العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ مارس -إبريل 2016م
مئة عام على سايكس بيكو
نهايةالجغرافيا في الوطن العربي
ماذا حدث للكويت؟ محمود درويش أشهر شاعر عربي لألسف
اإلبداع في قبضة المخابرات www.alfaisalmag.com
المقالح :اليمنيون فقدوا الحكمة
k É`ã``jó``M Qó`°U
ô``jô`ë`J á``ª`Lô`J
´Gô°üdG AÉ£Z â– Ée ∞°ûµj ÜÉàc øª«dG ‘ á«∏Ñ≤dGh á«°SÉ«°ùdG ÖîædG ÚH www. research.kfcris.org research@kfcris.com
ﺗﺠﻮل ﻓﻲ ﻣﻮﻗﻊ »
«
ﻣﻘﺎﻻت ﻟﻨﺨﺒﺔ ﻣﻦ أﻫﻢ اﻟﻜﺘﺎب ﻣﻠﻔﺎت وﺗﺤﻘﻴﻘﺎت وﻗﻀﺎﻳﺎ ﻋﻦ اﻟﺮاﻫﻦ اﻟﺜﻘﺎﻓﻲ واﻟﺴﻴﺎﺳﻲ ﻣﻊ إﻃﻼﻟﺔ ﻋﻠﻰ اﻹﺑﺪاع ﻓﻲ ﻣﺨﺘﻠﻒ اﻟﻔﻨﻮن
alfaisalmag @alfaisalmag www.alfaisalmag.com editorial@alfaisalmag.com
(+ ) (+ ) / - ( ) .
العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
مئة عام على سايكس بيكو
أسسها عام 1397هـ1977/م
األمير خالد الفيصل
نهايةالجغرافيا في الوطن العربي
يصدرها
رئيس مجلس اإلدارة
األمير تركي الفيصل
ماذا حدث للكويت؟ محمود درويش أشهر شاعر عربي لألسف
المقالح :اليمنيون فقدوا الحكمة
اإلبداع في قبضة المخابرات www.alfaisalmag.com
الناشر
الثقافية
دار
رئيس التحرير
ماجد الحجيالن editorinchief@alfaisalmag.com تعبر عن وجهة نظر اآلراء المنشورة ّكتَّابها ،وال تم ِّثل رأي مجلة الفيصل. تكفل المجلة حرية التعليق علىموضوعاتها المنشورة شريطة االلتزام بالموضوعية. تحتفظ المجلة بحقوق ملكيتها للموادالمنشورة فيها ،ويتطلب إعادة نشر أي ورقيا الحصول على إلكترونيا أو مادة ً ً موافقة المجلة مع اإلشارة إلى المصدر. ترسل المواد إلى بريد المجلةاإللكتروني:
editorial@alfaisalmag.com لالطالع على سياسة النشر يرجى زيارةالموقع االلكتروني
www.alfaisalmag.com ردمد ٨٥٢٠ - ٠٤١١ رقم اإليداع مكتبة الملك فهد الوطنية 41/2450 العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
العددان - 474-473السنة األربعون
في هذا العدد المركز
1
وحدة الحوار بين األحياء واألموات
40
ما الذي حدث للكويت؟
44
المثقفون في تونس قبل الثورة وبعدها
66
تيماء في ضوء نقوشها اآلرامية
90
صحراء غازي وصحراء أسامة
96
والتزاما ألباني يرى الموسيقا قضية فنان ً ّ
126
في زنازين إيران السرية
136
وسائل التواصل تلغي نخبوية األدب
164
مقاالت سعيد بنكراد
74
عواض العصيمي
82
عبدالعزيز الحيص
110
الحداد محمد ّ
114
صدوق نورالدين
131
سعد البازعي
134
صاغية حازم ّ
162
شيرين أبو النجا
180
قاسم حداد
184
شخصيات
قضايا
14
50
ٍ لع ليس مط ٍ بخاف على ّ االتصال الوثيق بين السياسة والثقافة ،فلطالما خدم كل منهما اآلخر ،لكن ما يثير حرص المعنيين االهتمام هو ُ على التشديد على أن ثمة منيعة ضد التدخل منطقة ً ً
ابن عقيل
السياسي. ّ
دولي شرس في نطاق أكبر من الفن صراع ّ
علم غزير ونبل وتسامح
قضايا
ثقافات
فنون
58
120
158
باريس
أحفاد سرفانتس..
زمان جاسم:
بعد االعتداءات...
إسبانيا والظواهر األدبية الجديدة
عالقتي بالفن في توتر
ملف العدد
نهاية الجغرافيا أم نظرية المؤامرة؟ شارك في ملف هذا العدد: عبدالرحمن الراشد عبدالوهاب بدرخان وحيد عبدالمجيد ابتسام الكتبي عبدالعزيز بن صقر -عمار السواد
18
-أيمن الحماد
المركز
األمير تركي الفيصل يحاضر عن مستقبل العالم العربي أكد رئيس مجلس إدارة مركز الملك فيصل
الرياض -الفيصل
للبحوث والدراسات اإلسالمية األمير تركي الفيصل، أن الضمانة األكيدة لالستقرار واألمن في العالم العربي تكمن في المحافظة على النسيج االجتماعي وتالحم القيادة والشعب .وقال الفيصل :إن
السعودية واجهت تحديات ،وأدارت األزمات بكل جدارة ،موضحً ا أن المملكة ستنجح في مواجهة تهديدات الحاضر ومخاوف المستقبل .
جاء ذلك في المحاضرة التي نظمتها الجمعية
السعودية للعلوم السياسية ،الشهر الماضي في
كلية الحقوق والعلوم السياسية بجامعة الملك
سعود ،وعنوانها« :مستقبل العالم العربي في ضوء المتغيرات الراهنة» ،وشهدت حضور عدد كبير من المهتمين.
4
سا للتحرير الفيصل في عهد جديد ..والحجيالن رئي ً
الصافي
الحسين
ابن جنيد
الكويليت
تدخل مجلة «الفيصل» بدءً ا من العدد الحالي في عهد جديد مع قرائها ،في إطار دورها المستمر في خدمة الثقافة العربية
منذ 40عامً ا ،وتتضمن الرؤية الجديدة للمجلة تطوي ًرا في المحتوى ليشمل مفهومً ا أوسع للثقافة والفنون ،وتغيي ًرا في الحجم
ونوع الورق واإلخراج الفني ،ومضاعفة عدد الصفحات والمواد التحريرية ،إضافة إلى هدية «الفيصل» وهي إصدار ثقافي يوزع
مع كل عدد ،كما أطلقت المجلة موقعها اإللكتروني الجديد ،وفعّ لت حساباتها في موقعي تويتر وفيسبوك؛ لتكون على صلة
بالقراء والمتابعين بشكل مباشر.
وتعد مجلة «الفيصل» من أبرز المجالت الثقافية العربية منذ أن أسسها األمير خالد الفيصل سنة (1397هـ 1977 /م)،
وارتبطت مع قرائها في المملكة العربية السعودية وأرجاء العالم العربي بعالقة ممتدة ،وكان رئيس تحريرها األول األديب
الرائد علوي الصافي ،ثم خلفه األكاديمي الدكتور زيد الحسين ،ثم أعقبه الباحث الدكتور يحيى محمود بن جنيد ،إضافة إلى ً سابقا مدي ًرا لتحرير مهامه أمي ًنا عامًّ ا لمركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية ،ثم الكاتب عبدالله الكويليت الذي عمل الفيصل ونائبًا لرئيس التحرير ،وشهدت «الفيصل» في هذه المراحل خطوات تحريرية وفنية متنوعة وشاملة.
رئيسا لتحرير مجلة الفيصل ،ليكون خامس رئيس لتحرير المجلة، وفي نوفمبر عام 2015م باشر الزميل ماجد الحجيالن عمله ً
ولتستهل «الفيصل» مرحلة جديدة ،يطالعها القراء في هذا العدد ،وفي الموقع اإللكتروني للمجلة ،وعبر حساباتها في مواقع التواصل االجتماعي .وتتطلع أسرة تحرير المجلة إلى أن تنال هذه الخطوة والخطوات التطويرية المقبلة استحسان القراء،
ويسعد فريق العمل تلقي رؤى قراء الفيصل واقتراحاتهم عبر عناوينها المنشورة. العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
مؤتمر دولي عن الراحل سعود الفيصل يرعى خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، المؤتمر الدولي الذي ّ ينظمه مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات
اإلسالمية عن األمير سعود الفيصل رحمه الله ،بعنوان« :سعود األوطان».
يأتي المؤتمر في سياق حرص مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات ً عامة ،وإلقاء اإلسالمية على االحتفاء بجهود أبناء الوطن وإنجازاتهم
الضوء على سيرة األمير سعود الفيصل ،وجوانب حياته المختلفة، ً ً وجهوده الكبيرة في الدبلوماسية السعودية؛ إذ إنه ّ مهمة مرحلة يمثل ً خدمة في تاريخ الدبلوماسية بشكل عام ،فهو وزير الخارجية األطول
في العالم ( 13أكتوبر 1975م 29 - إبريل 2015م) بعد والده الملك فيصل.
ويحضر المؤتمر على مدار أيامه الثالثة أكثر من ثالثة آالف مهتم،
من نخبة المجتمع من األمراء والوزراء واألكاديميين والباحثين والدبلوماسيين.
المركز يضم مجموعة مميزة من مقتنيات الملكة عفت ً ّ حديثا ،إلى مجموعته المميزة من النقود التي تنتمي إلى كثير ضم مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية ً من الدول اإلسالمية والممالك األجنبية ،مجموعة من مقتنيات الملكة عفت -رحمها الله -إذ جرى حصرها وتصنيفها استعدادًا إلصدار مطبوعة عنها.
وتحتوي المجموعة الجديدة على أكثر من ألف قطعة ،بعضها من القطع النادرة؛ مثل :دينار من الذهب ُ ضرب بمصر ّ استقلت سياسيًّا بحكم العباسي المأمون ،وقد ُنقش عليه اسم أحد أبناء أسرة السري بن الحكم التي في عهد الخليفة ّ مصر في مطلع القرن الثالث الهجريّ .
ومن أهم المقتنيات في تلك المجموعة بعض النياشين والنقود التذكارية التي أهديت الملك فيصل -رحمه الله-
وبعض متعلقاته الشخصية المهمة؛ مثل :ساعات اليد ،وساعات المكتب ،والهدايا التذكارية ،واألوراق ذات الصلة بزياراته المملكة المتحدة والواليات المتحدة األميركية وقت ّ توليه منصب وزير الخارجية.
سعودي من الذهب ُضرب في مكة عربي جنيه ّ ّ المكرمة سنة 1370هـ ،في عهد الملك عبدالعزيز
أموي ُضرب سنة 84هـ، دينار ّ في عهد الخليفة عبدالملك بن مروان
5
المركز
اليمني يجب أن يأخذ مكانه بين أشقائه الخليجيين أكدت أن الشعب َّ
حلقة نقاش حول «إعادة بناء اليمن» ّ نظم مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية ،حلقة
نقاش عن كتاب «إعادة بناء اليمن ..التحديات السياسية واالقتصادية واالجتماعية» الذي ح ّرره الباحثان :نويل بريهوني رئيس الجمعية
البريطانية اليمنية ،وسعود السرحان مدير إدارة البحوث في المركز، واختيرت فصوله ضمن األوراق التي ُق ِّدمت في المؤتمر السنويّ لمركز الخليج لألبحاث الذي ُعقد في جامعة كمبريدج في المدة ()28-24
أغسطس عام 2014م ،وصدرت طبعته األولى باللغة اإلنجليزية عام 2015م عن مطبعة غيرالج في ألمانيا. اف َت َتح حلقة النقاش ،التي احتضنتها قاعة المحاضرات الكبرى
بمؤسسة الملك فيصل الخيرية ،األمير تركي الفيصل -رئيس مجلس
اليمني يجب أن يأخذ مكانه الصحيح إدارة المركز -مؤكدً ا أن الشعب َّ بين أشقائه في دول شبه الجزيرة العربية ،وتم َّنى أن تحظى نتائج
6
الحلقة باالهتمام؛ «ألن الفقر والعنف والصراعات وسفك الدماء، ً ً التي شهدها اليمن على مدى السنوات الماضيةِّ ، شاذة حالة تمثل
داخل أسرة دول شبه الجزيرة العربية ،التي ترى اليمن من أقرب الدول َّ وحث األمي ُر تركي الباحثين على معالجة قضية اندماج الشقيقة إليها». الخليجي في كتاب مستقلّ. اليمن في مجلس التعاون ِّ
موقع « ضمن
خطوات
اإللكتروني » ّ التطوير
التي
تشهدها المجلة ،أطلقت «الفيصل» اإللكتروني ،وحوى الموقع موقعها ّ كثي ًرا من التبويبات واألقسام التي تهمّ
العربي ،الباحث عن الثقافة القارئ ّ والمعرفة والفنون والسياسة .وجرى
عمل نسخة «كفيَّة» للموقع بكامل المحتوى ،تسهيلاً على مستخدمي
العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
مئة عام على سايكس بيكو
نهايةالجغرافيا في الوطن العربي
األجهزة المتنقلة المختلفةwww. .
alfaisalmag.comوتتلقى المجلة مشاركات ُكتابها ،ورسائل ُقرائها على اإللكتروني: البريد ّ
editorial@alfaisalmag.com
العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
ماذا حدث للكويت؟ محمود درويش أشهر شاعر عربي لألسف
اإلبداع في قبضة المخابرات www.alfaisalmag.com
المقالح :اليمنيون فقدوا الحكمة
7
كاريكاتير
فعاليات
الفائزون بجائزة الملك فيصل العالمية:
نتطلع إلى أن نمثل كل الباحثين في مجاالتنا فاز أكثر من مرشح عربي إضافة إلى هولنديين
وأعلن األمين العام للجائزة فوز كل
العالمية في دورتها األخيرة؛ إذ أعلن
والدكتور محمد مفتاح (المغرب) بجائزة
من الدكتور محمد عبدالمطلب (مصر)
وأميركي وبريطاني بجائزة الملك فيصل
اللغة العربية واألدب ،وموضوعها:
األمين العام للجائزة الدكتور عبدالعزيز
ّ النص «الجهود التي بُذلت في تحليل
السبيل ،خالل حفل إعالن الفائزين
العربي» ،تقدي ًرا إلنجازات األول الشعريّ ّ
بحضور رئيس هيئة الجائزة األمير خالد
في مجال التحليل التطبيقي للنصوص
الفيصل في مركز الخزامى في 9ربيع
اآلخر 1437هـ الموافق 19يناير 2016م؛ فوز
الدكتور صالح بن حميد (السعودية) بجائزة خدمة
8
اإلسالم.
فقد بذل -بحسب بيان أمانة الجائزة -جهدً ا في الجمع
ّ المؤصل ،واستيعاب متغيرات العصر الفقهي بين الرأي ّ اإليجابي في تناول الحاضر ،إضافة إلى قدرته على التأثير ّ
القضايا الفقهية المعاصرة ،وتمتعه بشخصية علمية شرعية وعدالة ووسطية.
الشعرية؛ إذ درس النصوص بكفاءة واقتدار،
موائمً ا بين معرفة عميقة بالتراث والنظريات األدبية
الحديثة ،ولتوظيف الثاني معارفه العلمية الحديثة في تحليل النصوص الشعرية بعمق وأصالة وقدرة فريدة على الوصف والتحليل ووعي بقيمة التراث ،وانفتاح على الثقافة اإلنسانية.
وفاز في فرع الطب ،وموضوعه« :التطبيقات السريرية
للجيل القادم في علم الجينات» الدكتور هان جريت
وفاز الدكتور عبدالله الغنيم (الكويت) بجائزة الدراسات
برونر ،والدكتور يورس فلتمان (هولنديان) ،عن أبحاثهما
والغنيم قدَّ م مجموعة من األعمال في الجغرافيا عند ً ً وتحقيقا ،إضافة إلى دوره المتميز في تأليفا المسلمين
اإلكلينيكي ،فقد ط َّورَا طرائق الجينات إلى التشخيص ّ
الجغرافي عند المسلمين». اإلسالمية ،وموضوعها« :التراث ّ
إحياء مصطلحات عربية قديمة ألشكال سطح األرض. جرى ترشيحنا لنيل جائزة
عملية لتحليل عينات من المرضى المشتبه في حملهم ً أمراضا وراثية ،وهو ما حَ َف َزهما بكل
الملك فيصل العالمية (فرع
صدق،
إحدى
الكليات أخبرتني أنها تستطيع
العلوم) من كلية أوربية .وخبر
ترشيحي لنيل هذه الجائزة
حصولي على الجائزة كان مفاجأة كبيرة .الئحة الفائزين بالجائزة
في االرتقاء بالتطبيقات السريرية للجيل المقبل في علم
الكبيرة؛ مما يعد فخرًا لي أن
هان برونر
أفوز بها .جائزة الملك فيصل
يوريس فلتمان
تمثل أرقى المعايير العالمية للفوز بالجائزة ،وشرف كبير لي
العالمية في الطب مرموقة وتحظى بإقبال كبير ،وفق ً الئحة الفائزين بها خالل ً 37 أيضا-عاما فإنهم فازوا
يعطي الجائزة مكانتها المرموقة.
الفائزين بالجائزة.
أن أكون ضمن هذه الالئحة ،وبخاصة أن الفائزين في األعوام الماضيةُّ ، يعدون قادة بارزين في مجاالتهم المختلفة؛ مما
العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
بجائزة نوبل .إنه لشرف كبير لي أن أصبح أحد هؤالء
صالح بن حميد
خالد الفيصل في اجتماع مع أعضاء لجان االختيار
محمد عبدالمطلب
ً فريقا إلى إدخال هذه التقنيات في العيادة الطبية ،وكوَّنا َ دولي في أبحاث الجينات وتشخيصها ،ونش َرا بدأ بتعاون ّ
بحوثهما في مجالت علمية متميزة عالميًّا ،وحصال على اعتراف من زمالئهما في التخصص بكونهما علماء مبتكرين. وأعلن الدكتور عبدالعزيز السبيل اسمَ ِي الفائزي ِْن بجائزة
فرع العلوم ،وموضوعه« :علم الحياة» ،وهما الدكتور
(أميركي) والدكتور ستيفن فيليب فامسي كريشنا موثا ّ جاكسون (بريطاني)؛ إذ استخدم األول الميتاكوندريون (المسؤولة عن إنتاج الطاقة في الخلية) نموذجً ا جديدً ا
يربط بين الجينومكس والبروتيومكس واالستقالب وعلم الحاسوب الحيويّ ،إضافة إلى استطاعته َتع ُّرف حلقة
الوظيفي في الميتاكوندريون على الوصل بين االختالل ّ مستوى الجزيئيات واألمراض المستعصية؛ مثل مرض السكري ،وهو ما يعدّ إسهامً ا في إيجاد تطبيقات جديدة
في التشخيص والعالج .وأسهم الثاني في تع ُّرف الصلة بين
آليات اضطراب الجينوم ،وعالقة ذلك بمرض السرطان، وبخاصة اكتشاف العوامل الجزيئية إلصالح الحمض النوويّ .ويرجع الفضل إلى الدكتور جاكسون في ابتكار
أسلوب جديد لتحويل نتائج أبحاثه إلى أدوات لمعالجة السرطان.
ًّ حقا َل َشرف عظيم إنه أن أُ َ منحَ جائزة الملك فيصل
الدولية ،وفوزي بها سيساعدني
والباحثين والمفكرين هو تميّز جائزة
الملك فيصل العالمية بالحيادية المطلقة والموضوعية الجادة ...ومن
عبدالله الغنيم
ثم فقد أصبح الفوز بجائزة الملك فيصل لكل العلماء
والباحثين والمفكرين دليل تقدير موضوعي محض ،على
استحقاق التكريم وعلى إنجاز مميّز في مجال التخصص.
9
ُ سهم في التقدم الجائزة ت ِ الحضاري والثقافي والعلمي، حص ْ َّ َ نفسها بِ ُنظم نت وقد
تعصمها من العبث واالنحياز محمد مفتاح والظلم .واشترطت ألاَّ يكون ُّ التكتالت إال ما لها صفة علمية معرفية. الترشيح لها من إن هذه االشتراطات َّ جنبت المؤسسة اإلرهاق الماديّ والمعنويّ باالهتمام بما ال طائل تحته .كل ما َت َّ قدم
اسما على ُم ّ ً سمى؛ يجعل جائزة الملك فيصل العالمية فذاع ُ صيتها ،وبدأ أهل العلم يسارعون إلى الظفر بها.
بالفخر
الشديد
لحصولي على هذه الجائزة العالمية في فرع الطب ،إن
ستيف جاكسون
كثيرًا في تحقيق طموحاتي العلمية ،ومواصلة تحقيق إنجازات َّ عدة .ومن أهم ما تتيحه لي جائزة الملك فيصل العالمية ،هو زيارة السعودية.
المتابعين والمهتمين من العلماء
أشعر
العالمية في العلوم .الجائزة تحظى بتقدير كبير في األوساط
أكثر ما استقر في أذهان كل
معرفة الفائزين بها على مدى ً ّ حافزا يعد الدورات الماضية،
فامسي موثا
كبيرًا لنا .وإنني أتطلع من خالل فوزي بالجائزة ،إلى أن
أمثل كل الباحثين في مجالنا ،ممن قدموا إسهامات
كبيرة ،سواء السابقون منهم أم الحاليون.
فعاليات
بول سوليفان في مركز الملك فيصل:
االتفاق مع إيران كارثي ولن ننتخب ترامب الفيصل الرياض
ألقى بول سوليفان -أستاذ االقتصاد
يمكن السفر بالسيارة ب ًّرا من بغداد إلى
الوطنية وجورج تاون األميركيتين-
سيظل في الخليج ،كما أن قاعدة
بيروت .وأضاف أن األسطول الخامس
والدراسات األمنية بجامعتي الدفاع
«العديد» في قطر باقية.
محاضرة عن «العالقات األميركية
وقال :إن علينا أن نركز في توفير ً عوضا من المعلومات الصحيحة
العربية :إلى أين؟» في مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية، مثي ًرا جدلاً واسعً ا بين الحضور ،الذين
األدلجة التي تشوِّه الحقائق ،فعلى
الرغم من تحريم اإلسالم المخدرات،
أمطروه بوابل من األسئلة والتعليقات،
وقد تقدمهم األمير تركي الفيصل رئيس مجلس إدارة المركز ،وجمع كبير من
10
الدبلوماسي، المفكرين وأعضاء السلك ّ
وأدار المحاضرة عوض البادي المستشار بالمركز.
سوليفان
فإن هناك جماعات إرهابية تدّ عي اإلسالم ،وتتقاضى أموالاً طائلة جراء
بيعها المخدرات واآلثار ،وهي تفرض
الضرائب على سكان المناطق التي تسيطر عليها؛ لذلك ينبغي
كان الباحث صريحً ا في انتقاد السياسات األميركية التي
التكاتف من أجل تجفيف منابع تمويل هذه الجماعات التي
ضاربًا المثل بحرب العراق ،وقطع المساعدات العسكرية عن
ِّ متعدد من حيث وأشار الباحث إلى أن العالم العربي
األميركي طيب بطبعه ،لكنه يفتقد وأوضح أن الشعب ّ إلى المعلومات الصحيحة ،وأن هناك من يحاول إخافته من المسلمين ،بتهويل أفعالهم ،مستشهدً ا بأن الذين يُق َتلون في الواليات المتحدة األميركية يفوق عددهم 35ألف قتيل سنوياً،
الفرصة على جماعات الضغط التي تتعمَّ د تشويه الحقائق، مبي ًنا أن هناك قادة فكر في أميركا لن يسمحوا لمثل ترامب
أدَّت إلى انعدام الثقة بين العرب والواليات المتحدة األميركية، مصر ،والتقارب مع إيران ،وغير ذلك.
في حين أن من ُقتلوا بفعل اإلرهاب الذي ينسب إلى المسلمين
قليل جدًّ ا عند المقارنة .وعن التخويف الذي يمارَس ،ضرب مثلاً بطالب له من البلقانَّ ، ظلت أسرته ال تغادر منزلها أكثر من
تشوِّه اإلسالم ،و ِقيَمه الحقيقية.
الدين والثقافة ،وهذا ما ينبغي لألميركيين أن يعوه؛ لتفويت
بالوصول إلى سُ دَّ ة الحكم .ونوَّه سوليفان بأهمية تب ِّني
إستراتيجية طويلة األجل ،تشمل مجموعة من الجوانب؛ منها الدبلوماسية والعسكرية والمالية والمعلوماتية؛ إليجاد واقع أفضل للمنطقة ،ووضع خطط لألجيال المقبلة ،التي تستحق
شهر بعد األحداث األخيرة؛ ألن هناك من يُشوِّه المعلومات، ويثير الخوف ،ومنهم ّ مرشحون للرئاسة؛ مثل ترامب.
حياة أفضل ،بال عنف. َّ وحذر من أن بقاء الحال على ما هي عليه يَعْ ني هبوب ِّ عاصفة هوجاء على العالم ،ال تستثني أحدً ا ،موضحً ا أن
لتجسير العالقات العربية األميركية ،مؤكدً ا أن الواليات
وأن استقرارها يهم الواليات المتحدة األميركية ،وأن إقامة
وأشار سوليفان إلى ضرورة البحث عن طريق جديدة
ً مهمة بعيدً ا من النفط، المملكة العربية السعودية ستظل عالقة رُوحية بينها والعرب مطلب مُ لِحّ ،والعنصر المهم
المتحدة األميركية يجب أن تحافظ على وجودها في المنطقة ّ النفط. العربية مهما بلغت التكلفة؛ ألن لها مصالح كثيرة غير
لتحقيق ذلك هو الثقة ،التي يمكن تحقيقها بالتوعية
المالحي، مثل :مضيق باب المندب ،ومجرى قناة السويس ّ
األميركيين بطريقة حضارية.
وأكد أن بالده لن ترحل عن المنطقة؛ ألهمية الطرق التجارية؛ لكن يجب أن تفكر في شرق أوسط آمن ال عنف فيه ،فعندئذ العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
واستخدام وسائل اإلعالم ،وقيام العرب بتقديم أنفسهم إلى وعن الوضع في الواليات المتحدة األميركية ،أوضح
الباحث أن بالده أنهكتها الحروب ،ولن يعود منحنى االقتصاد إلى ما قبل 2008م إال بعد 10سنوات من اآلن ،وهذا ما جعل
القادة يقتنعون بإيجاد مسار جديد ،مشي ًرا إلى أن ذلك سيبدو واضحً ا بعد االنتخابات ،وبعد التعديالت في مجلسي النواب
والشيوخ ،قائالً :إن الحزبين خذال الشعب ،وال بد من التفكير بعيدً ا منهما بشأن البلد واآلخرين.
وعن األوضاع االقتصادية في السعودية في ظل انخفاض أسعار النفط ،طالب المملكة أن ِّ تفكر بطريقة مختلفة ،فتوجيه
إيرادات النفط لتوفير الماء ِّ مكلف جدًّا ،فقد يأتي يوم ال يتوافر
فيه فائض من النفط للتصدير ،ويجب إعادة التفكير في الدعم سلبي، واإلعانات ،إضافة إلى ما يمكن أن ُتسبِّبه البطالة من تأثير ّ ِّ ِّ ومؤثر معقد جدًّا، وفي المجمل الوضع االقتصاديّ السعوديّ في االستقرار. َّ الروسي في الشرق األوسط، وحذر سوليفان من التدخل ّ
َ إعادة أمجاد االتحاد السوفييتي؛ ألن ذلك ومحاولة بوتين األوربي. يمثل مصدر عدم استقرار ،في ظل تراجع التأثير ّ وقال :إن الصينيين يسبِّبون بعض اإلشكاليات المتعلقة
باألعمال ،لكنهم ليسوا مصدر قلق إلى اآلن ،وإن الهند ستمثل الروسي في صي ًنا جديدة ،وهي قادمة بقوة ،لكن يظل التأثير ّ المنطقة هو مصدر القلق الرئيس ،مع أن بوتين يعاني كثي ًرا
من المشكالت؛ إذ إن بالده خاضعة للعقوبات ،وتستورد كثي ًرا من احتياجاتها ،ومعدل النمو السكاني في تناقص، وهي متورطة في سوريا وأوكرانيا.
وعن إيران ،أوضح أن االتفاق معها يعدُّ كارثيًّا؛ ألنها
المنطقة لن تعود إلى ما كانت عليه من قبل ،وإن محاولة إعادة خريطتها إلى الماضي ستؤدي إلى ارتكاب أخطاء فادحة ستحصل على المزيد من المال من حساباتها المجمَّ دة ،وأن االستثمارات الغربية ستزيد ،وهذا ما يجعلها قادرة على أن تعود إلى تجاربها النووية ،منوِّهً ا إلى أن اللعب مع إيران
وتصوُّر إمكانية إعادة فرض العقوبات عليها مرة أخرى غير مضمون النتائج.
وأثارت تعليقات الحضور عددًا من القضايا المهمة، ومنها الوضع في اليمن ،الذي َّ علل سوليفان أسباب النزاع فيه
بالخالفات الناشبة بين األطراف المعنية ،مؤكدً ا أنه ال َّ حل إال
بالقضاء على تلك الخالفات ،وأشار إلى أن صنعاء استنفدت
مياهها ،وصار نقل العاصمة منها أم ًرا ملحًّ ا؛ وأن اليمن بعد أن كان سلة غذاء واعدة صار يستورد الغذاء؛ الرتفاع تكلفة
إنتاجه وقلة المياه ،وأن االختالفات العرقية وعدم المساواة من أسباب هذه الحرب.
وعن المستقبل ،شدد على أن المنطقة لن تعود إلى ما كانت عليه من ُ قبل ،وأن محاولة إعادة خريطتها إلى الماضي
ستؤدي إلى ارتكاب أخطاء فادحة ،وسيُمعن المؤرخون النظر َّ معقد أكثر مما مئات السنين؛ ليعرفوا حقيقة ما حدث ،فاألمر استطعنا فهمه.
11
فعاليات
المركز يتبنى بح ًثا عن كيفية إنشاء لوبي عربي فعال في أميركا
دانية الخطيب:
تفاعل العرب األميركيين أساس نجاح اللوبي العربي الفيصل الرياض
أقام مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية حلقة
نقاش حول كتاب الباحثة دانية الخطيب« :اللوبي الخليجي -العربي في أمريكا :بين الطموح والواقع» ،الصادر عن مركز
دراسات الوحدة العربية بلبنان.
12
بدأت الباحثة حديثها بتقديم الشكر إلى األمير تركي
للمواطنين إيصال أفكارهم إلى الحكومة ،والمشاركة في صنع
رسالة الدكتوراه ،وإلى مركز الملك فيصل الذي يولي االهتمام
وأشارت إلى أن ما يهم صانع القرار هو المال واإلعالم
الفيصل الذي قدم لها الدعم والتشجيع في أثناء إعدادها بالدراسات والبحوث الجادة ،مقدرة استضافته إياها لنقاش موضوع اللوبي العربي في أميركا.
وتطرقت إلى تعريف مفهوم «اللوبي» ،مشيرة إلى الوصف
الذي وضعه كل من «والـت» و«مارشينمر» في تعريف اللوبي
اإلسرائيلي؛ فقد ع َّرفاه بأنه تحالف أفراد وجماعات؛ للتأثير في
السياسة األميركية لمصلحة إسرائيل ،ومن َثمَّ يمكن تعريف
اللوبي –وفق رأيها -بـوجـود مجموعة تربطها فكرة أو مصلحة معينة ،ومحاولة تلك المجموعة التأثير فـي السياسة األميركية في اتجاه معين.
وأوضحت الباحثة أن اإلشكالية في أن العرب ينظرون إلى
اللوبي على أنه مؤامرة ،إلى حد أن الرئيس المصري جمال
عبدالناصر سأل في الخمسينيات الميالدية عما إذا كان اللوبي شرعيًّا ،على حين أن «اللوبي» هو حـق دسـتـوريّ في الـواليـات
المتحدة األميركية ،وهـو يعني حـق المواطنين في التظلم
للحكومة من دون خشية أي عـواقـب ،وأضافت أن النظام العام -منذ إنشاء أميركا -اعتمد على المجتمعات المختلفة،
الفرنسي أليكسي دي توكفيل في وهذا ما شرحه عالم االجتماع ّ كتابه عن «الديمقراطية في أميركا» ،فالنظام األميركي يكفل العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
القرار.
واألصوات ،فالمال مهم في الحمالت االنتخابية ألنها مكلفة جدًّ ا ،ففي عام 2012م ،كانت تكلفة تلك الحمالت 2.6مليار
األميركي الذي يعتمد مبدأ دوالر .وأوضحت الباحثة أن النظام ّ الفصل بين السلطات يشجع اللوبي ،ووجود عدة مداخل
لألمر الواحد ،فاألمن له مجلس وطني ،وهناك وكاالت معنية
به؛ مثل :وكالة المخابرات المركزية ،CIAوغيرها ،إضافة ً رئيسا في التأثير ،وغيره من هدفا إلى الكونغرس الذي يعد ً الوكاالت األميركية ،فالوضع شائك للغاية ،والتأثير متبادل، ويصعب علينا نحن العرب فهم مستويات التأثير في أميركا؛ ألن صناعة القرار لدينا مركزية.
وأوضحت الباحثة أن العرب ال يستفيدون من النظام األميركيَّ ، ودللت على ذلك بإخفاق صفقة شركة موانئ دبـي، ّ
التي بدأت صفقة تجارية خالصة تدير بموجبها الشركة ستة موانئ أميركية ،لكن سيّستها شركة تعارضت مصلحتها مع ً مستغلة األجواء السائدة في أعقاب أحداث 11سبتمبر الصفقة،
األميركي األسبق كلينتون كان 2001م ،ومن المفارقة أن الرئيس ّ ِّ ممثلاً اإلمارات في الدفاع عن موقفها ،على حين أن هيالري كلينتون كانت ضد الصفقة بكل قوة؛ ألنه -في رأيها -ال يمكن
تسليم أمن أميركا إلى العرب.
وأشارت دانية الخطيب إلى أن االستثمارات العربية
في أميركا كبيرة ،وإذا نشأت جماعة ضغط من الشركات
المستثمرة ،فإنها تستطيع ممارسة التأثير ،وما كان لشركة
موانئ دبي أن تكون وحيدة في مواجهة هجوم شرس شارك فيه ُ صناع القرار ،ولم ُيجدِ االعتماد على الرئيس بوش، وعالقته بدولة اإلمارات العربية المتحدة.
وما كان لعضو الكونغرس الذي قاد الحملة ضد الشركة
اإلماراتية أن يقوم بذلك إذا عرف حجم االستثمارات اإلماراتية
في واشنطن ،وعدد األميركيين الذين يعملون في الشركات
المستثمرة؛ ألن مِ ن هؤالء األميركيين من يدعمه بالمال.
وأشارت الباحثة إلى أن كثي ًرا من األميركيين من أصول
عربية يتبرعون باألموال ألمور إنسانية من غير استغاللها في السياسي ليس جزءً ا من تحقيق أهداف سياسية؛ ألن النشاط ّ
ثقافتنا ،كما أن هناك عدم ثقة في السياسيين.
وعابت الدكتورة دانية الخطيب على الدول التي تحاول
تقديم نفسها بوصفها األجدر بعالقة متميزة مع أميركا ،فهي
تلعب على هذه النقطة التي أضعفت العرب ،مشيرة إلى أن َّ علينا أن نتأكد أن أميركا يمكن أن تتخلى عن أي صديق ،وال
علينا أن نتأكد أن أميركا يمكن أن تتخ َّلى أد ّل على ذلك من عن أي صديق ،وال َ التقارب مع إيران ،وإبرام اتفاق لم شق سياسي يخدم العرب يتضمن أي ّ فتنامت الجمعيات التي ُتع َنى بتقديم الخِ دمات االجتماعية،
وهي تستحق الدعم ،وتمثل الجواد الرابح في هذا الوقت.
وعن اللوبي الخليجي في أميركا ،قالت الباحثة :على
أد ّ َل على ذلك من التقارب مع إيران ،وإبرام اتفاق لم يتضمن أي ّ شق سياسي يخدم العرب؛ مثل :وقف دعم األسد ،ووقف دعم حزب الله ،فهي َّ تخلت تمامً ا عن العرب ،وفي ظنها أن
ليسوا مسيَّسين؛ مثل :األرمن أو اليهود .وعلى الرغم من أنَّ
يحوّلوا المجلس الذي يجمعهم إلى اتحاد ،كما ينادى األمير
لألحداث في المنطقة.
ً وخصوصا الخليجيين أدركوا هذا الجانب ،وعليهم أن العرب
تركي الفيصل.
وانتهت دانية الخطيب إلى أن اللوبي الفعَّ ال هو الذي
تقوم به المجموعات داخل أميركا كما قال فيليب أونيل -عضو مجلس النواب -في المدة 1978 - 1977م؛ ألن أي نائب ال يمكنه
القيام بأي عمل يُفقده شعبيته أو مقعده.
وعن تصريحات ترامب المعادية للعرب ،أوضحت أنها
جاءت بعد االعتداءات اإلرهابية التي وقعت في باريس، وهناك 31حاكم والية قالوا :إنهم ال يريدون استقبال مهاجرين سوريين؛ مشيرة إلى أن أسهل شيء هو استخدام التخويف،
األميركي بوش أن استخدمه. وسبق للرئيس ّ
الرغم من األصول العربية لبعض األميركيين فإنه ليس للعرب
األميركيين أي انتماء إلى الخليج ،كما أنهم بطبعهم وثقافتهم العرب األميركيين فخورون بتراثهم ،فإن لديهم رؤى مختلفة وأضافت أن الضغط الخليجي الذي يُمارَس يَجري بشكل
تكتيكي؛ لحاجات معينة ولقضايا ضيقة؛ مثل :شراء صفقة سالح ،وهذا ال يهم العرب األميركيين ،ومن َثم ال يمكنهم
التفاعل معه. ً العربي واللوبي اللوبي بين ا رئيس ا فارق الباحثة وأوردت ً ّ ً حماسة اإلسرائيلي ،يتمثل في أن الجالية العربية ال ُتبدي ّ ً مماثلة للحماسة التي تبديها الجالية اليهودية لقضايا إسرائيل. وسوَّغت ذلك بأنَّ اليهود ينظرون إلى وجود إسرائيل بوصفه
أساسً ا لوجودهم أنفسهم ،وأساسً ا لهُويتهم بوصفهم يهودًا، أما عرب أميركا فليس لديهم هذا النوع من التعلق بالوطن
وتناولت الباحثة وضع المنظمات العربية في أميركا بعد
العربي ،والسياسة الخارجية تهمهم من باب أن نظرة أفضل ّ ّ إلى الوطن العربي في أميركا ستنعكس إيجاب ًيا عليهم بوصفهم
وفي مقدمتها قضية فلسطين ،ولم يكن لها قاعدة شعبية،
وفي ختام الندوة شكر الدكتور سعود السرحان -مدير
أن تطرق الحوار إلى جوانب أخرى غير اللوبي ،وأشارت إلى أن تلك المنظمات كان اهتمامها في البدء بالقضايا السياسية،
لكن بعد أحداث 11سبتمبر 2001م واجه العرب األميركيون كثي ًرا
من التمييز والعنصرية لجريمة لم يرتكبوها؛ مما زاد اإلحساس األميركي، لديهم بأهمية التحرك لتثبيت أنفسهم في المجتمع ّ
األميركي. مجموعة داخل المجتمع ّ
إدارة البحوث بمركز الملك فيصل -الباحثة ،مشي ًرا إلى أن عربي المركز سينشر لها قريبًا ورقة عن كيفية إنشاء لوبي ّ خليجي فعَّ ال في الواليات المتحدة األميركية. ّ
13
شخصيات
شخصية مهرجان الجنادرية 30
علم غزير ونبل وتسامح
14
العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
اً ً وعادل؛ موفقا ،ومفرحً ا، كان اختيار شخصية العام في مهرجان الجنادرية
ألن المُ ختار يستحق ما هو أكثر من ذلك ،على الرغم من عزوفه عن الترشح
للجوائز وخالفها .والقول باستحقاقه يعود إلى مسوّغات كثيرة؛ أكثرها
يتصل بعلمه ،ومشاركاته الثقافية ،وأقلها قد يكون مما له صلة بشخصيته. أمَّا ما يتصل بعلمه فأمر واسع يصعب على الفرد تتبعه؛ فهو
ُفسر ،ونحوي، عالم ،وباحث ،وفقيه ،وأصولي ،ومُح ِّدث ،وم ِّ
ولغويَ ، ّ ونسابة ،وله في وعروضي ،وناقد، وقاص ،وشاعرَّ ،
ذلك كله مشاركات ،توضحها مؤلفاته التي تجاوزت ثالث مئة َّ مؤلف ،مع تأكيد االختالف بينها في المحتوى ،والحجم ،والتأثير. ّ يخص صلته بالعلم :محاضر ،خطيب ،جدلي بارع، ثم هو فيما
يملك الحجة والبرهان عندما يُقدم رأيًا يسنده بذخيرته المكنوزة في ذاكرته التي بات يشكو في اآلونة األخيرة من خيانتها إيَّاه في بعض المواقف.
أمَّا الجوانب الشخصية التي ربما ال يكون االختيار قد عرج عليها؛ فهي ً أيضا واسعة ذات تشعبات؛ فهو إداري مميز ،وإن
يحيى محمود بن جنيد األمين العام لمركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية
ً أستاذا في جامعة اإلمام المفدى ،عالم النحو المعروف ،وكان محمد بن سعود اإلسالمية ،والدكتور أحمد بن محمد الضبيب، ً ً ً ومحققا .وعلى ومؤلفا أستاذا في جامعة الملك سعود، وكان
الرغم من جالل قدر األعضاء وتميزهم ،فإن الشيخ كان ،بإدارته المبنية على االحترام ،والمدعومة بالرغبة في تقديم ما يخـدم
الوسط الثقافي ،ناجحً ا في إدارة الحوار ،واستـخـالص الفوائـد. وإضافة إلى اللجنة االستشارية التي رأسها في الجمعية ،تولى ً عوضا رئاسة تحرير مجلة التوباد ،واختار مسمى «رئيس الكتبة»
من :رئيس التحرير ،وكان متابعً ا كل أعمالها. كما و ُّلي أمر النادي األدبي بالرياض؛ فكان في وقته شعلة من النشاط المنظم وغير المنظم؛ فمن محاضرات يلقيها
كانت الظروف لم تسمح له بارتقاء المناصب التي تكشف عن جلي ،لكن يوضحها ِّ توليه اإلدارة في وحدتين براعته على نحو ّ
في فناء (الفيال الصغيرة) التي كانت مق ًّرا للنادي .كان يتابع كل
بالجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون عند تأسيسها ،يوم
ومع المحكمين ،إضافة إلى تصحيحها .ومن أمثلة ذلك خطابه
ثقافيتين؛ هما :رئاسة اللجنة االستشارية للشؤون الثقافية كان رئيسها األستاذ محمد الشدي ،فاختير لعضويتها شخصيات متباعدة في توجهاتها ،لكنها ذات مكانة علمية مرموقة؛ منها: الشيخ عبدالفتاح أبو غدة ،وهو يومئذ أستاذ في جامعة اإلمام محمد بن سعود اإلسالمية ،وعالم حنفي المذهب له تأثير كبير
في سوريا في ذلك الوقت ،والشيخ عبدالعزيز بن أحمد الرفاعي، األديب والشاعر الرائد ،وكان مسؤولاً حكوم ًّيا يشغل منصبًا
رفيعً ا في ديوان رئاسة مجلس الوزراء ،إضافة إلى تبنيه ندوة
أسبوعية كانت األشهر على مستوى المملكة ،والدكتور محمد
ابن عقيل :عالم ،وباحث ،وفقيه، فسر ،ونحوي، ومح ِّ وم ِّ دثُ ، وأصوليُ ، وقاص، وعروضي ،وناقد، ولغويَ ، ّ ونسابة ،وله في ذلك كله وشاعر، َّ مشاركات توضحها مؤلفاته التي تجاوزت الثالث مئة مؤلف
مرموقون من األدباء وغيرهم ،إلى كتب متنوعة ،إلى جلسات
كبيرة وصغيرة؛ بما في ذلك التواصل مع اإلعالم لفسح الكتب، التعقيبي الموجه إلى الدكتور حسن ظاظا ،رحمه الله ،بخصوص كتاب الشعر األندلسي ،ونص الرسالة:
«سعادة الدكتور /حسن ظاظا المحترم
السالم عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد، ً إلحاقا لخطابنا رقم بدون وتاريخ 1399/6/18هـ ،المرفق به
ترجمة الدكتور الطاهر أحمد مكي ،لكتاب «الشعر األندلسي» مصحوبًا بتقرير الدكتور محمد زغلول سالم ،عن الكتاب
والترجمة .وحيث رغبنا من سعادتكم مراجعة الترجمة ،وتالفي
ما أشار إليه الدكتور محمد زغلول من اضطراب بعض العبارات
ووقوع بعض األخطاء .نفيد سعادتكم أنه ،وحتى تاريخه ،لم نتلق إجابتكم .نرجو أن تكون في طريقها إلينا؛ شاكرين لكم ً سلفا حسن تجاوبكم .وتفضلوا بقبول وافر تحياتنا».
ثم كان له فضل كبير في اقـتـناء مجموعة مهمة من الكتب
والدوريات النادرة التي لم تكن موجودة في غير النادي ،واستطاع
بعالقاته الشخصية أن يستعين بأثرياء لدعم الميزانية الرسمية
المتواضعة في ذلك الحين.
أ َّما النمط اآلخر المتصل بشخصيته ،خارج العمل العلمي ً ً وعمقا من ذلك المتصل بالعلم سعة والوظيفي؛ فهو أكثر
15
شخصيات
واألدب والثقافة؛ فالشيخ إنسان اجتماعي ال يخلو يوم من أيام
ً أحيانا ،وكم حزن عند وفاته وتألم لفراقه .ومن يتعمق في بحث
وهذه صفة مميزة لدعواته؛ إذ ستجد العالم ،واألديب ،والثري،
عليه الشيخ من روح إنسانية ال تتحقق في غيره من تواضع جم،
األسبوع من مناسبة لديه ،تحفل بمدعوين غير متجانسين، والمتدين ،إلى جانب العامي والفقير ،بال تمايز في الجلوس أو
االحتفاء؛ فهو يحتفي بالحضور على اختالف درجاتهم ومشاربهم. ثم هو على درجة من البساطة والشفافية ،ال يتردد في الكشف
عن أمور خاصة به أمام جمع من الناس ،وهو بعيد من النميمة والحسد والحقد ،ال يعرف للمال قيمة غير السعادة الوقتية؛ فإن
جاءه «الرزق» أفناه في الوالئم ،ومساعدة المحتاجين ،والصرف
على األبناء ،وبالطبع تسديد الديون ،ودعم احتياجات المجلة
الخاصة التي ينشرها« :الدرعية».
وخلق رفيع ،وحب المساعدة ،واحترام اإلنسان من دون النظر إلى ً لصيقا بالشيخ مح ًّبا إياه ،ال يفتأ يشيد به وبما مكانته .كان أبو عزيز يقدمه له من عون ،وهو الفقير المعدم (المقطوع من شجرة)؛ إذ
لم يكن له من األهل واألقارب غير ابن مريض وابنة متزوجة .ولم يكن أبو عزيز الوحيد من البسطاء الذين ربطتهم عالقة بالشيخ؛
بل كان هناك غيره ممن يأتون من مدن وقرى ،بعيدة أو قريبة ،ال ً يتردد في استضافتهم في منزله ،م ِّ مكانا للنوم ،مع ُخص ًصا لهم إكرامهم مدة إقامتهم ،ومساعدتهم في قضاء حوائجهم.
ولعل مما يقدم الشيخ المبجل في صورته الحقيقية التي
ذلكم هو المكرم في جنادرية هذا العام (1437هـ) ،والحائز
بسيط فقير عامي ،كان يُعرف بأبي عزيز ،رحمه الله ،فما كان يهنأ
ابن عمر العقيل (أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري) ،المتفرد
تشمل البساطة ،والتواضع ،وخفة الظل ،عالقته المتميزة بإنسان له بال إال بوجوده ،فإن لم يحضر أرسل في طلبه سائقه الخاص،
أو أحد أبنائه ،وال يجلس أبو عزيز إال متصدرًا ،وال يبخل عليه الشيخ في جلسة تعج بأدباء وشعراء ومثقفين بالسؤال والمناكفة
16
العالقة بين أبي عزيز وأبي عبدالرحمن سيجد المثل الواضح لما هو
وسام الملك عبدالعزيز من الدرجة األولى :الشيخ المبجل محمد
بشخصية يصعب وصفها وتحديد إطارها ،لكن المؤكد أن
صاحبها :عالم موسوعي ،نبيه ،كريم ،متسامح ،بسيط ،محب الحياة؛ إلفادة اآلخرين.
دقة وطموح العـودة إلى محاضـر اللجنة االستشارية للشؤون الثقافية
بالجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون وأوراقها الرسمية ،يكشف لمن سيقف عليها مشاريع كبيرة كان يطمح
إلى تحقيقها؛ من بينها:
فارس في معجم مقاييس اللغة ،مع محاولة إرجاع المعاني إلى معنى واحد أصلي ّ يدل داللة مطابقة؛ ألن ابن فارس يُرجع
المعاني إلى أكثر من أصل. ً ً صوتا ومعنى، سادسا -أن ُتدرَس الحروف األصلية لكل مادة؛
-موسوعة «األلفاظ المصطلح عليها بين أهل الفنون»،
على نحو دراسات ابن ِج ِّني في ِس ّر صناعة األعراب ودراسة ابن
االستشارية الدائمة للشؤون الثقافية بالجمعية العربية
ً سابعا -أن ُتستخدم اإلحاالت في اإلشارة إلى المواد المبحوثة من ُ قبل.
وقد أوضح ما يتعلق بها في خطاب وجَّ هه إلى أعضاء اللجنة السعودية للثقافة والفنون ،وقد بسط فكرتها في ثماني نقاط ،هي: ً أول -أن تكون بحوثا تستوعب األلفاظ المصطلح عليها بين أهل الفنون.
ثانيًا -أن تغطي الفنون الجمالية؛ مثل :الفنون
التشكيلية ،واأللوان ،والعروض ،والقافية ،والبديع ،وما له عالقة بالنقد األدبي الجمالي.
ً ثالثا -أن يكون بحث المادة مستوعبًا من الناحية اللغوية
وعلومها ،ومن الناحية الفنية ،ومن الناحية التاريخية ،ومن الناحية الشرعية ،ومن الناحية األدبية.
ً رابعا -أن تصدر مرتبة على الحروف وفق منهج القاموس
المحيط.
خامسا -أن ُت َّ ً رتب معاني المادة اللغوية على طريقة ابن
العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
هشام في المُ غنِي.
ً ثامنا -أن تصبح دراسة تطبيقية لكل علوم اللغة والنحو
والصرف والرسم اإلمالئي والتشكيل.
أما مراحل العمل فيها ،فسردها في تسع نقاط؛ أقـتبسها
بنصها فيما يأتي:
أول -من الضروري اشتراك أعضاء اللجنة االستشارية في
تحرير دراسة أنموذجية إلحدى المواد ،وبتحرير تصور كامل
للموسوعة.
ثانيًا -من الممكن تكليف رئيس الشؤون الثقافية بتحرير
التصور الكامل للموسوعة؛ عن أهدافها ،وضرورتها ،ومنهجها اللفظي والمعنويّ الذي سيُبنى من دراسة مستفيضة لالشتقاق ّ عليه منهج الموسوعة. ً ثالثا -يُكلف الدكتور محمد المفدى ومحمد عبدالخالق
شخصية مهرجان الجنادرية 30علم غزير ونبل وتسامح
ابن جنيد مع الشيخ الظاهري ،ويبدو الراحل الشيخ حمد الجاسر
عضيمة بجرد جميع الصيغ الصرفية لمادة «زمر» للماضي
ويستدل عليه ،ويذكر المعاني المجازية ،ويرتبها تاريخيًّا
للمعلوم ،والجمع ،والتصغير ،والتفضيل ،والمبالغة .ويذكران
كما يستوفي المصطلحات العلمية من هذه المادة إن وجد
والمضارع واألمر ،والالزم والمتعدي ،والمبني للمجهول والمبني
القاعدة فيها عند تركيبها في سياق الكالم؛ كالقاعدة في اتصال الفعل بالضمائر ،وكالقاعدة في تحويل الفعل الماضي إلى
مضارع ،أو الالزم إلى متعدّ ...إلخ.
حسب اإلمكان ،ويستوفي االستعمال العامي ويحقق أصله،
مصطلحات.
ً خامسا -يكلف فضيلة الشيخ عبدالفتاح أبو غدة ببحث ما ورد في الزمر من نصوص الشرع ،ويمحصها داللة وثبوتاً.
شريطة أن يكون لهذا التركيب أثر في حروف الصيغة. ويذكران المعنى لكل صيغة حقيقية ومجا ًزا؛ كاألصل في صيغة
ً سادسا -يكلف أحد الفنانين -كطارق عبدالحكيم -ببحث المزمار تاريخ ًّيا وفن ًّيا.
يميز الصيغة ويمنع من التباسها بغيرها .ويضعان القاعدة -كلما
الدكتور أحمد الضبيب ،واألستاذ يحيى ساعاتي بجمع ما ورد
مثال ذلك« :كسرت مزمار زيد» ،يُكتفى بالجزم للزاي ،ويُقال
ً ثامنا -بعد ذلك ُتعيّن لجنة لصياغة هذا األنموذج بحيث
فعال وفعالة ومفعال .وي َُش ِّكالن كل صيغة بالقدر الكافي الذي
سنحت الفرصة -للقدر المكتفى به من الشكل.
في القاعدة أو المسوغ :لم تشكل الميم بالكسرة؛ ألنه لم يرد ً سماعا وال قياسً ا؛ ألن العرب ال تبدأ المفردة فتحها أو ضمها ال
بالسكون فتعين الكسر .ولم تشكل الراء بالفتح؛ ألن وقوع مزمار مفعولاً به دون أي احتمال برهان على فتحها .ويذكران ما له عالقة
ً سابعا -يكلف معالي الشيخ عبدالعزيز الرفاعي ،وسعادة
من الشعر واألمثال والنثر الفني عن الزمر.
يدمج البحث اللغوي والصرفي والشرعي ونصوص األدباء وفق ً ً وسياقا. مضمونا ترتيب منطقي؛ لتتضح داللة المادة ً تاسعا -بعد إرسال األنموذج إلى المجامع واألفراد
المكلفين باالشتراك وأخذ آرائهم ،يُعقد المؤتمر المصغر
بهذه المادة من علم النحو :كـ «مزامير»؛ يذكران القاعدة والعلة
لدراسة فكرة الموسوعة ،ويتم توزيعها على الباحثين ،ويعين ّ وتكلف لجنة بجرد جميع المصطلحات نصيب كل باحث،
بها .ويذكران وجه االشتقاق لكل صيغة والقاعدة في ذلك...
وقد سردت ما سبق إلظهار ما كان لدى الشيخ من طموح
من منعها من الصرف .وإذا استوعبا الصيغ القياسية يذكران
الصيغ السماعية ،ويُبينان وجه مخالفتها للقياس ووجهة التجوز ً رابعا -يكلف أبو عبدالرحمن بن عقيل بحصر معاني «زمر» في
اللغة الفصحى .ويعين المعنى الحقيقي األوَّلي األصلي الوضعي،
الفنية في بيان وترتيبها ترتيبًا معجم ًّيا.
عظيم؛ إلخراج أعمال مرجعية كبيرة ،ولتبيين دقته في التحديد.
17
ملف العدد
نهاية الجغرافيا أم نظرية المؤامرة؟ في مؤتمر لالستخبارات نظمته جامعة جورج تاون األميركية في واشنطن أكتوبر الماضي؛
قال «برنار باجوليه» مدير األمن الخارجي الفرنسي« :إن الشرق األوسط الذي نعرفه انتهى إلى
غير رجعة» جازمً ا بأن «العراق وسوريا لن يستعيدا حدودهما السابقة» ووافقه في ذلك «جون ً مؤكدا صعوبة عودة هذين البلدين إلى حدودهما برينان» مدير وكالة االستخبارات األميركية،
18
التي تشكلت بعد الحرب العالمية الثانية. اً والمراقب خريطة العالم العربي اليوم يجدها تغيَّرت فعل تغ ُّيرًا جغرافيًّا ،وال يقتصر األمر
على تغيُّر حُ سم باستفتاء مثلما حدث في انفصال جنوب السودان ،بل هناك مناطق مشتعلة
أخرى ،فدولة ما يسمى (داعش) ألغت الحدود بين الرقة والموصل ،وهي تتمدد وتنكمش ً وفقا لمتغيرات تكاد تكون يومية ،وهي ً أيضا تعلن واليات لها في سيناء ،وفي ليبيا من درنة إلى سرت.
هناك ما يشبه الدولة الكردية في شمال العراق ،وتتشكل أخرى في شمال سوريا ،أما مقسم شطرين. اليمن فال ُيعرَف هل ستفضي الحرب الحالية إلى يمن موحَّ د أم َّ
لقد كانت استعادة الجدل حول اتفاقية «سايكس بيكو» عام 1916م مادة مفضلة للمحللين اإلستراتيجيين ،وكان مثقفون ينظرون إلى هذا التحليل بوصفه ضر ًبا من التكلف التاريخي الذي ال يلتفت لمعطيات الواقع العربي وما استقرت عليه الدول وحدودها.
واليوم يمر قرابة مئة عام على «سايكس بيكو» ومازال الجدل يتجدد حول الحدود العربية
وجغرافيا المنطقة التي ال تكاد تستقر؛ مجلة «الفيصل» طرحت على نخبة من الباحثين
والكتاب هذه األسئلة:
هل العالم العربي بصدد تحول جغرافي كبير؛ تتغير فيه الحدود ،وتذوب فيه دول، وتنشأ أخرى؟ أم أن األحداث الجارية ستأخذ زمنها لكنها لن تخلف أثرًا؟ ًّ أحقا تغيرت خارطة
العراق وسوريا لألبد؟ ما دور الدول العربية واإلقليمية والقوى الدولية في ذلك؟ وما دور التنظيمات والميليشيات؟
العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
19
تغيير الحدود
لن يتوقف عند حدود
َّ المفضل لدى كثير من المثقفين العرب، منذ وقت طويل والموضوع
هو التنبُّؤ بمؤامرات حول إعادة رسم الحدود ،وتغيير أنظمة منطقة الشرق األوسط ،وقد غذاها تغير األحالف الدولية؛ بسقوط
السوفييتي ،وتوحُّ د أوربا ،وظهور مفهوم اإلمبراطورية لدى االتحاد ّ األميركي .المفاجأة أن الفريق الوحيد الذي مُ َن ِّظري اليمين المتطرِّف ّ
أعلن برنامج تغيير خريطة المنطقة ،وبدأ فعليًّا في تطبيقها على األرض ،هو تنظيم داعش؛ ففي التاسع من إبريل عام 2013م أعلن ً َ أبو بكر البغداديُّ محصورة في توسيع مملكته الصغيرة التي كانت
20
عبدالرحمن الراشد كاتب ومحلل سياسي سعودي
وضمَّ إليها جماعة «جبهة النصرة» في سوريا ،وأعاد تسمية َّ غرب العراقَ ، منظمته «الدولة اإلسالمية في ً العراق والشام» ،وفي ُ والحقا َّ نص َ ب الخطبة نفسها رفض ما سمَّ اه بالحدود التي رسمتها القوى االستعمارية. ً البغداديُّ خليفة ،وأعلن قيام الخالفة اإلسالمية التي ال حدو َد لها ،واستولى مقاتِلوه على مناطق نفسه َ
حدودية بين العراق وسوريا؛ لهذه األسباب؛ أيَ :ك ْشف هذه الجماعة اإلرهابية عن مشروعها في التمدد َ والغزو ،وإلغاء الحدود المرسومة ،ومهاجمة الغرب؛ صار التنظيمُ عسكريين مستهد ًفا من أكبر تحالفي ِْن ِ
والروسي. األميركي في تاريخ المنطقة: ّ ّ ُ «داعش» حركة تدمير ال بناء ،ولن تستطيع تغيير منطقتهاَ .د ُعوا عنكم قدرتها على تغيير العالم .وفي الوقت نفسه ،لو ُهزمت «داعش» ُ ض َي عليها ،فإننا ال نستطيع أن نجزم بأن المشهد القديم لمنطقتنا وق ِ ُّ سيظل كما هو.
بوصفي أحد المهتمين بشؤون المنطقة وتحوُّالتها ،أُتابِع أطروحات التغيير في المنطقة .ومع أني أنبذ المدرسة زمن ِ منذ ٍ فسر األحداث و َْف َق نظرية المؤامرة ،فإنني أدرك أن جوهر التي ُت ِّ
الصراع في الشرق األوسط هو الرغبة في التغيير ،بالتوسع
والهيمنة .وقد ارتفعت درجة اإليمان بأن هناك مؤامرة دولية ُتحَ ُ اك إلعادة تقسيم المنطقة؛ بسبب حروب العراق ،وسوريا، واليمن ،وليبيا .لكن تفكيك هذه الدول المضطربة ال يحتاج إلى
مؤامرة؛ ألنها شبه منهارة ومفككة.
جغرافيًّا ،تتجاوز نظرية تغيير الحدود ما وراء حزام ُدوَل
َّ الثوْرات ،إلى الدُّ وَل المستق َّرة؛ مثل :دول الخليج ومصر. َّ مؤخ ًرا ،في رأيي ،قد تكون وهذه األطروحات التي شاعت ُ ُّ َ تدخالت بواعثها الفوضى المنتشرة ،وتزايد مخاو َف محض ِ العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
قوتي ِْن إقليميتي ِْن؛ هما :إيران وتركيا .وربما الشائعات هي من إنتاج أجهزة الدعاية المعادية المنتشرة ،مستفيدة من سهولة استخدام ميديا التواصل ،تقوم بتدوير أحاديث المؤامرة؛ لهدف ّ بث الشكوك والمخاوف .الحقيقة الحروب في األغلب ليست نتاج مؤامرات؛ إنما هي بسبب سوء إدارة األنظمة لألزمات؛
مثلما حدث في سوريا ،عندما لجأ النظام إلى سياسة القسوة
المفرطة في التعامل مع مظاهرة صغيرة ،التي تحوَّلت إلى تم ُّرد واسع ،ثم ثورة ضدّ نظام الحكم .وال ننسى أن غزو صدام حسين ً الحقا . الكويت كان سببًا جوهريًّا في سقوط نظامه وغزو العراق
ُ حرصت على متابعة الدراسات الجادَّة في قراءة لسنوات، التحوالت اإلقليمية ،وكثير منها َتنبَّأ بأن منطقة الشرق األوسط لن تبقى مثلما هي حدودها اليوم ،لكنَّ قليلاً صار وتغ َّي َر.
21
غالف مجلة أتالنتك
االستيالء على المناطق البترولية السعودية َّ لعل أقرب نظريات المؤامرة إلى الحقيقة ما حدث في
واشنطن في العاشر من يوليو عام 2002م ،بعد تسعة شهور من هجمات الحادي عشر من سبتمبر ،التي ُع ْ دَّت أكب َر اعتداء على
األراضي األميركية منذ الحرب العالمية الثانية ،ففي ذلك اليوم، ُع ِقدَ اجتماع مُ َ غلق لمجلس السياسة الدفاعية The Defense ً ً مهمة شخصية Policy Boardفي البنتاغون ،شاركت فيه 24
من حكومة الرئيس جورج دبليو بوش ،ومكتب نائب الرئيس ديك تشيني ،وجَ مْع من وزراء الخارجية والدفاع واالستخبارات السابقين ً أيضا .االجتماع ُخ ِّصص لتدارس التعامل مع المملكة العربية السعودية ،بعد تورُّط مجموعة من مواطنيها في هجمات الحادي عشر من سبتمبرُّ ، واتهمت بأنها المسؤولة
ارتفعت درجة اإليمان بأن هناك اك إلعادة تقسيم ُح ُ مؤامرة دولية ت َ المنطقة؛ بسبب حروب العراق، وسوريا ،واليمن ،وليبيا .لكن تفكيك هذه الدول ال يحتاج إلى مؤامرة؛ ألنها شبه منهارة ومفككة َّ وتولى محلل عن ف ِْكر تنظيم القاعدة ،وتمويله والدعاية له.
فرنسي في مؤسسة «راند» ،ي َ ُدعى لوران موراويك Laurent ّ ،Murawiecتقديم دراسة ومشروع ضدّ السعودية .العرض
ملف العدد
المُ قت َرح وصل إلى حدّ الدعوة إلى االستيالء على ً دولة َعدُ وًّا المناطق البترولية السعودية ،بوصفها
سبق لمجلة أتالنتيك األميركية أن اختارت لغالفها
على التحليل والفكرة سوى وزير الخارجية األسبق ،هنري
عام 2006م تحت عنوان َب َّراق« :بعد العراق :كيف سيبدو الشرق
ُت ِّ هدد أمْ ن أميركا والعالم .الالفت أن أحدً ا لم يعترض
كيسنغر ،الذي قال للمجتمعين :صحيح لدينا مشكلة مع
السعودية ،لكن السعودية دولة صديقة ،وليست عدوًّا . َ حقيقة هذا االجتماع لم يعرف أحدٌ خارج الدائرة الخاصة إلاَّ بعد شهر ،عندما ُن ِشر عنه في الصحافة الجادة .وال شك أن للسفارة السعودية ،في تلك الحقبة العصيبة ،دورًا مُ همًّ ا في مواجهة الجناح المتط ِّرف المُ عادِي المملكة داخل إدارة
ً موضوعا عن تغيير خرائط أغلبية منطقة الشرق األوسط في
شخصي من األوسط؟» ،لكنه لم يكن أكثر من محض اجتهاد ّ الكاتب جيفري غولدبيرغ ،الذي عاد وكرر الحديث قبل عام
ونصف عن الخريطة التي ر ُِس ْ مت بعد الحرب العالمية األولى أنها لن تبقى .
وقد كتب كثيرون عن العراق خاصة ،بإعادة رسم خريطته علني، وتفكيكه ،وهذه لم تكن نظرية مؤامرة ،بل هي َط ْرح ٌّ
ُ ً مشروعا من جو بايدن ،نائب الرئيس الحالي، سبق أن ق ِّدمَ
بوش ،ونجحت في إقناع الرئيس بوجهة نظرها ،ولألمير بندر بن سلطان ،سفير المملكة حينها ،تعليق معبِّر عندما سأل ْته
عندما كان سيناتورًا في مجلس الشيوخ عام 2006م .بايدن دعا
«ترديد األكاذيب ال يجعل منها حقائق» .ومع أن الحكومة األميركية في عهد بوش َّ ً صديقة للسعودية ،لكن استم َّرت ظلت
إثنياتها في اتفاقية دايتون .إنما كل اإلدارات األميركية السابقة
الصحافة عن موقف بالده مما قيل في االجتماع؛ إذ أجاب:
الحملة المعادية في واشنطن ،وازدادت الشكوك داخل السعودية من النوايا األميركية بعد احتالل العراق عام 2003م.
الحديث اليوم عن إعادة رسم الحدود يتمحور في بلدين: العراق وسوريا؛ إذ صار كثيرون مقتنعين أن الجَ َّر َة قد ُك ِس ْ رت،
22
كيف سيبدو الشرق األوسط؟
وأننا لن نشهد عودة البلدين إلى حدودهما على الخريطة .وقد ُ َ مراسل نيويورك موضوع تبدُّل الحدود والخرائط، سبق أن َف َتحَ
تايمز حينها روبرت وورث ،في تقرير ُنشر في 26يونيو عام ً ملحوظا 2014م .وقد أثارت الخريطة التي رافقت تقريره انتباهً ا
في منطقتنا ،مع أن وورث لم ينقل شي ًئا رسميًّا يؤ ِّكد تفكيك ً قناعة بأن االنفصال حاصل العراق أو سوريا ،سوى أن هناك
ُ اتصلت كأمر واقع ،وتحديدً ا في إقليم كردستان العراق .وقد
إلى تقسيم العراق إلى ثالث دولُ :كردية ،وسُ ِّنيَّة ،وشيعية؛ ُ تفكيكها؛ لوقف الحروب بين ليكون مثل يوغسالفيا ،التي جرى والمتعاقبة :بيل كلينتون ،ودبليو بوش ،والحالية باراك أوباما، ْ تزمت بعراق موحَّ د .والسبب األول يرجع إلى صعوبة تأسيس ْال
مثل هذه الدول ،وثانيًا هناك خوف من فكرة تغيير الخرائط وعواقبها على المنطقة .وعند التدقيق في المواقف السياسية ً متحمسة ،بخالف سنجد أن كل الدول بما فيها إيران ،ليست
بعض قيادات العراق الشيعية التي تريد التقسيم؛ ألنه يعطيها دولة صغيرة بثروة كبيرة ،إلاَّ أن إيران مثل تركيا ،تخاف
َ َ خشية أن يفتح استقالله؛ تبعات مَ ْنح إقليم كردستان العراق ِ الباب ألكراد إيران ،وتعدادهم ثمانية ماليين ،فيطالبوا الحقاً
باستقاللهم ،ويهدّ د وَحْ دَ ة إيران المكوّنة من إثنيات ستطالب ً بالحق نفسه .وال تريد إيران ً ّ دولة سُ نية في غرب العراق؛ أيضا-ّ ستظل مصدر تهديد لبغداد وبقية الجنوب .ومن َثمَّ فإن ألنها
ُ واستطلعت رأيَه ،فقال :إنه ال بوورث قبل أن أكتب هذا المقال، ًّ يزال يرى أن اإلقليم ُ الكرديَّ في العراق أكثر حظا في االنفصال،
مصلحة الجميع ،على اختالف نواياهم ،اإلبقاء على خريطة
جدًّا ،وأن الخيارات المقبولة والبديلة هي منح األقاليم مزيدً ا
الرئيس الكرديّ مسعود بارزاني عن إصراره على االستقالل في
َّ ومعقد لكنه ال يزال يعتقد أن تفكيك الدولة السورية أمر صعب من االستقاللية اإلدارية على حساب المركز .
هناك خوف من فكرة تغيير الخرائط وعواقبها على المنطقة .وعند التدقيق في المواقف السياسية سنجد أن كل الدول بما فيها إيران، ليست متحمسةً
العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
سايكس بيكو ،ربما باستثناء كردستان العراق ،وقد عبَّر
حديثه األخير إلى صحيفة الغارديان .
ولنتذكر أن الحدود الحالية في معظم دول العالم َّ محل رضا كثير من الدول والشعوب ،لكنها أمر واقع ليست
الدولي ،بعد الحرب جرى تثبيته .ومهم أن ندرك أن المجتمع ّ
العالمية الثانية ،حرص على ترسيخها ،ورفض تغييرها؛ لتج ُّنب الفوضى والحروب .وعلى الرغم من هذه السياسة ،فإن َ ً مطابقا ما كان عليه عام 1945م؛ إذ انفصلت العالم اليوم ليس
باكستان عن الهند ،ثم انفصلت بنغالديش عن باكستان، ُ وق ِّسمت إثيوبيا ويوغسالفيا والسودان ،وبالطبع دول االتحاد ّ استقلت ،وبقيت معظم خريطة العالم مثلما السوفييتي التي ّ ُسمت من ُ ْ قبل. ر
الشرق األوسط بين عامي 1914و 1922م
سرية أشهر اتفاقية ِ ُ ال يمكن التحدُّث عن الحدود والخرائط من دون أن أدلي، َ ْ خطوط َسمت مثل بقية الزمالء ،برأيي في أَ ْشهَر اتفاقية سرية ر منطقة الشرق األوسط في التاريخ المعاصر؛ أعني اتفاق
والفرنسي :سايكس وبيكو .فاالتفاقية البريطاني الدبلوماسيي ِْن ّ ّ التي ّ العربي. وقعت قبل مئة عام ،رسمت حدود منطقة الشمال ّ ومع احترامي مَ ن ي ِّ ُعلق كثي ًرا من اللوم على تلك االتفاقية ،فإنه َ العالمَ الذي سبق تقسيم المنطقة ،حيث من المهم أن نتع َّر َف لم يكن هناك معظم الدول العربية بالمعنى المتعارف عليه
سسوا دولة البريطانيون هم الذين َأ َّ
23
العراق الحديثة ،بتوسيع حدودها، وضم إقليم كردستان ،مع أن األكراد ال ّ وس ُعوا يتحدثون العربية .وهم الذين َّ العربي ،بضم مساحة السودان ّ الجنوب إليه
اليوم .وخريطة عراق األمس ليست مثل التي نشاهدها اآلن، وال سوريا .الحقيقة أن فلسطين هي التي كانت الضحية؛ ألنها
مُ ِن ْ حت اليهو َد إلى األبد ،بما فيها القدس . َ ُ عرب وادي ال يَعْ ني هذا أنه لم يكن هناك ظلم لحِ ق َ الرافدين ،إنما أَتحدَّث عن تغيير الحدود .فالعراق وسوريا كانا
يخضعان لحكم األتراك ،ثم صار البلدان يخضعان لحكم التاج البريطاني وفرنسا .والبريطانيون هم الذين أَسَّ سوا دولة العراق ّ الحديثة ،بتوسيع حدودها ،وضمُّ وا إليها إقليم كردستان ،مع
من الصين إلى جنوب شرق آسيا ،حتى المغرب وبقية دول
إفريقيا .وتصارعت الدول االستعمارية؛ حتى بلغ الصدام بينها ً الحقا كحرب عالمية ثانية، داخل القارة األوربية نفسها ،وانفجر وتسبَّب الدمار الهائل والدماء في تحطيم أوربا ،ومعها انتهى المفهوم االستعماريّ ،وتحوَّل معظم العالم الثالث إلى عصر
الدولة القومية بحدود مرسومة ودائمة .واتفقت الدول الكبرى
أن األكراد ال يتحدثون العربية .والبريطانيون هم الذين وسَّ عُ وا
على المحافظة ،قدر المستطاع ،على حدود الدول القديمة
عرقيًّا ودينيًّا.
أن خالفات الحدود كثيرة ،فإن حروبها قليلة ،وقد تعايشت
العربي ،بضم الجنوب إليه ،بإثنياته المختلفة مساحة السودان ّ
مثلما هي ،بعد حسم الحرب العالمية الثانية .وعلى الرغم من
التاريخي؛ وعندما نضع اتفاقية سايكس بيكو في منظورها ّ َ العالم كما كان ،وليس كما ننظر إليه اليوم، نستطيع أن نفهم
معظم األمم معها؛ طلبًا للسلم واالستقرار .كما أن الدعوات االنفصالية لم َتجدْ كثي ًرا من التعاطف ،مهما كانت مسو ً َّغة؛
مثلما تقاسموا بقية دول العالم بعد الحرب العالمية األولى؛
أغلبية دول العالم ،مثلما نرى في إسبانيا وبريطانيا وغيرهما .
فالفرنسيون والبريطانيون تقاسَ موا تركة الدولة العثمانية،
ً خوفا من انتشار َعدْ وَاها؛ إذ توجد ميول انفصالية تقريبًا في
ملف العدد
تصدع العراق وسوريا ّ َّ مرشح للتعميم عرب ًّيا خطر العربي منذ خمسة أعوام جملة طرحت األحداث المتالحقة في العالم ّ تتعلق اً َّ أول بتعايش مك ِّونات المجتمعات داخل حدود بلدانها، إشكاليات ُ وثانيًا باستهدافات القوى الدولية واإلقليمية وطبيعة روابطها مع تلك المكوّنات .وما بدأ كحراكات داخلية ترمي إلى تصحيح أوضاع الحكم
وحقوق الجماعات ،سرعان ما انزلق؛ إمّ ا بصراعات دامية ،أو بانقسامات االجتماعي تم ُّزقات عميقة؛ أظهرت عمودية .وفي الحالين شهد النسيج ّ
عبدالوهاب بدرخان كاتب ومحلل سياسي لبناني
24
سلمي إنما كان في الحقيقة ُهدنة بدورها أن ما كان ُيعتقد أنه تعايش ّ انتظار أيّ فرصة تسنح لتغيير الواقع ،ليس سياسيًّا فحسب ،إنما جغرافيًّا ً أيضا.
التاريخي الكبير لم يكن في انهيار هذا التعايش إن اإلخفاق ّ
فحسب ،إنما في إخفاق أنظمة الحكم في بناء الدولة ،دولة لجميع أبنائها ،تعاملهم بمعايير مُ َ واطنة واحدة ،وتعترف
الجغرافي للبلد .ذاك أن القوى الخارجية كانت حدّ طرح الكيان ّ لها يدٌ تاريخيًّا في تكوين هذه الدول بشكل مباشر أو غير مباشر
(معاهدة سايكس بيكو عام 1916م ،فيما يتصل بسوريا .ضغوط
بمساواتهم بموجب القوانين .أدَّى هذا اإلخفاق إلى هشاشة مزمنة في االنتماء والوالء ،وإلى داء ُع َ ضال في كل أوصال
اإليطالي لترسيخ األقاليم الثالثة الليبية .ترجيح االستعمار ّ وجنوبي). شمالي البريطاني وجود يمني ِْن: االستعمار ّ ّ ّ
األميركي ،عنص ًرا مساعدً ا في تدعيم السلم وبخاصة الدور ّ األهلي ،إنما اشتغل كالعادة على التناقضات الداخلية أليّ بلد، ّ
االسم الجميل لحقبة بائسة ،تجدر اإلشارة إلى العراق الذي
بلغه «الربيع» الدمويّ عبر الغزو واالحتالل األميركيين عام
لتحريضها على التح ُّرك «من أجل الحرية والديمقراطية». وعندما فعلت أخي ًرا ،أو ُخيِّل إليها أنها تفعل ،أخفق الدور ً إخفاقا ذريعً ا في فهم حركاتها ومالقاة طموحاتها، األميركي ّ
إقليمي هُ المي؛ إذ ح ّركت كل الرواسب الطائفية والقومية ّ ّ واإلثنية ،ووضعت كل الخرائط تحت المراجعة ،وإعادة النظر
الخارجي، الدولة والمجتمع .في المقابل لم ي َُكن العامل ّ
داعمً ا األنظمة؛ ألنها تلبّي مصالحه ،ومخاطبًا المجتمعات؛
واألسوأ من ذلك كان اإلخفاق في «إدارة» األزمات التي نجمت
عن االنتفاضات الشعبية.
أثبتت الوقائع أنه حيثما توافرت عناصر داخلية (مؤسسة
المدني في تونس) أمكن كبح الجيش في مصر ،والمجتمع ّ جماح الفوضى ،ووضع أُسُ س الستعادة االستقرار ،ومقاومة ُ الثالث األخرى( :سوريا ،واليمن، األجندات الخارجية .أما الب َُؤ ُر
وليبيا) التي سقطت في ّ فخ االقتتال وسفك الدماء ،فعانت زم ًنا طويلاً هيمنة فئة واحدة ّ َ أقلية؛ َقبَلية أو مذهبية ،صادرت الجيش واألمن ،واستخدمتهما ضد أغلبية الشعب؛ لذلك غلب
الجراحي ،على ما فيه من مخاطر تصل إلى عليها نهج التغيير ّ العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
عدا البلدان الثالثة التي شملتها خريطة «الربيع العربي»،
2003م .وسواء أكانت حرب العراق خطوة أميركية أم ال ،فقد صار واضحً ا اآلن أنها ّ دقت المسمار األخير في نعش «استقرار»
في الحدود.
وأتاحت الحرب العالمية األولى للحلفاء المنتصرين
التص ُّرف في «الواليات» العربية -العثمانية ،بوساطة فرضها
ورسم خرائط الدول ،ومنها والفرنسي، البريطاني االنتدابي ِْن ْ ّ ّ العراق ،وكذلك تركيا ،وتوزيع األكراد على أربع دول ،وإصدار
قومي لليهود ،فإن تداعيات الحرب الثانية «وعد بلفور» بوطن ّ أدَّت إلى ترسيخ هذه الوقائع وصولاً إلى إنشاء «دولة إسرائيل»،
العربي؛ مما أفسد أو باألحرى :زرْعها جسمً ا غريبًا في المشرق ّ ّ ً حديثا ،وشغلها بالحروب «المستقلة» عمل ًّيا انطالقة الدول ً عوضا من انكبابها على بناء المؤسسات ،والتنمية ،وبلورة
عقودها االجتماعية.
وأسهمت الحروب الخمسة ضدّ إسرائيل في ب َْلبَلة التماسك
داخليًّا وعربيًّا ،فإن األنظمة القائمة على الهيمنة العسكرية
استطاعت أن تطمس التباينات االجتماعية من دون أن تكون بصدد بناء عالقة وئام وسالم؛ ال بينها وبين مجتمعاتها ،وال
بين الفئات والمكوّنات .لكن ها هي الحرب األميركية في العراق ّ يتمثل قد فجّ رت األلغام ،بل أضافت إليها ،وإذا بأبرز نتائجها
األميركي في وضع نواة إنشاء دولة ُكردية من خالل الدعم ّ ٍّ تشظ االستثنائي لـ«إقليم كردستان العراق»؛ مما أدَّى إلى ّ ّ ً ً لتتولى إيران إدارة ودولة، وأرضا واقعي لوَحْ دَ ة العراق شعبًا ّ ّ التشظي ،سواء بالتعاون مع النظام السوريّ في تغذية هذا اإلرهاب ونشره في أثناء وجود األميركيين في العراق ،أم بتعميمه بعد انسحابهم بوساطة دفع حكومة بغداد إلى نهج
«إرهاب الدولة». ّ شكلت الواقعتان التاريخيتان :إنشاء إسرائيل باالستيالء
العراقي وخلخلته على أرض غيرها بالقوة ،وضرب الكيان ّ الخارجي للسعي بالغزو واالحتالل ،نموذجي ِْن كارثيين ّ ُ الستثناء المنطقة العربية من أيّ ثبات أو استقرار .فاألولى
ً «وفاقا دوليًّا» ،حتى في أكثر مراحل الحرب الباردة رسَّ خت ً سخونة ،قوامُ ه عدمُ سريان القانون والمعاهدات الدولية على
وضعية إسرائيل ،وتأمين تفوُّقها العسكريّ (بما فيه النوويّ )؛ مما أسّ س عالقة مبتورة وغير سليمة بين العرب والنظام
عربي .فإذا كان الدولي ،بل بين العرب أنفسهم وداخل كل بلد ّ ّ
ّ ويحصن الظلم في الدولي يتوقف عند أبواب المنطقة، القانون ّ ً مكانا في محيطها. فلسطين ،فكيف لـ«ثقافته» أن َت ِجد لها أما الواقعة الثانية ،فجعلت من «إقامة ً مشروعا أميركيًّا معل ًنا الديمقراطية» ،بوصفها
المنطقة َ َ مئة عام -بل أكثر -إلى نفسها لهذه اللحظة التي ُت ِعيد َ ْ احتاجت إلى منظومة إقليمية عربية قادرة على َصوْن الوراء ،وإِ ِذ ً كافة ،فقد اصطدمت أولاً بحقيقة ضياع كياناتها والدفاع عنها
عربي» مستحيل ،وثانيًا عقود ِعدَّ ة في البحث عن «تضامن ّ بواقع ْال ِتقاء اإلستراتيجيات واألجندات األميركية واإلسرائيلية
واإليرانية على االستثمار في الضعف والضياع العربيي ِْن. حتى قاعدة «المصالح الدائمة» ال الصداقات ،المعروفة في العالقات بين الدول ،لم تستقم بين العرب وأميركا ،بدليل ما
تشهده حاليًا دول الخليج عامة ،والمملكة العربية السعودية ّ اإلقليمي. تتعلق بمتطلبات أَمْ نها خاصة من ابتزازات أميركية، ّ
ُّ اإليراني لمحاصرة التسلل ولوال «عاصفة الحزم» التي (فرملت) ّ المملكة؛ َلكانت واشنطن تعايشت مع الهيمنة اإليرانية بوصفها مُ عْ ًطى يخدم مصالحها.
قد تكون المنطقة العربية مُ ق ِبلة على تغييرات ش ّتى في َ َ األول في العراق، الصدع خريطتها؛ فاإلقليم الكرديّ أَحْ دَث َّ المرشح لتطوير الصدع الحاصل في سوريا، واإلقليم الكرديّ
اإليراني (إضافة إلى القوى الدولية) قد يتخذه النظام وحليفه ّ ً دَّ َعْ ركيزة للتقسيم وإلنشاء أقاليم ِع ة .وال ي ني ذلك أن عمليات
التقسيم يمكن أن َتجْ ِري بسهولة وسالسة ،بصفقات أو تفاهمات أو حتى قرارات دولية ،إنما بإدامة الصراعات مدة
زمنية في انتظار أن يبدو األمر الواقع كأنه عالج مقبول .ألجل
25
«الداعشي» ضدّ الدول العربية ذلك يُستخدَ م وباء اإلرهاب ّ
التي ترفض مشاريع التقسيم لتهديدها وإقالقها؛ إذ إنه يمكن َ الالحقة في مسار التفكيك والتفتيت؛ لذلك كانت أن تصير
الحاجة إلى تعميم الحزم ليصبح نهجً ا عرب ًّيا؛ ألن السكوت دان المخاط َر ،إنما ي َُفعِّ النها. واالستكانة ال ي ِ ُبع ِ
للعراق بعد تخليصه من النظام الدكتاتوريّ ،
ّ حل الدولة وتفكيكها ،وإلى زعزعة جس ًرا إلى المجتمع وتفتيته ،ومن َثمَّ إيقاظ فيروسات االنقسام
والتقسيم وتنشيطها ،ليس في العراق فحسب ،إنما في المنطقة عامة؛ إذ إن الخلل في الجوار ال يمكن أن يُبقي
أيّ بيت بمنأى عن المخاطر ،سواء أكانت موجات الجئين، ُّ تدخالت لتحريك الضغائن المذهبية أم تنظيمات إرهابية ،أم والعرقية.
في هذه الظروف اإلقليمية الموبوءة بكل أنماط السياسات ُ غير األخالقية وغير اإلنسانية؛ انطلقت الحَ َر ُ الشعبية اكات ً باحثة عن تغيير تستثمره في مستقبلها ،لكنها وقعت سريعً ا في المستنقعات التي لم تتهيّأ للتعامل معها ،واصطدمت
بنقص مناعة المجتمعات إزاء األمراض الكامنة أساسً ا في داخلها .وفي اللحظة الحالكة اكتشفت «األمة» أنها لم َتعُ دّ
ملف العدد
هل تتغير
خريطة العالم العربي
؟
كثيرة هي الشواهد التي تفرض إثارة السؤال
العربي؛ عن احتمال تغير خريطة العالم ّ نتيجة الصراعات العنيفة التي يبدو أنها ُتمزق
مجموعة من بالده ،وبخاصة سوريا والعراق
وليبيا .ويحظى هذا السؤال باهتمام واسع كلما حدثت
تطورات يبدو أنها تحمل في طياتها مالمح تغير في خريطة
هذا البلد أو ذاك .ومن هذه التطورات في المدة األخيرة
ديموغرافي، كثافة المحاوالت التي ترمي إلى تحقيق تغيير ّ
واقترانها بتحركات تهدف إلى عزل مناطق معينة في العراق.
فقد ازدادت وتيرة العمليات التي تقوم بها ميليشيا «الحشد
26 وحيد عبدالمجيد نائب رئيس مركز األهرام للدراسات اإلستراتيجية
الشعبي»؛ إلفراغ المناطق التي تسيطر عليها في ديالى من ّ الس َّنة ،ومَ ْنع عودة المهجّ رين إليها .وتزامن ذلك مع قاطنيها ُّ
ّ يمتد من منطقة ربيعة شروع حكومة إقليم كردستان في حفر خندق
إلى فضاء خانقين .وعلى الرغم من أن الهدف المعلن هو حماية قوات
«البيشمركة» الكردية من هجمات تنظيم «داعش» ،فإن السؤال يظل مثارًا الحقيقي هو الشروع في رسم حدود على عن احتمال أن يكون غرضه ّ األرض في الوقت الذي كرَّر رئيس حكومة إقليم كردستان مسعود بارزاني
دعوته إلى إجراء استفتاء؛ لتقرير مصير هذا اإلقليم. ّ سلمي لحل إن المصاعب الهائلة التي تجعل السعي ّ للصراع الذي تحوَّل حربًا أهلية في سوريا ،والمشاكل ّ ُّ الحل، التوصل إلى مثل هذا المتعاقبة التي تواجه محاوالت
وتؤدي إلى ُّ تعثره المرة تلو األخرى في ليبيا؛ تجعل السؤال
عن حدوث تغير في خرائط هذه البالد ،وفي خريطة العالم
العربي ،مطروحً ا .غير أنه ال تتوافر دالئل كافية حتى اآلن على ّ
نهائي في أن هذه الشواهد وغيرها يمكن أن تكون بداية لتغير ّ الخريطة .والمقصود بالتغيّر النهائي هو ذلك الذي يجد قبولاً ّ إقليم ًّيا ودول ًّيا ،ويحظى برضا قاطني المناطق التي س ُترسم فيها حدود جديدة.
العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
ُّ توقع حدوث مثل هذا التغيُّر ،في ويصعب منهج ًّيا ّ ظل حالة سيولة ت َّتسم بها الصراعات التي قد تؤ ِّدي إليه .فال
يتيسر في ظل هذه السيولة االحتفاظ بالمواقع التي ينتزعها َّ هذا الطرف أو ذاك من غيره في سوريا طوال الوقت .وال ي ِّ ُسلم أيّ من هذه األطراف بسيطرة غيره على منطقة من «مناطق ماس» التي تدور فيها معظم المعارك ،حتى إذا استمرت ال َّت ّ هذه السيطرة مُ دَّ ة .والنمط السائد في الصراع في سوريا ،أو
عليها ،هو أن أغلبية المواقع التي يسيطر عليها طرف أو آخر ً ّ هدفا يسعى غيره النتزاعه منه ،مع يظل في هذه المناطق مراعاة اختالف موازين القوى من وقت إلى آخر .وإذا كان
من الصعب حتى اللحظة الراهنة أن نتخيل يحقق مصالح القوى تغييرا في هذه الخرائط ّ ً اإلقليمية الرئيسة بشكل متوازن ،وبخاصة في ظل شهية إيران المفتوحة لمزيد من النفوذ
ً مذهبي مختلفا؛ بسبب وجود تمركز المشهد في العراق يبدو ّ وعرقي واضح في مناطق محددة ومعروفة ،فقد خلطت ّ َ بعض األوراق ،وأدَّت إلى تداخل هجمة تنظيم «داعش»
وهي كذلك بالفعل ،لكنها ليست مما يؤدّي إلى استمرار أيّ
المكونات المذهبية والعرقية الثالثة (الشيعية ،والكردية، ُ أطروحة تغيير خريطة العراق عليها. والسنية) التي َت ُقوم ُّ
إذا افترضنا توافر مقومات داخلية حاسمة تؤدّي إلى
أوراق غيرها ،إضافة إلى الصراعات المتفاوتة داخل كل من
فال يوجد قدر معقول من االتفاق ،أو حتى التوافق العامّ ،
َّ المقسمة بدورها إلى أحزاب داخل أيٍّ من هذه المكونات وحركات وجماعات وعشائر وغيرها .إضافة إلى أن تمدُّ د قوات
«البيشمركة» الكردية خارج إقليم كردستان منذ أن تصدَّت
لهجمات «داعش» في صيف عام 2014م؛ يجعل انفصال إقليم كردستان ّ ً صراعا أشدّ أقل –وليس أكثر– احتمالاً ؛ ألنه سيثير حِ دَّ ة من أيّ وقت مضى.
هبوب ريح عاتية ُ وق ْل َ مثل ذلك عن الوضع في ليبيا الذي يؤ ِّدي اختزاله في طرفين متصارعين إلى تبسيط مُ خِ ّل حتى إذا كانت مكونات ّ كل منهما موحَّ دة ،فما بالنا حين تكون متنافسة .هكذا يبدو
27
الطابع السائد في هذه الصراعات من النوع الذي يشبه هبوب ريح عاتية يبدو من قوتها وسرعتها أنها ستعصف بالمنطقة،
تغير يحدث على األرض ،واستقراره على نحو يسمح بتقنينه، ً قادمة. سنوات وستظل على هذا النحو ٍ تغيير في خرائط هذه الدول ،سيظل صعبًا تصور حدوث
إقليمي عليه. توافق ّ
فمن الصعب حتى اللحظة الراهنة أن نتخيل تغيي ًرا في ّ يحقق مصالح القوى اإلقليمية الرئيسة بشكل هذه الخرائط
متوازن ،وبخاصة في ظل شهية إيران المفتوحة لمزيد من النفوذ؛ سعيًا للهيمنة على المنطقة .وال يَعْ ني ذلك استبعاد
زمني العربي في مدى احتمال حدوث تغير في خريطة العالم ّ ّ بعيد. لكن السيولة الشديدة في صراعات المنطقة تحول دون
ّ توقع ما يمكن أن يحدث في مدى يتجاوز ما بين عامين وثالثة أعوام حين نتمسك بمناهج البحث في العالقات الدولية،
ونبتعد من التكهّن والتخمين والتنجيم.
ملف العدد
كــ رد ســ تـ ـ ـ
ان
«
د اع
ش»
الحكومة
العراقية
28
بارزاني: االستقالل الكردي بات قري ًبا
أثارت تصريحات مسعود بارزاني رئيس إقليم كردستان العراق التي أدلى بها لصحيفة الغارديان جدلاً واسعً ا؛ إذا قال :إن الوقت قد حان لتغيير حدود الشرق األوسط ،داعيًا قادة العالم
العبادي : كردستان جزء من العراق بدوره دعا رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي
إلى االعتراف بأن الحدود التي رسمتها «سايكس بيكو» قد أخفقت،
إقليم كردستان إلعادة النظر في إجراء استفتاء
وأكد بارزاني أن العالم بدأ يتفهم أن العراق وسوريا لن يعودا
العراق ،ونتمنى أن يبقى كذلك» مؤكدً ا أن مصلحة
وحثهم على تبني تصور جديد للمنطقة يشمل دولة كردية.
موحدين ،وأن ما سماه «التعايش اإللزامي» الذي كان سائدً ا؛ ثبت أنه خطأ.
على استقالل اإلقليم ،وقال« :كردستان جزء من اإلقليم هي في بقائه في دولة عراقية موحدة ،وأن
االستقالل يتعارض مع مصالح السكان في اإلقليم،
وقال :أظن أن قادة العالم يدركون أن هذه هي الحقيقة على
وألمح العبادي إلى سوء اإلدارة المالية في اإلقليم
استحداث المزيد من التفكك والدمار في المنطقة ،ومبديًا ثقته
وكون اإلقليم يصدر %15من نفط العراق ،ووجه
األرض ،مشددًا على أن المحافظة على الخريطة الحالية من شأنها في أن «االستقالل الكردي صار أقرب من أي وقت مضى ،بعد
عقود من الرفض والتوجس اللذين أبداهما جيراننا في المنطقة.
العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
مستشهدً ا بتأخر الرواتب رغم الوفرة المالية،
الدعوة إلى بارزاني بأن يصارح الناس بالحقيقة ال أن يقول شي ًئا ،ويفعل شي ًئا آخر0
29
ملف العدد
اإلقليمي النظام ّ واستقرار دول الخليج لقد كشفت ثورات «الربيع العربي» عن هشاشة الدولة الوطنية العربية
الحديثة وأزماتها البنيوية؛ وعلى الرغم من أن بعض دول «الربيع العربي» يعيش اضطرابات سياسية واجتماعية حا ّدة في المرحلة االنتقالية ،فإن اً دول أخرى تشهد صراعات أهلية دموية ،وبخاصة سوريا واليمن وليبيا، والعراق إلى حد ما .وفي اآلونة األخيرة زادت المؤشرات التي تبعث على القلق لمصير هذه الدول الذي َيشي باحتمال انهيارها وتفككها إلى كيانات صغيرة تقوم على أسس الهوية (اإلثنية ،والطائفية ،والجهوية). والخشية الكبرى أن أيَّ ُّ تفكك لدولة من هذه الدول سيقود إلى ما يعرف
في علم السياسة بظاهرة «الدومينو»؛ أي ج ّر الدول العربية األخرى إلى
30
حافة االنهيار؛ مما يعني تغير نظام «سايكس بيكو» الموروث من الحرب العالمية ُ األولى ،إضافة إلى أن هذه النزاعات ستعيد التركيبة الديمغرافية
ابتسام الكتبي ِّ وتؤسس لتدمير التنوُّع الحضاريّ والمذهبي والثقافي للدول والمجتمعات، ّ ّ واإلثني الذي ميَّز المنطقة على مدى قرون ،وهذا التغيير القسريّ ،الذي ّ رئيسة مركز اإلمارات للسياسات يجري تحت وطأة الحروب والصراعات ،ينمّ ي نزعة االنتقام لدى األفراد والمجموعات ،ويجعل مصادر التهديد في مجتمعات دول المنطقة كامنة ،ومن الممكن أن تنفجر في أي وقت ،و ُي ّ عد هذا مُ صا َدرة لمستقبل األجيال القادمة في منطقتنا ،فمن حقهم علينا أن نورثهم أم ًنا وسالمً ا وتنمية وازدهارًا.
إن تغيّر الخرائط في المنطقة ،وانتشار خطر الجماعات ّ الشك والكراهية والالثقة اإلرهابية ،وتشظيها ،وإقامة حواجز بين أبنائها ،من شأنه تمزيق وَحْ دة المجتمعات ،ويزيد تعداد الدول المخفقة في منطقتنا؛ مما يستدعي تب ّني بدائل إقليمية
ووطنية لمجابهة حالة إخفاق الدولة الوطنية في المنطقة، واحتماالت تفكك بعضها .وينبغي للقوى العربية الفاعلة
إقليميًّا ،ومنها المملكة العربية السعودية ودولة اإلمارات؛
ُّ التوصل إلى أن تقوم بتوحيد جهودها ،وتعزيزها من أجل تسويات للصراعات المشتعلة؛ للحفاظ على بقاء تلك الكيانات العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
ووحدتها ،مع ضرورة تحييد تأثير القوى اإلقليمية غير العربية
والقوى الدولية؛ لذلك فإن دول «مجلس التعاون لدول الخليج َ إقليمي ممكن؛ لرسم مطالبة باستجماع أكبر ثقل العربية» ّ
اإليراني في المنطقة؛ إلقامة توازن رادع ،يسمح حدود الدور ّ ّ اإلقليمي الجديد المزمع تشكله وصياغته في ألنْ يكون النظام ّ
المنطقة غير مُ ه َِّدد استقرار دول الخليج ومصالحها.
من حق أميركا االنسحاب من المنطقة ْ من حق الواليات المتحدة األميركية وَفق تقديرها
مصالحها وتأكيدها مبدأ عدم خوض أيّ حروب
في الشرق األوسط ،على خلفية تجربة أفغانستان والعراق وليبيا؛ أن تنسحب
من المنطقة ،لكنّ منطق التشابك في العالقات الدولية ،وتداخل مصادر
التهديدات األمنية والسياسية العابرة
للدول ،سيجعل من الصعب على
الواليات المتحدة األميركية االستمرار في
هذه السياسة.
التاريخي مع دول الخليج تحالف أميركا ّ كان أحد مصادر نشر الصورة الذهنية اإليجابية ألميركا في المنطقة ،وترسيخ قوتها الناعمة على مدى أجيال في المنطقة العربية ،والفراغ الذي ستتركه أميركا سيملؤه في المستقبل
الصينيون والهنود والروس ،وستنقلب الصورة األميركية في أذهان األجيال القادمة في المنطقة العربية إلى صورة الحليف
غير الموثوق فيه.
والبريطاني تع ِّزز الطائفية األميركي في اإلعالم ّ ّ السياسية في المنطقة ،وترسّ خ التط ُّرف، وتنمّ ي االنقسامات المذهبية .وأكثر ما يلفت انتباه الخليجيين أن ما ينشر،
األميركي سلبي ،في اإلعالم بشكل ّ ّ والبريطاني عن السعودية ودول الخليج، ّ
يجري ترجمته فورًا في إيران بلغات ِعدَّ ة. والسؤال :أال يُع ِّزز هذا الوضعُ الطائفيةَ
والنزاعات في المنطقة ،ويثير الشكوك في ِ السياسة الغربية؟ الحقيقة أن هذه المُ ه َِّددات
تحمل معها مكتسباتها وفرصها الثمينة واإلستراتيجية؛ ففي السنوات األخيرة ،تتص ّرف كثير من دول الخليج العربية ،وعلى رأسها المملكة العربية السعودية ،ودولة اإلمارات العربية ّ مستقل نسب ًّيا ،وبشكل متزايد ،عن رغبات المتحدة ،على نحو
الواليات المتحدة األميركية؛ العتقاد هذه الدول أنه ال بد من
بذل المزيد من الجهود لمواجهة اإليرانيين ،أو مخاطر اإلسالم
منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م بدأت عملية
السياسي ،والحركات الدينية المتط ّرفة .وقد شهدت واشنطن ّ
األمني الديني .وقد تنامى التعاون مسألة اإلرهاب والتشدُّ د ّ ّ واالستخباراتي بين واشنطن وطهران في الحرب األميركية على
الحاجة إلى االصطفاف خلف قوة كبرى ،كما كان الحال في
مراجعة لطبيعة العالقة األميركية الخليجية ،على خلفية
نظام «طالبان» ،وتنظيم «القاعدة» في أفغانستان. ً ً خطوة نوعية أخرى األميركي للعراق عام 2003م وكان الغزو ّ ً في تلك المراجعة التي الزمت تعاونا أميركيًّا إيرانيًّا جوهريًّا على
إسقاط نظام َصدَّ ام حسينَّ ، تمكنت على إثره إيران من ملء
واألمني الناشئين في العراق؛ الذي أصبح السياسي الفراغي ِْن ّ ّ فيه حلفاء إيران حُ َّكامه الجُ دد .وبسقوط نظامَ ْي «طالبان» في
أفغانستان َ وصدَّ ام حسين في العراق تكون واشنطن قد خدمت َ دُ إيران ،بشكل مجاني عبر إسقاط أبرز عدوي ِْن ل ودي ِْن لها؛ اإليراني في المنطقة ،وصعود مما نجم عنه تمد ٌد في النفوذ ّ
ذلك بالفعل في اليمن وسوريا ومصر والبحرين ،وهي المرة ُ األولى التي يجري فيها التعاون بين دول خليجية من دون
حرب تحرير الكويت قبل نحو ربع قرن.
أساسي في العالقة األميركية الخليجية تحت هذا تحوّل ّ
األميركي في المنطقة ،وتبدّل موازين وطأة تراجع الحضور ّ األميركي مع إيران ،وتمادي األخيرة القوى اإلقليمية ،والتقارب ّ ُّ تدخالتها في الشؤون الخليجية والعربية .وهذا التحوّل، في على الرغم من كلفته على الدول الخليجية ،فإنه مَ َنحَ ها فرصةً
ً مهمة للعمل على بناء سياسات أمنية ودفاعية إستراتيجية ّ ُ ّ مستقلة نسب ًيا ،ومن المهم أن توضع في إطار رؤية متماسكة
وشاملة؛ لمنع الفوضى اإلقليمية ،والدفاع عن حدود تلك
الخليجي ،وما انضوى تحته من توترات اإليراني وتيرة النزاع ّ ّ األميركي على مذهبية وطائفية سُ نية شيعية .وقد بلغ االنفتاح ّ
الدول ومصالحها العليا ،وتطوير مبدأ الردع ،في ظل ما يطلق ِّ محللون منهج «التطمينات ال الضمانات» األميركية. عليه
اإليراني الذي َعدَّ ته إدارة أوباما أحدَ أهم أولهما االتفاق النوويّ ّ
إستراتيجي بينهما هو األقوى في تاريخ عالقتهما ،وإدراك أن ّ
إيران درجة عالية في السنوات األخيرة؛ على خلفية أمري ِْن؛
ً فرصا للسعودية واإلمارات؛ إلقامة تحالف فهذا المنهج قدَّ م
إنجازاتها على مستوى السياسة الخارجية ،وثانيهما تقديم إيران بوصفها بلدً ا أساس ًّيا في حرب الغرب على اإلرهاب ،وعلى
اإلستراتيجي مع الواليات المتحدة األميركية فقط ،على أهمية ّ
وارتيابًا وتر ُّددًا سُ نيًّا في االنخراط القويّ في هذه الحرب.
اإلقليمية والدولية ،وحدَّ دتا بشكل أكثر وضوحً ا وبعيدً ا
الغرب ُّ تلك ًؤا تنظيمات «داعش» و«القاعدة» ،في مقابل ما يراه ُ
الحمالت المغرضة على السعودية
الحمالت المغرضة على المملكة العربية السعودية
31
مصالحهما الوطنية تقتضي عدم وضع ثقلهما كله في التحالف هذا التحالف لهما ،وهما لذلك أعادتا ترتيب تحالفاتهما من المواربة وااللتباس الئحة الحلفاء والخصوم واألعداء
والمنافسين اإلقليميين ،وهو ما تبدّ ى في تغيير لهجتهما وسلوكهما تجاه إيران وحلفائها في المنطقة.
ملف العدد
الحدود في العالم العربي ..المتغ ِّير والثابت العربي القائمة اليوم هي نتاج التطورات التي الزمت انتهاء حدود العالم ّ
الحرب العالمية األولى ،والظروف التي قادت إلى انهيار اإلمبراطورية ّ العربي. تتحكم في أجزاء أساسية من العالم العثمانية التي كانت ّ
العربي باسم االستعمار فالخالفة العثمانية لم تتحكم في العالم ّ الخارجي ،إنما باسم الخالفة اإلسالمية العثمانية التي ورثت إطار ّ اً أسست أصل في بداية ظهور الدعوة اإلسالمية، الدولة اإلسالمية التي ّ واستمرّت في الوجود بصيغ وأسماء مختلفة .وعلى الرغم من أن
32
عبدالعزيز بن صقر رئيس مركز الخليج لألبحاث
العربي في حقبة الخالفة اإلسالمية بجميع أنواعها، تقسيم العالم ّ ومنها الخالفة األموية والعباسية والعثمانية وغيرها ،كان قائمً ا على أُ ُسس الواليات ،فإن هذه الواليات َّ مثلت كيانات جغرافية وسياسية
وحضارية مختلفة بعضها عن بعض؛ فالعراق والشام ومصر والحجاز وغيرها من واليات الدولة اإلسالمية المعروفة كانت ُت ِّ مثل واليات َّ ً مستقلة مثلما نعرفها اليوم ،وفي الحقا إلى كيانات سياسية تطوَّرت ً الحقا. إطار جغرافية تقارب ما تطور
العربي في 16مايو 1917م، بدأت قضايا الحدود في العالم ّ
يوم توقيع القوى االستعمارية البريطانية والفرنسية على اتفاقية
سايكس بيكو ( Sykes–Picot Agreementأو اتفاقية آسيا الصغرى )Asia Minor Agreementكما ُتع َرف رسميًّا،
َي (1916 - 1915م) التي تضمّنت هذا الوعد. مكماهون بين عام ْ
منذ عام 1920م ،بدأت الكيانات السياسية العربية المستقلة
التدريجي ،ومعها ظهرت الحدود الجغرافية بالظهور والتبلور ّ عربي .كانت هذه الحدود ال ّ تمثل الواقع القائم على لكل كيان ّ
ومثلت هذه االتفاقية أول خطوة لتقسيم مناطق النفوذ بين
األرض من النواحي االجتماعية والسياسية واالقتصادية ،بل
لكيانات سياسية ناشئة .وعلى الرغم من هذه الحقيقة فإن هذه ً الحقا إلى كيانات سياسية متميزة االتفاقية وضعت بذور ما تطور
وتحوَّلت من حدود رسمتها القوى االستعمارية إلى حدود األمر
البريطاني لويد جورج ورئيس عام 1918م ،بين رئيس الوزراء ّ ُ نهي إلى األبد حُ لم إنشاء ت ل كليمنصو؛ الفرنسي جورج الوزراء ِ ّ ِ دولة عربية موحَّ دة خالية من الحدود الفاصلة .وتجاوزت هذه
ٍّ العربي علي لحدود العالم ّ تحد ِف ّ كان أول ٍّ العربي ما بعد فعلي لحدود وخارطة العالم تحد ّ ّ
عربي موحَّ د في مراسالت سابقة ،جَ َر ْت بين قيادات سياسي ّ ّ عربية والقوى الكبرى ،وبخاصة مراسالت الشريف حسين واللورد
العربي .فقيام طبيعة األنظمة السياسية الحاكمة في العالم ّ أنظمة عربية تتب ّنى األيديولوجيات الثورية واالنقالبية كان له
الدول االستعمارية ،وليس اتفاقية لرسم الحدود الجغرافية
من بعضها .وجاءت االتفاقية اإلنجليزية الفرنسية في 4ديسمبر
االتفاقية األخيرة جميع الوعود التي قطعت للعرب بإنشاء كيان
العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
أساسي حدود نفوذ القوى الكبرى المتصارعة تعكس بشكل ّ في المنطقة .ومع مرور الزمن ترسَّ خت خطوط هذه الحدود، الواقع ،ثم إلى حدود قانونية ترتكز على مبدأ السيادة واالستقالل.
الحرب العالمية األولى ،قد جاء من التغيرات التي شهدتها
العربي .فقد جاء انعكاسات مهمة على قضايا الحدود في العالم ّ
إعالن الوحدة االندماجية المصرية السورية رسميًّا في 22فبراير عام 1958م؛ ليزيل الحدود القائمة والمعترف بها لدولتي مصر
سياسي جديد تحت اسم الجمهورية وسوريا ،ويعلن قيام كيان ّ العربية المتحدة ،بحدود سياسية تضمّ أراضي الدولتي ِْن.
العربي وبالتزامن جرى إعالن قيام «االتحاد الهاشمي»؛ ليضمّ ّ ّ أراضي دول َتي العراق واألردن ،ويزيل خط الحدود الذي كان َّ يتمكنا من االستمرار في قائمً ا بينهما .لكنَّ الكياني ِْن الجديدي ِْن لم الحياة .فقد انهارت الوَحْ دة المصرية السورية في سبتمبر عام
األردني في العراقي العربي 1961م ،وقبلها انهار كيان االتحاد ّ ّ ّ يوليو 1958م ،وعادت كل دولة إلى حدودها السابقة ،وعاد خط العربي. الحدود السابق يمثل األمر الواقع في العالم ّ العربي؛ العالم تاريخ في عام 1990م ،جاءت أهم محاولة في ّ لتغيير الخارطة السياسية باستخدام وسائل القوة .عندما قام
العراق في الثاني من أغسطس عام 1990م ،بغزو دولة الكويت المستقلة وضمّها إليه بالقوة .وهذه المحاولة لم َت ُدمْ طويلاً ؛ إذ
ً دولة جرى تحرير دولة الكويت في فبراير عام 1991م ،وعودتها ً مستقلة ،بحدودها السابقة التي كانت قائمة قبل عملية الغزو واالحتالل والضمّ .
وجماعات المقاومة لالحتالل ،والجماعات المدافعة عن حقوق
األقليات الدينية أو العرقية ...وغيرها. حرب على الحدود التقليدية
«الالعبون من غير الدول» وجميع أصنافهم وانتماءاتهم
العربي، يقودون اليوم الحرب على الحدود التقليدية في العالم ّ وينجحون في مواضع متعددة في تغيير الحدود الدولية القائمة ،بعد أن أَ ْخفقت «الدول الرسمية» في تحقيق الهدف بجميع الوسائل السياسية والعسكرية .والتغيير المُهم للحدود
ضمن هذا المفهوم حدث مع انتصار حركة تحرير جنوب
السودان ،وعبر توظيف ميليشياتها المسلحة في تغيير حدود
دولة السودان ،واإلعالن عن استقالل دولة جنوب السودان الدولي بأمر الكامل في 9يوليو 2011م ،والحصول على االعتراف ّ
واقع جديد. الحركة الكردية في شمال العراق تسير على نفس ُخطاَ
حركة جنوب السودان ،فالميليشيات الكردية المسلحة «البيشمركة» َّ تمكنت من فرض أمر واقع جديد في العراق، يُج ِّرد الحكومة المركزية من أي سلطة على أراضيها في الشمال (كردستان العراق) .والتطورات سائرة إلى تغيير خارطة العراق،
هنا يمكننا القول :إن جميع المحاوالت التي هدفت إلى
الدولي. وخط حدود الدولة ّ في يوم 10أغسطس 2014م ،أعلنت «الدولة اإلسالمية في
االستعمارية .ومن الممكن القول :إن ما تطوَّر منذ اتفاقية
اتفاقية سايكس بيكو إلى األبد .جاء هذا اإلعالن على إثر إزال ِة اإلرهابي حواج َز الحدود الدولية الفاصلة بين دول َت ِي التنظيم ّ ِ العراق وسوريا.
تغيير طبيعة الحدود الجغرافية القائمة بين الدول العربية من جانب بعض الدول أو القيادات العربية أخفقت ،أو لم تعمر زم ًنا طويلاً قبل أن تنهار ،ويعود األمر إلى ما كان عليه في الحقبة
سايكس بيكو استمر في العمل على أرض الواقع ،ولم تشهد
قضية الحدود بين الدول العربية إال تغيرات وقتية ،لم تتمكن من الصمود أمام واقع الحدود االستعمارية الذي أمسى مبدأً ً راسخا في الذهنية العربية والدولية. الالعبون من غير الدول
خالل العقود الزمنية القليلة الماضية حدث تطور خطير
العربي. في مفهوم امتالك القوة ،واستخدام القوة في العالم ّ فنتيجة لتطورات متعددة في البيئة اإلقليمية والدولية برزت َ القوة ،حين تبلورت قوى جديدة ،أَ ْنهَت احتكار الدول ِة التقليدي ِة
العراق والشام» أو تنظيم داعش كما يعرف اصطالحً ا ،في شريط فيديو ب َّ االجتماعي عن سقوط ُث في وسائل التواصل ّ
اإلرهابي في حينه أن أهم أهداف وقد أعلنت قيادة التنظيم ّ
التنظيم هو إلغاء آثار ونتائج اتفاقية سايكس بيكو ،وإلغاء العربي التي أقامتها الحدود الجغرافية الفاصلة بين أجزاء العالم ّ االتفاقية .قبل هذا وفي يوليو عام 2014م ،كان زعيم داعش أبو بكر البغداديّ قد أعلن في ُخطبته المشهورة في مسجد النور
بمدينة الموصل أن «زحف الدولة اإلسالمية لن يتوقف حتى يضع المسمار األخير في نعش مؤامرة سايكس بيكو».
خالصة األمر أن قوة «الالعبين من غير الدول» وقدراتهم
ظاهرة التنظيمات والميليشيات السياسية والعَ َقدية المسلحة َ َ السيطرة على الدولة والسلطة التقليدية نازع التي بدأت ُت ِ َ ظاهرة بروز األرض والمواطنين والموارد .وهنا يمكن تسميتها
بداية عقد العشرينيات من القرن الماضي .فهذه القوى تمتلك
الرسمي، الجماعات المسلحة التي تعمل خارج إطار الدولة ّ
السريع ،ومنها الحدود السياسية لدول المنطقة بشكلها
دور «الالعبين من غير الدول» ،ويشمل هذا المصطلح جميع ومنها الجماعات اإلرهابية ،وجماعات المعارضة المسلحة،
33
ستكون المعوّل الذي يهدم الكيانات السياسية القائمة في عالمنا
العربي ،ويُغيِّر خارطة الحدود السياسية التي كانت قائمة منذ ّ من اإلمكانيات والقدرات ما يمكن أن ي ِّ ُهدد «األمر القائم» بالزوال
التقليديّ الذي اعتدناه.
ملف العدد
تقسيم العراق.. صخب اإلعالم وعقبات األرض ينقسم العراقيون بشكل حا ّد إلى عدة تصوُّرات حول مستقبل الحُ كم ُّ ينص على الفيدرالية ،لكن ُي َّتهَم المركزيّ أو وَحْ َدة بالدهم .الدستور ُ ً أيضا-السنة الكر ُد بأنهم يمارسون صالحيات واسعة .وتتجه أطراف من ُّ
ً حديثا عن الموضوع في إلى الفيدرالية .أما الشيعة فإنهم الطرف األقل ّ ظل هيمنتهم على النسبة الكبرى من الحكم .مشروع إقامة األقاليم يوصف بأنه المُ مهّد لالنفصال ،وبخاصة مع تجربة كردستان التي يجري
عمار السواد باحث وإعالمي عراقي
34
الترويج لها؛ لالنفصال وتقرير المصير بشكل مستمرّ .على الرغم من هذه الخالصة التي تبدو واضحة ،فإن التعقيد هو جوهر النزاع في
العراق.
«لو انفصل إقليم كردستان ،فإن الحرب الداخلية ستعود،
ولن تنطفئ ،فقيادات الكرد موحَّ دة؛ ألن مصلحتها ضد المركز
سياسي مخضرم من كردستان. تحتم ذلك» هذا ما قاله لي ّ
الكالم قد ال يدفع رئيس إقليم كردستان إلى المحافظة على البقاء جزءً ا من العراق و َْفق الصيغة الراهنة؛ ألن طموحات الزعامة تحجب القدرة على النظر إلى المستقبل ،ومخاطر
ً إجماعا الصراع في حال االنفصال .لكن مثل هذا القرار يستدعي
مفقودًا حتى اآلن ،فصوت االنفصال ال يعلو من محافظة
الكردستاني ،وحركة التغيير؛ الوطني السليمانية حيث االتحاد ّ ّ هذان الحزبان هما العقبة الداخلية الرئيسة أمام انفراد البارزاني بقرار مصير اإلقليم.
يالحظ في تصريحات المسؤولين في االتحاد ،عدم
التفاعل مع االستفتاء أو االنفصال ،فهناك تأكيد متتابع على اللجوء لخيارات بديلة .القياديّ «االتحاديّ » برهم صالح -على
سبيل التمثيل -في تصريح غير بعيد ،تحدَّث عن ضرورة اللجوء ّ الحل الكونفدرالي .هذا الحديث سابقة سياسية ،وهو للنظام ّ
الفيدرالي الراهن واالنفصال الذي يعمل من الوسط بين النظام ّ َّ أجله بارزاني .أما حركة التغيير التي تشكلت بعد سقوط النظام
ّ متحفظة ،أو باردة تجاه االنفصال. السابق ،فهي األخرى تبدو وهذا التصوُّر ليس جديدً ا على الحركة التي يقودها اليساريّ
المخضرم نوشيروان مصطفى ،إنما سبقه تصريح لزعيمها قبل العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
عامين قال فيه« :الحركة تساند قرار بارزاني في حال لم يتسبب في أيّ مشاكل وضرر للشعب الكرديّ ،لكنها تقف ضده في حال حدوث خالف ذلك».
ُّ السنة ..بديل حكم العراق المستحيل!
الطموح الكرديُّ القديم إلى االنفصال عن العراق وتكوين
دولة كردستان الجنوبية أو الكبرى ،ليس هو نفسه سُ نيًّا .سُ نة العراق يُص َّنفون إلى وقت قريب بالمدافعين عن العراق بنسخته
علني عن العربية الموحدة؛ إذ لم يسجِّ ل أيُّ تصريح أو موقف ّ االنفصال إلى وقت قريب ،وحتى اللحظة الراهنة فالمشروع
ني على غرار الكرديّ ،وهو موقف المطروح هو إقامة إقليم سُ ّ
جدلي تبلور في العهد الثاني من حكومة نوري المالكي .وقد ّ اإلسالمي «إخوان العراق»، رسمي الحزب تب ّناه بشكل غير ّ ّ ْ ظهرت أُولى وجرى الترويج له في محافظة األنبار .وعمليًّا ً مشروعا للتحوُّل الخطوات عندما قدمت محافظة صالح الدين ُ جهض. إلى إقليم ...لكنه أ ِ السنية، وعلى الرغم من وجود هذا المشروع في األوساط ُّ والتفكير فيه في أكثر من وسط ،فإنه ال يزال يشهد بعض ُ بعض القوى فيه تهديدً ا لوَحْ دة العراق. المعارضة؛ إذ َت َرى
فعلى سبيل التمثيل ظل صالح المطلك يعارض إقامة األقاليم، ويدافع عن الالمركزية بصيغة ما دون الفيدرالية .عبدالرحمن
35
اللويزي ،وهو نائب من محافظة نينوى ،يُعَ دّ من أكثر المناوئين ُ الرئيس في المعركة السياسية وهدفه إلقامة مشروع اإلقليم، ُ ُ وغرافي الذي تقوم به وَحَ دَ ات مواجهة ما يسمِّ يه التغيي َر الديمُ ّ
كردية في المناطق العربية المُ ح َّررة من داعش في الموصل. ُعار ُ َ مشروع توسيع إقليم كردستان إلى مناطق ض بمعنى آخر ي ِ
جديدة. ِّ الحزب اإلسالمي يمثل مع بعض األطراف المتناثرة
التكريتي ناجح الميزان ،الطرف األكثر القومي األخرى؛ مثل: ّ ّ لماني السابق حسن الع دفعً ا عن هذا االتجاه .الباحث والنائب ِ ّ
الجغرافي. أقاليم جغرافية؛ أي :ال تعتمد الطائفية إنما التشابه ّ ويبدو أن هذه الدعوة تندرج ضمن سعي آل النجيفي لزعامة
الموصل؛ لصعوبة الطموح إلى ُّ السنة. تزعم ُّ
أول مشروع إلقامة األقاليم خارج كردستان ،صدر عن
الشيعي عبدالعزيز الحكيم ،وهو رئيس المجلس الزعيم ّ سالمي األعلى؛ إذ طالب الحكيم قبل وفاته بإقامة إقليم اإل ّ ٍ الوسط والجنوب ،حيث يضم تسع محافظات شيعية سوى العراقي جعلها ضمن إقليم. بغداد التي يحظر الدستور ّ الشيعي حول المشروع منع تطبيقه آنذاك ،فحزب االنقسام ّ
العلوي يشير إلى أن زيارات رئيس مجلس النواب والقياديّ في
الدعوة والزعيم المناوئ اآلخر مقتدى الصدر يعارض هذه
اإلسالمي هو العلوي في تصريحات صحفية إلى أن «الحزب ّ ني عن الطرف األقوى واألكثر حماسً ا إلقامة اإلقليم» .النائب ُّ الس ّ ً أيضا -إلى أن خيار اإلقليممحافظة ديالى رعد الدهلكي ،أشار
الشيعي العربي .في الوقت الراهن يبدو أن التوجّ ه العراق ّ ّ معارض أليّ أقاليم بحجة أن الظروف غير مناسبة .لكن الواضح ِ
اإلسالمي سليم الجبوري تدخل في هذا الصدد .ويشير الحزب ّ
أحد الخيارات المطروحة.
ً ً أطرافا مشروعا بديلاً ،يبدو أن المفارقة األهمّ أن هناك
سُ نية تدعمه ،وهو مقترح أثيل النجيفي ،محافظ نينوى السابق ،الذي دعا إليه في مايو من العام المنصرم ،وهو إقامة
الفكرة .األخير ُع ِرف عنه ميوله إلى النظام غير الفيدرالي في
أن القوى الشيعية تنظر إلى األقاليم بعين الريبة ،وتعتقد أنها ُتمهّد لالنفصال في ّ الشيعي. ظل رفض األطراف كافة الحكمَ ِ َّ وليس واضحً ا ماذا حل بمشروع الحكيم ،مع أن المصادر
المطلعة تقول :إن وريث زعامة المجلس عمار الحكيم ال يزال ينظر إلى المشروع بوصفه جزءً ا من منهاج حزبه.
ملف العدد
التقسيم موجود في الذهنية الغربية
36
أيمن الحماد كاتب سعودي
الفرنسي ال يمكن األخذ بكالم رجل االستخبارات السابق ّ برنارد باجوليه بالقطعية الحدّ ية ،على الرغم من الباع
والظروف مع أزمات حدودية ،ال تخرج إلى العَ لن إال في حال ُّ تظل حبيسة األدراج واألرفف. نشوب األزمات ،وفي غير ذلك
الع ِبينَ غير نِظامِ يِّين في مَ ْشهَد الصراعَ ، ونعْ ني إلى وجود ِ َ الجماعات اإلرهابية ،من ميليشيات وتنظيمات ،التي ال يمكن ِ
في االستعمار بوساطة تب ِّني أحزاب سياسية ،أو تشييد قواعد
حال فإن مشاريع التقسيم موجودة في الذهنية الغربية قبل ما
إن حجم تأثير تنظيم «داعش» ،وقدرته على اإلمساك
الدبلوماسي االستعماريّ الطويل لفرنسا في المنطقة ،وال ننسى ّ فرانسوا بيكو الذي كان ونظيره مارك سايكس ،هما من اخ َت َّط َ العربي ،وعدم األخذ بالقطعية مآله لعالمنا الحدود الجديدة ّ
التعاطي معها في إطار أيّ تسوية أو حتى مؤامرة ،بل إن الحاصل اليوم أن هناك رغبة في تماسك الدول التي َتشهَد ً تخوفا من صعود تلك الجماعات .وعلى أي فوضى كبيرة؛
العربي ،وإن إسقاط األنظمة كان رغبة في نفوس سُ مِّ ي بالربيع ّ المحافظين الجُ دُ د على األقل في أثناء مُ دَّ َت ِي الرئاسة لجورج بوش االبنُ ، ُ السيَر الذاتية ،ومنها ما يحكيه وتخبرنا بعض ِّ
إن فرضية إعادة ترسيم الحدود في الشرق األوسط ال يمكن أن يكون المسوغ لها استغالل «داعش» هشاشة دول َت ِي العراق وسوريا ،واكتساح الحدود بينهما ،فالتاريخ يقول :إن الجغرافيا ترسمها القوى الكبرى التي تتب َّنى اليوم شكلاً جديدً ا عسكرية ،يمكن أن تضمن حضور الدولة ذات النفوذ واستمرار مصالحها ،وفي حالتنا هذه َنعْ ني أميركا وروسيا المعنية بشكل رئيس بسوريا ،على حين ُ األ َ ولى حاضرة في العراق. باألرض ،وحجم الترهيب -ال شك -أسهم في إحداث هياج
ديموغرافي ال يمكن إصالحه ،لقد بلغت اجتماعي ،وتغيير ّ ّ َ ْ ً َ تلك الحال أوربا ،وبلغت َع ْنوة العواصمَ األوربية ،وألقت
الوزير السابق أحمد أبو الغيط ،وما ينقله عن انطباعات مبارك
والثقافي بظاللها على أشكال التعاطي السياسي واالقتصاديّ ّ ّ ً أيضا -لن تعودفي أوربا على نحو يصل إلى القول بأن أوربا
األميركي السابق ،بضرورة تغيير النظام في سوريا؛ القومي ّ ّ ُت ِّ ُ وضح لنا مثل تلك اإلشارات الرغبة الغربية في تغيير األنظمة،
الديموغرافي واإلثني ،وما قد يلحقه الهجرة على التكوين ّ من تبعات ،ي ِّ ُهدد في واقع األمر معاهدة «شنغن» ،وظهور ً حقيقة إلى الخوف األسالك الشائكة بين حدود أوربا التي ترمز
الرئيس المصريّ األسبق ،وشعوره برغبة أميركية في تغييره، أو تلك التي سَ مِ عها مباشرة من ستيف هادلي مستشار األمن
جغرافي؟ في واقع األمر إن الحدود لكن هل يرادف ذلك تغي ٌر ّ في منطقة الشرق األوسط َت ُّ وحساسة ،ولم ظل مسألة رخوة َّ
حسم بين كثير من الدول التي تعايشت بفعل المصالح ُت َ
العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
مثلما كانت ،وليس الشرق األوسط فحسب ،فتأثير موجات
من موجات البشر الفارِّين من جحيم الشرق األوسط وأتون الفوضى.
ً إذا ال شك أن التركيبة السكانية والتقسيمات اإلثنية يعاد
على ذلك ،ثم إن تقسيم الدول العربية الحديثة هو حصيلة
الكبرى في العالم بقدر ما يَعْ ني الدول اإلقليمية؛ لذلك فترسيم الحدود وتغييرها نراه أم ًرا مستحيلاً ،أو غير وارد
حدث في الهند ،لكنها َّ ً متماسكة ،واستطاعت بناء ظلت
توزيعهما اليوم في سوريا والعراق ،وهذا ال يَعْ ني الدول
على المدى القريب .ال ننسى أن دولة مثل سوريا تختلف عن العراق من حيث غزارة المكونات وتنوعها ،وتعدد المذاهب
واألديان والثقافات.
الدولي بين الناتو إن النزاع الحاصل اليوم ،والتدخل ّ َ محالة إلى صيغة يمكن بوساطتها وروسيا ،سيفضي ال
تقاسم المصالح ،ال تقسيم األرض ،والبحث في تفتيتها العربي ،لكن على الرغم من رواج مسألة تقسيم العالم ّ يجب أن نسأل :لماذا التقسيم؟ وهل التقسيم سيُضعف الشرق األوسط أكث َر من حالته الراهنة ،أم قد يجلب في مجموعات قد ُت ِّ شكل خط ًرا حقيقيًّا للغرب حال فوضويته ٍ المذهبي أو اإلثني وحضارته ومنجزه .إن قلنا :إن التناحر ّ يبلغ اليوم حالاً من الخطورة ،لكن ال نعتقد أنه سيفضي اإلقليمي لن تقبل تركيا إلى تقسيم الدول ،فعلى المستوى ّ
نشوء دولة كردية جنوب حدودها تحت أي مسوّغ ،ولن تسمح إيران بميالد دولة سُ نية َش ْرق العراق ،ويمكن القياس
أهلي ،ولو كانت تلك الدولة االستعمار ،وليس نتيجة صراع ّ بصدد تقاسُ م األرض َل َفعَ َل ْ ت بعد جالء االستعمار عنها مثلما
37
دولة وطنية.
في كل األحوال ،إن الصراعات حتى األهلية ال تتسبَّب في نشوء دول ،مثل الحال األفغانية التي لم ُتسفر عن ميالد أيّ دولة على الرغم من إخفاق دولة أفغانستان إن صح التعبير،
الدولي؛ الجيوسياسي على المستوى لكنها مهمة في الصراع ّ ّ َ لذلك من المهم الحفاظ عليها ،لكن لماذا يُق َّسم السودان؟ ُقسم إنما حدث االنفصال نتيجة استفتاء ،صحيح عمل ًّيا لم ي َّ أن ذلك وقع بعد سنوات طويلة من الحرب التي بالتأكيد
رسَّ خت حالة عدم الوالء للدولة السودانية ،إضافة إلى الغربي ال َّ شك في ذلك ،والحالة يمكن أن تنطبق على الدعم ّ أسكتلندا التي َّ نظمت استفتاء على االنفصال عن بريطانيا، وصوَّت األسكتلنديون برفض االنفصال. إننا ال يمكن أن ُن ِّ قلل من الواقع اليوم في الخارطة العربية
من حيث التأثيرات الواسعة النطاق والمتعددة المجاالت، ّ فنشك في ذلك. لكن أن نشهد ميالد دول جديدة، اقرأ الملف كاملاً في موقع المجلة
ملف العدد
تقارير
تداعيات الحرب في اليمن
وداع المكتبة أو الزفرة األخيرة في وجود مكتبة يختلف األمر للذين تجبرهم الحرب على ترك بيوتهم، بما أنها الجزء األثير الذي يصعب حمله .يمنيون و َّدعوا مكتباتهم من دون الحي الذي تركوه بين عودة ،وآخرون أودعوا فيها أمل الرجوع .إنها الجزء ّ
38
جدران أو أغلفة ميتة .ال يم ّر يوم من دون أن تفكر إلهام الوجيه (صحافية) اً سهل؛ قالت« :كان ظلمً ا فادحً ا». بمكتبة تركتها في اليمن ،لم يكن فراقها
جمال حسن صحفي يمني
ثمانية أشهر منذ ألقت إيمان عامر (طبيبة أطفال) نظرتها
غير أن عاطفة غامضة أثارتها الرفوف .فوراء كل كتاب تجلس
مدار سبع سنوات شاركت أخاها في ملء رفوفها حين تتوافر
استطردت :أكثر من ماليين األفكار والمشاعر والذكريات
األخيرة على مكتبتها المنزلية ،هي عمر الحرب في اليمن .على لهما السيولة .تقول :إن حجمها ليس بالكبير ،لكنها اإلضافة األجمل في البيت .يمكن لتلك اإلضافة أن تتعرض إلى الفناء
أو الدمار؛ لوقوع إحدى القذائف التي تلقيها الميليشيا وسط
المدنيين في تعز .كان يوم جمعة ،وفي ساعتين قرروا ترتيب أمر السفر والنزوح إلى القرية« .ماذا يمكن لعقلك التفكير في أخذه أو تركه في أثناء حرب الفجأة؟» تساءلت.
كل فرد من أفراد أسرتها ذهب ليجمع أكثر أوراقه
خصوصية :جوازات سفر ،ووثائق ملكية ،وشهادات ،وأوراق عمرها عشرون عامً ا ،ومالبس ،وغذاء .ربما بعض األشياء الثمينة .تذ َّك ْ رت إيمان عوالم مكتبتها؛ الماضي الذي يحمل حكاية للمستقبل .كان بوق السيارة في الخارج يُطلِق تنبيهًا ً إيذانا بالرحيل العاجل. ما زالت إلهام الوجيه تتساءل من منفاها الحالي في
إسطنبول ،عن الشجاعة التي امتلكتها لترك مكتبتها ذات
ْ استيقظت من النوم يُغلفها األلف ومئتي عنوان؛ ذات يوم ً ً متحمسة لما بعد الفراق. مستعدة أو الرعب؛ لم تكن فقط ُ العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
ُّ تخصهما فقط. حكاية وأسرار
والتداعيات ال ُّروحيه كنت أظن أني سأتركها ورائي ،بكت وهي تخبر أسرتها عن ذلك الفراق .فالمكتبة كانت لها ،حسب ما
قالته« :الغرفة السرية ،وسدرة المنتهى وغيمتها الماطرة» ْ وقفت تفكر :ماذا الذي ستأخذه؟ وما الذي أمام الرفوف
ستتركه؟ «أنا غير مسموح لي أن آخذ سوى حمولة قليلة
من حياة دامت سنوات عمري السابقة!» تقول إلهام وهي تتذكر تلك اللحظة المؤثرة :لو أنها محض كتب ،أو رفوف، كان فراقها سيكون سهلاً ،ليس فقط القراءة؛ ألن بمقدورها
اللجوء إلى الكتب اإللكترونية ،لكنها تورَّطت معها في عالقة عاطفية .لم تكن عالقة عادية .فحين لم تكن تتوافر لها سيولة، ت األم َر كأنه قالت :إنها باعت من ذهبها لشراء كتب .أَ ْخ َف ِ جريمة؛ بسبب تقاليد مادية في وعي محيطها؛ أن ينظروا لها
كخرقاء تتخلى عن الذهب من أجل كتاب.
يروي الجاحظ في كتابه« :الحيوان» فضائل الكتاب، ً أحيانا يتعرض لخيانة بوصفه ال يخون صاحبه أبدً ا ،لكنه
صاحبه .هل يبدو األمر خيانة ألولئك الذين أجبرتهم الحرب
على هجر مكتباتهم؟ لم تجد إلهام سوى البكاء؛ بكت مجددًا ً أمانة لدى شقيقتها ندى التي ُتقدر القراءة .قالت: وهي ُتودِعها إنها على دراية كبيرة وليست كاملة برحلتي مع كل كتاب.
نحو ألف كتاب دفنها وضاح الجليل (كاتب وناشط) في ً صندوقا بأحجام مختلفة؛ استعدادًا لطارئ الرحيل. عشرين سيضعها أمانة لدى أحد أصدقائه في مكان مأمون .يرتبط
الشخصي .يبحث عن مصير مكتبته بوضع البلد ،ووضعه ّ مخبأ لثروته الوحيدة .كان يشتري الكتب حسب احتياجاته.
ُ ظلمت نفسي في نفقات األكل واللبس؛ من أجل شراء
الكتب .قال :في أثناء الرحيل المفاجئ والطارئ وخز إيمان ٌ ْ أخذت من المكتبة ما وقع جوع غير مسبوق للقراءة. عامر عليه نظرها .كانت السيارة تلحُّ ببوقها مُ ِّ حذرة ،بينما الحرب َّ وحشي فوق المدنيين .غادرت الغرفة ،لكن ما تتوعد بانفالت ّ
أخذته لم يكن كافيًا عادت إليها مرة أخرى لتأخذ المزيد :آنا كارنينا لتلستوي ،والجذور إليلكس هيلي ،وأحدب نوتردام
لهيجو ،ومختارات قصصية لتشيخوف ،وأربعة كتب أخرى ،دسَّ ْتها بين أوراقها الخاصة. يرى منير المعمري (مبرمج كمبيوتر) بقاء
المكتبة في منزله ،على أمل العودة إليها .ليس أملاً شخص ًّيا ،إنما للبلد أن تعود من رحلة الحرب َّ المؤقت، المدمرة .أخذ معه إلى ماليزيا ،مَ هْجَ ره
39
أربعة كتب :تقرير إلى غريكو ،والهوية والعنف،
والشعب يريد ،وانتقام الجغرافيا .محض تذكار من
مكتبته ،جزء من تاريخه في القراءة ،وفق تعبيره .في
األغلب يفضل الناس أخذ كتب قرؤوها بشغف؛ ليحتفظوا
في صناديق محكمة ،لديها أمل أن تلتقي بها عبر شحن
شخص مكتبته ،أن يتخلى عن شيء عزيز :أسرة ،أو أب أو
لحظة وداع المكتبة للذين يهجرون أوطانهم تشبه الزفرة ً –أيضا- األخيرة ،مربط الحسرة والحزن .الحرب تقتل ،لكنها
بأثر من تلك المكتبة في البيت .يضيف منير أن الكتب لم ِّ ً إنسانا .أن يترك مفك ًرا أو كاتبًا ،لكنها جعلت منه تجعل منه
صديق. لاً و ََق ْ عت يد إلهام أو على رواية «لعبة الكريات الزجاجية» لهرمان هسه ،ثم راحت تحتضن هنا وهناك :كتاب الضحك
والنسيان لكونديرا ،وقصائد الخيام ،والهوية والعنف ،ورائعة دون كيخوتة .قليلاً تلتقط أنفاسها ،تستعيد وعيها وتقول،
لمن سأترك ديستوفيسكي ونيتشه من سيقرؤهما؟ كان واقعً ا ً ً ومربكا. مشحونا لهفة شرهة؛ قالت :إنها بدأت خجولة لتنتهي برغبة
مجنونة في أخذ كل الكتب .وأخي ًرا توقفت يدها يائسة من دون حمل شيء .أقنعت نفسها أنها ستتبعها حيث تكون،
وغادرت فارغة اليد ،تحمل صورة الحنين إلى مكتبة مهجورة، وذِكرى عن وطن تراجيديّ .بكت مع نفسها وهي ُتودِع ُكتبَها
متالحق حين تستقر.
تنزع اإلنسان من مكتبته .هناك بيوت قليلة في اليمن تزينها رفوف مملوءة بالكتب ،هذا الجزء المضيء مهدَّ د بظالم تلقيه
أفواه البارود والضغائن الطائفية.
لحظة وداع المكتبة للذين يهجرون أوطانهم تشبه الزفرة األخيرة .بيوت في اليمن تزينها رفوف مملوءة بالكتب ،هذا الجزء المضيء مهدد بظالم تلقيه أفواه البارود والضغائن الطائفية
كتب
وحدة الحوار بين األحياء واألموات
40
إلياس فركوح
مؤنس الرزاز
فـي الرسائل المتبادلة بين مؤنس الرزاز وإلياس فركوح، ما يعلن عن مفارقة حزينة وجميلة ،و ُيخبر عن استذكار واستبصار حميم متميّز ،يواجه عبث الزمن القاسي بكتابة
متجددة .يأتي حزن المفارقة من رحيل أحد الطرفين .جاء الموت إلى مؤنس مبكرًا وقيّده إلى الصمت .رحل قبل أن
يكتب الروايات التي كان يحلم بكتابتها .وتصدر جمالية الرسائل عن فضيلة الوفاء ،التي جعلت إلياس فركوح يحمل ضجيج الحياة إلى صديق غادره.
العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
فيصل دراج ناقد فلسطيني
جسد إلياس بالكتابة المسافة الموجعة بين زمنين، ّ
وأخبر -على طريقته -عن قوة الكتابة التي تصرخ ،وتهمس،
َ محاصر باالحتماالت. وتحاور ،وتشاكس ،وتستق ّر فـي موقع ً لكنه ،وهو يستنجد بالكتابة ،ص ّرح ،حزينا ،بهشاشة الكائن
الكاتب ،الذي يلتفت إلى األموات ،ويعرف أنه سيلتحقّ فلكل كاتب نهاية تصادت فـي ذاكرته ،قبل أن يعرف بهم، الكتابة،ودخل إلى الكتابة من دون أن تفارقه أطياف َّ ولعل إيمانه بالكتابة ،هو الذي جعله يستعيد بها األموات.
صوت صديقه الذي رحل ،كما لو كانت استضافة الراحل فـي حقل الكتابة تضعه «داخل الحياة» ولو إلى حين .تبدو آن واحد ،ير ّد إلى الحياة ما الكتابة فعلاً سحر ّيًا ً ويائسا فـي ٍ
قلقا ال ي َ خرج منها ،ويستدعي ً ُعالج بالكتابة.
دخل إلياس إلى عالم الرسائل من باب االستذكار؛ إذ
فـي دروب الصداقة الطويلة ألفة األسماء واألصدقاء ،التي تكسو النهار دف ًئا وأسئلة .تقاسم الصديقان الحزن على
َ وتوازعا دهشة صديق ثالث اغتاله «ق ّناص» على حين غ َّرة، ّ المقطعة فـي كيس»، مريرة من مآل إنسان «حُ شرت أعضاؤه
ات وأفكا َر قصص «قيد اإلنجاز»ْ .التقى االستذكا ُر وتبادلاَ مَ َس َّر ٍ ّ َ َ منافذه المتعددة التي أطلت فـي عمّ ان ،ذات مرة ،على
قومي» ،أراد ألمته مثقفي ِْن قوميي ِْن يُنصتان إلى حديث «قائد ّ السالمة فوقع فـي الموتَ .ل َكأَنَّ مؤنسا «ولد بعثيًّا» ،يقول ً
إلياس ،ناظ ًرا إلى عفوية إنسانية نبيلة ،لم تكن بحاجة إلى
يتذ ّكر إلياس فركوح فـي الرسائل التي أشرف على إعدادها ،ويستذكر فـي مناخا ثقاف ًّيا سياس ًّيا ،تناءى آن :يتذكَّر ً ٍ إلى تخوم الغياب ،ويستذكر صديقً ا أحالما كتابية هائلة تقاسم معه ً إلى «األمل» ،تخالطها إيمانية العمل وميتافيزيقا اإلرادة.
يقول مؤنس لصديقه« :الفعل هو الوسيلة الوحيدة التي يك َ َت ِق َ حاو ْل أن ترى متعة الصبر ،وال تسأل كثي ًرا». الغ َر َقِ ...
وقد صبر مؤنس على ما يُصبَر عليه ثم رحل ،وتابع إلياس المساءلةَ :ن َقدَ الفك َر الذي انتسب إليه ،ثم َن َه َره ،من دون ّ ً مقارنا ،بوعي أَ ْسيان ،بين يكف عن تجديد األسئلة، أن أحاديث الشباب فـي «اللويبدة» وألوية الجهل المتعالية فـي
زمن «تحرير الرسائل».
كان محمود درويش يقول« :كل مثقف من المثال
الذي يتطلع إليه» ،ثم يكمل القول بتعليقات ساخرة، مم ِّي ًزا الحِ ْن َ طة مِن ال ُّز َؤان .لعل المرور على أسماء الكتب
والمفكرين الذين كان مؤنس يحتضنهم وهو ذاهب من
مدينة إلى أخرى ،ما يضيء المثال الصعب «الهائل» الذي
«أيديولوجيا كبيرة»؛ ألنّ فـي األيديولوجيات المتحزبة ،فـي
كان يتطلع إليه ،وهو فـي أوائل عشريناته .فحين كان فـي ً ُوحي لن يصل «بيرمنغهام» البريطانية، باحثا عن تكامل ر ّ إليه ،يذكر هيرمان هسه وألدوس هكسلي وبروست ،مسائلاً
األدب الذي أعدمه حزبه ٌ ٌ يتراءى فـي مداخل الصداقة مكانٌ نظيف أليف فـي عمّ ان
وهيدغر ومارلو بونتي ،إلى أن يصل إلى مدينة واشنطن؛ ً متحدثا عن نيتشه وبيرغسون ليستأنف شغفه المعرف ّـي، وهيوم و«عمل جويس العبقري :يوليسيس».
لحظة انغالقها ،ما ينفي العفوية ،ويأمر بتماثل البشر الذي ِّ المفكر. يطالها باستقالة العقل
يُدعى «اللويبدة» ،عاش فيه «األب» الذي أعدمه «حزبه»، واالبن الذي وُلد كما أرادت له أسرته المثقفة ،واختلف إليه
القومي» الذي استعاد األطياف جميعً ا ،ووضعها «الصديق ّ
فـي رسائل بين عامَ ْي (2015 -2013م) كتابة وأزمنة ،أو كتابة فـي أزمنة ،هذا ما أراده إلياس فـي كتابة متعددة المرايا، ُتوحي وتشير وتلهث وتشي وتص ّر أن تبقى كتابة ،فـي التحديد األخير.
وحي لمثقفي ِْن تحيل شظايا الكتابة إلى العالم ال ُّر ّ ِّ سياسي، ـي استغرقتهما الكتابة ّ المفكرة ،وإلى زمن ثقاف ّ لم يكن مثاليًّا ،يغاير ما أعقبه ،ويفرض على ال ُّروح الكاتبة ً كتابة طبقات من التأسِّ ي والحنين .أراد مؤنس وإلياس ٍ
ِّ مفكرة ،فـي زمن هجينِّ ، ويتمسك بالقديم. يبشر بالجديد ِّ
كتابة معاناة أقرب إلى التفاؤل ،أو كتابة متشائمة ترتكن
ً ومتوقفا أمام كير غارد العالقة بين الفلسفة واألدب،
فـي الوقوف أمام مكتبة إنسانية «عبقرية» ،كان مؤنس
َ وح صابرة حالمة َي ْرزح تحت وطأة حُ لم ثقيل ،يشي ب ُر ٍ ترهق صاحبها ،تراهن على ما ال يمكن الرهان عليه؛ إذ إن للمكتبات تاريخها ،وللمدن فتنتها ،وللشوارع مصائدها،
آن واحد .لعل تلك األحالم، ولألحالم غوايتها وجحيمها فـي ٍ شخصي مدار ـي ف و ره، عربي رما ُد ه أكث ُر من فـي سياق مْ جَ ّ ّ ّ مؤنسا إلى طيران مع ّوق، تتعقبه المأساة ،هي التي قادت ً
ّ كلما ارتفع ازداد اضطرابًا .لم يكن ذلك الطيران الطموح رومانسي ،يرى فـي ُ الكتب قوة لوعي والمستحيل ،إلاّ مرآة ّ ٍ خالقة ،واللتزام قومي تحاصره «أرواح ميتة» ،ولحساسية عالية «مغتربة المتكأ».
يشير مؤنس إلى فرحه «بصديقين» ،مؤ ِّكدً ا لصديقه
41
كتب
إلياس أنَّ االثنين عدد كبير ،ال يمكن االستخفاف به. ً مسكونا بشهوة إصالح العالم، والسؤال هو :إذا كان مؤنس وحي، حال الرومانسيين جميعً ا ،فما هي حدود اغترابه ال ُّر ّ
وهو يحتفي «باثنين» ال ثالث لهما؟ هل هي قوة األمل ،أم ّ تكف عن التوالد؟ «التأقلم» مع خيبات ال ال غرابة أن يرجع الشاب الناحل ،القريب من الخجل،
إلى رواية كامو «الغريب» أكثر من مرة ،وأن يعيش غربة ً «رفاقا» َّ تخلوْا عنه فـي متعددة األبعاد وهو يراقب فـي بيروت
ُ «نصف أصدقائه»؛ أي إلياس، لمح البصر .وال غرابة أن يقرأه
ِّ التخلي بمقولة المسيح ،وأن يقرأ بها والد مؤنس ،بمعنى وشقاء الطريق .يرتسم فـي المصاير الثالثة معنى التجربة، ّ يتوقعه ،وأمّ لت التي دفعت الوالد إلى مآل ظالم لم يكن ّ متقشفة ،واستبقت إلياس في االبن أن يتعهّد أحالمه بموا ّد بكتابة متجددةَ ،ت َت َطيَّر من اليقين والمطلقات ،التي تحسن الهدم وتستولد السراب.
زمن يضيق بالثقة َتباد َ َل الصديقان استضافة ال ُّروح ،فكتبا وتحا َورَا، ّ يخصه ،بمالحظات تصوّب واحتفظ كل منهما بموقع
النظر ،إنْ أوغل فـي الحلم ،أو عاجله التجريد .غير أنّ
تلك الصداقة الطويلة األمد ،فـي زمن يضنّ بالثقة ،لم
تكن ممكنة من دون «شراكة روحية» مهجوسة بتساند ال حسبان فيه ،وبإخالص ال يَتبدّ د فـي الطريق؛ لذلك تبدو ً ُ رسالة الرسائل الممتدة فـي زمن يقترب من األربعين عامً ا،
واحدة ،ترسم صداقة ال تخبو ،وتؤرّخ لواقع بليد ُ الخطا،
يخذل األحالم ويتقدّ م إلى حيث يريد .وإذا كانت الصداقة من وحدة هدف يصوغه َن َظران ،فإنّ جماليتها من اختالف
النظرين المتكاملين ،اللذين يتقاسمان قيمً ا مشتركة، واجتها ًدا ال يُختزل إلى صيغة مفردة .يقول إلياس محذرًا
42
من هشاشة القراءة و«فتنة الكتب»« :غير أن الكيفية التي
نقرأ من خاللها الكتب ،بصرف النظر عن أهميتها ومداها، ّ ّ تتجلى فـي المكتوب»؛ ألن األدق التي فتلك هي اإلشارة ً ُ َ فـي القراءة سطوحً ا نافلة ،وأعماقا خصيبة تبْني وترمِّ م
ُ وتلغي بممحاة عاقلة .شيء قريب من أشكال االبتسام، فتلك التي ال ُتخفي وراءها إلاّ األسنان ،تغاير أخرى صادرة عن قلب صادق.
فـي «رسائلنا ليست مكاتيب» ما يشهد على كتابة - وثيقة ،تستعيد زم ًنا مضى ،تواجهه بحاضر تقهقر عنه، إلى تخوم االنقطاع تقريبًا .لم يكن ما كان مثال ًّيا ،لكنه
قابل للتحمُّل ،وال يفصح عن كارثة .كان مؤنس يتحدّ ث من رسائل مؤنس إلى إلياس عن األمل والنشوة« :رسالتك بعثت ف ّـي أملاً ضاعف من نشوتي1977-3-1 .م» ،قبل أن يتحدّ ث إلياس ،بعد ثمانية
ال غرابة أن يرجع الشاب الناحل ،القريب من الخجل ،إلى رواية كامو «الغريب» أكثر من مرة ،وأن يعيش غربة متعددة األبعاد وهو يراقب فـي بيروت «رفاقا» تخ َّل ْوا عنه فـي لمح البصر ً
العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
وثالثين عامً ا ،عن عالم غاضت إنسانيته« :العالم يتصحّ ر
يا أخي كل يوم .يحتشد بجموع الضباع ،ويصخب بعواء ً ً وأديانا ملفقة». وفرقا ،وأحزابًا، الذئاب ،دولاً ،
ذهب ما كان ،وأعقبه ورثة كاثروا أمراضه ،وأطلقوا النار على احتماالت العالج .عرف الصديقان زم ًنا عرب ًّيا يريد أن ينهض ،سافر مؤنس إلى عاصمة العباسيين فـي طورها «البعثي» الواعد بتغيير العوالمْ ، وال َتحَ ق إلياس بمقاومة ّ
فلسطينية فـي بيروت ،ثم َن َظ َرا ،بنسب مختلفة ،إلى انكسار
وحدة الحوار بين األحياء واألموات
ّ احتلت إسرائيل العاصمة اللبنانية ،ودخلت بغداد، األحالم: األميركي ،إلى أطوار متصاعدة من االنتهاك بعد االحتالل ّ والتدمير والسديم واالغتصاب .يتعيّن ما كتباه ،بهذا ً ً ً ماعية ،فما دارَا حوله طويلاً ارتبط سيرة المعنى، ذاتية جَ
«القومي» بعيدً ا من ثقافة االختصاص. بالشأن ّ يتذ ّكر إلياس فركوح ،فـي الرسائل التي أشرف على ً مناخا ثقافيًّا سياس ًّيا، آن :يتذ ّكر إعدادها ،ويستذكر فـي ٍ ً صديقا تقاسم معه تناءى إلى تخوم الغياب ،ويستذكر
«أحالمً ا كتابية هائلة» .تحضر الذاكرة وهي تزور ما كان ّ ويتجلى االستذكار وتداعى ،رحل الصديق وتداعت األحزاب،
فـي أسلوب مُ ح َّوط بالحنين ،وبدمع محتجب .إنها التجربة
التي جاءت وذهبت ،لم تعطب العقل ،لكنها تركت فـي
ال ُّروح ندوبًا كثيرة. األلماني هانز بولمنبرغ عن «قراءة تحدّ ث الفيلسوف ّ العالم»؛ إذ إن َّ كل شيء ،فـي قديمه وحديثه ،عملية قراءة،
تستنطق وتصوغ ما يشبه اإلجابات .حاول إلياس فركوح الذي يرى األدب لغة منذ بداياته ،أن يترجم ما عاشه إلى كلمات، ًّ مشتقا الفكر من لغة تصوغه ،تنفذ إلى ترسم وتصوِّر وتسرد،
جوهر األشياء ،وتترك الكلمات تنسج المعنى وتشير إليه؛ فال معنى لبالغة تخطئ موضوعها.
لهذا بدت رسائله درسً ا فـي األسلوب ،يالحق العالم، ويصوغه فـي كلمات تجمع بين الصور والمفاهيمُ ،تستكمل
بهوامش «دقيقة» ،تنصف األشخاص وتالمس «روح
المرحلة».
فـي االستذكار الذي يعطف الكتب على المدن،
والوجوه على األفكار ،استبصار يحاذر الغضب ،ويحتضن
األشياء كما كانت وكما ستأتي ،طالما أن صور «السادة»
الذين جرفتهم البالغة ،من صور الخاضعين الذين ورثوا عاداتهم .ينتهي الكتاب بقصة لمؤنس عنوانها« :البحث
عن النشوة المستحيلة» ،تلك النشوة التي تقف على الباب طويلاً ،وته ّزها المفارقات القاسية« :فـي عينيك حساسية الغضب وقسوة الصدمة» .ال تختلف جملة االستهالل فـي
قصة مؤنس عن استهالل قصة «الحصار» لصديقه إلياس: َ َ اختزنت من طعنات أسلحة بحزنك وما «مدججً ا تأتيني الزمن القاتل».
يتراءى ما أتى وما سيأتي فـي متواليات من الكلمات، حَ دُّ ها َ األو َُّل «صدمة قاسية» ،وحدُّ ها األخير «طعنات
قاتلة» .أغلق الكتاب فضاءه المأساويّ بما كتبه مؤنس عن عبدالوهاب الكيالي ،الذي اغتاله «أنصار االلتزام»« :لماذا
يتسع هذا الوطن الكبير لماليين الشهداء ويضيق بأحالمنا
الصغيرة؟».
غالف «رسائلنا ليست مكاتيب»
ُ شهداؤه الحياة وطن يختار َ الحياة، ُكتبت «الرسائل» عن وطن يختار شهداؤه
المتميزان بوطن األردنيان المثقفان ويصادرهم الموت .حلمَ ِ ِ ِ يطرد الضجيج الكاذب ،ويستضيف السكينة .استضاف كلٌّ
منهما اآلخر ،وال يزال ،نافرين من «كواتم الصوت» ،هاجسي ِْن ُّ التحقق ،ال مكان لها فـي متاحف «بأحالم صغيرة» مستحيلة الكوابيس ،ولها بعض المكان فـي أرجاء الكتابة.
احتضن الكتاب ،مثلما أعدّ ه إلياس فركوح ،سيرتي ِْن مجزوءتي ِْن :سيرة ذاتية ثقافية لجيل من المثقفين العرب، َص َ الحَ بين الغضب واألهداف النبيلة ،وحصد رمادًا يحرق العيون ،وسيرة أخالقية إبداعية ألديبين مختلفين ،تحتفي
بذات المبدع ،وتزهد في الشعارات الفارغة ،وتعطي الكتابة ً تعريفا ال يُلحق بها اإلهانة .نرى فـي هذا الكتاب إلياس فركوح وشقاءه النبيل فـي حقل اللغة ،مصرحً ا بذاتية تفصل بين
الواحد والمتعدد وبين النثر واإلنشاء ،وال تلغي المسافة بين
النقد والكتابة.
كما لو كان يقول :إن أخالقية المبدع من لغته ،وإن فـي
يجسد جماليات الحياة والصداقة ،التي لغته المبدعة ما ّ ّ تجلت فـي راحل جميل ي َ ُدعى :مؤنس الرزاز. شكل جديد من سيرة الكتابة اإلبداعية ،تتجاوز التصنيف،
األدبي فـي مسار األديب ،وتحتضن أخالق الكاتب وترى الجنس َّ آن. وتاريخه الكتابي فـي ٍ
43
قضايا
يقيمون ما آلت إليه الثقافة مثقفون ّ والفنون في منارة الخليج
ما الذي حدث للكويت؟ «الفيصل» الكويت
44
ال يخلو مجلس في الكويت اليوم ،من الحديث بحسرة عن التحوالت التي حدثت في العقدين األخيرين ،وطالت الفكر والحريات والثقافة في مفهومها الشامل .كأنما الكويت لم َت ُعد المنارة التي
فاض إشعاعها على كل العرب ،ما جعل التذمر يتعالى من فنانين ومثقفين وناشطين. ً مجموعة من األسئلة عما يحدث اليوم للثقافة والفنون في الكويت ،إلى نخبة من «الفيصل» وجَّ هت
ً وبحثا عن حلول إلشكالية تتفاقم، األسماء المهمة في مجاالتها؛ سعيًا لمعرفة أسباب التراجع، وتؤثر ،ليس في الكويت فحسب ،إنما ً الثقافي ،وفضاء الحريات واإلبداع العربي. أيضا -في المناخّ
الملتقى الثقافي للروائي طالب الرفاعي؛ أهم الصالونات األدبية العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
سعود السنعوسي (روائي) : ِر َّدة ثقافية وال نعرف إلى أين ستقودنا القيود
هي ِردَّة ثقافية إن أمكننا القول ،ليس األمر حك ًرا على الكويت ،إنما المنطقة كلها تم ّر بالمشكلة نفسها ،لكن ما يجعل الفارق واضحً ا أكثر في الكويت؛ أننا أمام مقارنة بين زمنين؛ األول زمن كانت فيه الكويت منب ًرا للحريات في المنطقة عبر برلمانها ،وصحافتها ،وفنونها المتمثلة
في المسرح على وجه الخصوص ،والزمن الثاني هو ما
نعيشه اليوم الذي ارتدَّت فيه الحريات إلى الوراء بشكل ال
يشبه السمعة التي اكتسبتها الكويت فيما مضى .ال أدري إلى أين تقودنا هذه القيود على وجه التحديد ،إلى مكان أسوأ ال أتخيل شكله ،لكنني أرى ب َِصيص أمل بعد اإليغال
#أنقذوا_مجلة_العربي أطلق مغردون كويتيون وعرب وسمً ا (هاشتاغ) على
موقع تويتر يناشدون فيه وزارة اإلعالم في الكويت
إعادة النظر فيما آلت إليه األوضاع في مجلة العربي
الكويتية الرائدة ،وكان باعث هذه المناشدات
مقالة
الكويتية
نشرتها
تحت
عنوان
في تقييد الحريات ال بد أن تكون هناك حركة مضادة ،وقد
«النداء
صارت تعيد النظر في مسألة الحريات في الكويت ،كما أن
ندوة «العربي» السنوية
ظهرت بوادرها اليوم من خالل التجمعات والندوات التي كثي ًرا من المبدعين بصدد اتخاذ إجراءات قانونية ليس من أجل رفع الظلم عن أعمالهم فحسب ،إنما من أجل إعادة
النظر في القوانين المجحفة ،والعمل على إسقاطها .لوال هذا التضييق الذي نشكو منه اليوم َلمَ ا وجدنا المثقف، على غير عادة ،يتح َّرك وفق ُخ َطط مدروسة ،وبشكل قانوني؛ الستعادة حقوقه المسلوبة. جماعي ،في إطار ّ ّ األمر معقد جدًّ ا ،نحن في حاجة إلى أعضاء في البرلمان
يملكون من الوعي ما يؤهلهم للدفاع عن الحريات التي َّ نص
عليها الدستور ،لكن مصيبتنا – في شكل من األشكال -في برلماننا؛ إذ صرنا نشاهد نوَّابًا يطالبون بمنع الكتب ومساءلة الحكومة ،وسبق أن جرى استجواب وزير إعالم؛ بسبب أربعة َ ُك ُتب بِيعَ ْ باستحسان من نائب؛ تحظ ت في معرض الكتاب لم ٍ
مما أدّى إلى استقالة الوزير ،وإقالة األمين العام للمجلس الوطني للثقافة والفنون واآلداب ،واستقالة الحكومة كلها ّ يوم واحدٍ من جلسة طرح الثقة .مشكلتنا مع الرقابة؛ قبل ٍ
العراقي، الكويت تخلّصت من الغزو ّ المحتل ،لكنها طردت معه وطردت ّ
األخير
القبس إلنقاذ
العربي» على خلفية إلغاء ألسباب لم تتضح ،غير أن مثقفين رأوا أن سبب إلغاء
الندوة إلى أجل غير مسمى
يعود إلى ترشيد النفقات الحكومية واألوضاع االقتصادية
التي تشهدها دول الخليج بعد تراجع أسعار النفط ،إال
أن هؤالء المثقفين أوضحوا أن ترشيد النفقات ال يمكن أن يشمل مجلة رائدة وال يجب أن يطال العمل الثقافي، وشارك مثقفون عرب المغردين بذكرياتهم وتجاربهم مع مجلة العربي.
نعم ،لكن حين نقول الرقابة ليس بالضرورة أن الرقيب هو موظف وزارة اإلعالم وحسب ،إنما الرقيب هو أنا وأنت وهو، ّ نغض عنها الطرف ،المجتمع هو هذه هي الحقيقة التي الحقيقي ،األفراد هم الذين صاروا يسائلون المكتبات الرقيب ّ
وأصحاب دُور النشر في معارض الكتاب :إنْ كانت بعض
الحكومي إزاء العناوين (مفسوحة) من الوزارة أم ال .والرقيب ّ لاً خوفه من ر ّد فعل قارئ يقوم بحماية نفسه أو ،وحماية
ّ المختص من تحميله مسؤولية (فسح) بعض الكتب، الوزير ّ ُّ المنع هو الحل األسهل لتجنب أي مشكلة؛ حتى بات الكتاب تأويل ال يحتمله النص. يمنع من غالفه أو عنوانه أو و َْفق ٍ
الجاد، السياسي والمسرح المسرح ّ ّ
طالل الرميضي ( رئيس رابطة أدباء الكويت):
التجاري التهريج ّ
كان للسياسة الدور الكبير في التأثير في الجهود الثقافية
في مقابل إفساح المجال لمسرح
السياسي أثر في الجهود التنويرية الشأن ّ
التنويرية في دولة الكويت ،وقد أبرز رجال السياسة جوانب
45
قضايا
ومنحنيات خطيرة في هذا الصدد؛ جعلت الكاتب المثقف على
ّ يخص إبداء آرائه وتصنيفه حسب االتجاهات المحك ،فيما
والتيارات الموجودة؛ مما جعل كثي ًرا منهم في صدام عنيف؛
بسبب اختالف الرؤى واألفكار مع اآلخرين .وضربت لنا هذه التجربة المريرة سقوط كثير من المبدعين في وحل السياسة،
وتأثير ذلك في كتاباتهم اإلبداعية؛ إذ ساهم ذلك في عزوفهم الثقافي .وال َّ العراقي الغاشم شك أن وقوع الغزو عن الحضور ّ ّ
َّب صدمة عنيفة لرجال على الكويت في غفلة من الزمن؛ سب َ الثقافة بالكويتَّ ، وأثر سلبيًّا في الجهود التنويرية في مجال
الثقافة العربية خاصة؛ إذ أدركنا تخاذل أسماء ثقافية عربية
كبيرة تجاه أزمة الكويت ،وبخاص ٍة إذا عرفنا أنها كانت على
وفاق مع الكويتيين قبل الغزو .وأعتقد أن هذا الحديث ينطبق السياسي على كثير من البلدان العربية ،ومدى تأثير الشأن ّ في الجهود التنويرية ،واختالط المثقف الواعي بالشخص السطحي ،وأثر ذلك في الحال الثقافية .وال ّ شك أن السياسي ّ ّ
األزلي بين المثقف والسلطة نحو الحقوق والحريات الصراع ّ قد َّ خفت حِ دَّ ته في الكويت بعد حدوث ما يطلق عليه الربيع العربي ،ووجود نماذج مجاورة للعنف والبطش والظلم الذي ّ وقع فيها ،لكن على الرغم من تقلص حدة التوتر ،فإنها
46
مستمرة إلى يومنا ،ونتمنى أن يكون التعاون بينهما في خدمة
سمعة الكويت الثقافية.
إقبال األحمد ( كاتبة): َّ عمت الفوضى وبهت القانون
أهم ما يميّز دستور الكويت من غيره هو باب الحريات في
كل المجاالت؛ تلك الحريات التي أص ّر الدستور على احترامها والتأكيد عليها ،عندما منع أو ق َّنن تغيير أي مادة فيه إال في حال واحدة هي المزيد من الحريات .هذا الموضوع يؤ ّكد أن
الكويتي ومن خالل كل الحكومات ونظام الحكم المجتمع ّ الذي تطوَّر معه ،كان يقوم على مبدأ الحرية .وهذا بالتأكيد
سعود السنعوسي
يأت من فراغ ،فإن المجتمع في الكويت هو أول من عرف لم ِ ظاهرة الديوانية وهي مكان يجتمع فيه جمع من الناس، يتبادلون فيه الرأي والحديث عن كل ما يدور في البلد .وهذا
الحديث ال يخلو من االنتقاد والتعبير عن الرأي بكل شفافية ووضوح وجرأة ،ثم يذهب كل منهم إلى بيته لينام قرير العين َ ليل. من دون أن يزوره زائ ُر فجْ ٍر أو ٍ فى الكويت ولخصوصيتها في إطار المنظومة الخليجية؛ ألنها كانت تتم ّتع بقدر كبير من الحريات ،وبسبب طبيعة العربي كله منذ سنوات مضت؛ التطورات التي طالت العالم ّ
قوى التخلف تستهدف الكويت أكد الدكتور خليفة الوقيان رئيس رابطة األدباء
الكويتيين األسبق ،أن التحوالت تشير إلى تراجع
االتجاهات الفكرية المستنيرة ،وتقدُّم االتجاهات األصولية المتشددة ،مشي ًرا إلى أن الكويت في عهودها السابقة« ،كانت مميزة ًّ حقا من جهة وجود
طبقة مستنيرة تعي أهمية مواكبة العصر ومستجدَّاته ومنطقه ،وتبذل في سبيل الدفاع عن تلك القناعات ً ً مستهدفة من كبيرة؛ لذلك كانت الكويت تضحيات ٍ
اشتد فيها مرت البالد بمراحل تاريخية ّ
قوى التخلف والغلوِّ ،فقد م َّرت البالد بمراحل تاريخية اشتدّ فيها الصراع بين ثقافة الغل ّو الوافدة من خارج
خارج الحدود ،وثقافة االنفتاح النابعة
الكويتي ،وكيفية نشأة ذلك المجتمع» .وقال الوقيان ّ
الغلو الوافدة من الصراع بين ثقافة ّ الكويتي من طبيعة المجتمع ّ
العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
الحدود ،وثقافة االنفتاح النابعة من طبيعة المجتمع
لـ «الفيصل» :إن دعاة اإلصالح والتنوير بذلوا «جهودًا
مضيئة ،وتعرضوا إلى مصاعب كثيرة ،لكنهم انتصروا
ما الذي حدث للكويت؟
بهت في إطار هذه الفوضى القانون ،وكان للحريات نصيب كبير
من التغيير والتراجع .وفي األغلب كان يعلو صوت المنتقدين
داخل الكويت في تلك المدة ،مطالبًا بعودة تطبيق القانون بعد أن فلت زمامه من بعض مفاصل الحياة ،وبخاصة فيما
يتصل بحرية القول واالنتقاد التي تبدَّلت إلى لغة هجوم وقذف
وسب واتهام. ّ َ ُ ُ ت ِر ْ كت ساحة الحرية في فوضى بضع سنوات ،ولم يُسأل ِّ أحد عما يقوله ،وال عن تدني لغة النقد واالحتجاج التي يعبِّر
من خاللها عن رأيه ،فضاعت هيبة الوطن ومسؤوليته ،وضاع ّ حق اإلنسان المظلوم ،فكانت الضرورة للجوء إلى القانون؛ لتدارك ما يمكن تداركه .وال أتفق أبدً ا مع مقولة أن الكويت
أصبحت في مراكز متأخرة؛ مما جعل عواصم خليجية ثقافي كبير يُذ َكر في الماضى ،تصير في لم يكن لها رصيد ّ الصدارة؛ ألنه على الرغم من كل التطورات التي وقعت في مجال الحريات ،ما ُ زلت متأكدة أن الكويت تتفوق على دول
المنظومة الخليجية في حجم الحريات داخلها. علي العنزي (ناقد):
طالل الرميضي
العالي للفنون المسرحية ،ندوة نوعية تحدَّث فيها النائبان الدكتور حسن جوهر وصالح المال ،وتداخل فيها المستشار الدكتور يوسف اإلبراهيمَّ ، واتسم الحوار فيها بالصدق،
الثقافي واعترف الجميع -سياسيون ومثقفون -بأن الهمّ ّ ً وتنفيذا ،وحمدً ا لله ،أن الندوة لم يأتي في المؤخرة تشريعً ا
تشبه الندوات االنتخابية ،وحكاية «البيضة والدجاجة»؛ إذ
مواهب كويتية مهدورة قبل سنواتَّ ، نظمت رابطة أعضاء هيئة تدريس المعهد
الثقافي ،وعالقة ذلك نوقش تراجع اهتمام الدولة بالحراك ّ بتراجع قيم االختالف طبعً ا .لكل مجتمع خصوصيته التي
تعكسها ثقافته السائدة بين أبنائه ،لكن الكويت م َّرت بحالة
فيما بعد ،واستطاعوا أن ُيرْسُ وا قواعد مجتمع حديث مستنير ،يؤمن ّ بحق اإلنسان في الوصول إلى منابع المعرفة كافة ،إضافة إلى ّ حقه في الحرية ،ويعود الفضل في تحوُّل كويت الماضي إلى منارة ثقافية إلى ً مشروعا الرجال والنساء الذين كانوا يحملون
ثقافيًّا نهضويًّا تقدُّميًّا مستني ًرا».
وفيما يخص المحافظة على صورة
الكويت التي تميَّزت بالتنوير واالنفتاح، ّ تتحقق في رأيه «إال بمزيد من الكفاح، فلن
ُّ التخلف» ،معتب ًرا أن األدباء ومواجهة َ «ارتضوا االستسالم إلى الواقع، والكتاب وإيثار السالم» .وأوضح أن ما يحتاج إليه
المواطن ليس حرية انتقاد وزير وشتمه،
العلمي واإلبداع ،وتناول «إنما حرية البحث ّ كل القضايا المتصلة بحياته من دون خشية
من أحد».
خليفة الوقيان
أحمد الخطيب
ال يزال هناك أمل على حين دعا الناشط الدكتور أحمد الخطيب إلى مراجعة ألبرز ما حصل في العام المنصرم ،مثال ،ولفت إلى أن التعبير عن الرأي «يُعَ دّ حرية مقدّسة كفلها
الكويتي في المادتين 36و .»37وقال لـ «الفيصل»« :إن حرية إبداء الدستور ّ
والسب والبذاءة شيء آخر يعاقب عليهما مرتكبهما»، الرأي سلميًّا شيء، ّ مضيفا أن ضحايا قضايا حرية الرأي «التي يُحا َكم بموجبها المتهمون ،وفق قوانين ّ تنص على ذلك ،هي غير دستورية» .وتساءل الخطيب «:هل َنيأس من لاً ُّ ترنح السلطتين التنفيذية والتشريعية؟! ال يمكن ،فنحن نرى هال شبابيًّا بزغ لاً في مسيرته؛ ليكون بدرًا متكام يضيء سماءنا المعتمة».
47
قضايا
ثقافي دام سنين ال يباريها في بعد توهُّ ج ّ َّ المنطقة أحد؛ إذ اتسمت الكويت ابتداء
شبابي جديد، من الخمسينيات ببناء ّ ونواة كويتية صغيرة تتكون لدى الشباب المثابر ،وإذا كان الجميع قد أُعجب بتوهُّ ج تلك الحقبة ،فبسبب محاوالت
حثيثة ومهمة لبناء النفوس الكويتية الشابة بوساطة المشاريع والمطبوعات واللقاءات واالجتماعات داخل المدارس، الجامعي وفي الخارج؛ وفي أروقة الحرم ّ
واع لفهم الواقع ،ومحاولة بناء رأي عام ٍ وناضج.
كان ثمة حركة فكرية ،وليست غوغائية ،في تلك الحقبة ال ينكرها أحد ،لكنها –مع األسف– أَ َف َل ْ ت وفق
احتكاكي بشبابنا الطالب ،فعلى الرغم من أن ثمة مواهب
العربي حاليًا كويتية مهدورة موجودة بيننا ،فإن الشاب ّ ممسوس باالستهالك والتسكع لألسف! ومن المؤ ّكد ،أن ِقيَم الصدق والشفافية ،والتعددية
48
الديمقراطية ،وتجاوز (الشخصانية) ،ال تتفتح إال في
المجتمعات المتحضرة ،المهتمة بمفاهيم الجمال؛ تلك المجتمعات الثقافية التي تنعم باالستقرار ،وخبزها األدب والعلوم والثقافة ،وأنا أعتقد أن الكويت ليست
وحدها مَ ن يعاني تلك التحوالت ،وأعتقد بوجود خطرين
العربي؛ األول منهما طغيان الفكر مزدوجين على الشباب ّ
األصولي» االستهالكي في التفكير والوعي ،وثانيهما «الفكر ّ ّ ً المتشدّ د ،وأعتقد أيضا ،أن هذه الموجة التكفيرية العنيفة
المثقلة بالكراهية التي استشرت منذ منتصف التسعينيات
بصورة كبيرة ،لها عالقة طردية مع انتشار االستهالك.
وكالهما يغذي اآلخر! وعلى الرغم من سَ بْق معرفتنا االستهالكي ،وتفشي األصولية من ُ قبل ،لكنها كانت النمط ّ
الوصولي موجات ال تقارن بالواقع الراهن .فهذا الواقع ّ األصولي المُ ر َّكب ،يبدو أنه – في حدود اطالعي– نتاج ّ النفسي الناتج عن تفشي العقلية السطحية في االختالل ّ التفكير.
الكويت ليست وحدها مَ ن يعاني التحوالت ،والمجتمع
العربي كله ضحية؛ لذلك فنحن في حاجة اليوم الشبابي ّ ّ َّ إلى عملية تحديث يجري الشروع فيها بشكل منظم ،ومن خالل مختصين؛ لمحاولة بناء جديد لوعي الشباب ،وأذكر
أن ما كان يجري في نبض شباب السبعينيات والثمانينيات
المثقف الواعي ،هو شعور بالحاجة إلى بناء مجتمع عادل. ُ فشغلهما االستهالكي ونظيره المتشدّ د أما ذلك ّ العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
إقبال األحمد
علي العنزي
ّ محل الشاغل ،ينحصر في تقسيم االمتيازات ،والحلول
األغنياء .أما عن كيفية المحافظة على صورة الكويت، فالحكومة ومثقفو مجلس األمة يجب أن ينتبهوا إلى أن شبابنا
في حاجة إلى قوانين تحدّث المجتمع وتشجّ ع على اإلبداع ،ال قوانين تق ِّزم وجود المبدعين منهم.
سعد الفرج (ممثل) : السياسي جماعات اإلسالم ّ وراء تراجع المسرح من األمور التي تقيِّد ال ِف َرق المسرحية األهلية أنها
جمعيات نفع عامّ ،ومن ثم ال يسمح لها بأن تخوض في
السياسة بحكم القانون ،وهذا ما يُقيِّد دورها التنويريّ .في
ُ تعاونت فيها مع الكاتب عبداألمير التركي في «حرم مرحلة سعادة الوزير» و«ممثل الشعب» ،وهي أعمال سياسية
العالمي ،وبعدها «دقت جادّة جرى (تكويتها) من المسرح ّ
الساعة» ،و«حامي الديار» ،و«مضارب بني نفط» و«هذا سيفوه وهذي خالجينه» ،وبسببها قامت جماعات اإلسالم
السياسي وأعضاء في غرفة التجارة بشنّ حملة ضدّ نا ،وجرى ّ تحويلنا إلى المحاكمة ،ثم اإلفراج عنا بكفالة 300دينار ،ما
عدا عبدالحسين عبدالرضا الذي حُ كم عليه بالسجن ثالثة ّ النص المُ جاز مِن الرقابة. أشهر؛ بسبب جُ مْ لة َخ َرج فيها عن
الديني المتمثل في تع َّرضت المسرحية للهجوم من التيار ّ جمعية اإلصالح ،ووصفوني بأوصاف شنيعة؛ ألن المسرحية طالبت بفصل الدين عن السياسة.
جمعية اإلصالح طلبت مني عام 1974م تقديم مسرحية
ما الذي حدث للكويت؟
هموم المجتمع الكويتي وقضاياه تناقش في الديوانيات
إسالمية يكون أبطالها من الرجال فقط ،واعتذرت لهم؛
49
مسرحي من دون وجود المرأة .هم ألنه ال يمكن نجاح عمل ّ يؤمنون بدور المسرح وأهميته ،لكنهم يريدون مسرحً ا وفق السياسي جرى القضاء عليه ألسباب عدة؛ إذ فكرهم .المسرح ّ
إن المسرح يُعَ دّ من جمعيات النفع العامّ ،ومن شروط هذه الجمعيات عدم العمل في السياسة ،وهو ما ّ يمكن أيّ مسؤول من تدمير المسرح .هناك رقابة موازية للرقابة الحكومية؛ إذ
يمكن أليّ جهة أو شخص في المجتمع أن يرفع قضية ويوقف ُّ النص مُ جَ ا ًزا ،ثم تحدث مشكلة، عرض المسرحية ،فيكون فتتراجع رقابة الدولة عن إجازته.
ّ تخلصنا من العراقي، بعد تحرير الكويت من االحتالل ّ
سعد الفرج
مسرحية في أي وقت من األوقات ،فهي بفضل المغفور
السياسي الجادّ ،فمنذ عام 1991م وهو غائب؛ أين المسرح ّ السياسي الجادّ؟ لقد كانت لي تجربة قبل سنوات المسرح ّ
له الشيخ عبدالله السالم الذي بنى في كل ضاحية مسرحً ا. ّ ّ المحتل، العراقي ،وطردت تخلصت من الغزو الكويت ّ السياسي والمسرح الجادّ ،في لكنها طردت معه المسرح ّ
والبروفات من دون أجر .وخسرنا (بوصفنا شريكين) في اإلنتاج
تع َّر ُ ضت شخصيًّا إلى المضايقات والتهديد ،فتركت السياسيّ ، االجتماعي .من واتجهت إلى المسرح المسرح ّ ّ
قليلة في «عنبر و 11سبتمبر» مع الفنان القطريّ غانم السليطي، قدَّ مناها على مدار شهر ونصف الشهر من العمل المتواصل
والدعاية واإلعالنات؛ ألن المسرح الجا ّد ال يُدَ عم ،وغير مطلوب ال في الكويت وال في غير الكويت؛ كي ال يشكل سلطة.
من أسباب تراجع المسرح في عقدين :المتأسلمون، ّ والتخلي عن الدعم ،فالمسرح بات اآلن يتيم األب والرقابة، واألم؛ ألنه ال يوجد دعم وال تشجيع .إذا كانت هناك نهضة
مقابل إفساح المجال لمسرح التهريج التجاريّ .
الذهبي للمسرح ،كان ناحية الدعم الماديّ ،في العصر ّ يجري دعم العرض المسرحي بـ 50ألف دينار ،والتلفزيون كان يدعم المسرح من خالل اإلعالنات ،لكن الدعم ّ توقف، وأصبح المسرح من دون دعم؛ مما أدّى إلى خسائر كبيرة.
قضايا قضايا
دولي شرس في نطاق أكبر من الفن صراع ّ
برامج الكتابة اإلبداعية في أميركا ّ لع االتصال الوثيق بين السياسة والثقافة، ليس ٍ بخاف على مط ٍ ًّ ُ حرص فلطالما خدم كل منهما اآلخر ،لكن ما يثير االهتمام حقا هو ً ً منيعة ضد منطقة بعض المعنيين على التشديد دائمً ا على أن ثمة ٌ أمينة السياسي .هذه المنطقة ،بحسب المؤمنين بوجودها، التدخل ّ
50
اإلنساني المحض الذي ال يولي بغير الفن وشروطه اهتمامً ا. لإلبداع ّ على هذا األساس ُيطرح السؤال :هل لمنطقةٍ بريئةٍ مثل هذه وجو ٌد ً بعيدا حصين يتمترس خلفه حصن فعلي؟ هل يتمتع اإلبداع بحِ مى ّ ٍ ٍ ُّ خارجي؟ من كل تدخل ّ ّ تشكل فصول برامج الكتابة اإلبداعية عامة ،وفي الواليات
المتحدة األميركية خاصة ،حالة مهمة يمكن االستشهاد بها
لدحض فكر ِة وجو ِد منطقةٍ بريئةٍ لإلبداع؛ ففي الوقت الذي ّ متطلعون في طالب يظن بعض المهتمين أنه عندما يجتمع ٌ
تدريبي يُع َنى بتدريبهم على أساليب الكتابة دراسي أو صف ّ ّ الشعرية أو السردية ،فإنهم يغدون بمعزل عن التطلعات السياسية أيًّا كان الواقفون خلفها .والحق أن األمر خالف ذلك؛ ألن برامج الكتابة اإلبداعية ،بالطريقة التي وُجدت بها في الواليات المتحدة األميركية ،في واقع الحال جزءٌ ال يتجزأ
دولي شرس .إن فكرة وجودها في المقام األول ،ثم من صراع ّ
االتجاهات الفكرية والجمالية التي تحاول أن تنشرها داخل صف الكتابة اإلبداعيةَ ،ل ٌ دليل قاطع على تورّط نشاطها في نطاق أوسع من الفنّ بكثير.
ً خضوعا غير مباشر لقد خضعت برامج الكتابة اإلبداعية
األيديولوجي بين الواليات المتحدة األميركية الصراع لظروف ّ ِ
العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
علي المجنوني كاتب سعودي
السوفييتي الذي أسفر عنه انتهاءُ الحرب العالمية واالتحاد ّ الثانية .شهدت الكليات والجامعات األميركية في تلك الحقبة ً طفرة غير مسبوقة في برامج الدراسات العليا ،جلبت معها َ برامج اب من كل مكان ،فجاء ظهو ُر وظائف هفا إليها الك ّت ُ ِ َ عميق بأن تدريس الكتابة إيمان نتيجة الكتابة اإلبداعية ٍ ٍ ً ّ سيحصنهم ضد للطالب األميركيين ،وغير األميركيين أحيانا، (البروباغندا) الشيوعية .تعليق األمل على الكتابة كدرع فكريّ ٍ ً انطالقا من مجموعة أُسس ،تقدّ م في الغالب نظي ًرا وقائي يأتي ّ معاكسا ّ السوفييتي؛ لكل مالمح الثقافة السائدة في االتحاد ً ّ
من األمثلة على تلك األسس أن األدب ،بحسب الرؤية ّ تحتل اإلرادة اإلنسانية (فرداني) بالضرورة، األميركية ،نشاط ٌّ ً ً وأهمية ُكبريَي ِْن .كما رسّ خت أولوية والتجربة الفردية فيه َ ُ الدعوة إلى تفادي التجريدية بوصفها مدرسة فنية الرؤية تلك
ً الواقعي الذي يحتفي عوضا منها النموذج جمالية ،وقدّ مت ّ واليومي والملموس. بالذاتي ّ ّ
هزيمة الشيوعية
هكذا إذن ،جاءت برامج الكتابة اإلبداعية ،بوصفها
حقلاً معرفيًّا أكاديميًّا يحصل خ ِّريجوه على درجة ماجستير الفنون الجميلة ،كمختبرات لتدريب الك ّتاب على االنضباط ٌ الذاتي .ور ََع ْ مجموعة من المؤسسات أخذت ت تلك البرامجَ ّ
على عاتقها مهمة هزيمة الشيوعية ومحاربتها في الداخل ً خاصة ،واألدب والخارج ،بعد أن رأت في الكتابة اإلبداعية ً عامة ،بتعقيداته وتركيباته ،درءًا لألفراد من االنجرار
السوفييتي ،كما رأت بسهولة وراء صيحات شعارات االتحاد ّ ً فرصة مواتية لموازنة الك َِّفة التي كانت تميل آنذاك في األدب
لصالح التقدم في العلوم والتكنولوجيا ،الذي أفرز ،وإن كان َ كوارث هائلة؛ دفع إرهاصات سمحت بحدوث بغير قصد، ٍ
اإلنسان ثمنها غاليًا. ُ ارتباط برامج الكتابة اإلبداعية في الواليات شغل
المتحدة األميركية بالحرب الباردة اهتمامَ كثير من الباحثين،
ٌ وكتب مقاالت والمالحظ أنه في العامي ِْن الماضيين ظهرت ٌ ِعدَّ ة تتناول هذا الشأن .ولعلنا نجد تفسي ًرا لهذا االهتمام المتزايد مؤخ ًرا في أن وثائق تلك المرحلة أمست متاحة للبحث والدراسة والتحليل ،إضافة إلى عودة حكومة
الواليات المتحدة األميركية من جديد لنهج دبلوماسية ثقافية بعد أحداث 11سبتمبر وانخراط أميركا في حرب ضد
ما تسميه اإلرهاب .أحد الذين حاولوا إلقاء الضوء على عالقة برامج الكتابة اإلبداعية بالحرب الباردة إريك بينيت ،وهو كاتب انتظم في تسعينيات القرن الماضي في برنامج آيوا ٌ
51
قضايا
للكتابة اإلبداعية؛ أعرق برنامج من نوعه على اإلطالق.
في مقاالته األخيرة وكتابه الصادر عام 2015م تحت
«االنضباط الذاتي» لدى الكاتب الذي يعينه وهو يشرع في
اإلبداعية األميركية أثناء الحرب الباردة» تناول بينيت األرضية
يزيد على خمس مئة برنامج للكتابة اإلبداعية في الواليات
عنوان «ورش اإلمبراطورية :ستغنر ،إنغل ،والكتابة األيديولوجية لبرامج الكتابة اإلبداعية في الواليات المتحدة
األميركية ،عبر تحليل دور وكالة المخابرات المركزية األميركية في دعم كثير من البرامج الثقافية س ِّريًّا في منتصف الفرعي لكتابه ،نجد أنه القرن الماضي .وبالعودة إلى العنوان ّ
يشير إلى اثنين من ُروَّاد برامج الكتابة اإلبداعية؛ أولهما واالس ستغنر مدير برنامج الكتابة اإلبداعية في ستانفورد؛ ثاني أقدم
برامج الكتابة في أميركا ،واآلخر بول إنغل ،مدير برنامج آيوا. وألن برنامج آيوا للكتابة اإلبداعية ،المذكور ً آنفاّ ، يمثل حالة
مر ّكزة ،فإن المرء بوسعه أن يتبيّن الدور الضليع الذي قام به هذا البرنامج الرائد في أثناء الحرب الباردة ،فال بد من تسليط
بعض الضوء عليه.
لبرنامج آيوا للكتابة اإلبداعية الريادة من بين جميع
برامج الكتابة اإلبداعية في الواليات المتحدة األميركية؛ إذ ُ نشئ البرنامج عام 1936م بوساطة مجموعة من الشعراء أ ِ السرد تحت اسم .Iowa Writers’ Workshop و ُك َّتاب َّ
52
اللغة اإلنجليزية ،ويرسخ عبر صفوفه قليلة العدد ما يسميه
يُمنح خريجو البرنامج شهادة ماجستير الفنون الجميلة في
الدخول إلى عالم الكتابة االحترافية والنشر .يوجد اليوم ما المتحدة األميركية وحدها ،أكثرها أسسه خريجو برنامج آيوا.
وال يختلف برنامج آيوا كثي ًرا عن البرامج المشابهة له ،أو ما سواها من البرامج المنتشرة في سائر العالم ،لكن قيمته تكمن ،كما أسلفت ،في ريادته وفي األثر العظيم الذي تركه،
وال يزال ،على األدب واألدباء األميركيين .ولما للبرنامج من
مكانة مرموقة ،يتباهى خريجوه بانضمامهم له وبعبورهم عالمَ الكتابة االحترافية بوساطته؛ لهذا السبب أيضا أغوى
البرنامجُ عبر السنين قائمة طويلة من الكتاب األميركيين ،لعل
أهمهم تشارلز رايت ،وبول هاردنغ ،وغين سمايلي ،وساندرا سيسنيرو ،وغيرهم .كما درّس في البرنامج زمرة من أعلى ً مكانة؛ من أمثال الشاعر والروائي روبرت األدباء األميركيين
بن وارن ،والشاعر فيليب ليفين ،والروائي فيليب روث، والشاعر مارك ستراند ،وأخي ًرا الروائية ميريلين روبنسن. محارب الحرب الباردة
ال يكاد يُذكر برنامج آيوا من دون ذكر بول إنغل ،الذي
بول إنغل وعائلته
العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
برامج الكتابة اإلبداعية في أميركا
خضعت برامج الكتابة اإلبداعية الصراع خضوعا غير مباشر لظروف ِ ً األيديولوجي بين الواليات المتحدة ّ السوفييتي األميركية واالتحاد ّ
الفرعي ،ثاني من استلم ضمّ ن بينيت اسمه في عنوان كتابه ّ مهامّ إدارة الورشة ،وهو رجل عصامي من آيوا ،كثي ًرا ما وُصف
بأنه «محارب الحرب الباردة» .قبل انضمام إنغل لبرنامج آيوا ّ وتقلب تجاذبته األفكا ُر واألهواء السياسية والحركات الفكرية، في كل واحدة ردحً ا من الزمن ،حتى حينما انتهت الحرب
السياسي ،رأى بينيت أن الكتابة تضررت بفعل إغداق األموال ّ الحكومية على البرنامج ،منتقدً ا ما غدا يُع َرف في األوساط
الثقافية بـ«نموذج آيوا» الكتابي. َ َ أخذ بينيت على البرنامج تحديدً ا الرؤية الضيقة المحبطة الثقافي المختزل، التي ُتدرَّس في ورشة آيوا ،وحجم التفاعل ّ
أدبي وما هو غير ذلك. وضيق التعريف المعتمد هناك بما هو ّ
وارتكز على تجربته في أثناء الدراسة في آيوا؛ إذ الخيارات الفنية والجمالية المتاحة أمام الكاتب محدودة ،ويتبعها المدرسون وتفان أعم َيي ِْن .تلك الخيارات ّ شكلت وخريجو البرنامج بوالء ٍ قوالب يمكن اتباعها في سبيل كتابة روايات رائجة وناجحة، َ لكن حسب مقاييس ضيقة؛ أصبحت تعتمدها سوق الكتاب
اإلبداعي. ّ أما فيما يتعلق بالتمويل ،فقد انطلق بينيت من حقيقة
العالمية الثانية وجد نفسه يسير مع التيار المناوئ للشيوعية.
مضمونها أن المخابرات األميركية قامت بتمويل برنامج آيوا؛ َّ ضخت لصالح البرنامج مؤسسة فارفيلد ،وهي بحسب إذ
ُ َ شهرته فيما بعدُ اآلفاق .جدي ٌر األميركي ،حتى طبقت الثقافي ّ ّ ُ قدرته بالذكر أن أول ما يتبادر إلى الذهن عند سماع اسم إنغل
بالعمليات الثقافية» عبر العالم ،من خالل منظمة تدعى
في حقبة إدارة إنغل ،التي استمرت مدة أربعة وعشرين عامً ا ً ً فارقة في المشهد عالمة بدءً ا من 1941م ،أضحى البرنامجُ
الفائقة على تحصيل التبرعات للبرنامج وجلب الداعمين.
رجال األعمال من الحزب جيوب لقد استحلب إنغل َ ِ المحافظ مستغلاًّ عداءهم غير المشروط للبروباغندا السوفييتي؛ أقنعهم بأن برنامج الشيوعية التي يصدّ رها االتحاد ّ آيوا يحمي القيم الديمقراطية في داخل أميركا وفي خارجها. ُ مؤسسة روكفيلر المشهورة التي من أبرز داعمي برنامج آيوا
ّ ضخت أربعين ألف دوالر ،مبلغ ضخم في ذلك الوقت ،لصالح
البرنامج إبّان حقبة إدارة إنغل .كما قامت المجالت والدوريات
وصف بينيت «جبهة مرتبطة بوكالة المخابرات المركزية ُتع َنى
«الكونغرس من أجل الحرية الثقافية» آالف الدوالرات .كان إلحاح إنغل عاملاً مهمًّ ا في تحصيل ذلك الدعم وغيره .مما ٌ رسالة بعثها إنغل إلى مؤسسة روكفيلر يقول أورده بينيت
فيها« :إنني واثق من أنكم قد شاهدتم مؤخ ًرا اإلعالن عن ً جامعة في موسكو تستقبل السوفييتي يؤسّ س أن االتحاد ّ الطالب القادمين من خارج الدولة» .أبدى إنغل في الرسالة
األيديولوجي المتوقع» الذي سيتلقاه في مخاوفه من «التلقين ّ هذه الجامعة ُ آالف الشباب الذين لم يكونوا قادرين على تأمين
أكاديمي من ُ قبل .لمَّ ح إلى خطورة َقوْلبة الحصول على تعليم ّ ً الطالب في مكان واحد مراقبَ ، وعدَّ ذلك تكتيكا سوفييتيًّا
الثقافية ،بإيعاز من إنغل ،بدور واسع في الدعاية للبرنامج والترويج لنشاطه .في آيوا هُ يِّئ المكان لجذب ُ الك َّتاب ،واح ُتفي ُ بالك َّتاب المنضمين للورشة عبر نشر قصصهم وقصائدهم في
ً مألوفا ،ثم ألحَّ في سبيل أنْ تنافس الواليات المتحدة السوفييتي في هذا المضمار الحيويّ ،وإن األميركية االتحا َد ّ
دائمً ا تحمل على عاتقها االضطالع بدور مهم في نقد االتحاد
عليه في آيوا .وفي رسالة أخرى منه إلى وكالة المخابرات
أرفع المجالت األدبية ،وأقيمت الفعاليات الكثيرة التي كانت السوفييتي ،وإذكاء ال ُّروح الوطنية األميركية. ّ لكن دور التمويل لم يقتصر بحال من األحوال على
رجال األعمال من اليمين المحافظ ،بل ساهمت فيه جهات حكومية على رأسها وكالة المخابرات المركزية في مقالة
مثيرة للجدل ،نشرها موقع The Chronicle of Higher Educationقبل عامين بعنوان« :كيف ّ األدب» سطحت آيوا َ وصف إيريك بينيت ُ الك َّتاب الملتحقين ببرنامج آيوا بالمج َّندين
الذين جُ ندوا بمساعدة وكالة المخابرات المركزية؛ للمحاربة
على جبهتين :جبهة عسكرية (البروباغندا الشيوعية) ،وأخرى جمالية (التجريد) .بوضعه برنامج الكتابة اإلبداعية في سياقه
اضطرت إلى تأسيس مكان واحد ومراقب مثل الذي يُشرف
المركزية ،وعد إنغل الوكالة ببناء برنامج للطالب األميركيين َ المحيطيْن» وفي «قلب واألجانب على السواء يكون «بعيدً ا من األميركي»؛ ليعلمهم أميركا الحقيقية؛ في الغربي الوسط ّ ّ الجغرافي من جسد أميركا. إشارة إلى موقع والية آيوا ّ تصور فقير منزوع اإلنسانية للعلم
على نطاق أوسع من دائرة البرنامج ،ركز الخطاب السائد في أميركا ما بعد الحرب العالمية في ال َّنيْل من
األيديولوجي المحض. الشيوعي ،ووصمه بالخطاب الخطاب ّ ّ وفي هذا تناقض كبير؛ إذ سعت الجهود التي قامت بها
53
قضايا
جهات ومؤسسات مختلفة إلى تضخيم خطر األيديولوجيا،
لكن أيديولوجيا الشيوعية فقط ،كأن الخطاب المناهض للشيوعية ليس أيديولوجيًّا .أهم المؤسسات التي رفدت هذا
الخطاب المتناقض المؤسسة األكاديمية .ففي األربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين ظهر دعاة ما يسمى «النقد
األدبي تميل إلى تقدير التعقيد الجديد» ،وهو مدرسة في النقد ّ ّ النص. األدبي ،وعزله عن كل ما هو خارج الشكالني في العمل ّ ّ
األدبي تصب مدرسة النقد الجديد تركيزها عند دراسة العمل ّ على «الكلمات على الصفحة» ،وتنطلق من مسلمات أهمهُّا َ ٌ ّ خاص يعمل بشكل مختلف عن باقي شكل اللغة األدبية أن
ٌ ً العلم باينة للغة االستخدامات اللغوية ،كما هي أيضا -مُِ والمباشرة في الداللة. الحرفيةِ ِ دفع مؤسسيي النقد الجديد نفو ٌر من العلم والعقالنية اللذين اح َت َف ْ ت بهما الرأسمالية؛ ألنهما قدَّ ما تصورًا فقي ًرا
ومنزوع اإلنسانية عن العالم بعيدً ا من ال ُّروحانية أو حتى
السحر؛ لذلك ركزت مقاربتهم في استقصاء العناصر التي َ اللغة تصبغ األدبية على نص ما ،والنتيجة أن أوْلت مقاربتهم َ َ َ والغموض اهتمامً ا كبي ًرا .هكذا أحال والمفارقة، المجازية،
االحتكامُ إلى قيم جمالية محضة في عملية تحليل النصوص
54
األدب إلى عالم مختلق من صنع الخيال بعد أن وتأويلها َ أطناب السياقات التي نشأ فيها ُ وعدَّت التأويالت ُقطعت ُ
الواقعي منفصل عن الخارجية لألدب باطلة؛ ألن العالم ّ األدب .رفض النقدُ الجديدُ المناهجَ النقدية التي سبقته (مثل: النفسي، الماركسي ،ونقد التحليل التاريخي ،والنقد النقد ّ ّ ّ
يوجد ميل إلى االعتقاد بأفضلية األدب السوفييتي، الغربي على األدب ّ ّ وبخاصة مع االعتراف بالحداثة على الغربي أنها الشكل األقصى لألدب ّ البيوغرافي ،ونقد استجابة القارئ) بوصفها خاطئة، والنقد ّ األدبي بما ليس أدبيًّا. بمساواة إياها م ّتهمً ا ّ ً الحقا كثي ًرا من وعلى الرغم من أن هذه المدرسة فقدت ّ تشكل وَهَ جها بفضل حركات ما بعد البنيوية ،فإنها ال تزال
حضورًا قويًّا في األكاديميا والثقافة بشكل عامّ ؛ إذ يركن إليها ّ األدبي وَحْ دَ ة كثي ٌر ممن يؤمن بأن النص مستقلة من اإلبداع ّ
ً منعزلة عن السياقات المختلفة التي اإلنساني يمكن أن تكون ّ ذاتي أُنتج فيها العمل ،وأن العقل المبدع يحظى باستقالل ّ األدبي .وتنسحب الفني أو له كامل الفضل في إبداع العمل ّ ّ
األدبي نفسه؛ إذ ينطوي العمل هذه االستقاللية على العمل ّ على كل ما يحتاجه المتلقي لفهم العمل وتذوُّقه وتقديره. ساهم في انتشار النقد الجديد مواءم ُته للمنظمات ،وما
تشيعه من أفكار واللغة السياسية التي تنتمي لها .بالنسبة ً ثقافية ،فإن مؤسسات حكومات كانت أو لتلك المنظمات، ٍ ٍ
الرؤية التي يقوم عليها النقد الجديد مريحة وغير مزعجة؛
ألنها مأمونة الجانب ومتوقعة التصرفات.
وحين حدثت طفرة التعليم في أثناء الحرب الباردة؛
بول إنغل يقرأ وسط مجموعة من الطالب في ورشة آيوا للكتّاب في الخمسينيات
العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
برامج الكتابة اإلبداعية في أميركا
السياسة واأليديولوجيا بحسب
النقد
الجديد،
تكون
المالمح
األدبي في أحسن األحوال األيديولوجيّة للعمل ّ
عديمة الصلة بالقيم الجمالية التي يحملها .وإن
استطاعت الظهور أو التدخل في تلك القيم فهي
عنصر غير مرغوب فيه ودخيل على ما يجب أن ص ً ً رفا .وعلى هذا يكون إبداعيًّا محضا ومتخ َّيلاً ِ دالالت سلبيةً األساسُ ،منح مصطلحُ األيديولوجيا ٍ
ً ارتباطا بالضرورة ،وتكاد تكون شيطانية ،وارتبط ً وثيقا بالشيوعية ،ولهذا تماشى هذا التصور مع األميركي في حالة الذعر التي عاشها المجتمع ّ
أثناء الحرب الباردة .بطريقة ما ،كان المصطلح يعادل مصطلح «السياسة» سيئ ِّ الذ ْكر آنذاك. وفي هذا مفارقة كبرى ال يمكن تجاوزها بسهولة
كما ذكرت للتو ،وهي أن محاولة عزل األدب عن
برزت الحاجة إلى مناهج فعَّ الة وعملية لمقاربة األدب وتدريسه، فاالرتفاع المفاجئ والسريع ل َِقبول الطالب في صفوف األدب في أقسام اللغة اإلنجليزية حينما انتهت الحرب العالمية الثانية؛
أفضى إلى صفوف متكدّ سة ومدرسين تعوزهم الخبرة .وهنا
تكمن أهمية النقد الجديد في كونه يقدّ م نموذجً ا لتحليل األدب مبسط ومعياريّ ،وأهم من ذلك ِّ كله سهل وتأويله ،ي َّتسم بأنه ّ التدريس .كما واكب هذه التطورات األكاديمية ٌ ميل إلى االعتقاد
السوفييتي ،وبخاصة مع الغربي على األدب بأفضلية األدب ّ ّ الغربي .ونتج لألدب األقصى الشكل أنها على بالحداثة االعتراف ّ ُ تنحية الرواية الواقعية عن المنهج الذي يدرس عن هذا الميل
ً عوضا منها؛ الحداثي في األكاديميا وتهميشها ،وإدراج األدب ّ ً الهتمامه بالجماليات ،بعد أن كان مهمشا ومُ زدرًى هو اآلخر َ أعراف وق ًتا طويلاً .وفي الحال اعتنقت برامجُ الكتابة اإلبداعية
النقد الجديد ودرّستها في ورش الكتابة ،بعد أن وجدت فيها ما
يمكن تسخيره لخدمة العاطفة المناوئة للشيوعية ،والمروِّجة أسباب عملية أخرى؛ للفردانية األميركية ،ساعدها في ذلك ٌ
مثل :نزوع الجامعات إلى وضع حدود واضحة بين التخصصات
المختلفة وغيرها.
السياسة ،وعزل الفن عن األيديولوجيا ،إنما هي
ليست األعراف األدبية والنقدية وَحْ دَ ها ما سُ خر لخدمة السياسي ،بل إن مُ ُثلاً وقيمً ا اس ُتخدمت للغرض نفسه .وهذا ما ّ
األميركي في منتصف فوبيا الشيوعية لدى المجتمع ّ
ً قيمة ،سُ خرت على أنها أعز مكتسبات الديمقراطية الليبرالية
محاولة سياسية وأيديولوجيّة بامتياز .ويمكن
القول :إن مصطلحً ا مثل األيديولوجيا تعرّض َ متعمد أُ َ ّ ريد منه ترسيخ أل ْد َلجة صارخة ،وتشويه القرن العشرين. لم ُ ً جهدا في محاربة تأل الحكومة الفيدرالية وضخت أموالاً ّ الشيوعية على األصعدة كافة،
طائلة إلى التعليم العالي بعد أن آمنت أنها تخوض
السوفييتي معركة أفكار .لقد ع َّولت مع االتحاد ّ الحكومة األميركية كثيرًا في أثناء الحرب العالمية
الثانية ،وما أعقبها ،على الجامعة بوصفها حاضنة للشباب ،وركزت في أن ما ّ يتلقاه الطالب الجامعيون ّ ّ ضد األكاديمي ال بد أن يكون لقاحً ا الصف في ّ
الموجات الفكرية التي تتناهب الشباب في كل مكان
على وجه األرض .وكان اإلعالم يقوم بالدور نفسه على جبهة أخرى؛ إذ عمل على استثمار المخاوف
واآلمال التي وسمت حقبة الحرب الباردة ،وكان من ً حماسة للخطوات التحصينية ضد أكثر المجالت
الشيوعي ،بما في ذلك مشروع ورشة المشروع ّ آيوا ،مجلة «تايم» ذائعة الصيت.
ذهب إليه فرانسيس ستونر سوندرز في كتابه «الحرب الباردة الثقافية»؛ إذ جزم سوندرز بأن حرية التعبير التي طالما ُقدّ رت
لخدمة أجندات ِس ّرية .وحاول سوندرز كشف كثير من الجهود ً حماسة االستثنائية التي تورّط فيها أكثر دعاة الحرية الثقافية
في الغرب؛ إذ كانوا يعملون لصالح السي آي إيه أو بدعم
منها ،سواءُ أعلموا بذلك أم لم يعلموا .ركز سوندرز في ّ تقصي
السرِّيّ للتدخالت الثقافية في أوربا الغربية برنامج السي آي إيه ِّ
أو في داخل أميركا؛ من أجل خطة احتواء تهدف إلى تذويب ّ وأدلة شغف النخب الثقافية بالشيوعية ،مستعي ًنا بوثائق تثبت استغالل أميركا رمو ًزا ثقافية؛ مثل :إيزايا برلين ،وجورج
أورويل ،وجاكسون بولوك ،وهانا آرنت ،واستخدامهم كأسلحة
في الحرب الباردة.
الراقصون بوصفهم دبلوماسيين
انضمّ إلى المقاالت والكتب التي تتناول الحرب الباردة
ِتاب آخر صدر العام الماضي بعنوان: وعالقتها باإلبداع ك ٌ «الراقصون باعتبارهم دبلوماسيين» لكلير كروفت .يحلل كتاب ْ أجرتها مع كروفت الذي استندت في تأليفه إلى مقابالت كثيرة
ّ سخرت الحكومة األميركية مصممي رقص وراقصين ،كيف َ الرقص في تصدير صورة مثالية ألميركا ،ويختبر هذا السلوك
55
قضايا
الثقافي في مرحلتين مهمتين من مراحل الدبلوماسي ّ ّ السياسة الخارجية األميركية :العقود األولى من الحرب الباردة
والجزء المنقضي حتى اآلن من القرن الحادي والعشرين .في السنوات األولى من الحرب الباردة استهدفت المناطق التي السوفييتي؛ الصيني الشيوعي ُظنّ أنها أكثر عرضة للتأثير ّ ّ ّ
مثل :أوربا الشرقية ،وأميركا الالتينية ،وجنوب شرق آسيا.
وفي القرن الحادي والعشرين ،عقب أحداث 11سبتمبر، ُ تحو ْ بوصلة الدبلوماسية الثقافية األميركية لتستهدف َّلت
مناطق يدين أكثر سكانها باإلسالم ومعظمها في آسيا .خالل
هاتين الحقبتين كان نشاط الدبلوماسية الثقافية قائمً ا على ُ أش ِّده؛ إذ بعثت الواليات المتحدة األميركية فنانين إلى لاً الخارج ،بوصفهم ممثلين رسميين لها ،بل وحتى أعما فنية لوحات وسواها ،بوصفها جزءً ا من برامج الدبلوماسية من ٍ
التي تلقاها فريق الباليه باحتمالية أن يواجه جمهورًا غاضبًا في المسرح ،كان الحضور مبتهجً ا ،وقابل الفريق بتصفيق حا ّر وهتاف طويل.
عن هذا العرض كتبت كروفت« :من خالل إرسال
السوفييتي بوصفه جزءً ا باليه مدينة نيويورك إلى االتحاد ّ من الدبلوماسية األميركية في منتصف القرن العشرين؛ ُ وزارة الخارجية األميركية والمسرحُ القومي األميركي اخترقت ُ واألكاديمية ،الجهة التي اختارت الفنانين لجوالت وزارة
الخارجية ،اخترقتا الستارة الحديدية بفن من أكثر أشكال الفنون المحبوبة في روسيا» عبر الجوالت الكثيرة التي موّلتها وزارة الخارجية األميركية ضمن برامج الدبلوماسية الثقافية، تحمّ ل السفراء الثقافيون ،الراقصون وغيرهم من الفنانين،
الثقافية التي نفذتها في أماكن متفرقة من العالم .ولعل ً داللة في هذا الشأن ما حدث عام أحد أهم عروض الرقص 1962م حين أدَّت فرقة باليه مدينة نيويورك عرض «ويسترن
سيمفوني» على خشبة مسرح بولشوي في قلب موسكو. ً حدثا رمزيًّا؛ إذ ُعزف قبل بدئه نشيدا أميركا واالتحاد كان
56
َ فرقة الراقصين والراقصات السوفييتي الوطنيان ،وقاد ّ روسي ي َ ُدعى جورج باالنشين .قوبل العرض األميركية مهاج ٌر ٌّ بحفاوة شديدة؛ بسبب ما عزته الكاتبة إلى االختالفات
الجمالية بين الباليه في كل من الدولتين ،وإلى تزامن العرض مع أزمة الصواريخ الكوبية التي كادت الحرب أن
تندلع بين الدولتين بسببها .على عكس التحذيرات
رجال مخابرات خريجو ورش للكتابة اإلبداعية ّ للممولين لغة سياسية مشفرة تناسب الجو العام ،وشدد على نجاعة الجلي أن إنغل استخدم في مراسالته من ّ
استخدام الثقافة في محاربة الشيوعية .وهكذا توافقت رؤيته المعلنة مع رؤية الحكومة األميركية ،المتمثلة في
برنامج مثل «الكونغرس من أجل الحرية الثقافية» والهادف في نشاطه في أثناء الحرب الباردة إلى «إقناع اليسار غير الشيوعي في بريطانيا وأوربا أن أميركا َت ْع ِني أكثر من ميكي ماوس وكوكاكوال» ليس غريبًا أن قام برنامج «الكونغرس» ّ بدفع اشتراكات في مجالت أدبية أميركية ُ لك َّتاب من الكتلة الشرقية من أوربا ،وبخاصة إذا علمنا أن بعض رجال
وكالة المخابرات األميركية هم خريجون سابقون من ورشة آيوا للكتابة اإلبداعية؛ مثل الروائيين جون هانت وروبي ً ً متفرعا من ورشة آيوا –أيضا -أن يحصل إنغل ،بعد أن أسس في منتصف الستينيات برنامجً ا ماكولي .ليس غريبًا
أميركي للسفر إلى آسيا وأوربا؛ لتجنيد ُ َّ الك َّتاب الشباب، الدولي» ،على عشرة آالف دوالر سماه «برنامج الكتابة ّ ّ والمثقفين وبخاصة ذوي الميل اليساريّ منهم ،ومنحهم زماالت لدراسة الكتابة اإلبداعية في آيوا. ُّ بتفهم أكثر عن الواليات المتحدة األميركية»؛ كان الهدف من جلب ُك َّتاب أجانب أن «يحبوا أميركا» ،وأن «يكتبوا
َ بمبالغ كبير ٍة ًّ ّ ممولي جدا .لقد نجح إنغل في إقناع شيكات لهذا حرَّر رجال األعمال المحافظون لصالح مشروعه ٍ
البرنامج بأن األدب سوف ينقذ العالم ،وأن الكتابة اإلبداعية ،حسب تعبير بينيت ،سوف «تلقح العقول الضعيفة ضد
العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
برامج الكتابة اإلبداعية في أميركا
بعض الذين تفاعلوا مع كتابات إريك تورط بينيت وغيره التي حاولت فضح ُّ وكالة المخابرات المركزية األميركية في تمويل مشاريع ثقافية لصالح أهداف ُّ التدخل ما سياسية؛ لم يمانعوا هذا وتعليما لل ُكتَّاب وظائف يوفر دام أنه َ ّ ً مبنى ورشة آيوا للكتابة اإلبداعية
ً مسؤولية تصدير سردية وطنية مهيمنة تحاول ،وإنْ عبثا، أن تطرد عن نفسها ُتهمً ا محتملة .أ َّكد مسؤولون حكوميون للفنانين المشاركين في تلك الجوالت الدولية أن عملهم ليس
سياسيًّا ،كما أشار بعض الفنانين إلى أن مسؤولين في وزارة الخارجية أَمْ َلوْا على الراقصين في أثناء تحضيرات ما قبل ً محددة طلبوا فيها تعليمات الجولة في واشنطن العاصمة ٍ منهم ألاَّ يخوضوا في محادثات سياسية في أثناء وجودهم في الخارج.
عمد المسؤولون عن برامج الدبلوماسية الثقافية ّ تمثل الواليات المتحدة إلى إفهام الفنانين أن تصرفاتهم ّ وحضهم على تج ّنب كل ما يمكن أن يكون سياسيًّا؛ األميركية، مثل :الحديث عن حرب فيتنام في الستينيات .وبحسب
كروفت ،فإن إرسال فنانين إلى الخارج يُعَ دّ خطوة مهمة
للحكومة األميركية؛ ألنه بقدر ما على مسؤولي الحكومة أن
يديروا الفنانين بحساسية (إذ الفنانون بخالف األعمال الفنية
الجامدة ،غير متوقعي التصرف) ،بقدر ما يمكن أن يتصرف الفنانون ك ُب ْرهان على وعد الديمقراطية األميركية المتمثل
في «نظام حكومة يسمح بمعارضة فردية» .ثبت أن الحرية الفردية وغيرها من القيم األميركية يمكن تصدي ُرها بوساطة
عروض الرقص ،والدراما الحية بطريقة أفضل وأنجع من
تصديرها على نحو مباشر.
في الختام ،يمكن القول :إن ما يذهب الظنّ إلى أنه منيع ّ السياسي َلهُو في واقع الحال وثيق االرتباط به. التدخل ضد ّ
الغربي لقد بانَ أن برنامجً ا للكتابة اإلبداعية في قلب الوسط ّ األميركي إنما كان مسرحً ا لتجاذبات سياسية وفكرية تسافر ّ
عبر المحيطات .بعض الذين تفاعلوا مع كتابات إريك بينيت وغيره التي حاولت فضح تورُّط وكالة المخابرات المركزية
األيديولوجيّات الشمولية التبسيطية ،وتشفي الجروح
األميركية في تمويل مشاريع ثقافية لصالح أهداف سياسية لم التدخل ما دام أنه ّ َ وظائف وتعليمً ا ُ ّ للك َّتاب. يوفر يمانعوا هذا
إنغل في رسمهِّ ، يروج البرنامج للتجربة الملموسة،
ال يكون ريموند كارفر ،وهو يتدرب على أيدي كتاب غارقين در ًكا أن قصصه القصيرة تقوم في صيغ معادية للشيوعية ،مُ ِ
الرُّوحية التي أحدثتها الكارثة العالمية ،وربما تمنع ً ُّ للتصور الذي ساهم ووفقا حدوث أمثالها مرة أخرى»،
هذه وجهة نظرة مفهومة ،وبينيت نفسه يشير إلى أنه «قد
والخصوصية الذاتية ،والحياة الواقعية في الرواية،
سوفييتي ميت» إال أن وجهة بحرب أيديولوجيَّة مع ديكتاتور ّ ّ تضمحل عند إدراك الضرر الذي يلحقه التدخل النظر هذه
َّ الجوانية والخاصة بالفرد التي تنعكس من خالل الحياة
السياسي يفرض شروطه بالضرورة ،ويرسخ لجُ ملة من ّ األعراف الفنية والقيم الجمالية ال يزال حضورُها مُ هيمِ ًنا على
بينما يرفض التجريد ،والعمومية ،والتجارب المدفوعة
باأليديولوجيا .ويحتفي باألدب الذي ُيعلي من شأن تجارب يعيشها ال تمليها عليه أي أيديولوجيّات .إنه يقدم
قيمة الفردانية باعتبارها أيديولوجيا ر ُِّوج لها في أميركا في أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها؛ لتناهض
األنظمة الشمولية في نموذجَ ِي الفاشية في ألمانيا السوفييتي. وإيطاليا ،والشمولية اليسارية لالتحاد ّ
ّ ّ التدخل والمتمثل في أن السياسي ببرامج الكتابة اإلبداعية، ّ
األميركي حتى اليوم. األدبي المشهد ّ ّ لقد نجحت أميركا ،كما يبدو ،فيما أخفق فيه االتحاد
السوفييتي ،أال وهو الصادرات الثقافية .لكن ال شك أن ّ الحقيقي قد خسر كثي ًرا؛ بسبب حقن صفوف الكتابة اإلبداع ّ بأيديولوجيا اإلذعان التي ال يجرؤ على التصريح بها أحد.
57
قضايا
باريس بعد االعتداءات... المثقفون يخرجون من بروجهم العاجية ويسائلون فكر األنوار ومبادئ الثورة الفرنسية ليس من المبالغة القول :إن
االعتداءات اإلرهابية التي ضربت
58
العاصمة الفرنسية ،في شهري
يناير ونوفمبر عام 2015م ،خلخلت
المجتمع
والفكر
الفرنسيين،
إضافة إلى السياسة الفرنسية،
وليس معنى هذا أن المجتمع كان مثاليًّا ،أو أن مكوناته كانت تعيش في وئام كامل ،فالتعددية
الثقافية (الفلسفة التي يدافع عنها
محمد المزديوي كاتب ومترجم مغربي مقيم في باريس
ّ محل األوربي وكثير من اإلنسانيين الفرنسيين)كانت االتحاد ّ انتقاد شديد من أنصار فرنسا الخالدة ،أو فرنسا «البيضاء ذات المسيحي» ،كما تجرَّأت على قول ذلك ،قبل التراث اليهوديّ - ّ أشهر ،النائبة نادين مورانو ،من حزب الجمهوريين اليميني، ُ صمُ َ العرب والمسلمين وليست هذه النائبة التي كثيرًا ما َت ِ
في تصريحاتها المتكررة ،ثم تكرِّر الزمَ َتها المُ َّ ُ «لست ضد ملة: َ الوحيدة في العرب ،والدليل أن لي صديقة حميمة من تشاد»
المشهد ،بل إن القول العنصريَّ بدأ يتحرَّر في اآلونة األخيرة، ولم يعد كثي ٌر من ُ الكتاب والمفكرين والصحفيين الفرنسيين يجدون حَ رجً ا من التفوه بكلمات تصدم األقليات والجماعات،
ً وخصوصا مسلمي فرنسا أو الجالية العربية اإلسالمية فيها، الفرنسي». ثم ُيشهرون سيف أننا «نتحدث بلغة الشعب ّ العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
في هذا اإلطار يمكن قراءة كتاب إيريك زمور الصحافي
الذي دعته األكاديمية الفرنسية (مُ جمَّ ع الخالدين الذي استقبل
مقوالت وأفكارًا الذي عرف نجاحً ا منقطع النظير ،ويلخص فيه ٍ ً عنصرية؛ من بينها أن «فرنسا تتعرض لألسلمة» ،وأن «ال
والجزائرية الراحلة آسيا جبار ،والمُ ثقف الالمع أمين معلوف) ً وعنصرية ضدّ العرب والمسلمين لألسف ،وهو يقطر حقدً ا
الفرنسي ،ذي األصول اليهودية الجزائرية« :االنتحار الفرنسي» ّ
من قبل شخصيات كثيرة؛ من بينها الراحل سيدار سنغور،
فرق بين اإلسالم واإلسالموية» ،وأن «اإلسالم والجمهورية ال يتواءمان» ،وأن «اإلسالم ي َتعَ ارَض بشدة مع العلمانية» ،وأن
بالفوز بكأس العالم لكرة القدم ،ألول مرة في تاريخهم ،كان
بينها« :تغيير المسلمين أسماءهم ،ثم ذوبانهم في المجتمع
تركيبة الفريق الفرنسي ،التي تضمُّ عربًا وسودًا أكثر من ال ِبيض،
«القرآن كتاب عنف» ،إلى أن يصل إلى خالصات وحلول؛ من
واألجانب .وقبل سنوات ،حين كان الفرنسيون يبتهجون فينكلكروت يسخر ،في لقاء مع صحيفة هآرتس اإلسرائيلية ،من
الفرنسي ،كما فعل اليهود من قبلهم ،أو التفكير في ترحيل ّ ّ مفكر، العرب المسلمين» .وإذا كان إيريك زمور ال يزعم أنه
الحالي مانويل فالس ،وكان وقتها ال يزال نائبًا وعمدة لمدينة
والصهيونية ،وممولها هو داسو ،صاحب الطائرة الحربية
األسواق باعة عربًا وسودًا ،على مصير ال ِبيض .كما يمكن لنا أن
ويكتفي بدور الصحافي في صحيفة لوفيغارو (اليمينية الفرنسية المشهورة) ،فإن ثمة مفك ًرا آخر ،هو أالن فينكلكروت،
والطريف أن الخوف على مصير «ال ِبيض»؛ جعل رئيس الوزراء
إيفري ،بالضاحية الباريسية« ،يتأسف» وهو يرى في إحدى
نذكر من بين هؤالء المفكرين الذين يعرفون كيف يستخدمون قادة العالم في وقفة تعاطف مع الفرنسيين
59
قضايا
والنضالي ،وإفساح الكالسيكي في شكلها ّ ّ المجال أمام فالسفة ومفكرين يتقنون
الميديا برنار هنري ليفي ،الذي يستطيع أن َ العالم، يدافع عن كل المستضعفين في
التالعب مع وسائل اإلعالم ،ويغيرون آراءهم و َْفق طلبات الجمهور.
من بنغالديش إلى البوسنة وليبيا وسوريا يحس إال الفلسطينيين ،فهو ال يراهم وال ّ
في هذه الظروف الفكرية ،إضافة
بآالمهم ،وقبل أن يعترف مجلسا النواب
إلى األزمة االقتصادية التي تعيشها فرنسا
والشيوخ الفرنسيان بالدولة الفلسطينية
والغرب ،منذ عدة سنوات؛ جاءت
المستقلة ،خاض حروبًا هوميرية؛ إلقناع
االعتداءات اإلرهابية التي ضربت فرنسا
النواب بأن االعتراف بالدولة الفلسطينية
ِّ يهدد السالم.
العام الماضي؛ لتزيد األمور المجتمعية الفرنسي تعقيدً ا ،والسياسة ارتبا ًكا ،والفكر ّ
وليس هؤالء استثناء في المشهد
كتاب «االنتحار الفرنسي» ضحالة وبؤسً ا. الفرنسي ،فقد مضى والفلسفي الفكريّ ّ ّ ِّ الفرنسي محمد علي يعلق الباحث الفرنسي يساريًّا، الوقت الذي كان فيه الفكر ُّ ّ عدراوي (جامعة سانغفورة) ،وهو يقرأ تصريحات السياسيين وكان يدافع عن كل القضايا بما فيها القضية الفلسطينية؛ أين نحن من جان بول سارتر ودفاعه الرائع عن استقالل الجزائر؟
الفرنسيين المختلفة بعد االعتداءات ،وهي تقول وكأنها جوقة
وعن «الحجارة الفلسطينية» ،ثم عن «عظمة عرفات»؟ وأين
وعلى ديمقراطيتنا وانتخاباتنا ،كما أنهم ال يريدون علمانيتنا،
وأين نحن من جيل دولوز الذي دافع عن القضية الفلسطينية،
نحن من جان جوني وهو يكتب عن «األسير العاشق» و«أربع ساعات في شاتيال»؟ لقد انتهى زمن الفالسفة الكبار؛ الزمن
60
الذي قال فيه الجنرال شارل دوغول« :إن فرنسا ال يمكنها أن ِّ َّ ولعل موت جاك ديريدا ،أعلن مفك ًرا مثل سارتر»، تعتقل
الفرنسي الكبير؛ أي :موت الفلسفة بصيغة ما ،موت المفكر ّ
العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
واحدة :إن اإلرهابيين الذين ضربونا يحسدوننا على نمط حياتنا، بالقول« :إن األمر ليس صحيحً ا ،ففرنسا منهمكة في قصف العراق وسورياُ ، وتوقع ضحايا ودمارًا ،فلماذا يتعجب بعضهم ِّ المشاركة ويعدد كثي ًرا من الدول من مجيء هؤالء لالنتقام»، ِ َّ في محاربة تنظيم داعش التي تلقت ضربات وانتقامً ا من
التنظيم.
باريس بعد االعتداءات...
الفرنسي وغير بعيد من هذه الفكرة ،يؤ ِّكد لنا الباحث ّ إليامين س ّتول ،في وزارة الدفاع الفرنسية ،أن «فرنسا لم ُتض َرب بصفة اعتباطية ،وقد َّ تلقت تهديدات كثيرة من ُ قبل؛
بسبب حضورها العسكريّ في دُول إسالمية كثيرة؛ مثل:
مالي ،وإفريقيا الوسطى ،وأفغانستان ،والعراق ،وسوريا، والصومال ،وغيرها».
والغريب أن فرنسا الرسمية ،ومباشرة بعد االعتداءين
ق َّررت أن تعالج الموضوع معالجة أمنية واستخباراتية ،من دون مراعاة الظروف االجتماعية ،فإذا كان ِّ منفذو االعتداءات
لماذا يجب عدم اإلقرار بإخفاق االندماج على الطريقة الفرنسية؟ ولماذا يجب عدم فعل شيء تجاه األحياء الشعبية والضواحي ،التي قامت عام 2005م بانتفاضة عارمة فرنسيين من أصول عربية ،فلماذا ال يجب التساؤل عن دوافعهم؟ والظروف التي دفعتهم إلى هذا المستوى من العنف
والرغبة في االنتحار؟ ولماذا يجب عدم اإلقرار بإخفاق االندماج على الطريقة الفرنسية؟ ولماذا يجب عدم فعل شيء تجاه
األحياء الشعبية والضواحي التي قامت عام 2005م بانتفاضة ً خصوصا أن رئيس الوزراء مانويل فالس نفسه اعترف عارمة،
بوجود «أبرتهايد» في هذه األحياء والضواحي ،وهي أحياء وضواح صوَّتت بنسبة % 93للرئيس الحالي فرانسوا هوالند، ٍ وساهمت في ترجيح ك َِّفته على ك َِّفة نيكوال ساركوزي؟ ّ الحل ،والعلمانية ً أيضا «أنا شارلي» ،هي
َ طال لم تتغير سياسة فرنسا منذ االعتداء األول الذي
«شارلي إيبدو» ،وهي صحيفة فرنسية أسبوعية بائسة غير
مقروءة ،وتعاني أزمة مالية خانقة ،امتهنت كي تبيع أكثر، و ْ َصمَ المسلمين ورموزهم ومقدساتهم الكبرى ،وعلى رأسها ً راسمة إياه كثي ًرا بشكل النبي محمد صلى الله عليه وسلم، كاريكاتيريّ ،فحاول بعض المهتمين استغالل القلق والحزن
الحقيقيين في فرنسا (إذ إن فرنسا لم تعرف منذ عقود هجومً ا في عاصمتها بمثل هذه الضراوة والتنظيم) مختزلاً فرنسا: التاريخ واألنوار والحضارة ،في جملة «أنا شارلي» ،وهي عبارة
تضمر أن «من ليس شارلي ،فهو معا ٍد فرنسا» ،وهي قريبة من جملة بوش االبن ،وهو يهاجم أفغانستان ،بعد اعتداءات 11
سبتمبر 2001م« :من ليس معنا فهو ضدنا» ،لكن هذه الجملة استفزت كثي ًرا من الفرنسيين ،ومن بينهم عرب ومسلمون،
وجعلت التظاهرة المليونية التي أعقبت االعتداء تخلو من كثير
من الفرنسيين ،وبخاصة المنحدرين من األحياء والضواحي، ولم ي َْخ ُل رفض جملة «أنا شارلي» ،من معنى؛ إذ يستطيع المرء أن يكون غير شارلي ،وأن يصير معاديًا َّ كل أشكال اإلرهاب
والعنف ،ومنها الذي ضرب شارلي. وفي هذا الصدد صدرت ُك ُتب مهمة لمفكرين فرنسيين أنا خائف ..لكنني موجود
تنتقد اختزال الفرنسيين في «أنا شارلي» ،ومن بينها كتاب إيمانويل تود« :من هو شارلي؟»َ ، ّ خاص من مجلة وعدَد
61
قضايا
ً مرسخا «ميديولوجيا» التي يديرها المفكر ريجيس دوبريه، لـ«شارلي واآلخرون».
لم يكن غريبًا أن يكون مسلمو فرنسا ومُ هاجروها من العرب
والمسلمين هم الضحايا المباشرون لالعتداءات؛ إذ على الفور تتوجه إليهم وسائل اإلعالم لمعرفة ردودهم ،كأن موقفهم ً مختلفا عن بقية مواطني الجمهورية ،كما أن الساسة سيكون الفرنسيين ال يتركون أي مناسبة إال ويطالبون مسلمي فرنسا ً َ مواقفهم ،وتنديدهم باإلرهاب .في كل مرة صراحة أن يعلنوا
تتك َّرر هذه الالزمة ،وهو ما يمنح هؤالء الفرنسيين «المختلفين» خامسا ،في إحساسً ا بأن ثمة مَ ن ينظر إليهم بوصفهم طابورًا ً
الوقت الذي يعلنون فيه في كل مناسبة ،تعلقهم بهذا البلد وقوانينه ومُ ُثله. وجاء االعتداء الثاني على باريس ،وكان أكثر ً عنفا وتنظيمً ا ً الفرنسي وتنسيقا؛ إذ استهدف كل شرائح الفرنسيين ،من ّ
العاديّ إلى رئيس الجمهورية الفرنسية نفسه ،وأحدث مَ ْق َتلة والعربي والمسلم كبيرة ومتنوعة؛ فمات الطفل والشيخ ّ ً والمسيحي واآلسيويّ وغيرهم؛ ّ مستهدفا؛ فكل الفرنسيين كان ّ
اإلنجازات البوليسية ،ومنها :عنف رجال الشرطة غير المسوغ ،فأحيا ًنا أبوابا تكون مفتوحة يكسرون ً أشخاصا أمامهم ،ويعتقلون أحيا ًنا ً ُع ْم ًيا ،ويضعونهم تحت اإلقامة الجبرية ،ويلزمونهم الحضور ثالث مرات يوم ًّيا إلى مراكز الشرطة، وأحيا ًنا أخرى يسخرون من حجاب النساء ومن أنوثتهن
ً المسلمين– أيضا- الوقت الذي أظهرت االعتداءات األخيرة أن
أي جرى استهداف «الوحدة الوطنية» ،و«العيش المشترك»،
كانوا مستهدَفين ،ودفعوا دماءهم وأرواحهم في هذه المجزرة، ِّ واالستخباراتي ،ولم األمني الحل السياسي سوى لم يجد القرار ِّ ّ ُّ
الحادث فرصة للحمة الوطنية ،وتعاضد الجبهة الداخلية ،وفي
مثل :الديغولي أالن جوبيه ،رئيس الوزراء األسبق ،عن توجيه
والتسامح ،والتعددية ،وحرية األديان.
62
ُفاجئنا بعض األمثلة الصادمة عن ت ِ
وفي الوقت الذي كان فيه كثير من المراقبين يرون في
العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
يتوقف الساسة الفرنسيون ،حتى من كان معتدلاً وحكيمً ا؛
باريس بعد االعتداءات...
سالح التجريد من الجنسية الفرنسية فرنسا ،هذه األيام ،ترسم لنفسها صورة قاتمة ،وتزداد القتامة مع النقاشات
حول تجريد المتهمين باإلرهاب من الفرنسيين من الجنسية الفرنسية ،وإذا كان َ المنتظر ،فهذه مسلمو فرنسا يرون أنهم المستهدف األول في التعديل الدستوريّ الفكرة يقولها آخرون ً أيضا ،من غير المسلمين ،فالصحافة األميركية ترى في التعديل انتها ًكا لحقوق مسلمي فرنسا ،وهو ما ِّ االشتراكي السابق ،من أصول يلخصه الوزير ّ
جزائرية :قادر عارف ،وهو من أكثر المقربين من الرئيس فرانسوا هوالند ،بالقول: «مشروع التعديل ال يستهدف األشخاص من ذوي الجنسية الفرنسية -األميركية ،وال
الجنسية الفرنسية -البريطانية ،إنما يستهدف أصحاب الجنسية الفرنسية -العربية». نصريِّين والمتط ِّرفين الفرنسيين لن يجدوا سالحً ا ،في معركتهم ضد ولعل العُ ِ
واإلسالمي في فرنسا والغرب ،أقوى من سالح التجريد من الجنسية العربي الحضور ّ ّ الفرنسية ،وهذه الفكرة كانت من صميم برامج حزب «الجبهة الوطنية» المتطرفة،
االشتراكي فرانسوا هوالند في غمرة االنفعال وفي أذهان المتشددين في حزب «الجمهوريين» ،قبل أن يعلن عنها الرئيس ّ َ عقب مجزرة 13نوفمبر الماضي .يتأمل مسلمو فرنسا ومهاجروها بقلق كبير هذه النقاشات التي تستهدفهم ،وال يُطلب
رأيهم ،في الوقت الذي ارتفعت فيه معدالت االعتداءات العنصرية واإلسالموفوبية ،بشكل كبير و َْفق إحصائيات الجمعيات
المختلفة التي تعمل في حقل مكافحة هذه الظواهر ،لكن القلق ال يقتصر على المسلمين وحدهم؛ إذ قبل نهاية عام 2014م الفرنسي الكبير إيدوي بلونيل كتابًا الف ًتا يدافع فيه عن المسلمين ،بعنوان« :من أجل المسلمين» عن دار أصدر الصحافي ّ لاً ً الديكوفيرت ،كأنه كان يتوقع أن يعيشوا بعد صدور الكتاب امتحانا قاسيًا ومزلز ،ومضمون الكتاب أن مسلمي فرنسا ً ً قاسية مثل التي عاشها اليهود في بدايات القرن الماضي ،وأدَّت إلى نتائج كارثية ،ويسخر من أنصار ظروفا يعيشون اليوم وحق ُ َّ ْ األمّ المحجبة حجاب المرأة المسلمة تحارب حين كاريكاتورية وأصبحت الديانة، من تقترب التي المتطرفة» «العلمانية َ في اصطحاب ابنها في النزهات والرحالت خارج المدرسة ،وال يُخفي الصحافي أن المسلمين يستطيعون بكل سهولة أن يتعايشوا مع غيرهم في فرنسا والغرب.
ِّ ممثلي الديانة اإلسالمية في فرنسا ،ومطالبتهم اللوم إلى بتحديد موقفهم.
الفرنسي ،في مبايعة شبه مطلقة من أعلن الرئيس ّ البرلمان ،حالة الطوارئ في فرنسا ،وأعلن عن ُقرب تغيير الفرنسي؛ لتضمينه (بندً ا) يسمح بتجريد بعض بنود الدستور ّ الفرنسيين الذين يحملون جنسيتين ،حتى مَ ن ُولِد في فرنسا،
إرهابي ،وأظهرت من جنسيته الفرنسية إذا ثبت ضلوعه في نشاط ّ
بعض نتائج حالة الطوارئ ،التي ال تزال مستمرة ،ويمكن أن يُمدَّ د لها إلى ما شاء الله ،حسب تأكيد رئيس الوزراء ،أنها تستهدف المسلمين الذين ي َ ُنظر إليهم بوصفهم مسلمين في المقام األول ،حسب تأكيد الرابطة الفرنسية لحقوق اإلنسان،
ويكفي أن نتأمل الزيارات التي قامت بها الشرطة الفرنسية ،التي مُ نحت حرية استثنائية ،إلى المساجد ودُور العبادة والمراكز اإلسالمية ،ودُور األئمة ،ومراكز خيرية ،ومأوى ألشخاص
في وضعية هشة ،التي تمخض عنها تدمير وتخريب كثير من المساجد ،وإغالق كثير منها ،ووضع أئمة وأشخاص تحت
موت الفلسفة الفرنسية في شكلها والنضالي ،وإفساح المجال الكالسيكي ّ ّ أمام فالسفة ومفكرين يتقنون التالعب مع وسائل اإلعالم ،ويغيرون آراءهم وفق طلبات الجمهور اإلقامة الجبريةُ ، فاجئنا بعض األمثلة الصادمة عن هذه وت ِ
اإلنجازات البوليسية (علمً ا أن كثيرين يخافون من الحديث
عن هذه الزيارات) ،ومنها :عنف رجال الشرطة غير المسوّغ، ً ً أحيانا فأحيانا يكسرون أبوابًا تكون مفتوحة أمامهم ،ويعتقلون ً أشخاصا ُعمْ يًا ،ويضعونهم تحت اإلقامة الجبرية ،ويلزمونهم ً الحضور ثالث مرات يوميًّا إلى مراكز الشرطة ،وأحيانا أخرى ً وأحيانا يسألون يسخرون من حجاب النساء ومن أنوثتهن،
63
قضايا
فرنسيين مسلمين عن ميداليات؛ لمن تعود ُّ الصوَر الموجودة
اإليطالي ليوناردو دافنشي). فيها (بعضها يعود إلى فنان النهضة ّ لغة حربية
وكما أن القلق ال يقتصر فقط على المسلمين ،فهو ينتاب أيضا ّ ً كل المفكرين واألكاديميين الذين ال يشاطرون السلطة
ً ونوعا من السخرية االنتفاضة لدى علماء االجتماع الفرنسيين، من فكر الوزير وسطحيته؛ فعالِم االجتماع برنارد الهيرَ ،عدَّ
موقف فالس «قطيعة مع عقلية األنوار» ،وأن رئيس الوزراء ً عوضا يفضل استخدام لغة «حربية»؛ من أجل تعهد الخوف
السياسية مواقفها ،وال يخضعون لسطوة وسائل اإلعالم
من «أخذ المسافة الكافية والضرورية إلدارة جيدة للشؤون
ومن بين السياسيين الفرنسيين الذين ال يتوقفون عن الصياح
تسويغها» ،أما عالِم االجتماع فرهاد خوسروخافار فيعيب على
الفرنسية التي تستخدم المسلمين رهينة في الوقت الراهن،
الفرنسي مانويل فالس ،الذي واالتهام والتهديد ،رئيس الوزراء ّ أعلن قبل شهور عن حرب مفتوحة ضد السلفيين واإلخوان
والجهاديين والمتطرفين والراديكاليين ،واضعً ا الجميع في سلة واحدة ،وها هو يعود مرة أخرى ليكشف عن جهلِه الواقعَ
البشرية» ،وشدَّد على أن «فهم ظاهرة أو تفسيرها ليس
فرنسي جريح» ،ويرى أن «دراسة رئيس الوزراء «تملق رأي عام ّ ٌ ضرورية؛ لوضع عنف «الجهاديين» في سياقه، ظواهر التطرف وهو ضروري؛ للخروج منه» ،بينما ترى عالِمة االجتماع نيلوفر غول ،من مدرسة الدراسات العليا في العلوم االجتماعية في
باريس ،أن «مانويل فالس اجتاز مرحلة أخرى في النقاش حول اإلسالم» ،وتضيف أن «سياسة فالس ترتكز على بناء األعداء في
أين نحن من جان بول سارتر ودفاعه
الوقت الذي يُعَ دُّ فيه المسلمون العاديون والجهاديون جزءً ا
نحن من جيل دولوز الذي دافع عن
فرنسي نقديّ ، بدأت تلوح في األفق إرهاصات انبثاق فكر ّ لكنه غير َّ ّ لعل أهمها كونُ أغلبية وسائل منظم ألسباب ِعدَّ ة؛
الرائع عن استقالل الجزائر؟ وأين
64
والفك َر الفرنسيين ،في بلد الفلسفة والفكر واألنوار ،فقد ص ّرح ٌ تسويغ لها ،وهو ما خلق ً نوعا من أن تفسير الظاهرة الجهادية
القضية الفلسطينية ،وعن «الحجارة الفلسطينية» ،ثم عن «عظمة عرفات»؟
من المجتمعات األوربية».
ً خاضعة لرجال أعمال كبار (أغلبيتهم اإلعالم الفرنسية صهاينة) ،وهو ما يقلل من حرية الصحافيين وحرية الخطّ
التحريريّ لهذه الصحف ،أما وسائل اإلعالم األخرى البديلة، ً ً َ خانقة ،لكن التحديات التي عرفتها اقتصادية مشاكل فتعاني فرنسا ،سواء بسبب االعتداءات أم بسبب زحف الالجئين
والمهاجرين؛ جعل بعض المثقفين يخرجون من صمتهم الفرنسي واألنوار ومبادئ وبروجهم العاجية؛ ليُسائلوا الفكر َّ الثورة الفرنسية عن الحرية والمساواة واألخوة.
وقد استثمر كثير من المفكرين الفرنسيين المسلمين المبدأَ األخي َر« :مبدأ األخوة» ،وأ َّكدوا أنه يستطيع أن
يساهم في تقريب المسافات بين مكونات المجتمع الفرنسي المختلفة ،كما أن مُ ِّ فكري فرنسا اإلنسانيين ّ بدؤوا يخرجون من صمتهم ،وبخاصة تالمذة الراحل بول ريكور؛ النتقاد بعض تصريحات الساسة الفرنسيين الجارحة حول التجريد
من الجنسية الفرنسية ،واستقبال الالجئين ًّ الفرنسي في حقا ،إن الفكر والمهاجرين. ّ أمس الحاجة إلى استعادة كتابات بول ّ ريكور ،الذي تحدَّث كثي ًرا عن «الضيافة» و«مأوى الغريب واألجنبي».
العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
@alfaisalmag
قضايا
المثقفون في تونس قبل الثورة وبعدها..
اصطفاف الثقافة والسياسة 66
العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
ُ المالحظة أن سرعة التحوُّالت االجتماعية والسياسية ُتفيد َ العربي؛ جعلت أمر استيعابها يزداد والثقافية التي يعيشها الراهن ُّ ْب في الوقوف على حقيقة جوهرها ،ولعلّ ً تعقيدا ممزوجً ا بري ٍ
هذا هو السبب الذي أضحى به الواقع فضاءً تفيض فيه المدلوالت ّ َ دوالهاُ ، مألوف عالئقها؛ عن حدود وتفارق فيه األحياءُ واألشياءُ ً نزوعا قويًّا إلى التساؤل من جديد لتحوز عالقات جديدة ُتخفي
عن ماهيتها وعن طبيعة وظائفها ضمن حَ راكها المُ تسارع .وإنّ من أَجْ لى مظاهر هذا النزوع ما صارت إليه عالقة الثقافة بالسياسة من
عبدالدائم السالمي كاتب وناقد تونسي
تحوّل في الرؤية ،وفي األدوار.
67
تقارير
رغما ع ّني) من عرض مسرحي لحركة ( ف ّني ً
68
ُ سؤالنا وهي عالقة تحفزنا إلى أنْ نسأل سؤالي ِْن :أوّلهما ِّ تخلي هاتي ِْن الفعاليتيْن اإلنسانيتي ِْن عمّ ا كان عن إمكانية َّ ُّ َ تاريخهما من مواجهات ظلت خاللها كل واحدة منهما ينتظم ُتناقض ُ ُ سؤالنا عن وجاهة األخرى ،وتمكر بها مك ًرا؟ وثانيهما شكل من الوجود جديدٍ ِّ والسياسي الثقافي لكل من البحث عن ّ ّ ٍ مما يسمح للواحد منهما بأن يعضد جهدَ اآلخر ،ويحرسه مِ ن ُغ َلوائه ،ويحميه من حاالت ركوده وضعفه؟ وفي محاولة
منا لإلجابة عن هذي ِْن السؤالي ِْن سنلوذ بالحالة التونسية بعد انتفاضة يناير 2011م عي ً ِّنة نبحث من خاللها عن مالمح التدبير والسياسي الذي حدّ من تزايد الفوضى االجتماعية الثقافي ّ ّ ْ من جهة ،وساهم من جهة ثانية في ِسلمية التجربة الثورية
التونسية ،وفي حصول البالد على جائزة نوبل في السالم. ً ال َّ تاريخا شك في أننا واجدون لعالقة الثقافة بالسياسة ّ حافلاً بكثير من المدّ والجزر ،توزع المثقفون فيه صنفي ِْن: َ صنف مال إلى السلطة السياسية يُجمِّ ل صورتها ابتغاءَ مَ ْرضاتها َ وني ِْل عطاياها ،وصنف جعل من اإلبداع سبيله إلى
نقد تلك السلطة ،والتشهير بطغيان أصحابها عبر طرائق ّ المتلقي بذور التم ُّرد على أسباب َت َر ِّدي فنية كثيرة ،تزرع في
أحواله ،بل وتدعوه إلى الثورة عليها.
وما ينبئ به تاريخ الدولة الوطنية العربية منذ خمسينيات
القرن الماضي حتى اآلن هو استمرار تلك العالقة بين الثقافة والسياسةّ ، واتكاء أنظمة الحُ كم فيها على مقوالت «محاربة
الفتنة الداخلية» و«مشروع بناء الدولة الفتيَّة» و«مصلحة العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
الحزب فوق مصلحة الجميع» ،واعتمادُها بُع ُبعً ا ُتخيف به ّ َّ َ المثقفين. معارضتها أو نقدَ ها من كل مَ ن يَروم وقد نستفيد في فهم ذلك مِ ن رأي ابن خلدون القائل:
«السيف والقلم كالهما آلة لصاحب الدولة ،يستعين بهما على أمره ،إال أن الحاجة في أول الدولة إلى السيف ما دام
أهلها في تمهيد أمرهم ،أشد من الحاجة إلى صاحب القلم؛ ألن القلم في تلك الحال خادم فقط ّ السلطاني». منفذ للحكم ّ ومتى فاق احتياج الدولة إلى السيف احتياجَ ها إلى القلم
َّأثر ذلك في طبيعة عالقة السلطة بالثقافة؛ وتفصيل ذلك ّ َ هدأتها، المثقف إال شوكة ُتدمي أن السلطة ال ترى في
ومن ثمة تراها ال تني تحشد ّ كل طاقاتها اإلغرائية والعُ ْنفيَّة ّ المثقف أن دوره لتحييده وإزاحته من فضائها ،على حين يرى االجتماعي ينهض على قاعدة معاداة تلك السلطة والوقوف ّ
صنفي ِن :صنف مال المثقفون انقسم ّ ْ جمل صورتَها إلى السلطة السياسية؛ ُي ِّ ابتغاءَ َم ْرضاتها ون َْي ِل عطاياها ،وصنف جعل من اإلبداع سبيلَه إلى نقد تلك السلطة والتشهير بطغيان أصحابها
المثقفون في تونس قبل الثورة وبعدها..
في وجه نزوعها إلى التجبُّر والطغيان ،فإذا هو يحشد كل
طاقاته اإلبداعية لتكون سبيله إلى كشف حقيقتها االستبدادية أمام مجموعته االجتماعية.
المثقفون والجنون والتش ُّرد
كثير من على مدار هذه العالقة الصدامية سالت دماءُ ٍ ّ ُ بعضهم اآلخ ُر إلى الجنون أو التش ُّرد أو المثقفين ،ودُفع
الهجرة أو المكوث في ظلمة السجون .وعلى مدار هذه ّ ً المثقف في أيضا -اقتنعت السلطة بمدى تأثيرالعالقة
الجمهور ،فحرصت على تدجينه بجميع الوسائل المتاحة لها ،سواء أكان من خالل استقطابه إلى ّ صفها وإفراغه من
جذوة قول الحقيقة ،أم عبر التنكيل به متى رفض االنصياع ِّ َ تاريخ عالقة أنظمة الحكم العربية مع متمثلة في ذلك لها، ّ ومثقفيها الذين خالفوا سياساتها في تدبير شؤون مبدعيها ّ الرعايا ،ورفضوا تحكمها في آرائهم ومعتقداتهم؛ إذ جرى اإلجهاز على الجهم بن صفوان ،والجعد بن درهم ،والحلاَّ ج،
اختراق المثقفين وتأليب بعضهم على بعض نجحت السلطة التونسية في َع ْهدَ يْ بورقيبة وبن علي في اختراق ّ مثقفي البالد ،وفرض «ثقافتها» عليهم؛ عبر تأليب بعضهم على بعض ،ضمن ُلعب ٍة أجادت رسمَ ٍ قوانينها ،فجعلت ّ كل واحد من الفريقي ِْن يستنفد طاقته
في التشهير بالفريق اآلخر وإقصائه ،بل في أ ْكل َلحمِ ه ني ًئا؛ ومن َثمَّ أغرقتهم في عداوات مجَّ انية ،وأَ ْل َه ْتهم بمعارك َبيْنيَّة واهية عن القيام بأدوارهم التاريخية،
الثقافي فارتاحت هي من (وجع الرأس) ،وخسر الفعل ّ التونسي َّ كل جَ دْ واه :صفاء أهدافه ووجاهة مضامينه. ّ لاً غير أنّ تلك الحال الثقافية التونسية ستشهد تح ُّو في عالقتها بالسياسة بُعَ ْيدَ انتفاضة يناير 2011م؛ ألنَّ النار
تكتف بحرق جسده فحسب، التي أشعلها البوعزيزي لم ِ ّإنما أحرقت ّ ّ كل منظومات السلطة وأعوانها ،ومثلت
ً عي من ِّ ّ كل شوائب حدثا تطهُّريًّا صفى العقل الجَ مْ ّ مألوف تصوُّره عن الدولة والوطن واإلنسان والقيم؛ ّ ّ المثقفة والسياسية أنهم تكشف للناس ولنخبهم إذ مقبلون على زمن جديد هم مسؤولون مباشرة عن رسم
مالمحه ،وبناء صروح نهوضه الحضاريّ .
المثقف إال شوكة السلطة ال ترى في ّ تُدمي هدأتَها ،ومِ ن َث َّم تحشد كل والع ْنف َّية؛ لتحييده طاقاتها اإلغرائية ُ وإزاحته من فضائها .على حين يرى االجتماعي ينهض المثقف أن دوره ّ ّ على قاعدة معاداة تلك السلطة، والوقوف في وجه نزوعها إلى التج ُّبر والطغيان وغيالن القدري ،ومحمد بن سعيد المصلوب ،والسهرورديّ ،
وبشار بن بُرد الذي «وشى به بعض من يُبغضه إلى المهديِّ
بأنه يدين بدين الخوارج ،فقتله المهديُّ .وقيل :بل قيل للمهديّ :إنه يهجوك .فقتله» ،وغير هؤالء ُك ُثر.
ّ ولعل في مقتل هؤالء المبدعين ما يعني أن كثرة من ٌ ّ واعية ُ ّ الحق، المثقف على الدفاع عن بقدرة األنظمة الحاكمة
السياسي؛ لما لديه من قدرة على الغوص وكشف الباطل ّ
في أعماق الوقائع الحياتية ،وتعرية تفاصيلِها ،والتعبير عن ّ يتخلصوا من الجور قضايا المضطهَدين ،وحفزهم إلى أن
استتب األمن والظلم واالستبداد ،وبِ َناءً عليه فإنه عندما ّ ّ للدولة الوطنية سَ عَ ْ المثقفين ،وصار «أرباب ت إلى استقطاب ً ً نعمة مرتبة ،وأكثر القلم في هذه الحالة أوسع جاهً ا ،وأعلى ً مجلسا ،وأكثر إليه ترددًا؛ ألنهم وثروة ،وأقرب إلى السلطان ً
حينئذ آلته التي بها يستظهر على تحصيل ملكه ،والنظر إلى أعطافه ،وتثقيف أصرافه ،والمباهاة بأحواله» وفق ما يرى التونسي قبل الثقافي ابن خلدون ،ونجد له تمثيلاً في الوضع ّ ّ عام 2011م؛ إذ يجوز لنا القول :إن الثقافة في تونس لم تتصف
الجماعي» على حدّ تعبير بيير بورديو على بصفة «الرأسمال ّ
طول المدة الممتدَّ ة من بداية االستقالل إلى نهاية العشرية األولى من األلفية الثالثة ،بل إنها لم ّ االجتماعي تمثل للفر ِد ّ
ً ً جمالية و ِقيَمية ي َّتكئ عليها في تواصله مع ماضيه خلفية وحاضره ،ويَمْ تح منها رَواءَ إبداعاته ،إنما َّ ظلت فعلاً ُتهيمِ ن ّ السلطة السياسية ،وتلوّنه بألوانها ،وتتحكم في عليه ُّ ً خادمة لمصالحها؛ وجهات مُ ْخ َرجاته جميعها بتوجيهها ٍ
مديحً ا لها وهجاءً لمعارضيها.
سياسي مكر ّ وال نرى في الشعارات الثقافية التي رفعتها السلطة
التونسية على غرار شعار «ال لتهميش الثقافة وال لثقافة
69
تقارير
رحيل (بن علي) وسيطرة الشعب مثقفي على الشارع أمران جع ّ لاَ وسياسييها يقفون على تونس ّ حقيقة أن تونس لم تعد تحتمل وجود حزب واحد ،وزعيم واحد ،ورأي كل أبنائها واحد ،وأ ّنها عادت إلى ِّ بجميل الكالم ،وأغلب هؤالء صحافيون تونسيّون وأجانب، الك َّتاب في أثناء رئاسة ّ ومنتسبون إلى اتحاد ُ كل من العروسي المطوي والميداني بن صالح ،ومنهم مُ ه ِّرجون مسرحيون، ّ المثقفين ومُ غ ُّنون بال أصوات طربية ،وفئة «أبناء فرنسا» من البراغماتيّين .وأما الفئة الثانية فقليلة ،وتضمّ ّ مثقفين يعيشون
بن علي
َ نقيض ما يدعو إليه. التهميش» إلاَّ مك ًرا سياسيًّا يُخفي طيَّه
70
الثقافي ،وجعله وصورة ذلك حرصها على السيطرة على الفعل ّ ً ّ «مثقفيها» ،ومنحهم آلة من آالت الحكم من خالل تصنيع ً ً ً كثيرة؛ كي يصيروا شوكتها لمحاربة ومعنوية مادية امتيازات ٍ ما ّ ّ عارضين. فين مثق من قطيعها عن شذ مُ ِ
ّ المثقفون فئتي ِْن :أمَّ ا الفئة األولى فكثيرة، ومن َثمَّ َت َو َّزع وتضمّ ُك َّتابًا وإعالميّين وجامعيّين وف ّنانين الذ أغلبهم –وهم
اإلبداعي -بمهاراتهم في فنون االنتهازية من ضعيفي المنجَ ز ّ
والتمسح على األعتاب والدّ وس على الضمير ،وركبوا مركب ُّ َ عيونها التي ال تنام ،وأقالمَ ها التي تكتب السلطة؛ ليكونوا ُ ُ الناس من أحالم ،وألسن َتها التي تجمِّ ل لها صمت ما يُخفي ِ َ ُ أخطاءَ ها داخليًّا وخارجيًّا ،وتسوغ لها عنفها ،وتثني عليها
الرسمي ،وال مؤسّ سات على الهامش ،ال يلتفت إليهم اإلعالم ّ الثقافة الحاكمة ،ولهم طاقة على تحمّ ل أذى السلطة لهم،
وتنامي تح ّرشها بهم ،وال يملكون إال إبداعاتهم ينافحون بها عن مطالب العامّ ة في الحرية والعدل والكرامة ،ومن هؤالء نذكر
الشعراء أوالد أحمد وبلقاسم اليعقوبي والطاهر الهمامي ،ونفر من الك ّتاب واإلعالميّين التح ُّرريّين؛ أمثال :ابن بريك والهاشمي الطرودي ونزيهة رجيبة. ّ التونسي في وعلى كثرة ما قيل حول عدم مشاركة المثقف ّ ً ً توصيفا صادقا لمدى االنتفاضة الشعبية ،فإنه ال يمكن اإلقرار به
حضور هذا األخير في أحداث تلك االنتفاضة؛ إذ ال نعدمُ هب َّة ّ راك المواطنين كثرة كثيرة من المثقفين وجاهزيتهم لنصرة حَ ِ
سواء بالمشاركة الفعلية في المظاهرات أم االعتصامات أم باالتكاء عليها خلفيّة إبداعية لنصوص شعرية وروائية ،أم
بالكتابة الحماسية عنها في الصحف المحلية والعالمية.
والرأي عندنا أنّ رحيل (بن علي) وسيطرة الشعب على الشارع أمران جعلاَ ّ مثقفي تونس وسياسيّيها يقفون على حقيقة أن تونس لم تعد تحتمل وجود حزب واحد ،وزعيم وأنها عادت إلى ِّ واحد ،ورأي واحدّ ، كل أبنائها سواء منهم مَ ن
كانوا مع السلطة المنهارة أم مَ ن كانوا ضدّ ها ،وأنها دخلت ّ تتطلب تعاضد ّ كل الجهود لتتجاوز ما مرحلة تاريخية جديدة ظهر فيها من صعوبات اجتماعية واقتصادية وسياسية وأمنية.
السياسي وهو أمر عجّ ل بتوفير أسباب التقارب بين الفعل ّ الثقافي واشتراكهما في أداء مهمّ ة واحدة تنعقد حول والفعل ّ ّ كيفية حماية البالد من الفوضى التي راحت تعمّ كل مناحي الحياة فيها.
نزيهة رجيبة
العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
وتحت ضغط الخوف من انجرار البالد إلى أزمة كبرى
المثقفون في تونس قبل الثورة وبعدها..
ّ حين، المثقفون والسياسيّون صراعاتهم القديمة؛ حتى َن ِسي ٍ
من ثقافة السلطة إلى ثقافة الدولة لقد ّ تكفلت هذه الجمعيات بتنبيه الجماهير إلى صعوبة
إلى المواطن ،حيث يوجد في الشارع أو في األرياف أو في المدارس ،والتعبير عن هواجسه بجرأة رافضة ّ كل وصاية
السلطة إلى ثقافة الدولة ،ومن سياسة فوقية الفرد إلى سياسة ُعلوية الجماعة ،وراحت تشحن الناس ّ بكل قيم الحرية
انصب اهتمامها وانتظموا داخل جمعيات ثقافية مدنية ّ
على الخروج بفعلها التثويريّ من دائرة المركز والذهاب
فنيةّ ، وكل خضوع للمثال والنموذج ،ومن أبرز تلك الجمعيات
المدنية :اتحاد الشغل ،وعمادة المحامين ،واتحاد األعراف،
ورابطة الكتاب األحرار ،وحركة ّ نص ،وجمعية الصحافيين، وبعض الفرق الموسيقية الملتزمة على غرار «مجموعة
الغرافيتي مع مجموعة البحث الموسيقي» ،إضافة إلى فن ّ ّ ّ «أهل الكهف» ،وفن المسرح مع حركة «فني رغمً ا عني».
المرحلة وضرورة نحت مستقبلها بأيديها ،والتحوّل من ثقافة
والعدل والكرامة والتسامح والمصالحة الوطنية والعيش
التونسي معالمَ طريقه إلى معً ا .وهي قيم كانت للمجتمع ّ الجماعي الح ّر ،وسبيله السالكة إلى تحيين تصوّراته الوجود ّ الثقافية والسياسية تحيي ًنا يضمن االختالف فيها ،وال يبلغ تخييلي إلى فعل الخالف حولها ،فتحوّلت الثقافة من فعل ّ
التخييلي في تصريف واقعي ،واستأنست السياسة بالفعل ّ ّ ُ الفصل التقليديُّ بين شؤون الواقع ،ومن َثمَّ لم يَعُ د وجيهًا «الثقافة» و«السياسة» ،بل تحو ََّلتا معً ا إلى حاضنة مخصبة لشروط العيش معً ا ،ويبدو أن اصطفاف الثقافة والسياسة في ّ ّ وتكفل الواحدة منهما بنقد األخرى، وطني واحد، خط ّ
ومساعدتها في عدم النكوص على عقبيها ،والعودة إلى زمن اإلقصاء ،وتمجيد الرأي الواحد هو ما ّ مثل حالة تونسية لم َن َر لها شبيهًا في بعض األقطار العربية ،التي شهدت انتفاضات
وطنية في السنوات الماضية.
71
تحت ضغط الخوف من انجرار البالد إلى أزمة كبرى ن ِ المثقفون َسي ّ والسياسيون صراعاتهم القديمة؛ ّ حين ،وانتظموا داخل جمعيات حتى ٍ انصب اهتمامها على ثقافية مدنية ّ التثويري من دائرة الخروج بفعلها ّ المركز والذهاب إلى المواطن
نصوص
وقت بنات آوى
لؤي حمزة عباس عراقي قاص ّ ّ
ْ شاركت فيها ،وفور نزولها من الحافلة ،بعد نزول زميالتها ،نظرت إلى الجبال الرحالت المدرسية القليلة التي في واحدة من ِّ ً ً ً ْ ْ ْ صعدت حتى لم تعد تأتيها أصوات وسارت صاعدة طريقا صخريًّا ،حاملة حقيبة ظهرها، منشغالت، تركت زميالتها المحيطة ،ثم ٍ
ُ تحب ال ِّرحالت األصوات عنها ،ولم تعد تسمع غير هبوب الريح على القمة .هي ال زميالتها بوضوح ،وواصلت الصعود حتى غابت ّ ُّ ً ِّ تظل في عوضا منها البقاء في المنزل والشعور بالفراغ ،تترك باب غرفتها (مواربًا) ،وتستلقي على السرير، وتفضل المدرسية
سريرها نهارًا كاملاً ً ً ً مفهومة تنساها سريعً ا، عادة ،فتسمع أشياء محققة رغبتها في اإلنصات إلى األصوات التي ال تعيرها االنتباه ً غريبة ،لم تسمعها من قبل ،تحاول تمييزها بالتفكير فيها أطول وقت ممكن قبل أن تنساها هي األخرى، وتسمع أخرى تبدو لها وتعود إلى شعورها اللذيذ بالفراغ.
ً في نهاية الطريق الصخريّ ،قريبًا من القمة العالية جلست على صخرة نظيفة منعّ مة ،فور جلوسها سمعت صوتا نصف بشريّ ً مخيفا على الرغم من غرابته ،نهضت من الصخرة ،وأخذت تبحث حول الصخور القريبة، لم تسمع مثله من قبل ،لم يكن قاسيًا أو
72
وألن الصوت لم ينقطع فقد تتبَّعته مثل خط من دخان حتى اقتربت من مصدره وهي تستدير بخطوات بطيئة حول صخرة خشنة ّ ّ العطارين ،كانت أعلى من قامتها تشبه دبًّا منحني الرأس، نقرتها حُ َفر صغيرة ذ َّكرتها بنجم البحر المتيبس المعروض في محال رأت إلى جانبها عي ًنا بشرية من غير أجفان في نصف حجم كرة قدم ،فور رؤية الفتاة تراجعت خلف الصخرة. ـ لماذا تختبئين؟ ً سألت الفتاة فعادت العين إلى الظهور ،اقتربت منها مترددة ،وقالت:
ُ الفتيات العيون. ـ تخشى
ً دورة لكن الفتاة تقدّ مت نحو العين التي ارتفعت ببطء حتى أصبحت بمستوى قامتها ،تفحّ صتها عن قرب ،ثم دارت حولها ً فسرتها الفتاة برغبة العين في التع ّرف إليها من جميع الجهات؛ للعيون فضولها ،قالت الفتاة لنفسها وواصلت النظر بطيئةّ ،
بدورها إلى العين ،أدهشتها حدقتها السوداء الواسعة ْ بال ِتماع ُقزحيتها.
في البيت فتحت الفتاة حقيبة ظهرها ،بعد أن أغلقت باب الغرفة ،وتركت العين ّ تحلق مستطلعة المكان ،ثم تقترب من ُّ وتطل من فتحة الستارة ،إنها تنظر مندهشة ،لحركة العربات البعيدة وللمشاة القليلين على الرصيف. النافذة،
في الليل استلقت العين إلى جانب الفتاة وأخذتا تتحدّثان ،يمكننا القول :إنهما أصبحتا صديقتين .سألتها الفتاة عن سبب
ْ وأحست بالسعادة حينما رأت الحافالت تقترب ،وسمعت وفهمت منها أنها نزلت منذ ساعات فحسب، وجودها أعلى القمة، ّ ً حدّ ضوضاء الطالبات ،لم تكن تظنّ أن واحدة منهن ستترك الجمع فور نزولها وتصعد الطريق الصخريّ إلى القمة ،ثم ثتها عن
ّ رغبتها في النزول إلى المدينة ،تو ُّد أن ترى َّ محالها الزجاجية كل ما سمعت عنه ولم َت َره؛ الحدائق الفسيحة ،واألسواق بواجهات ً المضاءة ،داخلها تلمع األشياء ،ورياض األطفال ،كما تو ّد أن تركب زورقا ،ك ّررت رغبتها في ركوب الزورق مرتين ،ابتسمت الفتاة
وهي تسمع حديث العين ،فما أسهل تحقيق مثل هذه الرغبات! ونامت وهي مبتسمة.
في الصباح شاركت الفتاة فطورها مع العين ،أكلتا في الغرفة ،وقبل أن تتوجّ ه إلى المدرسة تركت العين في خزانة المالبس،
وأبقت باب الخزانة (مواربًا) ،وفي المدرسة لم تمنع نفسها من التفكير في العين ،تصوّرتها ُّ تطل من خالل الفتحة الضيقة للستارة،
تراقب حركة الناس والمركبات التي تزداد في النهار ،وبعد عودتها وضعت العين في حقيبتها ،وتوجَّ هت إلى حديقة المدينة، توصلت إلى حيلة ّ الحديقة أولاً ،حدّ ثت العين وهي تدعوها إلى االقتراب .كانت قد ّ تمكنها من حمل العين والتجوال في الشوارع
بحُ ِّريَّة ،ربطتها بخيط وسارت بها ،كانت العين ّ ّ تتمشيان وتتحدّ ثان. تحلق فوقها مثل بالون بحدقة سوداء .أخذتا العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
لم يستغرق وصولهما إلى الحديقة وق ًتا طويلاً ،تجوَّلتا على الممرات المرصوفة وهما تنظران إلى الصغار بشعورهم المتطايرة ً متمهلة حينما دخل وثيابهم المزركشة وهم يتأرجحون ،يرتفعون ويهبطون في حركات قوسيّة تتسع وتضيق .كانت الفتاة تسير يقودان درَّاجتين هوائيتين ،لم تلحظ اندفاعهما على المم ّر ،شعرت بهما قريبين منها؛ أحدهما ربط شعره الطويل َّان ِ الحديقة َصبي ِ
بقطعة قماش ملوّنة ،واآلخر يقود درّاجته بإحدى يديه ويلوِّح باألخرى ألحد ما وراءها ،م َّرا على جانبيها وخطف أحدهما الخيط من
يدها ،لم تنتبه أول األمر ،وربما انتبهت ولم تصدّ ق أنها يمكن أن تفقد العين بمثل هذه السهولة ،استدارت من فورها ،وركضت
وراءهما ،وحينما رأياها تركض زادا من سرعتيهما وهما يميالن بدرّاجتيهما ،كانا يلهوان ،ما إن اقتربت منهما حتى أطلق ذو الشعر المربوط الخيط ّ فحلقت العين ،نظرت الفتاة نحوها ،يدفعها الهواء فترتفع عاليًا ،جلست بعدها على أقرب أريكة ،يمنعها شعورها باألسف عن رؤية الحديقة وسماع ما يتصاعد حولها من أصوات.
لم يم ّر وقت طويل على جلوسها حتى رأت الخيط يتدلى أمام عينيها ،رفعت رأسها ورأت العين ،وقفت على الفور وهي تقول:
ظننتك لن تعودي. ـ ِ ً ابتسمت العين ،وقالت :لكنني لست بالونا ّ بحق لتطيرني الريح وال أعود.
أمسكت الفتاة الخيط من جديد ،وعادت ترى الصغار يرتفعون ويهبطون وتسمع أصواتهم ،حدّ ثتها العين في أثناء سيرهما عن ّ ُ َ حدثها العين بها من ُ الرغبة التي لم ُت ِّ ْ متوقع: وتساءلت؛ كما هو قبل، الفتاة رغبتها في مشاهدة بنات آوى ،استغربت ـ بنات آوى؟ أ ّكدت العين رغبتها بلطف ،فخجلت الفتاة ،ونظرت إلى ساعتها ،حدّ ثت نفسها بأن لم َ يبق على موعد إغالق حديقة الحيوان
أكثر من نصف ساعة ،أجابتها العين على الفور كما لو كانت تحدّ ثها هي: كاف لرؤية بنات آوى. ـ إنه وقت ٍ
استغربت الفتاة وخافت وهي تكتشف ألول م ّرة قدرة العين على االستماع إلى صوتها الداخلي. ركبت الفتاة سيارة أجرة ،طلبت من سائقها ذي ُ القبَّعة أن يسرع في سيره ،لم يكن
الطريق مزدحمً ا ،فوصلت حديقة الحيوان في أقل من عشر دقائق ،كانت العين ً واحدة فهي، خاللها تواصل النظر عبر نافذة السيارة مغلقة الزجاج ،قطعت بطاقة ً ّ بالونا على هيئة عين بشرية. محصل البطاقات ،لم تكن سوى فتاة تحمل في نظر
وفي الوقت الذي كانت تسير داخلة رأت كثي ًرا من الناس يسيرون عكس اتجاهها على الممر اآلخر.
قالت للعين:
ـ يبدو أننا سنكون وَحْ دَ نا في الحديقة. ردَّت العين:
ـ ستكون هناك بنات آوى.
أمام القفص الحديديّ الواسع وقفت الفتاة ،كانت لوحة التعريف تشير إلى ً فارغا ،رأت على أرضه الرملية الجافة بنات آوى بالعربية واإلنجليزية .كان القفص ً تجويفا صخريًّا غير النظيفة آثار أقدام تشبه آثار أقدام الكالب ،وفي الركن البعيد رأت
السلكي ونظرت إلى الداخل ،لم يم ّر وقت خفيف الضوء .اقتربت العين من السياج ّ
طويل حتى ظهر ابن آوى من التجويف الصخريّ ،تقدّ م بخطوات رشيقة واسعة نحو العين كأنما سمع نداءها هو اآلخر ووقف أمامها ،لم يكن يفصل بينهما
المعدني الصدئة ،نظر أحدهما غير أسالك السياج ّ ً نظرة لم تكن قصيرة أو عابرة ،إنهما يعرفان إلى اآلخر
بعضهما ،قالت الفتاة لنفسها ،فتح ابن آوى فمه ً ً ومعقوفة وصفراءَ ،ثم تراجع حادة فبانت أنيابه مواصلاً النظر إلى العين قبل أن ينسحب إلى التجويف الذي صار معتمً ا.
73
مقال
الفن سبيلاً إلى الحقيقة االنطباعي ،فالثاني انفعال خالص يقود إلى اللذة العَ َرضية وَحْ دَ ها ،أما األول التحليلي في الفن خالف حكم التذوق التقدير ّ ّ فيحاول ترجمة المتعة إلى مفاهيم ُتج ّرد المشخص ُ وتجلي مضمونه؛ ألن وجود التجربة ال يستقيم إال إذا كانت قابلة للتعميم، وذلك شرط من شروط انتشار الذات فيما هو أبعد من ملكوتها الخاص .فقد يكون االنفعال فرديًّا دائمً ا ،لكنه لن يستقيم إال إذا
استمد مضمونه من صيغ انفعالية محضة يشترك فيها جميع الناس.
لذلك قد يكون بمقدور الفرد االستمتاع بلوحة تعجّ باألشكال واأللوان من دون إدراك مسبق لدالالت ما يُكوِّنها ،وقد يكون بإمكانه الطرب ِل ِقطعة موسيقية ليست سوى إعادة تشكيل ما يزخر به الوجود من طاقة «هوائية» خالصة ،لكنه إذا أراد أن «ي ِّ ُحلل»؛ أي أن يبحث عن س ّر االنفعال و ُك ْنهه ،فإنه سيكون مضط ًرا في الحالتين معً ا إلى َتدَ بُّر أمر الدَّالالت في ُ األولى ،وتحديد طبيعة العالقات الممكنة بين كل العناصر المسؤولة عن تحول «الهواء» إلى إيقاع تستمتع به األذن ،في الثانية .فقد َّ يتلذذ اإلنسان بطاقة
انفعالية حدسية ال حدود لها ،ومع ذلك لن يكون بإمكانه ،في غياب معرفة تقود إلى التع ُّرف إلى الشكل التجريديّ للخبرة ،مراكمة
خبرة جمالية قابلة للتداول بين جميع الناس.
جمالي يضع الفنّ خارج كل الدوائر سوى دائرة المتعة ذاتها، تلك فيما يبدو هي الحدود الفاصلة بين ما يُص ّنف ضمن وعي ّ ً ّ وبين النظر إليه بوصفه مصدرًا من مصادر الحقيقة؛ أي بين ر ّد الفنّ إلى الفنّ ذاته ،خارج كل الوظائف ،وبين جعله أداة إلنتاج
74
ٌ سبيل واحدٌ إلى الحقيقة ،هناك سُ بُل متعددة تقود إليها ،ومنها سبيل الفن ذاته؛ بل إن الحقائق وتداولها (غادامير) .فليس هناك َ أعمق بكثير مما يمكن أن تفرزه المخابر العلمية؛ ألن الفن ليس تجربة ِع ْلمية «باردة» تجري بعيدً ا من ما يأتي من الفن قد يكون
دفء الحياة وتعدُّ د واجهاتها ،بل هو خبرة إنسانية عامة يمكن تلمُّ س وجودها في كل ما ينتجه الفرد ويتقاسمه مع غيره خارج
النفعي. إكراهات اإلبالغ ّ نحن مشدودون إلى ما يأتينا من الطبيعة أو ما يفرزه وجودنا داخلها ،ففي حاالت الفنّ وَحْ دَ ه نستطيع خلق حالة تقودنا تماس مباشر إلى امتالك ما يَمْ ُثل في العين «حافيًا» بال تداعيات سوى تداعيات الوجود الماديّ ذاته ،إنها حالة خاصة تشير إلى ّ
العيني وتمثل ال ُّروح المطلقة في ذاتها بوصفها المثل األعلى» ،أو ما يطلق عليه كانط مع األشياء ،ما كان يسمّ يه هيغل «العيان ّ ّ ً الحسي خالصا ،يُنظر إليه كما يمكن أن يتلقاه الرائي خارج كل الوسائط» ،أو هو« :عرض للكمال «اإلحساس الذي يُعدّ معطى ّ ً َّ تتحقق إال في االنفعال مجتمعة بما يشبه «التجربة الحية» التي ال يمكن أن ذاته» ،كما يقول شنايدر .يتعلق األمر في هذه الحاالت
والمتعة والنشوة ،وكل ما يقود إلى الضياع أو التالشي في لحظة تتحقق خارج الزمنية المألوفة. بعبارة أخرى ،نستطيع من خالل الفنّ أن نعيد إلى النفس طاقتها اإلبداعية ُ الحسي فيها. األولى كما يمكن أن تتحقق من خالل ّ ففي البصريّ ،وفي كل المنافذ الحسية ً أيضا ،نضع الذات في مقابل ما يأتيها من خارجها في استقالل عما يمكن أن تقوله اللغة أو ُتوحي به .فالعين تذهب إلى موضوع نظرتها متح ّررة من كل أغطية الوجود سوى غطاء النظرة ذاتها. ُ َ العنان لطاقات ه َووَية تعوزها الضوابط المرجعية ،ومنها مرجعية محض أدا ٍة وهو ما يَعْ ني أن الفنّ لن يكون الغاية منها إطالق ِ
جمالي يمكن استيعابه داخل ممكنات تجربتنا (الحياتية) ،فخارج هذه التجربة الفضيلة والحقيقة .إنه في األصل إحالة إلى موضوع ّ ّ ّ ُ الحواس من خالل ستضيع الحقيقة ،وتتساوى كل المعاني .فكما ُنهذب الوجود من خالل صبّه في مفاهيم اللغة ،فإننا نهذب ّ التص ُّرف في معطيات الطبيعة ،مصدر االنفعال واألحاسيس َ ّ الحسي نمتص من جمالي محض .إننا األوَّلية ،وتحويلها إلى موضوع ّ ّ ذاته صورة عن طاقة فنية ُت ِّ ً أيضا-بالجمالي في الوجود ،بل نتعلم من خالله خلص العينَ من حسيتها؛ لذلك ال نكتفي باالستمتاع ّ ّ الفخار والتماثيل الصغيرة وبقايا أشياء جديدة هي ما تكشف عنه التجربة الفنية ،وتصف حدوده داخل االنفعاالت وَحْ دَ ها .فأواني ً محضا من وجود اإلنسان على األرض ،بل هي شاهدة على مضافات اإلنسان إلى الطبيعة؛ الرسوم على جدران الكهوف ليست جزءً ا
أي كشف عن حقيقة وجدانه ،وهو يحاول رسم أحاسيس ،ال يمكن أن تستقيم إال في حضن عناصر الطبيعة ذاتها. إن الفن ،استنادًا إلى ذلك ،ليس إحالة إلى ذاتيَّة مُ نفلِتة من ِع َقالها ال تهتمّ سوى بما يفرز انفعاالت محدودة في الزمان وفي العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
المكان ،إنه تجربة إنسانية عامة ،وال ّ تشكل داخله الذاتية سوى جزء
بسيط ،هو ما يعود إلى مهارة المُ بدع وقدرته على التنويع ضمن ما إنساني تختزنه أشكال كونية ،تبلورت ونمت داخل سقف حضاريّ ّ مرتبط بالكينونة ذاتها .وهو ما تكشف عنه كل التجارب الفنية بكل (أسنادها) التعبيرية ،لقد ّ تعلمنا معنى الجوع والجريمة والعقاب
ّ والتسلط من نصوص استوطنت ذاكرتنا ،وس ّربت إليها نماذج والنفي
سلوكية لم يكن بإمكاننا إدراك مضمونها لوال هذه التجربة.
بل أدركنا س ّر االنطالق واالندفاع إلى أمام (كلي) كما يمكن أن
يستثيره «القلق» الذي يسكننا ويقودنا دائمً ا إلى المستقبل الحاضن الحتمي ،حيث انكماش الجسد وضموره وتراجع القوة فينا، لفنائنا ّ
وحيث الموت والنهاية في وجودنا ال في الزمن .فهَمُّ الحيا ِة وهمُّ وكل الهموم ال تتسرب إلى ْ ُّ النفس ضمن ما ِّ تقدمه التجربة الموت ِ
كثير من الحاالت صورًا االنفعالية المباشرة دائمً ا ،بل تستوطن في ٍ كثير من الحاالت تحديد مضمونها ش ّتى تحيل إلى عوالم يصعب في ٍ خارج تجربة الفن.
وهو أمر ينطبق على ما يشكل حاالت األهواء عندنا ً أيضا ،فنحن ً انطالقا من «كلمات» بسيطة تصف ندرك مضمون هذه االنفعاالت
سعيد بنكراد ناقد ومترجم مغربي
75
العاشق والمعشوق والحاقد والحاسد والبخيل والغيور من دون أن
نكون بالضرورة واحدً ا من هؤالء أو نكون جميعهم .مواقف كثيرة في التاريخ ال يزال الناس يردّدونها دَاللة على وَحْ دة الخبرة اإلنسانية،
ثقافي إلى آخر ،وهي خبرة ال تكترث وقدرتها على الهجرة من سياق ّ الثقافي. في األغلب للحدود الجغرافية أو السقف ّ وهي صيغة أخرى للقول :إن الفن خبرة قابلة للتعميم استنادًا
الالمرئي إلى ما كان يسمّ يه غادامير «الحس المشترك» ،ذلك اإلرث ّ الذي يجمع بين كل الكائنات التي خرجت على طوع الطبيعة؛
ّ الخاص .إن محدودية اإلنسان وتاريخيته تجعل لتكتب تاريخها
نحن مشدودون إلى ما يأتينا من الطبيعة ،أو ما
تجربة الفن ضرورة (حياتية)؛ ألنها هي ما تمكنه من استيعاب كل
يفرزه وجودنا داخلها؛
الواقعي .فنحن حريتنا ونتخلص من إكراهات هي من صلب وجودنا ّ
الفن َو ْح َده ففي حاالت ّ
التجارب الممكنة من خالل تجربة واحدة .إننا من خالله نستعيد ال نكترث كثي ًرا لعبثية المضمون الظاهر لألسطورة؛ ألن المضمون
المشخص فيها ليس سوى مم ّر إلى «حقيقة» تتبلور في الرمز وفي كل التمثيالت االستعارية.
وفي جميع هذه الحاالت ،فإن األمر ال يتعلق بتجربة تستنسخ ّ ّ ّ تحذر منه .بعبارة وتحث عليه ،أو تتوقع اآلتي، حياة جاهزة ،بل
أخرى :إن الفن ال يقف عند حدود «استنساخ واقع ،إنه يغطي على
مظاهر النقص فيه» ،كما يعبر عن ذلك كاندينسكي .فهناك دائمً ا «في تجربة الفنّ تقابُل بين ما يشير إلى االنصهار في الواقع ،وبين ما
يُعَ دّ سيطرة عليه في الوقت ذاته» (إرنست فيشر).
نستطيع خلق حالة تقودنا إلى امتالك ما َي ْم ُثل في «حافيا» بال تداعيات العين ً سوى تداعيات الوجود المادي ذاته
حوار
عبدالعزيز المقالح: من يدعو إلى الحرب ال عالقة له باإلنسانية.. والمتحاربون في اليمن تخلوا عن كل حكمة !
76
العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
حاوره في صنعاء :محمد عبدالوكيل جازم
اليمني الكبير عبدالعزيز المقالح ،في شعره وكتاباته النقدية والفكرية واألدبية ،كثيرًا من يختزل الشاعر ّ ً أيضا -في إنقاذالجمعي ،يسهم ذاكرة األمة؛ لذلك فإن الحديث معه بقدر ما يسهم في تشكيل الوعي ّ
ذاكرة األمة من الضياع ،ولعلنا ال نبالغ إذا قلنا :إنه اليوم يعد إحدى المحطات اإلبداعية التي سيتوقف
التاريخ أمامها كثيرًا؛ بسبب إثرائه المكتبة العربية بالعشرات من كتبه ومؤلفاته .ولن ينسى الباحثون
األكاديمي؛ لما تميز العربي التعويل على منجز هذا الشاعر والناقد والباحث والمهتمون باألدب والفكر ّ ّ به من تنوع في الفكر ،وخصوبة في اللغة .في حوار «الفيصل» معه ،يكشف عبدالعزيز المقالح ،كما
في أي كتابة جديدة له ،عن قدرة في التجديد ،ولياقة فكرية متفردة ،في مقارباته للعديد من القضايا ّ تخص اللحظة الراهنة في الشعر واألدب والفكر ،والسياسة كذلك. والموضوعات التي ً أوضاعا مأساوية بما أننا في اليمن وسواها ،نعيش حرو ًبا وصراعات؛ أتساءل هنا ،هل سبق أن عاشت األمة العربية مثل هذه المرحلة؟
-إذا كنت تقصد المرحلة الراهنة فال؛ ألنها مرحلة
غير مسبوقة في تاريخ العرب القديم والحديث ،مرحلة وصل األمر فيها إلى الحد الذي يقتل فيه االبن أباه واألخ
77
أخاه في معارك عبثية ،يضاف إلى ذلك انتشار الطوائف والمذاهب وخروج األحقاد من قماقم التاريخ من دون
إحساس بالفظاعة ،أو شعور بالمسؤولية ،أو حساب للعالم ً شرقا وغربًا ،وفيه أعداء يتربصون بهذه األمة، الذي حولنا
ويحملون في نفوسهم كثي ًرا من الحقد لها ولتاريخها، وقد جاءت الفرصة المناسبة ،وصار كل شيء مُ هيَّأً لهم ولمصالحهم ،ونحن من دون مبالغة نعيش في أوضاع ال
تكاد تختلف عما كانت عليه في زمن ملوك الطوائف في األندلس قبل االنهيار األخير.
أعجبني تفسيرك حديث الرسول صلى الله عليه
وسلم« :اإليمان يمان ،والحكمة يمانية »...؛ فأين تكمن
اليوم الحكمة اليمانية؟
-مَ ن يُتابع األحداث الجارية اليوم في البالد ،ثم من كان
ينظر قبل ذلك إلى الصراعات الدائرة بين القوى السياسية؛
يدرك أين سوف تصل األمور بهذا البلد الموصوف باإليمان والحكمة ،الذي َّ تخلى المتصارعون من أبنائه عن كل حكمة، ولم يحسبوا لهذا الوطن حاضره ومستقبله أيّ حساب،
وهناك من يرى أن الرسول الكريم عليه الصالة والسالم كان ً أيضا -الصناعة ،فقد كان اليمنيون يجيدونيعني بالحكمة الصناعات المحلية ،وكانوا ماهرين في صناعة السيوف،
بورخيس
نيتشه
ونسج البرود ،والتفوق في المعمار ،وهندسة الريّ ،
فاستحقوا لقب الحكمة.
بعد عام 1967م ظهر نوع من األدب َّ سماه النقاد أدب ِّ ً دائما أن نوثق النتكاساتنا أم ماذا؟ ما بعد النكسة؛ أعلينا -كان علينا أن نتجاوزها ال أن نوثق لها فقط ،ونبقى
في مناخها المعتم نجت ّر أحزاننا وانكساراتنا كأننا الشعب الوحيد في األرض الذي أصابته الهزيمة بجروح دامية وما ً يفرض الوقوف عند هزيمة 1967م ،إنها كانت بداية لهزائمَ
وانتكاسات أشدّ خطورة وأصعب استيعابًا ،وألن األنظمة ٍ ُ َّ المعنيَّة لم تحسن الرد والتعامل فقد استم َّرت الهزيمة تحفر
العربيُ ، وتهيِّئه ل َِقبول المزيد من الخذالن في صدر اإلنسان ّ
واالنكسار.
هناك مقولة لـنيتشه « :إن الحرب فرصة لإلنسان األعلى
لعرض البطولة والشرف والفضائل»؛ كيف ترى ذلك؟
األلماني لقد اتهم المثقفون األوربيون هذا الفيلسوفَّ
حوار
بأنه واحد من فالسفة التحضير للحرب ،وأنه لِمَ ا كان يروِّجه
من أفكار للحرب قد ساعد على ظهور الطاغية النازي أدولف ً مليونا من هتلر الذي عمل على تدمير ألمانيا وأوربا وقتل 60
أبنائها في حربه الخاسرة ،التي افتقدت كل معاني البطولة والشرف ،ولم تحقق سوى الموت والدم والرعب؛ ُّ كل مَ ن يدعو إلى الحرب ال عالقة له باإلنسان وال باإلنسانية؛ لِمَ ا
يترتب عليها من ضحايا ،وتدمير اإلمكانات ،وجناية فادحة على األبرياء والنساء وكبار السن الذين هم وقود الحروب.
إلينا في السجن المنيع ...وكنا نحظى بالمناقشات التي تدار حول كتب جبران والرافعي وطه حسين َّ المؤكد أن الشاعر يتأثر بما يحدث حوله؛ ماذا مِ ن
يقولون :إن األحداث الحالية قزمت دور المثقف إلى الدرجة التي غاب فيها صوته ،وفي المقابل َع َل ْ ت أصوات
-أعتقد أن كل البشر مع استثناءات قليلة -يتأثرون
-هذه واحدة من الحقائق التي ال تحتاج إلى برهان أو
ما يحدث وما تفرضه الحياة عليهم ،وما يكتبونه من شعر
الدبابات والصواريخ والمدفعية ...أين صوت المثقف؟
يمكن أن يفعل الشاعر تجاه ما يحدث؟
بما يحدث لهم وحولهم ،والشعراء أكثر حساسية تجاه
العربي قد عاش حالة دليل إلثبات صحتها ،وإذا كان المثقف ُّ ً بعضا من من التجاهل في زمن السلم ،فكيف له أن يأخذ
يصفهم النقاد بـ«الشكالنيين» الذين يكتبون –كما يقولون-
بعض االستثناءات في هذا المجال ،لكنها تبلغ من الفرادة
شعرهم من هذا التأثر ،والمجال ال يتسع إليراد أمثلة أو
حقه في التعبير والمشاركة في زمن الحرب؟ ويمكننا رؤية
والمحدودية حدًّ ا يجعلها غير قادرة على منافسة الصاروخ أو
المدفع ،أو تحقيق أدنى نجاح في إثناء القذائف عن االنطالق
78
كانت بعض الكتب الحديثة تجد طريقها
إلى غير موضعها الصحيح.
ما الموضوعات التي تشغلك اليوم؛ فقد قرأنا في
يعكس ذلك التأثر ويعبّر عنه ،حتى هؤالء الشعراء الذين شع ًرا صافيًا خاليًا من مؤثرات الحياة وردود أفعالها ،ال يخلو نماذج على ذلك.
هل استطاع الشاعر أن يكون متفائلاً ؟
-التفاؤل والتشاؤم وجهان لعملة الحياة المعاصرة،
أو بعبارة أخرى حالتان تتعايشان جنبًا إلى جنب في حياة
األسبوعي مقالة ألحد الكتاب العرب، (مقيل) الثالثاء ّ تحدث فيها عن الموضوعات الرئيسة التي تشغل الشعراء
عالية من اإلحساس بما يحدث في الواقع؛ وما يلفت
ً إنسانا ينتمي إلى -كثي ٌر هي الهموم التي تشغلني بوصفي
حد السذاجة ،وآخرين يصل بهم التشاؤم إلى حد اليأس
الكبار؛ أنت بماذا تنشغل؟
هذا المكان من العالم الملتهب ،والمليء بالمتناقضات ،وما
تفرزه من تطورات عملية ،ومن حروب وصراعات مدمرة، أما بوصفي شاع ًرا فإن أهم قضية شغلتني وستظل تشغلني هي موضوع الحرية ،هذا الغائب في الواقع ،والحاضر في
األحالم ،الذي كان وجوده بالشكل اإليجابي ال الفوضويّ ّ شعوب األرض ،ونحن في مقدمتها ،من هذا كفيلاً بأن يُخرج َ النفق الذي كانت له بداية وال تلوح له نهاية.
«الربيع العربي» سبق وقته؛ لذلك أجهض أحالم التغيير ،وكشف عن عجز القوى السياسية ،وعن تخلف عميق في الرؤى والممارسات
العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
اإلنسان الواحد ،وبخاصة إذا كان هذا اإلنسان على درجة االنتباه إليه أن هناك ً نوعا من الناس يصل بهم التشاؤم إلى
والقنوط. َ والتفاؤل ليس قدَ ر المثقف وحده ،لكنه قدر كل إنسان
يحلم بحياة راقية وجميلة ،وقد كان األنبياء والمصلحون عبر التاريخ أكثر البشر تفاؤلاً وإصرارًا على أن أجمل األيام هي تأت بعد ،ولوال هذا النوع من التفاؤل َلكانت الحياة التي لم ِ أسوأَ مما هي عليه.
َ ً رئيسا لجامعة صنعاء ،وتعمل كنت في السابق
اليمني ،وترأس اليوم في رئاسة مركز الدراسات والبحوث ّ َ َ َ أسسته في صنعاء؛ َو َ َّ صفك جابر اللغوي الذي المجمع عصفور في إحدى كتاباته بأنك باني النهضة التعليمية في اليمن ،وقال :إن دورك في اليمن يشبه إلى حد كبير َ ُّ كنت قريبًا تصورك وقد دور طه حسين في مصر؛ في
من مفاصل السياسة التعليمية؛ أين يكمن الخلل الذي َّ خلف كل هذا الدمار؟
عبدالعزيز المقالح
أشكر صديقي وزميلي الدكتور جابر عصفور على هذاً الوصف الذي أعت ُّز به وإن لم ُ أكنْ خليقا به وال في مستواه.
والفارق كبير بين دوري المتواضع وبين دور طه حسين؛ بين ً َّ وأتذكر أن الدكتور صادقا ال متواضعً ا، مصر واليمن ،أقولها
جابر كان دائمً ا يقول لي في أثناء دراساتي العليا بالقاهرة:
إن عليك يا عبدالعزيز دورًا كبي ًرا في اليمن ،وينبغي لك أن تستعدّ لذلك من اآلن ،وألاَّ تتوقف عند تشجيع المبدعين،
ومتابعة أعمالهم اإلبداعية ،وهو ما دفعني إلى االلتحاق
طه حسين
بجامعة صنعاء ،والعمل مع كثير من الزمالء األصدقاء على
توسيع النشاط في مجال التعليم العالي ،ونشر الجامعات في كثير من المحافظات في شمال الوطن ،قبل أن تتحقق
الوَحْ دة اليمنية ،وتتسع مساحة الوطن ،ومساحة الهموم
التعليمية.
جبران
استم َّرت الهزيمة تحفر في صدر العربي ،وتُه ِّيئه ل َِقبول اإلنسان ّ المزيد من الخِ ْذالن واالنكسار
لدي ثقة مطلقة أنك َّ َّ َّ الحب في طفولتك ،لكن تعلمت
كيف استطعت اإلمساك به كل هذه السنوات ..وقد رأينا
كيف انسابت تجربتك الشعرية في دواوينك األخيرة؛
وكان اسم حجة يثير الرعب في نفوس اليمنيين لِمَ ا تناقلته
كتاب الحب ،وكتاب األصدقاء ،وكتاب المدن ،وكتاب ِّ َ َ كنت توثق سيرتك الذاتية شع ًرا أ ْعني صنعاء ،كأنك ْ جذور تجربتك؛ هل ُولدت من الحياة والمعاناة ،أم من
في الثانية عشرة من عمري ،ال أعرف شي ًئا عن هذا التاريخ
الحب بمعناه الواسع ال يرتبط بمرحلة معينة من ُّ
وأهلها طيبين ،وحين يصفو الجو تستطيع رؤية شاطئ
القراءة والكتب؟
األنباء عن مئات السجناء الذين حصدهم الموت ،ولما ُ كنت شهدته من مذابح شهداء ثورة 1948م ،وعندما دخل ُتها الدامي ،وكان ذلك في فصل الصيف وقد وجدتها خضراءَ
مراحل عمر اإلنسان ،وهو كل العمر لإلنسان ،ونحن منذ
البحر األحمر بالعين المجردة ،كان والدي من سجنائها
الحي ،ثم تتسع دائرة ونحب زمالءنا في المدرسة وفي ّ الحب لتشمل األرض والناس واألشجار والموسيقا وأشكال
أن يكون أبناؤهم بالقرب منهم؛ لإلشراف على تعليمهم،
الطفولة نحب الله ونحب أمهاتنا وآباءنا وإخوتنا وأخواتنا،
المعرفة ،ومن دون الحب تكون الحياة ضامرة يابسة ال ّ تستحق أن ُتعاش ،وقد ال تختلف عن حياة معنى لها وال
السياسيين ،وكان بعض هؤالء السجناء يحرصون على
وقد وجدت نفسي في المدرسة المتوسطة ،وبعدها في المدرسة العلمية ،فلم تكن في البالد يومئذ مدارس ثانوية سوى مدرسة في صنعاء ومدرستين في تعز والحديدة .كان
الحيوان الذي يولد ويأكل ويشرب ويموت .الحب ،وأكرر
وجود األحرار داخل السجن وتحت اإلقامة الجبرية خارج
ِّ والتحدي ،ويمكننا من تجاوز الصعوبات على المواجهة
من المعارف.
بمعناه الواسع ،يمنحنا الرغبة في البقاء ،ويمدنا بالقدرة والمنغصات ،كما يُح ِّررنا من االكتئاب ومن وحشة الفراغ
الداخلي وخواء الوجدان. ّ
السجن ،وهم من األدباء والعلماء والفقهاء فرصة للتزود وكان بعضهم قد غامر بتدريسنا في المدرسة العلمية،
وبفضلهم انفتحت أمامنا آفاق ما كان لنا أن ندركها أو نقترب
منها ،وكانت بعض الكتب الحديثة تتسلل إلى ذلك السجن
ً دائما تتحدث عن مدينة حجة ،هذه المدينة التي
المنيع وتجد طريقها إلينا ،وكنا نحظى بالمناقشات التي تدار
-حجة مدينة صغيرة على رأس جبل شاهق ،وربما
جذور ثقافتي وساعدتني بما قرأته فيها من كتب عندما
ِّ تشكل إحدى المحطات المهمة في حياتك المبكرة؛ ماذا َت ْعني لك هذه المدينة؟ تحولت من قرية إلى مدينة في عهد األتراك الذين بنوا فيها كثي ًرا من القالع والثكنات العسكرية ،وكانت في عصر
اإلمامين يحيى وأحمد سج ًنا لألحرار والخارجين على الحكم،
حول كتب جبران خليل جبران والرافعي وطه حسين. َّ تشكلت فيها لقد كانت حجة مدرسة أولى في حياتي التحقت بالجامعة في مصر ،وأدركت أنني كنت قد استوعبت
كثي ًرا من المقررات في النحو وتاريخ األدب ،وأبرز رجاالته في
القديم والحديث.
79
حوار
أنت تحب صنعاء ،وتعشقها إلى درجة أنك ال تحب أن تغادرها إلى ّ أي مكان في العالم؛ كيف انبثقت
صنعاء من مخيلتك؟
-عالقتي بصنعاء تعود إلى لحظة دخولي إياها ذات
ظهيرة ساحرة مشمسة ،كنت قادمً ا إليها من الريف البعيد طفلاً صغي ًرا في السادسة ،وكانت بمآذنها وقصورها تنمو تحت ضوء النهار ،وما تعكسه شرفات البيوت العالية ولمعان زجاج نوافذها من ألوان وإشعاعات انطبعت في
ذهني الصغير ،وظلت عالقة بنفسي حتى اآلن.
جورج طرابيشي
مصطفى الرافعي
وكما أدهشني معمار المدينة وتناسق األحياء ،فقد
أدهشني ما كان يتمتع به أبناؤها واألطفال خاصة من ّ أخالقيات رفيعة ،وما يظهرونه من ُو ّد غير متكلف للقادمين إليها من جنوبها وغربها .لقد كنت في كل يوم أقضي جزءً ا
من الوقت فوق سطح المنزل العالي الذي استأجرته ُ العائلة؛ لكي أستمتع بمنظر المآذن والقصور ،وأُ ُّ طل على الحقول والمساحات الخضراء التي تحيط بالمدينة ،وفي
الجهة الشمالية منها على وجه الخصوص.
80
نعيش مرحلة يقتل فيها األخ أخاه في معارك عبثية ...وتخرج األحقاد من قماقم التاريخ من دون إحساس بالفظاعة
العربي ً أيضا. المستوى ّ
حياة الشعراء والكتاب مليئة بالمغامرات والمخاطر،
العربي أنك من أهم الشعراء العرب الحظ القارئ ّ الكبار الذين َت َتبَّعوا تجارب الشباب في الجزيرة العربية
يستطيع الكاتب وحده نقلها إلينا ،وهذه الخبرة يحتاجها
توسمت في أستطيع القول :إن نسبة عالية ممنَّ
-على األجيال الجديدة أن تخاطر وتغامر وتكتسب
استطاعوا بمواهبهم ودأبهم الوصول إلى ما كنت أتمنى، والقلة القليلة التي َّ تخلفت من أولئك الشباب تتألف ممن
الذين يستفيدون من تجارب اآلخرين ،وكما أن لكل جيل أخطاءه وحسناته وأسلوبه في خوض غمار الحياة ،فإن عليه
الوليدة .والحق أن الوطن هو المحظوظ بهذا العدد من
لي من خبرة أو ُّد نقلها إلى الجيل الجديد من المبدعين ،فهي
العربي؛ كيف تنظر اليوم إلى كتاباتهم؟ والوطن ّ
ً إرهاصا بمشاريع إبداعية متميزة قد بداياتهم األولى
شغلتهم الحياة ومشكالتها المختلفة عن رعاية المواهب المبدعين في مجال الشعر والرواية والقصة والدراسات
النقدية ،ولوال الظروف السياسية العرجاء ،وما رافقها من اختالل في البنية االجتماعية والثقافية؛ َلصا َر لهم المحلي فحسب ،بل على شأن كبير ،ليس على المستوى ّ
ومع مرور الوقت تشكل هذه المخاطر خبرة غير عادية،
الجيل الجديد؛ ما الخبرة التي تريد نقلها إلى األجيال؟
تجربتها من خالل ما تتعلمه من الحياة ،وما أقلهم أولئك
لتفت إلى ما قاله مَ ن سبقه ،وإذا كان أن يشق طريقه غير مُ ٍ
أن يستغلوا كل دقيقة من حياتهم في التع ُّرف إلى معنى
الحياة ،وفي توسيع معارفهم ،وعدم االنشغال باآلخرين،
وعدم االنزالق إلى الخصومات والدخول في الخالفات ،التي أصابت كثي ًرا من الموهوبين في مقتل ،وحولتهم إلى ّ شكائين ومنتقدين ،فأصابهم العقم ،وانصرفت عنهم مواهبهم ،أو
جفت ينابيعها.
كثيرا من الخصومات أصابت ً الموهوبين في مقتل ،وحولتهم إلى ش ّكائين ومنتقدين ،فأصابهم العقم ،وانصرفت عنهم مواهبهم، أو جفت ينابيعها
العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
ًّ أحقا استطاعت الرواية أن تزحزح الشعر عن موقعه ًّ أحقا ما يقال :إن هذا الزمن هو زمن الباذخ القديم؟ الرواية؟
جنسا أدبيًّا آخ َر أدبي أن يزحزح ليس في استطاعة جنسً ّ َّ َّ يحل محله ،صحيح أن الرواية أخذت عن الساحة األدبية أو
العربي إال في هذا المنعطف من الزمن قدرًا من اهتمام القارئ ِّ أنها لم تتمكن من منافسة الشعر أو إبعاده من محبيه الذين
عبدالعزيز المقالح
يتكاثرون ويتزايد تعدادهم عامً ا بعد عام ،ويالحظ أن ُق َّراء
الرواية من المثقفين والمهتمين بالسياسة ،وعلى العكس من ذلك ُق َّراء الشعر الذين يشكلون جمهورًا واسعً ا من المهتمين
بالقضايا السياسية والفنية ،ومن عشاق الكلمة الراقية ،سواء أكان هذا الشعر عموديًّا أو تفعيلة أو نث ًرا ،وال ننسى اإلشارة إلى أن الرواية الحديثة أفادت من الشعر ،وصار الشعر في
بعضها جزءً ا جوهريًّا ،ليس في المفردات اللغوية ،إنما في
الروائي. بنية الجملة وأسلوب التشكيل ّ
َّ تحدث ماركيز كثي ًرا عن رواية «بيت الجميالت َّ تمنيت لو النائمات» ،وقال :إنها الرواية الوحيدة التي ُ َ ُ منيت أن َتكتبَه؟ كتبتها؛ هل هناك ِكتاب َت كنت لاً -لم يحدث ذلك معي قط ،لقد أحببت أعما شعرية
كثيرة ،وأعجبتني نماذج أدبية راقية ،لكن لم يخطر ببالي أن تكون لي ،أو أن أكتب مثلها.
العربي» هل علينا أن نعيد النظر في مقولة« :الربيع ّ
المقالح
-نعم من حقنا أن نعيد النظر في كل المقوالت
المراجع وأسماء الكتب والمؤلفين ،أما أن تكون وسيلة
العربي»؛ هذا الفصل الذي سبق وقته؛ لذلك مقولة« :الربيع ّ
الورقي أقوى وأعمق مما كانت وستظل عالقة القارئ بالكتاب ّ
على حد تعبير جورج طرابيشي؟
السياسية التي أفرزتها األحداث في المدة األخيرة ،ومنها لم يكن ربيعً ا وال شتاءً ،فقد أجهض أحالم التغيير ،وكشف
ُّ تخلف عميق في الرؤى عن عجز القوى السياسية ،وعن
والممارسات ،وسيظل العرب يحلمون بربيع ال يزحف نحو
الصيف وال نحو الشتاء ،ربيع يزهر فيه ورد العدل والحرية واألمان.
يقول بورخيس« :المكتبة هي الجنة األبدية» ،وفي
مكتبتك الشخصية أكثر من أربعين ألف عنوان؛ أال ترى
ِّ الورقي؟ ِيقضي على الكتاب اإللكتروني جاء ل أن الكتاب َ ّ كان بورخيس قد بدأ حياته مدي ًرا إلحدى ُدور ُالكتب في بالده ،ومن هناك فقد أدرك أهمية المكتبة ،و َدورها في ِّ تحققه من متعة صياغة العقول البشرية من ناحية ،وما للقارئ ،ومن شعور بالغبطة وهو يستحضر المؤلفين،
ويدخل في حوارات معهم .ستكون الجنة بال مكتبات ناقصة. اإللكتروني وما يوحي به التوسع في التعامل أما عن الكتاب ّ
الورقي فهو حديث مبالغ معه من االستغناء عن الكتاب ّ اإللكتروني ال يزال عالة فيه ،وال يصحُّ أن ننسى أن الكتاب ّ
الورقي ،ومن دون هذا األخير لن يكون له وجود على الكتاب ّ يذكر .ولعل أفضل ما ُت ِّ حققه الكتب المخزونة في الفضاء اإللكتروني أنها تقوم بإسعاف القارئ المشتغل ببعض ّ
للقراءة المعمَّ قة والممتعة ،فذلك ضرب من المستحيل،
عليه في الماضي البعيد والقريب.
ِّ إلى أي مدى يمكن أن يؤثر ظهور اإلرهاب في الوطن
العربي؛ مثل :داعش والقاعدة ،على مستوى الشعر؟ ّ
-عندما أسمع أو أقرأ كلمة اإلرهاب يتطرق إلى ذهني
سؤال كبير لم يجب عليه أحد ،وهو عن األسباب التي أدَّت
إلى ظهور هذه الحالة ،وفي تقديري أنه لو أمعنا البحث في تلك األسباب بوعي وموضوعيةَ ،لمَ ا كان لهذه الظاهرة أن توجد أو تشغلنا إلى هذا الحدّ . كيف ترى األفق؟
-أبعد هذا تسألني عن كيف أرى األفق اليوم؟! ال أدري
الثقافي ،أم السياسي ،أم االقتصاديّ ،أم أيّ أفق تقصد؛ ّ ّ االجتماعي؟ ُّ وكلها بال آفاق ،لقد نجح أعداء األمة الواضحون ّ
َحرفوا أبناء األمة عن األهداف منهم والمستترون في أن ي ِ والثوابت ال ُّروحية والوطنية والقومية ،ويحوِّلوا معركتها َّ وتمكنوا من إهدار الحقيقية إلى معركة عبثية مع الداخل،
الطاقات المادية وتبديدها خارج مكانها المطلوب والصحيح، العربي ولو في ومع ذلك يبقى األمل في أن يستيقظ العقل ُّ اللحظات األخيرة من غفوته الطويلة.
81
مقال
النقاد والرواية الخليجية
ٍ ماض ومستقبل انشطار البوصلة بين البحريني فهد بن حسين بما يشبه البشارة بمستقبل واعد للرواية صحافي م ّر عليه ما يناهز العام ،لوَّح الناقد في حوار ّ ّ ً بطيئة خطوات الخليجية ،قال هذا الكالم في بداية الثمانينيات الميالدية عندما كانت الرواية الخليجية تخطو وراء نظيرتها العربية ٍ
ً وأحيانا متعثرة .وأذكر أن آراء نقدية مشابهة كانت تتردَّد في أروقة الصحافة الثقافية يحدوها أمل أن تصل الرواية الخليجية إلى والخليجي ،وكان ذلك يعني أن النقاد في ذلك الوقت لم يكونوا العربي مرحلة من النضج ،تستطيع أن ُتراهِ ن بنفسها على حضورها ّ ّ واثقين من قدرة الرواية الخليجية على اختراق شكها في إمكانياتها تجاه ما تضمره تحديات المستقبل؛ لذلك كانوا يتحاشون فكرة ً إيمانا ما بطاقته الكامنة فيه ،وهذا اإليمان يكاد يكون مقامرة غير مضمونة النتائج المراهنة عليها؛ ألن المراهنة على شيء ما يشترط
عند الحديث عن الرواية الخليجية. َّ البحريني فهد بن حسين حينما بشر بمستقبل واعد للرواية الخليجية لم يكن رأيه هذا ضمن آراء ذلك الوقت ،إنما غير أن الناقد ّ قاله في جريدة الرياض بتاريخ 29مارس 2015م .لماذا قاله ً إذا في هذا الزمن وليس قبل ذلك؟ هل َّ تأخر كثي ًرا في اإلبانة عن تفاؤله
الخليجي في المستقبل. بالرواية الخليجية في المستقبل؟ لقد كانت آراء جُ ّل النقاد في الثمانينيات متفائلة تقريبًا بتطور ما للسرد ّ بمعنى أننا اآلن نتحدث عن لحظة زمنية هي في الواقع من ضمن المستقبل الواعد الذي َّ بشر به أولئك النقاد ،ويمكن القول :إن المستقبل الذي قصده النقاد آنذاك بدأ تقريبًا في التسعينيات ،وإنه على قدر من البطء ،لكنه انفجر في منتصف العشرية األولى
82
ّ محل هزة رأس مترددة .الناقد فهد بن حسين من األلفية الثالثة على نحو تقريبي ،وكانت هذه الرؤية المستقبلية في ذلك الوقت على الرغم من تفاؤله بأفق واعد للرواية الخليجية َ ساق ملحوظات نقدية ليست بسيطة على روايات اليوم التي يكتبها شباب من الجنسين بكثافة.
اإلبداعي من هذه الملحوظات االستسهال في كتابة الرواية ،وهذا ما يفقد الرواية القيمة الجمالية التي هي من ركائز الشرط ّ الروائي؛ إذ إن الكتابة الروائية التي تخلو من قيمة جمالية تفقد القارئ لحظة إمتاعية لن تكون الرواية من ضمن مقتنياته للعمل ّ
جمالي يتيح له قراءة العمل من منظور نقديّ متعدد الزوايا .هناك ملحوظة أخرى، من دونها ،وهي للناقد فهد بن حسين حقل ّ حسب الناقد فهد بن حسين ،وهي افتقاد الرواية الخليجية الشبابية على وجه الخصوص المرجعية الثقافية ،موع ًزا السبب إلى أن المنهل الرئيس للتجارب الشبابية هو (الشارع وحكايات الناس) ،وهذا االنتهال كما يقول :ليس أصيلاً ،وال يمتلك مقومات عمل روائي يُفت َرض أن ي َّتسع مصراعاه لتجارب عميقة وأكثر تعقيدً ا وأوسع نظ ًرا من مرويات شفهية سطحية في معظمها .فالحب على ّ
سبيل التمثيل لحظة إيروسية في النصوص الشبابية ،وقلما يعبر في أثناء النص عن غير ذلك .لكن الحب -حسب رأيه -قيمة جمالية
وفلسفية ومعرفية كذلك.
القرائي ،يعتقد الناقد فهد بن حسين أن الرواية ضي لدى فئة غير قليلة من الشباب ،والكسل ّ وإضافة إلى حب الشهرة الم َر ّ الخليجية الراهنة والشبابية خاصة ،تفتقر إلى ثالثة عناصر مُ همة ال بد منها عند التفكير في كتابة رواية تقع في أفق ما ُ ارتقب وقوعه في المستقبل ،وهذه العناصر هي( :كاتب يملك وعيًا ،وقدرة على التم ُّرد المسؤول ،وحرية) .العنصر األول ال يشكل ملمحً ا
واضحً ا في الرواية الخليجية بشكل عام ،وهذا رأيي أنا ،فالوعي الذي يفترض أن يتوافر لدى كاتب يفكر بجدّ في ثقب الحاجز القائم ّ الروائي السائد؛ ذلك الشكل الذي نلمسه في معظم يستحق ،ال يتوقف عند إنشاء النص بالشكل بينه وبين الرهان على عمل ّ
الزمني الطويل نسبيًّا الروائي المعاصر ،وهو الدفع بالفكرة إلى مهاد أولية من الحكي العادي ،وتوزيع الشخصيات والمدى منتجنا ّ ّ ً ً شكلية ،تنطلق من فورها إلى رواية والمكان والزمان وبقية (الشغل) المألوف الذي يجعل من أي عمل بين غالفين على هذا المنوال
اإلنشائي هو ما يفترض أن تراهن عليه رواية جديرة بالمستقبل، الناشر ،ثم إلى المطبعة ،ثم إلى السوق؛ كلاَّ ،ليس هذا الوعي ّ
إنما هناك مستوى من الوعي هو أعلى وقطعً ا أعمق من هذا الوعي التقليديّ ،وأقصد الوعي القائم على مرتكزات جمالية وثقافية ّ ِّ ّ متخلق في أصله ليس المتدفق في األشياء التي نعيشها ونمارسها النص .فالزمن وفلسفية ومعرفية قبل الخوض في فكرة إنشاء
أيضا -من مفاهيم ومضامين جمالية وفلسفية ومعرفية صهرتها في ًّ كل من اإلحساس بالوقت وتأثيره في األشياء فحسب ،إنما واحد عالمية الواقع المعيش ،وإن كان هذا الواقع يحفل بتفاصيل نائية عن حافة العالم ،وعالمية اللحظة اإلنسانية الراهنة ،وما العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
تنتجه هذه اللحظة من مفارقات وتناقضات على أكثر من مستوى.
الزمني العجيب ،وهذه اللحظة المليئة والوقوف بإزاء هذا التدفق ّ
بالتغيير المتسارع الصادم في أحايين كثيرة ،يتطلب قدرًا مالئمً ا من
استيعاب اللحظة نفسها ،وما تشترطه من أشياء لمساءلة الذات واآلخر،
والمكان ،والزمان ،والثقافة ،واالعتقاد ،إضافة إلى المسافة بين كل
هذه المكونات في الذات الواحدة وعالقتها ،سلبًا أم إيجابًا ،بالخارج وما ي َّتصل به من حقائق ووقائع وأحداث ليس على أساس محاكمتها بالضرورة ،إنما على أساس فهمها على ضوء معطيات متاحة أو ممكنة.
هذا بإيجاز شديد ،ما يمكن أن نفهم على ضوئه رأي الناقد فهد بن
حسين تجاه الرواية الخليجية ،وال شك أنه أوسع من الفهم الذي طرحته صاديق متواترة لما َّ هنا ،وحتى تأتي في المستقبل مَ َ بشر به هذا الناقد،
وهو ما آمل أن يتحقق على أيدي روائيين شباب ،يجب أن يكونوا أفضل وأكثر فهمً ا واستيعابًا من ُكتاب اليوم للفنّ الروائي ،وعالقته بقيم جمالية ّ
عواض العصيمي روائي سعودي
ومعرفية وفلسفية ال غنى للرواية عنها في أيّ زمن ومجتمع وثقافة، حتى يأتي هذا المستقبل سنبقى في لحظة ُّ توقع مَ ن يقبض في شكل
83
الروائي اإلنشائي صحيح وسويّ على لهب اإلفاقة األولى من هذا الراهن ّ في معظمه.
إلى أن يحدث ذلك ،ليس من المستبعد أن يبشر ناقد آخر ،في زمن
مقبل ،بمستقبل واعد للرواية الخليجية على ضوء ما توافر لديه من ّ محل اطمئنان للتبشير بذلك المستقبل .وقد نصوص سردية ،يرى أنها
تكون تلك النصوص من إصدارات حقبة زمنية مقاربة للزمن الذي نشر فيه توقعاته اإليجابية ،ما يشير إلى احتمال استمرار الرواية الخليجية
في الدوران حول نفسها في نفس الموضوعات والتقنيات التي ظهرت بها في الثمانينات ،يوم ّ بشر نقاد ذلك الزمن بمستقبل واعد لها ،ثم في مرحلة التسعينيات وما أعقبها من عقود من دون تغيير كبير في الشكل
والمضمون.
وفي كل األحوال ،لن يعدم المتابع اللصيق بالمشهد مالحظة مهمة
تكاد تكون هي سبب هذا التباطؤ الحاصل في الدينامية البنيوية للرواية
فعلي- الخليجية ،وهي اتصاف الحراك النقدي –إن كان هناك حراك نقديّ ّ ً –أيضا- بتباطؤ مقابل في المواكبة النشطة ،ليس في هذا فحسب ،إنما في الكسل النقديّ من جهة ما نراه اليوم من نكوص واضح عن تدشين مشاريع نقدية كبرى تؤسس لمرحلة ثقافية ومعرفية تنخلع بمقتضاها من المقاربات النقدية البسيطة التي تتغذى عليها المالحق الثقافية على
نحو هو أقرب إلى االستهالك منه إلى الدراسات المعمقة التي تنطوي بالضرورة على مستقبل يفترض أن يكون ِّ مبش ًرا بصحوة نقدية شاملة .
لن يعدم المتابع اللصيق بالمشهد مالحظة مهمة تكاد تكون هي سبب هذا التباطؤ الحاصل في الدينامية البنيوية للرواية الخليجية، وهي اتصاف الحراك النقدي بتباطؤ مقابل في المواكبة النشطة
دراسات
محمود درويش.. أشهر شاعر عربي
لألسف عبد المنعم رمضان
84
شاعر مصري
اإلهداء :إلى رجاء عالم عنوان هذا المقال هو محض تقليد مقصود للعبارة الفرنسية
فرنسي التي أتمنى أن تكون شائعة« :فيكتور هوغو أشهر شاعر ّ وك العنوانَ أنني أُ ِّ لألسف» ،لقد اكتشفت وأنا أَ ُل ُ غني مع فيروز وسعيد عقل واألخوين رحباني؛ هكذا عالنية« :غنيت مكة أهلها الصيدا»ّ ، علني أهدأ ،وأغني معهم هكذا هكذا بغير عالنية:
الذهب»ّ ، ُ علني أحتاط ،وأتأمّ ل روايات «مصر (غابت) شمسك ّ رجاء عالم مثل رجل أعزل ممسوس باللغة ،علني أستمتع، ّ وأفكر ًّ جدا ،وأفكر حتى النخاع في شعر محمود درويش، ّ علني أنسى ،وفي كل أحوالي ،وبخاصة حالتي األخيرة، أحسب نفسي تلك النخلة الشاردة على الطريق ،تلك النخلة التي ينصحني كل معارفي اَّ بأل أكونها ،فأخون هذه النصيحة،
وال أخون بقية النصائح ،أعني ما نشز منها ،وما أهمله العامّ ة ّ ّ وتخلى عنه السابقون ،رغم والخاصة ،وما هجرته األلسنة، أنهم ناصحون في األغلب.
العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
ينصحنا السابقون بقراءة من سبقوهم؛ ينصحنا أبو َتمَّ ام
بامرئ القيس ،وأبو العالء بالمتنبي ،وإبراهيم ناجي بخليل مطران ،والمازني بابن الرومي؛ فيما ينصحنا قريبو العهد من السابقين بالقراءة لواحد من الالحقين ،وهي حالة االستثناء
الوحيدة؛ إذ ينصحنا السيَّاب والبياتي ونازك ونزار قباني وصالح عبدالصبور وحجازي بالقراءة لمحمود درويشَّ ، لعلنا سنعرف
نعرف أنه حارب على استحياء قصيدة النثر ،نعرف أنه لم يكن يحب المواجهة؛ كان يتج ّنبها
السر.
ما نعرفه اآلن أن أجمل ما تركه لنا محمود درويش هو
شعره ،وهو شعر قد يصيب محبّيه إذا عكفوا عليه الختيار
أفضله ،قد يصيبهم بالحيرة واالرتباك ،وأسوأ ما تركه لنا محمود درويش هو نقاده الذين جهلوه مرات ،والذين تواطؤوا
على الحفاوة به مرات كثيرة ،وجغرافية هذا التواطؤ تبدأ من
مكان معلوم قريب من الشعر ،وال تنتهي عند أماكن معلومة أخرى قريبة من السياسة ،فمنذ كان النقد يعتمد على
الذوق ،ويعتمد على االنطباع ،حتى أصبح يعتمد على تالميذ ّ ّ األكاديميات الذين ّ محل الذوق؛ يحلوا المناهج فضلوا أن
ّ ً يسلحوها به ،منذ ذلك حتى ذلك ،ومحمود عوضا من أن ّ محل حفاوة االتجاهين؛ أصحاب الذوق ،وأصحاب درويش
85
األكاديميات ،فرجاء النقاش وهو من األوائل ،احتفل بشعر
محمود في دواوينه األولى ،وأنشأ عنه كتابًا ،ثم انصرف عنه في المراحل التاليةُ ، ون ّقاد اليوم ،وهم من األواخر ،احتفلوا بشعر محمود ،شعره الجديد ،سواء أكان في الجدارية أم قبلها
بقليل أم بعدها؛ إلى أن وصلوا الخاتمة ،إلى أن وصلوا العب النرد؛ كلهم قرؤوه بعيون مفتوحة على آخرها ،بعيون ال ترى. الجماعة وشاعرها العظيم
رجاء عالم
حيّرني شعر محمود درويشّ ، وفكرت كيف أتأوّل ما أحببته من قصائدّ ، فكرت أن أميّز وأمايز بين الشاعر الجميل والشاعر
باب آخر ألشياء أخرى؛ قلت لنفسي :هل السؤال؛ ما الشعر العظيم-أع َّز الله يوسف اليوسف– سؤال مشروع؟ الحَ دَ اثيون َ يتعالوْنَ عليه؛ تعاليهم ُّ أرق من ورق النشاف ،والسؤال أكثف
وطن محدود ،أو في شبه وطن ،تبحث عن رموزها العظيمة،
جسد والمُ ج َّرد، الشعر ذاته بين المباشر وغير المباشر ،بين المُ َّ
العظيم ،وتصوّرت أن كل جماعة من البشر ،في أي مكان ،في وعن شاعرها العظيم ،وإذا لم تجده اخترعته ،وإذا لم تجده
انتخبت أحد أجمل شعرائها ،وارتفعت به إلى مرتبة العظمة، َ للعالم :هاكم شاعري العظيم ،هاكم قلبي ،على م ّر وقالت التاريخ كان الشعر العظيم نادرًا ،على م ّر التاريخ كان الشع ُر الجميل َّ أقل من نادر وأكثر من قليلّ ، فكرت فيما يلزمني من
آالت ُ وعدَ د وأدوات يمكنني أن أستخدمها للتع ّرف إلى االثنين
وللتفريق بينهما ،وبخاصة أن بعض الخلط يأتي من كون كل عظيم ال بد أن يكون جميلاً والعكس صحيح ،وبخاصة أن
بعض المتلقين يعتقد أن الشعر يتعلق بالجمال ،وأن العظمة
من سماء سابعة ،ونحن ال نحتمل في أغلبية أوقاتنا أن يتوتر الواقعي واألسطوريّ ،بين والميتافيزيقي ،بين الفيزيقي بين ّ ّ ّ الله والشيطان ،بين السماء واألرض ،بين العالي والخفيض، بين الحركة والسكون ،بين الصخرة والنبع ،في أغلبية أوقاتنا
نحن نخاف النيرفانا ،نخاف توتر الشعر؛ أي نخاف الشعر ذاته، الذي كأنه النيرفانا ،أو كأنه ليس النيرفانا ،كأنه غيرها ،هذا
التوتر يضع الشعر في مكان أرقى من الحلم؛ حيث الشعر طريق خالص ،بل أقوى من آفات الحلم ،من هشاشته وهالمه،
حيث الشعر طريق خيال ،بل أقوى طريق خيال للقبض بكلتا يديك على فضاء ال ُّروح ،على تماسكها وارتقائها.
دراسات
فالحلم بهذا المعنى ال يستطيع أن يفعل ما يفعله الشعر، ّ يظل قوة الحلم، ال يستطيع أن ينافسه ،مع العلم بأن الشعر ّ يظل أرضه الخصبة ،وسوائله الدافقةّ ، فكرت في أنني ال أملك
هو شعره ،وهو شعر قد يصيب
أحس في أثناء قراءاتي المتتالية شعر محمود الجميل ،لكنني ُّ
محبيه إذا عكفوا عليه الختيار ّ
األدوات والعُ دَ د واآلالت للتفريق بينهما :الشعر العظيم والشعر
درويش أنه يميل -في األغلب -إلى أحد طرفين من أطراف
الواقعي واألسطوريّ ،السماء واألرض ...إلى غير ذلك؛ يميل ّ ّ إلى الهدوء ،وعدم التوتر ،وأن هذا ما يحقق له الوضوح وقابلية التداول ،الوضوح والشهرة ،الوضوح والخوف من الحرية ،فيما
يمتلك –أعني شعر محمود– خاصية الجمال التي فطر عليها
الشاعر وشعره.
أفضله ،قد يصيبهم بالحيرة واالرتباك ،وأسوأ ما تركه لنا محمود درويش هو نقاده الذين جهلوه مرات ،والذين تواطؤوا على الحفاوة به مرات كثيرة
أول آثار الصدمة
قررت أن أتخلى عن هذا االختيار ،وأن أبحث لحيرتي
عن طريق أخرى؛ لتأويل ما أحببته من قصائد ،قرأت شعر درويش ثانية ،حاولت أن أتخيله في معمله ،كيف ينظر إلى
ما كتب من قصائد ،كيف يفكر في إدخال كلمات جديدة لم يسبق له أن اشتغل عليها ،كيف تكون الكلمات مغسولة بمياه زمانها ،كيف تفتح ً آفاقا وتمهّد طرقات ،قرأت شعر درويش؛
86
أجمل ما تركه لنا محمود درويش
كانت دواوينه الستة األولى ظاهرة السذاجة ،ظاهرة االبتداء، ً وأيضا ببعض أخطاء في وإن امتألت ببذور وجذور وطرائف،
العَ روض واللغة ،هذه الدواوين تضع الخط الواضح عند قراءة درويش ،ال بد أن تنتبه لشروط الصوت؛ متى تقف ،ومتى
تستم ّر ،شعر درويش الذي يستند إلى الموسيقا ،يضيع إذا قرأه وأهمل صوته هؤالء الباحثون عن المعنى ،ج َّربت أن أستمع
إلى قراءات بعض نقاده المفتونين ،فاكتشفت أنهم ال يراعون أهم خصائصه ،شفاهة درويش يقينية مثل فلسطينيته ،في الديوان السادس «أحبك أو ال أحبك» الصادر عام 1972م؛
أي بعد خروجه من حيفا ،واصطدامه؛ وجهه وفمه وجسده
كان شبح نزار قباني يخيفه أخشى أن أكون قد عدت إلى موضوع آثرت االنصراف عنه؛ ألنني ال أجيده ،المهم أن سفينة محمود درويش ً مصحوبة بقدر من المتخمة بالموسيقا ،المتخمة بالعطور ،التي بدأت منذ (المحاولة) ،ستصل ضفاف التسعينيات
َت ُّ الصفاء ،يجعل كل هذه األزمنة ،أجمل أزمنة درويش الشعرية ،لوال أن الخوف والمنافسة والنرجسيةَ ،ش َهر ْ كلها َ رأيت محمود درويش وهو يضطرب إذا حاول ُ ُ أسلحتها ِّ أحدهم أن يضعه مع نزار قباني الس ِّريَّة، في جهة واحدة ،كان محمود يريد الجهات كلها ،وكان شبح نزار يخيفه ،شبح شهرته واتفاق أهل الرأي على أنه شاعر الجماهير الخاملة؛ لذلك سعى محمود للجماهير النوعية ،الجماهير المثقفة ،سعى ألن يجعلها بطانته ضد خصومه ،هو لم يثق ّ قط بالشعراء ،كل الشعراء ،انشغل محمود واهتم بأن يحمل إلى سفينة غنائه األلحان
العميقة ،واآلهات الكثيفة ،أن يحمل إليها بعض الميتافيزيقا ،بعض المجهول
والغامض ،الغريب أن كل هذه األشياء ال تحب الذكاء ،ويمكن أن يضطرب بسببها
الغناء ،محمود يعرف أن الميتافيزيقا تميل إلى الحدس ،وأن الذكاء حركة في المعلوم
والظاهر ،يعرف أن الميتافيزيقا حركة في المجهول والباطن ،حموالت محمود درويش إلى ّ لتعزز ذكاءه وغنائيته ،لكنها تعاكست معهما ،ومع ما يحتاجان إليه من صفاء، سفينته ،أتت
ّ تفشت هذه األحمال ،ووصلت إلى غرفة محركات السفينة ،وإلى مطبخها ،وغرف وبعد أن ً نومها ،وسطحها العاري؛ بدأت السفينة في الغرق ،والغرق -أيضا -اتجاه إلى األعماق، وفيما كانت السفينة توشك على الغرق ،كان ُن َّقاده ّ يهللون لألعماق التي ّ يتجه إليها!
نزار قباني
العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
محمود درويش ..أشهر شاعر عربي لألسف
ولسانه وماء عينيه ،بالقصيدة الحديثة آنذاك التي شاعت في بيروت ،وامتدّت منها إلى العواصم ّ كافة ،أَ ْع ِني قصيدة ً درويشا بدأ النثر ،تظهر أول آثار الصدمة ،يجب أال ننسى أن وظل سريع التأثر بما يقرأ ،سريع االستجابة؛ لذلك اشتمل
الديوان على المزامير التي جاءت أغلبيتها على هيئة قصيدة النثر ،وألنه بدأ وظل شديد الذكاء والفطنة ،وأدرك أن هذه القصيدة ليست أرضه ،وأنها حتى ليست منفاه ،فامتنع منها
نهائيًّا ،وعاد ليتشبث بغنائيته ،نعرف أنه حارب على استحياء قصيدة النثر ،نعرف أنه لم يكن يحب المواجهة ،كان يتج ّنبها، في أواخر عمره كتب «في حضرة الغياب» ،و«أثر الفراشة»
كتبهما تحت تسميتينّ : نص ،ويوميات ،وقصد بهما أن يكونا ً نافذة على قصيدة نثره ،وال أقول قصيدة النثر ،فالخمر في
كتابيه هي الخمر في غيرهما ،وماء الشعر فيهما هو ماء روضي ّ تخلى عن الوزن وأبقى الشعر في غيرهما ،إنهما شعر َع ّ
ياناتشيك
على بقية العناصر ،حتى الموسيقا ظلت رغم غياب العَ روض،
كان درويش بعد أن اصطدم بجدار غنائيته ،يلجأ إلى أسلحة يفتح بها ثقوبًا في ذلك الجدار؛ َع َّله يم ّر منها إلى غناء جديد
ً آخر ،لكن الموت لم يمهله ،وال َّ درويشا كان أذكى من شك أن ّ ُن َّقاده ،وأن نقاده ظلوا أكثر جُ ْب ًنا من جمهوره ،وأقل وعيًا منه
شخصيًّا ،ففي الوقت الذي وعى أزمته ،وفكر في الخروج منها، كانوا يتسارعون إلى مدح كل ما يفعله ،اختتم درويش ديوانه
«أحبك أو ال أحبك» بقصيدته الشعرية الكبيرة «سرحان يشرب َ ديوانه السابعَ الذي سوف القهوة في الكافيتريا» ،وأتبعها
ً درويشا كان أذكى من ال شك أن جب ًنا من ُنقَّ اده ،وأن نقاده ظلوا أكثر ُ جمهوره الجماهير من ناحية ،هي لحظات عابرة وآنات متفرقة ،وليست زم ًنا ممتدً ا ،ومن ناحية أخرى هي طالبة أجوبة ،وعلى األكثر
يسميه «المحاولة رقم »7كأنه ينتبه إلى أن كل ما سبقها كان
طالبة أسئلة ممكنة وخياالت ممكنة ،فإن الجماهير ال تتعلق ّ ً تتعلق بالشاعر تعلقا كبي ًرا بالشاعر العظيم في زمنه ،أكثر مما
التي فعلها شعراء آخرون؛ يشبهونه ويشبههم ،األصحّ قد
تستق ّر أسئلته ،وتستق ّر بعض حيرتها؛ أي في أزمنة مقبلة.
محض محاوالت لبلوغ النهر ،كأنه ينتهي منها ،كأنه يثق في هذه المحاولة ،كأنه يبدأ بها ما سيأتي ،الحظ هذه التسمية
يشبهونه ،وقد يشبههم« :أوراق الغرفة رقم »8و«الطاولة
،»48ويمكننا أن نبحث عن أصل لهذا التقليد ،تقليد التسمية؛ ً مرآة تكشف عما وبخاصة أن شعر محمود طوال تاريخه كان ً ً أحيانا. أحيانا ،ومرآة مُ قعَّ رة يقرؤه ،مرآة مُ حدَّ بة االنفصال عن القطيع
غنائية محمود منذ المحاولة رقم ،7ستصبح غنائية مليئة، سياسي ،وإن َ انطو ْ َت عليها .منذ غنائية شاعر ،وليست غنائية ّ
ّ ويلتف حوله ُ الق َّراء ،بعد أن الجميل ،فاألول يخترق األزمنة قلنا :إن محمود درويش هو األذكى من نقاده ،األذكى من
خصومه ،األذكى من غرق السفينة ،في هذه اللحظة خرج
محمود درويش عاريًا إال من خمره القديمة ،وكتب «في حضرة ً استراحتين استراحة أو الغياب» و«أثر الفراشة» ،آملاً أن يكونا ِ يعود بهما بخبرات جديدة وحكايات جديدة ،يمكن أن تفصل ً العمق عن الغرقّ . طريقا أخرى؛ لتأويل فكرت أن أختار مختاراتي من شعر درويش ،قلت لنفسي :محمود هو الشاعر المهموم بالبالغة ً أيضا ،وللبالغة فروع ثالثة :علم المعاني، وعلم البيان ،وعلم البديع ،قلت لنفسي :المعاني برزخ ال
الدرويشي ،وينفصل عن (المحاولة) يتأسس جمال الشعر ّ القطيع الذي نشأ معه ،يصبح جماله رصي ًنا ،جمال ال يقلقك؛
يكفيك فيه أن تكون ذكيًّا ،ال بد أن تكون مفطورًا ،ال بد أن تكون
عالم إلى َ ينقلك من َ عالم ،وال ينشغل بذلك ،ال يحب أن يتركك
أن تكون ذكيًّا ،البديع بجناسه وسجعه وطباقه وتورياته وألعابه
يطربك ،يشجيك ،يقودك إلى الغناء ،إلى الرقص الوقور، ً أحيانا ،قد يرجّ ك ،يوهمك بالتساؤل ،جمال ال يحاول أن يه ّزك
مهمومً ا تحمل أسئلة جديدة ،وتضع عنك أجوبة قديمة ،وألن
إلهًا صغي ًرا ،أن تكون شاع ًرا ،والبيان باستعاراته وتشبيهاته ً –أيضا -برزخ ،البديع فقط هو ما يكفيك فيه وكناياته ،ومَ جازه
هو األدنى بين الفروع الثالثة؛ ألنه سهل االمتالك ،سهل الفقد،
87
دراسات
هو امرأة جميلة معروضة على الطريق ،البديع أدوات ،واالثنان اآلخران آالتّ ، فكرت في أن قمة شعر درويش تعادل قمة
البديع ،وأنهما فاتنان فتنة نعرفها ،لكنني خفت من تفكيري أيضا؛ ألنني يمكن ألاَّ هكذا ،فقررت االستغناء عن هذه الطريق ً أجيدها ،تذ ّكرت أن محمود درويش عندما وقع على «منطق الطير» لفريد الدين العطار ،اختار الهدهد ،وذ ّكرني بكلبي.
حائرا في اختيار طريقة تأويل ما زلت ً مختاراتي من شعر درويش ،أنقذني الغربي هانز األلماني المؤلف ّ ّ أيسلر ،وأعطانى طوق نجاة ً وعوضا هدهد العطار اصطاده درويش من سماء بعيدة، من أن يطلقه في سماء الشعر ،وهي بعيدة ً أيضا؛ حبسه في قفصه ،أَعني قفص الشعر ،ولما وقعت على منطق الحيوان،
اخترت الكلب َ ُ وقلت :ال بد أن أصارح بها وف َت َن ْتني حكايته، ً درويشا وأباهيه .يروي الحكاؤون أن كلبًا ضالاًّ استبدّ به َ حاف ِة ال َّنهر ،لكنه شاهد في ال َّنهر كلبًا العطش ،فاقترب من األصلي آخر ،نحن نعرف أنه شاهد صورته ،ونعرف أن الكلب ّ َ حاف ِة ال َّنهر، فزع وتراجع ونبح ،ولما غلبه الظمأ عاد إلى
ّ يهش صورته ،ولم ينجح فألقى بنفسه في الماء، وحاول أن
ما فعله الكلب فعله عظماء المتصوفة والشعراء والثوريين والحالمين ،لكن هدهد محمود درويش الذي اقترب من ال َّنهر عندما عانى العطش ،على صفحة الماء رأى صورته فلم يخف؛ الغريب أنه اطمأنّ إليها ولم يبتعد منها ،ولم ي ُْل ِق بنفسه في
88
َ ً الماء ،ظل هكذا :الفاتن المفتونَّ ، الحافةِ ،يرى واقفا على ظل
صورته ويدعو كل اآلخرين إلى أن يروهما معً ا ،هو والصورة، ّ والظل ،إنه الهدهد الجميل ،نرسيس الجميل ،منذ دخل هو
درويش ال يسرق تناص ،ونقول معهم :نعم ،طبيعة شعر درويش التي ّ ّ تدل على شاعر عموديّ إخواننا األكاديميون يقولون :إنه
في الخفاء تقول :إنها النقائض أو المعارضات ،ونقول :نعم ،العقاد يأسى ويحزن ،ويقول :هناك شعراء ال يكتبون إال وأمامهم مثال يحاكونه أو يهزؤون منه ،ونقول :ال ،درويش ليس منهم ،عندما نخلو بأنفسنا نتساءل :هل أشباح ً ً ً أيضا-درويشا ال يقلد ،األكيد أنه درويشا ال يسرق ،أن درويش هي مثيراته؟ هي بعض حصته من الميراث؟ األكيد أن
َ ً ً ّ أيضا -تحميه ،يمكن أن نصدقأيضا -وطريقتهالخاص يحميه فعال ُمه عبارات كتبها اآلخرون، ال يخاف من كِتابة ٍ ً أحيانا بصورة تكاد أن تكون حرفية، «علي حرب» عندما يقول عن درويش :أنا أعرف أنه يقرأ آلخرين ،ويقتبس منهم تكن؛ اقرأْ ُ ْ ب ْ «اكت ْ تجد» وهي تحيل إلى مقاالت طه عبدالرحمن« :اكتب تكن؛ كما في عباراته الواردة في «جدارية»: انظر تجد» ،بالطبع ِّ يحول درويش ما يقتبسه إلى قول شعريّ يحمل ختمه وطابعه؛ انتهى كالم «علي حرب» .يمكن ً العراقي «محمد مظلوم» عندما يقول :لذلك فإن السيّاب ومعه البياتي ونازك يبكون موت أيضا أن نصدق الشاعر ّ َ درويش أكثر من غيرهم حتى وهم يستعيدونهَ ،ل َكأ َّنه االبن األكثر تمثُّلاً للجينات الفنية ألشعارهم ،يكمل محمد
ًّ مظلوم :ورث درويش الريادة ًّ ً وعبئا ،ورث ً ً ً وشيئا من منفاها ،وطاف شيئا من جماهيريتها، مجدا مستحقا ،ورثها حقا بها ً ملكا متوّجً ا بين الصفوف ،في إيقاع درويش يقول محمد مظلوم :ال تجد تدويرًا واضحً ا في مجمل تجربة هذا العربي ،وهو لم يبتعد كثيرًا من محيط الدائرة اإليقاعية ،وتلخيص المعنى الذي دأب عليه ال ُّر َّواد؛ انتهى المغني ّ
كالم «مظلوم».
العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
محمود درويش ..أشهر شاعر عربي لألسف
محمود درويش أرض الشعر وهو منشغل بتعريفه، كانت تعريفاته متواترة ومتالحقة بإصرار في دواوينه
األولى ،وأصبحت كذلك في دواوينه األخيرة ،إنها؛ ُّ تطل برؤوسها أكثر في أي التعريفات ،كائنات المحطات البائسة ،لفتني أن تجربة محمود درويش
التي تنتسب إلى تجارب ال ُّروَّاد تختلف عنها في بعض
الوجوه ،فكلهم برز منذ ديوانه األول أو الثاني؛ كلهم ً وطريقا منذ أوله أو ثانيه ،بينما ظل محمود فتح بابًا يكتب أناشيده ،التي استظهرها كثيرون ،وظل يتطوَّر
ببطء إلى أن وصل إلى «المحاولة رقم ،»7وعندها بدأ ِّ الشعْ ر.
ال أحب أن أستنتج لغيري ما يجوز أن أستنتجه لنفسي،
كأن أقول :إن الفطرة تظهر على الشاعر ،وتظهره منذ اللحظة األولى ،أما الذكاء فيحتاج إلى وقت وممارسة وخبرة ،عمومً ا
هذا وجه أول لالختالف بينه وبين روّاده ،الوجه اآلخر يختفي
وراء تلك العبارة المنسوبة إلى إليوت أو إلى غيره« :إن الحقيقي يعرف كيف يسرق وال يعرف كيف ّ يقلد»؛ الشاعر ّ ً سارقا وال مقلدً ا! لكنه مع ذلك والله لم يكن محمود درويش
لم يستطع ،أو لم يرغب في أن يسيطر على ظالل أو أشباح ما يقرؤهُ ،ك ُّلنا مسكون ،كلنا يحرص على أن يخفي أشباحً ا، لكنك عندما تشرع في قراءة قصائده ترى أشباحه ّ تولي ،تبدأ
مع العب النرد« :من أنا ألقول لكم ما أقول لكم» ،فترى شبح صالح عبدالصبور يختفي ،تقرأ مرثيته لجمال عبدالناصر
«الرجل ذو الظل األخضر» فيتوارى أمامك شبحان لصالح
عبدالصبور ونزار قباني ،وربما أكثر ،تقرأ «سنة أخرى فقط» فيف ّر أمامك شبح أحمد عبدالمعطي حجازي ،تقرأ «الجدارية»
فترى أدونيس ينصرف بعد أن يترك عبارته «هذا هو اسمي» أو
«هذا هو اسمك».
ما زلت حائ ًرا في اختيار طريقة تأويل مختاراتي من
الغربي هانز أيسلر، األلماني شعر درويش ،أنقذني المؤلف ّ ّ وأعطاني طوق نجاة ،فهو يق ِّرر أنه يوجد ثالثة مبدعين كبار
في ميدان الموسيقا ملؤوا حقبة القرن العشرين :شونيبرغ، وسترافنسكي ،وياناتشيك الذي لم يستطع -كما يقول أيسلر-
مجاراة زميليه في ابتداع قوالب ولغات موسيقية جديدة إال أنه تميّز بأصالة وواقعية ّ تجلتا ،وبخاصة فيما أدخله من تجديدات
محمد مظلوم
علي حرب
هدهد العطار ،اصطاده درويش من وعوضا من أن يطلقه سماء بعيدة، ً في سماء الشعر ،وهي بعيدة أيضا؛ حبسه في قفصه ً الوصف ،فماذا إذن عن ياناتشيك؟! إنه ليس بالقطع تقدميًّا وال ً محافظا ،وما دام قد أعرض عن ركوب الموجة السائدة، حتى
من دون أن ينكص ،كما يتوقع ،على عقبيه ،مذع ًنا لحالة من
الركود ،أو لنقل بتعبير آخر :إن هاجس الصدمة الناشئة عن ً أحيانا، الجديد ،لم يكن بأكثر استيالء عليه من الرغبة الموجعة في البحث عن إمكانية الصدق المعبِّر والمثير ،وفي األغلب ترد إشارات ،تخالطها دهشة لها ما يسوّغها ،إلى أن جميع
أعمال ياناتشيك تعزى إلى أواخر الحقبة الوسطى والمتقدمة من حياته ،ومما يسترعى االنتباه له كيف أن رجلاً في عقديه
السادس والسابع أمكنه بالفعل أن يكتب موسيقا تحفل بكل هذا الرصيد من ُ الف ُتوَّة والطاقة واالنفعال؟! كما تعيننا الظاهرة
ذاتها على فهم النزعة التقريرية المباشرة عند ياناتشيك ،فقد ً مقرونا بشعوره الحا ّد بأن كان إدراكه أن لديه كثي ًرا لم ي َُق ْل بعدُ ،
الوقت ينقضي بسرعة ،وأن الباقي من العمر لم يعد يسمح له الحداثي الذي بإبداء أي قدر من التظاهر ،أو العقلنة ،أو التوجُّ ه ّ كان سمة العصر كله.
على طرائق التعبير؛ ولعل ذلك يكون اإلجابة عن السؤال:
من الضروريّ أن أفيدكم أنني ال أعرف ياناتشيك ،لكنني
بار ًزا في قصة تطوّر الموسيقا الغربية؟ فبقدر ما برع األول في
ُ ابتدأت بها :إن أجمل ما تركه محمود درويش مثلي العبارة التي هو شعره ،وأسوأ ما تركه لنا هم ُن َّقاده العابرون وَحْ دَ هم في
لماذا يصعب جدًّ ا إيجاد مكان مناسب لياناتشيك داخل إطار أي ّ يحتل كل من شونيبرغ وسترافنسكي موقعً ا مخطط ثوريّ ،بينما
استخالص نظام غير مسبوق ،وإن كان ال يزال موضوع خالف، َ اإليقاع وضعً ا جديدً ا تمامً ا ،وحرية تفوق َب أتيح للثاني أن َيه َ
أعرف محمود درويش؛ وإذا فعلتم مثلي ووضعتم اسم درويش ّ محل اسم ياناتشيكَ ،ف َل َسوْف َت َروْن ما أَراه ،و ََل َسوف تستعيدون
كالم عابر!
89
دراسات
تيماء صراع إمبراطوريات وانفتاح على اآلخر ... في ضوء نقوشها اآلرامية
والمرأة حاكمة 90
العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
سليمان بن عبدالرحمن الذييب باحث سعودي
اإلستراتيجي لمدينة تيماء جعلها نقطة التقاء كثير من الطرق التجارية التي تربط الموقع ّ اً ً وسط شبه الجزيرة العربية بغربها وشمالها ،وقد كان عامل مهمًّ ا في جعلها مَ طمعا للقوى الدولية للسيطرة عليها ،واالستفادة من مميزاتها وثرواتها؛ فقد شنَّ عليها كثير من ملوك
دولة آشور ،وهم :تجالت فاليسر ( 737 - 745ق.م) ،وسرجون الثاني ( 705 - 722ق .م)، ً مقومات عدة؛ لذلك لو لم تكن هذه المدينة تملك حمالت وآشور بانيبال ( 627 - 669ق .م) ِ ٍ العاصمة الكبيرة َلمَ ا اختارها الملك الكلداني «نبونيذ» ( 539 - 555ق.م) لتكون مقرًّا إلقامته التي استمرَّت مدة ُتراوح بين سبع إلى عشر سنوات.
91
دراسات
العربي مع تيماء التي يتناقض معناها لغويًّا في الموروث ّ
طبيعتها الطبوغرافية ،فهو يَعْ ني« :الخالء من األرض ال ماء
فيه ،وال ناس ،وال كأل»...؛ تتميز -كما أشارت مصادر الموروث ِّ والمتمثلة في :بحيرة العربي ذاتها -بمصادرها المائية الواضحة ّ تيماء ،ونهر فيحاء ،وأوديتها الكثيرة ،وعيونهـا وآبارهـا التي
تزيــد علـى السبعـين بئـ ًرا .وقد ورد اسمُ ها في عصور موغلة في
ال ِقدَ م؛ مثل :المصادر اآلشورية ،وروايات العهد القديم.
ُعثر في تيماء ،هذه المدينة التاريخية المهمة ،على تسعة
وخمسين ًّ نصا؛ أولها :وهو أشهرها وأطولها؛ إذ يصل تعداد سطوره 23سط ًرا ،اك ُتشف في القرن التاسع عشر الميالديّ ،
الفرنسي هوبر ،وهو وتحديدً ا عام 1880م ،على يد الرحَّ الة ّ النقش المعروف اصطالحً ا باسم« :نقش تيماء القديم».
أما آخِ ر هذه النصوص ،فهو ما عثرت عليه البعثة السعودية ً األلمانية ،ويبلغ تعداده ًّ 20 منقوشا. نصا وهذه النصوص اآلرامية جاءت منقوشة على أحجار سوى ست ٍة منها؛ ُن ِقشت على واجهات صخريةُ ،عثر عليها
92
نستطيع تأكيد تم ُّيز مجتمع شمال شبه الجزيرة العربية من غيره بمنحه المرأة حقوقا وامتيازا ٍ تحظ بها ليس ت لم َ ً في شبه الجزيرة العربية فحسب ،بل في المنطقة ك ِّلها ،إضافة إلى تق ُّلدها كم المطلق في كثير من الممالك الح َ ُ الشمالية وسافنياك وجام والثيم واشتيل ،وتعدادها سبعة نصوص، ِّ يسلمونها وبعد أن ازداد الوعي الحضاريّ لدى األهالي شرعوا
مباشرة إلى إدارة اآلثار والمتاحف؛ فرع تيماء ،وبلغ تعدادها إلى اآلن ًّ 18 نصا.
ولعلنا قبل أن نبيِّن ما عكسته هذه النقوش ،نوضح
مضامينها ،التي تمثلت في اآلتي: ً أولاً -أنها راوحت بين شواهد قبور ( 17نقشا)؛ ألنها بدأت إمَّا باالسم ن ف س؛ أي« :قبر» ،أو باالسم ق ب رَ : «قبْر»،
الغربي من تيماء ،وتبعد في «سرمداء» الواقعة في الجنوب ّ منها 55كيلو مت ًرا ،والكتابات على الواجهات الصخرية هي في ُّ يخطه المواطن العادي. األغلب األعمّ من النوع التذكاريّ الذي
وهناك ثمانية نصوص ُتعدّ ً نصوصا تق ُّربية؛ أحدها :قدم
حفر منظمة سوى خمسة منها ،وجاءت نتيجة لجهود األهالي
«مناة» تق ُّربًا إليها ،عنهما وعن ذريتهما إلى األبد ،وآخر تق َّرب
أما المكتوبة على الحجر ،فالطريف أنها لم تكن نتيجة ألعمال
الذين لم يتوانوا في تقديمها إلى الرَّحَّ الِين ،ويبلغ تعدادُها ستة نصوص؛ أمثال :اإلنجليزيّ «داوتي» ،واأللماني «أويتنج»،
والفرنسي «هوبر»؛ أو الباحثين والدارسين؛ مثل :جوسين ّ
العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
صاحباه المدعوان (أحْ ب وفومو) حج ًرا لمعبد اإللهة المعروفة
به «فصجو الطاهر» إلى اإلله صلم ببناء معبد لـه ،إضافة إلى كرسي (عرش) له ،ولعل أطرفها تقرب َتيْم بن الهي بحجر إهداء ّ
مكعب لإلله درعا ،الذي أنقذ «حرام» من مرض عضال ألمَّ به.
تيماء في ضوء نقوشها اآلرامية صراع إمبراطوريات وانفتاح على اآلخر ...والمرأة حاكمة
ويبدو أن َن َّ صي ِْن منها يعدَّ ان من نصوص الملكية، لاً فاألول يشير إلى ملكيته منز ،والثاني يشير إلى إنشائيين؛ أحدهما نقشين ملكيته قاعدة .ونجد ِ ِ
أشار فيه صاحبه إلى إنشاء مبنى معماريّ يعود اللحياني «تلمي» ،واآلخر إلى حقبة الملك ّ يبيِّن إنشاء بوابة لمدينة تيماء في عهد الملك
اللحياني «نوران»؛ لحماية نخيل المدينة من ّ التخريب والعبث.
ثانيًا -أن المادة التي ُكتبت عليها هذه
المجموعة هي الحجر ،سوى نقش وحيد ُكتب على كسرة فخارية ،يُق َرأ « ِقدْ ر الخمر»،
في إشارة واضحة إلى أن أهل تيماء كانوا
يتبادلون البضائع أو يبيعونها ،ويضعون عليها
معلومات؛ كي ال تختلط مع تلك التي تحوي عسلاً ٍ
أو ً زيوتا أو غيرهما. ً ثالثا -رافق أغلبية هذه النقوش ،وبخاصة المكتوبة
على األحجار ،رسوم وزخارف؛ فعلى حين غلب رسم الوجه المسلتين الصامت على النقوش القبورية (شواهد القبور) ،فإن ِ ُزيِّنتا برسوم ورموز مقدسة؛ مثل :القرص المج َّنح؛ وعلى حين تميَّزت مسلة تيماء القديمة التي ُعثر عليها عام 1880م برسم شخص وعجل ،فإن مسلة تيماء عام 1979م ُنحِ َ ت عليها
لها كما ُقدست لدى األنباط وأهالي مدينة الحضر؛ أما مهامُّ ها لدى أهالي تيماء فهي حماية القبور.
ً رابعا -إن النقوش الخمسة المؤرخة تضيف إلى معرفتنا
المتواضعة بالتقويم المستخدم لدى اآلراميين ،أنهم تعاملوا
ب سنوات حكم أحد مع نظامين للتأريخ :أولهما :التأريخ حَ َس َ ملوك اإلمبراطوريات المعاصرة لهم( :اآلشورية ،والمصرية
نجمة وقمر كامل .أما المكعب الذي ُن ِقش متأخ ًرا ،فقد ُنحت
القديمة ،واألخمينية) .ثانيهما :التأريخ حسب سنوات الملك
أما الوجه الصامت فإن ُ خلوَّه من الفم واألذنين ،وإغماض عينيه ،يطرح تساؤلاً عما كان يهدف إليه النحات من هذا
ً –أيضا -علم لشعب .وأمَّ ا ما يتصل بأسماء ولحيان ،وهو َ َ مان فقط ،هما :أرحبة ،وتيماء .وكذلك ل ع ظهر األماكن فقد ِ
الديني بجنوب شبه الجزيرة عليه رأس الثور الشائع في الفن ّ العربية ،فهو يرمز إلى اإلله القمر.
الرسم .فقد يكون هذا الرسم لبيان انتقال رُوح صاحب الشاهد
ونفسه ،فهو ال يسمع وال يتكلم ،وكذلك ال يرى ما يدور حوله. أو أن يكون هذا الوجه الصامت ليس إال لإلله الذي تكمن
مهمته في حماية القبور والحفاظ على حرمتها وقدسيتها.
والواقع أن الرسم بهذه الهيئة (من دون الفم) ،يُشبه صورة
اإللهة أتارجاتيس؛ إحدى معبودات سوريا الشمالية ،وكان الروماني إلهة سوريا .وهي ُتعدّ معبودة يطلق عليها في العصر ّ الخصوبة والحياة الرغدة المنعمة؛ لذلك كانت السنبلة شعارًا
المحلي :مثل نقوش :زنجيرلي ،وبرركب. اآلرامي ّ ّ َ ً خامسا -أضافت النقوش لنا َعلمين لقبيلة؛ هما :حطمة،
أسماء الشهور الثالثة ،وهي :آب ،وشباط ،وآذار. ملوك ودول
أبانت هذه النقوش أن تيماء في الحقبة الواقعة بين ً مستقلة بشكل القرنين السادس والثالث قبل الميالد لم تكن ً تابعة ،وعاصمة للملك الكلداني «نابونيد»؛ واضح؛ إنما كانت ّ ً ُ البابلي يدل على هذا األمر –أيضا -النقوش التي كتبت بالقلم ّ
الحديث ،واكتشفت من خالل التنقيبات األثرية التي تجري حاليًا في هذه المدينة العريقة .األمر اآلخر أن الملوك الثالثة: تلمي ،ونوران ،وهعلي ،الذين وردت أسماؤهم بشكل واضح،
الفكري الذي تبناه المجتمع المنهج ّ أساسا في جعلها مدينة التيماوي كان ً ّ مسالمة مستقطبة الشعوب المعاصرة
أشاروا إلى أنهم ملوك لحيان .وهذا يَعْ ني أن لحيان الدولة
القوية إقليميًّا آنذاك انتهزت األحداث اإلقليمية والدولية التي
أدت إلى تغيير واضح في خريطة الدول اإلقليمية بعد سقوط الفارسي للمنطقة؛ نقول :إن لحيان العاصمة البابلية واالجتياح ّ استغلت هذا الفراغ َّ ووظفته لمصلحتها ،فضمَّ ت هذه المدينة
93
دراسات
التي ال ُتعدّ من أهم المراكز الحضارية في المنطقة العربية
فحسب ،بل ُدرَّتها .وقد راعى اللحيانيُّون المكانة الثقافية
الثال َِث َة ُ الكريم{ ،وَمَ َن َ اة َّ األ ْخ َرى} (النجم ،)20 :التي عبدتها ً القبائل العربية قبل اإلسالم ،وقد وُصفت تارة بأنها امرأة
والحضارية ألهل تيماء ،فلم يفرضوا لغتهم اللحيانية ،إنما
عريانة سوداء ثائرة الرأس ...وهذه المعبودة التي وُصفت بأنها
اآلرامية ،تعبي ًرا منهم عن احترامهم الثقافة والمكانة الحضارية
تقديسا من أهالي تيماء صلم :هو معبود تيماء األكثرً ِّ ْ اشتركت في عبادته مع المحليين ،وهو من المعبودات التي
استخدموا اللغة التي استخدمها المجتمع التيماويّ وهي اللغة لهذا المجتمع الفاعل حضاريًّا. آلهة ومعبودات
وردت في هذه المجموعة أسماء اآللهة :إشيما ،ودرعا،
ومنوه ،وصلم ،وشنجال .والواقع أن هذه اآللهة التي وردت في النقوش التقدمية (التقريبية) َل ُّ تدل على التديُّن واالرتباط
باآللهة والمعبودات عند قبائل منطقة تيماء آنذاك .ومما يثير االهتمام هو تعدُّ د اآللهة ومعابدها ،وهو -في تصوُّرنا -يشير إلى
طبيعة مجتمع تيماء المختلطة ،وأهميتها االقتصادية آنذاك. والمعبودات المعروفة ،هي:
إلهة القدر والنصيب والموت.
النبطي. أهل تيماء القبائل الثمودية والشعب ّ -درعا :معبود يمكن مقارنته بكلمة درع ،المعروفــة في
العهــد القديــم بمعنى «صــورة القــوة اإللهيــة» ،وال نستبعــد أن يكــون اسمً ا لمعبــود أو معبودة غير واسع االنتشار في شبه
الجزيرة العربية.
المرأة حاكمة ممالك
االجتماعي نستطيع تأكيد تميُّز مجتمع من خالل الجانب ّ شمال شبه الجزيرة العربية من غيره بمنحه المرأة حقوقاً
-شنجال :اسم معبودة ُعرفت عند البابليين بصيغة شجل،
َ تحظ بها ليس في شبه الجزيرة العربية فحسب، وامتيازات لم ٍ بل في المنطقة ِّ كلها ،إضافة إلى ُّ تقلدها الحُ كمَ المطلق في
قبل الميالد - .منوه :هـي اإللهــة منـاة المذكـورة في القـرآن
المعبد ،فقد كانت تتمتع بحرية اجتماعية واضحة؛ فمن النقوش التسعة والخمسين ،نجد أن خمسة نقوش منها ك َتبَها
ويعتقد بعض المتخصصين أنها إلهة القمر - .إشيما :معبودة
ُعرفت في سوريا القديمة ،وتحديدً ا في حماة في القرن الثامن
94 التيماوي المسالمة طبيعة المجتمع ّ في وسط بقعة تموج باإلمبراطوريات والممالك المتصارعة هي التي قادته إلى تبنِّي المذاهب والمعبودات كافة
ً َ دينية ُعليا في وظائف كثير من الممالك الشمالية ،وتقلدها
نساء؛ مثل :تشلح بنت معن نتن ،وعلي مناة بنت تيمان، وفصي بنت مماص ،وعالن بنت شبعان؛ وإن هذه المكانة
الطيبة للنساء في المجتمعات الشمالية ال تعود إلى احتكاكهن باإلمبراطوريات في بالد الرافدين وسوريا الكبرى ومصر وغيرها ِّ المتمثلة في االنفتاح على اآلخر. فحسب ،إنما تعود إلى الثقافة ُّ وتدل النقوش على انفتاح المجتمع التيماويّ ،وعدم ُّ ويدل َقبول اجتماعي منغلق، ديني أو تقوقعه في فكر ّ ّ
المجتمع تعيينَ كاهن ذي أصول مصرية؛ على االنفتاح ِ الحضاريّ ،الذي يرى َقبول اآلخر هو أساس تقدُّ م أيّ مجتمع قديم أو حديث .ولعل القول :إن َقبول المجتمع المدعوم من ملك تيماء نفسه َليشي ُر إلى أن طبيعة المجتمع التيماويّ المسالمة في وسط بقعة تموج باإلمبراطوريات والممالك المتصارعة هي التي قادته إلى تب ِّني المذاهب والمعبودات كافة؛ لتكون مدينتهم مستقطبة الشعوب القديمة جميعها... المنازل ملكية مباحة
من األمور المؤكدة أثريًّا الجانب المعماريّ
والتخطيطي للمدينة من حيث قصورُها؛ ّ الملكي المعروف باسم «قصر القصر مثل: ّ الحمراء»؛ أو المنازل والبيوت والمعابد
العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
تيماء في ضوء نقوشها اآلرامية صراع إمبراطوريات وانفتاح على اآلخر ...والمرأة حاكمة
واألسوار؛ لكن النقوش أ َّكدت بذكرها السور الذي ثبت أثريًّا أن طول المك َتشف منه يبلغ 18كم ،وإحدى بواباته ِّ تمثل التطور
والتخطيطي للمدينة .ونشير هنا إلى أن التملك لم المعماريّ ّ يكن حَ ْك ًرا للملك وحكومته والمعبد وكهنته ،إنما كان مباحً ا
ألفراد المجتمع كافة ،ويدل على ذلك أحد النقوش. ً ً حديثا قديما دبي تيماء
البضاعة وهو «الخمر» ،والخمر ال ُتصنع إال من العنب ،ولعل
أهل تيماء استخدموا التمر في صناعة الخمور. يعدُّ الرَّحَّ الة هوبر َ أول من أشار إلى هذه المسلة من
الرَّحَّ الين األجانب ،في أثناء زيارته المنطقة عام 1878م؛ وفي
زيارته الثانية ،التي كانت بعد خمس سنوات من األولى عام 1883م ،كان عازمً ا على اقتناء المسلة ،ونقلها إلى وطنه األم
فرنسا ،وقد تحقق لـه ذلك ،بعد شرائها من مالك بئر هداج،
ال خالف على أن الشواهد األثرية المادية بما فيها النقوش
مالي رآه صاحب البئر الذي استخرجها من البئر مقابل مبلغ ّ كافيًا للتخلص منها وبيعها .ويهمُّ نا من هذه المسلة حاليًا النقش الذي ُكتب عليها ،والمكون من 23سط ًرا واضحً ا مقروءً ا
أو دبي ومثيالتها في الوقت الحاضر .وهذا المنهج تتبناه –في
العوامل الطبيعية ،ويتلخص موضوع هذا النقش في موافقة
تدل على أن المنهج الفكريّ الذي تبناه المجتمع التيماويّ كان
أساسً ا في جعلها مدينة مسالمة مستقطبة الشعوب المعاصرة بشكل واضح؛ مثل أوغاريت في األلفية الثانية قبل الميالد، األغلب -المدن الصغيرة المساحة التي تقع بمحاذاة كبيرة.
والنقش الذي وُجد على كسرة فخارية هو بمنزلة التعريف بنوع
البضاعة في الجرة( :الخمر) ،يدل على تطوُّر التسويق التجاريّ ً –أيضا -في حفظ كثير من األصناف فالج َرار ُتستخدَ م وعرضه، ِ
بشكل جيِّد سوى األسطر من الخامس إلى الثامن ،التي مَ حَ ْتها
كهنة معابد اآللهة األخرى على تعيين (تنصيب) الكاهن صلم شزب كاه ًنا لمعبد اإلله صلم (ذو) هجم؛ إضافة إلى اتفاقهم ً نخلة إذا أضفنا إليها على تقديم هبة سنوية مكونة من ثمار 21
الزراعية وكثير من األشياء؛ لذلك ُكتب على هذه ال ِقدْ ر نوع
تجارة شواهد القبور
نشير هنا إلى مالحظة مهمة توضح كيف كان يُك َتب النقش في تلك الحقبة؛ ألن كتابة شواهد القبور كان عملاً تجاريًّا َّ المتوفى قبل وفاته أو بعدها إلى مُ تعهِّد تكفين الموتى (الحانوتي) الذي من ضمن يد ُّر ِربحً ا ودخلاً جيدً ا؛ إذ يأتي أهل َّ ودل نقشان على أن (الحانوتي) كان يقوم بكتابة النقش مهامِّ ه إعداد كل ما يتعلق بالدفن ،ومنها كتابة شاهد قبره، المتوفى يقوم بكتابة الشاهد بشكل أكثر دقة؛ لذلك نجد أن خالفاً َّ مبدئي (بروفة) ،وبعد الموافقة النهائية من أهل بشكل ّ
الكتابي الذي وقع فيه الكاتب ،الناتج عن اختالف أشكال حروف نشب بين الكاتب (النحات) وأقرباء «حنه»؛ بسبب الخطأ ّ ً َ متبوعة باسم المتوفاة ،وكان من المفترض أن يكتب الكلمة كاملة هكذا: الكلمة األولى ن ف نقش «حنه» ،فقد َك َتب ن ف س .وبسبب هذا الخطأ ق َّرر أقرباء «حنه» صرف النظر عن شراء الشاهد؛ وعندما لم تتم الصفقة ُترك الشاهد مهملاً في ساحة (الورشة) ،فقام أحدهم ،وقد يكون أحد أوالد الكاتب أو أحفاده ،بكتابة حروف السطر الثاني من باب التمرين، لكنه بسبب قلة خبرته ،وعدم ُّ تمكنه من الكتابة على الحجر بالشكل الصحيح؛ جاءت حروفه سيئة وغير واضحة .أو ذلك
الحجر شبه المربع الذي وجدنا عليه نقشين ُك ِتبَا بشكل متعاكس؛ ما يعني أن الحجر كان إما للتمرين ،أو ألخذ الموافقة َّ المتوفى. النهائية لكتابة الشاهد من أهل
95
دراسات
صحراء غازي وصحراء أسامة القصيبي قصيدة «يا في سنة 1386هـ َن َظمَ غازي ّ َّ ٌّ بالصحراء، شاب صحراء» ،وفيها َي ُلوذ شاعر
والسكينة لروحه. يستمنحها األمن لنفسه، َّ
96
والقصيدة أنشودة رومنطيقيَّة تنطوي أبياتها على شاب ما استق َّر بَعْ ُد ،في وطنه ُ ّ األمّ ،بعد َه َلع
سنوات ال َّن ْشأة في البحرين ،وسنوات الغربة في أميركا ،وها هي ذي قصيدته «يا صحراء» َّ كأنها تميمة ِّ يؤلف بها قلب َّ الصحْ راء ،فعسى أن تمنحه الد ْ ِّ فء ،وعسى أنْ تقبله ابنها الجديد.
العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
حسين محمد بافقيه سعودي ناقد وكاتب ّ
أسامة عبدالرحمن
غازي القصيبي
اختالط البحر بالصحراء
َّ الصحراء بالـجَ دْب القصيبي في هذه القصيدة يصف ّ ُّ ْ والطهْر والعُ نف معً ا: و ُ ت َ َط ْف ُ الكوْنَ َ ..لـمْ أَ ْع ُث ْر َ ْض ْ َع َلى أَجْ َد َ ك ب مِ نْ أر ِ َع َلى أَ ْطهَ َر مِ نْ حُ ب ْ ِّك.. أَ ْو أَ ْع َن َ ض ْ ك ف مِ نْ ب ُْغ ِ ْ َّ والصحْ راء في هذه القصيدة، اختلطت مفردات البحر
فوَجْ ه الشاعر عليه رذاذ البحر ،ووسط َّ الصحْ راء الجديدة لم س بَعْ دُ ،مَ ْرساته التي ألقاها على ال َّرمْ ل ،وينادي َّ الصحراء َي ْن َ ُ َّ ْ استعادته وكأنها بكلمة «أمَّ اه» ،وهي تناديه بكلمة «طِ ْفلِي»، القصيبي بَعْ دَ ُطول غياب ،وفي هذه القصيدة كانت صحراء ّ التي حَ لم بها ،هي صحراء ال ُّروم ْنطيقيِّين ،تلك َّ الصحراء التي «صبَا َنجْ دٍ »َ ، َ ُت َخبِّئ أسرار َ وتمْ َنح العاشقين َن ْفحَ ة مِ نْ «ع َر ِاره»
السابعة والعشرين مِ نْ المشهور! قال غازي قصيدته وهو في َّ كأنه أراد أن ُيو ِّ َّ ُعمرهَّ ، َطن نفسه أنْ ستقبله َّ وكأنه الصحراء،
رَمَ ى مِ نْ وارء هذه القصيدة ،أنْ ستقبل َّ الصحْ راء شاع ًرا ما َّ َّ انفك يَحِ نُّ إلى مرابع ِصبَاه في «جزائر اللؤلؤ» ،غير أنه ما لبث غير قليل ح َّتى َشدَّ الرِّحَ ال إلى الغرب ،مِ نْ جديد ،ثمَّ آب إلى صحرائه ،وجعل ي َُطمْ ئنها هذه الم َّرة بديوان كاملَّ ، لعله َ صك «أنت ال ِّريَاض» د َْغدَ غة مِ نْ شاعر تنتثر انتماء إليها ،وكان ديوان ِ
مفردات البحر على جسده لعروسه َّ الصحْ راويَّة ال ِّرياض ،فهي
س بَعْ دُ ،لشاعرها الذي أشبع ليل المنامة ِشعْ ًرا وَحُ بًّا، لم َت َأن ْ ْ َّ والصحْ راء؟ وهل يصطلح البحر
ْك.. حُ بُّنا ي ُْش ِر ُق ِفي َع ْي َني ِ َكالب َْد ِر َع َلى َلي ِْل َ الخلِيجْ َس َّل ًة مِ نْ ُل ْؤ ُل ٍؤ ..حُ ْزمَ َة ُف ٍّلَ ..قا ِف َي ْه َ الـم َ َ األ ْخ َ ض ِر ما الذي ألـمـَحُ ه ِفي العَ ِ مَ ا َب ْينَ الـمِ يَاه َّ الصا ِف َيهْ؟ َ ُ ال ِّ يف ..أ َّيامِ ي الس ِ أمْ ِسيَاتِي ِفي ِرمَ ِ َع َلى البحرَ ..ليَا ِلـي َ ْص.. الغو ِ أَ ْنوَا ُر الـمَ َنامَ ْه رَجَ َع َ الغو ُ السلاَ مَ ْه َّاص ،يَا أَ ْغ َلى الآللِي ،بِ َّ ُ َّ لكنَّ صحراءه لم ت ْن ِسه واح َته القديمة ،و َي ْن َسى الشاعر ت أنَّ لألمكنة قلوبًا تغار ،و َي ْن َسى أنَّ ديوانه يحمل اسم «أَ ْن ِ ال ِّريَاض» ،ف ُي ْن ِشد على مسامعها قصيدة يستدني فيها طفولته في المنامة وأمنه وسكينته:
َ ْك أ ُعو ُد إِ َلي ِ أَ ُق ُّ ذاب ْك حَ َكايَا العَ ْ ص َع َلي ِ و ََكي َ ْف ار َْتحَ ْل ُ السرَاب ت َورَاءَ َّ َ و ََكي َ صحِ ب ُ ْف َ اب ْت الذئ ْ ويقول:
ْك ُخذي ِني إِ َلي ِ و اََل َت ْت ُركِي ِني أَ ُعو ُد إِ َلى َ الق ْف ِر و ُ ول.. َالغ ِ اَل َت ْت ُركِي ِني.. أُ َف ِّت ُ ش َعنْ مَ ْنب ٍَع ِفي ُّ الص ُخو ْر َع ِن ال َو ْر ِد ِفي الرَّمْ ِل..
97
دراسات
اَل َت ْت ُركِي ِني.. ْ س ل َِقه َْقهَ ةِ اليَأ ِ ِفي ُخ ُطوَاتِي لِزمْ جَ َر ِة َّ س َفو َْق جَ ِبي ِني الشمْ ِ وعي َّ ين لِحُ ر َْقةِ جُ ِ الد ِف ِ ْك.. إِ َلي ِ ْك.. إِ َلي ِ حنين إلى الواحة والبحر َ ُ القصيبي مِ نَ لم ُت ْفلِحْ قصائد الغزل في أنْ تق ِّرب ّ َّ الصحْ راء ،وليس عليها مِ نْ لوم ،فشاعرها ي َُخبِّئ خلف مفرداته ً جارفا إلى الواحة والبحر ،وفي وسط صحرائه المهلكة حني ًنا تبدو الواحة في خياله فتمنحه األمل ،ولم َتـجُ دِ َّ الصحراء عليه ُ بطمأْنينة رُوحه ،وحين يقف قبالة األربعين تحضر َّ الصحْ راء والواحة في مشهدي ِْن متناقضي ِْن:
98
ير َع َلى َ َت ِعب ُ الفيَا ِفي ْت مِ نَ الـمَ ِس ِ و َ زون َض ْربِي ِفي ال ُّنجُ و ِد َو ِفي الـحُ ِ َ القوَا ِف ُل :مَ ا مُ رَا ِدي؟ ُت َسائ ُِل ِني َو َي ْن َسك ُ ِب الهَ جَ ي ُر َع َلى جَ ِبي ِني ـخ ْ و ََت ْنأَى الوَاحَ ُة ال َ ضرَاءُ َع ِّني السعَ ا َد ُة َعنْ ُظ ُنو ِني َكمَ ا َت ْنأَى َّ
َ وقب َْل أن َيهْجُ ر صحراءَ ه التي دعاها ذات يوم «أُمَّ اه»، يكتب ،وقد بلغ َّ الثانية واألربعين مِ نْ ُعمْ ره قصيدته «العودة
إلى األماكن القديمة»َّ ، كأنه يستعجل بها عودته إلى «جزائر َ اللؤلؤ» ،ويعود إليها َك ْهلاً أ ْث َقل ْته األربعون ،يخادع عنْ َن ْفسه أنْ ستكون َ «ع َذاري» في انتظاره!
ت َكه اًْل َتجُ رُّه َ ُع ْد ُ األ ْربَعُ ونُ َ ُ ُ ِّ ْنَ ونُ َفأَ ِجي ِبي :أي الصبَا وَالفت ؟
كل ما قصيدة «أين َّ الربيع؟» راعبةُّ ، فيها ُموحِ ٌ أن وي َخ َّيل َّ إلي َّ ش قاحِ لُ ، َّ بالربيع إلى انتهى به ُحلُمه الشاعر َّ َ س ُت اليأس إذ ْ قرأ ُت أح َ اليأس منه .أنا ْ س ْ هذه القصيدة
العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
ملءُ رُوحِ ي َّ ْ الظمَ اَ ..فأَيْنَ َ ذاري»؟ «ع ِ َوبِ َق ْل ِبي الهَ وَىَ ..فأَيْنَ الجُ ُفونُ ؟ َ ت َلي َْلى التي أَ ْع َش ُق.. ْت ..أ ْن ِ مَ ا َت َغ َّير ِ َل ِكنْ َت َغ َّي َر الـمَ جْ ُنونُ وال َي ْن َسى في تضاعيف قصيدته صحراءَ ه التي ما عاد يناجيها «أُمَّ اه»! ْب ُ َار َّ َس ْت ِني َثو َ اري أَ ْلب َ الصحَ ِ الغب ِ َفأَ َنا ِفيه اَل أَ َكا ُد أَبِينُ أَ َت َّ ْت يَا حَ ِبيب َُة وَجْ ِهي ذكر ِ أَمْ ُترَى َن َّكر َْته َهذي ُ الغ ُ ضونُ ؟
وحِ ين يؤوب إلى واحته «البحرين» ،فهو َكمَ نْ ي ُِصيبه الفزعْ ، خشية أن يكون ما يراه أضغاث أحالم ،فهجير َّ الصحْ راء استكنَّ في نفسه ،وجعل ُي َن ِّغص عليه سعادته وه َناءَ ه: َالدمُ ُ ضحْ َك ِتي ..و ُّ ص ُر ِني وع الـحُ مْ ُر َتعْ ِ يَا ِ َ ْ ُ يَا وَاحَ ِتي ..و ََه ِجي ُر القف ِر يَعْ بَث بِي أوجه تشابه الشاعر أسامة عبدال َّرحمن يشبه َّ َّ القصيبي الشاعر غازي ّ ّ مِ نْ أوجه شتى ،فهو ابن واحة خضراء هي المدينة المنوَّرة اآلخر في ِّ التي ُولِدَ فيها سنة 1362هـ ،رافق ٌّ كل منهما َ كليَّة
ً أستاذا فيها ،وجمعهما ال ِّتجارة بال ِّرياض؛ حيث كان كالهما
الشعر ،واهتمَّ غازي وأسامة بالقضايا الوطنيَّة والقوميَّة،
اإلخواني ،يناكف به أحدهما اآلخر ،وحِ ين وجمعهما الشعر ّ غادر غازي الجامعة ،وتدرَّج في مراقي الحياة ،بقي أسامة وفيًّا لجامعته ،إلى أنْ أُحيل إلى ال َّتقاعد. َ األولى سنة 1380هـ. عرف أسامة عبدال َّرحمن ال ِّرياض الم َّرة
واختلف إلى ِّ َ كليَّة ال ِّتجارة ،ثمَّ تخ َّرج فيها قصدها طالبًا شابًّا، َ سنة 1383هـ ،وطار إلى أميركا ،وحاز منها درجتي الماجستير والدكتوراه ،وعاد إلى ِّ ً أستاذا بار ًزا فيها، كليَّة ال ِّتجارة ،وأصبح وطاب له المقام في ال ِّرياض منذ ذلك الزمن ،ولم ي َُغادرْها حِ ين أُحِ يل إلى ال َّت ُ قومي ،ع َّب َر وبي ٌّ قاعد .أسامة عبدال َّرحمن شاع ٌر ُع ُر ٌّ ص َ عن هذين المعنيين ِشعْ ًراَ ، وعبَّر عنهما ف ِْك ًرا ،وفيهما َ دَع
أسامة بما آمَ ن به غير هيَّاب وال و َِجل ،وكان صريحً ا ،يقول ما
يعتقده ،تشهد له كتبه وبحوثه التي شارك بها في مؤتمرات ف ِْك ِريَّة ،في مراكز ِع ْلمِ يَّة ذات سُ مْ عة محترمة ،وبينما كان
َّ والمثقفون في المملكة ُيبْدِ ئون ويُعيدون في قضايا األدباء ِّ ص ِّد َع ْ المؤلف ،وبينما ُ ت الحداثة وما بعد الحداثة ،وموت
صحراء غازي وصحراء أسامة
أدمغتنا بمصطلحات «المورفيم» و«الصوتيم» ،كان أسامة َّ يتحدَّث عن قضايا ال َّت ْنمِ يةَّ ، والمثقفين ،ويقول جَ ْه ًرا والثقافة
ما يخشى آخرون قوله ِس ًّرا ،وهو فيما ُي ْن ِشده ِشعْ ًرا ويُذيعه ٌ ب أُمَّ ته وتاريخه ِشعْ َره ،وتتناثر ف ِْك ًرا ساخط أبدً ا ،ثائ ٌر ،وهَ َ
في قصائده بغداد ودمشق والقاهرة وفلسطين وصنعاء وسراييفو ...لم َيك َّ ِل ولم يَمَ َّل.
في سنة 1430هـ بلغ أسامة عبدال َّرحمن َّ والس ِّتين مِ نْ الثامنة ِّ ُ وقرأتها السنة َن َظمَ قصيدته «أين ال َّربيع؟»، عمره ،وفي هذه َّ ْ َّ مجلة اليمامة ،كما قرأها آخرون .قرأ ُ ت القصيدة ،وهي في
مِ نْ قصيدة َّ الشطر ،بَحْ ُرها البسيط ،ور َِويُّها ال َّراء المضمومة، َ وعدَّ ة أبياتها عشرون بي ًتاُ ،ق ِّسمَ ْ خمسة أقسام ،تتباين فيما ت ِ بينها ُطولاً وق َ ِص ًرا .والقصيدة تمتاز بعذوب ٍة مَ ْ صدرُها ،بادي ال َّرأْي ،ذلك البحر ال َّرزين الذي هو البسيط ،وتلك القافية ال َّرائيَّة التي أُحِ ُّبها ،وآنس لها كثي ًرا. أسامة عبدال َّرحمن ال يُذيع ِشعْ ره في ال َّناس كثي ًرا ،وأنا ِّ ْ ْ والفضل في ذلك يؤول إلى مبكر، أعرفه شاع ًرا منذ زمن
َّ مكتبات تهامة التي ُع ِني ْ َت بنشر جمهرة كبيرة مِ نْ مؤلفات َّ أدباء هذه المملكة العربية السعودية ومثقفيها ،ومِ نْ بينهم َ ْ واستوق َف ِني «واستوت على الـجُ ودِيّ »، دواوين ألسامة أبرزها
المعنى القرآ ِن ّي في عنوانات دواوينه ،وليس ذلك بغريب على شاعر يعتزي إلى أسرة استقاد أبناؤها ِّ للشعْ ر ،وللعربيَّة،
ِّ شرعي كبير ،وإخوته وللدين ،فأبوه شاعر عالِم ،وخاله عالِم ّ ْ ِّ َّ عْ يتقاسمهم الش ر واألدب والنقد. ْ قرأْ ُ واحتفظ ُ وقصص ُ ت َّ ْ ت الصفحة، ت القصيدة غير مَ َّرة، وكنت أعود إليها ،مِ نْ حِ ين َ ُ سارحً ا ،وأقرؤها بها، آلخر ،أقرؤها ِ لاً ُ فأنسى كلماتها ،وأتدسَّ س إلى معانيها متأمِّ ،يَشدُّ ني البحر َ
ْ َف َي ُر ُ انطوت عليه مِ نْ حُ ْرقة وألمُ ،ثمَّ أتركها وأمضي وعني ما ُ لشأني ،وألوذ إلى مكتبتي أ ْ صلح شأنها ،أضع الكتاب ل ِْفق الكتاب ،وأنظر في شأن ورقات مبعثرة ،وإذا بي قبالة أسامة ُ كنت فيه، عبدال َّرحمن وقصيدته «أين ال َّربيع؟» ،فأُ ْع ِرض عمَّ ا س حالوتها ،وال أستبين سببًا لذلك. وأنصرف إليها ،وأكاد أُحِ ّ
أن ت َُق ِّرب لم ت ُْفل ْ ِح قصائد الغزل في ْ الص ْحراء ،وليس عليها القصيبي مِ َن َّ ّ مِ ْن لوم ،فشاعرها ُي َخ ِّبئ خلف مفرداته حني ًنا جارفً ا إلى الواحة والبحر بائسا ِص ْفر يائسا مَ نْ َتحَ يَّن األمل مُ دَّ ة طويلة ،وإذا به يخرج ً ً
س الهباء والذواء ،وهو يُطالع ِشعْ ره اليدين ،وعسى أنْ أحَ َّ اّ َ ُّ القومي ُي ْن ِشده في الـجَ مْ ع مِ نَ الطلب العرب في أميركا ،في ّ
ونمْ ِسك بطائفة منها في ديوانه َشمْ ٌ سنوات زهْ وه وكبريائهُ ، عة َظمْ أَى ،فإذا به يقف على صحراء شاسعة مهلكة ،يسأل ،وهو
في كبدها« ،أين ال َّربيع؟». ْ ْ هل عاش َّ ِسمها الشاعر ال َّربيع؟ وهل عرفه؟ القصيدة في ق ْ األوَّل تنثر األمَ ل بال َّربيع ،وفي أبيات ثالثة ليس غي ُر:
أَيْنَ ال َّرب ُ َ ض ُر يع ..وَأيْنَ الـمَ ْط َل ُع ال َّن ِ ِ وَأَ ْيـ ــنَ إِ ْطـ ـلاَ َل ٌـة ل ْ مُ ـزن َت ـ ـ ْن ـ ــهَ ـ ــمِ ـ ـ ـ ُر ـ ِل ِ ُت َقب ُِّل ال َو ْر َد ِفي َ األ ْغ َ ان يَا ِنعَ ًة ص ِ و ََع ُ ص َّ ذب مِ ْنه َير ُْق ُ زفهَ ا العَ ُ الشجَ ُر و َُتو ِق ُظ ال َّرو َ َات َغ ْف َوتِهِ ْض مِ نْ َسكر ِ و ََت ْن َت ِش ــي َ ـاريخ َّ ْض وال َّت ـ ُ األر ُ والثمَ ـ ُر ش َّ الشاعر ال َّربيع ،لك َّنه ي َْستدنيه ويسأل عنه، لم ي َِع ِ السؤال تتناثر مفردات ال َّربيعَّ ، كأنها َت َس َّل َط ْ ومِ نَ ت على ُّ مطلع القصيدة ،فال َّربيع يجذب إليه مفردات وتراكيب؛
منها« :الـمُ زن» ،و«تنهمِ ُر» ،و«الورْد» و«األغصان يانعة»، و«عزفها العذب» ،و« َي ْرقص َّ الشجَ ر» ،و«ال َّروْض» ،و«األرض
َّ و«الثمَ ُر». ال َّن ْشوَى»، كلمات ِّ الشعْ ر ُتخادع َّ الشاعر ،فيستنيم لها ثالثة أبيات اّ َ ب ،وإذا به وال ربيع حوله ،وليس هناك إل الجفاف وحَ ْس ُ
َّ َّ والصحراء تفغر فاهً ا وتسخر مِ نَ كانت الشاعر. والذواء ِ ُ َّ ْ َّ القصيبي. غازي صحراء به ش ت اعر الش ّلة ي مخ في راء الصحْ ّ َّإنها صحراء ال ُّروم ْنطيقيين ،تلك التي فيها الـحُ داء والحنين،
ْ يائس قلب قصيدة ٍ انبعثت مِ ْن ٍ َّ ْ تاريخ َنشر القصيدة في مجلة اليمامة هو 17مِ نْ شهر ربيع األوَّل سنة 1430هـ .لم ألت ِف ْ ت إلى ذلك ال َّتاريخ َاّإل حين َ صحَّ عزمي على أنْ أكتب شي ًئا فيها ،وال أعرف أمصادفة كان َ الشاعر َنظمَ قصيدته في ذلك َّ ذلك ال َّتاريخ ،أمْ أنَّ َّ الشهْر،
أنفسهمَ ، وع َسى أنْ تكون تلك َّ الصحراء التي حلم بها أسامة
يائس ما َع َرف األمَ َل في حياته ،أو َّ ُ مِ نْ قصيدة لعلها قلب ٍ ٍ
اشتاق إلى ابنه أسامة في َنجْ د ،فأنشأ يقول:
فالشهْر شهر ربيع األوَّل ،والقصيدة تسأل« :أين ال َّربيع؟» ْ َّ فهل ِّ أوحَ ى َّ ْ انبعثت بالشعْ ر؟ ال أدري! «أين ال َّربيع؟» قصيدة الشهْر
ـخزامَ ى ،وشجرها ِّ أزهارها الزنبق وال ُ الشيح والعَ َرار ،وهواؤها َ ُّ عليل ،ي َِهيج َ صبَا نجْ د أفئدة الشعراء ،فتهيج القصائد في سنة 1380هـ ،ساعة نزوله ال ِّرياضَ ، وع َسى أنْ تكون هي ت إلى أبيه َّ الصحراء التي أوحَ ْ الشاعر عبدال َّرحمن عثمان ،وقد
99
دراسات
َ صبَا َنجْ دٍ َف َق ْد َق َ ص َد َطوَى َن ْش َر َنأَى
أُ ِر ُ يت ا ْب ِني أُ َسامَ ْه السلاَ مَ ْه بِ َنجْ دٍ َير َْتدِ ي حُ َل َل َّ َ ال ِّري َ س جَ وًّا َاض األمْ ِ َ َ ْ ْ َ َ وَقل ِبي خلف طائ ِِره حَ مَ امَ ْه َ الف َ ْف ون َخو ٍ ضاءِ بِ ُد ِ
َع َّنا
زم بِعَ ٍ و َ َخ َّل َف َنا
اَل
ُنعَ ا ِني
زع ُ ُت ْ زعه
مَ لاَ مَ ْه
ُسهَ ا َد ال ُبعْ دِ حَ مَّ َل َنا ُس َقامَ ْه وَلمْ يُعْ ِط الب َِر ُ يد َل َنا ِك َتابًا َ و اََل حَ مَ َل األثِي ُر َل َنا َكلاَ مَ ْه
و َْلمْ ُيب ِْر ْق َل َنا َخ َب ًرا مُ ِسرًّا ي َ َسلاَ مَ ْه ُض ِّم ُنه ي َُطمْ ِئ ُن َنا صبَا َنجْ دٍ و َُل ْط ُف َ َ اف ك َغ ْي ُر َخ ٍ بِه ُّ َص ُفوا ال َ الشعَ رَاءُ َكمْ و َ ـمدامَ ْه ضل مِ ْن َ َ َومِ ْل بِ َ َ ْض نجْ دٍ ك بِأر ِ الف ْ ِ ذوي َّ الشهَ امَ ْه وَحَ ِّي الـمُ ْن ِجدِ ينَ ِ َت ُد ُّل َ ك يَا َ صبَا َنجْ دٍ َع َليْهِ َ ف َقب ِّْل مِ ْنه مُ ْب َت ِسمً ا و ََهامَ ْه
100
َت َك َّش َ َّ َّ للصحْ راء ،فليس ثمَّ َاّإل الشاحب ف الوجه القحْ لَ ،اّ وع َر َ َ ف َّ الشاعر بأَ َ صف وال ِّريحَ ، وإل العَ ْ خ َرةٍَّ ،أنه
أنفق عمره هباءً ،ينتظر الذي ال يأتي ،فما حوله صحراء
تأكل البشر والحجر ،وما في فؤاده صحراء ذوَى بها ف ما كان فيها مِ نْ ْأنداءَ ، جسده ،وجَ َّ ول َّف ْ ت مفردات ْ َّ واهتصرتها ،ح َّتى ألكاد الصحراء والجفاف ِجوَاء القصيدة، أُحِ ُّ س َّ الصحْ راء ،وأنا أقرؤها ،تحاصرني ذات اليمين وذات ِّ الشمالَ ، ْ انطوت عليه القصيدة مِ نْ وخ َّفف مِ نْ َق ْسوتها ما ماء ِّ الشعْ ر ورونقه. قصيدة راعبة
الثاني مِ نَ القصيدة َع َر َ منذ ال ِق ْسم َّ ف َّ الشاعر أنْ ال ربيع ُّ ُ َّ فالصحْ راء تمْ ِعن في توحُّ شها ،فهي قاحلة ،وكل ما قا ِدمً ا،
قراءة قصيدة «يا أن ِ ت» ومقابلتها بقصيدة «أين الربيع؟» ،ت ُ َش ُّد هذه القصيدة بتلك ،فالتَّراكيب واحدة، والمفردات هنا وهناك ،واألبيات بينها شبه وثيق والربيع هنا وثم
العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
اهتم غازي وأسامة بالقضايا الوطن َّية َّ والقوم َّية ،وجمعهما ِّ اإلخواني، الش ْعر ّ اآلخر ،وحِ ين غادر يناكف به أحدهما َ وتدرج في مراقي غازي الجامعة، َّ الحياة ،بقي أسامة وف ًّيا لجامعته ُّ وكل ما ر ُِوي عن الـحُ دَ اة يمرعون قِيل عنْ مُ زنة تغازل رَمْ لها، في ممشاهمُّ ، واستبدلت َّ الصحراء كل ذلك وَهْ مٌ وسراب، ِ اّ اّ السهَر ،فليس فيها َإل األنينَ ، وإل الهَمُّ لحن الـمُ دنف حلاَ له َّ
والضجَ ر ،ح َّتى َّ الليْل ،وله في ِّ العربي أعاجيبَّ ، َّ كأنه الشعْ ر ّ َّ وَحْ ش امرئ القيس في معلقته: و َّ َاللي ُْل َيجْ ُثمُ َكالـجُ ْلمُ و ِد مُ حْ َتل ًِكا َ َ ْس ي ْ َضحَ ُ ك ِفي آفا ِقه قمَ ُر و ََلي َ اّ َ و َّ اصفةٍَ ُ َالليْل مَ ا ِفيه إِل رَجْ ُع َع ِ
و َّ َاللي ُْل مَ ا ِفيه اَل َلـحْ نٌ و اََل و ََت ُر و ُ َسمَ ٌة حَ َ ضر ْ َت َاأل ْف ُق َلي َ ْس َع َليْه ب ْ زف َّ الشذى حَ َ ضرُوا و اََل َن َدامَ ى إِ َلى َع ِ
َّإنها قصيدة راعبةُّ ، كل ما فيها مُ وحِ ٌ ش قاحِ ل ،وي َ ُخيَّل إلي أنَّ َّ الشاعر انتهَى به حُ ُلمه بال َّربيع إلى اليأس منه .أنا َّ ْ ُ ت اليأس إذ قرأ ُ أحْ َس ْس ُ وانظ ْر حواليك ت هذه القصيدة.
ف الذواء والهباء والجفاف ،وحِ ين وتأمَّ ْل في أنحائهاُ ،ت ْل ِ َّ انتهَى بي َّ ُ أتوقع أنْ كنت الشاعر إلى هذه األبيات ،ما الشاعر األمل بربيع قادم ،لك َّنه فعلَّ ، سيُجَ ِّدد َّ كأنه يُخادع عنْ نفسه:
مَ ا ْ ين العُ مْ ِرَ .. زل ُ ضا ِئعَ ًة ت بَعْ َد ِس ِن ِ َ ول أ ْن َتظِ ُر ل ِْلو َْعدِ ِفي َغ ْيهَ ِ ب الـمَ جْ هُ ِ َلعَ َّله مِ ْنه َتأْتِي أَيُّ بَارقةٍَ ِ َلعَ َّله مِ ْنه يَأْتِي الهَ اطِ ُل العَ طِ ُر ت مُ ْن َتظِ رًا و ُ مَ ا ْ زل ُ َاأل ْف ُق َلي َ ْس بِهِ
َار َقةٍ ر َْع ٌد و اََل َخ َب ُر مِ نْ ظِ ِّل ب ِ َ حَ َّتى َ َ األمَ ا ِني التي ق ْد ُك ْن ُ ت أحْ ِش ُد َها َ ض َ اع ْ ْس َلـهَ ا ظِ ٌّل و اََل أَ َثرُ, ت و ََلي َ َّ كأنَّ الشاعر في َذ ْي ِنك ال ِق ْسمَ يْن ي َْس َتمْ هل حكمه على كأنه ي َّ َ الصحراء ،أ ْو َّ َّ فرصة أنْ تخالف َترفق بها ،ويمنحها
صحراء غازي وصحراء أسامة
َّ طبيعتها ،لكنَّ الجاسي ،وحينئذ، الصحراء َو ِفيَّة لطبعها ِ َن َف َ ض أسامة يديه منها ،وتاب مِ نْ سؤاله« :أين ال َّربيع؟»َّ .إنه إذ
يسأل ِّ ْ يكلف َّ فغابت الصحراء ِضدَّ طِ بَاعها :أنْ ال تكون صحراء، ت القصيدة بمفردات يفوح مِ ْنها َّ مفردات ال َّربيعَ ، اللهيب وت َل َّظ ِ والضجَ ر واالنكسار َّ َّ والل َظى:
مَ ا ُع ُ دْت أَ ْسأَ ُل و َّ َالصحْ رَاءُ َقاحِ َل ٌة َ َ ْ َ َّ أيْنَ ال َّربِيعُ ؟ وأيْنَ الـمَ طلعُ الن ِض ُر؟ َف َكي َ الصحْ رَاءِ ْ ْف َت ْنمُ و َع َلى َّ زنب ََق ٌة َ ِيف ي َْخ ُف ُق فِي أجْ َفا ِنهَا و َ َوك َ َط ُر َ ْس فِيهَا ِسوَى ال َّرمْ َ ضاءِ تذر َُعهَا و ََلي َ الص ْخ ُر َي ْن َ َّ ص ِه ُر وَمِ نْ َل َظاهَ ا ي ََكا ُد َ اص َف ًة و ََلي َ َّام َع ِ ْس فِيهَا ِسوَى األي ِ ال َت ْن َك ِس ُر و ََلي َ ْس فِيهَا ِسوَى اآلمَ ِ والصحْ رَاءُ َقاحِ َلةٌ أَمْ َ ضي ُ َّ ْت ُعمْ ِريَ و َ َض َ اع فِيهَا الذي َيه ُْفو َله العُ مُ ُر
الش ْعر تُخادع َّ كلمات ِّ الشاعر ،فيستنيم ب ،وإذا به وال س ُ لها ثالثة أبيات َ وح ْ ربيع حوله ،وليس هناك إل الجفاف اَّ فاها وتسخر والصحراء تفغر والذواء َّ ً مِ َن َّ الشاعر
ْ كانت بُدَ اءة األزمة ،وفي قصيدة «أين أنت» في قصيدة «يا ِ ال َّربيع؟» كان َت َفجُّ رها ،وبين هذه وتلك ،لمْ يستسلمْ أسامة
عبدال َّرحمن لسطوة الصحراء ،ولمْ يذعنْ لها ،و َر َّد لظاها الشعْ ر ،في ّ الشعْ ر ،وكان ِّ ولهيبها ،بمائيَّة الكلمات وربيع ِّ كل
أحواله بردًا وسالمً ا عليه .
ْ ار حِ ْكمَ ِتهَا َلـمْ َيب َْق فِي دَف َت ِري مِ نْ َن ِ اّ و ََقدْ َت َل َّظي ُ والع َب ُر ْس ْت ..إِ َل الدَّ ر ُ ِ
وماذا َب ْع ُد؟ عن بقي أنْ أَ ُقول :إنَّ قصيدة «أين ال َّربيع؟» ِ كانت اإلعالن ِ وكانت َّ َّ بالصحراء التي جَ َثمَ ْ الثورة َّ ت على أُ ُف ِق والضجَ ر، اليأْس ِ
الشاعر ،ح َّتى جَ َّ َّ ْ ف الماء وذوَى ُغ ْ كانت قصيدة صنُ الكلمات.
«أين ال َّربيع؟» المنتهَى وليس المبتدأ ،فأسامة عبدال َّرحمن س اليأْسَ ،قبْل هذه القصيدة بسنوات طويلة ،ففي ديوانه أحَ ّ «دفاتر َّ أنت» ُنمْ ِسك ببذرة الشجَ ن» (1998م) ،وفي قصيدته «يا ِ قصيدة «أين ال َّربيع؟». ً ً وأستطيع أنْ أجعل القصيدتين قصيدة واحدة ،وليس
ذلك بجامع البحر الواحد وال َّر ِويّ الواحد .إنَّ البحر وال َّر ِويّ أنت» ومقابلتها ي َُقوِّيان هذا الزعم .لكنَّ قراءة قصيدة «يا ِ بقصيدة «أين الربيع؟»َ ،ت ُشدُّ هذه القصيدة بتلك ،فال َّتراكيب
واحدة ،والمفردات هنا وهناك ،واألبيات بينها شبه وثيق، وال َّربيع هنا َ وثمَّ : مَ ا َه َّل و َْع ٌد ...و ََلـمْ َتحْ ُ ض ْر أَ ِه َّل ُت ُه و اََل ال َّن َدامَ ى اَ السمَّ ا ُر َق ْد حَ َ ضرُوا ول ُّ ت مِ ْنه َ يع أَ َط َّل ْ و اََل ال َّربِ ُ ضاحِ َك ًة
ض ال ُورُودَِ ...ع َلى ال َ بَعْ ُ ـخ َّدي ِْن َت ْن َت ِث ُر ِك ِفي َ اآلفاق أُ ْغ ِنيَةٌ َ َ وَمَ ا ُهنال ِ مِ نْ رَجْ ِعهَ ا َق َ ُ ـمُ زن َت ْن ِهمِ ُر ل ا َات ر ط ِ
101
تقرير
في إطار جدلية العالقة بين الثقافة والسياسة
معارض الكتاب العربية تواجه التشدد والرقابة وتبعات الربيع العربي 102
العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
حسين حسن حسين الفيصل
العالقة بين الثقافة والسياسة جدلية ال تنتهي ،لكن تبدو ظالل السياسة واضحة على الثقافة في كل صورها ،ومعارض الكتاب تتأثر هي األخرى بوصفها واحدة من أبرز الفعاليات الثقافية التي تحرص عليها المدن الكبرى ،وبخاصة العواصم التي تتأثر بشكل مباشر باألوضاع السياسية،
السياسي وقد أثرت ثورات الربيع العربي في كثير من المعارض على نحو واضح ،كما أن الصراع ّ ً المحموم بين القوى المختلفة يؤثر في هذه المعارض ،وإذا عدنا إلى نشأتها نجد ارتباطا مباشرًا بينها وبين الظروف السياسية المحيطة.
واالجتماعي في بعض معارض الكتاب العربية. السياسي وفيما يأتي ترصد «الفيصل» أثر الواقع ّ ّ
103
تقرير
القومي نشأة معرض بيروت في أحضان التيار ّ يبدو أثر الظروف السياسية واضحً ا في نشأة معرض
الدولي للكتاب ،الذي يكمل عامَ ه الستين في دورته بيروت ّ المقبلة في هذا العام؛ إذ انطلق عام 1956م؛ ليستحق بذلك العربي. لقب عميد معارض الكتاب في الوطن ّ
العربي يعيش في تلك الحقبة تفاعالت فقد كان العالم ّ
ما بعد أحداث سياسية كبيرة؛ مثل :الحربين العالميتين األولى والثانية ،وتداعيات وعد بلفور ،الذي منح اليهود وط ًنا في أرض عربية ،حتى وقعت حرب فلسطين ،وفاحت رائحة
فضيحة األسلحة الفاسدة ،واإلحساس المتنامي بالتآمر جسد في قيام دولة إسرائيل ،إضافة إلى وقوع الغربي ،الذي َت َّ ّ األجنبي ،وصعود المد معظم الدول العربية تحت االحتالل ّ القومي ،وقيام ثورة يوليو بقيادة جمال عبدالناصر في مصر، ّ
الوطني. وتطلع دول آسيا وإفريقيا إلى التحرر ّ في تلك الظروف الدقيقةَّ ، فكر كل من نديم دمشقية،
وفؤاد سليم سعد ،ورامز شحادة ،وهم ينتمون إلى التيار
104
الدولي للكتاب عميد معرض بيروت ّ العربي يحتفل معارض الكتاب في الوطن ّ بعامه الستين ..كانت نشأته قومية وأداة من أدوات المقاومة الثقافية
العربي في تلمس وسائل تسهم في زيادة الوعي القومي ّ ّ بالقضايا القومية؛ وكانت المظلة التي تضم أنصار هذا التيار هو العربي ،الذي أصدر مجلة الثقافة العربية عام الثقافي النادي ّ ّ
1956م ،وبادَر في العام نفسه إلى تنظيم معرض بيروت للكِتاب ً معرضا دول ًّيا بإقبال دُور النشر العربي ،الذي تطوَّر إلى أن صار ّ العربية والدولية على المشاركة فيه.
قاوَم هذا المعرض ظروف الحرب األهلية العصيبة،
اإلسرائيلي لبيروت ،وما صاحبهما من عدم استقرار واالجتياح ّ
أمني وضائقة مالية ،وظل األول من إبريل من كل عام يوم ّ احتفاء بالثقافة في أحضان بيروت ،التي كانت في مقدمة َر ْكب الثقافة العربية ،منذ أن دانت لها الريادة في إدخال الطباعة،
معرض الخرطوم
وإصدار الصحف.
الدولي لحظر الكتب
أمن ًّيا؛ الستدراك التأخير ،وقد أصدر النادي كتابًا تذكاريًّا
من ُ الكتب المُ صادَرة في معرض الخرطوم الدولي
للكتاب« :بستان الخوف» للروائية أسماء عثمان الشيخ، ورواية «أسفل قاع المدينة» للكاتب إيهاب عدالن ،ورواية «سيرة قذرة» للكاتب محمد خير عبدالله ،ورواية «ساعي
الريال المقدود» لألديب مبارك أردول ،وكتاب «هل الس َلف؟» للكاتب محمد البدوي المصطفى ،وكلها أخطأ َّ السوداني. صادرة عن «دار أوراق» التي ُتع َنى بنشر األدب ّ
وطال المنع في سنوات مضت الرواية العربية
الشهيرة «موسم الهجرة إلى الشمال» لألديب السوداني ً –أيضا -تدريسها في الجامعات، الطيب صالح ،ومنع
ومُ نعت كتب« :الخندق» للكاتب فتحي الضوء،
و«الحركة اإلسالمية دائرة الضوء وخيوط الظالم»
للدكتور محبوب عبدالسالم ،ورواية «الجنقو مسامير
األرض» لألديب عبدالعزيز بركة ساكن ،وكل الكتب الممنوعة تجد طريقها إلى ُ القراء ،وتزداد مبيعاتها بشكل كبير ،وأطلق بعض الظرفاء على هذا المعرض« :معرض
الخرطوم الدولي لحظر الكتب».
وكان المعرض ي َّ ُنظم مرتين في العام الذي يشهد استقرارًا
الذهبي النطالق المعرض ،شارك فيه جَ مْ ع من في اليوبيل ّ المثقفين اللبنانيين والعرب. أما في أيامنا هذه فقد ألقت الظروف االقتصادية بظاللها
على الدورة 59التي أقيمت في المدة ( 27نوفمبر 10 -ديسمبر
عام 2015م) ،بمشاركة 273دار نشر عربية وأجنبية؛ إذ لوحظ
قلة اإلقبال مِن الجمهور ،وتواضع المبيعات ،حتى إن أحد ال ُّن َّقاد وصف ُروَّاد المعرض بأنهم يتجوَّلون في األروقة مكتفين
بالنظر إلى الكتب ،كما لو كانوا يبحثون عن كتاب لم يُطبَع بعدُ ! معرض القاهرة في مواجهة آثار النكسة
كانت القاهرة التي شهدت إحدى الثورات المهمة التي
غيرت وجه الحياة السياسية في آسيا وإفريقيا على موعد مع
الثقافي العصريّ ،في تزامن مع االحتفال بألفيتها، هذا الفعل ّ ُ يخل من إشارات سياسية واضحة ،فقد كانت مصر الذي لم ً ظروفا سياسية صعبة وضاغطة في العربي يعيشان والعالم ّ أعقاب ما سُ مِّ ي بنكسة يونيو عام 1967م ،والهزيمة القاسية
للعرب من إسرائيل.
وجاءت االحتفالية بألفية القاهرة مظه ًرا من مظاهر تحدي
تلك الظروف ،وتلمس وسائل إحياء األمل في تجاوز المرحلة العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
معارض الكتاب العربية تواجه التشدد والرقابة وتبعات الربيع العربي
معرض القاهرة الدولي للكتاب
الدولي متزام ًنا مع بكل تداعياتها ،وكان انطالق معرض القاهرة ّ
هذه االحتفالية عنص ًرا من عناصر الزخم ،الذي أرادته اللجنة
المنظمة برئاسة الدكتور ثروت عكاشة وزير الثقافة آنذاك؛ إذ أَوْلت اهتمامها ليأتي المعرض في أبهى حلة؛ لهذا أسندت إلى الدكتورة سهير القلماوي مهمة اإلشراف على تنظيمه بأفضل
مستوى ممكن.
واجه المعرض صعوبات جمة بين عامي (2014 - 2011م)؛
بسبب الظروف السياسية التي مرت بها مصر بعد ثورة يناير،
وفي تفاعل مع األوضاع القائمة احتفى المعرض باإلمام محمد عبده ،بوصفه «رائد الوسطية اإلسالمية» و َْفق ما وصفته به
الدولي للكتاب انطلق معرض القاهرة ّ في ألفية المدينة ،وفي ظروف النكسة ،ويواجه ظروف الواقع السياسي بفعالياته الثقافية ّ بالسياسي ،تضمّ نت الثقافي وفي داللة على تشابك ّ ّ الفعاليات الثقافية للمعرض ندوة بعنوان «الشرطة ودورها
فى جهود التنمية الشاملة» ،مع تكريم أسر شهداء الشرطة،
وحمل معرض هذا العام (2016م) شعار «الثقافة في
السياسي ،مما يبرز تأثير والمست بعض الفعاليات اإلسالم ّ السياسي في هذا المعرض منذ نشأته. الواقع ّ
السياسي في المرحلة الحالية، يعبر عن تفاعالت الواقع ّ الثقافي في مختلف الفنون والعلوم وجاء فيه« :يواجه اإلبداع ّ
الواجهة معرض تونس ..عودة إلى ِ الدولي أحد أعرق معارض الكتاب العربية، معرض تونس ّ
إدارة المعرض.
المواجهة» ،وسوَّغت اللجنة المنظمة اختيارها الشعار ببيان
االجتماعية مخاط َر وتهديدات تواجه عالمنا وإقليمنا ،من
خالل القوة الناعمة المتمثلة في الكتاب ،واألجناس األدبية، والموسيقا ،والسينما ،والمسرح ،والفنون التشكيلية ،التي
ً دفاعا عن قيمة المعرفة ،والوعي تقف في الصفوف األولى؛
البصير ،والجمال ،والحق ،والخير ،والحوار ،والتسامح، األصولي المغلق ،وتجلياته واالختالف إزاء مخاطر العقل ّ اإلقصائية واالستبدادية ،التي ترفض وتنبذ التعددية والحوار
والحق في االختالف».
وقد ألقت األوضاع التي مرت بها تونس -بعد ثورتها على ّ فتوقف اضطرار ًّيا عام نظام بن علي -بظاللها الكثيفة عليه،
واجهة الحياة الثقافية العربية في الدورة 2014م؛ ليعود إلى ِ الـ 31التي أُقيمت على مدار عشرة أيام ( 27مارس 5 -إبريل ً ً ً وأجنبية ،وتناولت عربية دولة 2015م) بمشاركة 692ناش ًرا من 19 فعالياته الواقعَ والعالمي. العربي الثقافي َّ َّ َّ ُ اإلرهابي على متحف باردو -قبل ولم يَحُ ْل وقوع الهجوم ّ أيام من انطالق المعرض -دون إقبال التونسيين على المعرض.
105
تقرير
وك َّرم المعرض الدكتورة نوال السعداوي ،والشاعر
الوطني لالستحقاق السوري أدونيس ،بمنحهما الوسام ّ الثقافي من الطبقة العُ ليا ،وهما من الوجوه الثقافية التي ّ يدور اللغط حولهما بين دعاة التشدد واالنفتاح. وعلقت لطيفة األخضر وزيرة الثقافة التونسية على
تفاعل الجمهور مع فعاليات المعرض بقولها :إن هذه الدورة
تميزت بتوجه جديد يختلف عن الدورات الماضية التي لم تكن تستجيب ل ُروح الثورة ،وفي قطيعة معها.
وكان وزير الثقافة السابق مراد الصقلي سوغ عدم تنظيم
معرض تونس الدولي للكتاب في عام 2014م بوجود شبه
إجماع من جميع األطراف من وسائل اإلعالم واتحاد الناشرين التونسيين ووزارة الثقافة على عدم نجاح الدورة؛ مما يتطلب
إعادة التفكير في إستراتيجية واضحة لضمان نجاحه في المستقبل.
وقد واجه انتقادًا من وسائل إعالم تونسية وصفه بعضها
بأنه وزير للموسيقا ،وليس وزي ًرا للثقافة ،في إشارة إلى أنه موسيقي االختصاص ،وكان يدير مهرجان قرطاج. ّ
106
معرض الرياض ..جدل ال يتوقف
تشهد دول الخليج العربي ازدهارًا واضحً ا في صناعة
الكتاب ،وفي احتضان معارضه ،وإقامتها على نحو منتظم،
مع مشاركة واسعة من دور النشر العربية واألجنبية، الخليجي ويصاحب ذلك جدل كبير يبرز ما يعيشه المجتمع ّ
معرض الرياض ساحة للسجال بين المتشددين ودعاة االنفتاح ..ورموز عربية في األدب محل الخالف، دائما في الواجهة و«أوالدنا حارتنا» ً الدولي من تحوالت ثقافية واجتماعية ،فمعرض الرياض ّ للكتاب يحتفي بدورته العشرين في مارس 2016م ،وقد شهد ً عوضا من تحولاً كبي ًرا في األعوام األخيرة ،بفتح أبوابه للجميع
تحديد مواعيد للرجال وأخرى للعائالت مثلما كانت العادة، ويشهد المعرض جدلاً دائمً ا وتجاذبًا بين رؤية محافظة
ومتشددة وبين رؤية منفتحة على جديد الفكر والثقافة؛ على نحو ما حدث في الدورة الماضية في ندوة «الشباب والفنون..
دعوة للتعايش» عندما أبدى الدكتور معجب الزهراني أسفه
لتع ُّرض آثار الدول العربيّة للتدمير ،فاعترض أحد الحاضرين معل ًقا بأن الرسول -صلى الله عليه وسلمّ - ِّ حطم األصنام حينما دخل مكة المكرمة ،فأعلن مدير الندوة نهايتها بإغالق
باب النقاش.
وما هذا الحدث إال صورة مصغرة لسجال سنويّ متكرر،
ويتهم بعض أصحاب الفكر المتشدد القائمين على المعرض بالسماح بعرض ُكتب وروايات تتضمن عبارات يصفونها
بالخادشة ،ومن ضمن الكتب التي حدَّ دها بيان لهم :رواية
معرض بيروت الدولي للكتاب
العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
معارض الكتاب العربية تواجه التشدد والرقابة وتبعات الربيع العربي
«أوالد حارتنا» لنجيب محفوظ ،وديوان سميح القاسم، وديوان عبدالوهاب البياتي.
وفي مقابل ذلك يرفض مثقفون ما يصفونه بـ«وصاية من
الدعاة على الثقافة في معرض الكتاب» ،فهل سيشهد معرض
الكتاب هذا العام الجدل ذاته؟
س َمة معارض عربية المنع ِ ُ َّ يضيق الكتاب العرب ً ذرعا بالمنع الذي تمارسه معارض
ثقافي صار مفتوحً ا على مصراعيه، الكتاب العربية في فضاء ّ
السياسي المحتدم يلقي بظالله على تلك ويبدو أن الوضع َّ المعارض.
روايات وكتب تحت مقصلة الرقيب الكويتي الدولي األخير منعً ا واسعً ا شهد معرض الكويت ّ للكتب والروايات ،ومن أشهر الروايات الكويتية الممنوعة« :فئران أمي حصة» لسعود السنعوسي، و«خرائط التيه» لبثينة العيسى ،و«ال تقصص رؤياك»
لعبدالوهاب الحمادي ،و«رائحة التانغو» لدلع المفتي، و«ثؤلول» لميس العثمان ،و«كاليسكا» لناصر الظفيري،
معرض الكويت الدولي للكتاب أحد أقدم المعارض
الكويتي و«عقالني الكويت» لعقيل العيدان عن المفكر ّ الراحل أحمد البغدادي.
بل يمكن من دون مبالغة القول :إن هذا المعرض هو أكثر
السوداني حمور زيادة ،وديوان «شوق الدراويش» للكاتب ّ
العربية ،كانت دورته األولى عام 1975م ،ومع هذا ال ِقدَ م أثارت أربعينية المعرض ( 28 -18نوفمبر الماضي) كثي ًرا من الجدل؛
المعارض إثارة للجدل؛ بسبب منع الكتب على نحو واسع، واتهم ُ ً عنواناَّ ، تاب حتى بلغ تعداد العناوين الممنوعة 220 الك ُ الرقباءَ باستسهال المنع؛ إلراحة الذهن من عناء التفكير في محتوى الكتب ،وعدم وجود معايير واضحة يبنون عليها قرار
المنع.
وتحت عنوان «عشرون عامً ا في الواجهة» ،احتفى معرض
الدولي للكتاب بدورته الـ ،20التي أقيمت في المدة (29 الجزائر ّ أكتوبر 7 -نوفمبر 2015م) ،وشارك فيها 290ناش ًرا جزائريًّا، ً ً دولة. عارضا أجنبيًّا يمثلون 47 إضافة إلى 620
ومنعت الرقابة كتبًا سبق أن أجيزت؛ مثل :رواية
«ال تجرح الماء» للشاعر السعوديّ أحمد قران الزهراني. ومنعت ُكتب ُ لكتاب وأدباء مشهورين؛ مثل :سعيد
السريحي ،والمنسي قنديل ،وإبراهيم عبدالمجيد،
وعلي شريعتي ،وإبراهيم الكوني الذي احتفى المعرض
بأعماله األدبية في مفارقة واضحة.
الدولي للكتاب األوضاع السياسية وقهر معرض طرابلس ّ
المضطربة ،واحتفى بدورته الـ 11 في المدة ( 10 - 1أكتوبر 2013م)
ُ ُ السلطات تخل االحتفالية من لغط؛ إذ منعت ولم
بمشاركة 400دار نشر؛ من بينها 300دار نشر عربية وأجنبية،
ومن أبرز الكتب الممنوعة« :الماسونية في العالم العربي
لمواجهة اإلرهاب؛ إذ جاءت كلمة طرابلس مستظلة بكتاب
الجزائرية 106عناوين من الكتب لدُ ور نشر عربية وعالمية، 2007م» ،و«من اإلرهابي؟» ،و«الجزائر جنراالت» ،و«صديقنا
بوتفليقة».
الدولي للكتاب في دورته الـ 11 واحتفى معرض الخرطوم ّ بأديبين تغ َّنيَا بالحرية وكسر األغالل؛ هما الشاعر الشعبي
الراحل محمد الحسن حميد ،والشاعر الراحل محمد الفيتوري ،وفنان الجاز الذي يعدّ أحد مجددي الموسيقا
ٌ وكتب روايات السودانية وهو شرحبيل أحمد ،لكن حُ ِجبت ٌ وسياسي؛ وجنسي ِيني ّ ّ كثيرة بذرائع مختلفة منها ما هو د ّ
ذهب برونق االحتفاء.
معارض ..وظروف استثنائية
ٍّ بتحد لألوضاع األمنية التي يعيشها العراق ،أقيمت العام
الدولي للكتاب الماضي في بغداد الدورة الـ 42 لمعرضها ّ ً ً ً وأجنبية ،و 590دار نشر. عربية دولة بمشاركة 22
و 100دار ليبية ،واتخذ المعرض شعارًا يرمز إلى أهمية الثقافة مفتوح.
واحتفى معرض صنعاء الدولي بالدورة 29عام 2013م،
ُ لغيت الدورتان التاليتان؛ للظروف األمنية في اليمن. وأ ِ وفي خطوة ُتبيِّن دالالت معارض ُ الكتب على االستقرار دولي؛ دعا واألمن في البلد الذي يحتفي بالكتاب بمعرض ّ
اتحاد الناشرين السوريين المحسوب على النظام السوريّ إلى تنظيم معرض للكتاب في دمشق عام 2014م ،بعد أن أُلغي األمني الذي الدولي للكتاب؛ بسبب االضطراب معرض دمشق ّ ّ السياسي الذي تؤ ِّديه معارض تشهده سوريا؛ مما يؤكد الدور ّ
وأمني وربما سياسي الكتب؛ إذ يوحي انتظامها بوجود استقرار ّ ّ
ثقافي ،تحرص األنظمة على إشاعته. ّ
ومع األوضاع السياسية الساخنة في الساحة العربية،
العربي صامدة؟ سؤال هل تظل معارض الكتاب في عالمنا ّ تجيب عنه األيام.
107
تقرير
108
مواعيد معارض الكتاب العربية املكان
اسم املعرض
معرض الشارقة الدولي للكتاب
من
التاريخ
إىل
معرض القاهرة الدويل للكتاب
القاهرة -مصر
2016-1-27
2016-2-10
معرض الدار البيضاء الدويل للكتاب
الدار البيضاء -اململكة املغربية
2016-2-11
2016-2-21
معرض مسقط الدويل للكتاب
مسقط -سلطنة عمان
2016-2-24
2016-3-5
معرض الرياض الدويل للكتاب
الرياض -اململكة العربية السعودية
2016-3-9
2016-3-19
معرض البحرين الدويل للكتاب
املنامة -البحرين
2016-3-24
2016-4-3
معرض اربيل الدويل للكتاب
أربيل -العراق
2016-3-25
2016-4-3
2016-4-2
2016-4-12
2016-4-27
2016-5-3
2016-5-7
2016-5-17
2016/9/3
2016/9/13
2016/9/25
2016/10/6
2016/10/6
2016/10/16
2016/10/16
2016/10/28
2016/10/28
2016/11/7
2016/11/4
2016/11/14
2016/11/18
2016/11/28
معرض تونس الدويل للكتاب
تونس -تونس
معرض أبوظبي الدويل للكتاب
أبو ظبي -اإلمارات العربية املتحدة
معرض فلسطني الدويل للكتاب
فلسطني -فلسطني
معرض عمان الدويل للكتاب
عمان -اململكة األردنية
معرض اليمن الدويل للكتاب
صنعاء -اليمن
معرض ليبيا الدويل للكتاب
طرابلس -ليبيا
معرض الخرطوم الدويل
الخرطوم -السودان
معرض الجزائـر الدويل للكتاب
الجزائر -الجزائر
معرض الشارقة الدويل للكتاب
الشارقة -اإلمارات العربية املتحدة
معرض الكـويـت الدويل للكتاب
الكويت -الكويت
العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
معارض الكتاب العربية تواجه التشدد والرقابة وتبعات الربيع العربي
109
مقال
بالك ووتر.. حروب بال كلفة أخالقية الرأسمالي الذي ّ تتقلص مسافاته الجغرافية كل يوم ،جرى تسليع ّ كل شيء ،ومن ذلك الحرب .خصخصة الجيوش في عالمنا ّ َ ّ الخاصة مهمّة صناعة جيوش صغيرة تعتمد في هي إحدى معالم الحروب الحديثة ،والخصخصة هنا تعْ ني تسليم الشركات تكوينها على مقاتلين مرتزقة ،ال يهمّ من أين َأتوْا ،وال أين سيذهبون ،فالمال يمتلك ّ كل األجوبة هنا. خطورة الجيوش المرتزقة تكمن في أنها عامل اضطراب آخر يضاف إلى المناطق غير المستقرة في هذا العالم ،وهي تسهّل على ّ سياسي. التدخل وإشعال الحروب ،بال ُكلفة أخالقية ،ومن دون توريط مواطنيها ،أو تحمُّ ل عبء وثقل الحكومات والسياسيين ّ
أبعد من ذلك ،يدفع هذا األمر إلى الرغبة في وجود الحروب لوجود مَن يدفع .واستخدام الجنود المرتزقة ظاهرة قديمة ،بل وسابقة على جيوش الدول الحديثة؛ إذ استخدمهم الملوك والبابوات في العصور الوسطى. ّ السياسي في احتكارها القوة والعنف ،لكن في العقدين اضمحلت هذه الظاهرة مع حرص الدول الحديثة على المنطق وقد ّ
األخيرين َنمَ ْ ت هذه الظاهرة بشكل غير مسبوق ،وازدهرت هذه الصناعة في أزمات متنوعة اليوم؛ من حضور الجنود المرتزقة من جنوب إفريقيا لمواجهة بوكو حرام في نيجيريا ،إلى مرتزقة شيشانيين؛ لدعم بوتين في أوكرانياَ . وف ْ ض ُل العودة إلى منطق الجنود
المرتزقة وإشعال الحروب ،يعود تحديدً ا إلى حرب َْي أفغانستان والعراق ،حين ّ مثلت هذه الجيوش الخاصة ركيزة مهمة للحرب األميركية ،وقبل ذلك ،إلى هجمات الحادي عشر من سبتمبر.
في العاشر من سبتمبر عام 2001م ،وقبل هجمات سبتمبر بيوم واحد ،وقف دونالد رامسفيلد ،وزير الدفاع في إدارة جورج دبليو
110
بوش؛ ليلقي خطابًا رئيسيًّا في البنتاغون ،وأمام كبار القادة العسكريين ،والمشرفين على عقود الدفاع الضخمة؛ انتقد رامسفيلد
ّ الخاص .في اليوم الالحق بيروقراطية سياسات البنتاغون وبطأها ،وطالب بإجراء تحوُّل واسع في سياسات الدفاع يرتكز على القطاع ُضعت خطة رامسفيلد فورًا في حيّز التنفيذ ،وأصبحت ُتع َرف بما يسمّ ى تمَّت مهاجمة البنتاغون في هجمات سبتمبر المشهورة ،وو ِ «عقيدة رامسفيلد» التي من مالمحها التركيز بشدة على القطاع الخاص ،واالعتماد على القوات الخاصة والمقاولين ،والتشديد
على السرية ،واستخدام أنظمة األسلحة المتطورة .هذا االنطالق إلى الصناعة وازدهارها من بداية العقد الماضي ،أتى تتويجً ا لنشاط فعلي بدأ مع بداية التسعينيات؛ فديك تشيني وزير الدفاع آنذاك ،والحليف الوثيق لرامسفيلد ،كان قد شرع في قيادة الحمالت ّ لدعم الهدف ذاته.
ّ سنوي مئة مليار دوالر عائد
من الصعب تحديد تعداد الجنود المرتزقة حول العالم ،فلم تتوافر للحكومات واإلعالم فرص جيدة لتحصيل المعلومات؛ بسبب الغموض وسياسات التك ّتم الشديدة من أرباب هذه الصناعة .وراوحت تقديرات العائدات السنوية لهذه الصناعة بشكل واسع بين بضعة مليارات ،وأوصلتها بعض التقديرات إلى مئة مليار ،وفي العقد الماضي ُقدّ ر تعداد المقاولين األمنيين ،وهي تسمية ألفا في العراق ،وسبعين ً أخرى للجنود المرتزقة ،ممن عملوا إلى جانب القوات األميركية بثالثين ً ألفا في أفغانستان.
بالك ووتر ،هي أشهر شركات الجنود المرتزقة .بعد مرور ما يقارب العقد على إنشائها في منتصف التسعينيات؛ أصبحت هذه
الشركة فرس الرهان للحرب التي أعلنها جورج بوش على اإلرهاب .مؤسس هذه الشركة إريك برنس ،وهو من عائلة ثرية يمينية،
لها تاريخ في دعم قيادات من الحزب الجمهوريّ ،وقد غادر الواليات المتحدة األميركية؛ بسبب المحاكمات والفضائح التي الحقته مع شركتهّ ، واتجه إلى العيش والعمل في اإلمارات ،واآلن تزدهر أعماله في مناطق مختلفة؛ منها إفريقيا الوسطى. إن تجربة وجود الجنود المرتزقة في العراق كانت تجربة مريرة ،ال تزال تتواصل تداعياتها؛ ففي العام الماضي تمَّ ت محاكمة
أربعة أعضاء من منظمة بالك ووتر في الواليات المتحدة األميركية ،بأحكام تراوحت بين المؤبد والثالثين عامً ا؛ لقتلهم 14مدنيًّا عراقيًّا .وأول مرة سمع العالم بالجنود المرتزقة ،كان بسبب كمين الفلوجة المشهور عام 2004م الذي ُقتل فيه أربعة من مرتزقة بالك
ووتر ،وقد استشرى العنف في العراق بعد تلك الحادثة .وصل األمر إلى أن قال بعضهم في الغرب :إن األمن هو أفضل صادراتنا إلى العراق بعد االحتالل ،وفي أثناء إدارة بريمر العراق ،ثالثون بالمئة من مال إعادة إعمار العراق ذهب إلى شركات الجنود المرتزقة. العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
َ المرتزقة على مدى سنوات ،تتبّع الكاتب روبرت بينغ بيلتون الجنود
في عدة أماكن في العالم ،وحاول أن يكون محايدً ا وهو يضع الحقائق
حولهم أمام القارئ في كتابه «المُ ص َّرح لهم بالقتل» ،ويتضح من ّ الخط الفاصل بين العمليات السرية والعمليات حاالت عدة كيف أن اإلجرامية ليس موجودًا؛ إذ إنها عمليات سرية قابلة لإلنكار من الحكومة
األميركية ،ومن هذه المنظمات؛ ألنها أعمال قذرة .لقد صدرت مذكرات تحميهم من االعتقال والمحاكمة ،وف ّروا بجرائم مهولة يضيق المكان
هنا بذكرها .وكشفت تحقيقات فيدرالية عن وجود (كواتم) صوت من هجومي ال يحتاج ضمن أسلحة الشركات الخاصة ،وهذا سالح اغتيال ّ
إليه من يزعم الدفاع ،ووصل األمر بأحد الجنود المرتزقة أن أدار هو وزمالؤه سج ًنا كاملاً ،يديرون فيه عمليات التعذيب والسجن تحت مرأى ومسمع المسؤولين األميركيين في أفغانستان.
األميركي لهذه الشركات «غير القانونية حسب قوانين إن الدعم ّ وتمدُّ دها ،وأصبح أهل القوة والمال أميركا نفسها» ساهم في عولمتها
عبدالعزيز الحيص كاتب سعودي
111
يتساهلون اليوم في مسألة استئجار قوات خاصة ،فالعروض وافرة،
ويحرص دائمً ا أرباب صناعة الجنود المرتزقة كثي ًرا على تعديل صورتهم،
والمالحظ أن مستنقعات األزمات خلقت حاالت حاجة متجددة لهم؛
لذلك فإن الجنود المرتزقة اليوم يتمددون ،وينتصرون على شعار ً قرونا. سياسي يقول« :ال للمرتزقة» كان قد ساد ّ خطر تمدد الحروب
إن ضعف بعض الدول العربية ،ونشاطها كمناطق أزمات ،يضعها
الرأسمالي المطالب بتمدّ د الحروب .إن من مخاطر في قلب هذا الخطر ّ
شركات الجنود المرتزقة أنها ِّ تهدد استقرار الدول ،وتجدّ د األزمات ،وال يوجد فاعل واضح خلف هذا التهديد من الممكن محاسبته والقبض عليه .ودائمً ا ما تع ّزز األنظمة المُ خ ِفقة هذا النوع من الصناعة ،عبر
حرصها على جلب أجهزة أمنية تعمل على حمايتها وحماية مصالحها ً عوضا من تعزيز الجهة األمنية للبلد بشكل عام. بشكل خاص، الجيوش الوطنية الفاعلة ،والوعي السياسي واألُ ممي ،هو الحلّ ّ ّ ّ أمام تس ّرب لوثة الجيوش الخاصة الغربية ،وهو الحل ذاته أمام معضلة مشابهة ،وهي ظاهرة الجماعات المسلحة من خارج الدولة ،فالجزء العربي اليوم يعود إلى نشاط هذه األكبر من األزمات وعدم االستقرار ّ
الجماعات وقوتها .إن ازدهار هذه الصناعة للجيوش الخاصة ،برعاية
الدول الكبرى ودعمها ،هو عودة إلى عقلية القرون الوسطى ،حين كان مرتزقة المال هم القوة الضاربة التي تفعل كل شيء لمن يدفع.
الدعم األميركيّ لهذه الشركات «غير القانونية حسب قوانين أميركا نفسها» ساهم في عولمتها وتمددها ّ
شعر
ٌ حفرة على مقاسي
112
أحمد المال شاعر سعودي
شدّ تني شجرة من كتفي؛ َّ أخرتني لحظة عن (دهسي) بشاحنة متهوّرة.. طوال النهار تخيّلت دمي ذاهلاً على الشارع ،صرخات ُت ِّ بقع الرصيف،
ورأيت ً ُ فزعا يتنبّه قليلاً ويكمل غفلته.
ً عالقا في الهواء مثل غبار صوت استم َّر لم أميّز بين همهمات المارَّة سوى ٍ
يحجب العالم؛ زعقة مكابح أليمة ،لمن ينزلق نحو حتفه.
ً فائضا في بعد أن اختفيت عن مكان الحادث ،انكشف الغبار عن جسدي
مكان آخر من الحياة ،لم تعبر أمامي َّ ملذات حياتي ،كما توهّ مت ،بل ٍ
ٌ صورة واحدة لم تفارقني بعدها.. انطبعت في خاطري تلك الشجرة التي شدَّت كتفي وأنقذتني..
ً امتنانا، تلك الشجرة التي لم أقف عندها
تلك الشجرة التي عدت إلى مكانها ولم أجدها، ً ْ تركت حفرة على مقاسي. تلك الشجرة التي َفدَ ْتني ،وقفزت بديلاً عني؛
العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
مرآة النائم ُ كدت جاري لم آخذه على محمل الجدّ منذ طفولتي؛ لسبب وحيد أنساه من فرط خفته.
حين أس ّر لي أول مرة عن جسده الذي ينقص وي َْذ ِوي كلما طالعَ في ْ ودمعت عينايَ ،ورأيت في مالمحه كيف ّاتخذ المرآة ..وقتها ضحكت قرارًا سريعً ا بعدما اكتشف مدى فداحة قوله ،فلم يعد يذكر المرايا، وألغاها من كالمه ،ولهذا نسينا هذا الس ّر ،أو هكذا ظننت.
وعلى الرغم من تج ّنبه المرايا وتفادي المرور أمامها في كل مكان، وانقطاع حديثه عنها ،فإنه أشار مرة بين أصدقاء مشتركين إلى
معرفته طريقة فريدة في االنتحار دونما ألم ،يخبّئها تحت سريره منذ سنين ،ولم أربطها بالمرآة لوال غمزته الخاطفة لي.
كبرنا ونسينا ثانية ،مثلما عاش وحيدً ا بال مرايا ،يرعى أمه بعطف
وحنان متبادلين ،حتى عشق أختي الصغيرة أو أحبّها بجنون حسب قوله. ْ ِّ ُ لم يبح بذلك ألحد غيري ،وكلما قلت له :حدث أمك لتفرح لك،
ً مطبوعا في وجهها وهي تتفادى (صفن) وقال :إنها تشعر بذلك ،أراه أن أص ّرح به. لاً هكذا بدأ حال أمه يسوء ،وصحتها تذوب حين جاءني قائ :ال
أستطيع أن أفقد أمي وأشهد تالشيها أمامي ،وليس باستطاعتي محو حبّي ألختك ،على الرغم من محاولتي الشاق ِة التظاه َر بالنسيان؛ لكن
قلب األم مرآة.
ْ ْ ابحث عن طرقت أمُّ ه باب بيتنا متأخ ًرا ،وقالت مكسورة: البارحة ّ صديقك ،لم يخرج من غرفته منذ يومين .فتشت عنه لم أجده. عدت بها إلى غرفته .سري ُره مقلوب.
ورأيت ثياب نومه مكوّمة على األرض أمام مرآة كبيرة لم تكن موجودة من ُ ُ ْ ودمعت عيناي. ضحكت في س ِّري قبل .وكأنما لمحته فيها؛
113
مقال
الحركة اإلصالحية النهضوية وقضية المذهبية الحداد محمد ّ كاتب وأكاديمي تونسي
114
شهدت السنوات األخيرة عودة قويّة إلى المدوّنة
اإلصالحية اإلسالمية؛ لمساءلتها ،واالستفادة منها،
واالعتماد عليها في تحقيق ما سمَّ اه كثير من المثقفين
«النهضة العربية الثانية» (زكي ميالد :المثقفون والنهضة العربية الثانية .صحيفة عكاظ ،عدد 5 ،2818مارس 2009م). ً مشروعا للمستقبل ،تح ّتمه إذا كانت النهضة الثانية
نظرية اإلسالم بال مذاهب سمحت بظهور قيادات دينية جديدة من خارج المرجعيات
التغيرات الحا ّدة التي تشهدها المنطقة ،وتدفعه إلى
األخطار والتحديات غير المسبوقة التي تواجهها المجتمعات العربية ،فإن النهضة األولى هي مرحلة تاريخية محدّ دة، تقع بين بداية القرن التاسع عشر والثلث األوّل من القرن
العشرين.
أمّ ا البداية فترتبط بالمحاوالت اإلصالحية األولى التي
التقليدية ،ال تتمتع
علي (1848 -1805م) ،وفي ظهرت في مصر في عهد محمد ّ عاصمة الخالفة آنذاك في الحقبة المعروفة بالتنظيمات
متاهات السياسة
االهتمام إلى القضية الوطنية ،وبناء الدول ما بعد االستعمار ،فتغيّرت و َْف َق ذلك َ األوْلويات واالهتمامات،
بالعمق والتجربة؛ َأدخ َل ِ الدين في ت َ والعنف
(1876 -1893م) .أمّ ا النهاية فترتبط بحقبة ما بين الحربيْن، وبداية المدّ ال ّتحريريّ من الحماية واالستعمار ،وتحوّل
ونشأت األيديولوجيات الكبرى التي تصارعت على قيادة الفكر
العربي والسياسات العربية ،إلى أن سقطت األيديولوجيات، ّ وأَ َف َل عصرها في نهاية القرن العشرين ،فاستعادت حقبة
النهضة بريقها من جديد.
واإلصالح ليس المقصود بالعودة إلى تراث النهضة ِ
العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
ُ التراث على اقتباس الحلول والمواقف التي ضمَّ َنهما َ علاّ تهما ،إنما المقصود استلهام رُوحه العامة المتميزة
باالنفتاح واالستكشاف والقابلية للنقد والمراجعة، واالستفادة من تجارب اآلخرين (راجع كتابنا :ديانة
الضمير الفردي ،بيروت ،المدار2007 ،م). األيديولوجي هذه ال ُّروح هي التي ُفقدت في العصر ّ ّ احتل المساحة األكبر من القرن العشرين، الطويل الذي
الطهطاويّ (1873 -1801م) في مصر وخير الدين (-1820
1890م) في تونس ،ومدحت باشا (1884 -1822م) في تركيا أكب َر ُروَّاد االنتقال إلى الدولة الحديثة .وقد ّ مثلت
العربي جزءً ا أساسيًّا من الحركات الدستورية في العالم ّ مشروع النهضة في القرن التاسع عشر ،بل هو الجزء
العملي من هذا المشروع بوصفه تجسيدً ا للمفاهيم ّ ُ رجال اإلصالح والنهضة؛ مثل: الجديدة التي ب ََّش َر بها
وتبدو اليوم ضرورية ومطلوبة؛ الستئناف النهضة ُّ ّ ويترتب على هذه وتطلعاتها. العربية وتحقيق طموحاتها
والوعي في عامة الشعب ،والتصدّ ي لألطماع األجنبية،
ً التمسك عوضا من ال ُّروَّاد آنذاك ،وفاء بطموحاتهم ُّ
الحاضر ،وفتح باب االجتهاد والتجديد واالقتباس من اآلخر و َْفق ما تقتضيه المصلحة ،واإلعالء من قيمة
القراءة االستلهامية ،ال الحرفية ،للمدوّنة النهضوية ُ األولى؛ مراجعة نقدية للحلول والمواقف التي طرحها بحرفية أطروحاتهم .ويقدّ م هذا المقال نموذجً ا لهذه
القراءة من خالل قضية المذهبية. ُر َّواد النهضة
كانت هذه القضية؛ أي :المذهبية ،من بين القضايا الكبرى التي ُطرحت في ذلك العصر .فالوضع آنذاك
كان يتميّز بتفكك المجتمعات ،وتكونها من مجموعات ّ مستقل بعضها عن بعض إلى حدّ التنافر. متجاورة ،لكنها ً سابقا سياسات مركزية تحيط بالمجتمع ليس للدول
بوصفه وَحْ دَ ة بشرية ،فال توجد سياسات تعليمية أو
توسيع دائرة المشاركة في الشأن العام ،ونشر التعليم
وتفعيل ال ِقيَم اإليجابية من التراث لتصبح ق ّوة دفع في
الحُ ِّريَّة والكرامة.
العروة الوثقى ّ ثانيها -ترسيخ فكرة الوطنية الجامعة كل مكونات
المجتمع على اختالف األديان والمذاهب؛ لمواجهة
المخاطر االستعمارية الماكرة ،وال أفضل مثال في هذا َّ الوطني الذي سعى جمال الصدَ د من مشروع الحزب ّ الدين لبعثه في مصر قبل نفيه منها ،ويتضمن في
يني ،فإنه الوطني حزب البند اآلتي« :الحزب سياسي ال ِد ّ ّ ّ ّ رجال مختلفي العقيدة والمذهب ،وجميع مؤلف من ٍ ّ وكل من يحرث أرض مصر ،ويتكلم النصارى واليهود،
صحية أو اجتماعية موحَّ دة ،بل إن التشريعات كانت ً أيضا -بين المجموعات السكانية المختلفة.تختلف
لغتها منضمّ إليه؛ ألنه ال ينظر الختالف المعتقدات،
وتقوم على سياسات مركزية وتشريعات موحّ دة ،كما ً ً ّ سهلة فريسة تفكك مجتمعاتهم يجعلها أدركوا أن
األزهر الذين يعضدون هذا الحزب ،ويعتقدون أنّ ّ الحقة تنهى عن البغضاء ،وتعتبر الشريعة المحمدية
أدرك ُروَّاد النهضة أن العصر الحديث قائم على الدولة الوطنية التي ُتعامِ ل رعاياها على أساس المساواة،
للمشاريع االستعمارية المتربّصة بهم ،والقائمة على مبدأ َ «ف ِّر ْق َت ُسدْ » ،وتأجيج العداوات؛ لفتح الطريق األجنبي؛ كي يصبح جزءً ا من المعادلة الداخلية، أمام ّ
والمستفيد األكبر من صراعات أهل البالد.
ومن هذا المنطلق؛ عمل ُروَّاد النهضة على ثالث
جبهات متكاملة: ً أولها -نشر فكرة المواطنة ،ومنحها شرعية ِدينية وتاريخية وثقافية داخل البيئة العربية واإلسالمية ،فكان
ويعلم أنّ الجميع إخوان ،وأن حقوقهم في السياسة ّ ّ أخص مشايخ مسلم به عند والشرائع متساوية ،وهذا
الناس في المعاملة سواء» (األعمال الكاملة لمحمد
عبده ،تحقيق د .محمد عمارة ،بيروت ،المؤسسة العربية للدراسات والنشر ،ط1979 ،2م ،ج ،1ص
.)369
وقد استعاد جمال الدين وصحبه هذا المشروع
الباريسي في إطار أوسع حينما أسّ سوا في منفاهم ّ َ جمعية «العروة الوثقى» وصحيفتها المشهورة، وكانت تنادي بالرابطة الشرقية ،وهي عبارة اختيرت؛
115
مقال
ِل َت َسعَ غير المسلمين من أبناء الشرق ،وتوحّ د هؤالء
وأولئك في مشروع مقاومة االستعمار.
العقائد الكبرى ّ التخلص من الخصومات العَ َقدِ يَّة والفقهية ثالثها-
الوطنية العليا ،وتتالفى الخلط بين المذهبية والسياسة، بوصف ُ األ َ ولى من مجال المطلق وغير قابل للنقاش ،أما
التي كبّلت المسلمين ،ودفعتهم إلى التناحر ،وتسبّبت
السياسة فهي ميدان التوافق والحلول الوسطى التي يمكن
وال مذاهب ،يكتفي بالعقائد الكبرى المتفق عليها بين ّ واألخالقي المترتب على العملي ويغلب الجانب الجميع، ّ ّ
المشترك .وليس لطائفة أو مذهب أن يسعى لفرض
في ضعفهم ووهنهم .والدعوة إلى إسالم بال طوائف
هذه العقائد.
ولنا في «رسالة التوحيد» للشيخ محمد عبده (-1849
1905م) أفضل مثال على هذا المنهج الجديد؛ إذ وصفه
بأنه يرمي «إلى الخالف من مكان بعيد ،حتى ربما ال يدركه إلاَّ الرجل الرشيد ...وبعد عن الخالف بين المذاهب ،بعد
أن تتوافق عليها األطراف المختلفة في تحقيق العيش
معتقداته على المخالفين ،أو أن يُعيد تشكيل األوطان والمحيط اإلقليمي و َْفق مقتضى تلك المعتقدات ،وإلاَّ ّ ساهم في االنحالل والضعف أمام األطماع الخارجية، وأدخل المجتمعات في نزاعات عنيفة ال أوّل لها وال آخر. شكل جديد من االستعمار
ممليه عن أعاصير المشاغب»( .رسالة التوحيد ،ط دار
مع أنه قد ثبت اليوم أن فكرة «إسالم بال مذاهب» هي
باالتفاق إلى اليوم ،فإن الموقف الثالث أصبح في السنوات ّ محل نقد ومراجعة؛ ألسباب وجيهة ُت َ ختصر في األخيرة
فإن البديل ليس مواجهة الطائفية بالطائفية ،والعودة
المعارف ،ص .)18-17ولئن حظي الموقف األوّل والثاني
116
كان يكفي لضمان وَحْ دَ ة المجتمع أن تتفق الطوائف ً والمذاهب على احترام بعضها بعضا ،وتلتزم المصالحَ
أمرين أساسيين: أولاً -إنّ نظرية اإلسالم بال مذاهب قد طبقت على السنية من دون غيرها ،فساهمت في إضعافها، المرجعية ُّ وإضعاف مؤسساتها التقليدية مثل األزهر ،واستفادت من
ذلك مرجعيات أخرى منافسة لها.
ثانيًا– إن نظرية اإلسالم بال مذاهب قد سمحت بظهور
قيادات دينية جديدة من خارج المرجعيات التقليدية،
ال تتمتع بالعمق والتجربة ،أدخلت الدين في متاهات ّ وظل يُزايِد بعضها على بعض إلى أن السياسة والعنف،
انتهت إلى اإلرهاب الذي أساء إساءة بالغة لصورة اإلسالم والمسلمين في العالم ّ كله.
ال ّ شك أنّ هذه النتائج لم تكن تدور بِ َخ َلدِ ُروَّاد النهضة ْ ّ في القرن التاسع عشر ،وال كانت متوقعة وَفق ظروف ذلك ً –أيضا -أن َن ِع َي أن هؤالء ال ُّروَّاد، العصر .لكن ينبغي لنا ً َ األوضاع القائمة ،فإنّ –أحيانا -في تصويرهم لئن بالغوا تحليلهم في جوهره كان مُ صيبًا؛ إذ إنَّ كثرة االختالفات ً عائقا أمام وَحْ دَ ة المجتمع ،والمرجعيات الدينية تقف
التقليدية العريقة لم تنجح في التطوّر من ذات نفسها .أمّ ا ُّ التطلع إلى إسالم بال مذاهب، وجه المبالغة لديهم فهو
اجتماعي عريق .فهذا فس َخ تاريخ طويل وواقع وهذا يَعْ ني ْ ّ ُّ التطلع أقرب إلى الطوباوية منه إلى الطموحات الواقعية
القابلة للتحقيق.
العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
أقرب إلى الطوباوية منها إلى المشروع القابل للتحقيق،
إلى ما يشبه الوضع الذي ثار عليه ال ُّروَّاد في عصر النهضة،
وتأجيج العنف والصراعات المض ّرة بالمجتمعات كلها، ّ الحل األمثل هو نشر ثقافة االختالف والتسامح، إنما
وتقرير الوَحْ دَ ة الوطنية ،وتحقيق التعايش المشترك على أساس االشتراك في المواطنة أولاً وآخي ًرا.
ً أيضا -الطموحذاك كان طموح جيل النهضة ،وهذا ً ّ صادقا -في التصدّ يلكل من يرغب اليوم الواقعي ّ
لمشاريع تفكيك المجتمعات العربية واإلسالمية ،وجعلها ُل ْقمَ ًة سائغة لشكل جديد من االستعمار ،ال تقوده اليوم
ُ ُ ُجسده جشع اللوبيات المالية التي الدول والجيوش إنما ي ِّ يسيل لعابها ّ كلما يَمَّ مَ ْ ت نظ َرها إلى الشرق األوسط ،وما يحويه من ثروات وخيرات.
يترتّب على هذه القراءة للمدونة النهضوية االستلهامية ّ األولى؛ مراجعة نقدية للحلول ُ الر َّواد والمواقف التي طرحها ُّ عوضا من آنذاك ،وفاء بطموحاتهم ً التمسك بحرفية أطروحاتهم ّ
ﻗﻨﺎة
www.youtube.com/user/KFCRIS
بورتريه
محمد العلي يطل من نافذة صغيرة على الحياة
118
محمد أحمد عسيري كاتب سعودي
ّ تمتد إليها يده ليفتحها قبل موعد القهوة بقليل ،يسير ببطء إلى نافذته الصغيرة ،يقف أمامها مترد ًدا قبل أن كأنه يخشى أال يظهر له النور من خلف الستار وهو الذي اعتاد الركض تحت الشمس ،يسابق النخيل إلى الصبي الذي غادر يومً ا موطنه إلى عوالم أخرى تفوق تخيله ،كبر كثيرًا لكنه ما زال يحمل أطراف السماء .ذلك ّ
نفس العزيمة والتفاؤل .ينظر من نافذته إلى السماء ،يتنفس زرقتها الذائبة حول الشمس. ً ً سريعا .الشاعر محمد خطوطا يطلقها نحو البعيد؛ لعلها تعود ببقايا طفولته التي ودعها يرسم بإصبعه
العلي؛ ذلك الطفل الحساوي الذي حمل وصايا والده الفالح وخبأها في صدره؛ ليعود إليه في يوم ما «عالِم ً سريعا .وأن عقله ما كان يؤمن بغير االنطالق في سماوات اإلبداع دِين» لم يكن يعلم أن ألحالمه أجنحة تنمو الفسيحة.
العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
من قرية «العمران» في األحساء حيث النخيل الذي كان يحتمي بظالله كلما اشتدّ عليه هجير األرضّ . لف قلبه في رداء
أبيضَّ ، واتجه صوب العراق المزدحم بالدهشة والحضارة والشعر .حاول أن يكون ما أراده والده ،لكنه لم يكن إال هو.
تم َّرد كنخلة وارتفع عاليًا ..نفض عنه ما علق به ،وأكمل طريقه متجاو ًزا ّ كل المسافات المظلمة؛ ليخرج إلى النور الذي طالما بحث عنه ،وأيقن أنه داخله .في أرض «غلغامش» وجد «العلي» ً منطلقا نفسه يتأثر معرفيًّا ،وتتسع مداركه .كانت العراق وقتئذ رحبًا لشاب ي َّتقد حماسً ا .امتزج بمدارس شعرية متنوعة ،وقرأ
العربي العظماء ..لقد عثر على مالمحه لشعراء بغداد والوطن ّ
أحد يدري؛ ليعود في ّ كل مرة غيمة تمطر فوق هذا الجفاف.
ال ماء في الماء ،يكتب قصيدة ،يبتسم ،يسند ظهره المثقل ً عميقا كأنه يتهيّأ بالسنوات إلى صدر كرسيه الحاني ،ويتنفس لرحلة أخرى مع الحياة ،وهو يستعيد صورة من األمس ..ومن َثمَّ يقرأ: «أوقفني مرة نورس كان في البعيد أسمع من ريشه المتقاطر ً لحنا
وأخيلة تغسل الموت من كل أوهامنا المشرئبَّة بالخوف لكنه ذاب في الملح.»..
يتحسس طريقه. أخي ًرا وبدأ ّ َّ الشاب حبًّا لخوض تجربة ّ هذا التنوع ولد لدى القرويّ
يا له من إنسان! ي ّتحد مع كل األشياء ،ويؤمن بكل المراحل ،كأنه ي َ ُولد عند كل مرحلة ً مرة أخرى؛ يقولون :أيها
مستوى القصيدة الحديثة ،حتى أصبح فيما بعد أحدَ ُروَّاد العربيّ . تنقل بين التعليم الحداثة في السعودية والوطن ّ َّ والصحافة والكتابة الصحفية ،فكان محل اهتمام كل من
عرقك المالح ،والنورس الذي أطلق األلحان من ريشه لنستمد
ّ خاص تف َّرد به على شعرية مغايرة ،خرج من خاللها بأسلوب
َع َر َفه ..أدهش الجميع بفكره ،وأطروحاته التنويرية ،وشعره ِّ المتجدد .لقد كان في الموعد دائمً ا ثاب ًتا ال يتزحزح عن مواقفه وآرائه ،ال يعترف بالتنازالت وال ُتغيِّره األحداث. ّ يشق بذراعيه قاع البحر غواص العلي مُ ِق ّل في شعره بشكل محيّر ،لكنه عندما ينهمر علينا بقصيدة بعد غياب ،فإنه ّ يبلل عروقنا حتى االرتواء .هو يشبه الغواص الذي يشق بذراعيه قاع البحر؛ النتقاء اللؤلؤ
ّ مرصعة بحرفية متناهية ،فهو يصنع من قصيدته «قالدة» بلغة عذبة شفيفة .ربما إلدراكه أن اإلبحار في محيطات اللغة ّ ً أيضا -كاتبيظل صامدً ا ال يفنى ،وهو هو السبيل «لشعر»
الشاعر ،إن وجهك الماء حين اخترت هذه األرض؛ لتذيب فيها
من الغناء طاقة نهزم بها السواد الحالك.
الشاعر محمد العلي اإلنسان الذي ما أهمل عقله ،وال
باعه في زمن الطفرة والمال ،العاشق للسماء المفتوحة،
وللبحر الذي ال تعيقه المناطق المحظورة .منذ أن عاد وحيدً ا
وهو دائم التفكير في مجتمعه ،وفي اإلنسان؛ فمن دونهما ال يكون ولن يكون هناك ّ حقيقي يستطيع لمس الحقيقة مثقف ّ التي ّ نظل دائمً ا في شغف إلى اكتشافها« .الحداثة أن ال يسبقك التاريخ»؛ المفردة التي شغلته طويلاً .سار في طرقاتها بمفرده ومع الجموع .وفي كل مرة كان يقول :إنها ليست ً ملكا ألحد،
الحداثة للكل؛ بشرط أن نسير معها ،تحت ظاللها .العلي يرى أن الحداثة مزيج لذيذ من كل ما ُت ِّ قدمه لنا الحياة وتصنعه الحضارة؛ في العلم والفن واألدب ...إلى غير ذلك.
كان دائم التحذير من تطوّر األزمنة وتقدمها ،وبقاء اإلنسان
عميق ال يؤمن بالهوامش السطحية ،يخرج الكلمات صادقة
في رجعيته وأفكاره القديمة وجهله األبديّ .
المطلق لترتدي حلة الشاعر في اإلحساس والتباهي ،فهو ال ّ يتخلى عن ريشة الشاعر حتى لو أراد ّ حل الكلمات المتقاطعة؛
ويستق ّر به المقام في بقعة مأهولة بالماء والنخيل والشعر وبقايا طفولة منسية ،إلى أن يطمئنّ إلى أن التاريخ لن يسبقنا؛
من أعماقه ،يزيل عنها كل القيود قبل أن ينثرها فوق البياض
مهووس بالشعر كأنه ينظر إليه على أنه حارس الكتابة األمين
الذي يمنحها الحرية ويدفعها نحو مجاالت أرحب .يقول عنه األستاذ الناقد عبدالله السفر في هذه اللمحة تحديدً ا:
«محمد العلي تلك الزرقة التي علمتنا األناشيد ،كتاباته برغم غزارتها وتنوعها إال أنها محاطة بروح الشعر دائمً ا». يعود بهدوء إلى كرسيه األثير ،ينظر إلى ورقة بيضاء عائمة فوق مكتبه ،تغريه شهوة الكتابة ،فيأتيها طائعً ا ،ومن َثمَّ يبتعد
ّ يتبخر ال من المكان ليبقى جسدً ا فيه .يتس ّرب كماء ،أو ربما
إلى حين أن تنتهي غربة العلي ،ويعود من ترحاله،
دعونا نر ِّدد سويًّا ما قاله يومً ا: ها نحن جئنا
ولسنا نريد الآللئ
لسنا نريد الذي لم يزل نازحً ا في امتدادك
إنا نريد الوجوه التي كان آباؤنا يبذرون على الموج، أسماءنا
أن نسير على األرض دون انحناء»!
119
ثقافات
أحفاد سرفانتس.. إسبانيا والظواهر األدبية الجديدة
120
العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
اإلسباني اليوم من دون الرجوع والثقافي األدبي ال يمكن فهم الواقع ّ ّ ّ
إلى إضاءة ما يمكن أن ننساه حتمً ا من تأثيرات وتغييرات لحقت بنية المجتمع وثقافته في القرن المنصرم .لقد عانت إسبانيا القرن الماضي
كثيرًا من التأثيرات السلبية التي غيَّرت مفهوم األدب والثقافة وخرائطهما المتشعبة .فبعد أن
عبدالهادي سعدون كاتب وأكاديمي عراقي -إسبانيا
كانت إسبانيا إمبراطورية عظمى ورم ًزا ثقافيًّا في أوربا والدول الالتينية الناطقة باإلسبانية مع بدء القرن الماضي؛ تالشت ذكرى العظمة ومؤثراتها بعد أن فقدت آخر معاقلها اإلمبراطورية،
وتفسخ الجسد الواهن عن كيانات بدأت تنسلخ عن الثقافة واألدب واللغة األم اإلسبانية؛ لذلك راح كثير من مثقفيها ،وبخاصة جيل عام 1898م يبحث عن اله ُِويَّة
الجديدة وسط الصراعات الداخلية في مجتمع تتنازعه التنويرية والتقليدية وخصام اإلخوة في االستحواذ
على السلطة والمرجعية القصوى ،لقد جرت التحوالت األدبية وسط أجواء من النزاعات المحلية التي دفعت
البالد إلى حرب أهلية وسيطرة عسكرية فاشية تحكم البالد بقبضة حديدية طوال القرن العشرين تقريبًا ،التي
زالت تدريجيًّا بموت الدكتاتور فرانكو عام 1974م ،لتحل
في إسبانيا بوادر الديمقراطية المتوازنة ،وتتيح ألبنائها اً مجال رحبًا من الحرية والتجريب واالنفتاح على العالم بعد أن كانت البالد تعيش في قوقعتها المتصدعة.
مع ذلك فتأثير الحركات األدبية األولى؛ مثل :جيل
الـ ،98وجيل الـ ،27والحركات األدبية والفنية بعد الحرب َّ شكلت اإلسباني ،قد األهلية اإلسبانية وأجيال المنفى ّ َ الطوق األهم في تناول الروح اإلسبانية وفهمها على مدار
عقود طويلة؛ إذ ال يزال تأثيرها واضحً ا ومتمي ًزا على الرغم
من ظهور كثير من األصوات والحركات األدبية المؤثرة اليوم في النتاج والرؤية األدبية في البالد.
لقد عانت إسبانيا وآدابُها طوال القرن الماضي تضاؤل
مجسم دون كيشوت وسانشو
األدبي مقارنة بجيرانها األوربيين ،وبخاصة إزاء النتاج ّ واألدبي في أميركا الالتينية .ال ننسى أن الشقيق اللغويّ ّ
الالتيني أغلبها قد برز عن طريق األميركي مظاهر األدب ّ ّ
121
ثقافات
الميكنة الطباعية ،و ُدور النشر اإلسبانية ،وطغيان صوته
على كثير من األسماء والحركات األدبية اإلسبانية التي كانت تراوح في مكانها داخل الشرنقة الداخلية المسيطر
عليها من الحكومة الفرانكوية ،أو تتجدد بشكل مغاير تمامً ا عن طريق أدب المنفى اإلسباني وفنونه التي لم تكن
بعد اضمحالله أو انطماسه طوال القرن العشرين تقريبًا؛ واألوربي ،وإثبات العالمي للوصول إلى مستوى األدب ّ ّ الجدارة األدبية بعيدً ا من المقارنة مع آداب أميركا الالتينية، وعلى الرغم من الصعوبة والقنوات المحبطة ،نستطيع
القول اليوم :إن مرور ربع قرن من القرن الحادي والعشرين
اإلسباني في الداخل؛ تصل بشكل فاعل إلى القارئ واألديب ّ اإلسباني لذلك لم يكن التنافس والظهور عادلاً أمام األديب ّ في مواجهته أهم حركات األدب المكتوب باإلسبانية عالم ًّيا، َ ونعني بها آداب الواقعية السحرية ،وممثليها الكبار؛ مثل:
روائية متميزة مثل :اإلخوة غويتسولو ،أو خابيرمارياس ،أو
لقد حاول أدباء القرن الجديد وأصواته المهمة طوال
أو ألموديناغراندي ،وفي الشعر بمكانة الكبار منهم
ماركيز وليوسا وكاربنتير وفوينتس وكورتاثار وغيرهم.
عقود من األلفية الثالثة استرجاع الصوت الخاص بهم
األدبي أسماء مهمة تضاهي في دورها قد منح المشهد ّ أهم أصوات الواقعية السحرية في أميركا الالتينية ،وتسير األوربي؛ إن أسماء جنبًا إلى جنب مع أهم حركات األدب ّ منويوث مولينا ،أو ميّاس ،أو بيال ماتاس ،أو خابيرثركاس،
المتواصلين تجديديًّا مع القرن الجديد؛ مثل :خوسي إيرو وأنتونيو غامونيدا وكابايير وبونالد وكارلوس بوسونيو
وليوبولدو ماريا بانيرو ،ومن بعدهم أسماء حركات التجديد
الشعريّ الشابة التي برزت في أثناء الدولة الحديثة لما بعد الفرانكوية؛ مثل :مونتيرو ،وآنا روسيتي ،وكوينكا، وبنخامين برادو ،وأولبيدوغارثيا بالديس ،وأنطونيو بيينا، اإلسباني المعاصر وسيلس وغيرهم .من هنا نرى أن األدب ّ في القرن الجديد قد تمثل بقدر وآخر التجربة اإلسبانية
العريقة ،ابتداء من نماذج أدباء القرن الوسيط إلى مـوجات
122
الحداثة في القرن التاسع عشر من دون أن يلغوا كثي ًرا العالمي. مسألة التداخل والتجريب والمعاينة مع النموذج ّ
وهكذا في نظرة سريعة ،ستجعلنا نقرأ المدارس
السوريالي إلى آخر واألساليب المختلفة من الرومانتيكي إلى ّ
ً اليومي الحياتي أو رجوعا إلى أدب التأثير موجات التجريب، ّ ّ كما يطلق على آخر نماذجه الكتابية. ً سابقا إذا كانت المحاوالت األدبية المعاصرة في إسبانيا
تسعى لتقليد أو مجاراة ما يأتي من الخارج ،فاليوم وبفضل مونيوث مولينا
يعد من إن األدب اإلسباني اليوم ّ العالمي الممثل وجهة نظر النقد ّ الحقيقي للنموذج المكتوب باللغة ّ اإلسبانية ،بعد اختفاء آخر األصوات في الواقعية السحرية ،وعدم ظهور ما يمثلها اليوم في التميز والتجديد إال القليل
العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
التجديد والتنويع في آدابها وأسمائها المتميزة ،قد انتشلت األدب من قوقعته وبدأت ًّ حقا في مضاهاة اآلداب العالمية؛
اإلسباني يصدّ ر إلى الخارج ويشار إليه األدبي إذ صار النموذج ّ ّ
بكونه نتاج ال ُّروح األدبية والفنية الجديدة في شبه الجزيرة اإليبيرية .لقد َتمَ َّثل أحفاد سرفانتس مؤلف دون كيخوته تلك ال ُّروحية المغامرة في العصور الوسيطة لتشكل ردة
فعل وتقويم آخر للفهم والكتابة والتواصل مع العالم.
وإذا كانت محاوالتهم األولى تكاد تكون مرتبكة وقلقة
ومغامرة ،فاليوم تشيد صوتها على قاعدة رصينة من التنوع
واألسماء والحركات المتفاعلة ،بعضها مع بعض ومع آداب أوربا المتعددة.
مع هذا التجديد والتنوع ال بد من اإلشارة إلى أن أغلب
أسماء األدباء ونماذجها الكتابية قد شكلت عالمات فردية،
وبخاصة بعد خروجها من شرك التجييل
الذي حصر األدباء وأعمالهم األدبية في
حلقاته المعروفة.
الميزة المعتبرة في آداب القرن الجديد
هو خروج األغلبية إن لم نقل الجميع من
بوتقة األجيال األدبية ،والرسم على أهمية العملية الكتابية وعمقها من دون الخضوع
إلى ما يقيدها ضمن الحركة األدبية الواحدة.
من هنا يمكننا الحديث عن أسماء روائية وشعرية ونقدية مهمة؛ كل واحد منها
آنا روستي
خابير مارياس
يعمر لمنظومته في نسق أحادي يتجمع مع اآلخر في الهمّ والكتابة والتجديد ،وليس في
نسق العملية التجييلية الضيقة.
فبعد أن كانت األجيال والتقييم النقديّ
لها يجري وفق ذلك األساس وبخاصة
في القرن العشرين؛ أصبح الهم الثقافي ً عوضا من لألدباء اليوم هو الميزة المهيمنة
البحث عن لصيق مقارب في الجيل نفسه،
إلى درجة يمكننا فيها أن ننعت كثي ًرا من األسماء المتميزة التي تسود خريطة األدب
حقيقي يشار اإلسباني بوصفها أبناءً متناثرين من دون أب ّ ّ العالمي ويبارونه بالجودة له ،ينهلون من كل مصادر األدب ّ
والتنوع ،من دون أن ينسوا صلتهم بالواقع وحقيقة البلد
فوينتس
غويتسللو
وآالف الجوائز األدبية وتشجيع الترجمة من اإلسبانية إلى اللغات العالمية المختلفة ،والمالحق الثقافية التي تتبناها
إن األدب اإلسباني اليوم يعدّ من وجهة نظر النقد
الصحف العامة والمتخصصة؛ تساهم بشكل وبآخر في دفع عجلة التعريف عالم ًّيا بآداب إسبانيا وفنونها.
المكتوب باللغة اإلسبانية ،بعد اختفاء آخر األصوات في
عبر لغاتها الرسمية األخرى غير اإلسبانية؛ مثل :الغاليثية،
ومعضالته المتشكلة مع القرن الجديد.
الحقيقي للنموذج والعالمي على حد سواء الممثل اإلسباني ّ ّ ّ الواقعية السحرية األميركية الالتينية ،وعدم ظهور ما يمثلها اليوم في التميز والتجديد إال القليل .مع ذلك فالعصر الحديث والزخم الهائل من المنشورات واألصوات األدبية
الظاهرة في كل عقد ،يجعل من الصعب وصولها إلى كل العربي الذي ال يزال يعرف اآلداب بقاع العالم ،ومنها عالمنا ّ المكتوبة باإلسبانية عبر أدب الواقعية السحرية ،وبخاصة مع ماركيز صاحب الرواية القيمة (مئة عام من العزلة) الممثلة بامتياز إلى يومنا هذا آداب أميركا الالتينية ،ولم يتح له الوقت وال الترجمات القليلة بالتعرف حقيقة إلى األدب
اإلسباني الجديد سواء في الرواية أو في الشعر. ّ ال يزال أمام اآلداب اإلسبانية وظواهرها المتعددة
أشواط مستقبلية ،يمكننا تلمُّ سها في السنين القادمة
من القرن الحادي والعشرين؛ كي نتعرف إليها وإلى تنوعها ورصانة صوتها ،إن المهرجانات األدبية المتعددة
مع ذلك هناك قصور كبير في التعريف بآداب إسبانيا
والكاتاالنية ،والباسكية ،وهي آداب بدأت مع القرن الجديد ّ ببث رُوح جديدة في كيانها؛ مما جعلها تتساوى مع قاعدة اآلداب المكتوبة باإلسبانية ،نحو أسماء ُك ّتاب مُ ِهمّ ين؛
مثل :الكاتبين الباسكيين برناردو أتشاغا وكيرمن أوريبي ،أو الكاتالنيين جوان مارغريت أو كيم مونزو.
األدبي أن يَتن َّب َه لظاهرة مهمة كما يجب على النقد ّ بدأت في الظهور مؤخ ًرا ،وهي األصوات األجنبية التي
تكتب باإلسبانية .وهي ظاهرة معروفة باآلداب المكتوبة باإلنجليزية أو الفرنسية ،لكنها مستجدة وغريبة على اإلسباني ،وأغلبية ُك َّتابها اليوم من المهاجرين الوسط ّ األجانب أو األجيال الالحقة المولودة في إسبانيا من آباء
أجانب ،لعلها تكون القاعدة األساسية ألسماء مهمة في
المستقبل؛ نحو أسماء كتاب شباب من أصول مغربية أو من شرق أوربا أو إفريقيا السوداء.
123
ثقافات
ويليام ستانلي ميروين يريد بيأس كامل أن ينقذ العالم سهام عريشي كاتبة ومترجمة سعودية
ً ديوانا شعريًّا وثالثة كتب في النثر ،وما يفوق 15كتابًا مترجمً ا ومع األميركي ويليام ستانلي ميروين ،له أكثر من 12 الشاعر ّ لاً ذلك يقول عن نفسه« :ال أعرف إال قلي عن الكتابة» (في حوار أجرته معه مجلة باريس ريفيو).
األدبي من شعر ونثر وترجمة كثي ًرا من الجوائز ميروين من مواليد نيويورك عام 1927م ،شاع ٌر مهمّ وخصب اإلنتاج .حاز نتاجه ّ
على امتداد سبعة عقود .مجموعته الشعرية األولى «قناع ليانوس» اختارها الشاعر ويستن هيو أودن لتفوز بجائزة الشعراء الشباب َ جائزة عام 1952م .حصل ميروين على كثير من الجوائز؛ من مجموعاته الشعرية «ع َّتال الساللم» الصادرة عام 1970م التي حاز بها
بوليتزر للشعر عام 1971م ،وحاز الجائزة مرة أخرى عام 2008م عن ديوانه «ظالل سيريوس» .ال فرق لدى ميروين بين األخالق والجماليات ،فكالهما واحد ،ويرى أن «القصيدة ال تكتب لتخدم أجندة ما ,فالقصيدة هي أجندة بنفسها».
124
القصائد التي يكتبها ميروين تستقرئ العالم الم َّتجه إلى الهاوية ال ورقة دعاية دينية أو سياسية بل حدث ف ّني .وهي تبحث في عالقة الفرد بالمحيط السياسي والطبيعة .يميل بعض النقاد إلى تصنيفه بوصفه شاع ًرا متنب ًئا ،لكنه ص َّرح ذات مرة« :لم أؤسّ س أيّ ّ
نظرية جمالية حتى اآلن ،وال أعرف إن ُ كنت أنتمي إلى أي حركة شعرية» .ويتميّز أسلوبه في الشعر الح ّر برسم الصورة فوق الصورة
من دون عالمات ترقيم.
االجتماعي الذي يؤ ِّديه الشاعر في أميركا إن كان له من دور ,فأجاب بقوله« :أعتقد أن للشاعر سُ ئل ميروين ذات مرة عن الدور ّ
كامل -أن ينقذ العالم .يحاول الشاعر أن يقول كل ما يمكن قوله من أجل الشيء الذي يحبّه –بيأس أملاً ميؤوسً ا منه ,فهو يريد ٍ ٍ اجتماعي؛ أليس كذلك؟ إننا نستم ّر في التعبير عن غضبنا وحبنا ،ونتمنى –رغم ما دام الوقت لم يفت بعد .أعتقد أن هذا دور ّ استحالة ذلك -أن يفعل هذا شي ًئا» .لكنني تجاوزت هذا اليأس والرؤية البكماء والحرقة التي كنت أشعر بها بعد صدور ديوان
«القملة» .ال يمكن ألحد أن يعيش اليأس والحرقة من دون أن يحطم تدريجيًّا هذا الشيء الذي أغضبه .العالم ما زال هنا وفيه كثير من المظاهر الحياتية التي ال تؤذي أحدً ا ,وهناك حاجة ماسَّ ة ألن ننتبه لألشياء التي حولنا ما دامت حولنا؛ ألننا إن لم ننتبه
لها فسيكون هذا الغضب محض مرارة ال أكثر»( .المجلة اإللكترونية« :بويتري فاونديشن»).
شك ًرا شكرًا ُ الليل نقولها حين يجي ُء
عال ونرى األسفل السحيق حين نتوقف على ٍ جسر ٍ
ُ نهرب من الغرف الزجاجية حين حين نضع في أفواهنا لقمة
ُ ونقول :شكرًا نرفع بصرنا إلى السماء
نقولها للما ِء
للنوافذ التي نقف خلفها ونحن نحدق في الطريق الـ سنمضي إليه العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
شكرًا
نقولها حين نعود من المستشفى الذي ألِف وجوهنا
حين نعود من عزا ٍء ونجد بيوتنا مسروقة
حين نسمع عن موت أحدهم
ً دائما :شكرًا عرفناهم أم لم نعرفهم سنقول
على امتداد المكالمات الهاتفية
عند عتبات األبواب أو في الحقائب الخلفية للسيارات أو في المصاعد
نتذك ُر الحرب وأصوات رجال الشرطة وهم واقفون على أبوابنا قلوبنا وهي ّ تدق بقوة على الساللم ُ نقول :شكرًا لكننا في البنك نقولها
وفي أوجه القادة واألثرياء
وكل الذين لن يتغيروا مهما حدث ُ نكمل طريقنا ونقول :شكرًا
ُ تموت البهائم من حولنا حين ً ً ُ فشيئا إحساسنا شيئا ويموت معها
ّ نظل نقول :شكرًا
حين تسقط الغابات بسرعة كما تسقط الدقائق من أعمارنا نقول :شكرًا حين الكلمات تنفد منا كما تنفد خاليا الدماغ حين تصبح المدن أكبر منا
125
وقت مضى نقول :شكرًا .نقولها أسرع من أي ٍ حين ال يسمعنا أحد نقولها
نقول :شكرًا ،ونمضي نل ّوح رغم كل هذا الظالم
كلمة
ْ وقفت في اللحظةِ األخير ِة اآلن ما لم تقله من ُ ُ َ ستقول َ قبل تلك الكلمة التي
َّ أحد َ يتذكرها ٌ تعيد كلمتها َ َ بعد َ اآلن ْ بعد ذلك ولن لن
كانت ِّ ْ كأي كلمة في المنزل كلمة
اليومي المعتا ِد في الحياة الحديث يستخدمونها في ِ ّ ً ً َ ْ ْ ماض معتبَر ذات ليست طارئة جديدة ليست ٍ ْ للتعليق على شيء ليست ِ لطالما ظنت الكلمة أنها
َ وحدها منذ البدء تع ِّب ُر ْ نفسها عن ِ
استعمال وسياق في كل ٍ َ ّ الخاص بها األمر معناها لتقول آخر ِ المعنى الـ َّ َ وحدها تع ِّبر عنه ظلت
رغم أنه يبدو َّ أن أي كلمة ستع ِّبر عنه اآلن
ويليام ميروين
ثقافات
ما فنان ألباني يرى الموسيقا قضية والتزا ً ّ
بلومب فوربسي:
عربي س ـ ـ ــماع القرآن من قارئ ّ جعلني أعيد صياغة موسيقاي حاوره في تيرانا :محمد السبيطلي
126
العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
ً مستشهدا بينما كان صديقي الدكتور رامز زيكاي يحدثني عن التأثيرات العربية في الثقافة األلبانية بالكثير منها؛ استرعى انتباهي حديثه عن مدى ُّ األلباني بالموسيقا العربية .وفي تلك تعلق الشباب ّ اللحظة حدثتني نفسي أن هذا من لطف الرجل ومسايرته لي. َّ ً جيدا أن هذا فقد وصلت منذ بضع ساعات إلى تيرانا .كان ذلك في نهاية شهر مايو عام 2013م .أتذكر الحديث دار بيننا ونحن في عربته متجهين من ساحة عوني رستمي التي تبعد من الساحة المركزية
األلباني للفكر والحضارة اإلسالمية في حي للمدينة بضع دقائق سيرًا على األقدام ،إلى مق ّر المركز ّ سليتا غرب تيرانا ،ويرأسه الدكتور زيكاي.
لم أكن أعلم أنني سأكون على موعد مع أحد أهم الفنانين
والعازفين والملحِّ نين األلبان الذي سيؤكد لي بطريقة أخرى العربي في الفنانين األلبان أنفسهم؛ إنه تأثير الموسيقا والفن ّ وربسي. الموسيقي ب َُلومب ُف ِ ّ أول لقاء لي معه كان على مائدة الغداء في مطعم
سوالكو ،الذي يبعد من تيرانا نحو نصف ساعة ،ولم يكن اللقاء
األخير ،إنما كان اللقاء األهم .كان الموعد قد حدَّده الصديق
الدكتور زيكاي ،وكان من بين الحضور السفير مراد شعبان، الطبيعي جميلاً ، واألستاذ غنسي آغا .كان المكان رائعً ا ،والمنظر ُّ ُ تعودت ومن حسن الحظ أن ذلك اليوم لم تنزل فيه األمطار التي رؤيتها بين الظهر والعصر طوال مدة إقامتي في ألبانيا .ومع ذلك
كان سماع حديث بلومب فوربسي يشغلني عن تأمُّل المناظر الطبيعية المحيطة؛ إذ انطلق مباشرة في الحديث عن رياض
السنباطي وأم كلثوم ،والموسيقا العربية ...واضح أن الرجل ّ والتعلق بالموسيقا الكالسيكية العربية. شديد االنتباه
لم أكن أتوقع أن يدخل مباشرة في حديث عن الفن ً والموسيقا بصفتهما ً عالمية ،وأداة تقارب بين الشعوب لغة
والثقافات ،لكنه فاجأني باالسترسال في الحديث عن الجانب وحي للموسيقا الكالسيكية ،وعن عشقه إياها ،ثم احترافها. ال ُّر ِّ إنها ليست هواية ،وليست محض حرفة ،إنها قضية والتزام،
إنها حياة .هكذا كانت كلماته تتوالى وتنساب في هذا السياق
تلميحً ا وتصريحً ا.
عالمي، لم يخبرني الدكتور رامز زيكاي أن ضيفنا فنان ّ
وأحد أبرز الوجوه الثقافية األلبانية ،لكن بدايات الحديث معه،
وحي للفن ومالحظة مدى انتشائه وهو يتحدث عن الجانب ال ُّر ّ َ ً ً َ خاصة ،وعالقتهما بالتديُّن؛ يجعلك تفطن عامة والموسيقا
إلى أنك أمام رجل مبدع ًّ حقا .وذهب إلى أكثر من ذلك ،قائلاً :
«إن الفن والموسيقا كانا من أهم عوامل الصمود في وجه
الدكتاتورية والقهر في زمن الشيوعية».
127 في التاسعة من عمري ُقدت بنجاح أول حفلة أمام الجمهور .وأتفق مع المقولة المعروفة ،أن الملحن ليس من يكتب الموسيقا ،إنما الملحن هو الذي ال يستطيع التوقف عن كتابة الموسيقا أثار الحديث معه كثي ًرا من األسئلة في ذهني؛ عن
شخصيته ،وأبعادها الفنية ،وعن تاريخ ألبانيا الحديث
والمعاصر ،ومدى إسهام ذلك في صقل شخصيته ،وعن رؤيته في الفن والموسيقا.
ً أيضا -تركيزه في بيان تأثير أصوله العائليةوأثار اهتمامي َ في رسم مالمح هواياته ،ومن ثمَّ إبداعاته الفنية. األصول العائلية والدين والفن
وُلد بلومب فوربسي بمدينة تيرانا عام 1957م من عائلة
محافِظة ،ويقول« :كانت والدتي في اللحظات العصيبة في طفولتي كثي ًرا ما ُت ِّ ؤذن لنا في صوت خافت؛ إذ كان القيام
ثقافات
بالشعائر الدينية في زمن دكتاتورية الشيوعيين يجري في
حب الموسيقا من الطفولة إلى التخصص أشار في كالمه كثي ًرا إلى أنه مُ َ ولع بالموسيقا منذ صغره،
مدبِّرة منزل ،وأصلها من قبيلة الكرابيسي المعروفة التي َّ المثقفين ،والمتخصصين في الرياضيات، خ َّرجت أجيالاً من ً المبني وشيوخا يشهد بذلك مسـجد الكرابيسيين وكانوا وطنيين ّ
وذكر أن والده أخبره كثي ًرا أنه عندما كان في الثالثة والرابعة
الكتمان» .وكأني به يربط بين تعوُّد أذنه سماع األذان وبداية ميوله إلى بعض الفنون الصوتية« .والدتي تدعى فاطمة ،كانت
وسط العاصمة ،وكانت أمي ابنة شيخ محترم وإمام مسجد، وهو رمضان الكرابيسي الذي ربَّاني ّ وعلمني منذ الصغر المبادئ الدينية ولكن ُخفية ،ولن أنسى أبدً ا العبارة التي كانت أمي تر ِّددها عن قسوة ذلك الزمن« :يا لفرحتنا لما تسمعه أذننا،
ويا ويلنا لما تراه أعيننا» ،كانت تسدي لنا نصائح دينية حكيمة وقديمة ،وفي أصعب اللحظات كانت ِّ تؤذن لنا».
ً أيضا -ذات أصول عريقة« :أصل عائلـةكانت عائلة والده
أبي من قبيلة فوربسي ،وعائلـة أمّ ي من قبيلة الكرابيسي ،وكلتا
ْ عاشت في مدينة تيرانا ،وهما من أقدم العائالت الغنية القبيلتين واألصيلة التي سكنت في قلب العاصمة ،ولعل تاريخ قبيلة
فوربسي مرتبط بتاريخ نشـأة هذه المدينة؛ ففي شجرة نسب ً القبيلة ما ُّ صديقا يدل على أن أحـد أجدادي كان قبل 400سنة
حميمً ا لوالي سنجق األوهر (إحدى مدن مقدونيا) المسمى
128
وأن مراحل تعليمه كلها كانت في مدارس الفنون الموسيقية، عال وهو يمشي من عمره ،كان والده يسمعه يغني بصوت ٍ ُّ ُ لتعلم البيانو في والدته في سن السابعة إلى جانبه .ثم وجَّ ه ْته
المدرسة نفسها التي كان يرتادها أخوه كويتيم فوربسي ،وهو ً أيضا-أحد أبرز العازفين على آلة الكمان في ألبانيا ،ويعمل القومي لألوبرا والباليه في تيرانا .وهكذا مدي ًرا فنيًّا بالمسرح ّ «بدأت ُّ ُ أتعلم البيانو منذ الطفـولة انطلقت مسيرته مع الموسيقا: في المدرسة اإلعدادية الموسيقية المسمَّ اة ثروت ماتسي،
ُ الفني شرعت أدرس الدراسة النظرية للموسيقا بالمعهد ثم ِّ المسمى يوردان ميسيا في تيرانا ،أمَّا التعليم العالي فقد أنهيته الموسيقي بالمعهد العالي بتقدير ممتاز في مجال التلحين ّ للفنون الذي يسمَّى اليوم جامعة الفنون بالعاصمة ،وتخ َّرجت عام ۱٩٨۱م بلقب ملحِّ ن ،وفي العام نفسه ُعي ُ ِّنت مدرِّسً ا
للموسيقا الشعبية بمعهد الفنون ،ثم عميدً ا خارجيًّا بالمعهد
العالي للفنون».
سليمان باشا بارجيني ،الذي يُعرف بصفته مؤسِّ س مدينة تيرانا
عام ۱٦۱٤م ،وكان الفوربسيُّون مسلمِ ين ديِّنين ،يعملون في
التجارة والزراعة وتربية الماشية ،والصناعات المختلفة؛ مثل:
صناعة األواني ،والسيراميك ،والمجوهرات ،وصياغة الذهب،
والموسيقا ،والرسم ،وتعليم الرقص ،وغير ذلك. ً حائكا». وكان أبي (رجب)
السيمفونية تهبني أجنحة «كان حلمي األول أن أُصبح عازف بيانو ،وعندما كنت في التاسعة من عمري ُق ُ دت بنجاح أول حفلة أمام الجمهور؛ إذ
درست بحماس وأنا في سن مبكرة .وقد ترك في نفسي أث ًرا كبي ًرا حضوري فلمين عن اثنين من أعظم الملحِّ نين في القرن
التاسع عشر؛ هما :فريدريك شوبان ،وفرانز ليست ،لكن هذا الحلم توقف في ذروته؛ بسبب إصابتي في يدي اليمنى بمرض
مهني من عناء العمل ،وهو شدّ عضلي أجبرني على التوقف عن عزف البيانو .بعد مرور مرحلة انتقالية من اإلحباط بدأت ّ ّ
تدريجيًّا أشعر برغبة داخلية متنامية في تأليف الموسيقا .هذا الشعور يمثل بداية المرحلة الثانية ،مع مرور الوقت ومن ُ له ُ مت كتابة هذا النوع من الموسيقا؛ لشدة دون تردُّد بذلت قصارى جهدي إلى أن صرت ملح ًنا للموسيقا السيمفونية .وأ ِ ّ تحتل الوجود كله ،وتهبني «أجنحة للتحليق عاليًا» .أتفق تمامً ا مع المقولة المعروفة؛ تأثيرها في ال ُّروح ،وانتشارها ،فهي أن الملحن ليس من يكتب الموسيقا ،إنما الملحن هو الذي ال يستطيع التوقف عن كتابة الموسيقا».
العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
والتزاما ألباني يرى الموسيقا قضية فنان ّ ً
ُروح ًّيا كنت في صراع عميق مع النظام الشيوعي المتدهور آنذاك ،الذي كان ّ يحارب اإلنسان ويمضي قائلاً « :وكما ترى ،فمنذ مرحلة الشباب كانت
الموسيقا الكالسيكية العامل الرئيس في بناء شخصيتي، لكن كانت هناك عوامل أخرى؛ مثل :العامل التربويّ المباشر
االجتماعي للمجتمع ،ومجموعة الرسائل الواردة من الوسط ّ بشكل الثقافي وعالقاتها بالحياة ،والفنون األخرى ،والتاريخ ّ ٍ عامٍّ ،أسهمت هذه العوامل كلها في تحفيز النزعة الفنية
لديَّ وتعميقها ،إضافة إلى النشاطات الثقافية في المجاالت ً مشهورة في شخصيات األخـرى .وقد كنت في شبابي ألتقي ٍ مجاالت مختلفةٍ؛ من فنانين ،ونحَّ اتين ،و ُك َّتاب ،ومهندسين ٍ
معماريين ،وناقدين ،ومؤرِّخين ،وغيرهم ،وكنت أشاركهم في
الحوارات والمناقشات والنشاطات المختلفة ،وبخاصة ما يتصل
ُ أفدت منهم كثي ًرا؛ بالفن ،والثقافة ،والعادات ،والتاريخ ،وقد الثقافي .وأذكر أنهم كانوا ينادونني في حتى ّأثروا في تأسيسي ّ
129
َّ المثقفين الذين كنت ذلك الوقت بلقب «الشيخ»؛ ألن أغلبية ً أحيانا وكأنني ِندٌّ أصاحبهم كانوا أكبر مني س ًّنا ،وكنت أناقشهم
لهم ،وقـد كنت أحبُّهم وكانوا يحبُّونني كثي ًرا».
القرآني وأثره في حياته اكتشافه الترتيل ّ
القرآني يتطرق بلومب إلى السياق الذي اكتشف فيه الترتيل ّ ِّ ويوضح أثر ذلك في إعادة صياغة أفكاره في الفن عام 1990م، ُ ً ِّ حدث وأهمّ ه في حياتي والموسيقا« :سأحدثكم بدايـة عن أجمل ٍ
بصفتي موسيقيًّا مسلمً ا ،ذلك الحدث الذي كان سببًا في إعادة
صياغة موسيقاي بصورة رائعةٍ ،وأعني ذلك اليوم الذي سمعت
عربي ،في مسـجد أدهم فيه أول م َّر ٍة القرآن الكريم يتلوه قارئ ٌّ بك في قلب تيرانا ،كان ذلك بعد االنفتاح والحرية الدينية في جالسا في إحدى ألبانيا ،فقد أدهشتني قراءة القرآن فعلاً .كنت ً
ٌ جمال زوايا المسجد ،عشت شعور الفرح والراحة النفسية؛ ّإنه
مسبوق ،وشعرت بالنعمـة والرحمـة من لدن قـو ٍة موسيقي غير ٌّ ٍ ً ّ عظيمةٍ؛ إنه كالمٌ وأنغامٌ ينساب متناسقا ومتناغمً ا بطريق ٍة
وألوان غنيةٍ ،تنبع من الداخل إلى األعلى؛ انتابني إحساس رائع ٍة ٍ ُ ً مندهشا بجمال لم أشعر به من قبل ،لقد خرجت من المسجد ً ومرهقا قليلاً بعـد الذي سمعته .قد يكون هذا ألنني ال أتقن اللغة
العربية ،ومن َثمَّ تاقت أحاسيسي ُّ الجمالي كلها إلى الجانبين ّ ّ جل شأنه -الذي جعلنيوالصوتي في الترتيل .وأحمد الله ّ
يعزف على البيانو
مسلمً ا وموسيقيًّا في الوقت نفسه ،منذ ذلك الزمن حدث لي الموسيقي». تغيي ٌر جـذريٌّ في تذوُّق الجمـال ّ فلسلفة الفن والتعبُّد ُّ كبير؛ لما تعلم التجـويد إن القرآني يحتاج إلى جهدٍ ّ ٍ يقتضيه من إتقان مخارج الحروف وقواعد التجويد .واإللهيَّات ٌ عبادات قصائدية موسيقية ،ومدحٌ لرسوله محمدٍ صلى هي
الله عليه وسلم؛ لذلك فهي تتوافق مع هـدف الخلق ووجود
كل شيءٍ ،وقد َب َّينَ الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم أنه
الحقيقي لوجود خلق البشر ليعبدوه ،وهـذه العبادة هي المعنى ّ ٌ طبيعية ِّ لكل الدنيا واآلخرة؛ لذلك فإن موضوع العبادة نزعة الجمالي والقيمة التربوية في َب الفنَّ المعنى فنٍّ ،وتحقيقها َيه ُ َّ
كل األزمنة .وإن الفنانين الحقيقيين هم مؤمنون ،ووفق هذا المعنى يصير القرآن وتجويده من أجمل الفنون الروحية وأعالها
وأروعها وأعظمها.
ثقافات
يستخدم بلومب فوربسي
لفظة «إلهيات» للدَّاللة على القصائد واألناشيد الدينية ،سواءٌ ً موسيقي مصحوبة بإيقاع أكانت ٍّ ُ ُّ «كل أمَّ ة مسلمة أم من دونه:
ْ كتبت «إلهيَّاتها» (القصائد الدينية)
ب ثقافتها ولغتها وموسيقاها، حَ َس َ ولحَّ ن األلبان «إلهيَّات» كثيرة وجميلة؛ مثل التي ُت َ نشد في وعيدَي الموالد والمناسبات ِ الفطر واألضحى ،ومن أجملها
في ألبانيا الكتابات الكالسيكية
للملحنين األلبان واألتراك والعرب
المشهورين؛ مثل :تأليف فوكالو سيمفونيك البليغ للشاعر يونس إيمرا ( Junus Emreشاعر تركي صوفي ،توفي عام
130
الموسيقي عدنان سايكون Adnan 1321م) للملحن والمؤلف ّ قسم من ألحانهم وبفضل 1991م)، عام ( Saygunتركيا ،توفي ٍ ِّ المؤلفـين اآلخرينّ ، بنجاح في فكرت وأنجزت وألحان بعض ٍ لاً إبريل ٢۰۰٩م احتفا رسميًّا بقصائدَ ديني ٍة كالسيكي ٍة مهداة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ،الذي َّ نظمته المشيخة اإلسالمية ِّ
األلبانية ،باشتراك الفرقة السيمفونية والجـوقة والعازفين المنفردين تحت إشراف اإليطالي فيتو كلمندا ،Vito Clemente
وبحضور حشد من الجمهور.
الشيوعي الموسيقا في وجه اإللحاد ّ الشيوعي المتدهور «رُوحيًّا كنت في صراع عميق مع النظام ّ آنذاك ،الذي كان يحارب اإلنسان» ،يقول بلومب« :كنت َّأتخذه عدوًّا ،وأكره اإللحاد والنفاق والكلمات الجميلة التي تخالف
الواقع القبيح ،وكرهت الشيوعية والعزلة ،والرقابة المتوحشة على كل شيء ،لقد كنت ضد الخنوع وانتهاك حقوق اإلنسان. الحمد لله نجوت في أثناء تلك الحقبة بفضل تربيتي الدينية
مسجد أدهم بيك في تيرانا
الشيوعي. الداخلي ضد النظام ّ ّ
الشيوعي في ألبانيا تحوَّل الفنان بعد سقوط النظام ّ الموسيقي بلومب فوربسي من شخصية ألبانية محلية إلى فنان ّ ُ عالمي« :زرت كثي ًرا من الدول بعد سقوط الشيوعية في بالدنا؛ ّ منها :إيطاليا ،وألمانيا ،وأميركا ،وتركيا ،وفرنسا ،والمملكة
العربية السعودية ،وغيرها من الدول .وجاءت الزيارات معظمها نتيجة دعوات فردية تلقيتها ،ففي ألمانيا دعاني عدة
مرات صديق لي ،وهو ملحن بمتحف يوهانس برامز ،إلى إلقاء الرسمي للفن محاضرة عن الموسيقا األلبانية ،بصفتي الممثل ّ
تعليمي للموسيقا األلبانية األلمانية المشتركة، في مشروع ّ وشاركت في أميركا في المهرجانات الشعبية الدولية بصفتي المدير الفني للفرقة الشعبية األلبانية «تيرانا» ،وشاركت في
الرسمي لجامعة الفنون فرنسا (ستراسبورغ) بصفتي الممثل ّ في المعهد األعلى للدراسات الموسيقية ،وشاركت عدة مرات في أنشطة فنية في إيطاليا ،وكنت مدي ًرا لمشروع موسيقي مهمّ ّ
مشترك بين ألبانيا وإيطاليا ،وأسَّ ست أوركسترا الشباب األلبانية بتشكيل رفيع المستوى؛ التي ر ُِّشحت لالنضمام إلى أوركسترا األوربي .EFNYO الشباب باالتحاد ّ
وقمت بعدة زيارات إلى المملكة العربية السعودية -مكة
ُ حججت ثالث مرات واعتمرت مرة المكرمة والمدينة المنورة؛ إذ
والمدنية المستفادة من عائلتي في مرحلة الطفولة المبكرة التي كان ِّ يغذيها والدي ،إضافة إلى المُثل العليا الفنية التي
ُ قمت بها في ألبانيا وأوربا واحدة ،إضافة إلى األنشطة الفنية التي
القوة لتعزيز أفضل القيم الممكنة ،ويساعدني على السم ّو فوق
تحدَّث بلومب فوربسي عن أعماله على مستوى البلقان،
كانت -بوعي مني أو من دون وعي -إلهامً ا إلهيًّا يهبني أجنحة
القمعي في ذلك الوقت. الواقع ّ لقد اجتنبت في عملي األعمال المسيَّسة ،والموضوعات الموسيقية و َْفق الدعاية الشيوعية ،التي فرضت معاييرها -في
األغلب األعمّ -على الفنانين .وشاركت في موضوعات تاريخية
ومالحم أسطورية ،وما أثمرته تقاليد شعبنا عبر القرون، ُ أعربت عن احتجاجي وعارضت الواقع المرير ،وبهذه األساليب العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
في أثناء سعي ألبانيا لالنضمام إلى االتحاد األوربي».
وعن تصوره دَور الموسيقا في نشر السالم والتقريب بين الشعوب والثقافات .وأ َّكد أنه يمارس عملاً د ََعويًّا ،إضافة إلى دعوة زمالئه الغربيين إلى سماع القرن الكريم َّ مرتلاً .وأسهم
مع المثقفين األلبان في إعادة نظام المشيخة اإلسالمية الذي ِّ يمثل المؤسسة الدينية الرسمية والمسلمين ويشرف على تنظيم شؤونهم الدينية.
مقال
محمد زفزاف.. مغامرة الكتابة وإشكالية التلقي صدوق نورالدين مغربي روائي وناقد ّ
َّ مثلت تجربة الكتابة الروائية المنجزة للروائي محمد زفزاف ْ َّ تمي ًزا وفرادة وَفق ما دلت عليه منذ البداية روايتاه« :المرأة والوردة»
والمتجسدة على و«أرصفة وجدران»؛ ألن اإلبدالية التي أسَّ س لها، ّ ِّ التلقي إلى التفاعل ونمط في مستوى الصيغة الفنية الجمالية ،دفعت ّ كتابة الروائية غير مألوف وال متداول ،وهو ما جعل التمثل التقليديّ
للكتابة الروائية المستند إلى قوة ال ُّرؤى األيديولوجية يناهض هذه النقلة والتحول؛ في محاولة لتسييد صيغ تقليدية وتثبيتها ،علمً ا أن
المغربي اقتضى البحث عن الشكل األنسب التحديث الذي طال المجتمع ّ والموازي؛ إال أن كفاءة الروائي محمد زفزاف ،ومرجعياته (وبخاصة
الفرنسية منها) ،دفعته إلى الحفر في المسار ذاته إلى آخر تجاربه: «أفواه واسعة»؛ الرواية التي اكتمل في ضوئها مساره ،عن وعي قصدي (محنة المرض) ،أو في غيابه ّ مثلت ً بيانا روائيًّا جماليًّا لتجربته في القول
الروائي ،والر ّد النقديّ على نقود توسّ عت في َكمِّ ها؛ ِل ُتحاكم في الروائي َ شخصه ،وليس تجربته اإلبداعية .إن الوقوف على هذه التجربة الروائية
مغامرة الكتابة الروائية لدى محمد زفزاف شكَّلت امتدادا عكس نقلة ً
ذاتها ،وفي سياق االمتداد ،ال يَعْ ني أن المغامرة لم تمتلك مجاورتها ً أيضا -في النقلة والتحول ،لوال أن رهانات مغامرة الكتابةالمنخرطة وسياسي ّ دلت عليه ثقافي وعي عن ست زفزاف محمد لدى الروائية تأسّ ّ ّ
مقاالته ،ووجهات نظره في الكتابة واإلبداع ،إلى ترجماته المنتقاة،
وتحولاً ،وخلقت في اآلن
على أن ما يستوقف في هذه المجاورة تجربة الروائي أحمد المديني التي ّ شكل َ نواتها ُّ نص «زمن بين الوالدة والحلم»؛ إذ إن مفهوم الكتابة
مغايرة غير مألوفة
ّ النص النواة و«ممر الذي ال تقول من خالله إال ذاتها .ولنا أن نقارن بين
تلقيا نوع ًّيا لكتابة ذاته ً
الروائية يتأسس على مكون اللغة ،كأن الحكاية ،حكاية اللغة في عنفها جسد وعيًا الصفصاف»؛ إلدراك أن خلخلة ثوابت التجربة من داخلهاَّ ، نقديًّا ذاتيًّا بأن حكاية اللغة عن اللغة وباللغة ،ال يمكنه الحيلولة دون الحكاية كضرورة ثابتة.
131
مقال
الواقع أن اختيار البداية له تأثيراته ومرجعياته التي -كما
بيد أنَّ مِ ن التجارب التي أسهمت في نقلة االمتداد والتحوّل ،ومن َثمَّ جاورت من حيث مستوى االختيار والتوجه
والمبدعين الذين آثروا كتابة ما سُ مِّ ي بـ«النص» ،أو«النص
والروائي عبدالله العروي؛ فإذا كانت رواية «المرأة والوردة»
سلف -تقف من خلفها رواية إدوار الخراط «رامة والتنين» التي مارست تأثيرها في مرحلة ،وليس جيلاً من ُ الك َّتاب العابر» ،أو«النص المفتوح» ،علمً ا أنه ومنذ تنظيرات «جورج
لوكاش» ،و«لوسيان غولدمان» ،و«ميخائيل باختين» حتى تصورات النقاد والمبدعين (نموذج :توماس بافيل وآني إرنو)
يصعب تحديد مفهوم دقيق لجنس الكتابة الروائية؛ إذ الرواية تبقى محفل تعدُّ د اللغات ،واألوعاء ،والشخوص،
واألزمنة ،واألمكنة على السواء .وأرى أن اختيار البداية للنقد أساسا على بقية اإلبداعات؛ مثل الذي واكب التجربة ،جنى ً ّ روايته «فاس لو عادت إليه» ،ويحق في هذا السياق إيراد حكم نقديّ للباحث األستاذ حميد لحميداني في صيغة تساؤل ّ دال« :كيف يمكن التعبير عن نظام األشياء بواسطة فوضى
صدرت عام 1971م ،فقد ظهرت في المدة ذاتها «الغربة» ّ تشكل في قسم منه بوصفها بداية تعبير عن مشروع روائي على الرباعية« :الغربة» ،و«اليتيم»،و«الفريق» و«أوراق»
بيد أن الفارق بين الممارستين اإلبداعيتين :أن تجربة العروي في الكتابة الروائية تأسَّ ست بالموازاة مع مشروعه الفكريّ الرصين كاستكمال تنويع يتأطر في الموضوع كفكر،
والموصوف كإبداع.
ْ التلقائي في انبنت على الوعي إن تجربة محمد زفزاف ّ الروائي ،وبالتالي على االنتقاد المباشر الكتابة واإلبداع ّ والواقعي للظواهر االجتماعية .إن ما يوحّ د التجربتين المكانة ّ
االجتماعي ،ص: الكتابة؟» (الرواية المغربية ورؤية الواقع ّ
التي حظي بها الفرد كتاريخ؛ تصوُّر ومواقف (صورة المثقف).
والواقع أن هذه «الفوضى» ،تجسيد ما نعته الناقد أحمد
فالتنويعات التي عكستها الذات في التجربة الروائية لمحمد
.)411
اليابوري بـ«جنون الكتابة» غير المطابق نهائيًّا لـ«الكتابة عن
132
َ ّ المفكر تجربة المنحى الذي انخرط فيه الروائي محمد زفزاف،
الجنون»( .دينامية النص الروائي ،ص.)104 :
فإذا كانت شخصية إدريس الرابط األساسي في الرباعية، زفزاف ،أقنعة أتوبيوغرافية يحيل إيهامها إلى التماهي مع شخصية الكاتب.
إذا كانت مغامرة الكتابة الروائية اإلبداعية لدى محمد َّ اختطت مسار تف ُّردها ،فإن أول ما لفت النظر المعنى زفزاف األتوبيوغرافي المنتج في هذه الكتابة ،وهو بالطبع المعنى ّ الذي ينهل من تفاصيل الذات؛ إلعادة إنتاجه وصوغه تخييلاً
روائيًّا ،ذلك أن نقلة االمتداد والتحول ،راهنت على مفهوم
الكتابة الذاتية األشبه باالعترافات من دون أن تكون ،فالذات االجتماعي الذي حرصت الرواية وفق هذا االعتبار ،جزء من ّ
الكتابي المغربية والعربية في مرحلة على تفعيله بالتثبيت ّ اإلبداعي ،وبالتالي هي صورة الفرد في َ عالم حاز حُ ّريته بعد ّ وطني ،لوال أن الطريق إلى تحقيق حداثة التقدُّ م َّ ظل نضال ّ ً َّ تجذرت مظاه ُرها، معاقا في مقابل ترسيخ قيم تحديثية
قيمي ،والواقع أن اإلخفاق وشاعت كاستهالك وانحطاط ّ الذاتي ،ومن األساسي للعودة إلى الرهان على مثل العامل ّ ّ َثمَّ فمفهوم الكتابة الروائية لدى محمد زفزاف ،يتأسس على
إحالل الذات مكانتها وموقعها اجتماعيًّا ،وقد عانت فداحة اغترابها ،وأرى أن ُّ تمثل رمزية البحر في معظم روايات محمد صوفي ضاق من عنف الواقع وأسره، زفزاف ،تجسيدٌ لعشق ّ
إلى الماء حيث فساحة التأمل.
لعل السؤال الملحّ هو :أكان محمد زفزاف يكتب سيرته
الذاتية على امتداد منجزه؟
يمكن القول :إن المرحلة التي عرفت والدة منجز محمد
العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
محمد زفزاف ..مغامرة الكتابة وإشكالية التلقي
أساسا ،والممكن تحديدها كما سلف من الروائي زفزاف ً ّ بدايات السبعينيات إلى نهاية التسعينيات ،عرفت ً نوعا من ّ الروائي الذي والمتمثلة في المتداول المجاورة الخارجية، ّ
ّ دلت عليه كتابات الروائي األردني «غالب هلسا» والسوريّ ّ «حيدر حيدر» .هذه المجاورة أسّ ست إلنتاج المعنى الذاتي في الكتابة الروائية العربية ،وهو االنخراط الذي سَ َّنه محمد
زفزاف ،ذلك أن الغاية من إرساء تقاليد مغايرة في الكتابة الروائية العربية ،هي البحث عن نقلة وتحوُّل إلى الرغبة
ما أبدعه كل من «غالب هلسا»، و«حيدر حيدر» ،و«محمد زفزاف»، يندرج حسب األبحاث األدبية والنقدية المتعلقة بالكتابة الذاتية ضمن ما بات يسمى بـ«التخييل الذاتي»
في استجالء األحاسيس الذاتية المغيبة في سياق إكراهات
الواقع األيديولوجية ،وبذلك فإن كتابات محمد زفزاف الروائية جنحت إلى تخليق معانيها استنادًا إلى تجربته الذاتية المعاشة في الوجود والحياة ،وكان محمد زفزاف على وعي دقيق بما يسهم في إنتاجه ،وبخاصة أنه في حواراته أ ّكد أنه لن يكتب سيرة ذاتية ،وإنما على استعداد للقيام بإمالئها إذا
اقتضى األمر.
على أن (تمظهرات) األبعاد السير ذاتية في روايات محمد
يتجسد في اآلتي: زفزاف ّ
هيمنة ضمير المتكلم :وهي هيمنة طالت منجز محمد
الروائي كليًّا ،مثلما أنها اختيار في الكتابة والتأليف؛ زفزاف ّ فمن خاللها جرى تجسيد األحاسيس الذاتية ،والمواقف
الملتزمة في كثير من القضايا؛ يقول الباحث والروائي محمد ّ المتلفظ أمنصور« :فمنذ «المرأة والوردة» ظل ينحت لسارده ً صوتا متفردًا»( .محكي القراءة ،ص.)28 : بضمير المتكلم
المطابقة :وتبرز من خالل الحكاية التي يجري صوغها،
وتكشف عن الشخصية المتحدث بها في أبرز مظاهرها ّ يحق ومالمحها شخصية الروائي والكاتب نفسه ،ومن َثمَّ ً سابقا. الحديث عن التماهي كما ذكر ّ المثقف :إن ما تحيل إليه المطابقة السابقة ،سيرة صوت َ المثقف الملتزم الرافض بِنى المجتمع التقليدية ،والراغب
إحقاق التغيير وتحقيقه بوصفه مطمحً ا أساسيًّا انبنى عليه واقع ما بعد االستقالل ،فصوت المثقف بالضبط ،صوت
ورست ضدّ ه أكثر من رقابة الفرد والذات الذي ظل مغيبًا ،ومُ ِ حالت دون سماعه أو إسماعه؛ ليمثل جنس الرواية األفق
المفتوح على التعبير وتعرية أسرار المجتمعات التقليدية. يرى الدكتور سعيد علوش« :وإذا كانت الدونجوانية في «المرأة والوردة» تبرز كرومانسية ثورية ،فهي ال تصنع أكثر
االجتماعي السائد في وجهيه من الكشف عن خلفيات النظام ّ
كفراغ يواجه األفراد ،وكهروب نحو قيم جديدة تبلورها البطولة والفحولة الجنسية»( .مجلة «أقالم» ،العدد،9 :
إبريل1979 :م ،ص.)17:
موضوعة الجنس :وتحضر على امتداد المنجز الروائي
لمحمد زفزاف ،فكما يجري اختيار شكل الكتابة واإلبداع ،فإن هتك المُ ح َّرمات والمُ قدَّ سات يوازي هذا االختيار الذي ّ شكل
ّ ً التلقي في ظل مجتمعات عربية ،تؤثر قلقا على مستوى ً صورة وليس كتابة ومقروءً ا. االستئناس بالجنس إن التمظهرات السابقة تجلو األبعاد السير ذاتية في
نصوص محمد زفزاف الروائية ،وهي أبعاد حدَّ دها ميثاق كتابة الفرنسي السيرة الذاتية و َْف َق ما نص عليه الناقد والباحث ّ
«فيليب لوجون» في كتابه عن «السيرة الذاتية» .والواقع أن ما أبدعه كل من «غالب هلسا» ،و«حيدر حيدر» ،و«محمد
زفزاف» ،يندرج حسب األبحاث األدبية والنقدية المتعلقة
بالكتابة الذاتية ضمن ما بات يسمى بـ«التخييل الذاتي»؛ إذ يلجأ الروائي إلى توظيف عناصر من مسار حياته وتجربته في
الوجود ضمن كتاباته الروائية بعيدً ا من التحديد (األجناسي)
في كون المكتوب سيرة ذاتية.
يبقى القول :إن مغامرة الكتابة الروائية لدى محمد زفزافَّ ، شكلت بالفعل امتدادًا عكس نقلة وتحولاً ،وخلقت
في اآلن ذاته ِّ تلقيًا نوعيًّا لكتابة مغايرة غير مألوفة؛ إذ ِّ التلقي العادي أسَّ س قواعد الالفت -وهي مفارقة بالفعل -أن ِّ التلقي العالم انسجامه مع هذه المغامرة ،على حين أن
العارف قاومها محتكمً ا إلى مناهج نقدية ،طبّقت على نصوص روائية َنحَ ْ ت مَ ْنحى اختيارات مغايرة في الكتابة الروائية .ومِ ن َثمَّ تقتضي الضرورة األدبية إعادة قراءة المتن الروائي لمحمد
زفزاف؛ الستجالء مناحي التجديد فيه ،التي تأسَّ ست على ُّ األتوبيوغرافي من دون إغفال بدايات محمد زفزاف التمثل ّ ً شعرية. التي كانت
133
مقال
الفلسفة
بين السطور وخوف المعرفة األلماني ليو شتراوس معروف في األوساط السياسية الغربية ،سواء في الدوائر الرسمية أم في األكاديمية الفيلسوف ّ ِّ المتصلة بالعلوم السياسية ،بأنه منظر ما ُع ِرف بتيار المحافظين الجُ دُ د؛ أي :السياسيون الذين اشتهروا في عهد الرئيس ّ ّ وتولوا مناصب عدة مهمة ومؤثرة .وقد سُ مّ وا المحافظين الجُ دُ د؛ ألنهم َتب َّنوا أفكار خاص، األميركي جورج بوش االبن بشكل ّ
السياسي السياسي ،وما يجب أن يكون عليه ،وبشكل أكثر تحديدً ا ضرورة أن يمارس النظام شتراوس حول طبيعة النظام ّ ّ سياسات بعيدة من أنظار الشارع ،فينأى عن اهتمامات الناس العاديين .أي أنه يجب أن تكون للساسة رؤيتهم وقراراتهم التي ال يستشيرون فيها العامة؛ ألن العامة ال تفهم في تلك األمور ،ويجب ألاَّ ُتستشار فيها .ومع أن هناك من ينفي عن شتراوس تبنيه تلك اآلراء ،فمِ ن المؤ ّكد أن في كتاباته ما يشجع على ذلك النهج ،الذي ُّات ِبع فعلاً في أحداث كبرى شهدها العالم ،لعل أبرزها ً ُ صحيحة وضرورية. الساسة غزو العراق الذي جرى بتضليل الرأي العام؛ لتنفيذ «أجندة» رآها أولئك االضطهاد وفن الكتابة
134
الشيوعي ،نشر شتراوس كتابًا ،تأمل فيه أوضاع في أعقاب الحرب العالمية الثانية ،وانضمام شرق أوربا إلى المعسكر ّ ً –أيضا -معرفة شترواس الشيوعي ،وما مارسه من اضطهاد معروف .لكن ذلك الكتاب عكس الكتاب الذين عاشوا تحت الحكم ّ َ متخصصا فيها ً ً أيضا .في وصلة تلك الفلسفة بمؤثراتها اإلسالمية التي يُعَ دُّ شترواس بالفلسفة في أوربا في العصور الوسطىِ ، كتاب «االضطهاد وفن الكتابة» تناول شتراوس مجموعة من الفالسفة القدماء ،ومنهم :الفارابي وابن ميمون ،وتوقف طويلاً
عند سبينوزا موضحً ا كيف واجه أولئك القيود المفروضة عليهم في التعبير عن آرائهم وقناعاتهم الفلسفية ،وحاجتهم إلى
إخفاء كثير من تلك اآلراء والقناعات عن عامة القراء .فالفالسفة من هذا المنظور طبقة مستقلة عن المجتمع ،وعن عامة المثقفين؛ فهي قادرة على رؤية العالم من زاوية مستقلة ً أيضا ،زاوية ال تصل إليها العامة وقد ترفض العامة نتائجها؛ لذلك فإن الفالسفة مضطرون إلى التعبير عن بعض آرائهم بالطريقة التي ال يستطيع العامة فهمها (ومن هنا نستطيع أن نفهم أحد أسباب الربط بين شترواس وتيار المحافظين الجدد).
في كتاب «االضطهاد وفن الكتابة» طرح شتراوس نظريته حول األساليب التي اتبعها بعض الفالسفة قديمً ا؛ لتمرير الفارابي ألفالطون في كتاب له عن ذلك الفيلسوف بعض أفكارهم بأسلوب ال يعاقبون عليه ،فتحدث مثلاً عن كيفية توظيف ّ اليوناني .يقول شتراوس :إن الفارابي يقوّل أفالطونَ كالمً ا لم ّ ْ ُ يقله ،إنما هو كالم الفارابي نفسه ال أفالطون، فيصبح الفيلسوف القديم مطيَّة ألفكار الفيلسوف المُ حدَث .ثم َت ْترى األمثلة في عصور مختلفة؛ منها :العصر الحديث؛ إذ سعى ُك َّتاب من أوربا
الشرقية لتمرير أفكار ومعتقدات وآراء غير مسموح
بها ،بأساليب ملتوية؛ لكي يفلتوا من عين الرقيب الحكومي الشرس في بلدانهم. ّ
نظرية شتراوس هذه انطلق منها باحث
أميركي ،في كتاب أصدره مؤخ ًرا ،بعنوان: ّ ً ً عنوانا مضيفا «الفلسفة بين السطور» (2014م)
جانبيًا هو« :التاريخ المفقود للكتابة اإليزوتيريكية». المؤلف آرثر ميلتزر ( )Melzerأستاذ فلسفة
في قسم العلوم السياسية بجامعة ميتشغان العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
ً صفحة، بحثي الفت يقع في 450 ستيت األميركية ،وكتابه إنجاز ّ
اليوناني حتى ويبحر بالقارئ عبر عصور الفلسفة منذ العصر ّ أواخر القرن الثامن عشر ،وهي حِ ْقبة طويلة َّاتسمت مثلما يقول
الفلسفي، ميلتزر بسيطرة نوع من الكتابة المزدوجة في التأليف ّ يشير إليها بالكتابة اإليزوتيريكية ( ،)esotericوكذلك بالفلسفة بين األسطر .اإليزوتيريكية صفة لكل معرفة أو مُ ع َتقد يقتصر على فئة محدودة من الناس؛ أي :المعرفة المحاطة برموز أو دالالت ال يصل إليها إال ُ ّ الخاصة أو المتخصصين، أهلها من
وتقابلها المعرفة اإلكزوتيركية ( )exotericالتي تشير إلى المعرفة المشاعة أو الواضحة .يقول ميلتزر ما سبق أن قاله شتراوس ،وهو أن أهل الفلسفة ُّ ً قرونا يكتبون بطريقتين :إحداهما إيزوتيركية ظلوا
أو مقتصرة على ال ِق َّلة ،أي :ما سبق أن سمَّ اه بعض المؤلفين القدامى« :المظنون به على غير أهله» ،واألخرى إكزوتيريكية؛ أي: مشاعة يفهمها الجميع .ويستشهد المؤلف في هذا السياق بعبارة
للشاعر والكاتب األلماني المعروف غوته ،وردت في إحدى رسائله عام 1811م ،ع َّب َر فيها عن اعتقاده أن ش ًّرا قد َّ حل بالناس في النصف األخير من القرن السابق ،أي الثامن عشر ،حين لم يعودوا يميِّزون المعرفة اإليزوتيركية من اإلكزوتيركية.
سعد البازعي ناقد سعودي
135
ً دفعا للضرر الغموض
يميِّز ميلتزر بين أربعة أنواع من الكتابة اإليزوتيركية؛ يتضمن َ ُ َ الغموض الكتابة التي يختار فيها الكاتب الفيلسوف األول النوع
الشخصي؛ نتيجة عدم تقبُّل أفكاره ،واحتمال دفعً ا للضرر ّ
اإلضرار به نتيجة لذلك ،أو لحماية المجتمع نفسه؛ أي :دفع
الضرر العامّ ،بإخفاء حقائق معينة ،ويُسمِّ ي ميلتزر هذا النوع َ الكتابة اإليزوتيريكية الدفاعية أو الوقائية .أما النوع الثاني فيتضمن َ الغامضة ،بقصد تحقيق مصلحة ،قد تكون إصالحً ا سياس ًّيا ،أو تعليم نخبة من طالبي المعرفة ،ويُسمِّ يها إيزوتيريكية سياسية
أو تربوية .هذه األنواع يبسطها المؤلف في مجموعة ضخمة من
األمثلة التي تحملها نصوص تتعرض إلى تحليل يُؤ ِّدي بنا إلى
مجاهل داللية ال تبدو ألول وهلة ،أو ال تبدو لقارئ اعتاد القراءة فوق السطور ،أو على السطور وليس ما بينها؛ أي :اعتاد الداللة الواضحة المباشرة بعد أن َتربَّى في بيئة تعليمية وثقافية تقول
ُّ النص هو ما يظهر للقارئ ،وال شيء في الخفاء. له :إن ما يقوله
كتاب ميلتزر ال صلة له باآلراء السياسية لليو شتراوس أو
بالمحافظين الجدد ،لكن معرفة الخاصة ،وتحويلها إلى سلطة تنأى بهم عن العامة هي الجسر الذي يربط بين اإلستراتيجية
السياسية والرؤية الفلسفية المعرفية ،الجسر الذي تعبره ِّ ّ ً مفكرين مثل لتؤثر في الشأن العام بوساطة أحيانا؛ الفلسفة ً حديثا ،ومثل أفالطون والفارابي قديمً ا. شتراوس
يقول شتراوس: يقول إن الفارابي ّ كالما لم يقُ لْ ه، أفالطون ً َ إنما هو كالم الفارابي نفسه ال أفالطون، فيصبح الفيلسوف القديم مط َّية ألفكار حدث الم َ الفيلسوف ُ
مذكرات
بين الحياة والموت..
في زنازين إيران السرية 136
يوسف عزيزي كاتب وصحافي أهوازي
والصحافي األهوازيّ يوسف عزيزي قريبًا كتاب بعنوان« :بين الحياة يصدر للكاتب ّ
والموت» ،عن مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية ،يستعرض فيه ً صنوفا من اآلالم .يوسف عزيزي تجربته في زنازين إيران السرية؛ حيث ُع ِّذب ،وعانى
ِّ مؤسسي صحيفة همشهري ،وعضو هيئة تحريرها ،وبدأ عزيزي عمله في هو أحد «همشهري» منذ تأسيسها في ديسمبر 1992م ،وأغنى الصحيفة بترجماتِه البحوثَ العربي والمناطق األخرى من العالم ،إال أن اإلدارة الفكرية واألدبية الحديثة في العالم ّ
التي يصفها بـ«اليمينية» طردته من الصحيفة؛ بسبب مواقفه. اً فصل من الكتاب: «الفيصل» تنشر هنا
العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
137
بعض األحداث ال يمكن أن ُتمحى من ذاكرة اإلنسان أبدً ا، ٌ منحوت على صخر ،ويبقى ما ُنحِ َ ت مالزمً ا اإلنسان كأنها رسم
ٌ واقعي لهذا مثال إلى مماته .وأحداث يوم الـ 25من إبريل 2005م؛ ٌّ
النوع من األحداث. ُ في ذلك اليوم أخذني ضبَّاط محكمة الثورة اإلسالمية في
ساكني المحافظة من العرب إلى أقلية بعد َع ْشر سنوات؛ لهذا
السبب تظاهرت أعدا ٌد من عرب مدينة األهواز في حي «علوي».
سار المتظاهرون في مسيرات متجهين إلى مبنى المحافظة؛ ليعبِّروا عن احتجاجهم على ما تضمَّ نه محتوى رسالة أبطحي. ً ً عوضاسلمية تمامً ا ،لكن القوات العسكرية كانت االحتجاجات
طهران من منزلي في حي يوسف آباد .لكن القصة لم تبدأ من
من حماية المتظاهرين -فتحت النار عليهمُ ، فقتل في الحادثة ً الحقا ،وفي إحدى جلسات االستجواب ،قال لي عشرة أشخاص.
أبطحي ،رئيس مكتب رئيس جمهورية إيران السابق محمد
في االحتجاجات .وهو يقصد بذلك أن الشرطة والقوات األمنية قتلت 8أشخاص فحسب ،إضافة إلى رجل وُجد مي ًتا في تلك المنطقة ،قضى نحبه إثر نوبة قلبية من ُ قبل ،حسب المحقق. وأُعلن من جهة أخرى ،أن تعداد ضحايا احتجاجات 15إبريل في
ذلك اليوم المجلجل ،إنما بدأت عندما نشرت مواقع أهوازية، ً ً ممهورة بتوقيع محمد علي رسالة كانت في شبكة اإلنترنت، خاتمي .الرسالة تعود إلى عام 1998م؛ أي :السنة الثانية من مدة رئاسة محمد خاتمي ُ األولى. ً نص الرسالة -التي ُع ِر ْ ُّ الحقا باسم «رسالة فت كان ِّ االجتماعي للشعب أبطحي»– يؤكد ضرورة تغيير النسيج ّ العربي في محافظة خوزستان (إقليم عربستان)؛ لِيتمَّ تحويل ّ
ِّ المحقق الذي جاء من طهران إلى األهواز :إن 1+8أشخاص ُقتلوا
شخصا .أما أنا؛ ً ً وفقا لمصادر محلية أثق األهواز وصل إلى 15 فيها ،فقد أعلنت في تصريحات إلحدى وسائل اإلعالم األجنبية،
مذكرات
ً شخصا .على أي حال ،مثلما هو أن تعداد الضحايا وصل إلى 50
معتاد في حاالت مماثلة ،فإن المسؤولين اإليرانيين يمتنعون دائمً ا عن إعطاء إحصاء دقيق لذلك ،ويتك ّتمون على الحقيقة. ضحايا واحتجاجات
على الرغم من وقوع ضحايا بين المتظاهرين؛ فقد
إيران ،ومحمد علي عمويي ،وهو ممن بقي من حزب «توده»
الشيوعي .وحضر الجلسة آخرون ال أذكرهم اآلن .بعضهم ّ ألقى كلمة في ذلك اليوم .وشارك في االحتفال كل مؤسسي المركز؛ مثل :شيرين عبادي ،وعبدالفتاح سلطاني ،ومحمد
علي دادخاه ،ومحمد شريف ،إضافة إلى مراسلين من وسائل
امتدَّت االحتجاجات ،في األيام الالحقة ،إلى مدن أخرى في ّ التشكل ،وأطلق المحافظة ،وأخذت االنتفاضة الشعبية في عليها الناشطون العرب اسم «انتفاضة» فعلاً ،وهي الكلمة
باستثناء فريبرز الذي أدان قتل «الشعب العربي» ،ورفع شكوى
تعداد ضحايا االنتفاضة في المدن إلى عشرات األشخاص ،في
قا َرنَ رئيس دانا بين هذا القتل وبين إطالق النار على العمال
المرادفة لكلمتين فارسيتين «خيزش» أو «قيام» .ووصل
أيام معدودة.
في يوم الخميس 25إبريل 2005م؛ أقام مركز الدفاع عن حقوق اإلنسان احتفالاً في مكتبه بطهران ،وكانت شيرين عبادي تتولى رئاسة المركز وقتها؛ طلب مني أصدقاء مشاركون
العربي ،في أن أتحدث في الحفل ،عن قتل أبناء الشعب ّ
إعالم داخلية وخارجية.
ومن بين كل هؤالء؛ لم يشر أحد إلى أحداث األهواز،
إلى رئيس الجمهورية ،آنذاك ،محمد خاتمي.
في «شهر بابك» بمحافظة «كرمان» .واقعة العمال حدثت قبل
ذلك بأشهر ،وذهب ضحيتها مجموعة من العمال. وضع حساس في «عربستان»
عربي أهوازيّ ،اسمه نوري صحافي رافقني في الحفل ّ ّ حمزة .وهذا بدوره؛ طلب من منسق المراسم -محمد سيف
احتجاجات الخامس عشر من إبريل؛ أحداث االحتجاجات، ونتائجها ،وضحاياهاّ ، كل ذلك انعكس ،على نحو واسع،
زاده -إضافتي إلى قائمة المتحدثين ،وقدَّ م شرحً ا عن الوضع
ّ الخاص بالمركز ،الذي كان مبناه سيف زاده رئاسة االحتفال
الفكرة .وعندما رأى صديقي الوضعَ على هذا النحو ،وقف وسط
في وسائل اإلعالم الداخلية والخارجية .وقد تولى محمد
138
إيران ،والدكتور فريبرز رئيس دانا من أعضاء اتحاد كتاب
في حي «يوسف آباد» ،وقريبًا جدًّ ا من منزلنا .تلك الجلسة ً شخصا؛ من بينهم ناشطون ،ووجوه سياسية حضرها نحو 50 بارزة؛ أمثال :عيسى سحر خيز من جمعية الدفاع عن حرية
الصحافة ،والدكتور إبراهيم يزدي األمين العام لحركة حرية
العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
الحساس في خوزستان «إقليم عربستان» ،غير أن زاده لم يتقبَّل ُ ُ فتحدثت لحقت به، الجمع ،وشرع يشرح أوضاع األهواز ،ثم َ دقائق عن مستوى القمع وحجمه ،وتعداد ضحايا االحتجاجات
العربي في اإلقليم .في أثناء حديثي؛ الشعب والظلم ،وما لحق َ َّ َ َ ُ حمَّ ُ وانتقدت مسؤولي الدولة مسؤولية قتل أبناء الشعب، لت
بين الحياة والموت ..في زنازين إيران السرية
يوسف عزيزي والشاعرة اإليرانية المعارضة سيمين بهبهاني في بيتها 2006م طهران
طلب مني أصدقاء مشاركون أن أتحدث في الحفل عن قتل أبناء العربي في األهواز الشعب ّ
ّ يتخفون في لباس مراسلين أو مصوّرين لإلذاعة أو وفي األغلب
التلفزيون ،وغير ذلك.
كان حديثي إلى وسائل إعالم ،في حفل مركز حقوق اإلنسان؛ سببًا في إعداد قرار ّاتهامي من محكمة الثورة
ً الحقا .ومثلما ورد في القرار؛ فإنني اإلسالمية في طهران كنت م َّتهَمً ا بالحديث إلى 11وسيلة إعالمية فارسية وعربية
ْ الحكومة .ومن دون ِّ بدأت شيرين مقدمات ،وفي أثناء حديثي،
وإنجليزية عن أحداث األهواز والمدن التابعة .بعد مُ ِض ّي ثالث
خوزستان قلب إيران».
هناك مَ ن شاهَ دَ وكيل نيابة طهران بالقرب من مبنى الدفاع
عبادي تر ِّدد شعارات ال تزال في ذاكرتي؛ منها شعار «خوزستان حدث كل ذلك؛ فيما كانت كاميرا تلفزيون الجمهورية َّ ً ضابطة كل األحاديث بدقة إلى وجهي، اإلسالمية موجَّ هة
والحركات والسكنات .وبالطبع كنت أعرف إلى أين ستذهب نسخة من ذلك ال ِف ْلم!.. بعد انتهاء المراسم؛ لحق بي مراسلون أجانب ،تحدثت
سنوات من ذلك التاريخ؛ قال لي المحامي محمد شريف :إن
عن حقوق اإلنسان ،يوم االجتماع ،وعندما وصلت المعلومة األمني إلى شيرين عبادي؛ ام ُت ِقعَ وجهُها ظ ًّنا منها أن المسؤول ّ جاء إلغالق المركز.
قوات األمن في منزلنا
انتهت مراسم مركز الدفاع عن حقوق اإلنسان ،وأجريت
العربي في األهواز .كان إليهم بوضوح عن انتفاضة الشعب ّ الحديث لتلفزيون بي بي سي ،وصحيفة الغارديان ،ووكالة أسوشيتدبرس .أحد حضور الحفل ،حاو ََل مقاطعتي َع ْنوة،
ُ وذهبت أنا تقريبًا من بعد ظهر ذلك اليوم .خرجنا من المركز،
كانت مقاطعة واضحة سعى فيها ،بكل وقاحة ،للحيلولة
المركزُ . قلت لنوري أنْ يعدّ مادة خبرية تغطية لمناسبة المركز،
تحديدً ا في أثناء حديثي إلى مراسلي الغارديان وأسوشيتدبرس. دون إيضاحاتي المتعلقة بقتل العرب في األهواز .قطع حديثي
مرات عدة .والظاهر للعيان أنه فعل ذلك من منطلق قومي.
أمني، أما أنا فعلى يقين من أن ذلك لم يكن إال من منطلق ّ فمن المعتاد أن يحضر رجال األمن السريّ هذه الجلسات،
بعض المقابالت الصحافية .كانت الساعة تشير إلى الواحدة
ونوري حمزة إلى منزلي الذي يبعد دقائق معدودات من مبنى
ثم يرسلها إلى وسائل اإلعالم ،وبالفعل شرع في عمله بعد وصولنا إلى المنزل.
لم تكد تم ّر ساعة ،أو ّ أقل ،حتى ُقرع جرس المنزل. ْ سألت كانت الساعة تشير إلى الثانية إال ربع بعد الظهر تقريبًا.
139
مذكرات
زوجتي عبر سماعة الباب الخارجي :مَ ن الطارق..؟ فر َّد الطرف
اآلخ ُر :ساعي البريد ،لديكم رسالة مسجلة ،تعالوا الستالمها.
يقع المبنى الذي أقطنه بين جهتين متقابلتين؛ شمالية، الخارجي وأخرى جنوبية .في جهة الشمال ساللم تصل الباب ّ ْ خرجت زوجتي بالشقة التي تقع تحت مستوى سطح األرض. الخارجي؛ ليباغتها مأمو ٌر عارضاً عبر الساللم ،وفتحت الباب ّ
عليها مذكرة اعتقال ّ بحقي ،صادرة عن النيابة .في أثناء ذلك؛ ت السالمَ على وصلت زوجة جارنا عائدة من جهة الشارعْ .أل َق ِ
زوجتي وهي تهمّ بدخول المبنى .رد ْ َّت عليها السالم .حينها؛ ُفهم زوجتي ألاَّ تخبر الجارة أيّ شيء عن أشار المأمور بيده؛ ِلي ِ موضوع المذكرة .كان هناك خمسة رجال من قوات األمن عند
الخارجي ،وثالثة آخرون عند الرصيف. الباب ّ
العائلية ،وصور أصدقاء ومناضلين آخرين السفلي .ولم نكن نريد أن في المخزن ّ تقع أيديهم على هذه المقتنيات ً أطرافا خلف مالبسهم .كان يمكن لمن يمعن النظر أن يشاهد من أسلحة بعضهم .بِيَد أحدهم كاميرا فيديو .يبدو أن مهمته هي تصوير ّ كل شيء في الشقة؛ الغرف ،الزوايا ..وكل شيء. راح جرس الهاتف يرنّ ،ورجال القوات يمنعوننا عن الردّ.
ْ طلبت زوجتي من المأمور أن على الرغم من ارتباكها؛
ْ نزعت تك َّرر الرنين م ّرات عدة .وتكرر منع الردّ .عندها؛
مشاكل قلبية .عاجلتهم بهذا العذر ،وهرولت عبر الساللم.
حديثي إلى زوجتي باللغة العربية؛ طلبوا التحدث بالفارسية،
يسمح لها بأن تهيِّئ المجال ..قالت لهم :إن ابنتنا وأنا نعاني
دخلت الشقة .أغلقت الباب .وأول ما شغلها ،لحظتها ،هو إنقاذ نوري حمزة الذي جاء معي من مركز حماية حقوق
اإلنسان .فقد يتورّط معي .وعلى نحو عاجل؛ أرشدته إلى
140
هناك مجموعة من ألبومات صورنا
الخلفي. الجنوبي الذي يُفضي إلى الشارع الخروج من الباب ّ ّ وهنا راح أفراد القوات األمنية يطرقون الباب ،ويصيحون على
متوال .كانوا يطالبون بفتح الباب فورًا. نحو ٍ
بعد خروج نوري؛ فتحت زوجتي باب الشقة .دخل ً أسلحة الثمانية إلى الشقة في موجة واحدة .كانوا يُخفون
العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
زوجتي سلك الهاتف .أظهر أفراد قوات األمن انزعاجهم من
لكننا لم نكن نأبه .ليس من عادتي أن أتحدث إلى زوجتي بلغةٍ
غير لغتنا األم.
فيما كان رجال القوات يفتشون ّ كل شيء في المنزل؛
كان خبر مداهمة المنزل قد وصل إلى وسائل اإلعالم، داخل إيران وخارجها .صديقي نوري حمزة ّ تكفل بالمهمة، بعد انسالله من الشقة .أُ َ ولى «غنائم» القوات كانت دفترين صغيرين يحتويان على مئات األرقام الهاتفية لألصدقاء والمعارفَّ . تمك ْ نت زوجتي من تمزيق صفحة أو اثنتين فقط
بين الحياة والموت ..في زنازين إيران السرية
قبل أن ينتبه أفراد قوات األمن .وفي خالل ساعتين ونصف ف َّتشت القوات كل ثقوب المنزل وفتحاته وزواياه .في حدود
ً ً وبعضا بعضا من الرز، الثالثة عص ًرا أحضرت زوجتي غدائي؛ من مرقة «البرقوق» المعروفة فارس ًّيا بـ«خورشت آلو» .لكن
ُ كنت فيها؛ هل يمكن أن يم ّر مع تلك الحالة العصبية التي أكلت لقمتين أو ثالثاً ُ من بلعومي شيء من طعام..؟ ربما واكتفيت !..األدهى من ذلك ،هو أنني كنت مصابًا وقتها بنزلة برد شديدة ،وذبحة صدرية زادت الطينَ بِ َّل ًة؛ حتى إنني عندما
ُ تحدثت إلى وسائل اإلعالم ،لم أكن أستطيع الكالم بسهولة.
وعند إطالق سراحي من السجن ،فيما بعد ،شاهدت أشرطة ُ فوجدتني وأفالم محطات التلفزيون العربية والفارسية،
محمد أبطحي
شيرين عبادي
أتحدث بصوت مبحوح متقطع!..
سألت زوجتي عبر قُ رع جرس المنزل. ْ الخارجي :من الطارق..؟ سماعة الباب ّ فر َّد الطرف اآلخر :ساعي البريد ،لديكم خرجت رسالة مسجلة؛ تعالوا الستالمها. ْ عارضا عليها زوجتي ليباغتها مأمور ً مذكرة اعتقال بحقي صادرة عن النيابة
زوجتي تثير الضجيج ْ شعرت زوجتي أن ُ المداهمِ ين قد يذهبون إلى غرفة تقع في األسفل. في أثناء عبث القوات في المنزل وتفتيشهم؛ ً ُ مخزنا لمئات الموا ّد األرشيفية الخاصة بي وبالعمل. جعلت منه الحقيقة أن في األسفل مرآ ًبا، ْ نجحت في صرف انتباههم عما هو خارج الشقة بالصياح وإثارة الضجيج .ا َّدعت أنه قد ُيغمى عليها من وقد منتبها لمغزاها في البداية ،فوجَّ ُ ً ً مستخدما اللغة هت إليها اللوم جرَّاء ما يفعلونه في المنزل .من جهتي؛ لم أكن
العربية .طلبت منها أن تستجمع شجاعتها ،وترفع معنوياتها ،وتتماسك .فأفهمتني باإلشارة أن كل ذلك كان محض تمثيل .أرادت أن ُتشغل العناصر األمنية؛ كي ال يبحثوا في مكان آخر غير الشقة .في الحقيقة كان هناك مجموعة من
السفلي .ولم نكن نريد أن تقع أيديهم على ألبومات صورنا العائلية ،وصور أصدقاء ومناضلين آخرين في المخزن ّ هذه المقتنياتَّ . فتشوا كل شيء بدقة .وفي النهاية حملوا معهم مجموعة من الكتب ،وحافظة كمبيوتر ،وأرشيف مقاالتي المنشورة في مطبوعات عربية وفارسية ،وكذلك كتابات شخصية ُمحَ رَّرة بيدي .كان بعضها قصاصات صحف
تحتوي على مقاالتي ومقابالتي وقصصي .وبعضها قصص ونصوص شعر غير مطبوعة .في النهاية حملوا معهم
الم َ تسع حقائب كبيرة .وكان من غنائمهم عشرات األسطوانات ُ دمجة ،وأشرطة كاسيت موسيقا عربية وفارسية ،و62
شريط فيديو؛ بعضها أفالم سينمائية ،وبعضها أفالم خاصة وعائلية ،تتعلق باحتفال مولد ابنتي وولدي. ُ كنت أعلم ل َِم أخذوا كل هذه األشرطة ،فقد يحصلون على شيء فيها يساعد على تغليظ (محكوميتي)؛ بالطبع
مثل :مشاهد غير الئقة ،أو مشهد شرب كحول ،أو رقص ماجن ،أو أشياء من هذا القبيل .وبالطبع لم يعثروا على شيء من هذه األشياء.
141
تحقيق
بعد عقود يغادر دول المركز إلى الخليج
اتحاد الكتاب العرب.. كيان بال حضور؛ هل تعيد إليه اإلمارات الوهج ؟ ظلت مصر على مدار تسع سنوات متتالية مق ًّرا التحاد الكتاب العرب ،لكنها فقدت ّ الشرفي مؤخ ًرا هذا الشكل ّ ّ المتمثل في احتضانها االتحاد ورئاستها أمانته كل هذه السنوات ،فقد انتهت المُ َدد الثالث المسموح بها ّ ً لتولي منصب األمين العام ،وكان ال َّ عوضا من الكاتب محمد سلماوي ،واتحاد بد من اختيار رئيس جديد
ً عوضا من اتحاد الكتاب المصريين ،ومن َثمّ فقد ق َّرر المجتمعون في المؤتمر العامّ التحاد الكتاب جديد العرب ،الذي ُعقد في يناير الماضي في اإلمارات ،اختيار رئيس اتحاد الكتاب اإلماراتيين الكاتب حبيب الصايغ
والثقافي ،وما َّ ً قدمته التحاد الكتاب العرب ،في التاريخي جديدا لالتحاد ،وأصبحت مصر بكل ثقلها رئيسا ً ّ ّ الثقافي الراهن ،وما يمكن أن ّ وترويجي لالتحاد مالي تقدمه من دعم مواجهة اإلمارات العربية وحضورها ّ ّ ّ وأنشطته وفعالياته..
حول ما خسره االتحاد بخروجه من مصر ،وما قد يكسبه بذهابه إلى اإلمارات؛ أجرت «الفيصل» هذا التحقيق.
142
الفيصل القاهرة
العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
حبيب الصايغ
معارك مشهورة
في البدء أ َّكد الناقد الدكتور عبدالمنعم تليمة ،أن انتقال
طبيعي؛ «فقد أق ّر المثقفون مق ّر االتحاد من القاهرة أمر ّ َ العرب منذ سنوات طويلة بتداول الدُّ ول العربية رئاسة اتحاد
طبيعي أن تنتهي مدة رئاسة الكتاب العرب ،ومن َثمَّ فهو أمر ّ
مصر له ،وينتقل األمر إلى دولة أخرى ،جاء االنتقال هذه المَ َّرة إلى دولة اإلمارات العربية».
عبدالمنعم تليمة
مدحت الجيار
ال بد من التغيير
على حين عدَّ عضو مجلس إدارة اتحاد الكتاب المصريين،
رئيسا الناقد الدكتور مدحت الجيار ،أن وجود دولة اإلمارات ً لاً التحاد الكتاب العرب أمر مفيد جدًّ ا لالتحاد؛ «ألنه أو يأتي
بعد والية سوريا ثم مصر ،وهي مدة طويلة من عمر االتحاد، العربي وكان ال بد أن تتغير والية األمانة إلى إحدى دول الخليج ّ في هذا التوقيت الحرج ،واإلمارات دولة غنية ،يمكنها أن
وأوضح تليمة أن االتحاد شهد على مدار تاريخه الطويل
تعطي من الناحية المالية كثي ًرا؛ سواء على مستوى الجوائز
في السبعينيات مع رئيس االتحاد المصريّ يوسف السباعي،
وأوضح الجيار أن العضوية في اتحاد الكتاب العرب
ْ جرت كثي ًرا من المعارك المشهورة؛ «كان من بينها معركة
وكانت مصر ترأس االتحاد منذ مدة طويلة ،وقد أبدى اإلخوة ّ بحقهم في اليمنيون والجزائريون بعض االعتراض ،مطالبين رئاسة االتحاد ،كانت هذه معركة؛ انتهت بخروج االتحاد من مصر إلى تونس».
وأضاف صاحب «مقدمة في علم الجمال» أن هذا االتحاد
رغم اسمه الكبير ،وأهميته الدولية «إال أن السياسة في البلدان
حقيقي العربية ومواءماتها أخمدت وهجه ،وجعلته بال دور ّ أو فاعل ،فاألنظمة السياسية في الدول العربية تستعمل مثل
أم السفر أم المؤتمرات أم غير ذلك».
إنما هو لالتحادات وليس لألفراد« ،وهو يقوم برسالة مهمّ ة منذ أطلق طه حسين إشارته األولى في الالذقية بسوريا عام 1958م ،فهو يقوم بعالقات متبادلة بين الك ّتاب العرب؛ ً عربية كبرى وكثيرة يقوم بها نشاطات بمعنى أن هناك ٍ ُشارك في هذه األنشطة، االتحاد ،لكن ال يعرفها إال مَ ن ي ِ ولالتحاد موقع مُ ِهمّ على اإلنترنت ،وله مطبوعات خاصة به، سياسي مهمّ في مناصرة القضايا وله جائزة باسمه ،وله دور ّ
العربية في المحافل الدولية ،فمن خالله حدثت كثير من
هذه المناصب مثلما تستعمل المندوبين في جامعة الدول حقيقي لهذا االتحاد الذي العربية ،ومن َثمَّ فال يوجد حضور ّ
عندما جرى حرق السفارة السعودية في إيران ،فاالتحاد هو
العربي ،إضافة إلى أكثر جرأة وقوة للدفاع عن المثقف ّ أن كثي ًرا من الكتاب والمثقفين العرب الذين يكتبون باللغة
العربية المختلفة ،وبخاصة ذات الظروف العصيبة في هذه
نتمنى له االستقالل عن األنظمة السياسية ،واتخاذ مواقف
اإلدانات لما تفعله إسرائيل في األراضي المحتلة ،وكذلك عربي ضدّ أي دولة ِّ تهدد الدول العربية ،وأنا محصلة تحالف ّ أتم ّنى أن يقوم االتحاد في المدة المقبلة بفعاليات في البلدان
العربية أو األجنبية ،المقيمين في أوربا وخارجها ،ال يسمعون
المرحلة؛ مثل :سوريا واليمن وليبيا وغيرها ،فهذه الفعاليات ً موقفا داعيًا إلى التهدئة في هذه البلدان». سوف تصدر
السياسة في البلدان العربية أخمدت
فأوضح أنه تولى رئاسة االتحاد مدة تسع سنوات ،شكلت ثالث
بهذا االتحاد ،وهو بدوره لم يفكر فيهم يومً ا ما».
وهج االتحاد وجعلته بال دور حقيقي أو فاعل
أما األمين العام السابق لالتحاد الكاتب محمد سلماوي،
واليات أو مُ دَ د رئاسية متتالية ،فاستنفذت مصر كل مُ دَ دها في رئاسة االتحاد ،ومن َثمَّ فقد ق َّرر المؤتم ُر العامّ للكتاب العرب اختيا َر اتحاد كتاب اإلمارات ،ووفق الئحته التي ّ تنص على أن
143
تحقيق
مَ ق ّر االتحاد هو دولة األمانة العامة ،فإن مق ّر االتحاد انتقل رئيسا إلى (أبو ظبي). عقب انتخاب الكاتب حبيب الصايغ ً
وقال سلماوي« :إن مصر في مدة رئاستها قدَّ مت كثي ًرا من
اإلضافات واإلنجازات المهمة؛ من بينها تقرير الحريات الذي يصدره االتحاد كل ستة أشهر ،الذي أصبح مرجعً ا للباحثين»،
يوسف القعيد:
خروج االتحاد من مصر جريمة شن عضو البرلمان
وأضاف« :كما أننا فصلنا االتحاد عن هيمنة السياسة عليه،
المصريّ ،الكاتب يوسف ً هجوما ضار ًيا القعيد،
خطابة األول كل فئات الشعب المصري ،ولم يذكر الكتاب
االتحاد من مصر إلى
التي م َّرت بها مصر بعد الثورة ،فإننا حافظنا على عقد كل مؤتمرات االتحاد في توقيتها ،ومؤتمرات الدول التي ّ تعثرت
يقف المثقفون المصريون ً جميعا ضدها ،فهذا ُ االتحاد ن ِقل من مصر مِ ن
واتخذنا مواقف واضحة من األنظمة حال خطئها؛ من بينها ما حدث مع الرئيس المصري محمد مرسي حين ذكر في
على فكرة انتقال مق ّر
والمثقفين ،وكان االتحاد يعقد مؤتمره في القاهرة فأصدرنا ً بيانا أَد ََّنا فيه ذلك بلهجة صارمة ،وعلى الرغم من الظروف
اإلمارات ،موضحً ا أن هذا « ُي َع ُّد جريمة ويجب أن
في إقامة المؤتمر الدوريّ على أرضها؛ بسبب أحداث الربيع العربي ،فقمنا باستضافة مؤتمراتها بوصفنا دولة المق ّر ،وهو ّ ّ أمر على نقيض ما حدث في األردن حين تولت رئاسة االتحاد ً ً ندوة مدة ثالث سنوات؛ فلم ُت ِقمْ مؤتم ًرا وال واحدة ،ومن َثمَّ فلم ينتخبها المؤتمر العام ً ً ثانية». مرة
يوسف القعيد
ُ ً جميعا ضد كامب ديفيد، قبل؛ بعد كامب ديفيد ،وكنا َ ومن ث ّم تسامحنا في خروج االتحاد من مصر ،وبغض
النظر عن أيّ دور يمكن أن ِّ تؤديه اإلمارات بأموالها،
فإننا لو تسامحنا وفتحنا الباب من جديد في هذا األمر، فلن يبقى في مصر شيء» .وذهب القعيد إلى أن اتحاد
144
الكتاب العرب ال أهمية له في شيء« ،ال هنا وال هناك»
المثقفون أنفسهم ليس لديهم أجندة واضحة ليدرجوها في جدول أعمال االتحاد
حسب تعبيره ،وأضاف أنه يقابل «بصمت ّ تام كل ما
يجري للمثقفين ،وهو ليس له دور ،وإن أصبح له دور بفضل األموال ،فإن ذلك سيعطي رسالة ضمنية؛ أن
مصر قاتلة لالتحادات التي على أرضها».
اتحاد الكتاب السعوديين قال مدير عام األندية األدبية السعودية السابق الشاعر واألكاديمي أحمد قران
الزهراني« :ال أعلم سبب عدم دخول المملكة العربية السعودية اتحاد الكتاب العرب
إلى اآلن ،على الرغم من ثقلها في المنظمات والهيئات العربية والدولية ،وما تقوم
به من دور في دعم هذه الهيئات.
يعد اتحاد الكتاب العرب من منظومة الهيئات العربية التي يجب أن يكون
للسعودية دور فاعل فيه ،وبخاصة أن أغلبية الدول العربية هي ضمن هذا االتحاد،
أحمد قران
وستضمن في حال مشاركتها في هذا االتحاد كسب أصوات إبداعية عربية متنوعة تؤيد توجهاتها.
إن ما يمثله المثقف السعودي في خارطة الثقافة العربية يدعو إلى اتخاذ قرار سريع باالنضمام إلى االتحاد.
لقد حققت الثقافة السعودية قفزات كبيرة في الحركة الثقافية العربية ،وأصبحت فاعلة ومؤثرة ،ولها مكانة
مهمة في الحراك الثقافي في كل المجاالت الثقافية إبداعيًّا وفكريًّا وفنيًّا ،ومن ثم ينبغي لوزارة الثقافة واإلعالم أن تنشئ اتحادًا للكتاب السعوديين ،ثم تلتحق باتحاد الكتاب العرب بوصفها عضوًا فاعلاً ومؤث ًرا».
العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
اتحاد الكتاب العرب ..كيان بال حضور هل تعيد إليه اإلمارات الوهج ؟ ُ
وأكد سلماوي أن كل دولة تتولى رئاسة المؤتمر «تسعى إلى إضافة بعض األمور التي ستظل ُتذ َكر بها ،وأنها من
ْ أرست مصر ،في مدة رئاستها االتحاد ،كثي ًرا من إضافتها ،وقد المبادئ التي يصعب تجاهلها أو عدم البناء عليها ،ومن ثمَّ فال بد أن تسعى اإلمارات لإلضافة إليه ،وإال فلن يعيد المؤتمر
العام انتخابها مثلما حدث مع األردن». غياب األجندة الواضحة
على النقيض من رؤية سلماوي؛ أكدت مؤلفة رواية
«البشموري» الكاتبة سلوى بكر ،أن اتحاد الكتاب العرب اآلن الثقافي ،وال في «ليس له أيّ دور وال أهمية؛ ال في العمل ّ
الحياة الثقافية ،وهو أبعد ما يكون من هذا األمر ،والحجة
الدائمة كانت غياب األموال والدعم ،وربما حين ينتقل االتحاد
محمد سلماوي
سلوى بكر
يوقفها» ،مشيرة إلى ما يحدث للغة العربية وهو ما َعدَّ ْته ً امتهانا يوميًّا« ،ال أتحدث عن اللغة العربية الكالسيكية ،لكن اللغة اليومية في حياتنا ،هذه التي تحتاج إلى تأصيل ،ودفاع، الغربي». وترويج ألهميتها وجمالها في مواجهة الوافد ّ
الحقيقي ،فاإلمارات من أهم إلى اإلمارات أن يتحقق الدعم ّ َ ّ العربي ،ومن ثمّ فهناك بارقة المؤثرة ثقافيًّا في العالم البؤر ّ
وقالت« :إن هناك كثي ًرا من القضايا التي تحتاج إلى دور
عادت ِل ُت ِّ ْ شكك فيما يمكن أن يفعله االتحاد، لكن (بكر)
سيكون صعبًا في ظل التكوين الحالي لالتحاد؛ إذ إنه يتعامل
أمل في انتقال االتحاد إليها».
قائلة« :إن المثقفين أنفسهم ليس لديهم أجندة واضحة ليدرجوها في جدول أعمال االتحاد ،وهذا هو المأزق ،فثمة
مياه قذرة كثيرة تجرى في نهر الثقافة العربية ،وال يوجد من
حقيقي من االتحاد ،ونحن ننتظر منه إحداث دور فاعل ،وهذا ّ مع الرموز الثقافية العربية ،وهي رموز تنتمي إلى اإلعالم أكثر من المثقفين المنوط بهم إنتاج أفكار تساهم في ّ حل مشكالت الثقافي». مجتمعاتهم المأزومة ،وفي مقدمتها المأزق ّ
أسماء الزرعوني
الخليج لديه القدرة على اإلدارة الثقافية أوضحت الكاتبة اإلماراتية أسماء الزرعوني ،أن انتقال اتحاد الكتاب العرب إلى دولة خليجية« ،أمر فريد من نوعه؛ هذا َي ْعني أننا بوصفنا خليجيين نمتلك ثقافة جيدة وإدارة ثقافية فعلاً ؛ إذ ليس من السهل إدارة اتحاد تحت مظلته أكثر من 22
دولة عربية ،أعتقد أن هذا شرف» ،وأشارت إلى أن وجود أمانة لالتحاد في دولة
خليجي ،ويمنحه الدافع إلى الكتابة؛ ألنه يعرف خليجية« ،يثلج صدر كل مثقف ّ ً أن هذا االتحاد وجد من أجله ،وعليه أن يبذل جهدا أكبر لترسيخ قلمه في اإلبداع.
أسماء الزرعوني
يأت من فراغ ،إنما جاء بمباركة من جميع دول األمانة العامة؛ إذ إننا نستطيع أن وإن اختيار دولة اإلمارات لم ِ
ندير هذا االتحاد ،وسنحاول أن نقنع الدول غير األعضاء باالنضمام إلى األمانة العامة ،وبخاصة المملكة العربية السعودية ودولة قطر ،هذه مهمة تقع على عاتق االتحاد ،ومن الممكن دعوة بلدان ليست أعضاء في االتحاد إذا ّ ونسقنا ورسمنا أهدافنا ،وهي في المقام األول االهتمام بالثقافة والمثقفين وخدمة الوطن ،ومن َث ّم ال جاهدنا
ً ً عائقا ،ما دامت األمور تسير في مسارها الصحيح». شيئا أعتقد أن هناك
ّ وقالت الزرعوني« :ال بد ّ يتحقق ،باعتالء ُدولنا الخليجية مناصب خليجي أن يسعد عندما يجد حلمه لكل مثقف ّ
ثقافية ،فمن حق المثقف أن يكون له مكان ينتمي إليه».
145
إصدارات
الحداثة السائلة المؤلف :زيغمونت باومان ترجمة :حجاج أبو جبر الناشر :الشبكة العربية لألبحاث والنشر
هذا الكتاب هو محاولة لفهم زمن متغيّر ،انتقلت فيه المجتمعات المعاصرة من
الحداثة «الصلبة» إلى الحداثة «السائلة» ،من حالة متمايزة من طرائق الحياة اإلنسانية إلى
حالة أخرى داعية إلى إعادة النظر إلى المفاهيم واألطر المعرفية المستخدمة لرواية تجربة فرديّة اإلنسان والتاريخ المشترك؛ لذلك يختار باومان خمسة من المفاهيم األساسية
التي عملت على معنى الحياة المشتركة لإلنسان :التح ّرر ،والفردية ،والزمان -المكان،
والعمل ،والمجتمع.
اإلصالح اإلسالمي في الهند المؤلف :كريمو محمد الترجمة :محمد العربي وهند مسعد الناشر :دار جداول – مؤسسة مؤمنون بال حدود
الغربي على السواء آراء األكاديمي واإلعالم في الوقت الذي أنتج فيه الخطاب ّ ّ ً تجسيدية عن اإلسالم والمسلمين بغزارة ،فإن مثل هذه اآلراء صدرت –أيضا -من داخل اإلسالم نفسه ،عبر تأويالت المسلمين وتمثيالتهم دِي َنهم بوصفه وَحْ دَ ًة أُحادية ال زمنية
وغير متغيرة .لم تكن هذه التمثيالت محض تأمالت أو وصف مبسط للواقع ،أو للتفاعالت الخارجي؛ إذ إن لها قوة توليدية .فبإعادتها االجتماعية والدينية ،الواقعة بالفعل في العالم ّ َ َ تشكيل المفاهيم تتجه نحو إنتاج كل ما يقف على أرضية صلبة ،ومن ثمَّ تكثيف الواقع
146
المشار إليه في الخطاب نفسه.
ثقافة تويتر المؤلف :عبدالله الغذامي الناشر :المركز العربي الثقافي
ّ تحتك بحرية صارت حرية التعبير في تويتر هي المزية والعيب معً ا ،فحُ ريَّة هذا
ذاك مباشرة من دون ضوابط مادية أو زمنية ،وهي فعالية تكشف عن تحوُّل الخطاب
من الورقة والصفحة ،إلى اإلصبع والشاشة ،وهو ما اقتضى سرعة التفاعل؛ لتكون ُ ُ َ الذاتي القول التفكي َر ،وينكشف المخبوء أسرع من حركة الذهن ،ويسبق ضربة اإلصبع ّ
الذاتي عن التحكم في سرعة اإلرسال ،وهو تغيُّر الرقيب من دون رقيب ،حتى َليعجز ُ ّ نوعي عميق في تفاعلية الثقافة. ّ
الفارابي المؤلف :رشدي راشد دراسات في فلسفة أبي نصر ّ الناشر :مركز دراسات الوحدة العربية
الفارابي، يتضمن الكتاب مجموعة بحوث ودراسات ومراجعات معاصرة في فلسفة ّ
وبخاصة في المنطق ،وفي العالقة بين الدين والسياسة ،وفي نظرية المعرفة ،لباحثين
بعيون جديدة للفارابي كبار في تاريخ العلوم والفلسفة ،وهي نصوص ميزتها أنها تقرأ ّ ٍ من جهة المعنى العميق لفلسفته ،وهي ّ تمثل مراجعة شاملة لطرائق قراءة الموروث والعلمي لدى الفارابي. الفلسفي ّ ّ
العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
إرهاب الفكر وفكر اإلرهاب المؤلف :أماني غازي جرار الناشر :دروب الثقافية للنشر والتوزيع
ً يتطرق الكتاب إلى أهم الحاالت التي عاناها الفالسفة قديمً ا وحديثا ،من اإلرهاب الفكريّ
العربي والترويع ،إلى سلب حرياتهم الفكرية .وقدمت المؤلفة نماذجَ من التيارات في الفكر ّ الشيوعي ،إضافة إلى استعراض واإلسالمي ،مقابل التيارات التحررية ،ونماذج من الفكر ّ ّ آراء جملة من الفالسفة والمفكرين في هذا الصدد ،ودورهم في مكافحة اإلرهاب الفكريّ ، اإلنساني في حرية الفكر والتعبير. وسعيهم لتأكيد الحق ّ
السادات المؤلف :روبير سوليه الناشر :دار نوفل
يسلط الكتاب الضوء على حقبة حكم السادات مص َر ،ويُقوِّمها حسب وجهة نظر
سوليه في ضوء التطورات األخيرة للشرق األوسط ،فعلى الرغم من مرور ما يزيد على ثالثة عقود من اغتيال السادات ،فإن سياساته ما زالت آثارها باقية في المنطقة.
147 هديل سيدة حرة المؤلف :البشير الدامون الناشر :المركز الثقافي العربي
رواية عن مسار األميرة المتف ِّرد ،عن عالقتها بالحرب والقراصنة والبحر والتجارة
والعمران واإلرث األندلسي ،وعن تم ُّردها وأفراحها وحبّها وخيباتها ،وعن حلم لقائها حرب شرسة ظالمة مُ ق َّنع ٍة بقناع حمامة بيضاء .حكاية أميرة شاهدة على مدى بشاعة ٍ الدين ،قادت المعارك وانتصرت ،إلاّ أنها َّ ظلت ،في أثناء رحلتها المريرة ،تعاني «هزيمة ما بعد االنتصار».
خواجه ينّ ي المؤلف :محمد صادق دياب الناشر :دار مدارك
المكاني؛ حيث في هذه الرواية للكاتب الراحل ،تشبه جدة الميناء من جهة تركيبها ّ
المدينة السفر ،والمدينة القادمون ،والمدينة السوق ،ومن جهة أخرى هي مركز للسفر إلى مصر وبيروت واليونان .جهة واحدة من هذه الجهات الكثيرة كانت ستغرق أي كاتب
ينوي الكتابة عن مدينة عشقها وهام في دروبها ،لكن محمد صادق دياب العب المزمار
الذي يحسن إمساك العصا من المنتصف ،يعطي الميناء ظهره حين يقبل على الناس في المدينة القديمة ،يستعين بالخواجه ي ّني ،ويتكئ على عام 1857م؛ ليبدأ موَّالاً حجازيًّا آخر عن مرحلة مهمة في تاريخ هذه المدينة العريقة.
كتب
الكتابة عن الكتابة..
«امرأتان» رواية مأساوية ً شخصا يصغي إلى ما تقول ،هذا يَعْ ني أن كتابك وصل إلى هذا الشخص؛ أن تكتب وأن تجد هذا ما يجعلك تدرك إلى أيّ ّ حد أصبحت كاتبًا .نعم ،الكتابة تدفع إلى الغرور ،بالقدر نفسه شخصا ما ّ ً قدر الذي تدفعك به إلى التواضع؛ ألنك في لحظة تشعر أنك ملكت العالم؛ ألن كتابك ،وأخبرك إلى أي ّ َ كتبت وبما تمثله له بوصفك كاتبًا .وفي اللحظة حد هو معجب بما
التي بعدها وبالحماس نفسه يهتمّ شخص بأن يوصل إليك رأيه فيما تكتب ،ومضمون هذا ً تفاهة في العالم .هذا هو عالم الكتابة ،حيث أنت وَحْ َدك الرأي أن ما تكتب من أكثر األشياء مع القارئ ،ال توجد وسائط. هناء حجازي روائية سعودية
148
هناء حجازي تتسلم جائزة أفضل كتاب من وزير الثقافة األسبق عبدالعزيز خوجة العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
ّ ّ تتضخم ذاتك، الحل الوحيد إذا أردت أن تعبّر من دون أن ّ تتحطم معنويًّا، وتشعر أنك الكاتب الوحيد في الكون ،أو أن
تعتمد على حالة انفعالية مفاجئة؛ لهذا السبب لم أستطع
مسألة التقييم األولية ل ِقيمتك بوصفك كاتبًا التي ال بد أن تخوضها عند البدايات؛ عليك أن تكتب لنفسك ،تصدّ ق ما
ق َّررت أن أعود لأِ لتزم.
وتكسر قلمك ،وتشعر أن ما تكتبه ال معنى له ،هذا إذا تجاوزنا
تكتبه ،ال تمارس األلعاب التي يمارسها بعض الكتاب للوصول
إلى القارئ .لو كنت أنت القارئ األول لما تكتب ،لو كنت تؤمن َ لست أعظم كاتب في الكون، بذائقتك ،ستعرف وقتها أنك
َ ولست تافهًا أو مك ّررًا أو بقية الصفات التي أطلقها عليك قارئ
ما .أنت كاتب ،تكتب ألن هذا شيء تحبُّه وال تستطيع أن َ بذلت في المسألة وق ًتا طويلاً ، تمضي في الحياة من دونه، َّ َّ ُ َ وتعل َ قرأت مت واستمعت إلى نقاد ،صقلت موهبتك ،وقرأت
لآلخرين بعين مفتوحة وبِ َنه ٍَم شديد ،وباستمتاع يفوق أو َّ الملذات األخرى في الحياة. يشبه االستمتاع بسائر ً ال يمكنك أن تكون كاتبًا جيدً ا إذا لم تكن قارئا جيدً ا، هذه اللذة التي تجدها في القراءة تشبه اللذة التي تجدها في
الكتابة ،ال أتصوّر كاتبًا حقيقيًّا ال يجد المتعة في االثنين.
فعلي ،ربما لهذا كان يناسبني أن أكتب القصة القصيرة التي ّ كتابة روايتي ،عرفت ذلك في أميركا ،وبعد مشاهدة كل هؤالء ُ الك َّتاب ،وتع ّرفت أهمية الكتابة وااللتزام بكوني كاتبة،
بعد عودتي كتبت السيرة الروائية «مختلف» التي حازت جائزة الكتاب التي تتب َّناها وزارة الثقافة واإلعالم .كنت أكتب 500
كلمة في اليوم ،كان ذلك التزامً ا قررته ،وهو ما جعلني أنجز ً أيضا -بدأته ولم أكمله .بعد «مختلف»الكتاب ،وكان كتابًا نفضت الغبار عن روايتي ،وعملت عليها بالطريقة نفسها 500 كلمة في اليوم ،وأنجزتها.
مرام الصديقة كانت في فكرة الكتاب األولى محض عامل ً مهمة مساعد؛ كي تساند ليلى في قصتها ،لكن مرام أصبحت بحجم أهمية ليلى ،لم َتعُ د الحكاية حكاية ليلى ،صارت َ ُ حكاية ليلى ومرام؛ حكاية امرأتين. الحكاية حبس انفرادي
سأتحدث اآلن عن روايتي «امرأتان» التي تحكي قصة
الكتابة عمل مذهل؛ ألنها تأخذك معها إلى متاهات لم
في كل األمور األخرى :البيئة ،واألهل ،والجذور ،والتربية،
ستبحث فيها؛ حين بدأت كتابة الفصل الذي تعيش فيه ليلى
صديقتين ،تشبه إحداهما األخرى في ال ُّروح ،بينما تختلفان وكل شيء.
أميركا والتزام الكتابة
بدأت الفكرة بقصة شخصية واحدة هي ليلى القادمة
من عائلة محافظة؛ قصة سمعتها بشكل مختصر في عبارة واحدة ،لكنها ّ ظلت محفورة في رأسي ،وأردت أن أكتبها ،وأن
تكن تتصوّرها ،وتجعلك تبحث في أمور لم تكن تعتقد أنك محبوسة بين أربعة جدران كأنها في حبس انفرادي؛ اضطررت إلى أن أقوم بالبحث عن أبحاث وكتابات ُتعْ َنى بالتأثير النفسي
ُ ُ قمت ذهبت إلى المحكمة، في السجين االنفراديّ ،وحين بسؤال المحامين عن الطريقة التي يمكن أن تتزوَّج بها فتاة
عن طريق القاضي.
أشياء كثيرة ترغمك الكتابة على أن تبحث فيها ،أشياء لم
ً روايةُ .عرفت بكتابة القصة القصيرة ،لكن هذه القصة أكتبها ً ً نفسها شعرت أنني ال أستطيع كتابتها قصة قصيرة .بدأت
تبدو حقيقية؛ حدثت ووقعت ،حتى لو كان منبعها خيالك؛
أسباب جعلتني أؤجل الموضوع .حدث أن ذهبت في خريف
من حكايات سمعتها ،أو تعرف أنها ممكنة الحدوث ،ردود ً أيضا -ردود أفعال بشرية ،قامأفعال أبطالك يجب أن تكون
كتابة الرواية منذ مدة طويلة ،كتبت عدة صفحات ثم أهملتها. الكسل ،وعدم التفرغ ،أو عدم أخذ أمر الكتابة بجدية؛ ُّ كلها عام 2009م إلى والية آيوا بأميركا؛ إذ دُعيت إلى حضور برنامج
تخطر ببالك ،عليك أن تبحث بإخالص؛ ألن روايتك يجب أن خيالك يسلسل لك األحداث ،لكن األحداث نفسها تستمدها
بها أشخاص في حاالت مشابهة؛ ُّ كل ذلك يجعل ما تقوله ً صادقا وحقيقيًّا.
العالمي ،وهو برنامج من أرقى البرامج الثقافية على الكتابة ّ مستوى العالم؛ إذ يجتمع ُك َّتاب من كل دول العالم في
يبقى الموضوع ،بعد الشرارة األولى ،استمرارية الكتابة
ويلتقون الطالب في الجامعة ،ويقرؤون أعمالهم على الناس
حب بسيطة، التعقيدات التي يم ّر بها المجتمع من أجل حكاية ّ
مكان واحد ،ويعيشون بوصفهم كتابًا فقط مدة ثالثة أشهر،
في المكتبة العامة ،ويتحاورون .أعتقد أن هذا البرنامج كان له فضل كبير َ عل َّي؛ كي أدرك قيمتي وواجباتي بوصفي كاتبة،
قبل أن أشارك فيه كنت أقرأ عن ُ الك َّتاب الذين يُص ّرون على أهمية االلتزام بالكتابة بوصفها عملاً يوميًّا؛ كي تستطيع أن تنتج كِتابًا ،لكني لم أج ّرب ،أو لم أُومن بأهمية ذلك بشكل
تعتمد على شغفك بالموضوع ،إحساسي أنا بكل هذه
إنساني .ربما كانت ليلى ستترك أحمد قاس ومدمِّ ٌر وغير شيءٌ ٍ ّ لو تزوَّجته ،وربما كانت مرام سترفض (سامي) لو تقدَّ م لها.
كان يجب أن تكون الحكاية بهذه البساطة .لكنها صعبة جدًّ ا ومعقدة جدًّ ا في مجتمعاتنا؛ لهذا ّ تمكنت من كتابة رواية بهذه المأساوية.
149
فنون
150
العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
أحمد القاسم:
هواية تصوير الطيور دفعتني إلى تعلم مهارة الصياد
ليس التصوير ،للفوتوغرافي السعوديّ
أحمد القاسم ،محض هواية تتطلب ضغط
زر اللتقاط الصورة ،إنها أبعد من ذلك؛ إذ
كان عليه وهو يمارس فن تصوير الطيور،
الذي هو فرع من تصوير الطبيعة ،أن يتعلم ً أيضا -مهارة الصياد الذي يتر ّبص بطريدته،ويبتكر الزوايا والمداخل لصيدها.
الفيصل خاص
151
فنون
يقول القاسم لـ«الفيصل»« :إن الطيور تتميز بحذرها
الشديد عند االقتراب منها ،والهروب المتواصل ،إضافة ّ الحظ والصبر إلى صغر حجمها؛ مما يتطلب كثي ًرا من
ً أيضا -تتميز معدات تصويرهاوالمحاولة» .الطيور بالحجم والوزن الكبيرين والسعر المرتفع.
ومن األمور التي يتطلبها تصوير الطيور «االستيقاظ
المبكر ،والذهاب إلى أماكن وجود الطيور ،والبحث واالنتظار واالختباء والتمويه ،كما أن العدسات الكبيرة ً وأحيانا شكوكهم» .أمَّ ا أبرز التحديات تثير فضول الناس
التي تواجه القاسم والفوتوغرافيين ،فهي عدم إلمام بعض الجهات بقوانين التصوير« ،فيجري المنع من ً أحيانا» .على أن هواية التصوير ،للقاسم، دون مسوّغ هي هواية دفعته إلى هوايات أخرى؛ مثل :الرحالت،
والغوص ،ومراقبة الطيور.
152
الفوتوغرافي ،كما يقول القاسم، يواجه المصوّر ّ َ إضافة إلى مشكلة عدم اقتناء اآلخرين أعماله« ،مشكلة سهولة سرقة الصور ،وادعائها من اآلخرين ،وهو أمر
صعب الحدوث في الفنون التشكيلية األخرى».
ولعل أبرز ما يلفت المتابعين ألعمال القاسم في
مواقع التواصل االجتماعي ،هو أن هذه الصور التقطت
في السعودية وتحديدً ا في مدينة الرياض ،بينما توحي
جودة الصور وتنوع الطيور وألوانها أنها في غابات أمازونية وحدائق أوربية.
العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
153
المصور يواجه ِّ الفوتوغرافي ،إضافة ّ إلى مشكلة عدم اقتناء اآلخرين أعمالَه ،سهولة سرقة الصور وادعائها من اآلخرين
مسرح
ليست محض شهادة
فهد ردة الحارثي
154
كاتب مسرحي سعودي
ذات يوم في منتصف عام 1990م كنا في خِ َ ضمّ عروض مسرحية «يا رايح الوادي» حينما طلب مني الزمالء
مسرحي في مشاركتهم تقديم عرض ّ مهرجان الجنادرية ،قبل أن يكون هناك
مسرحي؛ اتصلت باألستاذ مهرجان ّ ً مشرفا عبدالله الجار الله الذي كان على أنشطة المهرجان ،وفي أثناء ّ يتحلقون بعضهم االتصال كان الزمالء
حول بعض في إحدى زوايا المسرح في حالة صمت مهيب ،جرى االتصال ولم
تنجح المحاولة ،فقد اعتذر الجارالله؛ بسبب تأخرنا في التنسيق.
العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
دخلت المسرح محاولاً نقل ما جرى في المحادثة الهاتفية ،واستغرق األمر مني استطرادًا طويلاً في الحديث؛
الزهراني وإبراهيم عسيري وسامي الزهراني وجميل عسيري محل ًّيا وعرب ًّيا أكثر من مرة.
ألني كنت أعرف ما َتعْ نيه كلمة االعتذار لهم من إحباط .لم أَ َكدْ أنتهي من جُ مْ لتي األخيرة حتى صرخ عبدالحكيم النور
وإبراهيم عسيري ،وسامي الزهراني ،ومساعد الزهراني،
يمكن أن يعرفك ما د َ ُمت تعمل مسرحً ا فحسب ،وأكمل َ عبدالله الوجيه الناقص في تلك الجملة بأنه ي ِّ العودة ُفضل
والعربية. ُّ تصور غروتوفسكي
َ فائدة منه ،وأن أحدً ا ال -رحمه الله -مُ ع ِل ًنا أن المسرح ال
َ َ ونجحت لن يذكر أحد تعبت في المسرح إلى الموسيقا :فمهما لك فضلاً ،وستبقى في مدينتك التي عملت بها ولن تخرج من إطارك الذي عملت فيه.
وكادت السبحة تنفرط لوال محاوالتي -مع صديقي أحمد
األحمري -ترميم ما يمكن ترميمه على وعد بالبحث عن عرض
المسرحية في مدينة أخرى قريبًا.
ونحن اآلن في بدايات عام 2016م؛ اعتذرنا العام الماضي
عن عدم المشاركة في سبعة مهرجانات مسرحية عربية ودولية وجّ هت الدعوة إلينا للمشاركة فيها؛ ألننا لم نجد
الدعم الكافي ،ولم نجد الوقت للمشاركة. مشاركة واسعة
وشاركت الزمالء :أحمد األحمري ،وعبدالعزيز عسيري،
وجمعان الذويبي في تحكيم كثير من المهرجانات المحلية
إنه فارق كبير بين المرحلتين؛ مرحلة البناء في البدايات
الشاقة ،ومرحلة ما نحن فيه اآلن ،يقودها طريق طويل من العمل الجا ّد المكثف في 27عامً ا. أتذ ّكر في بداياتنا المسرحية كيف كان الحديث يدور عن المسرحي بالمسرح الفقير ،وفي تصوُّري ارتباط ورش العمل ّ
المسرحي بالطائف ال يخرج عن تصوُّر أن ما تؤ ِّديه ورشة العمل ّ ُ غروتوفسكي حينما قال :يأتي أناس ال يرتاحون ألوضاع معينة
في المسرح االعتياديّ ،فيأخذون على عاتقهم خلق مسارح فقيرة تضمّ ممثلين قليلين «مجموعة المسرح الصغير»،
ويقومون بتحويل المسارح إلى معاهد لتثقيف الممثلين ،أو
يأتي هواة يعملون على هامش المسرح المحترف ،وبجهودهم الخاصة يحققون مستوى تقن ًّيا أرقى بكثير مما يتطلبه المسرح
نحن اآلن نقف على ّ تل من المشاركات في المهرجانات
السائد ،وهم باختصار عدد قليل من المجانين الذين ال يملكون ما ي َ َخشوْنَ فقدانه ،وال يخافون العمل المرهق.
عروضها في 12مدينة سعودية ،و 33مدينة عربية ،ولدينا
فقد كنا نرفض شكل المسرح التقليديّ الذي كان سائدً ا
الداخلية والخارجية يفوق تعدادها المئة ،ولدينا ما يتجاوز
70جائزة مسرحية ،ولدينا أعمال تتجاوز 50مسرحية ،قدّ مت قاعة مسرح جيدة كانت ملعبًا لكرة السلة ،وجرى تجهيزها بشكل مقبول؛ لتقدم عروضنا المسرحية عليها ،وجرى تكريمي والزمالء أحمد األحمري وعبدالعزيز عسيري ومساعد
بعد يأس عشناه عام 1990م ،اعتذرنا العام الماضي عن عدم المشاركة في سبعة مهرجانات مسرحية وجهت الدعوة إلينا عربية ودوليةّ ، للمشاركة فيها؛ ألننا لم نجد الدعم الكافي ،ولم نجد الوقت للمشاركة
المسرحي بالطائف، هذا ما حدث لنا في ورشة العمل ّ
مسرحي صغير من في تلك الحقبة ،وكنا نعتمد على إرث ّ العروض التي رفضت الشكل التقليديّ . الملحمي عند بريخت واضحً ا في لقد ظهر الشكل ّ
155
مسرح
َدَت الصورة تختلف تدريجيًّا، مسرحية «يا رايح الوادي» ،ثم ب ِ
فحينما عرضت مسرحية «النبع» عام 1414اعتمدنا على جسد بيت تفقير الديكور ،واالعتماد على سُ لمين ،وخلفية ُت ّ
العنكبوت وبكرة ،وقد اعتمدنا في هذا العمل على حركة ً انطالقا من مفهومين الممثل وتشكيالت المجاميع الجمالية،
حول ملحمية بريخت ومسرح الصورة ،إضافة إلى استخدام تداخالت من مسرح الحكواتي ومسرح القسوة. المسرح الفقير
أعتقد أن هذه المسرحية كانت هي بداية تفكيرنا في
المسرح الفقير ،فقد اعتمدنا تفقير الديكور واألزياء وإلغاء
المكياج ،واالعتماد المحدود على اإلضاءة ،وما لبث األمر
أن تطوَّر بعد اكتشافنا جمالية هذا المنهج ونجاح عروضه،
فجاءت مسرحية «البابور» عام 1415هـ؛ إذ ألغينا جميع
قطع الديكور تمامً ا ،وتجاهلنا الكواليس ،واعتمدنا على
156
تطوير الفكر والخيال أصبح إلهمال المكياج ،وإلغاء الديكور ،وبساطة
األزياء وتفقيرها ،وعدم االعتماد على اإلضاءة؛ تفسير
منطقي لدينا ،وتحوَّلت التدريبات البدنية التي كان ّ الهدف منها زيادة معدالت اللياقة البدنية والقدرة
العضلية ،التي كانت تحتاج إليها حركة المجاميع؛
إلى تدريبات معملية ،تهدف إلى تطوير الفكر والخيال، وإعداد الممثل بشكل يزيده ُق ً درة ذهنية وحركية، اً المسرحي؛ لذلك كنا نجد تفاعل مع العمل ويزيده ّ ّ تصب فورًا داخل عرضنا المسرحي تدريبات المعمل ّ
المسرحي من دون ترتيب سابق. ّ
مضت األمور بعدها في تجارب كثيرة ،وغوايات مسرحية ال تنتهي ً أبدا؛ نحن نلعب ،نعمل ،نجتهد،
نقدم ،ثم نمضي إلى رسم طريق من النجاحات القائمة على فعل مشروع جا ّد يتنفس مسرحً ا.
تل من المشاركات في نقف على ّ المهرجانات الداخلية والخارجية يفوق تعدادها المئة ،ولدينا ما يتجاوز 70 جائزة مسرحية ،ولدينا أعمال تتجاوز قدمت عروضها في 12 50مسرحيةّ ، مدينة سعودية ،و 33مدينة عربية
خلفية فقطُ ،تمثل دوامة بها بقايا إنسان ،وكان لحركة
الممثل ولتناسق حركة المجاميع دور كبير في استغالل
فراغ المسرحية .على أن األمر تطوَّر بعد ذلك كثي ًرا بوساطة جلسات القراءة الحرة والمنفردة ،وأوراق العمل الجماعية، والمشاهدة والمناقشة ،التي َخ َ ص ْ صناها بوقت كبير ضمن
ت برامج الورشة المسرحية ،فبدأت اآلفاق تتسع ،وجَ َر ِ
المسرحي عرب ًّيا بوساطة القراءة االستفادة من تجارب العمل ّ واالطالع والمشاهدة ،فاخ ُتصرت المسافات ،واخ ُتزلت
التجارب. ّ وأصبح من الضروري أن نضع لنا منهجً ا علم ًيا نسير و َْف َقه ،ومن َثمَّ تحديد أهداف فنية نتطلع إليها ،وإجراء المسرحي المفيدة ّ ت االستعانة تدريبات المعمل جدً ا لنا ،فجَ َر ِ ّ
واالستفادة من كل ما وقع تحت أيدينا من منهج إعداد الممثل
عند ستانسالفسكي ،وتشيكوف ،وسوينامور .وأصبحت العملية تأخذ شكل الجدية ،ولم يعد هاجسنا البحث عن
إطارات وقوالب جاهزة للملحمية ،أو العبثية ،أو ممارسات االحتفالي ،أو لمسرح القسوة ،أو االنطالق إلى أجواء المسرح ّ
تراثي من الحكواتي. تجسيد شكل ّ قد تكون شهادتي هنا مبتورة من لوحات كثيرة؛ كل لوحة ُتقدّ م فعلها ،لكنها تؤ ّكد أن المسرح مشروع ،وطريق النجاح يبدأ بالمشروع أولاً . العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
إعالم
عـام في «الثقـافيـة» قليلة هي المراكز اإلدارية التي مررت بها في تجربتي اإلعالمية التي أكملت 30عامً ا ،وفي هذه األيام أُكمِ ل ( عامً ا
واحدً ا) في منصبي األخير (المشرف العام على القناة الثقافية)،
أحب وأعشق (من دون تخطيط وقد وجدت نفسي أخي ًرا حيث ُّ
مني) وسط المثقفين واألدباء والمفكرين والكتاب مرة واحدة.
وقد قررت في إدارة القناة أن أواجه أسئلة برؤية واضحة؛
منها :هل القناة الثقافية خاصة بالمثقفين فقط؟ يبدو األمر كذلك لمَن لم ي ّتصل بالميدان ،أو يقرأ الكتاب من عنوانه كما يقال ،أو
يرى الثقافة مفصولة عن حياة الناس ،وحقيقة الحال أننا إزاء إشكاليات تتعلق بتعريف الثقافة والمثقف وتفكيك المصطلح،
فكيف بتصنيف قناة تلفزيونية؟ وخارطة بث القناة تفصح بجالء
عن عناية القناة بكل مشاهديها على مختلف فئاتهم :ربات األسر. الشباب .المبادرات المجتمعية .األخبار الثقافية واألدبية والفنية،
ً حصصا للمسميات الثقافية وغيرها .والقناة في الوقت ذاته تمنح
عبدالعزيز العيد المشرف العام على قناة «الثقافية» السعودية
أكثر الشهور تفاعلاً ،أما أكثر التغريدات تداولاً فكانت حول
الثقافي .كتب مهداة ...إلى غير المباشرة :الثقافة اليوم .الشارع ّ
الهاشتاغات « #ماذا -يريد -المشاهد -من -القناة – الثقافية»،
عاديون يتابعوننا مثلما يشاهدون القنوات األخرى. طالما هي كذلك :فلماذا لم َت ِص ْل إلى الناس على نحو
بزيادة مطردة ومتابعة جيدة لموا ّد القناة وبرامجها ،ووصل
هل القناة تنتظر المتابعين؟ أم تذهب إليهم؟ مِن واقع
وفي الفيسبوك ،وصل اإلعجاب بصفحة القناة على
ذلك .هذا يَعْ ني أن مشاهدينا مهتمون بالثقافة ،وأن آخرين
أوسع ،بل إن بعضهم لم يشاهدها قط؟!
تجربتي وقناعتي أن القناة يجب أن تقوم بتسويق برامجها
واإلعالن عن نفسها بالشكل المالئم ،ومن مسؤوليتها أن تالحق اهتمامات الناس وأذواقهم ،وتسعى لتحقيق أكبر نسبة من الرضا طالما يأتي هذا في سياق العالقة التي يجب أن تكون في أوثق
ُرسل والمستقبل؛ الطرفين الرئيسي ِْن في العملية ُع َراها بين الم ِ ْ فعَّ االجتماعي: التواصلية ،وفي هذا السبيل لنا وسائل التواصل ّ
تويتر .فيسبوك .موقع القناة على الشبكة العنكبوتية .تحميل
و« #ليالي – البجيري» ،و« #القناة – الثقافية» .وفي اليوتيوب: بلغ تعداد المشتركين في القناة عام 2015م نحو ( )8016مشتر ًكا تعداد المشاهدات إلى ( 55,673832دقيقة مشاهدة).
اإللكتروني وصل عدد الفيسبوك إلى ( )5687إعجابًا .وفي الموقع ّ اإللكتروني للقناة إلى ( )117,591,976زائ ًرا. زوّار الموقع ّ
يظن كثيرون أن الشباب ال يتابع القناة بشكل مقنع وهذه حقيقة ال ننكرها؛ لعدم وجود برامج ُتع َنى بهم بشكل مباشر، وقد خضنا في القناة الثقافية تجربة جديدة لدعم الشباب، وهي تخصيص 3أيام في األسبوع لعرض أفالم قصيرة من إنتاج الشباب ،وقد قدمنا حتى اآلن 61فيلمً ا خالل 7أشهر من بدء
التجربة ،وأسهمت معنا جمعية المنتجين السعوديين فرع
ً وارتفاعا البرامج والفقرات على اليوتيوب ،ولمسنا تجاوبًا كبي ًرا ً في تعداد المتابعين عبر هذه الوسائل .وأطلقت القناة –أيضا-
األحساء بـ( 41فيلمً ا) ،والبقية من الرياض وجدة ،وموعودون
القناة – الثقافية» و« #سيد – البيد» في ِّ الذكرى الخامسة لرحيل
الدولي للكتاب، الدولي للكتاب ،ومعرض جدة الرياض ّ ّ ومهرجان األفالم القصيرة الثاني في الدمام ،ومهرجان األفالم
وسومً ا عدة «هاشتاغات» ،ومن أبرزها « #سلمان _ وأمان» في الذكرى ُ األولى للبيعة ،و « #ماذا -يريد -المشاهد -من -
باألفضل .ودخول القناة الثقافية راعية إعالمية في معرض
في جدة ،وكذلك فعاليات جدة التاريخية وبعض النشاطات
الشاعر محمد الثبيتي -رحمه الله -و« #حتى _ تبقى»؛ لمحاربة ظاهرة اإلسراف في الحياة االجتماعية .وأعرض ً بعضا من بيانات
الثقافية ،والجوائز الثقافية؛ مثل :جائزة السنوسي في جازان،
بلغ تعداد المتابعين في بداية عام 2015م ( )3458متابعً ا،
في المستقبل من االقتراب من الناس بشكل أكبر ،وهذا هدف
االجتماعي للقناة ،ففي تويتر: وسائل التواصل ّ
وفي نهاية العام ارتفع إلى ( )7152متابعً ا ،وكان شهر يوليو
والمهرجانات؛ مثل :الجنادرية ،وسوق عكاظ ،وهذا سيمكننا كل وسيلة إعالمية تنشد النجاح.
157
فنون
تشكيلي سعودي مهموم بـ«اآلخر» ّ واستلهام عناصره من الواقع
زمان جاسم: عالقتي بالفن في توتر دائم الفيصل خاص
158
تصنعان بالمعية نهرًا، «كأنا ضفتان ِ كجُ غرافيا واحدة ،نحياها متالصقين،
مسالمين ،فال البح ُر في كلينا يعادي َبرًّا ،وال الب ُّر في كلينا يعادي ّ المكثفة بحرًا» ،بهذه العبارة السعوديّ
التشكيلي يلخص ّ رؤيته لـ«اآلخر» .و«اآلخر» مشروع
يستلهم زمان عناصره من الواقع َ الم ِعيش في حياتنا الحديثة،
ً ازدحاما الواقع الذي أصبح أكثر
بالمعرفة والمعلومة حتى الوصول إلى
حد
التشويش
واالرتباك،
والشتات بين الحقيقة والتزوير ،وبين
كل شيء محمود ومذموم ،حتى بتنا ً ً مخيفة داخلنا حول ما يحدث عزلة نعيش
اآلن ،وما سوف يحدث ً غدا في هذه األرض.
العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
159
فنون
قاد الولع بالتشكيل زمان جاسم إلى الذهاب بعيدً ا في
المغامرة تلو المغامرة .زمان الذي فضل التقاعد باك ًرا (من
الثقافية كاملة ،فمن هذه القنوات التي أعدُّ ها طبيعية عززت تجربتي خارج البالد ً ً فرصا متعددة أخرى أيضا؛ مما أتاح لي
بمعهد التربية الفنية بالرياض ،حيث تخصص وصقل
عالقة بمؤسسات الدولة المعنية بالثقافة ،إنما هي مستقلة
مواليد 1971م) ليتف ّرغ للفن ،ويوجد حاليًا في كل مكان، بحسب تعبيره .تبلور ولعه بالفنون البصرية ،عندما ْال َتحَ ق
ّ لتلقي الدعوات الفردية المباشرة ،التي ليس لها خارجية؛
احترافي. موهبته ،ثم ولج إلى مضمار الفنّ في شكل ّ ُّ بالفنّ في توتر دائم يقول زمان جاسم« :عالقتي
فني محض ،وتسعى إلتاحة وتتعامل مع الفنان كمشروع ّ الفرص لعرض تجارب فنون وثقافات مختلفة».
ومشاحنة» ،ويضيف« :بين ما أعيشه داخلي وبين ما يكون
منتجً ا فنيًّا .هذه المشاحنة المتوترة ضرورية جدًّ ا لي؛ لخلق
من أهم مشاركاته الخارجية إقامته معرضين فرديين
في باريس عامي (2007 -2004م) ،ومعارض أقيمت في دول
الخليج؛ مثل :معرض «اآلخر» الذي أقيم في مدينة دبي عام
الفني». عالقة حميميَّة في نهاية المطاف بيني وبين العمل ّ َّ تشكلت لدى زمان قناعة بأن يكون متمردًا دومً ا ،ال على
2012م .ومن المشاريع الخاصة دعوته إلى المشاركة في مشروع
فكرة أن كل شيء مألوف يُعَ دّ منتهي الصالحية؛ لذلك أستمتع
الفن الحديث في مدينة شنغهاي بالصين عام 2010م .وأخي ًرا
المتذوّق ،وال على الفنانين اآلخرين ،بل على الفنّ التشكيلي ّ نفسه ،أو باألحرى على العمل الذي سأنجزه ،ودائمً ا تراودني بحالة البحث عن شيء مجهول ،وهو أشبه برحلة صيد ال أعلم ما يخفيه َ القدَ ُر لي ،لكن أعتمد فيه على الخبرات ،والمخزون
الفني الذي أمتلكه». ّ
يُعَ دّ زمان جاسم أحد الفنانين القالئل الذين يملكون
160
ّ تتسلم اآلن وزارة الثقافة واإلعالم األنشطة الخارجية ،قبل أن
مشاركات واسعة داخل السعودية وخارجها ،فهو بدأ تح ُّركه الخارجي بشكل فرديّ ،من خالل التسجيل في جمعيات ّ الخليجي« ،ومشاركتي في معارضها ،وبالتوازي كان التشكيل ّ لرعاية الشباب في السعودية دور كبير في الفعاليات الثقافية
العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
التشكيلي السعوديّ الوحيد في هذا «الدببة» في برلين ،وكان ّ المشروع ،وتجربة «خامس المواسم» التي ُعرضت في متحف
كان لتجربة معرضه «اآلخر» الذي أقيم في مدينة دبي كما يقول« :أهمية كبيرة لي؛ لما لهذه التجربة من خصوصية
دائما تراودني فكرة أن كل شيء ً مألوف ُي َع ّد منتهي الصالحية؛ لذلك أستمتع بحالة البحث عن شيء مجهول
زمان جاسم :عالقتي بالفن في توتر دائم
معرضي «اآلخر» يحظى بأهمية كبيرة لي؛ لما لهذه التجربة من خصوصية وثانيا لتناولها قضايا االختالفات أولاً ، ً المتنوعة بين شعوب العالم أولاً ،وتناولها قضايا االختالفات المتنوعة بين شعوب العالم،
وهو مشروع محبة وسالم ،تناولت فيه فكرة (طبق الستاليت) ً كثير– أيضا -من المشاريع المهمة في دول فني .وهناك كعمل ّ عربية وأوربية وآسيوية».
يرى زمان أن الفنَّ مثل بقية العلوم؛ ال يمكن أن يتطوّر ويتحرك من دون ّ اطالع ومعرفة؛ «لذلك كان السعي الدائم،
والبحث عمّ ا ّ يغذي ذاكرتنا البصرية والفكرية والوجدانية وكل الحواس مهمة جدًّ ا في أي مجال إال أن من المهم أن يضع ّ الفنان في اعتباره أن عملية الجمال وحدها ال تكفي ،إذا لم
الفني؛ لذلك أحاول من خالل يكن للهوية مكان في نتاجنا ّ تجاربي أن أوصل هذا الجانب؛ كي ال تغترب الهوية ،وتصير محض تجربة عابرة».
يقر زمان جاسم بأن مشاكل الفنّ متعددة ومتنوعة؛
منها« :مشاكل بين الفنان ونفسه ،وبين الفنان والمحيط الخارجي .فمثلاً يواجه الفنانون والفنانات كثي ًرا من المفاهيم ّ الفنّ احترافي ،سواء على بشكل مع التعامل في الخاطئة ّ
الفني... الفني أم على مستوى إدارة العمل مستوى اإلنجاز ّ ّ الفنّ لم يجد حتى اآلن المكان اآلمن كبيئة أساسية ضمن منظومة الحياة االجتماعية المعروفة مثل أي مجال آخر
مرتبط بحياة اإلنسان واحتياجاته».
161
مقال
روائح بيروت لألمكنةّ ، كل األمكنة ،روائح .وليس جديدً ا ،ال في الحياة وال في األدب ،أن نستذكر وجوهً ا وحاالت تمُ ُّ ت إلى ماضينا البعيد، من خالل روائح نبّهتنا مصادفات عابرة إلى ّأننا ال نزال نحملها فينا .لكنْ إذا كانت القرى واألرياف تزخر بروائح طبيعيّة يقول
األطبّاءّ :إنها مفيدة للصدر وللتنفس ،وربما ألعضاء أخرى في الجسد ولوظائف أخرى ،فإنّ المدن تطالعنا بنوع آخر من الروائح.
الصناعي ،بما فيه الصادر عن اهتالك اآلالت القديمة؛ لتضعنا أمام نتائج يصعب وصفها فهنا ،تتجاور النفايات الملوّثة والتلويث ّ بالصحية أو بالنفع.
ّ ّ تحل المنغصات جميعً ا ،فأنا منحاز بقوّة إلى العيش في المدن .فالروائح الطيّبة في القرى ال تستطيع أن على الرغم من هذه ّ محل البشر الذين يندر وجودهم هناك. أمّ ا الروائح السيّئة في المدن ،فال تحجب ع ّنا حيويّتها ،وحركة البشر واألفكار التي تضجّ بها .وانحيازي إلى المدينة هو ما ّ جعل صديقي حسن ي ّتهمني ّ يتخلص بأنني أسعى لـ«خراب بيته» :فهو يملك منزلاً جميلاً في الريف ،إلاَّ أنّ إلحاحي على ضرورة أن
شتر ،حتى لو دفع له ما ّ يقل عن السعر منه ويشتري بي ًتا في المدينة ،وحرصه على استمرار صداقتنا ،جعاله يبحث عن أيّ مُ ٍ ت َ َ حاله أغنيةُ بالغت بيروت في امتحان قدرتي على التحمّ ل ،كما لو ّأنني «العاشق الوحيد» الذي رَث ْ ْ العادل للبيت .على أيّ حال،
162
محمد عبدالوهاب المشهورة. حرب السنتين
والشرقي ،اللذين اكتسبا تسميتهما هاتين إبّان «حرب السنتين» في منتصف السبعينيات، الغربي أقمت في شطري بيروت ّ ّ فانطوى ّ حب صاحبها لبيروت طائفي وداللة سياسيّة معيّنين .واإلقامة في الشطرين معً ا ال تنمّ عن كل منهما على معنى ّ ّ
الطائفي الضيّق. فحسب ،إنما هي في نظر كثيرين تعبير عن وطنيّة متعالية على الهوى ّ
لكنّ ما حصل لي ال يشجّ ع مُ حبّي المدن مثلما ال يشجّ ع مُ حبّي األوطان .ففي األشرفيّة ،الواقعة في الشرق ،اخترت ّ (شقة) في ّ األرضي. الحظ اكتشفت بعد االنتقال إليها أنّ هناك مصبغة تقيم تحتها في الطابق الطابق األوّل من البناية .ولسوء ّ
وحين تقال كلمة «مصبغة» ،في هذا السياق ،ال يكون المقصود فعل التنظيف بل فعل التوسيخ؛ ذلك أنّ الروائح الكيماويّة التي كانت تنبعث منها كانت تتجاوز توسيخ بيتنا إلى توسيخ صدورنا .وهي معضلة دائمة ال ّ يخففها تحوّل الطقس وتغيّراته :فإذا ً عاصفة ،وإذا انحبس الهواء واضطررنا إلى فتح األبواب ك ّنا مثل مَ ن يفتح ذراعيه لمالقاة هب علينا الهواء هبّت هذه الروائح معه قوي ًّة ّ
هذه الرائحة اللئيمة. ّ َّ ً وكنت أقول :إنّ الروائح الكيماويّة أسوأ من الروائح الطبيعيّة ،ليس لأِ نها أكثر إضرارًا بالصحّ ة فحسب ،إنما ألنها -أيضا- ّ التعقل والفهم ،إضافة إلى كونها غير مألوفة نهائيًّا .وأذكر ّأنني قرأت ذات م ّرة مقالاً ألحد عتاة «البيئويّين» بهذا أصعب على
ً ً وأحيانا ،وفي محاولة م ّني مستخلصا أنّ الرأسماليّة الصناعية لن يهدأ لها بال قبل أن تودي بنا جميعً ا إلى التهلكة. المعنى، لاَّ ُ طبيعي ،وأولئك «البيئويّون» المتط ّرفون هم كمن يطالبنا بأ نأكل كي ال نضط ّر للتحايل على مأساتي ،كنت أقول لنفسي :هذا ّ ّ إلى دخول بيت الخالء .لك ّنني ال ألبث أن أتذ ّكر أنّ األمور عندنا ليست على هذا النحو البتة .فنحن في بلد مثل لبنان ،إنما نحصد التلوّث من دون أن نجني أفضال الصناعة ،إذ يقتصر أمر «تقدّ منا» على تنظيف بعض القمصان والسترات لزبائن المصبغة!
أفكار بالغة العداء الغربي من العاصمة ،بدأت ،لسبب آخر ،أعيد النظر إلى تلك األفكار بيد ّأنني حين انتقلت إلى منطقة الحمرا ،في الشطر ّ البالغة العداء للروائح الكيماويّة .فهنا وقعت على ّ حي بالغ الحيويّة ال تفارقه الحركة ليلاً أو نهارًا .فوق هذا، شقة لطيفة في ّ العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
ً ّ ّ نائية بنفسها عن الشقة الجديدة الطابق الخامس من البناية، تحتل ً –أيضا -شديدة الموبقات التي قد تأتي من الطريق العامّ وجَ َلبته .وهي
التع ّرض إلى الضوء الذي يكاد ينفجر فيها انفجارًا؛ ألنّ فجوات عمرانيّة
واسعة تحيط بها ،وهذا ما تزداد ندرته في بيروت التي نكاد ال نرى سماءها؛ بسبب المباني الشاهقة المتكاثرة.
لكن المشكلة تكمن بالضبط هنا .فالطبيعة ال تمنحنا الشمس ً تهب علينا بين –أيضا -رائحة (المجارير) التي فحسب ،إنما تمنحنا ّ لاً ً ً فينة وأخرى هبوبًا ساحقا ماحقا ،وإن كان ال يدوم طوي .وال بدّ أنّ
األمر الكريه هذا ناشئ عن فساد البنى التحتيّة التي لم ُتجدّ د على نحو
صاغية حازم ّ كاتب لبناني
يجعلها تواكب التحوّالت السكانية وحاجاتها المتعاظمة .ولربّما زاد ّ مؤخ ًرا من حيث عجزه عن جمع في تفاقم المشكلة ما ُعرف به لبنان نفاياته وتصريفها أو إعادة تدويرها بشكل مفيد.
163
وكائ ًنا ما كان الدور الذي اضطلعت به المعالجات السياسيّة
واالقتصاديّة السيِّئة ،تبقى روائح (المجارير) طبيعيّة جدًّ ا ،وأكاد أقول: ّإنها جزء ال يتجزأ من ثقافة شعب بعينه ،ومن تعاطيه مع مألوفاته
وما هو حميم فيه .ولست هنا في حاجة إلى االستشهاد بعلم النفس، وبخاصة علم نفس األطفال ممّ ن ال يكتمون ّ تعلقهم بأسوأ ما تفرزه
أجسادهم.
دفع تكاليف باهظة
ّ ماض في دفع تكاليف يحل المشكلة وال ذاك .فأنا لكنْ ال هذا ٍ باهظة فرضها َ عل َّي حبّي المدن ،ووطنيّتي المتعالية على الطوائف .وقد ّ كان من نتائج ذلك تع ّرضي إلى شمّ روائح الطوائف والجماعات كلها الصناعي. الصناعي منها وما قبل التي تقيم في المدينة؛ ّ ّ ً ً وافقا لهذا ،ومن دون أن أق ّر عل ًنا بذلك ،أضبط نفسي أحيانا مُ
الشاب (ماه ًرا) أفكاره .فماهر ق َّرر ،قبل سنوات عدّ ة ،أن صديقي ّ يلوذ بالقرية ،وأن يجعلها حص ًنا يعتصم به من زحف المدينة
المتعاظم .فإذا ما اضط ّره ظرف بالغ االستثنائيّة إلى أن َي ِفدَ إلى بيروت ،عامَ َل نفسه ّ كأنه أسير حرب ال يحظى بح ّريّته إلاّ حين يقفل راجعً ا إلى القرية. والمؤ َّكد أن رئ َتي ماهر أنظف ألف م َّرة من رئ َتي .لك ّنني مُ ص ٌّر على ألاَّ َّ ْ ِّلاً أقول هذا الكالم؛ ال لحسن وال لماهر ،وأن أمضي متنق بين طوائف
مدينتي وروائحها.
ٍ ماض في دفع فأنا تكاليف باهظة فرضها حبي المدن، عل َّ َي ّ ووطنيتي المتعالية ّ على الطوائف .وقد كان من نتائج ذلك شم تعرضي إلى ّ ّ روائح الطوائف والجماعات كلّها
إعالم
وسائل التواصل االجتماعي 164
تلغي نخبوية األدب وتصنع نجومية الشباب
العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
نداء أبو علي روائية وكاتبة سعودية
ً خصوصا فئة الشباب ،لم يقتصر تأثيره في القدرة على نقل االجتماعي، تهافت العالم على وسائل التواصل ّ َّ َ المعلومة في أسرع وقت ،والتعبير عن الرأي من دون مواراة ،بل تخطى ذلك لِينال من وهج الصحف والكتب ّ االجتماعي؛ اإللكتروني .باتت وسائل التواصل ويخفف من أهمية دورها تدريجيًّا لمصلحة النشر الورقية، ّ ّ ً منفذا للتعبير عن الرأي بصورة مختصرة ،تأسر مثل« :تويتر» ،و«فيس بوك» ،والمد ّونات الشخصية، اآلخرين من دون الحاجة إلى اإلسهاب في الوصف ،وهو ما ينزح إليه ُقرَّاء الجيل الجديد ،من بحث عن
االختصار ،واألسلوب السلس الالفت لالنتباه؛ األمر الذي يثقل كاهل الكاتب التقليديّ ،ويبعده بمساحات
شاسعة عن القارئ الحديث؛ مما دفع بعض الكتاب إلى االنغمار في العالم الجديد ،وتأليف الكتب
المتخصصة في ذلك؛ مثل ِكتاب الكاتب والصحافي السعوديّ عبدالله المغلوث «تغريد في السعادة والتفاؤل واألمل» الذي وصف فيه استخدامه التغريدات بوصفها بذورًا لمقاالت مطولة ،حين وصل إلى مرحلة إحباط وعجز عن الكتابة بأنواعها.
فعلى الرغم من أن الكتابة التقليدية تواجه حاليًا سرقة لمكانتها بوساطة ثورة االجتماعي ،التي َّ التدريجي، تتجه صوب االختصار وسائل التواصل ّ ّ الورقي ،فإن ثورة وسائل التواصل واالبتعاد من ّ ْ أعطت فرصة أكبر لظهور االجتماعي من جهة أخرى، ّ ُ ً خصوصا الك َّتاب الشباب على الساحة الجماهيرية، مع امتالكهم (الكاريزما) ،واألدوات المناسبة لخوض
التجربة اإللكترونية ،من معرفة بالثقافة العنكبوتية، وقدرة على تسويق أعمالهم ،والتواصل المباشر والسريع مع ُ القراء.
165
إعالم
َ َّ المدونات والبحث عن التجارب الشخصية عالم
جرى نش ُرها ،كما حدث عام 2008م من خالل ثالث مدونات
العربي عام 2004م ،واشتعل التدوين الذي بدأ في العالم ّ
لشابات مصريات؛ أولهن غادة عبدالعال في مدونتها التي
بوساطته أشخاص عاديّون ،وجدوا مساحة للتنفيس والبوح ً نجومية فاقت تصوُّرهم في بالقلق الحياتي،
ساخر ذكي بهموم الشابة التي لم تتزوج بعد ،ومحاولتها
الشعبي ،الذي يكتسب لهيبه ليصبح أحد أهم وسائل اإلعالم ّ
ذلك العهد ،كما حدث مع المدونات
استحالت إلى رواية «عايزة أتجوز» التي باحت فيها بأسلوب
التعايش مع مجتمع محافظ ِّ يقدس االرتباط ويبحث عنه؛
التي بلغ حجم اإلقبال عليها قدرًا استحالت بوساطته إلى ُك ُتب
166
ُكتاب الجيل الجديد
تشويقية متعمقة ،وترشحت أعمال أخرى لروائيين
والترشح للجوائز
شباب؛ مثل الروائية السورية لينا هويان الحسن عن
اإلقبال على األعمال األدبية التي يدعمها التسويق
حسن علوان عن روايته «القندس» ،وعلى الرغم من أن
االجتماعي لم يقتصر على فئة الشباب أو الفئة األكثر ّ شعبية ،إنما وصل اإلقبال على األعمال األدبية الشبابية
األدبي ما يستحق اإلشادة ،سواء في الفكرة أو النسق ّ فإن بعض المرشحين يبتعد من األسلوب التقليديّ لطرح
اإللكتروني ،أو الحضور واالنغمار في عالم التواصل ّ
إلى الحد الذي ترشح فيه كثير من جيل الشباب لجائزة
الكويتي الشاب سعود البوكر للرواية ،ويظهر فوز الروائي ّ
السنعوسي بجائزة البوكر عن روايته «ساق البامبو» في قمة الهرم ،بفكرته المتجددة وقدرته على حبك رواية
العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
روايتها «ألماس ونساء» ،والروائي السعوديّ محمد
قبسا من التميّز أو كثي ًرا من هذه األعمال األدبية يحمل ً
الرواية ،واللغة المستخدمة ،ويستحيل أن يتوقع ترشحه لجائزة عالمية ،فرواية «الفيل األزرق» للروائي أحمد مراد
ترشحت في القائمة القصيرة من جائزة البوكر .وعلى الرغم من اإلقبال الجماهيري الضخم الذي استقطبه ميل
وسائل التواصل االجتماعي تلغي نخبوية األدب وتصنع نجومية الشباب
وقد دفع اإلقبال الجماهيريّ عليها إلى تحولها لمسلسل ْ ونشرت غادة محمد محمود كتابها بعنوان تلفزيوني مشهور، ّ
«أما هذه فرقصتي أنا» بعد أن كان مقتص ًرا على الكتابة في مدونة إلكترونية ،إضافة إلى مدوَّنة رحاب بسام التي تحولت
إلى كتاب «أرز باللبن لشخصين» ،وتفاوتت المدونات ما بين وصف ألحداث شخصية ومواقف حياتية يومية ،وقصص
قصيرة بأسلوب يجذب االنتباه؛ إذ وجد كثير من األشخاص في متنفسا وهوسً ا من المتابعين الحريصين اإللكتروني الفضاء ً ّ على موضوعات خاصة؛ ليظهر ذلك ً بحثا عن شخصنة أقرب إلى السيرة الذاتية ألشخاص اعتياديين مغمورين.
ذلك الميل نحو التطرق إلى التجارب الشخصية يغلب على كثير من األعمال األدبية لفئة الشباب الذين القوا إقبالاً
جماهيريًّا صاخبًا؛ مثل :كتاب «حكايا سعودي في أوروبا»
للكاتب عبدالله الجمعة ،الذي يُعدّ رصدً ا لرحالته في عدّ ة دول أوربية من خالل إحدى عشرة قصة ،وتسبب في حدوث
االجتماعي ثورة وسائل التواصل ّ أعطت فرصة أكبر لظهور ال ُكتاب خصوصا مع الشباب على الساحة، ً امتالكهم (الكاريزما) واألدوات المناسبة لخوض التجربة اإللكترونية
إرباك بسبب تزاحم المقبلين على حفلة توقيعه في إحدى دورات معرض الكتاب بالرياض .ويظهر التأثر بوسائل التواصل االجتماعي من خالل بعض األعمال األدبية التي استخدمت ّ تقنيات خاصة؛ مثل رواية «#إنستا_حياة» للكاتب المصريّ محمد صادق ،الذي تط َّرق إلى محاولة اكتشاف أسباب عشرة
للحياة من خالل استفتاء في فيس بوك ،وعلى الرغم من تش ّتت الحبكة ،واالبتعاد من النسق التقليديّ للرواية الذي قد يتحفظ عليه ّ الروائي شهد إقبالاً كبي ًرا، النقاد ،فإن العمل ّ
على نسق الرواية السابقة لمحمد صادق «هيبتا» التي ستتحول
سينمائي بإقبال كبير من مجموعة من الممثلين إلى عمل ّ المشهورين؛ األمر الذي يشير إلى تحول كبير في نهج األعمال
األدبية ،واختالف نوعيتها ،واختفاء تلك االنتقائية التي كانت
موجودة من قبل ،لمصلحة اإلقبال والتعمق المبالغ فيهما في االجتماعي والتقنيات اإللكترونية، استخدام وسائل التواصل ّ التي أسهمت في تسويق تلك األعمال ،لكنها تقلل من عمق األعمال األدبية ،أو تغير نمطها؛ األمر الذي يوسع من الشريحة
المستهدفة لتشمل فئة القراء العاديين ،أو حتى مَ ن لم يحبذ قراءة الكتب من قبل ،ممن تجذبه الموضوعات الشيقة
واألسلوب المبسط ،بعيدً ا من ما كان يحدث من قبل من حيث الروائي إلى أسلوب تشويق ومتانة النص والفكرة العمل ّ
الغرائبية ،التي تضمنت معايير دفعت بالرواية إلى التحول سينمائي يستحق اإلشادة ،فإن الرواية لم تتضمن إلى فلم ّ المعايير التي يجري اختيارها لتلك الجائزة ،فحتى اللغة
المستخدمة
تفاوتت
ما
بين عامية شديدة تخالطها عبارات إنجليزية ،بعيدة من
ذلك األسلوب البديع للحوار والسرد المتوقع من رواية مرشحة لجائزة عالمية.
االقتصار على النخبوية وطبقة المثقفين بشكل عام. ّ اللغوي واستخدام العامية التنميق
يالحظ وجود موجة جديدة من إغفال الصورة النمطية
الستخدام اللغة في األعمال األدبية ،واالبتعاد من التقيد باللغة الفصحى والعبارات المتكلفة لغويًّا ،والميل إلى
اللهجات المحكية والعامية وإضافة كلمات إنجليزية؛ كما في أعمال أدبية كثيرة القت رواجً ا ألحمد مراد ،ومحمد صادق، ورواية «بنات الرياض» للسعودية رجاء الصانع؛ األمر الذي يأتي ً مخالفا التيار الذي ال يحبّذ تبسيط اللغة إلى درجة تسطيحها،
ً خليطا من عبارات أو تجسيد اللهجات الشبابية التي تحوي
جديدة ،تمزج لغات ولهجات مختلفة .هذه األعمال وإن أبعدت والقراء التقليديين فإنها استقطبت كثي ًرا من ُ منها ال ُّنقاد ُ القراء
167
إعالم
وإدراكي من وبخاصة الشباب ،ال سيما مع وجود تقارب فكريّ ّ
حيث كيفية استخدام التقنية الحديثة؛ مما يزيل تلك الفجوة
التي كانت موجودة من قبل بين الكاتب والقارئ .غابت الرهبة واالفتتان بالكاتب الذي كان يعتلي البرج العاجي ،لينزل إلى الساحة ،ويختلط بمن يشبهه في كل شيءَّ ، وقلت األعمال َّ المكثفة عاطفيًّا ،كما الشبابية التي تميل إلى الركون إلى اللغة
يالحظ في أعمال الروائي السعوديّ محمد حسن علوان ،الذي جمع في كتابته الشاعرية ً ً ومضمونا كما حدث مع روايتيه: لغة «سقف الكفاية» ،و«صوفيا».
الثقافي ال حاجة إلى النضج ّ يظهر في الوقت ذاته تم ُّرد على التصوُّر التقليديّ الذي
الثقافي ينحو إلى اقتصار األعمال األدبية على أصحاب النضج ّ أو السن المتقدّ مة ،أو النظرة النمطية التي تلتزم التحفظ على الكتابة وعدم الكشف عن المستور أو انتقاد الواقع
المعيش ،وظهرت منذ عام 2005م أعمال روائية تسعى للتم ّرد
على التقاليد بجرأة كهدف أوحد ،وتتناول قضايا تتطرق إلى التابوهات في محاولة منها للتمرد على التقاليد المفروضة. أعمال أدبية كثيرة ظهرت في تلك المدة؛ مثل :رواية إبراهيم
168
إبراهيم بادي
رجاء الصانع
لينا الحسن
بادي «حب في السعودية» التي تركز في العالقات العاطفية بين الجنسين في مجتمع محافظ ،ورواية «القران المقدس» َّ تحف ْ ظت عن الكشف عن لطيف الحلاَّ ج وهي كاتبة سعودية
اسمها كما تحفظت دور نشر عدة عن طباعة روايتها؛ بسبب جرأتها ،وظهرت رواية «اآلخرون» للسعودية صبا الحرز في
المدة نفسها؛ لتتطرق إلى الميول الجسدية المختلفة في
المجتمعات المحافظة ،لكن تلك المحاوالت للتمرد على َّ خف وهجها ،وبات االلتفات إلى موضوعات أخرى التقاليد ً توازنا. أكثر
األزمة الوجودية والعالقة مع اآلخر
من الصعب حصر الموضوعات التي تركز في األعمال
األدبية في كل حقبة ،لكن يالحظ في اآلونة األخيرة االبتعاد من النمط الذي سار عليه ُ الكتاب؛ نحو ما حدث في حقبة
التسعينيات التي ال تزال امتدادًا لذلك التأثر بالقومية والبعثية
وما إلى ذلك؛ مثل تلك األعمال التي تعدّ حاليًا من كالسيكيات
عهد مضى؛ مثل :رواية «شقة الحرية» للمبدع الراحل غازي
القصيبي ،وثالثية تركي الحمد ،وعلى الرغم من انشغال السياسي ،وبخاصة في مرحلة ما بعد ُكتاب وروائيين بالهمّ ّ
الثورات العربية ،فإنه يلحظ تركيز الروائيين الشباب خاصة في
الموضوعات االجتماعية ،أو التي تعالج األزمة النفسية ،مما يلقى إقبالاً جماهيريًّا ،وفي الوقت ذاته تظهر االهتمامات الفعلية بهم. األدبي ذاتيًّا ،يتعمق في البحث عن األزمة الوجودية صار الهمُّ ّ أو في العالقة مع اآلخر؛ ففي رواية «ساق البامبو» ،على سبيل
للروائي سعود السنعوسي ،تظهر أزمة اله ُِويَّة من خالل التمثيل، ّ
الروائي الشاب معاناة خوزيه االبن الكويتي ألم فلبينية ،ويشاركه ّ
اإلريتري حجي جابر في روايته «سمراويت» في أزمة الهوية ،على
التمر َد على الكتابات الشابة تظهر ُ ّ التقليدي الذي ينحو إلى التصور ّ اقتصار األعمال األدبية على أصحاب الثقافي أو السن المتقدمة النضج ّ
العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
يالحظ وجود موجة جديدة من إغفال الصورة النمطية الستخدام اللغة في األعمال األدبية والميل إلى اللهجات المحكية وإضافة كلمات إنجليزية حين تتنقل أحداث روايته ما بين جدة وأسمرا.
أمَّ ا ما يخص العنصر األنثويّ في مجال الكتابة ،فعلى ً عامة إلى أنثوية وأخرى الرغم من عدم مناسبة تصنيف الروايات
ذكورية ،فإن طريقة التعامل المختلفة ما بين المرأة والرجل في المجتمعات العربية؛ دفعت المرأة الكاتبة إلى أن تعيش
حالة استثنائية في محاولة منها لمعالجة أزمة إثبات الذات،
وفي بعض األحايين محاولة االنتقام من المجتمع الذكوريّ ،
إما عبر تجريم الرجل أو تهميشه .لم يتغير ذلك على الرغم من تطور تقنيات الكتابة وزيادة سقف الحرية لدى المرأة
العربي ،إذ تظهر أعمال مثل رواية لينا هويان في المجتمع ّ الحسن «ألماس ونساء» عام 2014م لتنفض فكرة الموضوعات اللبناني والسوريّ في أميركا التقليدية ،فتعالج قضية المهجر ّ
الالتينية ،وقد ترشحت الرواية لجائزة البوكر ،وإن كانت في ّ الوقت ذاته عبر شخصيات أنثوية متعددة تحاول التخلص من سلطة رجال يبحثون عن المرأة المنصاعة ،سعيًا لرفض القيود
النسائي؛ مما يجعلها تختلف كثي ًرا عن والتحفظ على الوجود ّ ظهرت من ُ ْ قبل؛ مثل :رواية «وجهة البوصلة» أعمال أنثوية لنورة الغامدي عام 2002م ،و«الفردوس اليباب» لليلى الجهني
التي صدرت عام 1996م ،روايتان ترفالن في إبداع وصفي،
وكثافة لغوية ،وتتعمق في تجريم الرجل.
األدبي أزمة غياب النقد ّ ال بد من الجزم بأن التغييرات التي حدثت مؤخ ًرا عمَّ قت
من أزمة غياب النقد ،واضمحالل القراءات األدبية التي باتت ِّ تسلط الضوء على روايات محدَّ دة على حين يجري تغييب أعمال
أخرى؛ األمر الذي لم يعُ دْ يكترث له ٌّ كل من القارئ والكاتب،
في الوقت الذي بات إثبات الوجود يعتمد على القدرة على حشد كثير من ُ القراء والمتابعين ،فقد أصبح شغف ُ الكتاب الشباب
ينصب على مدى التكيُّف مع التطوُّرات التقنية؛ مما أدى إلى ّ ً شهرة لكنها أضعف قيمة اختالط الكتب القيِّمة بأخرى أكثر
أدبيةُّ ، يصب في بوتقة التشكك في مستقبل األعمال كل ذلك ُّ
العربي ،فمع الثقافة المختصرة األدبية والروائية في العالم ّ للوقت والكلمات ،تظهر إشكالية قابلية انقراض األعمال
الثقافية القيِّمة ،واإلقبال على األبسط واألسرع.
www.alfaisalmag.com االشتراك السنوي 150ريالاً سعود ًيا لألفراد 250 ،ريالاً سعود ًيا للمؤسسات ،أو ما يعادلهما بالدوالر األميركي خارج المملكة العربية السعودية.
السعر اإلفرادي السعودية 10رياالت ،الكويت 800فلس ،اإلمارات 10 دراهم ،قطر 10رياالت ،البحرين دينار واحدُ ،عمان فلسا ،اليمن 100ريال ،مصر ريال واحد ،األردن 750 ً 4جنيهات ،السودان 1.5جنيه ،المغرب 10دراهم، تونس 1.250دينار ،الجزائر ٨٠دينا ًرا ،العراق 800 فلس ،سوريا 45ليرة ،ليبيا ٨٠٠درهم ،موريتانيا ً فرنكا، ١٠٠أوقية ،الصومال ٢٠٠٠شلن ،جيبوتي ١٥٠ لبنان ما يعادل ٤رياالت سعودية ،الباكستان ٢٠ روبية ،المملكة المتحدة جنيه إسترليني واحد.
الموزعون السعودية ،الشركة الوطنية الموحدة للتوزيع، هاتف ،)٠١1(٤٨٧١٤١٤ :فاكس ،)٠١1(٤٨٧١٤٦٠ :مصر، مؤسسة توزيع األهرام ،شارع الجالء هاتف: ،٣٣٩١٠٩٥فاكس ٣٣٩١٠٩٦ :ـ ،..٢٠٢سوريا ،المؤسسة العربية السورية لتوزيع المطبوعات ص.ب ٥٣٠١ هاتف ،٨٤٢٨٢١٢ :فاكس ٢١٢٢٥٣٢ :ـ ١١ـ ،٠٠٩٦٣تونس، الشركة التونسية للصحافة 3 ،نهج المغرب ،ص.ب ٧١٩ـ فاكس /٧١400323 :هاتف ٩32249 :ـ ٧١ـ ،00216 قطـر ،دار الشرق للطباعة والنشر والتوزيع ،ص.ب ٣٤٨٨هاتف ،٤٦٦١٢٨٢ :فاكس ٤٦٦١٨٦٥ :ـ ،٠٠٩٧٤ األردن ،شركة وكالة التوزيع األردنية ،ص.ب ٣٧٥هاتف: ،٤٦٣٠١٩١فاكس ٤٦٣٥١٥٢ :ـ ٦ـ ،٠٠٩٦٢البحرين، مؤسســــة الهالل لتوزيع الصحف ص.ب ٢٢٤هاتف: ،٢٩٤٠٠٠فاكس ٥٣١٢٨١ :ـ ،٠٠٩٧٣اإلمارات العربية المتحدة ،مكتبة دار الحكمة ص.ب ٢٠٠٧هاتف: ،٤٩٣٥٦٦٢فاكس ٢٦٦٩٨٢٧ :ـ ٤ـ ،٠٠٩٧١الكويت، شركة المجموعة الكويتية للنشر والتوزيع ص.ب ٢٩١٢٦ت ،٢٤١٧٨١٠/١١/١٢فاكس ٢٤١٧٨٠٩ :ـ ،٠٠٩٦٥المغرب ،الشركة الشريفية لتوزيع الصحف فاكس ٢٢٤٠٤٠٣١/٣٢ :ـ ٠٠٢١٢هاتف،٢٢٤٠٠٢٢٣ : الجمهورية اليمنية ،القائد للنشر والتوزيع هاتف: ٢٠١٩٠١/٢ـ ٣ـ ٠٠٩٦٧فاكس٢٠١٩٠٩/٧ :
تراث
العرضة النجدية من ساحات الرقص إلى قائمة اليونسكو 170 مها السنان المدير التنفيذي للجمعية السعودية للمحافظة على التراث
«ال نقوم كلنا بأعمال عظيمة ،لكن يمكننا أن نقوم بأشياء بسيطة
األم تيريزا للغاية بحب كبير» ُ من ويندهوك عاصمة دولة ناميبيا ،أعلن ضمّ العرضة النجدية إلى العالمي .كان ذلك في االجتماع العاشر ّ للجنة الحكومية قائمة التراث ّ
الثقافي غير الماديّ لمنظمة األمم المتحدة الدولية لصون التراث ّ للتربية والعلم والثقافة «اليونسكو». ومع إعالن تسجيل «العرضة النجدية» تسارعنا إلى هواتفنا نرسل
الوطني عبر الرسائل والصور والتباشير ،مبشرين بهذا اإلنجاز ّ هاشتاغ #العرضة_النجدية_في التراث_العالمي في تويتر ،الذي ّ اكتظ بالمه ّنئين ،وبعض المشككين في قيمة هذا اإلنجاز!
العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
171
تراث
لم أر ّد شخصيًّا على أي منها في حينها ،لكن سأترك
لهذه المساحة المجال لشرح معنى تسجيل عنصر من
العالمي لدى التراث السعوديّ في القائمة التمثيلية للتراث ّ اليونسكو ،ودورنا في الجمعية السعودية للمحافظة على التراث في هذا الملف ،وكيف جرى العمل مع الوفد السعوديّ
ُّ واللبْس والعناصر الثقافية األخرى المرتبطة بممارسة هذا اللون من األداء ،أراد من بدأ بالمبادرة ً نوعا من التخصيص
بسبب االختالفات؛ إذ إن تسجيل العنصر فيه نوع من
طوال ثالثة أيام في محاولة إقناع اللجنة لتعديل القرار من
الوطني ،ال ينتقص بطبيعة الخصوصية المحلية والتف ُّرد ّ الحال من أهمية تسجيل عناصر التراث المشتركة ،وبخاصة
التعبير بشغف وبمحبة عميقة للوطن عن الرغبة واإلصرار
وألنه ال يسع المملكة العربية السعودية إال تسجيل
النهائي ،عبر مناقشات «الترحيل» إلى «القبول» في التصويت ّ ومفاوضات حثيثة غلب عليها االستمرار في المحاولة ،مع
الغني في هذا المحفل على إبراز عنصر واحد فقط من تراثنا ّ العالمي المهمّ للتراث غير المادي. ّ
للحديث عن تسجيل العرضة النجدية قصة ،نبدأ بها
من :لماذا العرضة النجدية؟ ً هذا السؤال مفهوم من حيث التحديد ،عوضا من
172
العرضة التي تؤديها مجتمعات كثيرة في السعودية بمناطقها المختلفة ،وفي دول الجوار ً أيضا ،مع اختالفات في األداء
الشقيقة أو المجاورة ذات الثقافة المشابهة.
عنصر واحد فقط كل عام ،كان من المهم إعداد ملف لعنصر
واحد كل عام من الملفات أو العناصر الثقافية المحلية.
ويأتي السؤال الثاني :متى بدأ العمل؟ باقتراح من سفيرنا
لدى اليونسكو ،المندوب الدائم الدكتور زياد الدريس؛ عملت
وزارة الثقافة قبل أعوام عدة على إعداد الملف ،وجرى تقديمه مرتين لكنه رُفض؛ العتبارات عدة؛ منها منهجية إعداد
رقصة السيوف ووحدة الصفوف
العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
العرضة النجدية من ساحات الرقص إلى قائمة اليونسكو
الملف ،وعدم وضوح دور المجتمعات المدنية واألفراد؛ إذ إن الحكومي هو المسؤول عن مثل هذا الملفات ،وإن كان القطاع ّ رفعها إلى المنظمة تعدّ مشاركة المجتمعات عنص ًرا أساسيًّا في مفهوم ونطاق عمل اليونسكو ألن أيّ عنصر يجري تسجيله يجب أن يحمل بين سطوره قيمة مجتمعية ،ورغبة أفراد ً أيضا-وممارسي هذا التراث في توثيقه؛ ألن حماية التراث
الحكومي وَحْ دَ ه؛ إذ إن تشكيل مسؤولية الجميع ال القطاع ّ والتراثي للمجتمع بجميع الثقافي الهوية مرتبط بالتنوّع ّ ّ طوائفه.
تسجيل العنصر فيه نوع من الخصوصية الوطني ،ال ينتقص والتفرد المحلية ُّ ّ بطبيعة الحال من أهمية تسجيل عناصر التراث المشتركة ،وبخاصة الشقيقة أو المجاورة ذات الثقافة المشابهة
وأتذكر أني قابلت الدكتور الدريس قبل ثالث سنوات،
في ورش عمل من خبراء معتمدين لدى اليونسكو ،وبالتواصل
المادي ،وسألته عما يدور حول تسجيل العرضة في اليونسكو
وبعد انتخابات الدورة الثانية لمجلس إدارة الجمعية ،وانتخاب
وهو أحد أعضاء الجمعية المؤسسين ،وتحدثنا عن مشروع حال التراث وأهمية ّاتباع منهجية معتمدة في توثيق تراثنا غير وماهيته وعقباته ...إلى غير ذلك ,وكيف أن الملف قيد اإلعداد،
وأنه رُفض في المرة األولى .توقفنا هنا ،وعملنا في الجمعية
مع القطاعات الحكومية والخاصة والمجتمعات أعددنا ورشة عملَّ ، وقع الحاضرون فيها على اتفاقية صون التراث غير الما ّديّ . الدكتور زياد ضمن مجلس اإلدارة ولجنة مشروع حال التراث المعنية بالتراث غير الما ّديّ وتوثيقه ،بادر بعرض مستجدّ ات
ليس ثمة شك في أن األمة التي تغفل عن العناية
المالكة على الحضور ومشاركة محبي العرضة في تأدية هذه
وتتنكر إليجابيات ماضيها بحجة (العصرنة) والتقدم ،إنما
يجسد والمهرجانات التراثية؛ مثل :مهرجان الجنادرية الذي ّ
الثقافي في أبعاده العلمية والفنية، بتراثها وتهمش موروثها ّ والثقافي المعرفي تسهم في تدمير البنى التحتية لمشروعها ّ ّ المستقبلي ،وبخاصة مع تسارع وتيرة التطورات التقنية في ّ اإلنساني ،وكما قيل ال مستقبل لمن ال ماضي له. المحيط ّ ومن إيجابيات الماضي التي يجب أن نحافظ عليها من ريح (العصرنة)؛ كي ال تقتلعها من جذورها ،وتنجرف مع
تسونامي متغيرات الحداثة؛ الفنونُ الشعبية ،وبخاصة الرقصات واألهازيج العريقة ،والمملكة العربية السعودية تزخر بمثل هذه الفنون االستعراضية ،وعلى امتداد مساحاتها
الهائلة نجد مختلف الرقصات الشعبية التي تعبّر عن مفاهيم
متعددة المقاصد واألهداف ،تدور في مجملها حول الحروب واالنتصارات ،حسب أطياف وثقافات المناطق؛ مثل:
العرضة النجدية أو العرضة السعودية التي جرى إدراجها
العالمي غير الماديّ لدى الثقافي مؤخ ًرا ضمن قائمة التراث ّ ّ ً اليونيسكو؛ لتوثيقها بوصفها تراثا مه ًّما ،يجب المحافظة
ً ً وطنية تستدعي االعتزاز بها وحمايتها من االندثار. هوية عليه العرضة النجدية تشتهر بها منطقة نجدُ ، وتعَ ُّد أيقونة
الفني السعوديّ ،وتحرص الدولة على العناية بها التراث ّ إلى ح ّد إدخالها ضمن المناهج الرياضية في المدارس، َّ وقلما تجد احتفالاً من االحتفاالت المهمَّة ال تدخل فيه
العرضة النجدية .ويحرص خادم الحرمين الشريفين والعائلة
الرقصة الحماسية ،وبخاصة في األعياد والمناسبات الوطنية
الوطني؛ ويكتمل المشهد برفع ذلك التوجه والولع بالموروث ّ السيوف على إيقاعات الطبول ،وترديد القصائد الحماسية في ّ صورة ّ التراثي ويتحلى المشاركون فيها بلباس العرضة أخاذة، ّ المزركش الجميل المُحَ اك من أجود األقمشة وأنفسها ذات األلوان المتنوعة ،ويتمنطق الرجال عادة حزامً ا جلديًّا لحمل
األسلحة النارية كنوع من التباهي. ٍّ ُ َّ ُ ين العرضة بشكل وت َؤدَّى ّ جماعي في صف أو صف ِ وبتالحم األيدي واألكتاف؛ إذ تبدأ األجساد بالرقص الرجولي ً عادة يحملها مجموعة من الشباب على إيقاعات الطبول التي فيرفعونها ً تارة ،وينزلونها تارة أخرى بطريقة تلهب حماسة الفرسان .واختلف في سبب تسمية العرضة بهذا االسم ،فقد
يكون بسبب عرض الرجال أنفسهم وما يرتدونه من ألبسة استعراضية ،أو ربما جاء من عرض جياد الحرب ،ومن أشهر ُ القصيدة الحماسية المشهورة التي قصائد العرضة النجدية اعتدنا سماعها منذ الصغر ،وتثير داخلنا حرارة الوطنية، وتدغدغ مكامن َ الف َخار بوطننا الحبيب: نحمد الله جـ ـ ــت على مـ ـ ــا نتمنــى
من ولي العرش جزل الوهايب
خ ّب ـ ـ ـ ـ ـ ــر اللي ط ـ ـ ــامـع ـ ـ ــا ف ـ ـ ــي وط ـ ـن ـ ـ ــا
دونهـ ـ ــا نثني إلـ ـ ــى جـ ـ ــات طاليب
173
تراث
ْ رئيس مجلس اإلدارة األميرة وعرضت حينها ملف العرضة، ُ عادلة بنت عبدالله بن عبدالعزيز مقترح تب ّني الجمعية
مدني ،وأيّد الملف ضمن دورها بوصفها منظمة مجتمع ّ المقترح بقية األعضاء وخرج القرار ،وبدأنا العمل .كان دور
الجمعية حلقة الوصل بين الوزارة والمجتمعات المدنية
والممارسين ،واعتمادًا على منهجية اليونسكو ،أقمنا ورش
عمل ،وخرج فريق العمل؛ الستكمال ملف كان الزمالء في الوزارة قد عملوا على إنجازه ،وتضافرت الجهود بدعم
رئيس مجلس إدارة الجمعية.
رفعت الوزارة الملف قبل ١٨شه ًرا من موعد
التصويت ،وانتظرنا الموعد ،وحزمنا الحقائب بنية َ وصلنا ر ّد اللجنة التي قيّمت الملف المفاوضات بعد أن
بمالحظات قد تؤدّي إلى تأجيل التسجيل سنتين أُخريين ،وهنا جاء دور الشرح والتوضيح ألعضاء اللجنة
174
العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
العرضة النجدية من ساحات الرقص إلى قائمة اليونسكو
ثالثون دقيقة دار في أثنائها النقاش والتسويغ والتصويت؛ انتهت برفع علم المملكة العربية السعودية ،وترديد «نحمد الله جت على ما نتمنى» قبيل التصويت بـ ٧٢ساعة ،ومن حسن الحظ ،أن بعض الدول األعضاء اقتنعت بسالمة الملف َ وقبوله للتسجيل، وفي أثناء الجلسة ،وتداول عناصر الملف مع رأي اللجنة
التي قيّمته ،وبعد أن تحدّ ث الوفد السعوديّ شارحً ا وجهة نظره؛ جاء التصويت لصالح التسجيل!
ثالثون دقيقة دار في أثنائها النقاش والتسويغ
والتصويت؛ انتهت برفع علم المملكة العربية السعودية،
وترديد «نحمد الله جت على ما نتمنى»؛ اآلن أصبحت
175
العرضة النجدية عنص ًرا مسجلاً في القائمة التمثيلية للتراث العالمي ،بفضل إيمان وحب وعمل أشخاص، الثقافي ّ ّ ودعم آخرين.
التكاملي بين القطاعات كان العمل نموذجً ا للفعل ّ الحكومية والخاصة والمجتمعات المدنية واألفراد ،ضمن منهجية اليونسكو ،وهي منهجية عالمية مقننة ذات ضوابط الثقافي في كل دولة و َْف َق تهدف إلى حماية عناصر التراث ّ
محدّ داتها؛ من أجل الحفاظ على الهوية وإبرازها وتطويرها، وهذا جوهر عملنا في الجمعية السعودية للمحافظة على
التراث ،ومنهجنا لتوثيقه .وأختم بقول رئيس مجلس اإلدارة
األميرة عادلة بنت عبدالله« :إن دورنا بوصفنا منظمة مجتمع مدني هو الحرص على توثيق هذا التراث المهمّ من حضارتنا، ّ
الوطني ونشر االعتزاز بالهوية ،والسعي للمحافظة على إرثنا ّ الغني والمميّز ،والعمل جنبًا إلى جنب مع المسؤول ّ والمهتمّ والممارس وحافظ التراث».
زمان الفيصل
176
العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
177
زمان الفيصل
178
العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
179
مقال
من هجرة المكان إلى الهجرة من النظرية ً مطمئنة إلى شكلها وغاياتها ظلت النظرية النقدية األدبية لاً وأدواتها كثي ًرا ،أو باألحرى طوي ،استكانت إلى شكل
متماسك؛ مما يسمح للمعطيات بتقديم نتائج ُتضفي معنى ّ ّ لفك شفرته وقراءته النص ،وتقدّ م المفاتيح المالئمة على
من وجهات النظر كافة .فكان النقد الجديد (ريتشارد) الذي ً صار قديمً ا ،ثم البنيوية ،وما بعد البنيوية (التي ُع ْ ثورة دَّت ّ ّ الدوال، بحق) ،فعملت معاولها في التقويض ،وأقامت
180
من العالم الثالث يناشدون كل أطراف القوى المتورطة في َّ َّ «اللعبة» أن يمنحونهم َّ وحق االتقاء وحق الدواء، حق الغذاء،
َّ َّ َّ وحق اللجوء. وحق اإلنسان، وحق التعليم، من البرد والح ّر،
يغادر هذا اإلنسان أرضه (نقطة االنطالق) ليصل إلى مكان آخر صراعا طويلاً (قد َّ ً يكلل بالنجاح أو (نقطة وصول) ،ويخوض اإلخفاق)؛ ليتحول بقناعة كاملة -واألمر خارج عن إرادته -من
مواطن مقهور إلى الجئ مشكوك في أمره.
ْ َّ النص نسويًّا و(تاريخانيًّا) قرأت وجعلت لها مدلوالت ،ثم ِ و(زمكانيًّا) (ميخائيل باختين وكرنفاله الشهير) ،ولم تتوانَ
نفسها من دون هوادة :هل هي هجرة القديم من أجل
فوكو) ،عالمة بناء خارج سياق ثقافة المُ ستعمر ،وتعمل على
وهومي بابا)؟ هي بالطبع هجرة اضطرارية ،وال مجال للتعامل معها بوصفها عملاً إراديًّا ،لكن السؤال يسعى الكتشاف
ما بعد البنيوية في الرفع من شأن ثقافات المجتمعات التي ُّ النص عالمة مقاومة ُتشكل تح َّررت من االستعمار ،فصار خطابًا جديدً ا على مهل ،يتراكم فوق طبقات المعرفة (ميشيل ّ النص حدودًا خلخلتها في الوقت ذاته (إدوارد سعيد) .أقام ً فاصلة بين المُ ستعمِ ر والمُ ستعمَ ر ،وسعى لتعزيز ثقافات َ الصوت (جايا تريسبيفاك في مقالها مسلوبة (ثقافاتنا) كانت ِ
الشهير« :هل يمكن للتابع أن يتكلم؟»).
الثقافي (لمُ ؤسِّ سه ثم أدركنا قيمة ما لدينا ،فوجد النقد ّ ً طريقا مم ّهدً ا عندنا (عبدالله الغذامي) ،هكذا ستيوارت هال)
الثقافي؛ مما فتح ً آفاقا امتزج نقد ما بعد االستعمار مع النقد ّ
ما بين نقطة المغادرة ونقطة الوصول تطرح األسئلة
الجديد؟ أم هي هجرة العالم الثالث من أجل األول؟ أم هو ال َّتو ُْق الغريزيّ إلى اللحاق بالمُ ستعمِ ر؛ لمحاكاته (فرانز فانون
األولي ،ما يراه المهاجر بوصفه المسكوت عنه ،االفتراض ّ ّ عابئ الحل األمثل أو األسلم ،فيبدأ تلك الرحلة المميتة غير ٍ بحياته كاملة.
ّ اإلبداعي الذي كانت مهمته البناء في للنص فماذا حدث ّ
مجتمعات ما بعد االستعمار؟ يبدو أنه فقد قدرته على التأثير،
أو أن النقد استسلم لتفسيرات مسالمة ال تشتبك مع الفعل السياسي ،فيبقي األدب والنقد منعزلين تمامً ا عمّ ا حولهما، ّ
جديدة للرؤية ،وحوَّل الثقافة بكل مفرداتها إلى ٍّ نص جديد، وقام ً ّ النص المكتوب من مركز الصدارة ،ثم عادت مدة بإزاحة
رونالد ريغان.
واإلبداعي لِيعيشا في الثقافي للتعبير عن تواضع زائف ،وعاد ّ ّ
طرده من أرضه .بمعنى آخر :ما هو شكل اللقاء بين ثقافتين تقاب ََل َتا من ُ قبل في سياق استعمار واحتالل؟ (ود َْع َ ك من مسألة
األمور إلى ّاتزانها المعهود بفضل الجوائز الممنوحة للعمل الروائي ،التي عادت ِل ُتذ ِّكر النقاد أن الكتابة بوصفها وثيقة ثابتة ّ لن تفقد أهميتها ،وأن تلك اإلزاحة لم تكن سوى فعل َّ مؤقت؛ هناء في الساحة النقدية نفسها ،فاألدوات متشابهة والغاية ّ النص. واحدة :قراءة
لكن هذا التصالح ما كان له أن يتنبَّأ بموجة هجرة غير
مسبوقة ،هجرة تبدأ بافتراض الموت لتكون الحياة هي
االستثناء ،هجرة شهدناها بكل األشكال الممكنة :الصورة،
السمعي والبصريّ ،والتصريحات السياسية ،وبيانات والتوثيق ّ مناشدة ،ومعسكرات في العالم األول مكتظة بمهاجرين العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
وهي المسألة التي قام إدوار سعيد بتناول تجلياتها في عهد المهاجر في بالد المستعمِ ر أما السؤال الثاني :ماذا يفعل ِ َ المهاج ُر حياته من أجل السابق ،ذلك المستعمِ ر الذي قدَّ م ِ
الترحيب والالفتات والغناء ،فهذه كلها بضاعة للتسويق اإلعالمي) .في األحداث األخيرة التي وقعت نهاية العام ّ
المنصرم ،بدا واضحً ا أن هناك صدامً ا حقيقيًّا ليس على طريقة صراع الحضارات أو نهاية التاريخ ،لكنه صراع على اله ُِويَّة األقوى ،كأن الصراع َّ تخلى مؤق ًتا عن السالح ليجعل من اله ُِويَّة مُ دْ يَة مُ شهَرة في وجه َ اآلخر .حرفيًّا هو صراع يُمكن ترجمته
على النحو اآلتي :لن أكون مثلك؛ ألنني مختلف ،وعليك أن
تقبلني من دون أي محاولة للتفاوض.
انهارت كل نظريات ما بعد االستعمار على َع َتبَات ّ نص التح ُّرش
الجماعي الذي وقع في ألمانيا ،فلم يَعُ دْ هناك مكان للمساحة الثالثة ّ َ التي نادى بها الناقد هومي بابا التي تعْ ني االمتزاج –وليس الذوبان -ليصل
كل طرف إلى اآلخر في منطقة اللقاء ،واختفت منطقة الهامش التي
تعتمل فيها خطابات مختلفة تؤدي إلى تغيير المركز (فوكو) ،وتداعت
اله ُِويَّة المرتحلة (دولوزو غاتاري) ،وجرى القضاء على إمكانية الخروج َ الرؤية أيَّ موضوعية ،بل يفقرها الثقافي الذي يسلب من االستقطاب ّ
كثي ًرا (إدوارد سعيد) .انهارت النظرية التي لم َتعُ دّ العُ دَّ ة ليوم مثل هذا َ العالم منذ انتهاء الحرب العالمية وألزمة مشابهة .فقد جرى تقسيم
الثانية ،وكان الجميع قانعً ا بموقعه الذي َّ خططه له االستعمار.
فما الذي قلب الموازين رأسً ا على َع ِقب؟ وما هو اإلطار النظريّ الذي يُمكن توظيفه لقراءة هذا اللقاء العاصف بين المهاجر المستعمِ ر السابق؟ كان المفروض أن يؤدي اللقاء إلى تفاوض؛ لكنه أدَّى إلى رفض وإنكار ،تزداد وطأته بصعود تيارات دينية يمينية متط ّرفة (إدارة
التوحُّ ش) ،وهو ما يجعل نظريات ما بعد االستعمار شبيهة بمجموعة من المُ عَ َّلبات التي انتهت مدة صالحيتها. وكما حدثت الهجرة القسرية من المكان ،ال بد من هَ جْ ر النظرية،
شيرين أبو النجا ناقدة مصرية
والعمل على إعادة قراءة معطيات القرن الحادي والعشرين :سياسات منهارة ،وهجرة جماعية قسرية ،وصدام بين الثقافات ،وتوحُّ ش مُ َ علن
181
على شاشات التلفزيون .لكن في هذه األزمة علينا أن نعمل نحن (ضمير
فضفاض بالكاد يَعْ ني أيّ شيء) على إنتاج النظرية -المعرفة التي
يُمكنها أن تتناول هذا الوضع الحالي.
فإذا انغمسنا في تفاصيل :من وأين ولماذا؛ سنجد أننا نعود مرة أخرى إلى ما َّ فككه إدوارد سعيد في كتابه «االستشراق» الذي صدر عام 1979م؛ أيّ أننا سنعود إلى خطاب الدفاع عن الذات ،ومحاولة ّ تحضر الثقافة التي تنحدر منها في مواجهة آخر يرى ما يريد أن إثبات
يراه (محمود درويش؟) على الرغم من أن التنميط الذي صنعه الغرب
وهاجمه إدوارد سعيد بكل شراسة كان من صنع الغرب ،وكذلك هي ّ وظلت السياسات المنهارة التي فررنا منها ،فهي من صنع الغرب، ّ فتمكنت النظرية من االزدهار هناك بكل في حمايته حتى آخر لحظة، طمأنينة.
هنا واآلن ،إذ تغيَّرت صورة العالم الذي كنا نعرفه ،تتجلى أمامنا
الفرصة إلعادة صياغة النظرية ،ونقد النقد ،وتقديم إنتاج معرفي فكريّ ّ َ ُ األفضل ،ومَ نْ أكثر تحررًا ،ومَ ن فعَ ل ذا ،وهو ال يتيه في (كواليس) مَ ِن
عمل ال يمكن أن يكون فرديًّا ،إنما هو عمل يجب أن يعمل عليه النقاد
والمفكرون شريطة أن يبتعدوا من التوجُّ هات الطائفية المذمومة، ُّ فكلها يعمل على مصالح آنية ُتضا ّد والتيارات السياسية المتناحرة،
النظرية التي تؤسِّ س لرؤية وطريقة قراءة ال تعود بنا إلى الخلف حين صدر االستشراق عام 1979م.
انهارت كل نظريات ما بعد نص االستعمار على َعت ََبات ّ الجماعي الذي وقع التحرش ُّ ّ في ألمانيا ،فلم يعد هناك مكان للمساحة الثالثة التي نادى بها الناقد هومي بابا ،وت َْعني االمتزاج– وليس الذوبان -ليصل كل طرف إلى اآلخر في منطقة اللقاء
مقال
القراءة الجديدة األخبار المتصلة بمشهد الصحافة الدولية ال تبشر بمستقبل مشرق
للمطبوعات؛ فقد أعلنت اإلندبندنت البريطانية إيقاف نسختها المطبوعة ودخولها فيما سمّته «المستقبل الرقمي» ،وفي الواليات المتحدة قالت
وكالة الصحافة الفرنسية إن العائد االقتصادي للصحف الورقية لن يتجاوز ً وفقا للخبراء ،هذا عن صحف سيّارة وعامة ،فماذا عن عشر سنوات مستقبل الصحافة المتخصصة ،بل قل حاضرها ،وأعني منها الثقافية والرصينة؟
في عالمنا العربي تابعنا توديع مثقفي لبنان ملحق النهار الثقافي،
وحسرتهم على غيابه بعد خمسين عامً ا من االنتظام ،أما في الكويت فقد
ماجد الحجيالن رئيس التحرير
تداعى مثقفون إلنقاذ مجلة العربي العريقة بعد إلغاء ندوتها السنوية، وفي السعودية وجّ هت مجلة المنهل الرائدة نداءً عامً ا إلنقاذها قبل
توقفها ،ومرت شهور على هذا النداء ،ولم أقرأ حتى الساعة استجابة له أو حتى خب ًرا عنه.
يبقى أن نقول إن هذا المشهد ،الذي ال يمكن وصفه بالتفاؤل ،يظل ً ناقصا وانطباعيًا ،ففي اليوم الذي أعلنت فيه اإلندبندنت توقفها؛ أُعلن
في لندن نفسها عن صدور مطبوعة «نيو داي» اليومية التي لن يكون لها
182
نسخة إلكترونية ،وأكدت مجموعة «ترينتي ميرور» التي أصدرتها ،أن
دراسة الجدوى وجدت لدى القراء حاجة ملحّ ة لما وراء الخبر من تحليل ووجهات نظر ،وهي بالمناسبة أول صحيفة جديدة في لندن منذ ثالثين
تجيء مجلة الفيصل، في هذا العدد الجديد، وفي هذا التوقيت لتعلن انفتاحها على معنى الثقافة األوسع، ومزاحمتها الهواتف الذكية على أيدي المثقفين
عامً ا.
ولنتجاوز لندن وصحفها؛ أال يحتاج القارئ العربي إلى أن يعرف ما
الذي يقف خلف هذه المذابح اليومية في المدن العربية؟ األخبار تعلن أنها الدكتاتورية والطائفية ،وعلى الصحافة الرصينة اليوم أن تحيطه بما وراء
ذلك ..لماذا صار هذا مآلنا؟ عليها أن تنقل له الرأي والتحليل؛ كي يعرف موقعه من العالم ،وإلى أين وصل سياسيوه وأحزابه ،وما الذي أوقف
قطار حضارته في محطة التاريخ. ألسنا ً أيضا نسمع شكوى أكاديميين ومثقفين من أن الناس ال
يقرؤون وال يتابعون؟ فكيف نفسر الحضور الهائل لمئات األلوف من القراء في مواقع التواصل االجتماعي الذين يتناقلون يوميًا اآلالف من األخبار
والمقاالت والصور والفيديوهات ،ويتفاعلون معها بالرأي والنقد؟ إنها قراءة ً أيضا ،لكنها قراءة ال نكاد نعترف بها؛ ألنها جديدة علينا ،وخفيفة وسريعة ..القراءة التي عهدناها دهورًا هي ما نرصفه في المكتبات ،ولم
يحن الوقت بعد لندرك أن مصادر المعرفة تعددت ،وأننا إن لم نوظفها خسرناها ،وخسرنا معها مستخدميها.
تصلنا يوميًا على هواتفنا عشرات النصوص المطوّلة ،ونقرؤها
ونناقشها ونتأثر بها ،ولو أنك جمعت ما قرأته في هاتفك خالل مدة ّ الغث فيها كثير، وجيزة ستجده يعادل كتابًا متوسط الحجم ،صحيح أن العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م
لكن من يقتنص الفرائد يعرف مواضعها وأهلها .نقرأ في فيسبوك وتويتر لشباب
وشابات ،ليست لهم أسماء معروفة ،نقدً ا ورأيًا هو أكثر حصافة ورصانة مما نعدّ ه في أغلبية صحفنا ومالحقنا الثقافية ،الواقع أن القراءة ازدادت ولم تنقص الهواتف الذكية جعلت الصغار والكبار ،العلماء والبسطاء يقرؤون ،لكن الوسيلة
اختلفت ،واالهتمامات تعددت ..وعلى الصحافة الثقافية العربية أن تستجيب راغمة ،وتزاحم المبتذل والسطحي على القراء وال تستسلم له ،وهي لن تكون
www.alfaisalmag.com مديرا التحرير
أحمد زين حسين حسن حسين
فريدة في هذا ،فقد سبقتها الصحف والمجالت الغربية الرصينة؛ جولة سريعة
في حسابات اإليكونومست وتايم ونيويورك تايمز ستخبرك أنها نزلت من عليائها إلى الناس ،وهذه مجلة فورن بوليسي تعلن أنها تنشر السياسة واالقتصاد ..ثم
تضيف «واألفكار».
وتجيء مجلة «الفيصل» ،في هذا العدد الجديد ،وفي هذا التوقيت؛ لتعلن
انفتاحها على معنى الثقافة األوسع ،ومزاحمتها الهواتف الذكية على أيدي المثقفين ،ورهانها على قراء نوعيين ،في عصر التطبيقات اإللكترونية متناهية
الصغر ،فائقة الذكاء ،رخيصة التكلفة ،موسوعية المعارف ،سريعة كالبرق، وهي فوق ذاك متحررة من الطباعة والرقابة والتوزيع ..وإذا كنت ستكتفي بمطبوعة
ٍّ تحد ،وما أخسره من رهان، ورقية أمام هذا السيل اإللكتروني؛ فما أصعبه من غير أن المجلة عالجت ذلك بحضورها في كل الصيغ الممكنة إلكترونية أو ورقية، بنسخة كفية للهواتف ،ونسخة لسطح المكتب ،سيجدها القارئ كيفما أحب أن
يقرأها ووقتما شاء.
سؤال أخير سيسأله أي صحافي مشتغل بمجلة متخصصة؛ ما الثقافي وما الثقافة ًّ حقا؟ بكلمات أخرى :ما المجلة الثقافية؟ أهي ما قدمته المجالت العربية
األدبية الرائدة منذ الهالل والمقتطف؛ من جميل الشعر والنقد ومسامرات الكتاب
ورسائلهم؟ أم أنها مجالت الثقافة األوربية اليوم مثلما يقدمها الفرنسيون منفتحة على األزياء واألطعمة والطهي وتربية الحيوانات؟ يكفي أن تفتح أي قاموس على
كلمة (ثقافة )Cultureلتنظر كيف تطور المفهوم ،وكيف اختلف من حضارة إلى أخرى ،ومن زمن آلخر ..وكيف أن فهم الثقافة في صحافتنا ما زال مقتص ًرا على ما
نسميه األدب ،ونعني به الشعر والسرد وما يدور حولهما.
لن تكون «الفيصل» مجلة أدب فحسب ،في الوقت الذي دخلت فيه هموم
السياسة كل بيت ،ولن تقصر موادها على نقد الشعر الجاهلي في وقت نشاهد فيه
جاهلية تبعثها داعش في الرقة والموصل ،ومقتلة كل يوم من تعز إلى بنغازي،
ولن تكون مجلة سياسة فحسب ،في الوقت الذي يحتاج الناس فيه إلى الفنون والجمال؛ هي ستكون ذلك كله ،بل أكثر.
كل ما يتصل بالنتاج الفكري اإلنساني الرفيع هو ثقافة ،وكل ما يعني الناس في فضائهم العام ثقافة ً أيضا ،يبقى أن تقدّ م هذه الثقافة إلى القارئ المتخصص وغير المتخصص على حد سواء في شكل وجبات معرفية صغيرة ،تحيله إلى وسائل
المعرفة األكبر واألوسع ،هذا ما سنحاوله ..والعدد الذي بين يديك اليوم لن يكون
كل ما تقوله المجلة؛ إنما هو استعداد لما ستقوله.
اإلخراج
ينال إسحق التنفيذ
رياض دفدوف أزهري النويري مبارك علي الموقع اإللكتروني
معتز عبدالماجد المراجعة اللغوية
محمد نصير سيد مراسالت التحرير واإلدارة
ص.ب ( )3الرياض 11411 المملكةالعربيةالسعودية هاتف )+966( 11٤٦٥3027 : )+966( 11٤٦٥٢٢٥٥ فاكس)+966( 11٤٦٤٧٨٥١ : contact@alfaisalmag.com اإلعالنات هاتف .11٤٦٥٢٢٥٥ :ـ فاكس.11٤٦٤٧٨٥١ : advertising@alfaisalmag.com االشتراكات والتوزيع
.11٤٦٥٢٢٥٥تحويلة6466 : subscriptions@alfaisalmag.com
مقال
دائما -اآلن، ً شرط الشعرية على عكس االنطباع المتوارث عن كتاب «الشعر» ألرسطو ،فهو ،وفق
قراءات نقدية جديدة ،لم يكن يتحدّث سوى عن فنّ «التمثيل» بوصفه لغة التعبير األشهر ديمقراطيًّا في ذلك الزمان .غير أن الجانب العميق في األمر، أن مسرح ذلك الزمان هو اآلخر ،قد نشأ شع ًرا ،أو شعر ّيًا بالمعنى الجوهريّ
لهذا المعنى في الثقافة الفنية عبر العصور. األرجح أن الكتاب كان يُعْ َنى بفنون التعبير (الحكائية) ،ففي سياق ِّ يشكل فنُّ المسرح ،بوصفه الرؤية النقدية لفنون التعبير في ذلك الزمان،
اإلنساني في ذلك الوقت؛ جنسا أدبيًّا ،أحدَ أبرز األنواع المتاحة لإلبداع ً ّ حتى إن كتاب «الشعر» قد َّ تكلم عن الدراما (التراجيديا) ،وفق ما وصل ّ المتعلق إلينا من مخطوطة الكتاب األصلية ،على حين يقال :إن الجزء ً بالكوميديا ،صار مفقودًا .ومعلومٌ أن الكوميديا كانت حاضرة ًّ وممارسة نصا
في زمان الكتاب وصاحبه ،بل إن الكوميديا هي أحد أبرز الظواهر النقدية،
184
اليوناني آنذاك ،فقد كانت المسرحية الكوميدية تطال بالنقد في المجتمع ّ الديمقراطي الذي مشكالت المجتمع كافة ،متمتعة بحريات المجتمع ّ يضرب به المثل في العصور الالحقة.
يبقى القول بأن الشعرية اآلن ،ربما تجاوزت الحدود التقنية التي تحدّث عنها كتاب أرسطو؛ ليصبح ِّ الشعر في عصرنا هو أكثر العناصر الفنية تجسيدً ا لألدب أولاً ،وفنون التعبير األخرى عمومً ا .وسوف يبدأ التنظير
قاسم حداد شاعر بحريني
الحريات ال تُمنَح من االجتماعي النظام ّ السياسي ،إنما أو ّ هي حقوق ال يتحقق المبدع واإلبداع ،إال بممارستها منذ لحظة العمل األولى
ً الجمالي الذي ّ يحقق القدر شرطا يكاد يكون الزمً ا؛ من أجل أن يتاح للمبدع الفضاء الحديث يرى في شعرية التعبير ،بش ّتى أشكاله، ّ الالزم من النجاح في التعبير.
بالطبع سيساعد هذا الشرط على تمييز الفنون جميعها من عمومية الفنّ ،ويحميه من االبتذال الذي ستج ّره إليه نظريات
الثقافي للمجتمع ،وتجعله ،فيما تجرجره لنقل الواقع وتسجيل الحياة ،بمنزلة (الواقع) في مراحل تاريخية مختلفة ،نحو السطح ّ القشرة الخارجية سريعة االنحالل ،فيفقد طبيعته الجمالية الحُ َّرة ،المُ َّتصلة بالرؤية المغايرة للواقع وليس االمتثال له .تلك الرؤية ً التي ترى في الفنّ نقضا للواقع وإعادة خلق حرية له.
الشعرية هنا ،هي حريات الصدور عن الجمال في الفنّ ،وهذا ما سوف يستعيد اكتشافه ِّ منظرون قليلون في الثقافة العربية
المعاصرة بتجربتهم في الدرس النقديّ ،فيما يدركون الدَّالالت العميقة ،في كثير من النصوص ،للعالقة الوشيجة بين فنون ً الحقا الكالم عن المفهوم الجوهريّ العميق والشامل الفنون الجميلة التعبير ،من دون االمتثال لحصرية نوع على آخر؛ مما يتيح لنا في حياتنا ونصوصنا. اآلن -دائمً ا
العربي؛ حرية المخيلة للشعر ،وحريات التعبير للمسرح. عند الكالم عن أمرين ،يصعب تفادي فكرة غياب الحريات في الواقع ّ
اآلن ـ دائمً ا ُ َ السياسي ،إنما هي حقوق ال يتحقق االجتماعي أو سيكون من نافلة القول ،أن مثل هذه الحريات ال تمنح مثل هِ بَة من النظام ّ ّ المبدع واإلبداع ،إال بممارستها منذ لحظة العمل ُ األولى. اآلن ـ دائمً ا ُ ُ هل ثمة ما يمنحنا ن ْتفة من ثقة ،بأن (لحظة عملنا) األولى ،قد كانت ،أو حانت؟
العددان 474 - 473جمادى اآلخرة -رجب 1437هـ /مارس -إبريل 2016م