2
افتتاحية العدد
اإلسالميون والهجرة النبوية �آذى م�شركوا مكة ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم �إيذا ًء بليغاً يف النف�س واملال والأهل �إيذا ًء ع�صف بقلب فاطمة الزهراء ر�ضي اهلل عنهما ع�صفاً �أبكاها ،ر�أت دماّ زكياً وجروحاً راعفة على �أطهر وجه ،وجه الأب الرحيم ...دموع الأمل واحل�سرة تنهمر على الوجنات الطاهرة ،فما زاد الر�سول �صلى اهلل عليه و�سلم �إليها �إال " �أتبكني يا فاطمة واهلل ليتمن اهلل هذا الأمر حتى ي�سري الراكب من �صنعاء �إىل ح�ضرموت ال يخ�شى اال اهلل والذئب على غنمه". ولئن ح ّل ب�أ�صحاب الدعوات طوفان من الأذى والأمل، �إال �أ َّن مكانتهم عند ربهم جتعلهم مطمئنني اىل لطف قدره ،جتعلهم يب�صرون خلف �ستائر الأحداث يد اهلل و�أقداره ،وجتعلهم ي�سمعون با�ستمرار ( َو َلنْ َي ْج َع َل اهلل ِل ْل َكا ِف ِر َ ين ني َ�س ِب اً َعلَى المْ ُ�ؤْمِ ِن َ يل) (الن�ساء ،)141:و�أ َّن اهلل لن يدع �أو يكل عباده و�أولياءه �إىل �أعدائه ،ولكنه الإمتحان الذي تكون بعده اجلوائز. ترى هل جال بخاطر �أ�سماء وهي ت�سعى �إىل ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم و�أبيها ،وهما طريدا مكة يوم الهجرة �أن �أعالم �أبي بكر وعمر ر�ضي اهلل عنهما ،و�صوت بالل ر�ضي اهلل عنه �سيعلو يف �سماء مكة يوماً ،و�أن رايات �أبي جهل و�أ�صنام مكة �ست�سقط وتتنك�س ،ما �أجمل �سنن اهلل وهي تبدو الَ َّيا ُم ُندَا ِو ُلهَا ،وما �أجمل الت�أمل فيها وهي تعمل ( َو ِت ْل َك ْ أ ا�س ) (ال عمران .)140: َبينْ َ ال َّن ِ كانت تون�س كما م�صر تغرق يف ظلمات الظلم والبعد عن ربها ،وكان دعاتها وخرية رجالها بني طريد ومقيد باحلديد ،يوم �أن تعامى ُحكامها عن حقائق و�سنن اهلل
م .مروان الفاعوري
تعاىل ،ف�صادموا دينه ونوامي�سه ،و�ضعوا احلجاب ،وغ ّلقوا الأبواب �أمام النا�س وخياراتهم ،وما هي �إال �أيام قالئل يف ميزان اهلل تعاىل ،و �إذ ب�صوت امل�ؤذن يردد اهلل �أكرب ،اهلل �أكرب ،و �إذ ب�ضمري الأمة ينطق ( َب ْل َظ َن ْن ُت ْم �أَ ْن َلنْ َي ْن َقل َِب ال َّر ُ�س ُ ول َوالمْ ُ�ؤْمِ ُنو َن �إِلىَ �أَهْ لِي ِه ْم �أَ َبدًا َو ُز ِّي َن َذل َِك فيِ ُق ُلو ِب ُك ْم َو َظ َن ْن ُت ْم َظنَّ ال�س ْو ِء َو ُك ْن ُت ْم َق ْو ًما ُبو ًرا) (الفتح . )12: َّ من كان يظن قبل عام ان حاكم تون�س �سيخرج ال يكاد يجد بلداً ي�ؤويه ،و�أ َّن الغنو�شي و�إخوانه �سيعودون �إىل تون�س و�سيحكمون ،من كان يظن �أن مبارك �سيثوي خلف الق�ضبان، و�أ َّن من غ َّلهم خلف الق�ضبان �سيحاكمونه. �إنها �آية عظيمة ودرو�س كبرية من درو�س التاريخ ملن يت�أمل ويتعلم ....
3
وسـطيـتنا
عناصر الخطاب الوسطي وضوابطه �إن جتديد اخلطاب الو�سطي الإ�سالمي �أمر حتتاجه الظروف احلا�ضرة ،وهذا التجديد �أ�صيل يف االلتزام بال�شرع و�ضوابطه ،ويف الوقت ذاته يجب �أن يكون مرناً حيوياً ومتجدداً يف �أ�ساليبه ،ويف معاجلة احلوادث واال�ستجابة للتحديات، واخلطاب الو�سطي الإ�سالمي بعيد عن اجلمود والتزمت ،وال يعتمد التفريط باملبادئ والقيم متذرعاً باحلداثة والتحديث� ،إن جمتمعاتنا العربية والإ�سالمية بحاجة ما�سة �إىل بناء ال�شخ�صية امللتزمة بالو�سطية القادرة على ن�شر ثقافة العدل املقرتنة ببعدين �أ.د .حممد �أحمد ح�سن الق�ضاة �أ�سا�سيني هما :العزة وال�سماحة ،لأن هذين البعدين تتحقق بهما كرامة الإن�سان وبهما ت�سود احلرية ،وهذا يقود �إىل جمتمع ينتفي فيه الظلم واال�ستبداد الو�سطي الإ�سالمي. والت�سلط واال�ستعباد. حتتاج �أمتنا حلركة �إ�صالح �شاملة تتجاوز املوروثات امليتة ،وتلفظ املطلب الأول :عنا�صر اخلطاب الو�سطي وفيه ثالثة فروع: املخاطب كل وافد م�سموم من الأجنبي ،فحركات الإ�صالح وم�شروعات الإ�صالح الفرع الأول: ِ يجب �أن ت�ستنبت من �أر�ض الأمة ،وتنمو يف رحم معاناتها وخ�صائ�صها� ،أما املخاطب فينبغي �أن يتوافر فيه عنا�صر ال بد منها من �أهمها: �أو ًال :القدرة اللغوية لي�سلم من اخلط�أ واللحن وليلقى القبول من لأن الإ�صالح ال ي�ستورد يف حقيبة م�سافر ،فلكل جمتمع ما ينا�سبه. ولنا عربة يف ر�سالة الإ�سالم التي خاطب بها الر�سول الكرمي �صلى امل�ستمعني. اهلل عليه و�سلم �أمة عربية بقر�آن عربي ،وانتقل بها �إىل كمال التوحيد ثانيا :كرثة املحفوظات ،وعلى ر�أ�س ما ينبغي �أن يحفظ القر�آن الكرمي املعجزة اخلالدة وما ا�شتمل عليه وهو الأ�صل الأول يف حياة الأمة ،ثم من خالل معاجلة الق�ضايا الإجتماعية وال�سيا�سية واالقت�صادية التي الأ�صل الثاين لهذا الدين بعد كتاب اهلل عز وجل كما عرب عن ذلك ً ً ً كانت تهم املخاطبني ،واتبع يف ذلك منهجا مرنا ومتدرجا ،ويبدو ذلك الر�سول الأمني " تركت فيكم ما �إن مت�سكتم به لن ت�ضلوا بعدي �أبداً وا�ضحاً �أي�ضاً يف االختالف بني القر�آن املكي والقر�آن املدين ،حيث كان كتاب اهلل و�سنتي " (�أخرجه احلاكم يف امل�ستدرك .)245/4 الأول يركز على ق�ضايا الإميان باهلل واليوم الآخر ،والأ�صول العقدية ثالث ًا :العناية بالدرا�سات النف�سية والإجتماعية والتاريخية ،مع العناية التي يقوم عليها النظام االجتماعي يف املجتمع امل�سلم ،بينما ركز القر�آن الفائقة بال�سرية النبوية وحياة ال�صحابة الكرام والتابعني الأخيار. املدين على بناء املجتمع اجلديد والت�شريعات التي حتكم عالقاته. رابع ًا :وتربية الدعاة ينبغي �أن تركز على �إك�سابهم ال�شخ�صية القوية و�إذا كنا اليوم نريد �أن نتوجه نحو خطاب �إ�سالمي معا�صر ،ف�إن املمتلئة بال�شجاعة واجلر�أة ،واالعتزاز بالنف�س ،والتم�سك بالكرامة الواجب علينا �أن نبد�أ من نقطة �صحيحة وهي �أن يعود الإ�سالم العظيم والنظرة الثاقبة �إىل الأمور بال خوف ،لأن اخلوف يفقد االن�سان القدرة �إىل حياتنا العامة ومرافقنا كلها ،بحيث ي�صبح الإ�سالم كله هو املهيمن على القول �أو الإجادة فيه ،و�أن يكون اخلوف من اهلل وحده الدافع لقول على حياتنا كلها ،وعلى جميع ت�صرفاتنا و�سلوكياتنا وعالقاتنا مع اهلل ،ومع �أنف�سنا، ومع الآخرين ،ثم ي�أتي بعد ذلك دور اخلطاب الو�سطي يوجه وي�صون ويذكر، وعملية اخلطاب الو�سطي الإ�سالمي تتكون من عنا�صر و�ضوابط لذا �أحببت �أن �أف�صلها يف مطلبني: املطلب الأول :عنا�صر اخلطاب الو�سطي وفيه ثالثة فروع: الفرع الأول :املخاطِ ب وما يجب �أن يتوافر فيه. َ املخاطب به. الفرع الثاين : َ املخاطب وما يجب �أن الفرع الثالث : يتوافر فيه. املطلب الثاين � :ضوابط اخلطاب
4
ا�ص َد ْع مِبَا ُت�ؤْ َم ُر احلق وبيانه والتم�سك به ،م�صداقاً لقوله تعاىلَ ( :ف ْ ني � ،إِ َّنا َك َف ْي َن َ َو�أَ ْعر ْ اك المْ ُ ْ�س َت ْه ِز ِئ َ ِ�ض ع َِن المْ ُ ْ�ش ِر ِك َ ني)(احلجر.)95-94: خام�س ًا� :أن يتحلى الداعية املخاطِ ب بال�صالح والإخال�ص والتقوى والتطبيق العملي للقر�آن الكرمي وال�سنة املطهرة ،قوله وعمله ي�صدقان ما وقر يف قلبه من �إميان لأنه يقر�أ قوله تعاىلَ (:يا �أَ ُّيهَا ا َّل َ ذِين �آ َم ُنوا لمِ َ َت ُقو ُلو َن مَا اَل َت ْف َع ُلو َنَ ،كبرُ َ َم ْق ًتا عِ ْن َد اللهَّ ِ �أَنْ َت ُقو ُلوا مَا اَل َت ْف َع ُلو َن) (ال�صف ،)3-2:وباملقابل فعلى الأمة العربية والإ�سالمية �أن توفر للدعاة احلياة الالئقة الكرمية ،و�أن تكفل لهم احلاجات الأ�سا�سية، ليكون مظهرهم العام م�ؤثراً يف الآخرين ،باعتبارهم القدوة والنموذج ملا يدعون �إليه يف الظاهر والباطن والقول والعمل وال�سلوك. َ املخاطب به الفرع الثاين : املخاطب به فيجب �أن يكون الدين ال�صحيح ،نفهم �أ�صوله فهماً َ �أما �صحيحاً دون و�ساطة ،والقر�آن الكرمي �أحد هذه الأ�صول ،بل هو �أ�صلها القومي ،يخاطب يف الإن�سان عقله وم�شاعره ،ويدعوه �إىل عبادة ربه واخل�ضوع له والإذعان لأمره ،ي�ستنبط منه العامل �شتى �أوجه الدالالت، وهو الطريق وحده �إىل معرفة الغيب وحقائقه ،على حني �أن غريه من ال وال تروي غلي ً الطرق واملناهج ال ت�شفي غلي ً ال ،وهو يحتوي على كل الرباهني ،التي يدركها العقل النري ،ويربط الإن�سان بالوجود الواقعي يف عامل الغيب وال�شهادة ،بطريقة جتعله يتفاعل معه وينفعل به ،ويدرك من خالله �آثار اهلل وقدرته و�إرادته و�أما الأ�صل الثاين فهو ال�سنة امل�شرفة ف�إنها �صادرة ممن �أوتي جوامع الكلم قال تعاىلَ (:ومَا َي ْنطِ ُق ع َِن وحى)(النجم .)4-3 ا ْل َه َوى� ،إِنْ هُ َو �إِ اَّل َو ْح ٌي ُي َ ون�صو�ص القر�آن الكرمي وال�سنة ال�شريفة حفظت من الت�أويل والتحريف وتلك ميزة متيز الإ�سالم بها عن غريه من الأديان املوجودة يف العامل اليوم ،كما متيزه عن املذاهب الفكرية والفل�سفات الو�ضعية التي قامت على �أ�س�س احلادية ،والتي �أ�صبحت اليوم وبعد جتربة ال حتقق �سعادة الإن�سان وا�ستقراره ،وال تهديه �سواء ال�سبيل ،و�أ�صبح اتباعها اليوم يف حالة �شك دائم ،كلما بدت لهم فكرة هرولوا نحوها، وظنوا اخلال�ص فيها ،وعندما ي�صلون ال يجدون �إال ال�سراب ،و�صدق ذِين َك َف ُروا �أَ ْع َما ُل ُه ْم َك َ�س َرابٍ ِبقِي َع ٍة َي ْح َ�س ُب ُه َّ اهلل العظيمَ (:وا َّل َ الظ ْم� ُآن مَا ًء َح َّتى �إِ َذا َجا َء ُه لمَ ْ يَجِ ْد ُه َ�ش ْي ًئا َو َو َج َد اللهَّ َ عِ ْن َد ُه َف َو َّفا ُه حِ َ�سا َب ُه َواللهَّ ُ َ�سرِي ُع الحْ ِ َ�سابِ )(النور.)39 : لقد متيز الإ�سالم الذي نخاطب به النا�س مبزايا عديدة منها: �أو ًال :فهو دين �شامل متكامل فيه العقيدة ال�صحيحة ،والعبادة املربية للإن�سان واملجتمع ،املحققة له ال�سعادة والطم�أنينة ،واال�ستقرار
النف�سي ،املف�ضية �إىل طاعة اهلل واالمتثال لأوامره والتحاكم �إليه ،لذا من ال�ضرورة �أن يكون اخلطاب الإ�سالمي اليوم مراعياً كل اجلوانب يف احلياة املعا�صرة ،علماً ب�أن احلياة املعا�صرة لي�ست كلها �شرور و�آثام ،بل ال بد �أن نكون من�صفني ،فنعرتف مبا فيها من جوانب خري ،هي نتيجة جهود قامت بها الب�شرية عرب ال�سنني و�ساهم فيها امل�سلمون ب�أوفر ن�صيب. ثاني ًا :ومن مزايا الإ�سالم كذلك �أنه دين يت�ضمن النظام الذي يحفظ الأمن وي�صون احلقوق ،ويردع الإن�سان الذي ت�سول له نف�سه فعل اجلرمية ،فيحمي املجتمع ،ويحمي اجلاين على ال�سواء ،والعقوبات التي �شرعها الإ�سالم رادعة وعادلة ومعتمدة على امل�صلحة ،وهي طهارة و�إ�صالح ،ويكفي �أن اهلل العادل العليم بالإن�سان هو الذي قررها و�أوجبها. ثالثا :والإ�سالم الذي نخاطب النا�س على �أ�سا�سه دين عاملي �إن�ساين النزعة ،وهذا يعزز دور الداعية ويجعل القبول يف نفو�س الآخرين �أ�سلم و�أحكم. رابع ًا :والإ�سالم يدعو �إىل العلم النافع ويفتح �أبوابه �أمام اجلميع ،قال تعاىلَ (:يا �أَ ُّيهَا ا َّل َ ذِين �آ َم ُنوا �إِ َذا قِي َل َل ُك ْم َت َف َّ�س ُحوا فيِ المْ َ َجال ِِ�س َفا ْف َ�س ُحوا َي ْف َ�س ِح اللهَّ ُ َل ُك ْم َو�إِ َذا قِي َل ا ْن ُ�ش ُزوا َفا ْن ُ�ش ُزوا َي ْر َف ِع اللهَّ ُ ا َّل َ ذِين �آ َم ُنوا مِ ْن ُك ْم َوا َّل َ ري )(املجادلة ،)11: ذِين �أُو ُتوا ا ْل ِع ْل َم َد َر َجاتٍ َواللهَّ ُ مِبَا َت ْع َم ُلو َن َخ ِب ٌ ويقول الر�سول الكرمي ":ف�ضل العامل على العابد كف�ضلي على �أدناكم" (�أخرجه الرتمذي رقم .)2685 خام�س ًا :و�إذا كان الكالم على اخلطاب الإ�سالمي الو�سطي املعا�صر، ف�إن املعا�صرة تقت�ضي املعرفة التامة مبا يف الع�صر من علوم وتيارات ونظم وعالقات ،وعلينا �أن نتعلم �أن الدعوة �إىل خطاب �إ�سالمي معا�صر دعوة ح�سنة وهادفة ،وهي �شاملة لنواحي احلياة قو ًال وعم ً ال وتوجيهاً و�أ�سلوباً وطرقاً ،وهي دعوة ت�ستفيد من م�ستجدات الع�صر، وال تتخلى عن �أ�صالتها ،وما جاءت به الدعوة الإ�سالمية من اال�صول، ِيم) ا�س َت ْم�سِ ْك بِا َّلذِي �أُوحِ َي �إِ َل ْي َك ِ�إ َّن َك َعلَى ِ�ص َر ٍ قال تعاىلَ (:ف ْ اط م ُْ�س َتق ٍ (الزخرف ،)43 :وقال عز وجل ( ُث َّم َج َع ْل َن َ الَ ْم ِر اك َعلَى َ�شرِي َع ٍة مِ َن ْ أ َفا َّت ِب ْعهَا َو اَل َت َّت ِب ْع �أَهْ َوا َء ا َّل َ ذِين اَل َي ْعلَ ُمو َن )(اجلاثية .)18: َ املخاطب الفرع الثالث : َ املخاطب فينبغي �أن يب�صر بواجبه ،و�أن يح�س مب�س�ؤوليته نحو �أما دينه و�أمته ،و�أن يحميه من الت�شويه والت�شوي�ش بو�سائل الهدم التي حتملها �إليه و�سائل الإعالم املتنوعة خا�صة الف�ضائيات ،وعلينا �أن نعلم �أن ب�ساطة التفكري لدى املخاطبني من النا�س جتعل الطريق �إىل تغيري �سلوكهم مير �أ�سا�ساً عرب القلب ولي�س العقل ،فلغة امل�شاعر والعواطف
5
مفهومة لديهم �أكرث من لغة املنطق و الرباهني ،ومن املهم لك�سب عقولهم �أن نك�سب قلوبهم ،وهذا يتطلب �أن يكونوا �أثناء خماطبتهم يف و�ضع نف�سي مريح. املطلب الثاين � :ضوابط اخلطاب الإ�سالمي الو�سطي : تنطلق قواعد اخلطاب الإ�سالمي من قيم ٍة من �أهم القيم الإ�سالمية �أال وهي االعرتاف بالآخر ،وهذا االعرتاف بالآخر ي�ستتبع بطبيعة احلال االلتزام ب�أدب احلوار ،كما ن�ص عليه القر�آن الكرمي قال تعاىلَ (:يا �أَ ُّيهَا ا َّل َ ذِين �آ َم ُنوا ا َّت ُقوا اللهَّ َ َو ُقو ُلوا َق ْو اًل َ�سدِ يدًا)(االحزاب ،)70:وتتفرع عن هذه القيمة الرئي�سية فرعيتان� :أولهما :االنفتاح على الآخر فاهلل عز وجل قد جعل النا�س �شعوباً وقبائل ليتعارفوا ،وما كان النا�س ليتعارفوا ما مل يفتح كل منهم �أبواب عقله وقلبه على م�صاريعها ملا عند الآخر ،والنبي الكرمي يقول ":احلكمة �ضالة امل�ؤمن ،فحيث وجدها فهو �أحق بها " (�سنن الرتمذي �، )51/5أما القيمة الفرعية الثانية فهي االعرتاف باالختالف ،فاهلل عز وجل يبني �أنه قد خلق النا�س خمتلفني ا�س �أُ َّم ًة َواحِ َد ًة َو اَل َي َزا ُلو َن مخُ ْ َت ِل ِف َ ني) قال تعاىلَ (:و َل ْو َ�شا َء َر ُّب َك لجَ َ َع َل ال َّن َ (هود ،)118:وما كان اهلل لي�أذن بقمع هذا االختالف وهو قد خلق النا�س له. �أهم �ضوابط اخلطاب الإ�سالمي الو�سطي : �أوال� :أن نتجنب يف خطابنا الإ�سالمي الهجوم على املوروث الثقايف احلميد وكرمي العادات للآخرين ،وتر�سيخ وت�أكيد معنى الوالء يف الدولة ذات التنوع الثقايف ي�ؤ�س�س على عقد املواطنة بني امل�سلمني وغريهم ،وذلك جتنباً لإثارة الع�صبيات واجلهويات ،و�إ�شعار الأقليات ب�أنها مه�ضومة احلقوق. ثاني ًا :على خطابنا الإ�سالمي �أن يتجنب جعل الدين مادة للخالف بني �أبناء الأمة الواحدة ،بل �أن ي�سعى لأن يكون مادة للوفاق يف جتاوز اخلالف التاريخي بني املذاهب الإ�سالمية والنظر �إىل امل�ستقبل. ثالث ًا :على خطابنا الإ�سالمي �أن يتجنب احلدية التي تق�سم �أبناء الوطن الواحد �إىل مواطنني من الدرجة الأوىل والثانية ،ح�سب الدين �أو العرق �أو الثقافة ،والت�أكيد على معاين احلرية وامل�ساواة و�إزالة اال�ضطراب الذي يت�سم به خطاب بع�ض اجلماعات الإ�سالمية. رابع ًا :على خطابنا الإ�سالمي جتنب �إلغاء الآخر و�أن يعمل على �إزالة احلواجز امل�صطنعة بينه وبني التيارات الوطنية الأخرى ،ولي�س له �أن يدعي احلقيقة لوحده �أو الرعاية والأبوة للأخرين. خام�س ًا :على خطابنا الإ�سالمي �أن يخرج من املحلية �إىل العاملية، فيطرح الإ�سالم كح�ضارة وثقافة ومنهاج حياة جتمع بني الأ�صالة واملعا�صرة ،ويطرح ر�ؤى جديدة يف معاجلة م�شكالت العامل اليوم (املر�أة
،ال�شباب ،العدالة ،نبذ العنف ،حل النزاعات عرب احلوار ،التطرف، حماربة الفقر) ،وعليه ُتبنى ق�ضايا ال�شعوب يف الإ�صالح ال�سيا�سي واالقت�صادي والتعامل ب�إيجابيه مع املبادرات الداعية لذلك. �ساد�س ًا :على اخلطاب الإ�سالمي الرا�شد �أن يكون عقلياً ولي�س غيبياً، �إال ما ثبت بالدليل القاطع ،فالوحي قد انقطع وانتهى نزوله ،قال (:ح ِّرمَتْ َعلَ ْي ُك ُم المْ َ ْي َت ُة َوال َّد ُم َولحَ ْ ُم الخْ ِ ْنزِي ِر َومَا �أُهِ َّل ِل َغيرْ ِ اهلل تعاىل ُ َ ال�س ُب ُع �إِ اَّل مَا اللهَّ ِ ِب ِه َوالمْ ُ ْن َخ ِن َق ُة َوالمْ َ ْو ُقو َذ ُة َوالمْ ُترَ َ ِّد َي ُة َوال َّنطِ َ يح ُة َومَا �أ َك َل َّ ِالَ ْز اَل ِم َذ ِل ُك ْم ف ِْ�س ٌق ا ْل َي ْو َم َذ َّك ْي ُت ْم َومَا ُذ ِب َح َعلَى ال ُّن ُ�صبِ َو�أَنْ َت ْ�س َت ْق�سِ ُموا ب ْ أ َيئ َِ�س ا َّل َ ذِين َك َف ُروا مِ نْ دِي ِن ُك ْم َف اَل َتخْ َ�ش ْوهُ ْم َو ْاخ َ�ش ْونِ ا ْل َي ْو َم �أَ ْك َم ْلتُ َل ُك ْم ال ْ�س اَل َم دِي ًنا َف َم ِن ْ ا�ض ُط َّر فيِ دِي َن ُك ْم َو�أَتمْ َ ْمتُ َعلَ ْي ُك ْم ِن ْع َمتِي َو َر ِ�ضيتُ َل ُك ُم ِْ إ مخَ ْ َم َ�ص ٍة َغيرْ َ ُم َت َجان ٍِف ِ إِل ْث ٍم َف�إِ َّن اللهَّ َ َغ ُفو ٌر َرحِ ي ٌم )(املائدة ،)3 :وعلينا �أال نرتدد يف اال�ستفادة من جتارب غرينا ،ثقافاتهم ،طبيعية تفكريهم، الإرث الإن�ساين يف البحث العلمي والتكنولوجيا. �سابع ًا :على خطابنا الإ�سالمي �أن يتجه نحو امل�ؤ�س�سية واالبتعاد عن الفردية والديكتاتورية ،وذلك ب�إحياء امل�ؤ�س�سات املختلفة وتعزيز دورها ك�أداة لل�شورى ،وعدم الترب�ؤ من امل�صطلحات احلديثة مثل الدميقراطية وعليه �أن ي�ستخدمها كجزء من جتديد اخلطاب الإ�سالمي املعا�صر. ثامن ًا :على اخلطاب الإ�سالمي �أن يقدم الأمر باملعروف على النهي عن املنكر يف معاجلة �أمرا�ض املجتمعات الإ�سالمية مثل ( ال�شذوذ والإنحراف ) بد ًال عن عزلهم ونبذهم خ�شية �أن يتحولوا �إىل عنا�صر فا�سدة ومدمرة يف املجتمع. تا�سع ًا :على اخلطاب الإ�سالمي الو�سطي نبذ الغلو ب�أ�شكاله املادية واملعنوية من خالل اللقاءات واملحا�ضرات وتبادل الأفكار مع ال�سا�سة والقياديني �سواء على امل�ستوى الديني �أو الثقايف �أو الأكادميي. عا�شر ًا :على خطابنا الو�سطي الإ�سالمي �أال تخيفه �أ�شباح العوملة، مادمنا ن�ؤمن ب�أ�صالتنا ونفهم ثقافتنا ،ون�ؤمن يف الوقت نف�سه باحلوار واالنفتاح على الآخر ،ون�ؤمن بالعلم النافع �إمياناً لي�س له حدود ،ف�إن هذه العوملة متثل بالن�سبة �إلينا �إذا �أح�سنا اال�ستفادة منها جواً �صحياً يتيح لنا تعريف النا�س ب�أفكارنا وقيمنا و�أخالقنا ،كما يتيح لنا جما ًال نحقق فيه ذاتنا من خالل رفد العلم العاملي واحل�ضارة العاملية مبا ن�ستطيع. حادي ع�شر :ال يعادي اخلطاب الو�سطي الإ�سالمي الثقافات الأخرى، و�إمنا يناق�شها ويحاورها بالتي هي �أح�سن ،وهو ال يخرج على ح�ضارة الع�صر ،مبمار�سته ا�ست�شراقاً معكو�ساً ،بل يحافظ على ح�ضارته العربية الإ�سالمية القيمة وي�أخذ النافع من ح�ضارة الع�صر ،ويطمح �أن ي�ضيف �إىل احل�ضارة العاملية ما ينق�صها من روح وخلق ومثل وقيم. اجلامعة الأردنية /كلية ال�شريعة -ورقة عمل قدمت مل�ؤمتر الو�سطية الإ�سالمية" املفهوم ،التحديات ،الأدوار" �صنعاء /اليمن ،من 2010/5/20-19
6
الرقابة الشعبية في المجتمع اإلسالمي بعد تنامي حركة ال�شعوب وثورات ما ي�سمى بالربيع العربي �أ�صبحت الرقابة ال�شعبية تت�صدر حديث ال�سا�سة والإعالميني، بعد �أن غابت عن املجتمعات الإ�سالمية مدة طويلة يف الوقت الذي كانت ثقافة �سائدة يف املجتمعات الغريبة منذ �أن انطلقت الثورة الفرن�سية حتمل �شعار احلرية والإخاء وامل�ساواة وت�أ�س�ست يف املجتمعات الغربية م�ؤ�س�سات وجمعيات ومنظمات للمجتمع املدين تقوم بدورها الرقابي وحت�سب احلكومات لها �ألف ح�ساب. فما هي الرقابة ال�شعبية وما �أ�شكالها وما ميزاتها؟ وهل عرف الإ�سالم هذا النوع من الرقابة وهل كانت ثقافة �سائدة يف املجتمع الإ�سالمي؟ هذا ما �س�أو�ضحه يف هذه الورقة. مفهوم الرقابة ال�شعبية: يق�صد بالرقابة ال�شعبية دور ال�شعب �أو الأمة يف رقابة �أداء ال�سلطة التنفيذية والتزامها بالقوانني والأنظمة املنبثقة عنها ويف الت�صدي لظاهرة الف�ساد بكل �أ�شكاله. وتو�صف الدولة احلديثة ب�أنها دولة القانون وامل�ؤ�س�سات ،وامل�س�ؤولية يف الدولة احلديثة تعادل ال�سلطة ،فبقدر ما يتمتع به �شاغل الوظيفة العامة من �سلطات واخت�صا�صات تكون م�س�ؤوليته. والرقابة على ال�سلوك الوظيفي ت�أخذ عدة �أ�شكال هي: الأول :الرقابة الداخلية التي متار�سها �أجهزة الدولة نف�سها على �سلوك هيئاتها والعاملني فيها مثل �أجهزة الرقابة والتفتي�ش الإداري وهيئة مكافحة الف�ساد وغريها وهذا ما يعرف يف الفقه الإ�سالمي بنظام احل�سبة واالحت�ساب. الثاين :رقابة الق�ضاء ومرجعيته للبت يف �صحة �أو خط�أ القرارات الإدارية عرب �أجهزة الق�ضاء املتنوعة. الثالث :رقابة املجل�س الت�شريعي النيابي املمثل لل�شعب على �سلوك ال�سلطة التنفيذية. الرابع :رقابة الر�أي العام عرب �أجهزة الإعالم امل�سموعة واملقروءة واملرئية (ما ي�سمى بال�سلطة الرابعة) ويدخل يف هذا النوع رقابة املعار�ضة والأحزاب والنقابات واجلمعيات وكافة م�ؤ�س�سات املجتمع املدين. وقد �أعطى الد�ستور الأردين للمواطنني احلق يف الرقابة على ال�سلطة
د .حممد احلاج التنفيذية عرب حرية التعبري وت�شكيل الأحزاب واجلمعيات وعرب الأخذ مببد�أ �سماع العرائ�ض التي يقدمها املواطنون �إىل ال�سلطات فقد ن�صت املادة ( )17على (للأردنيني احلق يف خماطبة ال�سلطات العامة فيما ينوبهم من �أمور �شخ�صية �أو فيما له �صلة بال�ش�ؤون العامة بالكيفية وال�شروط التي يعينها القانون) .كما و�ضح النظام الداخلي ملجل�س النواب �إجراءات تقدمي العرائ�ض وحتويلها من قبل املجل�س �إىل اللجنة الإدارية التي تقدم قرارها �إىل املجل�س وما ي�صدر عن املجل�س يحول �إىل اجلهة احلكومية املخت�صة ويكون قرارا ملزما ،كما ت�أ�س�س يف الأردن ديوان املظامل للنظر يف هذه ال�شكاوى واالعرتا�ضات. ومن �أهم ميزات هذه الرقابة ال�شعبية: �أوال� :أنها حتد من الت�سلط والفردية وت�شكل �ضابطا ل�سلوك املوظف فيح�س ب�أنه لي�س مطلق احلرية يف �أن يفعل ما يريد بل هو حتت املراقبة واملحا�سبة وامل�س�ؤولية وهذا بال �شك من �ش�أنه حت�سني �أداء املوظف و�ضبط ت�صرفاته ح�سب القانون ال ح�سب هواه ال�شخ�صي. ثانيا� :أنها تنمي الإح�سا�س بامل�س�ؤولية وامل�شاركة عند �أفراد املجتمع بحيث يح�س كل مواطن ب�أن له دورا يف بناء املجتمع الذي ينتمي �إليه،
7
وبالتايل فهي ت�سهم يف خلق روح االنتماء ال�صادق. ثالثا :ات�ساع رقعة هذه املراقبة و�شمولها كل مرافق املجتمع لأنها ال تعتمد على جهد م�ؤ�س�سة معينة يبقى دورها حمدودا مهما كانت بل ت�شمل رقابة معظم �أفراد ذلك املجتمع. الرقابة ال�شعبية يف الإ�سالم: عند هذا املو�ضوع تقفز عدة �أ�سئلة منها: • هل و�ضع الإ�سالم نظاما للرقابة ال�شعبية كما تفعل الدول الدميقراطية احلديثة؟ • هل احلكم يف الإ�سالم فردي وهل �سلطة اخلليفة مطلقة؟ • وهل �أعطى الإ�سالم احلق للأمة الرقابة ال�شعبية على الدولة بكل م�ؤ�س�ساتها ملراقبة مدى تطبيقها لد�ستور الأمة والتزامها للقوانني والأنظمة؟ ومن خالل الإجابة على هذه الأ�سئلة تبني �أن الإ�سالم قد عرف الرقابة ال�شعبية و�أعطاها دورها يف الرقابة وحتمل امل�س�ؤولية ومكافحة الف�ساد واخللل الذي تقع فيه ال�سلطة التنفيذية يف �سلوكها وتطبيقاتها وميكننا القول بكل ثقة �أن الإ�سالم قد عرف الرقابة ال�شعبية و�أكد على �ضرورة قيامها بدورها الرقابي وقبل �أن �أحتدث عن مظاهر الرقابة ال�شعبية يف الإ�سالم �أود �أن �أ�ؤكد على �أن احلكم يف الإ�سالم لي�س فرديا مبعنى �سلطة اخلليفة املطلقة و�أن ال�شورى ملزمة ولي�س لال�ستئنا�س كما يحلو للبع�ض �أن يقول و�أن الإ�سالم مل يحدد لقبا معينا للحاكم (الإمام ،اخلليفة� ،أمري امل�ؤمنني ،ال�سلطان ،امللك) كل هذه الألقاب وغريها ميكن �إطالقها على من يتوىل �أمر امل�سلمني. كما �أن الإ�سالم مل يحدد طريقة معينة الختيار الإمام والأمر الوحيد املتفق عليه هو قبول الأمة لهذا ال�سلطان عرب ما كان يعرف بالبيعة بغ�ض النظر عن طريقة و�أ�سلوب هذه البيعة ونالحظ تنوع طريقة االختيار للخلفاء الرا�شدين فيمكن للأمة �أن تبايع اخلليفة مبا�شرة �أو تختار من �أهل احلل والعقد (باالنتخاب �أو بالتوافق) من ي�ؤدي هذه البيعة. ومن �أهم مظاهر الرقابة ال�شعبية يف الإ�سالم: نظام احل�سبةواحل�سبة عند الفقهاء �أمر باملعروف �إذا ظهر تركه ونهي عن املنكر �إذا ظهر فعله لقوله �سبحانه( َوالمْ ُ�ؤْمِ ُنو َن َوالمْ ُ�ؤْمِ َن ُ ات َب ْع ُ�ض ُه ْم َ�أ ْو ِل َيا ُء َب ْع ٍ�ض وف َو َي ْن َه ْو َن ع َِن المْ ُ ْن َكر)(التوبة.)71 : َي�أْ ُم ُرو َن ِبالمْ َ ْع ُر ِ يقول ابن خلدون (�أما احل�سبة فهي وظيفة دينية من باب الأمر باملعروف والنهي عن املنكر الذي هو فر�ض على القائم ب�أمور امل�سلمني �أن يعني لذلك من يراه �أه ً ال له). واملحت�سب و�إن كان يعني من احلاكم �إال �أن امل�سلمني كذلك عرفوا احل�سبة ال�شعبية وي�سمى �صاحبها املطوع.
ونظام احل�سبة �أعطى للمحت�سب حق الرقابة واملحا�سبة لأي خلل �أو ف�ساد يراه املحت�سب بغ�ض النظر عن فاعله. الأمة م�صدر ال�سلطات.لقد �أعطى الإ�سالم للأمة �سلطانا يف حقها باختيار من ينوب عنها يف �إدارة �ش�ؤونها ،فقد جاء يف املغني (من اتفق امل�سلمون على �إمامته وبيعته ،ثبتت �إمامته ووجبت معونته) وهذا يعني �أن الأمة هي �صاحبة احلق يف اختيار اخلليفة ،كما �أن لها احلق يف حما�سبته ومراقبته وعزله حال عدم ا�ستقامته. فاخلليفة يف نظر الإ�سالم نائب عن الأمة يحكم با�سمها وما �أجمل ما قاله املاوردي ( و�إذا كان تقليد الأمري من قبل اخلليفة مل ينعزل مبوت اخلليفة ،و�إن كان من قبل الوزير انعزل مبوت الوزير ،لأن تقليد اخلليفة نيابة عن امل�سلمني �أما تقليد الوزير فهو نيابة عن نف�سه). والأدلة على حق الأمة يف حما�سبة احلاكم ومراقبته كثرية منها الآيات القر�آنية املطلقة يف الأمر باملعروف والنهي عن املنكر ،ومنها قوله �صلى اهلل عليه و�سلم ( �إذا ر�أيت �أمتي تهاب �أن تقول للظامل يا ظامل فقد تودع منها ) .وقال �صلى اهلل عليه و�سلم( من ر�أى �سلطانا جائرا م�ستحال حلرم اهلل ناكثا لعهد اهلل خمالفا ل�سنة ر�سول اهلل يعمل يف عباد اهلل بالإثم والعدوان فلم يغري بقول وال فعل كان حقا على اهلل �أن يدخله مدخله). والأحاديث النبوية يف الأمر باملعروف والنهي عن املنكر والتحذير من تركه كثرية منها قوله �صلى اهلل عليه و�سلم( لت�أمرن باملعروف ولتنهون عن املنكر �أو لي�سلطن اهلل عليكم �شراركم فيدعو خياركم فال ي�ستجاب لهم ) ويف رواية (�أو لي�ضربن اهلل قلوب بع�ضكم ببع�ض). وكان اخللفاء يف الإ�سالم يدركون هذه احلقيقة وال يتنكرون لها ،فهذا �أبو بكر يقول يف خطبته عند توليه اخلالفة (�إن �أح�سنت ف�أعينوين و�إن �أ�س�أت فقوموين �أطيعوين ما �أطعت اهلل فيكم ف�إن ع�صيت فال طاعة يل عليكم). وهذا عمر يقول (من ر�أى منكم يف اعوجاجا فليقومه) ويقول (الأخري فيكم �إن مل تقولوها وال خري فينا �إن مل ن�سمعها) وقد رد �أبو بكر الأمر �صراحة للأمة حني قال( �إن الذي ر�أيتم مني مل يكن حر�صا على واليتكم ولكني خفت الفتنة وقد رددت �أمركم �إليكم فولوا من �شئتم). ومن �أبرز مظاهر الرقابة ال�شعبية الدور الذي �أعطاه الإ�سالم للعلماءحيث عرف التاريخ الإ�سالمي دورا بارز لعلماء امل�سلمني يف حما�سبة احلكام ومراقبتهم وم�ساءلتهم والت�صدي لظلمهم �أو انحرافهم �أو ف�سادهم ومواقف العلماء يف ذلك كثرية يف كافة الع�صور الإ�سالمية. و�صلى اهلل على نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه و�سلم.
8
وسائل تحقيق الوسطية ودفع الغلو
د� .إبراهيم بن �سعيد الدو�سري
ِّل ْل ُم�ؤْمِ ِن َ ِ�صا ُل ُه ن�سا َن ِب َوا ِل َد ْي ِه َح َملَ ْت ُه �أُ ُّم ُه وَهْ ًنا َعلَى وَهْ ٍن َوف َ ني َو َو َّ�ص ْي َنا ْ إِ ال َ ري)(لقمانَ (،)14 :و ِ�إن فيِ عَا َمينْ ِ �أَنِ ْا�ش ُك ْر ليِ َو ِل َوا ِل َد ْي َك ِ�إليَ َّ المْ َ ِ�ص ُ َجا َهد َ َاك عَلى �أَن ُت ْ�شر َِك بِي مَا َل ْي َ�س َل َك ِب ِه عِ ْل ٌم َف اَل ُتطِ ْع ُه َما َو َ�صاحِ ْب ُه َما اب �إِليَ َّ ُث َّم �إِليَ َّ َم ْرجِ ُع ُك ْم َف�أُ َن ِّب ُئ ُكم مِبَا فيِ الدُّ ْن َيا َم ْع ُرو ًفا َوا َّت ِب ْع َ�سبِي َل َمنْ �أَ َن َ ُكن ُت ْم َت ْع َم ُلو َن)(لقمانَ (،)15:يا ُب َن َّي �إِ َّنهَا �إِن َت ُك مِ ْث َقا َل َح َّب ٍة ِّمنْ َخ ْردَلٍ الَ ْر ِ�ض َي ْ�أتِ ِبهَا اللهَّ ُ �إِ َّن اللهَّ َ َلطِ ٌ يف ال�س َما َواتِ �أَ ْو فيِ ْ أ َف َت ُكن فيِ َ�صخْ َر ٍة �أَ ْو فيِ َّ وف َوا ْن َه ع َِن المْ ُن َك ِر ال�ص اَل َة َو�أْ ُم ْر ِبالمْ َ ْع ُر ِ ري )(لقمانَ (،)16:يا ُب َن َّي �أَق ِِم َّ َخ ِب ٌ الُمُو ِر )(لقمانَ (،)17:و اَل ا�صبرِ ْ َعلَى مَا �أَ َ�صا َب َك ِ�إ َّن َذل َِك مِ نْ َع ْز ِم ْ أ َو ْ الَ ْر ِ�ض َم َر ًحا �إِ َّن اللهَّ َ اَل يُحِ ُّب ُك َّل مخُ ْ َتالٍ ا�س َو اَل تمَ ْ ِ�ش فيِ ْ أ ُت َ�ص ِّع ْر َخد ََّك لِل َّن ِ َف ُخورٍ)(لقمانَ ( ،)18:وا ْق ِ�ص ْد فيِ م َْ�شي َِك َو ْاغ ُ�ض ْ �ض مِ ن َ�ص ْوت َِك ِ�إ َّن َ�أن َك َر ري )(لقمان.)19: ْأ الَ ْ�صوَاتِ َل َ�ص ْو ُت الحْ َ مِ ِ واملوعظة ت�أتي يف القر�آن الكرمي �صريحة كما يف الآيات ال�سابقة، وت�أتي من خالل االعتبار مبن �سبق ،قال ال�شيخ حممد الطاهر بن عا�شور: (وقولهَ :يا �أَهْ َل ا ْل ِك َتابِ َال َت ْغ ُلواْ فيِ دِي ِن ُك ْم)وقوله ( َف َما َر َع ْوهَا َح َّق ِرعَا َي ِتهَا) ف�إن ذلك متعلق ب�أهل الكتاب ابتداء ،ومراد منه موعظة هذه الأمة لتجتنب الأ�سباب التي �أوجبت غ�ضب اهلل على الأمم ال�سابقة و�سقوطها ،وت�صديق ذلك يف القر�آن الكرمي حيث يقول احلق تبارك ال�س ْبتِ َف ُق ْل َنا َل ُه ْم ُكو ُنواْ وتعاىل ( َو َل َق ْد َع ِل ْم ُت ُم ا َّلذِ َ ين ْاع َتدَواْ مِ ن ُك ْم فيِ َّ ِق َر َد ًة َخا�سِ ِئ َ ني )(البقرةَ ()65 :ف َج َع ْل َناهَا َن َكا ًال لمِّ َا َبينْ َ َي َد ْيهَا َومَا َخ ْل َفهَا َو َم ْوعِ َظ ًة ِّل ْل ُم َّت ِق َ ني )(البقرة.)66: -2ال�صحبة :ال يخفى ما لل�صحبة من �أثر فاعل يف اكت�ساب الأخالق �سلبا �أو �إيجابا ،وم�سارقة الطبع ت�ؤدي يف ذلك دورا كبريا�( ،إذ الطبع ي�سرق من الطبع ال�شر واخلري جميعا) .وق�صة �أ�صحاب اجلنة يف �سورة القلم �شاهد حي على ما لل�صحبة من �أهمية يف ا�ستمداد القرناء بع�ضهم من بع�ض الطاقات الأخالقية حيث يقول اهلل تبارك وتعاىل(�إ َّنا َبلَ ْو َناهُ ْم اب الجْ َ َّن ِة �إِ ْذ �أَ ْق َ�س ُموا َل َي ْ�ص ِر ُم َّنهَا م ُْ�صبِحِ َ ني َو اَل َي ْ�س َت ْثنون َك َما َبلَ ْو َنا �أَ ْ�ص َح َ َف َط َ مي َف َت َنادَوا اف َعلَ ْيهَا َطائ ٌِف مِّن َّر ِّب َك َوهُ ْم َنا ِئ ُمو َن َف�أَ ْ�ص َب َحتْ َك َّ ال�ص ِر ِ ني َف َ ني �أَنِ ْاغدُوا َعلَى َح ْر ِث ُك ْم �إِن ُكن ُت ْم َ�صارِمِ َ م ُْ�صبِحِ َ انطلَ ُقوا َوهُ ْم
�إن الرتبية الأخالقية �أحد الدعائم الأ�سا�سية يف بناء الفرد امل�سلم �إذ هي عملية ت�ؤدي �إىل بناء فكر وفعل �أخالقي مبا حوته من و�سائل كفيلة ميكن من خاللها تطبيق د�ستور الأخالق يف القر�آن الكرمي وهذه الو�سائل ت�ؤول �إىل جمموعتني :و�سائل دافعة وو�سائل مانعة� ،أما الو�سائل الدافعة فهي التي تنمي اال�ستعداد النف�سي لفعل اخلريات مثل القدوة ال�صاحلة واملوعظة وال�صحبة ،واملجموعة الثانية هي الو�سائل املانعة وهي التي حتول بني املرء ورغبته يف �سيئ الأخالق ،وتعطل �إرادته وا�ستعداده من الوقوع فيها ومن بني تلك الو�سائل املانعة االعتبار والرتهيب والعقوبة . �إن الرتبية الأخالقية يف نظرة الإ�سالم تت�سم بالعمق وال�شمول ،حيث �إنها تتناول جميع اجلوانب الإيجابية للرتبية املتكاملة ،من �أهمها تكوين الب�صرية عند املرء ليميز بني �سلوكي اخلري وال�شر وحتذير الغري منها،وحتليلها بف�ضائل اخلري، والداللة �إليها . واحلق �أن القر�آن الكرمي قد ز ّود نظامه الأخالقي بقاعدة تربوية غاية يف الكمال ،وقد انتظم يف هذه القاعدة جملة من الو�سائل الكفيلة بتفعيل التعاليم الأخالقية ،و�إيجاد العالج واحللول املنا�سبة لكل انحراف �أو ت�سيب يف الأخالق ،ومعنى هذا �أنها ذات طابع �إ�صالحي ودعوي فاحلاجة �إىل �إبرازها و�إعمالها �ضرورة اجتماعية. �أوال :الو�سائل الدافعة وهي الو�سائل التي تنمي اال�ستعداد لفعل اخلريات واملداومة عليها والرتقي يف معارج الف�ضيلة ،ومنها : -1املوعظة :وهي التذكري باخلري فيما يرق له القلب ،وتعد املوعظة من �أقوى الأ�ساليب و�أجنع الو�سائل ،ولهذا �س ّمى اهلل القر�آن الكرمي ا�س َق ْد َجاء ْت ُكم َّم ْوعِ َظ ٌة مِّن موعظة كما يف قوله تعاىل( َيا �أَ ُّيهَا ال َّن ُ ال�صدُو ِر َوهُ دًى َو َر ْح َم ٌة ِّل ْل ُم�ؤْمِ ِن َ ني)( يون�س.)57 : َّر ِّب ُك ْم َو�شِ َفاء لمِّ َا فيِ ُّ وقد ا�ستعمل القر�آن الكرمي املوعظة يف ال�سياق الرتبوي يف كثري من املنا�سبات ،ويظهر ذلك جليا يف مواعظ لقمان احلكيم البنهَ (:يا �أَ ُّيهَا ال�صدُو ِر َوهُ دًى َو َر ْح َم ٌة ا�س َق ْد َجاء ْت ُكم َّم ْوعِ َظ ٌة مِّن َّر ِّب ُك ْم َو�شِ َفاء لمِّ َا فيِ ُّ ال َّن ُ
9
َي َت َخا َف ُتو َن �أَن اَّل َيد ُْخلَ َّنهَا ا ْل َي ْو َم َعلَ ْي ُكم م ِّْ�س ِك ٌ ني َو َغ َد ْوا َعلَى َح ْر ٍد َقا ِدر َ ِين َفلَ َّما َر�أَ ْوهَا َقا ُلوا ِ�إ َّنا َل َ�ضا ُّلو َن َب ْل َن ْح ُن محَ ْ ُرومُو َن َقا َل �أَ ْو َ�س ُط ُه ْم �أَلمَ ْ �أَ ُقل َّل ُك ْم َل ْو اَل ُت َ�س ِّب ُحو َن َقا ُلوا ُ�س ْب َحا َن َر ِّب َنا �إِ َّنا ُك َّنا َظالمِ ِ َ ني َف�أَ ْق َب َل َب ْع ُ�ض ُه ْم َعلَى َب ْع ٍ�ض َي َت اَل َومُو َن َقا ُلوا َيا َو ْيلَ َنا �إِ َّنا ُك َّنا َطاغِ َ ني ع ََ�سى َر ُّب َنا �أَن ُي ْبدِ َل َنا َخيرْ ً ا ِّم ْنهَا �إِ َّنا �إِلىَ َر ِّب َنا َراغِ ُبو َن َك َذل َِك ا ْل َع َذ ُاب َو َل َع َذ ُاب ْالآخِ َر ِة �أَ ْكبرَ ُ َل ْو َكا ُنوا َي ْعلَ ُمو َن)(القلم� . )33-17:أو�سطهم �أي � (:أعدلهم قوال وعقال وخلقا)،والآية تدل على �أن هذا الأو�سط حذرهم من الوقوع يف املع�صية قبل وقوع العذاب فلم يطيعوه ،فلما ر�أوا العذاب ذكرهم ذلك الكالم، ( َقا ُلوا ُ�س ْب َحا َن َر ِّب َنا �إِ َّنا ُك َّنا َظالمِ ِ َ ني)(القلم )29 :فكان تذكري �أو�سطهم �أحد �أ�سباب توبتهم ،ولو ا�ستجابوا له �أوال النتفعوا ب�ستانهم ،بيد �أنهم ا�ستطاعوا �أن ي�ؤثروا عليه ،حتى �أزرى به بخله ف�أ�صابه ما �أ�صابهم. وقد جاء التنويه بال�صحبة وما لها من �أثر فاعل يف �آيات كثرية ومنها الظالمِ ُ َعلَى َي َد ْي ِه َي ُق ُ قوله تعاىلَ (:و َي ْو َم َي َع ُّ�ض َّ ول َيا َل ْي َتنِي ا َّت َخ ْذ ُت َم َع ال َّر ُ�سولِ َ�سب اً ِيل )(الفرقان .)27:وقوله تعاىل( ُق ْل �أَ َن ْدعُو مِ ن دُونِ اللهّ ِ مَا َال َين َف ُع َنا َو َال َي ُ�ض ُّر َنا َو ُن َر ُّد َعلَى �أَ ْع َقا ِب َنا َب ْع َد �إِ ْذ َهدَا َنا اللهّ ُ َكا َّلذِ ي ْا�س َت ْه َو ْت ُه َّ ال�ش َياطِ ُ اب َي ْدعُو َن ُه �إِلىَ ا ْل ُهدَى ا ْئ ِت َنا ُق ْل �إِ َّن ني فيِ الأَ ْر ِ�ض َحيرْ َ ا َن َل ُه �أَ ْ�ص َح ٌ هُ دَى اللهّ ِ هُ َو ا ْل ُهدَىَ َو�أُمِ ْر َنا ِل ُن ْ�س ِل َم ِل َر ِّب ا ْل َعالمَ ِ َ ني)(الأنعام.)72 : -3القدوة احل�سنة :وهي و�سيلة عملية يف البناء اخللقي ( ،ولن ت�صلح الرتبية �إال �إذا اعتمدت على الأ�سوة احل�سنة ) ،والقر�آن الكرمي حافل بنماذج حية لل�شخ�صيات الأخالقية الكرمية ،للرتغيب يف �أخالقهم ، وحماكاة احل�سن منها ،قال تعاىل�(:أُ ْو َلـئ َِك ا َّلذِ َ ين َهدَى اللهّ ُ َف ِب ُهدَاهُ ُم ا ْق َتدِ هْ)(الأنعام ،)90:كما حفل بنماذج �أخرى �ضدها للتنفري من حماكاتها ،قال ابن حزم (:ولهذا يجب �أن ت�ؤرخ الف�ضائل والرذائل ، ليفر �سامعها من القبيح امل�أثور عن غريه ،ويرغب يف احل�سن املنقول عمن تقدمه ويتعظ مبا �سلف ) .ومن ثم �سيق يف القر�آن الكرمي جتارب الأنبياء الأخيار لينتفع منها النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ،فلما �أمر حممد عليه ال�صالة وال�سالم ب�أن يقتدي بالكل ،فك�أنه �أمر مبجموع ما كان متفرقا فيهم ،وملا كان ذلك درجة عالية مل تتي�سر لأحد من الأنبياء قبله ال جرم و�صف اهلل خلقه ب�أنه عظيم ،وبهذا يت�ضح مفاد التعبري يم)(القلم،)4 : بحرف اال�ستعالء يف قوله تعاىل( َو�إِ َّن َك َل َعلى ُخ ُلقٍ عَظِ ٍ �إذ دل على ا�ستعالء الر�سول �صلى اهلل عليه و�سلم على جميع الأخالق اجلميلة ومتكنه منها ،وال �سيما �أنه بعث ليتمم مكارم الأخالق ،ويف احلديث ال�شريف� (:إمنا بعثت لأمتم مكارم الأخالق).و�إذا كانت طريقة القر�آن فيما يذكره اهلل عن �أهل العلم والأنبياء واملر�سلني على وجه املدح للت�أ�سي بهم ،فال جرم �أن ما امتدح اهلل به ر�سوله �صلى اهلل عليه
10
و�سلم من عظيم اخللق يقت�ضي اتخاذه مثال �أعلى ،ثم �إنه قد جاء ذلك �صريحا يف قوله تعاىلَ (:ل َق ْد َكا َن َل ُك ْم فيِ َر ُ�سولِ اللهَّ ِ �أُ ْ�س َو ٌة َح َ�س َن ٌة) ،قال ابن حزم (:من �أراد خري الآخرة وحكمة الدنيا وعدل ال�سرية واالحتواء على حما�سن الأخالق كلها وا�ستحقاق الف�ضائل ب�أ�سرها فليقتد مبحمد ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم ،ولي�ستعمل �أخالق �سريته ما �أمكنه). ثانيا :الو�سائل املانعة :وهي التي حتول دون فاعلية الرغبة يف الأخالق ال�سيئة وتعطل الإرادة واال�ستعداد لفعلها ،فهي طرق وقاية وعالج ملا يطر�أ على الأخالق من عوامل االنحراف واالنحالل اخللقي الذي يعتور النف�س ب�سبب الهوى �أو ال�شيطان �أو غريهما . وال ريب �أن تلك الو�سائل من الأ�ساليب الناجعة يف جمال الرتبية الأخالقية ،ملا لها من �سلطة على كبح اجلرم اخللقي ،وتهذيب ال�سلوك، ف�إن كان ثمة مكنة من التوبة من قبل الفاعل فذلك مق�صد �أ�سمى من مقا�صد العقوبة يف الإ�سالم مهما كانت �ضخامة الذنب ،ف�إن مل يكن ف�إن العربة قائمة ملن بعدها . و�إذا كان ب�صدد حتقيق الو�سطية ودفع الغلو ؛فمن املنا�سب التنبيه �إىل �أن معاقبة الغالة واملبتدعة �إحدى و�سائل العالج التي ت�ضمنتها �آيات احلدود والق�صا�ص والتعزيز ،وهي كثرية جدا ،والعقوبة لهذا ال�صنف من النا�س تختلف بح�سب نوع اجلرم الذي رمبا ي�صل بغلوه �إىل حد الكفر وقد يعاقب بالق�صا�ص حني يقتل م�سلما مع�صوم الدم ،وبهذا يتبني �أن الغلو قد ي�صل �إىل درجة الإف�ساد يف الأر�ض فحينئذ ينطبق عليه قول اهلل تعاىل �(:إِنمَّ َ ا َج َزاء ا َّلذِ َ ين ُي َحا ِر ُبو َن اللهّ َ َو َر ُ�سو َل ُه َو َي ْ�س َع ْو َن فيِ الأَ ْر ِ�ض َف َ�سادًا �أَن ُي َق َّت ُلواْ �أَ ْو ُي َ�ص َّل ُبواْ �أَ ْو ُت َق َّط َع �أَ ْيدِ ي ِه ْم َو َ�أ ْر ُج ُلهُم الف �أَ ْو ُين َف ْواْ مِ َن الأَ ْر ِ�ض َذل َِك َل ُه ْم خِ ْزيٌ فيِ الدُّ ْن َيا َو َل ُه ْم فيِ الآخِ َر ِة ِّمنْ خِ ٍ َع َذ ٌاب عَظِ ي ٌم)(املائدة ،)33:ويلحظ يف هذه الآية �أنها تناولت �أنواعا من العقوبات ،فمنها ما يقع على اجل�سد ،وذلك يف �أول الآية وهو التقتيل �أو ال�صلب �أو التقطيع ،ومنها عقوبات نف�سية وذلك باخلزي الذي يلحق بهم ،ومنها عقوبات اجتماعية ت�أديبية وذلك بالنفي ،ومنها عقوبات �أخروية (،ولهم يف الآخرة عذاب عظيم ) ن�س�أل اهلل العافية ،وملا كانت العقوبة �أحد املقا�صد الأخالقية التي جاء القر�آن الكرمي لي�ؤكد عليها �ضمن �أجزيته الإ�صالحية لذلك جند �أن الدعوة �إىل التوبة تعقب ذكر تلك العقوبات لتفتح طريقا �إىل العودة ،وذلك ما جنده عقب هذه الآية و�أمثالها ،حيث يقول اهلل تعاىل بعد �آية احلرابة املذكورة �آنفا(�إِ َّال ا َّل َ ذِين َتا ُبواْ مِ ن َق ْبلِ �أَن َت ْقدِ ُرواْ َعلَ ْي ِه ْم َف ْاعلَ ُمواْ �أَ َّن اللهّ َ َغ ُفو ٌر َّرحِ ي ٌم )(املائدة.)34 :
وسطية شيخ اإلسالم ابن تيمية .. �إنَّ من �أنفع ما يقدم للنا�س ،ما ينفعهم يف دينهم ودنياهم، خ�صو�ص ًا �إذا كان ما يقدم لهم ،قائم ًا على فهم �صحيح دقيق ،ال جماملة فيه وال خمادعة ،ال غلو وال تق�صري� ،إذ �سمة العدل يف القول والعمل� ،صفة هذه الأ َّمة ،التي تتمثل خطى ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم -وخري من ميثلها هم ورثة ر�سول اهلل�صلى اهلل عليه و�سلم -العلماء ،ومما ال �شك فيه �أنَّ ابن تيميةكان من فحول علماء هذه الأ َّمة ،الأمر الذي جعل الكثريين يدر�سون �آراءه ،وي�ستقون منها ليطبقوها واقع ًا وعم ًال ،وهو �أهل لذلك ،وقد ُعرف عن �شيخ الإ�سالم �سعة علمه واطالعه ،الأمر الذي جعل لقوله ور�أيه قبو ًال ،خ�صو�ص ًا �أنه ميتاز باملو�ضوعية واحلياد فيما يطرح من �آراء ،ومن املعلوم �أنَّ من �أراد �أن يخرج بر�أي �صواب لعامل كرث كالمه وتفرق ،فله يف ذلك �أحد طريقني: الأول� :أن ينظر فيه �إن كان جمم ً ال �أو عاماً �أو مطلقاً ،فال بد و�أن يكون له كالم �آخر ،يبني ما �أجمل ،ويخ�ص�ص ما عمم ،ويقيد ما �أطلق ،فال يحل الأخذ بقوله دون حمله . الثاين� :أن تكون امل�س�ألة �أو املو�ضوع ،له حيثيات متعددة ،لكرثة تعلقاته، فعندها ال بد من بحث كل ما تناوله العامل ،وجمعه يف مكان واحد ،ثم ا�ستقرا�ؤه مبا يدل عليه كالمه منطوقاً �أو مفهوماً ،ثم يذكر ر�أيه فيما بعد. وم�س�ألتنا من النوع الثاين ،الذي نحتاج لأجل الو�صول �إىل ر�أي ال�شيخ ابن تيمية ،لنربز اعتداله فيما نحن ب�صدده ،هي من النوع الثاين ،لذا �سيتم الإ�شارة ب�إجمالٍ �إىل املو�ضوعات التي تبني ر�أي ال�شيخ، ثم التدليل على ذلك من كالمه يف كتبه –رحمه اهلل تعاىل.- تعريف اجلهاد: اجلهاد� :أ�صله من اجلهد ،بفتح اجليم و�ضمها ،الطاقة .واجلهاد: الأر�ض امل�ستوية ،وقيل الغليظة ،وقال �أبو عمرو :الأر�ض اجلدبة، واجلهاد :املبالغة وا�ستفراغ الو�سع يف احلرب �أو الل�سان �أو ما �أطاق من �شيء .ا.هـ الل�سان :جهد133/3 ، قلت :ومن �أ�صل هذه املادة� ،صاغ الفقهاء عبارتهم يف تعريف اجلهاد،
�أ� .سمري مراد ومنهم ابن تيمية –رحمه اهلل تعاىل– فقال" :واجلهاد :هو بذل الو�سع ،وهو القدرة يف ح�صول حمبوب احلق ،ودفع ما يكرهه احلق" ا.هـ جمموع الفتاوى .192/10 لأ َّن اجلهاد حقيقة االجتهاد يف ح�صول ما يحبه اهلل من الإميان والعمل ال�صالح ،ومن دفع ما يبغ�ضه اهلل من الكفر والف�سوق والع�صيان ا.هـ جمموع الفتاوى .191/10 وقال" :واجلهاد ينق�سم �أق�ساماً ثالثة� :أحدها :الدعاء �إىل اهلل تعاىل بالل�سان .والثاين :اجلهاد عند احلرب بالر�أي والتدبري .والثالث: اجلهاد باليد يف الطعن وال�ضرب ...الق�سم الثالث ،وهو الطعن وال�ضرب واملبارزة ،فوجدناه �أقل مراتب اجلهاد بربهان �ضروري، وهو �أ َّن ر�سول اهلل �-صلى اهلل عليه و�سلم -ال �شك عند كل م�سلم يف �أنه املخ�صو�ص بكل ف�ضيلة ،فوجدنا جهاده –�صلى اهلل عليه و�سلم– �إمنا كان يف �أكرث �أعماله و�أحواله بالق�سمني الأولني من الدعاء �إىل اهلل عز وجل والتدبري والإرادة ،وكان �أقل عمله الطعن وال�ضرب واملبارزة ،ال عن جنب ،بل كان �أ�شجع �أهل الأر�ض قاطبة نف�ساً ويداً ،و�أمتهم جندة، ولكنه كان ي�ؤثر الأف�ضل فالأف�ضل من الأعمال ،فيقدّمه وي�شتغل به". ا.هـ منهاج ال�سنة النبوية .88،87/8
11
مقا�صده وغايته: لكل ما �شرعه اهلل تعاىل من �أوامر ونواهٍ ،مقا�صد وحكم ،لأجلها كان الت�شريع ،وحتى تكون هذه املقا�صد واحلكم والعلل� ،ضابطاً يف ثبوت احلكم �أو انتفائه ،ومن هذه الت�شريعات التي ق�صد منها �أمور عظيمة ،اجلهاد يف �سبيل اهلل تعاىل ،ويف هذا يقول ابن تيمية –رحمه اهلل تعاىل" :-و�إذا كان �أ�صل القتال امل�شروع هو اجلهاد ،ومق�صوده هو �أن يكون الدين كله هلل� ،أن تكون كلمة اهلل هي العليا ...وذلك �أ َّن اهلل تعاىل �أباح من قتل النفو�س ما ُيحتاج �إليه يف �صالح اخللق ،كما قال تعاىلَ (:وا ْل ِف ْت َن ُة �أَ ْكبرَ ُ مِ َن ا ْل َق ْتلِ )(البقرة� ،)217 :أي �أ َّن القتل و�إن كان فيه �شر وف�ساد ففي فتنة الكفار من ال�شر والف�ساد ما هو �أكرب" ا.هـ جمموع الفتاوى 354/28 وقال" :واجلهاد مق�صوده �أن تكون كلمة اهلل هي العليا ،و�أن يكون الدين كله هلل ،فمق�صوده �إقامة دين اهلل ،ال ا�ستيفاء الرجل حظه" ا,هـ جمموع الفتاوى .170/15 قلت :وعلى هذا فيكون مق�صود اجلهاد يف �سبيل اهلل تعاىل حتقيق م�صلحة التوحيد هلل تعاىل يف العبادة ،ودفع فتنة الكفر عن النا�س� ،أو ح�صرها يف �صاحبها فال تتعدى �إىل غريه� ،إذ بذلك تبقى مف�سدته على نف�سه فال ي�ضر غريه ،ولهذا قال –رحمه اهلل ": -من املعلوم �أ َّن القتال �إمنا �شرع لل�ضرورة ،ولو �أ َّن النا�س �آمنوا بالربهان والآيات ملا احتيج واجب مطلقاً وجوباً �أ�صلياً ،و�أما للقتال ،فبيان �آيات الإ�سالم وبراهينه ٌ اجلهاد فم�شروع لل�ضرورة" ا.هـ اجلواب ال�صحيح .238/1 مراحل ت�شريع اجلهاد: من الأحكام التكليفية ،ما �شرع على دفعات ،ينتقل ال�شرع بالنا�س من حال �إىل حال ،كتحرمي اخلمر مث ً ال ،وكعقوبة مرتكب الفاح�شة ،ومن هذا النوع عند ابن تيمية ،اجلهاد يف �سبيل اهلل� ،إذ مل ت�شرع جماهدة الكفار �أول الإ�سالم ،حتى �إذا و�صل امل�سلمون �إىل حال ي�ؤهلهم من ممار�سة هذه ال�شعرية ،انتقل الإ�سالم بهم �إىل مواجهة �أهل الكفر . يقول ابن تيمية –رحمه اهلل تعاىل" : -ولأ َّن اهلل ملا بعث نبيه ،و�أمره بدعوة اخللق �إىل دينه ،مل ي�أذن له يف قتل �أحد على ذلك وال قتاله ،حتى هاجر �إىل املدينة ،ف�أذن له وللم�سلمني بقوله�( :أُ ِذ َن ِل َّلذِ َ ين ُي َقا َت ُلو َن ِب�أَ َّن ُه ْم ُظ ِل ُموا َو�إِ َّن اللهَّ َ َعلَى َن ْ�صرِهِ ْم َل َقدِ ي ٌر ا َّلذِ َ ين �أُ ْخر ُِجوا مِ نْ ِد َيارِهِ ْم ا�س َب ْع َ�ض ُه ْم ِب َب ْع ٍ�ض ِب َغيرْ ِ َح ٍّق ِ�إ اَّل �أَنْ َي ُقو ُلوا َر ُّب َنا اللهَّ ُ َو َل ْو اَل َد ْف ُع اللهَّ ِ ال َّن َ ريا َل ُه ِّدمَتْ َ�صوَامِ ُع َو ِب َي ٌع َو َ�صلَ َو ٌات َوم ََ�ساجِ ُد ُي ْذ َك ُر فِيهَا ْا�س ُم اللهَّ ِ َك ِث ً
َو َل َي ْن ُ�ص َر َّن اللهَّ ُ َمنْ َي ْن ُ�ص ُر ُه �إِ َّن اللهَّ َ َل َقوِيٌّ َعزِي ٌز ا َّلذِ َ ين �إِنْ َم َّك َّناهُ ْم فيِ وف َو َن َه ْوا ع َِن المْ ُ ْن َك ِر ْأ ال�ص اَل َة َو�آ َت ُوا ال َّز َكا َة َو َ�أ َم ُروا ِبالمْ َ ْع ُر ِ الَ ْر ِ�ض �أَ َقامُوا َّ الُمُو ِر )(احلج ، )41-40-39 :ثم �إنه �أوجب عليهم القتال َوللِهَّ ِ عَا ِق َب ُة ْ أ بقوله تعاىلُ ( :كت َِب َعلَ ْي ُك ُم ا ْل ِق َت ُال َوهُ َو ُك ْر ٌه َل ُك ْم َوع ََ�سى �أَنْ َت ْك َرهُ وا َ�ش ْي ًئا َوهُ َو َخيرْ ٌ َل ُك ْم َوع ََ�سى �أَنْ تحُ ِ ُّبوا َ�ش ْي ًئا َوهُ َو َ�ش ٌّر َل ُك ْم َواللهَّ ُ َي ْعلَ ُم َو�أَ ْن ُت ْم اَل َت ْعلَ ُمو َن )(البقرة )216ا.هـ جمموع الفتاوى .349/28 وقال –رحمه اهلل تعاىل " :-كان النبي –�صلى اهلل عليه و�سلم– يف �أول الأمر م�أموراً �أن يجاهد الكفار ال بيده ،فيدعوهم ويعظهم، ويجادلهم بالتي هي �أح�سن ،وكان م�أموراً بالكف عن قتالهم لعجزه وعجز امل�سلمني عن ذلك ،ثم ملا هاجر �إىل املدينة �صار له بها �أعوان �أذن له يف اجلهاد ،ثم ملا قووا كتب عليهم القتال ،ومل يكتب عليهم قتال من �ساملهم ،لأنهم مل يكونوا يطيقون قتال جميع الكفار ،فلما فتح اهلل مكة ووفدت �إليه وفود العرب بالإ�سالم� ،أمره اهلل بقتال الكفار كلهم �إال من كان له عهد م�ؤقت ،و�أمره بنبذ العهود املطلقة" ا.هـ اجلواب ال�صحيح .227/1 ويتفرع عن هذا م�س�ألة مهمة ،وهي :هل القتال للكفر وحده� ،أم ال بد معه من ال�صد واملقاتلة؟ يقول ابن تيمية -رحمه اهلل تعاىل ": -و�أما من مل يكن من �أهل املمانعة واملقاتلة ،كالن�ساء وال�صبيان والراهب ،وال�شيخ الكبري ،والأعمى، والزمِ ن ونحوهم ،فال يقتل عند جمهور العلماء� ،إال �أن يقاتل بقوله �أو فعله ،و�إن كان بع�ضهم يرى �إباحة قتل اجلميع ملجرد الكفر� ،إال الن�ساء وال�صبيان لكونهم ما ًال للم�سلمني ،والأول هو ال�صواب ،لأ َّن القتال هو ملن يقاتلنا �إذا �أردنا �إظهار ديننا ،كما قال تعاىلَ ( :و َقا ِت ُلوا فيِ َ�سبِيلِ اللهَّ ِ ين ُي َقا ِت ُلو َن ُك ْم َو اَل َت ْع َتدُوا �إِ َّن اللهَّ َ اَل يُحِ ُّب المْ ُ ْع َتدِ َ ا َّلذِ َ ين)(البقرة)190 :ا.هـ جمموع الفتاوى .354/28 وعليه :ف�إ َّن قتل من مل يقاتل من الكفار لي�س واجباً وال مطلوباً، �إال �إذا با�شرنا باملقاتلة ،فنقتله دفعاً ل�شره ،ولذا قال ابن تيمية –رحمه اهلل تعاىل� " :-إ َّن الأ�صل �أن دم الآدمي مع�صوم ال يقتل �إال باحلق ،ولي�س القتل للكفر من الأمر الذي اتفقت عليه ال�شرائع وال العقول" ا.هـ ال�صارم امل�سلول �ص.104 �شروط حتقق اجلهاد: �إ َّن اجلهاد كغريه من التكاليف ال�شرعية ،بل يزيد عليها ب�أنه يحتاج �إىل قدرات بدنية ومادية ومعنوية،تفوق باقي التكاليف ،ولذا كان له
12
من ال�شروط وال�ضوابط ما ي�صح به التكليف ،وذلك �أنه ال ب َّد فيه من االجتماع ،فال بد فيه من رئي�س ومر�ؤو�س� ،إذ بغري ذلك ال يتم ،وكذلك ال ب َّد فيه من القدرة التي متكن امل�سلمني من حتقيق ما يريدون من الدعوة والن�صر �أو ال�شهادة. القدرة :كان هذا من ال�شروط لوجوب اجلهاد عند ابن تيمية رحمه اهلل تعاىل -قال –رحمه اهلل تعاىل�" :-إ َّن اهلل تعاىل قد �أخرب يف غري مو�ضع �أنه ال يكلف نف�ساً �إال و�سعها .ا.هـ جمموع الفتاوى .216/19 وقال" :وباجلملة ال خالف بني امل�سلمني �أن من كان يف دار الكفر وقد �آمن وهو عاجز عن الهجرة ،ال يجب عليه من ال�شرائع ما يعجز عنها، بل الوجوب بح�سب الإمكان ،وكذلك ما مل يعلم حكمه" ا.هـ جمموع الفتاوى .225/19 وقال" :الأمر والنهي الذي ي�سميه بع�ض العلماء التكليف ال�شرعي، هو م�شروط باملمكن من العلم والقدرة ،فال جتب ال�شريعة على من ال ميكنه العلم كاملجنون والطفل ،وال جتب على من يعجز كالأعمى والأعرج واملري�ض يف اجلهاد ،وكما ال جتب الطهارة باملاء ،وال�صالة قائماً ،وال�صوم وغري ذلك على من يعجز عنه" ا.هـ جمموع الفتاوى .344/10 وابن تيمية ي�ؤكد على بقاء املرحلية والتدرج يف التكاليف ،و�أنها �سنة باقية �إىل يوم الدين ،يقول –رحمه اهلل تعاىل " :-ف�إذا ح�صل من يقوم بالدين من العلماء �أو الأمراء �أو جمموعهما ،كان بيانه ملا جاء به الر�سول �شيئاً ف�شيئاً ،مبنزلة بيان الر�سول ملا بعث به �شيئاً ف�شيئاً ،ومعلوم �أ َّن الر�سول ال يبلغ �إال ما �أمكن علمه والعمل به ،ومل ت�أت ال�شريعة جملة ،كما يقال� :إذا �أردت �أن تطاع ف�أمر مبا ي�ستطاع ،فكذلك املجدد واملحيي ل�سنته ،ال يبلغ �إال ما �أمكن عمله والعمل به ،كما �أ َّن الداخل يف الإ�سالم ال ميكن حني دخوله �أن يلقن جميع �شرائعه وي�ؤمر بها كلها، وكذلك التائب من الذنوب واملتعلم وامل�سرت�شد ،ال ميكن يف �أول الأمر �أن ي�ؤمر بجميع الدين ويذكر له جميع العلم ،ف�إنه ال يطيق ذلك ،و�إذا مل يطقه مل يكن واجباً عليه يف هذه احلال ،و�إذا مل يكن واجباً عليه للعلم والأمر �أن يوجبه جميعه ابتداء ،بل يعفو عن الأمر والنهي مبا ال ميكن علمه وعمله �إىل وقت الإمكان ،كما عفا الر�سول عما عفا عنه �إىل وقت الإمكان ،وال يكون ذلك من باب �إقرار املحرمات وترك الأمر بالواجبات ،لأ َّن الوجوب والتحرمي م�شروط ب�إمكان العلم والعمل ،وقد فر�ضنا انتفاء هذا ال�شرط ،فتدبر هذا الأ�صل ف�إنه نافع" ا.هـ .59،60/20
ومبا �سبق بيانه من �أ َّن اجلهاد مرحلي ،و�أن القدرة �شرط يف حت�صيل التكاليف ،و�أنها ال جتب مع عدم الإمكان ،تبني �أ َّن اجلهاد ي�سقط وجوبه عند عدم التمكن منه �إما ل�ضعف يف العلم والعمل ،و�إما ل�ضعف يف الإعداد لكن يجب الإعداد ما �أمكن . قال ابن تيمية" :وكما يجب اال�ستعداد للجهاد ،ب�إعداد القوة ورباط اخليل يف وقت �سقوطه للعجز ،ف�إ َّن ما ال يتم الواجب �إال به فهو واجب" ا.هـ جمموع الفتاوى .259/28 �إذن ويل الأمر :ويل الأمر م�صطلح �شرعي �أ�صيل ،بات كثري من النا�س ي�ستحيون من ذكره ومذاكرته ،وحتى ندلل على بقائه وعدم انتهائه قبل اخلو�ض يف �أ�صل امل�س�ألة ،ف�أنا �أبني �أن تعدد احلكام والأئمة ال ينفي عنهم هذه ال�صفة قط ،بل �إنه يثبت لكل واحد منهم ،ما يثبت للإمام العام ،يقول ابن تيمية -رحمه اهلل تعاىل" :-وال�سنة �أن يكون للم�سلمني �إمام واحد ،والباقون نوابه ،ف�إذا فر�ض �أ َّن الأ َّمة خرجت عن ذلك ملع�صية من بع�ضها �أو عجز من الباقني �أو غري ذلك ،فكان لها عدة �أئمة ،لكان يجب على كل �إمام �أن يقيم احلدود ،وي�ستويف احلقوق" ا.هـ جمموع الفتاوى .175/34 ومن كان له �إقامة احلدود ،وا�ستيفاء احلقوق ،فال �شك �أ َّن له حق الوالية والطاعة على الرعية� ،إذ لوال واليته ما كان له حق الت�صرف على الرعية ،نعم؛ مل �أجد ن�صاً �صريحاً البن تيمية يف ا�ستئذان الويل، لكن ميكن �أن يقا�س بالأدنى على الأعلى ،حيث ا�شرتط �إذن الوالدين، فمن باب �أوىل �إذن الويل ،لأ َّن م�صلحة العامة من الأ َّمة� ،أوىل من م�صلحة الوالدين ،لأنها م�صلحة قا�صرة. يقول ابن تيمية " :ف�إذا �أراد العدو الهجوم على امل�سلمني ...ويجب النفري �إليه -قلت� :أي العدو -بغري �إذن الوالد وال الغرمي" ا.هـ االختيارات الفقهية �ص ،311قلت :واملفهوم املخالف� :إن مل يكن من ذلك �شيء� ،أي :كان جهاد طلب :وجب �إذن الوالدين ،والويل من باب �أوىل. تعلق اجلهاد بامل�صلحة واملف�سدة :كل عبادة �شرعها اهلل تعاىل� ،إما جللب م�صلحة� ،أو لدفع مف�سدة ،و�أحياناً تتقاطع الأمور وتتعار�ض، فقد تعار�ض مف�سد ٌة م�صلحة ،والعك�س ،فعندها ال ب َّد للفقيه من توجيه الأحكام لتحقيق امل�صلحة ،التي قد تكون بدفع مف�سدة ،بل قد تكون بدفع مف�سدة كربى ب�أخرى �أ�صغر منها ،وهذه قاعدة امل�صالح. يقول ابن تيمية –رحمه اهلل تعاىل" :-وقد تكلمت على قتال الأئمة يف
13
غري هذا املو�ضع ،وجماع ذلك داخل يف القاعدة العامة ،فيما �إذا تعار�ضت امل�صالح واملفا�سد ،واحل�سنات وال�سيئات �أو تزاحمت ،ف�إنه يجب ترجيح الراجح منها ،...ف�إ َّن الأمر والنهي و�إن كان مت�ضمناً لتح�صيل م�صلحة ودفع مف�سدة ،فينظر يف املعار�ض له ،ف�إن كان الذي يفوت من امل�صالح، �أو يح�صل من املفا�سد �أكرث ،مل يكن م�أموراً به ،بل يكون حمرماً �إذا كانت مف�سدته �أكرث من م�صلحته" ا.هـ جمموع الفتاوى .129/28 وقال" :ولهذا ا�ستقر يف عقول النا�س �أنه عند اجلدْب يكون نزول املطر لهم رحمة ،و�إن كان يتقوى مبا ينبته �أقوام على ظلمهم ،لكن عدمه �أ�شد �ضرراً عليهم ،ويرجحون وجود ال�سلطان مع ظلمه على عدم ال�سلطان ،كما قال بع�ض العقالء� :ستون �سنة من �سلطان ظامل خري من ليلة واحدة بال �سلطان" ا.هـ جمموع الفتاوى 54/20 وقال" :ف�إ َّن مدار ال�شريعة على قوله تعاىلَ ( :فا َّت ُقوا اللهَّ َ مَا ْا�س َت َط ْع ُت ْم َو ْا�س َم ُعوا َو�أَطِ ي ُعوا َو�أَ ْن ِف ُقوا َخيرْ ً ا ِ أَل ْن ُف�سِ ُك ْم َو َمنْ ُيو َق ُ�ش َّح َن ْف�سِ ِه َف ُ�أو َلئ َِك هُ ُم المْ ُ ْفل ُِحو َن)(التغابن ، )16:وعلى قول النبي –�صلى اهلل عليه و�سلم�( :إذا �أمرتكم ب�أمر ف�أتوا منه ما ا�ستطعتم) �أخرجاه يف ال�صحيحني ،وعلى �أنَّ الواجب :حت�صيل امل�صالح وتكميلها ،وتعطيل املفا�سد وتقليلها ،ف�إذا تعار�ضت ،كان حت�صيل �أعظم امل�صلحتني بتفويت �أدناهما ،ودفع �أعظم املف�سدتني مع احتمال �أدناهما هو امل�شروع" ا.هـ جمموع الفتاوى .283/28 وقال –رحمه اهلل تعاىل" :-فلهذا يجب على كل ويل �أمر �أن ي�ستعني ب�أهل ال�صدق والعدل ،و�إذا ت�ضرر ذلك ا�ستعان بالأمثل فالأمثل ،و�إن كان فيه كذب وظلم ،ف�إ َّن اهلل ي�ؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر ،وب�أقوام ال خالق لهم ،...فالواجب �إمنا هو الأر�ضى من املوجود ،والغالب �أنه ال يوجد كامل ،فيفعل خري اخلريين ،ويدفع �شر ال�شرين" ا.هـ جمموع الفتاوى .67/28 ومن مل يكن من �أهل اخلربة بال�شرع والواقع ،كان �صعباً عليه �أن يقدر امل�صالح واملفا�سد ،ف� ً ضال عن �أن يكون ذا قدرة يف تقدمي �شيء على �آخر منها ،ولذا قالوا" :لي�س الفقيه من عرف اخلري من ال�شر ،ولكن الفقيه من عرف خري اخلريين و�شر ال�شرين". ال�صلح مع الكفار :لي�س من املعقول بقاء احلروب بني النا�س ،بل ال ب َّد من فرتات ا�سرتاحة تتخللها ،وقد تكون عن �صلح بيتهم ،ولذا كان لهذا ال�صلح �أحكام عند امل�سلمني ،يتعاملون بها مع الكفار حني احلاجة �إليها ،يقول ابن تيمية تعليقاً على حديث ر�سول اهلل –�صلى اهلل عليه
و�سلم�" :-إ َّن ابني هذا �سيد –قلت :يعني احل�سن -و�إ َّن اهلل �سي�صلح به بني فئتني عظيمتني من امل�سلمني" قال" :وهذا احلديث يدل على �أن ما فعله احل�سن من ترك القتال على الإمامة ،وق�صد الإ�صالح بني امل�سلمني كان حمبوباً ،يحبه اهلل ور�سوله ،ومل يكن ذلك م�صيبة ،بل كان ذلك �أحب �إىل اهلل ور�سوله من اقتتال امل�سلمني ،ولهذا �أحبه اهلل و�أحب �أ�سامة بن زيد ودعا لهما ،ف�إ َّن كالمهما كان يكره القتال يف الفتنة" ا.هـ منهاج ال�سنة . 40/4 وهذا يحمل عليه ما ي�شاركه يف امل�صلحة ولو كان مع الكفار ،وي�ؤيده حديث ر�سول اهلل –�صلى اهلل عليه و�سلم– عند �أبي داوود يف م�صاحلة الروم ،وكذلك �صلح احلديبية ،فقال ابن تيمية" :و�صالح امل�شركني �صلح احلديبية امل�شهور ،وبذلك ال�صلح ح�صل من الفتح ما ال يعلمه �إال اهلل؛ مع �أنه قد كان كرهه خلق من امل�سلمني؛ ومل يعلموا ما فيه من ح�سن العاقبة حتى قال �سهل بن حنيف� :أيها النا�س! اتهموا الر�أي ،فقد ر�أيتني يوم �أبي جندل ولو �أ�ستطيع �أن �أرد على ر�سول اهلل �-صلى اهلل عليه و�سلم– �أمره لرددت" ا.هـ جمموع الفتاوى .60/35 ومما �أفاده الإمام ابن القيم وهو خري من ترجم عن �شيخ الإ�سالم قوله حيث قال" :جواز ابتداء الإمام بطلب �صلح العدو �إذا ر�أى امل�صلحة للم�سلمني فيه ،وال يتوقف ذلك على �أن يكون ابتداء الطلب منهم" ا.هـ زاد املعاد .304/3 اخلامتــة: من خالل ما ذكر عن ابن تيمية - ،ف� ً ضال عن كونه يو�ضح �أحوال الأحكام و�أنها تختلف ح�سب الظروف والأ�شخا�ص -ف�إنه ال يحق لأحد �أن يطبق بع�ض فتاوى ابن تيمية على واقعنا ،ملزماً بها النا�س يف هذا الزمان ،مع �أن ظروف الأ َّمة و�أحوالها –حم ً ال على قواعد ال�شرع- تختلف متام االختالف عن زمانه ،وعليه فال يجوز تطبيق تلك الأحكام لتغري ظروف و�أحوال النا�س.
14
التحديات التي تواجه تيار الوسطية د.عبد املح�سن عبد احلميد لقد ورد لفظ ( الو�سط ) يف القر�آن الكرمي يف قوله تعاىل ا�س َو َي ُكو َن ( َو َك َذل َِك َج َع ْل َنا ُك ْم �أُ َّم ًة َو َ�س ًطا ِل َت ُكو ُنوا ُ�ش َهدَا َء َعلَى ال َّن ِ ال َّر ُ�س ُ ول َعلَ ْي ُك ْم َ�شهِيدًا)(البقرة )143:ومعنى الو�سط هنا هو العدل واخليار. قال الإمام الطربي �إمنا و�صفهم ب�أنهم و�سطا لتو�سطهم يف الدين فال هم �أهل غلو فيه غلو الن�صارى .الذين غلوا بالرتهيب وميلهم يف عي�سى ما قالوا فيه وال هم �أهل تق�صري فيه تق�صري اليهود الذين بدلوا كتاب اهلل وقتلوا �أنبياءهم وكذبوا على ربهم وكفروا به ولكنهم �أهل تو�سط واعتدال فيه فو�صفهم اهلل بذلك �إذا كان �أحب الأمور �إىل اهلل �أو�سطها . ويقول ال�شيخ ر�شيد ر�ضا "قالوا �إن الو�سط هو العدل واخليار وذلك �إن الزيادة على املطلوب يف الأمر �إفراط والنق�ص عنه تفريط وتق�صري وكل من الإفراط والتفريط ميل عن اجلادة القومية فهو �شر مذموم فاخليار هو الو�سط بني طريف الأمر املتو�سط بينهما " ،ويتو�سع �سيد قطب يف تطبيقات معنى الو�سط فتنداح كلماته النف�سية لت�شمل الو�سطية يف الت�صور والإعتقاد والتفكري وال�شعور والتنظيم والتن�سيق والإرتباطات والعالقات واملكان والزمان. ولقد طبق ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم يف حياته الو�سطية تطبيقا عمليا لكي تكون �أمثلة حية عليها فتنقلها من التجريد �إىل احلركة والعمل ،فهو يقول ملن جتاوز احلد ( هلك املتنطعون ) �أي املغالون الذين جازوا حدود الو�سط من جانبيه املتطرفني وهو ما رواه عبد اهلل بن م�سعود قال :قال ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم ( هلك املتنطعون ) قالها ثالثا . وعن �أبي هريرة ر�ضي اهلل عنه عن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم قال�( :إن هذا الدين ي�سر ولن ي�شاد الدين �أحد �إال غلبه ف�سددوا وقاربوا واب�شروا وا�ستعينوا بالغدوة والروحة و�شيء من الدجلة) �إىل غري ذلك من الأحاديث الكثرية وال�سنة العملية املعروفة التي تدل داللة قاطعة على �أن حياة النبي �صلى اهلل عليه و�سلم كانت
متثل هذا احلد الو�سط الذي به �صار ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم �شهيدا على امل�سلمني والنا�س �أجمعني والقواعد التي ا�ستنبطها الفقهاء من الكتاب وال�سنة تعرب عن هذه الو�سطية وتر�شد امل�سلمني �إىل تطبيق الأمثل حلقائق الإ�سالم وعقيده و�شريعة و�سلوكا بال جتاوز وال غلو وال تطرف وال انغالق فمثال ذكر – على �سبيل املثال – ال ح�صر امل�شقة جتلب التي�سري واحلرج يرفع وتنزيل احلاجات منزلة ال�ضرورات مينع التع�سف يف ا�ستعمال احلقوق واملجاالت تالحظ والعدالة تراعي العقل ،يعمل به والذرائع ت�سد وال�ضرورات تبيح املحظورات ويعمل بالرخ�ص كما يعمل بالعزمية والتطبيق منوط بالإ�ستطاعة وحتقيق امل�صالح يف �ضوء املقا�صد وهكذا تنزل الن�صو�ص على الوقائع يف ظل تلك الأ�صول والقواعد وهي متنح ال�شريعة الإ�سالمية خ�صوبة حتت�ضن ارفع م�شكالت احلياة فحينئذ ال يبقى �شيء ال يندرج حتت ال�ضرورات �أو احلاجات والتح�سينات وال ميكن �أن يخرج من اطار احلكم التكليفي يف الواجب واملحرم املندوب واملكروه واملباح وقد و�ضعت ال�شريعة لكل ق�سم من هذه االق�سام �أمورا تتفرع عليها وت�سهل تطبيقها وكان النبي �صلى اهلل عليه و�سلم يف �ضوء ذلك ينتقل من البالغ املبني �إىل ر�سم ال�سيا�سة ال�شرعية وتبعه اخللفاء الرا�شدون ر�ضوان اهلل عليهم يف م�سرية احلياة دون اخلروج من هذا املنهج الو�سط الذي ميثل اخلط امل�ستقيم يف حدود العدل واحلرية واجلدير هنا �أن ن�شري �إىل �أمر مهم وهو �أن الو�سطية تنبع من الوحي الإلهي يف الكتاب وال�سنة منطوقا ومفهوما والتحديات التي جابهتها �صنعها تاريخ ال�صراعات التي واجهت امل�سلمني غري �أن هذه الو�سطية التي حملها ال�صحابة الكرام والتابعون لهم ب�إح�سان واملجتهدون الكبار من بعدهم مل تنطم�س معاملها عرب تلك ال�صراعات �إمنا تظهر دائما �شاخ�صة لت�شهد �أن الو�سط هو جوهر الإ�سالم �أ�صوال وفروعا لذلك ف�إنهم رف�ضوا الإنحرافات املتنوعات التي ظهرت يف زمانهم و�أحاطوا بها وا�ستطاعوا �أن يعزلوها عن م�سار الأمة فاخلوارج
15
يف �إنحرافاتهم وجهلهم ب�أ�صول الإ�سالم و�ضوابط الت�أويل وفرق من ال�شيعة الغالية من الباطنية وغريها الذين دخلوا بالإ�سالم فيما لي�س منه وحتريفات الفل�سفات فيما بعد وحماوالتها ت�أويل املنهج الإ�سالمي لكي يوافق ما جاءهم من باطل اليونان والتع�صب للمذاهب الفقهية والطرق ال�صوفية التي خرجت عن موازين امل�شايخ الكبار ال�سابقني الذين فرقوا بني ال�شريعة واحلقيقة مل ت�ستطع �أن تنال حتريف الغالني و�إنحراف املبطلني وت�أويل اجلاهلني ولقد كانت ا�ستجابة املنهج الو�سطي لهذه التحديات ال�ضخمة التاريخية وا�ضحة ولكن ال�سيا�سة وم�صالح الدنيا وال�صراعات االقت�صادية والإجتماعية مكنت املجتمع الإ�سالمي للإنحرافات فقامت بتخريب كبري و�سببت متزيقا وفرقة و�إ�ضرابا بني �أبناء الأمة العربية الواحدة مما كان من �أ�سباب �سقوط املجتمع الإ�سالمي �أيام العدو الترتي من امل�شرق وال�صليبي من املغرب وكان املنقذ دائما هو هذا املنهج الو�سطي الذي �أ�صر على االحتفاظ به ال�سا�سة الواعون والعلماء الرا�سخون املجاهدون يف فرتات التاريخ فانتهى �إىل رد املعتدين كما ح�صل مع جمموعة ال�شيخ عبد القادر الكيالين وال�شيخ عدي بن م�سافر املتعاونني مع �سيا�سة نظام امللك و�آل زنكي و�صالح الدين. غري �أن الذيول حتديات معينة تلك حتدثنا عنها والتي متكنت يف فرتة من مواجهة الغزو ال�صليبي والترتي وا�ست�سلمت الأمة �إىل قرون اجلهل واجلوع واملر�ض والغفلة .واليوم وبعد حماوالت جتديد الفكر الإ�سالمي ا�ستيقظ املارد ومتوجت معه ال�صحوة الإ�سالمية بقيادة املنهج الو�سطي الذي يربط الوحي بالع�صر احلديث والذي قادته يف القرن الرابع ع�شر الهجري مدر�سة ( الأفغاين ،عبده ، ر�شيد ) ومدر�سة الإمام �سعيد النور�سي يف تركيا واملدر�سة ال�سلفية امل�ستنرية يف �شمال افريقيا ومنذ بداية هذه النه�ضة الإ�سالمية، ظهرت حتديات يف غاية اخلطورة �أمام حركة الفكر الإ�سالمي الو�سطي اجلديد حماولة �إعاقتها و�إرجاع عجلة التطور �إىل الوراء بالعودة �إىل �صراعات القرون املا�ضية واثارت م�شكالته من جديد تلك التي اوجدتها ظروف االختالط احل�ضاري واالمتزاج الثقايف مع الأمم الأخرى التي كانت حتيط بح�ضارة اال�سالم والتي نقلت حركة امل�سلمني احل�ضارية من عامل ال�شهادة اىل عامل الغيب و�صراعاته التي �أ�ضرت ب�أهداف املجتمع الإ�سالمي من جديد.
لقد تغريت الدنيا تغريا بالغاً وظهرت فيها م�شكالت جديدة و�صراعات خطرية متنوعة وال �سيما يف ع�صر العوملة الطاغية التي حولت الكرة االر�ضية اىل قرية �صغرية ومع هذا الو�ضع املت�أزم تتجدد حتديات املا�ضي زيادة على حتديات جديدة تدخل يف مواجهات خطرية �ضد املنهج الو�سطي واالعتدايل يف فهم اال�سالم واملر�شح لقيادة امل�شروع النه�ضوي اال�سالمي اجلديد وهو يواجه خماطر العلمانية واملادية الإباحية الغازية.
16
مقاالت الوسطية
ِّ مقومات بناء الحضارة ....المقاصد عملية بناء احل�ضارة هي رحلة تتم يف عقل الفرد ي�ستك�شف حول قاعدة واحدة ،وهي حتقيق امل�صالح ودفع املفا�سد ،وهذا هو فيها قواعد تفكريه وعقله ويحدد فيها �سمات هويته ووجدانه ،ثم الهدف الأ�سمى من جميع العبادات واملعامالت والأحكام ال�شرعية تبد�أ �آثار هذه الرحلة من خالل الظهور يف احلياة والآداب والفنون بل الدين يف جممله ،وامل�صلحة احلقيقية هي التي تعم اجلماعة لتحفر مكانها يف تاريخ الب�شرية ،ولبناء ح�ضارة الإ�سالم ،كانت وال تخ�ص فئة دون �أخرى ،وتنق�سم �إىل ثالثة �أق�سام :املقا�صد اخلطوة الأوىل حتديد حمور هذه احل�ضارة وهو باالتفاق «الن�ص» ال�ضرورية ،واملقا�صد احلاجية ،واملقا�صد التح�سينية. واملقا�صد ال�ضرورية هي ما تقوم عليه حياة النا�س وال بد منها وال�سنة ،ثم يبد�أ امل�سلم يف اخلطوة الثانية بتحديد ب�شقيه الكتاب ُّ ال�ستقامة م�صاحلهم ،و�إذا ُفقدت قواعد تفكريه التي �ستبنى عليها هذه اختل نظام حياتهم ،ومل ت�ستقم احل�ضارة ،ثم بعد ذلك تبد�أ اخلطوة م�صاحلهم ،وع ّمت فيهم الفو�ضى الثالثة والأخرية يف حتديد مقا�صد واملفا�سد ،وقد اتفق العلماء على وغايات هذه احل�ضارة ،وفيها يحدد حتديدها يف خم�سة مقا�صد كلية، امل�سلم هدف وجوده والغاية من وهي :حفظ الدين ،والنف�س ،والعقل، خلقه يف هذا الكون ،وهو ما يعرف والعر�ض (الكرامة الإن�سانية) ،واملال يف الرتاث الإ�سالمي بـ«بق�ضية (الأمالك) ،والإ�سالم �شرع لكل واحد التكليف» ،فبناء احل�ضارة لي�س ب�أمر من هذه اخلم�سة �أحكاماً َت ْك ُفل �إيجاده اختياري لكنه واجب مكلف به كل وتكوينه ،و�أحكاماً َت ْك ُفل حفظه م�سلم. و�صيانته ،وهذه الكليات اخلم�س و�أ�س�س هذا التكليف ثالثة� ،أولها: �ضرورة لبقاء نظام العامل وحفظه، عبادة اهلل ،تلك العبادة التي يجب ولذلك مل تختلف فيها �أو حولها �أن ُتن�شئ �إن�سان العمارة واحل�ضارة، د.علي جمعة قال �سبحانه وتعاىلَ ( :ومَا َخلَقْتُ �شريعة من ال�شرائع ،بل هي مطبقة على حفظها .يقول ال�شاطبي« :فقد ن�س �إِ َّال ِل َي ْع ُبدُونِ * مَا �أُرِي ُد اجلِ نَّ َوالإِ َ مِ ْنهُم مِّن ِّر ْزقٍ َومَا �أُرِي ُد �أَن ُي ْط ِع ُمونِ * �إِ َّن اللهَّ َ هُ َو ال َّر َّز ُاق ُذو ال ُق َّو ِة اتفقت الأمة بل �سائر امللل على �أن ال�شريعة و�ضعت للمحافظة على امل َ ِت ُ ني) (الذاريات ،)58-56:وثانيها :عمارة الأر�ض ،وذلك بن�شاط ال�ضروريات اخلم�س ،وهي الدين والنف�س والن�سل واملال والعقل، التعمري واالمتناع عن ن�شاط التدمري ،قال تعاىل( :هُ َو �أَ َ ن�ش�أَ ُكم وعلمها عند الأمة كال�ضروري» (املوافقات .)31/1 ومل يتفق العلماء على ترتيب معني لهذه املقا�صد ،لأن كال م َِّن الأَ ْر ِ�ض َو ْا�س َت ْع َم َر ُك ْم فِيهَا) (هود� ،)61:أي طلب منكم عمارتها، وقال �سبحانهَ (:و َال َت ْع َث ْوا فيِ الأَ ْر ِ�ض ُم ْف�سِ دِ َ ين) (البقرة ،)60:منهم نظر �إليها من وجهة معينة .وقد �أ�شار تاج الدين ال�سبكي وثالثها :تزكية النف�س قال عز من قائلَ ( :ق ْد �أَ ْفلَ َح مَن َز َّكاهَا * �إىل �أن ال�ضروري قد يكون دينياً وقد يكون دنيوياً ،وعند تعار�ضهما اب مَن د ََّ�ساهَا) (ال�شم�س ،)10-9:وهذه الأ�س�س الثالثة تدور يالحظ �أن بع�ض العلماء يرى تقدمي ال�ضروري املتعلق بالدين َو َق ْد َخ َ
17
على ال�ضروري املتعلق بالدنيا ،لأن الأول ثمرته ال�سعادة الأبدية، والثاين ثمرته ال�سعادة الفانية .وذهب بع�ض العلماء �إىل القول بتقدمي ال�ضروري املتعلق بالدنيا على ال�ضروري املتعلق بالآخرة، وذلك لأن حق الآدمي مبني على ال�شح وامل�ضايقة ،وحق اهلل تعاىل مبني على امل�ساحمة وامل�ساهلة ،ولهذا كان حق الآدمي مقدماً على حق اهلل ملا ازدحم احل َّقان يف حمل واحد وتعذر ا�ستيفا�ؤهما منه، كما ُي َق َّد ُم �أدا ُء ال َّد ْين على زكاتي املال والفطر( .الإبهاج �شرح املنهاج .)241/3 و�أرى �أن الرتتيب املنطقي لهذه املقا�صد �أو الكليات اخلم�س هو :النف�س ثم العقل ثم الدِّين ثم العر�ض (الكرامة الإن�سانية) ثم املال ،ومدار منطقيته �أن املحافظة جتب �أو ًال على النف�س التي بها تقوم الأفعال والأحكام والتكاليف ،ثم على العقل ،لأن التكليف يناط به ،ثم على الدين الذي يهذب النف�س بالعبادات ،ثم ت�أتي بعد ذلك الكرامة ال�شخ�صية والأمالك العينية ،ومثال ما �أقره ال�شرع من تقدمي ما يتعلق بالنف�س على ما يتعلق مبطلق التعبد �أن ال�شرع �أباح �أكل امليتة للم�ضطر ،وفيه تقدمي املحافظة على النف�س على الأمر ال�شرعي ،فمن �أو�شكت نف�سه على الهالك لزمه �شرعاً �أكل امليتة �أو اخلنزير �أو �شرب اخلمر ،لأن تاركه �سا ٍع يف هالك نف�سه وقد قال تعاىلَ ( :و اَل َت ْق ُت ُلوا �أَ ْن ُف َ�س ُك ْم �إِ َّن اللهَّ َ َكا َن ِب ُك ْم َرحِ ي ًما) (الن�ساء.)29: �أما املقا�صد احلاجية ،فقد ع ّرفها ال�شاطبي فقال« :ما يفتقر �إليه من حيث التو�سعة ،ورفع ال�ضيق امل�ؤدي يف الغالب �إىل احلرج وامل�شقة الالحقة بفوت املطلوب ،ف�إذا مل ُت َراعَ ،دخل على املكلفني على اجلملة احلرج وامل�شقة ،ولكنه ال يبلغ مبلغ الف�ساد العادي املتوقع يف امل�صالح العامة» (املوافقات ،)21/2فاحلاجيات َم ْر َت َب ٌة دون ال�ضروريات ،لأنه ال يرتتب على فقدها اختالل نظام احلياة .وقد راعت ال�شريعة حتقيق املقا�صد احلاجية ورفع احلرج ِّين مِ نْ َح َر ٍج) عن املكلفني ،قال تعاىلَ ( :ومَا َج َع َل َعلَ ْي ُك ْم فِى الد ِ (احلج ،)78:وتقول ال�سيدة عائ�شة �أم امل�ؤمنني عن ُخ ُلق ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلمَ « :و َال ُخيرِّ َ َبينْ َ �أَ ْم َر ْي ِن َق ُّط �إِ َّال ْاخ َتا َر �أَ ْي َ�س َرهُ َما» (رواه �أحمد) ،ولأجل احلاجيات �شرعت الرخ�ص والكفارات والفدية وغري ذلك ،و�ش ّرع التيمم بد ًال عن التطهر باملاء عند فقده ،واجلمع
بني ال�صالتني ،وق�صر ال�صالة الرباعية يف ال�سفر ،و�إباحة الفطر للمري�ض وامل�سافر. �أما املقا�صد التح�سينية فع ّرفها ال�شاطبي ب�أنها« :الأخذ مبا يليق من حما�سن العادات ،وجتنب الأحوال املدن�سات ،التي ت�أنفها العقول الراجحات ،ويجمع ذلك ق�سم مكارم الأخالق» (املوافقات ،)22/2والأمثلة على ذلك كثرية مثل انتخاب الأطيب يف الزكاة والنفقة ،قال تعاىلَ ( :يا �أَ ُّيهَا ا َّلذِ َ ين �آ َم ُنوا �أَ ْن ِف ُقوا مِ نْ َط ِّي َباتِ مَا الَ ْر ِ�ض َو اَل َت َي َّم ُموا الخْ َ ِب َ يث مِ ْن ُه َك َ�س ْب ُت ْم َوممِ َّ ا �أَ ْخ َر ْج َنا َل ُك ْم مِ َن ْ أ ُت ْن ِف ُقو َن) (البقرة ،)267:ومثل معا�شرة الزوجة بالإح�سان والرفق، وف َف�إِ ْن َكرِهْ ُت ُموهُ نَّ َف َع َ�سى �أَ ْن قال تعاىلَ ( :وعَا�شِ ُروهُ نَّ ِبالمْ َ ْع ُر ِ ريا) (الن�ساء.)19: َت ْك َرهُ وا َ�ش ْي ًئا َو َي ْج َع َل اللهَّ ُ فِي ِه َخيرْ ً ا َك ِث ً وبذلك جنح امل�سلمون الأوائل يف بناء ح�ضارتهم ،فجابوا بها الآفاق و�أ�صبحوا مثا ًال مل ينجح �أحد يف تكراره �إىل يومنا هذا، والدور الآن على الأجيال احلا�ضرة يف العودة مرة �أخرى لبناء احل�ضارة و�أعمار الأر�ض وتزكية النف�س وعبادة اهلل حق عبادته، واهلل امل�ستعان.
18
نكران الذات والمددُ الرباني كنا تائهني �ضائعني م�ش َّردين هنا وهناك ،ف�أدر َكنا اهلل برحمته �أيها البطل الذي نذر روحه للحقيقة! هذا هو القلق الذي َ و�أبلغنا بف�ضله وكرمه مواطن من اخلري والعطاء يتعذر �أن ن�صل ينبغي �أن ميور يف �أح�شائك مورا ،ويهز كيانك هزا كي ال تنقطع �إليها بحولنا وقوتنا� .إننا ن�ؤمن جتليات الرعاية الربانية .ومن ثم ،كلما عظم النجا ُح الذي مت على �إميانا قاطعا �أننا نتفي�أ يف يديك ،بال ْغ يف نكران ذاتك ،و�أوغِ ْل يف حمو نف�سك ،وتذ ّل ْل �أمام ظالل العناية الربانية. اهلل ،وانك�سر بني يديه ،و�أمعِنْ يف العبودية له .ذلك �أحرى بك بعد الت�أكيد على هذه ِ�س هذه الفكرة يف كي ال تن�سحق حتت �أثقال �أنانيتك .اغر ْ احلقيقة ،من املفيد �أن روحك ،وث ّب ْتها يف قلبك حتى ت�صبح جزءا من كيانك وبعدا �أنبه �إىل �أمور مهمة من �أبعاد طبيعتك .كان النبي �صلى اهلل عليه و�سلم يبكي ينبغي االلتزام بها حتى �صباح م�ساء مت�ضرعا ويقول" :يا حي يا قيوم ،برحمتك ال ينقطع الت�أييد الإلهي �أ�ستغيث� ،أ�صلح يل �ش�أين ك َّله وال تكلني �إىل نف�سي َ والعطاء الرباين الذي اتخذت هذا الدعاء وِردا لك، طرفة عني" .ف�إن ال يفت�أ يهطل على ر�ؤو�سنا ال يفارق ل�سا َنك وال قل َبك ،فقد ُوقِيتَ من كالغيث يف هذه الأيام. االن�سحاق حتت حوافر النف�س اجلموح.
محَ ْ ُو الذات
ينبغي �أن نقنع "�أنف�سنا" �أنه لي�س لنا ي ٌد يف ح�صول هذا اخلري العميم .فالنجاح كل النجاح لطف من اهلل وف�ضل من لدنه و�إح�سان. �شوائب ال�شرك ،و�أجنيناها من أنف�سنا َ ف�إذا �آم ّنا بذلك فقد ج ّنبنا � َ النف�س َت ُ�ض ّخها يف دواخلنا لكي ّ ت�ضخم �أنانيتنا. الأوهام التي تظل ُ ُ بل يح�سن �أن نقول" :يف احلقيقة ،لو مل �أقحِ ْم نف�سي يف هذا الأمر، لوجد له رجاال خريا مني يف �إخال�صهم و�صدق متثيلهم ،ولقطعتْ القافل ُة م�سافات وا�سعة � َ أ�ضعاف ما قطع ْته حتى اليوم .وا �أ�سفاه ،فلوال كدورة نف�سي لتج ّلى املد ُد الإلهي وفق �صفائه املقد�س على اخلدمة الإميانية .وا ح�سرتاه ،فقد ارتطمت جتلياته بفريو�سات �أنانيتي وحتطمت على �ضعفي و�سيئاتي� .أجل ب�سببي �أنا تعرثنا وت�أخرنا عن املواقع التي ق�صدناها ،وابتعدنا عن املراقي التي حلمنا بها" .بل ينبغي تكرار هذا ال�س�ؤال" :يا نف�س ،كم �إن�سانا قتلتِ حتى اليوم!؟.. كم �إن�سانا كان يبحث عن احلقيقة فتعرث بك وفقدها �إىل الأبد!؟".
فتح اهلل كولن
جعجعة الأنانية
ينبغي �أن نعلم يقينا �أن اخللل والف�شل ال يقعان �إال مبا ك�سبت ُ العائق الأكرب لكل خدمة �إميانية .وما يتم �أيدينا ،و�أن النف�س هي ُ حم�ض �إكرا ٍم منه ج ّل وعال ،فاخلري كل من توفيق و�إجناز ،فهو اخلري من اهلل وحده� .أما مقولة (�إِنمَّ َ ا �أُوتِي ُت ُه َعلَى عِ ْل ٍم عِ ْندِ ي) (الق�ص�ص ،)78:فلم يقلها �إال "قارون" حينما ظن نف�سه م�صدر الأرزاق والنعم .و�إنها َلعبارة مل يزل كل قارون وفرعون يرددها عرب التاريخ� .أما الأنبياء وعلى ر�أ�سهم �سيد الأنبياء �صلى اهلل عليه و�سلم فقد كانت كلمتهم واحدةَ ( :ال �أَ ْمل ُِك ِل َن ْف�سِ ي َن ْف ًعا َو َال َ�ض ًّرا �إِ َّال مَا َ�شا َء ُ اهلل)(الأعراف .)188:فمن ْ يقل" :فعلتُ �أناُ � ، أجنزت �أنا، جنحتُ �أنا ،لو مل �أكن �أنا "...فمعناه �أنه واقع يف م�ستنقع �آ�سن من التفكري الفرعوين .يقول �سيدنا ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم ري لك من ُح ْمر ال َّن َعم" .فلو "ل ْأن َيهدي اهلل بك رجال واحدا خ ٌ هدى اهلل ماليني من النا�س على يديك ،فن�سبتَ تلك الهداية �إىل
19
نف�سك ،فقد �أحبطتَ عملك ،ورميت بنف�سك يف َلظى النار وحرمتها "ما بال هذا الرجل يطيل احلديث عن نف�سه ،وين�سب اخلري �إليها، يف حني �أن اهلل تعاىل هو �صاحب املواهب واملنن كلها ،وهو امل�ستحق من النعيم املقيم. الوحيد للحديث عنه". ال َغرية املقد�سة ُنظر حيث �أقم َته عندما ي�ستقر يف قلب امل�ؤمن ال�شعو ُر التا ّم ب�أن اخلري كله ا ْ �إذا � َ وهمه أردت �أن تعرف عند اهلل مقامك ،فانظر حيث �أقم َته من والتوفيق كله من اهلل وحده ،ي�أبى �إال �أن يكون �شغ ُله ال�شاغ ُل ُّ الدائم هو احلديث عنه �سبحانه ،وال َغري َة من كل قول يقال يف نف�سك .ما مدى حبك له؟ ما نوعية ال�صلة التي �أقمتها بينك علي وبينه؟ عليك �أن تراقب �سلوكك �إزاء هذا الأمر دائما ،وتظل يقظا غريه عز �ش�أنه .ي�أتي بع�ض النا�س �أحيانا فيقول ب�إ�سهاب "قر�أ ّ الكتاب الفال َّ ين كذا عد ٌد من النا�س� "...أو "ي�شارك يف درو�سي كذا ومتحفزا با�ستمرار .ف�إذا كانت عالقتنا به وثيقة متينة ،ف�سوف َ عد ٌد من �أ�صحاب الثقافة العالية ،"...بينما ال�صحيح �أن ُن�سهِب ن�ستغ ّل كل �سانحة للو�صول �إليه وللحديث عنه ،وبالتايل �سيكون يف احلديث عن �ش�ؤون اهلل دائما ،و�أن نكون غيورين يف ذلك �أميا وحده هو املعروف ،هو املذكور ،هو امل�شكور ،و�سوف يخفق قلبنا غرية. مبعيته يف قيامنا وقعودنا ،و�سوف َن َرى �أثره على الكائنات يف كل كثريا ما جند عاطفة الأبوة والأمومة ت�سيطر على بع�ضهم ،طرفة عني ،و�سوف نغلق �أبواب ت�أمالتنا على ما �سواه. ف�إذا ما جاء ذكر الأبناء يف جمل�س ما ،انتهزوا الفر�صة لكي �سر التوفيق يتحدثوا عن �أبنائهم .كذلك نرى من يتحني الفر�ص للحديث �إن �أعظم و�سيلة جللب العون الإلهي والتوفيق الرباين ت�أ�سي�س عن مهاراته يف الكتابة وبراعته يف اخلطابة .وهذا �سلوك �سيء ال التوافق وحتقيق التوحد بني �أفراد املجتمع .فغنيمة التوفيق لها يقظ �أبدا .فالأحرى بنا �أن نرتقب الفر�صة بعد ُغرمُهاُ . يليق ب�إن�سان نا�ضج ٍ وغر ُمها هو تر�سيخ الوعي اجلماعي ،واحلفاظ على �سر الأخرى لكي نتحدث عن اهلل �سبحانه .ف�إذا جاء ذكر الوفاء مثال ،التوافق وروح االتفاق ،واالبتعاد عن كل نزاع و�شقاق .ف�إذا �أ�صبحنا ينبغي �أن نخرتق الكالم فنقول "ومن �أعظ ُم من اهلل وفاء؟! �إن كيانا متوحدا وك ًّ ال متوافقا ،ف�سوف تتنزل علينا من الألطاف ما اهلل �أوفى الأوفياء! "..ثم ن�سرت�سل يف احلديث عن وفاء اهلل عز ال عني ر�أت وال �أذن �سمعت وال خطر على قلب ب�شر ،و�سوف منتلك ُ التوافق وجل لعباده .و�إذا ما َتط ّر َق �أحدُهم �إىل مفهوم احلق و�إحقاقه القدرة على رفع �أحمالٍ �أثق َل من جبل قاف� .أما �إذا زال لأهله مثال ،علينا �أن ن�سرع فنقولَ ( :ومَا َق َد ُروا َ ُ ّ اهلل َح َّق َق ْد ِرهِ) �ضعاف من حولنا ،فلن االتفاق ،ومل يبق �سوى ب�ضعة رجال وتبخر ٍ أخرجنا من العدم ووهبنا لبا�س الوجود ،ومل ي�أتي املدد الإلهي حتى لو بذلنا ق�صارى جهودنا .ف�إننا �إن قطعنا (الزمر ،)67:فقد � َ منحنا احلياة ،ومل يكتفِ بنفخ الروح يف �أبداننا ،حبل االتفاق فيما بيننا ان َت�سفتْ مناج ُم قوتنا ومناب ُع طاقتنا ،وكنا يرتكنا جمادا ،بل َ بل ك ّرمنا ورفعنا �إىل مقام الإن�سانية ،ثم �ش ّرفنا بالإميان ،ومل �سببا يف انقطاع ُغيوث الرحمة علينا والعون لنا .لذا ،يجب �أن نركز ينقطع ف�ضله عند هذا احلد ،بل �أكرمنا ب�أن �أدخلنا رحاب خدمة جهودنا كلها لكي نبقى متما�سكني متا�سك الفوالذ وم�شدودين �إىل الإميان والقر�آن" .نعم ،علينا �أن ن�ؤكد ذلك ،ونبدي غرية -يف هذا بع�ضنا كالبنيان املر�صو�ص .وها هو القر�آن يعلن عن مر�سومه ال�ش�أن -منقطعة النظري. هلل َف ْو َق �أَ ْيدِ ي ِه ْم)(الفتح ،)10:ومن هنا ف�إن اخلالد بقولهَ ( :ي ُد ا ِ فما بالنا ندور باحلديث حول هذا الأمر �أو ذاك ال�شخ�ص ،يف اللطف وال�سند الذي ينزل على الأفراد لن يداين حج َم اللطف ني �أن هناك واحدا �أحدا جديرا ب�أن تدور كل الأحاديث حوله ليل وال�سند الذي ينزل على اجلماعة املتوحدة �أبدا ،حتى و�إن كان ح ِ نهار .بل �إذا �سم ْعنا �أحدَهم يقول "لقد �ألقيتُ كلمة يف حفل كذا ،ه�ؤالء الأفراد عمالقة يف العلم والعرفان ،جباال يف الزهد والتقوى، فت�أثر النا�س من كالمي و�سالت دموعهم ،وقالوا عن كلمتي كذا وحيدي �أزمانهم يف مواهبهم الذاتية و�إقبال النا�س عليهم وتقربهم وكذا "...فينبغي �أن يبلغ بنا اال�ستياء �إىل حد املر�ض والت�أمل فنقول من اهلل جل وعال.
20
اصطفوا وطني ًا ..اصطفوا ديمقراطي ًا يثور بني الفينة والأخرى احلديث عن مو�ضوع احلوار بني �أخرى .ويف �أحايني �أخرى ،تنجر بع�ض ال�صحف �إىل ت�ضخيم «الإ�سالميني» و«العلمانيني» ،ك�أننا �أمام مو�ضوع بكر مل يلجه �أحد ،اخلالف والتوتر ،على �أ�سا�س �أن كل ما يت�سم بالهدوء والرزانة ال ي�ستحق الن�شر وال يعطي مادة �إعالمية مثرية وذات حيوية ،وهي �أو �أمام ابتكار مل ي�أت به �أحد من قبل. واحلقيقة �أ َّن جميع الفرتات احل�سا�سة من التاريخ املغربي يف ذلك تطبق املقولة املعروفة «�إذا ع�ض كلب �إن�ساناً فذلك خرب ال ي�ستحق الن�شر ،و�إذا ع�ض �إن�سان كلباً املعا�صر -كما يف تاريخ جمتمعات فهو خرب للن�شر». كثرية مماثلة� -شهدت جتارب غنية ويف كثري من املجتمعات ،تقوم من التفاهم والتعاون بني الفئات جهات من �أ�صحاب امل�صالح با�صطناع الأو�سع من الطرفني ،و�أ�ضحى ا�صطفاف مماثل بني طرفني، االدعاء بوجود تناق�ض مطلق وت�ضخيمه ،وا�ستغالله؛ ففي بينهما �إىل درجة تعذر احلوار م�صر ،مث ً ال ،تقف جهات نافذة وراء وتعذر التالقي والتعاون يف �أمور التوترات التي تتفجر بني الفينة م�شرتكة متجاوزا منذ زمن ،بفعل والأخرى بني امل�سلمني وامل�سيحيني. الواقع وبفعل التجارب الغنية التي وقد حتدثت التقارير عن �أ َّن وزير ت�سري يف االجتاه املعاك�س ،فالفئات الداخلية ال�سابق يف عهد الرئي�س الأو�سع من الفريقني منخرطة فيه، املخلوع مبارك ،حبيب العاديل ،كان وهي التي ت�شغل منطقة الو�سط يف �أ.د�.سعد الدين العثماين وراء تفجري كني�سة القدي�سني ،و�أ َّن كليهما ،بعيداً عن الت�شنج والت�شدد م�صاحله كانت وراء اختيار املنفذين والإق�صاء؛ فيقرتب م�سمى العلمانية والتوقيت و�أدوات التنفيذ. من كونها تدبرياً �إجرائياً ل�ش�ؤون وتقوم جهات معينة يف �أوروبا بت�أجيج التوجهات العن�صرية املجتمع والدولة ،وتدبرياً �سلمياً للخالف بني الفرقاء ال�سيا�سيني واملدنيني ،وتتبنى الإ�سالمية مرجعية جامعة للأمة حتافظ على و�صنع التوترات بني امل�سلمني وامل�سيحيني �أو اليهود هناك ،منعاً احلريات العامة واخلا�صة وتعترب االختالف �إثراء للفكر والتدافع لأي ا�ستقرار �أو اندماج بني امل�سلمني. وت�ستغل اجلهات التي ت�ؤجج التوتر بني «الإ�سالميني» ال�سلمي والدميقراطي �أ�سا�س العالقة بني الفرقاء داخل املجتمع. لكن �سرعان ما تثور التوترات اجلانبية بفعل عدم التب�صر من و«العلمانيني» ،مع الأ�سف ال�شديد ،نقاط �ضعف كثرية يف واقعنا جهة ،وبفعل ت�ضخيم فرتات التوتر التي تظهر يف ظروف �أو ال�سيا�سي واالجتماعي. فهناك� ،أو ًال ،ثقافة التفرق والنزوع نحو التف�سريات الب�سيطة �سياقات خا�صة ،وخ�صو�صاً فرتات االن�سداد ال�سيا�سي ،من جهة
21
لتف�سري الأحداث والأمور؛ وهي جتد جذورها يف حالة التخلف التي تعرفها دولنا و�شعوبنا ،وتظهر �سماتها لي�س فقط يف ت�ضخيم ما ي�سمى «ال�صراع الإ�سالمي العلماين» ،و�إمنا �أي�ضاً يف تفجري �صراعات داخل كل منظومة على �أ�س�س طائفية �أو عرقية �أو مذهبية �أو غريها .وهي مقاربات ال متلك من �سبيل للتعامل مع املجتمع واجلهات املدنية وال�سيا�سية والدولة والعامل اخلارجي غري �سبيل االتهام والقطيعة ،و�أحيانا ال�ضغينة وا�ستعمال العنف. وهناك ،ثانياً ،التوظيف ال�سيا�سي لل�صراع بني الطرفني من قبل �أطراف خارجية �أو داخلية ،وهي يف الغالب لي�س من م�صلحتها تو�سيع امل�شاركة ال�سيا�سية وتطوير الدميقراطية ون�شر العدالة االجتماعية .ويقف وراء كثري منها لوبيات تريد احلفاظ على هيمنتها ال�سيا�سية واحتكارها للرثوات ،ومن ثم فهذه اللوبيات ت�سعى �إىل عرقلة �أي عمل جبهوي يف االجتاه املذكور ،وتعمل على تغذية اخلالفات وال�صراعات. كما �أ َّن الكثري من ال�صراعات لي�ست ب�سبب اخلالف الفكري �أو اختالف وجهات النظر ،و�إمنا ب�سبب ت�ضارب امل�صالح وحماوالت الإق�صاء من �أحد الطرفني للآخر. واليوم ،تعي�ش �شعوب املنطقة هبة دميقراطية مباركة ،يبا�شرها كل �شعب بطريقته .وحاول الكثريون ا�ستعمال ذات الأ�سلوب� ،أ�سلوب التفرقة و�صنع ال�صراعات الداخلية ،ملنع التوجهات الدميقراطية والإ�صالحية ،وكرثت اال�صطفافات امل�صطنعة ،وبد�أ �ضرب بع�ض الدميقراطيني ببع�ض ،تكري�سا للهيمنات املوجودة. ومن هنا يعترب الوعي برهان التخلي عن �أي �صراعات جانبية والرتكيز على معركة الدميقراطية والإ�صالحات ال�سيا�سية، حتقيقاً ال�ستقرار دولنا و�شعوبنا وتقدمها ومنائها� ،أمراً م�ستعج ً ال ونقطة انطالق لبناء امل�ستقبل .وعندما يتحقق احلد املقبول من الدميقراطية� ،آنذاك ميكن للجميع �أن يدافع عن فكره ور�أيه بحرية ودون �أي �إق�صاء. و�أمام التحوالت التي تعرفها بالدنا اليوم ،والتي يريد منها ال�شعب حتوال دميقراطيا حقيقيا ،من ال�ضروري وقوف كل
الدميقراطيني وكل من ين�شدون الدميقراطية يف �صف واحد. وكالعادة� ،ست�ؤجج جهات م�صلحية الرتا�شقات بني الأطراف، و�ستحاول جهات باحثة عن منافع �شخ�صية �آنية �إبقاء ال�صراعات املزعومة م�شتعلة ،لكن املطلوب من اجلميع الوعي ب�أن اللحظة الدميقراطية تقت�ضي �أال ي�صطفوا م�صلحياً و�أال ي�صطفوا �إيديولوجيا ،و�إمنا تقت�ضي �أن ي�صطفوا وطنياً وي�صطفوا دميقراطياً.
امل�ساء املغربية
22
الشباب ُ َّ صناع التغيير كان جي�ش الر�سول � -صلى اهلل عليه و�سلم -يف بدر �شبابا خرجوا معه لإخراج النا�س من الظلمات �إىل النور ،فحطموا الأ�صنام ،ودا�سوا الأزالم ،وحذفوا ر�ؤو�س الأقزام ،وا�ستمر ال�شباب يف كل �أمة ويف كل جيل ي�صنعون �أملها املن�شود وجمدها املوعود. والذي �شرح خاطري يف �شباب تون�س وم�صر الذين �صنعوا التغيري �أنهم جمعوا بني الإميان والعمل ..الإميان باهلل ربا ،وبالإ�سالم دينا، ومبحمد � -صلى اهلل عليه و�سلم -ر�سوال ،والعمل من �أجل حياة كرمية وح�ضارة راقية وجمتمع �سليم معافى ،كانوا ي�صلون ال�صلوات اخلم�س يف امليدان ،ويحفظون الأمن ،وينظفون ال�سكك ،ويداوون اجلرحى، وينظمون املرور ،جمعوا بني ثقافة امل�سجد وامل�صنع ،وامل�صلى وال�شركة، وامل�صحف وامليدان ،والقلم وامل�شرط والري�شة ،ف�أذهلوا العامل ب�إميانهم و�صربهم وثقافتهم. كنت قبل �أ�سبوع يف الهند مع بع�ض الدعاة ال�سعوديني ،فزرنا خم�س جامعات يف والية كجريات وجمعية العلماء بنيودلهي وندوة العلماء بلكنو ،فوجدنا �شبابا م�ؤمنا باهلل جمع بني درا�سة �صحيح البخاري والـ«في�س بوك» ،بني الت�سبيح وتعلم الكيمياء ،بني �إتباع ال�سنة ودرا�سة الكون ،وكان �أ�ستاذهم يف الهند الدكتور �أبو الكالم الفيزيائي امل�سلم امل�صلي الذي اكت�شف القنبلة الذرية ،ف�أكرمه ال�شعب الهندي ب�أن توجه رئي�سا للهند ،كان عنده معمل فيزيائي معه ثمانية موظفني� ،إذا �أذن امل�ؤذن ترك العمل ،وذهب �إىل امل�سجد ،وهذا الذي نريده من ال�شباب. وعجبي من �شباب مفل�سني حمبطني فا�شلني لي�سوا ناجحني يف الدين وال يف الدنيا ،بل جتدهم متذمرين من الطاعة هلل ،عندهم خجل من التدين ،ما �أخذوا من الغرب �إال ركوب الـ«بنز» ،ولب�س اجلنز، ف�صار �أحدهم كالعنز ،قلوبهم فارغة من الإميان ،و�أدمغتهم فا�ضية من الثقافة واملعرفة ،وهم ممتازون يف ال�سهر ال�ضائع وقتل الوقت يف نفث �سجائر الدخان والأحالم الوردية والو�ساو�س ال�شيطانية� ..صلينا �صالة اجلمعة يف الهند يف اليوم الذي �سقط فيه ر�أ�س النظام امل�صري فيما يقارب ع�شرين �ألف �شاب م�سلم در�سوا علم ال�شريعة والريا�ضيات والكيمياء والفيزياء ،و�أخذوا يدعون اهلل �أن ين�صر ال�شعب امل�صري كما ن�صر ال�شعب التون�سي ،فهم يحملون ر�سالة الإ�سالم التي جمعت بني الأبي�ض والأحمر والأ�سود ،وبني العربي والهندي والفار�سي والرتكي والكردي وكل �أجنا�س الب�شر. �إن الأمة الإ�سالمية ال ي�صنع تغيريها �إىل الأف�ضل والأجمل والأكمل �إال �شباب م�ؤمن يعرتف بالقبلة وامل�صحف وال�شريعة ،م�ؤمن بالعمل،
د.عائ�ض القرين
وينت�شر بعد ال�صالة �إىل املكتب والثكنة والعيادة واملزرعة واجلندية واجلامعة وال�سوق ،ي�شارك يف �صنع احلياة ،فيبني ويعمر ،ويخطط ويهند�س ،ويحرث الأر�ض ،ويبيع وي�شرتي ،ويحر�س الأمة ،ويكون ع�ضوا �صاحلا يف املجتمع امل�سلم. ال نريد �شبابا فاجرا ي�ستهزئ بالديانة ،ويخون الأمانة ،ال ي�شارك يف �صنع احلياة ،و�إمنا هو غدة زائدة يف اجل�سم ،و�صفر مهمل يف عدد الأمة، من �أين �أتتهم الفكرة التي تقول :لن يح�صل تقدم دنيوي �إال بالتنكر للدين؟! «كربت كلمة تخرج من �أفواههم �إن يقولون �إال كذبا» .لقد �شاهدنا ال�شباب امل�سلم الناجح يف ال�شرق والغرب الذي ح�صل على �أعلى ال�شهادات و�أعظم اجلوائز يف كل تخ�ص�ص ،وهو يحافظ على ال�صلوات اخلم�س ،ور�أينا ال�شباب الفا�شل املهزوم امل�سحوق وقد تنكر للعبادة، فف�شل يف الدرا�سة والوظيفة والإنتاج ..نريد �أن جنمع بني امل�سجد وامل�صنع ،واجلامعة وامليدان ،وامل�صحف واملخترب ،بني املجد يف الدنيا والنجاة يف الآخرة ،و�أعوذ باهلل من الكفر والفقر والفجور والك�سل. يقول اهلل تعاىل يف كتابه عن ال�شباب امل�ؤمن �صانع التغيري�( :إِ َّن ُه ْم ِف ْت َي ٌة �آ َم ُنوا ِب َر ِّب ِه ْم َو ِز ْد َناهُ ْم هُ دًى) (الكهف.)13 :
23
االتجاه نحو الوسطية
د.الهادي بوحمره
مع �أن املقرر �شرعا وعقال �إن خري الأمور �أو�سطها وان �ضرورة التمييز بني التعبري احلر والتعبري احلاقد ورف�ض الف�ضيلة بني رذيلتني� ،إال �إن الو�صول �إىل ما ميكن اعتباره عدال اخلطاب الذي يح�ض على الكراهية ويتعار�ض مع ثوابت املجتمع. بني م�سلكني يحتاج �إىل قدر من التجربة على امل�ستوى الفردي ومن ال�سرت املطلق �إىل الدعوة �إيل ال�شفافية املطلقة ومنهما واجلماعي التي حتتاج بدورها �إىل قدر من الزمن قد يتقل�ص �إيل نهج يعتمد ال�شفافية كالزم من لوازم النهو�ض والردع مع باال�ستفادة من التجارب املقارنة .كما �إن ذلك قد يحتاج يف بع�ض �إحاطتها ب�سياج ي�ستوجبه �سرت الأعرا�ض والأمن الوطني وغريه امل�سائل �إىل جتربة �أو على الأقل �إىل الفح�ص النظري الدقيق من امل�صالح العليا للدولة. ومن �سيطرة القطاع العام �أو القطاع اخلا�ص على الن�شاط
لنقي�ضي الو�سطية للتمكن من االنتهاء �إليها .ف�إدراك �أن �سبيال
ما هو ال�سبيل الو�سط ال ميكن �إال بعد جتربة �أو فح�ص �سلبيات االقت�صادي �إىل الإقرار باحلاجة �إىل كليهما مع حتديد جمال كل وايجابيات غريه من ال�سبل .واالنتقال من التفريط يكون –عادة -منهما مع �إ�ضافة احلاجة �إىل م�ؤ�س�سات املجتمع املدين. ومن النظر �إيل الرتاث الإ�سالمي باعتبار �أن العالقة به عالقة
�إىل الإفراط قبل �أن ي�صل �إىل االعتدال اخلايل من الإفراط والتفريط.
ات�صال وارتباط ال انف�صال لها �إىل القول ب�ضرورة نفي �أي اثر له
فالو�سطية التي هي البديل الثالث غالبا ما تتحدد يف نتيجة يف حا�ضرنا باعتباره نتاجا جتاوزه التاريخ ومنهما �إىل الت�أكيد ينتهي �إليها النظر عند البحث عن التوازن بني قيم وم�صالح على �ضرورة النظر �إليه من خالل م�ستوياته املتنوعة ومراحله متعار�ضة �أو تبدو �أنها كذلك جتمع بني ايجابيات البدلني وتتفادى التاريخية املختلفة وتوظيفه للتجديد والبناء من خالل الإميان �سلبياتهما.
بجدلية العالقة بني املا�ضي واحلا�ضر وامل�ستقبل� .أي اعتباره
فمن االختالف بني الأفراد ب�سبب اختالف اجلن�س �أو العرق مرجعا مهما ،مع �إدراك التمايز بني املا�ضي واحلا�ضر دون نكران �أو الدين �إىل الدعوة �إىل امل�ساواة املطلقة �إىل �أن انتهى الأمر �إىل القول بامل�ساواة التنا�سبية التي ت�أخذ ظروف و�إمكانيات كل فرد يف االعتبار واىل �ضرورة تدخل الدولة للحد من اثر التفاوت االجتماعي والثقايف يف احل�صول على املنافع ب�إعادة توزيع املنافع والأعباء على نحو ميكن الأكرث حرمانا من االنتفاع ببع�ض ما ينعم به الأكرث حظا ،ما �أدى �إىل �إقرار غالبية النظم القانونية ل�ضمان احلد الأدنى للمعي�شة لكل �أفراد املجتمع. ومن كبت الآراء �إىل الدعوة �إىل حرية التعبري ومنهما �إيل
للرتاث ودون العمل على تكراره. البحث عن التوازن( �أي الو�سطية) هو الأ�سا�س الفل�سفي للقول بان لكل قاعدة ا�ستثناء وان اال�ستثناء ي�ؤكد القاعدة ال يلغيها. �إذ انه الو�سيلة لتفادي �سلبياتها وللحيلولة دون التطرف يف �إعمالها .ومن ذلك �إننا كقانونني ن�ؤمن ب�أهمية القاعدة التي تقرر �أن الإن�سان بريء حتى تثبت �إدانته ونقر يف نف�س الوقت ب�أهمية الإجراءات املا�سة باحلرية ال�شخ�صية يف مواجهته قبل �أن ي�صدر حكم بات ب�إدانته متكينا لل�سلطات اجلنائية من حماية املجتمع من �أخطار حمتملة وتوفريا ملتطلبات الفاعلية الإجرائية.
24
ومن ذلك –�أي�ضا -اعتماد الف�صل بني ال�سلطات الثالث
تظهر فيه تناق�ضات ال ميكن اجلمع بينها يف �إطار جمتمع واحد.
(الت�شريعية ،والتنفيذية ،والق�ضائية) ك�إطار د�ستوري لتنظيم ومن هنا فان م�س�ألة ظهور الإفراط �أو التفريط نقي�ض ما كان الدولة ك�ضمانة ل�صون احلرية ومنع اال�ستبداد وكركيزة لتق�سيم �سائدا يف جمتمع ما قبل حدوث التغيري فيه ،ال يجب �أن يكون العمل وح�صر امل�س�ؤولية ،مل مينع الأنظمة املختلفة من �إقرار �سببا لل�شعور بالي�أ�س �أو للتذمر �أو �أن ي�صل الأمر لكراهية حدوت التعاون بني ال�سلطات الثالث ومن القبول بحلول احدها حمل التغيري �أو لتمني الرجوع �إىل �سابق العهد ،مادام هناك اجتاه ولو الأخرى .فبالإ�ضافة �إىل الت�شريعات التي ت�صدر عن ال�سلطة بطيء للتوازن .يف مقابل ذلك ،يجب �أن حت�شد الهمم ملحاولة الت�شريعية هناك ت�شريعات ت�صدرها ال�سلطة التنفيذية مبوجب تق�صري فرتة البقاء يف �أي نقي�ض للو�سطية واجلد يف البحث يف التفوي�ض الت�شريعي �أو على �أ�سا�س ما تقرره بع�ض الد�ساتري من معايريها ا�ستفادة من جتارب الدول الأخرى يف كل جمال على تقا�سم ل�سلطة الت�شريع ،وبالإ�ضافة للوائح التنفيذية هناك ما حدة .مع �إدراك �أن ما مير به املجتمع هو �أمر طبيعي ال يتعار�ض يعرف باللوائح املن�شئة ،وبالإ�ضافة �إيل وظيفة املحاكم يف تطبيق مع نوامي�س الطبيعة الب�شرية مادام هناك �صراع فكري ال تهمي�ش القوانني على املنازعات التي ترفع �إليه ،يقوم الق�ضاء بوظيفة وال �إق�صاء فيه ودون �أن يكون لأي طرف فيه �إمكانية ا�ستخدام �أي رقابة �صحة الت�شريعات.
و�سيلة من و�سائل العنف املادي �أو املعنوي النتهاك احلقوق التي
كما �أن بناء النظام القانوين على فكرة امللكية الفردية مقد�سة ،تعترب �أولية مثل احلق يف ال�سالمة البدنية �أو اال�ستقالل الذاتي. مل مينع من الأخذ يف االعتبار وظيفتها االجتماعية وما يقت�ضيه الأمر من تقييد القانون لكيفية ا�ستغاللها وفر�ض �ضريبة عليها وال من �إمكانية نزعها للمنفعة العامة مقابل تعوي�ض عادل. ومن �أمثلة ذلك�-أي�ضا -القول بامل�ساواة قانونا بني الرجل واملر�أة ال مينع امل�شرع وال�سلطة الإدارية من �إقرار �أحكام خا�صة لإحداث تنا�سب بني عوامل البيئة وطبيعة الوظيفة وم�س�ؤولياتها والتكوين اجل�سدي والنف�سي للرجل واملر�أة. و�إذا كان الأمر كذلك ،فان االنتقال من طرف �إىل طرف عند حدوث حتول يف املجتمع هو �أمر حمتمل يف كثري منها .فاملجتمع الذي يظل حمكوما بفرد �أو حزب واحد مهدد بان تتكاثر فيه الأحزاب لدرجة �أن ت�صبح مهددة للحمته ووحدته ،واملجتمع الذي ال يكون فيه جمال حلرية الر�أي والتعبري مهدد ولو بعد حني ب�أن تنطلق فيه احلريات بدون حدود ب�شكل يهدد حريات الآخرين و�سمعتهم وكرامتهم ويختلط فيه احلق بالباطل لأمد طويل وان
25
وسطية األمة اإلسالمية
�أ.د.حممد عمارة يف الو�سطية الإ�سالمية تتمثل ال�سمة والق�سمة التي جتد -بحق- �أخ�ص ما يخ�ص به املنهج الإ�سالمي عن مناهج �أخرى ملذاهب و�شرائع وفل�سفات؛ بها انطبعت احل�ضارة الإ�سالمية يف كل القيم واملعايري والأ�صول واملعامل واجلزئيات ،حتى لن�ستطيع �أن نقول� :إن هذه الو�سطية ،بالن�سبة للمنهج الإ�سالمي وح�ضارته هي «عد�سته ال ّ المة» لأ�شعة �ضوئه ،وزاوي ُة ر�ؤيته كمنهج ،وزاوية الر�ؤية به �أي�ضاً. وهي قد بلغت وتبلغ هذا املقام ،لأنها -بنفيها الغلو الظامل والتطرف الباطل� -إمنا متثل الفطرة الإن�سانية قبل �أن تعر�ض لها وتعد َو عليها عوار�ض وعاديات الآفات ...متثل الفطرة الإن�سانية يف ب�ساطتها وبداهتها وعمقها و�صدق تعبريها عن فطرة اهلل التي فطر النا�س عليها� .إنها �صبغة اهلل� ،أراد �سبحانه وتعاىل لها �أن تكون �صبغة �أمة الإ�سالم ،و�أخ�ص خ�صو�صيات منهج الإ�صالح بالإ�سالم ،فقال: ا�س َو َي ُكو َن ال َّر ُ�س ُ ول ( َو َك َذل َِك َج َع ْل َنا ُك ْم �أُ َّم ًة َو َ�س ًطا ِل َت ُكو ُنوا ُ�ش َهدَا َء َعلَى ال َّن ِ َعلَ ْي ُك ْم َ�شهِيدًا) (البقرة� .)143 :إنها احلق بني باطلَني؛ والعدل بني ظل َمني؛ واالعتدال بني تطر َفني؛ واملوقف العادل اجلامع لأطراف احلق والعدل واالعتدال ،الراف�ض للغل ّو �إفراطا وتفريطا؛ لأن الغلو الذي يتن ّكب الو�سطية هو انحياز من الغالة �إىل �أحد قطـ َبي الظاهرة، ووقوف عند �إحدى كفتي امليزان ،يفتقر تو�سط الو�سطية الإ�سالمية اجلامعة و�إمكانات ال�شهادة وال�شهود. وهذه الو�سطية الإ�سالمية اجلامعة لي�ست ما يح�سبه العامة انعدام املوقف الوا�ضح واملحدد �أمام الق�ضايا وامل�شكالت ،لأنها هي املوقف
الأ�صعب الذي ال ينحاز االنحياز ال�سهل �إىل �أحد القطبني وفقط ،فهي بريئة من املعاين "ال�سوقية" التي �شاعت عن دالالت م�صطلحها بني العوام ،وهي كذلك لي�ست "الو�سطية الأر�سطية" كما يح�سب كثري من املثقفني ودار�سي الفل�سفة الغربية وطالبها؛ لأن الو�سطية الأر�سطية التي ر�أى بها �أر�سطو ( 322-384ق.م) �أن الف�ضيلة هي و�سط بني رذيلتني هي يف العرف الأر�سطي �أ�شبه ما تكون يف تو�سطها "بالنقطة الريا�ضية" التي تف�صلها عن القطبني -الرذيلتني -م�سافة مت�ساوية ،ت�ضمن لها التو�سط والو�سطية. �إنها نقطة ريا�ضية ،وموقف �ساكن ،و�شيء �آخر ال عالقة له بالقطبني اللذين يتو�سطهما، ولي�ست هكذا الو�سطية يف ا�صطالح الإ�سالم. �إنها يف الت�صور الإ�سالمي موقف ثالث حقا ،وموقف جديد حقا ،ولكن تو�سطه بني النقي�ضني املتقابلني ال يعني �أنه منبت ال�صلة ب�سماتهما وق�سماتهما ومكوناتهما� .إنه خمالف لهما ،لكن لي�س يف كل �شيء؛ و�إمنا خالفه لهما منح�صر يف رف�ض االنح�صار واالنغالق على �سمات كل قطب من الأقطاب وحدها دون غريها ،منح�صر يف رف�ضه الإب�صار بعني واحدة، الترى �إال قطبا واحداً ..منح�صر يف رف�ضه االنحياز املغايل ،وغلو االنحياز .ولذلك ،ف�إنها -كموقف ثالث ،وجديد� -إمنا يتمثل مت ّيزها، ومتمثل جدّتها يف �أنها جتمع وت�ؤلف كل ما ميكن جمعه وت�أليفه -كن�سق غري متنافر وال ملفق -من ال�سمات والق�سمات واملكونات املوجودة يف القطبني النقي�ضني كليهما .وهي لذلك و�سطية "جامعة" ،تتميز عن تلك التي قال بها حكيم اليونان. الو�سطية اجلامعة �إن "العدل" -والو�سطية هي العدل بني ظلمني -ال يعتدل ميزانه بتجاهل كفتيه ،واالنفراد دونهما ،كما �أنه ال يعتدل ميزانه باالنحياز �إىل �إحدى الكفتني .و�إمنا يعتدل بالو�سطية اجلامعة التي جتمع احلكم العادل من حقائق ووقائع وحجج وب ّينات الفريقني املخت�صمني -كفتي امليزان .-ولهذا كان قول ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم" :الو�سط: العدل ،جعلناكم �أمة و�سطا" (رواه الإمام �أحمد) ،كان التعبري عن حقيقة مفهوم الو�سطية يف الإ�سالم. ويف �ضوء هذا امل�ضمون الإ�سالمي مل�صطلح "الو�سطية" -وهو امل�ضمون الذي م ّيزها بو�صف "اجلامعة" -نقر�أ كل الآيات القر�آنية التي �أ�شارت �إىل هذه اخل�صي�صة من خ�صائ�ص املنهج الإ�سالمي يف الإ�صالح.
26
ف�أمة الإ�سالم همَ ( :وا َّلذِ َ ين �إِ َذا �أَ ْن َف ُقوا لمَ ْ ُي ْ�س ِر ُفوا َولمَ ْ َيقْترُ ُ وا َو َكا َن َبينْ َ َذل َِك َق َوا ًما)(الفرقان .)67 :واملنهاج الو�سطي يف الإنفاق ت�شري �إليه �آيات من مثلَ ( :و�آتِ َذا ا ْل ُق ْر َبى َح َّق ُه َوالمْ ِْ�س ِك َ ال�سبِيلِ َو َال ُت َبذِ ْر ني َوا ْب َن َّ َت ْبذِ ي ًرا) (الإ�سراءَ ( ،)26 :و َال تجَ ْ َع ْل َيد ََك َم ْغ ُلو َل ًة �إِلىَ ُع ُنق َِك َو َال َت ْب ُ�س ْطهَا ُك َّل ا ْل َب ْ�س ِط َف َت ْق ُع َد َم ُلو ًما محَ ْ ُ�سو ًرا) (الإ�سراء .)29 :فال الرهبانية الن�صرانية وال ُّن�سك الأعجمي وال احليوانية ال�شهوانية والتحلل من التكاليف. و�إذا نحن �شئنا معرفة االمتياز العظيم الذي متثله "الو�سطية اجلامعة" وحتققه للمنهج الإ�سالمي يف الإ�صالح ،وال�شمول الذي تبلغه ت�أثرياتها عندما ُتراعى وتو�ضع يف املمار�سة والتطبيق ،ف�إننا ن�ستطيع ذلك عندما ندرك كيف مثلت هذه الو�سطية -ومتثل -بالن�سبة للإ�صالح الإ�سالمي طوق النجاة من متزق وان�شطارية وثنائية املتقابالت املتناق�ضة ،على النحو الذي حدث يف ح�ضارات �أخرى ،ويف احل�ضارة الغربية على وجه التحديد. فبهذه الو�سطية اجلامعة مل يعرف املنهاج الإ�سالمي التناق�ض الذي مل يجد له ح ًّ ال بني :الروح واجل�سد ،الدنيا والآخرة ،الدين والدولة، الذات واملو�ضوع ،الفرد واملجموع ،الفكر والواقع ،املادية واملثالية، املقا�صد والو�سائل ،الثابت واملتغري ،القدمي واجلديد ،العقل والنقل، احلق والقوة ،االجتهاد والتقليد ،الدين والعلم� ...إىل �آخر الثنائيات، التي عندما افتقد منهج النظر �إليها ق�سمة "الو�سطية اجلامعة" حدث االنق�سام احلاد وال�شهري يف فل�سفة احل�ضارة الغربية �إىل "ماديني" و"مثاليني" و"مادية" و"مثالية" ،و"عقالنيني" و"الهوتيني"، و"متدينني" ،و"فال�سفة" و"م�ؤمنني" ...منذ العهود اليونانية لتلك احل�ضارة وحتى نه�ضتها احلديثة وواقعها املعا�صر. لقد مثلت الو�سطية الإ�سالمية اجلامعة حل�ضارتنا وملنهاج الإ�صالح الإ�سالمي طوق النجاة من هذه الثنائيات ومتزقاتها وغلوها. ولذلك ،كانت املعيار لإ�سالمية مناهج النظر الفكري ومناهج الإ�صالح بالإ�سالم. ولقد ت�ألقت الدعوة الإ�صالحية للإمام حممد عبده حول بدايات القرن الرابع ع�شر الهجري يف واقع ح�ضاري متيز ب�سيادة اجلمود والتقليد يف دوائر طالب العلم الديني -وهو غلو يحجب الدين والإ�صالح الإ�سالمي عن الواقع واحلياة -فيخلق الفراغ الديني احلق يف هذا الواقع ،ويبعد املنهاج الإ�صالحي الإ�سالمي عن �أن يكون هو �سبيل الأمة للنه�ضة والتقدم. كما متيز هذا الواقع احل�ضاري بزحف النموذج الغربي يف التقدم والتحديث على ال�شرق الإ�سالمي ،ذلك النموذج الذي وفد �إىل بالدنا يف ركاب الغزوة اال�ستعمارية الغربية احلديثة لعامل الإ�سالم .وهو منوذج
قد متيز بالغلو ال�شديد ،وذلك عندما انحاز �إىل عامل ال�شهادة راف�ضا عامل الغيب ،و�إىل الدنيا يف مواجهة الدين ،و�إىل الفردية يف مقابلة اجلماعة ،و�إىل الأر�ض يف رف�ضه حلاكمية ال�سماء و�شريعتها ،و�إىل املادية والو�ضعية يف مقابلة الروح ،و�إىل القوة يف مواجهة العدل ،و�إىل ال�صراع بدال من التدافع ،و�إىل العقل يف مقابلة النقل والوجدان... فملأ هذا النموذج الغربي الف�ضاء الفل�سفي والثقايف وال�سيا�سي بح�شد غفري من "الثنائيات املتناق�ضة" التي عربت وتعرب عن غلو التفريط، املقابل لغلو الإفراط الذي مثله اجلمود والتفكري والتقليد ال�سائدَين بني طالب علوم الدين يف �شرقنا الإ�سالمي يف ذلك التاريخ. وملجافاة كال املوقفني -جمود طالب علوم الدين ،وجحود طالب العلوم الغربية -ملنهاج الو�سطية الإ�سالمية يف الإ�صالح والنهو�ض، كان حر�ص الإمام حممد عبده على متيز منهاجه يف الإ�صالح ب�سمة الو�سطية الإ�سالمية اجلامعة .فكتب عن متيز موقفه ومنهجه ودعوته بهذه الو�سطية عن �أهل اجلمود والتقليد للموروث ،و�أهل اجلمود والتقليد للوافد الغربي فقال" :ولقد خالفتُ يف الدعوة �إليه (�أي �إىل منهجه يف الإ�صالح) ر�أي الفئتني العظيمتني اللتني يرتكب منهما ج�سم الأمة :طالب علوم الدين ومن على �شاكلتهم ،وطالب فنون هذا الع�صر ومن هو يف ناحيتهم")1(. ثم حتدث عن �أن هذه الو�سطية التي انحاز �إليها ومتيز بها منهاجه الإ�صالحي لي�ست خياراً ذات ّياً ،و�إمنا هي منهاج الإ�سالم ،الذي متيز به عن الغلو الذي �أ�صاب �أهل ال�شرائع الأخرى" ،فلقد ظهر الإ�سالم ،ال روحيا جمرداً ،وال ج�سديا جامداً ،بل �إن�سانيا و�سطا بني ذلك� ،آخذا من كال القبيلني بن�صيب ،فتوافر له من مالزمة الفطرة الب�شرية ما مل يتوافر لغريه .ولذلك �سمى نف�سه دين الفطرة وعرف له ذلك خ�صومه اليوم ،وعدّوه املدر�سة الأوىل التي يرقى فيها الربابرة على �سلم املدنية")2(. فالو�سطية هي ال�سمة املميزة للإ�سالم ،وهي ال�سبب الذي جعل الإ�سالم دين الفطرة الب�شرية ال�سوية ،فكان لذلك �سلم االرتقاء على درب املدنية ،ب�شهادة اخل�صوم قبل الأ�صدقاء. وبهذه الو�سطية التي متيز بها الإ�سالم متيزت �أمة الإ�سالم عن وح ّرف بع�ضها �أمم ال�شرائع ال�سابقة التي ُح ّرف بع�ضها �إىل الغلو املاديُ ، الآخر �إىل الغلو الروحاين ،وبعبارة الإمام حممد عبده" :ذلك �أن النا�س كانوا قبل ظهور الإ�سالم على ق�سمني :ق�سم تق�ضي عليه تقاليده املادية املح�ضة ،فال ه ّم له �إال احلظوظ اجل�سدية ،كاليهود وامل�شركني؛ وق�سم حتكم عليه تقاليده بالروحانية اخلال�صة ،وترك الدنيا وما فيها من اللذات اجل�سمانية ،كالن�صارى وال�صابئني وطوائف من و َثن ّيي الهند �أ�صحاب الريا�ضات .و�أما الأمة الإ�سالمية فقد جمع اهلل لها يف دينها
27
احلقني؛ حق الروح وحق اجل�سد ،فهي روحانية ج�سمانية .و�إن �شئت قلت� :إنه �أعطاها جميع حقوق الإن�سانية ،ف�إن الإن�سان ج�سم وروح، حيوان و َملَك ،فك�أنه قال :جعلناكم �أمة و�سطا ،تعرفون احل ّقني وتبلغون الكما َلني")3(. ولأن ال�سنة النبوية هي البيان النبوي للبالغ القر�آين ،كانت �سنة ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم وطريقته يف العمل والقول التج�سيد ملنهاج الو�سطية الإ�سالمية .ويكفي �أن نت�أمل مع �سريته ال�شريفة قوله �صلى اهلل عليه و�سلم�" :إن هذا الدين متني ،ف�أوغلوا فيه برفق" (رواه الإمام �أحمد) ،و"�إن دين اهلل عز وجل ي�سر" (رواه البخاري) ،و"�إن اهلل مي�سراً" (رواه م�سلم والإمام عز وجل مل يبعثني مع ِّنفا ،ولكن بعثني ِّ �أحمد) ،وعن عائ�شة ر�ضي اهلل عنها" :ما ُخيرِّ ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم بني �أمرين يف الإ�سالم �إال اختار �أي�سرهما مامل يكن �إثما ،ف�إن كان �إثما كان �أبعد النا�س منه" (رواه البخاري). الو�سطية منهاج الإ�سالم ولأن هذه الو�سطية اجلامعة بهذا املعنى ،هي منهاج الإ�سالم يف احلياة ،مبختلف ميادين احلياة الفردية واالجتماعية؛ ف�إن العقل امل�سلم ي�ستطيع �أن يفقهها ويطبقها يف �سائر امليادين: فـ"الكرم" وهو خلق و�سلوك و�سط لي�س غريبا متاما عن القطبنيالنقي�ضني" :ال�ش ّح" و"الإ�سراف" ،و�إمنا هو جامع منهما �سمات هذا الكرم ومكوناته ،جامع لقدر من "التدبري واالقت�صاد" ولقدر من "البذل والعطاء" ،ففيه اجتماع لعنا�صر احلق والعدل من القطبني املتناق�ضني. وكذلك "ال�شجاعة" جندها و�سطا بني "اجلنب" و"التهور" ،لكنهاجامعة بني مقادير من "حذر" اجلبان ،ومقادير من "�إقدام" املتهور، فال هي منحازة لأحد النقي�ضني ،وال هي مغايرة كل املغايرة لهما معا. ويف فل�سفة الإ�سالم يف االقت�صاد والرثوات والأموال ،جند"اال�ستخالف" و�سطا بني "احلرية املطلقة" يف الأموال ،وبني الإلغاء الكامل للحرية يف الأموال .فالإن�سان مالك وحر وم�ستثمر ومنفق وم�ستمتع ،لكن كوكيل وخليفة يف امللكية االجتماعية عن املالك احلقيقي وهو اهلل �سبحانه وتعاىل .فكل حقوق الإن�سان يف الرثوات والأموال حمكومة بحقوق اهلل وفرائ�ضه يف التوازن والتكافل بني الأمة. ويف املوقف من متايز النا�س �إىل طبقات اجتماعية ،يقف الإ�سالمبو�سطيته اجلامعة بني احلرية املطلقة التي تثمر التفاوت الفاح�ش بني الطبقات ،وبني "الطوباوية" التي حلت مبجتمعات ال طبقية. فطبيعي و�ضروري -بناء على تفاوت الطاقات والهمم واجلهود� -أن يتمايز النا�س يف املكا�سب واحلظوظ ،لكن الو�سطية تفر�ض وقوف هذا التمايز عند حدود التوازن والتكافل ،الذي يجعل الأمة ج�سداً واحد،
تتكافل �أع�ضا�ؤه ،مع تفاوت الأهمية والعطاء واحلاجات لكل ع�ضو من هذه الأع�ضاء. وبعبارة الإمام علي بن �أبي طالب ر�ضي اهلل عنه يف عهده �إىل واليه على م�صر "الأ�شرت النخعي"" :واعلم �أن الرعية طبقات ال ي�صلح بع�ضها �إال ببع�ض وال غنى ببع�ضها عن بع�ض")4(. ويف املوقف من العالقات بني احل�ضارات تقدم الو�سطية الإ�سالميةمنهاج "التفاعل" الذي هو و�سط بني غلو يف "االنغالق والعزلة"، و"التبعية والتقليد" .ففي "التفاعل" ا�ستلهام لكل ما هو م�شرتك �إن�ساين عام ،مع التمايز يف اخل�صو�صيات املتعلقة بالهويات العقدية والثقافية. كما تقدم الو�سطية الإ�سالمية منهاج "التدافع" عندما يختلالتوازن يف العالقات بني احل�ضارات وكذلك الطبقات ،لأن هذا "التدافع" هو منت و�سط ،ميثل احلراك االجتماعي الذي يزيل اخللل، ويعيد العالقات �إىل م�ستوى التوازن والعدل ،مع احلفاظ على تعدد وتنوع ومتايز الفرقاء املختلفني .فهو "التدافع" و�سط بني "ال�سكون" الذي ينـزل اخللل لي�ستفحل ،وبني "ال�صراع" الذي ي�صرع فيه القوي ال�ضعيف ،فينهي التعددية والتمايز واالختالف. لقد رف�ض القر�آن منهاج "ال�صراع" لأنه يزيل �سنة التعددية (�س َّخ َرهَا َعلَ ْي ِه ْم َ�س ْب َع َل َيالٍ َو َث َما ِن َي َة �أَ َّيا ٍم ُح ُ�سوماً َفترَ َ ى ا ْل َق ْو َم فِيهَا َ�ص ْرعَى َ َ َ َ ْ َ َك�أَ َّن ُه ْم �أ ْع َجا ُز نَخْ لٍ َخا ِو َي ٍة فهَل ت َرى ل ُه ْم مِ نْ َبا ِق َيةٍ)(احلاقة )8-7:بينما "التدافع" حراك يعدل املواقف ،مع املحافظة على التعدد والتنوع ال�س ِي َئ ُة ا ْد َف ْع بِا َّلتِي هِ َي �أَ ْح َ�س ُن َف�إِ َذا واالختالف ( َو َال َت ْ�س َتوِي الحْ َ َ�س َن ُة َو َال َّ ا َّلذِ ي َب ْي َن َك َو َب ْي َن ُه َعدَا َو ٌة َك�أَ َّن ُه َوليِ ٌّ َحمِ ي ٌم) (ف�صلت.)34: تلك هي الو�سطية الإ�سالمية اجلامعة� ،صبغة اهلل التي �أرادها لأمة الإ�سالم ،والفطرة الإ�سالمية املطهرة من العوار�ض والآفات، وعد�سة الر�ؤية ال ّ المة لق�سمات املنهج الإ�سالمي ومعامل ت�صوره يف "الفكر" و"احلياة" .و�صدق اهلل العظيم �إذ يقول( َو َك َذل َِك َج َع ْل َنا ُك ْم ا�س َو َي ُكو َن ال َّر ُ�س ُ ول َعلَ ْي ُك ْم َ�شهِيدًا) �أُ َّم ًة َو َ�س ًطا ِل َت ُكو ُنوا ُ�ش َهدَا َء َعلَى ال َّن ِ (البقرة .)143:و�صدق ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم عندما قال: "الو�سط :العدل ،جعلناكم �أمة و�سطا". الـهــوامــــــ�ش .1الأعمال الكاملة للإمام حممد عبده؛ ج� 2ص .310درا�سة وحتقيق :د.حممد عمارة .ط.دار ال�شروق /القاهرة 1993م. .2امل�صدر ال�سابق .ج� 3ص .287 .3امل�صدر ال�سابق .ج� 4ص .333 .4نهج البالغة" �ص - 337ب�شرح الإمام حممد عبده .وحتقيق وتعليق :حممد �أحمد عا�شور ،حممد �إبراهيم البنا .طبعة دار ال�شعب /القاهرة.
28
األمر بالمعروف والنهي عن المنكر وواجب التغيير تتعاىل اليوم يف العامل العربي دعوات الإ�صالح والتغيري وهي دعوات م�شروعة بل واجبة ب�سبب ما �آل �إليه الواقع العربي من �ضعف وتفرق وف�ساد وتفرد وظلم وهدر للموارد ،مما يوجب على كل عاقل �شريف ينتمي �إىل هذه الأمة ويحر�ص عليها �أن ينطلق ويبادر �إىل الإ�صالح والتغيري . �إن ال�سعي والتغيري والإ�صالح هو تنفيذ لواجب الأمر باملعروف والنهي عن املنكر الذي يعد من �أوجب الواجبات على امل�سلم بل هو اليوم واجب الوقت ،قال تعاىل( َو ْل َت ُكنْ مِ ْن ُك ْم �أُ َّم ٌة َي ْدعُو َن �إِلىَ وف َو َي ْن َه ْو َن ع َِن المْ ُ ْن َك ِر َو�أُو َلئ َِك هُ ُم المْ ُ ْفل ُِحو َن) الخْ َ يرْ ِ َو َي�أْ ُم ُرو َن ِبالمْ َ ْع ُر ِ (�آل عمران. )104: فال فالح للأمة وال جناح وال نهو�ض دون القيام بهذا الواجب العظيم والذي بغيابه يكرث ال�سوء ويتعاظم العفن وي�ستعلي الفا�سدون. د.هايل عبد احلفيظ الداود ومن هنا كان ترك هذا الواجب �أول مراحل ال�سقوط احل�ضاري للأمة ،لأنه ي�ؤدي �إىل كرثة اخلبث والف�ساد وال�سوء ،وقد �أكد ذلك �إن الذي يخاف من دعوات الإ�صالح والتغيري هو الفا�سد الذي ر�سولنا الكرمي �صلى اهلل عليه و�سلم عندما �س�أله بع�ضهم" �أنهلك يخاف على ف�ساده �أن يك�شف �أو م�صاحله ال�شخ�صية �أن ت�ضيع. وفينا ال�صاحلون؟ ...قال :نعم� ،إذا كرث اخلبث" ،وها هو اخلبث �أما �صاحب النهج احلق والطريق احلق ف�شعاره " �إين قد يكرث وي�ستطيل وينت�شر م�ؤذنا بالهالك واخلراب ،ويجب علينا وليت عليكم ول�ست بخريكم ف�إن �أ�صبت ف�أعينوين و�إن �أخط�أت جميعا حكاما وحمكومني �أن ال نخاف من ال�صيحات املطالبة فقوموين" ،و�شعاره " رحم اهلل �أمرءا �أهدى �إلينا عيوبنا". بالإ�صالح ،ما دامت �شريفة منتمية غري مرتبطة ب�أجندة م�شبوهة �أو م�صالح �شخ�صية قريبة ما دامت تبغي اخلري للأمة ،بل علينا �أن ن�شجعها ون�ستمع �إليها ون�أخذ بال�صالح من دعواتها ما دامت ملتزمة بالو�سائل والغايات امل�شروعة.
29
هل غابت فكرة األمة عن المسلمين؟
د .رفيق حبيب مع تفكك البالد العربية والإ�سالمية �إىل دول قومية قطرية، �أ�صبح البحث عن الوجود الفعلي للأمة مهما ،فهل غابت الأمة؟ وهل غابت فكرتها؟ ف�إذا كانت الأمة قد غابت بالكامل ،وغابت معها فكرتها ،ف�إنها ت�صبح �أمام احتمال �أن تبنى من جديد� ،أو تبنى من عدم مرة �أخرى� ،أو تختفي وال تعود للظهور .و�إذا كانت الأمة مل تغب ،فهي �إذن موجودة يف حيز ما وب�صورة ما ،وت�صبح عودتها للظهور مرة �أخرى ،متوقفة على حيوية الأمة وقدرتها على �إحداث التغيري يف حياتها. مرجعية احل�ضارة
والأمة هي رابطة من ال�شعوب والقوميات ،تقوم على �أخوة الدين ،وت�ستظل مبرجعية احل�ضارة الإ�سالمية ،وهي تتكون �أي�ضاً من كل اجلماعات غري امل�سلمة التي ت�شاركت مع اجلماعة امل�سلمة يف احل�ضارة الإ�سالمية ويف بنائها ،و�أ�صبحت املرجعية الإ�سالمية بالن�سبة لها ح�ضارة ،كما �أنها بالن�سبة للم�سلم دين وح�ضارة. الأمة �إذن ،جماعة من الب�شر ت�شرتك يف منظومة قيم ،جتعل لها مرجعية عليا واحدة ،وم�صرياً واحداً ،وغايات واحدة. وعندما وجدت الأمة �أو ًال يف �صدر الإ�سالم ،ت�شكلت اجلماعة امل�ؤمنة الأوىل ،ثم �أقامت دولتها الأوىل .وبهذا فالأمة �سابقة للدولة ،لأ َّن وعي اجلماعة بوحدة مرجعيتها و�إميانها بتلك
املرجعية ،ي�سبق ت�أ�سي�س الدولة التي تعرب عن تلك املرجعية وتلتزم بها .فالدولة القومية تت�أ�س�س على وجود قومية معينة ميكن تعريفها ب�صورة دقيقة ومتييزها عن غريها وحتديد حدودها اجلغرافية ،ف�إذا مل توجد القومية بتلك ال�صورة الوا�ضحة ،ت�أ�س�ست الدولة �أوال ،ثم �أقامت �صورة قوميتها وحددت حدودها اجلغرافية، وعرفت مالمح ولغة و�سمات تلك القومية ،وبذلك تكون الدولة قد بنت القومية ،وبنت املجتمع. ولكن الدولة يف امل�شروع الإ�سالمي ال ت�أتي بجديد من عندها، وال ت�ؤ�س�س و�ضعاً لي�س قائماً ،بل ت�أتي تعبرياً عن و�ضع قائم ،وهو وجود �أمة ت�ؤمن باملرجعية الإ�سالمية ،وت�شكل جماعة مرتابطة، عابرة للقومية والأعراق. وملا قامت الدولة الإ�سالمية عرب مراحلها التاريخية املتعددة، كانت تعبرياً عن وجود الأمة ،وحتقيقا ملا ت�ؤمن به الأمة من مرجعية .ف�أ�صبحت الدولة حامية للأمة ،ومنفذة ملرجعيتها، وخا�ضعة ملا توافقت عليه الأمة ،بل وخا�ضعة �أي�ضاً الجتهادات الأمة وعلمائها .ف�أ�صبحت الدولة حتمل املرجعية التي ت�ؤمن بها الأمة ،ومل تكن الدولة هي التي �أ�س�ست املرجعية� ،أو هي التي اختارتها .ولكن الدولة �أ�صبحت تبني احل�ضارة مع الأمة ،ومل تكن �أي�ضا هي امل�س�ؤولية عن النه�ضة وحدها ،بل كانت م�س�ؤولة
30
عن متهيد الطريق لقيام النه�ضة ،و�إقامة الدين ،وظلت الدولة حار�سة للأمة وحامية لها .وظلت الأمة فاعلة بجانب الدولة، وتقيم ح�ضارتها وحتقق نه�ضتها. من الذي غاب؟
لقد غابت الدولة الإ�سالمية ،وتفككت �أوطانها ،وزرعت الدولة القومية القطرية مكانها ،وا�ستبدلت املرجعية العليا للدولة بالعلمانية بد ًال من املرجعية الإ�سالمية� .إذن الدولة هي �أول من غاب عن �أوطان الأمة ،نق�صد الدولة الإ�سالمية .ومع غياب الدولة الإ�سالمية ،غابت �أي�ضاً الوحدة ال�سيا�سية للأمة ،وغابت الدولة التي متثل املرجعية الإ�سالمية ،ومل ت�ستطع الأمة �إعادة بناء الدولة �أو احلفاظ عليها ،مما يعني �أ َّن الأمة كانت يف حالة �ضعف، متنعها من حماية الدولة ،والوقوف �أمام عملية جتزئة �أوطان الأمة الإ�سالمية ،والت�صدي للدولة القومية القطرية ،التي قامت كبديل عن الدولة الإ�سالمية. بالطبع كان غياب الدولة م�ؤثراً ،فرغم �أن فعل النه�ضة يظل م�س�ؤولية الأمة ،ولكن الأمة ال تنه�ض �إال من خالل وحدتها ،ومن خالل مرجعيتها ،وعندما ق�سمت الأمة غابت وحدتها ،وعندما مت علمنة الدولة ،غابت مرجعيتها عن النظام ال�سيا�سي الد�ستوري. وبهذا فقد غابت الدولة والوحدة واملرجعية معا ،ومل تعد الأمة تتحرك داخل �إطار جامع لها ،بل مت متزيقها �إىل قوميات ،وكانت الأمة من ال�ضعف بحيث �أنها مل ت�ستطع حماية نف�سها مما حاق بها. ولأ َّن الأمة مل ت�ستطع حماية الدولة ،ومل تقدر على ا�ستعادتها، لذا �أ�صبحت الأمة يف حالة �ضعف وتفكك ،ومل تعد الأمة القادرة على النهو�ض .وحالة الأمة املفككة ،لي�ست كحالة الأمة وهي يف طور الت�أ�سي�س الأول ،لأنها يف مرحلة الت�أ�سي�س تكون جماعة �صغرية تتكون منها الأمة بعد ذلك ،وتقوم تلك اجلماعة على الإميان بالفكرة ،ثم تن�شر فكرتها بني النا�س ،حتى ت�ؤ�س�س الأمة، ومن ثم ت�ؤ�س�س الدولة. ولكن الأمة بعد �أن حلق بها التفكك ،مل تغب عنها فكرتها كلياً ،ومل تغب عنها مرجعيتها كليا ،ومل تغب تلك املرجعية عن احلياة اخلا�صة واالجتماعية كليا ،ومل تغب �أي�ضا حقيقة الأمة عن الذاكرة اجلمعية للأمة ،كما مل يغب تاريخ الأمة نف�سه .فقد �أ�صبحت الأمة واقعاً تاريخياً ،و�أ�صبحت ال�شعوب املنتمية للأمة تعرف تلك احلقيقة التاريخية ،وتعرف ما حدث يف تاريخها،
وتعرف �أي�ضا كيف تفككت ،وكذلك تعرف �أنها تفككت رغماً عنها، و�أن اال�ستعمار الغربي هو الذي فككها ،و�أ َّن النخب التي حملت امل�شروع الغربي وحكمت البالد العربية والإ�سالمية ،هي التي حمت هذا التفكك وكر�سته. كل تلك احلقائق تعرفها الأمة� ،أو على الأقل �أغلبيتها ،لذا فحالة التفكك لي�ست كحالة الت�أ�سي�س الأوىل ،فهي حالة �ضعف، ت�ضعف فيها الأمة ،ولكن ال تفقد كل تاريخها وهويتها ووعيها، ولكن تفقد القدرة على الفعل القادر على تغيري واقعها ،وتكون يف حالة ا�ست�سالم لو�ضع ترف�ضه ،ولكنها مل تقدر بعد على مواجهته. فهل غابت الأمة
من حيث كون الأمة جماعة من الب�شر ،تتكون من العديد من الأعراق والقوميات ،وت�ؤمن باملرجعية الدينية واحل�ضارية للإ�سالم ،فالأمة مل تغب ،ومن حيث �إنها جماعة من الب�شر لها تاريخ م�شرتك وتدرك �أ َّن م�صريها واحد ،و�أنها كانت �أمة موحدة �سيا�سية ،فالأمة مل تغب ،ومن حيث �إ َّن الأمة هي جماعة من الب�شر لها قيم م�شرتكة ،وتريد الو�صول لغايات م�شرتكة ،فهي �أي�ضاً مل تغب. فبعد غياب الدولة والوحدة والنه�ضة ،غابت �إرادة الأمة القادرة على حتقيق غاياتها واخلروج من �أزمتها ،ولكن وعيها مل يغب، وهويتها مل تغب �أي�ضا ،فالأمة كانت وما زالت ،ولكن قدرتها على حتقيق ذاتها احل�ضارية يف الواقع التاريخي ،مل تتبلور بعد بالقدر املنا�سب لتغيري م�سار تاريخ الأمة ،حتى ت�ستعيد دولتها ووحدتها وتنه�ض من جديد ،ولكن ا�ستمرار بقاء الأمة كوعي وهوية موجودة ومتحققة لدى جماعة من الب�شر ،ال ينفي �أن فئات من الأمة قد خرجت من تلك الهوية� ،أو خرجت عليها ،و�أ َّن نخباً من الأمة هي التي تبني الدولة القومية العلمانية ،وهي التي ت�ساعد القوى الغربية على تفكيك الأمة. وهذا ال ينفي �أي�ضاً وجود فئات ت�شككت يف هوية الأمة� ،أو عملت بالفعل على �إخراج نف�سها من الهوية اجلامعة ،و�أ�صبحت تعمل من �أجل هويتها القومية ،ولكن بقاء الأمة جت�سد �أ�سا�ساً �أ َّن فكرتها مل تغب ،و�أ َّن هويتها مل تغب ،وظلت فكرة وهوية ووعياً حا�ضراً مل يغب ،ف�أ�صبح التحدي الذي يواجه الأمة ،لي�س �إعادة اكت�شافها �أو تكوينها من جديد ،بل تن�شيط قدراتها حتى ت�صبح قادرة على احلركة التاريخية الفاعلة والقادرة على �إعادة بناء الوحدة والدولة وحترير كل �أرا�ضي الأمة من اال�ستعمار بكل �أ�شكاله.
31
من �أهم مظاهر ا�ستمرار الوجود التاريخي واحل�ضاري للأمة ،ما يتمثل يف ا�ستمرار طليعة الأمة يف اجلهاد من �أجل ا�ستعادة وحدتها وبناء الكيان ال�سيا�سي الواحد املعرب عنها ،وحتقيق النهو�ض احل�ضاري ،فمع كل مرحلة من مراحل الرتاجع احل�ضاري ،ومع كل مرحلة من مراحل تفكك الأمة ،كانت تظهر طليعة الإ�صالح الثقايف واحل�ضاري� ،أو الطليعة احلركية الداعية للإ�صالح ،والتي حتمل هموم الأمة ،وحتاول ا�ستعادة بناء وحدة الأمة من جديد، فقبل �سقوط الدولة العثمانية كانت حماوالت الإ�صالحيني تتوا�صل ،منذ جمال الدين الأفغاين وحممد عبده ور�شيد ر�ضا. ولأ َّن حلظة ال�صمت الطويل مل تتحقق ،لذا مل تغب الأمة، فقد كانت دائما ترى حلم الوحدة حولها ،والرغبة يف النهو�ض ال تفارق طليعتها ،لذا بقيت الأمة حا�ضرة كوعي وهوية ،وبقيت �أي�ضاً حماوالت �إنها�ضها م�ستمرة مل تتوقف ،ولكن فعل النهو�ض مل يبلغ بعد امل�ستوى الالزم كي يقف �أمام فعل التفكيك امل�ضاد له ،ومل تبلغ الأمة بعد درجة من اليقظة والهمة ،التي متكنها من مواجهة التحديات التي تتعر�ض لها. بقاء الوعي وغياب الفعل
تلك ميكن �أن تكون حالة الأمة الإ�سالمية ،فالوعي بالأمة وحقيقتها ما زال موجوداً ،رغم تراجعه �أحياناً� ،إال �أنه مل يغب بالكامل ،ومل يرتاجع بالكلية ،وظل حا�ضرا يف وعي الأمة ،بو�صفه وعياً تاريخياً حتقق بالفعل ،وما زالت الأمة حتلم با�ستعادته مرة �أخرى .ولكن الذي غاب هو الفعل ،ولكنه مل يغب بالكلية ،ولكن غاب يف �أغلب الأحيان ،وغاب عن �أغلب �أبناء الأمة. فظل الوعي حا�ضراً لدى الأغلبية ،وبقي الفعل ن�شطا لدى الأقلية .فظلت الفكرة ،ومل تتحقق بالفعل اجلهادي القادر على حتويلها �إىل حقيقة تاريخية ،لهذا مل ت�صل الأمة ملرحلة املوت، ومل تبلغها ،لأ َّن وعيها مل ميت بالكامل ،ولأ َّن هويتها مل متت بالكامل ،ولأ َّن رغبتها يف ا�ستعادة حقيقتها التاريخية واحل�ضارية، ظلت تراودها ،لذا بقيت الأمة فكرة ووعياً وقيمة وحقيقة متج�سدة يف جمهور الأمة. وكلما زاد فعل الأمة الن�شط نحو بناء هويتها احل�ضارية وحتقيق وحدتها ،زاد اقرتابها من مرحلة الفعل امل�ؤثر .فمع تزايد الفعل املعرب عن وحدة الأمة ،ورغبتها يف ا�ستعادة وحدتها ،تزيد احتماالت قرب الأمة من مرحلة النهو�ض ،وكلما انخف�ض م�ستوى الفعل الن�شط داخل الأمة ال�ستعادة وحدتها ،بات نهو�ض الأمة م�ؤج ً ال.
فالقاعدة وا�ضحة� :إذا ن�شطت الأمة مرجعيتها وحققت وحدتها وحررت بلدانها� ،سوف تنه�ض يف النهاية ،و�إذا تقاع�ست �أو عجزت عن ذلك ،ا�ستمر تفككها وتزايد تراجعها احل�ضاري ،وكلما باتت الأمة يف خطر� ،صحت جماهريها على نداء الوحدة ،وا�ست�شعرت بخطر ما تتعر�ض له. لذا جند الأمة حتول وعيها �إىل يقظة ،ولكن مقدار ما يتحقق من يقظة ون�شاط وفعل جهادي ،يحدد قدرة الأمة على حتقيق الوحدة والنه�ضة ،ويحدد �أي�ضا املوعد الذي حتقق فيه الأمة م�ستقبلها املن�شود. وما الثورات ال�شعبية التي ت�ؤ�س�س ملرحلة جديدة يف املنطقة العربية والإ�سالمية� ،إال بداية للفعل الن�شط جلماهري الأمة، وهو فعل ن�شط يتجه �أوال نحو اال�ستبداد ،باعتباره الأداة التي حرمت الأمة من دورها ،وحجبت خياراتها احلرة .لذا ميكن اعتبار الثورات ال�شعبية حركة لتحرير الإرادة ال�شعبية ،فالثورة امل�صرية حررت الإرادة ال�شعبية ،وبعدها �سوف تبد�أ مرحلة تبلور توجه الإرادة ال�شعبية ،حتى تت�شكل مالمح امل�ستقبل املن�شود .وهنا ميكن لوعي الأمة �أن يتحول �إىل فعل ن�شط ،بعد �أن تتحرر الإرادة ال�شعبية جلماهري الأمة بالكامل.
32
الفرح ...عنوان السعادة الباطنية
جمال �أمني
كل فرد ،كل �أمة ،كل كائن ،ال يقدر على اجتياز م�سافة نف�سه، يتخطى حواجزها املانعة ،يجتازها يف طرفة عني بطولية ،فهو �أعجز وال �شك عن اجتياز ما خرج عن ذاته من م�سافات وعبور غاباتها املظلمة وجبالها ال�شاهقة. �إن الأمر يغدو بهذا ال�شكل الهند�سي� ،صارما يف تك ّونه وحتققه، قاطعاً كال�سكني يف نفاذه ،لأنه يدخل ذلك يف �إطار ال�سنن القهرية الغالبة. �أنت -كلك -تنبع من قلبك ،من �أر�ضية نف�سك� ،أي �إن داخلك يتحكم يف خارجك ،خارجك لي�س �إال نباتاً ينمو ويكرب من �أر�ضية نف�سك ،ف�إما ورداً ويا�سميناً و�إما �شوكاً وزقوماً .لذا فالف�سحة ال�شعورية والباحة النف�سية ،وامل�ساحات الهائلة التي ت�ؤ�س�س مملكة نف�سك ،بحاجة �إىل مزيد من "املراقبة" و"العناية" و"اال�ست�صالح" ،كي ت�سلم من �شر الطفليات املت�سللة عرب ال�سياج ،ومن �شر كل �أذى يتل�ص�ص من النوافذ امل�شرعة ،ويتنكر يف �شعاعة نور �أو هبة هواء .ولن يتم هذا اال�ست�صالح الداخلي �إال ب�ضبط �شبكة املفاهيم احلياتية التي ت�ؤطر حركية الإن�سان يف هذا الوجود ،ومن �أخطرها مفهوم "الفرح" والذي ت�ضع له الآية هلل َو ِب َر ْح َم ِت ِه الكرمية حمددات �ضابطة ،يقول تعاىل ( ُق ْل ِب َف ْ�ضلِ ا ِ َف ِب َذل َِك َف ْل َي ْف َر ُحوا هُ َو َخيرْ ٌ ممِ َّ ا َي ْج َم ُعو َن)(يون�س.)58: فاملفهوم احلقيقي للفرح يف �ضوء هذه الآية ،هو الفرح احلياتي الكياين ،لي�س الفرح امل�ؤقت يف عمر الإن�سان ،والذي يدوم حلظة �أو يوماً �أو �شهراً �أو �سنة ،بل هو الفرح الدائم امل�ستمر ال�صادر عن كيان الإن�سان كله ،النابع من روحه ال�سماوية ومن �إميانه الكوين .فهو لي�س بالفرح الدنيوي الذي يح�صر الإن�سان يف ذاته ال�ضيقة ،ويرتكه �أ�سري حياته الدنيوية القف�صية ،فال يتطلع �إىل �أفق وال يب�صر ما خلفه؛ بل هو الفرح الأخروي الذي يرفع الر�أ�س عالياً -فيب�صر َم َّد الب�صر وي�سمع َم َّد ال�سمع -ويرى ويعرف وي�ؤمن فيلتزم لي�سعد .الفرح هو ال�سعادة الباطنية التي ال ترتبط وال ت�ستند على "الأحياء" و"الأ�شياء" ،بل تنبع كاجلدول الرقراق من "عل" ،وحتفر جمراها يف روح الإن�سان ال يف بدنه و�شهواته ،وت�صب وراء �سدود الدنيا. ذلك هو الفرح الذي هو ال�سعادة؛ نبعها من عل (بالدين)، وجمراها روح الإن�سان (باطنه) ،وم�صبها وراء الكوالي�س واحلواجز الدنيئة (بالأ�شواق الروحية) ،و�آثارها :اخل�ضرة املمرعة والنماء والغنى (الطم�أنينة واال�ستقامة). وتك�شف الآية عن �أعماق الإن�سان -كل �إن�سان -يف الأر�ض �أية �أر�ض،
حينما تربط فرحه امل�ؤقت املحدود مبتاع الدنيا �أو بعن�صر "اجلمع"، فمن طبيعته "اجلمع" و"التكاثر" يف الأموال والأوالد والن�ساء… وهي مقتنيات ومعطيات "الدنيا" ،والإن�سان الذي يربط حياته بها يف �سعادتها و�شقائها ،يكون قد عر�ض نف�سه للأرجحة واالهتزاز والتمزق، بني احلزن مرة والقلق مرة والفرح العابر مرة �أخرى ،ويظل عر�ضة للهز واجلذب ،فال حياته �إىل قرار وال هي يف ا�ستقرار .وميار�س مع ذاته لعبة "ع�صب العيون" �أمداً طوي ً ال �إىل �أن تتحول اللعبة اخلطرية عادة م�ستحكمة ال يجد منها فكاكاً. والآية حتذر من خطر هذه اللعبة التي ميار�سها الأ�شقياء من الب�شر ،فريبطون �أخطر مك ّون نف�سي وهو "الفرح" يف مفهومه القر�آين، ب�أخطر فتنة مزلقة وهي مقتنيات احلياة ،ويغفلون -كما �شاءت لهم اللعبة الطفولية– عن اليد ال�ساهرة الكالئة املنعمة ،فهي �سذاجة وهي عناية تبعدهم عن م�صدر العطاء والرزق واملقتنيات. وهكذا فالآية حتدد ال�سند احلقيقي للفرح الب�شري يف الدنيا، �إنه "الف�ضل" و"الرحمة" ،وبهما يحيا الإن�سان "�سعادة الفرح" و"فرح ال�سعادة" ،لي�س بال�ضحك فقط ،لأنه يف معظم احلاالت قتل للروح، وخنق للتطلعات ،وتعبري عن اخلواء وال�س�أم ،خ�صو�صاً وقد و�ضعه الإطار احل�ضاري املعا�صر يف �صيغ فنية حداثية جذابة ،ف ُز ْخرِف وج ِع َل وقد �أخذ �شكله ال�سرطاين بتحا�سني املدنية وتقنياتها الفنيةُ ، املتورم "بوابة" الفرح ،ومنفذ ال�سرور ،وعنوان ال�سعادة الباطنية. وهي جرمية تزوير يف حق هذا املفهوم اخلطري (الفرح) ،متار�س �ضد �سعادة الإن�سان .جاء الإ�سالم لكي يحد من �شرها ،ويبني للب�صائر حقيقتها ،بعد �أن يقلع عنها الع�صاب اللعني الذي ر�ضيت بداءة و�ضعه للعب ،ثم ا�ستحكم ف�صار عادة و�ألفة �آ�سرة ،وال�شياطني اجلدد وراء املغفلني يهرجون وي�ضحكون ،وي�ضعون ع�صاباً جديداً لكل مغفل جديد. ومن بداهات ال�سنة القهرية الغالبة� ،أن كل ح�ضارة يف منحناها املنحدر ،تعج مبفاهيم مغلوطة حت�سبها �صوابية قومية ،وال تراها كما يراها التاريخ الفاح�ص اخلبري بتوراً مر�ضية ُتقرح اجل�سم ،وتتلف فيه احلياة الناب�ضة. �إنها لي�ست يف الواقع �إال �صخوراً تثقل عربة احل�ضارة املنحدرة، لكنها ح�ضارة بعجلة واحدة ،وهي "املادية املبهظة"� ،أما العجلة الثانية فتعاين من الهزال وال�ضعف ما تعاين ،فتنحدر بعجلة واحدة ،وهي مثقلة مبفاهيم خاطئة كال�صخور الثقال… �أفجع بها.
33
االختالف في الرأي ُ َّ سنة كونية
د.قي�س املعايطة
مفهوم االختالف االختالف واملخالفة يف اللغة تعني �أن ينهج كل �شخ�ص طريقا مغايرا للآخر يف حالة �أو يف قوله .واخلالف �أعم من ال�ضد ،لأن كل �ضدين خمتلفان ولكن لي�س كل خمتلفني �ضدين .وتت�سع مقولة اخلالف واالختالف لت�شمل �أحيانا املنازعة واجلدل واجلدال وما �إىل ذلك .لكن االختالف يبقى �سنة كونية ال منا�ص منها. الت�أ�صيل ال�شرعي ملبد�أ االختالف وقد جاء ذكرها يف القر�آن الكرمي ،وهو مرجع امل�سلمني من حيث البالغة والبديع والبيان �أيا كانت معتقداتهم وانتماءاتهم واختالف �آرائهم ،جاء يف منا�سبات كثرية نذكر منها على �سبيل املثال ال احل�صر عددا من الآيات الكرمية لت�أ�سي�س ملقولة �إن االختالف �سنة كونية ال مفر منها ،وهي ( �إنكم لفي قول خمتلف) وعلى هذا ميكن القول� :إن اخلالف واالختالف يراد بهما مطلق املغايرة يف القول �أو الر�أي �أو الفعل �أو احلالة �أو الهيئة �أو املوقف. وعليه ف�إن هذا االختالف �سيفرز اختالفا يف العقول واملدارك والأل�سنة والألوان مبا هو� :آية من اخللق املق�صودة لغايات يعلمها اهلل وحلكمة هو �أدرى مبكنوناتها. َ َ َ لجَ َّ ا�س �أُ َّم ًة َواحِ َد ًة َو اَل َي َزا ُلو َن مخُ ْ َت ِل ِف َ ني) ن ال ل ع ك ب ر ء ا �ش قال تعاىل ( َو َل ْو َ َ َ ُّ َ َ (هود.)118: ولنت�أمل روعة الو�صف وجمال البيان واحلكمة املتعالية فيما بني �سطور هذه الآية الكرمية لو �شاء اهلل لرفع االختالف نهائيا من على وجه الب�سيطة لكنه �أراده �سنة دائمة. ولذلك خلقهم� ،أي ليبني لهم �أن االختالف جزء من هدف الن�ش�أة والتكوين واخللق لأن فيه اختبارا ورحمة. وقد وفرت ال�سنة النبوية بيئة خ�صبة لهذا التباين �إغرتف منه �أ�صحاب من املذاهب وقعدوا على �ضوئها تلك القواعد. ومن النماذج الرائعة التي من خاللها ميكن الت�أ�صيل ملبد�أ االختالف يف ال�سنة النبوية ،فبعد االنتهاء من غزوة الأحزاب توجه النبي �صلى اهلل عليه و�سلم لغزو بني قريظة ،يف ذلك املوقف قال كلمته امل�شهورة " ال ي�صلني �أحدكم الع�صر �إال يف بني قريظة" فهم الفريق الأول من ال�صحابة هذا احلديث �أن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم �أراد ال�صالة يف بني قريظة لذلك �أحذ بظاهر هو قال لن ن�صل �إال �إذا حط الرحل يف تلك القبيلة ،بينما الفريق الثاين �سار يف فهم احلديث منحى �آخر وقال �إمنا �أراد النبي �صلى اهلل عليه و�سلم اال�ستعجال يف امل�سري وبناء عليه �صلوا يف الطريق ،وملا و�صلوا الحظ �أن الفريق الأول قد �سلك يف قراءته للحديث النبوي م�سلك الظاهر ومن هنا تبلورت مدر�سة " ظاهرة الن�ص " يف حني �أن الفريق الثاين قد �سلك �سبيل "الباطن" ومن هذا
املنطلق كان قوام مدر�سة " روح الن�ص " ،فال جرم ملن ا�ستوعب هذه احلادثة و�أحاط بها �أن يوقر يف قلبه االختالف املعترب – مع الرتكيز على كلمة معترب – قدر ال منا�ص منه وهو ميزة لأمة الإ�سالم ورحم " اهلل ابن قدامه �إذ قال " الإجماع قاطعة واالختالف رحمة وا�سعة. مق�صود االختالف �سنة كونية االختالف �سنة كونية واعية وهادفة مل ت�أت هكذا من عبث �أو فراغ �أو فعل ب�شر جاهل �أو �أمر باطل والعياذ باهلل ،بل هو جزء ال يتجز�أ من اخللق الهادف �إذا التزم به العبد – و�أقر قوانينه و�آليات حركته – كان ظاهره �إيجابية يف املجتمع .نعم قد يتحول �إىل م�شكلة فقط عندما يتحول �إىل نزاع وجدل عقيم و�شقاق فتذهب ريح الأفراد واجلماعات والأقوام .وتف�شل جهودهم وم�ساعيهم يف �إعمار الأر�ض ومن عليها وت�شيع احلروب واخلرائب يف الديار والنفو�س وذلك �سيكون من فعل الب�شر الذين مل يرعوا �أو يتعلموا قانون اخللق والن�شور. �أن نقبل باالختالف �سنة كونية يجعلنا �أن نحول االختالف �إىل �أمر حممود وجمال يدفع بنا �إىل بذل �أف�ضل ما لدينا من �إمكانات لتنويع حياتنا التي من حولنا وتزيينها بكل �ألوان الفعل واالنفعاالت. خطورة عدم �إدراك �سنة االختالف ومعنى هذا �أن االختالف والتعدد والتنوع ال تزال تفهم �أنها مورد لالحرتاب والقتال والتنابذ ومل يرتفع الوعي �إىل م�ستوى اعتبار االختالف �أو التنوع قيمة ح�ضارية و�إن�سانية ودليل �سمو ورقي. من هنا ال بد من القول �أن التمذهب الأعمى يف الدين ،والتع�صب البغي�ض يف الدين ،لي�س �إال �شذوذا وانحرافا يف املوقف جتاه الدين نف�سه ،ونظرة �سلبية للمذاهب التي هي يف الأ�سا�س طرق لفهم الدين، ولي�س انت�سابا مغلقا على نظام ال يجد ملقارعة خ�صومه �إال القتل والنبذ .و�إذا كانت قد ازدادت يف الأعوام الأخرية م�شاعر الطائفية بفعل التوترات ال�سيا�سية اخلطرية ،ف�إن على �إتباع الأديان الذين ميلكون الوعي والإميان املجرد عن الأهواء والع�صبيات وامل�صالح� ،أن ي�صونوا االختالف والتنوع وحرية الفكر واالجتهاد واالختيار .وان يرف�ضوا كل متييز على �أ�سا�س ديني �أو عرقي �أو اجتماعي .وان االختالف يف الأل�سن والألوان كاالختالف يف الليل والنهار وال�سماوات والأر�ض ،فهذه وتلك قاعدة تكوينية والإن�سان مل ي�شذ عن هذه القاعدة. ماذا يعني �أن يكون الإن�سان خمتلفا عن �أخيه الإن�سان ؟ يعني �أن يكون حرا يف اختياره ويف موقفه و�سلوكه ،وحرا يف فكره و�سعيه ،وحرا يف انت�سابه ووالئه وانتمائه� ،سواء ملجموعة �سيا�سية �أو دينية ،وحرا يف �إبراز ثقافة ومزاولة عاداته .ف�أهلية الإن�سان للحياة وت�شكله وتفتحه م�ستمدة من االختالف احلر واحلرية يف االختالف.
34
الشاطبي ..المفترى عليه ال �أظنّ �أن �أحداً من العلماء قد ُقدّم بحالة خمتلفة عن �صورته احلقيقية كما ح�صل مع الإمام �أبي �إ�سحاق �إبراهيم بن مو�سى ال�شاطبي (ت 790هـ) .فلقد حر�ص كثري من املنحرفني على و�ضع ا�سم (ال�شاطبي) يف واجهة ت�أويالتهم املنحرفة للأحكام والن�صو�ص ال�شرعية ،واتخذوا من (موافقات) ال�شاطبي ذريعة للتهوين من الن�صو�ص اجلزئية كا ّفة بدعوى امل�صلحة �أو العقل �أو التم�سك بالأ�صول والكليات و(بذلك يكون ال�شاطبي قد د�شن قطيعة ايبي�ستمولوجية حقيقية مع طريقة ال�شافعي وكل الأ�صوليني الذين جا�ؤوا بعده)(.)1 فال�شاطبي بهذا قد انف�صل مب�شروعه املقا�صدي عن جادّة العلماء يف تتبع الفروع الفقهية والعناية بالن�صو�ص اجلزئية لأنه قد( :دعا �إىل �ضرورة بنائها �أعني الأ�صول على مقا�صد ال�شارع بدل بنائها على ا�ستثمار �ألفاظ الن�صو�ص الدينية كما د�أب على العمل بذلك علماء الأ�صول انطالقاً من ال�شافعي)(.)2 وحني تقر�أ لل�شاطبي كما هو �ستجد �أن ال�صورة خمتلفة متاماً ،و� ّأن هذا الت�ص ّور ال يحكي حقيقة ال�شاطبي وال موافقاته، فهو ت�صوير لل�شاطبي بح�سب ما يريد لل�شاطبي �أن يكون ،وعلى وفق ما يراد من موافقاته �أن تخدم م�شاريع التخ ّفف من الأحكام ال�شرعية. �إن �أدنى قراءة عابرة لر�سالة (املوافقات) التي كتبها ال�شاطبي تك�شف حقيقة هذا اخلداع واالفرتاء الذي بغي به على هذا الإمام، و�ستجد �أن (تعظيم ال�شريعة) ومراعاة ن�صو�صها وجزئياتها وتقدمي الدليل ال�شرعي على ك ّل ما �سواه من عقل وم�صلحة واجتهاد؛ �أ�صل حمكم وثابت قطعي يعتمده ال�شاطبي �أ�سا�ساً لك ّل �شيء يكتبه يف املوافقات ،فهو على جادّة الأئمة الأ�سالف يف تعظيم الن�صو�ص ال�شرعية واالنقياد لها ويف كيفية ا�ستنباط �أحكامها. فالعقل عند ال�شاطبي ال يتقدّم على النقل بل( :العقل �إمنا ينظر من وراء ال�شرع)(.)3 فهو تابع منقاد له ،بل حتى امل�سائل ال�شرعية التي ُي ّ �ستدل �صحة النقل ف�إمنا هي عنده على كيفية�( :إذا بالعقل فيها على ّ تعا�ضد النقل والعقل على امل�سائل ال�شرعية فعلى �شرط �أن يتقدم النقل فيكون متبوعاً ويت�أخر العقل فيكون تابعاً)(.)4
فهد بن �صالح العجالن
والن�صو�ص اجلزئية لها عناية تا ّمة :وقد �أخلى لها يف (موافقاته) حيزاً وا�سعاً لإدراكه بخطر التهاون بها( :ف�إن ما يخرم قاعدة �شرعية �أو حكماً �شرعياً لي�س ّ بحق يف نف�سه)(.)5 وقد َك َ�سر �أيّ ا�ستغاللٍ لنظريته يف املقا�صد ب�أن ق ّرر بكل و�ضوح: (� ّأن من �أخذ باجلزئي معر�ضاً عن كل ّيه فهو خمطئ ،كذلك من �أخذ بالكلي معر�ضاً عن جزئيه)( .)6فال مكان لنظريته املقا�صدية ملنطق ن�سف اجلزئيات مت�سكاً باملقا�صد. ث ّم �صعد بالدليل اجلزئي لأعلى درجات الأهمية واالحتياط حني جعل ثبوته كافياً جلعله �أ� ً صال بر�أ�سه :فـ (ك ّل دليل �شرعي خ�صه ميكن �أخذه كلياً و�سواء علينا �أكان كلياً �أم جزئياً �إال ما ّ الدليل)(.)7 واتباع الهوى :مزلق خطر ينحرف بال�شريعة عن �أ�صل و�ضعها فـ( :املق�صد ال�شرعي من و�ضع ال�شريعة �إخراج املك ّلف عن داعية
35
هواه حتى يكون عبداً هلل اختياراً كما هو عبد اهلل ا�ضطراراً)(.)8 وتفريعاً على هذا الأ�صل �شدّد ال�شاطبي على حرمة اتباع رخ�ص الفقهاء يف الأقوال الفقهية ل ّأن( :تتبع الرخ�ص ٌ ميل مع �أهواء النفو�س ،وال�شرع جاء بالنهي عن اتباع الهوى فهذا م�ضا ّد لذلك الأ�صل املتفق عليه)(.)9 و�أوجب على املفتي �أن يختار للم�ستفتي �أرجح القولني ،وال يفتيه بجميع القولني معاً حتى ال يكون هذا �سبباً التباع الهوى يف الأحكام( :ف�إنه �إذا �أفتى بالقولني معاً على التخيري فقد �أفتى يف النازلة بالإباحة و�إطالق العنان وهو قول ثالث خارج عن القولني) ( .)10لأن حا�صل هذا مناق�ضة �أ�صل و�ضع ال�شريعة فـ( :متى خرينا املقلدين يف مذاهب الأئمة لينتقوا منها �أطيبها عندهم مل يبق لهم مرجع �إال اتباع ال�شهوات يف االختيار ،وهذا مناق�ض ملق�صد و�ضع ال�شريعة فال ي�ص ّح القول بالتخيري على حال)(.)11 ويعتني بتعظيم (ال�سلف ال�صالح) ومنهجهم وفقههم يف نف�س قارئ موافقاته ،فيخاطبه مبنطق العامل النا�صح( :احلذر احلذر من خمالفة الأولني فلو كان ث ّم ٌ ف�ضل ما لكان الأولون � ّ أحق به) (.)12 فاتباع منهج ال�سلف �أ�صل يعرف به امل�سلم �صحة طريقه ّ ا�ستدل ب�أمثال ذلك :هل وجد هذا و�سالمة منهجه( :فيقال ملن املعنى الذي ا�ستنبطت يف عمل الأولني �أو مل يوجد؟ ف�إن زعم �أنه مل يوجد -وال ب ّد من ذلك -فيقال له� :أفكانوا غافلني عما تنبهت له �أو جاهلني به �أم ال؟ وال ي�سعه �أن يقول بهذا لأنه فتح لباب الف�ضيحة على نف�سه وخرق للإجماع ،و�إن قال� :إنهم كانوا عارفني مب�آخذ هذه الأدلة كما كانوا عارفني مب�آخذ غريها قيل له :فما الذي حال بينهم وبني العمل مبقت�ضاها على زعمك حتى خالفوها �إىل غريها؟ ما ذاك �إال لأنهم اجتمعوا فيه على اخلط�أ دونك �أيها الـهــوامــــــ�ش ّ بنية العقل العربي للجابري )1( .54 ، املتق ّول ،والربهان ال�شرعي والعادي دال على عك�س الق�ضية ،فكل بنية العقل العربي)2( .54 ، ما جاء خمالفاً ملا عليه ال�سلف ال�صالح فهو ال�ضالل بعينه) ( .)13املوافقات)3( .36/1 : املوافقات)4( .78/1 : بحق الطاعة :يطالب ب�إلغاء املوافقات)5( .556/2 : ولأهمية جانب التع ّبد هلل والقيام ّ املوافقات)6( .8/3 : كل املباحث وامل�سائل التي ال تثمر عبادة �أو �سلوكاً �شرعياً فـ( :ك ّل املوافقات)7( .45/3 : املوافقات)8( .469/2 : م�س�ألة مر�سومة يف �أ�صول الفقه ال ينبني عليها فروع فقهية �أو املوافقات)9( .511/4 : املوافقات)10( .509/4 : �آداب �شرعية �أو ال تكون عوناً يف ذلك فو�ضعها يف �أ�صول الفقه املوافقات)11(.499/4 : املوافقات)12( .64/3 : عارية)( .)14حتى تتجه ه ّمة طالب العلم �إىل العمل والعبادة لأن :املوافقات)13( .66/3 : املوافقات)14( .40/1 : ( كل علم �شرعي فطلب ال�شارع له �إمنا يكون من حيث هو و�سيلة املوافقات)15( .54/1 : املوافقات)16( .357/3 : �إىل التعبد به هلل تعاىل)(.)15 املوافقات)17( .667/2 : ولفهم القر�آن على ظاهره والتحذير من ت�أويله :يعيب م�سلك املوافقات)18( .385/3 : املوافقات)19( .648/2 :
الت�أويل من مت�أ ّولة الن�صو�ص ( :وه�ؤالء من �أهل الكالم هم النابذون للمنقوالت اتباعاً للر�أي وقد �أداهم ذلك �إىل حتريف كالم اهلل مبا ال ي�شهد للفظه عربي وال ملعناه برهان)(.)16 وال�سري على خالف الظاهر ي�ؤدّي �إىل �إبطال ال�شريعة لأن: ( دعوى �أن مق�صود ال�شارع لي�س يف هذه الظواهر وال ما يفهم منها و�إمنا املق�صود �أمر �آخر وراءه ويطرد هذا يف جميع ال�شريعة حتى ال يبقى يف ظاهرها متم�سك �أن يلتم�س منه معرفة مقا�صد ال�شارع وهذا ر�أي ك ّل قا�صد لإبطال ال�شريعة)(.)17 ول�شدّة تعظيمه ملقام الكالم يف ال�شريعة :يح ّذر من الكالم فيها لأ ّنه حتديد ملق�صود اهلل ويذ ّكره مبوقف قيامه بني يدي رب العاملني( :ومنها �أن يكون على بال من الناظر واملف�سر واملتكلم عليه �أن ما يقوله تق�صيد منه للمتكلم والقر�آن كالم اهلل فهو يقول بل�سان بيانه :هذا مراد اهلل من هذا الكالم ،فليتثبت �أن ي�س�أله اهلل تعاىل من �أين قلت عني هذا)( .)18ويقدّم امل�صالح الدينية على امل�صالح الدنيوية مطلقاً( :امل�صالح الدينية مقدمة على امل�صالح الدنيوية على الإطالق)(.)19 هذه �إ�شارات �سريعة تك�شف منهج الإمام ال�شاطبي وموافقاته، ويف كتابه العظيم (املوافقات) �أ�ضعاف هذه النقوالت التي تظهر منهج تعظيم ال�شريعة لدى هذا الإمام مما يف ّتت �أي �إمكانية ال�ستغالل ا�سمه �أو م�شروعه املقا�صدي لتمرير االنحرافات والتجاوزات ،لأجل ذلك دعا بع�ض املنحرفني لتجاوز ال�شاطبي عند درا�سة املقا�صد ،و�أن يكون ث ّم �إن�شاء جديد للمقا�صد يتجاوز به املقا�صد ال�شاطبية؛ لأن ال�شاطبي قد قطع فيها الطريق على �أي منفذ �أو خمرج ت�سلك منه مقا�صد النفو�س.
36
مفهوم الحرية في اإلسالم �سفيان حمكوم
يف هذا اجلو امل�شحون بالتوتر الفكري ،والقلق النف�سي على م�صري الأمة الإ�سالمية ،ي�أتي هذا املو�ضوع ليرتجم رغبة نف�سية دفينة وقوية يف التحرر واالنعتاق من قيود التبعية والهيمنة التي متار�سها ال�شعوب املتقدمة ،على ال�شعوب امل�ست�ضعفة. �إن مبد�أ احلرية جزء اليتجز�أ من النظام الإ�سالمي املتكامل ،بل هو �أ�سا�س هذا النظام وعموده ،فبدون حرية لن تقوم يف النفو�س قيامة ،ولن تتحقق نه�ضة ،ولن تتقدم �أمة ،لأن احلرية يف �أعمق معانيها هي احلياة نف�سها ،فمن �سلبت منه حريته ،فك�أمنا �سلبت منه حياته ،و�أ�صبح من الأموات ،وان عا�ش يتنف�س ويتحرك وي�أكل وي�شرب. واحلرية هي روح الدين يف الإ�سالم ،وهي �أعز �شيء على الإن�سان بعد حياته ،بفقدانها تفقد الآمال ،وتبطل الأعمال،
ومتوت النفو�س ،وتتعطل ال�شرائع ،وتختل القوانني ،في�صري الفتور واالنحطاط والتقاع�س ،ملن �ألفوا اال�ستبداد والذل والهوان. وحينما تعر�ض لظاهرة اال�ستبداد جتعل من نتائجه ف�ساد الأخالق وانحراف نف�سية الإن�سان الأدبية واالجتماعية ،وحتوله �إىل "�أ�سري" وهو �ضد احلر. فاال�ستبداد يفني الفكر واجل�سم ،فتمر�ض العقول ،ويختل ال�شعور ،وتنقلب احلقائق ،وت�سقط البديهيات ،ويتحطم نامو�س الأخالق ،وتنعدم الفائدة من اال�شرتاك يف �أعمال احلياة ،الذي هو ال�سر الأعظم يف جناح الأمم املتمدنة ،و�أخطر من هذا كله جلوء الأ�سري املعذب املنت�سب �إىل دين الإ�سالم �إىل ال�سعادة الأخروية يعزي نف�سه بها عزاء يتوجه معه �إىل الدنيا بنف�س يائ�سة ،وروح كاره ،فيعطف م�صائبه ببع�ض الأحاديث ال�شريفة ليجعل منها
37
م�سليات لنف�سيته املهزوزة ول�ضعف �إرادته وطموحاته ،كالقول مثال" :الدنيا �سجن امل�ؤمن" ،وان "امل�ؤمن م�صاب" و"هذا �ش�أن �آخر زمان" ،وت�صل حالة الي�أ�س هذه درجة خطرية جتعله يرفع م�س�ؤولية ال�شقاء عن امل�ستبدين ويلقيها على عاتق الق�ضاء و القدر ،ويتعلل مبا يردد الوعاظ واملتحدثون من القول � " :إن ال�سلطان ظل اهلل يف الأر�ض" ،وان "الظامل �سيف اهلل ينتقم به ثم ينتقم منه" ،و"امللوك ملهمون" ،و�أمثال ذلك مما الي�صح �إال �إذا قيد بالعدالة .وهكذا يولد فقدان احلرية حالة نف�سية متوترة لدى النا�س ،يعتقدون معها "�أن الزمان قد �أقبل على �آخره ،و�أن ال�ساعة �أو�شكت �أن تقوم ،ويذهبون �إىل القول�" :إننا �أمة ميتة الترجى حياتنا". ويتبني لنا من خالل هذه الآراء� ،أن املغزى العميق للحرية يكاد يرادف لفظ احلياة ،فبدونها يكون املوت والأ�سر واال�سرتقاق، ولي�س هذا جديدا يف الثقافة الإ�سالمية فهذا الإمام �أبو الربكات عبد اهلل بن �أحمد الن�سفي� ،أحد �أعالم التف�سري الكبار ،قد تفطن لهذا الرتابط حني ف�سر الآية القر�آنية الكرمية....." :ومن قتل م�ؤمنا خط�أ فتحرير رقبة م�ؤمنة…" ،بقوله" :انه ملا �أخرج نف�سا م�ؤمنة من جملة الأحياء ،لزمه �أن يدخل نف�سا مثلها يف جملة الأحرار ،لأن �إطالقها من قيد الرق ك�إحيائها ،من قبل �أن الرقيق ملحق بالأموات� ،إذ الرق �أثر من �آثار الكفر ،والكفر موت وحكما لقول اهلل عز وجل "�أومن كان ميتا ف�أحييناه… .".وهذا مما ال�شك فيه ،ي�ؤلف نقطة فاعلة وحا�سمة يف الثقافة الإ�سالمية للرد على ال�شائع يف الكتابات ال�سيا�سية والقانونية واالجتماعية التي تلمح، من غري وعي بالتاريخ �أو جتاهال به� ،إىل �أن احلقوق الإن�سانية مل تتبلور اال مع ظهور فل�سفة الثورة الفرن�سية الكربى �سنة 1789م، لت�صاغ يف النهاية يف �شكل وثيقة عاملية خا�صة هي "االعالن العاملي حلقوق الإن�سان" ال�صادر عن الأمم املتحدة �سنة 1948م. وبهذا يتبني �أن اخل�ضوع لقيود الت�شريع اليناق�ض يف �أ�صله مفهوم احلرية والتحرر واالنطالق ،بل �إن من التعاريف القانونية للحرية ما يجعل التم�سك بال�شرع والقانون هو عني احلرية ،يقول �أندريه هوريو�" :إن احلرية هي التقيد الإرادي بالنظام املقرر بالقانون" . �إن الت�شريع مل يو�ضع ليقيد حرية الأفراد بقدر ماو�ضع حلماية احلرية يف جميع م�ستوياتها املادية واملعنوية ولتحقيق م�صالح
اخللق ومنافعهم ،ويقول الإمام ال�شاطبي�" :إن و�ضع ال�شرائع �إمنا هو مل�صالح العباد يف العاجل والآجل معا ،واعتمدنا يف ذلك على ا�ستقراء وتتبع الأحكام ال�شرعية ،فوجدناها و�ضعت مل�صالح العباد". ويقول القرايف�" :إن ال�شرع خ�ص�ص املرتبة العليا بالوجوب وحث عليها بالزواجر� ،صونا لتلك امل�صلحة عن ال�ضياع ،كما خ�ص�ص املفا�سد العظيمة بالزجر والوعيد ح�سما ملادة الف�ساد عن الدخول يف الوجود تف�ضال منه تعاىل عند �أهل احلق" ،ون�ستخل�ص من هذه الن�صو�ص نتيجة �أ�سا�سية وهي�" :إن غاية ال�شرع �إمنا هي امل�صلحة". وحينما نقول� :إن مدار ال�شرع على م�صالح اخللق ،وان من هذه امل�صالح �ضمان احلرية للأفراد ،فهذا اليعني �أننا نعطي حرية مطلقة للفرد ليت�صرف كيفما ي�شاء ،وامنا نعني بذلك �أن حرية الفرد مقيدة مب�صلحة اجلماعة والنفع العام ،وهو الذي يعرب عنه يف كتب الفقه الإ�سالمي" بحق اهلل" الذي يتعلق به النفع من غري اخت�صا�ص ب�أحد فينت�سب �إىل اهلل لعظم خطره و�شمول نفعه. فالفرد مقيد بهذه امل�صلحة العليا ،ومن ثم فهو ممنوع من الفعل الذي يلحق ال�ضرر العام ،ومن جهة �أخرى فان "امل�صلحة العامة �شرط �أ�سا�سي تقف عليه – يف الواقع -امكانية الفرد من حتقيق م�صاحله الذاتية" .وهكذا ،وبالتن�سيق املحكم بني م�صالح املجموع وم�صلحة الفرد يف �إطار الت�شريع الإ�سالمي ،يظهر لنا �صدق القاعدة التي تقرر �أنه "حيثما وجدت امل�صلحة ،فثم �شرع اهلل". نخل�ص يف النهاية �إىل �أن ت�صور الإ�سالم للحرية يج�سد معامل النظرة ال�شمولية املتكاملة التي يوليها للإن�سان ،وهي نظرة كلها تكرمي ومتجيد .خا�صة �أن الإ�سالم �أقام ت�صوره على مبادئ ثابتة و�أ�س�س قوية ودعائم متينة ،جعلت منه املوقف ال�صحيح ال�سليم الذي ينبغي الأخذ به يف مناحي احلياة كلها :ال�سيا�سية، واالجتماعية ،واالقت�صادية ،والعلمية .و�سنعر�ض لالخت�صار عناوين هذا الدعائم وهما :الكرامة الإن�سانية ،ومبد�أ امل�ساواة. وهذا املبد�أ يف مغزاه العميق يعني تعادال يف القيم ،وتكاف�ؤا يف الفر�ص ،و�إطالقا للمواهب لتعمل وتن�شط� ،ضمن احلدود التي التتعار�ض مع الأهداف العليا للحياة ،ولقد قرر الإ�سالم هذا املبد�أ بني اجلميع ثم ترك الباب مفتوحا للتفا�ضل باجلهد والعمل.
38
دراسات إسالمية
الدولة اإلسالمية الحديثة بين النظرية والتطبيق مقدمة:
�إن ل�شهادة الغريب وزنا خا�صا
و�ضع عامل االجتماع الأمريكي مايكل هارت قائمة ب�أكرث من مائة �شخ�ص ت�أثريا يف تاريخ الإن�سانية كلها واختار حممد (�ص) على ر�أ�س تلك القائمة وقال لأنه �أ�س�س دينا عامليا ودولة فكان نبيا ورجل دولة .وي�ضاف �إىل ذلك �أن الكتاب املقد�س الذي �أوحى �إليه قد انفرد بالإجماع على ن�صه ،و�أن الإ�سالم انت�شر يف العامل املعمور يف ثمانني عاما مبا فاق ما حققته الإمرباطورية الرومانية يف ثمامنائة عام .وقادت احل�ضارة الإ�سالمية العامل ب�صورة مت�صلة ملدة �ألف عام من القرن ال�سابع امليالدي �إىل القرن الثامن ع�شر امليالدي. الأمة الإ�سالمية حتى يومنا هذا متم�سكة بدينها عبادات، و�شعائر ،و�أخالقا .ولكن النظام ال�سيا�سي املطبق يف العامل الإ�سالمي بعد ال�صدر الأول خالف يف الواقع املبادئ ال�سيا�سية الإ�سالمية ،مبادئ الكرامة ،والعدالة ،واحلرية ،وال�شورى ومار�س عرب الدول التي �أقامها :الأموية ،والعبا�سية ،والعثمانية، وال�صفوية ،واملغولية نظم حكم �أقرب �إىل تراث احلكم القي�صري، والك�سروي ،منها �إىل مبادئ الإ�سالم ال�سيا�سية. امتثل م�ؤ�س�س الدولة الأموية لن�صح املغرية بن �شعبة �إذ قال له" :لقد ر�أيت ما كان من �سفك الدماء واالختالف بعد عثمان. ويف يزيد منك خلف فاعقد له ،ف�إن حدث بك حادث كان كهفا للنا�س ،وخلفا منك ،وال ت�سفك دماء وال تكون فتنة" .وقال يزيد بن املقفع يف جمل�س البيعة ليزيد بن معاوية� :أمري امل�ؤمنني هذا و�أ�شار ملعاوية ف�إن هلك فهذا و�أ�شار ليزيد فمن �أبي فهذا و�أ�شار ل�سيفه .ومنذئذٍ �صار التغلب �سنة الوالية يف الديار الإ�سالمية وقال ال�شهر�ستاين �صاحب امللل والنحل�" :أعظم خالف بني الأمة خالف الإمامة� .إذ ما �سل �سيف يف الإ�سالم على قاعدة دينية مثلما �سل على الإمامة". و�أعطى جمهور الفقهاء �سنة التغلب �شرعية مبقولة ابن حجر
دولة الإمام ال�صادق املهدي
الع�سقالين" :وقد اجمع جمهور الفقهاء على طاعة املتغلب والقتال معه". هكذا تعاقب على ال�سلطة خلفاء �أو �سالطني يف الغالب و�صف حالهم دعبل اخلزاعي:
خليفة مات مل يحزن له �أحــــد و�آخــــــر قام مل يفرح به �أحد فمر ذاك ومر ال�ش�ؤم يتبعـــــه وقام ذاك فقام النح�س والنكد!
ا�ستمر واقع حال النظم ال�سيا�سية احلاكمة للم�سلمني على هذا النمط ،والتم�س كثري من امل�سلمني عزا ًء يف نظريات حكم طوباوية �سنية ،و�شيعية ،و�صوفية� .أهم نظريات �أهل ال�سنة ما جاء يف كتاب املاوردي يف كتاب الأحكام ال�سلطانية �إذ و�صف فيه �أ�سا�سا مثاليا
39
للوالية املطلوبة �إ�سالميا .ولكنه تنظري مل يطبق .و�أهم نظريات ال�شيعة النظرية الإمامية الإثني ع�شرية كما �شرحها املجل�سي يف كتابه قوت القلوب .و�أهم نظريات ال�صوفية هي الدولة الغيبية التي و�صفها ابن عربي يف الفتوحات املكية. هذه النظريات ظلت حبي�سة الأماين متاما ك�أماين الفال�سفة كما �صورها الفارابي يف �أهل املدينة الفا�ضلة. ويف عاملنا احلديث ونتيجة لتعلق امل�سلمني بالإ�سالم ،و�إلهامات التجربة التاريخية الرائعة ،وحت�صنا من الغزو الفكري والثقايف الغربي ،ونتيجة لإخفاقات النظم ال�سيا�سية اللربالية ،والقومية، واال�شرتاكية جرت حماوالت حديثة لإقامة الإ�سالم يف النظام ال�سيا�سي ،فلم يكن حظها من تطبيق مبادئ الإ�سالم ال�سيا�سية �أوفر من حظ الدول الإ�سالمية التاريخية ،و�سواء فيما �أقيم من نظم وراثية �أو ع�سكرية ف�إنها يف الغالب قامت على نهج التغلب الذي دمغه عمر ر�ضي اهلل عنه مبقولة" :من بايع �أمريا من غري م�شورة امل�سلمني فال بيعة له وال للذي بايعه". النظم احلديثة التي حكمت البلدان الإ�سالمية ا�ست�صحبت نظام حكم اال�ستبداد املعا�صر الذي �أن�ش�أه �ستالني كتطبيق بولي�سي للمارك�سية وطبق مثله من اليمني هتلر ف�صار ما ابتدعاه نظام فا�ش�ستو�ستاليني هو امللم لنظم احلكم اال�ستبدادية احلديثة يف بلداننا ،ومهما اختلفت �شعاراتها بني قومية ،وا�شرتاكية، و�إ�سالمية ،ف�إنها متثل ملة اال�ستبداد الواحدة مبا فيها من حزب واحد م�سيطر ،و�أمن قاهر ،و�إعالم م�ضلل ،واقت�صاد متكني للمحا�سيب. التجارب الإ�سالمية احلديثة
فيما يلي �أ�ستعر�ض جتارب لدولة �إ�سالمية حديثة يف باك�ستان، ويف �إيران ،ويف ال�سودان ،ويف �أفغان�ستان ،ويف تركيا ،ويف ماليزيا ،ويف نيجرييا ،ويف غزة. .1باك�ستان قامت على �أ�سا�س انف�صال امل�سلمني من الهند ذات الأغلبية الهندو�سية ،م�ؤ�س�س الدولة مل يكن �إ�سالمي الفكر بل تعامل مع الإ�سالم كقومية ولكن اندفعت يف باك�ستان تيارات قوية تتطلع ال�سلمة الدولة واملجتمع .ويف عام 1979م تبنى حاكم باك�ستان الع�سكري (�ضياء احلق) فكرة �إقامة ال�شريعة وخلط بني ت�أييد دولته الدكتاتورية وتطبيق �أحكام �إ�سالمية وا�ستفتى ال�شعب الباك�ستاين يف 1984م لت�أييد هذه اخللطة املرتبطة كذلك بتحالف مع الواليات املتحدة ،نعم طبق النظام �أحكاما �إ�سالمية وا�ستقطب ت�أييد تيارات �شعبية �إ�سالمية ولكن نظام احلكم ظل قائما على �سنة التغلب الع�سكري بعيدا عن مبادئ الإ�سالم ال�سيا�سية.
.2نظام ال�شاهن�شاه يف �إيران نظام م�ؤ�س�س على القومية الفار�سية، حاول �إقامة دولة حديثة على النمط الرتكي املعادي للإ�سالم املتحالف مع الغرب .يف وجه هذا النظام انطلقت تيارات معار�ضة كان �أقواها الثورة الإ�سالمية الإيرانية ،ف�أطاحت بنظام ال�شاه، و�أقامت اجلمهورية الإ�سالمية الإيرانية ،كانت هذه الثورة م�ستندة لت�أييد �شعبي منقطع النظري ،وحققت الثورة انتماء ال�شعب الإيراين للإ�سالم وهزمية اال�ستالب الغربي ،وحققت ا�ستقالال ح�ضاريا ودعمت املمانعة يف وجه الهيمنة الدولية على نطاق وا�سع. ولكن النظام الإ�سالمي الإيراين حب�س نف�سه يف الطائفية ال�شيعية ويف مبد�أ والية الفقيه بينما املبد�أ الإ�سالمي هو والية الأمة فقوله تعاىلَ ( :و�أَ ْم ُرهُ ْم ُ�شو َرى َب ْي َن ُه ْم)( )1يعني كافة �أهل الإميان. .3يف �أفغان�ستان جنحت املقاومة الإ�سالمية يف دحر الغزو ال�سوفياتي ولكن املجاهدين �أخفقوا يف �إقامة ما تطلعوا �إليه من نظام �إ�سالمي حديث ،ووجهوا �أ�سلحتهم �ضد بع�ضهم بع�ضا. وبدعم من باك�ستان انطلقت حركة �شبابية حما�سية �سيطرت على �أفغان�ستان و�أقامت والية �إ�سالمية فيها .فهم طالبان لنظام احلكم يف الإ�سالم ما�ضوي ونظرتهم لإقامة الأحكام الإ�سالمية جمردة من االجتهاد اجلديد املطلوب ال�ستيعاب امل�ستجدات. قال ابن قيم اجلوزية يف كتاب الأحكام ال�سلطانية �إن الفقهاء خلطوا بني فرع العقائد والعبادات الذي يعتمد على الن�صو�ص املنقولة، وفرع املعامالت الذي يقوم على امل�صالح املر�سلة وا�ست�صحاب النافع .وهذا ما جعلهم ي�ضيقون جماالت ال�سيا�سة وقال ابن عقيل :ال�سيا�سة ما كان فعال يكون معه النا�س �أقرب �إىل ال�صالح و�أبعد عن الف�ساد ،و�إن مل ي�ضعه الر�سول وال نزل به وحي. جتربة طالبان كاحتجاج على عجز القيادات الإ�سالمية التقليدية، وكاحتجاج على االحتالل الأمريكي ،جتربة ناجحة ولكنها كنظام بديل جمافية ملبادئ الإ�سالم ال�سيا�سية وجمردة من التطبيق االجتهادي للأحكام الإ�سالمية. .4ال�سودان فيه تطلع لتكوين �إ�سالمي حديث على نطاق �شعبي وا�سع و�أغلبية القوى ال�سيا�سية فيه �إ�سالمية التوجه ،وكان بالإمكان �أن حتدث يف ال�سودان جتربة �إ�سالمية حديثة ب�إرادة �شعبية غالبة كما توقع كثري من املراقبني �أمثال مونتجمري واط لدى زيارته لل�سودان .ولكن هذا التوجه الواعد �أجه�ضته حماوالت القفز فوق املراحل وما �صحبه من طموح �سلطوي. �أ .يف عام 1983م كان نظام مايو الذي �أقامه انقالب مايو 1969م يواجه عزلة �سيا�سية و�إخفاقا �سلبه �شرعيته فقرر �إعالن ما �سماه ثورة ت�شريعية عن طريق ما �سماه تطبيقا لل�شريعة ،كانت التجربة
40
انتهازية ومكلفتة وعندما عر�ضت تفا�صيلها لنخبة من علماء امل�سلمني يف عام 1987م �أدانوها ب�أنها كانت معيبة تخطيطا وتنفيذا. ب .وكان النظام ال�سيا�سي الدميقراطي يف ال�سودان بعد الثورة التي �أ�سقطت نظام مايو يواجه م�شاكل �أهمها احلرب الأهلية يف اجلنوب وخماوف حول التطلع لأ�سلمه احلياة؛ وكان النهج الدميقراطي حري�صا على �إنهاء احلرب الأهلية مبا ي�ستجيب ملطالب اجلنوبيني امل�شروعة يف �إطار وحدة البالد وقد اتفق على حتقيق ذلك عرب م�ؤمتر قومي د�ستوري يعقد يف � 18سبتمرب 1989م .وكان النهج الدميقراطي حري�صا على م�شروع �أ�سلمة يجمع ال�شمل الإ�سالمي ويطمئن امل�سيحيني وغريهم على حقوقهم الدينية وحقوق املواطنة .ولكن هذا التوجه ب�شقيه �أجه�ضه انقالب يونيو 1989م الذي قرر �إقامة �أحكام ال�شريعة ب�إرادته ال�سلطوية وح�سم احلرب الأهلية بعزمية جهادية قتالية. ج .التجربة الإ�سالمية الإنقاذية غيبت مبادئ الإ�سالم ال�سيا�سية، ومزقت اجل�سم الإ�سالمي ،ووحدت املقاومة امل�ضادة ،و�أطلقت لها دعما دوليا قويا .والنتيجة �أن هذا النهج مل يحقق تطبيقا ناجحا للم�شروع الإ�سالمي ،و�أتاح الفر�صة مل�شروعات متزيق الوطن ال�سوداين التي خطط لها �أعداء الوطن. .5تركيا هي وطن اخلالفة العثمانية وهي خالفة دامت لأطول مدة يف احلكم ،ومع ما حققت من �إجنازات ف�إنها يف �أواخر عهدها �ضعفت حتى و�صفت بالرجل املري�ض :الف�ساد ،واال�ستبداد، واملظامل ،والهزائم� ،أطلقت تيارا معاديا للخالفة ومعاديا للإ�سالم بقيادة م�صطفى كمال ،ف�أقام حكما معاديا للإ�سالم لإحلاق تركيا باحل�ضارة احلديثة. �إن دور القيادة الع�سكرية يف تركيا ونهجها احلما�سي يف ت�صفية الرتاث وااللتحاق بالغرب �صار لطمة قوية يف وجه الأمة الإ�سالمية مثلما �صار م�ضرب املثل ملا ينبغي عمله يف بلداننا لدى القوى الغربية .ولكن الهوية الإ�سالمية يف تركيا رغم االقتالع املنهجي الذي تعر�ضت له ا�ستع�صت على االقتالع ،فالطرق ال�صوفية ن�شطت بو�سائلها الناعمة للمحافظة على الرتبية الإ�سالمية ،وقادة فكر �أمثال بديع الزمان النور�سي �أطلقوا يقظة �إ�سالمية بوعي حديث ،وردت هذه الأفكار على الغلو العلماين بقوة ،ون�شط م�صلحون اجتماعيون مثل فتح اهلل كولن بتجربة حتا�شت ال�صدام مع ال�سلطة العلمانية وركزت على ك�سب العقول والقلوب بب�سط اخلدمات االجتماعية وت�شبيك امل�صالح احلياتية من منطلقات �إ�سالمية .ويف عام 1970م ت�أ�س�س �أول حزب �إ�سالمي بقيادة املرحوم جنم الدين �أربكان با�سم النظام الوطني .ويف 1971م حل احلزب نتيجة النقالب ع�سكري .وبعد ذلك �سمح بتنظيم
الأحزاب ف�أ�س�س �أربكان حزب ال�سالمة الوطني وخا�ض االنتخابات يف 1973م و�أثبت �أنه رقم �سيا�سي مهم .ثم حل احلزب يف 1980م بعد انقالب ع�سكري .ثم عاد مرة �أخرى با�سم حزب الرفاه واكت�سح االنتخابات يف 1994م حتى �صار �أربكان رئي�سا للوزراء ثم ا�ستقالت تلك احلكومة ب�ضغط من القوات امل�سلحة وحل حزب الرفاه ليعود با�سم حزب الف�ضيلة وهذا بدوره حل فكون �أربكان حزب ال�سعادة. جماعة رجب طيب �أردغان وهم من حزب ال�سعادة قرروا مراجعة الأ�سلوب فكونوا حزب العدالة والتنمية ويف 2001م خا�ضوا انتخابات 2002م واكت�سحوها. هذا احلزب ال ينادي بالإ�سالم ولكنه مكون من �أفراد م�ؤمنني �أعلنوا احرتامهم للعلمانية ولكنها ن�سخة �أخرى من تلك املعادية للدين .هذا احلزب جنح يف التنمية والإدارة والعالقات اخلارجية وهي جتربة واعدة للتوفيق بني املرجعة الإ�سالمية واحلداثة والدميقراطية. .6التجربة املاليزية قريبة من هذه التجربة و�سابقة لها وهي جتربة ناجحة تنمويا ويف التم�سك بالأ�صالة احل�ضارية وباملرجعية الإ�سالمية يف �إطار من التعددية الثقافية ،واالثنية ،والإدارة التوفيقية بني احلداثة والتقاليد .التجربتان الرتكية واملاليزية يف �شكلهما احلايل ناجحتان باملقايي�س الو�ضعية و�أما باملقايي�س الإ�سالمية فهما يف خانةَ ( :فا َّت ُقوا هَّ َ الل مَا ْا�س َت َط ْع ُت ْم)(. )2 .7يف نيجرييا �أعلنت عدد من الواليات ال�شمالية يف 2001م تطبيقا لل�شريعة ،هنالك يف نيجرييا نق�ص يف الوعي الديني �شبيه بحال طالبان والتطبيق حتت نظم حكم حملية تقليدية ويف ظل د�ستور فيدرايل علماين� .إنها حما�سة ينق�صها الوعي الالزم مبطالب االجتهاد املطلوب وتنق�صها الإحاطة ولكنها على �أية حال تعرب عن �أ�شواق �إ�سالمية حقيقية وعن احتجاج لأن الأغلبية امل�سلمة يف نيجرييا حترمها الآن قدراتها املحدودة من قيادة البالد ولهذا ال�سبب و�أ�سباب متعلقة بف�ساد التعليم وف�ساد الإدارة انطلقت حركة احتجاج عنيفة (حركة بوكو حرام) التي تعترب التعليم احلديث وخريجيه هم �أ�س البالء الواجب ا�ستئ�صاله. .8منذ عام 2006م ا�ستطاعت حركة حما�س �أن حتقق ن�صرا انتخابيا .ولكن عنا�صر كثرية داخلية ،و�إقليمية ،ودولية ت�ضافرت لتحرمها من نتائج انت�صارها ولتحا�صرها ثم ويف 2008م تعر�ضت للهجوم الإ�سرائيلي امل�سلح عليها. ال ميكن قيا�س �أداء حما�س يف غزة باملقايي�س العادية ولكن يحمد لها ول�سائر ف�صائل املقاومة ال�صمود الرائع يف وجه العدوان واحل�صار ،يحمد حلما�س �أنها و�صلت ال�سلطة ب�أ�سلوب دميقراطي و�صمدت يف وجه احل�صار والعدوان ،و�إثبات �أن املقاومة الفل�سطينية رقم ال ميكن جتاوزه يف بناء امل�صري الفل�سطيني.
41
الإ�سالم والربيع العربي
الثورات العربية التي انطلقت من تون�س ثم م�صر وامتدت �إىل اليمن ،و�سوريا ،والبحرين ،وليبيا تطلعات �شعبية قادها �شباب ب�أ�ساليب مبتكرة ولكنها يف زخمها ا�ستقطبت ال�شعوب وعربت عن كافة تطلعاتها يف الكرامة واحلرية ،والعدالة ،والتنمية ،والت�أ�صيل. لقد لقيت التيارات الإ�سالمية من الطغاة عنتا �شديدا ف�صمدت و�صارت متثل عنا�صر قوية يف اخلريطة ال�سيا�سية يف البلدان العربية لذلك مهما كانت النظم التي �سوف تقيمها الثورات العربية ف�سوف تكون نظما تعرب عن حرية ال�شعوب وتطلعاتها وبالتايل هويتها الإ�سالمية. الإ�سالم ميثل يف كافة البلدان الإ�سالمية القوة احلائزة على �أكرب ر�صيد يف ر�أ�س املال االجتماعي ،و�سوف جت�سد االنتخابات احلرة القادمة هذه احلقيقة .وجدير بالقوى الإ�سالمية �أن تدرك التحدي الذي يواجهها ف�إن هي انتفعت بتجارب الآخرين ف�إنها �سوف حتر�ص على التعبري عن الإ�سالم ب�صورة حترتم حقوق املواطنة لغري امل�سلمني وحترتم حقوق الإن�سان ومطالب التنمية والعدالة االجتماعية وت�ؤ�س�س لعالقات دولية �سوية .هذه املطالب قد بيناها يف م�ؤمتر طهران الأخري عن ال�صحوة الإ�سالمية. كذلك تناولناها تف�صيال يف كتاب �صدر هذا الأ�سبوع يف القاهرة بعنوان( :مالمح الفجر اجلديد). خمالطة امل�سلمني لغريهم
لأول مرة يف التاريخ يوجد ثلث امل�سلمني ك�أقليات يف بلدان �أخرى هم مواطنون فيها ولن يهاجروا منها ،ويف نف�س الوقت يقيم يف البلدان الإ�سالمية جماعات غري �إ�سالمية ال تقل يف املتو�سط عن ع�شر ال�سكان ،وي�ساكن ال�سكان يف الأقطار املختلفة جماعات وطنية ذات انتماءات ثقافية و�إثنية خمتلفة من هوية الأغلبية الثقافية والقومية. �أعداء الإ�سالم يراهنون على حتويل وجود امل�سلمني ك�أقليات يف البلدان املختلفة �إىل قيتوهات معزولة ومنبوذة .و�أن يحولوا اجلماعات الوطنية �إىل طابور خام�س يعب�أ بكل الو�سائل للعمل علي م�صائر انف�صالية بهدف متزيق البلدان. َ هّ ا�س �إِ ِيّن َر ُ�س ُ الل �إِ َل ْي ُك ْم ول ِ الإ�سالم دين عامليُ ( :ق ْل َيا �أَ ُّيهَا ال َّن ُ َجمِ ي ًعا)( .)3واملقايي�س التقليدية يف التعامل مع غري امل�سلمني ك�أهل ذمة غري وارد لأن ه�ؤالء داخلون مع امل�سلمني يف عهود املواطنة ،ولظروف ا�ستثني النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ن�صارى جنران من اجلزية ،وكذلك فعل عمر ر�ضي اهلل عنه مع ن�صارى تغلب ،ويف هذا ال�صدد قال القا�ضي �أبو يعلى� :إن العالقة القائمة على العهد ال توجب جزية �أ�صال. علينا احرتام حقوق املواطنة يف بالدنا و�إبرام مواثيق دينية وثقافية لكفالة حقوق الكافة.
قراءة عامة للم�صري الإ�سالمي
قال ابن القيم �إن واجب الفقيه هو معرفة الواجب والإحاطة بالواقع والتزاوج بينهما .ف�إن �صح هذا يف ظروف غابرة فهو اليوم �أوجب الواجبات: �أوال :العالقة االنكفائية بالآخر الإن�ساين مل تعد ممكنة يف عامل تداخلت فيه ظروف حياته لدرجة الت�شبيه بالقرية الواحدة، واالنكفاء �أ�صال غري وارد يف دين الإ�سالم الذي يخاطب الإن�سانية كافة والذي يعترب الكون كتاب اهلل املن�شور و�أن قوانني الطبيعة هي ال�سنن الكونية ( َر ُّب َنا ا َّلذِ ي �أَ ْع َطى ُك َّل َ�ش ْي ٍء َخ ْل َق ُه ُث َّم َهدَى)(،)4 ال ْر َ �ض َومَا ال�س َما َواتِ َو ْ َ أ وعامل ال�شهادة من �أ�سمى �آيات (مَا َخلَ ْق َنا َّ َب ْي َن ُه َما ِ�إ اَّل ِبالحْ َ ِّق)(. )5 من حيث اكت�شافات العلم التجريبي يف قوانني الطبيعة ، والنف�س الإن�سانية ،وعلم االجتماع ،والآثار وغريها ،تلزمنا الهجرة الفكرية والتكنولوجية للح�ضارة احلديثة لأن ما فيها يف هذه املجاالت �ساهمنا يف اكت�شافها تاريخيا ،ولأنها تتعلق بقوانني كلية يف الكون .ولكن احل�ضارة احلديثة �أغفلت يف تطورها الغائية، والأبعاد الروحية ،والأخالقية ،والبيئية فهي يف �أ�شد احلاجة �إيل هجرة ح�ضارتنا يف هذه املجاالت لكي تنظر بعينني ال بعني واحدة للم�صري الإن�ساين .هكذا ميكن للإ�سالم �أن يقوم بدوره الر�سايل دينا للإن�سانية. ثانيا :الأديان الأخرى يعيبها عدم االعرتاف للإن�سان بامل�ساواة الإن�سانية وعدم االعرتاف بالآخر امللي .الإ�سالم وحده م�ؤهل يف هذا ال�صدد ملطالبة �أهل امللل ب�أن تعالوا �إىل كلمة �سواء بيننا نعرتف بالكرامة الإن�سانية ونعرتف بالتعددية الدينية ونعطي كل ذي حق حقه وندعو للحق ب�أ�سلوب (�أ ْد ُع �إِلىَ َ�س ِبيلِ َر ِّب َك ِبالحْ ِ ْك َم ِة َوالمْ َ ْوعِ َظ ِة الحْ َ َ�س َن ِة َو َجا ِد ْل ُه ْم بِا َّلتِي هِ َي �أَ ْح َ�س ُن)(.)6 ثالثاً :نقر جميعاً فيما يتعلق بعامل ال�شهادة جتربة البحث العلمي والتكنولوجي بال �أية قيود ملية �أو �أيديولوجية يف اكت�شاف وت�سخري �سنن الكون. رابعا :مهما تعددت الن�صو�ص حول حقوق الإن�سان ندعو الكافة الحرتامها وهي تعود كلها �إىل خم�سة �أ�صول :الكرامة: ( َو َل َق ْد َك َّر ْم َنا َبنِي �آ َد َم)( .)7احلريةَ ( :و ُقلِ الحْ َ ُّق مِ ن َّر ِّب ُك ْم َف َمن َ�ش�آ َء َف ْل ُي�ؤْمِ ن َومَن َ�ش�آ َء َف ْل َي ْك ُف ْر)( .)8العدل�( :إِ َّن هَّ َ الل َي ْ�أ ُم ُر بِا ْل َعدْلِ ا�س �إِ َّنا َخلَ ْق َنا ُكم ِّمن َذ َكرٍ َوالإِ ْح َ�سانِ )( .)9امل�ساواة :يا ( َيا �أَ ُّيهَا ال َّن ُ الل َو�أُن َثى َو َج َع ْل َنا ُك ْم ُ�ش ُعو ًبا َو َق َبا ِئ َل ِل َت َعا َر ُفوا ِ�إ َّن َ�أ ْك َر َم ُك ْم عِ ن َد هَّ ِ �أَ ْت َقا ُك ْم)( .)10وال�سالمَ ( :يا �أَ ُّيهَا ا َّلذِ َ ال�س ْل ِم ين �آ َم ُنواْ اد ُْخ ُلواْ فيِ ِّ َكا َّف ًة)(.)11
42
خام�ساً :وال يليق بكرامة الإن�سان وحقوقه �إال نظام حكم يحقق ال�ضامن حلقوق ال�شعوب ،وينبغي احلر�ص على عدم ربط الإ�سالم الرباعية الذهبية :امل�شاركةَ ( :و�أَ ْم ُرهُ ْم ُ�شو َرى َب ْي َن ُه ْم)( ،)12باال�ستبداد والف�ساد وحكم الإكراه ب�آلية االنقالب فقد قال عنه (الد ُ يح ُة ،للِ هَّ ِ َو ِل ِك َتا ِب ِه َو ِل َر ُ�سو ِل ِه َو ِلأَ ِئ َّم ِة المْ ُ ْ�سلِمِ َ وامل�ساءلةِ : ني ال�شيخ الألباين :االنقالب ال �أ�صل له يف الإ�سالم وهو بدعة منكرة. ّين ال َّن ِ�ص َ َوعَا َّم ِت ِه ْم)(.)13وال�شفافيةَ (:و َال َت ْل ِب ُ�سواْ الحْ َ َّق بِا ْل َباطِ لِ َو َت ْك ُت ُمواْ الحْ َ َّق َو�أَن ُت ْم َت ْعلَ ُمو َن)( .)14وقوله تعاىل ( َو َال َت ْك ُت ُمواْ َّ اخلامتة... ال�شهَا َد َة َومَن َي ْك ُت ْمهَا َف�إِ َّن ُه �آ ِث ٌم َق ْل ُب ُه َو هَّ ُ �إن مو�ضوع الدولة الإ�سالمية احلديثة بني النظرية والتطبيق الل مِبَا َت ْع َم ُلو َن َعلِي ٌم)( .)15و�سيادة حكم القانون( :لو �إن فاطمة بنت حممد �سرقت لأقمت عليها احلد) .لي�س مترينا �أكادمييا بل هو من �أهم هموم الأمة .لذلك يرجى �ساد�سا� :إقامة االقت�صاد على التنمية( :هُ َو �أَ َ ن�ش�أَ ُكم ِّم َن ا َلأ ْر ِ�ض التنادي مل�ؤمتر جامع لدرا�سة تراث املفارقة بني التنظري والتطبيق َو ْا�س َت ْع َم َر ُك ْم فِيهَا)( ،)16والرعاية االجتماعية�(:أَ َر َ�أ ْيتَ ا َّلذِ ي ُي َك ِّذ ُب يف تاريخنا ال�سيا�سي القدمي واحلديث بهدف ا�ستخال�ص الدرو�س ّين * َف َذل َِك ا َّلذِ ي َي ُد ُّع ا ْل َيتِي َم * َوال َي ُح ُّ �ض َعلَى َط َعا ِم المْ ِْ�س ِكنيِ) وو�ضع البو�صلة الهادية لتوجهات امل�سلمني .فالإ�سالم اليوم هو ب ِ ِالد ِ القوة العاملية الثقافية الكربى وهو كذلك يف البلدان الإ�سالمية (.)17 �سابعاً :معاين اجلهاد وا�سعة بدءاً من جهاد النف�س �إىل اجلهاد القوة االجتماعية الأكرب .هذه القوة الواعدة تتطلع ملن يقومون بالكلمة ( َفال ُتطِ ِع ا ْل َكا ِفر َ ريا)(� )18أي ببلورتها لأنه �سبحانه وتعاىل يحث على ذلك بقوله ( َو ْل َت ُكن ِّمن ُك ْم ِين َو َجاهِ دْهُ م ِب ِه جِ هَادًا َك ِب ً القران .والقتال الدفاعي�( :أُ ِذ َن ِل ّلَذِ َ ين ُي َقا َت ُلو َن ِب َ�أ َّن ُه ْم ُظ ِل ُموا َو�إِ َّن �أُ َّم ٌة َي ْدعُو َن �إِلىَ الخْ َ يرْ ِ)( ،)21وقوله تعاىل ( َف�إِن َي ْك ُف ْر ِبهَا َه�ؤُالء هَّ َ الل َعلَى َن ْ�صرِهِ ْم َل َقدِ ي ٌر)( .)19على �أن تقوم العالقات الدولية على َف َق ْد َو َّك ْل َنا ِبهَا َق ْو ًما َّل ْي ُ�سواْ ِبهَا ِب َكا ِفر َ ِين)(.)22 العدل وال�سالم والتعاون( :ال َي ْنهَا ُك ُم هَّ ُ الل ع َِن ا َّلذِ َ ين لمَ ْ ُي َقا ِت ُلو ُك ْم وعلى اهلل ق�صد ال�سبيل. ّين َولمَ ْ ُي ْخر ُِجو ُكم ِّمن ِد َيا ِر ُك ْم �أَن َتبرَ ُّ وهُ ْم َو ُت ْق�سِ ُطوا �إِ َل ْي ِه ْم �إِ َّن فيِ ِ الد ِ هَّ َ الل يُحِ ُّب المْ ُ ْق�سِ طِ َ ني)()20 ثامناً :الأحكام قطعية الداللة ملزمة ،ولكن �إقامتها تعتمد على اجتهاد مقا�صدي ي�ست�صعب :املقا�صد ،العقل ،امل�صلحة ،الإلهام، الـهــوامــــــ�ش ال�سيا�سة ال�شرعية ،احلكمة ،ويراعي فقه الأولويات على �أن متنع (� )1سورة ال�شورى� :آية 38 (� )2سورة التغابن الآية ()16 فو�ضى الفتاوى الفردية ويقام االجتهاد امل�ؤ�س�سي. (� )3سورة الأعراف الآية ()158 تا�سعاً :وحدة �أهل القبلة هدف جامع ويتطلب االعتدال ،لأنه (� )4سورة طه الآية ()50 (� )5سورة الأحقاف الآية 3 �إذا كانت ال�سنة هي �إتباع �سنة حممد �صلى اهلل عليه و�سلم فكل (� )6سورة النحل الآية 125 (� )7سورة الإ�سراء الآية 70 امل�سلمني �أهل �سنة ،و�إذا كان الت�شيع هو حب �آل بيت النبي �صلى (� )8سورة الكهف الآية 29 (� )9سورة النحل الآية ()90 اهلل عليه و�سلم فكل امل�سلمني �شيعة ،و�إذا كان الت�صوف يعني �أن (� )10سورة احلجرات الآية .13 (� )11سورة البقرة الآية ()208 لأحكام الإ�سالم �أغوارا روحية :فكل امل�سلمني �صوفية ،ما عدا ذلك (� )12سورة ال�شورى� :آية 38 من �إ�ضافات لدى الفرق �إ�ضافات مذهبية ال تلزم الآخرين� .أما (� )13صحيح م�سلم يف كتاب الإميان. (� )14سورة البقرة الآية ()42 املذاهب الفقهية فهي بناءات اجتهادية ال ي�ضري تعددها ما دامت (� )15سورة البقرة الآية ()283 (� )16سورة هود الآية .61 غري ملزمة لغري �أ�صحابها .بهذه اخللفية ميكن العمل على تكوين (� )17سورة املاعون الآيات من .3-1 (� )18سورة الفرقان الآية ()52 (� )19سورة احلج الآية 39 منظومة دولية �إ�سالمية. (� )20سورة املمتحنة الآية ()8 عا�شراً :يف كل احلاالت ينبغي عدم رفع ال�شعار الإ�سالمي ل�سلب (� )21سورة �آل عمران الآية ()104 (� )22سورة الأنعام الآية ()89 حقوق ال�شعوب ،بل احلر�ص على �أن يكون ال�شعار الإ�سالمي هو �ألقاها خالل حفل نظمته وزارة الثقافة يف قاعة ال�صداقة 2011/10/4احتفاء باملفكر �أ .د .عبد احلليم عوي�س وال�شاعر الدكتور :عبد اهلل با�شراحيل
43
التقريب بين المسلمين .... دور الدولة والمجتمع وأهل العلم الكالم يف التقريب بني املذاهب الإ�سالمية� ،أو بني �أهلها ،بني امل�سلمني ،و�أحيانا بني �أهل املذهب الواحد عندما يفرق بينهم �آمر �آخر، �سيا�سي مث ً ال ،وي�صبح هناك خطر جراء ميل كل طرف اىل تغطية خ�صومته �أو �صراعه مع الطرف الآخر ،باملذهب� ،أي باملتحقق من الدين يف املذهب .هذا الكالم ،تفريع على الكالم عن االختالف ،واحلاجة اىل التقريب ،ت�شتد كلما دفع االختالف ،من خارج الدين بالطبع ،اىل مقام اخلالف ،حيث يلتب�س ما هو من خارج الدين بالدين ،لي�ضر بالدين واملتدينني .هذا وان االختالف بذاته لي�س م�شكلة ،بل هو حل �أو م�شروع حل للم�شكلة ،م�شكلة البعد الواحد يف املعرفة وال�سلوك واالجتماع ،ما يعني عطالة وبطالة يف املعرفة ويف احلياة .والدين يف الأ�صل �أطروحة حياة واحياء ( َيا �أَ ُّيهَا ا َّلذِ َ ين �آ َم ُنوا ْا�س َتجِ ي ُبوا للِهَّ ِ َولِل َّر ُ�سولِ �إِ َذا َدعَا ُك ْم لمِ َا ُي ْحيِي ُك ْم َو ْاعلَ ُموا �أَ َّن اللهَّ َ َي ُح ُ ول َبينْ َ المْ َ ْر ِء َو َق ْل ِب ِه َو�أَ َّن ُه �إِ َل ْي ِه تحُ ْ َ�ش ُرو َن ) (الأنفال.)24 : �إىل ذلك ،فان الوحدة ال�شاملة والتامة ،ان �أمكنت ،وال ندري كيف وملاذا؟ هي اذابة للمتعدد يف واحد ،او للمتعدد احلقيقي يف واحد افرتا�ضي ،والواحد يف هذه احلال هو �أحد الأطراف ،يتغلب على البقية فت�صبح واحداً� ،أو هو الواحد امل�ؤتلف �أو امللفق من املجموع ،وذلك كله يفرت�ض لتحقيقه عنفاً مادياً ومعنوياً ،مبا�شراً (ج�سدي بالقتل)، �أو غري مبا�شر (بالقمع واملنع) ..وبالطبع فانه ي�ستتبع عنفاً ينفجر عندما يكف الطرف املهيمن (املوحد قهراً) ،عن فر�ض هيمنته ل�ضعف طارئ ،يطر�أ دائماً ،او عندما يبلغ الغاء املهيمن عليه بداعي الوحدة، التي هي بالواقع م�صادرة ،عندما يبلغ هذا االلغاء درجة غري قابلة لالحتمال ،اما الوحدة باملعنى املنهجي وااليجابي واملمكن واملطلوب، فهي حفظ التعدد بالوحدة واغناء الوحدة ،اي ادامة حيويتها بالتعدد، من هنا ،يرقى االختالف يف ن�صو�صنا الت�أ�سي�سية ،كتاباً و�سنة ،وكتاباً باخل�صو�ص ،اىل م�ستوى الداللة والبيئة على وحدة اخلالق وعظمة ا�س �أُ َّم ًة َواحِ َد ًة َو اَل َي َزا ُلو َن املدبر وح�سن التدبري( َو َل ْو َ�شا َء َر ُّب َك لجَ َ َع َل ال َّن َ ل َّنَ َ مخُ ْ َت ِل ِف َ ني �إِ اَّل َمنْ َرحِ َم َر ُّب َك َو ِل َذل َِك َخلَ َق ُه ْم َوتمَ َّ تْ َك ِل َم ُة َر ِّب َك َ أل ْم َ أ َ ا�س �أ ْج َم ِع َ ني )(هود .)119- 118 :ما الذي يدفع َج َه َّن َم مِ َن الجْ ِ َّن ِة َوال َّن ِ االختالف اىل مقام اخلالف؟ ليحول ا�ستقطاب الوحدة يف املتعدد اىل
هاين فح�ص
ا�ستقطاب التقابل احلاد واملفا�صلة احلامية ،اي تبادل االلغاء معرفة ووجوداً ،اي التكفري ثم القتل؟ تقديري انه ما من حالة ح�ضارية �سالبة (الفرقة والف�صال) �أو موجبة (التقارب) اال وهي باعتبارها مركبة اجناز م�شرتك� ،أو ارتكاب م�شرتك ،ل�شركاء يقع يف مقدمهم الدولة واملجتمع والطليعة العلمية والثقافية املت�صلة املو�صولة مبتحداتها االجتماعية ،مبا مينع حتولها اىل نخبة منف�صلة ،اي انف�صال العالمِ عن العالمَ ،وهذا االت�صال يحقق اجنازا موجباً (تقارب) او ارتكا�سا �سالبا (تفرقة) بقدر ما يكون حمكوماً مبنهجية علمية ملتزمة ب�أنظمة قيم متنعها من انتاج املعرفة على مقت�ضى الع�صبية او املزاج ،مزاج اجلماعة الدينية التي يتي�سر لها
44
درجة من القوة جتعلها يف موقع احلكم او الغلبة ،فت�ست�أثر ومتنع وال ت�شارك اجلماعات الأخرى يف حركة العلم بناء على امل�شرتك� ،أو مزاج اجلماعة التي تعزل فتنعزل ،وتنتج من �أجل متا�سكها يف مواجهة االلغاء فكراً وفقهاً انعزالياً ذا عالقة برانية بنظام املعرفة الديني �أو اال�سالمي حتديداً على ا�سا�س ان العالقة املنهجية العميقة تخفف من انتاج الأحكام بناء على مزاج اجلمهور ،وان كانت وظيفة الفقيه ان ينتج ل�صالح هذا اجلمهور دائماً ل�ضبط �سلوكه ومنع الفو�ضى .ولكن اخل�ضوع للمزاج العام �أمر �آخر .وهكذا جند ان كثرياً من علماء املذاهب اال�سالمية قد انتجوا يف فقه العبادات احكاماً تختلف عن الأحكام التي انتجوها يف ظرف خمتلف ،فااللغاء الذي مار�سته الدولة يف عهود خمتلفة ،عهود الرتاجع� ،أدى اىل �إحلاح الأطراف الدينية املق�صية اىل حركة فقه متايزي ،خمالفة بذلك تراثها ،ل�سبب يكاد يكون وحيداً وهو ان هذا الفقه االندماجي ال ي�ساعد على ا�شباع النزوع اىل االحتماء بالذات يف مقابل التهمي�ش. وظيفة الدولة اذا ما قررت الدولة ان تقوم بوظيفتها كحا�ضن ،فانها ت�صغي ملجتمعها وطليعته العلمية ،بداعي ال�شراكة ،فتكون بذلك قد ا�ستحقت و�ألزمت جمتمعها وطليعته باال�صغاء لها ،اي اقامة العالقة على احلوار ،الذي يجعل الدولة تتب�صر يف تعدد اجتماعها ،وتتلم�س عالقاته يف تكوينها ،فان تراجع من�سوبه ،تراجع دورها وفعلها ،وان تقدم هذا املن�سوب التعددي ،تقدمت الدولة واملجتمع معاً ،اذن فال بد للدولة ان تن�شط �أواليات احلوار واالندماج ،ما يوفر لها حراكاً يحفظها ويجددها ك�ضرورة اجتماع ،بالوالء والنقد معاً ،ومينع االعرتا�ض عليها من ان يتحول اىل �سعي لنق�ضها او تقوي�ضها .وعندما تختار الدولة ان تنف�صل عن اجتماعها ،تكف عن اال�صغاء ،فيكف االجتماع عن اال�صغاء لها ،فاذا ما كابرت الدولة ،ردت باال�شتغال على تظهري وتعميق الفوارق بني مكونات اجتماعها وطالئعه العلمية ،لتجد مكانها ومكانتها يف ال�سجال الذي ي�ؤول اىل ال�صراع الأهلي ،مغرياً املجتمع باال�ستقواء على الدولة جراء ا�ستقوائها عليه .ويف العادة ان الدولة ت�ستثمر الفوارق الكمية يف مكونات اجتماعها ،فتغري الأغلبية مبوافقتها على �أنها- �أي الدولة -هي حافظة م�صاحلها ،ما يغري حاالت �أقلوية ،ان تتذرع بفكر �آخر (قومي مثال �أو مذهبي �أو حزبي) ،لتغري جماعتها بالهيمنة واال�ستئثار وتهمي�ش الأغلبية ،وهذه احلالة تختزن عنفاً م�ضاعفاً عندما تنقلب الأمور ،التي تنقلب عادة ،وان طال الزمان. اذن ،فالدولة ا�سا�س يف م�س�ألة التقارب �أو التقريب ،وال�شرط عليها، �أو لها والجتماعها ،ان ترعى حركة التقارب ،فتمنحها حريتها الكاملة، وت�ساعدها على ت�شغيل وجتديد طرائقها العلمية ،من دون اهداف �سيا�سية �أو �سلطوية مبا�شرة واختزالية تف�ضي اىل امل�صادرة والتعطيل،
وهذا لي�س دعوة اىل التن�صل من ال�سيا�سة ،او اق�صاء الدولة ،يف حيز ما ،عن �ش�أنها ال�سيا�سي ،الذي هو �أهم وظائفها ،بل �إن بامكان الدولة ان تتحول اىل حا�صد �سيا�سي ماهر ،بقدر ما ت�سهم يف رعاية وحماية الزرع والزراع. اقول قويل هذا ،وانا مفرت�ض ان االميان يجمع اجلميع ،واال فماذا يفعل االميان ان مل يجمع؟ واذا ما فرقنا االميان ،فما ومن الذي يجمعنا؟ ان الذي يفرقنا هو غري االميان� ،أو �أننا ال نتفرق ونحرتب ونحن م�ؤمنون ،وهذا لي�س تكفريا ,هذا انتباه اىل ان االميان يف حلظة من حلظات التوتر يلتب�س بغريه ،ال يزول بكامله ،النه مركب ،ولكن املقدار الباقي منه ال يعود بامكانه ان يهيمن ،اي ان مينع ،اي ان يجمع. �إذن ،فف�ضاء الإميان �أرحب و�أرحم من اقبية الع�صبيات ودهاليز ال�سيا�سة و�أنفاق ال�سلطة مبعناها احل ْريف واحل َريف ،ونحن نفرت�ض ان هذا االميان ،يتمظهر يف فكر و�سلوك توحيدي وحدوي ،ما يحقق الوحدة كمعادل مو�ضوعي للتوحيد بالن�ص القر�آن( َو�إِ َّن هَذِ ِه �أُ َّم ُت ُك ْم �أُ َّم ًة َواحِ َد ًة َو�أَ َنا َر ُّب ُك ْم َفا َّت ُقونِ )(امل�ؤمنون )52 :وما يعني ،ان الوحدة والتوحيد، �أ�شبه باملت�ضايفني اللذين ي�شكل االميان �شرطهما ،او ملكتهما ،ح�سب امل�صطلح املنطقي ،هذا يف حني ان هناك �شواهد كثرية يف التاريخ، يف اجتماع �أهل الباطل ،او امل�شركني يف مقابل تفرق �أهل التوحيد وامل�ؤمنني ،غري انه ،وح�سب �شهادة التاريخ ،تبقى وحدة �أهل الباطل عار�ضة ،وان طال �أمدها وتبقى فرقة �أهل االميان والتوحيد واحلق عار�ضة ،وان طال امدها ،وهذه لي�ست دعوة اىل الطم�أنينة والك�سل، لأن اخل�سائر التي ترتتب على �صراع اهل احلق واالميان باهظة� ،سواء طال الزمان بها �أم ق�صر ،من هنا ،فان تكليفنا احل�ضاري والديني واالن�ساين ،ان نقلل ،ان مل يكن مبقدورنا ان نلغي ،ال�صراعات البينية، بني �أهل االميان ،ونقلل من ب�شاعتها وتطاولها ان ح�صلت ،ونعمد دائماً اىل �صناعة الت�سويات بالتنازالت امل�شرتكة ،لأن اخل�سائر التي ترتتب على التنازل يف هذه احلالة ،هي �أقل بكثري من اخل�سائر التي ترتتب على النزاع �أو ال�صراع ،والتي ال ي�سلم منها طرف من الأطراف ،والتي تعود فيها امل�صالح املتحققة� ،إن حتققت ،اىل �أ�شرار الأطراف واجلماعات واملذاهب والطوائف والأديان. ولعلنا مع دولتنا احلديثة ،وبعدما �أدى تق�صريها بوظائفها العامة، وتطورها يف �أدائها اىل تهديد فكرتها ووجودها بعدما ه ّز موقعها ،لعلنا نعود معاً اىل �سياق تكاملي خمتلف ،تفادياً لال�ستحقاقات الباهظة واملدمرة ،والتي تتالقى على انزالها بنا مطامع اخلارج والطموحات املري�ضة يف الداخل ،والتي ال يعفينا التطرف املرتتب عليها من م�س�ؤوليتنا دولة وجمتمعاً ودولة او ًال عن دفعها اىل واجهة امل�شهد و�صو ًال ب�أعماقه التي تبد�أ من انف�صال الدولة عن اجتماعها وال تنتهي يف �أنظمتنا الرتبوية التي و�ضعتها الدولة وارت�ضاها املجتمع وزاد
45
على عوامل انتاج التطرف فيها عوامل �أخرى ت�أتي من ت�صور غري عادل وغري علمي وغري ثابت يف موروثنا ،ت�صور ح�صرية اخلال�ص يف اجلماعة دون غريها من اجلماعات. �إذن ...لعلنا مع دولنا بعدما و�صلت النريان اىل خمادعها ال�سلطوية، على الطريق نحو �إزالة االلتبا�سات ،من �أجل حتقيق ال�شراكة على مف�صل مع�ضل يهدد جمموع م�صاحلنا و ُيعدنا لال�ستحواذ علينا هذه املرة ،ب�شكل �أق�سى و�أو�سع و�أبعد من كل ما ح�صل حتى الآن ،وعلى الطريق ال بد له� ،أي املف�صل ،من ان يخلخل ن�صاب �شراكتنا يف امل�شرتك الأعظم بيننا ،اي االميان� ،أو اال�سالم كثقافة جامعة ال بد ان تكون مانعة منيعة وممانعة ،اي عا�صمة مبا هو حبل اهلل هو املعت�صم ومبا هي الكرثة� ،أي الوحدة ،عا�صمة للقلة ،ومبا هو التفرق تفتيت للع�صمة. اخليار الو�سطي يح�سن بنا �أن ن�ستعيد مثاالتنا من ما�ضينا امل�شرتك ،بدل ان ن�ستعيد �أ�ساليب من هذا املا�ضي او املفرق وك�أنه النمط املالئم او امللزم لنا يف ما ن�ستقبل من ا�ستحقاقاتنا ..ويف العهد الرا�شدي التعددي الوحدوي، والذي كانت امل�شاركة هي التي حتكم م�ساره ،لتجعل القطيعة �أو املقاطعة جمرد وجهة نظر ،جمرد ر�أي ال يلبث ان ين�سحب اىل الوراء عندما تتقدم م�صالح امل�سلمني على غريها .كان علي بن ابي طالب ر�ضي اهلل عنه ي�ؤثر العام على اخلا�ص من دون جماملة "لأ�سلمن ما �سلمت علي خا�صة" وهذا يف�ضي بنا اىل امور امل�سلمني ومل يكن فيها جور �إال َّ م�شرتك مركزي يف الدائرة اال�سالمية� ،أعني �أهل البيت ر�ضي اهلل عنهم الذي كلفنا اهلل يف كتابه مبودتهم كفاء ما هدانا على يد �سيدهم و�سيدنا ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم وهم الذين �آثروا الو�سطية موقعاً لهم حفظاَ ملركزيتهم يف نظام القيم اال�سالمية ولدورهم اجلامع لكل الأطراف ،ما جعلهم يبنون عالقتهم بال�سلطة على م�سلكية ترجح الدعوة على ال�سلطة. نظر االمام علي بن مو�سى الر�ضا ر�ضي اهلل عنه للخيار الو�سطي امل�س�ؤول بقوله" :نحن �آل حممد النمط الو�سطي ،الذي ال يدركنا الغايل وال ي�سبقنا التايل" ،ويعقب �أحد العلماء على هذا القول بقوله: �أعلم �أن النمط الأو�سطي ينبغي ان يكون جامعاً بني الطرفني" ان الذي يقوم يف الو�سط ،يرى اىل كل الأطراف ،يرى ما فيها من حقائق ولديها من حق وعليها من حق ،منطلقاً من تعددية املعرفة وتركيب احلقيقة ،فمن �أراد مزيداً من احلقيقة ،فما عليه اال ان يعرتف الآخر بحقه وما لديه من حقيقة ،وبحاجته اىل ما يف يد الآخر من حقائق ومن حقوق ،واال تناق�ض او ت�آكل خمزونه االمياين مهما يكن باذخاً، وتراجع مدخوله من احلقائق مهما يكن جمتهداً يف طلب العلم .بعد الدولة ،وهذا لي�س ترتيباً طولياً لأن الدولة واملجتمع ،يف عر�ض واحد،
بعد الدولة ،هناك االجتماع العام ،اال�سالمي �أو العربي �أو الوطني، وموحدة ال تنفي التعدد ،وال ت�شرتط موحدة ِّ وهذه كلها مفاهيم َّ "الدولة الأمة" كتحقيق لوحدتها املتحدرة واملتجذرة يف التوحيد ،لأن وحدة االجتماع الوطني واال�سالمي والعربي ،وبن�سب متفاوتة ،باجلعل ا�س �إِ َّنا َخلَ ْق َنا ُك ْم مِ نْ االلهي �أو ًال ،والتطور التاريخي ثانياً ( َيا �أَ ُّيهَا ال َّن ُ َذ َك ٍر َو�أُ ْن َثى َو َج َع ْل َنا ُك ْم ُ�ش ُعو ًبا َو َق َبا ِئ َل ِل َت َعا َر ُفوا �إِ َّن َ�أ ْك َر َم ُك ْم عِ ْن َد اللهَّ ِ �أَ ْت َقا ُك ْم ري )(احلجرات )13:هذه الوحدة قائمة يف العمق ،تتقدم �إِ َّن اللهَّ َ َعلِي ٌم َخ ِب ٌ مظاهرها وترتاجع بفعل النزاعات على �أنظمة امل�صالح ،ولكنها تبقى را�سخة وتبلغ �أوج التعبري عنها يف املفا�صل وامام الق�ضايا والأحداث الكربى وعليه فعندما تتعدد الدول من دون رغبة او موافقة على التعدد املفتعل وال�ضار ،الذي حدث يف انف�صال بنغالد�ش عن باك�ستان، وال حتى انف�صال باك�ستان عن الهند ،عندما تتعدد الدول الوطنية ،ال يبقى �سائغاً وال جائزاً ان ي�ستقيل املت�شبثون بالوحدة ،من اجناز دولهم الوطنية كاملة مطالبة وم�ؤثرة بتكاملها مع غريها ..متذرعني ب�أولوية "الدولة الأمة". �إن اجتماعنا لو ترك و�ش�أنه� ،أي من دون �سيا�سة حزبية تقوم على التع�صيب ،وتطلب ال�سهولة يف ذلك ،فتجد املكون املذهبي ناجزاً وجاهزاً، او هي التي تعيد جتهيزه فت�ستح�ضر الفوارق الطبيعية؛ تبعثها بذهنية وخطاب ف�صايل او �سجايل ،وت�ستولدها ،تولد منها ،طوعاً �أو ق�سراً ،اي اعتماداً على مناطق رخوة يف منظومتها العقدية الفقهية ،فوارق اخرى او تلج�أ اىل املوروث التاريخي ت�ستدعي منها االنك�سارات التي ح�صلت بفعل عوامل خارجية وم�ؤثرات �سيا�سية عمدت اىل ت�ضخيم الفوارق وتفجريها ،وتذهب اىل �صناعة التمايزات طلباً للفرقة.. �إن حممولنا التاريخي ،ال�سيا�سي منه بامتياز ،نحرتمه ،وحتى عندما ننقده ،ال لنقو�ض ،بل مقدمة لنقد احلا�ضر وامل�ستقبل الذي نريد �أن ن�ستقبله ،ف�إذا ما �أحلناه على املا�ضي كما هو� ،أي من دون تب�صر �أو نقد، ف�إننا نكون قد �شرعنا يف ا�ستقبال املا�ضي ،وهذا عدوان على املا�ضي ،ما يعني �أن ن�ستدبر م�ستقبلنا ،وهذا عدوان على امل�ستقبل وعلى كل �شيء. �إذن فهذا املوروث ال بد من جتميد بع�ض فعالياته� ،إذا ما �أردنا �أن ننجز م�ستقبلنا ال�صعب ،واملحا�صر بالأ�سئلة ،والذي ال �سبيل اىل التخفيف من �صعوبته �إ ّال �أن نتوا�ضع �أو نتواط�أ على �إجنازه معاً ،ومن دون ذلك �سوف يكون منقو�صاً� ،أو لن يكون �أبداً� ..إن الت�شبث باملا�ضي يحيل املا�ضي عدة ال واحداً� ،أي �أنه ير�سخ ال�صورة النمطية لكل طائفة منا عن ذاتها وعن الطائفة الأخرى ،ونعود اىل ال�سرية يف اخرتاع منظومة �أيديولوجية حممولة على الدين مو�صولة به �شك ً ال ال م�ضموناً ،من �أجل تربير ف�صالنا وقطائعنا ،ما ال ي�ؤدي �إ ّال اىل مزيد من دفع غاللنا اىل طواحني �أعدائنا الذين يحولون هذه الغالل �إىل اغالل.
46
�شرط احلرية �إن جمتمعنا �أو جمتمعاتنا العربية والإ�سالمية والوطنية ،لو تركت بذاتها لذاتها ،ف�إنها م�ؤهلة لأن تعيد با�ستمرار اكت�شاف قيمها امل�شرتكة وم�صاحلها امل�شرتكة ،لت�ؤ�س�س عليها ،وتعيد ت�أ�سي�س عي�شها امل�شرتك، الذي يقوم على املعرفة امل�شرتكة والتعارف واالعرتاف املتبادل ،وتكامل املختلف وحيوية وقوة امل�ؤتلف ،ارتقاء اىل م�ستوى املواطنة التي حتفظ اجلميع باجلميع للجميع ،حتت رعاية الدولة التي ت�ستمد قوتها من عدالتها وحتول قوتها اىل عدل وعدالة. �إذن ،فاملطلوب ،من �أجل الدوام واملداومة على �إجناز التقارب والتقريب واالقرتاب ،من موقعه الأمثل� ،أي املجتمع ،هو �أن مننح ملجتمعاتنا مزيداً من احلرية ،على �أ�سا�س �أن تنتج هذه احلرية نظامها، �أي امل�س�ؤولية وباحلرية يعرف املجتمع ويتعارف ويتثاقف ويتنا�صر.. ي�صبح كالبنيان املر�صو�ص الذي ي�شد بع�ضه بع�ضاً ،ويحمي جماعاته املختلفة من �إغراءات االنق�سام ،ذلك �أن التجزئة كاملر�ض ،قد تبد�أ من مكان ،ف�إذا ما ُتركت ّ تف�شت� ،إذن ال ُبد من ح�صارها بت�أهيل جمموع البدن للممانعة وتكثيف عمليات العالج والوقاية معاً. ال بد لتحقيق حرية املجتمع من �أن نعمل معاً ،دولة وم�ؤ�س�سات �أهلية ومدنية وطالئع علمية يف خمتلف احلقول واالخت�صا�صات على تخلي�ص املجتمع من �ضغط ال َقبليات يف كل �شيء ،من خمتلف حقول املعرفة اىل نظام العالئق البينية وعالئقنا بالآخر ،كل �آخر ،حتى العدو ال بد من قراءته مبو�ضوعية وا�ستح�ضار امل�ستمر ال املنقطع من تاريخ �صراعه �ضدنا ،وهذه لي�ست دعوة اىل التن�صل من اخل�صو�صيات واخليارات اخلا�صة ،ولكن ال بد من فرز ال�صلب منها عن املرن لال�شتغال على م�ساحة املرونة ت�أهي ً ال ملقاربة مواقع ال�صالبة بنوع من التليني ال الك�سر الذي يك�سرنا�" ،إن هذا الدين ملتني ف�أوغلوا فيه برفق "...لي�ست دعوة اىل التن�صل ولكنها دعوة اىل لون مركب من القطيعة والو�صلة، بداعي تو�سيع �أو حترير امل�ساحات امل�شرتكة لل�شغل يف ف�ضائها ،وت�ضييق م�ساحات االختالف و�ضبطها وحتويلها من منتج للخالف اىل جمال للتكامل واحليوية والإبداع والتنمية ال�شاملة كعالج م�ستدام لأمرا�ضنا الطارئة والتليدة والعتيدة ،والتي اكت�سبناها بفعل تعطيل �آليات �إنتاج املناعة وامل�ضادات احليوية �إزاء ما ينتجه ج�سمنا االجتماعي ب�شكل طبيعي من �أورام و�إزاء الأوبئة التي ت�أتينا من اخلارج وتفعل فعلها مب�ساعدة البيئة الذاتية املالئمة لها .وال ب ّد لنا �أن نرفع اخلوف ،بحيث ت�صبح كل جماعة منا جتد �أمانها الذاتي يف �أمان اجلماعة الأخرى ـ املختلفة ـ �أي يف �سالمتها وحريتها ،على �أ�سا�س �أن احلرية هي التي تتكفل ب�إ�صالح �أعطابها والوقاية منها معرفياً و�سيا�سياً وحياتياً.
بالإ�ضافة اىل ذلك ،ف�إن اال�ستبداد والقمع واملنع ،وخوف �أي جماعة من اجلماعة الأخرى ،هذا كله ي�ؤدي اىل تغطية ومتويه الإ�شكاالت، في�صبح اجلميع جهلة مبا عندهم من �أعطاب وعند غريهم ،وهذا ي�ؤدي اىل التفاقم و�صعوبة احلل الحقاً ،بينما تتيح احلرية ظهوراً للحقائق والأفكار ،حلوها ومرها� ،أي العلم بها لدى املبتلى بها ولدى املراقب املختلف ،ما ي�ؤدي اىل �إدراك م�شرتك مل�ضارها على اجلميع، واالنهماك امل�شرتك يف عالجها وتاليف ا�ست�شرائها وما يرتتب عليها من خماطر تطال اجلميع ...و�إنه ملبالغ� ،إن �أح�س ّنا الظن ،من يت�صور �أو ي�صدق ،ب�أن خل ً ال بنيوياً يف جماعة من جماعاتنا الوطنية يقت�صر �ضرره على �أهل هذه اجلماعة وحدهم ،دنيوياً و�أخروياً ،بل هو ي�صيب اجلميع حتى لو بدا �أن جماعة ما بعيدة عن متناول �آثاره� ...إذن ف�إن جماعة ال حتفظ حقها ،ما لديها من حق وما لها من حقوق� ،إ ّال بالعالج امل�س�ؤول وامل�شرتك لباطل اجلماعة الأخرى� ،أو ما تراه فيها من باطل ن�سبي تقابله ن�سبة �أخرى من الباطل لديها ،وحتتاج اىل تفاهم و�شراكة �أي�ضاً يف عالجها .على �أن اجلماعة قد ت�صيب وقد تخطئ يف ت�شخي�صها لباطل اجلماعة الأخرى ولباطلها هي .قد ت�صيب وقد تخطئ ،والأهم من اخلط�أ وال�صواب هو املكا�شفة وال�شفافية والت�سديد ،طلب ال�سداد للذات من خالل دفع الآخر اىل �سبيل ال�سداد والر�شاد. وهذا هو معنى الهدى والهداية التي هي تكليفنا الأ�سا�س� ،أي �إخراج النا�س ،نا�سنا و�أنف�سنا من الظالم اىل النور ،خ�صو�صاً �أن بع�ض الظالم املفرت�ض �إن هو �إ ّال اختالف وال يراه ظالماً �إ ّال القاعد يف ركن مظلم يقع وراء ف�ضاء الإ�سالم احلا�شد بالنور وال�ضياء� ...أال يحق لنا ال�س�ؤال هنا عن الفارق النوعي� ،أو يف الدرجة اىل حد كبري ،بني من نختلف معهم من امل�سلمني اليوم ،وبني الإ�سالم وامل�شركني يف فجر الدعوة؟ ولوال الدعوة� ،أي الرتغيب والرتهيب ،كيف كان ميكن �أن حت�صل الهداية ويدخل النا�س يف دين اهلل �أفواجاً وينعم عليهم الر�سول �صلى اهلل عليه و�سلم بال�سماح واحلرية "�إذهبوا ف�أنتم الطلقاء"؟ و�إذا كان الرتهيب جزءاً الحقاً ومعنوياً بالدرجة الأوىل ثم مادياً ـ دفاعياً ـ بالدرجة الثانية ،وبعد ف�شل الرتغيب من عملية الدعوة مع امل�شركني، ف�إنه مع امل�سلمني �إحالة ظاملة حلا�ضرنا على املا�ضي �أو على التبا�سات هذا املا�ضي .مع الفارق ال�صارخ ،ومع ان�شغال جميع فرق امل�سلمني بحالهم وم�آلهم على الطريق نف�سه ،الذي و�إن ت�شعب ظاهراً ،ف�إنه ميكن قراءة م�ساره الذاهب دائماً اىل وحدة ،تفريعاً على وحدة امل�صدر وامل�صب ،املنطلق والغاية التي ي�صل �إليها بقلق �أقل ،من ي�سلك الطرق ال�سالكة ...ولكن الآخر ي�صل و�إن ب�صعوبة �أكرث ،ونحن جميعاً مكلفون ب�إزالة عقبات الطريق ال قطعها على الآخر املختلف.
47
أثر العولمية في بناء حضارة إنسانية مثلى متهيد: ت�شغل ظاهرة العوملية اهتمام املفكرين واملخت�صني يف ال�ش�ؤون الثقافية وال�سيا�سية واالقت�صادية والإعالمية ،وقد تعدَّدت واختلفت الآراء حولها بني مت�شائم من م�ستقبل الأيام القادمة، وبني متفائل م�ستب�شر مبا �ستحققه هذه الظاهرة من رفاهية و�سعادة للمجتمع الب�شري ،وما �ستو ِّفره من جتان�س ووئام بني ال�شعوب. وقد ظهرت هذه االختالفات بجالء من خالل امل�ؤمترات التي ال�س َّكان واملر�أة والتنمية ومعاهدات منع انت�شار �أ�سلحة عقدت حول ُّ الدمار ال�شامل وم�ؤمترات منظمة التجارة العاملية ،بحيث جت َّلى اخلالف حول العوملية عرب اخلالف الذي دار يف هذه امل�ؤمترات حول مفهوم احلرية وحول املر�أة وحول ال�سكان وغري ذلك. تعريف العوملية: علي �إذا كان احلديث عن ال�شيء فرع ت�ص ُّوره ف�إين �أجد لزاما َّ قبل احلديث عن العوملية �أن �أُع ِّرفها لنقف على ت�ص ّور عام لها. من حيث اللغة :ف�إن مادَّة علم تطلق للداللة على اجلبل وعلى الراية ،وتطلق كذلك على املعرفة بال�شيء ،وكلمة عومل و�ضعت حديثاً للتعبري عن م�صدر �صناعي قيا�سي ،وا�شتقاقها �إمنا هو قيا�سي من ا�سم عامل والفعل منه عومل يعومل عوملة. توليد ٌّ وينبغي التفريق بني كلمتني : العوملة :وهي كلمة تطلق للداللة على حدث بعينه ،واملق�صود به يف هذا اللفظ حالة االنتقال من و�ضع الدول القومية ذات اخل�صو�صيات الثقافية امل�ستقلة �إىل و�ضع القرية الكونية التي ت�ضم العامل �أجمع عرب املخرتعات التي تجَ ِ دُّ مع الزمن من �سبل االت�صال احلديثة ،فعملية التح ُّول يطلق عليها لفظ العوملة. العوملية :وهي م�صدر �صناعي قيا�سي ُيراد به َو�ضع م�س َّمى لهذا ا�سم يطلق االجتاه احل�ضاري الذي هو معنى حادث مفتقر �إىل ٍ عليه بحيث يكون به معروفاً ،ويتم َّيز به عن غريه من امل�صطلحات احلادثة.
د .قي�س بن حممد �آل ال�شيخ مبارك
من حيث اال�صطالح: ف�إن العوملية تعترب واحدة من �أبرز الظواهر احلادثة هذه الأيام ،وهي مفهوم ك ِّلي مركب من معقوالت متعدِّدة ،تتك َّون من جمموعها �صورة مدركة متع َّقلة متم ِّيزة عن غريها� ،أي �أن �أحكام العوملية وقوانينها �أمور مدركة للعقول .ولها مظاهر واقعة حم�سو�سة تتج َّلى فيها ،فهي لي�ست ت�ص ُّورات يفر�ضها اخليال ويت�صورها الذهن بحيث ال يكون لها �أثر واقع م�شهود. فهي ظاهرة مر َّكبة من متغيرِّ ات متعددة ،بد�أت تظهر وتتنامى بت�سارع بحيث ُيتوقع �أن ي�شهد العامل يف امل�ستقبل القريب ب�سبب معنى هذا الرتابط وااللتقاء بني هذه املتغريات املتعددة ح�صول ً
48
م�شرتك ينتظم هذه املتغريات جميعها يف وعاء واحد ،وهو ما يطلق عليه لفظ العوملية ،ف�صارت كلمة العوملية َعلَماً على هذا املعنى. معنى مل ين�ضج بعد ،ومل تظهر فهذا امل�صطلح باعتباره عنواناً على ً له �صورة مكتملة يف اخلارج ،و�إمنا هو ال يزال يتمثل يف ت�ص ُّورات وافرتا�ضات يفر�ضها الذهن وي�ضع لها ت�ص ُّوراً مُت َو َّقعاً ،ا�ستناداً �إىل م�شاهدات لآثار حم�سو�سة بد�أت تظهر يف الواقع ،و�إىل ا�ستنتاجات عقلية اجتهادية. من �أجل ذلك اختلفت الأقوال يف تعريفها وا�ضطربت ال ُفهُوم يف َر�سم معاملها و�ضبط ح ٍّد لهذا املولود اجلديد .فكان االختالف يف التعريفات واحلدود كبريا ،تبعاً الختالف الت�ص ُّورات والفهوم. �أو ًال :العوملية االقت�صادية: باعتبارها نتاج داخلي للر�أ�سمالية الغربية ولل�شركات متعدِّية اجلن�سيات –ولي�ست متعدِّدة اجلن�سية– �أي �أنها ال حتمل جن�سيات متعددة ،بل تقفز فوق احلواجز واحلدود ال�سيا�سية وتتعدَّاها. والعوملية االقت�صادية م�صطلح خرج لأول مرة يف جمال املال والتجارة ،تعبرياً عن ظاهرة �أخذت َّ تتف�شى يف هذه الأيام ،وهي ظاهرة ا ِّت�ساع جمال الإنتاج واملبادالت التجارية لي�شمل �سائر الأ�سواق العاملية. ورمبا عبرَّ عن هذا املعنى الدكتور �إ�سماعيل �صربي عبد اهلل بقوله :جتاوز اعتبارات ال�سيادة الوطنية للدولة وخلق نوع من القوة االقت�صادية ،التي ت�ؤثر يف جوانب كوكب الأر�ض دون �أن تقابلها �سلطة �سيا�سية على امل�ستوى نف�سه فوق القومي . ثاني ًا :العوملية االجتماعية: باعتبار العوملية م�صطلحا ثقافيا اجتماعيا يت�صل بعلم االجتماع �أكرث منه باالقت�صاد �أو بال�سيا�سة �أو بغري ذلك. والعوملية االجتماعية تعني االجتاه املتنامي الذي ي�صبح به العامل ن�سبياً ُكـ َر ًة اجتماعية بال حدود .وبتعبري �آخر :هي تكثيف العالقات االجتماعية عرب العامل ،حيث ترتبط الأحداث املحلية املتباعدة بطريقة تبدو كما لو كانت تتم يف جمتمع واحد . ثالث ًا :العوملية ال�سيا�سية: باعتبارها م�صطلحاً لمِ َعنى رفع احلواجز واحلدود �أمام امل�ؤ�س�سات وال�شركات الدولية واالقت�صادية والإعالمية لتمار�س �سلطتها بو�سائلها اخلا�صة لتح َّل حمل الدولة ،بحيث يبقى دور الدولة دور ال�شرطي لنظام العوملية. فالعوملية ال�سيا�سية ظاهرة تتداخل فيها �أمور االقت�صاد
وال�سيا�سة والثقافة واالجتماع وال�سلوك ويكون االنتماء فيها للعامل كله عرب احلدود ال�سيا�سية الدولية وحتدث فيها حتوالت على خمتلف الأ�صعدة ت�ؤثر على حياة الإن�سان يف كوكب الأر�ض �أينما كان . وبتعبري الدكتورة نادية حمفوظ� :إن العوملية يف ال�سيا�سة الأمريكية هي نقل الرغبة بالهيمنة واال�ستحواذ من الإطار القومي املحدود واملراقب من جانب الأعراف الدولية �إىل الال حمدود الذي ين�أى عن كل مراقبة. نذير ُم�ؤْ ِذنٌ بح�ضارة ذات ثقافة واحدة: العوملية ٌ ففي عامل ي�سوده القلق وتعروه احلرية واال�ضطراب و َتتم َّلكه نوازع �شتى من �شهوات �آنية �آ�سنة لرغائب نف�سانية عاتية ،ميتنع عليه حت�صيلها ويعجز عن الرتفع عليها واال�ستغناء عنها ،ويظل املرء يلهث وراءها كما يلهث الظم�آن خلف ال�سراب. يف مثل هذا العامل الذي تتزاحم فيه الآالم بالآمال تواجه �أ َّم ُتنا جملة من التحديات التي مت التمكني لها يف الأر�ض ،والتي تعدُّ ثمرة ملا ي�سمى بالعوملية �أو الكوكبية. وهي حتديات تركت من الآثار ما نحن نتخبط الآن فيه ب�سببها من حمن وم�صائب ،حتديات اختارها الكبار وفر�ضوها على أ�سا�سها مبد�أ دميقراطية ِّ ال�صغار ،بحيث تخ�ضع لفكر ٍة ُ روحها و� ُ ال�سوق والنمو االقت�صادي وتعزيز املناف�سة احل َّرة وت�سريع التحوالت الهيكلية يف �أ�سواق العمل. حتديات تفر�ض نف�سها عرب و�سائل الإعالم واالت�صال احلديثة، وعرب ال�شركات املالية التي حتكم و ُت َو ِّجه القرارات ال�سيا�سية ،وهي حتدِّيات منافي ٌة ومناق�ض ٌة لفكرة الأمة الواحدة التي يدعو لها القر�آن الكرمي والتي �أ�سا�سها احلرية والعدل وامل�ساواة. جت ِّليات هذه التحديات: تتج َّلى هذه التحديات يف �صور �شتى من جوانب حياتية متعددة. فهي تفتك باملجتمع ب�سبب التفاعالت االجتماعية امل�ضطربة ف ُتنذِ ُر ِب َف ِّك متا�سك البنيان االجتماعي فيه عرب َن ْ�شر عرو�ض الأزياء، ومظاهر الر�شاقة ،والأفالم الهابطة ،وهي ت�ستبيح �سائر املحرمات االجتماعية والثقافية وغريهما ،فتتدخل يف �صناعة الأفكار والقيم يف عقول النا�س ،وت�ضع املعايري الهابطة فتجعل من املر�أة و�سيلة دعاية للت�سويق بحيث تكون �سلعة للربح ،فينتفي عنها و�صف الإن�سان املك َّرم ،فهي ب�ضاع ٌة للمتاجرة ب ُِح�سنها وجمالها ،و دُمية تن�شر عليها عرو�ض الأزياء والر�شاقة ،و ُيت�س َّلى عليها مب�سابقات ملكات اجلمال .
49
وهي حتدِّيات ت� ِّؤ�س ُ�س يف املجتمع نف�سية نفعية ا�ستهالكية ال تنظر للأخالق وال للقيم ،بل ُته ِّون من �أمر املح َّرمات الثقافية لدى الأطفال. العوملية بني القدمي واحلديث: فهل هذه التحديات التي نواجهها حتديات جديدة علينا؟ فلم تعرفها �أمتنا ،ومل مت َّر بها من قبل؟ �أو مل مت َّر بنا حالة �شبيهة بها، بحيث نحتاج �إىل اكت�شاف منهج عملي ،وو�سيلة مبتكرة ،ملواجهة هذه التحديات وللوقوف دون �إحلاقها الأذى وال�ضرر ببنياننا االجتماعي ،وبخ�صائ�صنا الثقافية. �أما الأ�شكال وال�صور يف هذه التحديات فال �أظن �أن �أحدا ُّ ي�شك يف كونها خمتلفة متاماً عن كل التحديات التي واجهتها �أم ُتنا يف م�سريتها احل�ضارية. فظاهرة الإعالم املرئي وامل�سموع واملكتوب ،وظهور �شبكات املعلومات الدولية ،ومت ُّكنها من الدخول يف كل بيت من العامل من غري رقيب وال ح�سيب ،بحيث تكون النافذة التي يتمكن �أن يط َّل منها املر ُء على العامل ،كل ذلك يعترب �أمراً م�ستجداً ،لمَ ْ ُي�سمع مبثله فيما م�ضى من الع�صور الغابرة. وظاهرة الربيد الآيل وغري الآيل ،وعامل الإنرتنت الذي �أوجد �شبكة ات�صال مرئية وم�سموعة تربط بني �سائر الب�شر على ظهر الأر�ض ،حيث �أ�صبح الب�شر وك�أنهم يعي�شون داخل قرية �صغرية، تعترب حدثا مل ي�سبق �أن ح�صل �شيء م�شابه له من قبل. وقِ�س على ذلك �سائر ما َو َّفق اهلل له الإن�سان من �صناعات �سهَّلت طرائق عي�شه وحققت له الرفاهية التي ين�شدها. و�أما من حيث امل�ضمون ،ف�إنا �إن نظرنا �إىل هذه الأمور امل�ستجدة على حياة النا�س ف�إنا نلحظ حدوث عادات و�أعراف و�أمناط �سلوكية متعدِّدة يف املدينة الواحدة ،ويف القرية الواحدة ،بل يف البيت الواحد ،لأن كل واحد من �أفراد الأ�سرة الواحدة قادر على �أن يربط نف�سه بعامل غري عامل �أ�سرته ،عرب نافذة التلفزة وعرب نافذة الإنرتنت وغريهما ،بحيث تكون �صلته ب�أفراد �أ�سرته �أ�ضعف من �صلته بتلك العوامل. تعدد الثقافات يف �صدر الإ�سالم: ولعل من املفيد �أن ننظر �إىل املجتمع الأول يف العهد املكي حني كان امل�سلمون يف َ�ضعف و ِق َّلة من حيث العدد ومن حيث القوة واملنعة ،فلم تكن لهم �أر�ض ي�ستوطنونها وال َم َنعة يعت�صمون بها، وال مال يقيهم العوادي ،وال دولة تع�صمهم من احلياة اجلاهلية
وما فيها من ع�صبيات م�ستحكمة واعتقادات خرافية را�سخة يف عقولهم ،وعادات مت�أ�صلة ،هي �أرث الآباء والأجداد ،بل هي ذاتيتهم وخ�صو�صيتهم الثقافية ،وموروثاتهم احل�ضارية. لقد واجه املجتمع املكي جميع هذه التحديات ،ومل يكن بينه وبينها عا�صم ،بل كان يعي�ش معها �ضمن �إطار ما ي�سمى بالعوملية يف �أجلى �صورها و�أب�شعها. �إذن لقد واجهت املجتمع املكي حتديات ثقافية واجتماعية واقت�صادية و�سيا�سية مو�سومة بطابع عولمَ ِي َجل ِّي ،ولرمبا كان �أقوى و�أعتى من العوملية املعا�صرة املقبلة علينا يف امل�ستقبل القريب. ولعل جمتمع املدينة حني كان يواجه تلك التحديات العوملية كان �أقرب �إىل واقعنا املعا�صر من املجتمع املكي ،باعتباره وهو يواجه اجلاهلية املحيطة به من كل �صوب كان مي ِّثل �أمة م�ستقلة ذات �سلوك �أخالقي مميز ،وخ�صو�صية ثقافية م�ستقلة ،وطابع اجتماعي واحد ،وكيان �سيا�سي منفرد ،وكان مع ذلك مفتوحاً على غريه من الأمم ،الكتابية منها وغري الكتابية ،غري منغلق وال متقوقع على نف�سه. فقد كان اليهود ي�سكنون املدينة املنورة مع امل�سلمني ،وكانوا �أ�صحاب دين وعلم وثقافة تمُ ِّيزهم عن غريهم و َت ْ�س ُمو بهم على �سائر من يحيط بهم من العرب امل�شركني ،وهو ما جعلهم يتباهون مبا عندهم من كتاب ،و ي�شعرون باال�ستعالء على جريانهم من العرب واملجو�س وغريهم .وكانت لهم كذلك �سطوة على املال وغلبة ُّ ي�ستغل لتحقيق الهيمنة الفكرية، اقت�صادية ،وهي �أعظم �سالح وكانوا يخالطون امل�سلمني يف الطرقات والب�ساتني والأ�سواق �أخذا وعطاء وبيعا و�شراء ،حتى �أن ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم توفيِّ و ِد ْر ُع ُه مرهونة عند يهودي . كل ذلك مل مينع امل�سلمني من تركهم و�أموالهم ،ومل ُيبح للم�سلمني �أن ُّ بال�سلب ،وال على �أعرا�ضهم ينق�ضوا على �أموالهم َّ بال َّثلب ،فلم ُينكر امل�سلمون �أو مينعوا �أعراف اليهود وعوائدهم االجتماعية ،وال اعتقاداتهم الدينية خ�شية من �أن ُتلحق ال�ضرر بخ�صو�صية امل�سلمني الثقافية عرب نفق العوملية ،بل كانت املدينة مفتوحة ل�سائر املحيطني بها من �أهل الكتاب ومن غريهم ،فرتاهم يدخلون املدينة ب�أموالهم فيعر�ضون �سلعهم للبيع وي�ستبدلونها ب�سلع �أخرى ويعودون �إىل بالدهم من غري نكري وال اعرتا�ض. فهذا منقذ بن حِ َّبان ي�أتي من جواثا �إىل املدينة ُم َّتجرا فيلقاه ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم وهو ميار�س جتارته يف �سوق
50
املدينةَ ،ف ُيقابله بالب�شا�شة يف وجهه ،وي�س�أله مالطفاً له ومواعداً، عن قومه وبلده ،وعن ما فيها من املياه والنخيل و�أنواع التمور. وكانت الوفود َت ِف ُد على ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم باملدينة في�ستقبلهم ويق ِّربهم ،ويعطي كبريهم و�س ِّيدهم ح َّقه ،ف ُينزله املنزل الالئق به ورمبا ا�ستقبلهم داخل حرم امل�سجد ،كما فعل مع وفد ثقيف الذين كانوا على ال�شرك حينها ،حيث �أنزلهم يف امل�سجد. وهكذا كان �ش�أن اخللية الأوىل ملجتمع �أمتنا حيث مل ت�شتعل جذو ُتها ،ومل َي�شت َّد �أُوارها خارج نفق العوملية ،بل كانت رياح العوملية تع�صف بها من كل �صوب بتيارات فكرية جاهلية مناق�ضة خل�صائ�صها الذاتية. وجود كيان لهذه الأمة هو عنوان حفاظها على ا�ستقالل َّيتها: �إن الذي هي�أ لهذه الأمة احلفاظ على ا�ستقاللها� ،أن لها كياناً م ُْ�س َت ِق ًّ �ص فيه ذات َّي ُتها ،ولها معامل وا�ضحة تن�ضبط بها ال َت َت َ�ش َّخ ُ حدودها ،فكانت هذه ال�ضوابط واحلدود املر�سومة مبنزلة ال�سياج الذي َت َت َح َّ�ص ُن فيه وتحَ ْ َتمي به عن التيارات الوافدة. وتتمثل هذه املعامل يف فكرة تعنى ببناء ت�ص ُّو ٍر عقلي �صحيح، وعاطفة وجدانية تعنى ببناء م�شاعر قلبية تخدم ذلك الت�صور العقلي ،و�شريعة تر�سم منهجا حياتيا متفقا مع الفطرة ،ودولة �ش�أنها حرا�سة الدين و�سيا�سة الدنيا. فالفكرة كانت وا�ضحة يف الأذهان ،وهي العقيدة الإ�سالمية التي ارت�ضاها امل�سلمون �سلطانا يحكم ت�ص ُّوراتهم ،هذه الفكرة �أ�سا�سها موافقة الفطرة الإن�سانية التي فطر الإن�سان عليها، وجلي باعتبار �أن م�صدرها خالق الإن�سان وخالق وهو �أمر وا�ضح ّ امل َك َّونات التي تطوف من حوله ،ولذلك جتد جميع م�سائل العقيدة الإ�سالمية مما تقبله العقول ال�صحيحة ،بل هي لي�ست خطابا �إال لأُيل الألباب ،والآيات الآمرة بال ّتد ُّبر وال َّتف ُّكر وال َّنظر يف �آيات اهلل �سبحانه كثرية. �ص العلما ُء على وجوب �أن يكون � ُ إميان امل�ؤمن نابعا عن وقد َن َّ قناعة عقلية را�سخة ،ال تقليداً محَ ْ �ضاً لمِ َا عليه الآخر. وقد نعى �سبحانه وتعاىل على من �صار التقليد �شعارهم بقولهم (�إِ َّنا َو َج ْد َنا �آ َبا َء َنا َعلَى �أُ َّم ٍة َو ِ�إ َّنا َعلَى �آ َثارِهِ م ُّم ْق َتدُو َن) ،ولذلك ذهب اجلمهور من علمائنا �إىل �أن الإميا َن تقليدا وحماكاة ال َي ِ�ص ُّح وال ُيقبل من �صاحبه ،لأن املق ِّل َد م�سته ٌ رت بدينه. ولي�س لهذا الكالم من معنى �إال �أن مبادئ العقيدة الإ�سالمية مما تهدي �إليها العقول ال�صحيحة ،وتهدي �إليها بي�سري من
الت�أمل والتفكر من غري حاجة �إىل درا�سات مع َّمقة وال جدليات كالمية فل�سفية. ف�إذا �أدركنا بنور العقل الذي وهبه اهلل للإن�سان وجعله دلي ً ال نتب�صر به الطريق ومنيز به العقائد اخلرافية فننبذها ،والعقيدة ونتم�سك بها. ال�صحيحة ف َنق َبلها ُّ �إذا �أدركنا ذلك فمن الواجب علينا –بداهة� -أن نقدِّم هذه العقيدة وجنعلها هادياً ومر�شداً ودلي ً ال و�إماماً ن�أ ُّ مت به ،لأنا نحن الذين قبلناها ابتدا ًء ،بعد �أن عقلنا �أنها امل�شعل الذي ميدُّ نا ب�ضياء املعرفة حني ُتظلم علينا الطرقات. �أما العاطفة فهي �أن يكون َه َوى القلب انعكا�ساً ملا ُي َق ِّر ُره ندا ُء العقل ،فت�صبح ت�ص ُّرفات الإن�سان موافق ًة ملا ُّ تدل عليه ال�شريعة ،ال لمِ َا َت ْن ِز ُع �إليه النفو�س مما ال ُّ يحل لها ،وهو ما ال يوافق فطرتها من الأهواء والرغبات ،التي متنع الطم�أنينة وال�سكينة وتورث التغيرُّ واال�ضطراب ،كما قال �أبو الط ِّيب: �ضد ُه و�أ�سر ُع مفعول فعلتَ تغيرُّ ًا تكل ُُّف �شيءٍ يف طباعك ُّ ٍ وهذا املعنى هو ما ُيفهم من ن�صو�ص قر�آنية و حديثية كثرية. فلي�س �ش�أن هذا الدين �أن يطالب بتح�صيل ما ًال طاقة للإن�سان بتح�صيله ،ك�أن ميتنع عن ما تقت�ضيه الأو�صاف اجلب ِّلية التي ُفطر عليها ،ب�أ�صل اخللقة واجلب َّلة ولكن ي�سري بالنا�س وِفق قانون تربوي فريد ،يحقق تطلعات النف�س الب�شرية ،ويالئم ما فطرت عليه من ُح ِّب ُم َتع احلياة الدنيا وزينتها وزخرفها .ومن �ش�أنه �أن والتو�سط من ال�شبع دون يقف بها من هذه املتع عند ح ِّد االعتدال ُّ الزيادة امل ُ ِ�ض َّرة. وبذلك يتحقق وازع نف�ساين يحتكم �إليه الإن�سان يف �ش�ؤونه، خا�صتِه ،ثم يف �إ�صالح �أحوال وتظهر ثمرته يف �إ�صالح حال الفرد يف َّ اجلماعة عا َّمة. ال�س َّكة والطريقة التي تهدي النا�س ل َِ�ض ْب ِط �أما ال�شريعة فهي ِّ ت�صرفاتهم احلياتية ،و�أمورهم املعا�شية ،وِفق منهج بينِّ وا�ضح مي�سور التطبيق ،تندفع ب�سببه �أ�سباب اخل�صومات واملنازعات بني النا�س ،بحيث حتوط م�صالح النا�س الأخروية والدنيوية ب�سياج يحفظها مما قد يكون �سبباً لفواتها. وقد عُلم باال�ستقراء يف �أحكام ال�شريعة الإ�سالمية والنظر يف �أد َّلتها الكلية واجلزئية �أنها دائرة حول رعاية م�صالح النا�س كما قال العز بن عبد ال�سالم رحمه اهلل (وال�شريعة كلها م�صالح� ،إ َّما جتلب م�صالح ،ف�إذا �سمعت اهلل يقول َ (:ي�أَ ُّيهَا ا َّلذِ َ ين َت ْد َر�أُ مفا�س َد �أو ُ
51
�آ َم ُنوا -فت�أ َّمل َو ِ�ص َّي َت ُه بعد نِدا ِئ ِه فال جتد ُ�إال خرياً َي ُح ُّثك عليه �أو َ�ش ّراً َي ْز ُج ُرك عنه� ،أو َج ْمعاً بني ِّ احلث والـ َّزجر ). وهذه امل�صالح التي جاءت من �أجلها ال�شرائع ال�سماوية تتحقق عرب حفظ خم�سة مقا�صد ،ذكرها علما ُء الأ�صول� ،أعالها حفظ الدين ويليه حفظ النف�س فالعقل فال َّن ْ�سل فاملال . وهذه املقا�صد اخلم�سة �إمنا هي مقا�صد عامة مراعاة يف كل م َّلة، كما قال الإمام ال�شاطبي رحمه اهلل( :وقد عُلم من ال�شريعة �أن �أعظم امل�صالح جريان الأمور ال�ضرورية اخلم�سة املعتربة يف كل م َّلة) . وحفظ هذه املقا�صد اخلم�سة يكون عرب �ضبط �ضرورياتها ، وحتقيق حاجياتها ،وتوفري حت�سين َّياتِها ،ويكون مبراعاة الأعلى درجة منها ثم ما دونه ،بحيث �إذا دار الأمر بني حفظ النف�س وحفظ املال ف�إن حفظ الأنف�س مُقدَّم على حفظ الأموال ،وعليه تهدر امل�صلحة التي يرتتب عليها حفظ املال من ال�ضياع ،يف �سبيل املحافظة على الأنف�س من الهالك ،وهكذا الأمر يف �سائر امل�صالح اخلم�س. وكذلك احلكم لو دار الأمر بني حفظ �ضروري وحفظ حاجي �أو تكميلي ،ملق�صد واحد ،ف�إنا نعمل على املحافظة على ال�ضروري، و�إن �أدَّى ذلك �إىل فوات احلاجي �أو التكميلي . و�أما الدولة ف�ش�أنها حفظ البي�ضة وحماية الأمة ،ب�إقامة �أحكام ح�سي ال�شريعة على وجه ينقاد ب�سببه �أتباعها انقياداً تاماً ،فهي وازع ِّ ب�سلطان القوة والغلبة مُوا ٍز للوازع النف�ساين ،ووظيفتها فر�ض ُّ ت�ستقل بخ�صو�ص َّيتها ال�سو َّية على اجلماعة ،بحيث مظاهر احلياة َّ احل�ضارية يف عموم �أحوالها املتعلقة ب�أمور الآداب ،واملتعلقة ب�أحكام العبادات و�أحكام املعامالت املختلفة من مالية وجنائية وغريها. اخلـاتـمة �أن فرارنا من العوملية القادمة ،وتقوقعنا على �أنف�سنا ،على هام�ش الدول وال�شعوبُّ � ، أحط مرتبة و�أدنى درجة من الذوبان يف النظام العوملي املقبل. كيف واحلال �أننا منلك ما ال ميلكه الآخرون من قيم و�أفكار من�ضبطة املعامل حمفوظة ب�سياج منيع ،ال ُيخرتق ،بل يفر�ض علينا التن ُّور ،وتت ُّبع احلكمة متى ُوجدت ومن �أي مكان �أقبلت، ومقارعة الفكر بالفكر ال بالقهر وال�سلطان . �إن ما نمَ ْ لكه من فكرٍ متف ِّت ٍح ومُتط ِّلع لال�ستفادة مما عند الآخرين َي ْرب�أُ بِنا عن �أن ننطوي على �أنف�سنا َف َن َق ُع فيما َو َق َعتْ
فيه بع�ض الدول حيث �أ�صدرتْ قانوناً ُيعاقب على ا�ستخدام مفردات اللغة الإجنليزية طاملا يوجد ما ميكن التعبري عنه باللغة الفرن�سية . �إن الثمرة املرجوة من العوملية فيما يظهر يل لن تكون كما �أرادها وا�ضعوها الذين �أرادوا فر�ضها على الب�شرية جمعاء ،وهي �سيطرة النموذج الغربي وا�ستحواذه على خريات البالد ،وفر�ض �سلطانه على الآخرين ،و�إمنا �ستكون ب�إذن اهلل انفتاح العامل وات�صال بع�ضه ببع�ض ،وتالقح الأفكار املتعددة ،وحتقق اال�صطفاء والبقاء للأفكار الأقوى التي تتما�شى مع مقت�ضيات العلم ،وترف�ض اجلهل واخلرافة ،وهذه الثمرة هي �سبيل احل�ضارة الإن�سانية املثلى ،التي من �أجلها �أنزل اهلل الكتب و�أر�سل الر�سل.
الـهــوامــــــ�ش البخاري ،حممد بن �إ�سماعيل ،اجلامع ال�صحيح ،بهام�ش فتح الباري ،املطبعة اخلريية ،القاهرة1371 ،هـ–1951م. -2اجلابري ،حممد عابد ،مقال ،بجريدة ال�شرق الأو�سط1417/11/12 ،هـ ،ال�شرق الأو�سط 1417/11/13،هـ -3ابن حجر ،احلافظ �أبو الف�ضل �شهاب الدين �أحمد بن علي الع�سقالين ،الإ�صابة يف متييز ال�صحابة ،الطبعة الأوىل ،دار الكتب العلمية ،بريوت 1415هـ – 1995م. -4ابن خلدون ،عبد الرحمن بن حممد ،املقدِّمة ،ط 1دار الفكر للطباعة والن�شر ،بريوت1401 ،هـ –1981م. -5الدجاين� ،أحمد �صدقي ،تفاعالت ح�ضارية و�أفكار للنهو�ض ،دار امل�ستقبل العربي ،القاهرة � :ص33 -6الزرقاين ،حممد عبد العظيم ،مناهل العرفان يف علوم القر�آن ،دار �إحياء الكتب العربية ،القاهرة. -7زرُّوق� ،أحمد بن �أحمد ،القواعد ،الطبعة الثانية ،ن�شر مكتبة الكليات الأزهرية ،القاهرة 1396هـ –1976م. -8ال�سفاريني ،حممد بن �أحمد ،لوامع الأنوار البهية �شرح الدُّ رة امل�ض َّية ،الطبعة الثانية ،ن�شر املكتب الإ�سالمي، بريوت 1405هـ –1985م. -9ال�شاطبي� ،أبو �إ�سحاق �إبراهيم اللخمي ،املوافقات يف �أ�صول ال�شريعة ،دار املعرفة ،بريوت. � -10شاهني ،عبد ال�صبور مقال مبجلة املعرفة ،عدد ،48ربيع الأول 1420هـ . -11عبد اهلل� ،إ�سماعيل �صربي ،مقال مبجلة املجتمع ،عدد 1321يف 1419/6/23هـ. -12العز بن عبد ال�سالم ،قواعد الأحكام يف م�صالح الأنام ،دار الكتب العلمية ،بريوت. -13انظر :عزيز احلاج ،الغزو الثقايف ومقاومته ،امل�ؤ�س�سة العربية للدرا�سات ،بريوت 1983م . -14الغزايل� ،أبو حامد حممد بن حممد ،امل�ست�صفى ،ط 3املطبعة الأمريية ،ببوالق م�صر 1324هـ. -15حمفوظ ،نادية ،ال�شاهد ،عدد � ،146أكتوبر 1997م. -16حممد عبا�س �إبراهيم ،الثقافة العربية وحتديات العوملة ،بحث يف جملة �ش�ؤون اجتماعية ،عدد 61ربيع 1999م1419-هـ -17م�صطفى ،نادية ،مقابلة مبجلة املجتمع عدد 1419/6/30 ،1322هـ -18مغنم ،عبد النا�صر حممد ،مقال مبجلة املجتمع ،عدد 1419/7/14 ،1324هـ -19ابن منظور � ،أبو الف�ضل حممد بن مكرم الأن�صاري ،ل�سان العرب ،دار الل�سان العربي ،بريوت. -20ابن ه�شام ،عبد امللك ،ال�سرية النبوية ،دار الكتاب العربي ،بريوت ،الطبعة الثالثة 1990م .324/2 : -21ي�سني ،ال�سيد ،مقال ،جريدة القب�س عدد 1418/1/17، 8827هـ -22العرب والعوملة ،مركز درا�سات الوحدة العربية .بريوت 1997م
املراجع الأجنبية
of world polities, An International, London: Jhon Baylis and smith,(eds.)the Globalization -1 Oxforduni. Press,1997 , p. 15.
52
في العالقة بين الوسطية و فقه الواقع م�شكلة البحث تهدف هذه الورقة ب�شكل �أ�سا�سي �إىل درا�سة العوامل التي ت�ؤثر يف قدرة العرب وامل�سلمني على فقه الواقع املحيط بهم وعلى التعامل مع ذلك الواقع .فالت�ضارب الكبري املوجود اليوم يف ال�ساحات الثقافية والإعالمية حول حقيقة ما يجري يف هذا العامل ،وحول كيفية التعامل معه بات ظاهر ًة وا�ضح ًة ال حتتاج �إىل دليل .وهذا الت�ضارب ينتج ابتدا ًء عن وجود خلل متعدد الأبعاد يف املنهج ال�سائد بني العرب وامل�سلمني لفقه جوانب الواقع املحلي والإقليمي والعاملي والتعامل مع تلك اجلوانب� .إن هناك عالق ًة جدلية بني فقه الواقع و�أ�سلوب التعامل معه ،فطريقة ودرجة فقه الواقع هي التي ُتك ِّيف نوعية اال�ستجابة له على الدوام ،وما من واقع ال يفهم الإن�سان �أبعاده ب�شكل �شمويل �إمكاني ٍة للتعامل مع ٍ وعميق .و�إذا كان (احلكم على الأمر فرعاً عن ت�صوره) ،ف�إن �إطالق ني لذلك الواقع واقع معني بنا ًء على ت�صو ٍر مع ٍ ٍ حكم معني على ٍ هو اخلطوة الأوىل على طريق ت�شكيل �أ�ساليب وو�سائل التعامل مع ذلك الواقع .وبقدر ما يكون ت�صور املرء �أو ال�شريحة االجتماعية لواقع معني �ساذجاً �أو جزئياً �أو م�شوهاً �أو قا�صراً ،ي�أتي احلكم عليه ٍ بنف�س الدرجة من ال�سذاجة واجلزئية والت�شوه والق�صور ،وهي بدورها ال�صفات التي �ستنطبق بعد ذلك على �أ�سلوب التعامل مع ذلك الواقع. والوا�ضح من هذه املت�سل�سلة املنطقية �أن العجز عن فقه الواقع هو مقدم ٌة لن يرتتب عليها بقانون ال�سببية �سوى العجز يف التعامل معه .ففقه الواقع هو الذي مينح الإن�سان القدرة على �إدراك حقيقة ما يجري من حوله بحدٍ �أدنى من الدقة وال�شمول ،وهو الذي يوفر معرف ًة مبدى احلركة املمكن على هذه الأر�ض ،ومبداخل العمل املمكنة يف وجه �صعوبات الواقع وتعقيده وت�شابك عنا�صره ،وهو الذي ي�ساعد على �إدراك و�ضبط الأولويات ،بل �إن فقه الواقع ميكن �أن يكون مدخ ً ال �أ�سا�سياً لفقه الدين نف�سه يف كثري من الأحيان.
د .وائل مريزا
من هنا ،ف�إن هذا البحث يحاول درا�سة �أثر غياب الو�سطية الإ�سالمية يف وجود و�شيوع ظاهرتني هما: �أو ًال :الفقه امل�شوه والقا�صر للواقع بني العرب وامل�سلمني. ثاني ًا :افتقاد القدرة على التعامل مع ذلك الواقع بفعالية و�إيجابية. ولتحقيق ذلك الهدف ير�صد البحث املنهج ال�سائد بني العرب وامل�سلمني لقراءة الواقع والتعامل معه ،مع الرتكيز على الفرتة الزمنية التي تلت �أحداث �سبتمرب ،ويقوم بعملية حتليل لذلك املنهج �إىل عنا�صر معينة ،ثم يبني كيف كان غياب الو�سطية يف كل عن�صر من العنا�صر �سبباً حل�صول اخللل يف عملية فقه الواقع، وطريقا للوقوع يف الإفراط والتفريط عند حماولة ا�ستخدام ذلك العن�صر للتعامل مع الواقع. �إن الإن�سان ال يقر�أ الواقع اخلارجي من حوله وال يتعامل مع ذلك الواقع يف معزلٍ عن ر�صيده الفكري والثقايف ،فهذا الر�صيد هو على الدوام املنظار الذي تتم من خالله عملية قراءة الواقع وحماولة فقهه والتعامل معه .من هنا ميكن ا�ستخراج العنا�صر التي نتحدث عنها من ذلك الر�صيد الفكري والثقايف. ر�ؤية حتليلية لعنا�صر منهج فقه الواقع والتعامل معه لقد كانت امل�شكلة الأ�سا�سية على طريق فهم ماذا جرى ويجري يف هذا العامل ،وال تزال بالن�سبة للعرب وامل�سلمني تتمثل يف حماولة فهم جمريات الأحداث والوقائع من خالل الرتكيز على ري واحد .ولقد كان وا�ضحاً من متابعة ما يح�صل عن�صرٍ �أو متغ ٍ على �أر�ض الواقع ب�شيء من ال�شمولية ،منذ �أحداث �سبتمرب على وجه التحديد� ،أن غالبية العرب وامل�سلمني انق�سموا �إىل �شرائح متقابلة ،ير ّكز ٌ كل منها خالل حماولته لقراءة احلدث على عن�صر معني ،و َيغفل عن العنا�صر الأخرى مخُ طئاً �أو �أنه ُيغفلها عن عمد، ب�شكلٍ غابت معه مالمح منهج الو�سطية الإ�سالمية يف التفكري، وهو ما �أدى �إىل فو�ضى عارمة يف عملية فقه الواقع واحلكم عليه
53
والتعامل معه ب�شكلٍ �ستحاول الفقرات التالية تبيانه ب�شي ٍء من التحليل والتف�صيل . .1ا�ستخدام (الن�ص) ودالالته ُي�شكل الن�ص ب�إيحاءاته ودالالته على الدوام عن�صراً �أ�سا�سياً من العنا�صر التي تلعب دوراً يف ت�شكيل ر�ؤية �شرائح كربى من العرب وامل�سلمني للواقع ،ويف ت�شكيل مواقفهم جتاهه وحكمهم عليه وطريقة تعاملهم معه .ولتحديد مفهوم الن�ص ف�إننا نق�صد بامل�صطلح هنا ذلك الفهم الإجمايل العام له يف العقل اجلمعي ال�سائد ،والذي يت�ضمن فيما يت�ضمن القر�آن واحلديث والآثار واالجتهادات والأحكام الفقهية التي �صدرت عن العلماء والفقهاء على مر التاريخ. ونحن حني نتحدث عن دور الن�ص يف ت�شكيل فقه الواقع و�صياغة �أطر التعامل معه ف�إننا ندرج يف البحث �أي�ضا املوقف املقابل من الن�ص ،والذي يتمثل يف الإنكار الكامل للن�ص ودالالته يف �أثناء قراءة الواقع واقرتاح �سبل التعامل معه. �إن متابعة املواقف والت�صريحات والتحليالت والفتاوى التي ملأت الف�ضاء الثقايف العربي والإ�سالمي منذ �أحداث �سبتمرب تظهر �أن كثرياً من �شرائح العرب وامل�سلمني ،مبن فيهم �أعداداً من املثقفني وقادة الفكر والر�أي ،انق�سمت فريقني متقابلني حني تعلق الأمر با�ستخدام الن�ص و�إيحاءاته يف عملية قراءة وفقه الواقع. ٌ فريق ي�ست�صحب الن�ص (الإ�سالمي) ويعتمد عليه وي�ستعمل دالالته املبا�شرة والقريبة حموراً للتفكري ،وال يهتم باملقابل بالوقائع العملية على الأر�ض وال بالر�ؤية ال�سيا�سية �أو االقت�صادية �أو االجتماعية لظواهر احلياة. وفريق مقابل على الطرف الآخر ٌ ٌ غارق �إىل درج ٍة كاملة يف القراءة الواقعية الرباغماتية ،بعيداً عن �أي اهتمام بالن�ص ودالالته و�إ�شاراته ولو على م�ستوى املقا�صد الكربى. وعلى �سبيل املثال ،كان الفريق الأول وال يزال يتعامل مع الأحداث من خالل انتقاء بع�ض الن�صو�ص ،التي تتحدث عن الآخر وعن بع�ض �صفاته وحاالته لتوظيفها يف فهم الآخر وحتديد املوقف منه ،ثم ّ مت ا�ستح�ضار جميع الآيات والأحاديث التي تتحدث عن الفتنة والتمحي�ص واالبتالء ،وذلك بغر�ض فهم ما جرى ويجري يف �أفغان�ستان ثم يف العراق ،ويف �أماكن �أخرى من العامل ب�شكل عام، من خاللها ومن خاللها فقط! بحيث �صار كل ما يجري فتن ًة وابتال ًء (خارجياً) ال داعي للبحث يف �أ�سبابه .ثم ا�س ُتدعيت �أخرياً جمموع ٌة �أخرى من الآيات والأحاديث والآثار والق�ص�ص التي
تتحدث عن املنافقني واملتخاذلني واملرجفني واخلونة ،ل ُت�ستخدم �أي�ضاً يف ت�صنيف الب�شر �آحاداً وجماعات ب�شكل حا�سم وقاطع �إىل ؤمن �صالح يقبل الر�ؤية ال�سابقة ،وكافر هو الآخر غري امل�سلم، م� ٍ ومتخاذل منافق مرجف يجب اجتثاثه لأنه ي�شكك يف تلك الر�ؤية ويطلب مراجعتها ويتحدث عن نقدها. كان ذلك هو حال الفريق الذي حاول قراءة الواقع مبا�شر ًة من خالل تطبيقٍ انتقائي وخمتزل لبع�ض الن�صو�ص عليها ،بعيداً عن متابعة التفاعل احليوي املطلوب بني الن�صو�ص والواقع الب�شري. �أما الفريق الآخر فكان يف وارد ا�ست�صحاب كل �شيء له عالقة بالواقع خالل حماولته لفهم الأحداث ،دون �أي اعتبا ٍر لأي دالالتٍ ُتقدمها الن�صو�ص ولو على م�ستوى الت�صورات �أو الفل�سفات الكربى. من هنا اعترب ه�ؤالء �أن كل ماله عالقة بالثقافة الذاتية واخل�صو�صية احل�ضارية خرافة ،وانطلقوا يعلنون يف كل مكان �أن ٌ وجهل ال طائل من ورائه .و�أَغفلوا جممل الر�ؤية الدينية رجعي ٌة يف طريقهم جزئيات املعرفة الإ�سالمية ،وكذلك الإ�شارات املعرفية الدقيقة املوجودة يف الن�صو�ص ،والتي ت�صف كيف ميكن للتم ّكن يف الأر�ض �أن يقرتن بالطغيان حني ينف�ص ُل عن الوحي كم�صد ٍر للمعرفة الب�شرية ،وحني ت�صبح امل�صلحة �إلهاً ُيعبد ،وكيف �أن الطغيان ي�ؤدي �إىل الإف�ساد يف الأر�ض ،وكيف �أن الإف�ساد يزرع يدمر يف �آخر الأمر احل�ضارات ويهلك احلرث ال�شر والطمع حتى ّ والن�سل. �إ�ضاف ًة �إىل هذاَ ،بال َغ ه�ؤالء وال يزالون يبالغون يف فهم (الواقعية) ،وا�ستخدام (الرباغماتية) حموراً من حماور الفهم والفعل الب�شريني �إىل درج ٍة جتاوزت �أحياناً كل مقت�ضيات املنطق والعقل .فوفقاً لهذه الر�ؤية الواقعية الرباغماتية ،ت�صبح حركة التاريخ ما�ضي ًة دوماً يف اجتا ٍه واحدٍ ال عودة عنه ح�ضارياً و�سيا�سياً واجتماعياً ،وت�صبح �صناعة التاريخ رهين ًة ملعطيات الواقع الراهن بغ�ض النظر عن �أي عاملٍ �آخر ،ب�شكلٍ ي�شبه احلتميات املطلقة التي ال ميكن زحزحتها ،و ُت�صبح �سلبي ُة �أو �سو ُء الأداء احل�ضاري يف مرحل ٍة من مراحل التاريخ مدخ ً ال حمتوماً �إىل مراحل �أخرى م�شابهة بل �إىل �سل�سل ٍة متتالية من االنهيار احل�ضاري. فال اعتبار عند ه�ؤالء للدورات احل�ضارية ،وال اعتبار للمداولة ال�سننية بني النا�س والأقوام والدول ،وال اعتبار لقدرة الإن�سان على ُ اال�ستعادة احل�ضارية ،وال مكان للقيم وال للغيبيات وال للمبادئ وما تلعبه من �أدوار ،لأنها بب�ساطة خارج �إطار احل�سابات والأرقام.
54
وباخت�صار ،ال مكان للإرادة والفعل الب�شريني �أمام طغيان الواقع و�ضغوطه ،وفقاً لتلك الر�ؤية الواقعية الرباغماتية ،اللهم �إال من باب اال�ست�سالم لذلك الواقع بكل �أبعاده وجزئياته .وذلك يف عملية وت�سطيح كبرية ملثل هذه املوا�ضيع ذات اجلذور التاريخية تب�سيط ٍ ٍ والثقافية واحل�ضارية التي ُتعترب يف غاية التداخل والتعقيد. وعلى كل حال ،كانت تلك املفارقة بني الفريقني متمثل ًة يف الإفراط من جهة ،والتفريط من جهة ثانية ،يف التعامل مع الن�ص والواقع .وكان غياب الو�سطية يف هذا العن�صر �سبباً رئي�ساً من �أ�سباب الق�صور يف فقه �أ�صحاب ال�شرائح التي كانت تفكر ح�سب تلك الثنائية للواقع ويف افتقار القدرة على التعامل معه. .2ا�ستخدام معطيات حمور املكان (املحلية xالعاملية) يتمحور العن�صر الثاين الذي ُي�ستعمل يف قراءة وفقه الواقع و�صياغة و�سائل التعامل معه حول ما ميكن �أن ن�سميه مبحور املكان .ذلك �أن قراءة الواقع تعتمد يف جانبٍ منها على اجلزء الذي يراه الإن�سان من ذلك الواقع .فالغالبية العظمى من العرب وامل�سلمني مث ً ال تنظر �إىل العامل من خالل معطيات واقعها املحلي الذي تعاي�شه وتلم�س عن قرب مكوناته و�ضرورياته و�أولوياته، وهي بالتايل ت�ست�صحب تلك املعاي�شة عند قراءتها للواقع العاملي الأكرب الذي ي�صعب �إجما ًال على عامة النا�س �إدراك مالحمه ب�شكل منهجي و�شامل .وباملقابل ،توجد يف �أو�ساط العرب وامل�سلمني �شرائح ميكن القول �أنها �أكرث توا� ً صال من غريها مع ما يجري يف هذا العامل الوا�سع خارج بالد العرب وامل�سلمني .وه�ؤالء بحكم توا�صلهم �أكرث اطالعاً على تعقيدات ذلك العامل ،وعلى طبيعة ت�شابك وتداخل عنا�صر احلياة فيه ،وعلى مدى ت�أثري الظروف اخلارجية على الأو�ضاع املحلية. من هنا ،جند يف ال�ساحة الثقافية العربية والإ�سالمية فريقني متقابلني: ٌ فريق ينظر �إىل الأحداث كلها و�إىل الواقع مبجمله من منظار الر�ؤية (املحلية) البحتة بكل خ�صو�صياتها� ،سواء �أكانت اخل�صو�صية �إقليمي ًة تتعلق بالواقع العربي �أم الإ�سالمي �أم ُقطري ًة بحتة تتعلق بواقع الأقطار املعينة ،مثل الواقع الأفغاين �أو الباك�ستاين �أو العراقي �أو ال�سعودي .غاف ً ال ب�شكلٍ كامل عن املالب�سات العاملية وما يجري يف العامل خارج الإقليم �أو القطر املعني مما يجب �أن ي�ؤخذ �أي�ضاً بعني االعتبار. ٌ ٌ مقابل ينظر �إىل الأحداث من باب الرتكيز الكثيف فريق والكامل على تلك املالب�سات العاملية ،راف�ضاً �إعطاء �أق ّل اعتبار
خل�صو�صيات وظروف الواقع املحلي العربي والإ�سالمي هنا وهناك . لقد كان مدخل قراءة الفريق الأول للواقع يقت�صر على ا�ست�صحاب الثقافة املحلية ،وكانت ح�ساباته للتعامل معه تنطلق من ال�سيا�سات والظروف املحلية .فبالن�سبة له�ؤالء كان حمور الر�ؤية هو ما تفر�ضه وما تراه الثقافة املحلية لل�سعودية �أو لأفغان�ستان �أو لباك�ستان �أو للعراق على �سبيل املثال ،وكان ما يجري يف مثل هذه البلدان داخلياً ثقافياً و�سيا�سياً واجتماعياً ،لي�س فقط هو العامل الوحيد املو�ضوع يف االعتبار عندهم ،و�إمنا �أي�ضاً العامل الوحيد الذي يجب �أن ي�أخذه الآخرون جميعاً يف االعتبار �سواء �أكانوا مثقفني �أم علماء �أم رجال فكر �أو �سيا�سيني. ويف مقابل ه�ؤالء ،كان هناك ٌ فريق �آخر ال يعي�ش (العاملية) بكل �أبعادها ومقت�ضياتها فقط ،و�إمنا يبالغ جداً يف تقدير طبيعتها ودورها وت�أثريها ،غاف ً ال عن �أن العاملية مهما كانت �إمنا هي يف النهاية بوتق ٌة ووعا ٌء �إن�ساين ملجموع ٍة �ضخمة من اخل�صو�صيات املحلية التي ُت�ش ِّك ُلها ،و�أن لكلٍ من هذه اخل�صو�صيات اعتبارها ودورها وت�أثريها املُفرت�ض يف تلك العاملية. فبالن�سبة له�ؤالء ،مل يكن ملا يجري ثقافياً �أو �سيا�سياً �أو اجتماعياً �أو اقت�صادياً يف ال�سعودية �أو العراق �أو �أفغان�ستان �أو باك�ستان �أو غريها من الأقطار �أهمي ٌة كبرية بل و�أحياناً �أي �أهمية .ومل ينتبه ه�ؤالء يف خ�ض ّم ح�ساباتهم العاملية البحتة �إىل �أن اخل�صو�صيات املحلية ،الثقافية منها واالجتماعية واالقت�صادية وال�سيا�سية تر�سم �أحياناً ،وبعد ا�ستنفاذ كل ما فيها من مرونة� ،سقفاً ال ميكن جتاوزه .و�أن هذا الأمر بح ّد ذاته هو الذي يجعل العاملية حمكوم ًة بجمل ٍة من التوازنات واملعادالت ،و�أن كثرياً من الالعبني الدوليني قبل غريهم ،ورمبا �أكرث من غريهم ،ي�أخذون كل تلك احل�سابات بعني االعتبار عندما ي�أتي �أوان الفعل احلقيقي ،وبعيداً عن املواقف النظرية التي كثرياً ما ُت�ستخدم للح�شد الداخلي �أو لال�ستهالك املحلي والعاملي. وهكذا ،نرى على هذا املحور كيف كانت الر�ؤية الأحادية ملعطيات حمور املكان ،وال تزال عن�صراً من عنا�صر املنهج ال�سائد لقراءة الواقع والتعاطي معه ،ب�شكلٍ غابت فيه �أ�س�س الو�سطية الإ�سالمية التي ت�أخذ بعني االعتبار اخل�صو�صيات املحلية املعينة ،دون �أن يدفعها هذا �إىل جتاهل معطيات ال�ساحات ال�سيا�سية والثقافية واالقت�صادية واالجتماعية العاملية .وكان غياب تلك الو�سطية عام ً ال مهماً من عوامل الق�صور يف فقه الواقع و�ضياع فر�ص التعامل معه ب�شكلٍ �إيجابي ومتوازن وفعال.
55
.3ا�ستخدام معطيات حمور الزمان (املا�ضي xاحلا�ضر) �أما العن�صر الآخر الذي ميكن اعتباره عن�صراً رئي�ساً من عنا�صر منهج فقه الواقع والتعامل معه ف�إنه يدور هذه املرة حول ما ميكن ت�سميته مبحور الزمان .فالإن�سان حني يكون متوازناً عقلياً ونف�سياً ،يفقه الواقع من حوله مبزيج من العرب والدرو�س امل�ستخل�صة من املا�ضي ومن احلا�ضر .فال هو يقر�أ احلا�ضر فقط بعني املا�ضي ،وال هو ُينكر املا�ضي بكل دالالته ليفهم العامل و�أحداثه من خالل ما يجري فقط يف احلا�ضر .رغم ذلك ،وت�أكيداً ل�شيوع عقلية (املتقابالت) التي تنح�صر يف ر�ؤية الثنائيات املت�ضادة والرتكيز عليها ،نلمح �أي�ضاً تواجد فريقني متقابلني يف �صفوف العرب وامل�سلمني ي�ستعمل ٌ كل منهما هذا العن�صر من عنا�صر منهج فقه الواقع ،والتعامل معه ب�شكل جزئي يتناق�ض مع طريقة ا�ستعمال الفريق الآخر له. آين من فنجد هنا فريقاً �أول يغرق يف قراءة �أحداث الواقع ب�شكلٍ � ٍخالل (احلا�ضر) ومعطياته دون �أي اهتما ٍم بالتاريخ ومالب�ساته. بينما الفريق الآخر ينح�صر يف قراءتها من خالل الإ�شارةامل�ستمرة �إىل (املا�ضي) و�إىل املالب�سات التاريخية للأحداث و�صانعيها ،مع �إ�صرا ٍر منقطع النظري على جتاهل احلا�ضر وما ُيفرزه من �إ�شاراتٍ وعالماتٍ ودرو�س. وعلى �سبيل املثال نرى فريقاً ي�صر على قراءة واقع الغرب من خالل احلا�ضر القريب ،ومن خالل ال�شعارات واملمار�سات التقدمية والإن�سانية ال�سائدة فيه اليوم �إىل درج ٍة كبرية ،ويرف�ض �أي �إ�شارة �إىل اجلوانب ال�سلبية يف عالقة الغرب والواليات املتحدة التاريخية لي�س فقط بالعرب وامل�سلمني و�إمنا بالعامل �أجمع .كما يتجاهل ورمبا ي�ستنكر �أي ا�ستح�ضار للممار�سات التاريخية ال�سلبية التي ر�سمت كثرياً من مالمح تلك العالقة. وهكذاُ ،يجهد هذا الفريق نف�سه وهو ينفي وجود �أي دو ٍر تف�سريي للتاريخ يف فهم احلا�ضر .وينفق كثرياً من اجلهد والوقت يف ت�أكيد خط�أ �أي مقول ٍة ت�شري �إىل تلك احلقيقة ،ويف الإ�صرار على �ضرورة جتاوز التاريخ ب�شكلٍ كامل ،عند حماولة فهم �أحداث الواقع وت�شكيل موقف منها ،حتى لو تعار�ض ر�أيهم هذا مع �آراء امل�ؤرخني واملثقفني والباحثني يف الغرب ويف ال�شرق على حدٍ �سواء .وي�صبح مطلوباً من العرب وامل�سلمني �أن ُيلغوا التاريخ ويتنا�سوا دالالته ،و�أن ال يعريوا �أي اهتما ٍم مبا ميكن �أن يرتتب دوماً على اخلط�أ الب�شري وعلى النق�ص الب�شري وعلى اجل�شع الب�شري من �آالم وكوارث.
�أما على الطرف الثاين ف�إننا جند الفريق الآخر مت�شبثاً بتف�سري الوقائع الراهنة من خالل التاريخ ومالب�ساته ومعطياته حتديداً وح�صراً ،مع �إ�صرا ٍر كامل على جتاوز ورف�ض �أي قراء ٍة معا�صرة للأحداث و�أ�صحابها ،وما ميكن �أن توحي به هذه القراءة من دالالت يجب �أخذها بعني االعتبار عند حماولة فهمها وحماولة ت�شكيل رد الفعل عليها .و َيغفل �أهل هذا الفريق عن حقيق ٍة خطرية تتمثل يف �أن الغرق يف التاريخ ميكن �أن يكون له خماطره التي رمبا ال تق ّل عن املخاطر الناجمة عن الغرق يف احلا�ضر ،عندما يتعلق الأمر بفهم الأحداث الكربى والتعامل معها. وعلى النقي�ض من الطرف الأول متاماًُ ،يجهد هذا الفريق نف�سه وهو يحاول �أن َيغرق و ُيغ ِر َق الأمة ب�أ�سرها معه يف التاريخ، لقراءة كل ما يجري اليوم من خالل املمار�سات التاريخية ال�سلبية للغرب وللواليات املتحدة لي�س فقط مع العرب وامل�سلمني ،و�إمنا �أي�ضاً مع بع�ض احل�ضارات الأخرى .في�صبح تاريخ الغرب كله عند ه�ؤالء حم�صوراً يف اال�ستعمار ،وي�صبح تاريخ �أمريكا و�إجنازاتها حم�صورين يف قنبلة هريو�شيما وحرب فيتنام ودعم الطغاة وتدبري امل�ؤامرات يف دول العامل الثالث .و ُن�صبح مُطا َلبني ب�أن نن�سى كل العطاء والإجناز الذي �أ�ضافته احل�ضارة الغربية �إىل م�سرية الإعمار الإن�ساين ،ومطالبني ب�أن نح�صر تفكرينا ور�ؤيتنا يف ذلك اجلانب املظلم من تاريخ الغرب والواليات املتحدة. ولقد كان الفتاً للنظر ومعبرّ اً للغاية كيف بد�أت �شرائح من هذا الفريق ،وخا�ص ًة منهم من ينتمي للإ�سالميني ،ولأول مر ٍة يف حياتها تتحدث عن مظامل بع�ض ال�شعوب الأخرى مثل اليابان وفيتنام و�شعوب �آ�سيا و�أفريقية و�أمريكا الالتينية الأخرى ،وهي التي مل تكن يوماً يف وارد احلديث عن ق�ضايا تلك ال�شعوب ،اللهم �إال �إذا اقت�ضى الأمر ت�صنيفها وت�صنيف �أبنائها يف خانات الكفار والوثنيني واملالحدة!. ويف مفارقة ملفت ٍة للنظر نرى كيف �أن هذا الفريق كان يت�شبث بالتاريخ بقوة عندما يتعلق الأمر بت�شكيل املوقف من الغرب والواليات املتحدة ،بينما ي�ص ُّر بنف�س الدرجة من القوة على القفز فوق التاريخ ودالالته عندما يتعلق الأمر مث ً ال بتجربة طالبان وبتقومي �إجنازاتها وممار�ساتها ال�سلبية وتاريخها املليء بالكثري من الدرو�س والعرب .بل وحتى عندما يتعلق الأمر بتاريخ وممار�سات كثري من التجمعات واحلركات الإ�سالمية ،وكثري من العلماء واملثقفني التي ميكن ،ب�شيء من البحث املنهجي املحايد، ر�ؤية دورها ال�سلبي يف ما �آلت �إليه الأمور يف البالد الإ�سالمية.
56
وهكذا نرى كيف �ضاعت مالمح الو�سطية الإ�سالمية التي ت�ست�صحب معطيات التاريخ واحلا�ضر يف فقهها للواقع ،بعيداً عن �أي ت�ضارب موهوم وم�صطنع ،وكيف �أ�صبحت االنتقائية والر�ؤية الأحادية لتلك املعطيات �سبباً �آخر من �أ�سباب الت�شويه البالغ الذي �أحاط بر�ؤية كثري من العرب وامل�سلمني ملا جرى ويجري من �أحداث ،وكيف �صار عام ً ال يف افتقاد القدرة على �صياغة ا�ستجابات عقالنية لتلك الأحداث. .4ا�ستقراء امل�صلحة وامل�س�ؤولية (اخلا�صة xالعامة) �إن ا�ستقراء طبيعة امل�صلحة فيما يجري من وقائع ت�ؤثر �إىل درجة كبرية يف فقه الواقع ،ويف ابتكار �أ�ساليب للتعامل معه بني العرب وامل�سلمني .فاحلكم على واقع ٍة معينة ب�أنها حتقق م�صلحة عامة ميكن �أن يعطي م�شروعي ًة لتلك الواقعة ،فيما تنتفي امل�شروعية يف �أنظار الكثريين عن فعلٍ حمدد �إذا كانت فيه �شبهة حتقيق م�صلحة فردية �أو خا�صة تت�ضارب مع حتقيق امل�صلحة العامة ،حتى لو كانت تلك امل�صلحة الفردية م�صلح ًة تندرج يف �إطار امل�صالح الدينية غري الدنيوية� .إ�ضافة �إىل ذلك ،ف�إن طبيعة الفهم للم�س�ؤولية الفردية وامل�س�ؤولية اجلماعية ت�ؤثر �إىل درجة كبرية على املوقف الذي يتخذه الإن�سان من الواقع ،والت�صرفات والقرارات التي ت�صدر عنه. ونحن �إذا نظرنا �إىل جمريات الأحداث يف الفرتات املا�ضية ف�إننا نالحظ افتقاد الكثريين يف �أو�ساط املثقفني و�أ�صحاب الر�أي، للقدرة على التمييز بني امل�س�ؤولية الفردية وامل�س�ؤولية اجلماعية، �أو بني امل�صلحة الفردية وامل�صلحة اجلماعية. وعلى �سبيل املثال ميكن القول ب�أن هاج�س �إخالء امل�س�ؤولية الفردية كان وال يزال منطلقاً لإبداء الر�أي �أو اتخاذ املوقف عند الكثريين ،ممن كان ُيفرت�ض فيهم �أن يكونوا من قادة الفكر والر�أي العام ،و ُيفرت�ض فيهم بالتايل �أن يجعلوا ال�شعور بامل�س�ؤولية اجلماعية و�إدراك امل�صالح اجلماعية حمور ن�شاطهم. ولكنهم انطلقوا ،على العك�س من ذلك ،فظهرت تلك البيانات والت�صريحات امللتهبة التي ح ّركت عواطف ال�شباب ،و�أوقعت �أكرث من بلد عربي وم�سلم فري�س ًة للعنف والأعمال التخريبية الهوجاء، بدعوى الوقوف يف وجه (الكفار) ومَن واالهم ،الأمر الذي ت�سبب يف ح�صول �أ�ضرار ومفا�سد كربى �شملت العرب وامل�سلمني والعامل �أجمع. �أما على اجلانب الآخر من حمور امل�س�ؤولية وامل�صلحة ،فقد كان من مالمح ال�ساحة الثقافية والإعالمية العربية والإ�سالمية وال
يزال وجود مواقف وت�صريحات لبع�ض املثقفني ،لي�س من ال�صعب ر�ؤية ما يكمن خلفها من م�صالح فردية و�أهواء �أو رغبات �أنانية �أو ت�صفية ح�سابات �شخ�صية �أو البحث عن غنائم متوقعة .خا�ص ًة و�أنها تفتقر يف معظم الأحيان �إىل الدرجة املطلوبة من املو�ضوعية. وقد مت ّثل ذلك يف بع�ض تلك الدعوات الغريبة التي ظهرت وتظهر هنا وهناك ،ومن على بع�ض املنابر الثقافية والإعالمية، وهي تدعو ب�إحلا ٍح منقطع النظري لقبول وجهة النظر الغربية والأمريكية ،لي�س فقط على م�ستوى الر�ؤية العامة ،وال على م�ستوى تقاطع امل�صالح وتداخل ال�سيا�سات .و�إمنا وبالتحديد على م�ستوى التفا�صيل والتطبيقات والتف�سريات وال�سيا�سات الأمنية والع�سكرية ،كما هي دون �أي مراجع ٍة �أو نقد ،وب�شكلٍ مبتذلٍ هو �أقرب ما يكون �إىل التزلف الكامل وغري املربر على م�ستوى امل�صلحة اجلماعية لي�س فقط للعرب وامل�سلمني ،و�إمنا �أي�ضاً امل�صلحة اجلماعية للعامل �أجمع على امل�ستوى اال�سرتاتيجي. وهكذا جند كيف �أدى غياب الت�صور الو�سطي للتوازنات التي ميكن من خاللها حتديد امل�صالح العامة واخلا�صة وتقدير جوانب امل�س�ؤولية الفردية واجلماعية� ،إىل ت�شو�ش كبري يف حتديد امل�صالح وتقدير امل�س�ؤوليات ،وترتب على هذا بطبيعة احلال زيادة ال�ضبابية يف قراءة الواقع وفقهه ،وح�صول الت�ضارب والفو�ضى. .5ا�ستخدام الفتوى حكم معني عليه من ُيعترب ت�شكيل ت�صو ٍر عن الواقع و�إ�صدار ٍ خالل (فتوى) معينة عن�صراً من عنا�صر منهج قراءة الواقع والتعامل معه يف �أو�ساط العرب وامل�سلمني .يحتاج الإن�سان العربي وامل�سلم �إىل �أن يكون لديه ت�صو ٌر ما عن الوقائع التي جتري من ٌ موقف ما من تلك الوقائع .ولكن حوله ،و�أن يكون لديه بالتايل مبا �أن كثرياً من العامة ي�شعرون يف �أعماقهم بدرج ٍة من العجز عن فهم تعقيدات الواقع ،ف�إنهم يقومون بتلبية تلك احلاجة النف�سية والعقلية من خالل اللجوء �إىل املنظومة الثقافية التي ت�شكل �أر�ضية هويتهم ،وهي الدين .ويتمثل ذلك عملياً يف اللجوء �إىل علماء الدين الذين يرجو العامة �أن يجدوا لديهم ما ي�ساعدهم على ت�شكيل الت�صور وحتديد املوقف من الواقع ب�شكل ب�سيط وخمت�صر و�سريع ،بعيداً عن الدخول يف متاهات العمليات الذهنية والفكرية والعلمية املعقدة ،التي يرغب العامة �إجما ًال يف جتنبها، �أو ال يجدون يف �أنف�سهم القدرة على القيام بها ابتدا ًء. و�إذا قمنا بر�صد الواقع بعد �أحداث �سبتمرب ف�إن ب�إمكاننا الإ�شارة �إىل الإ�شكاليات التي نتجت وتنتج عن ا�ستخدام مدخل
57
(الفتاوى) ،للتعامل مع �أحداث بهذا احلجم .فمن �أ�صغر م�س�أل ٍة فردية و�شخ�صية� ،إىل �أكرب ق�ضي ٍة ولو كانت كونية الأبعاد مثل �أحداث �سبتمرب وما تالها ،يلج�أ العقل العربي وامل�سلم �إىل البحث �شخ�ص عن حلولٍ جاهزة ،و�إجاباتٍ متكاملة من خالل (ا�ستفتاء) ٍ معني ،يغلب �أن ينح�صر ر�صيد علمه يف الدائرة ال�شرعية التي ال اختالف على �ضرورة وجودها .ولكن ب�شرط �أن يتواجد �إىل جانبها زوايا الر�ؤية الأخرى ال�سيا�سية واالجتماعية واالقت�صادية َ�صنعت وت�صنع كثرياً من مالمح هذا الواقع الإن�ساين الذي نحاول فهمه والتعامل معه. من هنا ،وجدنا يف خالل تلك الأحداث ذلك الإ�صرار الغريب من مل قِبل �شرائح كربى من النا�س على احل�صول على (فتوى) من عا ٍ هنا �أو هناك ،يتوقع ال�سائلون �أن يكون فيها كل ما ي�شفي غليلهم حول الق�ضايا الكربى التي �أثارتها الأحداث .ثم �إن الفتاوى عندما �صدرت باتت �سبباً للت�ضارب واالختالف وال�ضياع يف فقه الواقع بد ًال من �أن تكون طريقاً لفهمه ب�شكل مو�ضوعي �سليم. �إن َغلَبة مدخل (الفتاوى) يف حياتنا الفكرية يحمل جمل ًة من الدالالت اخلطرية التي تتجاوز داللته التقليدية التي ت�شري �إىل ارتباط الإن�سان بدينه وبحثه عن �إجابات مل�سائل حياته فيه .ولكن املرفو�ض بقوة هو �سيطرة الدالالت الأخرى التي تتمثل يف َغلَبة عقلية التب�سيط املخ ّل واال�ستعجال واالختزال التي تنظر �إىل الفقه نظر ًة توحي ب�أن هذا الدين هو (دين معلبات جاهزة) .الأمر الذي يقتل كل معاين اجلهد العقلي والفكري والبحثي والعلمي الهائل الذي يجب �أن يكون دوماً طريق الباحثني عن الإجابات واحللول. لأن هذا الطريق لي�س فقط هو الطريق امل�ضمون للو�صول �إىل تلك الإجابات واحللول ،و�إمنا �أي�ضاً لأنه الطريق الأجدر ب�إثبات االرتباط احلقيقي بهذا الدين ،من خالل تبيان قدرته امل�ستمرة على ا�ستيعاب الن�شاط الب�شري ب�شكل خالق ،وتوظيفه دوماً يف اجتاه حتقيق اخلري للإن�سانية يف كل زمان ومكان.. .6ا�ستخدام الر�ؤية الغيبية اخلرافية حق ال ميكن لعاقلٍ �أن ينكره ف� ً الغيب ٌ ضال عن �أن ينكره م�سلم يعرف ما هو الإ�سالم ،ولكن ما نتحدث عنه هنا هو طغيان تلك النظرة التي تتطرف يف اعتبار اخلوارق واملعجزات والكرامات �سبي ً ال لفهم الواقع والتعامل مع الأزمات وامل�شكالت .ولقد عادت �أزمة �سبتمرب وما تالها ل ُتظهر لنا كيف كان َتو ُّق ُع ح�صول الكرامات وانتظار ح�صول اخلوارق واملعجزات �سبي ً ال التخاذ القرارات واملواقف ،وو�سيل ًة لتحليل الوقائع والأحداث .وهناك روايات
تقول �أن بع�ض الأحالم والر�ؤى كانت وراء القيام بعمليات �سبتمرب على ال�شكل الذي جاءت عليه .و�إذا كان من غري املمكن التحقق من تلك الروايات املنت�شرة بكثافة يف �أو�ساط بع�ض الإ�سالميني وغريهم من عامة النا�س ،التي ّ مت تداولها يف االنرتنت بحما�سة �شيخ هناك تتحدث عن هزمية �أمريكا حول �أحالم عالمِ ٍ هنا ور�ؤى ٍ وانت�صار القاعدة وطالبان. وف� ً ضال عن ذلك ،ف�إن الآالف من ال�شباب املُلتهب حما�س ًة ،يف كل مكانٍ من العامل ،كان ينتظر على �أحرٍ من اجلمر بدء املعارك يف �أفغان�ستان لكي ي�شاهدوا تلك الكرامات واخلوارق التي �ستحدث على �أر�ضها ،ولريوا كيف �ستتنزل املالئكة وتقاتل مع امل�سلمني، وكيف �ستنفجر فوهات مدافع الأمريكان ،وكيف �ستمتنع قنابلهم و�صواريخهم عن االنفجار عندما ت�سقط يف مناطق طالبان والقاعدة. ولقد بلغ �شعور البع�ض ب�أهمية ت�أكيد هذه العقلية وجتذيرها ولو عن طريق الكذب والغ�ش ،بل �إن عقلية اخلوارق واملعجزات �صارت يف �أثناء الأزمة ُتعبرّ ُ عن نف�سها حتى من خالل نوعية الدُّ عاء الذي كان ُيطلقه البع�ض هنا وهناك .ولكنّ منهج "�إن ال�سماء ال ف�ضة" الذي فهمه مُبكراً امل�سلمون الأوائل ّ تمُ ط ُر ذهباً وال ّ يدل دالل ًة قو ّية على قانونٍ من قوانني العالقة بني الأر�ض وال�سماء يجب �أن يتذ ّكره الكثريون. وال �شك يف �أن هذا الإغراق يف ر�ؤية الواقع وحماولة التعاطي معه من خالل مثل تلك الأمثلة التي ُتلب�س الغيب باخلرافات والأباطيل والأحالم والأوهام ميثل خروجاً فا�ضحاً على �أي درجة من الو�سطية يف منهج فقه الواقع والتعامل معه. .7عقلية متثيل الإ�سالم وامل�سلمني من خالل فرد �أو جماعة �إن ال�شعور بتمثيل فرد ما �أو جماعة ما للإ�سالم ُيعترب عن�صراً مهماً من عنا�صر منهج فقه الواقع والتعامل معه ،لأن درجة وطبيعة مثل ذلك ال�شعور ت�ؤثر �إىل درجة كبرية يف ت�صور �أ�صحابه للواقع .فالفرد الذي يت�صور �أنه ميثل الإ�سالم يرى �أن كل ما ي�صيب ُه ك�شخ�ص ي�ؤثر على الإ�سالم نف�سه ،واجلماعة التي ترى �أنها متثل الإ�سالم تعتقد �أن الإ�سالم وم�صريه �سلباً �أو �إيجاباً منوط ب�أفعالها وقراراتها وت�صرفاتها. واحلقيقة �أن ادّعاء فئ ٍة معي ّنة �أياً كانت ب�أن فهمها للإ�سالم هو الفهم الأمثل له ،على م�ستوى ال ُك ّليات وعلى م�ستوى التفا�صيل واجلزئيات� ،أم ٌر يف غاية اخلطورة عملياً يف الواقع الراهن .لأن من املمكن لذلك االدّعاء يف �أحيان كثرية �أن يقود �إىل ادّعا ٍء �آخر ب�أح ّقية
58
تلك الفئة يف متثيل الإ�سالم ،وبالتايل امل�سلمني ،ك ّلما ح�صلت واقع ٌة للإ�سالم وامل�سلمني عالقة بها من قريب �أو بعيد. �صحيح �أن االنتماء لهذا الدين ،والغرية عليه وعلى �أبنائه، ٌ واالن�شغال بحا�ضره وم�ستقبلهٌ ، حق لكل من ينتمي �إليه ب�شكلٍ من واجب عليه .ولكن الأ�شكال ،بل رمبا ميكن القول �أن ذلك الأمر هو ٌ الإن�سان العربي وامل�سلم يجب �أن يتعامل مع هذه امل�س�ألة بنوع من احل�سا�سية واحلذر واالنتباه ،خا�ص ًة عندما ت�أخذ حركته ون�شاطاته �أبعاداً جماعي ًة تخرج عن �إطار دائرته الفردية ،وخا�ص ًة عندما ي�صبح لتلك احلركة وذلك الن�شاط َت ِب ٌ عات جماع ّية ،ويرت ّت ُب عليها نتائج ت�ؤثر يف م�صائر جمموعات �أخرى من الب�شر �صغري ًة كانت �أو كبرية ،من امل�سلمني �أو من غري امل�سلمني. و�إن من �أغرب الأمور و�أكرثها مدعا ًة للت�سا�ؤل واملراجعة، تلك ال�سهولة البالغة التي يجدها بع�ض �أبناء العرب وامل�سلمني يف مت�س ادّعاء متثيل الإ�سالم ،وبالتايل االجتهاد حول ق�ضايا كربى ُّ بت�أثرياتها املت�ش ّعبة كثرياً من الدول وال�شعوب ،بل ورمبا الأمة ب�أ�سرها ،مثلما هو احلال مع ذلك االجتهاد الذي قاد �إىل �سبتمرب �أو قاد �إىل ما تالها من الكوارث .كل هذا بدعوى الإخال�ص والتفاين والغرية على م�صلحة البالد والعباد ،و�إن امل�شكلة الأخرى املوازية تتمثل يف قبول بع�ض من ُي�س ّمون �أنف�سهم علماء وم�شايخ ومثقفني و�أكادمييني بتلك الدعاوى و�إقرارهم لها ،بل ويف التما�س املزيد من الأعذار والتربيرات ملن يقوم بتلك الأعمال ،ثم التغا�ضي عن النتائج الكارثية التي تنتج عنها ،والقول بب�ساطة �أن هذه النتائج الكارثية �إمنا تدخل يف باب الفتنة والتمحي�ص واالبتالء وال َقدَر قاطع وحازم وحا�سم، املقدور ،بد ًال من الت�صدي مبكراً وب�شكلٍ ٍ وبكل الو�سائل والأ�ساليب ،لك ّل من ُيدخ ُل الأمة والعامل ب�أ�سره يف هذه الأنفاق اخلطرية واملجهولة. ولهذا فقد بات مطلوباً ب�إحلاح حترير م�س�ألة فهم الإ�سالم وح�صر متثيله يف جماع ٍة معينة تنطلق من ظروفها اخلا�صة و�أحوالها املُع ّينة ومن قراءتها اجلزئية للواقع ،وتتحرك بنا ًء على حدود علمها التي كثرياً ما تكون يف غاية الق�صور ،لتقوم ب�أفعال وت�صرفات ،ولتت�صدى لقرارات وخمططات ،تتجاوز بكثري قدرتها على الإحاطة وينتج عنها م�ستتبعات ت�ؤثر على الآخرين .لأن هذا التحرير هو الكفيل ب�إعادة الت�صور الو�سطي ليكون ال�ضابط واملوجه ملثل هذه الق�ضايا احل�سا�سة اخلطرية. .8درجة احرتام معطيات العلم والتخ�ص�ص � ّإن يف هذه العلوم والتخ�ص�صات من �أدوات البحث والتحليل ما
مل يعد ممكنا اال�ستغناء عنه للقيام بتلك العملية ،كما �أن الرتاكم املعريف الذي �شهدته وت�شهده الب�شرية يف حقول املعرفة املتنوعة ي�ساعد على �إعطاء �صور ٍة �أكرث �شمو ًال ودقة عن الواقع العاملي الراهن .من هنا تعترب درجة احرتام تلك العلوم والتخ�ص�صات ودرجة ا�ستخدامها عن�صراً رئي�ساً من عنا�صر فقه الواقع والتعامل معه. ولقد كانت �إحدى امل�شكالت الكربى يف طريقة فقه العرب وامل�سلمني للواقع وتعاملهم معه تتمثل يف زهدهم الظاهر يف قراءة الأحداث ،بنا ًء على معطيات العقل واملنطق والتخ�ص�صات الأكادميية املختلفة. �إن �أحداثاً بهذا التعقيد وال�شمول ال ميكن �أن ُتفهم من خالل النظرة التاريخية فقط �أو النظرة ال�شرعية فقط �أو حتى النظرة ال�سيا�سية البحتة فقط ،لأن �أبعاد تلك الأحداث تتعلق بالتاريخ وال�شريعة وال�سيا�سة جمتمع ًة وتتعلق �أي�ضاً بغريها من العلوم والتخ�ص�صات .بينما النظرة ال�شمولية تقت�ضي �أن ُت�ست�صحب على الأقل العوامل التالية :الن�ص ودالالته ومقا�صده الكربى .معطيات الواقع والر�ؤية التخ�ص�صية . .ظروف كل حم ّلة وخ�صو�صياتها. الظروف العاملية وتوازناتها .احلا�ضر بكل معطياته .التاريخ واملا�ضي ودالالتهما. �إن �أحداً ال ي�ستطيع �أن ينكر ّ حق الأفراد من العلماء واملثقفني والإعالميني يف القيام مبا يعتقدون �أنه دورهم ،ويف �إعالن مواقفهم وحتليالتهم املع ّينة للأحداث .ولي�س املُراد من الكالم ال�سابق احلجر على مواقف الب�شر� ،أو م�صادرة الآراء والتحليالت التي ال ت�ست�صحب كل العوامل التي دخلت يف �صناعة الأحداث .فهذا املنع وا َ حل ْجر مما ال ميكن لأحدٍ القيام به �أ� ً صال ،وهو لي�س من طبائع الأ�شياء ،ولكن املق�صود هنا هو دعوة �أولئك العلماء واملثقفني والإعالميني �إىل التح ّلي باحل ّد الأدنى املطلوب من املو�ضوعية والهدوء والتوازن عند القيام بتلك املمار�سات ،خا�ص ًة و�أنها ت�صدر ع ّمن يت�صدّون للعمل العام ،وهم �أوىل النا�س ّ بتوخي احلذر عند كتابة حتليالتهم و�إ�صدار بياناتهم و�إطالق ت�صريحاتهم. ومن هنا ت�أتي �ضرورة احرتام م�س�ألة التخ�ص�ص يف واقعنا املعا�صر ،خا�ص ًة يف مثل هذه املنعطفات امل�صريية يف تاريخنا كعرب وكم�سلمني .فلقد �شاعت يف حياتنا الفكرية والثقافية والإعالمية فو�ضى التحليالت والآراء ،وبات كل �إن�سان ي�ست�سهل �إىل درج ٍة كبرية �إطالق الأحكام و�إ�صدار الت�صنيفات يف �أي ق�ضي ٍة من الق�ضايا وتخ�ص�صه وجمال معرفته وعلمه. بغ�ض النظر عن �أهل ّيته ّ
59
وقد كانت �أحداث �سبتمرب وما تالها منا�سب ًة كربى لر�ؤية هذه امل�شكلة املتج ّذرة يف حياتنا املعا�صرة ،التي ملأت �أرجاءَها حتليالت ال�سطحية والب�ساطة واالختزال، ونظرات و�آراء وا�ستنتاجات يف غاية ّ وب�شكلٍ يتناق�ض متاماً مع �أدنى مقت�ضيات العلم والتخ�ص�ص، الأمر الذي جعل كثرياً من النا�س يبتعدون عن الواقعية املطلوبة ويعي�شون يف عوامل خيال ّية من الظنون والأوهام. ولهذا ،ف�إن احل ّل الوحيد للم�شكلة يكمن يف انتباه ّ الطرف الذي يمُ ار�س تلك املمار�سات ،وانتباه الطرف الذي يتق ّبلها� ،إىل خطورة ري للفو�ضى الفكرية والثقافية، ما يرتتب عليها من �شيو ٍع كب ٍ وبالتايل يف وجود مواقف عملية م�ش ّوهة ت�ضيف �إىل ر�صيد ّ املت�ضخم يف واقعنا املعا�صر .لذلك� ،صار من اخل�سائر والهزائم الواجب �أن تع ّم يف هذا الواقع ،وبني ال�شعوب العربية والإ�سالمية مواقف النقد والتمحي�ص والتدقيق ملا ُيطلق من �آراء ،وبات مطلوباً �أن يتع ّود النا�س على �س�ؤال من يت�ص ّد ُر للتحليل :من �أين �أَتيتَ بهذه املعلومات؟ وما هي خلفيات هذا الر�أي؟ وعلى ماذا َبنيتَ هذا التحليل؟ وكيف ُتثبتُ ب�أن هذا املوقف �صحيح؟ وملاذا يجب �أن �أ�صدّق ما تقول؟ وما هي وجهة النظر امل�ضادّة لهذا املوقف؟ وغري ذلك من الأ�سئلة التي جترب الآخرين على احرتام عقول الب�شر ،وترغمهم على الت�أنيّ وال�صرب والتفكري قبل �إطالق الآراء والتحليالت ب�سهول ٍة �شديدة وبدون �أي �شعور مب�س�ؤولية الكلمة. �إن هذا ال ميثل دعو ًة للح ّد من حرية التعبري كما قد يعتقد بع�ض الب�سطاء ،و�إمنا هو دعو ٌة �إىل تنظيم حياتنا الثقافية والفكرية واحرتام عقولنا و�أوقاتنا وجهودنا ،التي كثرياً ما ت�ضيع عبثاً يف مواقف و�آراء يتبني يف النهاية �أنها ال ت�ستحق االعتبار .و�إذا ما ّ مت تنظيم حياتنا الفكرية والثقافية �شيئاً ف�شيئاً بذلك ال�شكل الذي يحرتم التخ�ص�ص ويحرتم معطيات العلم والعقل ،ف�سيبقى املجال مفتوحاً دوماً ملن �شاء �أن يتحدث و ُيطلق ر�أيه ،ولكن حجم ت�أثري الآراء ال�سطحية املختزلة يف حياتنا �سي�صبح عندها حمدوداً وحما�صراً �ضمن دوائر �ضيقة. وبهذا ي�صبح العقل اجلمعي للأمة قادراً يف مرحلة من املراحل على ر�ؤية ال�صورة ب�شموليتها وتوازنها من خالل تكامل الآراء والتحليالت التي متتلك ذلك احلد الأدنى من املو�ضوعية والتوازن، وت�ستند �إىل ما هو مطلوب من العلم والتخ�ص�ص واملنهجية .وبهذا، وهذا هو امله ّم ،ت�صبح القرارات العملية �سواء على م�ستوى الأفراد �أو اجلماعات �أو احلكومات منبثق ًة من ذلك العقل اجلمعي املتوازن الواعي .لأن مثل تلك القرارات هي دوماً نِتا ٌج للعقل اجلمعي يف
ٌ �صادق عن خ�صائ�صها وملَ َكاتِها العقلية والفكرية ري الأمة ،وتعب ٌ والثقافية .ومن خالل ذلك كله تعود الو�سطية يف منهج ر�ؤية الواقع والتعامل معه لت�صبح الطريق الأمثل الذي ي�ضمن حفظ طاقات العرب وامل�سلمني و�أوقاتهم وعقولهم من الهدر وال�ضياع. .9عقلية الغلو والت�شدد والإفراط يف و�ضع احلدود واملحرمات واملوانع ّ ري من العرب وامل�سلمني عن الآثار ال�سلبية لعقلية الغل ّو يغفل كث ٌ والت�شدد والإفراط يف ر�سم احلدود واملوانع واملحرمات على عملية فقه الواقع والتعامل معه .ونحن ال نتحدث هنا عن بع�ض النتائج املعروفة لتلك امل�شكلة ،من االنغالق ثم التط ّرف وممار�سة العنف غري امل�شروع ب�أي �شكلٍ من �أ�شكاله يف ّ حق الآخرين من الب�شر، م�سلمني كانوا �أم غري م�سلمني. ولكن احلديث هنا يتعلق ب�أمر �آخر يتمثل يف العالقة اجلدلية بني عقلية الغلو والت�شدد وبني ق�ضية احلفاظ على الدين. فمقت�ضيات العقل واملنطق ،ومعطيات علوم النف�س واالجتماع ت�ؤكد �أن هناك �سبباً �أ�سا�سياً يف غاية احل�سا�س ّية للوقوع يف الغل ّو والت�شدّد، يتمثل يف اجلهل ب�أي و�سيل ٍة �أخرى حلماية ذلك الدين وللحفاظ على مبادئه ،غري و�سيلة املنع وال�ضبط والإغالق واملراقبة. لقد تع ّلم الإن�سان بالغريزة من �أيام طفولته الب�شرية الأوىل� ،أنه �إذا كان يخاف على �شي ٍء نفي�س ،ف�إن �أي�سر و�أ�سهل ما يفعله ل�ضمان حمايته يتمثل يف �إقامة الأ�سوار واملوانع واحلدود من حوله بحيث ال متت ّد �إليه الأيدي بالأذى �أو التخريب. ولكن ما يغفل عنه كل من يقع يف م�شكلة الغل ّو والت�شدّد هو �أن الإن�سان جتاوز مرحلة طفولته الب�شرية الب�سيطة ،و�أن معرفته و�أدواته التي ميكن ا�ستعمالها للحفاظ على الثمني من حاجاته، املادية منها والفكرية ،تط ّورت �إىل درجة كبرية .و�أن �أ�سلوب �إقامة احلدود والأ�سوار خ�صو�صاً مل ي ُع ْد ُيجدي حلماية الأفكار والعقائد على وجه التحديد ،يف هذا العامل الذي �سقطت فيه احلواجز واحلدود الثقافية. �إن الإ�صرار على تلك املمار�سات �إمنا ّ يدل على �إ�صرا ٍر م�ؤمل التم�سك ب�أ�ساليبها للعي�ش يف مرحلة الطفولة الب�شرية ،ويف ّ ٌ ممار�سات لن ينتج والت�ش ّبث بو�سائلها البدائية الب�سيطة ،وهي عنها غري خداع الذات ،لأن �أق�صى ما ت�ستطيع حتقيقه هو حما�صرة النف�س ،وحما�صرة بع�ض الدوائر القريبة منها ،داخل بع�ض الأ�سوار الثقافية املح ّلية �أو الإقليمية ،يف الوقت الذي جتتاح فيه الثقافات املنفتحة هذا العامل من م�شرقه �إىل مغربه� ،إىل درج ٍة
60
تت�آكل معها حتى تلك الدوائر املغلقة من �أطرافها �شيئاً ف�شيئاً. ٌ ولن مي�ضي وقتٌ طويل حتى يجد نف�سه ،وقد اقتحمت عليه تلك الثقافات ما كان يظنه ح�صنه احل�صني ،و�سحبت من بني يديه كل غالٍ ورخي�ص. �إن جميع �صور املبالغة التي ميكن و�ضعها يف خانة الغل ّو والت�شدّد، من املبالغة يف التعلق بالغيبيات� ،أو املبالغة يف ر�سم احلدود واملوانع واملح ّرمات� ،أو املبالغة يف كبت ال ّنف�س والعقل ،تدفع الإن�سان �إىل �أن يدخل �شيئاً ف�شيئاً يف حال ٍة من ال�شلل ال ّذهني والنف�سي التي يفقد معها احليوية العقلية والقدرة على فهم العامل وعلى احلركة العملية فيه ،بحيث ي�صبح بني خيارين �أمام هذا العامل املتفجر باحليوية من حوله :ف�إما �أن ينفجر يف وجه ذلك العامل ب�صور ٍة من �صور العنف �أياً كانت� ،أو يبد�أ يف الهروب منه تدريجياً ويف االنزواء يف قواقع تزداد �ضيقاً من الرف�ض واالن�سحاب والعزلة، �إىل درجة اال�ست�سالم الكامل وانتظار املوت خال�صاً من هذا الواقع الأليم. و�أخرياً ف�إن رف�ض املبالغة يف كبت النف�س والعقل ال يعني �إطالق العنان لل�شهوات والغرائز احليوانية ،وال �إغفال حدود العقل �أمام علم اهلل املطلق ،وال �إنكار دالالت الن�ص ال�صحيح املُح َكم ،و�إمنا تعني رف�ض تقزمي العقل وتقييده ومنعه من التحليق بقو ٍة وعزمية يف �آيات الأنف�س والآفاق بدعوى �إجالل اهلل ،وتعني رف�ض املتع�سفة ،ورف�ض العودة �إىل عقائد ممار�سات الكبت والتحرمي ّ الإ�صر والأغالل �أو الرهبانية املبتدعة واملرفو�ضة يف �أي �شكلٍ من �أ�شكالها .فهذه هي املبالغات التي ت�ؤدي �إىل ال�شلل العقلي والنف�سي والعملي ،وت�ؤدي �إىل افتقاد القدرة على فقه الواقع. وذلك هو ال�شلل العقلي والنف�سي والعملي الذي كان يحا�صر كثرياً من اجلماعات واحلركات يف العامل العربي والإ�سالمي .ولقد �أدى وجود ذلك ال�شلل �إىل غياب �إمكانية الت�أثري على الأحداث ب�شكلٍ فعال يف الفرتة املا�ضية ،رغم كل ال�ضجيج وكل ال�شعارات والعواطف .وهذه حقيق ٌة ي�أمل املرء �أال يقع البع�ض يف �إنكارها ري من الدرا�سة ملج ّرد املعاندة ،كما ي�أمل �أن تكون حقاً جما ًال لكث ٍ والتفكري واملُراجعات التي ت�ستهدف ا�ستعادة الت�صور الو�سطي لكيفية حفظ الدين ،لي�س من خالل الت�شدد واالنغالق وت�أكيد ثقافة املنع ،و�إمنا من خالل االنفتاح واملرونة وت�أكيد ثقافة املناعة. .10املوقف من (الآخر) غري امل�سلم �إن فقه الواقع يحتاج �إىل حترير م�س�ألة �أ�سا�سية تتمثل يف املوقف ال�شعوري والفكري من (الآخر) غري امل�سلم .فهذا املوقف ال�شعوري
والفكري َير�سم يف الأذهان �أحياناً �صور ًة م�شوهة عن حقيقة واقع ذلك الآخر ،مبعنى �أن ر�سم تلك ال�صورة يتم لي�س من خالل درا�سة الواقع وحتليله وقراءته بطريقة منهجية حمايدة ،و�إمنا من خالل الأحكام امل�سبقة جتاهه. �إن حترير املوقف من (الآخر) غري امل�سلم ،يعني ا�ستعادة ر�ؤية قيمته الكبرية كمخلوقٍ ك ّرم اهلل �إن�سانيته ،وتقدير �إجنازاته املعتربة وعطاءه التاريخي واملعا�صر يف كل جمال .و�إن هذا ال يعني فقط �أننا نقبل بوجوده ب�شكلٍ حمايد ك�إن�سان ،و�إمنا يعني �أننا كعرب وكم�سلمني نريد �أي�ضاً �أن ن�أخذ من تلك الإجنازات ،ونتفاعل بحيوية مع ذلك العطاء ،لي�س فقط يف جانبه املادي وال�صناعي البحت ،و�إمنا �أي�ضاً يف جوانبه الأخرى الإن�سانية والثقافية والأدبية والفنية. ونحن نريد الت�أكيد هنا على �أن هناك خل ً ال كبرياً يف فهم طبيعة العالقة مع الآخر غري امل�سلم ،فاملوقف من ذلك الآخر حتكمه يف ٌ ٌ ُطلقات ال �صلة لها بالواقع احلقيقي تعميمات وم �أغلب الأحيان على الإطالق ،بقدر ما تكون ناجتة عن مواقف و�أحداث �سيا�سية واقت�صادية معينة ،وخا�ص ًة يف �أوقات الأزمات احل�ضارية الكربى، مثلما هو عليه احلال مع الأزمة التي �صاحبت �أحداث �سبتمرب وما تالها. فهناك من جهة ٌ خلط وتعمي ٌم عندما يتعلق الأمر بالتمييز بني الدول املختلفة وبالتمييز بني التوجهات ال�سيا�سية داخل الغرب نف�سه ،وعندما يتعلق الأمر باجلماعات الب�شرية املتنوعة املوجودة داخل دول ذلك الغرب وداخل الواليات املتحدة على وجه اخل�صو�ص، وعندما يتعلق الأمر بالتفريق بني احلكومات وبني ال�شعوب ،وبني امل�ؤ�س�سات ال�سيا�سية والع�سكرية من جهة وامل�ؤ�س�سات الفكرية والأدبية والعلمية والفنية واحلقوقية من جهة ثانية. و�إن مما ال بد �أن نعرتف به �أن ال ّنظرة �إىل �أمريكا واملوقف منها كانت قبل �سبتمرب �أمراً من �أ�شد الأمور ح�سا�سية يف حياة العرب وامل�سلمني املعا�صرة ،ولكن ح�سا�س ّية هذا الأمر باتت بعد �أحداث �سبتمرب �أكرب كثرياً من ذي قبل .فالنا�س يف هذا منق�سمون موقف ما ِ�ض كا ِر ْه وبني عا�شقٍ َو ْلهان .وامل�شكلة �أن اتخاذ ٍ بني مُبغ ٍ من هذه الـ "�أمريكا" يبدو �أمراً ال مف َّر منه وك�أنه القدر –ولو على ُّ التدخل ال�صعيد النف�سي– عند كل �إن�سانٍ عربي وم�سلم .ب�سبب ُ والتداخل املبا�شر وغري املبا�شر من قبل �أمريكا يف كثري من �ش�ؤون املنطقة العربية والإ�سالمية على م ِّر ال�سنوات الطويلة. وال�س�ؤال الذي يخطر يف البال :ما هي "�أمريكا" ابتدا ًء ؟
61
وعن �أي "�أمريكا" يتحدث املتحدثون يف احلوارات واملناق�شات و التحليالت؟ متعجلة لل�س�ؤال تفرت�ض �ضمنياً �أن �أمريكا مت ّثل �إن �أيّ �إجاب ٍة ّ وحد ًة ع�ضوي ًة متالحم ًة ومتجان�س ًة على جميع امل�ستويات الثقافية واالقت�صادية والعرقية والأخالقية وال�سيا�سية واالجتماعية .وب� ّأن كل ما ي�صدر عنها -بدءاً من القرارات ال�سيا�سية مروراً بالإنتاج ال�سينمائي الكثيف وانتها ًء ب�آخر �صيحات الأزياء� -إمنا ي�صدر عن تلك الوحدة املتجان�سة ،ويحوز على القبول اجلماعي لكل عنا�صرها ،واحلقيقة �أن هذه الر�ؤية هي �أبعد ما تكون عن احلقيقة والواقع. ف�أمريكا لي�ست طبقة ال�سيا�سيني املحرتفني ذات الت�أثري املبا�شر والظاهر ،ولي�ست طبقة رجال املال والأعمال ذات الت�أثري الكامن وامل�سترت ،ولي�ست طبقة الإعالميني ذات الت�أثري املتنوع واملع ّقد.، و�أمريكا لي�ست طبقة الفنانني ،ولي�ست طبقة الأكادمييني ال�ضخمة املنت�شرة يف �آالف املدار�س واجلامعات واملراكز العلمية ،ولي�ست طبقة اجلماعات العديدة من دعاة حقوق الإن�سان واحلفاظ على الطبيعة والبيئة ،ولي�ست طبقة مراكز ال�ضغط ال�سيا�سي املتنوعة، ولي�ست النقابات ال�ضخمة ،ولي�ست اجلماعات الن�سوية .وكذلك ف�إن �أمريكا لي�ست الربوت�ستانت ،وال الكاثوليك ،وال الأرثوذك�س، وال اليهود ،وال البوذيني ،وال امل�سلمني ،وال الهندو�س ،وال ال�سيخ، وال ع َب َد َة ال�شيطان ،وال املالحدة من كل نوع وجن�س ولون.و�إمنا �أمريكا هي ذلك الواقع العجيب والهائل واملت�شابك الذي ينتج عن تفاعل حركة ون�شاط كل هذه ال�شرائح وغريها ،وهو واقع معق ٌد ومتداخل �إىل �أبعد الدرجات. �إن موقف الإن�سان امل�سلم من (الآخر) غري امل�سلم يت�أثر بدرج ٍة كبرية بعاملني :الأول :عمق و�شمول الفهم لتعاليم الإ�سالم الرائدة يف هذا املجال. الثاين :عمق و�شمول املعرفة بذلك الواقع املليء بالتنوع واحليوية والذي عر�ضنا بع�ض �أطيافه يف الفقرات ال�سابقة .و�إن من الوا�ضح �أن حترير موقفنا من ذلك (الآخر) لن يح�صل �إال �إذا ُوجِ دت يف واقعنا جهو ٌد ر�صينة يف اجتاه درا�سة وحتليل وتبيني العاملني ال�سابقني ،وال يخفى على �أحد كم �سي�ؤثر حترير مثل ذلك املوقف يف تفكرينا كعرب وم�سلمني ،ويف طريقة تعاملنا مع الأحداث
والق�ضايا التي يكون فيها ذلك (الآخر) طرفاً من الأطراف. ولكن هذا كله ال يجعلنا نن�سى يف الوقت نف�سه� ،أن حترير املوقف من الآخر يعني �أننا نريد كم�سلمني ر�ؤية مو�ضع ومكمن الأزمة يف ح�ضارة ذلك (الآخر) ،واملتمثل بالتحديد يف غياب الوحي كم�صدر للمعرفة الب�شرية ،لأن لدينا �شوقاً كبرياً �إىل �إهدائه الرحمة املوجودة يف الوحي ،ولأن عندنا رغب ًة �صادق ًة ب�إعادة توجيه ما هو �شارد من ح�ضارته الهائلة ،حتى ت�صبح تلك احل�ضارة بحق جزءاً من احل�ضارة الإن�سانية الكربى التي تتجنب الطغيان بجميع �أ�شكاله وحتقق اخلري للب�شرية جمعاء. �إن الدعوة الحرتام الآخر غري امل�سلم ،ولتقدير ح�ضارته و�إجنازاته ،وللتفاعل معه على خمتلف امل�ستويات ال تعني �إطالقاً الدعوة �إىل الذوبان فيه� ،أو �إىل �إغفال البحث عن جذور الأزمات الكربى التي تعتم ُل يف �أعماق ح�ضارته ور�ؤيتها ب�شكلٍ وا�ضح .وهي �أزمات ميكن متييز �أبعادها ب�شكلٍ �أعمق على م�ستوى التحليل املعريف والفل�سفي املنهجي ال�صارم ،بعيداً عن الرتكيز ال�سائد يف ثقافتنا على ق�ضية (الف�ساد الأخالقي) املوجود يف الغرب ،لأن هذا الف�ساد �إمنا هو َع َر ٌ�ض من �أعرا�ض الأزمة احلقيقية ولي�س جذراً من جذورها. بل �إن من املفارقات الطريفة التي يجب �أن ينتبه �إليها املثقفون و�أ�صحاب االهتمام من العرب وامل�سلمني� ،أن حجم وطبيعة وعمق النقد الذاتي املعريف والفل�سفي املوجود يف كثري من امل�ؤ�س�سات الأكادميية والعلمية الغربية والأمريكية ،هو �أكرب مبراحل و�أكرث ب�سط املوجود يف بالدنا جتاه جد ّي ًة و�شمو ًال ،من ذلك النقد امل ُ ّ الغرب والواليات املتحدة ،والذي ينح�صر كما ذكرنا �إما يف م�س�ألة الف�ساد الأخالقي واجلرمية �أو يف نقد ال�سيا�سات اخلارجية. والطريق للخروج من هذه الأزمة الفكرية يكمن يف معرفة مداخل وجذور الأزمات احلقيقية يف تلك احل�ضارة ،والتعاطي املنهجي معها �أخذاً وعطا ًء على حدٍ �سواء ،لتجاوز العجز ال�شائع يف الأو�ساط العربية والإ�سالمية يف �ساحة فقه الواقع والتعامل معه، وهو العجز الذي ال ميكن جتاوزه �إال من خالل ا�ستعادة الو�سطية الإ�سالمية لتحرير املوقف من الآخر غري امل�سلم بدرجة عالية من التجرد والدقة وال�شمول ،وبعيدا عن الت�صورات اجلاهزة املبنية على الأحكام امل�سبقة.
62
الجمود الفكري وأثره في المشروع النهضوي اإلسالمي د .عبد ال�سالم الراغب تاريخ الإ�سالم حافل بحركة دائبة من التدين حتقق دينها من مادة احلياة .ف�إذا توقفت حركة امل�سلمني املتجددة وا�ستكانت �إىل �صورة ثابتة ،ت�شكل تاريخهم بعيدً ا عن دينهم .وهذا يعني �أن التجديد �صفة مالزمة للحركة ،واحلركة �أ�سا�س الإ�سالم وجوهره ،وهي حركة التوجه نحو اهلل يف �شتى �صور احلياة. يختلف النا�س يف الن�شاط العقلي �أو الفكري قو ًة و�ضع ًفا وفه ًما ووع ًيا وقدر ًة وا�ستيعا ًبا ،ويتجلى هذا التفاوت بني النا�س يف طريقة تعاملهم مع الثقافة �أو الواقع ،وهي ال تخرج عن ثالثة م�ستويات حتدد �آلية الن�شاط الفكري وم�ساره وثماره. امل�ستوى الأول :و�أعني به "التلقي املبا�شر" عن الآخر وا�ستعارة "قالبه" احل�ضاري يف الفكر وال�سلوك واحل�ضارة� ،سواء �أكان هذا ن�صا الآخر ما�ض ًيا مورو ًثا �أو حا�ض ًرا م�ستوردًا �أو واق ًعا ملمو�سا �أو ًّ ً مقرو ًءا �أو م�سمو ًعا �أو مرئ ًّيا ...وينح�صر دور العقل يف هذا امل�ستوى ال�شائع والعام ،يف "التلقي" من الآخر والتقيد مبا يقوله من ثقافة ومعرفة �أو عادات وتقاليد .ويحر�ص العقل �أو الفكر هنا ،يف التقليد واخل�ضوع لهذا الآخر ،وتب ّني ثقافته وم�شروعه احل�ضاري مرب ًزا �إيجابياته و�صوره امل�شرقة ،وتقدمي نف�سه على �أنه �صورة طبق الأ�صل متا ًما عما يطرحه هذا الآخر يف ثقافته وفكره وح�ضارته، واحلر�ص على حماكاته يف �أقواله و�أفعاله وم�شاريعه النه�ضوية. وتتعدى املحاكاة واال�ستن�ساخ حدود املعقول يف الثقافة والأدب والفن ،وطرائق احلياة يف امل�سكن وامللب�س واملطعم وامل�شرب. فالعقل هنا ،يتحرك �ضمن �إطار الثقافة املقروءة واملرئية وامل�سموعة لتبنيها والتقيد مبا فيها ،ليكون "العقل املتلقي" �أو الفكر املتلقي� ،صورة من�سوخة عن العقل املنتج لهذه الثقافة
بنوعيها العاملة وغري العاملة ،الر�سمية واالجتماعية على حد �سواء، و�سواء �أكانت هذه الثقافة قدمية �أو جديدة ،موروثة �أو م�ستوردة. ويلتقي يف ذلك دعاة "التغريب" يف ا�ستن�ساخ ثقافة الآخر امل�ستوردة، ودعاة امل�شروع الإ�سالمي يف م�ستوى التلقي من الثقافة الإ�سالمية وا�ستن�ساخ ما فيها ،دون وعي للثوابت واملتغريات فيها .هذا التعامل العقلي يف التلقي والن�سخ ،يف�ضي �إىل التكرار املمجوج والتقليد الأعمى ،وتبني الأفكار والآراء دون وعي �أو فهم لها� ،أو دون �إدراك للظروف التي �أنتجت هذه الأفكار والآراء وامل�شاريع النه�ضوية. وبالتايل يغيب العقل وراء املوروث �أو امل�ستورد ويحل "االنفعال" حمل "العقل" ،فت�أخذ العاطفة مكان العقل يف الرتويج لهذا املوروث �أو هذا امل�ستورد ،ويتم االنفعال والتفاعل مع هذا وذاك يف حلظة غياب العقل الب�صري ،فال ينظر هذا الإن�سان املق ّلد �إىل الثقافة ب�إطارها الزمني ،و�أطرها الثابتة واملتحولة ،وقربها �أو بعدها عن املقا�صد احل�ضارية للأمة ،و�إمنا ينظر �إليها من خالل عاطفته امل�شبوبة ورغبته يف حماكاة منوذجه املوروث �أو امل�ستورد، فيندفع للدفاع عن �أخطائه و�سلبياته وك�أنه يف دفاعه عن تراثه يخو�ض معركة جهادية ب�أمل ثوابها عند اهلل ،وغاب عن باله �أن ن�صا �شرع ًّيا ال هذا الرتاث الإ�سالمي هو �إنتاج ب�شري ،و�أنه لي�س ًّ يجوز �أن تخالفه ،وكذلك غاب عنه �أن الفقه نتاج ب�شري يف قراءة الن�صو�ص ال�شرعية ال�ستخراج الأحكام منها .فال�شريعة ثابتة ربانية� ،أما الفقه فهو نتاج ب�شري متغري بتغري الظروف والأزمان واحلاالت. امل�ستوى الثاين :هو �أعلى من الأول و�أرقى ،لأن العقل فيه يتجاوز مرحلة التلقي املبا�شر والفهم التداويل العادي للأمور الثقافية واحل�ضارية� ،إىل الفهم الت�أويلي املف�سر للدالالت والرموز
63
يف احل�ضارة والثقافة والواقع .وهذا يعني �أن العقل يقوم بدو ٍر فعالٍ يف �إنتاج الثقافة �أو فهم الواقع من خالل �إبداء الر�أي، وتقدمي ر�أي مف�سر �أو داعم لدالالت الثقافة �أو رموز الواقع .فهو يعمل بن�شاط لال�ستنطاق واال�ستك�شاف يف الثقافة والواقع ولي�س للتقليد واال�ستن�ساخ. وتتجه حركة العقل هنا �إىل مبدع الثقافة ،للتعرف على ظروفه اخلا�صة والعامة املحيطة يف �إبداعه و�إنتاجه الثقايف واحل�ضاري، والطواف يف �أجوائها ومناخها وم�ؤثراتها ال�ستيعابها وفهمها ومعرفتها ،من غري رغبة منه يف ك�شف عيوبها وتناق�ضاتها .و�إذا الح له �شيء من العيوب �أو الق�صور حاول �سرته و�إذابة تناق�ضاته باالعتماد على "الت�أويل" و"التربير". وعانى العقل املعا�صر من م�شكالت الت�أويل والتربير ،وحماوالت التوفيق والتلفيق يف م�شاريعه النه�ضوية املطروحة وامل�ستوردة، التي �أحدثت فجوة كبرية بني الثقافة الر�سمية امل�ستوردة ،والثقافة املختزنة يف عقول ال�شعوب امل�سلمة ووجدانها .وارتاح العقل املعا�صر ّ م�شاق البحث والتفكري ،فا�سرتخى وا�ستقال �أو �أراح نف�سه من مكتف ًيا بالقالب امل�ستعار يف م�شروعاته النه�ضوية� ،إما قالب م�ستورد بعيد عن ثقافته ودينه وح�ضارته� ،أو قالب موروث بعيد عن واقعه وظروفه وحاجاته ورغباته .وهذه هي الطامة الكربى التي �أ�صابت العقل �أو الفكر املعا�صر. امل�ستوى الثالث :هو الفكر التقوميي ،وفيه يرتقي العقل من مرحلة التلقي املبا�شر ومرحلة الت�أويل الداليل �إىل مرحلة �أعلى هي "التقومي" .وبذلك يكون العقل قد �أكمل دورته يف التلقي والت�أويل والتقومي �إن كانت حركته متدرجة مت�سل�سلة ال تتوقف عند مرحلة وجتمد عليها. فهذه املراحل �أو امل�ستويات الثالثة متداخلة ومتكاملة ،حتى تتكون الر�ؤية ال�صائبة للثقافة املقروءة �أو الن�ص املدرو�س �أو الواقع املر�صود ،فالبد للعقل �أو الفكر �أن يكمل عمله ال�سابق يف امل�ستوى الثالث يف تقوميه وت�شخي�صه وك�شف عيوبه وتناق�ضاته ،بعد عملية تف�سريه ومعرفة ما فيه من �أفكار وظروف. هذه امل�ستويات الثالثة لآلية الن�شاط الفكري �أو العقلي، ت�صلح معيا ًرا نقد ًّيا نحتكم �إليه يف فهم العقل املعا�صر �أو الفكر
الإ�سالمي املعا�صر ،ملعرفة حدود ن�شاطه ،وامل�ستوى الذي يتحرك فيه ،وكيفية عمله يف كل م�ستوى من هذه امل�ستويات الثالثة .وهذا بداية الطريق يف ت�شكيل العقل امل�سلم على �أ�س�س معرفية �صحيحة ووا�ضحة ،وتخلي�ص الفكر الإ�سالمي من جموده وحتجره. وال �شك يف �أن "�أدجلة املعرفة" �أو �أُحادية "الفكر" ،دفعت بالعقل املعا�صر �إىل �أن يح�صر ن�شاطه يف م�ستوى التلقي املبا�شر من الآخر ،رغبة يف �إخفاء العيوب وتربير التناق�ضات ،ف�أدى ذلك �إىل �ضياعه ومتزقه وف�شل امل�شاريع النه�ضوية احلديثة .ولو �أن الن�شاط الفكري �أو العقلي كان يتحرك ب�آلياته و�أدواته يف مناخ �سيا�سي متعدد ،لكان عمله ال ينح�صر يف امل�ستوى الأول يف التلقي املبا�شر ،و�إمنا جتاوز ذلك �إىل �شمولية التقومي وجديته يف و�ضع م�شروع نه�ضوي �إ�سالمي. الثبات والتطور يف الفكر الإ�سالمي �أقام اهلل �سبحانه وتعاىل نظام الكون واحلياة على نظام "الزوجية" املعروف لتبقى احلياة م�ستمرة متجددة .وال يخرج �أمر الدين � ً أي�ضا عن هذه الثنائية يف البناء الكوين والإن�ساين لت�أمني بقائه وا�ستمراره؛ �إذ نالحظ فيه تالزم ثنائي ِة "الثبات والتجديد فيه" .فالثبات يف الدين يرجع �إىل م�صدره الإلهي الأزيل ،ويالزم هذا الثبات ،التطو ُر والتجدي ُد املرتبط باملاديات الك�سبية املتفاعلة مع الواقع املتغري .وهذه هي التي يطر�أ عليها التطور والتجديد، �أو تبقى يف جمود وخمود بخالف الدين الذي يت�ضمن معنى الثبات واال�ستقرار .ويغفل الكثريون عن معنى الثبات يف طبيعة الدين، وقد يو�صف باجلمود ،بينما ظواهر اجلمود ال تنطبق على الدين، و�إمنا على �صور التدين ومواقف النا�س من الدين. وقد �شاءت �إرادة اهلل �سبحانه وتعاىل �أن تكون ثنائية بناء الكون واحلياة على نظام الزوجية� ،أدا ًة من �أدوات التغيري والتجديد يف الكون واحلياة ،ال�ستمرارهما وبقائهما .وثنائية الثبات والتطور يف الدين � ً أي�ضا من �أجل الغاية نف�سها ،يف بقائه ح ًّيا متجددًا يل ّبي حاجات الإن�سان يف كل الع�صور وفق املتغريات ال�سيا�سية واالجتماعية واحل�ضارية. و�صورة التدين تعني التفاعل مع الواقع املتجدد ،لإثبات املعنى الديني الأزيل فيه وحتقيق العبودية هلل يف حركة الإن�سان
64
وتوجهاته ،فتغدو حركته املتفاعلة مع جمتمعه وع�صره على �صراط اهلل امل�ستقيم� ،أما �إذا ظل تد ّينه على �صورة واحدة ال يرتقي ويتجدد بارتقاء احلياة وجتددها ،ف�إنه �سريى نف�سه يف النهاية ريا ل�صورة التدين املخالفة لع�صره معزوال عن واقعه وع�صره� ،أ�س ً وواقعه. ف�صورة التدين متغرية ،لأنها تتعامل مع متغريات احلياة �ضمن مفهوم الثبات يف طبيعة الدين؛ �إذ �إن اهلل �سبحانه وتعاىل قد ابتلى الإن�سان بالتفاعل مع ظروف احلياة املتغرية ،ليمتحن ثباته يف توجهه واجتاهه نحو ربه ،كما ابتاله بالتفاعل مع الكون لي�ستخل�ص قوانينه ويفهم �أ�سراره ،ولوال هذا التفاعل معه، ما كانت هذه العلوم املتطورة وهذا الت�سخري الكوين للإن�سان. كما امتحن الإن�سان بالرخاء وال�شدة على ال�صعيد االجتماعي واالقت�صادي واحل�ضاري ،لريى حركته و�سلوكه وت�ص ّرفه مع هذه املتغريات عليه ،ومقدار ثباته على طريقه امل�ستقيم. والفكر الإ�سالمي فكر متجدد فيه ثوابت الدين ،ومتغريات "التدين" ،فتدور �صورة التدين حول حمور الدين الثابت يف �شتى ميادين احلياة. من هنا ،نالحظ �أن جتدد احلياة وتطورها يكمنان يف هذه الثنائية الأ�سا�سية يف الكون واحلياة والإن�سان .والفكر الإ�سالمي يخ�ضع � ً أي�ضا لهذه الثنائية يف الدين الثابت والتدين املتغري ،وفق الظروف والأو�ضاع الك�سبية املتغرية. لذا نالحظ �أن "الإميان" يزيد وينق�ص ،و�أن امل�ؤمن مطالب �أن يحقق الإميان حي ًنا بعد حني ،فيظل يف مناء وتطور وازدياد يف حركة تفاعل مع الظروف والأو�ضاع .حتى التقوى التي هي ذروة الإميان ،متر مبراحل متجددة �ضمن حركة التفاعل االجتماعي وال�شعوري� ،إذ نالحظ هذا يف قوله تعاىل( َل ْي َ�س َعلَى ا َّلذِ َ ين �آ َم ُنوا ال�صالحِ َ اتِ ُج َنا ٌح فِي َما َط ِع ُموا �إِ َذا مَا ا َّت َق ْوا َو�آ َم ُنوا َوعَمِ ُلوا َوعَمِ ُلوا َّ ال�صالحِ َ اتِ ُث َّم ا َّت َق ْوا َو�آ َم ُنوا ُث َّم ا َّت َق ْوا َو�أَ ْح َ�س ُنوا َو ُ اهلل يُحِ ُّب المْ ُ ْح�سِ ِن َ ني) َّ (املائدة.)93: وقد يقال �إن هذه مراتب التقوى ومقاماتها وهذا �صحيح، ولكن �ألي�ست هذه املراتب متثل حركة تفاعل الفرد مع حميطه االجتماعي حتى يبلغ هذا املقام يف ح�سه و�شعوره وفكره.
و�إذا ت�أملنا حركة "الدين" يف ق�ص�ص الأنبياء ،نالحظ �أن اهلل �سبحانه وتعاىل يختار ر�سوله من بيئته ليحقق هذا املعنى يف تفاعل الدين مع املجتمع. وهذا يعني �أن املبادئ الثابتة -يف دعوة الأنبياء -واحدة و�إن تغريت ال�شرائع �أو جتددت وفق الأو�ضاع املتجددة .وك�أن ال�شرائع متثل �صور اال�ستجابة للأو�ضاع املتجددة املعتمدة على دين التوحيد الثابت. و�إذا رجعنا �إىل بع�ض الن�صو�ص النبوية ،ف�إنها ت�ؤكد حقيقة االبتالء يف احلياة من خالل �إدراك النا�س للعبادة يف حالة الرخاء، و�إدراكهم لها يف حالة ال�شدة ،فتتجدد �صورة التدين من "�شكر" يف حالة الرخاء �إىل "�صرب" يف حالة ال�شدة. ري والر�سول �صلى اهلل عليه و�سلم يخرب يف حديث له؛ �أن خ َ الإ�سالم �سيع ّم ،ثم يو�ضح �أنه ال يدوم �إذ يعقبه �شر ،ثم ي�ؤول �إىل خري �آخر �أدنى من اخلري الأول �إذ فيه دخن .فهو ي�ؤكد على �أطوار احلياة وتق ّلباتها وما ت�ستلزمه من موقف يف كل طور؛ موقف جتاه اخلري ،وموقف جتاه ال�شر .وهو االمتحان الإلهي لعباده يف جتدد �صورة التدين املالزمة لتق ّلبات احلياة. بل �إن الر�سول �صلى اهلل عليه و�سلم يخرب مب�ش ًرا �أن اهلل �سبحانه وتعاىل يقي�ض للأمة جمددًا لأمر دينها ،كلما ر�آها قد ا�ستكانت �إىل �صورة جامدة من �صور التدين يف الوجدان وال�سلوك، داهمتها حتديات جديدة وظلت على �سكونها وجمودها ،فيهيئ لها املجد َد لأمر دينها ،فيحيي وجدانها وين�شط فكرها وعقلها يف االجتهاد املتجدد ،ويثري فيها روح النهو�ض بحركة متجددة من �صور التدين املواجهة للتحديات. وتاريخ الإ�سالم حافل بحركة دائبة من التدين حتقق دينها من مادة احلياة .ف�إذا توقفت حركة امل�سلمني املتجددة وا�ستكانت �إىل �صورة ثابتة ،ت�شكل تاريخهم بعيدًا عن دينهم .وهذا يعني �أن التجديد �صفة مالزمة للحركة ،واحلركة �أ�سا�س الإ�سالم وجوهره، وهي حركة التوجه نحو اهلل �سبحانه وتعاىل يف �شتى �صور احلياة. طريق النه�ضة � -1إحياء املفاهيم الإ�سالمية :البد من �إحياء املفاهيم الأ�صلية وبعث احلياة يف معاين التدين ،حتى يكون الدين حركة تفاعل
65
اجتماعي وح�ضاري للرقي بالإن�سان نحو اخلري والتقدم ،وربطه باحلياة وال�سلوك ،و�إحياء حقائقه وم�ضامينه ال �صوره و�أ�شكاله. و�سوف تقف �صور"التقليد" �أمام حركات التجديد والتطوير ،ولكن الدين بعيد عن مظاهر اجلمود والتقليد� ،إذ �إن كلمة "الإ�سالم" امل�صدرية توحي بالتجدد امل�ستمر ،لأن املرء حني �أ�سلم وي�سلم فهو يف حركة متفاعلة متجددة مع �أو�ضاع احلياة .فهو �إذن ،يف حالة جتدد وحيوية وعطاء ،ولي�س يف حالة �سكونية جامدة طاملا �أن حركته �ضمن ثوابت الدين و�أحكامه .من هنا نالحظ الآيات تركز على الفعلَ ( :بلَى َمنْ �أَ ْ�سلَ َم َو ْج َه ُه لهلِ ِ َوهُ َو محُ ْ �سِ ٌن َفلَ ُه �أَ ْج ُر ُه عِ ْن َد َر ِّب ِه َو َال َخ ْو ٌف َعلَ ْي ِه ْم َو َال هُ ْم َي ْح َز ُنو َن)(البقرةَ ( ،)112:و َمنْ ُي ْ�س ِل ْم هلل هلل َوهُ َو محُ ْ �سِ ٌن َف َقدِ ْا�س َت ْم َ�س َك بِا ْل ُع ْر َو ِة ا ْل ُو ْث َقى َو�إِلىَ ا ِ َو ْج َه ُه �إِلىَ ا ِ عَا ِق َب ُة الأُمُورِ)(لقمان .)22:لأن حركة التفاعل هي الأ�صل حتى يبلغ الإن�سان ذروة الدين ،وهذا ما نالحظه يف ن�صو�ص الدين كلها، و�أحكامه التي تنقله من طور الإ�سالم �إىل الإميان �إىل الإح�سان. ومرتبة الإح�سان متجددة بتجدد ال�شعور وال�سلوك والأداء ،بل �إن القر�آن الكرمي يجعل التجدد ً �شرطا للنه�ضة والنجاح بقوله ( َق ْد اب َمنْ د ََّ�ساهَا)(ال�شم�س.)10-9: �أَ ْفلَ َح َمنْ َز َّكاهَا * َو َق ْد َخ َ -2اعتماد املعرفة الإ�سالمية :يف م�صادر املعرفة ال يفرتق الوحي عن العقل وال يت�صادم معه ،لأنهما يرجعان �إىل م�صدر واحد، وحمال �أن نت�صور التعار�ض بينهما وهما ي�صدران من م�شكاة واحدة� .إذ الوحي يف ر�سالته الأوىل ،كان دعوة �إىل التفكري والثقافة والعلم وتفجري الطاقات الإن�سانية الكامنة يف ت�سخري الكون للإن�سان ،فهو دعوة ح�ضارية لالرتقاء والنهو�ض من خالل كلمته الأوىل( :ا ْق َر�أْ) ،ومالزمة العبادة لكل الأ�شياء املقروءة و�صوال �إىل غايتها يف العبودية هلل �سبحانه وتعاىل .وبذلك تتحدد حركة الإن�سان بحركة الكون واحلياة ،فتكون قراءته الكونية واحلياتية متجهة يف �صورة العبودية هلل الواحد .وقد جاء الوحي من �أجل تقدّم الإن�سان وح�ضارته وتعليمه ما مل يعلم ،كما ورد يف الآيات ِا�س ِم َر ِّب َك ا َّلذِ ي َخلَ َق * اخلم�س الأوىل النازلة من ال�سماء (ا ْق َر�أْ ب ْ َخلَ َق الإِ ْن َ�سا َن مِ نْ َعلَقٍ * ا ْق َر ْ�أ َو َر ُّب َك الأَ ْك َر ُم * ا َّلذِ ي َع َّل َم بِا ْل َقلَ ِم * َع َّل َم الإِ ْن َ�سا َن مَا لمَ ْ َي ْعلَ ْم)(العلق.)5-1: فك�أن هذه الر�سالة احل�ضارية للوحي ،تن�سجم مع دور الإن�سان
ووظيفته حني اختاره اهلل خليفة له وم�ستخل ًفا على كونه، لت�سخريه وتعمريه ،ومن خالل حركة التفاعل معه لك�سب مادته وا�ستخال�ص قوانينه ،وو�ضع مادته امل�سخرة �أداة �أو و�سيلة لعبادة اهلل �سبحانه وتعاىل ،وحتقيق تدين الإن�سان من خالل موقفه من الكون وحادثات احلياة املتجددة ،التي تتطلب جتديدًا �أو تطوي ًرا يالزم حركة الدين املتفاعلة مع احلياة. والعقبة الأ�سا�سية �أمام هذه احلركة اجلديدة للوحي هي "ظاهرة اجلمود الفكري" .من هنا كان هذا الرتكيز القر�آين على �إذابة اجلمود الفكري والتحجر العقلي له �أولوية يف اخلطاب القر�آين ،وهذه من مدلوالت كلمة (ا ْق َر�أْ) الأوىل التي تهدف �إىل �إذابة اجلمود بفعل القراءة امل�ستمرة يف الكون واحلياة والإن�سان، وهي قراءة �شاملة متكاملة ومتفاعلة ،لت�ؤتي ثمارها وفوائدها يف فتح الآفاق الكونية ،والآفاق العقلية ،والآفاق الفكرية والروحية. ومن متطلبات هذه القراءة الواعية ال�شاملة ،تف ُّتح احلوا�س وفاعليتها لت�ؤدي وظيفتها احل ّقة ،و�إال ف�إن تعطيلها يف�ضي بانتقال الإن�سان من �آدميته �إىل �صورة �أخرى م�شينة يفقد فيها خ�صو�صيته ومتيزه .ومن �أين للخطاب الديني �أن يحقق غايته يف البالغ والنهو�ض بالفرد والأمة ،يف جمتمع مو�سوم باجلمود ريا مِ َن الفكري كما ورد ذلك يف قوله تعاىل ( َو َل َق ْد َذ َر�أْ َنا لجِ َ َه َّن َم َك ِث ً وب َال َي ْف َقهُو َن ِبهَا َو َل ُه ْم �أَ ْعينُ ٌ َال ُي ْب ِ�ص ُرو َن ِبهَا الجْ ِ ِّن َوا ِلإ ْن ِ�س َل ُه ْم ُق ُل ٌ َو َل ُه ْم �آ َذ ٌان َال َي ْ�س َم ُعو َن ِبهَا �أُو َلئ َِك َكالأَ ْن َعا ِم َب ْل هُ ْم َ�أ َ�ض ُّل �أُو َلئ َِك هُ ُم ا ْل َغا ِف ُلو َن)(الأعراف.)179: فالآيات ت�ؤكد �أن تعطيل "احلوا�س" يعني تعطيل "م�صادر املعرفة" التي هي و�سيلة النهو�ض والوثوب والتجدد امل�ستمر مع �أو�ضاع احلياة والظروف ،بل �إن الآية تعترب ه�ؤالء املعطلني حلوا�سهم املدركة قد اعرتتهم الغفلة عن احلقيقة ،فال ميكن للمرء �أن ي�صل �إليها �إال من خالل �إعمالها من خالل حركة التفاعل مع الكون املحيط ،ال�ستخال�ص حقائقه وقوانينه. هذه "احلركة الن�صية" يف ا�ستقبال احلوا�س للم�ؤثرات، و�إدراكها وحتليلها وا�ستيعابها واتخاذ املواقف املنا�سبة من الكون واحلياة ،ال تتم �إال بحركية مقابلة يف �سلوك الإن�سان وتفاعله مع حميطه ،حتى ال يكون من الغافلني عن كونه �أو خلقه �أو عبادته، وهذه نقطة البداية يف معاجلة "اجلمود الفكري".
66
ف�إن القر�آن الكرمي يف دعوته �إىل التفكري والعقل ،حث الإن�سان َ املخاطب على االت�صال بالكون املحيط به ،وك�أنه يدعوه �إىل الأخذ مب�صدري املعرفة احل�سي والعقلي بالإ�ضافة �إىل الوحي الذي يتكامل معهما وال يتناق�ض .وهذه الدعوة �إىل االت�صال بالكون ال�ستك�شاف حقائقه التي هي حقائق العلم وقوانينه ،هي دعوة م�ستمرة ومتجددة ،لينتقل الإن�سان من طور علمي �إىل طور عملي وفق حركة تفاعله وقدراته الك�سبية ،التي مت ّكنه من امتالك املعرفة التي هي حركة متجددة ولي�ست �سكونية ثابتة .وملتقى الوحي واحل�س هو "العقل"� ،إذ ال ميكن �أن يد َرك الوحي �إال بالعقل�( :إِ َّنا َج َع ْل َنا ُه ُق ْر�آ ًنا َع َر ِب ًّيا َل َع َّل ُك ْم َت ْع ِق ُلو َن)(الزخرف .)3:واحل�س � ً أي�ضا ال ال�س َما َواتِ َوالأَ ْر ِ�ض َو ْاخ ِت َ ال ِف ال َّل ْيلِ يد َرك �إال بالعقل�( :إِ َّن فيِ َخ ْلقِ َّ ا�س َومَا �أَ ْن َز َل ُ اهلل َوال َّنهَا ِر َوا ْل ُف ْلكِ ا َّلتِي تجَ ْ رِي فيِ ا ْل َب ْح ِر مِبَا َي ْن َف ُع ال َّن َ ال�س َما ِء مِ نْ مَا ٍء َف�أَ ْح َيا ِب ِه الأَ ْر َ �ض َب ْع َد َم ْو ِتهَا َو َب َّث فِيهَا مِ نْ ُك ِّل مِ َن َّ ال�س َما ِء َوالأَ ْر ِ�ض َ آل َياتٍ ال�س َحابِ المْ ُ َ�س َّخ ِر َبينْ َ َّ دَا َّب ٍة َو َت ْ�صرِيفِ ال ِّر َيا ِح َو َّ ِل َق ْو ٍم َي ْع ِق ُلو َن)(البقرة.)164: وبذلك تتكامل م�صادر املعرفة يف الثقافة الإ�سالمية ،و�أعني بذلك الوحي واحلوا�س والعقل .فيكون الوحي مك ّمال مل�صدري املعرفة احل�سي والعقلي ،وبذلك ي�ضع القر�آن الأمة على طريق النه�ضة العلمية ،لت�أخذ حظها من التقدّم واحل�ضارة والرفاهية و�سعادة الإن�سان ،متطلعة �إىل �إحياء فكري نه�ضوي ،ي�ستفيد من توجيهات الوحي نحو العلم والعقالنية والتفكري ،كما ي�ستفيد من الكون املحيط يف حركته ،لأنه جمال الت�سخري والتمكني. والبد �أن �أ�شري �إىل �أن هذه النه�ضة املطلوبة لي�ست تر ًفا ،و�إمنا هي �ضرورة الزمة لتحقيق عبادة اهلل يف �صور احلياة كلها ،فال تقت�صر �صورة التدين على جانب منها ،و�إمنا ت�شملها كلها .وهذه ال�شمولية التعبدية ال تتحقق �إال من خالل التفاعل مع الواقع للنهو�ض به .ولكن النه�ضة املن�شودة ،لها قوانينها و�أ�صولها ،وهي ال حتابي �أحدًا لعقيدته �أو لدينه ،فكل من قام ب�أ�صولها �أو قوانينها ف�إنه ي�صل �إىل ثمارها ونتائجها ولو كان غري م�سلم. -3بناء جمتمع �صناعي :علينا �أن منيز يف م�شروع النه�ضة بني نه�ضة فكرية ونه�ضة �صناعية .فالفكر له قوانينه اخلا�صة به يف التطور والتجديد عرب الع�صور والأجيال وفق قانون املدافعة
ا�س َف َي ْم ُك ُث التاريخيَ ( :ف�أَ َّما ال َّز َب ُد َف َي ْذه َُب ُج َفا ًء َو�أَ َّما مَا َي ْن َف ُع ال َّن َ فيِ الأَ ْر ِ�ض َك َذل َِك َي ْ�ضر ُِب ُ اهلل الأَ ْم َثا َل)(الرعد� .)17:أما النه�ضة ال�صناعية فهي حمكومة ب�أطرها املادية �ضمن القدرات والإمكانيات واخلطط .فم�شكلتنا يف امل�شروع النه�ضوي الإ�سالمي� ،أننا نخلط بني ما هو فكري وما هو �صناعي مادي. �إن �إقامة جمتمع �صناعي ،حتتاج �إىل �إرادة �سيا�سية قوية وعقل خمطط متفتح ر�شيد ،و�إمكانات مادية وب�شرية ،وقيم وطنية عالية ت�ضع الوطن والأمة والتاريخ يف مقدمة حركتها الواعية وفق مراحل البناء ال�صناعي من ا�ستعداد ح�ضاري ،ثم ا�ستيعاب لكل املنجزات احل�ضارية القائمة ،ثم مرحلة �صيانتها ثم حماكاتها وتقليدها ،ثم الإبداع والتجديد فيها. ونخل�ص �إىل مق ّومات امل�شروع النه�ضوي الإ�سالمي و�أعمدته الأ�سا�سية يف الأ�صالة واملعا�صرة والدميقراطية والتكنولوجيا. وهذه العنا�صر تقوم على فكر متنوع ،متفتح وحياة متجددة متطورة �ضمن الثوابت واملتغريات.
67
تجليات مفهوم الوسطية لدى بعض الحركات اإلسالمية
د .ح�سان ال�صفدي
�أو ًال :غاية البحث ي�شكل ما و�صلت �إليه ،الأمة من نكو�ص ح�ضاري وتخلف وجتزئة وا�ست�ضعاف ،الهاج�س الذي يق�ض م�ضاجع كل الغيورين عليها. وتتعدد الآراء والر�ؤى عن كيفية النهو�ض بحال الأمة ،واالنطالق ب�إمكاناتها من حال النكو�ص احل�ضاري الذي ترزح حتته �إىل غدٍ �أف�ضل ،ت�ؤهلها له �إمكاناتها وخمزونها احل�ضاري وتطلعات �أبنائها. ويحتل الطرح الإ�سالمي موقعاً مميزاً بني جملة هذه الر�ؤى والآراء ،كونه الأقرب �إىل �ضمري الأمة ،بل �إنه ميثل هويتها احلقيقية ومالذها الذي ال تركن �إال �إليه ،ومنذ بدايات حماوالت النهو�ض املعا�صرة ،كان للفكر الإ�سالمي وما جتلى عنه من جمعيات وجماعات و�أحزاب الن�صيب الأوفر من االهتمام� ،أكان هذا االهتمام ت�أييداً �أو معار�ضة �أم درا�سة ونقداً وحتلي ً ال. ومن هنا ت�أتي هذه الدرا�سة –وهي متثل جهد املقل– حماولة لت�سليط ال�ضوء على التطورات التي ح�صلت لدى بع�ض احلركات الإ�سالمية املعا�صرة ،والتي تتبنى الفكر الو�سطي ،نتيجة ت�أثرها مبفهوم الو�سطية الإ�سالمية .وما مدى جناحها يف ذلك ،وما هي التحديات امللقاة على عاتق تلك احلركات التي نه�ضت لهذه املهمة، وما هي الآفاق امل�أمولة لها يف قادمات الأيام. ثاني ًا :مفهوم الو�سطية �إن حديثنا يتناول "بع�ض" معاين الو�سطية ،والتي نرغب يف تتبع �آثارها لدى بع�ض احلركات الإ�سالمية املعا�صرة ،وذلك لأننا ال ن�ستطيع االدعاء �أن لدينا تعريفاً جامعاً مانعاً ملفهوم الو�سطية، بل �إننا نعتقد �أن الو�سطية يف الإ�سالم هي مفهوم ممتد ،ي�صاحب هذه الأمة يف كل �أحوالها و�أجيالها وحماور ر�سالتها ،وهذا ما نفهمه من دالالت النظم القر�آين العظيم ( َو َك َذل َِك َج َع ْل َنا ُك ْم �أُ َّم ًة َو َ�س ًطا)(البقرة.)143 : فما هي موا�صفات �أمة الو�سط التي جاء بها القر�آن الكرمي ؟ �أمة احلق :تدور هذه الأمة مع احلق حيث دار ،وتنتقل من ال�صحيح �إىل الأ�صح ،ومن الفا�ضل �إىل الأف�ضل ،يف حركة �سعي دائب نحو احلقيقة فاهلل هو احلق ،واجلرمية تكمن يف معرفة احلق ثم �إنكاره ،و�أن كتمان احلقيقة �إزدراءاً �أو ا�ستخفافاً مب�صدرها
جرمية يف حق النف�س والنا�س ( َو�إِ َّن ا َّلذِ َ اب َل َي ْعلَ ُمو َن ين �أُو ُتوا ا ْل ِك َت َ �أَ َّن ُه الحْ َ ُّق مِ نْ َر ِّب ِه ْم َومَا اللهَّ ُ ِب َغافِلٍ َع َّما َي ْع َم ُلو َن )(البقرة.)144 : �أمة املرجعية :هذه الأمة ال ت�صدر من فراغ ،و�إمنا تركن �إىل من بيده ملكوت ال�سماوات والأر�ض ،والذي يهدي �إىل ال�صراط اط امل�ستقيم ( ُق ْل للِهَّ ِ المْ َ ْ�شر ُِق َوالمْ َ ْغر ُِب َيهْدِ ي َمنْ َي َ�شا ُء �إِلىَ ِ�ص َر ٍ ِيم )(البقرة ،)142 :واالمتثال �إىل هذه املرجعية هو الركن م ُْ�س َتق ٍ الركني الذي يحفظ لهذه الأمة ر�شدها فعدم �إتباع هذه املرجعية هو انقالب على الأعقاب ونكو�ص وتراجع و�ضالل. �أمة الواقعية :جاءت ر�سالة الإ�سالم لتخرج النا�س من الظلمات ا�س مِ َن ُّ الظ ُل َماتِ �إِلىَ �إىل النور (الر ِك َت ٌ اب �أَ ْن َز ْل َنا ُه �إِ َل ْي َك ِل ُت ْخ ِر َج ال َّن َ اط ا ْل َعزِي ِز الحْ َ مِ يدِ ) (ابراهيم .)1 :وتبني ال ُّنو ِر ِب�إِ ْذنِ َر ِّب ِه ْم �إِلىَ ِ�ص َر ِ لهم جمتمعاً ت�سوده الف�ضيلة ويحكمه العدل ،وال ميكن للإ�سالم �أن يكون نظرية حبي�سة الكتب �أو العقول .بل �إن معجزة هذا الدين �أنه -وكما قال �سيد قطب رحمه اهلل� -أخرج �أمة من كتاب ،وتعامل مع النا�س بح�سب واقعهم ف�أخذ ب�أيديهم فارتفع بهم �إىل حيث ت�ستطيعه �إمكاناتهم ومواهبهم يف �آفاق ال�سمو واالرتقاء .وتتجلى واقعية الإ�سالم يف كل �أحكامه ،والتي ت�أخذ بيد الأمة �إىل ر�شدها بح�سب اال�ستطاعة ،وتتعامل مع احلياة بفقه الواقع. �أمة ال�سعي واحلركة :و�أمة الو�سط �ضار ٌبة يف الأر�ض� ،ساعيةٌ يف وجوه اخلري ،مت�شوف ٌة �إىل ما هو �أ�سمى و�أكمل� ،سباق ٌة �إىل كل مكرمة .وال�سعي يف الت�صور الإ�سالمي� ،سمة �أ�صيلة ت�شمل العقيدة والفكر والعبادة والك�سب وت�صاحب امل�سلم يف كل دوائر حياته ،فالعقيدة يكت�سبها بال�سعي والعلم ( َف ْاعلَ ْم َ�أ َّن ُه اَل �إِ َل َه ِ�إ اَّل اللهَّ ُ )(حممد .)19 :والعبادات كلها تتطلب جهداً وحركة ،والرزق –قد كفله اهلل تعاىل– ومع ذلك فال�سعي له واجب ،والقعود عنه �إثم وخطيئة ،والن�صيحة –مبعناها الإ�سالمي– من نقد �إيجابي و�إر�شا ٍد وتوجيه ،هي الدين " الدين الن�صيحة" ،والتعامل مع النا�س ب�صدق وا�ستقامة و�أمانة هو الدين " الدين املعاملة" ،ولكل ال�ص اَل ُة َفا ْن َت�شِ ُروا فيِ وقتٍ �سعيه وحركته الواجبة( َف ِ�إ َذا ُق ِ�ض َيتِ َّ ريا َل َع َّل ُك ْم ُت ْفل ُِحو َن) ْأ الَ ْر ِ�ض َوا ْب َت ُغوا مِ نْ َف ْ�ضلِ اللهَّ ِ َوا ْذ ُك ُروا اللهَّ َ َك ِث ً (اجلمعة .)10 :ويبقى ال�سعي مطلوباً و�أدا�ؤه واجباً حتى لو
68
ا�ستحالت �ضمن احل�سابات الب�شرية �إمكانية قطف الثمار وجني النتائج (�إن قامت ال�ساعة ويف يد �أحدكم ف�سيلة فا�ستطاع �أال تقوم حتى يغر�سها فليغر�سها ف�إن له بها �أجراً). �أمة العدل :وت�ضع الأمة الأمور يف ن�صابها ،وحتقق التوازن يف حياتها ،وتعطي كل ذي حق حقه .ف�أمة الو�سط هي �أمة العدل كما و�صفها �صلى اهلل عليه و�سلم بقوله "و�سطاً عد ًال" ،فلم ي�أت الدين �إال ليقوم النا�س بالق�سط * َل َق ْد َ�أ ْر َ�س ْل َنا ُر ُ�سلَ َنا بِا ْل َب ِّي َناتِ َوَ�أ ْن َز ْل َنا ا�س بِا ْلق ِْ�س ِط ( َو�أَ ْن َز ْل َنا الحْ َ دِ ي َد فِي ِه َم َع ُه ُم ا ْل ِك َت َ اب َوالمْ ِي َزا َن ِل َي ُقو َم ال َّن ُ ا�س َو ِل َي ْعلَ َم اللهَّ ُ َمنْ َي ْن ُ�ص ُر ُه َو ُر ُ�سلَ ُه بِا ْل َغ ْيبِ ِ�إ َّن َب�أْ ٌ�س َ�شدِ ي ٌد َو َم َنا ِف ُع لِل َّن ِ اللهَّ َ َقوِيٌّ َعزِي ٌز )(احلديد .)25 :ومهمة امل�ؤمنني ال�شهادة بالق�سط، وتعاليم الإ�سالم تتواىل بالأمانة والإح�سان والق�سط والعدل والوفاء بالعهود ( َيا �أَ ُّيهَا ا َّلذِ َ ين �آ َم ُنوا ُكو ُنوا َق َّوامِ َ ني للِهَّ ِ ُ�ش َهدَا َء بِا ْلق ِْ�س ِط َو اَل َي ْج ِر َم َّن ُك ْم َ�ش َن� ُآن َق ْو ٍم َعلَى �أَ اَّل َت ْعدِ ُلوا ْاعدِ ُلوا هُ َو �أَ ْق َر ُب ري مِبَا َت ْع َم ُلو َن )(املائدة.)8 : لِل َّت ْق َوى َوا َّت ُقوا اللهَّ َ �إِ َّن اللهَّ َ َخ ِب ٌ �أمة النموذج :ف�إذا ما حتققت يف الأمة موا�صفات الو�سطية املذكورة �آنفاً واقعاً يف حياة النا�س� ،أ�صبحت �أمنوذجاً وقدوة، وتنزلت مكارم الأخالق التي جاء بها الوحي واقعاً تراه الب�شرية يف �أمة الو�سط عقيدة وفكراً و�سلوكاً .وهذا النموذج احلي الواقعي هو الذي يقود �إىل ثمرات الو�سطية العليا والتي تتمثل يف �أمة ال�شهادة. �أمة ال�شهادة� :إن من عدل اهلل تعاىل� ،أن ال يدع النا�س حيارى ال يجدون �إىل الهداية �سبي ً ال ،ولذلك فقد �أر�سل الر�سل و�أنزل الكتب و�أقام احلجة ود ّلل على ذاته و�صفاته مبا �شاء �سبحانه ،ومبا ي�ستطيع الإن�سان الراغب يف الو�صول �إىل احلق �إدراكه والقناعة ب�أنه احلق ،وقد كان الأنبياء والر�سل منوذجاً حياً لأقوامهم يعلمونهم ويزكونهم ويقدمون لهم القدوة والأ�سوة ،وتبقى �سرية حممد �صلى اهلل عليه و�سلم حمققة لهذا املعنى �إىل �أن يرث اهلل الأر�ض ومن عليها ( َل َق ْد َكا َن َل ُك ْم فيِ َر ُ�سولِ اللهَّ ِ �أُ ْ�س َو ٌة َح َ�س َن ٌة) (الأحزاب .)21 :وحتمل �أمة الر�سالة اخلامتة ،نربا�س النبوة� ،إذ ال نبوة بعد حممد �صلى اهلل عليه و�سلم ،وتقع عليها م�س�ؤولية حتقيق املثال الإ�سالمي الذي يقيم به اهلل احلجة على خلقه ،فتكون �أمة الإ�سالم بواقعها وبالنموذج الذي تقدمه� ،شاهدة على الأمم . ثالث ًا :جتليات بع�ض مفاهيم الو�سطية لدى حركات �إ�سالمية نريد �أن نتتبع بع�ضاً من حتققات مفاهيم الو�سطية الآنفة الذكر لدى حركات �إ�سالمية ،فهي حماولة لت�أ�سي�س ر�ؤية نقدية
تنظر يف مدى موافقة توجهات هذه احلركات الفكرية وك�سبها العملي للو�سطية الإ�سالمية. يف مبد�أ احلاكمية �إن احلاكمية يف املعنى الت�شريعي والتي تعني �أن اهلل تعاىل هو الذي ي�شرع خللقه وي�أمرهم وينهاهم ،ويحلل لهم احلالل ويحرم عليهم احلرام هو ما عليه �إجماع الأمة (�إِنِ الحْ ُ ْك ُم �إِ اَّل للِهَّ ِ �أَ َم َر �أَ اَّل َت ْع ُبدُوا �إِ اَّل �إِ َّيا ُه َذل َِك الد ُ ا�س اَل َي ْعلَ ُمو َن) ِّين ا ْل َق ِّي ُم َو َل ِكنَّ �أَكْثرَ َ ال َّن ِ (يو�سف .)40 :وكل كتب �أ�صول الفقه تبحث هذه الق�ضية عند البحث يف موا�ضيع احلكم واحلاكم واملحكوم به .ويف هذا يقول الإمام الغزايل يف "امل�ست�صفى من علم الأ�صول"" ،يف البحث عن احلاكم يتبني �أن (ال حكم �إال هلل) و�أن ال حكم للر�سول ،وال لل�سيد على العبد ،وال ملخلوق على خملوق ،بل كل ذلك ،حكم اهلل تعاىل وو�ضعه ال حكم غريه"(. )1 وقد حدث يف تاريخ الفكر الإ�سالمي �إ�شكالية كبرية حول هذا املفهوم فمنذ القرن الأول الهجري قال اخلوارج كلمتهم امل�شهورة (ال حكم �إال هلل) وكان رد الإمام علي ر�ضي اله عنه بليغاً حني قال " :كلمة حق يراد بها باطل! نعم ،ال حكم �إال هلل ،ولكن ه�ؤالء يقولون :ال �إمرة �إال هلل! وال ب ّد للنا�س من �أمري بر �أو فاجر". فما هي احلاكمية الت�شريعية التي يجب �أن تكون هلل وحده؟ يجيب عن هذا ال�س�ؤال العالمة يو�سف القر�ضاوي فيقول " :هي احلاكمية العليا واملطلقة التي ال يحدها وال يقيدها �شيء ،فهي من دالئل وحدانية الإلوهية ،وهذه احلاكمية ال تنفي �أن يكون للب�شر قدر من الت�شريع �أذن به اهلل لهم� .إمنا هي متنع �أن يكون لهم ا�ستقالل بالت�شريع غري م�أذون به من اهلل ،وذلك مثل الت�شريع الديني املح�ض كالت�شريع يف �أمر العبادات ،والت�شريع يف �أمر احلالل واحلرام ،والت�شريع فيما ي�صادم الن�صو�ص ال�صحيحة ال�صريحة، �أما فيما عدا ذلك فمن حق امل�سلمني �أن ي�شرعوا لأنف�سهم"(.)2 وقد كان �أبو الأعلى املودودي و�سيد قطب –رحمهما اهلل– �أكرث من رك ّز يف الع�صر احلديث على هذا املفهوم ،وقد كان لهما �أ�سبابهما املو�ضوعية يف �شدة الرتكيز على ذلك ،ذلك �أن التخوف كان مربراً يف ذلك الوقت من �أن ُتغ ّيب هذه الفكرة� ،إذ كان الت�سا�ؤل املطروح :هل الإ�سالم منهج حياة؟ �أم هو عالقة بني املرء وربه ال تتجاوز جدران امل�ساجد وبع�ض �أخالقيات احلياة ،فكان ال ب ّد من الرتكيز على �إحياء هذا املفهوم .ولكن �أقواماً ح َّملوا �أفكار �أبو الأعلى املردودي و�سيد قطب �أكرث مما حتتمل �أو �أخذوها معزولة عن �سياقها ،فحكموا بعدم جواز �إعطاء �أي �صفة ت�شريعية للنا�س. وقد �أو�ضح عبا�س حممود العقاد هذه امل�س�ألة حني قال " �أنه ال تعار�ض بني القول �أن الأمة هي م�صدر ال�سيادة وبني القول �أن
69
القر�آن الكرمي وال�سنة النبوية ال�شريفة هما م�صدر الت�شريع ،ف�إن الأمة هي التي تفهم الكتاب وال�سنة وتعمل بهما وتنظر يف �أحوالها لرتى موا�ضع التطبيق وموا�ضع الوقف والتعديل ،وتقر الإمام على ما ي�أمر به من �أحكام �أو ت�أباه"(.)3 ن�ص وقد ذهب املودودي �إىل �أن " مبد�أ �سيادة الأمة" الذي ّ عليه الإ�سالم ،هو املبد�أ الذي و�صلت الإن�سانية �إىل �إقراره بعد كفاح طويل ،ولذلك يجب �أن ي�ستمر هذا املبد�أ يف ظل الدولة الإ�سالمية"(.)4 وهكذا نرى �أن حترير امل�س�ألة ي�ستدعي القول �إن احلاكمية هلل وال�سيادة لل�شريعة وال�سلطان للأمة ....ف�أين تقف احلركات الإ�سالمية من هذا املفهوم؟ يف هذا يذكر حزب الو�سط يف م�صر �أن "الأمة م�صدر ال�سلطات"، فهي امل ُ ْك�سِ ب لل�شرعية ،وهي املج�سد للمرجعية ،وا َ حل َكم بني البدائل .ومن هذا ي�صبح اتفاق الأمة �أو �إجماعها ،هو امل�صدر الرئي�سي لإقرار املبادئ العامة. ويركز حزب الو�سط يف م�صر على تفعيل املادة الثانية من الد�ستور امل�صري والتي "ت�ضمن املرجعية العامة للدولة بالإ�سالم وللت�شريع يف مبادئ ال�شريعة الإ�سالمية"(.)5 �أما حزب العدالة والتنمية املغربي ،ف�إنه يتحدث عن "�ضرورة انطالق �أي �إ�صالح �سيا�سي من �أ�صالتنا الدينية والتاريخية وخ�صو�صيتنا الثقافية ،كما �أن �إ�سالمية الدولة التي ي�ؤكد عليها الد�ستور ت�ستوجب انطالق جميع براجمنا و�سيا�ساتنا من املرجعية الإ�سالمية"(.)6 وال�س�ؤال �إذا كانت �إ�سالمية الدولة التي ي�ؤكد عليها الد�ستور ت�ستوجب انطالق جميع الربامج وال�سيا�سات من املرجعية الإ�سالمية؟ فما هي الإ�ضافة التي يقدمها حزب العدالة والتنمية على امل�ستوى الإ�سالمي عن غريه من الأحزاب؟ .ثم هل �إ�سالمية الدولة "الد�ستورية" مطبقة على �أر�ض الواقع؟ ثم ماذا لو تغريت هذه املرجعية للدولة بفعل �صناديق االقرتاع؟. �أما حزب الو�سط الإ�سالمي يف الأردن ،فين�ص يف مرتكزاته على �أن "الإ�سالم قانون احلياة الإن�سانية التي ال ت�ستقيم �ش�ؤونها �إال به، فكما �أن اهلل قد خلق الإن�سان يف �أح�سن تقومي فقد �أنزل له �شريعة ت�ضبط له حياته على �أرفع و�أجمل �صورة"(.)7 "والأمة م�صدر ال�سلطات ،وكل م�ؤ�س�سات الدولة واحلكم ،وكل القوانني والأنظمة والت�شريعات ،يجب �أن تنبثق عن �إرادة الأمة احلرة ،وعندما ننادي ب�إحياء الأمة واملجتمع بنظم الإ�سالم وهديه ويكون هذا خيار الأمة وقرارها ي�صبح دور ال�سيا�سي وامل�شرع تنفيذ �إرادتها بتقنني احلياة على هدى الإ�سالم وت�شريعاته"(.)8
ويف حني تطرح حركة النه�ضة يف تون�س �أن الأمة م�صدر ال�سلطات ،و�أن املرجعية العليا هي لل�شريعة يكون زعيمها را�شد الغنو�شي يف غاية الو�ضوح �إذ يقول "�إذا ما ُطرِحت �أنا وبرناجمي وحركتي "و�إ�سالمي" على ال�شعب التون�سي ورف�ضني .ماذا �ستكون النتيجة؟ �س�أن�سحب بكل روح ريا�ضية و�س�أ�ست�أنف املعركة يف ال�سنوات املقبلة ممار�ساً عملية الإقناع� .س�أعر�ض نف�سي ،ف�إذا ما ُرف ِْ�ضتُ �س�أ�ست�أنف و�سائل الإقناع املعروفة� .إذا كنت �أ�ؤمن �أن ال�شريعة الإ�سالمية ينبغي �أن تطبق بحذافريها من جهة ،و�أ�ؤمن بالدميقراطية فال تناق�ض ،لأين �أريد �أن �أقدم قناعاتي لل�شعب حتى يقبلها �أو يرف�ضها ،ف�إذا رف�ضها ان�سحبت �إىل املعار�ضة، ومار�ست و�سائل الإقناع الأخرى التي هي الرتبية والتكوين والإعالم والتوجيه والتعليم ،ثم عندما �أُحِ �س �أن ال�شعب قد اقتنع �أر�شح نف�سي جلولة مقبلة.)9(".... ، وال ب ّد من وقفة ت�أمل واعية ال�ستعرا�ض املرتكزات التالية: �أ� -إن احلاكمية العليا هلل وهو �-سبحانه– الذي �أعطى الإن�سان م�س�ؤولية فهم الن�ص وتنزيله على �أر�ض الواقع ،وت�شريع ما يلزمه فيما ال ن�ص فيه اهتداء مبقا�صد ال�شريعة. ب� -إن الأمة هي التي تختار ما ينا�سبها ،واحلاكم واحلكومة هما وكالء عن الأمة يف ت�سيري �ش�ؤونها. ج� -إن الواقع احلايل فيه اختالف كبري عن واقع امل�سلمني فيما م�ضى ،فاليوم هناك تيارات يف الأمة لها طروحاتها ال�سيا�سية التي ال تعتمد املرجعية الإ�سالمية ،فنحن �أمام واقع �شائك ومعقد وال بد من فقه جديد للتعامل معه مرتكز على �أ�صول الت�صور الإ�سالمي ومتعمق يف فهم هذا الواقع اجلديد. د� -إن التيار الإ�سالمي مطالب ب�أن يبني للأمة �أف�ضلية اخليار الإ�سالمي ويقنعها بجدواه براجماً وخططاً. هـ� -إذا مل تقنع غالبية الأمة بطروحات التيار الإ�سالمي ،فلرياجع نف�سه لأنه مل يح�سن عر�ض ب�ضاعته النف�سية امل�ستمدة من الإ�سالم ،وعليه �إعادة ح�ساباته وحماوالته من جديد. و -ال ي�صح يف حال من الأحوال فر�ض اخليار الإ�سالمي على النا�س دون ر�ضاهم ،فاهلل قد منح الإن�سان حرية االختيار حتى ي�ؤمن بوجوده �سبحانه فكيف مبا هو �أدنى من ذلك؟! ولي�س دور الدعاة �إال البيان .وهذه م�س�ألة يجب �أن تواجهها احلركات الإ�سالمية مبنتهى العمق وال�شفافية ،حيث �أن الو�سطية تقت�ضي �إقامة العدل يف امل�س�ألة ،و�ضبط �إيقاع احلركة بحيث يحافظ على البو�صلة الهادية، �إذ �أن احلاكمية العليا هي هلل وحده وال ي�صح �أن ينازعه فيها �أحد، ودور احلركات الإ�سالمية هو التعليم والتذكري وتقدمي الربامج واخلطط التي يقتنع النا�س بجدواها كي تن�صلح حياتهم بالإ�سالم.
70
يف مبد�أ املواطنة ما هو املوقف من �أتباع الديانات الأخرى يف حال و�صول الإ�سالميني �إىل ال�سلطة؟ ..هل هم �أهل ذمة؟� ..أم هم مواطنون كاملو املواطنة� ،شركاء يف بناء الوطن والأمة؟ من �أجل بيان هذا الأمر ال بد من الرجوع �إىل �أول د�ستور مكتوب يف الإ�سالم ،عقده �صلى اهلل عليه و�سلم يف �أوائل العهد املدين وهو وثيقة املدينة: (ب�سم اهلل الرحمن الرحيم ،هذا كتاب من حممد النبي "ر�سول اهلل" بني امل�ؤمنني وامل�سلمني من قري�ش و�أهل يرثب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم �أنهم �أمة واحدة من دون النا�س …( .ثم تعدد الوثيقة قبائل امل�سلمني وع�شائرهم وت�صل �إىل اليهود) و�أنه من تبعنا من اليهود ف�إن له الن�صر والأ�سوة .غري مظلومني وال متنا�صر عليهم .....و�أنه ال يجري م�شرك ما ًال لقري�ش وال نف�ساً وال يحول دونه على م�ؤمن ....و�أنكم مهما اختلفتم فيه من �شيء ف�إن مرده �إىل اهلل و�إىل حممد ،و�أن اليهود ينفقون مع امل�ؤمنني ما داموا حماربني ،و�أن يهود بني عوف �أمة مع امل�ؤمنني ،لليهود دينهم وللم�سلمني دينهم ،مواليهم و�أنف�سهم �إال من ظلم و�أثم، ف�إنه ال يوتغ �إال نف�سه و�أهل بيته (ثم تعدد الوثيقة بطون اليهود) و�أن لهم ما ليهود بني عوف( .ثم تذكر) و�أنه ما كان بني �أهل هذه ال�صحيفة من َحدَثٍ � ،أو �شِ جا ٍر ُيخاف ف�ساده ،ف�إن مرده �إىل اهلل و�إىل حممد ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم و�أن اهلل على اتقى ما يف هذه ال�صحيفة و�أبره ،و�أنه ال تجُ ار قري�ش وال من ن�صرها ،و�أن بينهم الن�صر على من َدهَم يرثب)(.)10 جتعل هذه الوثيقة غري امل�سلمني املقيمني يف الدولة مواطنني فيها ،لهم مثل ما للم�سلمني وعليهم مثل ما عليهم ،طاملا �أنهم داخلون �ضمن النظام العام للدولة ،وقد جاءت التوجيهات النبوية الكرمية –مع هذه الوثيقة– لتعطي الت�صور ال�شمويل ملوقع غري امل�سلمني يف الدولة" :من �آذى ذمياً فقد �آذاين ،ومن �آذاين فقد �آذى اهلل" " .من �آذى ذمياً ف�أنا خ�صمه ،ومن كنت خ�صمه خ�صمته يوم القيامة". وعهد النبي �صلى اهلل عليه و�سلم مع �أهل جنران جدير بالتدبر �إذ جاء فيه "ولنجران وحا�شيتها جوار اهلل وذمة حممد النبي ر�سول اهلل على �أموالهم و�أنف�سهم و�أر�ضهم وملتهم وغائبهم و�شاهدهم.... وال يط�أ �أر�ضهم جي�ش ،ومن �س�أل منهم حقهم فبينهم ال َن َ�ص ُف غري ظاملني وال مظلومني.)11("... �أما الذمة فهي يف اال�صطالح الفقهي "عقد م�ؤبد يت�ضمن �إقرار غري امل�سلمني على دينهم ،ومتتعهم ب�أمان اجلماعة الإ�سالمية و�ضمانها ب�شرط بذلهم اجلزية وقبولهم �أحكام دار الإ�سالم يف غري
�ش�ؤونهم الدينية "(.)12 كما �أن اجلزية وكما يذكر د .حممد �سليم العوا" :بدل عن ا�شرتاك غري امل�سلمني يف الدفاع عن دار الإ�سالم ،لذلك �أ�سقطها ال�صحابة والتابعون عمن َق ِبل منهم اال�شرتاك يف الدفاع عنها، فعل ذلك �سراقة بن عمرو مع �أهل �أرمينيا �سنة 22هـ ،وحبيب بن م�سلمة الفهري مع �أهل �أنطاكية .)13("....ويخل�ص د .العوا �إىل نتيجة م�ؤداها "�إن غري امل�سلمني من املواطنني الذين ي�ؤدون واجب اجلندية ،وي�سهمون يف حماية دار الإ�سالم ال جتب اجلزية عليهم"(.)14 ويعر�ض لهذه احلقيقة د .عبد العزيز كامل فيقول "ثم جاءت مع القرن الع�شرين �صيغة جديدة من الوجود الإ�سالمي ،كان من �أهم ما متيزت به –وبخا�صة يف القطاع العربي– ا�شرتاك املواطنني م�سلمني وم�سيحيني يف الكفاح الوطني من �أجل اال�ستقالل"(.)15 وهكذا نرى �أن مفهوم املواطنة ين�سحب لي�شمل كل من ي�شرتك يف الوالء والن�صرة لنظام الأمة العام وي�ساهم يف بناء املجتمع وحمايته ،وتبقى اخل�صو�صيات الدينية حمرتمة للجميع ومن ِق َبل اجلميع .وي�شهد التاريخ لنا بهذا ،حيث انه قد لفت نظر امل�ؤرخني الأوروبيني ظاهرة النفوذ الكبري لغري امل�سلمني يف جهاز احلكم الإ�سالمي وهي ظاهرة غري م�سبوقة يف �أي ح�ضارة �أخرى، بقول �آدم متز" :من الأمور التي تعجب لها كرثة عدد العمال واملت�صرفني غري امل�سلمني يف الدولة الإ�سالمية ،فك�أن الن�صارى هم الذين يحكمون امل�سلمني يف بالد الإ�سالم"(.)16 ويف تعليقه على �أو�ضاع اليهود يف الأندل�س يقول �سيمون دينوه "لأول مرة يتمكن ق�سم من ال�شعب اليهودي من التمتع بحرية الفكر"(.)17 وبعد هذا اال�ستعرا�ض ملوقع غري امل�سلمني يف الدولة الإ�سالمية ...ماذا تقدم احلركات الإ�سالمية اليوم يف هذا ال�ش�أن؟ عند احلديث عن الوحدة الوطنية ين�ص حزب الو�سط الإ�سالمي يف م�صر "فم�شاركة الأخوة امل�سيحيني يف الدفاع عن تراب هذا البلد الأمني ،يعني وطناً واحداً ،ومواطنني م�سلمني وم�سيحيني، يتمتعون بحقوق املواطنة كاملة ،لهم عني احلقوق املدنية وال�سيا�سية والقانونية .....وعليهم عني االلتزامات يف �إطار من امل�ساواة الكاملة"(.)18 �أما حزب العدالة والتنمية املغربي فيتبنى �أن" :جمال ا�شتغال احلزب هو املجال ال�سيا�سي ،واالنتماء �إليه هو انتماء �سيا�سي على �أ�سا�س املواطنة .وهو ما يجعله حزباً مفتوحاً جلميع املواطنني ،ما داموا ملتزمني بتوجهاته وبراجمه ال�سيا�سية وقوانينه"(.)19 ويقف حزب الو�سط الإ�سالمي يف الأردن نف�س املوقف لين�ص يف
71
منطلقاته على ما يلي "ي�ؤمن احلزب �أن �أبناء الوطن لهم نف�س احلقوق وعليهم نف�س الواجبات .و�أن من حق اجلميع تويل املواقع املختلفة ح�سب الكفاءة ،و�أن باب الع�ضوية يف احلزب مفتوح جلميع �أبناء الوطن الذين ي�ؤمنون مبنطلقاته ليكونوا �أع�ضاء فاعلني فيه ي�ساهمون يف ن�شاطاته وحتقيق �أهدافه"( .)20وين�ص يف مرتكزات خطابه "�إننا يف �سعينا لتقدمي الربامج الإ�سالمية للمجتمع والنا�س ،نلتقي فيها مع امل�سلم الذي يرى فيها اخلري حلياته وحتقيق معاين تدينه ،ونلتقي مع غري امل�سلم الذي يقتنع معنا ب�صوابها وجناعتها حلل م�شاكل احلياة"(.)21 هذه املواقف ت�شكل مناخاً �إيجابياًّ يف �سبيل تعزيز وحدة العمل الوطني� ،إال �أنها بحاجة �إىل تعزيز عملي ال نرى �آثاره الوا�ضحة حتى ال�ساعة يف مبد�أ التعدد " :الكلمة احلكمة �ضالة امل�ؤمن، فحيث وجدها فهو �أحق بها" (الرتمذي وابن ماجه) .هكذا يفتح التوجيه النبوي ال�شريف للم�ؤمن �آفاق املعرفة لريتادها ،ويو�سع له �أفق النظر واالعتبار ال حتدّه عوائق التاريخ وال اجلغرافيا وال الأعراق وال املذاهب ....هكذا يكون امل�سلم باحثاً عن احلقيقة ،مقراً بوجود خري وحكمة عند غريه هو بحاجة �إليها ،وقد ت�أ�س�س هذا البعد يف �ضمري امل�سلم من الوحي الذي جعل التعارف من و�سائل جناح الإن�سان يف حتقيق غاية وجوده �أال وهي عبادة اهلل وتقواه. ا�س ِ�إ َّنا َخلَ ْق َنا ُك ْم مِ نْ َذ َكرٍ َو�أُ ْن َثى * َو َج َع ْل َنا ُك ْم ُ�ش ُعو ًبا ( َيا �أَ ُّيهَا ال َّن ُ ري َو َق َبا ِئ َل ِل َت َعا َر ُفوا * �إِ َّن �أَ ْك َر َم ُك ْم عِ ْن َد اللهَّ ِ �أَ ْت َقا ُك ْم * �إِ َّن اللهَّ َ َعلِي ٌم َخ ِب ٌ )(احلجرات .)13 :فتع ّر ُف الإن�سان على ما عند الآخرين ليبني على ال�صالح عندهم ،ويعترب من الطالح ،ويتعارف على الأقوام وال�شعوب واجلماعات فيتبادل معهم اخلربة والتجربة واالعتبار، هو ال�سبيل �إىل بلوغ الكرامة الإن�سانية احلقة ،وحتقيق معاين العبودية هلل يف الأر�ض تقوىً و�صالحاً و�إعماراً ومنا ًء . وعليه ف�إن " حركة االجتماع الإن�ساين يجب �أن ترتكز �إىل �سنة التعارف بكل ما حتمله من معاين االلتقاء والقبول بالآخر وح�سن اال�ستماع �إىل ما لديه ،والتعرف �إىل مواهبه و�إمكاناته، ونبذ حواجز الفرقة ،واحلوار وتبادل اخلربات للو�صول باحلياة الإن�سانية �إىل كل ما هو �أكرم و�أطهر")22(. وقد ا�ستوعب امل�سلمون مذاهب وح�ضارات وثقافات �ش ّتى و�أ ّثروا بها وت�أثروا منها ،فكان نتاج ذلك تلك احل�ضارة الإ�سالمية التي كانت ملء �سمع الدنيا وب�صرها. ثم �إن وجود املخالف يف الر�أي يف حد ذاته �ضرورة ل�صاحب الر�أي ،حيث �أنه يحفزه على تعميق الر�ؤية وت�صويب اخلط�أ و�إزالة الزلل ،بينما لو �أن ال�ساحة خلت لر�أي �أو مذهب �أو حزب واحد لأ�سِ َنتِ احلياة و َف ُ�س َدتْ ،ولعل هذا بع�ض معاين قوله تعاىل ( َو َل ْو اَل
ا�س َب ْع َ�ض ُه ْم ِب َب ْع ٍ�ض َل ُه ِّدمَتْ َ�صوَامِ ُع َو ِب َي ٌع َو َ�صلَ َو ٌات َد ْف ُع اللهَّ ِ ال َّن َ ريا * َو َل َي ْن ُ�ص َر َّن اللهَّ ُ َمنْ َي ْن ُ�ص ُر ُه * َوم ََ�ساجِ ُد ُي ْذ َك ُر فِيهَا ْا�س ُم اللهَّ ِ َك ِث ً �إِ َّن اللهَّ َ َل َقوِيٌّ َعزِي ٌز )(احلج .)40 :فبقاء معاين اخلري وال�صالح يف هذه الدنيا قد جعله اهلل منوطاً ب�سنة التدافع واالختالف. ف�إذا كانت التعددية �سمة من �سمات الو�سطية ،فما هي جتلياتها لدى احلركات الإ�سالمية املعا�صرة؟. يقول �سعد الدين العثماين �أمني عام حزب العدالة والتنمية املغربي "�إن متطلبات التغيري والإ�صالح �أكرب من �أن تدعي منظمة �سيا�سية �أو حزبية واحدة القدرة على النهو�ض مبتطلباتها ....و�إن اختالف الر�ؤى واملناهج والربامج ال�سيا�سية وجب �أن يكون مدعاة للتناف�س يف اخلري والتدافع احل�ضاري من �أجل خدمة امل�صلحة الوطنية العليا ...وعملياً ،عُرف احلزب يف ال�ساحة ال�سيا�سية بانفتاحه على خمتلف القوى ال�سيا�سية وا�ستعداده امل�ستمر لو�ضع برامج ن�ضالية معها يف ق�ضايا م�شرتكة"(.)23 ويعتقد حزب الو�سط الإ�سالمي يف الأردن �أن "التعددية الفكرية �أ�صل من �أ�صول احلياة ورحم ٌة منَّ اهلل بها على عباده حتى ي�ستمر مناء العطاء الإن�ساين وتكامله"(" .)24و�أن كل النا�س من خالل مفاهيم الو�سطية الإ�سالمية والذين تعرب عنهم الت�صورات الأخرى بـ " الآخر" ي�صبح رفيق درب نتقدم �إليه مبا لدينا من خري وهدى ون�سعى لال�ستماع �إىل ما عنده من الفكر والت�صور، على م�ستوى الأفراد وامل�ؤ�س�سات والأمم واحل�ضارات"(.)25 وقد �سعى احلزب ويف عامه الأول �إىل ت�أ�سي�س جمل�س ي�ضم كافة الأحزاب الأردنية على القوا�سم الوطنية امل�شرتكة ،وجنح يف ت�أ�سي�س "جتمع الإ�صالح الدميقراطي" من جمموعة من الأحزاب منها ماهو �إ�سالمي ومنها ما هو وطني �أو ي�ساري ،تلتقي على مهمة تنمية احلياة ال�سيا�سية وتعزيز حقوق الإن�سان والدميقراطية يف الأردن. وتتعر�ض حركة االجتاه الإ�سالمي يف تون�س �إىل مو�ضوع التعددية�" :إن حركة االجتاه الإ�سالمي لي�س عندها �أي حتفظ جتاه �أي طرف �سيا�سي �آخر �سواء �أكان هذا الطرف �إ�سالمياً �أم غري �إ�سالمي� ،إننا مل نقدم �أنف�سنا على �أننا منثل الإ�سالم ،ولكن لنا ر�ؤية للإ�سالم كما لغرينا ر�ؤيته وال نرى مانعاً من متثيله معنا، ف�إذا كانت �أطراف �أخرى لها حتفظات �إزاء �أطراف �أخرى ،فحركة االجتاه الإ�سالمي لي�س لها حتفظ �إزاء �أي طرف �آخر يقبل احلوار، ويقبل ال�صراع الدميقراطي يف البالد وال ينفي وجود غريه"(.)26 يف مبد�أ التدرج احتاج الو�صول �إىل احلكم النهائي يف مو�ضوع القبلة مرحلتني متدرجتني ،كما احتاجت كثري من الأحكام الت�شريعية �إىل املرحلية
72
رفقاً بالعباد و�أخذاً ب�أيديهم لريتقوا �إىل ما تتطلبه تلك الأحكام من وعي ودراية و�إميان وم�ؤهالت. فاخلمر تطلب حترميه عدة مراحل ،وتقول ال�سيدة عائ�شة ر�ضي اهلل عنها :لو ت ّنزل حترمي اخلمر يف مكة ملا امتنع عنها �أحد، بينما ملا جاء احلكم النهائي بالتحرمي القطعي �سالت �أزقة املدينة باخلمر امتثاال لأمر اهلل تعاىل. و�إذا كان الواجب على امل�سلمني بذل و�سعهم يف اال�ستجابة لأمر اهلل ب�إقامة �شريعته ،فما هو املطلوب منهم �إن تع ّذر حتقيق ذلك كام ً ال؟ هل ينتظرون ح�صول معجزة حتقق لهم ذلك� ،أم ي�سعون لتحقيق امل�ستطاع ،واال�ستطاعة عند الأ�صوليني هي مناط التكليف �إعما ًال لقوله تعاىل اَ (ل ُي َك ِّل ُف اللهَّ ُ َن ْف ً�سا �إِ اَّل ُو ْ�س َعهَا )(البقرة.)286 : �أدلة يف �صحة التدرج عمر بن عبد العزيز :اخلليفة الرا�شدي اخلام�س ،والذي اتفق امل�سلمون على عدالته ور�شده ،ورغم انزعاجه من النظام الوراثي الذي �آل بوا�سطته احلكم �إليه� ،إال �أنه مل ي�ستطع تغيريه ب�سبب �ضغوط بني �أمية وتراكم الف�ساد ،و�أ�صلح ما ا�ستطاع ورد من املظامل ما متكن من رده .فا�ستحق ثناء امل�سلمني عليه عرب الع�صور. النجا�شي :هو ملك احلب�شة الذي و�صفه الر�سول �صلى اهلل عليه و�سلم بامللك الذي ال يظلم عنده النا�س ،وقد دخل يف الإ�سالم دون �أن يتمكن من �إجراء تعديالت ذات بال على حكمه ،ولقد �أثنى عليه �صلى اهلل عليه و�سلم و�أمر �أ�صحابه ب�أداء �صالة اجلنازة على روحه. حلف الف�ضول :احللف الذي تداعت له بطون قري�ش يف اجلاهلية وحتالفوا وتعاقدوا �أال يجدوا مبكة مظلوماً من �أهلها �أو من غريهم من �سائر النا�س �إال قاموا معه حتى ترد �إليه مظلمته، وفيه يقول ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم (لقد �شهدت يف دار عبد اهلل بن جدعان حلفاً لو دعيت به يف الإ�سالم لأجبت ،حتالفوا �أن ترد الف�ضول على �أهلها و�أال َيع ِز (يغلب) ظامل مظلوماً)(.)27 ويظهر املوقف النبوي هنا وبكل جالء وو�ضوح� ،أن امل�سلم يلتقي مع الآخرين على �أي معنى �أو جهد �أو م�شروع ميكن �أن يحقق اخلري للنا�س ولو مل يلتق مع الآخرين �إال على هذا اجلهد ،وافرتق عنهم يف كل ما �سواه. يقول العالمة القر�ضاوي "�إن التدرج �سنة كونية و�سنة �شرعية �أي�ضاً ...ومن هنا كان على الذين يدعون �إىل ا�ستئناف احلياة الإ�سالمية ،و�إقامة دولة الإ�سالم يف الأر�ض� ،أن يراعوا �سنة التدرج يف حتقيق ما يريدون من �أهداف �آخذين يف االعتبار �سمو الهدف ومبلغ الإمكانات وكرثة املعوقات"(.)28 ويقول د .ح�سن الرتابي "فالدين يف تعاليمه ي�ؤثر التدرج
كما نهج الت�شريع احلاكم للم�سلمني ....والتدرج تر�س ً ال ب�إيقاع ال�شرع �أثبت و�أ�سلم من �أن تغ�شاه فلتات اخلط�أ �أو لفحات الفتنة، من التطبيق الفوري امل�ستعجل امل�ستوعب للتجديد غري املعهود املقتحم للغريب بغري تر ٍّو مطمئن"(.)29 �إن االرتقاء باملجتمعات والدول نحو الإ�سالم هو عملية حت�ضر وترقي ،وال ميكن الو�صول �إليها �إال باجلهد واملثابرة والتعليم والتزكية وهي مهمات الر�سل الذين بذلوا �أعمارهم من �أجلها ،ومل يكن عبثاً �أن ينزل القر�آن على مدى ثالث وع�شرين �سنة ( َو ُق ْر�آ ًنا ا�س َعلَى ُم ْكثٍ َو َن َّز ْل َنا ُه َت ْنز اً ِيل )(الإ�سراء.)106 : َف َر ْق َنا ُه ِل َت ْق َر�أَ ُه َعلَى ال َّن ِ بعد هذا اال�ستعرا�ض ملعاين �سنة التدرج يف الت�صور الإ�سالمي وكمفهوم من مفاهيم الو�سطية الإ�سالمية ،فما هي جتلياته لدى احلركات الإ�سالمية؟ جند لدى حزب العدالة والتنمية يف املغرب هذا املفهوم وا�ضحاً و�آثاره العملية جلية�" ،إن الإ�صالح الناجع يخ�ضع لقاعدة التدرج والرتاكم ،فالتدرج �سنة حتكم على الظواهر الطبيعية والإن�سانية واالجتماعية .و ُتثبت التجارب التاريخية �أن ال�سعي للقفز على هذا القانون وتلك ال�سنة كان م�صري �أ�صحابه الف�شل واال�صطدام بالواقع العنيد .والتدرج عملية بناء تن�أى عن ال�سقوط يف نزع ٍة مغامر ٍة تع�صف باملكت�سبات .كما �أنها ال تعني الت�صالح مع واقع التخلف والف�ساد و�سائر �أنواع االختالل "(.)30 ويتبنى حزب الو�سط الإ�سالمي "االن�ضباط ب�سنن التدرج يف الإ�صالح والتنمية والعمل وفق منهاج فقه املمكن ،وعدم حرق املراحل ،والر�سم يف الفراغ"(.)31 يف املنهج احلركي � -1/5إن الأ�صل الذي يجب �أن يكون وا�ضحاً لدى احلركات الإ�سالمية الو�سطية� ،أن ر�سالتها الأ�سا�سية هي الأخذ بيد �أهلها وجمتمعاتها نحو الإ�سالم العظيم ،و�أن ال تغيب هذه الق�ضية عن �أهدافها وو�سائلها. � -2/5إن ر�سالة الو�سطية ،ر�سالة هداية ورحمة ،حيث يقول �صلى اهلل عليه و�سلم (�إمنا �أنا رحمة مهداة). -3/5الرتكيز على ال ُبعد االجتماعي يف الإ�سالم ،وبالتايل االنحياز الدائم للجماهري باجلمع بني الدعوة �إىل الإ�سالم والدعوة �إىل مطالب النا�س االجتماعية .ف�إذا كان اخلطر اخلارجي والذي يتمثل يف اال�ستعمار وال�صهيونية �شديداً ،ف�إن الفقر والتخلف والبطالة والقهر و�سوء توزيع الرثوات وغريها كثري، هي خماطر داخلية �أدت �إىل �إف�ساح ثغرات يف كياناتنا ُت�سهل على الأخطار اخلارجية النيل م ّنا . -4/5ال�شورى �أ�سا�س من �أ�س�س الدين ،وعلى احلركات
73
الإ�سالمية العمل على تر�سيخ ال�شورى يف كافة دوائر املجتمع �أفراداً وم�ؤ�س�سات ،و�أن ت�ضرب املثل يف حتقيقها �ضمن دوائر احلركة ذاتها مع تر�سيخ ال�شفافية الكاملة والعلنية يف �أداء احلركة الداخلي واخلارجي. -5/5تبني ق�ضية احلرية -ق�ضية مركزية للحركة -و�أن يكون هذا التبني خياراً ا�سرتاتيجياً ال ينفك وال ين�صرم ،لأن الأمم ال تنه�ض �إال باحلرية ،والدين ال يقام �إال بها ،وال�شعوب ال تلتف �إال حول حمرريها. -6/5االهتمام برتبية عنا�صرها على اال�ستقامة والأخالق الإ�سالمية ،وتزكيتهم بالرتبية الروحية ،ليكونوا مناذج يف العطاء واخللق والنزاهة. -7/5امل�صداقية� :إن القبول عند اهلل منوط بال�صدق والإخال�ص ،و�إح�سا�س الأمة عالٍ جداً يف ق�ضية امل�صداقية عموماً عند كل من يت�صدى للعمل العام ،وعلى وجه التخ�صي�ص ملن يحمل راية �إ�سالمية ،ف�إن وجدت اجلماهري فيه ال�صدق والنزاهة �أَ ْ�سلَ َمتْ له قيادها ،و�إن �شاب م�صداقيته �أي �شائب َن َفرت منه وتركته و�ش�أنه. -8/5اال�ستفادة من كافة اخلربات والكفاءات املتوفرة داخل اخلط الإ�سالمي وخارجه ،واالنفتاح على قوى املجتمع والتفاعل معها �أخذاً وعطا ًء ،و�إيثار الآخرين لتقدمي النموذج وبناء الثقة، لت�صبح فعاليات املجتمع وم�ؤ�س�ساته هي "الرهط" {{ولوال رهطك لرجمناك}} والعزوة للحركة وبراجمها. -9/5الإعالن ال�صريح �أنها مع دولة الد�ستور والقانون وامل�ؤ�س�سات ،والدفاع عن هذا ،حتى مع اعرتا�ضها على بع�ض بنود الد�ستور �أو القوانني .يقول ابن تيمية يف الفتاوى "�إن اهلل ين�صر الدولة العادلة ولو كانت كافرة ،وال ين�صر الدولة الظاملة و�إن كانت م�ؤمنة" -10/5النقد واملراجعة :هذا �ش�أن امل�ؤمنني ،التوبة من الأخطاء، والتي تتطلب نقداً للأداء ومراجعة للم�سرية ،ثم ت�صحيحاً وت�صويباً ،وتخلي�صاً وتطهراً من الزالت وال�سقطات .و�أن يكون هذا النقد الذاتي واملراجعة واملحا�سبة �سمة �أ�صيلة للحركة ،ومنهجاً دائماً من �أجل االرتقاء دوماً بالأداء والتخل�ص من الأدواء الداخلية التي �إن ا�س َت ْف َحلَت َق َتلَت ،و�إر�ضا ًء هلل تعاىل الذي يقول ( َيا �أَ ُّيهَا ا َّلذِ َ ين �آ َم ُنوا لمِ َ َت ُقو ُلو َن مَا اَل َت ْف َع ُلو َن َكبرُ َ َم ْق ًتا عِ ْن َد اللهَّ ِ �أَ ْن َت ُقو ُلوا مَا اَل َت ْف َع ُلو َن ) (ال�صف )3-2 :فال ي�صح �أن ينه�ض �أبناء احلركة الإ�سالمية للدعوة �إىل الإ�صالح ونقد �أخطاء املجتمع والدولة وهم ال يقومون بهذه املهمة يف حق �أنف�سهم. هذه بع�ض املعامل ،نقدمها بني يدي احلركات الإ�سالمية ،ع�سى �أن يكون فيها ر�ش ٌد للطريق ٌ وعون على �أداء الر�سالة.
الـهــوامــــــ�ش -1الإمام الغزايل " .امل�ست�صفى من علم الأ�صول -2بينات احلل الإ�سالمي� .ص – 177يو�سف القر�ضاوي. -3الدميقراطية يف الإ�سالم – 1971عبا�س العقاد. -4نحو الد�ستور الإ�سالمي –�ص� – 132أبو الأعلى املودودي. � -5أوراق حزب الو�سط �ص 17د .رفيق حبيب. -6حزب العدالة والتنمية – من اجل نه�ضة �شاملة "املنطلقات" �ص.2 -7حزب الو�سط الإ�سالمي – فكرة ومنهاج �ص.15 -8حزب الو�سط الإ�سالمي – فكرة ومنهاج �ص28 -9الإ�سالميون والدميقراطية – �أحمد بن يو�سف. -10جمموعة الوثائق ال�سيا�سية للعهد النبوي واخلالفة الرا�شدة -ط� 5ص� -59ص 62حممد حميد اهلل. -11كتاب اخلراج �ص 78القا�ضي �أبو يو�سف. � -12أحكام الذميني امل�ست�أمنني �ص -22عبد الكرمي زيدان. -13يف النظام ال�سيا�سي للدولة الإ�سالمية �ص 256د .حممد �سليم العوا. -14يف النظام ال�سيا�سي للدولة الإ�سالمية �ص 257د .حممد �سليم العوا. -15بحث حقوق الإن�سان يف الإ�سالم يف كتاب معاملة غري امل�سلمني ج� 1ص 90م�ؤ�س�سة �آل البيت – د.عبد العزيز كامل. -16احل�ضارة الإ�سالمية يف القر�آن الرابع الهجري ج� 2ص.67 -17جملة االزمنة احلديثة جان بول �سارتر. � -18أوراق حزب الو�سط – تقدمي د .رفيق حبيب. -19من حما�ضرة لل�سيد �سعد الدين العثماين /امني عام حزب العدالة والتنمية املغربي بعنوان الإ�سالم ال�سيا�سي وحتديات الإ�صالح لوتداول ال�سلطة. -20حزب الو�سط الإ�سالمي" فكرة ومنهاج" �ص.30 -21حزب الو�سط الإ�سالمي "فكرة ومنهاج" �ص .15 -22حزب الو�سط الإ�سالمي -االردن – " فكرة ومنهاج" �ص.18 -23حما�ضرة د� .سعد الدين العثماين /الإ�سالم ال�سيا�سي وحتديات اال�صالح وتداول ال�سلطة. -24حزب الو�سط الإ�سالمي " فكرة ومنهاج" �ص.18 -25حزب الو�سط الإ�سالمي "فكرة ومنهاج" �ص .19 -26الإ�سالم االحتجاجي يف تون�س �ص – 27د .حممد عبد الباقي الهرما�سي. -27نور اليقني يف �سرية �سيد املر�سلني – �ص 22ال�شيخ حممد اخل�ضري -28ال�صحوة الدينية الإ�سالمية � -ص 397د.م�صطفى الفياليل. -29ال�سيا�سة واحلكم – �ص – 82د.ح�سن الرتابي. -30حما�ضرة الإ�سالم ال�سيا�سي وحتديات اال�صالح وتداول ال�سلطة �ص� _9سعد الدين العثماين -31حزب الو�سط الإ�سالمي "فكرة ومنهاج" – �ص.21 -32ال�صحوة الدينية الإ�سالمية – �ص -386د .م�صطفى الفياليل مراجع البحث �أوال :الكتب القر�آن الكرمي. احلديث النبوي ال�شريف. �أحكام الذميني وامل�ست�أمنني – عبد الكرمي زيدان. �أوراق حزب الو�سط – م�صر ط 1د .رفيق حبيب. الإ�سالم االحتجاجي يف تون�س -ورقة بحث – مركز درا�سات الوحدة العربية – د .حممد عبد الباقيالهرما�سي. بينات احلل الإ�سالمي – م�ؤ�س�سة الر�سالة ط – 1د .يو�سف القر�ضاوي. حزب الو�سط الإ�سالمي " فكرة ومنهاج" ط – 1عمان – الأردن. اخلراج – القا�ضي �أبو يو�سف. الدميقراطية يف الإ�سالم – دار املعارف – 1971عبا�س حممود العقاد. ال�سيا�سة واحلكم –دار ال�ساقي ط– 1د .ح�سن الرتابي. ال�صحوة الدينية الإ�سالمية -ورقة بحث /مركز درا�سات الوحدة العربية -د .م�صطف الفياليل. يف النظام ال�سيا�سي للدولة الإ�سالمية – دار ال�شروق – ط – 1د.حممد �سليم العوا. جمموع الفتاوى – تقي الدين �أحمد بن تيمية. جمموعة الوثائق ال�سيا�سية للعهد النبوي واخلالفة الرا�شدة – دار النفائ�س ط – 5حممد حميد اهلل. معاملة غري امل�سلمني يف الإ�سالم /بحث حقوق الإن�سان يف الإ�سالم –م�ؤ�س�سة �آل البيت –د .عبد العزيز كامل. امل�ست�صفى من علم الأ�صول – دار �صادر بريوت -الإمام الغزايل. من �أجل نه�ضة �شاملة " املنطلقات" حزب العدالة والتنمية –املغرب. املوافقات –�أبو �إ�سحاق ال�شاطبي. نحو الد�ستور الإ�سالمي – القاهرة املطبعة ال�سلفية – �أبو الأعلى املودودي. نور اليقني يف �سرية �سيد املر�سلني – م�ؤ�س�سة علوم القر�آن ط -3ال�شيخ حممد اخل�ضري.ثانيا :الدوريات واملجالت واملحا�ضرات جريدة احلياة – 1993 /1 /14الإ�سالميون والدميقراطية – احمد بن يو�سف. حما�ضرة �سعد الدين العثماين /الإ�سالم ال�سيا�سي وحتديات الإ�صالح وتداول ال�سلطة� ،ألقيت خالل م�ؤمترالأحزاب ال�سيا�سية يف العامل العربي /.الواقع الراهن و�آفاق امل�ستقبل يف عمان 13 -12حزيران .2004 -جملة الأزمنة احلديثة العدد – 252جان بول �سارتر.
74
نشـاطـات الـوسـطيـة شهر آب 2011م � -1أ�شاد مفكرون �إ�سالميون بالتعديالت الد�ستورية الأردنية التي تدعو �إىل حتقيق التوازن بني الدولة واملجتمع ،و�أكدوا خالل الندوة التي نظمها املنتدى العاملي للو�سطية يوم اخلمي�س 2011/8/18يف املركز الثقايف امللكي �أن الإ�صالح ال�سيا�سي امل�ستمر يف الأردن واملغرب ميثل مناذج احلكم الرا�شدة واملتميزة يف التغيري نحو الأف�ضل الذي ت�شهده ال�ساحة العربية ،وقالوا �أن هناك قوا�سم م�شرتكة للثورات العربية ت�ستند على التطلعات الوطنية والدينية والقومية وتطوير العالقات البينية بني الدول العربية و�إقامة عالقة تعتمد على الندية ال التبعية مع الدول الأجنبية ،وارجع املفكر الإ�سالمي امل�صري الدكتور حممد مورو جذور الثورات العربية �إىل الأ�سباب املو�ضوعية والذاتية مبينا �أن الأ�سباب املو�ضوعية منها تتمثل بالف�ساد واختالل معايري العدالة واالنغالق ال�سيا�سي وتزوير �إرادة ال�شعوب يف االنتخابات وقمع وقهر للر�أي العام وانك�سار للكرامة والعزة العربية والإ�سالمية ،و�أ�شاد الأمني العام ال�سابق حلزب العدالة والتنمية املغربي الدكتور �سعد الدين العثماين نائب رئي�س جمل�س النواب بالتطور الذاتي وامل�ستمر والإ�صالح ال�سيا�سي الذي ي�شهده الأردن واملغرب والتعديالت الد�ستورية الرائدة نحو الدميقراطية معتربا �إياهما من الأنظمة العربية التي ا�ستجابت ملتطلبات املرحلة باعتبارهما من الأنظمة الدميقراطية يف العامل العربي ،ونوه �إىل �أن غياب التوازن بني الدولة واملجتمع كان من احد �أ�سباب الثورات العربية م�ؤكدا فقدان معادلة التوازن يف ال�سيا�سة العربية املتمثل يف ا�ستبداد الدولة وتدخلها يف كل �ش�ؤون حياة املواطن التي �أ�صبحت خانقة للإن�سان ب�سبب غياب م�ؤ�س�سات املجتمع املدين عن مراقبة الدولة لفرتات طويلة لي�أتي هذا االنفجار جملجال من قبل جمتمعاتها ،و�أكد رئي�س وزراء ال�سودان الأ�سبق رئي�س املنتدى الإ�سالمي العاملي للو�سطية الإمام ال�صادق املهدي ان نظام حكم
الفرد املطلق قد انتهى ولن يعود مبينا ان العامل العربي ي�شهد وحدة ثقافية ووجدانية وتطلعات م�شرتكة ،و�أ�شار �إىل العوامل امل�شرتكة التي تربط وجدانيات العامل العربي يف التم�سك بالعالقات العربية البينية املبنية على �أ�سا�س وحدوي ،وقيام عالقات مع العامل الغربي على �أ�سا�س الندية ال التبعية وال�سالم على �أ�سا�س العدل ال الظلم والإجحاف. -2و�صف الأمني العام حلزب الأمة ال�سوداين رئي�س املنتدى العاملي للو�سطية الإمام ال�صادق املهدي غياب خطط بديلة لدى ال�شعوب بـ " فقر الدم الفكري" و�أ�ضاف يف املحا�ضرة التي �ألقاها خالل حفل الإفطار الذي �أقامه املنتدى العاملي للو�سطية يوم الأربعاء 2011/8/17يف مدينة احل�سني لل�شباب �أن" ثمة فقر دم فكري عند ال�شعوب يحدد ما هو البديل املطلوب وما هو العمل والتدابري ل�سد الثغرات فيما يتعلق بالبديل امل�شهود " ،مبدياً ت�سا�ؤله عن البديل الذي تن�شده ال�شعوب ب�صورة قاطعة والذي ميكن �أن يكون العالج ال�شايف ،وحتدث الإمام ال�صادق �أمام نخبة من ال�سيا�سيني ورجال الدين والإعالم بح�ضور الأمني العام ملنتدى الو�سطية املهند�س مروان الفاعوري عن �أ�سباب الثورات العربية مو�ضحاً �أن لها �أ�سبابا مو�ضوعية و�أخرى ذاتية ،م�شدداً على �أن الف�ساد واال�ستبداد والبطالة والتبعية املُذلة واالن�سداد يف الأفق بني احلاكم واملحكوم كلها تعد �أ�سبابا مو�ضوعية الندالع مثل هذه الثورات ،وعلى هام�ش املحا�ضرة كرمت رابطة ك ّتاب التجديد املنبثقة عن املنتدى الدكتور �سعد الدين العثماين والدكتور حممد مورو مل�ساهمتهما يف اعمال جتديدية يف جمال الفكر والثقافة ،فيما كان عريف احلفل الزميل الكاتب ح�سني الروا�شدة الذي قدم �شذرات من الكلمات وحتدث عن الو�سطية واالعتدال يف الإ�سالم. � -3أقام املنتدى العاملي للو�سطية يوم الأربعاء 2011/8/10حفل �إفطاره ال�سنوي يف نادي مدينة احل�سني لل�شباب بعمان بح�ضور عدد من ال�شخ�صيات ال�سيا�سية والدينية والفكرية من �أع�ضاء وموظفي املنتدى .و�ألقى الدكتور �أحمد نوفل حما�ضرة حتدث فيها عن �شهر رم�ضان وف�ضائله الفتا انه يف وقت احتدام املادية ي�أتي �شهر رم�ضان يف كل �سنة ربيعا للقلب والروح وجتديدا ل�صلة الرحم ،و دعوة لعودة التوازن بني الروح واجل�سد ،وقال �أن ال�صوم
75
من �أعظم العبادات ولذلك جعلها اهلل �أحد �أركان الإ�سالم مبينا �أن �آيات ال�صوم ورد ذكرها يف الكتاب احلكيم من حيث الرتتيب قبل �آيات القتال ،و�أ�شار �إىل �أن من �أخطر ما يبلى به الدين هو �أن تتحول العبادة �إىل عادة ،و�شهر رم�ضان يف وقتنا هذا بات طق�سا �أو تقليدا حيث جتد امل�سلم ين�شغل بااللتزامات املادية امل�ستحقة عليه خالل هذا ال�شهر وكيف عليه ت�أمينها ،كما ا�ستعر�ض حكم فري�ضة ال�صيام ذاكرا منها التقوى والر�شد وال�شكر وغريها من احلكم ،وكان عريف احلفل الأ�ستاذ الدكتور حممد اخلطيب قد رحب يف بداية احلفل بال�ضيوف الذين لبوا دعوة املنتدى العاملي للو�سطية من خمتلف املحافظات الفتا �إىل �أن تلبية الدعوة ت�أتي تكرميا للمنتدى ودوره الريادي . -4تر�أ�س الأمني العام للمنتدى العاملي للو�سطية املهند�س مروان الفاعوري اجلل�سة الثانية من املجل�س العلمي الها�شمي لهذا العام ،والذي عقد برعاية ملكية بعنوان" الإ�صالح .. مفهومة و�ضوابطه وجماالته" وذلك يوم اجلمعة 2011/8/ 12 يف املركز الثقايف الإ�سالمي التابع مل�سجد ال�شهيد امللك عبد اهلل بن احل�سني طيب اهلل ثراه. -5التقى الوفد املوريتاين الذي يقوم بزيارة للمنتدى العاملي للو�سطية واملكون من م�ست�شار رئي�س اجلمهورية املوريتانية حممد املختار وم�ست�شار الوزير الأول ا�سلم بن �سيدي م�صطفى بوزير الأوقاف وال�ش�ؤون واملقد�سات الإ�سالمية الدكتور عبد الرحيم العكور ،وح�ضر اللقاء املهند�س مروان الفاعوري والدكتور حممد اخلطيب والدكتور هايل الداود ،وجرى خالل اللقاء بحث التعاون يف الق�ضايا امل�شرتكة التي تهم البلدين و�إمكانية الإفادة واال�ستفادة من كال الطرفني ،بالإ�ضافة �إىل اال�ستفادة من اخلربات الأردنية يف ت�أهيل و�إعداد خطباء و�أئمة امل�ساجد والوعاظ ،كما زار الوفد دائرة قا�ضي الق�ضاة والتقى قا�ضي الق�ضاة الدكتور �أحمد هليل ومفت�ش املحاكم ال�شرعية ال�شيخ ع�صام عربيات وا�ستمع �إىل �أهم الأعمال واملهام املوكلة لدائرة قا�ضي الق�ضاة كما مت التطرق لقانون الأحوال ال�شخ�صية و�أهم التعديالت التي جرت عليه من جهة �أخرى. � -6شجب املنتدى العاملي للو�سطية يف بيان �صدر عنه التفجري الإجرامي و اجلرمية الب�شعة التي ا�ستهدفت جموع امل�صلني يف
م�سجد �أم القرى ببغداد وم�ساجد �أخرى ،و�أدت �إىل ا�ست�شهاد ما يزيد عن ثالثني �شهيداً وعلى ر�أ�سهم النائب ال�شهيد خالد الفهداوي ع�ضو املنتدى العاملي للو�سطية وعدد كبري من الأطفال الفتا �إىل انه عمل �إجرامي جبان ،يدل على مقدار ما و�صل �إليه منفذوه من فكر �إجرامي بعيد كل البعد عن الدين والقيم والأخالق ،وقال املنتدى �أن منفذيه مل يراعوا يف �أمتهم ( �إ ًال وال ذمة) ،وال يراعون حرمة �شهر رم�ضان املبارك ،وال حرمة بيوت اهلل ،وال حرمة دماء امل�سلمني التي جعلها ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم ت�ساوي حرمة بيت اهلل احلرام بل �أكرث منه ،ودعا املنتدى �إىل عقد م�ؤمتر �إ�سالمي ي�ضم نخبة من علماء امل�سلمني املخل�صني ليعلن احلقيقة ويظهر �سريرة ه�ؤالء اخلوارج الذين �صاروا �أداة لأعداء الأمة با�سم الدين ،والدين منهم براء. -7بعث املنتدى العاملي للو�سطية ب�أحر التهاين والتربيكات لل�شعب الليبي مبنا�سبة حتريرهم للعا�صمة الليبية من الظلم واال�ستبداد التي كانت تقبع حتت براثنه ،و�أ�ضاف املنتدى يف بيان �صدر عنه قائال� ...إن املنتدى العاملي للو�سطية وهو يتلقى �أخبار االنت�صار العظيم للثوار بتحريرهم للعا�صمة الأبية طرابل�س، �إذ يبعث لل�شعب الليبي ال�شقيق بخال�ص التهاين والتربيكات بعد �أن منّ اهلل عليه بدحر الظلم واال�ستبداد وا�ستعادة حريته وكرامته من جديد بعد �أن هيمن عليه حكم قمعي ا�ستبدادي مدة �أربعة عقود �،إننا ونحن نهنئ �أنف�سنا ونهنئ ال�شعب الليبي ال�شقيق ،لن�ؤكد على �ضرورة �أن يكون الهدف الأول والأهم بناء دولة مدنية دميقراطية حترتم الإن�سان وت�ؤكد على �سيادة القانون ال�ضامن حلريات املواطنني �إن هذا االنت�صار العظيم لل�شعب الليبي ال�شقيق دليل �ساطع على �أن اال�ستبداد �إىل زوال و�أن الظلم ال ميكن �أن ي�ستمر وليكون در�ساً لكل احلكام العرب امل�ستبدين الذين ما زالوا ي�سومون �شعوبهم �ألواناً خمتلفة من القتل واالعتقال وتدمري العباد والبالد حمى اهلل ال�شعب الليبي وجمع كلمته و�أعاد عليه �شهر رم�ضان املقبل وقد حتققت �أمانيه وعاد �إليه اال�ستقرار والأمان. � -8أطلقت هيئة �شباب الو�سطية يف �شهر رم�ضان املبارك حمالت اخلري يف �شهر اخلري ،والتي مت العمل فيها �ضمن جمموعات من املتطوعني لن�شر اخلري قدر الإمكان ،وت�ضمنت احلمالت
76
تنظيف عدد من امل�ساجد قبل �صالة الرتاويح يف عدد من �أيام ال�شهر الف�ضيل ،وتوزيع طرود و امل�ساعدات على الفقراء من �شتى املناطق ،بالإ�ضافة للقيام بعمل افطارات للأيتام . � -9أطلقت هيئة �شباب الو�سطية "حملة نظفوا �أفنيتكم" التي نظمها بالتعاون مع مبادرة تعالوا نبني بلدنا والتي بد�أت برتتيب و�صيانة وتنظيف احد امل�ساجد يف عمان وذلك مب�شاركة 25متطوعا و 15متطوعة ،وت�أتي هذه البادرة �ضمن حملة اخلري التي �أطلقتها هيئة �شباب الو�سطية خالل �شهر رم�ضان. � -10أقامت هيئة �شباب الو�سطية يوم اجلمعة 2011/8/12م�أدبة �إفطار رم�ضاين للأيتام �ضم 60يتيماً ويتيمة من مركز العابورة للأيتام ومركز خميم احل�سني للأيتام مبنا�سبة حلول �شهر رم�ضان املبارك ،وي�أتي هذا الن�شاط الذي �أطلق عليه " �إفطار النه�ضة" يف �إطار تنمية احل�س االجتماعي والإن�ساين وتعزيز التفاعل االيجابي بني الطالب وتكوين �أفراد قادرين على التالحم مع جمتمعاتهم ووطنهم ون�شر حب اخلري وتقاليد الإ�سالم ،و ح�ضر حفل الإفطار الذي تخلله فقرات ترفيهية وتربوية ودينية 40،متطوعا ومتطوعة من خمتلف القطاعات مما �ساهم يف ر�سم البهجة على وجوه الأطفال وترك الأثر الطيب يف نفو�سهم ،واختتم الن�شاط بقراءة دعاء جماعي و�أداء �صالة املغرب وتوزيع الهدايا وتناول طعام الإفطار �ضمن �أجواء ت�سودها الرحمة و التكافل واملودة. -11نظم منتدى الو�سطيه للفكر والثقافة فرع ال�سلط حما�ضره بعنوان "الزكاة �سبيل للتكافل االجتماعي" حا�ضر فيها مفتي حمافظة البلقاء الدكتور هاين العابد ،وذلك يف جامع ال�سلط ال�صغري بح�ضور جمع من املواطنني ،وحتدث املحا�ضر حول الزكاة و�أحكامها واحلكمة منها و�أنها �سبيل للتكافل االجتماعي وبني ف�ضيلته بان الزكاة فري�ضة ومقارنتها بفري�ضة ال�صالة يف ع�شرات من الآيات يف القران الكرمي الفتا يف الوقت ذاته اثر الزكاة يف حتقيق التكافل االجتماعي وحل م�شكلة الفقر من خالل م�ساهمة الزكاة يف �سد حاجات الفقراء و�أثرها يف بناء العالقات الطيبة بني �أبناء املجتمع الغني منهم والفقري. -12نظم منتدى الو�سطية للفكر والثقافة فرع ال�سلط بالتعاون مع مركز مو�سى ال�ساكت الثقايف احتفاليه بعنوان " كيف ن�ستقبل رم�ضان" و�سط ح�ضور كبري ،وقال الدكتور عبداهلل ال�صيفي
رئي�س ق�سم الفقه باجلامعة الأردنية �أن ا�ستقبال رم�ضان يكون بعدة �أمور منها التوبة ،و�أن �شرط التوبة هو الإقالع عن املع�صية والندم على فعلها والعزم على عدم الرجوع �إليها ،من جانبه قال الدكتور هاين العابد مفتى ال�سلط �أن اهلل اوجب على امل�سلم ال�صائم عدة �أمور وهي �أن يكون �صيامه �صيام املخل�صني ،وعليه �أن يغتنم حلظات رم�ضان في�ضع لنف�سه برناجما تزكى به نف�سه ويكون يف م�صاف فاعلي اخلري يف جماالت احلياة املختلفة ،يف حني قال الدكتور عو�ض الفاعوري مدير �أوقاف البلقاء وراعي اللقاء بان ال�صيام يعلمنا ال�صرب والتحمل م�ستذكرا العديد من الآيات القر�آنية والأحاديث النبوية التي تدل على ف�ضائل ال�صيام ،كما تطرق يف الوقت ذاته للحديث عن ن�شاطات مديرية الأوقاف خالل �شهر رم�ضان. � - 13ألقى الكاتبان الزميالن يو�سف غي�شان و�أحمد ح�سن الزعبي يف منتدى الو�سطية يوم ال�سبت املوافق 2011/7/30 حما�ضرة حول دور الأدب ال�ساخر يف الإ�صالح. -14عقد منتدى و�سطية اربد �سل�سلة من الن�شاطات املهمة خالل ال�شهر الف�ضيل كان �أبرزها ندوة بعنوان" الفتوحات الإ�سالمية درو�س وعرب" �شارك فيها كل من الدكتور عمر النوافلة ورئي�س فرع اربد يو�سف امللكاوي ،وندوة بعنوان " معركة بدر الكربى ...درو�س وعرب م�ستفادة " �شارك فيها كل من رئي�س فرع اربد يو�سف امللكاوي وعثمان �أبو �سرايا من �أوقاف اربد .وندوة بعنوان" ذكرى �إحراق امل�سجد الأق�صى " �شارك فيها كل من د.عمر النوافلة ورئي�س فرع اربد يو�سف امللكاوي وعثمان �أبو �سرايا ،وحما�ضرة بعنوان" عالمات و دالئل ليلة القدر" �شارك فيها كل من د.وائل بني عي�سى ويو�سف ملكاوي .و�إعداد برنامج خا�ص �أحياءا لليلة القدر يف كل من م�سجد الإمام ال�شافعي وم�سجد �سعد بن معاذ ،ب�إ�شراف الأ�ستاذ يو�سف امللكاوي ،وعثمان �أبو �سرايا ،و�أي�ضا ندوة بعنوان" �أحكام تتعلق بالعيد وخمالفات العيد" �شارك فيها كل من د.عمر النوافلة ويو�سف امللكاوي وعثمان �أبو �سرايا. � -15ألقى ال�شيخ جمال ال�سفرتي يوم االثنني 2011/8/22يف جمعية بني حارث حما�ضرة بعنوان" املنهج الو�سطي ثراء يف العبادات واملعامالت" وذلك يف احلي ال�شرقي للمحافظة.
77
شهر أيلول 2011م � -1صدر عن منتدى الو�سطية للفكر والثقافة كتاب" القد�س دين وتاريخ" ،الذي يوثق �أوراق العمل املقدمة للم�ؤمتر الدويل ال�ساد�س والذي عقده املنتدى يف عمان 2009/11/12-11يف فندق الرويال وذلك مبنا�سبة اختيار مدينة القد�س مدينة للثقافة العربية يف ذات العام ،و�ضم الكتاب يف حماوره اخلم�سة نبذة عامة لر�ؤية و�أهداف وبرنامج امل�ؤمتر و�أ�سماء امل�شاركني فيه ،بالإ�ضافة لكلمات حفل االفتتاح التي �ألقيت من قبل الأمني العام للمنتدى املهند�س مروان الفاعوري ،ورئي�س املنتدى العاملي دولة الإمام ال�صادق املهدي و�سماحة الإمام عكرمة �صربي خطيب امل�سجد الأق�صى ،والأ�ستاذ حممد �صبيح ممثل الأمني العام جلامعة الدول العربية والدكتور ع�صام الب�شري من ال�سودان ،كما احتوي على عدد من الدرا�سات والأبحاث و�أوراق العمل لعلماء ومفكرين من خمتلف الدول العربية والإ�سالمية ممن �شاركوا يف م�ؤمتر القد�س دين وتاريخ ،منها " دور الها�شميني يف �أعمار بيت املقد�س" للأ�ستاذ عبد اهلل كنعان ،و" تهويد القد�س ..حقائق الدين و�أوهام ال�سيا�سة" للدكتور ح�سن خاطر ،و"ح�ضارة القد�س الإ�سالمية يف مواجهة الهجمة ال�صهيونية" للأ�ستاذ الدكتور عبد احلليم عوي�س ،و�أي�ضا دور الإعالم يف خدمة الق�ضية الفل�سطينية للدكتور حممد حب�ش وغريها الكثري من الدرا�سات املهمة واملتميزة ،بالإ�ضافة للتو�صيات التي خل�ص لها امل�ؤمتر والتي من �أبرزها الإ�شادة بدور اململكة الأردنية الها�شمية قيادة وحكومة و�شعبا يف حماية القد�س ودعم �صموده . � -2صدر العدد الثالث من ال�سنة الرابعة ملجلة الو�سطية الف�صلية امل�ستقلة التي ت�صدر عن املنتدى العاملي للو�سطية ،وقال الأمني العام للمنتدى العاملي للو�سطية املهند�س مروان الفاعوري يف افتتاحية العدد �أن ال�صفوة الو�سطية املثقفة معنية وملزمة للت�صدي الفكري والعملي ملدار�س الغلو والت�شدد ب�شقيه الإ�سالمي والعلماين ،واملثابرة لتجفيف منابع التطرف من خالل الإميان ب�ضرورة جتاوز ال�صدام احل�ضاري بني الثقافات ،و�ضمت املجلة بني طياتها باقة متنوعة من املقاالت والدرا�سات الإ�سالمية لأبرز الكتاب والعلماء من خمتلف الدول العربية والإ�سالمية ،ناهيك عن ن�شاطات و�أخبار املنتدى.
-3قام منتدى الو�سطية للفكر والثقافة فرع ال�سلط بالتعاون مع ر�ؤ�ساء الهيئات التطوعية يف حمافظة ال�سلط بيوم تطوعي " وفا ًء ملدر�سة ال�سلط الثانوية" التي كان لها الف�ضل الكبري يف تعليمهم وتن�شئتهم الن�ش�أة ال�صحيحة ،وذلك بتنظيف املكتبة املدر�سية يف يوم حافل بالعطاء وترتيبها وتهيئتها لتعود كما كانت يف �أبهى حلة. � -4شارك منتدى الو�سطيه للفكر والثقافة /ال�سلط طلبة املركز القر�آين ال�صيفي وجموع امل�صلني يف م�سجد الربكة /املغاريب احتفالهم بتخريج حفظة القران الكرمي وت�ضمن االحتفال تالوات لبع�ض الطلبة اخلريجني واملواعظ احل�سنة والأنا�شيد التي متتدح ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم ،وحتدث الدكتور هاين العابد مفتي حمافظة البلقاء الذي ا�شرف على هذا املركز عن �أهمية املراكز القر�آنية يف تن�شئة الأجيال ال�صاحلة ودعا ان يحفظ اهلل الوطن وقيادته الها�شمية كما. -5عقد رئي�س منتدى و�سطية مادبا الدكتور �صالح اخلواطرة لقاءا مفتوحا مع جمموعة من ال�شباب مت خالله طرح الأ�سئلة والنقا�شات حول املنهج الو�سطي و�آفاقه وذلك بتاريخ .2011/9/10 -6بالتعاون مع املجل�س الأعلى لل�شباب �أقام منتدى و�سطية مادبا دوري لكرة القدم بني طالب النادي ال�صيفي يف مدينة الأمري ها�شم الريا�ضية وذلك بتاريخ .2011/9/22
شهر تشرين أول 2011م -1برعاية املهند�س عوين كوك�ش نظم منتدى الو�سطيه للفكر والثقافه /ال�سلط حملة لتنظيف ال�شارع الرئي�سي الواقع �أمام م�سجد ومقام النبي �شعيب عليه ال�سالم ،وذلك بالتعاون مع بلدية ال�سلط الكربى ومدا�س اكادميية ال�سلط ومدار�س االميان الإ�سالمية ،وم�شاركة عدد من وجهاء املدينة ورجال الدين ور�ؤ�ساء م�ؤ�س�سات املجتمع املدين و�أع�ضائها والأهايل والأطفال، و�أكد مفتي حمافظة البلقاء الدكتور هاين العابد يف كلمته التي �ألقاها على �أهمية العمل التطوعي يف خدمة الوطن واملحافظه عليه . � -2ألقى ال�شيخ جمال ال�سفرتي ندوة بعنوان" الربيع العربي بني الواقع والطموح " يف احلي ال�شرقي للمحافظة.
78
بـيـانــات الوسطية العالمي للوسطية يتبنى وثيقة األزهر لإلصالح لنشرها في العالم اإلسالمي ثمن املنتدى العاملي للو�سطية الوثيقة التي �صدرت عن الأزهر ال�شريف والتي تت�ضمن بنودا وقواعد تتخذ منها قوى املجتمع امل�صري املرجعية الإ�سالمية نحو امل�ستقبل ،وبو�صلة الأمان التي توجهها يف �سريها باخلطى الر�شيدة ،بهدف الو�صول �إيل الأطر الفكرية احلاكمة لقواعد املجتمع ونهجه ال�سليم . و�أعلن املنتدى عن موافقته على جميع املبادئ التي ت�ضمنتها الوثيقة ،واعتبارها جزءا من �أدبيات املنتدى ،م�ؤكدا على رغبته يف تعزيز �أطر التعاون امل�شرتك مع الأزهر ال�شريف يف هذا املجال، وموا�صلة اجلهود معا خلدمة الإ�سالم وامل�سلمني ،وبناء �سبل ال�شراكة لال�ستفادة من هذه الوثيقة التاريخية لن�شرها وتبنيها على م�ستوى العامل الإ�سالمي كله وذلك من خالل عقد م�ؤمتر دويل يف القاهرة يف ت�شرين الثاين املقبل بالتعاون مع الأزهر ال�شريف عنوانه" الدولة احلديثة من منظور �إ�سالمي" لبلورة الوثيقة ال�شاملة لكل بلدان العامل الإ�سالمي و�أعرب املنتدى يف بيان �صدر عنه عن تقديره للمبادرة التي ت�أتي يف وقت مهم يف تاريخ الأمة الإ�سالمية ،الفتا يف الوقت ذاته �ضرورة �أن تكون الوثيقة منطلقاً للتوافق على وثيقة �أ�شمل ت�ؤ�س�س مل�سرية العامل الإ�سالمي كله على �صعيد عالقة الدين بالدولة ،وق�ضايا التغيري والإ�صالح ،و�سبل ا�ستئناف امل�شروع احل�ضاري للأمة ،يف �إطار ثوابت الأمة وعلى �أ�سا�س منهج االعتدال والو�سطية. وكان �شيخ الأزهر الأ�ستاذ الدكتور �أحمد الطيب قد اتفق وبعد عقد اجتماعات عدة مع كوكبة من املثقفني امل�صريني و كبار العلماء واملفكرين يف الأزهر ال�شريف على �ضرورة ت�أ�سي�س وثيقة �إ�سالمية تقوم على مبادئ كلية وقواعد �شاملة م�ستخل�صة من الن�صو�ص ال�شرعية وتتخذ منها قوى املجتمع امل�صري املرجعية الثابتة خا�صة يف ظل اللحظات التاريخية الفارقة التي متر بها م�صر بعد ثورة اخلام�س والع�شرين من يناير ،و�أهمية تلك الوثيقة يف توجيه م�ستقبل م�صر نحو غاياته النبيلة وحقوق �شعبها يف احلرية والكرامة وامل�ساواة والعدالة االجتماعية ،كما �أجمعوا يف الوقت ذاته على دور الأزهر القيادي يف الو�سطي ال�سديد ،واعتباره املنارة الهادية التي بلورة الفكر الإ�سالمي ّ ُي�ست�ضاء بها ،ويحتكم �إليها يف حتديد عالقة الدولة بالدين وبيان �أ�س�س ال�سيا�سة ال�شرعية ال�صحيحة التي ينبغي انتهاجها؛ ارتكازاً على خربته املرتاكمة.
ومن ابرز البنود التي ت�ضمنتها الوثيقة دعم ت�أ�سي�س الدولة الوطنية الد�ستورية الدميقراطية احلديثة ،التي تعتمد على د�ستور ترت�ضيه الأمة ،واعتماد النظام الدميقراطي ،القائم على االنتخاب احلر املبا�شر ،الذي هو ال�صيغ َة الع�صرية لتحقيق مبادئ ال�شورى الإ�سالمية، وااللتزام مبنظومة احلريات الأ�سا�سية يف الفكر والر�أي ،مع االحرتام الكامل حلقوق الإن�سان واملر�أة والطفل ،كما �أكدت على مبد�أ التعددية واحرتام الأديان ال�سماوية ،واعتبار املواطنة مناط امل�س�ؤولية يف املجتمع، و االحرتام التام لآداب االختالف و�أخالقيات احلوار ،و�ضرورة اجتناب التكفري والتخوين وا�ستغالل الدين وا�ستخدامه لبعث الفرقة والتنابذ والعداء بني املواطنني ،و �أي�ضا ت�أكيد االلتزام باملواثيق والقرارات الدولية. ودعت �إىل التم�سك باملنجزات احل�ضارية يف العالقات الإن�سانية، املتوافقة مع التقاليد ال�سمحة للثقافة الإ�سالمية والعربية ،و احلر�ص التام على �صيانة كرامة الأمة امل�صرية واحلفاظ على عزتها الوطنية، وت�أكيد احلماية التامة واالحرتام الكامل لدور العبادة لأتباع الديانات ال�سماوية الثالث ،و اعتبار التعليم والبحث العلمي ودخول ع�صر املعرفة قاطرة التقدم احل�ضاري يف م�صر ،وتكري�س كل اجلهود لتدارك ما فات يف هذه املجاالت ،و�أخريا ا�سرتجاع الدور القيادي وامل�ستقل مل�ؤ�س�سة الأزهر، وعودة ” هيئة كبار العلماء” واخت�صا�صها برت�شيح واختيار �شيخ الأزهر، والعمل على جتديد مناهج التعليم الأزهري؛ لي�سرتد دوره الفكري الأ�صيل ،وت�أثريه العاملي يف خمتلف الأنحاء وغريها من البنود.
79
العالمي للوسطية يناشد الشعب المصري التحلي بالصبر ونبذ العنف نا�شد املنتدى العاملي للو�سطية امل�صريون من قوات م�سلحة وم�سلمني و�أقباط �إىل نبذ العنف واالبتعاد عن التع�صب والت�شنج والتحلي بال�صرب . و�أكد املنتدى يف البيان الذي �صدر عنه تعقيبا على الأحداث امل�ؤ�سفة التي ح�صلت �أمام مبنى الإذاعة والتلفزيون امل�صري وراح �ضحيتها الع�شرات من القتلى واجلرحى� ،إىل �إن املرتب�صني يف �أمن م�صر ووحدتها كثريون ،خا�صة بعد انت�صار ثورتهم الأبية ،وهذا يجعل ال�شعب امل�صري �أكرث وعياً وم�س�ؤولية ملا يحاك عليه من م�ؤامرات ت�ستهدف وحدته وثورته. وفيما يلي ن�ص البيان.... لقد كان للأحداث امل�ؤ�سفة التي جرت يف القاهرة �أمام مبنى الإذاعة والتلفزيون وذهب �ضحيتها الع�شرات من القتلى واجلرحى وقع مرير على كل حمب مل�صر ولثورتها العظيمة التي �أذهلت العامل عندما قدمت منوذجاً حياً للإخاء والت�سامح ونبذ العنف. �إن املنتدى العاملي للو�سطية وهو يتابع ما يجري يف م�صر احلبيبة والغالية على كل عربي وم�سلم ،ينا�شد الإخوة يف م�صر من قوات م�سلحة وم�سلمني و�أقباط �أن ينبذوا العنف ويعودوا �إىل لغة احلب واحلوار بعيداً عن التع�صب والت�شنج والتطرف. �إن املرتب�صني ب�أمن م�صر ووحدتها كثريون ،خا�صة بعد انت�صار
تعبريية
ثورتهم الأبية ،وهذا يجعل ال�شعب امل�صري �أكرث وعياً وم�س�ؤولية ملا يحاك عليه من م�ؤامرات ت�ستهدف وحدته وثورته. ولهذا ف�إن الأزهر ممث ً ال بف�ضيلة الإمام �أحمد الطيب والكني�سة ممثلة بالبابا �شنودة مدعوان �إىل حمل راية الوحدة والرد على دعاة الفرقة والتع�صب. حمى اهلل م�صر من كيد الكائدين ،و�ألهم �أهلها احلق وال�صواب.
العالمي للوسطية يهنيء الغنوشي بفوز حركة النهضة في االنتخابات هن�أ املنتدى العاملي للو�سطية يف برقية �أر�سلها ،رئي�س حركة النه�ضة الإ�سالمية يف تون�س �سعادة الأ�ستاذ را�شد الغنو�شي ،مبنا�سبة الفوز ال�ساحق حلركة النه�ضة الإ�سالمية يف االنتخابات الدميقراطية، متمنيا له ولل�شعب التون�سي املزيد من التقدم واالزدهار والدميقراطية. وفيما يلي ن�ص الربقية... �سعادة الأ�ستاذ را�شد الغنو�شي رئي�س حركة النه�ضة الإ�سالمية يف تون�س ال�سالم عليكم ورحمة اهلل وبركاته،،، ي�سر املنتدى العاملي للو�سطية �أن يبعث �إىل �سعادتكم بخال�ص تعبريية التهنئة والتربيك مبنا�سبة الفوز ال�ساحق حلركة النه�ضة الإ�سالمية يف االنتخابات الدميقراطية التي متت بكل حرية من التقدم واالزدهار ومزيد ًا من الدميقراطية والعدالة. املنتدى العاملي للو�سطية و�شفافية و�إننا �إذ نتمنى لكم ولل�شعب التون�سي ال�شقيق مزيد ًا
80
برقية عزاء من العالمي للوسطية لسفير جمهورية تركيا في األردن بضحايا الزلزال المدمر بعث املنتدى العاملي للو�سطية برقية عزاء ل�سعادة �سفري اجلمهورية الرتكية يف اململكة الأردنية الها�شمية ي�شاطره وال�شعب الرتكي م�أ�ساة �سقوط مئات ال�ضحايا الذين راحوا جراء الزلزال املدمر الذي �ضرب �شرقي تركيا يف الأيام املا�ضية ،راجني اهلل �أن يتغمد ال�ضحايا بوا�سع رحمته ويلهم ذويهم ال�صرب وال�سلوان. وفيما يلي ن�ص الربقية: �سعادة �سفري اجلمهورية الرتكية يف اململكة الأردنية الها�شمية ال�سالم عليكم ورحمة اهلل وبركاته،،، ببالغ احلزن والأ�سى تلقى املنتدى العاملي للو�سطية نب�أ الزلزال املدمر الذي �ضرب �شرقي تركيا و�أدى �إىل �سقوط مئات تعبريية ال�ضحايا. و�إننا �إذ ن�شارك ال�شعب الرتكي ال�شقيق هذه امل�أ�ساة نتقدم واملوا�ساة ،راجني اهلل �أن يتغمد ال�ضحايا بوا�سع رحمته و�أن �إليكم و�إىل ال�شعب الرتكي واحلكومة الرتكية بخال�ص العزاء يكلل امل�صابني بال�شفاء العاجل. املنتدى العاملي للو�سطية
برقية عزاء من العالمي للوسطية لرئيس الوزراء التركي اردوغان بوفاة والدته
�أر�سل املنتدى العاملي للو�سطية برقية عزاء �إىل رئي�س الوزراء الرتكي رجب طيب �أردوغان بوفاة والدته التي وافتها املنية يوم اجلمعة املوافق 2011/10/7عن عمر يناهز 80عا ًما� ،سائلني املوىل عز وجل �أن يتغمدها برحمته وي�سكنها ف�سيح جناته ،ويلهم �أهلها ال�صرب وال�سلوان ...وفيما يلي ن�ص الربقية... دولة الأ�ستاذ رجب طيب �أردوغان رئي�س احلكومة الرتكية املحرتم ال�سالم عليكم ورحمة اهلل وبركاته،،، قال تعاىل ُ ْ�س َذ�آ ِئ َق ُة المْ َ ْو ِت َو�إِ مَّ َ نا ُت َو َّف ْونَ �أُ ُجو َر ُك ْم َي ْو َم تعبريية (كلُّ َنف ٍ داعني اهلل �أن يتغمد الفقيدة بوا�سع رحمته و�أن ي�سكنها ف�سيح ا ْل ِق َيا َم ِة)(�آل عمران)185 : تلقى املنتدى العاملي للو�سطية ببالغ احلزن والأ�سى نبا وفاة جناته. �إنّا هلل و�إنّا �إليه راجعون والدتكم الكرمية ،و�إننا �إذ نتقدم �إىل دولتكم بخال�ص العزاء املنتدى العاملي للو�سطية
81
المنتدى العالمي للوسطية يحذر من تدويل األزمة السورية في بيان يصدره
تعبريية
�شدد املنتدى العاملي للو�سطية على �ضرورة تعريب الأزمة ال�سورية يف الإطار العربي ،وحذر من تدويل الأزمة وفتح املجال لتدمري �سوريا ون�شر اخلراب والقتل فيها. ويف الوقت الذي طالب املنتدى يف بيانه اجلامعة العربية بوقفة جريئة فانه يذكر الدول العربية بان �سوريا مهددة بالتمزيق الطائفي واملذهبي والذي �سيكون خطرا حمدقا بكل دول املنطقة ما ي�ستدعي من الدول العربية عدم الرتدد يف تبني موقف وا�ضح مما يجري على ال�ساحة ال�سورية. وفيما يلي ن�ص البيان....
يتابع املنتدى العاملي للو�سطية انتهاكات حقوق الإن�سان التي جتري يف �سوريا ال�شقيقة والتي �أدت �إىل تدهور الأو�ضاع وزيادة القتل والتدمري وانتهاك املحرمات ب�شكل جتاوز كل القوانني والأعراف الدينية والدولية. �إن املنتدى العاملي للو�سطية �إذ ي�ستنكر وي�شجب الأعمال الإجرامية التي جتري يف �سوريا يطالب الدول العربية ب�أن تتبنى
قرارات وا�ضحة وجريئة لردع من يقومون بعملية القتل والتدمري التي جتري بحق �أبناء ال�شعب ال�سوري. وهنا ف�إننا نطالب بتعريب للأزمة ال�سورية يف �إطارها العربي ونحذر من تدويل الأزمة وفتح املجال للناتو وغريه لتدمري �سوريا ون�شر اخلراب والقتل فيها وما جرى يف ليبيا من دمار وخراب لي�س عنا ببعيد. �إننا ونحن نطالب اجلامعة العربية بهذه الوقفة اجلريئة نذكر الدول العربية ب�أن �سوريا مهددة بالتمزيق الطائفي واملذهبي والذي �سيكون خطراً حمدقاً بكل دول املنطقة وهذا ي�ستدعي من الدول العربية عدم الرتدد يف تبني املوقف الوا�ضح مما يجري على ال�ساحة ال�سورية ،كما �أن الرتدد يف ردع النظام �سيقود �إىل تدخل خارجي وحرب �أهلية �ست�أكل الأخ�ضر والياب�س ،ويكون لها تداعياتها على االمن واال�ستقرار يف العامل ب�أ�سره. ( َوا َّت ُقوا ِف ْت َن ًة اَل ُت ِ�صيبنَ َّ ا َّلذِ َ ا�صة). ين َظلَ ُموا مِ ْن ُك ْم َخ َّ
82
الديوان الثقافي للوسطية واالعتدال في العراق ينعى فقيده النائب الشهيد الفهداوي ينعى الديوان الثقايف للو�سطية واالعتدال فقيده الراحل ال�شهيد الدكتور خالد �سليمان الفهداوي الذي كان علما من �أعالم الأمة الإ�سالمية وعاملا ومفكرا وداعية من دعاة الو�سطية واالعتدال. والديوان الثقايف للو�سطية واالعتدال �إذ يعلن �شجبه وا�ستنكاره لهذا العمل الإجرامي اجلبان الذي ا�ستهدف جموع امل�صلني يف م�سجد �أم القرى ببغداد و�أدى �إىل ا�ست�شهاد وجرح عدد من امل�سلمني وعلى ر�أ�سهم النائب ال�شهيد خالد �سليمان الفهداوي ويعاهد اهلل عز وجل على ال�سري يف طريق االعتدال والثبات على املنهج واقتفاء �آثار ال�شهيد حيث الفار�س والعلم يف هذا امليدان. ويف الوقت ذاته يعزي �أهل العراق والعامل الإ�سالمي وراعي امل�شروع الدكتور �أحمد عبد الغفور رئي�س ديوان الوقف ال�سني يف العراق �إذ �أن امل�صاب جلل واخلطب عظيم. ن�س�أل اهلل �أن يتغمده بوا�سع رحمته ويرزق امل�سلمني من ي�سد ثغرا من ثغور الإ�سالم ويعو�ض �أهل العراق من يخلفه �إحياء للأمة وبعثا لر�سالة الو�سطية واالعتدال. �إنا هلل و�إنا �إليه راجعون
83
أخـبـــار الوسطية وفد العالمي للوسطية يزور االزهر لنشر الفكر الوسطي في العالم االسالمي
من اليمني :االمام ال�صادق املهدي ،م .مروان الفاعوري � ،شيخ اجلامع الأزهر
جانب من الزيارة
زار وفد من املنتدى العاملي للو�سطية جمهورية م�صر العربية وذلك يف �إطار �سعى املنتدى لن�شر الفكر الو�سطى يف العامل الإ�سالمي وااللتقاء مع رموز احلركة الإ�سالمية من خمتلف االجتاهات. والتقى الوفد الذي �ضم رئي�س املنتدى الإمام ال�صادق املهدي و�أمينه العام املهند�س مروان الفاعورى بالإمام الأكرب �شيخ اجلامع الأزهر . وقال الفاعوري �أن الوفد بحث خالل اللقاء طرق توثيق اطر التعاون بني املنتدى والأزهر ال�شريف ،وتفعيل وثيقة الأزهر بحيث تطبق على م�ستوى العامل ولي�س م�صر فقط . و�أ�ضاف انه مت الت�شاور حول �إمكانية عقد م�ؤمتر دويل بالتعاون مع الأزهر ال�شريف ،مب�شاركة علماء ومفكرون من خمتلف الدول العربية والإ�سالمية حول الدولة املدنية واملرجعية الإ�سالمية يف القاهرة وذلك خالل ال�شهرين القادمني .وكان االزهر ال�شريف قد ا�صدر وثيقة تت�ضمن بنود وقواعد تتخذ منها قوى املجتمع امل�صري املرجعية الإ�سالمية نحو امل�ستقبل ،وبو�صلة الأمان التي
توجهها يف �سريها باخلطى الر�شيدة،بهدف الو�صول �إيل الأطر الفكرية احلاكمة لقواعد املجتمع ونهجه ال�سليم. كما التقى الوفد برئي�س جمل�س �شورى اجلماعة الإ�سالمية رئي�س حزب البناء والتنمية الدكتور ع�صام دربالة واملر�شح املحتمل النتخابات رئا�سة اجلمهورية الدكتور عبد املنعم �أبو الفتوح حيث مت بحث �سبل التعاون امل�شرتك بني املنتدى والأطراف الأخرى.
الأزهر ال�شريف
84
الرئيس السوداني يمنح عويس وسام العلم واآلداب والفنون الذهبي
د.عوي�س خالل التكرمي
ال�سودا ّ ين جرت مرا�سم بدعوة ر�سم ّية من الق�صر اجلمهوريّ ّ حفل تو�سيم و�سام العلم والآداب والفنون ال ّذهبي ،للمف ّكر امل�صري الكبري الربوفي�سور عبد احلليم عوي�س. وقد قام الرئي�س ال�سوداين عمر الب�شري ،مبنح العامل واملفكر الإ�سالمي و�سام العلم والآداب والفنون الذهبي ،بالق�صر اجلمهوري بالعا�صمة ال�سودانية اخلرطوم تقديرا جلهوده العلمية يف خدمة الإ�سالم وق�ضايا العامل الإ�سالمي .وبح�ضور كبار رجال الدولة ورموز الفكر والثقافة يف م�صر وال�سودان ال�شقيق. و�أو�ضح الب�شري� ،أن اجلائزة التي تعد �أرفع و�سام يف اجلمهورية ال�سودانية ،هي عبارة عن جنمة من الذهب اخلال�ص ،متنح لل�شخ�صيات التي �أثرت يف احل�ضارة والفكر الإن�ساين ،جاءت ت�سجيال جلهود الدكتور عبد احلليم عوي�س ،وعطائه املتوا�صل يف تف�سري القر�آن الكرمي ولبحثه امل�ستمر يف العلوم الإ�سالمية، وعرفانا لدوره املتميز يف الدفاع عن الق�ضايا الإ�سالمية والعربية
يف كل املحافل الإقليمية والدولية باحلجة والقلم. و�أ�شار الرئي�س ال�سوداين� ،إىل �أن ال�سودان يقدر عطاء العلماء ربا يف ومكانتهم ودورهم يف قيادة الأمة والعامل للعلم والنور ،مع ً الوقت ذاته عن قدرة الأمة العربية على االنطالق و�صناعة التاريخ وقيادة العامل �إىل النور من مظامل اجلهل. يذكر �أن الدكتور عبد احلليم عوي�س� ،أجنز �أكرث من مائة مرجع وكتاب وبحث علمي يف التاريخ واحل�ضارة والثقافة والعلوم الإ�سالمية؛ منها :مو�سوعة يف الفقه الإ�سالمي ،وتف�سري القر�آن للنا�شئني ،ومعجم م�صطلحات علوم القر�آن ،كما �أ�شرف و�أ�سهم يف كتابة مو�سوعات يف التاريخ ،وتاريخ الإدارة ،واحل�ضارة الإ�سالمية، �إ�ضافة �إىل مئات املقاالت والبحوث املن�شورة. من ناحية �أخرى قامت جامعة القر�آن الكرمي والعلوم الإ�سالمية ،ب�أم درمان مبنح الدكتور عوي�س الدكتوراه الفخرية يف الفكر الإ�سالمي تقدي ًرا جلهوده العلمية يف العلوم الإ�سالمية.
85
د.نوفل يحاضر حول التربية الصالحية ودورها في نهضة وإصالح األمة في مقر العالمي للوسطية
�أ.د .احمد نوفل
�أكد �أ�ستاذ ال�شريعة الإ�سالمية يف اجلامعة الأردنية الدكتور احمد نوفل �أن القائد النا�صر �صالح الدين الأيوبي هو رجل ميدان من الطراز الأول حيث ا�ستطاع حتقيق ما هو �أقرب �إىل املعجزة من خالل اقتنا�صه للفر�ص التي �سنحت له يف حياته ليوظفها فيغري جمرى التاريخ. و�أ�ضاف يف املحا�ضرة التي نظمتها هيئة �شباب الو�سطية يوم ال�سبت املوافق 2011/10/15يف مقر املنتدى بعنوان" دور الرتبية ال�صالحية يف نه�ضة و�إ�صالح الأمة" �أنه ا�ستطاع ا�ستنها�ض همم الأمة وتوحيدها من خالل التعليم و�إحياء الدين يف نفو�س امل�سلمني ،وتوحيد م�صر مع بالد ال�شام والق�ضاء على ر�ؤو�س اخليانة ،و�إحياء روح اجلهاد يف الأمة وتوظيف املال دعما له الفتا يف الوقت ذاته �أنه ب�شر ك�سائر الب�شر ولديه نزعات ب�شرية �إال �أنه كان يغالبها ويطوعها من اجل دينه و�إميانه وذلك
جانب من احل�ضور
بقيام الليل وال�صيام. و�أ�شار نوفل �إىل �أن التاريخ من �أهم م�صادر املعرفة �إن مل تكن بعد الوحي ،تتجلى عظمته يف ت�صديقه حلقائق الدين ،الفتا يف الوقت ذاته �إىل �أن �إ�سرائيل من �أكرث الأمم درا�سة وتتبعا حلقبة �صالح الدين الأيوبي والفرتة ال�صليبية خ�شية �أن تتكرر معها تلك التجربة فتحدث التغيري من جهة ،وال�ستلهام الدرو�س والعرب منها من جهة �أخرى. وعن الت�صوف وهو من �أهم معامل �شخ�صيته ،قال الدكتور نوفل �أن �صالح الدين �شجع احلركات ال�صوفية ولكنه قاوم بدعها ور�شدها �آخذا منها اجلانب الرتبوي والإمياين امل�شرق ،كما و�ضع الوحدة يف ب�ؤرة تركيزه االمياين من خالل توحيده مل�صر مع ال�شام وحتريره بيت املقد�س الأمر الذي جعل الأمة جتتمع على حبه واحرتامه وتقديره.
نخبة من الشباب العربي واإلسالمي في ضيافة العالمي للوسطية نظم املنتدى العاملي للو�سطية يف مقره م�ساء الأحد املوافق 2011/10/16لقاء تعاريف �شارك فيه ما يزيد عن (� )30شابا و�شابة من جن�سيات " مينية وجزائرية وباك�ستانية و�أفغانية وعراقية وموريتانية" من امل�شاركني يف امل�ؤمتر الدويل الرابع للفكر التنويري والذي عقده املجل�س الأعلى لل�شباب. ويف بداية اللقاء رحب الأمني العام للمنتدى املهند�س مروان الفاعوري باحل�ضور الكرمي ،وقدم لهم �شرحا وافيا عن املنتدى وفكرة ت�أ�سي�سه ور�سالته واجنازاته ،ثم مت عر�ض فيلم وثائقي عن املنتدى تاله حوار مو�سع متحور حول مواقف املنتدى من جمريات الأحداث العاملية ور�سالته الإ�سالمية وخططه امل�ستقبلية.
الوفد ال�ضيف يف �صورة تذكارية مع اع�ضاء املنتدى
86
وفد طالبي أجنبي في زيارة لمقر العالمي للوسطية
م .الفاعوري يف ا�ستقباله للوفد الطالبي
قام وفد �شبابي ميثل عدد من الطالب الأجانب الدار�سني يف اجلامعات الأردنية و من مركز الدرا�سات الأمريكية يف عمان (amid ، )eastبزيارة ملقر املنتدى العاملي للو�سطية يوم الأحد املوافق ،2011/11/13حيث كان يف ا�ستقباله الأمني العام للمنتدى املهند�س مروان الفاعوري والدكتور هايل داود. وعر�ض الفاعوري بح�ضور ع�ضو املنتدى العاملي للو�سطية د.حممد الريان ،ملحة موجزة لفكرة �إن�شاء املنتدى والأهداف التي ي�سعى لتحقيقها من ن�شر للفكر الو�سطي وثقافة االعتدال وتر�سيخ مفاهيم الو�سطية كطريق للتفكري وتبليغ ر�سالة الإ�سالم الإن�سانية والدعوة �إىل الت�سامح واحلوار ونبذ العنف والتطرف م�ستعر�ضا �أهم الن�شاطات والفعاليات التي يعقدها املنتدى حمليا ودوليا ،من حما�ضرات وم�ؤمترات وندوات ،بالإ�ضافة للإ�صدارات ذات الطابع الفكري املعتدل.
جانب من الزيارة
و�شاهد الوفد فيلما وثائقيا عن املنتدى العاملي للو�سطية يربز تاريخ املنتدى واجنازاته منذ بداية ت�أ�سي�سه وحتى وقتنا احلايل واهم ن�شاطاته واجنازاته من جانبه� ،أ�شاد الوفد ال�ضيف باجلهود املبذولة من قبل املنتدى ، والإجنازات التي حققها وي�سعى لتحقيقها لغاية ن�شر الفكر الو�سطي املعتدل ونبذ العنف والتطرف ،واالبتعاد كل البعد عن الغلو والإرهاب .واهتمامه بجميع اجلوانب الإن�سانية مبا فيها قطاعي ال�شباب واملر�أة. ويف نهاية الزيارة جرى حوار مو�سع حول احلراك الإ�سالمي وال�شبابي، والتغريات ال�سيا�سية يف العامل العربي ،حيث �أجاب م.الفاعوري على الأ�سئلة املتعلقة بهذا احلراك مبينا خ�صو�صية احلالة الأردنية ،و�أهم الأ�سباب امل�ؤدية �إىل العنف والإرهاب والتطرف عموما ،وخطورة دور الإعالم الغربي يف ت�شويه �صورة الإ�سالم ول�صق الإرهاب به.
محاضرة حول قانون األحوال الشخصية لوسطية جرش
جانب من املحا�ضرة
عقد منتدى الو�سطية للفكر والثقافة /جر�ش حما�ضرة حول قانون الأحوال ال�شخ�صية وم�سوغات العمل به ،حتدث فيها مفت�ش دائرة قا�ضي الق�ضاة القا�ضي الدكتور �أ�شرف العمري وذلك يف قاعة بلدية جر�ش الكربى. وتناول العمري يف املحا�ضرة التي ح�ضرها ما يزيد عن الـ� 60شخ�صا من �أبناء حمافظة جر�ش عدة حماور �أبرزها �آلية �إعداد القانون
من اليمني :القا�ضي ا�شرف العمري ،احمد نوا�ش
وم�سوغات العمل به ،و�أهم البنود التي مت �إ�ضافتها على القانون القدمي. كما �أ�شار �إىل احلقوق الزوجية املالية ال�شخ�صية الأردنية و�أهلية الزواج و�أبرز اخلالفات التي قد حت�صل بني الأزواج من خلع وطالق ون�شوز وغريها من اخلالفات. ويف نهاية املحا�ضرة جرى نقا�ش مو�سع بني املحا�ضر واحل�ضور من ذوي �أهل العلم واالخت�صا�ص مما �أثرى من �أهمية وقيمة حماور املحا�ضرة.
87
هيئة شباب الوسطية تنظم دورة تدريبية في برنامج الفوتوشوب نظمت هيئة �شباب الو�سطية يوم ال�سبت املوافق 2011/10/1 دورة تدريبية يف برنامج " الفوتو�شوب " للمدرب حممد عزام وذلك يف مقر املنتدى العاملي للو�سطية. وتهدف الدورة التي ا�ستمرت ملدة �شهر واحد �إىل �إك�ساب امل�شاركني مهارات فنية جديدة يف جمال الت�صميم والإعالن ودمج ال�صور وب�أ�سعار رمزية . من اجلدير ذكره ب�أن عدد امل�شاركني يف الدورة � 14شخ�صا من خمتلف القطاعات الأكادميية والعملية مق�سمني �إىل جمموعتني . امل�شاركون يف الدورة
هيئة شباب الوسطية تواصل تنفيذ حملة نظفوا أ فنيتكم توا�صل هيئة �شباب الو�سطية حملتها يف ترتيب و�صيانة وتنظيف امل�ساجد املنت�شرة يف حمافظات اململكة مب�شاركة 25متطوع و15 متطوعة والتي تنفذها بالتعاون مع مبادرة تعالوا نبني بلدنا. وت�أتي بادرة " نظفوا �أفنيتكم" �ضمن حملة اخلري التي �أطلقتها هيئة �شباب الو�سطية خالل �شهر رم�ضان � /آب املا�ضي ،حيث مت العمل فيها �ضمن جمموعات من املتطوعني والتو�سع يف تنظيف و�صيانة �أكرب عدد من امل�ساجد ليعم اخلري قدر امل�ستطاع. من اجلدير ذكره ب�أن حملة " نظفوا �أفنيتكم" �شملت بالإ�ضافة لتنظيف امل�ساجد توزيع طرود و القيام بعمل افطارات رم�ضانية للأيتام.
تعبريية
88
وسطية السلط ينظم امسيه ثقافية دينيه حول الحج وفضائله
جانب من الور�شة
نظم منتدى الو�سطية للفكر والثقافة /ال�سلط يوم الثالثاء املوافق � 2011/10/11أم�سية دينية حول احلج حتدث فيها كل من الأ�ستاذ الدكتور حممد الق�ضاة والدكتور عو�ض الفاعوري. وقال الأ�ستاذ الدكتور حممد الق�ضاة يف الأم�سية التي �أدارتها الداعية رويداء رياالت �أن للحج حكما وف�ضائل كثرية �أهمها التقرب هلل عز وجل . وبني الدكتور الق�ضاة بان احلج يعترب ركنا من �أركان الإ�سالم ملن ا�ستطاع اليه �سبيال الفتا يف الوقت ذاته �إىل اثر احلج على امل�سلم من خالل ما ورد بالقران الكرمي واالحاديث النبويه ال�شريفة. بدوره حتدث الدكتور عو�ض الفاعوري مدير اوقاف البلقاء يف الأم�سية التي ح�ضرها جمع غفري من �أبناء حمافظة ال�سلط عن
اجلانب الإداري لرحلة احلج ودور وزارة االوقاف يف رعاية احلجيج وتقدمي كل امل�ساعدات للحجاج وتوفري كل ما يحتاجه احلاج قبل واثناء وعودة احلاج. من جانبه رحب احيا عربيات رئي�س منتدى و�سطية ال�سلط بال�ضيوف واحل�ضور قائال �أن الهدف من عقد مثل هذه الن�شاطات هو توعية النا�س واحلجيج وتقدمي الن�صح والتوعية من خالل دعوة �أ�صحاب العلم واخلرب للحديث عن ما ينفع النا�س . يف نهاية الأم�سية دار نقا�ش مو�سع مت خالله الإجابة على كثري من ت�سا�ؤالت احل�ضور ذات ال�صلة .
89
وسطية السلط يطلق الحمله التطوعيه لقطاف الزيتون
لقطات من احلملة
برعاية مدير الرتبية والتعليم لق�صبة ال�سلط املهند�س احمد العودات �أطلق منتدى الو�سطية للفكر والثقافة /ال�سلط احلملة التطوعية لقطف ثمار الزيتون ،وبالتعاون مع مديرية الرتبيه والتعليم للق�صبه /مدر�سة ا�سماء بنت ابي بكر واملركز الوطني للبحث واالر�شاد الزراعي ،وبح�ضور عدد من الوجهاء واولياء االمور والطلبه يف قاعة مدر�سة ا�سماء بنت ابي بكر اال�سا�سيه /ام زيتونه مغاريب ال�سلط. و�شكر رئي�س منتدى ال�سلط احيا عربيات يف كلمته التي �ألقاها مدير الرتبية ومديرة املدر�سة ومعلماتها و�أهايل الطلبة واحل�ضور الكرام على اجناحهم لهذه احلمله التطوعيه داعيا ال�شباب يف املدينه للتطوع مل�ساعدة املزارعني والتخفيف عليهم من خالل هذا العمل. وبينت املهند�سة الزراعية �آالء وهبه �أ�ساليب وطرق وكيفية قطف الثمار واهمية املحافظه على �شجرة الزيتون خالل عملية القطاف واملعدات امل�ستخدمه يف القطاف واالوعيه التي ت�ستخدم لنقل الثمار والعبوات التي تعبا بداخلها حمذرة يف الوقت ذاته من و�ضع الزيت يف اوعيه بال�ستيكيه وتعري�ضها لل�شم�س ملا لذلك من خطورة اك�سدة الزيت. من جهتها �أكدت الداعية رويداء رياالت عن �أهمية العمل التطوعي يف اال�سالم وملا للجهد اجلماعي من اجر وفائده كبرية يعود على املجتمع من خري.
وقال الدكتور احمد العودات ان الزيتون �سلعه ا�سرتاتيجيه للوطن يجب ان نحافظ عليها وان ندعم املزارع بجهدنا ك�شباب بان نقوم بالتطوع خالل هذه الفرته للم�ساعده التطوعيه يف قطف ثمار الزيتون. و�ألقت الطالبة �آيات و�شاح كلمه تغنت فيها بالوطن وقائده و�شعبه ،يف حني قامت جمموعة من الطالبات بتقدمي م�شهد م�سرحي ميثل التطوع لقطف ثمار الزيتون مطالبات يف الوقت ذاته بت�سمية يوم عطله ر�سميه لقطف الزيتون كون االردن بلد منتج لهذه ال�سلعه اال�سرتاتيجيه .
90
قطاع المرأة يشارك بورشة عمل تدريبية حول المخدرات
الأ�ستاذة �سولني خالل الور�شة
جانب من احل�ضور
يف �إطار خطة وزارة الرتبية والتعليم لوقاية طلبة املدار�س من �أخطار املخدرات وامل�ؤثرات العقلية� ،شاركت ع�ضو اجلنة املر�أة يف منتدى الو�سطية املدربة �سولني عبد احلميد يف ور�شة العمل التدريبية التي عقدتها الوزارة يوم االثنني املوافق 2011/10/31 ملجموعة من املعلمني واملر�شدين يف جمال التوعية والتثقيف،
حيث قدمت ورقة عمل بعنوان " التفكك الأ�سري والإدمان على املخدرات" ،تطرقت فيها لعدة حماور �أبرزها اخلالفات الأ�سرية املزمنة ،و�أ�س�س الرتبية اخلاطئة واحللول املنا�سبة ملواجهة م�شكلة الوقوع يف �آفة املخدرات.
عضو المنتدى العالمي للوسطية د.القضاة يشارك في مؤتمر الدوحة لحوار األديان في قطر بدعوة من مركز الدوحة الدويل حلوار الأديان �شارك ع�ضو املنتدى العاملي للو�سطية الأ�ستاذ الدكتور حممد الق�ضاة يف م�ؤمتر الدوحة الدويل حلوار الأديان والذي عقد يف 2011/10/24يف العا�صمة القطرية . حيث قدم ورقة عمل حول ا�ستخدام و�سائل التوا�صل الإجتماعي كلغة متطورة للحوار" احلوار �أهميته و�ضوابطه و�أثره كو�سيلة من و�سائل الإت�صال الفعال بني الأفراد واجلماعات" . وقد �شارك يف امل�ؤمتر الذي ا�ستمرت فعالياته ثالثة �أيام عدد كبري من العلماء واملفكرين وقادة الر�أي من جميع الأديان ال�سماوية ب�أوراق عمل ت�ؤمن مبنظومة احلوار وو�سائل التوا�صل الإجتماعي املتنوعة يف �أحداث التغيري الإيجابي وتقارب الأديان مع الرتكيز على اجلوامع امل�شرتكة التي تعظم روح الأخوة وتر�سيخ قيم املودة واملحبة بعيداً عن احلرب والعدوان والت�شاحن
91
�أ.د .حممد الق�ضاة
أعضاء من العالمي للوسطية ومشاركة فعالة بمؤتمر الفكر التنويري الرابع
�أ.د .حممد اخلطيب ،د .املقو�سي خالل م�شاركتهما يف امل�ؤمتر
�شارك عدد من �أع�ضاء املنتدى العاملي للو�سطية يف امل�ؤمتر الدويل الرابع للفكر التنويري الذي عقده املجل�س الأعلى لل�شباب يف عمان حتت عنوان" دور ال�شباب يف الإ�صالح �ضمانة للأمن واال�ستقرار" وذلك يف الفرتة من . 2011/10/21-15 وقد قدم �أع�ضاء املنتدى من عدة بلدان عربية و�إ�سالمية� ،أوراق عمل ذات ال�صلة مبحاور امل�ؤمتر ،فقد قدم الدكتور �شوقي القا�ضي ورقة عمل بعنوان ( الأمن واال�ستقرار دعامة التنمية والإ�صالح يف �شتى مناحي احلياة) ،يف حني قدم الدكتور �أحمد نوفل ورقة عمل بعنوان (دور ال�شباب يف الإ�صالح ال�سيا�سي والت�أطري للدميقراطية وامل�شاركة ال�سيا�سية) ،من جهته قدم الدكتور هايل داود ورقة بعنوان ( دور ال�شباب يف بناء �أحزاب وطنية قادرة على خدمة امل�صلحة الوطنية العليا).
(دور ال�شباب يف الإقبال على العمل واحلد من البطالة يف �ضوء �أن العمل قيمة اجتماعية) هو عنوان ورقة العمل التي قدمها الدكتور حممد اخلطيب يف �إحدى اجلل�سات ،كما قدمت الدكتورة نوال �شرار ورقة بعنوان ( دور ال�شباب يف تر�سيخ مفهوم �أمة وجادلهم باحلكمة واملوعظة احل�سنة). من جهة �أخرى �أدار عدد من �أع�ضاء املنتدى عدد من جل�سات امل�ؤمتر ،حيث �أدار كل من الأمني العامل للمنتدى املهند�س مروان الفاعوري اجلل�سة الثانية و الدكتور يا�سني املقو�سي اجلل�سة الثالثة.
92
قـصـة الوسطية
ميزان اإلخالص جمعتنا الأقدار ونحن جلو�س عند �شرفات البيت احلرام يف م ّكة املك ّرمة تتجاذبنا �أحاديث �أحالم ال�شباب واحلياة وامل�ستقبل ،وعيوننا تتم ّلى م�شهد االلآف امل�ؤلفة من ال�شعوب والأقوام الب�شرية وهي تطوف حول الكعبة املعظمة ب�أ�شواق ودعاء ودموع ،وتتطاير فوقها �ألوف و�ألوف �أخرى من احلمام الآمنة الوديعة ،ت�صفق ب�أجنحتها يف طواف ج ّوي عجيب غريب ك�أنها �صور جم�سمة �أطيافية بي�ضاء لأرواحنا ،ترفرف حول البيت املعمور هناك عند عر�ش اهلل يف حب عظيم و�سعادة مطلقة. �إذ طلع علينا– على حني غ ّرة منا – عبد �صالح �آتاه اهلل من احلكمة ما ي�شاء ،نعرفه ويعرفنا؛ فوجدناها فر�صة نادرة �سانحة لنت ّلقى منه در�ساً من درو�س الفقه الأكرب ونحن يف �أروقة اجلامعة اال�سالمية الكربى للإن�سانية جمعاء اعني بها بيت اهلل احلرام. �أجل وكلنا �شوق وتطلع ننتظر ليلقي علينا در�ساً تذكارياً ت�أريخياً مباركاً يف يتيمة كنوز الفقه االمياين الإح�ساين ومفتاح �أبواب ال�سعادة الأبدية اخلالدة �أال وهو "الإخال�ص"! فقلت له -:غفر اهلل لنا ولك ً �أيها الأخ احلبيب الكرمي� ،أال حتدثنا �شيئا عن الإخال�ص ،عن حقيقته ،عن �ضرورته ،عن خطره؛ يف هذا املكان املبارك منزل الوحي اخلامت الأول ؟! قال – وبعد �صمت خا�شع جليل :-الإخال�ص يا �صاحبي يف �أب�سط معانيه و�أو�ضحه و�أوجزه؛ �أن تعمل هلل وحده ،وال تبغي �سوى مر�ضاته ،و�أن ال تريد �إال وجهه الكرمي الباقي ،ال ت�شرك به �أحداً. فقال �أحدنا ي�س�أل :ح�سناً ولكن كيف ال�سبيل اىل حتقيق الإخال�ص فيما نزاوله من �أعمال و�أفعال و�أقوال و�آثار كل يوم على مدار العمر �إن مل نقل كل �ساعة و�ساعة. قال� :صدقت و�أح�سنت ،وقد �آن الأوان لتب�سيط الإخال�ص وت�سريه
كتبها :عابدين ر�شيد
نب�ضاتٍ خافقاتٍ يف قلوب �صدور النيات والأعمال؛ فاحلقائق املجردة كالأرواح حتتاج اىل �أج�سام تعي�ش فيها حياة الدنيا بينما هي تتطلع وترنو وترمق اىل �شرفات جنات عدن الآخرة فقلت :جميل ،ثم ماذا قال :هذا وللإخال�ص �صور �ش ّتى و�س�أذكر لكم منها بع�ضها على بركة اهلل ف�إن �سددت فمنه تعاىل و�إن �أخط�أت فمني. قال قائل منا :هات منها وزد مما ع ّلمك ربك من علم وفقه ،فال �شيء كالإخال�ص يف الدنيا فهو ت�أ�شرية املرور لأعمالنا الطي ّبة حتى ندخل ر�ضوان اهلل يف دار الآخرة. قال� :إذن �أن�صت وا�ستمع. قلنا جميعاً :ها نحن �أولئك �آذان ك ّلنا. قال� :أن يكون عملك قبل كل �شيء �صحيحاً يوافق ال�شرع ال�شريف يف غاياته وو�سائله ويف �أهدافه وخطواته. قلت :هذه واحدة. قال :ثم من اخلري ومن احلكمة معاً �أن يكون ذلك العمل ال�صالح حمجوباً وراء الأ�ستار وخا�صة يف الأيام الأوىل من رحلة حياتك العملية ال�سالكة �سلوك الرجال. قلت مت�سائ ً ال ومت�شوقاً: وبعد ذلك؟ قال بحزم ودود :و�أن يكون عملك اخلال�ص هلل يف اخلفاء �أحب اليك من العالنية زماناً حتى تتعود النف�س الأ ّمارة بال�سوء على ر�ؤية ما يف يد اهلل وت�ستغني فيمن �سواه بخوف ورجاء. وقال �أحدنا وقد ا�شتاق �إىل مزيد :زدنا زدنا يا �أخانا. قال :و�أن مدح النا�س وقدحهم لك مت�ساويان� ،أي ال ي�سرك كل ال�سرور مدحهم �إياك وال يحزنك كل احلزن قدحهم كذلك. قلت معلقاً :هذا – واهلل – ح�سن ومهم فهات الأخرى. قال مو�ضحاً وم�ؤكداً مبا فيه الكفاية يف هذه النقطة �أو املحطة: �أن يكون ر�ضا النا�س و�سخطهم عندك – يف �أعماق �أعماقك – �س ّيان،
93
�أي :ال يقيمك ر�ضاهم قياماً وال يقعدك �سخطهم قعوداً ،ف�أنت – يف قوي ،د�ؤوب ،را�سخ ،متوا�ضع ،متوازن ال تقيم كل الأحوال – كما �أنتِ : وزناً لكائن من كان �إ ّال مبيزان فقه دينك وحكمة دينك و�سلطان دينك. قلت م�شفقاً على نف�سي وعلى نفو�س �إخوتي و�أحبتي :ن�س�أل اهلل ربنا وبارئنا �أن يعيننا و�أن ي�أخذ ب�أيدينا ويو�صلنا اىل �شاطئ الأمان؛ فلي�س الأمر ب�سهل وال بتلك الب�ساطة بل الأمر يتطلب مزيداً من اجلد ومزيداً من الوعي ومزيداً من اله ّمة بل ومزيداً من البطولة ،ومن ثم فال �سهل �إ ّال ما �سهله اهلل وال ي�سري �إ ّال ما ي�سره اهلل �سبحانه وتعاىل. قال موقناً ومب�شراً :ال تخف وال تقلق فاهلل ويل ال�صاحلني فنعم املوىل ونعم الن�صري. قلت� :آمنت باهلل .ولكن ثم ماذا؟ قال� :أن ال ّ يطلع على �أعمالك ال�صاحلات – ما ا�ستطعت – �إ ّال قلة قليلة ممن تثق بهم ،الذين يخل�صون لك الود و الن�صح وامل�شورة، واعني يف اعمالك الكثرية ولي�س كلها دائماً. قلت :هذا ممكن �إن �شاء اهلل. قال :وال�ساد�سة �أن يكون عندك الإخفاء والإعالن �سواء ،فال يهمك �أعرف النا�س �أم مل يعرفوا ،و�إذا �أعلنت فال تخ�شى ريا ًء وال تنتظر �شهرة وال تطلب ثنا ًء وال ت�س�أل مغنماً. قلت :ذلك لب الإخال�ص و�أوج الن�ضوج. قال :زد على ذلك �أن يكون قلبك – دائماً – وك ّلما اجنزت عمال �صاحلاً ,طيباً ،ح�سناً ,معلقاً بني اخلوف والرجاء ب�أق�صى درجه. قلت :وذلك ميزان التقوى كما نعلم. قال� :أح�سنت .ثم �أن تخف�ض ر�أ�سك �أمام ربك وتدعو يف �س ّرك كما
�أنت يف �سجداتك ،ترجوه رجا ًء ملحاً �أن يتقبل منك بف�ضله ورحمته، و�أن يرده لك ليوم ت�شخ�ص فيه الأب�صار ،و�أن يرزقك نعمة الإخال�ص اخلال�ص يف كل �شيء ذي �ش�أن وبال ,فهو العمل املرفوع واملوزون عند اهلل تبارك وتعاىل يوم ين�صب امليزان احلق. قلت له :بارك اهلل فيك ،فقد اخت�صرت يل ولنا الطريق؛ فلو �ضربتُ يف الأر�ض �سنني �شرقاً وغرباً� ،أبحث يف طوايا الكتب واملجلدات ،ما كنتُ لأنال هذه احلقائق بكل هذا الي�سر وال�سرعة .ولكن قل يل بربك :هل بقي ثمة �شيء �آخر يف هذا الباب؟ قال :بلى. قلت :وما هو؟ ً قال و�أخرياً ولي�س �آخرا� ،أن يكون ه ّمك الأكرب بعد ذلك كله هو الإح�سان والإتقان فيما تعمله ومتار�سه مهما �صغر �أو كرب ..فامليزان دقيق دقيق ,واجلزاء عظيم عظيم. قلت – و�أنا لي�س يل ما �أقوله �أو �أطرحه عليه� :-أال جزاك اهلل خرياً و�ض ّعف �أجرك؛ فلقد علمتنا در�ساً عظيماً هو الدر�س الأول والدر�س الآخر يف دورات احلياة ومراحلها ال�صاعدة مبعارج من نور ،نحو قمم الكماالت املي�سرة� ..إذ كما قالوا :ال خال�ص �إ ّال بالإخال�ص ،وال �إخال�ص �إ ّال بالعلم والعلم عند الرجال� ..أولئك الرجال ال�صاحلني الذين �أنعم اهلل عليهم من فيو�ضات كرمه ف�إنهم م�صابيح الهدى وقناديل الدُّ جى بل هم ال ُّرواد الأفذاذ للقوافل املا�ضية احلثيثة نحو الأجماد اخلالدة واملعايل ال�سرمدية. قال :وفقكم اهلل وث َّبت �أقدامكم ،ثم فارقنا وغاب بني احلموع احلا�شدة.
قطوف الحكمة لي�س للإن�سان �أحلى من القناعة واليقني باهلل �إن ما �أ�صابه مل يكن ليخطئه وما �أخط�أه مل يكن لي�صيبه ..فمهما ت�آمر املت�آمرون وخططوا فاهلل خري حافظاً وهو �أرحم الراحمني. من نذر نف�سه لأن يكون �سنداً للحق ومع ال�ضعيف بوجه القوي حتى ي�أخذ له حقه ما ا�ستطاع اىل ذلك �سبي ً ال ف�إن اهلل لن يخذله ولو بعد حني. قد تكون الف�ضيلة هذه الأيام غريبة لكنها موجودة وباقية جتعل النا�س يلتفون حولها ويطلبونها كلما �ضاقت بهم الدنيا ويعظمون �أ�صحابها رغم �أنهم لي�سوا �أنبياء وال مع�صومني ،لكنهم للحق يومئذ �أقرب. اذا ادركت يوماً �أنك �ستعني الفا�سد على مف�سدة فا�ستعذ باهلل وانكر عليه ف�ساده ولو بقلبك و�أطلب من اهلل �أن يبعد عنك كل و�سيلة قد تعني بها ذلك الفا�سد ،لأن مف�سدته ال تخ�صه فقط بل ت�أخذ حقوق النا�س منهم وجتعلهم يف ذلة ما دام يف غيه وف�ساده. �أراد �أخوة يو�سف �أن يقتلوه " فلم ميت" ثم بيع ليكون مملوكاً " ف�أ�صبح ملكاً" وغيبوه يف غيابة اجلب ف�أ�صبح خالداً �أبد الدهر واعتلى عر�ش م�صر ثم �أرادوا �أن ميحوا حمبته من قلب �أبيه " فازدادت" فال تقلق من تدابري الب�شر " ف�إرادة اهلل فوق �إرادة الكل ".
94
95
96