستنبطت يف عمل الأولني �أو مل يوجد؟ ف�إن زعم �أنه‬ ‫مل يوجد ‪ -‬وال ب ّد من ذلك ‪ -‬فيقال له‪� :‬أفكانوا غافلني عما تنبهت‬ ‫له �أو جاهلني به �أم ال؟ وال ي�سعه �أن يقول بهذا لأنه فتح لباب‬ ‫الف�ضيحة على نف�سه وخرق للإجماع‪ ،‬و�إن قال‪� :‬إنهم كانوا عارفني‬ ‫مب�آخذ هذه الأدلة كما كانوا عارفني مب�آخذ غريها قيل له‪ :‬فما‬ ‫الذي حال بينهم وبني العمل مبقت�ضاها على زعمك حتى خالفوها‬ ‫�إىل غريها؟ ما ذاك �إال لأنهم اجتمعوا فيه على اخلط�أ دونك �أيها الـهــوامــــــ�ش‬ ‫ّ بنية العقل العربي للجابري ‪)1(  .54 ،‬‬ ‫املتق ّول‪ ،‬والربهان ال�شرعي والعادي دال على عك�س الق�ضية‪ ،‬فكل‬ ‫بنية العقل   العربي‪)2( .54 ،‬‬ ‫ما جاء خمالفاً ملا عليه ال�سلف ال�صالح فهو ال�ضالل بعينه) (‪ .)13‬املوافقات‪)3(  .36/1 :‬‬ ‫املوافقات‪)4(  .78/1 :‬‬ ‫بحق الطاعة‪ :‬يطالب ب�إلغاء املوافقات‪)5( .556/2   :‬‬ ‫ولأهمية جانب التع ّبد هلل والقيام ّ‬ ‫املوافقات‪)6(  .8/3 :‬‬ ‫كل املباحث وامل�سائل التي ال تثمر عبادة �أو �سلوكاً �شرعياً فـ‪( :‬ك ّل املوافقات‪)7(  .45/3 :‬‬ ‫املوافقات‪)8( .469/2   :‬‬ ‫م�س�ألة مر�سومة يف �أ�صول الفقه ال ينبني عليها فروع فقهية �أو املوافقات‪)9(  .511/4 :‬‬ ‫املوافقات‪)10(  .509/4 :‬‬ ‫�آداب �شرعية �أو ال تكون عوناً يف ذلك فو�ضعها يف �أ�صول الفقه املوافقات‪)11(.499/4   :‬‬ ‫املوافقات‪)12(  .64/3 :‬‬ ‫عارية)(‪ .)14‬حتى تتجه ه ّمة طالب العلم �إىل العمل والعبادة لأن‪ :‬املوافقات‪)13(  .66/3 :‬‬ ‫املوافقات‪)14( .40/1   :‬‬ ‫( كل علم �شرعي فطلب ال�شارع له �إمنا يكون من حيث هو و�سيلة املوافقات‪)15(  .54/1 :‬‬ ‫املوافقات‪)16(  .357/3 :‬‬ ‫�إىل التعبد به هلل تعاىل)(‪.)15‬‬ ‫املوافقات‪)17( .667/2   :‬‬ ‫ولفهم القر�آن على ظاهره والتحذير من ت�أويله‪ :‬يعيب م�سلك املوافقات‪)18(  .385/3 :‬‬ ‫املوافقات‪)19(  .648/2 :‬‬

‫الت�أويل من مت�أ ّولة الن�صو�ص‪ ( :‬وه�ؤالء من �أهل الكالم هم‬ ‫النابذون للمنقوالت اتباعاً للر�أي وقد �أداهم ذلك �إىل حتريف كالم‬ ‫اهلل مبا ال ي�شهد للفظه عربي وال ملعناه برهان)(‪.)16‬‬ ‫وال�سري على خالف الظاهر ي�ؤدّي �إىل �إبطال ال�شريعة لأن‪:‬‬ ‫( دعوى �أن مق�صود ال�شارع لي�س يف هذه الظواهر وال ما يفهم منها‬ ‫و�إمنا املق�صود �أمر �آخر وراءه ويطرد هذا يف جميع ال�شريعة حتى‬ ‫ال يبقى يف ظاهرها متم�سك �أن يلتم�س منه معرفة مقا�صد ال�شارع‬ ‫وهذا ر�أي ك ّل قا�صد لإبطال ال�شريعة)(‪.)17‬‬ ‫ول�شدّة تعظيمه ملقام الكالم يف ال�شريعة‪ :‬يح ّذر من الكالم‬ ‫فيها لأ ّنه حتديد ملق�صود اهلل ويذ ّكره مبوقف قيامه بني يدي رب‬ ‫العاملني‪( :‬ومنها �أن يكون على بال من الناظر واملف�سر واملتكلم‬ ‫عليه �أن ما يقوله تق�صيد منه للمتكلم والقر�آن كالم اهلل فهو يقول‬ ‫بل�سان بيانه‪ :‬هذا مراد اهلل من هذا الكالم‪ ،‬فليتثبت �أن ي�س�أله اهلل‬ ‫تعاىل من �أين قلت عني هذا)(‪ .)18‬ويقدّم امل�صالح الدينية على‬ ‫امل�صالح الدنيوية مطلقاً‪( :‬امل�صالح الدينية مقدمة على امل�صالح‬ ‫الدنيوية على الإطالق)(‪.)19‬‬ ‫هذه �إ�شارات �سريعة تك�شف منهج الإمام ال�شاطبي وموافقاته‪،‬‬ ‫ويف كتابه العظيم (املوافقات) �أ�ضعاف هذه النقوالت التي تظهر‬ ‫منهج تعظيم ال�شريعة لدى هذا الإمام مما يف ّتت �أي �إمكانية‬ ‫ال�ستغالل ا�سمه �أو م�شروعه املقا�صدي لتمرير االنحرافات‬ ‫والتجاوزات‪ ،‬لأجل ذلك دعا بع�ض املنحرفني لتجاوز ال�شاطبي‬ ‫عند درا�سة املقا�صد‪ ،‬و�أن يكون ث ّم �إن�شاء جديد للمقا�صد يتجاوز‬ ‫به املقا�صد ال�شاطبية؛ لأن ال�شاطبي قد قطع فيها الطريق على‬ ‫�أي منفذ �أو خمرج ت�سلك منه مقا�صد النفو�س‪.‬‬

‫‪36‬‬


‫مفهوم الحرية في اإلسالم‬ ‫�سفيان حمكوم‬

‫يف هذا اجلو امل�شحون بالتوتر الفكري‪ ،‬والقلق النف�سي على‬ ‫م�صري الأمة الإ�سالمية‪ ،‬ي�أتي هذا املو�ضوع ليرتجم رغبة نف�سية‬ ‫دفينة وقوية يف التحرر واالنعتاق من قيود التبعية والهيمنة التي‬ ‫متار�سها ال�شعوب املتقدمة ‪ ،‬على ال�شعوب امل�ست�ضعفة‪.‬‬ ‫�إن مبد�أ احلرية جزء اليتجز�أ من النظام الإ�سالمي املتكامل‬ ‫‪ ،‬بل هو �أ�سا�س هذا النظام وعموده‪ ،‬فبدون حرية لن تقوم يف‬ ‫النفو�س قيامة‪ ،‬ولن تتحقق نه�ضة‪ ،‬ولن تتقدم �أمة‪ ،‬لأن احلرية‬ ‫يف �أعمق معانيها هي احلياة نف�سها‪ ،‬فمن �سلبت منه حريته‪ ،‬فك�أمنا‬ ‫�سلبت منه حياته‪ ،‬و�أ�صبح من الأموات‪ ،‬وان عا�ش يتنف�س ويتحرك‬ ‫وي�أكل وي�شرب‪.‬‬ ‫واحلرية هي روح الدين يف الإ�سالم‪ ،‬وهي �أعز �شيء على‬ ‫الإن�سان بعد حياته‪ ،‬بفقدانها تفقد الآمال‪ ،‬وتبطل الأعمال‪،‬‬

‫ومتوت النفو�س‪ ،‬وتتعطل ال�شرائع‪ ،‬وتختل القوانني‪ ،‬في�صري‬ ‫الفتور واالنحطاط والتقاع�س‪ ،‬ملن �ألفوا اال�ستبداد والذل والهوان‪.‬‬ ‫وحينما تعر�ض لظاهرة اال�ستبداد جتعل من نتائجه ف�ساد الأخالق‬ ‫وانحراف نف�سية الإن�سان الأدبية واالجتماعية‪ ،‬وحتوله �إىل‬ ‫"�أ�سري" وهو �ضد احلر‪.‬‬ ‫فاال�ستبداد يفني الفكر واجل�سم‪ ،‬فتمر�ض العقول‪ ،‬ويختل‬ ‫ال�شعور‪ ،‬وتنقلب احلقائق‪ ،‬وت�سقط البديهيات‪ ،‬ويتحطم نامو�س‬ ‫الأخالق‪ ،‬وتنعدم الفائدة من اال�شرتاك يف �أعمال احلياة‪ ،‬الذي هو‬ ‫ال�سر الأعظم يف جناح الأمم املتمدنة‪ ،‬و�أخطر من هذا كله جلوء‬ ‫الأ�سري املعذب املنت�سب �إىل دين الإ�سالم �إىل ال�سعادة الأخروية‬ ‫يعزي نف�سه بها عزاء يتوجه معه �إىل الدنيا بنف�س يائ�سة‪ ،‬وروح‬ ‫كاره‪ ،‬فيعطف م�صائبه ببع�ض الأحاديث ال�شريفة ليجعل منها‬

‫‪37‬‬


‫م�سليات لنف�سيته املهزوزة ول�ضعف �إرادته وطموحاته‪ ،‬كالقول‬ ‫مثال‪" :‬الدنيا �سجن امل�ؤمن"‪ ،‬وان "امل�ؤمن م�صاب" و"هذا �ش�أن‬ ‫�آخر زمان"‪ ،‬وت�صل حالة الي�أ�س هذه درجة خطرية جتعله يرفع‬ ‫م�س�ؤولية ال�شقاء عن امل�ستبدين ويلقيها على عاتق الق�ضاء و‬ ‫القدر‪ ،‬ويتعلل مبا يردد الوعاظ واملتحدثون من القول ‪� " :‬إن‬ ‫ال�سلطان ظل اهلل يف الأر�ض"‪ ،‬وان "الظامل �سيف اهلل ينتقم به‬ ‫ثم ينتقم منه"‪ ،‬و"امللوك ملهمون"‪ ،‬و�أمثال ذلك مما الي�صح �إال‬ ‫�إذا قيد بالعدالة‪ .‬وهكذا يولد فقدان احلرية حالة نف�سية متوترة‬ ‫لدى النا�س‪ ،‬يعتقدون معها "�أن الزمان قد �أقبل على �آخره‪ ،‬و�أن‬ ‫ال�ساعة �أو�شكت �أن تقوم‪ ،‬ويذهبون �إىل القول‪�" :‬إننا �أمة ميتة‬ ‫الترجى حياتنا"‪.‬‬ ‫ويتبني لنا من خالل هذه الآراء‪� ،‬أن املغزى العميق للحرية‬ ‫يكاد يرادف لفظ احلياة‪ ،‬فبدونها يكون املوت والأ�سر واال�سرتقاق‪،‬‬ ‫ولي�س هذا جديدا يف الثقافة الإ�سالمية فهذا الإمام �أبو الربكات‬ ‫عبد اهلل بن �أحمد الن�سفي‪� ،‬أحد �أعالم التف�سري الكبار‪ ،‬قد تفطن‬ ‫لهذا الرتابط حني ف�سر الآية القر�آنية الكرمية‪....." :‬ومن قتل‬ ‫م�ؤمنا خط�أ فتحرير رقبة م�ؤمنة…"‪ ،‬بقوله‪" :‬انه ملا �أخرج نف�سا‬ ‫م�ؤمنة من جملة الأحياء‪ ،‬لزمه �أن يدخل نف�سا مثلها يف جملة‬ ‫الأحرار‪ ،‬لأن �إطالقها من قيد الرق ك�إحيائها ‪ ،‬من قبل �أن الرقيق‬ ‫ملحق بالأموات‪� ،‬إذ الرق �أثر من �آثار الكفر‪ ،‬والكفر موت وحكما‬ ‫لقول اهلل عز وجل "�أومن كان ميتا ف�أحييناه…‪ .".‬وهذا مما ال�شك‬ ‫فيه‪ ،‬ي�ؤلف نقطة فاعلة وحا�سمة يف الثقافة الإ�سالمية للرد على‬ ‫ال�شائع يف الكتابات ال�سيا�سية والقانونية واالجتماعية التي تلمح‪،‬‬ ‫من غري وعي بالتاريخ �أو جتاهال به‪� ،‬إىل �أن احلقوق الإن�سانية مل‬ ‫تتبلور اال مع ظهور فل�سفة الثورة الفرن�سية الكربى �سنة ‪1789‬م‪،‬‬ ‫لت�صاغ يف النهاية يف �شكل وثيقة عاملية خا�صة هي "االعالن العاملي‬ ‫حلقوق الإن�سان" ال�صادر عن الأمم املتحدة �سنة ‪1948‬م‪.‬‬ ‫وبهذا يتبني �أن اخل�ضوع لقيود الت�شريع اليناق�ض يف �أ�صله‬ ‫مفهوم احلرية والتحرر واالنطالق‪ ،‬بل �إن من التعاريف القانونية‬ ‫للحرية ما يجعل التم�سك بال�شرع والقانون هو عني احلرية‪ ،‬يقول‬ ‫�أندريه هوريو‪�" :‬إن احلرية هي التقيد الإرادي بالنظام املقرر‬ ‫بالقانون" ‪.‬‬ ‫�إن الت�شريع مل يو�ضع ليقيد حرية الأفراد بقدر ماو�ضع حلماية‬ ‫احلرية يف جميع م�ستوياتها املادية واملعنوية ولتحقيق م�صالح‬

‫اخللق ومنافعهم ‪ ،‬ويقول الإمام ال�شاطبي‪�" :‬إن و�ضع ال�شرائع‬ ‫�إمنا هو مل�صالح العباد يف العاجل والآجل معا‪ ،‬واعتمدنا يف ذلك‬ ‫على ا�ستقراء وتتبع الأحكام ال�شرعية‪ ،‬فوجدناها و�ضعت مل�صالح‬ ‫العباد"‪.‬‬ ‫ويقول القرايف‪�" :‬إن ال�شرع خ�ص�ص املرتبة العليا بالوجوب‬ ‫وحث عليها بالزواجر‪� ،‬صونا لتلك امل�صلحة عن ال�ضياع‪ ،‬كما‬ ‫خ�ص�ص املفا�سد العظيمة بالزجر والوعيد ح�سما ملادة الف�ساد عن‬ ‫الدخول يف الوجود تف�ضال منه تعاىل عند �أهل احلق"‪ ،‬ون�ستخل�ص‬ ‫من هذه الن�صو�ص نتيجة �أ�سا�سية وهي‪�" :‬إن غاية ال�شرع �إمنا هي‬ ‫امل�صلحة"‪.‬‬ ‫وحينما نقول‪� :‬إن مدار ال�شرع على م�صالح اخللق‪ ،‬وان من‬ ‫هذه امل�صالح �ضمان احلرية للأفراد‪ ،‬فهذا اليعني �أننا نعطي حرية‬ ‫مطلقة للفرد ليت�صرف كيفما ي�شاء‪ ،‬وامنا نعني بذلك �أن حرية‬ ‫الفرد مقيدة مب�صلحة اجلماعة والنفع العام‪ ،‬وهو الذي يعرب‬ ‫عنه يف كتب الفقه الإ�سالمي" بحق اهلل" الذي يتعلق به النفع من‬ ‫غري اخت�صا�ص ب�أحد فينت�سب �إىل اهلل لعظم خطره و�شمول نفعه‪.‬‬ ‫فالفرد مقيد بهذه امل�صلحة العليا‪ ،‬ومن ثم فهو ممنوع من الفعل‬ ‫الذي يلحق ال�ضرر العام‪ ،‬ومن جهة �أخرى فان "امل�صلحة العامة‬ ‫�شرط �أ�سا�سي تقف عليه – يف الواقع‪ -‬امكانية الفرد من حتقيق‬ ‫م�صاحله الذاتية"‪ .‬وهكذا‪ ،‬وبالتن�سيق املحكم بني م�صالح املجموع‬ ‫وم�صلحة الفرد يف �إطار الت�شريع الإ�سالمي‪ ،‬يظهر لنا �صدق‬ ‫القاعدة التي تقرر �أنه "حيثما وجدت امل�صلحة‪ ،‬فثم �شرع اهلل"‪.‬‬ ‫نخل�ص يف النهاية �إىل �أن ت�صور الإ�سالم للحرية يج�سد معامل‬ ‫النظرة ال�شمولية املتكاملة التي يوليها للإن�سان‪ ،‬وهي نظرة‬ ‫كلها تكرمي ومتجيد‪ .‬خا�صة �أن الإ�سالم �أقام ت�صوره على مبادئ‬ ‫ثابتة و�أ�س�س قوية ودعائم متينة‪ ،‬جعلت منه املوقف ال�صحيح‬ ‫ال�سليم الذي ينبغي الأخذ به يف مناحي احلياة كلها‪ :‬ال�سيا�سية‪،‬‬ ‫واالجتماعية‪ ،‬واالقت�صادية‪ ،‬والعلمية‪ .‬و�سنعر�ض لالخت�صار‬ ‫عناوين هذا الدعائم وهما‪ :‬الكرامة الإن�سانية‪ ،‬ومبد�أ امل�ساواة‪.‬‬ ‫وهذا املبد�أ يف مغزاه العميق يعني تعادال يف القيم ‪ ،‬وتكاف�ؤا‬ ‫يف الفر�ص‪ ،‬و�إطالقا للمواهب لتعمل وتن�شط‪� ،‬ضمن احلدود التي‬ ‫التتعار�ض مع الأهداف العليا للحياة ‪ ،‬ولقد قرر الإ�سالم هذا املبد�أ‬ ‫بني اجلميع ثم ترك الباب مفتوحا للتفا�ضل باجلهد والعمل‪.‬‬

‫‪38‬‬


‫دراسات إسالمية‬

‫الدولة اإلسالمية الحديثة بين‬ ‫النظرية والتطبيق‬ ‫مقدمة‪:‬‬

‫�إن ل�شهادة الغريب وزنا خا�صا‬

‫و�ضع عامل االجتماع الأمريكي مايكل هارت قائمة ب�أكرث من‬ ‫مائة �شخ�ص ت�أثريا يف تاريخ الإن�سانية كلها واختار حممد (�ص)‬ ‫على ر�أ�س تلك القائمة وقال لأنه �أ�س�س دينا عامليا ودولة فكان نبيا‬ ‫ورجل دولة‪ .‬وي�ضاف �إىل ذلك �أن الكتاب املقد�س الذي �أوحى �إليه‬ ‫قد انفرد بالإجماع على ن�صه‪ ،‬و�أن الإ�سالم انت�شر يف العامل املعمور‬ ‫يف ثمانني عاما مبا فاق ما حققته الإمرباطورية الرومانية يف‬ ‫ثمامنائة عام‪ .‬وقادت احل�ضارة الإ�سالمية العامل ب�صورة مت�صلة‬ ‫ملدة �ألف عام من القرن ال�سابع امليالدي �إىل القرن الثامن ع�شر‬ ‫امليالدي‪.‬‬ ‫الأمة الإ�سالمية حتى يومنا هذا متم�سكة بدينها عبادات‪،‬‬ ‫و�شعائر‪ ،‬و�أخالقا‪ .‬ولكن النظام ال�سيا�سي املطبق يف العامل‬ ‫الإ�سالمي بعد ال�صدر الأول خالف يف الواقع املبادئ ال�سيا�سية‬ ‫الإ�سالمية‪ ،‬مبادئ الكرامة‪ ،‬والعدالة‪ ،‬واحلرية‪ ،‬وال�شورى‬ ‫ومار�س عرب الدول التي �أقامها‪ :‬الأموية‪ ،‬والعبا�سية‪ ،‬والعثمانية‪،‬‬ ‫وال�صفوية‪ ،‬واملغولية نظم حكم �أقرب �إىل تراث احلكم القي�صري‪،‬‬ ‫والك�سروي‪ ،‬منها �إىل مبادئ الإ�سالم ال�سيا�سية‪.‬‬ ‫امتثل م�ؤ�س�س الدولة الأموية لن�صح املغرية بن �شعبة �إذ قال‬ ‫له‪" :‬لقد ر�أيت ما كان من �سفك الدماء واالختالف بعد عثمان‪.‬‬ ‫ويف يزيد منك خلف فاعقد له‪ ،‬ف�إن حدث بك حادث كان كهفا‬ ‫للنا�س‪ ،‬وخلفا منك‪ ،‬وال ت�سفك دماء وال تكون فتنة"‪ .‬وقال يزيد‬ ‫بن املقفع يف جمل�س البيعة ليزيد بن معاوية‪� :‬أمري امل�ؤمنني هذا‬ ‫و�أ�شار ملعاوية ف�إن هلك فهذا و�أ�شار ليزيد فمن �أبي فهذا و�أ�شار‬ ‫ل�سيفه‪ .‬ومنذئذٍ �صار التغلب �سنة الوالية يف الديار الإ�سالمية‬ ‫وقال ال�شهر�ستاين �صاحب امللل والنحل‪�" :‬أعظم خالف بني الأمة‬ ‫خالف الإمامة‪� .‬إذ ما �سل �سيف يف الإ�سالم على قاعدة دينية مثلما‬ ‫�سل على الإمامة"‪.‬‬ ‫و�أعطى جمهور الفقهاء �سنة التغلب �شرعية مبقولة ابن حجر‬

‫دولة الإمام ال�صادق املهدي‬

‫الع�سقالين‪" :‬وقد اجمع جمهور الفقهاء على طاعة املتغلب‬ ‫والقتال معه"‪.‬‬ ‫هكذا تعاقب على ال�سلطة خلفاء �أو �سالطني يف الغالب و�صف‬ ‫حالهم دعبل اخلزاعي‪:‬‬

‫خليفة مات مل يحزن له �أحــــد و�آخــــــر قام مل يفرح به �أحد‬ ‫فمر ذاك ومر ال�ش�ؤم يتبعـــــه وقام ذاك فقام النح�س والنكد!‬

‫ا�ستمر واقع حال النظم ال�سيا�سية احلاكمة للم�سلمني على هذا‬ ‫النمط‪ ،‬والتم�س كثري من امل�سلمني عزا ًء يف نظريات حكم طوباوية‬ ‫�سنية‪ ،‬و�شيعية‪ ،‬و�صوفية‪� .‬أهم نظريات �أهل ال�سنة ما جاء يف كتاب‬ ‫املاوردي يف كتاب الأحكام ال�سلطانية �إذ و�صف فيه �أ�سا�سا مثاليا‬

‫‪39‬‬


‫للوالية املطلوبة �إ�سالميا‪ .‬ولكنه تنظري مل يطبق‪ .‬و�أهم نظريات‬ ‫ال�شيعة النظرية الإمامية الإثني ع�شرية كما �شرحها املجل�سي يف‬ ‫كتابه قوت القلوب‪ .‬و�أهم نظريات ال�صوفية هي الدولة الغيبية‬ ‫التي و�صفها ابن عربي يف الفتوحات املكية‪.‬‬ ‫هذه النظريات ظلت حبي�سة الأماين متاما ك�أماين الفال�سفة‬ ‫كما �صورها الفارابي يف �أهل املدينة الفا�ضلة‪.‬‬ ‫ويف عاملنا احلديث ونتيجة لتعلق امل�سلمني بالإ�سالم‪ ،‬و�إلهامات‬ ‫التجربة التاريخية الرائعة‪ ،‬وحت�صنا من الغزو الفكري والثقايف‬ ‫الغربي‪ ،‬ونتيجة لإخفاقات النظم ال�سيا�سية اللربالية‪ ،‬والقومية‪،‬‬ ‫واال�شرتاكية جرت حماوالت حديثة لإقامة الإ�سالم يف النظام‬ ‫ال�سيا�سي‪ ،‬فلم يكن حظها من تطبيق مبادئ الإ�سالم ال�سيا�سية‬ ‫�أوفر من حظ الدول الإ�سالمية التاريخية‪ ،‬و�سواء فيما �أقيم من‬ ‫نظم وراثية �أو ع�سكرية ف�إنها يف الغالب قامت على نهج التغلب‬ ‫الذي دمغه عمر ر�ضي اهلل عنه مبقولة‪" :‬من بايع �أمريا من غري‬ ‫م�شورة امل�سلمني فال بيعة له وال للذي بايعه"‪.‬‬ ‫النظم احلديثة التي حكمت البلدان الإ�سالمية ا�ست�صحبت‬ ‫نظام حكم اال�ستبداد املعا�صر الذي �أن�ش�أه �ستالني كتطبيق بولي�سي‬ ‫للمارك�سية وطبق مثله من اليمني هتلر ف�صار ما ابتدعاه نظام‬ ‫فا�ش�ستو�ستاليني هو امللم لنظم احلكم اال�ستبدادية احلديثة‬ ‫يف بلداننا‪ ،‬ومهما اختلفت �شعاراتها بني قومية‪ ،‬وا�شرتاكية‪،‬‬ ‫و�إ�سالمية‪ ،‬ف�إنها متثل ملة اال�ستبداد الواحدة مبا فيها من‬ ‫حزب واحد م�سيطر‪ ،‬و�أمن قاهر‪ ،‬و�إعالم م�ضلل‪ ،‬واقت�صاد متكني‬ ‫للمحا�سيب‪.‬‬ ‫التجارب الإ�سالمية احلديثة‬

‫فيما يلي �أ�ستعر�ض جتارب لدولة �إ�سالمية حديثة يف باك�ستان‪،‬‬ ‫ويف �إيران‪ ،‬ويف ال�سودان‪ ،‬ويف �أفغان�ستان‪ ،‬ويف تركيا‪ ،‬ويف ماليزيا‪ ،‬ويف‬ ‫نيجرييا‪ ،‬ويف غزة‪.‬‬ ‫‪ .1‬باك�ستان قامت على �أ�سا�س انف�صال امل�سلمني من الهند ذات‬ ‫الأغلبية الهندو�سية‪ ،‬م�ؤ�س�س الدولة مل يكن �إ�سالمي الفكر‬ ‫بل تعامل مع الإ�سالم كقومية ولكن اندفعت يف باك�ستان تيارات‬ ‫قوية تتطلع ال�سلمة الدولة واملجتمع‪ .‬ويف عام ‪1979‬م تبنى حاكم‬ ‫باك�ستان الع�سكري (�ضياء احلق) فكرة �إقامة ال�شريعة وخلط بني‬ ‫ت�أييد دولته الدكتاتورية وتطبيق �أحكام �إ�سالمية وا�ستفتى ال�شعب‬ ‫الباك�ستاين يف ‪1984‬م لت�أييد هذه اخللطة املرتبطة كذلك بتحالف‬ ‫مع الواليات املتحدة‪ ،‬نعم طبق النظام �أحكاما �إ�سالمية وا�ستقطب‬ ‫ت�أييد تيارات �شعبية �إ�سالمية ولكن نظام احلكم ظل قائما على‬ ‫�سنة التغلب الع�سكري بعيدا عن مبادئ الإ�سالم ال�سيا�سية‪.‬‬

‫‪ .2‬نظام ال�شاهن�شاه يف �إيران نظام م�ؤ�س�س على القومية الفار�سية‪،‬‬ ‫حاول �إقامة دولة حديثة على النمط الرتكي املعادي للإ�سالم‬ ‫املتحالف مع الغرب‪ .‬يف وجه هذا النظام انطلقت تيارات معار�ضة‬ ‫كان �أقواها الثورة الإ�سالمية الإيرانية‪ ،‬ف�أطاحت بنظام ال�شاه‪،‬‬ ‫و�أقامت اجلمهورية الإ�سالمية الإيرانية‪ ،‬كانت هذه الثورة م�ستندة‬ ‫لت�أييد �شعبي منقطع النظري‪ ،‬وحققت الثورة انتماء ال�شعب‬ ‫الإيراين للإ�سالم وهزمية اال�ستالب الغربي‪ ،‬وحققت ا�ستقالال‬ ‫ح�ضاريا ودعمت املمانعة يف وجه الهيمنة الدولية على نطاق وا�سع‪.‬‬ ‫ولكن النظام الإ�سالمي الإيراين حب�س نف�سه يف الطائفية ال�شيعية‬ ‫ويف مبد�أ والية الفقيه بينما املبد�أ الإ�سالمي هو والية الأمة فقوله‬ ‫تعاىل‪َ ( :‬و�أَ ْم ُرهُ ْم ُ�شو َرى َب ْي َن ُه ْم)(‪ )1‬يعني كافة �أهل الإميان‪.‬‬ ‫‪ .3‬يف �أفغان�ستان جنحت املقاومة الإ�سالمية يف دحر الغزو‬ ‫ال�سوفياتي ولكن املجاهدين �أخفقوا يف �إقامة ما تطلعوا �إليه‬ ‫من نظام �إ�سالمي حديث‪ ،‬ووجهوا �أ�سلحتهم �ضد بع�ضهم بع�ضا‪.‬‬ ‫وبدعم من باك�ستان انطلقت حركة �شبابية حما�سية �سيطرت على‬ ‫�أفغان�ستان و�أقامت والية �إ�سالمية فيها‪ .‬فهم طالبان لنظام احلكم‬ ‫يف الإ�سالم ما�ضوي ونظرتهم لإقامة الأحكام الإ�سالمية جمردة‬ ‫من االجتهاد اجلديد املطلوب ال�ستيعاب امل�ستجدات‪.‬‬ ‫قال ابن قيم اجلوزية يف كتاب الأحكام ال�سلطانية �إن الفقهاء خلطوا‬ ‫بني فرع العقائد والعبادات الذي يعتمد على الن�صو�ص املنقولة‪،‬‬ ‫وفرع املعامالت الذي يقوم على امل�صالح املر�سلة وا�ست�صحاب‬ ‫النافع‪ .‬وهذا ما جعلهم ي�ضيقون جماالت ال�سيا�سة وقال ابن‬ ‫عقيل‪ :‬ال�سيا�سة ما كان فعال يكون معه النا�س �أقرب �إىل ال�صالح‬ ‫و�أبعد عن الف�ساد‪ ،‬و�إن مل ي�ضعه الر�سول وال نزل به وحي‪.‬‬ ‫جتربة طالبان كاحتجاج على عجز القيادات الإ�سالمية التقليدية‪،‬‬ ‫وكاحتجاج على االحتالل الأمريكي‪ ،‬جتربة ناجحة ولكنها كنظام‬ ‫بديل جمافية ملبادئ الإ�سالم ال�سيا�سية وجمردة من التطبيق‬ ‫االجتهادي للأحكام الإ�سالمية‪.‬‬ ‫‪ .4‬ال�سودان فيه تطلع لتكوين �إ�سالمي حديث على نطاق �شعبي‬ ‫وا�سع و�أغلبية القوى ال�سيا�سية فيه �إ�سالمية التوجه‪ ،‬وكان‬ ‫بالإمكان �أن حتدث يف ال�سودان جتربة �إ�سالمية حديثة ب�إرادة‬ ‫�شعبية غالبة كما توقع كثري من املراقبني �أمثال مونتجمري واط‬ ‫لدى زيارته لل�سودان‪ .‬ولكن هذا التوجه الواعد �أجه�ضته حماوالت‬ ‫القفز فوق املراحل وما �صحبه من طموح �سلطوي‪.‬‬ ‫‌�أ‪ .‬يف عام ‪1983‬م كان نظام مايو الذي �أقامه انقالب مايو ‪1969‬م‬ ‫يواجه عزلة �سيا�سية و�إخفاقا �سلبه �شرعيته فقرر �إعالن ما �سماه‬ ‫ثورة ت�شريعية عن طريق ما �سماه تطبيقا لل�شريعة‪ ،‬كانت التجربة‬

‫‪40‬‬


‫انتهازية ومكلفتة وعندما عر�ضت تفا�صيلها لنخبة من علماء‬ ‫امل�سلمني يف عام ‪1987‬م �أدانوها ب�أنها كانت معيبة تخطيطا وتنفيذا‪.‬‬ ‫‌ب‪ .‬وكان النظام ال�سيا�سي الدميقراطي يف ال�سودان بعد الثورة التي‬ ‫�أ�سقطت نظام مايو يواجه م�شاكل �أهمها احلرب الأهلية يف اجلنوب‬ ‫وخماوف حول التطلع لأ�سلمه احلياة؛ وكان النهج الدميقراطي‬ ‫حري�صا على �إنهاء احلرب الأهلية مبا ي�ستجيب ملطالب اجلنوبيني‬ ‫امل�شروعة يف �إطار وحدة البالد وقد اتفق على حتقيق ذلك عرب‬ ‫م�ؤمتر قومي د�ستوري يعقد يف ‪� 18‬سبتمرب ‪1989‬م‪ .‬وكان النهج‬ ‫الدميقراطي حري�صا على م�شروع �أ�سلمة يجمع ال�شمل الإ�سالمي‬ ‫ويطمئن امل�سيحيني وغريهم على حقوقهم الدينية وحقوق‬ ‫املواطنة‪ .‬ولكن هذا التوجه ب�شقيه �أجه�ضه انقالب يونيو ‪1989‬م‬ ‫الذي قرر �إقامة �أحكام ال�شريعة ب�إرادته ال�سلطوية وح�سم احلرب‬ ‫الأهلية بعزمية جهادية قتالية‪.‬‬ ‫‌ج‪ .‬التجربة الإ�سالمية الإنقاذية غيبت مبادئ الإ�سالم ال�سيا�سية‪،‬‬ ‫ومزقت اجل�سم الإ�سالمي‪ ،‬ووحدت املقاومة امل�ضادة‪ ،‬و�أطلقت لها‬ ‫دعما دوليا قويا‪ .‬والنتيجة �أن هذا النهج مل يحقق تطبيقا ناجحا‬ ‫للم�شروع الإ�سالمي‪ ،‬و�أتاح الفر�صة مل�شروعات متزيق الوطن‬ ‫ال�سوداين التي خطط لها �أعداء الوطن‪.‬‬ ‫‪ .5‬تركيا هي وطن اخلالفة العثمانية وهي خالفة دامت لأطول‬ ‫مدة يف احلكم‪ ،‬ومع ما حققت من �إجنازات ف�إنها يف �أواخر عهدها‬ ‫�ضعفت حتى و�صفت بالرجل املري�ض‪ :‬الف�ساد‪ ،‬واال�ستبداد‪،‬‬ ‫واملظامل‪ ،‬والهزائم‪� ،‬أطلقت تيارا معاديا للخالفة ومعاديا للإ�سالم‬ ‫بقيادة م�صطفى كمال‪ ،‬ف�أقام حكما معاديا للإ�سالم لإحلاق تركيا‬ ‫باحل�ضارة احلديثة‪.‬‬ ‫�إن دور القيادة الع�سكرية يف تركيا ونهجها احلما�سي يف‬ ‫ت�صفية الرتاث وااللتحاق بالغرب �صار لطمة قوية يف وجه الأمة‬ ‫الإ�سالمية مثلما �صار م�ضرب املثل ملا ينبغي عمله يف بلداننا لدى‬ ‫القوى الغربية‪ .‬ولكن الهوية الإ�سالمية يف تركيا رغم االقتالع‬ ‫املنهجي الذي تعر�ضت له ا�ستع�صت على االقتالع‪ ،‬فالطرق‬ ‫ال�صوفية ن�شطت بو�سائلها الناعمة للمحافظة على الرتبية‬ ‫الإ�سالمية‪ ،‬وقادة فكر �أمثال بديع الزمان النور�سي �أطلقوا يقظة‬ ‫�إ�سالمية بوعي حديث‪ ،‬وردت هذه الأفكار على الغلو العلماين‬ ‫بقوة‪ ،‬ون�شط م�صلحون اجتماعيون مثل فتح اهلل كولن بتجربة‬ ‫حتا�شت ال�صدام مع ال�سلطة العلمانية وركزت على ك�سب العقول‬ ‫والقلوب بب�سط اخلدمات االجتماعية وت�شبيك امل�صالح احلياتية‬ ‫من منطلقات �إ�سالمية‪ .‬ويف عام ‪1970‬م ت�أ�س�س �أول حزب �إ�سالمي‬ ‫بقيادة املرحوم جنم الدين �أربكان با�سم النظام الوطني‪ .‬ويف ‪1971‬م‬ ‫حل احلزب نتيجة النقالب ع�سكري‪ .‬وبعد ذلك �سمح بتنظيم‬

‫الأحزاب ف�أ�س�س �أربكان حزب ال�سالمة الوطني وخا�ض االنتخابات‬ ‫يف ‪1973‬م و�أثبت �أنه رقم �سيا�سي مهم‪ .‬ثم حل احلزب يف ‪1980‬م‬ ‫بعد انقالب ع�سكري‪ .‬ثم عاد مرة �أخرى با�سم حزب الرفاه واكت�سح‬ ‫االنتخابات يف ‪1994‬م حتى �صار �أربكان رئي�سا للوزراء ثم ا�ستقالت‬ ‫تلك احلكومة ب�ضغط من القوات امل�سلحة وحل حزب الرفاه ليعود‬ ‫با�سم حزب الف�ضيلة وهذا بدوره حل فكون �أربكان حزب ال�سعادة‪.‬‬ ‫جماعة رجب طيب �أردغان وهم من حزب ال�سعادة قرروا مراجعة‬ ‫الأ�سلوب فكونوا حزب العدالة والتنمية ويف ‪2001‬م خا�ضوا انتخابات‬ ‫‪2002‬م واكت�سحوها‪.‬‬ ‫هذا احلزب ال ينادي بالإ�سالم ولكنه مكون من �أفراد م�ؤمنني‬ ‫�أعلنوا احرتامهم للعلمانية ولكنها ن�سخة �أخرى من تلك املعادية‬ ‫للدين‪ .‬هذا احلزب جنح يف التنمية والإدارة والعالقات اخلارجية‬ ‫وهي جتربة واعدة للتوفيق بني املرجعة الإ�سالمية واحلداثة‬ ‫والدميقراطية‪.‬‬ ‫‪ .6‬التجربة املاليزية قريبة من هذه التجربة و�سابقة لها وهي‬ ‫جتربة ناجحة تنمويا ويف التم�سك بالأ�صالة احل�ضارية وباملرجعية‬ ‫الإ�سالمية يف �إطار من التعددية الثقافية‪ ،‬واالثنية‪ ،‬والإدارة‬ ‫التوفيقية بني احلداثة والتقاليد‪ .‬التجربتان الرتكية واملاليزية‬ ‫يف �شكلهما احلايل ناجحتان باملقايي�س الو�ضعية و�أما باملقايي�س‬ ‫الإ�سالمية فهما يف خانة‪َ ( :‬فا َّت ُقوا هَّ َ‬ ‫الل مَا ْا�س َت َط ْع ُت ْم)(‪. )2‬‬ ‫‪ .7‬يف نيجرييا �أعلنت عدد من الواليات ال�شمالية يف ‪2001‬م تطبيقا‬ ‫لل�شريعة‪ ،‬هنالك يف نيجرييا نق�ص يف الوعي الديني �شبيه بحال‬ ‫طالبان والتطبيق حتت نظم حكم حملية تقليدية ويف ظل د�ستور‬ ‫فيدرايل علماين‪� .‬إنها حما�سة ينق�صها الوعي الالزم مبطالب‬ ‫االجتهاد املطلوب وتنق�صها الإحاطة ولكنها على �أية حال تعرب‬ ‫عن �أ�شواق �إ�سالمية حقيقية وعن احتجاج لأن الأغلبية امل�سلمة‬ ‫يف نيجرييا حترمها الآن قدراتها املحدودة من قيادة البالد ولهذا‬ ‫ال�سبب و�أ�سباب متعلقة بف�ساد التعليم وف�ساد الإدارة انطلقت حركة‬ ‫احتجاج عنيفة (حركة بوكو حرام) التي تعترب التعليم احلديث‬ ‫وخريجيه هم �أ�س البالء الواجب ا�ستئ�صاله‪.‬‬ ‫‪ .8‬منذ عام ‪2006‬م ا�ستطاعت حركة حما�س �أن حتقق ن�صرا‬ ‫انتخابيا‪ .‬ولكن عنا�صر كثرية داخلية‪ ،‬و�إقليمية‪ ،‬ودولية ت�ضافرت‬ ‫لتحرمها من نتائج انت�صارها ولتحا�صرها ثم ويف ‪2008‬م تعر�ضت‬ ‫للهجوم الإ�سرائيلي امل�سلح عليها‪.‬‬ ‫ال ميكن قيا�س �أداء حما�س يف غزة باملقايي�س العادية ولكن‬ ‫يحمد لها ول�سائر ف�صائل املقاومة ال�صمود الرائع يف وجه العدوان‬ ‫واحل�صار‪ ،‬يحمد حلما�س �أنها و�صلت ال�سلطة ب�أ�سلوب دميقراطي‬ ‫و�صمدت يف وجه احل�صار والعدوان‪ ،‬و�إثبات �أن املقاومة الفل�سطينية‬ ‫رقم ال ميكن جتاوزه يف بناء امل�صري الفل�سطيني‪.‬‬

‫‪41‬‬


‫الإ�سالم والربيع العربي‬

‫الثورات العربية التي انطلقت من تون�س ثم م�صر وامتدت‬ ‫�إىل اليمن‪ ،‬و�سوريا‪ ،‬والبحرين‪ ،‬وليبيا تطلعات �شعبية قادها �شباب‬ ‫ب�أ�ساليب مبتكرة ولكنها يف زخمها ا�ستقطبت ال�شعوب وعربت عن‬ ‫كافة تطلعاتها يف الكرامة واحلرية‪ ،‬والعدالة‪ ،‬والتنمية‪ ،‬والت�أ�صيل‪.‬‬ ‫لقد لقيت التيارات الإ�سالمية من الطغاة عنتا �شديدا ف�صمدت‬ ‫و�صارت متثل عنا�صر قوية يف اخلريطة ال�سيا�سية يف البلدان‬ ‫العربية لذلك مهما كانت النظم التي �سوف تقيمها الثورات‬ ‫العربية ف�سوف تكون نظما تعرب عن حرية ال�شعوب وتطلعاتها‬ ‫وبالتايل هويتها الإ�سالمية‪.‬‬ ‫الإ�سالم ميثل يف كافة البلدان الإ�سالمية القوة احلائزة على‬ ‫�أكرب ر�صيد يف ر�أ�س املال االجتماعي‪ ،‬و�سوف جت�سد االنتخابات‬ ‫احلرة القادمة هذه احلقيقة‪ .‬وجدير بالقوى الإ�سالمية �أن تدرك‬ ‫التحدي الذي يواجهها ف�إن هي انتفعت بتجارب الآخرين ف�إنها‬ ‫�سوف حتر�ص على التعبري عن الإ�سالم ب�صورة حترتم حقوق‬ ‫املواطنة لغري امل�سلمني وحترتم حقوق الإن�سان ومطالب التنمية‬ ‫والعدالة االجتماعية وت�ؤ�س�س لعالقات دولية �سوية‪ .‬هذه املطالب‬ ‫قد بيناها يف م�ؤمتر طهران الأخري عن ال�صحوة الإ�سالمية‪.‬‬ ‫كذلك تناولناها تف�صيال يف كتاب �صدر هذا الأ�سبوع يف القاهرة‬ ‫بعنوان‪( :‬مالمح الفجر اجلديد)‪.‬‬ ‫خمالطة امل�سلمني لغريهم‬

‫لأول مرة يف التاريخ يوجد ثلث امل�سلمني ك�أقليات يف بلدان‬ ‫�أخرى هم مواطنون فيها ولن يهاجروا منها‪ ،‬ويف نف�س الوقت يقيم‬ ‫يف البلدان الإ�سالمية جماعات غري �إ�سالمية ال تقل يف املتو�سط‬ ‫عن ع�شر ال�سكان‪ ،‬وي�ساكن ال�سكان يف الأقطار املختلفة جماعات‬ ‫وطنية ذات انتماءات ثقافية و�إثنية خمتلفة من هوية الأغلبية‬ ‫الثقافية والقومية‪.‬‬ ‫�أعداء الإ�سالم يراهنون على حتويل وجود امل�سلمني ك�أقليات‬ ‫يف البلدان املختلفة �إىل قيتوهات معزولة ومنبوذة‪ .‬و�أن يحولوا‬ ‫اجلماعات الوطنية �إىل طابور خام�س يعب�أ بكل الو�سائل للعمل‬ ‫علي م�صائر انف�صالية بهدف متزيق البلدان‪.‬‬ ‫َ‬ ‫هّ‬ ‫ا�س �إِ ِيّن َر ُ�س ُ‬ ‫الل �إِ َل ْي ُك ْم‬ ‫ول ِ‬ ‫الإ�سالم دين عاملي‪ُ ( :‬ق ْل َيا �أَ ُّيهَا ال َّن ُ‬ ‫َجمِ ي ًعا)(‪ .)3‬واملقايي�س التقليدية يف التعامل مع غري امل�سلمني‬ ‫ك�أهل ذمة غري وارد لأن ه�ؤالء داخلون مع امل�سلمني يف عهود‬ ‫املواطنة‪ ،‬ولظروف ا�ستثني النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ن�صارى‬ ‫جنران من اجلزية‪ ،‬وكذلك فعل عمر ر�ضي اهلل عنه مع ن�صارى‬ ‫تغلب‪ ،‬ويف هذا ال�صدد قال القا�ضي �أبو يعلى‪� :‬إن العالقة القائمة‬ ‫على العهد ال توجب جزية �أ�صال‪.‬‬ ‫علينا احرتام حقوق املواطنة يف بالدنا و�إبرام مواثيق دينية‬ ‫وثقافية لكفالة حقوق الكافة‪.‬‬

‫قراءة عامة للم�صري الإ�سالمي‬

‫قال ابن القيم �إن واجب الفقيه هو معرفة الواجب والإحاطة‬ ‫بالواقع والتزاوج بينهما‪ .‬ف�إن �صح هذا يف ظروف غابرة فهو اليوم‬ ‫�أوجب الواجبات‪:‬‬ ‫�أوال‪ :‬العالقة االنكفائية بالآخر الإن�ساين مل تعد ممكنة يف عامل‬ ‫تداخلت فيه ظروف حياته لدرجة الت�شبيه بالقرية الواحدة‪،‬‬ ‫واالنكفاء �أ�صال غري وارد يف دين الإ�سالم الذي يخاطب الإن�سانية‬ ‫كافة والذي يعترب الكون كتاب اهلل املن�شور و�أن قوانني الطبيعة‬ ‫هي ال�سنن الكونية ( َر ُّب َنا ا َّلذِ ي �أَ ْع َطى ُك َّل َ�ش ْي ٍء َخ ْل َق ُه ُث َّم َهدَى)(‪،)4‬‬ ‫ال ْر َ‬ ‫�ض َومَا‬ ‫ال�س َما َواتِ َو ْ َ أ‬ ‫وعامل ال�شهادة من �أ�سمى �آيات (مَا َخلَ ْق َنا َّ‬ ‫َب ْي َن ُه َما ِ�إ اَّل ِبالحْ َ ِّق)(‪. )5‬‬ ‫من حيث اكت�شافات العلم التجريبي يف قوانني الطبيعة ‪،‬‬ ‫والنف�س الإن�سانية‪ ،‬وعلم االجتماع‪ ،‬والآثار وغريها‪ ،‬تلزمنا‬ ‫الهجرة الفكرية والتكنولوجية للح�ضارة احلديثة لأن ما فيها يف‬ ‫هذه املجاالت �ساهمنا يف اكت�شافها تاريخيا‪ ،‬ولأنها تتعلق بقوانني‬ ‫كلية يف الكون‪ .‬ولكن احل�ضارة احلديثة �أغفلت يف تطورها الغائية‪،‬‬ ‫والأبعاد الروحية‪ ،‬والأخالقية‪ ،‬والبيئية فهي يف �أ�شد احلاجة �إيل‬ ‫هجرة ح�ضارتنا يف هذه املجاالت لكي تنظر بعينني ال بعني واحدة‬ ‫للم�صري الإن�ساين ‪ .‬هكذا ميكن للإ�سالم �أن يقوم بدوره الر�سايل‬ ‫دينا للإن�سانية‪.‬‬ ‫ثانيا‪ :‬الأديان الأخرى يعيبها عدم االعرتاف للإن�سان بامل�ساواة‬ ‫الإن�سانية وعدم االعرتاف بالآخر امللي‪ .‬الإ�سالم وحده م�ؤهل‬ ‫يف هذا ال�صدد ملطالبة �أهل امللل ب�أن تعالوا �إىل كلمة �سواء بيننا‬ ‫نعرتف بالكرامة الإن�سانية ونعرتف بالتعددية الدينية ونعطي كل‬ ‫ذي حق حقه وندعو للحق ب�أ�سلوب (�أ ْد ُع �إِلىَ َ�س ِبيلِ َر ِّب َك ِبالحْ ِ ْك َم ِة‬ ‫َوالمْ َ ْوعِ َظ ِة الحْ َ َ�س َن ِة َو َجا ِد ْل ُه ْم بِا َّلتِي هِ َي �أَ ْح َ�س ُن)(‪.)6‬‬ ‫ثالثاً‪ :‬نقر جميعاً فيما يتعلق بعامل ال�شهادة جتربة البحث العلمي‬ ‫والتكنولوجي بال �أية قيود ملية �أو �أيديولوجية يف اكت�شاف‬ ‫وت�سخري �سنن الكون‪.‬‬ ‫رابعا‪ :‬مهما تعددت الن�صو�ص حول حقوق الإن�سان ندعو الكافة‬ ‫الحرتامها وهي تعود كلها �إىل خم�سة �أ�صول‪ :‬الكرامة‪:‬‬ ‫( َو َل َق ْد َك َّر ْم َنا َبنِي �آ َد َم)(‪ .)7‬احلرية‪َ ( :‬و ُقلِ الحْ َ ُّق مِ ن َّر ِّب ُك ْم َف َمن‬ ‫َ�ش�آ َء َف ْل ُي�ؤْمِ ن َومَن َ�ش�آ َء َف ْل َي ْك ُف ْر)(‪ .)8‬العدل‪�( :‬إِ َّن هَّ َ‬ ‫الل َي ْ�أ ُم ُر بِا ْل َعدْلِ‬ ‫ا�س �إِ َّنا َخلَ ْق َنا ُكم ِّمن َذ َكرٍ‬ ‫َوالإِ ْح َ�سانِ )(‪ .)9‬امل�ساواة‪ :‬يا ( َيا �أَ ُّيهَا ال َّن ُ‬ ‫الل‬ ‫َو�أُن َثى َو َج َع ْل َنا ُك ْم ُ�ش ُعو ًبا َو َق َبا ِئ َل ِل َت َعا َر ُفوا ِ�إ َّن َ�أ ْك َر َم ُك ْم عِ ن َد هَّ ِ‬ ‫�أَ ْت َقا ُك ْم)(‪ .)10‬وال�سالم‪َ ( :‬يا �أَ ُّيهَا ا َّلذِ َ‬ ‫ال�س ْل ِم‬ ‫ين �آ َم ُنواْ اد ُْخ ُلواْ فيِ ِّ‬ ‫َكا َّف ًة)(‪.)11‬‬

‫‪42‬‬


‫خام�ساً‪ :‬وال يليق بكرامة الإن�سان وحقوقه �إال نظام حكم يحقق ال�ضامن حلقوق ال�شعوب‪ ،‬وينبغي احلر�ص على عدم ربط الإ�سالم‬ ‫الرباعية الذهبية‪ :‬امل�شاركة‪َ ( :‬و�أَ ْم ُرهُ ْم ُ�شو َرى َب ْي َن ُه ْم)(‪ ،)12‬باال�ستبداد والف�ساد وحكم الإكراه ب�آلية االنقالب فقد قال عنه‬ ‫(الد ُ‬ ‫يح ُة‪ ،‬للِ هَّ ِ َو ِل ِك َتا ِب ِه َو ِل َر ُ�سو ِل ِه َو ِلأَ ِئ َّم ِة المْ ُ ْ�سلِمِ َ‬ ‫وامل�ساءلة‪ِ :‬‬ ‫ني ال�شيخ الألباين‪ :‬االنقالب ال �أ�صل له يف الإ�سالم وهو بدعة منكرة‪.‬‬ ‫ّين ال َّن ِ�ص َ‬ ‫َوعَا َّم ِت ِه ْم)(‪.)13‬وال�شفافية‪َ (:‬و َال َت ْل ِب ُ�سواْ الحْ َ َّق بِا ْل َباطِ لِ َو َت ْك ُت ُمواْ‬ ‫الحْ َ َّق َو�أَن ُت ْم َت ْعلَ ُمو َن)(‪ .)14‬وقوله تعاىل ( َو َال َت ْك ُت ُمواْ َّ‬ ‫اخلامتة‪...‬‬ ‫ال�شهَا َد َة َومَن‬ ‫َي ْك ُت ْمهَا َف�إِ َّن ُه �آ ِث ٌم َق ْل ُب ُه َو هَّ ُ‬ ‫�إن مو�ضوع الدولة الإ�سالمية احلديثة بني النظرية والتطبيق‬ ‫الل مِبَا َت ْع َم ُلو َن َعلِي ٌم)(‪ .)15‬و�سيادة حكم‬ ‫القانون‪( :‬لو �إن فاطمة بنت حممد �سرقت لأقمت عليها احلد)‪ .‬لي�س مترينا �أكادمييا بل هو من �أهم هموم الأمة ‪ .‬لذلك يرجى‬ ‫�ساد�سا‪� :‬إقامة االقت�صاد على التنمية‪( :‬هُ َو �أَ َ‬ ‫ن�ش�أَ ُكم ِّم َن ا َلأ ْر ِ�ض التنادي مل�ؤمتر جامع لدرا�سة تراث املفارقة بني التنظري والتطبيق‬ ‫َو ْا�س َت ْع َم َر ُك ْم فِيهَا)(‪ ،)16‬والرعاية االجتماعية‪�(:‬أَ َر َ�أ ْيتَ ا َّلذِ ي ُي َك ِّذ ُب يف تاريخنا ال�سيا�سي القدمي واحلديث بهدف ا�ستخال�ص الدرو�س‬ ‫ّين * َف َذل َِك ا َّلذِ ي َي ُد ُّع ا ْل َيتِي َم * َوال َي ُح ُّ‬ ‫�ض َعلَى َط َعا ِم المْ ِْ�س ِكنيِ) وو�ضع البو�صلة الهادية لتوجهات امل�سلمني‪ .‬فالإ�سالم اليوم هو‬ ‫ب ِ‬ ‫ِالد ِ‬ ‫القوة العاملية الثقافية الكربى وهو كذلك يف البلدان الإ�سالمية‬ ‫(‪.)17‬‬ ‫�سابعاً‪ :‬معاين اجلهاد وا�سعة بدءاً من جهاد النف�س �إىل اجلهاد القوة االجتماعية الأكرب ‪ .‬هذه القوة الواعدة تتطلع ملن يقومون‬ ‫بالكلمة ( َفال ُتطِ ِع ا ْل َكا ِفر َ‬ ‫ريا)(‪� )18‬أي ببلورتها لأنه �سبحانه وتعاىل يحث على ذلك بقوله ( َو ْل َت ُكن ِّمن ُك ْم‬ ‫ِين َو َجاهِ دْهُ م ِب ِه جِ هَادًا َك ِب ً‬ ‫القران‪ .‬والقتال الدفاعي‪�( :‬أُ ِذ َن ِل ّلَذِ َ‬ ‫ين ُي َقا َت ُلو َن ِب َ�أ َّن ُه ْم ُظ ِل ُموا َو�إِ َّن �أُ َّم ٌة َي ْدعُو َن �إِلىَ الخْ َ يرْ ِ)(‪ ،)21‬وقوله تعاىل ( َف�إِن َي ْك ُف ْر ِبهَا َه�ؤُالء‬ ‫هَّ َ‬ ‫الل َعلَى َن ْ�صرِهِ ْم َل َقدِ ي ٌر)(‪ .)19‬على �أن تقوم العالقات الدولية على َف َق ْد َو َّك ْل َنا ِبهَا َق ْو ًما َّل ْي ُ�سواْ ِبهَا ِب َكا ِفر َ‬ ‫ِين)(‪.)22‬‬ ‫العدل وال�سالم والتعاون‪( :‬ال َي ْنهَا ُك ُم هَّ ُ‬ ‫الل ع َِن ا َّلذِ َ‬ ‫ين لمَ ْ ُي َقا ِت ُلو ُك ْم وعلى اهلل ق�صد ال�سبيل‪.‬‬ ‫ّين َولمَ ْ ُي ْخر ُِجو ُكم ِّمن ِد َيا ِر ُك ْم �أَن َتبرَ ُّ وهُ ْم َو ُت ْق�سِ ُطوا �إِ َل ْي ِه ْم �إِ َّن‬ ‫فيِ ِ‬ ‫الد ِ‬ ‫هَّ َ‬ ‫الل يُحِ ُّب المْ ُ ْق�سِ طِ َ‬ ‫ني)(‪)20‬‬ ‫ثامناً‪ :‬الأحكام قطعية الداللة ملزمة‪ ،‬ولكن �إقامتها تعتمد على‬ ‫اجتهاد مقا�صدي ي�ست�صعب‪ :‬املقا�صد‪ ،‬العقل‪ ،‬امل�صلحة‪ ،‬الإلهام‪،‬‬ ‫الـهــوامــــــ�ش‬ ‫ال�سيا�سة ال�شرعية‪ ،‬احلكمة‪ ،‬ويراعي فقه الأولويات على �أن متنع‬ ‫(‪� )1‬سورة ال�شورى‪� :‬آية ‪38‬‏‬ ‫(‪� )2‬سورة التغابن الآية (‪)16‬‬ ‫فو�ضى الفتاوى الفردية ويقام االجتهاد امل�ؤ�س�سي‪.‬‬ ‫(‪� )3‬سورة الأعراف الآية (‪)158‬‬ ‫تا�سعاً‪ :‬وحدة �أهل القبلة هدف جامع ويتطلب االعتدال‪ ،‬لأنه (‪� )4‬سورة طه الآية (‪)50‬‬ ‫(‪� )5‬سورة الأحقاف الآية ‪3‬‬ ‫�إذا كانت ال�سنة هي �إتباع �سنة حممد �صلى اهلل عليه و�سلم فكل (‪� )6‬سورة النحل الآية ‪125‬‬ ‫(‪� )7‬سورة الإ�سراء الآية ‪70‬‬ ‫امل�سلمني �أهل �سنة‪ ،‬و�إذا كان الت�شيع هو حب �آل بيت النبي �صلى (‪� )8‬سورة الكهف الآية ‪29‬‬ ‫(‪� )9‬سورة النحل الآية (‪)90‬‬ ‫اهلل عليه و�سلم فكل امل�سلمني �شيعة‪ ،‬و�إذا كان الت�صوف يعني �أن (‪� )10‬سورة احلجرات الآية ‪.13‬‬ ‫(‪� )11‬سورة البقرة الآية (‪)208‬‬ ‫لأحكام الإ�سالم �أغوارا روحية‪ :‬فكل امل�سلمني �صوفية‪ ،‬ما عدا ذلك‬ ‫(‪� )12‬سورة ال�شورى‪� :‬آية ‪38‬‏‬ ‫من �إ�ضافات لدى الفرق �إ�ضافات مذهبية ال تلزم الآخرين‪� .‬أما (‪� )13‬صحيح م�سلم يف كتاب الإميان‪.‬‬ ‫(‪� )14‬سورة البقرة الآية (‪)42‬‬ ‫املذاهب الفقهية فهي بناءات اجتهادية ال ي�ضري تعددها ما دامت (‪� )15‬سورة البقرة الآية (‪)283‬‬ ‫(‪� )16‬سورة هود الآية ‪.61‬‬ ‫غري ملزمة لغري �أ�صحابها‪ .‬بهذه اخللفية ميكن العمل على تكوين (‪� )17‬سورة املاعون الآيات من ‪.3-1‬‬ ‫(‪� )18‬سورة الفرقان الآية (‪)52‬‬ ‫(‪� )19‬سورة احلج الآية ‪39‬‬ ‫منظومة دولية �إ�سالمية‪.‬‬ ‫(‪� )20‬سورة املمتحنة الآية (‪)8‬‬ ‫عا�شراً‪ :‬يف كل احلاالت ينبغي عدم رفع ال�شعار الإ�سالمي ل�سلب (‪� )21‬سورة �آل عمران الآية (‪)104‬‬ ‫(‪� )22‬سورة الأنعام الآية (‪)89‬‬ ‫حقوق ال�شعوب‪ ،‬بل احلر�ص على �أن يكون ال�شعار الإ�سالمي هو �ألقاها خالل حفل نظمته وزارة الثقافة يف قاعة ال�صداقة ‪ 2011/10/4‬احتفاء باملفكر �أ ‪ .‬د‪ .‬عبد احلليم عوي�س‬ ‫وال�شاعر الدكتور‪ :‬عبد اهلل با�شراحيل‬

‫‪43‬‬


‫التقريب بين المسلمين ‪....‬‬ ‫دور الدولة والمجتمع وأهل العلم‬ ‫الكالم يف التقريب بني املذاهب الإ�سالمية‪� ،‬أو بني �أهلها‪ ،‬بني‬ ‫امل�سلمني‪ ،‬و�أحيانا بني �أهل املذهب الواحد عندما يفرق بينهم �آمر �آخر‪،‬‬ ‫�سيا�سي مث ً‬ ‫ال‪ ،‬وي�صبح هناك خطر جراء ميل كل طرف اىل تغطية‬ ‫خ�صومته �أو �صراعه مع الطرف الآخر‪ ،‬باملذهب‪� ،‬أي باملتحقق من الدين‬ ‫يف املذهب‪ .‬هذا الكالم‪ ،‬تفريع على الكالم عن االختالف‪ ،‬واحلاجة اىل‬ ‫التقريب‪ ،‬ت�شتد كلما دفع االختالف‪ ،‬من خارج الدين بالطبع‪ ،‬اىل مقام‬ ‫اخلالف‪ ،‬حيث يلتب�س ما هو من خارج الدين بالدين‪ ،‬لي�ضر بالدين‬ ‫واملتدينني‪ .‬هذا وان االختالف بذاته لي�س م�شكلة‪ ،‬بل هو حل �أو م�شروع‬ ‫حل للم�شكلة‪ ،‬م�شكلة البعد الواحد يف املعرفة وال�سلوك واالجتماع‪ ،‬ما‬ ‫يعني عطالة وبطالة يف املعرفة ويف احلياة‪ .‬والدين يف الأ�صل �أطروحة‬ ‫حياة واحياء ( َيا �أَ ُّيهَا ا َّلذِ َ‬ ‫ين �آ َم ُنوا ْا�س َتجِ ي ُبوا للِهَّ ِ َولِل َّر ُ�سولِ �إِ َذا َدعَا ُك ْم لمِ َا‬ ‫ُي ْحيِي ُك ْم َو ْاعلَ ُموا �أَ َّن اللهَّ َ َي ُح ُ‬ ‫ول َبينْ َ المْ َ ْر ِء َو َق ْل ِب ِه َو�أَ َّن ُه �إِ َل ْي ِه تحُ ْ َ�ش ُرو َن )‬ ‫(الأنفال‪.)24 :‬‬ ‫�إىل ذلك‪ ،‬فان الوحدة ال�شاملة والتامة‪ ،‬ان �أمكنت‪ ،‬وال ندري‬ ‫كيف وملاذا؟ هي اذابة للمتعدد يف واحد‪ ،‬او للمتعدد احلقيقي يف واحد‬ ‫افرتا�ضي‪ ،‬والواحد يف هذه احلال هو �أحد الأطراف‪ ،‬يتغلب على البقية‬ ‫فت�صبح واحداً‪� ،‬أو هو الواحد امل�ؤتلف �أو امللفق من املجموع‪ ،‬وذلك كله‬ ‫يفرت�ض لتحقيقه عنفاً مادياً ومعنوياً‪ ،‬مبا�شراً (ج�سدي بالقتل)‪،‬‬ ‫�أو غري مبا�شر (بالقمع واملنع)‪ ..‬وبالطبع فانه ي�ستتبع عنفاً ينفجر‬ ‫عندما يكف الطرف املهيمن (املوحد قهراً)‪ ،‬عن فر�ض هيمنته ل�ضعف‬ ‫طارئ‪ ،‬يطر�أ دائماً‪ ،‬او عندما يبلغ الغاء املهيمن عليه بداعي الوحدة‪،‬‬ ‫التي هي بالواقع م�صادرة‪ ،‬عندما يبلغ هذا االلغاء درجة غري قابلة‬ ‫لالحتمال‪ ،‬اما الوحدة باملعنى املنهجي وااليجابي واملمكن واملطلوب‪،‬‬ ‫فهي حفظ التعدد بالوحدة واغناء الوحدة‪ ،‬اي ادامة حيويتها بالتعدد‪،‬‬ ‫من هنا‪ ،‬يرقى االختالف يف ن�صو�صنا الت�أ�سي�سية‪ ،‬كتاباً و�سنة‪ ،‬وكتاباً‬ ‫باخل�صو�ص‪ ،‬اىل م�ستوى الداللة والبيئة على وحدة اخلالق وعظمة‬ ‫ا�س �أُ َّم ًة َواحِ َد ًة َو اَل َي َزا ُلو َن‬ ‫املدبر وح�سن التدبري( َو َل ْو َ�شا َء َر ُّب َك لجَ َ َع َل ال َّن َ‬ ‫ل َّنَ‬ ‫َ‬ ‫مخُ ْ َت ِل ِف َ‬ ‫ني �إِ اَّل َمنْ َرحِ َم َر ُّب َك َو ِل َذل َِك َخلَ َق ُه ْم َوتمَ َّ تْ َك ِل َم ُة َر ِّب َك َ أل ْم َ أ‬ ‫َ‬ ‫ا�س �أ ْج َم ِع َ‬ ‫ني )(هود‪ .)119- 118 :‬ما الذي يدفع‬ ‫َج َه َّن َم مِ َن الجْ ِ َّن ِة َوال َّن ِ‬ ‫االختالف اىل مقام اخلالف؟ ليحول ا�ستقطاب الوحدة يف املتعدد اىل‬

‫هاين فح�ص‬

‫ا�ستقطاب التقابل احلاد واملفا�صلة احلامية‪ ،‬اي تبادل االلغاء معرفة‬ ‫ووجوداً‪ ،‬اي التكفري ثم القتل؟‬ ‫تقديري انه ما من حالة ح�ضارية �سالبة (الفرقة والف�صال) �أو‬ ‫موجبة (التقارب) اال وهي باعتبارها مركبة اجناز م�شرتك‪� ،‬أو ارتكاب‬ ‫م�شرتك‪ ،‬ل�شركاء يقع يف مقدمهم الدولة واملجتمع والطليعة العلمية‬ ‫والثقافية املت�صلة املو�صولة مبتحداتها االجتماعية‪ ،‬مبا مينع حتولها‬ ‫اىل نخبة منف�صلة‪ ،‬اي انف�صال العالمِ عن العالمَ ‪ ،‬وهذا االت�صال‬ ‫يحقق اجنازا موجباً (تقارب) او ارتكا�سا �سالبا (تفرقة) بقدر ما يكون‬ ‫حمكوماً مبنهجية علمية ملتزمة ب�أنظمة قيم متنعها من انتاج املعرفة‬ ‫على مقت�ضى الع�صبية او املزاج‪ ،‬مزاج اجلماعة الدينية التي يتي�سر لها‬

‫‪44‬‬


‫درجة من القوة جتعلها يف موقع احلكم او الغلبة‪ ،‬فت�ست�أثر ومتنع وال‬ ‫ت�شارك اجلماعات الأخرى يف حركة العلم بناء على امل�شرتك‪� ،‬أو مزاج‬ ‫اجلماعة التي تعزل فتنعزل‪ ،‬وتنتج من �أجل متا�سكها يف مواجهة‬ ‫االلغاء فكراً وفقهاً انعزالياً ذا عالقة برانية بنظام املعرفة الديني �أو‬ ‫اال�سالمي حتديداً على ا�سا�س ان العالقة املنهجية العميقة تخفف‬ ‫من انتاج الأحكام بناء على مزاج اجلمهور‪ ،‬وان كانت وظيفة الفقيه ان‬ ‫ينتج ل�صالح هذا اجلمهور دائماً ل�ضبط �سلوكه ومنع الفو�ضى‪ .‬ولكن‬ ‫اخل�ضوع للمزاج العام �أمر �آخر‪ .‬وهكذا جند ان كثرياً من علماء املذاهب‬ ‫اال�سالمية قد انتجوا يف فقه العبادات احكاماً تختلف عن الأحكام التي‬ ‫انتجوها يف ظرف خمتلف‪ ،‬فااللغاء الذي مار�سته الدولة يف عهود‬ ‫خمتلفة‪ ،‬عهود الرتاجع‪� ،‬أدى اىل �إحلاح الأطراف الدينية املق�صية اىل‬ ‫حركة فقه متايزي‪ ،‬خمالفة بذلك تراثها‪ ،‬ل�سبب يكاد يكون وحيداً وهو‬ ‫ان هذا الفقه االندماجي ال ي�ساعد على ا�شباع النزوع اىل االحتماء‬ ‫بالذات يف مقابل التهمي�ش‪.‬‬ ‫وظيفة الدولة‬ ‫اذا ما قررت الدولة ان تقوم بوظيفتها كحا�ضن‪ ،‬فانها ت�صغي‬ ‫ملجتمعها وطليعته العلمية‪ ،‬بداعي ال�شراكة‪ ،‬فتكون بذلك قد ا�ستحقت‬ ‫و�ألزمت جمتمعها وطليعته باال�صغاء لها‪ ،‬اي اقامة العالقة على‬ ‫احلوار‪ ،‬الذي يجعل الدولة تتب�صر يف تعدد اجتماعها‪ ،‬وتتلم�س عالقاته‬ ‫يف تكوينها‪ ،‬فان تراجع من�سوبه‪ ،‬تراجع دورها وفعلها‪ ،‬وان تقدم هذا‬ ‫املن�سوب التعددي‪ ،‬تقدمت الدولة واملجتمع معاً‪ ،‬اذن فال بد للدولة ان‬ ‫تن�شط �أواليات احلوار واالندماج‪ ،‬ما يوفر لها حراكاً يحفظها ويجددها‬ ‫ك�ضرورة اجتماع‪ ،‬بالوالء والنقد معاً‪ ،‬ومينع االعرتا�ض عليها من‬ ‫ان يتحول اىل �سعي لنق�ضها او تقوي�ضها‪ .‬وعندما تختار الدولة ان‬ ‫تنف�صل عن اجتماعها‪ ،‬تكف عن اال�صغاء‪ ،‬فيكف االجتماع عن اال�صغاء‬ ‫لها‪ ،‬فاذا ما كابرت الدولة‪ ،‬ردت باال�شتغال على تظهري وتعميق الفوارق‬ ‫بني مكونات اجتماعها وطالئعه العلمية‪ ،‬لتجد مكانها ومكانتها يف‬ ‫ال�سجال الذي ي�ؤول اىل ال�صراع الأهلي‪ ،‬مغرياً املجتمع باال�ستقواء على‬ ‫الدولة جراء ا�ستقوائها عليه‪ .‬ويف العادة ان الدولة ت�ستثمر الفوارق‬ ‫الكمية يف مكونات اجتماعها‪ ،‬فتغري الأغلبية مبوافقتها على �أنها‪-‬‬ ‫�أي الدولة‪ -‬هي حافظة م�صاحلها‪ ،‬ما يغري حاالت �أقلوية‪ ،‬ان تتذرع‬ ‫بفكر �آخر (قومي مثال �أو مذهبي �أو حزبي)‪ ،‬لتغري جماعتها بالهيمنة‬ ‫واال�ستئثار وتهمي�ش الأغلبية‪ ،‬وهذه احلالة تختزن عنفاً م�ضاعفاً‬ ‫عندما تنقلب الأمور‪ ،‬التي تنقلب عادة‪ ،‬وان طال الزمان‪.‬‬ ‫اذن‪ ،‬فالدولة ا�سا�س يف م�س�ألة التقارب �أو التقريب‪ ،‬وال�شرط عليها‪،‬‬ ‫�أو لها والجتماعها‪ ،‬ان ترعى حركة التقارب‪ ،‬فتمنحها حريتها الكاملة‪،‬‬ ‫وت�ساعدها على ت�شغيل وجتديد طرائقها العلمية‪ ،‬من دون اهداف‬ ‫�سيا�سية �أو �سلطوية مبا�شرة واختزالية تف�ضي اىل امل�صادرة والتعطيل‪،‬‬

‫وهذا لي�س دعوة اىل التن�صل من ال�سيا�سة‪ ،‬او اق�صاء الدولة‪ ،‬يف حيز‬ ‫ما‪ ،‬عن �ش�أنها ال�سيا�سي‪ ،‬الذي هو �أهم وظائفها‪ ،‬بل �إن بامكان الدولة‬ ‫ان تتحول اىل حا�صد �سيا�سي ماهر‪ ،‬بقدر ما ت�سهم يف رعاية وحماية‬ ‫الزرع والزراع‪.‬‬ ‫اقول قويل هذا‪ ،‬وانا مفرت�ض ان االميان يجمع اجلميع‪ ،‬واال فماذا‬ ‫يفعل االميان ان مل يجمع؟ واذا ما فرقنا االميان‪ ،‬فما ومن الذي‬ ‫يجمعنا؟ ان الذي يفرقنا هو غري االميان‪� ،‬أو �أننا ال نتفرق ونحرتب‬ ‫ونحن م�ؤمنون‪ ،‬وهذا لي�س تكفريا‪ ,‬هذا انتباه اىل ان االميان يف حلظة‬ ‫من حلظات التوتر يلتب�س بغريه‪ ،‬ال يزول بكامله‪ ،‬النه مركب‪ ،‬ولكن‬ ‫املقدار الباقي منه ال يعود بامكانه ان يهيمن‪ ،‬اي ان مينع‪ ،‬اي ان يجمع‪.‬‬ ‫�إذن‪ ،‬فف�ضاء الإميان �أرحب و�أرحم من اقبية الع�صبيات ودهاليز ال�سيا�سة‬ ‫و�أنفاق ال�سلطة مبعناها احل ْريف واحل َريف‪ ،‬ونحن نفرت�ض ان هذا‬ ‫االميان‪ ،‬يتمظهر يف فكر و�سلوك توحيدي وحدوي‪ ،‬ما يحقق الوحدة‬ ‫كمعادل مو�ضوعي للتوحيد بالن�ص القر�آن( َو�إِ َّن هَذِ ِه �أُ َّم ُت ُك ْم �أُ َّم ًة َواحِ َد ًة‬ ‫َو�أَ َنا َر ُّب ُك ْم َفا َّت ُقونِ )(امل�ؤمنون‪ )52 :‬وما يعني‪ ،‬ان الوحدة والتوحيد‪،‬‬ ‫�أ�شبه باملت�ضايفني اللذين ي�شكل االميان �شرطهما‪ ،‬او ملكتهما‪ ،‬ح�سب‬ ‫امل�صطلح املنطقي‪ ،‬هذا يف حني ان هناك �شواهد كثرية يف التاريخ‪،‬‬ ‫يف اجتماع �أهل الباطل‪ ،‬او امل�شركني يف مقابل تفرق �أهل التوحيد‬ ‫وامل�ؤمنني‪ ،‬غري انه‪ ،‬وح�سب �شهادة التاريخ‪ ،‬تبقى وحدة �أهل الباطل‬ ‫عار�ضة‪ ،‬وان طال �أمدها وتبقى فرقة �أهل االميان والتوحيد واحلق‬ ‫عار�ضة‪ ،‬وان طال امدها‪ ،‬وهذه لي�ست دعوة اىل الطم�أنينة والك�سل‪،‬‬ ‫لأن اخل�سائر التي ترتتب على �صراع اهل احلق واالميان باهظة‪� ،‬سواء‬ ‫طال الزمان بها �أم ق�صر‪ ،‬من هنا‪ ،‬فان تكليفنا احل�ضاري والديني‬ ‫واالن�ساين‪ ،‬ان نقلل‪ ،‬ان مل يكن مبقدورنا ان نلغي‪ ،‬ال�صراعات البينية‪،‬‬ ‫بني �أهل االميان‪ ،‬ونقلل من ب�شاعتها وتطاولها ان ح�صلت‪ ،‬ونعمد دائماً‬ ‫اىل �صناعة الت�سويات بالتنازالت امل�شرتكة‪ ،‬لأن اخل�سائر التي ترتتب‬ ‫على التنازل يف هذه احلالة‪ ،‬هي �أقل بكثري من اخل�سائر التي ترتتب‬ ‫على النزاع �أو ال�صراع‪ ،‬والتي ال ي�سلم منها طرف من الأطراف‪ ،‬والتي‬ ‫تعود فيها امل�صالح املتحققة‪� ،‬إن حتققت‪ ،‬اىل �أ�شرار الأطراف واجلماعات‬ ‫واملذاهب والطوائف والأديان‪.‬‬ ‫ولعلنا مع دولتنا احلديثة‪ ،‬وبعدما �أدى تق�صريها بوظائفها العامة‪،‬‬ ‫وتطورها يف �أدائها اىل تهديد فكرتها ووجودها بعدما ه ّز موقعها‪ ،‬لعلنا‬ ‫نعود معاً اىل �سياق تكاملي خمتلف‪ ،‬تفادياً لال�ستحقاقات الباهظة‬ ‫واملدمرة‪ ،‬والتي تتالقى على انزالها بنا مطامع اخلارج والطموحات‬ ‫املري�ضة يف الداخل‪ ،‬والتي ال يعفينا التطرف املرتتب عليها من‬ ‫م�س�ؤوليتنا دولة وجمتمعاً ودولة او ًال عن دفعها اىل واجهة امل�شهد‬ ‫و�صو ًال ب�أعماقه التي تبد�أ من انف�صال الدولة عن اجتماعها وال تنتهي‬ ‫يف �أنظمتنا الرتبوية التي و�ضعتها الدولة وارت�ضاها املجتمع وزاد‬

‫‪45‬‬


‫على عوامل انتاج التطرف فيها عوامل �أخرى ت�أتي من ت�صور غري‬ ‫عادل وغري علمي وغري ثابت يف موروثنا‪ ،‬ت�صور ح�صرية اخلال�ص يف‬ ‫اجلماعة دون غريها من اجلماعات‪.‬‬ ‫�إذن‪ ...‬لعلنا مع دولنا بعدما و�صلت النريان اىل خمادعها ال�سلطوية‪،‬‬ ‫على الطريق نحو �إزالة االلتبا�سات‪ ،‬من �أجل حتقيق ال�شراكة على‬ ‫مف�صل مع�ضل يهدد جمموع م�صاحلنا و ُيعدنا لال�ستحواذ علينا هذه‬ ‫املرة‪ ،‬ب�شكل �أق�سى و�أو�سع و�أبعد من كل ما ح�صل حتى الآن‪ ،‬وعلى‬ ‫الطريق ال بد له‪� ،‬أي املف�صل‪ ،‬من ان يخلخل ن�صاب �شراكتنا يف امل�شرتك‬ ‫الأعظم بيننا‪ ،‬اي االميان‪� ،‬أو اال�سالم كثقافة جامعة ال بد ان تكون‬ ‫مانعة منيعة وممانعة‪ ،‬اي عا�صمة مبا هو حبل اهلل هو املعت�صم ومبا‬ ‫هي الكرثة‪� ،‬أي الوحدة‪ ،‬عا�صمة للقلة‪ ،‬ومبا هو التفرق تفتيت للع�صمة‪.‬‬ ‫اخليار الو�سطي‬ ‫يح�سن بنا �أن ن�ستعيد مثاالتنا من ما�ضينا امل�شرتك‪ ،‬بدل ان ن�ستعيد‬ ‫�أ�ساليب من هذا املا�ضي او املفرق وك�أنه النمط املالئم او امللزم لنا يف‬ ‫ما ن�ستقبل من ا�ستحقاقاتنا‪ ..‬ويف العهد الرا�شدي التعددي الوحدوي‪،‬‬ ‫والذي كانت امل�شاركة هي التي حتكم م�ساره‪ ،‬لتجعل القطيعة �أو املقاطعة‬ ‫جمرد وجهة نظر‪ ،‬جمرد ر�أي ال يلبث ان ين�سحب اىل الوراء عندما‬ ‫تتقدم م�صالح امل�سلمني على غريها‪ .‬كان علي بن ابي طالب ر�ضي‬ ‫اهلل عنه ي�ؤثر العام على اخلا�ص من دون جماملة "لأ�سلمن ما �سلمت‬ ‫علي خا�صة" وهذا يف�ضي بنا اىل‬ ‫امور امل�سلمني ومل يكن فيها جور �إال َّ‬ ‫م�شرتك مركزي يف الدائرة اال�سالمية‪� ،‬أعني �أهل البيت ر�ضي اهلل‬ ‫عنهم الذي كلفنا اهلل يف كتابه مبودتهم كفاء ما هدانا على يد �سيدهم‬ ‫و�سيدنا ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم وهم الذين �آثروا الو�سطية‬ ‫موقعاً لهم حفظاَ ملركزيتهم يف نظام القيم اال�سالمية ولدورهم اجلامع‬ ‫لكل الأطراف‪ ،‬ما جعلهم يبنون عالقتهم بال�سلطة على م�سلكية ترجح‬ ‫الدعوة على ال�سلطة‪.‬‬ ‫نظر االمام علي بن مو�سى الر�ضا ر�ضي اهلل عنه للخيار الو�سطي‬ ‫امل�س�ؤول بقوله‪" :‬نحن �آل حممد النمط الو�سطي‪ ،‬الذي ال يدركنا‬ ‫الغايل وال ي�سبقنا التايل"‪ ،‬ويعقب �أحد العلماء على هذا القول بقوله‪:‬‬ ‫�أعلم �أن النمط الأو�سطي ينبغي ان يكون جامعاً بني الطرفني" ان‬ ‫الذي يقوم يف الو�سط‪ ،‬يرى اىل كل الأطراف‪ ،‬يرى ما فيها من حقائق‬ ‫ولديها من حق وعليها من حق‪ ،‬منطلقاً من تعددية املعرفة وتركيب‬ ‫احلقيقة‪ ،‬فمن �أراد مزيداً من احلقيقة‪ ،‬فما عليه اال ان يعرتف الآخر‬ ‫بحقه وما لديه من حقيقة‪ ،‬وبحاجته اىل ما يف يد الآخر من حقائق‬ ‫ومن حقوق‪ ،‬واال تناق�ض او ت�آكل خمزونه االمياين مهما يكن باذخاً‪،‬‬ ‫وتراجع مدخوله من احلقائق مهما يكن جمتهداً يف طلب العلم‪ .‬بعد‬ ‫الدولة‪ ،‬وهذا لي�س ترتيباً طولياً لأن الدولة واملجتمع‪ ،‬يف عر�ض واحد‪،‬‬

‫بعد الدولة‪ ،‬هناك االجتماع العام‪ ،‬اال�سالمي �أو العربي �أو الوطني‪،‬‬ ‫وموحدة ال تنفي التعدد‪ ،‬وال ت�شرتط‬ ‫موحدة‬ ‫ِّ‬ ‫وهذه كلها مفاهيم َّ‬ ‫"الدولة الأمة" كتحقيق لوحدتها املتحدرة واملتجذرة يف التوحيد‪ ،‬لأن‬ ‫وحدة االجتماع الوطني واال�سالمي والعربي‪ ،‬وبن�سب متفاوتة‪ ،‬باجلعل‬ ‫ا�س �إِ َّنا َخلَ ْق َنا ُك ْم مِ نْ‬ ‫االلهي �أو ًال‪ ،‬والتطور التاريخي ثانياً ( َيا �أَ ُّيهَا ال َّن ُ‬ ‫َذ َك ٍر َو�أُ ْن َثى َو َج َع ْل َنا ُك ْم ُ�ش ُعو ًبا َو َق َبا ِئ َل ِل َت َعا َر ُفوا �إِ َّن َ�أ ْك َر َم ُك ْم عِ ْن َد اللهَّ ِ �أَ ْت َقا ُك ْم‬ ‫ري )(احلجرات‪ )13:‬هذه الوحدة قائمة يف العمق‪ ،‬تتقدم‬ ‫�إِ َّن اللهَّ َ َعلِي ٌم َخ ِب ٌ‬ ‫مظاهرها وترتاجع بفعل النزاعات على �أنظمة امل�صالح‪ ،‬ولكنها تبقى‬ ‫را�سخة وتبلغ �أوج التعبري عنها يف املفا�صل وامام الق�ضايا والأحداث‬ ‫الكربى وعليه فعندما تتعدد الدول من دون رغبة او موافقة على‬ ‫التعدد املفتعل وال�ضار‪ ،‬الذي حدث يف انف�صال بنغالد�ش عن باك�ستان‪،‬‬ ‫وال حتى انف�صال باك�ستان عن الهند‪ ،‬عندما تتعدد الدول الوطنية‪ ،‬ال‬ ‫يبقى �سائغاً وال جائزاً ان ي�ستقيل املت�شبثون بالوحدة‪ ،‬من اجناز دولهم‬ ‫الوطنية كاملة مطالبة وم�ؤثرة بتكاملها مع غريها‪ ..‬متذرعني ب�أولوية‬ ‫"الدولة الأمة"‪.‬‬ ‫�إن اجتماعنا لو ترك و�ش�أنه‪� ،‬أي من دون �سيا�سة حزبية تقوم على‬ ‫التع�صيب‪ ،‬وتطلب ال�سهولة يف ذلك‪ ،‬فتجد املكون املذهبي ناجزاً وجاهزاً‪،‬‬ ‫او هي التي تعيد جتهيزه فت�ستح�ضر الفوارق الطبيعية؛ تبعثها بذهنية‬ ‫وخطاب ف�صايل او �سجايل‪ ،‬وت�ستولدها‪ ،‬تولد منها‪ ،‬طوعاً �أو ق�سراً‪ ،‬اي‬ ‫اعتماداً على مناطق رخوة يف منظومتها العقدية الفقهية‪ ،‬فوارق اخرى‬ ‫او تلج�أ اىل املوروث التاريخي ت�ستدعي منها االنك�سارات التي ح�صلت‬ ‫بفعل عوامل خارجية وم�ؤثرات �سيا�سية عمدت اىل ت�ضخيم الفوارق‬ ‫وتفجريها‪ ،‬وتذهب اىل �صناعة التمايزات طلباً للفرقة‪..‬‬ ‫�إن حممولنا التاريخي‪ ،‬ال�سيا�سي منه بامتياز‪ ،‬نحرتمه‪ ،‬وحتى عندما‬ ‫ننقده‪ ،‬ال لنقو�ض‪ ،‬بل مقدمة لنقد احلا�ضر وامل�ستقبل الذي نريد �أن‬ ‫ن�ستقبله‪ ،‬ف�إذا ما �أحلناه على املا�ضي كما هو‪� ،‬أي من دون تب�صر �أو نقد‪،‬‬ ‫ف�إننا نكون قد �شرعنا يف ا�ستقبال املا�ضي‪ ،‬وهذا عدوان على املا�ضي‪ ،‬ما‬ ‫يعني �أن ن�ستدبر م�ستقبلنا‪ ،‬وهذا عدوان على امل�ستقبل وعلى كل �شيء‪.‬‬ ‫�إذن فهذا املوروث ال بد من جتميد بع�ض فعالياته‪� ،‬إذا ما �أردنا �أن ننجز‬ ‫م�ستقبلنا ال�صعب‪ ،‬واملحا�صر بالأ�سئلة‪ ،‬والذي ال �سبيل اىل التخفيف‬ ‫من �صعوبته �إ ّال �أن نتوا�ضع �أو نتواط�أ على �إجنازه معاً‪ ،‬ومن دون ذلك‬ ‫�سوف يكون منقو�صاً‪� ،‬أو لن يكون �أبداً‪� ..‬إن الت�شبث باملا�ضي يحيل‬ ‫املا�ضي عدة ال واحداً‪� ،‬أي �أنه ير�سخ ال�صورة النمطية لكل طائفة منا‬ ‫عن ذاتها وعن الطائفة الأخرى‪ ،‬ونعود اىل ال�سرية يف اخرتاع منظومة‬ ‫�أيديولوجية حممولة على الدين مو�صولة به �شك ً‬ ‫ال ال م�ضموناً‪ ،‬من‬ ‫�أجل تربير ف�صالنا وقطائعنا‪ ،‬ما ال ي�ؤدي �إ ّال اىل مزيد من دفع غاللنا‬ ‫اىل طواحني �أعدائنا الذين يحولون هذه الغالل �إىل اغالل‪.‬‬

‫‪46‬‬


‫�شرط احلرية‬ ‫�إن جمتمعنا �أو جمتمعاتنا العربية والإ�سالمية والوطنية‪ ،‬لو تركت‬ ‫بذاتها لذاتها‪ ،‬ف�إنها م�ؤهلة لأن تعيد با�ستمرار اكت�شاف قيمها امل�شرتكة‬ ‫وم�صاحلها امل�شرتكة‪ ،‬لت�ؤ�س�س عليها‪ ،‬وتعيد ت�أ�سي�س عي�شها امل�شرتك‪،‬‬ ‫الذي يقوم على املعرفة امل�شرتكة والتعارف واالعرتاف املتبادل‪ ،‬وتكامل‬ ‫املختلف وحيوية وقوة امل�ؤتلف‪ ،‬ارتقاء اىل م�ستوى املواطنة التي حتفظ‬ ‫اجلميع باجلميع للجميع‪ ،‬حتت رعاية الدولة التي ت�ستمد قوتها من‬ ‫عدالتها وحتول قوتها اىل عدل وعدالة‪.‬‬ ‫�إذن‪ ،‬فاملطلوب‪ ،‬من �أجل الدوام واملداومة على �إجناز التقارب‬ ‫والتقريب واالقرتاب‪ ،‬من موقعه الأمثل‪� ،‬أي املجتمع‪ ،‬هو �أن مننح‬ ‫ملجتمعاتنا مزيداً من احلرية‪ ،‬على �أ�سا�س �أن تنتج هذه احلرية نظامها‪،‬‬ ‫�أي امل�س�ؤولية وباحلرية يعرف املجتمع ويتعارف ويتثاقف ويتنا�صر‪..‬‬ ‫ي�صبح كالبنيان املر�صو�ص الذي ي�شد بع�ضه بع�ضاً‪ ،‬ويحمي جماعاته‬ ‫املختلفة من �إغراءات االنق�سام‪ ،‬ذلك �أن التجزئة كاملر�ض‪ ،‬قد تبد�أ من‬ ‫مكان‪ ،‬ف�إذا ما ُتركت ّ‬ ‫تف�شت‪� ،‬إذن ال ُبد من ح�صارها بت�أهيل جمموع‬ ‫البدن للممانعة وتكثيف عمليات العالج والوقاية معاً‪.‬‬ ‫ال بد لتحقيق حرية املجتمع من �أن نعمل معاً‪ ،‬دولة وم�ؤ�س�سات‬ ‫�أهلية ومدنية وطالئع علمية يف خمتلف احلقول واالخت�صا�صات على‬ ‫تخلي�ص املجتمع من �ضغط ال َقبليات يف كل �شيء‪ ،‬من خمتلف حقول‬ ‫املعرفة اىل نظام العالئق البينية وعالئقنا بالآخر‪ ،‬كل �آخر‪ ،‬حتى‬ ‫العدو ال بد من قراءته مبو�ضوعية وا�ستح�ضار امل�ستمر ال املنقطع من‬ ‫تاريخ �صراعه �ضدنا‪ ،‬وهذه لي�ست دعوة اىل التن�صل من اخل�صو�صيات‬ ‫واخليارات اخلا�صة‪ ،‬ولكن ال بد من فرز ال�صلب منها عن املرن لال�شتغال‬ ‫على م�ساحة املرونة ت�أهي ً‬ ‫ال ملقاربة مواقع ال�صالبة بنوع من التليني ال‬ ‫الك�سر الذي يك�سرنا‪�" ،‬إن هذا الدين ملتني ف�أوغلوا فيه برفق‪ "...‬لي�ست‬ ‫دعوة اىل التن�صل ولكنها دعوة اىل لون مركب من القطيعة والو�صلة‪،‬‬ ‫بداعي تو�سيع �أو حترير امل�ساحات امل�شرتكة لل�شغل يف ف�ضائها‪ ،‬وت�ضييق‬ ‫م�ساحات االختالف و�ضبطها وحتويلها من منتج للخالف اىل جمال‬ ‫للتكامل واحليوية والإبداع والتنمية ال�شاملة كعالج م�ستدام لأمرا�ضنا‬ ‫الطارئة والتليدة والعتيدة‪ ،‬والتي اكت�سبناها بفعل تعطيل �آليات �إنتاج‬ ‫املناعة وامل�ضادات احليوية �إزاء ما ينتجه ج�سمنا االجتماعي ب�شكل‬ ‫طبيعي من �أورام و�إزاء الأوبئة التي ت�أتينا من اخلارج وتفعل فعلها‬ ‫مب�ساعدة البيئة الذاتية املالئمة لها‪ .‬وال ب ّد لنا �أن نرفع اخلوف‪ ،‬بحيث‬ ‫ت�صبح كل جماعة منا جتد �أمانها الذاتي يف �أمان اجلماعة الأخرى ـ‬ ‫املختلفة ـ �أي يف �سالمتها وحريتها‪ ،‬على �أ�سا�س �أن احلرية هي التي‬ ‫تتكفل ب�إ�صالح �أعطابها والوقاية منها معرفياً و�سيا�سياً وحياتياً‪.‬‬

‫بالإ�ضافة اىل ذلك‪ ،‬ف�إن اال�ستبداد والقمع واملنع‪ ،‬وخوف �أي جماعة‬ ‫من اجلماعة الأخرى‪ ،‬هذا كله ي�ؤدي اىل تغطية ومتويه الإ�شكاالت‪،‬‬ ‫في�صبح اجلميع جهلة مبا عندهم من �أعطاب وعند غريهم‪ ،‬وهذا‬ ‫ي�ؤدي اىل التفاقم و�صعوبة احلل الحقاً‪ ،‬بينما تتيح احلرية ظهوراً‬ ‫للحقائق والأفكار‪ ،‬حلوها ومرها‪� ،‬أي العلم بها لدى املبتلى بها ولدى‬ ‫املراقب املختلف‪ ،‬ما ي�ؤدي اىل �إدراك م�شرتك مل�ضارها على اجلميع‪،‬‬ ‫واالنهماك امل�شرتك يف عالجها وتاليف ا�ست�شرائها وما يرتتب عليها‬ ‫من خماطر تطال اجلميع‪ ...‬و�إنه ملبالغ‪� ،‬إن �أح�س ّنا الظن‪ ،‬من يت�صور‬ ‫�أو ي�صدق‪ ،‬ب�أن خل ً‬ ‫ال بنيوياً يف جماعة من جماعاتنا الوطنية يقت�صر‬ ‫�ضرره على �أهل هذه اجلماعة وحدهم‪ ،‬دنيوياً و�أخروياً‪ ،‬بل هو ي�صيب‬ ‫اجلميع حتى لو بدا �أن جماعة ما بعيدة عن متناول �آثاره‪� ...‬إذن ف�إن‬ ‫جماعة ال حتفظ حقها‪ ،‬ما لديها من حق وما لها من حقوق‪� ،‬إ ّال بالعالج‬ ‫امل�س�ؤول وامل�شرتك لباطل اجلماعة الأخرى‪� ،‬أو ما تراه فيها من باطل‬ ‫ن�سبي تقابله ن�سبة �أخرى من الباطل لديها‪ ،‬وحتتاج اىل تفاهم و�شراكة‬ ‫�أي�ضاً يف عالجها‪ .‬على �أن اجلماعة قد ت�صيب وقد تخطئ يف ت�شخي�صها‬ ‫لباطل اجلماعة الأخرى ولباطلها هي‪ .‬قد ت�صيب وقد تخطئ‪ ،‬والأهم‬ ‫من اخلط�أ وال�صواب هو املكا�شفة وال�شفافية والت�سديد‪ ،‬طلب ال�سداد‬ ‫للذات من خالل دفع الآخر اىل �سبيل ال�سداد والر�شاد‪.‬‬ ‫وهذا هو معنى الهدى والهداية التي هي تكليفنا الأ�سا�س‪� ،‬أي‬ ‫�إخراج النا�س‪ ،‬نا�سنا و�أنف�سنا من الظالم اىل النور‪ ،‬خ�صو�صاً �أن بع�ض‬ ‫الظالم املفرت�ض �إن هو �إ ّال اختالف وال يراه ظالماً �إ ّال القاعد يف ركن‬ ‫مظلم يقع وراء ف�ضاء الإ�سالم احلا�شد بالنور وال�ضياء‪� ...‬أال يحق لنا‬ ‫ال�س�ؤال هنا عن الفارق النوعي‪� ،‬أو يف الدرجة اىل حد كبري‪ ،‬بني من‬ ‫نختلف معهم من امل�سلمني اليوم‪ ،‬وبني الإ�سالم وامل�شركني يف فجر‬ ‫الدعوة؟ ولوال الدعوة‪� ،‬أي الرتغيب والرتهيب‪ ،‬كيف كان ميكن �أن‬ ‫حت�صل الهداية ويدخل النا�س يف دين اهلل �أفواجاً وينعم عليهم الر�سول‬ ‫�صلى اهلل عليه و�سلم بال�سماح واحلرية "�إذهبوا ف�أنتم الطلقاء"؟ و�إذا‬ ‫كان الرتهيب جزءاً الحقاً ومعنوياً بالدرجة الأوىل ثم مادياً ـ دفاعياً ـ‬ ‫بالدرجة الثانية‪ ،‬وبعد ف�شل الرتغيب من عملية الدعوة مع امل�شركني‪،‬‬ ‫ف�إنه مع امل�سلمني �إحالة ظاملة حلا�ضرنا على املا�ضي �أو على التبا�سات‬ ‫هذا املا�ضي‪ .‬مع الفارق ال�صارخ‪ ،‬ومع ان�شغال جميع فرق امل�سلمني‬ ‫بحالهم وم�آلهم على الطريق نف�سه‪ ،‬الذي و�إن ت�شعب ظاهراً‪ ،‬ف�إنه‬ ‫ميكن قراءة م�ساره الذاهب دائماً اىل وحدة‪ ،‬تفريعاً على وحدة امل�صدر‬ ‫وامل�صب‪ ،‬املنطلق والغاية التي ي�صل �إليها بقلق �أقل‪ ،‬من ي�سلك الطرق‬ ‫ال�سالكة‪ ...‬ولكن الآخر ي�صل و�إن ب�صعوبة �أكرث‪ ،‬ونحن جميعاً مكلفون‬ ‫ب�إزالة عقبات الطريق ال قطعها على الآخر املختلف‪.‬‬

‫‪47‬‬


‫أثر العولمية في بناء حضارة‬ ‫إنسانية مثلى‬ ‫متهيد‪:‬‬ ‫ت�شغل ظاهرة العوملية اهتمام املفكرين واملخت�صني يف ال�ش�ؤون‬ ‫الثقافية وال�سيا�سية واالقت�صادية والإعالمية‪ ،‬وقد تعدَّدت‬ ‫واختلفت الآراء حولها بني مت�شائم من م�ستقبل الأيام القادمة‪،‬‬ ‫وبني متفائل م�ستب�شر مبا �ستحققه هذه الظاهرة من رفاهية‬ ‫و�سعادة للمجتمع الب�شري‪ ،‬وما �ستو ِّفره من جتان�س ووئام بني‬ ‫ال�شعوب‪.‬‬ ‫وقد ظهرت هذه االختالفات بجالء من خالل امل�ؤمترات التي‬ ‫ال�س َّكان واملر�أة والتنمية ومعاهدات منع انت�شار �أ�سلحة‬ ‫عقدت حول ُّ‬ ‫الدمار ال�شامل وم�ؤمترات منظمة التجارة العاملية‪ ،‬بحيث جت َّلى‬ ‫اخلالف حول العوملية عرب اخلالف الذي دار يف هذه امل�ؤمترات‬ ‫حول مفهوم احلرية وحول املر�أة وحول ال�سكان وغري ذلك‪.‬‬ ‫تعريف العوملية‪:‬‬ ‫علي‬ ‫�إذا كان احلديث عن ال�شيء فرع ت�ص ُّوره ف�إين �أجد لزاما َّ‬ ‫قبل احلديث عن العوملية �أن �أُع ِّرفها لنقف على ت�ص ّور عام لها‪.‬‬ ‫من حيث اللغة‪ :‬ف�إن مادَّة علم تطلق للداللة على اجلبل وعلى‬ ‫الراية‪ ،‬وتطلق كذلك على املعرفة بال�شيء ‪ ،‬وكلمة عومل و�ضعت‬ ‫حديثاً للتعبري عن م�صدر �صناعي قيا�سي‪ ،‬وا�شتقاقها �إمنا هو‬ ‫قيا�سي من ا�سم عامل والفعل منه عومل يعومل عوملة‪.‬‬ ‫توليد‬ ‫ٌّ‬ ‫وينبغي التفريق بني كلمتني ‪:‬‬ ‫العوملة‪ :‬وهي كلمة تطلق للداللة على حدث بعينه‪ ،‬واملق�صود‬ ‫به يف هذا اللفظ حالة االنتقال من و�ضع الدول القومية ذات‬ ‫اخل�صو�صيات الثقافية امل�ستقلة �إىل و�ضع القرية الكونية التي‬ ‫ت�ضم العامل �أجمع عرب املخرتعات التي تجَ ِ دُّ مع الزمن من �سبل‬ ‫االت�صال احلديثة‪ ،‬فعملية التح ُّول يطلق عليها لفظ العوملة‪.‬‬ ‫العوملية‪ :‬وهي م�صدر �صناعي قيا�سي ُيراد به َو�ضع م�س َّمى لهذا‬ ‫ا�سم يطلق‬ ‫االجتاه احل�ضاري الذي هو معنى حادث مفتقر �إىل ٍ‬ ‫عليه بحيث يكون به معروفاً‪ ،‬ويتم َّيز به عن غريه من امل�صطلحات‬ ‫احلادثة‪.‬‬

‫د‪ .‬قي�س بن حممد �آل ال�شيخ مبارك‬

‫من حيث اال�صطالح‪:‬‬ ‫ف�إن العوملية تعترب واحدة من �أبرز الظواهر احلادثة هذه‬ ‫الأيام‪ ،‬وهي مفهوم ك ِّلي مركب من معقوالت متعدِّدة‪ ،‬تتك َّون‬ ‫من جمموعها �صورة مدركة متع َّقلة متم ِّيزة عن غريها‪� ،‬أي �أن‬ ‫�أحكام العوملية وقوانينها �أمور مدركة للعقول‪ .‬ولها مظاهر واقعة‬ ‫حم�سو�سة تتج َّلى فيها‪ ،‬فهي لي�ست ت�ص ُّورات يفر�ضها اخليال‬ ‫ويت�صورها الذهن بحيث ال يكون لها �أثر واقع م�شهود‪.‬‬ ‫فهي ظاهرة مر َّكبة من متغيرِّ ات متعددة‪ ،‬بد�أت تظهر وتتنامى‬ ‫بت�سارع بحيث ُيتوقع �أن ي�شهد العامل يف امل�ستقبل القريب ب�سبب‬ ‫معنى‬ ‫هذا الرتابط وااللتقاء بني هذه املتغريات املتعددة ح�صول ً‬

‫‪48‬‬


‫م�شرتك ينتظم هذه املتغريات جميعها يف وعاء واحد‪ ،‬وهو ما يطلق‬ ‫عليه لفظ العوملية‪ ،‬ف�صارت كلمة العوملية َعلَماً على هذا املعنى‪.‬‬ ‫معنى مل ين�ضج بعد‪ ،‬ومل تظهر‬ ‫فهذا امل�صطلح باعتباره عنواناً على ً‬ ‫له �صورة مكتملة يف اخلارج‪ ،‬و�إمنا هو ال يزال يتمثل يف ت�ص ُّورات‬ ‫وافرتا�ضات يفر�ضها الذهن وي�ضع لها ت�ص ُّوراً مُت َو َّقعاً‪ ،‬ا�ستناداً �إىل‬ ‫م�شاهدات لآثار حم�سو�سة بد�أت تظهر يف الواقع‪ ،‬و�إىل ا�ستنتاجات‬ ‫عقلية اجتهادية‪.‬‬ ‫من �أجل ذلك اختلفت الأقوال يف تعريفها وا�ضطربت ال ُفهُوم‬ ‫يف َر�سم معاملها و�ضبط ح ٍّد لهذا املولود اجلديد‪ .‬فكان االختالف‬ ‫يف التعريفات واحلدود كبريا‪ ،‬تبعاً الختالف الت�ص ُّورات والفهوم‪.‬‬ ‫�أو ًال‪ :‬العوملية االقت�صادية‪:‬‬ ‫باعتبارها نتاج داخلي للر�أ�سمالية الغربية ولل�شركات متعدِّية‬ ‫اجلن�سيات –ولي�ست متعدِّدة اجلن�سية– �أي �أنها ال حتمل جن�سيات‬ ‫متعددة‪ ،‬بل تقفز فوق احلواجز واحلدود ال�سيا�سية وتتعدَّاها‪.‬‬ ‫والعوملية االقت�صادية م�صطلح خرج لأول مرة يف جمال املال‬ ‫والتجارة‪ ،‬تعبرياً عن ظاهرة �أخذت َّ‬ ‫تتف�شى يف هذه الأيام‪ ،‬وهي‬ ‫ظاهرة ا ِّت�ساع جمال الإنتاج واملبادالت التجارية لي�شمل �سائر‬ ‫الأ�سواق العاملية‪.‬‬ ‫ورمبا عبرَّ عن هذا املعنى الدكتور �إ�سماعيل �صربي عبد اهلل‬ ‫بقوله‪ :‬جتاوز اعتبارات ال�سيادة الوطنية للدولة وخلق نوع من‬ ‫القوة االقت�صادية‪ ،‬التي ت�ؤثر يف جوانب كوكب الأر�ض دون �أن‬ ‫تقابلها �سلطة �سيا�سية على امل�ستوى نف�سه فوق القومي ‪.‬‬ ‫ثاني ًا‪ :‬العوملية االجتماعية‪:‬‬ ‫باعتبار العوملية م�صطلحا ثقافيا اجتماعيا يت�صل بعلم االجتماع‬ ‫�أكرث منه باالقت�صاد �أو بال�سيا�سة �أو بغري ذلك‪.‬‬ ‫والعوملية االجتماعية تعني االجتاه املتنامي الذي ي�صبح به العامل‬ ‫ن�سبياً ُكـ َر ًة اجتماعية بال حدود‪ .‬وبتعبري �آخر‪ :‬هي تكثيف العالقات‬ ‫االجتماعية عرب العامل‪ ،‬حيث ترتبط الأحداث املحلية املتباعدة‬ ‫بطريقة تبدو كما لو كانت تتم يف جمتمع واحد ‪.‬‬ ‫ثالث ًا‪ :‬العوملية ال�سيا�سية‪:‬‬ ‫باعتبارها م�صطلحاً لمِ َعنى رفع احلواجز واحلدود �أمام امل�ؤ�س�سات‬ ‫وال�شركات الدولية واالقت�صادية والإعالمية لتمار�س �سلطتها‬ ‫بو�سائلها اخلا�صة لتح َّل حمل الدولة‪ ،‬بحيث يبقى دور الدولة دور‬ ‫ال�شرطي لنظام العوملية‪.‬‬ ‫فالعوملية ال�سيا�سية ظاهرة تتداخل فيها �أمور االقت�صاد‬

‫وال�سيا�سة والثقافة واالجتماع وال�سلوك ويكون االنتماء فيها‬ ‫للعامل كله عرب احلدود ال�سيا�سية الدولية وحتدث فيها حتوالت‬ ‫على خمتلف الأ�صعدة ت�ؤثر على حياة الإن�سان يف كوكب الأر�ض‬ ‫�أينما كان ‪.‬‬ ‫وبتعبري الدكتورة نادية حمفوظ‪� :‬إن العوملية يف ال�سيا�سة‬ ‫الأمريكية هي نقل الرغبة بالهيمنة واال�ستحواذ من الإطار‬ ‫القومي املحدود واملراقب من جانب الأعراف الدولية �إىل الال‬ ‫حمدود الذي ين�أى عن كل مراقبة‪.‬‬ ‫نذير ُم�ؤْ ِذنٌ بح�ضارة ذات ثقافة واحدة‪:‬‬ ‫العوملية ٌ‬ ‫ففي عامل ي�سوده القلق وتعروه احلرية واال�ضطراب و َتتم َّلكه‬ ‫نوازع �شتى من �شهوات �آنية �آ�سنة لرغائب نف�سانية عاتية‪ ،‬ميتنع‬ ‫عليه حت�صيلها ويعجز عن الرتفع عليها واال�ستغناء عنها‪ ،‬ويظل‬ ‫املرء يلهث وراءها كما يلهث الظم�آن خلف ال�سراب‪.‬‬ ‫يف مثل هذا العامل الذي تتزاحم فيه الآالم بالآمال تواجه �أ َّم ُتنا‬ ‫جملة من التحديات التي مت التمكني لها يف الأر�ض‪ ،‬والتي تعدُّ‬ ‫ثمرة ملا ي�سمى بالعوملية �أو الكوكبية‪.‬‬ ‫وهي حتديات تركت من الآثار ما نحن نتخبط الآن فيه ب�سببها‬ ‫من حمن وم�صائب‪ ،‬حتديات اختارها الكبار وفر�ضوها على‬ ‫أ�سا�سها مبد�أ دميقراطية‬ ‫ِّ‬ ‫ال�صغار‪ ،‬بحيث تخ�ضع لفكر ٍة ُ‬ ‫روحها و� ُ‬ ‫ال�سوق والنمو االقت�صادي وتعزيز املناف�سة احل َّرة وت�سريع‬ ‫التحوالت الهيكلية يف �أ�سواق العمل‪.‬‬ ‫حتديات تفر�ض نف�سها عرب و�سائل الإعالم واالت�صال احلديثة‪،‬‬ ‫وعرب ال�شركات املالية التي حتكم و ُت َو ِّجه القرارات ال�سيا�سية‪ ،‬وهي‬ ‫حتدِّيات منافي ٌة ومناق�ض ٌة لفكرة الأمة الواحدة التي يدعو لها‬ ‫القر�آن الكرمي والتي �أ�سا�سها احلرية والعدل وامل�ساواة‪.‬‬ ‫جت ِّليات هذه التحديات‪:‬‬ ‫تتج َّلى هذه التحديات يف �صور �شتى من جوانب حياتية متعددة‪.‬‬ ‫فهي تفتك باملجتمع ب�سبب التفاعالت االجتماعية امل�ضطربة ف ُتنذِ ُر‬ ‫ِب َف ِّك متا�سك البنيان االجتماعي فيه عرب َن ْ�شر عرو�ض الأزياء‪،‬‬ ‫ومظاهر الر�شاقة‪ ،‬والأفالم الهابطة‪ ،‬وهي ت�ستبيح �سائر املحرمات‬ ‫االجتماعية والثقافية وغريهما‪ ،‬فتتدخل يف �صناعة الأفكار والقيم‬ ‫يف عقول النا�س‪ ،‬وت�ضع املعايري الهابطة فتجعل من املر�أة و�سيلة‬ ‫دعاية للت�سويق بحيث تكون �سلعة للربح‪ ،‬فينتفي عنها و�صف الإن�سان‬ ‫املك َّرم‪ ،‬فهي ب�ضاع ٌة للمتاجرة ب ُِح�سنها وجمالها‪ ،‬و دُمية تن�شر عليها‬ ‫عرو�ض الأزياء والر�شاقة‪ ،‬و ُيت�س َّلى عليها مب�سابقات ملكات اجلمال ‪.‬‬

‫‪49‬‬


‫وهي حتدِّيات ت� ِّؤ�س ُ�س يف املجتمع نف�سية نفعية ا�ستهالكية ال‬ ‫تنظر للأخالق وال للقيم‪ ،‬بل ُته ِّون من �أمر املح َّرمات الثقافية‬ ‫لدى الأطفال‪.‬‬ ‫العوملية بني القدمي واحلديث‪:‬‬ ‫فهل هذه التحديات التي نواجهها حتديات جديدة علينا؟ فلم‬ ‫تعرفها �أمتنا‪ ،‬ومل مت َّر بها من قبل؟ �أو مل مت َّر بنا حالة �شبيهة بها‪،‬‬ ‫بحيث نحتاج �إىل اكت�شاف منهج عملي‪ ،‬وو�سيلة مبتكرة‪ ،‬ملواجهة‬ ‫هذه التحديات وللوقوف دون �إحلاقها الأذى وال�ضرر ببنياننا‬ ‫االجتماعي‪ ،‬وبخ�صائ�صنا الثقافية‪.‬‬ ‫�أما الأ�شكال وال�صور يف هذه التحديات فال �أظن �أن �أحدا ُّ‬ ‫ي�شك‬ ‫يف كونها خمتلفة متاماً عن كل التحديات التي واجهتها �أم ُتنا يف‬ ‫م�سريتها احل�ضارية‪.‬‬ ‫فظاهرة الإعالم املرئي وامل�سموع واملكتوب‪ ،‬وظهور �شبكات‬ ‫املعلومات الدولية‪ ،‬ومت ُّكنها من الدخول يف كل بيت من العامل من‬ ‫غري رقيب وال ح�سيب‪ ،‬بحيث تكون النافذة التي يتمكن �أن يط َّل‬ ‫منها املر ُء على العامل‪ ،‬كل ذلك يعترب �أمراً م�ستجداً‪ ،‬لمَ ْ ُي�سمع‬ ‫مبثله فيما م�ضى من الع�صور الغابرة‪.‬‬ ‫وظاهرة الربيد الآيل وغري الآيل‪ ،‬وعامل الإنرتنت الذي �أوجد‬ ‫�شبكة ات�صال مرئية وم�سموعة تربط بني �سائر الب�شر على ظهر‬ ‫الأر�ض‪ ،‬حيث �أ�صبح الب�شر وك�أنهم يعي�شون داخل قرية �صغرية‪،‬‬ ‫تعترب حدثا مل ي�سبق �أن ح�صل �شيء م�شابه له من قبل‪.‬‬ ‫وقِ�س على ذلك �سائر ما َو َّفق اهلل له الإن�سان من �صناعات �سهَّلت‬ ‫طرائق عي�شه وحققت له الرفاهية التي ين�شدها‪.‬‬ ‫و�أما من حيث امل�ضمون‪ ،‬ف�إنا �إن نظرنا �إىل هذه الأمور امل�ستجدة‬ ‫على حياة النا�س ف�إنا نلحظ حدوث عادات و�أعراف و�أمناط �سلوكية‬ ‫متعدِّدة يف املدينة الواحدة‪ ،‬ويف القرية الواحدة‪ ،‬بل يف البيت‬ ‫الواحد‪ ،‬لأن كل واحد من �أفراد الأ�سرة الواحدة قادر على �أن يربط‬ ‫نف�سه بعامل غري عامل �أ�سرته‪ ،‬عرب نافذة التلفزة وعرب نافذة‬ ‫الإنرتنت وغريهما‪ ،‬بحيث تكون �صلته ب�أفراد �أ�سرته �أ�ضعف من‬ ‫�صلته بتلك العوامل‪.‬‬ ‫تعدد الثقافات يف �صدر الإ�سالم‪:‬‬ ‫ولعل من املفيد �أن ننظر �إىل املجتمع الأول يف العهد املكي‬ ‫حني كان امل�سلمون يف َ�ضعف و ِق َّلة من حيث العدد ومن حيث القوة‬ ‫واملنعة‪ ،‬فلم تكن لهم �أر�ض ي�ستوطنونها وال َم َنعة يعت�صمون بها‪،‬‬ ‫وال مال يقيهم العوادي‪ ،‬وال دولة تع�صمهم من احلياة اجلاهلية‬

‫وما فيها من ع�صبيات م�ستحكمة واعتقادات خرافية را�سخة يف‬ ‫عقولهم‪ ،‬وعادات مت�أ�صلة‪ ،‬هي �أرث الآباء والأجداد‪ ،‬بل هي ذاتيتهم‬ ‫وخ�صو�صيتهم الثقافية‪ ،‬وموروثاتهم احل�ضارية‪.‬‬ ‫لقد واجه املجتمع املكي جميع هذه التحديات‪ ،‬ومل يكن بينه‬ ‫وبينها عا�صم‪ ،‬بل كان يعي�ش معها �ضمن �إطار ما ي�سمى بالعوملية‬ ‫يف �أجلى �صورها و�أب�شعها‪.‬‬ ‫�إذن لقد واجهت املجتمع املكي حتديات ثقافية واجتماعية‬ ‫واقت�صادية و�سيا�سية مو�سومة بطابع عولمَ ِي َجل ِّي‪ ،‬ولرمبا كان �أقوى‬ ‫و�أعتى من العوملية املعا�صرة املقبلة علينا يف امل�ستقبل القريب‪.‬‬ ‫ولعل جمتمع املدينة حني كان يواجه تلك التحديات العوملية‬ ‫كان �أقرب �إىل واقعنا املعا�صر من املجتمع املكي‪ ،‬باعتباره وهو‬ ‫يواجه اجلاهلية املحيطة به من كل �صوب كان مي ِّثل �أمة م�ستقلة‬ ‫ذات �سلوك �أخالقي مميز‪ ،‬وخ�صو�صية ثقافية م�ستقلة‪ ،‬وطابع‬ ‫اجتماعي واحد‪ ،‬وكيان �سيا�سي منفرد‪ ،‬وكان مع ذلك مفتوحاً على‬ ‫غريه من الأمم‪ ،‬الكتابية منها وغري الكتابية‪ ،‬غري منغلق وال‬ ‫متقوقع على نف�سه‪.‬‬ ‫فقد كان اليهود ي�سكنون املدينة املنورة مع امل�سلمني‪ ،‬وكانوا‬ ‫�أ�صحاب دين وعلم وثقافة تمُ ِّيزهم عن غريهم و َت ْ�س ُمو بهم على‬ ‫�سائر من يحيط بهم من العرب امل�شركني‪ ،‬وهو ما جعلهم يتباهون‬ ‫مبا عندهم من كتاب‪ ،‬و ي�شعرون باال�ستعالء على جريانهم من‬ ‫العرب واملجو�س وغريهم‪ .‬وكانت لهم كذلك �سطوة على املال وغلبة‬ ‫ُّ‬ ‫ي�ستغل لتحقيق الهيمنة الفكرية‪،‬‬ ‫اقت�صادية‪ ،‬وهي �أعظم �سالح‬ ‫وكانوا يخالطون امل�سلمني يف الطرقات والب�ساتني والأ�سواق �أخذا‬ ‫وعطاء وبيعا و�شراء‪ ،‬حتى �أن ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم توفيِّ‬ ‫و ِد ْر ُع ُه مرهونة عند يهودي ‪.‬‬ ‫كل ذلك مل مينع امل�سلمني من تركهم و�أموالهم‪ ،‬ومل ُيبح‬ ‫للم�سلمني �أن ُّ‬ ‫بال�سلب‪ ،‬وال على �أعرا�ضهم‬ ‫ينق�ضوا على �أموالهم َّ‬ ‫بال َّثلب‪ ،‬فلم ُينكر امل�سلمون �أو مينعوا �أعراف اليهود وعوائدهم‬ ‫االجتماعية‪ ،‬وال اعتقاداتهم الدينية خ�شية من �أن ُتلحق ال�ضرر‬ ‫بخ�صو�صية امل�سلمني الثقافية عرب نفق العوملية‪ ،‬بل كانت املدينة‬ ‫مفتوحة ل�سائر املحيطني بها من �أهل الكتاب ومن غريهم‪ ،‬فرتاهم‬ ‫يدخلون املدينة ب�أموالهم فيعر�ضون �سلعهم للبيع وي�ستبدلونها‬ ‫ب�سلع �أخرى ويعودون �إىل بالدهم من غري نكري وال اعرتا�ض‪.‬‬ ‫فهذا منقذ بن حِ َّبان ي�أتي من جواثا �إىل املدينة ُم َّتجرا فيلقاه‬ ‫ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم وهو ميار�س جتارته يف �سوق‬

‫‪50‬‬


‫املدينة‪َ ،‬ف ُيقابله بالب�شا�شة يف وجهه‪ ،‬وي�س�أله مالطفاً له ومواعداً‪،‬‬ ‫عن قومه وبلده‪ ،‬وعن ما فيها من املياه والنخيل و�أنواع التمور‪.‬‬ ‫وكانت الوفود َت ِف ُد على ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم باملدينة‬ ‫في�ستقبلهم ويق ِّربهم‪ ،‬ويعطي كبريهم و�س ِّيدهم ح َّقه‪ ،‬ف ُينزله‬ ‫املنزل الالئق به ورمبا ا�ستقبلهم داخل حرم امل�سجد‪ ،‬كما فعل مع‬ ‫وفد ثقيف الذين كانوا على ال�شرك حينها‪ ،‬حيث �أنزلهم يف امل�سجد‪.‬‬ ‫وهكذا كان �ش�أن اخللية الأوىل ملجتمع �أمتنا حيث مل ت�شتعل‬ ‫جذو ُتها‪ ،‬ومل َي�شت َّد �أُوارها خارج نفق العوملية‪ ،‬بل كانت رياح‬ ‫العوملية تع�صف بها من كل �صوب بتيارات فكرية جاهلية مناق�ضة‬ ‫خل�صائ�صها الذاتية‪.‬‬ ‫وجود كيان لهذه الأمة هو عنوان حفاظها على ا�ستقالل َّيتها‪:‬‬ ‫�إن الذي هي�أ لهذه الأمة احلفاظ على ا�ستقاللها‪� ،‬أن لها كياناً‬ ‫م ُْ�س َت ِق ًّ‬ ‫�ص فيه ذات َّي ُتها‪ ،‬ولها معامل وا�ضحة تن�ضبط بها‬ ‫ال َت َت َ�ش َّخ ُ‬ ‫حدودها‪ ،‬فكانت هذه ال�ضوابط واحلدود املر�سومة مبنزلة ال�سياج‬ ‫الذي َت َت َح َّ�ص ُن فيه وتحَ ْ َتمي به عن التيارات الوافدة‪.‬‬ ‫وتتمثل هذه املعامل يف فكرة تعنى ببناء ت�ص ُّو ٍر عقلي �صحيح‪،‬‬ ‫وعاطفة وجدانية تعنى ببناء م�شاعر قلبية تخدم ذلك الت�صور‬ ‫العقلي‪ ،‬و�شريعة تر�سم منهجا حياتيا متفقا مع الفطرة‪ ،‬ودولة‬ ‫�ش�أنها حرا�سة الدين و�سيا�سة الدنيا‪.‬‬ ‫فالفكرة كانت وا�ضحة يف الأذهان‪ ،‬وهي العقيدة الإ�سالمية‬ ‫التي ارت�ضاها امل�سلمون �سلطانا يحكم ت�ص ُّوراتهم‪ ،‬هذه الفكرة‬ ‫�أ�سا�سها موافقة الفطرة الإن�سانية التي فطر الإن�سان عليها‪،‬‬ ‫وجلي باعتبار �أن م�صدرها خالق الإن�سان وخالق‬ ‫وهو �أمر وا�ضح‬ ‫ّ‬ ‫امل َك َّونات التي تطوف من حوله‪ ،‬ولذلك جتد جميع م�سائل العقيدة‬ ‫الإ�سالمية مما تقبله العقول ال�صحيحة‪ ،‬بل هي لي�ست خطابا �إال‬ ‫لأُيل الألباب‪ ،‬والآيات الآمرة بال ّتد ُّبر وال َّتف ُّكر وال َّنظر يف �آيات اهلل‬ ‫�سبحانه كثرية‪.‬‬ ‫�ص العلما ُء على وجوب �أن يكون � ُ‬ ‫إميان امل�ؤمن نابعا عن‬ ‫وقد َن َّ‬ ‫قناعة عقلية را�سخة‪ ،‬ال تقليداً محَ ْ �ضاً لمِ َا عليه الآخر‪.‬‬ ‫وقد نعى �سبحانه وتعاىل على من �صار التقليد �شعارهم بقولهم‬ ‫(�إِ َّنا َو َج ْد َنا �آ َبا َء َنا َعلَى �أُ َّم ٍة َو ِ�إ َّنا َعلَى �آ َثارِهِ م ُّم ْق َتدُو َن)‪ ،‬ولذلك ذهب‬ ‫اجلمهور من علمائنا �إىل �أن الإميا َن تقليدا وحماكاة ال َي ِ�ص ُّح وال‬ ‫ُيقبل من �صاحبه‪ ،‬لأن املق ِّل َد م�سته ٌ‬ ‫رت بدينه‪.‬‬ ‫ولي�س لهذا الكالم من معنى �إال �أن مبادئ العقيدة الإ�سالمية‬ ‫مما تهدي �إليها العقول ال�صحيحة‪ ،‬وتهدي �إليها بي�سري من‬

‫الت�أمل والتفكر من غري حاجة �إىل درا�سات مع َّمقة وال جدليات‬ ‫كالمية فل�سفية‪.‬‬ ‫ف�إذا �أدركنا بنور العقل الذي وهبه اهلل للإن�سان وجعله دلي ً‬ ‫ال‬ ‫نتب�صر به الطريق ومنيز به العقائد اخلرافية فننبذها‪ ،‬والعقيدة‬ ‫ونتم�سك بها‪.‬‬ ‫ال�صحيحة ف َنق َبلها‬ ‫ُّ‬ ‫�إذا �أدركنا ذلك فمن الواجب علينا –بداهة‪� -‬أن نقدِّم هذه‬ ‫العقيدة وجنعلها هادياً ومر�شداً ودلي ً‬ ‫ال و�إماماً ن�أ ُّ‬ ‫مت به‪ ،‬لأنا نحن‬ ‫الذين قبلناها ابتدا ًء‪ ،‬بعد �أن عقلنا �أنها امل�شعل الذي ميدُّ نا ب�ضياء‬ ‫املعرفة حني ُتظلم علينا الطرقات‪.‬‬ ‫�أما العاطفة فهي �أن يكون َه َوى القلب انعكا�ساً ملا ُي َق ِّر ُره ندا ُء‬ ‫العقل‪ ،‬فت�صبح ت�ص ُّرفات الإن�سان موافق ًة ملا ُّ‬ ‫تدل عليه ال�شريعة‪ ،‬ال‬ ‫لمِ َا َت ْن ِز ُع �إليه النفو�س مما ال ُّ‬ ‫يحل لها‪ ،‬وهو ما ال يوافق فطرتها من‬ ‫الأهواء والرغبات‪ ،‬التي متنع الطم�أنينة وال�سكينة وتورث التغيرُّ‬ ‫واال�ضطراب‪ ،‬كما قال �أبو الط ِّيب‪:‬‬ ‫�ضد ُه‬ ‫و�أ�سر ُع‬ ‫مفعول فعلتَ تغيرُّ ًا تكل ُ​ُّف �شيءٍ يف طباعك ُّ‬ ‫ٍ‬ ‫وهذا املعنى هو ما ُيفهم من ن�صو�ص قر�آنية و حديثية كثرية‪.‬‬ ‫فلي�س �ش�أن هذا الدين �أن يطالب بتح�صيل ما ًال طاقة للإن�سان‬ ‫بتح�صيله‪ ،‬ك�أن ميتنع عن ما تقت�ضيه الأو�صاف اجلب ِّلية التي ُفطر‬ ‫عليها‪ ،‬ب�أ�صل اخللقة واجلب َّلة ولكن ي�سري بالنا�س وِفق قانون‬ ‫تربوي فريد‪ ،‬يحقق تطلعات النف�س الب�شرية‪ ،‬ويالئم ما فطرت‬ ‫عليه من ُح ِّب ُم َتع احلياة الدنيا وزينتها وزخرفها‪ .‬ومن �ش�أنه �أن‬ ‫والتو�سط من ال�شبع دون‬ ‫يقف بها من هذه املتع عند ح ِّد االعتدال‬ ‫ُّ‬ ‫الزيادة امل ُ ِ�ض َّرة‪.‬‬ ‫وبذلك يتحقق وازع نف�ساين يحتكم �إليه الإن�سان يف �ش�ؤونه‪،‬‬ ‫خا�صتِه‪ ،‬ثم يف �إ�صالح �أحوال‬ ‫وتظهر ثمرته يف �إ�صالح حال الفرد يف َّ‬ ‫اجلماعة عا َّمة‪.‬‬ ‫ال�س َّكة والطريقة التي تهدي النا�س ل َِ�ض ْب ِط‬ ‫�أما ال�شريعة فهي ِّ‬ ‫ت�صرفاتهم احلياتية‪ ،‬و�أمورهم املعا�شية‪ ،‬وِفق منهج بينِّ وا�ضح‬ ‫مي�سور التطبيق‪ ،‬تندفع ب�سببه �أ�سباب اخل�صومات واملنازعات بني‬ ‫النا�س‪ ،‬بحيث حتوط م�صالح النا�س الأخروية والدنيوية ب�سياج‬ ‫يحفظها مما قد يكون �سبباً لفواتها‪.‬‬ ‫وقد عُلم باال�ستقراء يف �أحكام ال�شريعة الإ�سالمية والنظر يف‬ ‫�أد َّلتها الكلية واجلزئية �أنها دائرة حول رعاية م�صالح النا�س كما‬ ‫قال العز بن عبد ال�سالم رحمه اهلل (وال�شريعة كلها م�صالح‪� ،‬إ َّما‬ ‫جتلب م�صالح‪ ،‬ف�إذا �سمعت اهلل يقول ‪َ (:‬ي�أَ ُّيهَا ا َّلذِ َ‬ ‫ين‬ ‫َت ْد َر�أُ مفا�س َد �أو ُ‬

‫‪51‬‬


‫�آ َم ُنوا‪ -‬فت�أ َّمل َو ِ�ص َّي َت ُه بعد نِدا ِئ ِه فال جتد ُ�إال خرياً َي ُح ُّثك عليه �أو‬ ‫َ�ش ّراً َي ْز ُج ُرك عنه‪� ،‬أو َج ْمعاً بني ِّ‬ ‫احلث والـ َّزجر )‪.‬‬ ‫وهذه امل�صالح التي جاءت من �أجلها ال�شرائع ال�سماوية تتحقق‬ ‫عرب حفظ خم�سة مقا�صد‪ ،‬ذكرها علما ُء الأ�صول‪� ،‬أعالها حفظ‬ ‫الدين ويليه حفظ النف�س فالعقل فال َّن ْ�سل فاملال ‪.‬‬ ‫وهذه املقا�صد اخلم�سة �إمنا هي مقا�صد عامة مراعاة يف كل م َّلة‪،‬‬ ‫كما قال الإمام ال�شاطبي رحمه اهلل‪( :‬وقد عُلم من ال�شريعة �أن‬ ‫�أعظم امل�صالح جريان الأمور ال�ضرورية اخلم�سة املعتربة يف كل‬ ‫م َّلة) ‪.‬‬ ‫وحفظ هذه املقا�صد اخلم�سة يكون عرب �ضبط �ضرورياتها ‪،‬‬ ‫وحتقيق حاجياتها ‪ ،‬وتوفري حت�سين َّياتِها ‪ ،‬ويكون مبراعاة الأعلى‬ ‫درجة منها ثم ما دونه‪ ،‬بحيث �إذا دار الأمر بني حفظ النف�س‬ ‫وحفظ املال ف�إن حفظ الأنف�س مُقدَّم على حفظ الأموال‪ ،‬وعليه‬ ‫تهدر امل�صلحة التي يرتتب عليها حفظ املال من ال�ضياع‪ ،‬يف �سبيل‬ ‫املحافظة على الأنف�س من الهالك‪ ،‬وهكذا الأمر يف �سائر امل�صالح‬ ‫اخلم�س‪.‬‬ ‫وكذلك احلكم لو دار الأمر بني حفظ �ضروري وحفظ حاجي‬ ‫�أو تكميلي‪ ،‬ملق�صد واحد‪ ،‬ف�إنا نعمل على املحافظة على ال�ضروري‪،‬‬ ‫و�إن �أدَّى ذلك �إىل فوات احلاجي �أو التكميلي ‪.‬‬ ‫و�أما الدولة ف�ش�أنها حفظ البي�ضة وحماية الأمة‪ ،‬ب�إقامة �أحكام‬ ‫ح�سي‬ ‫ال�شريعة على وجه ينقاد ب�سببه �أتباعها انقياداً تاماً‪ ،‬فهي وازع ِّ‬ ‫ب�سلطان القوة والغلبة مُوا ٍز للوازع النف�ساين‪ ،‬ووظيفتها فر�ض‬ ‫ُّ‬ ‫ت�ستقل بخ�صو�ص َّيتها‬ ‫ال�سو َّية على اجلماعة‪ ،‬بحيث‬ ‫مظاهر احلياة َّ‬ ‫احل�ضارية يف عموم �أحوالها املتعلقة ب�أمور الآداب‪ ،‬واملتعلقة ب�أحكام‬ ‫العبادات و�أحكام املعامالت املختلفة من مالية وجنائية وغريها‪.‬‬ ‫اخلـاتـمة‬ ‫�أن فرارنا من العوملية القادمة‪ ،‬وتقوقعنا على �أنف�سنا‪ ،‬على‬ ‫هام�ش الدول وال�شعوب‪ُّ � ،‬‬ ‫أحط مرتبة و�أدنى درجة من الذوبان يف‬ ‫النظام العوملي املقبل‪.‬‬ ‫كيف واحلال �أننا منلك ما ال ميلكه الآخرون من قيم و�أفكار‬ ‫من�ضبطة املعامل حمفوظة ب�سياج منيع‪ ،‬ال ُيخرتق‪ ،‬بل يفر�ض‬ ‫علينا التن ُّور‪ ،‬وتت ُّبع احلكمة متى ُوجدت ومن �أي مكان �أقبلت‪،‬‬ ‫ومقارعة الفكر بالفكر ال بالقهر وال�سلطان ‪.‬‬ ‫�إن ما نمَ ْ لكه من فكرٍ متف ِّت ٍح ومُتط ِّلع لال�ستفادة مما عند‬ ‫الآخرين َي ْرب�أُ بِنا عن �أن ننطوي على �أنف�سنا َف َن َق ُع فيما َو َق َعتْ‬

‫فيه بع�ض الدول حيث �أ�صدرتْ قانوناً ُيعاقب على ا�ستخدام‬ ‫مفردات اللغة الإجنليزية طاملا يوجد ما ميكن التعبري عنه باللغة‬ ‫الفرن�سية ‪.‬‬ ‫�إن الثمرة املرجوة من العوملية فيما يظهر يل لن تكون كما �أرادها‬ ‫وا�ضعوها الذين �أرادوا فر�ضها على الب�شرية جمعاء‪ ،‬وهي �سيطرة‬ ‫النموذج الغربي وا�ستحواذه على خريات البالد‪ ،‬وفر�ض �سلطانه‬ ‫على الآخرين‪ ،‬و�إمنا �ستكون ب�إذن اهلل انفتاح العامل وات�صال‬ ‫بع�ضه ببع�ض‪ ،‬وتالقح الأفكار املتعددة‪ ،‬وحتقق اال�صطفاء والبقاء‬ ‫للأفكار الأقوى التي تتما�شى مع مقت�ضيات العلم‪ ،‬وترف�ض اجلهل‬ ‫واخلرافة‪ ،‬وهذه الثمرة هي �سبيل احل�ضارة الإن�سانية املثلى‪ ،‬التي‬ ‫من �أجلها �أنزل اهلل الكتب و�أر�سل الر�سل‪.‬‬

‫الـهــوامــــــ�ش‬ ‫ البخاري‪ ،‬حممد بن �إ�سماعيل‪ ،‬اجلامع ال�صحيح‪ ،‬بهام�ش فتح الباري‪ ،‬املطبعة اخلريية‪ ،‬القاهرة‪1371 ،‬هـ‬‫–‪1951‬م‪.‬‬ ‫‪ -2‬اجلابري‪ ،‬حممد عابد ‪ ،‬مقال ‪،‬بجريدة ال�شرق الأو�سط‪1417/11/12 ،‬هـ‪ ،‬ال�شرق الأو�سط ‪1417/11/13،‬هـ‬ ‫‪ -3‬ابن حجر ‪ ،‬احلافظ �أبو الف�ضل �شهاب الدين �أحمد بن علي الع�سقالين‪ ،‬الإ�صابة يف متييز ال�صحابة‪ ،‬الطبعة‬ ‫الأوىل‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بريوت ‪1415‬هـ – ‪1995‬م‪.‬‬ ‫‪ -4‬ابن خلدون‪ ،‬عبد الرحمن بن حممد‪ ،‬املقدِّمة‪ ،‬ط‪ 1‬دار الفكر للطباعة والن�شر‪ ،‬بريوت‪1401 ،‬هـ –‪1981‬م‪.‬‬ ‫‪ -5‬الدجاين‪� ،‬أحمد �صدقي ‪ ،‬تفاعالت ح�ضارية و�أفكار للنهو�ض‪ ،‬دار امل�ستقبل العربي‪ ،‬القاهرة ‪� :‬ص‪33‬‬ ‫‪ -6‬الزرقاين‪ ،‬حممد عبد العظيم‪ ،‬مناهل العرفان يف علوم القر�آن‪ ،‬دار �إحياء الكتب العربية‪ ،‬القاهرة‪.‬‬ ‫‪ -7‬زرُّوق‪� ،‬أحمد بن �أحمد‪ ،‬القواعد‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬ن�شر مكتبة الكليات الأزهرية ‪،‬القاهرة ‪1396‬هـ –‪1976‬م‪.‬‬ ‫‪ -8‬ال�سفاريني‪ ،‬حممد بن �أحمد‪ ،‬لوامع الأنوار البهية �شرح الدُّ رة امل�ض َّية‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬ن�شر املكتب الإ�سالمي‪،‬‬ ‫بريوت ‪1405‬هـ –‪1985‬م‪.‬‬ ‫‪ -9‬ال�شاطبي‪� ،‬أبو �إ�سحاق �إبراهيم اللخمي ‪،‬املوافقات يف �أ�صول ال�شريعة ‪،‬دار املعرفة‪ ،‬بريوت‪.‬‬ ‫‪� -10‬شاهني‪ ،‬عبد ال�صبور مقال مبجلة املعرفة‪ ،‬عدد ‪ ،48‬ربيع الأول ‪1420‬هـ ‪.‬‬ ‫‪ -11‬عبد اهلل‪� ،‬إ�سماعيل �صربي ‪،‬مقال مبجلة املجتمع‪ ،‬عدد ‪ 1321‬يف ‪1419/6/23‬هـ‪.‬‬ ‫‪ -12‬العز بن عبد ال�سالم‪ ،‬قواعد الأحكام يف م�صالح الأنام‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بريوت‪.‬‬ ‫‪ -13‬انظر ‪ :‬عزيز احلاج‪ ،‬الغزو الثقايف ومقاومته‪ ،‬امل�ؤ�س�سة العربية للدرا�سات‪ ،‬بريوت ‪1983‬م ‪.‬‬ ‫‪ -14‬الغزايل‪� ،‬أبو حامد حممد بن حممد‪ ،‬امل�ست�صفى‪ ،‬ط‪ 3‬املطبعة الأمريية‪ ،‬ببوالق م�صر ‪1324‬هـ‪.‬‬ ‫‪ -15‬حمفوظ‪ ،‬نادية ‪ ،‬ال�شاهد‪ ،‬عدد ‪� ،146‬أكتوبر ‪1997‬م‪.‬‬ ‫‪ -16‬حممد عبا�س �إبراهيم‪ ،‬الثقافة العربية وحتديات العوملة‪ ،‬بحث يف جملة �ش�ؤون اجتماعية ‪ ،‬عدد ‪ 61‬ربيع‬ ‫‪1999‬م‪1419-‬هـ‬ ‫‪ -17‬م�صطفى ‪ ،‬نادية‪ ،‬مقابلة مبجلة املجتمع عدد ‪1419/6/30 ،1322‬هـ‬ ‫‪ -18‬مغنم ‪ ،‬عبد النا�صر حممد ‪ ،‬مقال مبجلة املجتمع ‪ ،‬عدد ‪1419/7/14 ،1324‬هـ‬ ‫‪ -19‬ابن منظور ‪� ،‬أبو الف�ضل حممد بن مكرم الأن�صاري‪ ،‬ل�سان العرب‪ ،‬دار الل�سان العربي‪ ،‬بريوت‪.‬‬ ‫‪ -20‬ابن ه�شام‪ ،‬عبد امللك‪ ،‬ال�سرية النبوية ‪،‬دار الكتاب العربي‪ ،‬بريوت ‪،‬الطبعة الثالثة ‪1990‬م ‪.324/2 :‬‬ ‫‪ -21‬ي�سني ‪ ،‬ال�سيد‪ ،‬مقال‪ ،‬جريدة القب�س عدد ‪1418/1/17، 8827‬هـ‬ ‫‪ -22‬العرب والعوملة‪ ،‬مركز درا�سات الوحدة العربية‪ .‬بريوت ‪1997‬م‬

‫املراجع الأجنبية‬

‫‪of world polities, An International, London: Jhon Baylis and‬‬ ‫‪smith,(eds.)the Globalization -1 Oxforduni. Press,1997 , p. 15.‬‬

‫‪52‬‬


‫في العالقة بين الوسطية‬ ‫و فقه الواقع‬ ‫م�شكلة البحث‬ ‫تهدف هذه الورقة ب�شكل �أ�سا�سي �إىل درا�سة العوامل التي‬ ‫ت�ؤثر يف قدرة العرب وامل�سلمني على فقه الواقع املحيط بهم‬ ‫وعلى التعامل مع ذلك الواقع‪ .‬فالت�ضارب الكبري املوجود اليوم‬ ‫يف ال�ساحات الثقافية والإعالمية حول حقيقة ما يجري يف هذا‬ ‫العامل‪ ،‬وحول كيفية التعامل معه بات ظاهر ًة وا�ضح ًة ال حتتاج‬ ‫�إىل دليل‪ .‬وهذا الت�ضارب ينتج ابتدا ًء عن وجود خلل متعدد الأبعاد‬ ‫يف املنهج ال�سائد بني العرب وامل�سلمني لفقه جوانب الواقع املحلي‬ ‫والإقليمي والعاملي والتعامل مع تلك اجلوانب‪� .‬إن هناك عالق ًة‬ ‫جدلية بني فقه الواقع و�أ�سلوب التعامل معه‪ ،‬فطريقة ودرجة فقه‬ ‫الواقع هي التي ُتك ِّيف نوعية اال�ستجابة له على الدوام‪ ،‬وما من‬ ‫واقع ال يفهم الإن�سان �أبعاده ب�شكل �شمويل‬ ‫�إمكاني ٍة للتعامل مع ٍ‬ ‫وعميق‪ .‬و�إذا كان (احلكم على الأمر فرعاً عن ت�صوره)‪ ،‬ف�إن �إطالق‬ ‫ني لذلك الواقع‬ ‫واقع معني بنا ًء على ت�صو ٍر مع ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫حكم معني على ٍ‬ ‫هو اخلطوة الأوىل على طريق ت�شكيل �أ�ساليب وو�سائل التعامل مع‬ ‫ذلك الواقع‪ .‬وبقدر ما يكون ت�صور املرء �أو ال�شريحة االجتماعية‬ ‫لواقع معني �ساذجاً �أو جزئياً �أو م�شوهاً �أو قا�صراً‪ ،‬ي�أتي احلكم عليه‬ ‫ٍ‬ ‫بنف�س الدرجة من ال�سذاجة واجلزئية والت�شوه والق�صور‪ ،‬وهي‬ ‫بدورها ال�صفات التي �ستنطبق بعد ذلك على �أ�سلوب التعامل مع‬ ‫ذلك الواقع‪.‬‬ ‫والوا�ضح من هذه املت�سل�سلة املنطقية �أن العجز عن فقه الواقع‬ ‫هو مقدم ٌة لن يرتتب عليها بقانون ال�سببية �سوى العجز يف التعامل‬ ‫معه‪ .‬ففقه الواقع هو الذي مينح الإن�سان القدرة على �إدراك حقيقة‬ ‫ما يجري من حوله بحدٍ �أدنى من الدقة وال�شمول‪ ،‬وهو الذي يوفر‬ ‫معرف ًة مبدى احلركة املمكن على هذه الأر�ض‪ ،‬ومبداخل العمل‬ ‫املمكنة يف وجه �صعوبات الواقع وتعقيده وت�شابك عنا�صره‪ ،‬وهو‬ ‫الذي ي�ساعد على �إدراك و�ضبط الأولويات‪ ،‬بل �إن فقه الواقع ميكن‬ ‫�أن يكون مدخ ً‬ ‫ال �أ�سا�سياً لفقه الدين نف�سه يف كثري من الأحيان‪.‬‬

‫د‪ .‬وائل مريزا‬

‫من هنا‪ ،‬ف�إن هذا البحث يحاول درا�سة �أثر غياب الو�سطية‬ ‫الإ�سالمية يف وجود و�شيوع ظاهرتني هما‪:‬‬ ‫�أو ًال ‪ :‬الفقه امل�شوه والقا�صر للواقع بني العرب وامل�سلمني‪.‬‬ ‫ثاني ًا‪ :‬افتقاد القدرة على التعامل مع ذلك الواقع بفعالية‬ ‫و�إيجابية‪.‬‬ ‫ولتحقيق ذلك الهدف ير�صد البحث املنهج ال�سائد بني العرب‬ ‫وامل�سلمني لقراءة الواقع والتعامل معه‪ ،‬مع الرتكيز على الفرتة‬ ‫الزمنية التي تلت �أحداث �سبتمرب‪ ،‬ويقوم بعملية حتليل لذلك‬ ‫املنهج �إىل عنا�صر معينة‪ ،‬ثم يبني كيف كان غياب الو�سطية يف كل‬ ‫عن�صر من العنا�صر �سبباً حل�صول اخللل يف عملية فقه الواقع‪،‬‬ ‫وطريقا للوقوع يف الإفراط والتفريط عند حماولة ا�ستخدام ذلك‬ ‫العن�صر للتعامل مع الواقع‪.‬‬ ‫�إن الإن�سان ال يقر�أ الواقع اخلارجي من حوله وال يتعامل مع‬ ‫ذلك الواقع يف معزلٍ عن ر�صيده الفكري والثقايف‪ ،‬فهذا الر�صيد‬ ‫هو على الدوام املنظار الذي تتم من خالله عملية قراءة الواقع‬ ‫وحماولة فقهه والتعامل معه‪ .‬من هنا ميكن ا�ستخراج العنا�صر‬ ‫التي نتحدث عنها من ذلك الر�صيد الفكري والثقايف‪.‬‬ ‫ر�ؤية حتليلية لعنا�صر منهج فقه الواقع والتعامل معه‬ ‫لقد كانت امل�شكلة الأ�سا�سية على طريق فهم ماذا جرى ويجري‬ ‫يف هذا العامل‪ ،‬وال تزال بالن�سبة للعرب وامل�سلمني تتمثل يف‬ ‫حماولة فهم جمريات الأحداث والوقائع من خالل الرتكيز على‬ ‫ري واحد‪ .‬ولقد كان وا�ضحاً من متابعة ما يح�صل‬ ‫عن�صرٍ �أو متغ ٍ‬ ‫على �أر�ض الواقع ب�شيء من ال�شمولية‪ ،‬منذ �أحداث �سبتمرب على‬ ‫وجه التحديد‪� ،‬أن غالبية العرب وامل�سلمني انق�سموا �إىل �شرائح‬ ‫متقابلة‪ ،‬ير ّكز ٌ‬ ‫كل منها خالل حماولته لقراءة احلدث على عن�صر‬ ‫معني‪ ،‬و َيغفل عن العنا�صر الأخرى مخُ طئاً �أو �أنه ُيغفلها عن عمد‪،‬‬ ‫ب�شكلٍ غابت معه مالمح منهج الو�سطية الإ�سالمية يف التفكري‪،‬‬ ‫وهو ما �أدى �إىل فو�ضى عارمة يف عملية فقه الواقع واحلكم عليه‬

‫‪53‬‬


‫والتعامل معه ب�شكلٍ �ستحاول الفقرات التالية تبيانه ب�شي ٍء من‬ ‫التحليل والتف�صيل ‪.‬‬ ‫‪ .1‬ا�ستخدام (الن�ص) ودالالته‬ ‫ُي�شكل الن�ص ب�إيحاءاته ودالالته على الدوام عن�صراً �أ�سا�سياً‬ ‫من العنا�صر التي تلعب دوراً يف ت�شكيل ر�ؤية �شرائح كربى من‬ ‫العرب وامل�سلمني للواقع‪ ،‬ويف ت�شكيل مواقفهم جتاهه وحكمهم‬ ‫عليه وطريقة تعاملهم معه‪ .‬ولتحديد مفهوم الن�ص ف�إننا نق�صد‬ ‫بامل�صطلح هنا ذلك الفهم الإجمايل العام له يف العقل اجلمعي‬ ‫ال�سائد‪ ،‬والذي يت�ضمن فيما يت�ضمن القر�آن واحلديث والآثار‬ ‫واالجتهادات والأحكام الفقهية التي �صدرت عن العلماء والفقهاء‬ ‫على مر التاريخ‪.‬‬ ‫ونحن حني نتحدث عن دور الن�ص يف ت�شكيل فقه الواقع‬ ‫و�صياغة �أطر التعامل معه ف�إننا ندرج يف البحث �أي�ضا املوقف‬ ‫املقابل من الن�ص‪ ،‬والذي يتمثل يف الإنكار الكامل للن�ص ودالالته‬ ‫يف �أثناء قراءة الواقع واقرتاح �سبل التعامل معه‪.‬‬ ‫�إن متابعة املواقف والت�صريحات والتحليالت والفتاوى التي‬ ‫ملأت الف�ضاء الثقايف العربي والإ�سالمي منذ �أحداث �سبتمرب‬ ‫تظهر �أن كثرياً من �شرائح العرب وامل�سلمني‪ ،‬مبن فيهم �أعداداً من‬ ‫املثقفني وقادة الفكر والر�أي‪ ،‬انق�سمت فريقني متقابلني حني تعلق‬ ‫الأمر با�ستخدام الن�ص و�إيحاءاته يف عملية قراءة وفقه الواقع‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫فريق ي�ست�صحب الن�ص (الإ�سالمي) ويعتمد عليه وي�ستعمل‬ ‫دالالته املبا�شرة والقريبة حموراً للتفكري‪ ،‬وال يهتم باملقابل‬ ‫بالوقائع العملية على الأر�ض وال بالر�ؤية ال�سيا�سية �أو االقت�صادية‬ ‫�أو االجتماعية لظواهر احلياة‪.‬‬ ‫وفريق مقابل على الطرف الآخر ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫غارق �إىل درج ٍة كاملة يف‬ ‫القراءة الواقعية الرباغماتية‪ ،‬بعيداً عن �أي اهتمام بالن�ص‬ ‫ودالالته و�إ�شاراته ولو على م�ستوى املقا�صد الكربى‪.‬‬ ‫وعلى �سبيل املثال‪ ،‬كان الفريق الأول وال يزال يتعامل مع‬ ‫الأحداث من خالل انتقاء بع�ض الن�صو�ص‪ ،‬التي تتحدث عن الآخر‬ ‫وعن بع�ض �صفاته وحاالته لتوظيفها يف فهم الآخر وحتديد املوقف‬ ‫منه‪ ،‬ثم ّ‬ ‫مت ا�ستح�ضار جميع الآيات والأحاديث التي تتحدث عن‬ ‫الفتنة والتمحي�ص واالبتالء‪ ،‬وذلك بغر�ض فهم ما جرى ويجري‬ ‫يف �أفغان�ستان ثم يف العراق‪ ،‬ويف �أماكن �أخرى من العامل ب�شكل عام‪،‬‬ ‫من خاللها ومن خاللها فقط! بحيث �صار كل ما يجري فتن ًة‬ ‫وابتال ًء (خارجياً) ال داعي للبحث يف �أ�سبابه‪ .‬ثم ا�س ُتدعيت �أخرياً‬ ‫جمموع ٌة �أخرى من الآيات والأحاديث والآثار والق�ص�ص التي‬

‫تتحدث عن املنافقني واملتخاذلني واملرجفني واخلونة‪ ،‬ل ُت�ستخدم‬ ‫�أي�ضاً يف ت�صنيف الب�شر �آحاداً وجماعات ب�شكل حا�سم وقاطع �إىل‬ ‫ؤمن �صالح يقبل الر�ؤية ال�سابقة‪ ،‬وكافر هو الآخر غري امل�سلم‪،‬‬ ‫م� ٍ‬ ‫ومتخاذل منافق مرجف يجب اجتثاثه لأنه ي�شكك يف تلك الر�ؤية‬ ‫ويطلب مراجعتها ويتحدث عن نقدها‪.‬‬ ‫كان ذلك هو حال الفريق الذي حاول قراءة الواقع مبا�شر ًة من‬ ‫خالل تطبيقٍ انتقائي وخمتزل لبع�ض الن�صو�ص عليها‪ ،‬بعيداً عن‬ ‫متابعة التفاعل احليوي املطلوب بني الن�صو�ص والواقع الب�شري‪.‬‬ ‫�أما الفريق الآخر فكان يف وارد ا�ست�صحاب كل �شيء له عالقة‬ ‫بالواقع خالل حماولته لفهم الأحداث‪ ،‬دون �أي اعتبا ٍر لأي دالالتٍ‬ ‫ُتقدمها الن�صو�ص ولو على م�ستوى الت�صورات �أو الفل�سفات‬ ‫الكربى‪.‬‬ ‫من هنا اعترب ه�ؤالء �أن كل ماله عالقة بالثقافة الذاتية‬ ‫واخل�صو�صية احل�ضارية خرافة‪ ،‬وانطلقوا يعلنون يف كل مكان �أن‬ ‫ٌ‬ ‫وجهل ال طائل من ورائه‪ .‬و�أَغفلوا‬ ‫جممل الر�ؤية الدينية رجعي ٌة‬ ‫يف طريقهم جزئيات املعرفة الإ�سالمية‪ ،‬وكذلك الإ�شارات املعرفية‬ ‫الدقيقة املوجودة يف الن�صو�ص‪ ،‬والتي ت�صف كيف ميكن للتم ّكن‬ ‫يف الأر�ض �أن يقرتن بالطغيان حني ينف�ص ُل عن الوحي كم�صد ٍر‬ ‫للمعرفة الب�شرية‪ ،‬وحني ت�صبح امل�صلحة �إلهاً ُيعبد‪ ،‬وكيف �أن‬ ‫الطغيان ي�ؤدي �إىل الإف�ساد يف الأر�ض‪ ،‬وكيف �أن الإف�ساد يزرع‬ ‫يدمر يف �آخر الأمر احل�ضارات ويهلك احلرث‬ ‫ال�شر والطمع حتى ّ‬ ‫والن�سل‪.‬‬ ‫�إ�ضاف ًة �إىل هذا‪َ ،‬بال َغ ه�ؤالء وال يزالون يبالغون يف فهم‬ ‫(الواقعية)‪ ،‬وا�ستخدام (الرباغماتية) حموراً من حماور الفهم‬ ‫والفعل الب�شريني �إىل درج ٍة جتاوزت �أحياناً كل مقت�ضيات املنطق‬ ‫والعقل‪ .‬فوفقاً لهذه الر�ؤية الواقعية الرباغماتية‪ ،‬ت�صبح حركة‬ ‫التاريخ ما�ضي ًة دوماً يف اجتا ٍه واحدٍ ال عودة عنه ح�ضارياً و�سيا�سياً‬ ‫واجتماعياً‪ ،‬وت�صبح �صناعة التاريخ رهين ًة ملعطيات الواقع الراهن‬ ‫بغ�ض النظر عن �أي عاملٍ �آخر‪ ،‬ب�شكلٍ ي�شبه احلتميات املطلقة‬ ‫التي ال ميكن زحزحتها‪ ،‬و ُت�صبح �سلبي ُة �أو �سو ُء الأداء احل�ضاري‬ ‫يف مرحل ٍة من مراحل التاريخ مدخ ً‬ ‫ال حمتوماً �إىل مراحل �أخرى‬ ‫م�شابهة بل �إىل �سل�سل ٍة متتالية من االنهيار احل�ضاري‪.‬‬ ‫فال اعتبار عند ه�ؤالء للدورات احل�ضارية‪ ،‬وال اعتبار للمداولة‬ ‫ال�سننية بني النا�س والأقوام والدول‪ ،‬وال اعتبار لقدرة الإن�سان على‬ ‫ُ‬ ‫اال�ستعادة احل�ضارية‪ ،‬وال مكان للقيم وال للغيبيات وال للمبادئ وما‬ ‫تلعبه من �أدوار‪ ،‬لأنها بب�ساطة خارج �إطار احل�سابات والأرقام‪.‬‬

‫‪54‬‬


‫وباخت�صار‪ ،‬ال مكان للإرادة والفعل الب�شريني �أمام طغيان الواقع‬ ‫و�ضغوطه‪ ،‬وفقاً لتلك الر�ؤية الواقعية الرباغماتية‪ ،‬اللهم �إال من‬ ‫باب اال�ست�سالم لذلك الواقع بكل �أبعاده وجزئياته‪ .‬وذلك يف عملية‬ ‫وت�سطيح كبرية ملثل هذه املوا�ضيع ذات اجلذور التاريخية‬ ‫تب�سيط‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫والثقافية واحل�ضارية التي ُتعترب يف غاية التداخل والتعقيد‪.‬‬ ‫وعلى كل حال‪ ،‬كانت تلك املفارقة بني الفريقني متمثل ًة يف‬ ‫الإفراط من جهة‪ ،‬والتفريط من جهة ثانية‪ ،‬يف التعامل مع الن�ص‬ ‫والواقع‪ .‬وكان غياب الو�سطية يف هذا العن�صر �سبباً رئي�ساً من‬ ‫�أ�سباب الق�صور يف فقه �أ�صحاب ال�شرائح التي كانت تفكر ح�سب‬ ‫تلك الثنائية للواقع ويف افتقار القدرة على التعامل معه‪.‬‬ ‫‪ .2‬ا�ستخدام معطيات حمور املكان (املحلية ‪ x‬العاملية)‬ ‫يتمحور العن�صر الثاين الذي ُي�ستعمل يف قراءة وفقه الواقع‬ ‫و�صياغة و�سائل التعامل معه حول ما ميكن �أن ن�سميه مبحور‬ ‫املكان‪ .‬ذلك �أن قراءة الواقع تعتمد يف جانبٍ منها على اجلزء‬ ‫الذي يراه الإن�سان من ذلك الواقع‪ .‬فالغالبية العظمى من العرب‬ ‫وامل�سلمني مث ً‬ ‫ال تنظر �إىل العامل من خالل معطيات واقعها املحلي‬ ‫الذي تعاي�شه وتلم�س عن قرب مكوناته و�ضرورياته و�أولوياته‪،‬‬ ‫وهي بالتايل ت�ست�صحب تلك املعاي�شة عند قراءتها للواقع العاملي‬ ‫الأكرب الذي ي�صعب �إجما ًال على عامة النا�س �إدراك مالحمه ب�شكل‬ ‫منهجي و�شامل‪ .‬وباملقابل‪ ،‬توجد يف �أو�ساط العرب وامل�سلمني‬ ‫�شرائح ميكن القول �أنها �أكرث توا� ً‬ ‫صال من غريها مع ما يجري‬ ‫يف هذا العامل الوا�سع خارج بالد العرب وامل�سلمني‪ .‬وه�ؤالء بحكم‬ ‫توا�صلهم �أكرث اطالعاً على تعقيدات ذلك العامل‪ ،‬وعلى طبيعة‬ ‫ت�شابك وتداخل عنا�صر احلياة فيه‪ ،‬وعلى مدى ت�أثري الظروف‬ ‫اخلارجية على الأو�ضاع املحلية‪.‬‬ ‫من هنا‪ ،‬جند يف ال�ساحة الثقافية العربية والإ�سالمية فريقني‬ ‫متقابلني‪:‬‬ ‫ٌ‬ ‫فريق ينظر �إىل الأحداث كلها و�إىل الواقع مبجمله من‬ ‫منظار الر�ؤية (املحلية) البحتة بكل خ�صو�صياتها‪� ،‬سواء �أكانت‬ ‫اخل�صو�صية �إقليمي ًة تتعلق بالواقع العربي �أم الإ�سالمي �أم‬ ‫ُقطري ًة بحتة تتعلق بواقع الأقطار املعينة‪ ،‬مثل الواقع الأفغاين‬ ‫�أو الباك�ستاين �أو العراقي �أو ال�سعودي‪ .‬غاف ً‬ ‫ال ب�شكلٍ كامل عن‬ ‫املالب�سات العاملية وما يجري يف العامل خارج الإقليم �أو القطر‬ ‫املعني مما يجب �أن ي�ؤخذ �أي�ضاً بعني االعتبار‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫مقابل ينظر �إىل الأحداث من باب الرتكيز الكثيف‬ ‫فريق‬ ‫والكامل على تلك املالب�سات العاملية‪ ،‬راف�ضاً �إعطاء �أق ّل اعتبار‬

‫خل�صو�صيات وظروف الواقع املحلي العربي والإ�سالمي هنا‬ ‫وهناك ‪.‬‬ ‫لقد كان مدخل قراءة الفريق الأول للواقع يقت�صر على‬ ‫ا�ست�صحاب الثقافة املحلية‪ ،‬وكانت ح�ساباته للتعامل معه تنطلق‬ ‫من ال�سيا�سات والظروف املحلية‪ .‬فبالن�سبة له�ؤالء كان حمور‬ ‫الر�ؤية هو ما تفر�ضه وما تراه الثقافة املحلية لل�سعودية �أو‬ ‫لأفغان�ستان �أو لباك�ستان �أو للعراق على �سبيل املثال‪ ،‬وكان ما يجري‬ ‫يف مثل هذه البلدان داخلياً ثقافياً و�سيا�سياً واجتماعياً‪ ،‬لي�س فقط‬ ‫هو العامل الوحيد املو�ضوع يف االعتبار عندهم‪ ،‬و�إمنا �أي�ضاً العامل‬ ‫الوحيد الذي يجب �أن ي�أخذه الآخرون جميعاً يف االعتبار �سواء‬ ‫�أكانوا مثقفني �أم علماء �أم رجال فكر �أو �سيا�سيني‪.‬‬ ‫ويف مقابل ه�ؤالء‪ ،‬كان هناك ٌ‬ ‫فريق �آخر ال يعي�ش (العاملية)‬ ‫بكل �أبعادها ومقت�ضياتها فقط‪ ،‬و�إمنا يبالغ جداً يف تقدير طبيعتها‬ ‫ودورها وت�أثريها‪ ،‬غاف ً‬ ‫ال عن �أن العاملية مهما كانت �إمنا هي يف‬ ‫النهاية بوتق ٌة ووعا ٌء �إن�ساين ملجموع ٍة �ضخمة من اخل�صو�صيات‬ ‫املحلية التي ُت�ش ِّك ُلها‪ ،‬و�أن لكلٍ من هذه اخل�صو�صيات اعتبارها‬ ‫ودورها وت�أثريها املُفرت�ض يف تلك العاملية‪.‬‬ ‫فبالن�سبة له�ؤالء‪ ،‬مل يكن ملا يجري ثقافياً �أو �سيا�سياً �أو اجتماعياً‬ ‫�أو اقت�صادياً يف ال�سعودية �أو العراق �أو �أفغان�ستان �أو باك�ستان �أو‬ ‫غريها من الأقطار �أهمي ٌة كبرية بل و�أحياناً �أي �أهمية‪ .‬ومل ينتبه‬ ‫ه�ؤالء يف خ�ض ّم ح�ساباتهم العاملية البحتة �إىل �أن اخل�صو�صيات‬ ‫املحلية‪ ،‬الثقافية منها واالجتماعية واالقت�صادية وال�سيا�سية‬ ‫تر�سم �أحياناً‪ ،‬وبعد ا�ستنفاذ كل ما فيها من مرونة‪� ،‬سقفاً ال ميكن‬ ‫جتاوزه‪ .‬و�أن هذا الأمر بح ّد ذاته هو الذي يجعل العاملية حمكوم ًة‬ ‫بجمل ٍة من التوازنات واملعادالت‪ ،‬و�أن كثرياً من الالعبني الدوليني‬ ‫قبل غريهم‪ ،‬ورمبا �أكرث من غريهم‪ ،‬ي�أخذون كل تلك احل�سابات‬ ‫بعني االعتبار عندما ي�أتي �أوان الفعل احلقيقي‪ ،‬وبعيداً عن املواقف‬ ‫النظرية التي كثرياً ما ُت�ستخدم للح�شد الداخلي �أو لال�ستهالك‬ ‫املحلي والعاملي‪.‬‬ ‫وهكذا‪ ،‬نرى على هذا املحور كيف كانت الر�ؤية الأحادية ملعطيات‬ ‫حمور املكان‪ ،‬وال تزال عن�صراً من عنا�صر املنهج ال�سائد لقراءة‬ ‫الواقع والتعاطي معه‪ ،‬ب�شكلٍ غابت فيه �أ�س�س الو�سطية الإ�سالمية‬ ‫التي ت�أخذ بعني االعتبار اخل�صو�صيات املحلية املعينة‪ ،‬دون �أن‬ ‫يدفعها هذا �إىل جتاهل معطيات ال�ساحات ال�سيا�سية والثقافية‬ ‫واالقت�صادية واالجتماعية العاملية‪ .‬وكان غياب تلك الو�سطية‬ ‫عام ً‬ ‫ال مهماً من عوامل الق�صور يف فقه الواقع و�ضياع فر�ص‬ ‫التعامل معه ب�شكلٍ �إيجابي ومتوازن وفعال‪.‬‬

‫‪55‬‬


‫‪ .3‬ا�ستخدام معطيات حمور الزمان (املا�ضي ‪ x‬احلا�ضر)‬ ‫�أما العن�صر الآخر الذي ميكن اعتباره عن�صراً رئي�ساً من‬ ‫عنا�صر منهج فقه الواقع والتعامل معه ف�إنه يدور هذه املرة حول‬ ‫ما ميكن ت�سميته مبحور الزمان‪ .‬فالإن�سان حني يكون متوازناً‬ ‫عقلياً ونف�سياً‪ ،‬يفقه الواقع من حوله مبزيج من العرب والدرو�س‬ ‫امل�ستخل�صة من املا�ضي ومن احلا�ضر‪ .‬فال هو يقر�أ احلا�ضر‬ ‫فقط بعني املا�ضي‪ ،‬وال هو ُينكر املا�ضي بكل دالالته ليفهم العامل‬ ‫و�أحداثه من خالل ما يجري فقط يف احلا�ضر‪ .‬رغم ذلك‪ ،‬وت�أكيداً‬ ‫ل�شيوع عقلية (املتقابالت) التي تنح�صر يف ر�ؤية الثنائيات املت�ضادة‬ ‫والرتكيز عليها‪ ،‬نلمح �أي�ضاً تواجد فريقني متقابلني يف �صفوف‬ ‫العرب وامل�سلمني ي�ستعمل ٌ‬ ‫كل منهما هذا العن�صر من عنا�صر‬ ‫منهج فقه الواقع‪ ،‬والتعامل معه ب�شكل جزئي يتناق�ض مع طريقة‬ ‫ا�ستعمال الفريق الآخر له‪.‬‬ ‫آين من‬ ‫ فنجد هنا فريقاً �أول يغرق يف قراءة �أحداث الواقع ب�شكلٍ � ٍ‬‫خالل (احلا�ضر) ومعطياته دون �أي اهتما ٍم بالتاريخ ومالب�ساته‪.‬‬ ‫ بينما الفريق الآخر ينح�صر يف قراءتها من خالل الإ�شارة‬‫امل�ستمرة �إىل (املا�ضي) و�إىل املالب�سات التاريخية للأحداث‬ ‫و�صانعيها‪ ،‬مع �إ�صرا ٍر منقطع النظري على جتاهل احلا�ضر وما‬ ‫ُيفرزه من �إ�شاراتٍ وعالماتٍ ودرو�س‪.‬‬ ‫وعلى �سبيل املثال نرى فريقاً ي�صر على قراءة واقع الغرب من‬ ‫خالل احلا�ضر القريب‪ ،‬ومن خالل ال�شعارات واملمار�سات التقدمية‬ ‫والإن�سانية ال�سائدة فيه اليوم �إىل درج ٍة كبرية‪ ،‬ويرف�ض �أي �إ�شارة‬ ‫�إىل اجلوانب ال�سلبية يف عالقة الغرب والواليات املتحدة التاريخية‬ ‫لي�س فقط بالعرب وامل�سلمني و�إمنا بالعامل �أجمع‪ .‬كما يتجاهل‬ ‫ورمبا ي�ستنكر �أي ا�ستح�ضار للممار�سات التاريخية ال�سلبية التي‬ ‫ر�سمت كثرياً من مالمح تلك العالقة‪.‬‬ ‫وهكذا‪ُ ،‬يجهد هذا الفريق نف�سه وهو ينفي وجود �أي دو ٍر‬ ‫تف�سريي للتاريخ يف فهم احلا�ضر‪ .‬وينفق كثرياً من اجلهد والوقت‬ ‫يف ت�أكيد خط�أ �أي مقول ٍة ت�شري �إىل تلك احلقيقة‪ ،‬ويف الإ�صرار على‬ ‫�ضرورة جتاوز التاريخ ب�شكلٍ كامل‪ ،‬عند حماولة فهم �أحداث الواقع‬ ‫وت�شكيل موقف منها‪ ،‬حتى لو تعار�ض ر�أيهم هذا مع �آراء امل�ؤرخني‬ ‫واملثقفني والباحثني يف الغرب ويف ال�شرق على حدٍ �سواء‪ .‬وي�صبح‬ ‫مطلوباً من العرب وامل�سلمني �أن ُيلغوا التاريخ ويتنا�سوا دالالته‪ ،‬و�أن‬ ‫ال يعريوا �أي اهتما ٍم مبا ميكن �أن يرتتب دوماً على اخلط�أ الب�شري‬ ‫وعلى النق�ص الب�شري وعلى اجل�شع الب�شري من �آالم وكوارث‪.‬‬

‫�أما على الطرف الثاين ف�إننا جند الفريق الآخر مت�شبثاً بتف�سري‬ ‫الوقائع الراهنة من خالل التاريخ ومالب�ساته ومعطياته حتديداً‬ ‫وح�صراً‪ ،‬مع �إ�صرا ٍر كامل على جتاوز ورف�ض �أي قراء ٍة معا�صرة‬ ‫للأحداث و�أ�صحابها‪ ،‬وما ميكن �أن توحي به هذه القراءة من‬ ‫دالالت يجب �أخذها بعني االعتبار عند حماولة فهمها وحماولة‬ ‫ت�شكيل رد الفعل عليها‪ .‬و َيغفل �أهل هذا الفريق عن حقيق ٍة خطرية‬ ‫تتمثل يف �أن الغرق يف التاريخ ميكن �أن يكون له خماطره التي رمبا‬ ‫ال تق ّل عن املخاطر الناجمة عن الغرق يف احلا�ضر‪ ،‬عندما يتعلق‬ ‫الأمر بفهم الأحداث الكربى والتعامل معها‪.‬‬ ‫وعلى النقي�ض من الطرف الأول متاماً‪ُ ،‬يجهد هذا الفريق‬ ‫نف�سه وهو يحاول �أن َيغرق و ُيغ ِر َق الأمة ب�أ�سرها معه يف التاريخ‪،‬‬ ‫لقراءة كل ما يجري اليوم من خالل املمار�سات التاريخية ال�سلبية‬ ‫للغرب وللواليات املتحدة لي�س فقط مع العرب وامل�سلمني‪ ،‬و�إمنا‬ ‫�أي�ضاً مع بع�ض احل�ضارات الأخرى‪ .‬في�صبح تاريخ الغرب كله عند‬ ‫ه�ؤالء حم�صوراً يف اال�ستعمار‪ ،‬وي�صبح تاريخ �أمريكا و�إجنازاتها‬ ‫حم�صورين يف قنبلة هريو�شيما وحرب فيتنام ودعم الطغاة‬ ‫وتدبري امل�ؤامرات يف دول العامل الثالث‪ .‬و ُن�صبح مُطا َلبني ب�أن‬ ‫نن�سى كل العطاء والإجناز الذي �أ�ضافته احل�ضارة الغربية �إىل‬ ‫م�سرية الإعمار الإن�ساين‪ ،‬ومطالبني ب�أن نح�صر تفكرينا ور�ؤيتنا‬ ‫يف ذلك اجلانب املظلم من تاريخ الغرب والواليات املتحدة‪.‬‬ ‫ولقد كان الفتاً للنظر ومعبرّ اً للغاية كيف بد�أت �شرائح من‬ ‫هذا الفريق‪ ،‬وخا�ص ًة منهم من ينتمي للإ�سالميني‪ ،‬ولأول مر ٍة‬ ‫يف حياتها تتحدث عن مظامل بع�ض ال�شعوب الأخرى مثل اليابان‬ ‫وفيتنام و�شعوب �آ�سيا و�أفريقية و�أمريكا الالتينية الأخرى‪ ،‬وهي‬ ‫التي مل تكن يوماً يف وارد احلديث عن ق�ضايا تلك ال�شعوب‪ ،‬اللهم‬ ‫�إال �إذا اقت�ضى الأمر ت�صنيفها وت�صنيف �أبنائها يف خانات الكفار‬ ‫والوثنيني واملالحدة!‪.‬‬ ‫ويف مفارقة ملفت ٍة للنظر نرى كيف �أن هذا الفريق كان يت�شبث‬ ‫بالتاريخ بقوة عندما يتعلق الأمر بت�شكيل املوقف من الغرب‬ ‫والواليات املتحدة‪ ،‬بينما ي�ص ُّر بنف�س الدرجة من القوة على‬ ‫القفز فوق التاريخ ودالالته عندما يتعلق الأمر مث ً‬ ‫ال بتجربة‬ ‫طالبان وبتقومي �إجنازاتها وممار�ساتها ال�سلبية وتاريخها املليء‬ ‫بالكثري من الدرو�س والعرب‪ .‬بل وحتى عندما يتعلق الأمر بتاريخ‬ ‫وممار�سات كثري من التجمعات واحلركات الإ�سالمية‪ ،‬وكثري من‬ ‫العلماء واملثقفني التي ميكن‪ ،‬ب�شيء من البحث املنهجي املحايد‪،‬‬ ‫ر�ؤية دورها ال�سلبي يف ما �آلت �إليه الأمور يف البالد الإ�سالمية‪.‬‬

‫‪56‬‬


‫وهكذا نرى كيف �ضاعت مالمح الو�سطية الإ�سالمية التي‬ ‫ت�ست�صحب معطيات التاريخ واحلا�ضر يف فقهها للواقع‪ ،‬بعيداً عن‬ ‫�أي ت�ضارب موهوم وم�صطنع‪ ،‬وكيف �أ�صبحت االنتقائية والر�ؤية‬ ‫الأحادية لتلك املعطيات �سبباً �آخر من �أ�سباب الت�شويه البالغ الذي‬ ‫�أحاط بر�ؤية كثري من العرب وامل�سلمني ملا جرى ويجري من‬ ‫�أحداث‪ ،‬وكيف �صار عام ً‬ ‫ال يف افتقاد القدرة على �صياغة ا�ستجابات‬ ‫عقالنية لتلك الأحداث‪.‬‬ ‫‪ .4‬ا�ستقراء امل�صلحة وامل�س�ؤولية (اخلا�صة ‪ x‬العامة)‬ ‫�إن ا�ستقراء طبيعة امل�صلحة فيما يجري من وقائع ت�ؤثر �إىل درجة‬ ‫كبرية يف فقه الواقع‪ ،‬ويف ابتكار �أ�ساليب للتعامل معه بني العرب‬ ‫وامل�سلمني‪ .‬فاحلكم على واقع ٍة معينة ب�أنها حتقق م�صلحة عامة‬ ‫ميكن �أن يعطي م�شروعي ًة لتلك الواقعة‪ ،‬فيما تنتفي امل�شروعية يف‬ ‫�أنظار الكثريين عن فعلٍ حمدد �إذا كانت فيه �شبهة حتقيق م�صلحة‬ ‫فردية �أو خا�صة تت�ضارب مع حتقيق امل�صلحة العامة‪ ،‬حتى لو كانت‬ ‫تلك امل�صلحة الفردية م�صلح ًة تندرج يف �إطار امل�صالح الدينية غري‬ ‫الدنيوية‪� .‬إ�ضافة �إىل ذلك‪ ،‬ف�إن طبيعة الفهم للم�س�ؤولية الفردية‬ ‫وامل�س�ؤولية اجلماعية ت�ؤثر �إىل درجة كبرية على املوقف الذي‬ ‫يتخذه الإن�سان من الواقع‪ ،‬والت�صرفات والقرارات التي ت�صدر‬ ‫عنه‪.‬‬ ‫ونحن �إذا نظرنا �إىل جمريات الأحداث يف الفرتات املا�ضية‬ ‫ف�إننا نالحظ افتقاد الكثريين يف �أو�ساط املثقفني و�أ�صحاب الر�أي‪،‬‬ ‫للقدرة على التمييز بني امل�س�ؤولية الفردية وامل�س�ؤولية اجلماعية‪،‬‬ ‫�أو بني امل�صلحة الفردية وامل�صلحة اجلماعية‪.‬‬ ‫وعلى �سبيل املثال ميكن القول ب�أن هاج�س �إخالء امل�س�ؤولية‬ ‫الفردية كان وال يزال منطلقاً لإبداء الر�أي �أو اتخاذ املوقف‬ ‫عند الكثريين‪ ،‬ممن كان ُيفرت�ض فيهم �أن يكونوا من قادة‬ ‫الفكر والر�أي العام‪ ،‬و ُيفرت�ض فيهم بالتايل �أن يجعلوا ال�شعور‬ ‫بامل�س�ؤولية اجلماعية و�إدراك امل�صالح اجلماعية حمور ن�شاطهم‪.‬‬ ‫ولكنهم انطلقوا‪ ،‬على العك�س من ذلك‪ ،‬فظهرت تلك البيانات‬ ‫والت�صريحات امللتهبة التي ح ّركت عواطف ال�شباب‪ ،‬و�أوقعت �أكرث‬ ‫من بلد عربي وم�سلم فري�س ًة للعنف والأعمال التخريبية الهوجاء‪،‬‬ ‫بدعوى الوقوف يف وجه (الكفار) ومَن واالهم‪ ،‬الأمر الذي ت�سبب‬ ‫يف ح�صول �أ�ضرار ومفا�سد كربى �شملت العرب وامل�سلمني والعامل‬ ‫�أجمع‪.‬‬ ‫�أما على اجلانب الآخر من حمور امل�س�ؤولية وامل�صلحة‪ ،‬فقد كان‬ ‫من مالمح ال�ساحة الثقافية والإعالمية العربية والإ�سالمية وال‬

‫يزال وجود مواقف وت�صريحات لبع�ض املثقفني‪ ،‬لي�س من ال�صعب‬ ‫ر�ؤية ما يكمن خلفها من م�صالح فردية و�أهواء �أو رغبات �أنانية‬ ‫�أو ت�صفية ح�سابات �شخ�صية �أو البحث عن غنائم متوقعة‪ .‬خا�ص ًة‬ ‫و�أنها تفتقر يف معظم الأحيان �إىل الدرجة املطلوبة من املو�ضوعية‪.‬‬ ‫وقد مت ّثل ذلك يف بع�ض تلك الدعوات الغريبة التي ظهرت‬ ‫وتظهر هنا وهناك‪ ،‬ومن على بع�ض املنابر الثقافية والإعالمية‪،‬‬ ‫وهي تدعو ب�إحلا ٍح منقطع النظري لقبول وجهة النظر الغربية‬ ‫والأمريكية‪ ،‬لي�س فقط على م�ستوى الر�ؤية العامة‪ ،‬وال على‬ ‫م�ستوى تقاطع امل�صالح وتداخل ال�سيا�سات‪ .‬و�إمنا وبالتحديد على‬ ‫م�ستوى التفا�صيل والتطبيقات والتف�سريات وال�سيا�سات الأمنية‬ ‫والع�سكرية‪ ،‬كما هي دون �أي مراجع ٍة �أو نقد‪ ،‬وب�شكلٍ مبتذلٍ‬ ‫هو �أقرب ما يكون �إىل التزلف الكامل وغري املربر على م�ستوى‬ ‫امل�صلحة اجلماعية لي�س فقط للعرب وامل�سلمني‪ ،‬و�إمنا �أي�ضاً‬ ‫امل�صلحة اجلماعية للعامل �أجمع على امل�ستوى اال�سرتاتيجي‪.‬‬ ‫وهكذا جند كيف �أدى غياب الت�صور الو�سطي للتوازنات التي‬ ‫ميكن من خاللها حتديد امل�صالح العامة واخلا�صة وتقدير جوانب‬ ‫امل�س�ؤولية الفردية واجلماعية‪� ،‬إىل ت�شو�ش كبري يف حتديد امل�صالح‬ ‫وتقدير امل�س�ؤوليات‪ ،‬وترتب على هذا بطبيعة احلال زيادة ال�ضبابية‬ ‫يف قراءة الواقع وفقهه‪ ،‬وح�صول الت�ضارب والفو�ضى‪.‬‬ ‫‪ .5‬ا�ستخدام الفتوى‬ ‫حكم معني عليه من‬ ‫ُيعترب ت�شكيل ت�صو ٍر عن الواقع و�إ�صدار ٍ‬ ‫خالل (فتوى) معينة عن�صراً من عنا�صر منهج قراءة الواقع‬ ‫والتعامل معه يف �أو�ساط العرب وامل�سلمني‪ .‬يحتاج الإن�سان العربي‬ ‫وامل�سلم �إىل �أن يكون لديه ت�صو ٌر ما عن الوقائع التي جتري من‬ ‫ٌ‬ ‫موقف ما من تلك الوقائع‪ .‬ولكن‬ ‫حوله‪ ،‬و�أن يكون لديه بالتايل‬ ‫مبا �أن كثرياً من العامة ي�شعرون يف �أعماقهم بدرج ٍة من العجز عن‬ ‫فهم تعقيدات الواقع‪ ،‬ف�إنهم يقومون بتلبية تلك احلاجة النف�سية‬ ‫والعقلية من خالل اللجوء �إىل املنظومة الثقافية التي ت�شكل‬ ‫�أر�ضية هويتهم‪ ،‬وهي الدين‪ .‬ويتمثل ذلك عملياً يف اللجوء �إىل‬ ‫علماء الدين الذين يرجو العامة �أن يجدوا لديهم ما ي�ساعدهم‬ ‫على ت�شكيل الت�صور وحتديد املوقف من الواقع ب�شكل ب�سيط‬ ‫وخمت�صر و�سريع‪ ،‬بعيداً عن الدخول يف متاهات العمليات الذهنية‬ ‫والفكرية والعلمية املعقدة‪ ،‬التي يرغب العامة �إجما ًال يف جتنبها‪،‬‬ ‫�أو ال يجدون يف �أنف�سهم القدرة على القيام بها ابتدا ًء‪.‬‬ ‫و�إذا قمنا بر�صد الواقع بعد �أحداث �سبتمرب ف�إن ب�إمكاننا‬ ‫الإ�شارة �إىل الإ�شكاليات التي نتجت وتنتج عن ا�ستخدام مدخل‬

‫‪57‬‬


‫(الفتاوى)‪ ،‬للتعامل مع �أحداث بهذا احلجم‪ .‬فمن �أ�صغر م�س�أل ٍة‬ ‫فردية و�شخ�صية‪� ،‬إىل �أكرب ق�ضي ٍة ولو كانت كونية الأبعاد مثل‬ ‫�أحداث �سبتمرب وما تالها‪ ،‬يلج�أ العقل العربي وامل�سلم �إىل البحث‬ ‫�شخ�ص‬ ‫عن حلولٍ جاهزة‪ ،‬و�إجاباتٍ متكاملة من خالل (ا�ستفتاء)‬ ‫ٍ‬ ‫معني‪ ،‬يغلب �أن ينح�صر ر�صيد علمه يف الدائرة ال�شرعية التي ال‬ ‫اختالف على �ضرورة وجودها‪ .‬ولكن ب�شرط �أن يتواجد �إىل جانبها‬ ‫زوايا الر�ؤية الأخرى ال�سيا�سية واالجتماعية واالقت�صادية َ�صنعت‬ ‫وت�صنع كثرياً من مالمح هذا الواقع الإن�ساين الذي نحاول فهمه‬ ‫والتعامل معه‪.‬‬ ‫من هنا‪ ،‬وجدنا يف خالل تلك الأحداث ذلك الإ�صرار الغريب من‬ ‫مل‬ ‫قِبل �شرائح كربى من النا�س على احل�صول على (فتوى) من عا ٍ‬ ‫هنا �أو هناك‪ ،‬يتوقع ال�سائلون �أن يكون فيها كل ما ي�شفي غليلهم‬ ‫حول الق�ضايا الكربى التي �أثارتها الأحداث‪ .‬ثم �إن الفتاوى عندما‬ ‫�صدرت باتت �سبباً للت�ضارب واالختالف وال�ضياع يف فقه الواقع‬ ‫بد ًال من �أن تكون طريقاً لفهمه ب�شكل مو�ضوعي �سليم‪.‬‬ ‫�إن َغلَبة مدخل (الفتاوى) يف حياتنا الفكرية يحمل جمل ًة من‬ ‫الدالالت اخلطرية التي تتجاوز داللته التقليدية التي ت�شري �إىل‬ ‫ارتباط الإن�سان بدينه وبحثه عن �إجابات مل�سائل حياته فيه‪ .‬ولكن‬ ‫املرفو�ض بقوة هو �سيطرة الدالالت الأخرى التي تتمثل يف َغلَبة‬ ‫عقلية التب�سيط املخ ّل واال�ستعجال واالختزال التي تنظر �إىل الفقه‬ ‫نظر ًة توحي ب�أن هذا الدين هو (دين معلبات جاهزة)‪ .‬الأمر الذي‬ ‫يقتل كل معاين اجلهد العقلي والفكري والبحثي والعلمي الهائل‬ ‫الذي يجب �أن يكون دوماً طريق الباحثني عن الإجابات واحللول‪.‬‬ ‫لأن هذا الطريق لي�س فقط هو الطريق امل�ضمون للو�صول �إىل‬ ‫تلك الإجابات واحللول‪ ،‬و�إمنا �أي�ضاً لأنه الطريق الأجدر ب�إثبات‬ ‫االرتباط احلقيقي بهذا الدين‪ ،‬من خالل تبيان قدرته امل�ستمرة‬ ‫على ا�ستيعاب الن�شاط الب�شري ب�شكل خالق‪ ،‬وتوظيفه دوماً يف‬ ‫اجتاه حتقيق اخلري للإن�سانية يف كل زمان ومكان‪..‬‬ ‫‪ .6‬ا�ستخدام الر�ؤية الغيبية اخلرافية‬ ‫حق ال ميكن لعاقلٍ �أن ينكره ف� ً‬ ‫الغيب ٌ‬ ‫ضال عن �أن ينكره م�سلم‬ ‫يعرف ما هو الإ�سالم‪ ،‬ولكن ما نتحدث عنه هنا هو طغيان تلك‬ ‫النظرة التي تتطرف يف اعتبار اخلوارق واملعجزات والكرامات‬ ‫�سبي ً‬ ‫ال لفهم الواقع والتعامل مع الأزمات وامل�شكالت‪ .‬ولقد عادت‬ ‫�أزمة �سبتمرب وما تالها ل ُتظهر لنا كيف كان َتو ُّق ُع ح�صول الكرامات‬ ‫وانتظار ح�صول اخلوارق واملعجزات �سبي ً‬ ‫ال التخاذ القرارات‬ ‫واملواقف‪ ،‬وو�سيل ًة لتحليل الوقائع والأحداث‪ .‬وهناك روايات‬

‫تقول �أن بع�ض الأحالم والر�ؤى كانت وراء القيام بعمليات �سبتمرب‬ ‫على ال�شكل الذي جاءت عليه‪ .‬و�إذا كان من غري املمكن التحقق‬ ‫من تلك الروايات املنت�شرة بكثافة يف �أو�ساط بع�ض الإ�سالميني‬ ‫وغريهم من عامة النا�س‪ ،‬التي ّ‬ ‫مت تداولها يف االنرتنت بحما�سة‬ ‫�شيخ هناك تتحدث عن هزمية �أمريكا‬ ‫حول �أحالم عالمِ ٍ هنا ور�ؤى ٍ‬ ‫وانت�صار القاعدة وطالبان‪.‬‬ ‫وف� ً‬ ‫ضال عن ذلك‪ ،‬ف�إن الآالف من ال�شباب املُلتهب حما�س ًة‪ ،‬يف‬ ‫كل مكانٍ من العامل‪ ،‬كان ينتظر على �أحرٍ من اجلمر بدء املعارك‬ ‫يف �أفغان�ستان لكي ي�شاهدوا تلك الكرامات واخلوارق التي �ستحدث‬ ‫على �أر�ضها‪ ،‬ولريوا كيف �ستتنزل املالئكة وتقاتل مع امل�سلمني‪،‬‬ ‫وكيف �ستنفجر فوهات مدافع الأمريكان‪ ،‬وكيف �ستمتنع قنابلهم‬ ‫و�صواريخهم عن االنفجار عندما ت�سقط يف مناطق طالبان‬ ‫والقاعدة‪.‬‬ ‫ولقد بلغ �شعور البع�ض ب�أهمية ت�أكيد هذه العقلية وجتذيرها‬ ‫ولو عن طريق الكذب والغ�ش‪ ،‬بل �إن عقلية اخلوارق واملعجزات‬ ‫�صارت يف �أثناء الأزمة ُتعبرّ ُ عن نف�سها حتى من خالل نوعية الدُّ عاء‬ ‫الذي كان ُيطلقه البع�ض هنا وهناك‪ .‬ولكنّ منهج "�إن ال�سماء ال‬ ‫ف�ضة" الذي فهمه مُبكراً امل�سلمون الأوائل ّ‬ ‫تمُ ط ُر ذهباً وال ّ‬ ‫يدل‬ ‫دالل ًة قو ّية على قانونٍ من قوانني العالقة بني الأر�ض وال�سماء‬ ‫يجب �أن يتذ ّكره الكثريون‪.‬‬ ‫وال �شك يف �أن هذا الإغراق يف ر�ؤية الواقع وحماولة التعاطي‬ ‫معه من خالل مثل تلك الأمثلة التي ُتلب�س الغيب باخلرافات‬ ‫والأباطيل والأحالم والأوهام ميثل خروجاً فا�ضحاً على �أي درجة‬ ‫من الو�سطية يف منهج فقه الواقع والتعامل معه‪.‬‬ ‫‪ .7‬عقلية متثيل الإ�سالم وامل�سلمني من خالل فرد �أو جماعة‬ ‫�إن ال�شعور بتمثيل فرد ما �أو جماعة ما للإ�سالم ُيعترب‬ ‫عن�صراً مهماً من عنا�صر منهج فقه الواقع والتعامل معه‪ ،‬لأن‬ ‫درجة وطبيعة مثل ذلك ال�شعور ت�ؤثر �إىل درجة كبرية يف ت�صور‬ ‫�أ�صحابه للواقع‪ .‬فالفرد الذي يت�صور �أنه ميثل الإ�سالم يرى �أن‬ ‫كل ما ي�صيب ُه ك�شخ�ص ي�ؤثر على الإ�سالم نف�سه‪ ،‬واجلماعة التي‬ ‫ترى �أنها متثل الإ�سالم تعتقد �أن الإ�سالم وم�صريه �سلباً �أو �إيجاباً‬ ‫منوط ب�أفعالها وقراراتها وت�صرفاتها‪.‬‬ ‫واحلقيقة �أن ادّعاء فئ ٍة معي ّنة �أياً كانت ب�أن فهمها للإ�سالم هو‬ ‫الفهم الأمثل له‪ ،‬على م�ستوى ال ُك ّليات وعلى م�ستوى التفا�صيل‬ ‫واجلزئيات‪� ،‬أم ٌر يف غاية اخلطورة عملياً يف الواقع الراهن‪ .‬لأن من‬ ‫املمكن لذلك االدّعاء يف �أحيان كثرية �أن يقود �إىل ادّعا ٍء �آخر ب�أح ّقية‬

‫‪58‬‬


‫تلك الفئة يف متثيل الإ�سالم‪ ،‬وبالتايل امل�سلمني‪ ،‬ك ّلما ح�صلت واقع ٌة‬ ‫للإ�سالم وامل�سلمني عالقة بها من قريب �أو بعيد‪.‬‬ ‫�صحيح �أن االنتماء لهذا الدين‪ ،‬والغرية عليه وعلى �أبنائه‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫واالن�شغال بحا�ضره وم�ستقبله‪ٌ ،‬‬ ‫حق لكل من ينتمي �إليه ب�شكلٍ من‬ ‫واجب عليه‪ .‬ولكن‬ ‫الأ�شكال‪ ،‬بل رمبا ميكن القول �أن ذلك الأمر هو ٌ‬ ‫الإن�سان العربي وامل�سلم يجب �أن يتعامل مع هذه امل�س�ألة بنوع من‬ ‫احل�سا�سية واحلذر واالنتباه‪ ،‬خا�ص ًة عندما ت�أخذ حركته ون�شاطاته‬ ‫�أبعاداً جماعي ًة تخرج عن �إطار دائرته الفردية‪ ،‬وخا�ص ًة عندما‬ ‫ي�صبح لتلك احلركة وذلك الن�شاط َت ِب ٌ‬ ‫عات جماع ّية‪ ،‬ويرت ّت ُب عليها‬ ‫نتائج ت�ؤثر يف م�صائر جمموعات �أخرى من الب�شر �صغري ًة كانت �أو‬ ‫كبرية‪ ،‬من امل�سلمني �أو من غري امل�سلمني‪.‬‬ ‫و�إن من �أغرب الأمور و�أكرثها مدعا ًة للت�سا�ؤل واملراجعة‪،‬‬ ‫تلك ال�سهولة البالغة التي يجدها بع�ض �أبناء العرب وامل�سلمني يف‬ ‫مت�س‬ ‫ادّعاء متثيل الإ�سالم‪ ،‬وبالتايل االجتهاد حول ق�ضايا كربى ُّ‬ ‫بت�أثرياتها املت�ش ّعبة كثرياً من الدول وال�شعوب‪ ،‬بل ورمبا الأمة‬ ‫ب�أ�سرها‪ ،‬مثلما هو احلال مع ذلك االجتهاد الذي قاد �إىل �سبتمرب �أو‬ ‫قاد �إىل ما تالها من الكوارث‪ .‬كل هذا بدعوى الإخال�ص والتفاين‬ ‫والغرية على م�صلحة البالد والعباد‪ ،‬و�إن امل�شكلة الأخرى املوازية‬ ‫تتمثل يف قبول بع�ض من ُي�س ّمون �أنف�سهم علماء وم�شايخ ومثقفني‬ ‫و�أكادمييني بتلك الدعاوى و�إقرارهم لها‪ ،‬بل ويف التما�س املزيد‬ ‫من الأعذار والتربيرات ملن يقوم بتلك الأعمال‪ ،‬ثم التغا�ضي عن‬ ‫النتائج الكارثية التي تنتج عنها‪ ،‬والقول بب�ساطة �أن هذه النتائج‬ ‫الكارثية �إمنا تدخل يف باب الفتنة والتمحي�ص واالبتالء وال َقدَر‬ ‫قاطع وحازم وحا�سم‪،‬‬ ‫املقدور‪ ،‬بد ًال من الت�صدي مبكراً وب�شكلٍ‬ ‫ٍ‬ ‫وبكل الو�سائل والأ�ساليب‪ ،‬لك ّل من ُيدخ ُل الأمة والعامل ب�أ�سره يف‬ ‫هذه الأنفاق اخلطرية واملجهولة‪.‬‬ ‫ولهذا فقد بات مطلوباً ب�إحلاح حترير م�س�ألة فهم الإ�سالم‬ ‫وح�صر متثيله يف جماع ٍة معينة تنطلق من ظروفها اخلا�صة‬ ‫و�أحوالها املُع ّينة ومن قراءتها اجلزئية للواقع‪ ،‬وتتحرك بنا ًء على‬ ‫حدود علمها التي كثرياً ما تكون يف غاية الق�صور‪ ،‬لتقوم ب�أفعال‬ ‫وت�صرفات‪ ،‬ولتت�صدى لقرارات وخمططات‪ ،‬تتجاوز بكثري قدرتها‬ ‫على الإحاطة وينتج عنها م�ستتبعات ت�ؤثر على الآخرين‪ .‬لأن‬ ‫هذا التحرير هو الكفيل ب�إعادة الت�صور الو�سطي ليكون ال�ضابط‬ ‫واملوجه ملثل هذه الق�ضايا احل�سا�سة اخلطرية‪.‬‬ ‫‪ .8‬درجة احرتام معطيات العلم والتخ�ص�ص‬ ‫� ّإن يف هذه العلوم والتخ�ص�صات من �أدوات البحث والتحليل ما‬

‫مل يعد ممكنا اال�ستغناء عنه للقيام بتلك العملية‪ ،‬كما �أن الرتاكم‬ ‫املعريف الذي �شهدته وت�شهده الب�شرية يف حقول املعرفة املتنوعة‬ ‫ي�ساعد على �إعطاء �صور ٍة �أكرث �شمو ًال ودقة عن الواقع العاملي‬ ‫الراهن‪ .‬من هنا تعترب درجة احرتام تلك العلوم والتخ�ص�صات‬ ‫ودرجة ا�ستخدامها عن�صراً رئي�ساً من عنا�صر فقه الواقع والتعامل‬ ‫معه‪.‬‬ ‫ولقد كانت �إحدى امل�شكالت الكربى يف طريقة فقه العرب‬ ‫وامل�سلمني للواقع وتعاملهم معه تتمثل يف زهدهم الظاهر يف‬ ‫قراءة الأحداث‪ ،‬بنا ًء على معطيات العقل واملنطق والتخ�ص�صات‬ ‫الأكادميية املختلفة‪.‬‬ ‫�إن �أحداثاً بهذا التعقيد وال�شمول ال ميكن �أن ُتفهم من خالل‬ ‫النظرة التاريخية فقط �أو النظرة ال�شرعية فقط �أو حتى النظرة‬ ‫ال�سيا�سية البحتة فقط‪ ،‬لأن �أبعاد تلك الأحداث تتعلق بالتاريخ‬ ‫وال�شريعة وال�سيا�سة جمتمع ًة وتتعلق �أي�ضاً بغريها من العلوم‬ ‫والتخ�ص�صات‪ .‬بينما النظرة ال�شمولية تقت�ضي �أن ُت�ست�صحب على‬ ‫الأقل العوامل التالية‪ :‬الن�ص ودالالته ومقا�صده الكربى‪ .‬معطيات‬ ‫الواقع والر�ؤية التخ�ص�صية‪ . .‬ظروف كل حم ّلة وخ�صو�صياتها‪.‬‬ ‫الظروف العاملية وتوازناتها‪ .‬احلا�ضر بكل معطياته‪ .‬التاريخ‬ ‫واملا�ضي ودالالتهما‪.‬‬ ‫�إن �أحداً ال ي�ستطيع �أن ينكر ّ‬ ‫حق الأفراد من العلماء واملثقفني‬ ‫والإعالميني يف القيام مبا يعتقدون �أنه دورهم‪ ،‬ويف �إعالن مواقفهم‬ ‫وحتليالتهم املع ّينة للأحداث‪ .‬ولي�س املُراد من الكالم ال�سابق‬ ‫احلجر على مواقف الب�شر‪� ،‬أو م�صادرة الآراء والتحليالت التي ال‬ ‫ت�ست�صحب كل العوامل التي دخلت يف �صناعة الأحداث‪ .‬فهذا املنع‬ ‫وا َ‬ ‫حل ْجر مما ال ميكن لأحدٍ القيام به �أ� ً‬ ‫صال‪ ،‬وهو لي�س من طبائع‬ ‫الأ�شياء‪ ،‬ولكن املق�صود هنا هو دعوة �أولئك العلماء واملثقفني‬ ‫والإعالميني �إىل التح ّلي باحل ّد الأدنى املطلوب من املو�ضوعية‬ ‫والهدوء والتوازن عند القيام بتلك املمار�سات‪ ،‬خا�ص ًة و�أنها ت�صدر‬ ‫ع ّمن يت�صدّون للعمل العام‪ ،‬وهم �أوىل النا�س ّ‬ ‫بتوخي احلذر عند‬ ‫كتابة حتليالتهم و�إ�صدار بياناتهم و�إطالق ت�صريحاتهم‪.‬‬ ‫ومن هنا ت�أتي �ضرورة احرتام م�س�ألة التخ�ص�ص يف واقعنا‬ ‫املعا�صر‪ ،‬خا�ص ًة يف مثل هذه املنعطفات امل�صريية يف تاريخنا كعرب‬ ‫وكم�سلمني‪ .‬فلقد �شاعت يف حياتنا الفكرية والثقافية والإعالمية‬ ‫فو�ضى التحليالت والآراء‪ ،‬وبات كل �إن�سان ي�ست�سهل �إىل درج ٍة‬ ‫كبرية �إطالق الأحكام و�إ�صدار الت�صنيفات يف �أي ق�ضي ٍة من الق�ضايا‬ ‫وتخ�ص�صه وجمال معرفته وعلمه‪.‬‬ ‫بغ�ض النظر عن �أهل ّيته‬ ‫ّ‬

‫‪59‬‬


‫وقد كانت �أحداث �سبتمرب وما تالها منا�سب ًة كربى لر�ؤية هذه‬ ‫امل�شكلة املتج ّذرة يف حياتنا املعا�صرة‪ ،‬التي ملأت �أرجاءَها حتليالت‬ ‫ال�سطحية والب�ساطة واالختزال‪،‬‬ ‫ونظرات و�آراء وا�ستنتاجات يف غاية ّ‬ ‫وب�شكلٍ يتناق�ض متاماً مع �أدنى مقت�ضيات العلم والتخ�ص�ص‪،‬‬ ‫الأمر الذي جعل كثرياً من النا�س يبتعدون عن الواقعية املطلوبة‬ ‫ويعي�شون يف عوامل خيال ّية من الظنون والأوهام‪.‬‬ ‫ولهذا‪ ،‬ف�إن احل ّل الوحيد للم�شكلة يكمن يف انتباه ّ‬ ‫الطرف الذي‬ ‫يمُ ار�س تلك املمار�سات‪ ،‬وانتباه الطرف الذي يتق ّبلها‪� ،‬إىل خطورة‬ ‫ري للفو�ضى الفكرية والثقافية‪،‬‬ ‫ما يرتتب عليها من �شيو ٍع كب ٍ‬ ‫وبالتايل يف وجود مواقف عملية م�ش ّوهة ت�ضيف �إىل ر�صيد‬ ‫ّ‬ ‫املت�ضخم يف واقعنا املعا�صر‪ .‬لذلك‪� ،‬صار من‬ ‫اخل�سائر والهزائم‬ ‫الواجب �أن تع ّم يف هذا الواقع‪ ،‬وبني ال�شعوب العربية والإ�سالمية‬ ‫مواقف النقد والتمحي�ص والتدقيق ملا ُيطلق من �آراء‪ ،‬وبات‬ ‫مطلوباً �أن يتع ّود النا�س على �س�ؤال من يت�ص ّد ُر للتحليل‪ :‬من �أين‬ ‫�أَتيتَ بهذه املعلومات؟ وما هي خلفيات هذا الر�أي؟ وعلى ماذا َبنيتَ‬ ‫هذا التحليل؟ وكيف ُتثبتُ ب�أن هذا املوقف �صحيح؟ وملاذا يجب‬ ‫�أن �أ�صدّق ما تقول؟ وما هي وجهة النظر امل�ضادّة لهذا املوقف؟‬ ‫وغري ذلك من الأ�سئلة التي جترب الآخرين على احرتام عقول‬ ‫الب�شر‪ ،‬وترغمهم على الت�أنيّ وال�صرب والتفكري قبل �إطالق الآراء‬ ‫والتحليالت ب�سهول ٍة �شديدة وبدون �أي �شعور مب�س�ؤولية الكلمة‪.‬‬ ‫�إن هذا ال ميثل دعو ًة للح ّد من حرية التعبري كما قد يعتقد‬ ‫بع�ض الب�سطاء‪ ،‬و�إمنا هو دعو ٌة �إىل تنظيم حياتنا الثقافية‬ ‫والفكرية واحرتام عقولنا و�أوقاتنا وجهودنا‪ ،‬التي كثرياً ما ت�ضيع‬ ‫عبثاً يف مواقف و�آراء يتبني يف النهاية �أنها ال ت�ستحق االعتبار‪ .‬و�إذا‬ ‫ما ّ‬ ‫مت تنظيم حياتنا الفكرية والثقافية �شيئاً ف�شيئاً بذلك ال�شكل‬ ‫الذي يحرتم التخ�ص�ص ويحرتم معطيات العلم والعقل‪ ،‬ف�سيبقى‬ ‫املجال مفتوحاً دوماً ملن �شاء �أن يتحدث و ُيطلق ر�أيه‪ ،‬ولكن حجم‬ ‫ت�أثري الآراء ال�سطحية املختزلة يف حياتنا �سي�صبح عندها حمدوداً‬ ‫وحما�صراً �ضمن دوائر �ضيقة‪.‬‬ ‫وبهذا ي�صبح العقل اجلمعي للأمة قادراً يف مرحلة من املراحل‬ ‫على ر�ؤية ال�صورة ب�شموليتها وتوازنها من خالل تكامل الآراء‬ ‫والتحليالت التي متتلك ذلك احلد الأدنى من املو�ضوعية والتوازن‪،‬‬ ‫وت�ستند �إىل ما هو مطلوب من العلم والتخ�ص�ص واملنهجية‪ .‬وبهذا‪،‬‬ ‫وهذا هو امله ّم‪ ،‬ت�صبح القرارات العملية �سواء على م�ستوى الأفراد‬ ‫�أو اجلماعات �أو احلكومات منبثق ًة من ذلك العقل اجلمعي املتوازن‬ ‫الواعي‪ .‬لأن مثل تلك القرارات هي دوماً نِتا ٌج للعقل اجلمعي يف‬

‫ٌ‬ ‫�صادق عن خ�صائ�صها وملَ َكاتِها العقلية والفكرية‬ ‫ري‬ ‫الأمة‪ ،‬وتعب ٌ‬ ‫والثقافية‪ .‬ومن خالل ذلك كله تعود الو�سطية يف منهج ر�ؤية‬ ‫الواقع والتعامل معه لت�صبح الطريق الأمثل الذي ي�ضمن حفظ‬ ‫طاقات العرب وامل�سلمني و�أوقاتهم وعقولهم من الهدر وال�ضياع‪.‬‬ ‫‪ .9‬عقلية الغلو والت�شدد والإفراط يف و�ضع احلدود‬ ‫واملحرمات‬ ‫واملوانع‬ ‫ّ‬ ‫ري من العرب وامل�سلمني عن الآثار ال�سلبية لعقلية الغل ّو‬ ‫يغفل كث ٌ‬ ‫والت�شدد والإفراط يف ر�سم احلدود واملوانع واملحرمات على عملية‬ ‫فقه الواقع والتعامل معه‪ .‬ونحن ال نتحدث هنا عن بع�ض النتائج‬ ‫املعروفة لتلك امل�شكلة‪ ،‬من االنغالق ثم التط ّرف وممار�سة العنف‬ ‫غري امل�شروع ب�أي �شكلٍ من �أ�شكاله يف ّ‬ ‫حق الآخرين من الب�شر‪،‬‬ ‫م�سلمني كانوا �أم غري م�سلمني‪.‬‬ ‫ولكن احلديث هنا يتعلق ب�أمر �آخر يتمثل يف العالقة اجلدلية‬ ‫بني عقلية الغلو والت�شدد وبني ق�ضية احلفاظ على الدين‪.‬‬ ‫فمقت�ضيات العقل واملنطق‪ ،‬ومعطيات علوم النف�س واالجتماع ت�ؤكد‬ ‫�أن هناك �سبباً �أ�سا�سياً يف غاية احل�سا�س ّية للوقوع يف الغل ّو والت�شدّد‪،‬‬ ‫يتمثل يف اجلهل ب�أي و�سيل ٍة �أخرى حلماية ذلك الدين وللحفاظ‬ ‫على مبادئه‪ ،‬غري و�سيلة املنع وال�ضبط والإغالق واملراقبة‪.‬‬ ‫لقد تع ّلم الإن�سان بالغريزة من �أيام طفولته الب�شرية الأوىل‪� ،‬أنه‬ ‫�إذا كان يخاف على �شي ٍء نفي�س‪ ،‬ف�إن �أي�سر و�أ�سهل ما يفعله ل�ضمان‬ ‫حمايته يتمثل يف �إقامة الأ�سوار واملوانع واحلدود من حوله بحيث‬ ‫ال متت ّد �إليه الأيدي بالأذى �أو التخريب‪.‬‬ ‫ولكن ما يغفل عنه كل من يقع يف م�شكلة الغل ّو والت�شدّد هو‬ ‫�أن الإن�سان جتاوز مرحلة طفولته الب�شرية الب�سيطة‪ ،‬و�أن معرفته‬ ‫و�أدواته التي ميكن ا�ستعمالها للحفاظ على الثمني من حاجاته‪،‬‬ ‫املادية منها والفكرية‪ ،‬تط ّورت �إىل درجة كبرية‪ .‬و�أن �أ�سلوب �إقامة‬ ‫احلدود والأ�سوار خ�صو�صاً مل ي ُع ْد ُيجدي حلماية الأفكار والعقائد‬ ‫على وجه التحديد‪ ،‬يف هذا العامل الذي �سقطت فيه احلواجز‬ ‫واحلدود الثقافية‪.‬‬ ‫�إن الإ�صرار على تلك املمار�سات �إمنا ّ‬ ‫يدل على �إ�صرا ٍر م�ؤمل‬ ‫التم�سك ب�أ�ساليبها‬ ‫للعي�ش يف مرحلة الطفولة الب�شرية‪ ،‬ويف‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬ ‫ممار�سات لن ينتج‬ ‫والت�ش ّبث بو�سائلها البدائية الب�سيطة‪ ،‬وهي‬ ‫عنها غري خداع الذات‪ ،‬لأن �أق�صى ما ت�ستطيع حتقيقه هو‬ ‫حما�صرة النف�س‪ ،‬وحما�صرة بع�ض الدوائر القريبة منها‪ ،‬داخل‬ ‫بع�ض الأ�سوار الثقافية املح ّلية �أو الإقليمية‪ ،‬يف الوقت الذي جتتاح‬ ‫فيه الثقافات املنفتحة هذا العامل من م�شرقه �إىل مغربه‪� ،‬إىل درج ٍة‬

‫‪60‬‬


‫تت�آكل معها حتى تلك الدوائر املغلقة من �أطرافها �شيئاً ف�شيئاً‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫ولن مي�ضي وقتٌ‬ ‫طويل حتى يجد نف�سه‪ ،‬وقد اقتحمت عليه تلك‬ ‫الثقافات ما كان يظنه ح�صنه احل�صني‪ ،‬و�سحبت من بني يديه كل‬ ‫غالٍ ورخي�ص‪.‬‬ ‫�إن جميع �صور املبالغة التي ميكن و�ضعها يف خانة الغل ّو والت�شدّد‪،‬‬ ‫من املبالغة يف التعلق بالغيبيات‪� ،‬أو املبالغة يف ر�سم احلدود واملوانع‬ ‫واملح ّرمات‪� ،‬أو املبالغة يف كبت ال ّنف�س والعقل‪ ،‬تدفع الإن�سان �إىل‬ ‫�أن يدخل �شيئاً ف�شيئاً يف حال ٍة من ال�شلل ال ّذهني والنف�سي التي‬ ‫يفقد معها احليوية العقلية والقدرة على فهم العامل وعلى احلركة‬ ‫العملية فيه‪ ،‬بحيث ي�صبح بني خيارين �أمام هذا العامل املتفجر‬ ‫باحليوية من حوله‪ :‬ف�إما �أن ينفجر يف وجه ذلك العامل ب�صور ٍة‬ ‫من �صور العنف �أياً كانت‪� ،‬أو يبد�أ يف الهروب منه تدريجياً ويف‬ ‫االنزواء يف قواقع تزداد �ضيقاً من الرف�ض واالن�سحاب والعزلة‪،‬‬ ‫�إىل درجة اال�ست�سالم الكامل وانتظار املوت خال�صاً من هذا الواقع‬ ‫الأليم‪.‬‬ ‫و�أخرياً ف�إن رف�ض املبالغة يف كبت النف�س والعقل ال يعني �إطالق‬ ‫العنان لل�شهوات والغرائز احليوانية‪ ،‬وال �إغفال حدود العقل �أمام‬ ‫علم اهلل املطلق‪ ،‬وال �إنكار دالالت الن�ص ال�صحيح املُح َكم‪ ،‬و�إمنا‬ ‫تعني رف�ض تقزمي العقل وتقييده ومنعه من التحليق بقو ٍة‬ ‫وعزمية يف �آيات الأنف�س والآفاق بدعوى �إجالل اهلل‪ ،‬وتعني رف�ض‬ ‫املتع�سفة‪ ،‬ورف�ض العودة �إىل عقائد‬ ‫ممار�سات الكبت والتحرمي‬ ‫ّ‬ ‫الإ�صر والأغالل �أو الرهبانية املبتدعة واملرفو�ضة يف �أي �شكلٍ من‬ ‫�أ�شكالها‪ .‬فهذه هي املبالغات التي ت�ؤدي �إىل ال�شلل العقلي والنف�سي‬ ‫والعملي‪ ،‬وت�ؤدي �إىل افتقاد القدرة على فقه الواقع‪.‬‬ ‫وذلك هو ال�شلل العقلي والنف�سي والعملي الذي كان يحا�صر‬ ‫كثرياً من اجلماعات واحلركات يف العامل العربي والإ�سالمي‪ .‬ولقد‬ ‫�أدى وجود ذلك ال�شلل �إىل غياب �إمكانية الت�أثري على الأحداث‬ ‫ب�شكلٍ فعال يف الفرتة املا�ضية‪ ،‬رغم كل ال�ضجيج وكل ال�شعارات‬ ‫والعواطف‪ .‬وهذه حقيق ٌة ي�أمل املرء �أال يقع البع�ض يف �إنكارها‬ ‫ري من الدرا�سة‬ ‫ملج ّرد املعاندة‪ ،‬كما ي�أمل �أن تكون حقاً جما ًال لكث ٍ‬ ‫والتفكري واملُراجعات التي ت�ستهدف ا�ستعادة الت�صور الو�سطي‬ ‫لكيفية حفظ الدين‪ ،‬لي�س من خالل الت�شدد واالنغالق وت�أكيد‬ ‫ثقافة املنع‪ ،‬و�إمنا من خالل االنفتاح واملرونة وت�أكيد ثقافة املناعة‪.‬‬ ‫‪ .10‬املوقف من (الآخر) غري امل�سلم‬ ‫�إن فقه الواقع يحتاج �إىل حترير م�س�ألة �أ�سا�سية تتمثل يف املوقف‬ ‫ال�شعوري والفكري من (الآخر) غري امل�سلم‪ .‬فهذا املوقف ال�شعوري‬

‫والفكري َير�سم يف الأذهان �أحياناً �صور ًة م�شوهة عن حقيقة واقع‬ ‫ذلك الآخر‪ ،‬مبعنى �أن ر�سم تلك ال�صورة يتم لي�س من خالل درا�سة‬ ‫الواقع وحتليله وقراءته بطريقة منهجية حمايدة‪ ،‬و�إمنا من‬ ‫خالل الأحكام امل�سبقة جتاهه‪.‬‬ ‫�إن حترير املوقف من (الآخر) غري امل�سلم‪ ،‬يعني ا�ستعادة ر�ؤية‬ ‫قيمته الكبرية كمخلوقٍ ك ّرم اهلل �إن�سانيته‪ ،‬وتقدير �إجنازاته‬ ‫املعتربة وعطاءه التاريخي واملعا�صر يف كل جمال‪ .‬و�إن هذا ال يعني‬ ‫فقط �أننا نقبل بوجوده ب�شكلٍ حمايد ك�إن�سان‪ ،‬و�إمنا يعني �أننا‬ ‫كعرب وكم�سلمني نريد �أي�ضاً �أن ن�أخذ من تلك الإجنازات‪ ،‬ونتفاعل‬ ‫بحيوية مع ذلك العطاء‪ ،‬لي�س فقط يف جانبه املادي وال�صناعي‬ ‫البحت‪ ،‬و�إمنا �أي�ضاً يف جوانبه الأخرى الإن�سانية والثقافية‬ ‫والأدبية والفنية‪.‬‬ ‫ونحن نريد الت�أكيد هنا على �أن هناك خل ً‬ ‫ال كبرياً يف فهم طبيعة‬ ‫العالقة مع الآخر غري امل�سلم‪ ،‬فاملوقف من ذلك الآخر حتكمه يف‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ُطلقات ال �صلة لها بالواقع احلقيقي‬ ‫تعميمات وم‬ ‫�أغلب الأحيان‬ ‫على الإطالق‪ ،‬بقدر ما تكون ناجتة عن مواقف و�أحداث �سيا�سية‬ ‫واقت�صادية معينة‪ ،‬وخا�ص ًة يف �أوقات الأزمات احل�ضارية الكربى‪،‬‬ ‫مثلما هو عليه احلال مع الأزمة التي �صاحبت �أحداث �سبتمرب وما‬ ‫تالها‪.‬‬ ‫فهناك من جهة ٌ‬ ‫خلط وتعمي ٌم عندما يتعلق الأمر بالتمييز‬ ‫بني الدول املختلفة وبالتمييز بني التوجهات ال�سيا�سية داخل الغرب‬ ‫نف�سه‪ ،‬وعندما يتعلق الأمر باجلماعات الب�شرية املتنوعة املوجودة‬ ‫داخل دول ذلك الغرب وداخل الواليات املتحدة على وجه اخل�صو�ص‪،‬‬ ‫وعندما يتعلق الأمر بالتفريق بني احلكومات وبني ال�شعوب‪ ،‬وبني‬ ‫امل�ؤ�س�سات ال�سيا�سية والع�سكرية من جهة وامل�ؤ�س�سات الفكرية‬ ‫والأدبية والعلمية والفنية واحلقوقية من جهة ثانية‪.‬‬ ‫و�إن مما ال بد �أن نعرتف به �أن ال ّنظرة �إىل �أمريكا واملوقف‬ ‫منها كانت قبل �سبتمرب �أمراً من �أ�شد الأمور ح�سا�سية يف حياة‬ ‫العرب وامل�سلمني املعا�صرة‪ ،‬ولكن ح�سا�س ّية هذا الأمر باتت بعد‬ ‫�أحداث �سبتمرب �أكرب كثرياً من ذي قبل‪ .‬فالنا�س يف هذا منق�سمون‬ ‫موقف ما‬ ‫ِ�ض كا ِر ْه وبني عا�شقٍ َو ْلهان‪ .‬وامل�شكلة �أن اتخاذ‬ ‫ٍ‬ ‫بني مُبغ ٍ‬ ‫من هذه الـ "�أمريكا" يبدو �أمراً ال مف َّر منه وك�أنه القدر –ولو على‬ ‫ُّ‬ ‫التدخل‬ ‫ال�صعيد النف�سي– عند كل �إن�سانٍ عربي وم�سلم‪ .‬ب�سبب‬ ‫ُ‬ ‫والتداخل املبا�شر وغري املبا�شر من قبل �أمريكا يف كثري من �ش�ؤون‬ ‫املنطقة العربية والإ�سالمية على م ِّر ال�سنوات الطويلة‪.‬‬ ‫وال�س�ؤال الذي يخطر يف البال‪ :‬ما هي "�أمريكا" ابتدا ًء ؟‬

‫‪61‬‬


‫وعن �أي "�أمريكا" يتحدث املتحدثون يف احلوارات واملناق�شات و‬ ‫التحليالت؟‬ ‫متعجلة لل�س�ؤال تفرت�ض �ضمنياً �أن �أمريكا مت ّثل‬ ‫�إن �أيّ �إجاب ٍة ّ‬ ‫وحد ًة ع�ضوي ًة متالحم ًة ومتجان�س ًة على جميع امل�ستويات الثقافية‬ ‫واالقت�صادية والعرقية والأخالقية وال�سيا�سية واالجتماعية‪ .‬وب� ّأن‬ ‫كل ما ي�صدر عنها ‪-‬بدءاً من القرارات ال�سيا�سية مروراً بالإنتاج‬ ‫ال�سينمائي الكثيف وانتها ًء ب�آخر �صيحات الأزياء‪� -‬إمنا ي�صدر‬ ‫عن تلك الوحدة املتجان�سة‪ ،‬ويحوز على القبول اجلماعي لكل‬ ‫عنا�صرها‪ ،‬واحلقيقة �أن هذه الر�ؤية هي �أبعد ما تكون عن احلقيقة‬ ‫والواقع‪.‬‬ ‫ف�أمريكا لي�ست طبقة ال�سيا�سيني املحرتفني ذات الت�أثري املبا�شر‬ ‫والظاهر‪ ،‬ولي�ست طبقة رجال املال والأعمال ذات الت�أثري الكامن‬ ‫وامل�سترت‪ ،‬ولي�ست طبقة الإعالميني ذات الت�أثري املتنوع واملع ّقد‪.،‬‬ ‫و�أمريكا لي�ست طبقة الفنانني‪ ،‬ولي�ست طبقة الأكادمييني ال�ضخمة‬ ‫املنت�شرة يف �آالف املدار�س واجلامعات واملراكز العلمية‪ ،‬ولي�ست‬ ‫طبقة اجلماعات العديدة من دعاة حقوق الإن�سان واحلفاظ على‬ ‫الطبيعة والبيئة‪ ،‬ولي�ست طبقة مراكز ال�ضغط ال�سيا�سي املتنوعة‪،‬‬ ‫ولي�ست النقابات ال�ضخمة‪ ،‬ولي�ست اجلماعات الن�سوية‪ .‬وكذلك‬ ‫ف�إن �أمريكا لي�ست الربوت�ستانت‪ ،‬وال الكاثوليك‪ ،‬وال الأرثوذك�س‪،‬‬ ‫وال اليهود‪ ،‬وال البوذيني‪ ،‬وال امل�سلمني‪ ،‬وال الهندو�س‪ ،‬وال ال�سيخ‪،‬‬ ‫وال ع َب َد َة ال�شيطان‪ ،‬وال املالحدة من كل نوع وجن�س ولون‪.‬و�إمنا‬ ‫�أمريكا هي ذلك الواقع العجيب والهائل واملت�شابك الذي ينتج عن‬ ‫تفاعل حركة ون�شاط كل هذه ال�شرائح وغريها‪ ،‬وهو واقع معق ٌد‬ ‫ومتداخل �إىل �أبعد الدرجات‪.‬‬ ‫�إن موقف الإن�سان امل�سلم من (الآخر) غري امل�سلم يت�أثر بدرج ٍة‬ ‫كبرية بعاملني‪ :‬الأول ‪ :‬عمق و�شمول الفهم لتعاليم الإ�سالم‬ ‫الرائدة يف هذا املجال‪.‬‬ ‫الثاين‪ :‬عمق و�شمول املعرفة بذلك الواقع املليء بالتنوع واحليوية‬ ‫والذي عر�ضنا بع�ض �أطيافه يف الفقرات ال�سابقة‪ .‬و�إن من الوا�ضح‬ ‫�أن حترير موقفنا من ذلك (الآخر) لن يح�صل �إال �إذا ُوجِ دت يف‬ ‫واقعنا جهو ٌد ر�صينة يف اجتاه درا�سة وحتليل وتبيني العاملني‬ ‫ال�سابقني‪ ،‬وال يخفى على �أحد كم �سي�ؤثر حترير مثل ذلك املوقف‬ ‫يف تفكرينا كعرب وم�سلمني‪ ،‬ويف طريقة تعاملنا مع الأحداث‬

‫والق�ضايا التي يكون فيها ذلك (الآخر) طرفاً من الأطراف‪.‬‬ ‫ولكن هذا كله ال يجعلنا نن�سى يف الوقت نف�سه‪� ،‬أن حترير املوقف‬ ‫من الآخر يعني �أننا نريد كم�سلمني ر�ؤية مو�ضع ومكمن الأزمة يف‬ ‫ح�ضارة ذلك (الآخر)‪ ،‬واملتمثل بالتحديد يف غياب الوحي كم�صدر‬ ‫للمعرفة الب�شرية‪ ،‬لأن لدينا �شوقاً كبرياً �إىل �إهدائه الرحمة‬ ‫املوجودة يف الوحي‪ ،‬ولأن عندنا رغب ًة �صادق ًة ب�إعادة توجيه ما هو‬ ‫�شارد من ح�ضارته الهائلة‪ ،‬حتى ت�صبح تلك احل�ضارة بحق جزءاً‬ ‫من احل�ضارة الإن�سانية الكربى التي تتجنب الطغيان بجميع‬ ‫�أ�شكاله وحتقق اخلري للب�شرية جمعاء‪.‬‬ ‫�إن الدعوة الحرتام الآخر غري امل�سلم‪ ،‬ولتقدير ح�ضارته‬ ‫و�إجنازاته‪ ،‬وللتفاعل معه على خمتلف امل�ستويات ال تعني �إطالقاً‬ ‫الدعوة �إىل الذوبان فيه‪� ،‬أو �إىل �إغفال البحث عن جذور الأزمات‬ ‫الكربى التي تعتم ُل يف �أعماق ح�ضارته ور�ؤيتها ب�شكلٍ وا�ضح‪ .‬وهي‬ ‫�أزمات ميكن متييز �أبعادها ب�شكلٍ �أعمق على م�ستوى التحليل‬ ‫املعريف والفل�سفي املنهجي ال�صارم‪ ،‬بعيداً عن الرتكيز ال�سائد يف‬ ‫ثقافتنا على ق�ضية (الف�ساد الأخالقي) املوجود يف الغرب‪ ،‬لأن هذا‬ ‫الف�ساد �إمنا هو َع َر ٌ�ض من �أعرا�ض الأزمة احلقيقية ولي�س جذراً‬ ‫من جذورها‪.‬‬ ‫بل �إن من املفارقات الطريفة التي يجب �أن ينتبه �إليها املثقفون‬ ‫و�أ�صحاب االهتمام من العرب وامل�سلمني‪� ،‬أن حجم وطبيعة وعمق‬ ‫النقد الذاتي املعريف والفل�سفي املوجود يف كثري من امل�ؤ�س�سات‬ ‫الأكادميية والعلمية الغربية والأمريكية‪ ،‬هو �أكرب مبراحل و�أكرث‬ ‫ب�سط املوجود يف بالدنا جتاه‬ ‫جد ّي ًة و�شمو ًال‪ ،‬من ذلك النقد امل ُ ّ‬ ‫الغرب والواليات املتحدة‪ ،‬والذي ينح�صر كما ذكرنا �إما يف م�س�ألة‬ ‫الف�ساد الأخالقي واجلرمية �أو يف نقد ال�سيا�سات اخلارجية‪.‬‬ ‫والطريق للخروج من هذه الأزمة الفكرية يكمن يف معرفة‬ ‫مداخل وجذور الأزمات احلقيقية يف تلك احل�ضارة‪ ،‬والتعاطي‬ ‫املنهجي معها �أخذاً وعطا ًء على حدٍ �سواء‪ ،‬لتجاوز العجز ال�شائع يف‬ ‫الأو�ساط العربية والإ�سالمية يف �ساحة فقه الواقع والتعامل معه‪،‬‬ ‫وهو العجز الذي ال ميكن جتاوزه �إال من خالل ا�ستعادة الو�سطية‬ ‫الإ�سالمية لتحرير املوقف من الآخر غري امل�سلم بدرجة عالية من‬ ‫التجرد والدقة وال�شمول‪ ،‬وبعيدا عن الت�صورات اجلاهزة املبنية‬ ‫على الأحكام امل�سبقة‪.‬‬

‫‪62‬‬


‫الجمود الفكري وأثره في‬ ‫المشروع النهضوي اإلسالمي‬ ‫د‪ .‬عبد ال�سالم الراغب‬ ‫تاريخ الإ�سالم حافل بحركة دائبة من التدين حتقق‬ ‫دينها من مادة احلياة‪ .‬ف�إذا توقفت حركة امل�سلمني‬ ‫املتجددة وا�ستكانت �إىل �صورة ثابتة‪ ،‬ت�شكل تاريخهم‬ ‫بعيدً ا عن دينهم‪ .‬وهذا يعني �أن التجديد �صفة مالزمة‬ ‫للحركة‪ ،‬واحلركة �أ�سا�س الإ�سالم وجوهره‪ ،‬وهي حركة‬ ‫التوجه نحو اهلل يف �شتى �صور احلياة‪.‬‬ ‫يختلف النا�س يف الن�شاط العقلي �أو الفكري قو ًة و�ضع ًفا وفه ًما‬ ‫ووع ًيا وقدر ًة وا�ستيعا ًبا‪ ،‬ويتجلى هذا التفاوت بني النا�س يف طريقة‬ ‫تعاملهم مع الثقافة �أو الواقع‪ ،‬وهي ال تخرج عن ثالثة م�ستويات‬ ‫حتدد �آلية الن�شاط الفكري وم�ساره وثماره‪.‬‬ ‫امل�ستوى الأول‪ :‬و�أعني به "التلقي املبا�شر" عن الآخر وا�ستعارة‬ ‫"قالبه" احل�ضاري يف الفكر وال�سلوك واحل�ضارة‪� ،‬سواء �أكان هذا‬ ‫ن�صا‬ ‫الآخر ما�ض ًيا مورو ًثا �أو حا�ض ًرا م�ستوردًا �أو واق ًعا‬ ‫ملمو�سا �أو ًّ‬ ‫ً‬ ‫مقرو ًءا �أو م�سمو ًعا �أو مرئ ًّيا‪ ...‬وينح�صر دور العقل يف هذا امل�ستوى‬ ‫ال�شائع والعام‪ ،‬يف "التلقي" من الآخر والتقيد مبا يقوله من ثقافة‬ ‫ومعرفة �أو عادات وتقاليد‪ .‬ويحر�ص العقل �أو الفكر هنا‪ ،‬يف التقليد‬ ‫واخل�ضوع لهذا الآخر‪ ،‬وتب ّني ثقافته وم�شروعه احل�ضاري مرب ًزا‬ ‫�إيجابياته و�صوره امل�شرقة‪ ،‬وتقدمي نف�سه على �أنه �صورة طبق‬ ‫الأ�صل متا ًما عما يطرحه هذا الآخر يف ثقافته وفكره وح�ضارته‪،‬‬ ‫واحلر�ص على حماكاته يف �أقواله و�أفعاله وم�شاريعه النه�ضوية‪.‬‬ ‫وتتعدى املحاكاة واال�ستن�ساخ حدود املعقول يف الثقافة والأدب‬ ‫والفن‪ ،‬وطرائق احلياة يف امل�سكن وامللب�س واملطعم وامل�شرب‪.‬‬ ‫فالعقل هنا‪ ،‬يتحرك �ضمن �إطار الثقافة املقروءة واملرئية‬ ‫وامل�سموعة لتبنيها والتقيد مبا فيها‪ ،‬ليكون "العقل املتلقي" �أو‬ ‫الفكر املتلقي‪� ،‬صورة من�سوخة عن العقل املنتج لهذه الثقافة‬

‫بنوعيها العاملة وغري العاملة‪ ،‬الر�سمية واالجتماعية على حد �سواء‪،‬‬ ‫و�سواء �أكانت هذه الثقافة قدمية �أو جديدة‪ ،‬موروثة �أو م�ستوردة‪.‬‬ ‫ويلتقي يف ذلك دعاة "التغريب" يف ا�ستن�ساخ ثقافة الآخر امل�ستوردة‪،‬‬ ‫ودعاة امل�شروع الإ�سالمي يف م�ستوى التلقي من الثقافة الإ�سالمية‬ ‫وا�ستن�ساخ ما فيها‪ ،‬دون وعي للثوابت واملتغريات فيها‪ .‬هذا التعامل‬ ‫العقلي يف التلقي والن�سخ‪ ،‬يف�ضي �إىل التكرار املمجوج والتقليد‬ ‫الأعمى‪ ،‬وتبني الأفكار والآراء دون وعي �أو فهم لها‪� ،‬أو دون �إدراك‬ ‫للظروف التي �أنتجت هذه الأفكار والآراء وامل�شاريع النه�ضوية‪.‬‬ ‫وبالتايل يغيب العقل وراء املوروث �أو امل�ستورد ويحل "االنفعال"‬ ‫حمل "العقل"‪ ،‬فت�أخذ العاطفة مكان العقل يف الرتويج لهذا‬ ‫املوروث �أو هذا امل�ستورد‪ ،‬ويتم االنفعال والتفاعل مع هذا وذاك‬ ‫يف حلظة غياب العقل الب�صري‪ ،‬فال ينظر هذا الإن�سان املق ّلد �إىل‬ ‫الثقافة ب�إطارها الزمني‪ ،‬و�أطرها الثابتة واملتحولة‪ ،‬وقربها �أو‬ ‫بعدها عن املقا�صد احل�ضارية للأمة‪ ،‬و�إمنا ينظر �إليها من خالل‬ ‫عاطفته امل�شبوبة ورغبته يف حماكاة منوذجه املوروث �أو امل�ستورد‪،‬‬ ‫فيندفع للدفاع عن �أخطائه و�سلبياته وك�أنه يف دفاعه عن تراثه‬ ‫يخو�ض معركة جهادية ب�أمل ثوابها عند اهلل‪ ،‬وغاب عن باله �أن‬ ‫ن�صا �شرع ًّيا ال‬ ‫هذا الرتاث الإ�سالمي هو �إنتاج ب�شري‪ ،‬و�أنه لي�س ًّ‬ ‫يجوز �أن تخالفه‪ ،‬وكذلك غاب عنه �أن الفقه نتاج ب�شري يف قراءة‬ ‫الن�صو�ص ال�شرعية ال�ستخراج الأحكام منها‪ .‬فال�شريعة ثابتة‬ ‫ربانية‪� ،‬أما الفقه فهو نتاج ب�شري متغري بتغري الظروف والأزمان‬ ‫واحلاالت‪.‬‬ ‫امل�ستوى الثاين‪ :‬هو �أعلى من الأول و�أرقى‪ ،‬لأن العقل فيه‬ ‫يتجاوز مرحلة التلقي املبا�شر والفهم التداويل العادي للأمور‬ ‫الثقافية واحل�ضارية‪� ،‬إىل الفهم الت�أويلي املف�سر للدالالت والرموز‬

‫‪63‬‬


‫يف احل�ضارة والثقافة والواقع‪ .‬وهذا يعني �أن العقل يقوم بدو ٍر‬ ‫فعالٍ يف �إنتاج الثقافة �أو فهم الواقع من خالل �إبداء الر�أي‪،‬‬ ‫وتقدمي ر�أي مف�سر �أو داعم لدالالت الثقافة �أو رموز الواقع‪ .‬فهو‬ ‫يعمل بن�شاط لال�ستنطاق واال�ستك�شاف يف الثقافة والواقع ولي�س‬ ‫للتقليد واال�ستن�ساخ‪.‬‬ ‫وتتجه حركة العقل هنا �إىل مبدع الثقافة‪ ،‬للتعرف على ظروفه‬ ‫اخلا�صة والعامة املحيطة يف �إبداعه و�إنتاجه الثقايف واحل�ضاري‪،‬‬ ‫والطواف يف �أجوائها ومناخها وم�ؤثراتها ال�ستيعابها وفهمها‬ ‫ومعرفتها‪ ،‬من غري رغبة منه يف ك�شف عيوبها وتناق�ضاتها‪ .‬و�إذا‬ ‫الح له �شيء من العيوب �أو الق�صور حاول �سرته و�إذابة تناق�ضاته‬ ‫باالعتماد على "الت�أويل" و"التربير"‪.‬‬ ‫وعانى العقل املعا�صر من م�شكالت الت�أويل والتربير‪ ،‬وحماوالت‬ ‫التوفيق والتلفيق يف م�شاريعه النه�ضوية املطروحة وامل�ستوردة‪،‬‬ ‫التي �أحدثت فجوة كبرية بني الثقافة الر�سمية امل�ستوردة‪ ،‬والثقافة‬ ‫املختزنة يف عقول ال�شعوب امل�سلمة ووجدانها‪ .‬وارتاح العقل املعا�صر‬ ‫ّ‬ ‫م�شاق البحث والتفكري‪ ،‬فا�سرتخى وا�ستقال‬ ‫�أو �أراح نف�سه من‬ ‫مكتف ًيا بالقالب امل�ستعار يف م�شروعاته النه�ضوية‪� ،‬إما قالب‬ ‫م�ستورد بعيد عن ثقافته ودينه وح�ضارته‪� ،‬أو قالب موروث بعيد‬ ‫عن واقعه وظروفه وحاجاته ورغباته‪ .‬وهذه هي الطامة الكربى‬ ‫التي �أ�صابت العقل �أو الفكر املعا�صر‪.‬‬ ‫امل�ستوى الثالث‪ :‬هو الفكر التقوميي‪ ،‬وفيه يرتقي العقل من‬ ‫مرحلة التلقي املبا�شر ومرحلة الت�أويل الداليل �إىل مرحلة �أعلى‬ ‫هي "التقومي"‪ .‬وبذلك يكون العقل قد �أكمل دورته يف التلقي‬ ‫والت�أويل والتقومي �إن كانت حركته متدرجة مت�سل�سلة ال تتوقف‬ ‫عند مرحلة وجتمد عليها‪.‬‬ ‫فهذه املراحل �أو امل�ستويات الثالثة متداخلة ومتكاملة‪ ،‬حتى‬ ‫تتكون الر�ؤية ال�صائبة للثقافة املقروءة �أو الن�ص املدرو�س �أو الواقع‬ ‫املر�صود‪ ،‬فالبد للعقل �أو الفكر �أن يكمل عمله ال�سابق يف امل�ستوى‬ ‫الثالث يف تقوميه وت�شخي�صه وك�شف عيوبه وتناق�ضاته‪ ،‬بعد عملية‬ ‫تف�سريه ومعرفة ما فيه من �أفكار وظروف‪.‬‬ ‫هذه امل�ستويات الثالثة لآلية الن�شاط الفكري �أو العقلي‪،‬‬ ‫ت�صلح معيا ًرا نقد ًّيا نحتكم �إليه يف فهم العقل املعا�صر �أو الفكر‬

‫الإ�سالمي املعا�صر‪ ،‬ملعرفة حدود ن�شاطه‪ ،‬وامل�ستوى الذي يتحرك‬ ‫فيه‪ ،‬وكيفية عمله يف كل م�ستوى من هذه امل�ستويات الثالثة‪ .‬وهذا‬ ‫بداية الطريق يف ت�شكيل العقل امل�سلم على �أ�س�س معرفية �صحيحة‬ ‫ووا�ضحة‪ ،‬وتخلي�ص الفكر الإ�سالمي من جموده وحتجره‪.‬‬ ‫وال �شك يف �أن "�أدجلة املعرفة" �أو �أُحادية "الفكر"‪ ،‬دفعت‬ ‫بالعقل املعا�صر �إىل �أن يح�صر ن�شاطه يف م�ستوى التلقي املبا�شر‬ ‫من الآخر‪ ،‬رغبة يف �إخفاء العيوب وتربير التناق�ضات‪ ،‬ف�أدى ذلك‬ ‫�إىل �ضياعه ومتزقه وف�شل امل�شاريع النه�ضوية احلديثة‪ .‬ولو �أن‬ ‫الن�شاط الفكري �أو العقلي كان يتحرك ب�آلياته و�أدواته يف مناخ‬ ‫�سيا�سي متعدد‪ ،‬لكان عمله ال ينح�صر يف امل�ستوى الأول يف التلقي‬ ‫املبا�شر‪ ،‬و�إمنا جتاوز ذلك �إىل �شمولية التقومي وجديته يف و�ضع‬ ‫م�شروع نه�ضوي �إ�سالمي‪.‬‬ ‫الثبات والتطور يف الفكر الإ�سالمي‬ ‫�أقام اهلل �سبحانه وتعاىل نظام الكون واحلياة على نظام‬ ‫"الزوجية" املعروف لتبقى احلياة م�ستمرة متجددة‪ .‬وال يخرج �أمر‬ ‫الدين � ً‬ ‫أي�ضا عن هذه الثنائية يف البناء الكوين والإن�ساين لت�أمني‬ ‫بقائه وا�ستمراره؛ �إذ نالحظ فيه تالزم ثنائي ِة "الثبات والتجديد‬ ‫فيه"‪ .‬فالثبات يف الدين يرجع �إىل م�صدره الإلهي الأزيل‪ ،‬ويالزم‬ ‫هذا الثبات‪ ،‬التطو ُر والتجدي ُد املرتبط باملاديات الك�سبية املتفاعلة‬ ‫مع الواقع املتغري‪ .‬وهذه هي التي يطر�أ عليها التطور والتجديد‪،‬‬ ‫�أو تبقى يف جمود وخمود بخالف الدين الذي يت�ضمن معنى الثبات‬ ‫واال�ستقرار‪ .‬ويغفل الكثريون عن معنى الثبات يف طبيعة الدين‪،‬‬ ‫وقد يو�صف باجلمود‪ ،‬بينما ظواهر اجلمود ال تنطبق على الدين‪،‬‬ ‫و�إمنا على �صور التدين ومواقف النا�س من الدين‪.‬‬ ‫وقد �شاءت �إرادة اهلل �سبحانه وتعاىل �أن تكون ثنائية بناء الكون‬ ‫واحلياة على نظام الزوجية‪� ،‬أدا ًة من �أدوات التغيري والتجديد يف‬ ‫الكون واحلياة‪ ،‬ال�ستمرارهما وبقائهما‪ .‬وثنائية الثبات والتطور‬ ‫يف الدين � ً‬ ‫أي�ضا من �أجل الغاية نف�سها‪ ،‬يف بقائه ح ًّيا متجددًا‬ ‫يل ّبي حاجات الإن�سان يف كل الع�صور وفق املتغريات ال�سيا�سية‬ ‫واالجتماعية واحل�ضارية‪.‬‬ ‫و�صورة التدين تعني التفاعل مع الواقع املتجدد‪ ،‬لإثبات‬ ‫املعنى الديني الأزيل فيه وحتقيق العبودية هلل يف حركة الإن�سان‬

‫‪64‬‬


‫وتوجهاته‪ ،‬فتغدو حركته املتفاعلة مع جمتمعه وع�صره على‬ ‫�صراط اهلل امل�ستقيم‪� ،‬أما �إذا ظل تد ّينه على �صورة واحدة ال يرتقي‬ ‫ويتجدد بارتقاء احلياة وجتددها‪ ،‬ف�إنه �سريى نف�سه يف النهاية‬ ‫ريا ل�صورة التدين املخالفة لع�صره‬ ‫معزوال عن واقعه وع�صره‪� ،‬أ�س ً‬ ‫وواقعه‪.‬‬ ‫ف�صورة التدين متغرية‪ ،‬لأنها تتعامل مع متغريات احلياة‬ ‫�ضمن مفهوم الثبات يف طبيعة الدين؛ �إذ �إن اهلل �سبحانه وتعاىل‬ ‫قد ابتلى الإن�سان بالتفاعل مع ظروف احلياة املتغرية‪ ،‬ليمتحن‬ ‫ثباته يف توجهه واجتاهه نحو ربه‪ ،‬كما ابتاله بالتفاعل مع الكون‬ ‫لي�ستخل�ص قوانينه ويفهم �أ�سراره‪ ،‬ولوال هذا التفاعل معه‪،‬‬ ‫ما كانت هذه العلوم املتطورة وهذا الت�سخري الكوين للإن�سان‪.‬‬ ‫كما امتحن الإن�سان بالرخاء وال�شدة على ال�صعيد االجتماعي‬ ‫واالقت�صادي واحل�ضاري‪ ،‬لريى حركته و�سلوكه وت�ص ّرفه مع هذه‬ ‫املتغريات عليه‪ ،‬ومقدار ثباته على طريقه امل�ستقيم‪.‬‬ ‫والفكر الإ�سالمي فكر متجدد فيه ثوابت الدين‪ ،‬ومتغريات‬ ‫"التدين"‪ ،‬فتدور �صورة التدين حول حمور الدين الثابت يف �شتى‬ ‫ميادين احلياة‪.‬‬ ‫من هنا‪ ،‬نالحظ �أن جتدد احلياة وتطورها يكمنان يف هذه‬ ‫الثنائية الأ�سا�سية يف الكون واحلياة والإن�سان‪ .‬والفكر الإ�سالمي‬ ‫يخ�ضع � ً‬ ‫أي�ضا لهذه الثنائية يف الدين الثابت والتدين املتغري‪ ،‬وفق‬ ‫الظروف والأو�ضاع الك�سبية املتغرية‪.‬‬ ‫لذا نالحظ �أن "الإميان" يزيد وينق�ص‪ ،‬و�أن امل�ؤمن مطالب‬ ‫�أن يحقق الإميان حي ًنا بعد حني‪ ،‬فيظل يف مناء وتطور وازدياد يف‬ ‫حركة تفاعل مع الظروف والأو�ضاع‪ .‬حتى التقوى التي هي ذروة‬ ‫الإميان‪ ،‬متر مبراحل متجددة �ضمن حركة التفاعل االجتماعي‬ ‫وال�شعوري‪� ،‬إذ نالحظ هذا يف قوله تعاىل( َل ْي َ�س َعلَى ا َّلذِ َ‬ ‫ين �آ َم ُنوا‬ ‫ال�صالحِ َ اتِ ُج َنا ٌح فِي َما َط ِع ُموا �إِ َذا مَا ا َّت َق ْوا َو�آ َم ُنوا َوعَمِ ُلوا‬ ‫َوعَمِ ُلوا َّ‬ ‫ال�صالحِ َ اتِ ُث َّم ا َّت َق ْوا َو�آ َم ُنوا ُث َّم ا َّت َق ْوا َو�أَ ْح َ�س ُنوا َو ُ‬ ‫اهلل يُحِ ُّب المْ ُ ْح�سِ ِن َ‬ ‫ني)‬ ‫َّ‬ ‫(املائدة‪.)93:‬‬ ‫وقد يقال �إن هذه مراتب التقوى ومقاماتها وهذا �صحيح‪،‬‬ ‫ولكن �ألي�ست هذه املراتب متثل حركة تفاعل الفرد مع حميطه‬ ‫االجتماعي حتى يبلغ هذا املقام يف ح�سه و�شعوره وفكره‪.‬‬

‫و�إذا ت�أملنا حركة "الدين" يف ق�ص�ص الأنبياء‪ ،‬نالحظ �أن اهلل‬ ‫�سبحانه وتعاىل يختار ر�سوله من بيئته ليحقق هذا املعنى يف‬ ‫تفاعل الدين مع املجتمع‪.‬‬ ‫وهذا يعني �أن املبادئ الثابتة ‪-‬يف دعوة الأنبياء‪ -‬واحدة و�إن‬ ‫تغريت ال�شرائع �أو جتددت وفق الأو�ضاع املتجددة‪ .‬وك�أن ال�شرائع‬ ‫متثل �صور اال�ستجابة للأو�ضاع املتجددة املعتمدة على دين‬ ‫التوحيد الثابت‪.‬‬ ‫و�إذا رجعنا �إىل بع�ض الن�صو�ص النبوية‪ ،‬ف�إنها ت�ؤكد حقيقة‬ ‫االبتالء يف احلياة من خالل �إدراك النا�س للعبادة يف حالة الرخاء‪،‬‬ ‫و�إدراكهم لها يف حالة ال�شدة‪ ،‬فتتجدد �صورة التدين من "�شكر" يف‬ ‫حالة الرخاء �إىل "�صرب" يف حالة ال�شدة‪.‬‬ ‫ري‬ ‫والر�سول �صلى اهلل عليه و�سلم يخرب يف حديث له؛ �أن خ َ‬ ‫الإ�سالم �سيع ّم‪ ،‬ثم يو�ضح �أنه ال يدوم �إذ يعقبه �شر‪ ،‬ثم ي�ؤول �إىل‬ ‫خري �آخر �أدنى من اخلري الأول �إذ فيه دخن‪ .‬فهو ي�ؤكد على �أطوار‬ ‫احلياة وتق ّلباتها وما ت�ستلزمه من موقف يف كل طور؛ موقف جتاه‬ ‫اخلري‪ ،‬وموقف جتاه ال�شر‪ .‬وهو االمتحان الإلهي لعباده يف جتدد‬ ‫�صورة التدين املالزمة لتق ّلبات احلياة‪.‬‬ ‫بل �إن الر�سول �صلى اهلل عليه و�سلم يخرب مب�ش ًرا �أن اهلل‬ ‫�سبحانه وتعاىل يقي�ض للأمة جمددًا لأمر دينها‪ ،‬كلما ر�آها قد‬ ‫ا�ستكانت �إىل �صورة جامدة من �صور التدين يف الوجدان وال�سلوك‪،‬‬ ‫داهمتها حتديات جديدة وظلت على �سكونها وجمودها‪ ،‬فيهيئ‬ ‫لها املجد َد لأمر دينها‪ ،‬فيحيي وجدانها وين�شط فكرها وعقلها يف‬ ‫االجتهاد املتجدد‪ ،‬ويثري فيها روح النهو�ض بحركة متجددة من‬ ‫�صور التدين املواجهة للتحديات‪.‬‬ ‫وتاريخ الإ�سالم حافل بحركة دائبة من التدين حتقق دينها‬ ‫من مادة احلياة‪ .‬ف�إذا توقفت حركة امل�سلمني املتجددة وا�ستكانت‬ ‫�إىل �صورة ثابتة‪ ،‬ت�شكل تاريخهم بعيدًا عن دينهم‪ .‬وهذا يعني �أن‬ ‫التجديد �صفة مالزمة للحركة‪ ،‬واحلركة �أ�سا�س الإ�سالم وجوهره‪،‬‬ ‫وهي حركة التوجه نحو اهلل �سبحانه وتعاىل يف �شتى �صور احلياة‪.‬‬ ‫طريق النه�ضة‬ ‫‪� -1‬إحياء املفاهيم الإ�سالمية‪ :‬البد من �إحياء املفاهيم الأ�صلية‬ ‫وبعث احلياة يف معاين التدين‪ ،‬حتى يكون الدين حركة تفاعل‬

‫‪65‬‬


‫اجتماعي وح�ضاري للرقي بالإن�سان نحو اخلري والتقدم‪ ،‬وربطه‬ ‫باحلياة وال�سلوك‪ ،‬و�إحياء حقائقه وم�ضامينه ال �صوره و�أ�شكاله‪.‬‬ ‫و�سوف تقف �صور"التقليد" �أمام حركات التجديد والتطوير‪ ،‬ولكن‬ ‫الدين بعيد عن مظاهر اجلمود والتقليد‪� ،‬إذ �إن كلمة "الإ�سالم"‬ ‫امل�صدرية توحي بالتجدد امل�ستمر‪ ،‬لأن املرء حني �أ�سلم وي�سلم فهو‬ ‫يف حركة متفاعلة متجددة مع �أو�ضاع احلياة‪ .‬فهو �إذن‪ ،‬يف حالة‬ ‫جتدد وحيوية وعطاء‪ ،‬ولي�س يف حالة �سكونية جامدة طاملا �أن‬ ‫حركته �ضمن ثوابت الدين و�أحكامه‪ .‬من هنا نالحظ الآيات تركز‬ ‫على الفعل‪َ ( :‬بلَى َمنْ �أَ ْ�سلَ َم َو ْج َه ُه لهلِ ِ َوهُ َو محُ ْ �سِ ٌن َفلَ ُه �أَ ْج ُر ُه عِ ْن َد‬ ‫َر ِّب ِه َو َال َخ ْو ٌف َعلَ ْي ِه ْم َو َال هُ ْم َي ْح َز ُنو َن)(البقرة‪َ ( ،)112:‬و َمنْ ُي ْ�س ِل ْم‬ ‫هلل‬ ‫هلل َوهُ َو محُ ْ �سِ ٌن َف َقدِ ْا�س َت ْم َ�س َك بِا ْل ُع ْر َو ِة ا ْل ُو ْث َقى َو�إِلىَ ا ِ‬ ‫َو ْج َه ُه �إِلىَ ا ِ‬ ‫عَا ِق َب ُة الأُمُورِ)(لقمان‪ .)22:‬لأن حركة التفاعل هي الأ�صل حتى‬ ‫يبلغ الإن�سان ذروة الدين‪ ،‬وهذا ما نالحظه يف ن�صو�ص الدين كلها‪،‬‬ ‫و�أحكامه التي تنقله من طور الإ�سالم �إىل الإميان �إىل الإح�سان‪.‬‬ ‫ومرتبة الإح�سان متجددة بتجدد ال�شعور وال�سلوك والأداء‪ ،‬بل �إن‬ ‫القر�آن الكرمي يجعل التجدد ً‬ ‫�شرطا للنه�ضة والنجاح بقوله ( َق ْد‬ ‫اب َمنْ د ََّ�ساهَا)(ال�شم�س‪.)10-9:‬‬ ‫�أَ ْفلَ َح َمنْ َز َّكاهَا * َو َق ْد َخ َ‬ ‫‪ -2‬اعتماد املعرفة الإ�سالمية‪ :‬يف م�صادر املعرفة ال يفرتق الوحي‬ ‫عن العقل وال يت�صادم معه‪ ،‬لأنهما يرجعان �إىل م�صدر واحد‪،‬‬ ‫وحمال �أن نت�صور التعار�ض بينهما وهما ي�صدران من م�شكاة‬ ‫واحدة‪� .‬إذ الوحي يف ر�سالته الأوىل‪ ،‬كان دعوة �إىل التفكري والثقافة‬ ‫والعلم وتفجري الطاقات الإن�سانية الكامنة يف ت�سخري الكون‬ ‫للإن�سان‪ ،‬فهو دعوة ح�ضارية لالرتقاء والنهو�ض من خالل كلمته‬ ‫الأوىل‪( :‬ا ْق َر�أْ)‪ ،‬ومالزمة العبادة لكل الأ�شياء املقروءة و�صوال‬ ‫�إىل غايتها يف العبودية هلل �سبحانه وتعاىل‪ .‬وبذلك تتحدد حركة‬ ‫الإن�سان بحركة الكون واحلياة‪ ،‬فتكون قراءته الكونية واحلياتية‬ ‫متجهة يف �صورة العبودية هلل الواحد‪ .‬وقد جاء الوحي من �أجل‬ ‫تقدّم الإن�سان وح�ضارته وتعليمه ما مل يعلم‪ ،‬كما ورد يف الآيات‬ ‫ِا�س ِم َر ِّب َك ا َّلذِ ي َخلَ َق *‬ ‫اخلم�س الأوىل النازلة من ال�سماء (ا ْق َر�أْ ب ْ‬ ‫َخلَ َق الإِ ْن َ�سا َن مِ نْ َعلَقٍ * ا ْق َر ْ�أ َو َر ُّب َك الأَ ْك َر ُم * ا َّلذِ ي َع َّل َم بِا ْل َقلَ ِم *‬ ‫َع َّل َم الإِ ْن َ�سا َن مَا لمَ ْ َي ْعلَ ْم)(العلق‪.)5-1:‬‬ ‫فك�أن هذه الر�سالة احل�ضارية للوحي‪ ،‬تن�سجم مع دور الإن�سان‬

‫ووظيفته حني اختاره اهلل خليفة له وم�ستخل ًفا على كونه‪،‬‬ ‫لت�سخريه وتعمريه‪ ،‬ومن خالل حركة التفاعل معه لك�سب مادته‬ ‫وا�ستخال�ص قوانينه‪ ،‬وو�ضع مادته امل�سخرة �أداة �أو و�سيلة لعبادة‬ ‫اهلل �سبحانه وتعاىل‪ ،‬وحتقيق تدين الإن�سان من خالل موقفه من‬ ‫الكون وحادثات احلياة املتجددة‪ ،‬التي تتطلب جتديدًا �أو تطوي ًرا‬ ‫يالزم حركة الدين املتفاعلة مع احلياة‪.‬‬ ‫والعقبة الأ�سا�سية �أمام هذه احلركة اجلديدة للوحي هي‬ ‫"ظاهرة اجلمود الفكري"‪ .‬من هنا كان هذا الرتكيز القر�آين‬ ‫على �إذابة اجلمود الفكري والتحجر العقلي له �أولوية يف اخلطاب‬ ‫القر�آين‪ ،‬وهذه من مدلوالت كلمة (ا ْق َر�أْ) الأوىل التي تهدف �إىل‬ ‫�إذابة اجلمود بفعل القراءة امل�ستمرة يف الكون واحلياة والإن�سان‪،‬‬ ‫وهي قراءة �شاملة متكاملة ومتفاعلة‪ ،‬لت�ؤتي ثمارها وفوائدها يف‬ ‫فتح الآفاق الكونية‪ ،‬والآفاق العقلية‪ ،‬والآفاق الفكرية والروحية‪.‬‬ ‫ومن متطلبات هذه القراءة الواعية ال�شاملة‪ ،‬تف ُّتح احلوا�س‬ ‫وفاعليتها لت�ؤدي وظيفتها احل ّقة‪ ،‬و�إال ف�إن تعطيلها يف�ضي‬ ‫بانتقال الإن�سان من �آدميته �إىل �صورة �أخرى م�شينة يفقد فيها‬ ‫خ�صو�صيته ومتيزه‪ .‬ومن �أين للخطاب الديني �أن يحقق غايته‬ ‫يف البالغ والنهو�ض بالفرد والأمة‪ ،‬يف جمتمع مو�سوم باجلمود‬ ‫ريا مِ َن‬ ‫الفكري كما ورد ذلك يف قوله تعاىل ( َو َل َق ْد َذ َر�أْ َنا لجِ َ َه َّن َم َك ِث ً‬ ‫وب َال َي ْف َقهُو َن ِبهَا َو َل ُه ْم �أَ ْعينُ ٌ َال ُي ْب ِ�ص ُرو َن ِبهَا‬ ‫الجْ ِ ِّن َوا ِلإ ْن ِ�س َل ُه ْم ُق ُل ٌ‬ ‫َو َل ُه ْم �آ َذ ٌان َال َي ْ�س َم ُعو َن ِبهَا �أُو َلئ َِك َكالأَ ْن َعا ِم َب ْل هُ ْم َ�أ َ�ض ُّل �أُو َلئ َِك هُ ُم‬ ‫ا ْل َغا ِف ُلو َن)(الأعراف‪.)179:‬‬ ‫فالآيات ت�ؤكد �أن تعطيل "احلوا�س" يعني تعطيل "م�صادر‬ ‫املعرفة" التي هي و�سيلة النهو�ض والوثوب والتجدد امل�ستمر‬ ‫مع �أو�ضاع احلياة والظروف‪ ،‬بل �إن الآية تعترب ه�ؤالء املعطلني‬ ‫حلوا�سهم املدركة قد اعرتتهم الغفلة عن احلقيقة‪ ،‬فال ميكن‬ ‫للمرء �أن ي�صل �إليها �إال من خالل �إعمالها من خالل حركة‬ ‫التفاعل مع الكون املحيط‪ ،‬ال�ستخال�ص حقائقه وقوانينه‪.‬‬ ‫هذه "احلركة الن�صية" يف ا�ستقبال احلوا�س للم�ؤثرات‪،‬‬ ‫و�إدراكها وحتليلها وا�ستيعابها واتخاذ املواقف املنا�سبة من الكون‬ ‫واحلياة‪ ،‬ال تتم �إال بحركية مقابلة يف �سلوك الإن�سان وتفاعله مع‬ ‫حميطه‪ ،‬حتى ال يكون من الغافلني عن كونه �أو خلقه �أو عبادته‪،‬‬ ‫وهذه نقطة البداية يف معاجلة "اجلمود الفكري"‪.‬‬

‫‪66‬‬


‫ف�إن القر�آن الكرمي يف دعوته �إىل التفكري والعقل‪ ،‬حث الإن�سان‬ ‫َ‬ ‫املخاطب على االت�صال بالكون املحيط به‪ ،‬وك�أنه يدعوه �إىل الأخذ‬ ‫مب�صدري املعرفة احل�سي والعقلي بالإ�ضافة �إىل الوحي الذي‬ ‫يتكامل معهما وال يتناق�ض‪ .‬وهذه الدعوة �إىل االت�صال بالكون‬ ‫ال�ستك�شاف حقائقه التي هي حقائق العلم وقوانينه‪ ،‬هي دعوة‬ ‫م�ستمرة ومتجددة‪ ،‬لينتقل الإن�سان من طور علمي �إىل طور عملي‬ ‫وفق حركة تفاعله وقدراته الك�سبية‪ ،‬التي مت ّكنه من امتالك املعرفة‬ ‫التي هي حركة متجددة ولي�ست �سكونية ثابتة‪ .‬وملتقى الوحي‬ ‫واحل�س هو "العقل"‪� ،‬إذ ال ميكن �أن يد َرك الوحي �إال بالعقل‪�( :‬إِ َّنا‬ ‫َج َع ْل َنا ُه ُق ْر�آ ًنا َع َر ِب ًّيا َل َع َّل ُك ْم َت ْع ِق ُلو َن)(الزخرف‪ .)3:‬واحل�س � ً‬ ‫أي�ضا ال‬ ‫ال�س َما َواتِ َوالأَ ْر ِ�ض َو ْاخ ِت َ‬ ‫ال ِف ال َّل ْيلِ‬ ‫يد َرك �إال بالعقل‪�( :‬إِ َّن فيِ َخ ْلقِ َّ‬ ‫ا�س َومَا �أَ ْن َز َل ُ‬ ‫اهلل‬ ‫َوال َّنهَا ِر َوا ْل ُف ْلكِ ا َّلتِي تجَ ْ رِي فيِ ا ْل َب ْح ِر مِبَا َي ْن َف ُع ال َّن َ‬ ‫ال�س َما ِء مِ نْ مَا ٍء َف�أَ ْح َيا ِب ِه الأَ ْر َ‬ ‫�ض َب ْع َد َم ْو ِتهَا َو َب َّث فِيهَا مِ نْ ُك ِّل‬ ‫مِ َن َّ‬ ‫ال�س َما ِء َوالأَ ْر ِ�ض َ آل َياتٍ‬ ‫ال�س َحابِ المْ ُ َ�س َّخ ِر َبينْ َ َّ‬ ‫دَا َّب ٍة َو َت ْ�صرِيفِ ال ِّر َيا ِح َو َّ‬ ‫ِل َق ْو ٍم َي ْع ِق ُلو َن)(البقرة‪.)164:‬‬ ‫وبذلك تتكامل م�صادر املعرفة يف الثقافة الإ�سالمية‪ ،‬و�أعني‬ ‫بذلك الوحي واحلوا�س والعقل‪ .‬فيكون الوحي مك ّمال مل�صدري‬ ‫املعرفة احل�سي والعقلي‪ ،‬وبذلك ي�ضع القر�آن الأمة على طريق‬ ‫النه�ضة العلمية‪ ،‬لت�أخذ حظها من التقدّم واحل�ضارة والرفاهية‬ ‫و�سعادة الإن�سان‪ ،‬متطلعة �إىل �إحياء فكري نه�ضوي‪ ،‬ي�ستفيد من‬ ‫توجيهات الوحي نحو العلم والعقالنية والتفكري‪ ،‬كما ي�ستفيد من‬ ‫الكون املحيط يف حركته‪ ،‬لأنه جمال الت�سخري والتمكني‪.‬‬ ‫والبد �أن �أ�شري �إىل �أن هذه النه�ضة املطلوبة لي�ست تر ًفا‪ ،‬و�إمنا‬ ‫هي �ضرورة الزمة لتحقيق عبادة اهلل يف �صور احلياة كلها‪ ،‬فال‬ ‫تقت�صر �صورة التدين على جانب منها‪ ،‬و�إمنا ت�شملها كلها‪ .‬وهذه‬ ‫ال�شمولية التعبدية ال تتحقق �إال من خالل التفاعل مع الواقع‬ ‫للنهو�ض به‪ .‬ولكن النه�ضة املن�شودة‪ ،‬لها قوانينها و�أ�صولها‪ ،‬وهي‬ ‫ال حتابي �أحدًا لعقيدته �أو لدينه‪ ،‬فكل من قام ب�أ�صولها �أو قوانينها‬ ‫ف�إنه ي�صل �إىل ثمارها ونتائجها ولو كان غري م�سلم‪.‬‬ ‫‪ -3‬بناء جمتمع �صناعي‪ :‬علينا �أن منيز يف م�شروع النه�ضة بني‬ ‫نه�ضة فكرية ونه�ضة �صناعية‪ .‬فالفكر له قوانينه اخلا�صة به‬ ‫يف التطور والتجديد عرب الع�صور والأجيال وفق قانون املدافعة‬

‫ا�س َف َي ْم ُك ُث‬ ‫التاريخي‪َ ( :‬ف�أَ َّما ال َّز َب ُد َف َي ْذه َُب ُج َفا ًء َو�أَ َّما مَا َي ْن َف ُع ال َّن َ‬ ‫فيِ الأَ ْر ِ�ض َك َذل َِك َي ْ�ضر ُِب ُ‬ ‫اهلل الأَ ْم َثا َل)(الرعد‪� .)17:‬أما النه�ضة‬ ‫ال�صناعية فهي حمكومة ب�أطرها املادية �ضمن القدرات والإمكانيات‬ ‫واخلطط‪ .‬فم�شكلتنا يف امل�شروع النه�ضوي الإ�سالمي‪� ،‬أننا نخلط‬ ‫بني ما هو فكري وما هو �صناعي مادي‪.‬‬ ‫�إن �إقامة جمتمع �صناعي‪ ،‬حتتاج �إىل �إرادة �سيا�سية قوية وعقل‬ ‫خمطط متفتح ر�شيد‪ ،‬و�إمكانات مادية وب�شرية‪ ،‬وقيم وطنية‬ ‫عالية ت�ضع الوطن والأمة والتاريخ يف مقدمة حركتها الواعية‬ ‫وفق مراحل البناء ال�صناعي من ا�ستعداد ح�ضاري‪ ،‬ثم ا�ستيعاب‬ ‫لكل املنجزات احل�ضارية القائمة‪ ،‬ثم مرحلة �صيانتها ثم حماكاتها‬ ‫وتقليدها‪ ،‬ثم الإبداع والتجديد فيها‪.‬‬ ‫ونخل�ص �إىل مق ّومات امل�شروع النه�ضوي الإ�سالمي و�أعمدته‬ ‫الأ�سا�سية يف الأ�صالة واملعا�صرة والدميقراطية والتكنولوجيا‪.‬‬ ‫وهذه العنا�صر تقوم على فكر متنوع‪ ،‬متفتح وحياة متجددة‬ ‫متطورة �ضمن الثوابت واملتغريات‪.‬‬

‫‪67‬‬


‫تجليات مفهوم الوسطية لدى‬ ‫بعض الحركات اإلسالمية‬

‫د‪ .‬ح�سان ال�صفدي‬

‫�أو ًال‪ :‬غاية البحث‬ ‫ي�شكل ما و�صلت �إليه‪ ،‬الأمة من نكو�ص ح�ضاري وتخلف وجتزئة‬ ‫وا�ست�ضعاف‪ ،‬الهاج�س الذي يق�ض م�ضاجع كل الغيورين عليها‪.‬‬ ‫وتتعدد الآراء والر�ؤى عن كيفية النهو�ض بحال الأمة‪ ،‬واالنطالق‬ ‫ب�إمكاناتها من حال النكو�ص احل�ضاري الذي ترزح حتته �إىل غدٍ‬ ‫�أف�ضل‪ ،‬ت�ؤهلها له �إمكاناتها وخمزونها احل�ضاري وتطلعات �أبنائها‪.‬‬ ‫ويحتل الطرح الإ�سالمي موقعاً مميزاً بني جملة هذه الر�ؤى‬ ‫والآراء‪ ،‬كونه الأقرب �إىل �ضمري الأمة‪ ،‬بل �إنه ميثل هويتها‬ ‫احلقيقية ومالذها الذي ال تركن �إال �إليه‪ ،‬ومنذ بدايات حماوالت‬ ‫النهو�ض املعا�صرة‪ ،‬كان للفكر الإ�سالمي وما جتلى عنه من‬ ‫جمعيات وجماعات و�أحزاب الن�صيب الأوفر من االهتمام‪� ،‬أكان‬ ‫هذا االهتمام ت�أييداً �أو معار�ضة �أم درا�سة ونقداً وحتلي ً‬ ‫ال‪.‬‬ ‫ومن هنا ت�أتي هذه الدرا�سة –وهي متثل جهد املقل– حماولة‬ ‫لت�سليط ال�ضوء على التطورات التي ح�صلت لدى بع�ض احلركات‬ ‫الإ�سالمية املعا�صرة‪ ،‬والتي تتبنى الفكر الو�سطي‪ ،‬نتيجة ت�أثرها‬ ‫مبفهوم الو�سطية الإ�سالمية‪ .‬وما مدى جناحها يف ذلك‪ ،‬وما هي‬ ‫التحديات امللقاة على عاتق تلك احلركات التي نه�ضت لهذه املهمة‪،‬‬ ‫وما هي الآفاق امل�أمولة لها يف قادمات الأيام‪.‬‬ ‫ثاني ًا‪ :‬مفهوم الو�سطية‬ ‫�إن حديثنا يتناول "بع�ض" معاين الو�سطية‪ ،‬والتي نرغب يف‬ ‫تتبع �آثارها لدى بع�ض احلركات الإ�سالمية املعا�صرة‪ ،‬وذلك لأننا‬ ‫ال ن�ستطيع االدعاء �أن لدينا تعريفاً جامعاً مانعاً ملفهوم الو�سطية‪،‬‬ ‫بل �إننا نعتقد �أن الو�سطية يف الإ�سالم هي مفهوم ممتد‪ ،‬ي�صاحب‬ ‫هذه الأمة يف كل �أحوالها و�أجيالها وحماور ر�سالتها‪ ،‬وهذا ما‬ ‫نفهمه من دالالت النظم القر�آين العظيم ( َو َك َذل َِك َج َع ْل َنا ُك ْم �أُ َّم ًة‬ ‫َو َ�س ًطا)(البقرة‪.)143 :‬‬ ‫فما هي موا�صفات �أمة الو�سط التي جاء بها القر�آن الكرمي ؟‬ ‫�أمة احلق‪ :‬تدور هذه الأمة مع احلق حيث دار‪ ،‬وتنتقل من‬ ‫ال�صحيح �إىل الأ�صح‪ ،‬ومن الفا�ضل �إىل الأف�ضل‪ ،‬يف حركة �سعي‬ ‫دائب نحو احلقيقة فاهلل هو احلق‪ ،‬واجلرمية تكمن يف معرفة‬ ‫احلق ثم �إنكاره‪ ،‬و�أن كتمان احلقيقة �إزدراءاً �أو ا�ستخفافاً مب�صدرها‬

‫جرمية يف حق النف�س والنا�س ( َو�إِ َّن ا َّلذِ َ‬ ‫اب َل َي ْعلَ ُمو َن‬ ‫ين �أُو ُتوا ا ْل ِك َت َ‬ ‫�أَ َّن ُه الحْ َ ُّق مِ نْ َر ِّب ِه ْم َومَا اللهَّ ُ ِب َغافِلٍ َع َّما َي ْع َم ُلو َن )(البقرة‪.)144 :‬‬ ‫�أمة املرجعية‪ :‬هذه الأمة ال ت�صدر من فراغ‪ ،‬و�إمنا تركن �إىل‬ ‫من بيده ملكوت ال�سماوات والأر�ض‪ ،‬والذي يهدي �إىل ال�صراط‬ ‫اط‬ ‫امل�ستقيم ( ُق ْل للِهَّ ِ المْ َ ْ�شر ُِق َوالمْ َ ْغر ُِب َيهْدِ ي َمنْ َي َ�شا ُء �إِلىَ ِ�ص َر ٍ‬ ‫ِيم )(البقرة‪ ،)142 :‬واالمتثال �إىل هذه املرجعية هو الركن‬ ‫م ُْ�س َتق ٍ‬ ‫الركني الذي يحفظ لهذه الأمة ر�شدها فعدم �إتباع هذه املرجعية‬ ‫هو انقالب على الأعقاب ونكو�ص وتراجع و�ضالل‪.‬‬ ‫�أمة الواقعية‪ :‬جاءت ر�سالة الإ�سالم لتخرج النا�س من الظلمات‬ ‫ا�س مِ َن ُّ‬ ‫الظ ُل َماتِ �إِلىَ‬ ‫�إىل النور (الر ِك َت ٌ‬ ‫اب �أَ ْن َز ْل َنا ُه �إِ َل ْي َك ِل ُت ْخ ِر َج ال َّن َ‬ ‫اط ا ْل َعزِي ِز الحْ َ مِ يدِ ) (ابراهيم‪ .)1 :‬وتبني‬ ‫ال ُّنو ِر ِب�إِ ْذنِ َر ِّب ِه ْم �إِلىَ ِ�ص َر ِ‬ ‫لهم جمتمعاً ت�سوده الف�ضيلة ويحكمه العدل‪ ،‬وال ميكن للإ�سالم‬ ‫�أن يكون نظرية حبي�سة الكتب �أو العقول‪ .‬بل �إن معجزة هذا الدين‬ ‫�أنه ‪-‬وكما قال �سيد قطب رحمه اهلل‪� -‬أخرج �أمة من كتاب‪ ،‬وتعامل‬ ‫مع النا�س بح�سب واقعهم ف�أخذ ب�أيديهم فارتفع بهم �إىل حيث‬ ‫ت�ستطيعه �إمكاناتهم ومواهبهم يف �آفاق ال�سمو واالرتقاء‪ .‬وتتجلى‬ ‫واقعية الإ�سالم يف كل �أحكامه‪ ،‬والتي ت�أخذ بيد الأمة �إىل ر�شدها‬ ‫بح�سب اال�ستطاعة‪ ،‬وتتعامل مع احلياة بفقه الواقع‪.‬‬ ‫�أمة ال�سعي واحلركة‪ :‬و�أمة الو�سط �ضار ٌبة يف الأر�ض‪� ،‬ساعيةٌ‬ ‫يف وجوه اخلري‪ ،‬مت�شوف ٌة �إىل ما هو �أ�سمى و�أكمل‪� ،‬سباق ٌة �إىل‬ ‫كل مكرمة‪ .‬وال�سعي يف الت�صور الإ�سالمي‪� ،‬سمة �أ�صيلة ت�شمل‬ ‫العقيدة والفكر والعبادة والك�سب وت�صاحب امل�سلم يف كل دوائر‬ ‫حياته‪ ،‬فالعقيدة يكت�سبها بال�سعي والعلم ( َف ْاعلَ ْم َ�أ َّن ُه اَل �إِ َل َه ِ�إ اَّل‬ ‫اللهَّ ُ )(حممد‪ .)19 :‬والعبادات كلها تتطلب جهداً وحركة‪ ،‬والرزق‬ ‫–قد كفله اهلل تعاىل– ومع ذلك فال�سعي له واجب‪ ،‬والقعود عنه‬ ‫�إثم وخطيئة‪ ،‬والن�صيحة –مبعناها الإ�سالمي– من نقد �إيجابي‬ ‫و�إر�شا ٍد وتوجيه‪ ،‬هي الدين " الدين الن�صيحة"‪ ،‬والتعامل مع‬ ‫النا�س ب�صدق وا�ستقامة و�أمانة هو الدين " الدين املعاملة"‪ ،‬ولكل‬ ‫ال�ص اَل ُة َفا ْن َت�شِ ُروا فيِ‬ ‫وقتٍ �سعيه وحركته الواجبة( َف ِ�إ َذا ُق ِ�ض َيتِ َّ‬ ‫ريا َل َع َّل ُك ْم ُت ْفل ُِحو َن)‬ ‫ْأ‬ ‫الَ ْر ِ�ض َوا ْب َت ُغوا مِ نْ َف ْ�ضلِ اللهَّ ِ َوا ْذ ُك ُروا اللهَّ َ َك ِث ً‬ ‫(اجلمعة‪ .)10 :‬ويبقى ال�سعي مطلوباً و�أدا�ؤه واجباً حتى لو‬

‫‪68‬‬


‫ا�ستحالت �ضمن احل�سابات الب�شرية �إمكانية قطف الثمار وجني‬ ‫النتائج (�إن قامت ال�ساعة ويف يد �أحدكم ف�سيلة فا�ستطاع �أال تقوم‬ ‫حتى يغر�سها فليغر�سها ف�إن له بها �أجراً)‪.‬‬ ‫�أمة العدل‪ :‬وت�ضع الأمة الأمور يف ن�صابها‪ ،‬وحتقق التوازن يف‬ ‫حياتها‪ ،‬وتعطي كل ذي حق حقه‪ .‬ف�أمة الو�سط هي �أمة العدل كما‬ ‫و�صفها �صلى اهلل عليه و�سلم بقوله "و�سطاً عد ًال"‪ ،‬فلم ي�أت الدين‬ ‫�إال ليقوم النا�س بالق�سط * َل َق ْد َ�أ ْر َ�س ْل َنا ُر ُ�سلَ َنا بِا ْل َب ِّي َناتِ َوَ�أ ْن َز ْل َنا‬ ‫ا�س بِا ْلق ِْ�س ِط ( َو�أَ ْن َز ْل َنا الحْ َ دِ ي َد فِي ِه‬ ‫َم َع ُه ُم ا ْل ِك َت َ‬ ‫اب َوالمْ ِي َزا َن ِل َي ُقو َم ال َّن ُ‬ ‫ا�س َو ِل َي ْعلَ َم اللهَّ ُ َمنْ َي ْن ُ�ص ُر ُه َو ُر ُ�سلَ ُه بِا ْل َغ ْيبِ ِ�إ َّن‬ ‫َب�أْ ٌ�س َ�شدِ ي ٌد َو َم َنا ِف ُع لِل َّن ِ‬ ‫اللهَّ َ َقوِيٌّ َعزِي ٌز )(احلديد‪ .)25 :‬ومهمة امل�ؤمنني ال�شهادة بالق�سط‪،‬‬ ‫وتعاليم الإ�سالم تتواىل بالأمانة والإح�سان والق�سط والعدل‬ ‫والوفاء بالعهود ( َيا �أَ ُّيهَا ا َّلذِ َ‬ ‫ين �آ َم ُنوا ُكو ُنوا َق َّوامِ َ‬ ‫ني للِهَّ ِ ُ�ش َهدَا َء‬ ‫بِا ْلق ِْ�س ِط َو اَل َي ْج ِر َم َّن ُك ْم َ�ش َن� ُآن َق ْو ٍم َعلَى �أَ اَّل َت ْعدِ ُلوا ْاعدِ ُلوا هُ َو �أَ ْق َر ُب‬ ‫ري مِبَا َت ْع َم ُلو َن )(املائدة‪.)8 :‬‬ ‫لِل َّت ْق َوى َوا َّت ُقوا اللهَّ َ �إِ َّن اللهَّ َ َخ ِب ٌ‬ ‫�أمة النموذج‪ :‬ف�إذا ما حتققت يف الأمة موا�صفات الو�سطية‬ ‫املذكورة �آنفاً واقعاً يف حياة النا�س‪� ،‬أ�صبحت �أمنوذجاً وقدوة‪،‬‬ ‫وتنزلت مكارم الأخالق التي جاء بها الوحي واقعاً تراه الب�شرية يف‬ ‫�أمة الو�سط عقيدة وفكراً و�سلوكاً‪ .‬وهذا النموذج احلي الواقعي هو‬ ‫الذي يقود �إىل ثمرات الو�سطية العليا والتي تتمثل يف �أمة ال�شهادة‪.‬‬ ‫�أمة ال�شهادة‪� :‬إن من عدل اهلل تعاىل‪� ،‬أن ال يدع النا�س حيارى‬ ‫ال يجدون �إىل الهداية �سبي ً‬ ‫ال‪ ،‬ولذلك فقد �أر�سل الر�سل و�أنزل‬ ‫الكتب و�أقام احلجة ود ّلل على ذاته و�صفاته مبا �شاء �سبحانه‪ ،‬ومبا‬ ‫ي�ستطيع الإن�سان الراغب يف الو�صول �إىل احلق �إدراكه والقناعة‬ ‫ب�أنه احلق‪ ،‬وقد كان الأنبياء والر�سل منوذجاً حياً لأقوامهم‬ ‫يعلمونهم ويزكونهم ويقدمون لهم القدوة والأ�سوة‪ ،‬وتبقى �سرية‬ ‫حممد �صلى اهلل عليه و�سلم حمققة لهذا املعنى �إىل �أن يرث اهلل‬ ‫الأر�ض ومن عليها ( َل َق ْد َكا َن َل ُك ْم فيِ َر ُ�سولِ اللهَّ ِ �أُ ْ�س َو ٌة َح َ�س َن ٌة)‬ ‫(الأحزاب‪ .)21 :‬وحتمل �أمة الر�سالة اخلامتة‪ ،‬نربا�س النبوة‪� ،‬إذ ال‬ ‫نبوة بعد حممد �صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬وتقع عليها م�س�ؤولية حتقيق‬ ‫املثال الإ�سالمي الذي يقيم به اهلل احلجة على خلقه‪ ،‬فتكون �أمة‬ ‫الإ�سالم بواقعها وبالنموذج الذي تقدمه‪� ،‬شاهدة على الأمم ‪.‬‬ ‫ثالث ًا‪ :‬جتليات بع�ض مفاهيم الو�سطية لدى حركات‬ ‫�إ�سالمية‬ ‫نريد �أن نتتبع بع�ضاً من حتققات مفاهيم الو�سطية الآنفة‬ ‫الذكر لدى حركات �إ�سالمية‪ ،‬فهي حماولة لت�أ�سي�س ر�ؤية نقدية‬

‫تنظر يف مدى موافقة توجهات هذه احلركات الفكرية وك�سبها‬ ‫العملي للو�سطية الإ�سالمية‪.‬‬ ‫يف مبد�أ احلاكمية‬ ‫�إن احلاكمية يف املعنى الت�شريعي والتي تعني �أن اهلل تعاىل‬ ‫هو الذي ي�شرع خللقه وي�أمرهم وينهاهم‪ ،‬ويحلل لهم احلالل‬ ‫ويحرم عليهم احلرام هو ما عليه �إجماع الأمة (�إِنِ الحْ ُ ْك ُم �إِ اَّل للِهَّ ِ �أَ َم َر‬ ‫�أَ اَّل َت ْع ُبدُوا �إِ اَّل �إِ َّيا ُه َذل َِك الد ُ‬ ‫ا�س اَل َي ْعلَ ُمو َن)‬ ‫ِّين ا ْل َق ِّي ُم َو َل ِكنَّ �أَكْثرَ َ ال َّن ِ‬ ‫(يو�سف‪ .)40 :‬وكل كتب �أ�صول الفقه تبحث هذه الق�ضية عند‬ ‫البحث يف موا�ضيع احلكم واحلاكم واملحكوم به‪ .‬ويف هذا يقول‬ ‫الإمام الغزايل يف "امل�ست�صفى من علم الأ�صول"‪" ،‬يف البحث عن‬ ‫احلاكم يتبني �أن (ال حكم �إال هلل) و�أن ال حكم للر�سول‪ ،‬وال لل�سيد‬ ‫على العبد‪ ،‬وال ملخلوق على خملوق‪ ،‬بل كل ذلك‪ ،‬حكم اهلل تعاىل‬ ‫وو�ضعه ال حكم غريه"(‪. )1‬‬ ‫وقد حدث يف تاريخ الفكر الإ�سالمي �إ�شكالية كبرية حول هذا‬ ‫املفهوم فمنذ القرن الأول الهجري قال اخلوارج كلمتهم امل�شهورة‬ ‫(ال حكم �إال هلل) وكان رد الإمام علي ر�ضي اله عنه بليغاً حني‬ ‫قال‪ " :‬كلمة حق يراد بها باطل! نعم‪ ،‬ال حكم �إال هلل‪ ،‬ولكن ه�ؤالء‬ ‫يقولون‪ :‬ال �إمرة �إال هلل! وال ب ّد للنا�س من �أمري بر �أو فاجر"‪.‬‬ ‫فما هي احلاكمية الت�شريعية التي يجب �أن تكون هلل وحده؟‬ ‫يجيب عن هذا ال�س�ؤال العالمة يو�سف القر�ضاوي فيقول‪ " :‬هي‬ ‫احلاكمية العليا واملطلقة التي ال يحدها وال يقيدها �شيء‪ ،‬فهي من‬ ‫دالئل وحدانية الإلوهية‪ ،‬وهذه احلاكمية ال تنفي �أن يكون للب�شر‬ ‫قدر من الت�شريع �أذن به اهلل لهم‪� .‬إمنا هي متنع �أن يكون لهم‬ ‫ا�ستقالل بالت�شريع غري م�أذون به من اهلل‪ ،‬وذلك مثل الت�شريع‬ ‫الديني املح�ض كالت�شريع يف �أمر العبادات‪ ،‬والت�شريع يف �أمر احلالل‬ ‫واحلرام‪ ،‬والت�شريع فيما ي�صادم الن�صو�ص ال�صحيحة ال�صريحة‪،‬‬ ‫�أما فيما عدا ذلك فمن حق امل�سلمني �أن ي�شرعوا لأنف�سهم"(‪.)2‬‬ ‫وقد كان �أبو الأعلى املودودي و�سيد قطب –رحمهما اهلل–‬ ‫�أكرث من رك ّز يف الع�صر احلديث على هذا املفهوم‪ ،‬وقد كان لهما‬ ‫�أ�سبابهما املو�ضوعية يف �شدة الرتكيز على ذلك‪ ،‬ذلك �أن التخوف‬ ‫كان مربراً يف ذلك الوقت من �أن ُتغ ّيب هذه الفكرة‪� ،‬إذ كان الت�سا�ؤل‬ ‫املطروح‪ :‬هل الإ�سالم منهج حياة؟ �أم هو عالقة بني املرء وربه ال‬ ‫تتجاوز جدران امل�ساجد وبع�ض �أخالقيات احلياة‪ ،‬فكان ال ب ّد من‬ ‫الرتكيز على �إحياء هذا املفهوم‪ .‬ولكن �أقواماً ح َّملوا �أفكار �أبو‬ ‫الأعلى املردودي و�سيد قطب �أكرث مما حتتمل �أو �أخذوها معزولة‬ ‫عن �سياقها‪ ،‬فحكموا بعدم جواز �إعطاء �أي �صفة ت�شريعية للنا�س‪.‬‬ ‫وقد �أو�ضح عبا�س حممود العقاد هذه امل�س�ألة حني قال " �أنه‬ ‫ال تعار�ض بني القول �أن الأمة هي م�صدر ال�سيادة وبني القول �أن‬

‫‪69‬‬


‫القر�آن الكرمي وال�سنة النبوية ال�شريفة هما م�صدر الت�شريع‪ ،‬ف�إن‬ ‫الأمة هي التي تفهم الكتاب وال�سنة وتعمل بهما وتنظر يف �أحوالها‬ ‫لرتى موا�ضع التطبيق وموا�ضع الوقف والتعديل‪ ،‬وتقر الإمام‬ ‫على ما ي�أمر به من �أحكام �أو ت�أباه"(‪.)3‬‬ ‫ن�ص‬ ‫وقد ذهب املودودي �إىل �أن " مبد�أ �سيادة الأمة" الذي ّ‬ ‫عليه الإ�سالم ‪ ،‬هو املبد�أ الذي و�صلت الإن�سانية �إىل �إقراره بعد‬ ‫كفاح طويل‪ ،‬ولذلك يجب �أن ي�ستمر هذا املبد�أ يف ظل الدولة‬ ‫الإ�سالمية"(‪.)4‬‬ ‫وهكذا نرى �أن حترير امل�س�ألة ي�ستدعي القول �إن احلاكمية‬ ‫هلل وال�سيادة لل�شريعة وال�سلطان للأمة‪ ....‬ف�أين تقف احلركات‬ ‫الإ�سالمية من هذا املفهوم؟‬ ‫يف هذا يذكر حزب الو�سط يف م�صر �أن "الأمة م�صدر ال�سلطات"‪،‬‬ ‫فهي امل ُ ْك�سِ ب لل�شرعية‪ ،‬وهي املج�سد للمرجعية‪ ،‬وا َ‬ ‫حل َكم بني‬ ‫البدائل‪ .‬ومن هذا ي�صبح اتفاق الأمة �أو �إجماعها‪ ،‬هو امل�صدر‬ ‫الرئي�سي لإقرار املبادئ العامة‪.‬‬ ‫ويركز حزب الو�سط يف م�صر على تفعيل املادة الثانية من‬ ‫الد�ستور امل�صري والتي "ت�ضمن املرجعية العامة للدولة بالإ�سالم‬ ‫وللت�شريع يف مبادئ ال�شريعة الإ�سالمية"(‪.)5‬‬ ‫�أما حزب العدالة والتنمية املغربي‪ ،‬ف�إنه يتحدث عن "�ضرورة‬ ‫انطالق �أي �إ�صالح �سيا�سي من �أ�صالتنا الدينية والتاريخية‬ ‫وخ�صو�صيتنا الثقافية‪ ،‬كما �أن �إ�سالمية الدولة التي ي�ؤكد عليها‬ ‫الد�ستور ت�ستوجب انطالق جميع براجمنا و�سيا�ساتنا من املرجعية‬ ‫الإ�سالمية"(‪.)6‬‬ ‫وال�س�ؤال �إذا كانت �إ�سالمية الدولة التي ي�ؤكد عليها الد�ستور‬ ‫ت�ستوجب انطالق جميع الربامج وال�سيا�سات من املرجعية‬ ‫الإ�سالمية؟ فما هي الإ�ضافة التي يقدمها حزب العدالة والتنمية‬ ‫على امل�ستوى الإ�سالمي عن غريه من الأحزاب؟‪ .‬ثم هل �إ�سالمية‬ ‫الدولة "الد�ستورية" مطبقة على �أر�ض الواقع؟ ثم ماذا لو تغريت‬ ‫هذه املرجعية للدولة بفعل �صناديق االقرتاع؟‪.‬‬ ‫�أما حزب الو�سط الإ�سالمي يف الأردن‪ ،‬فين�ص يف مرتكزاته على‬ ‫�أن "الإ�سالم قانون احلياة الإن�سانية التي ال ت�ستقيم �ش�ؤونها �إال به‪،‬‬ ‫فكما �أن اهلل قد خلق الإن�سان يف �أح�سن تقومي فقد �أنزل له �شريعة‬ ‫ت�ضبط له حياته على �أرفع و�أجمل �صورة"(‪.)7‬‬ ‫"والأمة م�صدر ال�سلطات‪ ،‬وكل م�ؤ�س�سات الدولة واحلكم‪ ،‬وكل‬ ‫القوانني والأنظمة والت�شريعات‪ ،‬يجب �أن تنبثق عن �إرادة الأمة‬ ‫احلرة‪ ،‬وعندما ننادي ب�إحياء الأمة واملجتمع بنظم الإ�سالم وهديه‬ ‫ويكون هذا خيار الأمة وقرارها ي�صبح دور ال�سيا�سي وامل�شرع تنفيذ‬ ‫�إرادتها بتقنني احلياة على هدى الإ�سالم وت�شريعاته"(‪.)8‬‬

‫ويف حني تطرح حركة النه�ضة يف تون�س �أن الأمة م�صدر‬ ‫ال�سلطات‪ ،‬و�أن املرجعية العليا هي لل�شريعة يكون زعيمها را�شد‬ ‫الغنو�شي يف غاية الو�ضوح �إذ يقول "�إذا ما ُطرِحت �أنا وبرناجمي‬ ‫وحركتي "و�إ�سالمي" على ال�شعب التون�سي ورف�ضني‪ .‬ماذا‬ ‫�ستكون النتيجة؟ �س�أن�سحب بكل روح ريا�ضية و�س�أ�ست�أنف املعركة‬ ‫يف ال�سنوات املقبلة ممار�ساً عملية الإقناع‪� .‬س�أعر�ض نف�سي‪ ،‬ف�إذا‬ ‫ما ُرف ِْ�ضتُ �س�أ�ست�أنف و�سائل الإقناع املعروفة‪� .‬إذا كنت �أ�ؤمن �أن‬ ‫ال�شريعة الإ�سالمية ينبغي �أن تطبق بحذافريها من جهة‪ ،‬و�أ�ؤمن‬ ‫بالدميقراطية فال تناق�ض‪ ،‬لأين �أريد �أن �أقدم قناعاتي لل�شعب‬ ‫حتى يقبلها �أو يرف�ضها‪ ،‬ف�إذا رف�ضها ان�سحبت �إىل املعار�ضة‪،‬‬ ‫ومار�ست و�سائل الإقناع الأخرى التي هي الرتبية والتكوين‬ ‫والإعالم والتوجيه والتعليم‪ ،‬ثم عندما �أُحِ �س �أن ال�شعب قد اقتنع‬ ‫�أر�شح نف�سي جلولة مقبلة‪.)9(".... ،‬‬ ‫وال ب ّد من وقفة ت�أمل واعية ال�ستعرا�ض املرتكزات التالية‪:‬‬ ‫�أ‪� -‬إن احلاكمية العليا هلل وهو ‪�-‬سبحانه– الذي �أعطى الإن�سان‬ ‫م�س�ؤولية فهم الن�ص وتنزيله على �أر�ض الواقع‪ ،‬وت�شريع ما يلزمه‬ ‫فيما ال ن�ص فيه اهتداء مبقا�صد ال�شريعة‪.‬‬ ‫ب‪� -‬إن الأمة هي التي تختار ما ينا�سبها‪ ،‬واحلاكم واحلكومة هما‬ ‫وكالء عن الأمة يف ت�سيري �ش�ؤونها‪.‬‬ ‫ج‪� -‬إن الواقع احلايل فيه اختالف كبري عن واقع امل�سلمني فيما‬ ‫م�ضى‪ ،‬فاليوم هناك تيارات يف الأمة لها طروحاتها ال�سيا�سية‬ ‫التي ال تعتمد املرجعية الإ�سالمية‪ ،‬فنحن �أمام واقع �شائك ومعقد‬ ‫وال بد من فقه جديد للتعامل معه مرتكز على �أ�صول الت�صور‬ ‫الإ�سالمي ومتعمق يف فهم هذا الواقع اجلديد‪.‬‬ ‫د‪� -‬إن التيار الإ�سالمي مطالب ب�أن يبني للأمة �أف�ضلية اخليار‬ ‫الإ�سالمي ويقنعها بجدواه براجماً وخططاً‪.‬‬ ‫هـ‪� -‬إذا مل تقنع غالبية الأمة بطروحات التيار الإ�سالمي‪ ،‬فلرياجع‬ ‫نف�سه لأنه مل يح�سن عر�ض ب�ضاعته النف�سية امل�ستمدة من‬ ‫الإ�سالم‪ ،‬وعليه �إعادة ح�ساباته وحماوالته من جديد‪.‬‬ ‫و‪ -‬ال ي�صح يف حال من الأحوال فر�ض اخليار الإ�سالمي على النا�س‬ ‫دون ر�ضاهم‪ ،‬فاهلل قد منح الإن�سان حرية االختيار حتى ي�ؤمن‬ ‫بوجوده �سبحانه فكيف مبا هو �أدنى من ذلك؟! ولي�س دور الدعاة �إال‬ ‫البيان‪ .‬وهذه م�س�ألة يجب �أن تواجهها احلركات الإ�سالمية مبنتهى‬ ‫العمق وال�شفافية‪ ،‬حيث �أن الو�سطية تقت�ضي �إقامة العدل يف‬ ‫امل�س�ألة‪ ،‬و�ضبط �إيقاع احلركة بحيث يحافظ على البو�صلة الهادية‪،‬‬ ‫�إذ �أن احلاكمية العليا هي هلل وحده وال ي�صح �أن ينازعه فيها �أحد‪،‬‬ ‫ودور احلركات الإ�سالمية هو التعليم والتذكري وتقدمي الربامج‬ ‫واخلطط التي يقتنع النا�س بجدواها كي تن�صلح حياتهم بالإ�سالم‪.‬‬

‫‪70‬‬


‫يف مبد�أ املواطنة‬ ‫ما هو املوقف من �أتباع الديانات الأخرى يف حال و�صول‬ ‫الإ�سالميني �إىل ال�سلطة؟‪ ..‬هل هم �أهل ذمة؟‪� ..‬أم هم مواطنون‬ ‫كاملو املواطنة‪� ،‬شركاء يف بناء الوطن والأمة؟‬ ‫من �أجل بيان هذا الأمر ال بد من الرجوع �إىل �أول د�ستور مكتوب‬ ‫يف الإ�سالم‪ ،‬عقده �صلى اهلل عليه و�سلم يف �أوائل العهد املدين وهو‬ ‫وثيقة املدينة‪:‬‬ ‫(ب�سم اهلل الرحمن الرحيم ‪ ،‬هذا كتاب من حممد النبي "ر�سول‬ ‫اهلل" بني امل�ؤمنني وامل�سلمني من قري�ش و�أهل يرثب ومن تبعهم‬ ‫فلحق بهم وجاهد معهم �أنهم �أمة واحدة من دون النا�س …‪( .‬ثم‬ ‫تعدد الوثيقة قبائل امل�سلمني وع�شائرهم وت�صل �إىل اليهود) و�أنه‬ ‫من تبعنا من اليهود ف�إن له الن�صر والأ�سوة‪ .‬غري مظلومني وال‬ ‫متنا�صر عليهم ‪ .....‬و�أنه ال يجري م�شرك ما ًال لقري�ش وال نف�ساً‬ ‫وال يحول دونه على م�ؤمن ‪ ....‬و�أنكم مهما اختلفتم فيه من �شيء‬ ‫ف�إن مرده �إىل اهلل و�إىل حممد‪ ،‬و�أن اليهود ينفقون مع امل�ؤمنني‬ ‫ما داموا حماربني‪ ،‬و�أن يهود بني عوف �أمة مع امل�ؤمنني‪ ،‬لليهود‬ ‫دينهم وللم�سلمني دينهم‪ ،‬مواليهم و�أنف�سهم �إال من ظلم و�أثم‪،‬‬ ‫ف�إنه ال يوتغ �إال نف�سه و�أهل بيته (ثم تعدد الوثيقة بطون اليهود)‬ ‫و�أن لهم ما ليهود بني عوف‪( .‬ثم تذكر) و�أنه ما كان بني �أهل هذه‬ ‫ال�صحيفة من َحدَثٍ ‪� ،‬أو �شِ جا ٍر ُيخاف ف�ساده‪ ،‬ف�إن مرده �إىل اهلل‬ ‫و�إىل حممد ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم و�أن اهلل على اتقى ما‬ ‫يف هذه ال�صحيفة و�أبره‪ ،‬و�أنه ال تجُ ار قري�ش وال من ن�صرها‪ ،‬و�أن‬ ‫بينهم الن�صر على من َدهَم يرثب)(‪.)10‬‬ ‫جتعل هذه الوثيقة غري امل�سلمني املقيمني يف الدولة مواطنني‬ ‫فيها‪ ،‬لهم مثل ما للم�سلمني وعليهم مثل ما عليهم‪ ،‬طاملا �أنهم‬ ‫داخلون �ضمن النظام العام للدولة‪ ،‬وقد جاءت التوجيهات النبوية‬ ‫الكرمية –مع هذه الوثيقة– لتعطي الت�صور ال�شمويل ملوقع غري‬ ‫امل�سلمني يف الدولة‪" :‬من �آذى ذمياً فقد �آذاين‪ ،‬ومن �آذاين فقد �آذى‬ ‫اهلل"‪ " .‬من �آذى ذمياً ف�أنا خ�صمه‪ ،‬ومن كنت خ�صمه خ�صمته يوم‬ ‫القيامة"‪.‬‬ ‫وعهد النبي �صلى اهلل عليه و�سلم مع �أهل جنران جدير بالتدبر‬ ‫�إذ جاء فيه "ولنجران وحا�شيتها جوار اهلل وذمة حممد النبي ر�سول‬ ‫اهلل على �أموالهم و�أنف�سهم و�أر�ضهم وملتهم وغائبهم و�شاهدهم‪....‬‬ ‫وال يط�أ �أر�ضهم جي�ش‪ ،‬ومن �س�أل منهم حقهم فبينهم ال َن َ�ص ُف غري‬ ‫ظاملني وال مظلومني‪.)11("...‬‬ ‫�أما الذمة فهي يف اال�صطالح الفقهي "عقد م�ؤبد يت�ضمن �إقرار‬ ‫غري امل�سلمني على دينهم‪ ،‬ومتتعهم ب�أمان اجلماعة الإ�سالمية‬ ‫و�ضمانها ب�شرط بذلهم اجلزية وقبولهم �أحكام دار الإ�سالم يف غري‬

‫�ش�ؤونهم الدينية "(‪.)12‬‬ ‫كما �أن اجلزية وكما يذكر د‪ .‬حممد �سليم العوا‪" :‬بدل عن‬ ‫ا�شرتاك غري امل�سلمني يف الدفاع عن دار الإ�سالم‪ ،‬لذلك �أ�سقطها‬ ‫ال�صحابة والتابعون عمن َق ِبل منهم اال�شرتاك يف الدفاع عنها‪،‬‬ ‫فعل ذلك �سراقة بن عمرو مع �أهل �أرمينيا �سنة ‪ 22‬هـ ‪ ،‬وحبيب‬ ‫بن م�سلمة الفهري مع �أهل �أنطاكية‪ .)13("....‬ويخل�ص د‪ .‬العوا‬ ‫�إىل نتيجة م�ؤداها "�إن غري امل�سلمني من املواطنني الذين ي�ؤدون‬ ‫واجب اجلندية‪ ،‬وي�سهمون يف حماية دار الإ�سالم ال جتب اجلزية‬ ‫عليهم"(‪.)14‬‬ ‫ويعر�ض لهذه احلقيقة د‪ .‬عبد العزيز كامل فيقول "ثم جاءت‬ ‫مع القرن الع�شرين �صيغة جديدة من الوجود الإ�سالمي‪ ،‬كان من‬ ‫�أهم ما متيزت به –وبخا�صة يف القطاع العربي– ا�شرتاك املواطنني‬ ‫م�سلمني وم�سيحيني يف الكفاح الوطني من �أجل اال�ستقالل"(‪.)15‬‬ ‫وهكذا نرى �أن مفهوم املواطنة ين�سحب لي�شمل كل من ي�شرتك‬ ‫يف الوالء والن�صرة لنظام الأمة العام وي�ساهم يف بناء املجتمع‬ ‫وحمايته‪ ،‬وتبقى اخل�صو�صيات الدينية حمرتمة للجميع ومن‬ ‫ِق َبل اجلميع‪ .‬وي�شهد التاريخ لنا بهذا‪ ،‬حيث انه قد لفت نظر‬ ‫امل�ؤرخني الأوروبيني ظاهرة النفوذ الكبري لغري امل�سلمني يف جهاز‬ ‫احلكم الإ�سالمي وهي ظاهرة غري م�سبوقة يف �أي ح�ضارة �أخرى‪،‬‬ ‫بقول �آدم متز‪" :‬من الأمور التي تعجب لها كرثة عدد العمال‬ ‫واملت�صرفني غري امل�سلمني يف الدولة الإ�سالمية‪ ،‬فك�أن الن�صارى‬ ‫هم الذين يحكمون امل�سلمني يف بالد الإ�سالم"(‪.)16‬‬ ‫ويف تعليقه على �أو�ضاع اليهود يف الأندل�س يقول �سيمون دينوه‬ ‫"لأول مرة يتمكن ق�سم من ال�شعب اليهودي من التمتع بحرية‬ ‫الفكر"(‪.)17‬‬ ‫وبعد هذا اال�ستعرا�ض ملوقع غري امل�سلمني يف الدولة‬ ‫الإ�سالمية‪ ...‬ماذا تقدم احلركات الإ�سالمية اليوم يف هذا ال�ش�أن؟‬ ‫عند احلديث عن الوحدة الوطنية ين�ص حزب الو�سط الإ�سالمي‬ ‫يف م�صر "فم�شاركة الأخوة امل�سيحيني يف الدفاع عن تراب هذا‬ ‫البلد الأمني‪ ،‬يعني وطناً واحداً‪ ،‬ومواطنني م�سلمني وم�سيحيني‪،‬‬ ‫يتمتعون بحقوق املواطنة كاملة‪ ،‬لهم عني احلقوق املدنية‬ ‫وال�سيا�سية والقانونية‪ .....‬وعليهم عني االلتزامات يف �إطار من‬ ‫امل�ساواة الكاملة"(‪.)18‬‬ ‫�أما حزب العدالة والتنمية املغربي فيتبنى �أن‪" :‬جمال ا�شتغال‬ ‫احلزب هو املجال ال�سيا�سي‪ ،‬واالنتماء �إليه هو انتماء �سيا�سي على‬ ‫�أ�سا�س املواطنة‪ .‬وهو ما يجعله حزباً مفتوحاً جلميع املواطنني‪ ،‬ما‬ ‫داموا ملتزمني بتوجهاته وبراجمه ال�سيا�سية وقوانينه"(‪.)19‬‬ ‫ويقف حزب الو�سط الإ�سالمي يف الأردن نف�س املوقف لين�ص يف‬

‫‪71‬‬


‫منطلقاته على ما يلي "ي�ؤمن احلزب �أن �أبناء الوطن لهم نف�س‬ ‫احلقوق وعليهم نف�س الواجبات‪ .‬و�أن من حق اجلميع تويل املواقع‬ ‫املختلفة ح�سب الكفاءة‪ ،‬و�أن باب الع�ضوية يف احلزب مفتوح جلميع‬ ‫�أبناء الوطن الذين ي�ؤمنون مبنطلقاته ليكونوا �أع�ضاء فاعلني فيه‬ ‫ي�ساهمون يف ن�شاطاته وحتقيق �أهدافه"(‪ .)20‬وين�ص يف مرتكزات‬ ‫خطابه "�إننا يف �سعينا لتقدمي الربامج الإ�سالمية للمجتمع‬ ‫والنا�س‪ ،‬نلتقي فيها مع امل�سلم الذي يرى فيها اخلري حلياته‬ ‫وحتقيق معاين تدينه‪ ،‬ونلتقي مع غري امل�سلم الذي يقتنع معنا‬ ‫ب�صوابها وجناعتها حلل م�شاكل احلياة"(‪.)21‬‬ ‫هذه املواقف ت�شكل مناخاً �إيجابياًّ يف �سبيل تعزيز وحدة العمل‬ ‫الوطني‪� ،‬إال �أنها بحاجة �إىل تعزيز عملي ال نرى �آثاره الوا�ضحة‬ ‫حتى ال�ساعة يف مبد�أ التعدد‪ " :‬الكلمة احلكمة �ضالة امل�ؤمن‪،‬‬ ‫فحيث وجدها فهو �أحق بها" (الرتمذي وابن ماجه)‪ .‬هكذا يفتح‬ ‫التوجيه النبوي ال�شريف للم�ؤمن �آفاق املعرفة لريتادها‪ ،‬ويو�سع‬ ‫له �أفق النظر واالعتبار ال حتدّه عوائق التاريخ وال اجلغرافيا وال‬ ‫الأعراق وال املذاهب‪ ....‬هكذا يكون امل�سلم باحثاً عن احلقيقة‪ ،‬مقراً‬ ‫بوجود خري وحكمة عند غريه هو بحاجة �إليها‪ ،‬وقد ت�أ�س�س هذا‬ ‫البعد يف �ضمري امل�سلم من الوحي الذي جعل التعارف من و�سائل‬ ‫جناح الإن�سان يف حتقيق غاية وجوده �أال وهي عبادة اهلل وتقواه‪.‬‬ ‫ا�س ِ�إ َّنا َخلَ ْق َنا ُك ْم مِ نْ َذ َكرٍ َو�أُ ْن َثى * َو َج َع ْل َنا ُك ْم ُ�ش ُعو ًبا‬ ‫( َيا �أَ ُّيهَا ال َّن ُ‬ ‫ري‬ ‫َو َق َبا ِئ َل ِل َت َعا َر ُفوا * �إِ َّن �أَ ْك َر َم ُك ْم عِ ْن َد اللهَّ ِ �أَ ْت َقا ُك ْم * �إِ َّن اللهَّ َ َعلِي ٌم َخ ِب ٌ‬ ‫)(احلجرات‪ .)13 :‬فتع ّر ُف الإن�سان على ما عند الآخرين ليبني‬ ‫على ال�صالح عندهم‪ ،‬ويعترب من الطالح‪ ،‬ويتعارف على الأقوام‬ ‫وال�شعوب واجلماعات فيتبادل معهم اخلربة والتجربة واالعتبار‪،‬‬ ‫هو ال�سبيل �إىل بلوغ الكرامة الإن�سانية احلقة‪ ،‬وحتقيق معاين‬ ‫العبودية هلل يف الأر�ض تقوىً و�صالحاً و�إعماراً ومنا ًء ‪.‬‬ ‫وعليه ف�إن " حركة االجتماع الإن�ساين يجب �أن ترتكز �إىل‬ ‫�سنة التعارف بكل ما حتمله من معاين االلتقاء والقبول بالآخر‬ ‫وح�سن اال�ستماع �إىل ما لديه‪ ،‬والتعرف �إىل مواهبه و�إمكاناته‪،‬‬ ‫ونبذ حواجز الفرقة‪ ،‬واحلوار وتبادل اخلربات للو�صول باحلياة‬ ‫الإن�سانية �إىل كل ما هو �أكرم و�أطهر"‪)22(.‬‬ ‫وقد ا�ستوعب امل�سلمون مذاهب وح�ضارات وثقافات �ش ّتى و�أ ّثروا‬ ‫بها وت�أثروا منها‪ ،‬فكان نتاج ذلك تلك احل�ضارة الإ�سالمية التي‬ ‫كانت ملء �سمع الدنيا وب�صرها‪.‬‬ ‫ثم �إن وجود املخالف يف الر�أي يف حد ذاته �ضرورة ل�صاحب‬ ‫الر�أي‪ ،‬حيث �أنه يحفزه على تعميق الر�ؤية وت�صويب اخلط�أ و�إزالة‬ ‫الزلل‪ ،‬بينما لو �أن ال�ساحة خلت لر�أي �أو مذهب �أو حزب واحد‬ ‫لأ�سِ َنتِ احلياة و َف ُ�س َدتْ ‪ ،‬ولعل هذا بع�ض معاين قوله تعاىل ( َو َل ْو اَل‬

‫ا�س َب ْع َ�ض ُه ْم ِب َب ْع ٍ�ض َل ُه ِّدمَتْ َ�صوَامِ ُع َو ِب َي ٌع َو َ�صلَ َو ٌات‬ ‫َد ْف ُع اللهَّ ِ ال َّن َ‬ ‫ريا * َو َل َي ْن ُ�ص َر َّن اللهَّ ُ َمنْ َي ْن ُ�ص ُر ُه *‬ ‫َوم َ​َ�ساجِ ُد ُي ْذ َك ُر فِيهَا ْا�س ُم اللهَّ ِ َك ِث ً‬ ‫�إِ َّن اللهَّ َ َل َقوِيٌّ َعزِي ٌز )(احلج‪ .)40 :‬فبقاء معاين اخلري وال�صالح يف‬ ‫هذه الدنيا قد جعله اهلل منوطاً ب�سنة التدافع واالختالف‪.‬‬ ‫ف�إذا كانت التعددية �سمة من �سمات الو�سطية‪ ،‬فما هي جتلياتها‬ ‫لدى احلركات الإ�سالمية املعا�صرة؟‪.‬‬ ‫يقول �سعد الدين العثماين �أمني عام حزب العدالة والتنمية‬ ‫املغربي "�إن متطلبات التغيري والإ�صالح �أكرب من �أن تدعي منظمة‬ ‫�سيا�سية �أو حزبية واحدة القدرة على النهو�ض مبتطلباتها‪ ....‬و�إن‬ ‫اختالف الر�ؤى واملناهج والربامج ال�سيا�سية وجب �أن يكون مدعاة‬ ‫للتناف�س يف اخلري والتدافع احل�ضاري من �أجل خدمة امل�صلحة‬ ‫الوطنية العليا‪ ...‬وعملياً‪ ،‬عُرف احلزب يف ال�ساحة ال�سيا�سية‬ ‫بانفتاحه على خمتلف القوى ال�سيا�سية وا�ستعداده امل�ستمر لو�ضع‬ ‫برامج ن�ضالية معها يف ق�ضايا م�شرتكة"(‪.)23‬‬ ‫ويعتقد حزب الو�سط الإ�سالمي يف الأردن �أن "التعددية الفكرية‬ ‫�أ�صل من �أ�صول احلياة ورحم ٌة منَّ اهلل بها على عباده حتى ي�ستمر‬ ‫مناء العطاء الإن�ساين وتكامله"(‪" .)24‬و�أن كل النا�س من خالل‬ ‫مفاهيم الو�سطية الإ�سالمية والذين تعرب عنهم الت�صورات‬ ‫الأخرى بـ " الآخر" ي�صبح رفيق درب نتقدم �إليه مبا لدينا من‬ ‫خري وهدى ون�سعى لال�ستماع �إىل ما عنده من الفكر والت�صور‪،‬‬ ‫على م�ستوى الأفراد وامل�ؤ�س�سات والأمم واحل�ضارات"(‪.)25‬‬ ‫وقد �سعى احلزب ويف عامه الأول �إىل ت�أ�سي�س جمل�س ي�ضم كافة‬ ‫الأحزاب الأردنية على القوا�سم الوطنية امل�شرتكة‪ ،‬وجنح يف ت�أ�سي�س‬ ‫"جتمع الإ�صالح الدميقراطي" من جمموعة من الأحزاب منها‬ ‫ماهو �إ�سالمي ومنها ما هو وطني �أو ي�ساري‪ ،‬تلتقي على مهمة‬ ‫تنمية احلياة ال�سيا�سية وتعزيز حقوق الإن�سان والدميقراطية يف‬ ‫الأردن‪.‬‬ ‫وتتعر�ض حركة االجتاه الإ�سالمي يف تون�س �إىل مو�ضوع‬ ‫التعددية‪�" :‬إن حركة االجتاه الإ�سالمي لي�س عندها �أي حتفظ‬ ‫جتاه �أي طرف �سيا�سي �آخر �سواء �أكان هذا الطرف �إ�سالمياً �أم غري‬ ‫�إ�سالمي‪� ،‬إننا مل نقدم �أنف�سنا على �أننا منثل الإ�سالم‪ ،‬ولكن لنا‬ ‫ر�ؤية للإ�سالم كما لغرينا ر�ؤيته وال نرى مانعاً من متثيله معنا‪،‬‬ ‫ف�إذا كانت �أطراف �أخرى لها حتفظات �إزاء �أطراف �أخرى‪ ،‬فحركة‬ ‫االجتاه الإ�سالمي لي�س لها حتفظ �إزاء �أي طرف �آخر يقبل احلوار‪،‬‬ ‫ويقبل ال�صراع الدميقراطي يف البالد وال ينفي وجود غريه"(‪.)26‬‬ ‫يف مبد�أ التدرج‬ ‫احتاج الو�صول �إىل احلكم النهائي يف مو�ضوع القبلة مرحلتني‬ ‫متدرجتني‪ ،‬كما احتاجت كثري من الأحكام الت�شريعية �إىل املرحلية‬

‫‪72‬‬


‫رفقاً بالعباد و�أخذاً ب�أيديهم لريتقوا �إىل ما تتطلبه تلك الأحكام‬ ‫من وعي ودراية و�إميان وم�ؤهالت‪.‬‬ ‫فاخلمر تطلب حترميه عدة مراحل‪ ،‬وتقول ال�سيدة عائ�شة‬ ‫ر�ضي اهلل عنها‪ :‬لو ت ّنزل حترمي اخلمر يف مكة ملا امتنع عنها �أحد‪،‬‬ ‫بينما ملا جاء احلكم النهائي بالتحرمي القطعي �سالت �أزقة املدينة‬ ‫باخلمر امتثاال لأمر اهلل تعاىل‪.‬‬ ‫و�إذا كان الواجب على امل�سلمني بذل و�سعهم يف اال�ستجابة لأمر‬ ‫اهلل ب�إقامة �شريعته‪ ،‬فما هو املطلوب منهم �إن تع ّذر حتقيق ذلك‬ ‫كام ً‬ ‫ال؟ هل ينتظرون ح�صول معجزة حتقق لهم ذلك‪� ،‬أم ي�سعون‬ ‫لتحقيق امل�ستطاع‪ ،‬واال�ستطاعة عند الأ�صوليني هي مناط التكليف‬ ‫�إعما ًال لقوله تعاىل اَ‬ ‫(ل ُي َك ِّل ُف اللهَّ ُ َن ْف ً�سا �إِ اَّل ُو ْ�س َعهَا )(البقرة‪.)286 :‬‬ ‫�أدلة يف �صحة التدرج‬ ‫عمر بن عبد العزيز‪ :‬اخلليفة الرا�شدي اخلام�س‪ ،‬والذي اتفق‬ ‫امل�سلمون على عدالته ور�شده‪ ،‬ورغم انزعاجه من النظام الوراثي‬ ‫الذي �آل بوا�سطته احلكم �إليه‪� ،‬إال �أنه مل ي�ستطع تغيريه ب�سبب‬ ‫�ضغوط بني �أمية وتراكم الف�ساد‪ ،‬و�أ�صلح ما ا�ستطاع ورد من املظامل‬ ‫ما متكن من رده‪ .‬فا�ستحق ثناء امل�سلمني عليه عرب الع�صور‪.‬‬ ‫النجا�شي‪ :‬هو ملك احلب�شة الذي و�صفه الر�سول �صلى اهلل عليه‬ ‫و�سلم بامللك الذي ال يظلم عنده النا�س‪ ،‬وقد دخل يف الإ�سالم دون‬ ‫�أن يتمكن من �إجراء تعديالت ذات بال على حكمه‪ ،‬ولقد �أثنى عليه‬ ‫�صلى اهلل عليه و�سلم و�أمر �أ�صحابه ب�أداء �صالة اجلنازة على روحه‪.‬‬ ‫حلف الف�ضول‪ :‬احللف الذي تداعت له بطون قري�ش يف اجلاهلية‬ ‫وحتالفوا وتعاقدوا �أال يجدوا مبكة مظلوماً من �أهلها �أو من‬ ‫غريهم من �سائر النا�س �إال قاموا معه حتى ترد �إليه مظلمته‪،‬‬ ‫وفيه يقول ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم (لقد �شهدت يف دار‬ ‫عبد اهلل بن جدعان حلفاً لو دعيت به يف الإ�سالم لأجبت‪ ،‬حتالفوا‬ ‫�أن ترد الف�ضول على �أهلها و�أال َيع ِز (يغلب) ظامل مظلوماً)(‪.)27‬‬ ‫ويظهر املوقف النبوي هنا وبكل جالء وو�ضوح‪� ،‬أن امل�سلم يلتقي مع‬ ‫الآخرين على �أي معنى �أو جهد �أو م�شروع ميكن �أن يحقق اخلري‬ ‫للنا�س ولو مل يلتق مع الآخرين �إال على هذا اجلهد‪ ،‬وافرتق عنهم‬ ‫يف كل ما �سواه‪.‬‬ ‫يقول العالمة القر�ضاوي "�إن التدرج �سنة كونية و�سنة �شرعية‬ ‫�أي�ضاً‪ ...‬ومن هنا كان على الذين يدعون �إىل ا�ستئناف احلياة‬ ‫الإ�سالمية‪ ،‬و�إقامة دولة الإ�سالم يف الأر�ض‪� ،‬أن يراعوا �سنة التدرج‬ ‫يف حتقيق ما يريدون من �أهداف �آخذين يف االعتبار �سمو الهدف‬ ‫ومبلغ الإمكانات وكرثة املعوقات"(‪.)28‬‬ ‫ويقول د‪ .‬ح�سن الرتابي "فالدين يف تعاليمه ي�ؤثر التدرج‬

‫كما نهج الت�شريع احلاكم للم�سلمني‪ ....‬والتدرج تر�س ً‬ ‫ال ب�إيقاع‬ ‫ال�شرع �أثبت و�أ�سلم من �أن تغ�شاه فلتات اخلط�أ �أو لفحات الفتنة‪،‬‬ ‫من التطبيق الفوري امل�ستعجل امل�ستوعب للتجديد غري املعهود‬ ‫املقتحم للغريب بغري تر ٍّو مطمئن"(‪.)29‬‬ ‫�إن االرتقاء باملجتمعات والدول نحو الإ�سالم هو عملية حت�ضر‬ ‫وترقي‪ ،‬وال ميكن الو�صول �إليها �إال باجلهد واملثابرة والتعليم‬ ‫والتزكية وهي مهمات الر�سل الذين بذلوا �أعمارهم من �أجلها‪ ،‬ومل‬ ‫يكن عبثاً �أن ينزل القر�آن على مدى ثالث وع�شرين �سنة ( َو ُق ْر�آ ًنا‬ ‫ا�س َعلَى ُم ْكثٍ َو َن َّز ْل َنا ُه َت ْنز اً‬ ‫ِيل )(الإ�سراء‪.)106 :‬‬ ‫َف َر ْق َنا ُه ِل َت ْق َر�أَ ُه َعلَى ال َّن ِ‬ ‫بعد هذا اال�ستعرا�ض ملعاين �سنة التدرج يف الت�صور الإ�سالمي‬ ‫وكمفهوم من مفاهيم الو�سطية الإ�سالمية‪ ،‬فما هي جتلياته لدى‬ ‫احلركات الإ�سالمية؟ جند لدى حزب العدالة والتنمية يف املغرب‬ ‫هذا املفهوم وا�ضحاً و�آثاره العملية جلية‪�" ،‬إن الإ�صالح الناجع‬ ‫يخ�ضع لقاعدة التدرج والرتاكم‪ ،‬فالتدرج �سنة حتكم على الظواهر‬ ‫الطبيعية والإن�سانية واالجتماعية‪ .‬و ُتثبت التجارب التاريخية �أن‬ ‫ال�سعي للقفز على هذا القانون وتلك ال�سنة كان م�صري �أ�صحابه‬ ‫الف�شل واال�صطدام بالواقع العنيد‪ .‬والتدرج عملية بناء تن�أى عن‬ ‫ال�سقوط يف نزع ٍة مغامر ٍة تع�صف باملكت�سبات‪ .‬كما �أنها ال تعني‬ ‫الت�صالح مع واقع التخلف والف�ساد و�سائر �أنواع االختالل "(‪.)30‬‬ ‫ويتبنى حزب الو�سط الإ�سالمي "االن�ضباط ب�سنن التدرج يف‬ ‫الإ�صالح والتنمية والعمل وفق منهاج فقه املمكن‪ ،‬وعدم حرق‬ ‫املراحل‪ ،‬والر�سم يف الفراغ"(‪.)31‬‬ ‫يف املنهج احلركي‬ ‫‪� -1/5‬إن الأ�صل الذي يجب �أن يكون وا�ضحاً لدى احلركات‬ ‫الإ�سالمية الو�سطية‪� ،‬أن ر�سالتها الأ�سا�سية هي الأخذ بيد �أهلها‬ ‫وجمتمعاتها نحو الإ�سالم العظيم‪ ،‬و�أن ال تغيب هذه الق�ضية عن‬ ‫�أهدافها وو�سائلها‪.‬‬ ‫‪� -2/5‬إن ر�سالة الو�سطية‪ ،‬ر�سالة هداية ورحمة‪ ،‬حيث يقول‬ ‫�صلى اهلل عليه و�سلم (�إمنا �أنا رحمة مهداة)‪.‬‬ ‫‪ -3/5‬الرتكيز على ال ُبعد االجتماعي يف الإ�سالم‪ ،‬وبالتايل‬ ‫االنحياز الدائم للجماهري باجلمع بني الدعوة �إىل الإ�سالم‬ ‫والدعوة �إىل مطالب النا�س االجتماعية‪ .‬ف�إذا كان اخلطر اخلارجي‬ ‫والذي يتمثل يف اال�ستعمار وال�صهيونية �شديداً‪ ،‬ف�إن الفقر‬ ‫والتخلف والبطالة والقهر و�سوء توزيع الرثوات وغريها كثري‪،‬‬ ‫هي خماطر داخلية �أدت �إىل �إف�ساح ثغرات يف كياناتنا ُت�سهل على‬ ‫الأخطار اخلارجية النيل م ّنا ‪.‬‬ ‫‪ -4/5‬ال�شورى �أ�سا�س من �أ�س�س الدين‪ ،‬وعلى احلركات‬

‫‪73‬‬


‫الإ�سالمية العمل على تر�سيخ ال�شورى يف كافة دوائر املجتمع‬ ‫�أفراداً وم�ؤ�س�سات‪ ،‬و�أن ت�ضرب املثل يف حتقيقها �ضمن دوائر‬ ‫احلركة ذاتها مع تر�سيخ ال�شفافية الكاملة والعلنية يف �أداء احلركة‬ ‫الداخلي واخلارجي‪.‬‬ ‫‪ -5/5‬تبني ق�ضية احلرية ‪-‬ق�ضية مركزية للحركة‪ -‬و�أن يكون‬ ‫هذا التبني خياراً ا�سرتاتيجياً ال ينفك وال ين�صرم‪ ،‬لأن الأمم ال‬ ‫تنه�ض �إال باحلرية‪ ،‬والدين ال يقام �إال بها‪ ،‬وال�شعوب ال تلتف �إال‬ ‫حول حمرريها‪.‬‬ ‫‪ -6/5‬االهتمام برتبية عنا�صرها على اال�ستقامة والأخالق‬ ‫الإ�سالمية‪ ،‬وتزكيتهم بالرتبية الروحية‪ ،‬ليكونوا مناذج يف العطاء‬ ‫واخللق والنزاهة‪.‬‬ ‫‪ -7/5‬امل�صداقية‪� :‬إن القبول عند اهلل منوط بال�صدق‬ ‫والإخال�ص‪ ،‬و�إح�سا�س الأمة عالٍ جداً يف ق�ضية امل�صداقية عموماً‬ ‫عند كل من يت�صدى للعمل العام‪ ،‬وعلى وجه التخ�صي�ص ملن يحمل‬ ‫راية �إ�سالمية‪ ،‬ف�إن وجدت اجلماهري فيه ال�صدق والنزاهة �أَ ْ�سلَ َمتْ‬ ‫له قيادها‪ ،‬و�إن �شاب م�صداقيته �أي �شائب َن َفرت منه وتركته و�ش�أنه‪.‬‬ ‫‪ -8/5‬اال�ستفادة من كافة اخلربات والكفاءات املتوفرة داخل‬ ‫اخلط الإ�سالمي وخارجه‪ ،‬واالنفتاح على قوى املجتمع والتفاعل‬ ‫معها �أخذاً وعطا ًء‪ ،‬و�إيثار الآخرين لتقدمي النموذج وبناء الثقة‪،‬‬ ‫لت�صبح فعاليات املجتمع وم�ؤ�س�ساته هي "الرهط" {{ولوال‬ ‫رهطك لرجمناك}} والعزوة للحركة وبراجمها‪.‬‬ ‫‪ -9/5‬الإعالن ال�صريح �أنها مع دولة الد�ستور والقانون‬ ‫وامل�ؤ�س�سات‪ ،‬والدفاع عن هذا‪ ،‬حتى مع اعرتا�ضها على بع�ض بنود‬ ‫الد�ستور �أو القوانني‪ .‬يقول ابن تيمية يف الفتاوى "�إن اهلل ين�صر‬ ‫الدولة العادلة ولو كانت كافرة‪ ،‬وال ين�صر الدولة الظاملة و�إن كانت‬ ‫م�ؤمنة"‬ ‫‪ -10/5‬النقد واملراجعة‪ :‬هذا �ش�أن امل�ؤمنني‪ ،‬التوبة من الأخطاء‪،‬‬ ‫والتي تتطلب نقداً للأداء ومراجعة للم�سرية‪ ،‬ثم ت�صحيحاً‬ ‫وت�صويباً‪ ،‬وتخلي�صاً وتطهراً من الزالت وال�سقطات‪ .‬و�أن يكون هذا‬ ‫النقد الذاتي واملراجعة واملحا�سبة �سمة �أ�صيلة للحركة‪ ،‬ومنهجاً‬ ‫دائماً من �أجل االرتقاء دوماً بالأداء والتخل�ص من الأدواء الداخلية‬ ‫التي �إن ا�س َت ْف َحلَت َق َتلَت‪ ،‬و�إر�ضا ًء هلل تعاىل الذي يقول ( َيا �أَ ُّيهَا‬ ‫ا َّلذِ َ‬ ‫ين �آ َم ُنوا لمِ َ َت ُقو ُلو َن مَا اَل َت ْف َع ُلو َن َكبرُ َ َم ْق ًتا عِ ْن َد اللهَّ ِ �أَ ْن َت ُقو ُلوا‬ ‫مَا اَل َت ْف َع ُلو َن ) (ال�صف‪ )3-2 :‬فال ي�صح �أن ينه�ض �أبناء احلركة‬ ‫الإ�سالمية للدعوة �إىل الإ�صالح ونقد �أخطاء املجتمع والدولة وهم‬ ‫ال يقومون بهذه املهمة يف حق �أنف�سهم‪.‬‬ ‫هذه بع�ض املعامل‪ ،‬نقدمها بني يدي احلركات الإ�سالمية‪ ،‬ع�سى‬ ‫�أن يكون فيها ر�ش ٌد للطريق ٌ‬ ‫وعون على �أداء الر�سالة‪.‬‬

‫الـهــوامــــــ�ش‬ ‫‪ -1‬الإمام الغزايل‪ " .‬امل�ست�صفى من علم الأ�صول‬ ‫‪ -2‬بينات احلل الإ�سالمي‪� .‬ص‪ – 177‬يو�سف القر�ضاوي‪.‬‬ ‫‪ -3‬الدميقراطية يف الإ�سالم –‪ 1971‬عبا�س العقاد‪.‬‬ ‫‪ -4‬نحو الد�ستور الإ�سالمي –�ص‪� – 132‬أبو الأعلى املودودي‪.‬‬ ‫‪� -5‬أوراق حزب الو�سط �ص‪ 17‬د‪ .‬رفيق حبيب‪.‬‬ ‫‪ -6‬حزب العدالة والتنمية – من اجل نه�ضة �شاملة "املنطلقات" �ص‪.2‬‬ ‫‪ -7‬حزب الو�سط الإ�سالمي – فكرة ومنهاج �ص‪.15‬‬ ‫‪ -8‬حزب الو�سط الإ�سالمي – فكرة ومنهاج �ص‪28‬‬ ‫‪ -9‬الإ�سالميون والدميقراطية – �أحمد بن يو�سف‪.‬‬ ‫‪ -10‬جمموعة الوثائق ال�سيا�سية للعهد النبوي واخلالفة الرا�شدة ‪ -‬ط‪� 5‬ص‪� -59‬ص‪ 62‬حممد حميد اهلل‪.‬‬ ‫‪ -11‬كتاب اخلراج �ص ‪ 78‬القا�ضي �أبو يو�سف‪.‬‬ ‫‪� -12‬أحكام الذميني امل�ست�أمنني �ص‪ -22‬عبد الكرمي زيدان‪.‬‬ ‫‪ -13‬يف النظام ال�سيا�سي للدولة الإ�سالمية �ص‪ 256‬د‪ .‬حممد �سليم العوا‪.‬‬ ‫‪ -14‬يف النظام ال�سيا�سي للدولة الإ�سالمية �ص‪ 257‬د‪ .‬حممد �سليم العوا‪.‬‬ ‫‪ -15‬بحث حقوق الإن�سان يف الإ�سالم يف كتاب معاملة غري امل�سلمني ج‪� 1‬ص‪ 90‬م�ؤ�س�سة �آل البيت – د‪.‬عبد العزيز‬ ‫كامل‪.‬‬ ‫‪ -16‬احل�ضارة الإ�سالمية يف القر�آن الرابع الهجري ج‪� 2‬ص‪.67‬‬ ‫‪ -17‬جملة االزمنة احلديثة جان بول �سارتر‪.‬‬ ‫‪� -18‬أوراق حزب الو�سط – تقدمي د‪ .‬رفيق حبيب‪.‬‬ ‫‪ -19‬من حما�ضرة لل�سيد �سعد الدين العثماين‪ /‬امني عام حزب العدالة والتنمية املغربي بعنوان الإ�سالم‬ ‫ال�سيا�سي وحتديات الإ�صالح لوتداول ال�سلطة‪.‬‬ ‫‪ -20‬حزب الو�سط الإ�سالمي" فكرة ومنهاج" �ص‪.30‬‬ ‫‪ -21‬حزب الو�سط الإ�سالمي "فكرة ومنهاج" �ص ‪.15‬‬ ‫‪ -22‬حزب الو�سط الإ�سالمي ‪ -‬االردن – " فكرة ومنهاج" �ص‪.18‬‬ ‫‪ -23‬حما�ضرة د‪� .‬سعد الدين العثماين‪ /‬الإ�سالم ال�سيا�سي وحتديات اال�صالح وتداول ال�سلطة‪.‬‬ ‫‪ -24‬حزب الو�سط الإ�سالمي " فكرة ومنهاج" �ص‪.18‬‬ ‫‪ -25‬حزب الو�سط الإ�سالمي "فكرة ومنهاج" �ص ‪.19‬‬ ‫‪ -26‬الإ�سالم االحتجاجي يف تون�س �ص‪ – 27‬د‪ .‬حممد عبد الباقي الهرما�سي‪.‬‬ ‫‪ -27‬نور اليقني يف �سرية �سيد املر�سلني – �ص‪ 22‬ال�شيخ حممد اخل�ضري‬ ‫‪ -28‬ال�صحوة الدينية الإ�سالمية ‪� -‬ص ‪ 397‬د‪.‬م�صطفى الفياليل‪.‬‬ ‫‪ -29‬ال�سيا�سة واحلكم – �ص‪ – 82‬د‪.‬ح�سن الرتابي‪.‬‬ ‫‪ -30‬حما�ضرة الإ�سالم ال�سيا�سي وحتديات اال�صالح وتداول ال�سلطة �ص‪� _9‬سعد الدين العثماين‬ ‫‪ -31‬حزب الو�سط الإ�سالمي "فكرة ومنهاج" – �ص‪.21‬‬ ‫‪ -32‬ال�صحوة الدينية الإ�سالمية – �ص‪ -386‬د‪ .‬م�صطفى الفياليل‬ ‫مراجع البحث‬ ‫�أوال‪ :‬الكتب‬ ‫ القر�آن الكرمي‪.‬‬‫ احلديث النبوي ال�شريف‪.‬‬‫ �أحكام الذميني وامل�ست�أمنني – عبد الكرمي زيدان‪.‬‬‫ �أوراق حزب الو�سط – م�صر ط‪ 1‬د‪ .‬رفيق حبيب‪.‬‬‫ الإ�سالم االحتجاجي يف تون�س‪ -‬ورقة بحث – مركز درا�سات الوحدة العربية – د‪ .‬حممد عبد الباقي‬‫الهرما�سي‪.‬‬ ‫ بينات احلل الإ�سالمي – م�ؤ�س�سة الر�سالة ط‪ – 1‬د‪ .‬يو�سف القر�ضاوي‪.‬‬‫ حزب الو�سط الإ�سالمي " فكرة ومنهاج" ط‪ – 1‬عمان – الأردن‪.‬‬‫ اخلراج – القا�ضي �أبو يو�سف‪.‬‬‫ الدميقراطية يف الإ�سالم – دار املعارف ‪ – 1971‬عبا�س حممود العقاد‪.‬‬‫ ال�سيا�سة واحلكم –دار ال�ساقي ط‪– 1‬د‪ .‬ح�سن الرتابي‪.‬‬‫ ال�صحوة الدينية الإ�سالمية‪ -‬ورقة بحث‪ /‬مركز درا�سات الوحدة العربية‪ -‬د‪ .‬م�صطف الفياليل‪.‬‬‫ يف النظام ال�سيا�سي للدولة الإ�سالمية – دار ال�شروق – ط‪ – 1‬د‪.‬حممد �سليم العوا‪.‬‬‫ جمموع الفتاوى – تقي الدين �أحمد بن تيمية‪.‬‬‫ جمموعة الوثائق ال�سيا�سية للعهد النبوي واخلالفة الرا�شدة – دار النفائ�س ط‪ – 5‬حممد حميد اهلل‪.‬‬‫ معاملة غري امل�سلمني يف الإ�سالم‪ /‬بحث حقوق الإن�سان يف الإ�سالم –م�ؤ�س�سة �آل البيت –د‪ .‬عبد العزيز كامل‪.‬‬‫ امل�ست�صفى من علم الأ�صول – دار �صادر بريوت‪ -‬الإمام الغزايل‪.‬‬‫ من �أجل نه�ضة �شاملة " املنطلقات" حزب العدالة والتنمية –املغرب‪.‬‬‫ املوافقات –�أبو �إ�سحاق ال�شاطبي‪.‬‬‫ نحو الد�ستور الإ�سالمي – القاهرة املطبعة ال�سلفية – �أبو الأعلى املودودي‪.‬‬‫ نور اليقني يف �سرية �سيد املر�سلني – م�ؤ�س�سة علوم القر�آن ط‪ -3‬ال�شيخ حممد اخل�ضري‪.‬‬‫ثانيا‪ :‬الدوريات واملجالت واملحا�ضرات‬ ‫ جريدة احلياة ‪ – 1993 /1 /14‬الإ�سالميون والدميقراطية – احمد بن يو�سف‪.‬‬‫ حما�ضرة �سعد الدين العثماين‪ /‬الإ�سالم ال�سيا�سي وحتديات الإ�صالح وتداول ال�سلطة‪� ،‬ألقيت خالل م�ؤمتر‬‫الأحزاب ال�سيا�سية يف العامل العربي‪ /.‬الواقع الراهن و�آفاق امل�ستقبل يف عمان ‪ 13 -12‬حزيران ‪.2004‬‬ ‫‪ -‬جملة الأزمنة احلديثة العدد ‪ – 252‬جان بول �سارتر‪.‬‬

‫‪74‬‬


‫نشـاطـات‬ ‫الـوسـطيـة‬ ‫شهر آب ‪2011‬م‬ ‫‪� -1‬أ�شاد مفكرون �إ�سالميون بالتعديالت الد�ستورية الأردنية‬ ‫التي تدعو �إىل حتقيق التوازن بني الدولة واملجتمع ‪،‬و�أكدوا‬ ‫خالل الندوة التي نظمها املنتدى العاملي للو�سطية يوم اخلمي�س‬ ‫‪ 2011/8/18‬يف املركز الثقايف امللكي �أن الإ�صالح ال�سيا�سي‬ ‫امل�ستمر يف الأردن واملغرب ميثل مناذج احلكم الرا�شدة واملتميزة‬ ‫يف التغيري نحو الأف�ضل الذي ت�شهده ال�ساحة العربية‪ ،‬وقالوا‬ ‫�أن هناك قوا�سم م�شرتكة للثورات العربية ت�ستند على التطلعات‬ ‫الوطنية والدينية والقومية وتطوير العالقات البينية بني‬ ‫الدول العربية و�إقامة عالقة تعتمد على الندية ال التبعية‬ ‫مع الدول الأجنبية‪ ،‬وارجع املفكر الإ�سالمي امل�صري الدكتور‬ ‫حممد مورو جذور الثورات العربية �إىل الأ�سباب املو�ضوعية‬ ‫والذاتية مبينا �أن الأ�سباب املو�ضوعية منها تتمثل بالف�ساد‬ ‫واختالل معايري العدالة واالنغالق ال�سيا�سي وتزوير �إرادة‬ ‫ال�شعوب يف االنتخابات وقمع وقهر للر�أي العام وانك�سار للكرامة‬ ‫والعزة العربية والإ�سالمية ‪،‬و�أ�شاد الأمني العام ال�سابق حلزب‬ ‫العدالة والتنمية املغربي الدكتور �سعد الدين العثماين نائب‬ ‫رئي�س جمل�س النواب بالتطور الذاتي وامل�ستمر والإ�صالح‬ ‫ال�سيا�سي الذي ي�شهده الأردن واملغرب والتعديالت الد�ستورية‬ ‫الرائدة نحو الدميقراطية معتربا �إياهما من الأنظمة العربية‬ ‫التي ا�ستجابت ملتطلبات املرحلة باعتبارهما من الأنظمة‬ ‫الدميقراطية يف العامل العربي ‪،‬ونوه �إىل �أن غياب التوازن بني‬ ‫الدولة واملجتمع كان من احد �أ�سباب الثورات العربية م�ؤكدا‬ ‫فقدان معادلة التوازن يف ال�سيا�سة العربية املتمثل يف ا�ستبداد‬ ‫الدولة وتدخلها يف كل �ش�ؤون حياة املواطن التي �أ�صبحت خانقة‬ ‫للإن�سان ب�سبب غياب م�ؤ�س�سات املجتمع املدين عن مراقبة‬ ‫الدولة لفرتات طويلة لي�أتي هذا االنفجار جملجال من قبل‬ ‫جمتمعاتها ‪ ،‬و�أكد رئي�س وزراء ال�سودان الأ�سبق رئي�س املنتدى‬ ‫الإ�سالمي العاملي للو�سطية الإمام ال�صادق املهدي ان نظام حكم‬

‫الفرد املطلق قد انتهى ولن يعود مبينا ان العامل العربي ي�شهد‬ ‫وحدة ثقافية ووجدانية وتطلعات م�شرتكة ‪،‬و�أ�شار �إىل العوامل‬ ‫امل�شرتكة التي تربط وجدانيات العامل العربي يف التم�سك‬ ‫بالعالقات العربية البينية املبنية على �أ�سا�س وحدوي‪ ،‬وقيام‬ ‫عالقات مع العامل الغربي على �أ�سا�س الندية ال التبعية وال�سالم‬ ‫على �أ�سا�س العدل ال الظلم والإجحاف‪.‬‬ ‫‪ -2‬و�صف الأمني العام حلزب الأمة ال�سوداين رئي�س املنتدى‬ ‫العاملي للو�سطية الإمام ال�صادق املهدي غياب خطط بديلة لدى‬ ‫ال�شعوب بـ " فقر الدم الفكري" و�أ�ضاف يف املحا�ضرة التي �ألقاها‬ ‫خالل حفل الإفطار الذي �أقامه املنتدى العاملي للو�سطية يوم‬ ‫الأربعاء ‪ 2011/8/17‬يف مدينة احل�سني لل�شباب �أن" ثمة فقر دم‬ ‫فكري عند ال�شعوب يحدد ما هو البديل املطلوب وما هو العمل‬ ‫والتدابري ل�سد الثغرات فيما يتعلق بالبديل امل�شهود " ‪ ،‬مبدياً‬ ‫ت�سا�ؤله عن البديل الذي تن�شده ال�شعوب ب�صورة قاطعة والذي‬ ‫ميكن �أن يكون العالج ال�شايف ‪،‬وحتدث الإمام ال�صادق �أمام نخبة‬ ‫من ال�سيا�سيني ورجال الدين والإعالم بح�ضور الأمني العام‬ ‫ملنتدى الو�سطية املهند�س مروان الفاعوري عن �أ�سباب الثورات‬ ‫العربية مو�ضحاً �أن لها �أ�سبابا مو�ضوعية و�أخرى ذاتية ‪ ،‬م�شدداً‬ ‫على �أن الف�ساد واال�ستبداد والبطالة والتبعية املُذلة واالن�سداد يف‬ ‫الأفق بني احلاكم واملحكوم كلها تعد �أ�سبابا مو�ضوعية الندالع‬ ‫مثل هذه الثورات ‪،‬وعلى هام�ش املحا�ضرة كرمت رابطة ك ّتاب‬ ‫التجديد املنبثقة عن املنتدى الدكتور �سعد الدين العثماين‬ ‫والدكتور حممد مورو مل�ساهمتهما يف اعمال جتديدية يف جمال‬ ‫الفكر والثقافة ‪ ،‬فيما كان عريف احلفل الزميل الكاتب ح�سني‬ ‫الروا�شدة الذي قدم �شذرات من الكلمات وحتدث عن الو�سطية‬ ‫واالعتدال يف الإ�سالم‪.‬‬ ‫‪� -3‬أقام املنتدى العاملي للو�سطية يوم الأربعاء ‪ 2011/8/10‬حفل‬ ‫�إفطاره ال�سنوي يف نادي مدينة احل�سني لل�شباب بعمان بح�ضور‬ ‫عدد من ال�شخ�صيات ال�سيا�سية والدينية والفكرية من �أع�ضاء‬ ‫وموظفي املنتدى‪ .‬و�ألقى الدكتور �أحمد نوفل حما�ضرة حتدث‬ ‫فيها عن �شهر رم�ضان وف�ضائله الفتا انه يف وقت احتدام املادية‬ ‫ي�أتي �شهر رم�ضان يف كل �سنة ربيعا للقلب والروح وجتديدا ل�صلة‬ ‫الرحم‪ ،‬و دعوة لعودة التوازن بني الروح واجل�سد ‪،‬وقال �أن ال�صوم‬

‫‪75‬‬


‫من �أعظم العبادات ولذلك جعلها اهلل �أحد �أركان الإ�سالم مبينا‬ ‫�أن �آيات ال�صوم ورد ذكرها يف الكتاب احلكيم من‬ ‫حيث الرتتيب قبل �آيات القتال‪ ،‬و�أ�شار �إىل �أن من �أخطر ما يبلى‬ ‫به الدين هو �أن تتحول العبادة �إىل عادة ‪ ،‬و�شهر رم�ضان يف وقتنا‬ ‫هذا بات طق�سا �أو تقليدا حيث جتد امل�سلم ين�شغل بااللتزامات‬ ‫املادية امل�ستحقة عليه خالل هذا ال�شهر وكيف عليه ت�أمينها‪ ،‬كما‬ ‫ا�ستعر�ض حكم فري�ضة ال�صيام ذاكرا منها التقوى والر�شد‬ ‫وال�شكر وغريها من احلكم ‪ ،‬وكان عريف احلفل الأ�ستاذ الدكتور‬ ‫حممد اخلطيب قد رحب يف بداية احلفل بال�ضيوف الذين لبوا‬ ‫دعوة املنتدى العاملي للو�سطية من خمتلف املحافظات الفتا �إىل‬ ‫�أن تلبية الدعوة ت�أتي تكرميا للمنتدى ودوره الريادي ‪.‬‬ ‫‪ -4‬تر�أ�س الأمني العام للمنتدى العاملي للو�سطية املهند�س‬ ‫مروان الفاعوري اجلل�سة الثانية من املجل�س العلمي الها�شمي‬ ‫لهذا العام‪ ،‬والذي عقد برعاية ملكية بعنوان" الإ�صالح ‪..‬‬ ‫مفهومة و�ضوابطه وجماالته" وذلك يوم اجلمعة ‪2011/8/ 12‬‬ ‫يف املركز الثقايف الإ�سالمي التابع مل�سجد ال�شهيد امللك عبد اهلل‬ ‫بن احل�سني طيب اهلل ثراه‪.‬‬ ‫‪ -5‬التقى الوفد املوريتاين الذي يقوم بزيارة للمنتدى العاملي‬ ‫للو�سطية واملكون من م�ست�شار رئي�س اجلمهورية املوريتانية‬ ‫حممد املختار وم�ست�شار الوزير الأول ا�سلم بن �سيدي م�صطفى‬ ‫بوزير الأوقاف وال�ش�ؤون واملقد�سات الإ�سالمية الدكتور عبد‬ ‫الرحيم العكور‪ ،‬وح�ضر اللقاء املهند�س مروان الفاعوري‬ ‫والدكتور حممد اخلطيب والدكتور هايل الداود ‪،‬وجرى خالل‬ ‫اللقاء بحث التعاون يف الق�ضايا امل�شرتكة التي تهم البلدين‬ ‫و�إمكانية الإفادة واال�ستفادة من كال الطرفني‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل‬ ‫اال�ستفادة من اخلربات الأردنية يف ت�أهيل و�إعداد خطباء و�أئمة‬ ‫امل�ساجد والوعاظ ‪،‬كما زار الوفد دائرة قا�ضي الق�ضاة والتقى‬ ‫قا�ضي الق�ضاة الدكتور �أحمد هليل ومفت�ش املحاكم ال�شرعية‬ ‫ال�شيخ ع�صام عربيات وا�ستمع �إىل �أهم الأعمال واملهام املوكلة‬ ‫لدائرة قا�ضي الق�ضاة كما مت التطرق لقانون الأحوال ال�شخ�صية‬ ‫و�أهم التعديالت التي جرت عليه من جهة �أخرى‪.‬‬ ‫‪� -6‬شجب املنتدى العاملي للو�سطية يف بيان �صدر عنه التفجري‬ ‫الإجرامي و اجلرمية الب�شعة التي ا�ستهدفت جموع امل�صلني يف‬

‫م�سجد �أم القرى ببغداد وم�ساجد �أخرى ‪ ،‬و�أدت �إىل ا�ست�شهاد‬ ‫ما يزيد عن ثالثني �شهيداً وعلى ر�أ�سهم النائب ال�شهيد خالد‬ ‫الفهداوي ع�ضو املنتدى العاملي للو�سطية وعدد كبري من‬ ‫الأطفال الفتا �إىل انه عمل �إجرامي جبان‪ ،‬يدل على مقدار ما‬ ‫و�صل �إليه منفذوه من فكر �إجرامي بعيد كل البعد عن الدين‬ ‫والقيم والأخالق‪ ،‬وقال املنتدى �أن منفذيه مل يراعوا يف �أمتهم‬ ‫( �إ ًال وال ذمة)‪ ،‬وال يراعون حرمة �شهر رم�ضان املبارك‪ ،‬وال حرمة‬ ‫بيوت اهلل‪ ،‬وال حرمة دماء امل�سلمني التي جعلها ر�سول اهلل �صلى‬ ‫اهلل عليه و�سلم ت�ساوي حرمة بيت اهلل احلرام بل �أكرث منه ‪،‬ودعا‬ ‫املنتدى �إىل عقد م�ؤمتر �إ�سالمي ي�ضم نخبة من علماء امل�سلمني‬ ‫املخل�صني ليعلن احلقيقة ويظهر �سريرة ه�ؤالء اخلوارج الذين‬ ‫�صاروا �أداة لأعداء الأمة با�سم الدين‪ ،‬والدين منهم براء‪.‬‬ ‫‪ -7‬بعث املنتدى العاملي للو�سطية ب�أحر التهاين والتربيكات‬ ‫لل�شعب الليبي مبنا�سبة حتريرهم للعا�صمة الليبية من الظلم‬ ‫واال�ستبداد التي كانت تقبع حتت براثنه‪ ،‬و�أ�ضاف املنتدى يف بيان‬ ‫�صدر عنه قائال‪� ...‬إن املنتدى العاملي للو�سطية وهو يتلقى �أخبار‬ ‫االنت�صار العظيم للثوار بتحريرهم للعا�صمة الأبية طرابل�س‪،‬‬ ‫�إذ يبعث لل�شعب الليبي ال�شقيق بخال�ص التهاين والتربيكات‬ ‫بعد �أن منّ اهلل عليه بدحر الظلم واال�ستبداد وا�ستعادة حريته‬ ‫وكرامته من جديد بعد �أن هيمن عليه حكم قمعي ا�ستبدادي‬ ‫مدة �أربعة عقود ‪�،‬إننا ونحن نهنئ �أنف�سنا ونهنئ ال�شعب الليبي‬ ‫ال�شقيق‪ ،‬لن�ؤكد على �ضرورة �أن يكون الهدف الأول والأهم بناء‬ ‫دولة مدنية دميقراطية حترتم الإن�سان وت�ؤكد على �سيادة‬ ‫القانون ال�ضامن حلريات املواطنني �إن هذا االنت�صار العظيم‬ ‫لل�شعب الليبي ال�شقيق دليل �ساطع على �أن اال�ستبداد �إىل زوال‬ ‫و�أن الظلم ال ميكن �أن ي�ستمر وليكون در�ساً لكل احلكام العرب‬ ‫امل�ستبدين الذين ما زالوا ي�سومون �شعوبهم �ألواناً خمتلفة من‬ ‫القتل واالعتقال وتدمري العباد والبالد حمى اهلل ال�شعب الليبي‬ ‫وجمع كلمته و�أعاد عليه �شهر رم�ضان املقبل وقد حتققت �أمانيه‬ ‫وعاد �إليه اال�ستقرار والأمان‪.‬‬ ‫‪� -8‬أطلقت هيئة �شباب الو�سطية يف �شهر رم�ضان املبارك حمالت‬ ‫اخلري يف �شهر اخلري‪ ،‬والتي مت العمل فيها �ضمن جمموعات‬ ‫من املتطوعني لن�شر اخلري قدر الإمكان ‪ ،‬وت�ضمنت احلمالت‬

‫‪76‬‬


‫تنظيف عدد من امل�ساجد قبل �صالة الرتاويح يف عدد من �أيام‬ ‫ال�شهر الف�ضيل‪ ،‬وتوزيع طرود و امل�ساعدات على الفقراء من‬ ‫�شتى املناطق‪ ،‬بالإ�ضافة للقيام بعمل افطارات للأيتام ‪.‬‬ ‫‪� -9‬أطلقت هيئة �شباب الو�سطية "حملة نظفوا �أفنيتكم"‬ ‫التي نظمها بالتعاون مع مبادرة تعالوا نبني بلدنا والتي بد�أت‬ ‫برتتيب و�صيانة وتنظيف احد امل�ساجد يف عمان وذلك مب�شاركة‬ ‫‪ 25‬متطوعا و‪ 15‬متطوعة ‪،‬وت�أتي هذه البادرة �ضمن حملة اخلري‬ ‫التي �أطلقتها هيئة �شباب الو�سطية خالل �شهر رم�ضان‪.‬‬ ‫‪� -10‬أقامت هيئة �شباب الو�سطية يوم اجلمعة ‪ 2011/8/12‬م�أدبة‬ ‫�إفطار رم�ضاين للأيتام �ضم ‪ 60‬يتيماً ويتيمة من مركز العابورة‬ ‫للأيتام ومركز خميم احل�سني للأيتام مبنا�سبة حلول �شهر‬ ‫رم�ضان املبارك‪ ،‬وي�أتي هذا الن�شاط الذي �أطلق عليه " �إفطار‬ ‫النه�ضة" يف �إطار تنمية احل�س االجتماعي والإن�ساين وتعزيز‬ ‫التفاعل االيجابي بني الطالب وتكوين �أفراد قادرين على‬ ‫التالحم مع جمتمعاتهم ووطنهم ون�شر حب اخلري وتقاليد‬ ‫الإ�سالم‪ ،‬و ح�ضر حفل الإفطار الذي تخلله فقرات ترفيهية‬ ‫وتربوية ودينية ‪ 40،‬متطوعا ومتطوعة من خمتلف القطاعات‬ ‫مما �ساهم يف ر�سم البهجة على وجوه الأطفال وترك الأثر‬ ‫الطيب يف نفو�سهم‪ ،‬واختتم الن�شاط بقراءة دعاء جماعي و�أداء‬ ‫�صالة املغرب وتوزيع الهدايا وتناول طعام الإفطار �ضمن �أجواء‬ ‫ت�سودها الرحمة و التكافل واملودة‪.‬‬ ‫‪ -11‬نظم منتدى الو�سطيه للفكر والثقافة فرع ال�سلط حما�ضره‬ ‫بعنوان "الزكاة �سبيل للتكافل االجتماعي" حا�ضر فيها مفتي‬ ‫حمافظة البلقاء الدكتور هاين العابد ‪ ،‬وذلك يف جامع ال�سلط‬ ‫ال�صغري بح�ضور جمع من املواطنني ‪،‬وحتدث املحا�ضر حول‬ ‫الزكاة و�أحكامها واحلكمة منها و�أنها �سبيل للتكافل االجتماعي‬ ‫وبني ف�ضيلته بان الزكاة فري�ضة ومقارنتها بفري�ضة ال�صالة‬ ‫يف ع�شرات من الآيات يف القران الكرمي الفتا يف الوقت ذاته اثر‬ ‫الزكاة يف حتقيق التكافل االجتماعي وحل م�شكلة الفقر من‬ ‫خالل م�ساهمة الزكاة يف �سد حاجات الفقراء و�أثرها يف بناء‬ ‫العالقات الطيبة بني �أبناء املجتمع الغني منهم والفقري‪.‬‬ ‫‪ -12‬نظم منتدى الو�سطية للفكر والثقافة فرع ال�سلط بالتعاون‬ ‫مع مركز مو�سى ال�ساكت الثقايف احتفاليه بعنوان " كيف ن�ستقبل‬ ‫رم�ضان" و�سط ح�ضور كبري‪ ،‬وقال الدكتور عبداهلل ال�صيفي‬

‫رئي�س ق�سم الفقه باجلامعة الأردنية �أن ا�ستقبال رم�ضان يكون‬ ‫بعدة �أمور منها التوبة‪ ،‬و�أن �شرط التوبة هو الإقالع عن املع�صية‬ ‫والندم على فعلها والعزم على عدم الرجوع �إليها‪ ،‬من جانبه قال‬ ‫الدكتور هاين العابد مفتى ال�سلط �أن اهلل اوجب على امل�سلم‬ ‫ال�صائم عدة �أمور وهي �أن يكون �صيامه �صيام املخل�صني‪ ،‬وعليه‬ ‫�أن يغتنم حلظات رم�ضان في�ضع لنف�سه برناجما تزكى به نف�سه‬ ‫ويكون يف م�صاف فاعلي اخلري يف جماالت احلياة املختلفة‪ ،‬يف‬ ‫حني قال الدكتور عو�ض الفاعوري مدير �أوقاف البلقاء وراعي‬ ‫اللقاء بان ال�صيام يعلمنا ال�صرب والتحمل م�ستذكرا العديد‬ ‫من الآيات القر�آنية والأحاديث النبوية التي تدل على ف�ضائل‬ ‫ال�صيام‪ ،‬كما تطرق يف الوقت ذاته للحديث عن ن�شاطات مديرية‬ ‫الأوقاف خالل �شهر رم�ضان‪.‬‬ ‫‪� - 13‬ألقى الكاتبان الزميالن يو�سف غي�شان و�أحمد ح�سن‬ ‫الزعبي يف منتدى الو�سطية يوم ال�سبت املوافق ‪2011/7/30‬‬ ‫حما�ضرة حول دور الأدب ال�ساخر يف الإ�صالح‪.‬‬ ‫‪ -14‬عقد منتدى و�سطية اربد �سل�سلة من الن�شاطات املهمة خالل‬ ‫ال�شهر الف�ضيل كان �أبرزها ندوة بعنوان" الفتوحات الإ�سالمية‬ ‫درو�س وعرب" �شارك فيها كل من الدكتور عمر النوافلة ورئي�س‬ ‫فرع اربد يو�سف امللكاوي‪ ،‬وندوة بعنوان " معركة بدر الكربى‬ ‫‪...‬درو�س وعرب م�ستفادة " �شارك فيها كل من رئي�س فرع اربد‬ ‫يو�سف امللكاوي وعثمان �أبو �سرايا من �أوقاف اربد‪ .‬وندوة‬ ‫بعنوان" ذكرى �إحراق امل�سجد الأق�صى " �شارك فيها كل من‬ ‫د‪.‬عمر النوافلة ورئي�س فرع اربد يو�سف امللكاوي وعثمان �أبو‬ ‫�سرايا‪ ،‬وحما�ضرة بعنوان" عالمات و دالئل ليلة القدر" �شارك‬ ‫فيها كل من د‪.‬وائل بني عي�سى ويو�سف ملكاوي‪ .‬و�إعداد برنامج‬ ‫خا�ص �أحياءا لليلة القدر يف كل من م�سجد الإمام ال�شافعي‬ ‫وم�سجد �سعد بن معاذ‪ ،‬ب�إ�شراف الأ�ستاذ يو�سف امللكاوي‪ ،‬وعثمان‬ ‫�أبو �سرايا‪ ،‬و�أي�ضا ندوة بعنوان" �أحكام تتعلق بالعيد وخمالفات‬ ‫العيد" �شارك فيها كل من د‪.‬عمر النوافلة ويو�سف امللكاوي‬ ‫وعثمان �أبو �سرايا‪.‬‬ ‫‪� -15‬ألقى ال�شيخ جمال ال�سفرتي يوم االثنني ‪ 2011/8/22‬يف‬ ‫جمعية بني حارث حما�ضرة بعنوان" املنهج الو�سطي ثراء يف‬ ‫العبادات واملعامالت" وذلك يف احلي ال�شرقي للمحافظة‪.‬‬

‫‪77‬‬


‫شهر أيلول ‪2011‬م‬ ‫‪� -1‬صدر عن منتدى الو�سطية للفكر والثقافة كتاب" القد�س‬ ‫دين وتاريخ"‪ ،‬الذي يوثق �أوراق العمل املقدمة للم�ؤمتر الدويل‬ ‫ال�ساد�س والذي عقده املنتدى يف عمان ‪ 2009/11/12-11‬يف فندق‬ ‫الرويال وذلك مبنا�سبة اختيار مدينة القد�س مدينة للثقافة‬ ‫العربية يف ذات العام‪ ،‬و�ضم الكتاب يف حماوره اخلم�سة نبذة عامة‬ ‫لر�ؤية و�أهداف وبرنامج امل�ؤمتر و�أ�سماء امل�شاركني فيه‪ ،‬بالإ�ضافة‬ ‫لكلمات حفل االفتتاح التي �ألقيت من قبل الأمني العام للمنتدى‬ ‫املهند�س مروان الفاعوري‪ ،‬ورئي�س املنتدى العاملي دولة الإمام‬ ‫ال�صادق املهدي و�سماحة الإمام عكرمة �صربي خطيب امل�سجد‬ ‫الأق�صى‪ ،‬والأ�ستاذ حممد �صبيح ممثل الأمني العام جلامعة الدول‬ ‫العربية والدكتور ع�صام الب�شري من ال�سودان ‪،‬كما احتوي على‬ ‫عدد من الدرا�سات والأبحاث و�أوراق العمل لعلماء ومفكرين من‬ ‫خمتلف الدول العربية والإ�سالمية ممن �شاركوا يف م�ؤمتر القد�س‬ ‫دين وتاريخ ‪ ،‬منها " دور الها�شميني يف �أعمار بيت املقد�س" للأ�ستاذ‬ ‫عبد اهلل كنعان‪ ،‬و" تهويد القد�س ‪..‬حقائق الدين و�أوهام ال�سيا�سة"‬ ‫للدكتور ح�سن خاطر‪ ،‬و"ح�ضارة القد�س الإ�سالمية يف مواجهة‬ ‫الهجمة ال�صهيونية" للأ�ستاذ الدكتور عبد احلليم عوي�س‪ ،‬و�أي�ضا‬ ‫دور الإعالم يف خدمة الق�ضية الفل�سطينية للدكتور حممد حب�ش‬ ‫وغريها الكثري من الدرا�سات املهمة واملتميزة‪ ،‬بالإ�ضافة للتو�صيات‬ ‫التي خل�ص لها امل�ؤمتر والتي من �أبرزها الإ�شادة بدور اململكة‬ ‫الأردنية الها�شمية قيادة وحكومة و�شعبا يف حماية القد�س ودعم‬ ‫�صموده ‪.‬‬ ‫‪� -2‬صدر العدد الثالث من ال�سنة الرابعة ملجلة الو�سطية الف�صلية‬ ‫امل�ستقلة التي ت�صدر عن املنتدى العاملي للو�سطية ‪،‬وقال الأمني‬ ‫العام للمنتدى العاملي للو�سطية املهند�س مروان الفاعوري يف‬ ‫افتتاحية العدد �أن ال�صفوة الو�سطية املثقفة معنية وملزمة‬ ‫للت�صدي الفكري والعملي ملدار�س الغلو والت�شدد ب�شقيه الإ�سالمي‬ ‫والعلماين‪ ،‬واملثابرة لتجفيف منابع التطرف من خالل الإميان‬ ‫ب�ضرورة جتاوز ال�صدام احل�ضاري بني الثقافات‪ ،‬و�ضمت املجلة‬ ‫بني طياتها باقة متنوعة من املقاالت والدرا�سات الإ�سالمية لأبرز‬ ‫الكتاب والعلماء من خمتلف الدول العربية والإ�سالمية‪ ،‬ناهيك‬ ‫عن ن�شاطات و�أخبار املنتدى‪.‬‬

‫‪ -3‬قام منتدى الو�سطية للفكر والثقافة فرع ال�سلط بالتعاون مع‬ ‫ر�ؤ�ساء الهيئات التطوعية يف حمافظة ال�سلط بيوم تطوعي " وفا ًء‬ ‫ملدر�سة ال�سلط الثانوية" التي كان لها الف�ضل الكبري يف تعليمهم‬ ‫وتن�شئتهم الن�ش�أة ال�صحيحة ‪ ،‬وذلك بتنظيف املكتبة املدر�سية يف‬ ‫يوم حافل بالعطاء وترتيبها وتهيئتها لتعود كما كانت يف �أبهى‬ ‫حلة‪.‬‬ ‫‪� -4‬شارك منتدى الو�سطيه للفكر والثقافة‪ /‬ال�سلط طلبة املركز‬ ‫القر�آين ال�صيفي وجموع امل�صلني يف م�سجد الربكة ‪/‬املغاريب‬ ‫احتفالهم بتخريج حفظة القران الكرمي وت�ضمن االحتفال‬ ‫تالوات لبع�ض الطلبة اخلريجني واملواعظ احل�سنة والأنا�شيد‬ ‫التي متتدح ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬وحتدث الدكتور هاين‬ ‫العابد مفتي حمافظة البلقاء الذي ا�شرف على هذا املركز عن‬ ‫�أهمية املراكز القر�آنية يف تن�شئة الأجيال ال�صاحلة ودعا ان يحفظ‬ ‫اهلل الوطن وقيادته الها�شمية كما‪.‬‬ ‫‪-5‬عقد رئي�س منتدى و�سطية مادبا الدكتور �صالح اخلواطرة‬ ‫لقاءا مفتوحا مع جمموعة من ال�شباب مت خالله طرح الأ�سئلة‬ ‫والنقا�شات حول املنهج الو�سطي و�آفاقه وذلك بتاريخ ‪.2011/9/10‬‬ ‫‪ -6‬بالتعاون مع املجل�س الأعلى لل�شباب �أقام منتدى و�سطية مادبا‬ ‫دوري لكرة القدم بني طالب النادي ال�صيفي يف مدينة الأمري‬ ‫ها�شم الريا�ضية وذلك بتاريخ ‪.2011/9/22‬‬

‫شهر تشرين أول ‪2011‬م‬ ‫‪ -1‬برعاية املهند�س عوين كوك�ش نظم منتدى الو�سطيه للفكر‬ ‫والثقافه ‪ /‬ال�سلط حملة لتنظيف ال�شارع الرئي�سي الواقع �أمام‬ ‫م�سجد ومقام النبي �شعيب عليه ال�سالم‪ ،‬وذلك بالتعاون مع‬ ‫بلدية ال�سلط الكربى ومدا�س اكادميية ال�سلط ومدار�س االميان‬ ‫الإ�سالمية‪ ،‬وم�شاركة عدد من وجهاء املدينة ورجال الدين‬ ‫ور�ؤ�ساء م�ؤ�س�سات املجتمع املدين و�أع�ضائها والأهايل والأطفال‪،‬‬ ‫و�أكد مفتي حمافظة البلقاء الدكتور هاين العابد يف كلمته التي‬ ‫�ألقاها على �أهمية العمل التطوعي يف خدمة الوطن واملحافظه‬ ‫عليه ‪.‬‬ ‫‪� -2‬ألقى ال�شيخ جمال ال�سفرتي ندوة بعنوان" الربيع العربي بني‬ ‫الواقع والطموح " يف احلي ال�شرقي للمحافظة‪.‬‬

‫‪78‬‬


‫بـيـانــات‬ ‫الوسطية‬ ‫العالمي للوسطية يتبنى وثيقة األزهر لإلصالح‬ ‫لنشرها في العالم اإلسالمي‬ ‫ثمن املنتدى العاملي للو�سطية الوثيقة التي �صدرت عن الأزهر‬ ‫ال�شريف والتي تت�ضمن بنودا وقواعد تتخذ منها قوى املجتمع امل�صري‬ ‫املرجعية الإ�سالمية نحو امل�ستقبل‪ ،‬وبو�صلة الأمان التي توجهها يف‬ ‫�سريها باخلطى الر�شيدة‪ ،‬بهدف الو�صول �إيل الأطر الفكرية احلاكمة‬ ‫لقواعد املجتمع ونهجه ال�سليم ‪.‬‬ ‫و�أعلن املنتدى عن موافقته على جميع املبادئ التي ت�ضمنتها‬ ‫الوثيقة‪ ،‬واعتبارها جزءا من �أدبيات املنتدى‪ ،‬م�ؤكدا على رغبته‬ ‫يف تعزيز �أطر التعاون امل�شرتك مع الأزهر ال�شريف يف هذا املجال‪،‬‬ ‫وموا�صلة اجلهود معا خلدمة الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬وبناء �سبل ال�شراكة‬ ‫لال�ستفادة من هذه الوثيقة التاريخية لن�شرها وتبنيها على م�ستوى‬ ‫العامل الإ�سالمي كله وذلك من خالل عقد م�ؤمتر دويل يف القاهرة‬ ‫يف ت�شرين الثاين املقبل بالتعاون مع الأزهر ال�شريف عنوانه" الدولة‬ ‫احلديثة من منظور �إ�سالمي" لبلورة الوثيقة ال�شاملة لكل بلدان‬ ‫العامل الإ�سالمي‬ ‫و�أعرب املنتدى يف بيان �صدر عنه عن تقديره للمبادرة التي ت�أتي‬ ‫يف وقت مهم يف تاريخ الأمة الإ�سالمية ‪ ،‬الفتا يف الوقت ذاته �ضرورة �أن‬ ‫تكون الوثيقة منطلقاً للتوافق على وثيقة �أ�شمل ت�ؤ�س�س مل�سرية العامل‬ ‫الإ�سالمي كله على �صعيد عالقة الدين بالدولة‪ ،‬وق�ضايا التغيري‬ ‫والإ�صالح‪ ،‬و�سبل ا�ستئناف امل�شروع احل�ضاري للأمة‪ ،‬يف �إطار ثوابت‬ ‫الأمة وعلى �أ�سا�س منهج االعتدال والو�سطية‪.‬‬ ‫وكان �شيخ الأزهر الأ�ستاذ الدكتور �أحمد الطيب قد اتفق وبعد‬ ‫عقد اجتماعات عدة مع كوكبة من املثقفني امل�صريني و كبار العلماء‬ ‫واملفكرين يف الأزهر ال�شريف على �ضرورة ت�أ�سي�س وثيقة �إ�سالمية تقوم‬ ‫على مبادئ كلية وقواعد �شاملة م�ستخل�صة من الن�صو�ص ال�شرعية‬ ‫وتتخذ منها قوى املجتمع امل�صري املرجعية الثابتة خا�صة يف ظل‬ ‫اللحظات التاريخية الفارقة التي متر بها م�صر بعد ثورة اخلام�س‬ ‫والع�شرين من يناير‪ ،‬و�أهمية تلك الوثيقة يف توجيه م�ستقبل م�صر نحو‬ ‫غاياته النبيلة وحقوق �شعبها يف احلرية والكرامة وامل�ساواة والعدالة‬ ‫االجتماعية‪ ،‬كما �أجمعوا يف الوقت ذاته على دور الأزهر القيادي يف‬ ‫الو�سطي ال�سديد‪ ،‬واعتباره املنارة الهادية التي‬ ‫بلورة الفكر الإ�سالمي‬ ‫ّ‬ ‫ُي�ست�ضاء بها‪ ،‬ويحتكم �إليها يف حتديد عالقة الدولة بالدين وبيان �أ�س�س‬ ‫ال�سيا�سة ال�شرعية ال�صحيحة التي ينبغي انتهاجها؛ ارتكازاً على خربته‬ ‫املرتاكمة‪.‬‬

‫ومن ابرز البنود التي ت�ضمنتها الوثيقة دعم ت�أ�سي�س الدولة‬ ‫الوطنية الد�ستورية الدميقراطية احلديثة‪ ،‬التي تعتمد على د�ستور‬ ‫ترت�ضيه الأمة‪ ،‬واعتماد النظام الدميقراطي‪ ،‬القائم على االنتخاب احلر‬ ‫املبا�شر‪ ،‬الذي هو ال�صيغ َة الع�صرية لتحقيق مبادئ ال�شورى الإ�سالمية‪،‬‬ ‫وااللتزام مبنظومة احلريات الأ�سا�سية يف الفكر والر�أي‪ ،‬مع االحرتام‬ ‫الكامل حلقوق الإن�سان واملر�أة والطفل‪ ،‬كما �أكدت على مبد�أ التعددية‬ ‫واحرتام الأديان ال�سماوية‪ ،‬واعتبار املواطنة مناط امل�س�ؤولية يف املجتمع‪،‬‬ ‫و االحرتام التام لآداب االختالف و�أخالقيات احلوار‪ ،‬و�ضرورة اجتناب‬ ‫التكفري والتخوين وا�ستغالل الدين وا�ستخدامه لبعث الفرقة والتنابذ‬ ‫والعداء بني املواطنني‪ ،‬و �أي�ضا ت�أكيد االلتزام باملواثيق والقرارات الدولية‪.‬‬ ‫ودعت �إىل التم�سك باملنجزات احل�ضارية يف العالقات الإن�سانية‪،‬‬ ‫املتوافقة مع التقاليد ال�سمحة للثقافة الإ�سالمية والعربية‪ ،‬و احلر�ص‬ ‫التام على �صيانة كرامة الأمة امل�صرية واحلفاظ على عزتها الوطنية‪،‬‬ ‫وت�أكيد احلماية التامة واالحرتام الكامل لدور العبادة لأتباع الديانات‬ ‫ال�سماوية الثالث‪ ،‬و اعتبار التعليم والبحث العلمي ودخول ع�صر املعرفة‬ ‫قاطرة التقدم احل�ضاري يف م�صر‪ ،‬وتكري�س كل اجلهود لتدارك ما فات يف‬ ‫هذه املجاالت‪ ،‬و�أخريا ا�سرتجاع الدور القيادي وامل�ستقل مل�ؤ�س�سة الأزهر‪،‬‬ ‫وعودة ” هيئة كبار العلماء” واخت�صا�صها برت�شيح واختيار �شيخ الأزهر‪،‬‬ ‫والعمل على جتديد مناهج التعليم الأزهري؛ لي�سرتد دوره الفكري‬ ‫الأ�صيل‪ ،‬وت�أثريه العاملي يف خمتلف الأنحاء وغريها من البنود‪.‬‬

‫‪79‬‬


‫العالمي للوسطية يناشد الشعب المصري التحلي‬ ‫بالصبر ونبذ العنف‬ ‫نا�شد املنتدى العاملي للو�سطية امل�صريون من قوات م�سلحة‬ ‫وم�سلمني و�أقباط �إىل نبذ العنف واالبتعاد عن التع�صب والت�شنج‬ ‫والتحلي بال�صرب ‪.‬‬ ‫و�أكد املنتدى يف البيان الذي �صدر عنه تعقيبا على الأحداث‬ ‫امل�ؤ�سفة التي ح�صلت �أمام مبنى الإذاعة والتلفزيون امل�صري وراح‬ ‫�ضحيتها الع�شرات من القتلى واجلرحى‪� ،‬إىل �إن املرتب�صني يف �أمن‬ ‫م�صر ووحدتها كثريون‪ ،‬خا�صة بعد انت�صار ثورتهم الأبية‪ ،‬وهذا يجعل‬ ‫ال�شعب امل�صري �أكرث وعياً وم�س�ؤولية ملا يحاك عليه من م�ؤامرات‬ ‫ت�ستهدف وحدته وثورته‪.‬‬ ‫وفيما يلي ن�ص البيان‪....‬‬ ‫لقد كان للأحداث امل�ؤ�سفة التي جرت يف القاهرة �أمام مبنى الإذاعة‬ ‫والتلفزيون وذهب �ضحيتها الع�شرات من القتلى واجلرحى وقع مرير‬ ‫على كل حمب مل�صر ولثورتها العظيمة التي �أذهلت العامل عندما قدمت‬ ‫منوذجاً حياً للإخاء والت�سامح ونبذ العنف‪.‬‬ ‫�إن املنتدى العاملي للو�سطية وهو يتابع ما يجري يف م�صر احلبيبة‬ ‫والغالية على كل عربي وم�سلم‪ ،‬ينا�شد الإخوة يف م�صر من قوات‬ ‫م�سلحة وم�سلمني و�أقباط �أن ينبذوا العنف ويعودوا �إىل لغة احلب‬ ‫واحلوار بعيداً عن التع�صب والت�شنج والتطرف‪.‬‬ ‫�إن املرتب�صني ب�أمن م�صر ووحدتها كثريون‪ ،‬خا�صة بعد انت�صار‬

‫تعبريية‬

‫ثورتهم الأبية‪ ،‬وهذا يجعل ال�شعب امل�صري �أكرث وعياً وم�س�ؤولية ملا‬ ‫يحاك عليه من م�ؤامرات ت�ستهدف وحدته وثورته‪.‬‬ ‫ولهذا ف�إن الأزهر ممث ً‬ ‫ال بف�ضيلة الإمام �أحمد الطيب والكني�سة ممثلة‬ ‫بالبابا �شنودة مدعوان �إىل حمل راية الوحدة والرد على دعاة الفرقة‬ ‫والتع�صب‪.‬‬ ‫حمى اهلل م�صر من كيد الكائدين‪ ،‬و�ألهم �أهلها احلق وال�صواب‪.‬‬

‫العالمي للوسطية يهنيء الغنوشي بفوز حركة‬ ‫النهضة في االنتخابات‬ ‫هن�أ املنتدى العاملي للو�سطية يف برقية �أر�سلها‪ ،‬رئي�س حركة‬ ‫النه�ضة الإ�سالمية يف تون�س �سعادة الأ�ستاذ را�شد الغنو�شي‪ ،‬مبنا�سبة‬ ‫الفوز ال�ساحق حلركة النه�ضة الإ�سالمية يف االنتخابات الدميقراطية‪،‬‬ ‫متمنيا له ولل�شعب التون�سي املزيد من التقدم واالزدهار والدميقراطية‪.‬‬ ‫وفيما يلي ن�ص الربقية‪...‬‬ ‫�سعادة الأ�ستاذ را�شد الغنو�شي‬ ‫رئي�س حركة النه�ضة الإ�سالمية يف تون�س‬ ‫ال�سالم عليكم ورحمة اهلل وبركاته‪،،،‬‬ ‫ي�سر املنتدى العاملي للو�سطية �أن يبعث �إىل �سعادتكم بخال�ص‬ ‫تعبريية‬ ‫التهنئة والتربيك مبنا�سبة الفوز ال�ساحق حلركة النه�ضة‬ ‫الإ�سالمية يف االنتخابات الدميقراطية التي متت بكل حرية من التقدم واالزدهار ومزيد ًا من الدميقراطية والعدالة‪.‬‬ ‫املنتدى العاملي للو�سطية‬ ‫و�شفافية و�إننا �إذ نتمنى لكم ولل�شعب التون�سي ال�شقيق مزيد ًا‬

‫‪80‬‬


‫برقية عزاء من العالمي للوسطية لسفير‬ ‫جمهورية تركيا في األردن بضحايا الزلزال المدمر‬ ‫بعث املنتدى العاملي للو�سطية برقية عزاء ل�سعادة �سفري اجلمهورية‬ ‫الرتكية يف اململكة الأردنية الها�شمية ي�شاطره وال�شعب الرتكي م�أ�ساة‬ ‫�سقوط مئات ال�ضحايا الذين راحوا جراء الزلزال املدمر الذي �ضرب‬ ‫�شرقي تركيا يف الأيام املا�ضية‪ ،‬راجني اهلل �أن يتغمد ال�ضحايا بوا�سع‬ ‫رحمته ويلهم ذويهم ال�صرب وال�سلوان‪.‬‬ ‫وفيما يلي ن�ص الربقية‪:‬‬ ‫�سعادة �سفري اجلمهورية الرتكية يف اململكة الأردنية الها�شمية‬ ‫ال�سالم عليكم ورحمة اهلل وبركاته‪،،،‬‬ ‫ببالغ احلزن والأ�سى تلقى املنتدى العاملي للو�سطية نب�أ‬ ‫الزلزال املدمر الذي �ضرب �شرقي تركيا و�أدى �إىل �سقوط مئات‬ ‫تعبريية‬ ‫ال�ضحايا‪.‬‬ ‫و�إننا �إذ ن�شارك ال�شعب الرتكي ال�شقيق هذه امل�أ�ساة نتقدم واملوا�ساة‪ ،‬راجني اهلل �أن يتغمد ال�ضحايا بوا�سع رحمته و�أن‬ ‫�إليكم و�إىل ال�شعب الرتكي واحلكومة الرتكية بخال�ص العزاء يكلل امل�صابني بال�شفاء العاجل‪.‬‬ ‫املنتدى العاملي للو�سطية‬

‫برقية عزاء من العالمي للوسطية لرئيس الوزراء‬ ‫التركي اردوغان بوفاة والدته‬

‫�أر�سل املنتدى العاملي للو�سطية برقية عزاء �إىل رئي�س الوزراء الرتكي‬ ‫رجب طيب �أردوغان بوفاة والدته التي وافتها املنية يوم اجلمعة املوافق‬ ‫‪2011/10/7‬عن عمر يناهز ‪ 80‬عا ًما‪� ،‬سائلني املوىل عز وجل �أن يتغمدها‬ ‫برحمته وي�سكنها ف�سيح جناته‪ ،‬ويلهم �أهلها ال�صرب وال�سلوان‪ ...‬وفيما‬ ‫يلي ن�ص الربقية‪...‬‬ ‫دولة الأ�ستاذ رجب طيب �أردوغان‬ ‫رئي�س احلكومة الرتكية املحرتم‬ ‫ال�سالم عليكم ورحمة اهلل وبركاته‪،،،‬‬ ‫قال تعاىل ُ‬ ‫ْ�س َذ�آ ِئ َق ُة المْ َ ْو ِت َو�إِ مَّ َ‬ ‫نا ُت َو َّف ْونَ �أُ ُجو َر ُك ْم َي ْو َم‬ ‫تعبريية‬ ‫(كلُّ َنف ٍ‬ ‫داعني اهلل �أن يتغمد الفقيدة بوا�سع رحمته و�أن ي�سكنها ف�سيح‬ ‫ا ْل ِق َيا َم ِة)(�آل عمران‪)185 :‬‬ ‫تلقى املنتدى العاملي للو�سطية ببالغ احلزن والأ�سى نبا وفاة جناته‪.‬‬ ‫�إنّا هلل و�إنّا �إليه راجعون‬ ‫والدتكم الكرمية‪ ،‬و�إننا �إذ نتقدم �إىل دولتكم بخال�ص العزاء‬ ‫املنتدى العاملي للو�سطية‬

‫‪81‬‬


‫المنتدى العالمي للوسطية يحذر من تدويل األزمة‬ ‫السورية في بيان يصدره‬

‫تعبريية‬

‫�شدد املنتدى العاملي للو�سطية على �ضرورة تعريب الأزمة‬ ‫ال�سورية يف الإطار العربي‪ ،‬وحذر من تدويل الأزمة وفتح املجال‬ ‫لتدمري �سوريا ون�شر اخلراب والقتل فيها‪.‬‬ ‫ويف الوقت الذي طالب املنتدى يف بيانه اجلامعة العربية بوقفة‬ ‫جريئة فانه يذكر الدول العربية بان �سوريا مهددة بالتمزيق‬ ‫الطائفي واملذهبي والذي �سيكون خطرا حمدقا بكل دول املنطقة‬ ‫ما ي�ستدعي من الدول العربية عدم الرتدد يف تبني موقف وا�ضح‬ ‫مما يجري على ال�ساحة ال�سورية‪.‬‬ ‫وفيما يلي ن�ص البيان‪....‬‬

‫يتابع املنتدى العاملي للو�سطية انتهاكات حقوق الإن�سان التي‬ ‫جتري يف �سوريا ال�شقيقة والتي �أدت �إىل تدهور الأو�ضاع وزيادة‬ ‫القتل والتدمري وانتهاك املحرمات ب�شكل جتاوز كل القوانني‬ ‫والأعراف الدينية والدولية‪.‬‬ ‫�إن املنتدى العاملي للو�سطية �إذ ي�ستنكر وي�شجب الأعمال‬ ‫الإجرامية التي جتري يف �سوريا يطالب الدول العربية ب�أن تتبنى‬

‫قرارات وا�ضحة وجريئة لردع من يقومون بعملية القتل والتدمري‬ ‫التي جتري بحق �أبناء ال�شعب ال�سوري‪.‬‬ ‫وهنا ف�إننا نطالب بتعريب للأزمة ال�سورية يف �إطارها العربي‬ ‫ونحذر من تدويل الأزمة وفتح املجال للناتو وغريه لتدمري �سوريا‬ ‫ون�شر اخلراب والقتل فيها وما جرى يف ليبيا من دمار وخراب‬ ‫لي�س عنا ببعيد‪.‬‬ ‫�إننا ونحن نطالب اجلامعة العربية بهذه الوقفة اجلريئة نذكر‬ ‫الدول العربية ب�أن �سوريا مهددة بالتمزيق الطائفي واملذهبي‬ ‫والذي �سيكون خطراً حمدقاً بكل دول املنطقة وهذا ي�ستدعي من‬ ‫الدول العربية عدم الرتدد يف تبني املوقف الوا�ضح مما يجري‬ ‫على ال�ساحة ال�سورية‪ ،‬كما �أن الرتدد يف ردع النظام �سيقود �إىل‬ ‫تدخل خارجي وحرب �أهلية �ست�أكل الأخ�ضر والياب�س‪ ،‬ويكون لها‬ ‫تداعياتها على االمن واال�ستقرار يف العامل ب�أ�سره‪.‬‬ ‫( َوا َّت ُقوا ِف ْت َن ًة اَل ُت ِ�صيبنَ َّ ا َّلذِ َ‬ ‫ا�صة)‪.‬‬ ‫ين َظلَ ُموا مِ ْن ُك ْم َخ َّ‬

‫‪82‬‬


‫الديوان الثقافي للوسطية واالعتدال في العراق‬ ‫ينعى فقيده‬ ‫النائب الشهيد الفهداوي‬ ‫ينعى الديوان الثقايف للو�سطية واالعتدال‬ ‫فقيده الراحل ال�شهيد الدكتور خالد �سليمان‬ ‫الفهداوي الذي كان علما من �أعالم الأمة‬ ‫الإ�سالمية وعاملا ومفكرا وداعية من دعاة‬ ‫الو�سطية واالعتدال‪.‬‬ ‫والديوان الثقايف للو�سطية واالعتدال �إذ‬ ‫يعلن �شجبه وا�ستنكاره لهذا العمل الإجرامي‬ ‫اجلبان الذي ا�ستهدف جموع امل�صلني يف‬ ‫م�سجد �أم القرى ببغداد و�أدى �إىل ا�ست�شهاد‬ ‫وجرح عدد من امل�سلمني وعلى ر�أ�سهم النائب‬ ‫ال�شهيد خالد �سليمان الفهداوي ويعاهد اهلل عز‬ ‫وجل على ال�سري يف طريق االعتدال والثبات على املنهج‬ ‫واقتفاء �آثار ال�شهيد حيث الفار�س والعلم يف‬ ‫هذا امليدان‪.‬‬ ‫ويف الوقت ذاته يعزي‬ ‫�أهل العراق والعامل الإ�سالمي وراعي امل�شروع الدكتور �أحمد عبد‬ ‫الغفور رئي�س ديوان الوقف ال�سني يف العراق �إذ �أن امل�صاب جلل‬ ‫واخلطب عظيم‪.‬‬ ‫ن�س�أل اهلل �أن يتغمده بوا�سع رحمته ويرزق امل�سلمني من ي�سد‬ ‫ثغرا من ثغور الإ�سالم ويعو�ض �أهل العراق من يخلفه �إحياء‬ ‫للأمة وبعثا لر�سالة الو�سطية واالعتدال‪.‬‬ ‫�إنا هلل و�إنا �إليه راجعون‬

‫‪83‬‬


‫أخـبـــار‬ ‫الوسطية‬ ‫وفد العالمي للوسطية يزور االزهر لنشر‬ ‫الفكر الوسطي في العالم االسالمي‬

‫من اليمني ‪ :‬االمام ال�صادق املهدي ‪ ،‬م‪ .‬مروان الفاعوري ‪� ،‬شيخ اجلامع الأزهر‬

‫جانب من الزيارة‬

‫زار وفد من املنتدى العاملي للو�سطية جمهورية م�صر العربية‬ ‫وذلك يف �إطار �سعى املنتدى لن�شر الفكر الو�سطى يف العامل‬ ‫الإ�سالمي وااللتقاء مع رموز احلركة الإ�سالمية من خمتلف‬ ‫االجتاهات‪.‬‬ ‫والتقى الوفد الذي �ضم رئي�س املنتدى الإمام ال�صادق املهدي‬ ‫و�أمينه العام املهند�س مروان الفاعورى بالإمام الأكرب �شيخ اجلامع‬ ‫الأزهر ‪.‬‬ ‫وقال الفاعوري �أن الوفد بحث خالل اللقاء طرق توثيق اطر‬ ‫التعاون بني املنتدى والأزهر ال�شريف‪ ،‬وتفعيل وثيقة الأزهر بحيث‬ ‫تطبق على م�ستوى العامل ولي�س م�صر فقط ‪.‬‬ ‫و�أ�ضاف انه مت الت�شاور حول �إمكانية عقد م�ؤمتر دويل بالتعاون‬ ‫مع الأزهر ال�شريف‪ ،‬مب�شاركة علماء ومفكرون من خمتلف الدول‬ ‫العربية والإ�سالمية حول الدولة املدنية واملرجعية الإ�سالمية‬ ‫يف القاهرة وذلك خالل ال�شهرين القادمني‪ .‬وكان االزهر ال�شريف‬ ‫قد ا�صدر وثيقة تت�ضمن بنود وقواعد تتخذ منها قوى املجتمع‬ ‫امل�صري املرجعية الإ�سالمية نحو امل�ستقبل‪ ،‬وبو�صلة الأمان التي‬

‫توجهها يف �سريها باخلطى الر�شيدة‪،‬بهدف الو�صول �إيل الأطر‬ ‫الفكرية احلاكمة لقواعد املجتمع ونهجه ال�سليم‪.‬‬ ‫كما التقى الوفد برئي�س جمل�س �شورى اجلماعة الإ�سالمية‬ ‫رئي�س حزب البناء والتنمية الدكتور ع�صام دربالة واملر�شح املحتمل‬ ‫النتخابات رئا�سة اجلمهورية الدكتور عبد املنعم �أبو الفتوح حيث‬ ‫مت بحث �سبل التعاون امل�شرتك بني املنتدى والأطراف الأخرى‪.‬‬

‫الأزهر ال�شريف‬

‫‪84‬‬


‫الرئيس السوداني يمنح عويس وسام العلم‬ ‫واآلداب والفنون الذهبي‬

‫د‪.‬عوي�س خالل التكرمي‬

‫ال�سودا ّ‬ ‫ين جرت مرا�سم‬ ‫بدعوة ر�سم ّية من الق�صر اجلمهوريّ ّ‬ ‫حفل تو�سيم و�سام العلم والآداب والفنون ال ّذهبي‪ ،‬للمف ّكر امل�صري‬ ‫الكبري الربوفي�سور عبد احلليم عوي�س‪.‬‬ ‫وقد قام الرئي�س ال�سوداين عمر الب�شري‪ ،‬مبنح العامل واملفكر‬ ‫الإ�سالمي و�سام العلم والآداب والفنون الذهبي‪ ،‬بالق�صر‬ ‫اجلمهوري بالعا�صمة ال�سودانية اخلرطوم تقديرا جلهوده العلمية‬ ‫يف خدمة الإ�سالم وق�ضايا العامل الإ�سالمي‪ .‬وبح�ضور كبار رجال‬ ‫الدولة ورموز الفكر والثقافة يف م�صر وال�سودان ال�شقيق‪.‬‬ ‫و�أو�ضح الب�شري‪� ،‬أن اجلائزة التي تعد �أرفع و�سام يف اجلمهورية‬ ‫ال�سودانية‪ ،‬هي عبارة عن جنمة من الذهب اخلال�ص‪ ،‬متنح‬ ‫لل�شخ�صيات التي �أثرت يف احل�ضارة والفكر الإن�ساين‪ ،‬جاءت‬ ‫ت�سجيال جلهود الدكتور عبد احلليم عوي�س‪ ،‬وعطائه املتوا�صل‬ ‫يف تف�سري القر�آن الكرمي ولبحثه امل�ستمر يف العلوم الإ�سالمية‪،‬‬ ‫وعرفانا لدوره املتميز يف الدفاع عن الق�ضايا الإ�سالمية والعربية‬

‫يف كل املحافل الإقليمية والدولية باحلجة والقلم‪.‬‬ ‫و�أ�شار الرئي�س ال�سوداين‪� ،‬إىل �أن ال�سودان يقدر عطاء العلماء‬ ‫ربا يف‬ ‫ومكانتهم ودورهم يف قيادة الأمة والعامل للعلم والنور‪ ،‬مع ً‬ ‫الوقت ذاته عن قدرة الأمة العربية على االنطالق و�صناعة التاريخ‬ ‫وقيادة العامل �إىل النور من مظامل اجلهل‪.‬‬ ‫يذكر �أن الدكتور عبد احلليم عوي�س‪� ،‬أجنز �أكرث من مائة‬ ‫مرجع وكتاب وبحث علمي يف التاريخ واحل�ضارة والثقافة والعلوم‬ ‫الإ�سالمية؛ منها‪ :‬مو�سوعة يف الفقه الإ�سالمي‪ ،‬وتف�سري القر�آن‬ ‫للنا�شئني‪ ،‬ومعجم م�صطلحات علوم القر�آن‪ ،‬كما �أ�شرف و�أ�سهم يف‬ ‫كتابة مو�سوعات يف التاريخ‪ ،‬وتاريخ الإدارة‪ ،‬واحل�ضارة الإ�سالمية‪،‬‬ ‫�إ�ضافة �إىل مئات املقاالت والبحوث املن�شورة‪.‬‬ ‫من ناحية �أخرى قامت جامعة القر�آن الكرمي والعلوم‬ ‫الإ�سالمية‪ ،‬ب�أم درمان مبنح الدكتور عوي�س الدكتوراه الفخرية‬ ‫يف الفكر الإ�سالمي تقدي ًرا جلهوده العلمية يف العلوم الإ�سالمية‪.‬‬

‫‪85‬‬


‫د‪.‬نوفل يحاضر حول التربية الصالحية ودورها في‬ ‫نهضة وإصالح األمة في مقر العالمي للوسطية‬

‫�أ‪.‬د‪ .‬احمد نوفل‬

‫�أكد �أ�ستاذ ال�شريعة الإ�سالمية يف اجلامعة الأردنية الدكتور احمد‬ ‫نوفل �أن القائد النا�صر �صالح الدين الأيوبي هو رجل ميدان من الطراز‬ ‫الأول حيث ا�ستطاع حتقيق ما هو �أقرب �إىل املعجزة من خالل اقتنا�صه‬ ‫للفر�ص التي �سنحت له يف حياته ليوظفها فيغري جمرى التاريخ‪.‬‬ ‫و�أ�ضاف يف املحا�ضرة التي نظمتها هيئة �شباب الو�سطية يوم ال�سبت‬ ‫املوافق ‪ 2011/10/15‬يف مقر املنتدى بعنوان" دور الرتبية ال�صالحية‬ ‫يف نه�ضة و�إ�صالح الأمة" �أنه ا�ستطاع ا�ستنها�ض همم الأمة وتوحيدها‬ ‫من خالل التعليم و�إحياء الدين يف نفو�س امل�سلمني‪ ،‬وتوحيد م�صر مع‬ ‫بالد ال�شام والق�ضاء على ر�ؤو�س اخليانة‪ ،‬و�إحياء روح اجلهاد يف الأمة‬ ‫وتوظيف املال دعما له الفتا يف الوقت ذاته �أنه ب�شر ك�سائر الب�شر ولديه‬ ‫نزعات ب�شرية �إال �أنه كان يغالبها ويطوعها من اجل دينه و�إميانه وذلك‬

‫جانب من احل�ضور‬

‫بقيام الليل وال�صيام‪.‬‬ ‫و�أ�شار نوفل �إىل �أن التاريخ من �أهم م�صادر املعرفة �إن مل تكن بعد‬ ‫الوحي‪ ،‬تتجلى عظمته يف ت�صديقه حلقائق الدين‪ ،‬الفتا يف الوقت ذاته‬ ‫�إىل �أن �إ�سرائيل من �أكرث الأمم درا�سة وتتبعا حلقبة �صالح الدين‬ ‫الأيوبي والفرتة ال�صليبية خ�شية �أن تتكرر معها تلك التجربة فتحدث‬ ‫التغيري من جهة ‪ ،‬وال�ستلهام الدرو�س والعرب منها من جهة �أخرى‪.‬‬ ‫وعن الت�صوف وهو من �أهم معامل �شخ�صيته‪ ،‬قال الدكتور نوفل‬ ‫�أن �صالح الدين �شجع احلركات ال�صوفية ولكنه قاوم بدعها ور�شدها‬ ‫�آخذا منها اجلانب الرتبوي والإمياين امل�شرق‪ ،‬كما و�ضع الوحدة يف‬ ‫ب�ؤرة تركيزه االمياين من خالل توحيده مل�صر مع ال�شام وحتريره بيت‬ ‫املقد�س الأمر الذي جعل الأمة جتتمع على حبه واحرتامه وتقديره‪.‬‬

‫نخبة من الشباب العربي واإلسالمي في ضيافة‬ ‫العالمي للوسطية‬ ‫نظم املنتدى العاملي للو�سطية يف مقره م�ساء الأحد املوافق‬ ‫‪ 2011/10/16‬لقاء تعاريف �شارك فيه ما يزيد عن (‪� )30‬شابا و�شابة من‬ ‫جن�سيات " مينية وجزائرية وباك�ستانية و�أفغانية وعراقية وموريتانية"‬ ‫من امل�شاركني يف امل�ؤمتر الدويل الرابع للفكر التنويري والذي عقده‬ ‫املجل�س الأعلى لل�شباب‪.‬‬ ‫ويف بداية اللقاء رحب الأمني العام للمنتدى املهند�س مروان‬ ‫الفاعوري باحل�ضور الكرمي‪ ،‬وقدم لهم �شرحا وافيا عن املنتدى وفكرة‬ ‫ت�أ�سي�سه ور�سالته واجنازاته‪ ،‬ثم مت عر�ض فيلم وثائقي عن املنتدى تاله‬ ‫حوار مو�سع متحور حول مواقف املنتدى من جمريات الأحداث العاملية‬ ‫ور�سالته الإ�سالمية وخططه امل�ستقبلية‪.‬‬

‫الوفد ال�ضيف يف �صورة تذكارية مع اع�ضاء املنتدى‬

‫‪86‬‬


‫وفد طالبي أجنبي في زيارة لمقر العالمي للوسطية‬

‫م‪ .‬الفاعوري يف ا�ستقباله للوفد الطالبي‬

‫قام وفد �شبابي ميثل عدد من الطالب الأجانب الدار�سني يف‬ ‫اجلامعات الأردنية و من مركز الدرا�سات الأمريكية يف عمان (‪amid‬‬ ‫‪ ، )east‬بزيارة ملقر املنتدى العاملي للو�سطية يوم الأحد املوافق‬ ‫‪ ،2011/11/13‬حيث كان يف ا�ستقباله الأمني العام للمنتدى املهند�س‬ ‫مروان الفاعوري والدكتور هايل داود‪.‬‬ ‫وعر�ض الفاعوري بح�ضور ع�ضو املنتدى العاملي للو�سطية د‪.‬حممد‬ ‫الريان ‪ ،‬ملحة موجزة لفكرة �إن�شاء املنتدى والأهداف التي ي�سعى‬ ‫لتحقيقها من ن�شر للفكر الو�سطي وثقافة االعتدال وتر�سيخ مفاهيم‬ ‫الو�سطية كطريق للتفكري وتبليغ ر�سالة الإ�سالم الإن�سانية والدعوة‬ ‫�إىل الت�سامح واحلوار ونبذ العنف والتطرف م�ستعر�ضا �أهم الن�شاطات‬ ‫والفعاليات التي يعقدها املنتدى حمليا ودوليا‪ ،‬من حما�ضرات‬ ‫وم�ؤمترات وندوات‪ ،‬بالإ�ضافة للإ�صدارات ذات الطابع الفكري املعتدل‪.‬‬

‫جانب من الزيارة‬

‫و�شاهد الوفد فيلما وثائقيا عن املنتدى العاملي للو�سطية يربز تاريخ‬ ‫املنتدى واجنازاته منذ بداية ت�أ�سي�سه وحتى وقتنا احلايل واهم‬ ‫ن�شاطاته واجنازاته‬ ‫من جانبه‪� ،‬أ�شاد الوفد ال�ضيف باجلهود املبذولة من قبل املنتدى ‪،‬‬ ‫والإجنازات التي حققها وي�سعى لتحقيقها لغاية ن�شر الفكر الو�سطي‬ ‫املعتدل ونبذ العنف والتطرف ‪ ،‬واالبتعاد كل البعد عن الغلو والإرهاب‬ ‫‪.‬واهتمامه بجميع اجلوانب الإن�سانية مبا فيها قطاعي ال�شباب واملر�أة‪.‬‬ ‫ويف نهاية الزيارة جرى حوار مو�سع حول احلراك الإ�سالمي وال�شبابي‪،‬‬ ‫والتغريات ال�سيا�سية يف العامل العربي‪ ،‬حيث �أجاب م‪.‬الفاعوري على‬ ‫الأ�سئلة املتعلقة بهذا احلراك مبينا خ�صو�صية احلالة الأردنية‪ ،‬و�أهم‬ ‫الأ�سباب امل�ؤدية �إىل العنف والإرهاب والتطرف عموما‪ ،‬وخطورة دور‬ ‫الإعالم الغربي يف ت�شويه �صورة الإ�سالم ول�صق الإرهاب به‪.‬‬

‫محاضرة حول قانون األحوال الشخصية لوسطية جرش‬

‫جانب من املحا�ضرة‬

‫عقد منتدى الو�سطية للفكر والثقافة‪ /‬جر�ش حما�ضرة حول قانون‬ ‫الأحوال ال�شخ�صية وم�سوغات العمل به‪ ،‬حتدث فيها مفت�ش دائرة‬ ‫قا�ضي الق�ضاة القا�ضي الدكتور �أ�شرف العمري وذلك يف قاعة بلدية‬ ‫جر�ش الكربى‪.‬‬ ‫وتناول العمري يف املحا�ضرة التي ح�ضرها ما يزيد عن الـ‪� 60‬شخ�صا‬ ‫من �أبناء حمافظة جر�ش عدة حماور �أبرزها �آلية �إعداد القانون‬

‫من اليمني ‪ :‬القا�ضي ا�شرف العمري ‪ ،‬احمد نوا�ش‬

‫وم�سوغات العمل به‪ ،‬و�أهم البنود التي مت �إ�ضافتها على القانون القدمي‪.‬‬ ‫كما �أ�شار �إىل احلقوق الزوجية املالية ال�شخ�صية الأردنية و�أهلية الزواج‬ ‫و�أبرز اخلالفات التي قد حت�صل بني الأزواج من خلع وطالق ون�شوز‬ ‫وغريها من اخلالفات‪.‬‬ ‫ويف نهاية املحا�ضرة جرى نقا�ش مو�سع بني املحا�ضر واحل�ضور من ذوي‬ ‫�أهل العلم واالخت�صا�ص مما �أثرى من �أهمية وقيمة حماور املحا�ضرة‪.‬‬

‫‪87‬‬


‫هيئة شباب الوسطية تنظم دورة تدريبية في‬ ‫برنامج الفوتوشوب‬ ‫نظمت هيئة �شباب الو�سطية يوم ال�سبت املوافق ‪2011/10/1‬‬ ‫دورة تدريبية يف برنامج " الفوتو�شوب " للمدرب حممد عزام‬ ‫وذلك يف مقر املنتدى العاملي للو�سطية‪.‬‬ ‫وتهدف الدورة التي ا�ستمرت ملدة �شهر واحد �إىل �إك�ساب‬ ‫امل�شاركني مهارات فنية جديدة يف جمال الت�صميم والإعالن ودمج‬ ‫ال�صور وب�أ�سعار رمزية ‪.‬‬ ‫من اجلدير ذكره ب�أن عدد امل�شاركني يف الدورة ‪� 14‬شخ�صا من‬ ‫خمتلف القطاعات الأكادميية والعملية مق�سمني �إىل جمموعتني ‪.‬‬ ‫امل�شاركون يف الدورة‬

‫هيئة شباب الوسطية تواصل تنفيذ حملة نظفوا‬ ‫أ فنيتكم‬ ‫توا�صل هيئة �شباب الو�سطية حملتها يف ترتيب و�صيانة وتنظيف‬ ‫امل�ساجد املنت�شرة يف حمافظات اململكة مب�شاركة ‪ 25‬متطوع و‪15‬‬ ‫متطوعة والتي تنفذها بالتعاون مع مبادرة تعالوا نبني بلدنا‪.‬‬ ‫وت�أتي بادرة " نظفوا �أفنيتكم" �ضمن حملة اخلري التي �أطلقتها‬ ‫هيئة �شباب الو�سطية خالل �شهر رم�ضان ‪� /‬آب املا�ضي‪ ،‬حيث مت‬ ‫العمل فيها �ضمن جمموعات من املتطوعني والتو�سع يف تنظيف‬ ‫و�صيانة �أكرب عدد من امل�ساجد ليعم اخلري قدر امل�ستطاع‪.‬‬ ‫من اجلدير ذكره ب�أن حملة " نظفوا �أفنيتكم" �شملت بالإ�ضافة‬ ‫لتنظيف امل�ساجد توزيع طرود و القيام بعمل افطارات رم�ضانية‬ ‫للأيتام‪.‬‬

‫تعبريية‬

‫‪88‬‬


‫وسطية السلط ينظم امسيه ثقافية دينيه حول‬ ‫الحج وفضائله‬

‫جانب من الور�شة‬

‫نظم منتدى الو�سطية للفكر والثقافة ‪/‬ال�سلط يوم الثالثاء‬ ‫املوافق ‪� 2011/10/11‬أم�سية دينية حول احلج حتدث فيها كل من‬ ‫الأ�ستاذ الدكتور حممد الق�ضاة والدكتور عو�ض الفاعوري‪.‬‬ ‫وقال الأ�ستاذ الدكتور حممد الق�ضاة يف الأم�سية التي �أدارتها‬ ‫الداعية رويداء رياالت �أن للحج حكما وف�ضائل كثرية �أهمها‬ ‫التقرب هلل عز وجل ‪.‬‬ ‫وبني الدكتور الق�ضاة بان احلج يعترب ركنا من �أركان الإ�سالم‬ ‫ملن ا�ستطاع اليه �سبيال الفتا يف الوقت ذاته �إىل اثر احلج على امل�سلم‬ ‫من خالل ما ورد بالقران الكرمي واالحاديث النبويه ال�شريفة‪.‬‬ ‫بدوره حتدث الدكتور عو�ض الفاعوري مدير اوقاف البلقاء يف‬ ‫الأم�سية التي ح�ضرها جمع غفري من �أبناء حمافظة ال�سلط عن‬

‫اجلانب الإداري لرحلة احلج ودور وزارة االوقاف يف رعاية احلجيج‬ ‫وتقدمي كل امل�ساعدات للحجاج وتوفري كل ما يحتاجه احلاج قبل‬ ‫واثناء وعودة احلاج‪.‬‬ ‫من جانبه رحب احيا عربيات رئي�س منتدى و�سطية ال�سلط‬ ‫بال�ضيوف واحل�ضور قائال �أن الهدف من عقد مثل هذه الن�شاطات‬ ‫هو توعية النا�س واحلجيج وتقدمي الن�صح والتوعية من خالل‬ ‫دعوة �أ�صحاب العلم واخلرب للحديث عن ما ينفع النا�س ‪.‬‬ ‫يف نهاية الأم�سية دار نقا�ش مو�سع مت خالله الإجابة على كثري‬ ‫من ت�سا�ؤالت احل�ضور ذات ال�صلة ‪.‬‬

‫‪89‬‬


‫وسطية السلط يطلق الحمله التطوعيه‬ ‫لقطاف الزيتون‬

‫لقطات من احلملة‬

‫برعاية مدير الرتبية والتعليم لق�صبة ال�سلط املهند�س احمد‬ ‫العودات �أطلق منتدى الو�سطية للفكر والثقافة ‪/‬ال�سلط احلملة‬ ‫التطوعية لقطف ثمار الزيتون‪ ،‬وبالتعاون مع مديرية الرتبيه‬ ‫والتعليم للق�صبه ‪ /‬مدر�سة ا�سماء بنت ابي بكر واملركز الوطني‬ ‫للبحث واالر�شاد الزراعي‪ ،‬وبح�ضور عدد من الوجهاء واولياء‬ ‫االمور والطلبه يف قاعة مدر�سة ا�سماء بنت ابي بكر اال�سا�سيه ‪ /‬ام‬ ‫زيتونه مغاريب ال�سلط‪.‬‬ ‫و�شكر رئي�س منتدى ال�سلط احيا عربيات يف كلمته التي‬ ‫�ألقاها مدير الرتبية ومديرة املدر�سة ومعلماتها و�أهايل الطلبة‬ ‫واحل�ضور الكرام على اجناحهم لهذه احلمله التطوعيه داعيا‬ ‫ال�شباب يف املدينه للتطوع مل�ساعدة املزارعني والتخفيف عليهم من‬ ‫خالل هذا العمل‪.‬‬ ‫وبينت املهند�سة الزراعية �آالء وهبه �أ�ساليب وطرق وكيفية‬ ‫قطف الثمار واهمية املحافظه على �شجرة الزيتون خالل عملية‬ ‫القطاف واملعدات امل�ستخدمه يف القطاف واالوعيه التي ت�ستخدم‬ ‫لنقل الثمار والعبوات التي تعبا بداخلها حمذرة يف الوقت ذاته من‬ ‫و�ضع الزيت يف اوعيه بال�ستيكيه وتعري�ضها لل�شم�س ملا لذلك من‬ ‫خطورة اك�سدة الزيت‪.‬‬ ‫من جهتها �أكدت الداعية رويداء رياالت عن �أهمية العمل‬ ‫التطوعي يف اال�سالم وملا للجهد اجلماعي من اجر وفائده كبرية‬ ‫يعود على املجتمع من خري‪.‬‬

‫وقال الدكتور احمد العودات ان الزيتون �سلعه ا�سرتاتيجيه‬ ‫للوطن يجب ان نحافظ عليها وان ندعم املزارع بجهدنا ك�شباب بان‬ ‫نقوم بالتطوع خالل هذه الفرته للم�ساعده التطوعيه يف قطف‬ ‫ثمار الزيتون‪.‬‬ ‫و�ألقت الطالبة �آيات و�شاح كلمه تغنت فيها بالوطن وقائده‬ ‫و�شعبه ‪ ،‬يف حني قامت جمموعة من الطالبات بتقدمي م�شهد‬ ‫م�سرحي ميثل التطوع لقطف ثمار الزيتون مطالبات يف الوقت‬ ‫ذاته بت�سمية يوم عطله ر�سميه لقطف الزيتون كون االردن بلد‬ ‫منتج لهذه ال�سلعه اال�سرتاتيجيه ‪.‬‬

‫‪90‬‬


‫قطاع المرأة يشارك بورشة عمل تدريبية‬ ‫حول المخدرات‬

‫الأ�ستاذة �سولني خالل الور�شة‬

‫جانب من احل�ضور‬

‫يف �إطار خطة وزارة الرتبية والتعليم لوقاية طلبة املدار�س‬ ‫من �أخطار املخدرات وامل�ؤثرات العقلية‪� ،‬شاركت ع�ضو اجلنة املر�أة‬ ‫يف منتدى الو�سطية املدربة �سولني عبد احلميد يف ور�شة العمل‬ ‫التدريبية التي عقدتها الوزارة يوم االثنني املوافق ‪2011/10/31‬‬ ‫ملجموعة من املعلمني واملر�شدين يف جمال التوعية والتثقيف‪،‬‬

‫حيث قدمت ورقة عمل بعنوان " التفكك الأ�سري والإدمان على‬ ‫املخدرات"‪ ،‬تطرقت فيها لعدة حماور �أبرزها اخلالفات الأ�سرية‬ ‫املزمنة‪ ،‬و�أ�س�س الرتبية اخلاطئة واحللول املنا�سبة ملواجهة م�شكلة‬ ‫الوقوع يف �آفة املخدرات‪.‬‬

‫عضو المنتدى العالمي للوسطية د‪.‬القضاة يشارك‬ ‫في مؤتمر الدوحة لحوار األديان في قطر‬ ‫بدعوة من مركز الدوحة الدويل حلوار الأديان �شارك ع�ضو‬ ‫املنتدى العاملي للو�سطية الأ�ستاذ الدكتور حممد الق�ضاة يف م�ؤمتر‬ ‫الدوحة الدويل حلوار الأديان والذي عقد يف ‪ 2011/10/24‬يف‬ ‫العا�صمة القطرية ‪.‬‬ ‫حيث قدم ورقة عمل حول ا�ستخدام و�سائل التوا�صل الإجتماعي‬ ‫كلغة متطورة للحوار" احلوار �أهميته و�ضوابطه و�أثره كو�سيلة من‬ ‫و�سائل الإت�صال الفعال بني الأفراد واجلماعات" ‪.‬‬ ‫وقد �شارك يف امل�ؤمتر الذي ا�ستمرت فعالياته ثالثة �أيام عدد‬ ‫كبري من العلماء واملفكرين وقادة الر�أي من جميع الأديان ال�سماوية‬ ‫ب�أوراق عمل ت�ؤمن مبنظومة احلوار وو�سائل التوا�صل الإجتماعي‬ ‫املتنوعة يف �أحداث التغيري الإيجابي وتقارب الأديان مع الرتكيز‬ ‫على اجلوامع امل�شرتكة التي تعظم روح الأخوة وتر�سيخ قيم املودة‬ ‫واملحبة بعيداً عن احلرب والعدوان والت�شاحن‬

‫‪91‬‬

‫�أ‪.‬د‪ .‬حممد الق�ضاة‬


‫أعضاء من العالمي للوسطية ومشاركة فعالة‬ ‫بمؤتمر الفكر التنويري الرابع‬

‫�أ‪.‬د‪ .‬حممد اخلطيب ‪ ،‬د‪ .‬املقو�سي خالل م�شاركتهما يف امل�ؤمتر‬

‫�شارك عدد من �أع�ضاء املنتدى العاملي للو�سطية يف امل�ؤمتر‬ ‫الدويل الرابع للفكر التنويري الذي عقده املجل�س الأعلى لل�شباب‬ ‫يف عمان حتت عنوان" دور ال�شباب يف الإ�صالح �ضمانة للأمن‬ ‫واال�ستقرار" وذلك يف الفرتة من ‪. 2011/10/21-15‬‬ ‫وقد قدم �أع�ضاء املنتدى من عدة بلدان عربية و�إ�سالمية‪� ،‬أوراق‬ ‫عمل ذات ال�صلة مبحاور امل�ؤمتر‪ ،‬فقد قدم الدكتور �شوقي القا�ضي‬ ‫ورقة عمل بعنوان ( الأمن واال�ستقرار دعامة التنمية والإ�صالح يف‬ ‫�شتى مناحي احلياة)‪ ،‬يف حني قدم الدكتور �أحمد نوفل ورقة عمل‬ ‫بعنوان (دور ال�شباب يف الإ�صالح ال�سيا�سي والت�أطري للدميقراطية‬ ‫وامل�شاركة ال�سيا�سية)‪ ،‬من جهته قدم الدكتور هايل داود ورقة‬ ‫بعنوان ( دور ال�شباب يف بناء �أحزاب وطنية قادرة على خدمة‬ ‫امل�صلحة الوطنية العليا)‪.‬‬

‫(دور ال�شباب يف الإقبال على العمل واحلد من البطالة يف‬ ‫�ضوء �أن العمل قيمة اجتماعية) هو عنوان ورقة العمل التي قدمها‬ ‫الدكتور حممد اخلطيب يف �إحدى اجلل�سات‪ ،‬كما قدمت الدكتورة‬ ‫نوال �شرار ورقة بعنوان ( دور ال�شباب يف تر�سيخ مفهوم �أمة‬ ‫وجادلهم باحلكمة واملوعظة احل�سنة)‪.‬‬ ‫من جهة �أخرى �أدار عدد من �أع�ضاء املنتدى عدد من جل�سات‬ ‫امل�ؤمتر‪ ،‬حيث �أدار كل من الأمني العامل للمنتدى املهند�س مروان‬ ‫الفاعوري اجلل�سة الثانية و الدكتور يا�سني املقو�سي اجلل�سة‬ ‫الثالثة‪.‬‬

‫‪92‬‬


‫قـصـة‬ ‫الوسطية‬

‫ميزان اإلخالص‬ ‫جمعتنا الأقدار ونحن جلو�س عند �شرفات البيت احلرام يف م ّكة‬ ‫املك ّرمة تتجاذبنا �أحاديث �أحالم ال�شباب واحلياة وامل�ستقبل‪ ،‬وعيوننا‬ ‫تتم ّلى م�شهد االلآف امل�ؤلفة من ال�شعوب والأقوام الب�شرية وهي‬ ‫تطوف حول الكعبة املعظمة ب�أ�شواق ودعاء ودموع‪ ،‬وتتطاير فوقها‬ ‫�ألوف و�ألوف �أخرى من احلمام الآمنة الوديعة‪ ،‬ت�صفق ب�أجنحتها‬ ‫يف طواف ج ّوي عجيب غريب ك�أنها �صور جم�سمة �أطيافية بي�ضاء‬ ‫لأرواحنا‪ ،‬ترفرف حول البيت املعمور هناك عند عر�ش اهلل يف حب‬ ‫عظيم و�سعادة مطلقة‪.‬‬ ‫�إذ طلع علينا– على حني غ ّرة منا – عبد �صالح �آتاه اهلل من‬ ‫احلكمة ما ي�شاء‪ ،‬نعرفه‬ ‫ويعرفنا؛ فوجدناها فر�صة‬ ‫نادرة �سانحة لنت ّلقى منه در�ساً‬ ‫من درو�س الفقه الأكرب ونحن‬ ‫يف �أروقة اجلامعة اال�سالمية‬ ‫الكربى للإن�سانية جمعاء اعني‬ ‫بها بيت اهلل احلرام‪.‬‬ ‫�أجل وكلنا �شوق وتطلع ننتظر‬ ‫ليلقي علينا در�ساً تذكارياً‬ ‫ت�أريخياً مباركاً يف يتيمة كنوز‬ ‫الفقه االمياين الإح�ساين‬ ‫ومفتاح �أبواب ال�سعادة الأبدية‬ ‫اخلالدة �أال وهو "الإخال�ص"!‬ ‫فقلت له‪ -:‬غفر اهلل لنا ولك‬ ‫ً‬ ‫�أيها الأخ احلبيب الكرمي‪� ،‬أال حتدثنا �شيئا عن الإخال�ص‪ ،‬عن‬ ‫حقيقته‪ ،‬عن �ضرورته‪ ،‬عن خطره؛ يف هذا املكان املبارك منزل الوحي‬ ‫اخلامت الأول ؟!‬ ‫قال – وبعد �صمت خا�شع جليل‪ :-‬الإخال�ص يا �صاحبي يف �أب�سط‬ ‫معانيه و�أو�ضحه و�أوجزه؛ �أن تعمل هلل وحده‪ ،‬وال تبغي �سوى‬ ‫مر�ضاته‪ ،‬و�أن ال تريد �إال وجهه الكرمي الباقي‪ ،‬ال ت�شرك به �أحداً‪.‬‬ ‫فقال �أحدنا ي�س�أل‪ :‬ح�سناً ولكن كيف ال�سبيل اىل حتقيق الإخال�ص‬ ‫فيما نزاوله من �أعمال و�أفعال و�أقوال و�آثار كل يوم على مدار العمر‬ ‫�إن مل نقل كل �ساعة و�ساعة‪.‬‬ ‫قال‪� :‬صدقت و�أح�سنت‪ ،‬وقد �آن الأوان لتب�سيط الإخال�ص وت�سريه‬

‫كتبها‪ :‬عابدين ر�شيد‬

‫نب�ضاتٍ خافقاتٍ يف قلوب �صدور النيات والأعمال؛ فاحلقائق املجردة‬ ‫كالأرواح حتتاج اىل �أج�سام تعي�ش فيها حياة الدنيا بينما هي تتطلع‬ ‫وترنو وترمق اىل �شرفات جنات عدن الآخرة فقلت‪ :‬جميل‪ ،‬ثم ماذا‬ ‫قال‪ :‬هذا وللإخال�ص �صور �ش ّتى و�س�أذكر لكم منها بع�ضها على بركة‬ ‫اهلل ف�إن �سددت فمنه تعاىل و�إن �أخط�أت فمني‪.‬‬ ‫قال قائل منا‪ :‬هات منها وزد مما ع ّلمك ربك من علم وفقه‪ ،‬فال �شيء‬ ‫كالإخال�ص يف الدنيا فهو ت�أ�شرية املرور لأعمالنا الطي ّبة حتى ندخل‬ ‫ر�ضوان اهلل يف دار الآخرة‪.‬‬ ‫قال‪� :‬إذن �أن�صت وا�ستمع‪.‬‬ ‫قلنا جميعاً‪ :‬ها نحن �أولئك‬ ‫�آذان ك ّلنا‪.‬‬ ‫قال‪� :‬أن يكون عملك قبل كل‬ ‫�شيء �صحيحاً يوافق ال�شرع‬ ‫ال�شريف يف غاياته وو�سائله ويف‬ ‫�أهدافه وخطواته‪.‬‬ ‫قلت‪ :‬هذه واحدة‪.‬‬ ‫قال‪ :‬ثم من اخلري ومن‬ ‫احلكمة معاً �أن يكون ذلك العمل‬ ‫ال�صالح حمجوباً وراء الأ�ستار‬ ‫وخا�صة يف الأيام الأوىل من‬ ‫رحلة حياتك العملية ال�سالكة‬ ‫�سلوك الرجال‪.‬‬ ‫قلت مت�سائ ً‬ ‫ال ومت�شوقاً‪:‬‬ ‫وبعد ذلك؟‬ ‫قال بحزم ودود‪ :‬و�أن يكون عملك اخلال�ص هلل يف اخلفاء �أحب اليك‬ ‫من العالنية زماناً حتى تتعود النف�س الأ ّمارة بال�سوء على ر�ؤية ما يف‬ ‫يد اهلل وت�ستغني فيمن �سواه بخوف ورجاء‪.‬‬ ‫وقال �أحدنا وقد ا�شتاق �إىل مزيد‪ :‬زدنا زدنا يا �أخانا‪.‬‬ ‫قال‪ :‬و�أن مدح النا�س وقدحهم لك مت�ساويان‪� ،‬أي ال ي�سرك كل‬ ‫ال�سرور مدحهم �إياك وال يحزنك كل احلزن قدحهم كذلك‪.‬‬ ‫قلت معلقاً‪ :‬هذا – واهلل – ح�سن ومهم فهات الأخرى‪.‬‬ ‫قال مو�ضحاً وم�ؤكداً مبا فيه الكفاية يف هذه النقطة �أو املحطة‪:‬‬ ‫�أن يكون ر�ضا النا�س و�سخطهم عندك – يف �أعماق �أعماقك – �س ّيان‪،‬‬

‫‪93‬‬


‫�أي‪ :‬ال يقيمك ر�ضاهم قياماً وال يقعدك �سخطهم قعوداً‪ ،‬ف�أنت – يف‬ ‫قوي‪ ،‬د�ؤوب‪ ،‬را�سخ‪ ،‬متوا�ضع‪ ،‬متوازن ال تقيم‬ ‫كل الأحوال – كما �أنت‪ِ :‬‬ ‫وزناً لكائن من كان �إ ّال مبيزان فقه دينك وحكمة دينك و�سلطان دينك‪.‬‬ ‫قلت م�شفقاً على نف�سي وعلى نفو�س �إخوتي و�أحبتي‪ :‬ن�س�أل اهلل ربنا‬ ‫وبارئنا �أن يعيننا و�أن ي�أخذ ب�أيدينا ويو�صلنا اىل �شاطئ الأمان؛ فلي�س‬ ‫الأمر ب�سهل وال بتلك الب�ساطة بل الأمر يتطلب مزيداً من اجلد‬ ‫ومزيداً من الوعي ومزيداً من اله ّمة بل ومزيداً من البطولة‪ ،‬ومن ثم‬ ‫فال �سهل �إ ّال ما �سهله اهلل وال ي�سري �إ ّال ما ي�سره اهلل �سبحانه وتعاىل‪.‬‬ ‫قال موقناً ومب�شراً‪ :‬ال تخف وال تقلق فاهلل ويل ال�صاحلني فنعم‬ ‫املوىل ونعم الن�صري‪.‬‬ ‫قلت‪� :‬آمنت باهلل‪ .‬ولكن ثم ماذا؟‬ ‫قال‪� :‬أن ال ّ‬ ‫يطلع على �أعمالك ال�صاحلات – ما ا�ستطعت – �إ ّال قلة‬ ‫قليلة ممن تثق بهم‪ ،‬الذين يخل�صون لك الود و الن�صح وامل�شورة‪،‬‬ ‫واعني يف اعمالك الكثرية ولي�س كلها دائماً‪.‬‬ ‫قلت‪ :‬هذا ممكن �إن �شاء اهلل‪.‬‬ ‫قال‪ :‬وال�ساد�سة �أن يكون عندك الإخفاء والإعالن �سواء‪ ،‬فال يهمك‬ ‫�أعرف النا�س �أم مل يعرفوا‪ ،‬و�إذا �أعلنت فال تخ�شى ريا ًء وال تنتظر‬ ‫�شهرة وال تطلب ثنا ًء وال ت�س�أل مغنماً‪.‬‬ ‫قلت‪ :‬ذلك لب الإخال�ص و�أوج الن�ضوج‪.‬‬ ‫قال‪ :‬زد على ذلك �أن يكون قلبك – دائماً – وك ّلما اجنزت عمال‬ ‫�صاحلاً‪ ,‬طيباً‪ ،‬ح�سناً‪ ,‬معلقاً بني اخلوف والرجاء ب�أق�صى درجه‪.‬‬ ‫قلت‪ :‬وذلك ميزان التقوى كما نعلم‪.‬‬ ‫قال‪� :‬أح�سنت‪ .‬ثم �أن تخف�ض ر�أ�سك �أمام ربك وتدعو يف �س ّرك كما‬

‫�أنت يف �سجداتك‪ ،‬ترجوه رجا ًء ملحاً �أن يتقبل منك بف�ضله ورحمته‪،‬‬ ‫و�أن يرده لك ليوم ت�شخ�ص فيه الأب�صار‪ ،‬و�أن يرزقك نعمة الإخال�ص‬ ‫اخلال�ص يف كل �شيء ذي �ش�أن وبال‪ ,‬فهو العمل املرفوع واملوزون عند‬ ‫اهلل تبارك وتعاىل يوم ين�صب امليزان احلق‪.‬‬ ‫قلت له‪ :‬بارك اهلل فيك‪ ،‬فقد اخت�صرت يل ولنا الطريق؛ فلو �ضربتُ‬ ‫يف الأر�ض �سنني �شرقاً وغرباً‪� ،‬أبحث يف طوايا الكتب واملجلدات‪ ،‬ما كنتُ‬ ‫لأنال هذه احلقائق بكل هذا الي�سر وال�سرعة‪ .‬ولكن قل يل بربك‪ :‬هل‬ ‫بقي ثمة �شيء �آخر يف هذا الباب؟‬ ‫قال‪ :‬بلى‪.‬‬ ‫قلت‪ :‬وما هو؟‬ ‫ً‬ ‫قال و�أخرياً ولي�س �آخرا‪� ،‬أن يكون ه ّمك الأكرب بعد ذلك كله هو‬ ‫الإح�سان والإتقان فيما تعمله ومتار�سه مهما �صغر �أو كرب‪ ..‬فامليزان‬ ‫دقيق دقيق‪ ,‬واجلزاء عظيم عظيم‪.‬‬ ‫قلت – و�أنا لي�س يل ما �أقوله �أو �أطرحه عليه‪� :-‬أال جزاك اهلل خرياً‬ ‫و�ض ّعف �أجرك؛ فلقد علمتنا در�ساً عظيماً هو الدر�س الأول والدر�س‬ ‫الآخر يف دورات احلياة ومراحلها ال�صاعدة مبعارج من نور‪ ،‬نحو‬ ‫قمم الكماالت املي�سرة‪� ..‬إذ كما قالوا‪ :‬ال خال�ص �إ ّال بالإخال�ص‪ ،‬وال‬ ‫�إخال�ص �إ ّال بالعلم والعلم عند الرجال‪� ..‬أولئك الرجال ال�صاحلني‬ ‫الذين �أنعم اهلل عليهم من فيو�ضات كرمه ف�إنهم م�صابيح الهدى‬ ‫وقناديل الدُّ جى بل هم ال ُّرواد الأفذاذ للقوافل املا�ضية احلثيثة نحو‬ ‫الأجماد اخلالدة واملعايل ال�سرمدية‪.‬‬ ‫قال‪ :‬وفقكم اهلل وث َّبت �أقدامكم‪ ،‬ثم فارقنا وغاب بني احلموع‬ ‫احلا�شدة‪.‬‬

‫قطوف الحكمة‬ ‫لي�س للإن�سان �أحلى من القناعة واليقني باهلل �إن ما �أ�صابه مل يكن ليخطئه وما �أخط�أه مل يكن لي�صيبه‪ ..‬فمهما ت�آمر املت�آمرون‬ ‫وخططوا فاهلل خري حافظاً وهو �أرحم الراحمني‪.‬‬ ‫من نذر نف�سه لأن يكون �سنداً للحق ومع ال�ضعيف بوجه القوي حتى ي�أخذ له حقه ما ا�ستطاع اىل ذلك �سبي ً‬ ‫ال ف�إن اهلل لن يخذله‬ ‫ولو بعد حني‪.‬‬ ‫قد تكون الف�ضيلة هذه الأيام غريبة لكنها موجودة وباقية جتعل النا�س يلتفون حولها ويطلبونها كلما �ضاقت بهم الدنيا ويعظمون‬ ‫�أ�صحابها رغم �أنهم لي�سوا �أنبياء وال مع�صومني‪ ،‬لكنهم للحق يومئذ �أقرب‪.‬‬ ‫اذا ادركت يوماً �أنك �ستعني الفا�سد على مف�سدة فا�ستعذ باهلل وانكر عليه ف�ساده ولو بقلبك و�أطلب من اهلل �أن يبعد عنك كل و�سيلة قد‬ ‫تعني بها ذلك الفا�سد‪ ،‬لأن مف�سدته ال تخ�صه فقط بل ت�أخذ حقوق النا�س منهم وجتعلهم يف ذلة ما دام يف غيه وف�ساده‪.‬‬ ‫�أراد �أخوة يو�سف �أن يقتلوه " فلم ميت" ثم بيع ليكون مملوكاً " ف�أ�صبح ملكاً" وغيبوه يف غيابة اجلب ف�أ�صبح خالداً �أبد الدهر واعتلى‬ ‫عر�ش م�صر ثم �أرادوا �أن ميحوا حمبته من قلب �أبيه " فازدادت" فال تقلق من تدابري الب�شر " ف�إرادة اهلل فوق �إرادة الكل "‪.‬‬

‫‪94‬‬


95


96


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.