issuu474:473 مجلة الفيصل

Page 1

‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬

‫مئة عام على سايكس بيكو‬

‫نهايةالجغرافيا‬ ‫في الوطن العربي‬

‫ماذا حدث للكويت؟‬ ‫محمود درويش أشهر‬ ‫شاعر عربي لألسف‬

‫اإلبداع في‬ ‫قبضة المخابرات‬ ‫‪www.alfaisalmag.com‬‬

‫المقالح ‪:‬اليمنيون‬ ‫فقدوا الحكمة‬


k É`ã``jó``M Qó`°U

ô``jô`ë`J  á``ª`Lô`J 

´Gô°üdG AÉ£Z â– Ée ∞°ûµj ÜÉàc øª«dG ‘ á«∏Ñ≤dGh á«°SÉ«°ùdG ÖîædG ÚH  www. research.kfcris.org research@kfcris.com


‫ﺗﺠﻮل ﻓﻲ ﻣﻮﻗﻊ »‬

‫«‬

‫ﻣﻘﺎﻻت ﻟﻨﺨﺒﺔ ﻣﻦ أﻫﻢ اﻟﻜﺘﺎب‬ ‫ﻣﻠﻔﺎت وﺗﺤﻘﻴﻘﺎت وﻗﻀﺎﻳﺎ ﻋﻦ اﻟﺮاﻫﻦ اﻟﺜﻘﺎﻓﻲ واﻟﺴﻴﺎﺳﻲ‬ ‫ﻣﻊ إﻃﻼﻟﺔ ﻋﻠﻰ اﻹﺑﺪاع ﻓﻲ ﻣﺨﺘﻠﻒ اﻟﻔﻨﻮن‬

‫‪alfaisalmag‬‬ ‫‪@alfaisalmag‬‬ ‫‪www.alfaisalmag.com‬‬ ‫‪editorial@alfaisalmag.com‬‬

‫ ‪(+ ) (+ ) / - ­ ( ) .‬‬


‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪/‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬

‫مئة عام على سايكس بيكو‬

‫أسسها عام ‪1397‬هـ‪1977/‬م‬

‫األمير خالد الفيصل‬

‫نهايةالجغرافيا‬ ‫في الوطن العربي‬

‫يصدرها‬

‫رئيس مجلس اإلدارة‬

‫األمير تركي الفيصل‬

‫ماذا حدث للكويت؟‬ ‫محمود درويش أشهر‬ ‫شاعر عربي لألسف‬

‫المقالح ‪:‬اليمنيون‬ ‫فقدوا الحكمة‬

‫اإلبداع في‬ ‫قبضة المخابرات‬ ‫‪www.alfaisalmag.com‬‬

‫الناشر‬

‫الثقافية‬

‫دار‬

‫رئيس التحرير‬

‫ماجد الحجيالن‬ ‫‪editorinchief@alfaisalmag.com‬‬ ‫تعبر عن وجهة نظر‬ ‫ اآلراء المنشورة ّ‬‫كتَّابها‪ ،‬وال تم ِّثل رأي مجلة الفيصل‪.‬‬ ‫ تكفل المجلة حرية التعليق على‬‫موضوعاتها المنشورة شريطة االلتزام‬ ‫بالموضوعية‪.‬‬ ‫ تحتفظ المجلة بحقوق ملكيتها للمواد‬‫المنشورة فيها‪ ،‬ويتطلب إعادة نشر أي‬ ‫ورقيا الحصول على‬ ‫إلكترونيا أو‬ ‫مادة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫موافقة المجلة مع اإلشارة إلى المصدر‪.‬‬ ‫ ترسل المواد إلى بريد المجلة‬‫اإللكتروني‪:‬‬

‫‪editorial@alfaisalmag.com‬‬ ‫ لالطالع على سياسة النشر يرجى زيارة‬‫الموقع االلكتروني‬

‫‪www.alfaisalmag.com‬‬ ‫ردمد‬ ‫‪٨٥٢٠ - ٠٤١١‬‬ ‫رقم اإليداع‬ ‫مكتبة الملك فهد الوطنية ‪41/2450‬‬ ‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬

‫العددان ‪ - 474-473‬السنة األربعون‬

‫في هذا العدد‬ ‫المركز‬

‫‪1‬‬

‫وحدة الحوار بين األحياء واألموات‬

‫‪40‬‬

‫ما الذي حدث للكويت؟‬

‫‪44‬‬

‫المثقفون في تونس قبل الثورة وبعدها‬

‫‪66‬‬

‫تيماء في ضوء نقوشها اآلرامية‬

‫‪90‬‬

‫صحراء غازي وصحراء أسامة‬

‫‪96‬‬

‫والتزاما‬ ‫ألباني يرى الموسيقا قضية‬ ‫فنان‬ ‫ً‬ ‫ّ‬

‫‪126‬‬

‫في زنازين إيران السرية‬

‫‪136‬‬

‫وسائل التواصل تلغي نخبوية األدب‬

‫‪164‬‬

‫مقاالت‬ ‫سعيد بنكراد‬

‫‪74‬‬

‫عواض العصيمي‬

‫‪82‬‬

‫عبدالعزيز الحيص‬

‫‪110‬‬

‫الحداد‬ ‫محمد‬ ‫ّ‬

‫‪114‬‬

‫صدوق نورالدين‬

‫‪131‬‬

‫سعد البازعي‬

‫‪134‬‬

‫صاغية‬ ‫حازم‬ ‫ّ‬

‫‪162‬‬

‫شيرين أبو النجا‬

‫‪180‬‬

‫قاسم حداد‬

‫‪184‬‬


‫شخصيات‬

‫قضايا‬

‫‪14‬‬

‫‪50‬‬

‫ٍ‬ ‫لع‬ ‫ليس‬ ‫مط ٍ‬ ‫بخاف على ّ‬ ‫االتصال الوثيق بين السياسة‬ ‫والثقافة‪ ،‬فلطالما خدم كل‬ ‫منهما اآلخر‪ ،‬لكن ما يثير‬ ‫حرص المعنيين‬ ‫االهتمام هو‬ ‫ُ‬ ‫على التشديد على أن ثمة‬ ‫منيعة ضد التدخل‬ ‫منطقة‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫ابن عقيل‬

‫السياسي‪.‬‬ ‫ّ‬

‫دولي شرس في نطاق أكبر من الفن‬ ‫صراع‬ ‫ّ‬

‫علم غزير ونبل وتسامح‬

‫قضايا‬

‫ثقافات‬

‫فنون‬

‫‪58‬‬

‫‪120‬‬

‫‪158‬‬

‫باريس‬

‫أحفاد سرفانتس‪..‬‬

‫زمان جاسم‪:‬‬

‫بعد االعتداءات‪...‬‬

‫إسبانيا والظواهر األدبية الجديدة‬

‫عالقتي بالفن في توتر‬

‫ملف العدد‬

‫نهاية الجغرافيا‬ ‫أم نظرية المؤامرة؟‬ ‫شارك في ملف هذا العدد‪:‬‬ ‫ عبدالرحمن الراشد‬‫ عبدالوهاب بدرخان‬‫ وحيد عبدالمجيد‬‫ ابتسام الكتبي‬‫ عبدالعزيز بن صقر‬‫‪ -‬عمار السواد‬

‫‪18‬‬

‫‪ -‬أيمن الحماد‬


‫المركز‬

‫األمير تركي الفيصل يحاضر عن مستقبل العالم العربي‬ ‫أكد رئيس مجلس إدارة مركز الملك فيصل‬

‫الرياض ‪ -‬الفيصل‬

‫للبحوث والدراسات اإلسالمية األمير تركي الفيصل‪،‬‬ ‫أن الضمانة األكيدة لالستقرار واألمن في العالم‬ ‫العربي تكمن في المحافظة على النسيج االجتماعي‬ ‫وتالحم القيادة والشعب‪ .‬وقال الفيصل‪ :‬إن‬

‫السعودية‪ ‬واجهت تحديات‪ ،‬وأدارت األزمات بكل‬ ‫جدارة‪ ،‬موضحً ا أن المملكة ستنجح في مواجهة‬ ‫تهديدات الحاضر ومخاوف المستقبل‪ .‬‬

‫جاء ذلك في المحاضرة التي نظمتها الجمعية‬

‫السعودية للعلوم السياسية‪ ،‬الشهر الماضي في‬

‫كلية الحقوق والعلوم السياسية بجامعة الملك‬

‫سعود‪ ،‬وعنوانها‪« :‬مستقبل العالم العربي في ضوء‬ ‫المتغيرات الراهنة»‪ ،‬وشهدت حضور عدد كبير من‬ ‫المهتمين‪.‬‬

‫‪4‬‬

‫سا للتحرير‬ ‫الفيصل في عهد جديد‪ ..‬والحجيالن رئي ً‬

‫الصافي‬

‫الحسين‬

‫ابن جنيد‬

‫الكويليت‬

‫تدخل مجلة «الفيصل» بدءً ا من العدد الحالي في عهد جديد مع قرائها‪ ،‬في إطار دورها المستمر في خدمة الثقافة العربية‬

‫منذ ‪ 40‬عامً ا‪ ،‬وتتضمن الرؤية الجديدة للمجلة تطوي ًرا في المحتوى ليشمل مفهومً ا أوسع للثقافة والفنون‪ ،‬وتغيي ًرا في الحجم‬

‫ونوع الورق واإلخراج الفني‪ ،‬ومضاعفة عدد الصفحات والمواد التحريرية‪ ،‬إضافة إلى هدية «الفيصل» وهي إصدار ثقافي يوزع‬

‫مع كل عدد‪ ،‬كما أطلقت المجلة موقعها اإللكتروني الجديد‪ ،‬وفعّ لت حساباتها في موقعي تويتر وفيسبوك؛ لتكون على صلة‬

‫بالقراء والمتابعين بشكل مباشر‪.‬‬

‫وتعد مجلة «الفيصل» من أبرز المجالت الثقافية العربية منذ أن أسسها األمير خالد الفيصل سنة (‪1397‬هـ ‪1977 /‬م)‪،‬‬

‫وارتبطت مع قرائها في المملكة العربية السعودية وأرجاء العالم العربي بعالقة ممتدة‪ ،‬وكان رئيس تحريرها األول األديب‬

‫الرائد علوي الصافي‪ ،‬ثم خلفه األكاديمي الدكتور زيد الحسين‪ ،‬ثم أعقبه الباحث الدكتور يحيى محمود بن جنيد‪ ،‬إضافة إلى‬ ‫ً‬ ‫سابقا مدي ًرا لتحرير‬ ‫مهامه أمي ًنا عامًّ ا لمركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية‪ ،‬ثم الكاتب عبدالله الكويليت الذي عمل‬ ‫الفيصل ونائبًا لرئيس التحرير‪ ،‬وشهدت «الفيصل» في هذه المراحل خطوات تحريرية وفنية متنوعة وشاملة‪.‬‬

‫رئيسا لتحرير مجلة الفيصل‪ ،‬ليكون خامس رئيس لتحرير المجلة‪،‬‬ ‫وفي نوفمبر عام ‪2015‬م باشر الزميل ماجد الحجيالن عمله ً‬

‫ولتستهل «الفيصل» مرحلة جديدة‪ ،‬يطالعها القراء في هذا العدد‪ ،‬وفي الموقع اإللكتروني للمجلة‪ ،‬وعبر حساباتها في مواقع‬ ‫التواصل االجتماعي‪ .‬وتتطلع أسرة تحرير المجلة إلى أن تنال هذه الخطوة والخطوات التطويرية المقبلة استحسان القراء‪،‬‬

‫ويسعد فريق العمل تلقي رؤى قراء الفيصل واقتراحاتهم عبر عناوينها المنشورة‪.‬‬ ‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬


‫مؤتمر دولي عن الراحل سعود الفيصل‬ ‫يرعى خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز‪،‬‬ ‫المؤتمر الدولي الذي ّ‬ ‫ينظمه مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات‬

‫اإلسالمية عن األمير سعود الفيصل رحمه الله‪ ،‬بعنوان‪« :‬سعود‬ ‫األوطان»‪.‬‬

‫يأتي المؤتمر في سياق حرص مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات‬ ‫ً‬ ‫عامة‪ ،‬وإلقاء‬ ‫اإلسالمية على االحتفاء بجهود أبناء الوطن وإنجازاتهم‬

‫الضوء على سيرة األمير سعود الفيصل‪ ،‬وجوانب حياته المختلفة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وجهوده الكبيرة في الدبلوماسية السعودية؛ إذ إنه ّ‬ ‫مهمة‬ ‫مرحلة‬ ‫يمثل‬ ‫ً‬ ‫خدمة‬ ‫في تاريخ الدبلوماسية بشكل عام‪ ،‬فهو وزير الخارجية األطول‬

‫في العالم (‪ 13‬أكتوبر ‪1975‬م‪ 29 - ‬إبريل ‪2015‬م) بعد والده الملك فيصل‪.‬‬

‫ويحضر المؤتمر على مدار أيامه الثالثة أكثر من ثالثة آالف مهتم‪،‬‬

‫من نخبة المجتمع من األمراء والوزراء واألكاديميين والباحثين‬ ‫والدبلوماسيين‪.‬‬

‫المركز يضم مجموعة مميزة من مقتنيات الملكة عفت‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫حديثا‪ ،‬إلى مجموعته المميزة من النقود التي تنتمي إلى كثير‬ ‫ضم مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية‬ ‫ً‬ ‫من الدول اإلسالمية والممالك األجنبية‪ ،‬مجموعة من مقتنيات الملكة عفت ‪-‬رحمها الله‪ -‬إذ جرى حصرها وتصنيفها‬ ‫استعدادًا إلصدار مطبوعة عنها‪.‬‬

‫وتحتوي المجموعة الجديدة على أكثر من ألف قطعة‪ ،‬بعضها من القطع النادرة؛ مثل‪ :‬دينار من الذهب ُ‬ ‫ضرب بمصر‬ ‫ّ‬ ‫استقلت سياسيًّا بحكم‬ ‫العباسي المأمون‪ ،‬وقد ُنقش عليه اسم أحد أبناء أسرة السري بن الحكم التي‬ ‫في عهد الخليفة‬ ‫ّ‬ ‫مصر في مطلع القرن الثالث الهجريّ ‪.‬‬

‫ومن أهم المقتنيات في تلك المجموعة بعض النياشين والنقود التذكارية التي أهديت الملك فيصل ‪-‬رحمه الله‪-‬‬

‫وبعض متعلقاته الشخصية المهمة؛ مثل‪ :‬ساعات اليد‪ ،‬وساعات المكتب‪ ،‬والهدايا التذكارية‪ ،‬واألوراق ذات الصلة بزياراته‬ ‫المملكة المتحدة والواليات المتحدة األميركية وقت ّ‬ ‫توليه منصب وزير الخارجية‪.‬‬

‫سعودي من الذهب ُضرب في مكة‬ ‫عربي‬ ‫جنيه‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫المكرمة سنة ‪1370‬هـ‪ ،‬في عهد الملك عبدالعزيز‬

‫أموي ُضرب سنة ‪ 84‬هـ‪،‬‬ ‫دينار‬ ‫ّ‬ ‫في عهد الخليفة عبدالملك بن مروان‬

‫‪5‬‬


‫المركز‬

‫اليمني يجب أن يأخذ مكانه بين أشقائه الخليجيين‬ ‫أكدت أن الشعب‬ ‫َّ‬

‫حلقة نقاش حول «إعادة بناء اليمن»‬ ‫ّ‬ ‫نظم مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية‪ ،‬حلقة‬

‫نقاش عن كتاب «إعادة بناء اليمن‪ ..‬التحديات السياسية واالقتصادية‬ ‫واالجتماعية» الذي ح ّرره الباحثان‪ :‬نويل بريهوني رئيس الجمعية‬

‫البريطانية اليمنية‪ ،‬وسعود السرحان مدير إدارة البحوث في المركز‪،‬‬ ‫واختيرت فصوله ضمن األوراق التي ُق ِّدمت في المؤتمر السنويّ لمركز‬ ‫الخليج لألبحاث الذي ُعقد في جامعة كمبريدج في المدة (‪)28-24‬‬

‫أغسطس عام ‪2014‬م‪ ،‬وصدرت طبعته األولى باللغة اإلنجليزية عام ‪2015‬م‬ ‫عن مطبعة غيرالج في ألمانيا‪.‬‬ ‫اف َت َتح حلقة النقاش‪ ،‬التي احتضنتها قاعة المحاضرات الكبرى‬

‫بمؤسسة الملك فيصل الخيرية‪ ،‬األمير تركي الفيصل ‪-‬رئيس مجلس‬

‫اليمني يجب أن يأخذ مكانه الصحيح‬ ‫إدارة المركز‪ -‬مؤكدً ا أن الشعب‬ ‫َّ‬ ‫بين أشقائه في دول شبه الجزيرة العربية‪ ،‬وتم َّنى أن تحظى نتائج‬

‫‪6‬‬

‫الحلقة باالهتمام؛ «ألن الفقر والعنف والصراعات وسفك الدماء‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫التي شهدها اليمن على مدى السنوات الماضية‪ِّ ،‬‬ ‫شاذة‬ ‫حالة‬ ‫تمثل‬

‫داخل أسرة دول شبه الجزيرة العربية‪ ،‬التي ترى اليمن من أقرب الدول‬ ‫َّ‬ ‫وحث األمي ُر تركي الباحثين على معالجة قضية اندماج‬ ‫الشقيقة إليها»‪.‬‬ ‫الخليجي في كتاب مستقل‪ّ.‬‬ ‫اليمن في مجلس التعاون‬ ‫ِّ‬

‫موقع «‬ ‫ضمن‬

‫خطوات‬

‫اإللكتروني‬ ‫»‬ ‫ّ‬ ‫التطوير‬

‫التي‬

‫تشهدها المجلة‪ ،‬أطلقت «الفيصل»‬ ‫اإللكتروني‪ ،‬وحوى الموقع‬ ‫موقعها‬ ‫ّ‬ ‫كثي ًرا من التبويبات واألقسام التي تهمّ‬

‫العربي‪ ،‬الباحث عن الثقافة‬ ‫القارئ‬ ‫ّ‬ ‫والمعرفة والفنون والسياسة‪ .‬وجرى‬

‫عمل نسخة «كفيَّة» للموقع بكامل‬ ‫المحتوى‪ ،‬تسهيلاً على مستخدمي‬

‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪/‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬

‫مئة عام على سايكس بيكو‬

‫نهايةالجغرافيا‬ ‫في الوطن العربي‬

‫األجهزة المتنقلة المختلفة‪www. .‬‬

‫‪ alfaisalmag.com‬وتتلقى المجلة‬ ‫مشاركات ُكتابها‪ ،‬ورسائل ُقرائها على‬ ‫اإللكتروني‪:‬‬ ‫البريد‬ ‫ّ‬

‫‪editorial@alfaisalmag.com‬‬

‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬

‫ماذا حدث للكويت؟‬ ‫محمود درويش أشهر‬ ‫شاعر عربي لألسف‬

‫اإلبداع في‬ ‫قبضة المخابرات‬ ‫‪www.alfaisalmag.com‬‬

‫المقالح ‪:‬اليمنيون‬ ‫فقدوا الحكمة‬


‫‪7‬‬

‫كاريكاتير‬


‫فعاليات‬

‫الفائزون بجائزة الملك فيصل العالمية‪:‬‬

‫نتطلع إلى أن نمثل كل الباحثين‬ ‫في مجاالتنا‬ ‫فاز أكثر من مرشح عربي إضافة إلى هولنديين‬

‫وأعلن األمين العام للجائزة فوز كل‬

‫العالمية في دورتها األخيرة؛ إذ أعلن‬

‫والدكتور محمد مفتاح (المغرب) بجائزة‬

‫من الدكتور محمد عبدالمطلب (مصر)‬

‫وأميركي وبريطاني بجائزة الملك فيصل‬

‫اللغة العربية واألدب‪ ،‬وموضوعها‪:‬‬

‫األمين العام للجائزة الدكتور عبدالعزيز‬

‫ّ‬ ‫النص‬ ‫«الجهود التي بُذلت في تحليل‬

‫السبيل‪ ،‬خالل حفل إعالن الفائزين‬

‫العربي»‪ ،‬تقدي ًرا إلنجازات األول‬ ‫الشعريّ‬ ‫ّ‬

‫بحضور رئيس هيئة الجائزة األمير خالد‬

‫في مجال التحليل التطبيقي للنصوص‬

‫الفيصل في مركز الخزامى في ‪ 9‬ربيع‬

‫اآلخر ‪1437‬هـ الموافق ‪ 19‬يناير ‪2016‬م؛ فوز‬

‫الدكتور صالح‪ ‬بن حميد (السعودية) بجائزة خدمة‬

‫‪8‬‬

‫اإلسالم‪.‬‬

‫فقد بذل ‪-‬بحسب بيان أمانة الجائزة‪ -‬جهدً ا في الجمع‬

‫ّ‬ ‫المؤصل‪ ،‬واستيعاب متغيرات العصر‬ ‫الفقهي‬ ‫بين الرأي‬ ‫ّ‬ ‫اإليجابي في تناول‬ ‫الحاضر‪ ،‬إضافة إلى قدرته على التأثير‬ ‫ّ‬

‫القضايا الفقهية المعاصرة‪ ،‬وتمتعه بشخصية علمية شرعية‬ ‫وعدالة ووسطية‪.‬‬

‫الشعرية؛ إذ درس النصوص بكفاءة واقتدار‪،‬‬

‫موائمً ا بين معرفة عميقة بالتراث والنظريات األدبية‬

‫الحديثة‪ ،‬ولتوظيف الثاني معارفه العلمية الحديثة في‬ ‫تحليل النصوص الشعرية بعمق وأصالة وقدرة فريدة‬ ‫على الوصف والتحليل ووعي بقيمة التراث‪ ،‬وانفتاح على‬ ‫الثقافة اإلنسانية‪.‬‬

‫وفاز في فرع الطب‪ ،‬وموضوعه‪« :‬التطبيقات السريرية‬

‫للجيل القادم في علم الجينات» الدكتور هان جريت‬

‫وفاز الدكتور عبدالله الغنيم (الكويت) بجائزة الدراسات‬

‫برونر‪ ،‬والدكتور يورس فلتمان (هولنديان)‪ ،‬عن أبحاثهما‬

‫والغنيم قدَّ م مجموعة من األعمال في الجغرافيا عند‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وتحقيقا‪ ،‬إضافة إلى دوره المتميز في‬ ‫تأليفا‬ ‫المسلمين‬

‫اإلكلينيكي‪ ،‬فقد ط َّورَا طرائق‬ ‫الجينات إلى التشخيص‬ ‫ّ‬

‫الجغرافي عند المسلمين»‪.‬‬ ‫اإلسالمية‪ ،‬وموضوعها‪« :‬التراث‬ ‫ّ‬

‫إحياء مصطلحات عربية قديمة ألشكال سطح األرض‪.‬‬ ‫جرى ترشيحنا لنيل جائزة‬

‫عملية لتحليل عينات من المرضى المشتبه في حملهم‬ ‫ً‬ ‫أمراضا وراثية‪ ،‬وهو ما حَ َف َزهما‬ ‫بكل‬

‫الملك فيصل العالمية (فرع‬

‫صدق‪،‬‬

‫إحدى‬

‫الكليات أخبرتني أنها تستطيع‬

‫العلوم) من كلية أوربية‪ .‬وخبر‬

‫ترشيحي لنيل هذه الجائزة‬

‫حصولي على الجائزة كان مفاجأة‬ ‫كبيرة‪ .‬الئحة الفائزين بالجائزة‬

‫في االرتقاء بالتطبيقات السريرية للجيل المقبل في علم‬

‫الكبيرة؛ مما يعد فخرًا لي أن‬

‫هان برونر‬

‫أفوز بها‪ .‬جائزة الملك فيصل‬

‫يوريس فلتمان‬

‫تمثل أرقى المعايير العالمية للفوز بالجائزة‪ ،‬وشرف كبير لي‬

‫العالمية في الطب مرموقة وتحظى بإقبال كبير‪ ،‬وفق‬ ‫ً‬ ‫الئحة الفائزين بها خالل ‪ً 37‬‬ ‫أيضا‪-‬‬‫عاما فإنهم فازوا‬

‫يعطي الجائزة مكانتها المرموقة‪.‬‬

‫الفائزين بالجائزة‪.‬‬

‫أن أكون ضمن هذه الالئحة‪ ،‬وبخاصة أن الفائزين في األعوام‬ ‫الماضية‪ُّ ،‬‬ ‫يعدون قادة بارزين في مجاالتهم المختلفة؛ مما‬

‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬

‫بجائزة نوبل‪ .‬إنه لشرف كبير لي أن أصبح أحد هؤالء‬


‫صالح بن حميد‬

‫خالد الفيصل في اجتماع مع أعضاء لجان االختيار‬

‫محمد عبدالمطلب‬

‫ً‬ ‫فريقا‬ ‫إلى إدخال هذه التقنيات في العيادة الطبية‪ ،‬وكوَّنا‬ ‫َ‬ ‫دولي في أبحاث الجينات وتشخيصها‪ ،‬ونش َرا‬ ‫بدأ بتعاون‬ ‫ّ‬

‫بحوثهما في مجالت علمية متميزة عالميًّا‪ ،‬وحصال على‬ ‫اعتراف من زمالئهما في التخصص بكونهما علماء مبتكرين‪.‬‬ ‫وأعلن الدكتور عبدالعزيز السبيل اسمَ ِي الفائزي ِْن بجائزة‬

‫فرع العلوم‪ ،‬وموضوعه‪« :‬علم الحياة»‪ ،‬وهما الدكتور‬

‫(أميركي) والدكتور ستيفن فيليب‬ ‫فامسي كريشنا موثا‬ ‫ّ‬ ‫جاكسون (بريطاني)؛ إذ استخدم األول الميتاكوندريون‬ ‫(المسؤولة عن إنتاج الطاقة في الخلية) نموذجً ا جديدً ا‬

‫يربط بين الجينومكس والبروتيومكس واالستقالب وعلم‬ ‫الحاسوب الحيويّ ‪ ،‬إضافة إلى استطاعته َتع ُّرف حلقة‬

‫الوظيفي في الميتاكوندريون على‬ ‫الوصل بين االختالل‬ ‫ّ‬ ‫مستوى الجزيئيات واألمراض المستعصية؛ مثل مرض‬ ‫السكري‪ ،‬وهو ما يعدّ إسهامً ا في إيجاد تطبيقات جديدة‬

‫في التشخيص والعالج‪ .‬وأسهم الثاني في تع ُّرف الصلة بين‬

‫آليات اضطراب الجينوم‪ ،‬وعالقة ذلك بمرض السرطان‪،‬‬ ‫وبخاصة اكتشاف العوامل الجزيئية إلصالح الحمض‬ ‫النوويّ ‪ .‬ويرجع الفضل إلى الدكتور جاكسون في ابتكار‬

‫أسلوب جديد لتحويل نتائج أبحاثه إلى أدوات لمعالجة‬ ‫السرطان‪.‬‬

‫ًّ‬ ‫حقا َل َشرف عظيم‬ ‫إنه‬ ‫أن أُ َ‬ ‫منحَ جائزة الملك فيصل‬

‫الدولية‪ ،‬وفوزي بها سيساعدني‬

‫والباحثين والمفكرين هو تميّز جائزة‬

‫الملك فيصل العالمية بالحيادية‬ ‫المطلقة والموضوعية الجادة‪ ...‬ومن‬

‫عبدالله الغنيم‬

‫ثم فقد أصبح الفوز بجائزة الملك فيصل لكل العلماء‬

‫والباحثين والمفكرين دليل تقدير موضوعي محض‪ ،‬على‬

‫استحقاق التكريم وعلى إنجاز مميّز في مجال التخصص‪.‬‬

‫‪9‬‬

‫ُ‬ ‫سهم في التقدم‬ ‫الجائزة ت ِ‬ ‫الحضاري والثقافي والعلمي‪،‬‬ ‫حص ْ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫نفسها بِ ُنظم‬ ‫نت‬ ‫وقد‬

‫تعصمها من العبث واالنحياز‬ ‫محمد مفتاح‬ ‫والظلم‪ .‬واشترطت ألاَّ يكون‬ ‫ُّ‬ ‫التكتالت إال ما لها صفة علمية معرفية‪.‬‬ ‫الترشيح لها من‬ ‫إن هذه االشتراطات َّ‬ ‫جنبت المؤسسة اإلرهاق الماديّ‬ ‫والمعنويّ باالهتمام بما ال طائل تحته‪ .‬كل ما َت َّ‬ ‫قدم‬

‫اسما على ُم ّ‬ ‫ً‬ ‫سمى؛‬ ‫يجعل جائزة الملك فيصل العالمية‬ ‫فذاع ُ‬ ‫صيتها‪ ،‬وبدأ أهل العلم يسارعون إلى الظفر بها‪.‬‬

‫بالفخر‬

‫الشديد‬

‫لحصولي على هذه الجائزة‬ ‫العالمية في فرع الطب‪ ،‬إن‬

‫ستيف جاكسون‬

‫كثيرًا في تحقيق طموحاتي العلمية‪ ،‬ومواصلة تحقيق‬ ‫إنجازات َّ‬ ‫عدة‪ .‬ومن أهم ما تتيحه لي جائزة الملك فيصل‬ ‫العالمية‪ ،‬هو زيارة السعودية‪.‬‬

‫المتابعين والمهتمين من العلماء‬

‫أشعر‬

‫العالمية في العلوم‪ .‬الجائزة‬ ‫تحظى بتقدير كبير في األوساط‬

‫أكثر ما استقر في أذهان كل‬

‫معرفة الفائزين بها على مدى‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫حافزا‬ ‫يعد‬ ‫الدورات الماضية‪،‬‬

‫فامسي موثا‬

‫كبيرًا لنا‪ .‬وإنني أتطلع من خالل فوزي بالجائزة‪ ،‬إلى أن‬

‫أمثل كل الباحثين في مجالنا‪ ،‬ممن قدموا إسهامات‬

‫كبيرة‪ ،‬سواء السابقون منهم أم الحاليون‪.‬‬


‫فعاليات‬

‫بول سوليفان في مركز الملك فيصل‪:‬‬

‫االتفاق مع إيران كارثي‬ ‫ولن ننتخب ترامب‬ ‫الفيصل‬ ‫الرياض‬

‫ألقى بول سوليفان ‪-‬أستاذ االقتصاد‬

‫يمكن السفر بالسيارة ب ًّرا من بغداد إلى‬

‫الوطنية وجورج تاون األميركيتين‪-‬‬

‫سيظل في الخليج‪ ،‬كما أن قاعدة‬

‫بيروت‪ .‬وأضاف أن األسطول الخامس‬

‫والدراسات األمنية بجامعتي الدفاع‬

‫«العديد» في قطر باقية‪.‬‬

‫محاضرة عن «العالقات األميركية‬

‫وقال‪ :‬إن علينا أن نركز في توفير‬ ‫ً‬ ‫عوضا من‬ ‫المعلومات الصحيحة‬

‫العربية‪ :‬إلى أين؟» في مركز الملك‬ ‫فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية‪،‬‬ ‫مثي ًرا جدلاً واسعً ا بين الحضور‪ ،‬الذين‬

‫األدلجة التي تشوِّه الحقائق‪ ،‬فعلى‬

‫الرغم من تحريم اإلسالم المخدرات‪،‬‬

‫أمطروه بوابل من األسئلة والتعليقات‪،‬‬

‫وقد تقدمهم األمير تركي الفيصل رئيس‬ ‫مجلس إدارة المركز‪ ،‬وجمع كبير من‬

‫‪10‬‬

‫الدبلوماسي‪،‬‬ ‫المفكرين وأعضاء السلك‬ ‫ّ‬

‫وأدار المحاضرة عوض البادي المستشار بالمركز‪.‬‬

‫سوليفان‬

‫فإن هناك جماعات إرهابية تدّ عي‬ ‫اإلسالم‪ ،‬وتتقاضى أموالاً طائلة جراء‬

‫بيعها المخدرات واآلثار‪ ،‬وهي تفرض‬

‫الضرائب على سكان المناطق التي تسيطر عليها؛ لذلك ينبغي‬

‫كان الباحث صريحً ا في انتقاد السياسات األميركية التي‬

‫التكاتف من أجل تجفيف منابع تمويل هذه الجماعات التي‬

‫ضاربًا المثل بحرب العراق‪ ،‬وقطع المساعدات العسكرية عن‬

‫ِّ‬ ‫متعدد من حيث‬ ‫وأشار الباحث إلى أن العالم العربي‬

‫األميركي طيب بطبعه‪ ،‬لكنه يفتقد‬ ‫وأوضح أن الشعب‬ ‫ّ‬ ‫إلى المعلومات الصحيحة‪ ،‬وأن هناك من يحاول إخافته من‬ ‫المسلمين‪ ،‬بتهويل أفعالهم‪ ،‬مستشهدً ا بأن الذين يُق َتلون في‬ ‫الواليات المتحدة األميركية يفوق عددهم ‪ 35‬ألف قتيل سنوياً‪،‬‬

‫الفرصة على جماعات الضغط التي تتعمَّ د تشويه الحقائق‪،‬‬ ‫مبي ًنا أن هناك قادة فكر في أميركا لن يسمحوا لمثل ترامب‬

‫أدَّت إلى انعدام الثقة بين العرب والواليات المتحدة األميركية‪،‬‬ ‫مصر‪ ،‬والتقارب مع إيران‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬

‫في حين أن من ُقتلوا بفعل اإلرهاب الذي ينسب إلى المسلمين‬

‫قليل جدًّ ا عند المقارنة‪ .‬وعن التخويف الذي يمارَس‪ ،‬ضرب‬ ‫مثلاً بطالب له من البلقان‪َّ ،‬‬ ‫ظلت أسرته ال تغادر منزلها أكثر من‬

‫تشوِّه اإلسالم‪ ،‬و ِقيَمه الحقيقية‪.‬‬

‫الدين والثقافة‪ ،‬وهذا ما ينبغي لألميركيين أن يعوه؛ لتفويت‬

‫بالوصول إلى سُ دَّ ة الحكم‪ .‬ونوَّه سوليفان بأهمية تب ِّني‬

‫إستراتيجية طويلة األجل‪ ،‬تشمل مجموعة من الجوانب؛ منها‬ ‫الدبلوماسية والعسكرية والمالية والمعلوماتية؛ إليجاد واقع‬ ‫أفضل للمنطقة‪ ،‬ووضع خطط لألجيال المقبلة‪ ،‬التي تستحق‬

‫شهر بعد األحداث األخيرة؛ ألن هناك من يُشوِّه المعلومات‪،‬‬ ‫ويثير الخوف‪ ،‬ومنهم ّ‬ ‫مرشحون للرئاسة؛ مثل ترامب‪.‬‬

‫حياة أفضل‪ ،‬بال عنف‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫وحذر من أن بقاء الحال على ما هي عليه يَعْ ني هبوب‬ ‫ِّ‬ ‫عاصفة هوجاء على العالم‪ ،‬ال تستثني أحدً ا‪ ،‬موضحً ا أن‬

‫لتجسير العالقات العربية األميركية‪ ،‬مؤكدً ا أن الواليات‬

‫وأن استقرارها يهم الواليات المتحدة األميركية‪ ،‬وأن إقامة‬

‫وأشار سوليفان إلى ضرورة البحث عن طريق جديدة‬

‫ً‬ ‫مهمة بعيدً ا من النفط‪،‬‬ ‫المملكة العربية السعودية ستظل‬ ‫عالقة رُوحية بينها والعرب مطلب مُ لِحّ ‪ ،‬والعنصر المهم‬

‫المتحدة األميركية يجب أن تحافظ على وجودها في المنطقة‬ ‫ّ‬ ‫النفط‪.‬‬ ‫العربية مهما بلغت التكلفة؛ ألن لها مصالح كثيرة غير‬

‫لتحقيق ذلك هو الثقة‪ ،‬التي يمكن تحقيقها بالتوعية‬

‫المالحي‪،‬‬ ‫مثل‪ :‬مضيق باب المندب‪ ،‬ومجرى قناة السويس‬ ‫ّ‬

‫األميركيين بطريقة حضارية‪.‬‬

‫وأكد أن بالده لن ترحل عن المنطقة؛ ألهمية الطرق التجارية؛‬ ‫لكن يجب أن تفكر في شرق أوسط آمن ال عنف فيه‪ ،‬فعندئذ‬ ‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬

‫واستخدام وسائل اإلعالم‪ ،‬وقيام العرب بتقديم أنفسهم إلى‬ ‫وعن الوضع في الواليات المتحدة األميركية‪ ،‬أوضح‬


‫الباحث أن بالده أنهكتها الحروب‪ ،‬ولن يعود منحنى االقتصاد‬ ‫إلى ما قبل ‪2008‬م إال بعد ‪ 10‬سنوات من اآلن‪ ،‬وهذا ما جعل‬

‫القادة يقتنعون بإيجاد مسار جديد‪ ،‬مشي ًرا إلى أن ذلك سيبدو‬ ‫واضحً ا بعد االنتخابات‪ ،‬وبعد التعديالت في مجلسي النواب‬

‫والشيوخ‪ ،‬قائالً‪ :‬إن الحزبين خذال الشعب‪ ،‬وال بد من التفكير‬ ‫بعيدً ا منهما بشأن البلد واآلخرين‪.‬‬

‫وعن األوضاع االقتصادية في السعودية في ظل انخفاض‬ ‫أسعار النفط‪ ،‬طالب المملكة أن ِّ‬ ‫تفكر بطريقة مختلفة‪ ،‬فتوجيه‬

‫إيرادات النفط لتوفير الماء ِّ‬ ‫مكلف جدًّا‪ ،‬فقد يأتي يوم ال يتوافر‬

‫فيه فائض من النفط للتصدير‪ ،‬ويجب إعادة التفكير في الدعم‬ ‫سلبي‪،‬‬ ‫واإلعانات‪ ،‬إضافة إلى ما يمكن أن ُتسبِّبه البطالة من تأثير‬ ‫ّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ومؤثر‬ ‫معقد جدًّا‪،‬‬ ‫وفي المجمل الوضع االقتصاديّ السعوديّ‬ ‫في االستقرار‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫الروسي في الشرق األوسط‪،‬‬ ‫وحذر سوليفان من التدخل‬ ‫ّ‬

‫َ‬ ‫إعادة أمجاد االتحاد السوفييتي؛ ألن ذلك‬ ‫ومحاولة بوتين‬ ‫األوربي‪.‬‬ ‫يمثل مصدر عدم استقرار‪ ،‬في ظل تراجع التأثير‬ ‫ّ‬ ‫وقال‪ :‬إن الصينيين يسبِّبون بعض اإلشكاليات المتعلقة‬

‫باألعمال‪ ،‬لكنهم ليسوا مصدر قلق إلى اآلن‪ ،‬وإن الهند ستمثل‬ ‫الروسي في‬ ‫صي ًنا جديدة‪ ،‬وهي قادمة بقوة‪ ،‬لكن يظل التأثير‬ ‫ّ‬ ‫المنطقة هو مصدر القلق الرئيس‪ ،‬مع أن بوتين يعاني كثي ًرا‬

‫من المشكالت؛ إذ إن بالده خاضعة للعقوبات‪ ،‬وتستورد‬ ‫كثي ًرا من احتياجاتها‪ ،‬ومعدل النمو السكاني في تناقص‪،‬‬ ‫وهي متورطة في سوريا وأوكرانيا‪.‬‬

‫وعن إيران‪ ،‬أوضح أن االتفاق معها يعدُّ كارثيًّا؛ ألنها‬

‫المنطقة لن تعود إلى ما كانت عليه‬ ‫من قبل ‪ ،‬وإن محاولة إعادة خريطتها‬ ‫إلى الماضي ستؤدي إلى ارتكاب‬ ‫أخطاء فادحة‬ ‫ستحصل على المزيد من المال من حساباتها المجمَّ دة‪ ،‬وأن‬ ‫االستثمارات الغربية ستزيد‪ ،‬وهذا ما يجعلها قادرة على أن‬ ‫تعود إلى تجاربها النووية‪ ،‬منوِّهً ا إلى أن اللعب مع إيران‬

‫وتصوُّر إمكانية إعادة فرض العقوبات عليها مرة أخرى غير‬ ‫مضمون النتائج‪.‬‬

‫وأثارت تعليقات الحضور عددًا من القضايا المهمة‪،‬‬ ‫ومنها الوضع في اليمن‪ ،‬الذي َّ‬ ‫علل سوليفان أسباب النزاع فيه‬

‫بالخالفات الناشبة بين األطراف المعنية‪ ،‬مؤكدً ا أنه ال َّ‬ ‫حل إال‬

‫بالقضاء على تلك الخالفات‪ ،‬وأشار إلى أن صنعاء استنفدت‬

‫مياهها‪ ،‬وصار نقل العاصمة منها أم ًرا ملحًّ ا؛ وأن اليمن بعد‬ ‫أن كان سلة غذاء واعدة صار يستورد الغذاء؛ الرتفاع تكلفة‬

‫إنتاجه وقلة المياه‪ ،‬وأن االختالفات العرقية وعدم المساواة‬ ‫من أسباب هذه الحرب‪.‬‬

‫وعن المستقبل‪ ،‬شدد على أن المنطقة لن تعود إلى ما‬ ‫كانت عليه من ُ‬ ‫قبل‪ ،‬وأن محاولة إعادة خريطتها إلى الماضي‬

‫ستؤدي إلى ارتكاب أخطاء فادحة‪ ،‬وسيُمعن المؤرخون النظر‬ ‫َّ‬ ‫معقد أكثر مما‬ ‫مئات السنين؛ ليعرفوا حقيقة ما حدث‪ ،‬فاألمر‬ ‫استطعنا فهمه‪.‬‬

‫‪11‬‬


‫فعاليات‬

‫المركز يتبنى بح ًثا عن كيفية إنشاء لوبي عربي فعال في أميركا‬

‫دانية الخطيب‪:‬‬

‫تفاعل العرب األميركيين‬ ‫أساس نجاح اللوبي العربي‬ ‫الفيصل‬ ‫الرياض‬

‫أقام مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية حلقة‬

‫نقاش حول كتاب الباحثة دانية الخطيب‪« :‬اللوبي الخليجي‬ ‫‪ -‬العربي في أمريكا‪ :‬بين الطموح والواقع»‪ ،‬الصادر عن مركز‬

‫دراسات الوحدة العربية بلبنان‪.‬‬

‫‪12‬‬

‫بدأت الباحثة حديثها بتقديم الشكر إلى األمير تركي‬

‫للمواطنين إيصال أفكارهم إلى الحكومة‪ ،‬والمشاركة في صنع‬

‫رسالة الدكتوراه‪ ،‬وإلى مركز الملك فيصل الذي يولي االهتمام‬

‫وأشارت إلى أن ما يهم صانع القرار هو المال واإلعالم‬

‫الفيصل الذي قدم لها الدعم والتشجيع في أثناء إعدادها‬ ‫بالدراسات والبحوث الجادة‪ ،‬مقدرة استضافته إياها لنقاش‬ ‫موضوع اللوبي العربي في أميركا‪.‬‬

‫وتطرقت إلى تعريف مفهوم «اللوبي»‪ ،‬مشيرة إلى الوصف‬

‫الذي وضعه كل من «والـت» و«مارشينمر» في تعريف اللوبي‬

‫اإلسرائيلي؛ فقد ع َّرفاه بأنه تحالف أفراد وجماعات؛ للتأثير في‬

‫السياسة األميركية لمصلحة إسرائيل‪ ،‬ومن َثمَّ يمكن تعريف‬

‫اللوبي –وفق رأيها‪ -‬بـوجـود مجموعة تربطها فكرة أو مصلحة‬ ‫معينة‪ ،‬ومحاولة تلك المجموعة التأثير فـي السياسة األميركية‬ ‫في اتجاه معين‪.‬‬

‫وأوضحت الباحثة أن اإلشكالية في أن العرب ينظرون إلى‬

‫اللوبي على أنه مؤامرة‪ ،‬إلى حد أن الرئيس المصري جمال‬

‫عبدالناصر سأل في الخمسينيات الميالدية عما إذا كان اللوبي‬ ‫شرعيًّا‪ ،‬على حين أن «اللوبي» هو حـق دسـتـوريّ في الـواليـات‬

‫المتحدة األميركية‪ ،‬وهـو يعني حـق المواطنين في التظلم‬

‫للحكومة من دون خشية أي عـواقـب‪ ،‬وأضافت أن النظام‬ ‫العام ‪-‬منذ إنشاء أميركا‪ -‬اعتمد على المجتمعات المختلفة‪،‬‬

‫الفرنسي أليكسي دي توكفيل في‬ ‫وهذا ما شرحه عالم االجتماع‬ ‫ّ‬ ‫كتابه عن «الديمقراطية في أميركا»‪ ،‬فالنظام األميركي يكفل‬ ‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬

‫القرار‪.‬‬

‫واألصوات‪ ،‬فالمال مهم في الحمالت االنتخابية ألنها مكلفة‬ ‫جدًّ ا‪ ،‬ففي عام ‪2012‬م‪ ،‬كانت تكلفة تلك الحمالت ‪ 2.6‬مليار‬

‫األميركي الذي يعتمد مبدأ‬ ‫دوالر‪ .‬وأوضحت الباحثة أن النظام‬ ‫ّ‬ ‫الفصل بين السلطات يشجع اللوبي‪ ،‬ووجود عدة مداخل‬

‫لألمر الواحد‪ ،‬فاألمن له مجلس وطني‪ ،‬وهناك وكاالت معنية‬

‫به؛ مثل‪ :‬وكالة المخابرات المركزية ‪ ،CIA‬وغيرها‪ ،‬إضافة‬ ‫ً‬ ‫رئيسا في التأثير‪ ،‬وغيره من‬ ‫هدفا‬ ‫إلى الكونغرس الذي يعد‬ ‫ً‬ ‫الوكاالت األميركية‪ ،‬فالوضع شائك للغاية‪ ،‬والتأثير متبادل‪،‬‬ ‫ويصعب علينا نحن العرب فهم مستويات التأثير في أميركا؛‬ ‫ألن صناعة القرار لدينا مركزية‪.‬‬

‫وأوضحت الباحثة أن العرب ال يستفيدون من النظام‬ ‫األميركي‪َّ ،‬‬ ‫ودللت على ذلك بإخفاق صفقة شركة موانئ دبـي‪،‬‬ ‫ّ‬

‫التي بدأت صفقة تجارية خالصة تدير بموجبها الشركة ستة‬ ‫موانئ أميركية‪ ،‬لكن سيّستها شركة تعارضت مصلحتها مع‬ ‫ً‬ ‫مستغلة األجواء السائدة في أعقاب أحداث ‪ 11‬سبتمبر‬ ‫الصفقة‪،‬‬

‫األميركي األسبق كلينتون كان‬ ‫‪2001‬م‪ ،‬ومن المفارقة أن الرئيس‬ ‫ّ‬ ‫ِّ‬ ‫ممثلاً اإلمارات في الدفاع عن موقفها‪ ،‬على حين أن هيالري‬ ‫كلينتون كانت ضد الصفقة بكل قوة؛ ألنه ‪-‬في رأيها‪ -‬ال يمكن‬


‫تسليم أمن أميركا إلى العرب‪.‬‬

‫وأشارت دانية الخطيب إلى أن االستثمارات العربية‬

‫في أميركا كبيرة‪ ،‬وإذا نشأت جماعة ضغط من الشركات‬

‫المستثمرة‪ ،‬فإنها تستطيع ممارسة التأثير‪ ،‬وما كان لشركة‬

‫موانئ دبي أن تكون وحيدة في مواجهة هجوم شرس شارك‬ ‫فيه ُ‬ ‫صناع القرار‪ ،‬ولم ُيجدِ االعتماد على الرئيس بوش‪،‬‬ ‫وعالقته بدولة اإلمارات العربية المتحدة‪.‬‬

‫وما كان لعضو الكونغرس الذي قاد الحملة ضد الشركة‬

‫اإلماراتية أن يقوم بذلك إذا عرف حجم االستثمارات اإلماراتية‬

‫في واشنطن‪ ،‬وعدد األميركيين الذين يعملون في الشركات‬

‫المستثمرة؛ ألن مِ ن هؤالء األميركيين من يدعمه بالمال‪.‬‬

‫وأشارت الباحثة إلى أن كثي ًرا من األميركيين من أصول‬

‫عربية يتبرعون باألموال ألمور إنسانية من غير استغاللها في‬ ‫السياسي ليس جزءً ا من‬ ‫تحقيق أهداف سياسية؛ ألن النشاط‬ ‫ّ‬

‫ثقافتنا‪ ،‬كما أن هناك عدم ثقة في السياسيين‪.‬‬

‫وعابت الدكتورة دانية الخطيب على الدول التي تحاول‬

‫تقديم نفسها بوصفها األجدر بعالقة متميزة مع أميركا‪ ،‬فهي‬

‫تلعب على هذه النقطة التي أضعفت العرب‪ ،‬مشيرة إلى أن‬ ‫َّ‬ ‫علينا أن نتأكد أن أميركا يمكن أن‬ ‫تتخلى عن أي صديق‪ ،‬وال‬

‫علينا أن نتأكد أن أميركا يمكن أن تتخ َّلى‬ ‫أد ّل على ذلك من‬ ‫عن أي صديق‪ ،‬وال َ‬ ‫التقارب مع إيران‪ ،‬وإبرام اتفاق لم‬ ‫شق سياسي يخدم العرب‬ ‫يتضمن أي‬ ‫ّ‬ ‫فتنامت الجمعيات التي ُتع َنى بتقديم الخِ دمات االجتماعية‪،‬‬

‫وهي تستحق الدعم‪ ،‬وتمثل الجواد الرابح في هذا الوقت‪.‬‬

‫وعن اللوبي الخليجي في أميركا‪ ،‬قالت الباحثة‪ :‬على‬

‫أد ّ‬ ‫َل على ذلك من التقارب مع إيران‪ ،‬وإبرام اتفاق لم يتضمن‬ ‫أي ّ‬ ‫شق سياسي يخدم العرب؛ مثل‪ :‬وقف دعم األسد‪ ،‬ووقف‬ ‫دعم حزب الله‪ ،‬فهي َّ‬ ‫تخلت تمامً ا عن العرب‪ ،‬وفي ظنها أن‬

‫ليسوا مسيَّسين؛ مثل‪ :‬األرمن أو اليهود‪ .‬وعلى الرغم من أنَّ‬

‫يحوّلوا المجلس الذي يجمعهم إلى اتحاد‪ ،‬كما ينادى األمير‬

‫لألحداث في المنطقة‪.‬‬

‫ً‬ ‫وخصوصا الخليجيين أدركوا هذا الجانب‪ ،‬وعليهم أن‬ ‫العرب‬

‫تركي الفيصل‪.‬‬

‫وانتهت دانية الخطيب إلى أن اللوبي الفعَّ ال هو الذي‬

‫تقوم به المجموعات داخل أميركا كما قال فيليب أونيل ‪-‬عضو‬ ‫مجلس النواب‪ -‬في المدة ‪1978 - 1977‬م؛ ألن أي نائب ال يمكنه‬

‫القيام بأي عمل يُفقده شعبيته أو مقعده‪.‬‬

‫وعن تصريحات ترامب المعادية للعرب‪ ،‬أوضحت أنها‬

‫جاءت بعد االعتداءات اإلرهابية التي وقعت في باريس‪،‬‬ ‫وهناك ‪ 31‬حاكم والية قالوا‪ :‬إنهم ال يريدون استقبال مهاجرين‬ ‫سوريين؛ مشيرة إلى أن أسهل شيء هو استخدام التخويف‪،‬‬

‫األميركي بوش أن استخدمه‪.‬‬ ‫وسبق للرئيس‬ ‫ّ‬

‫الرغم من األصول العربية لبعض األميركيين فإنه ليس للعرب‬

‫األميركيين أي انتماء إلى الخليج‪ ،‬كما أنهم بطبعهم وثقافتهم‬ ‫العرب األميركيين فخورون بتراثهم‪ ،‬فإن لديهم رؤى مختلفة‬ ‫وأضافت أن الضغط الخليجي الذي يُمارَس يَجري بشكل‬

‫تكتيكي؛ لحاجات معينة ولقضايا ضيقة؛ مثل‪ :‬شراء صفقة‬ ‫سالح‪ ،‬وهذا ال يهم العرب األميركيين‪ ،‬ومن َثم ال يمكنهم‬

‫التفاعل معه‪.‬‬ ‫ً‬ ‫العربي واللوبي‬ ‫اللوبي‬ ‫بين‬ ‫ا‬ ‫رئيس‬ ‫ا‬ ‫فارق‬ ‫الباحثة‬ ‫وأوردت‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫حماسة‬ ‫اإلسرائيلي‪ ،‬يتمثل في أن الجالية العربية ال ُتبدي‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫مماثلة للحماسة التي تبديها الجالية اليهودية لقضايا إسرائيل‪.‬‬ ‫وسوَّغت ذلك بأنَّ اليهود ينظرون إلى وجود إسرائيل بوصفه‬

‫أساسً ا لوجودهم أنفسهم‪ ،‬وأساسً ا لهُويتهم بوصفهم يهودًا‪،‬‬ ‫أما عرب أميركا فليس لديهم هذا النوع من التعلق بالوطن‬

‫وتناولت الباحثة وضع المنظمات العربية في أميركا بعد‬

‫العربي‪ ،‬والسياسة الخارجية تهمهم من باب أن نظرة أفضل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫إلى الوطن العربي في أميركا ستنعكس إيجاب ًيا عليهم بوصفهم‬

‫وفي مقدمتها قضية فلسطين‪ ،‬ولم يكن لها قاعدة شعبية‪،‬‬

‫وفي ختام الندوة شكر الدكتور سعود السرحان ‪-‬مدير‬

‫أن تطرق الحوار إلى جوانب أخرى غير اللوبي‪ ،‬وأشارت إلى أن‬ ‫تلك المنظمات كان اهتمامها في البدء بالقضايا السياسية‪،‬‬

‫لكن بعد أحداث ‪ 11‬سبتمبر ‪2001‬م واجه العرب األميركيون كثي ًرا‬

‫من التمييز والعنصرية لجريمة لم يرتكبوها؛ مما زاد اإلحساس‬ ‫األميركي‪،‬‬ ‫لديهم بأهمية التحرك لتثبيت أنفسهم في المجتمع‬ ‫ّ‬

‫األميركي‪.‬‬ ‫مجموعة داخل المجتمع‬ ‫ّ‬

‫إدارة البحوث بمركز الملك فيصل‪ -‬الباحثة‪ ،‬مشي ًرا إلى أن‬ ‫عربي‬ ‫المركز سينشر لها قريبًا ورقة عن كيفية إنشاء لوبي‬ ‫ّ‬ ‫خليجي فعَّ ال في الواليات المتحدة األميركية‪.‬‬ ‫ّ‬

‫‪13‬‬


‫شخصيات‬

‫شخصية مهرجان الجنادرية ‪30‬‬

‫علم غزير ونبل وتسامح‬

‫‪14‬‬

‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬


‫اً‬ ‫ً‬ ‫وعادل؛‬ ‫موفقا‪ ،‬ومفرحً ا‪،‬‬ ‫كان اختيار شخصية العام في مهرجان الجنادرية‬

‫ألن المُ ختار يستحق ما هو أكثر من ذلك‪ ،‬على الرغم من عزوفه عن الترشح‬

‫للجوائز وخالفها‪ .‬والقول باستحقاقه يعود إلى مسوّغات كثيرة؛ أكثرها‬

‫يتصل بعلمه‪ ،‬ومشاركاته الثقافية‪ ،‬وأقلها قد يكون مما له صلة بشخصيته‪.‬‬ ‫أمَّا ما يتصل بعلمه فأمر واسع يصعب على الفرد تتبعه؛ فهو‬

‫ُفسر‪ ،‬ونحوي‪،‬‬ ‫عالم‪ ،‬وباحث‪ ،‬وفقيه‪ ،‬وأصولي‪ ،‬ومُح ِّدث‪ ،‬وم ِّ‬

‫ولغوي‪َ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫ونسابة‪ ،‬وله في‬ ‫وعروضي‪ ،‬وناقد‪،‬‬ ‫وقاص‪ ،‬وشاعر‪َّ ،‬‬

‫ذلك كله مشاركات‪ ،‬توضحها مؤلفاته التي تجاوزت ثالث مئة‬ ‫َّ‬ ‫مؤلف‪ ،‬مع تأكيد االختالف بينها في المحتوى‪ ،‬والحجم‪ ،‬والتأثير‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫يخص صلته بالعلم‪ :‬محاضر‪ ،‬خطيب‪ ،‬جدلي بارع‪،‬‬ ‫ثم هو فيما‬

‫يملك الحجة والبرهان عندما يُقدم رأيًا يسنده بذخيرته المكنوزة‬ ‫في ذاكرته التي بات يشكو في اآلونة األخيرة من خيانتها إيَّاه في‬ ‫بعض المواقف‪.‬‬

‫أمَّا الجوانب الشخصية التي ربما ال يكون االختيار قد عرج‬ ‫عليها؛ فهي ً‬ ‫أيضا واسعة ذات تشعبات؛ فهو إداري مميز‪ ،‬وإن‬

‫يحيى محمود بن جنيد‬ ‫األمين العام لمركز الملك فيصل للبحوث‬ ‫والدراسات اإلسالمية‬

‫ً‬ ‫أستاذا في جامعة اإلمام‬ ‫المفدى‪ ،‬عالم النحو المعروف‪ ،‬وكان‬ ‫محمد بن سعود اإلسالمية‪ ،‬والدكتور أحمد بن محمد الضبيب‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ومحققا‪ .‬وعلى‬ ‫ومؤلفا‬ ‫أستاذا في جامعة الملك سعود‪،‬‬ ‫وكان‬

‫الرغم من جالل قدر األعضاء وتميزهم‪ ،‬فإن الشيخ كان‪ ،‬بإدارته‬ ‫المبنية على االحترام‪ ،‬والمدعومة بالرغبة في تقديم ما يخـدم‬

‫الوسط الثقافي‪ ،‬ناجحً ا في إدارة الحوار‪ ،‬واستـخـالص الفوائـد‪.‬‬ ‫وإضافة إلى اللجنة االستشارية التي رأسها في الجمعية‪ ،‬تولى‬ ‫ً‬ ‫عوضا‬ ‫رئاسة تحرير مجلة التوباد‪ ،‬واختار مسمى «رئيس الكتبة»‬

‫من‪ :‬رئيس التحرير‪ ،‬وكان متابعً ا كل أعمالها‪.‬‬ ‫كما و ُّلي أمر النادي األدبي بالرياض؛ فكان في وقته شعلة‬ ‫من النشاط المنظم وغير المنظم؛ فمن محاضرات يلقيها‬

‫كانت الظروف لم تسمح له بارتقاء المناصب التي تكشف عن‬ ‫جلي‪ ،‬لكن يوضحها ِّ‬ ‫توليه اإلدارة في وحدتين‬ ‫براعته على نحو‬ ‫ّ‬

‫في فناء (الفيال الصغيرة) التي كانت مق ًّرا للنادي‪ .‬كان يتابع كل‬

‫بالجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون عند تأسيسها‪ ،‬يوم‬

‫ومع المحكمين‪ ،‬إضافة إلى تصحيحها‪ .‬ومن أمثلة ذلك خطابه‬

‫ثقافيتين؛ هما‪ :‬رئاسة اللجنة االستشارية للشؤون الثقافية‬ ‫كان رئيسها األستاذ محمد الشدي‪ ،‬فاختير لعضويتها شخصيات‬ ‫متباعدة في توجهاتها‪ ،‬لكنها ذات مكانة علمية مرموقة؛ منها‪:‬‬ ‫الشيخ عبدالفتاح أبو غدة‪ ،‬وهو يومئذ أستاذ في جامعة اإلمام‬ ‫محمد بن سعود اإلسالمية‪ ،‬وعالم حنفي المذهب له تأثير كبير‬

‫في سوريا في ذلك الوقت‪ ،‬والشيخ عبدالعزيز بن أحمد الرفاعي‪،‬‬ ‫األديب والشاعر الرائد‪ ،‬وكان مسؤولاً حكوم ًّيا يشغل منصبًا‬

‫رفيعً ا في ديوان رئاسة مجلس الوزراء‪ ،‬إضافة إلى تبنيه ندوة‬

‫أسبوعية كانت األشهر على مستوى المملكة‪ ،‬والدكتور محمد‬

‫ابن عقيل‪ :‬عالم‪ ،‬وباحث‪ ،‬وفقيه‪،‬‬ ‫فسر‪ ،‬ونحوي‪،‬‬ ‫ومح ِّ‬ ‫وم ِّ‬ ‫دث‪ُ ،‬‬ ‫وأصولي‪ُ ،‬‬ ‫وقاص‪،‬‬ ‫وعروضي‪ ،‬وناقد‪،‬‬ ‫ولغوي‪َ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫ونسابة‪ ،‬وله في ذلك كله‬ ‫وشاعر‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫مشاركات توضحها مؤلفاته التي‬ ‫تجاوزت الثالث مئة مؤلف‬

‫مرموقون من األدباء وغيرهم‪ ،‬إلى كتب متنوعة‪ ،‬إلى جلسات‬

‫كبيرة وصغيرة؛ بما في ذلك التواصل مع اإلعالم لفسح الكتب‪،‬‬ ‫التعقيبي الموجه إلى الدكتور حسن ظاظا‪ ،‬رحمه الله‪ ،‬بخصوص‬ ‫كتاب الشعر األندلسي‪ ،‬ونص الرسالة‪:‬‬

‫«سعادة الدكتور‪ /‬حسن ظاظا المحترم‬

‫السالم عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد‪،‬‬ ‫ً‬ ‫إلحاقا لخطابنا رقم بدون وتاريخ ‪1399/6/18‬هـ‪ ،‬المرفق به‬

‫ترجمة الدكتور الطاهر أحمد مكي‪ ،‬لكتاب «الشعر األندلسي»‬ ‫مصحوبًا بتقرير الدكتور محمد زغلول سالم‪ ،‬عن الكتاب‬

‫والترجمة‪ .‬وحيث رغبنا من سعادتكم مراجعة الترجمة‪ ،‬وتالفي‬

‫ما أشار إليه الدكتور محمد زغلول من اضطراب بعض العبارات‬

‫ووقوع بعض األخطاء‪ .‬نفيد سعادتكم أنه‪ ،‬وحتى تاريخه‪ ،‬لم‬ ‫نتلق إجابتكم‪ .‬نرجو أن تكون في طريقها إلينا؛ شاكرين لكم ً‬ ‫سلفا‬ ‫حسن تجاوبكم‪ .‬وتفضلوا بقبول وافر تحياتنا»‪.‬‬

‫ثم كان له فضل كبير في اقـتـناء مجموعة مهمة من الكتب‬

‫والدوريات النادرة التي لم تكن موجودة في غير النادي‪ ،‬واستطاع‬

‫بعالقاته الشخصية أن يستعين بأثرياء لدعم الميزانية الرسمية‬

‫المتواضعة في ذلك الحين‪.‬‬

‫أ َّما النمط اآلخر المتصل بشخصيته‪ ،‬خارج العمل العلمي‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وعمقا من ذلك المتصل بالعلم‬ ‫سعة‬ ‫والوظيفي؛ فهو أكثر‬

‫‪15‬‬


‫شخصيات‬

‫واألدب والثقافة؛ فالشيخ إنسان اجتماعي ال يخلو يوم من أيام‬

‫ً‬ ‫أحيانا‪ ،‬وكم حزن عند وفاته وتألم لفراقه‪ .‬ومن يتعمق في بحث‬

‫وهذه صفة مميزة لدعواته؛ إذ ستجد العالم‪ ،‬واألديب‪ ،‬والثري‪،‬‬

‫عليه الشيخ من روح إنسانية ال تتحقق في غيره من تواضع جم‪،‬‬

‫األسبوع من مناسبة لديه‪ ،‬تحفل بمدعوين غير متجانسين‪،‬‬ ‫والمتدين‪ ،‬إلى جانب العامي والفقير‪ ،‬بال تمايز في الجلوس أو‬

‫االحتفاء؛ فهو يحتفي بالحضور على اختالف درجاتهم ومشاربهم‪.‬‬ ‫ثم هو على درجة من البساطة والشفافية‪ ،‬ال يتردد في الكشف‬

‫عن أمور خاصة به أمام جمع من الناس‪ ،‬وهو بعيد من النميمة‬ ‫والحسد والحقد‪ ،‬ال يعرف للمال قيمة غير السعادة الوقتية؛ فإن‬

‫جاءه «الرزق» أفناه في الوالئم‪ ،‬ومساعدة المحتاجين‪ ،‬والصرف‬

‫على األبناء‪ ،‬وبالطبع تسديد الديون‪ ،‬ودعم احتياجات المجلة‬

‫الخاصة التي ينشرها‪« :‬الدرعية»‪.‬‬

‫وخلق رفيع‪ ،‬وحب المساعدة‪ ،‬واحترام اإلنسان من دون النظر إلى‬ ‫ً‬ ‫لصيقا بالشيخ مح ًّبا إياه‪ ،‬ال يفتأ يشيد به وبما‬ ‫مكانته‪ .‬كان أبو عزيز‬ ‫يقدمه له من عون‪ ،‬وهو الفقير المعدم (المقطوع من شجرة)؛ إذ‬

‫لم يكن له من األهل واألقارب غير ابن مريض وابنة متزوجة‪ .‬ولم‬ ‫يكن أبو عزيز الوحيد من البسطاء الذين ربطتهم عالقة بالشيخ؛‬

‫بل كان هناك غيره ممن يأتون من مدن وقرى‪ ،‬بعيدة أو قريبة‪ ،‬ال‬ ‫ً‬ ‫يتردد في استضافتهم في منزله‪ ،‬م ِّ‬ ‫مكانا للنوم‪ ،‬مع‬ ‫ُخص ًصا لهم‬ ‫إكرامهم مدة إقامتهم‪ ،‬ومساعدتهم في قضاء حوائجهم‪.‬‬

‫ولعل مما يقدم الشيخ المبجل في صورته الحقيقية التي‬

‫ذلكم هو المكرم في جنادرية هذا العام (‪1437‬هـ)‪ ،‬والحائز‬

‫بسيط فقير عامي‪ ،‬كان يُعرف بأبي عزيز‪ ،‬رحمه الله‪ ،‬فما كان يهنأ‬

‫ابن عمر العقيل (أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري)‪ ،‬المتفرد‬

‫تشمل البساطة‪ ،‬والتواضع‪ ،‬وخفة الظل‪ ،‬عالقته المتميزة بإنسان‬ ‫له بال إال بوجوده‪ ،‬فإن لم يحضر أرسل في طلبه سائقه الخاص‪،‬‬

‫أو أحد أبنائه‪ ،‬وال يجلس أبو عزيز إال متصدرًا‪ ،‬وال يبخل عليه‬ ‫الشيخ في جلسة تعج بأدباء وشعراء ومثقفين بالسؤال والمناكفة‬

‫‪16‬‬

‫العالقة بين أبي عزيز وأبي عبدالرحمن سيجد المثل الواضح لما هو‬

‫وسام الملك عبدالعزيز من الدرجة األولى‪ :‬الشيخ المبجل محمد‬

‫بشخصية يصعب وصفها وتحديد إطارها‪ ،‬لكن المؤكد أن‬

‫صاحبها‪ :‬عالم موسوعي‪ ،‬نبيه‪ ،‬كريم‪ ،‬متسامح‪ ،‬بسيط‪ ،‬محب‬ ‫الحياة؛ إلفادة اآلخرين‪.‬‬

‫دقة وطموح‬ ‫العـودة إلى محاضـر اللجنة االستشارية للشؤون الثقافية‬

‫بالجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون وأوراقها‬ ‫الرسمية‪ ،‬يكشف لمن سيقف عليها مشاريع كبيرة كان يطمح‬

‫إلى تحقيقها؛ من بينها‪:‬‬

‫فارس في معجم مقاييس اللغة‪ ،‬مع محاولة إرجاع المعاني‬ ‫إلى معنى واحد أصلي ّ‬ ‫يدل داللة مطابقة؛ ألن ابن فارس يُرجع‬

‫المعاني إلى أكثر من أصل‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫صوتا ومعنى‪،‬‬ ‫سادسا‪ -‬أن ُتدرَس الحروف األصلية لكل مادة؛‬

‫‪ -‬موسوعة «األلفاظ المصطلح عليها بين أهل الفنون»‪،‬‬

‫على نحو دراسات ابن ِج ِّني في ِس ّر صناعة األعراب ودراسة ابن‬

‫االستشارية الدائمة للشؤون الثقافية بالجمعية العربية‬

‫ً‬ ‫سابعا‪ -‬أن ُتستخدم اإلحاالت في اإلشارة إلى المواد المبحوثة‬ ‫من ُ‬ ‫قبل‪.‬‬

‫وقد أوضح ما يتعلق بها في خطاب وجَّ هه إلى أعضاء اللجنة‬ ‫السعودية للثقافة والفنون‪ ،‬وقد بسط فكرتها في ثماني‬ ‫نقاط‪ ،‬هي‪:‬‬ ‫ً‬ ‫أول‪ -‬أن تكون بحوثا تستوعب األلفاظ المصطلح عليها‬ ‫بين أهل الفنون‪.‬‬

‫ثانيًا‪ -‬أن تغطي الفنون الجمالية؛ مثل‪ :‬الفنون‬

‫التشكيلية‪ ،‬واأللوان‪ ،‬والعروض‪ ،‬والقافية‪ ،‬والبديع‪ ،‬وما له‬ ‫عالقة بالنقد األدبي الجمالي‪.‬‬

‫ً‬ ‫ثالثا‪ -‬أن يكون بحث المادة مستوعبًا من الناحية اللغوية‬

‫وعلومها‪ ،‬ومن الناحية الفنية‪ ،‬ومن الناحية التاريخية‪ ،‬ومن‬ ‫الناحية الشرعية‪ ،‬ومن الناحية األدبية‪.‬‬

‫ً‬ ‫رابعا‪ -‬أن تصدر مرتبة على الحروف وفق منهج القاموس‬

‫المحيط‪.‬‬

‫خامسا‪ -‬أن ُت َّ‬ ‫ً‬ ‫رتب معاني المادة اللغوية على طريقة ابن‬

‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬

‫هشام في المُ غنِي‪.‬‬

‫ً‬ ‫ثامنا‪ -‬أن تصبح دراسة تطبيقية لكل علوم اللغة والنحو‬

‫والصرف والرسم اإلمالئي والتشكيل‪.‬‬

‫أما مراحل العمل فيها‪ ،‬فسردها في تسع نقاط؛ أقـتبسها‬

‫بنصها فيما يأتي‪:‬‬

‫أول‪ -‬من الضروري اشتراك أعضاء اللجنة االستشارية في‬

‫تحرير دراسة أنموذجية إلحدى المواد‪ ،‬وبتحرير تصور كامل‬

‫للموسوعة‪.‬‬

‫ثانيًا‪ -‬من الممكن تكليف رئيس الشؤون الثقافية بتحرير‬

‫التصور الكامل للموسوعة؛ عن أهدافها‪ ،‬وضرورتها‪ ،‬ومنهجها‬ ‫اللفظي والمعنويّ الذي سيُبنى‬ ‫من دراسة مستفيضة لالشتقاق‬ ‫ّ‬ ‫عليه منهج الموسوعة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ثالثا‪ -‬يُكلف الدكتور محمد المفدى ومحمد عبدالخالق‬


‫شخصية مهرجان الجنادرية ‪ 30‬علم غزير ونبل وتسامح‬

‫ابن جنيد مع الشيخ الظاهري‪ ،‬ويبدو الراحل الشيخ حمد الجاسر‬

‫عضيمة بجرد جميع الصيغ الصرفية لمادة «زمر» للماضي‬

‫ويستدل عليه‪ ،‬ويذكر المعاني المجازية‪ ،‬ويرتبها تاريخيًّا‬

‫للمعلوم‪ ،‬والجمع‪ ،‬والتصغير‪ ،‬والتفضيل‪ ،‬والمبالغة‪ .‬ويذكران‬

‫كما يستوفي المصطلحات العلمية من هذه المادة إن وجد‬

‫والمضارع واألمر‪ ،‬والالزم والمتعدي‪ ،‬والمبني للمجهول والمبني‬

‫القاعدة فيها عند تركيبها في سياق الكالم؛ كالقاعدة في اتصال‬ ‫الفعل بالضمائر‪ ،‬وكالقاعدة في تحويل الفعل الماضي إلى‬

‫مضارع‪ ،‬أو الالزم إلى متعدّ ‪ ...‬إلخ‪.‬‬

‫حسب اإلمكان‪ ،‬ويستوفي االستعمال العامي ويحقق أصله‪،‬‬

‫مصطلحات‪.‬‬

‫ً‬ ‫خامسا‪ -‬يكلف فضيلة الشيخ عبدالفتاح أبو غدة ببحث‬ ‫ما ورد في الزمر من نصوص الشرع‪ ،‬ويمحصها داللة وثبوتا‪ً.‬‬

‫شريطة أن يكون لهذا التركيب أثر في حروف الصيغة‪.‬‬ ‫ويذكران المعنى لكل صيغة حقيقية ومجا ًزا؛ كاألصل في صيغة‬

‫ً‬ ‫سادسا‪ -‬يكلف أحد الفنانين ‪-‬كطارق عبدالحكيم‪ -‬ببحث‬ ‫المزمار تاريخ ًّيا وفن ًّيا‪.‬‬

‫يميز الصيغة ويمنع من التباسها بغيرها‪ .‬ويضعان القاعدة ‪-‬كلما‬

‫الدكتور أحمد الضبيب‪ ،‬واألستاذ يحيى ساعاتي بجمع ما ورد‬

‫مثال ذلك‪« :‬كسرت مزمار زيد»‪ ،‬يُكتفى بالجزم للزاي‪ ،‬ويُقال‬

‫ً‬ ‫ثامنا‪ -‬بعد ذلك ُتعيّن لجنة لصياغة هذا األنموذج بحيث‬

‫فعال وفعالة ومفعال‪ .‬وي َُش ِّكالن كل صيغة بالقدر الكافي الذي‬

‫سنحت الفرصة‪ -‬للقدر المكتفى به من الشكل‪.‬‬

‫في القاعدة أو المسوغ‪ :‬لم تشكل الميم بالكسرة؛ ألنه لم يرد‬ ‫ً‬ ‫سماعا وال قياسً ا؛ ألن العرب ال تبدأ المفردة‬ ‫فتحها أو ضمها ال‬

‫بالسكون فتعين الكسر‪ .‬ولم تشكل الراء بالفتح؛ ألن وقوع مزمار‬ ‫مفعولاً به دون أي احتمال برهان على فتحها‪ .‬ويذكران ما له عالقة‬

‫ً‬ ‫سابعا‪ -‬يكلف معالي الشيخ عبدالعزيز الرفاعي‪ ،‬وسعادة‬

‫من الشعر واألمثال والنثر الفني عن الزمر‪.‬‬

‫يدمج البحث اللغوي والصرفي والشرعي ونصوص األدباء وفق‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وسياقا‪.‬‬ ‫مضمونا‬ ‫ترتيب منطقي؛ لتتضح داللة المادة‬ ‫ً‬ ‫تاسعا‪ -‬بعد إرسال األنموذج إلى المجامع واألفراد‬

‫المكلفين باالشتراك وأخذ آرائهم‪ ،‬يُعقد المؤتمر المصغر‬

‫بهذه المادة من علم النحو‪ :‬كـ «مزامير»؛ يذكران القاعدة والعلة‬

‫لدراسة فكرة الموسوعة‪ ،‬ويتم توزيعها على الباحثين‪ ،‬ويعين‬ ‫ّ‬ ‫وتكلف لجنة بجرد جميع المصطلحات‬ ‫نصيب كل باحث‪،‬‬

‫بها‪ .‬ويذكران وجه االشتقاق لكل صيغة والقاعدة في ذلك‪...‬‬

‫وقد سردت ما سبق إلظهار ما كان لدى الشيخ من طموح‬

‫من منعها من الصرف‪ .‬وإذا استوعبا الصيغ القياسية يذكران‬

‫الصيغ السماعية‪ ،‬ويُبينان وجه مخالفتها للقياس ووجهة التجوز‬ ‫ً‬ ‫رابعا‪ -‬يكلف أبو عبدالرحمن بن عقيل بحصر معاني «زمر» في‬

‫اللغة الفصحى‪ .‬ويعين المعنى الحقيقي األوَّلي األصلي الوضعي‪،‬‬

‫الفنية في بيان وترتيبها ترتيبًا معجم ًّيا‪.‬‬

‫عظيم؛ إلخراج أعمال مرجعية كبيرة‪ ،‬ولتبيين دقته في‬ ‫التحديد‪.‬‬

‫‪17‬‬


‫ملف العدد‬

‫نهاية الجغرافيا‬ ‫أم نظرية المؤامرة؟‬ ‫في مؤتمر لالستخبارات نظمته جامعة جورج تاون األميركية في واشنطن أكتوبر الماضي؛‬

‫قال «برنار باجوليه» مدير األمن الخارجي الفرنسي‪« :‬إن الشرق األوسط الذي نعرفه انتهى إلى‬

‫غير رجعة» جازمً ا بأن «العراق وسوريا لن يستعيدا حدودهما السابقة» ووافقه في ذلك «جون‬ ‫ً‬ ‫مؤكدا صعوبة عودة هذين البلدين إلى حدودهما‬ ‫برينان» مدير وكالة االستخبارات األميركية‪،‬‬

‫‪18‬‬

‫التي تشكلت بعد الحرب العالمية الثانية‪.‬‬ ‫اً‬ ‫والمراقب خريطة العالم العربي اليوم يجدها تغيَّرت فعل تغ ُّيرًا جغرافيًّا‪ ،‬وال يقتصر األمر‬

‫على تغيُّر حُ سم باستفتاء مثلما حدث في انفصال جنوب السودان‪ ،‬بل هناك مناطق مشتعلة‬

‫أخرى‪ ،‬فدولة ما يسمى (داعش) ألغت الحدود بين الرقة والموصل‪ ،‬وهي تتمدد وتنكمش‬ ‫ً‬ ‫وفقا لمتغيرات تكاد تكون يومية‪ ،‬وهي ً‬ ‫أيضا تعلن واليات لها في سيناء‪ ،‬وفي ليبيا من درنة‬ ‫إلى سرت‪.‬‬

‫هناك ما يشبه الدولة الكردية في شمال العراق‪ ،‬وتتشكل أخرى في شمال سوريا‪ ،‬أما‬ ‫مقسم شطرين‪.‬‬ ‫اليمن فال ُيعرَف هل ستفضي الحرب الحالية إلى يمن موحَّ د أم‬ ‫َّ‬

‫لقد كانت استعادة الجدل حول اتفاقية «سايكس بيكو» عام ‪1916‬م مادة مفضلة للمحللين‬ ‫اإلستراتيجيين‪ ،‬وكان مثقفون ينظرون إلى هذا التحليل بوصفه ضر ًبا من التكلف التاريخي الذي‬ ‫ال يلتفت لمعطيات الواقع العربي وما استقرت عليه الدول وحدودها‪.‬‬

‫واليوم يمر قرابة مئة عام على «سايكس بيكو» ومازال الجدل يتجدد حول الحدود العربية‬

‫وجغرافيا المنطقة التي ال تكاد تستقر؛ مجلة «الفيصل» طرحت على نخبة من الباحثين‬

‫والكتاب هذه األسئلة‪:‬‬

‫‪ ‬هل العالم العربي بصدد تحول جغرافي كبير؛ تتغير فيه الحدود‪ ،‬وتذوب فيه دول‪،‬‬ ‫وتنشأ أخرى؟ أم أن األحداث الجارية ستأخذ زمنها لكنها لن تخلف أثرًا؟ ًّ‬ ‫أحقا تغيرت خارطة‬

‫العراق وسوريا لألبد؟ ما دور الدول العربية واإلقليمية والقوى الدولية في ذلك؟ وما دور‬ ‫التنظيمات والميليشيات؟‬

‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬


19


‫تغيير الحدود‬

‫لن يتوقف عند حدود‬

‫َّ‬ ‫المفضل لدى كثير من المثقفين العرب‪،‬‬ ‫منذ وقت طويل والموضوع‬

‫هو التنبُّؤ بمؤامرات حول إعادة رسم الحدود‪ ،‬وتغيير أنظمة‬ ‫منطقة الشرق األوسط‪ ،‬وقد غذاها تغير األحالف الدولية؛ بسقوط‬

‫السوفييتي‪ ،‬وتوحُّ د أوربا‪ ،‬وظهور مفهوم اإلمبراطورية لدى‬ ‫االتحاد‬ ‫ّ‬ ‫األميركي‪ .‬المفاجأة أن الفريق الوحيد الذي‬ ‫مُ َن ِّظري اليمين المتطرِّف‬ ‫ّ‬

‫أعلن برنامج تغيير خريطة المنطقة‪ ،‬وبدأ فعليًّا في تطبيقها على‬ ‫األرض‪ ،‬هو تنظيم داعش؛ ففي التاسع من إبريل عام ‪2013‬م أعلن‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫أبو‪ ‬بكر البغداديُّ‬ ‫محصورة في‬ ‫توسيع مملكته الصغيرة التي كانت‬

‫‪20‬‬

‫عبدالرحمن الراشد‬ ‫كاتب ومحلل سياسي سعودي‬

‫وضمَّ إليها جماعة «جبهة النصرة» في سوريا‪ ،‬وأعاد تسمية َّ‬ ‫غرب العراق‪َ ،‬‬ ‫منظمته «الدولة اإلسالمية في‬ ‫ً‬ ‫العراق والشام»‪ ،‬وفي ُ‬ ‫والحقا َّ‬ ‫نص َ‬ ‫ب‬ ‫الخطبة نفسها رفض ما سمَّ اه بالحدود التي رسمتها القوى االستعمارية‪.‬‬ ‫ً‬ ‫البغداديُّ‬ ‫خليفة‪ ،‬وأعلن قيام الخالفة اإلسالمية التي ال حدو َد لها‪ ،‬واستولى مقاتِلوه على مناطق‬ ‫نفسه‬ ‫َ‬

‫حدودية بين العراق وسوريا؛ لهذه األسباب؛ أي‪َ :‬ك ْشف هذه الجماعة اإلرهابية عن مشروعها في التمدد‬ ‫َ‬ ‫والغزو‪ ،‬وإلغاء الحدود المرسومة‪ ،‬ومهاجمة الغرب؛ صار التنظيمُ‬ ‫عسكريين‬ ‫مستهد ًفا من أكبر تحالفي ِْن‬ ‫ِ‬

‫والروسي‪.‬‬ ‫األميركي‬ ‫في تاريخ المنطقة‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫«داعش» حركة تدمير ال بناء‪ ،‬ولن تستطيع تغيير منطقتها‪َ .‬د ُعوا‪ ‬عنكم‪ ‬قدرتها على تغيير العالم‪ .‬وفي‬ ‫الوقت نفسه‪ ،‬لو ُهزمت «داعش» ُ‬ ‫ض َي عليها‪ ،‬فإننا ال نستطيع أن نجزم بأن المشهد القديم لمنطقتنا‬ ‫وق ِ‬ ‫ُّ‬ ‫سيظل كما هو‪.‬‬

‫بوصفي أحد المهتمين بشؤون المنطقة وتحوُّالتها‪ ،‬أُتابِع‬ ‫‪ ‬أطروحات التغيير في المنطقة‪ .‬ومع أني أنبذ المدرسة‬ ‫زمن‬ ‫ِ‬ ‫منذ ٍ‬ ‫فسر األحداث و َْف َق نظرية المؤامرة‪ ،‬فإنني أدرك أن جوهر‬ ‫التي ُت ِّ‬

‫الصراع في الشرق األوسط هو الرغبة في‪ ‬التغيير‪ ،‬بالتوسع‬

‫والهيمنة‪ .‬وقد ارتفعت درجة اإليمان بأن هناك مؤامرة دولية‬ ‫ُتحَ ُ‬ ‫اك إلعادة تقسيم المنطقة؛ بسبب‪ ‬حروب العراق‪ ،‬وسوريا‪،‬‬ ‫واليمن‪ ،‬وليبيا‪ .‬لكن تفكيك‪ ‬هذه الدول المضطربة ال يحتاج إلى‬

‫مؤامرة؛ ألنها‪ ‬شبه منهارة ومفككة‪.‬‬

‫جغرافيًّا‪ ،‬تتجاوز نظرية تغيير الحدود ما وراء حزام ُدوَل‬

‫َّ‬ ‫الثوْرات‪ ،‬إلى الدُّ وَل المستق َّرة؛ مثل‪ :‬دول الخليج ومصر‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫مؤخ ًرا‪ ،‬في رأيي‪ ،‬قد تكون‬ ‫وهذه األطروحات التي شاعت‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬ ‫تدخالت‬ ‫بواعثها الفوضى المنتشرة‪ ،‬وتزايد‬ ‫مخاو َف‬ ‫محض‬ ‫ِ‬ ‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬

‫قوتي ِْن إقليميتي ِْن؛ هما‪ :‬إيران وتركيا‪ .‬وربما الشائعات هي من‬ ‫إنتاج أجهزة‪ ‬الدعاية المعادية المنتشرة‪ ،‬مستفيدة من سهولة‬ ‫استخدام ميديا التواصل‪ ،‬تقوم بتدوير أحاديث المؤامرة؛ لهدف‬ ‫ّ‬ ‫بث الشكوك والمخاوف‪ .‬الحقيقة الحروب في األغلب ليست‬ ‫نتاج مؤامرات؛ إنما هي بسبب سوء إدارة األنظمة لألزمات؛‬

‫مثلما حدث في سوريا‪ ،‬عندما لجأ النظام إلى سياسة القسوة‬

‫المفرطة في التعامل مع مظاهرة صغيرة‪ ،‬التي تحوَّلت إلى تم ُّرد‬ ‫واسع‪ ،‬ثم ثورة ضدّ نظام الحكم‪ .‬وال ننسى أن غزو صدام حسين‬ ‫ً‬ ‫الحقا‪ .‬‬ ‫الكويت كان سببًا جوهريًّا في سقوط نظامه وغزو العراق‬

‫ُ‬ ‫حرصت على متابعة الدراسات الجادَّة في قراءة‬ ‫لسنوات‪،‬‬ ‫التحوالت اإلقليمية‪ ،‬وكثير منها َتنبَّأ‪ ‬بأن منطقة الشرق األوسط‬ ‫لن تبقى مثلما هي حدودها اليوم‪ ،‬لكنَّ قليلاً صار وتغ َّي َر‪.‬‬


‫‪21‬‬

‫غالف مجلة أتالنتك‬

‫االستيالء على المناطق البترولية السعودية‬ ‫َّ‬ ‫لعل أقرب نظريات المؤامرة إلى الحقيقة ما حدث في‬

‫واشنطن‪ ‬في العاشر من يوليو عام ‪2002‬م‪ ،‬بعد‪ ‬تسعة شهور من‬ ‫هجمات الحادي عشر من سبتمبر‪ ،‬التي ُع ْ‬ ‫دَّت أكب َر اعتداء على‬

‫األراضي األميركية منذ الحرب العالمية الثانية‪ ،‬ففي ذلك اليوم‪،‬‬ ‫ُع ِقدَ اجتماع مُ َ‬ ‫غلق لمجلس السياسة الدفاعية ‪The Defense‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مهمة‬ ‫شخصية‬ ‫‪ Policy Board‬في البنتاغون‪ ،‬شاركت فيه ‪24‬‬

‫من حكومة الرئيس جورج دبليو بوش‪ ،‬ومكتب نائب الرئيس‬ ‫ديك تشيني‪ ،‬وجَ مْع من وزراء الخارجية والدفاع واالستخبارات‬ ‫السابقين ً‬ ‫أيضا‪ .‬االجتماع ُخ ِّصص لتدارس التعامل مع المملكة‬ ‫العربية السعودية‪ ،‬بعد تورُّط مجموعة من مواطنيها في‬ ‫هجمات الحادي عشر من سبتمبر‪ُّ ،‬‬ ‫واتهمت بأنها المسؤولة‬

‫ارتفعت درجة اإليمان بأن هناك‬ ‫اك إلعادة تقسيم‬ ‫ُح ُ‬ ‫مؤامرة دولية ت َ‬ ‫المنطقة؛ بسبب‪ ‬حروب العراق‪،‬‬ ‫وسوريا‪ ،‬واليمن‪ ،‬وليبيا‪ .‬لكن‬ ‫تفكيك‪ ‬هذه الدول ال يحتاج إلى‬ ‫مؤامرة؛ ألنها‪ ‬شبه منهارة ومفككة‬ ‫َّ‬ ‫وتولى محلل‬ ‫عن ف ِْكر تنظيم القاعدة‪ ،‬وتمويله والدعاية له‪.‬‬

‫فرنسي في مؤسسة «راند»‪ ،‬ي َ‬ ‫ُدعى لوران موراويك ‪Laurent‬‬ ‫ّ‬ ‫‪ ،Murawiec‬تقديم دراسة ومشروع ضدّ السعودية‪ .‬العرض‬

‫ملف العدد‬


‫المُ قت َرح وصل إلى حدّ الدعوة إلى االستيالء على‬ ‫ً‬ ‫دولة َعدُ وًّا‬ ‫المناطق البترولية السعودية‪ ،‬بوصفها‬

‫سبق لمجلة أتالنتيك األميركية أن اختارت لغالفها‬

‫على التحليل والفكرة سوى وزير الخارجية األسبق‪ ،‬هنري‬

‫عام ‪2006‬م تحت عنوان َب َّراق‪« :‬بعد العراق‪ :‬كيف سيبدو الشرق‬

‫ُت ِّ‬ ‫هدد أمْ ن أميركا والعالم‪ .‬الالفت أن أحدً ا لم يعترض‬

‫كيسنغر‪ ،‬الذي قال للمجتمعين‪ :‬صحيح لدينا مشكلة مع‬

‫السعودية‪ ،‬لكن السعودية دولة صديقة‪ ،‬وليست عدوًّا‪ .‬‬ ‫َ‬ ‫حقيقة هذا االجتماع‬ ‫لم يعرف أحدٌ خارج الدائرة الخاصة‬ ‫إلاَّ بعد شهر‪ ،‬عندما ُن ِشر عنه في الصحافة الجادة‪ .‬وال شك‬ ‫أن للسفارة السعودية‪ ،‬في تلك الحقبة العصيبة‪ ،‬دورًا مُ همًّ ا‬ ‫في مواجهة الجناح المتط ِّرف المُ عادِي المملكة داخل إدارة‬

‫ً‬ ‫موضوعا عن تغيير خرائط أغلبية منطقة الشرق األوسط في‬

‫شخصي من‬ ‫األوسط؟»‪ ،‬لكنه لم يكن أكثر من محض اجتهاد‬ ‫ّ‬ ‫الكاتب جيفري غولدبيرغ‪ ،‬الذي عاد وكرر الحديث قبل عام‬

‫ونصف عن الخريطة التي ر ُِس ْ‬ ‫مت بعد الحرب العالمية األولى‬ ‫أنها لن تبقى‪ .‬‬

‫وقد كتب كثيرون عن العراق خاصة‪ ،‬بإعادة رسم خريطته‬ ‫علني‪،‬‬ ‫وتفكيكه‪ ،‬وهذه لم تكن نظرية مؤامرة‪ ،‬بل هي َط ْرح‬ ‫ٌّ‬

‫ُ‬ ‫ً‬ ‫مشروعا من جو بايدن‪ ،‬نائب الرئيس الحالي‪،‬‬ ‫سبق‬ ‫أن‪ ‬ق ِّدمَ‬

‫بوش‪ ،‬ونجحت في إقناع الرئيس بوجهة نظرها‪ ،‬ولألمير بندر‬ ‫بن سلطان‪ ،‬سفير المملكة حينها‪ ،‬تعليق معبِّر عندما سأل ْته‬

‫عندما كان سيناتورًا في مجلس الشيوخ عام ‪2006‬م‪ .‬بايدن دعا‬

‫«ترديد األكاذيب ال يجعل منها حقائق»‪ .‬ومع أن الحكومة‬ ‫األميركية في عهد بوش َّ‬ ‫ً‬ ‫صديقة للسعودية‪ ،‬لكن استم َّرت‬ ‫ظلت‬

‫إثنياتها في اتفاقية دايتون‪ .‬إنما كل اإلدارات األميركية السابقة‬

‫الصحافة عن موقف بالده مما قيل في االجتماع؛ إذ أجاب‪:‬‬

‫الحملة المعادية في واشنطن‪ ،‬وازدادت الشكوك داخل‬ ‫السعودية من النوايا األميركية بعد احتالل العراق عام ‪2003‬م‪.‬‬

‫الحديث اليوم عن إعادة رسم الحدود يتمحور في بلدين‪:‬‬ ‫العراق وسوريا؛ إذ صار كثيرون مقتنعين أن الجَ َّر َة قد ُك ِس ْ‬ ‫رت‪،‬‬

‫‪22‬‬

‫كيف سيبدو الشرق األوسط؟‬

‫وأننا لن نشهد عودة البلدين إلى حدودهما على الخريطة‪ .‬وقد‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫مراسل نيويورك‬ ‫موضوع تبدُّل الحدود والخرائط‪،‬‬ ‫سبق أن َف َتحَ‬

‫تايمز حينها روبرت وورث‪ ،‬في تقرير ُنشر في ‪ 26‬يونيو عام‬ ‫ً‬ ‫ملحوظا‬ ‫‪2014‬م‪ .‬وقد أثارت الخريطة التي رافقت تقريره انتباهً ا‬

‫في منطقتنا‪ ،‬مع أن وورث لم ينقل شي ًئا رسميًّا يؤ ِّكد تفكيك‬ ‫ً‬ ‫قناعة بأن االنفصال حاصل‬ ‫العراق أو سوريا‪ ،‬سوى أن هناك‬

‫ُ‬ ‫اتصلت‬ ‫كأمر واقع‪ ،‬وتحديدً ا في إقليم كردستان العراق‪ .‬وقد‬

‫إلى تقسيم العراق إلى ثالث دول‪ُ :‬كردية‪ ،‬وسُ ِّنيَّة‪ ،‬وشيعية؛‬ ‫ُ‬ ‫تفكيكها؛ لوقف الحروب بين‬ ‫ليكون مثل يوغسالفيا‪ ،‬التي جرى‬ ‫والمتعاقبة‪ :‬بيل كلينتون‪ ،‬ودبليو بوش‪ ،‬والحالية باراك أوباما‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫تزمت بعراق موحَّ د‪ .‬والسبب األول يرجع إلى صعوبة تأسيس‬ ‫ْال‬

‫مثل هذه الدول‪ ،‬وثانيًا هناك خوف من فكرة تغيير الخرائط‬ ‫وعواقبها على المنطقة‪ .‬وعند التدقيق في المواقف السياسية‬ ‫ً‬ ‫متحمسة‪ ،‬بخالف‬ ‫سنجد أن كل الدول بما فيها إيران‪ ،‬ليست‬

‫بعض قيادات العراق الشيعية التي تريد التقسيم؛ ألنه يعطيها‬ ‫دولة صغيرة بثروة كبيرة‪ ،‬إلاَّ أن إيران مثل تركيا‪ ،‬تخاف‬

‫َ‬ ‫َ‬ ‫خشية أن يفتح‬ ‫استقالله؛‬ ‫تبعات مَ ْنح إقليم كردستان العراق‬ ‫ِ‬ ‫الباب ألكراد إيران‪ ،‬وتعدادهم ثمانية ماليين‪ ،‬فيطالبوا الحقاً‬

‫باستقاللهم‪ ،‬ويهدّ د وَحْ دَ ة إيران المكوّنة من إثنيات ستطالب‬ ‫ً‬ ‫بالحق نفسه‪ .‬وال تريد إيران ً‬ ‫ّ‬ ‫دولة سُ نية في غرب العراق؛‬ ‫أيضا‪-‬‬‫ّ‬ ‫ستظل مصدر تهديد لبغداد وبقية الجنوب‪ .‬ومن َثمَّ فإن‬ ‫ألنها‬

‫ُ‬ ‫واستطلعت رأيَه‪ ،‬فقال‪ :‬إنه ال‬ ‫بوورث قبل أن أكتب هذا المقال‪،‬‬ ‫ًّ‬ ‫يزال يرى أن اإلقليم ُ‬ ‫الكرديَّ في العراق أكثر حظا في االنفصال‪،‬‬

‫مصلحة الجميع‪ ،‬على اختالف نواياهم‪ ،‬اإلبقاء على خريطة‬

‫جدًّا‪ ،‬وأن الخيارات المقبولة والبديلة هي منح األقاليم مزيدً ا‬

‫الرئيس الكرديّ مسعود بارزاني عن إصراره على االستقالل في‬

‫َّ‬ ‫ومعقد‬ ‫لكنه ال يزال يعتقد أن تفكيك الدولة السورية أمر صعب‬ ‫من االستقاللية اإلدارية على حساب المركز‪ .‬‬

‫هناك خوف من فكرة تغيير الخرائط‬ ‫وعواقبها على المنطقة‪ .‬وعند‬ ‫التدقيق في المواقف السياسية‬ ‫سنجد أن كل الدول بما فيها إيران‪،‬‬ ‫ليست متحمسةً‬

‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬

‫سايكس بيكو‪ ،‬ربما باستثناء كردستان العراق‪ ،‬وقد عبَّر‬

‫حديثه األخير إلى صحيفة الغارديان‪ .‬‬

‫ولنتذكر أن الحدود الحالية في معظم دول العالم‬ ‫َّ‬ ‫محل رضا كثير من الدول والشعوب‪ ،‬لكنها أمر واقع‬ ‫ليست‬

‫الدولي‪ ،‬بعد الحرب‬ ‫جرى تثبيته‪ .‬ومهم أن ندرك أن المجتمع‬ ‫ّ‬

‫العالمية الثانية‪ ،‬حرص على ترسيخها‪ ،‬ورفض تغييرها؛‬ ‫لتج ُّنب الفوضى والحروب‪ .‬وعلى الرغم من هذه السياسة‪ ،‬فإن‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫مطابقا ما كان عليه عام ‪1945‬م؛ إذ انفصلت‬ ‫العالم اليوم ليس‬

‫باكستان عن الهند‪ ،‬ثم انفصلت بنغالديش عن باكستان‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وق ِّسمت إثيوبيا ويوغسالفيا والسودان‪ ،‬وبالطبع دول االتحاد‬ ‫ّ‬ ‫استقلت‪ ،‬وبقيت معظم خريطة العالم مثلما‬ ‫السوفييتي التي‬ ‫ّ‬ ‫ُسمت من ُ‬ ‫ْ‬ ‫قبل‪.‬‬ ‫ر‬


‫الشرق األوسط بين عامي ‪ 1914‬و ‪1922‬م‬

‫سرية‬ ‫أشهر اتفاقية ِ‬ ‫ُ‬ ‫ال يمكن التحدُّث عن الحدود والخرائط من دون أن أدلي‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫خطوط‬ ‫َسمت‬ ‫مثل بقية الزمالء‪ ،‬برأيي في أَ ْشهَر اتفاقية سرية ر‬ ‫منطقة الشرق األوسط في التاريخ المعاصر؛ أعني اتفاق‬

‫والفرنسي‪ :‬سايكس وبيكو‪ .‬فاالتفاقية‬ ‫البريطاني‬ ‫الدبلوماسيي ِْن‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫التي ّ‬ ‫العربي‪.‬‬ ‫وقعت قبل مئة عام‪ ،‬رسمت حدود منطقة الشمال‬ ‫ّ‬ ‫ومع احترامي مَ ن ي ِّ‬ ‫ُعلق كثي ًرا من اللوم على تلك االتفاقية‪ ،‬فإنه‬ ‫َ‬ ‫العالمَ الذي سبق تقسيم المنطقة‪ ،‬حيث‬ ‫من المهم أن نتع َّر َف‬ ‫لم يكن هناك معظم الدول العربية بالمعنى المتعارف عليه‬

‫سسوا دولة‬ ‫البريطانيون هم الذين َأ َّ‬

‫‪23‬‬

‫العراق الحديثة‪ ،‬بتوسيع حدودها‪،‬‬ ‫وضم إقليم كردستان‪ ،‬مع أن األكراد ال‬ ‫ّ‬ ‫وس ُعوا‬ ‫يتحدثون العربية‪ .‬وهم الذين َّ‬ ‫العربي‪ ،‬بضم‬ ‫مساحة السودان‬ ‫ّ‬ ‫الجنوب إليه‬

‫اليوم‪ .‬وخريطة عراق األمس ليست مثل التي نشاهدها اآلن‪،‬‬ ‫وال سوريا‪ .‬الحقيقة أن فلسطين هي التي كانت الضحية؛ ألنها‬

‫مُ ِن ْ‬ ‫حت اليهو َد إلى األبد‪ ،‬بما فيها القدس‪ .‬‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫عرب وادي‬ ‫ال يَعْ ني هذا أنه لم يكن هناك ظلم لحِ ق‬ ‫َ‬ ‫الرافدين‪ ،‬إنما أَتحدَّث عن تغيير الحدود‪ .‬فالعراق وسوريا كانا‬

‫يخضعان لحكم األتراك‪ ،‬ثم صار البلدان يخضعان لحكم التاج‬ ‫البريطاني وفرنسا‪ .‬والبريطانيون هم الذين أَسَّ سوا دولة العراق‬ ‫ّ‬ ‫الحديثة‪ ،‬بتوسيع حدودها‪ ،‬وضمُّ وا إليها إقليم كردستان‪ ،‬مع‬

‫من الصين إلى جنوب شرق آسيا‪ ،‬حتى المغرب وبقية دول‬

‫إفريقيا‪ .‬وتصارعت الدول االستعمارية؛ حتى بلغ الصدام بينها‬ ‫ً‬ ‫الحقا كحرب عالمية ثانية‪،‬‬ ‫داخل القارة األوربية نفسها‪ ،‬وانفجر‬ ‫وتسبَّب الدمار الهائل والدماء في تحطيم أوربا‪ ،‬ومعها انتهى‬ ‫المفهوم االستعماريّ ‪ ،‬وتحوَّل معظم العالم الثالث إلى عصر‬

‫الدولة القومية بحدود مرسومة ودائمة‪ .‬واتفقت الدول الكبرى‬

‫أن األكراد ال يتحدثون العربية‪ .‬والبريطانيون هم الذين وسَّ عُ وا‬

‫على المحافظة‪ ،‬قدر المستطاع‪ ،‬على حدود الدول القديمة‬

‫عرقيًّا ودينيًّا‪.‬‬

‫أن خالفات الحدود كثيرة‪ ،‬فإن حروبها قليلة‪ ،‬وقد تعايشت‬

‫العربي‪ ،‬بضم الجنوب إليه‪ ،‬بإثنياته المختلفة‬ ‫مساحة السودان‬ ‫ّ‬

‫مثلما هي‪ ،‬بعد حسم الحرب العالمية الثانية‪ .‬وعلى الرغم من‬

‫التاريخي؛‬ ‫وعندما نضع اتفاقية سايكس بيكو في منظورها‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫العالم كما كان‪ ،‬وليس كما ننظر إليه اليوم‪،‬‬ ‫نستطيع أن نفهم‬

‫معظم األمم معها؛ طلبًا للسلم واالستقرار‪ .‬كما أن الدعوات‬ ‫االنفصالية لم َتجدْ كثي ًرا من التعاطف‪ ،‬مهما كانت مسو ً‬ ‫َّغة؛‬

‫مثلما تقاسموا بقية دول العالم بعد الحرب العالمية األولى؛‬

‫أغلبية دول العالم‪ ،‬مثلما نرى في إسبانيا وبريطانيا وغيرهما‪ .‬‬

‫فالفرنسيون والبريطانيون تقاسَ موا تركة الدولة العثمانية‪،‬‬

‫ً‬ ‫خوفا من انتشار َعدْ وَاها؛ إذ توجد ميول انفصالية تقريبًا في‬

‫ملف العدد‬


‫تصدع العراق وسوريا‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫مرشح للتعميم عرب ًّيا‬ ‫خطر‬ ‫العربي منذ خمسة أعوام جملة‬ ‫طرحت األحداث المتالحقة في العالم‬ ‫ّ‬ ‫تتعلق اً‬ ‫َّ‬ ‫أول بتعايش مك ِّونات المجتمعات داخل حدود بلدانها‪،‬‬ ‫إشكاليات‬ ‫ُ‬ ‫وثانيًا باستهدافات القوى الدولية واإلقليمية وطبيعة روابطها مع تلك‬ ‫المكوّنات‪ .‬وما بدأ كحراكات داخلية ترمي إلى تصحيح أوضاع الحكم‬

‫وحقوق الجماعات‪ ،‬سرعان ما انزلق؛ إمّ ا بصراعات دامية‪ ،‬أو بانقسامات‬ ‫االجتماعي تم ُّزقات عميقة؛ أظهرت‬ ‫عمودية‪ .‬وفي الحالين شهد النسيج‬ ‫ّ‬

‫عبدالوهاب بدرخان‬ ‫كاتب ومحلل سياسي لبناني‬

‫‪24‬‬

‫سلمي إنما كان في الحقيقة ُهدنة‬ ‫بدورها أن ما كان ُيعتقد أنه تعايش‬ ‫ّ‬ ‫انتظار أيّ فرصة تسنح لتغيير الواقع‪ ،‬ليس سياسيًّا فحسب‪ ،‬إنما جغرافيًّا‬ ‫ً‬ ‫أيضا‪.‬‬

‫التاريخي الكبير لم يكن في انهيار هذا التعايش‬ ‫إن اإلخفاق‬ ‫ّ‬

‫فحسب‪ ،‬إنما في إخفاق أنظمة الحكم في بناء الدولة‪ ،‬دولة‬ ‫لجميع أبنائها‪ ،‬تعاملهم بمعايير مُ َ‬ ‫واطنة واحدة‪ ،‬وتعترف‬

‫الجغرافي للبلد‪ .‬ذاك أن القوى الخارجية كانت‬ ‫حدّ طرح الكيان‬ ‫ّ‬ ‫لها يدٌ تاريخيًّا في تكوين هذه الدول بشكل مباشر أو غير مباشر‬

‫(معاهدة سايكس بيكو عام ‪1916‬م‪ ،‬فيما يتصل بسوريا‪ .‬ضغوط‬

‫بمساواتهم بموجب القوانين‪ .‬أدَّى هذا اإلخفاق إلى هشاشة‬ ‫مزمنة في االنتماء والوالء‪ ،‬وإلى داء ُع َ‬ ‫ضال في كل أوصال‬

‫اإليطالي لترسيخ األقاليم الثالثة الليبية‪ .‬ترجيح‬ ‫االستعمار‬ ‫ّ‬ ‫وجنوبي)‪.‬‬ ‫شمالي‬ ‫البريطاني وجود يمني ِْن‪:‬‬ ‫االستعمار‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫األميركي‪ ،‬عنص ًرا مساعدً ا في تدعيم السلم‬ ‫وبخاصة الدور‬ ‫ّ‬ ‫األهلي‪ ،‬إنما اشتغل كالعادة على التناقضات الداخلية أليّ بلد‪،‬‬ ‫ّ‬

‫االسم الجميل لحقبة بائسة‪ ،‬تجدر اإلشارة إلى العراق الذي‬

‫بلغه «الربيع» الدمويّ عبر الغزو واالحتالل األميركيين عام‬

‫لتحريضها على التح ُّرك «من أجل الحرية والديمقراطية»‪.‬‬ ‫وعندما فعلت أخي ًرا‪ ،‬أو ُخيِّل إليها أنها تفعل‪ ،‬أخفق الدور‬ ‫ً‬ ‫إخفاقا ذريعً ا في فهم حركاتها ومالقاة طموحاتها‪،‬‬ ‫األميركي‬ ‫ّ‬

‫إقليمي هُ‬ ‫المي؛ إذ ح ّركت كل الرواسب الطائفية والقومية‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫واإلثنية‪ ،‬ووضعت كل الخرائط تحت المراجعة‪ ،‬وإعادة النظر‬

‫الخارجي‪،‬‬ ‫الدولة والمجتمع‪ .‬في المقابل لم ي َُكن العامل‬ ‫ّ‬

‫داعمً ا األنظمة؛ ألنها تلبّي مصالحه‪ ،‬ومخاطبًا المجتمعات؛‬

‫واألسوأ من ذلك كان اإلخفاق في «إدارة» األزمات التي نجمت‬

‫عن االنتفاضات الشعبية‪.‬‬

‫أثبتت الوقائع أنه حيثما توافرت عناصر داخلية (مؤسسة‬

‫المدني في تونس) أمكن كبح‬ ‫الجيش في مصر‪ ،‬والمجتمع‬ ‫ّ‬ ‫جماح الفوضى‪ ،‬ووضع أُسُ س الستعادة االستقرار‪ ،‬ومقاومة‬ ‫ُ‬ ‫الثالث األخرى‪( :‬سوريا‪ ،‬واليمن‪،‬‬ ‫األجندات الخارجية‪ .‬أما الب َُؤ ُر‬

‫وليبيا) التي سقطت في ّ‬ ‫فخ االقتتال وسفك الدماء‪ ،‬فعانت‬ ‫زم ًنا طويلاً‬ ‫هيمنة فئة واحدة ّ‬ ‫َ‬ ‫أقلية؛ َقبَلية أو مذهبية‪ ،‬صادرت‬ ‫الجيش واألمن‪ ،‬واستخدمتهما ضد أغلبية الشعب؛ لذلك غلب‬

‫الجراحي‪ ،‬على ما فيه من مخاطر تصل إلى‬ ‫عليها نهج التغيير‬ ‫ّ‬ ‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬

‫عدا البلدان الثالثة التي شملتها خريطة «الربيع العربي»‪،‬‬

‫‪2003‬م‪ .‬وسواء أكانت حرب العراق خطوة أميركية أم ال‪ ،‬فقد‬ ‫صار واضحً ا اآلن أنها ّ‬ ‫دقت المسمار األخير في نعش «استقرار»‬

‫في الحدود‪.‬‬

‫وأتاحت الحرب العالمية األولى للحلفاء المنتصرين‬

‫التص ُّرف في «الواليات» العربية ‪ -‬العثمانية‪ ،‬بوساطة فرضها‬

‫ورسم خرائط الدول‪ ،‬ومنها‬ ‫والفرنسي‪،‬‬ ‫البريطاني‬ ‫االنتدابي ِْن‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫العراق‪ ،‬وكذلك تركيا‪ ،‬وتوزيع األكراد على أربع دول‪ ،‬وإصدار‬

‫قومي لليهود‪ ،‬فإن تداعيات الحرب الثانية‬ ‫«وعد بلفور» بوطن‬ ‫ّ‬ ‫أدَّت إلى ترسيخ هذه الوقائع وصولاً إلى إنشاء «دولة إسرائيل»‪،‬‬

‫العربي؛ مما أفسد‬ ‫أو باألحرى‪ :‬زرْعها جسمً ا غريبًا في المشرق‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫حديثا‪ ،‬وشغلها بالحروب‬ ‫«المستقلة»‬ ‫عمل ًّيا انطالقة الدول‬ ‫ً‬ ‫عوضا من انكبابها على بناء المؤسسات‪ ،‬والتنمية‪ ،‬وبلورة‬


‫عقودها االجتماعية‪.‬‬

‫وأسهمت الحروب الخمسة ضدّ إسرائيل في ب َْلبَلة التماسك‬

‫داخليًّا وعربيًّا‪ ،‬فإن األنظمة القائمة على الهيمنة العسكرية‬

‫استطاعت أن تطمس التباينات االجتماعية من دون أن تكون‬ ‫بصدد بناء عالقة وئام وسالم؛ ال بينها وبين مجتمعاتها‪ ،‬وال‬

‫بين الفئات والمكوّنات‪ .‬لكن ها هي الحرب األميركية في العراق‬ ‫ّ‬ ‫يتمثل‬ ‫قد فجّ رت األلغام‪ ،‬بل أضافت إليها‪ ،‬وإذا بأبرز نتائجها‬

‫األميركي‬ ‫في وضع نواة إنشاء دولة ُكردية من خالل الدعم‬ ‫ّ‬ ‫ٍّ‬ ‫تشظ‬ ‫االستثنائي لـ«إقليم كردستان العراق»؛ مما أدَّى إلى‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫لتتولى إيران إدارة‬ ‫ودولة‪،‬‬ ‫وأرضا‬ ‫واقعي لوَحْ دَ ة العراق شعبًا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫التشظي‪ ،‬سواء بالتعاون مع النظام السوريّ في تغذية‬ ‫هذا‬ ‫اإلرهاب ونشره في أثناء وجود األميركيين في العراق‪ ،‬أم‬ ‫بتعميمه بعد انسحابهم بوساطة دفع حكومة بغداد إلى نهج‬

‫«إرهاب الدولة»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫شكلت الواقعتان التاريخيتان‪ :‬إنشاء إسرائيل باالستيالء‬

‫العراقي وخلخلته‬ ‫على أرض غيرها بالقوة‪ ،‬وضرب الكيان‬ ‫ّ‬ ‫الخارجي‬ ‫للسعي‬ ‫بالغزو واالحتالل‪ ،‬نموذجي ِْن كارثيين‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫الستثناء المنطقة العربية من أيّ ثبات أو استقرار‪ .‬فاألولى‬

‫ً‬ ‫«وفاقا دوليًّا»‪ ،‬حتى في أكثر مراحل الحرب الباردة‬ ‫رسَّ خت‬ ‫ً‬ ‫سخونة‪ ،‬قوامُ ه عدمُ سريان القانون والمعاهدات الدولية على‬

‫وضعية إسرائيل‪ ،‬وتأمين تفوُّقها العسكريّ (بما فيه النوويّ )؛‬ ‫مما أسّ س عالقة مبتورة وغير سليمة بين العرب والنظام‬

‫عربي‪ .‬فإذا كان‬ ‫الدولي‪ ،‬بل بين العرب أنفسهم وداخل كل بلد‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫ّ‬ ‫ويحصن الظلم في‬ ‫الدولي يتوقف عند أبواب المنطقة‪،‬‬ ‫القانون‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫مكانا في محيطها‪.‬‬ ‫فلسطين‪ ،‬فكيف لـ«ثقافته» أن َت ِجد لها‬ ‫أما الواقعة الثانية‪ ،‬فجعلت من «إقامة‬ ‫ً‬ ‫مشروعا أميركيًّا معل ًنا‬ ‫الديمقراطية»‪ ،‬بوصفها‬

‫المنطقة َ‬ ‫َ‬ ‫مئة عام ‪-‬بل أكثر‪ -‬إلى‬ ‫نفسها لهذه اللحظة التي ُت ِعيد‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫احتاجت إلى منظومة إقليمية عربية قادرة على َصوْن‬ ‫الوراء‪ ،‬وإِ ِذ‬ ‫ً‬ ‫كافة‪ ،‬فقد اصطدمت أولاً بحقيقة ضياع‬ ‫كياناتها والدفاع عنها‬

‫عربي» مستحيل‪ ،‬وثانيًا‬ ‫عقود ِعدَّ ة في البحث عن «تضامن‬ ‫ّ‬ ‫بواقع ْال ِتقاء اإلستراتيجيات واألجندات األميركية واإلسرائيلية‬

‫واإليرانية على االستثمار في الضعف والضياع العربيي ِْن‪.‬‬ ‫حتى قاعدة «المصالح الدائمة» ال الصداقات‪ ،‬المعروفة في‬ ‫العالقات بين الدول‪ ،‬لم تستقم بين العرب وأميركا‪ ،‬بدليل ما‬

‫تشهده حاليًا دول الخليج عامة‪ ،‬والمملكة العربية السعودية‬ ‫ّ‬ ‫اإلقليمي‪.‬‬ ‫تتعلق بمتطلبات أَمْ نها‬ ‫خاصة من ابتزازات أميركية‪،‬‬ ‫ّ‬

‫ُّ‬ ‫اإليراني لمحاصرة‬ ‫التسلل‬ ‫ولوال «عاصفة الحزم» التي (فرملت)‬ ‫ّ‬ ‫المملكة؛ َلكانت واشنطن تعايشت مع الهيمنة اإليرانية‬ ‫بوصفها مُ عْ ًطى يخدم مصالحها‪.‬‬

‫قد تكون المنطقة العربية مُ ق ِبلة على تغييرات ش ّتى في‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫األول في العراق‪،‬‬ ‫الصدع‬ ‫خريطتها؛ فاإلقليم الكرديّ أَحْ دَث‬ ‫َّ‬ ‫المرشح لتطوير الصدع الحاصل في سوريا‪،‬‬ ‫واإلقليم الكرديّ‬

‫اإليراني (إضافة إلى القوى الدولية)‬ ‫قد يتخذه النظام وحليفه‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫دَّ‬ ‫َعْ‬ ‫ركيزة للتقسيم وإلنشاء أقاليم ِع ة‪ .‬وال ي ني ذلك أن عمليات‬

‫التقسيم يمكن أن َتجْ ِري بسهولة وسالسة‪ ،‬بصفقات أو‬ ‫تفاهمات أو حتى قرارات دولية‪ ،‬إنما بإدامة الصراعات مدة‬

‫زمنية في انتظار أن يبدو األمر الواقع كأنه عالج مقبول‪ .‬ألجل‬

‫‪25‬‬

‫«الداعشي» ضدّ الدول العربية‬ ‫ذلك يُستخدَ م وباء اإلرهاب‬ ‫ّ‬

‫التي ترفض مشاريع التقسيم لتهديدها وإقالقها؛ إذ إنه يمكن‬ ‫َ‬ ‫الالحقة في مسار التفكيك والتفتيت؛ لذلك كانت‬ ‫أن تصير‬

‫الحاجة إلى تعميم الحزم ليصبح نهجً ا عرب ًّيا؛ ألن السكوت‬ ‫دان المخاط َر‪ ،‬إنما ي َُفعِّ النها‪.‬‬ ‫واالستكانة ال ي ِ‬ ‫ُبع ِ‬

‫للعراق بعد تخليصه من النظام الدكتاتوريّ ‪،‬‬

‫ّ‬ ‫حل الدولة وتفكيكها‪ ،‬وإلى زعزعة‬ ‫جس ًرا إلى‬ ‫المجتمع وتفتيته‪ ،‬ومن َثمَّ إيقاظ فيروسات االنقسام‬

‫والتقسيم وتنشيطها‪ ،‬ليس في العراق فحسب‪ ،‬إنما في‬ ‫المنطقة عامة؛ إذ إن الخلل في الجوار ال يمكن أن يُبقي‬

‫أيّ بيت بمنأى عن المخاطر‪ ،‬سواء أكانت موجات الجئين‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫تدخالت لتحريك الضغائن المذهبية‬ ‫أم تنظيمات إرهابية‪ ،‬أم‬ ‫والعرقية‪.‬‬

‫في هذه الظروف اإلقليمية الموبوءة بكل أنماط السياسات‬ ‫ُ‬ ‫غير األخالقية وغير اإلنسانية؛ انطلقت الحَ َر ُ‬ ‫الشعبية‬ ‫اكات‬ ‫ً‬ ‫باحثة عن تغيير تستثمره في مستقبلها‪ ،‬لكنها وقعت سريعً ا‬ ‫في المستنقعات التي لم تتهيّأ للتعامل معها‪ ،‬واصطدمت‬

‫بنقص مناعة المجتمعات إزاء األمراض الكامنة أساسً ا في‬ ‫داخلها‪ .‬وفي اللحظة الحالكة اكتشفت «األمة» أنها لم َتعُ دّ‬

‫ملف العدد‬


‫هل تتغير‬

‫خريطة العالم العربي‬

‫؟‬

‫كثيرة هي الشواهد التي تفرض إثارة السؤال‬

‫العربي؛‬ ‫عن احتمال تغير خريطة العالم‬ ‫ّ‬ ‫نتيجة الصراعات العنيفة التي يبدو أنها ُتمزق‬

‫مجموعة من بالده‪ ،‬وبخاصة سوريا والعراق‬

‫وليبيا‪ .‬ويحظى هذا السؤال باهتمام واسع كلما حدثت‬

‫تطورات يبدو أنها تحمل في طياتها مالمح تغير في خريطة‬

‫هذا البلد أو ذاك‪ .‬ومن هذه التطورات في المدة األخيرة‬

‫ديموغرافي‪،‬‬ ‫كثافة المحاوالت التي ترمي إلى تحقيق تغيير‬ ‫ّ‬

‫واقترانها بتحركات تهدف إلى عزل مناطق معينة في العراق‪.‬‬

‫فقد ازدادت وتيرة العمليات التي تقوم بها ميليشيا «الحشد‬

‫‪26‬‬ ‫وحيد عبدالمجيد‬ ‫‪ ‬نائب رئيس مركز األهرام‬ ‫للدراسات اإلستراتيجية‬

‫الشعبي»؛ إلفراغ المناطق التي تسيطر عليها في ديالى من‬ ‫ّ‬ ‫الس َّنة‪ ،‬ومَ ْنع عودة المهجّ رين إليها‪ .‬وتزامن ذلك مع‬ ‫قاطنيها ُّ‬

‫ّ‬ ‫يمتد من منطقة ربيعة‬ ‫شروع حكومة إقليم كردستان في حفر خندق‬

‫إلى فضاء خانقين‪ .‬وعلى الرغم من أن الهدف المعلن هو حماية قوات‬

‫«البيشمركة» الكردية من هجمات تنظيم «داعش»‪ ،‬فإن السؤال يظل مثارًا‬ ‫الحقيقي هو الشروع في رسم حدود على‬ ‫عن احتمال أن يكون غرضه‬ ‫ّ‬ ‫األرض في الوقت الذي كرَّر رئيس حكومة إقليم كردستان مسعود بارزاني‬

‫دعوته إلى إجراء استفتاء؛ لتقرير مصير هذا اإلقليم‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫سلمي‬ ‫لحل‬ ‫إن المصاعب الهائلة التي تجعل السعي‬ ‫ّ‬ ‫للصراع الذي تحوَّل حربًا أهلية في سوريا‪ ،‬والمشاكل‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬ ‫الحل‪،‬‬ ‫التوصل إلى مثل هذا‬ ‫المتعاقبة التي تواجه محاوالت‬

‫وتؤدي إلى ُّ‬ ‫تعثره المرة تلو األخرى في ليبيا؛ تجعل السؤال‬

‫عن حدوث تغير في خرائط هذه البالد‪ ،‬وفي خريطة العالم‬

‫العربي‪ ،‬مطروحً ا‪ .‬غير أنه ال تتوافر دالئل كافية حتى اآلن على‬ ‫ّ‬

‫نهائي في‬ ‫أن هذه الشواهد وغيرها يمكن أن تكون بداية لتغير‬ ‫ّ‬ ‫الخريطة‪ .‬والمقصود بالتغيّر النهائي هو ذلك الذي يجد قبولاً‬ ‫ّ‬ ‫إقليم ًّيا ودول ًّيا‪ ،‬ويحظى برضا قاطني المناطق التي س ُترسم‬ ‫فيها حدود جديدة‪.‬‬

‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬

‫ُّ‬ ‫توقع حدوث مثل هذا التغيُّر‪ ،‬في‬ ‫ويصعب منهج ًّيا‬ ‫ّ‬ ‫ظل حالة سيولة ت َّتسم بها الصراعات التي قد تؤ ِّدي إليه‪ .‬فال‬

‫يتيسر في ظل هذه السيولة االحتفاظ بالمواقع التي ينتزعها‬ ‫َّ‬ ‫هذا الطرف أو ذاك من غيره في سوريا طوال الوقت‪ .‬وال ي ِّ‬ ‫ُسلم‬ ‫أيّ من هذه األطراف بسيطرة غيره على منطقة من «مناطق‬ ‫ماس» التي تدور فيها معظم المعارك‪ ،‬حتى إذا استمرت‬ ‫ال َّت ّ‬ ‫هذه السيطرة مُ دَّ ة‪ .‬والنمط السائد في الصراع في سوريا‪ ،‬أو‬

‫عليها‪ ،‬هو أن أغلبية المواقع التي يسيطر عليها طرف أو آخر‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫هدفا يسعى غيره النتزاعه منه‪ ،‬مع‬ ‫يظل‬ ‫في هذه المناطق‬ ‫مراعاة اختالف موازين القوى من وقت إلى آخر‪ .‬وإذا كان‬


‫من الصعب حتى اللحظة الراهنة أن نتخيل‬ ‫يحقق مصالح القوى‬ ‫تغييرا في هذه الخرائط‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫اإلقليمية الرئيسة بشكل متوازن‪ ،‬وبخاصة في‬ ‫ظل شهية إيران المفتوحة لمزيد من النفوذ‬

‫ً‬ ‫مذهبي‬ ‫مختلفا؛ بسبب وجود تمركز‬ ‫المشهد في العراق يبدو‬ ‫ّ‬ ‫وعرقي واضح في مناطق محددة ومعروفة‪ ،‬فقد خلطت‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫بعض األوراق‪ ،‬وأدَّت إلى تداخل‬ ‫هجمة تنظيم «داعش»‬

‫وهي كذلك بالفعل‪ ،‬لكنها ليست مما يؤدّي إلى استمرار أيّ‬

‫المكونات المذهبية والعرقية الثالثة (الشيعية‪ ،‬والكردية‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫أطروحة تغيير خريطة العراق عليها‪.‬‬ ‫والسنية) التي َت ُقوم‬ ‫ُّ‬

‫إذا افترضنا توافر مقومات داخلية حاسمة تؤدّي إلى‬

‫أوراق غيرها‪ ،‬إضافة إلى الصراعات المتفاوتة داخل كل من‬

‫فال يوجد قدر معقول من االتفاق‪ ،‬أو حتى التوافق العامّ ‪،‬‬

‫َّ‬ ‫المقسمة بدورها إلى أحزاب‬ ‫داخل أيٍّ من هذه المكونات‬ ‫وحركات وجماعات وعشائر وغيرها‪ .‬إضافة إلى أن تمدُّ د قوات‬

‫«البيشمركة» الكردية خارج إقليم كردستان منذ أن تصدَّت‬

‫لهجمات «داعش» في صيف عام ‪2014‬م؛ يجعل انفصال إقليم‬ ‫كردستان ّ‬ ‫ً‬ ‫صراعا أشدّ‬ ‫أقل –وليس أكثر– احتمالاً ؛ ألنه سيثير‬ ‫حِ دَّ ة من أيّ وقت مضى‪.‬‬

‫هبوب ريح عاتية‬ ‫ُ‬ ‫وق ْل َ‬ ‫مثل ذلك عن الوضع في ليبيا الذي يؤ ِّدي اختزاله في‬ ‫طرفين متصارعين إلى تبسيط مُ خِ ّل حتى إذا كانت مكونات‬ ‫ّ‬ ‫كل منهما موحَّ دة‪ ،‬فما بالنا حين تكون متنافسة‪ .‬هكذا يبدو‬

‫‪27‬‬

‫الطابع السائد في هذه الصراعات من النوع الذي يشبه هبوب‬ ‫ريح عاتية يبدو من قوتها وسرعتها أنها ستعصف بالمنطقة‪،‬‬

‫تغير يحدث على األرض‪ ،‬واستقراره على نحو يسمح بتقنينه‪،‬‬ ‫ً‬ ‫قادمة‪.‬‬ ‫سنوات‬ ‫وستظل على هذا النحو‬ ‫ٍ‬ ‫تغيير في خرائط هذه الدول‪ ،‬سيظل صعبًا تصور حدوث‬

‫إقليمي عليه‪.‬‬ ‫توافق‬ ‫ّ‬

‫فمن الصعب حتى اللحظة الراهنة أن نتخيل تغيي ًرا في‬ ‫ّ‬ ‫يحقق مصالح القوى اإلقليمية الرئيسة بشكل‬ ‫هذه الخرائط‬

‫متوازن‪ ،‬وبخاصة في ظل شهية إيران المفتوحة لمزيد من‬ ‫النفوذ؛ سعيًا للهيمنة على المنطقة‪ .‬وال يَعْ ني ذلك استبعاد‬

‫زمني‬ ‫العربي في مدى‬ ‫احتمال حدوث تغير في خريطة العالم‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫بعيد‪.‬‬ ‫لكن السيولة الشديدة في صراعات المنطقة تحول دون‬

‫ّ‬ ‫توقع ما يمكن أن يحدث في مدى يتجاوز ما بين عامين وثالثة‬ ‫أعوام حين نتمسك بمناهج البحث في العالقات الدولية‪،‬‬

‫ونبتعد من التكهّن والتخمين والتنجيم‪.‬‬

‫ملف العدد‬


‫كــ‬ ‫رد‬ ‫ســ‬ ‫تـ ـ ـ‬

‫ان‬

‫«‬

‫د‬ ‫اع‬

‫ش»‬

‫الحكومة‬

‫العراقية‬

‫‪28‬‬

‫بارزاني‪:‬‬ ‫االستقالل الكردي بات قري ًبا‬

‫أثارت تصريحات مسعود بارزاني رئيس إقليم كردستان‬ ‫العراق التي أدلى بها لصحيفة الغارديان جدلاً واسعً ا؛ إذا قال‪ :‬إن‬ ‫الوقت قد حان لتغيير حدود الشرق األوسط‪ ،‬داعيًا قادة العالم‬

‫العبادي ‪:‬‬ ‫كردستان جزء من العراق‬ ‫بدوره دعا رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي‬

‫إلى االعتراف بأن الحدود التي رسمتها «سايكس بيكو» قد أخفقت‪،‬‬

‫إقليم كردستان إلعادة النظر في إجراء استفتاء‬

‫وأكد بارزاني أن العالم بدأ يتفهم أن العراق وسوريا لن يعودا‬

‫العراق‪ ،‬ونتمنى أن يبقى كذلك» مؤكدً ا أن مصلحة‬

‫وحثهم على تبني تصور جديد للمنطقة يشمل دولة كردية‪.‬‬

‫موحدين‪ ،‬وأن ما سماه «التعايش اإللزامي» الذي كان سائدً ا؛ ثبت‬ ‫أنه خطأ‪.‬‬

‫على استقالل اإلقليم‪ ،‬وقال‪« :‬كردستان جزء من‬ ‫اإلقليم هي في بقائه في دولة عراقية موحدة‪ ،‬وأن‬

‫االستقالل يتعارض مع مصالح السكان في اإلقليم‪،‬‬

‫وقال‪ :‬أظن أن قادة العالم يدركون أن هذه هي الحقيقة على‬

‫وألمح العبادي إلى سوء اإلدارة المالية في اإلقليم‬

‫استحداث المزيد من التفكك والدمار في المنطقة‪ ،‬ومبديًا ثقته‬

‫وكون اإلقليم يصدر ‪ %15‬من نفط العراق‪ ،‬ووجه‬

‫األرض‪ ،‬مشددًا على أن المحافظة على الخريطة الحالية من شأنها‬ ‫في أن «االستقالل الكردي صار أقرب من أي وقت مضى‪ ،‬بعد‬

‫عقود من الرفض والتوجس اللذين أبداهما جيراننا في المنطقة‪.‬‬

‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬

‫مستشهدً ا بتأخر الرواتب رغم الوفرة المالية‪،‬‬

‫الدعوة إلى بارزاني بأن يصارح الناس بالحقيقة ال‬ ‫أن يقول شي ًئا‪ ،‬ويفعل شي ًئا آخر‪0‬‬


‫‪29‬‬

‫ملف العدد‬


‫اإلقليمي‬ ‫النظام‬ ‫ّ‬ ‫واستقرار دول الخليج‬ ‫لقد كشفت ثورات «الربيع العربي» عن هشاشة الدولة الوطنية العربية‬

‫الحديثة وأزماتها البنيوية؛ وعلى الرغم من أن بعض دول «الربيع العربي»‬ ‫يعيش اضطرابات سياسية واجتماعية حا ّدة في المرحلة االنتقالية‪ ،‬فإن‬ ‫اً‬ ‫دول أخرى تشهد صراعات أهلية دموية‪ ،‬وبخاصة سوريا واليمن وليبيا‪،‬‬ ‫والعراق إلى حد ما‪ .‬وفي اآلونة األخيرة زادت المؤشرات التي تبعث‬ ‫على القلق لمصير هذه الدول الذي َيشي باحتمال انهيارها وتفككها إلى‬ ‫كيانات صغيرة تقوم على أسس الهوية (اإلثنية‪ ،‬والطائفية‪ ،‬والجهوية)‪.‬‬ ‫والخشية الكبرى أن أيَّ ُّ‬ ‫تفكك لدولة من هذه الدول سيقود إلى ما يعرف‬

‫في علم السياسة بظاهرة «الدومينو»؛ أي ج ّر الدول العربية األخرى إلى‬

‫‪30‬‬

‫حافة االنهيار؛ مما يعني تغير نظام «سايكس بيكو» الموروث من الحرب‬ ‫العالمية ُ‬ ‫األولى‪ ،‬إضافة إلى أن هذه النزاعات ستعيد التركيبة الديمغرافية‬

‫ابتسام الكتبي‬ ‫ِّ‬ ‫وتؤسس لتدمير التنوُّع الحضاريّ‬ ‫والمذهبي‬ ‫والثقافي‬ ‫للدول والمجتمعات‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫واإلثني الذي ميَّز المنطقة على مدى قرون‪ ،‬وهذا التغيير القسريّ ‪ ،‬الذي‬ ‫ّ‬ ‫رئيسة مركز اإلمارات للسياسات‬ ‫يجري تحت وطأة الحروب والصراعات‪ ،‬ينمّ ي نزعة االنتقام لدى األفراد‬ ‫والمجموعات‪ ،‬ويجعل مصادر التهديد في مجتمعات دول المنطقة‬ ‫كامنة‪ ،‬ومن الممكن أن تنفجر في أي وقت‪ ،‬و ُي ّ‬ ‫عد هذا مُ صا َدرة لمستقبل‬ ‫األجيال القادمة في منطقتنا‪ ،‬فمن حقهم علينا أن نورثهم أم ًنا وسالمً ا‬ ‫وتنمية وازدهارًا‪.‬‬

‫إن تغيّر الخرائط في المنطقة‪ ،‬وانتشار خطر الجماعات‬ ‫ّ‬ ‫الشك والكراهية والالثقة‬ ‫اإلرهابية‪ ،‬وتشظيها‪ ،‬وإقامة حواجز‬ ‫بين أبنائها‪ ،‬من شأنه تمزيق وَحْ دة المجتمعات‪ ،‬ويزيد تعداد‬ ‫الدول المخفقة في منطقتنا؛ مما يستدعي تب ّني بدائل إقليمية‬

‫ووطنية لمجابهة حالة إخفاق الدولة الوطنية في المنطقة‪،‬‬ ‫واحتماالت تفكك بعضها‪ .‬وينبغي للقوى العربية الفاعلة‬

‫إقليميًّا‪ ،‬ومنها المملكة العربية السعودية ودولة اإلمارات؛‬

‫ُّ‬ ‫التوصل إلى‬ ‫أن تقوم بتوحيد جهودها‪ ،‬وتعزيزها من أجل‬ ‫تسويات للصراعات المشتعلة؛ للحفاظ على بقاء تلك الكيانات‬ ‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬

‫ووحدتها‪ ،‬مع ضرورة تحييد تأثير القوى اإلقليمية غير العربية‬

‫والقوى الدولية؛ لذلك فإن دول «مجلس التعاون لدول الخليج‬ ‫َ‬ ‫إقليمي ممكن؛ لرسم‬ ‫مطالبة باستجماع أكبر ثقل‬ ‫العربية»‬ ‫ّ‬

‫اإليراني في المنطقة؛ إلقامة توازن رادع‪ ،‬يسمح‬ ‫حدود الدور‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫اإلقليمي الجديد المزمع تشكله وصياغته في‬ ‫ألنْ يكون النظام‬ ‫ّ‬

‫المنطقة غير مُ ه َِّدد استقرار دول الخليج ومصالحها‪.‬‬

‫من حق أميركا االنسحاب من المنطقة‬ ‫ْ‬ ‫من حق الواليات المتحدة األميركية وَفق تقديرها‬


‫مصالحها وتأكيدها مبدأ عدم خوض أيّ حروب‬

‫في الشرق األوسط‪ ،‬على خلفية تجربة‬ ‫أفغانستان والعراق وليبيا؛ أن تنسحب‬

‫من المنطقة‪ ،‬لكنّ منطق التشابك في‬ ‫العالقات الدولية‪ ،‬وتداخل مصادر‬

‫التهديدات األمنية والسياسية العابرة‬

‫للدول‪ ،‬سيجعل من الصعب على‬

‫الواليات المتحدة األميركية االستمرار في‬

‫هذه السياسة‪.‬‬

‫التاريخي مع دول الخليج‬ ‫تحالف أميركا‬ ‫ّ‬ ‫كان أحد مصادر نشر الصورة الذهنية اإليجابية ألميركا في‬ ‫المنطقة‪ ،‬وترسيخ قوتها الناعمة على مدى أجيال في المنطقة‬ ‫العربية‪ ،‬والفراغ الذي ستتركه أميركا سيملؤه في المستقبل‬

‫الصينيون والهنود والروس‪ ،‬وستنقلب الصورة األميركية في‬ ‫أذهان األجيال القادمة في المنطقة العربية إلى صورة الحليف‬

‫غير الموثوق فيه‪.‬‬

‫والبريطاني تع ِّزز الطائفية‬ ‫األميركي‬ ‫في اإلعالم‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫السياسية في المنطقة‪ ،‬وترسّ خ التط ُّرف‪،‬‬ ‫وتنمّ ي االنقسامات المذهبية‪ .‬وأكثر ما‬ ‫يلفت انتباه الخليجيين أن ما ينشر‪،‬‬

‫األميركي‬ ‫سلبي‪ ،‬في اإلعالم‬ ‫بشكل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫والبريطاني عن السعودية ودول الخليج‪،‬‬ ‫ّ‬

‫يجري ترجمته فورًا في إيران بلغات ِعدَّ ة‪.‬‬ ‫والسؤال‪ :‬أال يُع ِّزز هذا الوضعُ الطائفيةَ‬

‫والنزاعات في المنطقة‪ ،‬ويثير الشكوك في‬ ‫ِ‬ ‫السياسة الغربية؟ الحقيقة أن هذه المُ ه َِّددات‬

‫تحمل معها مكتسباتها وفرصها الثمينة واإلستراتيجية؛ ففي‬ ‫السنوات األخيرة‪ ،‬تتص ّرف كثير من دول الخليج العربية‪ ،‬وعلى‬ ‫رأسها المملكة العربية السعودية‪ ،‬ودولة اإلمارات العربية‬ ‫ّ‬ ‫مستقل نسب ًّيا‪ ،‬وبشكل متزايد‪ ،‬عن رغبات‬ ‫المتحدة‪ ،‬على نحو‬

‫الواليات المتحدة األميركية؛ العتقاد هذه الدول أنه ال بد من‬

‫بذل المزيد من الجهود لمواجهة اإليرانيين‪ ،‬أو مخاطر اإلسالم‬

‫منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر ‪2001‬م بدأت عملية‬

‫السياسي‪ ،‬والحركات الدينية المتط ّرفة‪ .‬وقد شهدت واشنطن‬ ‫ّ‬

‫األمني‬ ‫الديني‪ .‬وقد تنامى التعاون‬ ‫مسألة اإلرهاب والتشدُّ د‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫واالستخباراتي بين واشنطن وطهران في الحرب األميركية على‬

‫الحاجة إلى االصطفاف خلف قوة كبرى‪ ،‬كما كان الحال في‬

‫مراجعة لطبيعة العالقة األميركية الخليجية‪ ،‬على خلفية‬

‫نظام «طالبان»‪ ،‬وتنظيم «القاعدة» في أفغانستان‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫خطوة نوعية أخرى‬ ‫األميركي للعراق عام ‪2003‬م‬ ‫وكان الغزو‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫في تلك المراجعة التي الزمت تعاونا أميركيًّا إيرانيًّا جوهريًّا على‬

‫إسقاط نظام َصدَّ ام حسين‪َّ ،‬‬ ‫تمكنت على إثره إيران من ملء‬

‫واألمني الناشئين في العراق؛ الذي أصبح‬ ‫السياسي‬ ‫الفراغي ِْن‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫فيه حلفاء إيران حُ َّكامه الجُ دد‪ .‬وبسقوط نظامَ ْي «طالبان» في‬

‫أفغانستان َ‬ ‫وصدَّ ام حسين في العراق تكون واشنطن قد خدمت‬ ‫َ‬ ‫دُ‬ ‫إيران‪ ،‬بشكل مجاني عبر إسقاط أبرز عدوي ِْن ل ودي ِْن لها؛‬ ‫اإليراني في المنطقة‪ ،‬وصعود‬ ‫مما نجم عنه تمد ٌد في النفوذ‬ ‫ّ‬

‫ذلك بالفعل في اليمن وسوريا ومصر والبحرين‪ ،‬وهي المرة‬ ‫ُ‬ ‫األولى التي يجري فيها التعاون بين دول خليجية من دون‬

‫حرب تحرير الكويت قبل نحو ربع قرن‪.‬‬

‫أساسي في العالقة األميركية الخليجية تحت‬ ‫هذا تحوّل‬ ‫ّ‬

‫األميركي في المنطقة‪ ،‬وتبدّل موازين‬ ‫وطأة تراجع الحضور‬ ‫ّ‬ ‫األميركي مع إيران‪ ،‬وتمادي األخيرة‬ ‫القوى اإلقليمية‪ ،‬والتقارب‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬ ‫تدخالتها في الشؤون الخليجية والعربية‪ .‬وهذا التحوّل‪،‬‬ ‫في‬ ‫على الرغم من كلفته على الدول الخليجية‪ ،‬فإنه مَ َنحَ ها فرصةً‬

‫ً‬ ‫مهمة للعمل على بناء سياسات أمنية ودفاعية‬ ‫إستراتيجية‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫مستقلة نسب ًيا‪ ،‬ومن المهم أن توضع في إطار رؤية متماسكة‬

‫وشاملة؛ لمنع الفوضى اإلقليمية‪ ،‬والدفاع عن حدود تلك‬

‫الخليجي‪ ،‬وما انضوى تحته من توترات‬ ‫اإليراني‬ ‫وتيرة النزاع‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫األميركي على‬ ‫مذهبية وطائفية سُ نية شيعية‪ .‬وقد بلغ االنفتاح‬ ‫ّ‬

‫الدول ومصالحها العليا‪ ،‬وتطوير مبدأ الردع‪ ،‬في ظل ما يطلق‬ ‫ِّ‬ ‫محللون منهج «التطمينات ال الضمانات» األميركية‪.‬‬ ‫عليه‬

‫اإليراني الذي َعدَّ ته إدارة أوباما أحدَ أهم‬ ‫أولهما االتفاق النوويّ‬ ‫ّ‬

‫إستراتيجي بينهما هو األقوى في تاريخ عالقتهما‪ ،‬وإدراك أن‬ ‫ّ‬

‫إيران درجة عالية في السنوات األخيرة؛ على خلفية أمري ِْن؛‬

‫ً‬ ‫فرصا للسعودية واإلمارات؛ إلقامة تحالف‬ ‫فهذا المنهج قدَّ م‬

‫إنجازاتها على مستوى السياسة الخارجية‪ ،‬وثانيهما تقديم‬ ‫إيران بوصفها بلدً ا أساس ًّيا في حرب الغرب على اإلرهاب‪ ،‬وعلى‬

‫اإلستراتيجي مع الواليات المتحدة األميركية فقط‪ ،‬على أهمية‬ ‫ّ‬

‫وارتيابًا وتر ُّددًا سُ نيًّا في االنخراط القويّ في هذه الحرب‪.‬‬

‫اإلقليمية والدولية‪ ،‬وحدَّ دتا بشكل أكثر وضوحً ا وبعيدً ا‬

‫الغرب ُّ‬ ‫تلك ًؤا‬ ‫تنظيمات «داعش» و«القاعدة»‪ ،‬في مقابل ما يراه‬ ‫ُ‬

‫الحمالت المغرضة على السعودية‬

‫الحمالت المغرضة على المملكة العربية السعودية‬

‫‪31‬‬

‫مصالحهما الوطنية تقتضي عدم وضع ثقلهما كله في التحالف‬ ‫هذا التحالف لهما‪ ،‬وهما لذلك أعادتا ترتيب تحالفاتهما‬ ‫من المواربة وااللتباس الئحة الحلفاء والخصوم واألعداء‬

‫والمنافسين اإلقليميين‪ ،‬وهو ما تبدّ ى في تغيير لهجتهما‬ ‫وسلوكهما تجاه إيران وحلفائها في المنطقة‪.‬‬

‫ملف العدد‬


‫الحدود‬ ‫في العالم العربي‪ ..‬المتغ ِّير والثابت‬ ‫العربي القائمة اليوم هي نتاج التطورات التي الزمت انتهاء‬ ‫حدود العالم‬ ‫ّ‬

‫الحرب العالمية األولى‪ ،‬والظروف التي قادت إلى انهيار اإلمبراطورية‬ ‫ّ‬ ‫العربي‪.‬‬ ‫تتحكم في أجزاء أساسية من العالم‬ ‫العثمانية التي كانت‬ ‫ّ‬

‫العربي باسم االستعمار‬ ‫فالخالفة العثمانية لم تتحكم في العالم‬ ‫ّ‬ ‫الخارجي‪ ،‬إنما باسم الخالفة اإلسالمية العثمانية التي ورثت إطار‬ ‫ّ‬ ‫اً‬ ‫أسست أصل في بداية ظهور الدعوة اإلسالمية‪،‬‬ ‫الدولة اإلسالمية التي ّ‬ ‫واستمرّت في الوجود بصيغ وأسماء مختلفة‪ .‬وعلى الرغم من أن‬

‫‪32‬‬

‫عبدالعزيز بن صقر‬ ‫رئيس مركز الخليج لألبحاث‬

‫العربي في حقبة الخالفة اإلسالمية بجميع أنواعها‪،‬‬ ‫تقسيم العالم‬ ‫ّ‬ ‫ومنها الخالفة األموية والعباسية والعثمانية وغيرها‪ ،‬كان قائمً ا على‬ ‫أُ ُسس الواليات‪ ،‬فإن هذه الواليات َّ‬ ‫مثلت كيانات جغرافية وسياسية‬

‫وحضارية مختلفة بعضها عن بعض؛ فالعراق والشام ومصر والحجاز‬ ‫وغيرها من واليات الدولة اإلسالمية المعروفة كانت ُت ِّ‬ ‫مثل واليات‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫مستقلة مثلما نعرفها اليوم‪ ،‬وفي‬ ‫الحقا إلى كيانات سياسية‬ ‫تطوَّرت‬ ‫ً‬ ‫الحقا‪.‬‬ ‫إطار جغرافية تقارب ما تطور‬

‫العربي في ‪ 16‬مايو ‪1917‬م‪،‬‬ ‫بدأت قضايا الحدود في العالم‬ ‫ّ‬

‫يوم توقيع القوى االستعمارية البريطانية والفرنسية على اتفاقية‬

‫سايكس بيكو ‪( Sykes–Picot Agreement‬أو اتفاقية آسيا‬ ‫الصغرى ‪ )Asia Minor Agreement‬كما ُتع َرف رسميًّا‪،‬‬

‫َي (‪1916 - 1915‬م) التي تضمّنت هذا الوعد‪.‬‬ ‫مكماهون بين عام ْ‬

‫منذ عام ‪1920‬م‪ ،‬بدأت الكيانات السياسية العربية المستقلة‬

‫التدريجي‪ ،‬ومعها ظهرت الحدود الجغرافية‬ ‫بالظهور والتبلور‬ ‫ّ‬ ‫عربي‪ .‬كانت هذه الحدود ال ّ‬ ‫تمثل الواقع القائم على‬ ‫لكل كيان‬ ‫ّ‬

‫ومثلت هذه االتفاقية أول خطوة لتقسيم مناطق النفوذ بين‬

‫األرض من النواحي االجتماعية والسياسية واالقتصادية‪ ،‬بل‬

‫لكيانات سياسية ناشئة‪ .‬وعلى الرغم من هذه الحقيقة فإن هذه‬ ‫ً‬ ‫الحقا إلى كيانات سياسية متميزة‬ ‫االتفاقية وضعت بذور ما تطور‬

‫وتحوَّلت من حدود رسمتها القوى االستعمارية إلى حدود األمر‬

‫البريطاني لويد جورج ورئيس‬ ‫عام ‪1918‬م‪ ،‬بين رئيس الوزراء‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫نهي إلى األبد حُ لم إنشاء‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫كليمنصو؛‬ ‫الفرنسي جورج‬ ‫الوزراء‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫دولة عربية موحَّ دة خالية من الحدود الفاصلة‪ .‬وتجاوزت هذه‬

‫ٍّ‬ ‫العربي‬ ‫علي لحدود العالم‬ ‫ّ‬ ‫تحد ِف ّ‬ ‫كان أول ٍّ‬ ‫العربي ما بعد‬ ‫فعلي لحدود وخارطة العالم‬ ‫تحد‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫عربي موحَّ د في مراسالت سابقة‪ ،‬جَ َر ْت بين قيادات‬ ‫سياسي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫عربية والقوى الكبرى‪ ،‬وبخاصة مراسالت الشريف حسين واللورد‬

‫العربي‪ .‬فقيام‬ ‫طبيعة األنظمة السياسية الحاكمة في العالم‬ ‫ّ‬ ‫أنظمة عربية تتب ّنى األيديولوجيات الثورية واالنقالبية كان له‬

‫الدول االستعمارية‪ ،‬وليس اتفاقية لرسم الحدود الجغرافية‬

‫من بعضها‪ .‬وجاءت االتفاقية اإلنجليزية الفرنسية في ‪ 4‬ديسمبر‬

‫االتفاقية األخيرة جميع الوعود التي قطعت للعرب بإنشاء كيان‬

‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬

‫أساسي حدود نفوذ القوى الكبرى المتصارعة‬ ‫تعكس بشكل‬ ‫ّ‬ ‫في المنطقة‪ .‬ومع مرور الزمن ترسَّ خت خطوط هذه الحدود‪،‬‬ ‫الواقع‪ ،‬ثم إلى حدود قانونية ترتكز على مبدأ السيادة واالستقالل‪.‬‬

‫الحرب العالمية األولى‪ ،‬قد جاء من التغيرات التي شهدتها‬


‫العربي‪ .‬فقد جاء‬ ‫انعكاسات مهمة على قضايا الحدود في العالم‬ ‫ّ‬

‫إعالن الوحدة االندماجية المصرية السورية رسميًّا في ‪ 22‬فبراير‬ ‫عام ‪1958‬م؛ ليزيل الحدود القائمة والمعترف بها لدولتي مصر‬

‫سياسي جديد تحت اسم الجمهورية‬ ‫وسوريا‪ ،‬ويعلن قيام كيان‬ ‫ّ‬ ‫العربية المتحدة‪ ،‬بحدود سياسية تضمّ أراضي الدولتي ِْن‪.‬‬

‫العربي‬ ‫وبالتزامن جرى إعالن قيام «االتحاد‬ ‫الهاشمي»؛ ليضمّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أراضي دول َتي العراق واألردن‪ ،‬ويزيل خط الحدود الذي كان‬ ‫َّ‬ ‫يتمكنا من االستمرار في‬ ‫قائمً ا بينهما‪ .‬لكنَّ الكياني ِْن الجديدي ِْن لم‬ ‫الحياة‪ .‬فقد انهارت الوَحْ دة المصرية السورية في سبتمبر عام‬

‫األردني في‬ ‫العراقي‬ ‫العربي‬ ‫‪1961‬م‪ ،‬وقبلها انهار كيان االتحاد‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يوليو ‪1958‬م‪ ،‬وعادت كل دولة إلى حدودها السابقة‪ ،‬وعاد خط‬ ‫العربي‪.‬‬ ‫الحدود السابق يمثل األمر الواقع في العالم‬ ‫ّ‬ ‫العربي؛‬ ‫العالم‬ ‫تاريخ‬ ‫في عام ‪1990‬م‪ ،‬جاءت أهم محاولة في‬ ‫ّ‬ ‫لتغيير الخارطة السياسية باستخدام وسائل القوة‪ .‬عندما قام‬

‫العراق في الثاني من أغسطس عام ‪1990‬م‪ ،‬بغزو دولة الكويت‬ ‫المستقلة وضمّها إليه بالقوة‪ .‬وهذه المحاولة لم َت ُدمْ طويلاً ؛ إذ‬

‫ً‬ ‫دولة‬ ‫جرى تحرير دولة الكويت في فبراير عام ‪1991‬م‪ ،‬وعودتها‬ ‫ً‬ ‫مستقلة‪ ،‬بحدودها السابقة التي كانت قائمة قبل عملية الغزو‬ ‫واالحتالل والضمّ ‪.‬‬

‫وجماعات المقاومة لالحتالل‪ ،‬والجماعات المدافعة عن حقوق‬

‫األقليات الدينية أو العرقية‪ ...‬وغيرها‪.‬‬ ‫حرب على الحدود التقليدية‬

‫«الالعبون من غير الدول» وجميع أصنافهم وانتماءاتهم‬

‫العربي‪،‬‬ ‫يقودون اليوم الحرب على الحدود التقليدية في العالم‬ ‫ّ‬ ‫وينجحون في مواضع متعددة في تغيير الحدود الدولية‬ ‫القائمة‪ ،‬بعد أن أَ ْخفقت «الدول الرسمية» في تحقيق الهدف‬ ‫بجميع الوسائل السياسية والعسكرية‪ .‬والتغيير المُهم للحدود‬

‫ضمن هذا المفهوم حدث مع انتصار حركة تحرير جنوب‬

‫السودان‪ ،‬وعبر توظيف ميليشياتها المسلحة في تغيير حدود‬

‫دولة السودان‪ ،‬واإلعالن عن استقالل دولة جنوب السودان‬ ‫الدولي بأمر‬ ‫الكامل في ‪ 9‬يوليو ‪2011‬م‪ ،‬والحصول على االعتراف‬ ‫ّ‬

‫واقع جديد‪.‬‬ ‫الحركة الكردية في شمال العراق تسير على نفس ُخطاَ‬

‫حركة جنوب السودان‪ ،‬فالميليشيات الكردية المسلحة‬ ‫«البيشمركة» َّ‬ ‫تمكنت من فرض أمر واقع جديد في العراق‪،‬‬ ‫يُج ِّرد الحكومة المركزية من أي سلطة على أراضيها في الشمال‬ ‫(كردستان العراق)‪ .‬والتطورات سائرة إلى تغيير خارطة العراق‪،‬‬

‫هنا يمكننا القول‪ :‬إن جميع المحاوالت التي هدفت إلى‬

‫الدولي‪.‬‬ ‫وخط حدود الدولة‬ ‫ّ‬ ‫في يوم ‪ 10‬أغسطس ‪2014‬م‪ ،‬أعلنت «الدولة اإلسالمية في‬

‫االستعمارية‪ .‬ومن الممكن القول‪ :‬إن ما تطوَّر منذ اتفاقية‬

‫اتفاقية سايكس بيكو إلى األبد‪ .‬جاء هذا اإلعالن على إثر إزال ِة‬ ‫اإلرهابي حواج َز الحدود الدولية الفاصلة بين دول َت ِي‬ ‫التنظيم‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫العراق وسوريا‪.‬‬

‫تغيير طبيعة الحدود الجغرافية القائمة بين الدول العربية من‬ ‫جانب بعض الدول أو القيادات العربية أخفقت‪ ،‬أو لم تعمر زم ًنا‬ ‫طويلاً قبل أن تنهار‪ ،‬ويعود األمر إلى ما كان عليه في الحقبة‬

‫سايكس بيكو استمر في العمل على أرض الواقع‪ ،‬ولم تشهد‬

‫قضية الحدود بين الدول العربية إال تغيرات وقتية‪ ،‬لم تتمكن‬ ‫من الصمود أمام واقع الحدود االستعمارية الذي أمسى مبدأً‬ ‫ً‬ ‫راسخا في الذهنية العربية والدولية‪.‬‬ ‫الالعبون من غير الدول‬

‫خالل العقود الزمنية القليلة الماضية حدث تطور خطير‬

‫العربي‪.‬‬ ‫في مفهوم امتالك القوة‪ ،‬واستخدام القوة في العالم‬ ‫ّ‬ ‫فنتيجة لتطورات متعددة في البيئة اإلقليمية والدولية برزت‬ ‫َ‬ ‫القوة‪ ،‬حين تبلورت‬ ‫قوى جديدة‪ ،‬أَ ْنهَت احتكار الدول ِة التقليدي ِة‬

‫العراق والشام» أو تنظيم داعش كما يعرف اصطالحً ا‪ ،‬في‬ ‫شريط فيديو ب َّ‬ ‫االجتماعي عن سقوط‬ ‫ُث في وسائل التواصل‬ ‫ّ‬

‫اإلرهابي في حينه أن أهم أهداف‬ ‫وقد أعلنت قيادة التنظيم‬ ‫ّ‬

‫التنظيم هو إلغاء آثار ونتائج اتفاقية سايكس بيكو‪ ،‬وإلغاء‬ ‫العربي التي أقامتها‬ ‫الحدود الجغرافية الفاصلة بين أجزاء العالم‬ ‫ّ‬ ‫االتفاقية‪ .‬قبل هذا وفي يوليو عام ‪2014‬م‪ ،‬كان زعيم داعش أبو‬ ‫بكر البغداديّ قد أعلن في ُخطبته المشهورة في مسجد النور‬

‫بمدينة الموصل أن «زحف الدولة اإلسالمية لن يتوقف حتى يضع‬ ‫المسمار األخير في نعش مؤامرة سايكس بيكو»‪.‬‬

‫خالصة األمر أن قوة «الالعبين من غير الدول» وقدراتهم‬

‫ظاهرة التنظيمات والميليشيات السياسية والعَ َقدية المسلحة‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫السيطرة على‬ ‫الدولة والسلطة التقليدية‬ ‫نازع‬ ‫التي بدأت ُت ِ‬ ‫َ‬ ‫ظاهرة بروز‬ ‫األرض والمواطنين والموارد‪ .‬وهنا يمكن تسميتها‬

‫بداية عقد العشرينيات من القرن الماضي‪ .‬فهذه القوى تمتلك‬

‫الرسمي‪،‬‬ ‫الجماعات المسلحة التي تعمل خارج إطار الدولة‬ ‫ّ‬

‫السريع‪ ،‬ومنها الحدود السياسية لدول المنطقة بشكلها‬

‫دور «الالعبين من غير الدول»‪ ،‬ويشمل هذا المصطلح جميع‬ ‫ومنها الجماعات اإلرهابية‪ ،‬وجماعات المعارضة المسلحة‪،‬‬

‫‪33‬‬

‫ستكون المعوّل الذي يهدم الكيانات السياسية القائمة في عالمنا‬

‫العربي‪ ،‬ويُغيِّر خارطة الحدود السياسية التي كانت قائمة منذ‬ ‫ّ‬ ‫من اإلمكانيات والقدرات ما يمكن أن ي ِّ‬ ‫ُهدد «األمر القائم» بالزوال‬

‫التقليديّ الذي اعتدناه‪.‬‬

‫ملف العدد‬


‫تقسيم العراق‪..‬‬ ‫صخب اإلعالم وعقبات األرض‬ ‫ينقسم العراقيون بشكل حا ّد إلى عدة تصوُّرات حول مستقبل الحُ كم‬ ‫ُّ‬ ‫ينص على الفيدرالية‪ ،‬لكن ُي َّتهَم‬ ‫المركزيّ أو وَحْ َدة بالدهم‪ .‬الدستور‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫أيضا‪-‬‬‫السنة‬ ‫الكر ُد بأنهم يمارسون صالحيات واسعة‪ .‬وتتجه أطراف من ُّ‬

‫ً‬ ‫حديثا عن الموضوع في‬ ‫إلى الفيدرالية‪ .‬أما الشيعة فإنهم الطرف األقل‬ ‫ّ‬ ‫ظل هيمنتهم على النسبة الكبرى من الحكم‪ .‬مشروع إقامة األقاليم‬ ‫يوصف بأنه المُ مهّد لالنفصال‪ ،‬وبخاصة مع تجربة كردستان التي يجري‬

‫عمار السواد‬ ‫باحث وإعالمي عراقي‬

‫‪34‬‬

‫الترويج لها؛ لالنفصال وتقرير المصير بشكل مستمرّ‪ .‬على الرغم من‬ ‫هذه الخالصة التي تبدو واضحة‪ ،‬فإن التعقيد هو جوهر النزاع في‬

‫العراق‪.‬‬

‫«لو انفصل إقليم كردستان‪ ،‬فإن الحرب الداخلية ستعود‪،‬‬

‫ولن تنطفئ‪ ،‬فقيادات الكرد موحَّ دة؛ ألن مصلحتها ضد المركز‬

‫سياسي مخضرم من كردستان‪.‬‬ ‫تحتم ذلك» هذا ما قاله لي‬ ‫ّ‬

‫الكالم قد ال يدفع رئيس إقليم كردستان إلى المحافظة على‬ ‫البقاء جزءً ا من العراق و َْفق الصيغة الراهنة؛ ألن طموحات‬ ‫الزعامة تحجب القدرة على النظر إلى المستقبل‪ ،‬ومخاطر‬

‫ً‬ ‫إجماعا‬ ‫الصراع في حال االنفصال‪ .‬لكن مثل هذا القرار يستدعي‬

‫مفقودًا حتى اآلن‪ ،‬فصوت االنفصال ال يعلو من محافظة‬

‫الكردستاني‪ ،‬وحركة التغيير؛‬ ‫الوطني‬ ‫السليمانية حيث االتحاد‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫هذان الحزبان هما العقبة الداخلية الرئيسة أمام انفراد البارزاني‬ ‫بقرار مصير اإلقليم‪.‬‬

‫يالحظ في تصريحات المسؤولين في االتحاد‪ ،‬عدم‬

‫التفاعل مع االستفتاء أو االنفصال‪ ،‬فهناك تأكيد متتابع على‬ ‫اللجوء لخيارات بديلة‪ .‬القياديّ «االتحاديّ » برهم صالح ‪-‬على‬

‫سبيل التمثيل‪ -‬في تصريح غير بعيد‪ ،‬تحدَّث عن ضرورة اللجوء‬ ‫ّ‬ ‫الحل‬ ‫الكونفدرالي‪ .‬هذا الحديث سابقة سياسية‪ ،‬وهو‬ ‫للنظام‬ ‫ّ‬

‫الفيدرالي الراهن واالنفصال الذي يعمل من‬ ‫الوسط بين النظام‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫أجله بارزاني‪ .‬أما حركة التغيير التي تشكلت بعد سقوط النظام‬

‫ّ‬ ‫متحفظة‪ ،‬أو باردة تجاه االنفصال‪.‬‬ ‫السابق‪ ،‬فهي األخرى تبدو‬ ‫وهذا التصوُّر ليس جديدً ا على الحركة التي يقودها اليساريّ‬

‫المخضرم نوشيروان مصطفى‪ ،‬إنما سبقه تصريح لزعيمها قبل‬ ‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬

‫عامين قال فيه‪« :‬الحركة تساند قرار بارزاني في حال لم يتسبب‬ ‫في أيّ مشاكل وضرر للشعب الكرديّ ‪ ،‬لكنها تقف ضده في‬ ‫حال حدوث خالف ذلك»‪.‬‬

‫ُّ‬ ‫السنة‪ ..‬بديل حكم العراق المستحيل!‬

‫الطموح الكرديُّ القديم إلى االنفصال عن العراق وتكوين‬

‫دولة كردستان الجنوبية أو الكبرى‪ ،‬ليس هو نفسه سُ نيًّا‪ .‬سُ نة‬ ‫العراق يُص َّنفون إلى وقت قريب بالمدافعين عن العراق بنسخته‬

‫علني عن‬ ‫العربية الموحدة؛ إذ لم يسجِّ ل أيُّ تصريح أو موقف‬ ‫ّ‬ ‫االنفصال إلى وقت قريب‪ ،‬وحتى اللحظة الراهنة فالمشروع‬

‫ني على غرار الكرديّ ‪ ،‬وهو موقف‬ ‫المطروح هو إقامة إقليم سُ ّ‬

‫جدلي تبلور في العهد الثاني من حكومة نوري المالكي‪ .‬وقد‬ ‫ّ‬ ‫اإلسالمي «إخوان العراق»‪،‬‬ ‫رسمي الحزب‬ ‫تب ّناه بشكل غير‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫ظهرت أُولى‬ ‫وجرى الترويج له في محافظة األنبار‪ .‬وعمليًّا‬ ‫ً‬ ‫مشروعا للتحوُّل‬ ‫الخطوات عندما قدمت محافظة صالح الدين‬ ‫ُ‬ ‫جهض‪.‬‬ ‫إلى إقليم‪ ...‬لكنه أ ِ‬ ‫السنية‪،‬‬ ‫وعلى الرغم من وجود هذا المشروع في األوساط ُّ‬ ‫والتفكير فيه في أكثر من وسط‪ ،‬فإنه ال يزال يشهد بعض‬ ‫ُ‬ ‫بعض القوى فيه تهديدً ا لوَحْ دة العراق‪.‬‬ ‫المعارضة؛ إذ َت َرى‬

‫فعلى سبيل التمثيل ظل صالح المطلك يعارض إقامة األقاليم‪،‬‬ ‫ويدافع عن الالمركزية بصيغة ما دون الفيدرالية‪ .‬عبدالرحمن‬


‫‪35‬‬

‫اللويزي‪ ،‬وهو نائب من محافظة نينوى‪ ،‬يُعَ دّ من أكثر المناوئين‬ ‫ُ‬ ‫الرئيس في المعركة السياسية‬ ‫وهدفه‬ ‫إلقامة مشروع اإلقليم‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫وغرافي الذي تقوم به وَحَ دَ ات‬ ‫مواجهة ما يسمِّ يه التغيي َر الديمُ‬ ‫ّ‬

‫كردية في المناطق العربية المُ ح َّررة من داعش في الموصل‪.‬‬ ‫ُعار ُ‬ ‫َ‬ ‫مشروع توسيع إقليم كردستان إلى مناطق‬ ‫ض‬ ‫بمعنى آخر ي ِ‬

‫جديدة‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫الحزب اإلسالمي يمثل مع بعض األطراف المتناثرة‬

‫التكريتي ناجح الميزان‪ ،‬الطرف األكثر‬ ‫القومي‬ ‫األخرى؛ مثل‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫لماني السابق حسن‬ ‫الع‬ ‫دفعً ا عن هذا االتجاه‪ .‬الباحث والنائب ِ‬ ‫ّ‬

‫الجغرافي‪.‬‬ ‫أقاليم جغرافية؛ أي‪ :‬ال تعتمد الطائفية إنما التشابه‬ ‫ّ‬ ‫ويبدو أن هذه الدعوة تندرج ضمن سعي آل النجيفي لزعامة‬

‫الموصل؛ لصعوبة الطموح إلى ُّ‬ ‫السنة‪.‬‬ ‫تزعم ُّ‬

‫أول مشروع إلقامة األقاليم خارج كردستان‪ ،‬صدر عن‬

‫الشيعي عبدالعزيز الحكيم‪ ،‬وهو رئيس المجلس‬ ‫الزعيم‬ ‫ّ‬ ‫سالمي األعلى؛ إذ طالب الحكيم قبل وفاته بإقامة إقليم‬ ‫اإل‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫الوسط والجنوب‪ ،‬حيث يضم تسع محافظات شيعية سوى‬ ‫العراقي جعلها ضمن إقليم‪.‬‬ ‫بغداد التي يحظر الدستور‬ ‫ّ‬ ‫الشيعي حول المشروع منع تطبيقه آنذاك‪ ،‬فحزب‬ ‫االنقسام‬ ‫ّ‬

‫العلوي يشير إلى أن زيارات رئيس مجلس النواب والقياديّ في‬

‫الدعوة والزعيم المناوئ اآلخر مقتدى الصدر يعارض هذه‬

‫اإلسالمي هو‬ ‫العلوي في تصريحات صحفية إلى أن «الحزب‬ ‫ّ‬ ‫ني عن‬ ‫الطرف األقوى واألكثر حماسً ا إلقامة اإلقليم»‪ .‬النائب ُّ‬ ‫الس ّ‬ ‫ً‬ ‫أيضا‪ -‬إلى أن خيار اإلقليم‬‫محافظة ديالى رعد الدهلكي‪ ،‬أشار‬

‫الشيعي‬ ‫العربي‪ .‬في الوقت الراهن يبدو أن التوجّ ه‬ ‫العراق‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫معارض أليّ أقاليم بحجة أن الظروف غير مناسبة‪ .‬لكن الواضح‬ ‫ِ‬

‫اإلسالمي سليم الجبوري تدخل في هذا الصدد‪ .‬ويشير‬ ‫الحزب‬ ‫ّ‬

‫أحد الخيارات المطروحة‪.‬‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫أطرافا‬ ‫مشروعا بديلاً ‪ ،‬يبدو أن‬ ‫المفارقة األهمّ أن هناك‬

‫سُ نية تدعمه‪ ،‬وهو مقترح أثيل النجيفي‪ ،‬محافظ نينوى‬ ‫السابق‪ ،‬الذي دعا إليه في مايو من العام المنصرم‪ ،‬وهو إقامة‬

‫الفكرة‪ .‬األخير ُع ِرف عنه ميوله إلى النظام غير الفيدرالي في‬

‫أن القوى الشيعية تنظر إلى األقاليم بعين الريبة‪ ،‬وتعتقد أنها‬ ‫ُتمهّد لالنفصال في ّ‬ ‫الشيعي‪.‬‬ ‫ظل‬ ‫رفض األطراف كافة الحكمَ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫وليس واضحً ا ماذا حل بمشروع الحكيم‪ ،‬مع أن المصادر‬

‫المطلعة تقول‪ :‬إن وريث زعامة المجلس عمار الحكيم ال يزال‬ ‫ينظر إلى المشروع بوصفه جزءً ا من منهاج حزبه‪.‬‬

‫ملف العدد‬


‫التقسيم‬ ‫موجود في‬ ‫الذهنية الغربية‬

‫‪36‬‬

‫أيمن الحماد‬ ‫كاتب سعودي‬

‫الفرنسي‬ ‫ال يمكن األخذ بكالم رجل االستخبارات السابق‬ ‫ّ‬ ‫برنارد باجوليه بالقطعية الحدّ ية‪ ،‬على الرغم من الباع‬

‫والظروف مع أزمات حدودية‪ ،‬ال تخرج إلى العَ لن إال في حال‬ ‫ُّ‬ ‫تظل حبيسة األدراج واألرفف‪.‬‬ ‫نشوب األزمات‪ ،‬وفي غير ذلك‬

‫الع ِبينَ غير نِظامِ يِّين في مَ ْشهَد الصراع‪َ ،‬‬ ‫ونعْ ني‬ ‫إلى وجود ِ‬ ‫َ‬ ‫الجماعات اإلرهابية‪ ،‬من ميليشيات وتنظيمات‪ ،‬التي ال يمكن‬ ‫ِ‬

‫في االستعمار بوساطة تب ِّني أحزاب سياسية‪ ،‬أو تشييد قواعد‬

‫حال فإن مشاريع التقسيم موجودة في الذهنية الغربية قبل ما‬

‫إن حجم تأثير تنظيم «داعش»‪ ،‬وقدرته على اإلمساك‬

‫الدبلوماسي‬ ‫االستعماريّ الطويل لفرنسا في المنطقة‪ ،‬وال ننسى‬ ‫ّ‬ ‫فرانسوا بيكو الذي كان ونظيره مارك سايكس‪ ،‬هما من اخ َت َّط‬ ‫َ‬ ‫العربي‪ ،‬وعدم األخذ بالقطعية مآله‬ ‫لعالمنا‬ ‫الحدود الجديدة‬ ‫ّ‬

‫التعاطي معها في إطار أيّ تسوية أو حتى مؤامرة‪ ،‬بل إن‬ ‫الحاصل اليوم أن هناك رغبة في تماسك الدول التي َتشهَد‬ ‫ً‬ ‫تخوفا من صعود تلك الجماعات‪ .‬وعلى أي‬ ‫فوضى كبيرة؛‬

‫العربي‪ ،‬وإن إسقاط األنظمة كان رغبة في نفوس‬ ‫سُ مِّ ي بالربيع‬ ‫ّ‬ ‫المحافظين الجُ دُ د على األقل في أثناء مُ دَّ َت ِي الرئاسة لجورج‬ ‫بوش االبن‪ُ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫السيَر الذاتية‪ ،‬ومنها ما يحكيه‬ ‫وتخبرنا‬ ‫بعض ِّ‬

‫إن فرضية إعادة ترسيم الحدود في الشرق األوسط ال‬ ‫يمكن أن يكون المسوغ لها استغالل «داعش» هشاشة دول َت ِي‬ ‫العراق وسوريا‪ ،‬واكتساح الحدود بينهما‪ ،‬فالتاريخ يقول‪ :‬إن‬ ‫الجغرافيا ترسمها القوى الكبرى التي تتب َّنى اليوم شكلاً جديدً ا‬ ‫عسكرية‪ ،‬يمكن أن تضمن حضور الدولة ذات النفوذ واستمرار‬ ‫مصالحها‪ ،‬وفي حالتنا هذه َنعْ ني أميركا وروسيا المعنية‬ ‫بشكل رئيس بسوريا‪ ،‬على حين ُ‬ ‫األ َ‬ ‫ولى حاضرة في العراق‪.‬‬ ‫باألرض‪ ،‬وحجم الترهيب ‪-‬ال شك‪ -‬أسهم في إحداث هياج‬

‫ديموغرافي ال يمكن إصالحه‪ ،‬لقد بلغت‬ ‫اجتماعي‪ ،‬وتغيير‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫تلك الحال أوربا‪ ،‬وبلغت َع ْنوة العواصمَ األوربية‪ ،‬وألقت‬

‫الوزير السابق أحمد أبو‪ ‬الغيط‪ ،‬وما ينقله عن انطباعات مبارك‬

‫والثقافي‬ ‫بظاللها على أشكال التعاطي‬ ‫السياسي واالقتصاديّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫أيضا‪ -‬لن تعود‬‫في أوربا على نحو يصل إلى القول بأن أوربا‬

‫األميركي السابق‪ ،‬بضرورة تغيير النظام في سوريا؛‬ ‫القومي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُت ِّ‬ ‫ُ‬ ‫وضح لنا مثل تلك اإلشارات الرغبة الغربية في تغيير األنظمة‪،‬‬

‫الديموغرافي واإلثني‪ ،‬وما قد يلحقه‬ ‫الهجرة على التكوين‬ ‫ّ‬ ‫من تبعات‪ ،‬ي ِّ‬ ‫ُهدد في واقع األمر معاهدة «شنغن»‪ ،‬وظهور‬ ‫ً‬ ‫حقيقة إلى الخوف‬ ‫األسالك الشائكة بين حدود أوربا التي ترمز‬

‫الرئيس المصريّ األسبق‪ ،‬وشعوره برغبة أميركية في تغييره‪،‬‬ ‫أو تلك التي سَ مِ عها مباشرة من ستيف هادلي مستشار األمن‬

‫جغرافي؟ في واقع األمر إن الحدود‬ ‫لكن هل يرادف ذلك تغي ٌر‬ ‫ّ‬ ‫في منطقة الشرق األوسط َت ُّ‬ ‫وحساسة‪ ،‬ولم‬ ‫ظل مسألة رخوة‬ ‫َّ‬

‫حسم بين كثير من الدول التي تعايشت بفعل المصالح‬ ‫ُت َ‬

‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬

‫مثلما كانت‪ ،‬وليس الشرق األوسط فحسب‪ ،‬فتأثير موجات‬

‫من موجات البشر الفارِّين من جحيم الشرق األوسط وأتون‬ ‫الفوضى‪.‬‬


‫ً‬ ‫إذا ال شك أن التركيبة السكانية والتقسيمات اإلثنية يعاد‬

‫على ذلك‪ ،‬ثم إن تقسيم الدول العربية الحديثة هو حصيلة‬

‫الكبرى في العالم بقدر ما يَعْ ني الدول اإلقليمية؛ لذلك‬ ‫فترسيم الحدود وتغييرها نراه أم ًرا مستحيلاً ‪ ،‬أو غير وارد‬

‫حدث في الهند‪ ،‬لكنها َّ‬ ‫ً‬ ‫متماسكة‪ ،‬واستطاعت بناء‬ ‫ظلت‬

‫توزيعهما اليوم في سوريا والعراق‪ ،‬وهذا ال يَعْ ني الدول‬

‫على المدى القريب‪ .‬ال ننسى أن دولة مثل سوريا تختلف عن‬ ‫العراق من حيث غزارة المكونات وتنوعها‪ ،‬وتعدد المذاهب‬

‫واألديان والثقافات‪.‬‬

‫الدولي بين الناتو‬ ‫إن النزاع الحاصل اليوم‪ ،‬والتدخل‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫محالة إلى صيغة يمكن بوساطتها‬ ‫وروسيا‪ ،‬سيفضي ال‬

‫تقاسم المصالح‪ ،‬ال تقسيم األرض‪ ،‬والبحث في تفتيتها‬ ‫العربي‪ ،‬لكن‬ ‫على الرغم من رواج مسألة تقسيم العالم‬ ‫ّ‬ ‫يجب أن نسأل‪ :‬لماذا التقسيم؟ وهل التقسيم سيُضعف‬ ‫الشرق األوسط أكث َر من حالته الراهنة‪ ،‬أم قد يجلب في‬ ‫مجموعات قد ُت ِّ‬ ‫شكل خط ًرا حقيقيًّا للغرب‬ ‫حال فوضويته‬ ‫ٍ‬ ‫المذهبي أو اإلثني‬ ‫وحضارته ومنجزه‪ .‬إن قلنا‪ :‬إن التناحر‬ ‫ّ‬ ‫يبلغ اليوم حالاً من الخطورة‪ ،‬لكن ال نعتقد أنه سيفضي‬ ‫اإلقليمي لن تقبل تركيا‬ ‫إلى تقسيم الدول‪ ،‬فعلى المستوى‬ ‫ّ‬

‫نشوء دولة كردية جنوب حدودها تحت أي مسوّغ‪ ،‬ولن‬ ‫تسمح إيران بميالد دولة سُ نية َش ْرق العراق‪ ،‬ويمكن القياس‬

‫أهلي‪ ،‬ولو كانت تلك الدولة‬ ‫االستعمار‪ ،‬وليس نتيجة صراع‬ ‫ّ‬ ‫بصدد تقاسُ م األرض َل َفعَ َل ْ‬ ‫ت بعد جالء االستعمار عنها مثلما‬

‫‪37‬‬

‫دولة وطنية‪.‬‬

‫في كل األحوال‪ ،‬إن الصراعات حتى األهلية ال تتسبَّب في‬ ‫نشوء دول‪ ،‬مثل الحال األفغانية التي لم ُتسفر عن ميالد أيّ‬ ‫دولة على الرغم من إخفاق دولة أفغانستان إن صح التعبير‪،‬‬

‫الدولي؛‬ ‫الجيوسياسي على المستوى‬ ‫لكنها مهمة في الصراع‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫لذلك من المهم الحفاظ عليها‪ ،‬لكن لماذا يُق َّسم السودان؟‬ ‫ُقسم إنما حدث االنفصال نتيجة استفتاء‪ ،‬صحيح‬ ‫عمل ًّيا لم ي َّ‬ ‫أن ذلك وقع بعد سنوات طويلة من الحرب التي بالتأكيد‬

‫رسَّ خت حالة عدم الوالء للدولة السودانية‪ ،‬إضافة إلى‬ ‫الغربي ال َّ‬ ‫شك في ذلك‪ ،‬والحالة يمكن أن تنطبق على‬ ‫الدعم‬ ‫ّ‬ ‫أسكتلندا التي َّ‬ ‫نظمت استفتاء على االنفصال عن بريطانيا‪،‬‬ ‫وصوَّت األسكتلنديون برفض االنفصال‪.‬‬ ‫إننا ال يمكن أن ُن ِّ‬ ‫قلل من الواقع اليوم في الخارطة العربية‬

‫من حيث التأثيرات الواسعة النطاق والمتعددة المجاالت‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫فنشك في ذلك‪.‬‬ ‫لكن أن نشهد ميالد دول جديدة‪،‬‬ ‫اقرأ الملف كاملاً في موقع المجلة‬

‫ملف العدد‬


‫تقارير‬

‫تداعيات الحرب في اليمن‬

‫وداع المكتبة‬ ‫أو الزفرة األخيرة‬ ‫في وجود مكتبة يختلف األمر للذين تجبرهم الحرب على ترك بيوتهم‪،‬‬ ‫بما أنها الجزء األثير الذي يصعب حمله‪ .‬يمنيون و َّدعوا مكتباتهم من دون‬ ‫الحي الذي تركوه بين‬ ‫عودة‪ ،‬وآخرون أودعوا فيها أمل الرجوع‪ .‬إنها الجزء‬ ‫ّ‬

‫‪38‬‬

‫جدران أو أغلفة ميتة‪ .‬ال يم ّر يوم من دون أن تفكر إلهام الوجيه (صحافية)‬ ‫اً‬ ‫سهل؛ قالت‪« :‬كان ظلمً ا فادحً ا»‪.‬‬ ‫بمكتبة تركتها في اليمن‪ ،‬لم يكن فراقها‬

‫جمال حسن‬ ‫صحفي يمني‬

‫ثمانية أشهر منذ ألقت إيمان عامر (طبيبة أطفال) نظرتها‬

‫غير أن عاطفة غامضة أثارتها الرفوف‪ .‬فوراء كل كتاب تجلس‬

‫مدار سبع سنوات شاركت أخاها في ملء رفوفها حين تتوافر‬

‫استطردت‪ :‬أكثر من ماليين األفكار والمشاعر والذكريات‬

‫األخيرة على مكتبتها المنزلية‪ ،‬هي عمر الحرب في اليمن‪ .‬على‬ ‫لهما السيولة‪ .‬تقول‪ :‬إن حجمها ليس بالكبير‪ ،‬لكنها اإلضافة‬ ‫األجمل في البيت‪ .‬يمكن لتلك اإلضافة أن تتعرض إلى الفناء‬

‫أو الدمار؛ لوقوع إحدى القذائف التي تلقيها الميليشيا وسط‬

‫المدنيين في تعز‪ .‬كان يوم جمعة‪ ،‬وفي ساعتين قرروا ترتيب‬ ‫أمر السفر والنزوح إلى القرية‪« .‬ماذا يمكن لعقلك التفكير في‬ ‫أخذه أو تركه في أثناء حرب الفجأة؟» تساءلت‪.‬‬

‫كل فرد من أفراد أسرتها ذهب ليجمع أكثر أوراقه‬

‫خصوصية‪ :‬جوازات سفر‪ ،‬ووثائق ملكية‪ ،‬وشهادات‪ ،‬وأوراق‬ ‫عمرها عشرون عامً ا‪ ،‬ومالبس‪ ،‬وغذاء‪ .‬ربما بعض األشياء‬ ‫الثمينة‪ .‬تذ َّك ْ‬ ‫رت إيمان عوالم مكتبتها؛ الماضي الذي يحمل‬ ‫حكاية للمستقبل‪ .‬كان بوق السيارة في الخارج يُطلِق تنبيهًا‬ ‫ً‬ ‫إيذانا بالرحيل العاجل‪.‬‬ ‫ما زالت إلهام الوجيه تتساءل من منفاها الحالي في‬

‫إسطنبول‪ ،‬عن الشجاعة التي امتلكتها لترك مكتبتها ذات‬

‫ْ‬ ‫استيقظت من النوم يُغلفها‬ ‫األلف ومئتي عنوان؛ ذات يوم‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫متحمسة لما بعد الفراق‪.‬‬ ‫مستعدة أو‬ ‫الرعب؛ لم تكن فقط‬ ‫ُ‬ ‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬

‫ُّ‬ ‫تخصهما فقط‪.‬‬ ‫حكاية وأسرار‬

‫والتداعيات ال ُّروحيه كنت أظن أني سأتركها ورائي‪ ،‬بكت وهي‬ ‫تخبر أسرتها عن ذلك الفراق‪ .‬فالمكتبة كانت لها‪ ،‬حسب ما‬

‫قالته‪« :‬الغرفة السرية‪ ،‬وسدرة المنتهى وغيمتها الماطرة»‬ ‫ْ‬ ‫وقفت تفكر‪ :‬ماذا الذي ستأخذه؟ وما الذي‬ ‫أمام الرفوف‬

‫ستتركه؟ «أنا غير مسموح لي أن آخذ سوى حمولة قليلة‬

‫من حياة دامت سنوات عمري السابقة!» تقول إلهام وهي‬ ‫تتذكر تلك اللحظة المؤثرة‪ :‬لو أنها محض كتب‪ ،‬أو رفوف‪،‬‬ ‫كان فراقها سيكون سهلاً ‪ ،‬ليس فقط القراءة؛ ألن بمقدورها‬

‫اللجوء إلى الكتب اإللكترونية‪ ،‬لكنها تورَّطت معها في عالقة‬ ‫عاطفية‪ .‬لم تكن عالقة عادية‪ .‬فحين لم تكن تتوافر لها سيولة‪،‬‬ ‫ت األم َر كأنه‬ ‫قالت‪ :‬إنها باعت من ذهبها لشراء كتب‪ .‬أَ ْخ َف ِ‬ ‫جريمة؛ بسبب تقاليد مادية في وعي محيطها؛ أن ينظروا لها‬

‫كخرقاء تتخلى عن الذهب من أجل كتاب‪.‬‬

‫يروي الجاحظ في كتابه‪« :‬الحيوان» فضائل الكتاب‪،‬‬ ‫ً‬ ‫أحيانا يتعرض لخيانة‬ ‫بوصفه ال يخون صاحبه أبدً ا‪ ،‬لكنه‬

‫صاحبه‪ .‬هل يبدو األمر خيانة ألولئك الذين أجبرتهم الحرب‬


‫على هجر مكتباتهم؟ لم تجد إلهام سوى البكاء؛ بكت مجددًا‬ ‫ً‬ ‫أمانة لدى شقيقتها ندى التي ُتقدر القراءة‪ .‬قالت‪:‬‬ ‫وهي ُتودِعها‬ ‫إنها على دراية كبيرة وليست كاملة برحلتي مع كل كتاب‪.‬‬

‫نحو ألف كتاب دفنها وضاح الجليل (كاتب وناشط) في‬ ‫ً‬ ‫صندوقا بأحجام مختلفة؛ استعدادًا لطارئ الرحيل‪.‬‬ ‫عشرين‬ ‫سيضعها أمانة لدى أحد أصدقائه في مكان مأمون‪ .‬يرتبط‬

‫الشخصي‪ .‬يبحث عن‬ ‫مصير مكتبته بوضع البلد‪ ،‬ووضعه‬ ‫ّ‬ ‫مخبأ لثروته الوحيدة‪ .‬كان يشتري الكتب حسب احتياجاته‪.‬‬

‫ُ‬ ‫ظلمت نفسي في نفقات األكل واللبس؛ من أجل شراء‬

‫الكتب‪ .‬قال‪ :‬في أثناء الرحيل المفاجئ والطارئ وخز إيمان‬ ‫ٌ‬ ‫ْ‬ ‫أخذت من المكتبة ما وقع‬ ‫جوع غير مسبوق للقراءة‪.‬‬ ‫عامر‬ ‫عليه نظرها‪ .‬كانت السيارة تلحُّ ببوقها مُ ِّ‬ ‫حذرة‪ ،‬بينما الحرب‬ ‫َّ‬ ‫وحشي فوق المدنيين‪ .‬غادرت الغرفة‪ ،‬لكن ما‬ ‫تتوعد بانفالت‬ ‫ّ‬

‫أخذته لم يكن كافيًا عادت إليها مرة أخرى لتأخذ المزيد‪ :‬آنا‬ ‫كارنينا لتلستوي‪ ،‬والجذور إليلكس هيلي‪ ،‬وأحدب نوتردام‬

‫لهيجو‪ ،‬ومختارات قصصية لتشيخوف‪ ،‬وأربعة كتب‬ ‫أخرى‪ ،‬دسَّ ْتها بين أوراقها الخاصة‪.‬‬ ‫يرى منير المعمري (مبرمج كمبيوتر) بقاء‬

‫المكتبة في منزله‪ ،‬على أمل العودة إليها‪ .‬ليس‬ ‫أملاً شخص ًّيا‪ ،‬إنما للبلد أن تعود من رحلة الحرب‬ ‫َّ‬ ‫المؤقت‪،‬‬ ‫المدمرة‪ .‬أخذ معه إلى ماليزيا‪ ،‬مَ هْجَ ره‬

‫‪39‬‬

‫أربعة كتب‪ :‬تقرير إلى غريكو‪ ،‬والهوية والعنف‪،‬‬

‫والشعب يريد‪ ،‬وانتقام الجغرافيا‪ .‬محض تذكار من‬

‫مكتبته‪ ،‬جزء من تاريخه في القراءة‪ ،‬وفق تعبيره‪ .‬في‬

‫األغلب يفضل الناس أخذ كتب قرؤوها بشغف؛ ليحتفظوا‬

‫في صناديق محكمة‪ ،‬لديها أمل أن تلتقي بها عبر شحن‬

‫شخص مكتبته‪ ،‬أن يتخلى عن شيء عزيز‪ :‬أسرة‪ ،‬أو أب أو‬

‫لحظة وداع المكتبة للذين يهجرون أوطانهم تشبه الزفرة‬ ‫ً‬ ‫–أيضا‪-‬‬ ‫األخيرة‪ ،‬مربط الحسرة والحزن‪ .‬الحرب تقتل‪ ،‬لكنها‬

‫بأثر من تلك المكتبة في البيت‪ .‬يضيف منير أن الكتب لم‬ ‫ِّ‬ ‫ً‬ ‫إنسانا‪ .‬أن يترك‬ ‫مفك ًرا أو كاتبًا‪ ،‬لكنها جعلت منه‬ ‫تجعل منه‬

‫صديق‪.‬‬ ‫لاً‬ ‫و َ​َق ْ‬ ‫عت يد إلهام أو على رواية «لعبة الكريات الزجاجية»‬ ‫لهرمان هسه‪ ،‬ثم راحت تحتضن هنا وهناك‪ :‬كتاب الضحك‬

‫والنسيان لكونديرا‪ ،‬وقصائد الخيام‪ ،‬والهوية والعنف‪ ،‬ورائعة‬ ‫دون كيخوتة‪ .‬قليلاً تلتقط أنفاسها‪ ،‬تستعيد وعيها وتقول‪،‬‬

‫لمن سأترك ديستوفيسكي ونيتشه من سيقرؤهما؟ كان واقعً ا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ومربكا‪.‬‬ ‫مشحونا‬ ‫لهفة شرهة؛ قالت‪ :‬إنها بدأت خجولة لتنتهي برغبة‬

‫مجنونة في أخذ كل الكتب‪ .‬وأخي ًرا توقفت يدها يائسة من‬ ‫دون حمل شيء‪ .‬أقنعت نفسها أنها ستتبعها حيث تكون‪،‬‬

‫وغادرت فارغة اليد‪ ،‬تحمل صورة الحنين إلى مكتبة مهجورة‪،‬‬ ‫وذِكرى عن وطن تراجيديّ ‪ .‬بكت مع نفسها وهي ُتودِع ُكتبَها‬

‫متالحق حين تستقر‪.‬‬

‫تنزع اإلنسان من مكتبته‪ .‬هناك بيوت قليلة في اليمن تزينها‬ ‫رفوف مملوءة بالكتب‪ ،‬هذا الجزء المضيء مهدَّ د بظالم تلقيه‬

‫أفواه البارود والضغائن الطائفية‪.‬‬

‫لحظة وداع المكتبة للذين يهجرون‬ ‫أوطانهم تشبه الزفرة األخيرة‪ .‬بيوت في‬ ‫اليمن تزينها رفوف مملوءة بالكتب‪ ،‬هذا‬ ‫الجزء المضيء مهدد بظالم تلقيه أفواه‬ ‫البارود والضغائن الطائفية‬


‫كتب‬

‫وحدة الحوار‬ ‫بين األحياء واألموات‬

‫‪40‬‬

‫إلياس فركوح‬

‫مؤنس الرزاز‬

‫فـي الرسائل المتبادلة بين مؤنس الرزاز وإلياس فركوح‪،‬‬ ‫ما يعلن عن مفارقة حزينة وجميلة‪ ،‬و ُيخبر عن استذكار‬ ‫واستبصار حميم متميّز‪ ،‬يواجه عبث الزمن القاسي بكتابة‬

‫متجددة‪ .‬يأتي حزن المفارقة من رحيل أحد الطرفين‪ .‬جاء‬ ‫الموت إلى مؤنس مبكرًا وقيّده إلى الصمت‪ .‬رحل قبل أن‬

‫يكتب الروايات التي كان يحلم بكتابتها‪ .‬وتصدر جمالية‬ ‫الرسائل عن فضيلة الوفاء‪ ،‬التي جعلت إلياس فركوح‬ ‫يحمل ضجيج الحياة إلى صديق غادره‪.‬‬

‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬

‫فيصل دراج‬ ‫ناقد فلسطيني‬


‫جسد إلياس بالكتابة المسافة الموجعة بين زمنين‪،‬‬ ‫ّ‬

‫وأخبر ‪-‬على طريقته‪ -‬عن قوة الكتابة التي تصرخ‪ ،‬وتهمس‪،‬‬

‫َ‬ ‫محاصر باالحتماالت‪.‬‬ ‫وتحاور‪ ،‬وتشاكس‪ ،‬وتستق ّر فـي موقع‬ ‫ً‬ ‫لكنه‪ ،‬وهو يستنجد بالكتابة‪ ،‬ص ّرح‪ ،‬حزينا‪ ،‬بهشاشة الكائن‬

‫ الكاتب‪ ،‬الذي يلتفت إلى األموات‪ ،‬ويعرف أنه سيلتحق‬‫ّ‬ ‫فلكل كاتب نهاية تصادت فـي ذاكرته‪ ،‬قبل أن يعرف‬ ‫بهم‪،‬‬ ‫الكتابة‪،‬ودخل إلى الكتابة من دون أن تفارقه أطياف‬ ‫َّ‬ ‫ولعل إيمانه بالكتابة‪ ،‬هو الذي جعله يستعيد بها‬ ‫األموات‪.‬‬

‫صوت صديقه الذي رحل‪ ،‬كما لو كانت استضافة الراحل‬ ‫فـي حقل الكتابة تضعه «داخل الحياة» ولو إلى حين‪ .‬تبدو‬ ‫آن واحد‪ ،‬ير ّد إلى الحياة ما‬ ‫الكتابة فعلاً سحر ّيًا‬ ‫ً‬ ‫ويائسا فـي ٍ‬

‫قلقا ال ي َ‬ ‫خرج منها‪ ،‬ويستدعي ً‬ ‫ُعالج بالكتابة‪.‬‬

‫دخل إلياس إلى عالم الرسائل من باب االستذكار؛ إذ‬

‫فـي دروب الصداقة الطويلة ألفة األسماء واألصدقاء‪ ،‬التي‬ ‫تكسو النهار دف ًئا وأسئلة‪ .‬تقاسم الصديقان الحزن على‬

‫َ‬ ‫وتوازعا دهشة‬ ‫صديق ثالث اغتاله «ق ّناص» على حين غ َّرة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫المقطعة فـي كيس»‪،‬‬ ‫مريرة من مآل إنسان «حُ شرت أعضاؤه‬

‫ات وأفكا َر قصص «قيد اإلنجاز»‪ْ .‬التقى االستذكا ُر‬ ‫وتبادلاَ مَ َس َّر ٍ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫منافذه المتعددة التي أطلت فـي عمّ ان‪ ،‬ذات مرة‪ ،‬على‬

‫قومي»‪ ،‬أراد ألمته‬ ‫مثقفي ِْن قوميي ِْن يُنصتان إلى حديث «قائد‬ ‫ّ‬ ‫السالمة فوقع فـي الموت‪َ .‬ل َكأَنَّ‬ ‫مؤنسا «ولد بعثيًّا»‪ ،‬يقول‬ ‫ً‬

‫إلياس‪ ،‬ناظ ًرا إلى عفوية إنسانية نبيلة‪ ،‬لم تكن بحاجة إلى‬

‫يتذ ّكر إلياس فركوح فـي الرسائل التي‬ ‫أشرف على إعدادها‪ ،‬ويستذكر فـي‬ ‫مناخا ثقاف ًّيا سياس ًّيا‪ ،‬تناءى‬ ‫آن‪ :‬يتذكَّر‬ ‫ً‬ ‫ٍ‬ ‫إلى تخوم الغياب‪ ،‬ويستذكر صديقً ا‬ ‫أحالما كتابية هائلة‬ ‫تقاسم معه‬ ‫ً‬ ‫إلى «األمل»‪ ،‬تخالطها إيمانية العمل وميتافيزيقا اإلرادة‪.‬‬

‫يقول مؤنس لصديقه‪« :‬الفعل هو الوسيلة الوحيدة التي‬ ‫يك َ‬ ‫َت ِق َ‬ ‫حاو ْل أن ترى متعة الصبر‪ ،‬وال تسأل كثي ًرا»‪.‬‬ ‫الغ َر َق‪ِ ...‬‬

‫وقد صبر مؤنس على ما يُصبَر عليه ثم رحل‪ ،‬وتابع إلياس‬ ‫المساءلة‪َ :‬ن َقدَ الفك َر الذي انتسب إليه‪ ،‬ثم َن َه َره‪ ،‬من دون‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫مقارنا‪ ،‬بوعي أَ ْسيان‪ ،‬بين‬ ‫يكف عن تجديد األسئلة‪،‬‬ ‫أن‬ ‫أحاديث الشباب فـي «اللويبدة» وألوية الجهل المتعالية فـي‬

‫زمن «تحرير الرسائل»‪.‬‬

‫كان محمود درويش يقول‪« :‬كل مثقف من المثال‬

‫الذي يتطلع إليه»‪ ،‬ثم يكمل القول بتعليقات ساخرة‪،‬‬ ‫مم ِّي ًزا الحِ ْن َ‬ ‫طة مِن ال ُّز َؤان‪ .‬لعل المرور على أسماء الكتب‬

‫والمفكرين الذين كان مؤنس يحتضنهم وهو ذاهب من‬

‫مدينة إلى أخرى‪ ،‬ما يضيء المثال الصعب «الهائل» الذي‬

‫«أيديولوجيا كبيرة»؛ ألنّ فـي األيديولوجيات المتحزبة‪ ،‬فـي‬

‫كان يتطلع إليه‪ ،‬وهو فـي أوائل عشريناته‪ .‬فحين كان فـي‬ ‫ً‬ ‫ُوحي لن يصل‬ ‫«بيرمنغهام» البريطانية‪،‬‬ ‫باحثا عن تكامل ر ّ‬ ‫إليه‪ ،‬يذكر هيرمان هسه وألدوس هكسلي وبروست‪ ،‬مسائلاً‬

‫األدب الذي أعدمه حزبه‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫يتراءى فـي مداخل الصداقة مكانٌ نظيف أليف فـي عمّ ان‬

‫وهيدغر ومارلو بونتي‪ ،‬إلى أن يصل إلى مدينة واشنطن؛‬ ‫ً‬ ‫متحدثا عن نيتشه وبيرغسون‬ ‫ليستأنف شغفه المعرف ّـي‪،‬‬ ‫وهيوم و«عمل جويس العبقري‪ :‬يوليسيس»‪.‬‬

‫لحظة انغالقها‪ ،‬ما ينفي العفوية‪ ،‬ويأمر بتماثل البشر الذي‬ ‫ِّ‬ ‫المفكر‪.‬‬ ‫يطالها باستقالة العقل‬

‫يُدعى «اللويبدة»‪ ،‬عاش فيه «األب» الذي أعدمه «حزبه»‪،‬‬ ‫واالبن الذي وُلد كما أرادت له أسرته المثقفة‪ ،‬واختلف إليه‬

‫القومي» الذي استعاد األطياف جميعً ا‪ ،‬ووضعها‬ ‫«الصديق‬ ‫ّ‬

‫فـي رسائل بين عامَ ْي (‪2015 -2013‬م) كتابة وأزمنة‪ ،‬أو كتابة‬ ‫فـي أزمنة‪ ،‬هذا ما أراده إلياس فـي كتابة متعددة المرايا‪،‬‬ ‫ُتوحي وتشير وتلهث وتشي وتص ّر أن تبقى كتابة‪ ،‬فـي‬ ‫التحديد األخير‪.‬‬

‫وحي لمثقفي ِْن‬ ‫تحيل شظايا الكتابة إلى العالم ال ُّر ّ‬ ‫ِّ‬ ‫سياسي‪،‬‬ ‫ـي‬ ‫استغرقتهما الكتابة‬ ‫ّ‬ ‫المفكرة‪ ،‬وإلى زمن ثقاف ّ‬ ‫لم يكن مثاليًّا‪ ،‬يغاير ما أعقبه‪ ،‬ويفرض على ال ُّروح الكاتبة‬ ‫ً‬ ‫كتابة‬ ‫طبقات من التأسِّ ي والحنين‪ .‬أراد مؤنس وإلياس‬ ‫ٍ‬

‫ِّ‬ ‫مفكرة‪ ،‬فـي زمن هجين‪ِّ ،‬‬ ‫ويتمسك بالقديم‪.‬‬ ‫يبشر بالجديد‬ ‫ِّ‬

‫كتابة معاناة أقرب إلى التفاؤل‪ ،‬أو كتابة متشائمة ترتكن‬

‫ً‬ ‫ومتوقفا أمام كير غارد‬ ‫العالقة بين الفلسفة واألدب‪،‬‬

‫فـي الوقوف أمام مكتبة إنسانية «عبقرية»‪ ،‬كان مؤنس‬

‫َ‬ ‫وح صابرة حالمة‬ ‫َي ْرزح تحت وطأة حُ لم ثقيل‪ ،‬يشي ب ُر ٍ‬ ‫ترهق صاحبها‪ ،‬تراهن على ما ال يمكن الرهان عليه؛ إذ إن‬ ‫للمكتبات تاريخها‪ ،‬وللمدن فتنتها‪ ،‬وللشوارع مصائدها‪،‬‬

‫آن واحد‪ .‬لعل تلك األحالم‪،‬‬ ‫ولألحالم غوايتها وجحيمها فـي ٍ‬ ‫شخصي‬ ‫مدار‬ ‫ـي‬ ‫ف‬ ‫و‬ ‫ره‪،‬‬ ‫عربي رما ُد ه أكث ُر من‬ ‫فـي سياق‬ ‫مْ‬ ‫جَ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫مؤنسا إلى طيران مع ّوق‪،‬‬ ‫تتعقبه المأساة‪ ،‬هي التي قادت‬ ‫ً‬

‫ّ‬ ‫كلما ارتفع ازداد اضطرابًا‪ .‬لم يكن ذلك الطيران الطموح‬ ‫رومانسي‪ ،‬يرى فـي ُ‬ ‫الكتب قوة‬ ‫لوعي‬ ‫والمستحيل‪ ،‬إلاّ مرآة‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫خالقة‪ ،‬واللتزام قومي تحاصره «أرواح ميتة»‪ ،‬ولحساسية‬ ‫عالية «مغتربة المتكأ»‪.‬‬

‫يشير مؤنس إلى فرحه «بصديقين»‪ ،‬مؤ ِّكدً ا لصديقه‬

‫‪41‬‬


‫كتب‬

‫إلياس أنَّ االثنين عدد كبير‪ ،‬ال يمكن االستخفاف به‪.‬‬ ‫ً‬ ‫مسكونا بشهوة إصالح العالم‪،‬‬ ‫والسؤال هو‪ :‬إذا كان مؤنس‬ ‫وحي‪،‬‬ ‫حال الرومانسيين جميعً ا‪ ،‬فما هي حدود اغترابه ال ُّر ّ‬

‫وهو يحتفي «باثنين» ال ثالث لهما؟ هل هي قوة األمل‪ ،‬أم‬ ‫ّ‬ ‫تكف عن التوالد؟‬ ‫«التأقلم» مع خيبات ال‬ ‫ال غرابة أن يرجع الشاب الناحل‪ ،‬القريب من الخجل‪،‬‬

‫إلى رواية كامو «الغريب» أكثر من مرة‪ ،‬وأن يعيش غربة‬ ‫ً‬ ‫«رفاقا» َّ‬ ‫تخلوْا عنه فـي‬ ‫متعددة األبعاد وهو يراقب فـي بيروت‬

‫ُ‬ ‫«نصف أصدقائه»؛ أي إلياس‪،‬‬ ‫لمح البصر‪ .‬وال غرابة أن يقرأه‬

‫ِّ‬ ‫التخلي‬ ‫بمقولة المسيح‪ ،‬وأن يقرأ بها والد مؤنس‪ ،‬بمعنى‬ ‫وشقاء الطريق‪ .‬يرتسم فـي المصاير الثالثة معنى التجربة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫يتوقعه‪ ،‬وأمّ لت‬ ‫التي دفعت الوالد إلى مآل ظالم لم يكن‬ ‫ّ‬ ‫متقشفة‪ ،‬واستبقت إلياس‬ ‫في االبن أن يتعهّد أحالمه بموا ّد‬ ‫بكتابة متجددة‪َ ،‬ت َت َطيَّر من اليقين والمطلقات‪ ،‬التي تحسن‬ ‫الهدم وتستولد السراب‪.‬‬

‫زمن يضيق بالثقة‬ ‫َتباد َ‬ ‫َل الصديقان استضافة ال ُّروح‪ ،‬فكتبا وتحا َورَا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫يخصه‪ ،‬بمالحظات تصوّب‬ ‫واحتفظ كل منهما بموقع‬

‫النظر‪ ،‬إنْ أوغل فـي الحلم‪ ،‬أو عاجله التجريد‪ .‬غير أنّ‬

‫تلك الصداقة الطويلة األمد‪ ،‬فـي زمن يضنّ بالثقة‪ ،‬لم‬

‫تكن ممكنة من دون «شراكة روحية» مهجوسة بتساند ال‬ ‫حسبان فيه‪ ،‬وبإخالص ال يَتبدّ د فـي الطريق؛ لذلك تبدو‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫رسالة‬ ‫الرسائل الممتدة فـي زمن يقترب من األربعين عامً ا‪،‬‬

‫واحدة‪ ،‬ترسم صداقة ال تخبو‪ ،‬وتؤرّخ لواقع بليد ُ‬ ‫الخطا‪،‬‬

‫يخذل األحالم ويتقدّ م إلى حيث يريد‪ .‬وإذا كانت الصداقة‬ ‫من وحدة هدف يصوغه َن َظران‪ ،‬فإنّ جماليتها من اختالف‬

‫النظرين المتكاملين‪ ،‬اللذين يتقاسمان قيمً ا مشتركة‪،‬‬ ‫واجتها ًدا ال يُختزل إلى صيغة مفردة‪ .‬يقول إلياس محذرًا‬

‫‪42‬‬

‫من هشاشة القراءة و«فتنة الكتب»‪« :‬غير أن الكيفية التي‬

‫نقرأ من خاللها الكتب‪ ،‬بصرف النظر عن أهميتها ومداها‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تتجلى فـي المكتوب»؛ ألن‬ ‫األدق التي‬ ‫فتلك هي اإلشارة‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫فـي القراءة سطوحً ا نافلة‪ ،‬وأعماقا خصيبة تبْني وترمِّ م‬

‫ُ‬ ‫وتلغي بممحاة عاقلة‪ .‬شيء قريب من أشكال االبتسام‪،‬‬ ‫فتلك التي ال ُتخفي وراءها إلاّ األسنان‪ ،‬تغاير أخرى صادرة‬ ‫عن قلب صادق‪.‬‬

‫فـي «رسائلنا ليست مكاتيب» ما يشهد على كتابة ‪-‬‬ ‫وثيقة‪ ،‬تستعيد زم ًنا مضى‪ ،‬تواجهه بحاضر تقهقر عنه‪،‬‬ ‫إلى تخوم االنقطاع تقريبًا‪ .‬لم يكن ما كان مثال ًّيا‪ ،‬لكنه‬

‫قابل للتحمُّل‪ ،‬وال يفصح عن كارثة‪ .‬كان مؤنس يتحدّ ث‬ ‫من رسائل مؤنس إلى إلياس عن األمل والنشوة‪« :‬رسالتك بعثت ف ّـي أملاً ضاعف من‬ ‫نشوتي‪1977-3-1 .‬م»‪ ،‬قبل أن يتحدّ ث إلياس‪ ،‬بعد ثمانية‬

‫ال غرابة أن يرجع الشاب الناحل‪ ،‬القريب‬ ‫من الخجل‪ ،‬إلى رواية كامو «الغريب»‬ ‫أكثر من مرة‪ ،‬وأن يعيش غربة متعددة‬ ‫األبعاد وهو يراقب فـي بيروت‬ ‫«رفاقا» تخ َّل ْوا عنه فـي لمح البصر‬ ‫ً‬

‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬

‫وثالثين عامً ا‪ ،‬عن عالم غاضت إنسانيته‪« :‬العالم يتصحّ ر‬

‫يا أخي كل يوم‪ .‬يحتشد بجموع الضباع‪ ،‬ويصخب بعواء‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وأديانا ملفقة»‪.‬‬ ‫وفرقا‪ ،‬وأحزابًا‪،‬‬ ‫الذئاب‪ ،‬دولاً ‪،‬‬

‫ذهب ما كان‪ ،‬وأعقبه ورثة كاثروا أمراضه‪ ،‬وأطلقوا‬ ‫النار على احتماالت العالج‪ .‬عرف الصديقان زم ًنا عرب ًّيا يريد‬ ‫أن ينهض‪ ،‬سافر مؤنس إلى عاصمة العباسيين فـي طورها‬ ‫«البعثي» الواعد بتغيير العوالم‪ْ ،‬‬ ‫وال َتحَ ق إلياس بمقاومة‬ ‫ّ‬

‫فلسطينية فـي بيروت‪ ،‬ثم َن َظ َرا‪ ،‬بنسب مختلفة‪ ،‬إلى انكسار‬


‫وحدة الحوار بين األحياء واألموات‬

‫ّ‬ ‫احتلت إسرائيل العاصمة اللبنانية‪ ،‬ودخلت بغداد‪،‬‬ ‫األحالم‪:‬‬ ‫األميركي‪ ،‬إلى أطوار متصاعدة من االنتهاك‬ ‫بعد االحتالل‬ ‫ّ‬ ‫والتدمير والسديم واالغتصاب‪ .‬يتعيّن ما كتباه‪ ،‬بهذا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ماعية‪ ،‬فما دارَا حوله طويلاً ارتبط‬ ‫سيرة‬ ‫المعنى‪،‬‬ ‫ذاتية جَ‬

‫«القومي» بعيدً ا من ثقافة االختصاص‪.‬‬ ‫بالشأن‬ ‫ّ‬ ‫يتذ ّكر إلياس فركوح‪ ،‬فـي الرسائل التي أشرف على‬ ‫ً‬ ‫مناخا ثقافيًّا سياس ًّيا‪،‬‬ ‫آن‪ :‬يتذ ّكر‬ ‫إعدادها‪ ،‬ويستذكر فـي ٍ‬ ‫ً‬ ‫صديقا تقاسم معه‬ ‫تناءى إلى تخوم الغياب‪ ،‬ويستذكر‬

‫«أحالمً ا كتابية هائلة»‪ .‬تحضر الذاكرة وهي تزور ما كان‬ ‫ّ‬ ‫ويتجلى االستذكار‬ ‫وتداعى‪ ،‬رحل الصديق وتداعت األحزاب‪،‬‬

‫فـي أسلوب مُ ح َّوط بالحنين‪ ،‬وبدمع محتجب‪ .‬إنها التجربة‬

‫التي جاءت وذهبت‪ ،‬لم تعطب العقل‪ ،‬لكنها تركت فـي‬

‫ال ُّروح ندوبًا كثيرة‪.‬‬ ‫األلماني هانز بولمنبرغ عن «قراءة‬ ‫تحدّ ث الفيلسوف‬ ‫ّ‬ ‫العالم»؛ إذ إن َّ‬ ‫كل شيء‪ ،‬فـي قديمه وحديثه‪ ،‬عملية قراءة‪،‬‬

‫تستنطق وتصوغ ما يشبه اإلجابات‪ .‬حاول إلياس فركوح الذي‬ ‫يرى األدب لغة منذ بداياته‪ ،‬أن يترجم ما عاشه إلى كلمات‪،‬‬ ‫ًّ‬ ‫مشتقا الفكر من لغة تصوغه‪ ،‬تنفذ إلى‬ ‫ترسم وتصوِّر وتسرد‪،‬‬

‫جوهر األشياء‪ ،‬وتترك الكلمات تنسج المعنى وتشير إليه؛ فال‬ ‫معنى لبالغة تخطئ موضوعها‪.‬‬

‫لهذا بدت رسائله درسً ا فـي األسلوب‪ ،‬يالحق العالم‪،‬‬ ‫ويصوغه فـي كلمات تجمع بين الصور والمفاهيم‪ُ ،‬تستكمل‬

‫بهوامش «دقيقة»‪ ،‬تنصف األشخاص وتالمس «روح‬

‫المرحلة»‪.‬‬

‫فـي االستذكار الذي يعطف الكتب على المدن‪،‬‬

‫والوجوه على األفكار‪ ،‬استبصار يحاذر الغضب‪ ،‬ويحتضن‬

‫األشياء كما كانت وكما ستأتي‪ ،‬طالما أن صور «السادة»‬

‫الذين جرفتهم البالغة‪ ،‬من صور الخاضعين الذين ورثوا‬ ‫عاداتهم‪ .‬ينتهي الكتاب بقصة لمؤنس عنوانها‪« :‬البحث‬

‫عن النشوة المستحيلة»‪ ،‬تلك النشوة التي تقف على الباب‬ ‫طويلاً ‪ ،‬وته ّزها المفارقات القاسية‪« :‬فـي عينيك حساسية‬ ‫الغضب وقسوة الصدمة»‪ .‬ال تختلف جملة االستهالل فـي‬

‫قصة مؤنس عن استهالل قصة «الحصار» لصديقه إلياس‪:‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫اختزنت من طعنات أسلحة‬ ‫بحزنك وما‬ ‫«مدججً ا تأتيني‬ ‫الزمن القاتل»‪.‬‬

‫يتراءى ما أتى وما سيأتي فـي متواليات من الكلمات‪،‬‬ ‫حَ دُّ ها َ‬ ‫األو َُّل «صدمة قاسية»‪ ،‬وحدُّ ها األخير «طعنات‬

‫قاتلة»‪ .‬أغلق الكتاب فضاءه المأساويّ بما كتبه مؤنس عن‬ ‫عبدالوهاب الكيالي‪ ،‬الذي اغتاله «أنصار االلتزام»‪« :‬لماذا‬

‫يتسع هذا الوطن الكبير لماليين الشهداء ويضيق بأحالمنا‬

‫الصغيرة؟»‪.‬‬

‫غالف «رسائلنا ليست مكاتيب»‬

‫ُ‬ ‫شهداؤه الحياة‬ ‫وطن يختار‬ ‫َ‬ ‫الحياة‪،‬‬ ‫ُكتبت «الرسائل» عن وطن يختار شهداؤه‬

‫المتميزان بوطن‬ ‫األردنيان‬ ‫المثقفان‬ ‫ويصادرهم الموت‪ .‬حلمَ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫يطرد الضجيج الكاذب‪ ،‬ويستضيف السكينة‪ .‬استضاف كلٌّ‬

‫منهما اآلخر‪ ،‬وال يزال‪ ،‬نافرين من «كواتم الصوت»‪ ،‬هاجسي ِْن‬ ‫ُّ‬ ‫التحقق‪ ،‬ال مكان لها فـي متاحف‬ ‫«بأحالم صغيرة» مستحيلة‬ ‫الكوابيس‪ ،‬ولها بعض المكان فـي أرجاء الكتابة‪.‬‬

‫احتضن الكتاب‪ ،‬مثلما أعدّ ه إلياس فركوح‪ ،‬سيرتي ِْن‬ ‫مجزوءتي ِْن‪ :‬سيرة ذاتية ثقافية لجيل من المثقفين العرب‪،‬‬ ‫َص َ‬ ‫الحَ بين الغضب واألهداف النبيلة‪ ،‬وحصد رمادًا يحرق‬ ‫العيون‪ ،‬وسيرة أخالقية إبداعية ألديبين مختلفين‪ ،‬تحتفي‬

‫بذات المبدع‪ ،‬وتزهد في الشعارات الفارغة‪ ،‬وتعطي الكتابة‬ ‫ً‬ ‫تعريفا ال يُلحق بها اإلهانة‪ .‬نرى فـي هذا الكتاب إلياس فركوح‬ ‫وشقاءه النبيل فـي حقل اللغة‪ ،‬مصرحً ا بذاتية تفصل بين‬

‫الواحد والمتعدد وبين النثر واإلنشاء‪ ،‬وال تلغي المسافة بين‬

‫النقد والكتابة‪.‬‬

‫كما لو كان يقول‪ :‬إن أخالقية المبدع من لغته‪ ،‬وإن فـي‬

‫يجسد جماليات الحياة والصداقة‪ ،‬التي‬ ‫لغته المبدعة ما‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تجلت فـي راحل جميل ي َ‬ ‫ُدعى‪ :‬مؤنس الرزاز‪.‬‬ ‫شكل جديد من سيرة الكتابة اإلبداعية‪ ،‬تتجاوز التصنيف‪،‬‬

‫األدبي فـي مسار األديب‪ ،‬وتحتضن أخالق الكاتب‬ ‫وترى الجنس‬ ‫َّ‬ ‫آن‪.‬‬ ‫وتاريخه الكتابي فـي ٍ‬

‫‪43‬‬


‫قضايا‬

‫يقيمون ما آلت إليه الثقافة‬ ‫مثقفون‬ ‫ّ‬ ‫والفنون في منارة الخليج‬

‫ما الذي حدث‬ ‫للكويت؟‬ ‫«الفيصل»‬ ‫الكويت‬

‫‪44‬‬

‫ال يخلو مجلس في الكويت اليوم‪ ،‬من الحديث بحسرة عن التحوالت التي حدثت في العقدين‬ ‫األخيرين‪ ،‬وطالت الفكر والحريات والثقافة في مفهومها الشامل‪ .‬كأنما الكويت لم َت ُعد المنارة التي‬

‫فاض إشعاعها على كل العرب‪ ،‬ما جعل التذمر يتعالى من فنانين ومثقفين وناشطين‪.‬‬ ‫ً‬ ‫مجموعة من األسئلة عما يحدث اليوم للثقافة والفنون في الكويت‪ ،‬إلى نخبة من‬ ‫«الفيصل» وجَّ هت‬

‫ً‬ ‫وبحثا عن حلول إلشكالية تتفاقم‪،‬‬ ‫األسماء المهمة في مجاالتها؛ سعيًا لمعرفة أسباب التراجع‪،‬‬ ‫وتؤثر‪ ،‬ليس في الكويت فحسب‪ ،‬إنما ً‬ ‫الثقافي‪ ،‬وفضاء الحريات واإلبداع العربي‪.‬‬ ‫أيضا‪ -‬في المناخ‬‫ّ‬

‫الملتقى الثقافي للروائي طالب الرفاعي؛ أهم الصالونات األدبية‬ ‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬


‫سعود السنعوسي (روائي) ‪:‬‬ ‫ِر َّدة ثقافية وال نعرف إلى أين ستقودنا القيود‬

‫هي ِردَّة ثقافية إن أمكننا القول‪ ،‬ليس األمر حك ًرا على‬ ‫الكويت‪ ،‬إنما المنطقة كلها تم ّر بالمشكلة نفسها‪ ،‬لكن‬ ‫ما يجعل الفارق واضحً ا أكثر في الكويت؛ أننا أمام مقارنة‬ ‫بين زمنين؛ األول زمن كانت فيه الكويت منب ًرا للحريات‬ ‫في المنطقة عبر برلمانها‪ ،‬وصحافتها‪ ،‬وفنونها المتمثلة‬

‫في المسرح على وجه الخصوص‪ ،‬والزمن الثاني هو ما‬

‫نعيشه اليوم الذي ارتدَّت فيه الحريات إلى الوراء بشكل ال‬

‫يشبه السمعة التي اكتسبتها الكويت فيما مضى‪ .‬ال أدري‬ ‫إلى أين تقودنا هذه القيود على وجه التحديد‪ ،‬إلى مكان‬ ‫أسوأ ال أتخيل شكله‪ ،‬لكنني أرى ب َِصيص أمل بعد اإليغال‬

‫‪#‬أنقذوا_مجلة_العربي‬ ‫أطلق مغردون كويتيون وعرب وسمً ا (هاشتاغ) على‬

‫موقع تويتر يناشدون فيه‬ ‫وزارة اإلعالم في الكويت‬

‫إعادة النظر فيما آلت إليه‬ ‫األوضاع في مجلة العربي‬

‫الكويتية الرائدة‪ ،‬وكان‬ ‫باعث هذه المناشدات‬

‫مقالة‬

‫الكويتية‬

‫نشرتها‬

‫تحت‬

‫عنوان‬

‫في تقييد الحريات ال بد أن تكون هناك حركة مضادة‪ ،‬وقد‬

‫«النداء‬

‫صارت تعيد النظر في مسألة الحريات في الكويت‪ ،‬كما أن‬

‫ندوة «العربي» السنوية‬

‫ظهرت بوادرها اليوم من خالل التجمعات والندوات التي‬ ‫كثي ًرا من المبدعين بصدد اتخاذ إجراءات قانونية ليس من‬ ‫أجل رفع الظلم عن أعمالهم فحسب‪ ،‬إنما من أجل إعادة‬

‫النظر في القوانين المجحفة‪ ،‬والعمل على إسقاطها‪ .‬لوال‬ ‫هذا التضييق الذي نشكو منه اليوم َلمَ ا وجدنا المثقف‪،‬‬ ‫على غير عادة‪ ،‬يتح َّرك وفق ُخ َطط مدروسة‪ ،‬وبشكل‬ ‫قانوني؛ الستعادة حقوقه المسلوبة‪.‬‬ ‫جماعي‪ ،‬في إطار‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫األمر معقد جدًّ ا‪ ،‬نحن في حاجة إلى أعضاء في البرلمان‬

‫يملكون من الوعي ما يؤهلهم للدفاع عن الحريات التي َّ‬ ‫نص‬

‫عليها الدستور‪ ،‬لكن مصيبتنا – في شكل من األشكال‪ -‬في‬ ‫برلماننا؛ إذ صرنا نشاهد نوَّابًا يطالبون بمنع الكتب ومساءلة‬ ‫الحكومة‪ ،‬وسبق أن جرى استجواب وزير إعالم؛ بسبب أربعة‬ ‫َ‬ ‫ُك ُتب بِيعَ ْ‬ ‫باستحسان من نائب؛‬ ‫تحظ‬ ‫ت في معرض الكتاب لم‬ ‫ٍ‬

‫مما أدّى إلى استقالة الوزير‪ ،‬وإقالة األمين العام للمجلس‬ ‫الوطني للثقافة والفنون واآلداب‪ ،‬واستقالة الحكومة كلها‬ ‫ّ‬ ‫يوم واحدٍ من جلسة طرح الثقة‪ .‬مشكلتنا مع الرقابة؛‬ ‫قبل ٍ‬

‫العراقي‪،‬‬ ‫الكويت تخلّصت من الغزو‬ ‫ّ‬ ‫المحتل‪ ،‬لكنها طردت معه‬ ‫وطردت‬ ‫ّ‬

‫األخير‬

‫القبس‬ ‫إلنقاذ‬

‫العربي» على خلفية إلغاء‬ ‫ألسباب لم تتضح‪ ،‬غير أن‬ ‫مثقفين رأوا أن سبب إلغاء‬

‫الندوة إلى أجل غير مسمى‬

‫يعود إلى ترشيد النفقات الحكومية واألوضاع االقتصادية‬

‫التي تشهدها دول الخليج بعد تراجع أسعار النفط‪ ،‬إال‬

‫أن هؤالء المثقفين أوضحوا أن ترشيد النفقات ال يمكن‬ ‫أن يشمل مجلة رائدة وال يجب أن يطال العمل الثقافي‪،‬‬ ‫وشارك مثقفون عرب المغردين بذكرياتهم وتجاربهم مع‬ ‫مجلة العربي‪.‬‬

‫نعم‪ ،‬لكن حين نقول الرقابة ليس بالضرورة أن الرقيب هو‬ ‫موظف وزارة اإلعالم وحسب‪ ،‬إنما الرقيب هو أنا وأنت وهو‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫نغض عنها الطرف‪ ،‬المجتمع هو‬ ‫هذه هي الحقيقة التي‬ ‫الحقيقي‪ ،‬األفراد هم الذين صاروا يسائلون المكتبات‬ ‫الرقيب‬ ‫ّ‬

‫وأصحاب دُور النشر في معارض الكتاب‪ :‬إنْ كانت بعض‬

‫الحكومي إزاء‬ ‫العناوين (مفسوحة) من الوزارة أم ال‪ .‬والرقيب‬ ‫ّ‬ ‫لاً‬ ‫خوفه من ر ّد فعل قارئ يقوم بحماية نفسه أو ‪ ،‬وحماية‬

‫ّ‬ ‫المختص من تحميله مسؤولية (فسح) بعض الكتب‪،‬‬ ‫الوزير‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬ ‫المنع هو الحل األسهل لتجنب أي مشكلة؛ حتى بات الكتاب‬ ‫تأويل ال يحتمله النص‪.‬‬ ‫يمنع من غالفه أو عنوانه أو و َْفق‬ ‫ٍ‬

‫الجاد‪،‬‬ ‫السياسي والمسرح‬ ‫المسرح‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫طالل الرميضي ( رئيس رابطة أدباء الكويت)‪:‬‬

‫التجاري‬ ‫التهريج‬ ‫ّ‬

‫كان للسياسة الدور الكبير في التأثير في الجهود الثقافية‬

‫في مقابل إفساح المجال لمسرح‬

‫السياسي أثر في الجهود التنويرية‬ ‫الشأن‬ ‫ّ‬

‫التنويرية في دولة الكويت‪ ،‬وقد أبرز رجال السياسة جوانب‬

‫‪45‬‬


‫قضايا‬

‫ومنحنيات خطيرة في هذا الصدد؛ جعلت الكاتب المثقف على‬

‫ّ‬ ‫يخص إبداء آرائه وتصنيفه حسب االتجاهات‬ ‫المحك‪ ،‬فيما‬

‫والتيارات الموجودة؛ مما جعل كثي ًرا منهم في صدام عنيف؛‬

‫بسبب اختالف الرؤى واألفكار مع اآلخرين‪ .‬وضربت لنا هذه‬ ‫التجربة المريرة سقوط كثير من المبدعين في وحل السياسة‪،‬‬

‫وتأثير ذلك في كتاباتهم اإلبداعية؛ إذ ساهم ذلك في عزوفهم‬ ‫الثقافي‪ .‬وال َّ‬ ‫العراقي الغاشم‬ ‫شك أن وقوع الغزو‬ ‫عن الحضور‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫َّب صدمة عنيفة لرجال‬ ‫على الكويت في غفلة من الزمن؛ سب َ‬ ‫الثقافة بالكويت‪َّ ،‬‬ ‫وأثر سلبيًّا في الجهود التنويرية في مجال‬

‫الثقافة العربية خاصة؛ إذ أدركنا تخاذل أسماء ثقافية عربية‬

‫كبيرة تجاه أزمة الكويت‪ ،‬وبخاص ٍة إذا عرفنا أنها كانت على‬

‫وفاق مع الكويتيين قبل الغزو‪ .‬وأعتقد أن هذا الحديث ينطبق‬ ‫السياسي‬ ‫على كثير من البلدان العربية‪ ،‬ومدى تأثير الشأن‬ ‫ّ‬ ‫في الجهود التنويرية‪ ،‬واختالط المثقف الواعي بالشخص‬ ‫السطحي‪ ،‬وأثر ذلك في الحال الثقافية‪ .‬وال ّ‬ ‫شك أن‬ ‫السياسي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫األزلي بين المثقف والسلطة نحو الحقوق والحريات‬ ‫الصراع‬ ‫ّ‬ ‫قد َّ‬ ‫خفت حِ دَّ ته في الكويت بعد حدوث ما يطلق عليه الربيع‬ ‫العربي‪ ،‬ووجود نماذج مجاورة للعنف والبطش والظلم الذي‬ ‫ّ‬ ‫وقع فيها‪ ،‬لكن على الرغم من تقلص حدة التوتر‪ ،‬فإنها‬

‫‪46‬‬

‫مستمرة إلى يومنا‪ ،‬ونتمنى أن يكون التعاون بينهما في خدمة‬

‫سمعة الكويت الثقافية‪.‬‬

‫إقبال األحمد ( كاتبة)‪:‬‬ ‫َّ‬ ‫عمت الفوضى وبهت القانون‬

‫أهم ما يميّز دستور الكويت من غيره هو باب الحريات في‬

‫كل المجاالت؛ تلك الحريات التي أص ّر الدستور على احترامها‬ ‫والتأكيد عليها‪ ،‬عندما منع أو ق َّنن تغيير أي مادة فيه إال في‬ ‫حال واحدة هي المزيد من الحريات‪ .‬هذا الموضوع يؤ ّكد أن‬

‫الكويتي ومن خالل كل الحكومات‪ ‬ونظام الحكم‬ ‫المجتمع‬ ‫ّ‬ ‫الذي تطوَّر معه‪ ،‬كان يقوم على مبدأ الحرية‪ .‬وهذا بالتأكيد‬

‫سعود السنعوسي‬

‫يأت من فراغ‪ ،‬فإن المجتمع في الكويت هو أول من عرف‬ ‫لم ِ‬ ‫ظاهرة الديوانية وهي مكان يجتمع فيه جمع من الناس‪،‬‬ ‫يتبادلون فيه الرأي والحديث عن كل ما يدور في البلد‪ .‬وهذا‬

‫الحديث ال يخلو من االنتقاد والتعبير عن الرأي بكل شفافية‬ ‫ووضوح وجرأة‪ ،‬ثم يذهب كل منهم إلى بيته لينام قرير العين‬ ‫َ‬ ‫ليل‪.‬‬ ‫من دون أن يزوره زائ ُر فجْ ٍر أو ٍ‬ ‫فى الكويت ولخصوصيتها في إطار المنظومة الخليجية؛‬ ‫ألنها كانت تتم ّتع بقدر كبير من الحريات‪ ،‬وبسبب طبيعة‬ ‫العربي كله منذ سنوات مضت؛‬ ‫التطورات التي طالت العالم‬ ‫ّ‬

‫قوى التخلف‬ ‫تستهدف الكويت‬ ‫أكد الدكتور خليفة الوقيان رئيس رابطة األدباء‬

‫الكويتيين األسبق‪ ،‬أن التحوالت تشير إلى تراجع‬

‫االتجاهات الفكرية المستنيرة‪ ،‬وتقدُّم االتجاهات‬ ‫األصولية المتشددة‪ ،‬مشي ًرا إلى أن الكويت في‬ ‫عهودها السابقة‪« ،‬كانت مميزة ًّ‬ ‫حقا من جهة وجود‬

‫طبقة مستنيرة تعي أهمية مواكبة العصر ومستجدَّاته‬ ‫ومنطقه‪ ،‬وتبذل في سبيل الدفاع عن تلك القناعات‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مستهدفة من‬ ‫كبيرة؛ لذلك كانت الكويت‬ ‫تضحيات‬ ‫ٍ‬

‫اشتد فيها‬ ‫مرت البالد بمراحل تاريخية‬ ‫ّ‬

‫قوى التخلف والغلوِّ‪ ،‬فقد م َّرت البالد بمراحل تاريخية‬ ‫اشتدّ فيها الصراع بين ثقافة الغل ّو الوافدة من خارج‬

‫خارج الحدود‪ ،‬وثقافة االنفتاح النابعة‬

‫الكويتي‪ ،‬وكيفية نشأة ذلك المجتمع»‪ .‬وقال الوقيان‬ ‫ّ‬

‫الغلو الوافدة من‬ ‫الصراع بين ثقافة‬ ‫ّ‬ ‫الكويتي‬ ‫من طبيعة المجتمع‬ ‫ّ‬

‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬

‫الحدود‪ ،‬وثقافة االنفتاح النابعة من طبيعة المجتمع‬

‫لـ «الفيصل»‪ :‬إن دعاة اإلصالح والتنوير بذلوا «جهودًا‬

‫مضيئة‪ ،‬وتعرضوا إلى مصاعب كثيرة‪ ،‬لكنهم انتصروا‬


‫ما الذي حدث للكويت؟‬

‫بهت في إطار هذه الفوضى القانون‪ ،‬وكان للحريات نصيب كبير‬

‫من التغيير والتراجع‪ .‬وفي األغلب كان يعلو صوت المنتقدين‬

‫داخل الكويت في تلك المدة‪ ،‬مطالبًا بعودة تطبيق القانون‬ ‫بعد أن فلت زمامه من بعض مفاصل الحياة‪ ،‬وبخاصة فيما‬

‫يتصل بحرية القول واالنتقاد التي تبدَّلت إلى لغة هجوم وقذف‬

‫وسب واتهام‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ت ِر ْ‬ ‫كت ساحة الحرية في فوضى بضع سنوات‪ ،‬ولم يُسأل‬ ‫ِّ‬ ‫أحد عما يقوله‪ ،‬وال عن تدني لغة النقد واالحتجاج التي يعبِّر‬

‫من خاللها عن رأيه‪ ،‬فضاعت هيبة الوطن ومسؤوليته‪ ،‬وضاع‬ ‫ّ‬ ‫حق اإلنسان المظلوم‪ ،‬فكانت الضرورة للجوء إلى القانون؛‬ ‫لتدارك ما يمكن تداركه‪ .‬وال أتفق أبدً ا مع مقولة أن الكويت‬

‫أصبحت في مراكز متأخرة؛ مما جعل عواصم خليجية‬ ‫ثقافي كبير يُذ َكر في الماضى‪ ،‬تصير في‬ ‫لم يكن لها رصيد‬ ‫ّ‬ ‫الصدارة؛ ألنه على الرغم من كل التطورات التي وقعت في‬ ‫مجال الحريات‪ ،‬ما ُ‬ ‫زلت متأكدة أن الكويت تتفوق على دول‬

‫المنظومة الخليجية في حجم الحريات داخلها‪.‬‬ ‫علي العنزي (ناقد)‪:‬‬

‫طالل الرميضي‬

‫العالي للفنون المسرحية‪ ،‬ندوة نوعية تحدَّث فيها النائبان‬ ‫الدكتور حسن جوهر وصالح المال‪ ،‬وتداخل فيها المستشار‬ ‫الدكتور يوسف اإلبراهيم‪َّ ،‬‬ ‫واتسم الحوار فيها بالصدق‪،‬‬

‫الثقافي‬ ‫واعترف الجميع ‪ -‬سياسيون ومثقفون‪ -‬بأن الهمّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫وتنفيذا‪ ،‬وحمدً ا لله‪ ،‬أن الندوة لم‬ ‫يأتي في المؤخرة تشريعً ا‬

‫تشبه الندوات االنتخابية‪ ،‬وحكاية «البيضة والدجاجة»؛ إذ‬

‫مواهب كويتية مهدورة‬ ‫قبل سنوات‪َّ ،‬‬ ‫نظمت رابطة أعضاء هيئة تدريس المعهد‬

‫الثقافي‪ ،‬وعالقة ذلك‬ ‫نوقش تراجع اهتمام الدولة بالحراك‬ ‫ّ‬ ‫بتراجع قيم االختالف طبعً ا‪ .‬لكل مجتمع خصوصيته التي‬

‫تعكسها ثقافته السائدة بين أبنائه‪ ،‬لكن الكويت م َّرت بحالة‬

‫فيما بعد‪ ،‬واستطاعوا أن ُيرْسُ وا قواعد‬ ‫مجتمع حديث مستنير‪ ،‬يؤمن ّ‬ ‫بحق اإلنسان‬ ‫في الوصول إلى منابع المعرفة كافة‪ ،‬إضافة‬ ‫إلى ّ‬ ‫حقه في الحرية‪ ،‬ويعود الفضل في‬ ‫تحوُّل كويت الماضي إلى منارة ثقافية إلى‬ ‫ً‬ ‫مشروعا‬ ‫الرجال والنساء الذين كانوا يحملون‬

‫ثقافيًّا نهضويًّا تقدُّميًّا مستني ًرا»‪.‬‬

‫وفيما يخص المحافظة على صورة‬

‫الكويت التي تميَّزت بالتنوير واالنفتاح‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫تتحقق في رأيه «إال بمزيد من الكفاح‪،‬‬ ‫فلن‬

‫ُّ‬ ‫التخلف»‪ ،‬معتب ًرا أن األدباء‬ ‫ومواجهة‬ ‫َ‬ ‫«ارتضوا االستسالم إلى الواقع‪،‬‬ ‫والكتاب‬ ‫وإيثار السالم»‪ .‬وأوضح أن ما يحتاج إليه‬

‫المواطن ليس حرية انتقاد وزير وشتمه‪،‬‬

‫العلمي واإلبداع‪ ،‬وتناول‬ ‫«إنما حرية البحث‬ ‫ّ‬ ‫كل القضايا المتصلة بحياته من دون خشية‬

‫من أحد»‪.‬‬

‫خليفة الوقيان‬

‫أحمد الخطيب‬

‫ال يزال هناك أمل‬ ‫على حين دعا الناشط الدكتور أحمد الخطيب إلى مراجعة ألبرز ما حصل في‬ ‫العام المنصرم‪ ،‬مثال‪ ،‬ولفت إلى أن التعبير عن الرأي «يُعَ دّ حرية مقدّسة كفلها‬

‫الكويتي في المادتين ‪ 36‬و‪ .»37‬وقال لـ «الفيصل»‪« :‬إن حرية إبداء‬ ‫الدستور‬ ‫ّ‬

‫والسب والبذاءة شيء آخر يعاقب عليهما مرتكبهما»‪،‬‬ ‫الرأي سلميًّا شيء‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫مضيفا أن ضحايا قضايا حرية الرأي «التي يُحا َكم بموجبها المتهمون‪ ،‬وفق‬ ‫قوانين ّ‬ ‫تنص على ذلك‪ ،‬هي غير دستورية»‪ .‬وتساءل الخطيب‪ «:‬هل َنيأس من‬ ‫لاً‬ ‫ُّ‬ ‫ترنح السلطتين التنفيذية والتشريعية؟! ال يمكن‪ ،‬فنحن نرى هال شبابيًّا بزغ‬ ‫لاً‬ ‫في مسيرته؛ ليكون بدرًا متكام يضيء سماءنا المعتمة»‪.‬‬

‫‪47‬‬


‫قضايا‬

‫ثقافي دام سنين ال يباريها في‬ ‫بعد توهُّ ج‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫المنطقة أحد؛ إذ اتسمت الكويت ابتداء‬

‫شبابي جديد‪،‬‬ ‫من الخمسينيات ببناء‬ ‫ّ‬ ‫ونواة كويتية صغيرة تتكون لدى الشباب‬ ‫المثابر‪ ،‬وإذا كان الجميع قد أُعجب‬ ‫بتوهُّ ج تلك الحقبة‪ ،‬فبسبب محاوالت‬

‫حثيثة ومهمة لبناء النفوس الكويتية‬ ‫الشابة بوساطة المشاريع والمطبوعات‬ ‫واللقاءات واالجتماعات داخل المدارس‪،‬‬ ‫الجامعي وفي الخارج؛‬ ‫وفي أروقة الحرم‬ ‫ّ‬

‫واع‬ ‫لفهم الواقع‪ ،‬ومحاولة بناء رأي عام ٍ‬ ‫وناضج‪.‬‬

‫كان ثمة حركة فكرية‪ ،‬وليست غوغائية‪ ،‬في تلك‬ ‫الحقبة ال ينكرها أحد‪ ،‬لكنها –مع األسف– أَ َف َل ْ‬ ‫ت وفق‬

‫احتكاكي بشبابنا الطالب‪ ،‬فعلى الرغم من أن ثمة مواهب‬

‫العربي حاليًا‬ ‫كويتية مهدورة موجودة بيننا‪ ،‬فإن الشاب‬ ‫ّ‬ ‫ممسوس باالستهالك والتسكع لألسف!‬ ‫ومن المؤ ّكد‪ ،‬أن ِقيَم الصدق والشفافية‪ ،‬والتعددية‬

‫‪48‬‬

‫الديمقراطية‪ ،‬وتجاوز (الشخصانية)‪ ،‬ال تتفتح إال في‬

‫المجتمعات المتحضرة‪ ،‬المهتمة بمفاهيم الجمال؛‬ ‫تلك المجتمعات الثقافية التي تنعم باالستقرار‪ ،‬وخبزها‬ ‫األدب والعلوم والثقافة‪ ،‬وأنا أعتقد أن الكويت ليست‬

‫وحدها مَ ن يعاني تلك التحوالت‪ ،‬وأعتقد بوجود خطرين‬

‫العربي؛ األول منهما طغيان الفكر‬ ‫مزدوجين على الشباب‬ ‫ّ‬

‫األصولي»‬ ‫االستهالكي في التفكير والوعي‪ ،‬وثانيهما «الفكر‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫المتشدّ د‪ ،‬وأعتقد أيضا‪ ،‬أن هذه الموجة التكفيرية العنيفة‬

‫المثقلة بالكراهية التي استشرت منذ منتصف التسعينيات‬

‫بصورة كبيرة‪ ،‬لها عالقة طردية مع انتشار االستهالك‪.‬‬

‫وكالهما يغذي اآلخر! وعلى الرغم من سَ بْق معرفتنا‬ ‫االستهالكي‪ ،‬وتفشي األصولية من ُ‬ ‫قبل‪ ،‬لكنها كانت‬ ‫النمط‬ ‫ّ‬

‫الوصولي‬ ‫موجات ال تقارن بالواقع الراهن‪ .‬فهذا الواقع‬ ‫ّ‬ ‫األصولي المُ ر َّكب‪ ،‬يبدو أنه – في حدود اطالعي– نتاج‬ ‫‬‫ّ‬ ‫النفسي الناتج عن تفشي العقلية السطحية في‬ ‫االختالل‬ ‫ّ‬ ‫التفكير‪.‬‬

‫الكويت ليست وحدها مَ ن يعاني التحوالت‪ ،‬والمجتمع‬

‫العربي كله ضحية؛ لذلك فنحن في حاجة اليوم‬ ‫الشبابي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫إلى عملية تحديث يجري الشروع فيها بشكل منظم‪ ،‬ومن‬ ‫خالل مختصين؛ لمحاولة بناء جديد لوعي الشباب‪ ،‬وأذكر‬

‫أن ما كان يجري في نبض شباب السبعينيات والثمانينيات‬

‫المثقف الواعي‪ ،‬هو شعور بالحاجة إلى بناء مجتمع عادل‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫فشغلهما‬ ‫االستهالكي ونظيره المتشدّ د‬ ‫أما ذلك‬ ‫ّ‬ ‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬

‫إقبال األحمد‬

‫علي العنزي‬

‫ّ‬ ‫محل‬ ‫الشاغل‪ ،‬ينحصر في تقسيم االمتيازات‪ ،‬والحلول‬

‫األغنياء‪ .‬أما عن كيفية المحافظة على صورة الكويت‪،‬‬ ‫فالحكومة ومثقفو مجلس األمة يجب أن ينتبهوا إلى أن شبابنا‬

‫في حاجة إلى قوانين تحدّث المجتمع وتشجّ ع على اإلبداع‪ ،‬ال‬ ‫قوانين تق ِّزم وجود المبدعين منهم‪.‬‬

‫سعد الفرج (ممثل) ‪:‬‬ ‫السياسي‬ ‫جماعات اإلسالم‬ ‫ّ‬ ‫وراء تراجع المسرح‬ ‫من األمور التي تقيِّد ال ِف َرق المسرحية األهلية أنها‬

‫جمعيات نفع عامّ ‪ ،‬ومن ثم ال يسمح لها بأن تخوض في‬

‫السياسة بحكم القانون‪ ،‬وهذا ما يُقيِّد دورها التنويريّ ‪ .‬في‬

‫ُ‬ ‫تعاونت فيها مع الكاتب عبداألمير التركي في «حرم‬ ‫مرحلة‬ ‫سعادة الوزير» و«ممثل الشعب»‪ ،‬وهي أعمال سياسية‬

‫العالمي‪ ،‬وبعدها «دقت‬ ‫جادّة جرى (تكويتها) من المسرح‬ ‫ّ‬

‫الساعة»‪ ،‬و«حامي الديار»‪ ،‬و«مضارب بني نفط» و«هذا‬ ‫سيفوه وهذي خالجينه»‪ ،‬وبسببها قامت جماعات اإلسالم‬

‫السياسي وأعضاء في غرفة التجارة بشنّ حملة ضدّ نا‪ ،‬وجرى‬ ‫ّ‬ ‫تحويلنا إلى المحاكمة‪ ،‬ثم اإلفراج عنا بكفالة ‪ 300‬دينار‪ ،‬ما‬

‫عدا عبدالحسين عبدالرضا الذي حُ كم عليه بالسجن ثالثة‬ ‫ّ‬ ‫النص المُ جاز مِن الرقابة‪.‬‬ ‫أشهر؛ بسبب جُ مْ لة َخ َرج فيها عن‬

‫الديني المتمثل في‬ ‫تع َّرضت المسرحية للهجوم من التيار‬ ‫ّ‬ ‫جمعية اإلصالح‪ ،‬ووصفوني بأوصاف شنيعة؛ ألن المسرحية‬ ‫طالبت بفصل الدين عن السياسة‪.‬‬

‫جمعية اإلصالح طلبت مني عام ‪1974‬م تقديم مسرحية‬


‫ما الذي حدث للكويت؟‬

‫هموم المجتمع الكويتي وقضاياه تناقش في الديوانيات‬

‫إسالمية يكون أبطالها من الرجال فقط‪ ،‬واعتذرت لهم؛‬

‫‪49‬‬

‫مسرحي من دون وجود المرأة‪ .‬هم‬ ‫ألنه ال يمكن نجاح عمل‬ ‫ّ‬ ‫يؤمنون بدور المسرح وأهميته‪ ،‬لكنهم يريدون مسرحً ا وفق‬ ‫السياسي جرى القضاء عليه ألسباب عدة؛ إذ‬ ‫فكرهم‪ .‬المسرح‬ ‫ّ‬

‫إن المسرح يُعَ دّ من جمعيات النفع العامّ ‪ ،‬ومن شروط هذه‬ ‫الجمعيات عدم العمل في السياسة‪ ،‬وهو ما ّ‬ ‫يمكن أيّ مسؤول‬ ‫من تدمير المسرح‪ .‬هناك رقابة موازية للرقابة الحكومية؛ إذ‬

‫يمكن أليّ جهة أو شخص في المجتمع أن يرفع قضية ويوقف‬ ‫ُّ‬ ‫النص مُ جَ ا ًزا‪ ،‬ثم تحدث مشكلة‪،‬‬ ‫عرض المسرحية‪ ،‬فيكون‬ ‫فتتراجع رقابة الدولة عن إجازته‪.‬‬

‫ّ‬ ‫تخلصنا من‬ ‫العراقي‪،‬‬ ‫بعد تحرير الكويت من االحتالل‬ ‫ّ‬

‫سعد الفرج‬

‫مسرحية في أي وقت من األوقات‪ ،‬فهي بفضل المغفور‬

‫السياسي الجادّ‪ ،‬فمنذ عام ‪1991‬م وهو غائب؛ أين‬ ‫المسرح‬ ‫ّ‬ ‫السياسي الجادّ؟ لقد كانت لي تجربة قبل سنوات‬ ‫المسرح‬ ‫ّ‬

‫له الشيخ عبدالله السالم الذي بنى في كل ضاحية مسرحً ا‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫المحتل‪،‬‬ ‫العراقي‪ ،‬وطردت‬ ‫تخلصت من الغزو‬ ‫الكويت‬ ‫ّ‬ ‫السياسي والمسرح الجادّ‪ ،‬في‬ ‫لكنها طردت معه المسرح‬ ‫ّ‬

‫والبروفات من دون أجر‪ .‬وخسرنا (بوصفنا شريكين) في اإلنتاج‬

‫تع َّر ُ‬ ‫ضت شخصيًّا إلى المضايقات والتهديد‪ ،‬فتركت‬ ‫السياسي‪ّ ،‬‬ ‫االجتماعي‪ .‬من‬ ‫واتجهت إلى المسرح‬ ‫المسرح‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫قليلة في «عنبر و‪ 11‬سبتمبر» مع الفنان القطريّ غانم السليطي‪،‬‬ ‫قدَّ مناها على مدار شهر ونصف الشهر من العمل المتواصل‬

‫والدعاية واإلعالنات؛ ألن المسرح الجا ّد ال يُدَ عم‪ ،‬وغير مطلوب‬ ‫ال في الكويت وال في غير الكويت؛ كي ال يشكل سلطة‪.‬‬

‫من أسباب تراجع المسرح في عقدين‪ :‬المتأسلمون‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫والتخلي عن الدعم‪ ،‬فالمسرح بات اآلن يتيم األب‬ ‫والرقابة‪،‬‬ ‫واألم؛ ألنه ال يوجد دعم وال تشجيع‪ .‬إذا كانت هناك نهضة‬

‫مقابل إفساح المجال لمسرح التهريج التجاريّ ‪.‬‬

‫الذهبي للمسرح‪ ،‬كان‬ ‫ناحية الدعم الماديّ ‪ ،‬في العصر‬ ‫ّ‬ ‫يجري دعم العرض المسرحي بـ ‪ 50‬ألف دينار‪ ،‬والتلفزيون‬ ‫كان يدعم المسرح من خالل اإلعالنات‪ ،‬لكن الدعم ّ‬ ‫توقف‪،‬‬ ‫وأصبح المسرح من دون دعم؛ مما أدّى إلى خسائر كبيرة‪.‬‬


‫قضايا‬ ‫قضايا‬

‫دولي شرس في نطاق أكبر من الفن‬ ‫صراع‬ ‫ّ‬

‫برامج الكتابة‬ ‫اإلبداعية في أميركا‬ ‫ّ‬ ‫لع االتصال الوثيق بين السياسة والثقافة‪،‬‬ ‫ليس‬ ‫ٍ‬ ‫بخاف على مط ٍ‬ ‫ًّ‬ ‫ُ‬ ‫حرص‬ ‫فلطالما خدم كل منهما اآلخر‪ ،‬لكن ما يثير االهتمام حقا هو‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫منيعة ضد‬ ‫منطقة‬ ‫بعض المعنيين على التشديد دائمً ا على أن ثمة‬ ‫ٌ‬ ‫أمينة‬ ‫السياسي‪ .‬هذه المنطقة‪ ،‬بحسب المؤمنين بوجودها‪،‬‬ ‫التدخل‬ ‫ّ‬

‫‪50‬‬

‫اإلنساني المحض الذي ال يولي بغير الفن وشروطه اهتمامً ا‪.‬‬ ‫لإلبداع‬ ‫ّ‬ ‫على هذا األساس ُيطرح السؤال‪ :‬هل لمنطقةٍ بريئةٍ مثل هذه وجو ٌد‬ ‫ً‬ ‫بعيدا‬ ‫حصين يتمترس خلفه‬ ‫حصن‬ ‫فعلي؟ هل يتمتع اإلبداع بحِ مى‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ُّ‬ ‫خارجي؟‬ ‫من كل تدخل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تشكل فصول برامج الكتابة اإلبداعية عامة‪ ،‬وفي الواليات‬

‫المتحدة األميركية خاصة‪ ،‬حالة مهمة يمكن االستشهاد بها‬

‫لدحض فكر ِة وجو ِد منطقةٍ بريئةٍ لإلبداع؛ ففي الوقت الذي‬ ‫ّ‬ ‫متطلعون في‬ ‫طالب‬ ‫يظن بعض المهتمين أنه عندما يجتمع‬ ‫ٌ‬

‫تدريبي يُع َنى بتدريبهم على أساليب الكتابة‬ ‫دراسي أو‬ ‫صف‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الشعرية أو السردية‪ ،‬فإنهم يغدون بمعزل عن التطلعات‬ ‫السياسية أيًّا كان الواقفون خلفها‪ .‬والحق أن األمر خالف‬ ‫ذلك؛ ألن برامج الكتابة اإلبداعية‪ ،‬بالطريقة التي وُجدت بها‬ ‫في الواليات المتحدة األميركية‪ ،‬في واقع الحال جزءٌ ال يتجزأ‬

‫دولي شرس‪ .‬إن فكرة وجودها في المقام األول‪ ،‬ثم‬ ‫من صراع‬ ‫ّ‬

‫االتجاهات الفكرية والجمالية التي تحاول أن تنشرها داخل‬ ‫صف الكتابة اإلبداعية‪َ ،‬ل ٌ‬ ‫دليل قاطع على تورّط نشاطها في‬ ‫نطاق أوسع من الفنّ بكثير‪.‬‬

‫ً‬ ‫خضوعا غير مباشر‬ ‫لقد خضعت برامج الكتابة اإلبداعية‬

‫األيديولوجي بين الواليات المتحدة األميركية‬ ‫الصراع‬ ‫لظروف‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬

‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬

‫علي المجنوني‬ ‫كاتب سعودي‬

‫السوفييتي الذي أسفر عنه انتهاءُ الحرب العالمية‬ ‫واالتحاد‬ ‫ّ‬ ‫الثانية‪ .‬شهدت الكليات والجامعات األميركية في تلك الحقبة‬ ‫ً‬ ‫طفرة غير مسبوقة في برامج الدراسات العليا‪ ،‬جلبت معها‬ ‫َ‬ ‫برامج‬ ‫اب من كل مكان‪ ،‬فجاء ظهو ُر‬ ‫وظائف هفا إليها الك ّت ُ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫عميق بأن تدريس الكتابة‬ ‫إيمان‬ ‫نتيجة‬ ‫الكتابة اإلبداعية‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫سيحصنهم ضد‬ ‫للطالب األميركيين‪ ،‬وغير األميركيين أحيانا‪،‬‬ ‫(البروباغندا) الشيوعية‪ .‬تعليق األمل على الكتابة‬ ‫كدرع فكريّ‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫انطالقا من مجموعة أُسس‪ ،‬تقدّ م في الغالب نظي ًرا‬ ‫وقائي يأتي‬ ‫ّ‬ ‫معاكسا ّ‬ ‫السوفييتي؛‬ ‫لكل مالمح الثقافة السائدة في االتحاد‬ ‫ً‬ ‫ّ‬

‫من األمثلة على تلك األسس أن األدب‪ ،‬بحسب الرؤية‬ ‫ّ‬ ‫تحتل اإلرادة اإلنسانية‬ ‫(فرداني) بالضرورة‪،‬‬ ‫األميركية‪ ،‬نشاط‬ ‫ٌّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وأهمية ُكبريَي ِْن‪ .‬كما رسّ خت‬ ‫أولوية‬ ‫والتجربة الفردية فيه‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫الدعوة إلى تفادي التجريدية بوصفها مدرسة فنية‬ ‫الرؤية‬ ‫تلك‬

‫ً‬ ‫الواقعي الذي يحتفي‬ ‫عوضا منها النموذج‬ ‫جمالية‪ ،‬وقدّ مت‬ ‫ّ‬ ‫واليومي والملموس‪.‬‬ ‫بالذاتي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬


‫هزيمة الشيوعية‬

‫هكذا إذن‪ ،‬جاءت برامج الكتابة اإلبداعية‪ ،‬بوصفها‬

‫حقلاً معرفيًّا أكاديميًّا يحصل خ ِّريجوه على درجة ماجستير‬ ‫الفنون الجميلة‪ ،‬كمختبرات لتدريب الك ّتاب على االنضباط‬ ‫ٌ‬ ‫الذاتي‪ .‬ور َ​َع ْ‬ ‫مجموعة من المؤسسات أخذت‬ ‫ت تلك البرامجَ‬ ‫ّ‬

‫على عاتقها مهمة هزيمة الشيوعية ومحاربتها في الداخل‬ ‫ً‬ ‫خاصة‪ ،‬واألدب‬ ‫والخارج‪ ،‬بعد أن رأت في الكتابة اإلبداعية‬ ‫ً‬ ‫عامة‪ ،‬بتعقيداته وتركيباته‪ ،‬درءًا لألفراد من االنجرار‬

‫السوفييتي‪ ،‬كما رأت‬ ‫بسهولة وراء صيحات شعارات االتحاد‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫فرصة مواتية لموازنة الك َِّفة التي كانت تميل آنذاك‬ ‫في األدب‬

‫لصالح التقدم في العلوم والتكنولوجيا‪ ،‬الذي أفرز‪ ،‬وإن كان‬ ‫َ‬ ‫كوارث هائلة؛ دفع‬ ‫إرهاصات سمحت بحدوث‬ ‫بغير قصد‪،‬‬ ‫ٍ‬

‫اإلنسان ثمنها غاليًا‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ارتباط برامج الكتابة اإلبداعية في الواليات‬ ‫شغل‬

‫المتحدة األميركية بالحرب الباردة اهتمامَ كثير من الباحثين‪،‬‬

‫ٌ‬ ‫وكتب‬ ‫مقاالت‬ ‫والمالحظ أنه في العامي ِْن الماضيين ظهرت‬ ‫ٌ‬ ‫ِعدَّ ة تتناول هذا الشأن‪ .‬ولعلنا نجد تفسي ًرا لهذا االهتمام‬ ‫المتزايد مؤخ ًرا في أن وثائق تلك المرحلة أمست متاحة‬ ‫للبحث والدراسة والتحليل‪ ،‬إضافة إلى عودة حكومة‬

‫الواليات المتحدة األميركية من جديد لنهج دبلوماسية‬ ‫ثقافية بعد أحداث ‪ 11‬سبتمبر وانخراط أميركا في حرب ضد‬

‫ما تسميه اإلرهاب‪ .‬أحد الذين حاولوا إلقاء الضوء على عالقة‬ ‫برامج الكتابة اإلبداعية بالحرب الباردة إريك بينيت‪ ،‬وهو‬ ‫كاتب انتظم في تسعينيات القرن الماضي في برنامج آيوا‬ ‫ٌ‬

‫‪51‬‬


‫قضايا‬

‫للكتابة اإلبداعية؛ أعرق برنامج من نوعه على اإلطالق‪.‬‬

‫في مقاالته األخيرة وكتابه الصادر عام ‪2015‬م تحت‬

‫«االنضباط الذاتي» لدى الكاتب الذي يعينه وهو يشرع في‬

‫اإلبداعية األميركية أثناء الحرب الباردة» تناول بينيت األرضية‬

‫يزيد على خمس مئة برنامج للكتابة اإلبداعية في الواليات‬

‫عنوان «ورش اإلمبراطورية‪ :‬ستغنر‪ ،‬إنغل‪ ،‬والكتابة‬ ‫األيديولوجية لبرامج الكتابة اإلبداعية في الواليات المتحدة‬

‫األميركية‪ ،‬عبر تحليل دور وكالة المخابرات المركزية‬ ‫األميركية في دعم كثير من البرامج الثقافية س ِّريًّا في منتصف‬ ‫الفرعي لكتابه‪ ،‬نجد أنه‬ ‫القرن الماضي‪ .‬وبالعودة إلى العنوان‬ ‫ّ‬

‫يشير إلى اثنين من ُروَّاد برامج الكتابة اإلبداعية؛ أولهما واالس‬ ‫ستغنر مدير برنامج الكتابة اإلبداعية في ستانفورد؛ ثاني أقدم‬

‫برامج الكتابة في أميركا‪ ،‬واآلخر بول إنغل‪ ،‬مدير برنامج آيوا‪.‬‬ ‫وألن برنامج آيوا للكتابة اإلبداعية‪ ،‬المذكور ً‬ ‫آنفا‪ّ ،‬‬ ‫يمثل حالة‬

‫مر ّكزة‪ ،‬فإن المرء بوسعه أن يتبيّن الدور الضليع الذي قام به‬ ‫هذا البرنامج الرائد في أثناء الحرب الباردة‪ ،‬فال بد من تسليط‬

‫بعض الضوء عليه‪.‬‬

‫لبرنامج آيوا للكتابة اإلبداعية الريادة من بين جميع‬

‫برامج الكتابة اإلبداعية في الواليات المتحدة األميركية؛ إذ‬ ‫ُ‬ ‫نشئ البرنامج عام ‪1936‬م بوساطة مجموعة من الشعراء‬ ‫أ ِ‬ ‫السرد تحت اسم ‪.Iowa Writers’ Workshop‬‬ ‫و ُك َّتاب َّ‬

‫‪52‬‬

‫اللغة اإلنجليزية‪ ،‬ويرسخ عبر صفوفه قليلة العدد ما يسميه‬

‫يُمنح خريجو البرنامج شهادة ماجستير الفنون الجميلة في‬

‫الدخول إلى عالم الكتابة االحترافية والنشر‪ .‬يوجد اليوم ما‬ ‫المتحدة األميركية وحدها‪ ،‬أكثرها أسسه خريجو برنامج آيوا‪.‬‬

‫وال يختلف برنامج آيوا كثي ًرا عن البرامج المشابهة له‪ ،‬أو ما‬ ‫سواها من البرامج المنتشرة في سائر العالم‪ ،‬لكن قيمته‬ ‫تكمن‪ ،‬كما أسلفت‪ ،‬في ريادته وفي األثر العظيم الذي تركه‪،‬‬

‫وال يزال‪ ،‬على األدب واألدباء األميركيين‪ .‬ولما للبرنامج من‬

‫مكانة مرموقة‪ ،‬يتباهى خريجوه بانضمامهم له وبعبورهم‬ ‫عالمَ الكتابة االحترافية بوساطته؛ لهذا السبب أيضا أغوى‬

‫البرنامجُ عبر السنين قائمة طويلة من الكتاب األميركيين‪ ،‬لعل‬

‫أهمهم تشارلز رايت‪ ،‬وبول هاردنغ‪ ،‬وغين سمايلي‪ ،‬وساندرا‬ ‫سيسنيرو‪ ،‬وغيرهم‪ .‬كما درّس في البرنامج زمرة من أعلى‬ ‫ً‬ ‫مكانة؛ من أمثال الشاعر والروائي روبرت‬ ‫األدباء األميركيين‬

‫بن وارن‪ ،‬والشاعر فيليب ليفين‪ ،‬والروائي فيليب روث‪،‬‬ ‫والشاعر مارك ستراند‪ ،‬وأخي ًرا الروائية ميريلين روبنسن‪.‬‬ ‫محارب الحرب الباردة‬

‫ال يكاد يُذكر برنامج آيوا من دون ذكر بول إنغل‪ ،‬الذي‬

‫بول إنغل وعائلته‪ ‬‬

‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬


‫برامج الكتابة اإلبداعية في أميركا‬

‫خضعت برامج الكتابة اإلبداعية‬ ‫الصراع‬ ‫خضوعا غير مباشر لظروف‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫األيديولوجي بين الواليات المتحدة‬ ‫ّ‬ ‫السوفييتي‬ ‫األميركية واالتحاد‬ ‫ّ‬

‫الفرعي‪ ،‬ثاني من استلم‬ ‫ضمّ ن بينيت اسمه في عنوان كتابه‬ ‫ّ‬ ‫مهامّ إدارة الورشة‪ ،‬وهو رجل عصامي من آيوا‪ ،‬كثي ًرا ما وُصف‬

‫بأنه «محارب الحرب الباردة»‪ .‬قبل انضمام إنغل لبرنامج آيوا‬ ‫ّ‬ ‫وتقلب‬ ‫تجاذبته األفكا ُر واألهواء السياسية والحركات الفكرية‪،‬‬ ‫في كل واحدة ردحً ا من الزمن‪ ،‬حتى حينما انتهت الحرب‬

‫السياسي‪ ،‬رأى بينيت أن الكتابة تضررت بفعل إغداق األموال‬ ‫ّ‬ ‫الحكومية على البرنامج‪ ،‬منتقدً ا ما غدا يُع َرف في األوساط‬

‫الثقافية بـ«نموذج آيوا» الكتابي‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫أخذ بينيت على البرنامج تحديدً ا الرؤية الضيقة المحبطة‬ ‫الثقافي المختزل‪،‬‬ ‫التي ُتدرَّس في ورشة آيوا‪ ،‬وحجم التفاعل‬ ‫ّ‬

‫أدبي وما هو غير ذلك‪.‬‬ ‫وضيق التعريف المعتمد هناك بما هو‬ ‫ّ‬

‫وارتكز على تجربته في أثناء الدراسة في آيوا؛ إذ الخيارات الفنية‬ ‫والجمالية المتاحة أمام الكاتب محدودة‪ ،‬ويتبعها المدرسون‬ ‫وتفان أعم َيي ِْن‪ .‬تلك الخيارات ّ‬ ‫شكلت‬ ‫وخريجو البرنامج بوالء‬ ‫ٍ‬ ‫قوالب يمكن اتباعها في سبيل كتابة روايات رائجة وناجحة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫لكن حسب مقاييس ضيقة؛ أصبحت تعتمدها سوق الكتاب‬

‫اإلبداعي‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫أما فيما يتعلق بالتمويل‪ ،‬فقد انطلق بينيت من حقيقة‬

‫العالمية الثانية وجد نفسه يسير مع التيار المناوئ للشيوعية‪.‬‬

‫مضمونها أن المخابرات األميركية قامت بتمويل برنامج آيوا؛‬ ‫َّ‬ ‫ضخت لصالح البرنامج مؤسسة فارفيلد‪ ،‬وهي بحسب‬ ‫إذ‬

‫ُ‬ ‫َ‬ ‫شهرته فيما بعدُ‬ ‫اآلفاق‪ .‬جدي ٌر‬ ‫األميركي‪ ،‬حتى طبقت‬ ‫الثقافي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫قدرته‬ ‫بالذكر أن أول ما يتبادر إلى الذهن عند سماع اسم إنغل‬

‫بالعمليات الثقافية» عبر العالم‪ ،‬من خالل منظمة تدعى‬

‫في حقبة إدارة إنغل‪ ،‬التي استمرت مدة أربعة وعشرين عامً ا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫فارقة في المشهد‬ ‫عالمة‬ ‫بدءً ا من ‪1941‬م‪ ،‬أضحى البرنامجُ‬

‫الفائقة على تحصيل التبرعات للبرنامج وجلب الداعمين‪.‬‬

‫رجال األعمال من الحزب‬ ‫جيوب‬ ‫لقد استحلب إنغل‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫المحافظ مستغلاًّ عداءهم غير المشروط للبروباغندا‬ ‫السوفييتي؛ أقنعهم بأن برنامج‬ ‫الشيوعية التي يصدّ رها االتحاد‬ ‫ّ‬ ‫آيوا يحمي القيم الديمقراطية في داخل أميركا وفي خارجها‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫مؤسسة روكفيلر المشهورة التي‬ ‫من أبرز داعمي برنامج آيوا‬

‫ّ‬ ‫ضخت أربعين ألف دوالر‪ ،‬مبلغ ضخم في ذلك الوقت‪ ،‬لصالح‬

‫البرنامج إبّان حقبة إدارة إنغل‪ .‬كما قامت المجالت والدوريات‬

‫وصف بينيت «جبهة مرتبطة بوكالة المخابرات المركزية ُتع َنى‬

‫«الكونغرس من أجل الحرية الثقافية» آالف الدوالرات‪ .‬كان‬ ‫إلحاح إنغل عاملاً مهمًّ ا في تحصيل ذلك الدعم وغيره‪ .‬مما‬ ‫ٌ‬ ‫رسالة بعثها إنغل إلى مؤسسة روكفيلر يقول‬ ‫أورده بينيت‬

‫فيها‪« :‬إنني واثق من أنكم قد شاهدتم مؤخ ًرا اإلعالن عن‬ ‫ً‬ ‫جامعة في موسكو تستقبل‬ ‫السوفييتي يؤسّ س‬ ‫أن االتحاد‬ ‫ّ‬ ‫الطالب القادمين من خارج الدولة»‪ .‬أبدى إنغل في الرسالة‬

‫األيديولوجي المتوقع» الذي سيتلقاه في‬ ‫مخاوفه من «التلقين‬ ‫ّ‬ ‫هذه الجامعة ُ‬ ‫آالف الشباب الذين لم يكونوا قادرين على تأمين‬

‫أكاديمي من ُ‬ ‫قبل‪ .‬لمَّ ح إلى خطورة َقوْلبة‬ ‫الحصول على تعليم‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫الطالب في مكان واحد مراقب‪َ ،‬‬ ‫وعدَّ ذلك تكتيكا سوفييتيًّا‬

‫الثقافية‪ ،‬بإيعاز من إنغل‪ ،‬بدور واسع في الدعاية للبرنامج‬ ‫والترويج لنشاطه‪ .‬في آيوا هُ يِّئ المكان لجذب ُ‬ ‫الك َّتاب‪ ،‬واح ُتفي‬ ‫ُ‬ ‫بالك َّتاب المنضمين للورشة عبر نشر قصصهم وقصائدهم في‬

‫ً‬ ‫مألوفا‪ ،‬ثم ألحَّ في سبيل أنْ تنافس الواليات المتحدة‬ ‫السوفييتي في هذا المضمار الحيويّ ‪ ،‬وإن‬ ‫األميركية االتحا َد‬ ‫ّ‬

‫دائمً ا تحمل على عاتقها االضطالع بدور مهم في نقد االتحاد‬

‫عليه في آيوا‪ .‬وفي رسالة أخرى منه إلى وكالة المخابرات‬

‫أرفع المجالت األدبية‪ ،‬وأقيمت الفعاليات الكثيرة التي كانت‬ ‫السوفييتي‪ ،‬وإذكاء ال ُّروح الوطنية األميركية‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫لكن دور التمويل لم يقتصر بحال من األحوال على‬

‫رجال األعمال من اليمين المحافظ‪ ،‬بل ساهمت فيه جهات‬ ‫حكومية على رأسها وكالة المخابرات المركزية في مقالة‬

‫مثيرة للجدل‪ ،‬نشرها موقع ‪The Chronicle of Higher‬‬ ‫‪ Education‬قبل عامين بعنوان‪« :‬كيف ّ‬ ‫األدب»‬ ‫سطحت آيوا‬ ‫َ‬ ‫وصف إيريك بينيت ُ‬ ‫الك َّتاب الملتحقين ببرنامج آيوا بالمج َّندين‬

‫الذين جُ ندوا بمساعدة وكالة المخابرات المركزية؛ للمحاربة‬

‫على جبهتين‪ :‬جبهة عسكرية (البروباغندا الشيوعية)‪ ،‬وأخرى‬ ‫جمالية (التجريد)‪ .‬بوضعه برنامج الكتابة اإلبداعية في سياقه‬

‫اضطرت إلى تأسيس مكان واحد ومراقب مثل الذي يُشرف‬

‫المركزية‪ ،‬وعد إنغل الوكالة ببناء برنامج للطالب األميركيين‬ ‫َ‬ ‫المحيطيْن» وفي «قلب‬ ‫واألجانب على السواء يكون «بعيدً ا من‬ ‫األميركي»؛ ليعلمهم أميركا الحقيقية؛ في‬ ‫الغربي‬ ‫الوسط‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الجغرافي من جسد أميركا‪.‬‬ ‫إشارة إلى موقع والية آيوا‬ ‫ّ‬ ‫تصور فقير منزوع اإلنسانية للعلم‬

‫على نطاق أوسع من دائرة البرنامج‪ ،‬ركز الخطاب‬ ‫السائد في أميركا ما بعد الحرب العالمية في ال َّنيْل من‬

‫األيديولوجي المحض‪.‬‬ ‫الشيوعي‪ ،‬ووصمه بالخطاب‬ ‫الخطاب‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وفي هذا تناقض كبير؛ إذ سعت الجهود التي قامت بها‬

‫‪53‬‬


‫قضايا‬

‫جهات ومؤسسات مختلفة إلى تضخيم خطر األيديولوجيا‪،‬‬

‫لكن أيديولوجيا الشيوعية فقط‪ ،‬كأن الخطاب المناهض‬ ‫للشيوعية ليس أيديولوجيًّا‪ .‬أهم المؤسسات التي رفدت هذا‬

‫الخطاب المتناقض المؤسسة األكاديمية‪ .‬ففي األربعينيات‬ ‫والخمسينيات من القرن العشرين ظهر دعاة ما يسمى «النقد‬

‫األدبي تميل إلى تقدير التعقيد‬ ‫الجديد»‪ ،‬وهو مدرسة في النقد‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫النص‪.‬‬ ‫األدبي‪ ،‬وعزله عن كل ما هو خارج‬ ‫الشكالني في العمل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫األدبي‬ ‫تصب مدرسة النقد الجديد تركيزها عند دراسة العمل‬ ‫ّ‬ ‫على «الكلمات على الصفحة» ‪ ،‬وتنطلق من مسلمات أهمهُّا‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬ ‫خاص يعمل بشكل مختلف عن باقي‬ ‫شكل‬ ‫اللغة األدبية‬ ‫أن‬

‫ٌ‬ ‫ً‬ ‫العلم‬ ‫باينة للغة‬ ‫االستخدامات اللغوية‪ ،‬كما هي‬ ‫أيضا‪ -‬مُ‬‫ِ‬ ‫والمباشرة في الداللة‪.‬‬ ‫الحرفيةِ‬ ‫ِ‬ ‫دفع مؤسسيي النقد الجديد نفو ٌر من العلم والعقالنية‬ ‫اللذين اح َت َف ْ‬ ‫ت بهما الرأسمالية؛ ألنهما قدَّ ما تصورًا فقي ًرا‬

‫ومنزوع اإلنسانية عن العالم بعيدً ا من ال ُّروحانية أو حتى‬

‫السحر؛ لذلك ركزت مقاربتهم في استقصاء العناصر التي‬ ‫َ‬ ‫اللغة‬ ‫تصبغ األدبية على نص ما‪ ،‬والنتيجة أن أوْلت مقاربتهم‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫والغموض اهتمامً ا كبي ًرا‪ .‬هكذا أحال‬ ‫والمفارقة‪،‬‬ ‫المجازية‪،‬‬

‫االحتكامُ إلى قيم جمالية محضة في عملية تحليل النصوص‬

‫‪54‬‬

‫األدب إلى عالم مختلق من صنع الخيال بعد أن‬ ‫وتأويلها‬ ‫َ‬ ‫أطناب السياقات التي نشأ فيها ُ‬ ‫وعدَّت التأويالت‬ ‫ُقطعت‬ ‫ُ‬

‫الواقعي منفصل عن‬ ‫الخارجية لألدب باطلة؛ ألن العالم‬ ‫ّ‬ ‫األدب‪ .‬رفض النقدُ الجديدُ المناهجَ النقدية التي سبقته (مثل‪:‬‬ ‫النفسي‪،‬‬ ‫الماركسي‪ ،‬ونقد التحليل‬ ‫التاريخي‪ ،‬والنقد‬ ‫النقد‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫يوجد ميل إلى االعتقاد بأفضلية األدب‬ ‫السوفييتي‪،‬‬ ‫الغربي على األدب‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وبخاصة مع االعتراف بالحداثة على‬ ‫الغربي‬ ‫أنها الشكل األقصى لألدب‬ ‫ّ‬ ‫البيوغرافي‪ ،‬ونقد استجابة القارئ) بوصفها خاطئة‪،‬‬ ‫والنقد‬ ‫ّ‬ ‫األدبي بما ليس أدبيًّا‪.‬‬ ‫بمساواة‬ ‫إياها‬ ‫م ّتهمً ا‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫الحقا كثي ًرا من‬ ‫وعلى الرغم من أن هذه المدرسة فقدت‬ ‫ّ‬ ‫تشكل‬ ‫وَهَ جها بفضل حركات ما بعد البنيوية‪ ،‬فإنها ال تزال‬

‫حضورًا قويًّا في األكاديميا والثقافة بشكل عامّ ؛ إذ يركن إليها‬ ‫ّ‬ ‫األدبي وَحْ دَ ة‬ ‫كثي ٌر ممن يؤمن بأن النص‬ ‫مستقلة من اإلبداع‬ ‫ّ‬

‫ً‬ ‫منعزلة عن السياقات المختلفة التي‬ ‫اإلنساني يمكن أن تكون‬ ‫ّ‬ ‫ذاتي‬ ‫أُنتج فيها العمل‪ ،‬وأن العقل المبدع يحظى باستقالل‬ ‫ّ‬ ‫األدبي‪ .‬وتنسحب‬ ‫الفني أو‬ ‫له كامل الفضل في إبداع العمل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫األدبي نفسه؛ إذ ينطوي العمل‬ ‫هذه االستقاللية على العمل‬ ‫ّ‬ ‫على كل ما يحتاجه المتلقي لفهم العمل وتذوُّقه وتقديره‪.‬‬ ‫ساهم في انتشار النقد الجديد مواءم ُته للمنظمات‪ ،‬وما‬

‫تشيعه من أفكار واللغة السياسية التي تنتمي لها‪ .‬بالنسبة‬ ‫ً‬ ‫ثقافية‪ ،‬فإن‬ ‫مؤسسات‬ ‫حكومات كانت أو‬ ‫لتلك المنظمات‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬

‫الرؤية التي يقوم عليها النقد الجديد مريحة وغير مزعجة؛‬

‫ألنها مأمونة الجانب ومتوقعة التصرفات‪.‬‬

‫وحين حدثت طفرة التعليم في أثناء الحرب الباردة؛‬

‫بول إنغل يقرأ وسط مجموعة من الطالب في ورشة آيوا للكتّاب في الخمسينيات‬

‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬


‫برامج الكتابة اإلبداعية في أميركا‬

‫السياسة واأليديولوجيا‬ ‫بحسب‬

‫النقد‬

‫الجديد‪،‬‬

‫تكون‬

‫المالمح‬

‫األدبي في أحسن األحوال‬ ‫األيديولوجيّة للعمل‬ ‫ّ‬

‫عديمة الصلة بالقيم الجمالية التي يحملها‪ .‬وإن‬

‫استطاعت الظهور أو التدخل في تلك القيم فهي‬

‫عنصر غير مرغوب فيه ودخيل على ما يجب أن‬ ‫ص ً‬ ‫ً‬ ‫رفا‪ .‬وعلى هذا‬ ‫يكون إبداعيًّا‬ ‫محضا ومتخ َّيلاً ِ‬ ‫دالالت سلبيةً‬ ‫األساس‪ُ ،‬منح مصطلحُ األيديولوجيا‬ ‫ٍ‬

‫ً‬ ‫ارتباطا‬ ‫بالضرورة‪ ،‬وتكاد تكون شيطانية‪ ،‬وارتبط‬ ‫ً‬ ‫وثيقا بالشيوعية‪ ،‬ولهذا تماشى هذا التصور مع‬ ‫األميركي في‬ ‫حالة الذعر التي عاشها المجتمع‬ ‫ّ‬

‫أثناء الحرب الباردة‪ .‬بطريقة ما‪ ،‬كان المصطلح‬ ‫يعادل مصطلح «السياسة» سيئ ِّ‬ ‫الذ ْكر آنذاك‪.‬‬ ‫وفي هذا مفارقة كبرى ال يمكن تجاوزها بسهولة‬

‫كما ذكرت للتو‪ ،‬وهي أن محاولة عزل األدب عن‬

‫برزت الحاجة إلى مناهج فعَّ الة وعملية لمقاربة األدب وتدريسه‪،‬‬ ‫فاالرتفاع المفاجئ والسريع ل َِقبول الطالب في صفوف األدب في‬ ‫أقسام اللغة اإلنجليزية حينما انتهت الحرب العالمية الثانية؛‬

‫أفضى إلى صفوف متكدّ سة ومدرسين تعوزهم الخبرة‪ .‬وهنا‬

‫تكمن أهمية النقد الجديد في كونه يقدّ م نموذجً ا لتحليل األدب‬ ‫مبسط ومعياريّ ‪ ،‬وأهم من ذلك ِّ‬ ‫كله سهل‬ ‫وتأويله‪ ،‬ي َّتسم بأنه ّ‬ ‫التدريس‪ .‬كما واكب هذه التطورات األكاديمية ٌ‬ ‫ميل إلى االعتقاد‬

‫السوفييتي‪ ،‬وبخاصة مع‬ ‫الغربي على األدب‬ ‫بأفضلية األدب‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الغربي‪ .‬ونتج‬ ‫لألدب‬ ‫األقصى‬ ‫الشكل‬ ‫أنها‬ ‫على‬ ‫بالحداثة‬ ‫االعتراف‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫تنحية الرواية الواقعية عن المنهج الذي يدرس‬ ‫عن هذا الميل‬

‫ً‬ ‫عوضا منها؛‬ ‫الحداثي‬ ‫في األكاديميا وتهميشها‪ ،‬وإدراج األدب‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫الهتمامه بالجماليات‪ ،‬بعد أن كان مهمشا ومُ زدرًى هو اآلخر‬ ‫َ‬ ‫أعراف‬ ‫وق ًتا طويلاً ‪ .‬وفي الحال اعتنقت برامجُ الكتابة اإلبداعية‬

‫النقد الجديد ودرّستها في ورش الكتابة‪ ،‬بعد أن وجدت فيها ما‬

‫يمكن تسخيره لخدمة العاطفة المناوئة للشيوعية‪ ،‬والمروِّجة‬ ‫أسباب عملية أخرى؛‬ ‫للفردانية األميركية‪ ،‬ساعدها في ذلك‬ ‫ٌ‬

‫مثل‪ :‬نزوع الجامعات إلى وضع حدود واضحة بين التخصصات‬

‫المختلفة وغيرها‪.‬‬

‫السياسة‪ ،‬وعزل الفن عن األيديولوجيا‪ ،‬إنما هي‬

‫ليست األعراف األدبية والنقدية وَحْ دَ ها ما سُ خر لخدمة‬ ‫السياسي‪ ،‬بل إن مُ ُثلاً وقيمً ا اس ُتخدمت للغرض نفسه‪ .‬وهذا ما‬ ‫ّ‬

‫األميركي في منتصف‬ ‫فوبيا الشيوعية لدى المجتمع‬ ‫ّ‬

‫ً‬ ‫قيمة‪ ،‬سُ خرت‬ ‫على أنها أعز مكتسبات الديمقراطية الليبرالية‬

‫محاولة سياسية وأيديولوجيّة بامتياز‪ .‬ويمكن‬

‫القول‪ :‬إن مصطلحً ا مثل األيديولوجيا تعرّض‬ ‫َ‬ ‫متعمد أُ َ‬ ‫ّ‬ ‫ريد منه ترسيخ‬ ‫أل ْد َلجة صارخة‪ ،‬وتشويه‬ ‫القرن العشرين‪.‬‬ ‫لم ُ‬ ‫ً‬ ‫جهدا في محاربة‬ ‫تأل الحكومة الفيدرالية‬ ‫وضخت أموالاً‬ ‫ّ‬ ‫الشيوعية على األصعدة كافة‪،‬‬

‫طائلة إلى التعليم العالي بعد أن آمنت أنها تخوض‬

‫السوفييتي معركة أفكار‪ .‬لقد ع َّولت‬ ‫مع االتحاد‬ ‫ّ‬ ‫الحكومة األميركية كثيرًا في أثناء الحرب العالمية‬

‫الثانية‪ ،‬وما أعقبها‪ ،‬على الجامعة بوصفها حاضنة‬ ‫للشباب‪ ،‬وركزت في أن ما ّ‬ ‫يتلقاه الطالب الجامعيون‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ضد‬ ‫األكاديمي ال بد أن يكون لقاحً ا‬ ‫الصف‬ ‫في‬ ‫ّ‬

‫الموجات الفكرية التي تتناهب الشباب في كل مكان‬

‫على وجه األرض‪ .‬وكان اإلعالم يقوم بالدور نفسه‬ ‫على جبهة أخرى؛ إذ عمل على استثمار المخاوف‬

‫واآلمال التي وسمت حقبة الحرب الباردة‪ ،‬وكان من‬ ‫ً‬ ‫حماسة للخطوات التحصينية ضد‬ ‫أكثر المجالت‬

‫الشيوعي‪ ،‬بما في ذلك مشروع ورشة‬ ‫المشروع‬ ‫ّ‬ ‫آيوا‪ ،‬مجلة «تايم» ذائعة الصيت‪.‬‬

‫ذهب إليه فرانسيس ستونر سوندرز في كتابه «الحرب الباردة‬ ‫الثقافية»؛ إذ جزم سوندرز بأن حرية التعبير التي طالما ُقدّ رت‬

‫لخدمة أجندات ِس ّرية‪ .‬وحاول سوندرز كشف كثير من الجهود‬ ‫ً‬ ‫حماسة‬ ‫االستثنائية التي تورّط فيها أكثر دعاة الحرية الثقافية‬

‫في الغرب؛ إذ كانوا يعملون لصالح السي آي إيه أو بدعم‬

‫منها‪ ،‬سواءُ أعلموا بذلك أم لم يعلموا‪ .‬ركز سوندرز في ّ‬ ‫تقصي‬

‫السرِّيّ للتدخالت الثقافية في أوربا الغربية‬ ‫برنامج السي آي إيه ِّ‬

‫أو في داخل أميركا؛ من أجل خطة احتواء تهدف إلى تذويب‬ ‫ّ‬ ‫وأدلة‬ ‫شغف النخب الثقافية بالشيوعية‪ ،‬مستعي ًنا بوثائق‬ ‫تثبت استغالل أميركا رمو ًزا ثقافية؛ مثل‪ :‬إيزايا برلين‪ ،‬وجورج‬

‫أورويل‪ ،‬وجاكسون بولوك‪ ،‬وهانا آرنت‪ ،‬واستخدامهم كأسلحة‬

‫في الحرب الباردة‪.‬‬

‫الراقصون بوصفهم دبلوماسيين‬

‫انضمّ إلى المقاالت والكتب التي تتناول الحرب الباردة‬

‫ِتاب آخر صدر العام الماضي بعنوان‪:‬‬ ‫وعالقتها باإلبداع ك ٌ‬ ‫«الراقصون باعتبارهم دبلوماسيين» لكلير كروفت‪ .‬يحلل كتاب‬ ‫ْ‬ ‫أجرتها مع‬ ‫كروفت الذي استندت في تأليفه إلى مقابالت كثيرة‬

‫ّ‬ ‫سخرت الحكومة األميركية‬ ‫مصممي رقص وراقصين‪ ،‬كيف‬ ‫َ‬ ‫الرقص في تصدير صورة مثالية ألميركا‪ ،‬ويختبر هذا السلوك‬

‫‪55‬‬


‫قضايا‬

‫الثقافي في مرحلتين مهمتين من مراحل‬ ‫الدبلوماسي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫السياسة الخارجية األميركية‪ :‬العقود األولى من الحرب الباردة‬

‫والجزء المنقضي حتى اآلن من القرن الحادي والعشرين‪ .‬في‬ ‫السنوات األولى من الحرب الباردة استهدفت المناطق التي‬ ‫السوفييتي؛‬ ‫الصيني‬ ‫الشيوعي‬ ‫ُظنّ أنها أكثر عرضة للتأثير‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫مثل‪ :‬أوربا الشرقية‪ ،‬وأميركا الالتينية‪ ،‬وجنوب شرق آسيا‪.‬‬

‫وفي القرن الحادي والعشرين‪ ،‬عقب أحداث ‪ 11‬سبتمبر‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫تحو ْ‬ ‫بوصلة الدبلوماسية الثقافية األميركية لتستهدف‬ ‫َّلت‬

‫مناطق يدين أكثر سكانها باإلسالم ومعظمها في آسيا‪ .‬خالل‬

‫هاتين الحقبتين كان نشاط الدبلوماسية الثقافية قائمً ا على‬ ‫ُ‬ ‫أش ِّده؛ إذ بعثت الواليات المتحدة األميركية فنانين إلى‬ ‫لاً‬ ‫الخارج‪ ،‬بوصفهم ممثلين رسميين لها‪ ،‬بل وحتى أعما فنية‬ ‫لوحات وسواها‪ ،‬بوصفها جزءً ا من برامج الدبلوماسية‬ ‫من‬ ‫ٍ‬

‫التي تلقاها فريق الباليه باحتمالية أن يواجه جمهورًا غاضبًا في‬ ‫المسرح‪ ،‬كان الحضور مبتهجً ا‪ ،‬وقابل الفريق بتصفيق حا ّر‬ ‫وهتاف طويل‪.‬‬

‫عن هذا العرض كتبت كروفت‪« :‬من خالل إرسال‬

‫السوفييتي بوصفه جزءً ا‬ ‫باليه مدينة نيويورك إلى االتحاد‬ ‫ّ‬ ‫من الدبلوماسية األميركية في منتصف القرن العشرين؛‬ ‫ُ‬ ‫وزارة الخارجية األميركية والمسرحُ القومي األميركي‬ ‫اخترقت‬ ‫ُ‬ ‫واألكاديمية‪ ،‬الجهة التي اختارت الفنانين لجوالت وزارة‬

‫الخارجية‪ ،‬اخترقتا الستارة الحديدية بفن من أكثر أشكال‬ ‫الفنون المحبوبة في روسيا» عبر الجوالت الكثيرة التي موّلتها‬ ‫وزارة الخارجية األميركية ضمن برامج الدبلوماسية الثقافية‪،‬‬ ‫تحمّ ل السفراء الثقافيون‪ ،‬الراقصون وغيرهم من الفنانين‪،‬‬

‫الثقافية التي نفذتها في أماكن متفرقة من العالم‪ .‬ولعل‬ ‫ً‬ ‫داللة في هذا الشأن ما حدث عام‬ ‫أحد أهم عروض الرقص‬ ‫‪1962‬م حين أدَّت فرقة باليه مدينة نيويورك عرض «ويسترن‬

‫سيمفوني» على خشبة مسرح بولشوي في قلب موسكو‪.‬‬ ‫ً‬ ‫حدثا رمزيًّا؛ إذ ُعزف قبل بدئه نشيدا أميركا واالتحاد‬ ‫كان‬

‫‪56‬‬

‫َ‬ ‫فرقة الراقصين والراقصات‬ ‫السوفييتي الوطنيان‪ ،‬وقاد‬ ‫ّ‬ ‫روسي ي َ‬ ‫ُدعى جورج باالنشين‪ .‬قوبل العرض‬ ‫األميركية مهاج ٌر‬ ‫ٌّ‬ ‫بحفاوة شديدة؛ بسبب ما عزته الكاتبة إلى االختالفات‬

‫الجمالية بين الباليه في كل من الدولتين‪ ،‬وإلى تزامن‬ ‫العرض مع أزمة الصواريخ الكوبية التي كادت الحرب أن‬

‫تندلع بين الدولتين بسببها‪ .‬على عكس التحذيرات‬

‫رجال مخابرات خريجو ورش للكتابة اإلبداعية‬ ‫ّ‬ ‫للممولين لغة سياسية مشفرة تناسب الجو العام‪ ،‬وشدد على نجاعة‬ ‫الجلي أن إنغل استخدم في مراسالته‬ ‫من‬ ‫ّ‬

‫استخدام الثقافة في محاربة الشيوعية‪ .‬وهكذا توافقت رؤيته المعلنة مع رؤية الحكومة األميركية‪ ،‬المتمثلة في‬

‫برنامج مثل «الكونغرس من أجل الحرية الثقافية» والهادف في نشاطه في أثناء الحرب الباردة إلى «إقناع اليسار غير‬ ‫الشيوعي في بريطانيا وأوربا أن أميركا َت ْع ِني أكثر من ميكي ماوس وكوكاكوال» ليس غريبًا أن قام برنامج «الكونغرس»‬ ‫ّ‬ ‫بدفع اشتراكات في مجالت أدبية أميركية ُ‬ ‫لك َّتاب من الكتلة الشرقية من أوربا‪ ،‬وبخاصة إذا علمنا أن بعض رجال‬

‫وكالة المخابرات األميركية هم خريجون سابقون من ورشة آيوا للكتابة اإلبداعية؛ مثل الروائيين جون هانت وروبي‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫متفرعا من ورشة آيوا‬ ‫–أيضا‪ -‬أن يحصل إنغل‪ ،‬بعد أن أسس في منتصف الستينيات برنامجً ا‬ ‫ماكولي‪ .‬ليس غريبًا‬

‫أميركي للسفر إلى آسيا وأوربا؛ لتجنيد ُ‬ ‫َّ‬ ‫الك َّتاب الشباب‪،‬‬ ‫الدولي»‪ ،‬على عشرة آالف دوالر‬ ‫سماه «برنامج الكتابة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫والمثقفين وبخاصة ذوي الميل اليساريّ منهم‪ ،‬ومنحهم زماالت لدراسة الكتابة اإلبداعية في آيوا‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫بتفهم أكثر عن الواليات المتحدة األميركية»؛‬ ‫كان الهدف من جلب ُك َّتاب أجانب أن «يحبوا أميركا»‪ ،‬وأن «يكتبوا‬

‫َ‬ ‫بمبالغ كبير ٍة ًّ‬ ‫ّ‬ ‫ممولي‬ ‫جدا‪ .‬لقد نجح إنغل في إقناع‬ ‫شيكات‬ ‫لهذا حرَّر رجال األعمال المحافظون لصالح مشروعه‬ ‫ٍ‬

‫البرنامج بأن األدب سوف ينقذ العالم‪ ،‬وأن الكتابة اإلبداعية‪ ،‬حسب تعبير بينيت‪ ،‬سوف «تلقح العقول الضعيفة ضد‬

‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬


‫برامج الكتابة اإلبداعية في أميركا‬

‫بعض الذين تفاعلوا مع كتابات إريك‬ ‫تورط‬ ‫بينيت وغيره التي حاولت فضح ُّ‬ ‫وكالة المخابرات المركزية األميركية في‬ ‫تمويل مشاريع ثقافية لصالح أهداف‬ ‫ُّ‬ ‫التدخل ما‬ ‫سياسية؛ لم يمانعوا هذا‬ ‫وتعليما لل ُكتَّاب‬ ‫وظائف‬ ‫يوفر‬ ‫دام أنه‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫مبنى ورشة آيوا للكتابة اإلبداعية‬

‫ً‬ ‫مسؤولية تصدير سردية وطنية مهيمنة تحاول‪ ،‬وإنْ‬ ‫عبثا‪،‬‬ ‫أن تطرد عن نفسها ُتهمً ا محتملة‪ .‬أ َّكد مسؤولون حكوميون‬ ‫للفنانين المشاركين في تلك الجوالت الدولية أن عملهم ليس‬

‫سياسيًّا‪ ،‬كما أشار بعض الفنانين إلى أن مسؤولين في وزارة‬ ‫الخارجية أَمْ َلوْا على الراقصين في أثناء تحضيرات ما قبل‬ ‫ً‬ ‫محددة طلبوا فيها‬ ‫تعليمات‬ ‫الجولة في واشنطن العاصمة‬ ‫ٍ‬ ‫منهم ألاَّ يخوضوا في محادثات سياسية في أثناء وجودهم‬ ‫في الخارج‪.‬‬

‫عمد المسؤولون عن برامج الدبلوماسية الثقافية‬ ‫ّ‬ ‫تمثل الواليات المتحدة‬ ‫إلى إفهام الفنانين أن تصرفاتهم‬ ‫ّ‬ ‫وحضهم على تج ّنب كل ما يمكن أن يكون سياسيًّا؛‬ ‫األميركية‪،‬‬ ‫مثل‪ :‬الحديث عن حرب فيتنام في الستينيات‪ .‬وبحسب‬

‫كروفت‪ ،‬فإن إرسال فنانين إلى الخارج يُعَ دّ خطوة مهمة‬

‫للحكومة األميركية؛ ألنه بقدر ما على مسؤولي الحكومة أن‬

‫يديروا الفنانين بحساسية (إذ الفنانون بخالف األعمال الفنية‬

‫الجامدة‪ ،‬غير متوقعي التصرف)‪ ،‬بقدر ما يمكن أن يتصرف‬ ‫الفنانون ك ُب ْرهان على وعد الديمقراطية األميركية المتمثل‬

‫في «نظام حكومة يسمح بمعارضة فردية»‪ .‬ثبت أن الحرية‬ ‫الفردية وغيرها من القيم األميركية يمكن تصدي ُرها بوساطة‬

‫عروض الرقص‪ ،‬والدراما الحية بطريقة أفضل وأنجع من‬

‫تصديرها على نحو مباشر‪.‬‬

‫في الختام‪ ،‬يمكن القول‪ :‬إن ما يذهب الظنّ إلى أنه منيع‬ ‫ّ‬ ‫السياسي َلهُو في واقع الحال وثيق االرتباط به‪.‬‬ ‫التدخل‬ ‫ضد‬ ‫ّ‬

‫الغربي‬ ‫لقد بانَ أن برنامجً ا للكتابة اإلبداعية في قلب الوسط‬ ‫ّ‬ ‫األميركي إنما كان مسرحً ا لتجاذبات سياسية وفكرية تسافر‬ ‫ّ‬

‫عبر المحيطات‪ .‬بعض الذين تفاعلوا مع كتابات إريك بينيت‬ ‫وغيره التي حاولت فضح تورُّط وكالة المخابرات المركزية‬

‫األيديولوجيّات الشمولية التبسيطية‪ ،‬وتشفي الجروح‬

‫األميركية في تمويل مشاريع ثقافية لصالح أهداف سياسية لم‬ ‫التدخل ما دام أنه ّ‬ ‫َ‬ ‫وظائف وتعليمً ا ُ‬ ‫ّ‬ ‫للك َّتاب‪.‬‬ ‫يوفر‬ ‫يمانعوا هذا‬

‫إنغل في رسمه‪ِّ ،‬‬ ‫يروج البرنامج للتجربة الملموسة‪،‬‬

‫ال يكون ريموند كارفر‪ ،‬وهو يتدرب على أيدي كتاب غارقين‬ ‫در ًكا أن قصصه القصيرة تقوم‬ ‫في صيغ معادية للشيوعية‪ ،‬مُ ِ‬

‫الرُّوحية التي أحدثتها الكارثة العالمية‪ ،‬وربما تمنع‬ ‫ً‬ ‫ُّ‬ ‫للتصور الذي ساهم‬ ‫ووفقا‬ ‫حدوث أمثالها مرة أخرى»‪،‬‬

‫هذه وجهة نظرة مفهومة‪ ،‬وبينيت نفسه يشير إلى أنه «قد‬

‫والخصوصية الذاتية‪ ،‬والحياة الواقعية في الرواية‪،‬‬

‫سوفييتي ميت» إال أن وجهة‬ ‫بحرب أيديولوجيَّة مع ديكتاتور‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تضمحل عند إدراك الضرر الذي يلحقه التدخل‬ ‫النظر هذه‬

‫َّ‬ ‫الجوانية والخاصة بالفرد التي تنعكس من خالل‬ ‫الحياة‬

‫السياسي يفرض شروطه بالضرورة‪ ،‬ويرسخ لجُ ملة من‬ ‫ّ‬ ‫األعراف الفنية والقيم الجمالية ال يزال حضورُها مُ هيمِ ًنا على‬

‫بينما يرفض التجريد‪ ،‬والعمومية‪ ،‬والتجارب المدفوعة‬

‫باأليديولوجيا‪ .‬ويحتفي باألدب الذي ُيعلي من شأن‬ ‫تجارب يعيشها ال تمليها عليه أي أيديولوجيّات‪ .‬إنه يقدم‬

‫قيمة الفردانية باعتبارها أيديولوجيا ر ُِّوج لها في أميركا‬ ‫في أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها؛ لتناهض‬

‫األنظمة الشمولية في نموذجَ ِي الفاشية في ألمانيا‬ ‫السوفييتي‪.‬‬ ‫وإيطاليا‪ ،‬والشمولية اليسارية لالتحاد‬ ‫ّ‬

‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫التدخل‬ ‫والمتمثل في أن‬ ‫السياسي ببرامج الكتابة اإلبداعية‪،‬‬ ‫ّ‬

‫األميركي حتى اليوم‪.‬‬ ‫األدبي‬ ‫المشهد‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫لقد نجحت أميركا‪ ،‬كما يبدو‪ ،‬فيما أخفق فيه االتحاد‬

‫السوفييتي‪ ،‬أال وهو الصادرات الثقافية‪ .‬لكن ال شك أن‬ ‫ّ‬ ‫الحقيقي قد خسر كثي ًرا؛ بسبب حقن صفوف الكتابة‬ ‫اإلبداع‬ ‫ّ‬ ‫بأيديولوجيا اإلذعان التي ال يجرؤ على التصريح بها أحد‪.‬‬

‫‪57‬‬


‫قضايا‬

‫باريس بعد‬ ‫االعتداءات‪...‬‬ ‫المثقفون يخرجون من بروجهم العاجية‬ ‫ويسائلون فكر األنوار ومبادئ الثورة الفرنسية‬ ‫ليس من المبالغة القول‪ :‬إن‬

‫االعتداءات اإلرهابية التي ضربت‬

‫‪58‬‬

‫العاصمة الفرنسية‪ ،‬في شهري‬

‫يناير ونوفمبر عام ‪2015‬م‪ ،‬خلخلت‬

‫المجتمع‬

‫والفكر‬

‫الفرنسيين‪،‬‬

‫إضافة إلى السياسة الفرنسية‪،‬‬

‫وليس معنى هذا أن المجتمع‬ ‫كان مثاليًّا‪ ،‬أو أن مكوناته كانت‬ ‫تعيش في وئام كامل‪ ،‬فالتعددية‬

‫الثقافية (الفلسفة التي يدافع عنها‬

‫محمد المزديوي‬ ‫كاتب ومترجم مغربي مقيم‬ ‫في باريس‬

‫ّ‬ ‫محل‬ ‫األوربي وكثير من اإلنسانيين الفرنسيين)كانت‬ ‫االتحاد‬ ‫ّ‬ ‫انتقاد شديد من أنصار فرنسا الخالدة‪ ،‬أو فرنسا «البيضاء ذات‬ ‫المسيحي»‪ ،‬كما تجرَّأت على قول ذلك‪ ،‬قبل‬ ‫التراث اليهوديّ ‪-‬‬ ‫ّ‬ ‫أشهر‪ ،‬النائبة نادين مورانو‪ ،‬من حزب الجمهوريين اليميني‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫صمُ‬ ‫َ‬ ‫العرب والمسلمين‬ ‫وليست هذه‬ ‫النائبة التي كثيرًا ما َت ِ‬

‫في تصريحاتها المتكررة‪ ،‬ثم تكرِّر الزمَ َتها المُ َّ‬ ‫ُ‬ ‫«لست ضد‬ ‫ملة‪:‬‬ ‫َ‬ ‫الوحيدة في‬ ‫العرب‪ ،‬والدليل أن لي صديقة حميمة من تشاد»‬

‫المشهد‪ ،‬بل إن القول العنصريَّ بدأ يتحرَّر في اآلونة األخيرة‪،‬‬ ‫ولم يعد كثي ٌر من ُ‬ ‫الكتاب والمفكرين والصحفيين الفرنسيين‬ ‫يجدون حَ رجً ا من التفوه بكلمات تصدم األقليات والجماعات‪،‬‬

‫ً‬ ‫وخصوصا مسلمي فرنسا أو الجالية العربية اإلسالمية فيها‪،‬‬ ‫الفرنسي»‪.‬‬ ‫ثم ُيشهرون سيف أننا «نتحدث بلغة الشعب‬ ‫ّ‬ ‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬


‫في هذا اإلطار يمكن قراءة كتاب إيريك زمور الصحافي‬

‫الذي دعته األكاديمية الفرنسية (مُ جمَّ ع الخالدين الذي استقبل‬

‫مقوالت وأفكارًا‬ ‫الذي عرف نجاحً ا منقطع النظير‪ ،‬ويلخص فيه‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫عنصرية؛ من بينها أن «فرنسا تتعرض لألسلمة»‪ ،‬وأن «ال‬

‫والجزائرية الراحلة آسيا جبار‪ ،‬والمُ ثقف الالمع أمين معلوف)‬ ‫ً‬ ‫وعنصرية ضدّ العرب والمسلمين‬ ‫لألسف‪ ،‬وهو يقطر حقدً ا‬

‫الفرنسي‪ ،‬ذي األصول اليهودية الجزائرية‪« :‬االنتحار الفرنسي»‬ ‫ّ‬

‫من قبل شخصيات كثيرة؛ من بينها الراحل سيدار سنغور‪،‬‬

‫فرق بين اإلسالم واإلسالموية»‪ ،‬وأن «اإلسالم والجمهورية ال‬ ‫يتواءمان»‪ ،‬وأن «اإلسالم ي َتعَ ارَض بشدة مع العلمانية»‪ ،‬وأن‬

‫بالفوز بكأس العالم لكرة القدم‪ ،‬ألول مرة في تاريخهم‪ ،‬كان‬

‫بينها‪« :‬تغيير المسلمين أسماءهم‪ ،‬ثم ذوبانهم في المجتمع‬

‫تركيبة الفريق الفرنسي‪ ،‬التي تضمُّ عربًا وسودًا أكثر من ال ِبيض‪،‬‬

‫«القرآن كتاب عنف»‪ ،‬إلى أن يصل إلى خالصات وحلول؛ من‬

‫واألجانب‪ .‬وقبل سنوات‪ ،‬حين كان الفرنسيون يبتهجون‬ ‫فينكلكروت يسخر‪ ،‬في لقاء مع صحيفة هآرتس اإلسرائيلية‪ ،‬من‬

‫الفرنسي‪ ،‬كما فعل اليهود من قبلهم‪ ،‬أو التفكير في ترحيل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫مفكر‪،‬‬ ‫العرب المسلمين»‪ .‬وإذا كان إيريك زمور ال يزعم أنه‬

‫الحالي مانويل فالس‪ ،‬وكان وقتها ال يزال نائبًا وعمدة لمدينة‬

‫والصهيونية‪ ،‬وممولها هو داسو‪ ،‬صاحب الطائرة الحربية‬

‫األسواق باعة عربًا وسودًا‪ ،‬على مصير ال ِبيض‪ .‬كما يمكن لنا أن‬

‫ويكتفي بدور الصحافي في صحيفة لوفيغارو (اليمينية‬ ‫الفرنسية المشهورة)‪ ،‬فإن ثمة مفك ًرا آخر‪ ،‬هو أالن فينكلكروت‪،‬‬

‫والطريف أن الخوف على مصير «ال ِبيض»؛ جعل رئيس الوزراء‬

‫إيفري‪ ،‬بالضاحية الباريسية‪« ،‬يتأسف» وهو يرى في إحدى‬

‫نذكر من بين هؤالء المفكرين الذين يعرفون كيف يستخدمون‬ ‫قادة العالم في وقفة تعاطف مع الفرنسيين‬

‫‪59‬‬


‫قضايا‬

‫والنضالي‪ ،‬وإفساح‬ ‫الكالسيكي‬ ‫في شكلها‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫المجال أمام فالسفة ومفكرين يتقنون‬

‫الميديا برنار هنري ليفي‪ ،‬الذي يستطيع أن‬ ‫َ‬ ‫العالم‪،‬‬ ‫يدافع عن كل المستضعفين في‬

‫التالعب مع وسائل اإلعالم‪ ،‬ويغيرون‬ ‫آراءهم و َْفق طلبات الجمهور‪.‬‬

‫من بنغالديش إلى البوسنة وليبيا وسوريا‬ ‫يحس‬ ‫إال الفلسطينيين‪ ،‬فهو ال يراهم وال‬ ‫ّ‬

‫في هذه الظروف الفكرية‪ ،‬إضافة‬

‫بآالمهم‪ ،‬وقبل أن يعترف مجلسا النواب‬

‫إلى األزمة االقتصادية التي تعيشها فرنسا‬

‫والشيوخ الفرنسيان بالدولة الفلسطينية‬

‫والغرب‪ ،‬منذ عدة سنوات؛ جاءت‬

‫المستقلة‪ ،‬خاض حروبًا هوميرية؛ إلقناع‬

‫االعتداءات اإلرهابية التي ضربت فرنسا‬

‫النواب بأن االعتراف بالدولة الفلسطينية‬

‫ِّ‬ ‫يهدد السالم‪.‬‬

‫العام الماضي؛ لتزيد األمور المجتمعية‬ ‫الفرنسي‬ ‫تعقيدً ا‪ ،‬والسياسة ارتبا ًكا‪ ،‬والفكر‬ ‫ّ‬

‫وليس هؤالء استثناء في المشهد‬

‫كتاب «االنتحار الفرنسي» ضحالة وبؤسً ا‪.‬‬ ‫الفرنسي‪ ،‬فقد مضى‬ ‫والفلسفي‬ ‫الفكريّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ِّ‬ ‫الفرنسي محمد علي‬ ‫يعلق الباحث‬ ‫الفرنسي يساريًّا‪،‬‬ ‫الوقت الذي كان فيه الفكر‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫عدراوي (جامعة سانغفورة)‪ ،‬وهو يقرأ تصريحات السياسيين‬ ‫وكان يدافع عن كل القضايا بما فيها القضية الفلسطينية؛ أين‬ ‫نحن من جان بول سارتر ودفاعه الرائع عن استقالل الجزائر؟‬

‫الفرنسيين المختلفة بعد االعتداءات‪ ،‬وهي تقول وكأنها جوقة‬

‫وعن «الحجارة الفلسطينية»‪ ،‬ثم عن «عظمة عرفات»؟ وأين‬

‫وعلى ديمقراطيتنا وانتخاباتنا‪ ،‬كما أنهم ال يريدون علمانيتنا‪،‬‬

‫وأين نحن من جيل دولوز الذي دافع عن القضية الفلسطينية‪،‬‬

‫نحن من جان جوني وهو يكتب عن «األسير العاشق» و«أربع‬ ‫ساعات في شاتيال»؟ لقد انتهى زمن الفالسفة الكبار؛ الزمن‬

‫‪60‬‬

‫الذي قال فيه الجنرال شارل دوغول‪« :‬إن فرنسا ال يمكنها أن‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬ ‫ولعل موت جاك ديريدا‪ ،‬أعلن‬ ‫مفك ًرا مثل سارتر»‪،‬‬ ‫تعتقل‬

‫الفرنسي الكبير؛ أي‪ :‬موت الفلسفة‬ ‫بصيغة ما‪ ،‬موت المفكر‬ ‫ّ‬

‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬

‫واحدة‪ :‬إن اإلرهابيين الذين ضربونا يحسدوننا على نمط حياتنا‪،‬‬ ‫بالقول‪« :‬إن األمر ليس صحيحً ا‪ ،‬ففرنسا منهمكة في قصف‬ ‫العراق وسوريا‪ُ ،‬‬ ‫وتوقع ضحايا ودمارًا‪ ،‬فلماذا يتعجب بعضهم‬ ‫ِّ‬ ‫المشاركة‬ ‫ويعدد كثي ًرا من الدول‬ ‫من مجيء هؤالء لالنتقام»‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫في محاربة تنظيم داعش التي تلقت ضربات وانتقامً ا من‬

‫التنظيم‪.‬‬


‫باريس بعد االعتداءات‪...‬‬

‫الفرنسي‬ ‫وغير بعيد من هذه الفكرة‪ ،‬يؤ ِّكد لنا الباحث‬ ‫ّ‬ ‫إليامين س ّتول‪ ،‬في وزارة الدفاع الفرنسية‪ ،‬أن «فرنسا لم‬ ‫ُتض َرب بصفة اعتباطية‪ ،‬وقد َّ‬ ‫تلقت تهديدات كثيرة من ُ‬ ‫قبل؛‬

‫بسبب حضورها العسكريّ في دُول إسالمية كثيرة؛ مثل‪:‬‬

‫مالي‪ ،‬وإفريقيا الوسطى‪ ،‬وأفغانستان‪ ،‬والعراق‪ ،‬وسوريا‪،‬‬ ‫والصومال‪ ،‬وغيرها»‪.‬‬

‫والغريب أن فرنسا الرسمية‪ ،‬ومباشرة بعد االعتداءين‬

‫ق َّررت أن تعالج الموضوع معالجة أمنية واستخباراتية‪ ،‬من‬ ‫دون مراعاة الظروف االجتماعية‪ ،‬فإذا كان ِّ‬ ‫منفذو االعتداءات‬

‫لماذا يجب عدم اإلقرار بإخفاق‬ ‫االندماج على الطريقة الفرنسية؟‬ ‫ولماذا يجب عدم فعل شيء تجاه‬ ‫األحياء الشعبية والضواحي‪ ،‬التي‬ ‫قامت عام ‪2005‬م بانتفاضة عارمة‬ ‫فرنسيين من أصول عربية‪ ،‬فلماذا ال يجب التساؤل عن‬ ‫دوافعهم؟ والظروف التي دفعتهم إلى هذا المستوى من العنف‬

‫والرغبة في االنتحار؟ ولماذا يجب عدم اإلقرار بإخفاق االندماج‬ ‫على الطريقة الفرنسية؟ ولماذا يجب عدم فعل شيء تجاه‬

‫األحياء الشعبية والضواحي التي قامت عام ‪2005‬م بانتفاضة‬ ‫ً‬ ‫خصوصا أن رئيس الوزراء مانويل فالس نفسه اعترف‬ ‫عارمة‪،‬‬

‫بوجود «أبرتهايد» في هذه األحياء والضواحي‪ ،‬وهي أحياء‬ ‫وضواح صوَّتت بنسبة ‪ % 93‬للرئيس الحالي فرانسوا هوالند‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫وساهمت في ترجيح ك َِّفته على ك َِّفة نيكوال ساركوزي؟‬ ‫ّ‬ ‫الحل‪ ،‬والعلمانية ً‬ ‫أيضا‬ ‫«أنا شارلي»‪ ،‬هي‬

‫َ‬ ‫طال‬ ‫لم تتغير سياسة فرنسا منذ االعتداء األول الذي‬

‫«شارلي إيبدو»‪ ،‬وهي صحيفة فرنسية أسبوعية بائسة غير‬

‫مقروءة‪ ،‬وتعاني أزمة مالية خانقة‪ ،‬امتهنت كي تبيع أكثر‪،‬‬ ‫و ْ‬ ‫َصمَ المسلمين ورموزهم ومقدساتهم الكبرى‪ ،‬وعلى رأسها‬ ‫ً‬ ‫راسمة إياه كثي ًرا بشكل‬ ‫النبي محمد صلى الله عليه وسلم‪،‬‬ ‫كاريكاتيريّ ‪ ،‬فحاول بعض المهتمين استغالل القلق والحزن‬

‫الحقيقيين في فرنسا (إذ إن فرنسا لم تعرف منذ عقود هجومً ا‬ ‫في عاصمتها بمثل هذه الضراوة والتنظيم) مختزلاً فرنسا‪:‬‬ ‫التاريخ واألنوار والحضارة‪ ،‬في جملة «أنا شارلي»‪ ،‬وهي عبارة‬

‫تضمر أن «من ليس شارلي‪ ،‬فهو معا ٍد فرنسا»‪ ،‬وهي قريبة من‬ ‫جملة بوش االبن‪ ،‬وهو يهاجم أفغانستان‪ ،‬بعد اعتداءات ‪11‬‬

‫سبتمبر ‪2001‬م‪« :‬من ليس معنا فهو ضدنا»‪ ،‬لكن هذه الجملة‬ ‫استفزت كثي ًرا من الفرنسيين‪ ،‬ومن بينهم عرب ومسلمون‪،‬‬

‫وجعلت التظاهرة المليونية التي أعقبت االعتداء تخلو من كثير‬

‫من الفرنسيين‪ ،‬وبخاصة المنحدرين من األحياء والضواحي‪،‬‬ ‫ولم ي َْخ ُل رفض جملة «أنا شارلي»‪ ،‬من معنى؛ إذ يستطيع‬ ‫المرء أن يكون غير شارلي‪ ،‬وأن يصير معاديًا َّ‬ ‫كل أشكال اإلرهاب‬

‫والعنف‪ ،‬ومنها الذي ضرب شارلي‪.‬‬ ‫وفي هذا الصدد صدرت ُك ُتب مهمة لمفكرين فرنسيين‬ ‫أنا خائف ‪ ..‬لكنني موجود‬

‫تنتقد اختزال الفرنسيين في «أنا شارلي»‪ ،‬ومن بينها كتاب‬ ‫إيمانويل تود‪« :‬من هو شارلي؟»‪َ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫خاص من مجلة‬ ‫وعدَد‬

‫‪61‬‬


‫قضايا‬

‫ً‬ ‫مرسخا‬ ‫«ميديولوجيا» التي يديرها المفكر ريجيس دوبريه‪،‬‬ ‫لـ«شارلي واآلخرون»‪.‬‬

‫لم يكن غريبًا أن يكون مسلمو فرنسا ومُ هاجروها من العرب‬

‫والمسلمين هم الضحايا المباشرون لالعتداءات؛ إذ على الفور‬ ‫تتوجه إليهم وسائل اإلعالم لمعرفة ردودهم‪ ،‬كأن موقفهم‬ ‫ً‬ ‫مختلفا عن بقية مواطني الجمهورية‪ ،‬كما أن الساسة‬ ‫سيكون‬ ‫الفرنسيين ال يتركون أي مناسبة إال ويطالبون مسلمي فرنسا‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫مواقفهم‪ ،‬وتنديدهم باإلرهاب‪ .‬في كل مرة‬ ‫صراحة‬ ‫أن يعلنوا‬

‫تتك َّرر هذه الالزمة‪ ،‬وهو ما يمنح هؤالء الفرنسيين «المختلفين»‬ ‫خامسا‪ ،‬في‬ ‫إحساسً ا بأن ثمة مَ ن ينظر إليهم بوصفهم طابورًا‬ ‫ً‬

‫الوقت الذي يعلنون فيه في كل مناسبة‪ ،‬تعلقهم بهذا البلد‬ ‫وقوانينه ومُ ُثله‪.‬‬ ‫وجاء االعتداء الثاني على باريس‪ ،‬وكان أكثر ً‬ ‫عنفا وتنظيمً ا‬ ‫ً‬ ‫الفرنسي‬ ‫وتنسيقا؛ إذ استهدف كل شرائح الفرنسيين‪ ،‬من‬ ‫ّ‬

‫العاديّ إلى رئيس الجمهورية الفرنسية نفسه‪ ،‬وأحدث مَ ْق َتلة‬ ‫والعربي والمسلم‬ ‫كبيرة ومتنوعة؛ فمات الطفل والشيخ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫والمسيحي واآلسيويّ وغيرهم؛ ّ‬ ‫مستهدفا؛‬ ‫فكل الفرنسيين كان‬ ‫ّ‬

‫اإلنجازات البوليسية‪ ،‬ومنها‪ :‬عنف‬ ‫رجال الشرطة غير المسوغ‪ ،‬فأحيا ًنا‬ ‫أبوابا تكون مفتوحة‬ ‫يكسرون‬ ‫ً‬ ‫أشخاصا‬ ‫أمامهم‪ ،‬ويعتقلون أحيا ًنا‬ ‫ً‬ ‫ُع ْم ًيا‪ ،‬ويضعونهم تحت اإلقامة‬ ‫الجبرية‪ ،‬ويلزمونهم الحضور ثالث‬ ‫مرات يوم ًّيا إلى مراكز الشرطة‪،‬‬ ‫وأحيا ًنا أخرى يسخرون من حجاب‬ ‫النساء ومن أنوثتهن‬

‫ً‬ ‫المسلمين‪– ‬أيضا‪-‬‬ ‫الوقت الذي أظهرت االعتداءات األخيرة أن‬

‫أي جرى استهداف «الوحدة الوطنية»‪ ،‬و«العيش المشترك»‪،‬‬

‫كانوا مستهدَفين‪ ،‬ودفعوا دماءهم وأرواحهم في هذه المجزرة‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫واالستخباراتي‪ ،‬ولم‬ ‫األمني‬ ‫الحل‬ ‫السياسي سوى‬ ‫لم يجد القرار‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬

‫الحادث فرصة للحمة الوطنية‪ ،‬وتعاضد الجبهة الداخلية‪ ،‬وفي‬

‫مثل‪ :‬الديغولي أالن جوبيه‪ ،‬رئيس الوزراء األسبق‪ ،‬عن توجيه‬

‫والتسامح‪ ،‬والتعددية‪ ،‬وحرية األديان‪.‬‬

‫‪62‬‬

‫ُفاجئنا بعض األمثلة الصادمة عن‬ ‫ت ِ‬

‫وفي الوقت الذي كان فيه كثير من المراقبين يرون في‬

‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬

‫يتوقف الساسة الفرنسيون‪ ،‬حتى من كان معتدلاً وحكيمً ا؛‬


‫باريس بعد االعتداءات‪...‬‬

‫سالح التجريد من الجنسية الفرنسية‬ ‫فرنسا‪ ،‬هذه األيام‪ ،‬ترسم لنفسها صورة قاتمة‪ ،‬وتزداد القتامة مع النقاشات‬

‫حول تجريد المتهمين باإلرهاب من الفرنسيين من الجنسية الفرنسية‪ ،‬وإذا كان‬ ‫َ‬ ‫المنتظر‪ ،‬فهذه‬ ‫مسلمو فرنسا يرون أنهم المستهدف األول في التعديل الدستوريّ‬ ‫الفكرة يقولها آخرون ً‬ ‫أيضا‪ ،‬من غير المسلمين‪ ،‬فالصحافة األميركية ترى في التعديل‬ ‫انتها ًكا لحقوق مسلمي فرنسا‪ ،‬وهو ما ِّ‬ ‫االشتراكي السابق‪ ،‬من أصول‬ ‫يلخصه الوزير‬ ‫ّ‬

‫جزائرية‪ :‬قادر عارف‪ ،‬وهو من أكثر المقربين من الرئيس فرانسوا هوالند‪ ،‬بالقول‪:‬‬ ‫«مشروع التعديل ال يستهدف األشخاص من ذوي الجنسية الفرنسية‪ -‬األميركية‪ ،‬وال‬

‫الجنسية الفرنسية‪ -‬البريطانية‪ ،‬إنما يستهدف أصحاب الجنسية الفرنسية‪ -‬العربية»‪.‬‬ ‫نصريِّين والمتط ِّرفين الفرنسيين لن يجدوا سالحً ا‪ ،‬في معركتهم ضد‬ ‫ولعل العُ ِ‬

‫واإلسالمي في فرنسا والغرب‪ ،‬أقوى من سالح التجريد من الجنسية‬ ‫العربي‬ ‫الحضور‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الفرنسية‪ ،‬وهذه الفكرة كانت من صميم برامج حزب «الجبهة الوطنية» المتطرفة‪،‬‬

‫االشتراكي فرانسوا هوالند في غمرة االنفعال‬ ‫وفي أذهان المتشددين في حزب «الجمهوريين»‪ ،‬قبل أن يعلن عنها الرئيس‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫عقب مجزرة ‪ 13‬نوفمبر الماضي‪ .‬يتأمل مسلمو فرنسا ومهاجروها بقلق كبير هذه النقاشات التي تستهدفهم‪ ،‬وال يُطلب‬

‫رأيهم‪ ،‬في الوقت الذي ارتفعت فيه معدالت االعتداءات العنصرية واإلسالموفوبية‪ ،‬بشكل كبير و َْفق إحصائيات الجمعيات‬

‫المختلفة التي تعمل في حقل مكافحة هذه الظواهر‪ ،‬لكن القلق ال يقتصر على المسلمين وحدهم؛ إذ قبل نهاية عام ‪2014‬م‬ ‫الفرنسي الكبير إيدوي بلونيل كتابًا الف ًتا يدافع فيه عن المسلمين‪ ،‬بعنوان‪« :‬من أجل المسلمين» عن دار‬ ‫أصدر الصحافي‬ ‫ّ‬ ‫لاً‬ ‫ً‬ ‫الديكوفيرت‪ ،‬كأنه كان يتوقع أن يعيشوا بعد صدور الكتاب امتحانا قاسيًا ومزلز ‪ ،‬ومضمون الكتاب أن مسلمي فرنسا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫قاسية مثل التي عاشها اليهود في بدايات القرن الماضي‪ ،‬وأدَّت إلى نتائج كارثية‪ ،‬ويسخر من أنصار‬ ‫ظروفا‬ ‫يعيشون اليوم‬ ‫وحق ُ‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫األمّ المحجبة‬ ‫حجاب المرأة المسلمة‬ ‫تحارب‬ ‫حين‬ ‫كاريكاتورية‬ ‫وأصبحت‬ ‫الديانة‪،‬‬ ‫من‬ ‫تقترب‬ ‫التي‬ ‫المتطرفة»‬ ‫«العلمانية‬ ‫َ‬ ‫في اصطحاب ابنها في النزهات والرحالت خارج المدرسة‪ ،‬وال يُخفي الصحافي أن المسلمين يستطيعون بكل سهولة أن‬ ‫يتعايشوا مع غيرهم في فرنسا والغرب‪.‬‬

‫ِّ‬ ‫ممثلي الديانة اإلسالمية في فرنسا‪ ،‬ومطالبتهم‬ ‫اللوم إلى‬ ‫بتحديد موقفهم‪.‬‬

‫الفرنسي‪ ،‬في مبايعة شبه مطلقة من‬ ‫أعلن الرئيس‬ ‫ّ‬ ‫البرلمان‪ ،‬حالة الطوارئ في فرنسا‪ ،‬وأعلن عن ُقرب تغيير‬ ‫الفرنسي؛ لتضمينه (بندً ا) يسمح بتجريد‬ ‫بعض بنود الدستور‬ ‫ّ‬ ‫الفرنسيين الذين يحملون جنسيتين‪ ،‬حتى مَ ن ُولِد في فرنسا‪،‬‬

‫إرهابي‪ ،‬وأظهرت‬ ‫من جنسيته الفرنسية إذا ثبت ضلوعه في نشاط‬ ‫ّ‬

‫بعض نتائج حالة الطوارئ‪ ،‬التي ال تزال مستمرة‪ ،‬ويمكن أن‬ ‫يُمدَّ د لها إلى ما شاء الله‪ ،‬حسب تأكيد رئيس الوزراء‪ ،‬أنها‬ ‫تستهدف المسلمين الذين ي َ‬ ‫ُنظر إليهم بوصفهم مسلمين في‬ ‫المقام األول‪ ،‬حسب تأكيد الرابطة الفرنسية لحقوق اإلنسان‪،‬‬

‫ويكفي أن نتأمل الزيارات التي قامت بها الشرطة الفرنسية‪ ،‬التي‬ ‫مُ نحت حرية استثنائية‪ ،‬إلى المساجد ودُور العبادة والمراكز‬ ‫اإلسالمية‪ ،‬ودُور األئمة‪ ،‬ومراكز خيرية‪ ،‬ومأوى ألشخاص‬

‫في وضعية هشة‪ ،‬التي تمخض عنها تدمير وتخريب كثير من‬ ‫المساجد‪ ،‬وإغالق كثير منها‪ ،‬ووضع أئمة وأشخاص تحت‬

‫موت الفلسفة الفرنسية في شكلها‬ ‫والنضالي‪ ،‬وإفساح المجال‬ ‫الكالسيكي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أمام فالسفة ومفكرين يتقنون‬ ‫التالعب مع وسائل اإلعالم‪ ،‬ويغيرون‬ ‫آراءهم وفق طلبات الجمهور‬ ‫اإلقامة الجبرية‪ُ ،‬‬ ‫فاجئنا بعض األمثلة الصادمة عن هذه‬ ‫وت ِ‬

‫اإلنجازات البوليسية (علمً ا أن كثيرين يخافون من الحديث‬

‫عن هذه الزيارات)‪ ،‬ومنها‪ :‬عنف رجال الشرطة غير المسوّغ‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أحيانا‬ ‫فأحيانا يكسرون أبوابًا تكون مفتوحة أمامهم‪ ،‬ويعتقلون‬ ‫ً‬ ‫أشخاصا ُعمْ يًا‪ ،‬ويضعونهم تحت اإلقامة الجبرية‪ ،‬ويلزمونهم‬ ‫ً‬ ‫الحضور ثالث مرات يوميًّا إلى مراكز الشرطة‪ ،‬وأحيانا أخرى‬ ‫ً‬ ‫وأحيانا يسألون‬ ‫يسخرون من حجاب النساء ومن أنوثتهن‪،‬‬

‫‪63‬‬


‫قضايا‬

‫فرنسيين مسلمين عن ميداليات؛ لمن تعود ُّ‬ ‫الصوَر الموجودة‬

‫اإليطالي ليوناردو دافنشي)‪.‬‬ ‫فيها (بعضها يعود إلى فنان النهضة‬ ‫ّ‬ ‫لغة حربية‬

‫وكما أن القلق ال يقتصر فقط على المسلمين‪ ،‬فهو ينتاب‬ ‫أيضا ّ‬ ‫ً‬ ‫كل المفكرين واألكاديميين الذين ال يشاطرون السلطة‬

‫ً‬ ‫ونوعا من السخرية‬ ‫االنتفاضة لدى علماء االجتماع الفرنسيين‪،‬‬ ‫من فكر الوزير وسطحيته؛ فعالِم االجتماع برنارد الهير‪َ ،‬عدَّ‬

‫موقف فالس «قطيعة مع عقلية األنوار»‪ ،‬وأن رئيس الوزراء‬ ‫ً‬ ‫عوضا‬ ‫يفضل استخدام لغة «حربية»؛ من أجل تعهد الخوف‬

‫السياسية مواقفها‪ ،‬وال يخضعون لسطوة وسائل اإلعالم‬

‫من «أخذ المسافة الكافية والضرورية إلدارة جيدة للشؤون‬

‫ومن بين السياسيين الفرنسيين الذين ال يتوقفون عن الصياح‬

‫تسويغها»‪ ،‬أما عالِم االجتماع فرهاد خوسروخافار فيعيب على‬

‫الفرنسية التي تستخدم المسلمين رهينة في الوقت الراهن‪،‬‬

‫الفرنسي مانويل فالس‪ ،‬الذي‬ ‫واالتهام والتهديد‪ ،‬رئيس الوزراء‬ ‫ّ‬ ‫أعلن قبل شهور عن حرب مفتوحة ضد السلفيين واإلخوان‬

‫والجهاديين والمتطرفين والراديكاليين‪ ،‬واضعً ا الجميع في‬ ‫سلة واحدة‪ ،‬وها هو يعود مرة أخرى ليكشف عن جهلِه الواقعَ‬

‫البشرية»‪ ،‬وشدَّد على أن «فهم ظاهرة أو تفسيرها ليس‬

‫فرنسي جريح»‪ ،‬ويرى أن «دراسة‬ ‫رئيس الوزراء «تملق رأي عام‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬ ‫ضرورية؛ لوضع عنف «الجهاديين» في سياقه‪،‬‬ ‫ظواهر التطرف‬ ‫وهو ضروري؛ للخروج منه»‪ ،‬بينما ترى عالِمة االجتماع نيلوفر‬ ‫غول‪ ،‬من مدرسة الدراسات العليا في العلوم االجتماعية في‬

‫باريس‪ ،‬أن «مانويل فالس اجتاز مرحلة أخرى في النقاش حول‬ ‫اإلسالم»‪ ،‬وتضيف أن «سياسة فالس ترتكز على بناء األعداء في‬

‫أين نحن من جان بول سارتر ودفاعه‬

‫الوقت الذي يُعَ دُّ فيه المسلمون العاديون والجهاديون جزءً ا‬

‫نحن من جيل دولوز الذي دافع عن‬

‫فرنسي نقديّ ‪،‬‬ ‫بدأت تلوح في األفق إرهاصات انبثاق فكر‬ ‫ّ‬ ‫لكنه غير َّ‬ ‫ّ‬ ‫لعل أهمها كونُ أغلبية وسائل‬ ‫منظم ألسباب ِعدَّ ة؛‬

‫الرائع عن استقالل الجزائر؟ وأين‬

‫‪64‬‬

‫والفك َر الفرنسيين‪ ،‬في بلد الفلسفة والفكر واألنوار‪ ،‬فقد ص ّرح‬ ‫ٌ‬ ‫تسويغ لها‪ ،‬وهو ما خلق ً‬ ‫نوعا من‬ ‫أن تفسير الظاهرة الجهادية‬

‫القضية الفلسطينية‪ ،‬وعن «الحجارة‬ ‫الفلسطينية»‪ ،‬ثم عن «عظمة عرفات»؟‬

‫من المجتمعات األوربية»‪.‬‬

‫ً‬ ‫خاضعة لرجال أعمال كبار (أغلبيتهم‬ ‫اإلعالم الفرنسية‬ ‫صهاينة)‪ ،‬وهو ما يقلل من حرية الصحافيين وحرية الخطّ‬

‫التحريريّ لهذه الصحف‪ ،‬أما وسائل اإلعالم األخرى البديلة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫خانقة‪ ،‬لكن التحديات التي عرفتها‬ ‫اقتصادية‬ ‫مشاكل‬ ‫فتعاني‬ ‫فرنسا‪ ،‬سواء بسبب االعتداءات أم بسبب زحف الالجئين‬

‫والمهاجرين؛ جعل بعض المثقفين يخرجون من صمتهم‬ ‫الفرنسي واألنوار ومبادئ‬ ‫وبروجهم العاجية؛ ليُسائلوا الفكر‬ ‫َّ‬ ‫الثورة الفرنسية عن الحرية والمساواة واألخوة‪.‬‬

‫وقد استثمر كثير من المفكرين الفرنسيين المسلمين‬ ‫المبدأَ األخي َر‪« :‬مبدأ األخوة»‪ ،‬وأ َّكدوا أنه يستطيع أن‬

‫يساهم في تقريب المسافات بين مكونات المجتمع‬ ‫الفرنسي المختلفة‪ ،‬كما أن مُ ِّ‬ ‫فكري فرنسا اإلنسانيين‬ ‫ّ‬ ‫بدؤوا يخرجون من صمتهم‪ ،‬وبخاصة تالمذة‬ ‫الراحل بول ريكور؛ النتقاد بعض تصريحات‬ ‫الساسة الفرنسيين الجارحة حول التجريد‬

‫من الجنسية الفرنسية‪ ،‬واستقبال الالجئين‬ ‫ًّ‬ ‫الفرنسي في‬ ‫حقا‪ ،‬إن الفكر‬ ‫والمهاجرين‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫أمس الحاجة إلى استعادة كتابات بول‬ ‫ّ‬ ‫ريكور‪ ،‬الذي تحدَّث كثي ًرا عن «الضيافة»‬ ‫و«مأوى الغريب واألجنبي»‪.‬‬

‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬


@alfaisalmag


‫قضايا‬

‫المثقفون في تونس قبل الثورة وبعدها‪..‬‬

‫اصطفاف الثقافة‬ ‫والسياسة‬ ‫‪66‬‬

‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬


‫ُ‬ ‫المالحظة أن سرعة التحوُّالت االجتماعية والسياسية‬ ‫ُتفيد‬ ‫َ‬ ‫العربي؛ جعلت أمر استيعابها يزداد‬ ‫والثقافية التي يعيشها الراهن‬ ‫ُّ‬ ‫ْب في الوقوف على حقيقة جوهرها‪ ،‬ولعلّ‬ ‫ً‬ ‫تعقيدا ممزوجً ا بري ٍ‬

‫هذا هو السبب الذي أضحى به الواقع فضاءً تفيض فيه المدلوالت‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫دوالها‪ُ ،‬‬ ‫مألوف عالئقها؛‬ ‫عن حدود‬ ‫وتفارق فيه األحياءُ واألشياءُ‬ ‫ً‬ ‫نزوعا قويًّا إلى التساؤل من جديد‬ ‫لتحوز عالقات جديدة ُتخفي‬

‫عن ماهيتها وعن طبيعة وظائفها ضمن حَ راكها المُ تسارع‪ .‬وإنّ من‬ ‫أَجْ لى مظاهر هذا النزوع ما صارت إليه عالقة الثقافة بالسياسة من‬

‫عبدالدائم السالمي‬ ‫كاتب وناقد تونسي‬

‫تحوّل في الرؤية‪ ،‬وفي األدوار‪.‬‬

‫‪67‬‬


‫تقارير‬

‫رغما ع ّني)‬ ‫من عرض مسرحي لحركة ( ف ّني‬ ‫ً‬

‫‪68‬‬

‫ُ‬ ‫سؤالنا‬ ‫وهي عالقة تحفزنا إلى أنْ نسأل سؤالي ِْن‪ :‬أوّلهما‬ ‫ِّ‬ ‫تخلي هاتي ِْن الفعاليتيْن اإلنسانيتي ِْن عمّ ا كان‬ ‫عن إمكانية‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬ ‫تاريخهما من مواجهات ظلت خاللها كل واحدة منهما‬ ‫ينتظم‬ ‫ُتناقض ُ‬ ‫ُ‬ ‫سؤالنا عن وجاهة‬ ‫األخرى‪ ،‬وتمكر بها مك ًرا؟ وثانيهما‬ ‫شكل من الوجود جديدٍ ِّ‬ ‫والسياسي‬ ‫الثقافي‬ ‫لكل من‬ ‫البحث عن‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫مما يسمح للواحد منهما بأن يعضد جهدَ اآلخر‪ ،‬ويحرسه مِ ن‬ ‫ُغ َلوائه‪ ،‬ويحميه من حاالت ركوده وضعفه؟ وفي محاولة‬

‫منا لإلجابة عن هذي ِْن السؤالي ِْن سنلوذ بالحالة التونسية بعد‬ ‫انتفاضة يناير ‪2011‬م عي ً‬ ‫ِّنة نبحث من خاللها عن مالمح التدبير‬ ‫والسياسي الذي حدّ من تزايد الفوضى االجتماعية‬ ‫الثقافي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫من جهة‪ ،‬وساهم من جهة ثانية في ِسلمية التجربة الثورية‬

‫التونسية‪ ،‬وفي حصول البالد على جائزة نوبل في السالم‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ال َّ‬ ‫تاريخا‬ ‫شك في أننا واجدون لعالقة الثقافة بالسياسة‬ ‫ّ‬ ‫حافلاً بكثير من المدّ والجزر‪ ،‬توزع المثقفون فيه صنفي ِْن‪:‬‬ ‫َ‬ ‫صنف مال إلى السلطة السياسية يُجمِّ ل‬ ‫صورتها ابتغاءَ‬ ‫مَ ْرضاتها َ‬ ‫وني ِْل عطاياها‪ ،‬وصنف جعل من اإلبداع سبيله إلى‬

‫نقد تلك السلطة‪ ،‬والتشهير بطغيان أصحابها عبر طرائق‬ ‫ّ‬ ‫المتلقي بذور التم ُّرد على أسباب َت َر ِّدي‬ ‫فنية كثيرة‪ ،‬تزرع في‬

‫أحواله‪ ،‬بل وتدعوه إلى الثورة عليها‪.‬‬

‫وما ينبئ به تاريخ الدولة الوطنية العربية منذ خمسينيات‬

‫القرن الماضي حتى اآلن هو استمرار تلك العالقة بين الثقافة‬ ‫والسياسة‪ّ ،‬‬ ‫واتكاء أنظمة الحُ كم فيها على مقوالت «محاربة‬

‫الفتنة الداخلية» و«مشروع بناء الدولة الفتيَّة» و«مصلحة‬ ‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬

‫الحزب فوق مصلحة الجميع»‪ ،‬واعتمادُها بُع ُبعً ا ُتخيف به‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫المثقفين‪.‬‬ ‫معارضتها أو نقدَ ها من‬ ‫كل مَ ن يَروم‬ ‫وقد نستفيد في فهم ذلك مِ ن رأي ابن خلدون القائل‪:‬‬

‫«السيف والقلم كالهما آلة لصاحب الدولة‪ ،‬يستعين بهما‬ ‫على أمره‪ ،‬إال أن الحاجة في أول الدولة إلى السيف ما دام‬

‫أهلها في تمهيد أمرهم‪ ،‬أشد من الحاجة إلى صاحب القلم؛‬ ‫ألن القلم في تلك الحال خادم فقط ّ‬ ‫السلطاني»‪.‬‬ ‫منفذ للحكم‬ ‫ّ‬ ‫ومتى فاق احتياج الدولة إلى السيف احتياجَ ها إلى القلم‬

‫َّأثر ذلك في طبيعة عالقة السلطة بالثقافة؛ وتفصيل ذلك‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫هدأتها‪،‬‬ ‫المثقف إال شوكة ُتدمي‬ ‫أن السلطة ال ترى في‬

‫ومن ثمة تراها ال تني تحشد ّ‬ ‫كل طاقاتها اإلغرائية والعُ ْنفيَّة‬ ‫ّ‬ ‫المثقف أن دوره‬ ‫لتحييده وإزاحته من فضائها‪ ،‬على حين يرى‬ ‫االجتماعي ينهض على قاعدة معاداة تلك السلطة والوقوف‬ ‫ّ‬

‫صنفي ِن‪ :‬صنف مال‬ ‫المثقفون‬ ‫انقسم‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫جمل صورتَها‬ ‫إلى السلطة السياسية؛ ُي ِّ‬ ‫ابتغاءَ َم ْرضاتها ون َْي ِل عطاياها‪ ،‬وصنف‬ ‫جعل من اإلبداع سبيلَه إلى نقد تلك‬ ‫السلطة والتشهير بطغيان أصحابها‬


‫المثقفون في تونس قبل الثورة وبعدها‪..‬‬

‫في وجه نزوعها إلى التجبُّر والطغيان‪ ،‬فإذا هو يحشد كل‬

‫طاقاته اإلبداعية لتكون سبيله إلى كشف حقيقتها االستبدادية‬ ‫أمام مجموعته االجتماعية‪.‬‬

‫المثقفون والجنون والتش ُّرد‬

‫كثير من‬ ‫على مدار هذه العالقة الصدامية سالت دماءُ‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫بعضهم اآلخ ُر إلى الجنون أو التش ُّرد أو‬ ‫المثقفين‪ ،‬ودُفع‬

‫الهجرة أو المكوث في ظلمة السجون‪ .‬وعلى مدار هذه‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫المثقف في‬ ‫أيضا‪ -‬اقتنعت السلطة بمدى تأثير‬‫العالقة‬

‫الجمهور‪ ،‬فحرصت على تدجينه بجميع الوسائل المتاحة‬ ‫لها‪ ،‬سواء أكان من خالل استقطابه إلى ّ‬ ‫صفها وإفراغه من‬

‫جذوة قول الحقيقة‪ ،‬أم عبر التنكيل به متى رفض االنصياع‬ ‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫تاريخ عالقة أنظمة الحكم العربية مع‬ ‫متمثلة في ذلك‬ ‫لها‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ومثقفيها الذين خالفوا سياساتها في تدبير شؤون‬ ‫مبدعيها‬ ‫ّ‬ ‫الرعايا‪ ،‬ورفضوا تحكمها في آرائهم ومعتقداتهم؛ إذ جرى‬ ‫اإلجهاز على الجهم بن صفوان‪ ،‬والجعد بن درهم‪ ،‬والحلاَّ ج‪،‬‬

‫اختراق المثقفين وتأليب‬ ‫بعضهم على بعض‬ ‫نجحت السلطة التونسية في َع ْهدَ يْ بورقيبة وبن‬ ‫علي في اختراق ّ‬ ‫مثقفي البالد‪ ،‬وفرض «ثقافتها» عليهم؛‬ ‫عبر تأليب بعضهم على‬ ‫بعض‪ ،‬ضمن ُلعب ٍة أجادت رسمَ‬ ‫ٍ‬ ‫قوانينها‪ ،‬فجعلت ّ‬ ‫كل واحد من الفريقي ِْن يستنفد طاقته‬

‫في التشهير بالفريق اآلخر وإقصائه‪ ،‬بل في أ ْكل َلحمِ ه‬ ‫ني ًئا؛ ومن َثمَّ أغرقتهم في عداوات مجَّ انية‪ ،‬وأَ ْل َه ْتهم‬ ‫بمعارك َبيْنيَّة واهية عن القيام بأدوارهم التاريخية‪،‬‬

‫الثقافي‬ ‫فارتاحت هي من (وجع الرأس)‪ ،‬وخسر الفعل‬ ‫ّ‬ ‫التونسي َّ‬ ‫كل جَ دْ واه‪ :‬صفاء أهدافه ووجاهة مضامينه‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫لاً‬ ‫غير أنّ تلك الحال الثقافية التونسية ستشهد تح ُّو في‬ ‫عالقتها بالسياسة بُعَ ْيدَ انتفاضة يناير ‪2011‬م؛ ألنَّ النار‬

‫تكتف بحرق جسده فحسب‪،‬‬ ‫التي أشعلها البوعزيزي لم‬ ‫ِ‬ ‫ّإنما أحرقت ّ‬ ‫ّ‬ ‫كل منظومات السلطة وأعوانها‪ ،‬ومثلت‬

‫ً‬ ‫عي من ِّ‬ ‫ّ‬ ‫كل شوائب‬ ‫حدثا تطهُّريًّا‬ ‫صفى العقل الجَ مْ ّ‬ ‫مألوف تصوُّره عن الدولة والوطن واإلنسان والقيم؛‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫المثقفة والسياسية أنهم‬ ‫تكشف للناس ولنخبهم‬ ‫إذ‬ ‫مقبلون على زمن جديد هم مسؤولون مباشرة عن رسم‬

‫مالمحه‪ ،‬وبناء صروح نهوضه الحضاريّ ‪.‬‬

‫المثقف إال شوكة‬ ‫السلطة ال ترى في‬ ‫ّ‬ ‫تُدمي هدأتَها‪ ،‬ومِ ن َث َّم تحشد كل‬ ‫والع ْنف َّية؛ لتحييده‬ ‫طاقاتها اإلغرائية‬ ‫ُ‬ ‫وإزاحته من فضائها‪ .‬على حين يرى‬ ‫االجتماعي ينهض‬ ‫المثقف أن دوره‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫على قاعدة معاداة تلك السلطة‪،‬‬ ‫والوقوف في وجه نزوعها إلى‬ ‫التج ُّبر والطغيان‬ ‫وغيالن القدري‪ ،‬ومحمد بن سعيد المصلوب‪ ،‬والسهرورديّ ‪،‬‬

‫وبشار بن بُرد الذي «وشى به بعض من يُبغضه إلى المهديِّ‬

‫بأنه يدين بدين الخوارج‪ ،‬فقتله المهديُّ ‪ .‬وقيل‪ :‬بل قيل‬ ‫للمهديّ ‪ :‬إنه يهجوك‪ .‬فقتله»‪ ،‬وغير هؤالء ُك ُثر‪.‬‬

‫ّ‬ ‫ولعل في مقتل هؤالء المبدعين ما يعني أن كثرة من‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬ ‫واعية ُ‬ ‫ّ‬ ‫الحق‪،‬‬ ‫المثقف على الدفاع عن‬ ‫بقدرة‬ ‫األنظمة الحاكمة‬

‫السياسي؛ لما لديه من قدرة على الغوص‬ ‫وكشف الباطل‬ ‫ّ‬

‫في أعماق الوقائع الحياتية‪ ،‬وتعرية تفاصيلِها‪ ،‬والتعبير عن‬ ‫ّ‬ ‫يتخلصوا من الجور‬ ‫قضايا المضطهَدين‪ ،‬وحفزهم إلى أن‬

‫استتب األمن‬ ‫والظلم واالستبداد‪ ،‬وبِ َناءً عليه فإنه عندما‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫للدولة الوطنية سَ عَ ْ‬ ‫المثقفين‪ ،‬وصار «أرباب‬ ‫ت إلى استقطاب‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫نعمة‬ ‫مرتبة‪ ،‬وأكثر‬ ‫القلم في هذه الحالة أوسع جاهً ا‪ ،‬وأعلى‬ ‫ً‬ ‫مجلسا‪ ،‬وأكثر إليه ترددًا؛ ألنهم‬ ‫وثروة‪ ،‬وأقرب إلى السلطان‬ ‫ً‬

‫حينئذ آلته التي بها يستظهر على تحصيل ملكه‪ ،‬والنظر إلى‬ ‫أعطافه‪ ،‬وتثقيف أصرافه‪ ،‬والمباهاة بأحواله» وفق ما يرى‬ ‫التونسي قبل‬ ‫الثقافي‬ ‫ابن خلدون‪ ،‬ونجد له تمثيلاً في الوضع‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫عام ‪2011‬م؛ إذ يجوز لنا القول‪ :‬إن الثقافة في تونس لم تتصف‬

‫الجماعي» على حدّ تعبير بيير بورديو على‬ ‫بصفة «الرأسمال‬ ‫ّ‬

‫طول المدة الممتدَّ ة من بداية االستقالل إلى نهاية العشرية‬ ‫األولى من األلفية الثالثة‪ ،‬بل إنها لم ّ‬ ‫االجتماعي‬ ‫تمثل للفر ِد‬ ‫ّ‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫جمالية و ِقيَمية ي َّتكئ عليها في تواصله مع ماضيه‬ ‫خلفية‬ ‫وحاضره‪ ،‬ويَمْ تح منها رَواءَ إبداعاته‪ ،‬إنما َّ‬ ‫ظلت فعلاً ُتهيمِ ن‬ ‫ّ‬ ‫السلطة السياسية‪ ،‬وتلوّنه بألوانها‪ ،‬وتتحكم في‬ ‫عليه‬ ‫ُّ‬ ‫ً‬ ‫خادمة لمصالحها؛‬ ‫وجهات‬ ‫مُ ْخ َرجاته جميعها بتوجيهها‬ ‫ٍ‬

‫مديحً ا لها وهجاءً لمعارضيها‪.‬‬

‫سياسي‬ ‫مكر‬ ‫ّ‬ ‫وال نرى في الشعارات الثقافية التي رفعتها السلطة‬

‫التونسية على غرار شعار «ال لتهميش الثقافة وال لثقافة‬

‫‪69‬‬


‫تقارير‬

‫رحيل (بن علي) وسيطرة الشعب‬ ‫مثقفي‬ ‫على الشارع أمران جع‬ ‫ّ‬ ‫لاَ‬ ‫وسياسييها يقفون على‬ ‫تونس‬ ‫ّ‬ ‫حقيقة أن تونس لم تعد تحتمل‬ ‫وجود حزب واحد‪ ،‬وزعيم واحد‪ ،‬ورأي‬ ‫كل أبنائها‬ ‫واحد‪ ،‬وأ ّنها عادت إلى ِّ‬ ‫بجميل الكالم‪ ،‬وأغلب هؤالء صحافيون تونسيّون وأجانب‪،‬‬ ‫الك َّتاب في أثناء رئاسة ّ‬ ‫ومنتسبون إلى اتحاد ُ‬ ‫كل من العروسي‬ ‫المطوي والميداني بن صالح‪ ،‬ومنهم مُ ه ِّرجون مسرحيون‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫المثقفين‬ ‫ومُ غ ُّنون بال أصوات طربية‪ ،‬وفئة «أبناء فرنسا» من‬ ‫البراغماتيّين‪ .‬وأما الفئة الثانية فقليلة‪ ،‬وتضمّ ّ‬ ‫مثقفين يعيشون‬

‫بن علي‬

‫َ‬ ‫نقيض ما يدعو إليه‪.‬‬ ‫التهميش» إلاَّ مك ًرا سياسيًّا يُخفي طيَّه‬

‫‪70‬‬

‫الثقافي‪ ،‬وجعله‬ ‫وصورة ذلك حرصها على السيطرة على الفعل‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫«مثقفيها»‪ ،‬ومنحهم‬ ‫آلة من آالت الحكم من خالل تصنيع‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫كثيرة؛ كي يصيروا شوكتها لمحاربة‬ ‫ومعنوية‬ ‫مادية‬ ‫امتيازات‬ ‫ٍ‬ ‫ما ّ‬ ‫ّ‬ ‫عارضين‪.‬‬ ‫فين‬ ‫مثق‬ ‫من‬ ‫قطيعها‬ ‫عن‬ ‫شذ‬ ‫مُ‬ ‫ِ‬

‫ّ‬ ‫المثقفون فئتي ِْن‪ :‬أمَّ ا الفئة األولى فكثيرة‪،‬‬ ‫ومن َثمَّ َت َو َّزع‬ ‫وتضمّ ُك َّتابًا وإعالميّين وجامعيّين وف ّنانين الذ أغلبهم –وهم‬

‫اإلبداعي‪ -‬بمهاراتهم في فنون االنتهازية‬ ‫من ضعيفي المنجَ ز‬ ‫ّ‬

‫والتمسح على األعتاب والدّ وس على الضمير‪ ،‬وركبوا مركب‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬ ‫عيونها التي ال تنام‪ ،‬وأقالمَ ها التي تكتب‬ ‫السلطة؛ ليكونوا‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫الناس من أحالم‪ ،‬وألسن َتها التي تجمِّ ل لها‬ ‫صمت‬ ‫ما يُخفي‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫أخطاءَ ها داخليًّا وخارجيًّا‪ ،‬وتسوغ لها عنفها‪ ،‬وتثني عليها‬

‫الرسمي‪ ،‬وال مؤسّ سات‬ ‫على الهامش‪ ،‬ال يلتفت إليهم اإلعالم‬ ‫ّ‬ ‫الثقافة الحاكمة‪ ،‬ولهم طاقة على تحمّ ل أذى السلطة لهم‪،‬‬

‫وتنامي تح ّرشها بهم‪ ،‬وال يملكون إال إبداعاتهم ينافحون بها عن‬ ‫مطالب العامّ ة في الحرية والعدل والكرامة‪ ،‬ومن هؤالء نذكر‬

‫الشعراء أوالد أحمد وبلقاسم اليعقوبي والطاهر الهمامي‪ ،‬ونفر‬ ‫من الك ّتاب واإلعالميّين التح ُّرريّين؛ أمثال‪ :‬ابن بريك والهاشمي‬ ‫الطرودي ونزيهة رجيبة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫التونسي في‬ ‫وعلى كثرة ما قيل حول عدم مشاركة المثقف‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫توصيفا صادقا لمدى‬ ‫االنتفاضة الشعبية‪ ،‬فإنه ال يمكن اإلقرار به‬

‫حضور هذا األخير في أحداث تلك االنتفاضة؛ إذ ال نعدمُ هب َّة‬ ‫ّ‬ ‫راك المواطنين‬ ‫كثرة كثيرة من‬ ‫المثقفين وجاهزيتهم لنصرة حَ ِ‬

‫سواء بالمشاركة الفعلية في المظاهرات أم االعتصامات أم‬ ‫باالتكاء عليها خلفيّة إبداعية لنصوص شعرية وروائية‪ ،‬أم‬

‫بالكتابة الحماسية عنها في الصحف المحلية والعالمية‪.‬‬

‫والرأي عندنا أنّ رحيل (بن علي) وسيطرة الشعب على‬ ‫الشارع أمران جعلاَ‬ ‫ّ‬ ‫مثقفي تونس وسياسيّيها يقفون على‬ ‫حقيقة أن تونس لم تعد تحتمل وجود حزب واحد‪ ،‬وزعيم‬ ‫وأنها عادت إلى ِّ‬ ‫واحد‪ ،‬ورأي واحد‪ّ ،‬‬ ‫كل أبنائها سواء منهم مَ ن‬

‫كانوا مع السلطة المنهارة أم مَ ن كانوا ضدّ ها‪ ،‬وأنها دخلت‬ ‫ّ‬ ‫تتطلب تعاضد ّ‬ ‫كل الجهود لتتجاوز ما‬ ‫مرحلة تاريخية جديدة‬ ‫ظهر فيها من صعوبات اجتماعية واقتصادية وسياسية وأمنية‪.‬‬

‫السياسي‬ ‫وهو أمر عجّ ل بتوفير أسباب التقارب بين الفعل‬ ‫ّ‬ ‫الثقافي واشتراكهما في أداء مهمّ ة واحدة تنعقد حول‬ ‫والفعل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫كيفية حماية البالد من الفوضى التي راحت تعمّ كل مناحي‬ ‫الحياة فيها‪.‬‬

‫نزيهة رجيبة‬

‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬

‫وتحت ضغط الخوف من انجرار البالد إلى أزمة كبرى‬


‫المثقفون في تونس قبل الثورة وبعدها‪..‬‬

‫ّ‬ ‫حين‪،‬‬ ‫المثقفون والسياسيّون صراعاتهم القديمة؛ حتى‬ ‫َن ِسي‬ ‫ٍ‬

‫من ثقافة السلطة إلى ثقافة الدولة‬ ‫لقد ّ‬ ‫تكفلت هذه الجمعيات بتنبيه الجماهير إلى صعوبة‬

‫إلى المواطن‪ ،‬حيث يوجد في الشارع أو في األرياف أو في‬ ‫المدارس‪ ،‬والتعبير عن هواجسه بجرأة رافضة ّ‬ ‫كل وصاية‬

‫السلطة إلى ثقافة الدولة‪ ،‬ومن سياسة فوقية الفرد إلى‬ ‫سياسة ُعلوية الجماعة‪ ،‬وراحت تشحن الناس ّ‬ ‫بكل قيم الحرية‬

‫انصب اهتمامها‬ ‫وانتظموا داخل جمعيات ثقافية مدنية‬ ‫ّ‬

‫على الخروج بفعلها التثويريّ من دائرة المركز والذهاب‬

‫فنية‪ّ ،‬‬ ‫وكل خضوع للمثال والنموذج‪ ،‬ومن أبرز تلك الجمعيات‬

‫المدنية‪ :‬اتحاد الشغل‪ ،‬وعمادة المحامين‪ ،‬واتحاد األعراف‪،‬‬

‫ورابطة الكتاب األحرار‪ ،‬وحركة ّ‬ ‫نص‪ ،‬وجمعية الصحافيين‪،‬‬ ‫وبعض الفرق الموسيقية الملتزمة على غرار «مجموعة‬

‫الغرافيتي مع مجموعة‬ ‫البحث الموسيقي»‪ ،‬إضافة إلى فن‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫«أهل الكهف»‪ ،‬وفن المسرح مع حركة «فني رغمً ا عني»‪.‬‬

‫المرحلة وضرورة نحت مستقبلها بأيديها‪ ،‬والتحوّل من ثقافة‬

‫والعدل والكرامة والتسامح والمصالحة الوطنية والعيش‬

‫التونسي معالمَ طريقه إلى‬ ‫معً ا‪ .‬وهي قيم كانت للمجتمع‬ ‫ّ‬ ‫الجماعي الح ّر‪ ،‬وسبيله السالكة إلى تحيين تصوّراته‬ ‫الوجود‬ ‫ّ‬ ‫الثقافية والسياسية تحيي ًنا يضمن االختالف فيها‪ ،‬وال يبلغ‬ ‫تخييلي إلى فعل‬ ‫الخالف حولها‪ ،‬فتحوّلت الثقافة من فعل‬ ‫ّ‬

‫التخييلي في تصريف‬ ‫واقعي‪ ،‬واستأنست السياسة بالفعل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫الفصل التقليديُّ بين‬ ‫شؤون الواقع‪ ،‬ومن َثمَّ لم يَعُ د وجيهًا‬ ‫«الثقافة» و«السياسة»‪ ،‬بل تحو َ​َّلتا معً ا إلى حاضنة مخصبة‬ ‫لشروط العيش معً ا‪ ،‬ويبدو أن اصطفاف الثقافة والسياسة‬ ‫في ّ‬ ‫ّ‬ ‫وتكفل الواحدة منهما بنقد األخرى‪،‬‬ ‫وطني واحد‪،‬‬ ‫خط‬ ‫ّ‬

‫ومساعدتها في عدم النكوص على عقبيها‪ ،‬والعودة إلى زمن‬ ‫اإلقصاء‪ ،‬وتمجيد الرأي الواحد هو ما ّ‬ ‫مثل حالة تونسية لم َن َر‬ ‫لها شبيهًا في بعض األقطار العربية‪ ،‬التي شهدت انتفاضات‬

‫وطنية في السنوات الماضية‪.‬‬

‫‪71‬‬

‫تحت ضغط الخوف من انجرار البالد‬ ‫إلى أزمة كبرى ن ِ‬ ‫المثقفون‬ ‫َسي‬ ‫ّ‬ ‫والسياسيون صراعاتهم القديمة؛‬ ‫ّ‬ ‫حين‪ ،‬وانتظموا داخل جمعيات‬ ‫حتى‬ ‫ٍ‬ ‫انصب اهتمامها على‬ ‫ثقافية مدنية‬ ‫ّ‬ ‫التثويري من دائرة‬ ‫الخروج بفعلها‬ ‫ّ‬ ‫المركز والذهاب إلى المواطن‬


‫نصوص‬

‫وقت‬ ‫بنات آوى‬

‫لؤي حمزة عباس‬ ‫عراقي‬ ‫قاص‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫ْ‬ ‫شاركت فيها‪ ،‬وفور نزولها من الحافلة‪ ،‬بعد نزول زميالتها‪ ،‬نظرت إلى الجبال‬ ‫الرحالت المدرسية القليلة التي‬ ‫في واحدة من ِّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫صعدت حتى لم تعد تأتيها أصوات‬ ‫وسارت صاعدة طريقا صخريًّا‪ ،‬حاملة حقيبة ظهرها‪،‬‬ ‫منشغالت‪،‬‬ ‫تركت زميالتها‬ ‫المحيطة‪ ،‬ثم‬ ‫ٍ‬

‫ُ‬ ‫تحب ال ِّرحالت‬ ‫األصوات عنها‪ ،‬ولم تعد تسمع غير هبوب الريح على القمة‪ .‬هي ال‬ ‫زميالتها بوضوح‪ ،‬وواصلت الصعود حتى غابت‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬ ‫ً‬ ‫ِّ‬ ‫تظل في‬ ‫عوضا منها البقاء في المنزل والشعور بالفراغ‪ ،‬تترك باب غرفتها (مواربًا)‪ ،‬وتستلقي على السرير‪،‬‬ ‫وتفضل‬ ‫المدرسية‬

‫سريرها نهارًا كاملاً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مفهومة تنساها سريعً ا‪،‬‬ ‫عادة‪ ،‬فتسمع أشياء‬ ‫محققة رغبتها في اإلنصات إلى األصوات التي ال تعيرها االنتباه‬ ‫ً‬ ‫غريبة‪ ،‬لم تسمعها من قبل‪ ،‬تحاول تمييزها بالتفكير فيها أطول وقت ممكن قبل أن تنساها هي األخرى‪،‬‬ ‫وتسمع أخرى تبدو لها‬ ‫وتعود إلى شعورها اللذيذ بالفراغ‪.‬‬

‫ً‬ ‫في نهاية الطريق الصخريّ ‪ ،‬قريبًا من القمة العالية جلست على صخرة نظيفة منعّ مة‪ ،‬فور جلوسها سمعت‬ ‫صوتا نصف بشريّ‬ ‫ً‬ ‫مخيفا على الرغم من غرابته‪ ،‬نهضت من الصخرة‪ ،‬وأخذت تبحث حول الصخور القريبة‪،‬‬ ‫لم تسمع مثله من قبل‪ ،‬لم يكن قاسيًا أو‬

‫‪72‬‬

‫وألن الصوت لم ينقطع فقد تتبَّعته مثل خط من دخان حتى اقتربت من مصدره وهي تستدير بخطوات بطيئة حول صخرة خشنة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫العطارين‪ ،‬كانت أعلى من قامتها تشبه دبًّا منحني الرأس‪،‬‬ ‫نقرتها حُ َفر صغيرة ذ َّكرتها بنجم البحر المتيبس المعروض في محال‬ ‫رأت إلى جانبها عي ًنا بشرية من غير أجفان في نصف حجم كرة قدم‪ ،‬فور رؤية الفتاة تراجعت خلف الصخرة‪.‬‬ ‫ـ لماذا تختبئين؟‬ ‫ً‬ ‫سألت الفتاة فعادت العين إلى الظهور‪ ،‬اقتربت منها مترددة‪ ،‬وقالت‪:‬‬

‫ُ‬ ‫الفتيات العيون‪.‬‬ ‫ـ تخشى‬

‫ً‬ ‫دورة‬ ‫لكن الفتاة تقدّ مت نحو العين التي ارتفعت ببطء حتى أصبحت بمستوى قامتها‪ ،‬تفحّ صتها عن قرب‪ ،‬ثم دارت حولها‬ ‫ً‬ ‫فسرتها الفتاة برغبة العين في التع ّرف إليها من جميع الجهات؛ للعيون فضولها‪ ،‬قالت الفتاة لنفسها وواصلت النظر‬ ‫بطيئة‪ّ ،‬‬

‫بدورها إلى العين‪ ،‬أدهشتها حدقتها السوداء الواسعة ْ‬ ‫بال ِتماع ُقزحيتها‪.‬‬

‫في البيت فتحت الفتاة حقيبة ظهرها‪ ،‬بعد أن أغلقت باب الغرفة‪ ،‬وتركت العين ّ‬ ‫تحلق مستطلعة المكان‪ ،‬ثم تقترب من‬ ‫ُّ‬ ‫وتطل من فتحة الستارة‪ ،‬إنها تنظر مندهشة‪ ،‬لحركة العربات البعيدة وللمشاة القليلين على الرصيف‪.‬‬ ‫النافذة‪،‬‬

‫في الليل استلقت العين إلى جانب الفتاة وأخذتا تتحدّثان‪ ،‬يمكننا القول‪ :‬إنهما أصبحتا صديقتين‪ .‬سألتها الفتاة عن سبب‬

‫ْ‬ ‫وأحست بالسعادة حينما رأت الحافالت تقترب‪ ،‬وسمعت‬ ‫وفهمت منها أنها نزلت منذ ساعات فحسب‪،‬‬ ‫وجودها أعلى القمة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫حدّ‬ ‫ضوضاء الطالبات‪ ،‬لم تكن تظنّ أن واحدة منهن ستترك الجمع فور نزولها وتصعد الطريق الصخريّ إلى القمة‪ ،‬ثم ثتها عن‬

‫ّ‬ ‫رغبتها في النزول إلى المدينة‪ ،‬تو ُّد أن ترى َّ‬ ‫محالها الزجاجية‬ ‫كل ما سمعت عنه ولم َت َره؛ الحدائق الفسيحة‪ ،‬واألسواق بواجهات‬ ‫ً‬ ‫المضاءة‪ ،‬داخلها تلمع األشياء‪ ،‬ورياض األطفال‪ ،‬كما تو ّد أن تركب زورقا‪ ،‬ك ّررت رغبتها في ركوب الزورق مرتين‪ ،‬ابتسمت الفتاة‬

‫وهي تسمع حديث العين‪ ،‬فما أسهل تحقيق مثل هذه الرغبات! ونامت وهي مبتسمة‪.‬‬

‫في الصباح شاركت الفتاة فطورها مع العين‪ ،‬أكلتا في الغرفة‪ ،‬وقبل أن تتوجّ ه إلى المدرسة تركت العين في خزانة المالبس‪،‬‬

‫وأبقت باب الخزانة (مواربًا)‪ ،‬وفي المدرسة لم تمنع نفسها من التفكير في العين‪ ،‬تصوّرتها ُّ‬ ‫تطل من خالل الفتحة الضيقة للستارة‪،‬‬

‫تراقب حركة الناس والمركبات التي تزداد في النهار‪ ،‬وبعد عودتها وضعت العين في حقيبتها‪ ،‬وتوجَّ هت إلى حديقة المدينة‪،‬‬ ‫توصلت إلى حيلة ّ‬ ‫الحديقة أولاً ‪ ،‬حدّ ثت العين وهي تدعوها إلى االقتراب‪ .‬كانت قد ّ‬ ‫تمكنها من حمل العين والتجوال في الشوارع‬

‫بحُ ِّريَّة‪ ،‬ربطتها بخيط وسارت بها‪ ،‬كانت العين ّ‬ ‫ّ‬ ‫تتمشيان وتتحدّ ثان‪.‬‬ ‫تحلق فوقها مثل بالون بحدقة سوداء‪ .‬أخذتا‬ ‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬


‫لم يستغرق وصولهما إلى الحديقة وق ًتا طويلاً ‪ ،‬تجوَّلتا على الممرات المرصوفة وهما تنظران إلى الصغار بشعورهم المتطايرة‬ ‫ً‬ ‫متمهلة حينما دخل‬ ‫وثيابهم المزركشة وهم يتأرجحون‪ ،‬يرتفعون ويهبطون في حركات قوسيّة تتسع وتضيق‪ .‬كانت الفتاة تسير‬ ‫يقودان درَّاجتين هوائيتين‪ ،‬لم تلحظ اندفاعهما على المم ّر‪ ،‬شعرت بهما قريبين منها؛ أحدهما ربط شعره الطويل‬ ‫َّان‬ ‫ِ‬ ‫الحديقة َصبي ِ‬

‫بقطعة قماش ملوّنة‪ ،‬واآلخر يقود درّاجته بإحدى يديه ويلوِّح باألخرى ألحد ما وراءها‪ ،‬م َّرا على جانبيها وخطف أحدهما الخيط من‬

‫يدها‪ ،‬لم تنتبه أول األمر‪ ،‬وربما انتبهت ولم تصدّ ق أنها يمكن أن تفقد العين بمثل هذه السهولة‪ ،‬استدارت من فورها‪ ،‬وركضت‬

‫وراءهما‪ ،‬وحينما رأياها تركض زادا من سرعتيهما وهما يميالن بدرّاجتيهما‪ ،‬كانا يلهوان‪ ،‬ما إن اقتربت منهما حتى أطلق ذو الشعر‬ ‫المربوط الخيط ّ‬ ‫فحلقت العين‪ ،‬نظرت الفتاة نحوها‪ ،‬يدفعها الهواء فترتفع عاليًا‪ ،‬جلست بعدها على أقرب أريكة‪ ،‬يمنعها شعورها‬ ‫باألسف عن رؤية الحديقة وسماع ما يتصاعد حولها من أصوات‪.‬‬

‫لم يم ّر وقت طويل على جلوسها حتى رأت الخيط يتدلى أمام عينيها‪ ،‬رفعت رأسها ورأت العين‪ ،‬وقفت على الفور وهي تقول‪:‬‬

‫ظننتك لن تعودي‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫ابتسمت العين‪ ،‬وقالت‪ :‬لكنني لست بالونا ّ‬ ‫بحق لتطيرني الريح وال أعود‪.‬‬

‫أمسكت الفتاة الخيط من جديد‪ ،‬وعادت ترى الصغار يرتفعون ويهبطون وتسمع أصواتهم‪ ،‬حدّ ثتها العين في أثناء سيرهما عن‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫حدثها العين بها من ُ‬ ‫الرغبة التي لم ُت ِّ‬ ‫ْ‬ ‫متوقع‪:‬‬ ‫وتساءلت؛ كما هو‬ ‫قبل‪،‬‬ ‫الفتاة‬ ‫رغبتها في مشاهدة بنات آوى‪ ،‬استغربت‬ ‫ـ بنات آوى؟‬ ‫أ ّكدت العين رغبتها بلطف‪ ،‬فخجلت الفتاة‪ ،‬ونظرت إلى ساعتها‪ ،‬حدّ ثت نفسها بأن لم َ‬ ‫يبق على موعد إغالق حديقة الحيوان‬

‫أكثر من نصف ساعة‪ ،‬أجابتها العين على الفور كما لو كانت تحدّ ثها هي‪:‬‬ ‫كاف لرؤية بنات آوى‪.‬‬ ‫ـ إنه وقت ٍ‬

‫استغربت الفتاة وخافت وهي تكتشف ألول م ّرة قدرة العين على االستماع إلى صوتها الداخلي‪.‬‬ ‫ركبت الفتاة سيارة أجرة‪ ،‬طلبت من سائقها ذي ُ‬ ‫القبَّعة أن يسرع في سيره‪ ،‬لم يكن‬

‫الطريق مزدحمً ا‪ ،‬فوصلت حديقة الحيوان في أقل من عشر دقائق‪ ،‬كانت العين‬ ‫ً‬ ‫واحدة فهي‪،‬‬ ‫خاللها تواصل النظر عبر نافذة السيارة مغلقة الزجاج‪ ،‬قطعت بطاقة‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫بالونا على هيئة عين بشرية‪.‬‬ ‫محصل البطاقات‪ ،‬لم تكن سوى فتاة تحمل‬ ‫في نظر‬

‫وفي الوقت الذي كانت تسير داخلة رأت كثي ًرا من الناس يسيرون عكس اتجاهها‬ ‫على الممر اآلخر‪.‬‬

‫قالت للعين‪:‬‬

‫ـ يبدو أننا سنكون وَحْ دَ نا في الحديقة‪.‬‬ ‫ردَّت العين‪:‬‬

‫ـ ستكون هناك بنات آوى‪.‬‬

‫أمام القفص الحديديّ الواسع وقفت الفتاة‪ ،‬كانت لوحة التعريف تشير إلى‬ ‫ً‬ ‫فارغا‪ ،‬رأت على أرضه الرملية الجافة‬ ‫بنات آوى بالعربية واإلنجليزية‪ .‬كان القفص‬ ‫ً‬ ‫تجويفا صخريًّا‬ ‫غير النظيفة آثار أقدام تشبه آثار أقدام الكالب‪ ،‬وفي الركن البعيد رأت‬

‫السلكي ونظرت إلى الداخل‪ ،‬لم يم ّر وقت‬ ‫خفيف الضوء‪ .‬اقتربت العين من السياج‬ ‫ّ‬

‫طويل حتى ظهر ابن آوى من التجويف الصخريّ ‪ ،‬تقدّ م‬ ‫بخطوات رشيقة واسعة نحو العين كأنما سمع‬ ‫نداءها هو اآلخر ووقف أمامها‪ ،‬لم يكن يفصل بينهما‬

‫المعدني الصدئة‪ ،‬نظر أحدهما‬ ‫غير أسالك السياج‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫نظرة لم تكن قصيرة أو عابرة‪ ،‬إنهما يعرفان‬ ‫إلى اآلخر‬

‫بعضهما‪ ،‬قالت الفتاة لنفسها‪ ،‬فتح ابن آوى فمه‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ومعقوفة وصفراءَ ‪ ،‬ثم تراجع‬ ‫حادة‬ ‫فبانت أنيابه‬ ‫مواصلاً النظر إلى العين قبل أن ينسحب إلى‬ ‫التجويف الذي صار معتمً ا‪.‬‬

‫‪73‬‬


‫مقال‬

‫الفن سبيلاً إلى الحقيقة‬ ‫االنطباعي‪ ،‬فالثاني انفعال خالص يقود إلى اللذة العَ َرضية وَحْ دَ ها‪ ،‬أما األول‬ ‫التحليلي في الفن خالف حكم التذوق‬ ‫التقدير‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫فيحاول ترجمة المتعة إلى مفاهيم ُتج ّرد المشخص ُ‬ ‫وتجلي مضمونه؛ ألن وجود التجربة ال يستقيم إال إذا كانت قابلة للتعميم‪،‬‬ ‫وذلك شرط من شروط انتشار الذات فيما هو أبعد من ملكوتها الخاص‪ .‬فقد يكون االنفعال فرديًّا دائمً ا‪ ،‬لكنه لن يستقيم إال إذا‬

‫استمد مضمونه من صيغ انفعالية محضة يشترك فيها جميع الناس‪.‬‬

‫لذلك قد يكون بمقدور الفرد االستمتاع بلوحة تعجّ باألشكال واأللوان من دون إدراك مسبق لدالالت ما يُكوِّنها‪ ،‬وقد يكون‬ ‫بإمكانه الطرب ِل ِقطعة موسيقية ليست سوى إعادة تشكيل ما يزخر به الوجود من طاقة «هوائية» خالصة‪ ،‬لكنه إذا أراد أن «ي ِّ‬ ‫ُحلل»؛‬ ‫أي أن يبحث عن س ّر االنفعال و ُك ْنهه‪ ،‬فإنه سيكون مضط ًرا في الحالتين معً ا إلى َتدَ بُّر أمر الدَّالالت في ُ‬ ‫األولى‪ ،‬وتحديد طبيعة‬ ‫العالقات الممكنة بين كل العناصر المسؤولة عن تحول «الهواء» إلى إيقاع تستمتع به األذن‪ ،‬في الثانية‪ .‬فقد َّ‬ ‫يتلذذ اإلنسان بطاقة‬

‫انفعالية حدسية ال حدود لها‪ ،‬ومع ذلك لن يكون بإمكانه‪ ،‬في غياب معرفة تقود إلى التع ُّرف إلى الشكل التجريديّ للخبرة‪ ،‬مراكمة‬

‫خبرة جمالية قابلة للتداول بين جميع الناس‪.‬‬

‫جمالي يضع الفنّ خارج كل الدوائر سوى دائرة المتعة ذاتها‪،‬‬ ‫تلك فيما يبدو هي الحدود الفاصلة بين ما يُص ّنف ضمن وعي‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫وبين النظر إليه بوصفه مصدرًا من مصادر الحقيقة؛ أي بين ر ّد الفنّ إلى الفنّ ذاته‪ ،‬خارج كل الوظائف‪ ،‬وبين جعله أداة إلنتاج‬

‫‪74‬‬

‫ٌ‬ ‫سبيل واحدٌ إلى الحقيقة‪ ،‬هناك سُ بُل متعددة تقود إليها‪ ،‬ومنها سبيل الفن ذاته؛ بل إن‬ ‫الحقائق وتداولها (غادامير)‪ .‬فليس هناك‬ ‫َ‬ ‫أعمق بكثير مما يمكن أن تفرزه المخابر العلمية؛ ألن الفن ليس تجربة ِع ْلمية «باردة» تجري بعيدً ا من‬ ‫ما يأتي من الفن قد يكون‬

‫دفء الحياة وتعدُّ د واجهاتها‪ ،‬بل هو خبرة إنسانية عامة يمكن تلمُّ س وجودها في كل ما ينتجه الفرد ويتقاسمه مع غيره خارج‬

‫النفعي‪.‬‬ ‫إكراهات اإلبالغ‬ ‫ّ‬ ‫نحن مشدودون إلى ما يأتينا من الطبيعة أو ما يفرزه وجودنا داخلها‪ ،‬ففي حاالت الفنّ وَحْ دَ ه نستطيع خلق حالة تقودنا‬ ‫تماس مباشر‬ ‫إلى امتالك ما يَمْ ُثل في العين «حافيًا» بال تداعيات سوى تداعيات الوجود الماديّ ذاته‪ ،‬إنها حالة خاصة تشير إلى‬ ‫ّ‬

‫العيني وتمثل ال ُّروح المطلقة في ذاتها بوصفها المثل األعلى»‪ ،‬أو ما يطلق عليه كانط‬ ‫مع األشياء‪ ،‬ما كان يسمّ يه هيغل «العيان‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫الحسي‬ ‫خالصا‪ ،‬يُنظر إليه كما يمكن أن يتلقاه الرائي خارج كل الوسائط»‪ ،‬أو هو‪« :‬عرض للكمال‬ ‫«اإلحساس الذي يُعدّ معطى‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫تتحقق إال في االنفعال‬ ‫مجتمعة بما يشبه «التجربة الحية» التي ال يمكن أن‬ ‫ذاته»‪ ،‬كما يقول شنايدر‪ .‬يتعلق األمر في هذه الحاالت‬

‫والمتعة والنشوة‪ ،‬وكل ما يقود إلى الضياع أو التالشي في لحظة تتحقق خارج الزمنية المألوفة‪.‬‬ ‫بعبارة أخرى‪ ،‬نستطيع من خالل الفنّ أن نعيد إلى النفس طاقتها اإلبداعية ُ‬ ‫الحسي فيها‪.‬‬ ‫األولى كما يمكن أن تتحقق من خالل‬ ‫ّ‬ ‫ففي البصريّ ‪ ،‬وفي كل المنافذ الحسية ً‬ ‫أيضا‪ ،‬نضع الذات في مقابل ما يأتيها من خارجها في استقالل عما يمكن أن تقوله اللغة أو‬ ‫ُتوحي به‪ .‬فالعين تذهب إلى موضوع نظرتها متح ّررة من كل أغطية الوجود سوى غطاء النظرة ذاتها‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫العنان لطاقات ه َووَية تعوزها الضوابط المرجعية‪ ،‬ومنها مرجعية‬ ‫محض أدا ٍة‬ ‫وهو ما يَعْ ني أن الفنّ لن يكون‬ ‫الغاية منها إطالق ِ‬

‫جمالي يمكن استيعابه داخل ممكنات تجربتنا (الحياتية)‪ ،‬فخارج هذه التجربة‬ ‫الفضيلة والحقيقة‪ .‬إنه في األصل إحالة إلى موضوع‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫الحواس من خالل‬ ‫ستضيع الحقيقة‪ ،‬وتتساوى كل المعاني‪ .‬فكما ُنهذب الوجود من خالل صبّه في مفاهيم اللغة‪ ،‬فإننا نهذب‬ ‫ّ‬ ‫التص ُّرف في معطيات الطبيعة‪ ،‬مصدر االنفعال واألحاسيس َ‬ ‫ّ‬ ‫الحسي‬ ‫نمتص من‬ ‫جمالي محض‪ .‬إننا‬ ‫األوَّلية‪ ،‬وتحويلها إلى موضوع‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ذاته صورة عن طاقة فنية ُت ِّ‬ ‫ً‬ ‫أيضا‪-‬‬‫بالجمالي في الوجود‪ ،‬بل نتعلم من خالله‬ ‫خلص العينَ من حسيتها؛ لذلك ال نكتفي باالستمتاع‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الفخار والتماثيل الصغيرة وبقايا‬ ‫أشياء جديدة هي ما تكشف عنه التجربة الفنية‪ ،‬وتصف حدوده داخل االنفعاالت وَحْ دَ ها‪ .‬فأواني‬ ‫ً‬ ‫محضا من وجود اإلنسان على األرض‪ ،‬بل هي شاهدة على مضافات اإلنسان إلى الطبيعة؛‬ ‫الرسوم على جدران الكهوف ليست جزءً ا‬

‫أي كشف عن حقيقة وجدانه‪ ،‬وهو يحاول رسم أحاسيس‪ ،‬ال يمكن أن تستقيم إال في حضن عناصر الطبيعة ذاتها‪.‬‬ ‫إن الفن‪ ،‬استنادًا إلى ذلك‪ ،‬ليس إحالة إلى ذاتيَّة مُ نفلِتة من ِع َقالها ال تهتمّ سوى بما يفرز انفعاالت محدودة في الزمان وفي‬ ‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬


‫المكان‪ ،‬إنه تجربة إنسانية عامة‪ ،‬وال ّ‬ ‫تشكل داخله الذاتية سوى جزء‬

‫بسيط‪ ،‬هو ما يعود إلى مهارة المُ بدع وقدرته على التنويع ضمن ما‬ ‫إنساني‬ ‫تختزنه أشكال كونية‪ ،‬تبلورت ونمت داخل سقف حضاريّ‬ ‫ّ‬ ‫مرتبط بالكينونة ذاتها‪ .‬وهو ما تكشف عنه كل التجارب الفنية بكل‬ ‫(أسنادها) التعبيرية‪ ،‬لقد ّ‬ ‫تعلمنا معنى الجوع والجريمة والعقاب‬

‫ّ‬ ‫والتسلط من نصوص استوطنت ذاكرتنا‪ ،‬وس ّربت إليها نماذج‬ ‫والنفي‬

‫سلوكية لم يكن بإمكاننا إدراك مضمونها لوال هذه التجربة‪.‬‬

‫بل أدركنا س ّر االنطالق واالندفاع إلى أمام (كلي) كما يمكن أن‬

‫يستثيره «القلق» الذي يسكننا ويقودنا دائمً ا إلى المستقبل الحاضن‬ ‫الحتمي‪ ،‬حيث انكماش الجسد وضموره وتراجع القوة فينا‪،‬‬ ‫لفنائنا‬ ‫ّ‬

‫وحيث الموت والنهاية في وجودنا ال في الزمن‪ .‬فهَمُّ الحيا ِة وهمُّ‬ ‫وكل الهموم ال تتسرب إلى ْ‬ ‫ُّ‬ ‫النفس ضمن ما ِّ‬ ‫تقدمه التجربة‬ ‫الموت‬ ‫ِ‬

‫كثير من الحاالت صورًا‬ ‫االنفعالية المباشرة دائمً ا‪ ،‬بل تستوطن في‬ ‫ٍ‬ ‫كثير من الحاالت تحديد مضمونها‬ ‫ش ّتى تحيل إلى عوالم يصعب في‬ ‫ٍ‬ ‫خارج تجربة الفن‪.‬‬

‫وهو أمر ينطبق على ما يشكل حاالت األهواء عندنا ً‬ ‫أيضا‪ ،‬فنحن‬ ‫ً‬ ‫انطالقا من «كلمات» بسيطة تصف‬ ‫ندرك مضمون هذه االنفعاالت‬

‫سعيد بنكراد‬ ‫ناقد ومترجم مغربي‬

‫‪75‬‬

‫العاشق والمعشوق والحاقد والحاسد والبخيل والغيور من دون أن‬

‫نكون بالضرورة واحدً ا من هؤالء أو نكون جميعهم‪ .‬مواقف كثيرة في‬ ‫التاريخ ال يزال الناس يردّدونها دَاللة على وَحْ دة الخبرة اإلنسانية‪،‬‬

‫ثقافي إلى آخر‪ ،‬وهي خبرة ال تكترث‬ ‫وقدرتها على الهجرة من سياق‬ ‫ّ‬ ‫الثقافي‪.‬‬ ‫في األغلب للحدود الجغرافية أو السقف‬ ‫ّ‬ ‫وهي صيغة أخرى للقول‪ :‬إن الفن خبرة قابلة للتعميم استنادًا‬

‫الالمرئي‬ ‫إلى ما كان يسمّ يه غادامير «الحس المشترك»‪ ،‬ذلك اإلرث‬ ‫ّ‬ ‫الذي يجمع بين كل الكائنات التي خرجت على طوع الطبيعة؛‬

‫ّ‬ ‫الخاص‪ .‬إن محدودية اإلنسان وتاريخيته تجعل‬ ‫لتكتب تاريخها‬

‫نحن مشدودون إلى ما‬ ‫يأتينا من الطبيعة‪ ،‬أو ما‬

‫تجربة الفن ضرورة (حياتية)؛ ألنها هي ما تمكنه من استيعاب كل‬

‫يفرزه وجودنا داخلها؛‬

‫الواقعي‪ .‬فنحن‬ ‫حريتنا ونتخلص من إكراهات هي من صلب وجودنا‬ ‫ّ‬

‫الفن َو ْح َده‬ ‫ففي حاالت‬ ‫ّ‬

‫التجارب الممكنة من خالل تجربة واحدة‪ .‬إننا من خالله نستعيد‬ ‫ال نكترث كثي ًرا لعبثية المضمون الظاهر لألسطورة؛ ألن المضمون‬

‫المشخص فيها ليس سوى مم ّر إلى «حقيقة» تتبلور في الرمز وفي‬ ‫كل التمثيالت االستعارية‪.‬‬

‫وفي جميع هذه الحاالت‪ ،‬فإن األمر ال يتعلق بتجربة تستنسخ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تحذر منه‪ .‬بعبارة‬ ‫وتحث عليه‪ ،‬أو‬ ‫تتوقع اآلتي‪،‬‬ ‫حياة جاهزة‪ ،‬بل‬

‫أخرى‪ :‬إن الفن ال يقف عند حدود «استنساخ واقع‪ ،‬إنه يغطي على‬

‫مظاهر النقص فيه»‪ ،‬كما يعبر عن ذلك كاندينسكي‪ .‬فهناك دائمً ا‬ ‫«في تجربة الفنّ تقابُل بين ما يشير إلى االنصهار في الواقع‪ ،‬وبين ما‬

‫يُعَ دّ سيطرة عليه في الوقت ذاته» (إرنست فيشر)‪.‬‬

‫نستطيع خلق حالة تقودنا‬ ‫إلى امتالك ما َي ْم ُثل في‬ ‫«حافيا» بال تداعيات‬ ‫العين‬ ‫ً‬ ‫سوى تداعيات الوجود‬ ‫المادي ذاته‬


‫حوار‬

‫عبدالعزيز المقالح‪:‬‬ ‫من يدعو إلى الحرب ال عالقة له باإلنسانية‪..‬‬ ‫والمتحاربون في اليمن تخلوا عن كل حكمة !‬

‫‪76‬‬

‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬


‫حاوره في صنعاء ‪ :‬محمد عبدالوكيل جازم‬

‫اليمني الكبير عبدالعزيز المقالح‪ ،‬في شعره وكتاباته النقدية والفكرية واألدبية‪ ،‬كثيرًا من‬ ‫يختزل الشاعر‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫أيضا‪ -‬في إنقاذ‬‫الجمعي‪ ،‬يسهم‬ ‫ذاكرة األمة؛ لذلك فإن الحديث معه بقدر ما يسهم في تشكيل الوعي‬ ‫ّ‬

‫ذاكرة األمة من الضياع‪ ،‬ولعلنا ال نبالغ إذا قلنا‪ :‬إنه اليوم يعد إحدى المحطات اإلبداعية التي سيتوقف‬

‫التاريخ أمامها كثيرًا؛ بسبب إثرائه المكتبة العربية بالعشرات من كتبه ومؤلفاته‪ .‬ولن ينسى الباحثون‬

‫األكاديمي؛ لما تميز‬ ‫العربي التعويل على منجز هذا الشاعر والناقد والباحث‬ ‫والمهتمون باألدب والفكر‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫به من تنوع في الفكر‪ ،‬وخصوبة في اللغة‪ .‬في حوار «الفيصل» معه‪ ،‬يكشف عبدالعزيز المقالح‪ ،‬كما‬

‫في أي كتابة جديدة له‪ ،‬عن قدرة في التجديد‪ ،‬ولياقة فكرية متفردة‪ ،‬في مقارباته للعديد من القضايا‬ ‫ّ‬ ‫تخص اللحظة الراهنة في الشعر واألدب والفكر‪ ،‬والسياسة كذلك‪.‬‬ ‫والموضوعات التي‬ ‫ً‬ ‫أوضاعا مأساوية‬ ‫بما أننا في اليمن وسواها‪ ،‬نعيش‬ ‫حرو ًبا وصراعات؛ أتساءل هنا‪ ،‬هل سبق أن عاشت األمة‬ ‫العربية مثل هذه المرحلة؟‬

‫‪ -‬إذا كنت تقصد المرحلة الراهنة فال؛ ألنها مرحلة‬

‫غير مسبوقة في تاريخ العرب القديم والحديث‪ ،‬مرحلة‬ ‫وصل األمر فيها إلى الحد الذي يقتل فيه االبن أباه واألخ‬

‫‪77‬‬

‫أخاه في معارك عبثية‪ ،‬يضاف إلى ذلك انتشار الطوائف‬ ‫والمذاهب وخروج األحقاد من قماقم التاريخ من دون‬

‫إحساس بالفظاعة‪ ،‬أو شعور بالمسؤولية‪ ،‬أو حساب للعالم‬ ‫ً‬ ‫شرقا وغربًا‪ ،‬وفيه أعداء يتربصون بهذه األمة‪،‬‬ ‫الذي حولنا‬

‫ويحملون في نفوسهم كثي ًرا من الحقد لها ولتاريخها‪،‬‬ ‫وقد جاءت الفرصة المناسبة‪ ،‬وصار كل شيء مُ هيَّأً لهم‬ ‫ولمصالحهم‪ ،‬ونحن من دون مبالغة نعيش في أوضاع ال‬

‫تكاد تختلف عما كانت عليه في زمن ملوك الطوائف في‬ ‫األندلس قبل االنهيار األخير‪.‬‬

‫أعجبني تفسيرك حديث الرسول صلى الله عليه‬

‫وسلم‪« :‬اإليمان يمان‪ ،‬والحكمة يمانية ‪»...‬؛ فأين تكمن‬

‫اليوم الحكمة اليمانية؟‬

‫‪ -‬مَ ن يُتابع األحداث الجارية اليوم في البالد‪ ،‬ثم من كان‬

‫ينظر قبل ذلك إلى الصراعات الدائرة بين القوى السياسية؛‬

‫يدرك أين سوف تصل األمور بهذا البلد الموصوف باإليمان‬ ‫والحكمة‪ ،‬الذي َّ‬ ‫تخلى المتصارعون من أبنائه عن كل حكمة‪،‬‬ ‫ولم يحسبوا لهذا الوطن حاضره ومستقبله أيّ حساب‪،‬‬

‫وهناك من يرى أن الرسول الكريم عليه الصالة والسالم كان‬ ‫ً‬ ‫أيضا‪ -‬الصناعة‪ ،‬فقد كان اليمنيون يجيدون‬‫يعني بالحكمة‬ ‫الصناعات المحلية‪ ،‬وكانوا ماهرين في صناعة السيوف‪،‬‬

‫بورخيس‬

‫نيتشه‬

‫ونسج البرود‪ ،‬والتفوق في المعمار‪ ،‬وهندسة الريّ ‪،‬‬

‫فاستحقوا لقب الحكمة‪.‬‬

‫بعد عام ‪1967‬م ظهر نوع من األدب َّ‬ ‫سماه النقاد أدب‬ ‫ِّ‬ ‫ً‬ ‫دائما أن نوثق النتكاساتنا أم ماذا؟‬ ‫ما بعد النكسة؛ أعلينا‬ ‫‪ -‬كان علينا أن نتجاوزها ال أن نوثق لها فقط‪ ،‬ونبقى‬

‫في مناخها المعتم نجت ّر أحزاننا وانكساراتنا كأننا الشعب‬ ‫الوحيد في األرض الذي أصابته الهزيمة بجروح دامية وما‬ ‫ً‬ ‫يفرض الوقوف عند هزيمة ‪1967‬م‪ ،‬إنها كانت‬ ‫بداية لهزائمَ‬

‫وانتكاسات أشدّ خطورة وأصعب استيعابًا‪ ،‬وألن األنظمة‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫المعنيَّة لم تحسن الرد والتعامل فقد استم َّرت الهزيمة تحفر‬

‫العربي‪ُ ،‬‬ ‫وتهيِّئه ل َِقبول المزيد من الخذالن‬ ‫في صدر اإلنسان‬ ‫ّ‬

‫واالنكسار‪.‬‬

‫هناك مقولة لـنيتشه ‪« :‬إن الحرب فرصة لإلنسان األعلى‬

‫لعرض البطولة والشرف والفضائل»؛ كيف ترى ذلك؟‬

‫األلماني‬ ‫ لقد اتهم المثقفون األوربيون هذا الفيلسوف‬‫َّ‬


‫حوار‬

‫بأنه واحد من فالسفة التحضير للحرب‪ ،‬وأنه لِمَ ا كان يروِّجه‬

‫من أفكار للحرب قد ساعد على ظهور الطاغية النازي أدولف‬ ‫ً‬ ‫مليونا من‬ ‫هتلر الذي عمل على تدمير ألمانيا وأوربا وقتل ‪60‬‬

‫أبنائها في حربه الخاسرة‪ ،‬التي افتقدت كل معاني البطولة‬ ‫والشرف‪ ،‬ولم تحقق سوى الموت والدم والرعب؛ ُّ‬ ‫كل مَ ن‬ ‫يدعو إلى الحرب ال عالقة له باإلنسان وال باإلنسانية؛ لِمَ ا‬

‫يترتب عليها من ضحايا‪ ،‬وتدمير اإلمكانات‪ ،‬وجناية فادحة‬ ‫على األبرياء والنساء وكبار السن الذين هم وقود الحروب‪.‬‬

‫إلينا في السجن المنيع‪ ...‬وكنا نحظى‬ ‫بالمناقشات التي تدار حول كتب جبران‬ ‫والرافعي وطه حسين‬ ‫َّ‬ ‫المؤكد أن الشاعر يتأثر بما يحدث حوله؛ ماذا‬ ‫مِ ن‬

‫يقولون‪ :‬إن األحداث الحالية قزمت دور المثقف إلى‬ ‫الدرجة التي غاب فيها صوته‪ ،‬وفي المقابل َع َل ْ‬ ‫ت أصوات‬

‫‪ -‬أعتقد أن كل البشر مع استثناءات قليلة‪ -‬يتأثرون‬

‫‪ -‬هذه واحدة من الحقائق التي ال تحتاج إلى برهان أو‬

‫ما يحدث وما تفرضه الحياة عليهم‪ ،‬وما يكتبونه من شعر‬

‫الدبابات والصواريخ والمدفعية ‪ ...‬أين صوت المثقف؟‬

‫يمكن أن يفعل الشاعر تجاه ما يحدث؟‬

‫بما يحدث لهم وحولهم‪ ،‬والشعراء أكثر حساسية تجاه‬

‫العربي قد عاش حالة‬ ‫دليل إلثبات صحتها‪ ،‬وإذا كان المثقف‬ ‫ُّ‬ ‫ً‬ ‫بعضا من‬ ‫من التجاهل في زمن السلم‪ ،‬فكيف له أن يأخذ‬

‫يصفهم النقاد بـ«الشكالنيين» الذين يكتبون –كما يقولون‪-‬‬

‫بعض االستثناءات في هذا المجال‪ ،‬لكنها تبلغ من الفرادة‬

‫شعرهم من هذا التأثر‪ ،‬والمجال ال يتسع إليراد أمثلة أو‬

‫حقه في التعبير والمشاركة في زمن الحرب؟ ويمكننا رؤية‬

‫والمحدودية حدًّ ا يجعلها غير قادرة على منافسة الصاروخ أو‬

‫المدفع‪ ،‬أو تحقيق أدنى نجاح في إثناء القذائف عن االنطالق‬

‫‪78‬‬

‫كانت بعض الكتب الحديثة تجد طريقها‬

‫إلى غير موضعها الصحيح‪.‬‬

‫ما الموضوعات التي تشغلك اليوم؛ فقد قرأنا في‬

‫يعكس ذلك التأثر ويعبّر عنه‪ ،‬حتى هؤالء الشعراء الذين‬ ‫شع ًرا صافيًا خاليًا من مؤثرات الحياة وردود أفعالها‪ ،‬ال يخلو‬ ‫نماذج على ذلك‪.‬‬

‫هل استطاع الشاعر أن يكون متفائلاً ؟‬

‫‪ -‬التفاؤل والتشاؤم وجهان لعملة الحياة المعاصرة‪،‬‬

‫أو بعبارة أخرى حالتان تتعايشان جنبًا إلى جنب في حياة‬

‫األسبوعي مقالة ألحد الكتاب العرب‪،‬‬ ‫(مقيل) الثالثاء‬ ‫ّ‬ ‫تحدث فيها عن الموضوعات الرئيسة التي تشغل الشعراء‬

‫عالية من اإلحساس بما يحدث في الواقع؛ وما يلفت‬

‫ً‬ ‫إنسانا ينتمي إلى‬ ‫‪ -‬كثي ٌر هي الهموم التي تشغلني بوصفي‬

‫حد السذاجة‪ ،‬وآخرين يصل بهم التشاؤم إلى حد اليأس‬

‫الكبار؛ أنت بماذا تنشغل؟‬

‫هذا المكان من العالم الملتهب‪ ،‬والمليء بالمتناقضات‪ ،‬وما‬

‫تفرزه من تطورات عملية‪ ،‬ومن حروب وصراعات مدمرة‪،‬‬ ‫أما بوصفي شاع ًرا فإن أهم قضية شغلتني وستظل تشغلني‬ ‫هي موضوع الحرية‪ ،‬هذا الغائب في الواقع‪ ،‬والحاضر في‬

‫األحالم‪ ،‬الذي كان وجوده بالشكل‬ ‫اإليجابي ال الفوضويّ‬ ‫ّ‬ ‫شعوب األرض‪ ،‬ونحن في مقدمتها‪ ،‬من هذا‬ ‫كفيلاً بأن يُخرج‬ ‫َ‬ ‫النفق الذي كانت له بداية وال تلوح له نهاية‪.‬‬

‫«الربيع العربي» سبق وقته؛ لذلك‬ ‫أجهض أحالم التغيير‪ ،‬وكشف عن عجز‬ ‫القوى السياسية‪ ،‬وعن تخلف عميق‬ ‫في الرؤى والممارسات‬

‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬

‫اإلنسان الواحد‪ ،‬وبخاصة إذا كان هذا اإلنسان على درجة‬ ‫االنتباه إليه أن هناك ً‬ ‫نوعا من الناس يصل بهم التشاؤم إلى‬

‫والقنوط‪.‬‬ ‫َ‬ ‫والتفاؤل ليس قدَ ر المثقف وحده‪ ،‬لكنه قدر كل إنسان‬

‫يحلم بحياة راقية وجميلة‪ ،‬وقد كان األنبياء والمصلحون عبر‬ ‫التاريخ أكثر البشر تفاؤلاً وإصرارًا على أن أجمل األيام هي‬ ‫تأت بعد‪ ،‬ولوال هذا النوع من التفاؤل َلكانت الحياة‬ ‫التي لم ِ‬ ‫أسوأَ مما هي عليه‪.‬‬

‫َ‬ ‫ً‬ ‫رئيسا لجامعة صنعاء‪ ،‬وتعمل‬ ‫كنت في السابق‬

‫اليمني‪ ،‬وترأس‬ ‫اليوم في رئاسة مركز الدراسات والبحوث‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫أسسته في صنعاء؛ َو َ‬ ‫َّ‬ ‫صفك جابر‬ ‫اللغوي الذي‬ ‫المجمع‬ ‫عصفور في إحدى كتاباته بأنك باني النهضة التعليمية‬ ‫في اليمن‪ ،‬وقال‪ :‬إن دورك في اليمن يشبه إلى حد كبير‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫كنت قريبًا‬ ‫تصورك وقد‬ ‫دور طه حسين في مصر؛ في‬

‫من مفاصل السياسة التعليمية؛ أين يكمن الخلل الذي‬ ‫َّ‬ ‫خلف كل هذا الدمار؟‬


‫عبدالعزيز المقالح‬

‫ أشكر صديقي وزميلي الدكتور جابر عصفور على هذا‬‫ً‬ ‫الوصف الذي أعت ُّز به وإن لم ُ‬ ‫أكنْ‬ ‫خليقا به وال في مستواه‪.‬‬

‫والفارق كبير بين دوري المتواضع وبين دور طه حسين؛ بين‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫وأتذكر أن الدكتور‬ ‫صادقا ال متواضعً ا‪،‬‬ ‫مصر واليمن‪ ،‬أقولها‬

‫جابر كان دائمً ا يقول لي في أثناء دراساتي العليا بالقاهرة‪:‬‬

‫إن عليك يا عبدالعزيز دورًا كبي ًرا في اليمن‪ ،‬وينبغي لك أن‬ ‫تستعدّ لذلك من اآلن‪ ،‬وألاَّ تتوقف عند تشجيع المبدعين‪،‬‬

‫ومتابعة أعمالهم اإلبداعية‪ ،‬وهو ما دفعني إلى االلتحاق‬

‫طه حسين‬

‫بجامعة صنعاء‪ ،‬والعمل مع كثير من الزمالء األصدقاء على‬

‫توسيع النشاط في مجال التعليم العالي‪ ،‬ونشر الجامعات‬ ‫في كثير من المحافظات في شمال الوطن‪ ،‬قبل أن تتحقق‬

‫الوَحْ دة اليمنية‪ ،‬وتتسع مساحة الوطن‪ ،‬ومساحة الهموم‬

‫التعليمية‪.‬‬

‫جبران‬

‫استم َّرت الهزيمة تحفر في صدر‬ ‫العربي‪ ،‬وتُه ِّيئه ل َِقبول‬ ‫اإلنسان‬ ‫ّ‬ ‫المزيد من الخِ ْذالن واالنكسار‬

‫لدي ثقة مطلقة أنك َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫الحب في طفولتك‪ ،‬لكن‬ ‫تعلمت‬

‫كيف استطعت اإلمساك به كل هذه السنوات‪ ..‬وقد رأينا‬

‫كيف انسابت تجربتك الشعرية في دواوينك األخيرة؛‬

‫وكان اسم حجة يثير الرعب في نفوس اليمنيين لِمَ ا تناقلته‬

‫كتاب الحب‪ ،‬وكتاب األصدقاء‪ ،‬وكتاب المدن‪ ،‬وكتاب‬ ‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫كنت توثق سيرتك الذاتية شع ًرا أ ْعني‬ ‫صنعاء‪ ،‬كأنك‬ ‫ْ‬ ‫جذور تجربتك؛ هل ُولدت من الحياة والمعاناة‪ ،‬أم من‬

‫في الثانية عشرة من عمري‪ ،‬ال أعرف شي ًئا عن هذا التاريخ‬

‫الحب بمعناه الواسع ال يرتبط بمرحلة معينة من‬ ‫‬‫ُّ‬

‫وأهلها طيبين‪ ،‬وحين يصفو الجو تستطيع رؤية شاطئ‬

‫القراءة والكتب؟‬

‫األنباء عن مئات السجناء الذين حصدهم الموت‪ ،‬ولما‬ ‫ُ‬ ‫كنت‬ ‫شهدته من مذابح شهداء ثورة ‪1948‬م‪ ،‬وعندما دخل ُتها‬ ‫الدامي‪ ،‬وكان ذلك في فصل الصيف وقد وجدتها خضراءَ‬

‫مراحل عمر اإلنسان‪ ،‬وهو كل العمر لإلنسان‪ ،‬ونحن منذ‬

‫البحر األحمر بالعين المجردة‪ ،‬كان والدي من سجنائها‬

‫الحي‪ ،‬ثم تتسع دائرة‬ ‫ونحب زمالءنا في المدرسة وفي‬ ‫ّ‬ ‫الحب لتشمل األرض والناس واألشجار والموسيقا وأشكال‬

‫أن يكون أبناؤهم بالقرب منهم؛ لإلشراف على تعليمهم‪،‬‬

‫الطفولة نحب الله ونحب أمهاتنا وآباءنا وإخوتنا وأخواتنا‪،‬‬

‫المعرفة‪ ،‬ومن دون الحب تكون الحياة ضامرة يابسة ال‬ ‫ّ‬ ‫تستحق أن ُتعاش‪ ،‬وقد ال تختلف عن حياة‬ ‫معنى لها وال‬

‫السياسيين‪ ،‬وكان بعض هؤالء السجناء يحرصون على‬

‫وقد وجدت نفسي في المدرسة المتوسطة‪ ،‬وبعدها في‬ ‫المدرسة العلمية‪ ،‬فلم تكن في البالد يومئذ مدارس ثانوية‬ ‫سوى مدرسة في صنعاء ومدرستين في تعز والحديدة‪ .‬كان‬

‫الحيوان الذي يولد ويأكل ويشرب ويموت‪ .‬الحب‪ ،‬وأكرر‬

‫وجود األحرار داخل السجن وتحت اإلقامة الجبرية خارج‬

‫ِّ‬ ‫والتحدي‪ ،‬ويمكننا من تجاوز الصعوبات‬ ‫على المواجهة‬

‫من المعارف‪.‬‬

‫بمعناه الواسع‪ ،‬يمنحنا الرغبة في البقاء‪ ،‬ويمدنا بالقدرة‬ ‫والمنغصات‪ ،‬كما يُح ِّررنا من االكتئاب ومن وحشة الفراغ‬

‫الداخلي وخواء الوجدان‪.‬‬ ‫ّ‬

‫السجن‪ ،‬وهم من األدباء والعلماء والفقهاء فرصة للتزود‬ ‫وكان بعضهم قد غامر بتدريسنا في المدرسة العلمية‪،‬‬

‫وبفضلهم انفتحت أمامنا آفاق ما كان لنا أن ندركها أو نقترب‬

‫منها‪ ،‬وكانت بعض الكتب الحديثة تتسلل إلى ذلك السجن‬

‫ً‬ ‫دائما تتحدث عن مدينة حجة‪ ،‬هذه المدينة التي‬

‫المنيع وتجد طريقها إلينا‪ ،‬وكنا نحظى بالمناقشات التي تدار‬

‫‪ -‬حجة مدينة صغيرة على رأس جبل شاهق‪ ،‬وربما‬

‫جذور ثقافتي وساعدتني بما قرأته فيها من كتب عندما‬

‫ِّ‬ ‫تشكل إحدى المحطات المهمة في حياتك المبكرة؛ ماذا‬ ‫َت ْعني لك هذه المدينة؟‬ ‫تحولت من قرية إلى مدينة في عهد األتراك الذين بنوا‬ ‫فيها كثي ًرا من القالع والثكنات العسكرية‪ ،‬وكانت في عصر‬

‫اإلمامين يحيى وأحمد سج ًنا لألحرار والخارجين على الحكم‪،‬‬

‫حول كتب جبران خليل جبران والرافعي وطه حسين‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫تشكلت فيها‬ ‫لقد كانت حجة مدرسة أولى في حياتي‬ ‫التحقت بالجامعة في مصر‪ ،‬وأدركت أنني كنت قد استوعبت‬

‫كثي ًرا من المقررات في النحو وتاريخ األدب‪ ،‬وأبرز رجاالته في‬

‫القديم والحديث‪.‬‬

‫‪79‬‬


‫حوار‬

‫أنت تحب صنعاء‪ ،‬وتعشقها إلى درجة أنك ال‬ ‫تحب أن تغادرها إلى ّ‬ ‫أي مكان في العالم؛ كيف انبثقت‬

‫صنعاء من مخيلتك؟‬

‫‪ -‬عالقتي بصنعاء تعود إلى لحظة دخولي إياها ذات‬

‫ظهيرة ساحرة مشمسة‪ ،‬كنت قادمً ا إليها من الريف البعيد‬ ‫طفلاً صغي ًرا في السادسة‪ ،‬وكانت بمآذنها وقصورها تنمو‬ ‫تحت ضوء النهار‪ ،‬وما تعكسه شرفات البيوت العالية‬ ‫ولمعان زجاج نوافذها من ألوان وإشعاعات انطبعت في‬

‫ذهني الصغير‪ ،‬وظلت عالقة بنفسي حتى اآلن‪.‬‬

‫جورج طرابيشي‬

‫مصطفى الرافعي‬

‫وكما أدهشني معمار المدينة وتناسق األحياء‪ ،‬فقد‬

‫أدهشني ما كان يتمتع به أبناؤها واألطفال خاصة من‬ ‫ّ‬ ‫أخالقيات رفيعة‪ ،‬وما يظهرونه من ُو ّد غير‬ ‫متكلف للقادمين‬ ‫إليها من جنوبها وغربها‪ .‬لقد كنت في كل يوم أقضي جزءً ا‬

‫من الوقت فوق سطح المنزل العالي الذي استأجرته‬ ‫ُ‬ ‫العائلة؛ لكي أستمتع بمنظر المآذن والقصور‪ ،‬وأُ ُّ‬ ‫طل على‬ ‫الحقول والمساحات الخضراء التي تحيط بالمدينة‪ ،‬وفي‬

‫الجهة الشمالية منها على وجه الخصوص‪.‬‬

‫‪80‬‬

‫نعيش مرحلة يقتل فيها األخ أخاه في‬ ‫معارك عبثية‪ ...‬وتخرج األحقاد من قماقم‬ ‫التاريخ من دون إحساس بالفظاعة‬

‫العربي ً‬ ‫أيضا‪.‬‬ ‫المستوى‬ ‫ّ‬

‫حياة الشعراء والكتاب مليئة بالمغامرات والمخاطر‪،‬‬

‫العربي أنك من أهم الشعراء العرب‬ ‫الحظ القارئ‬ ‫ّ‬ ‫الكبار الذين َت َتبَّعوا تجارب الشباب في الجزيرة العربية‬

‫يستطيع الكاتب وحده نقلها إلينا‪ ،‬وهذه الخبرة يحتاجها‬

‫توسمت في‬ ‫ أستطيع القول‪ :‬إن نسبة عالية ممن‬‫َّ‬

‫‪ -‬على األجيال الجديدة أن تخاطر وتغامر وتكتسب‬

‫استطاعوا بمواهبهم ودأبهم الوصول إلى ما كنت أتمنى‪،‬‬ ‫والقلة القليلة التي َّ‬ ‫تخلفت من أولئك الشباب تتألف ممن‬

‫الذين يستفيدون من تجارب اآلخرين‪ ،‬وكما أن لكل جيل‬ ‫أخطاءه وحسناته وأسلوبه في خوض غمار الحياة‪ ،‬فإن عليه‬

‫الوليدة‪ .‬والحق أن الوطن هو المحظوظ بهذا العدد من‬

‫لي من خبرة أو ُّد نقلها إلى الجيل الجديد من المبدعين‪ ،‬فهي‬

‫العربي؛ كيف تنظر اليوم إلى كتاباتهم؟‬ ‫والوطن‬ ‫ّ‬

‫ً‬ ‫إرهاصا بمشاريع إبداعية متميزة قد‬ ‫بداياتهم األولى‬

‫شغلتهم الحياة ومشكالتها المختلفة عن رعاية المواهب‬ ‫المبدعين في مجال الشعر والرواية والقصة والدراسات‬

‫النقدية‪ ،‬ولوال الظروف السياسية العرجاء‪ ،‬وما رافقها‬ ‫من اختالل في البنية االجتماعية والثقافية؛ َلصا َر لهم‬ ‫المحلي فحسب‪ ،‬بل على‬ ‫شأن كبير‪ ،‬ليس على المستوى‬ ‫ّ‬

‫ومع مرور الوقت تشكل هذه المخاطر خبرة غير عادية‪،‬‬

‫الجيل الجديد؛ ما الخبرة التي تريد نقلها إلى األجيال؟‬

‫تجربتها من خالل ما تتعلمه من الحياة‪ ،‬وما أقلهم أولئك‬

‫لتفت إلى ما قاله مَ ن سبقه‪ ،‬وإذا كان‬ ‫أن يشق طريقه غير مُ‬ ‫ٍ‬

‫أن يستغلوا كل دقيقة من حياتهم في التع ُّرف إلى معنى‬

‫الحياة‪ ،‬وفي توسيع معارفهم‪ ،‬وعدم االنشغال باآلخرين‪،‬‬

‫وعدم االنزالق إلى الخصومات والدخول في الخالفات‪ ،‬التي‬ ‫أصابت كثي ًرا من الموهوبين في مقتل‪ ،‬وحولتهم إلى ّ‬ ‫شكائين‬ ‫ومنتقدين‪ ،‬فأصابهم العقم‪ ،‬وانصرفت عنهم مواهبهم‪ ،‬أو‬

‫جفت ينابيعها‪.‬‬

‫كثيرا من‬ ‫الخصومات أصابت‬ ‫ً‬ ‫الموهوبين في مقتل‪ ،‬وحولتهم‬ ‫إلى ش ّكائين ومنتقدين‪ ،‬فأصابهم‬ ‫العقم‪ ،‬وانصرفت عنهم مواهبهم‪،‬‬ ‫أو جفت ينابيعها‬

‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬

‫ًّ‬ ‫أحقا استطاعت الرواية أن تزحزح الشعر عن موقعه‬ ‫ًّ‬ ‫أحقا ما يقال‪ :‬إن هذا الزمن هو زمن‬ ‫الباذخ القديم؟‬ ‫الرواية؟‬

‫جنسا أدبيًّا آخ َر‬ ‫أدبي أن يزحزح‬ ‫ ليس في استطاعة جنس‬‫ً‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫يحل محله‪ ،‬صحيح أن الرواية أخذت‬ ‫عن الساحة األدبية أو‬

‫العربي إال‬ ‫في هذا المنعطف من الزمن قدرًا من اهتمام القارئ‬ ‫ِّ‬ ‫أنها لم تتمكن من منافسة الشعر أو إبعاده من محبيه الذين‬


‫عبدالعزيز المقالح‬

‫يتكاثرون ويتزايد تعدادهم عامً ا بعد عام‪ ،‬ويالحظ أن ُق َّراء‬

‫الرواية من المثقفين والمهتمين بالسياسة‪ ،‬وعلى العكس من‬ ‫ذلك ُق َّراء الشعر الذين يشكلون جمهورًا واسعً ا من المهتمين‬

‫بالقضايا السياسية والفنية‪ ،‬ومن عشاق الكلمة الراقية‪ ،‬سواء‬ ‫أكان هذا الشعر عموديًّا أو تفعيلة أو نث ًرا‪ ،‬وال ننسى اإلشارة‬ ‫إلى أن الرواية الحديثة أفادت من الشعر‪ ،‬وصار الشعر في‬

‫بعضها جزءً ا جوهريًّا‪ ،‬ليس في المفردات اللغوية‪ ،‬إنما في‬

‫الروائي‪.‬‬ ‫بنية الجملة وأسلوب التشكيل‬ ‫ّ‬

‫َّ‬ ‫تحدث ماركيز كثي ًرا عن رواية «بيت الجميالت‬ ‫َّ‬ ‫تمنيت لو‬ ‫النائمات»‪ ،‬وقال‪ :‬إنها الرواية الوحيدة التي‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫منيت أن َتكتبَه؟‬ ‫كتبتها؛ هل هناك ِكتاب َت‬ ‫كنت‬ ‫لاً‬ ‫‪ -‬لم يحدث ذلك معي قط‪ ،‬لقد أحببت أعما شعرية‬

‫كثيرة‪ ،‬وأعجبتني نماذج أدبية راقية‪ ،‬لكن لم يخطر ببالي أن‬ ‫تكون لي‪ ،‬أو أن أكتب مثلها‪.‬‬

‫العربي»‬ ‫هل علينا أن نعيد النظر في مقولة‪« :‬الربيع‬ ‫ّ‬

‫المقالح‬

‫‪ -‬نعم من حقنا أن نعيد النظر في كل المقوالت‬

‫المراجع وأسماء الكتب والمؤلفين‪ ،‬أما أن تكون وسيلة‬

‫العربي»؛ هذا الفصل الذي سبق وقته؛ لذلك‬ ‫مقولة‪« :‬الربيع‬ ‫ّ‬

‫الورقي أقوى وأعمق مما كانت‬ ‫وستظل عالقة القارئ بالكتاب‬ ‫ّ‬

‫على حد تعبير جورج طرابيشي؟‬

‫السياسية التي أفرزتها األحداث في المدة األخيرة‪ ،‬ومنها‬ ‫لم يكن ربيعً ا وال شتاءً ‪ ،‬فقد أجهض أحالم التغيير‪ ،‬وكشف‬

‫ُّ‬ ‫تخلف عميق في الرؤى‬ ‫عن عجز القوى السياسية‪ ،‬وعن‬

‫والممارسات‪ ،‬وسيظل العرب يحلمون بربيع ال يزحف نحو‬

‫الصيف وال نحو الشتاء‪ ،‬ربيع يزهر فيه ورد العدل والحرية‬ ‫واألمان‪.‬‬

‫يقول بورخيس‪« :‬المكتبة هي الجنة األبدية»‪ ،‬وفي‬

‫مكتبتك الشخصية أكثر من أربعين ألف عنوان؛ أال ترى‬

‫ِّ‬ ‫الورقي؟‬ ‫ِيقضي على الكتاب‬ ‫اإللكتروني جاء ل‬ ‫أن الكتاب‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ كان بورخيس قد بدأ حياته مدي ًرا إلحدى ُدور ُ‬‫الكتب‬ ‫في بالده‪ ،‬ومن هناك فقد أدرك أهمية المكتبة‪ ،‬و َدورها في‬ ‫ِّ‬ ‫تحققه من متعة‬ ‫صياغة العقول البشرية من ناحية‪ ،‬وما‬ ‫للقارئ‪ ،‬ومن شعور بالغبطة وهو يستحضر المؤلفين‪،‬‬

‫ويدخل في حوارات معهم‪ .‬ستكون الجنة بال مكتبات ناقصة‪.‬‬ ‫اإللكتروني وما يوحي به التوسع في التعامل‬ ‫أما عن الكتاب‬ ‫ّ‬

‫الورقي فهو حديث مبالغ‬ ‫معه من االستغناء عن الكتاب‬ ‫ّ‬ ‫اإللكتروني ال يزال عالة‬ ‫فيه‪ ،‬وال يصحُّ أن ننسى أن الكتاب‬ ‫ّ‬

‫الورقي‪ ،‬ومن دون هذا األخير لن يكون له وجود‬ ‫على الكتاب‬ ‫ّ‬ ‫يذكر‪ .‬ولعل أفضل ما ُت ِّ‬ ‫حققه الكتب المخزونة في الفضاء‬ ‫اإللكتروني أنها تقوم بإسعاف القارئ المشتغل ببعض‬ ‫ّ‬

‫للقراءة المعمَّ قة والممتعة‪ ،‬فذلك ضرب من المستحيل‪،‬‬

‫عليه في الماضي البعيد والقريب‪.‬‬

‫ِّ‬ ‫إلى أي مدى يمكن أن يؤثر ظهور اإلرهاب في الوطن‬

‫العربي؛ مثل‪ :‬داعش والقاعدة‪ ،‬على مستوى الشعر؟‬ ‫ّ‬

‫‪ -‬عندما أسمع أو أقرأ كلمة اإلرهاب يتطرق إلى ذهني‬

‫سؤال كبير لم يجب عليه أحد‪ ،‬وهو عن األسباب التي أدَّت‬

‫إلى ظهور هذه الحالة‪ ،‬وفي تقديري أنه لو أمعنا البحث في‬ ‫تلك األسباب بوعي وموضوعية‪َ ،‬لمَ ا كان لهذه الظاهرة أن‬ ‫توجد أو تشغلنا إلى هذا الحدّ ‪.‬‬ ‫كيف ترى األفق؟‬

‫‪ -‬أبعد هذا تسألني عن كيف أرى األفق اليوم؟! ال أدري‬

‫الثقافي‪ ،‬أم‬ ‫السياسي‪ ،‬أم االقتصاديّ ‪ ،‬أم‬ ‫أيّ أفق تقصد؛‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫االجتماعي؟ ُّ‬ ‫وكلها بال آفاق‪ ،‬لقد نجح أعداء األمة الواضحون‬ ‫ّ‬

‫َحرفوا أبناء األمة عن األهداف‬ ‫منهم والمستترون في أن ي ِ‬ ‫والثوابت ال ُّروحية والوطنية والقومية‪ ،‬ويحوِّلوا معركتها‬ ‫َّ‬ ‫وتمكنوا من إهدار‬ ‫الحقيقية إلى معركة عبثية مع الداخل‪،‬‬

‫الطاقات المادية وتبديدها خارج مكانها المطلوب والصحيح‪،‬‬ ‫العربي ولو في‬ ‫ومع ذلك يبقى األمل في أن يستيقظ العقل‬ ‫ُّ‬ ‫اللحظات األخيرة من غفوته الطويلة‪.‬‬

‫‪81‬‬


‫مقال‬

‫النقاد والرواية الخليجية‬

‫ٍ‬ ‫ماض ومستقبل‬ ‫انشطار البوصلة بين‬ ‫البحريني فهد‪ ‬بن حسين بما يشبه البشارة بمستقبل واعد للرواية‬ ‫صحافي م ّر عليه ما يناهز العام‪ ،‬لوَّح الناقد‬ ‫في حوار‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫بطيئة‬ ‫خطوات‬ ‫الخليجية‪ ،‬قال هذا الكالم في بداية الثمانينيات الميالدية عندما كانت الرواية الخليجية تخطو وراء نظيرتها العربية‬ ‫ٍ‬

‫ً‬ ‫وأحيانا متعثرة‪ .‬وأذكر أن آراء نقدية مشابهة كانت تتردَّد في أروقة الصحافة الثقافية يحدوها أمل أن تصل الرواية الخليجية إلى‬ ‫والخليجي‪ ،‬وكان ذلك يعني أن النقاد في ذلك الوقت لم يكونوا‬ ‫العربي‬ ‫مرحلة من النضج‪ ،‬تستطيع أن ُتراهِ ن بنفسها على حضورها‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫واثقين من قدرة الرواية الخليجية على اختراق شكها في إمكانياتها تجاه ما تضمره تحديات المستقبل؛ لذلك كانوا يتحاشون فكرة‬ ‫ً‬ ‫إيمانا ما بطاقته الكامنة فيه‪ ،‬وهذا اإليمان يكاد يكون مقامرة غير مضمونة النتائج‬ ‫المراهنة عليها؛ ألن المراهنة على شيء ما يشترط‬

‫عند الحديث عن الرواية الخليجية‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫البحريني فهد بن حسين حينما بشر بمستقبل واعد للرواية الخليجية لم يكن رأيه هذا ضمن آراء ذلك الوقت‪ ،‬إنما‬ ‫غير أن الناقد‬ ‫ّ‬ ‫قاله في جريدة الرياض بتاريخ ‪ 29‬مارس ‪2015‬م‪ .‬لماذا قاله ً‬ ‫إذا في هذا الزمن وليس قبل ذلك؟ هل َّ‬ ‫تأخر كثي ًرا في اإلبانة عن تفاؤله‬

‫الخليجي في المستقبل‪.‬‬ ‫بالرواية الخليجية في المستقبل؟ لقد كانت آراء جُ ّل النقاد في الثمانينيات متفائلة تقريبًا بتطور ما للسرد‬ ‫ّ‬ ‫بمعنى أننا اآلن نتحدث عن لحظة زمنية هي في الواقع من ضمن المستقبل الواعد الذي َّ‬ ‫بشر به أولئك النقاد‪ ،‬ويمكن القول‪ :‬إن‬ ‫المستقبل الذي قصده النقاد آنذاك بدأ تقريبًا في التسعينيات‪ ،‬وإنه على قدر من البطء‪ ،‬لكنه انفجر في منتصف العشرية األولى‬

‫‪82‬‬

‫ّ‬ ‫محل هزة رأس مترددة‪ .‬الناقد فهد‪ ‬بن حسين‬ ‫من األلفية الثالثة على نحو تقريبي‪ ،‬وكانت هذه الرؤية المستقبلية في ذلك الوقت‬ ‫على الرغم من تفاؤله بأفق واعد للرواية الخليجية َ‬ ‫ساق ملحوظات نقدية ليست بسيطة على روايات اليوم التي يكتبها شباب من‬ ‫الجنسين بكثافة‪.‬‬

‫اإلبداعي‬ ‫من هذه الملحوظات االستسهال في كتابة الرواية‪ ،‬وهذا ما يفقد الرواية القيمة الجمالية التي هي من ركائز الشرط‬ ‫ّ‬ ‫الروائي؛ إذ إن الكتابة الروائية التي تخلو من قيمة جمالية تفقد القارئ لحظة إمتاعية لن تكون الرواية من ضمن مقتنياته‬ ‫للعمل‬ ‫ّ‬

‫جمالي يتيح له قراءة العمل من منظور نقديّ متعدد الزوايا‪ .‬هناك ملحوظة أخرى‪،‬‬ ‫من دونها‪ ،‬وهي للناقد فهد‪ ‬بن حسين حقل‬ ‫ّ‬ ‫حسب الناقد فهد بن حسين‪ ،‬وهي افتقاد الرواية الخليجية الشبابية على وجه الخصوص المرجعية الثقافية‪ ،‬موع ًزا السبب إلى‬ ‫أن المنهل الرئيس للتجارب الشبابية هو (الشارع وحكايات الناس)‪ ،‬وهذا االنتهال كما يقول‪ :‬ليس أصيلاً ‪ ،‬وال يمتلك مقومات عمل‬ ‫روائي يُفت َرض أن ي َّتسع مصراعاه لتجارب عميقة وأكثر تعقيدً ا وأوسع نظ ًرا من مرويات شفهية سطحية في معظمها‪ .‬فالحب على‬ ‫ّ‬

‫سبيل التمثيل لحظة إيروسية في النصوص الشبابية‪ ،‬وقلما يعبر في أثناء النص عن غير ذلك‪ .‬لكن الحب ‪-‬حسب رأيه‪ -‬قيمة جمالية‬

‫وفلسفية ومعرفية كذلك‪.‬‬

‫القرائي‪ ،‬يعتقد الناقد فهد بن حسين أن الرواية‬ ‫ضي لدى فئة غير قليلة من الشباب‪ ،‬والكسل‬ ‫ّ‬ ‫وإضافة إلى حب الشهرة الم َر ّ‬ ‫الخليجية الراهنة والشبابية خاصة‪ ،‬تفتقر إلى ثالثة عناصر مُ همة ال بد منها عند التفكير في كتابة رواية تقع في أفق ما ُ‬ ‫ارتقب‬ ‫وقوعه في المستقبل‪ ،‬وهذه العناصر هي‪( :‬كاتب يملك وعيًا‪ ،‬وقدرة على التم ُّرد المسؤول‪ ،‬وحرية)‪ .‬العنصر األول ال يشكل ملمحً ا‬

‫واضحً ا في الرواية الخليجية بشكل عام‪ ،‬وهذا رأيي أنا‪ ،‬فالوعي الذي يفترض أن يتوافر لدى كاتب يفكر بجدّ في ثقب الحاجز القائم‬ ‫ّ‬ ‫الروائي السائد؛ ذلك الشكل الذي نلمسه في معظم‬ ‫يستحق‪ ،‬ال يتوقف عند إنشاء النص بالشكل‬ ‫بينه وبين الرهان على عمل‬ ‫ّ‬

‫الزمني الطويل نسبيًّا‬ ‫الروائي المعاصر‪ ،‬وهو الدفع بالفكرة إلى مهاد أولية من الحكي العادي‪ ،‬وتوزيع الشخصيات والمدى‬ ‫منتجنا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫شكلية‪ ،‬تنطلق من فورها إلى‬ ‫رواية‬ ‫والمكان والزمان وبقية (الشغل) المألوف الذي يجعل من أي عمل بين غالفين على هذا المنوال‬

‫اإلنشائي هو ما يفترض أن تراهن عليه رواية جديرة بالمستقبل‪،‬‬ ‫الناشر‪ ،‬ثم إلى المطبعة‪ ،‬ثم إلى السوق؛ كلاَّ ‪ ،‬ليس هذا الوعي‬ ‫ّ‬

‫إنما هناك مستوى من الوعي هو أعلى وقطعً ا أعمق من هذا الوعي التقليديّ ‪ ،‬وأقصد الوعي القائم على مرتكزات جمالية وثقافية‬ ‫ّ‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫متخلق في أصله ليس‬ ‫المتدفق في األشياء التي نعيشها ونمارسها‬ ‫النص‪ .‬فالزمن‬ ‫وفلسفية ومعرفية قبل الخوض في فكرة إنشاء‬

‫أيضا‪ -‬من مفاهيم ومضامين جمالية وفلسفية ومعرفية صهرتها في ّ‬‫ً‬ ‫كل‬ ‫من اإلحساس بالوقت وتأثيره في األشياء فحسب‪ ،‬إنما‬ ‫واحد عالمية الواقع المعيش‪ ،‬وإن كان هذا الواقع يحفل بتفاصيل نائية عن حافة العالم‪ ،‬وعالمية اللحظة اإلنسانية الراهنة‪ ،‬وما‬ ‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬


‫تنتجه هذه اللحظة من مفارقات وتناقضات على أكثر من مستوى‪.‬‬

‫الزمني العجيب‪ ،‬وهذه اللحظة المليئة‬ ‫والوقوف بإزاء هذا التدفق‬ ‫ّ‬

‫بالتغيير المتسارع الصادم في أحايين كثيرة‪ ،‬يتطلب قدرًا مالئمً ا من‬

‫استيعاب اللحظة نفسها‪ ،‬وما تشترطه من أشياء لمساءلة الذات واآلخر‪،‬‬

‫والمكان‪ ،‬والزمان‪ ،‬والثقافة‪ ،‬واالعتقاد‪ ،‬إضافة إلى المسافة بين كل‬

‫هذه المكونات في الذات الواحدة وعالقتها‪ ،‬سلبًا أم إيجابًا‪ ،‬بالخارج‬ ‫وما ي َّتصل به من حقائق ووقائع وأحداث ليس على أساس محاكمتها‬ ‫بالضرورة‪ ،‬إنما على أساس فهمها على ضوء معطيات متاحة أو ممكنة‪.‬‬

‫هذا بإيجاز شديد‪ ،‬ما يمكن أن نفهم على ضوئه رأي الناقد فهد‪ ‬بن‬

‫حسين تجاه الرواية الخليجية‪ ،‬وال شك أنه أوسع من الفهم الذي طرحته‬ ‫صاديق متواترة لما َّ‬ ‫هنا‪ ،‬وحتى تأتي في المستقبل مَ َ‬ ‫بشر به هذا الناقد‪،‬‬

‫وهو ما آمل أن يتحقق على أيدي روائيين شباب‪ ،‬يجب أن يكونوا أفضل‬ ‫وأكثر فهمً ا واستيعابًا من ُكتاب اليوم للفنّ‬ ‫الروائي‪ ،‬وعالقته بقيم جمالية‬ ‫ّ‬

‫عواض العصيمي‬ ‫روائي سعودي‬

‫ومعرفية وفلسفية ال غنى للرواية عنها في أيّ زمن ومجتمع وثقافة‪،‬‬ ‫حتى يأتي هذا المستقبل سنبقى في لحظة ُّ‬ ‫توقع مَ ن يقبض في شكل‬

‫‪83‬‬

‫الروائي اإلنشائي‬ ‫صحيح وسويّ على لهب اإلفاقة األولى من هذا الراهن‬ ‫ّ‬ ‫في معظمه‪.‬‬

‫إلى أن يحدث ذلك‪ ،‬ليس من المستبعد أن يبشر ناقد آخر‪ ،‬في زمن‬

‫مقبل‪ ،‬بمستقبل واعد للرواية الخليجية على ضوء ما توافر لديه من‬ ‫ّ‬ ‫محل اطمئنان للتبشير بذلك المستقبل‪ .‬وقد‬ ‫نصوص سردية‪ ،‬يرى أنها‬

‫تكون تلك النصوص من إصدارات حقبة زمنية مقاربة للزمن الذي نشر‬ ‫فيه توقعاته اإليجابية‪ ،‬ما يشير إلى احتمال استمرار الرواية الخليجية‬

‫في الدوران حول نفسها في نفس الموضوعات والتقنيات التي ظهرت‬ ‫بها في الثمانينات‪ ،‬يوم ّ‬ ‫بشر نقاد ذلك الزمن بمستقبل واعد لها‪ ،‬ثم في‬ ‫مرحلة التسعينيات وما أعقبها من عقود من دون تغيير كبير في الشكل‬

‫والمضمون‪.‬‬

‫وفي كل األحوال‪ ،‬لن يعدم المتابع اللصيق بالمشهد مالحظة مهمة‬

‫تكاد تكون هي سبب هذا التباطؤ الحاصل في الدينامية البنيوية للرواية‬

‫فعلي‪-‬‬ ‫الخليجية‪ ،‬وهي اتصاف الحراك النقدي –إن كان هناك حراك نقديّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫–أيضا‪-‬‬ ‫بتباطؤ مقابل في المواكبة النشطة‪ ،‬ليس في هذا فحسب‪ ،‬إنما‬ ‫في الكسل النقديّ من جهة ما نراه اليوم من نكوص واضح عن تدشين‬ ‫مشاريع نقدية كبرى تؤسس لمرحلة ثقافية ومعرفية تنخلع بمقتضاها‬ ‫من المقاربات النقدية البسيطة التي تتغذى عليها المالحق الثقافية على‬

‫نحو هو أقرب إلى االستهالك منه إلى الدراسات المعمقة التي تنطوي‬ ‫بالضرورة على مستقبل يفترض أن يكون ِّ‬ ‫مبش ًرا بصحوة نقدية شاملة‪ .‬‬

‫لن يعدم المتابع‬ ‫اللصيق بالمشهد‬ ‫مالحظة مهمة تكاد‬ ‫تكون هي سبب هذا‬ ‫التباطؤ الحاصل في‬ ‫الدينامية البنيوية‬ ‫للرواية الخليجية‪،‬‬ ‫وهي اتصاف الحراك‬ ‫النقدي بتباطؤ مقابل‬ ‫في المواكبة النشطة‬


‫دراسات‬

‫محمود درويش‪..‬‬ ‫أشهر شاعر عربي‬

‫لألسف‬ ‫عبد المنعم رمضان‬

‫‪84‬‬

‫شاعر مصري‬

‫اإلهداء‪ :‬إلى رجاء عالم‬ ‫عنوان هذا المقال هو محض تقليد مقصود للعبارة الفرنسية‬

‫فرنسي‬ ‫التي أتمنى أن تكون شائعة‪« :‬فيكتور هوغو أشهر شاعر‬ ‫ّ‬ ‫وك العنوانَ أنني أُ ِّ‬ ‫لألسف»‪ ،‬لقد اكتشفت وأنا أَ ُل ُ‬ ‫غني مع فيروز‬ ‫وسعيد عقل واألخوين رحباني؛ هكذا عالنية‪« :‬غنيت مكة أهلها‬ ‫الصيدا»‪ّ ،‬‬ ‫علني أهدأ‪ ،‬وأغني معهم هكذا هكذا بغير عالنية‪:‬‬

‫الذهب»‪ّ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫علني أحتاط‪ ،‬وأتأمّ ل روايات‬ ‫«مصر (غابت) شمسك‬ ‫ّ‬ ‫رجاء عالم مثل رجل أعزل ممسوس باللغة‪ ،‬علني أستمتع‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وأفكر ًّ‬ ‫جدا‪ ،‬وأفكر حتى النخاع في شعر محمود درويش‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫علني أنسى‪ ،‬وفي كل أحوالي‪ ،‬وبخاصة حالتي األخيرة‪،‬‬ ‫أحسب نفسي تلك النخلة الشاردة على الطريق‪ ،‬تلك النخلة‬ ‫التي ينصحني كل معارفي اَّ‬ ‫بأل أكونها‪ ،‬فأخون هذه النصيحة‪،‬‬

‫وال أخون بقية النصائح‪ ،‬أعني ما نشز منها‪ ،‬وما أهمله العامّ ة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وتخلى عنه السابقون‪ ،‬رغم‬ ‫والخاصة‪ ،‬وما هجرته األلسنة‪،‬‬ ‫أنهم ناصحون في األغلب‪.‬‬

‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬


‫ينصحنا السابقون بقراءة من سبقوهم؛ ينصحنا أبو َتمَّ ام‬

‫بامرئ القيس‪ ،‬وأبو العالء بالمتنبي‪ ،‬وإبراهيم ناجي بخليل‬ ‫مطران‪ ،‬والمازني بابن الرومي؛ فيما ينصحنا قريبو العهد من‬ ‫السابقين بالقراءة لواحد من الالحقين‪ ،‬وهي حالة االستثناء‬

‫الوحيدة؛ إذ ينصحنا السيَّاب والبياتي ونازك ونزار قباني وصالح‬ ‫عبدالصبور وحجازي بالقراءة لمحمود درويش‪َّ ،‬‬ ‫لعلنا سنعرف‬

‫نعرف أنه حارب على استحياء قصيدة‬ ‫النثر‪ ،‬نعرف أنه لم يكن يحب المواجهة؛‬ ‫كان يتج ّنبها‬

‫السر‪.‬‬

‫ما نعرفه اآلن أن أجمل ما تركه لنا محمود درويش هو‬

‫شعره‪ ،‬وهو شعر قد يصيب محبّيه إذا عكفوا عليه الختيار‬

‫أفضله‪ ،‬قد يصيبهم بالحيرة واالرتباك‪ ،‬وأسوأ ما تركه لنا‬ ‫محمود درويش هو نقاده الذين جهلوه مرات‪ ،‬والذين تواطؤوا‬

‫على الحفاوة به مرات كثيرة‪ ،‬وجغرافية هذا التواطؤ تبدأ من‬

‫مكان معلوم قريب من الشعر‪ ،‬وال تنتهي عند أماكن معلومة‬ ‫أخرى قريبة من السياسة‪ ،‬فمنذ كان النقد يعتمد على‬

‫الذوق‪ ،‬ويعتمد على االنطباع‪ ،‬حتى أصبح يعتمد على تالميذ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫األكاديميات الذين ّ‬ ‫محل الذوق؛‬ ‫يحلوا المناهج‬ ‫فضلوا أن‬

‫ّ‬ ‫ً‬ ‫يسلحوها به‪ ،‬منذ ذلك حتى ذلك‪ ،‬ومحمود‬ ‫عوضا من أن‬ ‫ّ‬ ‫محل حفاوة االتجاهين؛ أصحاب الذوق‪ ،‬وأصحاب‬ ‫درويش‬

‫‪85‬‬

‫األكاديميات‪ ،‬فرجاء النقاش وهو من األوائل‪ ،‬احتفل بشعر‬

‫محمود في دواوينه األولى‪ ،‬وأنشأ عنه كتابًا‪ ،‬ثم انصرف عنه في‬ ‫المراحل التالية‪ُ ،‬‬ ‫ون ّقاد اليوم‪ ،‬وهم من األواخر‪ ،‬احتفلوا بشعر‬ ‫محمود‪ ،‬شعره الجديد‪ ،‬سواء أكان في الجدارية أم قبلها‬

‫بقليل أم بعدها؛ إلى أن وصلوا الخاتمة‪ ،‬إلى أن وصلوا العب‬ ‫النرد؛ كلهم قرؤوه بعيون مفتوحة على آخرها‪ ،‬بعيون ال ترى‪.‬‬ ‫الجماعة وشاعرها العظيم‬

‫رجاء عالم‬

‫حيّرني شعر محمود درويش‪ّ ،‬‬ ‫وفكرت كيف أتأوّل ما أحببته‬ ‫من قصائد‪ّ ،‬‬ ‫فكرت أن أميّز وأمايز بين الشاعر الجميل والشاعر‬

‫باب آخر ألشياء أخرى؛ قلت لنفسي‪ :‬هل السؤال؛ ما الشعر‬ ‫العظيم‪-‬أع َّز الله يوسف اليوسف– سؤال مشروع؟ الحَ دَ اثيون‬ ‫َ‬ ‫يتعالوْنَ عليه؛ تعاليهم ُّ‬ ‫أرق من ورق النشاف‪ ،‬والسؤال أكثف‬

‫وطن محدود‪ ،‬أو في شبه وطن‪ ،‬تبحث عن رموزها العظيمة‪،‬‬

‫جسد والمُ ج َّرد‪،‬‬ ‫الشعر ذاته بين المباشر وغير المباشر‪ ،‬بين المُ َّ‬

‫العظيم‪ ،‬وتصوّرت أن كل جماعة من البشر‪ ،‬في أي مكان‪ ،‬في‬ ‫وعن شاعرها العظيم‪ ،‬وإذا لم تجده اخترعته‪ ،‬وإذا لم تجده‬

‫انتخبت أحد أجمل شعرائها‪ ،‬وارتفعت به إلى مرتبة العظمة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫للعالم‪ :‬هاكم شاعري العظيم‪ ،‬هاكم قلبي‪ ،‬على م ّر‬ ‫وقالت‬ ‫التاريخ كان الشعر العظيم نادرًا‪ ،‬على م ّر التاريخ كان الشع ُر‬ ‫الجميل َّ‬ ‫أقل من نادر وأكثر من قليل‪ّ ،‬‬ ‫فكرت فيما يلزمني من‬

‫آالت ُ‬ ‫وعدَ د وأدوات يمكنني أن أستخدمها للتع ّرف إلى االثنين‬

‫وللتفريق بينهما‪ ،‬وبخاصة أن بعض الخلط يأتي من كون كل‬ ‫عظيم ال بد أن يكون جميلاً والعكس صحيح‪ ،‬وبخاصة أن‬

‫بعض المتلقين يعتقد أن الشعر يتعلق بالجمال‪ ،‬وأن العظمة‬

‫من سماء سابعة‪ ،‬ونحن ال نحتمل في أغلبية أوقاتنا أن يتوتر‬ ‫الواقعي واألسطوريّ ‪ ،‬بين‬ ‫والميتافيزيقي‪ ،‬بين‬ ‫الفيزيقي‬ ‫بين‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الله والشيطان‪ ،‬بين السماء واألرض‪ ،‬بين العالي والخفيض‪،‬‬ ‫بين الحركة والسكون‪ ،‬بين الصخرة والنبع‪ ،‬في أغلبية أوقاتنا‬

‫نحن نخاف النيرفانا‪ ،‬نخاف توتر الشعر؛ أي نخاف الشعر ذاته‪،‬‬ ‫الذي كأنه النيرفانا‪ ،‬أو كأنه ليس النيرفانا‪ ،‬كأنه غيرها‪ ،‬هذا‬

‫التوتر يضع الشعر في مكان أرقى من الحلم؛ حيث الشعر‬ ‫طريق خالص‪ ،‬بل أقوى من آفات الحلم‪ ،‬من هشاشته وهالمه‪،‬‬

‫حيث الشعر طريق خيال‪ ،‬بل أقوى طريق خيال للقبض بكلتا‬ ‫يديك على فضاء ال ُّروح‪ ،‬على تماسكها وارتقائها‪.‬‬


‫دراسات‬

‫فالحلم بهذا المعنى ال يستطيع أن يفعل ما يفعله الشعر‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫يظل قوة الحلم‪،‬‬ ‫ال يستطيع أن ينافسه‪ ،‬مع العلم بأن الشعر‬ ‫ّ‬ ‫يظل أرضه الخصبة‪ ،‬وسوائله الدافقة‪ّ ،‬‬ ‫فكرت في أنني ال أملك‬

‫هو شعره‪ ،‬وهو شعر قد يصيب‬

‫أحس في أثناء قراءاتي المتتالية شعر محمود‬ ‫الجميل‪ ،‬لكنني‬ ‫ُّ‬

‫محبيه إذا عكفوا عليه الختيار‬ ‫ّ‬

‫األدوات والعُ دَ د واآلالت للتفريق بينهما‪ :‬الشعر العظيم والشعر‬

‫درويش أنه يميل ‪-‬في األغلب‪ -‬إلى أحد طرفين من أطراف‬

‫الواقعي واألسطوريّ ‪ ،‬السماء واألرض‪ ...‬إلى غير ذلك؛ يميل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫إلى الهدوء‪ ،‬وعدم التوتر‪ ،‬وأن هذا ما يحقق له الوضوح وقابلية‬ ‫التداول‪ ،‬الوضوح والشهرة‪ ،‬الوضوح والخوف من الحرية‪ ،‬فيما‬

‫يمتلك –أعني شعر محمود– خاصية الجمال التي فطر عليها‬

‫الشاعر وشعره‪.‬‬

‫أفضله‪ ،‬قد يصيبهم بالحيرة‬ ‫واالرتباك‪ ،‬وأسوأ ما تركه لنا محمود‬ ‫درويش هو نقاده الذين جهلوه‬ ‫مرات‪ ،‬والذين تواطؤوا على الحفاوة‬ ‫به مرات كثيرة‬

‫أول آثار الصدمة‬

‫قررت أن أتخلى عن هذا االختيار‪ ،‬وأن أبحث لحيرتي‬

‫عن طريق أخرى؛ لتأويل ما أحببته من قصائد‪ ،‬قرأت شعر‬ ‫درويش ثانية‪ ،‬حاولت أن أتخيله في معمله‪ ،‬كيف ينظر إلى‬

‫ما كتب من قصائد‪ ،‬كيف يفكر في إدخال كلمات جديدة لم‬ ‫يسبق له أن اشتغل عليها‪ ،‬كيف تكون الكلمات مغسولة بمياه‬ ‫زمانها‪ ،‬كيف تفتح ً‬ ‫آفاقا وتمهّد طرقات‪ ،‬قرأت شعر درويش؛‬

‫‪86‬‬

‫أجمل ما تركه لنا محمود درويش‬

‫كانت دواوينه الستة األولى ظاهرة السذاجة‪ ،‬ظاهرة االبتداء‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وأيضا ببعض أخطاء في‬ ‫وإن امتألت ببذور وجذور وطرائف‪،‬‬

‫العَ روض واللغة‪ ،‬هذه الدواوين تضع الخط الواضح عند قراءة‬ ‫درويش‪ ،‬ال بد أن تنتبه لشروط الصوت؛ متى تقف‪ ،‬ومتى‬

‫تستم ّر‪ ،‬شعر درويش الذي يستند إلى الموسيقا‪ ،‬يضيع إذا قرأه‬ ‫وأهمل صوته هؤالء الباحثون عن المعنى‪ ،‬ج َّربت أن أستمع‬

‫إلى قراءات بعض نقاده المفتونين‪ ،‬فاكتشفت أنهم ال يراعون‬ ‫أهم خصائصه‪ ،‬شفاهة درويش يقينية مثل فلسطينيته‪ ،‬في‬ ‫الديوان السادس «أحبك أو ال أحبك» الصادر عام ‪1972‬م؛‬

‫أي بعد خروجه من حيفا‪ ،‬واصطدامه؛ وجهه وفمه وجسده‬

‫كان شبح نزار قباني يخيفه‬ ‫أخشى أن أكون قد عدت إلى موضوع آثرت االنصراف عنه؛ ألنني ال أجيده‪ ،‬المهم أن سفينة محمود درويش‬ ‫ً‬ ‫مصحوبة بقدر من‬ ‫المتخمة بالموسيقا‪ ،‬المتخمة بالعطور‪ ،‬التي بدأت منذ (المحاولة)‪ ،‬ستصل ضفاف التسعينيات‬

‫َت ُّ‬ ‫الصفاء‪ ،‬يجعل كل هذه األزمنة‪ ،‬أجمل أزمنة درويش الشعرية‪ ،‬لوال أن الخوف والمنافسة والنرجسية‪َ ،‬ش َهر ْ‬ ‫كلها‬ ‫َ‬ ‫رأيت محمود درويش وهو يضطرب إذا حاول ُ‬ ‫ُ‬ ‫أسلحتها ِّ‬ ‫أحدهم أن يضعه مع نزار قباني‬ ‫الس ِّريَّة‪،‬‬ ‫في جهة واحدة‪ ،‬كان محمود يريد الجهات كلها‪ ،‬وكان شبح نزار يخيفه‪ ،‬شبح شهرته‬ ‫واتفاق أهل الرأي على أنه شاعر الجماهير الخاملة؛ لذلك سعى محمود للجماهير‬ ‫النوعية‪ ،‬الجماهير المثقفة‪ ،‬سعى ألن يجعلها بطانته ضد خصومه‪ ،‬هو لم يثق ّ‬ ‫قط‬ ‫بالشعراء‪ ،‬كل الشعراء‪ ،‬انشغل محمود واهتم بأن يحمل إلى سفينة غنائه األلحان‬

‫العميقة‪ ،‬واآلهات الكثيفة‪ ،‬أن يحمل إليها بعض الميتافيزيقا‪ ،‬بعض المجهول‬

‫والغامض‪ ،‬الغريب أن كل هذه األشياء ال تحب الذكاء‪ ،‬ويمكن أن يضطرب بسببها‬

‫الغناء‪ ،‬محمود يعرف أن الميتافيزيقا تميل إلى الحدس‪ ،‬وأن الذكاء حركة في المعلوم‬

‫والظاهر‪ ،‬يعرف أن الميتافيزيقا حركة في المجهول والباطن‪ ،‬حموالت محمود درويش إلى‬ ‫ّ‬ ‫لتعزز ذكاءه وغنائيته‪ ،‬لكنها تعاكست معهما‪ ،‬ومع ما يحتاجان إليه من صفاء‪،‬‬ ‫سفينته‪ ،‬أتت‬

‫ّ‬ ‫تفشت هذه األحمال‪ ،‬ووصلت إلى غرفة محركات السفينة‪ ،‬وإلى مطبخها‪ ،‬وغرف‬ ‫وبعد أن‬ ‫ً‬ ‫نومها‪ ،‬وسطحها العاري؛ بدأت السفينة في الغرق‪ ،‬والغرق ‪-‬أيضا‪ -‬اتجاه إلى األعماق‪،‬‬ ‫وفيما كانت السفينة توشك على الغرق‪ ،‬كان ُن َّقاده ّ‬ ‫يهللون لألعماق التي ّ‬ ‫يتجه إليها!‬

‫نزار قباني‬

‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬


‫محمود درويش‪ ..‬أشهر شاعر عربي لألسف‬

‫ولسانه وماء عينيه‪ ،‬بالقصيدة الحديثة آنذاك التي شاعت‬ ‫في بيروت‪ ،‬وامتدّت منها إلى العواصم ّ‬ ‫كافة‪ ،‬أَ ْع ِني قصيدة‬ ‫ً‬ ‫درويشا بدأ‬ ‫النثر‪ ،‬تظهر أول آثار الصدمة‪ ،‬يجب أال ننسى أن‬ ‫وظل سريع التأثر بما يقرأ‪ ،‬سريع االستجابة؛ لذلك اشتمل‬

‫الديوان على المزامير التي جاءت أغلبيتها على هيئة قصيدة‬ ‫النثر‪ ،‬وألنه بدأ وظل شديد الذكاء والفطنة‪ ،‬وأدرك أن هذه‬ ‫القصيدة ليست أرضه‪ ،‬وأنها حتى ليست منفاه‪ ،‬فامتنع منها‬

‫نهائيًّا‪ ،‬وعاد ليتشبث بغنائيته‪ ،‬نعرف أنه حارب على استحياء‬ ‫قصيدة النثر‪ ،‬نعرف أنه لم يكن يحب المواجهة‪ ،‬كان يتج ّنبها‪،‬‬ ‫في أواخر عمره كتب «في حضرة الغياب»‪ ،‬و«أثر الفراشة»‬

‫كتبهما تحت تسميتين‪ّ :‬‬ ‫نص‪ ،‬ويوميات‪ ،‬وقصد بهما أن يكونا‬ ‫ً‬ ‫نافذة على قصيدة نثره‪ ،‬وال أقول قصيدة النثر‪ ،‬فالخمر في‬

‫كتابيه هي الخمر في غيرهما‪ ،‬وماء الشعر فيهما هو ماء‬ ‫روضي ّ‬ ‫تخلى عن الوزن وأبقى‬ ‫الشعر في غيرهما‪ ،‬إنهما شعر َع‬ ‫ّ‬

‫ياناتشيك‬

‫على بقية العناصر‪ ،‬حتى الموسيقا ظلت رغم غياب العَ روض‪،‬‬

‫كان درويش بعد أن اصطدم بجدار غنائيته‪ ،‬يلجأ إلى أسلحة‬ ‫يفتح بها ثقوبًا في ذلك الجدار؛ َع َّله يم ّر منها إلى غناء جديد‬

‫ً‬ ‫آخر‪ ،‬لكن الموت لم يمهله‪ ،‬وال َّ‬ ‫درويشا كان أذكى من‬ ‫شك أن‬ ‫ّ‬ ‫ُن َّقاده‪ ،‬وأن نقاده ظلوا أكثر جُ ْب ًنا من جمهوره‪ ،‬وأقل وعيًا منه‬

‫شخصيًّا‪ ،‬ففي الوقت الذي وعى أزمته‪ ،‬وفكر في الخروج منها‪،‬‬ ‫كانوا يتسارعون إلى مدح كل ما يفعله‪ ،‬اختتم درويش ديوانه‬

‫«أحبك أو ال أحبك» بقصيدته الشعرية الكبيرة «سرحان يشرب‬ ‫َ‬ ‫ديوانه السابعَ الذي سوف‬ ‫القهوة في الكافيتريا»‪ ،‬وأتبعها‬

‫ً‬ ‫درويشا كان أذكى من‬ ‫ال شك أن‬ ‫جب ًنا من‬ ‫ُنقَّ اده‪ ،‬وأن نقاده ظلوا أكثر ُ‬ ‫جمهوره‬ ‫الجماهير من ناحية‪ ،‬هي لحظات عابرة وآنات متفرقة‪ ،‬وليست‬ ‫زم ًنا ممتدً ا‪ ،‬ومن ناحية أخرى هي طالبة أجوبة‪ ،‬وعلى األكثر‬

‫يسميه «المحاولة رقم ‪ »7‬كأنه ينتبه إلى أن كل ما سبقها كان‬

‫طالبة أسئلة ممكنة وخياالت ممكنة‪ ،‬فإن الجماهير ال تتعلق‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫تتعلق بالشاعر‬ ‫تعلقا كبي ًرا بالشاعر العظيم في زمنه‪ ،‬أكثر مما‬

‫التي فعلها شعراء آخرون؛ يشبهونه ويشبههم‪ ،‬األصحّ قد‬

‫تستق ّر أسئلته‪ ،‬وتستق ّر بعض حيرتها؛ أي في أزمنة مقبلة‪.‬‬

‫محض محاوالت لبلوغ النهر‪ ،‬كأنه ينتهي منها‪ ،‬كأنه يثق في‬ ‫هذه المحاولة‪ ،‬كأنه يبدأ بها ما سيأتي‪ ،‬الحظ هذه التسمية‬

‫يشبهونه‪ ،‬وقد يشبههم‪« :‬أوراق الغرفة رقم ‪ »8‬و«الطاولة‬

‫‪ ،»48‬ويمكننا أن نبحث عن أصل لهذا التقليد‪ ،‬تقليد التسمية؛‬ ‫ً‬ ‫مرآة تكشف عما‬ ‫وبخاصة أن شعر محمود طوال تاريخه كان‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أحيانا‪.‬‬ ‫أحيانا‪ ،‬ومرآة مُ قعَّ رة‬ ‫يقرؤه‪ ،‬مرآة مُ حدَّ بة‬ ‫االنفصال عن القطيع‬

‫غنائية محمود منذ المحاولة رقم ‪ ،7‬ستصبح غنائية مليئة‪،‬‬ ‫سياسي‪ ،‬وإن َ‬ ‫انطو ْ‬ ‫َت عليها‪ .‬منذ‬ ‫غنائية شاعر‪ ،‬وليست غنائية‬ ‫ّ‬

‫ّ‬ ‫ويلتف حوله ُ‬ ‫الق َّراء‪ ،‬بعد أن‬ ‫الجميل‪ ،‬فاألول يخترق األزمنة‬ ‫قلنا‪ :‬إن محمود درويش هو األذكى من نقاده‪ ،‬األذكى من‬

‫خصومه‪ ،‬األذكى من غرق السفينة‪ ،‬في هذه اللحظة خرج‬

‫محمود درويش عاريًا إال من خمره القديمة‪ ،‬وكتب «في حضرة‬ ‫ً‬ ‫استراحتين‬ ‫استراحة أو‬ ‫الغياب» و«أثر الفراشة»‪ ،‬آملاً أن يكونا‬ ‫ِ‬ ‫يعود بهما بخبرات جديدة وحكايات جديدة‪ ،‬يمكن أن تفصل‬ ‫ً‬ ‫العمق عن الغرق‪ّ .‬‬ ‫طريقا أخرى؛ لتأويل‬ ‫فكرت أن أختار‬ ‫مختاراتي من شعر درويش‪ ،‬قلت لنفسي‪ :‬محمود هو الشاعر‬ ‫المهموم بالبالغة ً‬ ‫أيضا‪ ،‬وللبالغة فروع ثالثة‪ :‬علم المعاني‪،‬‬ ‫وعلم البيان‪ ،‬وعلم البديع‪ ،‬قلت لنفسي‪ :‬المعاني برزخ ال‬

‫الدرويشي‪ ،‬وينفصل عن‬ ‫(المحاولة) يتأسس جمال الشعر‬ ‫ّ‬ ‫القطيع الذي نشأ معه‪ ،‬يصبح جماله رصي ًنا‪ ،‬جمال ال يقلقك؛‬

‫يكفيك فيه أن تكون ذكيًّا‪ ،‬ال بد أن تكون مفطورًا‪ ،‬ال بد أن تكون‬

‫عالم إلى َ‬ ‫ينقلك من َ‬ ‫عالم‪ ،‬وال ينشغل بذلك‪ ،‬ال يحب أن يتركك‬

‫أن تكون ذكيًّا‪ ،‬البديع بجناسه وسجعه وطباقه وتورياته وألعابه‬

‫يطربك‪ ،‬يشجيك‪ ،‬يقودك إلى الغناء‪ ،‬إلى الرقص الوقور‪،‬‬ ‫ً‬ ‫أحيانا‪ ،‬قد يرجّ ك‪ ،‬يوهمك بالتساؤل‪ ،‬جمال ال يحاول أن‬ ‫يه ّزك‬

‫مهمومً ا تحمل أسئلة جديدة‪ ،‬وتضع عنك أجوبة قديمة‪ ،‬وألن‬

‫إلهًا صغي ًرا‪ ،‬أن تكون شاع ًرا‪ ،‬والبيان باستعاراته وتشبيهاته‬ ‫ً‬ ‫–أيضا‪ -‬برزخ‪ ،‬البديع فقط هو ما يكفيك فيه‬ ‫وكناياته‪ ،‬ومَ جازه‬

‫هو األدنى بين الفروع الثالثة؛ ألنه سهل االمتالك‪ ،‬سهل الفقد‪،‬‬

‫‪87‬‬


‫دراسات‬

‫هو امرأة جميلة معروضة على الطريق‪ ،‬البديع أدوات‪ ،‬واالثنان‬ ‫اآلخران آالت‪ّ ،‬‬ ‫فكرت في أن قمة شعر درويش تعادل قمة‬

‫البديع‪ ،‬وأنهما فاتنان فتنة نعرفها‪ ،‬لكنني خفت من تفكيري‬ ‫أيضا؛ ألنني يمكن ألاَّ‬ ‫هكذا‪ ،‬فقررت االستغناء عن هذه الطريق ً‬ ‫أجيدها‪ ،‬تذ ّكرت أن محمود درويش عندما وقع على «منطق‬ ‫الطير» لفريد الدين العطار‪ ،‬اختار الهدهد‪ ،‬وذ ّكرني بكلبي‪.‬‬

‫حائرا في اختيار طريقة تأويل‬ ‫ما زلت‬ ‫ً‬ ‫مختاراتي من شعر درويش‪ ،‬أنقذني‬ ‫الغربي هانز‬ ‫األلماني‬ ‫المؤلف‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أيسلر‪ ،‬وأعطانى طوق نجاة‬ ‫ً‬ ‫وعوضا‬ ‫هدهد العطار اصطاده درويش من سماء بعيدة‪،‬‬ ‫من أن يطلقه في سماء الشعر‪ ،‬وهي بعيدة ً‬ ‫أيضا؛ حبسه في‬ ‫قفصه‪ ،‬أَعني قفص الشعر‪ ،‬ولما وقعت على منطق الحيوان‪،‬‬

‫اخترت الكلب َ‬ ‫ُ‬ ‫وقلت‪ :‬ال بد أن أصارح بها‬ ‫وف َت َن ْتني حكايته‪،‬‬ ‫ً‬ ‫درويشا وأباهيه‪ .‬يروي الحكاؤون أن كلبًا ضالاًّ استبدّ به‬ ‫َ‬ ‫حاف ِة ال َّنهر‪ ،‬لكنه شاهد في ال َّنهر كلبًا‬ ‫العطش‪ ،‬فاقترب من‬ ‫األصلي‬ ‫آخر‪ ،‬نحن نعرف أنه شاهد صورته‪ ،‬ونعرف أن الكلب‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫حاف ِة ال َّنهر‪،‬‬ ‫فزع وتراجع ونبح‪ ،‬ولما غلبه الظمأ عاد إلى‬

‫ّ‬ ‫يهش صورته‪ ،‬ولم ينجح فألقى بنفسه في الماء‪،‬‬ ‫وحاول أن‬

‫ما فعله الكلب فعله عظماء المتصوفة والشعراء والثوريين‬ ‫والحالمين‪ ،‬لكن هدهد محمود درويش الذي اقترب من ال َّنهر‬ ‫عندما عانى العطش‪ ،‬على صفحة الماء رأى صورته فلم يخف؛‬ ‫الغريب أنه اطمأنّ إليها ولم يبتعد منها‪ ،‬ولم ي ُْل ِق بنفسه في‬

‫‪88‬‬

‫َ‬ ‫ً‬ ‫الماء‪ ،‬ظل هكذا‪ :‬الفاتن المفتون‪َّ ،‬‬ ‫الحافةِ‪ ،‬يرى‬ ‫واقفا على‬ ‫ظل‬

‫صورته ويدعو كل اآلخرين إلى أن يروهما معً ا‪ ،‬هو والصورة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫والظل‪ ،‬إنه الهدهد الجميل‪ ،‬نرسيس الجميل‪ ،‬منذ دخل‬ ‫هو‬

‫درويش ال يسرق‬ ‫تناص‪ ،‬ونقول معهم‪ :‬نعم‪ ،‬طبيعة شعر درويش التي ّ‬ ‫ّ‬ ‫تدل على شاعر عموديّ‬ ‫إخواننا األكاديميون يقولون‪ :‬إنه‬

‫في الخفاء تقول‪ :‬إنها النقائض أو المعارضات‪ ،‬ونقول‪ :‬نعم‪ ،‬العقاد يأسى ويحزن‪ ،‬ويقول‪ :‬هناك شعراء ال يكتبون‬ ‫إال وأمامهم مثال يحاكونه أو يهزؤون منه‪ ،‬ونقول‪ :‬ال‪ ،‬درويش ليس منهم‪ ،‬عندما نخلو بأنفسنا نتساءل‪ :‬هل أشباح‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أيضا‪-‬‬‫درويشا ال يقلد‪ ،‬األكيد أنه‬ ‫درويشا ال يسرق‪ ،‬أن‬ ‫درويش هي مثيراته؟ هي بعض حصته من الميراث؟ األكيد أن‬

‫َ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫أيضا‪ -‬تحميه‪ ،‬يمكن أن نصدق‬‫أيضا‪ -‬وطريقته‬‫الخاص يحميه‬ ‫فعال ُمه‬ ‫عبارات كتبها اآلخرون‪،‬‬ ‫ال يخاف من كِتابة‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫أحيانا بصورة تكاد أن تكون حرفية‪،‬‬ ‫«علي حرب» عندما يقول عن درويش‪ :‬أنا أعرف أنه يقرأ آلخرين‪ ،‬ويقتبس منهم‬ ‫تكن؛ اقرأْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ب ْ‬ ‫«اكت ْ‬ ‫تجد» وهي تحيل إلى مقاالت طه عبدالرحمن‪« :‬اكتب تكن؛‬ ‫كما في عباراته الواردة في «جدارية»‪:‬‬ ‫انظر تجد»‪ ،‬بالطبع ِّ‬ ‫يحول درويش ما يقتبسه إلى قول شعريّ يحمل ختمه وطابعه؛ انتهى كالم «علي حرب»‪ .‬يمكن‬ ‫ً‬ ‫العراقي «محمد مظلوم» عندما يقول‪ :‬لذلك فإن السيّاب ومعه البياتي ونازك يبكون موت‬ ‫أيضا أن نصدق الشاعر‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫درويش أكثر من غيرهم حتى وهم يستعيدونه‪َ ،‬ل َكأ َّنه االبن األكثر تمثُّلاً للجينات الفنية ألشعارهم‪ ،‬يكمل محمد‬

‫ًّ‬ ‫مظلوم‪ :‬ورث درويش الريادة ًّ‬ ‫ً‬ ‫وعبئا‪ ،‬ورث ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وشيئا من منفاها‪ ،‬وطاف‬ ‫شيئا من جماهيريتها‪،‬‬ ‫مجدا‬ ‫مستحقا‪ ،‬ورثها‬ ‫حقا‬ ‫بها ً‬ ‫ملكا متوّجً ا بين الصفوف‪ ،‬في إيقاع درويش يقول محمد مظلوم‪ :‬ال تجد تدويرًا واضحً ا في مجمل تجربة هذا‬ ‫العربي‪ ،‬وهو لم يبتعد كثيرًا من محيط الدائرة اإليقاعية‪ ،‬وتلخيص المعنى الذي دأب عليه ال ُّر َّواد؛ انتهى‬ ‫المغني‬ ‫ّ‬

‫كالم «مظلوم»‪.‬‬

‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬


‫محمود درويش‪ ..‬أشهر شاعر عربي لألسف‬

‫محمود درويش أرض الشعر وهو منشغل بتعريفه‪،‬‬ ‫كانت تعريفاته متواترة ومتالحقة بإصرار في دواوينه‬

‫األولى‪ ،‬وأصبحت كذلك في دواوينه األخيرة‪ ،‬إنها؛‬ ‫ُّ‬ ‫تطل برؤوسها أكثر في‬ ‫أي التعريفات‪ ،‬كائنات‬ ‫المحطات البائسة‪ ،‬لفتني أن تجربة محمود درويش‬

‫التي تنتسب إلى تجارب ال ُّروَّاد تختلف عنها في بعض‬

‫الوجوه‪ ،‬فكلهم برز منذ ديوانه األول أو الثاني؛ كلهم‬ ‫ً‬ ‫وطريقا منذ أوله أو ثانيه‪ ،‬بينما ظل محمود‬ ‫فتح بابًا‬ ‫يكتب أناشيده‪ ،‬التي استظهرها كثيرون‪ ،‬وظل يتطوَّر‬

‫ببطء إلى أن وصل إلى «المحاولة رقم ‪ ،»7‬وعندها‬ ‫بدأ ِّ‬ ‫الشعْ ر‪.‬‬

‫ال أحب أن أستنتج لغيري ما يجوز أن أستنتجه لنفسي‪،‬‬

‫كأن أقول‪ :‬إن الفطرة تظهر على الشاعر‪ ،‬وتظهره منذ اللحظة‬ ‫األولى‪ ،‬أما الذكاء فيحتاج إلى وقت وممارسة وخبرة‪ ،‬عمومً ا‬

‫هذا وجه أول لالختالف بينه وبين روّاده‪ ،‬الوجه اآلخر يختفي‬

‫وراء تلك العبارة المنسوبة إلى إليوت أو إلى غيره‪« :‬إن‬ ‫الحقيقي يعرف كيف يسرق وال يعرف كيف ّ‬ ‫يقلد»؛‬ ‫الشاعر‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫سارقا وال مقلدً ا! لكنه مع ذلك‬ ‫والله لم يكن محمود درويش‬

‫لم يستطع‪ ،‬أو لم يرغب في أن يسيطر على ظالل أو أشباح‬ ‫ما يقرؤه‪ُ ،‬ك ُّلنا مسكون‪ ،‬كلنا يحرص على أن يخفي أشباحً ا‪،‬‬ ‫لكنك عندما تشرع في قراءة قصائده ترى أشباحه ّ‬ ‫تولي‪ ،‬تبدأ‬

‫مع العب النرد‪« :‬من أنا ألقول لكم ما أقول لكم»‪ ،‬فترى‬ ‫شبح صالح عبدالصبور يختفي‪ ،‬تقرأ مرثيته لجمال عبدالناصر‬

‫«الرجل ذو الظل األخضر» فيتوارى أمامك شبحان لصالح‬

‫عبدالصبور ونزار قباني‪ ،‬وربما أكثر‪ ،‬تقرأ «سنة أخرى فقط»‬ ‫فيف ّر أمامك شبح أحمد عبدالمعطي حجازي‪ ،‬تقرأ «الجدارية»‬

‫فترى أدونيس ينصرف بعد أن يترك عبارته «هذا هو اسمي» أو‬

‫«هذا هو اسمك»‪.‬‬

‫ما زلت حائ ًرا في اختيار طريقة تأويل مختاراتي من‬

‫الغربي هانز أيسلر‪،‬‬ ‫األلماني‬ ‫شعر درويش‪ ،‬أنقذني المؤلف‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وأعطاني طوق نجاة‪ ،‬فهو يق ِّرر أنه يوجد ثالثة مبدعين كبار‬

‫في ميدان الموسيقا ملؤوا حقبة القرن العشرين‪ :‬شونيبرغ‪،‬‬ ‫وسترافنسكي‪ ،‬وياناتشيك الذي لم يستطع ‪-‬كما يقول أيسلر‪-‬‬

‫مجاراة زميليه في ابتداع قوالب ولغات موسيقية جديدة إال أنه‬ ‫تميّز بأصالة وواقعية ّ‬ ‫تجلتا‪ ،‬وبخاصة فيما أدخله من تجديدات‬

‫محمد مظلوم‬

‫علي حرب‬

‫هدهد العطار‪ ،‬اصطاده درويش من‬ ‫وعوضا من أن يطلقه‬ ‫سماء بعيدة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫في سماء الشعر‪ ،‬وهي بعيدة‬ ‫أيضا؛ حبسه في قفصه‬ ‫ً‬ ‫الوصف‪ ،‬فماذا إذن عن ياناتشيك؟! إنه ليس بالقطع تقدميًّا وال‬ ‫ً‬ ‫محافظا‪ ،‬وما دام قد أعرض عن ركوب الموجة السائدة‪،‬‬ ‫حتى‬

‫من دون أن ينكص‪ ،‬كما يتوقع‪ ،‬على عقبيه‪ ،‬مذع ًنا لحالة من‬

‫الركود‪ ،‬أو لنقل بتعبير آخر‪ :‬إن هاجس الصدمة الناشئة عن‬ ‫ً‬ ‫أحيانا‪،‬‬ ‫الجديد‪ ،‬لم يكن بأكثر استيالء عليه من الرغبة الموجعة‬ ‫في البحث عن إمكانية الصدق المعبِّر والمثير‪ ،‬وفي األغلب‬ ‫ترد إشارات‪ ،‬تخالطها دهشة لها ما يسوّغها‪ ،‬إلى أن جميع‬

‫أعمال ياناتشيك تعزى إلى أواخر الحقبة الوسطى والمتقدمة‬ ‫من حياته‪ ،‬ومما يسترعى االنتباه له كيف أن رجلاً في عقديه‬

‫السادس والسابع أمكنه بالفعل أن يكتب موسيقا تحفل بكل‬ ‫هذا الرصيد من ُ‬ ‫الف ُتوَّة والطاقة واالنفعال؟! كما تعيننا الظاهرة‬

‫ذاتها على فهم النزعة التقريرية المباشرة عند ياناتشيك‪ ،‬فقد‬ ‫ً‬ ‫مقرونا بشعوره الحا ّد بأن‬ ‫كان إدراكه أن لديه كثي ًرا لم ي َُق ْل بعدُ ‪،‬‬

‫الوقت ينقضي بسرعة‪ ،‬وأن الباقي من العمر لم يعد يسمح له‬ ‫الحداثي الذي‬ ‫بإبداء أي قدر من التظاهر‪ ،‬أو العقلنة‪ ،‬أو التوجُّ ه‬ ‫ّ‬ ‫كان سمة العصر كله‪.‬‬

‫على طرائق التعبير؛ ولعل ذلك يكون اإلجابة عن السؤال‪:‬‬

‫من الضروريّ أن أفيدكم أنني ال أعرف ياناتشيك‪ ،‬لكنني‬

‫بار ًزا في قصة تطوّر الموسيقا الغربية؟ فبقدر ما برع األول في‬

‫ُ‬ ‫ابتدأت بها‪ :‬إن أجمل ما تركه محمود درويش‬ ‫مثلي العبارة التي‬ ‫هو شعره‪ ،‬وأسوأ ما تركه لنا هم ُن َّقاده العابرون وَحْ دَ هم في‬

‫لماذا يصعب جدًّ ا إيجاد مكان مناسب لياناتشيك داخل إطار أي‬ ‫ّ‬ ‫يحتل كل من شونيبرغ وسترافنسكي موقعً ا‬ ‫مخطط ثوريّ ‪ ،‬بينما‬

‫استخالص نظام غير مسبوق‪ ،‬وإن كان ال يزال موضوع خالف‪،‬‬ ‫َ‬ ‫اإليقاع وضعً ا جديدً ا تمامً ا‪ ،‬وحرية تفوق‬ ‫َب‬ ‫أتيح للثاني أن َيه َ‬

‫أعرف محمود درويش؛ وإذا فعلتم مثلي ووضعتم اسم درويش‬ ‫ّ‬ ‫محل اسم ياناتشيك‪َ ،‬ف َل َسوْف َت َروْن ما أَراه‪ ،‬و َ​َل َسوف تستعيدون‬

‫كالم عابر!‬

‫‪89‬‬


‫دراسات‬

‫تيماء‬ ‫صراع إمبراطوريات‬ ‫وانفتاح على اآلخر ‪...‬‬ ‫في ضوء نقوشها اآلرامية‬

‫والمرأة حاكمة‬ ‫‪90‬‬

‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬


‫سليمان بن عبدالرحمن الذييب‬ ‫باحث سعودي‬

‫اإلستراتيجي لمدينة تيماء جعلها نقطة التقاء كثير من الطرق التجارية التي تربط‬ ‫الموقع‬ ‫ّ‬ ‫اً‬ ‫ً‬ ‫وسط شبه الجزيرة العربية بغربها وشمالها‪ ،‬وقد كان عامل مهمًّ ا في جعلها مَ‬ ‫طمعا للقوى‬ ‫الدولية للسيطرة عليها‪ ،‬واالستفادة من مميزاتها وثرواتها؛ فقد شنَّ عليها كثير من ملوك‬

‫دولة آشور‪ ،‬وهم‪ :‬تجالت فاليسر (‪ 737 - 745‬ق‪.‬م)‪ ،‬وسرجون الثاني (‪ 705 - 722‬ق‪ .‬م)‪،‬‬ ‫ً‬ ‫مقومات‬ ‫عدة؛ لذلك لو لم تكن هذه المدينة تملك‬ ‫حمالت‬ ‫وآشور بانيبال (‪ 627 - 669‬ق‪ .‬م)‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫العاصمة الكبيرة َلمَ ا اختارها الملك الكلداني «نبونيذ» (‪ 539 - 555‬ق‪.‬م) لتكون مقرًّا إلقامته‬ ‫التي استمرَّت مدة ُتراوح بين سبع إلى عشر سنوات‪.‬‬

‫‪91‬‬


‫دراسات‬

‫العربي مع‬ ‫تيماء التي يتناقض معناها لغويًّا في الموروث‬ ‫ّ‬

‫طبيعتها الطبوغرافية‪ ،‬فهو يَعْ ني‪« :‬الخالء من األرض ال ماء‬

‫فيه‪ ،‬وال ناس‪ ،‬وال كأل‪»...‬؛ تتميز ‪-‬كما أشارت مصادر الموروث‬ ‫ِّ‬ ‫والمتمثلة في‪ :‬بحيرة‬ ‫العربي ذاتها‪ -‬بمصادرها المائية الواضحة‬ ‫ّ‬ ‫تيماء‪ ،‬ونهر فيحاء‪ ،‬وأوديتها الكثيرة‪ ،‬وعيونهـا وآبارهـا التي‬

‫تزيــد علـى السبعـين بئـ ًرا‪ .‬وقد ورد اسمُ ها في عصور موغلة في‬

‫ال ِقدَ م؛ مثل‪ :‬المصادر اآلشورية‪ ،‬وروايات العهد القديم‪.‬‬

‫ُعثر في تيماء‪ ،‬هذه المدينة التاريخية المهمة‪ ،‬على تسعة‬

‫وخمسين ًّ‬ ‫نصا؛ أولها‪ :‬وهو أشهرها وأطولها؛ إذ يصل تعداد‬ ‫سطوره ‪ 23‬سط ًرا‪ ،‬اك ُتشف في القرن التاسع عشر الميالديّ ‪،‬‬

‫الفرنسي هوبر‪ ،‬وهو‬ ‫وتحديدً ا عام ‪1880‬م‪ ،‬على يد الرحَّ الة‬ ‫ّ‬ ‫النقش المعروف اصطالحً ا باسم‪« :‬نقش تيماء القديم»‪.‬‬

‫أما آخِ ر هذه النصوص‪ ،‬فهو ما عثرت عليه البعثة السعودية‬ ‫ً‬ ‫األلمانية‪ ،‬ويبلغ تعداده ‪ًّ 20‬‬ ‫منقوشا‪.‬‬ ‫نصا‬ ‫وهذه النصوص اآلرامية جاءت منقوشة على أحجار‬ ‫سوى ست ٍة منها؛ ُن ِقشت على واجهات صخرية‪ُ ،‬عثر عليها‬

‫‪92‬‬

‫نستطيع تأكيد تم ُّيز مجتمع شمال شبه‬ ‫الجزيرة العربية من غيره بمنحه المرأة‬ ‫حقوقا وامتيازا ٍ‬ ‫تحظ بها ليس‬ ‫ت لم َ‬ ‫ً‬ ‫في شبه الجزيرة العربية فحسب‪ ،‬بل‬ ‫في المنطقة ك ِّلها‪ ،‬إضافة إلى تق ُّلدها‬ ‫كم المطلق في كثير من الممالك‬ ‫الح َ‬ ‫ُ‬ ‫الشمالية‬ ‫وسافنياك وجام والثيم واشتيل‪ ،‬وتعدادها سبعة نصوص‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫يسلمونها‬ ‫وبعد أن ازداد الوعي الحضاريّ لدى األهالي شرعوا‬

‫مباشرة إلى إدارة اآلثار والمتاحف؛ فرع تيماء‪ ،‬وبلغ تعدادها‬ ‫إلى اآلن ‪ًّ 18‬‬ ‫نصا‪.‬‬

‫ولعلنا قبل أن نبيِّن ما عكسته هذه النقوش‪ ،‬نوضح‬

‫مضامينها‪ ،‬التي تمثلت في اآلتي‪:‬‬ ‫ً‬ ‫أولاً ‪ -‬أنها راوحت بين شواهد قبور (‪ 17‬نقشا)؛ ألنها بدأت‬ ‫إمَّا باالسم ن ف س؛ أي‪« :‬قبر»‪ ،‬أو باالسم ق ب ر‪َ :‬‬ ‫«قبْر»‪،‬‬

‫الغربي من تيماء‪ ،‬وتبعد‬ ‫في «سرمداء» الواقعة في الجنوب‬ ‫ّ‬ ‫منها ‪ 55‬كيلو مت ًرا‪ ،‬والكتابات على الواجهات الصخرية هي في‬ ‫ُّ‬ ‫يخطه المواطن العادي‪.‬‬ ‫األغلب األعمّ من النوع التذكاريّ الذي‬

‫وهناك ثمانية نصوص ُتعدّ‬ ‫ً‬ ‫نصوصا تق ُّربية؛ أحدها‪ :‬قدم‬

‫حفر منظمة سوى خمسة منها‪ ،‬وجاءت نتيجة لجهود األهالي‬

‫«مناة» تق ُّربًا إليها‪ ،‬عنهما وعن ذريتهما إلى األبد‪ ،‬وآخر تق َّرب‬

‫أما المكتوبة على الحجر‪ ،‬فالطريف أنها لم تكن نتيجة ألعمال‬

‫الذين لم يتوانوا في تقديمها إلى الرَّحَّ الِين‪ ،‬ويبلغ تعدادُها‬ ‫ستة نصوص؛ أمثال‪ :‬اإلنجليزيّ «داوتي»‪ ،‬واأللماني «أويتنج»‪،‬‬

‫والفرنسي «هوبر»؛ أو الباحثين والدارسين؛ مثل‪ :‬جوسين‬ ‫ّ‬

‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬

‫صاحباه المدعوان (أحْ ب وفومو) حج ًرا لمعبد اإللهة المعروفة‬

‫به «فصجو الطاهر» إلى اإلله صلم ببناء معبد لـه‪ ،‬إضافة إلى‬ ‫كرسي (عرش) له‪ ،‬ولعل أطرفها تقرب َتيْم بن الهي بحجر‬ ‫إهداء‬ ‫ّ‬

‫مكعب لإلله درعا‪ ،‬الذي أنقذ «حرام» من مرض عضال ألمَّ به‪.‬‬


‫تيماء في ضوء نقوشها اآلرامية صراع إمبراطوريات وانفتاح على اآلخر ‪ ...‬والمرأة حاكمة‬

‫ويبدو أن َن َّ‬ ‫صي ِْن منها يعدَّ ان من نصوص الملكية‪،‬‬ ‫لاً‬ ‫فاألول يشير إلى ملكيته منز ‪ ،‬والثاني يشير إلى‬ ‫إنشائيين؛ أحدهما‬ ‫نقشين‬ ‫ملكيته قاعدة‪ .‬ونجد‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬

‫أشار فيه صاحبه إلى إنشاء مبنى معماريّ يعود‬ ‫اللحياني «تلمي»‪ ،‬واآلخر‬ ‫إلى حقبة الملك‬ ‫ّ‬ ‫يبيِّن إنشاء بوابة لمدينة تيماء في عهد الملك‬

‫اللحياني «نوران»؛ لحماية نخيل المدينة من‬ ‫ّ‬ ‫التخريب والعبث‪.‬‬

‫ثانيًا‪ -‬أن المادة التي ُكتبت عليها هذه‬

‫المجموعة هي الحجر‪ ،‬سوى نقش وحيد‬ ‫ُكتب على كسرة فخارية‪ ،‬يُق َرأ « ِقدْ ر الخمر»‪،‬‬

‫في إشارة واضحة إلى أن أهل تيماء كانوا‬

‫يتبادلون البضائع أو يبيعونها‪ ،‬ويضعون عليها‬

‫معلومات؛ كي ال تختلط مع تلك التي تحوي عسلاً‬ ‫ٍ‬

‫أو ً‬ ‫زيوتا أو غيرهما‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ثالثا‪ -‬رافق أغلبية هذه النقوش‪ ،‬وبخاصة المكتوبة‬

‫على األحجار‪ ،‬رسوم وزخارف؛ فعلى حين غلب رسم الوجه‬ ‫المسلتين‬ ‫الصامت على النقوش القبورية (شواهد القبور)‪ ،‬فإن‬ ‫ِ‬ ‫ُزيِّنتا برسوم ورموز مقدسة؛ مثل‪ :‬القرص المج َّنح؛ وعلى‬ ‫حين تميَّزت مسلة تيماء القديمة التي ُعثر عليها عام ‪1880‬م‬ ‫برسم شخص وعجل‪ ،‬فإن مسلة تيماء عام ‪1979‬م ُنحِ َ‬ ‫ت عليها‬

‫لها كما ُقدست لدى األنباط وأهالي مدينة الحضر؛ أما مهامُّ ها‬ ‫لدى أهالي تيماء فهي حماية القبور‪.‬‬

‫ً‬ ‫رابعا‪ -‬إن النقوش الخمسة المؤرخة تضيف إلى معرفتنا‬

‫المتواضعة بالتقويم المستخدم لدى اآلراميين‪ ،‬أنهم تعاملوا‬

‫ب سنوات حكم أحد‬ ‫مع نظامين للتأريخ‪ :‬أولهما‪ :‬التأريخ حَ َس َ‬ ‫ملوك اإلمبراطوريات المعاصرة لهم‪( :‬اآلشورية‪ ،‬والمصرية‬

‫نجمة وقمر كامل‪ .‬أما المكعب الذي ُن ِقش متأخ ًرا‪ ،‬فقد ُنحت‬

‫القديمة‪ ،‬واألخمينية)‪ .‬ثانيهما‪ :‬التأريخ حسب سنوات الملك‬

‫أما الوجه الصامت فإن ُ‬ ‫خلوَّه من الفم واألذنين‪ ،‬وإغماض‬ ‫عينيه‪ ،‬يطرح تساؤلاً عما كان يهدف إليه النحات من هذا‬

‫ً‬ ‫–أيضا‪ -‬علم لشعب‪ .‬وأمَّ ا ما يتصل بأسماء‬ ‫ولحيان‪ ،‬وهو‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫مان فقط‪ ،‬هما‪ :‬أرحبة‪ ،‬وتيماء‪ .‬وكذلك‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫ظهر‬ ‫األماكن فقد‬ ‫ِ‬

‫الديني بجنوب شبه الجزيرة‬ ‫عليه رأس الثور الشائع في الفن‬ ‫ّ‬ ‫العربية‪ ،‬فهو يرمز إلى اإلله القمر‪.‬‬

‫الرسم‪ .‬فقد يكون هذا الرسم لبيان انتقال رُوح صاحب الشاهد‬

‫ونفسه‪ ،‬فهو ال يسمع وال يتكلم‪ ،‬وكذلك ال يرى ما يدور حوله‪.‬‬ ‫أو أن يكون هذا الوجه الصامت ليس إال لإلله الذي تكمن‬

‫مهمته في حماية القبور والحفاظ على حرمتها وقدسيتها‪.‬‬

‫والواقع أن الرسم بهذه الهيئة (من دون الفم)‪ ،‬يُشبه صورة‬

‫اإللهة أتارجاتيس؛ إحدى معبودات سوريا الشمالية‪ ،‬وكان‬ ‫الروماني إلهة سوريا‪ .‬وهي ُتعدّ معبودة‬ ‫يطلق عليها في العصر‬ ‫ّ‬ ‫الخصوبة والحياة الرغدة المنعمة؛ لذلك كانت السنبلة شعارًا‬

‫المحلي‪ :‬مثل نقوش‪ :‬زنجيرلي‪ ،‬وبرركب‪.‬‬ ‫اآلرامي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫خامسا‪ -‬أضافت النقوش لنا َعلمين لقبيلة؛ هما‪ :‬حطمة‪،‬‬

‫أسماء الشهور الثالثة‪ ،‬وهي‪ :‬آب‪ ،‬وشباط‪ ،‬وآذار‪.‬‬ ‫ملوك ودول‬

‫أبانت هذه النقوش أن تيماء في الحقبة الواقعة بين‬ ‫ً‬ ‫مستقلة بشكل‬ ‫القرنين السادس والثالث قبل الميالد لم تكن‬ ‫ً‬ ‫تابعة‪ ،‬وعاصمة للملك الكلداني «نابونيد»؛‬ ‫واضح؛ إنما كانت‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫البابلي‬ ‫يدل على هذا األمر –أيضا‪ -‬النقوش التي كتبت بالقلم‬ ‫ّ‬

‫الحديث‪ ،‬واكتشفت من خالل التنقيبات األثرية التي تجري‬ ‫حاليًا في هذه المدينة العريقة‪ .‬األمر اآلخر أن الملوك الثالثة‪:‬‬ ‫تلمي‪ ،‬ونوران‪ ،‬وهعلي‪ ،‬الذين وردت أسماؤهم بشكل واضح‪،‬‬

‫الفكري الذي تبناه المجتمع‬ ‫المنهج‬ ‫ّ‬ ‫أساسا في جعلها مدينة‬ ‫التيماوي كان‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫مسالمة مستقطبة الشعوب المعاصرة‬

‫أشاروا إلى أنهم ملوك لحيان‪ .‬وهذا يَعْ ني أن لحيان الدولة‬

‫القوية إقليميًّا آنذاك انتهزت األحداث اإلقليمية والدولية التي‬

‫أدت إلى تغيير واضح في خريطة الدول اإلقليمية بعد سقوط‬ ‫الفارسي للمنطقة؛ نقول‪ :‬إن لحيان‬ ‫العاصمة البابلية واالجتياح‬ ‫ّ‬ ‫استغلت هذا الفراغ َّ‬ ‫ووظفته لمصلحتها‪ ،‬فضمَّ ت هذه المدينة‬

‫‪93‬‬


‫دراسات‬

‫التي ال ُتعدّ من أهم المراكز الحضارية في المنطقة العربية‬

‫فحسب‪ ،‬بل ُدرَّتها‪ .‬وقد راعى اللحيانيُّون المكانة الثقافية‬

‫الثال َِث َة ُ‬ ‫الكريم‪{ ،‬وَمَ َن َ‬ ‫اة َّ‬ ‫األ ْخ َرى} (النجم‪ ،)20 :‬التي عبدتها‬ ‫ً‬ ‫القبائل العربية قبل اإلسالم‪ ،‬وقد وُصفت تارة بأنها امرأة‬

‫والحضارية ألهل تيماء‪ ،‬فلم يفرضوا لغتهم اللحيانية‪ ،‬إنما‬

‫عريانة سوداء ثائرة الرأس‪ ...‬وهذه المعبودة التي وُصفت بأنها‬

‫اآلرامية‪ ،‬تعبي ًرا منهم عن احترامهم الثقافة والمكانة الحضارية‬

‫تقديسا من أهالي تيماء‬ ‫ صلم‪ :‬هو معبود تيماء األكثر‬‫ً‬ ‫ِّ‬ ‫ْ‬ ‫اشتركت في عبادته مع‬ ‫المحليين‪ ،‬وهو من المعبودات التي‬

‫استخدموا اللغة التي استخدمها المجتمع التيماويّ وهي اللغة‬ ‫لهذا المجتمع الفاعل حضاريًّا‪.‬‬ ‫آلهة ومعبودات‬

‫وردت في هذه المجموعة أسماء اآللهة‪ :‬إشيما‪ ،‬ودرعا‪،‬‬

‫ومنوه‪ ،‬وصلم‪ ،‬وشنجال‪ .‬والواقع أن هذه اآللهة التي وردت‬ ‫في النقوش التقدمية (التقريبية) َل ُّ‬ ‫تدل على التديُّن واالرتباط‬

‫باآللهة والمعبودات عند قبائل منطقة تيماء آنذاك‪ .‬ومما يثير‬ ‫االهتمام هو تعدُّ د اآللهة ومعابدها‪ ،‬وهو ‪-‬في تصوُّرنا‪ -‬يشير إلى‬

‫طبيعة مجتمع تيماء المختلطة‪ ،‬وأهميتها االقتصادية آنذاك‪.‬‬ ‫والمعبودات المعروفة‪ ،‬هي‪:‬‬

‫إلهة القدر والنصيب والموت‪.‬‬

‫النبطي‪.‬‬ ‫أهل تيماء القبائل الثمودية والشعب‬ ‫ّ‬ ‫‪ -‬درعا‪ :‬معبود يمكن مقارنته بكلمة درع‪ ،‬المعروفــة في‬

‫العهــد القديــم بمعنى «صــورة القــوة اإللهيــة»‪ ،‬وال نستبعــد أن‬ ‫يكــون اسمً ا لمعبــود أو معبودة غير واسع االنتشار في شبه‬

‫الجزيرة العربية‪.‬‬

‫المرأة حاكمة ممالك‬

‫االجتماعي نستطيع تأكيد تميُّز مجتمع‬ ‫من خالل الجانب‬ ‫ّ‬ ‫شمال شبه الجزيرة العربية من غيره بمنحه المرأة حقوقاً‬

‫‪ -‬شنجال‪ :‬اسم معبودة ُعرفت عند البابليين بصيغة شجل‪،‬‬

‫َ‬ ‫تحظ بها ليس في شبه الجزيرة العربية فحسب‪،‬‬ ‫وامتيازات لم‬ ‫ٍ‬ ‫بل في المنطقة ِّ‬ ‫كلها‪ ،‬إضافة إلى ُّ‬ ‫تقلدها الحُ كمَ المطلق في‬

‫قبل الميالد‪ - .‬منوه‪ :‬هـي اإللهــة منـاة المذكـورة في القـرآن‬

‫المعبد‪ ،‬فقد كانت تتمتع بحرية اجتماعية واضحة؛ فمن‬ ‫النقوش التسعة والخمسين‪ ،‬نجد أن خمسة نقوش منها ك َتبَها‬

‫ويعتقد بعض المتخصصين أنها إلهة القمر‪ - .‬إشيما‪ :‬معبودة‬

‫ُعرفت في سوريا القديمة‪ ،‬وتحديدً ا في حماة في القرن الثامن‬

‫‪94‬‬ ‫التيماوي المسالمة‬ ‫طبيعة المجتمع‬ ‫ّ‬ ‫في وسط بقعة تموج باإلمبراطوريات‬ ‫والممالك المتصارعة هي التي قادته‬ ‫إلى تبنِّي المذاهب والمعبودات كافة‬

‫ً‬ ‫َ‬ ‫دينية ُعليا في‬ ‫وظائف‬ ‫كثير من الممالك الشمالية‪ ،‬وتقلدها‬

‫نساء؛ مثل‪ :‬تشلح بنت معن نتن‪ ،‬وعلي مناة بنت تيمان‪،‬‬ ‫وفصي بنت مماص‪ ،‬وعالن بنت شبعان؛ وإن هذه المكانة‬

‫الطيبة للنساء في المجتمعات الشمالية ال تعود إلى احتكاكهن‬ ‫باإلمبراطوريات في بالد الرافدين وسوريا الكبرى ومصر وغيرها‬ ‫ِّ‬ ‫المتمثلة في االنفتاح على اآلخر‪.‬‬ ‫فحسب‪ ،‬إنما تعود إلى الثقافة‬ ‫ُّ‬ ‫وتدل النقوش على انفتاح المجتمع التيماويّ ‪ ،‬وعدم‬ ‫ُّ‬ ‫ويدل َقبول‬ ‫اجتماعي منغلق‪،‬‬ ‫ديني أو‬ ‫تقوقعه في فكر‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫المجتمع تعيينَ كاهن ذي أصول مصرية؛ على االنفتاح‬ ‫ِ‬ ‫الحضاريّ ‪ ،‬الذي يرى َقبول اآلخر هو أساس تقدُّ م‬ ‫أيّ مجتمع قديم أو حديث‪ .‬ولعل القول‪ :‬إن َقبول‬ ‫المجتمع المدعوم من ملك تيماء نفسه َليشي ُر إلى أن‬ ‫طبيعة المجتمع التيماويّ المسالمة في وسط بقعة‬ ‫تموج باإلمبراطوريات والممالك المتصارعة هي التي‬ ‫قادته إلى تب ِّني المذاهب والمعبودات كافة؛ لتكون‬ ‫مدينتهم مستقطبة الشعوب القديمة جميعها‪...‬‬ ‫المنازل ملكية مباحة‬

‫من األمور المؤكدة أثريًّا الجانب المعماريّ‬

‫والتخطيطي للمدينة من حيث قصورُها؛‬ ‫ّ‬ ‫الملكي المعروف باسم «قصر‬ ‫القصر‬ ‫مثل‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫الحمراء»؛ أو المنازل والبيوت والمعابد‬

‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬


‫تيماء في ضوء نقوشها اآلرامية صراع إمبراطوريات وانفتاح على اآلخر ‪ ...‬والمرأة حاكمة‬

‫واألسوار؛ لكن النقوش أ َّكدت بذكرها السور الذي ثبت أثريًّا أن‬ ‫طول المك َتشف منه يبلغ ‪ 18‬كم‪ ،‬وإحدى بواباته ِّ‬ ‫تمثل التطور‬

‫والتخطيطي للمدينة‪ .‬ونشير هنا إلى أن التملك لم‬ ‫المعماريّ‬ ‫ّ‬ ‫يكن حَ ْك ًرا للملك وحكومته والمعبد وكهنته‪ ،‬إنما كان مباحً ا‬

‫ألفراد المجتمع كافة‪ ،‬ويدل على ذلك أحد النقوش‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫حديثا‬ ‫قديما دبي‬ ‫تيماء‬

‫البضاعة وهو «الخمر»‪ ،‬والخمر ال ُتصنع إال من العنب‪ ،‬ولعل‬

‫أهل تيماء استخدموا التمر في صناعة الخمور‪.‬‬ ‫يعدُّ الرَّحَّ الة هوبر َ‬ ‫أول من أشار إلى هذه المسلة من‬

‫الرَّحَّ الين األجانب‪ ،‬في أثناء زيارته المنطقة عام ‪1878‬م؛ وفي‬

‫زيارته الثانية‪ ،‬التي كانت بعد خمس سنوات من األولى عام‬ ‫‪1883‬م‪ ،‬كان عازمً ا على اقتناء المسلة‪ ،‬ونقلها إلى وطنه األم‬

‫فرنسا‪ ،‬وقد تحقق لـه ذلك‪ ،‬بعد شرائها من مالك بئر هداج‪،‬‬

‫ال خالف على أن الشواهد األثرية المادية بما فيها النقوش‬

‫مالي رآه صاحب البئر‬ ‫الذي استخرجها من البئر مقابل مبلغ‬ ‫ّ‬ ‫كافيًا للتخلص منها وبيعها‪ .‬ويهمُّ نا من هذه المسلة حاليًا‬ ‫النقش الذي ُكتب عليها‪ ،‬والمكون من ‪ 23‬سط ًرا واضحً ا مقروءً ا‬

‫أو دبي ومثيالتها في الوقت الحاضر‪ .‬وهذا المنهج تتبناه –في‬

‫العوامل الطبيعية‪ ،‬ويتلخص موضوع هذا النقش في موافقة‬

‫تدل على أن المنهج الفكريّ الذي تبناه المجتمع التيماويّ كان‬

‫أساسً ا في جعلها مدينة مسالمة مستقطبة الشعوب المعاصرة‬ ‫بشكل واضح؛ مثل أوغاريت في األلفية الثانية قبل الميالد‪،‬‬ ‫األغلب‪ -‬المدن الصغيرة المساحة التي تقع بمحاذاة كبيرة‪.‬‬

‫والنقش الذي وُجد على كسرة فخارية هو بمنزلة التعريف بنوع‬

‫البضاعة في الجرة‪( :‬الخمر)‪ ،‬يدل على تطوُّر التسويق التجاريّ‬ ‫ً‬ ‫–أيضا‪ -‬في حفظ كثير من األصناف‬ ‫فالج َرار ُتستخدَ م‬ ‫وعرضه‪،‬‬ ‫ِ‬

‫بشكل جيِّد سوى األسطر من الخامس إلى الثامن‪ ،‬التي مَ حَ ْتها‬

‫كهنة معابد اآللهة األخرى على تعيين (تنصيب) الكاهن صلم‬ ‫شزب كاه ًنا لمعبد اإلله صلم (ذو) هجم؛ إضافة إلى اتفاقهم‬ ‫ً‬ ‫نخلة إذا أضفنا إليها‬ ‫على تقديم هبة سنوية مكونة من ثمار ‪21‬‬

‫الزراعية وكثير من األشياء؛ لذلك ُكتب على هذه ال ِقدْ ر نوع‬

‫تجارة شواهد القبور‬

‫نشير هنا إلى مالحظة مهمة توضح كيف كان يُك َتب النقش في تلك الحقبة؛ ألن كتابة شواهد القبور كان عملاً تجاريًّا‬ ‫َّ‬ ‫المتوفى قبل وفاته أو بعدها إلى مُ تعهِّد تكفين الموتى (الحانوتي) الذي من ضمن‬ ‫يد ُّر ِربحً ا ودخلاً جيدً ا؛ إذ يأتي أهل‬ ‫َّ‬ ‫ودل نقشان على أن (الحانوتي) كان يقوم بكتابة النقش‬ ‫مهامِّ ه إعداد كل ما يتعلق بالدفن‪ ،‬ومنها كتابة شاهد قبره‪،‬‬ ‫المتوفى يقوم بكتابة الشاهد بشكل أكثر دقة؛ لذلك نجد أن خالفاً‬ ‫َّ‬ ‫مبدئي (بروفة)‪ ،‬وبعد الموافقة النهائية من أهل‬ ‫بشكل‬ ‫ّ‬

‫الكتابي الذي وقع فيه الكاتب‪ ،‬الناتج عن اختالف أشكال حروف‬ ‫نشب بين الكاتب (النحات) وأقرباء «حنه»؛ بسبب الخطأ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫متبوعة باسم المتوفاة‪ ،‬وكان من المفترض أن يكتب الكلمة كاملة هكذا‪:‬‬ ‫الكلمة األولى ن ف‬ ‫نقش «حنه»‪ ،‬فقد َك َتب‬ ‫ن ف س‪ .‬وبسبب هذا الخطأ ق َّرر أقرباء «حنه» صرف النظر عن شراء الشاهد؛ وعندما لم تتم الصفقة ُترك الشاهد مهملاً‬ ‫في ساحة (الورشة)‪ ،‬فقام أحدهم‪ ،‬وقد يكون أحد أوالد الكاتب أو أحفاده‪ ،‬بكتابة حروف السطر الثاني من باب التمرين‪،‬‬ ‫لكنه بسبب قلة خبرته‪ ،‬وعدم ُّ‬ ‫تمكنه من الكتابة على الحجر بالشكل الصحيح؛ جاءت حروفه سيئة وغير واضحة‪ .‬أو ذلك‬

‫الحجر شبه المربع الذي وجدنا عليه نقشين ُك ِتبَا بشكل متعاكس؛ ما يعني أن الحجر كان إما للتمرين‪ ،‬أو ألخذ الموافقة‬ ‫َّ‬ ‫المتوفى‪.‬‬ ‫النهائية لكتابة الشاهد من أهل‬

‫‪95‬‬


‫دراسات‬

‫صحراء غازي‬ ‫وصحراء أسامة‬ ‫القصيبي قصيدة «يا‬ ‫في سنة ‪1386‬هـ َن َظمَ غازي‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫ٌّ‬ ‫بالصحراء‪،‬‬ ‫شاب‬ ‫صحراء»‪ ،‬وفيها َي ُلوذ شاعر‬

‫والسكينة لروحه‪.‬‬ ‫يستمنحها األمن لنفسه‪،‬‬ ‫َّ‬

‫‪96‬‬

‫والقصيدة أنشودة رومنطيقيَّة تنطوي أبياتها على‬ ‫شاب ما استق َّر بَعْ ُد‪ ،‬في وطنه ُ‬ ‫ّ‬ ‫األمّ ‪ ،‬بعد‬ ‫َه َلع‬

‫سنوات ال َّن ْشأة في البحرين‪ ،‬وسنوات الغربة في‬ ‫أميركا‪ ،‬وها هي ذي قصيدته «يا صحراء» َّ‬ ‫كأنها‬ ‫تميمة ِّ‬ ‫يؤلف بها قلب َّ‬ ‫الصحْ راء‪ ،‬فعسى أن تمنحه‬ ‫الد ْ‬ ‫ِّ‬ ‫فء‪ ،‬وعسى أنْ تقبله ابنها الجديد‪.‬‬

‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬

‫حسين محمد بافقيه‬ ‫سعودي‬ ‫ناقد وكاتب‬ ‫ّ‬


‫أسامة عبدالرحمن‬

‫غازي القصيبي‬

‫اختالط البحر بالصحراء‬

‫َّ‬ ‫الصحراء بالـجَ دْب‬ ‫القصيبي في هذه القصيدة‬ ‫يصف‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬ ‫ْ‬ ‫والطهْر والعُ نف معً ا‪:‬‬ ‫و ُ‬ ‫ت َ‬ ‫َط ْف ُ‬ ‫الكوْنَ ‪َ ..‬لـمْ أَ ْع ُث ْر‬ ‫َ‬ ‫ْض ْ‬ ‫َع َلى أَجْ َد َ‬ ‫ك‬ ‫ب مِ نْ أر ِ‬ ‫َع َلى أَ ْطهَ َر مِ نْ حُ ب ْ‬ ‫ِّك‪..‬‬ ‫أَ ْو أَ ْع َن َ‬ ‫ض ْ‬ ‫ك‬ ‫ف مِ نْ ب ُْغ ِ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫والصحْ راء في هذه القصيدة‪،‬‬ ‫اختلطت مفردات البحر‬

‫فوَجْ ه الشاعر عليه رذاذ البحر‪ ،‬ووسط َّ‬ ‫الصحْ راء الجديدة لم‬ ‫س بَعْ دُ ‪ ،‬مَ ْرساته التي ألقاها على ال َّرمْ ل‪ ،‬وينادي َّ‬ ‫الصحراء‬ ‫َي ْن َ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫استعادته‬ ‫وكأنها‬ ‫بكلمة «أمَّ اه»‪ ،‬وهي تناديه بكلمة «طِ ْفلِي»‪،‬‬ ‫القصيبي‬ ‫بَعْ دَ ُطول غياب‪ ،‬وفي هذه القصيدة كانت صحراء‬ ‫ّ‬ ‫التي حَ لم بها‪ ،‬هي صحراء ال ُّروم ْنطيقيِّين‪ ،‬تلك َّ‬ ‫الصحراء التي‬ ‫«صبَا َنجْ دٍ »‪َ ،‬‬ ‫َ‬ ‫ُت َخبِّئ أسرار َ‬ ‫وتمْ َنح العاشقين َن ْفحَ ة مِ نْ «ع َر ِاره»‬

‫السابعة والعشرين مِ نْ‬ ‫المشهور! قال غازي قصيدته وهو في َّ‬ ‫كأنه أراد أن ُيو ِّ‬ ‫َّ‬ ‫ُعمره‪َّ ،‬‬ ‫َطن نفسه أنْ ستقبله َّ‬ ‫وكأنه‬ ‫الصحراء‪،‬‬

‫رَمَ ى مِ نْ وارء هذه القصيدة‪ ،‬أنْ ستقبل َّ‬ ‫الصحْ راء شاع ًرا ما‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫انفك يَحِ نُّ إلى مرابع ِصبَاه في «جزائر اللؤلؤ»‪ ،‬غير أنه ما لبث‬ ‫غير قليل ح َّتى َشدَّ الرِّحَ ال إلى الغرب‪ ،‬مِ نْ جديد‪ ،‬ثمَّ آب إلى‬ ‫صحرائه‪ ،‬وجعل ي َُطمْ ئنها هذه الم َّرة بديوان كامل‪َّ ،‬‬ ‫لعله َ‬ ‫صك‬ ‫«أنت ال ِّريَاض» د َْغدَ غة مِ نْ شاعر تنتثر‬ ‫انتماء إليها‪ ،‬وكان ديوان‬ ‫ِ‬

‫مفردات البحر على جسده لعروسه َّ‬ ‫الصحْ راويَّة ال ِّرياض‪ ،‬فهي‬

‫س بَعْ دُ ‪ ،‬لشاعرها الذي أشبع ليل المنامة ِشعْ ًرا وَحُ بًّا‪،‬‬ ‫لم َت َأن ْ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫والصحْ راء؟‬ ‫وهل يصطلح البحر‬

‫ْك‪..‬‬ ‫حُ بُّنا ي ُْش ِر ُق ِفي َع ْي َني ِ‬ ‫َكالب َْد ِر َع َلى َلي ِْل َ‬ ‫الخلِيجْ‬ ‫َس َّل ًة مِ نْ ُل ْؤ ُل ٍؤ‪ ..‬حُ ْزمَ َة ُف ٍّل‪َ ..‬قا ِف َي ْه‬ ‫َ‬ ‫الـم َ‬ ‫َ‬ ‫األ ْخ َ‬ ‫ض ِر‬ ‫ما الذي ألـمـَحُ ه ِفي العَ ِ‬ ‫مَ ا َب ْينَ الـمِ يَاه َّ‬ ‫الصا ِف َيهْ؟‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ال ِّ‬ ‫يف‪ ..‬أ َّيامِ ي‬ ‫الس ِ‬ ‫أمْ ِسيَاتِي ِفي ِرمَ ِ‬ ‫َع َلى البحر‪َ ..‬ليَا ِلـي َ‬ ‫ْص‪..‬‬ ‫الغو ِ‬ ‫أَ ْنوَا ُر الـمَ َنامَ ْه‬ ‫رَجَ َع َ‬ ‫الغو ُ‬ ‫السلاَ مَ ْه‬ ‫َّاص‪ ،‬يَا أَ ْغ َلى الآللِي‪ ،‬بِ َّ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫لكنَّ صحراءه لم ت ْن ِسه واح َته القديمة‪ ،‬و َي ْن َسى الشاعر‬ ‫ت‬ ‫أنَّ لألمكنة قلوبًا تغار‪ ،‬و َي ْن َسى أنَّ ديوانه يحمل اسم «أَ ْن ِ‬ ‫ال ِّريَاض»‪ ،‬ف ُي ْن ِشد على مسامعها قصيدة يستدني فيها طفولته‬ ‫في المنامة وأمنه وسكينته‪:‬‬

‫َ‬ ‫ْك‬ ‫أ ُعو ُد إِ َلي ِ‬ ‫أَ ُق ُّ‬ ‫ذاب‬ ‫ْك حَ َكايَا العَ ْ‬ ‫ص َع َلي ِ‬ ‫و َ​َكي َ‬ ‫ْف ار َْتحَ ْل ُ‬ ‫السرَاب‬ ‫ت َورَاءَ َّ‬ ‫َ‬ ‫و َ​َكي َ‬ ‫صحِ ب ُ‬ ‫ْف َ‬ ‫اب‬ ‫ْت الذئ ْ‬ ‫ويقول‪:‬‬

‫ْك‬ ‫ُخذي ِني إِ َلي ِ‬ ‫و اَ​َل َت ْت ُركِي ِني‬ ‫أَ ُعو ُد إِ َلى َ‬ ‫الق ْف ِر و ُ‬ ‫ول‪..‬‬ ‫َالغ ِ‬ ‫اَل َت ْت ُركِي ِني‪..‬‬ ‫أُ َف ِّت ُ‬ ‫ش َعنْ مَ ْنب ٍَع ِفي ُّ‬ ‫الص ُخو ْر‬ ‫َع ِن ال َو ْر ِد ِفي الرَّمْ ِل‪..‬‬

‫‪97‬‬


‫دراسات‬

‫اَل َت ْت ُركِي ِني‪..‬‬ ‫ْ‬ ‫س‬ ‫ل َِقه َْقهَ ةِ اليَأ ِ‬ ‫ِفي ُخ ُطوَاتِي‬ ‫لِزمْ جَ َر ِة َّ‬ ‫س َفو َْق جَ ِبي ِني‬ ‫الشمْ ِ‬ ‫وعي َّ‬ ‫ين‬ ‫لِحُ ر َْقةِ جُ ِ‬ ‫الد ِف ِ‬ ‫ْك‪..‬‬ ‫إِ َلي ِ‬ ‫ْك‪..‬‬ ‫إِ َلي ِ‬ ‫حنين إلى الواحة والبحر‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫القصيبي مِ نَ‬ ‫لم ُت ْفلِحْ قصائد الغزل في أنْ تق ِّرب‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫الصحْ راء‪ ،‬وليس عليها مِ نْ لوم‪ ،‬فشاعرها ي َُخبِّئ خلف مفرداته‬ ‫ً‬ ‫جارفا إلى الواحة والبحر‪ ،‬وفي وسط صحرائه المهلكة‬ ‫حني ًنا‬ ‫تبدو الواحة في خياله فتمنحه األمل‪ ،‬ولم َتـجُ دِ َّ‬ ‫الصحراء عليه‬ ‫ُ‬ ‫بطمأْنينة رُوحه‪ ،‬وحين يقف قبالة األربعين تحضر َّ‬ ‫الصحْ راء‬ ‫والواحة في مشهدي ِْن متناقضي ِْن‪:‬‬

‫‪98‬‬

‫ير َع َلى َ‬ ‫َت ِعب ُ‬ ‫الفيَا ِفي‬ ‫ْت مِ نَ الـمَ ِس ِ‬ ‫و َ‬ ‫زون‬ ‫َض ْربِي ِفي ال ُّنجُ و ِد َو ِفي الـحُ ِ‬ ‫َ‬ ‫القوَا ِف ُل‪ :‬مَ ا مُ رَا ِدي؟‬ ‫ُت َسائ ُِل ِني‬ ‫َو َي ْن َسك ُ‬ ‫ِب الهَ جَ ي ُر َع َلى جَ ِبي ِني‬ ‫ـخ ْ‬ ‫و َ​َت ْنأَى الوَاحَ ُة ال َ‬ ‫ضرَاءُ َع ِّني‬ ‫السعَ ا َد ُة َعنْ ُظ ُنو ِني‬ ‫َكمَ ا َت ْنأَى‬ ‫َّ‬

‫َ‬ ‫وقب َْل أن َيهْجُ ر صحراءَ ه التي دعاها ذات يوم «أُمَّ اه»‪،‬‬ ‫يكتب‪ ،‬وقد بلغ َّ‬ ‫الثانية واألربعين مِ نْ ُعمْ ره قصيدته «العودة‬

‫إلى األماكن القديمة»‪َّ ،‬‬ ‫كأنه يستعجل بها عودته إلى «جزائر‬ ‫َ‬ ‫اللؤلؤ»‪ ،‬ويعود إليها َك ْهلاً أ ْث َقل ْته األربعون‪ ،‬يخادع عنْ َن ْفسه‬ ‫أنْ ستكون َ‬ ‫«ع َذاري» في انتظاره!‬

‫ت َكه اًْل َتجُ رُّه َ‬ ‫ُع ْد ُ‬ ‫األ ْربَعُ ونُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ِّ‬ ‫ْنَ‬ ‫ونُ‬ ‫َفأَ ِجي ِبي‪ :‬أي الصبَا وَالفت ؟‬

‫كل ما‬ ‫قصيدة «أين َّ‬ ‫الربيع؟» راعبة‪ُّ ،‬‬ ‫فيها ُموحِ ٌ‬ ‫أن‬ ‫وي َخ َّيل‬ ‫َّ‬ ‫إلي َّ‬ ‫ش قاحِ ل‪ُ ،‬‬ ‫َّ‬ ‫بالربيع إلى‬ ‫انتهى به ُحلُمه‬ ‫الشاعر‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫س ُت اليأس إذ ْ‬ ‫قرأ ُت‬ ‫أح َ‬ ‫اليأس منه‪ .‬أنا ْ‬ ‫س ْ‬ ‫هذه القصيدة‬

‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬

‫ملءُ رُوحِ ي َّ‬ ‫ْ‬ ‫الظمَ ا‪َ ..‬فأَيْنَ َ‬ ‫ذاري»؟‬ ‫«ع ِ‬ ‫َوبِ َق ْل ِبي الهَ وَى‪َ ..‬فأَيْنَ الجُ ُفونُ ؟‬ ‫َ‬ ‫ت َلي َْلى التي أَ ْع َش ُق‪..‬‬ ‫ْت‪ ..‬أ ْن ِ‬ ‫مَ ا َت َغ َّير ِ‬ ‫َل ِكنْ َت َغ َّي َر الـمَ جْ ُنونُ‬ ‫وال َي ْن َسى في تضاعيف قصيدته صحراءَ ه التي ما عاد‬ ‫يناجيها «أُمَّ اه»!‬ ‫ْب ُ‬ ‫َار َّ‬ ‫َس ْت ِني َثو َ‬ ‫اري‬ ‫أَ ْلب َ‬ ‫الصحَ ِ‬ ‫الغب ِ‬ ‫َفأَ َنا ِفيه اَل أَ َكا ُد أَبِينُ‬ ‫أَ َت َّ‬ ‫ْت يَا حَ ِبيب َُة وَجْ ِهي‬ ‫ذكر ِ‬ ‫أَمْ ُترَى َن َّكر َْته َهذي ُ‬ ‫الغ ُ‬ ‫ضونُ ؟‬

‫وحِ ين يؤوب إلى واحته «البحرين»‪ ،‬فهو َكمَ نْ ي ُِصيبه‬ ‫الفزع‪ْ ،‬‬ ‫خشية أن يكون ما يراه أضغاث أحالم‪ ،‬فهجير َّ‬ ‫الصحْ راء‬ ‫استكنَّ في نفسه‪ ،‬وجعل ُي َن ِّغص عليه سعادته وه َناءَ ه‪:‬‬ ‫َالدمُ ُ‬ ‫ضحْ َك ِتي‪ ..‬و ُّ‬ ‫ص ُر ِني‬ ‫وع الـحُ مْ ُر َتعْ ِ‬ ‫يَا ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫يَا وَاحَ ِتي‪ ..‬و َ​َه ِجي ُر القف ِر يَعْ بَث بِي‬ ‫أوجه تشابه‬ ‫الشاعر أسامة عبدال َّرحمن يشبه َّ‬ ‫َّ‬ ‫القصيبي‬ ‫الشاعر غازي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫مِ نْ أوجه شتى‪ ،‬فهو ابن واحة خضراء هي المدينة المنوَّرة‬ ‫اآلخر في ِّ‬ ‫التي ُولِدَ فيها سنة ‪1362‬هـ‪ ،‬رافق ٌّ‬ ‫كل منهما َ‬ ‫كليَّة‬

‫ً‬ ‫أستاذا فيها‪ ،‬وجمعهما‬ ‫ال ِّتجارة بال ِّرياض؛ حيث كان كالهما‬

‫الشعر‪ ،‬واهتمَّ غازي وأسامة بالقضايا الوطنيَّة والقوميَّة‪،‬‬

‫اإلخواني‪ ،‬يناكف به أحدهما اآلخر‪ ،‬وحِ ين‬ ‫وجمعهما الشعر‬ ‫ّ‬ ‫غادر غازي الجامعة‪ ،‬وتدرَّج في مراقي الحياة‪ ،‬بقي أسامة‬ ‫وفيًّا لجامعته‪ ،‬إلى أنْ أُحيل إلى ال َّتقاعد‪.‬‬ ‫َ‬ ‫األولى سنة ‪1380‬هـ‪.‬‬ ‫عرف أسامة عبدال َّرحمن ال ِّرياض الم َّرة‬

‫واختلف إلى ِّ‬ ‫َ‬ ‫كليَّة ال ِّتجارة‪ ،‬ثمَّ تخ َّرج فيها‬ ‫قصدها طالبًا شابًّا‪،‬‬ ‫َ‬ ‫سنة ‪1383‬هـ‪ ،‬وطار إلى أميركا‪ ،‬وحاز منها درجتي الماجستير‬ ‫والدكتوراه‪ ،‬وعاد إلى ِّ‬ ‫ً‬ ‫أستاذا بار ًزا فيها‪،‬‬ ‫كليَّة ال ِّتجارة‪ ،‬وأصبح‬ ‫وطاب له المقام في ال ِّرياض منذ ذلك الزمن‪ ،‬ولم ي َُغادرْها حِ ين‬ ‫أُحِ يل إلى ال َّت ُ‬ ‫قومي‪ ،‬ع َّب َر‬ ‫وبي‬ ‫ٌّ‬ ‫قاعد‪ .‬أسامة عبدال َّرحمن شاع ٌر ُع ُر ٌّ‬ ‫ص َ‬ ‫عن هذين المعنيين ِشعْ ًرا‪َ ،‬‬ ‫وعبَّر عنهما ف ِْك ًرا‪ ،‬وفيهما َ‬ ‫دَع‬

‫أسامة بما آمَ ن به غير هيَّاب وال و َِجل‪ ،‬وكان صريحً ا‪ ،‬يقول ما‬

‫يعتقده‪ ،‬تشهد له كتبه وبحوثه التي شارك بها في مؤتمرات‬ ‫ف ِْك ِريَّة‪ ،‬في مراكز ِع ْلمِ يَّة ذات سُ مْ عة محترمة‪ ،‬وبينما كان‬

‫َّ‬ ‫والمثقفون في المملكة ُيبْدِ ئون ويُعيدون في قضايا‬ ‫األدباء‬ ‫ِّ‬ ‫ص ِّد َع ْ‬ ‫المؤلف‪ ،‬وبينما ُ‬ ‫ت‬ ‫الحداثة وما بعد الحداثة‪ ،‬وموت‬


‫صحراء غازي وصحراء أسامة‬

‫أدمغتنا بمصطلحات «المورفيم» و«الصوتيم»‪ ،‬كان أسامة‬ ‫َّ‬ ‫يتحدَّث عن قضايا ال َّت ْنمِ ية‪َّ ،‬‬ ‫والمثقفين‪ ،‬ويقول جَ ْه ًرا‬ ‫والثقافة‬

‫ما يخشى آخرون قوله ِس ًّرا‪ ،‬وهو فيما ُي ْن ِشده ِشعْ ًرا ويُذيعه‬ ‫ٌ‬ ‫ب أُمَّ ته وتاريخه ِشعْ َره‪ ،‬وتتناثر‬ ‫ف ِْك ًرا‬ ‫ساخط أبدً ا‪ ،‬ثائ ٌر‪ ،‬وهَ َ‬

‫في قصائده بغداد ودمشق والقاهرة وفلسطين وصنعاء‬ ‫وسراييفو‪ ...‬لم َيك َّ‬ ‫ِل ولم يَمَ َّل‪.‬‬

‫في سنة ‪1430‬هـ بلغ أسامة عبدال َّرحمن َّ‬ ‫والس ِّتين مِ نْ‬ ‫الثامنة‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫وقرأتها‬ ‫السنة َن َظمَ قصيدته «أين ال َّربيع؟»‪،‬‬ ‫عمره‪ ،‬وفي هذه َّ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫مجلة اليمامة‪ ،‬كما قرأها آخرون‪ .‬قرأ ُ‬ ‫ت القصيدة‪ ،‬وهي‬ ‫في‬

‫مِ نْ قصيدة َّ‬ ‫الشطر‪ ،‬بَحْ ُرها البسيط‪ ،‬ور َِويُّها ال َّراء المضمومة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫وعدَّ ة أبياتها عشرون بي ًتا‪ُ ،‬ق ِّسمَ ْ‬ ‫خمسة أقسام‪ ،‬تتباين فيما‬ ‫ت‬ ‫ِ‬ ‫بينها ُطولاً وق َ‬ ‫ِص ًرا‪ .‬والقصيدة تمتاز بعذوب ٍة مَ ْ‬ ‫صدرُها‪ ،‬بادي‬ ‫ال َّرأْي‪ ،‬ذلك البحر ال َّرزين الذي هو البسيط‪ ،‬وتلك القافية‬ ‫ال َّرائيَّة التي أُحِ ُّبها‪ ،‬وآنس لها كثي ًرا‪.‬‬ ‫أسامة عبدال َّرحمن ال يُذيع ِشعْ ره في ال َّناس كثي ًرا‪ ،‬وأنا‬ ‫ِّ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫والفضل في ذلك يؤول إلى‬ ‫مبكر‪،‬‬ ‫أعرفه شاع ًرا منذ زمن‬

‫َّ‬ ‫مكتبات تهامة التي ُع ِني ْ‬ ‫َت بنشر جمهرة كبيرة مِ نْ‬ ‫مؤلفات‬ ‫َّ‬ ‫أدباء هذه المملكة العربية السعودية ومثقفيها‪ ،‬ومِ نْ بينهم‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫واستوق َف ِني‬ ‫«واستوت على الـجُ ودِيّ »‪،‬‬ ‫دواوين ألسامة أبرزها‬

‫المعنى القرآ ِن ّي في عنوانات دواوينه‪ ،‬وليس ذلك بغريب على‬ ‫شاعر يعتزي إلى أسرة استقاد أبناؤها ِّ‬ ‫للشعْ ر‪ ،‬وللعربيَّة‪،‬‬

‫ِّ‬ ‫شرعي كبير‪ ،‬وإخوته‬ ‫وللدين‪ ،‬فأبوه شاعر عالِم‪ ،‬وخاله عالِم‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬ ‫عْ‬ ‫يتقاسمهم الش ر واألدب والنقد‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫قرأْ ُ‬ ‫واحتفظ ُ‬ ‫وقصص ُ‬ ‫ت َّ‬ ‫ْ‬ ‫ت‬ ‫الصفحة‪،‬‬ ‫ت القصيدة غير مَ َّرة‪،‬‬ ‫وكنت أعود إليها‪ ،‬مِ نْ حِ ين َ‬ ‫ُ‬ ‫سارحً ا‪ ،‬وأقرؤها‬ ‫بها‪،‬‬ ‫آلخر‪ ،‬أقرؤها ِ‬ ‫لاً‬ ‫ُ‬ ‫فأنسى كلماتها‪ ،‬وأتدسَّ س إلى معانيها‬ ‫متأمِّ ‪ ،‬يَشدُّ ني البحر‬ ‫َ‬

‫ْ‬ ‫َف َي ُر ُ‬ ‫انطوت عليه مِ نْ حُ ْرقة وألم‪ُ ،‬ثمَّ أتركها وأمضي‬ ‫وعني ما‬ ‫ُ‬ ‫لشأني‪ ،‬وألوذ إلى مكتبتي أ ْ‬ ‫صلح شأنها‪ ،‬أضع الكتاب ل ِْفق‬ ‫الكتاب‪ ،‬وأنظر في شأن ورقات مبعثرة‪ ،‬وإذا بي قبالة أسامة‬ ‫ُ‬ ‫كنت فيه‪،‬‬ ‫عبدال َّرحمن وقصيدته «أين ال َّربيع؟»‪ ،‬فأُ ْع ِرض عمَّ ا‬ ‫س حالوتها‪ ،‬وال أستبين سببًا لذلك‪.‬‬ ‫وأنصرف إليها‪ ،‬وأكاد أُحِ ّ‬

‫أن ت َُق ِّرب‬ ‫لم ت ُْفل ْ‬ ‫ِح قصائد الغزل في ْ‬ ‫الص ْحراء‪ ،‬وليس عليها‬ ‫القصيبي مِ َن َّ‬ ‫ّ‬ ‫مِ ْن لوم‪ ،‬فشاعرها ُي َخ ِّبئ خلف مفرداته‬ ‫حني ًنا جارفً ا إلى الواحة والبحر‬ ‫بائسا ِص ْفر‬ ‫يائسا‬ ‫مَ نْ َتحَ يَّن األمل مُ دَّ ة طويلة‪ ،‬وإذا به يخرج‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫س الهباء والذواء‪ ،‬وهو يُطالع ِشعْ ره‬ ‫اليدين‪ ،‬وعسى أنْ أحَ َّ‬ ‫اّ‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫القومي ُي ْن ِشده في الـجَ مْ ع مِ نَ الطلب العرب في أميركا‪ ،‬في‬ ‫ّ‬

‫ونمْ ِسك بطائفة منها في ديوانه َشمْ ٌ‬ ‫سنوات زهْ وه وكبريائه‪ُ ،‬‬ ‫عة‬ ‫َظمْ أَى‪ ،‬فإذا به يقف على صحراء شاسعة مهلكة‪ ،‬يسأل‪ ،‬وهو‬

‫في كبدها‪« ،‬أين ال َّربيع؟»‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫هل عاش َّ‬ ‫ِسمها‬ ‫الشاعر ال َّربيع؟ وهل عرفه؟ القصيدة في ق ْ‬ ‫األوَّل تنثر األمَ ل بال َّربيع‪ ،‬وفي أبيات ثالثة ليس غي ُر‪:‬‬

‫أَيْنَ ال َّرب ُ َ‬ ‫ض ُر‬ ‫يع‪ ..‬وَأيْنَ الـمَ ْط َل ُع ال َّن ِ‬ ‫ِ‬ ‫وَأَ ْيـ ــنَ إِ ْطـ ـلاَ َل ٌـة ل ْ‬ ‫مُ‬ ‫ـزن َت ـ ـ ْن ـ ــهَ ـ ــمِ ـ ـ ـ ُر‬ ‫ـ‬ ‫ِل‬ ‫ِ‬ ‫ُت َقب ُِّل ال َو ْر َد ِفي َ‬ ‫األ ْغ َ‬ ‫ان يَا ِنعَ ًة‬ ‫ص ِ‬ ‫و َ​َع ُ‬ ‫ص َّ‬ ‫ذب مِ ْنه َير ُْق ُ‬ ‫زفهَ ا العَ ُ‬ ‫الشجَ ُر‬ ‫و َُتو ِق ُظ ال َّرو َ‬ ‫َات َغ ْف َوتِهِ‬ ‫ْض مِ نْ َسكر ِ‬ ‫و َ​َت ْن َت ِش ــي َ‬ ‫ـاريخ َّ‬ ‫ْض وال َّت ـ ُ‬ ‫األر ُ‬ ‫والثمَ ـ ُر‬ ‫ش َّ‬ ‫الشاعر ال َّربيع‪ ،‬لك َّنه ي َْستدنيه ويسأل عنه‪،‬‬ ‫لم ي َِع ِ‬ ‫السؤال تتناثر مفردات ال َّربيع‪َّ ،‬‬ ‫كأنها َت َس َّل َط ْ‬ ‫ومِ نَ‬ ‫ت على‬ ‫ُّ‬ ‫مطلع القصيدة‪ ،‬فال َّربيع يجذب إليه مفردات وتراكيب؛‬

‫منها‪« :‬الـمُ زن»‪ ،‬و«تنهمِ ُر»‪ ،‬و«الورْد» و«األغصان يانعة»‪،‬‬ ‫و«عزفها العذب»‪ ،‬و« َي ْرقص َّ‬ ‫الشجَ ر»‪ ،‬و«ال َّروْض»‪ ،‬و«األرض‬

‫َّ‬ ‫و«الثمَ ُر»‪.‬‬ ‫ال َّن ْشوَى»‪،‬‬ ‫كلمات ِّ‬ ‫الشعْ ر ُتخادع َّ‬ ‫الشاعر‪ ،‬فيستنيم لها ثالثة أبيات‬ ‫اّ‬ ‫َ‬ ‫ب‪ ،‬وإذا به وال ربيع حوله‪ ،‬وليس هناك إل الجفاف‬ ‫وحَ ْس ُ‬

‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫والصحراء تفغر فاهً ا وتسخر مِ نَ‬ ‫كانت‬ ‫الشاعر‪.‬‬ ‫والذواء‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫القصيبي‪.‬‬ ‫غازي‬ ‫صحراء‬ ‫به‬ ‫ش‬ ‫ت‬ ‫اعر‬ ‫الش‬ ‫ّلة‬ ‫ي‬ ‫مخ‬ ‫في‬ ‫راء‬ ‫الصحْ‬ ‫ّ‬ ‫َّإنها صحراء ال ُّروم ْنطيقيين‪ ،‬تلك التي فيها الـحُ داء والحنين‪،‬‬

‫ْ‬ ‫يائس‬ ‫قلب‬ ‫قصيدة‬ ‫ٍ‬ ‫انبعثت مِ ْن ٍ‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫تاريخ َنشر القصيدة في مجلة اليمامة هو ‪ 17‬مِ نْ شهر‬ ‫ربيع األوَّل سنة ‪1430‬هـ‪ .‬لم ألت ِف ْ‬ ‫ت إلى ذلك ال َّتاريخ َاّإل حين‬ ‫َ‬ ‫صحَّ عزمي على أنْ أكتب شي ًئا فيها‪ ،‬وال أعرف أمصادفة كان‬ ‫َ‬ ‫الشاعر َنظمَ قصيدته في ذلك َّ‬ ‫ذلك ال َّتاريخ‪ ،‬أمْ أنَّ َّ‬ ‫الشهْر‪،‬‬

‫أنفسهم‪َ ،‬‬ ‫وع َسى أنْ تكون تلك َّ‬ ‫الصحراء التي حلم بها أسامة‬

‫يائس ما َع َرف األمَ َل في حياته‪ ،‬أو َّ‬ ‫ُ‬ ‫مِ نْ‬ ‫قصيدة‬ ‫لعلها‬ ‫قلب‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬

‫اشتاق إلى ابنه أسامة في َنجْ د‪ ،‬فأنشأ يقول‪:‬‬

‫فالشهْر شهر ربيع األوَّل‪ ،‬والقصيدة تسأل‪« :‬أين ال َّربيع؟» ْ‬ ‫َّ‬ ‫فهل‬ ‫ِّ‬ ‫أوحَ ى َّ‬ ‫ْ‬ ‫انبعثت‬ ‫بالشعْ ر؟ ال أدري! «أين ال َّربيع؟» قصيدة‬ ‫الشهْر‬

‫ـخزامَ ى‪ ،‬وشجرها ِّ‬ ‫أزهارها الزنبق وال ُ‬ ‫الشيح والعَ َرار‪ ،‬وهواؤها‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫عليل‪ ،‬ي َِهيج َ‬ ‫صبَا نجْ د أفئدة الشعراء‪ ،‬فتهيج القصائد في‬ ‫سنة ‪1380‬هـ‪ ،‬ساعة نزوله ال ِّرياض‪َ ،‬‬ ‫وع َسى أنْ تكون هي‬ ‫ت إلى أبيه َّ‬ ‫الصحراء التي أوحَ ْ‬ ‫الشاعر عبدال َّرحمن عثمان‪ ،‬وقد‬

‫‪99‬‬


‫دراسات‬

‫َ‬ ‫صبَا َنجْ دٍ‬ ‫َف َق ْد َق َ‬ ‫ص َد‬ ‫َطوَى َن ْش َر‬ ‫َنأَى‬

‫أُ ِر ُ‬ ‫يت ا ْب ِني أُ َسامَ ْه‬ ‫السلاَ مَ ْه‬ ‫بِ َنجْ دٍ َير َْتدِ ي حُ َل َل‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ال ِّري َ‬ ‫س جَ وًّا‬ ‫َاض األمْ ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫وَقل ِبي خلف طائ ِ​ِره حَ مَ امَ ْه‬ ‫َ‬ ‫الف َ‬ ‫ْف‬ ‫ون َخو ٍ‬ ‫ضاءِ بِ ُد ِ‬

‫َع َّنا‬

‫زم‬ ‫بِعَ ٍ‬ ‫و َ‬ ‫َخ َّل َف َنا‬

‫اَل‬

‫ُنعَ ا ِني‬

‫زع ُ‬ ‫ُت ْ‬ ‫زعه‬

‫مَ لاَ مَ ْه‬

‫ُسهَ ا َد ال ُبعْ دِ حَ مَّ َل َنا ُس َقامَ ْه‬ ‫وَلمْ يُعْ ِط الب َِر ُ‬ ‫يد َل َنا ِك َتابًا‬ ‫َ‬ ‫و اَ​َل حَ مَ َل األثِي ُر َل َنا َكلاَ مَ ْه‬

‫و َْلمْ ُيب ِْر ْق َل َنا َخ َب ًرا مُ ِسرًّا‬ ‫ي َ‬ ‫َسلاَ مَ ْه‬ ‫ُض ِّم ُنه‬ ‫ي َُطمْ ِئ ُن َنا‬ ‫صبَا َنجْ دٍ و َُل ْط ُف َ‬ ‫َ‬ ‫اف‬ ‫ك َغ ْي ُر َخ ٍ‬ ‫بِه ُّ‬ ‫َص ُفوا ال َ‬ ‫الشعَ رَاءُ َكمْ و َ‬ ‫ـمدامَ ْه‬ ‫ضل مِ ْن َ َ‬ ‫َومِ ْل بِ َ‬ ‫َ‬ ‫ْض نجْ دٍ‬ ‫ك بِأر ِ‬ ‫الف ْ ِ‬ ‫ذوي َّ‬ ‫الشهَ امَ ْه‬ ‫وَحَ ِّي الـمُ ْن ِجدِ ينَ ِ‬ ‫َت ُد ُّل َ‬ ‫ك يَا َ‬ ‫صبَا َنجْ دٍ َع َليْهِ‬ ‫َ‬ ‫ف َقب ِّْل مِ ْنه مُ ْب َت ِسمً ا و َ​َهامَ ْه‬

‫‪100‬‬

‫َت َك َّش َ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫للصحْ راء‪ ،‬فليس ثمَّ َاّإل‬ ‫الشاحب‬ ‫ف الوجه‬ ‫القحْ ل‪َ ،‬اّ‬ ‫وع َر َ‬ ‫َ‬ ‫ف َّ‬ ‫الشاعر بأَ َ‬ ‫صف وال ِّريح‪َ ،‬‬ ‫وإل العَ ْ‬ ‫خ َرةٍ‪َّ ،‬أنه‬

‫أنفق عمره هباءً ‪ ،‬ينتظر الذي ال يأتي‪ ،‬فما حوله صحراء‬

‫تأكل البشر والحجر‪ ،‬وما في فؤاده صحراء ذوَى بها‬ ‫ف ما كان فيها مِ نْ ْأنداء‪َ ،‬‬ ‫جسده‪ ،‬وجَ َّ‬ ‫ول َّف ْ‬ ‫ت مفردات‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫واهتصرتها‪ ،‬ح َّتى ألكاد‬ ‫الصحراء والجفاف ِجوَاء القصيدة‪،‬‬ ‫أُحِ ُّ‬ ‫س َّ‬ ‫الصحْ راء‪ ،‬وأنا أقرؤها‪ ،‬تحاصرني ذات اليمين وذات‬ ‫ِّ‬ ‫الشمال‪َ ،‬‬ ‫ْ‬ ‫انطوت عليه القصيدة مِ نْ‬ ‫وخ َّفف مِ نْ َق ْسوتها ما‬ ‫ماء ِّ‬ ‫الشعْ ر ورونقه‪.‬‬ ‫قصيدة راعبة‬

‫الثاني مِ نَ القصيدة َع َر َ‬ ‫منذ ال ِق ْسم َّ‬ ‫ف َّ‬ ‫الشاعر أنْ ال ربيع‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫فالصحْ راء تمْ ِعن في توحُّ شها‪ ،‬فهي قاحلة‪ ،‬وكل ما‬ ‫قا ِدمً ا‪،‬‬

‫قراءة قصيدة «يا أن ِ‬ ‫ت» ومقابلتها‬ ‫بقصيدة «أين الربيع؟»‪ ،‬ت ُ‬ ‫َش ُّد هذه‬ ‫القصيدة بتلك‪ ،‬فالتَّراكيب واحدة‪،‬‬ ‫والمفردات هنا وهناك‪ ،‬واألبيات بينها‬ ‫شبه وثيق والربيع هنا وثم‬

‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬

‫اهتم غازي وأسامة بالقضايا الوطن َّية‬ ‫َّ‬ ‫والقوم َّية‪ ،‬وجمعهما ِّ‬ ‫اإلخواني‪،‬‬ ‫الش ْعر‬ ‫ّ‬ ‫اآلخر‪ ،‬وحِ ين غادر‬ ‫يناكف به أحدهما‬ ‫َ‬ ‫وتدرج في مراقي‬ ‫غازي الجامعة‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫الحياة‪ ،‬بقي أسامة وف ًّيا لجامعته‬ ‫ُّ‬ ‫وكل ما ر ُِوي عن الـحُ دَ اة يمرعون‬ ‫قِيل عنْ مُ زنة تغازل رَمْ لها‪،‬‬ ‫في ممشاهم‪ُّ ،‬‬ ‫واستبدلت َّ‬ ‫الصحراء‬ ‫كل ذلك وَهْ مٌ وسراب‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫اّ‬ ‫اّ‬ ‫السهَر‪ ،‬فليس فيها َإل األنين‪َ ،‬‬ ‫وإل الهَمُّ‬ ‫لحن الـمُ دنف حلاَ له َّ‬

‫والضجَ ر‪ ،‬ح َّتى َّ‬ ‫الليْل‪ ،‬وله في ِّ‬ ‫العربي أعاجيب‪َّ ،‬‬ ‫َّ‬ ‫كأنه‬ ‫الشعْ ر‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫وَحْ ش امرئ القيس في معلقته‪:‬‬ ‫و َّ‬ ‫َاللي ُْل َيجْ ُثمُ َكالـجُ ْلمُ و ِد مُ حْ َتل ًِكا‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْس ي ْ‬ ‫َضحَ ُ‬ ‫ك ِفي آفا ِقه قمَ ُر‬ ‫و َ​َلي َ‬ ‫اّ‬ ‫َ‬ ‫و َّ‬ ‫اصفةٍَ‬ ‫ُ‬ ‫َالليْل مَ ا ِفيه إِل رَجْ ُع َع ِ‬

‫و َّ‬ ‫َاللي ُْل مَ ا ِفيه اَل َلـحْ نٌ و اَ​َل و َ​َت ُر‬ ‫و ُ‬ ‫َسمَ ٌة حَ َ‬ ‫ضر ْ‬ ‫َت‬ ‫َاأل ْف ُق َلي َ‬ ‫ْس َع َليْه ب ْ‬ ‫زف َّ‬ ‫الشذى حَ َ‬ ‫ضرُوا‬ ‫و اَ​َل َن َدامَ ى إِ َلى َع ِ‬

‫َّإنها قصيدة راعبة‪ُّ ،‬‬ ‫كل ما فيها مُ وحِ ٌ‬ ‫ش قاحِ ل‪ ،‬وي َ‬ ‫ُخيَّل‬ ‫إلي أنَّ َّ‬ ‫الشاعر انتهَى به حُ ُلمه بال َّربيع إلى اليأس منه‪ .‬أنا‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ت اليأس إذ قرأ ُ‬ ‫أحْ َس ْس ُ‬ ‫وانظ ْر حواليك‬ ‫ت هذه القصيدة‪.‬‬

‫ف الذواء والهباء والجفاف‪ ،‬وحِ ين‬ ‫وتأمَّ ْل في أنحائها‪ُ ،‬ت ْل ِ‬ ‫َّ‬ ‫انتهَى بي َّ‬ ‫ُ‬ ‫أتوقع أنْ‬ ‫كنت‬ ‫الشاعر إلى هذه األبيات‪ ،‬ما‬ ‫الشاعر األمل بربيع قادم‪ ،‬لك َّنه فعل‪َّ ،‬‬ ‫سيُجَ ِّدد َّ‬ ‫كأنه يُخادع‬ ‫عنْ نفسه‪:‬‬

‫مَ ا ْ‬ ‫ين العُ مْ ِر‪َ ..‬‬ ‫زل ُ‬ ‫ضا ِئعَ ًة‬ ‫ت بَعْ َد ِس ِن ِ‬ ‫َ‬ ‫ول أ ْن َتظِ ُر‬ ‫ل ِْلو َْعدِ ِفي َغ ْيهَ ِ‬ ‫ب الـمَ جْ هُ ِ‬ ‫َلعَ َّله مِ ْنه َتأْتِي أَيُّ بَارقةٍَ‬ ‫ِ‬ ‫َلعَ َّله مِ ْنه يَأْتِي الهَ اطِ ُل العَ طِ ُر‬ ‫ت مُ ْن َتظِ رًا و ُ‬ ‫مَ ا ْ‬ ‫زل ُ‬ ‫َاأل ْف ُق َلي َ‬ ‫ْس بِهِ‬

‫َار َقةٍ ر َْع ٌد و اَ​َل َخ َب ُر‬ ‫مِ نْ ظِ ِّل ب ِ‬ ‫َ‬ ‫حَ َّتى َ‬ ‫َ‬ ‫األمَ ا ِني التي ق ْد ُك ْن ُ‬ ‫ت أحْ ِش ُد َها‬ ‫َ‬ ‫ض َ‬ ‫اع ْ‬ ‫ْس َلـهَ ا ظِ ٌّل و اَ​َل أَ َثرُ‪,‬‬ ‫ت و َ​َلي َ‬ ‫َّ‬ ‫كأنَّ‬ ‫الشاعر في َذ ْي ِنك ال ِق ْسمَ يْن ي َْس َتمْ هل حكمه على‬ ‫كأنه ي َّ‬ ‫َ‬ ‫الصحراء‪ ،‬أ ْو َّ‬ ‫َّ‬ ‫فرصة أنْ تخالف‬ ‫َترفق بها‪ ،‬ويمنحها‬


‫صحراء غازي وصحراء أسامة‬

‫َّ‬ ‫طبيعتها‪ ،‬لكنَّ‬ ‫الجاسي‪ ،‬وحينئذ‪،‬‬ ‫الصحراء َو ِفيَّة لطبعها‬ ‫ِ‬ ‫َن َف َ‬ ‫ض أسامة يديه منها‪ ،‬وتاب مِ نْ سؤاله‪« :‬أين ال َّربيع؟»‪َّ .‬إنه إذ‬

‫يسأل ِّ‬ ‫ْ‬ ‫يكلف َّ‬ ‫فغابت‬ ‫الصحراء ِضدَّ طِ بَاعها‪ :‬أنْ ال تكون صحراء‪،‬‬ ‫ت القصيدة بمفردات يفوح مِ ْنها َّ‬ ‫مفردات ال َّربيع‪َ ،‬‬ ‫اللهيب‬ ‫وت َل َّظ ِ‬ ‫والضجَ ر واالنكسار َّ‬ ‫َّ‬ ‫والل َظى‪:‬‬

‫مَ ا ُع ُ‬ ‫دْت أَ ْسأَ ُل و َّ‬ ‫َالصحْ رَاءُ َقاحِ َل ٌة‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫أيْنَ ال َّربِيعُ ؟ وأيْنَ الـمَ طلعُ الن ِض ُر؟‬ ‫َف َكي َ‬ ‫الصحْ رَاءِ ْ‬ ‫ْف َت ْنمُ و َع َلى َّ‬ ‫زنب َ​َق ٌة‬ ‫َ‬ ‫ِيف ي َْخ ُف ُق فِي أجْ َفا ِنهَا و َ‬ ‫َوك َ‬ ‫َط ُر‬ ‫َ‬ ‫ْس فِيهَا ِسوَى ال َّرمْ َ‬ ‫ضاءِ تذر َُعهَا‬ ‫و َ​َلي َ‬ ‫الص ْخ ُر َي ْن َ‬ ‫َّ‬ ‫ص ِه ُر‬ ‫وَمِ نْ َل َظاهَ ا ي َ​َكا ُد‬ ‫َ‬ ‫اص َف ًة‬ ‫و َ​َلي َ‬ ‫َّام َع ِ‬ ‫ْس فِيهَا ِسوَى األي ِ‬ ‫ال َت ْن َك ِس ُر‬ ‫و َ​َلي َ‬ ‫ْس فِيهَا ِسوَى اآلمَ ِ‬ ‫والصحْ رَاءُ َقاحِ َلةٌ‬ ‫أَمْ َ‬ ‫ضي ُ‬ ‫َّ‬ ‫ْت ُعمْ ِريَ‬ ‫و َ‬ ‫َض َ‬ ‫اع فِيهَا الذي َيه ُْفو َله العُ مُ ُر‬

‫الش ْعر تُخادع َّ‬ ‫كلمات ِّ‬ ‫الشاعر‪ ،‬فيستنيم‬ ‫ب‪ ،‬وإذا به وال‬ ‫س ُ‬ ‫لها ثالثة أبيات َ‬ ‫وح ْ‬ ‫ربيع حوله‪ ،‬وليس هناك إل الجفاف‬ ‫اَّ‬ ‫فاها وتسخر‬ ‫والصحراء تفغر‬ ‫والذواء‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫مِ َن َّ‬ ‫الشاعر‬

‫ْ‬ ‫كانت بُدَ اءة األزمة‪ ،‬وفي قصيدة «أين‬ ‫أنت»‬ ‫في قصيدة «يا ِ‬ ‫ال َّربيع؟» كان َت َفجُّ رها‪ ،‬وبين هذه وتلك‪ ،‬لمْ يستسلمْ أسامة‬

‫عبدال َّرحمن لسطوة الصحراء‪ ،‬ولمْ يذعنْ لها‪ ،‬و َر َّد لظاها‬ ‫الشعْ ر‪ ،‬في ّ‬ ‫الشعْ ر‪ ،‬وكان ِّ‬ ‫ولهيبها‪ ،‬بمائيَّة الكلمات وربيع ِّ‬ ‫كل‬

‫أحواله بردًا وسالمً ا عليه‪ .‬‬

‫ْ‬ ‫ار حِ ْكمَ ِتهَا‬ ‫َلـمْ َيب َْق فِي دَف َت ِري مِ نْ َن ِ‬ ‫اّ‬ ‫و َ​َقدْ َت َل َّظي ُ‬ ‫والع َب ُر‬ ‫ْس‬ ‫ْت‪ ..‬إِ َل الدَّ ر ُ‬ ‫ِ‬

‫وماذا َب ْع ُد؟‬ ‫عن‬ ‫بقي أنْ أَ ُقول‪ :‬إنَّ قصيدة «أين ال َّربيع؟»‬ ‫ِ‬ ‫كانت اإلعالن ِ‬ ‫وكانت َّ‬ ‫َّ‬ ‫بالصحراء التي جَ َثمَ ْ‬ ‫الثورة َّ‬ ‫ت على أُ ُف ِق‬ ‫والضجَ ر‪،‬‬ ‫اليأْس‬ ‫ِ‬

‫الشاعر‪ ،‬ح َّتى جَ َّ‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫ف الماء وذوَى ُغ ْ‬ ‫كانت قصيدة‬ ‫صنُ الكلمات‪.‬‬

‫«أين ال َّربيع؟» المنتهَى وليس المبتدأ‪ ،‬فأسامة عبدال َّرحمن‬ ‫س اليأْس‪َ ،‬قبْل هذه القصيدة بسنوات طويلة‪ ،‬ففي ديوانه‬ ‫أحَ ّ‬ ‫«دفاتر َّ‬ ‫أنت» ُنمْ ِسك ببذرة‬ ‫الشجَ ن» (‪1998‬م)‪ ،‬وفي قصيدته «يا ِ‬ ‫قصيدة «أين ال َّربيع؟»‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وأستطيع أنْ أجعل القصيدتين قصيدة واحدة‪ ،‬وليس‬

‫ذلك بجامع البحر الواحد وال َّر ِويّ الواحد‪ .‬إنَّ البحر وال َّر ِويّ‬ ‫أنت» ومقابلتها‬ ‫ي َُقوِّيان هذا الزعم‪ .‬لكنَّ قراءة قصيدة «يا ِ‬ ‫بقصيدة «أين الربيع؟»‪َ ،‬ت ُشدُّ هذه القصيدة بتلك‪ ،‬فال َّتراكيب‬

‫واحدة‪ ،‬والمفردات هنا وهناك‪ ،‬واألبيات بينها شبه وثيق‪،‬‬ ‫وال َّربيع هنا َ‬ ‫وثمَّ ‪:‬‬ ‫مَ ا َه َّل و َْع ٌد‪ ...‬و َ​َلـمْ َتحْ ُ‬ ‫ض ْر أَ ِه َّل ُت ُه‬ ‫و اَ​َل ال َّن َدامَ ى اَ‬ ‫السمَّ ا ُر َق ْد حَ َ‬ ‫ضرُوا‬ ‫ول ُّ‬ ‫ت مِ ْنه َ‬ ‫يع أَ َط َّل ْ‬ ‫و اَ​َل ال َّربِ ُ‬ ‫ضاحِ َك ًة‬

‫ض ال ُورُودِ‪َ ...‬ع َلى ال َ‬ ‫بَعْ ُ‬ ‫ـخ َّدي ِْن َت ْن َت ِث ُر‬ ‫ِك ِفي َ‬ ‫اآلفاق أُ ْغ ِنيَةٌ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫وَمَ ا ُهنال‬ ‫ِ‬ ‫مِ نْ رَجْ ِعهَ ا َق َ‬ ‫ُ‬ ‫ـمُ‬ ‫زن َت ْن ِهمِ ُر‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫َات‬ ‫ر‬ ‫ط‬ ‫ِ‬

‫‪101‬‬


‫تقرير‬

‫في إطار جدلية العالقة بين الثقافة والسياسة‬

‫معارض الكتاب العربية‬ ‫تواجه التشدد والرقابة‬ ‫وتبعات الربيع العربي‬ ‫‪102‬‬

‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬


‫حسين حسن حسين‬ ‫الفيصل‬

‫العالقة بين الثقافة والسياسة جدلية ال تنتهي‪ ،‬لكن تبدو ظالل السياسة واضحة على الثقافة في‬ ‫كل صورها‪ ،‬ومعارض الكتاب تتأثر هي األخرى بوصفها واحدة من أبرز الفعاليات الثقافية التي‬ ‫تحرص عليها المدن الكبرى‪ ،‬وبخاصة العواصم التي تتأثر بشكل مباشر باألوضاع السياسية‪،‬‬

‫السياسي‬ ‫وقد أثرت ثورات الربيع العربي في كثير من المعارض على نحو واضح‪ ،‬كما أن الصراع‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫المحموم بين القوى المختلفة يؤثر في هذه المعارض‪ ،‬وإذا عدنا إلى نشأتها نجد ارتباطا مباشرًا‬ ‫بينها وبين الظروف السياسية المحيطة‪.‬‬

‫واالجتماعي في بعض معارض الكتاب العربية‪.‬‬ ‫السياسي‬ ‫وفيما يأتي ترصد «الفيصل» أثر الواقع‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫‪103‬‬


‫تقرير‬

‫القومي‬ ‫نشأة معرض بيروت في أحضان التيار‬ ‫ّ‬ ‫يبدو أثر الظروف السياسية واضحً ا في نشأة معرض‬

‫الدولي للكتاب‪ ،‬الذي يكمل عامَ ه الستين في دورته‬ ‫بيروت‬ ‫ّ‬ ‫المقبلة في هذا العام؛ إذ انطلق عام ‪1956‬م؛ ليستحق بذلك‬ ‫العربي‪.‬‬ ‫لقب عميد معارض الكتاب في الوطن‬ ‫ّ‬

‫العربي يعيش في تلك الحقبة تفاعالت‬ ‫فقد كان العالم‬ ‫ّ‬

‫ما بعد أحداث سياسية كبيرة؛ مثل‪ :‬الحربين العالميتين‬ ‫األولى والثانية‪ ،‬وتداعيات وعد بلفور‪ ،‬الذي منح اليهود وط ًنا‬ ‫في أرض عربية‪ ،‬حتى وقعت حرب فلسطين‪ ،‬وفاحت رائحة‬

‫فضيحة األسلحة الفاسدة‪ ،‬واإلحساس المتنامي بالتآمر‬ ‫جسد في قيام دولة إسرائيل‪ ،‬إضافة إلى وقوع‬ ‫الغربي‪ ،‬الذي َت َّ‬ ‫ّ‬ ‫األجنبي‪ ،‬وصعود المد‬ ‫معظم الدول العربية تحت االحتالل‬ ‫ّ‬ ‫القومي‪ ،‬وقيام ثورة يوليو بقيادة جمال عبدالناصر في مصر‪،‬‬ ‫ّ‬

‫الوطني‪.‬‬ ‫وتطلع دول آسيا وإفريقيا إلى التحرر‬ ‫ّ‬ ‫في تلك الظروف الدقيقة‪َّ ،‬‬ ‫فكر كل من نديم دمشقية‪،‬‬

‫وفؤاد سليم سعد‪ ،‬ورامز شحادة‪ ،‬وهم ينتمون إلى التيار‬

‫‪104‬‬

‫الدولي للكتاب عميد‬ ‫معرض بيروت‬ ‫ّ‬ ‫العربي يحتفل‬ ‫معارض الكتاب في الوطن‬ ‫ّ‬ ‫بعامه الستين‪ ..‬كانت نشأته قومية‬ ‫وأداة من أدوات المقاومة الثقافية‬

‫العربي في تلمس وسائل تسهم في زيادة الوعي‬ ‫القومي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫بالقضايا القومية؛ وكانت المظلة التي تضم أنصار هذا التيار هو‬ ‫العربي‪ ،‬الذي أصدر مجلة الثقافة العربية عام‬ ‫الثقافي‬ ‫النادي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫‪1956‬م‪ ،‬وبادَر في العام نفسه إلى تنظيم معرض بيروت للكِتاب‬ ‫ً‬ ‫معرضا دول ًّيا بإقبال دُور النشر‬ ‫العربي‪ ،‬الذي تطوَّر إلى أن صار‬ ‫ّ‬ ‫العربية والدولية على المشاركة فيه‪.‬‬

‫قاوَم هذا المعرض ظروف الحرب األهلية العصيبة‪،‬‬

‫اإلسرائيلي لبيروت‪ ،‬وما صاحبهما من عدم استقرار‬ ‫واالجتياح‬ ‫ّ‬

‫أمني وضائقة مالية‪ ،‬وظل األول من إبريل من كل عام يوم‬ ‫ّ‬ ‫احتفاء بالثقافة في أحضان بيروت‪ ،‬التي كانت في مقدمة َر ْكب‬ ‫الثقافة العربية‪ ،‬منذ أن دانت لها الريادة في إدخال الطباعة‪،‬‬

‫معرض الخرطوم‬

‫وإصدار الصحف‪.‬‬

‫الدولي لحظر الكتب‬

‫أمن ًّيا؛ الستدراك التأخير‪ ،‬وقد أصدر النادي كتابًا تذكاريًّا‬

‫من ُ‬ ‫الكتب المُ صادَرة في معرض الخرطوم الدولي‬

‫للكتاب‪« :‬بستان الخوف» للروائية أسماء عثمان الشيخ‪،‬‬ ‫ورواية «أسفل قاع المدينة» للكاتب إيهاب عدالن‪ ،‬ورواية‬ ‫«سيرة قذرة» للكاتب محمد خير عبدالله‪ ،‬ورواية «ساعي‬

‫الريال المقدود» لألديب مبارك أردول‪ ،‬وكتاب «هل‬ ‫الس َلف؟» للكاتب محمد البدوي المصطفى‪ ،‬وكلها‬ ‫أخطأ َّ‬ ‫السوداني‪.‬‬ ‫صادرة عن «دار أوراق» التي ُتع َنى بنشر األدب‬ ‫ّ‬

‫وطال المنع في سنوات مضت الرواية العربية‬

‫الشهيرة «موسم الهجرة إلى الشمال» لألديب السوداني‬ ‫ً‬ ‫–أيضا‪ -‬تدريسها في الجامعات‪،‬‬ ‫الطيب صالح‪ ،‬ومنع‬

‫ومُ نعت كتب‪« :‬الخندق» للكاتب فتحي الضوء‪،‬‬

‫و«الحركة اإلسالمية دائرة الضوء وخيوط الظالم»‬

‫للدكتور محبوب عبدالسالم‪ ،‬ورواية «الجنقو مسامير‬

‫األرض» لألديب عبدالعزيز بركة ساكن‪ ،‬وكل الكتب‬ ‫الممنوعة تجد طريقها إلى ُ‬ ‫القراء‪ ،‬وتزداد مبيعاتها بشكل‬ ‫كبير‪ ،‬وأطلق بعض الظرفاء على هذا المعرض‪« :‬معرض‬

‫الخرطوم الدولي لحظر الكتب»‪.‬‬

‫وكان المعرض ي َّ‬ ‫ُنظم مرتين في العام الذي يشهد استقرارًا‬

‫الذهبي النطالق المعرض‪ ،‬شارك فيه جَ مْ ع من‬ ‫في اليوبيل‬ ‫ّ‬ ‫المثقفين اللبنانيين والعرب‪.‬‬ ‫أما في أيامنا هذه فقد ألقت الظروف االقتصادية بظاللها‬

‫على الدورة ‪ 59‬التي أقيمت في المدة (‪ 27‬نوفمبر‪ 10 -‬ديسمبر‬

‫عام ‪2015‬م)‪ ،‬بمشاركة ‪ 273‬دار نشر عربية وأجنبية؛ إذ لوحظ‬

‫قلة اإلقبال مِن الجمهور‪ ،‬وتواضع المبيعات‪ ،‬حتى إن أحد‬ ‫ال ُّن َّقاد وصف ُروَّاد المعرض بأنهم يتجوَّلون في األروقة مكتفين‬

‫بالنظر إلى الكتب‪ ،‬كما لو كانوا يبحثون عن كتاب لم يُطبَع بعدُ !‬ ‫معرض القاهرة في مواجهة آثار النكسة‬

‫كانت القاهرة التي شهدت إحدى الثورات المهمة التي‬

‫غيرت وجه الحياة السياسية في آسيا وإفريقيا على موعد مع‬

‫الثقافي العصريّ ‪ ،‬في تزامن مع االحتفال بألفيتها‪،‬‬ ‫هذا الفعل‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫يخل من إشارات سياسية واضحة‪ ،‬فقد كانت مصر‬ ‫الذي لم‬ ‫ً‬ ‫ظروفا سياسية صعبة وضاغطة في‬ ‫العربي يعيشان‬ ‫والعالم‬ ‫ّ‬ ‫أعقاب ما سُ مِّ ي بنكسة يونيو عام ‪1967‬م‪ ،‬والهزيمة القاسية‬

‫للعرب من إسرائيل‪.‬‬

‫وجاءت االحتفالية بألفية القاهرة مظه ًرا من مظاهر تحدي‬

‫تلك الظروف‪ ،‬وتلمس وسائل إحياء األمل في تجاوز المرحلة‬ ‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬


‫معارض الكتاب العربية تواجه التشدد والرقابة وتبعات الربيع العربي‬

‫معرض القاهرة الدولي للكتاب‬

‫الدولي متزام ًنا مع‬ ‫بكل تداعياتها‪ ،‬وكان انطالق معرض القاهرة‬ ‫ّ‬

‫هذه االحتفالية عنص ًرا من عناصر الزخم‪ ،‬الذي أرادته اللجنة‬

‫المنظمة برئاسة الدكتور ثروت عكاشة وزير الثقافة آنذاك؛ إذ‬ ‫أَوْلت اهتمامها ليأتي المعرض في أبهى حلة؛ لهذا أسندت إلى‬ ‫الدكتورة سهير القلماوي مهمة اإلشراف على تنظيمه بأفضل‬

‫مستوى ممكن‪.‬‬

‫واجه المعرض صعوبات جمة بين عامي (‪2014 - 2011‬م)؛‬

‫بسبب الظروف السياسية التي مرت بها مصر بعد ثورة يناير‪،‬‬

‫وفي تفاعل مع األوضاع القائمة احتفى المعرض باإلمام محمد‬ ‫عبده‪ ،‬بوصفه «رائد الوسطية اإلسالمية» و َْفق ما وصفته به‬

‫الدولي للكتاب انطلق‬ ‫معرض القاهرة‬ ‫ّ‬ ‫في ألفية المدينة‪ ،‬وفي ظروف‬ ‫النكسة‪ ،‬ويواجه ظروف الواقع‬ ‫السياسي بفعالياته الثقافية‬ ‫ّ‬ ‫بالسياسي‪ ،‬تضمّ نت‬ ‫الثقافي‬ ‫وفي داللة على تشابك‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الفعاليات الثقافية للمعرض ندوة بعنوان «الشرطة ودورها‬

‫فى جهود التنمية الشاملة»‪ ،‬مع تكريم أسر شهداء الشرطة‪،‬‬

‫وحمل معرض هذا العام (‪2016‬م) شعار «الثقافة في‬

‫السياسي‪ ،‬مما يبرز تأثير‬ ‫والمست بعض الفعاليات اإلسالم‬ ‫ّ‬ ‫السياسي في هذا المعرض منذ نشأته‪.‬‬ ‫الواقع‬ ‫ّ‬

‫السياسي في المرحلة الحالية‪،‬‬ ‫يعبر عن تفاعالت الواقع‬ ‫ّ‬ ‫الثقافي في مختلف الفنون والعلوم‬ ‫وجاء فيه‪« :‬يواجه اإلبداع‬ ‫ّ‬

‫الواجهة‬ ‫معرض تونس‪ ..‬عودة إلى‬ ‫ِ‬ ‫الدولي أحد أعرق معارض الكتاب العربية‪،‬‬ ‫معرض تونس‬ ‫ّ‬

‫إدارة المعرض‪.‬‬

‫المواجهة»‪ ،‬وسوَّغت اللجنة المنظمة اختيارها الشعار ببيان‬

‫االجتماعية مخاط َر وتهديدات تواجه عالمنا وإقليمنا‪ ،‬من‬

‫خالل القوة الناعمة المتمثلة في الكتاب‪ ،‬واألجناس األدبية‪،‬‬ ‫والموسيقا‪ ،‬والسينما‪ ،‬والمسرح‪ ،‬والفنون التشكيلية‪ ،‬التي‬

‫ً‬ ‫دفاعا عن قيمة المعرفة‪ ،‬والوعي‬ ‫تقف في الصفوف األولى؛‬

‫البصير‪ ،‬والجمال‪ ،‬والحق‪ ،‬والخير‪ ،‬والحوار‪ ،‬والتسامح‪،‬‬ ‫األصولي المغلق‪ ،‬وتجلياته‬ ‫واالختالف إزاء مخاطر العقل‬ ‫ّ‬ ‫اإلقصائية واالستبدادية‪ ،‬التي ترفض وتنبذ التعددية والحوار‬

‫والحق في االختالف»‪.‬‬

‫وقد ألقت األوضاع التي مرت بها تونس ‪ -‬بعد ثورتها على‬ ‫ّ‬ ‫فتوقف اضطرار ًّيا عام‬ ‫نظام بن علي‪ -‬بظاللها الكثيفة عليه‪،‬‬

‫واجهة الحياة الثقافية العربية في الدورة‬ ‫‪2014‬م؛ ليعود إلى ِ‬ ‫الـ ‪ 31‬التي أُقيمت على مدار عشرة أيام (‪ 27‬مارس ‪ 5 -‬إبريل‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وأجنبية‪ ،‬وتناولت‬ ‫عربية‬ ‫دولة‬ ‫‪2015‬م) بمشاركة ‪ 692‬ناش ًرا من ‪19‬‬ ‫فعالياته الواقعَ‬ ‫والعالمي‪.‬‬ ‫العربي‬ ‫الثقافي‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫اإلرهابي على متحف باردو ‪-‬قبل‬ ‫ولم يَحُ ْل وقوع الهجوم‬ ‫ّ‬ ‫أيام من انطالق المعرض‪ -‬دون إقبال التونسيين على المعرض‪.‬‬

‫‪105‬‬


‫تقرير‬

‫وك َّرم المعرض الدكتورة نوال السعداوي‪ ،‬والشاعر‬

‫الوطني لالستحقاق‬ ‫السوري أدونيس‪ ،‬بمنحهما الوسام‬ ‫ّ‬ ‫الثقافي من الطبقة العُ ليا‪ ،‬وهما من الوجوه الثقافية التي‬ ‫ّ‬ ‫يدور اللغط حولهما بين دعاة التشدد واالنفتاح‪.‬‬ ‫وعلقت لطيفة األخضر وزيرة الثقافة التونسية على‬

‫تفاعل الجمهور مع فعاليات المعرض بقولها‪ :‬إن هذه الدورة‬

‫تميزت بتوجه جديد يختلف عن الدورات الماضية التي لم تكن‬ ‫تستجيب ل ُروح الثورة‪ ،‬وفي قطيعة معها‪.‬‬

‫وكان وزير الثقافة السابق مراد الصقلي سوغ عدم تنظيم‬

‫معرض تونس الدولي للكتاب في عام ‪2014‬م بوجود شبه‬

‫إجماع من جميع األطراف من وسائل اإلعالم واتحاد الناشرين‬ ‫التونسيين ووزارة الثقافة على عدم نجاح الدورة؛ مما يتطلب‬

‫إعادة التفكير في إستراتيجية واضحة لضمان نجاحه في‬ ‫المستقبل‪.‬‬

‫وقد واجه انتقادًا من وسائل إعالم تونسية وصفه بعضها‬

‫بأنه وزير للموسيقا‪ ،‬وليس وزي ًرا للثقافة‪ ،‬في إشارة إلى أنه‬ ‫موسيقي االختصاص‪ ،‬وكان يدير مهرجان قرطاج‪.‬‬ ‫ّ‬

‫‪106‬‬

‫معرض الرياض‪ ..‬جدل ال يتوقف‬

‫تشهد دول الخليج العربي ازدهارًا واضحً ا في صناعة‬

‫الكتاب‪ ،‬وفي احتضان معارضه‪ ،‬وإقامتها على نحو منتظم‪،‬‬

‫مع مشاركة واسعة من دور النشر العربية واألجنبية‪،‬‬ ‫الخليجي‬ ‫ويصاحب ذلك جدل كبير يبرز ما يعيشه المجتمع‬ ‫ّ‬

‫معرض الرياض ساحة للسجال بين‬ ‫المتشددين ودعاة االنفتاح‪ ..‬ورموز‬ ‫عربية في األدب محل الخالف‪،‬‬ ‫دائما في الواجهة‬ ‫و«أوالدنا حارتنا»‬ ‫ً‬ ‫الدولي‬ ‫من تحوالت ثقافية واجتماعية‪ ،‬فمعرض الرياض‬ ‫ّ‬ ‫للكتاب يحتفي بدورته العشرين في مارس ‪2016‬م‪ ،‬وقد شهد‬ ‫ً‬ ‫عوضا من‬ ‫تحولاً كبي ًرا في األعوام األخيرة‪ ،‬بفتح أبوابه للجميع‬

‫تحديد مواعيد للرجال وأخرى للعائالت مثلما كانت العادة‪،‬‬ ‫ويشهد المعرض جدلاً دائمً ا وتجاذبًا بين رؤية محافظة‬

‫ومتشددة وبين رؤية منفتحة على جديد الفكر والثقافة؛ على‬ ‫نحو ما حدث في الدورة الماضية في ندوة «الشباب والفنون‪..‬‬

‫دعوة للتعايش» عندما أبدى الدكتور معجب الزهراني أسفه‬

‫لتع ُّرض آثار الدول العربيّة للتدمير‪ ،‬فاعترض أحد الحاضرين‬ ‫معل ًقا بأن الرسول ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ّ -‬‬ ‫ِّ‬ ‫حطم األصنام‬ ‫حينما دخل مكة المكرمة‪ ،‬فأعلن مدير الندوة نهايتها بإغالق‬

‫باب النقاش‪.‬‬

‫وما هذا الحدث إال صورة مصغرة لسجال سنويّ متكرر‪،‬‬

‫ويتهم بعض أصحاب الفكر المتشدد القائمين على المعرض‬ ‫بالسماح بعرض ُكتب وروايات تتضمن عبارات يصفونها‬

‫بالخادشة‪ ،‬ومن ضمن الكتب التي حدَّ دها بيان لهم‪ :‬رواية‬

‫معرض بيروت الدولي للكتاب‬

‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬


‫معارض الكتاب العربية تواجه التشدد والرقابة وتبعات الربيع العربي‬

‫«أوالد حارتنا» لنجيب محفوظ‪ ،‬وديوان سميح القاسم‪،‬‬ ‫وديوان عبدالوهاب البياتي‪.‬‬

‫وفي مقابل ذلك يرفض مثقفون ما يصفونه بـ«وصاية من‬

‫الدعاة على الثقافة في معرض الكتاب»‪ ،‬فهل سيشهد معرض‬

‫الكتاب هذا العام الجدل ذاته؟‬

‫س َمة معارض عربية‬ ‫المنع ِ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫يضيق الكتاب العرب ً‬ ‫ذرعا بالمنع الذي تمارسه معارض‬

‫ثقافي صار مفتوحً ا على مصراعيه‪،‬‬ ‫الكتاب العربية في فضاء‬ ‫ّ‬

‫السياسي المحتدم يلقي بظالله على تلك‬ ‫ويبدو أن الوضع‬ ‫َّ‬ ‫المعارض‪.‬‬

‫روايات وكتب تحت‬ ‫مقصلة الرقيب الكويتي‬ ‫الدولي األخير منعً ا واسعً ا‬ ‫شهد معرض الكويت‬ ‫ّ‬ ‫للكتب والروايات‪ ،‬ومن أشهر الروايات الكويتية‬ ‫الممنوعة‪« :‬فئران أمي حصة» لسعود السنعوسي‪،‬‬ ‫و«خرائط التيه» لبثينة العيسى‪ ،‬و«ال تقصص رؤياك»‬

‫لعبدالوهاب الحمادي‪ ،‬و«رائحة التانغو» لدلع المفتي‪،‬‬ ‫و«ثؤلول» لميس العثمان‪ ،‬و«كاليسكا» لناصر الظفيري‪،‬‬

‫معرض الكويت الدولي للكتاب أحد أقدم المعارض‬

‫الكويتي‬ ‫و«عقالني الكويت» لعقيل العيدان عن المفكر‬ ‫ّ‬ ‫الراحل أحمد البغدادي‪.‬‬

‫بل يمكن من دون مبالغة القول‪ :‬إن هذا المعرض هو أكثر‬

‫السوداني حمور زيادة‪ ،‬وديوان‬ ‫«شوق الدراويش» للكاتب‬ ‫ّ‬

‫العربية‪ ،‬كانت دورته األولى عام ‪1975‬م‪ ،‬ومع هذا ال ِقدَ م أثارت‬ ‫أربعينية المعرض (‪ 28 -18‬نوفمبر الماضي) كثي ًرا من الجدل؛‬

‫المعارض إثارة للجدل؛ بسبب منع الكتب على نحو واسع‪،‬‬ ‫واتهم ُ‬ ‫ً‬ ‫عنوانا‪َّ ،‬‬ ‫تاب‬ ‫حتى بلغ تعداد العناوين الممنوعة ‪220‬‬ ‫الك ُ‬ ‫الرقباءَ باستسهال المنع؛ إلراحة الذهن من عناء التفكير في‬ ‫محتوى الكتب‪ ،‬وعدم وجود معايير واضحة يبنون عليها قرار‬

‫المنع‪.‬‬

‫وتحت عنوان «عشرون عامً ا في الواجهة»‪ ،‬احتفى معرض‬

‫الدولي للكتاب بدورته الـ ‪ ،20‬التي أقيمت في المدة (‪29‬‬ ‫الجزائر‬ ‫ّ‬ ‫أكتوبر‪ 7 -‬نوفمبر ‪2015‬م)‪ ،‬وشارك فيها ‪ 290‬ناش ًرا جزائريًّا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫دولة‪.‬‬ ‫عارضا أجنبيًّا يمثلون ‪47‬‬ ‫إضافة إلى ‪620‬‬

‫ومنعت الرقابة كتبًا سبق أن أجيزت؛ مثل‪ :‬رواية‬

‫«ال تجرح الماء» للشاعر السعوديّ أحمد قران الزهراني‪.‬‬ ‫ومنعت ُكتب ُ‬ ‫لكتاب وأدباء مشهورين؛ مثل‪ :‬سعيد‬

‫السريحي‪ ،‬والمنسي قنديل‪ ،‬وإبراهيم عبدالمجيد‪،‬‬

‫وعلي شريعتي‪ ،‬وإبراهيم الكوني الذي احتفى المعرض‬

‫بأعماله األدبية في مفارقة واضحة‪.‬‬

‫الدولي للكتاب األوضاع السياسية‬ ‫وقهر معرض طرابلس‬ ‫ّ‬

‫المضطربة‪ ،‬واحتفى بدورته الـ‪ 11 ‬في المدة (‪ 10 - 1‬أكتوبر ‪2013‬م)‬

‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫السلطات‬ ‫تخل االحتفالية من لغط؛ إذ منعت‬ ‫ولم‬

‫بمشاركة ‪ 400‬دار نشر؛ من بينها ‪ 300‬دار نشر عربية وأجنبية‪،‬‬

‫ومن أبرز الكتب الممنوعة‪« :‬الماسونية في العالم العربي‬

‫لمواجهة اإلرهاب؛ إذ جاءت كلمة طرابلس مستظلة بكتاب‬

‫الجزائرية ‪ 106‬عناوين من الكتب لدُ ور نشر عربية وعالمية‪،‬‬ ‫‪2007‬م»‪ ،‬و«من اإلرهابي؟»‪ ،‬و«الجزائر جنراالت»‪ ،‬و«صديقنا‬

‫بوتفليقة»‪.‬‬

‫الدولي للكتاب في دورته الـ ‪11‬‬ ‫واحتفى معرض الخرطوم‬ ‫ّ‬ ‫بأديبين تغ َّنيَا بالحرية وكسر األغالل؛ هما الشاعر الشعبي‬

‫الراحل محمد الحسن حميد‪ ،‬والشاعر الراحل محمد‬ ‫الفيتوري‪ ،‬وفنان الجاز الذي يعدّ أحد مجددي الموسيقا‬

‫ٌ‬ ‫وكتب‬ ‫روايات‬ ‫السودانية وهو شرحبيل أحمد‪ ،‬لكن حُ ِجبت‬ ‫ٌ‬ ‫وسياسي؛‬ ‫وجنسي‬ ‫ِيني‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫كثيرة بذرائع مختلفة منها ما هو د ّ‬

‫ذهب برونق االحتفاء‪.‬‬

‫معارض‪ ..‬وظروف استثنائية‬

‫ٍّ‬ ‫بتحد لألوضاع األمنية التي يعيشها العراق‪ ،‬أقيمت العام‬

‫الدولي للكتاب‬ ‫الماضي في بغداد الدورة الـ‪ 42 ‬لمعرضها‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وأجنبية‪ ،‬و‪ 590‬دار نشر‪.‬‬ ‫عربية‬ ‫دولة‬ ‫بمشاركة ‪22‬‬

‫و‪ 100‬دار ليبية‪ ،‬واتخذ المعرض شعارًا يرمز إلى أهمية الثقافة‬ ‫مفتوح‪.‬‬

‫واحتفى معرض صنعاء الدولي بالدورة ‪ 29‬عام ‪2013‬م‪،‬‬

‫ُ‬ ‫لغيت الدورتان التاليتان؛ للظروف األمنية في اليمن‪.‬‬ ‫وأ ِ‬ ‫وفي خطوة ُتبيِّن دالالت معارض ُ‬ ‫الكتب على االستقرار‬ ‫دولي؛ دعا‬ ‫واألمن في البلد الذي يحتفي بالكتاب بمعرض‬ ‫ّ‬

‫اتحاد الناشرين السوريين المحسوب على النظام السوريّ إلى‬ ‫تنظيم معرض للكتاب في دمشق عام ‪2014‬م‪ ،‬بعد أن أُلغي‬ ‫األمني الذي‬ ‫الدولي للكتاب؛ بسبب االضطراب‬ ‫معرض دمشق‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫السياسي الذي تؤ ِّديه معارض‬ ‫تشهده سوريا؛ مما يؤكد الدور‬ ‫ّ‬

‫وأمني وربما‬ ‫سياسي‬ ‫الكتب؛ إذ يوحي انتظامها بوجود استقرار‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫ثقافي‪ ،‬تحرص األنظمة على إشاعته‪.‬‬ ‫ّ‬

‫ومع األوضاع السياسية الساخنة في الساحة العربية‪،‬‬

‫العربي صامدة؟ سؤال‬ ‫هل تظل معارض الكتاب في عالمنا‬ ‫ّ‬ ‫تجيب عنه األيام‪.‬‬

‫‪107‬‬


‫تقرير‬

‫‪108‬‬

‫مواعيد معارض الكتاب العربية‬ ‫املكان‬

‫اسم املعرض‬

‫معرض الشارقة الدولي للكتاب‬

‫من‬

‫التاريخ‬

‫إىل‬

‫معرض القاهرة الدويل للكتاب‬

‫القاهرة ‪ -‬مصر‬

‫‪2016-1-27‬‬

‫‪2016-2-10‬‬

‫معرض الدار البيضاء الدويل للكتاب‬

‫الدار البيضاء ‪ -‬اململكة املغربية‬

‫‪2016-2-11‬‬

‫‪2016-2-21‬‬

‫معرض مسقط الدويل للكتاب‬

‫مسقط ‪ -‬سلطنة عمان‬

‫‪2016-2-24‬‬

‫‪2016-3-5‬‬

‫معرض الرياض الدويل للكتاب‬

‫الرياض ‪ -‬اململكة العربية السعودية‬

‫‪2016-3-9‬‬

‫‪2016-3-19‬‬

‫معرض البحرين الدويل للكتاب‬

‫املنامة ‪ -‬البحرين‬

‫‪2016-3-24‬‬

‫‪2016-4-3‬‬

‫معرض اربيل الدويل للكتاب‬

‫أربيل ‪ -‬العراق‬

‫‪2016-3-25‬‬

‫‪2016-4-3‬‬

‫‪2016-4-2‬‬

‫‪2016-4-12‬‬

‫‪2016-4-27‬‬

‫‪2016-5-3‬‬

‫‪2016-5-7‬‬

‫‪2016-5-17‬‬

‫‪2016/9/3‬‬

‫‪2016/9/13‬‬

‫‪2016/9/25‬‬

‫‪2016/10/6‬‬

‫‪2016/10/6‬‬

‫‪2016/10/16‬‬

‫‪2016/10/16‬‬

‫‪2016/10/28‬‬

‫‪2016/10/28‬‬

‫‪2016/11/7‬‬

‫‪2016/11/4‬‬

‫‪2016/11/14‬‬

‫‪2016/11/18‬‬

‫‪2016/11/28‬‬

‫معرض تونس الدويل للكتاب‬

‫تونس ‪ -‬تونس‬

‫معرض أبوظبي الدويل للكتاب‬

‫أبو ظبي ‪ -‬اإلمارات العربية املتحدة‬

‫معرض فلسطني الدويل للكتاب‬

‫فلسطني ‪ -‬فلسطني‬

‫معرض عمان الدويل للكتاب‬

‫عمان ‪ -‬اململكة األردنية‬

‫معرض اليمن الدويل للكتاب‬

‫صنعاء ‪ -‬اليمن‬

‫معرض ليبيا الدويل للكتاب‬

‫طرابلس ‪ -‬ليبيا‬

‫معرض الخرطوم الدويل‬

‫الخرطوم ‪ -‬السودان‬

‫معرض الجزائـر الدويل للكتاب‬

‫الجزائر ‪ -‬الجزائر‬

‫معرض الشارقة الدويل للكتاب‬

‫الشارقة ‪ -‬اإلمارات العربية املتحدة‬

‫معرض الكـويـت الدويل للكتاب‬

‫الكويت ‪ -‬الكويت‬

‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬


‫معارض الكتاب العربية تواجه التشدد والرقابة وتبعات الربيع العربي‬

‫‪109‬‬


‫مقال‬

‫بالك ووتر‪..‬‬ ‫حروب بال كلفة أخالقية‬ ‫الرأسمالي الذي ّ‬ ‫تتقلص مسافاته الجغرافية كل يوم‪ ،‬جرى تسليع ّ‬ ‫كل شيء‪ ،‬ومن ذلك الحرب‪ .‬خصخصة الجيوش‬ ‫في عالمنا‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫الخاصة مهمّة صناعة جيوش صغيرة تعتمد في‬ ‫هي إحدى معالم الحروب الحديثة‪ ،‬والخصخصة هنا تعْ ني تسليم الشركات‬ ‫تكوينها على مقاتلين مرتزقة‪ ،‬ال يهمّ من أين َأتوْا‪ ،‬وال أين سيذهبون‪ ،‬فالمال يمتلك ّ‬ ‫كل األجوبة هنا‪.‬‬ ‫خطورة الجيوش المرتزقة تكمن في أنها عامل اضطراب آخر يضاف إلى المناطق غير المستقرة في هذا العالم‪ ،‬وهي تسهّل على‬ ‫ّ‬ ‫سياسي‪.‬‬ ‫التدخل وإشعال الحروب‪ ،‬بال ُكلفة أخالقية‪ ،‬ومن دون توريط مواطنيها‪ ،‬أو تحمُّ ل عبء وثقل‬ ‫الحكومات والسياسيين‬ ‫ّ‬

‫أبعد من ذلك‪ ،‬يدفع هذا األمر إلى الرغبة في وجود الحروب لوجود مَن يدفع‪ .‬واستخدام الجنود المرتزقة ظاهرة قديمة‪ ،‬بل وسابقة‬ ‫على جيوش الدول الحديثة؛ إذ استخدمهم الملوك والبابوات في العصور الوسطى‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫السياسي في احتكارها القوة والعنف‪ ،‬لكن في العقدين‬ ‫اضمحلت هذه الظاهرة مع حرص الدول الحديثة على المنطق‬ ‫وقد‬ ‫ّ‬

‫األخيرين َنمَ ْ‬ ‫ت هذه الظاهرة بشكل غير مسبوق‪ ،‬وازدهرت هذه الصناعة في أزمات متنوعة اليوم؛ من حضور الجنود المرتزقة من‬ ‫جنوب إفريقيا لمواجهة بوكو حرام في نيجيريا‪ ،‬إلى مرتزقة شيشانيين؛ لدعم بوتين في أوكرانيا‪َ .‬‬ ‫وف ْ‬ ‫ض ُل العودة إلى منطق الجنود‬

‫المرتزقة وإشعال الحروب‪ ،‬يعود تحديدً ا إلى حرب َْي أفغانستان والعراق‪ ،‬حين ّ‬ ‫مثلت هذه الجيوش الخاصة ركيزة مهمة للحرب‬ ‫األميركية‪ ،‬وقبل ذلك‪ ،‬إلى هجمات الحادي عشر من سبتمبر‪.‬‬

‫في العاشر من سبتمبر عام ‪2001‬م‪ ،‬وقبل هجمات سبتمبر بيوم واحد‪ ،‬وقف دونالد رامسفيلد‪ ،‬وزير الدفاع في إدارة جورج دبليو‬

‫‪110‬‬

‫بوش؛ ليلقي خطابًا رئيسيًّا في البنتاغون‪ ،‬وأمام كبار القادة العسكريين‪ ،‬والمشرفين على عقود الدفاع الضخمة؛ انتقد رامسفيلد‬

‫ّ‬ ‫الخاص‪ .‬في اليوم الالحق‬ ‫بيروقراطية سياسات البنتاغون وبطأها‪ ،‬وطالب بإجراء تحوُّل واسع في سياسات الدفاع يرتكز على القطاع‬ ‫ُضعت خطة رامسفيلد فورًا في حيّز التنفيذ‪ ،‬وأصبحت ُتع َرف بما يسمّ ى‬ ‫تمَّت مهاجمة البنتاغون في هجمات سبتمبر المشهورة‪ ،‬وو ِ‬ ‫«عقيدة رامسفيلد» التي من مالمحها التركيز بشدة على القطاع الخاص‪ ،‬واالعتماد على القوات الخاصة والمقاولين‪ ،‬والتشديد‬

‫على السرية‪ ،‬واستخدام أنظمة األسلحة المتطورة‪ .‬هذا االنطالق إلى الصناعة وازدهارها من بداية العقد الماضي‪ ،‬أتى تتويجً ا لنشاط‬ ‫فعلي بدأ مع بداية التسعينيات؛ فديك تشيني وزير الدفاع آنذاك‪ ،‬والحليف الوثيق لرامسفيلد‪ ،‬كان قد شرع في قيادة الحمالت‬ ‫ّ‬ ‫لدعم الهدف ذاته‪.‬‬

‫ّ‬ ‫سنوي‬ ‫مئة مليار دوالر عائد‬

‫من الصعب تحديد تعداد الجنود المرتزقة حول العالم‪ ،‬فلم تتوافر للحكومات واإلعالم فرص جيدة لتحصيل المعلومات؛‬ ‫بسبب الغموض وسياسات التك ّتم الشديدة من أرباب هذه الصناعة‪ .‬وراوحت تقديرات العائدات السنوية لهذه الصناعة بشكل واسع‬ ‫بين بضعة مليارات‪ ،‬وأوصلتها بعض التقديرات إلى مئة مليار‪ ،‬وفي العقد الماضي ُقدّ ر تعداد المقاولين األمنيين‪ ،‬وهي تسمية‬ ‫ألفا في العراق‪ ،‬وسبعين ً‬ ‫أخرى للجنود المرتزقة‪ ،‬ممن عملوا إلى جانب القوات األميركية بثالثين ً‬ ‫ألفا في أفغانستان‪.‬‬

‫بالك ووتر‪ ،‬هي أشهر شركات الجنود المرتزقة‪ .‬بعد مرور ما يقارب العقد على إنشائها في منتصف التسعينيات؛ أصبحت هذه‬

‫الشركة فرس الرهان للحرب التي أعلنها جورج بوش على اإلرهاب‪ .‬مؤسس هذه الشركة إريك برنس‪ ،‬وهو من عائلة ثرية يمينية‪،‬‬

‫لها تاريخ في دعم قيادات من الحزب الجمهوريّ ‪ ،‬وقد غادر الواليات المتحدة األميركية؛ بسبب المحاكمات والفضائح التي الحقته‬ ‫مع شركته‪ّ ،‬‬ ‫واتجه إلى العيش والعمل في اإلمارات‪ ،‬واآلن تزدهر أعماله في مناطق مختلفة؛ منها إفريقيا الوسطى‪.‬‬ ‫إن تجربة وجود الجنود المرتزقة في العراق كانت تجربة مريرة‪ ،‬ال تزال تتواصل تداعياتها؛ ففي العام الماضي تمَّ ت محاكمة‬

‫أربعة أعضاء من منظمة بالك ووتر في الواليات المتحدة األميركية‪ ،‬بأحكام تراوحت بين المؤبد والثالثين عامً ا؛ لقتلهم ‪ 14‬مدنيًّا‬ ‫عراقيًّا‪ .‬وأول مرة سمع العالم بالجنود المرتزقة‪ ،‬كان بسبب كمين الفلوجة المشهور عام ‪2004‬م الذي ُقتل فيه أربعة من مرتزقة بالك‬

‫ووتر‪ ،‬وقد استشرى العنف في العراق بعد تلك الحادثة‪ .‬وصل األمر إلى أن قال بعضهم في الغرب‪ :‬إن األمن هو أفضل صادراتنا إلى‬ ‫العراق بعد االحتالل‪ ،‬وفي أثناء إدارة بريمر العراق‪ ،‬ثالثون بالمئة من مال إعادة إعمار العراق ذهب إلى شركات الجنود المرتزقة‪.‬‬ ‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬


‫َ‬ ‫المرتزقة‬ ‫على مدى سنوات‪ ،‬تتبّع الكاتب روبرت بينغ بيلتون الجنود‬

‫في عدة أماكن في العالم‪ ،‬وحاول أن يكون محايدً ا وهو يضع الحقائق‬

‫حولهم أمام القارئ في كتابه «المُ ص َّرح لهم بالقتل»‪ ،‬ويتضح من‬ ‫ّ‬ ‫الخط الفاصل بين العمليات السرية والعمليات‬ ‫حاالت عدة كيف أن‬ ‫اإلجرامية ليس موجودًا؛ إذ إنها عمليات سرية قابلة لإلنكار من الحكومة‬

‫األميركية‪ ،‬ومن هذه المنظمات؛ ألنها أعمال قذرة‪ .‬لقد صدرت مذكرات‬ ‫تحميهم من االعتقال والمحاكمة‪ ،‬وف ّروا بجرائم مهولة يضيق المكان‬

‫هنا بذكرها‪ .‬وكشفت تحقيقات فيدرالية عن وجود (كواتم) صوت من‬ ‫هجومي ال يحتاج‬ ‫ضمن أسلحة الشركات الخاصة‪ ،‬وهذا سالح اغتيال‬ ‫ّ‬

‫إليه من يزعم الدفاع‪ ،‬ووصل األمر بأحد الجنود المرتزقة أن أدار هو‬ ‫وزمالؤه سج ًنا كاملاً ‪ ،‬يديرون فيه عمليات التعذيب والسجن تحت مرأى‬ ‫ومسمع المسؤولين األميركيين في أفغانستان‪.‬‬

‫األميركي لهذه الشركات «غير القانونية حسب قوانين‬ ‫إن الدعم‬ ‫ّ‬ ‫وتمدُّ‬ ‫دها‪ ،‬وأصبح أهل القوة والمال‬ ‫أميركا نفسها» ساهم في عولمتها‬

‫عبدالعزيز الحيص‬ ‫كاتب سعودي‬

‫‪111‬‬

‫يتساهلون اليوم في مسألة استئجار قوات خاصة‪ ،‬فالعروض وافرة‪،‬‬

‫ويحرص دائمً ا أرباب صناعة الجنود المرتزقة كثي ًرا على تعديل صورتهم‪،‬‬

‫والمالحظ أن مستنقعات األزمات خلقت حاالت حاجة متجددة لهم؛‬

‫لذلك فإن الجنود المرتزقة اليوم يتمددون‪ ،‬وينتصرون على شعار‬ ‫ً‬ ‫قرونا‪.‬‬ ‫سياسي يقول‪« :‬ال للمرتزقة» كان قد ساد‬ ‫ّ‬ ‫خطر تمدد الحروب‬

‫إن ضعف بعض الدول العربية‪ ،‬ونشاطها كمناطق أزمات‪ ،‬يضعها‬

‫الرأسمالي المطالب بتمدّ د الحروب‪ .‬إن من مخاطر‬ ‫في قلب هذا الخطر‬ ‫ّ‬

‫شركات الجنود المرتزقة أنها ِّ‬ ‫تهدد استقرار الدول‪ ،‬وتجدّ د األزمات‪ ،‬وال‬ ‫يوجد فاعل واضح خلف هذا التهديد من الممكن محاسبته والقبض‬ ‫عليه‪ .‬ودائمً ا ما تع ّزز األنظمة المُ خ ِفقة هذا النوع من الصناعة‪ ،‬عبر‬

‫حرصها على جلب أجهزة أمنية تعمل على حمايتها وحماية مصالحها‬ ‫ً‬ ‫عوضا من تعزيز الجهة األمنية للبلد بشكل عام‪.‬‬ ‫بشكل خاص‪،‬‬ ‫الجيوش الوطنية الفاعلة‪ ،‬والوعي السياسي واألُ‬ ‫ممي‪ ،‬هو الحلّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أمام تس ّرب لوثة الجيوش الخاصة الغربية‪ ،‬وهو الحل ذاته أمام معضلة‬ ‫مشابهة‪ ،‬وهي ظاهرة الجماعات المسلحة من خارج الدولة‪ ،‬فالجزء‬ ‫العربي اليوم يعود إلى نشاط هذه‬ ‫األكبر من األزمات وعدم االستقرار‬ ‫ّ‬

‫الجماعات وقوتها‪ .‬إن ازدهار هذه الصناعة للجيوش الخاصة‪ ،‬برعاية‬

‫الدول الكبرى ودعمها‪ ،‬هو عودة إلى عقلية القرون الوسطى‪ ،‬حين كان‬ ‫مرتزقة المال هم القوة الضاربة التي تفعل كل شيء لمن يدفع‪.‬‬

‫الدعم األميركيّ‬ ‫لهذه الشركات «غير‬ ‫القانونية حسب‬ ‫قوانين أميركا نفسها»‬ ‫ساهم في عولمتها‬ ‫وتمددها‬ ‫ّ‬


‫شعر‬

‫ٌ‬ ‫حفرة على‬ ‫مقاسي‬

‫‪112‬‬

‫أحمد المال‬ ‫شاعر سعودي‬

‫شدّ تني شجرة من كتفي؛ َّ‬ ‫أخرتني لحظة عن (دهسي) بشاحنة متهوّرة‪..‬‬ ‫طوال النهار تخيّلت دمي ذاهلاً على الشارع‪ ،‬صرخات ُت ِّ‬ ‫بقع الرصيف‪،‬‬

‫ورأيت ً‬ ‫ُ‬ ‫فزعا يتنبّه قليلاً ويكمل غفلته‪.‬‬

‫ً‬ ‫عالقا في الهواء مثل غبار‬ ‫صوت استم َّر‬ ‫لم أميّز بين همهمات المارَّة سوى‬ ‫ٍ‬

‫يحجب العالم؛ زعقة مكابح أليمة‪ ،‬لمن ينزلق نحو حتفه‪.‬‬

‫ً‬ ‫فائضا في‬ ‫بعد أن اختفيت عن مكان الحادث‪ ،‬انكشف الغبار عن جسدي‬

‫مكان آخر من الحياة‪ ،‬لم تعبر أمامي َّ‬ ‫ملذات حياتي‪ ،‬كما توهّ مت‪ ،‬بل‬ ‫ٍ‬

‫ٌ‬ ‫صورة واحدة لم تفارقني بعدها‪..‬‬ ‫انطبعت في خاطري‬ ‫تلك الشجرة التي شدَّت كتفي وأنقذتني‪..‬‬

‫ً‬ ‫امتنانا‪،‬‬ ‫تلك الشجرة التي لم أقف عندها‬

‫تلك الشجرة التي عدت إلى مكانها ولم أجدها‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ْ‬ ‫تركت حفرة على مقاسي‪.‬‬ ‫تلك الشجرة التي َفدَ ْتني‪ ،‬وقفزت بديلاً عني؛‬

‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬


‫مرآة النائم‬ ‫ُ‬ ‫كدت‬ ‫جاري لم آخذه على محمل الجدّ منذ طفولتي؛ لسبب وحيد‬ ‫أنساه من فرط خفته‪.‬‬

‫حين أس ّر لي أول مرة عن جسده الذي ينقص وي َْذ ِوي كلما طالعَ في‬ ‫ْ‬ ‫ودمعت عينايَ ‪ ،‬ورأيت في مالمحه كيف ّاتخذ‬ ‫المرآة‪ ..‬وقتها ضحكت‬ ‫قرارًا سريعً ا بعدما اكتشف مدى فداحة قوله‪ ،‬فلم يعد يذكر المرايا‪،‬‬ ‫وألغاها من كالمه‪ ،‬ولهذا نسينا هذا الس ّر‪ ،‬أو هكذا ظننت‪.‬‬

‫وعلى الرغم من تج ّنبه المرايا وتفادي المرور أمامها في كل مكان‪،‬‬ ‫وانقطاع حديثه عنها‪ ،‬فإنه أشار مرة بين أصدقاء مشتركين إلى‬

‫معرفته طريقة فريدة في االنتحار دونما ألم‪ ،‬يخبّئها تحت سريره‬ ‫منذ سنين‪ ،‬ولم أربطها بالمرآة لوال غمزته الخاطفة لي‪.‬‬

‫كبرنا ونسينا ثانية‪ ،‬مثلما عاش وحيدً ا بال مرايا‪ ،‬يرعى أمه بعطف‬

‫وحنان متبادلين‪ ،‬حتى عشق أختي الصغيرة أو أحبّها بجنون حسب‬ ‫قوله‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫لم يبح بذلك ألحد غيري‪ ،‬وكلما قلت له‪ :‬حدث أمك لتفرح لك‪،‬‬

‫ً‬ ‫مطبوعا في وجهها وهي تتفادى‬ ‫(صفن) وقال‪ :‬إنها تشعر بذلك‪ ،‬أراه‬ ‫أن أص ّرح به‪.‬‬ ‫لاً‬ ‫هكذا بدأ حال أمه يسوء‪ ،‬وصحتها تذوب حين جاءني قائ ‪ :‬ال‬

‫أستطيع أن أفقد أمي وأشهد تالشيها أمامي‪ ،‬وليس باستطاعتي محو‬ ‫حبّي ألختك‪ ،‬على الرغم من محاولتي الشاق ِة التظاه َر بالنسيان؛ لكن‬

‫قلب األم مرآة‪.‬‬

‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ابحث عن‬ ‫طرقت أمُّ ه باب بيتنا متأخ ًرا‪ ،‬وقالت مكسورة‪:‬‬ ‫البارحة‬ ‫ّ‬ ‫صديقك‪ ،‬لم يخرج من غرفته منذ يومين‪ .‬فتشت عنه لم أجده‪.‬‬ ‫عدت بها إلى غرفته‪ .‬سري ُره مقلوب‪.‬‬

‫ورأيت ثياب نومه مكوّمة على األرض أمام مرآة كبيرة لم تكن موجودة‬ ‫من ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ودمعت عيناي‪.‬‬ ‫ضحكت في س ِّري‬ ‫قبل‪ .‬وكأنما لمحته فيها؛‬

‫‪113‬‬


‫مقال‬

‫الحركة اإلصالحية‬ ‫النهضوية‬ ‫وقضية‬ ‫المذهبية‬ ‫الحداد‬ ‫محمد‬ ‫ّ‬ ‫كاتب وأكاديمي تونسي‬

‫‪114‬‬

‫شهدت السنوات األخيرة عودة قويّة إلى المدوّنة‬

‫اإلصالحية اإلسالمية؛ لمساءلتها‪ ،‬واالستفادة منها‪،‬‬

‫واالعتماد عليها في تحقيق ما سمَّ اه كثير من المثقفين‬

‫«النهضة العربية الثانية» (زكي ميالد‪ :‬المثقفون والنهضة‬ ‫العربية الثانية‪ .‬صحيفة عكاظ‪ ،‬عدد ‪ 5 ،2818‬مارس ‪2009‬م)‪.‬‬ ‫ً‬ ‫مشروعا للمستقبل‪ ،‬تح ّتمه‬ ‫إذا كانت النهضة الثانية‬

‫نظرية اإلسالم بال‬ ‫مذاهب سمحت بظهور‬ ‫قيادات دينية جديدة‬ ‫من خارج المرجعيات‬

‫التغيرات الحا ّدة التي تشهدها المنطقة‪ ،‬وتدفعه إلى‬

‫األخطار والتحديات غير المسبوقة التي تواجهها المجتمعات‬ ‫العربية‪ ،‬فإن النهضة األولى هي مرحلة تاريخية محدّ دة‪،‬‬ ‫تقع بين بداية القرن التاسع عشر والثلث األوّل من القرن‬

‫العشرين‪.‬‬

‫أمّ ا البداية فترتبط بالمحاوالت اإلصالحية األولى التي‬

‫التقليدية‪ ،‬ال تتمتع‬

‫علي (‪1848 -1805‬م)‪ ،‬وفي‬ ‫ظهرت في مصر في عهد محمد‬ ‫ّ‬ ‫عاصمة الخالفة آنذاك في الحقبة المعروفة بالتنظيمات‬

‫متاهات السياسة‬

‫االهتمام إلى القضية الوطنية‪ ،‬وبناء الدول ما بعد‬ ‫االستعمار‪ ،‬فتغيّرت و َْف َق ذلك َ‬ ‫األوْلويات واالهتمامات‪،‬‬

‫بالعمق والتجربة؛‬ ‫َأدخ َل ِ‬ ‫الدين في‬ ‫ت‬ ‫َ‬ ‫والعنف‬

‫(‪1876 -1893‬م)‪ .‬أمّ ا النهاية فترتبط بحقبة ما بين الحربيْن‪،‬‬ ‫وبداية المدّ ال ّتحريريّ من الحماية واالستعمار‪ ،‬وتحوّل‬

‫ونشأت األيديولوجيات الكبرى التي تصارعت على قيادة الفكر‬

‫العربي والسياسات العربية‪ ،‬إلى أن سقطت األيديولوجيات‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وأَ َف َل عصرها في نهاية القرن العشرين‪ ،‬فاستعادت حقبة‬

‫النهضة بريقها من جديد‪.‬‬

‫واإلصالح‬ ‫ليس المقصود بالعودة إلى تراث النهضة‬ ‫ِ‬

‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬


‫ُ‬ ‫التراث على‬ ‫اقتباس الحلول والمواقف التي ضمَّ َنهما‬ ‫َ‬ ‫علاّ تهما‪ ،‬إنما المقصود استلهام رُوحه العامة المتميزة‬

‫باالنفتاح واالستكشاف والقابلية للنقد والمراجعة‪،‬‬ ‫واالستفادة من تجارب اآلخرين (راجع كتابنا‪ :‬ديانة‬

‫الضمير الفردي‪ ،‬بيروت‪ ،‬المدار‪2007 ،‬م)‪.‬‬ ‫األيديولوجي‬ ‫هذه ال ُّروح هي التي ُفقدت في العصر‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫احتل المساحة األكبر من القرن العشرين‪،‬‬ ‫الطويل الذي‬

‫الطهطاويّ (‪1873 -1801‬م) في مصر وخير الدين (‪-1820‬‬

‫‪1890‬م) في تونس‪ ،‬ومدحت باشا (‪1884 -1822‬م) في‬ ‫تركيا أكب َر ُروَّاد االنتقال إلى الدولة الحديثة‪ .‬وقد ّ‬ ‫مثلت‬

‫العربي جزءً ا أساسيًّا من‬ ‫الحركات الدستورية في العالم‬ ‫ّ‬ ‫مشروع النهضة في القرن التاسع عشر‪ ،‬بل هو الجزء‬

‫العملي من هذا المشروع بوصفه تجسيدً ا للمفاهيم‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫رجال اإلصالح والنهضة؛ مثل‪:‬‬ ‫الجديدة التي ب ََّش َر بها‬

‫وتبدو اليوم ضرورية ومطلوبة؛ الستئناف النهضة‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫ويترتب على هذه‬ ‫وتطلعاتها‪.‬‬ ‫العربية وتحقيق طموحاتها‬

‫والوعي في عامة الشعب‪ ،‬والتصدّ ي لألطماع األجنبية‪،‬‬

‫ً‬ ‫التمسك‬ ‫عوضا من‬ ‫ال ُّروَّاد آنذاك‪ ،‬وفاء بطموحاتهم‬ ‫ُّ‬

‫الحاضر‪ ،‬وفتح باب االجتهاد والتجديد واالقتباس من‬ ‫اآلخر و َْفق ما تقتضيه المصلحة‪ ،‬واإلعالء من قيمة‬

‫القراءة االستلهامية‪ ،‬ال الحرفية‪ ،‬للمدوّنة النهضوية‬ ‫ُ‬ ‫األولى؛ مراجعة نقدية للحلول والمواقف التي طرحها‬ ‫بحرفية أطروحاتهم‪ .‬ويقدّ م هذا المقال نموذجً ا لهذه‬

‫القراءة من خالل قضية المذهبية‪.‬‬ ‫ُر َّواد النهضة‬

‫كانت هذه القضية؛ أي‪ :‬المذهبية‪ ،‬من بين القضايا‬ ‫الكبرى التي ُطرحت في ذلك العصر‪ .‬فالوضع آنذاك‬

‫كان يتميّز بتفكك المجتمعات‪ ،‬وتكونها من مجموعات‬ ‫ّ‬ ‫مستقل بعضها عن بعض إلى حدّ التنافر‪.‬‬ ‫متجاورة‪ ،‬لكنها‬ ‫ً‬ ‫سابقا سياسات مركزية تحيط بالمجتمع‬ ‫ليس للدول‬

‫بوصفه وَحْ دَ ة بشرية‪ ،‬فال توجد سياسات تعليمية أو‬

‫توسيع دائرة المشاركة في الشأن العام‪ ،‬ونشر التعليم‬

‫وتفعيل ال ِقيَم اإليجابية من التراث لتصبح ق ّوة دفع في‬

‫الحُ ِّريَّة والكرامة‪.‬‬

‫العروة الوثقى‬ ‫ّ‬ ‫ثانيها‪ -‬ترسيخ فكرة الوطنية الجامعة كل مكونات‬

‫المجتمع على اختالف األديان والمذاهب؛ لمواجهة‬

‫المخاطر االستعمارية الماكرة‪ ،‬وال أفضل مثال في هذا‬ ‫َّ‬ ‫الوطني الذي سعى جمال‬ ‫الصدَ د من مشروع الحزب‬ ‫ّ‬ ‫الدين لبعثه في مصر قبل نفيه منها‪ ،‬ويتضمن في‬

‫يني‪ ،‬فإنه‬ ‫الوطني حزب‬ ‫البند اآلتي‪« :‬الحزب‬ ‫سياسي ال ِد ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫رجال مختلفي العقيدة والمذهب‪ ،‬وجميع‬ ‫مؤلف من‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫وكل من يحرث أرض مصر‪ ،‬ويتكلم‬ ‫النصارى واليهود‪،‬‬

‫صحية أو اجتماعية موحَّ دة‪ ،‬بل إن التشريعات كانت‬ ‫ً‬ ‫أيضا‪ -‬بين المجموعات السكانية المختلفة‪.‬‬‫تختلف‬

‫لغتها منضمّ إليه؛ ألنه ال ينظر الختالف المعتقدات‪،‬‬

‫وتقوم على سياسات مركزية وتشريعات موحّ دة‪ ،‬كما‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫سهلة‬ ‫فريسة‬ ‫تفكك مجتمعاتهم يجعلها‬ ‫أدركوا أن‬

‫األزهر الذين يعضدون هذا الحزب‪ ،‬ويعتقدون أنّ‬ ‫ّ‬ ‫الحقة تنهى عن البغضاء‪ ،‬وتعتبر‬ ‫الشريعة المحمدية‬

‫أدرك ُروَّاد النهضة أن العصر الحديث قائم على‬ ‫الدولة الوطنية التي ُتعامِ ل رعاياها على أساس المساواة‪،‬‬

‫للمشاريع االستعمارية المتربّصة بهم‪ ،‬والقائمة على‬ ‫مبدأ َ‬ ‫«ف ِّر ْق َت ُسدْ »‪ ،‬وتأجيج العداوات؛ لفتح الطريق‬ ‫األجنبي؛ كي يصبح جزءً ا من المعادلة الداخلية‪،‬‬ ‫أمام‬ ‫ّ‬

‫والمستفيد األكبر من صراعات أهل البالد‪.‬‬

‫ومن هذا المنطلق؛ عمل ُروَّاد النهضة على ثالث‬

‫جبهات متكاملة‪:‬‬ ‫ً‬ ‫أولها‪ -‬نشر فكرة المواطنة‪ ،‬ومنحها شرعية ِدينية‬ ‫وتاريخية وثقافية داخل البيئة العربية واإلسالمية‪ ،‬فكان‬

‫ويعلم أنّ الجميع إخوان‪ ،‬وأن حقوقهم في السياسة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أخص مشايخ‬ ‫مسلم به عند‬ ‫والشرائع متساوية‪ ،‬وهذا‬

‫الناس في المعاملة سواء» (األعمال الكاملة لمحمد‬

‫عبده‪ ،‬تحقيق د‪ .‬محمد عمارة‪ ،‬بيروت‪ ،‬المؤسسة‬ ‫العربية للدراسات والنشر‪ ،‬ط‪1979 ،2‬م‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‬

‫‪.)369‬‬

‫وقد استعاد جمال الدين وصحبه هذا المشروع‬

‫الباريسي‬ ‫في إطار أوسع حينما أسّ سوا في منفاهم‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫جمعية «العروة الوثقى» وصحيفتها المشهورة‪،‬‬ ‫وكانت تنادي بالرابطة الشرقية‪ ،‬وهي عبارة اختيرت؛‬

‫‪115‬‬


‫مقال‬

‫ِل َت َسعَ غير المسلمين من أبناء الشرق‪ ،‬وتوحّ د هؤالء‬

‫وأولئك في مشروع مقاومة االستعمار‪.‬‬

‫العقائد الكبرى‬ ‫ّ‬ ‫التخلص من الخصومات العَ َقدِ يَّة والفقهية‬ ‫ثالثها‪-‬‬

‫الوطنية العليا‪ ،‬وتتالفى الخلط بين المذهبية والسياسة‪،‬‬ ‫بوصف ُ‬ ‫األ َ‬ ‫ولى من مجال المطلق وغير قابل للنقاش‪ ،‬أما‬

‫التي كبّلت المسلمين‪ ،‬ودفعتهم إلى التناحر‪ ،‬وتسبّبت‬

‫السياسة فهي ميدان التوافق والحلول الوسطى التي يمكن‬

‫وال مذاهب‪ ،‬يكتفي بالعقائد الكبرى المتفق عليها بين‬ ‫ّ‬ ‫واألخالقي المترتب على‬ ‫العملي‬ ‫ويغلب الجانب‬ ‫الجميع‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫المشترك‪ .‬وليس لطائفة أو مذهب أن يسعى لفرض‬

‫في ضعفهم ووهنهم‪ .‬والدعوة إلى إسالم بال طوائف‬

‫هذه العقائد‪.‬‬

‫ولنا في «رسالة التوحيد» للشيخ محمد عبده (‪-1849‬‬

‫‪1905‬م) أفضل مثال على هذا المنهج الجديد؛ إذ وصفه‬

‫بأنه يرمي «إلى الخالف من مكان بعيد‪ ،‬حتى ربما ال يدركه‬ ‫إلاَّ الرجل الرشيد ‪ ...‬وبعد عن الخالف بين المذاهب‪ ،‬بعد‬

‫أن تتوافق عليها األطراف المختلفة في تحقيق العيش‬

‫معتقداته على المخالفين‪ ،‬أو أن يُعيد تشكيل األوطان‬ ‫والمحيط اإلقليمي و َْفق مقتضى تلك المعتقدات‪ ،‬وإلاَّ‬ ‫ّ‬ ‫ساهم في االنحالل والضعف أمام األطماع الخارجية‪،‬‬ ‫وأدخل المجتمعات في نزاعات عنيفة ال أوّل لها وال آخر‪.‬‬ ‫شكل جديد من االستعمار‬

‫ممليه عن أعاصير المشاغب»‪( .‬رسالة التوحيد‪ ،‬ط دار‬

‫مع أنه قد ثبت اليوم أن فكرة «إسالم بال مذاهب» هي‬

‫باالتفاق إلى اليوم‪ ،‬فإن الموقف الثالث أصبح في السنوات‬ ‫ّ‬ ‫محل نقد ومراجعة؛ ألسباب وجيهة ُت َ‬ ‫ختصر في‬ ‫األخيرة‬

‫فإن البديل ليس مواجهة الطائفية بالطائفية‪ ،‬والعودة‬

‫المعارف‪ ،‬ص ‪ .)18-17‬ولئن حظي الموقف األوّل والثاني‬

‫‪116‬‬

‫كان يكفي لضمان وَحْ دَ ة المجتمع أن تتفق الطوائف‬ ‫ً‬ ‫والمذاهب على احترام بعضها‬ ‫بعضا‪ ،‬وتلتزم المصالحَ‬

‫أمرين أساسيين‪:‬‬ ‫أولاً ‪ -‬إنّ نظرية اإلسالم بال مذاهب قد طبقت على‬ ‫السنية من دون غيرها‪ ،‬فساهمت في إضعافها‪،‬‬ ‫المرجعية ُّ‬ ‫وإضعاف مؤسساتها التقليدية مثل األزهر‪ ،‬واستفادت من‬

‫ذلك مرجعيات أخرى منافسة لها‪.‬‬

‫ثانيًا– إن نظرية اإلسالم بال مذاهب قد سمحت بظهور‬

‫قيادات دينية جديدة من خارج المرجعيات التقليدية‪،‬‬

‫ال تتمتع بالعمق والتجربة‪ ،‬أدخلت الدين في متاهات‬ ‫ّ‬ ‫وظل يُزايِد بعضها على بعض إلى أن‬ ‫السياسة والعنف‪،‬‬

‫انتهت إلى اإلرهاب الذي أساء إساءة بالغة لصورة اإلسالم‬ ‫والمسلمين في العالم ّ‬ ‫كله‪.‬‬

‫ال ّ‬ ‫شك أنّ هذه النتائج لم تكن تدور بِ َخ َلدِ ُروَّاد النهضة‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫في القرن التاسع عشر‪ ،‬وال كانت متوقعة وَفق ظروف ذلك‬ ‫ً‬ ‫–أيضا‪ -‬أن َن ِع َي أن هؤالء ال ُّروَّاد‪،‬‬ ‫العصر‪ .‬لكن ينبغي لنا‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫األوضاع القائمة‪ ،‬فإنّ‬ ‫–أحيانا‪ -‬في تصويرهم‬ ‫لئن بالغوا‬ ‫تحليلهم في جوهره كان مُ صيبًا؛ إذ إنَّ كثرة االختالفات‬ ‫ً‬ ‫عائقا أمام وَحْ دَ ة المجتمع‪ ،‬والمرجعيات‬ ‫الدينية تقف‬

‫التقليدية العريقة لم تنجح في التطوّر من ذات نفسها‪ .‬أمّ ا‬ ‫ُّ‬ ‫التطلع إلى إسالم بال مذاهب‪،‬‬ ‫وجه المبالغة لديهم فهو‬

‫اجتماعي عريق‪ .‬فهذا‬ ‫فس َخ تاريخ طويل وواقع‬ ‫وهذا يَعْ ني ْ‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬ ‫التطلع أقرب إلى الطوباوية منه إلى الطموحات الواقعية‬

‫القابلة للتحقيق‪.‬‬

‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬

‫أقرب إلى الطوباوية منها إلى المشروع القابل للتحقيق‪،‬‬

‫إلى ما يشبه الوضع الذي ثار عليه ال ُّروَّاد في عصر النهضة‪،‬‬

‫وتأجيج العنف والصراعات المض ّرة بالمجتمعات كلها‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الحل األمثل هو نشر ثقافة االختالف والتسامح‪،‬‬ ‫إنما‬

‫وتقرير الوَحْ دَ ة الوطنية‪ ،‬وتحقيق التعايش المشترك على‬ ‫أساس االشتراك في المواطنة أولاً وآخي ًرا‪.‬‬

‫ً‬ ‫أيضا‪ -‬الطموح‬‫ذاك كان طموح جيل النهضة‪ ،‬وهذا‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫صادقا‪ -‬في التصدّ ي‬‫لكل من يرغب اليوم‬ ‫الواقعي‬ ‫ّ‬

‫لمشاريع تفكيك المجتمعات العربية واإلسالمية‪ ،‬وجعلها‬ ‫ُل ْقمَ ًة سائغة لشكل جديد من االستعمار‪ ،‬ال تقوده اليوم‬

‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُجسده جشع اللوبيات المالية التي‬ ‫الدول‬ ‫والجيوش إنما ي ِّ‬ ‫يسيل لعابها ّ‬ ‫كلما يَمَّ مَ ْ‬ ‫ت نظ َرها إلى الشرق األوسط‪ ،‬وما‬ ‫يحويه من ثروات وخيرات‪.‬‬

‫يترتّب على هذه القراءة‬ ‫للمدونة النهضوية‬ ‫االستلهامية‬ ‫ّ‬ ‫األولى؛ مراجعة نقدية للحلول‬ ‫ُ‬ ‫الر َّواد‬ ‫والمواقف التي طرحها ُّ‬ ‫عوضا من‬ ‫آنذاك‪ ،‬وفاء بطموحاتهم‬ ‫ً‬ ‫التمسك بحرفية أطروحاتهم‬ ‫ّ‬


‫ﻗﻨﺎة‬

www.youtube.com/user/KFCRIS


‫بورتريه‬

‫محمد العلي‬ ‫يطل من نافذة صغيرة على الحياة‬

‫‪118‬‬

‫محمد أحمد عسيري‬ ‫كاتب سعودي‬

‫ّ‬ ‫تمتد إليها يده ليفتحها‬ ‫قبل موعد القهوة بقليل‪ ،‬يسير ببطء إلى نافذته الصغيرة‪ ،‬يقف أمامها مترد ًدا قبل أن‬ ‫كأنه يخشى أال يظهر له النور من خلف الستار وهو الذي اعتاد الركض تحت الشمس‪ ،‬يسابق النخيل إلى‬ ‫الصبي الذي غادر يومً ا موطنه إلى عوالم أخرى تفوق تخيله‪ ،‬كبر كثيرًا لكنه ما زال يحمل‬ ‫أطراف السماء‪ .‬ذلك‬ ‫ّ‬

‫نفس العزيمة والتفاؤل‪ .‬ينظر من نافذته إلى السماء‪ ،‬يتنفس زرقتها الذائبة حول الشمس‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫سريعا‪ .‬الشاعر محمد‬ ‫خطوطا يطلقها نحو البعيد؛ لعلها تعود ببقايا طفولته التي ودعها‬ ‫يرسم بإصبعه‬

‫العلي؛ ذلك الطفل الحساوي الذي حمل وصايا والده الفالح وخبأها في صدره؛ ليعود إليه في يوم ما «عالِم‬ ‫ً‬ ‫سريعا‪ .‬وأن عقله ما كان يؤمن بغير االنطالق في سماوات اإلبداع‬ ‫دِين» لم يكن يعلم أن ألحالمه أجنحة تنمو‬ ‫الفسيحة‪.‬‬

‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬


‫من قرية «العمران» في األحساء حيث النخيل الذي كان‬ ‫يحتمي بظالله كلما اشتدّ عليه هجير األرض‪ّ .‬‬ ‫لف قلبه في رداء‬

‫أبيض‪َّ ،‬‬ ‫واتجه صوب العراق المزدحم بالدهشة والحضارة‬ ‫والشعر‪ .‬حاول أن يكون ما أراده والده‪ ،‬لكنه لم يكن إال هو‪.‬‬

‫تم َّرد كنخلة وارتفع عاليًا‪ ..‬نفض عنه ما علق به‪ ،‬وأكمل طريقه‬ ‫متجاو ًزا ّ‬ ‫كل المسافات المظلمة؛ ليخرج إلى النور الذي طالما‬ ‫بحث عنه‪ ،‬وأيقن أنه داخله‪ .‬في أرض «غلغامش» وجد «العلي»‬ ‫ً‬ ‫منطلقا‬ ‫نفسه يتأثر معرفيًّا‪ ،‬وتتسع مداركه‪ .‬كانت العراق وقتئذ‬ ‫رحبًا لشاب ي َّتقد حماسً ا‪ .‬امتزج بمدارس شعرية متنوعة‪ ،‬وقرأ‬

‫العربي العظماء‪ ..‬لقد عثر على مالمحه‬ ‫لشعراء بغداد والوطن‬ ‫ّ‬

‫أحد يدري؛ ليعود في ّ‬ ‫كل مرة غيمة تمطر فوق هذا الجفاف‪.‬‬

‫ال ماء في الماء‪ ،‬يكتب قصيدة‪ ،‬يبتسم‪ ،‬يسند ظهره المثقل‬ ‫ً‬ ‫عميقا كأنه يتهيّأ‬ ‫بالسنوات إلى صدر كرسيه الحاني‪ ،‬ويتنفس‬ ‫لرحلة أخرى مع الحياة‪ ،‬وهو يستعيد صورة من األمس‪ ..‬ومن‬ ‫َثمَّ يقرأ‪:‬‬ ‫«أوقفني مرة نورس كان في البعيد‬ ‫أسمع من ريشه المتقاطر ً‬ ‫لحنا‬

‫وأخيلة تغسل الموت من كل أوهامنا المشرئبَّة بالخوف‬ ‫لكنه ذاب في الملح‪.»..‬‬

‫يتحسس طريقه‪.‬‬ ‫أخي ًرا وبدأ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫الشاب حبًّا لخوض تجربة‬ ‫ّ‬ ‫هذا التنوع ولد لدى القرويّ‬

‫يا له من إنسان! ي ّتحد مع كل األشياء‪ ،‬ويؤمن بكل‬ ‫المراحل‪ ،‬كأنه ي َ‬ ‫ُولد عند كل مرحلة ً‬ ‫مرة أخرى؛ يقولون‪ :‬أيها‬

‫مستوى القصيدة الحديثة‪ ،‬حتى أصبح فيما بعد أحدَ ُروَّاد‬ ‫العربي‪ّ .‬‬ ‫تنقل بين التعليم‬ ‫الحداثة في السعودية والوطن‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫والصحافة والكتابة الصحفية‪ ،‬فكان محل اهتمام كل من‬

‫عرقك المالح‪ ،‬والنورس الذي أطلق األلحان من ريشه لنستمد‬

‫ّ‬ ‫خاص تف َّرد به على‬ ‫شعرية مغايرة‪ ،‬خرج من خاللها بأسلوب‬

‫َع َر َفه‪ ..‬أدهش الجميع بفكره‪ ،‬وأطروحاته التنويرية‪ ،‬وشعره‬ ‫ِّ‬ ‫المتجدد‪ .‬لقد كان في الموعد دائمً ا ثاب ًتا ال يتزحزح عن مواقفه‬ ‫وآرائه‪ ،‬ال يعترف بالتنازالت وال ُتغيِّره األحداث‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫يشق بذراعيه قاع البحر‬ ‫غواص‬ ‫العلي مُ ِق ّل في شعره بشكل محيّر‪ ،‬لكنه عندما ينهمر‬ ‫علينا بقصيدة بعد غياب‪ ،‬فإنه ّ‬ ‫يبلل عروقنا حتى االرتواء‪ .‬هو‬ ‫يشبه الغواص الذي يشق بذراعيه قاع البحر؛ النتقاء اللؤلؤ‬

‫ّ‬ ‫مرصعة‬ ‫بحرفية متناهية‪ ،‬فهو يصنع من قصيدته «قالدة»‬ ‫بلغة عذبة شفيفة‪ .‬ربما إلدراكه أن اإلبحار في محيطات اللغة‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫أيضا‪ -‬كاتب‬‫يظل صامدً ا ال يفنى‪ ،‬وهو‬ ‫هو السبيل «لشعر»‬

‫الشاعر‪ ،‬إن وجهك الماء حين اخترت هذه األرض؛ لتذيب فيها‬

‫من الغناء طاقة نهزم بها السواد الحالك‪.‬‬

‫الشاعر محمد العلي اإلنسان الذي ما أهمل عقله‪ ،‬وال‬

‫باعه في زمن الطفرة والمال‪ ،‬العاشق للسماء المفتوحة‪،‬‬

‫وللبحر الذي ال تعيقه المناطق المحظورة‪ .‬منذ أن عاد وحيدً ا‬

‫وهو دائم التفكير في مجتمعه‪ ،‬وفي اإلنسان؛ فمن دونهما ال‬ ‫يكون ولن يكون هناك ّ‬ ‫حقيقي يستطيع لمس الحقيقة‬ ‫مثقف‬ ‫ّ‬ ‫التي ّ‬ ‫نظل دائمً ا في شغف إلى اكتشافها‪« .‬الحداثة أن ال يسبقك‬ ‫التاريخ»؛ المفردة التي شغلته طويلاً ‪ .‬سار في طرقاتها بمفرده‬ ‫ومع الجموع‪ .‬وفي كل مرة كان يقول‪ :‬إنها ليست ً‬ ‫ملكا ألحد‪،‬‬

‫الحداثة للكل؛ بشرط أن نسير معها‪ ،‬تحت ظاللها‪ .‬العلي يرى‬ ‫أن الحداثة مزيج لذيذ من كل ما ُت ِّ‬ ‫قدمه لنا الحياة وتصنعه‬ ‫الحضارة؛ في العلم والفن واألدب‪ ...‬إلى غير ذلك‪.‬‬

‫كان دائم التحذير من تطوّر األزمنة وتقدمها‪ ،‬وبقاء اإلنسان‬

‫عميق ال يؤمن بالهوامش السطحية‪ ،‬يخرج الكلمات صادقة‬

‫في رجعيته وأفكاره القديمة وجهله األبديّ ‪.‬‬

‫المطلق لترتدي حلة الشاعر في اإلحساس والتباهي‪ ،‬فهو ال‬ ‫ّ‬ ‫يتخلى عن ريشة الشاعر حتى لو أراد ّ‬ ‫حل الكلمات المتقاطعة؛‬

‫ويستق ّر به المقام في بقعة مأهولة بالماء والنخيل والشعر‬ ‫وبقايا طفولة منسية‪ ،‬إلى أن يطمئنّ إلى أن التاريخ لن يسبقنا؛‬

‫من أعماقه‪ ،‬يزيل عنها كل القيود قبل أن ينثرها فوق البياض‬

‫مهووس بالشعر كأنه ينظر إليه على أنه حارس الكتابة األمين‬

‫الذي يمنحها الحرية ويدفعها نحو مجاالت أرحب‪ .‬يقول‬ ‫عنه األستاذ الناقد عبدالله السفر في هذه اللمحة تحديدً ا‪:‬‬

‫«محمد العلي تلك الزرقة التي علمتنا األناشيد‪ ،‬كتاباته‬ ‫برغم غزارتها وتنوعها إال أنها محاطة بروح الشعر دائمً ا»‪.‬‬ ‫يعود بهدوء إلى كرسيه األثير‪ ،‬ينظر إلى ورقة بيضاء عائمة فوق‬ ‫مكتبه‪ ،‬تغريه شهوة الكتابة‪ ،‬فيأتيها طائعً ا‪ ،‬ومن َثمَّ يبتعد‬

‫ّ‬ ‫يتبخر ال‬ ‫من المكان ليبقى جسدً ا فيه‪ .‬يتس ّرب كماء‪ ،‬أو ربما‬

‫إلى حين أن تنتهي غربة العلي‪ ،‬ويعود من ترحاله‪،‬‬

‫دعونا نر ِّدد سويًّا ما قاله يومً ا‪:‬‬ ‫ها نحن جئنا‬

‫ولسنا نريد الآللئ‬

‫لسنا نريد الذي لم يزل نازحً ا في امتدادك‬

‫إنا نريد الوجوه التي كان آباؤنا يبذرون على الموج‪،‬‬ ‫أسماءنا‬

‫أن نسير على األرض دون انحناء»!‬

‫‪119‬‬


‫ثقافات‬

‫أحفاد سرفانتس‪..‬‬ ‫إسبانيا والظواهر األدبية الجديدة‬

‫‪120‬‬

‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬


‫اإلسباني اليوم من دون الرجوع‬ ‫والثقافي‬ ‫األدبي‬ ‫ال يمكن فهم الواقع‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫إلى إضاءة ما يمكن أن ننساه حتمً ا من تأثيرات وتغييرات لحقت بنية‬ ‫المجتمع وثقافته في القرن المنصرم‪ .‬لقد عانت إسبانيا القرن الماضي‬

‫كثيرًا من التأثيرات السلبية التي غيَّرت مفهوم األدب والثقافة وخرائطهما‬ ‫المتشعبة‪ .‬فبعد أن‬

‫عبدالهادي سعدون‬ ‫كاتب وأكاديمي عراقي ‪ -‬إسبانيا‬

‫كانت إسبانيا إمبراطورية‬ ‫عظمى ورم ًزا ثقافيًّا في أوربا والدول الالتينية الناطقة‬ ‫باإلسبانية مع بدء القرن الماضي؛ تالشت ذكرى العظمة‬ ‫ومؤثراتها بعد أن فقدت آخر معاقلها اإلمبراطورية‪،‬‬

‫وتفسخ الجسد الواهن عن كيانات بدأت تنسلخ عن‬ ‫الثقافة واألدب واللغة األم اإلسبانية؛ لذلك راح كثير من‬ ‫مثقفيها‪ ،‬وبخاصة جيل عام ‪1898‬م يبحث عن اله ُِويَّة‬

‫الجديدة وسط الصراعات الداخلية في مجتمع تتنازعه‬ ‫التنويرية والتقليدية وخصام اإلخوة في االستحواذ‬

‫على السلطة والمرجعية القصوى‪ ،‬لقد جرت التحوالت‬ ‫األدبية وسط أجواء من النزاعات المحلية التي دفعت‬

‫البالد إلى حرب أهلية وسيطرة عسكرية فاشية تحكم‬ ‫البالد بقبضة حديدية طوال القرن العشرين تقريبًا‪ ،‬التي‬

‫زالت تدريجيًّا بموت الدكتاتور فرانكو عام ‪1974‬م‪ ،‬لتحل‬

‫في إسبانيا بوادر الديمقراطية المتوازنة‪ ،‬وتتيح ألبنائها‬ ‫اً‬ ‫مجال رحبًا من الحرية والتجريب واالنفتاح على العالم‬ ‫بعد أن كانت البالد تعيش في قوقعتها المتصدعة‪.‬‬

‫مع ذلك فتأثير الحركات األدبية األولى؛ مثل‪ :‬جيل‬

‫الـ‪ ،98‬وجيل الـ‪ ،27‬والحركات األدبية والفنية بعد الحرب‬ ‫َّ‬ ‫شكلت‬ ‫اإلسباني‪ ،‬قد‬ ‫األهلية اإلسبانية وأجيال المنفى‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫الطوق األهم في تناول الروح اإلسبانية وفهمها على مدار‬

‫عقود طويلة؛ إذ ال يزال تأثيرها واضحً ا ومتمي ًزا على الرغم‬

‫من ظهور كثير من األصوات والحركات األدبية المؤثرة‬ ‫اليوم في النتاج والرؤية األدبية في البالد‪.‬‬

‫لقد عانت إسبانيا وآدابُها طوال القرن الماضي تضاؤل‬

‫مجسم دون كيشوت وسانشو‬

‫األدبي مقارنة بجيرانها األوربيين‪ ،‬وبخاصة إزاء‬ ‫النتاج‬ ‫ّ‬ ‫واألدبي في أميركا الالتينية‪ .‬ال ننسى أن‬ ‫الشقيق اللغويّ‬ ‫ّ‬

‫الالتيني أغلبها قد برز عن طريق‬ ‫األميركي‬ ‫مظاهر األدب‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫‪121‬‬


‫ثقافات‬

‫الميكنة الطباعية‪ ،‬و ُدور النشر اإلسبانية‪ ،‬وطغيان صوته‬

‫على كثير من األسماء والحركات األدبية اإلسبانية التي‬ ‫كانت تراوح في مكانها داخل الشرنقة الداخلية المسيطر‬

‫عليها من الحكومة الفرانكوية‪ ،‬أو تتجدد بشكل مغاير‬ ‫تمامً ا عن طريق أدب المنفى اإلسباني وفنونه التي لم تكن‬

‫بعد اضمحالله أو انطماسه طوال القرن العشرين تقريبًا؛‬ ‫واألوربي‪ ،‬وإثبات‬ ‫العالمي‬ ‫للوصول إلى مستوى األدب‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الجدارة األدبية بعيدً ا من المقارنة مع آداب أميركا الالتينية‪،‬‬ ‫وعلى الرغم من الصعوبة والقنوات المحبطة‪ ،‬نستطيع‬

‫القول اليوم‪ :‬إن مرور ربع قرن من القرن الحادي والعشرين‬

‫اإلسباني في الداخل؛‬ ‫تصل بشكل فاعل إلى القارئ واألديب‬ ‫ّ‬ ‫اإلسباني‬ ‫لذلك لم يكن التنافس والظهور عادلاً أمام األديب‬ ‫ّ‬ ‫في مواجهته أهم حركات األدب المكتوب باإلسبانية عالم ًّيا‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ونعني بها آداب الواقعية السحرية‪ ،‬وممثليها الكبار؛ مثل‪:‬‬

‫روائية متميزة مثل‪ :‬اإلخوة غويتسولو‪ ،‬أو خابيرمارياس‪ ،‬أو‬

‫لقد حاول أدباء القرن الجديد وأصواته المهمة طوال‬

‫أو ألموديناغراندي‪ ،‬وفي الشعر بمكانة الكبار منهم‬

‫ماركيز وليوسا وكاربنتير وفوينتس وكورتاثار وغيرهم‪.‬‬

‫عقود من األلفية الثالثة استرجاع الصوت الخاص بهم‬

‫األدبي أسماء مهمة تضاهي في دورها‬ ‫قد منح المشهد‬ ‫ّ‬ ‫أهم أصوات الواقعية السحرية في أميركا الالتينية‪ ،‬وتسير‬ ‫األوربي؛ إن أسماء‬ ‫جنبًا إلى جنب مع أهم حركات األدب‬ ‫ّ‬ ‫منويوث مولينا‪ ،‬أو ميّاس‪ ،‬أو بيال ماتاس‪ ،‬أو خابيرثركاس‪،‬‬

‫المتواصلين تجديديًّا مع القرن الجديد؛ مثل‪ :‬خوسي‬ ‫إيرو وأنتونيو غامونيدا وكابايير وبونالد وكارلوس بوسونيو‬

‫وليوبولدو ماريا بانيرو‪ ،‬ومن بعدهم أسماء حركات التجديد‬

‫الشعريّ الشابة التي برزت في أثناء الدولة الحديثة لما‬ ‫بعد الفرانكوية؛ مثل‪ :‬مونتيرو‪ ،‬وآنا روسيتي‪ ،‬وكوينكا‪،‬‬ ‫وبنخامين برادو‪ ،‬وأولبيدوغارثيا بالديس‪ ،‬وأنطونيو بيينا‪،‬‬ ‫اإلسباني المعاصر‬ ‫وسيلس وغيرهم‪ .‬من هنا نرى أن األدب‬ ‫ّ‬ ‫في القرن الجديد قد تمثل بقدر وآخر التجربة اإلسبانية‬

‫العريقة‪ ،‬ابتداء من نماذج أدباء القرن الوسيط إلى مـوجات‬

‫‪122‬‬

‫الحداثة في القرن التاسع عشر من دون أن يلغوا كثي ًرا‬ ‫العالمي‪.‬‬ ‫مسألة التداخل والتجريب والمعاينة مع النموذج‬ ‫ّ‬

‫وهكذا في نظرة سريعة‪ ،‬ستجعلنا نقرأ المدارس‬

‫السوريالي إلى آخر‬ ‫واألساليب المختلفة من الرومانتيكي إلى‬ ‫ّ‬

‫ً‬ ‫اليومي‬ ‫الحياتي أو‬ ‫رجوعا إلى أدب التأثير‬ ‫موجات التجريب‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫كما يطلق على آخر نماذجه الكتابية‪.‬‬ ‫ً‬ ‫سابقا‬ ‫إذا كانت المحاوالت األدبية المعاصرة في إسبانيا‬

‫تسعى لتقليد أو مجاراة ما يأتي من الخارج‪ ،‬فاليوم وبفضل‬ ‫مونيوث مولينا‬

‫يعد من‬ ‫إن األدب اإلسباني اليوم‬ ‫ّ‬ ‫العالمي الممثل‬ ‫وجهة نظر النقد‬ ‫ّ‬ ‫الحقيقي للنموذج المكتوب باللغة‬ ‫ّ‬ ‫اإلسبانية‪ ،‬بعد اختفاء آخر األصوات‬ ‫في الواقعية السحرية‪ ،‬وعدم‬ ‫ظهور ما يمثلها اليوم في التميز‬ ‫والتجديد إال القليل‬

‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬

‫التجديد والتنويع في آدابها وأسمائها المتميزة‪ ،‬قد انتشلت‬ ‫األدب من قوقعته وبدأت ًّ‬ ‫حقا في مضاهاة اآلداب العالمية؛‬

‫اإلسباني يصدّ ر إلى الخارج ويشار إليه‬ ‫األدبي‬ ‫إذ صار النموذج‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫بكونه نتاج ال ُّروح األدبية والفنية الجديدة في شبه الجزيرة‬ ‫اإليبيرية‪ .‬لقد َتمَ َّثل أحفاد سرفانتس مؤلف دون كيخوته‬ ‫تلك ال ُّروحية المغامرة في العصور الوسيطة لتشكل ردة‬

‫فعل وتقويم آخر للفهم والكتابة والتواصل مع العالم‪.‬‬

‫وإذا كانت محاوالتهم األولى تكاد تكون مرتبكة وقلقة‬

‫ومغامرة‪ ،‬فاليوم تشيد صوتها على قاعدة رصينة من التنوع‬

‫واألسماء والحركات المتفاعلة‪ ،‬بعضها مع بعض ومع‬ ‫آداب أوربا المتعددة‪.‬‬

‫مع هذا التجديد والتنوع ال بد من اإلشارة إلى أن أغلب‬

‫أسماء األدباء ونماذجها الكتابية قد شكلت عالمات فردية‪،‬‬


‫وبخاصة بعد خروجها من شرك التجييل‬

‫الذي حصر األدباء وأعمالهم األدبية في‬

‫حلقاته المعروفة‪.‬‬

‫الميزة المعتبرة في آداب القرن الجديد‬

‫هو خروج األغلبية إن لم نقل الجميع من‬

‫بوتقة األجيال األدبية‪ ،‬والرسم على أهمية‬ ‫العملية الكتابية وعمقها من دون الخضوع‬

‫إلى ما يقيدها ضمن الحركة األدبية الواحدة‪.‬‬

‫من هنا يمكننا الحديث عن أسماء روائية‬ ‫وشعرية ونقدية مهمة؛ كل واحد منها‬

‫آنا روستي ‬

‫خابير مارياس‬

‫يعمر لمنظومته في نسق أحادي يتجمع مع‬ ‫اآلخر في الهمّ والكتابة والتجديد‪ ،‬وليس في‬

‫نسق العملية التجييلية الضيقة‪.‬‬

‫فبعد أن كانت األجيال والتقييم النقديّ‬

‫لها يجري وفق ذلك األساس وبخاصة‬

‫في القرن العشرين؛ أصبح الهم الثقافي‬ ‫ً‬ ‫عوضا من‬ ‫لألدباء اليوم هو الميزة المهيمنة‬

‫البحث عن لصيق مقارب في الجيل نفسه‪،‬‬

‫إلى درجة يمكننا فيها أن ننعت كثي ًرا من‬ ‫األسماء المتميزة التي تسود خريطة األدب‬

‫حقيقي يشار‬ ‫اإلسباني بوصفها أبناءً متناثرين من دون أب‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫العالمي ويبارونه بالجودة‬ ‫له‪ ،‬ينهلون من كل مصادر األدب‬ ‫ّ‬

‫والتنوع‪ ،‬من دون أن ينسوا صلتهم بالواقع وحقيقة البلد‬

‫فوينتس‬

‫غويتسللو‬

‫وآالف الجوائز األدبية وتشجيع الترجمة من اإلسبانية إلى‬ ‫اللغات العالمية المختلفة‪ ،‬والمالحق الثقافية التي تتبناها‬

‫إن األدب اإلسباني اليوم يعدّ من وجهة نظر النقد‬

‫الصحف العامة والمتخصصة؛ تساهم بشكل وبآخر في‬ ‫دفع عجلة التعريف عالم ًّيا بآداب إسبانيا وفنونها‪.‬‬

‫المكتوب باللغة اإلسبانية‪ ،‬بعد اختفاء آخر األصوات في‬

‫عبر لغاتها الرسمية األخرى غير اإلسبانية؛ مثل‪ :‬الغاليثية‪،‬‬

‫ومعضالته المتشكلة مع القرن الجديد‪.‬‬

‫الحقيقي للنموذج‬ ‫والعالمي على حد سواء الممثل‬ ‫اإلسباني‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الواقعية السحرية األميركية الالتينية‪ ،‬وعدم ظهور ما‬ ‫يمثلها اليوم في التميز والتجديد إال القليل‪ .‬مع ذلك فالعصر‬ ‫الحديث والزخم الهائل من المنشورات واألصوات األدبية‬

‫الظاهرة في كل عقد‪ ،‬يجعل من الصعب وصولها إلى كل‬ ‫العربي الذي ال يزال يعرف اآلداب‬ ‫بقاع العالم‪ ،‬ومنها عالمنا‬ ‫ّ‬ ‫المكتوبة باإلسبانية عبر أدب الواقعية السحرية‪ ،‬وبخاصة‬ ‫مع ماركيز صاحب الرواية القيمة (مئة عام من العزلة)‬ ‫الممثلة بامتياز إلى يومنا هذا آداب أميركا الالتينية‪ ،‬ولم يتح‬ ‫له الوقت وال الترجمات القليلة بالتعرف حقيقة إلى األدب‬

‫اإلسباني الجديد سواء في الرواية أو في الشعر‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ال يزال أمام اآلداب اإلسبانية وظواهرها المتعددة‬

‫أشواط مستقبلية‪ ،‬يمكننا تلمُّ سها في السنين القادمة‬

‫من القرن الحادي والعشرين؛ كي نتعرف إليها وإلى‬ ‫تنوعها ورصانة صوتها‪ ،‬إن المهرجانات األدبية المتعددة‬

‫مع ذلك هناك قصور كبير في التعريف بآداب إسبانيا‬

‫والكاتاالنية‪ ،‬والباسكية‪ ،‬وهي آداب بدأت مع القرن الجديد‬ ‫ّ‬ ‫ببث رُوح جديدة في كيانها؛ مما جعلها تتساوى مع قاعدة‬ ‫اآلداب المكتوبة باإلسبانية‪ ،‬نحو أسماء ُك ّتاب مُ ِهمّ ين؛‬

‫مثل‪ :‬الكاتبين الباسكيين برناردو أتشاغا وكيرمن أوريبي‪ ،‬أو‬ ‫الكاتالنيين جوان مارغريت أو كيم مونزو‪.‬‬

‫األدبي أن يَتن َّب َه لظاهرة مهمة‬ ‫كما يجب على النقد‬ ‫ّ‬ ‫بدأت في الظهور مؤخ ًرا‪ ،‬وهي األصوات األجنبية التي‬

‫تكتب باإلسبانية‪ .‬وهي ظاهرة معروفة باآلداب المكتوبة‬ ‫باإلنجليزية أو الفرنسية‪ ،‬لكنها مستجدة وغريبة على‬ ‫اإلسباني‪ ،‬وأغلبية ُك َّتابها اليوم من المهاجرين‬ ‫الوسط‬ ‫ّ‬ ‫األجانب أو األجيال الالحقة المولودة في إسبانيا من آباء‬

‫أجانب‪ ،‬لعلها تكون القاعدة األساسية ألسماء مهمة في‬

‫المستقبل؛ نحو أسماء كتاب شباب من أصول مغربية أو‬ ‫من شرق أوربا أو إفريقيا السوداء‪.‬‬

‫‪123‬‬


‫ثقافات‬

‫ويليام ستانلي ميروين‬ ‫يريد بيأس كامل أن ينقذ العالم‬ ‫سهام عريشي‬ ‫كاتبة ومترجمة سعودية‬

‫ً‬ ‫ديوانا شعريًّا وثالثة كتب في النثر‪ ،‬وما يفوق ‪ 15‬كتابًا مترجمً ا ومع‬ ‫األميركي ويليام ستانلي ميروين‪ ،‬له أكثر من ‪12‬‬ ‫الشاعر‬ ‫ّ‬ ‫لاً‬ ‫ذلك يقول عن نفسه‪« :‬ال أعرف إال قلي عن الكتابة» (في حوار أجرته معه مجلة باريس ريفيو)‪.‬‬

‫األدبي من شعر ونثر وترجمة كثي ًرا من الجوائز‬ ‫ميروين من مواليد نيويورك عام ‪1927‬م‪ ،‬شاع ٌر مهمّ وخصب اإلنتاج‪ .‬حاز نتاجه‬ ‫ّ‬

‫على امتداد سبعة عقود‪ .‬مجموعته الشعرية األولى «قناع ليانوس» اختارها الشاعر ويستن هيو أودن لتفوز بجائزة الشعراء الشباب‬ ‫َ‬ ‫جائزة‬ ‫عام ‪1952‬م‪ .‬حصل ميروين على كثير من الجوائز؛ من مجموعاته الشعرية «ع َّتال الساللم» الصادرة عام ‪1970‬م التي حاز بها‬

‫بوليتزر للشعر عام ‪1971‬م‪ ،‬وحاز الجائزة مرة أخرى عام ‪2008‬م عن ديوانه «ظالل سيريوس»‪ .‬ال فرق لدى ميروين بين األخالق‬ ‫والجماليات‪ ،‬فكالهما واحد‪ ،‬ويرى أن «القصيدة ال تكتب لتخدم أجندة ما‪ ,‬فالقصيدة هي أجندة بنفسها»‪.‬‬

‫‪124‬‬

‫القصائد التي يكتبها ميروين تستقرئ العالم الم َّتجه إلى الهاوية ال ورقة دعاية دينية أو سياسية بل حدث ف ّني‪ .‬وهي تبحث في‬ ‫عالقة الفرد بالمحيط‬ ‫السياسي والطبيعة‪ .‬يميل بعض النقاد إلى تصنيفه بوصفه شاع ًرا متنب ًئا‪ ،‬لكنه ص َّرح ذات مرة‪« :‬لم أؤسّ س أيّ‬ ‫ّ‬

‫نظرية جمالية حتى اآلن‪ ،‬وال أعرف إن ُ‬ ‫كنت أنتمي إلى أي حركة شعرية»‪ .‬ويتميّز أسلوبه في الشعر الح ّر برسم الصورة فوق الصورة‬

‫من دون عالمات ترقيم‪.‬‬

‫االجتماعي الذي يؤ ِّديه الشاعر في أميركا إن كان له من دور‪ ,‬فأجاب بقوله‪« :‬أعتقد أن للشاعر‬ ‫سُ ئل ميروين ذات مرة عن الدور‬ ‫ّ‬

‫كامل‪ -‬أن ينقذ العالم‪ .‬يحاول الشاعر أن يقول كل ما يمكن قوله من أجل الشيء الذي يحبّه‬ ‫–بيأس‬ ‫أملاً ميؤوسً ا منه ‪ ,‬فهو يريد‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫اجتماعي؛ أليس كذلك؟ إننا نستم ّر في التعبير عن غضبنا وحبنا‪ ،‬ونتمنى –رغم‬ ‫ما دام الوقت لم يفت بعد‪ .‬أعتقد أن هذا دور‬ ‫ّ‬ ‫استحالة ذلك‪ -‬أن يفعل هذا شي ًئا»‪ .‬لكنني تجاوزت هذا اليأس والرؤية البكماء والحرقة التي كنت أشعر بها بعد صدور ديوان‬

‫«القملة»‪ .‬ال يمكن ألحد أن يعيش اليأس والحرقة من دون أن يحطم تدريجيًّا هذا الشيء الذي أغضبه‪ .‬العالم ما زال هنا وفيه‬ ‫كثير من المظاهر الحياتية التي ال تؤذي أحدً ا‪ ,‬وهناك حاجة ماسَّ ة ألن ننتبه لألشياء التي حولنا ما دامت حولنا؛ ألننا إن لم ننتبه‬

‫لها فسيكون هذا الغضب محض مرارة ال أكثر»‪( .‬المجلة اإللكترونية‪« :‬بويتري فاونديشن»)‪.‬‬

‫شك ًرا‬ ‫شكرًا‬ ‫ُ‬ ‫الليل‬ ‫نقولها حين يجي ُء‬

‫عال ونرى األسفل السحيق‬ ‫حين نتوقف على‬ ‫ٍ‬ ‫جسر ٍ‬

‫ُ‬ ‫نهرب من الغرف الزجاجية‬ ‫حين‬ ‫حين نضع في أفواهنا لقمة‬

‫ُ‬ ‫ونقول‪ :‬شكرًا‬ ‫نرفع بصرنا إلى السماء‬

‫نقولها للما ِء‬

‫للنوافذ التي نقف خلفها ونحن نحدق في الطريق الـ سنمضي إليه‬ ‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬


‫‪ ‬شكرًا‬

‫نقولها حين نعود من المستشفى الذي ألِف وجوهنا‬

‫حين نعود من عزا ٍء ونجد بيوتنا مسروقة‬

‫حين نسمع عن موت أحدهم‬

‫ً‬ ‫دائما‪ :‬شكرًا‬ ‫عرفناهم أم لم نعرفهم سنقول‬

‫على امتداد المكالمات الهاتفية‬

‫عند عتبات األبواب أو في الحقائب الخلفية للسيارات أو في المصاعد‬

‫نتذك ُر الحرب وأصوات رجال الشرطة وهم واقفون على أبوابنا‬ ‫قلوبنا وهي ّ‬ ‫تدق بقوة على الساللم‬ ‫ُ‬ ‫نقول‪ :‬شكرًا‬ ‫لكننا‬ ‫في البنك نقولها‬

‫وفي أوجه القادة واألثرياء‬

‫وكل الذين لن يتغيروا مهما حدث‬ ‫ُ‬ ‫نكمل طريقنا ونقول‪ :‬شكرًا‬

‫ُ‬ ‫تموت البهائم من حولنا‬ ‫حين‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫فشيئا إحساسنا‬ ‫شيئا‬ ‫ويموت معها‬

‫ّ‬ ‫نظل نقول‪ :‬شكرًا‬

‫حين تسقط الغابات بسرعة كما تسقط الدقائق من أعمارنا نقول‪ :‬شكرًا‬ ‫حين الكلمات تنفد منا كما تنفد خاليا الدماغ‬ ‫حين تصبح المدن أكبر منا‬

‫‪125‬‬

‫وقت مضى‬ ‫نقول‪ :‬شكرًا‪ .‬نقولها أسرع من أي‬ ‫ٍ‬ ‫حين ال يسمعنا أحد نقولها‬

‫نقول‪ :‬شكرًا‪ ،‬ونمضي نل ّوح‬ ‫رغم كل هذا الظالم‬

‫كلمة‬

‫ْ‬ ‫وقفت‬ ‫في اللحظةِ األخير ِة‬ ‫اآلن ما لم تقله من ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ستقول َ‬ ‫قبل‬ ‫تلك الكلمة التي‬

‫َّ‬ ‫أحد َ‬ ‫يتذكرها ٌ‬ ‫تعيد كلمتها َ‬ ‫َ‬ ‫بعد َ‬ ‫اآلن ْ‬ ‫بعد ذلك‬ ‫ولن‬ ‫لن‬

‫كانت ِّ‬ ‫ْ‬ ‫كأي كلمة في المنزل‬ ‫كلمة‬

‫اليومي المعتا ِد في الحياة‬ ‫الحديث‬ ‫يستخدمونها في‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ماض معتبَر‬ ‫ذات‬ ‫ليست‬ ‫طارئة‬ ‫جديدة‬ ‫ليست‬ ‫ٍ‬ ‫ْ‬ ‫للتعليق على شيء‬ ‫ليست‬ ‫ِ‬ ‫لطالما ظنت الكلمة أنها‬

‫َ‬ ‫وحدها منذ البدء تع ِّب ُر ْ‬ ‫نفسها‬ ‫عن ِ‬

‫استعمال وسياق‬ ‫في كل‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫الخاص بها‬ ‫األمر معناها‬ ‫لتقول آخر‬ ‫ِ‬ ‫المعنى الـ َّ‬ ‫َ‬ ‫وحدها تع ِّبر عنه‬ ‫ظلت‬

‫رغم أنه يبدو َّ‬ ‫أن أي كلمة ستع ِّبر عنه اآلن‬

‫ويليام ميروين‬


‫ثقافات‬

‫ما‬ ‫فنان‬ ‫ألباني يرى الموسيقا قضية والتزا ً‬ ‫ّ‬

‫بلومب فوربسي‪:‬‬

‫عربي‬ ‫س ـ ـ ــماع القرآن من قارئ‬ ‫ّ‬ ‫جعلني أعيد صياغة موسيقاي‬ ‫حاوره في تيرانا‪ :‬محمد السبيطلي‬

‫‪126‬‬

‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬


‫ً‬ ‫مستشهدا‬ ‫بينما كان صديقي الدكتور رامز زيكاي يحدثني عن التأثيرات العربية في الثقافة األلبانية‬ ‫بالكثير منها؛ استرعى انتباهي حديثه عن مدى ُّ‬ ‫األلباني بالموسيقا العربية‪ .‬وفي تلك‬ ‫تعلق الشباب‬ ‫ّ‬ ‫اللحظة حدثتني نفسي أن هذا من لطف الرجل ومسايرته لي‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫جيدا أن هذا‬ ‫فقد وصلت منذ بضع ساعات إلى تيرانا‪ .‬كان ذلك في نهاية شهر مايو عام ‪2013‬م‪ .‬أتذكر‬ ‫الحديث دار بيننا ونحن في عربته متجهين من ساحة عوني رستمي التي تبعد من الساحة المركزية‬

‫األلباني للفكر والحضارة اإلسالمية في حي‬ ‫للمدينة بضع دقائق سيرًا على األقدام‪ ،‬إلى مق ّر المركز‬ ‫ّ‬ ‫سليتا غرب تيرانا‪ ،‬ويرأسه الدكتور زيكاي‪.‬‬

‫لم أكن أعلم أنني سأكون على موعد مع أحد أهم الفنانين‬

‫والعازفين والملحِّ نين األلبان الذي سيؤكد لي بطريقة أخرى‬ ‫العربي في الفنانين األلبان أنفسهم؛ إنه‬ ‫تأثير الموسيقا والفن‬ ‫ّ‬ ‫وربسي‪.‬‬ ‫الموسيقي ب َُلومب ُف ِ‬ ‫ّ‬ ‫أول لقاء لي معه كان على مائدة الغداء في مطعم‬

‫سوالكو‪ ،‬الذي يبعد من تيرانا نحو نصف ساعة‪ ،‬ولم يكن اللقاء‬

‫األخير‪ ،‬إنما كان اللقاء األهم‪ .‬كان الموعد قد حدَّده الصديق‬

‫الدكتور زيكاي‪ ،‬وكان من بين الحضور السفير مراد شعبان‪،‬‬ ‫الطبيعي جميلاً ‪،‬‬ ‫واألستاذ غنسي آغا‪ .‬كان المكان رائعً ا‪ ،‬والمنظر‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫تعودت‬ ‫ومن حسن الحظ أن ذلك اليوم لم تنزل فيه األمطار التي‬ ‫رؤيتها بين الظهر والعصر طوال مدة إقامتي في ألبانيا‪ .‬ومع ذلك‬

‫كان سماع حديث بلومب فوربسي يشغلني عن تأمُّل المناظر‬ ‫الطبيعية المحيطة؛ إذ انطلق مباشرة في الحديث عن رياض‬

‫السنباطي وأم كلثوم‪ ،‬والموسيقا العربية‪ ...‬واضح أن الرجل‬ ‫ّ‬ ‫والتعلق بالموسيقا الكالسيكية العربية‪.‬‬ ‫شديد االنتباه‬

‫لم أكن أتوقع أن يدخل مباشرة في حديث عن الفن‬ ‫ً‬ ‫والموسيقا بصفتهما ً‬ ‫عالمية‪ ،‬وأداة تقارب بين الشعوب‬ ‫لغة‬

‫والثقافات‪ ،‬لكنه فاجأني باالسترسال في الحديث عن الجانب‬ ‫وحي للموسيقا الكالسيكية‪ ،‬وعن عشقه إياها‪ ،‬ثم احترافها‪.‬‬ ‫ال ُّر ِّ‬ ‫إنها ليست هواية‪ ،‬وليست محض حرفة‪ ،‬إنها قضية والتزام‪،‬‬

‫إنها حياة‪ .‬هكذا كانت كلماته تتوالى وتنساب في هذا السياق‬

‫تلميحً ا وتصريحً ا‪.‬‬

‫عالمي‪،‬‬ ‫لم يخبرني الدكتور رامز زيكاي أن ضيفنا فنان‬ ‫ّ‬

‫وأحد أبرز الوجوه الثقافية األلبانية‪ ،‬لكن بدايات الحديث معه‪،‬‬

‫وحي للفن‬ ‫ومالحظة مدى انتشائه وهو يتحدث عن الجانب ال ُّر ّ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫خاصة‪ ،‬وعالقتهما بالتديُّن؛ يجعلك تفطن‬ ‫عامة والموسيقا‬

‫إلى أنك أمام رجل مبدع ًّ‬ ‫حقا‪ .‬وذهب إلى أكثر من ذلك‪ ،‬قائلاً ‪:‬‬

‫«إن الفن والموسيقا كانا من أهم عوامل الصمود في وجه‬

‫الدكتاتورية والقهر في زمن الشيوعية»‪.‬‬

‫‪127‬‬ ‫في التاسعة من عمري ُقدت بنجاح‬ ‫أول حفلة أمام الجمهور‪ .‬وأتفق مع‬ ‫المقولة المعروفة‪ ،‬أن الملحن ليس من‬ ‫يكتب الموسيقا‪ ،‬إنما الملحن هو الذي‬ ‫ال يستطيع التوقف عن كتابة الموسيقا‬ ‫أثار الحديث معه كثي ًرا من األسئلة في ذهني؛ عن‬

‫شخصيته‪ ،‬وأبعادها الفنية‪ ،‬وعن تاريخ ألبانيا الحديث‬

‫والمعاصر‪ ،‬ومدى إسهام ذلك في صقل شخصيته‪ ،‬وعن رؤيته‬ ‫في الفن والموسيقا‪.‬‬

‫ً‬ ‫أيضا‪ -‬تركيزه في بيان تأثير أصوله العائلية‬‫وأثار اهتمامي‬ ‫َ‬ ‫في رسم مالمح هواياته‪ ،‬ومن ثمَّ إبداعاته الفنية‪.‬‬ ‫األصول العائلية والدين والفن‬

‫وُلد بلومب فوربسي بمدينة تيرانا عام ‪1957‬م من عائلة‬

‫محافِظة‪ ،‬ويقول‪« :‬كانت والدتي في اللحظات العصيبة في‬ ‫طفولتي كثي ًرا ما ُت ِّ‬ ‫ؤذن لنا في صوت خافت؛ إذ كان القيام‬


‫ثقافات‬

‫بالشعائر الدينية في زمن دكتاتورية الشيوعيين يجري في‬

‫حب الموسيقا من الطفولة إلى التخصص‬ ‫أشار في كالمه كثي ًرا إلى أنه مُ َ‬ ‫ولع بالموسيقا منذ صغره‪،‬‬

‫مدبِّرة منزل‪ ،‬وأصلها من قبيلة الكرابيسي المعروفة التي‬ ‫َّ‬ ‫المثقفين‪ ،‬والمتخصصين في الرياضيات‪،‬‬ ‫خ َّرجت أجيالاً من‬ ‫ً‬ ‫المبني‬ ‫وشيوخا يشهد بذلك مسـجد الكرابيسيين‬ ‫وكانوا وطنيين‬ ‫ّ‬

‫وذكر أن والده أخبره كثي ًرا أنه عندما كان في الثالثة والرابعة‬

‫الكتمان»‪ .‬وكأني به يربط بين تعوُّد أذنه سماع األذان وبداية‬ ‫ميوله إلى بعض الفنون الصوتية‪« .‬والدتي تدعى فاطمة‪ ،‬كانت‬

‫وسط العاصمة‪ ،‬وكانت أمي ابنة شيخ محترم وإمام مسجد‪،‬‬ ‫وهو رمضان الكرابيسي الذي ربَّاني ّ‬ ‫وعلمني منذ الصغر المبادئ‬ ‫الدينية ولكن ُخفية‪ ،‬ولن أنسى أبدً ا العبارة التي كانت أمي‬ ‫تر ِّددها عن قسوة ذلك الزمن‪« :‬يا لفرحتنا لما تسمعه أذننا‪،‬‬

‫ويا ويلنا لما تراه أعيننا»‪ ،‬كانت تسدي لنا نصائح دينية حكيمة‬ ‫وقديمة‪ ،‬وفي أصعب اللحظات كانت ِّ‬ ‫تؤذن لنا»‪.‬‬

‫ً‬ ‫أيضا‪ -‬ذات أصول عريقة‪« :‬أصل عائلـة‬‫كانت عائلة والده‬

‫أبي من قبيلة فوربسي‪ ،‬وعائلـة أمّ ي من قبيلة الكرابيسي‪ ،‬وكلتا‬

‫ْ‬ ‫عاشت في مدينة تيرانا‪ ،‬وهما من أقدم العائالت الغنية‬ ‫القبيلتين‬ ‫واألصيلة التي سكنت في قلب العاصمة‪ ،‬ولعل تاريخ قبيلة‬

‫فوربسي مرتبط بتاريخ نشـأة هذه المدينة؛ ففي شجرة نسب‬ ‫ً‬ ‫القبيلة ما ُّ‬ ‫صديقا‬ ‫يدل على أن أحـد أجدادي كان قبل ‪ 400‬سنة‬

‫حميمً ا لوالي سنجق األوهر (إحدى مدن مقدونيا) المسمى‬

‫‪128‬‬

‫وأن مراحل تعليمه كلها كانت في مدارس الفنون الموسيقية‪،‬‬ ‫عال وهو يمشي‬ ‫من عمره‪ ،‬كان والده يسمعه يغني بصوت ٍ‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫لتعلم البيانو في‬ ‫والدته في سن السابعة‬ ‫إلى جانبه‪ .‬ثم وجَّ ه ْته‬

‫المدرسة نفسها التي كان يرتادها أخوه كويتيم فوربسي‪ ،‬وهو‬ ‫ً‬ ‫أيضا‪-‬‬‫أحد أبرز العازفين على آلة الكمان في ألبانيا‪ ،‬ويعمل‬ ‫القومي لألوبرا والباليه في تيرانا‪ .‬وهكذا‬ ‫مدي ًرا فنيًّا بالمسرح‬ ‫ّ‬ ‫«بدأت ُّ‬ ‫ُ‬ ‫أتعلم البيانو منذ الطفـولة‬ ‫انطلقت مسيرته مع الموسيقا‪:‬‬ ‫في المدرسة اإلعدادية الموسيقية المسمَّ اة ثروت ماتسي‪،‬‬

‫ُ‬ ‫الفني‬ ‫شرعت أدرس الدراسة النظرية للموسيقا بالمعهد‬ ‫ثم‬ ‫ِّ‬ ‫المسمى يوردان ميسيا في تيرانا‪ ،‬أمَّا التعليم العالي فقد أنهيته‬ ‫الموسيقي بالمعهد العالي‬ ‫بتقدير ممتاز في مجال التلحين‬ ‫ّ‬ ‫للفنون الذي يسمَّى اليوم جامعة الفنون بالعاصمة‪ ،‬وتخ َّرجت‬ ‫عام ‪۱٩٨۱‬م بلقب ملحِّ ن‪ ،‬وفي العام نفسه ُعي ُ‬ ‫ِّنت مدرِّسً ا‬

‫للموسيقا الشعبية بمعهد الفنون‪ ،‬ثم عميدً ا خارجيًّا بالمعهد‬

‫العالي للفنون»‪.‬‬

‫سليمان باشا بارجيني‪ ،‬الذي يُعرف بصفته مؤسِّ س مدينة تيرانا‬

‫عام ‪۱٦۱٤‬م‪ ،‬وكان الفوربسيُّون مسلمِ ين ديِّنين‪ ،‬يعملون في‬

‫التجارة والزراعة وتربية الماشية‪ ،‬والصناعات المختلفة؛ مثل‪:‬‬

‫صناعة األواني‪ ،‬والسيراميك‪ ،‬والمجوهرات‪ ،‬وصياغة الذهب‪،‬‬

‫والموسيقا‪ ،‬والرسم‪ ،‬وتعليم الرقص‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬ ‫ً‬ ‫حائكا»‪.‬‬ ‫وكان أبي (رجب)‬

‫السيمفونية‬ ‫تهبني أجنحة‬ ‫«كان حلمي األول أن أُصبح عازف بيانو‪ ،‬وعندما كنت في التاسعة من عمري ُق ُ‬ ‫دت بنجاح أول حفلة أمام الجمهور؛ إذ‬

‫درست بحماس وأنا في سن مبكرة‪ .‬وقد ترك في نفسي أث ًرا كبي ًرا حضوري فلمين عن اثنين من أعظم الملحِّ نين في القرن‬

‫التاسع عشر؛ هما‪ :‬فريدريك شوبان‪ ،‬وفرانز ليست‪ ،‬لكن هذا الحلم توقف في ذروته؛ بسبب إصابتي في يدي اليمنى بمرض‬

‫مهني من عناء العمل‪ ،‬وهو‪ ‬شدّ‬ ‫عضلي أجبرني على التوقف عن عزف البيانو‪ .‬بعد مرور مرحلة انتقالية من اإلحباط بدأت‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫تدريجيًّا أشعر برغبة داخلية متنامية في تأليف الموسيقا‪ .‬هذا الشعور يمثل بداية المرحلة الثانية‪ ،‬مع مرور الوقت ومن‬ ‫ُ‬ ‫له ُ‬ ‫مت كتابة هذا النوع من الموسيقا؛ لشدة‬ ‫دون تردُّد بذلت قصارى جهدي إلى أن صرت ملح ًنا للموسيقا السيمفونية‪ .‬وأ ِ‬ ‫ّ‬ ‫تحتل الوجود كله‪ ،‬وتهبني «أجنحة للتحليق عاليًا»‪ .‬أتفق تمامً ا مع المقولة المعروفة؛‬ ‫تأثيرها في ال ُّروح‪ ،‬وانتشارها‪ ،‬فهي‬ ‫أن الملحن ليس من يكتب الموسيقا‪ ،‬إنما الملحن هو الذي ال يستطيع التوقف عن كتابة الموسيقا»‪.‬‬

‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬


‫والتزاما‬ ‫ألباني يرى الموسيقا قضية‬ ‫فنان‬ ‫ّ‬ ‫ً‬

‫ُروح ًّيا كنت في صراع عميق مع النظام‬ ‫الشيوعي المتدهور آنذاك‪ ،‬الذي كان‬ ‫ّ‬ ‫يحارب اإلنسان‬ ‫ويمضي قائلاً ‪« :‬وكما ترى‪ ،‬فمنذ مرحلة الشباب كانت‬

‫الموسيقا الكالسيكية العامل الرئيس في بناء شخصيتي‪،‬‬ ‫لكن كانت هناك عوامل أخرى؛ مثل‪ :‬العامل التربويّ المباشر‬

‫االجتماعي‬ ‫للمجتمع‪ ،‬ومجموعة الرسائل الواردة من الوسط‬ ‫ّ‬ ‫بشكل‬ ‫الثقافي‬ ‫وعالقاتها بالحياة‪ ،‬والفنون األخرى‪ ،‬والتاريخ‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫عامٍّ ‪ ،‬أسهمت هذه العوامل كلها في تحفيز النزعة الفنية‬

‫لديَّ وتعميقها‪ ،‬إضافة إلى النشاطات الثقافية في المجاالت‬ ‫ً‬ ‫مشهورة في‬ ‫شخصيات‬ ‫األخـرى‪ .‬وقد كنت في شبابي ألتقي‬ ‫ٍ‬ ‫مجاالت مختلفةٍ؛ من فنانين‪ ،‬ونحَّ اتين‪ ،‬و ُك َّتاب‪ ،‬ومهندسين‬ ‫ٍ‬

‫معماريين‪ ،‬وناقدين‪ ،‬ومؤرِّخين‪ ،‬وغيرهم‪ ،‬وكنت أشاركهم في‬

‫الحوارات والمناقشات والنشاطات المختلفة‪ ،‬وبخاصة ما يتصل‬

‫ُ‬ ‫أفدت منهم كثي ًرا؛‬ ‫بالفن‪ ،‬والثقافة‪ ،‬والعادات‪ ،‬والتاريخ‪ ،‬وقد‬ ‫الثقافي‪ .‬وأذكر أنهم كانوا ينادونني في‬ ‫حتى ّأثروا في تأسيسي‬ ‫ّ‬

‫‪129‬‬

‫َّ‬ ‫المثقفين الذين كنت‬ ‫ذلك الوقت بلقب «الشيخ»؛ ألن أغلبية‬ ‫ً‬ ‫أحيانا وكأنني ِندٌّ‬ ‫أصاحبهم كانوا أكبر مني س ًّنا‪ ،‬وكنت أناقشهم‬

‫لهم‪ ،‬وقـد كنت أحبُّهم وكانوا يحبُّونني كثي ًرا»‪.‬‬

‫القرآني وأثره في حياته‬ ‫اكتشافه الترتيل‬ ‫ّ‬

‫القرآني‬ ‫يتطرق بلومب إلى السياق الذي اكتشف فيه الترتيل‬ ‫ّ‬ ‫ِّ‬ ‫ويوضح أثر ذلك في إعادة صياغة أفكاره في الفن‬ ‫عام ‪1990‬م‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ِّ‬ ‫حدث وأهمّ ه في حياتي‬ ‫والموسيقا‪« :‬سأحدثكم بدايـة عن أجمل‬ ‫ٍ‬

‫بصفتي موسيقيًّا مسلمً ا‪ ،‬ذلك الحدث الذي كان سببًا في إعادة‬

‫صياغة موسيقاي بصورة رائعةٍ‪ ،‬وأعني ذلك اليوم الذي سمعت‬

‫عربي‪ ،‬في مسـجد أدهم‬ ‫فيه أول م َّر ٍة القرآن الكريم يتلوه قارئ‬ ‫ٌّ‬ ‫بك في قلب تيرانا‪ ،‬كان ذلك بعد االنفتاح والحرية الدينية في‬ ‫جالسا في إحدى‬ ‫ألبانيا‪ ،‬فقد أدهشتني قراءة القرآن فعلاً ‪ .‬كنت‬ ‫ً‬

‫ٌ‬ ‫جمال‬ ‫زوايا المسجد‪ ،‬عشت شعور الفرح والراحة النفسية؛ ّإنه‬

‫مسبوق‪ ،‬وشعرت بالنعمـة والرحمـة من لدن قـو ٍة‬ ‫موسيقي غير‬ ‫ٌّ‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫عظيمةٍ؛ إنه كالمٌ وأنغامٌ ينساب متناسقا ومتناغمً ا بطريق ٍة‬

‫وألوان غنيةٍ‪ ،‬تنبع من الداخل إلى األعلى؛ انتابني إحساس‬ ‫رائع ٍة‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫مندهشا‬ ‫بجمال لم أشعر به من قبل‪ ،‬لقد خرجت من المسجد‬ ‫ً‬ ‫ومرهقا قليلاً بعـد الذي سمعته‪ .‬قد يكون هذا ألنني ال أتقن اللغة‬

‫العربية‪ ،‬ومن َثمَّ تاقت أحاسيسي ُّ‬ ‫الجمالي‬ ‫كلها إلى الجانبين‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫جل شأنه‪ -‬الذي جعلني‬‫والصوتي في الترتيل‪ .‬وأحمد الله‬ ‫ّ‬

‫يعزف على البيانو‬

‫مسلمً ا وموسيقيًّا في الوقت نفسه‪ ،‬منذ ذلك الزمن حدث لي‬ ‫الموسيقي»‪.‬‬ ‫تغيي ٌر جـذريٌّ في تذوُّق الجمـال‬ ‫ّ‬ ‫فلسلفة الفن والتعبُّد‬ ‫ُّ‬ ‫كبير؛ لما‬ ‫تعلم التجـويد‬ ‫إن‬ ‫القرآني يحتاج إلى جهدٍ‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫يقتضيه من إتقان مخارج الحروف وقواعد التجويد‪ .‬واإللهيَّات‬ ‫ٌ‬ ‫عبادات قصائدية موسيقية‪ ،‬ومدحٌ لرسوله محمدٍ صلى‬ ‫هي‬

‫الله عليه وسلم؛ لذلك فهي تتوافق مع هـدف الخلق ووجود‬

‫كل شيءٍ ‪ ،‬وقد َب َّينَ الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم أنه‬

‫الحقيقي لوجود‬ ‫خلق البشر ليعبدوه‪ ،‬وهـذه العبادة هي المعنى‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬ ‫طبيعية ِّ‬ ‫لكل‬ ‫الدنيا واآلخرة؛ لذلك فإن موضوع العبادة نزعة‬ ‫الجمالي والقيمة التربوية في‬ ‫َب الفنَّ المعنى‬ ‫فنٍّ ‪ ،‬وتحقيقها َيه ُ‬ ‫َّ‬

‫كل األزمنة‪ .‬وإن الفنانين الحقيقيين هم مؤمنون‪ ،‬ووفق هذا‬ ‫المعنى يصير القرآن وتجويده من أجمل الفنون الروحية وأعالها‬

‫وأروعها وأعظمها‪.‬‬


‫ثقافات‬

‫يستخدم بلومب فوربسي‬

‫لفظة «إلهيات» للدَّاللة على‬ ‫القصائد واألناشيد الدينية‪ ،‬سواءٌ‬ ‫ً‬ ‫موسيقي‬ ‫مصحوبة بإيقاع‬ ‫أكانت‬ ‫ٍّ‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫«كل أمَّ ة مسلمة‬ ‫أم من دونه‪:‬‬

‫ْ‬ ‫كتبت «إلهيَّاتها» (القصائد الدينية)‬

‫ب ثقافتها ولغتها وموسيقاها‪،‬‬ ‫حَ َس َ‬ ‫ولحَّ ن األلبان «إلهيَّات» كثيرة‬ ‫وجميلة؛ مثل التي ُت َ‬ ‫نشد في‬ ‫وعيدَي‬ ‫الموالد والمناسبات‬ ‫ِ‬ ‫الفطر واألضحى‪ ،‬ومن أجملها‬

‫في ألبانيا الكتابات الكالسيكية‬

‫للملحنين األلبان واألتراك والعرب‬

‫المشهورين؛ مثل‪ :‬تأليف فوكالو سيمفونيك البليغ للشاعر‬ ‫يونس إيمرا ‪( Junus Emre‬شاعر تركي صوفي‪ ،‬توفي عام‬

‫‪130‬‬

‫الموسيقي عدنان سايكون ‪Adnan‬‬ ‫‪1321‬م) للملحن والمؤلف‬ ‫ّ‬ ‫قسم من ألحانهم‬ ‫وبفضل‬ ‫‪1991‬م)‪،‬‬ ‫عام‬ ‫‪( Saygun‬تركيا‪ ،‬توفي‬ ‫ٍ‬ ‫ِّ‬ ‫المؤلفـين اآلخرين‪ّ ،‬‬ ‫بنجاح في‬ ‫فكرت وأنجزت‬ ‫وألحان بعض‬ ‫ٍ‬ ‫لاً‬ ‫إبريل ‪٢۰۰٩‬م احتفا رسميًّا بقصائدَ ديني ٍة كالسيكي ٍة مهداة إلى‬ ‫النبي صلى الله عليه وسلم‪ ،‬الذي َّ‬ ‫نظمته المشيخة اإلسالمية‬ ‫ِّ‬

‫األلبانية‪ ،‬باشتراك الفرقة السيمفونية والجـوقة والعازفين‬ ‫المنفردين تحت إشراف اإليطالي فيتو كلمندا ‪،Vito Clemente‬‬

‫وبحضور حشد من الجمهور‪.‬‬

‫الشيوعي‬ ‫الموسيقا في وجه اإللحاد‬ ‫ّ‬ ‫الشيوعي المتدهور‬ ‫«رُوحيًّا كنت في صراع عميق مع النظام‬ ‫ّ‬ ‫آنذاك‪ ،‬الذي كان يحارب اإلنسان»‪ ،‬يقول بلومب‪« :‬كنت َّأتخذه‬ ‫عدوًّا‪ ،‬وأكره اإللحاد والنفاق والكلمات الجميلة التي تخالف‬

‫الواقع القبيح‪ ،‬وكرهت الشيوعية والعزلة‪ ،‬والرقابة المتوحشة‬ ‫على كل شيء‪ ،‬لقد كنت ضد الخنوع وانتهاك حقوق اإلنسان‪.‬‬ ‫الحمد لله نجوت في أثناء تلك الحقبة بفضل تربيتي الدينية‬

‫مسجد أدهم بيك في تيرانا‬

‫الشيوعي‪.‬‬ ‫الداخلي ضد النظام‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫الشيوعي في ألبانيا تحوَّل الفنان‬ ‫بعد سقوط النظام‬ ‫ّ‬ ‫الموسيقي بلومب فوربسي من شخصية ألبانية محلية إلى فنان‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫عالمي‪« :‬زرت كثي ًرا من الدول بعد سقوط الشيوعية في بالدنا؛‬ ‫ّ‬ ‫منها‪ :‬إيطاليا‪ ،‬وألمانيا‪ ،‬وأميركا‪ ،‬وتركيا‪ ،‬وفرنسا‪ ،‬والمملكة‬

‫العربية السعودية‪ ،‬وغيرها من الدول‪ .‬وجاءت الزيارات‬ ‫معظمها نتيجة دعوات فردية تلقيتها‪ ،‬ففي ألمانيا دعاني عدة‬

‫مرات صديق لي‪ ،‬وهو ملحن بمتحف يوهانس برامز‪ ،‬إلى إلقاء‬ ‫الرسمي للفن‬ ‫محاضرة عن الموسيقا األلبانية‪ ،‬بصفتي الممثل‬ ‫ّ‬

‫تعليمي للموسيقا األلبانية األلمانية المشتركة‪،‬‬ ‫في مشروع‬ ‫ّ‬ ‫وشاركت في أميركا في المهرجانات الشعبية الدولية بصفتي‬ ‫المدير الفني للفرقة الشعبية األلبانية «تيرانا»‪ ،‬وشاركت في‬

‫الرسمي لجامعة الفنون‬ ‫فرنسا (ستراسبورغ) بصفتي الممثل‬ ‫ّ‬ ‫في المعهد األعلى للدراسات الموسيقية‪ ،‬وشاركت عدة مرات‬ ‫في أنشطة فنية في إيطاليا‪ ،‬وكنت مدي ًرا لمشروع‬ ‫موسيقي مهمّ‬ ‫ّ‬

‫مشترك بين ألبانيا وإيطاليا‪ ،‬وأسَّ ست أوركسترا الشباب األلبانية‬ ‫بتشكيل رفيع المستوى؛ التي ر ُِّشحت لالنضمام إلى أوركسترا‬ ‫األوربي ‪.EFNYO‬‬ ‫الشباب باالتحاد‬ ‫ّ‬

‫وقمت بعدة زيارات إلى المملكة العربية السعودية ‪-‬مكة‬

‫ُ‬ ‫حججت ثالث مرات واعتمرت مرة‬ ‫المكرمة والمدينة المنورة؛ إذ‬

‫والمدنية المستفادة من عائلتي في مرحلة الطفولة المبكرة‬ ‫التي كان ِّ‬ ‫يغذيها والدي‪ ،‬إضافة إلى المُثل العليا الفنية التي‬

‫ُ‬ ‫قمت بها في ألبانيا وأوربا‬ ‫واحدة‪ ،‬إضافة إلى األنشطة الفنية التي‬

‫القوة لتعزيز أفضل القيم الممكنة‪ ،‬ويساعدني على السم ّو فوق‬

‫تحدَّث بلومب فوربسي عن أعماله على مستوى البلقان‪،‬‬

‫كانت ‪-‬بوعي مني أو من دون وعي‪ -‬إلهامً ا إلهيًّا يهبني أجنحة‬

‫القمعي في ذلك الوقت‪.‬‬ ‫الواقع‬ ‫ّ‬ ‫لقد اجتنبت في عملي األعمال المسيَّسة‪ ،‬والموضوعات‬ ‫الموسيقية و َْفق الدعاية الشيوعية‪ ،‬التي فرضت معاييرها ‪-‬في‬

‫األغلب األعمّ ‪ -‬على الفنانين‪ .‬وشاركت في موضوعات تاريخية‬

‫ومالحم أسطورية‪ ،‬وما أثمرته تقاليد شعبنا عبر القرون‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫أعربت عن احتجاجي‬ ‫وعارضت الواقع المرير‪ ،‬وبهذه األساليب‬ ‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬

‫في أثناء سعي ألبانيا لالنضمام إلى االتحاد األوربي»‪.‬‬

‫وعن تصوره دَور الموسيقا في نشر السالم والتقريب بين‬ ‫الشعوب والثقافات‪ .‬وأ َّكد أنه يمارس عملاً د َ​َعويًّا‪ ،‬إضافة إلى‬ ‫دعوة زمالئه الغربيين إلى سماع القرن الكريم َّ‬ ‫مرتلاً ‪ .‬وأسهم‬

‫مع المثقفين األلبان في إعادة نظام المشيخة اإلسالمية الذي‬ ‫ِّ‬ ‫يمثل المؤسسة الدينية الرسمية والمسلمين ويشرف على تنظيم‬ ‫شؤونهم الدينية‪.‬‬


‫مقال‬

‫محمد زفزاف‪..‬‬ ‫مغامرة الكتابة‬ ‫وإشكالية التلقي‬ ‫صدوق نورالدين‬ ‫مغربي‬ ‫روائي وناقد‬ ‫ّ‬

‫َّ‬ ‫مثلت تجربة الكتابة الروائية المنجزة للروائي محمد زفزاف‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫تمي ًزا وفرادة وَفق ما دلت عليه منذ البداية روايتاه‪« :‬المرأة والوردة»‬

‫والمتجسدة على‬ ‫و«أرصفة وجدران»؛ ألن اإلبدالية التي أسَّ س لها‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ِّ‬ ‫التلقي إلى التفاعل ونمط في‬ ‫مستوى الصيغة الفنية الجمالية‪ ،‬دفعت‬ ‫ّ‬ ‫كتابة الروائية غير مألوف وال متداول‪ ،‬وهو ما جعل‬ ‫التمثل التقليديّ‬

‫للكتابة الروائية المستند إلى قوة ال ُّرؤى األيديولوجية يناهض هذه‬ ‫النقلة والتحول؛ في محاولة لتسييد صيغ تقليدية وتثبيتها‪ ،‬علمً ا أن‬

‫المغربي اقتضى البحث عن الشكل األنسب‬ ‫التحديث الذي طال المجتمع‬ ‫ّ‬ ‫والموازي؛ إال أن كفاءة الروائي محمد زفزاف‪ ،‬ومرجعياته (وبخاصة‬

‫الفرنسية منها)‪ ،‬دفعته إلى الحفر في المسار ذاته إلى آخر تجاربه‪:‬‬ ‫«أفواه واسعة»؛ الرواية التي اكتمل في ضوئها مساره‪ ،‬عن وعي قصدي‬ ‫(محنة المرض)‪ ،‬أو في غيابه ّ‬ ‫مثلت ً‬ ‫بيانا روائيًّا جماليًّا لتجربته في القول‬

‫الروائي‪ ،‬والر ّد النقديّ على نقود توسّ عت في َكمِّ ها؛ ِل ُتحاكم في الروائي‬ ‫َ‬ ‫شخصه‪ ،‬وليس تجربته اإلبداعية‪ .‬إن الوقوف على هذه التجربة الروائية‬

‫مغامرة الكتابة الروائية‬ ‫لدى محمد زفزاف شكَّلت‬ ‫امتدادا عكس نقلة‬ ‫ً‬

‫ذاتها‪ ،‬وفي سياق االمتداد‪ ،‬ال يَعْ ني أن المغامرة لم تمتلك مجاورتها‬ ‫ً‬ ‫أيضا‪ -‬في النقلة والتحول‪ ،‬لوال أن رهانات مغامرة الكتابة‬‫المنخرطة‬ ‫وسياسي ّ‬ ‫دلت عليه‬ ‫ثقافي‬ ‫وعي‬ ‫عن‬ ‫ست‬ ‫زفزاف‬ ‫محمد‬ ‫لدى‬ ‫الروائية‬ ‫تأسّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫مقاالته‪ ،‬ووجهات نظره في الكتابة واإلبداع‪ ،‬إلى ترجماته المنتقاة‪،‬‬

‫وتحولاً ‪ ،‬وخلقت في اآلن‬

‫على أن ما يستوقف في هذه المجاورة تجربة الروائي أحمد المديني‬ ‫التي ّ‬ ‫شكل َ‬ ‫نواتها ُّ‬ ‫نص «زمن بين الوالدة والحلم»؛ إذ إن مفهوم الكتابة‬

‫مغايرة غير مألوفة‬

‫ّ‬ ‫النص النواة و«ممر‬ ‫الذي ال تقول من خالله إال ذاتها‪ .‬ولنا أن نقارن بين‬

‫تلقيا نوع ًّيا لكتابة‬ ‫ذاته‬ ‫ً‬

‫الروائية يتأسس على مكون اللغة‪ ،‬كأن الحكاية‪ ،‬حكاية اللغة في عنفها‬ ‫جسد وعيًا‬ ‫الصفصاف»؛ إلدراك أن خلخلة ثوابت التجربة من داخلها‪َّ ،‬‬ ‫نقديًّا ذاتيًّا بأن حكاية اللغة عن اللغة وباللغة‪ ،‬ال يمكنه الحيلولة دون‬ ‫الحكاية كضرورة ثابتة‪.‬‬

‫‪131‬‬


‫مقال‬

‫الواقع أن اختيار البداية له تأثيراته ومرجعياته التي ‪-‬كما‬

‫بيد أنَّ مِ ن التجارب التي أسهمت في نقلة االمتداد‬ ‫والتحوّل‪ ،‬ومن َثمَّ جاورت من حيث مستوى االختيار والتوجه‬

‫والمبدعين الذين آثروا كتابة ما سُ مِّ ي بـ«النص»‪ ،‬أو«النص‬

‫والروائي عبدالله العروي؛ فإذا كانت رواية «المرأة والوردة»‬

‫سلف‪ -‬تقف من خلفها رواية إدوار الخراط «رامة والتنين»‬ ‫التي مارست تأثيرها في مرحلة‪ ،‬وليس جيلاً من ُ‬ ‫الك َّتاب‬ ‫العابر»‪ ،‬أو«النص المفتوح»‪ ،‬علمً ا أنه ومنذ تنظيرات «جورج‬

‫لوكاش»‪ ،‬و«لوسيان غولدمان»‪ ،‬و«ميخائيل باختين» حتى‬ ‫تصورات النقاد والمبدعين (نموذج‪ :‬توماس بافيل وآني إرنو)‬

‫يصعب تحديد مفهوم دقيق لجنس الكتابة الروائية؛ إذ‬ ‫الرواية تبقى محفل تعدُّ د اللغات‪ ،‬واألوعاء‪ ،‬والشخوص‪،‬‬

‫واألزمنة‪ ،‬واألمكنة على السواء‪ .‬وأرى أن اختيار البداية للنقد‬ ‫أساسا على بقية اإلبداعات؛ مثل‬ ‫الذي واكب التجربة‪ ،‬جنى‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫روايته «فاس لو عادت إليه»‪ ،‬ويحق في هذا السياق إيراد حكم‬ ‫نقديّ للباحث األستاذ حميد لحميداني في صيغة تساؤل‬ ‫ّ‬ ‫دال‪« :‬كيف يمكن التعبير عن نظام األشياء بواسطة فوضى‬

‫صدرت عام ‪1971‬م‪ ،‬فقد ظهرت في المدة ذاتها «الغربة»‬ ‫ّ‬ ‫تشكل في قسم منه‬ ‫بوصفها بداية تعبير عن مشروع روائي‬ ‫على الرباعية‪« :‬الغربة»‪ ،‬و«اليتيم»‪،‬و«الفريق» و«أوراق»‬

‫بيد أن الفارق بين الممارستين اإلبداعيتين‪ :‬أن تجربة‬ ‫العروي في الكتابة الروائية تأسَّ ست بالموازاة مع مشروعه‬ ‫الفكريّ الرصين كاستكمال تنويع يتأطر في الموضوع كفكر‪،‬‬

‫والموصوف كإبداع‪.‬‬

‫ْ‬ ‫التلقائي في‬ ‫انبنت على الوعي‬ ‫إن تجربة محمد زفزاف‬ ‫ّ‬ ‫الروائي‪ ،‬وبالتالي على االنتقاد المباشر‬ ‫الكتابة واإلبداع‬ ‫ّ‬ ‫والواقعي للظواهر االجتماعية‪ .‬إن ما يوحّ د التجربتين المكانة‬ ‫ّ‬

‫االجتماعي‪ ،‬ص‪:‬‬ ‫الكتابة؟» (الرواية المغربية ورؤية الواقع‬ ‫ّ‬

‫التي حظي بها الفرد كتاريخ؛ تصوُّر ومواقف (صورة المثقف)‪.‬‬

‫والواقع أن هذه «الفوضى»‪ ،‬تجسيد ما نعته الناقد أحمد‬

‫فالتنويعات التي عكستها الذات في التجربة الروائية لمحمد‬

‫‪.)411‬‬

‫اليابوري بـ«جنون الكتابة» غير المطابق نهائيًّا لـ«الكتابة عن‬

‫‪132‬‬

‫َ‬ ‫ّ‬ ‫المفكر‬ ‫تجربة‬ ‫المنحى الذي انخرط فيه الروائي محمد زفزاف‪،‬‬

‫الجنون»‪( .‬دينامية النص الروائي‪ ،‬ص‪.)104 :‬‬

‫فإذا كانت شخصية إدريس الرابط األساسي في الرباعية‪،‬‬ ‫زفزاف‪ ،‬أقنعة أتوبيوغرافية يحيل إيهامها إلى التماهي مع‬ ‫شخصية الكاتب‪.‬‬

‫إذا كانت مغامرة الكتابة الروائية اإلبداعية لدى محمد‬ ‫َّ‬ ‫اختطت مسار تف ُّردها‪ ،‬فإن أول ما لفت النظر المعنى‬ ‫زفزاف‬ ‫األتوبيوغرافي‬ ‫المنتج في هذه الكتابة‪ ،‬وهو بالطبع المعنى‬ ‫ّ‬ ‫الذي ينهل من تفاصيل الذات؛ إلعادة إنتاجه وصوغه تخييلاً‬

‫روائيًّا‪ ،‬ذلك أن نقلة االمتداد والتحول‪ ،‬راهنت على مفهوم‬

‫الكتابة الذاتية األشبه باالعترافات من دون أن تكون‪ ،‬فالذات‬ ‫االجتماعي الذي حرصت الرواية‬ ‫وفق هذا االعتبار‪ ،‬جزء من‬ ‫ّ‬

‫الكتابي‬ ‫المغربية والعربية في مرحلة على تفعيله بالتثبيت‬ ‫ّ‬ ‫اإلبداعي‪ ،‬وبالتالي هي صورة الفرد في َ‬ ‫عالم حاز حُ ّريته بعد‬ ‫ّ‬ ‫وطني‪ ،‬لوال أن الطريق إلى تحقيق حداثة التقدُّ م َّ‬ ‫ظل‬ ‫نضال‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫تجذرت مظاه ُرها‪،‬‬ ‫معاقا في مقابل ترسيخ قيم تحديثية‬

‫قيمي‪ ،‬والواقع أن اإلخفاق‬ ‫وشاعت كاستهالك وانحطاط‬ ‫ّ‬ ‫الذاتي‪ ،‬ومن‬ ‫األساسي للعودة إلى الرهان على‬ ‫مثل العامل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َثمَّ فمفهوم الكتابة الروائية لدى محمد زفزاف‪ ،‬يتأسس على‬

‫إحالل الذات مكانتها وموقعها اجتماعيًّا‪ ،‬وقد عانت فداحة‬ ‫اغترابها‪ ،‬وأرى أن ُّ‬ ‫تمثل رمزية البحر في معظم روايات محمد‬ ‫صوفي ضاق من عنف الواقع وأسره‪،‬‬ ‫زفزاف‪ ،‬تجسيدٌ لعشق‬ ‫ّ‬

‫إلى الماء حيث فساحة التأمل‪.‬‬

‫لعل السؤال الملحّ هو‪ :‬أكان محمد زفزاف يكتب سيرته‬

‫الذاتية على امتداد منجزه؟‬

‫يمكن القول‪ :‬إن المرحلة التي عرفت والدة منجز محمد‬

‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬


‫محمد زفزاف‪ ..‬مغامرة الكتابة وإشكالية التلقي‬

‫أساسا‪ ،‬والممكن تحديدها كما سلف من‬ ‫الروائي‬ ‫زفزاف‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫بدايات السبعينيات إلى نهاية التسعينيات‪ ،‬عرفت ً‬ ‫نوعا من‬ ‫ّ‬ ‫الروائي الذي‬ ‫والمتمثلة في المتداول‬ ‫المجاورة الخارجية‪،‬‬ ‫ّ‬

‫ّ‬ ‫دلت عليه كتابات الروائي‬ ‫األردني «غالب هلسا» والسوريّ‬ ‫ّ‬ ‫«حيدر حيدر»‪ .‬هذه المجاورة أسّ ست إلنتاج المعنى الذاتي‬ ‫في الكتابة الروائية العربية‪ ،‬وهو االنخراط الذي سَ َّنه محمد‬

‫زفزاف‪ ،‬ذلك أن الغاية من إرساء تقاليد مغايرة في الكتابة‬ ‫الروائية العربية‪ ،‬هي البحث عن نقلة وتحوُّل إلى الرغبة‬

‫ما أبدعه كل من «غالب هلسا»‪،‬‬ ‫و«حيدر حيدر»‪ ،‬و«محمد زفزاف»‪،‬‬ ‫يندرج حسب األبحاث األدبية والنقدية‬ ‫المتعلقة بالكتابة الذاتية ضمن ما‬ ‫بات يسمى بـ«التخييل الذاتي»‬

‫في استجالء األحاسيس الذاتية المغيبة في سياق إكراهات‬

‫الواقع األيديولوجية‪ ،‬وبذلك فإن كتابات محمد زفزاف‬ ‫الروائية جنحت إلى تخليق معانيها استنادًا إلى تجربته الذاتية‬ ‫المعاشة في الوجود والحياة‪ ،‬وكان محمد زفزاف على وعي‬ ‫دقيق بما يسهم في إنتاجه‪ ،‬وبخاصة أنه في حواراته أ ّكد أنه‬ ‫لن يكتب سيرة ذاتية‪ ،‬وإنما على استعداد للقيام بإمالئها إذا‬

‫اقتضى األمر‪.‬‬

‫على أن (تمظهرات) األبعاد السير ذاتية في روايات محمد‬

‫يتجسد في اآلتي‪:‬‬ ‫زفزاف‬ ‫ّ‬

‫هيمنة ضمير المتكلم‪ :‬وهي هيمنة طالت منجز محمد‬

‫الروائي كليًّا‪ ،‬مثلما أنها اختيار في الكتابة والتأليف؛‬ ‫زفزاف‬ ‫ّ‬ ‫فمن خاللها جرى تجسيد األحاسيس الذاتية‪ ،‬والمواقف‬

‫الملتزمة في كثير من القضايا؛ يقول الباحث والروائي محمد‬ ‫ّ‬ ‫المتلفظ‬ ‫أمنصور‪« :‬فمنذ «المرأة والوردة» ظل ينحت لسارده‬ ‫ً‬ ‫صوتا متفردًا»‪( .‬محكي القراءة‪ ،‬ص‪.)28 :‬‬ ‫بضمير المتكلم‬

‫المطابقة‪ :‬وتبرز من خالل الحكاية التي يجري صوغها‪،‬‬

‫وتكشف عن الشخصية المتحدث بها في أبرز مظاهرها‬ ‫ّ‬ ‫يحق‬ ‫ومالمحها شخصية الروائي والكاتب نفسه‪ ،‬ومن َثمَّ‬ ‫ً‬ ‫سابقا‪.‬‬ ‫الحديث عن التماهي كما ذكر‬ ‫ّ‬ ‫المثقف‪ :‬إن ما تحيل إليه المطابقة السابقة‪ ،‬سيرة‬ ‫صوت‬ ‫َ‬ ‫المثقف الملتزم الرافض بِنى المجتمع التقليدية‪ ،‬والراغب‬

‫إحقاق التغيير وتحقيقه بوصفه مطمحً ا أساسيًّا انبنى عليه‬ ‫واقع ما بعد االستقالل‪ ،‬فصوت المثقف بالضبط‪ ،‬صوت‬

‫ورست ضدّ ه أكثر من رقابة‬ ‫الفرد والذات الذي ظل مغيبًا‪ ،‬ومُ ِ‬ ‫حالت دون سماعه أو إسماعه؛ ليمثل جنس الرواية األفق‬

‫المفتوح على التعبير وتعرية أسرار المجتمعات التقليدية‪.‬‬ ‫يرى الدكتور سعيد علوش‪« :‬وإذا كانت الدونجوانية في‬ ‫«المرأة والوردة» تبرز كرومانسية ثورية‪ ،‬فهي ال تصنع أكثر‬

‫االجتماعي السائد في وجهيه‬ ‫من الكشف عن خلفيات النظام‬ ‫ّ‬

‫كفراغ يواجه األفراد‪ ،‬وكهروب نحو قيم جديدة تبلورها‬ ‫البطولة والفحولة الجنسية»‪( .‬مجلة «أقالم»‪ ،‬العدد‪،9 :‬‬

‫إبريل‪1979 :‬م‪ ،‬ص‪.)17:‬‬

‫موضوعة الجنس‪ :‬وتحضر على امتداد المنجز الروائي‬

‫لمحمد زفزاف‪ ،‬فكما يجري اختيار شكل الكتابة واإلبداع‪ ،‬فإن‬ ‫هتك المُ ح َّرمات والمُ قدَّ سات يوازي هذا االختيار الذي ّ‬ ‫شكل‬

‫ّ‬ ‫ً‬ ‫التلقي في ظل مجتمعات عربية‪ ،‬تؤثر‬ ‫قلقا على مستوى‬ ‫ً‬ ‫صورة وليس كتابة ومقروءً ا‪.‬‬ ‫االستئناس بالجنس‬ ‫إن التمظهرات السابقة تجلو األبعاد السير ذاتية في‬

‫نصوص محمد زفزاف الروائية‪ ،‬وهي أبعاد حدَّ دها ميثاق كتابة‬ ‫الفرنسي‬ ‫السيرة الذاتية و َْف َق ما نص عليه الناقد والباحث‬ ‫ّ‬

‫«فيليب لوجون» في كتابه عن «السيرة الذاتية»‪ .‬والواقع أن‬ ‫ما أبدعه كل من «غالب هلسا»‪ ،‬و«حيدر حيدر»‪ ،‬و«محمد‬

‫زفزاف»‪ ،‬يندرج حسب األبحاث األدبية والنقدية المتعلقة‬

‫بالكتابة الذاتية ضمن ما بات يسمى بـ«التخييل الذاتي»؛ إذ‬ ‫يلجأ الروائي إلى توظيف عناصر من مسار حياته وتجربته في‬

‫الوجود ضمن كتاباته الروائية بعيدً ا من التحديد (األجناسي)‬

‫في كون المكتوب سيرة ذاتية‪.‬‬

‫يبقى القول‪ :‬إن مغامرة الكتابة الروائية لدى محمد‬ ‫زفزاف‪َّ ،‬‬ ‫شكلت بالفعل امتدادًا عكس نقلة وتحولاً ‪ ،‬وخلقت‬

‫في اآلن ذاته ِّ‬ ‫تلقيًا نوعيًّا لكتابة مغايرة غير مألوفة؛ إذ‬ ‫ِّ‬ ‫التلقي العادي أسَّ س قواعد‬ ‫الالفت ‪-‬وهي مفارقة بالفعل‪ -‬أن‬ ‫ِّ‬ ‫التلقي العالم‬ ‫انسجامه مع هذه المغامرة‪ ،‬على حين أن‬

‫العارف قاومها محتكمً ا إلى مناهج نقدية‪ ،‬طبّقت على نصوص‬ ‫روائية َنحَ ْ‬ ‫ت مَ ْنحى اختيارات مغايرة في الكتابة الروائية‪ .‬ومِ ن‬ ‫َثمَّ تقتضي الضرورة األدبية إعادة قراءة المتن الروائي لمحمد‬

‫زفزاف؛ الستجالء مناحي التجديد فيه‪ ،‬التي تأسَّ ست على‬ ‫ُّ‬ ‫األتوبيوغرافي من دون إغفال بدايات محمد زفزاف‬ ‫التمثل‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫شعرية‪.‬‬ ‫التي كانت‬

‫‪133‬‬


‫مقال‬

‫الفلسفة‬

‫بين السطور وخوف المعرفة‬ ‫األلماني ليو شتراوس معروف في األوساط السياسية الغربية‪ ،‬سواء في الدوائر الرسمية أم في األكاديمية‬ ‫الفيلسوف‬ ‫ّ‬ ‫ِّ‬ ‫المتصلة بالعلوم السياسية‪ ،‬بأنه منظر ما ُع ِرف بتيار المحافظين الجُ دُ د؛ أي‪ :‬السياسيون الذين اشتهروا في عهد الرئيس‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وتولوا مناصب عدة مهمة ومؤثرة‪ .‬وقد سُ مّ وا المحافظين الجُ دُ د؛ ألنهم َتب َّنوا أفكار‬ ‫خاص‪،‬‬ ‫األميركي جورج بوش االبن بشكل‬ ‫ّ‬

‫السياسي‬ ‫السياسي‪ ،‬وما يجب أن يكون عليه‪ ،‬وبشكل أكثر تحديدً ا ضرورة أن يمارس النظام‬ ‫شتراوس حول طبيعة النظام‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫سياسات بعيدة من أنظار الشارع‪ ،‬فينأى عن اهتمامات الناس العاديين‪ .‬أي أنه يجب أن تكون للساسة رؤيتهم وقراراتهم التي ال‬ ‫يستشيرون فيها العامة؛ ألن العامة ال تفهم في تلك األمور‪ ،‬ويجب ألاَّ ُتستشار فيها‪ .‬ومع أن هناك من ينفي عن شتراوس تبنيه‬ ‫تلك اآلراء‪ ،‬فمِ ن المؤ ّكد أن في كتاباته ما يشجع على ذلك النهج‪ ،‬الذي ُّات ِبع فعلاً في أحداث كبرى شهدها العالم‪ ،‬لعل أبرزها‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫صحيحة وضرورية‪.‬‬ ‫الساسة‬ ‫غزو العراق الذي جرى بتضليل الرأي العام؛ لتنفيذ «أجندة» رآها أولئك‬ ‫االضطهاد وفن الكتابة‬

‫‪134‬‬

‫الشيوعي‪ ،‬نشر شتراوس كتابًا‪ ،‬تأمل فيه أوضاع‬ ‫في أعقاب الحرب العالمية الثانية‪ ،‬وانضمام شرق أوربا إلى المعسكر‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫–أيضا‪ -‬معرفة شترواس‬ ‫الشيوعي‪ ،‬وما مارسه من اضطهاد معروف‪ .‬لكن ذلك الكتاب عكس‬ ‫الكتاب الذين عاشوا تحت الحكم‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫متخصصا فيها ً‬ ‫ً‬ ‫أيضا‪ .‬في‬ ‫وصلة تلك الفلسفة بمؤثراتها اإلسالمية التي يُعَ دُّ شترواس‬ ‫بالفلسفة في أوربا في العصور الوسطى‪ِ ،‬‬ ‫كتاب «االضطهاد وفن الكتابة» تناول شتراوس مجموعة من الفالسفة القدماء‪ ،‬ومنهم‪ :‬الفارابي وابن ميمون‪ ،‬وتوقف طويلاً‬

‫عند سبينوزا موضحً ا كيف واجه أولئك القيود المفروضة عليهم في التعبير عن آرائهم وقناعاتهم الفلسفية‪ ،‬وحاجتهم إلى‬

‫إخفاء كثير من تلك اآلراء والقناعات عن عامة القراء‪ .‬فالفالسفة من هذا المنظور طبقة مستقلة عن المجتمع‪ ،‬وعن عامة‬ ‫المثقفين؛ فهي قادرة على رؤية العالم من زاوية مستقلة ً‬ ‫أيضا‪ ،‬زاوية ال تصل إليها العامة وقد ترفض العامة نتائجها؛ لذلك‬ ‫فإن الفالسفة مضطرون إلى التعبير عن بعض آرائهم بالطريقة التي ال يستطيع العامة فهمها (ومن هنا نستطيع أن نفهم أحد‬ ‫أسباب الربط بين شترواس وتيار المحافظين الجدد)‪.‬‬

‫في كتاب «االضطهاد وفن الكتابة» طرح شتراوس نظريته حول األساليب التي اتبعها بعض الفالسفة قديمً ا؛ لتمرير‬ ‫الفارابي ألفالطون في كتاب له عن ذلك الفيلسوف‬ ‫بعض أفكارهم بأسلوب ال يعاقبون عليه‪ ،‬فتحدث مثلاً عن كيفية توظيف‬ ‫ّ‬ ‫اليوناني‪ .‬يقول شتراوس‪ :‬إن الفارابي يقوّل أفالطونَ كالمً ا لم‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫يقله‪ ،‬إنما هو كالم الفارابي نفسه ال أفالطون‪،‬‬ ‫فيصبح الفيلسوف القديم مطيَّة ألفكار الفيلسوف‬ ‫المُ حدَث‪ .‬ثم َت ْترى األمثلة في عصور مختلفة؛‬ ‫منها‪ :‬العصر الحديث؛ إذ سعى ُك َّتاب من أوربا‬

‫الشرقية لتمرير أفكار ومعتقدات وآراء غير مسموح‬

‫بها‪ ،‬بأساليب ملتوية؛ لكي يفلتوا من عين الرقيب‬ ‫الحكومي الشرس في بلدانهم‪.‬‬ ‫ّ‬

‫نظرية شتراوس هذه انطلق منها باحث‬

‫أميركي‪ ،‬في كتاب أصدره مؤخ ًرا‪ ،‬بعنوان‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫عنوانا‬ ‫مضيفا‬ ‫«الفلسفة بين السطور» (‪2014‬م)‬

‫جانبيًا هو‪« :‬التاريخ المفقود للكتابة اإليزوتيريكية»‪.‬‬ ‫المؤلف آرثر ميلتزر (‪ )Melzer‬أستاذ فلسفة‬

‫في قسم العلوم السياسية بجامعة ميتشغان‬ ‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬


‫ً‬ ‫صفحة‪،‬‬ ‫بحثي الفت يقع في ‪450‬‬ ‫ستيت األميركية‪ ،‬وكتابه إنجاز‬ ‫ّ‬

‫اليوناني حتى‬ ‫ويبحر بالقارئ عبر عصور الفلسفة منذ العصر‬ ‫ّ‬ ‫أواخر القرن الثامن عشر‪ ،‬وهي حِ ْقبة طويلة َّاتسمت مثلما يقول‬

‫الفلسفي‪،‬‬ ‫ميلتزر بسيطرة نوع من الكتابة المزدوجة في التأليف‬ ‫ّ‬ ‫يشير إليها بالكتابة اإليزوتيريكية (‪ ،)esoteric‬وكذلك بالفلسفة‬ ‫بين األسطر‪ .‬اإليزوتيريكية صفة لكل معرفة أو مُ ع َتقد يقتصر‬ ‫على فئة محدودة من الناس؛ أي‪ :‬المعرفة المحاطة برموز‬ ‫أو دالالت ال يصل إليها إال ُ‬ ‫ّ‬ ‫الخاصة أو المتخصصين‪،‬‬ ‫أهلها من‬

‫وتقابلها المعرفة اإلكزوتيركية (‪ )exoteric‬التي تشير إلى المعرفة‬ ‫المشاعة أو الواضحة‪ .‬يقول ميلتزر ما سبق أن قاله شتراوس‪ ،‬وهو‬ ‫أن أهل الفلسفة ُّ‬ ‫ً‬ ‫قرونا يكتبون بطريقتين‪ :‬إحداهما إيزوتيركية‬ ‫ظلوا‬

‫أو مقتصرة على ال ِق َّلة‪ ،‬أي‪ :‬ما سبق أن سمَّ اه بعض المؤلفين‬ ‫القدامى‪« :‬المظنون به على غير أهله»‪ ،‬واألخرى إكزوتيريكية؛ أي‪:‬‬ ‫مشاعة يفهمها الجميع‪ .‬ويستشهد المؤلف في هذا السياق بعبارة‬

‫للشاعر والكاتب األلماني المعروف غوته‪ ،‬وردت في إحدى رسائله‬ ‫عام ‪1811‬م‪ ،‬ع َّب َر فيها عن اعتقاده أن ش ًّرا قد َّ‬ ‫حل بالناس في النصف‬ ‫األخير من القرن السابق‪ ،‬أي الثامن عشر‪ ،‬حين لم يعودوا يميِّزون‬ ‫المعرفة اإليزوتيركية من اإلكزوتيركية‪.‬‬

‫سعد البازعي‬ ‫ناقد سعودي‬

‫‪135‬‬

‫ً‬ ‫دفعا للضرر‬ ‫الغموض‬

‫يميِّز ميلتزر بين أربعة أنواع من الكتابة اإليزوتيركية؛ يتضمن‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫الغموض‬ ‫الكتابة التي يختار فيها الكاتب الفيلسوف‬ ‫األول‬ ‫النوع‬

‫الشخصي؛ نتيجة عدم تقبُّل أفكاره‪ ،‬واحتمال‬ ‫دفعً ا للضرر‬ ‫ّ‬

‫اإلضرار به نتيجة لذلك‪ ،‬أو لحماية المجتمع نفسه؛ أي‪ :‬دفع‬

‫الضرر العامّ ‪ ،‬بإخفاء حقائق معينة‪ ،‬ويُسمِّ ي ميلتزر هذا النوع‬ ‫َ‬ ‫الكتابة‬ ‫اإليزوتيريكية الدفاعية أو الوقائية‪ .‬أما النوع الثاني فيتضمن‬ ‫َ‬ ‫الغامضة‪ ،‬بقصد تحقيق مصلحة‪ ،‬قد تكون إصالحً ا سياس ًّيا‪ ،‬أو‬ ‫تعليم نخبة من طالبي المعرفة‪ ،‬ويُسمِّ يها إيزوتيريكية سياسية‬

‫أو تربوية‪ .‬هذه األنواع يبسطها المؤلف في مجموعة ضخمة من‬

‫األمثلة التي تحملها نصوص تتعرض إلى تحليل يُؤ ِّدي بنا إلى‬

‫مجاهل داللية ال تبدو ألول وهلة‪ ،‬أو ال تبدو لقارئ اعتاد القراءة‬ ‫فوق السطور‪ ،‬أو على السطور وليس ما بينها؛ أي‪ :‬اعتاد الداللة‬ ‫الواضحة المباشرة بعد أن َتربَّى في بيئة تعليمية وثقافية تقول‬

‫ُّ‬ ‫النص هو ما يظهر للقارئ‪ ،‬وال شيء في الخفاء‪.‬‬ ‫له‪ :‬إن ما يقوله‬

‫كتاب ميلتزر ال صلة له باآلراء السياسية لليو شتراوس أو‬

‫بالمحافظين الجدد‪ ،‬لكن معرفة الخاصة‪ ،‬وتحويلها إلى سلطة‬ ‫تنأى بهم عن العامة هي الجسر الذي يربط بين اإلستراتيجية‬

‫السياسية والرؤية الفلسفية المعرفية‪ ،‬الجسر الذي تعبره‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫مفكرين مثل‬ ‫لتؤثر في الشأن العام بوساطة‬ ‫أحيانا؛‬ ‫الفلسفة‬ ‫ً‬ ‫حديثا‪ ،‬ومثل أفالطون والفارابي قديمً ا‪.‬‬ ‫شتراوس‬

‫يقول شتراوس‪:‬‬ ‫يقول‬ ‫إن الفارابي‬ ‫ّ‬ ‫كالما لم يقُ لْ ه‪،‬‬ ‫أفالطون‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫إنما هو كالم الفارابي‬ ‫نفسه ال أفالطون‪،‬‬ ‫فيصبح الفيلسوف‬ ‫القديم مط َّية ألفكار‬ ‫حدث‬ ‫الم َ‬ ‫الفيلسوف ُ‬


‫مذكرات‬

‫بين الحياة والموت‪..‬‬

‫في زنازين‬ ‫إيران السرية‬ ‫‪136‬‬

‫يوسف عزيزي‬ ‫كاتب وصحافي أهوازي‬

‫والصحافي األهوازيّ يوسف عزيزي قريبًا كتاب بعنوان‪« :‬بين الحياة‬ ‫يصدر للكاتب‬ ‫ّ‬

‫والموت»‪ ،‬عن مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية‪ ،‬يستعرض فيه‬ ‫ً‬ ‫صنوفا من اآلالم‪ .‬يوسف عزيزي‬ ‫تجربته في زنازين إيران السرية؛ حيث ُع ِّذب‪ ،‬وعانى‬

‫ِّ‬ ‫مؤسسي صحيفة همشهري‪ ،‬وعضو هيئة تحريرها‪ ،‬وبدأ عزيزي عمله في‬ ‫هو أحد‬ ‫«همشهري» منذ تأسيسها في ديسمبر ‪1992‬م‪ ،‬وأغنى الصحيفة بترجماتِه البحوثَ‬ ‫العربي والمناطق األخرى من العالم‪ ،‬إال أن اإلدارة‬ ‫الفكرية واألدبية الحديثة في العالم‬ ‫ّ‬

‫التي يصفها بـ«اليمينية» طردته من الصحيفة؛ بسبب مواقفه‪.‬‬ ‫اً‬ ‫فصل من الكتاب‪:‬‬ ‫«الفيصل» تنشر هنا‬

‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬


‫‪137‬‬

‫بعض األحداث ال يمكن أن ُتمحى من ذاكرة اإلنسان أبدً ا‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫منحوت على صخر‪ ،‬ويبقى ما ُنحِ َ‬ ‫ت مالزمً ا اإلنسان‬ ‫كأنها رسم‬

‫ٌ‬ ‫واقعي لهذا‬ ‫مثال‬ ‫إلى مماته‪ .‬وأحداث يوم الـ‪ 25‬من إبريل ‪2005‬م؛‬ ‫ٌّ‬

‫النوع من األحداث‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫في ذلك اليوم أخذني ضبَّاط محكمة الثورة اإلسالمية في‬

‫ساكني المحافظة من العرب إلى أقلية بعد َع ْشر سنوات؛ لهذا‬

‫السبب تظاهرت أعدا ٌد من عرب مدينة األهواز في حي «علوي»‪.‬‬

‫سار المتظاهرون في مسيرات متجهين إلى مبنى المحافظة؛‬ ‫ليعبِّروا عن احتجاجهم على ما تضمَّ نه محتوى رسالة أبطحي‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫عوضا‬‫سلمية تمامً ا‪ ،‬لكن القوات العسكرية‬ ‫كانت االحتجاجات‬

‫طهران من منزلي في حي يوسف آباد‪ .‬لكن القصة لم تبدأ من‬

‫من حماية المتظاهرين‪ -‬فتحت النار عليهم‪ُ ،‬‬ ‫فقتل في الحادثة‬ ‫ً‬ ‫الحقا‪ ،‬وفي إحدى جلسات االستجواب‪ ،‬قال لي‬ ‫عشرة أشخاص‪.‬‬

‫أبطحي‪ ،‬رئيس مكتب رئيس جمهورية إيران السابق محمد‬

‫في االحتجاجات‪ .‬وهو يقصد بذلك أن الشرطة والقوات األمنية‬ ‫قتلت ‪ 8‬أشخاص فحسب‪ ،‬إضافة إلى رجل وُجد مي ًتا في تلك‬ ‫المنطقة‪ ،‬قضى نحبه إثر نوبة قلبية من ُ‬ ‫قبل‪ ،‬حسب المحقق‪.‬‬ ‫وأُعلن من جهة أخرى‪ ،‬أن تعداد ضحايا احتجاجات ‪ 15‬إبريل في‬

‫ذلك اليوم المجلجل‪ ،‬إنما بدأت عندما نشرت مواقع أهوازية‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ممهورة بتوقيع محمد علي‬ ‫رسالة كانت‬ ‫في شبكة اإلنترنت‪،‬‬ ‫خاتمي‪ .‬الرسالة تعود إلى عام ‪1998‬م؛ أي‪ :‬السنة الثانية من‬ ‫مدة رئاسة محمد خاتمي ُ‬ ‫األولى‪.‬‬ ‫ً‬ ‫نص الرسالة ‪-‬التي ُع ِر ْ‬ ‫ُّ‬ ‫الحقا باسم «رسالة‬ ‫فت‬ ‫كان‬ ‫ِّ‬ ‫االجتماعي للشعب‬ ‫أبطحي»– يؤكد ضرورة تغيير النسيج‬ ‫ّ‬ ‫العربي في محافظة خوزستان (إقليم عربستان)؛ لِيتمَّ تحويل‬ ‫ّ‬

‫ِّ‬ ‫المحقق الذي جاء من طهران إلى األهواز‪ :‬إن ‪ 1+8‬أشخاص ُقتلوا‬

‫شخصا‪ .‬أما أنا؛ ً‬ ‫ً‬ ‫وفقا لمصادر محلية أثق‬ ‫األهواز وصل إلى ‪15‬‬ ‫فيها‪ ،‬فقد أعلنت في تصريحات إلحدى وسائل اإلعالم األجنبية‪،‬‬


‫مذكرات‬

‫ً‬ ‫شخصا‪ .‬على أي حال‪ ،‬مثلما هو‬ ‫أن تعداد الضحايا وصل إلى ‪50‬‬

‫معتاد في حاالت مماثلة‪ ،‬فإن المسؤولين اإليرانيين يمتنعون‬ ‫دائمً ا عن إعطاء إحصاء دقيق لذلك‪ ،‬ويتك ّتمون على الحقيقة‪.‬‬ ‫ضحايا واحتجاجات‬

‫على الرغم من وقوع ضحايا بين المتظاهرين؛ فقد‬

‫إيران‪ ،‬ومحمد علي عمويي‪ ،‬وهو ممن بقي من حزب «توده»‬

‫الشيوعي‪ .‬وحضر الجلسة آخرون ال أذكرهم اآلن‪ .‬بعضهم‬ ‫ّ‬ ‫ألقى كلمة في ذلك اليوم‪ .‬وشارك في االحتفال كل مؤسسي‬ ‫المركز؛ مثل‪ :‬شيرين عبادي‪ ،‬وعبدالفتاح سلطاني‪ ،‬ومحمد‬

‫علي دادخاه‪ ،‬ومحمد شريف‪ ،‬إضافة إلى مراسلين من وسائل‬

‫امتدَّت االحتجاجات‪ ،‬في األيام الالحقة‪ ،‬إلى مدن أخرى في‬ ‫ّ‬ ‫التشكل‪ ،‬وأطلق‬ ‫المحافظة‪ ،‬وأخذت االنتفاضة الشعبية في‬ ‫عليها الناشطون العرب اسم «انتفاضة» فعلاً ‪ ،‬وهي الكلمة‬

‫باستثناء فريبرز الذي أدان قتل «الشعب العربي»‪ ،‬ورفع شكوى‬

‫تعداد ضحايا االنتفاضة في المدن إلى عشرات األشخاص‪ ،‬في‬

‫قا َرنَ رئيس دانا بين هذا القتل وبين إطالق النار على العمال‬

‫المرادفة لكلمتين فارسيتين «خيزش» أو «قيام»‪ .‬ووصل‬

‫أيام معدودة‪.‬‬

‫في يوم الخميس ‪ 25‬إبريل ‪2005‬م؛ أقام مركز الدفاع عن‬ ‫حقوق اإلنسان احتفالاً في مكتبه بطهران‪ ،‬وكانت شيرين‬ ‫عبادي تتولى رئاسة المركز وقتها؛ طلب مني أصدقاء مشاركون‬

‫العربي‪ ،‬في‬ ‫أن أتحدث في الحفل‪ ،‬عن قتل أبناء الشعب‬ ‫ّ‬

‫إعالم داخلية وخارجية‪.‬‬

‫ومن بين كل هؤالء؛ لم يشر أحد إلى أحداث األهواز‪،‬‬

‫إلى رئيس الجمهورية‪ ،‬آنذاك‪ ،‬محمد خاتمي‪.‬‬

‫في «شهر بابك» بمحافظة «كرمان»‪ .‬واقعة العمال حدثت قبل‬

‫ذلك بأشهر‪ ،‬وذهب ضحيتها مجموعة من العمال‪.‬‬ ‫وضع حساس في «عربستان»‬

‫عربي أهوازيّ ‪ ،‬اسمه نوري‬ ‫صحافي‬ ‫رافقني في الحفل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫حمزة‪ .‬وهذا بدوره؛ طلب من منسق المراسم ‪-‬محمد سيف‬

‫احتجاجات الخامس عشر من إبريل؛ أحداث االحتجاجات‪،‬‬ ‫ونتائجها‪ ،‬وضحاياها‪ّ ،‬‬ ‫كل ذلك انعكس‪ ،‬على نحو واسع‪،‬‬

‫زاده‪ -‬إضافتي إلى قائمة المتحدثين‪ ،‬وقدَّ م شرحً ا عن الوضع‬

‫ّ‬ ‫الخاص بالمركز‪ ،‬الذي كان مبناه‬ ‫سيف زاده رئاسة االحتفال‬

‫الفكرة‪ .‬وعندما رأى صديقي الوضعَ على هذا النحو‪ ،‬وقف وسط‬

‫في وسائل اإلعالم الداخلية والخارجية‪ .‬وقد تولى محمد‬

‫‪138‬‬

‫إيران‪ ،‬والدكتور فريبرز رئيس دانا من أعضاء اتحاد كتاب‬

‫في حي «يوسف آباد»‪ ،‬وقريبًا جدًّ ا من منزلنا‪ .‬تلك الجلسة‬ ‫ً‬ ‫شخصا؛ من بينهم ناشطون‪ ،‬ووجوه سياسية‬ ‫حضرها نحو ‪50‬‬ ‫بارزة؛ أمثال‪ :‬عيسى سحر خيز من جمعية الدفاع عن حرية‬

‫الصحافة‪ ،‬والدكتور إبراهيم يزدي األمين العام لحركة حرية‬

‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬

‫الحساس في خوزستان «إقليم عربستان»‪ ،‬غير أن زاده لم يتقبَّل‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫فتحدثت‬ ‫لحقت به‪،‬‬ ‫الجمع‪ ،‬وشرع يشرح أوضاع األهواز‪ ،‬ثم‬ ‫َ‬ ‫دقائق عن مستوى القمع وحجمه‪ ،‬وتعداد ضحايا االحتجاجات‬

‫العربي في اإلقليم‪ .‬في أثناء حديثي؛‬ ‫الشعب‬ ‫والظلم‪ ،‬وما لحق‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫حمَّ ُ‬ ‫وانتقدت مسؤولي‬ ‫الدولة مسؤولية قتل أبناء الشعب‪،‬‬ ‫لت‬


‫بين الحياة والموت‪ ..‬في زنازين إيران السرية‬

‫يوسف عزيزي والشاعرة اإليرانية المعارضة سيمين بهبهاني في بيتها ‪2006‬م طهران‬

‫طلب مني أصدقاء مشاركون أن‬ ‫أتحدث في الحفل عن قتل أبناء‬ ‫العربي في األهواز‬ ‫الشعب‬ ‫ّ‬

‫ّ‬ ‫يتخفون في لباس مراسلين أو مصوّرين لإلذاعة أو‬ ‫وفي األغلب‬

‫التلفزيون‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬

‫كان حديثي إلى وسائل إعالم‪ ،‬في حفل مركز حقوق‬ ‫اإلنسان؛ سببًا في إعداد قرار ّاتهامي من محكمة الثورة‬

‫ً‬ ‫الحقا‪ .‬ومثلما ورد في القرار؛ فإنني‬ ‫اإلسالمية في طهران‬ ‫كنت م َّتهَمً ا بالحديث إلى ‪ 11‬وسيلة إعالمية فارسية وعربية‬

‫ْ‬ ‫الحكومة‪ .‬ومن دون ِّ‬ ‫بدأت شيرين‬ ‫مقدمات‪ ،‬وفي أثناء حديثي‪،‬‬

‫وإنجليزية عن أحداث األهواز والمدن التابعة‪ .‬بعد مُ ِض ّي ثالث‬

‫خوزستان قلب إيران»‪.‬‬

‫هناك مَ ن شاهَ دَ وكيل نيابة طهران بالقرب من مبنى الدفاع‬

‫عبادي تر ِّدد شعارات ال تزال في ذاكرتي؛ منها شعار «خوزستان‬ ‫حدث كل ذلك؛ فيما كانت كاميرا تلفزيون الجمهورية‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫ضابطة كل األحاديث‬ ‫بدقة إلى وجهي‪،‬‬ ‫اإلسالمية موجَّ هة‬

‫والحركات والسكنات‪ .‬وبالطبع كنت أعرف إلى أين ستذهب‬ ‫نسخة من ذلك ال ِف ْلم‪!..‬‬ ‫بعد انتهاء المراسم؛ لحق بي مراسلون أجانب‪ ،‬تحدثت‬

‫سنوات من ذلك التاريخ؛ قال لي المحامي محمد شريف‪ :‬إن‬

‫عن حقوق اإلنسان‪ ،‬يوم االجتماع‪ ،‬وعندما وصلت المعلومة‬ ‫األمني‬ ‫إلى شيرين عبادي؛ ام ُت ِقعَ وجهُها ظ ًّنا منها أن المسؤول‬ ‫ّ‬ ‫جاء إلغالق المركز‪.‬‬

‫قوات األمن في منزلنا‬

‫انتهت مراسم مركز الدفاع عن حقوق اإلنسان‪ ،‬وأجريت‬

‫العربي في األهواز‪ .‬كان‬ ‫إليهم بوضوح عن انتفاضة الشعب‬ ‫ّ‬ ‫الحديث لتلفزيون بي بي سي‪ ،‬وصحيفة الغارديان‪ ،‬ووكالة‬ ‫أسوشيتدبرس‪ .‬أحد حضور الحفل‪ ،‬حاو َ​َل مقاطعتي َع ْنوة‪،‬‬

‫ُ‬ ‫وذهبت أنا‬ ‫تقريبًا من بعد ظهر ذلك اليوم‪ .‬خرجنا من المركز‪،‬‬

‫كانت مقاطعة واضحة سعى فيها‪ ،‬بكل وقاحة‪ ،‬للحيلولة‬

‫المركز‪ُ .‬‬ ‫قلت لنوري أنْ يعدّ مادة خبرية تغطية لمناسبة المركز‪،‬‬

‫تحديدً ا في أثناء حديثي إلى مراسلي الغارديان وأسوشيتدبرس‪.‬‬ ‫دون إيضاحاتي المتعلقة بقتل العرب في األهواز‪ .‬قطع حديثي‬

‫مرات عدة‪ .‬والظاهر للعيان أنه فعل ذلك من منطلق قومي‪.‬‬

‫أمني‪،‬‬ ‫أما أنا فعلى يقين من أن ذلك لم يكن إال من منطلق‬ ‫ّ‬ ‫فمن المعتاد أن يحضر رجال األمن السريّ هذه الجلسات‪،‬‬

‫بعض المقابالت الصحافية‪ .‬كانت الساعة تشير إلى الواحدة‬

‫ونوري حمزة إلى منزلي الذي يبعد دقائق معدودات من مبنى‬

‫ثم يرسلها إلى وسائل اإلعالم‪ ،‬وبالفعل شرع في عمله بعد‬ ‫وصولنا إلى المنزل‪.‬‬

‫لم تكد تم ّر ساعة‪ ،‬أو ّ‬ ‫أقل‪ ،‬حتى ُقرع جرس المنزل‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫سألت‬ ‫كانت الساعة تشير إلى الثانية إال ربع بعد الظهر تقريبًا‪.‬‬

‫‪139‬‬


‫مذكرات‬

‫زوجتي عبر سماعة الباب الخارجي‪ :‬مَ ن الطارق‪..‬؟ فر َّد الطرف‬

‫اآلخ ُر‪ :‬ساعي البريد‪ ،‬لديكم رسالة مسجلة‪ ،‬تعالوا الستالمها‪.‬‬

‫يقع المبنى الذي أقطنه بين جهتين متقابلتين؛ شمالية‪،‬‬ ‫الخارجي‬ ‫وأخرى جنوبية‪ .‬في جهة الشمال ساللم تصل الباب‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫خرجت زوجتي‬ ‫بالشقة التي تقع تحت مستوى سطح األرض‪.‬‬ ‫الخارجي؛ ليباغتها مأمو ٌر عارضاً‬ ‫عبر الساللم‪ ،‬وفتحت الباب‬ ‫ّ‬

‫عليها مذكرة اعتقال ّ‬ ‫بحقي‪ ،‬صادرة عن النيابة‪ .‬في أثناء ذلك؛‬ ‫ت السالمَ على‬ ‫وصلت زوجة جارنا عائدة من جهة الشارع‪ْ .‬أل َق ِ‬

‫زوجتي وهي تهمّ بدخول المبنى‪ .‬رد ْ‬ ‫َّت عليها السالم‪ .‬حينها؛‬ ‫ُفهم زوجتي ألاَّ تخبر الجارة أيّ شيء عن‬ ‫أشار المأمور بيده؛ ِلي ِ‬ ‫موضوع المذكرة‪ .‬كان هناك خمسة رجال من قوات األمن عند‬

‫الخارجي‪ ،‬وثالثة آخرون عند الرصيف‪.‬‬ ‫الباب‬ ‫ّ‬

‫العائلية‪ ،‬وصور أصدقاء ومناضلين آخرين‬ ‫السفلي‪ .‬ولم نكن نريد أن‬ ‫في المخزن‬ ‫ّ‬ ‫تقع أيديهم على هذه المقتنيات‬ ‫ً‬ ‫أطرافا‬ ‫خلف مالبسهم‪ .‬كان يمكن لمن يمعن النظر أن يشاهد‬ ‫من أسلحة بعضهم‪ .‬بِيَد أحدهم كاميرا فيديو‪ .‬يبدو أن مهمته‬ ‫هي تصوير ّ‬ ‫كل شيء في الشقة؛ الغرف‪ ،‬الزوايا‪ ..‬وكل شيء‪.‬‬ ‫راح جرس الهاتف يرنّ ‪ ،‬ورجال القوات يمنعوننا عن الردّ‪.‬‬

‫ْ‬ ‫طلبت زوجتي من المأمور أن‬ ‫على الرغم من ارتباكها؛‬

‫ْ‬ ‫نزعت‬ ‫تك َّرر الرنين م ّرات عدة‪ .‬وتكرر منع الردّ‪ .‬عندها؛‬

‫مشاكل قلبية‪ .‬عاجلتهم بهذا العذر‪ ،‬وهرولت عبر الساللم‪.‬‬

‫حديثي إلى زوجتي باللغة العربية؛ طلبوا التحدث بالفارسية‪،‬‬

‫يسمح لها بأن تهيِّئ المجال‪ ..‬قالت لهم‪ :‬إن ابنتنا وأنا نعاني‬

‫دخلت الشقة‪ .‬أغلقت الباب‪ .‬وأول ما شغلها‪ ،‬لحظتها‪ ،‬هو‬ ‫إنقاذ نوري حمزة الذي جاء معي من مركز حماية حقوق‬

‫اإلنسان‪ .‬فقد يتورّط معي‪ .‬وعلى نحو عاجل؛ أرشدته إلى‬

‫‪140‬‬

‫هناك مجموعة من ألبومات صورنا‬

‫الخلفي‪.‬‬ ‫الجنوبي الذي يُفضي إلى الشارع‬ ‫الخروج من الباب‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وهنا راح أفراد القوات األمنية يطرقون الباب‪ ،‬ويصيحون على‬

‫متوال‪ .‬كانوا يطالبون بفتح الباب فورًا‪.‬‬ ‫نحو‬ ‫ٍ‬

‫بعد خروج نوري؛ فتحت زوجتي باب الشقة‪ .‬دخل‬ ‫ً‬ ‫أسلحة‬ ‫الثمانية إلى الشقة في موجة واحدة‪ .‬كانوا يُخفون‬

‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬

‫زوجتي سلك الهاتف‪ .‬أظهر أفراد قوات األمن انزعاجهم من‬

‫لكننا لم نكن نأبه‪ .‬ليس من عادتي أن أتحدث إلى زوجتي بلغةٍ‬

‫غير لغتنا األم‪.‬‬

‫فيما كان رجال القوات يفتشون ّ‬ ‫كل شيء في المنزل؛‬

‫كان خبر مداهمة المنزل قد وصل إلى وسائل اإلعالم‪،‬‬ ‫داخل إيران وخارجها‪ .‬صديقي نوري حمزة ّ‬ ‫تكفل بالمهمة‪،‬‬ ‫بعد انسالله من الشقة‪ .‬أُ َ‬ ‫ولى «غنائم» القوات كانت دفترين‬ ‫صغيرين يحتويان على مئات األرقام الهاتفية لألصدقاء‬ ‫والمعارف‪َّ .‬‬ ‫تمك ْ‬ ‫نت زوجتي من تمزيق صفحة أو اثنتين فقط‬


‫بين الحياة والموت‪ ..‬في زنازين إيران السرية‬

‫قبل أن ينتبه أفراد قوات األمن‪ .‬وفي خالل ساعتين ونصف‬ ‫ف َّتشت القوات كل ثقوب المنزل وفتحاته وزواياه‪ .‬في حدود‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫وبعضا‬ ‫بعضا من الرز‪،‬‬ ‫الثالثة عص ًرا أحضرت زوجتي غدائي؛‬ ‫من مرقة «البرقوق» المعروفة فارس ًّيا بـ«خورشت آلو»‪ .‬لكن‬

‫ُ‬ ‫كنت فيها؛ هل يمكن أن يم ّر‬ ‫مع تلك الحالة العصبية التي‬ ‫أكلت لقمتين أو ثالثاً‬ ‫ُ‬ ‫من بلعومي شيء من طعام‪..‬؟ ربما‬ ‫واكتفيت‪ !..‬األدهى من ذلك‪ ،‬هو أنني كنت مصابًا وقتها بنزلة‬ ‫برد شديدة‪ ،‬وذبحة صدرية زادت الطينَ بِ َّل ًة؛ حتى إنني عندما‬

‫ُ‬ ‫تحدثت إلى وسائل اإلعالم‪ ،‬لم أكن أستطيع الكالم بسهولة‪.‬‬

‫وعند إطالق سراحي من السجن‪ ،‬فيما بعد‪ ،‬شاهدت أشرطة‬ ‫ُ‬ ‫فوجدتني‬ ‫وأفالم محطات التلفزيون العربية والفارسية‪،‬‬

‫محمد أبطحي‬

‫شيرين عبادي‬

‫أتحدث بصوت مبحوح متقطع‪!..‬‬

‫سألت زوجتي عبر‬ ‫قُ رع جرس المنزل‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫الخارجي‪ :‬من الطارق‪..‬؟‬ ‫سماعة الباب‬ ‫ّ‬ ‫فر َّد الطرف اآلخر‪ :‬ساعي البريد‪ ،‬لديكم‬ ‫خرجت‬ ‫رسالة مسجلة؛ تعالوا الستالمها‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫عارضا عليها‬ ‫زوجتي ليباغتها مأمور‬ ‫ً‬ ‫مذكرة اعتقال بحقي صادرة عن النيابة‬

‫زوجتي تثير الضجيج‬ ‫ْ‬ ‫شعرت زوجتي أن ُ‬ ‫المداهمِ ين قد يذهبون إلى غرفة تقع في األسفل‪.‬‬ ‫في أثناء عبث القوات في المنزل وتفتيشهم؛‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫مخزنا لمئات الموا ّد األرشيفية الخاصة بي وبالعمل‪.‬‬ ‫جعلت منه‬ ‫الحقيقة أن في األسفل مرآ ًبا‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫نجحت في صرف انتباههم عما هو خارج الشقة بالصياح وإثارة الضجيج‪ .‬ا َّدعت أنه قد ُيغمى عليها من‬ ‫وقد‬ ‫منتبها لمغزاها في البداية‪ ،‬فوجَّ ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مستخدما اللغة‬ ‫هت إليها اللوم‬ ‫جرَّاء ما يفعلونه في المنزل‪ .‬من جهتي؛ لم أكن‬

‫العربية‪ .‬طلبت منها أن تستجمع شجاعتها‪ ،‬وترفع معنوياتها‪ ،‬وتتماسك‪ .‬فأفهمتني باإلشارة أن كل ذلك كان محض‬ ‫تمثيل‪ .‬أرادت أن ُتشغل العناصر األمنية؛ كي ال يبحثوا في مكان آخر غير الشقة‪ .‬في الحقيقة كان هناك مجموعة من‬

‫السفلي‪ .‬ولم نكن نريد أن تقع أيديهم على‬ ‫ألبومات صورنا العائلية‪ ،‬وصور أصدقاء ومناضلين آخرين في المخزن‬ ‫ّ‬ ‫هذه المقتنيات‪َّ .‬‬ ‫فتشوا كل شيء بدقة‪ .‬وفي النهاية حملوا معهم مجموعة من الكتب‪ ،‬وحافظة كمبيوتر‪ ،‬وأرشيف‬ ‫مقاالتي المنشورة في مطبوعات عربية وفارسية‪ ،‬وكذلك كتابات شخصية ُمحَ رَّرة بيدي‪ .‬كان بعضها قصاصات صحف‬

‫تحتوي على مقاالتي ومقابالتي وقصصي‪ .‬وبعضها قصص ونصوص شعر غير مطبوعة‪ .‬في النهاية حملوا معهم‬

‫الم َ‬ ‫تسع حقائب كبيرة‪ .‬وكان من غنائمهم عشرات األسطوانات ُ‬ ‫دمجة‪ ،‬وأشرطة كاسيت موسيقا عربية وفارسية‪ ،‬و‪62‬‬

‫شريط فيديو؛ بعضها أفالم سينمائية‪ ،‬وبعضها أفالم خاصة وعائلية‪ ،‬تتعلق باحتفال مولد ابنتي وولدي‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫كنت أعلم ل َِم أخذوا كل هذه األشرطة‪ ،‬فقد يحصلون على شيء فيها يساعد على تغليظ (محكوميتي)؛‬ ‫بالطبع‬

‫مثل‪ :‬مشاهد غير الئقة‪ ،‬أو مشهد شرب كحول‪ ،‬أو رقص ماجن‪ ،‬أو أشياء من هذا القبيل‪ .‬وبالطبع لم يعثروا على‬ ‫شيء من هذه األشياء‪.‬‬

‫‪141‬‬


‫تحقيق‬

‫بعد عقود يغادر دول المركز إلى الخليج‬

‫اتحاد الكتاب العرب‪..‬‬ ‫كيان بال حضور؛ هل تعيد إليه اإلمارات الوهج ؟‬ ‫ظلت مصر على مدار تسع سنوات متتالية مق ًّرا التحاد الكتاب العرب‪ ،‬لكنها فقدت ّ‬ ‫الشرفي‬ ‫مؤخ ًرا هذا الشكل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫المتمثل في احتضانها االتحاد ورئاستها أمانته كل هذه السنوات‪ ،‬فقد انتهت المُ َدد الثالث المسموح بها‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫لتولي منصب األمين العام‪ ،‬وكان ال َّ‬ ‫عوضا من الكاتب محمد سلماوي‪ ،‬واتحاد‬ ‫بد من اختيار رئيس جديد‬

‫ً‬ ‫عوضا من اتحاد الكتاب المصريين‪ ،‬ومن َثمّ فقد ق َّرر المجتمعون في المؤتمر العامّ التحاد الكتاب‬ ‫جديد‬ ‫العرب‪ ،‬الذي ُعقد في يناير الماضي في اإلمارات‪ ،‬اختيار رئيس اتحاد الكتاب اإلماراتيين الكاتب حبيب الصايغ‬

‫والثقافي‪ ،‬وما َّ‬ ‫ً‬ ‫قدمته التحاد الكتاب العرب‪ ،‬في‬ ‫التاريخي‬ ‫جديدا لالتحاد‪ ،‬وأصبحت مصر بكل ثقلها‬ ‫رئيسا‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الثقافي الراهن‪ ،‬وما يمكن أن ّ‬ ‫وترويجي لالتحاد‬ ‫مالي‬ ‫تقدمه من دعم‬ ‫مواجهة اإلمارات العربية وحضورها‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وأنشطته وفعالياته‪..‬‬

‫حول ما خسره االتحاد بخروجه من مصر‪ ،‬وما قد يكسبه بذهابه إلى اإلمارات؛ أجرت «الفيصل» هذا التحقيق‪.‬‬

‫‪142‬‬

‫الفيصل‬ ‫القاهرة‬

‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬


‫حبيب الصايغ‬

‫معارك مشهورة‬

‫في البدء أ َّكد الناقد الدكتور عبدالمنعم تليمة‪ ،‬أن انتقال‬

‫طبيعي؛ «فقد أق ّر المثقفون‬ ‫مق ّر االتحاد من القاهرة أمر‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫العرب منذ سنوات طويلة بتداول الدُّ ول العربية رئاسة اتحاد‬

‫طبيعي أن تنتهي مدة رئاسة‬ ‫الكتاب العرب‪ ،‬ومن َثمَّ فهو أمر‬ ‫ّ‬

‫مصر له‪ ،‬وينتقل األمر إلى دولة أخرى‪ ،‬جاء االنتقال هذه‬ ‫المَ َّرة إلى دولة اإلمارات العربية»‪.‬‬

‫عبدالمنعم تليمة‬

‫مدحت الجيار‬

‫ال بد من التغيير‬

‫على حين عدَّ عضو مجلس إدارة اتحاد الكتاب المصريين‪،‬‬

‫رئيسا‬ ‫الناقد الدكتور مدحت الجيار‪ ،‬أن وجود دولة اإلمارات‬ ‫ً‬ ‫لاً‬ ‫التحاد الكتاب العرب أمر مفيد جدًّ ا لالتحاد؛ «ألنه أو يأتي‬

‫بعد والية سوريا ثم مصر‪ ،‬وهي مدة طويلة من عمر االتحاد‪،‬‬ ‫العربي‬ ‫وكان ال بد أن تتغير والية األمانة إلى إحدى دول الخليج‬ ‫ّ‬ ‫في هذا التوقيت الحرج‪ ،‬واإلمارات دولة غنية‪ ،‬يمكنها أن‬

‫وأوضح تليمة أن االتحاد شهد على مدار تاريخه الطويل‬

‫تعطي من الناحية المالية كثي ًرا؛ سواء على مستوى الجوائز‬

‫في السبعينيات مع رئيس االتحاد المصريّ يوسف السباعي‪،‬‬

‫وأوضح الجيار أن العضوية في اتحاد الكتاب العرب‬

‫ْ‬ ‫جرت‬ ‫كثي ًرا من المعارك المشهورة؛ «كان من بينها معركة‬

‫وكانت مصر ترأس االتحاد منذ مدة طويلة‪ ،‬وقد أبدى اإلخوة‬ ‫ّ‬ ‫بحقهم في‬ ‫اليمنيون والجزائريون بعض االعتراض‪ ،‬مطالبين‬ ‫رئاسة االتحاد‪ ،‬كانت هذه معركة؛ انتهت بخروج االتحاد من‬ ‫مصر إلى تونس»‪.‬‬

‫وأضاف صاحب «مقدمة في علم الجمال» أن هذا االتحاد‬

‫رغم اسمه الكبير‪ ،‬وأهميته الدولية «إال أن السياسة في البلدان‬

‫حقيقي‬ ‫العربية ومواءماتها أخمدت وهجه‪ ،‬وجعلته بال دور‬ ‫ّ‬ ‫أو فاعل‪ ،‬فاألنظمة السياسية في الدول العربية تستعمل مثل‬

‫أم السفر أم المؤتمرات أم غير ذلك»‪.‬‬

‫إنما هو لالتحادات وليس لألفراد‪« ،‬وهو يقوم برسالة مهمّ ة‬ ‫منذ أطلق طه حسين إشارته األولى في الالذقية بسوريا عام‬ ‫‪1958‬م‪ ،‬فهو يقوم بعالقات متبادلة بين الك ّتاب العرب؛‬ ‫ً‬ ‫عربية كبرى وكثيرة يقوم بها‬ ‫نشاطات‬ ‫بمعنى أن هناك‬ ‫ٍ‬ ‫ُشارك في هذه األنشطة‪،‬‬ ‫االتحاد‪ ،‬لكن ال يعرفها إال مَ ن ي ِ‬ ‫ولالتحاد موقع مُ ِهمّ على اإلنترنت‪ ،‬وله مطبوعات خاصة به‪،‬‬ ‫سياسي مهمّ في مناصرة القضايا‬ ‫وله جائزة باسمه‪ ،‬وله دور‬ ‫ّ‬

‫العربية في المحافل الدولية‪ ،‬فمن خالله حدثت كثير من‬

‫هذه المناصب مثلما تستعمل المندوبين في جامعة الدول‬ ‫حقيقي لهذا االتحاد الذي‬ ‫العربية‪ ،‬ومن َثمَّ فال يوجد حضور‬ ‫ّ‬

‫عندما جرى حرق السفارة السعودية في إيران‪ ،‬فاالتحاد هو‬

‫العربي‪ ،‬إضافة إلى‬ ‫أكثر جرأة وقوة للدفاع عن المثقف‬ ‫ّ‬ ‫أن كثي ًرا من الكتاب والمثقفين العرب الذين يكتبون باللغة‬

‫العربية المختلفة‪ ،‬وبخاصة ذات الظروف العصيبة في هذه‬

‫نتمنى له االستقالل عن األنظمة السياسية‪ ،‬واتخاذ مواقف‬

‫اإلدانات لما تفعله إسرائيل في األراضي المحتلة‪ ،‬وكذلك‬ ‫عربي ضدّ أي دولة ِّ‬ ‫تهدد الدول العربية‪ ،‬وأنا‬ ‫محصلة تحالف‬ ‫ّ‬ ‫أتم ّنى أن يقوم االتحاد في المدة المقبلة بفعاليات في البلدان‬

‫العربية أو األجنبية‪ ،‬المقيمين في أوربا وخارجها‪ ،‬ال يسمعون‬

‫المرحلة؛ مثل‪ :‬سوريا واليمن وليبيا وغيرها‪ ،‬فهذه الفعاليات‬ ‫ً‬ ‫موقفا داعيًا إلى التهدئة في هذه البلدان»‪.‬‬ ‫سوف تصدر‬

‫السياسة في البلدان العربية أخمدت‬

‫فأوضح أنه تولى رئاسة االتحاد مدة تسع سنوات‪ ،‬شكلت ثالث‬

‫بهذا االتحاد‪ ،‬وهو بدوره لم يفكر فيهم يومً ا ما»‪.‬‬

‫وهج االتحاد وجعلته بال دور حقيقي‬ ‫أو فاعل‬

‫أما األمين العام السابق لالتحاد الكاتب محمد سلماوي‪،‬‬

‫واليات أو مُ دَ د رئاسية متتالية‪ ،‬فاستنفذت مصر كل مُ دَ دها في‬ ‫رئاسة االتحاد‪ ،‬ومن َثمَّ فقد ق َّرر المؤتم ُر العامّ للكتاب العرب‬ ‫اختيا َر اتحاد كتاب اإلمارات‪ ،‬ووفق الئحته التي ّ‬ ‫تنص على أن‬

‫‪143‬‬


‫تحقيق‬

‫مَ ق ّر االتحاد هو دولة األمانة العامة‪ ،‬فإن مق ّر االتحاد انتقل‬ ‫رئيسا إلى (أبو ظبي)‪.‬‬ ‫عقب انتخاب الكاتب حبيب الصايغ‬ ‫ً‬

‫وقال سلماوي‪« :‬إن مصر في مدة رئاستها قدَّ مت كثي ًرا من‬

‫اإلضافات واإلنجازات المهمة؛ من بينها تقرير الحريات الذي‬ ‫يصدره االتحاد كل ستة أشهر‪ ،‬الذي أصبح مرجعً ا للباحثين»‪،‬‬

‫يوسف القعيد‪:‬‬

‫خروج االتحاد من مصر جريمة‬ ‫شن عضو البرلمان‬

‫وأضاف‪« :‬كما أننا فصلنا االتحاد عن هيمنة السياسة عليه‪،‬‬

‫المصريّ ‪ ،‬الكاتب يوسف‬ ‫ً‬ ‫هجوما ضار ًيا‬ ‫القعيد‪،‬‬

‫خطابة األول كل فئات الشعب المصري‪ ،‬ولم يذكر الكتاب‬

‫االتحاد من مصر إلى‬

‫التي م َّرت بها مصر بعد الثورة‪ ،‬فإننا حافظنا على عقد كل‬ ‫مؤتمرات االتحاد في توقيتها‪ ،‬ومؤتمرات الدول التي ّ‬ ‫تعثرت‬

‫يقف المثقفون المصريون‬ ‫ً‬ ‫جميعا ضدها‪ ،‬فهذا‬ ‫ُ‬ ‫االتحاد ن ِقل من مصر مِ ن‬

‫واتخذنا مواقف واضحة من األنظمة حال خطئها؛ من بينها‬ ‫ما حدث مع الرئيس المصري محمد مرسي حين ذكر في‬

‫على فكرة انتقال مق ّر‬

‫والمثقفين‪ ،‬وكان االتحاد يعقد مؤتمره في القاهرة فأصدرنا‬ ‫ً‬ ‫بيانا أَد ََّنا فيه ذلك بلهجة صارمة‪ ،‬وعلى الرغم من الظروف‬

‫اإلمارات‪ ،‬موضحً ا أن هذا‬ ‫« ُي َع ُّد جريمة ويجب أن‬

‫في إقامة المؤتمر الدوريّ على أرضها؛ بسبب أحداث الربيع‬ ‫العربي‪ ،‬فقمنا باستضافة مؤتمراتها بوصفنا دولة المق ّر‪ ،‬وهو‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أمر على نقيض ما حدث في األردن حين تولت رئاسة االتحاد‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ندوة‬ ‫مدة ثالث سنوات؛ فلم ُت ِقمْ مؤتم ًرا وال‬ ‫واحدة‪ ،‬ومن َثمَّ‬ ‫فلم ينتخبها المؤتمر العام ً‬ ‫ً‬ ‫ثانية»‪.‬‬ ‫مرة‬

‫يوسف القعيد‬

‫ُ‬ ‫ً‬ ‫جميعا ضد كامب ديفيد‪،‬‬ ‫قبل؛ بعد كامب ديفيد‪ ،‬وكنا‬ ‫َ‬ ‫ومن ث ّم تسامحنا في خروج االتحاد من مصر‪ ،‬وبغض‬

‫النظر عن أيّ دور يمكن أن ِّ‬ ‫تؤديه اإلمارات بأموالها‪،‬‬

‫فإننا لو تسامحنا وفتحنا الباب من جديد في هذا األمر‪،‬‬ ‫فلن يبقى في مصر شيء»‪ .‬وذهب القعيد إلى أن اتحاد‬

‫‪144‬‬

‫الكتاب العرب ال أهمية له في شيء‪« ،‬ال هنا وال هناك»‬

‫المثقفون أنفسهم ليس لديهم‬ ‫أجندة واضحة ليدرجوها في جدول‬ ‫أعمال االتحاد‬

‫حسب تعبيره‪ ،‬وأضاف أنه يقابل «بصمت ّ‬ ‫تام كل ما‬

‫يجري للمثقفين‪ ،‬وهو ليس له دور‪ ،‬وإن أصبح له دور‬ ‫بفضل األموال‪ ،‬فإن ذلك سيعطي رسالة ضمنية؛ أن‬

‫مصر قاتلة لالتحادات التي على أرضها»‪.‬‬

‫اتحاد الكتاب السعوديين‬ ‫قال مدير عام األندية األدبية السعودية السابق الشاعر واألكاديمي أحمد قران‬

‫الزهراني‪« :‬ال أعلم سبب عدم دخول المملكة العربية السعودية اتحاد الكتاب العرب‬

‫إلى اآلن‪ ،‬على الرغم من ثقلها في المنظمات والهيئات العربية والدولية‪ ،‬وما تقوم‬

‫به من دور في دعم هذه الهيئات‪.‬‬

‫يعد اتحاد الكتاب العرب من منظومة الهيئات العربية التي يجب أن يكون‬

‫للسعودية دور فاعل فيه‪ ،‬وبخاصة أن أغلبية الدول العربية هي ضمن هذا االتحاد‪،‬‬

‫أحمد قران‬

‫وستضمن في حال مشاركتها في هذا االتحاد كسب أصوات إبداعية عربية متنوعة تؤيد توجهاتها‪.‬‬

‫إن ما يمثله المثقف السعودي في خارطة الثقافة العربية يدعو إلى اتخاذ قرار سريع باالنضمام إلى االتحاد‪.‬‬

‫لقد حققت الثقافة السعودية قفزات كبيرة في الحركة الثقافية العربية‪ ،‬وأصبحت فاعلة ومؤثرة‪ ،‬ولها مكانة‬

‫مهمة في الحراك الثقافي في كل المجاالت الثقافية إبداعيًّا وفكريًّا وفنيًّا‪ ،‬ومن ثم ينبغي لوزارة الثقافة واإلعالم أن‬ ‫تنشئ اتحادًا للكتاب السعوديين‪ ،‬ثم تلتحق باتحاد الكتاب العرب بوصفها عضوًا فاعلاً ومؤث ًرا»‪.‬‬

‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬


‫اتحاد الكتاب العرب‪ ..‬كيان بال حضور هل تعيد إليه اإلمارات الوهج ؟‬ ‫ُ‬

‫وأكد سلماوي أن كل دولة تتولى رئاسة المؤتمر «تسعى‬ ‫إلى إضافة بعض األمور التي ستظل ُتذ َكر بها‪ ،‬وأنها من‬

‫ْ‬ ‫أرست مصر‪ ،‬في مدة رئاستها االتحاد‪ ،‬كثي ًرا من‬ ‫إضافتها‪ ،‬وقد‬ ‫المبادئ التي يصعب تجاهلها أو عدم البناء عليها‪ ،‬ومن ثمَّ‬ ‫فال بد أن تسعى اإلمارات لإلضافة إليه‪ ،‬وإال فلن يعيد المؤتمر‬

‫العام انتخابها مثلما حدث مع األردن»‪.‬‬ ‫غياب األجندة الواضحة‬

‫على النقيض من رؤية سلماوي؛ أكدت مؤلفة رواية‬

‫«البشموري» الكاتبة سلوى بكر‪ ،‬أن اتحاد الكتاب العرب اآلن‬ ‫الثقافي‪ ،‬وال في‬ ‫«ليس له أيّ دور وال أهمية؛ ال في العمل‬ ‫ّ‬

‫الحياة الثقافية‪ ،‬وهو أبعد ما يكون من هذا األمر‪ ،‬والحجة‬

‫الدائمة كانت غياب األموال والدعم‪ ،‬وربما حين ينتقل االتحاد‬

‫محمد سلماوي‬

‫سلوى بكر‬

‫يوقفها»‪ ،‬مشيرة إلى ما يحدث للغة العربية وهو ما َعدَّ ْته‬ ‫ً‬ ‫امتهانا يوميًّا‪« ،‬ال أتحدث عن اللغة العربية الكالسيكية‪ ،‬لكن‬ ‫اللغة اليومية في حياتنا‪ ،‬هذه التي تحتاج إلى تأصيل‪ ،‬ودفاع‪،‬‬ ‫الغربي»‪.‬‬ ‫وترويج ألهميتها وجمالها في مواجهة الوافد‬ ‫ّ‬

‫الحقيقي‪ ،‬فاإلمارات من أهم‬ ‫إلى اإلمارات أن يتحقق الدعم‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫العربي‪ ،‬ومن ثمّ فهناك بارقة‬ ‫المؤثرة ثقافيًّا في العالم‬ ‫البؤر‬ ‫ّ‬

‫وقالت‪« :‬إن هناك كثي ًرا من القضايا التي تحتاج إلى دور‬

‫عادت ِل ُت ِّ‬ ‫ْ‬ ‫شكك فيما يمكن أن يفعله االتحاد‪،‬‬ ‫لكن (بكر)‬

‫سيكون صعبًا في ظل التكوين الحالي لالتحاد؛ إذ إنه يتعامل‬

‫أمل في انتقال االتحاد إليها»‪.‬‬

‫قائلة‪« :‬إن المثقفين أنفسهم ليس لديهم أجندة واضحة‬ ‫ليدرجوها في جدول أعمال االتحاد‪ ،‬وهذا هو المأزق‪ ،‬فثمة‬

‫مياه قذرة كثيرة تجرى في نهر الثقافة العربية‪ ،‬وال يوجد من‬

‫حقيقي من االتحاد‪ ،‬ونحن ننتظر منه إحداث دور فاعل‪ ،‬وهذا‬ ‫ّ‬ ‫مع الرموز الثقافية العربية‪ ،‬وهي رموز تنتمي إلى اإلعالم أكثر‬ ‫من المثقفين المنوط بهم إنتاج أفكار تساهم في ّ‬ ‫حل مشكالت‬ ‫الثقافي»‪.‬‬ ‫مجتمعاتهم المأزومة‪ ،‬وفي مقدمتها المأزق‬ ‫ّ‬

‫أسماء الزرعوني‬

‫الخليج لديه القدرة على اإلدارة الثقافية‬ ‫أوضحت الكاتبة اإلماراتية أسماء الزرعوني‪ ،‬أن انتقال اتحاد الكتاب العرب إلى‬ ‫دولة خليجية‪« ،‬أمر فريد من نوعه؛ هذا َي ْعني أننا بوصفنا خليجيين نمتلك ثقافة‬ ‫جيدة وإدارة ثقافية فعلاً ؛ إذ ليس من السهل إدارة اتحاد تحت مظلته أكثر من ‪22‬‬

‫دولة عربية‪ ،‬أعتقد أن هذا شرف»‪ ،‬وأشارت إلى أن وجود أمانة لالتحاد في دولة‬

‫خليجي‪ ،‬ويمنحه الدافع إلى الكتابة؛ ألنه يعرف‬ ‫خليجية‪« ،‬يثلج صدر كل مثقف‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫أن هذا االتحاد وجد من أجله‪ ،‬وعليه أن يبذل جهدا أكبر لترسيخ قلمه في اإلبداع‪.‬‬

‫أسماء الزرعوني‬

‫يأت من فراغ‪ ،‬إنما جاء بمباركة من جميع دول األمانة العامة؛ إذ إننا نستطيع أن‬ ‫وإن اختيار دولة اإلمارات لم ِ‬

‫ندير هذا االتحاد‪ ،‬وسنحاول أن نقنع الدول غير األعضاء باالنضمام إلى األمانة العامة‪ ،‬وبخاصة المملكة العربية‬ ‫السعودية ودولة قطر‪ ،‬هذه مهمة تقع على عاتق االتحاد‪ ،‬ومن الممكن دعوة بلدان ليست أعضاء في االتحاد إذا‬ ‫ّ‬ ‫ونسقنا ورسمنا أهدافنا‪ ،‬وهي في المقام األول االهتمام بالثقافة والمثقفين وخدمة الوطن‪ ،‬ومن َث ّم ال‬ ‫جاهدنا‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫عائقا‪ ،‬ما دامت األمور تسير في مسارها الصحيح»‪.‬‬ ‫شيئا‬ ‫أعتقد أن هناك‬

‫ّ‬ ‫وقالت الزرعوني‪« :‬ال بد ّ‬ ‫يتحقق‪ ،‬باعتالء ُدولنا الخليجية مناصب‬ ‫خليجي أن يسعد عندما يجد حلمه‬ ‫لكل مثقف‬ ‫ّ‬

‫ثقافية‪ ،‬فمن حق المثقف أن يكون له مكان ينتمي إليه»‪.‬‬

‫‪145‬‬


‫إصدارات‬

‫الحداثة السائلة المؤلف‪ :‬زيغمونت باومان ترجمة‪ :‬حجاج أبو جبر‬ ‫الناشر‪ :‬الشبكة العربية لألبحاث والنشر‬

‫هذا الكتاب هو محاولة لفهم زمن متغيّر‪ ،‬انتقلت فيه المجتمعات المعاصرة من‬

‫الحداثة «الصلبة» إلى الحداثة «السائلة»‪ ،‬من حالة متمايزة من طرائق الحياة اإلنسانية إلى‬

‫حالة أخرى داعية إلى إعادة النظر إلى المفاهيم واألطر المعرفية المستخدمة لرواية تجربة‬ ‫فرديّة اإلنسان والتاريخ المشترك؛ لذلك يختار باومان خمسة من المفاهيم األساسية‬

‫التي عملت على معنى الحياة المشتركة لإلنسان‪ :‬التح ّرر‪ ،‬والفردية‪ ،‬والزمان ‪ -‬المكان‪،‬‬

‫والعمل‪ ،‬والمجتمع‪.‬‬

‫اإلصالح اإلسالمي في الهند المؤلف‪ :‬كريمو محمد الترجمة‪ :‬محمد العربي وهند مسعد‬ ‫الناشر‪ :‬دار جداول – مؤسسة مؤمنون بال حدود‬

‫الغربي على السواء آراء‬ ‫األكاديمي واإلعالم‬ ‫في الوقت الذي أنتج فيه الخطاب‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫تجسيدية عن اإلسالم والمسلمين بغزارة‪ ،‬فإن مثل هذه اآلراء صدرت –أيضا‪ -‬من داخل‬ ‫اإلسالم نفسه‪ ،‬عبر تأويالت المسلمين وتمثيالتهم دِي َنهم بوصفه وَحْ دَ ًة أُحادية ال زمنية‬

‫وغير متغيرة‪ .‬لم تكن هذه التمثيالت محض تأمالت أو وصف مبسط للواقع‪ ،‬أو للتفاعالت‬ ‫الخارجي؛ إذ إن لها قوة توليدية‪ .‬فبإعادتها‬ ‫االجتماعية والدينية‪ ،‬الواقعة بالفعل في العالم‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫تشكيل المفاهيم تتجه نحو إنتاج كل ما يقف على أرضية صلبة‪ ،‬ومن ثمَّ تكثيف الواقع‬

‫‪146‬‬

‫المشار إليه في الخطاب نفسه‪.‬‬

‫ثقافة تويتر المؤلف‪ :‬عبدالله الغذامي‬ ‫الناشر‪ :‬المركز العربي الثقافي‬

‫ّ‬ ‫تحتك بحرية‬ ‫صارت حرية التعبير في تويتر هي المزية والعيب معً ا‪ ،‬فحُ ريَّة هذا‬

‫ذاك مباشرة من دون ضوابط مادية أو زمنية‪ ،‬وهي فعالية تكشف عن تحوُّل الخطاب‬

‫من الورقة والصفحة‪ ،‬إلى اإلصبع والشاشة‪ ،‬وهو ما اقتضى سرعة التفاعل؛ لتكون‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫الذاتي‬ ‫القول التفكي َر‪ ،‬وينكشف المخبوء‬ ‫أسرع من حركة الذهن‪ ،‬ويسبق‬ ‫ضربة اإلصبع‬ ‫ّ‬

‫الذاتي عن التحكم في سرعة اإلرسال‪ ،‬وهو تغيُّر‬ ‫الرقيب‬ ‫من دون رقيب‪ ،‬حتى َليعجز‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫نوعي عميق في تفاعلية الثقافة‪.‬‬ ‫ّ‬

‫الفارابي المؤلف‪ :‬رشدي راشد‬ ‫دراسات في فلسفة أبي نصر‬ ‫ّ‬ ‫الناشر‪ :‬مركز دراسات الوحدة العربية‬

‫الفارابي‪،‬‬ ‫يتضمن الكتاب مجموعة بحوث ودراسات ومراجعات معاصرة في فلسفة‬ ‫ّ‬

‫وبخاصة في المنطق‪ ،‬وفي العالقة بين الدين والسياسة‪ ،‬وفي نظرية المعرفة‪ ،‬لباحثين‬

‫بعيون جديدة‬ ‫للفارابي‬ ‫كبار في تاريخ العلوم والفلسفة‪ ،‬وهي نصوص ميزتها أنها تقرأ‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫من جهة المعنى العميق لفلسفته‪ ،‬وهي ّ‬ ‫تمثل مراجعة شاملة لطرائق قراءة الموروث‬ ‫والعلمي لدى الفارابي‪.‬‬ ‫الفلسفي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬


‫إرهاب الفكر وفكر اإلرهاب المؤلف‪ :‬أماني غازي جرار‬ ‫الناشر‪ :‬دروب الثقافية للنشر والتوزيع‬

‫ً‬ ‫يتطرق الكتاب إلى أهم الحاالت التي عاناها الفالسفة قديمً ا‬ ‫وحديثا‪ ،‬من اإلرهاب الفكريّ‬

‫العربي‬ ‫والترويع‪ ،‬إلى سلب حرياتهم الفكرية‪ .‬وقدمت المؤلفة نماذجَ من التيارات في الفكر‬ ‫ّ‬ ‫الشيوعي‪ ،‬إضافة إلى استعراض‬ ‫واإلسالمي‪ ،‬مقابل التيارات التحررية‪ ،‬ونماذج من الفكر‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫آراء جملة من الفالسفة والمفكرين في هذا الصدد‪ ،‬ودورهم في مكافحة اإلرهاب الفكريّ ‪،‬‬ ‫اإلنساني في حرية الفكر والتعبير‪.‬‬ ‫وسعيهم لتأكيد الحق‬ ‫ّ‬

‫السادات المؤلف‪ :‬روبير سوليه‬ ‫الناشر‪ :‬دار نوفل‬

‫يسلط الكتاب الضوء على حقبة حكم السادات مص َر‪ ،‬ويُقوِّمها حسب وجهة نظر‬

‫سوليه في ضوء التطورات األخيرة للشرق األوسط‪ ،‬فعلى الرغم من مرور ما يزيد على ثالثة‬ ‫عقود من اغتيال السادات‪ ،‬فإن سياساته ما زالت آثارها باقية في المنطقة‪.‬‬

‫‪147‬‬ ‫هديل سيدة حرة المؤلف‪ :‬البشير الدامون‬ ‫الناشر‪ :‬المركز الثقافي العربي‬

‫رواية عن مسار األميرة المتف ِّرد‪ ،‬عن عالقتها بالحرب والقراصنة والبحر والتجارة‬

‫والعمران واإلرث األندلسي‪ ،‬وعن تم ُّردها وأفراحها وحبّها وخيباتها‪ ،‬وعن حلم لقائها‬ ‫حرب شرسة ظالمة مُ ق َّنع ٍة بقناع‬ ‫حمامة بيضاء‪ .‬حكاية أميرة شاهدة على مدى بشاعة‬ ‫ٍ‬ ‫الدين‪ ،‬قادت المعارك وانتصرت‪ ،‬إلاّ أنها َّ‬ ‫ظلت‪ ،‬في أثناء رحلتها المريرة‪ ،‬تعاني «هزيمة‬ ‫ما بعد االنتصار»‪.‬‬

‫خواجه ينّ ي المؤلف‪ :‬محمد صادق دياب‬ ‫الناشر‪ :‬دار مدارك‬

‫المكاني؛ حيث‬ ‫في هذه الرواية للكاتب الراحل‪ ،‬تشبه جدة الميناء من جهة تركيبها‬ ‫ّ‬

‫المدينة السفر‪ ،‬والمدينة القادمون‪ ،‬والمدينة السوق‪ ،‬ومن جهة أخرى هي مركز للسفر‬ ‫إلى مصر وبيروت واليونان‪ .‬جهة واحدة من هذه الجهات الكثيرة كانت ستغرق أي كاتب‬

‫ينوي الكتابة عن مدينة عشقها وهام في دروبها‪ ،‬لكن محمد صادق دياب العب المزمار‬

‫الذي يحسن إمساك العصا من المنتصف‪ ،‬يعطي الميناء ظهره حين يقبل على الناس في‬ ‫المدينة القديمة‪ ،‬يستعين بالخواجه ي ّني‪ ،‬ويتكئ على عام ‪1857‬م؛ ليبدأ موَّالاً حجازيًّا آخر‬ ‫عن مرحلة مهمة في تاريخ هذه المدينة العريقة‪.‬‬


‫كتب‬

‫الكتابة عن الكتابة‪..‬‬

‫«امرأتان» رواية مأساوية‬ ‫ً‬ ‫شخصا يصغي إلى ما تقول‪ ،‬هذا يَعْ ني أن كتابك وصل إلى هذا الشخص؛‬ ‫أن تكتب وأن تجد‬ ‫هذا ما يجعلك تدرك إلى أيّ ّ‬ ‫حد أصبحت كاتبًا‪ .‬نعم‪ ،‬الكتابة تدفع إلى الغرور‪ ،‬بالقدر نفسه‬ ‫شخصا ما ّ‬ ‫ً‬ ‫قدر‬ ‫الذي تدفعك به إلى التواضع؛ ألنك في لحظة تشعر أنك ملكت العالم؛ ألن‬ ‫كتابك‪ ،‬وأخبرك إلى أي ّ‬ ‫َ‬ ‫كتبت وبما تمثله له بوصفك كاتبًا‪ .‬وفي اللحظة‬ ‫حد هو معجب بما‬

‫التي بعدها وبالحماس نفسه يهتمّ شخص بأن يوصل إليك رأيه فيما تكتب‪ ،‬ومضمون هذا‬ ‫ً‬ ‫تفاهة في العالم‪ .‬هذا هو عالم الكتابة‪ ،‬حيث أنت وَحْ َدك‬ ‫الرأي أن ما تكتب من أكثر األشياء‬ ‫مع القارئ‪ ،‬ال توجد وسائط‪.‬‬ ‫هناء حجازي‬ ‫روائية سعودية‬

‫‪148‬‬

‫هناء حجازي تتسلم جائزة أفضل كتاب من وزير الثقافة األسبق عبدالعزيز خوجة‬ ‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬


‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تتضخم ذاتك‪،‬‬ ‫الحل الوحيد إذا أردت أن تعبّر من دون أن‬ ‫ّ‬ ‫تتحطم معنويًّا‪،‬‬ ‫وتشعر أنك الكاتب الوحيد في الكون‪ ،‬أو أن‬

‫تعتمد على حالة انفعالية مفاجئة؛ لهذا السبب لم أستطع‬

‫مسألة التقييم األولية ل ِقيمتك بوصفك كاتبًا التي ال بد أن‬ ‫تخوضها عند البدايات؛ عليك أن تكتب لنفسك‪ ،‬تصدّ ق ما‬

‫ق َّررت أن أعود لأِ لتزم‪.‬‬

‫وتكسر قلمك‪ ،‬وتشعر أن ما تكتبه ال معنى له‪ ،‬هذا إذا تجاوزنا‬

‫تكتبه‪ ،‬ال تمارس األلعاب التي يمارسها بعض الكتاب للوصول‬

‫إلى القارئ‪ .‬لو كنت أنت القارئ األول لما تكتب‪ ،‬لو كنت تؤمن‬ ‫َ‬ ‫لست أعظم كاتب في الكون‪،‬‬ ‫بذائقتك‪ ،‬ستعرف وقتها أنك‬

‫َ‬ ‫ولست تافهًا أو مك ّررًا أو بقية الصفات التي أطلقها عليك قارئ‬

‫ما‪ .‬أنت كاتب‪ ،‬تكتب ألن هذا شيء تحبُّه وال تستطيع أن‬ ‫َ‬ ‫بذلت في المسألة وق ًتا طويلاً ‪،‬‬ ‫تمضي في الحياة من دونه‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫وتعل َ‬ ‫قرأت‬ ‫مت واستمعت إلى نقاد‪ ،‬صقلت موهبتك‪ ،‬وقرأت‬

‫لآلخرين بعين مفتوحة وبِ َنه ٍَم شديد‪ ،‬وباستمتاع يفوق أو‬ ‫َّ‬ ‫الملذات األخرى في الحياة‪.‬‬ ‫يشبه االستمتاع بسائر‬ ‫ً‬ ‫ال يمكنك أن تكون كاتبًا جيدً ا إذا لم تكن قارئا جيدً ا‪،‬‬ ‫هذه اللذة التي تجدها في القراءة تشبه اللذة التي تجدها في‬

‫الكتابة‪ ،‬ال أتصوّر كاتبًا حقيقيًّا ال يجد المتعة في االثنين‪.‬‬

‫فعلي‪ ،‬ربما لهذا كان يناسبني أن أكتب القصة القصيرة التي‬ ‫ّ‬ ‫كتابة روايتي‪ ،‬عرفت ذلك في أميركا‪ ،‬وبعد مشاهدة كل‬ ‫هؤالء ُ‬ ‫الك َّتاب‪ ،‬وتع ّرفت أهمية الكتابة وااللتزام بكوني كاتبة‪،‬‬

‫بعد عودتي كتبت السيرة الروائية «مختلف» التي حازت‬ ‫جائزة الكتاب التي تتب َّناها وزارة الثقافة واإلعالم‪ .‬كنت أكتب ‪500‬‬

‫كلمة في اليوم‪ ،‬كان ذلك التزامً ا قررته‪ ،‬وهو ما جعلني أنجز‬ ‫ً‬ ‫أيضا‪ -‬بدأته ولم أكمله‪ .‬بعد «مختلف»‬‫الكتاب‪ ،‬وكان كتابًا‬ ‫نفضت الغبار عن روايتي‪ ،‬وعملت عليها بالطريقة نفسها ‪500‬‬ ‫كلمة في اليوم‪ ،‬وأنجزتها‪.‬‬

‫مرام الصديقة كانت في فكرة الكتاب األولى محض عامل‬ ‫ً‬ ‫مهمة‬ ‫مساعد؛ كي تساند ليلى في قصتها‪ ،‬لكن مرام أصبحت‬ ‫بحجم أهمية ليلى‪ ،‬لم َتعُ د الحكاية حكاية ليلى‪ ،‬صارت‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫حكاية ليلى ومرام؛ حكاية امرأتين‪.‬‬ ‫الحكاية‬ ‫حبس انفرادي‬

‫سأتحدث اآلن عن روايتي «امرأتان» التي تحكي قصة‬

‫الكتابة عمل مذهل؛ ألنها تأخذك معها إلى متاهات لم‬

‫في كل األمور األخرى‪ :‬البيئة‪ ،‬واألهل‪ ،‬والجذور‪ ،‬والتربية‪،‬‬

‫ستبحث فيها؛ حين بدأت كتابة الفصل الذي تعيش فيه ليلى‬

‫صديقتين‪ ،‬تشبه إحداهما األخرى في ال ُّروح‪ ،‬بينما تختلفان‬ ‫وكل شيء‪.‬‬

‫أميركا والتزام الكتابة‬

‫بدأت الفكرة بقصة شخصية واحدة هي ليلى القادمة‬

‫من عائلة محافظة؛ قصة سمعتها بشكل مختصر في عبارة‬ ‫واحدة‪ ،‬لكنها ّ‬ ‫ظلت محفورة في رأسي‪ ،‬وأردت أن أكتبها‪ ،‬وأن‬

‫تكن تتصوّرها‪ ،‬وتجعلك تبحث في أمور لم تكن تعتقد أنك‬ ‫محبوسة بين أربعة جدران كأنها في حبس انفرادي؛ اضطررت‬ ‫إلى أن أقوم بالبحث عن أبحاث وكتابات ُتعْ َنى بالتأثير النفسي‬

‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫قمت‬ ‫ذهبت إلى المحكمة‪،‬‬ ‫في السجين االنفراديّ ‪ ،‬وحين‬ ‫بسؤال المحامين عن الطريقة التي يمكن أن تتزوَّج بها فتاة‬

‫عن طريق القاضي‪.‬‬

‫أشياء كثيرة ترغمك الكتابة على أن تبحث فيها‪ ،‬أشياء لم‬

‫ً‬ ‫رواية‪ُ .‬عرفت بكتابة القصة القصيرة‪ ،‬لكن هذه القصة‬ ‫أكتبها‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫نفسها شعرت أنني ال أستطيع كتابتها قصة قصيرة‪ .‬بدأت‬

‫تبدو حقيقية؛ حدثت ووقعت‪ ،‬حتى لو كان منبعها خيالك؛‬

‫أسباب جعلتني أؤجل الموضوع‪ .‬حدث أن ذهبت في خريف‬

‫من حكايات سمعتها‪ ،‬أو تعرف أنها ممكنة الحدوث‪ ،‬ردود‬ ‫ً‬ ‫أيضا‪ -‬ردود أفعال بشرية‪ ،‬قام‬‫أفعال أبطالك يجب أن تكون‬

‫كتابة الرواية منذ مدة طويلة‪ ،‬كتبت عدة صفحات ثم أهملتها‪.‬‬ ‫الكسل‪ ،‬وعدم التفرغ‪ ،‬أو عدم أخذ أمر الكتابة بجدية؛ ُّ‬ ‫كلها‬ ‫عام ‪2009‬م إلى والية آيوا بأميركا؛ إذ دُعيت إلى حضور برنامج‬

‫تخطر ببالك‪ ،‬عليك أن تبحث بإخالص؛ ألن روايتك يجب أن‬ ‫خيالك يسلسل لك األحداث‪ ،‬لكن األحداث نفسها تستمدها‬

‫بها أشخاص في حاالت مشابهة؛ ُّ‬ ‫كل ذلك يجعل ما تقوله‬ ‫ً‬ ‫صادقا وحقيقيًّا‪.‬‬

‫العالمي‪ ،‬وهو برنامج من أرقى البرامج الثقافية على‬ ‫الكتابة‬ ‫ّ‬ ‫مستوى العالم؛ إذ يجتمع ُك َّتاب من كل دول العالم في‬

‫يبقى الموضوع‪ ،‬بعد الشرارة األولى‪ ،‬استمرارية الكتابة‬

‫ويلتقون الطالب في الجامعة‪ ،‬ويقرؤون أعمالهم على الناس‬

‫حب بسيطة‪،‬‬ ‫التعقيدات التي يم ّر بها المجتمع من أجل حكاية ّ‬

‫مكان واحد‪ ،‬ويعيشون بوصفهم كتابًا فقط مدة ثالثة أشهر‪،‬‬

‫في المكتبة العامة‪ ،‬ويتحاورون‪ .‬أعتقد أن هذا البرنامج كان‬ ‫له فضل كبير َ‬ ‫عل َّي؛ كي أدرك قيمتي وواجباتي بوصفي كاتبة‪،‬‬

‫قبل أن أشارك فيه كنت أقرأ عن ُ‬ ‫الك َّتاب الذين يُص ّرون على‬ ‫أهمية االلتزام بالكتابة بوصفها عملاً يوميًّا؛ كي تستطيع أن‬ ‫تنتج كِتابًا‪ ،‬لكني لم أج ّرب‪ ،‬أو لم أُومن بأهمية ذلك بشكل‬

‫تعتمد على شغفك بالموضوع‪ ،‬إحساسي أنا بكل هذه‬

‫إنساني‪ .‬ربما كانت ليلى ستترك أحمد‬ ‫قاس ومدمِّ ٌر وغير‬ ‫شيءٌ‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫لو تزوَّجته‪ ،‬وربما كانت مرام سترفض (سامي) لو تقدَّ م لها‪.‬‬

‫كان يجب أن تكون الحكاية بهذه البساطة‪ .‬لكنها صعبة جدًّ ا‬ ‫ومعقدة جدًّ ا في مجتمعاتنا؛ لهذا ّ‬ ‫تمكنت من كتابة رواية‬ ‫بهذه المأساوية‪.‬‬

‫‪149‬‬


‫فنون‬

‫‪150‬‬

‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬


‫أحمد القاسم‪:‬‬

‫هواية تصوير الطيور‬ ‫دفعتني إلى تعلم مهارة الصياد‬

‫ليس التصوير‪ ،‬للفوتوغرافي السعوديّ‬

‫أحمد القاسم‪ ،‬محض هواية تتطلب ضغط‬

‫زر اللتقاط الصورة‪ ،‬إنها أبعد من ذلك؛ إذ‬

‫كان عليه وهو يمارس فن تصوير الطيور‪،‬‬

‫الذي هو فرع من تصوير الطبيعة‪ ،‬أن يتعلم‬ ‫ً‬ ‫أيضا‪ -‬مهارة الصياد الذي يتر ّبص بطريدته‪،‬‬‫ويبتكر الزوايا والمداخل لصيدها‪.‬‬

‫الفيصل‬ ‫خاص‬

‫‪151‬‬


‫فنون‬

‫يقول القاسم لـ«الفيصل»‪« :‬إن الطيور تتميز بحذرها‬

‫الشديد عند االقتراب منها‪ ،‬والهروب المتواصل‪ ،‬إضافة‬ ‫ّ‬ ‫الحظ والصبر‬ ‫إلى صغر حجمها؛ مما يتطلب كثي ًرا من‬

‫ً‬ ‫أيضا‪ -‬تتميز معدات تصويرها‬‫والمحاولة»‪ .‬الطيور‬ ‫بالحجم والوزن الكبيرين والسعر المرتفع‪.‬‬

‫ومن األمور التي يتطلبها تصوير الطيور «االستيقاظ‬

‫المبكر‪ ،‬والذهاب إلى أماكن وجود الطيور‪ ،‬والبحث‬ ‫واالنتظار واالختباء والتمويه‪ ،‬كما أن العدسات الكبيرة‬ ‫ً‬ ‫وأحيانا شكوكهم»‪ .‬أمَّ ا أبرز التحديات‬ ‫تثير فضول الناس‬

‫التي تواجه القاسم والفوتوغرافيين‪ ،‬فهي عدم إلمام‬ ‫بعض الجهات بقوانين التصوير‪« ،‬فيجري المنع من‬ ‫ً‬ ‫أحيانا»‪ .‬على أن هواية التصوير‪ ،‬للقاسم‪،‬‬ ‫دون مسوّغ‬ ‫هي هواية دفعته إلى هوايات أخرى؛ مثل‪ :‬الرحالت‪،‬‬

‫والغوص‪ ،‬ومراقبة الطيور‪.‬‬

‫‪152‬‬

‫الفوتوغرافي‪ ،‬كما يقول القاسم‪،‬‬ ‫يواجه المصوّر‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫إضافة إلى مشكلة عدم اقتناء اآلخرين أعماله‪« ،‬مشكلة‬ ‫سهولة سرقة الصور‪ ،‬وادعائها من اآلخرين‪ ،‬وهو أمر‬

‫صعب الحدوث في الفنون التشكيلية األخرى»‪.‬‬

‫ولعل أبرز ما يلفت المتابعين ألعمال القاسم في‬

‫مواقع التواصل االجتماعي‪ ،‬هو أن هذه الصور التقطت‬

‫في السعودية وتحديدً ا في مدينة الرياض‪ ،‬بينما توحي‬

‫جودة الصور وتنوع الطيور وألوانها أنها في غابات‬ ‫أمازونية وحدائق أوربية‪.‬‬

‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬


‫‪153‬‬

‫المصور‬ ‫يواجه‬ ‫ِّ‬ ‫الفوتوغرافي‪ ،‬إضافة‬ ‫ّ‬ ‫إلى مشكلة عدم اقتناء‬ ‫اآلخرين أعمالَه‪ ،‬سهولة‬ ‫سرقة الصور وادعائها‬ ‫من اآلخرين‬


‫مسرح‬

‫ليست محض شهادة‬

‫فهد ردة الحارثي‬

‫‪154‬‬

‫كاتب مسرحي سعودي‬

‫ذات يوم في منتصف عام ‪1990‬م كنا‬ ‫في خِ َ‬ ‫ضمّ عروض مسرحية «يا رايح‬ ‫الوادي» حينما طلب مني الزمالء‬

‫مسرحي في‬ ‫مشاركتهم تقديم عرض‬ ‫ّ‬ ‫مهرجان الجنادرية‪ ،‬قبل أن يكون هناك‬

‫مسرحي؛ اتصلت باألستاذ‬ ‫مهرجان‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫مشرفا‬ ‫عبدالله الجار الله الذي كان‬ ‫على أنشطة المهرجان‪ ،‬وفي أثناء‬ ‫ّ‬ ‫يتحلقون بعضهم‬ ‫االتصال كان الزمالء‬

‫حول بعض في إحدى زوايا المسرح في‬ ‫حالة صمت مهيب‪ ،‬جرى االتصال ولم‬

‫تنجح المحاولة‪ ،‬فقد اعتذر الجارالله؛‬ ‫بسبب تأخرنا في التنسيق‪.‬‬

‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬


‫دخلت المسرح محاولاً نقل ما جرى في المحادثة‬ ‫الهاتفية‪ ،‬واستغرق األمر مني استطرادًا طويلاً في الحديث؛‬

‫الزهراني وإبراهيم عسيري وسامي الزهراني وجميل عسيري‬ ‫محل ًّيا وعرب ًّيا أكثر من مرة‪.‬‬

‫ألني كنت أعرف ما َتعْ نيه كلمة االعتذار لهم من إحباط‪ .‬لم‬ ‫أَ َكدْ أنتهي من جُ مْ لتي األخيرة حتى صرخ عبدالحكيم النور‬

‫وإبراهيم عسيري‪ ،‬وسامي الزهراني‪ ،‬ومساعد الزهراني‪،‬‬

‫يمكن أن يعرفك ما د َ‬ ‫ُمت تعمل مسرحً ا فحسب‪ ،‬وأكمل‬ ‫َ‬ ‫عبدالله الوجيه الناقص في تلك الجملة بأنه ي ِّ‬ ‫العودة‬ ‫ُفضل‬

‫والعربية‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫تصور غروتوفسكي‬

‫َ‬ ‫فائدة منه‪ ،‬وأن أحدً ا ال‬ ‫‪-‬رحمه الله‪ -‬مُ ع ِل ًنا أن المسرح ال‬

‫َ‬ ‫َ‬ ‫ونجحت لن يذكر أحد‬ ‫تعبت في المسرح‬ ‫إلى الموسيقا‪ :‬فمهما‬ ‫لك فضلاً ‪ ،‬وستبقى في مدينتك التي عملت بها ولن تخرج من‬ ‫إطارك الذي عملت فيه‪.‬‬

‫وكادت السبحة تنفرط لوال محاوالتي ‪-‬مع صديقي أحمد‬

‫األحمري‪ -‬ترميم ما يمكن ترميمه على وعد بالبحث عن عرض‬

‫المسرحية في مدينة أخرى قريبًا‪.‬‬

‫ونحن اآلن في بدايات عام ‪2016‬م؛ اعتذرنا العام الماضي‬

‫عن عدم المشاركة في سبعة مهرجانات مسرحية عربية‬ ‫ودولية وجّ هت الدعوة إلينا للمشاركة فيها؛ ألننا لم نجد‬

‫الدعم الكافي‪ ،‬ولم نجد الوقت للمشاركة‪.‬‬ ‫مشاركة واسعة‬

‫وشاركت الزمالء‪ :‬أحمد األحمري‪ ،‬وعبدالعزيز عسيري‪،‬‬

‫وجمعان الذويبي في تحكيم كثير من المهرجانات المحلية‬

‫إنه فارق كبير بين المرحلتين؛ مرحلة البناء في البدايات‬

‫الشاقة‪ ،‬ومرحلة ما نحن فيه اآلن‪ ،‬يقودها طريق طويل من‬ ‫العمل الجا ّد المكثف في ‪ 27‬عامً ا‪.‬‬ ‫أتذ ّكر في بداياتنا المسرحية كيف كان الحديث يدور عن‬ ‫المسرحي بالمسرح الفقير‪ ،‬وفي تصوُّري‬ ‫ارتباط ورش العمل‬ ‫ّ‬

‫المسرحي بالطائف ال يخرج عن تصوُّر‬ ‫أن ما تؤ ِّديه ورشة العمل‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫غروتوفسكي حينما قال‪ :‬يأتي أناس ال يرتاحون ألوضاع معينة‬

‫في المسرح االعتياديّ ‪ ،‬فيأخذون على عاتقهم خلق مسارح‬ ‫فقيرة تضمّ ممثلين قليلين «مجموعة المسرح الصغير»‪،‬‬

‫ويقومون بتحويل المسارح إلى معاهد لتثقيف الممثلين‪ ،‬أو‬

‫يأتي هواة يعملون على هامش المسرح المحترف‪ ،‬وبجهودهم‬ ‫الخاصة يحققون مستوى تقن ًّيا أرقى بكثير مما يتطلبه المسرح‬

‫نحن اآلن نقف على ّ‬ ‫تل من المشاركات في المهرجانات‬

‫السائد‪ ،‬وهم باختصار عدد قليل من المجانين الذين ال‬ ‫يملكون ما ي َ‬ ‫َخشوْنَ فقدانه‪ ،‬وال يخافون العمل المرهق‪.‬‬

‫عروضها في ‪ 12‬مدينة سعودية‪ ،‬و‪ 33‬مدينة عربية‪ ،‬ولدينا‬

‫فقد كنا نرفض شكل المسرح التقليديّ الذي كان سائدً ا‬

‫الداخلية والخارجية يفوق تعدادها المئة‪ ،‬ولدينا ما يتجاوز‬

‫‪ 70‬جائزة مسرحية‪ ،‬ولدينا أعمال تتجاوز ‪ 50‬مسرحية‪ ،‬قدّ مت‬ ‫قاعة مسرح جيدة كانت ملعبًا لكرة السلة‪ ،‬وجرى تجهيزها‬ ‫بشكل مقبول؛ لتقدم عروضنا المسرحية عليها‪ ،‬وجرى‬ ‫تكريمي والزمالء أحمد األحمري وعبدالعزيز عسيري ومساعد‬

‫بعد يأس عشناه عام ‪1990‬م‪ ،‬اعتذرنا‬ ‫العام الماضي عن عدم المشاركة‬ ‫في سبعة مهرجانات مسرحية‬ ‫وجهت الدعوة إلينا‬ ‫عربية ودولية‪ّ ،‬‬ ‫للمشاركة فيها؛ ألننا لم نجد الدعم‬ ‫الكافي‪ ،‬ولم نجد الوقت للمشاركة‬

‫المسرحي بالطائف‪،‬‬ ‫هذا ما حدث لنا في ورشة العمل‬ ‫ّ‬

‫مسرحي صغير من‬ ‫في تلك الحقبة‪ ،‬وكنا نعتمد على إرث‬ ‫ّ‬ ‫العروض التي رفضت الشكل التقليديّ ‪.‬‬ ‫الملحمي عند بريخت واضحً ا في‬ ‫لقد ظهر الشكل‬ ‫ّ‬

‫‪155‬‬


‫مسرح‬

‫َدَت الصورة تختلف تدريجيًّا‪،‬‬ ‫مسرحية «يا رايح الوادي»‪ ،‬ثم ب ِ‬

‫فحينما عرضت مسرحية «النبع» عام ‪ 1414‬اعتمدنا على‬ ‫جسد بيت‬ ‫تفقير الديكور‪ ،‬واالعتماد على سُ لمين‪ ،‬وخلفية ُت ّ‬

‫العنكبوت وبكرة‪ ،‬وقد اعتمدنا في هذا العمل على حركة‬ ‫ً‬ ‫انطالقا من مفهومين‬ ‫الممثل وتشكيالت المجاميع الجمالية‪،‬‬

‫حول ملحمية بريخت ومسرح الصورة‪ ،‬إضافة إلى استخدام‬ ‫تداخالت من مسرح الحكواتي ومسرح القسوة‪.‬‬ ‫المسرح الفقير‬

‫أعتقد أن هذه المسرحية كانت هي بداية تفكيرنا في‬

‫المسرح الفقير‪ ،‬فقد اعتمدنا تفقير الديكور واألزياء وإلغاء‬

‫المكياج‪ ،‬واالعتماد المحدود على اإلضاءة‪ ،‬وما لبث األمر‬

‫أن تطوَّر بعد اكتشافنا جمالية هذا المنهج ونجاح عروضه‪،‬‬

‫فجاءت مسرحية «البابور» عام ‪1415‬هـ؛ إذ ألغينا جميع‬

‫قطع الديكور تمامً ا‪ ،‬وتجاهلنا الكواليس‪ ،‬واعتمدنا على‬

‫‪156‬‬

‫تطوير الفكر والخيال‬ ‫أصبح إلهمال المكياج‪ ،‬وإلغاء الديكور‪ ،‬وبساطة‬

‫األزياء وتفقيرها‪ ،‬وعدم االعتماد على اإلضاءة؛ تفسير‬

‫منطقي لدينا‪ ،‬وتحوَّلت التدريبات البدنية التي كان‬ ‫ّ‬ ‫الهدف منها زيادة معدالت اللياقة البدنية والقدرة‬

‫العضلية‪ ،‬التي كانت تحتاج إليها حركة المجاميع؛‬

‫إلى تدريبات معملية‪ ،‬تهدف إلى تطوير الفكر والخيال‪،‬‬ ‫وإعداد الممثل بشكل يزيده ُق ً‬ ‫درة ذهنية وحركية‪،‬‬ ‫اً‬ ‫المسرحي؛ لذلك كنا نجد‬ ‫تفاعل مع العمل‬ ‫ويزيده‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تصب فورًا داخل عرضنا‬ ‫المسرحي‬ ‫تدريبات المعمل‬ ‫ّ‬

‫المسرحي من دون ترتيب سابق‪.‬‬ ‫ّ‬

‫مضت األمور بعدها في تجارب كثيرة‪ ،‬وغوايات‬ ‫مسرحية ال تنتهي ً‬ ‫أبدا؛ نحن نلعب‪ ،‬نعمل‪ ،‬نجتهد‪،‬‬

‫نقدم‪ ،‬ثم نمضي إلى رسم طريق من النجاحات القائمة‬ ‫على فعل مشروع جا ّد يتنفس مسرحً ا‪.‬‬

‫تل من المشاركات في‬ ‫نقف على ّ‬ ‫المهرجانات الداخلية والخارجية يفوق‬ ‫تعدادها المئة‪ ،‬ولدينا ما يتجاوز ‪70‬‬ ‫جائزة مسرحية‪ ،‬ولدينا أعمال تتجاوز‬ ‫قدمت عروضها في ‪12‬‬ ‫‪ 50‬مسرحية‪ّ ،‬‬ ‫مدينة سعودية‪ ،‬و‪ 33‬مدينة عربية‬

‫خلفية فقط‪ُ ،‬تمثل دوامة بها بقايا إنسان‪ ،‬وكان لحركة‬

‫الممثل ولتناسق حركة المجاميع دور كبير في استغالل‬

‫فراغ المسرحية‪ .‬على أن األمر تطوَّر بعد ذلك كثي ًرا بوساطة‬ ‫جلسات القراءة الحرة والمنفردة‪ ،‬وأوراق العمل الجماعية‪،‬‬ ‫والمشاهدة والمناقشة‪ ،‬التي َخ َ‬ ‫ص ْ‬ ‫صناها بوقت كبير ضمن‬

‫ت‬ ‫برامج الورشة المسرحية‪ ،‬فبدأت اآلفاق تتسع‪ ،‬وجَ َر ِ‬

‫المسرحي عرب ًّيا بوساطة القراءة‬ ‫االستفادة من تجارب العمل‬ ‫ّ‬ ‫واالطالع والمشاهدة‪ ،‬فاخ ُتصرت المسافات‪ ،‬واخ ُتزلت‬

‫التجارب‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وأصبح من الضروري أن نضع لنا منهجً ا علم ًيا نسير‬ ‫و َْف َقه‪ ،‬ومن َثمَّ تحديد أهداف فنية نتطلع إليها‪ ،‬وإجراء‬ ‫المسرحي المفيدة ّ‬ ‫ت االستعانة‬ ‫تدريبات المعمل‬ ‫جدً ا لنا‪ ،‬فجَ َر ِ‬ ‫ّ‬

‫واالستفادة من كل ما وقع تحت أيدينا من منهج إعداد الممثل‬

‫عند ستانسالفسكي‪ ،‬وتشيكوف‪ ،‬وسوينامور‪ .‬وأصبحت‬ ‫العملية تأخذ شكل الجدية‪ ،‬ولم يعد هاجسنا البحث عن‬

‫إطارات وقوالب جاهزة للملحمية‪ ،‬أو العبثية‪ ،‬أو ممارسات‬ ‫االحتفالي‪ ،‬أو‬ ‫لمسرح القسوة‪ ،‬أو االنطالق إلى أجواء المسرح‬ ‫ّ‬

‫تراثي من الحكواتي‪.‬‬ ‫تجسيد شكل‬ ‫ّ‬ ‫قد تكون شهادتي هنا مبتورة من لوحات كثيرة؛ كل لوحة‬ ‫ُتقدّ م فعلها‪ ،‬لكنها تؤ ّكد أن المسرح مشروع‪ ،‬وطريق النجاح‬ ‫يبدأ بالمشروع أولاً ‪.‬‬ ‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬


‫إعالم‬

‫عـام في «الثقـافيـة»‬ ‫قليلة هي المراكز اإلدارية التي مررت بها في تجربتي‬ ‫اإلعالمية التي أكملت ‪ 30‬عامً ا‪ ،‬وفي هذه األيام أُكمِ ل ( عامً ا‬

‫واحدً ا) في منصبي األخير (المشرف العام على القناة الثقافية)‪،‬‬

‫أحب وأعشق (من دون تخطيط‬ ‫وقد وجدت نفسي أخي ًرا حيث‬ ‫ُّ‬

‫مني) وسط المثقفين واألدباء والمفكرين والكتاب مرة واحدة‪.‬‬

‫وقد قررت في إدارة القناة أن أواجه أسئلة برؤية واضحة؛‬

‫منها‪ :‬هل القناة الثقافية خاصة بالمثقفين فقط؟ يبدو األمر كذلك‬ ‫لمَن لم ي ّتصل بالميدان‪ ،‬أو يقرأ الكتاب من عنوانه كما يقال‪ ،‬أو‬

‫يرى الثقافة مفصولة عن حياة الناس‪ ،‬وحقيقة الحال أننا إزاء‬ ‫إشكاليات تتعلق بتعريف الثقافة والمثقف وتفكيك المصطلح‪،‬‬

‫فكيف بتصنيف قناة تلفزيونية؟ وخارطة بث القناة تفصح بجالء‬

‫عن عناية القناة بكل مشاهديها على مختلف فئاتهم‪ :‬ربات األسر‪.‬‬ ‫الشباب‪ .‬المبادرات المجتمعية‪ .‬األخبار الثقافية واألدبية والفنية‪،‬‬

‫ً‬ ‫حصصا للمسميات الثقافية‬ ‫وغيرها‪ .‬والقناة في الوقت ذاته تمنح‬

‫عبدالعزيز العيد‬ ‫المشرف العام على قناة «الثقافية» السعودية‬

‫أكثر الشهور تفاعلاً ‪ ،‬أما أكثر التغريدات تداولاً فكانت حول‬

‫الثقافي‪ .‬كتب مهداة‪ ...‬إلى غير‬ ‫المباشرة‪ :‬الثقافة اليوم‪ .‬الشارع‬ ‫ّ‬

‫الهاشتاغات «‪ #‬ماذا ‪ -‬يريد ‪ -‬المشاهد ‪ -‬من ‪ -‬القناة – الثقافية»‪،‬‬

‫عاديون يتابعوننا مثلما يشاهدون القنوات األخرى‪.‬‬ ‫طالما هي كذلك‪ :‬فلماذا لم َت ِص ْل إلى الناس على نحو‬

‫بزيادة مطردة ومتابعة جيدة لموا ّد القناة وبرامجها‪ ،‬ووصل‬

‫هل القناة تنتظر المتابعين؟ أم تذهب إليهم؟ مِن واقع‬

‫وفي الفيسبوك‪ ،‬وصل اإلعجاب بصفحة القناة على‬

‫ذلك‪ .‬هذا يَعْ ني أن مشاهدينا مهتمون بالثقافة‪ ،‬وأن آخرين‬

‫أوسع‪ ،‬بل إن بعضهم لم يشاهدها قط؟!‬

‫تجربتي وقناعتي أن القناة يجب أن تقوم بتسويق برامجها‬

‫واإلعالن عن نفسها بالشكل المالئم‪ ،‬ومن مسؤوليتها أن تالحق‬ ‫اهتمامات الناس وأذواقهم‪ ،‬وتسعى لتحقيق أكبر نسبة من الرضا‬ ‫طالما يأتي هذا في سياق العالقة التي يجب أن تكون في أوثق‬

‫ُرسل والمستقبل؛ الطرفين الرئيسي ِْن في العملية‬ ‫ُع َراها بين الم ِ‬ ‫ْ‬ ‫فعَّ‬ ‫االجتماعي‪:‬‬ ‫التواصلية‪ ،‬وفي هذا السبيل لنا وسائل التواصل‬ ‫ّ‬

‫تويتر‪ .‬فيسبوك‪ .‬موقع القناة على الشبكة العنكبوتية‪ .‬تحميل‬

‫و«‪ #‬ليالي – البجيري»‪ ،‬و«‪ #‬القناة – الثقافية»‪ .‬وفي اليوتيوب‪:‬‬ ‫بلغ تعداد المشتركين في القناة عام ‪2015‬م نحو (‪ )8016‬مشتر ًكا‬ ‫تعداد المشاهدات إلى (‪ 55,673832‬دقيقة مشاهدة)‪.‬‬

‫اإللكتروني وصل عدد‬ ‫الفيسبوك إلى (‪ )5687‬إعجابًا‪ .‬وفي الموقع‬ ‫ّ‬ ‫اإللكتروني للقناة إلى (‪ )117,591,976‬زائ ًرا‪.‬‬ ‫زوّار الموقع‬ ‫ّ‬

‫يظن كثيرون أن الشباب ال يتابع القناة بشكل مقنع وهذه‬ ‫حقيقة ال ننكرها؛ لعدم وجود برامج ُتع َنى بهم بشكل مباشر‪،‬‬ ‫وقد خضنا في القناة الثقافية تجربة جديدة لدعم الشباب‪،‬‬ ‫وهي تخصيص ‪ 3‬أيام في األسبوع لعرض أفالم قصيرة من إنتاج‬ ‫الشباب‪ ،‬وقد قدمنا حتى اآلن ‪ 61‬فيلمً ا خالل ‪ 7‬أشهر من بدء‬

‫التجربة‪ ،‬وأسهمت معنا جمعية المنتجين السعوديين فرع‬

‫ً‬ ‫وارتفاعا‬ ‫البرامج والفقرات على اليوتيوب‪ ،‬ولمسنا تجاوبًا كبي ًرا‬ ‫ً‬ ‫في تعداد المتابعين عبر هذه الوسائل‪ .‬وأطلقت القناة –أيضا‪-‬‬

‫األحساء بـ( ‪ 41‬فيلمً ا)‪ ،‬والبقية من الرياض وجدة‪ ،‬وموعودون‬

‫القناة – الثقافية» و«‪ #‬سيد – البيد» في ِّ‬ ‫الذكرى الخامسة لرحيل‬

‫الدولي للكتاب‪،‬‬ ‫الدولي للكتاب‪ ،‬ومعرض جدة‬ ‫الرياض‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ومهرجان األفالم القصيرة الثاني في الدمام‪ ،‬ومهرجان األفالم‬

‫وسومً ا عدة «هاشتاغات»‪ ،‬ومن أبرزها «‪ #‬سلمان _ وأمان»‬ ‫في الذكرى ُ‬ ‫األولى للبيعة‪ ،‬و «‪ #‬ماذا ‪ -‬يريد ‪ -‬المشاهد ‪ -‬من ‪-‬‬

‫باألفضل‪ .‬ودخول القناة الثقافية راعية إعالمية في معرض‬

‫في جدة‪ ،‬وكذلك فعاليات جدة التاريخية وبعض النشاطات‬

‫الشاعر محمد الثبيتي ‪-‬رحمه الله‪ -‬و«‪ #‬حتى _ تبقى»؛ لمحاربة‬ ‫ظاهرة اإلسراف في الحياة االجتماعية‪ .‬وأعرض ً‬ ‫بعضا من بيانات‬

‫الثقافية‪ ،‬والجوائز الثقافية؛ مثل‪ :‬جائزة السنوسي في جازان‪،‬‬

‫بلغ تعداد المتابعين في بداية عام ‪2015‬م (‪ )3458‬متابعً ا‪،‬‬

‫في المستقبل من االقتراب من الناس بشكل أكبر‪ ،‬وهذا هدف‬

‫االجتماعي للقناة‪ ،‬ففي تويتر‪:‬‬ ‫وسائل التواصل‬ ‫ّ‬

‫وفي نهاية العام ارتفع إلى (‪ )7152‬متابعً ا‪ ،‬وكان شهر يوليو‬

‫والمهرجانات؛ مثل‪ :‬الجنادرية‪ ،‬وسوق عكاظ‪ ،‬وهذا سيمكننا‬ ‫كل وسيلة إعالمية تنشد النجاح‪.‬‬

‫‪157‬‬


‫فنون‬

‫تشكيلي سعودي مهموم بـ«اآلخر»‬ ‫ّ‬ ‫واستلهام عناصره من الواقع‬

‫زمان جاسم‪:‬‬ ‫عالقتي بالفن‬ ‫في توتر دائم‬ ‫الفيصل‬ ‫خاص‬

‫‪158‬‬

‫تصنعان بالمعية نهرًا‪،‬‬ ‫«كأنا ضفتان‬ ‫ِ‬ ‫كجُ غرافيا واحدة‪ ،‬نحياها متالصقين‪،‬‬

‫مسالمين‪ ،‬فال البح ُر في كلينا‬ ‫يعادي َبرًّا‪ ،‬وال الب ُّر في كلينا يعادي‬ ‫ّ‬ ‫المكثفة‬ ‫بحرًا»‪ ،‬بهذه العبارة‬ ‫السعوديّ‬

‫التشكيلي‬ ‫يلخص‬ ‫ّ‬ ‫رؤيته لـ«اآلخر»‪ .‬و«اآلخر» مشروع‬

‫يستلهم زمان عناصره من الواقع‬ ‫َ‬ ‫الم ِعيش في حياتنا الحديثة‪،‬‬

‫ً‬ ‫ازدحاما‬ ‫الواقع الذي أصبح أكثر‬

‫بالمعرفة والمعلومة حتى الوصول‬ ‫إلى‬

‫حد‬

‫التشويش‬

‫واالرتباك‪،‬‬

‫والشتات بين الحقيقة والتزوير‪ ،‬وبين‬

‫كل شيء محمود ومذموم‪ ،‬حتى بتنا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مخيفة داخلنا حول ما يحدث‬ ‫عزلة‬ ‫نعيش‬

‫اآلن‪ ،‬وما سوف يحدث ً‬ ‫غدا في هذه األرض‪.‬‬

‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬


159


‫فنون‬

‫قاد الولع بالتشكيل زمان جاسم إلى الذهاب بعيدً ا في‬

‫المغامرة تلو المغامرة‪ .‬زمان الذي فضل التقاعد باك ًرا (من‬

‫الثقافية كاملة‪ ،‬فمن هذه القنوات التي أعدُّ ها طبيعية عززت‬ ‫تجربتي خارج البالد ً‬ ‫ً‬ ‫فرصا متعددة أخرى‬ ‫أيضا؛ مما أتاح لي‬

‫بمعهد التربية الفنية بالرياض‪ ،‬حيث تخصص وصقل‬

‫عالقة بمؤسسات الدولة المعنية بالثقافة‪ ،‬إنما هي مستقلة‬

‫مواليد ‪1971‬م) ليتف ّرغ للفن‪ ،‬ويوجد حاليًا في كل مكان‪،‬‬ ‫بحسب تعبيره‪ .‬تبلور ولعه بالفنون البصرية‪ ،‬عندما ْال َتحَ ق‬

‫ّ‬ ‫لتلقي الدعوات الفردية المباشرة‪ ،‬التي ليس لها‬ ‫خارجية؛‬

‫احترافي‪.‬‬ ‫موهبته‪ ،‬ثم ولج إلى مضمار الفنّ في شكل‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬ ‫بالفنّ‬ ‫في توتر دائم‬ ‫يقول زمان جاسم‪« :‬عالقتي‬

‫فني محض‪ ،‬وتسعى إلتاحة‬ ‫وتتعامل مع الفنان كمشروع‬ ‫ّ‬ ‫الفرص لعرض تجارب فنون وثقافات مختلفة»‪.‬‬

‫ومشاحنة»‪ ،‬ويضيف‪« :‬بين ما أعيشه داخلي وبين ما يكون‬

‫منتجً ا فنيًّا‪ .‬هذه المشاحنة المتوترة ضرورية جدًّ ا لي؛ لخلق‬

‫من أهم مشاركاته الخارجية إقامته معرضين فرديين‬

‫في باريس عامي (‪2007 -2004‬م)‪ ،‬ومعارض أقيمت في دول‬

‫الخليج؛ مثل‪ :‬معرض «اآلخر» الذي أقيم في مدينة دبي عام‬

‫الفني»‪.‬‬ ‫عالقة حميميَّة في نهاية المطاف بيني وبين العمل‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫تشكلت لدى زمان قناعة بأن يكون متمردًا دومً ا‪ ،‬ال على‬

‫‪2012‬م‪ .‬ومن المشاريع الخاصة دعوته إلى المشاركة في مشروع‬

‫فكرة أن كل شيء مألوف يُعَ دّ منتهي الصالحية؛ لذلك أستمتع‬

‫الفن الحديث في مدينة شنغهاي بالصين عام ‪2010‬م‪ .‬وأخي ًرا‬

‫المتذوّق‪ ،‬وال على الفنانين اآلخرين‪ ،‬بل على الفنّ‬ ‫التشكيلي‬ ‫ّ‬ ‫نفسه‪ ،‬أو باألحرى على العمل الذي سأنجزه‪ ،‬ودائمً ا تراودني‬ ‫بحالة البحث عن شيء مجهول‪ ،‬وهو أشبه برحلة صيد ال أعلم‬ ‫ما يخفيه َ‬ ‫القدَ ُر لي‪ ،‬لكن أعتمد فيه على الخبرات‪ ،‬والمخزون‬

‫الفني الذي أمتلكه»‪.‬‬ ‫ّ‬

‫يُعَ دّ زمان جاسم أحد الفنانين القالئل الذين يملكون‬

‫‪160‬‬

‫ّ‬ ‫تتسلم اآلن وزارة الثقافة واإلعالم األنشطة‬ ‫الخارجية‪ ،‬قبل أن‬

‫مشاركات واسعة داخل السعودية وخارجها‪ ،‬فهو بدأ تح ُّركه‬ ‫الخارجي بشكل فرديّ ‪ ،‬من خالل التسجيل في جمعيات‬ ‫ّ‬ ‫الخليجي‪« ،‬ومشاركتي في معارضها‪ ،‬وبالتوازي كان‬ ‫التشكيل‬ ‫ّ‬ ‫لرعاية الشباب في السعودية دور كبير في الفعاليات الثقافية‬

‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬

‫التشكيلي السعوديّ الوحيد في هذا‬ ‫«الدببة» في برلين‪ ،‬وكان‬ ‫ّ‬ ‫المشروع‪ ،‬وتجربة «خامس المواسم» التي ُعرضت في متحف‬

‫كان لتجربة معرضه «اآلخر» الذي أقيم في مدينة دبي كما‬ ‫يقول‪« :‬أهمية كبيرة لي؛ لما لهذه التجربة من خصوصية‬

‫دائما تراودني فكرة أن كل شيء‬ ‫ً‬ ‫مألوف ُي َع ّد منتهي الصالحية؛ لذلك‬ ‫أستمتع بحالة البحث عن شيء مجهول‬


‫زمان جاسم‪ :‬عالقتي بالفن في توتر دائم‬

‫معرضي «اآلخر» يحظى بأهمية كبيرة‬ ‫لي؛ لما لهذه التجربة من خصوصية‬ ‫وثانيا لتناولها قضايا االختالفات‬ ‫أولاً ‪،‬‬ ‫ً‬ ‫المتنوعة بين شعوب العالم‬ ‫أولاً ‪ ،‬وتناولها قضايا االختالفات المتنوعة بين شعوب العالم‪،‬‬

‫وهو مشروع محبة وسالم‪ ،‬تناولت فيه فكرة (طبق الستاليت)‬ ‫ً‬ ‫كثير‪– ‬أيضا‪ -‬من المشاريع المهمة في دول‬ ‫فني‪ .‬وهناك‬ ‫كعمل ّ‬ ‫عربية وأوربية وآسيوية»‪.‬‬

‫يرى زمان أن الفنَّ مثل بقية العلوم؛ ال يمكن أن يتطوّر‬ ‫ويتحرك من دون ّ‬ ‫اطالع ومعرفة؛ «لذلك كان السعي الدائم‪،‬‬

‫والبحث عمّ ا ّ‬ ‫يغذي ذاكرتنا البصرية والفكرية والوجدانية وكل‬ ‫الحواس مهمة جدًّ ا في أي مجال إال أن من المهم أن يضع‬ ‫ّ‬ ‫الفنان في اعتباره أن عملية الجمال وحدها ال تكفي‪ ،‬إذا لم‬

‫الفني؛ لذلك أحاول من خالل‬ ‫يكن للهوية مكان في نتاجنا‬ ‫ّ‬ ‫تجاربي أن أوصل هذا الجانب؛ كي ال تغترب الهوية‪ ،‬وتصير‬ ‫محض تجربة عابرة»‪.‬‬

‫يقر زمان جاسم بأن مشاكل الفنّ متعددة ومتنوعة؛‬

‫منها‪« :‬مشاكل بين الفنان ونفسه‪ ،‬وبين الفنان والمحيط‬ ‫الخارجي‪ .‬فمثلاً يواجه الفنانون والفنانات كثي ًرا من المفاهيم‬ ‫ّ‬ ‫الفنّ‬ ‫احترافي‪ ،‬سواء على‬ ‫بشكل‬ ‫مع‬ ‫التعامل‬ ‫في‬ ‫الخاطئة‬ ‫ّ‬

‫الفني‪...‬‬ ‫الفني أم على مستوى إدارة العمل‬ ‫مستوى اإلنجاز‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الفنّ لم يجد حتى اآلن المكان اآلمن كبيئة أساسية ضمن‬ ‫منظومة الحياة االجتماعية المعروفة مثل أي مجال آخر‬

‫مرتبط بحياة اإلنسان واحتياجاته»‪.‬‬

‫‪161‬‬


‫مقال‬

‫روائح بيروت‬ ‫لألمكنة‪ّ ،‬‬ ‫كل األمكنة‪ ،‬روائح‪ .‬وليس جديدً ا‪ ،‬ال في الحياة وال في األدب‪ ،‬أن نستذكر وجوهً ا وحاالت تمُ ُّ‬ ‫ت إلى ماضينا البعيد‪،‬‬ ‫من خالل روائح نبّهتنا مصادفات عابرة إلى ّأننا ال نزال نحملها فينا‪ .‬لكنْ إذا كانت القرى واألرياف تزخر بروائح طبيعيّة يقول‬

‫األطبّاء‪ّ :‬إنها مفيدة للصدر وللتنفس‪ ،‬وربما ألعضاء أخرى في الجسد ولوظائف أخرى‪ ،‬فإنّ المدن تطالعنا بنوع آخر من الروائح‪.‬‬

‫الصناعي‪ ،‬بما فيه الصادر عن اهتالك اآلالت القديمة؛ لتضعنا أمام نتائج يصعب وصفها‬ ‫فهنا‪ ،‬تتجاور النفايات الملوّثة والتلويث‬ ‫ّ‬ ‫بالصحية أو بالنفع‪.‬‬

‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تحل‬ ‫المنغصات جميعً ا‪ ،‬فأنا منحاز بقوّة إلى العيش في المدن‪ .‬فالروائح الطيّبة في القرى ال تستطيع أن‬ ‫على الرغم من هذه‬ ‫ّ‬ ‫محل البشر الذين يندر وجودهم هناك‪.‬‬ ‫أمّ ا الروائح السيّئة في المدن‪ ،‬فال تحجب ع ّنا حيويّتها‪ ،‬وحركة البشر واألفكار التي تضجّ بها‪ .‬وانحيازي إلى المدينة هو ما‬ ‫ّ‬ ‫جعل صديقي حسن ي ّتهمني ّ‬ ‫يتخلص‬ ‫بأنني أسعى لـ«خراب بيته»‪ :‬فهو يملك منزلاً جميلاً في الريف‪ ،‬إلاَّ أنّ إلحاحي على ضرورة أن‬

‫شتر‪ ،‬حتى لو دفع له ما ّ‬ ‫يقل عن السعر‬ ‫منه ويشتري بي ًتا في المدينة‪ ،‬وحرصه على استمرار صداقتنا‪ ،‬جعاله يبحث عن أيّ مُ ٍ‬ ‫ت َ‬ ‫َ‬ ‫حاله أغنيةُ‬ ‫بالغت بيروت في امتحان قدرتي على التحمّ ل‪ ،‬كما لو ّأنني «العاشق الوحيد» الذي رَث ْ‬ ‫ْ‬ ‫العادل للبيت‪ .‬على أيّ حال‪،‬‬

‫‪162‬‬

‫محمد عبدالوهاب المشهورة‪.‬‬ ‫حرب السنتين‬

‫والشرقي‪ ،‬اللذين اكتسبا تسميتهما هاتين إبّان «حرب السنتين» في منتصف السبعينيات‪،‬‬ ‫الغربي‬ ‫أقمت في شطري بيروت‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫فانطوى ّ‬ ‫حب صاحبها لبيروت‬ ‫طائفي وداللة سياسيّة معيّنين‪ .‬واإلقامة في الشطرين معً ا ال تنمّ عن‬ ‫كل منهما على معنى‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫الطائفي الضيّق‪.‬‬ ‫فحسب‪ ،‬إنما هي في نظر كثيرين تعبير عن وطنيّة متعالية على الهوى‬ ‫ّ‬

‫لكنّ ما حصل لي ال يشجّ ع مُ حبّي المدن مثلما ال يشجّ ع مُ حبّي األوطان‪ .‬ففي األشرفيّة‪ ،‬الواقعة في الشرق‪ ،‬اخترت ّ‬ ‫(شقة) في‬ ‫ّ‬ ‫األرضي‪.‬‬ ‫الحظ اكتشفت بعد االنتقال إليها أنّ هناك مصبغة تقيم تحتها في الطابق‬ ‫الطابق األوّل من البناية‪ .‬ولسوء‬ ‫ّ‬

‫وحين تقال كلمة «مصبغة»‪ ،‬في هذا السياق‪ ،‬ال يكون المقصود فعل التنظيف بل فعل التوسيخ؛ ذلك أنّ الروائح الكيماويّة‬ ‫التي كانت تنبعث منها كانت تتجاوز توسيخ بيتنا إلى توسيخ صدورنا‪ .‬وهي معضلة دائمة ال ّ‬ ‫يخففها تحوّل الطقس وتغيّراته‪ :‬فإذا‬ ‫ً‬ ‫عاصفة‪ ،‬وإذا انحبس الهواء واضطررنا إلى فتح األبواب ك ّنا مثل مَ ن يفتح ذراعيه لمالقاة‬ ‫هب علينا الهواء هبّت هذه الروائح معه قوي ًّة‬ ‫ّ‬

‫هذه الرائحة اللئيمة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫وكنت أقول‪ :‬إنّ الروائح الكيماويّة أسوأ من الروائح الطبيعيّة‪ ،‬ليس لأِ نها أكثر إضرارًا بالصحّ ة فحسب‪ ،‬إنما ألنها ‪-‬أيضا‪-‬‬ ‫ّ‬ ‫التعقل والفهم‪ ،‬إضافة إلى كونها غير مألوفة نهائيًّا‪ .‬وأذكر ّأنني قرأت ذات م ّرة مقالاً ألحد عتاة «البيئويّين» بهذا‬ ‫أصعب على‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫وأحيانا‪ ،‬وفي محاولة م ّني‬ ‫مستخلصا أنّ الرأسماليّة الصناعية لن يهدأ لها بال قبل أن تودي بنا جميعً ا إلى التهلكة‪.‬‬ ‫المعنى‪،‬‬ ‫لاَّ‬ ‫ُ‬ ‫طبيعي‪ ،‬وأولئك «البيئويّون» المتط ّرفون هم كمن يطالبنا بأ نأكل كي ال نضط ّر‬ ‫للتحايل على مأساتي‪ ،‬كنت أقول لنفسي‪ :‬هذا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫إلى دخول بيت الخالء‪ .‬لك ّنني ال ألبث أن أتذ ّكر أنّ األمور عندنا ليست على هذا النحو البتة‪ .‬فنحن في بلد مثل لبنان‪ ،‬إنما نحصد‬ ‫التلوّث من دون أن نجني أفضال الصناعة‪ ،‬إذ يقتصر أمر «تقدّ منا» على تنظيف بعض القمصان والسترات لزبائن المصبغة!‬

‫أفكار بالغة العداء‬ ‫الغربي من العاصمة‪ ،‬بدأت‪ ،‬لسبب آخر‪ ،‬أعيد النظر إلى تلك األفكار‬ ‫بيد ّأنني حين انتقلت إلى منطقة الحمرا‪ ،‬في الشطر‬ ‫ّ‬ ‫البالغة العداء للروائح الكيماويّة‪ .‬فهنا وقعت على ّ‬ ‫حي بالغ الحيويّة ال تفارقه الحركة ليلاً أو نهارًا‪ .‬فوق هذا‪،‬‬ ‫شقة لطيفة في ّ‬ ‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬


‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫نائية بنفسها عن‬ ‫الشقة الجديدة الطابق الخامس من البناية‪،‬‬ ‫تحتل‬ ‫ً‬ ‫–أيضا‪ -‬شديدة‬ ‫الموبقات التي قد تأتي من الطريق العامّ وجَ َلبته‪ .‬وهي‬

‫التع ّرض إلى الضوء الذي يكاد ينفجر فيها انفجارًا؛ ألنّ فجوات عمرانيّة‬

‫واسعة تحيط بها‪ ،‬وهذا ما تزداد ندرته في بيروت التي نكاد ال نرى‬ ‫سماءها؛ بسبب المباني الشاهقة المتكاثرة‪.‬‬

‫لكن المشكلة تكمن بالضبط هنا‪ .‬فالطبيعة ال تمنحنا الشمس‬ ‫ً‬ ‫تهب علينا بين‬ ‫–أيضا‪ -‬رائحة (المجارير) التي‬ ‫فحسب‪ ،‬إنما تمنحنا‬ ‫ّ‬ ‫لاً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫فينة وأخرى هبوبًا ساحقا ماحقا‪ ،‬وإن كان ال يدوم طوي ‪ .‬وال بدّ أنّ‬

‫األمر الكريه هذا ناشئ عن فساد البنى التحتيّة التي لم ُتجدّ د على نحو‬

‫صاغية‬ ‫حازم‬ ‫ّ‬ ‫كاتب لبناني‬

‫يجعلها تواكب التحوّالت السكانية وحاجاتها المتعاظمة‪ .‬ولربّما زاد‬ ‫ّ‬ ‫مؤخ ًرا من حيث عجزه عن جمع‬ ‫في تفاقم المشكلة ما ُعرف به لبنان‬ ‫نفاياته وتصريفها أو إعادة تدويرها بشكل مفيد‪.‬‬

‫‪163‬‬

‫وكائ ًنا ما كان الدور الذي اضطلعت به المعالجات السياسيّة‬

‫واالقتصاديّة السيِّئة‪ ،‬تبقى روائح (المجارير) طبيعيّة جدًّ ا‪ ،‬وأكاد أقول‪:‬‬ ‫ّإنها جزء ال يتجزأ من ثقافة شعب بعينه‪ ،‬ومن تعاطيه مع مألوفاته‬

‫وما هو حميم فيه‪ .‬ولست هنا في حاجة إلى االستشهاد بعلم النفس‪،‬‬ ‫وبخاصة علم نفس األطفال ممّ ن ال يكتمون ّ‬ ‫تعلقهم بأسوأ ما تفرزه‬

‫أجسادهم‪.‬‬

‫دفع تكاليف باهظة‬

‫ّ‬ ‫ماض في دفع تكاليف‬ ‫يحل المشكلة وال ذاك‪ .‬فأنا‬ ‫لكنْ ال هذا‬ ‫ٍ‬ ‫باهظة فرضها َ‬ ‫عل َّي حبّي المدن‪ ،‬ووطنيّتي المتعالية على الطوائف‪ .‬وقد‬ ‫ّ‬ ‫كان من نتائج ذلك تع ّرضي إلى شمّ روائح الطوائف والجماعات كلها‬ ‫الصناعي‪.‬‬ ‫الصناعي منها وما قبل‬ ‫التي تقيم في المدينة؛‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وافقا‬ ‫لهذا‪ ،‬ومن دون أن أق ّر عل ًنا بذلك‪ ،‬أضبط نفسي‬ ‫أحيانا مُ‬

‫الشاب (ماه ًرا) أفكاره‪ .‬فماهر ق َّرر‪ ،‬قبل سنوات عدّ ة‪ ،‬أن‬ ‫صديقي‬ ‫ّ‬ ‫يلوذ بالقرية‪ ،‬وأن يجعلها حص ًنا يعتصم به من زحف المدينة‬

‫المتعاظم‪ .‬فإذا ما اضط ّره ظرف بالغ االستثنائيّة إلى أن َي ِفدَ إلى‬ ‫بيروت‪ ،‬عامَ َل نفسه ّ‬ ‫كأنه أسير حرب ال يحظى بح ّريّته إلاّ حين يقفل‬ ‫راجعً ا إلى القرية‪.‬‬ ‫والمؤ َّكد أن رئ َتي ماهر أنظف ألف م َّرة من رئ َتي‪ .‬لك ّنني مُ ص ٌّر على ألاَّ‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫ِّلاً‬ ‫أقول هذا الكالم؛ ال لحسن وال لماهر‪ ،‬وأن أمضي متنق بين طوائف‬

‫مدينتي وروائحها‪.‬‬

‫ٍ‬ ‫ماض في دفع‬ ‫فأنا‬ ‫تكاليف باهظة فرضها‬ ‫حبي المدن‪،‬‬ ‫عل َّ‬ ‫َي ّ‬ ‫ووطنيتي المتعالية‬ ‫ّ‬ ‫على الطوائف‪ .‬وقد‬ ‫كان من نتائج ذلك‬ ‫شم‬ ‫تعرضي إلى‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫روائح الطوائف‬ ‫والجماعات كلّها‬


‫إعالم‬

‫وسائل التواصل االجتماعي‬ ‫‪164‬‬

‫تلغي نخبوية‬ ‫األدب وتصنع‬ ‫نجومية الشباب‬

‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬


‫نداء أبو علي‬ ‫روائية وكاتبة سعودية‬

‫ً‬ ‫خصوصا فئة الشباب‪ ،‬لم يقتصر تأثيره في القدرة على نقل‬ ‫االجتماعي‪،‬‬ ‫تهافت العالم على وسائل التواصل‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫المعلومة في أسرع وقت‪ ،‬والتعبير عن الرأي من دون مواراة‪ ،‬بل تخطى ذلك لِينال من وهج الصحف والكتب‬ ‫ّ‬ ‫االجتماعي؛‬ ‫اإللكتروني‪ .‬باتت وسائل التواصل‬ ‫ويخفف من أهمية دورها تدريجيًّا لمصلحة النشر‬ ‫الورقية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫منفذا للتعبير عن الرأي بصورة مختصرة‪ ،‬تأسر‬ ‫مثل‪« :‬تويتر»‪ ،‬و«فيس بوك»‪ ،‬والمد ّونات الشخصية‪،‬‬ ‫اآلخرين من دون الحاجة إلى اإلسهاب في الوصف‪ ،‬وهو ما ينزح إليه ُقرَّاء الجيل الجديد‪ ،‬من بحث عن‬

‫االختصار‪ ،‬واألسلوب السلس الالفت لالنتباه؛ األمر الذي يثقل كاهل الكاتب التقليديّ ‪ ،‬ويبعده بمساحات‬

‫شاسعة عن القارئ الحديث؛ مما دفع بعض الكتاب إلى االنغمار في العالم الجديد‪ ،‬وتأليف الكتب‬

‫المتخصصة في ذلك؛ مثل ِكتاب الكاتب والصحافي السعوديّ عبدالله المغلوث «تغريد في السعادة‬ ‫والتفاؤل واألمل» الذي وصف فيه استخدامه التغريدات بوصفها بذورًا لمقاالت مطولة‪ ،‬حين وصل إلى‬ ‫مرحلة إحباط وعجز عن الكتابة بأنواعها‪.‬‬

‫فعلى الرغم من أن الكتابة التقليدية تواجه حاليًا سرقة لمكانتها بوساطة ثورة‬ ‫االجتماعي‪ ،‬التي َّ‬ ‫التدريجي‪،‬‬ ‫تتجه صوب االختصار‬ ‫وسائل التواصل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الورقي‪ ،‬فإن ثورة وسائل التواصل‬ ‫واالبتعاد من‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫أعطت فرصة أكبر لظهور‬ ‫االجتماعي من جهة أخرى‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫خصوصا‬ ‫الك َّتاب الشباب على الساحة الجماهيرية‪،‬‬ ‫مع امتالكهم (الكاريزما)‪ ،‬واألدوات المناسبة لخوض‬

‫التجربة اإللكترونية‪ ،‬من معرفة بالثقافة العنكبوتية‪،‬‬ ‫وقدرة على تسويق أعمالهم‪ ،‬والتواصل المباشر‬ ‫والسريع مع ُ‬ ‫القراء‪.‬‬

‫‪165‬‬


‫إعالم‬

‫َ‬ ‫َّ‬ ‫المدونات والبحث عن التجارب الشخصية‬ ‫عالم‬

‫جرى نش ُرها‪ ،‬كما حدث عام ‪2008‬م من خالل ثالث مدونات‬

‫العربي عام ‪2004‬م‪ ،‬واشتعل‬ ‫التدوين الذي بدأ في العالم‬ ‫ّ‬

‫لشابات مصريات؛ أولهن غادة عبدالعال في مدونتها التي‬

‫بوساطته أشخاص عاديّون‪ ،‬وجدوا مساحة للتنفيس والبوح‬ ‫ً‬ ‫نجومية فاقت تصوُّرهم في‬ ‫بالقلق الحياتي‪،‬‬

‫ساخر ذكي بهموم الشابة التي لم تتزوج بعد‪ ،‬ومحاولتها‬

‫الشعبي‪ ،‬الذي يكتسب‬ ‫لهيبه ليصبح أحد أهم وسائل اإلعالم‬ ‫ّ‬

‫ذلك العهد‪ ،‬كما حدث مع المدونات‬

‫استحالت إلى رواية «عايزة أتجوز» التي باحت فيها بأسلوب‬

‫التعايش مع مجتمع محافظ ِّ‬ ‫يقدس االرتباط ويبحث عنه؛‬

‫التي بلغ حجم اإلقبال عليها قدرًا‬ ‫استحالت بوساطته إلى ُك ُتب‬

‫‪166‬‬

‫ُكتاب الجيل الجديد‬

‫تشويقية متعمقة‪ ،‬وترشحت أعمال أخرى لروائيين‬

‫والترشح للجوائز‬

‫شباب؛ مثل الروائية السورية لينا هويان الحسن عن‬

‫اإلقبال على األعمال األدبية التي يدعمها التسويق‬

‫حسن علوان عن روايته «القندس»‪ ،‬وعلى الرغم من أن‬

‫االجتماعي لم يقتصر على فئة الشباب أو الفئة األكثر‬ ‫ّ‬ ‫شعبية‪ ،‬إنما وصل اإلقبال على األعمال األدبية الشبابية‬

‫األدبي‬ ‫ما يستحق اإلشادة‪ ،‬سواء في الفكرة أو النسق‬ ‫ّ‬ ‫فإن بعض المرشحين يبتعد من األسلوب التقليديّ لطرح‬

‫اإللكتروني‪ ،‬أو الحضور واالنغمار في عالم التواصل‬ ‫ّ‬

‫إلى الحد الذي ترشح فيه كثير من جيل الشباب لجائزة‬

‫الكويتي الشاب سعود‬ ‫البوكر للرواية‪ ،‬ويظهر فوز الروائي‬ ‫ّ‬

‫السنعوسي بجائزة البوكر عن روايته «ساق البامبو» في‬ ‫قمة الهرم‪ ،‬بفكرته المتجددة وقدرته على حبك رواية‬

‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬

‫روايتها «ألماس ونساء»‪ ،‬والروائي السعوديّ محمد‬

‫قبسا من التميّز أو‬ ‫كثي ًرا من هذه األعمال األدبية يحمل ً‬

‫الرواية‪ ،‬واللغة المستخدمة‪ ،‬ويستحيل أن يتوقع ترشحه‬ ‫لجائزة عالمية‪ ،‬فرواية «الفيل األزرق» للروائي أحمد مراد‬

‫ترشحت في القائمة القصيرة من جائزة البوكر‪ .‬وعلى‬ ‫الرغم من اإلقبال الجماهيري الضخم الذي استقطبه ميل‬


‫وسائل التواصل االجتماعي تلغي نخبوية األدب وتصنع نجومية الشباب‬

‫وقد دفع اإلقبال الجماهيريّ عليها إلى تحولها لمسلسل‬ ‫ْ‬ ‫ونشرت غادة محمد محمود كتابها بعنوان‬ ‫تلفزيوني مشهور‪،‬‬ ‫ّ‬

‫«أما هذه فرقصتي أنا» بعد أن كان مقتص ًرا على الكتابة في‬ ‫مدونة إلكترونية‪ ،‬إضافة إلى مدوَّنة رحاب بسام التي تحولت‬

‫إلى كتاب «أرز باللبن لشخصين»‪ ،‬وتفاوتت المدونات ما بين‬ ‫وصف ألحداث شخصية ومواقف حياتية يومية‪ ،‬وقصص‬

‫قصيرة بأسلوب يجذب االنتباه؛ إذ وجد كثير من األشخاص في‬ ‫متنفسا وهوسً ا من المتابعين الحريصين‬ ‫اإللكتروني‬ ‫الفضاء‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫على موضوعات خاصة؛ ليظهر ذلك ً‬ ‫بحثا عن شخصنة أقرب‬ ‫إلى السيرة الذاتية ألشخاص اعتياديين مغمورين‪.‬‬

‫ذلك الميل نحو التطرق إلى التجارب الشخصية يغلب‬ ‫على كثير من األعمال األدبية لفئة الشباب الذين القوا إقبالاً‬

‫جماهيريًّا صاخبًا؛ مثل‪ :‬كتاب «حكايا سعودي في أوروبا»‬

‫للكاتب عبدالله الجمعة‪ ،‬الذي يُعدّ رصدً ا لرحالته في عدّ ة‬ ‫دول أوربية من خالل إحدى عشرة قصة‪ ،‬وتسبب في حدوث‬

‫االجتماعي‬ ‫ثورة وسائل التواصل‬ ‫ّ‬ ‫أعطت فرصة أكبر لظهور ال ُكتاب‬ ‫خصوصا مع‬ ‫الشباب على الساحة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫امتالكهم (الكاريزما) واألدوات‬ ‫المناسبة لخوض التجربة اإللكترونية‬

‫إرباك بسبب تزاحم المقبلين على حفلة توقيعه في إحدى‬ ‫دورات معرض الكتاب بالرياض‪ .‬ويظهر التأثر بوسائل التواصل‬ ‫االجتماعي من خالل بعض األعمال األدبية التي استخدمت‬ ‫ّ‬ ‫تقنيات خاصة؛ مثل رواية «‪#‬إنستا_حياة» للكاتب المصريّ‬ ‫محمد صادق‪ ،‬الذي تط َّرق إلى محاولة اكتشاف أسباب عشرة‬

‫للحياة من خالل استفتاء في فيس بوك‪ ،‬وعلى الرغم من‬ ‫تش ّتت الحبكة‪ ،‬واالبتعاد من النسق التقليديّ للرواية الذي‬ ‫قد يتحفظ عليه ّ‬ ‫الروائي شهد إقبالاً كبي ًرا‪،‬‬ ‫النقاد‪ ،‬فإن العمل‬ ‫ّ‬

‫على نسق الرواية السابقة لمحمد صادق «هيبتا» التي ستتحول‬

‫سينمائي بإقبال كبير من مجموعة من الممثلين‬ ‫إلى عمل‬ ‫ّ‬ ‫المشهورين؛ األمر الذي يشير إلى تحول كبير في نهج األعمال‬

‫األدبية‪ ،‬واختالف نوعيتها‪ ،‬واختفاء تلك االنتقائية التي كانت‬

‫موجودة من قبل‪ ،‬لمصلحة اإلقبال والتعمق المبالغ فيهما في‬ ‫االجتماعي والتقنيات اإللكترونية‪،‬‬ ‫استخدام وسائل التواصل‬ ‫ّ‬ ‫التي أسهمت في تسويق تلك األعمال‪ ،‬لكنها تقلل من عمق‬ ‫األعمال األدبية‪ ،‬أو تغير نمطها؛ األمر الذي يوسع من الشريحة‬

‫المستهدفة لتشمل فئة القراء العاديين‪ ،‬أو حتى مَ ن لم‬ ‫يحبذ قراءة الكتب من قبل‪ ،‬ممن تجذبه الموضوعات الشيقة‬

‫واألسلوب المبسط‪ ،‬بعيدً ا من ما كان يحدث من قبل من حيث‬ ‫الروائي إلى أسلوب تشويق ومتانة النص والفكرة‬ ‫العمل‬ ‫ّ‬

‫الغرائبية‪ ،‬التي تضمنت معايير دفعت بالرواية إلى التحول‬ ‫سينمائي يستحق اإلشادة‪ ،‬فإن الرواية لم تتضمن‬ ‫إلى فلم‬ ‫ّ‬ ‫المعايير التي يجري اختيارها لتلك الجائزة‪ ،‬فحتى اللغة‬

‫المستخدمة‬

‫تفاوتت‬

‫ما‬

‫بين عامية شديدة تخالطها‬ ‫عبارات إنجليزية‪ ،‬بعيدة من‬

‫ذلك األسلوب البديع للحوار‬ ‫والسرد المتوقع من رواية‬ ‫مرشحة لجائزة عالمية‪.‬‬

‫االقتصار على النخبوية وطبقة المثقفين بشكل عام‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫اللغوي واستخدام العامية‬ ‫التنميق‬

‫يالحظ وجود موجة جديدة من إغفال الصورة النمطية‬

‫الستخدام اللغة في األعمال األدبية‪ ،‬واالبتعاد من التقيد‬ ‫باللغة الفصحى والعبارات المتكلفة لغويًّا‪ ،‬والميل إلى‬

‫اللهجات المحكية والعامية وإضافة كلمات إنجليزية؛ كما في‬ ‫أعمال أدبية كثيرة القت رواجً ا ألحمد مراد‪ ،‬ومحمد صادق‪،‬‬ ‫ورواية «بنات الرياض» للسعودية رجاء الصانع؛ األمر الذي يأتي‬ ‫ً‬ ‫مخالفا التيار الذي ال يحبّذ تبسيط اللغة إلى درجة تسطيحها‪،‬‬

‫ً‬ ‫خليطا من عبارات‬ ‫أو تجسيد اللهجات الشبابية التي تحوي‬

‫جديدة‪ ،‬تمزج لغات ولهجات مختلفة‪ .‬هذه األعمال وإن أبعدت‬ ‫والقراء التقليديين فإنها استقطبت كثي ًرا من ُ‬ ‫منها ال ُّنقاد ُ‬ ‫القراء‬

‫‪167‬‬


‫إعالم‬

‫وإدراكي من‬ ‫وبخاصة الشباب‪ ،‬ال سيما مع وجود تقارب فكريّ‬ ‫ّ‬

‫حيث كيفية استخدام التقنية الحديثة؛ مما يزيل تلك الفجوة‬

‫التي كانت موجودة من قبل بين الكاتب والقارئ‪ .‬غابت الرهبة‬ ‫واالفتتان بالكاتب الذي كان يعتلي البرج العاجي‪ ،‬لينزل إلى‬ ‫الساحة‪ ،‬ويختلط بمن يشبهه في كل شيء‪َّ ،‬‬ ‫وقلت األعمال‬ ‫َّ‬ ‫المكثفة عاطفيًّا‪ ،‬كما‬ ‫الشبابية التي تميل إلى الركون إلى اللغة‬

‫يالحظ في أعمال الروائي السعوديّ محمد حسن علوان‪ ،‬الذي‬ ‫جمع في كتابته الشاعرية ً‬ ‫ً‬ ‫ومضمونا كما حدث مع روايتيه‪:‬‬ ‫لغة‬ ‫«سقف الكفاية»‪ ،‬و«صوفيا»‪.‬‬

‫الثقافي‬ ‫ال حاجة إلى النضج‬ ‫ّ‬ ‫يظهر في الوقت ذاته تم ُّرد على التصوُّر التقليديّ الذي‬

‫الثقافي‬ ‫ينحو إلى اقتصار األعمال األدبية على أصحاب النضج‬ ‫ّ‬ ‫أو السن المتقدّ مة‪ ،‬أو النظرة النمطية التي تلتزم التحفظ‬ ‫على الكتابة وعدم الكشف عن المستور أو انتقاد الواقع‬

‫المعيش‪ ،‬وظهرت منذ عام ‪2005‬م أعمال روائية تسعى للتم ّرد‬

‫على التقاليد بجرأة كهدف أوحد‪ ،‬وتتناول قضايا تتطرق إلى‬ ‫التابوهات في محاولة منها للتمرد على التقاليد المفروضة‪.‬‬ ‫أعمال أدبية كثيرة ظهرت في تلك المدة؛ مثل‪ :‬رواية إبراهيم‬

‫‪168‬‬

‫إبراهيم بادي‬

‫رجاء الصانع‬

‫لينا الحسن‬

‫بادي «حب في السعودية» التي تركز في العالقات العاطفية‬ ‫بين الجنسين في مجتمع محافظ‪ ،‬ورواية «القران المقدس»‬ ‫َّ‬ ‫تحف ْ‬ ‫ظت عن الكشف عن‬ ‫لطيف الحلاَّ ج وهي كاتبة سعودية‬

‫اسمها كما تحفظت دور نشر عدة عن طباعة روايتها؛ بسبب‬ ‫جرأتها‪ ،‬وظهرت رواية «اآلخرون» للسعودية صبا الحرز في‬

‫المدة نفسها؛ لتتطرق إلى الميول الجسدية المختلفة في‬

‫المجتمعات المحافظة‪ ،‬لكن تلك المحاوالت للتمرد على‬ ‫َّ‬ ‫خف وهجها‪ ،‬وبات االلتفات إلى موضوعات أخرى‬ ‫التقاليد‬ ‫ً‬ ‫توازنا‪.‬‬ ‫أكثر‬

‫األزمة الوجودية والعالقة مع اآلخر‬

‫من الصعب حصر الموضوعات التي تركز في األعمال‬

‫األدبية في كل حقبة‪ ،‬لكن يالحظ في اآلونة األخيرة االبتعاد‬ ‫من النمط الذي سار عليه ُ‬ ‫الكتاب؛ نحو ما حدث في حقبة‬

‫التسعينيات التي ال تزال امتدادًا لذلك التأثر بالقومية والبعثية‬

‫وما إلى ذلك؛ مثل تلك األعمال التي تعدّ حاليًا من كالسيكيات‬

‫عهد مضى؛ مثل‪ :‬رواية «شقة الحرية» للمبدع الراحل غازي‬

‫القصيبي‪ ،‬وثالثية تركي الحمد‪ ،‬وعلى الرغم من انشغال‬ ‫السياسي‪ ،‬وبخاصة في مرحلة ما بعد‬ ‫ُكتاب وروائيين بالهمّ‬ ‫ّ‬

‫الثورات العربية‪ ،‬فإنه يلحظ تركيز الروائيين الشباب خاصة في‬

‫الموضوعات االجتماعية‪ ،‬أو التي تعالج األزمة النفسية‪ ،‬مما يلقى‬ ‫إقبالاً جماهيريًّا‪ ،‬وفي الوقت ذاته تظهر االهتمامات الفعلية بهم‪.‬‬ ‫األدبي ذاتيًّا‪ ،‬يتعمق في البحث عن األزمة الوجودية‬ ‫صار الهمُّ‬ ‫ّ‬ ‫أو في العالقة مع اآلخر؛ ففي رواية «ساق البامبو»‪ ،‬على سبيل‬

‫للروائي سعود السنعوسي‪ ،‬تظهر أزمة اله ُِويَّة من خالل‬ ‫التمثيل‪،‬‬ ‫ّ‬

‫الروائي الشاب‬ ‫معاناة خوزيه االبن الكويتي ألم فلبينية‪ ،‬ويشاركه‬ ‫ّ‬

‫اإلريتري حجي جابر في روايته «سمراويت» في أزمة الهوية‪ ،‬على‬

‫التمر َد على‬ ‫الكتابات الشابة‬ ‫تظهر‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫التقليدي الذي ينحو إلى‬ ‫التصور‬ ‫ّ‬ ‫اقتصار األعمال األدبية على أصحاب‬ ‫الثقافي أو السن المتقدمة‬ ‫النضج‬ ‫ّ‬

‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬


‫يالحظ وجود موجة جديدة من إغفال‬ ‫الصورة النمطية الستخدام اللغة في‬ ‫األعمال األدبية والميل إلى اللهجات‬ ‫المحكية وإضافة كلمات إنجليزية‬ ‫حين تتنقل أحداث روايته ما بين جدة وأسمرا‪.‬‬

‫أمَّ ا ما يخص العنصر األنثويّ في مجال الكتابة‪ ،‬فعلى‬ ‫ً‬ ‫عامة إلى أنثوية وأخرى‬ ‫الرغم من عدم مناسبة تصنيف الروايات‬

‫ذكورية‪ ،‬فإن طريقة التعامل المختلفة ما بين المرأة والرجل‬ ‫في المجتمعات العربية؛ دفعت المرأة الكاتبة إلى أن تعيش‬

‫حالة استثنائية في محاولة منها لمعالجة أزمة إثبات الذات‪،‬‬

‫وفي بعض األحايين محاولة االنتقام من المجتمع الذكوريّ ‪،‬‬

‫إما عبر تجريم الرجل أو تهميشه‪ .‬لم يتغير ذلك على الرغم‬ ‫من تطور تقنيات الكتابة وزيادة سقف الحرية لدى المرأة‬

‫العربي‪ ،‬إذ تظهر أعمال مثل رواية لينا هويان‬ ‫في المجتمع‬ ‫ّ‬ ‫الحسن «ألماس ونساء» عام ‪2014‬م لتنفض فكرة الموضوعات‬ ‫اللبناني والسوريّ في أميركا‬ ‫التقليدية‪ ،‬فتعالج قضية المهجر‬ ‫ّ‬

‫الالتينية‪ ،‬وقد ترشحت الرواية لجائزة البوكر‪ ،‬وإن كانت في‬ ‫ّ‬ ‫الوقت ذاته عبر شخصيات أنثوية متعددة تحاول‬ ‫التخلص من‬ ‫سلطة رجال يبحثون عن المرأة المنصاعة‪ ،‬سعيًا لرفض القيود‬

‫النسائي؛ مما يجعلها تختلف كثي ًرا عن‬ ‫والتحفظ على الوجود‬ ‫ّ‬ ‫ظهرت من ُ‬ ‫ْ‬ ‫قبل؛ مثل‪ :‬رواية «وجهة البوصلة»‬ ‫أعمال أنثوية‬ ‫لنورة الغامدي عام ‪2002‬م‪ ،‬و«الفردوس اليباب» لليلى الجهني‬

‫التي صدرت عام ‪1996‬م‪ ،‬روايتان ترفالن في إبداع وصفي‪،‬‬

‫وكثافة لغوية‪ ،‬وتتعمق في تجريم الرجل‪.‬‬

‫األدبي‬ ‫أزمة غياب النقد‬ ‫ّ‬ ‫ال بد من الجزم بأن التغييرات التي حدثت مؤخ ًرا عمَّ قت‬

‫من أزمة غياب النقد‪ ،‬واضمحالل القراءات األدبية التي باتت‬ ‫ِّ‬ ‫تسلط الضوء على روايات محدَّ دة على حين يجري تغييب أعمال‬

‫أخرى؛ األمر الذي لم يعُ دْ يكترث له ٌّ‬ ‫كل من القارئ والكاتب‪،‬‬

‫في الوقت الذي بات إثبات الوجود يعتمد على القدرة على حشد‬ ‫كثير من ُ‬ ‫القراء والمتابعين‪ ،‬فقد أصبح شغف ُ‬ ‫الكتاب الشباب‬

‫ينصب على مدى التكيُّف مع التطوُّرات التقنية؛ مما أدى إلى‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫شهرة لكنها أضعف قيمة‬ ‫اختالط الكتب القيِّمة بأخرى أكثر‬

‫أدبية‪ُّ ،‬‬ ‫يصب في بوتقة التشكك في مستقبل األعمال‬ ‫كل ذلك‬ ‫ُّ‬

‫العربي‪ ،‬فمع الثقافة المختصرة‬ ‫األدبية والروائية في العالم‬ ‫ّ‬ ‫للوقت والكلمات‪ ،‬تظهر إشكالية قابلية انقراض األعمال‬

‫الثقافية القيِّمة‪ ،‬واإلقبال على األبسط واألسرع‪.‬‬

‫‪www.alfaisalmag.com‬‬ ‫االشتراك السنوي‬ ‫‪ 150‬ريالاً سعود ًيا لألفراد‪ 250 ،‬ريالاً سعود ًيا‬ ‫للمؤسسات‪ ،‬أو ما يعادلهما بالدوالر األميركي‬ ‫خارج المملكة العربية السعودية‪.‬‬

‫السعر اإلفرادي‬ ‫السعودية ‪ 10‬رياالت‪ ،‬الكويت ‪ 800‬فلس‪ ،‬اإلمارات ‪10‬‬ ‫دراهم‪ ،‬قطر ‪ 10‬رياالت‪ ،‬البحرين دينار واحد‪ُ ،‬عمان‬ ‫فلسا‪ ،‬اليمن ‪ 100‬ريال‪ ،‬مصر‬ ‫ريال واحد‪ ،‬األردن ‪750‬‬ ‫ً‬ ‫‪ 4‬جنيهات‪ ،‬السودان ‪ 1.5‬جنيه‪ ،‬المغرب ‪ 10‬دراهم‪،‬‬ ‫تونس ‪ 1.250‬دينار‪ ،‬الجزائر ‪ ٨٠‬دينا ًرا‪ ،‬العراق ‪800‬‬ ‫فلس‪ ،‬سوريا ‪ 45‬ليرة‪ ،‬ليبيا ‪ ٨٠٠‬درهم‪ ،‬موريتانيا‬ ‫ً‬ ‫فرنكا‪،‬‬ ‫‪ ١٠٠‬أوقية‪ ،‬الصومال ‪ ٢٠٠٠‬شلن‪ ،‬جيبوتي ‪١٥٠‬‬ ‫لبنان ما يعادل ‪ ٤‬رياالت سعودية‪ ،‬الباكستان ‪٢٠‬‬ ‫روبية‪ ،‬المملكة المتحدة جنيه إسترليني واحد‪.‬‬

‫الموزعون‬ ‫السعودية‪ ،‬الشركة الوطنية الموحدة للتوزيع‪،‬‬ ‫هاتف‪ ،)٠١1(٤٨٧١٤١٤ :‬فاكس‪ ،)٠١1(٤٨٧١٤٦٠ :‬مصر‪،‬‬ ‫مؤسسة توزيع األهرام‪ ،‬شارع الجالء هاتف‪:‬‬ ‫‪ ،٣٣٩١٠٩٥‬فاكس‪ ٣٣٩١٠٩٦ :‬ـ ‪ ،..٢٠٢‬سوريا‪ ،‬المؤسسة‬ ‫العربية السورية لتوزيع المطبوعات ص‪.‬ب ‪٥٣٠١‬‬ ‫هاتف‪ ،٨٤٢٨٢١٢ :‬فاكس‪ ٢١٢٢٥٣٢ :‬ـ ‪١١‬ـ ‪ ،٠٠٩٦٣‬تونس‪،‬‬ ‫الشركة التونسية للصحافة‪ 3 ،‬نهج المغرب‪ ،‬ص‪.‬ب‬ ‫‪٧١٩‬ـ فاكس‪ /٧١400323 :‬هاتف‪ ٩32249 :‬ـ ‪ ٧١‬ـ ‪،00216‬‬ ‫قطـر‪ ،‬دار الشرق للطباعة والنشر والتوزيع‪ ،‬ص‪.‬ب‬ ‫‪ ٣٤٨٨‬هاتف‪ ،٤٦٦١٢٨٢ :‬فاكس‪ ٤٦٦١٨٦٥ :‬ـ ‪،٠٠٩٧٤‬‬ ‫األردن‪ ،‬شركة وكالة التوزيع األردنية‪ ،‬ص‪.‬ب ‪ ٣٧٥‬هاتف‪:‬‬ ‫‪ ،٤٦٣٠١٩١‬فاكس‪ ٤٦٣٥١٥٢ :‬ـ ‪٦‬ـ ‪ ،٠٠٩٦٢‬البحرين‪،‬‬ ‫مؤسســــة الهالل لتوزيع الصحف ص‪.‬ب ‪ ٢٢٤‬هاتف‪:‬‬ ‫‪ ،٢٩٤٠٠٠‬فاكس‪ ٥٣١٢٨١ :‬ـ ‪ ،٠٠٩٧٣‬اإلمارات العربية‬ ‫المتحدة‪ ،‬مكتبة دار الحكمة ص‪.‬ب ‪ ٢٠٠٧‬هاتف‪:‬‬ ‫‪ ،٤٩٣٥٦٦٢‬فاكس‪ ٢٦٦٩٨٢٧ :‬ـ ‪ ٤‬ـ ‪ ،٠٠٩٧١‬الكويت‪،‬‬ ‫شركة المجموعة الكويتية للنشر والتوزيع‬ ‫ص‪.‬ب ‪ ٢٩١٢٦‬ت ‪ ،٢٤١٧٨١٠/١١/١٢‬فاكس‪ ٢٤١٧٨٠٩ :‬ـ‬ ‫‪ ،٠٠٩٦٥‬المغرب‪ ،‬الشركة الشريفية لتوزيع الصحف‬ ‫فاكس‪ ٢٢٤٠٤٠٣١/٣٢ :‬ـ ‪ ٠٠٢١٢‬هاتف‪،٢٢٤٠٠٢٢٣ :‬‬ ‫الجمهورية اليمنية‪ ،‬القائد للنشر والتوزيع هاتف‪:‬‬ ‫‪ ٢٠١٩٠١/٢‬ـ ‪ ٣‬ـ ‪ ٠٠٩٦٧‬فاكس‪٢٠١٩٠٩/٧ :‬‬


‫تراث‬

‫العرضة النجدية‬ ‫من ساحات الرقص‬ ‫إلى قائمة اليونسكو‬ ‫‪170‬‬ ‫مها السنان‬ ‫المدير التنفيذي للجمعية السعودية‬ ‫للمحافظة على التراث‬

‫«ال نقوم كلنا بأعمال عظيمة‪ ،‬لكن يمكننا أن نقوم بأشياء بسيطة‬

‫األم تيريزا‬ ‫للغاية بحب كبير»‬ ‫ُ‬ ‫من ويندهوك عاصمة دولة ناميبيا‪ ،‬أعلن ضمّ العرضة النجدية إلى‬ ‫العالمي‪ .‬كان ذلك في االجتماع العاشر ّ‬ ‫للجنة الحكومية‬ ‫قائمة التراث‬ ‫ّ‬

‫الثقافي غير الماديّ لمنظمة األمم المتحدة‬ ‫الدولية لصون التراث‬ ‫ّ‬ ‫للتربية والعلم والثقافة «اليونسكو»‪.‬‬ ‫ومع إعالن تسجيل «العرضة النجدية» تسارعنا إلى هواتفنا نرسل‬

‫الوطني عبر‬ ‫الرسائل والصور والتباشير‪ ،‬مبشرين بهذا اإلنجاز‬ ‫ّ‬ ‫هاشتاغ ‪#‬العرضة_النجدية_في التراث_العالمي في تويتر‪ ،‬الذي‬ ‫ّ‬ ‫اكتظ بالمه ّنئين‪ ،‬وبعض المشككين في قيمة هذا اإلنجاز!‬

‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬


171


‫تراث‬

‫لم أر ّد شخصيًّا على أي منها في حينها‪ ،‬لكن سأترك‬

‫لهذه المساحة المجال لشرح معنى تسجيل عنصر من‬

‫العالمي لدى‬ ‫التراث السعوديّ في القائمة التمثيلية للتراث‬ ‫ّ‬ ‫اليونسكو‪ ،‬ودورنا في الجمعية السعودية للمحافظة على‬ ‫التراث في هذا الملف‪ ،‬وكيف جرى العمل مع الوفد السعوديّ‬

‫ُّ‬ ‫واللبْس والعناصر الثقافية األخرى المرتبطة بممارسة هذا‬ ‫اللون من األداء‪ ،‬أراد من بدأ بالمبادرة ً‬ ‫نوعا من التخصيص‬

‫بسبب االختالفات؛ إذ إن تسجيل العنصر فيه نوع من‬

‫طوال ثالثة أيام في محاولة إقناع اللجنة لتعديل القرار من‬

‫الوطني‪ ،‬ال ينتقص بطبيعة‬ ‫الخصوصية المحلية والتف ُّرد‬ ‫ّ‬ ‫الحال من أهمية تسجيل عناصر التراث المشتركة‪ ،‬وبخاصة‬

‫التعبير بشغف وبمحبة عميقة للوطن عن الرغبة واإلصرار‬

‫وألنه ال يسع المملكة العربية السعودية إال تسجيل‬

‫النهائي‪ ،‬عبر مناقشات‬ ‫«الترحيل» إلى «القبول» في التصويت‬ ‫ّ‬ ‫ومفاوضات حثيثة غلب عليها االستمرار في المحاولة‪ ،‬مع‬

‫الغني في هذا المحفل‬ ‫على إبراز عنصر واحد فقط من تراثنا‬ ‫ّ‬ ‫العالمي المهمّ للتراث غير المادي‪.‬‬ ‫ّ‬

‫للحديث عن تسجيل العرضة النجدية قصة‪ ،‬نبدأ بها‬

‫من‪ :‬لماذا العرضة النجدية؟‬ ‫ً‬ ‫هذا السؤال مفهوم من حيث التحديد‪ ،‬عوضا من‬

‫‪172‬‬

‫العرضة التي تؤديها مجتمعات كثيرة في السعودية بمناطقها‬ ‫المختلفة‪ ،‬وفي دول الجوار ً‬ ‫أيضا‪ ،‬مع اختالفات في األداء‬

‫الشقيقة أو المجاورة ذات الثقافة المشابهة‪.‬‬

‫عنصر واحد فقط كل عام‪ ،‬كان من المهم إعداد ملف لعنصر‬

‫واحد كل عام من الملفات أو العناصر الثقافية المحلية‪.‬‬

‫ويأتي السؤال الثاني‪ :‬متى بدأ العمل؟ باقتراح من سفيرنا‬

‫لدى اليونسكو‪ ،‬المندوب الدائم الدكتور زياد الدريس؛ عملت‬

‫وزارة الثقافة قبل أعوام عدة على إعداد الملف‪ ،‬وجرى تقديمه‬ ‫مرتين لكنه رُفض؛ العتبارات عدة؛ منها منهجية إعداد‬

‫رقصة السيوف‬ ‫ووحدة الصفوف‬

‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬


‫العرضة النجدية من ساحات الرقص إلى قائمة اليونسكو‬

‫الملف‪ ،‬وعدم وضوح دور المجتمعات المدنية واألفراد؛ إذ إن‬ ‫الحكومي هو المسؤول عن‬ ‫مثل هذا الملفات‪ ،‬وإن كان القطاع‬ ‫ّ‬ ‫رفعها إلى المنظمة تعدّ مشاركة المجتمعات عنص ًرا أساسيًّا‬ ‫في مفهوم ونطاق عمل اليونسكو ألن أيّ عنصر يجري تسجيله‬ ‫يجب أن يحمل بين سطوره قيمة مجتمعية‪ ،‬ورغبة أفراد‬ ‫ً‬ ‫أيضا‪-‬‬‫وممارسي هذا التراث في توثيقه؛ ألن حماية التراث‬

‫الحكومي وَحْ دَ ه؛ إذ إن تشكيل‬ ‫مسؤولية الجميع ال القطاع‬ ‫ّ‬ ‫والتراثي للمجتمع بجميع‬ ‫الثقافي‬ ‫الهوية مرتبط بالتنوّع‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫طوائفه‪.‬‬

‫تسجيل العنصر فيه نوع من الخصوصية‬ ‫الوطني‪ ،‬ال ينتقص‬ ‫والتفرد‬ ‫المحلية‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫بطبيعة الحال من أهمية تسجيل عناصر‬ ‫التراث المشتركة‪ ،‬وبخاصة الشقيقة أو‬ ‫المجاورة ذات الثقافة المشابهة‬

‫وأتذكر أني قابلت الدكتور الدريس قبل ثالث سنوات‪،‬‬

‫في ورش عمل من خبراء معتمدين لدى اليونسكو‪ ،‬وبالتواصل‬

‫المادي‪ ،‬وسألته عما يدور حول تسجيل العرضة في اليونسكو‬

‫وبعد انتخابات الدورة الثانية لمجلس إدارة الجمعية‪ ،‬وانتخاب‬

‫وهو أحد أعضاء الجمعية المؤسسين‪ ،‬وتحدثنا عن مشروع‬ ‫حال التراث وأهمية ّاتباع منهجية معتمدة في توثيق تراثنا غير‬ ‫وماهيته وعقباته‪ ...‬إلى غير ذلك‪ ,‬وكيف أن الملف قيد اإلعداد‪،‬‬

‫وأنه رُفض في المرة األولى‪ .‬توقفنا هنا‪ ،‬وعملنا في الجمعية‬

‫مع القطاعات الحكومية والخاصة والمجتمعات أعددنا ورشة‬ ‫عمل‪َّ ،‬‬ ‫وقع الحاضرون فيها على اتفاقية صون التراث غير الما ّديّ ‪.‬‬ ‫الدكتور زياد ضمن مجلس اإلدارة ولجنة مشروع حال التراث‬ ‫المعنية بالتراث غير الما ّديّ وتوثيقه‪ ،‬بادر بعرض مستجدّ ات‬

‫ليس ثمة شك في أن األمة التي تغفل عن العناية‬

‫المالكة على الحضور ومشاركة محبي العرضة في تأدية هذه‬

‫وتتنكر إليجابيات ماضيها بحجة (العصرنة) والتقدم‪ ،‬إنما‬

‫يجسد‬ ‫والمهرجانات التراثية؛ مثل‪ :‬مهرجان الجنادرية الذي‬ ‫ّ‬

‫الثقافي في أبعاده العلمية والفنية‪،‬‬ ‫بتراثها وتهمش موروثها‬ ‫ّ‬ ‫والثقافي‬ ‫المعرفي‬ ‫تسهم في تدمير البنى التحتية لمشروعها‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫المستقبلي‪ ،‬وبخاصة مع تسارع وتيرة التطورات التقنية في‬ ‫ّ‬ ‫اإلنساني‪ ،‬وكما قيل ال مستقبل لمن ال ماضي له‪.‬‬ ‫المحيط‬ ‫ّ‬ ‫ومن إيجابيات الماضي التي يجب أن نحافظ عليها من‬ ‫ريح (العصرنة)؛ كي ال تقتلعها من جذورها‪ ،‬وتنجرف مع‬

‫تسونامي متغيرات الحداثة؛ الفنونُ الشعبية‪ ،‬وبخاصة‬ ‫الرقصات واألهازيج العريقة‪ ،‬والمملكة العربية السعودية‬ ‫تزخر بمثل هذه الفنون االستعراضية‪ ،‬وعلى امتداد مساحاتها‬

‫الهائلة نجد مختلف الرقصات الشعبية التي تعبّر عن مفاهيم‬

‫متعددة المقاصد واألهداف‪ ،‬تدور في مجملها حول الحروب‬ ‫واالنتصارات‪ ،‬حسب أطياف وثقافات المناطق؛ مثل‪:‬‬

‫العرضة النجدية أو العرضة السعودية التي جرى إدراجها‬

‫العالمي غير الماديّ لدى‬ ‫الثقافي‬ ‫مؤخ ًرا ضمن قائمة التراث‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫اليونيسكو؛ لتوثيقها بوصفها تراثا مه ًّما‪ ،‬يجب المحافظة‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫وطنية تستدعي االعتزاز بها وحمايتها من االندثار‪.‬‬ ‫هوية‬ ‫عليه‬ ‫العرضة النجدية تشتهر بها منطقة نجد‪ُ ،‬‬ ‫وتعَ ُّد أيقونة‬

‫الفني السعوديّ ‪ ،‬وتحرص الدولة على العناية بها‬ ‫التراث‬ ‫ّ‬ ‫إلى ح ّد إدخالها ضمن المناهج الرياضية في المدارس‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫وقلما تجد احتفالاً من االحتفاالت المهمَّة ال تدخل فيه‬

‫العرضة النجدية‪ .‬ويحرص خادم الحرمين الشريفين والعائلة‬

‫الرقصة الحماسية‪ ،‬وبخاصة في األعياد والمناسبات الوطنية‬

‫الوطني؛ ويكتمل المشهد برفع‬ ‫ذلك التوجه والولع بالموروث‬ ‫ّ‬ ‫السيوف على إيقاعات الطبول‪ ،‬وترديد القصائد الحماسية في‬ ‫ّ‬ ‫صورة ّ‬ ‫التراثي‬ ‫ويتحلى المشاركون فيها بلباس العرضة‬ ‫أخاذة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫المزركش الجميل المُحَ اك من أجود األقمشة وأنفسها ذات‬ ‫األلوان المتنوعة‪ ،‬ويتمنطق الرجال عادة حزامً ا جلديًّا لحمل‬

‫األسلحة النارية كنوع من التباهي‪.‬‬ ‫ٍّ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ين‬ ‫العرضة بشكل‬ ‫وت َؤدَّى‬ ‫ّ‬ ‫جماعي في صف أو صف ِ‬ ‫وبتالحم األيدي واألكتاف؛ إذ تبدأ األجساد بالرقص الرجولي‬ ‫ً‬ ‫عادة يحملها مجموعة من الشباب‬ ‫على إيقاعات الطبول التي‬ ‫فيرفعونها ً‬ ‫تارة‪ ،‬وينزلونها تارة أخرى بطريقة تلهب حماسة‬ ‫الفرسان‪ .‬واختلف في سبب تسمية العرضة بهذا االسم‪ ،‬فقد‬

‫يكون بسبب عرض الرجال أنفسهم وما يرتدونه من ألبسة‬ ‫استعراضية‪ ،‬أو ربما جاء من عرض جياد الحرب‪ ،‬ومن أشهر‬ ‫ُ‬ ‫القصيدة الحماسية المشهورة التي‬ ‫قصائد العرضة النجدية‬ ‫اعتدنا سماعها منذ الصغر‪ ،‬وتثير داخلنا حرارة الوطنية‪،‬‬ ‫وتدغدغ مكامن َ‬ ‫الف َخار بوطننا الحبيب‪:‬‬ ‫نحمد الله جـ ـ ــت على مـ ـ ــا نتمنــى‬

‫من ولي العرش جزل الوهايب‬

‫خ ّب ـ ـ ـ ـ ـ ــر اللي ط ـ ـ ــامـع ـ ـ ــا ف ـ ـ ــي وط ـ ـن ـ ـ ــا‬

‫دونهـ ـ ــا نثني إلـ ـ ــى جـ ـ ــات طاليب‬

‫‪173‬‬


‫تراث‬

‫ْ‬ ‫رئيس مجلس اإلدارة األميرة‬ ‫وعرضت حينها‬ ‫ملف العرضة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫عادلة بنت عبدالله بن عبدالعزيز مقترح تب ّني الجمعية‬

‫مدني‪ ،‬وأيّد‬ ‫الملف ضمن دورها بوصفها منظمة مجتمع‬ ‫ّ‬ ‫المقترح بقية األعضاء وخرج القرار‪ ،‬وبدأنا العمل‪ .‬كان دور‬

‫الجمعية حلقة الوصل بين الوزارة والمجتمعات المدنية‬

‫والممارسين‪ ،‬واعتمادًا على منهجية اليونسكو‪ ،‬أقمنا ورش‬

‫عمل‪ ،‬وخرج فريق العمل؛ الستكمال ملف كان الزمالء‬ ‫في الوزارة قد عملوا على إنجازه‪ ،‬وتضافرت الجهود بدعم‬

‫رئيس مجلس إدارة الجمعية‪.‬‬

‫رفعت الوزارة الملف قبل ‪ ١٨‬شه ًرا من موعد‬

‫التصويت‪ ،‬وانتظرنا الموعد‪ ،‬وحزمنا الحقائب بنية‬ ‫َ‬ ‫وصلنا ر ّد اللجنة التي قيّمت الملف‬ ‫المفاوضات بعد أن‬

‫بمالحظات قد تؤدّي إلى تأجيل التسجيل سنتين‬ ‫أُخريين‪ ،‬وهنا جاء دور الشرح والتوضيح ألعضاء اللجنة‬

‫‪174‬‬

‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬


‫العرضة النجدية من ساحات الرقص إلى قائمة اليونسكو‬

‫ثالثون دقيقة دار في أثنائها النقاش‬ ‫والتسويغ والتصويت؛ انتهت برفع علم‬ ‫المملكة العربية السعودية‪ ،‬وترديد‬ ‫«نحمد الله جت على ما نتمنى»‬ ‫قبيل التصويت بـ ‪ ٧٢‬ساعة‪ ،‬ومن حسن الحظ‪ ،‬أن بعض‬ ‫الدول األعضاء اقتنعت بسالمة الملف َ‬ ‫وقبوله للتسجيل‪،‬‬ ‫وفي أثناء الجلسة‪ ،‬وتداول عناصر الملف مع رأي اللجنة‬

‫التي قيّمته‪ ،‬وبعد أن تحدّ ث الوفد السعوديّ شارحً ا وجهة‬ ‫نظره؛ جاء التصويت لصالح التسجيل!‬

‫ثالثون دقيقة دار في أثنائها النقاش والتسويغ‬

‫والتصويت؛ انتهت برفع علم المملكة العربية السعودية‪،‬‬

‫وترديد «نحمد الله جت على ما نتمنى»؛ اآلن أصبحت‬

‫‪175‬‬

‫العرضة النجدية عنص ًرا مسجلاً في القائمة التمثيلية للتراث‬ ‫العالمي‪ ،‬بفضل إيمان وحب وعمل أشخاص‪،‬‬ ‫الثقافي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ودعم آخرين‪.‬‬

‫التكاملي بين القطاعات‬ ‫كان العمل نموذجً ا للفعل‬ ‫ّ‬ ‫الحكومية والخاصة والمجتمعات المدنية واألفراد‪ ،‬ضمن‬ ‫منهجية اليونسكو‪ ،‬وهي منهجية عالمية مقننة ذات ضوابط‬ ‫الثقافي في كل دولة و َْف َق‬ ‫تهدف إلى حماية عناصر التراث‬ ‫ّ‬

‫محدّ داتها؛ من أجل الحفاظ على الهوية وإبرازها وتطويرها‪،‬‬ ‫وهذا جوهر عملنا في الجمعية السعودية للمحافظة على‬

‫التراث‪ ،‬ومنهجنا لتوثيقه‪ .‬وأختم بقول رئيس مجلس اإلدارة‬

‫األميرة عادلة بنت عبدالله‪« :‬إن دورنا بوصفنا منظمة مجتمع‬ ‫مدني هو الحرص على توثيق هذا التراث المهمّ من حضارتنا‪،‬‬ ‫ّ‬

‫الوطني‬ ‫ونشر االعتزاز بالهوية‪ ،‬والسعي للمحافظة على إرثنا‬ ‫ّ‬ ‫الغني والمميّز‪ ،‬والعمل جنبًا إلى جنب مع المسؤول‬ ‫ّ‬ ‫والمهتمّ والممارس وحافظ التراث»‪.‬‬


‫زمان الفيصل‬

‫‪176‬‬

‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬


177


‫زمان الفيصل‬

‫‪178‬‬

‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬


179


‫مقال‬

‫من هجرة المكان‬ ‫إلى الهجرة من النظرية‬ ‫ً‬ ‫مطمئنة إلى شكلها وغاياتها‬ ‫ظلت النظرية النقدية األدبية‬ ‫لاً‬ ‫وأدواتها كثي ًرا‪ ،‬أو باألحرى طوي ‪ ،‬استكانت إلى شكل‬

‫متماسك؛ مما يسمح للمعطيات بتقديم نتائج ُتضفي معنى‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫لفك شفرته وقراءته‬ ‫النص‪ ،‬وتقدّ م المفاتيح المالئمة‬ ‫على‬

‫من وجهات النظر كافة‪ .‬فكان النقد الجديد (ريتشارد) الذي‬ ‫ً‬ ‫صار قديمً ا‪ ،‬ثم البنيوية‪ ،‬وما بعد البنيوية (التي ُع ْ‬ ‫ثورة‬ ‫دَّت‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الدوال‪،‬‬ ‫بحق)‪ ،‬فعملت معاولها في التقويض‪ ،‬وأقامت‬

‫‪180‬‬

‫من العالم الثالث يناشدون كل أطراف القوى المتورطة في‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫«اللعبة» أن يمنحونهم َّ‬ ‫وحق االتقاء‬ ‫وحق الدواء‪،‬‬ ‫حق الغذاء‪،‬‬

‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫وحق اللجوء‪.‬‬ ‫وحق اإلنسان‪،‬‬ ‫وحق التعليم‪،‬‬ ‫من البرد والح ّر‪،‬‬

‫يغادر هذا اإلنسان أرضه (نقطة االنطالق) ليصل إلى مكان آخر‬ ‫صراعا طويلاً (قد َّ‬ ‫ً‬ ‫يكلل بالنجاح أو‬ ‫(نقطة وصول)‪ ،‬ويخوض‬ ‫اإلخفاق)؛ ليتحول بقناعة كاملة‪ -‬واألمر خارج عن إرادته‪ -‬من‬

‫مواطن مقهور إلى الجئ مشكوك في أمره‪.‬‬

‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫النص نسويًّا و(تاريخانيًّا)‬ ‫قرأت‬ ‫وجعلت لها مدلوالت‪ ،‬ثم‬ ‫ِ‬ ‫و(زمكانيًّا) (ميخائيل باختين وكرنفاله الشهير)‪ ،‬ولم تتوانَ‬

‫نفسها من دون هوادة‪ :‬هل هي هجرة القديم من أجل‬

‫فوكو)‪ ،‬عالمة بناء خارج سياق ثقافة المُ ستعمر‪ ،‬وتعمل على‬

‫وهومي بابا)؟ هي بالطبع هجرة اضطرارية‪ ،‬وال مجال للتعامل‬ ‫معها بوصفها عملاً إراديًّا‪ ،‬لكن السؤال يسعى الكتشاف‬

‫ما بعد البنيوية في الرفع من شأن ثقافات المجتمعات التي‬ ‫ُّ‬ ‫النص عالمة مقاومة ُتشكل‬ ‫تح َّررت من االستعمار‪ ،‬فصار‬ ‫خطابًا جديدً ا على مهل‪ ،‬يتراكم فوق طبقات المعرفة (ميشيل‬ ‫ّ‬ ‫النص حدودًا‬ ‫خلخلتها في الوقت ذاته (إدوارد سعيد)‪ .‬أقام‬ ‫ً‬ ‫فاصلة بين المُ ستعمِ ر والمُ ستعمَ ر‪ ،‬وسعى لتعزيز ثقافات‬ ‫َ‬ ‫الصوت (جايا تريسبيفاك في مقالها‬ ‫مسلوبة‬ ‫(ثقافاتنا) كانت‬ ‫ِ‬

‫الشهير‪« :‬هل يمكن للتابع أن يتكلم؟»)‪.‬‬

‫الثقافي (لمُ ؤسِّ سه‬ ‫ثم أدركنا قيمة ما لدينا‪ ،‬فوجد النقد‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫طريقا مم ّهدً ا عندنا (عبدالله الغذامي)‪ ،‬هكذا‬ ‫ستيوارت هال)‬

‫الثقافي؛ مما فتح ً‬ ‫آفاقا‬ ‫امتزج نقد ما بعد االستعمار مع النقد‬ ‫ّ‬

‫ما بين نقطة المغادرة ونقطة الوصول تطرح األسئلة‬

‫الجديد؟ أم هي هجرة العالم الثالث من أجل األول؟ أم هو‬ ‫ال َّتو ُْق الغريزيّ إلى اللحاق بالمُ ستعمِ ر؛ لمحاكاته (فرانز فانون‬

‫األولي‪ ،‬ما يراه المهاجر بوصفه‬ ‫المسكوت عنه‪ ،‬االفتراض‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫عابئ‬ ‫الحل األمثل أو األسلم‪ ،‬فيبدأ تلك الرحلة المميتة غير‬ ‫ٍ‬ ‫بحياته كاملة‪.‬‬

‫ّ‬ ‫اإلبداعي الذي كانت مهمته البناء في‬ ‫للنص‬ ‫فماذا حدث‬ ‫ّ‬

‫مجتمعات ما بعد االستعمار؟ يبدو أنه فقد قدرته على التأثير‪،‬‬

‫أو أن النقد استسلم لتفسيرات مسالمة ال تشتبك مع الفعل‬ ‫السياسي‪ ،‬فيبقي األدب والنقد منعزلين تمامً ا عمّ ا حولهما‪،‬‬ ‫ّ‬

‫جديدة للرؤية‪ ،‬وحوَّل الثقافة بكل مفرداتها إلى ٍّ‬ ‫نص جديد‪،‬‬ ‫وقام ً‬ ‫ّ‬ ‫النص المكتوب من مركز الصدارة‪ ،‬ثم عادت‬ ‫مدة بإزاحة‬

‫رونالد ريغان‪.‬‬

‫واإلبداعي لِيعيشا في‬ ‫الثقافي‬ ‫للتعبير عن تواضع زائف‪ ،‬وعاد‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫طرده من أرضه‪ .‬بمعنى آخر‪ :‬ما هو شكل اللقاء بين ثقافتين‬ ‫تقاب َ​َل َتا من ُ‬ ‫قبل في سياق استعمار واحتالل؟ (ود َْع َ‬ ‫ك من مسألة‬

‫األمور إلى ّاتزانها المعهود بفضل الجوائز الممنوحة للعمل‬ ‫الروائي‪ ،‬التي عادت ِل ُتذ ِّكر النقاد أن الكتابة بوصفها وثيقة ثابتة‬ ‫ّ‬ ‫لن تفقد أهميتها‪ ،‬وأن تلك اإلزاحة لم تكن سوى فعل َّ‬ ‫مؤقت؛‬ ‫هناء في الساحة النقدية نفسها‪ ،‬فاألدوات متشابهة والغاية‬ ‫ّ‬ ‫النص‪.‬‬ ‫واحدة‪ :‬قراءة‬

‫لكن هذا التصالح ما كان له أن يتنبَّأ بموجة هجرة غير‬

‫مسبوقة‪ ،‬هجرة تبدأ بافتراض الموت لتكون الحياة هي‬

‫االستثناء‪ ،‬هجرة شهدناها بكل األشكال الممكنة‪ :‬الصورة‪،‬‬

‫السمعي والبصريّ ‪ ،‬والتصريحات السياسية‪ ،‬وبيانات‬ ‫والتوثيق‬ ‫ّ‬ ‫مناشدة‪ ،‬ومعسكرات في العالم األول مكتظة بمهاجرين‬ ‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬

‫وهي المسألة التي قام إدوار سعيد بتناول تجلياتها في عهد‬ ‫المهاجر في بالد المستعمِ ر‬ ‫أما السؤال الثاني‪ :‬ماذا يفعل‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫المهاج ُر حياته من أجل‬ ‫السابق‪ ،‬ذلك المستعمِ ر الذي قدَّ م‬ ‫ِ‬

‫الترحيب والالفتات والغناء‪ ،‬فهذه كلها بضاعة للتسويق‬ ‫اإلعالمي)‪ .‬في األحداث األخيرة التي وقعت نهاية العام‬ ‫ّ‬

‫المنصرم‪ ،‬بدا واضحً ا أن هناك صدامً ا حقيقيًّا ليس على طريقة‬ ‫صراع الحضارات أو نهاية التاريخ‪ ،‬لكنه صراع على اله ُِويَّة‬ ‫األقوى‪ ،‬كأن الصراع َّ‬ ‫تخلى مؤق ًتا عن السالح ليجعل من اله ُِويَّة‬ ‫مُ دْ يَة مُ شهَرة في وجه َ‬ ‫اآلخر‪ .‬حرفيًّا هو صراع يُمكن ترجمته‬

‫على النحو اآلتي‪ :‬لن أكون مثلك؛ ألنني مختلف‪ ،‬وعليك أن‬


‫تقبلني من دون أي محاولة للتفاوض‪.‬‬

‫انهارت كل نظريات ما بعد االستعمار على َع َتبَات ّ‬ ‫نص التح ُّرش‬

‫الجماعي الذي وقع في ألمانيا‪ ،‬فلم يَعُ دْ هناك مكان للمساحة الثالثة‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫التي نادى بها الناقد هومي بابا التي تعْ ني االمتزاج –وليس الذوبان‪ -‬ليصل‬

‫كل طرف إلى اآلخر في منطقة اللقاء‪ ،‬واختفت منطقة الهامش التي‬

‫تعتمل فيها خطابات مختلفة تؤدي إلى تغيير المركز (فوكو)‪ ،‬وتداعت‬

‫اله ُِويَّة المرتحلة (دولوزو غاتاري)‪ ،‬وجرى القضاء على إمكانية الخروج‬ ‫َ‬ ‫الرؤية أيَّ موضوعية‪ ،‬بل يفقرها‬ ‫الثقافي الذي يسلب‬ ‫من االستقطاب‬ ‫ّ‬

‫كثي ًرا (إدوارد سعيد)‪ .‬انهارت النظرية التي لم َتعُ دّ العُ دَّ ة ليوم مثل هذا‬ ‫َ‬ ‫العالم منذ انتهاء الحرب العالمية‬ ‫وألزمة مشابهة‪ .‬فقد جرى تقسيم‬

‫الثانية‪ ،‬وكان الجميع قانعً ا بموقعه الذي َّ‬ ‫خططه له االستعمار‪.‬‬

‫فما الذي قلب الموازين رأسً ا على َع ِقب؟ وما هو اإلطار النظريّ‬ ‫الذي يُمكن توظيفه لقراءة هذا اللقاء العاصف بين المهاجر المستعمِ ر‬ ‫السابق؟ كان المفروض أن يؤدي اللقاء إلى تفاوض؛ لكنه أدَّى إلى‬ ‫رفض وإنكار‪ ،‬تزداد وطأته بصعود تيارات دينية يمينية متط ّرفة (إدارة‬

‫التوحُّ ش)‪ ،‬وهو ما يجعل نظريات ما بعد االستعمار شبيهة بمجموعة‬ ‫من المُ عَ َّلبات التي انتهت مدة صالحيتها‪.‬‬ ‫وكما حدثت الهجرة القسرية من المكان‪ ،‬ال بد من هَ جْ ر النظرية‪،‬‬

‫شيرين أبو النجا‬ ‫ناقدة مصرية‬

‫والعمل على إعادة قراءة معطيات القرن الحادي والعشرين‪ :‬سياسات‬ ‫منهارة‪ ،‬وهجرة جماعية قسرية‪ ،‬وصدام بين الثقافات‪ ،‬وتوحُّ ش مُ َ‬ ‫علن‬

‫‪181‬‬

‫على شاشات التلفزيون‪ .‬لكن في هذه األزمة علينا أن نعمل نحن (ضمير‬

‫فضفاض بالكاد يَعْ ني أيّ شيء) على إنتاج النظرية ‪ -‬المعرفة التي‬

‫يُمكنها أن تتناول هذا الوضع الحالي‪.‬‬

‫فإذا انغمسنا في تفاصيل‪ :‬من وأين ولماذا؛ سنجد أننا نعود مرة‬ ‫أخرى إلى ما َّ‬ ‫فككه إدوارد سعيد في كتابه «االستشراق» الذي صدر‬ ‫عام ‪1979‬م؛ أيّ أننا سنعود إلى خطاب الدفاع عن الذات‪ ،‬ومحاولة‬ ‫ّ‬ ‫تحضر الثقافة التي تنحدر منها في مواجهة آخر يرى ما يريد أن‬ ‫إثبات‬

‫يراه (محمود درويش؟) على الرغم من أن التنميط الذي صنعه الغرب‬

‫وهاجمه إدوارد سعيد بكل شراسة كان من صنع الغرب‪ ،‬وكذلك هي‬ ‫ّ‬ ‫وظلت‬ ‫السياسات المنهارة التي فررنا منها‪ ،‬فهي من صنع الغرب‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫فتمكنت النظرية من االزدهار هناك بكل‬ ‫في حمايته حتى آخر لحظة‪،‬‬ ‫طمأنينة‪.‬‬

‫هنا واآلن‪ ،‬إذ تغيَّرت صورة العالم الذي كنا نعرفه‪ ،‬تتجلى أمامنا‬

‫الفرصة إلعادة صياغة النظرية‪ ،‬ونقد النقد‪ ،‬وتقديم إنتاج‬ ‫معرفي فكريّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫األفضل‪ ،‬ومَ نْ أكثر تحررًا‪ ،‬ومَ ن فعَ ل ذا‪ ،‬وهو‬ ‫ال يتيه في (كواليس) مَ ِن‬

‫عمل ال يمكن أن يكون فرديًّا‪ ،‬إنما هو عمل يجب أن يعمل عليه النقاد‬

‫والمفكرون شريطة أن يبتعدوا من التوجُّ هات الطائفية المذمومة‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫فكلها يعمل على مصالح آنية ُتضا ّد‬ ‫والتيارات السياسية المتناحرة‪،‬‬

‫النظرية التي تؤسِّ س لرؤية وطريقة قراءة ال تعود بنا إلى الخلف حين‬ ‫صدر االستشراق عام ‪1979‬م‪.‬‬

‫انهارت كل نظريات ما بعد‬ ‫نص‬ ‫االستعمار على َعت َ​َبات ّ‬ ‫الجماعي الذي وقع‬ ‫التحرش‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫في ألمانيا‪ ،‬فلم يعد هناك‬ ‫مكان للمساحة الثالثة التي‬ ‫نادى بها الناقد هومي‬ ‫بابا‪ ،‬وت َْعني االمتزاج‪– ‬وليس‬ ‫الذوبان‪ -‬ليصل كل طرف إلى‬ ‫اآلخر في منطقة اللقاء‬


‫مقال‬

‫القراءة الجديدة‬ ‫األخبار المتصلة بمشهد الصحافة الدولية ال تبشر بمستقبل مشرق‬

‫للمطبوعات؛ فقد أعلنت اإلندبندنت البريطانية إيقاف نسختها المطبوعة‬ ‫ودخولها فيما سمّته «المستقبل الرقمي»‪ ،‬وفي الواليات المتحدة قالت‬

‫وكالة الصحافة الفرنسية إن العائد االقتصادي للصحف الورقية لن يتجاوز‬ ‫ً‬ ‫وفقا للخبراء‪ ،‬هذا عن صحف سيّارة وعامة‪ ،‬فماذا عن‬ ‫عشر سنوات‬ ‫مستقبل الصحافة المتخصصة‪ ،‬بل قل حاضرها‪ ،‬وأعني منها الثقافية‬ ‫والرصينة؟‬

‫في عالمنا العربي تابعنا توديع مثقفي لبنان ملحق النهار الثقافي‪،‬‬

‫وحسرتهم على غيابه بعد خمسين عامً ا من االنتظام‪ ،‬أما في الكويت فقد‬

‫ماجد الحجيالن‬ ‫رئيس التحرير‬

‫تداعى مثقفون إلنقاذ مجلة العربي العريقة بعد إلغاء ندوتها السنوية‪،‬‬ ‫وفي السعودية وجّ هت مجلة المنهل الرائدة نداءً عامً ا إلنقاذها قبل‬

‫توقفها‪ ،‬ومرت شهور على هذا النداء‪ ،‬ولم أقرأ حتى الساعة استجابة له‬ ‫أو حتى خب ًرا عنه‪.‬‬

‫يبقى أن نقول إن هذا المشهد‪ ،‬الذي ال يمكن وصفه بالتفاؤل‪ ،‬يظل‬ ‫ً‬ ‫ناقصا وانطباعيًا‪ ،‬ففي اليوم الذي أعلنت فيه اإلندبندنت توقفها؛ أُعلن‬

‫في لندن نفسها عن صدور مطبوعة «نيو داي» اليومية التي لن يكون لها‬

‫‪182‬‬

‫نسخة إلكترونية‪ ،‬وأكدت مجموعة «ترينتي ميرور» التي أصدرتها‪ ،‬أن‬

‫دراسة الجدوى وجدت لدى القراء حاجة ملحّ ة لما وراء الخبر من تحليل‬ ‫ووجهات نظر‪ ،‬وهي بالمناسبة أول صحيفة جديدة في لندن منذ ثالثين‬

‫تجيء مجلة الفيصل‪،‬‬ ‫في هذا العدد الجديد‪،‬‬ ‫وفي هذا التوقيت‬ ‫لتعلن انفتاحها على‬ ‫معنى الثقافة األوسع‪،‬‬ ‫ومزاحمتها الهواتف‬ ‫الذكية على أيدي‬ ‫المثقفين‬

‫عامً ا‪.‬‬

‫ولنتجاوز لندن وصحفها؛ أال يحتاج القارئ العربي إلى أن يعرف ما‬

‫الذي يقف خلف هذه المذابح اليومية في المدن العربية؟ األخبار تعلن أنها‬ ‫الدكتاتورية والطائفية‪ ،‬وعلى الصحافة الرصينة اليوم أن تحيطه بما وراء‬

‫ذلك‪ ..‬لماذا صار هذا مآلنا؟ عليها أن تنقل له الرأي والتحليل؛ كي يعرف‬ ‫موقعه من العالم‪ ،‬وإلى أين وصل سياسيوه وأحزابه‪ ،‬وما الذي أوقف‬

‫قطار حضارته في محطة التاريخ‪.‬‬ ‫ألسنا ً‬ ‫أيضا نسمع شكوى أكاديميين ومثقفين من أن الناس ال‬

‫يقرؤون وال يتابعون؟ فكيف نفسر الحضور الهائل لمئات األلوف من القراء‬ ‫في مواقع التواصل االجتماعي الذين يتناقلون يوميًا اآلالف من األخبار‬

‫والمقاالت والصور والفيديوهات‪ ،‬ويتفاعلون معها بالرأي والنقد؟ إنها‬ ‫قراءة ً‬ ‫أيضا‪ ،‬لكنها قراءة ال نكاد نعترف بها؛ ألنها جديدة علينا‪ ،‬وخفيفة‬ ‫وسريعة‪ ..‬القراءة التي عهدناها دهورًا هي ما نرصفه في المكتبات‪ ،‬ولم‬

‫يحن الوقت بعد لندرك أن مصادر المعرفة تعددت‪ ،‬وأننا إن لم نوظفها‬ ‫خسرناها‪ ،‬وخسرنا معها مستخدميها‪.‬‬

‫تصلنا يوميًا على هواتفنا عشرات النصوص المطوّلة‪ ،‬ونقرؤها‬

‫ونناقشها ونتأثر بها‪ ،‬ولو أنك جمعت ما قرأته في هاتفك خالل مدة‬ ‫ّ‬ ‫الغث فيها كثير‪،‬‬ ‫وجيزة ستجده يعادل كتابًا متوسط الحجم‪ ،‬صحيح أن‬ ‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬


‫لكن من يقتنص الفرائد يعرف مواضعها وأهلها‪ .‬نقرأ في فيسبوك وتويتر لشباب‬

‫وشابات‪ ،‬ليست لهم أسماء معروفة‪ ،‬نقدً ا ورأيًا هو أكثر حصافة ورصانة مما‬ ‫نعدّ ه في أغلبية صحفنا ومالحقنا الثقافية‪ ،‬الواقع أن القراءة ازدادت ولم تنقص‬ ‫الهواتف الذكية جعلت الصغار والكبار‪ ،‬العلماء والبسطاء يقرؤون‪ ،‬لكن الوسيلة‬

‫اختلفت‪ ،‬واالهتمامات تعددت‪ ..‬وعلى الصحافة الثقافية العربية أن تستجيب‬ ‫راغمة‪ ،‬وتزاحم المبتذل والسطحي على القراء وال تستسلم له‪ ،‬وهي لن تكون‬

‫‪www.alfaisalmag.com‬‬ ‫مديرا التحرير‬

‫أحمد زين‬ ‫حسين حسن حسين‬

‫فريدة في هذا‪ ،‬فقد سبقتها الصحف والمجالت الغربية الرصينة؛ جولة سريعة‬

‫في حسابات اإليكونومست وتايم ونيويورك تايمز ستخبرك أنها نزلت من عليائها‬ ‫إلى الناس‪ ،‬وهذه مجلة فورن بوليسي تعلن أنها تنشر السياسة واالقتصاد‪ ..‬ثم‬

‫تضيف «واألفكار»‪.‬‬

‫وتجيء مجلة «الفيصل»‪ ،‬في هذا العدد الجديد‪ ،‬وفي هذا التوقيت؛ لتعلن‬

‫انفتاحها على معنى الثقافة األوسع‪ ،‬ومزاحمتها الهواتف الذكية على أيدي‬ ‫المثقفين‪ ،‬ورهانها على قراء نوعيين‪ ،‬في عصر التطبيقات اإللكترونية متناهية‬

‫الصغر‪ ،‬فائقة الذكاء‪ ،‬رخيصة التكلفة‪ ،‬موسوعية المعارف‪ ،‬سريعة كالبرق‪،‬‬ ‫وهي فوق ذاك متحررة من الطباعة والرقابة والتوزيع‪ ..‬وإذا كنت ستكتفي بمطبوعة‬

‫ٍّ‬ ‫تحد‪ ،‬وما أخسره من رهان‪،‬‬ ‫ورقية أمام هذا السيل اإللكتروني؛ فما أصعبه من‬ ‫غير أن المجلة عالجت ذلك بحضورها في كل الصيغ الممكنة إلكترونية أو ورقية‪،‬‬ ‫بنسخة كفية للهواتف‪ ،‬ونسخة لسطح المكتب‪ ،‬سيجدها القارئ كيفما أحب أن‬

‫يقرأها ووقتما شاء‪.‬‬

‫سؤال أخير سيسأله أي صحافي مشتغل بمجلة متخصصة؛ ما الثقافي وما‬ ‫الثقافة ًّ‬ ‫حقا؟ بكلمات أخرى‪ :‬ما المجلة الثقافية؟ أهي ما قدمته المجالت العربية‬

‫األدبية الرائدة منذ الهالل والمقتطف؛ من جميل الشعر والنقد ومسامرات الكتاب‬

‫ورسائلهم؟ أم أنها مجالت الثقافة األوربية اليوم مثلما يقدمها الفرنسيون منفتحة‬ ‫على األزياء واألطعمة والطهي وتربية الحيوانات؟ يكفي أن تفتح أي قاموس على‬

‫كلمة (ثقافة ‪ )Culture‬لتنظر كيف تطور المفهوم‪ ،‬وكيف اختلف من حضارة إلى‬ ‫أخرى‪ ،‬ومن زمن آلخر‪ ..‬وكيف أن فهم الثقافة في صحافتنا ما زال مقتص ًرا على ما‬

‫نسميه األدب‪ ،‬ونعني به الشعر والسرد وما يدور حولهما‪.‬‬

‫لن تكون «الفيصل» مجلة أدب فحسب‪ ،‬في الوقت الذي دخلت فيه هموم‬

‫السياسة كل بيت‪ ،‬ولن تقصر موادها على نقد الشعر الجاهلي في وقت نشاهد فيه‬

‫جاهلية تبعثها داعش في الرقة والموصل‪ ،‬ومقتلة كل يوم من تعز إلى بنغازي‪،‬‬

‫ولن تكون مجلة سياسة فحسب‪ ،‬في الوقت الذي يحتاج الناس فيه إلى الفنون‬ ‫والجمال؛ هي ستكون ذلك كله‪ ،‬بل أكثر‪.‬‬

‫كل ما يتصل بالنتاج الفكري اإلنساني الرفيع هو ثقافة‪ ،‬وكل ما يعني الناس في‬ ‫فضائهم العام ثقافة ً‬ ‫أيضا‪ ،‬يبقى أن تقدّ م هذه الثقافة إلى القارئ المتخصص وغير‬ ‫المتخصص على حد سواء في شكل وجبات معرفية صغيرة‪ ،‬تحيله إلى وسائل‬

‫المعرفة األكبر واألوسع‪ ،‬هذا ما سنحاوله‪ ..‬والعدد الذي بين يديك اليوم لن يكون‬

‫كل ما تقوله المجلة؛ إنما هو استعداد لما ستقوله‪.‬‬

‫اإلخراج‬

‫ينال إسحق‬ ‫التنفيذ‬

‫رياض دفدوف‬ ‫أزهري النويري‬ ‫مبارك علي‬ ‫الموقع اإللكتروني‬

‫معتز عبدالماجد‬ ‫المراجعة اللغوية‬

‫محمد نصير سيد‬ ‫مراسالت التحرير واإلدارة‬

‫ص‪.‬ب (‪ )3‬الرياض ‪11411‬‬ ‫المملكةالعربيةالسعودية‬ ‫هاتف ‪)+966( 11٤٦٥3027 :‬‬ ‫‪)+966( 11٤٦٥٢٢٥٥‬‬ ‫فاكس‪)+966( 11٤٦٤٧٨٥١ :‬‬ ‫‪contact@alfaisalmag.com‬‬ ‫اإلعالنات‬ ‫هاتف‪ .11٤٦٥٢٢٥٥ :‬ـ فاكس‪.11٤٦٤٧٨٥١ :‬‬ ‫‪advertising@alfaisalmag.com‬‬ ‫االشتراكات والتوزيع‬

‫‪ .11٤٦٥٢٢٥٥‬تحويلة‪6466 :‬‬ ‫‪subscriptions@alfaisalmag.com‬‬


‫مقال‬

‫دائما ‪ -‬اآلن‪،‬‬ ‫ً‬ ‫شرط الشعرية‬ ‫على عكس االنطباع المتوارث عن كتاب «الشعر» ألرسطو‪ ،‬فهو‪ ،‬وفق‬

‫قراءات نقدية جديدة‪ ،‬لم يكن يتحدّث سوى عن فنّ «التمثيل» بوصفه لغة‬ ‫التعبير األشهر ديمقراطيًّا في ذلك الزمان‪ .‬غير أن الجانب العميق في األمر‪،‬‬ ‫أن مسرح ذلك الزمان هو اآلخر‪ ،‬قد نشأ شع ًرا‪ ،‬أو شعر ّيًا بالمعنى الجوهريّ‬

‫لهذا المعنى في الثقافة الفنية عبر العصور‪.‬‬ ‫األرجح أن الكتاب كان يُعْ َنى بفنون التعبير (الحكائية)‪ ،‬ففي سياق‬ ‫ِّ‬ ‫يشكل فنُّ المسرح‪ ،‬بوصفه‬ ‫الرؤية النقدية لفنون التعبير في ذلك الزمان‪،‬‬

‫اإلنساني في ذلك الوقت؛‬ ‫جنسا أدبيًّا‪ ،‬أحدَ أبرز األنواع المتاحة لإلبداع‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫حتى إن كتاب «الشعر» قد َّ‬ ‫تكلم عن الدراما (التراجيديا)‪ ،‬وفق ما وصل‬ ‫ّ‬ ‫المتعلق‬ ‫إلينا من مخطوطة الكتاب األصلية‪ ،‬على حين يقال‪ :‬إن الجزء‬ ‫ً‬ ‫بالكوميديا‪ ،‬صار مفقودًا‪ .‬ومعلومٌ أن الكوميديا كانت حاضرة ًّ‬ ‫وممارسة‬ ‫نصا‬

‫في زمان الكتاب وصاحبه‪ ،‬بل إن الكوميديا هي أحد أبرز الظواهر النقدية‪،‬‬

‫‪184‬‬

‫اليوناني آنذاك‪ ،‬فقد كانت المسرحية الكوميدية تطال بالنقد‬ ‫في المجتمع‬ ‫ّ‬ ‫الديمقراطي الذي‬ ‫مشكالت المجتمع كافة‪ ،‬متمتعة بحريات المجتمع‬ ‫ّ‬ ‫يضرب به المثل في العصور الالحقة‪.‬‬

‫يبقى القول بأن الشعرية اآلن‪ ،‬ربما تجاوزت الحدود التقنية التي‬ ‫تحدّث عنها كتاب أرسطو؛ ليصبح ِّ‬ ‫الشعر في عصرنا هو أكثر العناصر الفنية‬ ‫تجسيدً ا لألدب أولاً ‪ ،‬وفنون التعبير األخرى عمومً ا‪ .‬وسوف يبدأ التنظير‬

‫قاسم حداد‬ ‫شاعر بحريني‬

‫الحريات ال تُمنَح من‬ ‫االجتماعي‬ ‫النظام‬ ‫ّ‬ ‫السياسي‪ ،‬إنما‬ ‫أو‬ ‫ّ‬ ‫هي حقوق ال يتحقق‬ ‫المبدع واإلبداع‪ ،‬إال‬ ‫بممارستها منذ لحظة‬ ‫العمل األولى‬

‫ً‬ ‫الجمالي الذي ّ‬ ‫يحقق القدر‬ ‫شرطا يكاد يكون الزمً ا؛ من أجل أن يتاح للمبدع الفضاء‬ ‫الحديث يرى في شعرية التعبير‪ ،‬بش ّتى أشكاله‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الالزم من النجاح في التعبير‪.‬‬

‫بالطبع سيساعد هذا الشرط على تمييز الفنون جميعها من عمومية الفنّ ‪ ،‬ويحميه من االبتذال الذي ستج ّره إليه نظريات‬

‫الثقافي للمجتمع‪ ،‬وتجعله‪ ،‬فيما تجرجره لنقل الواقع وتسجيل الحياة‪ ،‬بمنزلة‬ ‫(الواقع) في مراحل تاريخية مختلفة‪ ،‬نحو السطح‬ ‫ّ‬ ‫القشرة الخارجية سريعة االنحالل‪ ،‬فيفقد طبيعته الجمالية الحُ َّرة‪ ،‬المُ َّتصلة بالرؤية المغايرة للواقع وليس االمتثال له‪ .‬تلك الرؤية‬ ‫ً‬ ‫التي ترى في الفنّ‬ ‫نقضا للواقع وإعادة خلق حرية له‪.‬‬

‫الشعرية هنا‪ ،‬هي حريات الصدور عن الجمال في الفنّ ‪ ،‬وهذا ما سوف يستعيد اكتشافه ِّ‬ ‫منظرون قليلون في الثقافة العربية‬

‫المعاصرة بتجربتهم في الدرس النقديّ ‪ ،‬فيما يدركون الدَّالالت العميقة‪ ،‬في كثير من النصوص‪ ،‬للعالقة الوشيجة بين فنون‬ ‫ً‬ ‫الحقا الكالم عن المفهوم الجوهريّ العميق والشامل الفنون الجميلة‬ ‫التعبير‪ ،‬من دون االمتثال لحصرية نوع على آخر؛ مما يتيح لنا‬ ‫في حياتنا ونصوصنا‪.‬‬ ‫اآلن ‪ -‬دائمً ا‬

‫العربي؛ حرية المخيلة للشعر‪ ،‬وحريات التعبير للمسرح‪.‬‬ ‫عند الكالم عن أمرين‪ ،‬يصعب تفادي فكرة غياب الحريات في الواقع‬ ‫ّ‬

‫اآلن ـ دائمً ا‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫السياسي‪ ،‬إنما هي حقوق ال يتحقق‬ ‫االجتماعي أو‬ ‫سيكون من نافلة القول‪ ،‬أن مثل هذه الحريات ال تمنح مثل هِ بَة من النظام‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫المبدع واإلبداع‪ ،‬إال بممارستها منذ لحظة العمل ُ‬ ‫األولى‪.‬‬ ‫اآلن ـ دائمً ا‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫هل ثمة ما يمنحنا ن ْتفة من ثقة‪ ،‬بأن (لحظة عملنا) األولى‪ ،‬قد كانت‪ ،‬أو حانت؟‬

‫العددان ‪ 474 - 473‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1437‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2016‬م‬




Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.