العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ مايو -يونيو 2017م
ما وراء النفط
ماذا يقرأ زعماء البيت األبيض؟ الطاهر لبيب :التشبث بالماضي
تحديات الرواية
يفتوشينكو :مراقبو
وراء ظهور كائنات متوحشة
السعودية
الكتب أفضل قرائي
www.alfaisalmag.com
www.kfcris.com
اﻟﺒﺤﻮث واﻟﺪراﺳﺎت
اﻟﻤﺤﺎﺿﺮات واﻟﻨﺪوات
kfcris@kfcris.com
@kfcris_sa
اﻟﻤﻜﺘﺒﺔ
اﻟﻤﺘﺎﺣﻒ
kfcris_sa
KFCRISKSA
اﻟﺘﺪرﻳﺐ
KFCRIS
اﻟﻜﺘﺐ واﻹﺻﺪارات
ص ب ٥١٠٤٩ :اﻟﺮﻳﺎض ١١٥٤٣اﳌﻤﻠﻜﺔ اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ اﻟﺴﻌﻮدﻳﺔ ﻫﺎﺗﻒ ٠٠٩٦٦ ١١ ٤٦٥٢٢٥٥ :ﻓﺎﻛﺲ٠٠٩٦٦ ١١ ٤٦٥٩٩٩٣ : Fax: 00966 11 4659993
Tel: 00966 11 4652255
P.O. Box 51049 Riyadh 11543 Kingdom of Saudi Arabia
اﻟﺸﺆون اﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ
« ﺗﺠﻮل ﻓﻲ ﻣﻮﻗﻊ » ﻣﻘﺎﻻت ﻟﻨﺨﺒﺔ ﻣﻦ أﻫﻢ اﻟﻜﺘﺎب ﻣﻠﻔﺎت وﺗﺤﻘﻴﻘﺎت وﻗﻀﺎﻳﺎ ﻋﻦ اﻟﺮاﻫﻦ اﻟﺜﻘﺎﻓﻲ واﻟﺴﻴﺎﺳﻲ ﻣﻊ إﻃﻼﻟﺔ ﻋﻠﻰ اﻹﺑﺪاع ﻓﻲ ﻣﺨﺘﻠﻒ اﻟﻔﻨﻮن
@alfaisalmag alfaisalmag alfaisalmag ﻣﺠﻠﺔ اﻟﻔﻴﺼﻞ
alfaisalmag.com
editorial@alfaisalmag.com
+966 11 4647851 :¢ùcÉa +966 11 4653027 :∞JÉg ájOƒ©°ùdG á«Hô©dG áµ∏ªŸG 11411 ¢VÉjôdG 3 Ü ¢U
يصدرها
أسسها عام 1397هـ1977/م
األمير خالد الفيصل
العددان
488-487
2 الملف
كتاب الفيصل 16
ما وراء النفط 49 18 محمد الرميحي (ثمانية عقود من النفط في الخليج.. أين الثقافة؟) فوزية أبو خالد (يعيش مثل حالة سرية فينا) محمد اليحيائي (النفط الذي أعطى والنفط الذي أخذ) حسن مدن (ليس ظاهرة خليجية) عثمان الخويطر (دور البترول في حياتنا) عبدالله المدني (آثار إيجابية كاسحة) علي أبو الريش (سنوات النفط ال تكفي لصنع رواية حقيقية) سعاد العنزي (األدب الخليجي والنفط)
العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
الناشر
رئيس مجلس اإلدارة
األمير تركي الفيصل
رئيس التحرير
الثقافية
دار
ماجد الحجيالن
editorinchief@alfaisalmag.com
بورتريه
دراسات
الحرب بعيون أنثوية (مايا الحاج)
ديريك والكوت ..شاعر الشتات والتشظي
58
ً منساقا يصعب أن ُتنادي ضدّ تجنيس األدب ثمّ تجد نفسك أدب نسائي .فالنظريات التي أرساها كثيرون نحو الكتابة عن ٍ من ّ النقاد العرب حول روايات النساء التي تنشغل بالذات على حساب العالم ،راحت ُتثبت ضعفها يومً ا تلو آخر .وما من شيء يُثبت تهافت تلك النظريات سوى دراسة الروايات (النسائية) الصادرة خالل السنوات األخيرة ،حيث انشغلت معظم الكاتبات العربيات بالوضع السياسي -االجتماعي العام ،فكتبن عن الحرب التي ُعدَّت دائمً ا من الموضوعات «الذكورية» ،ال «األنثوية».
70
(محمود عبدالغني)
ولد الشاعر والمسرحي ديريك والكوت سنة 1930م، بجزيرة سانت لوسي ،المستعمرة البريطانية التي نالت استقاللها سنة 1979م .ظل طوال سنوات يقضي وقته بين ترينيداد وبوسطن حيث كان يدرّس األدب اإلنجليزي في جامعة بوسطن .فاز بعدّ ة جوائز أهمها« :الميدالية الملكية الذهبية للشعر» سنة 1988م ،وجائزة «و.هـ. سميث األدبية سنة 1990م عن ملحمته «أوميروس، هوميروس» ،ثم جائزة نوبل لألدب سنة 1992م. تحقيقات
ثقافات
دورا في تكريس أدباء في الظل ..هل لعبت الميديا ً
إمبرتو إيكو ..سياسي حتى العظم (أحمد فرحات)
104
قرأنا الكثير عن الروائي اإليطالي إمبرتو إيكو أديبًا وأكاديميًّا ً وباحثا في القروسطيّات وعالمً ا في وسوسيولوجيًّا وناقدً ا ّ اللغويّات والسيميائيّات (دراسة األدلة) ،ولم نقرأ عنه ً منخرطا في عالم السياسة كناشط سياسي؛ علمً ا بأنه كان حتى أذنيه ،وكان يكتب في أحداثها وتطوّراتها بانتظام، ً خصوصا في مجلة «ليسبريسو» ،وفي الـ«نيويورك تايمز» .
92
كتّاب وتهميش آخرين؟
(الفيصل خاص)
يقال :إن المنافسة بين عميد األدب العربي طه حسين وخصمه الدائم الدكاترة زكي مبارك دفعت العميد إلى استخدام سلطاته لمنع غريمه من التدريس في الجامعة ،مما دفع األخير ألن يطبع كروت تعارف كتب عليها« :الدكاترة زكي مبارك ،حاصل على عالِميَّة األزهر، ولم يحصل عليها طه حسين».
3
تشكيل
سينما
آل عياف :ستستمر المحاوالت الفردية في السينما طالما ال يوجد دعم حكومي (هدى الدغفق)
172
يعد عبدالله آل عياف من األسماء التي برزت مؤخ ًرا في مجال السينما وصناعة األفالم القصيرة في السعودية .أنجز آل عياف خمسة أفالم كانت من أفضل األفالم التي أُنتجت في الخليج في األعوام األخيرة ،هي« :السينما 500كم»، و«إطار» ،و«مطر» ،و«عايش» و«ست عيون عمياء».
كتب
126
136
ضياء العزاوي :في السبعينيات ضاقت بنا بغداد
162
(خضير الزيدي)
ضياء العزاوي ،فنان تشكيلي ينتمي إلى الجيل الستيني في العراق ،حقق منذ ذلك التاريخ حتى هذه اللحظة قدرًا كبي ًرا من األهمية الفنية ،من خالل تقنياته في الرسم والنحت ،وإنجاز ً وأيضا المدونات التي تخص الشعر بصياغات جمالية تعبيرية، من خالل طروحاته المعرفية. شحيد جمال ّ عندما يتجاهل السياسيون
مقاالت
العرب ابن خلدون
4
68
محمد خضير البصرة -اإلسكندرية
90
عبدالله المطيري كيف يمكن إدخال قضايا التربية في الجدل الثقافي؟
116
ياسمينة خضرا لماذا أكتب؟
138 عزت القمحاوي محنة ثقافة اطمأنت للكسل
148
جميلة عمايرة حين تكتب المرأة ..عن الكتابة وأشكالها
160
سيف الرحبي غرفة استقبال الضواري
184
العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
نصوص
50
آسبن ستروم قصائد من السويد
114
جيل رونار حكايات طبيعية
79
عاشور الطويبي نصوص
119
عبدالله األسمري من شعر الهايكو
80
محمد جازم مونولوغ لرجل الطربال
143
ممدوح عبد الستار اعتراف متأخر
113
نصار الحاج فراشات
158
إدريس علوش
مدير التحرير
أحمد زين اإلخراج
في فناء الفكرة المستديرة
في هذا العدد الرواية السعودية وتحدياتها (سلوى الميمان)............... السرد وغايته في النوفيال (جوديت اليبوفيتز).................. داعش والمهربون (صبحي موسى)................................... حوار مع الطاهر لبيب (حياة السايب)................................... زعماء البيت األبيض والكتاب (محمد حجيري)...................... ثورة الحب (لوك فيري).......................................................... يفغيني يفتوشينكو (سهام العريشي)............................ السيد ياسين ..محطات النجاح والفشل.............................. عياض بن عاشور (عبدالدائم السالمي).............................. أبرار سعيد( ..عبدالله السفر)................................................ اليمن غير السعيد في منعطفه الثوري............................ الجدل حول اإلسالم في أوربا (عبدالرحيم الرحوتي)........ ذئب ليس له سوى عواء الموت( ..محمد الشيباني)....... القلم ..في عصر الصف الضوئي (محمد إبراهيم)............. تاريخ جدة القديم؟ (حسن فقيه).......................................... مسرح المقهورين( ..نورا أمين)............................................ موسيقا كناوة( ..سعيد بوكرامي).......................................
52 62 72 82 98 108 110 120 126 128 130 132 140 144 150 176 180
االشتراك السنوي 100ريال سعودي لألفراد 250 ،ريالاً سعوديًّا للمؤسسات ،أو ما يعادلهما بالــدوالر األمـيـركــي خـــارج المملـكــة العربية السعودية. السعر اإلفرادي :السعــوديـــة 10ريـــاالت ،اإلمــــارات 10دراهم ،قطر 10رياالت ،البحرين دينار فلسا ،مصر 4جنيهات ،المغرب 10دراهم. واحد ،األردن 750 ً الموزعون مصر ،مؤسسة توزيع األهرام ،شارع الجالء ،هاتف ،7704365 - 5796997 :فاكس: ،00202 7703196قطـر ،دار الشرق للطباعة والنشر والتوزيع ،ص.ب ،3488هاتف ،44557809فاكس ،00974 44557819 :األردن ،شركة وكالة التوزيع األردنية ،ص.ب ،3371 هاتف ،65358855 :فاكس ،00962 65337733 :البحرين ،مؤسسة الهالل لتوزيع الصحف، ص .ب ،8005هاتف ،17480800 :فاكس ،00973 17480818 :اإلمارات العربية المتحدة ،مكتبة دار الحكمة ،ص.ب ،2007هاتف ،42665396 :فاكس ،00971 42669827 :المغرب ،الشركة الشريفية لتوزيع الصحف ،ص.ب ،13683هاتف ،2400223 :فاكس00212 2246249 : التوزيع داخل المملكة الشركة الوطنية الموحدة للتوزيع هاتـــــف )011( 4871414 :فاكس)011( 4871460 :
ينال إسحق التنفيذ
رياض دفدوف مبارك علي الموقع اإللكتروني
معتز عبدالماجد التدقيق والمراجعة اللغوية
عبدالله الدوسري محمد نصير سيد االشتراكات والتوزيع
جعفر عبدالرحمن -)+966(11٤٦٥٢٢٥٥تحويلة6640 : subscriptions@alfaisalmag.com
مراسالت التحرير editorial@alfaisalmag.com مراسالت اإلدارة ص.ب ( )3الرياض 11411 المملكة العربية السعودية هاتف المجلة )+966( 11٤٦٥3027: فاكس)+966( 11٤٦٤٧٨٥١ : contact@alfaisalmag.com اإلعالنات هاتف)+966( 11٤٦٤٧٨٥١ : advertising@alfaisalmag.com
5
المركز
خيارات السياسة األوربية في الشرق األوسط
افتتح األمير تركي الفيصل رئيس مجلس إدارة مركز الملك
السياسيين والمثقفين واألوساط األكاديمية ووسائل اإلعالم ً إضافة إلى نخبة من كبار المسؤولين من ألمانيا وأوربا،
خيارات السياسة األوربية في الشرق األوسط» بمبنى معهد
مناقشة بعض الموضوعات والقضايا السياسية التي شغلت ً إضافة إلى أوربا والشرق األوسط خالل المدة الماضية،
فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية حلقة نقاش االجتماع
الدوري رقم 164لمؤسسة برغدورف ،بعنوان« :أكثر من االحتواء:
6
والمختصين والمهتمين من المملكة .وجرى خالل االجتماع
الفيصل لتنمية الموارد البشرية في الرياض في 13مارس 2017م. وحضر االجتماع ،الذي أُقيم بالتعاون بين مركز الملك
مستجدات القضايا اإلقليمية والدولية ،والعالقات بين المملكة
األلمانية ،لفيف من الشخصيات من داخل المملكة ،ومن
والثقافية .وتسعى حلقات النقاش التي تقدّ مها مؤسسة
فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية ومؤسسة كوربر البحثية
االتحاد األوربي ،وأعضاء الوفد األوربي ،وعلى رأسهم رئيس
ألمانيا االتحادية السابق كريستيان وولف ،وعدد من السياسيين البارزين في االتحاد األوربي ،ونخبة من قادة الفكر والرأي من
واالتحاد األوربي على مختلف الصعد السياسية واالقتصادية برغدورف لتقديم مساهمة ذات مغزى في التفاهم المتبادل في
السياسة الدولية ،وتعزيز الحوار المفتوح بين المشاركين من الشخصيات الرفيعة المستوى.
عاما توثيق سيرة الفيصل في أكثر من 50 ً َّ وثق المركز سيرة الملك الراحل فيصل بن عبدالعزيز وتاريخه
وأعماله ومنجزاته المحلية والعربية واإلسالمية والعالمية في
كتاب أرشيفي ،يرصد مسيرته منذ تمثيله والده الملك عبدالعزيز
آل سعود ،في مؤتمر فرساي للسالم بباريس عام 1919م ،مرورًا بتعيينه نائبًا للملك المؤسِّ س ووصايته على العرش ،وصولاً إلى توليه حكم المملكة وطوال عهده.
وال يمثل هذا األرشيف تاريخ الملك فيصل فحسب؛ بل
يجسد تاريخ السعودية في مرحلة البناء والتطوير ،بل تاريخ ّ
األمة العربية واإلسالمية وما م َّرت به من منعطفات كبرى خالل رئيسا في التعامل معها .ويعتمد «كشاف عهده ،كما كان مشار ًكا ً
ويضم هذا الكشاف كل ما ُنشر عن الملك فيصل في
الفيصل في أم القرى» على مصدر وحيد هو الصحيفة الرسمية صحيفة أم القرى من أخبار وخطابات وكلمات وتصريحات للمملكة «أم القرى» التي أسسها الملك عبدالعزيز في مكة عام ولقاءات إذاعية وتلفزيونية وبرقيات ومراسيم وأوامر وأشعار 1924م؛ لذا يعد هذا الكشاف بمنزلة وثيقة رسمية ترصد تاريخ وبالغات وغير ذلك .واستغرق العمل على الكشاف عامين ،وهو من إعداد الباحثة أروى عبدالله عبيدات. الفيصل النائب والملك من الصحيفة الرسمية للدولة.
العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
رحيل سعد الفيصل نعى األم��ي��ر ت��رك��ي الفيصل رئ��ي��س مجلس إدارة مركز
الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية أخاه األمير
سعد الفيصل الذي انتقل إلى رحمة الله في الثالث عشر من شهر رجب الماضي الموافق العاشر من شهر إبريل،
وف��ي إش��ارة إل��ى رحيل ع��دد من أبناء الملك فيصل خالل ال���س���ن���وات ال���ث�ل�اث ال���م���اض���ي���ة؛ ق����ال األم���ي���ر ت���رك���ي ف���ي م��ق��ال��ة
ص���ح���اف���ي���ة« :خ���م���س وف����ي����ات ف����ي ت���ل���ك ال����م����دة إلخ������وة ب�����ررة، كانوا األصدقاء والرفاق منذ أن وعيت الدنيا ،رثيت أربعة
منهم ،وها أنذا أرثي الخامس.»..
واألم��ي��ر سعد الفيصل من مواليد مكة المكرمة عام
1942م ،تخرج في جامعة كمبردج البريطانية ،وتخصص في القانون الدولي ،وعمل مستشارًا قانونيًّا في مؤسسة ب����ت����روم����ي����ن ال�����س�����ع�����ودي�����ة ،م����س����ه����مً ����ا ف������ي ت����ط����وي����ر ال����س����ي����اس����ات
ال����ن����ف����ط����ي����ة ال�����وط�����ن�����ي�����ة ،ك�����م�����ا اش�������ت�������رك ف�������ي ع�����ض�����وي�����ة ص�����ن�����دوق
ال��ت��ن��م��ي��ة ف����ي ب�����داي�����ات ت���ك���وي���ن���ه إل�����ى أن اس���ت���ق���ال م����ن ال��ع��م��ل ال��ح��ك��وم��ي ،وك����ان ال���راح���ل أي ً ���ض���ا ع���ض���وًا ف���ي م��ج��ل��س أم��ن��اء م����ؤس����س����ة ال����م����ل����ك ف���ي���ص���ل ال����خ����ي����ري����ة وع���������دد م�����ن ال���م���ج���ال���س
التعليمية والخيرية األخرى.
واخ����ت����ت����م األم�����ي�����ر ت����رك����ي ال���ف���ي���ص���ل م���ق���ال���ه ب����وص����ف ح���ي���اة
أخ���ي���ه ال������ذي خ���ض���ع ل����ج����راح����ات ف����ي ال���ق���ل���ب ف����ي وق�����ت م��ب��ك��ر م��ن ع��م��ره ق��ائ�ًل�اً « :أص��اب��ه م��رض القلب ف��ي ري��ع��ان شبابه،
ف���ان���ك���ف���أ إل������ى داره ،وض����ع����ف وه������ج ض�����وئ�����ه ،وب����ق����ي س���ن���وات يستنهض قلبه ال��م��ص��اب إل���ى أن اس��ت��ك��ان قلبه ألم���ر ال��ل��ه، وك ّ ��ف عن النبض ،لقد رحل عنا أنيس آل فيصل ،رحمه
الله ،وأسكنه فسيح جناته».
المركز يوقع اتفاقيات تعاون مع جهات علمية ّ وقع المركز في 16مارس الماضي بمدينة عوالي
ب���ال���ب���ح���ري���ن ات����ف����اق����ي����ة ت�����ع�����اون ب���ح���ث���ي وع����ل����م����ي م�����ع م���رك���ز
ال��ب��ح��ري��ن ل��ل��دراس��ات اإلس��ت��رات��ي��ج��ي��ة وال��دول��ي��ة وال��ط��اق��ة «دراسات»ّ ، ومثل المركز في التوقيع الدكتور سعود
ال�����س�����رح�����ان األم������ي������ن ال�������ع�������ام ،وم ّ������ث������ل م�����رك�����ز «دراس�������������ات» ال����دك����ت����ور ال���ش���ي���خ ع���ب���دال���ل���ه آل خ���ل���ي���ف���ة رئ����ي����س م��ج��ل��س
األم���ن���اء .وت��ه��دف االت��ف��اق��ي��ة إل���ى ت��ع��زي��ز أواص����ر ال��ت��ع��اون البحثي والعلمي بين الطرفين ف��ي م��ج��االت :البحث
العلمي ،والندوات والمؤتمرات واألنشطة العلمية،
وال�����م�����ع�����ل�����وم�����ات وال������ت������وث������ي������ق ،وت��������ب��������ادل ال�����م�����ط�����ب�����وع�����ات ،وال����������دراس����������ات
وال���ب���ح���وث ،وغ��ي��ره��ا م���ن ال��ق��ض��اي��ا ذات االه��ت��م��ام ال��م��ش��ت��رك .وي��ع��دّ م��رك��ز «دراس��������ات» م��ؤس��س ً��ة ب��ح��ث��ي ً��ة ب��ح��ري��ن��ي ً��ة م��ت��خ ّ ��ص��ص ً��ة لتشجيع اس���ت���خ���دام ال��ب��ح��ث وال����ح����وار ل��ت��ن��وي��ر واض���ع���ي ال���س���ي���اس���ات وص��ان��ع��ي
ال���ل���غ���ة ال���ع���رب���ي���ة وال���ث���ق���اف���ة ال���ع���رب���ي���ة واإلس��ل�ام����ي����ة ع���ل���ى أوس������ع ن��ط��اق
محليًّا وإقليميًّا وعالميًّا ،وتطوير واستحداث برامج تعليم اللغة ال��ع��رب��ي��ة ل��ل��ن��اط��ق��ي��ن ب��غ��ي��ره��ا ،إض���اف���ة إل���ى ت��ع��زي��ز ال���ص���ورة اإلي��ج��اب��ي��ة
ل���ل���م���م���ل���ك���ة م�����ن خ���ل���ال ال�����ت�����واص�����ل وال�������ح�������وار م�����ع غ����ي����ر ال������ع������رب .وي����أت����ي
ال�����ق�����رار ،وت���ع���م���ي���ق ف���ه���م ال���ق���ض���اي���ا ال����دول����ي����ة ال����راه����ن����ة وال����ن����اش����ئ����ة .ك��م��ا َّ وق�������ع ال����م����رك����ز ف�����ي ال�����راب�����ع م�����ن إب�����ري�����ل ال����م����اض����ي ات���ف���اق���ي���ة ت�����ع�����اون م��ع
والعالقات الثنائية مع مختلف المؤسسات والمنظمات المحلية
ال����ل����غ����ة ال����ع����رب����ي����ة ل���ل���ن���اط���ق���ات ب����غ����ي����ره����ا .وت�����ه�����دف االت����ف����اق����ي����ة إل�������ى ن��ش��ر
اإلستراتيجية.
ج����ام����ع����ة األم�������ي�������رة ن���������ورة ب����ن����ت ع����ب����دال����رح����م����ن م���م���ث���ل���ة ب���م���ع���ه���د ت��ع��ل��ي��م
توقيع االتفاقيتين في إطار سعي المركز إلى توثيق أوجه التعاون واإلق��ل��ي��م��ي��ة وال���دول���ي���ة ال��ع��ام��ل��ة ف���ي م���ج���االت ال���ب���ح���وث وال����دراس����ات
7
المركز
مسيرة «سعود الفيصل» في ترسيخ الدبلوماسية السعودية أصدر المركز «كشاف سعود الفيصل في أم القرى» لتوثيق جهود األمير سعود ً خلفا لوالده الملك فيصل طوال أربعين الفيصل في ترسيخ الدبلوماسية السعودية
عامً ا .ويمثل سعود الفيصل مرحلة مهمة في تاريخ الدبلوماسية السعودية والعربية واإلسالمية والدولية؛ فهو وزير الخارجية األطول خدمة في العالم؛ حيث قضى أكثر من
أربعين عامً ا وزي ًرا لخارجية السعودية من عام 1975م إلى 2015م بعد والده ،خالل عهد ً أحداثا مهمة أربعة ملوك في السعودية ،حقق خاللها إنجازات جليلة للمملكة ،وعاصر ألمَّ ت بالمنطقة والعالم.
ويرتكز «كشاف سعود الفيصل في أم القرى» على مصدر وحيد هو الصحيفة الرسمية
للمملكة «أم القرى»؛ لذا يعد هذا الكشاف بمنزلة وثيقة رسمية ترصد تاريخ األمير الراحل من الصحيفة الرسمية للدولة، ويضم َّ كل ما ورد عن األمير سعود الفيصل أو على لسانه في الصحيفة .ويتكون الكتاب من « »505صفحات من القطع المتوسط ،واستغرق العمل فيه ما يقارب العام؛ من جمع ،وتحرير ،وتصنيف ،ومراجعة ،وهو من إعداد الباحثة أروى
جوانب من حياة األمير الراحل منذ والدته حتى وفاته. عبدالله عبيدات .ويغطي الكشاف َ
إطالق إصدار جديد من «خزانة التراث» 8
ً جديدا من قاعدة بياناته «خزانة التراث» التي تضمّ فهرس أطلق المركز إصدارًا ً المخطوطات العربية في معظم المكتبات العالمية على قرص مدمج CD؛ تزامنا مع مشاركة المركز في معرض الرياض الدولي للكتاب ٢٠١٧م ،الذي أُقيم خالل الفترة من 8 إلى 18مارس المنصرم.
وأوضح عبدالعزيز الراجحي ،رئيس قسم المجموعات الخاصة في المركز ،أن ّ سجل في مختلف العلوم ،بزيادة أكثر من 30 اإلصدار الجديد يضمّ أكثر من مئة ألف
ّ سجل عن اإلصدار القديم ،كما يضمّ أكثر من 750ألف نسخة خطية ،بزيادة أكثر من ألف 250ألف نسخة خطية عن اإلصدار القديم ،ويتوافق اإلصدار الجديد مع أنظمة التشغيل الحديثة التي صدرت بعد اإلصدار القديم.
وأضاف الراجحي أن «خزانة التراث» هي قاعدة البيانات الوحيدة في العالم التي تشمل التراث العربي ً ً ً المخطوط ،وتضمّ عربية لفهارس المخطوطات التي ُكتبت بغير اللغة العربية؛ مثل اللغات: ترجمة أيضا
اإلنجليزية ،والفرنسية ،واأللمانية ،واإلسبانية ،واإليطالية ،وغيرها.
العربية ..هذه اللغة الشريفة أصدر المركز كتابًا جديدً ا بعنوان «العربية ..هذه اللغة الشريفة» يتضمن مجموعة من
الدراسات والمقاالت في علوم اللغة والنحو والمعجم والساميات ،وهو من تأليف رمزي ً قائمة بمصادر بعلبكي .وتضمّ ن الكتاب الذي يقع في 513صفحة من القطع المتوسط المقاالت ،إضافة إلى فهرس لألعالم والقبائل واألماكن ،وفهرس للغات واللهجات ،وفهرس
لألشعار ،وآخر للنقوش .ويشتمل على سبع عشرة مقالة مختارة -جمعها وحررها بالل ً مدرجة تحت أربعة محاور. األرفه لي-
العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
كاريكاتير
فعاليات
الملك سلمان يتوج الفائزين بجائزة الملك فيصل العالمية
10
الملك سلمان يتسلم جائزة خدمة اإلسالم من األمير خالد الفيصل
ّ توج خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز
وكان الملك سلمان فاز بجائزة خدمة اإلسالم لعنايته
الفائزين بجائزة الملك فيصل العالمية لعام 2017م ،في حفل
بخدمة الحرمين الشريفين وقاصديهما ،واهتمامه بالسيرة
فندق الفيصلية ،وحضره عدد كبير من األمراء والدبلوماسيين
وتنفيذه بدارة الملك عبدالعزيز ،وإنشائه لمجمع الملك
عقد في الرابع من إبريل الماضي بقاعة األمير سلطان الكبرى في
والمفكرين والعلماء واإلعالميين .وفي الحفل ألقى األمير خالد
الفيصل أمير منطقة مكة المكرمة الرئيس التنفيذي لمؤسسة
الملك فيصل الخيرية رئيس هيئة الجائزة كلمة قال فيها:
بجشع اإلنسان يضطرب ،وكبار بالصغار تحترب ،ونذير «عالمٌ ِ ش ٍّر بالبرية يقترب ،وقيم استبدلت بقيم ،ليست فيها من القيم شمم ،وأسماء ليس فيها من علم ،ومملكة تشع نورًا وحكمة، وتطرح نهجً ا جديدً ا ورؤية ،وتكرم العلم والعلماء قدوة ،نبني
النبوية ،ودعمه لمشروع األطلس التاريخي للسيرة النبوية
عبدالعزيز للمكتبات الوقفية بالمدينة المنورة لحفظ التراث
العربي واإلسالمي ،وسعيه الدائم لجمع كلمة العرب والمسلمين لمواجهة الظروف الصعبة التي تم ّر بها األمتان
العربية واإلسالمية ،ومن ذلك إنشاؤه التحالف اإلسالمي
العسكري لمحاربة اإلرهاب واستضافة مقره بالرياض ،ومواقفه
العربية واإلسالمية عبر عقود من الزمن تجاه قضية فلسطين ُّ وترؤسه المتمثلة في الدعم السياسي والمعنوي واإلغاثي،
على قواعد المجد صرحً ا ،ونعالج على جسد العروبة جرحً ا،
وإشرافه المباشر على عدد من اللجان الشعبية والجمعيات
لعابث العقول ،وإذا احتار الغير ابتكرنا الحلول ،فال مكان بيننا ٍ
العربية واإلسالمية ،وإنشاؤه مركز الملك سلمان لإلغاثة
والسالم ،وجائزة فيصل اإلمام ،والسالم».
العربية واإلسالمية المحتاجة.
ونرسم على تجهُّم المسلمين فرحً ا ،إذا ادلهَمَّ الليل أشعلنا
أو جهول ،قفوا معي وحيوا ملك خدمة اإلسالم ،وعلماء الفكر
العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
الخيرية إلغاثة المنكوبين والمحتاجين في العديد من الدول واألعمال اإلنسانية ودعمه بسخاء ليقدم العون للشعوب
الملك سلمان مع الفائزين بجائزة الملك فيصل العالمية لعام 2017م
والفائزون الذين كرمهم الملك سلمان هم الدكتور
رضوان السيد (لبنان) عن فرع الدراسات اإلسالمية ،لجمعه
في أبحاثه ودراساته بين االطالع المدقق الواسع على التراث العربي اإلسالمي الفقهي والسياسي ،وبين اإلحاطة بمنهجيات
البحث الحديثة ،وامتياز بحوثه األكاديمية بمنهجية علمية دقيقة ،ومواءمته المتميزة بين األصول الفكرية السياسية
11
اإلسالمية وبين الواقع العربي اإلسالمي ،وتعدد الدراسات
التي قدمها في الفكر السياسي عند المسلمين لتشمل موضوعات الحكم والسلطة والدولة والمجتمع واألمة وعالقتها بالواقع اإلسالمي التاريخي.
ومجمع اللغة العربية األردني عن فرع اللغة العربية
واألدب ،تقدي ًرا لجهوده العلمية المتميزة في ترجمة العلوم والتقنية ،ونقل المصطلحات العلمية ،ووضعها في السياق
العربي ،وإدخال التعريب في التعليم الجامعي في الوطن العربي سعيًا إلى توطين العلم والتقنية ،وهي غاية تسعى
إليها المؤسسات العلمية في الوطن العربي ،وإلسناد هذا
العمل إلى مترجمين ،جمعوا بين العلم في التخصص الدقيق ،والمعرفة العميقة باللغتين العربية واإلنجليزية، فكان عملهم عملاً مؤسسيًّا هُ ِّي َئت له أسباب النجاح.
المجال التجريبي لعلم دوران اإللكترونات ،وقد تضمنت
أعماله اكتشاف طرائق مبتكرة لحقن الشحنات المستقطبة ِّ الموصالت ،مع إمكانية استخدام بواسطة الدوران في أشباه
وسائل تخزين ممغنطة ،ومعالجة حاالت الدوران .وقد نجح البروفيسور مولينكامب تجريبيًّا في تأكيد نظرية تأثير دوران هال الكوانتي؛ مما يعزز مجال العوازل الكوانتية، ّ ويمثل شكلاً جديدً ا من أشكال المادة الكوانتية .والبروفيسور
والدكتور تاداميتسو كيشيموتو (اليابان) عن فرع الطب،
دانيال لوس عن فرع الفيزياء ،لكونه من أهم رواد النظرية
وناجع ألمراض المناعة الذاتية ،وعمله المتواصل على
النقاط الكوانتية وتطبيقاتها الممكنة في الكمبيوترات الكمية،
عن دوره الرائد في اكتشاف وتطوير عالج بيولوجي جديد مدى أكثر من ثالثين عامً ا ،مكنته من اكتشاف إنترلوكين٦ (منظم االلتهابات والمناعة) ومستقبالته ومساراته ،كما
حدد الوظيفة الفسيولوجية ألنترلوكين ،٦ودوره في أمراض االلتهابات المناعية الذاتية .والبروفيسور لورينس مولينكامب
(بولندا) عن فرع الفيزياء ،لكونه ساهم بدرجة كبيرة في
الخاصة بديناميكية دوران اإللكترونات وتماسك الدوران في ومهّدت أعماله للعديد من التجارب المهمة .كما ساهم البروفيسور لوس في نظرية الكمبيوتر الكوانتي باستخدام
دوران اإللكترونات في النقاط الكوانتية كأرقام ثنائية كوانتية،
مما فتح المجال نحو تطوير حواسيب قوية من حيث سرعتها وقدرتها على تخزين المعلومات.
فعاليات
رضوان السيد :عقدنة هائلة في التفكير بالدولة اإلسالمية أوضح الدكتور رضوان السيد أن فكرة كتابة تاريخ مفهومي للفكر
السياسي اإلسالمي في أزمنته الكالسيكية تبلورت لديه بين العامين
1977و 1979م ،إضافة إلى فكرة التوسع في استكشاف مصادر جديدة للفكر السياسي اإلسالمي .وقال في محاضرة نظمها المركز بمناسبة
فوزه بجائزة الملك فيصل العالمية في الثالث من إبريل الماضي :إن الفكرة السائدة هي أن المسلمين لم يكتبوا في السياسة أو في التفكير
بالدولة إال أقل القليل ،وعزا ذلك إلى أن العرب ليس لديهم مواريث عريقة للدولة ،أو ألن السلطوية الشاملة في الخالفة والسلطنة ال تسمح بالتفكير في دولة المؤسسات ،مشي ًرا إلى الفكر الموروث عن اإلغريق والتقاليد الملكية الموروثة عن األكاسرة.
وصنف السيد مدارس واتجاهات الفكر السياسي اإلسالمي في
خ��م��س م������دارس :م���درس���ة ن��ص��ائ��ح ال��م��ل��وك وم���راي���ا األم�������راء ،وم��درس��ة �����س����� َي�����ر وال�����خ�����راج ال����ف����ق����ه����اء ،وم������درس������ة ال����ف��ل�اس����ف����ة ،وم������درس������ة ُك������ َّت������اب ال ِّ
واألموال واإلدارة ،ومدرسة المتكلمين .وقال :إن نشر ك ُتب نصائح
ُوج����������� َه ب����ان����ت����ق����ادات وال�����ق�����ول ب���أن���ه���ا ت���ش���ج���ع االس�����ت�����ب�����داد وت��ب��ن��ي ال����م����ل����وك و ِ ث����ق����اف����ت����ه ،م���ض���ي ً���ف���ا ف�����ي س����ي����اق ح����دي����ث����ه ع�����ن ال����ع����ق����ب����ات ق������ائ���ًل��اً « :ال���ع���ق���ب���ة
12
األخرى هي ظهور عقدنة هائلة في التفكير بالدولة ،وصارت الدولة المسماة إس�لام��ي��ة رك�� ًن��ا م��ن أرك���ان ال��دي��ن؛ ألن الشريعة ال تطبق إال م���ن خ�لال��ه��ا ،وي���واج���ه ه����ذه ال��ع��ق��دن��ة رأي ل��م��ث��ق��ف��ي��ن ع����رب ومسلمين ي���������رون أن ال�������م�������وروث اإلس���ل��ام������ي ك����ل����ه ص�������ار ع����ب���� ًئ����ا وع����ق����ب����ة ع����ل����ى ال����ع����رب
وال��م��س��ل��م��ي��ن ف���ي ح��اض��ره��م وم��س��ت��ق��ب��ل��ه��م ،وي��ن��ب��غ��ي تفكيكه وإزاح���ت���ه ل���ي���ت���م���ك���ن ال������ع������رب وال����م����س����ل����م����ون م������ن اع�����ت�����ن�����اق ال������ح������داث������ة» ،وف��������ي خ���ت���ام المحاضرة التي شهدت حضورًا ً كثيفا من مهتمين وباحثين ،تحدَّث المفكر رض����وان ال��س��ي��د ع��ن إن��ت��اج��ه ال��ف��ك��ري ع��ل��ى م���دار األرب��ع��ي��ن سنة الماضية ،وذك��ر أن لديه ثمانية وعشرين كتابًا بين َّ مؤلف ومترجَ م
وم����ح َّ����ق����ق ،أم�����ا ع����ن م���ش���اري���ع���ه ال��م��ق��ب��ل��ة ف���ك���ش���ف أن ل����دي����ه م��ش��روع��ي��ن ك���ب���ي���ري���ن ،أح���ده���م���ا ق���دي���م وه�����و ال���ك���ت���اب���ة ع����ن أه�����ل ال���س���ن���ة وال���ج���م���اع���ة،
واآلخر حديث وهو الكتابة في التقليد اإلسالمي ظهورًا واستتبابًا.
معركة الموصل وما بعدها
ّ ً ّ المتخصصين محاضرة بعنوان« :معركة الموصل وما بعدها» ،حضرها عدد كبير من نظم المركز مطلع مارس الماضي
في الشؤون السياسية والخبراء واألكاديميين وسفراء الدول األجنبية والشخصيات العامة.
ّ وأكد الدكتور فالح عبدالجبار -مدير مركز دراسات عراقية -في المحاضرة أن معركة الموصل بين السنة والشيعة
كانت معركة وجود اقتصادي وسياسي وعسكري؛ ألن الموصل بها تنوّع كبير ما بين عرب وأكراد وسنة وشيعة وقطاعات مسيحية ،وأن الواليات المتحدة األميركية ّ تأخرت شهرين بعد سقوط الموصل ،وهي غير موجودة اآلن على األرض ،وأن
وجودها يقتصر على الجو فقط ،مشيرًا إلى وجود ثالثة مشروعات في الموصل :األول للعبادي ،والثاني للحشد الشعبي، والثالث لألكرادّ . وقدم عبدالجبار شرحً ا للموقف السياسي واالجتماعي في العراق ،قائلاً « :هناك في العراق حاليًّا سبعة جيوش وثالث دول ،والقوى المجتمعية والسياسية تف ّتتت ،والدولة انهارت اقتصاديًّا ،وتدهورت األحوال بصورة كبيرة
بعد معركة الموصل ،وهناك استقطاب شيعي سني واسع تقف وراءه الواليات المتحدة األميركية وإيران .والهوية الوطنية انهارات في العراق في الوقت الحالي بعد أن ّ ً سنوات ،كان فيها السني يصوّت للشيعي في االنتخابات البرلمانية موجودة ظلت ٍ أيام الملكية ،والعكس ،وما يجري اآلن هو نزع للهوية من السياسة ،وإن كان يتمّ ببطء» .وأشاد الدكتور عبدالجبار بزيارة وزير الخارجية السعودي عادل الجبير األخيرة إلى العراقِّ ، ً وحيدا في هذا الوقت ،ولفت إلى مؤك ًدا ضرورة عدم ترك العراق ّ للحد من سيطرة إيران وهيمنتها على العراق. أن واشنطن تدعم الجيش في وجه الحشد الشعبي
ومن جهته ،أوضح الدكتور بيتر هارلينغ -مدير مركز -SYNAPSأن الواليات المتحدة األميركية تعتمد على الحشد ً ّ التسلح في العراق ،مب ِّي ًنا أن واشنطن ال سباقا نحو الشعبي في بعض المهام ،وأن االعتماد على قوات غير نظامية أوجد
العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
ِ المستعمر في دول المغرب الكركي يدعو للتصدي لعودة لغة أكد رئيس مجمع اللغة العربية األردني الدكتور خالد الكركي
أن غاية المجمع هي الحفاظ على العربية والنهوض بها ،وإحياء
التراث العربي اإلسالمي ،وتشجيع التأليف والنشر والترجمة في اللغة العربية وقضاياها ،إضافة إلى عقد المؤتمرات اللغوية داخل
األردن أو خارجه ،ونشر المصطلحات الجديدة وتعميمها .وقال
في ندوة نظمها المركز بمناسبة فوز مجمع اللغة العربية األردني بجائزة الملك فيصل العالمية في الخامس من إبريل الماضي:
إن المجمع لجأ من أجل تحقيق أهدافه إلى الحصول على الدعم السياسي في سَ نِّ قانون حماية اللغة العربية الذي أُصدِ ر عام
ً واصفا سَ نَّ القانون بأنه تحول كبير؛ إذ أعطى المزيد 2015م، من الصالحيات والنفوذ للمجمع .وعن تفاصيل القانون ذكر:
«تلتزم الوزارات والمؤسسات والمنظمات والشركات باستخدام اللغة العربية في الوثائق والعقود واالتفاقيات وغيرها ،وتسمية
الشوارع واألحياء والجادَّات بأسماء عربية ،والتزام المعلمين بالتدريس بالعربية ،وأن العربية هي لغة البحث العلمي ،ووضع
معاجم للعلوم الحديثة واآلداب وغيرها من المعارف بالعربية لمواكبة التحديثات في المصطلحات العلمية والطبية» .وعن
مشاريع المجمع المقبلة أوضح الكركي أنه منذ تشكيل اللجنة الوطنية للنهوض بالعربية قبل خمس سنوات «عملنا على أمرين، ً مضيفا أن أن نعرف المشكلة وندركها ،ثم العمل على عالجها»
من المشاريع المقبلة« ،دراسة صورة العربية في اإلعالم األردني المنطوق والمسموع وفي وسائل التواصل الجديدة ،إضافة
إلى دراسة حول وضع العربية في الجامعات األردنية» .وفي المداخالت قال :إن حال اللغة العربية لم يكن منفصلاً عن حال
األمة في وقت من األوقات ،مطالبًا بوقوف المجمعات المختلفة
للغة العربية «وقفة جادة حيال ما يحدث في دول المغرب العربي؛ إذ تصعد لغات محلية ،وتصعد ً أيضا أصوات مطالبة بالعودة للغة المستعمِ ر».
ّ ّ يتمثل في :زيادة وحذر هارلينغ من أن الخطر بعد معركة الموصل تساعد الجيش العراقي بأكمله ،بل تساعد جزءً ا منه. نفوذ الحشد ونسبته النص َر إلى نفسه على خالف الحقيقة ،والعنف بين السنة والشيعة واألكراد ،مشيرًا إلى أن المتطوعين
في الحشد يبحثون اآلن عن مكاسب سياسية ،ووصف الحشد بأنه يمأل الفراغ االجتماعي في الموصل ،وأن الحكومة
المركزية يشوبها الفساد والبيروقراطية.
13
فعاليات
الصين و«التعاون الخليجي» في سبيل عالقة إستراتيجية
14
عقد المركز ندوة حول العالقات الصينية والخليجية
واحد» بهدف السماح لمنشآتها وشركاتها العامة والخاصة
المركز األمير تركي الفيصل واألمين العام لمجلس التعاون
والشرق األوسط .وقال :إن الصين عرضت على دول الخليج
في الخامس من إبريل الماضي ،حضرها رئيس مجلس إدارة
الخليجي عبداللطيف الزياني وعدد كبير من الباحثين والمهتمين ،وشارك فيها باحثون من الصين والسعودية.
وأوضح البروفيسور جيسيه وانغ من جامعة بكين أن
العالقات السعودية الصينية تطورت كثي ًرا منذ زيارة الرئيس الصيني للمملكة قبل عام ،إضافة إلى زيارة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز األخيرة للصين،
باالستثمار والعمل في 65دولة في آسيا الوسطى وأوربا المشاركة واالستثمار في هذا المشروع الضخم الذي «سيقدم الكثير من الخدمات للعالم» .أما البروفيسور تيم نيلبوك من
جامعة إكستر فتحدث عن الفرص والقيود في العالقات الصينية السعودية الخليجية قائلاً :إنه بإمكان الشركات
الصينية االستفادة من موقع المملكة اإلستراتيجي على منصات للتصنيع، طريق الحرير البحري ،من خالل تأسيس ٍ
مشي ًرا إلى أن العالقات الصينية والخليجية حققت تطورًا ً أيضا« ،وصعدت مع صعود الصين كقوة اقتصادية ،إذ
الساحل الغربي ،على أن تنطلق منها إلى أسواق الشرق
بالدرجة األولى» .وحول تقاطع المصالح والعالقات
شريك تجاري للصين في منطقة غرب آسيا وشمال إفريقيا،
يتركز الكثير من قوة هذه العالقات على المستوى االقتصادي
الخليجية الصينية مع الواليات المتحدة األميركية قال وانغ:
إن الواليات المتحدة «تحاول احتواء الصعود الصيني لكنها ً مضيفا أن مصالح دول لم تنجح وهي تحاول إبطاءه اآلن»،
الخليج األولى والرئيسية مع الصين «هي مصالح اقتصادية أكثر منها سياسية ،ولهذا فال تقاطع مض ّر في عالقتها
وتحالفها التاريخي مع الواليات المتحدة».
والخدمات اللوجستية ،واألبحاث والتطوير ،وال سيَّما على
األوسط وشمال إفريقيا وأوربا .وقال :إن المملكة «تعدّ أكبر نتيجة للتبادل التجاري بينهما» .وعن القيود في العالقات
السعودية الصينية والخليجية أشار إلى أن المواقف ً ّ عائقا إذ تتعارض السياسة الصينية مع «تمثل السياسية
الخليجية في قضايا كبرى ،وربما هذا الموقف السياسي ّ مثل ً عائقا وعقبة أمام تطور التبادل التجاري بين البلدان الستة وجمهورية الصين الشعبية».
وتطرق البروفيسور في جامعة بكين بينغبينغ وو إلى
وتحدث تينغ يي وانغ الباحث غير المقيم بمركز الملك
في عام 2013م تحت اسم مبادرة «حزام واحد ..طريق
في العالقات الدولية بجامعة تسينغهوا عن أحد األسباب
طريق الحرير الجديد ،وهو المشروع الذي أعلنته بالده
العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية وطالب الدكتوراه
ً عائقا أمام تطور العالقات الصينية السعودية، التي عدَّ ها
الجانبين ،من أجل اإلسهام «بشكل أكبر في بناء جسور من
تمحورت حول القادة ووزراء الخارجية ،في حين انعدم بشكل شبه كامل التواصل على مستوى الشعوب ،الف ًتا إلى أن مئة طالب سعودي يدرسون في الصين ،في مقابل َ ألف ْي
األخير أوجز محمد السديري الباحث غير المقيم بالمركز والثقافي بين البلدين .وأشار إلى ازدياد واضح في عدد بعثة
استفهام كبيرة ،داعيًا إلى ارتفاع نسبة الطلبة الدارسين في
األعوام األخيرة.
رغم المصالح االقتصادية المشتركة .وقال :إن العالقات
طالب صيني يدرسون في المملكة ،ما عدَّ ه الباحث عالمة
الثقة والفهم الشامل لثقافتي البلدين» .وفي محور الندوة وطالب الدكتوراه في جامعة هونغ كونغ ،التاريخ الحضاري
الحج الصينية إلى األراضي المقدسة في المملكة خالل
مستقبل العالقات الدولية في باكو شارك األمير تركي الفيصل في فعاليات
منتدى باكو اإلنساني الدولي ،الذي أقيم
بالعاصمة األذربيجانية باكو في 16مارس
الماضي تحت رعاية الرئيس األذربيجاني إلهام علييف ،وبحضور عدد من رؤساء الدول والوزراء وكبار الشخصيات السياسية ّ وممثلي واالقتصادية والفكرية الدولية
المنظمات الدولية واإلقليمية واإلنسانية.
وتمثلت مشاركة الفيصل في ندوة
«مستقبل
العالقات
الدولية:
اجتماع
الرؤساء» إلى جانب :ريموند فيونيس رئيس
التفيا ،وجورجي إيفانوف رئيس مقدونيا ،وبوجار نيشاني رئيس ألبانيا ،وفيليب فويانوفيتش رئيس الجبل األسود ،وغيورغي مارغفيالشفيلي رئيس جورجيا ،وأدار الندوة خورخي كيروغا الرئيس البوليفي األسبق .وناقش المنتدى في أعمال دورته
السنوية الخامسة على مدار يومين عددًا من القضايا التي تهمّ اإلنسان في مختلف دول العالم ،وتط ّرق إلى تعزيز وتعميق
ثقافة التسامح بين الشعوب والثقافات والحضارات .ويعدّ منتدى باكو اإلنساني الدولي من أبرز الملتقيات التي تناقش قضايا التعاون اإلنساني ،وكيفية مواجهة التحديات العالمية التي تتعرض لها البشرية.
15
مقال
ماجد الحجيالن رئيس التحرير
اإلنسان الرقمي وحقيقة (التواصل االجتماعي)
16
تذهب بعض الدراسات إلى أن انطالقة مواقع اإلعالم االجتماعي قد بدأت في منتصف التسعينيات الميالدية مع االنطالقة الحقيقية لإلنترنت نفسها ،لكن األهم هو تاريخ ظهور مواقعها الكبرى على مستوى العالم ،ويمكن تقريبه إلى عام 2005م حيث انطلق ماي سبيس وفيسبوك وتبعهما عشرات المواقع األخرى ،أي أن قرابة عقد مضى على االنطالقة الحقيقية لهذه الوسيلة اإلعالمية التي غيرت مفاهيم اإلعالم واالتصالّ ، وأثرت بشكل مباشر في حياة البشر ،غير أن ثورتها الحقيقية يمكن تأريخها بدخول تطبيقاتها في الهواتف الذكية ،لتغدو شريكة اإلنسان في جيبه ووقته وقلبه. وكما يردد خبراء اإلعالم التقليدي في مسعاهم لتحجيم أثرها الهائل؛ فإن هذه تظل مدة زمنية قصيرة نسبيًّا لتقييم أثر مواقع التواصل االجتماعي ،وما أحدثته من ثورة في المفاهيم االتصالية ،وما يتجاوز أبعاد االتصال بمفاهيمه المدرسية ،ومع ذلك يستطيع القارئ اليوم مطالعة عشرات الدراسات التي تحذر من أثر اإلدمان ً ً دقيقا ألثرها توصيفا على هذه المواقع صحيًّا ،وسيجد في العمود الفقري وعلى الرقبة وعلى أوتار اليد والرسغ واألصابع ،هناك ً أيضا تحذيرات اجتماعية ونفسية من ميل مدمني اإلنترنت إلى االنعزال واالكتئاب وانعدام السلوك االجتماعي الواقعي ،وإذا ما تجاوزت هذه اآلثار الفردية؛ فهناك دراسات أمنية تتناول دور وسائل التواصل االجتماعي في إحداث القالقل واالضطرابات السياسية عبر تيسيرها تنظيم الحشود وتوجيه الدعوات للتظاهر ،كما ال يخفى دورها المهم في الثورات الشعبية وخذ تجارب أوكرانيا وتونس ومصر وسواها من أحداث. غير أن الدراسات ال تلبث أن تتناقض ،وفيما يطمئن معهد ألماني إلى أن مستخدمي هذه الوسائل اإلعالمية الجديدة قادرون على فرز الصحيح من المكذوب؛ تنشغل الواليات المتحدة وأوربا هذه األيام بما يسمى األخبار المزيفة التي أحدث شيوعها تأثي ًرا ً بالغا في نتائج االنتخابات ،وتبحث فيسبوك في وسائل تنقية األخبار وتنبيه المستخدمين إلى مدى موثوقيتها ،وذلك تجنبًا للدخول في العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
دوامات من المحاكمات والقضايا القانونية بسبب تضرر األفراد والشركات من األخبار المضللة ،ويجري تحقيق غربي جاد حول توظيف االستخبارات الروسية لعبة اإلشاعات واألخبار الكاذبة، ونشرها على نطاق واسع في توقيت حاسم للتأثير في االنتخابات واالستفتاءات كما في خسارة هيالري كلينتون ،وانفصال بريطانيا عن االتحاد األوربي. وبينما تنبه دراسة أميركية إلى أن السلطة قد تستفيد من اإلعالم االجتماعي أكثر من الشعوب ،تذهب بعض الحكومات إلى تصنيف هذه المواقع ضمن محاولة غربية أميركية للسيطرة على العالم ،وتعميم ثقافة واحدة تخدم مصالحها ،كما تستخدمها في التجسس ومعرفة الخبايا واألسرار ،وتنفيذ الخطط والمشاريع المناهضة للحكومات المعادية ،ويأتي شاهد التجربة الصينية في مقاومة هذه المواقع وحجبها داخل الحدود ليمثل محاولة يائسة للوقوف في وجه سيل العولمة االجتماعية الجارف ما أجبر الصين على تحييد خطرها باختراع نسخ محلية من هذه المؤسسات األميركية ،فأوجدت (بايدو) بديلاً لغوغل و(ويبو) بديلاً لتويتر، وبنسبة نجاح أفضل في التجارة االفتراضية أنشأت (علي بابا) لتقاوم إيباي وأمازون. ومن المحسوم أن التنافس الدولي في هذه التقنيات الجديدة يكاد ينحصر في الدول المتقدمة تكنولوجيًّا ،وبالتالي تتمكن وحدها من فرض ثقافتها ومصالحها ،وتطور قدرتها في استخالص المعلومات وتحليلها ،وهذه المعلومات كما يبدو هي رغيف اليوم ،فمن يمتلكها ال يمتلك القرار االقتصادي فحسب إنما يمتلك المستقبل اإلستراتيجي ،وهي لعبة خرجت منها اليابان المتقدمة مثلاً ،وال تزال كوريا الجنوبية توجد فيها موطئ قدم عبر ذراعها الضخم سامسونغ الذي يعاند أبل األميركية وينافسها في بيتها في سان فرانسيسكو. أما محاوالت األمم األخرى فتبدو محدودة وخجولة ال تتجاوز تجربة تعريب التطبيقات والنطاقات؛ وال يبدو واقعها مثي ًرا للخيال ،وصار على مستخدم هذه الوسائل االختيار بين تطبيق «واتس آب» لتكون بياناته في عهدة مارك زوكربيرغ وبالتالي ( )CIAاألميركية ،أو يلجأ إلى تطبيق تيليغرام في عهدة بافل دوروف وبالتالي ( )FSBالروسية ،وهكذا يكتشف اإلنسان الرقمي أن معلوماته الشخصية هي مجرد أرقام هامشية في مستوعبات
ضخمة من البيانات التي يمكن استخدامها تجاريًّا أو سياسيًّا، لمصالح قد تعنيه أو ال تعنيه بشكل مباشر. وأغلب الظن أن دور هذه الوسائل في نقل األخبار وترويجها هو ما يهم كثيرين ،ومن هنا دخلت وسائل اإلعالم التقليدي بقوة لهذه الوسائط ،فوجدنا المؤسسات اإلخبارية الكبرى تراهن على حساباتها االجتماعية أكثر من رهانها التقليدي الذي اطمأنت له عقودًا ،ولعل دخول وسائل اإلعالم التقليدية في هذه الوسائل المستحدثة منحها عم ًرا جديدً ا وشكلاً ً رشيقا بحيث استعادت عبر حساباتها جمهورًا بدأت تفقده ،ونافست الوسائل االفتراضية الجديدة ،وهي تجربة ال تزال ً أيضا في مهدها ،وقد يصعب الحكم عليها اآلن. وعودًا على بدء تبدو الدراسات المهتمة باإلعالم االجتماعي واقعة تحت تأثير الصدمة الكبيرة النتشارها المذهل وآثارها ّ يخص تأثير الكم الضخم من المستجدة والمتعددة ،ومنها ما المعلومات واألخبار في الصحة النفسية ،فالطبيب النفسي غراهام ديفي المختص في دراسة القلق مشغول بأثر األخبار السيئة في حياة األفراد ،وتؤكد أبحاثه أن ردود األفعال على األخبار السلبية تنتقل من مجرد كونها انفعالاً مؤق ًتا إلى عامل مؤثر في قرارات الفرد الشخصية وحياته الخاصة. وإذا ما تأكد أن طبيعة األخبار التي تتلقاها صباحً ا تؤثر في مزاجك سائر يومك؛ صار لزامً ا أن يفحص إنسان التكنولوجيا الرقمية طبيعة خياراته وما يتشربه يوميًّا من أخبار ومعلومات وميديا ضخمة صباح مساء ،بوعي أو بغير وعي. فالغائب الحاضر في كل ما اطلعت عليه من دراسات إعالمية وصحية ونفسية حول اإلعالم االجتماعي والهواتف الذكية؛ هو مدى قدرة اإلنسان على استيعاب هذا الكم من المعلومات والبيانات التي تهيلها عليه التطبيقات المتنوعة والوسائط الرقمية المتعددة ،قدرته البيولوجية من حيث طبيعة ما يستوعبه ً ونوعا ،وقدرته السيكولوجية من حيث فرز الدماغ البشري كمًّ ا هذه البيانات والتعامل معها ،ثم مراقبة تداعياتها على صحته العقلية والنفسية معً ا ،وبالتالي أثرها في اتخاذه القرارات اليومية صغيرها وكبيرها ،وتعامله مع محيطه ،وهو ما يوفر مئات األسئلة واالحتماالت االجتماعية والتربوية والنفسية والثقافية وسوى ذلك. ال تجود الشركات الرقمية عليك بدليل نفسي للتعامل مع (سناب شات) أو كيف تنظم وقتك وأنت تتابع (فيسبوك) ،وليست (تويتر) بدورها مسؤولة عن اختياراتك ومواقفك مما تقرأ وانعكاساته على ثقافتك ومعلوماتك ،وجميع األدلة والدورات التدريبية والتعليمات داخل األجهزة والبرامج تركز بشكل مباشر على التقنيات ،فهي ليست معنية باآلليات النفسية للتعاطي مع اإلعالم االجتماعي الذي يفترض أنه وُجد للتواصل والتفاعل. وهكذا يكون اإلنسان الرقمي في عصر ديمقراطية آلية مباشرة ،مسؤولية الفرد فيها عما يتلقاه تتعاظم كل يوم ،وفي عالم منفتح على آفاق أوسع مما تربَّى عليه وعايشه واختبره في حياته السابقة ،ما عاد هناك رقباء وال مؤسسات تملي عليك ما يجب أن تعرف ،أو تحجب عنك معلومة ،أو تمنعك من نشر رأي
صار على مستخدم هذه الوسائل االختيار بين تطبيق «واتس آب» في عهدة مارك زوكربيرغ وبالتالي ( )CIAاألميركية ،أو تطبيق تيليغرام في عهدة بافل دوروف وبالتالي ( )FSBالروسية أو خبر .وهو أمر بقدر منافعه المذهلة ينطوي على احتماالت ال نهاية لها من الصدمات واألضرار. إن لعبة التسمية في مصطلح «التواصل االجتماعي» شديدة المخاتلة ،فهو تواصل قتل كل الفروق الزمنية والمكانية ،ومنح البشرية خيارات تجاوز ضعفها وقلة حيلتها وارتباط الجسد البشري بشروطه الحسية الضعيفة ومحدودية حركته ،ونقله إلى عالم افتراضي أوسع يجد فيه اآلخرين أرقامً ا وصورًا وأسماء ولوحة مفاتيح ،غير أنه بقي تواصلاً ً مفترضا ،ال أثر فيه لكامل الحواس والخصائص البشرية التي تختبرها مع اللقاء الحقيقي ،وهو ً أيضا اجتماعي غير أنه فردي جدًّ ا ،محفوظ بأرقام سرية ومحاط بعلب مربعة شديدة الخصوصية ،فرقاب الناس في األماكن العامة منحنية ،وظهورهم محدودبة على وسائطهم ،فأي عزلة أكثر من عزلة اإلنسان الرقمي؟ يعيش عقله في علبته الرقمية حتى لو كان في أكبر وسط اجتماعي. أما عن كمّ المعلومات والميديا التي تنبجس في هذا العصر عبر هذه التقنيات ،فيكفي مراقبة الحاجة الملحّ ة لتوسيع الذاكرة اإللكترونية لألجهزة ،فكلما حصلت على غيغابايت طلبت المزيد، وهكذا تتضخم البيانات حتى يلجأ اإلنسان الرقمي لحذفها أو تضخيم الذواكر في أجهزته ،لكنه ينسى ذاكرة ما زالت متشبعة وممتلئة وليس بوسعه مسحها أو اختيار ما يبقى فيها وما يحذف، واإلنسان الرقمي وحده مسؤول عن هذه الذاكرة وما قد تستتبعه من شروط لتنظيفها حتى ال تتعرض لالمتالء وااللتياث. هجاء هذه الوسائط الرقمية أو تركها والبعد منها أصبح انتحارًا اجتماعيًّا وثقافيًّا وإعالميًّا ،يريد اإلنسان الرقمي أن يكون شاهدً ا على عصره ،يحب أن يراقب التاريخ وهو يصنع ،واألحداث وهي تم ّر ،وأن يحكم عليها بنفسه بدون وسيط وال رقابة ،إنه يصنع روايته الخاصة لحياته وحياة اآلخرين ،وعنده من الدالئل العلمية والوثائق الرقمية ما يثبت صحة روايته ودقة تحليله ،إنها غريزته في حب المعرفة وحقه البشري في تكوين رأيه الخاص ونقل األخبار والتعليق عليها. لم يعد ترديد منافع اإلعالم االجتماعي بحاجة إلى إقناع أحد ،قلة من البشر تحاول مقاومتها بالكتابة ضدها ،وإصدار القوانين «الوطنية» واألنظمة الرقابية ،لكن اإلنسان الرقمي ال يجد وق ًتا حتى للرد عليها؛ ألنه مشغول طوال يومه بالتفاعل مع بياناته الخاصة في تطبيقه المفضل ،ولعله يتعامل مع هذه اآلراء والقرارات كما يتعامل مستخدمو وسائل اإلعالم االجتماعي مع أخبار كيم جونغ أون في باب الطرائف والغرائب.
17
الملف
ما وراء
النفط 18
العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
في عام 1938م استخرج أول برميل للنفط من بئر الدمام السعودية ،واليوم إذ يمر أكثر من ثمانية
عقود على هذا الحدث الذي غيّر منطقة الخليج؛ يبلغ النفط شيخوخته سعرًا وربما جدوى اقتصادية.. أما ثقافيًّا فيظل النفط معزولاً في آباره عن مجتمعات قطفت ثماره عقو ًدا. قيل في أدبيات عربية قديمة إن النفط كانت تطلى به اإلبل لعالج الجرب .ولعل هذه العالقة
السطحية مع النفط أكثر حميمية من عالقة العرب به اليوم .إذ كان العربي يعرف ملمسه ولونه
ويستخدمه عالجً ا ألغلى ما يملك وقتذاك ،فيما ال يعرف معظم أبناء اليوم عن النفط إال مداخيله وربما سعر برميله ..وحين يتحدث خبير نفطي عن لون النفط ورائحته قبل التكرير وبعده ،أو حين تعرض
أرامكو عيّنات من المستخرجات النفطية تجد دهشة الناس بلغت أقصاها .فال أحد تعرّف بنفسه إلى
البترول كمادة ال كمصدر مادي .
كنا قبل النفط وسنكون بعده ..هكذا يستشهد بعض أبناء الخليج عند السؤال عن العالقة مع
النفط ،فالنفط مجرد سائل أسود كريه الرائحة ،صدف أنه ظهر هنا ،كما صدف أنه ثمين ًّ جدا ،وعليه ً نخلة وال سنبلة ،ليس ً لؤلؤا وال تمرًا ،وهو ال يحتاج إلى اعتراف فالنفط لم ُيصنع ولم ُيزرع هنا ،هو ليس رومانتيكي بالذنب تجاهه ،بل األجدى أن يلتفت الدارسون إلى مدى اإلتقان في توظيف عائداته أو شعور ّ
االقتصادية ،ونجاح أو إخفاق خطط التنمية في اإلفادة القصوى من براميل الزيت. غير أن السؤال يبقى كيف ّأثر النفط في إنسان هذه البالد وكيف غيّره ثقافيًّا واجتماعيًّا؟ ولماذا صار
النفط لعنة في األدبيات الثورية العربية؟ رغم أنه ثروة طبيعية ال عالقة لها باأليديولوجيات ،ولماذا لم ينقل أبناء الخليج صدى النفط إلى األدب شعرًا وسر ًدا؟ ما الذي جعله محصورًا في بعده االقتصادي؟
لقد انحصر الكالم عن النفط في آباره ومصانع تكريره ،ولم يتحول إلى معنى ثقافي ،ولم يرمز إلى دوره الهائل في التحوالت التي شهدتها المنطقة ،أليس هو ً أيضا ِهب ًَة ربانية ومصدر رزق كما في الصيد والزراعة والتجارة؟ هل يمكن إنكار فضل عوائد البترول على دول الخليج وعلى دول عربية وإقليمية
أخرى؟ ألم يغيّر النفط وجه المنطقة وحياة إنسانها من شظف العيش إلى رخائه ،ومن الكتاتيب إلى
المؤسسات األكاديمية الكبرى؟ فما بالنا ال نسمعه في األغاني وال يتطرق له النشيد؟ لِمَ ال نطالع قصيدة تشير إلى بئر زيت؟ أو رواية تصوّر فضله على مدن الخليج وقراها؟ هل يستحق النفط كل هذا
الهجاء في الذاكرة العربية منذ الخمسينيات؟ هل دخل النفط ولو رمزيًّا في األمثال؟ في المرويات
الشعبية والقصص؟ في األساطير المحكية وسواها من أزياء وأطعمة وصناعات يدوية؟ هل غدا جزءً ا من حياة الناس االجتماعية والثقافية كما هو أساسها اقتصاد ًّيا؟
يكاد النفط اليوم يعلن تقاعده وسط تأرجح أسعاره واكتشاف بدائل متجددة للطاقة كل يوم ،فهل
آن أوان التأمل في حكاية الزيت العربي؟ تفتح الفيصل ملف النفط ثقافيًّا ُ وتسائل عد ًدا من كتاب وكاتبات الخليج عما وراء النفط.
19
الملف
ثمانية عقود من النفط في الخليج.. أين الثقافة؟ 20
العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
محمد بن غانم الرميحي
كاتب وأكاديمي كويتي
ً بسيطا ومباشرًا إال أن محتواه ومرماه السؤال الذي طرحته مجلة الفيصل ،وإن بدا في ظاهره عميق ومتشعب اإلجابات؛ هل ّأثر ظهور واستخراج وتسويق النفط في الثقافة بمعناها العام في
مجتمعات الخليج ،أم ال؟ ليس هناك إجابة يمكن لمتابع أن يعطيها بشكل قاطع ،نعم أو ال! هي في الحقيقة نعم وال في نفس الوقت! الموضوع يأخذنا أولاً إلى تعريف الثقافة ،رغم وجود عشرات
التعريفات للثقافة ،التعريف الجامع عندي هو مجموع (معرفة ومهارة وموقف إيجابي من الحياة)،
أما التعريف العملياتي فهو (اإلنتاج الثقافي) مثل :العمل الفني أو األدبي أو المسرحي أو غيره من المنتج ذي البعد الثقافي المتعارف عليه.
ماذا أعني بموقف إيجابي؟ كمثال قد يحصل شخص ما
مسرحي متميز، عىل معرفة ومهارة ،مثل طبيب حاذق ،أو ّ ً موقفا إيجابيًّا لكن إن افتقد هذا الطبيب أو ذاك املسرحي
من الحياة ،فهو (ناقص ثقافة!) -أي أن رفض الطبيب
عالج شخص بسبب انتمائه العرقي أو الديني أو غش يف عمله ،أو مسرحي قدم مسرحية ُتعيل أفكار التعصب، وتهزأ مثلاً من ذوي االحتياجات الخاصة ،ذلكم عندي
يفتقد العنصر الثالث واملهم يف الثقافة (املوقف اإليجابي)، حتى إن حاز العنصرين األولني! ما هو املوقف اإليجابي من
الحياة؟ هو أن يكون اإلنسان الفرد أو الجماعة لها عالقة
إيجابية باإلنسانية وما توصلت إليه من قيم كربى وعليا،
مثل :املساواة ،والعدل ،واحرتام اآلخر ،وإعالء التسامح،
وحل الصراعات من خالل آليات متوافق عليها ،أي تعظيم
الروح اإلنسانية بصرف النظر عن ديانتها أو مذهبها أو لونها ،واألمانة يف العمل وقيمه ،والسعي لرتقية املجتمع واحرتام املرأة ،والصدق يف أداء العمل ،إىل آخره من القيم
اإليجابية.
21
الملف
واحد ،ظهر واستفيد منه عىل شكل حقب مختلفة ،ربما
السؤال املركزي
والسعودية ،والكويت) والستينيات يف أبوظبي ُ وعمان.
يف السؤال الذي طرحته مجلة الفيصل يذهب يف
إال أن اإلشكالية املطروحة أمامنا أن الكثري من العناصر
الثقايف بتنوعه ،لكن الثقافة هي أوسع من النشاط
الخريات) يف الظهور ،حتى لو امتلكت النفط ،النمط الجديد
تقديري إىل الجزء (العمليايت) يف الثقافة وهو اإلنتاج
إىل الفكرة واملوقف ،بل إن الثقافة يف نظري هي ُسلطة تستطيع أن تمنع وأن تمنح؛ تمنع التطرف مثلاً ،وقد تمنح التطرف ،هي قد تمنع فهم اآلخر ،وقد تمنح
اآلخر الفهم السليم ،هي ُسلطة قد ال تكون ظاهرة،
لكنها مؤثرة يف األفراد واملجتمعات.
الثقافية يف كل تلك املجتمعات استمر تأثريها (أي شكل إنتاج
من اإلنتاج (النفط) لم يُساهم فيه املجتمع بشكل واسع، الشركات األجنبية اعتمدت عىل ُعمال أجانب فنيني وشبه
فنيني ،وتركت األعمال البسيطة للمواطنني لفرتة طويلة، حتى الدولة الخليجية كان دخلها من النفط متواضعً ا بنسبة أقل من دخل الشركات املنتجة ،ولم ُتعدَّ ل تلك املعادلة
إذا حسمنا الجزء األول من اإلشكالية ،فلدينا
إال يف سبعينيات القرن املايض نسبيًّا .فليس هناك قطيعة
واجتماعيًّا سلبًا أو إيجابًا؟ هنا نجد أنفسنا أمام إشكالية
قد تأثر بشكل أكرب بالثقافة العربية التي أنتجتها العواصم
الجزء الثاين منها ،وهو :هل انعكس النفط (استخراجً ا ً وتسويقا ودخلاً ) عىل مجتمعات الخليج ثقافيًّا تحليلية بالغة التعقيد ،عادة الثقافة بمعناها الشامل لها عالقة بكيفية إنتاج املجتمع لخرياته ،فمثلاً يف بعض
دول الخليج قبل النفط كانت تنتج الخريات (الدخل
املجتمعي) من العمل يف صناعة الغوص أو غريها من
22
تبدأ يف الثالثينيات من القرن املايض يف كل من (البحرين،
األعمال املنتجة ،فلذلك تكوّنت (ثقافة) مجتمعية مبنية أساسً ا عىل تلك الطريقة إلنتاج الخريات ،مثلاً : توزيع الرثوة ،والعالقات الرتاتبية يف املجتمع ،والزواج،
بني ثقافة ما قبل النفط وما بعد النفط ،مع االعرتاف بأن ً أنماطا ثقافية تبناها املجتمع الخليجي -النفطي ،لكونه هناك
العربية التي امتلكت الهيمنة الناعمة عىل الثقافة العربية بعد التحرر من االستعمار (منذ الثلث األول من القرن
العشرين) كالقاهرة ودمشق وبغداد ،كما تبنت مجتمعات ً ً أنماطا من الثقافة الغربية .ومن أجل حاجة الحقا الخليج
الدولة الجديدة للتنظيم ،كان ال بُدّ من اعتناق وتب ّني أنماط ثقافية مستجدة.
واالحتفاالت يف املناسبات ،والنظر إىل املرأة ،وطريقة
البناء ونوع األكل ،معظمها قائم عىل طريقة إنتاج الخريات يف ذلك املجتمع ،سواء يف املجتمع الزراعي ً وأيضا رعي األغنام والعيش يف املحدود أو ركوب البحر،
البادية والغوص الستخراج اللؤلؤ .كان لذلك املجتمع الذي عاش بني الغلظة يف الصحراء والليونة يف الساحل التجاري أو مواجهة أهوال البحر غري املتوقعة ،ذلك
املجتمع كان له ثقافة ما مرتبطة بأنشطته االقتصادية وطريقة حياته .فال يوجد مجتمع من دون ثقافة،
االختالف يف نوع ودرجة وشكل تلك الثقافة.
ماذا حدث للثقافة بعد ظهور النفط؟
هناك وجهات نظر متعددة يف التاريخ لظهور
النفط ،بعضهم يأخذه إىل ثمانية عقود ،وبعضهم
يتحدث عن العقود الخمسة الذهبية للنفط يف دول
الخليج ،األول يؤرخ لبدء إنتاج النفط ،والثاين يبدأ
من نقطة االستفادة العامة لهذه املادة يف املجتمع ،ثمّ هُ ناك حقيقة أُخرى أن النفط لم يظهر أو حتى يستفاد منه بشكل جماعي يف منطقة الخليج كلها يف وقت
العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
قديما صيد اللؤلؤ مهنة غواصي الخليج ً
حماية فمن املتطوعني) فظهرت طبقة متوسطة واسعة،
موضوع الثقافة لم ُيلتفَ ت إليه كما ينبغي
علينا هنا أن نلحظ أن الرثاء النسبي لدول الخليج قد أثار
صلب خطط الدولة الخليجية ،وأال ُيعامل
أكرث غنى نسبيًّا وأكرث تطورًا بشكل عام .هنا لعبت الثقافة
من خالل أهميته وجدارته بأن يوضع في
حفيظة مجتمعات قريبة عربية ،كانت حتى وقت قريب
كأنه ( شكل زائد) من الكماليات
دورًا مزدوجً ا (بمعناها العمليايت والعام) فقد ساهم
ً إذا لدينا مشهد يف (العقود الثمانية أو الخمسة
املاضية) هو كالتايل :انحسار تدريجي لكن سريع يف إنتاج الخريات التقليدية (املتواضعة) يف الخليج ،ومن ثمّ تدفق
الدخل النفطي واالعتماد عىل (ما تقوم به الدولة من خدمات وفرص عمل) وهي املالكة ملصادر الرثوة الجديدة،
ويف الوقت نفسه تصاعد تدريجي لدخل الدولة من النفط الذي ّ مكنها من أن تكون (ربة العمل) -بشكل شبه كامل- لليد العاملة .يف الحال األخرية ،قامت الدولة من الناحية الثقافية بافتتاح املدارس الحديثة (لكن ليس من دون مقاومة من العناصر الثقافية السابقة) كالقبول التدريجي
بتعليم األبناء ومقاومة تعليم الفتيات ،عىل سبيل
املثال .كما قامت الدولة الخليجية بإنشاء الجامعات وأيضا بتقديم الخدمات ُ ً األخرى كالعالج وتوسيع جماعة
كثري من العرب بوضع اللبنات األوىل لألعمال الثقافية (مدارس ،وصحف ،ومجالت) وبعد ذلك محطات تلفاز
إىل آخره ،وكانت مساهماتهم إيجابية ،وبخاصة يف (س ْندرُم) التدريس ،لكن يف الوقت نفسه ظهر لدى بعض ِ سلبي ،يقول يف الغالب :إن هذه املجتمعات الخليجية
هي مجتمعات (بدوية) ال تستحق تلك الرثوة ،بل تتصرف
فيها بشكل سلبي!
الثقافة والنفط ،فجوات ثقافية غري ُمجسرة
يف املرحلة االنتقالية بني االقتصاد القديم واالقتصاد
الحديث ،واجهت الدولة الخليجية الحديثة مجموعة
تقاطعات بني الحاجات املطلوبة للدولة الحديثة ،وبني
املحافظة عىل املوروث ومطالب التحديث النابعة من
الضبط (الشرطة والجيش) ،وتوسع القطاع التجاري
القوى الجديدة يف املجتمع (الطبقة الوسطى) ووجدت الدولة الخليجية أمامها ُثالثية صعبة ليس من السهل
القديم (كان هناك حرس أسواق ،وإن احتاجت الدولة إىل
الثقايف األصيل.
(الخاص) وهي مؤسسات لم تكن موجودة يف نظام اإلنتاج
التعاون معها .ولم تنتبه بشكل مُ بكر ألهمية التمهيد
23
الملف
مشروع (نفطي) في الكويت موجه لتعزيز الثقافة النفطية لدى األجيال عن البترول
ويف تقديري ،من جهة أُخرى ،لم تنتبه ال ُّنخب
يف الخليج حتى وقت مُ تأخر ،وبشكل جدي ألهمية
به الغد ،وهو جزء من التفكري الثقايف املرتبط بأسلوب إنتاج
الخليج ،وكونها قاطرة للتنمية والتطور .وقد أطلق
اضطهدت يف بالدها ألسباب صراعية -سياسية ،ووجدت ً مالذا للعمل يف دول الخليج التي كانت تطمح إىل تقديم
الثقافة بمعناها العام والعمليايت يف تطوير مجتمعات النفط يف الخليج قوى متعارضة ،فقد ظهرت وعىل
األخص توسعت النخب بمعناها الحديث يف هذه
املجتمعات ،أي طبقة وسطى واسعة من موظفي الدولة يف القطاعات املختلفة ومن الطبقة التجارية.
كما أطلق النفط توترات اجتماعية؛ بسبب طبيعته
24
بأن (القائم دائم) ،وبأن مشكالت اليوم سوف يحلها ما يأيت
(إنتاج الخريات خارج جهد النخب) أدى إىل وجود األمر
ونقيضه يف املجتمع ،مثل وجود (تعليم املرأة والسماح بعملها وعزلها يف الوقت نفسه!) ووجود مطبوعات جديدة وبالغة الرثاء مع (رقابة نظامية أو مجتمعية صارمة) يف اإلطار الثقايف ،فكثري من املشروعات
الثقافية التي ظهرت يف الخليج ،لم تكن مؤطرة ومؤسسية وهادفة إىل تكوين ثقافة عامة للمجتمع
تساعد عىل التوجه إىل أهداف تنموية واضحة وإىل تنظيم الشعور الثقايف املجتمعي .األسباب كثرية لهذه الظواهر ،أحدها أسعار النفط ،التي تنخفض وترتفع، أعطت الدولة شكلاً من األمان النسبي ،وربما الخادع
الخريات السابق! ساعد عىل ذلك جماعات سياسية عربية،
خدمات ،وبخاصة تعليمية لشعوبها ،فاستولت تلك الجماعات عىل مراكز نافذة يف التعليم ،خلطتها بأفكارها
التي اعتقدت أنها مقبولة للمجتمع التقليدي (يف الخليج)، وهي أفكار (تراثية) مطعمة بتصورات وطموحات سياسية! زامن ذلك اندالع صراع أيديولوجي يف املنطقة ،جزء منه
الصراع الدويل (الحرب الباردة) ،وجزء منه صراع اجتماعي
محيل يف اإلقليم املحيط بالخليج.
وبسبب تقلص فرص التعبري النسبي يف بالد كانت
قائدة لألعمال الثقافية العربية ،مثل :بغداد والقاهرة ودمشق ،ظهرت مبادرات يف دول الخليج عىل قاعدة (خدمة الثقافة العربية) فنشأت مثلاً «مجلة العربي» يف الكويت 1958م ،التي ذاع صيتها لعقود من الزمن ،كما ظهرت سالسل كتب مثل (عالم املعرفة 1977م) كما صدرت
مجالت يف كل من اململكة العربية السعودية ،ولحقت بعد ذلك قطر بإصدار «مجلة الدوحة» ،ثمّ باحتضان مؤسسات
العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
بحثية عربية أصبحت مرموقة ،ولحقتها دولة اإلمارات
وسعاد الصباح يف الكويت ،أو مؤسسة عبداملقصود
من مجلة (ناشيونال جيوغرافيك) الذائعة الصيت ،كما
مؤسسات ثقافية رائدة ،كما فعل األمري خالد الفيصل
العربية املتحدة ،فأصدرت عىل سبيل املثال النسخة العربية ساهمت ُعمان بإصدار مطبوعات لها قيمة ثقافية عالية. وظهرت وتطورت مؤسسات بحثية ،أما داخل الجامعات
الخليجية التي تكاثرت تدريجيًّا لتصبح اليوم أكرث من ستني
جامعة (حكومية وأهلية) عدا املؤسسات التعليمية ما دون الجامعة (كليات) أو مؤسسات بحثية خارج الجامعات،
مستقلة أو تابعة إلحدى اإلدارات أو الوزارات .بل أنشأ القطاع الخاص يف الخليج مؤسسات ثقافية مرموقة
مثل :مؤسسة التقدم العلمي يف الكويت 1977م (مؤسسة يمولها القطاع الخاص) ومثل :مؤسسة العويس واملاجد
يف اإلمارات يف تسعينيات القرن املايض ،ومؤسسة البابطني
هناك قطيعة بين ثقافة ما قبل النفط وما أنماطا بعد النفط ،مع االعتراف بأن هناك ً ثقافية تبناها المجتمع الخليجي -النفطي، لكونه تأثر بالثقافة العربية التي أنتجتها عواصم امتلكت الهيمنة الناعمة
خوجة يف مدينة جدة ،بل أصبح رجال من الخليج يرعون يف التفكري وإنشاء املؤسسة املرموقة عربيًّا (مؤسسة الفكر العربي) وغري ذلك الكثري ،وبخاصة يف ظهور النوادي األدبية
املختلفة ،كل ذلك التطور الكمي شكل تراكمً ا معرفيًّا يُعزز نوعيًّا اإلنتاج الثقايف العربي.
ولكن ذلك «الكمي» سرعان ما سوف يصبح نوعيًّا،
بمعنى تشكيل منصة (خليجية) لإلبداع الثقايف أرى أن
تباشريها قد ظهرت يف مجاالت مثل :الرواية ،والعمارة، واإلدارة ،والفنون املختلفة .ونرى كتابًا قد صدر مؤخ ًرا بعنوان« :هيمنة ناعمة :صعود وتراجع القوة الناعمة
املصرية» ألحمد محمد أبو زيد( ،دار عني للنشر2015 ،م) يقول صفحة « :159بأن النصف األول من القرن الحادي
والعشرين ستكون الكلمة العليا يف تحديد مسار ومستقبل املنطقة العربية يف أيدي دول مجلس التعاون» هذا النص الطويل الذي اقتطفت منه كلمة موجزة ،لم أرغب أن أكتبه
أنا ،بل من متابع عربي من غري أبناء املنطقة ،وهو شهادة إىل صعود القوة الناعمة الخليجية من خالل العمل الثقايف والعلمي واملؤسيس.
اإلشكالية مع اآلخر تنظر بعض النخب العربية إىل مجتمعات الخليج نظرة سلبية ثقافيًّا ،نابعة إما من عدم معرفة أو دوافع ربما تكون ً سابقا ،وربما ألسباب سياسية ،تلك النظرة السلبية تقوم عىل فكرة غري علمية وهي (تفوُّقنا نفسية ،ذكرت بعضها ُّ وتخلف اآلخر) وأن هذه املجتمعات ال تواريخ حقيقية لها قبل ظهور النفط ،كانت قبله متخلفة ال تملك أدىن مقومات الحضارة؛ ألن الحضارة تنشأ عىل حد قول الكاتب محمد حسنني هيكل يف (األخضر وليس ال
الزراعية ومناطق الصحراء ،تلك األفكار بجانب أنها غري علمية تتصف باملبالغة وربما التحيز أو التشفي ،ألسباب مختلفة، وإن كان يل أن أضع نسبة من اللوم فإنه يُقاسم بالتساوي ،بني النظرة السلبية من بعض النخب العربية ،وبني تقاعس ً جهدا من أجل العمل والتفكري يف منظومة فقهية تساير العصر ،أو إيمان راسخ من جانبنا يف الخليج ،فنحن لم نبذل بأهمية الثقافة ومؤسساتها ،بل إن بعض النخب العربية تدعي أن (التخلف الفكري) املتمثل يف (مالبس وأشكال ظاهرية
للرجال والنساء) هو ( فقه الصحراء)! هذا األمر لم نلتفت إليه بشكل جدي ،كنا يف الغالب يف مكان االعتذار أو التربير، وليس يف مكان التفكري اإليجابي إلعادة النظر يف تخليص الفكر الفقهي مما اعرتاه من مفاهيم ميتافيزيقية ،وإعادة النظر
يف املنظومة التعليمية من أجل تخليصها من الشوائب السلبية التي تبدو كأنها مناقضة لواقع العصر.
ال شك عندي شخصيًّا يف أن الثقافة بمعناها العام والعمليايت هي قائدة التطور ،وأن ما نعانيه اليوم من أزمات
ّ جلها أساسه ثقايف ،كما ال أشك يف أن (موضوع الثقافة) لم يلتفت إليه كما ينبغي من خالل أهميته وجدارته بأن يوضع يف صلب خطط الدولة الخليجية ،وألاّ يُعامل كأنه (شكل زائد) من الكماليات ،أول ما يصل إليه (سيف التخفيض) يصل
إىل مؤسساته وأنشطته ،الثقافة سالح عرفته الشعوب جميعً ا ،وقد قال جالل الدين الرومي :أعطني قلمً ا أستطيع به وحده أن أواجه به السيوف والرماح! كناية عن أهمية العلم والثقافة يف تطور الشعوب ورقيّها.
25
الملف
26
يعيش مثل حالة سرية فينا العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
فوزية أبو خالد
شاعرة وكاتبة سعودية
«مدن الملح» خماسية الروائي عبدالرحمن منيف قدمت رؤيتها الروائية لمرحلة معينة من التاريخ االجتماعي والسياسي واالقتصادي بتفاعالتها المتعددة األبعاد .وصدف أن كان النفط بطل التحوالت لذلك التاريخ .هذه مالحظة ليست عابرة وأعرف أن موضوع السؤال ليس «مدن الملح» لكن كان ال بد من ذكر المالحظة لألمانة التاريخية واألدبية والثقافية ..وهذا يشكل مدخلاً مناسبًا لمحاولة اإلجابة عن صميم السؤال ،وأن نتذكر أن تلك الرواية صدرت خارج المملكة ومنطقة الخليج عمومً ا على الرغم من أنها أدخلت صلب الحياة االقتصادية ،النفط وانعكاساته على السرد الروائي .ولعل سؤال :لماذا صدرت تلك الرواية خارج المنطقة التي كتبت عنها؟ ولماذا كان الكاتب يعيش في باريس ً بعضا من إجابة السؤال. حين كتبها؟ يقدم تماسه فقد كان الخوض يف موضوع النفط وطبيعة ّ
مع الحياة االجتماعية والسياسية أحد التابوهات أو املمنوعات ..وكأن النفط يف العمل الثقايف ولو كان سردًا
روائيًّا «حشيشة» أو «قات» .ولذلك عىل سبيل املثال حفلت
أعمال عبدالعزيز املشري بسرية تحوالت القرى ،وبخاصة يف الجنوب السعودي من دون أن تنطق بكلمة نفط رغم أن
تلك التحوالت التي تحدث عنها املشري كانت حبىل بتلك
27
الكلمة .ويمكن أن يقال اليشء نفسه عن العمل الروايئ
لسعد الدوسري «الرياض -نوفمرب .»90فذلك العمل الفذ تناول مرحلة حاسمة لحرب (دولية) قامت بمنطقة الخليج
ولم تكن تلك الحرب لتحدث بذلك الزخم الدويل وتدخل ً رئيسا يف الحرب لوال بطولة النفط طرفا قوة عظمى كأمريكا ً املطلقة عىل املسرح السيايس واالقتصادي يف املشهد الدويل والخليجي ...ومع ذلك لم تلمس كلمة نفط ملمس اليد
يف الرواية وإن كنت كقارئ ال تنتهي من قراءة تلك الروية إال وأنفاسك تتقطع من رائحة النفط ومحروقاته العنيفة
والناعمة معً ا .
بل إن النفط عاش كالحالة السرية فينا رغم تأثريه
التفكييك والرتكيبي معً ا يف منطقة الخليج وناسها وبناء دولها الريعية .فحتى الكتابات التحليلية املكتوبة بأقالم
محاولتي إنزال النفط منزلة علنية في التحليل االجتماعي باءت بالفشل عندما رفضت جامعة تقدمت لها المرة تلو المرة، بمقترح مفصل منهج ًّيا لتدريس مقرر باسم أدبيات النفط الخليجي وآخر باسم التأثير السوسيوسياسي والثقافي للنفط ً شرفا لندّ عيه النفط ليس تهمة لندفعها ،وليس
سعودية وخليجية يف هذا املجال قليلة ككتابات محمد الرميحي األولية والبعيدة يف محاولة تناول النفط تناولاً
ونحرص عليه إال بالقدر والكيفية التي يؤثر بها فينا ونتفاعل
النفط منزلة علنية يف التحليل االجتماعي باءت بالفشل
إلجابة موضوعية عن أسباب الجفوة يف العالقة التفاعلية
سوسيولوجيًّا سياسيًّا .ويل تجربة شخصية يف محاولة إنزال
عندما رفضت جامعة تقدمت لها املرة تلو املرة ،بمقرتح مفصل منهجيًّا لتدريس مقرر باسم أدبيات النفط الخليجي
وآخر باسم التأثري السوسيوسيايس والثقايف للنفط ..من
دون جدوى .
معه بها ...ولو فحصنا هذه الكيفية ميدانيًّا فربما نصل ذهنيًّا مع النفط ،ويف البعد من تحويلها إىل طاقة إبداعية
يف العمل األدبي والثقايف .أما النفط فأستعري كلمة الراحل امللك عبدالله( :الله يطول عمره) ...ريثما نبلغ يف العالقة به مرحلة الندية بدل االتكالية املطلقة.
الملف
النفط الذي أعطى والنفط الذي أخذ الثوابت والمتغيرات في المجتمع والدولة
28
العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
محمد اليحيائي
روائي وكاتب عماني
أود أن أركز مساهمتي المتواضعة في هذا الملف الذي يأتي في توقيت بالغ األهمية بالنسبة لعالقتنا ،نحن أبناء وسكان هذه المنطقة بالنفط ،والذي بدا وكأنه يلوّح لنا مو ِّد ًعا ،أركزها على الجزء األخير من محاور الملف :ما الذي أعطاه النفط للمنطقة ،وما الذي أخذه منها؟ اإلجابة أو اإلجابات عن هذا السؤال كثيرة ومتعددة ،بعضها بسيط ومباشر ،وبعضها عميق ومعقد ،ويشتبك مع علم االجتماع وعلم اإلنسان والسياسة .على المستوى البسيط والمباشر ،أعطى النفط هذه المنطقة الكثير، وأخذ منها الكثير .هذه المنطقة انتقلت بفضل العائدات المالية الهائلة من حالة معيشية واقتصادية إلى حالة أخرى جديدة ،غيّر في الجغرافيا والديموغرافيا ،في المجتمع والناس والدولة ،وحوَّل المستعمرين ،ومم ّر ألطماعهم ،إلى منطقة الخليج من هامش بعيد معزول ،ومن محطة لصراعات ِ ستعمرين والمُ ستعمَ رين ً مركز استقطاب مالي وتجاري ،وهذه المرة للمُ عمر األوربي معا ،فالمُ س َت ِ ِ َ السابق ،أصبح في حاالت كثيرة ،مُ ستخدمً ا (مُ س َتعمَ رًا بالمعنى المادي) لدى المُ س َتعمَ ر السابق في عواصم ومدن هذه المنطقة .وهذا تحول مهم في العالقة بين الطرفين أنتجه النفط. املدينة الخليجية كـ«دبي» مثلاً ،أصبحت ،بفضل الرثوة النفطية ً انطالقا من واملشاريع االقتصادية والتجارية األخرى التي تحققت
الوفرة املالية للنفط ،مدينة كوزموبوليتانية بكل ما يعنيه املصطلح من تنوع واختالط هويات ولغات وألوان (أقلها حضورًا هو الهوية
واللغة واللون املحيل) .هذا «االجتماع البشري» بلغة ابن خلدون، يف املدينة الخليجية الجديدة صاغ شكلاً جديدًا من أشكال التعايش التي لم تكن معروفة يف املنطقة قبل النفط؛ تعايش ِقيَم الكرم
ً وثالثا- أو املجتمعية .وثانيًا -يف أنماط السلوك وطبيعة العالقات. يف شكل وطبيعة الدولة «الخليجية» .فهل َّ تمكنت الرثوة النفطية الهائلة التي تدفقت عىل شعوب هذه املنطقة من تحقيق التغيري الجذري الذي يُمكن قراءته يف النصوص املُن َتجة من داخل هذه
املجتمعات ،التي تكون –هي ذاتها– جزءً ا من تلك التحوالت ونتيجة
لها .لإلجابة عن هذا السؤال ،نحتاج إىل قراءة سريعة (بما تسمح به املساحة املُتاحة لهذه املساهمة) لنقاط التحول أو التغريات الثالث املشار إليها أعاله :غري أنه من املناسب أولاً أن نأخذ يف االعتبار ثالثة
والوفادة التي ُعرف بها سكان الخليج مع النفعية ،واالنتهازية، والغرور ،والتدافع املادي الذي اك ُتسب ُ ُورس ،وال سيما وطوِّر ،وم ِ
أمور مهمة تتقاطع مع تلك النقاط الثالث :األول -يتعلق بشكل
خليجية هي« :دبي» و«أبو ظبي» و«الدوحة» ،جعلت منها محطات
وإنتاجه بكميات تجارية ،وكيف أثر فيها ،وكيف غيرّ ها ،أو كيف لم ِّ يؤثر ،ولم ُيغيرِّ ؟ الثاين -حجم اإلنتاج ،أو حجم الدخل املايل من
عىل مستوى مؤسسات الريع الرسمية والخاصة. عىل هذا املستوى ً أيضا ،جعلت الرثوة النفطية من ثالث مدن
الصيني عاملية كربي يف شبكة النقل الجوي العاملية ،حتى إن ّ والهنديّ لم يعد بمقدورهما السفر إىل أوربا أو الواليات املتحدة
األمريكية ،إال عرب التوقف يف واحدة من هذه املحطات الثالث عىل األغلب ،كما أن ليس بمقدور األمرييك أو األوربي السفر إىل الهند أو
الصني إال عرب التوقف يف واحدة من هذه املحطات العاملية الثالث. أما عىل املستوى اآلخر ،العميق واملعقد ،فإن البحث يف التغيريات
وطبيعة بنى الدولة واملجتمع التي كانت قائمة قبل اكتشاف النفط
النفط ،وأثر ذلك عىل هذه التحوالت. مفاعيل الرثوة النفطية
هذه الدول ال تتشابه ،ال يف األمر األول ،وال يف الثاين. فالبحرين ،عىل سبيل املثال ،التي ّ دشنت مرحلة اكتشاف النفط
ألول مرة يف هذه املنطقة عام 1932م تختلف يف بناها االجتماعية والسياسية ويف الخطاب الثقايف االجتماعي الذي كان قائمًا قبل
التي أحدثتها الطفرة النفطية عىل البنى االجتماعية والثقافية (بما فيها الكتابة واألدب) يتطلب تجاو ًزا للصور الظاهرة ،اللمّاعة،
النفط ،واستم ّر وتطوَّر ،عىل نحو من األنحاء ،بعد اكتشاف
األدب أو زاوية الكتابة عمومًا) للتحوالت االقتصادية واالجتماعية
البحرين بأكرث من ثالثني عامًا (بدأت إمارة أبو ظبي إنتاج النفط
واملدهشة واملُثرية لإلعجاب .وسيبدو من الصعب ،التأريخ (من زاوية
والسياسية التي شهدتها منطقة الخليج العربية نتيجة للوفرة املالية الكبرية وريع النفط ،ما لم ُتصبح تلك التحوالت منظومة قيم راسخة ،ينتج عنها تغيري جذري :أولاً -يف البنى والهياكل االجتماعية
النفط ،عن اإلمارات التي دخلت مرحلة إنتاج النفط وتصديره بعد بكميات تجارية منتصف الستينيات ،قبل قيام االتحاد) .كما أن
إنتاج البحرين كان وبقي متواضعً ا قياسً ا باإلمارات التي أصبحت
واحدًا من املنتجني الرئيسيني يف العالم .األمر ذاته ينطبق عىل
29
الملف «االجتماع البشري» بلغة ابن خلدون، في المدينة الخليجية الجديدة صاغ شكال
الدول األخرى ،بدرجات متفاوتة .وهذا ،بطبيعة الحال،
جديدا من أشكال التعايش التي لم تكن ً
قياس معياري مهمّ ملعرفة نتيجة مفاعيل الرثوة النفطية عىل مجتمعات هذه الدول ،وبالتايل عىل منظومة القيم
والعالقات وعىل شكل وطبيعة الدولة .األمر الثاين :التفريق
بني ما نعنيه بالتحوالت أو التغريات يف البنى والهياكل
االجتماعية ويف أنماط السلوك وطبيعة العالقات ،وبني املشروعات التنموية والعمرانية الهائلة التي غيرَّ ت وجه األرض يف هذه املنطقة من جهة ،وبني ثقافة االستهالك
التي دخلتها مجتمعات هذه املنطقة بصورة ال توجد ،بهذا الحجم واالنفالت حتى يف املجتمعات الغربية التي ص َّدرت هذه الثقافة .فحداثة وكوزموبوليتانية دبي (والدوحة بدرجة
أقل) ذات الواجهة املعوملة أمر ،وبناها الثقافية واالجتماعية ً وأحيانا تكون العالقة بني املسارين طردية؛ املحلية أمر آخر، توسُّ ع يف الكونكريت ،يقابله انغالق يف الثقافة.
عىل صعيد التبدالت التي أحدثتها الطفرة النفطية عىل
البنى والهياكل االجتماعية أو املجتمعية ،ال يمكن أن ننكر،
بأي حال ،أن تغيريات كبرية حصلت ،فقد تقلصت املساحات
30
التي كانت تمثل البوادي املجتمعية إىل مساحات حضرية –
مدينية ،تبدَّلت العالقات االجتماعية فيها من عالقات قائمة
عىل وشائج الدم والقرابة والعشرية إىل وشائج قائمة عىل املصلحة واملنفعة والجوار بمعناه اإلنساين .هنا ً أيضا ثمة تباينات واختالفات بني مجتمعات هذه املنطقة ،فاملجتمع
معروفة في المنطقة قبل النفط العماين مثلاً ليس كاملجتمع السعودي ،والقطري ليس كالبحريني، والكويتي ليس كاإلمارايت .مساحات الفضاءين الحضري والبدوي، قبل عصر النفط ،تختلف بني هذه الدول ،والبنى الثقافية التي ُتنتجها تلك الفضاءات ً أيضا تختلف ،قبل النفط وبعد النفط .املجال املديني واملجال الريفي يف هذه املجتمعات يختلفان ،قبل النفط وبعد النفط .هذه االختالفات يتوقف عليها رصدنا لتأثريات النفط
يف البنى والهياكل االجتماعية ،ففي حني أن القبيلة يف بلد كعُ مان –الذي أعرف تاريخه ومكوناته الثقافية واالجتماعية بصورة أفضل من معرفتي لتاريخ ومكونات الدول األخرى– تاريخيًّا هي مؤسسة
ذات تقاليد سياسية قديمة ومستمرة ،وتقوم شبكة العالقات فيما بني القبائل من جهة وفيما بينها وبني الدولة من جهة أخرى، ً وحديثا ،قبل النفط وبعد النفط ،عىل املنفعة والتحالفات قديمًا
السياسية ،فإن القبلية يف بلدان خليجية أخرى ،تحركت قديمًا ً حديثا ،قبل النفط وبعده ،ضمن دائرة األعراف البدوية وتتحرك
األصيلة وعصبياتها القارَّة .ويف حالة ُعمان كما يف حالة النماذج
األخرى ،لم يُحدِث النفط تغيريًا جوهريًّا يف هذه البني ،إال بقدر ما عمَّق عالقات املصلحة يف الحالة األوىل ،وخلط املدينية ب ِقيَم البداوة كما يف بعض الحاالت األخرى.
تغيري القيم الثقافية
وما يندرج عىل صعيد البنى والهياكل
االجتماعية ،يندرج عىل أنماط السلوك
وطبيعة العالقات بني األفراد ،فصورة الرفاهية االجتماعية التي أوجدتها الرثوة ً عميقا يف حياة الناس، النفطية ،وضربت
هي صورة ،يف مركباتها األعم ،استهالكية، وخارجية ،وعابرة ،ولم تتمكن الرثوة
النفطية بما أدخلته عىل مجتمعات هذه
املنطقة من أدوات ووسائط وتقنيات، من تغيري القيم الثقافية العميقة ،ولم تدفع باتجاه املزيد من االنفتاح تجاه اآلخر املختلف يف الجنس أو اللون أو العرق أو حتى العشرية والقبيلة ،إال ما كان قائمًا ومستق ًّرا
من انفتاح قبل النفط .ولعل أبرز دليل هو
العالقة بني الرجال والنساء ،والعالقة بني العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
األوركسترا السيمفونية السلطانية العمانية
«املواطن» و«الوافد» يف بعض هذه املجتمعات ،وهي عالقة مُر َّكبة
الخليجية ،فعىل الرغم من مؤسساتها البريوقراطية وأجهزتها
نرجسية املال .ولعل هذا يقود إىل سؤال حول نتائج التعليم
ووجود أعداد كبرية من املتعلمني ومن النخب الثقافية والسياسية
النفط ،ونحو خمسني عامًا عىل قيام الدولة الحديثة ،وعن آثاره
من الداخل وفلسفة الحكم فيها بقيت «قبلية» أو «عشائرية»،
رقي ووهْ م من مجموعة أوهام؛ وهْ م الذكورة ووهْ م التفوُّق ِ الع ّ
الحديث يف هذه املنطقة بعد نحو سبعني عامًا عىل اكتشاف
الثقافية يف األجيال الجديدة؟! غري أن هذا السؤال ليس مكانه هذه
املساهمة .أما عىل صعيد شكل وطبيعة الدولة «الخليجية» ،فإن
النفط أحدث تغيريات كبرية عىل صعيد شكل الدولة ،أبرزها قيام ما يُمكن وصفه بـ«الدولة الوطنية» القائمة عىل بنى ومؤسسات
الحديثة املختلفة واملتعددة ،وعالقاتها املفتوحة مع العالم،
واالقتصادية ،ومعالم العوملة التي أشرنا إليها ،فإن بنية الدولة أو «األوليغاركية» مغلقة ،إال بقدر ما تفرضه الضرورات من
انفتاح عىل الشعوب وإشراكهم يف بعض شؤون الدولة .حتى هذا
االنفتاح وتلك املشاركة تحكمهما مفاهيم النفعية و«الزبائنية» أكرث منها الشراكة الوطنية القائمة عىل مفهوم « الحق والواجب»
ُتدير شؤونها ،ويف مقدمة هذه الشؤون إدارة ريع النفط وتوزيعه،
الذي تعرفه دولة املواطنة .غري أن هذا االنغالق يف بنى الدولة ليس
النفطية ،وإدارة املجتمعات التي بدأت يف النمو والتوسع بسبب
النفطية من تفكيكها وكسر قواعدها وأطرها ،بل يمكن القول: إن النفط ساعد عىل ثباتها وتماسكها وإن َم َنحَ ها لبوسً ا حداثية.
ثم إدارة برامج التنمية التحتية التي لم يكن لها أن توجد لوال الرثوة البنى التحتية (املدن ،والطرق ،واملطارات ،واملوائن ،واملدارس، والجامعات ،واملستشفيات ،والجيش ،وأجهزة األمن ،...إلخ)،
وأخريًا إدارة العمالة الوافدة (بحسب تعداد عام 2016م ،يبلغ عدد ً مليونا ونصف املليون تقريبًا، سكان دول الخليج واحدًا وخمسني
سوى نتيجة لبنى ثقافية واجتماعية قديمة وقارَّة لم تتمكن الرثوة
غري أن السؤال الذي علينا طرحه ومناقشته يف قادم األيام
هو :هل سيكون بمقدور املجتمعات والدولة يف الخليج ،وقد مكنتها الرثوة النفطية من بناء كل هذه املؤسسات؟ هل سيكون
ً مليونا ومئتا ألف مواطن ،وخمسة وعشرون منهم ستة وعشرون ً مليونا ومئتا ألف أجنبي) أي أن نسبة غري املواطنني تصل إىل نصف
املجتمع واملؤسسات؟ وال سيما أن النفط لم يعد ،كما يبدو،
يف دولة اإلمارات.
الثقافة ،بمعنى اإلنتاج والتفاعل والتفكري ،ويف املجتمع بمعنى
ً مجتمعة ،وإىل %89.9يف قطر ،و%88.5 عدد السكان يف الدول
بمقدورها االنتقال من مؤسسات املجتمع والدولة إىل دولة
بمقدوره مواصلة العطاء ،عىل النحو الذي كان .سؤال يف
هذا العدد الهائل من العمالة األجنبية هو أحد نتائج الطفرة
االنفتاح واملشاركة واالشتغال بالشأن العام ،ويف السياسية
الجاليات» .عىل الوجه اآلخر ،فإن النفط لم يُحدِث تغيريات
واإلنتاج ،ال عالقات العطاء واملنفعة والتابعية .باختصار سؤال
النفطية ،ويتطلب ،بالضرورة ،أجهزة ومؤسسات لـ«إدارة مهمة عىل مستوى الثقافة السياسية أو فلسفة الحكم يف الدولة
بمعنى التفكري يف دولة قائمة عىل عالقات املواطنة والشراكة يف املستقبل ،بالنفط أو بدونه.
31
الملف
ليس ظاهرة خليجية حسن مدن كاتب بحريني
32
ً بعيدا من الكتابة اإلبداعية؟ لماذا لم يتحول النفط إلى حافز بعد ثمانية عقود لماذا بقي النفط للمتخيل وعنصر من عناصر التخييل؟ النفط ليس ظاهرة خليجية فحسب ،من زاوية أخرى غير إنتاجه وتصديره ،فهو في مفاعيل العوائد الناجمة عنه بات ظاهرة عربية ،من خالل ما بات يعرف في دراسات علمي االجتماع واالقتصاد بـ«الهجرة إلى النفط» ،حيث تعمل وتعيش جاليات عربية كبيرة ،هي عرضة ألوجه متناقضة من التأثيرات الناجمة عن ذلك ،فهي من جهة تشعر بشيء من الغبن وسوء المعاملة ،ومن جهة أخرى فإنها تتأثر بشكل كبير بنمط الحياة االستهالكي السائد في المجتمعات النفطية ،وبالقيم المحافظة التي َت ِسمُ هذه المجتمعات ،بالقياس للمجتمعات المنفتحة التي أتت منها العمالة العربية المهاجرة، ومن ثم تحملها ،أو تنقلها ،إلى مجتمعاتها األصلية ،في تأثير عكسي ،ال يمكن أن نعده إيجابيًّا.
العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
مهرجان البحرين السنوي للتراث
ً موضوعا ألعمال إبداعية ،ولكن ذلك يفرتض أن يشكل هذا لم يحدث كما تفضلت «الفيصل» يف سؤالها ،ما يتطلب بحثاً ً معمقا ،وبخاصة أن قضية النفط وتأثرياته نالت قدرًا كبريًا من البحث والتحليل من الزوايا االجتماعية واالقتصادية والسياسية.
وإذا كان النفط ليس ظاهرة خليجية فحسب ،فهو موجود
وبكميات كبرية يف بلدان عربية أخرى غري خليجية ،إال أنه يف الخليج بالذات يمتلك مكانة محورية ال يف بنية االقتصاد وحده،
إنما يف مجمل التحوالت االجتماعية ،ويف التكوين الثقايف والنفيس للبشر .عىل الصعيد الخليجي ،يمكنني القول ،كاجتهاد شخيص: جانب رئيس منه عىل األقل ،إىل حقيقة أن إن األمر يعود ،يف ٍ املدينة الخليجية الحديثة ،من حيث كونها نتاجً ا للحقبة النفطية ما زالت حتى اللحظة يف طور التشكل ،ولم تثبت عىل حال بعد،
فهي دائمة التغري والتحول ،ما يجعلها يف حالة من «السيولة»
وعدم الثبات ،وهو يعيق الرتاكم الضروري الذي يسمح بتشكل ذاكرة إبداعية ،وبخاصة عىل صعيد السرد ،الذي يتطلب بانوراما
واسعة يف الزمان واملكان؛ لذا نلحظ تعدد األعمال اإلبداعية التي تناولت املرحلة السابقة للنفط ،كونها مرحلة تاريخية منجزة جرى
تجاوزها ،وشكلت ذاكرتها املنجزة ،مقابل التهيب من االقرتاب من البيئة التي شكلها النفط.
المدينة الخليجية الحديثة ،من حيث نتاجا للحقبة النفطية دائمة التغير كونها ً والتحول ،ما يعيق التراكم الضروري الذي يسمح بتشكل ذاكرة إبداعية، وبخاصة على صعيد السرد ،الذي يتطلب بانوراما واسعة في الزمان والمكان ً وتسويقا واستهال ًكا ،وتفاصيل دقيقة عن اقتصاديات النفط،
وعن مكانة هذه السلعة اإلسرتاتيجية يف األسواق العاملية وصلة ذلك بالسياسة ،لقد أصبح خبريًا فيما يمكن تسميته مجا ًزا
«االقتصاد السيايس للنفط» .هذه املعرفة الواسعة التي عززتها جسدها يف «مدن امللح» ،التي بدأ فيها التجربة املتابعة الدؤوبة َّ ً عارفا بتقنيات النفط ،وباآلثار الحاسمة الناجمة عن اكتشافه عىل الحياة االجتماعية يف الجزيرة العربية وعىل نفسيات الناس فيها.
فقد أفلح «منيف» يف الخماسية يف تتبع التحوالت العميقة
التي حدثت يف البنية االجتماعية والقيمية يف منطقة الخليج بعد اكتشاف النفط وما جاء به من آثار متناقضة ،وال شك أن املقاربة اإلبداعية لهذه التحوالت هي األكرث رهافة يف اقرتابها من العالم
ً ونوعا ،لكن علينا تجربة عبدالرحمن منيف فريدة ،كمًّا
الروحي لإلنسان الذي يتمزق بني بيئة نفسية وثقافية راسخة
خماسيته «مدن امللح» ،لقد فعل ما يفعله الكتاب الكبار
يف ثناياها نقائض ال سبيل للخالص منها؛ ألنها خرقت مسارًا
مالحظة أن «منيف» لم يعش البيئة التي دارت فيها أحداث الناضجون املتمكنون من أدواتهم الفنية ،بأن اشتغل عىل مادته شغلاً ،ولم يشتغل عىل مادة متاحة منجزة عاشها .ويف األصل
التأثري يف وجدانه يجدها تتصدع أمامه ،وبني ثقافة جديدة تحمل مستق ًّرا كان يميش الهوينى ،فإذا بنا أمام انقالب عاصف أصابنا
بما يشبه الدوار.
فإن «منيف» درس اقتصاديات النفط ،وفيها نال درجة الدكتوراه،
يمكن أن تكون تجربة «منيف» ملهمة للمبدعني من أبناء هذه املنطقة ،ومن خارجها ً أيضا ،يف تتبع أوجاع اإلنسان الحائر
تفاصيل دقيقة عن الصناعة النفطية كاملة :استخراجً ا وتكري ًرا
يف طريقها نحو التمام.
وعمل كخبري يف هذا التخصص ،يف سوريا والعراق ،ويف بغداد رأس تحرير مجلة «النفط والتنمية» .هذا األمر أتاح له معرفة
ماض اقتلع منه قس ًرا وحداثة مشوَّهة غري مكتملة ،وليست بني ٍ
33
الملف
دور البترول في حياتنا عثمان الخويطر
34
نائب رئيس أرامكو سابقً ا
لنتصور حياتنا اليوم لو لم نكتشف البترول في بالدنا ،فهناك بلدان كثيرة ال يوجد تحت أرضها برميل واحد من البترول .هذه المادة السحرية التي غيرت مجرى التاريخ وهيَّأت لثورة عصر العلم والتكنولوجيا ،كمصدر للطاقة وكمادة أساسية ألنواع متعددة من الصناعات الحديثة .فلو لم يكن في بالدنا هذا الكم الهائل من البترول ،لما شاهدت شوارع مدننا ُ وقرانا تتحول في الليل المظلم إلى نهار ،تتألأل في جوانبها أنوار الكهرباء المتولدة من طاقة الغاز والبترول ،ولما وُجدت لدينا أحدث أنواع المركبات وشيِّدت العمائر واألبراج ،وشقت الطرق الواسعة بطول البالد وعرضها، تمخر الهضاب وتشق الجبال ،فأصبحت كالشرايين تنقل الحياة من عضو إلى آخر .ولوال المجهود ً الحقا دخل البترول ،لما شهدنا على أرضنا والتوجيه المبكر من الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه ،ثم اليوم عشرات الجامعات ومئات المعاهد وآالف المدارس ،إلى جانب البعثات الخارجية المتواصلة.
العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
الملك عبدالعزيز يفتح صمام التدفق في محطة التحكم في رأس تنورة ،مايو 1939م
ماذا عن السياحة والسفر والرحالت املوسمية التي
مليون نسمة .ولو ظلت حالنا عىل ما كانت عليه من دون
نكتشف البرتول؟ كانت حياتنا قبل اكتشاف البرتول،
عليه قبل سبعني عامً ا .وهذا يقودنا إىل السؤال التايل :ما
وقودها املال؟ هل سيكون يف مقدورنا فعل ذلك لو لم ومحدثكم ممن عاصروا ذلك الزمن ،شحًّ ا شديدً ا يف املعيشة ،وأرضنا خالية تمامً ا من املدارس الحديثة واملرافق
الصحية .نعيش عىل ما نزرع ونحصد بأنفسنا وبمجهودنا املحدود .لم نكن نعرف املركبات األرضية ،دعك عن
الطائرات .وكان عدد سكان اململكة آنذاك ال يزيد كثريًا عن
برتول ما صار سكان اململكة اليوم أكرث من ضعف ما كانت
مصرينا بعد انتهاء عصر البرتول إذا استمرت أحوالنا كما هي اليوم ،حيث نعتمد كليًّا عىل دخل البرتول وعىل عمالة أجنبية تعمل من أجل راحتنا ورفاهيتنا ونحن يف ُسبات
عميق غري مدركني أن املصدر القابل للنضوب سوف ينضب ويرتكنا نعود إىل ما كنا عليه قبل اكتشافه.
35
الملف
خاص ،كانوا يشاهدون جبال الظهران عن بعد ويخمنون أنها ترسو فوق قبة من مكامن البرتول .وفعلاً صدق
قصة فريدة
حدسهم ،لكن بعد جهد واستنباط علمي فريد .انتقلوا إىل
والكتشاف البرتول يف السعودية قصة فريدة،
الظهران وبدؤوا يف الحفر عام 1935م ،بعد أن اكتمل وصول
يسرية منها .فقد أدرك مؤسس هذه البالد ،امللك
لكن ليست بكميات تجارية .فانتقلوا إىل البرئ الثانية ووجدوا
ال بدَّ ألوالدنا وألجيال املستقبل أن يعرفوا ولو نبذة عبدالعزيز ،بما جُ بل عليه من الذكاء الفطري مبك ًرا
معدات الحفر .حفروا البرئ األوىل ،وصادفوا آثارًا للبرتول،
النتيجة نفسها .ومع ذلك فقد كانوا عازمني عىل مواصلة
الطريق حتى يتأكدوا من النتائج النهائية .وعيون جاللة
أنه ال بد من البحث عن مصادر طبيعية -أي نوع منها- تكون معي ًنا عىل العيش والبقاء فوق أرض الصحراء.
امللك العبقري ترقبهم من بعيد .انتقلوا إىل موقع البرئ
وجود ثروة هائلة مدفونة منذ مئات املاليني من السنني
تكن النتائج بأفضل من املحاولة األوىل .وهنا بدأت الشركة
وأي فكر هذا الذي قاده ،وهو ابن البادية ،إىل تحري
تحت هذه األرض الطيبة؟ وبسبب الحاجة امللحّ ة وحرصه عىل ضمان مستقبل واعد لشعبه وأمته ،لم
يأنف من دعوة أناس غرباء عن املجتمع وعن البيئة من أجل البحث عن املادة السحرية التي أطلقوا
عليها «البرتول» ،لعلها تكون موجودة تحت أرضنا.
الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة حتى السابعة .ولم
األمريكية صاحبة عقد االمتياز« ،سوكال» ،وكان مقرها يف ً امتعاضا مشوبًا والية كاليفورنيا بالواليات املتحدة ،تظهر بالحذر .وقررت وقف مزيد من عمليات الحفر .ولم يطرأ
عىل بالهم آنذاك االنتقال إىل موقع آخر خارج منطقة
وعقد مع الجانب األجنبي اتفاقية متوازنة بمقاييس ذلك الوقت ،حصلوا بموجبها عىل حق االستكشاف
واالستثمار يف حال وجود البرتول بكميات تجارية.
36
كان ذلك عام 1933م .بدأ البحث يف الصحراء ،بعد أن
تكامل وصول املعدات األولية .وقد كان للجيولوجيني الذين كان بعضهم يعمل يف البحرين املجاور ،رأي
عاما على الرغم من مرور أكثر من ثمانين ً على اكتشاف البترول في بالدنا وكوننا نعتمد كل ًّيا على دخله ،فإن الثقافة البترولية؛ االقتصادية واالجتماعية واألدبية تكاد تكون ال شيء ُيذكر
عمال سعوديون يمددون خط سكك حديد قطار الدمام-الرياض في عام 1950م
العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
خميس بن رمثان يساعد البعثة الجيولوجية بالمملكة
الظهران ،ربما لعدم توافر اإلمكانيات املالية واللوجيستية
واحد مدُّ وا خط أنابيب من منطقة اإلنتاج يف الظهران إىل
فكانت الربقيات تتواىل من مقر الشركة إىل الظهران حول
رأس تنورة من أكرب موائن تصدير البرتول يف العالم .وبعد أن
وخشية الدخول يف مخاطرة مكلفة غري مضمونة النتائج.
خطة االنسحاب من اململكة .ومن جميل الصدف أن يكون أحد جيولوجيي الشركة البارزين يف زيارة خاطفة إىل الرياض
ملهمة خاصة .والحظ ،بثاقب ذهنه ومهارته الجيولوجية طبيعة التكوينات الصخرية التي كانت ظاهرة عىل سطح
رأس تنورة من أجل التصدير .ومنذ ذلك الوقت أصبحت اطمأنت الشركة األمريكية لوجود البرتول يف أرضنا ،جيَّشت إمكانياتها الستكشاف حقول جديدة يف مناطق االمتياز .ولم ْ اكتشفت حقل بقيق وأبو حدرية والسفانية يخب ظنها ،فقد
ومناطق الغوار ،وبقية الحقول األخرى.
تكوَّن البرتول من مواد نباتية وبقايا حيوانات برية
األرض هناك .وقارنها بما شاهد من مكونات الطبقات التي كان يخرتقها الحفر يف آبار الظهران ويجري فحصها أولاً
وبحرية طمرتها السيول واألنهار منذ ما يقرب من ست
أن من األفضل تعميق إحدى اآلبار إىل أعمق من املستوى
صخور رسوبية تحت أعماق يراوح معظمها بني خمسة
بأول .وربط بعبقريته وخربته بني تلك الصخور ،واستنتج الذي كانوا يتوقفون عنده إلنهاء عملية الحفر ،وطلب من الشركة األم منحهم الفرصة األخرية لتعميق الحفر،
مئة مليون سنة ،وحولتها إىل سوائل وغازات بني طبقات آالف إىل عشرة آالف قدم .وخالل ماليني السنني األوىل من
عمرها ،هاجرت أغلبية السوائل والغازات من مكان تكوينها إىل مناطق أخرى مجاورة ً بحثا عن مكامن أو مصايد كانت
ووافقت الشركة .وبما أن جهاز الحفر كان وقتها راسيًا عىل برئ رقم سبعة ،فقد صار التعميق األول من نصيبها .وفعلاً
قادرة عىل الحفاظ عليها من الهروب واالنتشار فوق سطح
قدم .وأرسلوا تباشري االكتشاف إىل إدارة الشركة يف الواليات
تكون طبقات صخور املكامن عىل شكل قبب بفعل عوامل
تدفق البرتول بكميات تجارية بعد إضافة عمق يقارب 1000
األرض ،ومن ثم ضياعها عرب السنني من دون فائدة .وعادة جيولوجية سابقة وسقوفها من نوع الصخور غري املنفذة
املتحدة وإىل الحكومة السعودية .وعادوا إىل بقية اآلبار من البرئ ُ األوىل إىل السادسة ،وعمقوها ليجدوا النتيجة اإليجابية
أو الصماء بحيث تمنع تسرب السوائل والغازات إىل أعىل.
وجوده يف جبل الظهران .كان ذلك عام 1938م .وخالل عام
األرضية انبعاث مواد هيدروكربونية وجدت طريقها إىل أعىل
نفسها .وأطلقوا عىل الحقل اسم «الدمام» ،عىل الرغم من
وقد شاهد البشر عىل مر الزمن يف أماكن معينة من الكرة
37
الملف
الحال مع البرتول السائل ،بل عن طريق تجميع املكونات
ويصعب استغاللها اقتصاديًّا .وتبدأ عملية استكشاف حقول البرتول بإجراء ما يسمى املسح الزلزايل .وهي
الصخرية والرملية ونقلها إىل أفران ذات حرارة عالية لفصل املواد البرتولية ونقلها إىل موائن التصدير أو معامل التكرير. الثقافة البرتولية ال تذكر
عملية بسيطة لكن نتائجها مهمة جدًّ ا .وهي عبارة
عن ضربات قوية ومنتظمة فوق سطح األرض تسبب موجات صوتية متوالية تصل إىل أعماق بعيدة ويرتد
أجزاء منها إىل السطح نتيجة الصطدامها بأنواع
مختلفة من طبقات الصخور .يلتقطون ارتداد املوجات الصوتية بواسطة أجهزة ذات حساسية عالية تسجل
زمن وصول ارتداد املوجات بأجزاء صغرية من الثانية. ومنها يحسبون عمق وأشكال الطبقات الصخرية.
ويستنبطون إن كان من بينها تكوينات صخرية محدبة أو عىل شكل قبب من املمكن أن تكون مكامن برتول.
لكن الذي يحدد وجود البرتول بعد كل ذلك املجهود
هو حفر بضع آبار يف وسط وجوانب التكوين املقصود.
فال بد من الوصول إىل طبقات املكامن ملعرفة وجود البرتول أو الغاز من عدمه .ومعظم مصادر البرتول
السائل نجدها تحت األرض داخل مسام ميكروسكوبية
38
يف قلب الصخور الرسوبية .وهناك أنواع أخرى من البرتول عىل الهيئة الصلبة ومعظمها فوق أو قريب من سطح األرض ،مختلط مع الصخور والرمل بنسب مختلفة .ويُن َتج ليس عن طريق حفر آبار كما هي
وعىل الرغم من مرور أكرث من ثمانني عامً ا عىل اكتشاف
البرتول يف بالدنا وكوننا نعتمد كليًّا عىل دخله ،فإن الثقافة
البرتولية؛ االقتصادية واالجتماعية واألدبية تكاد تكون ال يشء يُذ َكر .فنحن نعرف الكثري عن كرة القدم وعن السياحة
خارج البالد .ويتحدث أفراد املجتمع بعمق عن املطاعم وأنواع
األكالت .ويتغنى الشعراء بالطبيعة والصحراء الخالبة وباإلبل والخيول ،ونقدس النخلة ونعدّ ها رم ًزا لشعارنا الوطني .لكن ال أحد يتحدث بإبداع عن البرتول ومشتقاته،
وهو األكرث أهمية يف حياتنا املعاصرة .سمّ وه الذهب األسود وهو يف الواقع أغىل من الذهب .يحرقونه من أجل أن يسيرِّ
مركباتهم ،األرضية والبحرية والجوية ،ويولد لهم الطاقة الكهربائية ،وينشرونه فوق أسطح الطرق ليسهِّل سري
عرباتهم .وتغافلوا أو تناسوا أنه أثمن من أن تهدر طاقته
داخل مركبات ال تحمل إال نسبة قليلة من حمولتها القصوى. ونخىش أن يأيت اليوم الذي نسمع فيه من يلومنا عىل هدره
وإحراقه .وال ننىس أن املواد الهيدروكربونية مصدر لعدد ال يحىص من املنتجات الصناعية واالستهالكية .وما علينا إال االلتفات يمي ًنا وشمالاً لنشاهد أن معظم ما حولنا وما يُلبَس وما يُر َكب حتى مواد بناء املساكن،
مصنوع من املشتقات البرتولية.
وقد أدمن املجتمع الدويل عىل
استخدام البرتول الرخيص منذ اكتشاف هذه املادة السحرية قبل ما يزيد عن مئة
وخمسني عامً ا .فنحن اليوم نستنزف
يوميًّا ما يقارب سبعة وتسعني مليون
برميل من حقول قد عفا عىل أغلبها الزمن ،وأصبحت تنتج النصف األخري من مخزونها القابل لإلنتاج .وقد ال يميض وقت طويل ونصل إىل مرحلة
يزيد فيها الطلب العاملي عىل اإلنتاج،
الذي مآله إىل االنخفاض القسري. ومن هنا يبدأ سعر برميل البرتول يف االرتفاع إىل مستويات قياسية .عىل
الرغم من احتمال التوسع يف استخدام
مواطن يشارك أحد خبراء أرامكو في رحلة اكتشاف النفط
العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
مصادر الطاقة املتجددة ،وزيادة إنتاج مصادر البرتول غري التقليدية املكلفة،
مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي بالظهران
مثل البرتول الصخري والرمل البرتويل ،وهذه املصادر
عادة شحيحة اإلنتاج ولن تكفي لتعويض كميات البرتول التقليدي املتوقع اختفاؤها بسبب النضوب الطبيعي.
كبرية من العمالة األجنبية التي أصبح قسم كبري منها عالة
عىل اقتصادنا .فبضعة ماليني منها تعمل يف تجارة التجزئة
لحسابها الخاص بتفويض غري نظامي من الكفالء .وأصبح،
ونحن ،يف الدول الخليجية ،نستنزف ثروتنا البرتولية
من غري الضروري ،بل من امللحّ أن نتخلص من ماليني العمالة األجنبية حتى لو أدى ذلك مؤق ًتا إىل ضرر يطول فئة
أكرث من خمس وأربعني سنة ونحن نحاول جاهدين تنويع
أفضل لهذه األمة التي سوف تبقى تعيش فوق رمال
دونما حساب للمستقبل .فدخل البرتول يك ِّون أكرث من %90
من ميزانيات دول الخليج .وقد مىض علينا يف السعودية مصادر الدخل ،وتوطني نوع من الصناعات التي تتناسب مع
بيئتنا وقدراتنا وإمكانياتنا املالية والبشرية .لكننا لم نفلح
حتى اآلن ،رغم املجهود املبذول والخطط الخمسية التي كانت تهدف إىل تحقيق هذا املطلب .وقد يكون من أسباب فشل الخطط الخمسية ضخامة الدخل من صادرات البرتول. فقد أدَّى ذلك إىل مضاعفة امليزانية العامة أكرث من ثالث مرات خالل عقد من الزمن؛ مما أوجد مشاريع إنشائية أكرب
من طاقتنا البشرية غري الجاهزة وال املدربة .وهذا هو الذي اضطرنا إىل استقدام املاليني من العمالة األجنبية الرخيصة،
وتسبب ذلك ،يف الوقت نفسه ،إىل قفل الباب أمام شبابنا الذين لم يكونوا حينها مؤهلني للعمل يف املجاالت الحرفية واملهنية والتقنية .إضافة إىل ضعف مستوى الرواتب بسبب
وجود عمالة أجنبية رخيصة .وما زلنا نعاين هذه الظاهرة حتى اليوم .وال بد من تحجيم املشاريع واالستغناء عن نسبة
قليلة من املواطنني .وذلك من أجل الصالح العام ومستقبل الصحراء القاحلة .ومستقبلنا ليس فقط مهددًا بنضوب مصدر دخلنا الرئيس ،بل ً أيضا نضوب املاء الذي يعاين هو ً استنزافا جائ ًرا .فمعدل استهالك املاء يف بالدنا أكرث من اآلخر
ضعفي املعدل العاملي ،وبخاصة البلدان التي تنعم بكميات كبرية من األمطار وجريان األنهار.
فال شك أننا بحاجة إىل صحوة توقظنا من ُسباتنا لنعمل
ونكد ونعرق من أجل أن نلحق بركب األمم الجادة التي تعمل بنفسها وتبني مجدها بسواعد وعقول أبنائها .وهذا ما نأمله من رؤية 2030املباركة .فقد جاءت يف الوقت املناسب
وحركت املياه الراكدة ،بعد أن أعيتنا الحيل ،وأصبح قمة
طموحنا استقدام أكرب عدد ممكن من العمالة األجنبية
التي -نسبة كبرية منها -ليس لوجودها بني ظهرانينا ضرورة قصوى .ونأمل أن تؤيت الرؤية ثمارها قريبًا بإذن الله ،ابتداءً
بتوطني األعمال املن ِتجة ،ليحل املواطن محل األجنبي.
39
الملف
آثار إيجابية كاسحة 40
العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
عبدالله المدني
أكاديمي بحريني -أستاذ العالقات الدولية
قبل سنوات طويلة من اكتشاف النفط في ديارهم ،عرف الرعيل األول من أبناء الخليج النفط، أو بعبارة أدق اثنين من مشتقاته وهما :بنزين السيارات وكيروسين الطبخ اللذين كانا يصالنهم من ميناء عبدان اإليراني في براميل محملة على ظهور السفن الشراعية .منذ تلك األيام الخوالي سرت مقولة أن اإلنقريز (مفردة كانت تطلق على الغربيين عمومً ا وليس على البريطانيين فقط) قادرون على المعجزات ،فطالما أنهم أخرجوا من باطن األرض سائلاً يـُصب في السيارة فتطوي األخيرة األرض طيًّا، فهم قادرون على اإلتيان بأشياء جديدة غير مسبوقة .وقد صدقت توقعاتهم يوم أن أعلنت شركة أرامكو في عام 1957م عن قرب إطالقها ألول بث تلفزيوني ناطق بالعربية في منطقة الخليج والجزيرة، ِّ ِّ ومكذب حول مصدق بالتزامن مع ظهور أجهزة التلفاز في األسواق .ذلك أن جدلاً كبيرًا دار وقتها ما بين ما سموه ابتداء جهاز راديو يمكن لمقتنيه أن يسمع ويرى مطربه أو مطربته المفضلة في آن واحد. لقد استخدمنا هنا البث التلفزيوين ،وهو أحد مآثر
شركة أرامكو النفطية العمالقة ،كمدخل للحديث عن اآلثار اإليجابية الكبرية الكتشاف النفط وتصديره عىل
الحياة االجتماعية واالقتصادية والتجارية والثقافية
والفكرية يف مجتمعات الخليج وشرق الجزيرة العربية. وال نبالغ هنا لو قلنا :إن تلك اآلثار كانت كاسحة،
41
وخلقت مجتمعات جديدة مزدهرة ،ونقلت الناس من حياة البداوة إىل عصر التحضر ،وع َّرفت املواطنني ما
لم يكن لهم سابق معرفة به من أدوات وآالت ومالبس وكماليات ومأكوالت ومفردات أجنبية ،إضافة إىل أنشطة
ترفيهية وألعاب رياضية لم يألفوها من قبل .فالتلفزيون مثلاً أحدث زلزالاً يف برنامج املواطن اليومي ووقت فراغه
وساعات نومه ،بل إن ما كان يـُعرض عىل شاشته يوميًّا من أفالم عربية ومسلسالت أجنبية مدبلجة ،ع َّرفه أنماط الحياة يف البالد األسبق إىل املدنية والتحضر ،وزوده بجرعة
من الثقافة واملعلومات العامة يف زمن كانت فيه مصادر الثقافة شحيحة ،وجُ ُّل الناس يعانون األمية .واملدارس االبتدائية واملتوسطة التي تأسست بفضل مداخيل النفط،
وأوكلت الحكومة إىل شركة أرامكو تصميمها وبناءها وتأثيثها منحت طلبة وطالبات شرق السعودية مثلاً يف
خمسينيات وستينيات القرن العشرين أجواء نموذجية وصحية لتلقي العلم وفق أحدث املعايري والوسائل وأرقى
سبل الرفاهية الشبيهة بتلك التي لم تكن متوافرة إال يف الغرب والواليات املتحدة.
التقنية يف الظهران وبقيق ورأس تنورة ،ناهيك عن ابتعاث
املتفوقني منهم إىل جامعة بريوت األمريكية وجامعات
الواليات املتحدة من أجل التخصص العايل .فكانت النتيجة ظهور قيادات سعودية شابة حملت لواء التنمية واإلدارة
والتطوير بنجاح مشهود (عيل إبراهيم النعيمي وزير النفط السابق مثالاً ).
والجهود التي قامت بها أرامكو يف أعقاب اكتشافها
وطاملا تطرقنا إىل أثر النفط يف التعليم فال بد من
وتصديرها النفط السعودي يف مجال التوعية الصحية
الفالحية الذين احتضنتهم مدارس أرامكو ومعاهدها
بالظهران ال تقدر بثمن؛ ألنها حمت أرواح اآلالف من سكان
اإلشارة إىل آالف املوظفني من سكان البادية أو املجتمعات
وتوفري العالج يف مستوصفاتها ومستشفاها املركزي
الملف املنطقة الشرقية وأسرهم من أمراض كثرية كانت
تفتك بهم يف عقدي الخمسينيات والستينيات مثل: أمراض الرتاخوما واملالريا والتيفوئيد والدوسنطاريا
التي كانت منتشرة آنذاك يف مجتمعات األحساء والقطيف الزراعية؛ بسبب قلة الوعي وعدم اإلملام
بقواعد الوقاية .إضافة إىل ذلك ،كان من مآثر النفط وشركة أرامكو برنامج تملك البيوت الذي أطلقته
يف عام 1951م ،ثم طوِّر عىل يد أحد أشهر رؤساء أرامكو األمريكيني شهرة وعملاً من أجل مرؤوسيه
عشرات األدباء الخليجيين استخدموا
السعوديني وهو «توماس بارقر»؛ إذ سهّل هذا
السرد الروائي والترميز للحديث بحرية
الربنامج لآلالف من السعوديني تملك منازل خاصة
بهم ذات تصاميم حديثة وملبية الحتياجاتهم، وذلك من خالل أقساط ميسرة تخصم شهريًّا من رواتبهم .ومن مآثر النفط ً أيضا تحول بلدات وقرى
ساحلية كئيبة ال حراك وال نشاط فيها إىل مدن
عامرة تموج بالحركة ذات تخطيط هنديس رائع
42
مستوحى من تخطيط املدن األمريكية (مدينة الخرب مثالاً التي استعارت تخطيطها من التخطيط الهنديس
ملدينة نيويورك) ،وتحول صحارى جرداء إىل حواضر
غناء يجد زائرها كل ما تتوق نفسه إليه من مرافق ومباهج وأدوات ترفيه (مدينة الظهران مثالاً ) .وإذا
عما شهدته مجتمعاتهم من تغييرات بفضل تدفق الذهب األسود كان تلفزيون أرامكو يجسد واحدً ا من اآلثار الثقافية التي
ارتبطت باكتشاف النفط يف اململكة العربية السعودية ،فإن األثر الثقايف اآلخر يتمثل يف مجلة «قافلة الزيت» الشهرية التي دأبت أرامكو عىل إصدارها منذ عام 1953م حتى اليوم
يف طباعة فاخرة مع الحرص عىل أن تكون يف متناول ً ً مضمونا التي جندت لها مجانا .فهذه املجلة الراقية اليد ُ أرامكو ثلة من الكتاب والعلماء املتميزين يف شتى الحقول واملعارف ،لعبت دورًا مهمًّ ا يف تثقيف أجيال بأكملها. تنمية املجتمع وبناء اإلنسان
يف اعتقادي أن ما حدث يف شرق السعودية حدث مثله بشكل أو بآخر يف دول الخليج األخرى التي اك ُتشف فيها
النفط ابتداء بالبحرين وانتهاء بـ«أبو ظبي» .وما الرخاء
الذي ينعم به الخليج وأبناؤه اليوم إال نتيجة طبيعية من نتائج االنتقال من اقتصاد الغوص الستخراج اللؤلؤ إىل اقتصاد النفط ،ومن َثم إنفاق مداخيله عىل تنمية املجتمع وبناء اإلنسان وتشييد البنى التحتية الجبارة.
والحقيقة أن التحوالت التي أحدثها النفط يف
مفاهيم أبناء املنطقة وأحوالهم ابتداء من ثالثينيات
القرن العشرين لم تغب كثريًا يف األدب الخليجي أو
الدراسات واألبحاث املكتوبة بأقالم خليجية .فهناك
العديد من رسائل املاجستري والدكتوراه التي تناولت هذا الشأن باستفاضة ،ثم ُنشرت يف كتب (رسالة الدكتوراه برامج الطب الوقائي في األربعينيات والخمسينيات التي ساهمت بها شركة أرامكو للحد من انتشار األمراض واألوبئة
التي أعدها الدكتور عبدالله ناصر السبيعي حول أثر اكتشاف النفط عىل الحياة االقتصادية والعلمية والثقافية
العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
موظفون سعوديون ضمن برامج التطوير المهني للعمل في مجال النفط في خمسينيات القرن العشرين
نقمة وليس نعمة» ،وغريها .ويف اعتقادي
أن هؤالء املثقفني العرب انطلقوا يف ترديد
هذه الشعارات مما اعتمر قلوبهم من غرية وحسد جراء ما نجحت فيه بلدان الخليج ولم تنجح فيه بلدانهم من جهة استثمار مداخيل النفط وثروات الوطن استثمارًا
أمثل يف البناء والرخاء .أما من سايرهم من مثقفي الخليج فلم يكونوا سوى حفنة من
املتأثرين بالفكر القومي االنقالبي أو الفكر االشرتايك املطالب بالتأميم.
تقريبا عاما ً مدرسة للبنات أنشأتها شركة أرامكو في المنطقة الشرقية قبل ً 70
والفكرية يف املنطقة الشرقية مثالاً ) .وهناك ً أيضا عشرات
ونختتم بالعنوان الذي اختاره عالم
االجتماع السيايس الكويتي الزميل الدكتور
األدباء الخليجيني الذين استخدموا السرد الروايئ والرتميز
محمد غانم الرميحي ألحد مؤلفاته وهو «الخليج ليس ً نفطا» فأحسن االختيار؛ ذلك أنه عىل الرغم من التحوالت
بفضل تدفق الذهب األسود (روايات عبدالرحمن منيف
األصعدة ،فإن الخليج ،من قبل ومن بعد ،هو إنسان
للحديث بحرية عما شهدته مجتمعاتهم من تغيريات
الكبرية التي أحدثها النفط يف منطقة الخليج عىل مختلف
وتريك الحمد ،ومؤلفات غازي القصيبي ،وعبدالله املدين مثالاً ) .وأخريًا فإن النفط ارتبط عند الكثريين من املثقفني
بناء قاعدة حضارية وإنسانية تستوعب املستجدات
الخليج بمقوالت وشعارات ودعوات مؤججة للعواطف
التاريخ العبق برجاله امليامني من أولئك الذين انتشروا،
العرب خارج حدود منطقة الخليج وعدد من مثقفي مستمدة من توجهاتهم األيديولوجية اليسارية أو القومية
أو البعثية ،مثل« :نفط العرب للعرب» ،و«شركات النفط الغربية االحتكارية» ،و«البرتودوالر» ،و«النفط
وقيم وإباء وشيم ،ومجتمع دينامييك حيوي قادر عىل وتحافظ عىل الثوابت .والخليج من ناحية أخرى هو ذلك
يف حقبة ما قبل النفط ،يف بالد الرافدين والشام والهند وشرق إفريقيا طلبًا للرزق والعلم أو جها ًدا يف سبيل حياة
أفضل ،فتأثروا وأثروا.
43
الملف
سنوات النفط
لصنع رواية حقيقية علي أبو الريش
44
ال تكفي
روائي وكاتب إماراتي
ما قبل النفط ..هذه المرحلة تمشي متخففة من ِو ْزر اللزوجة ،وكانت الصحراء بمنزلة ْشبة بالشفافية والعفوية ما جعل الثوب الشفيف يطوي لفائفه على الروح ،فتمضي مُ عْ َشو ِ اإلنسان يسكن في طوق ذهبي تلونه الصحراء بمُ َنمْ َنمات رمالها مستدعية خيوط الشمس التي كانت تنسج حريرها على السفوح الرملية الفارهة .وما بين الهضاب وخضاب الشمس ،لبث الوجدان اإلنساني في الخليج العربي ،مثل نورس يحلق في الفضاء ويحدق في زرقة البحر ،وينقر حبات الحياة من األعماق الصافية ،وعندما جاءت الرواية لتالمس الوجدان اإلنساني وجدت فضاء ً رقراقا ً ً متشوقا تواقا للتجذر في األرض، مفتوحً ا ،مشروحً ا ،منقوحً ا ،ال يعتريه ُغبَار وال سُ َعار ،كان لالنغماس في عطر النخلة منسجمً ا مع نفسه.
العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
وكون الرواية بنت الفلسفة ،والفلسفة هي
الفكرة الوجودية يف األصل ،أيقن الروايئ الخليجي أن يف تفاصيل الرواية يكمن الوجود ،وأصل الوجود
هو اإلنسان الفرد كما قال الفيلسوف األملاين مارتن هايدغر حينما وضع فلسفته عىل أساس أن اإلنسان هنا ،وهو القائل :إن اإلنسان فقد مصداقية وجوده
عندما استعبدته امليكنة .وبالتايل فإنه ال مجال للرواية غري فضائها الفطري والغريزي؛ ألنها من رحم الفطرة
تستعيد كيانها وبنيانها وبيانها .الرواية يف األصل مثل الشجرة عندما تنقلها من بيئتها فإنها تذبل وتتهاوى أعضاؤها وتذهب إىل العدم ،ال يمكن أن تختلق واقعً ا غري الواقع ،وال يمكن أن نولد رواية من خارج رحم البيئة التي نشأت فيها وإال أصبحنا نستنسخ مولودًا
من رحم بالستييك. لاً النفط لن يكون بدي عن الدم ،والرواية
كائن حي ،يعيش عىل دورة الدم ،وينمو من خالله ،ويلون شخوصه بلون ُكريات الدم الجارية
متحف اللوفر في أبو ظبي
ّ نقض يف الجسم ،فنحن نحتال عىل الواقع ،بل
قضيضه إىل ما جئنا بثيمة روائية غري التي تكمن يف صلب الرواية، ونكون كمن يريد أن يبني بي ًتا يف املريخ ملجرد أنه علم أن هناك
املحيط يتحرك وال يتغري من لونه وإن شابه بعض البقع الزيتية
تبقى نافرة ومعزولة ألنها ليست من أصل تكوين املاء .ال نقول لم
يكتب أحد عن مرحلة النفط ،بل كتب بعض لكن هذه الكتابات
دراسات تجري لغزو هذا الكوكب ونحن بحاجة إىل زمن بعمر
جاءت مثل العملة املغشوشة ،مثل البضاعة املقلدة؛ ألنها لم تعرب
لنذهب إىل لزوجة الرمل املمزوج بالنفط .النفط كمادة ال تعني
يف الضفة األخرى حيث يكمن الزيف ،أنا لست من الذين يعيشون
البشرية عىل أرض الصحراء يك ننسلخ من جلباب الرمل الجاف
الروايئ وإن كان هذا الساحر يسلب األلباب يف تغيري املسكن من وجدانا بشريًّا قابلاً ً الخيمة إىل القصر ،ولكن هذا ال يعني أن هناك لالنسالخ ،مستعدًّا لالستنساخ ،مُهيَّأً للصراخ .كل األشياء التي تجري عىل سطح املاء ال تعرب عن أعماقه ،هناك يف األعماق إنسان آخر وكائن يرضع من حليب األرض ،من التاريخ ،ودورة التاريخ ال
تتحرك كما هي محركات املركبات ،بل إنها تدور دورتها الحلزونية
ببطء وهدوء؛ ألن التاريخ أزىك من املادة ،وبما أن املادة تعشق
األلوان الرباقة ،فإن التاريخ يكتسب مصداقيته من عدم اتكائه عىل مساحيق التجميل.
الكتابة عن النفط مثل العملة املغشوشة
عن الحقيقة ،بل َعبرَ َت الحقيقة وتجاوزتها إىل واقع مغاير ،هناك
املايض كما هو ،بل أشعر أن املايض هو سبب خذالننا ومأساتنا، لكن عبور املايض يشء واالنغماس يف الزيف يشء آخر ،اللحظة هي
الفاصلة ما بني أحزان املايض وقلق املستقبل ،وأشعر أنها املكان املالئم لتكون موئلاً للرواية؛ ألنها تقيها من سخونة العراك الثقايف املريض وتضعها يف املكان الصحيح ،يف الخطوة األوىل التي يبدؤها اإلنسان يك يح ّرك أطرافه من دون قيود املايض وأشواك املستقبل.
ولذلك فإن الكتابة عن اللحظة ،هي النجاة من الزيف وهي
الرهان الوحيد للخروج من اللزوجة ،فما أحىل أن تكون نفطيًّا؛ ألنك
ستصبح غنيًّا وثريًّا وسوف تغري كل يشء حتى مالبسك الداخلية، لكن مقابل هذا كله سوف تعيش بال روح ،وما قيمة رواية ميتة
اليوم يف اإلمارات والسعودية وكذلك دول الخليج العربي
أدواتها من نعش وكفن ثم القرب ،فالخلود الحقيقي لألشياء كما
من النفط ساح سائله األسود عىل ثيابها ،هذه املآثر متعلقة
الصحراء والصحراء هي يف األساس رواية كبرية واسعة الفصول،
كافة ،هناك مآثر تاريخية وأيقونات ال يمكن إزالتها ملجرد برميل بالوجدان ،والوجدان اإلنساين لم يخلق أمس أو حتى قبل ستني
عامًا أو أكرث ،إنما هو نتيجة تراكم تاريخي ونتيجة والدات أحداث متعاقبة ،قد نغري من مالبسنا ومن مساكننا ومن وسائل عيشنا ومواصالتنا ،لكننا ال نستطيع أن نغري من وجداننا؛ ألنه مثل
هي ،ال كما يتطلب السوق .والجمال يف الرواية أن تتمتع بأحالم شخوصها كائنات ال تعيش يف الفضاء إنما تتجذر يف الرتاب. يقول لنا الحكيم الهندي «أوشو» :إن رجلاً دخل عىل نحّ ات فاشمأ ّز من صنعته ،وقال له :كيف تريد أن تصنع تمثالاً جميلاً من هذا الحجر األصم ،فالتفت إليه النحات ساخ ًرا ،وقال :أنا ال أصنع
45
الملف
باللزوجة ولم تتلوث ،فال بد من فضاء حتى تأيت األشياء نظيفة
التمثال من الحجر ،إنما التمثال موجود يف قلب الحجر ،وكل
وجلية ،فاملاء تحت األرض ال يخرج لذاته وال بد من الحفر ،ال ً رقراقا ،وهكذا الرواية بد من خلق الفجوة الفضائية حتى يخرج
جلية ملعنى الجمال الذي يصبو إليه الروايئ الحقيقي ،إنه
النفط .الرواية تأيت من الفضاء ،والفضاء وليد التحرر من قيود
ما أفعله هو إزاحة الغبار عن التمثال .هذه الحكاية صورة يزيح الغبار عن الوجود وال يغمس أصابعه يف اللزوجة؛ ألنه لو فعل ذلك فسوف يشوّه الوجوه ،وتصبح الرواية عملاً من
ال تأيت بفعل الخيوط العنكبوتية التي يدعيها من أغرتهم لزوجة املراحل ،وقد يكون للنفط شأن يف األعمال الروائية ولكن متى؟ ال بد من زمن ،ال بد من ترا ُكم ،ال بد من رسوخ ،ال بد من تجذر
ّ متجذرة يف أعمال الشعوذة .األعمال الخالدة هي التي بقيت َ َ الواقع وال تخرج عن تفاصيله ،بينما الفقاعات هي التي طفت
تكفي ألن تصنع رواية حقيقية ،والكتابة الروائية يف موضوع ما
دعونا نحلم باليوم الذي نشأ فيه اإلنسان من غري
الداخل هي التي تصنع هذا التدخل ،هي التي تكتب ما يرسخ يف
الزهرة الطالعة يف الصحراء ،ونرى النخلة وهي تلقح نفسها
عن أحداث راهنة ،صحيح أنها كانت مؤثرة وقوية لكنها ال يمكن
عىل السطح وسرعان ما زالت.
أقنعة سنجد أنفسنا نعيش خارج األسوار ،ونشم رائحة
يف الوجدان وقياسً ا إىل عمر اإلنسانية ،فإن سنوات النفط ال ال تأيت بقرار شخص أراد أن يكتب عن عصر النفط ،هناك خاليا يف
الوجدان ،وتلفظ ما يتعارض مع الجملة الوجدانية ،كثريون كتبوا
أن تكون باملستوى الذي يصنعه التاريخ ،ولذلك جاءت األعمال
يف الخالء الرحب من دون عوامل غري طبيعية .فالطبيعة وحدها تعلمنا كيف ننجب أطفالاً أسوياء ،وعندما يتدخل
الروائية مثل حكايات العجائز وخراريف آخر الليل ألنها مصطنعة،
يدّعي أنه صنع املعجزة مهما بلغ من بالغة ونبوغ ،لكن
الحضارة اإلنسانية لم ُت نْ َ ب من أمس ،بل من ماليني السنني؛
اإلنسان يغري املعالم والسلوك والحياة برمّتها ،وال أحد تستعنْ الطبيعة وحدها التي جاءت باملعجزات ألنها لم ِ
وألنها متسرعة مثل األكالت السريعة ال طعم لها وال رائحة.
سارتر عندما كتب رائعته األدبية «الغثيان» لم يكن ليخرج بهذا
اليوم في اإلمارات ودول الخليج العربي
46
كافة ،هناك مآثر تاريخية وأيقونات ال يمكن إزالتها لمجرد برميل من النفط ساح سائله األسود على ثيابها
العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
العمل العمالق لوال أن خرج من صلب وجوديته املمتدة مثل العصر اإلغريقي (بروتاغوراس) وعىل أثر هذا التاريخ الطويل ،بنى عمله الروايئ ،وعربت الرواية عن فصل من فصول القرن التاسع ً مناقضا لفردية اإلنسان والحرية ،وجاء هذا العصر عشر الذي جاء مح َّملاً بأوزار الثقافة املجتمعية الفجة التي أرادت محو الفرد تحت
سنابك الجياد الرأسمالية الجامحة.
النفط يقتحم بيوتنا دون استئذان
النفط ...مادة روائية
أعتقد أننا ما زلنا بعيدين عن موضوع النفط
كمادة روائية؛ ألنه عىل الروايئ الخليجي أن يغوص يف أعماق التاريخ ،وأن يبحث يف الرواية األهم ،وهي
رواية اإلنسان نفسه ،هذا الكائن الذي جاء يف األصل من صلب ثيمة روائية ،وعندما يحصل هذا التواصل
نحن ال نطالب الروايئ بأن يكتب عن النفط إنما نريده أن
ونختتم عالقتنا برواية اإلنسان قبل رواية النفط
عوالم مختلفة .وإنما جاء النفط مقتح ًما بيت اإلنسان من دون
أنهكت العقل البشري واستنزفت مشاعره ،نحن
ينغمس يف الواقع ،والواقع ليس وليد النفط ،إنما هو نتيجة
نستطيع أن نتحدث عن النفط وغريه من موضوعات
استئذان ،لذلك حتى يتم التعرف عىل هذا الضيف املفاجئ فال
بحاجة إىل هذا (التزمت) حتى ننتصر لإلنسان وحتى
مشاعر اإلنسان املضيف ،ويستحق التحدث معه بطالقة من غري
نفط ،نحن يجب أن نضع للعربات قوانني ،وكما
بد من استضافته لزمن يستحق أن يكون فيه الضيف قد المس
توجس ،وقد يقول قائل :إن للنفط دورًا مهمًّا يف التغري الذي طرأ عىل حياة الناس يف الخليج العربي ،ونقول :أجل حصل هذا ،ولكن
ما حصل لم يكن بفعل النفط ،إنما بفعل االستعداد الالشعوري للناس بأن يتغريوا ،وهذه هي طبيعة األشياء ،وإذا أردنا االقرتاب من هذه الظاهرة روائيًّا فعلينا أن ندخل يف كنز الالشعور ،وال بد أن نقرتب من هذا البحر لنعرف ما الذي تغري يف اإلنسان؛ الشعور أم
الالشعور ،وأنا موقن تما ًما أن الالشعور الجمعي ما زال كما هو،
وما حدث هو تغيري يف الشعور ،والروايئ ال تهمه الصفات بقدر ما تهمه السمات ،األمر الذي يجعلنا دقيقني جدًّا يف الحديث عن
املوضوعات التي يجب أن يتطرق إليها الروايئ.
ال نضعف طموحاته يف الحياة يف اختزاله يف برميل
قال الوجودي العتيد «صموئيل بيكيت»« :إذا كانت
العربات الفارغة أكرث ضجيجً ا فال بد أن يكون هناك
قانون ما يحدد مستوى هذا الضجيج» ،فالروايئ الخليجي بحاجة إىل أداة متمرّسة ّ تخلصه من الضجيج أولاً لتمكينه من فهم العالم ،وبالتايل سيكون من
السهل عليه أن يكتب عن النفط وما يتبعه من تطورات يف الشكل واملضمون.
خالصة القول ،أريد أن أقول هنا يف هذا املقال:
إننا لسنا شعوبًا نفطية ،بل إن حضارتنا لها جذور يف التاريخ ضاربة األطناب ،ولو أردنا أن نتجنى ونلصق أنفسنا فقط بالنفط فبالنسبة يل أنا ابن اإلمارات يجب
عيل أن أنفصل كليًّا عن أبي وأمي وجدي وجديت، َّ وأن أعيش يف جلباب النفط فقط ،لو فعلت ذلك سأصبح بالتايل مقطوع الجذور وبال هوية ،وبهذا
االنفصال املزري لن أكتب رواية ،إنما سأكتب أي يشء إال الرواية ،فهذه الرواية جنس من أجناس التاريخ
والتاريخ يكمل وال يهمل الحلقات .نحن مطالبون
اآلن بأن نكتب عن التاريخ واللحظة الراهنة التي نرى فيها وطننا العربي يتمزق بسيوف املنفصلني عن التاريخ ،يجب علينا أن نضع أقالمنا رهن التاريخ ال
رهينة االنفصال عن التاريخ ،ولو عرف املنفصلون
مدى فداحة األلم الذي يصيب الوجدان عندما تدمر مآثر التاريخ يف سوريا والعراق وليبيا وغريها ،لمََا نظروا لواقعية خارج الواقع ،ولمََا أحرقوا مالبس التاريخ يف
تنانري الحقد والجهل.
47
الملف
األدب الخليجي والنفط سعاد العنزي
48
ناقدة وكاتبة كويتية
أتفق مع محور «الفيصل» حول غياب تمثيل الذهب األسود عن أدب الخليج ،وهو االكتشاف الذي يعد حجر األساس في قراءة تاريخ الخليج العربي الحديث؛ إذ غيَّر حياة الخليج المادية بشكل كبير ومفصلي .فالحياة االقتصادية واالجتماعية والتصورات لقيم ومفاهيم الحياة الجديدة اليوم اختلفت بشكل الفت ،وأصبحت الماديات تقود المجتمع نحو التغيير اإليجابي والسلبي من دون أن حدث تصفية وغربلة لألولويات والقيم الثقافية التي اس ُتبدلت بها قيم أخرى بديلة .الالفت أن ما ُت ِ ُغيِّر هو قيم مادية َّ شكلت أسلوب الحياة المعاصرة بينما نجد بعض المجتمعات في دول الخليج إلى تمسكا بالعادات والتقاليد التي ّ ً تعطل تحقق مفاهيم السعادة االجتماعية رغم توافر اآلن ما زالت أشد شروط سعادة المجتمع المادية واالستهالكية.
العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
منظور لمركز الشيخ جابر الثقافي بالكويت
فيما يخص األدب الخليجي ،ال نستطيع القول :إن األدب
لم يعرض لثيمة النفط؛ ألن هذا يتطلب منا قراءة شاملة لجميع
اإلنتاج الخليجي بمراحله كافة منذ البدايات حتى اآلن ،ونحن ال ُ نجز فعليًّا عىل مستوى موضوعات نعرف كل كتاب الخليج وما أ ِ متعددة؛ ما يعني أنه قد تكون فاتتنا قراءة نصوص تطرقت بالفعل للنفط كحافز كبري لقراءة ثقافة املجتمع الرأسمايل الخليجي .عند
التطرق ملثل هذا املوضوع ،ليس بالضرورة أن نجده واضحً ا مباش ًرا، بل علينا النظر إىل النفط بوصفه املحرك األسايس باملشهد الخلفي لحياة املجتمعات الخليجية ونهضتها ،ما يعني أن نبحث عن صورة
املجتمع الخليجي بعد النفط ،وهذا هو املهم ،فالنفط ال يعنينا إال بمدى تأثريه عىل الحياة االقتصادية واالجتماعية والسياسية يف الخليج العربي .واآلثار االجتماعية واالقتصادية والسياسية واضحة يف األعمال اإلبداعية ولكن بصورة غري مباشرة .إن من يقرأ األدب
الخليجي ما بعد النفط سوف يتعرف عىل التغريات الحادثة بشكل
جوهري ،التي غريت بدورها هوية املجتمع بشكل جذري .عىل ٍّ كل ،ثمة نصوص سردية من مثل مجموعة «الهاجس والحطام» لسليمان الشطي ،تحلل حياة الكويت ما بعد النفط والحنني إىل
كويت املايض ،فدخول النفط وسرعة عجلة االقتصاد أحدثا نهضة عمرانية هائلة ،جعلت فكرة التثمني تظهر وتسهم بتقليص دائرة
أماكن املايض الحميمية يف الذاكرة الخليجية ،ويشهد عىل اختفاء الحي القديم ،وهذا له عالقة كبرية بتغري أبعاد الهوية االجتماعية
الكويتية .وهناك الشاعر السعودي عبدالواحد الزهراين الذي تحدث عن صورة الخليجي السلبية يف العالم بسبب البرتول يف قصيدته «البرتول» ،التي هي بالرغم من مباشرتها تعكس تصورًا واضحً ا
لهوية الخليجي ،فهو يقول:
من يقرأ األدب الخليجي ما بعد النفط سيتعرف على التغيرات الحادثة بشكل جوهري ،التي غ َّيرت بدورها هوية المجتمع بشكل جذري يـدم اجدادنـا املدفـون يـا مرخصـة ينبـاع دمهـم يـا دام االرض ياواقـي متـى ينتهـي هـذا النزيـف
يا مـن شوهـت سمعتنـا وطمعـت فينـا الطامعينـا يـا مـن اسقيتنـا سمـا زحاحـا قتـل فينـا الضمـيـر
ان قمنـا قالـوا البتـرول خـذ بيدهـم وتعنـزوا لــه وان طحنـا قالـوا البتـرول هـدم بـنـا لـيـن طــاح».
أعلم أن املحور يطمح لنوع من النصوص التي تجعل من النفط
يظهر يف املشهد الخليجي بوضوح ،وأن تربز قيمته الفعلية عند املؤسسات السياسية والتجارية الخليجية والبحث العميق يف عالقات
الخليج بالدول العربية والعاملية ،وهو بالفعل مهم لينقل لنا تصور اآلخر لنا وتصورنا لآلخر وتصورنا ألنفسنا ً أيضا .وهذه قضية جوهرية
يف العالقات الدولية .ومنذ مدة كنت أحكم يف مسابقة قصصية عىل
مستوى الكلية ،فقرأت قصة قصرية لطالب/ة يف جامعة الكويت، كتب عن هذه الصورة النمطية املتكونة عند اآلخر الغربي .وجدته ًّ نصا قصصيًّا الف ًتا يتحدث عن صورة الكويتي يف املجتمع الطالبي األمرييك
عىل أنه برميل نفط فقط .وهذه الصورة النمطية عن الخليجي ُعولِجت يف القصة بشكل الفت .يالحظ عدم وجود رؤية فكرية عند املثقف الخليجي تفتح لها ً آفاقا متعددة يف طرح العديد من القضايا املهمة والحساسة .كذلك نجد قلة الثقافة واالطالع الواسعني؛
«كلها منـك لـوالك انـت مـا عندنـا شـيء اختلـف
مما يقلل من فرصة اتساع األفق عند األدباء ،وعدم طرح القضايا
مـا يكـن مجتمعنـا خيمـة وبـيـر بـتـرول وجـمـل
املؤسسات السياسية واألنظمة الرأسمالية املسيطرة يف الخليج.
كلـهـا مـنـك يالبـتـرول واال فـمـا كــان انتـقـدنـا
االجتماعية والسياسية املهمة ،إضافة إىل عدم الرغبة يف مواجهة
49
نصوص
حكايا شتوية قصائد من السويد آسبن ستروم
شاعر سويدي
ترجمة وتقديم :كاميران حرسان
شاعر سوري
ُ ُسمَّ ون «بالفورتي تاليين» ،أدباء األربعينيات قد حا َز هوى الشعبّ ، ً إنْ أمكنَ القول :إنَّ فإنه آسبن ستروم أحدا ممّ ن ي َ
ُ ُ أديب يرسمُ األدبي وتطوّر ِه من شاعر األربعينيّات الرهيف إلى ختزل بها هذ ِه الكلمات لـ«بنغت إميل يونسون» ُت مراحل نضوجهِ ّ ٍ
بِ ِر َ الناس وهمومهم ،ممّ ا منح ُه شعبيّة واسعة لدى القرّاء. اليوم البسيطة ،مشاغل يشتهِ الحاذقة مالمحَ ِ ِ ً ً َ بسهل مم َت ِن ٍع: الواقع تالمس بمهار ٍة حضو َر عميقة كذلك بساطة مع السنين ،أمست فإنْ أضحت أشعار ُه أكثر ُ ٍ ِ ٌ ٌ ٌ واحدة، ونغمة واحد « إصب ٌَع أضحى اللحنُ قصيرًا،
َ رفر ُ ُ ُ الغروب. نوافذ تضرب بأجنحتها النغمات، ف ِ ُت ِ متجم ً ّ ٍّ ِّ شتوي. كدرب دة تصطف المفاتيحُ ٍ
ُ فعل هذا مع البيانو». ال يجو ُز
50
بس بُغي ََة الواقع جوانب جميع تسليط األضواءِ على األديب تكمنُ في ّإنها قضي ٌّة نفسي ٌّة وأخالقي ٌّة ،مهمّ ُة ِ الصعب ،المُ ل َت ِ ِ ِ ِ ِ ِ َ أعمق يفضي إلى جالءٍ . فهم ِ الوصول إلى ٍ ُ خريف عام 1918م في قرية توربو الوديعةَ . يموت وال ُِد ُه أجل ولد الشاعر كارل وانر آسبن ستروم أواخ َر قصير من والدتهِ ِ ٍ بعد ٍ
ً َ بمرض ال ُّز ْهريً ، زوجة وأوال ًدا ثالثة لحيا ٍة َس َر َد كارل وانر تفاصيلها في كتابهِ النثري «الغدير» عام 1957م، خلف ُه تاركا متأثرًا ِ
ُ غريب ال يُشب ُه في شيءٍ سويد الحاضر. والزمان ،مسلطة األضواء على سويد للمكان رسمُ فيهِ صورة حقيقية حيث ُت َ ٍ ِ ِ
أبدا حُ ً الدموع الذي لم ينضب لديها ً األم وبُؤسها ،معينُ الزوج والمُ عيل. لفقدان زنا ِ طفولته الغضة ،أسرته الفقيرة ومعاناة ِ ِ ِ
تارة
رحيل الرسام روسو عن الحياة
أنا ال ُ ٌ متكافئ. أثق بما هو
فالتكافؤ في ُ القوى ُينذِ ُر بالحرب.
ُ ُ ُ الفهد ألسد، ا والخراف التي ترعى بهدوءٍ ُ األدغال بألوانها الزاهية القردة ،األفاعي وطيو ُر ِ
كون التنازل ال يعني الموت.
نحن أبناؤه الحزانى
أنا ال أث ُِق بما هو ْ صل ٌد.
نحرس نعشه ُ آخر ليلةٍ وقفنا في ِ
َّ انفك الكثي ُر من َّ ف يحيا في العالم ما الص َل ِ
الغجري ُّة ً أيضا كانت هناك
ليس بوسع المرء أن يحرس وجود ُه مُ َ نف ِر ًدا. َ
الكرنفال في طريقهما العائدان توًّا من والزوجان الفتيان ِ ِ ِ
الكثي ُر من سياد ِة الدم المُ َت ّ والثلج. صلب ِ ِ
ُ عازف الناي يودوغا
ُ ْ الهبوط، اآلخر ّاس الصعو ُد ،وعلى إذ ينبغي على أحدِ الحر ِ ِ ً ً نسيانا، تارة يكونُ نارًا وأخرى
ُ الليل بطي ًئا سرى
َ الليلة َسيَقومُ حُ بّي بحملِنا.
أشجا ُر الشاطئ المتسمّ ُ رة ،وآالف األوراق الخضراءِ ِ
ُّ ب. تبادل في مستدام وفي َترَق ٍ ٍ ٍ ً ُّك. وغدا حُ ب ِ
العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
إلى البيت
وقف القم ُر األصف ُر مثلنا متأهبًا
َ ُ المركب البخاريُّ مُ نحدرًا من أقبل بعيد السابعةِ صباحً ا
أعالي النهر
َ الرذاذ ناثرًا
المركب حملناه على م ْتن ِ أطلق القبطانُ ّ َ صفارة االنطالق
ُ أرغب أن أج َّز بيد ّأنني
ِّ الحلم األصغر. الكبير َغ ْز َل الحلم بمقص ِ ِ ِ ُ هي َ تلك البرهة من اليوم ُ ُ الناقلة ريكس تنطلق فيها التي
ال ّ الرسام روسو أفكار تعكر صف َو ِ ِ
َ بيل. الشروق من لجلب ِ ِ األرخ ِ هي في َ تلك البرهة من العام
أنّ َّ باق على حاله كل شيءٍ ٍ
خينارفيك
انفك الناي ير ِّو ُ َ ّ وأنّ ضها. الوحوش ما
ُ ويبصق الحال فم ُه يفتحُ في ِ
يا إل َه ( ) ... دعه يظنُّ
لم يتغ ّي ْر
ُ والعالم أنا ال تسألي :من تكونين؟ منْ أكون؟ ولِمَ ُّ كل شيءٍ يكون. ّ يتحققون، دعي األساتذة هم منْ يتقاضونَ األجورَ.
دعي ميزانَ البيت على الطاولة ِ َ الحقيقة َت ِزنُ نفسها. واتركي َ المعطف. ارتدي
وأغمضي األنوار.
َ الباب. أغلقي
َ األموات ُتحَ ِّن ُط األموات. واتركي
ها نحنُ نسيرُ. َ ُ فمنْ ينتعل الجزمة البيضاء أنت. هو ِ
ينتع ُل السوداءَ ومن ِ
أنا. َ ُ والمط ُر الذي يهطل علينا َ المطرُ. هو
املدينة ُ َّس. لست أنا غير مُ َسي ٍ برجل ِ ٍ ّ وإنما لي رأيٌ عن كيفيّة
الصقل في هذ ِه البالدِ. ج ِّر حجار ِة ِ األفكار عظمةً. أعتب ُر السالمَ أكث َر ِ
ُ ُ المرتفعات في العمالق على يحمل فيها التي ِ
َ البنفسج في شعره. عناقيد ِ
َ فوق المدينةِ . سر ًبا من النوارس الضاحكةِ ِ ٌ جميل ببساطةٍ . أعت ِق ُد أنَّ هذا ُ إنساني، أعتقد أنَّ هذا ٌّ ً أحيانا.
ُ الق رَّبات َ َ المزرعةِ السويديةِ المتوسطة تان في هذ ِه نا ِفذ ِ ّ أراض َ تان على منخفِضةٍ ٍ مُ ِطل ِ
َ أسفل بحير ٍة َ منش ِغلةٍ بأمواجها. ديدانُ الربيع. عمل األرض مُ ْن َكب ٌَّة على ِ ِ ِ ُ َ والقب ُ األرض بطريقتها الخاصةِ . َّرات ُتهي ُّئ َ ُ ُ الحقول هذه. امتالك أرغب لست ِ َ ّ الحقول َ وإنما ُ أريد أن أكونَ ذاتها.
51
دراسات
52
الرواية السعودية المعاصرة وتحدياتها
العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
سلوى الميمان
باحثة وأكاديمية سعودية
ترجمة :خديجة حلفاوي
مترجمة مغربية
منذ ظهور الرواية في تاريخ األدب السعودي ،أضحى هذا الجنس األدبي يطرح الكثير من اإلشكاليات :جنس رديء ،بالكاد يمكن وصفه باألدب ،لم تثر الرواية اهتمامً ا كبيرًا على عكس الشعر« ،ديوان العرب» .منذ بداية تسعينيات القرن الماضي ،تغير الوضع وأضحى المتتبعون للمشهد األدبي يتساءلون حول هذه الروايات التي تظهر كل سنة ،وتحظى باهتمام كبير من قبل الصحافة والنقاد وغيرهما من الفاعلين االجتماعيين الذين ليست لهم عالقة مباشرة بعالم األدب .يثير تزايد العناوين ،على الرغم من الصعوبات المرتبطة بشبكات الطبع والنشر ،الكثير من الخالفات فيما يتعلق بشرعية الكاتب كما هذا الجنس األدبي .ال تزال كتابة الرواية مرتبطة بالعديد من التحديات التي يواجهها الكاتب ً بحثا عن االعتراف. بداية من كتاب «الفراغ الروائي في األدب السعودي» للكاتب
األردني نسيم الصمادي في بداية ثمانينيات القرن الماضي، وصولاً إلى «تسونامي الرواية» –عنوان مقال حول اإلنتاج الروائي
في العربية السعودية في صحيفة «الشرق األوسط» في أكتوبر 2006م -اجتذبت الرواية على مدى العقدين الماضيين (2010-1990م)
اهتمام المراقبين المحليين (النقاد ،واألكاديميين ،والصحفيين والمدونين) العرب والمستشرقين .في الواقع ،ومما ال شك فيه أن غلبة الخيال الرومانسي منذ بداية التسعينيات أحد الموضوعات
التي تأتي عليها األقالم السعودية ،ويثير «عصر الرواية» العديد من
األسئلة والنقاشات المرتبطة بالساحة األدبية.
استبدال التمايز بين المسموح به وغير المسموح به بالتمايز بين الجيد والسيئ .ومن هنا ،تهدف هذه المقالة إلى تسليط الضوء
على النقاشات الرئيسة الناشئة حول الرواية السعودية المعاصرة
بدءً ا من االعتراف بها كجنس أدبي.
الرواية جنس أدبي تواجهه مجموعة من التحديات ٌّ كل على دراية باالنتشار المتزايد والمفاجئ لألدب الروائي في
المملكة العربية السعودية 26 :رواية في سنة 2005م ،و 50رواية في سنة 2006مً ، وفقا لدراسة أنجزها المتخصص السعودي في الببليوغرافيا خالد اليوسف .لقد دُمجت الرواية في المتن األدبي
من السهل أن نتفق ،بالنظر إلى األرقام ،على الزيادة
المحلي بشكل خجول جدًّا :بدءً ا من سنة 1930م مع «التوأمان» ،
وحول هذه «الطفرة» ،وهو مصطلح يشير عادة إلى فترة النمو
التضحية» لحامد دمنهوري ،بحسب المهتمين ،وأنه لم يكن هناك أتباع ُكثر لهذا الجنس األدبي لفترة طويلة .في الحقيقة ،وبالنسبة
الملحوظة في المؤلفات المنشورة خالل السنوات األخيرة، االقتصادي التي أعقبت الثورة البترولية سنة 1973م ،وحول هذا «التسونامي-الموجز ،وهذا االنفجار في األعمال المقروءة مثل
«الكعك الساخن» ،بحسب بعض تعبيرات الصحافة المحلية. تعد الصحافةً ، وأيضا وسائل اإلعالم السمعية البصرية ،والندوات أو النقاشات التي تجمع الجهات المعنية كافة
بالحقل األدبي (الكتاب ،والناشرين ،والصحفيين واألكاديميين) ،مسرحً ا إلثارة مجموعة من
()1
لعبد القدوس األنصاري ،أو بدءً ا من سنة 1959م مع «ثمن
لجُ ّل هذه األعمال ،يتعلق األمر بأول رواية للروائيين الشباب الذين
راوحت أعمارهم بين 20و 25سنة ،التي سرعان ما أثارت ضجة
وجلبة كبيرة .وطرح السؤال :هل هذه الطفرة ظاهرة صحية؟
()2
نظ ًرا لهذا البزوغ للرواية ،اختلفت اآلراء في
المملكة العربية السعودية ،فيرى بعض أن هذه
الظاهرة ناتجة عن اهتمام بعض الناشرين العرب
بـ«الفضائح» ،الذي ال يتردد في نشر روايات من
المناقشات من كتاب الرواية .يبدو أن كتابة روايات الخيال قد أضحت استفزا ًزا في حد ذاتها :بالنسبة
هذا النوع .في حين يعزو بعض آخر األمر إلى
المطلقة .بالنسبة للناقد –على نطاق واسع -يمكن
الجمهور السعودي .وخير مثال على ذلك،
للروائي ،تستمد الرواية قوتها األساسية من حريتها لهذه الحرية أن تكون مجرد افتراء ،وال يجب القبول بها من دون وضع بعض الحواجز الستكمال الطبيعة غير المحددة لهذا الجنس األدبي .كلما كان الجنس األدبي سائدًا ،أ َّكد الناقد على الحاجة إلى
حدس جيل من الكتاب استبقوا «أفق توقع»
()3
الكاتب الشاب إبراهيم بادي( ،)4مؤلف الرواية
المثيرة للجدل «حب في السعودية» التي يناقش
فيها بجرأة كبيرة موضوعات جنسانية .نشرت الرواية سنة 2007م عن «دار اآلداب» ببيروت،
53
دراسات
غازي القصيبي
يعتمد الروائي على تقنية السرد في الرواية ،ويكرس الصفحات
القصيبي ،كاتب «شقة الحرية» التي صدرت عن منشورات رياض الريس سنة 1994م ،وأُعيد نشرها في خمس طبعات وترجمت إلى
وخمس نساء ،ويكسر منذ البداية مختلف التابوهات الرئيسة، ً أحيانا ،وجريئة. بطريقة فجة
مفكر وكاتب سياسي ،يكافح كي يُعت َرف به كروائي بعد نشره رواية
األولى من روايته للرواية نفسها ،في حين أنه هو نفسه الشخصية
الرئيسة في الرواية .تكتب هذه الشخصية -الكاتب عن رجل
اآلن ،ال مجال للشك في جرأتي .وصفت بدقة ما دار بين ً متعجرفا ،نرجسيًّا! لكن ،ألن إيهاب وفاطمة .ربما أكون راويًا
تحقق حياة وإيهاب مبيعات خيالية ،وقياسية؟ ألن تحقق إقبالاً ()5 هائلاً على قراءتها ومعرفة تفاصيلها المجنونة؟
54
تركي الحمد
هاني نقشبندي
اإلنجليزية ،السؤال حول هويته ككاتب( .)8كان ً أيضا تركي الحمد،
«أطياف األزقة المهجورة» سنة 1998م ،عن دار الساقي للنشر : ()9
يمكننا أن نعزو نجاح المؤلف إلى الرأسمال االجتماعي أو السياسي
للكاتب في الحقل األدبي ،رغم افتقاره للرؤية الفنية .ولم يسلم تركي الحمد ً أيضا من حكم الزندقة .إن الكاتب ليس بمنأى عن ()10
االتهامات األخالقية ،وحتى األيديولوجية .حينما ظهرت الرواية
إن هذه الفكرة التي تدعمها الشخصية ال تزال واسعة
األولى للقصيبي التي تحكي عن سنوات الدراسة الخاصة بمجموعة
الجنس األدبي الذي لطالما كان االعتراف به محط جدل واسع.
بعدها رواية «العصفورية»( :)11اسم مستشفى لألمراض النفسية شهير في بيروتُّ ،ات ِهمَ بالعلمانية والزندقة(.)12
االنتشار في المجتمع السعودي ،وتضفي قيمة سلبية إلى هذا في الواقع ،لم يُرحَّ ب بدخول جنس الرواية إلى التقليد السردي العربي من المعارضين للحداثة المستوردة من الغرب وأنصار
التقليد الذين رأوا في كتابة الشعر أبهى أشكال التعبير العربي.
يمكن أن نقرأ الكثير من شهادات كتاب الجيل األول ،األسالف، ما يثبت نظرة «تسامح» رجال األدب مع جنس «الرواية» .دعا محمد علي األفغاني إلى كتابة الرواية ،في إحدى مقاالته
المنشورة سنة 1941م:
من الشباب السعودي في مصر خالل عهد جمال عبدالناصر ،ثم
مما ال شك فيه أن قضية الحمد تعكس بشكل جلي لحظة
أساسية من تاريخ الرواية السعودية المعاصرة .تقدم ثالثيته وجهة نظر سوسيوسياسية للواقع؛ إذ إن الكاتب اختار شكل
الرواية من أجل معالجة الموضوعات المسكوت عنها .لكن ما «اعتبر فضيحة» ،هو أن حبكة الشخصيات الخيالية تجعل من
السعودية موطن أحداثها الرئيسة وليس خارجها كما هي الحال
«ما يثير الدهشة ،وهو أن العديد من أصدقائي الكتاب
مع باقي الروائيين السعوديين .يمكن الغتراب الشخصيات ،فقط،
تقارن بالعلم ،وبالفضيلة واألدب ،ويجدون عيبًا وخزيًا في
السعودية التي تعرض المشروع الواقعي الروائي للخطر ،تزدهر ً تحفظا ،حيث ّ تقل أعداد التابوهات الرواية في المجتمعات األقل
ورجاالت األدب يعتبرون الرواية مجرد بدعة وال تستحق أن االهتمام بها»(.)6
َّ القاصة هديل بعد ما يقرب من سبعين سنة ،نجد أن
الحضيف ،التي تنشر نصوصها على موقعها على اإلنترنت(،)7 ترفض فكرة كتابة الرواية وتعدها مقولة «مشينة».
التابوهات االجتماعية في قلب الرواية السعودية
أن يجعل الكتابة ممكنة .بعيدًا من القوانين واألعراف االجتماعية
المرتبطة بالحياة.
من خالل تج ُّرئِه على فضاء حيث عادة ما ُتحجَ ب العيوب،
جعل الحمد من مدينة الرياض «مدينة المتع» حيث «كل شيء
ممكن» أو «كل شيء محرم ،وكل شيء مباح» .يعرض الروائي، ضمن نمط واقعي ،تناقضات مجتمع مثله مثل باقي المجتمعات،
ال يتعامل الروائي مع الصعوبات المتعلقة بطبع عمله
كل ذلك مع اللعب على مقربة من حدود المتكلم .نجد رواية
بعد أن نشر روايته في الساحة األدبية ،طرح الوزير والشاعر غازي
صدرت سنة 2005م ،تذهب أبعد من ذلك ،وتكشف عن أسرار العالم
ونشره فقط ،بل إنه يعمل على جعل مواهبه في خدمة الرواية.
العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
«بنات الرياض» ،أول رواية للكاتبة الشابة «رجاء الصانع» التي ()13
الرواية السعودية المعاصرة وتحدياتها
األنثوي ،وهو األمر الذي يشكل تابوهً ا،
عرفتها الساحة األدبية السعودية .ومن
ويع ّد تحديًا في اآلن نفسه .كيف أمكن لفتاة
أجل االلتفاف على الرقابة التي تعارض «تعرية الحقيقة» ،لجأ العديد من ُ الكتاب
أن تقدم للعالم أخطاء مواطنات بلدها؟
السعوديين إلى النشر في بعض الدول العربية ،وال سيما القطب الليبرالي(ً .)15 بحثا
إن هذا األمر غير مقبول في مجتمع ليس من المألوف إظهار أخطائه ،وحيث ُي َّتهم
عن هامش أكبر من الحرية أو االعتراف في
من يريد أو تريد وضع األصبع على الواقع
الحقل األدبي اإلقليمي ،عمل هذا النمط
بتشويه صورته. ً أضحت الروايات الصادرة حديثا أكثر جرأة ،بالنظر إلى التابوهات التي تكشف
من االلتفاف على سلطة الرقابة ،بدءً ا من
رجاء الصانع
تسعينيات القرن الماضي ،على إدخال
أن «الفضح» حاضر بقوة .في إحدى هذه الروايات ،ويتعلق األمر
أنماط وممارسات جديدة في الكتابة ،األمر ً تحفظا الذي أضحى يطرح الكثير من األسئلة حول القطب األكثر
بيروت كما في العديد من العواصم العربية األخرى – قبل أن يصدر
خالصة مؤسسة على مصلحة المحظور(.)16
ورئيس تحرير مجلة نسائية ،رسائل منتظمة وغريبة من قارئة
مجال األدب .منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي ،انتشرت
عنها :جرأة أخالقية ،ومشاهد جريئة .يبدو
برواية «اختالس» لـ«هاني نقشبندي»( ،)14التي حظر نشرها في
منها خمس طبعات عن دار الساقي -يتلقى صحفي سعودي،
سعودية ،التي تأتمنه على أسرارها ومغامراتها مع سائقها .لكن
الجنس ليس هو التابو الوحيد الذي جرى التجرؤ عليه ضمن هذا األدب الذي يلعب على حدود المسموح .شهدت سنة 2000م نشر
رواية الكاتب والصحفي محمود تراوري «ميمونة» ،التي يناقش فيها الكاتب ،من خالل قصة هجرة ميمونة وعائلتها من إفريقيا إلى الحجاز ،قضية تهميش ذوي البشرة السوداء في المملكة العربية
في هذا المجال ،من خالل ربط هذا النوع من الكتابة بإستراتيجية
مما ال شك فيه أن الثورة الرقمية قد كان لها وقع كبير على
مواقع الصحافة اإللكترونية ،والمدوَّنات ،وقدمت للكتاب شبكة نشر وتوزيع أكثر كفاءة وسهولة .ونجد لهذا األمر صدى كبي ًرا
في رواية «بنات الرياض» ،التي تدور أحداثها في عالم اإلنترنت والدردشة ،وتستند على ما يبوح به مجموعة من شباب الرياض
حول مغامراتهم عبر اإلنترنت .في كل يوم جمعة ،ترسل إحدى
السعودية .بعد سنوات قليلة ،وفي سنة 2006م ،صدرت رواية
«اآلخرون» عن دار الساقي للنشر ،لروائية سعودية شابة« ،صبا الحرز» ،تنحدر من القطيف ،وهي مدينة في شرق المملكة .تعالج روايتها قضية أقلية مرفوضة من اآلخرين .هناك بعض الموضوعات
التي ال يمكن أن تعالجها سوى الكتابة الروائية :يعد الخيال حيلة لرصد الواقع الذي ترفض الخطابات االجتماعية تمثيله.
في الواقع ،عندما نتحدث عن حرية النشر العربي ،نثير
دومًا التابو الثالثي :الجنس -الدين -السياسة .لكن هذه الحرية
متغيرة تبعً ا للدول .في السعودية تفرض رقابة صارمة على هذه الموضوعات الثالثة ،التي تتطلب إذن مسبق .ضمن الرقابة المؤسساتية ،يمكن أن نضيف فكرة «الخصوصية» العربية،
التي غالبًا ما تستخدم في الخطاب المحلي لحظر العديد من
الموضوعات في النقاش العام. تحدي النشر
ضمن مجتمع يعرف تدنيًا كبي ًرا في مستوى القراءة ،يبدو
أن حجم المبيعات التي تتجاوز عشرات اآلالف ال يصدق60 : ً ألفا بالنسبة لرواية «رجاء الصانع» خالل السنوات األولى التي
أعقبت صدورها ،و 10آالف خالل الفترة التي تلت صدور رواية «فسوق» لـ«عبده خال» .يتعلق األمر ً إذا بوجه آخر للطفرات التي
كبيرا في تدنيا ضمن مجتمع يعرف ً ً مستوى القراءة ،يبدو أن حجم المبيعات التي تتجاوز عشرات اآلالف ال يصدق60 : ألفً ا بالنسبة لرواية «رجاء الصانع» خالل السنوات األولى التي أعقبت صدورها، و 10آالف خالل الفترة التي تلت صدور رواية «فسوق» لـ«عبده خال»
55
دراسات
الشابات السعوديات ألصدقائها رسالة إلكترونية ،وتصف بتفصيل
في«النوادي األدبية» االفتراضية فقط ،لكن بمجرد تحريرها
لمتابعة مغامرات الشابة ،بعضهم غاضب وبعضهم يريد أكثر من ً ذلك .يتمُّ ً مكن ُ مدونة سردية ُت ِّ الق َّراء من إذا تقيُّد الرواية بوصفها
تنشر في الخارج ويكون من الصعب توافرها في المكتبات المحلية.
دقيق حياتها العاطفية ،وحياة صديقاتها الثالثة .يجتمع الشباب
متابعة هذه المغامرات( .)17نسجل ً أيضا أن رواية «سقف الكفاية»،
لمحمد حسن علوان ،التي نشرت عن دار الفارابي ،قد كانت موجودة على الموقع الخاص بالكاتب،
بالتزامن مع نشرها سنة 2002م ،واألمر ً أيضا بالنسبة لرواية «األوبة» نفسه لوردة عبدالمالك –وهو اسم مستعار-
التي نشرت سنة 2007م عن دار الساقي، وسبق أن طرحت في بداية األمر في
مجموعة أدبية افتراضية «منتدى دار الندوة»( ،)18حيت تابعها نحو 23ألف زائر
قبل كتابتها ونشرها ورقيًّا.
أصبح «الويب» الفضاء األول في
النشر والتوزيع :ال يجري نشر المؤلفات
56
هوامش:
)1نشر هذا المقال في األصل باللغة الفرنسية في:
Salwa Almaiman, «Le roman saoudien contemporain face à ses défis », Arabian Humanities [En ligne], 3 | 2014,
mis en ligne le 25 novembre 2014, consulté le 08 janvier 2017. URL : http://cy.revues.org/2793 ; DOI : 10.4000/cy.2793
)2جريدة الشرق األوسط ،عدد ،10193أكتوبر 2006م. )3يعد مفهوم «أفق توقع القارئ» ()horizon d'attente du lecteur أساس نظرية التلقي لدى «هانز روبرت جوس» (Hans Robert .)Jauss
)4إبراهيم بادي 20 ،سنة ،صحفي في جريدة الحياة. )5المرجع نفسه. )6محمد علي األفغاني ،الرواية العربية وحاجتنا إليها ،المنهل ،العدد 6-5جمادى األولى /مايو 1941م.
7) http://www.hdeel.org/blog لم تعد هذه المدونة موجودة بعد وفاة الشابة السعودية سنة
2008م ،عن عمر لم يناهز بعد 25سنة.
ً معترفا به كروائي من قبل بعض الجهات الفاعلة )8لم يكن القصيبي دائمً ا في الساحة األدبية (شرعي أم ال) .والحقيقة أن وضعه السياسي قد مكنه من اللعب على القيد السياسي.
)9تتكون من ثالثة أزمنة قوية لحياة الراوي ،هشام العابر :سنوات دراسته األخيرة بحي العدامة بالدمام ،خالل سبعينيات القرن الماضي،
والسنوات التي قضاها كطالب بالرياض في حي الشميسي ،وأخي ًرا
العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
بالطريقة التقليدية ،يسهل اإلنترنت جزئيًّا نشرها ،وبخاصة حينما
إن اإلنترنت هو وسيلة جديدة لتجاوز الخطوط الحمراء التي ً وأيضا وسيلة تفرضها الرقابة والخطابات االجتماعية السائدة،
فعَّ الة للتعريف بالروائيين السعوديين في الخارج .من الواضح أنه
مهَّد الطريق إلقامة الدورة 11لمعرض الرياض الدولي للكتاب ،الذي ً طفيفا فيما يخص ممارسة الرقابة. يعكس تراجعً ا
لجأ عدد من الكتاب السعوديين إلى النشر في الخارج؛ بح ًثا عن هامش أكبر من الحرية أو االعتراف في الحقل األدبي اإلقليمي ،وعمل هذا النمط من االلتفاف على سلطة الرقابة ،على إدخال أنماط وممارسات جديدة في الكتابة
سجنه بالكراديب بعد حل الحزب الشيوعي الذي كان قد انضم إليه. )10جرى التشكيك في المهارات الفنية واألدبية للكاتب من العديد من الجهات الفاعلة في الساحة األدبية ،بما في ذلك النقاد ،والذين
تساءلوا عن مكانته في الحقل األدبي.
)11غازي القصيبي ،العصفورية ،دار الساقي ،بيروت1996 ،م. )12اتهم القصيبي بإفساد الذوق العام للشباب السعودي من خالل شعره وكتاباته الجريئة وانجذابه إلى الغرب.
)13رجاء الصانع ،بنات الرياض ،دار الساقي ،بيروت2005 ،م.
Al-Sanea Rajaa, Les filles de Riyad, traduit de l’arabe par Simon Corthay et Charlotte Woillez, Plon, 2007.
)14هاني نقشبندي ،اختالس ،دار الساقي ،بيروت2007 ،م. )15يعمد الكثير من الكتاب العرب إلى هذه اإلستراتيجية من أجل نشر ً هامشا من الحرية :القاهرة ،وباريس كتبهم في العواصم التي تضمن ً ً وأيضا لندن من خالل دار الساقي ،وبرلين من سابقا ،وبيروت حاليًّا، خالل دار الجمل .لعبت هذه اإلستراتيجية دورًا مهمًّا جدًّا في تطور
التعبير األدبي العربي نحو مزيد من الحرية.
)16يكشف عنوان ،من بين أخرى كثيرة ،الجدل الذي أثاره هذا النوع من الكتابة« :ظاهرة جديدة من الرواية السعودية :المنع ،جواز سفر
النجاح» ،جريدة الشرق األوسط ،عدد 10 ،10726إبريل 2008م.
17) Seerehwenfadha7et@yahoogroups.com )18يعد هذا المنتدى ملتقى لليبراليين السعوديين ،الذي وصف من معارضيهم «بنادي كفار قريش»؛ أغلق منذ سنة 2005م.
الرواية السعودية المعاصرة وتحدياتها
ﻣﺘﻮاﻓﺮة ﻓﻲ ﻣﺠﻠﺪ واﺣﺪ ﻟﻌﺎم
2016م 57
أﻛﺜﺮ ﻣﻦ 700ﻣﺎدة ﺛﻘﺎﻓﻴﺔ. ﻣﻘﺎﻻت وﺣﻮارات ﻣﻊ ﻛﺒﺎر اﻷدﺑﺎء واﻟﻤﺜﻘﻔﻴﻦ اﻟﺴﻌﻮدﻳﻴﻦ واﻟﻌﺮب. إﺿـﺎﻓـﺔ إﻟـﻰ ﻣـﻮاد وﻗـﺮاءات ﻓـﻲ اﻟـﻔـﻨﻮن ،وﺗﺮﺟﻤﺎت ﻣﻦ اﻟﺜﻘﺎﻓﺎت اﻟﻌﺎﻟﻤﻴﺔ. ﻣﻊ ﺧﻤﺴﺔ إﺻﺪارات ﻟ ـ )@alfaisalmag
( ﻟﻌﺎم 2016م ،ﻓﻲ ﻋﻠﺒﺔ ورﻗﻴﺔ. alfaisalmag
alfaisalmag.com
(+966 11) 4647851 :¢ùcÉa ,(+966 11) 4653027 :∞JÉ¡H ∫É°üJ’G áYƒªéª`dG ≈∏Y ∫ƒ`°üë∏d
دراسات
58
الحرب بعيون أنثوية
الروائية العربية في مواجهة عالــمهـا الـخـارجـي وانـهـيـاراته العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
الحرب بعيون أنثوية
مايا الحاج
روائية وكاتبة لبنانية
ً يصعب أن ُتنادي ّ أدب نسائي .لكنّ المسألة ضد تجنيس األدب ثمّ تجد نفسك منساقا نحو الكتابة عن ٍ
تغدو طبيعية في حال كانت غايتها تخليص هذا األدب من تصنيفاته الجندرية .فالنظريات التي أرساها كثيرون من ّ النقاد العرب حول روايات النساء التي تنشغل بالذات على حساب العالم ،وبالجسد على العقل،
وبالمشاعر على الواقع ،راحت ُتثبت ضعفها يومً ا تلو آخر .وما من شيء ُيثبت تهافت تلك النظريات سوى دراسة الروايات (النسائية) الصادرة خالل السنوات األخيرة ،حيث انشغلت معظم الكاتبات العربيات بالوضع السياسي -االجتماعي العام ،فكتبن عن الحرب التي ُع َّدت دائمً ا من الموضوعات «الذكورية» ،ال «األنثوية». ً انطالقا من أمّ ا هذا التقسيم (الجندري) فيأتي جرّاء اعتماد النقاد والباحثين -في دراسة األدب-
جنس كاتبه ،فأطلقوا على أدب المرأة تسميات كثيرة؛ منها« :األدب النسائي» ،و«األدب النسوي» ،و«األدب األنثوي» ،من دون اشتقاق مسميات مقابلة كـ«األدب الذكوري» مثلاً ،وكأنّ الحالة الطبيعية لألدب أن يكتبه
الرجال .ومن ثمّ منحوا ّ كل نوع منهما معايير ومواصفات خاصة .وإذا اتفق معظمهم على أنّ روايات المرأة أساسا ر ّد فعل على واقعها االجتماعي في ظل نظام بطريركي ،وإلى الغرق في ذاتيتها بغية إثبات هويتها هي ً األنثوية في كل ما تكتب ،فإنّ دراسة الروايات الحديثة التي ُكتبت في مُ ناخ الحروب العربية الراهنة توضح حساسية المرأة تجاه قضايا عالمها الخارجي وانهياراته .وإذا أحصينا الروايات (النسائية) السورية التي تناولت الحرب العاصفة في سوريا منذ سنوات ،لوجدنا ّأنها ُتضاهي كمًّ ا ما كتبه الروائيون السوريون ،إن لم نقل:
إنها تفوقت .فمن رواية روزا ياسين الحسن إلى شهال العجيلي ومها حسن وسمر يزبك وديما ونوس ولينا هويان الحسن وغيرهن ،يمكن أن نسجّ ل حضور المرأة في مواقع ُع َّدت دائما أنها بعيدة عنها. عالم ال يخلو من التخييل
وقد تكون رواية «المشاءة» (دار اآلداب) ،ردًّا واضحً ا على ما كتبه ّ نقاد ،منهم مثلاً عفيف فراج ،من أن الكاتبات النساء
(العربيات) يتحركن في كتاباتهن في عالم الرجال ،بوصفه خصمًا ً ً وبركة ،وينشغلن بقضايا الذات واألنا ،من دون لعنة وحكمًا،
الخوض في قضايا إنسانية عامة .في هذه الرواية ،لم تكن ذات الكاتبة سمر يزبك ،المقيمة في باريس ،مدما ًكا بنت عليه عمارتها الروائية ،إنما آثرت أن تتأمّل حرب بالدها الشعواء عبر نوافذ حي شعبي (داخل المخيم) ،وبعيون بيت فقير في ّ
المهمشين والمحرومين .بدت سمر يزبك شديدة االلتصاق بواقعها ،نقصد الواقع السوري الراهن، عالم روائي ال وإن اختارت أن تقدّم هذا الواقع عبر ٍ يخلو من التخييل .بطلة القصة فتاة بسيطة جدًّا، مُصابة بداء المشي والخرس االختياري .حين ُقتلت
أمها برصاصة خاطئة على حاجز التفتيشُ ،نقلت
تنظيف الحمّامات .عرفت منهنّ أنّ الحياة في بلدها ال تحتمل
االختالف ،وإن في وجهات النظر .وصلتها حكايات االغتصاب
والتعذيب والخوف والسجون والقتل .ثم انتقلت مع أخيها إلى الزملكا في الغوطة الشرقية .سكنت في بيت تجتمع فيه عائالت، علمت من الحياة معها ّأنها لم تكن تعرف شي ًئا من حقيقة هذا ُ اعتقدت أنّ الكتب العالم« ،وال حتى ظالل هذا العالم الذي
أخبرتني عنه بكل شيء» .شاهدت جريمة قصف األطفال والعائالت مكان آخر لكنها ّ ظلت بالكيماوي ،ثمّ هربت من القصف إلى ٍ قبو ال شيء محاصرة في فسحة ضيقة داخل ٍ
فيه من مقوّمات الحياة« .وأنا حكاية سأختفي ربما ...حلقي جاف ،رأسي يدور ،لم أعد أر ّكز
وعلي أن أصرخ»« .المشاءة» ال في الحروف. ّ ُتقرأ ً ّ كسجل اجتماعي لمؤلفتها ،بل إنها إذا
عمل روائي قائم بذاته .ما يتعارض طبعً ا مع دراسات نقدية طاولت األدب النسائي .فالكاتبة
الراوية /البطلة (المجروحة) إلى المستشفى .هناك تعرفت للمرة األولى إلى سجينات اع ُتقلن النتمائهن
الحرب السورية بما فيها توحش النظام
ّ الست سعادة ،أمينة كتب كثيرة أهدتها إياها في ٍ
الحصار ،فق ّدمت تصوي ًرا للحرب من الداخل؛
المعادي للنظام .سمعت منهنّ حكايات لم تقرأها
المكتبة في المدرسة حيث كانت تعمل أمها في
سمر يزبك تطرقت في روايتها إلى تعقيدات وتط ّرف المعارضين ولعنة الكيماوي وخطر الداخل السوري ،والداخل اإلنساني.
59
دراسات
أمّا ديمة ّ ونوس ،فكتبت ً أيضا «الخائفون» (دار اآلداب) من
وحي وضع سوريا المأسوي .عبر امرأتين هما :سلمى وسليمى،
حكت ونوس عن الصورة واألصل ،الشخص والقرين ،الذات ّ والظل ،الغائب والحاضر ،الوطن والمنفى .اعتمدت ّ ونوس لعبة «الرمز» في رواية الحرب السورية حيث غدا الجميع متشابهًا في خوفه ،وقلقه ،وغيابه ،وربما في موته ...الحرب ً أيضا حضرت في
رواية شهال العجيلي« :سماء قريبة من بيتنا»
(منشورات ضفاف) .التقى البطالن ،السورية جمان والفلسطيني ناصر مصادفة في رحلة
العودة من إسطنبول إلى عمّان .ثم تحوّل لقاؤهما العابر إلى قصة حب يبحث ّ كل طرف
فيها عمّا ينقصه في اآلخر .ومن هذا اللقاء الفلسطيني -السوري في الطائرة ّ تتولد رموز االقتالع العربي ومأسويته ،فتحضر مقولة
إدوارد سعيد ،على لسان الراوية ،لترسّ خ هذا الواقع« :الجغرافيا عدونا األول»ُ .تصاب البطلة بمرض السرطان بينما ُت ّ دك بلدها
بالكيماوي .والمعلوم أنّ السرطان وفعل اإلشعاع الذري تجمعهما ً وأحيانا عضوية قائمة في أذهان الناس ،بحيث يعني عالقة علمية
60
كالهما التفكك والموت .وحين ُتخاطب الشابة الجميلة المفعمة بالحياة والثقافة والذكريات نفسها قائلة« :متألمة ،متهافتة ،أَمَا لهذا األلم أن ينتهي؟ ال أعرف كيف أحدد شكل الوجع أو مكانه»،
يصعب علينا تحديد ألمها .هل هذا وجعها الجسدي أم وجع سوريا النازفة؟
وإذا ألغيت اسم الكاتبة شهال
العجيلي ،قد يصعب عليك التكهّن ّ مؤلف الروايةّ .إنها تعتمد بجنس تقنية تقوم على وثبات زمنية وتباين في المستويات السردية ،ما يتنافى
والمقولة التي راجت عن أنّ الكاتبة «األنثى» تؤثر المونولوج وتقنية الصوت الواحد .تنطلق الرواية بإشارة زمنية
«كان يوم اإلثنين 1947/4/30يومًا ربيعيًّا ً مشرقا من أيّام حلب» ،قبل أن تنتقل
إلى الواقع الراهن ،فتقدّم صورتين
متذادتين عن حلب الشهباء الشامخة (الماضي) وحلب الموجوعة والمغتربة (الحاضر) .أمّا أحالم السوريين فاختلفت ً أيضا .الفرار من
سوريا بات وحده الحلم المنتظر« .المطارات ساللم الحكايات ،ونحن السوريين ربما لنا حكايتنا المختلفة معها ،فبمج ّرد مرورنا من الكوة األخيرة ألي موظف جوازات ،نكون قد استلمنا ّ صك والدة جديدة» .ال تستجيب رواية شهال العجيلي إلى نظرية جورج طرابيشي بقوله :إنّ العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
المرأة تكتب الرواية بقلبها بينما يكتبها الرجل ،وأنّ العالم هو مركز
أدب الذكور بينما الذات هي مركز رواية اإلناث. بانوراما الموت
حرب فقدت فيها وفي سياق آخر ،كتبت لينا هويان الحسن عن ٍ
شقيقها ياسر .ومع أنّ الذات كانت حاضرة في روايتها «الذئاب ال تنسى» (دار اآلداب) ،لك ّنها رسمت بانوراما الموت السوري الذي ال يميز بين معارضة ومواالة وأناس عاديين ال ينتمون إلى هذه ّ الخط الدرامي في رواية الفئة أو تلك .يسير الحسن بين «المدينة» و«البادية» ،عبر
رحلة إلى قري ٍة على تخوم بادية حماة ،حيث
مدفن الشقيق المقتول ،ياسر .وبموازاة هذه الحركة المكانية ،تشهد الرواية
واقع راهن (الحرب حركة في الزمان بين ٍ ماض (طفولة في البادية وزمن السورية) ٍ ٍ ديمة ونّوس الرحبة) .اتخذت الكاتبة من الصحراء بؤرة سردية َب َنت عليها روايتها ،علمًا أنّ الصحراء كانت دومًا ً مكانا أثي ًرا
الحركة الروائية النسائية تُثبت اليوم تتحرك أ ّنها ال تعيش على الهامش ،بل ّ في مركز األحداث لتتت َّبع تفاصيلها وتنقلها إلى القارئ عبر رؤية تتجاوز حدود الجندر ومعاييره
الحرب بعيون أنثوية
لينا هويان الحسن
في روايات الرجل (وليس النساء)؛ لما تعرضه من قيم «ذكورية»
مثل الفروسية والحروب والغزل ...وكانت لينا هويان كتبت عن
باديتها في روايات عدة ،منها« :سلطانات الرمل» ،و«بنات نعش»، و«ألماس ونساء» ،و«البحث عن الصقر غ ّنام». وفي «مترو حلب» ،تروي مها حسن تفاصيل المأساة السورية
من جانب إنساني ال أنثوي ،عبر ثيمات عامة مثل :الغياب والفقد واللجوء والمنفى .تصوّر حياة فتاة سورية تدعى سارة ،اضطرتها
مها حسن
جنى الحسن
إذا أحصينا الروايات (النسائية) السورية التي تناولت الحرب العاصفة في سوريا منذ سنوات ،لوجدنا كما ما كتبه الروائيون أ ّنها تُضاهي ًّ السوريون ،إن لم نقل :إنها تفوقت
ظروف بلدها المشتعلة إلى الهجرة لتجد نفسها وسط العاصمة
الفرنسية محاطة بناس مختلفين وعادات جديدة وتقاليد لم ّ ولعل هذه الصدمة التي عاشتها بطلة «مترو حلب» ما هي تعتدها.
61
إال صدمة آالف من السوريين الذين توزعوا في عواصم أوربا والعالم. الحرب والهوية
وبعد استعراض عدد من الروايات السورية ،قد نأتي على ذكر
روايات عربية (صدرت خالل السنوات الخمس األخيرة) ،انشغلت ً أيضا بقضايا ُعدَّت طويلاً ضمن حيّز روايات «الرجال» ،كالحرب
والهوية .ومن هذه األعمال رواية «طشاري» (الجديد) للعراقية إنعام كجه جي التي حاولت من خاللها أن تتناول كارثة الشتات العراقي٬
في العقود األخيرة ٬من خالل سيرة طبيبة عملت في أرياف جنوب العراق في خمسينيات القرن العشرين ،وأبناؤها الثالثة الموزعون
في ثالث قارات .وبمواجهة تمزق شمل العائلة يبتكر الحفيد، ًّ خاصا على اإلنترنت، إسكندر ،مقبرة إلكترونية ،جعل لها موقعً ا
دفن فيها الموتى من العائلة حيث يتعذر جمعهم في مقبرة على األرض ،وخصص لكل فرد من أفراد الساللة المتفرقة في قارات خاصا بهً . ًّ وأيضا رواية «طابق ( »99منشورات ضفاف) العالم قب ًرا
للبنانية جنى الحسن ،التي عادت فيها إلى الحرب اللبنانية األهلية، راصدة مجزرة صبرا وشاتيال بأهوالها وتبعاتها العصيبة .أمّا في
رواية «قيد الدرس» (دار اآلداب) ،تطرقت الكاتبة لنا عبدالرحمن
إلى قضية الهوية عبر عائلة مكتومة القيد ،تنتمي إلى قرية دخلت ضمن األراضي الفلسطينية ،فخسرت لبنانيتها من دون أن تصبح
فلسطينية ،.فانتهى أبناؤها حاملين هوية «قيد الدرس» .وتسترجع لنا تفاصيل الحرب األهلية اللبنانية في ثمانينيات القرن الماضي
شتات رسخته الحرب بعنفها وقسوتها. لتحكي قصة ٍ
الحركة الروائية النسائية ُتثبت اليوم ّأنها ال تعيش على الهامش،
بل تتح ّرك في مركز األحداث لتتتبَّع تفاصيلها وتنقلها إلى القارئ عبر
رؤية تتجاوز حدود الجندر ومعاييره .فال تتح ّرك رواياتهن داخل عالم الرجل وحده ،كما هي متهمة ً سلفا ،وليست كتاباتهن عنص ًرا تزيينيًّا
للمشهد الثقافي كما يريد بعضهم أن تكون .بل إنها أعمال إبداعية تخرج من رحم الواقع ل ُتضيء جوانب معتمة ،بأساليب غير مألوفة، بحس روائي فتضعنا أمام حقائق غير مرئية دائمًا ،تستشرفها ٍّ ً أحيانا. وتقدّمها بتقنيات كالسيكية حي ًنا ،ومتقدّمة
دراسات
62
السرد وغايته في النوفيال
العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
تأليف :جوديت اليبوفيتز
ناقدة أميركية
ترجمة :خيري دومة
ناقد ومترجم مصري
هدف هذه الدراسة هو تعريف النوفيلاّ Novellaشكلاً سرد ًّيا مستقلاًّ بذاته .وقليل هو النقد المعاصر الذي َتوجّ ه إلى دراسة النوفيلاّ ،رغم أن الحاجة إلى تفرقة نوعية واضحة أمر بديهي في غمار االستخدام الشائع والمرتبك
للمصطلح( .)1والظاهرة الالفتة في الخمسينيات والستينيات هي تزايد االهتمام بالنوفيلاّ بين الجمهور والناشرين ،والرغبة المتجددة في استخدام المصطلح؛ ً «وداعا كولومبوس» بأنه اقتباس للنوفيلاّ التي كتبها فقد أُعلِن مثلاً عن فلم روث Rothبالعنوان نفسه ،وتشير األعداد المتزايدة من كتب المختارات، ودراسات النوع في المعاهد العلمية ،إلى أن النوفيلاّ باتت أكثر شعبية .غير
ّ و«النوفيليت» ،و«الرواية أننا ولسوء الحظ نستخدم مصطلحات «النوفيلاّ »، َّ مصغرة القصيرة» بمعنى واحد ،وهذا خلط سيئ؛ ألن الرواية القصيرة نسخة من النوع القصصي المسمَّ ى «رواية» ،بينما «النوفيلاّ » شكل أدبي مختلف،
يتماثل عر ً َضا مع الرواية القصيرة في طولها فحسب .وألننا في البلدان التي تتحدث اإلنجليزية نفتقر إلى مصطلح مستقرّ ،فإننا نستخدم مصطلحات متعددة وغامضة نشير بها إلى هذا الشكل األدبي ،وال نميل كذلك إلى التفرقة بين ما هو قصة قصيرة وما هو نوفيلاّ ،وبين ما هو رواية قصيرة وما هو نوفيلاّ . حتى وقت قريب ،كان مصطلح النوفيلاّ نادرًا ما يستخدم،
إال في شكله األلماني ،novelleوكانت اإلشارة هنا إلى أعمال
ألمانية من هذا النوع ،أو في شكله الفرنسي ،nouvelleلدى كتاب مرموقين مثل هنري جيمس ممن يدركون الكتابة األوربية فضلاً عن الكتابة اإلنجليزية .وباستثناء الدارسين األلمان ،لم
تكن هناك إال مصادر قليلة متخصصة وقيِّمة بالنسبة للدارس
األميركي الذي يو ّد أن يتزوّد بمعلومات عن التراث النوعي للنوفيلاّ .غير أن النوفيلاّ كان يكتبها كذلك كتاب إنجليز وأميركان
وإسبان وإيطاليون وروس ،وعلى نحو مستمر منذ أواسط القرن التاسع عشر حتى وقتنا الحالي ،وكانت النوفيلاّ أقل ما تكون في فرنسا ،وأكثر ما تكون في ألمانيا. لم ُتدرَس النوفيلاّ كثي ًرا خارج ألمانيا ،غير أن ذلك لم يكن
بالضرورة نتيجة للجهل؛ فقصة «الموت في البندقية» لتوماس مان ،التي عادة ما أُطل َِق عليها «نوفيلاّ » ،لم ُتدرَس كشكل أدبي قط ،حتى في ألمانيا؛ حيث كانت النوفيلاّ –كشكل أدبي مستقل– بمنزلة مفهوم راسخ .وقد جاءت القصة في المختارات األميركية
تحت مسمّى «رواية قصيرة» ،وهو ما يتعارض مع تصميمها من ينصب حيث الشكل .القصة معروفة جدًّا ،لكن االهتمام النقدي ّ على تأويلها (تلك المضامين الفلسفية مثلاً التي ترتبط ببقية أفكار
توماس مان) .وهكذا ،فإن عملاً أدبيًّا له مثل هذه القيمة الفنية
الرفيعة ،وكتبه رجل شديد الوعي بالتراث األدبي ،لم يُدرَس من حيث هو شكل أدبي.
إهمال النوفيال في أميركا
كان أحد أسباب إهمال النوفيلاّ في أميركا قائمً ا على
مصادفة لغوية؛ فالمصطلحات المستخدمة للداللة على
األشكال القصصية ،تطوَّرت من دون أن تعطينا تسمية مستقلة لنوع النوفيلاّ .إن خريطة الكلمات المعروفة في لغات مختلفة، ستوضح أن اإلنجليزية ،وكذلك اإلسبانية ،تفتقر اآلن إلى كلمة
موجودة في لغات أخرى : ()2
(hi)story, Novel Tale Historia, Novela Spanish Novela cuento )(archaic Storia, Italian Novella Romanzo racconto Histoire, French Nouvelle Roman conte Geschichte, German Novelle Roman Erzâhlung English
لقد كنا معنيين في أميركا بالتفرقة النوعية بين الرومانس
والرواية ،وهي المشكلة التي لم تهتم بها البلدان األخرى .وكانت اإلنجليزية والفرنسية في الحقيقة هما اللغتان الوحيدتان اللتان أصابهما تشو ٌ ُّش فيما يتصل بتسمية القص الطويل ،أما اللغات األخرى فلم تستخدم إال صورة من كلمة Roman؛ ففي الروسية
63
دراسات
واأللمانية واإليطالية ،تشير هذه اللغات نفسها إلى اهتمام المتكلم
التفرقة ً أيضا ميزة اإلبقاء على مصطلح «رواية قصيرة» ،كتسمية
اإلنجليزية واإلسبانية .لقد أخذنا كلمة Novelالتي ترتبط بكلمات
وكما يشير عنوان كتابنا هذا ،فإن األساس الذي يقوم عليه
بالفروق بين األشكال القصصية ،حيث تمتلك مصطلحات أكثر من Nouvelleو Novelleو ،Novellaواستخدمنا الكلمة لإلشارة إلى صنف الرواية .Romanولكي نسد الثغرة القائمة في مصطلحات النوفيلاّ ،استخدمنا مصطلح «رواية قصيرة» Short Novelالذي
يتنكر للتفرقة النوعية ،ويتضمن فقط معنى أن الشكل أقصر ،لكنه فيما عدا ذلك يعمل ً وفقا لقوانين الصياغة نفسها الموجودة في الرواية .وكان خيارنا اآلخر هو مصطلح Noveletteالذي ينطوي على الفكرة نفسها ،لكنه يتضمن كذلك إيحاءً باالزدراء .ويفضل بعض النقاد عليه مصطلح «رواية قصيرة» ،بما أنه هو المصطلح
المستخدم اآلن( )3ومع ذلك ،وكخطوة أولى لشرح الفارق النوعي،
سنستخدم خالل دراستنا هذه المصطلح الذي أصبح إنجليزيًّا، مصطلح «نوفيلاّ » Novella؛ فقد حان الوقت لكي ُنحيي مصطلحً ا نافعً ا ،ونضع قائمة بالمفردات المفيدة لنا.
خالل ازدهار الواقعية ،أصبح مصطلح «الرومانس» ذا داللة سلبية ،ومصطلح «النوفيلاّ » ذا داللة إيجابية ،وكان من يتحمس ألحدهما يبتعد من اآلخر ،وهكذا فقدنا مصطلح «الرومانس» الذي
كان له ما يوازيه في اللغات األوربية األخرى .لقد تبدّل مصطلح
64
الرواية ،Novelلكن مع بقاء مركز ثابت يقوم على الواقعية ،أما النوفيلاّ فكانت هي المصطلح اإلنجليزي في القرن الثامن عشر.
كان مصطلح الرواية هو الغالب لقرن واحد فقط ،ويجب ألاّ نسمح ألنفسنا بأن نش ّد على أعيننا عصابات عمرها قرن واحد فحسب. ً مألوفا بين الجمهور علينا أن نقبل ذلك المصطلح الذي بات أكثر فأكثر ،كما أنه كان مصطلحً ا له معناه ذات مرة في العالم
المتحدث باإلنجليزية .وحيث إننا نستخدم مصطلح contoفي اإلنجليزية ،ونجمعه على ،contosفإننا يمكن أن نسمي ً نمطا معي ًنا من القص ،novellaونجمعه على .novellasولهذه
العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
تختص بأعمال قصيرة تنتمي نوعيًّا إلى فصيلة الرواية.
تعريفنا للنوع هو المقصد السردي .Gestaltungszielوتقوم
نظريتي على افتراض مؤداه أن كل شكل سردي له مناهجه الخاصة في تطور الحدث ،وله طريقته الخاصة في تطوير أو تشكيل مادته القصصية ..وهذا يعني على العموم أن طريقة الرواية في اختيار
مادتها تختلف عن طريقة القصة القصيرة؛ ذلك أن المقصد السردي للرواية هو التوسيع ،بينما يكون التضييق هو مقصد القصة القصيرة .وتختلف تقنيات النوفيلاّ في اختيار مادتها عن تقنيات هذين النوعين القصصيين؛ ألن مقصدها السردي هو ضغط المادة ،بالطريقة التي س ُتحَ دَّد هنا .سأحاول شرح هذه ً تعريفا لنوع األفكار العامة على مدار هذه الدراسة؛ ألننا ال نملك
معين ما لم ندرك نوعية تشكيل المادة ،وندرك المقصد السردي القا ّر في األشكال السردية في المرحلة الحالية من تطورها. ً أحيانا للداللة على ورغم أن مصطلح «نوع» Genreيستخدم
فصائل فرعية من األشكال األدبية ،مثل :الرواية العاطفية ،أو رواية التطور ،Entwicklungsromanأو النوفيلاّ الكالسيكية، أو النوفيلاّ الرومانتيكية ..إلخ ،فإنني سأقصر مصطلح «النوع» هنا على أنماط القص الكبرى :القصة القصيرة ،والنوفيلاّ ،والرواية.
والنوفيلاّ هي موضوع هذه الدراسة ،غير أن الدراسة ستتضمن ً أنواعا قصصية أخرى؛ لبيان التقابل ،ولتمييز المقصد السردي في كل نوع من هذه األنواع.
النقد والغاية والسردية
المدخل الذي أقترحه هنا ،يقوم على فكرة مؤداها أن األنواع ال يمكن فهمها على نحو ّ دال ،ما لم تكن المسميات النوعية تدل ضم ًنا على أنماط مختلفة من الشكل القصصي .حتى اآلن ،لم
السرد وغايته في النوفيال
يتجه نقد النوع إلى تأمل الغاية السردية ،إنما أسّ س عمله بدلاً
من ذلك ،على تلك التقنيات التي ارتبطت تاريخيًّا بكل نوع ،أو على
الموضوعات التي سادت النوع .وكال هذين المدخلين النقديين قد يكون مفيدًا ،وبخاصة في دراسة أنواع مستقرة ،لكن ال التقنيات
وال الموضوعات يمكن أن تكون مفيدة في التمييز بين أنواع القص.
لم تفشل هذه المداخل في إضاءة األعمال المتميزة فحسب، بل إنها وضعت دارسي النوفيلاّ على وجه الخصوص على طريق
مسدود ،وسوف نجد مناقشة كاملة لفشل تلك المداخل إلى ً عرضا النوفيلاّ في الفصل التالي ،كما أن ملحق الكتاب يقدم ً ملخصا للسمات التي جعلها تاريخيًّا مختص ًرا لنقد النوفيلاّ ،ويقدم
النقاد األلمان سمات أساسية للنوفيلاّ في نهاية القرن التاسع عشر.
لقد تعلمنا لبعض الوقت ،أن األنواع يمكن أن تتمايز من
خالل اختيارها لمادتها القصصية ،أو من خالل موضوعها ،أو من خالل التسمية .وكانت تلك وسائل غير مقنعة في تعريف النوع؛ ذلك أن ما يعطينا سمات نوعية دالة تختص بها أنماط مختلفة
من المنجز األدبي ،هو نوعية تناول الموضوع ،وليس الموضوع ً موضوعا ألي نوع أدبي، في حد ذاته .إن الحرب يمكن أن تكون
لكن التناول المختلف لهذا الموضوع هو الذي يؤدي إلى تشكيالت أو أشكال أدبية مختلفة .واألشكال الثابتة نسبيًّا ،مثل المرثية أو
القصيدة الرعوية ،يمكن تعريفها جزئيًّا من خالل موضوعها ،لكن
مسائل متعلقة بالنغمة أو التناول يجب أن تضاف إلى التعريف
من خالل الموضوع .وعلى كل حال ،يجب أن تتضمن التفرقة بين ً مالحظة ألسلوب النوع في تناول الموضوع ،وبخاصة نوع وآخر
لسوء الحظ نستخدم مصطلحات «النوفيال» ،و«النوفيليت» ،و«الرواية القصيرة» بمعنى واحد ،وهذا خلط سيئ؛ ألن الرواية القصيرة نسخة مصغَّ رة من المسمى «رواية» ،بينما النوع القصصي َّ «النوفيال» شكل أدبي مختلف بمعنى الكلمة؛ فهي كما يوجزها شولز: -1إطار الحكاية.
-2حضور الراوي الذي يعطي شخصيته صدى لألسلوب، فيؤثر في نسيجه بشدة.
-3تطور النثر القصصي الذي له صلة بالمحاورة.
-4اختيار الشخصيات العادية.
-5الدقة في تقديم التواريخ والمواضع واألساليب. -6معقولية األحداث (ص .)111-110
ورأيي في هذا المدخل لدراسة النوع ،أنه برغم إشارته إلى
السوابق التاريخية في النوع ،يفشل في تقدير الهدف الذي من ٌ تقنيات معينة؛ ومن ثم فإنه ال يأخذ بيدنا إلى أجله اس ُتخدِ مت
فهم أهميتها النسبية ،أو إلى القدرة على تمييز االختالفات ،من
حيث دورها في سياقات نوعية متباينة .إن وجود سمات من مسيرة
الحياة العادية ،ال يمكن أن تكون له أية داللة نوعية ،برغم أنه
ويؤكد روبرت شولز Scholesأن القراءة والكتابة كلتيهما
يحدد ما يقصده المؤلف في إطار بنية نوعية ما .ولقد ظلت مشكلة البنية النوعية بال حل في كل األحوال ،ولم يحل ِّ مؤلفا المقالة
تم فعل( ،)4والقارئ يتلقى السمات النوعية في العمل ،ويدرك
لم يميزا ذلك النوع عن الرواية ،فما أشارا إليه هو تقليد من تقاليد
بالنسبة ألنواع القص.
عملية نوعية generic؛ فالكاتب ال يتصور فكرته إال في سياق ما الشكل ويستجيب له في سياقه الخاص؛ ألنه يعرف –من السمات
النوعية– ما إذا كان المقصود من البطل تقديم سمات بطولية،
َ المشكلة بإطالق اسم «تاريخ» على «مانون ليسكاوت»؛ ذلك أنهما (ما يشبه التاريخ) في األدب ،واستخدام بريفوست Prévostلذلك التقليد .هذا ليس نقدًا نوعيًّا على أي حال؛ ألن الواقعية سمة
لبعض القصص ،وسمة كذلك لبعض الدراما وبعض الشعر،
أم دفع القارئ إلى تفسير العمل أو أجزاء منه تفسي ًرا قائمًا على المفارقةُ .. وهلمَّ ج ًّرا .وأنا أضيف هنا أن القارئ يستجيب للعمل
لكنها ليست مسمّى نوعيًّا لنمط واحد من أنماط األدب .وحيث إن
إن دراسة النوع يمكنها –من خالل معاونة القارئ على فهم تميز
الذي يريد أن يلقي ضوءًا على «نوع»ـها ،ال بد أن يدرس عالقتها
في إطار الهدف السردي الذي يدركه عبر خبرته بأنواع متعددة. األشكال المختلفة– أن تنجز هدفها ،الذي يحدده شولز كما يلي:
«إنتاج استجابات تالئم األعمال األدبية» (ص .)111
ورغم أنني أتفق مع هذه األطروحات النظرية ،فإنني أختلف
مع شولز في تطبيق هذا المفهوم؛ فنموذج النقد النوعي عنده تمثله المقالة التي يقدم بها ديلوفر Deloffreوبيكارد Picard لـنوفيلاّ «مانون ليسكاوت»( ،Manon Lescaut )5وعنوان المقالة:
«مصادر األدب وتاريخ النوع» .ومهما يكن من أمر ،فإن الخصائص النوعية المشار إليها في هذه المقالة ،ليست خصائص «نوعية»
«مانون ليسكاوت» تقع في التراث النوعي للبيكاريسك ،فإن النقد
من حيث الشكل– بذلك النمط من األنماط الروائية السابقة.والنظرية المطروحة في كتابي هذا ،معنيَّة بشرح مشكلة «النوع»،
التي لم يحلها بعد مثل هذا النوع من النقد. لقد تأسس نقد النوفيلاّ التقليدي في ألمانيا ،ونهض على دراسة نوفيلاّ ت ألمانية خاصة ،والجزء األكبر من هذا النقد كتبه
ُكتاب النوفيلاّ أنفسهم خالل الفترة من 1830إلى 1900م .ولقد واصل النقد األلماني المعاصر مقاربته للنوفيلاّ ،وهي مقاربة قائمة على
نظرية زائفة للنوع ،ويأتي زيف هذه النظرية من أنها لم تطرح حتى
65
دراسات
حلولاً جزئية ،أو مجرد حلول مضللة ،لمشكالت تعريف النوفيلاّ ؛ فمنهجها يأخذ سمات النوفيلاّ من أعمال مكتوبة في الماضي، ً ووفقا لهذه ويحكم على األعمال الجديدة بناء على هذه السمات. النظرية ،يتحتم على النوفيلاّ ت الجديدة أن تترسّ م خطا التقنيات
األساسية ،التي ال تتضح أهميتها إال في نسبة تكرارها إحصائيًّا. والسمات الثالث األكثر تكرارًا ،التي يتم التركيز عليها ،هي ج ّدة
الحدث ،ونقطة التحوّل الالفتة ،والشخصيات التي تخضع لنموذج القدر .وهذا يقتضي أن ُتص َّنف األعمال ً وفقا لتضمُّنها لهذه التقنيات ،لكن دون أن يؤخذ في االعتبار الطبيعة الجوهرية للنوع التي قد تتطلب مثل هذه التقنيات .ال أهمية لالتفاق حول أي
السمات التي يجب أن توجد في العمل ،وال كيف توجد؛ ألنه ال
أساس لهذه األحكام إال اإلحصاء تاريخيًّا. إنتاج األثر نفسه
ال بد لنظرية النوع أن تكون نظرية وصفية .لكن لو أمكن ً ٌ مقبولة على سمات معينة الوصول إلى منهج م ّتسق ،تكون به
القصيرة بتضييق المادة ،وتقوم الرواية معا، بتوسيعها ،تقوم النوفيال بالدورين ً وبطريقة تؤدي إلى نوع مخصوص من البنية السردية وعلى عكس االتجاه العام السابق في نقد النوفيلاّ ،فإنه
ال توجد تقنيات معينة يمكن أن تنسب إلى نوع سردي واحد؛
فالمفارقة ال تنتمي للرواية بشكل مطلق ،وكذلك ال تنتمي «نقطة التحول» turning pointإلى النوفيلاّ وحدها .لهذا السبب لن تفضي دراسة التقنيات إلى فهم المخطط السردي للنوع .إن
فهم المفارقة عند «جيد» لن يفضي إال إلى فهم أعمال «جيد»
بصفتها كينونات مستقلة ،لكن وظيفة المفارقة في إطار التصميم العام ،واألثر الكلي الذي تتركه في «المزيفون» يختلف عن وظيفة المفارقة ،واألثر الكلي الذي تتركه في «السيمفونية الرعوية» .وما
أسس تاريخية ،فلن تكون هذه إال ظواهر مؤقتة ،مستخدمة حتى اآلن لهدف جمالي غير محدد .وحيث إن مجمل سمات النوفيلاّ ت
وجود التقنية يظل ال عالقة له بالنوع .ولكن حالما نعرف الوظائف
فقط مجرد تكرار سمات معينة ،فإنني معنيَّة هنا بتقديم تفسير
للفروق والتعريفات النوعية.
المختلفة ال يساعدنا في الوصول إلى تعريف للنوفيلاّ ،بل يحصي
66
في الوقت الذي تقوم فيه القصة
لهذه التقنيات التي تقع بشكل متكرر .وحالما تح َّد َد الهدف النوعي ،أي غرض التشكيل السردي في النوفيلاّ ،ربما نجد لهذه
السمات بعض الداللة التي كانت مفتقدة .وإذا أمكن أن نوضح أن وظيفة أي تقنية تستخدمها النوفيلاّ ،هي إنتاج نفس األثر دائمًا، فإن المقوالت التقليدية قد ُتستبعَ د ،وقد ُتفهَم النوفيلاّ عبر هدفها النوعي الجمالي ،أو عبر غرضها السردي. لاّ وقبل أن ندخل في دراسة «األثر» الذي تتركه النوفي ،ال بد
أن نوضح المفهوم كما نستخدمه هنا .إن كل اآلثار الجمالية للسرد في عمومه ،مثل التوسيع والتضييق ،تختلف عن اآلثار األسلوبية داخل السرد .وسيصبح من البديهي خالل دراستنا هذه ،أال يكون للتقنيات األسلوبية أهمية في ذاتها فيما يتعلق بالتفرقة النوعية. إن «جيد» Gideمثلاً يستخدم تقنيات خاصة لكي ينتج ً نوعا معي ًنا من المفارقة ،فقد يستخدم تقنية اإلخبار عن الذات self-
reporting؛ لكي ينتج األثر الخاص ببوح الذات ،وهو أثر قائم
على المفارقة .وربما نالحظ تنويعات هذه التقنية وآثارها الجمالية
في أعمال «جيد» ،لكن االلتفات إلى المفارقة بصفتها التقنية الجمالية الغالبة عند «جيد» ،لن يساعدنا في فهم االختالف بين
«المزيفون» Les faux monnayeursو«السيمفونية الرعوية» ،La symphonie Pastoraleبوصفهما بنيتين سرديتين متمايزتين من حيث النوع؛ ذلك أن مفارقة «جيد» تسهم على نحو
متفاوت في األثر الكلي الذي يتركه كل عمل على حدة.
العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
لم نحلل كيف تؤدي التقنية دورها الحاكم في عمل أدبي ما ،فإن
التي تؤديها التقنيات في سياقات محددة ،سيع ّد هذا أساسً ا
في الوقت الذي تقوم فيه القصة القصيرة بتضييق المادة، وتقوم الرواية بتوسيعها ،تقوم النوفيلاّ بالدورين معً ا ،وبطريقة
تؤدي إلى نوع مخصوص من البنية السردية .إنه نوع ينتج أث ًرا ممي ًزا
من الوجهة السردية ،أث ًرا مزدوجً ا يجمع بين التكثيف والتوسيع. وحيث إن الموتيفات في نوفيلاّ معينة ،تكون في العادة جزءً ا
من مجموعة مترابطة من الثيمات ،فإن نفس المادة تظل في البؤرة ،بينما تتغير البؤرة المركزية للرواية .وعن طريق معالجة الثيمات بهذه الطريقة التي أسمِّيها «مر ّكب الثيمات» ،تصبح كل الموتيفات في حالة عالقة متبادلة؛ وهو ما يسمح للنوفيلاّ
بأن تحقق تبئي ًرا حادًّا ودائمً ا على الموضوع .وفي الوقت نفسه، وحيث إن مهمة كل موتيف يوحَ ى بها وال ُت َطوَّر بوضوح ،فإن النوفيلاّ تظل على الدوام قصة قائمة على اإليحاء .وهذا االنطالق
من بؤرة محدودة إلى الخارج المتسع ،هو األثر الذي تتركه البنية النمطية لحبكة النوفيلاّ ؛ فالحدث في النوفيلاّ ال يعطي األثر الذي
ّ المطرد والنطاق المتسع الموجودان في الرواية، يعطيه التقدم َّ بل يعطي أث ًرا ناتجً ا عن نطاق محدود يُش َرح ويُكثف .وضغط
ً عامة من خالل بنية تكرارية ،لكننا سنرى أن التالعب الحدث يتم بتعاقب األحداث ،وتقنيات أخرى كذلك ،تساعد ُ الك ّتاب في تحقيق األثر .إن استخدام البنية التكرارية ِّ يمكن المؤلف من إعادة
تطوير الثيمات والمواقف التي كان قد طورها من قبل .وقد يتألف التكرار من مواقف متوازية ،مضادة لتلك التي جرى تقديمها
السرد وغايته في النوفيال
فعلاً ،أو موتيفات متوازية ،تعيد تقديم جوانب مختلفة من «مر ّكب الثيمات» .يعمل مر ّكب الثيمات والبنية التكرارية معً ا على
ضغط المادة ،ويوسعان من مهامّها في اللحظة نفسها؛ ففي َّ المكثف للموضوع، الوقت الذي تتوافق فيه الحبكة مع التناول عبر التكرار وتقنيات أخرى ،وبينما يدعم ترابط الموتيفات ذلك
التكثيف ،تقوم المهام غير المتطورة لمر ّكب الثيمات بتوسيع تلك المادة .وسوف أُ ّ خصص فصلاً لكل من هذين التكنيكين :مركب
الثيمات ،والبنية التكرارية ،وذلك حتى أوضح أنهما تكنيكان شائعان في كل األعمال المدروسة هنا ،وأنهما يؤديان الغرض نفسه؛ ألنهما ينتجان أث ًرا سرديًّا مزدوجً ا.
اكتشاف المخطط الذي يتشكل منه النوع هدفي من وصف هذه التقنيات هو التركيز على وظيفتها؛ فعلى عكس المدخل القائم على السمات ،تهدف نظريتي إلى اكتشاف المخطط الذي يتشكل منه النوع ،وهو المخطط الذي يستدعي تقنيات معينة .وحين أختار مر ّكب الثيمات،
والعمل البنائي المتكرر على موقف أو فكرة محدودة ،فأنا ال أريد استبدال سمات جديدة بالسمات القديمة ،إنما أود فقط أن أدرس التقنيات الثيمية والبنائية الحديثة الغالبة في صياغة النوفيلاّ ،كما أود أن ّ أوضح اعتباطية التوصيفات التقليدية للنوفيلاّ فيما يتعلق بالموضوع وبناء الحبكة؛ فالسمات التي ميزناها هنا ،وعددناها شي ًئا مهمًّ ا في النوفيلاّ ُ ،تدرَس في ذاتها ،ونظ ًرا إلسهامها في التشكيل السردي للنوفيلاّ ،وليس لمجرد أنها عناصر متكررة. واقتراحي هنا مؤدّاه :أن المخطط السردي في النوفيلاّ قائم على تشكيل السرد فيها بطريقة تفضي إلى أثر يقوم على
التوسيع والتكثيف ،وعلى نحو مجرد يسمح بالتعريف النوعي ،وبمرونة قدر اإلمكان فيما يتعلق بالجوانب التقنية من الصياغة .وبغض النظر عن التكتيك ،وإذا كانت النوفيلاّ الحديثة مختلفة في مخططها السردي عن األشكال القصصية األخرى ،فإنه يمكن توصيفها بأنها تحليل ّ مكثف لنطاق محدود ،مع مضامين موسعة وغير مطوّرة.
إن كل شكل قصصي ،وهو يمتلك مخططاته التطورية الخاصة ،يستخدم تقنيات في االختيار تالئم هذه المخططات،
إال أن التقنيات نفسها ال تصلح للتفرقة بين األنواع؛ فاختيار نوع معين يحدّ من قدرة المؤلف على استخدام مادته ،ويفتح له في الوقت نفسه إمكانات قارّة في هذا النوع من التناول السردي .ولكي ندرك المقدرة السردية الخاصة بالنوفيلاّ ،ال بد
أن نكون على دراية باألثر الناتج عنها هي ،ال عن أي شكل أدبي آخر؛ فكل تنظيم للمادة ،أي كل شكل ،يعطينا تأثي ًرا جماليًّا كليًّا يختلف نوعيًّا عن تأثير األنماط األدبية األخرى .إن تاريخ الرواية مثلاً يرصد تشابه الخبرة الجمالية ،أو يرصد أن كل رواية تتناول كأنها نص مستقل .ومن الواضح أن القارئ ال يستجيب ألهداف الكاتب المحددة وحدها ،بل يستجيب كذلك للنوع
األدبي .وهكذا تنطوي قراءة رواية معينة على مستويين من االستجابة الجمالية كما يقول شولز؛ فالمرء يستجيب لفلوبير مثلاً ،أو لهاردي ،ويستجيب كذلك للقالب السردي الذي يراه قالبًا روائيًّا. هوامش:
* مقدمة كتاب.Judith Leibowitz, Narrative Purpose in the Novella, Mouton& Co.N.V, The Hague, Netherlands :
)1تعطينا كريشنا بالديف فايد Krishna Baldev Vaidأمثلة في كتابها «مدخل إلى التكنيك في حكايات هنري جيمس» 1964م.
)2هذه الخريطة اللغوية مأخوذة من مقالة غيرالد غيليسباي .Gerald Gillespie: Novella, Nouvelle, Novelle, short Novel :مراجعة للمصطلحات، مجلة اللغويات الجديدة ،إبريل 1967م.
)3انظر على سبيل المثال كتاب دين .إس .فالور « Dean. S. Flowerثماني روايات قصيرة» ،نيويورك 1967م ،حيث يؤكد أن لدى المحررين والنقاد ولعً ا ً غامضا بتسميتها «نوفيالت» ،معتمدين على بوكاشيو ،أو «نوفيلتات» وعلى جريدة ربات البيوت .أما الكلمة التي يجمع عليها الناس في أيامنا هذه فهي «رواية قصيرة» ،وهي تسمية مضللة مثل معظم التسميات األخرى ،لكنها مُ رضية .ومقالة ميلفين فيلهايم « Melvin Felheimالمختارات الحديثة من النوفيلاّ » ،مجلة النوع ،Genreمارس 1969م ،توضح أن مصطلح «رواية قصيرة» أصبح المصطلح النوعي المستقر .أما هـ .م .وايدسون H.M. Waidson
في مقالته «القصة القصيرة األلمانية ً نوعا أدبيًّا» ،مجلة اللغات الحديثة1959 ،XL ،م ،فيص ّر على مصطلح «النوفيلاّ ».
)4نحو شعرية للقص ،مدخل من خالل النوع ،مجلة الرواية ،العدد الثاني 1969م ،ص .103
« )5مانون ليسكاوت» نوفيلاّ كتبها الكاتب الفرنسي أبي بريفوست ، Abee Prévostونشرها عام 1731م ،وكانت الجزء السابع واألخير من سلسلة «مذكرات ومغامرات رجل الجودة» .كانت في زمنها عملاً أدبيًّا إشكاليًّا وجرى منعها في أعقاب نشرها في فرنسا ،ومع ذلك سرعان ما صارت من ألمع األعمال األدبية وأكثرها انتشارًا.
67
مقال
شحيد جمال ّ ناقد سوري
عندما يتجاهل السياسيون العرب ابن خلدون اهتم الغرب بابن خلدون (1406 -1332م) ،منذ
بداية القرن التاسع عشر ،فراح المستشرقون يترجمون
«المقدمة» وأجزاءً من «كتاب العبر» منذ عام 1810م ،مع
سيلفستردي ساسي الفرنسي ،وهامِر بورغشتال األلماني،
ورينهارتدوزي الهولندي ،وإدوارد بوكوك اإلنجليزي، ودسالن الفرنسي ،وألفريد فون كريمر النمساوي،
وعبداللطيف صبحي باشا التركي ...وفي القرن العشرين
68
ترجمت المقدمة إلى معظم اللغات الكبرى في العالم،
ومن بينها الترجمة اليابانية عام 1987 -1964م ،والعبرية عام 1967م.
وظهرت في السنوات األخيرة ترجمات علمية محققة
ومذيَّلة بشروحات وتعليقات مفيدة ،ومن بينها الترجمة
الرائعة التي أنجزها األستاذ المغربي عبدالسالم شدّادي، وتب َّنتها دار غاليمار الباريسية الفرنسية ،وطبعتها في أجمل سلسلة أوربية وهي «مكتبة البلياد» ( 1559 ،2004صفحة) التي ُتعَ ّد مفخرة للكتاب الفرنسي .وكتب األستاذ شدادي
المؤرخين القدامى كهيرودوت وسوثوكيذيذيس وأفتيخوس،
والمسعودي ،وابن العبري ،والطبري ...ويذكر آخرون أنه رسم
الخطوط العريضة لـ«علم االجتماع اإلنساني» أو لألنثروبولوجيا
االجتماعية والسياسية التي صارت علومً ا مهمة في اإلنسانيات، ونوَّه بفضلها ّ كل من إميل دوركايم وألكسيس دو توكفيل، وإدوارد إيفانز– بريتشارد.
الغرب ال العرب من أفاد من ابن خلدون
على الرغم من ذلك ،لم يستفد العرب كثي ًرا من أفكار ابن ً حديثا ،نظامًا يأخذ بعين االعتبار خلدون ليخلقوا نظامًا سياسيًّا
تطور المجتمعات علميًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا؛ بل نالحظ أن الغرب
هو الذي استفاد من أفكار ابن خلدون التي تنطبق على جميع مأخوذ ُّ ٌ جلها من المجتمعات البشرية بعامة ،مع أن أمثلته
تاريخ المغرب واألندلس والمشرق .وطبّق عدد من الباحثين
المعاصرين نظريات ابن خلدون على مجتمعاتنا المعاصرة وعلى الجيوسياسة التي نشهدها اآلن .وتمثيلاً ال حص ًرا ،هذا ما فعله
مقدمة وافية لترجمته ،وأرفدها بعدد كبير من الحواشي
الباحث الفرنسي غابرييل مارتينيز غرو في كتابه« :موجز في ّ تضمحل» ترجمة د .علي تاريخ اإلمبراطوريات .كيف تنشأ ،وكيف
العربية في القرون الوسطى .وأضاف إلى متن «المقدمة»
بروز اإلمبراطوريات عبر التاريخ (آشور ،والفرس ،واإلغريق،
والتعليقات والفهارس .وأدرج ترجمة السيرة الذاتية البن
خلدون قبل المقدمة ،وهي من أجمل السير الذاتية
نجيب إبراهيم (دار الكتاب العربي2017 ،م) .فبعد أن استعرض
عددًا من الخرائط والمراجع المتعددة اللغات ،فأتت ترجمته وافية جمعت كمًّا هائلاً من المعلومات يفيد منها
وروما ،والصين) توقف عند الكسوف اإلمبراطوري لجميع هذه وحلت َّ اإلمبراطوريات .لقد اندثرت اإلمبراطورية العباسية َّ محلها
بهذه الدقة العلمية ،مع أنها من عيون تراثنا العربي.
محلها اإلمبراطورية األميركية ،واندثرت الممالك الصليبية في
القارئ الفرنسي كثي ًرا .وال نجد طبعة عربية للـ«مقدمة» وصدرت في الربع األخير من القرن العشرين
دراسات فلسفية وتاريخية وأنثروبولوجية حول «مقدمة» ابن خلدون في معظم اللغات؛ مما دفع بعضهم
إلى القول بأن ابن خلدون هو مؤسس فلسفة التاريخ
ومكتشف مح ِّركه ،وبأنه تفوَّق في كتابه هذا على أعمال العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
اإلمبراطورية السلجوقية ،واندثرت اإلمبراطورية البريطانية وحلت المشرق وحلت محلها السلطنة األيوبية ،واندثرت اإلمبراطورية المملوكية وحلت محلها اإلمبراطورية العثمانية ،وهكذا. ويعزف على النغمة ذاتها المؤرخ البريطاني إريك
هوبزباوم الذي يرى في كتابه «عصر التطرفات» ترجمة فايز
ُّ الصياغ (المنظمة العربية للترجمة2011 ،م) أن االستعمار
األوربي انحسر تدريجيًّا بعد الحرب العالمية الثانية ،وفتح
الطريق أمام الدول القومية في العالم الثالث الذي خلخلته
ُ الثورات االجتماعية والسياسية ،التي اندلعت في عدد من
بلداننا العربية بعد عام 2010م.
قرأ هذان المفكران الحاض َر على ضوء ما ذكره ابن خلدون
القائل :إن األنظمة السياسية تشبه كل الكائنات الحية ،تنشأ
صغيرة ثم تكبر وتبلغ أوجها ذات يوم ،ثم تبدأ باالنحسار ّ وتضمحل .فيأتي فريق آخر أشد قوة وفتوَّة ويستلم وتتالشى
زمام األمورً . إذا :عصبية ← مُلك ← عصبية ← مُلك ...إلى ما ال نهاية .هذه هي حركة التاريخ ،وهي قائمة على التغيير وليس
الثبات .التأبيد غير وارد ،حسب منطق ابن خلدون؛ ألن حركة ُ التاريخ زوبعية وال تتوقف؛ ولن توجد أمَّة أو ساللة ُخ ِّلد سلطانها ورفعت شعار التأبيد الذي ينتشر بسذاجة في بعض أنظمة
الحكم المتخلفة .رأى ابن خلدون أن العنف هو عصب التاريخ،
وأنه يخلق صنوَه :العنف ينشئ العنف .وال يبقى إال وجه ربك
ذي اإلكرام والجالل؛ لهذا السبب يكره سياسيو العالم الثالث
ابن خلدون ،ويَعُ ُّدونه نذير شؤم يهدد كراسيهم ،في حين
أن المجتمعات المتقدمة بنت أنظمتها على القوانين الحديثة
والمؤسسات؛ وهذه األخيرة هي التي تبقى بعد زوال األشخاص
َ شئت أن يخلدك التاريخ ،اب ِْن، وانتقال السلطة دستوريًّا .إذا َ نشئْ َ ،ع ِّم ْر ثم ارحل .هذا هو علم االجتماع اإلنساني الذي طرحته أ ِ
«مقدمة» ابن خلدون التي استفاد منها الغرب كثي ًرا وكرهتها أنظمتنا السياسية المتخلفة التي ال تعرف أن تقرأ التاريخ. الذاكرة الجمعية والوقائع البشرية
من ينظر في التاريخ ،عليه أن يبرز العالقة بين التاريخ
رأى ابن خلدون أن العنف هو عصب صنوه :العنف التاريخ ،وأنه يخلق َ ينشئ العنف .وال يبقى إال وجه ربك ذي اإلكرام والجالل؛ لهذا السبب يكره سياسيو العالم الثالث ابن خلدون وي ُع ُّدونه نذير شؤم يهدد كراسيهم َ
كل هذا ألقول :إن مهمة السياسي الناجح هي أن يعقل
َ زمانه ويربط السوابق باللواحق؛ كي تتوافر لديه الرؤية الشمولية
والذاكرة الجمعية وأن يحفز دور هذه الذاكرة في استجالء الوقائع
للواقع الذي يعيش فيه ،وكي ال يتوغل في أدغال متاهية ودروب
الذاكرة في التاريخ ،وهي التي تبنيها األمة عبر مسيرتها خالل
عن السلطة تار ًكا نهر التاريخ يمضي حسب مجراه .وهذا ما فعله
أكب المؤرخ الفرنسي بيير نورا على إظهار مطارح البشرية .وقد ّ
قرون وقرون .فأصدر عام 1997م أربعة مجلدات كتبتها مجموعة من المؤرخين ،عن المعالم والرموز واألوابد والمؤسسات
والوثائق التي ترتكز على هذه الذاكرة الجمعية .ذلك أن األمة
المصابة بمرض «النساوة »Amnésieهي أمة آيلة للسقوط
واالندثار اللذين تكلم عنهما ابن خلدون ،كما سلف .وكان نورا
وجاك لوغوف قد أصدرا عام 2011م كتابًا جماعيًّا عنوانه« :االشتغال بالتاريخ» ساهم في إعداده ً 29 باحثا عكفوا على دراسة فلسفة
قصيرة المدى .وإذا انقلبت األمور عليه ،يجب أن يتحلى بالتخلي
عدد من رؤساء وزعماء العالم ،بعد خسارتهم في االنتخابات أو عجزهم الصحي :باراك أوباما مؤخ ًرا ،وديفيد كاميرون ،والبابا ُّ الترشح يوحنا بولس الثاني .ومنهم من استبق األمور فامتنع عن
لالنتخابات ،لعلمه أن استطالعات الرأي لم تكن لصالحه ،كما فعل الرئيس الفرنسي فرانسوا هوالند .لئنْ كانت الدراسات
التاريخية قد خطت خطوات جبَّارة خالل العقود المنصرمة، ال سيَّما مع مدرسة «الحوليات» التي أطلقها ٌّ كل من مارك
التاريخ وعالقة التاريخ بشتى العلوم اإلنسانية والمجاالت الفكرية واالجتماعية ،ودرسوا ً أيضا صلة التاريخ باألساطير والذهنيات
تستكمل مدرسة ابن خلدون ولم تخرج من عباءته .وإذا أهمل
وتفاصيل الحياة اليومية( ...وستصدر ترجمته قريبًا عبر المركز
الغربيون منذ مطلع القرن التاسع عشر -فألنهم استشعروا خطر
واللغات واألجيال الشابة والسينما والفنون واآلداب االجتماعية العربي لألبحاث ودراسة السياسات ،مشروع ترجمان).
بلوخولوسيان فيفر وفرنان بروديل (عام 1972م) ،فإنها ما زالت العرب ابن خلدون خالل القرون الماضية –على عكس ما فعله نظرياته على أنظمتهم السياسية ومصالحهم اآلنية.
69
بورتريه
الكاريبي ديريك والكوت.. شاعر الشتات والتشظي محمود عبدالغني
شاعر ومترجم مغربي
«سأغني عن ذلك الرجل
ألن قصصه تسرُّنا».
د .والكوت من قصيدة «عودة عوليس» ولد الشاعر واملسرحي ديريك والكوت سنة 1930م ،وتويف يوم الجمعة 17مارس 2017م ،بجزيرة
سانت لويس ،املستعمرة الربيطانية التي نالت استقاللها سنة 1979م .ظل طوال سنوات يقيض وقته
بني ترينيداد وبوسطن حيث كان يدرّس األدب اإلنجليزي يف جامعة بوسطن .فاز بع ّدة جوائز أهمها:
«امليدالية امللكية الذهبية للشعر» سنة 1988م ،وجائزة «و.هـ .سميث األدبية سنة 1990م عن ملحمته
«أومريوس ،هومريوس» ،ثم جائزة نوبل لألدب سنة 1992م .ورث اليشء الكثري من والده ووالدته التي بدأت حياتها مُدرّسة ثم مديرة مدرسة .يقول عن تأثره الحتمي بهما« :تويف والدي وأنا يف السنة األوىل من عمري .كان يرسم ويكتب الشعرّ . ظلت والديت دومًا تع ّده نموذجً ا .منذ شبابي ق ّررت أن أحمل
70
ُّ التعلم ،عن طريق القراءة وتقليد الشعراء الكبار .يف تلك مشعله .هكذا اعتمدت عىل نفيس يف ّ املرحلة ،لم تكن هنا دور للنشر أو متاحف .ك ّنا نتعلم كل يشء من الكتب واملدرسة» .وألنه ّ والتعلم الحصيف من اآلخرين ،فإن الشاب ديريك كان يمتلك موهبة الحفظ السريع نهل كثريًا من مكتبة والدته واملكتبات املوجودة يف محيطه ،حيث صادف الشعراء الكبار: شكسبري ،ويت يس إليوت ،وإزرا باوند .ويف س ّنه الرابعة عشر نشر أوىل قصائده يف إحدى الصحف املحلية .وقد كانت تلك القصيدة بداية أوىل لعمل شعري ضخم كان بمنزلة «أرخبيل شعري» حسب تعبري صديقه الشاعر جوزيف برودسيك ( 1996 -1940م).
الفقرة أعاله ،املقتطفة من حوار طويل كان قد أجراه معه «ملحق الكتب» بجريدة لوموند الفرنسية ،تختصر جميع النزعات اإلنسانية واألدبية التي ّ ظل والكوت متشب ًّثا بها .فالرسم ،الذي أمسك مشعله من والده ،هو ما جعله يمارس بإتقان فنّ األلوان ،ويُصدر كتابًا جميلاً رفقة الرسام «بيرت دواغ» .وتقليد الشعراء الكبار منذ ِس ِني شبابه األوىل عبرّ عنه بهذه الجملة وهو يف
السبعني من عمره« :الخوف من التقليد يُخيف ُّ الشعراء ِّ الصغار وحدهم». وظائف طقسية َ أعطى والكوت الشع َر وظائف طقسية،
بمعنى أننا حني نتوجه إىل كتاب إبداعي ،أو إىل ّ «فإننا نذهب هادئني، مجموعة أشعار نحبُّها،
بصمت ،وباحرتام قد ينقلب إىل وجع من املؤ َّكد أنه العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
سيُعيد تأكيد القناعات .ال وجود لشعر الضرر لل ّروح اإلنسانية ،وإال ّ ّب ّ فإنه يسب ُ ليس بالشعر» ،وبذلك فقد ّ ظل والكوت
يدعو جميع املجتمعات إىل املشاركة يف تلك ُّ ويحث الشعراء عىل التجربة الطقسية. أن يوجّ هوا اعرتاضهم ض ّد ُّ الظلم وفقدان الحس اإلنساين .وقد استعمل يف محاضرة
نوبل التي حملت عنوان« :األنتيل :شظايا
ذاكرة ملحمية» مفاهيم واستعارات تعبرّ عن ّ الشتات اإلفريقي واآلسيوي ،الذي شبهه بملحمة «رامايانا» الهندوسية.
والشتات طالع من وجوده كمواطن
ّ تشكل جغرافيًّا وثقافيًّا يعيش يف جزر ودينيًّا رم ًزا ّ للشتات والتشظي؛ فهو شاعر ناطق باإلنجليزية ،تربّى يف حضن ّ أقلية بروتستانتية ،يف جزيرة ذات أغلبية كاثوليكية لها ثقافة ّ التشظي املر َّكب يُنتج ما عبرّ عنه يف خطاب نوبل فرانكفونية .لكن هذا
بهذه االستعارة الرائعة :حني تنكسر مزهرية ويُعاد جمع أجزائها بحب أكرب من الحب األول حني كانت سليمةّ . والصمغ ُتصبح محاطة ّ
الذي يُعيد جمع القطع ّ والشظايا يعيد ترسيخ الشكل األوّيل .وهذا
الحب هو ما يوحّ د الشظايا اإلفريقية واآلسيوية.
يُع ّد ديريك والكوت من الشعراء الكبار القالئل الذين نقلوا املكان شعريًّا ّ ً ً متشظية .ممّا دفع العديد من دارسيه، ذاكرة وخلدوه
نستشهد هنا بدراسة للناقدة األنتيلية دومينيك أوريليا ،إىل ع ّد ً مرتبطة شديد االرتباط بمفهومي املكان والذاكرة. شعرية والكوت
ٌ مرتبط عضويًّا بالتاريخ .فحسب والكوت املكان يصنع املكانً ،إذا
عد ديريك والكوت من الشعراء الكبار ُي ّ
شعريا القالئل الذين نقلوا المكان ًّ وخلّدوه ذاكرةً متشظيةً جمهورية اسمها الشعر
تجسد بقوّة يف محاضرة هذا االرتباط الوثيق بأدب األنتيل، ّ نوبل ،حني ذ ّكر والكوت بأنّ الشاعر سان جون بريس كان أول أنتييل
يحصل عىل جائزة نوبل ،هنا مقتطف مما قاله والكوت« :لقد وُلد بريس يف غواديلوب وكتب بالفرنسية ،لكنه لم يجد ما هو أش ّد طراوة ووضوحً ا من اإلحساس من تلك القصائد التي كتبها يف طفولته...
ومن صوت الصفحات وأشجار النخيل التي تتمايل مثل صعود رائحة
الذاكرة ،واملكان يقرأ الذاكرة ويقولها بمختلف اللغات التي يتحدثها
القهوة عىل األدراج» .إن والكوت يحتفل بعبقرية شاعر كاريبي ،رغم أن بريس كان ّ لبعض ،رم ًزا الحتالل الجزر من طرف يمثل ،بالنسبة ٍ
جديدة عىل عالم أراده أن يكون آدميًّا .ورغم ذلك فإن والكوت َّ ظل منفل ًتا من التصنيفات الثنائية الضيقة التي تستند عىل مقولة
بهذه املفارقة« :لكنها مفارقة هذه الجمهورية التي اسمها الشعر؛ إذ ال أكاد أُبصر أوراق امللفوف أو جريد النخيل وهي تتمايل عند الفجر،
الناس املقيمون فيه .املكان لغة وثقافة.
شعر والكوت إقامة جديدة يف تلك األمكنة ،ويُطلق تسميات
ال ّتهجني ،وذلك أمر طبيعي بالنسبة لكاتب أصدر أكرث من عشرين مجموعة شعرية (لم ُيترَ جم منها إىل العربية إال مجموعة من
القصائد كان الفضل فيها لصبحي حديدي وغريب إسكندر) ،والعديد من الدراسات ،وعشرات املسرحيات ُ(ترجم منها إىل اللغة العربية «عودة عوليس» بقلم الشاعر السوري ممدوح عدوان) .وبذلك ّ وطد انتماؤه إىل جيل من ُك ّتاب جزر الكاريبي األنغلوفونية الذين خلقوا يف أوطانهم أدبًا خصوصيًّا منذ خمسينيات القرن املايض ،قبل أن يُرغموا عىل املنفى (جورج المّينغ ،وف.س .نايبول ،وصامويل سيلفون)
احتجاجً ا عىل العيش يف مجتمعات شغلتها كثريًا فكرة إيجاد مكانة يف العالم ،جاهلة تمامًا أن ُك ّتابها وأدباءها قادرون عىل إيجاد ذلك
املكان داخل جغرافية العالم.
املستعمر األبيض الناطق بالفرنسية .لكن والكوت يستطرد وعيًا منه
إال وأخال أنها تتلو شعر بريس».
هذا الحوار النادر مع الطبيعة ،ظل مصدر ثنائيات كثرية عند
والكوت املسكون بسؤال األصل والهوية والجذور والتاليش .فكلما رأى غابة تحركها الرياح ،أو ساحلاً تصطدم به األمواج؛ ناح باكيًا القبائل املندثرة .متأ ِّملاً ضبابية األثر الذي ّ خلفته وراءها ،وأصبح مح ّددًا باالختفاء األبدي ،فيستخلص الشاعر« :م ّرة أخرى ليس هناك أح ٌد
هُ نا» .البكاء هو ما يبقى من كل ما ضاع وتالىش من املكان ولم تستطع
إنقاذه إال الذاكرة ،يقول يف حوار من مسرحيته «عودة عوليس»: السكلوب :عيناي تغيمان حني أضحك .يجب أن ّ تعلمني كيف أبيك. عوليس :حسن .أولاً يجب أن تفقد أشياء تحبّها.
71
قضايا
ما المشترك والمختلف في حضارات المنطقة؟
داعش والمهربون أخطر ما يهدد التراث اإلنساني في البلدان العربية صبحي موسى
72
القاهرة
في الوقت الذي كانت أوربا ال تزال في عصور الظالم كأنها لم تولد بعد ،كانت حضارات الفراعنة والبابليين واآلشوريين والسومريين والكلدانيين ترفع مشاعل الفكر في العالم ،هذه المشاعل التي حملها من بعدهم اليونان والرومان والفرس ،ثم سرعان ما دارت الدورة وعادت الريادة إلى المنطقة العربية عبر الفكرة اإلسالمية التي مزجت قانونها السماوي بتراث كل هذه األمم منتجة حضارة أنارت العالم لعدة قرون ،قبل أن يفقد قطار الشرق قدرته على مواصلة السير إلى األمامً ، تاركا ريح التقدم في يد األوربيين بتنويعاتهم من إسبان وبرتغال وإنجليز وفرنسيين وأميركان.
العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
باندالع ثورات الربيع العربي ،أصبح الرتاث اإلنساين
املوجود بهذه البلدان يف خطر ،فقد اقتحم اللصوص عام 2012م متحف حماة يف سوريا ،ونهبوا األسلحة القديمة التي
العالم أجمع بصور تدمري أعضائه معبد بعل شمني ،ثم
املدرج املسرحي الروماين يف تدمر ،ومعبد بل وأقواس النصر وغريها ،وهو ما َّ ذكر الجميع بالصفعة التي وجهها طالبان عام 2001م إىل العالم كله بتفجريه تمثال بوذا...
به ،كما نهبوا مدينة أبيال األثرية يف إدلب ،وهو ما جعل اليونسكو تصدر ً بيانا تدعو فيه الهيئات الدولة لحماية اآلثار
كل ذلك يجعل «الفيصل» تعيد التساؤل عن القيمة
بحجم روبرت فيسك يكتب يف الخامس من أغسطس عام
هل يتعارض وجود هذه اآلثار مع سؤال الهوية العربية أو
الصليبيني واملساجد العتيقة والفسيفساء الرومانية ،بات
تدمري تارة ،وتهريب تارة أخرى؟ وما املشرتك واملختلف يف
السورية ،وضمان عدم تعرضها للنهب ،كما جعل كاتبًا
2012م عن أن الرتاث اإلنساين يف سوريا ،بما فيه من قالع لقمة سائغة للصوص ،بعدها نشرت نيويورك تايمز تقري ًرا
قالت فيه رئيسة صندوق الحفاظ عىل املواقع الرتاثية العاملية
الحضارية التي تمثلها اآلثار املوجودة يف بلداننا العربية؟
اإلسالمية للمنطقة ،حتى تتعرض ملا تتعرض له اليوم من هذه اآلثار؟
يوين برينهام :إن حلب بها العديد من الكنوز األثرية النادرة التي تتعرض لألضرار الفادحة ،كهيكل آلهة العاصفة الذي
يعود إىل األلف الثاين قبل امليالد ،وأكدت اليونسكو يف فرباير
عام 2014م عىل أن عمليات التنقيب عن اآلثار التي تجري
يف مواقع متفرقة من سوريا غري قانونية ،ودعت جميع األطراف لوقف العنف يف املدن األثرية لحماية اآلثار ،مؤكدة أن «داعش» دمر مواقع إسالمية ومسيحية ويهودية،
ونسف أضرحة و ُدور عبادة يعود تاريخ بنائها ألكرث من
عشرة قرون.
ومُ ِّ قدرة قيمة اآلثار املنهوبة يف كل من سوريا والعراق
بنحو 15مليار دوالر ،ويف يونيو عام 2015م صفع «داعش»
73
قضايا
زاهي حواس :أمر فوق املعقول
بالنسبة ملصر يف عامي 2011و2012م
بد من تخبئة اآلثار املوجودة يف املتاحف يف بدرومات املتاحف،
وحدثت
وقوي يف حماية آثار البلدان العربية ،وال بد من إرسال
خرجت كميات كبرية من اآلثار الحقيقية
خلسة،
تعديات رهيبة عىل أرايض اآلثار
وجباناتها ،وقام بعض األهايل بنهب العديد من املقابر ،أما يف سوريا وليبيا والعراق
فقد دُمِّ رت عشرات املواقع واملتاحف ،وما يحدث يف ليبيا
وال بد أن تقوم الجامعة العربية واملجتمع الدويل بدور واضح رسالة إىل كل املتطرفني والحمقى املعادين للثقافة األثرية بأن َخ ْلقهم الفوىض وتعدياتهم عىل املواقع األثرية ونهبهم
متاحفنا لن يثنينا عن تكريم علماء اآلثار ،ويف مقدمتهم
العالم السوري الذي اغتيل عىل أيدي الجماعات املتطرفة.
وال أعتقد أن اإلسالم يف حد ذاته لديه مشكلة مع اآلثار،
وسوريا فهو أمر فوق املعقول ،فال أحد يستطيع أن يحيص
لكن املشكلة مع املتطرفني ،هؤالء الذين يسعون إلحضار
أو النهب والتهريب ،والجامعة العربية ال بد أن يكون لها
وهذه اآلثار تحقق مبيعات كربى لدى مهربي اآلثار ،ومن ثم
الخسائر التي وقعت يف آثار هذه البلدان ،سواء بالتدمري
دور يف حماية آثار هذه البلدان ،ففي مصر توقفت التعديات بحدوث االستقرار ،وقدرة الدولة عىل حماية املواقع واملتاحف
سالح وعتاد ،ومن ثم يبحثون عن كل ما يمكن بيعه، فكلما ضعفت يد األمن انتشر مهربو اآلثار ،وكلما ظهرت
جماعة ترغب يف التمويل قامت بعمليات تهريب كربي إىل ّ يحض عىل تدمري الخارج .الكتب اإلسالمية ليس فيها ما
األثرية ،لكن يف كل من ليبيا وسوريا والعراق فاألمر خارج نطاق السيطرة ،ويكفي أن نعلم أن عالم آثار سوريًّا جليلاً ،
اآلثار ،والقرآن نفسه حدثنا عن فرعون واحد بوصفه حاكم
ومن ثم يجب االنتباه إىل ضرورة حماية اآلثار بعيدً ا من
الذين يسعون إىل تدمري اآلثار تحت ستار اإلسالم من أجل
مناخ عدم االستقرار ،مما يجعل بعض األهايل والعصابات
ً سابقا. وزير آثار مصري
تخطى الثمانني من عمره ،اغتيل عىل يد املتطرفني.
أيدي املتطرفني وعبثهم ،إضافة إىل الفوىض التي يتيحها
74
الصغرية وغريهما يفكران يف االستيالء عىل آثار وبيعها؛ لذا ال
ظالم وليس كل الفراعنة وال كل عصورهم ،املتطرفون هم مصالحهم الخاصة.
عالم اآلثار السوري خالد األسعد الذي اغتالته داعش
العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
داعش والمهربون أخطر ما يهدد التراث اإلنساني في البلدان العربية
إياد السليم :النظام العاملي الخاطئ أثر
الحضارات
والرتاث
فينا قد يكون أكرب مما تتصوره
أنت ،فقيمنا ومبادئنا ،وكثري من
عاداتنا ،جاءت من هناك ،صقلتها التجارب
والحضارات،
وهنا
يحضر ظرفنا القاهر القايس
هذه األيام ،يف منطقتنا ،الذي لألسف ال يصقل وحسب بل ينهش ً نهشا .ظرفنا هذا ،يفوق الخيال ،وقد يصعب تصديق أحداثه ولو شاهدناها أمام
أعيننا ،ونقول :يا أسفاه ،ماذا حصل للبشرية؟ نحن وصلنا
القرن الحادي والعشرين وقلنا لقد تخطينا بشاعة األمور
اإلنسانية ،لكن ولألسف كانت مفاجأة كبرية لنا .غدا سياسيو النظام العاملي الجديد يتعسفون بأنانية كبرية ،بل بلؤم وحقد ،وغريزة حيوانية ،نعم هذا من أسباب الفتك بصروح
سياسات خارجية ومخابراتية حضاراتنا هذه األيام ،فمسيرِّ و ٍ تجاه منطقتنا هذه األيام ،هم مِ ن أعتى الحاقدين لألسف، وال يشبعون من تدمري ومحو حضاراتنا ،غري مبالني بكونها ً إرثا
ً وملكا لألجيال القادمة. عامليًّا ّ هؤالء يستغلون كل فراغ أمني وحاجة عسكرية،
تخريب أثريّ ،صفقات مباشرة لحصص ليقايضوها بأمر ٍ سياسية ،ولحصص عىل األرض ،مقابل تهديم الصرح األثري ً ظرفا ،تسمع فيه مقاتلاً يقول« :بوط هذا أو ذاك ،فرضوا عسكريّ واحد ،هو أهمّ من كامل آثار البلد».
مدير مؤسسة االستكشاف السورية.
خالد عزب :شكوك حول األساطري واملرويات القديمة
لبروز أطماع ومصالح بين قوى خارجية، وميدا ًنا لتصفية الحسابات بين أجهزة استخباراتية عالمية يكون فيها المواطن العربي وهويته الحضارية َح َط ًبا لحروب مفروضة ،يصاحبها نشاط مكثف لتهريب الممتلكات الثقافية العربية وإذا كان لدينا كعلماء آثار شكوك كبرية حول صحة
البابيل ،ومدى مطابقة السب ِْي روايات التوراة ،التي كتبت بعد َّ ّ
هناك تطور كبري يف علم اآلثار
مروياتها مع ما يمكن تسميته باملكتشفات األثرية ،فهل يصبح
إىل إعادة النظر يف املنطقة العربية
فمن املؤكد أن شبه الجزيرة العربية يف عصور ما قبل التاريخ
خالل الثالثني عامً ا املاضية أدى ككل ،فنحن نتحدث اآلن عن
وجود لغة أم ،ليست بالضرورة هي اللغة العربية التي نعرفها اليوم ،لكنها كانت لغة
فيها مشرتكات كثرية بني النحو والصرف يف اللغة
املصرية القديمة والنحو والصرف يف اللغة العربية ،وهناك
مشرتكات بني اللغة املصرية القديمة واللغة األمازيغية .هذه
املنطلقات إما أن تستخدم استخدامً ا سياسيًّا لتعزيز املشرتك العربي ،أو تستخدم للتفرقة العربيةُ ، ب القضية هو فل ّ
التوظيف السيايس لآلثار.
دائما مجاال منطقتنا العربية تشكل ً
لدينا اآلن شكوك حول بعض األساطري واملرويات العربية؟ كانت بها حضارات وأنهار وغابات ،ومنطقة الربع الخايل كانت منطقة زراعية ،وعليه فإننا نتساءل :هل نستطيع إعادة كتابة
تاريخ شبه الجزيرة العربية مرة أخرى؟ وذلك بناء عىل ما ُتو ِّ ُصل إليه من اكتشافات حديثة. وهذا كله يعني أننا خالل السنوات املقبلة سنعيد كتابة
تاريخ املنطقة مرة أخرى ،وربما بطريقة مختلفة ،ويصبح التساؤل امللحّ هو :هل سنبحث عن املشرتكات التي تق ِّربنا كأمة
عربية أم سنبحث عن االختالفات التي تباعد بيننا؟ أعتقد أن
األمر مرهون بالفعل السيايس الثقايف أكرث منه بالفعل الثقايف األثري نفسه.
متخصص يف اآلثار اإلسالمية.
75
قضايا
حسني عبدالبصري :العالم العربي املحظوظ
يعد سؤال البحث عن الهوية وماهية
هو االستمرارية والتواصل الحضاري ،ال االنقطاع الزمني، عىل أرضها الحضارية العريقة؛ مما يشكل لها تمي ًزا بني
من األسئلة املؤرقة دومً ا وأبدً ا يف عاملنا
لتلك البالد التي تعيش يف ظروف حضارية مغايرة لنهضتها
الوجود الحضاري يف العالم العربي العربي العريق قديمً ا ،الذي يعاين حاليًّا ت ــراجـعً ا حض ــار ًّي ــا كـبـي ـ ًرا عىل كل املستويات الحض ــارية.
ويزيد
من حرية ذلك
العالم وحرية أهله الوقوع بني هويات عدة تمتدّ إىل املايض
البعيد ،ويحيط بها الحاضر غري البهيج ،وال أحد يعلم مصريها يف عالم املستقبل الغامض .وتدخل اآلثار يف البالد العربية يف
هذا الخضم الهائل لتزيد من عمق السؤال ،وهوّة التناحر،
حضارات العالم قديمه وحديثه ،ويف الوقت ذاته تحديًا كبريًا
القديمة التي أبهرت العالم قديمً ا وال تزال تبهره .ومن دون
شك ،فإن وجود آثار تلك الحضارات يف األرض العربية، يجعل املواطن العربي مذهولاً من عمق الهوة الحضارية الفاصلة بني ماضيه املش ّرف ،حني كانت بعض الحضارات
املوجودة حاليًّا عىل األرض العربية سيدة للعالم القديم يف وقت كانت البشرية جمعاء تبحث لنفسها عن بصيص أمل يف الظالم الدامس الذي كانت تعيش فيه مسرتشدة بأنوار
حضارات العالم العربي الباهرة.
لكن السؤال الذي يثار باستمرار «:ملاذا نحن متخلفون؟».
وحدّ ة التعارض بني تلك الهويات املتعارضة. ً محظوظا من كثافة ووفرة ويمكن اعتبار عاملنا العربي
هذا التقدم املذهل الذي ما زال العالم يبحث يف أسراره وكيفية
متعاقبة يف أقطار عديدة ،لعل من بني أهمها الحضارة
معني بالكلية بالبحث عن تراثه ،بل أكرث من ذلك يساهم عىل ّ
املواد الحضارية األثرية؛ نظ ًرا الحتوائه عىل حضارات مهمة
املصرية القديمة وحضارة بالد النهرين وحضارات بالد الشام وغريها .ومن بني أروع ما يميز حضارات تلك البلدان العربية
عال« :كيف وصل أجدادنا إىل ويفكر العرب املحدثون بصوت ٍ حدوثه؟» .ويف حقيقة األمر ،فإن اإلنسان العربي الحايل غري
نحو من األنحاء يف العبث بهذا الرتاث العريق وتدمريه.
رئيس آثار منطقة الهرم واملتحف املصري الكبري.
76
الشرقي دهمالي :محور أطماع ومصالح عالمية املتأمل يف التاريخ العربي يجد أن منطقتنا العربية شكلت وستشكل دائمً ا مجالاً لربوز أطماع ومصالح بني قوى خارجية، وميدانا لتصفية مجموعة من الحسابات بني أجهزة استخباراتية عاملية يكون فيها املواطن العربي وهويته الحضارية َ ً حطبًا لحروب مفروضة يصاحبها نشاط مكثف لتهريب املمتلكات الثقافية العربية تؤدي إىل فقداننا جزءً ا غاليًا من تراثنا ،هذا
الرتاث الذي يباع بأثمان خيالية يف املزادات العلنية ،وأصبح قسم منه يف ملكية متاحف عاملية تتباهى بعرضه للزوار ،وتحقق
من ورائه مكاسب مالية مهمة ًّ جدا.
وبالرجوع إىل الخمس عشرة سنة األخرية فقط ،نجد أن عاملنا العربي عرف مجموعة من األحداث املتسارعة واملؤملة التي
أضرت كثريًا بمعالم تراثنا املشرتك ،من خالل استهداف «ممنهج» للمعالم البارزة للرتاث العربي كما سيتبينّ من خالل هذه
األمثلة التي سنوردها عىل سبيل املثال ال الحصر:
-استمرار عمليات الحفر تحت املسجد األقىص املبارك منذ عام 1967م إىل اليوم ،وما نتج عن ذلك من تشققات يف بنيته
األساسية وبخاصة يف الجدار الجنوبي ،إضافة إىل هدم أحياء عربية قديمة بالقدس الشريف من طرف الكيان اإلسرائييل.
تعرض املتاحف واملواقع األثرية لبالد الرافدين ،خالل االجتياح األمرييك للعراق سنة 2003م ،لعمليات واسعة منً حديثا السرقة والتهريب قامت بها ،يف أغلب األحيان ،عصابات دولية منظمة ومحرتفة تحت أنظار قوات االحتالل .وهنا أسرد دار بيني وبني الزميل املرحوم الدكتور توين جورج ،مدير متحف بغداد آنذاك ،خالل لقائنا يف الجمعية العامة للمجلس
الدويل للمتاحف بكوريا الجنوبية سنة 2004م ،أكد يل فيه عن «وجود حقائق تثبت أن ما ُسرق من التحف من املتحف العراقي
يف بغداد خالل األيام األوىل لالحتالل تم بشكل منظم عىل أيدي عصابات مدرَّبة ،كما يدل عىل ذلك طريقة اقتحام املتحف، ومن خالل درايتهم الدقيقة بمحتويات املتحف :ففي املتحف نسخة طبق األصل من «املسلة السوداء» لشريعة حمورابي
العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
داعش والمهربون أخطر ما يهدد التراث اإلنساني في البلدان العربية
عيل الحضوري :هدموا املقابر وتركوا األوثان
اآلثار الليبية تعرضت للنبش
والتشويه ،فبعد سقوط النظام سادت الفوىض ،وانتشر اللصوص، والراغبون يف البحث عن اآلثار من
أجل بيعها ،ولم يسلم موقع أثري ً بحثا عن يف ليبيا من النبش والحفر آثار فيه ،ولم يسلم العديد من اآلثار من التشويه سواء بالكتابة عليها أو
دهنها
بمواد
ً مرتبطا باإلسالميني إال فيما يخص كيميائية ،لكن األمر ليس
املقابر واألضرحة ،وهي تعود إىل عقود وقرون بعيدة، ً تحفا فنية مزدهرة بالنقوش واآليات، أغلبها كان يمثل
وهذه تعاملت معها الجماعات اإلسالمية بعنف؛ ألنهم يرونها حرامً ا ،يف حني تركوا األعمدة الرومانية وغريها رغم
أنهم يسمونها باألوثان ،وال نعرف آثارًا دُمِّ رت كما حدث بالشكل املروع يف سوريا ،لكننا نعرف ما حدث من تشويه
ونبش يف املواقع األثرية الليبية ،والقصة يف مجملها تجيء
77 املوجودة يف «متحف اللوفر» يف باريس لم يسرقوها ملعرفتهم بعدم أصليتها.
تتواىل عمليات التخريب للشواهد املادية للرتاث العربي لتصل ذروتها مع ما
نيني وتدخل أجنبي سافر، يسمى بـ«الربيع العربي» ،وما نتج منه من فراغ وانفالت أمْ ِ
وتفريخ ملجموعة من الجماعات املسلحة التي جندت ،لألسف فئة من أبناء جلدتنا، وجعلت من تدمري الرتاث وسيلة للتعبري عن وهمها ،ومن ّ االتجار يف التحف مصدرًا مللء خزينتها من العملة الصعبة .وهنا أكتفي بسرد مجموعة من األحداث املؤملة:
-تعرض مجموعة من اآلثار الليبية إىل التخريب والتنقيب غري املشروعني بعد
التدخل األجنبي سنة 2011م.
-سرقة مجموعة من القطع من املتحف املصري بالقاهرة يف ليلة «جمعة
الشرقي دهمالي
الغضب» يوم 28يناير 2011م.
-تفجري واجهة وبهو متحف الفن اإلسالمي بالقاهرة يف يناير 2014م ،وتدمري مدخل متحف العريش يف يناير 2015م.
-نهب وتخريب محتويات متحف املوصل يف فرباير 2015م ،وتدمري تماثيل الثور اآلشوري املجنح يف املتحف ويف «بوابة
نركال» األثرية ،التي ترجع إىل القرن التاسع قبل امليالد.
-قتل مجموعة من زوار متحف باردو الوطني بتونس يف هجوم مسلح يوم 18مارس 2015م.
-تدمري معابد وأقواس مدينة تدمر األثرية بسوريا ،وإعدام مدير متاحف وآثار املدينة د .خالد األسعد بتهمة العمالة
و«حراسة األصنام» يف أغسطس 2015م.
-تدمري مجموعة من املتاحف والبنايات التاريخية باليمن خالل العمليات العسكرية املتتالية.
األمني العام للمنظمة العربية للمتاحف وعضو لجنة األخالقيات باملجلس الدويل للمتاحف.
قضايا
بإغراءات من السياح أو مهربي اآلثار ،ومن ثم فالكل أصبح
يبحث عن اآلثار بطريقته ومجهوده الفردي؛ يك يبيعها ويصبح من األثرياء.
الرئيس األسبق ملصلحة اآلثار يف الجماهريية الليبية.
حسني العيدروس ..نقاط مشرتكة
الرتاث الحضاري عىل املعمورة ،يُعدّ
من الشواهد الحية عىل وجود اإلنسان وتفاعله ونشاطه الدؤوب واملستم ّر عىل مدى العصور ،سواء يف البلدان
العربية أم يف العالم أجمع .وإذا ما
اقتصرنا عىل البلدان العربية ،فإننا ال بد أن نتعايش تحت أي ظرف من الظروف ،وننىس هذه التقسيمات العقيمة ،التي
شتتت شمل األمة وفرقتها ،فمن خالل معظم التنقيبات
ُجدت شواهد تثبت الصالت والعالقات األثرية يف العالم ،و ِ بني الشعوبُ ، وعرف التالقح الحضاري فيما بينها ،ولوال َّ تحضرت األمة باألخذ والعطاء (التبادل)، هذه الصالت ملا
78
هذه السمة األخالقية التي تدلنا عىل الفضيلة يف عدم االستئثار واألنانية ،فالشعوب املحرومة ،هي الشعوب
املنعزلة ،املنكفئة عىل ذاتها ،ال تسمح بالتواصل مع اآلخرين ،وبالتايل ظلت متقوقِعة ،حتى انتهت وأَ َف َل نجمها
مهما كان سطوعه.
العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
ال بد أن تقوم الجامعة العربية والمجتمع الدولي بدور قوي في حماية آثار البلدان العربية ،وال بد من رسالة إلى كل المتطرفين بأن نهبهم متاحفنا لن يثنينا عن تكريم علماء اآلثار ،وفي مقدمتهم العالم السوري الذي اغتيل على أيدي الجماعات المتطرفة قد تكون الوحدة الجغرافية يف كثري من األحيان ،لها
أثر يف التقارب بني املجموعات البشرية التي تعيش فيها، وهذا األمر طبيعي وإيجابي ،ليس باالختيار ،لكن يف الوقت
نفسه قد تنشأ خالفات فكرية ،أو اجتماعية ،أو سياسية،
أو خالف ذلك ،تؤدي إىل نشوب نزاعات ،وهذه غالبًا طبيعة بشرية ،لكن باملقابل قد ُتحل وتعود إىل وضعها الطبيعي، ً وقد تتعقد ُ طرفا من األطراف. نهي وت ِ أستاذ اآلثار بكلية اآلداب جامعة صنعاء.
نصوص
نصوص عاشور الطويبي
شاعر ومترجم ليبي يقيم في النرويج
املصيدة الحجرية
ْ اقلب ما شئت ينقلب
الكثبان الرملية بنات الريح الجنوبية
أجل! هذا هو الحال حتى الساعة:
ُ بيت العناكب صغير على سفينة النجاة ِّ ٌ كمتسل ِق نخيل رشيق الوادي
الراقص يسأل الناس عن إيقاعه المسروق
قدور البدو شحيحة ورمادهم لم يبرد بعد بال سهام مسمومة
بال صيحات المعارك
يخرج الفارس إلى الميدان
وحده القاتل والقتيل
يس َ الع ُ الع ْط َشى اقتربي أكثر أ َّيتها ِ
هذه قالدتك على البئر
الج ّن على كتف الريح وهذه ضحكات ِ ِّ الس ُّر في فم المصيدة َّ الجن ُة في حوضها الكبير
يديك َ َ ونمْ على حكاية الغريب ُم َّد
دخلت األنعام في المصيدة الحجرية لقد ِ
ص ْر بئرًا اقلب المئذنة َت ِ
ص ْر بحرًا اقلب الجبل َي ِ ص ْر ًّ لصا اقلب اليد َت ِ
ً سجنا ص ْر اقلب القدم َت ِ ص ْر سرا ًبا اقلب النار َت ِ
ص ْر طائرًا اقلب النهر َي ِ
ص ْر حجرًا اقلب الشجرة َت ِ
َ مشنقة حبل ص ْر ٍ اقلب الضحكة َت ِ قت ُل و ُي َ حاكما َي ُ ً قتل ص ْر اقلب القصيدة َت ِ
ص ْر ألواحَ أناشيد اقلب السماء َت ِ اقلب األرض تصر ً أرضا أخرى
ُ تنهض الدنيا بغري جناح هل جناحٌ ُم ْل ًقى على األرض
جناحٌ ُتد ّوم به الريح ٌ ريشة جناحٌ في أ ّوله ٌ شهقة وفي آخره
ُ في عين ّ دواة حبر كل ريشة
كل دواة ٌّ وفي قلب ّ خط ال ُيشبه غيره ُ ُ مكحلة الفقراء الريشة ُ ُ حافظة أسرار القنديل الدواة الشهقة بال أزرار
هل تنهض الدنيا بغير جناح؟!
79
نصوص
مونولوغ لرجل الطربال محمد عبدالوكيل جازم
كاتب يمني
منذ ساعات وصديقه يُعانق ذاكرته ،يأبى مُ غادرتها يعبث بها ويبعثر كل محتويات ُغرفتها !..صديقه كان يعمل
في إحدى المنظمات اإلغاثية ...تتراءى أمام ُه صور لوجه صديقه الشارد وهو يَم ُّر على تلك الطرابيل والمرارة تسري في
جسده وقلبه ليتفقد أحوال النازحين من الحرب!.. ً ٌ ٌ ٌ انسياب من أبواب حرب َسرت في المدن والقرى والتباب وكأنها مكانا إال افترشت ُه وسلبت نضارته،.. حرب لم تترك
الجحيم التي ُفتحت !..كم يؤلم ُه ذلك الرجل «صاحب الطربال األزرق» يُقيم هو وزوجت ُه الذابلة وأطفال ُه الذين يتوسدون ً قسطا من القسوة ..بل إنهم ينالون القسوة ُكلها...ال يجدون حض ًنا لهم سوى ذلك العراء !..داهم ُه الحجارة كي ينالوا
ً باحثا عن زاوية ي ُّ ً بعيدا عن األنظار ..همّ بالمغادرة إلى َحل البكاء فيها» أراد البكاء الوجع المُ ضجر «ادعى الضجر ليرحل
الالمكان ..قادت ُه ُخطا ُه إلى مبنى مُ كفهر !..انطوى في تلك الزاوية وجاشت عيناه ..مر صديقه من أمام ذلك المبنى وسمع
نحيبًا خاف ًتا ،دخل إلى ُهناك ووجده قد مسح دموع ُه ولكن اللمعة ما زالت تتحدث في عينيه!..
قال صديقه وقد تراكمت في صدره الزفرات :ال تقل لي كيف حدث ذلك ألنني لم أنم منذ البارحة ،وتمنى قلبي التائ ُه
80
في الظالم الصراخ في كل القراصنة :دعوا مساكين الجبال يعيشون!!..
أأقول شي ًئا؟ طوال الساعات الماضية وأنا أفكر بحل ينقذ هذه العائلة؛ كيف لهم أن يتدثروا بطربال ثبته األب
بمسامير صدئة إلى جدار ذلك السور الطويل الذي يخفي مبنى البرلمان المتعثر ..نعم يا صديقي ،لقد أحسست بأن ً أحيانا ..كان ينظر إلى أطفاله حين همس لي «:لقد هربنا »!!...البيوت والدهم المصاب بثقب في القلب يتحدث بسعادة التي تركنا بياضها طحنتها الدبابات والمدفعية؛ شوارع وبنايات وقرى تف ّتت وتناثرت وتالشت كما لو أنها الرماد ..كنت
أرى ضحكته فأحس لثانية أن زعيق االنفجارات نهشت من عقله.. لن أُخفي عليك يا صديقي أنني في الحقيقة أجللته وأكبرته ،لقد استطاع أن ينقذ هذه الطفولة من مخالب
االرتطامات المهولة التي سببها بعض أفواه المدافع ...حاول الفتى فك قيود صدره ومحاولة النهوض والهروب من تلك الزاوية المكفهرة !..إال أن صديقه لحق به في أروقة المبنى ،وحين انتهوا إلى حديقة خلفية قال :ال تخف يا صديقي رُبما سينتهي بنا األمر إلى حديقة!!
ههه لكل نفق نهاية ،ولكن أال ترى بأننا في الظل المعتم لم نكن سوى أصوات؟ هل تتذكر الكهرباء العمومية كيف
كانت تضيء الممرات والردهات وتعيننا على السير؟
العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
ًّ حقا كل نفق يحتاج إلى إضاءة يا صديقي!! صمت الشاب المتحمس للعنة للحرب وكأن صبره قد نفد ..جلس على أحد الكراسي الم ّتسخة بالغبار وهو يردد :أعتقد بأن رجل الطربال شخص جبان ،وعليه أن يحيا تحت الطربال طويلاً !!.. هه مخطئ أنت يا صديقي..
آه كم هو شجاع ،لو رأيته لمرة واحدة وهو يتمزق في الجولة القريبة من قصر الرئاسة؛ مستنفرًا كل قواه الواهنة ً عارضا المناديل الورقية على المارة!.. ً بعيدا عن الحي الذي تسكنه ..وال تعتلف القات إال مع إنه العمل الوحيد والمتاح أمامه ..أنت لم تره ألنك ال تذهب
الجوقة التي تناسب صوتك ..حين رأيته ظننت بأنني قد رأيته من قبل ،وتذكرت أنه كان يعمل في إحدى المكتبات التي أحرقها القصف بمدينة تعز ..آه لو رأيته كيف يؤلب أطفاله وكأنه يلتقيهم أول مرّة ..لو رأيت كيف أخرج الخبز اليابس
من كيس حراري وألقمه طفلته ،التي نهضت من نومها للتو..
أعرف أنك تتململ ،تريد أن تقول شي ًئا ،ولكن أرجوك ال تقل فقط تعال معي لزيارته..
تعال واسمع حكايات اآلباء الذين
قتلوا أبناءهم لمجرد أن اليأس دب
ً جيدا ما يدور في في حياتهم ..أعرف
داخلك ،وما تفكر! أعرف أنك تريد
أن تقول :إنه ميت ال محالة؛ تريد أن
تقول :لماذا يموت رجل الطربال في ساحة المعركة؟ ولكن يا صديقي أنت
تجتزئه من عائلته ،تقصيه من فلذات كبده ..تريد منعه من إيصال رسالته
التي آمن بها ،دعني أتخيل اآلن هذه األسرة المنكوبة العارية،
وأولئك األطفال الذين رأيتهم ذات ليل يحملون الحقائب المدرسية
ينتظرون مولو ًدا خالل األيام القادمة!!
ربما انتهى الكالم بينهما ،لكن الحرب ال تزال مستمرة في ثرثرة تشبه
حممً ا بركانية ،أو جحيمً ا مفتوحة إلى األبد.
81
حوار
82
عا ِلم االجتماع العربي قال إنه ال يتحمل المنمطة االستقرار في األفكار ّ
الطاهر لبيب:
التشبث بماض غير تاريخي أظهر كائنات متوحشة ّ العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
التشبث بماض غير تاريخي أظهر كائنات متوحشة الطاهر لبيب: ّ
حاورته في تونس :حياة السايب صحافية تونسية
إنه ،كما يصف هو نفسه« ،ال يتحمل االستقرار في األفكار المنمّ طة وال في األفكار السائدة»؛ لذلك تتعدد االهتمامات المعرفية للطاهر لبيب عالِم االجتماع والمفكر العربي والباحث والكاتب التونسي الذي حقق منذ نشر كتابه «سوسيولوجيا الغزل العربي» في السبعينيات من القرن الماضي بالفرنسية ،ثم ترجم للعربية وصدر في طبعات عدة بتونس والمشرق العربي ،صي ًتا في الشرق وفي الغرب .وقد لفت كتاب «سوسيولوجيا الغزل العربي» االنتباه بسبب أن مؤلفه لم يطمئن كثيرًا لكل ما كتب من قراءات حول شعر الغزل العربي ،وركز مبحثه على المكانة االجتماعية لشعراء الغزل العربي ،مُ ِع ًّدا أن وجودهم في منطقة الهامش في المجتمع من جهة ومعايشتهم لـ«الهجر» و«الحرمان» و«العذابات» التي يتردد صداها بقوة في قصائدهم من جهة أخرى ،إنما هو ناتج من التهميش االجتماعي وليس من التمرد على قيم أخالقية أو دينية كانت تحكم المجتمع. الطاهر لبيب الذي درس في البداية في تونس ،ثم
انتقل إلى باريس ،وحصل هناك على الدكتوراه في علم االجتماع ،وعلى األستاذية في اللغة واآلداب العربية ،عاش
في مسيرته العلمية الطويلة مراحل عدة ،من بينها المرحلة األوربية والالتينو -أميركية غير أنه ،وفق تأكيده ،ال يشعر
أنه موجود حيث يجب أن يكون إال في مرحلته العربية.
لماذا يعدّ األمر كذلك؟ وكيف تفاعل مع األحداث السياسية
المفارقة األساسية هي أن الثورة التي تغييرية كبرى نحو المستقبل هي حركة ّ سياسية أفضت ،سياس ًّيا ،إلى سلطة ّ جناحين من الماضي ماضوية ذات ْ ّ
التي تشهدها المنطقة العربية منذ انطالقة ما يسمى
● هناك اليوم مسافة زمنية طويلة تفصلك عن تلك
ونزاعات وصراعات وإرهاب في أرجاء عربية؟ وكيف يقيّم
دار الثقافة بها اليوم اسمك ،وهي تقع بمحافظة وسط
بالربيع العربي من تونس وما تبعها من اهتزازات اجتماعية دور المفكر العربي اليوم في ظل التغييرات المتسارعة وفي
ظل تعدد مصادر الخبر وسيل المعلومات وبخاصة أنه من المهتمين بسوسيولوجيا الثقافة في الوطن العربي؟ ثم هل يمكن أن نتشبث اليوم بمفهوم المفكر العضوي وفق ما
طرحه غرامشي ،واألخير من بين المفكرين الذين تأثر بهم الطاهر لبيب وترك بصماته في مسيرته؟
...أسئلة طرحتها «الفيصل» على الباحث وعالم
االجتماع الذي اعترف بـ«أن إيقاع الحركة الثقافية ،رغم كل المبادرات الفكرية الفردية ،لم يساير ،في العالم العربي ،إيقاع التغيّر في مستويات ومجاالت أخرى».
وبطبيعة الحال كان ال بد من طرح اإلشكال المتعلق باللغة العربية ،فالمعروف عن الباحث أنه عبّر في
مناسبات عدة عن خشيته على لغة الضاد ولديه أدلة
علمية ،تؤكد انحسار استعمالها وترجّ ح تحولها إلى مجرد لغة للمقدس ...إلى نص الحوار:
اللحظة التي نشأت وعشت فيها في قرية صغيرة تحمل البالد لها مكانة رمزية واعتبارية مهمة بما أنها المحافظة التي انطلقت منها الشرارة األولى لما يسمى بالربيع العربي .هل كان لعامل النشأة دور في «صناعة» شخصية
الطاهر لبيب أستاذ علم االجتماع والباحث والمفكر
المعروف عربيًّا ودوليًّا؟ ■ أن يكون للنشأة تأثير في مسار الشخص فهذا مبدأ
عام يمكن إثباته من أوجه مختلفة .ولكن عندما يطول المسار وتكثر محطاته ومنعطفاته وتتراكم تجاربه يصبح من الصعب التميي ُز ،في بناء الشخصيّة ،بين ما يعود
إلى ظروف النشأة وما ال يعود إليها .وإذا كان ال بد من المجازفة بإرجاع بعض المالمح إلى ظروف نشأتي فيمكن
القول بأن هذه الظروف هيّأتني للترحال وجعلت منه، ً سلوكا فكريًّا .هذا الترحال جعلني ال أتحمل مع الزمن،
االستقرار في األفكار المنمّ طة وال في األفكار السائدة .لقد
بقيت أميل إلى المعارف ذات الحدود المتحركة وأستمتع
83
حوار
كثي ًرا في مناطق التداخل بينها ،من دون السكون في ّ ولعل انتمائي إلى العلوم االجتماعية اختصاص ضيّق.
ساعد على هذا الترحال الذي هو ،في نهاية األمر ،اعتراف
عربية من بينها دولة البحرين اليوم .كيف تقيّم تجربتك
في التعاون مع مراكز بحوث عربية وهل يمكن القول:
بنسبيّة الحقائق والظواهر .األهمّ من هذا أنّ الحديث عن ّ المثقف إحساسا قاسيًا بالتباس العالقة بين النشأة يثير ً
إن المنطقة العربية أصبحت تنافس البلدان الغربية في
عضوية وفاعلة مع موطن النشأة ،تتجاوز مجرد اإلحساس
الفكري بمرحلة أوربية ثم بمرحلة التينو أميركيّة كان
وبيئته األصليّة .أنا كغيري من المثقفين الذين يمدّ بهم َ ُ المدينة أشعر بالعجز أو التقصير في إيجاد عالقة الريف باالنتماء والوجدانيات المتصلة به .قد يكون هذا االنتماء وراء اهتمامي الفكري بالعدالة االجتماعيّة وبالصراع من أجلها وبالمفكرين الذين ّ نظروا لها .ولكن هذا ال يع ّوض
اإلحساس بالعجز أو التقصير.
استقطاب الكفاءات العلمية العربية؟ ■ شاءت ظروف تكويني ومساهمتي أن يم ّر مساري
لهما تأثير في مستوى النظريات والمقاربات واالهتمامات، ولكني لم أحس بأني حيث يجب أن أكون إلاّ في مرحلتي العربيّة التي هي األطول واألكثر حف ًزا للتفكير واإلنتاج.
صلتي بالمشرق العربي قامت على أساس اهتمامي
بالمسألة العربيّة ،من وجهة سوسيوثقافية بالدرجة
● كنت قد ّ حذرت منذ األيام األولى التي تلت الثورة
األولى ،وكذلك للمساهمة في مبادرات العمل الجماعي
انتظم بتونس بحضور المفكر والشاعر أدونيس وتنشيط
تأسيس الجمعية العربية لعلم االجتماع .من الصعب ،في
التونسية من السلطة ،واستمعنا إليك تقول في لقاء الشاعر الراحل محمد الصغير أوالد أحمد :إن السلطة وإن كانت بأيدي الثوريين تنزع نحو التسلط ،ويبدو أن ما حذرت منه قد وقع فعلاً في تونس وفي سوريا وفي اليمن
84
الذين لم يختاروا الغرب كوجهة مطلقة للعيش والعمل، َ َ وأقمت في دول اخترت السفر بين الشرق والغرب، بل
وفي ليبيا ومصر بعد نحو ست سنوات على قيام ثورات أو انتفاضات شعبية ،فهل ما زلت تتمسك بفكرة الفصل بين
الحدث الثوري والمد الثوري؟ لاً ■ حين قامت الثورة في تونس كتبت مقا قصي ًرا
قلت فيه :إن الثورات تأكل أوالدها وإن الخوف هو من أن
ً خصوصا في مجال العلوم االجتماعية ،ومنه المستقل، الواقع ،وإلى حد اآلن ،الحديث عن استقطاب فكري في العالم العربي .هناك انتداب كفاءات علمية متخصصة، بحسب حاجات بعض الدول ،ال يتسع لها المجال ،في
األغلب ،لكي تشتغل أو تنتج ،فكريًّا ،خارج وظيفتها التي تنتدب من أجلها .الوضع ً إذا مختلف عما هو في بلدان غربيّة حيث حرية التعبير واإلنتاج هما عامل استقطاب
أساسي.
● أنت اليوم الرئيس الفخري للجمعية العربية لعلم
تأكلهم باك ًرا .هذا الخوف بدا لبعض متشائمً ا ،ولكن تبيّن ّ محله .لقد غاب الفاعلون بسرعة وعادوا حدسا في أنه كان ً
االجتماع والمنطقة العربية ،كما تعلم تعيش تحوالت
اختيارًا وإنما ألن السلطة حتى لو كانت ثورية أو سمّ ت
وثقافية باألساس جعلتها محل دراسة المستشرقين
إلى مواقعهم ،سالمين وغير سالمين .لماذا عادوا؟ ليس
نفسها ثوريّة تنبني على صراع من أجل التموقع فيها ،مع تبرير هذا الصراع بمواجهة الثورة المضادة .هذا الصراع الذي
سرعان ما يتحول إلى صراع سياسي ،بعيدً ا عن المطلب
االجتماعي ،دفع مَ ن في السلطة الجديدة إلى إقصاء الفاعلين االجتماعيين حتى لو بقي يتكلم باسمهم .هذا، فعلاً ،ما حدث مع أبناء الثورة ،أي أولئك الناس العاديون
متواصلة ،وهي تحوالت نتجت عنها تغيرات اجتماعية والباحثين بالغرب .كيف تقيم ردة فعل علماء االجتماع العرب؟ وهل كانت الهزات الكبرى واالرتدادات كفيلة
بدفعهم نحو تجديد مناهج البحث وتطوير أدواتهم لفهم أفضل للظواهر االجتماعية؟ ■ إجمالاً ،يمكن القول بأن علماء االجتماع العرب،
الذين قاموا بها وضحَّ وا من أجلها .من هذه الوجهة ،ال
كغيرهم من المفكرين والمتخصصين فوجئوا بما حدث، ً مكانا وزم ًنا .هذا ال يعني أنهم لم يتوقعوا وكما حدث،
يمكن تحميلهم مسؤولية تعطيل أو انحراف المسار الثوري
فهم كثي ًرا ما أشاروا إلى التناقضات المجتمعيّة التي من
يمكن القول بأن الثوريين استلموا السلطة ،وبالتالي ال في تونس .أما المفارقة األساسية فهي أن الثورة التي هي
حركة تغييريّة كبرى نحو المستقبل أفضت ،سياسيًّا ،إلى سلطة سياسيّة ماضويّة ذات جناحيْن من الماضي.
● الطاهر لبيب من المفكرين التونسيين والعرب
العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
حدوثه ،في المطلق أو من جهة الحدس التاريخي، المفترض أن تؤدي إلى مطالب تغييرية كبرى ،وبالتالي إلى تحريك التاريخ العربي ،لكن استشرافهم للمستقبل لم يدرج ضمن توقعاته سيناريو الثورة ،في المدى المنظور.
ومهما يكن ،فقد تأكد أن النظريات والمقاربات واألجهزة
التشبث بماض غير تاريخي أظهر كائنات متوحشة الطاهر لبيب: ّ
المفاهيميّة المعتمدة لم تكن لها القدرة المعرفيّة
والتحليليّة الكتشاف ما كان يتفاعل ويتراكم من فعل
اجتماعي ،وراء الظواهر الظاهرة التي شغلت الباحثين .إن ما يحدث في العالم العربي منذ ربع قرن ،سواء كان كثورة
أو كفوضى أو كتوحش غير مسبوق ،هو مخبر جديد تمامً ا للبحث العلمي ولكنه ال يبدو ّأنه حفز ،بالقدر الكافي،
على تجديد آليات البحث االجتماعي .إن الخطاب العربي، إجمالاً ،لم يتغيّر ،بل ّإنه تراجع في مواقع كثيرة ،حيث تس ّربت إليه رؤى وأفكار كان يُظنّ أنه تمّ تجاوزها. العلوم اإلنسانية بقيت تلقينية
● تصاعدت التحذيرات بعد انتشار العنف في
البلدان العربية وتوسع بؤر التوتر وظهور آفة اإلرهاب
من إهمال العلوم اإلنسانية ،هل ترى أن اإلشكال يطرح بهذه الطريقة فعلاً ثم هل ترى أن المنطقة العربية
تولي العلوم بمختلف أصنافها االهتمام الالزم من خالل تخصيص االعتمادات وتشجيع البحوث العلمية وبناء مراكز البحوث؟ ■ إذا استثنينا بعض المجاالت التي لها استمرار تاريخي
كاللغة واآلداب وإلى حد ما الفلسفة فإن العلوم اإلنسانية
ّ خاصة بقيت مدرسية تلقينيّة، عمومً ا واالجتماعية بصورة
في األغلب ،ولم تترسخ في المعرفة العربيّة كعلوم تحليلية نقديّة ،وهذا ألسباب متنوعة يطول الحديث عنها .ومع الطفرة التكنولوجية حدثت هجرة واسعة إلى العلوم التطبيقيّة التي نادت بها أسواق العمل ،ولم َ يبق في «اإلنسانيات» إلاّ ضعفاء الحال في المعرفة .وقد نتج
يتغير، الخطاب العربي ،إجماال ،لم ّ
بل إ ّنه تراجع في مواقع كثيرة ،حيث ظن أنه َّ تسربت إليه رؤى وأفكار كان ُي ّ تم تجاوزها ّ
إليه .هذا هو الحل الذي يتبادر تلقائيًّا إلى الذهن. ● استفاق التونسيون وشعوب عربية أخرى عاشت
محنة العنف واإلرهاب التي تلت سقوط األنظمة الدكتاتورية على ما يسمونه بالتصحر الثقافي .فقد
تبيّن أن الشعوب ليست محصنة بالقدر الكافي ضد محاوالت التدجين ،وليست مسلحة بالمعارف وبالثقافة كي تواجه المشاريع الظالمية والدعوات للعودة إلى ما
عن هذا ما نالحظه من ِّ تدني مستوى العلوم اإلنسانية
تسميه بالمجتمع القروسطي ...كيف نفسر ذلك وبلدان
كونية ،ولكن ننسى أن البلدان المتقدمة لها متاريس ً خالفا للبلدان العربيّة حصينة وقديمة في هذه العلوم،
للمجتمع قادها مثقفون ومفكرون ورجال دين إضافة إلى
واالجتماعية في الجامعات العربيّة .قد يقال :إن الظاهرة
مثل تونس عرفت منذ القرن التاسع عشر حركات إصالح وجود مجتمع مدني نشيط ويقظ؟ ■ إيقاع الحركة الثقافية ،رغم كل المبادرات الفكرية
التي فقدت فيها هذه العلوم حتى سالمة اللغة التي تسمح لها بأن تكون دقيقة .ال يمكن أن نوجد حلولاً لمسائل ال
الفردية ،لم يساير ،في العالم العربي ،إيقاع التغيّر
منها ما هو غير مألوف في العالم العربي فإن إعادة االعتبار
ودينية بالدرجة األولى .الحراك الثقافي مصدر ريبة عند
ّ المركبة التي نفهمها فهمً ا سليمً ا .وإذا اعتبرنا التحديات إلى العلوم اإلنسانية واالجتماعية تصبح ضرورة بديهيّة .إن
المجتمعات العربية ،وكذلك أنظمتها السياسية ،هي اآلن
تدفع ثمن الجهل بذاتها الناتج عن تهميش أو إقصاء هذه
في مستويات ومجاالت أخرى ،وهذا ألسباب سياسية كل األنظمة العربية ويزداد حذرها منه بقدر ما يتجه نحو اإلبداع الذي ال يخلو ،بالضرورة ،من «البدعة» الف ّنية ،على
األقل .شخصيًّا ،أرى أن غياب مفهوم القطيعة في الثقافة
العربية اإلسالمية هو وراء كل العوامل الذهنيّة التي
العلوم ،خارج معارفها .وإذا أمكن تدارك الوضع فلن يكون ذلك إلاّ بناءً على قناعة وعلى قرار سياسي يعيد هيكلة
تعرقل المسار الثقافي العربي وتجعل انتكاسته ممكنة في
وييسر عمل الباحثين ويحفزهم وإمكانات وآليات متطورة، ّ
ساذجة ال تتضمّ ن التجاوز ،ولذلك يتناضد فيها كل شيء،
التدريس وينشئ مؤسسات جديدة للبحث ،بتصورات
كل لحظة .مقولة التراكم في الفكر العربي السائد مقولة
85
حوار
وتتداخل فيها كل األزمنة وكذلك كل األنساق الفكرية
تعوّدنا على رصدها وتحليلها بين الثقافة والواقع قد ّ ً خصوصا مع انتشار ثقافة معولمة تفككت أو تميّعت،
القنوات والكتب والصحف .والواقع ،كما أثبتت تجارب
الحس إن الكثير مما كان يعدّ ثقافة النخبة أصبح من ّ
والذهنية ،من األساطير والخرافات والشعوذات إلى أكثر ً عقالنية .هذا ما نراه يتتابع ويتحاذى ،يوميًّا ،في المبادئ
من الصعب ربطها بمكوّنات البنية االجتماعية المحليّة.
المجتمعات المتقدمة ،أن التغيُّر الذي ينقل مجتمعً ا
المشترك الذي تنشره وسائل االتصال الحديثة .وإذا
من مرحلة إلى أخرى ال يكون من دون قطيعةٍ مع ثقافة
وذهنيات مراحل سابقة .إن ظهور الكائنات المتوحشة اآلتية من تخيالت القرون المظلمة لم يكن ممك ًنا لوال
المثقف والمفكر .كل الناس مثقفون بطريقة أو بأخرى، ولكن ليسوا كلهم مفكرين.
بماض متخيَّل التشبُّث السائد ،في الحس المشترك، ٍ وغير تاريخي .هذا التشبث الساذج والعبثي ،في أغلب
ّ يعد الطاهر لبيب من المهتمين بفكر غرامشي، ●
ميسرة ورصيده جاهز .ولهذا السبب يمكن أن يتجلى في َّ
بعد تأخير كبير ،لكنك حذرت في الوقت نفسه من نسخ
حاالته ،ال يتطلب أي مجهود معرفي؛ ألن الطريق إليه أي بلد عربي ،ولو بدرجات وأشكال مختلفة .تبدو تونس ُّ تحص ًنا باعتبار تجربة من بين المجتمعات العربية األكثر
مجتمعها المدني وغياب الطائفية ونزعة االجتهاد الفكري والديني والميل إلى الوسطية ...،إلخ ،لكن وسائل االتصال
الحديثة تع ّرض بعض الفئات فيها إلى تأثير الفكر الظالمي.
وقد تبيّن لألسف ،أن هذا المجتمع التحديثي المنفتح هو، ً ً وحوشا نادتها الدماءُ فاستجابت لها في أرضها أيضا ،أنتج
86
أردنا المحافظة على حد أدنى من التصنيف فليكن بين
وخارج أرضها .مثال تونس يبيّن أنه ال بلد عربيًّا في مأمن
من هذه الوحوش .من يظنّ خالف ذلك لم يفهم الدرس. االستغناء عن مفهوم النخبة
ووجهت لومً ا للعرب على اكتشاف فكر المثقف اإليطالي أفكاره؛ ألن لكل بيئة خصوصياتها والبيئة العربية تختلف
بطبيعة الحال عن البيئة اإليطالية وعن البيئة الغربية ً مفيدا عمومً ا .فكيف يمكن لفكر غرامشي أن يكون للمنطقة ً إذا في ظل التحوالت التي تشهدها سياسيًّا واجتماعيًّا بالخصوص؟ ■ لفت النظر إلى المفكر والمناضل اإليطالي غرامشي
كان في فترة تبحث فيها الماركسية العربيّة عن مخارج نظرية من بعض االنغالق الدوغمائي الذي ّ عطل تحليل الخصوصية العربية .فكر غرامشي فكر ماركسي لكنه منفتح على أبعاد ومجاالت لم تكن الماركسية التقليدية
تأخذها بعين االعتبار .لقد قارن بين الوضع في روسيا التي
● هل نطبق على الحال التونسية ما أشرت إليه
حدثت فيها الثورة بصورة غير منتظرة وبين الوضع في ّ معقد أوربا الغربية ،واستخلص أن وجود مجتمع مدني
مقابالت بين الثقافة والحضارة أو الثقافة والطبيعة إلى
بثورة فيه من دون هيمنة أيديولوجية ،وهو ما يعني أن الصراع االجتماعي يتطلب عملاً فكريًّا يلعب المثقفون فيه
في كتابك «سوسيولوجيا الثقافة» عندما وجهت نقدك للمفاهيم المقترحة للثقافة ،وبخاصة تلك التي تضع
وجود مفهوم للثقافة ينتهي إلى عزل المعرفة عن الواقع، استقاللاً بعالم «أرقى» خاص بنخبة لها قيمها وتصورات
في أوربا يجعل من الصعب على الطبقة العاملة القيام
ً مألوفا دورًا أساسيًّا .لقد أبرز غرامشي بُعدً ا ثقافيًّا لم يكن
«عليا» .ثم كيف نميز المثقف اليوم؟ وما هي وظيفته في
في الرؤية الماركسية للصراع االجتماعي السياسي .هذا
بفضل الثورة الرقمية وتكنولوجيا المعلومات؟ ■ مفهوم النخبة انبنى في مراحل سابقة كمراحل
في المغرب العربي؛ ألن مثقفي المشرق العربي اهتم
ظل تعدد القنوات ومصادر المعرفة ووفرة المعلومات
ً خصوصا البعد بالذات هو الذي أغرى المثقفين العرب،
التحرير الوطني وبناء الدولة الوطنية أو في مراحل
أغلبهم بالجانب النضالي العملي .المغاربة جعلوا من ً «مثقفا» بالدرجة األولى والمشارقة جعلوا منه غرامشي
في أغلب البلدان العربيّة .في تلك المراحل أسند المثقف إلى نفسه أو أُسندت إليه أدوار كانت مرتبطة بأحالم
غياب ،ألن الظواهر الثقافية ،في معناها الواسع ،اتخذت ّ والمحلي .أما في أشكالاً خطرة على الصعيدين العالمي
نضالية كتلك التي عرفتها الستينيات وبعض السبعينيات
جماعية وبمشاريع وبدائل مجتمعية لم تعد قائمة اليوم .انتهت هذه األدوار التي على أساسها كان المثقف
عنص ًرا أساسيًّا في تركيبة النخبة .مفهوم النخبة نفسه أصبح غير ذي معنى ،بل اس ُتغ ِني عنه .إن العالقة التي العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
«مناضلاً » بالدرجة األولى .اليوم يعود غرامشي ،بعد
تونس فاستدعاء غرامشي ،في المدة األخيرة ،هو لفهم ّ المتوقع أن يكتشف صعوبات التحوّل الثوري ،ومن
المحللون أن هذه الصعوبات مرتبطة بعدم قدرة القوى الثورية على الهيمنة األيديولوجية .لقد كانت الثورة بمنزلة
التشبث بماض غير تاريخي أظهر كائنات متوحشة الطاهر لبيب: ّ
«حرب حركة» سريعة في وضع يتطلب «حرب مواقع» ً نوعا من السلطة أيديولوجيّة« .حرب الحركة» قد تزيل لكنها ال تستطيع إزالة الترسانة األيديولوجية التي تقوم
عليها ،وقد تضمن استمرارها بطريقة أو بأخرى.
● هل تعد ما يسمى بالربيع العربي قد أفقد
مفهوم المثقف العضوي الذي دافع عنه غرامشي بقوة آنيته؟ وهل المثقف اليوم في المنطقة العربية فاعل في المجتمع في ظل انتشار القنوات الفضائية ومواقع
التواصل االجتماعي وبرامج ما يسمى بتلفزيون الواقع َ المشهد اإلعالمي؟ واكتساح من يسمون بالخبراء ّ ■ أتذكر أن تدريسي في الجامعة لم يستقطب الطلبة مثلما استقطبه الدرس حول المثقف العضوي عند غرامشي .كان الطلبة أنفسهم يريدون أن يكونوا
مثقفين عضويين .كانوا يبحثون عن طريق االرتباط
بطبقات وحركات اجتماعية كانت تبدو لهم صاعدة. والواقع أن تعبير المثقف عن عضويته ،في المعنى الذي
أراده غرامشي ،كان صعبًا في الظروف العربيّة ،رغم السعي الفكري والنضالي إلى اكتسابها .على أنّ المفارقة ّ
التي ظهرت في المجتمع العربي عمومً ا وإلى حد ما في ً المجتمع التونسي هي أن من كان يُعَ دّ مثقفا تقليديًّا، حسب غرامشي ،أصبح أكثر عضوي ًّة من العضوي كما هي حال مثقفي الحركات الماضوية التي كان يظنّ ّ أنها مرتبطة بطبقات وحركات في طريقها إلى الزوال .ومهما يكن فإن
درس غرامشي هو في ضرورة تطويع النظريات والمقاربات حسب خصوصية المجتمع الذي يراد التفكير أو العمل من
أجل تغييره.
أنطونيو غرامشي
األوربية أنتجت أغرب الديمقراطيات ّ من ترمب ومن اليمين العنصري؛
أنتجت االستعمار المباشر ،والنازية، والفاشية ،وحربين عالميتين ً إضافة إلى فإن تراجعها ،بل غيابها في فضاءات حيويّة، ّ يؤشر على توجّ ه نحو اندثارها. عدم االكتراث بسالمتها،
االندثار يعني أنها لن تبقى ،عمليًّا ،لغة قوميّة أو وطنيّة،
بل لغة فئة خاصة ومحدودة ،هي في الجملة فئة مرتبطة بالمقدس .هذا ما حدث مثلاً ُّ للغة الالتينية ،وهذا هو
ٌ بعض بأنه ال خوف المقصود ،في نهاية األمر ،حين يقول
على العربية ألن القرآن يحفظها .صحيح أنه قد يحفظها،
لغة ال يتكلمها أهلها مآلها االندثار ● ي ّ َعد الطاهر لبيب أن اللغة العربية مهددة
لكنه يحفظها لهذه الفئة ال للمجتمع ،مثلما حفظها في بلدان إسالميّة غير عربيّة .وفعلاً ،هناك بلدان عربيّة لم
المقدس ال غير .هل يمكن مطالبة شعب أو أمة بالحفاظ
وبعض المناسبات الرسميّة .ال أناقش ما هو مفروغ منه
بالتهميش وبانحسار دورها االجتماعي وتحولها إلى لغة
على لغتها في ظل انتشار لغة عالمية جديدة ،لغة الويب: وهي لغة يتحكم فيها من بلغ مرحلة ما بعد الحداثة أي صناع تكنولوجيا المعرفة وتكنولوجيا المعلومات ،في
حين ما زالت المجتمعات العربية تناقش مسألة االنتقال إلى الحداثة؟ ّ يتكلمها أهلها أو يستغنون عنها بلغة ■ اللغة التي ال
أخرى هي لغة مآلها االندثار .هذا مبدأ عام ال أرى سببًا مقنعً ا الستثناء اللغة العربية من الخضوع له .وإذا نظرنا إلى وضع اللغة العربية الفصحى نظرة ميدانية موضوعيّة
يعد فيها وجود حقيقي للغة العربية خارج هذه الفئة ّ وبخاصة المعولمة من ضرورات المعرفة باللغات األجنبيّة منها كاإلنجليزيّة ،لكني أشير فقط إلى أن اللغة العربية الفصحى هي ،كغيرها من اللغات ،ستندثر إذا تواصل مسارها الحالي ،وأن التغ ّني بها وتمجيدها لن ينقذها من ذلك .لقد أشار طه حسين ،قبل ستين سنة ،إلى أن
اللهجات قد تتحول إلى لغات ،وأنه قد يأتي وقت يحتاج فيه التونسي ،مثلاً ،إلى من يترجم له ما يقول السعودي. المسألة مسألة وقت .المهم أن يدرك العرب ذلك ،وأن
يتحمل أصحاب القرار السياسي مسؤوليتهم التاريخيّة.
87
حوار
● يرى بعض المفكرين العرب من بينهم مثلاً
الدكتور هشام جعيط أن الصراعات اليوم في بعض
الثورات الشعبية في العالم وبخاصة األفكار التقدمية
العرب والمسلمين في حين ترى أن اآلخر بالنسبة لنا ال
التوهّ م بأن صعود اليمين في أوربا وأميركا هو صعود
البلدان العربية ،وإن كانت بين العرب فيما بينهم ،أنها ّ تحكم مطولاً في شؤون موجهة ضد الغرب؛ ألن الغرب ينبغي أن ينحصر في الغرب فقط .هل يمكن أن نطمئن
اليوم لصورتنا لدى اآلخر؟ وهل يمكن أن نراها في مرآة اآلخر من دون أن ترافقها مخاوف من رفضه لنا بسبب
ارتباط صورة المغاربي والعربي والمسلم اليوم بالعنف
والقيم الكونية؟ ■ الضعف العربي هو الذي يخلق عند العرب هذا يستهدفهم .إنهم ير ّدون الفعل وكأن أوربا وأميركا ال ترى غيرهم في العالم ،هذا في حين أنهم ليسوا إلاّ بؤرة من بؤر الصراع الجيوسياسي ،خلقتها مصالح مرحليّة.
وراء الشعارات واإلجراءات المعادية للعرب والمسلمين
واإلرهاب؟ ■ عندما كان العرب في مدّ هم الحضاري كان اآلخر
المجتمعات األوربية والمجتمع األميركي ،أي في صلب
يهتموا به ونظروا إلى أمم أخرى وأخذوا منها .تغير هذا
وأشباهه في أوربا هو من إفرازات مرحلة من مراحل ما
عندهم متعدّ دًا ولم يكن للغرب ما يعطيه للعرب فلم
منذ أن وجد العرب أنفسهم تحت سيطرة الغرب ،بدءً ا بالحروب الصليبية ومرورًا باالستعمار إلى اليوم .هذا ما يفسر أن الغرب هو اآلخر بالنسبة إليهم ،وكأنه ال يوجد
غيره في الدنيا .صحيح أن هناك خلفية صراع متخيّل مع الغرب ولكن التغيّرات،
ً خصوصا منذ تسعينيات القرن الماضي،
88
ثقافة جديدة تدير ظهرها لكل المكتسبات الناتجة عن
أسباب تتصل بالصراع االجتماعي والسياسي داخل النظام الرأسمالي الباحث عن تجاوز أزماته .نمط ترمب
يسمى نظامً ا عالميًّا جديدً ا .ومهما كان رأينا فيه ،ورأينا ّ مؤثر ،فإن صعود هذا النمط طبعً ا غير مطلوب وغير
إلى السلطة هو نتيجة تصويت الناس له .الديمقراطيات األوربيّة أنتجت أغرب من ترمب ومن اليمين العنصري؛ أنتجت االستعمار المباشر، والنازية ،والفاشية ،وحربين عالميتين .هناك رؤى ومقاربات متفائلة تستشرف مستقبلاً ال
بعثت مواجهات بين العرب أنفسهم وخلقت َ آخ َر جوَّا ِنيًّا تراجعت العداوة معه
يتحمّ ل استمرار عدم توازن النظام العالمي
يجعل من السهل إسقاط كل األحكام
قوى كبرى صاعدة أو عائدة إلى قوتها من ّ المتوقع أن تعدّ ل مصالحها من هذا النظام،
إلى الداخل العربي .أما صورة العربي فلن تتغيَّر إلاّ إذا تغيّر العربي .وضعه الحالي
السلبية عليه .من العجيب أن العربي
الذي يجلد ذاته ال يقبل أن يجلدها غيره. ّ يتشكى كثي ًرا من ثم إن العربي الذي ً تشويه صورته ال يتنبّه إلى أنه هو أيضا
يش ِّوه صورة اآلخر؛ ألن معرفته به مش َّوهة
ً بعضا يتحدث عن الغرب، ومحدودة .عندما نسمع
الحالي وكوارث النيوليبرالية المعولمة .هناك
ولكن أين العرب في هذا؟ قطعً ا ،لن يكون
لهم مكان وال وزن إن واصلوا مسارات التفرقة ً صيغا تجمع بينهم الحالية ،ولم يجدوا وتتجاوز الشعارات المستهلكة التي أصبحت
للتندّ ر أكثر مما هي للفعل.
ً خصوصا من وجهة معياريّة ،ال نشك في أن ما يتحدث لاّ عنه ال وجود له إ في خياله .هذا ،بالمناسبة ،ال يختلف
ما ينتشر باسم اإلبداع ال إبداع فيه َّ تمكن كتابك «سوسيولوجيا الغزل العربي» ●
يكن فإن خوف العربي الدائم من تشويه صورته هو عالمة ضعف ّ وقلة ثقة بالذات.
من رفض للمسلمات حول الشعراء العذريين وعدم
عما يقوم به عند الحديث عن البعيد من تاريخه .ومهما
من االنتشار عربيًّا وفي الغرب كذلك بفضل ما ورد فيه
التعامل معهم كمجرد تجارب فردية إنما كمعبرين عن
فئة اجتماعية عاشت مهمشة في بيئتها ،لكن كل ذلك
● تكتسح األحزاب اليمينية أوربا ،كما أن وصول
أفرز من جهة ِس َيرًا تاريخية مثيرة حتى وإن كانت الوقائع ً إبداعا ظل التاريخية تختلط باألسطورة ،ومن جهة ثانية
وهو باألساس اإلنسان العربي والمسلم ،هل ترى أننا
إنتاج فكر وإبداع حقيقيين حتى إن الثورات لم تستطع
دونالد ترمب للبيت األبيض أكد رغبة البلدان الغربية
في االنغالق على الذات واالحتماء بالقوميات ضد اآلخر،
دخلنا في منطق جديد تسيطر فيه على المجتمعات العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
ً خالدا إلى اليوم ...لماذا برأيك عجزنا اليوم إال ما ندر عن إنتاج خطاب ثوري حقيقي ،وهذا أمر تؤكده بنفسك؟
التشبث بماض غير تاريخي أظهر كائنات متوحشة الطاهر لبيب: ّ
ّ الشك في قدرة العربي على اإلبداع. ■ ال أحد يمكنه
المشكلة هي في صعوبة انتقال هذه القدرة من القوة إلى الفعل ،أي في عدم توافر ظروف اإلبداع .من المفروغ منه
أن الحريّة شرط أوّل لإلبداع ،وهي ،في الجملة ،محاصرة
في البلدان العربيّة ،سياسيًّا ودينيًّا واجتماعيًّا ،ولو
بدرجات مختلفة .تتضح هذه المحاصرة عندما ننظر ،ال إلى ما ينتجه المبدعون إنما إلى ما يتحاشون إنتاجه أو يُم َنعون من إنتاجه .الكثير مما ينتشر باسم اإلبداع ال إبداع فيه؛ ألنه مجرد تغطية رسمية مبتذلة لهذه المحاصرة .كل مجاالت
المعرفة والحياة تتسع لإلبداع ،لكنها محدودة ،عمليًّا، في العالم العربي لغياب الظروف المناسبة ،ال من جهة الحريات فحسب ،إنما ً أيضا لغياب المؤسسات والقوانين والتمويالت الحافزة على ذلك .اإلبداع العلمي ،مثلاً ،
سواء كان في العلوم التطبيقية أو في العلوم اإلنسانية واالجتماعية غير ممكن من دون توافر هذه الظروف ،ولذلك نالحظ انحسارًا عامًّ ا نحو اإلبداع األدبي والف ّني؛ ألن فيه
مرونة تستطيع ،نسبيًّا ،مواجهة الظروف الصعبة .اإلبداع
العربي سردي بالدرجة األولى ،وهو ،بالمناسبة ،اإلبداع
الوحيد الذي يُترجَ م إلى لغات أخرى ،أي أنه النمط الوحيد الذي يُعت َرف باإلبداع العربي فيه .اإلبداع هو إنتاج المعنى. هناك نصوص فكرية وأعمال أدبية وفنية عربيّة لها طابع
ريادي أو تأسيسي ،هذا ال شك فيه ،ولكن الثقافة السائدة،
غياب اللغة العربية الفصحى في
عربيًّا ،تنتج الالمعنى وتعيد إنتاجه .كل ما هو تكرار ،وكل
حيوية ،إضافةً إلى عدم فضاءات ّ ِّ توجه يؤشر على االكتراث بسالمتها، ّ
ال ينتج المعنى ،ورغم ذلك فهو السائد ،لألسف .الثورة
نحو اندثارها
ما هو مفروغ منه ،وكل ما هو لغة خشبية أو كالم فارغ
نفسها أعطت الكالم إلى من كانوا محرومين منه ،لكنها لم متماسكا ،ولم ّ ً تقلل من إنتاج الالمعنى. تنتج خطابًا
الترجمة من أبرز عناوين العجز الفكري السياسي العربي َّ معلقة ،هي تلك التي تخص عالقة العرب ● من األسئلة التقليدية التي ُتطرَح باستمرار لكن اإلجابة عنها بقيت
بالترجمة وأنت تهتم بالترجمة من قريب ،وكنت لسنوات مدير عام المنظمة العربية للترجمة ببيروت .فكل األرقام ً وكيفا رغم اإلقرار بأهمية الترجمة واالنفتاح على ما ينشر والدراسات تؤكد أن الترجمة ضعيفة في بلداننا العربية كمًّ ا ً وانطالقا من تجربتك؟ وهل عملية اإلصالح ممكنة؟ في الخارج .أين يكمن الخلل برأيك
■ الترجمة من أبرز عناوين العجز الفكري السياسي العربي .فكريًّا ،لم يُفهم ُ بعد أن الترجمة ليست خيارًا ،إنما هي ضرورة لنقل المعارف ،وللحياة الفكريّة ،وإلنعاش اللغة العربيّة ً أيضا .سياسيًّا ،لم يُفهم ُ بعد أن المبادرات التي
ً يقوم بها بعض الدول العربية ،هنا وهناك ،مهما كان حجمها ،ال ّ مقارنة بما هو مطلوب على تمثل شي ًئا ذا بال، ً سرعة .أظن أنه لو كان العرب في حجم دولة صغيرة الصعيد العربي؛ لتدارك الفجوة في المعارف التي يزداد إيقاعها
ً عمقا من وعيهم القومي بها .يطول الحديث عن الوضع الكارثي للترجمة، واحدة لكان وعيهم الوطني بالترجمة أكثر ّ تتمثل في قرار سياسي عربي صارم في العالم العربي ،وهو وضع ال أراه قابلاً لإلصالح إال بمعجزة سياسية عربيّة، ونافذ ببعث مؤسسة قومية ،ذات هياكل وفروع وآليات متط ّورة وذات إمكانيات مادية وكفاءات بشريّة واسعة .في
انتظار ذلك ستبقى الترجمة رهن مبادرات عابرة وخيارات تجاريّة ،وسيبقى ضرر أغلبها أكثر من فائدته؛ النعدام دقته المعرفية وأمانته األخالقية.
89
مقال
محمد خضير كاتب عراقي
البصرة -اإلسكندرية ماتت المهندسة العراقية زها حديد ولم تقدّم
تصميمً ا واحدً ا لمشروع عصري يقام في بلدها األصلي العراق ،مثيلاً للتصميم الذي اقترحته لتطوير أرض
المعارض المصرية (كايرو أكسبو سيتي) ،أو لمحطات
القديمة ،وطريق المعرفة المتصلة بين إسكندرية الفكر
األفلوطيني وبصرة الفكر اإلسالمي ،وما يجاورهما ويقع على َّ خط ْي نهضتيهما من حواضر التنوير والتمدين العربية.
المترو والجسور والمتاحف في مواقع مختلفة من العالم.
ال تضمّ البصرة العظمى (بتسمية سليمان فيضي ،أحد
فصلت زها عن األرض العراقية ،فلم تحتضن ضفاف دجلة
على استباق حركة الزمن الكوكبية ،وال يشهد مربّعٌ من مربّعاتها
المهندسة العالمية بلمسات رافدينية على بيئة نائخة
اإلشراق في القرون الهجرية األربعة األولى ،وال يُسرع بالظهور
يتساءل الحضريّون العراقيون عن المسافة الشائكة التي
أو شط العرب واحدً ا من تلك األجنحة الطائرة لتصميمات
90
وثورته على الجمود العقلي ،هذا الذي قد يسمّى بحوار المدن
بثقلها المعماري الصحراوي.
ال أعرف كيف ضاعت هذه الفرصة الحضارية ،لكنني
ال أزال أتخيل المنظر الفضائي لزاوية التقاء األنهر الثالثة في القرنة (دجلة والفرات وشط العرب) ،والمنبسطات
السهلية التي ستضيف زها لمساتها على هذا الموقع،
وما ستزيده مهندستنا من امتداد قد يفوق تصميم ذلك
القرص الدائري المائل لمكتبة اإلسكندرية ،شاهدً ا على
اضطجاع الروح المصرية الحكيمة بين أذرع النور والمعرفة
والحداثة المادية إلى أزمان قادمة .كان هناك أمل في
ٌ قرص للشمس من بين صفوف النخيل جنوبي أن يرتفع العراق ليشع بما شعّ به أثر سومري استق ّر في المتحف
العراقي ،وضاع مع غيره من اآلثار في غزوة 2003م.
تستحق مدينة الورّاقين (البصرة) التي يلهو سكانها
مثقفي مطلع القرن العشرين) في حاضرنا هذا بناءً واحدً ا قادرًا القبليّة أساسً ا من األسس التي بُنيت عليها حوارات فلسفة
نجمٌ مذيَّل على منحنى مستقبلها؛ فهي اليوم مربّع للصمت المطلق يهرع كالمي إليه ليبني تصوّره عن مدينة القواقع
واألحياء البرمائية التي تنزلق على سطوحها أفكار االتصال
اليوتوبية .فالمبدأ التصميمي لمنشآت كورنيش البصرة يفارق
وظيفته األصلية ليلتحق بوظيفته الجمالية المكوّنة من سلسلة
قواقع حلزونية المظهر ،ترتفع في الفضاء وتتبادل الوظيفة االتصالية بالزمن والمعرفة. أحالم النهر الشائخ
إنه حلم من أحالم النهر الشائخ يفرزها يوميًّا على ضفتيه،
تشكيل دائبة للصمت النابع من درع الطبيعة .حلم في حركة ٍ َّ لتصميم من تصاميم زها حديد غير المنفذة ،مرك ُز ُه هذه يرتقي ٍ
الحركة الطبيعية اليومية وإفراز مشغلها الجمالي والمعرفي.
ً استراحة وسط غابة من النخيل بألعاب الزمن القديمة،
ٌ قوقعة هائلة الحجم أما أعلى قمَّة في هذا التشكيل فستمثله
والتقابل مع مكتبة اإلسكندرية .ال حدود لهذا المنظر
مكتبة اإلسكندرية المدفون في األرض ،ومشغله االتصالي ب على شاطئ البصرة المديد ٌّ دال على زمن الجاحظ الجامعُ .ن ْص ٌ
مبني على سبيل التناظر تتوغل طرقها إلى قلب بناء ّ
االفتراضي ،حيث تتسلسل المباني من ملتقى شط العرب َّ ُستغل حتى مصبّه ،على جانبي كورنيش طويل (لم ي من طوله حاليًّا غير كيلومتر واحد) .وال عائق أمام هذه
ذات فضاء داخلي حلزوني ،يناظر الجوف الفضائي لقرص
والفراهيدي والحريري ،يقودك إلى إسكندرية كفافي وداريل والخراط وزمنها الذي طوى في ِّ ظل قرصه الروحَ المصرية
تصميمات الخامة النظرة التي تستخرج من السهل الطيني ِ
الشغوف باألسرار.
المعرفي الكالمي الممزوج من هدوء الطبع اإلنساني
الممزوجة بلعاب العصور والثقافات ،ونصوص الكلمات
السمراء ،وجماليات البيئة الخضراء ،وموحيات الجدل
العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
البصرة -اإلسكندرية توأما الضوء والرياح ،مثاال المدينة
الهجينة .استبدلت البصرة عمرانها مرارًا ،ونسخت خططها من
خراب إلى خراب ،حتى هجرت الصحراء ،واستقرت على جبهة
ً أسواقا الستقبال تجارة الشرق ،وكيّفت أسرار النهر .أنشأت لها
حريمها لنوع معماري من الشرفات الخشبية سمِّي بالشناشيل. ّ تخلت عن صراحتها البريَّة لتتاخم ً بيئة بحريَّة ،كانت تأتيها بعجائب المخلوقات ،ويخرج منها سندباديُّون مغامرون.
انتقل اإلرث الشفاهي ليقيم في صوامع الطباعة التي جاءت بها
حمالت أوربا االستعمارية مع أحدث المخترعات .لكنها بين حلم
وآخر تستفيق على ّ نص لم يكتمل ،وتصميم ضاع سبيله إليها،
فتستدير إلى توأمها اإلسكندرية.
مقابل التوأم البصرياثي اصطبغ التوأم اإلسكندراني بمعمار
األقوام التي غزتها أو هاجرت إليها منذ تأسيسها على يد اإلسكندر المقدوني العام الميالدي .232حاولت الهوية المزدوجة ّ تختط وسائطها العابرة للتحوالت السياسية ،وأن لإلسكندرية أن تستبقي لها ما ّ يدل على قبولها القسمة بين اإلرث االستعماري،
زها حديد
فتمسكت بفنارها البحري ،ومسرحها العثماني واألوربي، ّ
الروماني ،وبأسوار قلعة قايتباي ،وسراي رأس التين ،وقصر
المنتزه ،ومحطة الرمل ،وكوم الدكة ،ثم أخلت المكان القديم
الحضريون العراقيون عن يتساءل ّ
ّ يمتص الفائض الثقافي في الشرخ المتأصل في بطليموس لكي
ضفاف األرض العراقية ،فلم تحتضن ُ
حي الشاطبي لقرص المكتبة المائل على أنقاض مكتبة في ّ هويتها ،والتنافر السكاني المتعايش في بيئتها.
اإلسكندرية واألهواء األجنبية وبعد أن ّ مكنت اإلسكندرية األهواءَ األجنبية من ناصية َ َّ المفصل أسواقها ومالهيها ،وأعطت فورستر مادة دليل ِه
المسافة الشائكة التي فصلت زها عن واحدا من تلك دجلة أو شط العرب ً األجنحة الطائرة لتصميمات المهندسة العالمية بلمسات رافدينية على بيئة نائخة بثقلها المعماري الصحراوي
لمعالمها ،وداريل شخصيات رباعيته الروائية الداعرة ،وكفافي
قصائ َده الكفيفة ،عادت فاحتوت الشخصيات النقيضة لإلرث الغريب في روايات نجيب محفوظ وإدوار الخراط وإبراهيم
عبدالمجيد وبهاء طاهر ،وقبلت بإضافة وجودهم البلدياتي
العابر على متن هويتها األممية ،كل ذلك ألنّ البحر الذي أنجبها
من ظلماته ما زال يطالبها باستقبال هجرات وحمالت يولسيسية
من الجانب اآلخر للعالم .أن تأخذك اإلسكندرية إلى البصرة،
أو تدير بصرك عن توأمها فتضيع منك؛ أن تقتبس رؤياك من
أخفقت ،وآمالك التي أحبطت ،دع عنك التوسالت غير المجدية. و ُكن كمنْ هو على أهبة االستعداد من قديم ،كشجاع
جريء ،ود ّْعها ،ودّع اإلسكندرية التي ترحل .وباألخص ،حذار أن ُتخدَع ،ال تقل :إنّ األمر كان حلمً ا ،وهمً ا في أذنيك وكذبًا،
ٌ آمال بالية مثل هذه ال ُتصدّق .كمنْ هو على أهبة االستعداد من لاً لاً قديم ،كشجاع جريء ،كما لو كنت أه لها ًّ حقا ،أه لمدينة
حوضها المُزبِد بالهويات العابرة أو تهاجر إليها بهوي ٍة بصرياثية
اقترب بخطا ثابتة من النافذة ،واستمعْ بحزن ،ولكن مثل هذه، ْ
القصيدة التي كتبها كفافي عن مأساة أنطونيو: ً «عندما تسمع في منتصف الليل فجأة ،فرقة من المغنين،
األصداء المبتعدة ،واستمتعْ بها ،استمتع بالنغمات الرائعة من الفرقة الخفيّة التي تمضي إلى الزوال.
ّ يصمّ اآلذانُ ،ك َّف عن أن تندب ّ وخط ْط حياتك التي حظك الذي ضاع
إلى األبد».
فقيرة؛ لن تجد ما هو أقرب إلى قلب اإلسكندرية من هذه
تم ّر في الطريق غير مرئية ،بموسيقاها الصاخبة ،بصياحها الذي
بال توسالت جبانة ،وال شكاوى ذليلة .استمعْ حتى النهاية إلى
ود ّْعها ،ودّع اإلسكندرية ،اإلسكندرية التي تضيع منك
91
تحقيقات
أدباء في الظل.. هل لعبت الميديا دو ًرا في تكريس كتّاب وتهميش آخرين؟ 92
العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
دورا في تكريس كتاب وتهميش آخرين؟ أدباء في الظل ..هل لعبت الميديا ً
خاص
ً جيدا في الخمر ،فلما سمعه منه يقال إن أبا نواس التقى ذات يوم شاعرًا نظم بي ًتا َّ مقدمً ا على جميع أبو نواس استحسنه ،وبعد أيام التقاه في مجلس األمير ،وكان أبو نواس لاً الشعراء ،فأنشأ قصيدة تضمنت بيت صاحبه ،فلما استنكر الرجل ذلك ،نظر إليه األخير قائ : أيعقل أن يقال بيت جيد في الخمر وال يكون لي؟ يقال ً أيضا :إن المنافسة بين عميد األدب العربي طه حسين وخصمه الدائم الدكاترة زكي مبارك دفعت العميد إلى استخدام سلطاته لمنع غريمه من التدريس في الجامعة ،مما دفع األخير ألن يطبع كروت تعارف كتب عليها: «الدكاترة زكي مبارك ،حاصل على عالِميَّة األزهر ،ولم يحصل عليها طه حسين». ربما تجيء هذه ُّ الط َرف يف إطار الفكاهة التي تنسب إىل الخصوم ،لكنها توضح أن تاريخ األدب العربي ُع ِرف من مظلومي األدب أكرث من مشاهريه ،فلكل عصر عبقريّ
حسبما قال رجاء النقاش يف إحدى مقاالته يف الستينيات عن نجيب محفوظ ،لكن هذا العبقري يك تتحقق عبقريته وحده فإنه بوعي أولاً وعي منه يحجب الضوء عن الكثريين ،ويفقد
األدب كثريًا من ُك َّتابه املهمني ،ال ليشء سوى أنهم ولدوا يف
عصر كاتب أو شاعر شهري ،أو ألنهم لم يفطنوا إىل دوالب األلعاب السحرية للميديا يف زمانهم ،فلم يستطيعوا الرتويج
لكتاباتهم ،ولم يتمكنوا من التواصل مع الجماهري الغفرية، ً مغبونا بمظلوميته دون أن ينال اعرتاف وربما مات بعضهم النقاد بكتاباته ،مما يجعلنا نقول« :ياما يف األدب مظاليم»، تلك املقولة التي عبرَّ عنها العرب قديمً ا بقولهم« :وأدركته
حرفة األدب» ،بما تعنيه من تعب وكدّ ألجل مجدٍ ال يجيء.
«الفيصل» تساءلت :مَ ن هؤالء األدباء الذين عاشوا
يف الظل ،وملاذا؟ وهل ما زال الظلم مستم ًّرا رغم ما أتاحته
ثورة امليديا الجديدة من تقنيات وقدرات للجميع ،أم أنه ال ٌّ وكل يأخذ نصيبه من املجد والشهرة مظلومني يف األدب، حسب قدر موهبته؟
رؤوف مسعد :التاريخ غنب لويس عوض وسالمة موىس أعتقد أن اإلحساس باملظلومية عند املبدعني املصريني هو
إح���س���اس ص����ادق وص���ائ���ب ل���ع���دة أس���ب���اب ت��ت��ع��ل��ق ب��ح��ال��ة ال��ف��س��اد
امل���ت���ف���ش���ي���ة «ك���ط���ري���ق���ة ح����ي����اة» يف امل���ج���ت���م���ع امل����ص����ري ب���ك���ل ط��ب��ق��ات��ه، وهو فساد موروث من عصر الفراعنة (ارجع إىل شكاوى الفالح
رؤوف مسعد :غبن التاريخ لويس عوض كما غبن سالمة موسى مع أن تأثيرهما في اإلبداع والفكر المصري يوازي بقوة تأثير طه حسين األريب الذي ارتبط بالوفد- حزب األغلبية- وزيرا فأصبح ً ب���س���ي���ط���ة وم�������ح�������دودة ..ل��ن�رج����ع إىل ذل������ك ال������زم������ن ..زم������ن م��ح��ف��وظ
وإدري�����������������س ،م�������ن امل�������س�������ؤول�������ون األس�������اس�������ي�������ون ع�������ن امل������ي������دي������ا يف ذل�����ك ال��وق��ت؟ ه��م ض��ب��اط ج��ي��ش ح��ص��ل��وا ع�لى ش��ه��ادة إت��م��ام ال��ث��ان��وي��ة العامة ،ووجدوا أنفسهم يف قمة الهرم اإلداري ،ويسيطرون ع�لى مُ َ���ق���دَّ رات ع��ش��رات وم��ئ��ات م��ن امل��ث��ق��ف�ين امل��ص��ري�ين ،أم���ا عن ع��ص��ر ط��ه ح��س�ين وم���ا ي��ح��ي��ط ب���ه ،ف��ك��ان م��ن ال��ع��ص��ور امل��ض��ط��رب��ة يف ت����اري����خ م���ص���ر ال����ح����دي����ث ..ف���ه���و ع��ص��ر
كان يسمح لقرويٍّ أعمى أن يذهب
إىل ال��������س��������ورب��������ون ب�����ع�����د أن ك����������ان ك���ل م������������راد أه������ل������ه أن ي�����ح�����ف�����ظ ال�������ق�������رآن، وي������ ّت������خ������ذ م�����ن�����ه ص����ن����ع����ة ت����غ����ن����ي����ه ع���ن
س������������������ؤال ال��������ل��������ئ��������ي��������م ،ب��������وص��������ف��������ه ك��������ان م����ع ً ����وق����ا ج����س����د ًّي����ا .ذل������ك ه�����و ال���ع���ص���ر
ال����ذه����ب����ي ل���ل���ن���ه���ض���ة ال���ث���ق���اف���ي���ة ب���رع���اي���ة
دول���ة ال��ب��اش��وات اإلق��ط��اع��ي�ين ...وه��ا هو ط��ه حسني وال��ع��ق��اد وسالمة م����������������������������������������وىس وال������������������������راف������������������������ع������������������������ي
ال��ف��ص��ي��ح) وال���س���ؤال ه���و :مل���اذا ل��م ي��ن��ت��ب��ه ال��ن��اس إىل ع���دد ال ب��أس به من ُ الك َّتاب املهمني الذين ظهروا يف عصر األقمار الساطعة
وال���������������ط���������������ه���������������ط���������������اوي وم������������ن
هو أن املسيطرين عىل امليديا واملوجهني لها ثقافتهم يف األصل
ب������������ه������������م م�����������������ن أج������������ي������������ال
والشموس املضيئة مثل محفوظ وإدريس..إلخ؟ السبب األول
س��ب��ق��ه��م وم����ن ال��ت��ح��ق
93
تحقيقات
ي���ح���رس���ون األرض ت���م���ه���ي���دً ا ل���ظ���ه���ور ل���وي���س ع����وض «ك���م���ف���ك���ر» م��ع
زمالئه اآلخرين ،ثم ظهور نجيب محفوظ ويوسف إدريس.
ب��ال��ط��ب��ع ي��س��ت��ح��ق ال��ع��م��ي��د وم��ح��ف��وظ وإدري����س م��ا ن��ال��وه من
ش���ه���رة ،ف���ط���ه ح���س�ي�ن ك����ان أول م���ن ف���ك���ر يف اخ���ت��راق ال���ت���اب���وه���ات ال�����دي�����ن�����ي�����ة امل������س َّ������ل������م ب�����ه�����ا يف دراس���������ات���������ه ال������ت������ي أش������ه������ره������ا «يف ال����ش����ع����ر ال����ج����اه��ل�ي» ،ث����م م���ح���ف���وظ ال������ذي اس���ت���ط���اع ب�����دأب�����ه ،رغ�����م م��وه��ب��ت��ه ّ يتسلق السلم األكرب ،سلم الصحافة ،فموهبة املحدودة ،أن م����ح����ف����وظ م�������ح�������دودة يف ال�����خ�����ي�����ال األدب�����������ي واإلب��������داع��������ي ل���ك���ن���ه���ا غ�ي�ر
م����ح����دودة يف ال���ت���أم���ل واق���ت���ن���اص األف����ك����ار وال����ق����درة ع�ل�ى ص��ي��اغ��ت��ه��ا ب��أس��ل��وب ب��س��ي��ط وروايئ؛ ل��ذا ت��ج��د أك�ثر أع��م��ال��ه ت��أث�يرًا يف ال ُ��ق�� َّراء
(ال���ن���خ���ب���ة) ه���ي ال���ت���ي ت��ن��اق��ش ف���ك���رة ال���ق���در وال���س���م���اوات وال���وج���ود
وموضع اإلنسان يف النظام الكوين وبالتايل الظلم املجتمعي.
ً وانطالقا؛ لذا أما يوسف إدريس فكان أكرث جموحً ا وقوة
أبدع لنا قصصه القصار النادّة يف روعتها ،ومسرحياته الغريبة
املتأملة لحال البشر ،ورواياته القادرة عىل األخذ بتالبيبنا وأنفاسنا ،وشخصياته الجامحة نفسيًّا وقدريًّا وبشريًّا ،عىل عكس محفوظ (املوظف) املدجن املطيع الدؤوب الباحث عن رزق
شريف وعالوة يستحقها .غنب التاريخ لويس عوض كما غنب سالمة موىس مع أن تأثريهما يف اإلبداع والفكر املصري يوازي
94
بقوة تأثري طه حسني األريب الذي ارتبط بالوفد- حزب األغلبية- فأصبح وزي ًرا ،بينما ارتبط إدريس باليسار املغضوب عليه من
كل أنظمة الحكم يف مصر ،وكذا ارتبط به لويس عوض وسالمة
موىس ومعظم كتاب الستينيات األصالء الذين غيَّبهم نظام ناصر يف السجون ب ُتهَم متنوعة ،ولم ينجُ منهم سوى عدد
خليل النعيمي :ضجيج العاديني يعتم عىل حضور الكبار
اإلعالم ال يمكنه أن يصنع كاتبًا كبريًا ،والعُ ملة الرديئة ال تطرد إلاّ العملة األردأ منها من السوق ،فالضجيج اإلعالمي ُ لكتاب «عاديني» ،حتى ال نقول مبتذلني ،أو غري مهمّ ني ،يُعَ ِّتم عىل حضور ُكتاب «كبار» .فالكاتب واحد .وليس هناك كاتب كبري وآخر صغري ،إلاّ بالحجم .واملوهبة ال ُتقاس بالضجيج ،وال
َ العالم، باإلشهار .املوهبة ليست سلعة .إنها موقف تاريخي من َّ معقد وعميق للحياة ،فضاؤها هو العالقة الجدلية وتصوّر
مع الكائنات ،ومجالها هو البحث املستمر عن جوهر الوجود. ولكن ما هذا الجوهر؟ وكيف تتجلىّ ُ صوَره؟ وما عالمة االقرتاب
منه؟ يف هذا املثلث تكمن طاقة املوهبة وخطورتها .الفكر العربي ِّ ومتخل ًفا .واإلعالم الذي تتكلم عنه كأنه املعاصر ما زال بدائيًّا،
طاقة حقيقية ،ما هو إال «فقاعة معرفية» مثل فكر «السلطة َّ يتحكم فيه .إنه إعالم مغرض .ال يستند العربية الواحدة» الذي
عىل إسرتاتيجية معرفية لها بُعد تاريخي ،وال يتم ّتع بمصداقية ّ حازمة .لذا فهو ال يستطيع
أن يخلق موهبة حتى لو تجيّش من أجلها ،وال ي ُْلغي أخرى ،إذا كانت
موجودة ،حتى لو أراد ذلك .
محدود مثل بهاء طاهر ،وجميل عطية إبراهيم ،وإدوار الخراط.
روايئ مصري.
شعبان يوسف :لكل زمن مظاليمه يرى الشاعر والناشط الثقايف املصري شعبان يوسف صاحب كتاب (ضحايا يوسف إدريس) أن «إدريس» بسلطاته
وامتداداته حرم الكثريين من الظهور إىل جانبه ،كانت له سلطة يف العديد من املجاالت ،وكان من الصعوبة أن ّ متصدرًا املشهد ،وبخاصة أنه ابن تيار اليسار الذي يقام مؤتمر أو ندوة يف القصة أو املسرح أو الرتجمة وال تجده وقف بقوة داعمً ا له ،فضلاً عن عالقته بالسادات ،فقد كتب له كتابيه« :االتحاد القومي» و«قناة السويس».
وذهب شعبان إىل أن هذا األمر لم يتوقف عىل إدريس وحده ،فقد شمل جميع املجاالت والفنون ،فعقب
موقعة الشعر الحديث بني العقاد وكل من صالح عبدالصبور وأحمد عبداملعطي حجازي تحوَّ ل األخريان إىل
سلطة واضحة يف مصر ،فهمَّ شا كثريًا من الشعراء كعبدالحليم القباين وفتحي سعيد وكامل أمني ،ولعل أبرز من ُه ِّمش لصالح حجازي وعبدالصبور هو الشاعر الكبري محمد عفيفي مطر ،الذي لم يأخذ املكانة التي يستحقها ،فقد رفض عبدالصبور نشر ديوانه األول ،كما رفض حجازي أن يمنحه جائزة ملتقى الشعر العربي. ويف املسرح الشعري ُه ِّمش عبدالرحمن الشرقاوي ومعني بسيسو لصالح صالح عبدالصبور ،ويف الرواية ُه ِّمش كتاب كبار كسعد مكاوي وعبدالرحمن فهمي وعادل كامل لصالح نجيب محفوظ ،لكن «محفوظ» لم يمارس
العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
دورا في تكريس كتاب وتهميش آخرين؟ أدباء في الظل ..هل لعبت الميديا ً
مَ نْ قال :إن األدب الحقيقي يحب األضواء؟ ما هذه
املهزلة التاريخية؟ كيف يمكن ملبدع حقيقي (ألن املزيفني ُكثرُ ) أن يمسك بخيوط «لعبة الكريات الزجاجية» وهو تحت األضواء «العامِ يَة»؟ املبدع ضمري ،وسالحه اللغة .الضمري ال يقبل املساوَمة ،واللغة ال تقبل التنازل .فــ«مَ نْ يقب َْل أي تنازل يف اللغة ،يقب َْل أي تنازل يف الحياة».
روايئ سوري مقيم يف باريس.
ليىل األطرش :عالم تسيطر عليه الشللية
لم تعد مسألة الرتويج اإلعالمي قص ًرا عىل أحد،
فالعالم يعيش عصر صناعة النجم؛ السيايس واالجتماعي والف ّني واألدبي ،ومن ال يجيد هذه اللعبة أو يجد من يروّج له فيها ،فهو بالتأكيد سي َ ُظلم كثريًا ،وال ينال املكانة التي
العربية ،فنحن نشهد نزعة شللية فيما يعرف بالصحافة األدبية ،وغياب املنابر الثقافية واملجالت املتخصصة التي
تحتفل بالغث أكرث من السمني ،ويؤخذ عىل بعض النقاد أنهم ال يتابعون الجديد ،مع أن مسؤوليتهم كبرية لغربلة
األدب واإلبداع الحقيقي .وتلعب الجوائز العربية دورًا كبريًا
يف تلميع أسماء من منطلق الجيوسياسية واأليديولوجية ً مألوفا أن نسمع القارئ العادي التي تحدد الفائزين .وبات
يظهر خيبته من روايات نالت هذه الجوائز ،وكان يمكن للجوائز أن تصحح الوضع القائم ،لوال أن بعض لجان التحكيم مصابة بأمراض الساحة الثقافية .ومعظمهم ال
يقرؤون ما يرسل إليهم ويك ّرسون أسماء بعينها.
روائية أردنية.
يستحق ،ويرتك الواجهة ملن هم أقل قيمة ممن يجيدون الظهور الدائم ،أو يعتمدون العالقات الخاصة والشللية واملحسوبية بل املناطقية التي تسود الوسط الثقايف العربي لألسف .كثري من النجوم صنعهم اإلعالم وكسبوا من ذلك
الشهرة واملال رغم ضعف القيمة الفنية والفكرية ملنجزهم اإلبداعي ،وهناك أسماء تك ّرست منتصف القرن العشرين كقامات أدبية استفادت من مواقعها الصحفية أو قربها من السلطة أو الحركات الثورية أو بسطوة
مادية أو وظيفية يفرضونها ،تلمّ عت عربيًّا ودوليًّا، وحني زال الوهج بانت قيمتها الفكرية واإلبداعية
الحقيقية.
وليس اإلعالم وحده املسؤول عن هذا ،بل
انحسار دور النقد العربي ،وآليات الجوائز
سلطاته يف تهميش اآلخرين ،وحدها امليديا هي التي فعلت ذلك ،فرجاء النقاش ّ وعبقري هذا العصر هو نجيب يف الستينيات كتب قائلاً :إن لكل عصر عبقريًّا، محفوظ ،وقد تكرست هذه النظرة إليه بعد فوزه بنوبل.
أما يف النقد فقد ُه ِّمش عبدالقادر القط وغريه لصالح محمد مندور،
ويف شعر العامية املصرية ُه ِّمش مجدي نجيب وفؤاد قاعود وغريهما لصالح
األبنودي وسيد حجاب ،وما زال التهميش مستمرًّا ،املتغري الوحيد أن السلطة
لم تعد رضا جماعات اليسار أو املؤسسة الرسمية ،بقدر ما أصبحت عالقات
وصداقات ورسائل ماجستري ودكتوراه ،ودور نشر ومراكز ثقافية ،ورحالت
ومؤتمرات وندوات وترجمات وأسفار وحفالت توقيع ،وجوائز محلية وعربية ،وعدد طبعات وقوائم أكرث مبيعً ا ،وطنطنة
دائمة يف كل مكان بأسماء مبدعني بعينهم ،مما يقتل مواهب كبرية لصالح أناس يف كثري من األحيان ال عالقة لهم باألدب.
95
تحقيقات
ِعذاب الركابي :الرموز ال تحجب نحن –كك ّتاب ومبدعني– ال ننكر أبدً ا أنّ لنا آباء ..وأننا لم ُن َ ولدْ من رحم الفراغ !..والكتابة
وج���������������ود م������ظ������ال������ي������م يف ع��������ال��������م األدب،
هي ّ بقي لنا من ذاكرة ..واإلبداع كل ما َ والثقافة فعل حضاري ،أبجديته أنني
ص���اح���ب م���وه���ب���ة ال ي���م���ك���ن ع������دّ ه م��ن
املعاناة ..والثقافة واإلبداع تواصل دائم..
ش��������ه��������رت��������ه ،ف������امل������ظ������ال������ي������م ه����������م أن�������ص�������اف
الروح وصالتها التي ال تكون قضاءً هي
ورموز إبداعنا وأدبنا وثقافتنا ،هم أيقونة اإلنساين الفاعل ..ونحن امتداد تراثنا ّ طبيعي لهم ..ومن خالل قراءتنا لواقعنا الثقايف الذي
بات يُشبه كثريًا (البورصة) يف
االرتفاع والهبوط ،واالزدهار واالنتكاس نرى أنّ هؤالء الرموز ال ذنب لهم يف حجب
الضوء عن غريهم ،فمَ ن قام
بحجب األضواء هم مَ ن يتولون زمام املنابر اإلعالمية،
سواء يف الصحافة الثقافية التي تشبه مرآة مهشمة ،أو
يف املؤسسات الراعية لإلبداع والثقافة بمؤتمراتها األدبية
96
إبراهيم فرغيل :املظاليم هم أنصاف الكتاب ب����ش����ك����ل ش�����خ��ص��ي ال أُومِ ����������������ن ب����ف����ك����رة
والفكرية (الديكورية) التي ما زالت تعاين ُعقدة (األسماء
وترسخ لنجومية بعض األسماء التي لم تعُ دْ الكبرية)، ّ
ب��������م��������ع��������ن��������ى أن أيّ ك������������ات������������ب ح�����ق�����ي�����ق�����ي
م�����ظ�����ال�����ي�����م األدب ح�����ت�����ى ل��������و ت�����أخ�����رت
ال��������ك��������ت��������اب وأع���������������������داء ال�������ع�������م�������ق ال������ف������ك������ري
وامل���وه���ب���ة ح���ت���ى ل����و م��ك��ن��ت��ه��م األس���ب���اب م����ن ال���ش���ه���رة أو امل���ق���روئ���ي���ة ال���واس���ع���ة واالن���ت���ش���ار.
ه���������������ن���������������اك ن������������م������������اذج م���������������������������ن ال���������������ك���������������ت���������������اب
الذين حققوا املعادلة الصعبة أي بامتالكهم املوهبة والعمق وال��ش��ه��رة واالن��ت��ش��ار م��ث��ل :ال��ع��ق��اد ،وط���ه ح��س�ين ،وم��ح��ف��وظ، أو ال�������ج�������واه�������ري يف ال���������ع���������راق ،وب�����������در ش������اك������ر ال������س������ي������اب وس������واه������م
ل���ظ���روف ت��خ��ص اآلل����ة اإلع�ل�ام���ي���ة ال���ت���ي ك���ان���ت ت��ه��ت��م ب���إب���راز ال��ق��وة
ال�����ن�����اع�����م�����ة مل����ج����ت����م����ع����ات����ه����ا ،ول������ك������ن الح����������ظ أن أي اس����������م م��������ن ه�����ذه األس���م���اء ك���ان م��س��ل��حً ��ا ب�ترس��ان��ة م���ن امل��ع��رف��ة وامل��وه��ب��ة واإلق���ب���ال عىل اإلعالم ً أيضا. لكن مع انخفاض مستوى التعليم الذي أدى إىل انحدار
تأيت بجديد ،فما تمارسه بعض املنابر واملؤسسات الثقافية
الكفاءات يف املواقع القيادية يف اإلعالم والسياسة وغريهما
املتبادلة ،وهذه املنابر أو (الدكاكني) التي تتاجر بدماء
وك�������ان ح�����ظ ال����ك����ت����اب امل���ن���ت���م�ي�ن ل���ل���ي���س���ار أف�����ض�����ل؛ ب���س���ب���ب ان���ت���ب���اه
يجيء ضمن هندسة «التلميع» و«الرتميم» واملصالح املبدعني ،هي التي تهمّ ش إبداعاتهم وتحاول حجب الضوء عن الكلمة الهادفة ،لكن تلك املحاوالت كثريًا ما
تكلل بالفشل أمام اإلبداع الجاد.
ب��������دأت اآلل��������ة اإلع��ل��ام�����ي�����ة ت����س��ي�ر يف درب امل���ص���ل���ح���ة وامل����ج����ام����ل����ة، األح��������زاب ال���ي���س���اري���ة يف م���ص���ر ل���ق���وت���ه���ا ال���ن���اع���م���ة ،وت���ن���ج���ي���م ك��ل
ال�����ك�����ت�����اب ال������ذي������ن ي����ن����ت����م����ون ألح�����زاب�����ه�����م أو م�����ب�����ادئ�����ه�����م ،ل����ك����ن م���ع
انتشار وسائل التواصل االجتماعي وامليديا الجديدة اختلف
ورموزنا لم يكونوا أنانيني أو دكتاتوريني ،ومن
����اس����ا إال األم�����ر ك����ث��ي�رًا ،وأص���ب���ح���ت ف���ك���رة امل���ظ���ال���ي���م م���ع���دوم���ة أس ً
أذكر عبقري الرواية نجيب محفوظ حني استقبلني يف
األخ��ط��ر ال��ي��وم ل��ق��درت��ه��ا ع�لى ت��ن��ج��ي��م ح��ت��ى ص��ب��ي��ان وم��راه��ق��ات
عرفناهم والتقيناهم كانوا شديدي التواضع واملسؤولية، لقائه األسبوعي بـ«فرح بوت» بكل و ّد وبهجة واهتمام..
وصديقي شاعر الحداثة الكبري عبدالوهاب البيايت
الذي أحتفظ برسائله الحميمة يل بخط يده وأعماله ّ خصص ثمن إحدى املمهمورة بتوقيعه ،وأذكر أنه
جوائزه لطباعة أعمال الشباب الشعراء الواعدين، ومن املبدعني الكبار األحياء الصديقان الروائيان :غادة
ُ زلت السمان ،وعبدالرحمن مجيد الربيعي اللذان ما
أسعد بصحبتهما واتصاالتهما املستمرة ورسائلهما
الحميمة جدًّ ا ،وغريهم ممن يضيئون يف فضائنا الثقايف كما الكواكب.
كاتب وشاعر عراقي.
العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
ملن ال يمتلك أبجديات استخدام امليديا الجديدة .وهي ربما ال��ك��ت��اب��ة مل���ج���رد أن ل��دي��ه��م ج���م���ه���ورًا اف�ت�راض��� ًّي���ا ،وه����و م���ا ي��ق��ل��ب
امل��ع��ادل��ة اآلن ت��م��امً ��ا ،م��ع ذل���ك ف��ت��اري��خ األدب وال��ك��ت��اب��ة غ��ال�� ًب��ا ما ينصف النصوص الحقيقية ولو بعد حني ،مهما تعرض ُكتابها للتجاهل أو عدم اإلنصاف. قاص مصري.
خليل النعيمي :الضجيج اإلعالمي كتاب «عاديين» ،حتى ال نقول ل ُ مهمينُ ،ي َعتِّم على مبتذلين ،أو غير ّ كتاب «كبار» حضور ُ
دورا في تكريس كتاب وتهميش آخرين؟ أدباء في الظل ..هل لعبت الميديا ً
خليل صويلح :تسليع األدب
هناك موجة إعالمية شرسة لتسليع األدب وتحويله
إىل «ماركتينغ» ،عىل غرار ما يحصل يف الغناء ،ومسابقات
الشعر ،وجوائز الرواية .قارئ اليوم يتبع املوضة يف املقام األول ،بصرف النظر عن القيمة اإلبداعية للعمل .هكذا ُتلفظ خارج القائمة أسماء مهمةُ ، وتك ّرس أسماء أخرى أقل قيمة
بقوة امليديا والشلليّة ،وصور السيلفي -للكاتبات عىل نحو ّ للنقاد الكبار ،هؤالء خاص -وقبل كل ذلك االختفاء املريب
الذين كانوا يضيئون بكتاباتهم التجارب اإلبداعية النافرة،
بعيدً ا عن والئم الجوائز التي فرضت سطوتها عىل الذائقة، ّ ً خصوصا .لهذه األسباب تندحر أسماء يتعلق بالرواية فيما
وتربز أخرى ،فيكتفي الق ّراء بنحو عشر روايات يف كل موسم
قراءة ،تحمل دمغة هذه الجائزة أو تلك ،كما ال يمكننا تجاهل «التشبيك» بني بعض الك ّتاب ودور النشر وأعضاء لجان تحكيم الجوائز. ُ رب����م����ا س���ن���ع���ي���د اك����ت����ش����اف أس�����م�����اء ظ���ل���م���ت يف زم���ن���ن���ا ال�����راه�����ن؛
أص�����ح�����اب�����ه�����ا أله�����م�����ي�����ة ال�����ت�����س�����وي�����ق م�������ن ج������ه������ةٍ ث����ان����ي����ة. ال��ت��س��وي��ق ه��ن��ا ل��ي��س إع�لام�� ًّي��ا ص ً ّ يتعلق ��رف��ا ،ف��ق��د
ب�����أي�����دي�����ول�����وج�����ي�����ا ص������اح������ب������ه ،أو م�����ع�����ج�����م ص����اح����ب����ت����ه. وك��أن املعادلة اآلن هي «ناقد عجوز» ،و«كاتبة
ش������������اب������������ة» ،وإذا ب��������ال��������ن��������ص ال������������ع������������ادي أو ال������رك������ي������ك ي���ق���ف���ز إىل ال�����واج�����ه�����ة ،وت�����ال����� ًي�����ا ،ف������إن األم�������ر ي��ت��ع ّ��ل��ق
بالنزاهة النقدية ،وه��ي سلعة منبوذة تقريبًا،
ع�������دا إش�������راق�������ات ن����������ادرة وس�������ط غ����ي����ب����وب����ة ع���م���وم���ي���ة.
ال������ي������وم ع����ل����ي����ك أن ت�����ك�����ون ج����������زءً ا م������ن ال������س���ي��رك يك ت��ج��ي��د ال��ل��ع��ب ع�ل�ى ال���ح���ب���ال م���ن دون أن ت��ق��ع يف
ال���ن���س���ي���ان ،أو ال�����ع�����زل ،أو ال���ظ���ل���م .ال أع����ل����م م����اذا
س��ي��ف��ع��ل ال���ي���وم م��ب��دع م���ا ،خ����ارج امل��اك��ي��ن��ة
اإلع�ل�ام���ي���ة ،أو أن����ه ال ي��م��ت��ل��ك ص��ف��ح��ة ش������خ������ص������ي������ة ع�����ل�����ى وس�����������ائ�����������ل ال�������ت�������واص�������ل
االجتماعي؟
ب��س��ب��ب ع���ش���وائ���ي���ة ال���خ���رائ���ط اإلع�ل�ام���ي���ة م���ن ج���ه���ة ،وع�����دم إدراك
كاتب سوري.
لنا عبدالرحمن :شبكات التواصل تدفع ب ُكتاب وتظلم آخرين قطار الضحايا واملظاليم يف األدب يتعلق بعدة عوامل ،بعضها يخص الجانب اإلبداعي للكاتب ،وبعضها إعالمي وترويجي بحت ،ليس له عالقة بالكتابة ،لكن املدهش وجود حاالت إبداعية يف الثقافة العربية لديها نصوص إبداعية جيدة ًّ جدا وليس
لها حضور إعالمي؛ مما يؤدي إىل تغييب هذه النصوص أو اكتشافها بالصدفة من قبل قارئ أو ناقد حذق يسلط الضوء عليها. هذا يستدعي التساؤل :هل بإمكان الكاتب أن يقوم بالكتابة والرتويج ألعماله ،وبالوجود الصحايف الذي يحقق له االنتشار ،إىل
جانب إدارة شؤون حياته الخاصة؟ يف تقديري يحتاج ذلك لقدرات خاصة ،وهذه القدرات ال تتوافر للجميع.
من املؤكد أن اإلعالم يف املرحلة الحالية عرب سائر وسائل التواصل اإللكرتونية ساهم يف صعود أعمال إبداعية إىل الواجهة ،وغياب أعمال أخرى ،يكفي أن تتطلع إىل كتائب الجيوش عرب مواقع التواصل االجتماعي التي تعمل عىل تصدير خمسة أو ستة أعمال ُي َت َّ حدث عنها عىل أنها األفضل أدبيًّا ،ويف حقيقة األمر أن القيمة األدبية لألعمال املذكورة متوسطة أو ضعيفة، لكن هذا ما يحدث فعلاً ..أضف إىل ذلك كله موضوع الجوائز الذي نقل العمل اإلبداعي سواء يف الرواية أو القصة القصرية ،من خانة االمتداد الزمني إىل خانة «اآلنية» أو بعبارة ً تبسيطا أصبحت حال الروايات تشبه حال املسلسل الرمضاين ،فكما أن هناك يف أكرث كل عام مجموعة من األعمال الدرامية التي تطلقها الفضائيات مع قدوم شهر رمضان، فإن هذا يحدث إبداعيًّا مع إعالن الجوائز ،والقوائم الطويلة والقصرية ،لنفرتض أن هناك عملاً إبداعيًّا ً جيدا أو أكرث من جيد ،ولم يحصل عىل جائزة ،ولم يصل ألي
قائمة ،لن يكون له أي حضور خارج دائرة املثقفني ،إىل جانب هذا ،حتى األعمال ً التي تنال جائزة ً مرهونا أيضا ،أو تصل للقائمة القصرية ،سيكون حضورها بالوقت الراهن ،وينتهي بعد إعالن الجائزة التالية ،وهكذا ،كما لو أن العمل ً مرهونا لفكرة املوضة. اإلبداعي صار كاتبة وناقدة لبنانية.
97
ثقافات
زعماء البيت األبيض ال أحد يستطيع العيش بال كتاب
98
إبراهام لينكولن العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
محمد حجيري
كاتب لبناني
ّ تعد الكتب والقصائد من األدوات األكثر استخدامً ا من ِقبَل معظم الرؤساء األميركيين ،إلعطاء صورة فكرية وسياسية للشعب األميركي ،وكثيرًا ما كان اختيار بعض الرؤساء لكتب بعينها سببًا في ترويجها وانتشارها .ما يقرؤه الرؤساء ال يعطيهم استراحة من الملل الذي يشعرون به عند قراءة التقارير والبيانات وتوقيع القرارات فحسب حتى إطالق المواقف .والكتاب والقصيدة ميديا يستطيع المرء من خاللهما معرفة توجهات الرئيس كيف يفكر وما هي وجهة نظره .وثمة الكثير من المقاالت والكتب عن الرؤساء األميركيين والقراءة ،من بينها كتاب لهارولد إيفانز ،يبين أن الميل إلى القراءة معيار نجاح أي ً مستندا إلى وقائع تثبت أن أنجح الرؤساء في الواليات المتحدة هم أولئك الذين يولون القراءة رئيس، ً دقيقا ،فالقضية ليست في أن الرؤساء اهتمامً ا كبيرًا ،لكن هذا االستنتاج ليس بالضرورة حقيقيًّا أو يقرؤون ،بل أي كتب يقرؤون أو ماذا يقرؤون؟ والسؤال هل كل شيء يقرؤونه يعلنون عنه ،هل يقرأ زعيم البيت األبيض كتبًا شيوعية أو إسالمية ،أم أن إدارته توجهه في القراءة... بالطبع هذه األمور تبقى في دهاليز االستخبارات
أما ليندون جونسون فتأثر بكتاب االقتصادي البريطاني
من دون أن تشتهر مجموعة من الكتب ،وقصة البيت ّ تمكن األبيض مع الكتاب عمرها عقود ،فإبراهام لينكولن
قرأه أكثر من مرة ،وح ّول الهجوم إلى حرب على الفقر.
األميركية ،المهم القول :إنه لم يمر عهد رئاسي في أميركا
من الوصول إلى مجموعة محدودة من الكتب ،ومنها:
باربارا واردز «األمم الثرية واألمم الفقيرة» ،وقال :إنه وظهر على الطبعات المستقبلية من كتاب هارينغتون
عبارة «الكتاب الذي أشعل حربًا على الفقر» على الغالف. ريتشارد نيكسون قارئ نهم للسير الذاتية ،وفي كلمة وداع
«حياة بارسون ويمز في واشنطن» ،و«خرافات إيسوب»، ُّ و«تقدم الحاجّ » ،و«تاريخ الواليات و«روبنسون كروزو»، المتحدة»ً . أيضا كان لينكولن يعشق الشعر ،ومغرمً ا بصفة
طاقمه في 9أغسطس 1974م ،قال« :لست متعلمً ا ،لكنني ً ً تحديدا قارئا نهمًّ ا ومهتمًّ ا أقرأ كتبًا» ..هاري ترومان كان
قصائده عن ظهر قلب .توماس جيفرسون كان يمتلك مكتبة
الوحيد الجديد في هذا العالم هو التاريخ الذي ال يعرفه
خاصة بالشاعر األسكتلندي روبرت بيرنز ،ويحفظ الكثير من شخصية تضم 6487كتابًا ،التي أصبحت األساس لمكتبة
الكونغرس .ودوّن جيفرسون ذات مرة« :ال أستطيع العيش
من دون الكتب» .وامتلك جون آدامز مكتبة تضم 3000 َ أحمق كتاب ،واعترف ذات مرة لزوجته أبيجيل« :لقد كنت وأنفقت ثمن عقار في شراء الكتب» .في عام 1816م ،كتب
آدامز يقول :إنه «لو كان لي أن أختار عبقريتي وظروفي،
بالتاريخ والتراجم ،وقال في إحدى المرات :إن «الشيء
المرء» .وكان المفكر المقيم في البيت األبيض آرثر شليزنغر يرشح كتبًا لكينيدي كما ّ ألف كتاب «ألف يوم» .ووسط
الحديث عن الكتب والبيت األبيض ،يطرح السؤال عن
عالقة الرؤساء األميركيين بالكتاب األدبي ،الرواية والشعر ً ً وخصوصا باراك أوباما وبيل كلينتون. تحديدا،
الخترت أن أجعل من نفسي شاعرًا» .لكنه اعترف أن شعره ً «ملعونا بالبقاء في ربقة المستوى المتوسط» .تيودور كان
روزفلت ،كان يتصفح الكثير من الكتب في يوم واحد، وكتب أكثر من اثني عشر عملاً في موضوعات تتنوع ما بين حرب 1812م والغرب األميركي .ويقال :إنه ال أحد يجاري
ً واحدا في اليوم في روزفلت في القراءة ،فهو يقرأ كتابًا
حالة انشغاله القصوى ،أما في أوقات الفراغ التي يتحرر
فيها من العمل فإنه يستطيع االنتهاء من قراءة كتابين إلى ثالثة كتب ،وقد وصفه بعض بأنه «أكول للكتب» ويسعد
كثيرًا إذا ما زاد اطالعه.
ثيودور روزفلت
99
ثقافات
أوباما ..والتوازن النسبي
بولدوين ورالف إليسون اللذين يركزان على مشاعر الزنوج
إذا بدأنا في الحديث عن تجربة الرئيس باراك أوباما
في المجتمع األميركي ،كتب األول «اذهب وقل ذلك على
رئيسا ،منذ أن تاريخ رؤساء الواليات المتحدة ال يذكر ً
قصائد الشاعر الزنجي النغستون هيوز ،أحد كبار الشعراء
مع القراءة والكتاب ،فقد ذكرت صحيفة نيويورك تايمز
عهد إبراهام لينكولن الذي تولى قيادة أميركا بين عامي 1861و1865م ،لعبت القراءة والكتابة دورًا كبيرًا في بلورة
شخصيته وقناعاته ورؤيته للعالم مثل الرئيس أوباما الذي قال« :سمحت لي بالمحافظة على توازن نسبي خالل
السنوات الثماني المنصرمة؛ ألن الرئاسة مكان تصيبك فيه
األحداث إصابة مباشرة باستمرار من دون أي هوادة» .من يراقب مسيرة أوباما ،يالحظ مدى اهتمامه بالكتب األدبية وتوظيفها ،ففي مكالمة هاتفية له مع الرئيسة األرجنتينية السابقة كريستينا كيرشنر ،أعرب عن اهتمامه بالتعرف إلى العاصمة
بوينس أيريس؛ ألنه في أثناء
فترة الدراسة الجامعية كان قد قرأ بشغف أعمالاً لكل من األديبين األرجنتينيين خوليو كورتاثار وبورخيس .وحين خطب أوباما
100
عن القضية العرقية في الحياة األميركية استشهد بعبارة األميركي
للروائي
وليام
فوكنر تقول« :إن الماضي لم يمت ويدفن ،وهو في الحقيقة ليس ماضيًا»، وأن يستشهد أوباما بفوكنر صاحب رواية «الصخب والعنف»، فهذا إيماء إلى أهمية هذا األخير ،حظيت باهتمام
رواياته
بالغ في أميركا وخارجها
باراك أوباما
نظرًا
إلى تأثيرها الكبير
في إبراز حقيقة التناقضات في
المجتمع
األميركي
ً وخصوصا في الجنوب. يقول
أحد
الجبل» ،وأصدر الثاني «الرجل الخفي» .كذلك قرأ أوباما المعاصرين وأحد رموز ما عرف في القرن العشرين
بـ«نهضة هارلم» ...وعام 2012م أشار كثير من متابعي حملة االنتخابات األميركية التي خاضها باراك أوباما إلى اعتماده على الشعر في سباق الرئاسة مع خصمه الجمهوري ميت رومني ،وكتب الناقد روبرت مكورم في صحيفة
«ذي غارديان» البريطانية« :أوباما الذي اشتهر في حملته االنتخابية األولى بعبارة «نعم نستطيع» ،توسل بلغة الشعر في حملته الثانية ليلهم أنصاره ويجذب الناخبين
لمنحه ثقتهم من جديد ،بعدما وجد أن لغة النثر لن تسعفه كثيرًا أمام خصمه ميت رومني .وعرضت صحيفة «لوس أنجليس تايمز» تقريرًا يرصد كتب أوباما المفضلة
التي دوَّن قائمتها على «فيسبوك» وتضمنت كتبًا لرالف
والدو إيمرسون وموبي ديك وتوني موريسون ،وهذه األخيرة كرمها أوباما ،واحتفل بالشعر في البيت األبيض ولم يتردد في القول« :إن القصيدة الرائعة هي تلك التي
تتغلغل في أحاسيسنا ،وتتماهى مع وجداننا ،وتتحدانا وتلقننا شي ًئا عن أنفسنا وعن العالم الذي نعيش فيه.
ولطالما أدى الشعراء دورًا بالغ األهمية في سرد ملحمتنا األميركية» .والتقى كبير نقاد صحيفة «نيويورك تايمز»
ميكيكو كاكوتاني ،أوباما لسؤاله عن «حياته كقارئ» وخالل المقابلة أشاد أوباما بعدد من الكتب والكتاب.
وذكرت نيويورك تايمز أن أوباما تحدث عن الكتب التي منحها ابنته ماليا ،ومن بينها «المفكرة الذهبية» لدوريس
ليسينغ و«مئة عام من العزلة» لماركيز ،و«امرأة محاربة» لماكسين هونغ كينغستون.
كلينتون «على نبض الصباح» ً في عهد الرئيس بيل كلينتون ،أيضا كان للكتاب
األدبي والقصيدة الشعرية حضورهما في كواليس البيت األبيض ،فخالل تنصيبه عام 1993م اختار كلينتون الشاعرة األميركية من أصل إفريقي مايا أنجيلو لتلقي واحدة من قصائدها األكثر شهرة «على نبض الصباح» ،وقدمت مايا
قصيدتها بأداء مسرحي ،وهلل لها اإلعالم مثلما هللوا قبل
نحو نصف قرن للشاعر روبرت فروست الذي أسس هذا
أصدقاء
التقليد حين قرأ قصيدته «الهبة المباشرة» في حفل افتتاح
ألدباء سود من بينهم جيمس
1993م أطلق بيل كلينتون على مايا أنجيلو لقب «الرئيسة
أوباما :إنه كان يقرأ كتبًا
العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
عهد الرئيس جون .ف .كينيدي في عام 1961م .في حفل عام
زعماء البيت األبيض ال أحد يستطيع العيش بال كتاب
اإلفريقية لألمة» (يحبها إلى جانب رالف أليسون وتايلور برانتش) .تبدأ قصيدة في نبض الصباح بتحية للطبيعة األم
التي احتضنت كل األعراق بال تمييز :صخرة ،نهر ،شجرة، كانت موط ًنا لكل السالالت منذ تفارقت وحددت وجود الكائنات المنقرضة.
كلينتون قارئ جيد ،وكتابه المفضل هو «التأمالت»
للكاتب ماركوس أوريلس ،وكان يحب الروايات البوليسية
التي وصفها بأنها «سبيل المتعة البسيط والرخيص» بالنسبة له .وأبعد من ذلك ،ففي احتفال أقيم تكريمً ا
ثمة الكثير من المقاالت والكتب عن الرؤساء األميركيين والقراءة ،من بينها كتاب لهارولد إيفانز ،يبين أن الميل إلى مستندا القراءة معيار نجاح أي رئيس، ً إلى وقائع تثبت أن أنجح الرؤساء في الواليات المتحدة هم أولئك الذين كبيرا اهتماما يولون القراءة ً ً
لماركيز في مسقط رأسه في كولومبيا كانت لكلينتون مداخلة عن ماركيز قال فيها« :هو أهم روائي ُنشر له في اللغات ّ كلها منذ موت فوكنر ،وعندما قرأت له رواية «مئة
الوقت ،قرأ كلينتون كتاب روبرت كابالن «أشباح البلقان»
أستطع ترك الكتاب من يدي حتى في أثناء المحاضرات.
داخل المنطقة منذ فترة طويلة ،قد جعل ذلك كلينتون
عام من العزلة» عام 1972م وأنا طالب في كلية الحقوق لم الحظت أن هذا الرجل يبحر في أشياء تبدو كخياالت أحالم اليقظة لكنها واقعية وبالغة الحكمة» .مع التذكير أن كلينتون في أول حملة انتخابية له في بداية التسعينيات
أعلن أن كتابه المفضل هو «مئة عام من العزلة» لماركيز الذي َّ علق قائلاً :إن كلينتون «يحاول كسب أصوات األميركيين الالتينيين» .وعندما التقى كلينتون ماركيز
التي كانت من قبل جزءً ا من يوغوسالفيا .وفي ذلك
وفوجئ بوصف كابالن لمشاعر الكراهية اإلثنية الموجودة غير متحمس للتدخل في البوسنة .وقال وزير الدفاع ليس أسبين لمستشار األمن القومي أنطوني ليك :إن كلينتون لم
متحمسا لمقترحاتهم .وبعد أعوام كتبت الصحافية يكن ً ً «بعضا ال يسمع اسم روبرت كابالن من دون لورا روزن أن
تحميله مسؤولية التأخر في التدخل األميركي».
101
جورج بوش (االبن) «الغريب»
والروائي المكسيكي كارلوس فوينتس في جلسة عشاء، َّ تقدم بها أنصت بهدوء إلى مالحظات سياسية قاسية
إذا كانت نظرة الصحافيين عابرة في متابعة قراءات
كلينتون عن أحب األفالم إلى قلبه ،فكان جوابه« :في عز
الرئيس جورج بوش (االبن) الذي ال يُعرَف عنه شغفه
ً خصوصا .وفي اللقاء نفسه ُسئل الكاتبان حول حصار كوبا
الظهيرة» ،وأدهش الرئيس الحضور بأحاديثه حول األدب والثقافة ملقيًا جملاً من رواية «دون كيخوتة» لثرفانتس،
كلينتون وأوباما القارئين بنهم ،فهي ليست كذلك مع
ّ أحب الروايات إلى القلب اختار وحين حان موعد تسمية
ماركيز «كونت مونت كريستو» فيما وقع خيار الرئيس
على «حكم قصير» لجورج أورويل .وحين اختار فوينتس ً مونولوغا «أبسالوم أبسالوم» لفوكنر نهض كلينتون ملقيًا طويلاً من روايته «الصخب والعنف» .فحب كلينتون لروايات ماركيز وفوكنر يبدو الف ًتا؛ ذلك أن معظم الرؤساء يبحثون عن الكتب اإلستراتيجية وليس عن الروايات الثقافية
بامتياز .وأثرت الكتب التي يقرؤها كلينتون في المنحى الذي اتبعه في مطلع التسعينيات مع أزمة البلقان ،وهو الصراع
العنيف الدامي من أجل السيطرة على المنطقة البوسنية
بيل كلينتون
ثقافات
بالمفكرين وال سيما الفرنسيين منهم .اطلعنا أنه أراد
االستفادة من وقته في مزرعته قبل مدة كي يقرأ ،فاختار
رواية «الغريب» للكاتب الفرنسي ألبير كامو .وكان بوش
اقتبس عبارة من كامو في خطاب ألقاه في بروكسل في فبراير 2005م ،داعيًا فيه أوربا إلى االنضمام إلى الواليات ّ «تقدم الحريّة في العالم ،ومن أجل المتحدة من أجل ً إحالل السالم في الشرق األوسط» .مضيفا« :نحن ندرك أن العقبات كثيرة ،وندرك أن الدرب طويل» .كلمات بوش هذه تشبه إلى حد كبير قول كامو« :إنّ الحريّة هي جريٌ طويل»،
يومها برَّرت بعض الصحف األميركية شغف بوش بـ«غريب»
كامو المباغت بعثور بوش على ذاته الدفينة في شخصيّة بطل الرواية «قاتل العرب» .وكتبت الصحافية في «نيويورك
تايمز» مورين داود ،أن «القاتل في رواية كامو يتخذ كثيرًا من القرارات الخاطئة ،ويقتل رجلاً عربيًّا وسط صحراء
عالم مظلم ،وعنيف ال صلة له من الرمال .إنه يتحرّك في ٍ ّ بمعتقداته ورغباته .وإذا كان ثمّ ة ما يؤكد فهم كامو لعبثية
الحياة ،فهو أنّ الرئيس يقرؤه» .بذلك يكون بوش المحافظ والمتطرف دينيًّا انضمّ وبشكل غير متوقع ،إلى المعجبين
بالكاتب الثائر الموصوف باإللحاد الذي كان دائمً ا قريبًا من
102
جورج بوش االبن
الحركة الفوضوية.
طيف «الحرب والسالم» ثمة روايات تتحول في أروقة السياسيين إلى أشبه بالكتب اإلستراتيجية أو أيقونات السياسة ،فقد كتب جيمي كارتر في كتاب مذكراته« :الحفاظ على اإليمان :مذكرات رئيس» ،أن ثالث نساء َّأثرن في حياته :والدته ليليان ،وزوجته روزلين،
ومعلمته جوليا كولمان ،التي كانت تدرّس له في مدرسة بلين الثانوية (حيث ولد كارتر وتربَّى) .وأوضح كارتر أن كولمان
شجعته على قراءة كتب التاريخ واألدب .جيمي كارتر من أشد المعجبين بشعر ديالن توماس .ويقول« :شجعتني على قراءة كتاب «الحرب والسالم» للروائي الروسي ليو تولستوي .ظننت ،في البداية ،أن الكتاب عن الحرب والسالم في الدنيا الجديدة،
وأن أبطاله رعاة بقر وهنود حمر» .واستعان كارتر برواية «الحرب والسالم» في حكمه ،واقتنع بفضله أنّ األحداث الكبرى ال يتحكم فيها الزعماء ،إنما الجماهير وعامة الناس الذين يحددون مصير العالم ً وفقا آلمالهم وأحالمهم .والالفت أن طيف
رواية تولستوي حاضر بقوة في أروقة البيض األبيض ،كان ريتشارد نيكسون ،الذي أشار في مذكراته إلى أنه قرأ كتب تولستوي بصورة مكثفة خالل فترة شبابه ،ووصف نفسه بأنه من أتباع تولستوي ،يبحث دومً ا عن الكتب التي لها عالقة بالقضايا الكبرى في حياته اليومية .وسئل جورج بوش (األب) في حوار له عام 1995م عن أكثر الكتب إلهامً ا له فكان لكتاب «الحرب والسالم»
حظ وفير من مديحه ،وقال« :لقد اعتدت على قراءته في المدرسة» .والنافل أن الرواية نشرت ألول مرة بين سنتي 1865 و1869م على شكل سلسلة في مجلة المراسل الروسي ،تدور أحداثها في بدايات القرن الـ ،19إبان االجتياح الفرنسي لروسيا بقيادة نابليون بونابرت ،والتغيرات التي لحقت بالطبقة األرستقراطية .وتسرد الرواية حكاية خمس عائالت وتقص حيواتهم
الشخصية مع التاريخ بين 1805و1813م ،وبشكل رئيس غزو نابليون لروسيا سنة 1812م ،ثم دخوله موسكو وانسحابه بعد الخيبة والفشل في مواجهة الشتاء الروسي القارس ،ورفض القيصر الروسي ألكسندر األول االستسالم.
وال يتوقف األمر هنا ،فثمة قصص كثيرة عن عالقة الرؤساء األميركيين بالشعر ،كان الرئيس جيمس غارفيلد من أشد
العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
زعماء البيت األبيض ال أحد يستطيع العيش بال كتاب
من جانبه ،علق ريتشارد كوهين ،في مقال له في
«واشنطن بوست» ،بقوله« :الصورة الكاريكاتيرية لبوش
كشخص غير مثقف انتهت اليوم ،أو ربما باألمس ،لكن
تبقى حقيقة الرجل المثقف قائمة» .وأثارت حقيقة أن بوش قرأ رواية «الغريب» لكامو صيحات سخرية من
وسائل اإلعالم .على سبيل المثال :كتب جون ديكرسون من مجلة «سليت» أن قراءة جورج بوش لروائي وجودي
فرنسي أشبه بقراءة أوباما لكتالوغ متجر «كابيال». واستضاف تلفزيون «بي بي سي» الصحافية الفرنسية
بينديكيت باتون ،والناقد البريطاني المتخصص في األدب
الفرنسي آالن دي بونو ،لتخمين سبب اختيار بوش لهذا الكتاب .وقالت باتون :إن كثيرًا من الرجال يمسكون بكتاب
جورج بوش
عالي الثقافة ليس لقراءته -إذ يتعذر عليهم فهمه -إنما
إلبهار اآلخرين ..إال أن الناقد ديبونو خالف باتون الرأي قائلاً :إن أحداث الكتاب وشخصية «الغريب» تروق للرئيس بوش وتماثل شخصيته ،وربما اقترحه عليه أحد ً شخصا بري ًئا من دون مساعديه؛ إذ إن بطل الرواية يقتل
سبب وال يشعر بالندم ،ويخالف نصيحة اآلخرين ،وهي
مواصفات لدى بوش في ممارسته السياسة العالمية ،إذ يظهر «غريبًا» عن أي من األعراف اإلنسانية العادية.
ال أحد يجاري روزفلت في القراءة، واحدا في اليوم كتابا فهو يقرأ ً ً في حالة انشغاله القصوى ،أما في أوقات الفراغ التي يتحرر فيها من العمل فإنه يستطيع االنتهاء من قراءة كتابين إلى ثالثة كتب
103
المعجبين بالشاعر األلماني غوته ،وقد استطاع في أثناء فترة رئاسته ً أرشيفا لقصاصات من الكتب التى صدرت في تكوين مكتبة كاملة ضمت عهده .وفي صغره كان غيرالد فورد يتعرض لنوبات من الغضب .وبعد نوبة غضب سيئة بصورة استثنائية ،ألزمته أمه دوروثي فورد بحفظ
قصيدة «لو» للشاعر روديارد كبلنغ ،وقالت له« :إن هذه القصيدة سوف
تساعدك على أن تتحكم في غضبك» .هذه القصيدة تبدأ بقول الشاعر: «لو أنك قادر أن تبقي على رأسك/بينما كل من حولك يفقدون رؤوسهم ويلومونك أنت .»...منذ أن تخرج هاري ترومان من المدرسة الثانوية سنة
1901م ظل يحمل في محفظته عبارة من قصيدة للورد تينيسن هي قصيدة
«قاعة لوكسلي» ظلت الورقة التي نقلت عليها تلك العبارة تبلى ،وظللت أعيد نقلها على ورقات أخرى .ال أعرف كم مرة حدث هذا ،عشرين مرة
أم ثالثين ،ربما» وأضاف ترومان في حديثه الشهير للصحفي مارتن فيلر قائلاً « :إن إيماني بالشعراء أكبر بكثير من إيماني بالصحفيين».
جيمي كارتر
ماذا يقرأ ترمب؟
هذا غيض من فيض عن مشهدية الرؤساء والقراءة األدبية ورمزيتها في البيت األبيض ...والسؤال :ماذا يقرأ الرئيس
الجديد دونالد ترمب؟ ماذا لو قرأ الرئيس األميركي رواية «المسخ» لكافكا ،أو«رأس المال» لماركس ،أو«المراقبة والعقاب»
لفوكو ،أو أي روائي عربي ،كيف ستكون التفسيرات وردود األفعال؟!
ثقافات
مرور سنة على رحيله
الروائي إمبرتو إيكو.. سياسي حتى العظم أحمد فرحات
104
شاعر وكاتب لبناني
بعد رحيله في 19فبراير من العام الفائت 2016م عن 84عامً ا؛ قرأنا الكثير عن الروائي اإليطالي إمبرتو ً ً وباحثا في القروسطيّات وعالمً ا في اللغويّات والسيميائيّات وناقدا إيكو أديبًا وأكاديميًّا وسوسيولوجيًّا (دراسة ّ ً األدلة) ،ولم نقرأ عنه كناشط سياسي؛ علمً ا بأنه كان منخرطا في عالم السياسة حتى أذنيه ،وكان ً خصوصا في مجلة «ليسبريسو» اإليطالية ،وفي صحيفة الـ«نيويورك يكتب في أحداثها وتطوّراتها بانتظام، تايمز» األميركية .وبما أن الرجل ّ شكل ظاهرة ثقافية وإبداعية كبرى ،جرّاء انتشار رواياته بالماليين ،ليس على مستوى بلده إيطاليا واالتحاد األوربي فقط ،إنما على مستوى العالم بأسره ،فإن آراءه السياسية، هي بالتأكيد محل رصد ومتابعة وتقييم؛ ولها -ال شك -تأثيراتها االعتبارية؛ ناهيك عن أن الرجل معروف أصلاً بيساريته ،التي يقال :إنه َّ طعمَ ها بليبراليّة متمادية في العقدين األخيرين من حياته ،ما أغضب الكثير من «رفاق األمس» داخل البالد وخارجها .ومن هنا كان الف ًتا أن تقول صحيفة «الريبوبليكا» اإليطالية «بأننا سنفتقد نظرته إلى العالم» .وقال فيه رئيس الوزراء اإليطالي السابق ماتيو رينتسي« :إن الراحل كان نموذجً ا استثنائيًّا للمثقفين األوربيين ،حيث جمع بين فهمه الفريد للماضي وقدرة ال تنضب على التنبؤ بالمستقبل» وهو يقصد بالطبع المستقبل االجتماعي والسياسي والحضاري العام لبالده؛ ألن إمبرتو إيكو كان ينشق دومً ا عن ثقافة اتساع الرؤية ،والسياسة كانت جانبًا حيويًّا من جوانب هذه الرؤية. أما صديقه المفكر الفرنسي جاك لوغوف فقال« :إمبرتو إيكو روائي سياسي حتى العظم ،وعلى هذا األساس يجب أن ُتقرأ
مختلف رواياته» .وهذا الرأي في ّ محله على ما نعتقد؛ إذ إن اللجوء إلى مسرح التاريخ واستخدام موضوعات أحداثه ،هو سمة كتابة
إمبرتو إيكو الروائية في اإلجمال ،بدءً ا من روايته «اسم الوردة» –
1980م ،مرورًا بروايات« :بندول فوكو» – 1986م ،و«جزيرة اليوم
السابق» 1944 -م ،و«مقبرة براغ» – 2010م ،و«الشعلة الغامضة للملكة لوانا» 2004 -م وصولاً إلى روايته األخيرة «العدد صفر» –
2015م ،وعبرها جميعً ا عرف الروائي الكبير كيف ّ يوظف أحداث ّ ودالة بقوة على خارطة الحاضر بصراعاته التاريخ برمزية صارخة السياسية المركزية موضوع التناول أو المعالجة الفنية.
وإمبرتو إيكو كان يحذو بذلك حذو الروائي األسكتلندي الشهير،
السير والتر سكوت« ،أبو الرواية التاريخية» المكتملة العناصر والتشويقات في أوربا والعالم (1832 – 1771م) ،وذلك مذ ّ سطر هذا العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
األخير روايته األولى «ويفرلي» في عام 1814م ،وأتبعها بـ 55رواية
تاريخية ،كان ينتقي معظم أبطالها من العصور الوسطى .ومن أشهر كتبه السياسية« :حياة نابليون» في تسعة أجزاء .وقد درج على منوال والتر سكوت ُك َّتاب ُكثر في أوربا من أمثال فكتور هوغو وألكسندر ديماس في فرنسا ،وتولستوي في روسيا ،وألكسندرو
مانزوني في إيطاليا .ومع إرهاصات نهايات القرن العشرين األدبية، ظهر إمبرتو إيكو في إيطاليا ً أيضا كمفجّ ر مستأنف لهذا النهج الكتابي
الروائي السياسي المشوّق.
السياسة وصناعة الكذب
قضايا سياسية كثيرة تط ّرق إليها إمبرتو إيكو في مقاالته التي
كان ينشرها دوريًّا في الـ«نيويورك تايمز» ،من بينها مقالة أشارت إلى
صناعة الكذب في السياسة حملت عنوان« :الحياة السياسية ..حتمية الكذب» ،يعود فيها إلى كتاب الروائي والناقد اإلنجليزي جوناثان
ً مقتطفا منه سويفت« :فنون الكذب» الذي ألفه في عام 1712م، عبارات ّ دالة على زمننا الحاضر سياسيًّا ،يقول على لسان سويفت:
ّ الكذاب السياسي عن سائر «إن ثمة نقطة أساسية يفترق فيها ّ ّ الكذابين ،هي في قدرته على اجتراح الكذبة وجعلها تتسم بذاكرة قصيرة ،وذلك كي يتجاوز بسرعة واقع كيف َ ناق َ ض نفسه أمام آن واحد». نفسه ،وأمام أتباعه في ٍ
وفي رأي سويفت «أن انتشار الكذب على نحو واسع ،ال يستغرق ً زم ًنا طويلاً ،حتى لو كان المصدر َّ محترفا ومح ّن ًكا في كذابًا سياسيًّا الصميم» .ويردف الكاتب «عادة ما تصحّ مقولة :إن تصديق كذبة
ولو لساعة واحدة فقط ،تفي بكامل الغرض المراد منها؛ فالكذب
المؤذي الخطير ينتشر بسرعة البرق ،في حين أن الحقيقة تظهر بعده عرجاء ب َْكماء ،وريثما يتحرر المرء من صدمة الكذبة واإلفاقة النهائية منها ،تكون األمور قد فات أوانها وأتت أُ ُكلها».
وفي مقالة أخرى له نشرتها الـ«نيويورك تايمز» ً أيضا تحت عنوان:
«قصتي مع األلوية الحمر» ،وبعد مناقشته وتصحيحه لما نقل عنه في صحيفة «إلباييس» اإلسبانية بأنه قال« :إن «األلوية الحمر» كانت ّ محقة في اعتقادها بضرورة محاربة الشركات متعدّدة الجنسيّات، لكنها كانت مخطئة في إيمانها باإلرهاب كأسلوب .ويستنتج بالتالي
كاتب «إلباييس» أني أوافق ،بهذه الطريقة ،على أن تلك المنظمة اإلرهابية ،هي مجرد عبارة عن «رفاق ّ ضلوا الطريق» ،وأني أدعم
مقولة« :إن األفكار كانت مقبولة ،وأما الطرق فلم تكن» .وقد اختتمت الجريدة اإلسبانية المقال المنشور كما يلي« :إن كانت هذه
المساهمة التي تقدّمها الذهنيّة الثقافية اإليطالية بعد
ثالثين عامًا على اغتيال رئيس الوزراء األسبق ألدو مورو ،فهذا
يوظف أحداث عرف الروائي الكبير كيف ّ التاريخ برمزية صارخة ودالّة بقوة على خارطة الحاضر بصراعاته السياسية المركزية ّ ومعل ًقا: فلم سبق وشاهدناه يا لألسف »..يقول إمبرتو إيكو مصحّ حً ا
«أما ما يمكننا أن نصفه بالهذيان في طريقة تفكير منظمة «األلوية الحمر» والمجموعات اإلرهابية األخرى ،فهو االستنتاجات التي توصلت إليها .فقد ظ ّنت المنظمة أولاً ،أنها إن أرادت القضاء على
الشركات متعدّدة الجنسيات ،فعليها أن ّ تحث على اندالع «ثورة» من خالل اقتراف موجة واسعة من أعمال العنف في إيطاليا .ثم اعتقدت
أنها بقتلها «ألدو مورو» والعديد من األشخاص الصالحين ،تمارس ً ضغطا على الشركات متعدّدة الجنسيات .وأخي ًرا رأت أن تلك بذلك
األعمال ،ستدفع بأفراد الطبقة العاملة إلى التم ّرد .وقد كانت هذه األفكار كلها جنونية ًّ حقا؛ ألسباب ثالثة :ما كانت ثورة في بلد واحد لتزعج الشركات متعددة الجنسيات حتى لو قليلاً ،وفي أي حال كان
الضغط الدولي ليعيد وضع األمور في نصابها على الفور .ثانيًا -لم
105
ثقافات
تكن لسياسي إيطالي واحد أي أهمية تذكر في لعبة المصالح الدولية. ً ثالثا -كان األجدر بمنظمة «األلوية الحمر» أن تدرك أنه مهما قتلت من أشخاص ،فإن الطبقة العاملة لن تثور». رفيق أخطأ التفكير
ً معلقا« :إن من يستقي االستنتاجات ويستطرد إمبرتو إيكو
الخاطئة من مقدمة منطقية مقبولة إلى حد ما ،ليس مجرد «رفيق
أخطأ التفكير»؛ وإذا قال أحد رفاقي في الفصل الدراسي :إن الشمس تدور حول األرض ،أو إن اثنين زائد واحد يساويان خمسة ،فلن ً رفيقا أخطأ التفكير ،بل سأ ُع ّده غبيًّا» .وبخصوص مصطلح أعده
وبنجامين غوغنهايم ،وإيزيدور شتراوس ،الذين عارضوا في ذلك
الوقت تأسيس المصرف .وبالعمل من خالل االحتياطي المركزي، ّ تمكن اليسوعيون من تمويل الحربين العالميتين اللتين صبّتا في مصلحة الفاتيكان دونما شك.
أما فيما يخص اغتيال الرئيس جون كينيدي ،فيجدر التذكير
–وكله بحسب إمبرتو إيكو عن الموقع الفرنسي– بأن تأسيس وكالة ّ مخط ًطا يسوعيًّا ً أيضا، االستخبارات المركزية األميركية ،كان
مستوحى من التمارين الروحية للقديس إغناطيوس ،وأن اليسوعيين ّ تحكموا بوكالة االستخبارات المركزية األميركية من خالل جهاز الـ«كي.
«المؤامرة» الذي كان على ما يبدو سائدًا في األدبيّات السياسيّة
جي .بي» السوفييتي ،ومن ثمَّ اغتيل كينيدي على يد األشخاص
تناوله إمبرتو إيكو في مقالة ساخرة نشرتها الـ«نيويورك تايمز» في عام 2008م .ورد فيها أنه ،وبعد ّ تصفحه موقعً ا لإلنترنت باللغة الفرنسية،
إيكو -فإن التآمر اليسوعي ،هو من يقف خلف الجماعات النازية
الجديدة والمناهضة للسامية كلها ،واليسوعيون يسيطرون على
به العنوان ،يقدم هذا الموقع مراجعة واسعة لألحداث كافة ،التي
أوحى إلى الكاردينال سبيلمان ،الذي ح ّرض على الحرب في فيتنام،
القديمة ،مثلما هو سائد في األدبيّات السياسيّة الحديثة ،فلقد
واسمه «عالم اليسوعيين المريض» لـ«جويل البرويير»؛ وكما يوحي
انطلقت من مؤامرة عالمية رسمها أعضاء جماعة اليسوعيين الدينية. ّ التحكم فلطالما «جهد اليسوعيون نحو تأسيس حكومة عالمية عبر
بالبابا وبعدد من األمراء األوربيين .ومن خالل جماعة المتنوّرين من
106
وفاة اليهود الثالثة األغنى في العالم :جون جاكوب آستور الرابع،
إقليم بافاريا األلماني ،حاولت «جماعة يسوع» الدينية إسقاط األمراء
الذين حظروا وجودها .ليس هذا كل شيء ،يتابع إيكو« :فأعضاء جماعة اليسوعيين الدينية هي من أغرق سفينة «تيتانيك»؛ ألنه
بداعي هذه الحادثة تمكنوا من تأسيس مصرف االحتياط الفدرالي األميركي وبوساطة من فرسان مالطا» .ويشدد مح ِّررو موقع «العالم المريض» على أن غرق سفينة «تيتانيك» لم يؤ ّد بالمصادفة إلى
أنفسهم الذين أغرقوا سفينة «تيتانيك» الضخمة .وبالطبع -بحسب
نيكسون وكلينتون؛ كما قاموا بمجزرة مدينة أوكالهوما .وهم من التي جلبت بدورها 220مليون دوالر إلى صناديق االحتياطي الفدرالي الخاضع ً أيضا لسيطرة اليسوعيين من خالل فرسان مالطا .ويختم إمبرتو إيكو ساخ ًرا جدًّا من مصطلح «المؤامرة» أو «نظرية المؤامرة»
لئن انتقد إمبرتو إيكو بعض سياسات إسرائيل ،فإنه في حقيقة األمر ،كان حتى آخر يوم من حياته ،من أشد المدافعين األذكياء عنها
إيكو وعصام محفوظ ..لقاء في «الدوماغو» روى لي الناقد اللبناني الراحل عصام محفوظ أنه التقى في باريس الروائي إمبرتو إيكو في مقهى «الدوماغو» في أوائل التسعينيات
من القرن الفائت ،وتحادثا في أمور ثقافيّة وسياسيّة شتى ،لفته خاللها ،وأكثر من مرة ،سؤال شخصي كان يلحّ عليه إيكو له ومضمونه: أعرف أنك لبناني ،لكن من أي منطقة من لبنان أنت؟ّ .. علقت مبتسمً ا بعض الشيء (يقول عصام محفوظ) :ما وراء هذا السؤال يا سيد
إمبرتو ،هب أنني أجبتك ،فبماذا سيفيدك جواب عن هذا السؤال؟ قال إمبرتو :أخبرني بعض المعارف اللبنانيين المشتركين أنك من
مدينة صغيرة مجاورة للحدود اإلسرائيلية– اللبنانية ،فهل هذا صحيح؟ «هذا صحيح نعم» أجاب عصام محفوظ «واسم مدينتي الصغيرة إذا؟ هل هي ممكنة؟ ما ّ تحفز إمبرتو إيكو وسألني :ما رأيك بعملية السالم اإلسرائيلي– الفلسطيني ً هو مرجعيون» .هنا ّ حظها من النجاح؟ ً وخصوصا من طرف العرب الذين بلدانهم مجاورة إلسرائيل ،وأكثر بكثير من غيرهم .إن لهذه وأنا كإيطالي متوسطي تهمّ ني اإلجابة هنا، اإلجابة مذاقها الخاص عندي بالتأكيد .»...وعلى الفور أجابه الناقد والمسرحي عصام محفوظ« :ال أعتقد أن سالمً ا حقيقيًّا سيقوم بين
اللبنانيين واإلسرائيليين -وبالتأكيد مع العرب اآلخرين -أتعرف لماذا يا سيد إيكو؟ ببساطة ألن اإلسرائيليين أنفسهم ال يريدون السالم الحقيقي والمعافى ،أولاً مع الفلسطينيين ومن ثمّ مع سائر العرب ،ففي السالم تضؤل دولتهم وتضمحل».
ولكن السالم اإلسرائيلي– المصري حقيقي ومعافى ،ومعاهدته تؤك ّدها األيام والسنون ،وكذلك معاهدة السالم اإلسرائيلية– أيضا ثابتة ومستمرةّ . األردنية ،فإنها ً علق إمبرتو إيكو على كالم عصام محفوظ ..وأردف قائلاً « :بالتأكيد سيُصار ذات يوم إلى قيام معاهدة
العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
الروائي إمبرتو إيكو ..سياسي حتى العظم
داع للتساؤل عن سبب إقبال الناس الكبير عندما يقول :إنه «ما من ٍ على كتب الروائي دان براون ،فلعل لليسوعيين عالقة بذلك ً أيضا!». تبرير اغتصاب فلسطين
أما بخصوص إسرائيل ،فإن إمبرتو إيكو ،وإن كان ينتقد بعض
ً خصوصا لجهة قوله ،وأكثر من مرة :إن مصطلح «معاداة سياساتها،
السامية» مملوء بالتناقضات ،إال أنه في حقيقة األمر ،كان حتى آخر يوم من حياته ،من أشد المدافعين األذكياء عن إسرائيل .وقد استف ّز الكثير من قرائه العرب ،وبخاصة الفلسطينيين منهم ،عندما أص ّر على المشاركة في «معرض القدس للكتاب» في عام 2011م، مل ِّبيًا دعوة بلدية االحتالل اإلسرائيلي في المدينة المقدسة ،وذلك
بعدما ضرب عرض الحائط بكل مناشدات قوى المقاطعة الثقافية واألكاديمية للدولة العبرية ،التي طلبت منه عدم تلبية هذه الدعوة. من جانب آخر ،وبدهاء مر َّكب ،ب َّرر إمبرتو إيكو لإلسرائيليين
اغتصابهم أرض الشعب العربي الفلسطيني عندما قال في مقالة له في
النيويورك تايمز« :والبارز لدى اإلسرائيليين ،هو أنهم
السامية ذلك؛ وأنا على علم بأن المكان الذي يعرف اليوم بإسرائيل، كان في الماضي ً أرضا فلسطينية؛ فلم ُتن َتزع هذه األراضي باستخدام
العنف وعن طريق القضاء على الشعب الفلسطيني صاحب األرض، كما كانت الحال في شمال أميركا ،أو من خالل تدمير الدول التي
يحكمها الملوك ،كما كانت الحال في جنوب أميركا ،بل أساسً ا عن
طريق الهجرة واالستيطان البطيئين اللذين لم يَجْ ِر معارضتهما في دفاع ماكر ومتسلل هذا الذي يبتدعه هنا إمبرتو إيكو دفا ًعا البداية» .أيُّ ٍ
عن مغتصبي األرض الفلسطينية ،الذين تدفقوا بإرادة استعمارية استيطانية مكشوفة ،ووفق برنامج رعائي استعماري ممسوك ومدار،
حضنته في البداية بريطانيا وفرنسا ،وفيما بعد ،الواليات المتحدة والغرب كله؟ على من يمرر ًإذا إمبرتو إيكو رسائل تبرير أن اإلسرائيليين هم مجرد مهاجرين عاديين لم يرتكبوا مجازر بحق أهل األرض ،ولم يستأصلوا شأفة الفلسطينيين ،وأنهم مجرد شعب يريد العيش بسالم
ووئام مع محيطه ،ومن ثم فإن اإلسرائيلي لم يفعل ما فعله غزاة شمالي أميركا األوائل بحق من سُ مّوا خطأً بـ«الهنود الحمر»؟
استخدموا الوسائل األكثر تق ّدمًا بهدف حرث األرض وإنشاء المزارع النموذجية .ولذلك في حال حاربوا،
ففي سبيل السيطرة على األرض التي استوطنوا فيها. فهذا هو العامل الذي يحمله العرب «المعادون ً مأخذا عليهم ،علمًا بأن هدفهم األساسي للساميّة»
107
(أي العرب) يكمن في تدمير دولة إسرائيل» .ويردف
إيكو في المقالة عينها« :ال يحبّذ معادو الساميّة فكرة أن يعيش اليهودي إال في إسرائيل .وفي حال
اختار اليهودي أن يعيش في إسرائيل ،يرفض معادو سالم بين إسرائيل ولبنان ،وسيكون لها ّ َ حظ النجاح ً معاهدت ْي مصر أيضا ،على غرار واألردن مع إسرائيل» .وهنا قاطعه عصام محفوظ قائلاً :من حيث الشكل ربما كان األمر
صحيحً ا ،لكن من حيث المضمون وقوة سلطة التاريخ وأنساق مفاهيم الشعوب وعمقها الواعي والالواعي فال أعتقد ،بل أجزم ،بأن األمر يعاكس وجهة نظرك يا سيد إيكو .فأولاً -ال سالم حقيقيًّا بين إسرائيل والشعوب العربية في مصر واألردن ولبنان (في حال قامت أصلاً
معاهدة بين هذا البلد األخير وإسرائيل) .ثانيًا -إن مفهوم سالم إسرائيل مع العرب ،هو
مفهوم إخضاعي لهم ،وسيطرة مطلقة عليهم ،حاضرًا ومستقبلاً ،فكل بلد عربي بالنسبة
إلى إسرائيل ،هو أمة قائمة بذاتها ،ويجري التعامل مع كل «أمة من األمم العربية» على هذا األساس ..فأي سالم تص ّدقه سيقوم بين العرب وإسرائيل أيها الصديق إيكو؟! .أكثر من ذلك يا سيدي :إن اإلسرائيليين يدركون في أعماقهم بأن ال سالم عاش وسيعيش بينهم
عصام محفوظ
وبين سائر جيرانهم العرب ،بالمعنى الشعبي هنا طبعً ا؛ لذلك فإن معدة الشعوب العربية لم تهضم إسرائيل في رأيي ،ولن تهضمها يومً ا .ولذلك فإن الدولة العبرية ستظل باستمرار دولة عسكرية وأمنية مستنفرة ،وتخوض حروبًا مباشرة وبالواسطة مع العرب ..فهي ّ تنحل وتبور». بالحروب تحيا وتستمر ،وبالسالم الحقيقي لم ّ يعلق الرجل على كالمي ،يقول لي عصام محفوظ ويضيف :وأنا انتقلت بالحديث معه إلى موضوع آخر.
ثقافات
ثورة الحب لوك فيري
فيلسوف فرنسي
ترجمة :المهدي مستقيم -باحث مغربي
ُ والمثل التقليدية (الدينيّة ،أو الوطنيّة ،أو الثور ّية) قد عجزت عن استمرارية إذا كانت القيم ِّ المتجذرة في العبور من عملها بالمعاني التي تضفيها على حياتنا ،فإن ما أنعته «ثورة الحب»، الزواج العرفي إلى الزواج المؤسس على قيمة الحب ،بوصفها ً أفقا وغاية ،أحدث تغييرًا كليًّا على حياتنا .وهذه الثورة الصامتة ،والشديدة العمق في اآلن نفسهُّ ، تمدنا بمبدأ جديد من حيث المعنى، أضفى قيمته على تلك األبعاد اإلنسانية ،التي طالما كانت مهمشة ،والمجسدة في الحب الذي نك ُّنه لرفقائنا ورفيقاتنا ،وألصدقائنا وأطفالنا وأقربائنا. بيد أن هذا االنقالب ال يمكن حصره فيما هو خاص؛ إذ
سرعان ما امتدّ ت عدوى التغيير الجذري الذي طال حياتنا
108
الخاصة ،لتشمل عالقاتنا الجماعية ،ذلك أن الحرص على أن ِّ نحقق لمن نحبهم ،ابتداء بأطفالنا ،عالمً ا ي َْسهل العيش فيه، وتتوافر فيه سبل االزدهار ،يضع االهتمام باألجيال القادمة في صميم رؤيتنا لما هو سياسي .لقد تبلورت أنسنة ثانية
بإيقاعات موسعة ،على أنقاض األنسنة األولى القائمة على
فلسفة األنوار وحقوق اإلنسان ،أنسنة جديدة تتسم باألخوَّة
والتعاطف ،وتمتنع عن التضحية باإلنسان لفائدة الوطن أو الثورة أو حتى التقدم (وهي مُ ُث ٌل اشتهرت بأنها منفصلة عن اإلنسانية ومتعالية عليها) ،في حين أنها تشعر بحضور ذاتها في وجودنا المحايث ،وفي مشاعرنا تجاه اآلخرين منبعً ا
ليوتوبيا إيجابية ،تنبثق من المشروع المتمثل في توريث من سيأتي من بعدنا عالمً ا يوفر لكل واحد مسوغات «التحقق». لقد تبين أن َ األ ْن َس َن َة األولى ،أي أنسنة األنوار والعلم المنتشي بنجاحات االنتصار ،قد تعرضت في زمن التفكيك
إذ بوسع الجيولوجيا والرياضيات والفيزياء أن تمكننا من
ممارسة عمليات االحتمال ،ومن ثمة تفادي انعكاس المآسي
ألنواع حادة من النقد ،نقد لم يكن حك ًرا على الفلسفة العالِمة وحسب ،بل طال السياسة ً أيضا (إضافة إلى اإليكولوجيا)
الناتجة عن عبث الطبيعة القاسي على قدرات الكائنات
بذلك ،يكفي أن نراجع الحدود التي تغيرت فيها عالقتنا
المفكرين الالمعين ،هو المالذ الوحيد الذي بإمكانه أن يجنبنا
ً اقتناعا والحياة اليومية لدى الغربيين ،ولكي نصير أكثر
بالعلم منذ القرن الثامن عشر .حظي رد فعل ألمع المفكرين تجاه الزلزال الذي خرب لشبونة سنة 1755م ،وأودى الموت بآالف األشخاص ،باإلجماع والثقة ،بيد أن ما أحرزته العلوم
والتقنية من إنجازات وتقدم غير مسبوق ،سيكون قادرًا مستقبلاً على تجنيب اإلنسانية مثل هذه الكارثة. العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
البشرية .وباختصار ،التفكير العلمي حسب رأي هؤالء
طاغوت المادة الخام .وقد شهد العصر تغ ُّي ًرا جذريًّا ،حتى ال نقول انتقالاً من براديغم إلى آخر جديد ،إذ تبدو لنا الطبيعة اليوم نظريًّا أقل تهديدً ا وأقل عدوانيّة ،وأكثر رأفة من العلم
الذي بات يشكل مصدر تهديد للبشرية ،ال سيما أن كل ما يع ِّرض وجودنا للخطر بات يبعث في أنفسنا الرعب .نحن
نتظاهر باالعتقاد أنه بإمكاننا تجنب قلق الموت ،لكن سرعان
االقتصادي أو األسواق المالية لم تعد هي األخرى تخضع
من الخمر ،ومن التدخين ،ومن السرعة ،ومن ممارسة
االلتزام بالوعود التي يودون تقديمها ،أمام تزايد وتيرة هذا
ما يتحول هذا االعتقاد إلى أصناف جديدة من الخوف :الخوف
الجنس ،ومن الذرة ،ومن الهاتف النقال ،ومن التعديل الوراثي ،ومن االحتباس الحراري ،ومن االستنساخ ،ومن التكنولوجيا الحديثة ،ومن ألف تحديث وتحديث شيطاني ال
يزال يهدده بنا صناع العلم التقني العالمي.
لقد انتعشت أساطير فرانكشتاين وشخصية الساحر من
جديد ،حكى لنا التاريخ قصة كائن ممسوخ أو سحري ينفلت من خالقه ،ويهدد بتخريب األرض ،هذا النوع من المجاز هو
الذي ما لبث ينطبق في أيامنا على البحث العلمي ،فبينما كان هذا األخير في بداياته خاضعً ا لسلطة بشرية روضته وتحكمت فيه بمشيئتها ،فإنه اليوم أصبح ينذر ويهدد باالنفالت من
قبضتها ،إلى درجة لم يعد معها أحد يستطيع في النهاية أن
ألوامر نواب الشعب ،الذين توقفوا عن إخفاء عجزهم عن
النمو .هنا بكل تأكيد يظهر سر نجاح أولئك الذين يريدون
إقناعنا ،شأن جمهوريينا الجدد ،بأنه تمت إمكانيات للرجوع إلى الوراء ،وأن التحالف القديم بين العلم واألمة والتقدم مسألة ينحصر تحققها في «المدنية» و«اإلرادة السياسية»
ً خصوصا أن شحنة ال بأس بها من كم بو ِّدنا تصديق ذلك!
التعاطف ترافق حتمً ا أقوالهم المفعمة بالحنين. المصدر:
Luc Ferry , Claude Capelier , La plus Belle Histoire De La Philosophie , Editions Robert Laffont , S.A., Paris,2014. pages : 396405-404-403-402-401-400-399-398-397-.
يضمن بقاء النوع البشري وتوريثه لألجيال القادمة ،ويكاد األمر يتعلق بمجال ذهني لم يشهد له التاريخ البشري مثلاً . فيما يخص عالقة العلم بالطبيعة ،نحيل إلى الثورة
الحقيقية التي شهدتها نهاية القرن العشرين ،إذ منذ ذلك
الحين لم نعد نميل إلى إرجاع األخطار الجسيمة التي تحدق بنا
إلى الطبيعة ،إنما (لألسف) إلى البحث العلمي ،حيث لم نعد نراهن على الهيمنة على الطبيعة ،بقدر مراهنتنا على إحكام
قبضتنا على البحث العلمي؛ ذلك أن العلم ،وألول مرة في
تاريخه ،أصبح ينتج للجنس البشري مسوغات دماره وأفوله،
وهذا غير وارد بالنسبة للمجتمعات الحديثة التي باتت تعاني مخلفات االستثمار الصناعي للتكنولوجيات الحديثة ،بل أيضا ،عندما ُت َّ يحصل ً وظف هذه التكنولوجيا من جانب غيرنا.
وإذا كنا اليوم نشعر بالتهديد أكثر من أي وقت مضى ،فذلك يرجع لوعينا بأن اإلرهاب بإمكانه أن يمتلك منذ اليوم –أو في
وقت قريب -األسلحة الكيماوية ،بل حتى النووية المروّعة.
ً متملصا منا، لقد بات العلم الحديث بكل فروعه وتفعيالته وقوَّته الماحقة صارت تبعث فينا الدهشة.
لم تقف سحابة تشيرنوبيل بفعل معجزة جمهورية،
اخترقت حدود فرنسا .كما أن السيرورات التي تحكم النمو
لئن خضع البحث العلمي في بداياته لسلطة بشرية روضته وتحكمت فيه بمشيئتها ،فإنه اليوم أصبح ينذر ويهدد باالنفالت من قبضتها ،إلى درجة لم يعد معها أحد يستطيع في النهاية أن يضمن بقاء النوع البشري
109
ثقافات
اختار أن يحمل اسم أمه وسخر من هوس الشهرة
يفغيني يفتوشينكو: مراقبو الكتب في موسكو أفضل قرائي
110
العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
ترجمة وإعداد :سهام العريشي
شاعرة ومترجمة سعودية
في منتصف رواية ُنشرت في االتحاد السوفييتي عام 1981م ،تتبادل اثنتان من الشخصيات الحديث عن الشعر الروسي ،وبعد أن ُتذكر مجموعة من األسماء ،تطرح إحداهما السؤال« :وماذا عن يفتوشينكو؟» ً الحقا أن هذه الرواية فتجيبها األخرى« :كانت تلك مرحلة أخرى مضت وانتهت» .الجملة التي سيتضح منها «التوت البري» َكتبها يفغيني يفتوشينكو نفسه ،الذي رحل في األول من إبريل الماضي. مثل هذه اإللماحة تعطينا فكرة مبسطة عن سخرية الشاعر من هوس الشهرة ،وإسقاطه لقيمة التبجيل عن نفسه ،وقدرته على أن يضحك على نفسه ببساطة .لكنها في الوقت نفسه تنبّهنا بقوة إلى أن الشعر ً بلد تحكمه األسطورة الماركسية التي تخلو الروسي كان في فترة ما مرادفا السم يفغيني يفتوشينكو .في ٍ وقت كان فيه ُ الك َّتاب يناهضون الساسة في روسيا ،وُلد الشاعر والروائي يفغيني ظاهريًّا من التعصب ،وفي ٍ يفتوشينكو في سيبيريا عام 1932م ،الفتى الذي اختار أن يحمل اسم أمه المغنية بعد طالقها من أبيه. قضى يفغيني طفولته مع أمه في موسكو ،وحين اقتربت القوات األلمانية من حدود المدينة أواخر عام 1941م ،أُخلِيت المدينة من سكانها ،وانتقل بعد ذلك إلى زيما حيث بقي فيها حتى عام 1944م .كان والده ،المتخصص في علم األرض ،يأخذه في
رحالت لمناطق برية في كازخستان وجبال ألتاي ،وطوال الطريق ً شغوفا كان الوالد يقرأ الشعر على مسامع ولده ،فكبر الطفل بالشعر واألدب.
ناهض يفغيني حكم ستالين ،وكان يُلقي قصائده في المسيرات
العامة ،وتستقبلها الحشود بصمت وإعجاب ،ثم بتصفيق حماسي
أكبر؛ ما أدى إلى منعه من إلقاء قصائده في أوكرانيا حتى أواخر عام 1980م .وقد بلغ من شهرته األدبية آنذاك أن قرأ شعره في
ساحات ملعب رياضي لجمهور يفوق 200ألف متفرج في عام 1991م عقب محاولة انقالب فاشلة في روسيا .بعد عام 1950م ،بدأ يفغيني
كتابة القصص والمقاالت الصحفية ،وأخذت مساحة النثر تتسع في كتاباته ،وإضافة إلى رواية «التوت البري» نشر يفغيني رواية أخرى عنوانها« :ال تمت قبل موتك» (1993م) ،وفي وقت الحق أصبح يعرّف بنفسه كشاعر وكاتب ومخرج؛ إذ شارك في إخراج أفالم سينمائيةَّ ، ومثل بعض األدوار ً أيضا .حين انهارت الشيوعية
في عيد ميالده الستين ،اختتم يفغيني الحفلة بقراءة أبيات
من إحدى قصائده المفضلة «جيل الستينيات» ويقول فيها« :كنا زمن ما ،كنا محط السوء بالنسبة للبعض ،لكننا الموضة في ٍ منحناك شرف أن تكون حرًّا ،يا حاسدي المهان ،فلتهمسوا بما
شئتم ،قولوا :إننا ال نعرف اإلبداع ،قولوا :إننا مستهلكون في النفاق ،ال يهمني ً أبدا .سنظل األساطير ،نظل محط جدل ،نظل نحن الخالدون».
قصيدتان فاتحة
كثي ٌر ًّ جدا أنا. ٌ مستنزفُ ،مرهق،
ُم َّ عط ٌل أنا. لي ُ حلم أنا ألف ٍ تخذلني الجهات. وال ُ أليق ،ال أليق..
في االتحاد السوفييتي في بداية التسعينيات الميالدية وبدأت
بأي شي ٍء ُهنا.
السوفييتيين .كانت قصائده ُتنشر في أهم المجالت الثقافية ،وحاز معها على الكثير من الجوائز ،كما ُعيِّن سفيرًا للنوايا الحسنة .حين
ُ البغيض الط ِّيب. أنا أحب َّ ُّ كل هذا،
التغييرات الديمقراطية في البالد ،سطع نجم يفغيني في النظام اإلصالحي ليصبح أحد أعضاء البرلمان وسكرتيرًا التحاد الك َّتاب
العصي الغريب، أنا ُّ ُ أنا الخجول الو ِقح،
سُ ئل ذات مرة عن الشريحة األكبر من قرائه ،أجاب ساخرًا بأنهم «مراقبو ُ الكتب في موسكو ،إنهم أفضل قرائي ،وهم األكثر خبرة
ُّ أحب كيف يكتمل الشيء بشي ٍء آخر، ّ ُّ أحب كيف يندمجُ كل شي ٍء بداخلي:
يسمي الشعر شعرًا سياسيًّا ،بل شعر الحقوق اإلنسانية».
من الحسدِ إلى الرضا.
في القبض على المعاني والفروق الدقيقة» ،فبالنسبة ليفغيني «ال
الشرق إلى الغرب، من ِ
111
ثقافات
ال َّ بد أنكم تتساءلون اآلن: ُ الغاية ُ المجملة في كل هذا؟ ما
البطيخ القرمزية الباردة.
َّ ثمة جدوى باهرة في كل هذا الشيء!
ُ أريد أن أغني ،أريد أن أثمل،
ُ الركام العالي أنا ّ ظهر شاحنة. ككومة قش على ِ األصوات أطير، في ِ
بذراعين مفرودتين
ال منجى لكم مني!
أن أرمي الموت ورائي.
ّ أتمدد على العشب. أريد أن
الوحشي ،موتي ولو حدث ،في هذا العالم ّ فسأموت من فرط الفرح الذي عشته.
غصون الشجر، وفي ِ ُيصادقني الضوء والتغريد، ُ ٌ ترتعش في عيني. وفراشات
لن أقبل بالنصف
َ السالم على كل الجهات، ألقي
ال ،لن أقبل بالنصف ،لن أقبل أنصاف األشياء.
ونبتة من شقوق الطريق.
أعطني السماء كاملة ،أعطني األرض بما فيها.
على الشغف ،على الشغف المبتهج بنصره. حدو ُد العالم كلها في طريقي. ُيربكني ألاّ أجد عاصمة األرجنتين في نيويورك.
كلها ملكي ،لن أقبل بأقل من ذلك.
َّ أتحدث إلى الجميع، وأن
الكل أو ال شيءَ ،ك ِت ِفي ٌ َّ أهل للحمل. أعطيني
أريد أن َّ ُ أتنزه عبر شوارع لندن،
112
وفي حرارة أغسطس أريد أن أتلذذ بشرائح
حتى لو كان ذلك بإنجليزية مكسورة. َّ أتمشى في باريس أول الفجر، أريد أن وأتنقل من حافلة لحافلة كطفل.
ً متنوعا، أريد للفن أن يكون كما هي نفسي.
ُّ الفن شقائي؟ وماذا لو كان
ُّ الفن مضطهدي من كل الجهات؟ ماذا لو كان لاً أنا محاص ٌر أص .
ُ رأيت نفسي في كل شيء. أشعر باالنتماء ليسينين، لويتمان،
أشعر باالنتماء لموسورسكي وهو يحتضن المسرح، لغوغان ورسوماته البكر.
ُ أريد أن أغرس زالجاتي في الشتاء،
وخربشاتي على الورق،
الاً مع األرق.
ليالي طو وأن أقضي َ ٍّ ُ لعدو في وجهه :ال، أريد أن أقول
أن أمشي مع امرأة على ضفة نهر، أن ألتهم الكتب،
أن أحمل خشب المدفأة، أن أحمل الصنوبر،
أن أبحث عن شيءٍ ال أعرف.
العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
البحار واألنهار والجبال واالنهيارات الثلجية.
ال يا حياة ،لن تخيفيني بالنصف.
لن أقبل نصف سعادة، لن أقبل نصف األحزان.
وسادة واحدة يمكنني أن أشاركها، وسادة يفترشها ٌّ خد ناعم،
كنجمة بائسة ،كنجمة هاوية،
إصبع من يدك. كخاتم يومض في ٍ ٍ
نصوص
فراشات نصار الحاج
شاعر سوداني
هناك
طيف غريب
ُيشبه قوس قزح
وأطراف األسوار المكسوة باألعشاب طيف جميل يتهادى في األفق
طيف فراشات صغيرة تظهر مثل ظالل خاطفة
يتلوى مع انعطاف السحاب
وتتالشى كأنها لم تكن هنا
مثل فقاعات شفافة تكسوها فضة المطر ً مشعة بلون البلور تلمع
خفيفة في كل شيء
في رشاقتها التي ُتضيء األرواح ُ الم ْت َعبَة
تحوم حول األشجار
في ّ رش ِة عطرها التي نتخيلها قطرات من ندى األمطار
وانحراف الغيوم
تتلون ّ ُ كلما تقاطعت مع خيوط الضوء
كأنها مرَّت مع البرق الذي أنا َر الوجوه الضاحكة
في تعقبها سرب الطيور المهاجرة
في لوحة األلوان وخفة الطيران
فراشات الخريف مولعة بالحياة تغسل أجنحة الكون وهي عابرة
تطوي المسافات بالسفر تحت غمام الصباح وفي عيون األطفال
ُ تلمع زاهية مثل بالونات الحلوى
وزينة أعياد الميالد.
113
نصوص
حكايات طبيعية جيل رونار
كاتب فرنسي ترجمة :عبدالسالم بن خدة -مترجم مغربي
إلى شيماء بن خدة
في «حكايات طبيعية» ( ،)Histoires naturellesيتحول الكاتب «جيل رونار» Jules
Renardإلى «صائد صور» :صور طبيعية ،صور جديدة؛ في شباك عينيه المفتوحتين تنحبس
الحيوانات (عنزة ،فراشة ،فأرة ،عظاية ،إلخ )...في حركاتها ،في ذبذباتها البراقة. ً أحيانا ،يتقلص من ورقة سردية إلى مجرد إن األسلوب الذي تصور به هذه الحيوانات يصغر
جملة( ،...مثال :هذه الورقة الناعمة المطوية بتناسق تبحث عن عنوان زهرة) ،وهو ما دفع بعض الدارسين كـ«فرانك بوير» Frank Bauerو«مايومي أوزيكي» Mayumi Ozekiإلى التساؤل عن
عالقة «جيل رونار» في حكاياته الطبيعية بالتأثيرات اليابانية (الهايكو خاصة) ولم يسبق أن نشرت هذه النصوص القصيرة في منبر آخر (ورقيًّا أو إلكترونيًّا).
114
النـمـل
كل نملة تشبه الرقم .3
!الكثير منها! وهناك الكثير منها
العدد منها )...( 33333333333333333إلى ما ال نهاية.
الفراشة
هذه الورقة الناعمة المطوية بتناسق تبحث عن عنوان
زهرة.
العظاية
تنسحب بمرونة من على الصخرة المشقوقة التي أستند
إليها .تتسلق كتفي .تعتقد أنني امتداد للجدار ألنني جامد في مكاني ،وألنني ألبس سترة رمادية اللون. مع ذلك األمر يدغدغني.
ال أدري ما االرتعاش الذي عبر ظهري؟ (سأل الحائط).أنا العظاية( .أجابت).القط ()1
قطي ال يقتات على الفئران؛ إنه ال يحبها .وإن حدث أن
أمسك بواحدة ،فلمجرد اللهو بها .وما أن يتم لعبه حتى وجالسا يعفو عنها ،وينسحب ،البريء ،إلى ركن ما ليحلم. ً
مكومً ا على ذيله ،تبدو رأسه المدورة كقبضة اليد. لكن بسبب مخالبه ،ماتت الفأرة.
العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
()2
صائد الصور
كم من مرة قلنا له« :خذ الفئران ،واترك العصافير» . ً أحيانا. إنها مسألة مهارة ،والقط األكثر براعة يخطئ
الطوية ،خفيف الجسد كقميص صيفي .ال يأخذ معه زا ًدا .في
الصرار
أسلحته في منزله ويكتفي بعينيه المفتوحتين .عيناه ِشبَاك
ينهض باكرًا ،وال يغادر منزله إال وهو صافي الذهن ،سليم
طريقه ،يتنسم الهواء العليل ،ويتشمم الروائح الزكية .يترك
أسود ولزج كثقب قفل.
تنحبس فيهما الصور من تلقاء نفسها .أولى سجيناته صورة
العظاية الخضراء
مغروزة بين سياجي ِْن من أغصان أشجار البرقوق الشائكة والتوت البري .من بعد يمسك بصورة نهر ،الذي يبيض حتى ِّ المتدلية .النهر السوحَ ر عقفاته ،وينام تحت مداعبة أغصان ُّ
ال أحد يقرأ ورقة السجل الرسمي الملصقة على حائط
فضية ،وما Bن يتساقط الرذاذ ،حتى يرتجف مسطحه المائي.
احذروا الصباغة!
العنزة
البلدية.
العــنزة ،نعم.
تنتصب على قائمتيها الخلفيتين ،تضع األماميتين على
أسفل الملصق ،تهز قرنيها ولحيتها ،وتنقل رأسها ذات اليمين
وذات الشمال ،كما تفعل سيدة عجوز في أثناء المطالعة.
طريق تكشف عظامه عن أحجار صقيلة ،وأخاديده عن عروق
يلمع ماؤه كلما انقلبت سمكة على بطنها ،كمن يلقي قطعة
يأخذ صورة حقول القمح المتموجة ،والبرسيم الشهي والمراعي المكتنفة بالجداول .وفي طريقه ،يحجز تحليق ُق َّبرَة حسون .بعد ذلك يدخل الغابة .لم يكن يدري أنه بمثل هذه أو ُّ الحواس الرهيفة .بمجرد تشبعه بالعطور ،لم يف ِّوت أية ضجة
مخنوقة ،وليتواصل مع األشجار ،توحدت أعصابه بتعاريق
وهي تنهي قراءتها ،رائحة اللصاق الطرية تدغدغ أنفها،
األوراق .سريعً ا ،ومتأثرًا إلى حد االنزعاج بما قد جباه بإفراط،
ال شيء يتخلى عنه في البلدية.
من بعيد ،عودة مجموعة من العمال إلى قريتهم في الخارج،
الدودة املضيئة
األفق ثيابها المضيئة ،وسحبها المنتشرة هنا وهناك.
فتلتهم الورقة.
بدأت خواطره تغلي ،ويتملكه الخوف ،فغادر الغابة ،وتابع،
َّ حدق برهة وبصعوبة في الشمس وهي تغيب ،وتخلع على
()1 لاً ماذا يجري؟ إنها التاسعة لي وما زالت تضيء؟
أخيرًا ،وهو في منزله ،الرأس مترعة ،أطفأ المصباح، وطويلاً ،قبل أن يداعب الكرى جفنيهَّ ، لذ له أن ي ِّ ُعدد صوره.
إنها قطــرة من القمر فوق العشب.
تنشط األخرى ،وبال فتور ،يتسع سربها المومض بقادمات ومقسمة طيلة النهار ،وليلاً ،وفي جديدة كحجالت مطاردة َّ
()2
الفأرة
ً صوتا فيما كنت أكتب كالمعتاد ،على ضوء المصباح ،سمعت ً خفيفا .ما أن أتوقف حتى يختفي .ثم يعاود ،بمجرد أن أكشط الورق.
إنها فأرة تتنشط .كلما وضعت ريشتي ،يزعجها هذا الهدوء .وكلما عاودت الكتابة ،تعتقد -ربما -بوجود فأرة أخرى في مكان ما ،وتعاود
االطمئنان .بعد ذلك لم أعد أراها .هي اآلن تحت طاولتي ،بين ساقي. تنتقل من ركيزة الكرسي إلى أخرى .تالمس قبقابي ،تعضعض
الخشب ،أو بجسارة ،تتقافز فوقه .يجب علي أال أحرك ساقي ،أو ً وخوفا علي مواصلة الكتابة، أتنفس زيادة ،وإال انسلت هاربة .لكن َّ من أن تتركني ل ـ ِـ ـ ـِ ـ ـ ـِ ـ ـ ِـ ـ ـ ِ ـ ـ ـِ ـ ـ ِـ ـ ـِ ـ َه ـ ـ َ ـ ـ ـَ ـ ـ َـ ـ ـَ ـ ـ َـ ـ ـَ ـ ـ َــمّ وحدتي ،انغمست في خط عالمات، وخربشات دقيقة ج ًّدا ،كما صوت القضم الذي تمارسه.
ً ثانية تحت رحمة الذكرى .كل واحدة منها وديعة ،تنبثق
مأمن من الخطر ،تشدو وتتذكر في مقعرات األخاديد.
« -جيل رونار» كاتب ومسرحي من فرنسا ( 1910-1868م)َّ .ألف العديد
من الروايات والمسرحيات واليوميات والقصص القصيرة .خالط
األوساط الثقافية الفرنسية ،وساهم بكتاباته في العديد من الصحف الباريسية الكبرى .أهَّ لته أعماله المتميزة لدخول أكاديمية
غونكور عام 1907م.
من أعماله األدبية« :المتطفل» (1891م) ،و«يوميات» (1910-1887م)،و«حكايات طبيعية» (1894م) ،و«محادثات» (1910م) .النصوص المترجمة هي جزء من كتاب «حكايات طبيعية» (1894م) .لالطالع
على األصل الفرنسي لهذه النصوص:
http://beq.ebooksgratuits.com
115
مقال
عبدالله المطيري كاتب سعودي
كيف يمكن إدخال قضايا التربية في الجدل الثقافي؟ هذا المقال يبدأ من المالحظة التالية :مناقشة
القضايا التربوية تكاد تكون محصورة في السياقات
األكاديمية أو السياقات التكنوقراطية والتقنية .أعني بذلك
والمناهج الدراسية الذي اجتاح الجدل الثقافي السعودي ابتداءً من ٢٠٠٣م ،وإن كان قد أخذ في الخفوت مؤخ ًرا .االهتمام كان
أن مناقشة القضايا المتعلقة بالتربية ال تكاد تحظى باهتمام
حقيقيًّا بالتأكيد ،لكنه يمكن أن يعبِّر عن التربية حين تتحول إلى
في الصحف والصوالين الثقافية والقنوات الثقافية وهي
تعنيه التربية بالتأكيد ،لكن اهتمامه بها يختلف عن اهتمام
في مقارنة بسيطة مع القضايا األدبية والدينية والسياسية
متعلقة بالدولة والنظام السياسي وخطط المستقبل .التربوي في
التعبير العمومي التي عادة ما تعبر عن وتستقطب اهتمام
معناها وقيمتها بغض النظر عن الخطط السياسية للمستقبل.
حقيقي من السياقات الثقافية بدليل محدودية طرحها المواقع التي تعبر غالبًا عن اهتمامات الوسط الثقافي.
116
هذا التحليل ال يمكن أن يتجاهل االهتمام بإصالح التعليم
نجد أن حضور القضايا التربوية محدود جدًّا في ساحات
سياسية ،وبالتالي هو اهتمام سياسي في الدرجة األولى .السياسي
التربوي بها .السياسي تعنيه التربية كأداة لتحقيق أهداف كبرى
المقابل مشغول بالتربية كتجربة يومية يعيشها ماليين البشر لها
الجماعات الثقافية في مجتمعنا .في هذه المقالة سأحاول
التربوي يشاهد النقاش السياسي للتربية كنقاش مهم وجوهري
الحالة ،وبعد ذلك أقدم مقترحً ا إلدماج القضايا التربوية في
الموضوع التربوي .التربية في األخير تعني كذلك كائنات ليست ً أطرافا في الصراعات السياسية (األطفال) وليس من حتى اآلن
البحث عن تفسير لهذه الظاهرة ،ثم سأحاول أشكلة هذه
االهتمام العمومي -الثقافي في المجتمع.
لكن قبل ذلك ال بد من الحديث بشكل تفصيلي عما
أعني بالقضايا التربوية .القضايا التربوية ببساطة هي كل
القضايا المتعلقة بالعالقات التربوية .التربية هنا تستعمل بمعناها الواسع لتشمل القضايا المحيطة بالتواصل
البشري ،ونقل الخبرات في األسرة والمدرسة والمجتمع.
هذه القضايا تنطلق من الطبيعة األخالقية للعالقات األولية
لكنه محفوف بمخاطر االنجرار للصراعات الحزبية على حساب
العدل أن يفكر في قضاياهم وحقوقهم من منظور سياسي بحت.
اآلن أنتقل لمحاولة تفسير ضعف حضور التربية في الساحة
الثقافية السعودية: في التفسير
سأبدأ محاولة تفسير الظاهرة أعاله من خالل حوار سريع
ِّ المعلم بطالبه ،وعالقة األفراد كعالقة الطفل بأمه ،وعالقة
جمعني مع أحد المثقفين الكبار في السعودية حيث كنت أطرح
ما يؤثر في تلك العالقات من الطبيعة الفكرية المنظمة
قال لي« :هل ستكون عن رواتب المعلمين والمعلمات؟» .العبارة
بعضهم ببعض في المجال العام .القضايا تتسع كذلك لكل
لتلك العالقات ،المؤثرات السياسية واالجتماعية والدينية
واالقتصادية على تلك العالقات .التربية بهذا المعنى يمكن
أن تدرس فلسفيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا ...إلخ .إذا كانت التربية بهذا المعنى المتصل بالسياقات األخرى ذات
الحظوة في االهتمام الثقافي ،فما الذي يجعلها تتوارى عن
واجهة النقاشات في الوسط الثقافي؟
العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
أمامه مقترحً ا بمناقشة قضية تربوية في محاضرة ثقافية عامة.
تحمل إحالة للقضايا التربوية بوصفها قضايا تقنية تنظيمية يهتم بها التكنوقراط في الوزارات وليست بهذا المعنى مجالاً للنقاش
الثقافي .صحيح أن لكثير من القضايا التربوية جوانب تقنية مثلها
مثل أي مجال آخر ،لكن هذا ال يعني أن تستغرق الجوانب التقنية ّ المعلمين والمعلمات يمكن أن كل االهتمام .مثلاً قضايا رواتب تدرس وتناقش بوصفها قضايا عدالة.
أي :إن سؤال العدالة ،وهو أحد األسئلة الفلسفية الرئيسة،
يمكن أن يفتح تربويًّا من خالل رواتب المعلمين والمعلمات .هل تعكس الرواتب مساواة بين الذكر واألنثى؟ هل تعكس الرواتب
تصورًا معي ًنا للعدالة التوزيعية التي تتبناها الوزارة؟ أيّ أولويات
تعكسها تلك الرواتب؟ هل لدى المعلمين والمعلمات مساحة من التعبير تكفل لهم مناقشة عدالة المقابل الذي يحصلون عليه؟
لماذا تنتشر بين الناس فكرة أن المعلمين والمعلمات يأخذون
أكثر مما يعطون؟ ما آلية توزيع ميزانية التعليم على المدارس، وما داللة هذه اآللية على العدالة؟ هل يصرف أكثر على الفئات األكثر حاجة أم أن التمييز اإليجابي يتوجه لمن هم أفضل حالاً كالموهوبين؟ هل تأخذ المدارس في األحياء الفقيرة مثل ما
تأخذه المدارس في األحياء الغنية؟ إلى أيّ مدى هناك مشاركة
من المجتمع في ميزانية المدارس وآلية توزيعها؟ كل هذه األسئلة يمكن أن تشغل النقاش الثقافي خارج الشروط التقنية التي تبدو
تفصيلية جدًّا وخارج اهتمام المهتم العام .من النقاش أعاله
يمكن القول :إن أحد أسباب خفوت حضور القضايا التربوية في
النقاش الثقافي هو إعطاء تلك القضايا مفهومًا تقنيًّا يجعلها حك ًرا
على التقنيين أهل االختصاص الدقيق.
السبب الثاني برأيي :هو ضعف االهتمام بالقضايا األخالقية
بشكل عام؛ مما يجعل القضايا التربوية التي هي أخالقية بشكل
عام ،تغادر مناطق المركز في النشاط الثقافي .أحد أسباب تجنب
التربية بوصفها مجاال أساس ًّيا لالهتمام األخالقي تتوارى كنتيجة لتواري البحث األخالقي
المثقفين للقضايا األخالقية أنهم يخشون من الوقوع في إصدار
توجيهات لآلخرين ،كما هي الحال في الفهم التقليدي لألخالق.
تقليديًّا األخالق تفهم بمعنى مجموعة من التعليمات التي تطرح
في حدود المنزل والمدرسة ،ويجعلها حص ًرا من مهام النساء.
للناس لكي تكون قائدة وموجهة لسلوكياتهم :كيف تلبس ،وكيف
وبصفة أن الفضاء الثقافي ذكوري إلى درجة كبيرة ،فإنه من
لألخالق ليس معنيًّا بإعطاء توجيهات بقدر ما هو مشغول بوصف
قدمتها مؤخ ًرا في جمعية الثقافة والفنون بالرياض بعنوان:
واآلخر قد تأخذ شكل الهيمنة ،وقد تأخذ شكل الحوار والشراكة،
الحاضرات داخلن بخبرة التعليم وخبرة األمومة وخبرة العطاء.
لب التفلسف الفضاءات المختلفة من وجود الذات مع اآلخر هي ُّ
للدخول في األفق التربوي .التربية لكل من عمل بها بحق يمكن
تشرب ،وكيف تعامل اآلخرين .في المقابل فإن الفهم الفلسفي وتحليل ودراسة العالقة بين الذات واآلخر .العالقة بين الذات
وقد تأخذ شكل العزلة واالغتراب ،وقد تأخذ شكل الضيافة .هذه الحديث في المبحث األخالقي ،لكنها تكاد تختفي من فضاءات ّ المحل ّي .إلى أي الفضاءات السابقة تنتمي الجدل الثقافي
العالقات التربوية لدينا؟ هل عالقة الذات باآلخر تعبر عن الوجود من أجل الذات (الهيمنة -العزلة)؟ أم الوجود -مع -اآلخر (الحوار
والشراكة) أو الوجود -من -أجل اآلخر كما في (الضيافة)؟ بهذا
المشكلة تكون إشكالية التربية في الفضاء الثقافي هي إشكالية السؤال األخالقي وغيابه الكبير.
أحد التفسيرات المحتملة يستمد صالحيته من الصورة
الكبيرة للتقسيم التقليدي للشؤون االجتماعية حيث يحصر التربية
الطبيعي أن يزيح قضايا التربية للمساحات الخلفية .في محاضرة
«التربية كضيافة» كانت المداخالت النسائية مختلفة .كثير من خبرة العطاء تحديدًا جوهرية للتعاطي مع التربية أو بالتالي
التعبير عنها بأنها الوجود -من -أجل اآلخر أو أفق العناية باآلخر.
لذا فهي ضد لمنطق األنانية الذي جادلت أنه جوهري في الصورة النمطية للمثقف .في قراءة هيثم حسين لكتاب «حليب أسود» إلليف شافاق تعبير عما أريد أن أقوله هنا:
يقول :هيثم« :تشير شافاق إلى أن الروائي بصورة ما أناني،
وعليه أن يكون كذلك؛ كي يستطيع إنجاز أعماله التي تتطلب منه ً نوعا من العزلة ،أما األمومة فأساسها العطاء .وتجد أن الروائي
يبني غرفة صغيرة داخل ذهنه ،ويقفل الباب عليه؛ كي ال يدخل عليه أحد.
117
مقال
يخبئ هناك أسراره وطموحاته عن كل األعين
المتطفلة .أما األم فعلى كل أبوابها ونوافذها أن تكون
مشرعة صباحَ مساءَ ،يستطيع أبناؤها أن يدخلوا من أي
مدخل يختارونه ،والتجول حيث ما طاب لهم ذلك ،فليست لألم زاوية ألسرارها» .المربية والمربي أقرب لنموذج األم
هنا ،فالعزلة بالنسبة لهم خيار صعب جدًّا .الوسط الثقافي يعزز في أفراده االنشغال بالذات والحرص على إنجازاتها
وإبداعها وحضورها المستمر .في المقابل التربية عالم من
الغيرية حيث يتوجه اهتمام اإلنسان فيه لآلخر ،لرعايته والعناية به .التربية ليست مجالاً للنجومية بل للتضحية .قد يكون هذا سببًا لتواري التربية عن الساحة الثقافية المحلية. السبب الرابع يعود برأيي إلى كون الحساسية عالية
جدًّا تجاه التغييرات المقترحة في المجال التربوي .المجال
ً خصوصا فيما يخص العناية التربوي بطبيعته محافظ
باألطفال الصغار ،وهذه المحافظة تأخذ أبعادًا أوسع
للمثقف والمثقفة بوصفهما كائنات مشغولة بذاتها وبإبداعها وحضورها الشخصي التي تدفع باتجاه الصورة األنانية وهي بطبيعتها ضد تربوية
تتوارى كنتيجة لتواري البحث األخالقي .السبب الثالث :يعود إلى
ذكورية المجال العام؛ مما يعني إزاحة التربية وهي مجال أنثوي
بامتياز من دائرة االهتمام .السبب الرابع :يشير باختصار للمحاذير المحافظة التي تحيط بالتربية بشكل عام ،وبالتالي ال ترحِّ ب ً دقيقا ،فإن بأطروحات التغيير والتطوير .إذا كان التحليل أعاله
وأشرس في المجتمعات المحافظة بالمعنى األيديولوجي
ما يمكن اقتراحه إلدخال التربية في محور اهتمام الوسط الثقافي
والمفاجئ .هذا كله يزيح التربية في مساحات أبعد عن
الحديث عن القضايا التربوية بالمعنى الواسع للكلمة .ما يالحظ
للكلمة .هذا الفضاء غير مضياف للجديد والمختلف
118
من المهم مناقشة الصورة النمطية
االهتمام المشغول بالتغيير واإلبداع والتجديد. في األشكلة
النقاش أعاله كان يدفع باتجاه أشكلة غياب التربية
عن الجدل الثقافي العام ،لكن يمكن التأكيد على النقاط
التالية :غياب التربية بهذا الشكل يحرم التربية من اآلراء
المتنوعة التي غالبًا ما ّ يوفرها الجدل العمومي .كذلك هذا
الغياب يحرم التربية من الرؤى النقدية التي عادة ما تتوافر
لدى المهتمين خارج االشتغال الدقيق والتقني بأي مجال. هذا كله يعني أن ُتدَار الشؤون التربوية بعيدًا عن طبيعتها
االجتماعية .إشكال جوهري آخر يتمثل في كون غياب التربية عن المجال الثقافي يحرم التربية من أن تكون مجالاً جذابًا ويتركها مجالاً رحبًا لمن يسعى لتحقيق مكاسب وظيفية محدودة في النفع الشخصي. البديل
النقاش أعاله اقترح أربعة أسباب رئيسة لضعف
سيدور حول ذات المحاور .على أهل االختصاص في التربية
على كليات التربية في الجامعات أنها ال تعزز هذا التواصل بين
المتخصصين فيها والمجتمع بمفهومه األوسع.
الكليات ذاتها تعزز االنحسار في البعد المدرسي للتربية.
المقترح الثاني يدور في أفق تعزيز التفكير األخالقي في النقاش العمومي .هذا يتطلب إعادة التفكير في معنى األخالق ذاتها
وإخراجها من دائرة األخالق بمعنى إصدار التعليمات والتوجيهات.
الجدل األخالقي بالمعنى الفلسفي للكلمة جذاب للتفكير وحافز إلى المشاركة العامة .قضايا مثل حدود الحرية والمسؤولية
تمس عصب الحياة األخالقية وحضور اآلخر في عالقته مع الذات ّ
اليومية للناس .المقترح الثالث يدفع باتجاه تعزيز المنطق األنثوي أو المنطق الغيري بشكل عام كمنطق مساهم في المجال العام. مشاركة أوسع للمرأة في الجدل العام يمكن أن تدفعنا
باتجاه االنفتاح على قضايا التربية في المجال العام .كذلك من
المهم مناقشة الصورة النمطية للمثقف والمثقفة بوصفهما كائنات مشغولة بذاتها وبإبداعها وحضورها الشخصي التي
تدفع باتجاه الصورة األنانية وهي بطبيعتها ضد تربوية .العامل
المحافظ يحتاج لنقاش مستقل ،لكن من المهمّ جدًّا للمهتمين
حضور التربية؛ السبب األول :يعود للفهم المحدود لقضايا
بالتجديد في المجال التربوي أن تتحد أطروحاتهم بمنطق الحب
للمدارس .السبب الثاني :يعود إلى ضعف حضور القضايا
العبء هنا يقع على المهتم بنقد وتجديد الشأن التربوي في تفهم وتقدير مشاعر الناس الحريصة أولاً وقبل كل شيء على تأمين
التربية بوصفها محصورة في الشؤون اإلدارية والتنظيمية
األخالقية وقضايا العدالة بشكل عام في المجال العام المحلي .التربية بوصفها مجالاً أساسيًّا لالهتمام األخالقي العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
داع. واالحترام لآلخرين؛ لكي ال تستفز خصومتهم من دون ٍ
أطفالهم ،والتأكيد على أن تربيتهم تتم في فضاءات مطمئنة.
نصوص
شذرات من شعر الهايكو عبدالله أحمد األسمري بوصلة الزمن
شاعر سعودي
*
*
هبط الطاووس
تخرجنا من دائرة الحياة
الدب يطارد
*
هوت في الفردوس!
باقة أزهار
بأذرع النسيان
الفراشة
أشرعتي الممتدة
*
إلى وطن يسفك دمها
دنت الديار
*
مناجل الفالحين
أبواب موصدة الليل يسورني زهايمر مؤقت
حبات البلوط *
تأتي غريبة
عناقيد األرض
شريعة الغاب
مهووس
أغسطس
يجرها قطار لم يصل!
أقسى الشهور
الفجر
*
*
ابنة الرمل تتململ
يستدرج الليل
الغاب يحرر
جدائله
استيقظ السنونو
كي يمشط *
نفسه من القيود *
فوق ذؤابة الجبل
فوق المياه الالزوردية
يغرد
نشوان بالحرية
وشذا الصنوبر طائر الدج
انقضى الربيع
طائر النورس ذرته الرياح
أمام نافذتي *
تعلوها النوارس *
ُشدت بأنساج العناكب سنين عجاف
119
تقارير
120
السيد ياسين.. محطات النجاح والفشل العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
القاهرة
لم يكن السيد ياسين (2017 _1933م) مفكرًا عابرًا طوال األربعين عامً ا التي عرفه الشارع المصري خاللها ،فهو ُعرف كأحد صناع القرار فيما يخص الشأن الثقافي االجتماعي في البالد منذ مطلع الثمانينيات ،فقد كانت الثقافة المصرية في عهد مبارك تقوم على أن كل فرع منها طريقة، ً رئيسا شيخا يقوم على تنظيم شؤونها ،فكان الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي وأن لكل طريقة ً ً سيدا على األدب الشعبي بعد رحيل فاروق خورشيد ،وإدوار لشؤون الشعر ،والدكتور أحمد مرسي الخراط سيد أهل الرواية قبل أن يكتب جابر عصفور «زمن الرواية» ويصبح الحاكم الناهي فيها ،بينما كان السيد ياسين بمنزلة شيخ المشايخ؛ إذ يصب كل ذلك في أوراقه اإلستراتيجية لصناعة الثقافة وصياغة المجتمع ،فقد صنع له موقعه كمدير لمركز األهرام للدراسات السياسية واإلستراتيجية منذ منتصف السبعينيات حتى منتصف التسعينيات الميالدية مكانة أكبر من الوزير وأصغر من رئيس الوزراء؛ إذ كان يعد الخطط والصياغات التي تقوم عليها الحكومات المتعاقبة ،فيما يخص الخطاب الثقافي وبنيته في المجتمع المصري. ولد السيد ياسين في مدينة اإلسكندرية في سبتمبر من
هيكل هذا المركز إلى مركز الدراسات اإلستراتيجية باألهرام
الشعر هو البوابة التي طرقها سنوات عدة قبل أن يوقن أن ً طريقا لإلعالن ذلك لن يكون مجاله ،فتركه واعتمد الخطابة
ياسين مديره الفعلي ،فأنجز من خالله العديد من التقارير
اإلستراتيجية المهمة ،وظل بالقدر نفسه من الطاقة والحماس
قدرة على االرتجال والتأثير في اآلخرين ،فرشحته لاللتحاق
فكانت آخر أحالمه هو مشروع للخرائط المعرفية في العلوم
عام 1933م ،وكان من الحالمين بدخول عالم األدب ،كان
عن الذات ،وبخاصة أن جماعة اإلخوان المسلمين رأت فيه بمدرسة الدعاة في محرم بك ،وأطلعه أستاذه بالمعهد
مصطفى الشمارقة على كتب سيد قطب والغزالي وأبي الحسن
الندوي وغيرهم ،فظل في صحبة الشمارقة حتى بعد دخول كلية الحقوق بجامعة اإلسكندرية ،ليتخرج داعيًا من مدرسة
الدعاة ،ويصبح خطيبًا مفوّهً ا لإلخوان على منابر مساجد اإلسكندرية العريقة.
وسرعان ما انفصل عن اإلخوان ،وانتبه إلى دراسة الحقوق،
وما إن أنهى دراسته عام 1955م حتى وجد الدكتور أحمد خليفة يؤسس المركز القومي للبحوث الجنائية عام 1956م ،فانضم
إليه ليكون واحدً ا من الرعيل األول في هذا المركز حسبما قال الدكتور محمد نور فرحات.
مؤمن بوحدة العلوم االجتماعية
يقول الدكتور محمد نور فرحات :إن السيد ياسين منذ شبابه حتى شيخوخته كان مؤم ًنا بالوحدة بين العلوم
االجتماعية ،ففي الثالثينيات من عمره أنجز واحدً ا من المراجع
المهمة في مناهج البحث االجتماعي ،وعندما افتتح مركز الدراسات الفلسطينية واإلسرائيلية في مؤسسة األهرام بنهاية
الستينيات انتقل ياسين للعمل به ،وما إن حوَّل محمد حسنين
تحت رئاسة الدكتور حاتم صادق عام 1975م حتى أصبح السيد
في االنشغال بالهم الوطني والعالمي حتى أيامه األخيرة،
االجتماعية بالعالم العربي.
لم يتوقف السيد ياسين عند حدود تجريب موهبته في
الشعر ،مغرمً ا بالشاعر العالمي ت .س .إليوت ،لكنه حاول ً أيضا مع النقد والقصة القصيرة ،وأعجب بكتاب «مغامرات
فكرية» للفيلسوف هوايتهيد ،إال أن هذه المرحلة األدبية انتهت بالفشل ،ولم تكن كلمة فشل ذات سمعة سيئة لديه، فقد استخدمها في وصف عالقته باإلخوان ،ثم في وصف
121
تقارير
رحلته العلمية إلى باريس لنيل درجة الدكتوراه في القانون،
من حوار سابق أجرته الفيصل مع الراحل
تلك الرحلة التي انتهت بانصرافه عن دراسة القانون إلى
دراسة علم االجتماع ،ومن ثم يقول« :هنا محطة
فشل جديدة إذا أردنا إبقاء المفهوم ،فقد تركت القانون إلى االجتماع ،واهتممت
بعلم االجتماع األدبي الذي كان ال يزال ناش ًئا وقتها عام 1964م ،وكذلك علم
االجتماع السياسي ،فقلت لنفسي
لتذهب الدكتوراه إلى الجحيم ،فليس من المعقول أن يُضيِّع
باحث مثلي ثالث سنوات من عمره يتعقب أحكام محكمة النقض ،عدت بعد ذلك إلى القاهرة في عام 1967م ،وهو عام
الفشل في مصر :النكسة والهزيمة والمرارة ،وهنا اتجهت إلى دراسة المجتمع اإلسرائيلي دراسة علمية ،وانضممت إلى مركز
الدراسات الفلسطينية والصهيونية باألهرام عام 1968م». المثقف المهموم
يرى أستاذ علم االجتماع السياسي بجامعة القاهرة الدكتور
ً مشروعا أحمد زايد ،أن مشروع السيد ياسين الثقافي كان
تكامليًّا ،فيه حس المثقف المهموم بقضايا الوطن ومتابعة
122
ومناقشة ما يجري على الصعيد العالمي .ويلفت زايد إلى أن «ياسين» كانت لديه ميزة عظيمة في أنه كان يمزج حديثه عن
التطورات العالمية باألحداث والتغيرات المصرية والعربية .فتح السيد ياسين ً آفاقا جديدة في بحوث العلوم االجتماعية كانت مغلقة في مصر؛ منها علم اجتماع األدب ،كما أنه كان مثالاً
لنموذج المثقف «المتنور» أو المح ِّرك للمثقفين اآلخرين نحو القراءة واإلبداع ،وظل على هذا النحو حتى رحيله في صباح
األحد الموافق 19مارس 2017م.
قدم السيد ياسين ّ مشروعا ثقاف ًّيا تكامل ًّيا ،فيه حس ً المثقف المهموم بقضايا الوطن، ومتابعة ومناقشة ما يجري على الصعيد العالمي من حياته ،وبخاصة بعدما ترك مركز الدراسات اإلستراتيجية.
ويتطرق سالم إلى كتاب «الشخصية العربية بين صورة الذات
ومفهوم اآلخر» الذي قدمه الراحل في مقتبل حياته ،عادًّا إيّاه َ بداية المشاريع الفكرية العربية لنقد الذات ،الذي ُش ِغل به كثيرون كمحمد عابد الجابري وزكي نجيب محمود وغيرهما. ويشير إلى انشغال ياسين بالتحليل االجتماعي لألدب ،وفهم
المجتمع المصري من خالل كتابات جيل الستينيات وما بعدها. الهوية المتخيلة
في الحوار الذي نشرته «الفيصل» (عدد )482 -481وأجراه
على مدار سنوات من العمل في مركز الدراسات
الشاعر محمد الحمامصي ،تحدث السيد ياسين عن جملة من
التي جرت في العالم ،ورصدها في أعماله التي تجاوزت
األصوليات وتوحش الهويات ،ونفى أن يكون ثمة تنسيق بين النظام القائم في مصر وبين الجماعات السلفية ،لكنه أ َّكد أن
اإلستراتيجية تابَعَ السيد ياسين المتغيرات السياسية والثقافية األربعين كتابًا ،حتى بعدما ترك إدارة مركز األهرام قام عام
2012م بتأسيس وإدارة المركز العربي للبحوث والدراسات، ليكمل الدور الذي بدأه من قبل ،متابعً ا الحرب األميركية في
العراق أو أفغانستان ،وصعود التيارات اإلسالمية ،وانهيار
الدول القومية ،ومجيء الربيع العربي ،ليكتب كتابه «الشعب على منصة التاريخ» عقب قيام ثورة يناير ،لكن سرعان ما سقط
الشعب وصعد اإلخوان الذين أبرزوا وجهًا لم يكن يعرفه السيد
ياسين في شبابه ،فكتب كتابه األخير «نقد الفكر الديني». في هذا اإلطار يرى صالح سالم الباحث في مركز األهرام
للدراسات اإلستراتيجية أن مشروع السيد ياسين الفكري قائم
على التحليل الثقافي الذي عمل عليه في آخر عشرين عامً ا العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
القضايا التي شغلته في السنوات األخيرة ،في مقدمتها صراع
اإلخوان لهم مشروع متكامل سمَّ اه «الهوية المتخيلة» ،وأن هذه الهوية تقوم على أسس عدة؛ أهمها رفض الديمقراطية
الغربية ،واعتماد الشورى نظامً ا سياسيًّا.
ورغم أن ثورة الخامس والعشرين من يناير لم تكن من
بين رهانات السيد ياسين في بداية األلفية الثالثة ،فإنه استطاع التعامل معها بمرونة ،مؤم ًنا أنها أفضل تعبير عن رغبة الشعب في التغيير ،وأنها ثورة شعبية بامتياز ،لكن ذلك كله لم يشفع له أنه كان أحد رموز نظام مبارك ،وأنه أحد الصانعين الكبار
إلستراتيجية هذا النظام الثقافية واالجتماعية طوال عقدي
الثمانينيات والتسعينيات.
123
إصدارات
الكتاب :من نافذة السفارة المؤلف :نجدة فتحي صفوة الناشر :دار الساقي
يحتوي الكتاب على مجموعة من وثائق الحكومة البريطانية الس ّرية عن البالد العربية
والقضايا العربية ،تتضمّ ن تقارير كتبها دبلوماسيون بريطانيون عملوا في األقطار العربية
المختلفة عن األحداث التي عاصروها وشهدوها من نافذة ممثليّاتهم ،وربما مدّ وا أيديهم ً ّ وتدخلوا في تلك األحداث. أحيانا، من النافذة
الكتاب :رحلة إيطالية المؤلف :غوته المترجم :فالح عبدالجبار الناشر :منشورات المتوسط
دوَّن غوته يومياته هذه استنادًا إلى رحلتين إلى إيطاليا :األولى قام بها في سبتمبر عام
1786م ،واستمرت حتى فبراير من عام 1787م ،فقضى خمسة شهور في فيرونا ،والبندقية، وروما .والرحلة الثانية بدأها في يونيو من عام 1787م ،واستمرت حتى إبريل من عام 1788م،
قضاها هذه المرة كلها في روما عازمً ا على التمتع بمعالمها وآثارها ومتاحفها.
124 الكتاب :أمل أقوى من البحر المؤلف :ميليسا فليمينغ
الناشر :الدار العربية للعلوم ناشرون
ميليسا فليمينغ المدافعة عن حقوق الالجئين في األمم المتحدة سمعت بقصة دعاء
ً شخصا من رفاقها الالجئين يوم سُ حِ بت من البحر ،وهكذا قررت السفر إلى كريت وموت 489 لمقابلة تلك الفتاة االستثنائية التي أنقذت طفلة صغيرة فيما شارفت هي على الموت .ورأت
في دعاء حكاية الحرب السورية المتجسدة في امرأة شابة؛ لذا قررت أن تروي قصتها.
الكتاب :العالم عام 2050 المؤلف :جالل أمين الناشر :دار الكرمة
يتناول المؤلف مستقبل بعض المفاهيم والنظم وأنماط المعيشة التي تشغل بالنا
وتؤثر في حياتنا في الوقت الحاضر ،كالرأسمالية والعدالة االجتماعية والديمقراطية .وينهي
العالِم االقتصادي الكبير كتابه بفصل عما يمكن أن تصبح عليه حال علم االقتصاد والفكر االقتصادي بوجه عام بعد خمسين عامً ا.
العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
الكتاب :النسوية والقومية في العالم الثالث المؤلف :كوماري جايا واردينا المترجم :ضحوك رقية ،وعبدالله فاضل الناشر :دار الرحبة
تشير الدراسات في هذا الكتاب إلى أن الرجال ،في فترة النضاالت القومية ،كانوا محركي التاريخ الرئيسيينّ . نظموا الحركات القومية واألحزاب السياسية ،ووضعوا معايير
النضال ،حتى إنهم قرروا الدور الذي يجب أن تلعبه النساء .بهذا المعنى ،وباستثناءات قليلة ،عملت النساء ضمن الحدود التي رسمها لهن الرجال .إن التاريخ الذي يكشف ،على
هذا النحو ،هو تاريخ «تشاركي» .وهذا ،في حد ذاته ،مهم ،ويؤكد أن النساء قد لعبن دورًا َ صورة الرجال على أنهم الممثلون التاريخيون الوحيدون. أُغفل باستمرار ،ويصحح
الكتاب :سوسيولوجيا الهوية المؤلف :عبدالغني عماد الناشر :مركز دراسات الوحدة العربية
يناقش هذا الكتاب إشكاليات سوسيولوجيا الهوية والمقاربات المختلفة حولها ،التي
ً تخصصا علميًّا وأكاديميًّا في كثير من الجامعات .ويطرح رؤيته لما آلت إليه أصبحت اليوم ً نحو الهوية والثقافة في عالم يزداد تعولمً ا وتفككا ،وهو ما يتجلى في أكثر من مكان ،وعلى ٍ كارثي في الوطن العربي حيث انفجرت عصبيات ،وتضخمت هويات طائفية ومذهبية وإثنية،
وتحوّلت إلى ما يشبه «الوعي القطيعي» ،حتى بدأت تتحول إلى سياج ال يسمح للعقل بأن يخترقها ،ولـ«الجماعة» بأن تخرج عن طوقها.
الكتاب :رجل الشتاء المؤلف :يحيى امقاسم الناشر :دار التنوير ،ودار طوى
تقدم الرواية محاولة جديدة لقراءة الواقع العربي في باريس .تتنقل إلبراز المشاهدات
عن (مدينة العالم) كما تسميها الرواية وأماكنها العريقة .وتفرض رؤية حديثة حول تاريخ األمكنة باسترجاع الماضي بلغة الحاضر والمستقبل .يقدم الكاتب مشاهداته الخاصة
ومحاكماته لتاريخ مشترك بين العرب وفرنسا .ويتساءل :أين باريس األمس أمام متغيرات العصر واستجابتها لتطرفات الحداثة؟ كما يثير أسئلة حول مثقفي أوربا وإعادة كبار مفككي
العقل العربي واإلسالمي لمواجهة المرحلة.
125
كتب
عياض بن عاشور يفكك حدث الثورة التونسية عبدالدائم السالمي
126
كاتب تونسي
أصدر األكاديمي عياض بن عاشور كتا ًبا بعنوان «تونس ،ثورة في بالد اإلسالم» ()2016 ناقش فيه سؤال الثورة التونسية من ناحية أسبابها وحيثياتها ونتائجها .و ّزع بن عاشور كتابه الذي جاء في 381صفحة وصدر عن دار سيراس للنشر وبدعم من المعهد الفرنسي بتونس ،على سبعة أبواب هي :الثورة التونسية في سياقها ،وسينوغرافيا الثورة التونسية، وتناقضات الثورة ،والثورة والثورة المضادة، والمُ قايضات التاريخية للثورة ،وق ّوة القانون في الثورة ،ومعارك الدستور.
َ بمقدم ٍة ّ ِّ أطروحة كتابه مثلت وقد مهّد لهذه األبواب وهي أنّ الثورة التونسية حَ ٌ دَث غري مسبوق يف تاريخ الثورات ّ واستحقت أنْ يُنظر لها بعني إيجابية ،وميزتها أنها البشرية،
ثورة محكومة بتناقضات عديدة؛ فهي ثورة عىل استبداد
ني الذي يرفض الخروج الحاكم من شعب يسوده املذهب ُّ ٍ الس ّ ّ عن الحاكم ،وهي ثورة نادت بمَ دنيّة الدولة ،وظل الناس فيها
متمسكني بمقدَّ ساتهم ومدافعني عنها ،وهي ً أيضا ثورة عىل ِّ ّ ْ نظام شمويل ولكنها منحت بعض قيادات ذاك النظام مناصب
سياسية عليا ،وهي ثورة تدعو إىل ّ حق االنتخاب وضرورة
اإلقبال عليه؛ لقطع الطريق أمام عودة التوريث السيايس، ويتخلىّ فيها ما يناهز ثلث الشعب عن التصويت يف انتخاباتها
التشريعية والرئاسية ،وهي كذلك ثورة قادها الشباب لتمنح شيخ تجاوز عمره الثمانني سنة .وهو تناقض السلطة لرئيس ٍ أ ّكده عياض بن عاشور ّ ودعمه بإيراد مجموع ٍة من الوقائع التي عاشتها تونس إبّان ثورتها ،وصاغها يف شكل أسئلة منها ما جاء يف قولِه« :هل رأيتم ثورة يقودها -لعدة أشهر -مسؤولون العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
ُ الثورة؟ نفسه الذي أسقطته من الشخصيات الكربى لل ِّنظام ِ
هل توجد حكومة ثورية تحتمي بمجلس دستوري ،فاقد لكل شرعية قانونية ،ليمألَ الفراغ السيايس بالبالد وي ّتخذ التدابري
َ بعض مالمحها القانونية الالزمة ملنح السلطة الجديدة فيها
الشرعية؟».
أسئلة من الداخل
إنّ أسئلة عياض بن عاشور الذي أسهم يف تقديم تصوّر َ أسئلة مَ نْ يكتب سينوغرافيا للدستور التونيس الجديد ،ليست
للثورة ،يستنطق فيها الوقائعَ ،ويُعيد بناء أحداثها ،ويتبينّ أيضا أسئلةُ فحسب ،إنما هي ً مَ ْنطِ قها الحاكِمَ لسريورتِها ُ ّ َ ُعي مثقف ّ وقانوين عايش حَ َراك الثورة من الداخل حيث د َ
رئيسا للهيئة العليا لتحقيق مباشرة بعد 14يناير 2011م ليكون ً
أهداف الثورة واإلصالح السيايس واالنتقال الديمقراطي ،وكان ويومي مع الفاعلني السياسيّني ومع َّ ٌ منظمات اتصال مباشر له ّ
قلما ّ املجتمع املدين .وهو أم ٌر نراه قد منح كتابَه صدقي ًّة ّ توفرت ّ ومكنه هو من أنْ يخ َتبرِ َ وقائع ثورة ب عن الثورة، يف ما ُك ِت َ
املشرتك العامِّ من بالده عىل ضوء وقائع الثورات العاملية ضمن ِ شروطها عىل غرار ثورات فرنسا وروسيا والصني وإيران ،وسهّل عليه ُ الخ َ باستنتاج أنّ «تونس لوص إىل تأكيد أطروحة كتابه ِ اخرتعت ً نوعا من الثورة ليس له شبيه يف التاريخ»؛ ذلك أن
ثورتها «ليست ذات طابع ديني» ولم يفجّ رها صراع أيديولوجي أو حزبي أو عسكري دمويّ ،وهي «ال تطرح نفسها أنموذجً ا َ العالم» ،إنما هي ثورة بال زعيم ،أو ُق ْل :هي ثورة للثورات يف
الشعب من أجل الشعب. َ ّ ّ «مثلت سببًا ملشاكلها فرادة خصائصها هي التي ولعل الحالية» عىل غرار ضعف األداء السيايس والتدهور االقتصادي
ينس، واالضطراب األمني عىل حدّ عبارة الكاتب الذي لم َ وهو ّ يحلل حدث الثورة التونسية ،تأصيلها يف سياقها الثقايف
أسئلة عياض بن عاشور ليست أسئلة من يكتب سينوغرافيا للثورة يستنطق فيها الوقائع ويعيد بناء أحداثها ،إنما أيضا أسئلة مثقف وقانوني عايش هي ً حراك الثورة من الداخل ُ ومعارضة كثري من الناس لتلك األعمال سواء يف مجال الفن ُ عرض التشكييل (أحداث قصر العبدلية باملرىس التي مُ نع فيها
تمس حرمة الدين اإلسالمي) أو لوحات تشكيلية قيل :إنها ّ السينمايئ (أحداث سينما أفريكا التي ثارت فيها مجموعةٌ
من الشباب عىل عرض فلم سينمايئ رأوا يف عنوانه ًّ حطا من
قيمة الذات اإللهية) أو يف مجال الحريات الشخصية (ظهور
جمعية «شمس» للمثلية الجنسية التي جُ وبِ ْ هت برفض ّ ولعل «هذا التناقض» هو ما ميّز ثورة تونس، شعبي كبري). ّ لاً التأسييس ،ثمّ يف مجلس النوّاب حول وخلق جد يف املجلس ّ
وال ِقيَمي ،وهو ما نراه قد ّ مثل قو َّة كتابه ،حيث عاد إىل استقراء مفهوم الثورة يف اإلسالم ،واختالف الرأي فيه بني
دولة دينية؟ وهو جدل انتهى إىل توافق سيايس بني الحزبينْ
الظالم ومَ ن هم مع طاعة الحاكم وضرورة إصالحه .وعلينا
يف مجلس النوّاب ،ودفع باتجاه اختيار نظام سيايس «شبه
الشيعة والسنة ،أي بني مَ ن ُ يدعون إىل الخروج عن الحاكم
أن نشري هنا إىل أنّ تاريخ تونس الحديث يكشف عن حقيقة أنّ
(السنة) كانوا منذ زمن بورقيبة مع ضرورة الخروج اإلسالميني ُّ َ عن الحاكم وعزله ،عىل األقل كان هذا موقف جماعة اإلخوان املسلمني (حركة النهضة حاليًّا) من النظام البورقيبي .وقد ألقى
هذا األمر بظالله االختالفية عىل تباين آراء الناس يف الثورة،
حيث ظهر سياق ثقايف جديد تتح ّرك فيه فئتان متناقضتان :فئة َع ْلمانية ّ مثلتها النخبة الفكرية واألحزاب اليسارية ومنظمات
ً مجتمعية عديدة تدعو إىل مَ دَ نية الدولة َ شأنا وعدّ اإلسالم ًّ خاصا ،وفئة إسالمية منها حركة النهضة ،وهي أكرثهما فرديًّا
التونيس ،وبعض الحركات السلفية املتط ّرفة حضورًا يف الشارع ّ ّ مسلحة لعلّ التي تدعو إىل إنجاز ثورة تحكمها ثقافة جهادية من ترميزاتها« :الرايات السوداء والصور الكبرية التي يظهر فيها
رجال ونساء حاملني لبنادق الكالشنكوف».
طبيعة الدولة ضمن الدستور الجديد :هل هي دولة مَ دَ نية أم
الكبرييْن «نداء تونس» و«حركة النهضة» اللذيْن ناال األغلبية برملاين» يُك ِّرس مَ دَ نية الدولة ويحافظ عىل انتمائها العربي اإلسالمي يف اآلن ذاته .بل إنّ يف هذا التناقض ،وبخاصة عودة رموز النظام املخلوع وتفشيّ الفوىض السياسية وتقهقر
الوضع االجتماعي ،ما سهّل ظهو َر االغتياالت السياسية يف تونس (شكري بلعيد ومحمد الرباهمي) التي تب ّنتها تنظيمات إرهابية عىل غرار تنظيم «أنصار الشريعة» ،ذلك أنّ «تنامي اإلرهاب يف تونس لم ي ِّ ُغذه السياق األيديولوجي اإلسالموي الذي ظهر بعد الثورة فحسب إنما ً أيضا ،وإىل حد كبري ،عدم
قدرة حكومات الثورة عىل تدبري مسألة العدالة االجتماعية» التي ّ مثلت مطلبًا من مطالب الثائرين. َنات التأويلية يف كتاب عياض بن ومتى تجاوزنا بعض اله ِ
عاشور ،عىل غرار حديثه عن الثورة وكأنها مكتملة يف الزمن ً والحال أنها ّ مفتوحة عىل نص جماهرييّ ما زالت فصوله
بحثي رصنيٌ اتكأ فيه كاتبه عىل املفاجآت ،قلناّ :إنه اجتهاد ّ تجربته املعيشة ،وعىل أغلب ما ُكتب عن ثورة 14يناير 2011م
تناقضات الثورة ً ويف هذا الصدد بينّ الباحث بعضا من مظاهر التناقض َ فمطلب الحرية، الذي حكم مُ َتصوَّر الشعب التونيس للثورة؛ َ وهو أبرز شعار من شعاراتها ،لم يكن مطلبًا ذا مدلول واحدٍ
الثقافية ،كما هو معروف يف الثورات عامَّ ة ،ولم يتم ّرد عىل
له إحدى الفئتينْ ،وصورة ذلك ظهو ُر أعمال فنية وكتابات إبداعية تناقش مسألة املقدَّ س ُ وتخضعه ألسئلة الفكر،
ً وحريصا عىل تأصيلها يف حَ َراكه الثوريّ . تكوينه الثقايف ،بل
َّ إنما كان مدلوله رخوًا قابلاً ألنْ يتشكل و َْف َق الهيئة التي تريدها
استنتاجات محليًّا وعربيًّا وأجنبيًّا ،وهو ما جعله يخلص إىل ٍ ّ التونيس لم َيثرُ ْ عىل هويَّته لعل من أهمّ ها أنّ املجتمع وجيه ٍة ّ أنساقه االجتماعية والعقدية ،إنما هو ثار عىل الظلم السيايس ً ّ محافظا عىل عناصر وظل يف خالل ذلك والحيف االجتماعي،
127
كتب
أبرار سعيد.. ليس ليدي أن تتك ّلم عبدالله السفر
128
ناقد سعودي
ً مشدودة بين تبدو كتابة أبرار سعيد قطبين متنافرين وعلى الضد ،يعكسان حالة التوتر واالضطراب والتر ّدد والحيرة .الشاعرة جو ُ ّابة جهات ومواقع ،ال تفتأ تجد نفسها بين الساخن ٍ والبارد ،إن على مستوى حضور الذات في الجسد االجتماعي أو على مستوى معاينة الكتابة ودورها. ُ نغمة هذه الحركة من ال َّنوَسان بروح كِتابها تمسك «ليس ليدي أن تتكلم» (جمعية الثقافة والفنون بأثر بالدمام – ٢٠١٧م ،توزيع :دار مسعى) وتطبعه ٍ بارز ال تذهب عنه عين القارئ. القفص بطائره املحبوس .الطائر املعتقل بني الصفحات. السمكة املشكوكة إىل ِص َّنارة الصيّاد .السمكة التي ترتطم بجدران الداخل .النافذة املشرفة عىل الحياة واملحجوبة عنها. َ املحكمة اإلقفال .العجلة الدائرة بغري هدى وال نهاية. الحلقة ٌ بناءات مكافِئة تنجزها الشاعرة تعبريًا عن الحصار املضروب ّ وتتخلص منه (هنالك حول املرأة وليس بمقدورها أن تخرج عليه
قو ٌّة ما /ص َّن ٌ ٌ عالقة بني الصخور ،أتدلىّ من رأسها /وأرفرف ارة كسمك ٍة ال تحاول الطريان)( ..ماذا ع ّنا؟ /عن هذا الطري الذي يرفرف يف الداخل؟)( ..النافذة مغلقة /ألنّ السماء وجو ٌه وعيونٌ
ً يضرب السجني بإلحاح /ألنّ بعوضة وشهوات /ألنّ العصفور ُ ّ كانت تحاول أن تذهب أبعدَ من عض ٍة عىل الجلد /وألن السيّد
كان َدبِ ًقا َ وت ِعبًا).
صوت يتسلق الصور
من إهاب املقاومة واالحتجاج تشحذ الشاعرة حنجرتها ّ يتسلق السور وتدفع بهوائها ،وإن يكن شحيحً ا، وتطلق صوتها
ً أجنحة تحملها شمسه وأحالمه؛ تبذ ُر تطلب إىل عناق األفق؛ ُ َ العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
تمس املستحيل بأصابع من دم نحو شغفها بضفافه املرتعة؛ ُّ ّ فالهاجس وحنجر ٍة من لهب .تقرع .تتقد .تدفع .تضطرم؛ ُ ً ُ املرفوع هالة يجذبها بدواره الشديد وسطوعه يف العروق؛ نداءً
يميض بها إىل تصريف إرادتها وتعميق وعيها بقصد أن تعلو عىل موشوم بالقيد والخذالن وبمزيدٍ من الخسارات املرتاكمة.. تاريخ ٍ ٍ ّ «جسوم كثرية»؛ فالطيور التي لم بقصد أن تقطر صوتها يف ٍ ً ّ بساطا تحلق؛ ينبغي لها أن تسعى إىل رحلتها (أريد أن أكون
ّ سحريًّا أو /طائ ًرا /أريد َّ ً أتخل َ ص من جنونا /أن كل ما يظ ّنونه ِّ ُ بأفكار ملتمع ٍة لست أليِّ فكرة محدّ دة /إنني كل ما يح ّن ُطني/ ٍ
ً ضيقا يف كالنصال)( ..من السخرية أن يقول الطبيب إنني أعاين األوردة /أنا أعانيه أصلاً ،أعاين الضيق من كل جانب /ولكن،
أيضاْ /، يطلب تم ّردًا ً س الجدران أليست هذه إشارة؟ /داخيل ُ رف َ ٌ جذوة /تطفو فوقَ َ قلب هذا الهدير /أنا واختالق أيِّ نافذة)( ..يف ِ ُ لفم ِّ كل امرأ ٍة يعلو الوجع يف نربتِها) هزائمها)( ..أ ِ طعمُ صويتِ /
لكن ..أن تطرق وتطرق بال نتائج ..أن تدوي بالصرخة بال طائل ..أن تجوب باعرتاضاتك طولاً ً وعرضا بال فائدة .ليس ثمة من رجْ ٍع وال مجيب .املكان مصمت .ال ينفذ منه الصوت .ال تم ّر كتاب املحو فورًا .جميع منه الرسائل ،وإن م ّرت جرى عليها ُ
محاوالت التململ والرفس .كل الركض واللهاث؛ تبوء باملحصلة
ذاتها من الخواء وفراغ اليدين ومن التسمّ ر عند الخطوة نفسها.
كأنما الحركة ليست حركة .الوهمُ زيّنها وطار بها غري أنها فقاعة
فشل يتواىل؟ ..ماذا سرعان ما تنفثئ وتتالىش .ماذا يحصل من ٍ أفعال تكرارية تتعثرَّ ينجم عن جهو ٍد تطيش؟ ..ماذا َّ يرتتب عىل ٍ
كل مرة؛ فهي يف املكان نفسه والزمان بتحوالته يسبق ويسبق؟..
النري ال يُرفع .والبوابة يبدو أن مفتاحها ضائع وال سبيل إىل
اسرتجاعه .نقرأ يف كتاب علم النفس عن «العجز املكتسب»
الذي يصل إليه الفرد أو يرتطم به عندما ال يتغيرّ يشء ال يف
محاوالت البيئة وال يف الظروف من حوله مهما يصدر عنه من ٍ
للتجاوز واالنتقال والتحوّل .تتك ّرر أمامه صورة واحدة .يعود
إليها دائمً ا .عندها يحدث االستسالم والقبول يف أبشع وج ٍه
له؛ خضوع الضحية وانقيادها ملا هو مرسومٌ لها؛ انسحاقها بال رغبة ودون رجاء إىل درجة االستعذاب املاسوشية (أكتب ّ جثة/
تحت السياط ،ال يشء يؤلم /ال يشءَ حي)( ..لم أعد أهتمّ كثريًا بالوصول /أو ْ دفع األيام أكرث مما تحتمل /لديّ ما يكفي من
الوخز الذي ال أريد من أجله هذه اليقظة) ( ..أصابعي تطرق/ ً ً واحدة تدور، دائرة كاملناقري اللحوحة ،وأدرك أن ال يشء /إذ إن وإن الحلقة هي نفسها الفراغ)( ..تدور يف املشهد /تدورّ / فأر بلذ ِة ٍ يالعب عجلة). ذات مذبذبة بني ركنني
تقوم أبرار سعيد بإنزال مخترب الكتابة لديها ضمن ذلك التقاطب الذي يتو ّزع الذات مُ َ ذبذ ً بة بني ركنني يدفع أحدهما
ً ً جامعة يتالمحُ فيها الضددان عرب مرآة اآلخر ،فيأيت املخترب َّ وسيط آخر هو الكلمة التي تختزن َّ وكل حال ٍة وتعيد مقام.. كل ٍ ٍ
ٍّ متخف لكنه ال يربح يشري إىل منشئه إنتاجها بشكل جمايل
ومربّر وجوده؛ الحدّ االختباري لبزوغ لغ ٍة واصفة تتعدّ ى
مشغلها الذي يدور حولها ويناور قريبًا منها ،فتصبح جزءً ا من ُعدّ ٍة وظيفية تنخرط يف إجالء التوتر املزدوج بوضوح عىل ّ فضة ٍ بحر يف دوالب املرآة؛ االنعكاس املوّار املتبدّل بالتماعاته شأن ٍ مدّ ه وجزره (اقرأ الشعر /اقرأْ هذه الجلبة امليتة)( ..أشع ُر بتفاهة الكلمة /هي ال تفعل شي ًئا ،هي ال تتح ّرك /ال تنطق أو تصرخ/ احرتس أو تمه ْ تسحب جذرًا ال تقول ُ َّل عىل األقلّ /إنها ببطءٍ ْ ً ُ ُ ترتك فمً ا/ وترتك برئًا/ تسحب أعماقا إىل الخارج/ من األعماق/ ُ حفرة لضحايا آخرين)( ..أضيق داخل شرنقة /وأكتب قصيدةً ً ً َ حال اكتمال أطواري)( ....أفتح شرياين فراشة لن تخرجني/
أبرار سعيد تقرأ شعرها في مهرجان الشعر بالدمام
جوابةُ جها ٍ ت ومواقع ،ال تفتأ الشاعرة ّ تجد نفسها بين الساخن والبارد ،إن على مستوى حضور الذات في الجسد االجتماعي أو على مستوى معاينة الكتابة ودورها كخنجر /تحت املخنوق ح ّتى آخره /بحاف ِة كلم ٍة مس ّننة /أضمّ ها ٍ
ولهب لساين)( ..الكلمة أصابع يف العني /أصفا ٌد تنبح يف اليدين/ ٌ ب َ ي َ فوقه الزيت)( ..تم ّر الفكرة بي /تم ُّر بي /بفتنةِ /مَ ن قطعوا ُص ُّ
أصابعهم ولم ينتبهوا إىل الدم الذي ّ يلط ُخ الثمار)( ..يف فمي لاّ دم ينهمر) وهنا -يف هذا كلمة /يف فمي زجاجة /يف فمي ش ُل ٍ خاف التناص مع جالل الدين الرومي« :إنّ الدم املقطع -غري ٍ
ليتفجّ ُر من فمي مع الكلمات».
يف بين ّي ٍة هاصر ٍة منذ العنوان حتى آخر ٍّ نص يف الكتاب عن ّ مطل ٍة «خلف السياج»؛ تسعى الشاعرة أبرار سعيد .تقطع ورد ٍة
ً أشواطاّ ، بحائط ما؛ تتشيّأ معه، وكلما فدح بها اليأس الذت ٍ ّ َّ نسيان صغرية .ربما تصبح -عندما كرف ِة مؤق ًتا تصنع عزاءً ٍ ً مغاير يعني املثابرة وحدها .املسعى منظور عائدة -ذات تنفلت ٍ ٍ ً الذي ال يتبدّل رغم النهايات املحسومة سلفا« ..روحي طالءٌ
ُ ّ يجف» .فطوبى لـ«قلب يشمُّ الضوء وال يراه». يقط ُر وال
129
كتب
اليمن غير السعيد في منعطفه الثوري خاص
130
يرصد كتاب «اليمن :المنعطف الثوري» (دار الفرات -بيروت) التحوالت التي عصفت باليمن الذي عانى قدرًا كبيرًا من النزاعات، إضافة إلى التقسيمات التي شملت الجميع سواء ما بين شمال وجنوب ،أو قبائل ومدن، أو ُسنة وشيعة ،أو تنظيمات قومية وليبرالية ويسارية ودينية ،وخروج من نفق اإلمامة للدخول في مستنقع حرب أهلية ،وخروج من دكتاتورية عسكرية للوقوع في فوضى التدخالت اإلقليمية. ً باحثا ،في الكتاب أنجزه نحو عشرين مقدمتهم :مارين بواريه ،ولوران بونفوا، وفرانك مرمييه ،الذين خططوا للمشروع وأشرفوا عليه ،وكان لهم الجهد األكبر في إنجاز دراساته المهمة .في حين عكف على ترجمته كل من :خالد الخالد ،وعصام المحيا، ومصطفى الجيزي ،وبشير زندال. كانت الطبعة األوىل من الكتاب قد صدرت عام 2012م
يمكن تقسيم التاريخ اليمني الحديث إىل ثالث مراحل،
أربع تغري خاللها املشهد اليمني ،فقد جاءت فكرة الكتاب يف
فقد استطاع اإلمام يحيى أن يخرج األتراك من اليمن ،لكنه
باللغة الفرنسية ،ثم جاءت طبعته العربية بعد سنوات ظل متابعة الغرب للربيع العربي ،وانبهاره بالحالة السلمية للثورة اليمنية 2011م ،ومن ثم جاء التفكري يف تقديم جملة من املعارف املهمة للقارئ األوربي عن اليمن الذي يحتل موقعً ا ممي ًزا يف الجنوب الشرقي للجزيرة العربية. العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
إذ كان يف املرحلة األوىل القطر العربي األول يف االستقالل، ً مشروعا سياسيًّا وال ثقافيًّا أو حتى اقتصاديًّا، لم يكن يمتلك
فقط كان كل ما لديه هو الرغبة يف الحفاظ عىل ملكه الذي استمر طويلاً عرب التوافق بني القبائل عىل بقائه ،لريثه ابنه أحمد الذي تغريت األمور عليه ،واندلعت الثورة .وسرعان ما
استقلت عدن وخرج اإلنجليز منها ،فقامت دولة اشرتاكية بها ،ليبدأ الفصل الثاين من التاريخ الحديث ،حيث يتواىل
الحكام إىل أن يجيء عيل عبدالله صالح ،ويبدأ السعي للدخول يف دولة يمنية موحدة .ووضع صالح يده مع اإلخوان
والسلفيني والجهاديني للتخلص من شيوعيي الجنوب، لتدخل البالد يف حرب أهلية عام 1994م ،وبسقوط دولة
الجنوب ومطاردة كل رموزها والداعني لعودتها يدوم حكم
صالح حتى قيام الثورة يف 2011م ،ويبدأ الفصل الثالث بالحرب األهلية املستمرة إىل اآلن.
السياسة والهويات
جاء تقسيم الكتاب عىل ثالثة أبواب :حمل الباب األول
عنوان« :الحركات السياسية ..املرونة والنزاعات والهويات»،
وفيه قدمت مارين بواريه إعادة تركيب للمشهد السيايس
جاءت فكرة الكتاب في ظل متابعة الغرب للربيع العربي ،وانبهاره بالحال السلمية للثورة اليمنية ،ومن ثم جاء التفكير في تقديم جملة من المعارف المهمة للقارئ األوربي عن اليمن مثلهم .وما إن قامت الثورة حتى شارك الحوثيون فيها بقوة،
ودعموا سيطرتهم عىل صعدة واملحافظات املجاورة ،ووقعت معارك بينهم وبني سلفيي مركز دماج يف 2012م ،ثم استؤنفت
االشتباكات عام 2013م ،وأطلق الحوثيون عىل أنفسهم «أنصار الله» فيما يشبه تسمية «حزب الله» الشيعي يف لبنان، واضطرت السعودية إىل زحزحة الحرب بينهم بعيدً ا منها،
فوافقت عىل أن ينتقل سلفيُّو دماج إىل سعوان.
جرى هذا قبل أن ينضم عبدالله صالح بقواته ومناصريه
اليمني بتشابكاته وتعقيداته ،بينما رصد خالد الخالد كيفية تعامل اإلعالم الغربي مع اليمن ،موضحً ا أن ثمة تضليلاً
إىل الحوثيني ليسيطروا عىل املشهد اليمني ،فف ّر الرئيس
للقوى الكربى يف املنطقة ،ومن ثم فما يقدم عن اليمن غري ما
مواجهته للحوثيني .يف ختام هذا الباب قدمت لوران بونفوا
تمارسه وسائل اإلعالم املرتبطة باملصالح الخاصة والضيقة
يجري عىل أرض الواقع .أما لوران بونفوا فقد تناولت عالقة
الجوار مع السعودية.
يقدم الكتاب تشريحً ا مهمًّ ا لعناصر القوى يف املشهد
السيايس اليمني ،وتتبع الباحثون بدقة نشأة كل فصيل أو تيار وتطوره ووصوله إىل ما هو عليه اآلن بعد الثورة ،وكان
أنصار عبدامللك الحويث من أبرز عناصر املشهد ،فذهب سامي دورليان يف دراسته عنهم إىل أن جماعة الحويث تأسست يف بداية السبعينيات تحت مسمى «الشباب املؤمن»،
وهدفهم كان إحياء الرتاث الديني الشيعي الزيدي املهمش
عبدربه منصور هادي إىل السعودية ،وبدأ التحالف العربي يف
عددًا من الدراسات التحليلية التاريخية املهمة للوضع السيايس
اليمني ،من بينها« :التاريخ املوجز للعنف الجهادي يف اليمن»،
و«األسر السبع يف الساحة اإلسالمية اليمنية» ،و«النخب
القبلية والدولة» ،و«التيار الديني والثورة» ،بينما كتب منصور بالنال عن «صحوة الرباغيل :تعز والثورة اليمنية». فضاءات عامة
وجاء الباب الثاين تحت عنوان« :الرهانات االجتماعية
ُصد واالقتصادية والجغرافية :صعوبات وتسويات» ،وفيه ر ِ مأزق االقتصاد اليمني الذي تزايدت به البطالة الريفية،
منذ اندالع ثورة 1962م التي أطاحت بحكم اإلمامة الزيدية، ويف عام 1990م أُ ِّسس حزب «الحق» الذي هدف إىل التوفيق
ُصدت وتقلصت األرض الزراعية ،ونضبت فرص الهجرة ،كما ر ِ
الحق ،لكنهم بعد سبع سنوات انفصلوا عنه ،وحدثت عدة
اليمنية .أما الباب الثالث فقد جاء تحت عنوان« :الفضاءات
بني الفكر الزيدي والفكر الجمهوري ،فانضم إليه الشباب انشقاقات كان آخرها انشقاق حسني الحويث الذي كان نائبًا
لرئيس حزب الحق ،لكنه انفصل عنه بعد أحداث 11سبتمرب،
وسعى إلصالح التعليم الفقهي الزيدي بحيث يصبح أكرث فاعلية يف النضال ضد السياسة األمريكية الخارجية ،وردد مع الشباب املؤمن شعار «الله أكرب ،املوت ألمريكا ،املوت
إلسرائيل ،اللعنة عىل اليهود ،النصر لإلسالم» ،وهو ما
أزعج األمريكان ومن ثم عبدالله صالح ،فحدثت االشتباكات
بينهم عام 2004م يف صعدة .وسرعان ما حول صالح الحرب إىل شأن طائفي ليجعل السلفيني ورجال القاعدة والشوافع
السنة يف معيته ملحاربة الحوثيني ،رغم أنه من أصول زيدية
أزمة املاء التي يعانيها اليمن ،والرهانات املعاصرة للهجرة العامة والثقافة الرتاثية :القيود واإلبداع» .واشتمل عىل عشر دراسات من بينها ما كتبه الشاعر والروايئ عيل املقري
عن العالقة بني السلطة واملوت ،وما رصده الكاتب والشاعر نبيل سبيع عن الثورة يف بلد يعاين الفرقة واالنقسامات ،وما أكد عليه بنيامني فياكيك؛ إذ جرى استخدام وسائل إعالمية جديدة مع اندالع الثورة كاملدونات والفيس بوك وغريهما.
ليكون هذا الكتاب هو األبرز يف تغطية الواقع السيايس
واالقتصادي والثقايف اليمني؛ إذ قام باحثوه بتحليل كل
عنصر من العناصر األساسية يف املشهد اليمني ،وتتبعها حتى لحظة اإلعداد للطبعة العربية.
131
كتب
المسلمون في الحياة اليومية الجدل حول اإلسالم في أوربا عبدالرحيم الرحوتي
132
كاتب مغربي
وجهت عالمة االجتماع الفرنسية من أصل تركي نيلوفر غول اهتمامها ،في الكتاب الذي ً حديثا وعنوانه «المسلمون في الحياة أصدرته اليومية :بحث ميداني أوربي عن الجدل حول اإلسالم» ( صادر عن )La Découverteلرصد المعيش اليومي للمسلمين في مختلف البلدان األوربية من زاوية الجداالت التي يثيرها اإلسالم بين الحين واآلخر .باستثناء الفصل األول الذي تناولت فيه المؤلفة األدبيات السوسيولوجية المرتبطة بالعداء لإلسالم في أوربا ،فإن بقية فصول الكتاب خصصت بالكامل لعرض نتائج بحث ميداني دارت أطواره في بلدان أوربية مختلفة ،بهدف قياس حجم ردود األفعال عن الجداالت القائمة حول اإلسالم :الصالة في الشارع العام ،وصوامع المساجد ،والرسوم الساخرة من شخصية الرسولﷺ ،ومسألة الحجاب ،والتمسك بتعاليم الشريعة اإلسالمية. تقوم املنهجية املتبعة يف البحث عىل توجيه أسئلة
فصول الكتاب التي خصص كل واحد منها ملعالجة أحد
للمسلمني ولغري املسلمني يف أماكن كانت مسرحً ا ملواجهات مرتبطة بحضور اإلسالم يف أوربا .بدلاً من إعادة إنتاج الخطاب
سمحت بإبراز أهمية هذه املنهجية ومالءمتها ملوضوعها
اهتمامها إلبراز صورة املسلمني يف معيشهم اليومي كما
تأيت بها النظرة السوسيولوجية .بعد تناول معنى ظاهرة
السيايس واإلعالمي الرائج ،فضلت نيلوفر غول توجيه يرسمونها هم أنفسهم عرب آرائهم ومواقفهم ،وفتح املجال لسماع أصوات أناس ليس لهم اهتمام باإلسالم لكنهم يرون
أنفسهم معنيني بالجدل القائم حوله ،ويرغبون يف التعبري عن رأيهم فيه ،وكذلك تمكني أولئك الذين يشعرون بأن أصواتهم
غري مسموعة من اإلفصاح عما لديهم من آراء وأفكار. العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
أنواع الجدل التي عرفتها الفضاءات العمومية األوربية، بتوفريها املجال للرتكيز عىل التعرية الضرورية للواقع التي دينية مرتبطة باإلسالم ،تعمد نيلوفر غول إىل وصف الحدث
العمومي الذي قاد إىل جدل محيل أو وطني مهم ،ثم تقوم بحصر التصورات الخاصة والعامة التي وردت عند املستجوبني. إذا اتخذنا صالة الجماعة التي تتناولها الكاتبة يف الفصل الثالث مثالاً عىل ذلك ،يمكن القول بأن الصالة يف اإلسالم تمارس يف
أي مكان ،عىل انفراد أو جماعة ،باستثناء صالة الجمعة التي
يشكلون جماعة تشتغل وفق منهجية معينة ،وال هم ملتفون
للصالة هي التي تركز عليها وسائل اإلعالم األوربية ،وتستغلها
والشرسة التي تروج لها بعض األطراف.
يشرتط فيها أن تقام بشكل جماعي .هذه الصورة الجماعية أحزاب اليمني املتطرف كدليل عىل تعارض اإلسالم مع
القيم الغربية القائمة عىل الفردانية .إذا كانت صورة الصالة الجماعية هذه ،قد شكلت أكرث من مرة موضوع مشادات يف أملانيا ويف فرنسا خالل العشرية األوىل من األلفية ،فقد أثارت جدلاً واسعً ا كذلك يف إيطاليا ،سنة 2009م .عند انتهاء أطوار
عىل رأي واحد ،وال تنطبق عليهم صورة الجماعة العدوانية لحظت املؤلفة خالل الجلسات أن بعض املشاركني يلتزمون
الصمت يف أثناء النقاش ،وهو ما يفتح املجال واسعً ا أمام
أعضاء رابطة الشمال للرتويج لخطابهم القائم عىل كراهية
اإلسالم واملسلمني ،وهي الصورة التي تهيمن بصفة عامة عىل
امليدان اإلعالمي .أخريًا ،يتسم خطاب املنتمني لرابطة الشمال
مظاهرة لدعم الفلسطينيني يف غزة بمدينة بولونيا ،قرر بعض
بنربة تروم التهجم عىل املسلمني الحاضرين ،كما أنهم يكرثون
العام ،عىل مرمى حجر من كاتدرائية القديس بيرتونيو .يف
اآلخرين ،ويعاكسونهم بحيث يمنعونهم من التعبري عن آرائهم
املتظاهرين إقامة صالة الجماعة يف عني املكان ،أي يف الشارع األيام الالحقة عرب بعض السياسيني ومواطني املدينة عن ً انتهاكا لفضاء مسيحي خالص، غضبهم بسبب ما عدوه وتعبريًا عن إرادة سياسية ألسلمة القارة األوربية. دينامية الفضاء العمومي
من التعليقات املجانبة للصواب ،ويقطعون كالم املشاركني
بشكل مالئم .ترى املؤلفة يف هذا السلوك تجسيدً ا إلسرتاتيجية األحزاب اليمينية املتطرفة الجديدة املتمثلة يف العمل عىل ملء الفضاء العمومي ،ومنع اآلخرين من ولوجه ،ولو أدى ذلك إىل التهجم واالعتداء الجسدي والقدح يف حق من يرون أنهم
أجانب ،ويسعون ليك يظلوا كذلك .بالتايل ،إذا كان املسلمون
ستة أشهر بعد حصول هذه األحداث ،قصدت نيلوفر غول
يتعرضون لهجمات متكررة مع ارتفاع يف حدتها ،فألنهم صاروا
تعكس الحقيقة االجتماعية .شكلت هذه املبادرة املحاولة
حامل لجنسية بلد اإلقامة ،وألنهم باتوا يحتلون فضاءات
مدينة بولونيا ملعاينة ما إذا كانت دينامية الفضاء العمومي األوىل يف فضاء عمومي تجريبي .شارك يف النقاش أحد عشر
اليوم مرئيني أكرث بالنظر لعددهم ،باإلضافة إىل جيل جديد عمومية ،ومواقع اجتماعية لها مكانتها ،وطوروا قدراتهم
ً شخصا :ثالث فتيات من الجالية املسلمة ،ورجالن مسلمان ً حديثا ،وثالثة ناخبني من الحزب اليميني اعتنقا اإلسالم
مطالبهم .بعبارة أخرى ،إذا كان املسلمون اليوم يتهمون بعدم
النقاشات باستخالص دروس مختلفة توزعت عىل مختلف
يف مجتمعاتهم.
املتطرف ،رابطة الشمال ،ثم ثالثة من سكان بولونيا .سمحت
فصول الكتاب .عرب املسلمون الحاضرون عن مواقف مختلفة عن بعضها ،وهي إشارة واضحة إىل أن املمارسة الدينية تختلف
باختالف املعيش الفردي ،كما كانت وجهات نظرهم متباينة بخصوص إقامة صالة الجماعة يف الشارع العام .اليشء نفسه تكرر عندما تعلق األمر بمواجهة االعتداءات اللفظية لناخبي ً خالفا رابطة الشمال؛ إذ فضلوا التزام الهدوء وتاليف املواجهة.
للتصورات التي يروج لها اإلعالم ،فإن املسلمني يف أوربا ،ال
إذا كان المسلمون يتعرضون لهجمات متكررة مع ارتفاع في حدتها ،فألنهم صاروا اليوم مرئيين أكثر بالنظر لعددهم ،وألنهم باتوا يحتلون فضاءات عمومية ومواقع اجتماعية لها مكانتها
عىل استعمال الوسائل املشروعة إلسماع صوتهم والتعبري عن
قدرتهم عىل االندماج ،فذلك ألنهم بالضبط مندمجون تمامً ا أخريًا ،الجانب األكرث إثارة للجدل يف الكتاب يتمثل يف
العينات املستجوبة ،ويف طرائق انتقائها؛ فالكتاب يهدف إىل رصد التصورات االجتماعية للمسلمني حول ديانتهم ،والرابط الذي
يربطهم بالحياة يف املجتمعات األوربية ،وهي تصورات اختارت الجداالت العامة مدخلاً لتناولها .بالتايل ،فإن املنهجية املتبعة قامت عىل مقابالت عقدت مع عدد محدود نسبيًّا من األفراد.
جرى االتصال بهؤالء غالبًا يف أعقاب جداالت عامة ،أو من خالل النسيج الجمعوي .عندما ننظر إىل خصائصهم االجتماعية نجد راوح بني 19و 45سنة ،ويمارسون املهن التالية: أن أعمارهم ُت ِ صناع تقليديون -تجار -أرباب مقاوالت -أطر -مهن فكرية
عالية -لكن ال يوجد بينهم عمال أو مستخدمون ،علمً ا بأن
هذه الشرائح تشكل نسبة كبرية من الساكنة النشيطة .املسلمون املستجوبون هم مسلمون لكن ليسوا عاديني بالشكل املعلن
عنه ،وال يمثلون مختلف شرائح الساكنة اإلسالمية األوربية.
133
كتب
صورة المثقف الموسوعي في يوميات
«خواطر الصباح» للمفكر عبدالله العروي
134
صدوق نور الدين
ناقد مغربي
يمكن القول :إن رباعية يوميات «خواطر الصباح» تجسد نمذجة فعلية لما يجدر أن تكون عليه كتابة «اليوميات» ،سواء من حيث التحديد الزمني الذي يمتد نحو أربعين سنة( :من1967 :م إلى2007 :م)، أو الصوغ المتعمد لالقتصاد اللغوي ،إذا ما ألمحنا للتراكم المعرفي والثقافي الذي تجسده تجربة الدكتور عبدالله العروي ،والجامعة بين الفكري بمعناه األوسع ،واإلبداعي .وهو ما يحيل على ثرائها، كما قيمتها حال تمثل الرأي والموقف .إن تجربة رباعية يوميات «خواطر الصباح» تتأطر في سياق التعبير ً سابقا ضمن الرباعية الروائية :الغربة ،واليتيم ،والفريق، عن الذات .وبالتالي فهي االمتداد لما تشكل وأوراق ،ثم النص المسرحي «رجل الذكرى» ،إلى المذكرات المدونة عن الملك الراحل الحسن الثاني: مغرب الحسن الثاني ،أو المغرب والحسن الثاني .والواقع أن االمتداد يجلو طبيعة التداخل والتقاطع في الوقائع واألحداث المتضمنة ،إلى المواقف واآلراء .وبذلك يكون الدكتور عبدالله العروي قد انخرط تعبيريًّا في أكثر من شكل من أشكال الكتابة عن الذات :السيرة الذاتية ،واليوميات ،والمذكرات. العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
إن رباعية «خواطر الصباح» تعكس حضور ثنائية املثقف/
السيايس إذا جاز التعبري ،علمً ا بأن هذه القاعدة تربز ً أيضا عىل
مستوى األعمال السابقة ،ولنئ كان من الصعب حيال وضعية مؤلف كعبدالله العروي ،التفريق بني املثقف والسيايس؛ إذ ليس املثقف الخبري يف حيز تخصصه الدقيق ،وإنما املوسوعي الذي طبع جيلاً من املفكرين واألدباء العرب من طه حسني إىل إدوارد
سعيد .تحق اإلشارة يف هذا التقديم ،إىل كون مؤلف «أوراق» بما هو سرية إدريس الذهنية ،مثل التجيل اإلشكايل ملختلف أجناس
الكتابة عن الذات ،من السرية الذاتية حيث تتماهى شخصية إدريس وعبدالله العروي ،إىل األوراق املحيلة عىل صيغة املذكرات،
وتقتيض من السارد وشعيب مللمتها وترتيبها وفق املعنى املتغيا
إنتاجه ،إىل اليوميات والتعليقات عىل الكتب بالنقاش واملناظرة. من ثم يتفرد التأليف يف بابه ،ويستعيص عىل التحديد والضبط
األجنايس .إن الالفت واملثري عىل مستوى تلقي رباعية يوميات «خواطر الصباح» ،كونه انحصر بشكل أساس إال فيما ندر ،يف
املهتمني بالدرس الفلسفي .وقد يكون لعامل املعنى املثار واملنتج ضمن الخواطر ،وبالتايل ملوسوعية الدكتور عبدالله العروي بالغة
أثره ،علمً ا بأن الدرس األدبي لم يفرد لليوميات حي ًزا عىل مستوى
عبدالله العروي
• التنوع :ويمكن التمثيل له بحقل التعبري ،حيث كتب
الدكتور عبدالله العروي يف أدب السرية ،وفن الرواية ،واملسرحية ً تأليفا وترجمة ،واليوميات. • التماسك :ويتجسد خاصة يف كون التأليف تحقق من خالل
مشروعات متكاملة ومتداخلة يف معناها ومبناها.
الدرس والنقد ،بالنظر إىل حداثة املمارسة اإلبداعية وجدتها،
• الدقة :ويحرص فيها عىل املنطقي والعقالين ،واملوضوعية ً سابقا ،اختزله الدكتور عبدالله العلمية .ويمكن القول :إن الوارد
واالستنتاجات التي انبنت عىل قراءة الجزء األول أو الثاين من
مرتبط بأحد هذه الفصول :األيديولوجيا ،والبحث التاريخي،
إىل قلق األسئلة املتعلقة باملمارسة من حيث إشكالية النوع أو الجنس .يبقى القول يف ختام التقديم :إن حصيلة من الخالصات
رباعية اليوميات ،أكدت ضرورة إعادة النظر فيها ما دام منجز اليوميات اكتمل كمشروع بصدور الجزء الرابع املوسوم بـ«املغرب
املستحب ،أو مغرب األماين» ،واملؤطر زمنيًّا بني (2007/1999م). املثقف الجامع
العروي يف قوله« :يمكن تجزئة أعمايل إىل أربعة محاور ،كل محور
والتأصيل ،والتعبري»( .مجلة النهضة .م م). تداخل األحداث وتقاطعها
إن مالمسة صورة املثقف املوسوعي يف اليوميات ،ال تقتيض
تقصيها ضمن الرباعية بصفة عامة ،وإنما االكتفاء بالجزء الواحد
إن ما يتحقق استجالؤه من املعاين املعرب عنها يف يوميات
ما دام التدوين اليوميايت يتحقق وفق اإليقاع ذاته ،وإن تغري الزمن
املتعدد الذي يصعب حصره يف مجال تخصيص بذاته؛ فالتفكري
السيايس العاملي ،العربي والوطني .والواقع أن سعة االهتمام
«خواطر الصباح» ،صورة املثقف املوسوعي .والقصد ،املثقف الجامع ممارسة دالة عن وعي ينزع رباط الحقول واملجاالت ،بغاية تشكيل تصور ضمن بنية متكاملة تحيل عىل الكيل وليس الجزيئ ،إذا ما
أملحنا لكون الصورة متوارثة عن مرحلة جسدها بقوة الرتاث الكوين واإلنساين ،إىل طبيعة الخصوصية التي تسم املجتمعات الثالثية،
وتحتم إذا يف حال رغبنا يف إعمال التفكري يف ظاهرة التخلف ،شمولية اإلحاطة بما بالسيايس ،واالقتصادي ،واالجتماعي ،والثقايف.
ومسار األحداث .ونجد بداية صورة املثقف املهتم املتابع للشأن
وليدة التأثريات التي ترتتب عىل تداخل األحداث وتقاطعها .ويمكن القول إضافة ملا سبق :إن هذه الصورة تجسد مستويات نذكر
منها :املتابع املحايد ،واملحلل ،واملعلق باختصار واقتضاب ...ونجد
صورة األديب املبدع .وتتمظهر يف إيالء الفن مجسدً ا يف املوسيقا، ثم العمارة والتشكيل ،واملسرح والرواية ،مكانة ضمن االهتمامات
التي تعكس مظاهر الثقافة وتجلياتها بصفة عامة .إذ إن ما يكسب
إن موسوعية عبدالله العروي املثقف واملؤلف ،تتمثل تجلياتها
املثقف قوة حضوره ،وسعة اهتمامه.
• التعدد :ويطول أشكال الخطاب وتمظهراته الجامعة بني
يتداخل فيها املفكر باملؤرخ ،إذ تربز دقة املعاينة وعمق التفكري،
يف اآليت:
املوضوع واملوصوف.
بيد أن الالفت -من خالل تعداد النماذج -الصورة التي
إىل سعة اإلملام بالتاريخ يف امتداداته وتحوالته .والواقع أن
135
كتب التداخل يطرح عىل املتلقي استعصاء يتمثل يف صعوبة التمييز
ومن ثم فهذه الرباعية التي تقول الذات ،والذاكرة والتاريخ،
والديني ،واالجتماعي ،بحكم أن طبيعة صوغ بعض اليوميات
عامة ،وهي القيمة التي تستدعي تجديد قراءتها والتفاعل مع
بني ما يمكن أن يعد فكريًّا فلسفيًّا ،وما يحسب عىل التاريخي،
تفرض مقاربتها من جوانب متعددة تتداخل وتتقاطع بعيدً ا من التصنيف ،وهو ما يعود إىل شخصية املدون ،وما تتفرد به
من عمق فكري جامع ،أو ما أشرنا إليه بـاملوسوعية .ومن صور العروي صورة الراصد االجتماعي .وهي صورة تطالعنا حال توقف
العروي أمام مشهد اجتماعي بهدف قراءته واستنطاق داللته
مضامينها.
تجربة يف الكتابة
تبقى «خواطر الصباح» من خالل التحليل املعتمد ،تجربة
يف الكتابة كما التعبري ،من داخل جنس أدبي لم تتحقق عربيًّا
الرمزية؛ إذ الغاية حينها معرفة التحوالت التي تسم املجتمع املغربي ،وتعد مؤشرات عىل ما يمكن أن يصار إليه مستقبلاً .
الكتابة اإلبداعية :القصة ،والرواية ،واملسرحية ،علمً ا بأن
االجتماعي ،تقدم مادة خصبة لعلماء االجتماع.
إبداعي ،من دون أن تفسح بالغة هذه التأثريات لتجذير فن
وتأسيسا من دقة الرصد والواقع أن يوميات «خواطر الصباح»، ً
صورة مفقودة
املمارسة اإلبداعية فيه ،لسيادة أجناس نرثية أسست تقاليد
التأثريات األدبية الغربية فرضت سلطتها عىل أكرث من محفل كتابة اليوميات .والواقع أن الدكتور عبدالله العروي الكاتب املبدع وليس املفكر ،اختط عرب مساره اإلبداعي الكتابة يف
إن ما يمكن استخالصه من مقاربة صورة عبدالله العروي
أجناس أدبية متعددة :املسرحية ،والقصة ،والسرية الذاتية،
أن النموذج املعرب عنه لم يعد يمتلك حضوره يف الراهن،
إنتاج وعي إبداعي غايته األساس كتابة الذاكرة وأسئلة الذات
من التحديدات والتسميات .ومن ثم فالقيمة األساس لهذه
اإلبداعي ،رواية كربى صيغت وفق تنويعات تحيل -عىل رغم
تأسيسا من رباعية «خواطر الصباح» املثقف والكاتب املوسوعي ً
بحكم سيادة ما يدعى بالتخصص والخربة ،وما إىل ذلك
136
وثيقة جامعة شاملة عن مرحلة دالة يف الحياة العربية بصفة
الخواطر ،تتأسس من هذا النزوع والتوجه الدال عىل صنف
من املثقفني الفاعلني ،ليس يف الحياة العربية وحسب ،وإنما
العاملية .ونمثل باإلضافة لعبدالله العروي بهشام جعيط، ومحمد أركون ،وإدوارد سعيد ،إىل املثقفني األفارقة الذين يوسعون حقل الدراسات الثقافية أو النقد الثقايف مثل نغوجي واتينغو .والواقع أن هذه الصورة اليوم ،ويف سياق التحوالت
السياسية واالجتماعية والثقافية العاصفة ،هي املطلوبة
واملفقودة ملواجهة التخلف الجديد واملضاعف الذي يزحف عىل تأسيسا من بعض الخطابات الغربية العالم كله ،واملوجه ً
املراهنة عىل الكسب االقتصادي.
ما تتفرد به يوميات «خواطر الصباح»: تعدد المعاني والحقول؛ ذلك أن التدوين اليومياتي لم يحصر في الحقل األدبي أو الفكري مثلما
والرواية ،واليوميات ،واملذكرات ،عىل أن ما انتظم التعدد،
القلقة واملقلقة .ومن ثم فالدكتور عبدالله العروي يعد منجزه التعدد والتداخل -عىل الواحد.
بيد أن ما تتفرد به يوميات «خواطر الصباح» هو :اً أول ،تعدد
املعاين والحقول؛ ذلك أن التدوين اليوميايت لم يحصر يف الحقل األدبي أو الفكري مثلما املألوف يف كتابة اليوميات ،وإنما شمل
السيايس ،بغاية تبيان توسع دوائر اهتمام املثقف ،إىل الحقول التي يخوض الكتابة والتفكري فيها .ثانيًا ،التماسك :ويحيل عليه الرهان عىل مكون الزمن ،وبخاصة أن «خواطر الصباح» :أ -متابعة ورصد
ملا يمثل صورة عن أربعني سنة من تاريخ الحياة العربية والعاملية.
ب -تخصيص كل مرحلة بتحديد زمني دقيق ،علمً ا بأن نواة هذه اليوميات تشكلت كما ورد يف التقديم ،يف مرحلة مبكرة ،وفق ما
دلت عليه الروايتان :اليتيم وأوراق .ت -الجرأة واملوضوعية :وتربز يف سياق سرد بعض األحداث الفكرية والوقائع السياسية ،حيث ال يكتفى بالتدوين ،وإنما التعليق والنقد الرصنيً . ثالثا ،كتابة
تاريخ الذات :وهنا تجدر اإلشارة إىل كون رباعية يوميات «خواطر الصباح» ،تشكل التوازي ،واالستكمال ،واالستمرار ،ملا ُع رِّب عنه
ضمن الرباعية الروائية :الغربة ،والفريق ،واليتيم ،وأوراق،
المألوف في كتابة اليوميات ،وإنما
خاصة فيما يتعلق ويرتبط باملسائل الذاتية والشخصية .ويمكن
دوائر اهتمام المثقف ،إلى الحقول
الحديث ،تتباين عما أبدعه كل من :محمد شكري ،ومحمد خري
شمل السياسي ،بغية تبيان توسع التي يخوض الكتابة والتفكير فيها
العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
القول يف الختام :إن هذه اليوميات عىل مستوى األدب املغربي
الدين ،وعبداللطيف اللعبي ،بحكم توسع املدة الزمنية ،إىل تعدد الحقول وموسوعية عبدالله العروي الكاتب واملثقف.
137
مقال
ياسمينة خضرا روائي جزائري ترجمة :محمد أحمد عثمان -روائي ومترجم يمني
لماذا أكتب؟ أردت باستمرار أن أفهم زمني ،معجزاته وخيباته،
عبقريته وسخفه .القسط األعظم من رواياتي يستدعي ً أحداثا ،ي َُسائل ،يستجوب عالمنا .ما الذي يمنح جيلاً ما
عبر عن سخطه من قبل بقوله« :إن امتالك الموهبة وحده ال
عظمته أو عرضيته ،مسؤوليته أو تراخيه ،التزامه أو تنصله.
يكفي ،ينبغي أن يكون لديك اإلذن بالكتابة ،أليس ذاك هو األمر
لنفسي االرتقاء بالجماهير نحو األفضل .إنني أحاول فقط
استمر في الكتابة ألنه كان ح ًّرا .والحال كذلك ،لنكتب من دون
من هنا ،ينبع سفري عبر الثقافات والذهنيات .أنا ال أدّعي أن ألقي الضوء على ما يفلت منهم ويثير نفور اآلخرين.
138
ضمن حرية التعبير ...ولكي يستطيع العقل أن يسمع نفسه
وسط جلبة األخبار الكاذبة .أكتب لكي أغدو ح ًّرا .كان نيتشه قد
يهدف عملي إلى مقارعة الخلطات والصور النمطية التي
يا أصدقائي؟» لكن نيتشه كان في غنى عن أي نوع من اإلذن .فقد
انتظار أي إذن.
لنكتب من دون انتظار أية مباركة .وعلى الشيطان اللعنات!
تستولي على حسيري النظر وتختزل حكمنا الحر إلى مجرد
في الوقت الذي تطيع فيه العبقرية اإلرادة الحديدية لجماعات
الناس يفكرون بما فيه الكفاية؛ إذ صاروا يكتفون باالنتماء
في مكانة أدنى من الحذلقة وتبادل المنافع ،حيث يضفي ذيوع الصيت شي ًئا من الموهبة على غير المضطرين لردها،
نبتة مبتذلة وإلى جراحة ترقيعية ضد التسطيحية .لم يعد إلى ما يقال من دون أن يهتموا بالتأكد من صحة مصادره.
لقد صرنا مجرد صناديق رنانة ،نوع من الورق النشاف الذي
الضغط واللوبيات حيث ينشر التبحر في المعرفة بروفيال هو
وحيث تحل اإلكليشيهات محل حضور الروح ،وحيث يجرد
يمتص كل شائعات األرض من دون أن يتوخى أدنى حذر في
الخوف والريبة ورهاب األجانب الناس من البصيرة ،وحيث تقود
ضوار .وعندما تصيبنا مصيبة، ونتعايش مع هذياناتنا مثل ٍ
تورث معه الكسل المفرط ،آنئذ يتوجب على الكاتب أن يقاوم
استخدامها .بهذه الطريقة نضفي الوثوقية على الفواحش حينئذ فقط نتساءل لماذا يفر كل شيء منا.
إننا نتغذى على اإلكليشيهات وعلى األكاذيب كل يوم
ونطلب منها المزيد .فنحن نصدر أحكامنا بال فهم وندين
بال تردد .لقد صارت العنصرية ً نوعا من القنزعة التي نحب
أن نبثها على سطح الشاشات بينما يندرج رهاب األجانب من اآلن فصاعدًا ضمن حماس منتعش ،فوبيا اإلسالم
تظهر بمظهر الشجاعة الثقافية .والحال كذلك ،إلى أين
نمضي؟ المثقفون يفكرون في صورهم أكثر مما يفكرون في أفكارهم .وهم ،من اآلن فصاعدًا ،يعيشون في إطار
االختصارات الجهد الثقافي إلى صيغ مختزلة إلى الحد الذي
وذلك ألنه خرطوشة الوضوح األخيرة «الجرح الذي يكمن قريبًا
من الشمس» (مونتسكيو) .رفوف المكتبات هي متاريسه ،القراء سالحه ،ورواياته محاطة بالحبر «المقدس» وبالضوء .إذا كان ً صادقا فإنه سيعرف كيف يمنح بعض الثقة لمغتابيه، الكاتب
ولجرعته السحرية ،ولإلقصاء الذي يصيبه بالزهد ،ولأللوان التي
يشكل له الناس منها أقواس قزح زاهية .سيقول له كوكتو« :ما ّ سنؤنبك عليه ،شذبه ...األمر عائد إليك» ،وسيبوح له غوغول:
«المجد ال يصيب بالرعدة إال األرواح الجديرة به» وعندما ،تحت ً أحيانا ،يتخلى الكاتب عن الشكوك والمخاوف، ثقل االنسحاق
نرجسية مغتبطة بنفسها ،وفي هدير مدوخ .الضمائر النقية
ً شجاعا في عالم فإنه سيستيقظ مرفوع الرأس من فرحة كونه
استبعادها .في هكذا حال تصير الرواية هي المالذ األخير
ليس هنالك من فرح حقيقي سوى تلك األفراح التي تخلصنا من
والنادرة التي تحاول أن تأتي بردة فعل على كل ذلك يتم
المشتبه بالمطالبة بالصدى .إنني أكتب لكي تندرج الرواية العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
مستسلم للدوائر المغلقة ولحجرات الحراسة المظلمة .بما أنه التحشيد بحيث تبقى حريتنا غالية «غالوة» الحب.
من أكون؟
اسمي هو محمد مولسهول ،جزائري ،وبعمر الثانية والستين ْ رجمت أعمالي داخل خمسين بلدًا إلى 43لغة .لقد عامًا ،روائيُ ،ت
مارست تأثي ًرا على ماليين القراء في العالم ( 5ماليين في فرنسا
وحدها) مع ذلك فقد بقيت غير معروف داخل معظم البلدان العربية باستثناء المغرب حيث أُقرأ بكثرة هناك.
اليوم أقدم نفسي للقارئ السعودي والعربي .لم أذهب إلى
المملكة العربية السعودية إال مرة واحدة ،في ديسمبر من عام 2013م ،ألداء العمرة برفقة زوجتي .ولقد استفدت من مروري
إلى أين نمضي؟ المثقفون يفكرون في صورهم أكثر مما يفكرون في أفكارهم. فصاعدا ،يعيشون في إطار وهم ،من اآلن ً نرجسية مغتبطة بنفسها ،وفي هدير مدوخ
التي بدت لي أكثر علوًّا من الجبال .كان يتملكني االنطباع بأنني
على جدة لمقابلة فنانين ومثقفين سعوديين .وإنني ألحتفظ من
أتضاءل في وسط لونها الكابي ومخاطرها .كانت مطالعاتي تهدف،
الجزائرية ،في صبيحة العاشر من يناير 1955م .وأنحدر من ساللة
المجهضة .فقد كان كل كتاب يغدو لي بمثابة بساطي السحري
لدى القبائل خالل ستة قرون :المولسهوليون الذين خدموا في
الطيبة ،وحيث تكون الزهور في أوج تفتحها والشخصيات جذابة.
ُ ولدت في الصحراء لحظات المشاركة تلك بذكريات ال تنسى.
من الشعراء والفقهاء الذين عملوا على تشكيل الوعي والحكمة
الزاوية التي تحمل اسمهم .في ذلك الوقت ،كانت السورا (البلدة
التي وُلدت فيها) نقطة التقاء ال مف ّر منها للباحثين عن المعرفة
واإليمان ،وكان أكثرهم شهرة األبيض سيد الشيخ (الجد األكبر ألوالد سيد الشيخ) الذي عاش في القرن التاسع عشر .وكان أحمد مولسهول ،وهو عالم متجول ،قد َع َّلم في فاس وفي
ال شك في ذلك ،إلى أن أطرح عني وضعية العصفور ذي األجنحة الطائر .الذي يقودني إلى هناك ،إلى حيث يضوع العالم روائحه
إذ كان يعيد موضعة أحالمي المصادرة. شاعر كالمتنبي
أكتب بالفرنسية ألنني أحب هذه اللغة .عندما أكتب
بالفرنسية ال أواجه أية تعقيدات .بخالف ذلك ،عندما أقترف
تافياللت وفي تلمسان قبل أن يوافيه األجل على طرقات التيه في
قصائد بالعربية؛ إذ يذهب بالي إلى مفدي زكريا وإلى أبي القاسم
التل حيث فارقته روحه .في صغري ،كنت أحس بأن دماء لها
بعيد عن موهبتهم .بالنسبة لي ليس ثمة أدب أطفال وال أدب أبيض ،يوجد فقط ُك َّتاب .بعضهم يكون استثنائيًّا وبعض آخر
إقليم سبدو في الغرب الجزائري .وال يزال ضريحه ينتصب على
مذاق الحبر تجري في عروقي .وكانت الموسقة المقفاة تقذفني ً مفتونا بالمطلق .لم أكن أعرف بمنجنيق آالف النشوات .لقد كنت
بعد أن أربط سيور حذائي عندما كنت أرتجل ما يشبه األغاني أمام
الشابي وإلى الشعراء العباسيين ،وإذ أفعل ذلك أكتشف أنني
أقل استثنائية .بيد أنهم جميعً ا يصدرون جميعً ا عن السخاء
وكرم الذات .اختيار النوع لدي يتجاوب مع مهارات شخصياتي.
إخوتي ،كلمات ال ذيل لها وال رأس لكن التي كان لها رنين اعتذاري
بعضهم يريدون أن يعبروا عن ذواتهم من خالل الروايات
مجموعتي القصصية األولى «الحرية» عن منشورات (إينال الجير)
العربية -البربرية من ناحية ،والثقافة الغربية من ناحية أخرى،
كرنين األجراس .كنت ألتهم كل كتب األطفال التي أصادفها. كتبت قصتي األولى في سن الحادية عشرة .وصدرت
وأنا في سن السابعة عشرة .لقد كنت صبيًّا متوحّ دًا حباه الله قلبًا منشدًا كما لو كنت أعرف ً سلفا ،في ذلك العمر العذري ،أن الحياة التي تنتظرني ال تملك لي شي ًئا من العطالة .في التاسعة
من عمري ،عهد بي أبي ،وهو ضابط في جيش التحرير الوطني
إلى مدرسة عسكرية ،هي مدرسة أشبال الثورة (صممت الستقبال
أيتام الحرب الجزائرية) كي يجعل مني قائدًا عسكريًّا .وكانت هذه
البوليسية وبعض آخر من خالل الحكم الرومانسية ،وهناك من يريد أن يعبّر من خالل الكتابة الكالسيكية .بوصفي اب ًنا لثقافتين:
أسمح لنفسي بأن أقترح على قرائي أسلوبي في رؤية سوء الفهم الكبير لقرننا ،وهو ما قمت به في كل من «الصدمة» و«حوريات
بغداد» و«سنونوات كابول» و«المعادلة اإلفريقية» .ليس لدي أي
ع ّراب في األدب لكن لدي الكثير من األوثان .إنني شديد اإلعجاب ُ بالك َّتاب .إنهم شعبي السماوي .كل الكتاب الجيدين واألقل جودة جردوني من األلياف الحساسة .أحب ُ الك ّتاب الروس من غوركي
إلى أوستروسكيُ ، والكتاب األوربيين ،واألميركيين ،واآلسيويين،
المدرسة تقف على النقيض من طبيعتي .فقد كانت مدرسة متزمتة ً أحيانا ،ظالمة بنظامها السجني تقريبًا ولقد صاغتني، ومرعبة
والمؤلفين العرب من الرائع طه حسين إلى النهر الذي ال ينضب
ستسمح لي أن أحدد ،فيما بعد ،على نحو أوضح العنصر اإلنساني
سفراوي والقائمة ال تنتهي .جنسية الكاتب ال تهمني؛ إذ إنني
الطلبة (المشوار ،تلمسان) عبارة عن حصن قروسطي بحيطانها
له داخل قلبي وداخل روحي.
بواسطة نظامها الصارم ،داخل القسوة وطول البال .وهي التي
الذي سيشكل لي عظيم الفائدة ،في صيرورتي كاتبًا .كانت مدرسة
نجيب محفوظ مرورًا بالجزائري مالك حداد والمغربي أحمد
عندما أقرأ فإنني أحلم وأعيد بناء نفسي .كل السخاء يجد صدى
139
فضاءات
ذئب ليس له سوى عواء الموت .. مقاربات لسيرة الشاعر محمد حسين هيثم محمد عبدالوهاب الشيباني
140
شاعر وكاتب يمني
أعوام عشرة انقضت على رحيل واحد من أبرز أسماء الشعرية اليمنية الحديثة ،ومن ً وعمقا .فصاحب «اكتماالت سين» و«الحصان» و«مائدة مثقلة بالنسيان» و«رجل أكثرها تأثيرًا ذو قبعة ووحيد» و«رجل كثير» و«استدراكات الحفلة» و«على بعد ذئب» لم يزل حضوره الشعري باهيًا ،وتأثيره واضحً ا على التجارب الشعرية الشابة ،التي انحازت لصوت الحداثة؛ ألن هذه التجربة بثرائها وخصوصيتها األسلوبية والجمالية أغرت ،ولم تزل ،الكثيرين لالقتراب ً ً وفحصا وتأثرًا؛ ألنها لم تتخشب لغة ،أو تشيخ أسلو ًبا ،بل ظلت تتجدد ،وكان قراءة منها سريان الزمن في حياة الشاعر ،الذي مات وهو في أوج عطائه ،كان لمد شاعريته بالتجدد الالفت ،الذي يشير إليه التصاعد الجمالي في بناء النصوص وموضوعاتها ،وبلغة مقتصدة متخلصة من الغنائية الفارطة والتقريرية.
العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
تجربة محمد حسين هيثم (عدن نوفمبر 1958م -صنعاء مارس 2007م) تحيل الدارس وترشده ً أيضا إلى تجربته النقابية
الثقافي ،فعمل على إعادة ترتيب وضع مجلة االتحاد المركزية «الحكمة» ونقلها إلى صنعاء حيث رأس تحريرها ابتداء من
في مؤسسة ذات صلة بشأن الكتابة ومقترباتها ،وأعني هنا
عام 1998م ،إذ انتظمت في الصدور بعد تعثرات طويلة ،ومع
2005م) ،حين كرس معظم اهتمامه لطباعة كتب أعضاء االتحاد
صدرت باسمها.
شغره موقع أمين عام اتحاد األدباء والكتاب اليمنيين (-2001
ومنتسبيه ،في تجربة لم يشهدها االتحاد قبل فترته تلك أو حتى بعدها .إضافة إلى تنظيمه لمهرجانين لألدب اليمني
بإمكانيات شحيحة تقريبًا ،وكان رهانه على إسهامات الباحثين الشبان وطرقهم لموضوعات األدب اليمني (شع ًرا وسردًا ً وفنونا شعبية) ،في مساحات غير مكبلة بالمحاذير ونقدً ا
ُّ ترؤسه والممنوعات ،التي تفرضها المهرجانات الرسمية.
اللجنة التحضيرية لـ«ملتقى صنعاء األول للشعراء الشبان ً عاصمة العرب» الذي استضافته صنعاء في عام اختيارها للثقافة العربية (إبريل 2004م) ،كتجربة
إعادة إصدارها تبني سلسلة مطبوعات لقصاصين وشعراء هذا هيثم (الشاعر -السيرة) الذى رأى القصيدة «ابنة
للمجازفة ،وربيبة المحاولة» .أما الشاعر الحقيقي عنده هو
مشروع داخل «المحاولة الدؤوبة للمغايرة» ورؤيته هذه هي
استخالص نابه لحالته كشاعر ،ظل حتى آخر أيامه يجازف بدأب لكتابة قصائده المختلفة.
٭٭٭
جيل السبعينيات يعد المفصل األهم في الحداثة
الشعرية في اليمن ،وأصبحت تاليًا تجارب الكثير من رموزه، الذاكرة الحية للشعرية الجديدة في تشكالتها الضاجة؛ ألن المغامرات
رائدة كسرت رسمية المهرجانات ،التي
العديدة التي أقدم عليها عدد من
ظلت تروج لألسماء الكبيرة الالمعة في ً إضافة سماء الكتابة ونجوميتها ،مَ َّث َل
األسماء المحسوبة على هذا الجيل،
الجديدة وتجاربها الشابة ،وكان هيثم
الشعري المحافظ ،وخلخلة ثباته
قامت على االنتهاكات الواعية للشكل
إلسهامات هيثم في التعريف بالقصيدة يرى في الصوت التسعيني الشعري، الذي عبر عنه بوضوح هذا الملتقى «مرآة
حقيقية لكل الهزات الكبرى التي شهدها
لصالح أشكال أكثر حداثة ،بدأت
محمد حسين هيثم
تفرض نفسها بقوة داخل المدونة
الشعرية العربية المعاصرة .أما العقد
العقد األخير من العقد العشرين وما تاله ،بدءً ا من سقوط
الحاضن لهذا الجيل بأصواته المؤثرة أمثال« :عبدالرحمن
وانتهاء بالتحوالت الكونية التي تصنعها مخاضات العولمة
-عبدالرحمن إبراهيم -زكي بركات» ،فكان هو اآلخر الممر
األيديولوجيا مرورًا بخراب األوضاع العربية وتشظياتها، وانقالبات الحياة اإلنسانية بشكل عام».
وقبل هذا يمكن معاينة محطة أخرى ،لها عالقة بالسيرة
الثقافية لهيثم ،بوصفها رافدً ا ع َّزز تجربته الشعرية ،وأعني اشتغاله بالصحافة الثقافية الذي بدأ باك ًرا وتحديدً ا منذ
كان طالبًا في قسم الفلسفة في كلية التربية بمدينة عدن،
فخري -عبدالودود سيف -حسن اللوزي -عبدالله قاضي الواسع للخطوات األولى لتجارب العديد من الشعراء الشبان ً الحقا على جيل الثمانينيات آنذاك ،الذين سيحسبون الشعري ،ومنهم محمد حسين هيثم الذي «تقدم زمالءه كلهم في تكريس صوت مميز ضمن تجربة كتابة «قصيدة
النثر» ً نوعا وكمًّ ا فقد ضم ديوانه مطلع الثمانينيات تجارب
وبعد تخرجه ،حيث عمل محررًا ثقافيًّا في صحيفة «الثوري»
ناضجة في قصيدة النثر التي تقوم على التكثيف والقصر،
لإلقامة في صنعاء بعيد أحداث يناير 1986م الدامية في ً باحثا في مركز جنوب اليمن .وفي عام 1992م ،بعد أن صار
ورسم الشخصيات «كما ذهب إلى ذلك الناقد حاتم الصكر.
أما جيل التسعينيات ،الذي سلط على أصواته المتعددة
مجلة ثقافية صدرت في صنعاء في سنوات الوحدة األولى.
ألنه سعى وبقوة للتخلص من جملة التراكمات التي أثقله بها
آنذاك طيلة النصف األول من عقد الثمانينيات ،قبل أن ينتقل
الدراسات والبحوث اليمني ،ترأس تحرير مجلة «أصوات» أبرز ومنذ المؤتمر الخامس التحاد األدباء والكتاب اليمنيين الذي احتضنته صنعاء ،عشية حرب صيف 94تولى موقع األمين
واستضاف آليات السرد كالحوار والتسميات وتثبيت األمكنة
واستشكاالته القوية الكثير من الضوء من داخله ومن خارجه؛
جيالن شعريان سابقان عليه ،فسعى إلى التعبير عن حضوره بمغامرات عدة ،منها الكتابة بدون مسبقات مرجعية وأبوية
141
فضاءات
وبعيدً ا من الفتات المشاريع الكبرى ،والطفح األيديولوجي
الذي ظهر جليًّا في غنائيات الشعراء المحسوبين على العقدين السابقين له .ومن هنا يمكن القول :إن تجربة هيثم في الكتابة
الشعرية هي واحدة من الشواهد الواضحة على ثالثة أجيال
شعرية تعايشت معها ،وعبرت عن اتجاهاتها الفنية ،بل ُ وقدمت في محطات مختلفة كتعبير ناضج ألساتذة الشاعر من السبعينيين ،ومجايليه من الثمانينيين وتالمذته من الشعراء التسعينيين في اليمن.
األفكار تباعدً ا في المنطق وتقريبها إلى مساحة مقبولة في
وقد تنبه الدارسون باك ًرا للصوت الذي حمله محمد
لطرح مثل هذا سينبني على التساؤل التجانس الفني .التمثيل ٍ
وجنوبها ،وشجعهم على ذلك خصائص عديدة عبر عنها هذا
جوائز األوسكار ،حال ظهوره قبل سنوات ،وأعني فلم «إنقاذ
هيثم منذ بداياته الباكرة في خارطة الكتابة في شمال البالد الصوت الذي بدأ يتلمس حضوره من اللحظة الغنائية العالية التي كان يقترحها جيل الثمانينيات الشعري ،لكنه في اللحظة
ذاتها انتقل بالنص إلى مساحات جديدة من التجريب داخل الشكل ذي المنزع المتمرد .االحتضانات الباكرة لهذا الصوت
ورعايته من شاعرين عربيين مهمين أقاما في مدينة «عدن»
142
تجربة صاحب «اكتماالت سين» واستدراكات الحفلة ،الذي مات وهو في أوج عطائه ،بخصوصيتها األسلوبية وجمالياتها أغرت ،ولم تزل ،الكثيرين وتأثرا وفحصا لالقتراب منها قراءةً ً ً
اآلتي :ما الذي سيجمع بين فلم أميركي باذخ حصد العديد من الجندي رايان» وبين السنوات األربعين التي يرثيها الشاعر، حتى إن قدمها بطرائق «التمويه» التي يقترحها العنوان،
وبين «االستعادات» المُ ّرة لجيش القتلة وهم يتقاطرون من حروبهم الالمرئية في عتمة «النوستالجيا».؟! الذي سيجمع
بين هذه االنفالتات هو عنوان جامع اسمه «حروب دائخة» ُّ تكشفات هذا النص تمنح القارئ مساحات متعددة
مطلع ثمانينيات القرن الماضي وأعني «سعدي يوسف» و«جيلي عبدالرحمن» لعبت دورًا فاعلاً في توجيه هذه الطاقة
لإلسقاط القرائي ،إحداها ما يتصل بمقتربات السيرة التي أراد
٭٭٭
«كل صباح» ،وما لحق به من فعل االستمرار الذي ينجزه
نحو المغايرة منذ البداية.
الشاعر وضعها في عتبة التلقي ،التي تبدأ مع استخدام ملفوظ
في مجموعته الشعرية األولى ،وحملت عنوان «اكتماالت
الشاعر بالتكرار ذاته .سيرة ال تنبني على الحادثة وتموضعها
األولى ،وبكل ما وقع من تأثيرات في صوته الخاص .فسنوات
ً التماعا للكتابة ،والقادرة على استحضار سيرة المكتوب عنه
سين» (1983م) سيجد الدارس أنها قدمت صاحبها في تشكالته السبعينيات كمرحلة شعرية ضاجة ستظهر في المجموعة، حاملة بما تماهى مع مزاجها وموضوعاتها .فالنص الذي حملت المجموعة األولى للشاعر عنوانه وهو «اكتماالت
سين» ًّ نصا صاخبًا عكس دالة الثمانينيين اليمنيين على األقل
في اشتغاالتهم على المرموزات التاريخية ،والتماهي مع سير شخصيات وأماكن ورموز فاعلة في تاريخ اليمن .على
نحو «علي ابن الفضل» و«منصور اليمن» (ابن حوشب) ومن
األماكن مأرب ،ومن الرموز إله اليمانيين القدماء «سين». سيجد الدارس لهذه المجموعة أفكارًا كبرى وجهت شعراء
تلك الفترة ،ومنهم هيثم ،لمقاربة موضوعات رُؤيوية بأساليب المغامرات النصية ،التي اقترحتها فضاءات الكتابة المفتوحة
على أفق الشعار األيديولوجي ودواله.
أما في مجموعة «استدراكات الحفلة» ،وهي المجموعة
األخيرة التي صدرت في حياته عام (2002م) ستكون تجربة
الشاعر قد وصلت إلى نضجها الفني وال ُّرؤيوي ،مقدمة الشكل الفاعل في الخطاب والقادر على إيجاد صيغ حلولية بين أكثر العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
في سياق الحكاية المشاعة ،بل ستتحرك في المساحة األكثر بوصفه مجموعة من المرموزات الفاعلة لسيرة أي شخص بما
فيها األم ،التي تتحول إلى متراس بدوّ ،لمجرد أنها تستعيد ً مهترئا. من بين الركامات حبلاً سريًّا
وفي مجموعته الشعرية األخيرة التي صدرت بعد وفاته
مباشرة (2007م) وحملت عنوان «على بعد ذئب» أرادها أن تكون تنويعً ا راقيًا ألسلوبيات الكتابة التي اعتمدها في مسيرته
التي امتدت لثالثة عقود .فالوزنية المتخلصة من المفردات الالشعرية السائبة والزائدة ،حضرت إلى جانب النصوص
الالوزنية المنفتحة على أفق األفكار الممسكة بأحجار الحكمة،
وتقطي ًرا لتجربة الحياة بكل أنوائها التي قد تكثفت في نهاية المطاف على هيئة ذئب في الطريق الموحش ...ذئب ليس له
سوى عواء الموت أو مخالب الجحود اللذين تربصا به قبل أن تطأ قدمه عتبة الخمسين .إنها التجربة المميزة األكثر اكتمالاً
في المدونة الشعرية اليمنية المعاصرة ،التي هي بحاجة ً عمقا ،بعيدً ا من انفعاالت الذكرى إلى مقاربات نقدية أكثر وسيالن العاطفة.
نصوص
اعتراف متأخر ممدوح عبدالستار
قاص مصري
ً ْ فنثرت مريضا ومالزمً ا للفراش .الفراش مكان يعلو عن األرض قليلاً ،وخامته من طين معجون بالتبن .ظل أبي هكذا مدة؛ كان أبي خاو من األمل .لم أدخل دارنا هذا اليوم ،فقد ُ ْ بحثت عني كنت مشغولاً باللعب ،وأهيّج البط ،واإلوز. وجرابها استغاثة، صرخة جدتي فوقنا ٍ ً ُ ومشيت خلفها ،حاملاً اإلوزة كما أمرتني .تنظرني واإلوزة ماسكا إوزة كبيرة في حوش الجيران؛ فتحسستها، جدتي كثيرًا؛ حتى لمحتني بالتناوب ،ودخلنا الدار: -امسك هذه الزلطة.
فمسكتها:
-اخبط اإلوزة على رأسها.
ْ ْ ْ ْ وقالت: ورفعت إصبعها المائر في عيني، ونظفت ريشها األبيض ،والماء يغلي فوق الموقد، وهرعت جدتي إلى السكين الصدئة، فضربتها، -ال تخرج بالريش األبيض أمام الدار.
ْ ُ ْ ْ إلي ،وعروقها ومسكت ريش اإلوزة ،وما وزوز عندنا ،وال بقبق من ذي قبل. استغربت جدة بنت الجيران، فخرجت ،ورميته أمام الدار. سارت ّ ْ ُ ْ استقرت أمام الموقد ،وجدتي تنفخ في النار .تعكر دخلت ورائي ،ولم تستأذن ،وباحة الدار خالية ،ثم فهرولت إلى حضن جدتي، منفوخة؛ ْ ً بعيدا ،وقالت الجدة لجدتي: وانزوت وجه أمي، لاً -إن خطبت؛ اخطب قمرًا ،وإن سرقت؛ اسرق جم .
ْ قالت جدتي ،وهي تحتضن الجدة :لحقتها قبل أن تفطس. ْ ْ ْ واطمأنت فهدأت ،ودخلت ألبي، وأمسكت الحجر المغموس بدم اإلوزة، وأومأت ألمي لتصدق على كالمها ،وجرتني جدتي من شعري، ِ
ً بعيدا ،ثم ُ ُ نمت مرعوبًا هذه الليلة. جلست وجلست الجدتان تتذكران أيامهما معً ا. عليه، ِ
ّ ُ وهبطت شارعنا مبكرًا ج ًّدا ،وفرحة المالبس علي ،وحضنني ،ثم قبلني ،وابتسم، في أحد األعياد ،جاد أبي في سخائه، وسلم ّ بنطلونا قصيرًا ،وكانت ورقة مالية قد ّ ً أطل ْت البسا الجديدة ظاهرة في تورد وجهي الممصوص والشاحب .كان هشام ابن األبلة فتحيةً ،
ُ ُ ُ ُ سمعت صوت األبلة فتحية ،حتى ولذت بالفرار .وما إن فتزحزحت حتى تالمسنا ،وسحبتها خلسة، فأدركت أنها تناديني، لتشاهد المارين؛
ُ وجلست بجواره .لبس أبي الحذاء ،ووضع الورقة المالية في جيبه ،ونظرني نظرة ال أعرف معناها أخفيت الورقة المالية في حذاء أبي،
ُ ُ ُ وبكيت، فارتجفت، وكنت قد تخيلته كلبًا ،أو حمارًا؛ اجتمعت البلدة على قلب ولسان رجل واحد (حرامي)، حتى اآلن .بعدها بأيام، ِ ُ ُ فعرفت أنه كان فنمت مرعوبًا ،وسريعً ا على غير عادتي ،وهزني في نومي، وحملتني أمي فرأيته مكبلاً ،ورفع بصره ناحية أمي يخصني بنظرته. َ ّ الذكريات شحيحة ،واأليام تم ّر بالتذكر الموجع ،واألشياء المفرحة ال نستطيع لملمتها ،أو تذكرها ،حتى ك ِبرنا بالشحّ
نحس. دون أن ّ ونظرت يمنة ويسرة ،ووجدتني ً ُ ُ ُ واقفا وحدي تحت شجرة وحيدة، ونسيت نفسي في التجوال، سرت في بطن المدينة،
ُ فسارعت بالوقوف أمام بائعي الجرائد بمحطة القطار .قبل أن أبدأ خطوات الصعود لركوب كما هي عادتي .هدني التعب، ُ ُ ُ فوضعت كتابًا في حقيبتي لمحت الثمن ،وتوافد المشترون، لمحت كتابين ،وأنا في أش ّد الحاجة إليهما. قطار عودتي؛ ُ ُ ُ ُ أعطيت بائع الجرائد نقو ًدا، وانكمشت. واكتفيت بالفرجة، شمرت أكمامي للمساعدة، خلسة .جلبة ،وضوضاء( ،حرامي)، ّ فتذك ُ ُ رت اإلوزة ومضيت خلسة ،ثم جلبة وضوضاء مرة أخرى( ،حرامي)، رأى ثمن الكتاب الذي بيدي ،وأعطاني الباقي،
ُ ُ ْ ونظرت حولي؛ فلم أجد شي ًئا، وانكمشت على نفسي، توقفت أنفاسي، وجدتي ،ووالدي والورقة المالية في أحد األعياد. ُ ُ ُ ُ ُ قررت أال أقف ثانية أمام بائعي تراجعت ،لكنني وتحمست لفكرتي. وقررت العودة لبائع الجرائد، ووقفت ،أتحسس جيبي، الجرائد ،وربما أعود إليه؛ حينما أمسك راتبي نهاية هذا الشهر.
143
فضاءات
القلم..
في عصر الصف الضوئي والرسائل الخلوية أداة التدوين األولى تخوض معركة البقاء أمام تسارع طفرة األتمتة والثورة التقنية
محمد محمد إبراهيم
كاتب يمني
حالة من الصدمة الذهنيةّ ، تذكر ْ َت أن آخر قلم في ٍ ْ رأت ُه كان قبل شهرين ..كان ذلك عندما طلبت منها صديقتها ِّ لتوقع على ورقة مالية ..فأجابتها :على الفور ..لكنها قلمً ا؛
144
حين فتحت حقيبة الكمبيوتر وجدت كل شيء إال القلم.. لتفتش وصديقتها المنزل -المليء باإللكترونيات -للبحث عن قلم ،في المكتب ،والمطبخ واألدراج ،وغرف النوم، وحتى في السيارة ،ولكن دون جدوى ،فقررت أنها تنعي حياة القلم في عصر الكمبيوتر ...هذه القصة ليست من مقال حزين تحت قبيل المبالغة ،فقد ورد فحواها في ٍ عنوان« :مات القلم» للكاتبة والصحفية األميركية إيلين واينستين في صحيفة «نيويورك تايمز» في يوليو 2014م.
العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
من منا لم يصادفه نفس هذا الحدث! مع فارق سبب غياب
القلم الذي بات هامشيًّا في حياتنا المشغولة ح ّد التشويش
بما حولنا وبما في أناملنا من عصف الرسائل الخلوية والصف
والضوئي .لكن هل هذا كافيًا ألن يغادر القلم قائمة أدوات تواصلنا
وتبادل أفكارنا وتدوين يومياتنا؟! قبل اإلجابة عن هذا السؤال في ً مكانة ،وتطورًا هذا العمل الصحفي سنع ّرج على مفردة القلم صناعيًّا وباختزال يغني عن التفاصيل الكثيرة التي ال يتسع لها هذا المقام.
عبر هواة وعشاق الكتابة -الذين صار ّ
القلم جزءًا من إلهام أفكارهم -عن
مخاوفهم ،من تالشي دور القلم ،في طفرة الكتابة الرقمية التي بدأت في منتصف القرن الماضي خاصة بها ،وميَّز كل صانع أو منتج أقالمه الرصاصية -المصنوعة
«القلم» ..أداة التدوين األولى والقاسم المشترك األسمى
من خشب الصنوبر أو األرز الشرقي األحمر في والية «تينيس»
المدارك المعرفية لطفولتنا في المدرسة فحسب ،بل الرتباطه
عن غيره .وفي مطلع القرن العشرين ،ظهرت األقالم الملوّنة،
ً مكانة في الثقافات اإلنسانية المختلفة ،ليس ألنه ارتبط بفك األزلي بتنوير األجيال التي تعاقبت على م ّر الحياة البشرية،
ليصير القلم بناء على هذا المعطى نبراس الذاكرة ،وميالد تاريخ
واألجزاء األخرى بجنوب شرق الواليات المتحدة -بألوان تميزه ()4
وعودها مصنوع من أصباغ ،ممزوجة بالصلصال ،واألصماغ. قصة التحول الكبير
التدوين ،وما لم يدونه القلم كان يسمى بـ«ما قبل التاريخ» .غير أن نزول القرآن باللغة العربية وانتشار اإلسالم وتأسيس دولته ّ شكل
«في أحد أيام 1884م كان أحد عمالئه يتأهب للتوقيع على
والمسلمين؛ ليكونوا هم أصحاب الريادة األولى في ال ُبعْ د النظري
من ريشة ومحبرة سهلة الحمل -أغرق طوفان المداد الوثيقة،
نقطة التحول المحورية باتجاه تطور صناعة األقالم عند العرب
والتجريبي الختزال أدوات المقلمة التي كانت تتألف من تفاصيل كثيرة جدًّا إذا تعطلت أو تغيبت واحدة من هذه األدوات تعثرت
وظيفة الكاتب .ورغم سباق الخلفاء والوالة على صنعة هذه األقالم المختزلة لفسيفساء المقلمة ،إلاّ أن المحبرة والريشة والقلم المصنوع من القصب وآلية الغمر في المحبرة ظلت زم ًنا طويل(.)1 دوافع التطوير
طلب عقد تأمين ذي قيمة كبيرة .ولحظة التماسه مقلمته -المكونة مغضبًا العميل ،الذي أحال الصفقة إلى وكيل منافس ،ليترك
كبائع رجل األعمال األميركي «لويس أديسون ووترمان» ،مهنته ٍ لعقود التأمين ،متجهًا الستخدام مواهبه الطبيعية الميكانيكية في اختراع قلم حبر عملي يستطيع توزيع المداد في انسياب
مستمر ،ومنفذ ضابط لسيل الحبر ،يحركه الكاتب ويوقفه حسب حاجته .ولكي يضمن ووترمان ً فيضا منتظمً ا من الحبر، استخدم الخاصية الشعرية ،وهي خاصية السوائل الطبيعية في
لعل أبرز دوافع مساعي التطوير الحرفي والصناعي لوسيلة
االنسياب إلى أعلى في األنابيب الضيقة ضد الجاذبية األرضية،
أدوات الريشة والمحبرة واللوح الخشبي والدواة ،صعبة بالنسبة ً باحثا عن وسيلة كتابية تكون لهم؛ لذا ظل العقل اإلنساني
أقالم الحبر حتى اليوم ،وفي عام 1888م سجل األميركي «جون
الكتابة «القلم» هو تعليم الصغار للقراءة والكتابة؛ إذ كانت
خفيفة على الطفل ويكون أثرها المكتوب قابل للكشط على
غرار األصابع الطباشيرية أو الفحمية .فكان اكتشاف الغرافيت
عام 1500م ،ب ــ(إنجلترا) هو بداية التفكير باستخدام هذه المادة المشابهة للرصاص في تعليم الصغار الكتابة( )2بما يسمى قلم
الرصاص الذي بدأ إنتاجه في ألمانيا عام 1662م .وفي عام 1795م
لتبقى نظرية ضبط المداد بالخاصية الشعرية تستخدم في كل ()5
الود» براءة اختراع قلم الحبر الجاف ذي السن الكروي بنمطه الجديد ،ليصل هذا النوع إلى أوج الشهرة في عام 1945م ،غير أن األمور انقلبت رأسً ا على عقب ،حين انخفض ثمن هذا النوع من األقالم من خمسة عشر دوالرًا إلى خمسة عشر سن ًتا نظ ًرا لما كان يحدثه القلم من بقع حبرية في الورق .وفي عام 1949م ()6
اكتشف المجري «فران سيخ» التركيب السري الذي فك به أزمة
اكتشف «نيكوالس جاك» طريقة لخلط مسحوق الغرافيت مع الطمي ،وتشكيل هذا الخليط في شكل أعواد ُتح َرق في فرن
«باتريك فراولي» -من سان فرانسسكو -تمكن من اختراع حبر
درجة صالبة األعواد .وفي عام 1812م صنع النجار األميركي «ويليام
البقع ،ليتجه التطوير الصناعي نحو التفنن في شكل القلم بما
حراري «أتون» وباختالف نسب خلط الغرافيت إلى الطمي تختلف
مونرو» من «كونكورد» بوالية «ماساشوستس» أول قلم رصاص
خشبي أميركي ،وفي عام 1858م حصل «هايمن ليبمان» على أول براءة اختراع ،بإضافته ممحاة إلى طرف القلم( .)3وفي عام 1890م
أعطى صانعو أقالم الرصاص منتجاتهم أسماء وعالمات تجارية
قلم الحبر الجاف ،ولمع اسمه بعد ذلك االختراع ،إال أن الشاب يسمى «سيخ الجديد» ليمد به قلم الحبر الجاف منهيًا مشكلة يوافق ثقافة الكتابة ،حيث استشعرت الشركات المصنعة لسباق الثراء والتفاخر بالقلم كرمز للكتابة والتنوير والشهرة ،لتتنافس في مضمار صناعة األقالم الفاخرة والثمينة المرصعة بالذهب
والفضة ،واألحجار الكريمة(.)7
145
فضاءات
طالئع العصر التقني
في عام 1889م دوّن الكاتب القانوني السيّد «واريل»
مالحظات عدة بشأن مستقبل القلم قال في إحداها« :تسود إشاعات كثيرة في السنة الحالية تفيد بأن آلة تدعى «اآللة الكاتبة» ّ تحل مكان الناسخ .وقد رأيتها تعمل بنفسي ،والشخص الذي سَ
146
يطبع عليها سيدة أخبرتني أنها تستطيع طباعة 40صفحة في
واآلالت الكاتبة وطرق معالجة الكلمات إلكترونيًّا والحواسب اآللية التي تستطيع من خالل لمس أحد مفاتيحها أن تنتج ()2000
حرف مطبوع في الساعة الواحدة؟ يبدو أن الفاعلية المتزايدة لألشكال الميكانيكية من االتصاالت ستقلص الحاجة الماسّ ة إلى
الكتابة السريعة (الخربشة) التي نقوم بها اليوم ،فنحن لم نعد نتحدث بالحرف الواحد كما كان يفعل أسالفنا األوائل ،لكننا
جميعً ا نشعر بأداة الكتابة ،وبنوع اإلشارة التي تصنعها هذه
ساعة واحدة فقط» ويعلق مؤلف كتاب تاريخ الكتابة الرسام البريطاني دونالد جاكسون الذي أورد هذه المالحظات ،متسائلاً
األداة وأثرها في سلوكنا من حيث آلية الكتابة نفسها .أما «ألفرد
طوال اليوم :ماذا سيقول السيد «واريل» بوجود أجهزة الهاتف
حركيًّا يقتضي اللمس» ،وفي الحقيقة إن اإلحساس بالقلم
عن الزحف األهم الذي اجتاح مساحة وخارطة الحاجة إلى القلم
فيربانك» فقال في هذا الشأن :إن الكتابة باليد كانت «نظامً ا
القلم ومعركة البقاء بالعودة إلى القصة المختصرة -في مقدمة هذه التناولة الصحفية -التي نعت فيها الكاتبة األميركية «إيلين واينستين» حياة القلم في
عصر الكمبيوتر .لكن تلك القصة بما حملته من نعي حزين ،اشتملت على داللة ضمنية لم نشر لها في المقدمة .وهي أن مجريات بحث
الصديقتين عن القلم بتلك الطريقة ،عكست مؤش ًرا قويًّا على أهمية الحاجة للقلم ،لتؤكد أن طفرة الكتابة الضوئية والرقمية ،وبلوغ ثورة األتمتة داخل غرف النوم ،وانبالج تقنية الرسائل المكتوبة خلويًّا ،وغيرها من العوامل لم تنه حضور القلم في قلب العصر ،بل ّ ظل وسيبقى ً محافظا على مكانته في ثقافة العامة والخاصة والنخبة كرمز ثقافي إنساني .وفي متربعً ا على عرش الذاكرة كذبال معرفي ال ينطفئ،
هذا المضمار يؤكد الشاعر األميركي «روبرت كاندل» ،أحد رواد القصيدة الرقمية في الواليات المتحدة ،أنّ الكتابة ليست سوى ضرب من التقنية ،متسائلاً –في نظريته حول كتابة الشعر إلكترونيًّا -عن أي االتجاهات سوف تتحوّل تقنيات الكتابة الحديثة في مجاراة عصر اإلعالم الرقمي؟ وهل ستنتقل أدوات الكتابة اإلبداعية ،نتيجة لهذا التحوّل في حال وقوعه ،من عوالم الحبر إلى إحداثيات «النقاط الضوئية» ّ محققة نقلتها النوعية من طواعية القلم إلى غواية الحرف اإللكتروني على الشاشة؟
وأكد كاندل بناء على تلك التساؤالت أن فعل الكتابة اإللكترونية لن يلغي أصالة الخط على الورق وخصوصية الكتابة بالقلم( )10وهذا
الحكم الثقافي ،يؤكد أن الحداثة والتطور الصناعي والتقني والكهروضوئي في أدوات الكتابة مثل اآلالت الكاتبة ال يلغيان القلم بل سيظل جزءًا من هوية اإلنسان وذاكرته وإكسسواره المعرفي .وتب َّنى رجل األعمال األميركي «بيك» ،أحد صانعي األقالم األسطورية تحت عنوان:
«قاتل من أجل كتابتك» .وأكدت «بام ألين» خبيرة محو األمية والناطقة بلسان الحملة ،أن الكتابة بالقلم تساعد الطفل على تنمية حس
العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
القلم ..في عصر الصف الضوئي والرسائل الخلوية
بلوغ ثورة األتمتة داخل غرف النوم ،وانبالج تقنية خلويا ،وغيرهما من العوامل لم الرسائل المكتوبة ًّ ظل وسيبقى ُتنهِ حضور القلم في قلب العصر ،بل ّ
متربعا على عرش الذاكرة كذبال معرفي ال ينطفئ ً
واإلحساس بالورقة وسيالن الحبر تؤثر جميعً ا على الطريقة التي نعبر فيها عن مشاعرنا وأفكارنا(.)8
هكذا عبّر هواة وعشاق الكتابة -الذين صار القلم جزءً ا
من إلهام أفكارهم -عن مخاوفهم ،من تالشي دور القلم ،في طفرة الكتابة الرقمية التي بدأت في منتصف القرن الماضي. عال من ثقافة الكتابة لكن مجيء هذا التطور وسط مستوى ٍ
بالقلم ،دفع مصنعي األقالم إلى مجاراة األتمتة ليأخذ القلم ً تعريفا أجد ،حيث ظهر القلم اإللكتروني ،الذي يستخدم في الكتابة كأي قلم عاديّ ولكن عندما تقوم بكتابة الكلمات َّ فإنه يقوم أوتوماتيكيًّا بتسجيل الشرح وتخزين ملفات صوتية
داخله ،وعند االنتهاء من الكتابة يمكنك االستماع إلى ما قمت بكتابته بالصوت ..وفي العقدين الماضيين ظهر القلم
الرقمي الخاص بالهواتف الخلوية حيث ركز هذا االختراع على أن تكون األقالم أكثر دقة فتساعد على الرسم والكتابة ،غير أن تقنية اللمس أنهت جميع األقالم اإللكترونية ،وفي نفس الوقت ّ قل َ صت كثي ًرا الحاجة اليومية للقلم العادي إلى أدنى
مستوياتها(.)9
هوامش:
)1تقدم العرب في العلوم والصناعات ..صـ .214 )2مجلة القافلة –القلم -ملف خاص ،د .فكتور سحاب -العدد ( )6المجلد ( ،)63نوفمبر/ديسمبر 2014م ،صـ.94 )3المصدر نفسه ( )4صــ.96 )4موقع مكتبي اإللكتروني .بوابات كنانة أونالين – الموضوع :تاريخ القلم الرصاص .الرابط: http://kenanaonline.com/users/ Almarakby/posts/298487 )5امسك أدواتك وانطلق لتتعلم ،مقال مطول: الرابط : h t t p : // w w w. m e x a t . c o m / v b / showthread.php?t=409379 )6المصدر نفسه. )7المصدر نفسه. )8المصدر نفسه ،ص.25 )9منتديات ستار تايمز -أثر التكنولوجيا المعاصرة على القيم الجمالية ،د .إياد محمّد الصقرhttp://www.startimes. : com/?t=28666285 )10المصدر نفسه. )11المصدر نفسه ( )4ص.98 )12مقالة مطولة عن برنامج تحليل الشخصية عن طريق خط اليد للباحث جابر محمد بيومي، الرابط: http://saihat.net/vb/archive/index. php/t-5421.html
الهوية .وأجرت «مولر» -باحثة في قسم علم النفس في جامعة برنستون -دراسة الفتة ،عنوانها« :القلم أقوى من الكمبيوتر»(.)11
أما مجلة «علم وحياة» الفرنسية فنشرت تقري ًرا علميًّا تحت عنوان (ال! لم يمت) أكدت فيه أن النظام التربوي الفرنسي يتمسك –على ً تمسكا شديدًا بالورق والقلم في المدرسة ،مشيرة إلى أن العلماء أخضعوا ( )76طفلاً في سن الحضانة ،الختبار عكس النظام األميركي-
قدراتهم على القراءة والكتابة ،فصلوهم إلى فئتين ،األولى عليها أن تتعلم الحروف بكتابتها ،والثانية بطباعتها على لوحة الكمبيوتر .وبعد أربعة أسابيع ،اختبروا قدرة كل من الفئتين على القراءة .لقد تعرف األطفال على الحروف التي كتبوها باليد ،أفضل من الحروف التي طبعوها.
وهذه الدراسات تؤكد ديمومة الحاجة التعليمية أو حاجة التحصيل المعرفي للقلم .باإلضافة إلى ضرورات االستخدام اليومي في معان ودالالت تحتل وجدان اإلنسان .أو اإلمضاء الجانب المالي مثلاً لكتابة شيك ،واإلمضاء عليه أو إرسال بطاقة بريدية خطية لما لها من ٍ على معامالت العمل اإلداري والتجاري .ناهيك عن كون القلم صار بمنزلة البصمة الحديثة لكل شخص؛ إذ إن خط كل إنسان عبارة عن بصمة تحدد هويته ،مفضية إلى معرفة صاحب القلم ،كما يمكن للخط الكشف عن( :الفروق بين الجنسين ،والعمر ،والحالة النفسية ،والصحة العامة ،واألدوية والعقاقير ،والوراثة ،والمستوى التعليمي ،والبيئة ،والمناخ ،والوظيفة ،والموروث الشعبي ،والتطور التكنولوجي،
()12 َعني ومستويات ممارسة الكتابة .وهذه الحقيقة المالزمة لعالقة الشخصية بالقلم من الناحية السلوكية أثبتها ِعلم «الغرافولوجي» ،الم ّ بتحليل الشخصية من أشكال الخط ،ويعتمد كغيره من العلوم السلوكية على المالحظة .ويستند هذا العلم إلى حقيقة علمية تقول :إن ما
يكتب على الورق ليس اليد ،ولكن أعصاب اليد التي تأخذ أوامرها من المخ ،فما نراه على الورق هو حركة الجهاز العصبي التي تظهر بأشكال
محددة على الورق ،ومن هنا يبدأ في فك شفرة هذه األشكال ،ودالالتها من الناحية السلوكية واالنفعالية والتعبيرية لدى الشخص ،بمعنى أدق شرح «سمات الشخصية».
147
مقال
عزت القمحاوي روائي وكاتب مصري
محنة ثقافة اطمأنت للكسل.. ليس بالرواية وحدها تحيا الثقافات! ماذا لو قرر ناقد عربي أن يؤلف كتابًا حول األسلوب
المتأخر لعدد من ُ الك َّتاب والفنانين العرب مثلما فعل إدوارد سعيد مع ُك ّتاب وفنانين غربيين ،ليدلنا على من حافظ منهم
على عناده ،ومن احتفظ بجذوة الموهبة مشتعلة للنهاية، ً ومقلقا مثلما بدأ؟ مختتمً ا حياته ضد زمانه مشاغبًا
ستكون خدمة جليلة يؤديها ذاك الناقد للثقافة العربية،
148
وستكون رحلة مقلقة ومخيبة لآلمال دون شك؛ فقد عرفنا، خالل قرن ونيف من النهضة العربية الحديثة ،مفكرين كبارًا
تخلوا عن اإلزعاج في أخريات أيامهم؛ اعتذروا عن الشغب
ً الحقا في انهيار اإلبداع .وقد تفاقمت الظاهرة في السنوات األخيرة،
حيث تلمع أسماء وتحمل صفة «الكبير» تمضي بمتاعها الهزيل آمنة مثل بقرة الهندوسي ،ال توقفها بوابة الناشر وال بوابة الناقد وال معايير الجائزة األدبية!
يصل تواضع المستوى لدى الكثيرين ممن يتمتعون بدفء
صفة «الكبير» حد االفتقار إلى سالمة اللغة أسلوبًا ونحوًا وإمالءً،
لكن ذلك ال يقلقهم أو ينتقص من مكانتهم التي تظل محفوظة ً طوال حياتهم؛ يذودون عنها بالتودد والصداقة وبالشراسة أحيانا؛
فإن همُ ذهبت حيواتهم ذهب إبداعهم الرائج إلى النسيان ليفسحوا
الفكري الذي بدأوا به حيواتهم ،أو تراجعوا عنه دونما اعتذار،
الساحة لكبار آخرين ،ليسوا كبارًا إال بمعايير النقد المداهن والقارئ
العرب كتبوا أعمالهم المهمة في بواكير شبابهم ،ونالوا عنها
ولم تفقد ثقافتنا قدرتها على النقد بين يوم وليلة ،بل استغرق
بينما الظاهرة الالفتة في حقل اإلبداع أن معظم المبدعين
شهرة كبيرة ،ثم كفوا عن أن يكونوا كتابًا دون أن يتوقفوا عن إصدار الكتب .ربما لهذا يبدو الطيب صالح استثنا ًء نادرًا.
بعض أسباب التراجع الفكري ينبع من ذات المفكر، إعمالاً لمفهوم التوبة بالمعنى الديني ،وبعضها يكمن في
أسباب قاهرة تعرضت لها الثقافة العربية؛ بسبب التحوالت
السياسية بما صاحبها من ردة اجتماعية ،فلم يتركنا القرن
العشرون إال منهكين ثقافيًّا ،فاقدين قدرتنا على النقد ،فقرا َء في الفكر فقرًا كميًّا وكيفيًّا .في الجهة األخرى ،يبدو أن افتقاد الخوف من الكتابة السبب األساسي وراء انطفاء المبدعين.
ما أن يصبح الكاتب مشهورًا حتى يتخلى عن وظيفة الكاتب
المأخوذ بهالة الشهرة.
األمر النصف الثاني من القرن العشرين أو أغلب سنواته .وإذا تأملنا تاريخنا الثقافي ً جيدا سنجد أن المعارك األدبية الكبيرة تركزت في
النصف األول من القرن .ولم تزل الصحافة األدبية تستدعي معارك الرافعي والعقاد ،ومعارك األخير مع طه حسين ،وغيرها إلثارة فضول القراء وكسب اهتمامهم في حقبة التثاؤب التي قل فيها
الجدل ،وأشرعت فيها أبواب المجاملة على اتساعها. ٭٭٭
كانت الليبرالية العربية في مراكز إنتاج الثقافة (القاهرة، وبغداد ،ودمشق) خالل النصف األول من القرن العشرين منقوصةً بال أدنى شك ،لكنها أتاحت ً تنوعا فكريًّا وإبداعيًّا لم يزل ملهمً ا،
ويحترف الشهرة ،لم ينجُ من هذا المرض سوى قلة ،لهذا نبدو فقراء في الكيف اإلبداعي الذي يعاني ً كثرة كغثاء السيل،
يقع الحدث األسوأ في تاريخ الثقافة العربية ،وهو تحول الحكم
دون مساءالت جادة.
من طبيعة األنظمة العسكرية في كل مكان مجافاة الفكر ،بينما
ويكاد ينحصر في لون واحد من الكتابة هو الروايات التي تمر ٭٭٭
ً خصوصا) تراجع النقد (الفكر النقدي عمومً ا والنقد األدبي
جعل ثقافتنا مسالمة مستريحة للكذب؛ األمر الذي تسبب العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
ويمكننا أن نتخيل المدى الذي كان بوسعنا أن نصل إليه ،إذا لم إلى أنظمة عسكرية في المراكز الثالثة مع مطلع الخمسينيات.
يمكنها أن تسمح بالفن واألدب؛ ألنه ينطوي على إمكانيات االحتفال
باإلنجاز ،وإذا ما جنح للنقد فنقده مبطن ومحتمل .وقد نظر الحكام
الضباط إلى الفنانين والمفكرين والمبدعين المخضرمين بريبة؛ مثل
النظرة إلى «الطلقاء» الذين أسلموا بعد فتح مكة عندما لم يكن
من اإلسالم بد ،وكان ال بد من جيل جديد للعهد الجديد ،تطمئن السلطة لمساندته وتثبت من خالله أن االنقالب على الليبرالية قد أثمر ف ًّنا وأدبًا ولم يصب األوطان بالعقم. في مصر ،المركز األكبر ،كانت الموسيقا والغناء الفن األكثر
طواعية .سرعان ما لحن المخضرمون وغنوا للعهد الجديد ،وتعايشوا
إلى جوار نجومه الشباب ،وكذلك فعلت السينما التي أنتجت أفالمًا
تدين «العهد البائد» بينما ظل المخضرمون من المفكرين والمبدعين ً ارتباكا يكتبون على طريقتهم المثلى .منهم من أبدى توجسه أو توقف
ً وامتعاضا من التغيير ،مثلما فعل نجيب محفوظ الذي احتاج خمس سنوات من الصمت قبل أن يكتب رواية جديدة. ٭٭٭
لم تكن الثقافة من الهواجس الملحّ ة على النظام الجديد في
البداية .انشغل عبدالناصر معظم عقد الخمسينيات بالتغييرات السياسية واالجتماعية التي جلبت له شعبية جارفة ،لكن ذلك
العقد لم ينتهِ ،إال وقد أصبحت للثقافة وزارة في مصر .وبدأ الضبط والربط العسكريان يعرفان طريقهما إلى الثقافة ،التي ستفقد
تنوعها تدريجيًّا .كان المخضرمون يكتبون أعمالهم الفكرية على
الهامش ،بينما ال يكاد أبناء العصر الجديد يقاربون إال اإلبداع ،في
الشعر والقصة والمسرح والرواية ،وسرعان ما أخذ الشعر والقصة والمسرح في االنحسار ،حتى إذا دخلنا حقبة الثمانينيات لم نجد سوى الرواية مَ ل َِكة وحيدة على عرش الثقافة العربية .وال يمكن
أن نعزو معالجة المؤسسين من أمثال طه حسين ومحمد حسين
هيكل ومعروف الرصافي ألكثر من لون أدبي وبحثي إلى طبيعة عصر التأسيس أو إلى الحرية التي صبغته فحسب ،بل إلى موسوعية
تراجع النقد جعل ثقافتنا مسالمة مستريحة للكذب ،األمر الذي تسبب الحقً ا في انهيار اإلبداع .وقد تفاقمت الظاهرة في السنوات األخيرة ،حيث تلمع أسماء وتحمل صفة «الكبير» تمضي بمتاعها الهزيل آمنةً مثل بقرة الهندوسي ،ال توقفها بوابة الناشر وال بوابة الناقد وال معايير الجائزة األدبية!
الكتاب والمقال النقدي والجائزة ،بينما تنصرف الكثرة الكاثرة من
المواطنين عن القراءة ،وتستمر القلة تقرأ دون ُهدى ،أو ب َه ْد ٍي من
نقد قليل األمانة ،والطريف في األمر أن الناقد الذي أخرج العفريت، يبدأ في الخوف منه مثله مثل القارئ العادي ،فبعد أن َت َتعَ مْ َل َق
شهرة الكاتب ال يستطيع الناقد أن يفصح عن رأيه بعمل ذلك الكاتب إذا ما ُعرض أمامه في عملية تحكيم! ٭٭٭
اليسار مدين باعتذار للثقافة العربية؛ فهو الذي دشن
االسترخاء الفكري والمجامالت النقدية الفجة في جيل الستينيات.
الكثير من األعمال كانت تصدر بتمهيد نيراني كثيف من النقد
المنحاز ،بل كانت بعض الصحف تحمل مقاالت تبشيرية بأعمال قبل صدورها ،اطلع عليها الناقد مخطوطة ،بينما تنزوي أعمال
جيدة مع مبدعيها خلف سحابة الدخان المصاحبة لشهرة
المشاهير .ربما كان في تواري مبدع مجيد مثل عبدالحكيم قاسم مثالاً ً دامغا على االنحياز النقدي الذي استقر مع جيل
هؤالء الشعراء والكتاب ومتانة تكوينهم الثقافي ،وهذا لن نجده ً الحقا إال عند قلة من أبناء جيل ،كانت أعجوبته األساسية أن جُ َّل
الستينيات .مع ذلك الجيل استقرت ظاهرة انفصال الشهرة عن
التقى ضعف التكوين الفكري مع كفالة السلطة للثقافة.
الثمانينيات ازداد عدد الجوائز األدبية ،وانتقل ثقلها المادي من
رموزه لم يلتحقوا بالجامعة.
والسلطة بطبعها ال تحب الفكر .لكن الخسارة لن تقتصر على الفكر،
فسرعان ما سار األدب إلى الخمول.
لم يعد تمويل الكاتب والناشر يأتي من جيب القارئ ،بل من
جيب الدولة ،بمعنى آخر :من جيب المواطن سواء قرأ أو لم يقرأ.
وال تتعرض لجان النشر الحكومية للمؤاخذة عندما تنشر المستوى الهابط ما دام آم ًنا! جوائز األدب التي نشأت في المجتمع المدني
خالل النصف األول من القرن العشرين صارت جوائز الدولة ،يوزعها الع ْلم ،وال يمكن لجائزة أن تصيب ً مارقا مهما كان الزعيم في عيد ِ حجم إنجازه؛ ألن لجان التصويت -التي تضم موظفين غير مثقفين
ومثقفين كالموظفين -ستتكفل بالضبط والسيطرة.
صارت شهرة الكاتب ومكانته تمضي في دائرة مغلقة فيها
اإلجادة ،واستبسل المشاهير في الدفاع عن هاالتهم .ومع حلول
المراكز التقليدية إلى الخليج ،وظل التحكيم من المراكز ،خاضعً ا لتراتب الشهرة ذاته ،وظل مشاهير الستينيات يتسلمون الجوائز ً تباعا بالترتيب ،كأنها مكافأة نهاية خدمة! ومع الجيل ذاته استقرت الرواية معادلاً لـ«الكتابة» ولم َنعبُر
أبواب األلفية الثانية حتى كان االنفجار الكبير الذي لم يتشكل منه َكوْنٌ روائي وال حتى ُكويْكِب ،كل ما هنالك زيادة اإلقبال على مهنة ٌّ «المشهور» الذي يكتب روايات ضعيفة يستقبلها نقاد يخافون
المشاهير وقراء فاقدون للمناعة النقدية! ولإلنصاف ،لم ُ تخل الساحة تمامًا من الروايات الجيدة ،لكن أمة
تبتغي الحياة ال يمكن أن ينحسر فيها الفكر كل هذا االنحسار ،وال يمكن أن تميل كل هذا الميل إلى نوع إبداعي واحد.
149
آثار
أي غموض يكتنف تاريخ جدة القديم؟ حسن بن محمد فقيه
150
باحث سعودي في آثار ما قبل اإلسالم
الغموض الذي يكتنف تاريخ جدة القديم سببه قلة الباحثين وقلة األبحاث التي تتناول تاريخ جدة القديم ،وسبب ذلك أن معظم الباحثين التاريخيين ركزوا جهودهم على تاريخ مكة ما عدا بعض االجتهادات التي كتبت عن تاريخ جدة خالل الفترة الماضية القريبة. وجدة بموقعها الجغرافي بصفتها أولاً فرضة مكة أهم بقعة في العالم ليس بمجيء اإلسالم فحسب بل منذ فجر التاريخ ،وليس هناك أدل من قول الله تعالى﴿ :إِنَّ أَو َ ْت َّل َبي ٍ اس َل َّل ِذي بِب ََّك َة﴾ ما يعني أن مكة هي أقدم موقع مقدس في الكرة األرضية وبالنظر و ِ ُض َع لِل َّن ِ الرتباط جدة كثيرًا بمكة منذ استطاع اإلنسان ركوب عباب البحر ،ومنذ أن سكنت جُ ْر ُهم في وادي مكة ،ومنذ تأسيس مدينة يثرب على يد العماليق ،وثانيًا أنها تقع على طريق التجارة ً وثالثا أنها تملك ميناء مقابلاً ومُ واز ًيا لحضارة عريقة أخرى وهي بين اليمن والشام الساحلي، الحضارة الفرعونية الواقعة على الضفة الثانية للبحر األحمر ،وهذه المميزات التي أوردتها تجعل لجدة مكانة كبيرة ودورًا فعالاً في جميع مراحل التاريخ بما فيها عصور ما قبل التاريخ (أي ما قبل 3100ق.م) ،وما زالت كذلك إلى وقتنا الحاضر.
قلعة قديمة ومهجورة ذكرها ابن بطوطة
العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
وقد عثرت وكالة اآلثار والمتاحف في وادي فاطمة على بعض
األدوات الحجرية تعود إلى فترة العصر اآلشولي (100.000 – 250.000 سنة) ،وكذلك ُع ِثر على بعض األدوات الحجرية في بعض المواقع في طريق جدة -مكة تحديدًا تعود إلى فترة الحضارة الموستيرية (-100.000 25.000سنة) ،وبعض الرسومات الصخرية التي ُعثر عليها في أبحر. لذلك أود هنا أن أورد عددًا من الدالئل المؤكدة على أن االستيطان في
جدة ربما يمتد إلى العصر الحجري الحديث أي قبل 10.000سنة تقريبًا
من وقتنا الحاضر.
والدالئل كالتالي :الرسوم الصخرية
ُع ِثر على رسوم صخرية حيوانية في منطقة أبحر على أحد
الغموض الذي يكتنف تاريخ جدة القديم سببه قلة الباحثين وقلة األبحاث التي تتناول تاريخ جدة القديم ،وسبب ذلك أن معظم الباحثين التاريخيين ركزوا جهودهم على تاريخ مكة عبدالرحمن البشري وهو من سكان بلدة عسفان ومن منسوبي بلدية
عسفان ( طيبة حاليًا) وقمت بتصويرها .وعند البحث عن تاريخ هذه المباني وهل ُذكِرت في كتب التاريخ وجدت أن ابن بطوطة قد ذكر هذه المباني في رحلة حجه عام 723هـ ،وأن في عسفان حص ًنا ً عتيقا
التالل الصخرية بالقرب من خليج سلمان ،وقد قام محمد أبو زيد
وبرجً ا مشيدًا قد أوهنه الخراب ،فإذا كان الحصن المشيد الموجودة
المتحف ،وما زالت موجودة إلى حينه ،ولواله لطمستها المشاريع
يمت ّد عمرها إلى فترة سابقة لإلسالم؛ ألنه لو كانت هناك مدينة
مدير متحف قصر خزام بجدة بإنقاذ هذه الرسومات ،وقام بنقلها إلى
التي أقيمت في أبحر .والرسوم الصخرية كان يستخدمها اإلنسان
للتعبير عن جوانب حياته اليومية بالرسم في فترة العصور التي سبقت
معرفة اإلنسان الكتابة باألبجدية التي حددها علماء اآلثار بالنصف الثاني لأللف الرابع قبل الميالد ( 3100 -3800ق.م) وهي الفترة التي تعود لها أول كتابة أبجدية عرفها التاريخ وهي الكتابة السومرية أو التي تعرف لدى المؤرخين بالكتابة المسمارية التي اك ُتشفت في بالد ما بين
النهرين ،وهي كتابة على شكل يشبه المسامير .والرسوم الصخرية التي اك ُتشفت في الجزيرة العربية تؤرخ في األغلب إلى ما بين 9000 -7000 قبل الميالد ،وتدل على استئناس اإلنسان لهذه الحيوانات.
بقاياه اآلن قد أوهنه الخراب عام 723هـ فمن المحتمل أن هذه األبنية مسورة وعامرة في الفترة اإلسالمية لذكرت في كتب التاريخ اإلسالمي. األدوات الحجرية
قمت بمسوحات أثرية في عدة مواقع في مدينة جدة ،وعثرت
على فأس حجرية على قمة أحد الجبال المنخفضة االرتفاع في أم
السلم بالقرب من مبنى بلدية أم السلم التي أعتقد أنها تعود لفترة الحضارة الموستيرية بين 120.000و 40.000سنة ق.م تقريبًا ،وهذه
الحضارة نسبة إلى كهف في فرنسا يعرف باسم «موستييه» ويظهر
على الحجر ترسبات طينية تبدو أنها منذ فترة طويلة جدًّا.
كل ما أوردته يدل داللة واضحة على قدم االستيطان في جدة
النقوش والكتابات القديمة
ويعود على األرجح إلى 25000سنة من وقتنا الحاضر تقريبًا قد يزيد وقد
وقد ورد في حولية أطالل التي تصدر عن الهيئة العامة للسياحة
ينقص ،ونحن في حاجة إلى أبحاث أخرى ومسوحات أخرى لكشف
و ُعثر على نقوش وكتابات ثمودية في مواقع عدة منها منطقة أبحر،
الصخرية على أقل تقدير لن يكون أقل من 10000سنة من وقتنا الحاضر.
والتراث الوطني أنه في عام 1409هـ أجريت مسوحات أثرية في جدة، وحاولت البحث والقيام بجهود ذاتية للبحث عن نقوش في
تاريخ جدة القديم بشكل أكبر .ولكنه بالتأكيد واستنادًا إلى الرسومات
مواقع أخرى ولكن إلى تاريخ كتابة هذا المقال لم أعثر على ً سابقا في حولية شيء من ذلك ،فأنا ال أريد أن أعيد ما ُذكِر
أطالل ،ولعلنا نجد مواقع أخرى تحتوي على نقوش كتابية. مبان قرب بلدة عسفان أطالل ٍ
يوجد قرب بلدة عسفان على طريق مكة -المدينة
مبني من الحجر ،يمتد لمساحة كيلو متر تقريبًا آثار سور ّ مبان متهدمة ومطمورة وال يظهر منها وبداخل السور آثار ٍ
سوى أعالي تلك األبنية وأقواس النوافذ ،كذلك توجد قلعة
قديمة مبنية من الحجر على أحد التالل الجبلية ،وقد قمت
بجولة أنا واألستاذ بدر القادري المدير العام للعالقات العامة بأمانة جدة على تلك اآلثار ،وكان دليلنا األخ
رسم صخري عثر عليه في موقع قرب خليج سلمان شمال جدة
151
تراث
قافلة الذهب..
أشهر قافلة على مر العصور إعداد :ليلى صالح العلي
152
أكاديمية عراقية مقيمة في اإلمارات
يعد الملك موسى « »Mansa Musaالمولود عام 1280م أغنى رجل في تاريخ األرض ،فقد ص َّنفه موقع ثروة المشاهير Celebrity Net Worth websiteعام 2012م كأغنى رجل عرفه التاريخ بثروة َّ تقدر بما يعادل 400مليار دوالر أميركي .وقد كان ً ملكا على إمبراطورية مالي العظيمة في القرن الرابع عشر الميالدي ،حيث كانت مشهورة بخيراتها ،وعلى رأس تلك الخيرات يأتي الذهب والماس والملح الصخري. ً خلفا لوالده ُتوج موسى كيتا األول في سنة 1312م
السلطان «أبو بكر الثاني» .ومنذ تتويجه أصبح اسمه ولقبه «مانسا موسى» ،فكلمة «مانسا» تعني الملك األعظم .فتح الملك موسى مدينة ُتمبكتو ،وتمكن من توسيع مملكته وتحويلها إلى إمبراطورية في مدة وجيزة من الزمن.
العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
ّ محط القوافل التجارية عبر الصحراء أصبحت عاصمته ُتمبكتو
كان «مانسا موسى» سليل أسرة عظيمة النفوذ ،امتدت ً سيطرتها من بحيرة تشاد شرقا إلى الساحل األطلسي غربًا،
بالشمال .نشر موسى اإلسالم في أنحاء إمبراطوريته كافة.
وغينيا وبوركينافاسو والنيجر وأجزاء من موريتانيا ونيجيريا
جزءً ا كبي ًرا منها في الحروب األهلية والجيوش الغازية .وتعدّ
أي المنطقة التي تغطي اليوم كلاًّ من مالي والسنغال وغامبيا
وتشاد .وقامت إمبراطورية مالي اإلسالمية على أنقاض مملكة
«غانة» الوثنية بعد أن هاجمها وأسقطها المرابطون عام 1087م الذين أخذوا على كاهلهم نشر الدين اإلسالمي وفتح البالد الوثنية .ثم جاء أجداد مانسا موسى من مملكة «كانجابا» المسلمة وأسسوا عام 1240م دولة إسالمية جديدة ُعرفت بدولة
«مالي» .وهو اسم ترجِّ حه المصادر التاريخية تبعً ا ألقدم مدينة عرفت بهذه
المنطقة وهي مدينة .malel
امتد حكم مانسا موسى مدة ربع
قرن من سنة 1312إلى 1337م ،وكان ً ً ونشيطا وكبي ًرا ،حتى جيشا قويًّا يملك
إنه فتح 24مدينة من مدن السودان في مدة قصيرة جدًّ اُ . وتوفي مانسا موسى في سنة 1337م ً تاركا إمبراطورية مزدهرة ومترامية األطراف عاشت
لعشرات السنين من بعده ،فاستحق أنْ يخلده التاريخ بوصفه الرجل الذي أدخل مالي إلى أزهى عصورها على ً ورعا إلى جانب اإلطالق .وكان عالمً ا
حنكته السياسية ،ففي عهده ازدهرت جامعة سانكوري كمركز للعلم في
إفريقيا .وسَّ عَ دولته لتضم مناجم الذهب في غينيا بالجنوب ،وفي عهده
بعد وفاة مانسا موسى ،لم يحسن ورثته إدارة ثروته ،وأنفقوا مالي اآلن من أفقر الشعوب اإلفريقية ،لكنها تحتوي على كنز
ثمين يحاول العلماء العثور عليه وهو المخطوطات من الكتب
والوثائق التي جاء بها مانسا موسى من رحلة حجه الشهيرة التي احتفظ أهل ُتمبكتو ببعضها إلى اآلن في أغلفة من الجلد
أو في صناديق داخل بيوتهم وتحت األرض.
153
تراث
المسجد الكبير بتمبكتو
أشهر رحلة في التاريخ
تحركت من إمبراطورية مالي في عام 1324م أضخم وأثرى
وأكرم قافلة حجيج قادها حاكم مسلم للوصول إلى مكة المكرمة .كان قوامها 60ألف رجل ،منهم ً 12 ألفا يحملون ما مجموعه 24ط ًّنا من سبائك الذهب .و( )100 –80جمل يحمل الواحد
154
والجمال يلبسون منها قنطارًا من الذهب .ورجال على الخيول ِ
عصي ذهبية يراقبون وينظمون شؤون القافلة الحرير ،وبأيديهم ّ التي صارت أشهر قافلة في التاريخ والمسماة بقافلة الذهب، وكان على رأسها أغنى رجل عرفه التاريخ .ولم يكن أول من يقود قافلة بهذه الضخامة من أسرته ،فقد قاد أبوه أبو بكر الثاني، قبله قافلة بحرية من 3آالف سفينة بهدف الوصول إلى حدود
تحركت من إمبراطورية مالي في ْ عام 1324م أضخم قافلة حجيج قادها حاكم مسلم للوصول إلى مكة المكرمة .قوامها 60ألف رجل ،منهم 12ألفً ا يحملون ما مجموعه 24ط ًّنا من سبائك الذهب .و ( )100 – 80جمل قنطارا من الذهب. يحمل الواحد منها ً والجمال يلبسون ورجال على الخيول ِ عصي ذهبية يراقبون الحرير وبأيديهم ّ وينظمون شؤون القافلة التي صارت أشهر قافلة في التاريخ المحيط األطلسي .ويذكر الدكتور إبراهيم طرخان في كتابه «دولة مالي اإلسالمية» أنَّ هناك بعض المبالغات في تقدير كمية الذهب التي كان يحملها السلطان موسى ،وكذلك مبالغات في ضخامة الموكب ،لكن ذلك يلقي ضوءً ا على أنه كان فعلاً
كثير الثراء والفخامة ،فمالي كانت تتحكم في مناجم الذهب. وكان مانسا موسى يتصدق بالذهب على الفقراء في البالد التي
يمر بها ،ويبني مسجدً ا في كل مكان يحط فيه ِرحاله .وحين وصل إلى القاهرة ،بهرته بعمرانها ،فقابل السلطان المملوكي
الناصر محمد ،وطلب منه أنْ يرشح له علماء ومهندسين وحرفيين ،ليعمروا مدن مالي كما عمروا القاهرة ليأخذهم معه عند عودته من الحج .وفي الحجاز أدى فريضة الحج وزار
المدينة ،وأفاض على الحجيج وأهل الحرمين باإلحسان .وقد طاب المقام له بالحجاز ،فبقي هناك نحو ثالثة أشهر بعد انتهاء موسم الحج.
العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
قافلة الذهب ..أشهر قافلة على مر العصور
وفي طريق عودته من الحج ،اشترى كميات ضخمة من الكتب
والوصول إليه ،فأنشئت مدرسة في جزيرة «ميوركا» كان أهم
والمهندسين والحرفيين ،ليشيدوا أكبر المساجد والقصور في
أغلب الخرائط التي رُسمت في أوربا في ذلك القرن .وترجع أقدم خريطة إلى عام 1339م ،وقد أوضحت الخريطة ً جالسا ملكا مهيبًا ً
في جميع فروع المعرفة ،ورافقه إلى مالي عشرات من العلماء
إفريقيا في ذلك الوقت .وكان أشهر من أتى من مصر المهندس
األندلسي أبو إسحاق الساحلي .وكان مسجد (جينغاربير) إحدى ُتحف ِه الخالدة .وقد واجه المهندس أبو إسحاق في ُتمبكتو وغاوة
أهدافها تعرف قلب إفريقيا .وظهرت صورة مانسا موسى في
على عرشه في كامل لباسه الملكي ،وعلى رأسه تاج ،وفي إحدى
يديه صولجان الملك ،وفي اليد األخرى قطعة من ذهب يقدمها
مشكلة كون المنطقة صحراوية ال يتوافر فيها الحجر .ثم وجد
لشخص يهرول نحوه ،ومنقوش على الخريطة الجملة« :هذا
المخلوط بالقش ،ود ََّعمَ السقف بأخشاب النخيل .ولم تزد
حتى صار أغنى وأعظم ملك في جميع البالد» .الذي يمكن قوله
الحل في استعمال المواد المتوافرة محليًّا ،فاستعمل الطين القرون السبعة التي مرت على الطين المخلوط بالقش إال الشدة والقسوة .وتعتلي المسجد مئذنتان ،ويشتمل على فناء واسع غير مسقوف ومساحة مسقوفة .ويسع داخل المسجد َ ألف ْي م َ ُص ٍّل. بداية األطماع األوربية بالذهب
حين بدأ مانسا موسى رحلته لحج بيت الله َم َّر بدول ساحل
البحر المتوسط ،مثل :بالد الطوارق ،وتونس ،ثم مصر .بذلك
أعطى الفرصة لتجار أوربا الذين كانوا يرتادون شمال إفريقيا لغرض التجارة لمشاهدة القافلة العظيمة ،وحالة الغنى التي
سافر بها هذا الملك للحج ،وقدر الذهب الذي يملكه ويوزعه. ثم وصلت شهرة مالي وأخبار قافلة الحج وداللتها إلى أوربا
كلها .ومنذ ذلك الوقت ازداد التفكير األوربي لتعرف قلب إفريقيا
السيد الزنجي موسى مالي سيد زنوج غينيا ،يكثر الذهب في بالده في هذا المجال :إنَّ عظمة مالي زمن مانسا موسى كانت من بين
الحوافز التي أدت إلى زيادة الرغبة في تعرف قلب إفريقيا ،تمهيدً ا لحركة الكشف واالستعمار األوربي. مراجع:
- http://www.unesco.org - http://www.ancient-origins.net - https://en.wikipedia.org - http://www.businessinsider.com - http://www.albayan.ae
إبراهيم علي طوفان ،دولة مالي اإلسالمية ،دراسات في التاريخالقومي اإلفريقي ،الهيئة العامة للكتاب1973 ،م.
155
مخطوطات
156
مخطوط :الشفا في تعريف حقوق المصطفى المؤلف :القاضي عياض بن موسى اليحصبي (ت 544هـ).
العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
157
ّ ّ مذهبة . مؤطرة بجداول نسخة كتبت بجامع آيا صوفيا بإسطنبول سنة 1239هـ .صفحاتها
ّ مذهبة ومزخرفة من مقتنيات مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية. وبصفحتها األولى حلية جميلة
نصوص
في فناء الفكرة المستديرة إدريس علوش
شاعر مغربي
ِفي َفناءِ ال ِف ْكر ِة المُ ْستدير ِة ْ َكو ٌ ِّيح ْكب ال يأب ُه للر ِ يازك ال َّت َ ص ُّد ِع ول َن ِ
()1
َكو َْك ٌ ب أَ ْشب ُه باألرْض و ََتوْأم َ ألديمها ِ ِ ول ِق ْشرة اليابِ َسة
158
ْ أفصحُ منَ ال ُّزهر ِة قليل س مَ ارس َيس َتحِ مُّ في َشمْ ِ تظل بأجْ نحَ ةِ َّ و َي ْس ُّ اللي ِْل وبما مَ َل َك ْت ُه َس ُ هار ريرة ال َّن ِ ب ُ لخطايَ َكو َْك ٌ
َ اس َت ْدرَج ْتني وللخطيئةِ التي ْ
أل ْد َ ناصية الوجُ و ِد رك ِ ت لي مَ ً وسحْ ر أمْ كِنةٍ َ كان ْ الذا ِ وو َ َرشات بِ َسعَ ة ال َّتأمُّ ِل والعي ِْن الحَ الِمَ ة ب َّ َك َ وك ٌ تدلى منْ ُن َ قطةِ مَ اء حَ َف َر ب ْئرًا
العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
َتواطأَ َ ْ ب مع الخص ِ واستظه َر المُ شاة، ْ
والرُّحل، َ والغابات،
راب ِس َّر ْان َ تسابهم لل ُّت ِ
واليَابسةِ
والمرْعى، ُّ واللغة، والحَ رْف،
الساللة التي َّ تدل ْ ت وأنامل ُّ ِ مِ نْ ْ نطفةِ َّ الضوْءِ
وحَ افةِ الوجُ ود.
ِفي َف َناءِ المستدير ِة ال ِف ْكر ِة ْ َ وار َبقايا أ ْس ٍ أَ ْط ٌ الل منْ طين أَحْ مَ َر ٍ ُ لح، صخو ُر مِ ٍ َ وم ْرجانٌ أ ْبي ُ َض، ُ فران َكوْمة َز ْع ٍ
()2
َ َتزحْ َ خار العَ شير ِة وأَ ْنب َت ْ لق ْ ت َز ْهرًا ت حَ وْل ف ِ
رف إنعاش لأِ َرْواح مَ ْس ُكونةٍ بأج َّنةٍ َ ُغ ُ وفوْضى ٍ ٍ ياب َ قابر َد ْه َشةِ ِ الغ ِ وسما ُد أجْ سا ٍد َتشي بمَ ِ راب وأُفول مجْ دِ العَ ابرينَ في ْ فار ال ُّت ِ أس ِ بار و ْ َس ُ ِتاريخ ي ْنحَ ني َشوَش ل راب ُغ ٍ ٍ َ وآخر يَعْ لو فو َْق حِ ْ ص ِن المُ ْفر َد ِة َ ُذيب حَ ِلي َ اشية المَ حْ ِو الم ولي ُْف ِ صحَ الرَّاوي َعنْ مَ عَ ِ َكي َ ْنونةٍ مُ ْس َتباحَ ةٍ رك ر َْشحَ ُ ُت ْد ُ الخ َطا اآلس ْ ْ واغ َ رة.. تراب الر َّْغبةِ ِ
ِفي ف َناءِ المستدير ِة ال ِف ْكر ِة ْ مَ عْ ًنى
اهد ٍة ومَ وْتى أسي ُر َش ِ َ حَ َ مترف ٌة وال جَ ْدوى قيق ٌة
واس ُشعَ راء حَ ُّ
ُسر ْان ِسيابهم مَ مْ لوكينَ لي ْ ِفي َشلاَّ ل َق َ صيد ٍة َ وق ْ افية.. َنايٌ ،
حاش ُ ِتاب، ِ ية ك ٍ وذ ِْكرى، َقلمٌ ، تان، َو ْر َد ِ َد ٌ الية،
َس ٌ اقية، اه َ ِّيح َش ِ دت ِ ان لي وللر ِ
()3
ْ ك وائتلاَ ف ال َّتشا ُب ِ
في َبالغة جَ َسدٍ يَعْ وي ْ ب ي ْنأى َع ِن البَراري وذِئ ٍ ْصفة المُ ُدن و َيحْ ذر مِ نْ أر ِ ران ومَ ناعةِ العُ مْ ِ لص َس َ االستعَ ارَةُ ٌّ رق ْت ُه ْ
مِ نْ ُك َّو ِة نا ِفذ ٍة وأه َدت ُه ل ُِق ْ ْ بان ال ِك َنايةِ ض ِ
لِيب َْقى و َ َريث ِس ِّر المَ رَايا المُ َقعَّ َر ِة لاَ نهر ِفي ُدو ِ ب ٍ ومَ جْ رًى ِّ ْ َه ْل ُك ْن ُ ب ت َتوْأمً ا للذئ ِ َ جَ ْر ٌو آخ ُر -بمَ عْ ًنى أ ْو آخرَ- َس ُ هو ْ ليل َفر ٍْو م ْز ٍّ ياب الجَ ليدِ !.. بأن ِ
أم َنديمُ ل ٍّ َوات ارق لجَ مْ ر حَ ي ِ ِص َس ٍ نقر ْ قاب، األل ِ مُ ولعين بِ ْ ِ
ْ واح، واألل ِ
رافئ َّ الد ْه َشةِ .. ومَ ِ الَ أَ ْدري..؟
ت مُ ْستدِ ً ْ ُ ْن َك َان ْ يرة الفكرة َع ِن الكو ِ ْ وأكث َر َشأْ ًنا َتمامً ا-استيهَ َياض مِ نْ مجْ هول ْ ِ امات الب ِ ِ واللاَّ مَ عْ َنى آخ َر َي َت َّ ؤال َ جذ ُر مَ ْب ًنى ل ُ ِس ٍ ُ ِفي ِس ِّ ض جل ال َّتناق ِ ليَحْ يا َ الكائنُ والسلاَ َلة مَ عً ا ُّ ُ ل َتبْقى َ صيدة مُ درَّجَ ًة الق ِفي ُزرْقةِ الهَ باءِ لِتب َْقى...
159
مقال
جميلة عمايرة كاتبة أردنية
حين تكتب المرأة.. عن الكتابة وإشكاالتها تشبه الكتابة حروبًا صغيرة يخوضها المرء ،حروبًا مع -
وعلى أكثر من جبهة ،وبهذا «مياه كثيرة جرت تحت الجسر»
من دون أن يشعر بها كثيرون ،وفي كل مرة كنت أعود
وبالدور المنوط بي ،ففي الوقت الذي كنت أراني فوق اآلخرين،
والناس العاديين كذات حتى بين أسرتي الصغيرة ،وهذا التفكير
بخسائر أكثر أو بربح أقل ،لكن من دون أن أعود كما كنت في
المتأتي من كوني كاتبة ،وأتميز منهم وال أشبههم ،اكتشفت أنني
استردادها بال زيادة أو نقصان ،قبل أن يحدث ما حدث!
الكتاب والكاتبات بالعموم ،في الحقيقية ال أختلف عنهم بشيء فأن تكون كاتبًا هذا ليس امتيا ًزا بشيء ،فالكتابة مهنة أو حرفة ال
السابق ،أنت لست نفسك قبل قليل ،ولن تملك القدرة على على مستوى الفكرة ،اللغة ،القص بمفهومه الحديث
160
ومتفحصة ،إلى أن غيرت لديّ كثي ًرا من اتجاهاتي بالقراءة والكتابة
ليس من شيء أمام الكاتب سوى الفكرة ،فالحب فكرة
والحرب فكرة والوطن فكرة ،مشكلة الكاتب األولى هي مع
الفكرة والفكرة هي التي تقود لإلنتاج ،إنتاج األفكار ،بمعنى
بهذا التفكير الساذج والمتوارث عن مفهوم الكاتب والشائع عند
تختلف عن أي حرفة أخرى كالزراعة أو الهندسة أو بائع الخضار، إال بمقدار ما تقدمه من طرائق تفكير مختلفة ،وما تقترحه من
جماليات! قناعات عديدة أزحتها من رأسي لعل أهمها :إعادة تشكيل
أن أفكارنا ليست سوى القدرة على تنشئة عالقات مع األشياء
ذاتي ككاتبة عبر تغيير كثير من التصورات والقناعات الجديدة في
وتصورات تقود للوهم والشك أو العزلة أو األمل أو اليقين وصولاً للكتابة عبر اللغة.
تجري أمامي .وما هي مكانتي ،ومهمتي ومفاهيمي للحرية والعدالة
وبما نشكله عن هذه األشياء من تداخالت وعالئق وأضداد
أما عن المعارك األخرى التي أسميها «الداخلية»،
سأتحدث عن تجربة وعمر وخيبات ،عن حروب وقعت ،وعن
حروب ستقع ،وعن هزائم صغيرة وأخرى كبيرة ال تغتفر ،عن الحب والخذالن في الحب والحرب أو الثورات بمعنى أدق،
ضوء الراهن المعيش من دون إغفال للمتغيرات واألحداث التي والحقيقة.
مثالية مفرطة
انزياح فكرة أن الكاتب حارس لألفكار وللقيم وللحرية وهو
صوت الضمير ،أو المثالية المفرطة بمثاليتها ،وهو الناطق الوحيد
نحن الذين خذلنا بالثورات وبالحب ،وعن حيوات كثيرة مرت
باسم الحقيقة أو مناوأة السلطة ،أية سلطة كانت! وهنا بماذا
تعيش الحلم وترنو ألفق آخر ال تغيب شمسه إال لتطلع صباح ً إشراقا. اليوم التالي أكثر
نفسه أولاً :لماذا تزداد األمور سوءًا أمام التحوالت التي تحدث في عالمنا العربي تحديدًا؟ وما الذي يحدث أصلاً ؟ ولماذا ال دور لي أو
بي ومررت بها ،بعضها غادر إلى غير رجعة وبعضها ال يزال يطبع آثاره فوق روحي ،عن حيواتي أنا المرأة التي ال تزال
توقفت متشككة ومراجعة ومتسائلة لعل أبرز هذه
يختلف الكاتب عن الواعظ أو إمام الجامع أو كاهن الكنيسة؟ الكاتب كفاعل اجتماعي ينبغي له ألاّ يتوقف عن طرح األسئلة على
المحطات هي محطة الذات ،وهي من أصعب المحطات! ذات
تساؤالت أو نقاشات فيما يحدث من متغيرات تكاد تعصف بكل ما في طريقها؟! ال بد لي ككاتبة من التوقف طويلاً أمام المقوالت
العالم ،عالقتها مع الكتابة ،أسئلة الكتابة وما هي الجدوى
العصر ومتغيراته ،وأمام الثنائيات العقيمة التي تقسم المقسوم
المرأة الكاتبة ،عالقة الذات بذاتها ،عالقتها مع اآلخر ،ومع المتأتية من ورائها؟ ومن هو الكاتب أو المثقف؟ أسئلة
كهذه ،وغيرها كثير ،استوقفتني كثي ًرا ،متسائلة متشككة
العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
المتحجرة والجاهزة ،والمناهج التعليمية القاصرة عن مواكبة هذا
إلى أجزاء صغيرة متناثرة أمام أعيننا؛ ألننا إذا لم نفهم ما يحدث
فلن يكون لنا من دور بصناعة الحدث وبالتالي المشاركة في نتائجة!
على المثقف الكاتب إعادة ترتيب «عالقته باألفكار لنسج
عالقات جديدة مع الواقع» الواقع المتغير بكل شيء من خالل
شبكة جديدة من المفاهيم ،وعليه صياغة أفكاره ثانية في ضوء ما
يحدث وفي خضم التجربة ،هذا هو التحدي الذي على الكاتب أن يتوقف أمامه طويلاً . هنا فقط يستطيع أن ينتج ًّ نصا مغاي ًرا ،يملك وقائعيته
وامتداده؛ إذ إن األفكار ليست سوى عالقته بالواقع والحقيقة، حينها سيكون فاعلاً في مجتمعه تمامًا مثل أية فعالية أخرى
يمتهنها رجال األعمال والمهندسين والمزارعين وغيرهم ،وسيكون
ابن عصره وزمنه عند توقفه عن تلقي األحداث بمنطق الصدمة والمؤامرة ،وسيكون فاعلاً واعيًا بدوره في المدى اإلنساني برمته.
الكاتب كفاعل اجتماعي ينبغي له أال يتوقف عن طرح األسئلة على نفسه أوال :لماذا تزداد األمور سوءًا أمام التحوالت التي تحدث في عالمنا تحديدا؟ وما الذي يحدث العربي ً أصال؟ ولماذا ال دور لي أو تساؤالت أو نقاشات فيما يحدث من متغيرات تكاد تعصف بكل ما في طريقها؟!
فأنت ال تذهب للمعركة من دون استعداد!
الكتابة هي ميدان الكاتب وهي تجربة تشتبك بها المعرفة
والسلطة ،سلطة المعرفة ،والعشق والمحبة ،واألمل والصراع،
اختالفات جرت على المشهد أثناء كتابته أي أنني أستند لحدث
والتواصل والقطيعة ،والتعمية واالستنارة أو الرؤية .هذا باعتقادي
جوهره حقيقي ،لكن ما يحدث بعد ذلك هو ما تأخذني الكتابة أو
مدوِّن اجتماعي أو أي مهنة أخرى غير مهنة الكاتب!
الشخصية ،الشخوص ،أثناء عملية الكتابة من دون أن يكون األمر
هو الدور المنوط بالكاتب وإال سيكون مثل كاتب تقرير أو مؤرخ أو
والكاتب بطبعة كائن متيقظ ،بعينين متفتحتين على األشياء،
المرئية وغير المرئية وبما يحيط به ،وما يمر من أحداث ووقائع
حوله وبالعالم ،وهو بطبعه شخص يتمتع بذكاء حاد وبمكر فائق،
ويقتنص كثي ًرا من األحداث الكبيرة أو الصغيرة من أجل كتابة نص،
في الوقت الذي يبحث فيه عن غيره.
الحالة إليه من تأويالت أو انزياحات أو أحداث جديدة طرأت على
بيدي ،وكثي ًرا ما توقفت أمام نصي عند اكتماله وأتفاجأ تمامًا كقارئة
أن الشخصية خرجت على ما كنت أو ّد لها أن تذهب إليه ،وال أعرف
كيف حدث هذا أو متى خرجت األمور عن سيطرتي كذات كاتبة! عن مفهوم الحرية لدى الكاتب الكاتبة
كثي ًرا ما أجدني ومن غير تخطيط وبال قصد أو سابق إصرار أمام
ال تقتصر الحرية بمفهومها الواسع على حرية الرأي والتعبير
بالصمت بمكر ودهاء كبيرين ،وأستدرج من حولي وأوقعه بشباكي ً وأحيانا اللغوية ببطء ،ألكتبه فيما بعد ،وأنا أبتسم في سري،
للحرية من دون أن يكون لديك كذات موقف ورؤية لهذه الحرية،
ما يستفزني للكتابة ،وأكاد أصرخ :أجل ،وجدتها ،غير أني ألوذ
كثيرة أضبط «الضحية» على غير توقعه ،وأقوده من يده نحو ما
أعتقد أنه سينقاد إليه معي أو من دوني لكن ظهوري المفاجئ
ساعده من حيث ال يدري للوقوع بسهولة متناهية بما أدركت أنه
واقع به ال محالة. لاً ً ً وليس مهمًّا أن يكون رج أو امرأة ،قد يكون شيئا ،أو حدثا،
أو حالة أو رائحة ،هذا كله يقودني لتتبع األثر وسبر أغواره والكتابة عنه ً الحقا .وكثي ًرا ما تجيء أحداث قصصي ومجرياتها من هناك،
من ذلك الركن المعتم ،من مالمح ذاك الرجل التي تنطق بما هو مخبوء وال يجرؤ على البوح به ألحد ،من هذا الرجل الذي يكتنفه الغموض ،من تلك المرأة التي وهي ترسم ابتسامة عريضة على
وجهها فتتكشف هذه االبتسامة عن حزن يطلع بالرغم من هذا
كله .لكن ال أعرف ما الذي يحدث أثناء الكتابة ،بمعنى ال بد لي
عنه ،أو مناوأة السلطة بغض النظر عن مدى شرعية هذه السلطة أو ً حديثا طغيانها ،أو التآلف معها ..أنت ال تستطيع أن تقدم مفهومًا ومن دون أن تكون ح ًّرا من الداخل ،وأن تكون ح ًّرا من الداخل يعني أن تمتلك مفهومًا لهذه الحرية وعالقتك بها وتصورك لهذه الحرية المنشودة أو التي تحلم بها.
أنت لن تكون ح ًّرا بفكر أيديولوجي مهما كان هذا الفكر الذي
يقف وراءه .اإليمان بحرية اآلخر -وكل ما عداي هو آخر -حرية
نزع الرقيب الذي يسكن داخلك منذ الطفولة ،قبل ذاك الذي يقف
بانتظارك خارجً ا .مدى تقبلك لالختالف والتمايز ،والجهر بالحقيقة، حتى الحقيقة من يمتلك جوهرها الخالص؟
الحرية تعني أن تقف أمام المقوالت واألفكار والقيم الجديدة ً موقفا نقديًّا متسائلاً عن مدى الضرر الذي تلحقه بنا أفرادًا
وجماعات ،ذكورًا ً وإناثا .وصولاً لمجتمعات إنسانية معاصرة تجهد أن يكون لها موقع بين األمم ،ومن دون هذا ستكون حريتنا -أو
من إدخال تغيرات طفيفة أو كبيرة على المشهد أو الحالة بوعي
تصورنا عن الحرية -ناقصة وفي حاجة لدرس طويل من تغيير
أكتب من دون أن أكذب ،ثمة انزياحات تحدث على المتن ،بمعنى
الهجينة.
أو من دون وعي ،أي الحالة التي قادتني للكتابة ،ال أستطيع أن
بالسلوك والمفاهيم المكرسة والعادات المكتسبة ،والقيم
161
تشكيل
تشكيلي عراقي يقيم معرضه االستعادي في الدوحة
ضياء العزاوي: في بداية السبعينيات ضاقت بغداد بنا لنجد في بيروت والكويت مختب ًرا للمواجهة مع اآلخرين
162
العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
حاوره :خضير الزيدي -كاتب عراقي
ضياء العزاوي ،فنان تشكيلي ينتمي إلى الجيل الستيني في العراق ،حقق منذ ذلك التاريخ حتى هذه اللحظة قدرًا كبيرًا من األهمية الفنية ،من خالل تقنياته في الرسم والنحت ،وإنجاز ً وأيضا من خالل طروحاته المعرفية .اختار المدونات التي تخص الشعر بصياغات جمالية تعبيرية، مؤخرًا أهم متاحف قطر الفنية لينظم معرضه االستعادي الذي تضمن أكثر من خمس مئة وأربعين عملاً ً متنوعا ،في احتفال كبير جمع الفنانين من أقطاب شتى .عن أهمية معرضه األخير ودخوله معترك الجماعات الفنية في حقبة الستينيات ،وثراء تجربته وتنوعها عبر طرائق متعددة ،كان لـ«الفيصل» حوار مع ضياء عزاوي ،الذي يوضح للقارئ عالقته بالفن وأسباب تمسكه به ،بعد أن تجاوز السبعين عامً ا ليكون نموذجً ا حيًّا للفنان الملتزم بخطاب الجمال والفكر والثراء اإلنساني. ● بعد كل هذه السنوات من العطاء اإلنساني الملتزم
كان ذلك تحديًا مغاي ًرا لما للمناخ الثقافي والفني المغربي من
االستعادي لك ،في ظل متغيرات فهم اللوحة وتقنيات العمل
المناخات هي التي عززت قناعتي بضرورة ومدى أهمية المرجعية
بقضية الفن ورسالته الجمالية ،ما الذي سيضيفه المعرض
أساسيات في امتحان العالقة بالغرب وكيفية مواجهتها .هذه
وطريقة التفكير حيال الفن المعاصر؟ ■ ال يضيف لي شي ًئا على الصعيد العملي ،غير إتاحة
لرفض القناعة الطارئة التي قد تدغدغ روح الفنان عند مواجهة
بالمتغيرات عبر تجاربي المختلفة .إن مشاهدة األعمال عن قرب
عملية التغيير.
الفرصة لي أو للباحثين والمعنيين بتجربة الفن العراقي وعالقتها ببعدها التاريخي المختلف إلى جانب العديد من ال
تعرض ألول مرة رغم إنتاجها منذ سنوات طويلة قد توفر فرصة
لفحص السياقات األساسية لعملية اإلنتاج عبر وسائط متنوعة ومختلفة .بانوراما خمسين عامًا من األعمال ال بد أن تعكس طرق
االشتغال الداخلي للعمل ومدى تبدل تناوباته روحيًّا رغم تنوع
المادة التي في الغالب تتحكم بالصيغة النهائية لعملية اإلنتاج. من هنا يوفر المعرض االستعادي ً نوعا من المراجعة الداخلية لمدى التداخل الكلي بين تلك االختيارات التي واجهتها إلجراء
تبدالت أسلوبية وعالقة ذلك بالحاجة الحقيقية لتلك التبدالت.
ً متوسطا ● أتساءل عن أهمية فكرتك الفنية التي وقفت
فيها بين االهتمام بالتراث والدعوة للمعاصرة ،لتنتج خطابًا فنيًّا
يلتزم األمرين ،ويحافظ على وحداته الفنية ومرجعيته الفكرية؟ ■ ال بد أنك تعرف أنني من جيل أخذته الهوية بكل قدسيتها
عبر إنجازات جيل الرواد وبالذات جماعة بغداد ،إنجازات لم
تختبر فعليًّا على الصعيد العربي إال بداية السبعينيات ،وقد
تأخرت كثي ًرا على الصعيد العالمي .ومع التحوالت التي أوجدتها ظروف االنفتاح السياسي واالجتماعي بداية السبعينيات ،ضاقت بغداد بنا لنجد في صاالت بيروت ثم الكويت مختب ًرا للمواجهة
الفعلية مع اآلخرين ،وبعدها توافرت لي الفرصة للذهاب بعيدً ا بإقامة معرض شخصي منتصف السبعينيات في الدار البيضاء،
الثقافية أو الفنية ،وعالقتها بالتاريخ الجمعي للفنان ،مع االنتباه
الجديد وإمكانية إلغاء مسارات أسلوبية لها بعدها الفعلي في
● ما الذي يمثله هذا االهتمام بالمناخ الشرقي والعودة
للموروث والميثولوجيا داخل لوحاتك مع أنك منذ زمن بعيد تعيش المكان وروحه الغربية؟
163
تشكيل
■ أنا ابن ذلك المناخ الذي منحني امتالك تاريخ أسطوري هائل ،هو ً أيضا تاريخ اإلنسانية جمعاء ،ألسطورة غلغامش مثلاً عشرات المساهمات من مبدعين عالميين في مجال
ووضعت ضمن حيز خاص سيدرك المرء كم لتلك المواجهة من قيمة تاريخية ،ليس على الصعيد الفني فقط ،بل ً أيضا على فعل
الموسيقا واألوبرا والرسم ،جرى معاينتها ليس ألنها أسطورة
اإلدانة لتلك األيام الصعبة .من هنا تعكس قيمة الفنان وتبدالته.
وخوفه من الموت ،هذا هو المحرك الفعال لهذه االنتباهات
● ماذا عن كيفية ترسيخ هذا األسلوب الخاص بفنك؛
من التاريخ العراقي القديم ،بل ألنها ببساطة قلق اإلنسان
العالمية ،علينا بالطبع االنتباه إلى أن الشرق بشكل عام قد جرى معاينته في بعض األحيان رومانسيًّا كما حدث مع المستشرقين عبر وسائل التعبير المختلفة ،وفي أحيان
أخرى كانت هناك قدرة خالقة في إعادة تصور الشرق وإغماء مصادره .أما اهتمامي كما أشرت فهو ألنني حرصت منذ زمن
باالنتساب اإلنساني ،وتطوير ذلك عبر مصادره الغنية ثقافيًّا أو فنيًّا ال الجغرافي ومحدوديته لهذا الشرق.
● حس ًنا إلى أي حد يمكن القول :إن فن ضياء العزاوي
يولد جراء ذاته وبنظام هندسي ثابت ليبدو خطه الفني وتقنياته
األسلوبية أكثر حضورًا؟
■ ليس هناك نظام فعلي ولو خفي يمكن أن يحرك اإلبداع،
بل هناك تلك األسئلة التي تتولد بفعل المعاينة واالطالع ،بفعل
164
المشاهِ د لبعض هذه األعمال التي جُ معت من مصادر مختلفة
التراكم المعرفي الذي ال بد أن يخلق تبدالت لحاجة اإلنسان وقناعاته ،قدرة السيطرة على هذا الفعل ومدى انضباطيته هي التي تخلق مسارًا لألسلوب، وتدفع به نحو حدود قد تقود لإلخفاق حي ًنا أو النجاحات حي ًنا آخر. اتهمت بغواية اللون
● كنت في مرحلة من حياتك الفنية تجعل
من لوحاتك كأنها أقرب لطرائق التزيين في الرسم؛ هل فرضت تجريداتك ً نوعا من هذا الفهم ،أم هي مساحة من االهتمام بغنائية الرسم وقيمته البصرية؟
■ تبدلت بمقدار تعرفي على عالقتي باآلخر،
أعشق ما تسميه طرائق التزيين ،وأفرح إن تمكنت من أن أخلق مناخات ّ تولد سعادة لمبصر هذا التزيين، واجهت هذه األسئلة منذ زمن وما زلت ،إال أنني أجد
في ذلك الفعل الحقيقي لالمتحان عندما أواجه ما هو خالف ذلك ،اتهمت مرات بغواية اللون ً أيضا لكنني عندما واجهت دمار العراق تحولت األلوان إلى فعل
مغاير ،إلى سبر غور األسود وتبدالته الروحية ،إلى ما يمكن أن يوفر صم ًتا مقدسً ا يتالءم ومناخ الكارثة ،وقد واجهت الموقف نفسه قبل ذلك عندما أقمت معرضي
األخير في بغداد قبل مغادرتها ،اآلن عندما يتطلع العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
هل هو نتاج لمرحة التأسيس األول جراء دخولك جماعة
االنطباعيين ،ومن ثم جماعة بغداد للفن الحديث أم هو رؤية خاصة ولدت جراء خيال خصب يحب التجريب ،ويتحرك في
مديات متوسعة ليواكب اتجاهات الفنون اإلنسانية المعاصرة؟ ً ضيفا خارجيًّا على جماعة االنطباعيين، ■ كنت في الواقع
كانت فرصة للعرض ّ وفرها لي أستاذي حافظ الدروبي ال غير بعد أن وجدني من الموجودين الدائمين في مرسمه في كلية األدب
أنا من جيل أخذته الهوية بكل قدسيتها عبر إنجازات جيل الرواد التي لم تختبر فعل ًّيا على الصعيد العربي إال بداية السبعينيات
تشكيلي عراقي يقيم معرضه االستعادي في الدوحة
حيث كنت أدرس في فرع اآلثار ،أما جماعة بغداد فلم أكن عضوًا فيها إال أنني كنت أقرب إلى أفكارها وممارستها ،ولعل في التضاد المعرفي الذي كان نتيجة لدراستي الصباحية لفرع اآلثار وتبعاته في معرفة الفنون العراقية القديمة بشكل تفصيلي ،ودراستي في معهد الفنون في المساء بكل ما فيها من معرفة أوربية -هو الذي
لم أكن الفنان الوحيد الذي وفد إلى أيضا لندن أو باريس ،ولم أكن الوحيد ً في محاولة بناء تفرده عن اآلخرين
أوجد وازع االختالف واإلصرار على تطوير ذلك ،مستفيدً ا بشكل
ما من إنجازات الرائدين فائق حسن وجواد سليم ،وفي االختالف
األسلوبي لمحمود صبري ،هؤالء الثالثة كانوا خلف تعميم جملة مواقف في األسلوب واألفكار ظهرت فيما بعد بشكل مختلف في كاظم حيدر وشاكر حسن مع تنويع إبداعي وسياقات معرفية
تسربت لي ولبعض من جيلي من الفنانين ،لتكون فيما بعد نزعات
مختلفة لكنها كانت ابنة نجاحات محلية ،اختبرت بمواجهة مع من جاؤوا بمعارف جديدة نتيجة دراستهم في الخارج ،تمثلت في تجارب إسماعيل فتاح ،ومحمد مهر الدين ،ورافع الناصري.
هذا الغنى الفني مجاورًا إلبداعات شعرية وكتابات جديدة مع انفتاح سياسي واجتماعي ،كل ذلك َّ ولد عندي ولبعض من جيلي تلك الرؤى التي ظلت معنا ،ساعين على تطويرها فرادى
وسرعان ما وزعتنا المستجدات من الظروف ليحمل كل واحد منا
ما اختزنه من أفكار وتجارب لتعد بعد ذلك طاقة للتجريب أمام المستجدات التي تمثلت في القدرة على محاورة اآلخر سواء كان
165
ذلك عالميًّا أو عربيًّا.
● أراك أكثر وفاء تجاه أعمالك األولى التي خضت فيها غمار
في غمرة هوسه بالحرف العربي قد وجد في تمثال جياكومتي
التجريب في الحروفيات وتطويعها في أشكال متنوعة؛ هل في ً مشروعا يدعو هذا األسلوب ما يدعونا إلى أن نقول :إن لك
تماهيًا مع حرف األلف في العربية .هذا التضاد الواقعي بين عمل
الحروف روحيًّا؟
جعلني أمام مساءلة مفهوم الهوية من جهة والتفرد من جهة
في صياغاته األسلوبية ونزعته لالهتمام بالتصوف وسر أهمية ■ في كل محاوالتي األولى كان المح ِّرك الفعلي هو تعزيز
روح الهوية التي أخذتها من بعض من جيل الرواد ،وقد أشرت ً سابقا إلى أن تلك المحاوالت لم تختبر على الصعيد العالمي
ال تخطئه العين وبين تصور افتراضي قابل للدحض بسهولة،
أخرى :هل يمكن اعتبار لوحة ديني عربية كما روج في النقد كاف لهويته العربية، العربي انتساب العمل بشكله الخارجي ٍ أم أفترض من جهة أخرى أنها محاولة للتفرد من قبله بالذهاب
إال بشكل متأخر ،وعندما توافرت لي الظروف لمعرفة التجارب
إلى الموروث اإلنساني الذي هو ملك الجميع كما حاول بيكاسو
الفنان الوحيد الذي وفد إلى لندن أو باريس ،ولم أكن الوحيد ً أيضا في محاولة بناء تفرده عن اآلخرين ،لعلني وبوازع روحي
● هل هذا األمر في مساحة الحروف واالهتمام بها ينطبق
األخرى ،بدأت بتفحص مواصفات هذه الروح ،فأنا لم أكن
ُب ِني على امتالك منغلق للحضارة التي نشأت أو مرت بالعراق
جعلتني كأنني حارس هذا الخزان الهائل بعيدًا من اآلخرين .في
الثمانينيات كنت زائ ًرا متحف التيت ،وسرعان ما استوقفني عمل لفنان إنجليزي اسمه روبن ديني ،كان تكوين اللوحة قد اعتمد على شكل حروفي كوفي مربع ،من السهولة قراءته وال يمكن للمرء إال أن يعرف أن هذا الفنان قد بنى عمله على بحث له عالقة
ما بالحرف العربي ،في حينها تذكرت كيف لشاكر حسن وهو
وماتيس وغيرهما من المبدعين العالميين؟
على االهتمام بالميثولوجيا وقيمة وفهم الشهادة وطقوس النذور مثلما حدث مع لوحاتك التي تجسد فيها اإلرث كألف ً وأيضا لوحة الشهيد ،وشموع النذر؟ ليلة وليلة ،وليلة عربية، ■ كل ما أشرت إليه هو بحث عن الذات ،بحث عن مرجعية
فكرية لم توفره لي دراستي في معهد الفنون لخمس سنوات، ً محظوظا مقارنة بفناني جيلي ،بأنني درست اآلثار لقد كنت وكنت قريبًا من اللقى األثرية ،وهذا ما دفعني لمسايرة تصورات
تشكيل
في حوار مع زوار وإعالميين حول معرضه
جواد سليم على الرغم من عملي ضمن مجموعة االنطباعيين،
166
لعل هذه العالقة هي التي جعلتني اقتنائيًّا في نظرتي للتجارب األوربية واألميركية ،والتأكيد على إنجازات الفنانين الذين أقاموا حوارًا مع الثقافات األخرى ،هذا الحوار الذي خلق مجموعة
رموز وتكوينات تتماهى مع ما نجده في موروثاتنا الشعبية .ما
أود اإلشارة إليه أنه ال توجد مساحات فارغة بين الميثولوجيا والموروث الشعبي كما أن هذين المرجعين ليسا بعيدين من
الظروف اليومية وارتباطاتها السياسية.
● ما س ّر أهمية بقاء لوحة صبرا وشاتيال في ذاكرة اآلخرين
والعودة إلى دالالتها بعد كل هذه السنوات من االشتغال الفني والمعرفي عليها؟ هل يصيبك إحساس أنها مختلفة وقريبة
لروحك أكثر من باقي األعمال؟
■ بالنسبة لي هي جزء من تاريخي ال غير ،إال أن ضمها
لمجموعة متحف من أهم متاحف العالم أعطاها بعدً ا إعالميًّا هائلاً ،ولكي تعرف قيمة العمل هذا ،عندما وافق المتحف على إعارتها لمعرضي في الدوحة كان على مؤسسة المتاحف في
أنا ابن ذلك المناخ الذي منحني امتالك أيضا تاريخ تاريخ أسطوري هائل ،هو ً اإلنسانية جمعاء التي ُ ارتكبت بكل نذالة وهمجية فاشستية .فقد عرضت ألول مرة في معرضي الشخصي في الكويت ،وفي حينها وافقت على
إعارتها للمتحف الكويتي بعقد مدته خمس سنوات ،بعد ذلك أعيد لي قبل أسبوع من دخول صدام إلى الكويت ،وقد علمت
في حينها أن المكان الذي كانت اللوحة قد ُعرضت فيه كان من األماكن الذي ُقصف ،وقد ظلت اللوحة في المخزن لسنوات،
وفي عام ٢٠١٠م نشرت صورة جيدة للعمل في كتاب باإلنجليزية
عن الفن العربي واإليراني ،تزامَنَ ذلك مع افتتاح المتحف العربي ً معرضا شخصيًّا مما جلبت االنتباه لكل من متحف الذي كان لي غوغنهايم وتيت مودرن .من كل ذلك أود القول :إن العمل ظل نحو ٣٥عامً ا لكي يتحول إلى عمل يعتز التيت بحيازته.
الدوحة أن تقبل بأن يضع المتحف شروط اإلعارة مع مجيئي ممثلاً عن المتحف في لندن ،لكي يشرف على فتحها من
● كانت لك تجربة رائدة ومهمة في توظيف النص الشعري
من االهتمام ال بد أن يعطيها مواصفات مهمة ،كل هذا ال أجد
استثنائية ،السؤال هنا :هل كانت أعمالك الطباعية ومنها: المعلقات السبع ،والنشيد الجسدي ،ونحن ال نرى إال ً جثثا،
الصناديق واإلشراف على تعليقها ،ثم التأكد من درجة الضوء ً معلقا .هذا النوع المتفق عليها؛ لكي ينتهي بأخذ صورة للعمل
فيه غير إخالص روحي للموضوع ،وصدق في التعبير عن المجزرة العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
شغف بالنص الشعري
وتجسيده في عمل فني ،أعطى للقصيدة أهمية ثانية وبروح
هي دعوة لالنسجام بين البعد البصري وحساسية القصيدة،
تشكيلي عراقي يقيم معرضه االستعادي في الدوحة
ً وأيضا عودة للموروث الشفاهي ،والحفاظ على الشعر وتجلياته َ الرؤية البصرية؟ ليلتقي
عملاً اخترت منها ستة عشر ،من هنا أؤكد أنني بدأت بتنفيذ العمل كتخطيط أولاً ،وبعدها عندما توافرت الفرصة عملت على تحويلها
نفذت تلك األعمال كتخطيطات وهو شغف ظل معي ،وتطور بفعل اطالعي الذي توافر بعد مغادرتي العراق ،فمثلاً عملت للمعلقات
جرى العمل عليه من منطلق طباعي له بعده المختلف مستفيدًا
وكذلك الحال مع النشيد الجسدي؛ إذ أنجزت أكثر من أربعين
لكي يأخذ بعدًا إضافيًّا عندما بدأت العمل على إنجاز ما يعرف
■ كان لدي اهتمام بالنص الشعري منذ معارضي األولى ،وقد
السبع نحو ١٤عملاً ،ثم اخترت منها سبعة لتصدر كمجموعة،
إلى مجموعات طباعية محدودة ،على العكس من ذلك مجموعة «نحن ال نرى إال ً جثثا» وكذلك مجموعة «ألف ليلة وليلة» كالهما مما تقدمه الطباعة بأنواعها من إضافات رائعة .استمر هذا الشغف «بكتاب الفنان» حدث هذا عندما توافرت لي فرصة االطالع على
المخطوطات العربية واإلسالمية في مكتبة تشستربيتي في دبلن، والمكتبة البريطانية في لندن إضافة إلى المكتبات الوطنية في ميالن ،وبرلين وباريس إلى جانب ذلك توافر لي ً أيضا تعرف التجربة الفرنسية وإنجازاتها الهائلة عبر العمل المشترك بين الشعر
والرسم ،وما زلت أتذكر كمية الدهشة عندما اطلعت على النسخة األصلية لكتاب الجاز لماتيس الذي ظلت تصاحبني توزيعاته اللونية
وعالقتها بالنص .كل هذه المعرفة جعلتني أمام مهمة أخذت أبعادًا مختلفة بفعل تنوع الرؤيا وطريقة إنجاز عمل ابتكاري ينحاز
للبصر ومزاوجته للنص .لقد قدمت لي هذه التجربة تحديات كان
ُ فكرت في مدى إمكانية تحقيق عمل ال بد من مواجهتها عندما
حديث يعتمد على إعادة اكتشافه وتقديمه كنص إبداعي ،عملت على هذه الفكرة مع الشاعر المغربي محمد بنيس إلعادة كتابة «طوق الحمامة» البن حزم ،وكذلك مع الشاعر البحريني قاسم
حداد لكتابة نص «مجنون ليلى» ،في كال العملين توافرت الفرصة للحوار والمشاركة اإلبداعية لم ّ توفرها التجارب األخرى.
167
سينما
أفالمه تحلل ال جدوى معتقداته السياسية الثورية
برتولوتشي..
تحويل المفاهيم المعقدة بشأن الطبقية إلى دراما شخصية أ َّخاذة أمين صالح كاتب وناقد سينمائي بحريني
168
استقبل النقاد الفرنسيون أفالم المخرج السينمائي اإليطالي برناردو برتولوتشي األولى بحفاوة بالغة ،ربما أكثر من النقاد اإليطاليين. لقد وجدوا في أعماله أصدا ًء من الموجة الفرنسية الجديدة ،وذلك عبر توظيفه لكاميرا قلقة ،غير مستقرة ،ومواقع خارجية نابضة بالحياة ،وقصص شخصية بسيطة ،وجماليات بصرية تتناغم مع المضامين الثورية. األساس األدبي ألعمال برتولوتشي ينشأ من بداياته كشاعر .صرَّح ً مرة بأنه كان على وشك أن يتوجه إلى كتابة الرواية ،لكنه بدلاً من ذلك اختار السينما ،محاولاً أن يحافظ على الحرية ذاتها التي كان يمكن أن يتمتع بها لو كتب روايات .اهتماماته األساسية هي باألمكنة ،وبالمساحات التي ضمنها «يكتب» المشاهد في أشكال تلقائية ،وباإلضاءة التي تساعده في خلق تلك األشكال ،وبتفاعل الشخصيات ضمن تلك األمكنة أو المساحات.
العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
في أفالمه ،يوحِّ د برتولوتشي الوعي السياسي واألسلوب
المغوي بصريًّا ،المتقن والمدروس من أجل إدهاش المتفرج.
أسلوبه السينمائي يتميَّز بتوظيفه الغنائي لحركات الكاميرا
الرشيقة ،المتموجة ،المديدة .الكاميرا غالبًا ما تكون في حركة
مستمرة ،وذات حضور متواصل ،ال يهدأ .إضافة إلى استخدامه التعبيري لأللوان ،وأسلوبه السردي الذي يتالعب بالزمن في سبيل
خلق حاضر شبيه بالحلم .ولد برناردو برتولوتشي في 16مارس 1940م ،في مدينة بارما بإيطاليا .مارس كتابة الشعر منذ صباه.
وقد ازداد ولعً ا بالسينما مع انتقاله إلى روما واستقراره فيها أواخر
هنا ،وكما في أفالمه الالحقة ،يؤكد برتولوتشي على فكرة
تدفق الزمن ،وهي الفكرة التي تستحوذ عليه ،ويقول عنها« :هذه الفكرة ،اإلحساس بمرور الزمن ،هي بسيطة ج ًّدا .لكن الفكرة ذاتها هي أساس أو منطلق الكثير من الشعر» .الفلم اس ُتقبل بردود أفعال متضاربة .ولم ينجح تجاريًّا؛ لذلك بقي برتولوتشي عاطلاً عن العمل نحو سنتين .حين شرع في إخراج «قبل الثورة» (1964م)،
يقول برتولوتشي« :عنوان فلمي -قبل الثورة -يتصل بالتضمين المقتبس من تاليران في بداية الفلم( ..أولئك الذين عاشوا قبل الثورة ،وحدهم يعرفون مدى عذوبة الحياة) .الفلم هو أكثر من
الخمسينيات .وسعى إلى االنخراط عمليًّا في هذا العالم الذي
مجرد سيرة ذاتية ،كان عملية تطهّر ..محاولة لتخليص نفسي
أول فلم له كان بعنوان« :موت خنزير» وهو صامت.
روابطه العائلية التقليدية؛ بسبب تربيته االجتماعية والثقافية. إنها قصة نضال خاسر .هنا ِّ يحلل برتولوتشي ال جدوى معتقداته
سحره ،وبحصوله على كاميرا 16ملي ،راح يص ِّور أفالمه القصيرة.
مساعد مخرج لبازوليني
من مخاوفي الخاصة» .البطل ،فابريزيو ،يعجز عن االنفصال عن
كان في العشرين من عمره عندما سنحت له فرصة العمل
كمساعد مخرج مع بازوليني في أول أفالمه :أكاتونه Acatone (1961م) ..عن هذه التجربة يقول« :كانت المرة األولى التي أدخل فيها
موقعً ا للتصوير .قلت لبازوليني :أنا لم أعمل في السينما من قبل، فكيف يمكنني أن أساعدك؟» رد قائلاً « :أنا ً أيضا .إنها المرة األولى
لكلينا» .كالهما كان يتعامل مع السينما للمرة األولى ..بال خبرة وال
169
تجربة .بعد أن نجح الفلم ،عرض أحد المنتجين على برتولوتشي
ثالث صفحات كتبها بازوليني ولم يكملها ،وطلب منه أن يح ِّول هذه ينجز الفلم مخرج الصفحات إلى سيناريو كامل« ..كان من المقرَّر أن ِ آخر ،لكن حين قرأ المنتج السيناريو الذي كتبته ،طلب مني أن
أخرجه بنفسي ..كان ذلك أول أفالمي :الحاصد المتجهم (1962م)».
العنوان يشير إلى الموت .من خالل هذا الفلم يوطد يقدم ً برتولوتشي هويته :أسلوبيًّا وشخصيًّا ..إنه ِّ لغة سينمائية مصقولة وأسلوبًا بصريًّا ديناميكيًّا يجعله يتصل بالسينما الحديثة
العالمية .الفلم جوهريًّا قصيدة انطباعية عن روما كما يراها فتيان البروليتاريا الرثة ،الذين يستمتعون بالحياة رغم فقرهم وافتقارهم
إلى الرؤية الواضحة .ظاهريًّا ،تبدو القصة بوليسية إثارية: جريمة قتل مومس ،في منتصف العمر ،حدثت ليلاً في المتنزه، والتحريات التي ُتجرَى للكشف عن القاتل ،واستجواب عدد كبير من المشتبه بهم الذين يروون قصصهم مع اهتمام دقيق بالتفاصيل.
كبناء درامي ،الفلم قريب من فلم كوروساوا «راشومون» ،حيث عبر سلسلة من الفالش باك ،التي تعبِّر عن وجهات نظر مختلفة، ً (أحيانا يقول الشاهد شي ًئا حقيقي وبعضها زائف ومتباينة ،بعضها ّ
في حين نرى ،عبر الفالش باك ،شي ًئا يناقض ما يقوله) ،نتابع تحركات عدد من المشتبه بهم وقت حدوث الجريمة .كل شهادة،
في تحريات الشرطة ،تصبح عنصرًا في لوحة عريضة .هنا ثمة توازن بين الحساسية تجاه القضايا االجتماعية والثراء البصري.
بوستر فلم «الحصاد المتجهم»
سينما
السياسية الثورية ،مح ِّولاً المفاهيم المعقدة بشأن الهوية الطبقية
إلى دراما شخصية أخاذة .ومع أن الفلم يستعير موقع األحداث (في بارما) وأسماء الشخصيات وبعض العناصر السردية من رواية
ستندال ،الصادرة عام 1838م ،فإن التفاصيل مختلفة تمامً ا. الوقوع تحت سحر األيديولوجيا
الفلم عبارة عن صورة ذاتية لشاب شديد الحساسية ،يُد َعى
فابريزيو ،يقع تحت سحر األيديولوجية الماركسية ،فيقوم بمحاولة،
فاترة وتعوزها الحماسة ،لرجّ خلفيته البورجوازية .إنه الشاب المم َّزق بين رفاهية حياته وتوقه إلى التحرر منها ،بين الراديكالية والنزوع المحافظ ،بين العالقة العاطفية المحرَّمة وضرورة ارتباطه بالمرشحة ألن تكون زوجته .إن حالة التر ُّدد لديه ظاهرة ناشئة عن محيطه التاريخي ،والتأثير المتنامي لليسار اإليطالي ،وعن الخوف ً عميقا في البورجوازية األوربية .في من الثورة ..هذا الخوف المطمور
هذا الفلم استخدم برتولوتشي التقنيات والعناصر األسلوبية التي كانت تميِّز حقبة الستينيات ،مع بحث السينمائيين آنذاك عن لغة
جديدة ،وتجديد السرد السينمائي ،وابتكار تكوينات مغايرة.
وقد رحَّ ب النقاد بالفلم ،ووصفوه باإلنجاز المهمّ والبارز
للسينما اإليطالية الجديدة ،كما حاز جوائز ،لكنه أخفق تجاريًّا .بعد
170
هذا الفلم كان على برتولوتشي أن ينتظر أربع سنوات (خاللها أخرج
فلمً ا وثائقيًّا عن البترول من ثالثة أجزاء لصالح التلفزيون اإليطالي (1964م) ،وأخرج فلمً ا قصيرًا بعنوان« :ألم» (1967م) كجزء من فلم
«حب وغضب» .كما ساهم في كتابة سيناريو «حدث ذات مرة في الغرب» لسرجيو ليوني ..وذلك قبل أن ِّ يحقق فلمه التالي «الشريك» (1968م) .وهو معد بتصرُّف عن قصة دوستويفسكي «البديل».
مشهد من فلم «خدعة العنكبوت»
أسلوبه السينمائي يتم َّيز بتوظيفه الغنائي لحركات الكاميرا الرشيقة، غالبا ما المتموجة ،المديدة .الكاميرا ً تكون في حركة مستمرة ،وذات حضور متواصل ،ال يهدأ الراديكالي العنيف ،هو رجل فعل يحرِّض الطالب على الثورة ..فنيًّا ً غموضا، واجتماعيًّا .فيما االثنان يتمازجان ،تتضبب األحداث وتزداد والفلم يصبح رحلة نحو عالم السوريال (ما فوق الواقع).
الفلم صعب واستفزازي ،يكون مفهومً ا على نحو أفضل بوصفه نتاج حلم .الفلم ي ّتخذ مساره المتعرّج ،الملتوي ،بدون قواعد سردية قابلة للتمييز ،قاف ًزا من مشهد صعب ومبهم إلى آخر
بيير كليمنت يؤدي دورين لشخصية مزدوجة أو فصامية..
مماثل في الصعوبة .االنتقاالت مفاجئة بين مشاهد حلمية ،غير
المادية والفوارق االجتماعية التي تحيله إلى حالة من السلوك العقيم.
والتالحم .السرد هنا يخضع للتكثيف والتشظي .يقول برتولوتشي:
المدرِّس في معهد الدراما ،وهو متردد وحائر في عالم من الضغوطات إنه حذر ،غير واثق من نفسه ..سياسيًّا وجنسيًّا .بينما اآلخر ،الجانب
مترابطة ،ال تلتزم بنظام منطقي ،ومن غير أي إحساس بالتماسك
«الفلم حلم ،والمخرج هو الحالم .كل شخصيات الحلم تعكس أو تعبّر عن ذات الحالم» .إنه أول أفالم برتولوتشي باأللوان
والسينما سكوب .يتميّز بصريًّا بالقوة وبالتالعب بالضوء والظل،
وتوظيف الصوت بشكل مغاير ،مع حركات كاميرا متقنة لكن ً ً وغامضا ،واالنتقال من مراوغا مسرفة .موضوعه –رغم حيويته– بدا ً مربكا. الشخصية إلى البديل بدا التغريب البريشتي
عن فلمه هذا يقول برتولوتشي«:هو فلمي الملعون .ربما جاء مبكرًا ج ًّدا ،ربما جاء متأخرًا ج ًّدا ،ال أدري .الفلم لم ينجح جماهيريًّا.
القليلون أعجبوا به ،وقد جعلني أعاني الكثير .ربما لم أكن أفهم مشهد من الفلم الوثائقي «حياة البترول»
العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
نفسي .إن فكرة التغريب البريشتي ،التي يتبناها الفلم ويحاول أن
يفرضها ،هي ملتبسة وغير حاسمة على المستوى الثقافي بسبب
برتولوتشي ..تحويل المفاهيم المعقدة بشأن الطبقية إلى دراما شخصية أخَّاذة
القراءة السيئة لبريشت» .فلمه التالي كان «خدعة العنكبوت»
(1970م) المبني على قصة قصيرة كتبها خورخي لويس بورخيس
بعنوان« :موضوع عن الخائن والبطل» ،تدور في أيرلندا عام 1824م ،ويمكن أن تدور –كما قال بورخيس– في «أي بالد مقموعة». برتولوتشي جعل األحداث تدور في بلدة صغيرة .بنية الفلم تستدعي
درجة كبيرة من التماهي أو التطابق مع الشخصية الرئيسة ،الشاب الذي يعود إلى بلدته ،ويتحرى جريمة قتل أبيه قبل ثالثين سنة الذي ربما قتله الفاشيون كما يشاع ،أو قد يكون خائ ًنا للقضية المضادة للفاشية فقتله زمالؤه في المقاومة ،وحتى تتكشف الحقيقة يظل
األب الراحل في موضع التوقير والتبجيل عند أهالي البلدة بوصفه بطلاً وشهي ًدا معاديًا للفاشيين؛ لذلك فإن الغموض الذي يحيط بتفاصيل موته من الصعب ،بل من الخطورة ،اختراقه.
في النهاية تتضح له الحقيقة؛ إذ يكتشف أن أباه ،في الواقع،
قد خان رفاقه والقضية –في لحظة ضعف -وأفشى بالمؤامرة المخطط لها الغتيال الزعيم موسوليني عام 1936م ،في أثناء
زيارته للبلدة .هذا ما يعترف به رفاق أبيه المتقدمون في السن،
حين التقاهم في دار األوبرا ،كما يذكرون له عن االتفاق الذي عقده
أبوه معهم؛ أن ينال عقابه على خيانته لكن من دون تلويث القضية وإفقادها نقاءها وبريقها أمام المؤمنين بها ،أي أن يُع َدم جزاء فعلته لكن من دون إفشاء السبب ،بل يجب أن يبدو األمر كما لو
أن الفاشيين هم الذين قاموا باغتياله .وهم لسنوات طويلة أخفوا الحقيقة؛ ليبقى أبوه بطلاً ً شهيدا في نظر أهالي البلدة .في النهاية، حين عرف االبن الحقيقة ،كان عليه أن يختار بين كشف الحقيقة أو
إخفائها .في الفلم كما في القصة ،االبن ال يفشي السر ،ال يكشف
الحقيقة ألحد ..ربما ألن صورة األب تظل قوية ومهيمنة إلى درجة
تجعله يعجز عن كشف حقيقتها ،عن تحطيمها ،عن التحرّر منها. االبن يهمّ بمغادرة البلدة ،بالهرب من األب ،من الماضي المفترس،
من القدر .يذهب إلى محطة القطار نفسها التي وصل إليها في بداية
الفلم ،لكن يسمع من يعلن عن تأخر القطار لمدة 40دقيقة ،ثم
مشهد من فلم «بوذا الصغير»
ً «أحيانا ينسوننا تمامً ا». لمدة ساعتين ،ثم يخبره مدير المحطة:
بينما يسير الشاب في موازاة خط السكة الحديدية ،مع حركة
كاميرا مصاحبة على طول القضبان ،يكتشف أن السكة ،عند
موضع ما تصير مطمورة في األرض تحت شجيرات نامية ،ومكسوَّة
باألعشاب ،داللة على أن أي قطار لم يمر على هذه السكة منذ زمن طويل ،ولن يم ّر أي قطار على اإلطالق .إنها إشارة ضمنية إلى أن الماضي استطاع أخيرًا أن يغمر الحاضر ،أو ربما هو مجاز بصريّ
لثيمة الفلم :حجب أي أثر للماضي ،وللتعبير عن شرَك الزمن .على عالقا في شبكة العنكبوتً ، أية حال ،هو يجد نفسه ً عارفا أن ليس بإمكانه أب ًدا مغادرة البلدة .إنه ينصهر تدريجيًّا مع الماضي ،مع أبيه، في كينونة واحدة .في هذه النهاية ،التي ِّ تشكل صدمة شديدة للبطل
وللمتفرج على حد سواء ،تختلط الحقيقة بالوهم ،الصدق بالزيف.
بعد إخفاق أفالمه السابقة ،على الصعيد التجاري ،حاول
برتولوتشي أن يغيِّر طريقته في صنع الفلم متبنيًا أسلوب سرد مختلف قادر على أن يصل إلى الجمهور العريض .يقول برتولوتشي:
«مع فلم خدعة العنكبوت بدأت في قبول فكرة الجمهور ،بدأت باتصالي بالجمهور ،هذا االتصال الذي كان مفقو ًدا في السابق».
مشهد من فلم «اإلمبراطور األخير»
171
سينما
مخرج سعودي قال إنه ينتظر الكثير من المجمع الملكي وهيئة الترفيه
عبدالله آل عياف: ستستمر المحاوالت الفردية في السينما طالما ال يوجد دعم حكومي هدى الدغفق
172
يعد عبدالله آل عياف من األسماء التي برزت
مؤخرًا في مجال السينما وصناعة األفالم القصيرة
في السعودية .أنجز آل عياف خمسة أفالم كانت من أفضل األفالم التي أُنتجت في الخليج في األعوام األخيرة ،هي« :السينما 500كم» ،و«إطار»،
و«مطر» ،و«عايش» و«ست عيون عمياء».
في هذا الحوار مع «الفيصل» يتحدث آل عياف عن سمات السينمائي،
ومستقبل السينما في السعودية، والصعوبات التي تواجهها.
العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
ال تزال السينما في السعودية قائمة على محاوالت
فردية ،وهي في الغالب من جيل الشباب؛ ما مستقبل هذه الجهود ،وبخاصة أنها ال تجد الدعم؟
أتوقع استمرار تلك المحاوالت الفردية في الظهور إن
استمرت الحال تجاه الموقف من السينما على ما هي عليه،
كما يتوقع أن يواصل السينمائيون السعوديون والسعوديات إبداعاتهم الفردية وحصولهم على جائزة هنا وحضور إعالمي هناك ،إال إن قامت الجهات الرسمية متمثلة في المجمع
الملكي للفنون أو هيئة الترفيه أو وزارة الثقافة واإلعالم بدعم
واضح لهذه المحاوالت ،فالمتوقع أن تكون هنالك نقلة نوعية لحضور هؤالء الشباب في المحافل الدولية والمحلية بما يليق بمكانة بالدنا ،لكن ما أعرفه تمامً ا سواء هناك دعم أو غاب فسيستمر هؤالء السينمائيون في محاوالتهم لتقديم كل ما
هو جميل.
من خالل األدوار المنوطة للمجمع الملكي للفنون؛ هل
تتوقعون أن يقوم بدور فعَّ ال في األيام المقبلة وبخاصة مع
نشوء هيئة الترفيه وتنظيم هيكلها؟
يمكن أن ُنقنع من ال يحب السينما بعرض أفالم جذابة تجعله يغير قناعاته ،أفالم قيما إنسانية رفيعة تقدم فيها السينما ً دينية تتوافق مع مبادئ ديننا اإلسالمي وقيمنا العربية وعاداتنا السعودية كيف تنظر إلى المهرجانات السينمائية السعودية التي
تقام مؤخرا بين عام وآخر ،على الرغم من الموقف السلبي
الظاهر من السينما؟ وماذا تقترح من رأي الستمرارها في ظل الظروف الراهنة؟
فلتسمحي لي بداية أن أحيي روح أولئك الذين وقفوا وراء ّ المنظمين أو المخرجين أو قيام تلك المهرجانات ،سواء من
حتى الجمهور الذي حضر وتفاعل مع تجاربنا في ظل ظروف
عدم قبولها .وبرأيي أن تلك المهرجانات لن تصل إلى المستوى المأمول إال بتقديم المساعدات من تسهيالت لها كمثل الدعم
المالي الكبير لترتقي مع المهرجانات في الدول المجاورة، وهذا الدعم تقدمه الدولة وجهاتها الرسمية مثل وزارة الثقافة
أجهل األدوار المنوطة بالمجمع الملكي للفنون وكذلك
واإلعالم ،أو الجهات المعنية مثل المجمع الملكي للفنون
الجهتين ،لكنني في المقابل أتوقع وأنتظر منهما الكثير مما
فإنني أرى أنه ال يقدم أي دعم ،كما في دول العالم المتقدمة.
هيئة الترفيه؛ لعدم وجود تفاصيل واضحة إزاء هاتين يقدمانه من دور بحيث يكونان حاضنتين لكل المواهب الفنية في المملكة ،وأن تكون جهة تدعم العروض والمعارض الفنية
الثقافية وغيرها الكثير.
متى تتوقع أن يزاح الستار عن السينما وافتتاح صاالتها
في السعودية؟
عندما صنعت أول فلم عام 2005م تلقيت سؤالاً من هذا النوع ،وفي حديث مع البي بي سي قلت :أتوقع أن تبدأ السينما
السعودية عصرها خالل عامين .وسألني
أحدهم في عام 2007م السؤال ذاته ،واآلن وأنا أكثر نضجً ا وواقعية وتفاؤلاً وثِقة أقول
بأن السينما السعودية ستنطلق خالل العامين المقبلين .وأود التأكيد على رغبتي
الشخصية في أن ال يربط موضوع صاالت السينما بالسينمائي وكأنه ال توجد قضايا
إال صاالت السينما .فليست صاالت السينما ومخرجين مخرجات بأهم من إيجاد ِ ِ سعوديين ،ليستخدموا هذه األداة لألفالم والسينما فيما يخدم بالدي مستقبلاً .
وما على شاكلته ،أو حتى من القطاع الخاص الذي مع األسف
وكذلك ال بد من االحتفاء والدعم والمؤازرة اإلعالمية الجادة
للسينما بوصفها رافدً ا ثقافيًّا مهمًّ ا ألي بلد .وأن ال تموت
الظاهرة بمجرد إقفال المهرجانات أبوابها ،بل أن تؤخذ هذا
التظاهرة بعين االعتبار ،وتستثمر بتنقل هذه العروض إلى جميع مدن المملكة .فما الذي يمنع أن نأخذ أفضل العروض
173
سينما
السينمائي السعودي ال بد أن يكون يستجد ومطلعا على ما مثقفً ا وقار ًئا ً ّ سواء في مجاله السينمائي أو في علمي النفس واالجتماع وأن يزداد وعيا بما يحدث حوله ً كيف يمكن للسينما إحداث تغيير في الواقع االجتماعي
السعودي وفي موقفه الحالي من السينما؟
أتحفظ شخصيًّا عن هذا السؤال؛ ألن هناك فرضية تروج
بأن السعوديين ضد السينما وأنهم ال يشاهدون األفالم ،فخالل
صناعة فلمي األول «السينما 500كيلومتر» 2005م قابلت مدير
السينما في البحرين وقال :إن 90في المئة من الجمهور في
البحرين في مواسم األعياد واإلجازات من السعودية ،دليل آخر
يتضح من خالل تلك القنوات المدفوعة مثل :الشو تايم وأوربت ً سابقا وغيرهما أكثر جمهورها المتابعين ألفالمها سعوديون. ذلك دليل قاطع وواضح على أن السعوديين يتابعون األفالم.
174
التي أقيمت في مهرجان الدمام مثلاً ونعرضها في حائل وتبوك وهكذا .كما أعتقد أن عرض بعض األفالم الجيدة في ً الحقا ،ودعم أصحابها بمقابل مادي التلفزيون السعودي
لقاء هذه العروض ،قد يسهم في دعم هؤالء المبدعين في ً الحقا .كما أن اختيار بعض األفالم تقديم أفالم أفضل إنتاجيًّا
السينما أضحت على قائمة اهتمامات وبرامج أي أسرة سعودية تسافر إلى الخارج .مما سبق أعتقد بأننا ال نحتاج إلى أن ُنقنع من ال يحبذ السينما .أعود إلى مغزى سؤالكم ألقول :بإمكاننا أن نقنع من ال يحب السينما بعرض بعض األفالم الجذابة التي
يمكن أن تجعله يغيّر قناعاته ،أفالم تقدم فيها السينما قيمً ا
إنسانية رفيعة دينية تتوافق مع مبادئ ديننا اإلسالمي وقيمنا
العربية وعاداتنا السعودية ،وأثق بأنهم إذا شاهدوا عددًا من
الجيدة للمشاركة في بعض المحافل داخل المملكة وخارجها
تلك األفالم سيدركون أن السينما مجرد أداة إذا استخدمت في
واالعتراف بهم بعد سنوات طويلة من مقاطعتهم.
الشر فبالتأكيد أنها ستكون مؤثرة سلبيًّا.
يظهر على األقل مدى احتفاء الدولة وفخرها بأولئك المبدعين
هل يمكن تحديد مواصفات معينة ينبغي توافرها في
السينمائي السعودي الناجح؟ ً ً في نظري ال بد أن يكون مثقفا وقارئا ومطلعً ا على ما
يستجد سواء في مجاله السينمائي أو في علمي النفس واالجتماع ومختلف المجاالت ،ويزداد وعيًا بما يحدث
من حوله ،وينبغي أن يكون حساسً ا يلتقط أدق التفاصيل والخلجات اإلنسانية والمواقف المعبرة التي نشاهدها لتغير فينا وتغيرنا لألفضل ،وأن يكون سفي ًرا نموذجيًّا لوطنه داخله
وخارجه كذلك ،وأن ال يهتم ألضواء اإلعالم وبخاصة اإلعالم الخارجي الذي يتصيد ربما في أمثاله الستغالله في اإلثارة
الصحافية وحسب .السينمائي السعودي الناجح هو من ً هدفا نبيلاً أمامه ويحاول الوصول إلى الهدف رغم كل يضع المعوقات التي تصادفه وتنال من جهده.
العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
الخير ففيها الخير العميم ،وأما إذا استخدمت في ترويج صور
175
ﻛﺘﺎب اﻟﻔﻴﺼﻞ أﺣﺪ إﺻﺪارات ﻣﺠﻠﺔ اﻟﻔﻴﺼﻞ ،وﻳﻬﺪف إﻟﻰ إﺛﺮاء اﻟﺴﺎﺣﺔ اﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ اﻟﺴﻌﻮدﻳﺔ واﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ﺑﺈﻟﻘﺎء اﻟﻀﻮء ﻋﻠﻰ ﻣﻮﺿﻮﻋﺎت ﺟﺪﻳﺪة وﻣﺘﻨﻮﻋﺔ ،ﻛﻤﺎ ﻳﺴﻌﻰ إﻟﻰ دﻋﻢ اﻟﻤﺒﺪﻋﻴﻦ ﻣﻦ اﻟﻤﺆﻟﻔﻴﻦ واﻷدﺑﺎء واﻟﻔﻨﺎﻧﻴﻦ
@alfaisalmag
alfaisalmag
alfaisalmag
www.alfaisalmag.com
ﻣﺠﻠﺔ اﻟﻔﻴﺼﻞ
مسرح
الخوف حليف الظلم بينما التغيير حليف الحلم
مسرح المقهورين..
أفق متعدد وال نهائي لمقترحات جديدة نورا أمين
176
كاتبة وفنانة مصرية
ُ قابلت المسرحي والبطل الشعبي البرازيلي أوغستو في عام 1997م بوال للمرة األولى في مصرُ . كنت قد انتهيت لتوّي من ترجمة كتابه «قوس قزح الرغبة» الذي ُنشر في إصدارات مهرجان القاهرة الدولي للمسرح ً طبعا التجريبي تحت عنوان« :منهج أوغستو بوال المسرحي» (تفاد ًيا لكلمة «الرغبة») .كنت أعمل وقتها معيدة بأكاديمية الفنون بالقاهرة، ومترجمة ،وكذلك كاتبة وممثلة ومخرجة مسرحية .تفتحت عيناي على عالم مختلف من المسرح عندما قمت بترجمة إحدى تقنيات منهج مسرح المقهورين ،ثم تفتح ذهني على عالم كامل من الفعل المسرحي في عالقته بالتغيير عندما تحدثت إلى بوال وجهً ا لوجه.
مشهد من مسرحية عدو الشعب
العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
مسرح المقهورين ..أفق متعدد وال نهائي لمقترحات جديدة
كنت وقتها غارقة في المسرح الجمالي الذي كنت أتمنى تدريجيًّا أن أفتتح فيه فصلاً ً جديدا من التجريب على التعبير
الجسدي ،ومن ثم دمج خبراتي كراقصة ومصممة رقص مع خبراتي
كممثلة وكاتبة من أجل الوصول إلى لغة تعبيرية قادرة على فضح المسكوت عنه من قهر وقمع وحرمان .كنت على دراية كاملة بأنني
أريد أن أغوص في حقل ألغام القهر ،وأنني أسعى لخلق منظومة
جمالية ومعرفية جديدة قادرة على مواكبة جيل التسعينيات وفكره المستقل ومنتجه الثقافي المتمرد .لكنني لم أدرك ً بتاتا أن هناك مجالاً كاملاً ً مرتبطا بذلك السعي إال أنه خارج العالم الجمالي والمعرفي للمسرح المغلق ،وقد كان مسرح المقهورين الذي
أكمل دائرة مسعاي من خالل تعريفي بالبعد السياسي والتفاعلي والتربوي للمسرح من أجل التغيير.
دمج المسرح في عمليات التغيير
قمت بإطالق في خريف عام 2011م ُ «المشروع المصري لمسرح المقهورين» بعد أكثر من عامين على وفاة معلمي أوغستو بوال ودفعه لي كي ال أستريح قبل تحقيق الحلم ،ذلك الحلم الذي استوحيته من تجربة البرازيل ،وكان بوال نفسه ُملهِ ًما لي كي أقتفي خطواته بوال المُ ِّ نظر المسرحي والناشط السياسي ،نجد أن المواطن المقهور ،الذي عاش طويلاً في منظومة القهر الفكرية ،ال يكفيه أن يتحرر بعزل النظام الدكتاتوري أو بتبديل رأسه؛ ألن هذا المواطن
نفسه كفيل بإعادة إنتاج هذه المنظومة حيث إنه ال يعرف غيرها،
نشأت بيننا صداقة رائعة .سافرت في عام 2003م إلى البرازيل،
وألنها قد تحولت إلى نمط فكري تلقائي لديه .لذلك ينبغي مد الثورة
المقهورين بريو دي جانيرو ،وعلى يد المعلم أوغستو بوال شخصيًّا
الثقافي والتعليمي واالجتماعي ،أي من خالل ابتكار منظومة تربوية
بمنحة من اليونسكو لشباب الفنانين للتدرب في مركز مسرح
وفريقه .كنت حينئذ قد أسست فرقتي «الموزيكا المسرحية المستقلة» وقدمت عدة عروض وسافرت إلى مختلف أنحاء العالم،
لكن زيارة البرازيل بالنسبة لي كانت نقلة كيفية في نظرتي للعالم ولمصر ولكيفية دمج المسرح في عمليات التغيير االجتماعي ً تاريخا من القهر والسياسي .لقد رأيت البرازيل قرينة لمصر ،رأيت
ليس من خالل الفعل السياسي وحسب ،إنما من خالل الفعل
متكاملة تستطيع إنتاج ذهنية جديدة للمواطن ،تضمن المشاركة
الديمقراطية والعدل والمساواة والحرية. حاولت مرارًا وتكرارًا أن ّ ُ أنفذ ما تعلمته في مصر ،فقمت ًّ بالتدريب في ورش عدة ناجحة جدا بالتعاون مع جمعيات أهلية
فاعلة ،إال أن حلمي بالنزول للشارع ولقاء الجماهير بحرية وتلقائية
والحكم الدكتاتوري الشمولي ،ومن التمرد والثورة والنصر .رأيت «بوال» البطل الشعبي الذي ناضل واع ُت ِق َل ُ وع ِّذب في السبعينيات، ً عوضا عن اإلعدام؛ كي يعود ويساهم مع باولو فريري في ثم ُن ِف َي
تحريره ليتخذ موقعه في الشوارع ،والميادين ،والحدائق ،وأفنية
خالل المسرح ،ليتحرر من ذهنية القهر ومنظومته ،فال يعيد إنتاج
أرى أننا هكذا سوف ندخل فعليًّا في إطار المسرح من أجل التغيير،
تحرير ذهنية المواطن المقهور وإعادة تدريبه وتأهيله تربويًّا من
النظام نفسه مرة ثانية.
يقوم منهج مسرح المقهورين
على خمس تقنيات أساسية :مسرح الصورة ،ومسرح الجريدة ،والمسرح الخفي ،ومسرح المنتدى ،والمسرح
التشريعي .وكلها تقنيات تعمل على دمج المُ تفرِّج ليصبح فاعلاً بدرجة
أو بأخرى ،ولكي يتحول العرض
المسرحي إلى فعل قابل للتحول كل
مرة حسب تدخالت المُ تفرج ،حيث
يصبح المنبر المسرحي ساحة للنقد، ومساحة للتفاعل الحي مع المتفرج. وبهذا المعنى ُتعَ ّد التقنيتان األخيرتان أكثرها تفاعلية .في تجربة أوغستو
لم يتحقق على مدار ثالث سنوات من 2008م إلى 2010م .كنت أرى ً مطلقا الوجود داخل األبنية ،بل يجب أن مسرح المنتدى ال يكفيه المدارس ،ومراكز الشباب ،والنوادي الرياضية واالجتماعية .كنت
177
مسرح
أحد العروض المسرحية للمعلم أوغستو بوال
حيث المنبر المسرحي يتخذ موقعه في الحقل العام ،ويتحول منتدى للفعل الديمقراطي وللمشاركة .وكان مهمًّ ا ج ًّدا بالنسبة لي أن يتم الفعل المسرحي كإعالن وشهادة عن أحقية المواطن
178
في التعبير والمشاركة الفعالة في التعامل مع قهره ،ولو كانت
تلك المشاركة بمنزلة تدريب عملي على التغيير الحقيقي ،فقد
قال بوال :إن المسرح ليس هو الثورة الحقيقية مهما اقترحنا من
تغييرات ثورية ،إنه فقط بروفة على الثورة .كان المسرح المصري لعقود عديدة ،وقبل مبادرات المسرح المستقل والشبابي ،مسرحً ا
قائمً ا على المنظومة المعرفية والفكرية ذاتها التي يتبناها النظام الحاكم والمجتمع التقليدي .لقد كان مسرحً ا متبنيًّا في معظم
األحوال ألفكار الطبقية المعرفية حيث المعرفة تأتي من خشبة المسرح وترسل إلى الجمهور ،وحيث القسمة والفصل واضحان
جغرافيًّا ومعرفيًّا بين خشبة المسرح ومقاعد المتفرجين ،وحيث يجب الحفاظ على جميع وجوه النفاق االجتماعي من خالل إعادة
إنتاجه داخل المنظومة المسرحية واألداء المسرحي .ظهر المسرح كثيرًا كبوق للسلطة وأليديولوجية النظام الحاكم ولتمجيد الحاكم
الفرد البطل على غرار ثقافتنا الفرعونية .وظهرت مواضعاته الجمالية والفنية ل ُترسي التمييز في المواطنين بين منتج للثقافة
وصاحب الكلمة العليا وبين القطيع المتلقي السلبي الصامت. في هذا السياق كانت «المشاركة» ُتعَ ّد كسرًا للتقاليد البرجوازية العتيقة وخروجً ا عن شفرة االتفاق الجمعي والمجتمعي. ممارسات مستبدة
مع إسهامات جيل التسعينيات في الثقافة والتغيير ،ومع
نشوء العديد من مؤسسات المجتمع المدني الفاعلة والهادفة، العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
وبسبب تراكم الممارسات المستبدة وتحوالت الفكر الفردي الشبابي بالتزامن مع أحداث مجتمعية وسياسية فادحة ،دخلت
مصر األلفية الثالثة وهي مستعدة للتغيير .بيد أن النظام السياسي ِّ المعطل األول وليس الشعب ذاته .كانت مصر محكومة القامع كان بقانون الطوارئ ،وكانت عروض الشارع ممنوعة أمنيًّا ومجرد ً تحديدا هو السراب الذي ِعش ُته مع حلمي سراب .وكان ذلك لاً بمسرح المقهورين المصري وصو إلى ثورة 25يناير عام 2011م .كان
على «المشروع المصري لمسرح المقهورين» (الذي يتكون اليوم
من ست مئة ناشط ،ينتمون لنحو ثالثين مدينة مصرية تغطي معظم محافظات مصر) أن ينتظر أعوامً ا كي يولد في خضم الثورة المصريةًّ . حقا لم يكن من المعقول تحت النظام المستبد أن يولد
وأن يجوب الشوارع والميادين والمحافظات والمدن بطول مصر وعرضها .وكانت فكرة المشاركة التفاعلية ووضع المسرح داخل المجال العام المفتوح في حد ذاتها فكرة ثورية معارضة ،تفتقد إلى لحظة سياسية وثورية ووطنية كي تحتضنها ُ وت ِّ يسر لها طريقها،
وقد كان.
ُ قمت بإطالق «المشروع المصري لمسرح في خريف عام 2011م
المقهورين» بعد أكثر من عامين على وفاة معلمي أوغستو بوال
ودفعه لي كي ال أستريح قبل تحقيق الحلم ،ذلك الحلم الذي لهمً ا لي كي استوحيته من تجربة البرازيل ،وكان بوال نفسه مُ ِ أقتفي خطواته .بدأت بتدريب مجموعة من الناشطين في مدينة اإلسكندرية كي يتحوّلوا بدورهم تدريجيًّا إلى مساعدين لي في
التدريب ،ثم مدربين .كانت خطتي أن أخلق شبكة وطنية كاملة من ممارسي مسرح المنتدى بحيث تكون كل مدينة أو محافظة
لديها مجموعة محلية قادرة على تقديم عروض لمسرح المنتدى
مسرح المقهورين ..أفق متعدد وال نهائي لمقترحات جديدة
بل تدريب أفراد إضافيين لالنضمام لها ،ومن ثم التواصل مع بقية الوحدات والمجموعات والتجوال بالداخل .هكذا رأيت أنه يمكن خلق حركة مسرحية من أجل التغيير وخارج مركزية القاهرة.
كان الشعب المصري قد خرج بكامله وثار وقام بالتغيير .كانت
الشوارع والميادين قد عادت إلى المواطنين المصريين بعد أن كانت حكرًا على الدولة والحكومة .كانت جموع المصريين كتلة واحدة منسجمة ومدركة لقوتها .كانت لحظة المواطنة والديمقراطية
بامتياز .وكان المواطنون قد استعدوا لجميع أنواع المشاركة، ولكسر أنماط الفصل والتمييز والقهر .أصبح المجال العام مفتوحً ا
للفن وللممارسات التفاعلية من مسرح وغناء وموسيقا وغرافيتي.
وكان ذلك هو الميالد الذي يليق بالحلم .يتميز مسرح المنتدى عن غيره من أنماط المسرح الشعبي ومسرح الشارع ،بأنه يتعامل ً وتحديدا مع قضايا القهر ،وبأنه مُ عَ ّد خِ ِّصيصى ليس مباشرة
للفرجة وال للترفيه والتسلية ،إنما للتأثير في حياتنا وقضايانا اليومية ووعينا وفكرنا بحيث نعيش واقعً ا أفضل .هو مسرح يعرض مشاهد بسيطة ج ًّدا عن قهر ما ،لكنه قهر حقيقي ملموس من واقع المتفرجين ،إال أنه ال يتوقف عند ذلك ،فهو يفتح المنبر
للمتفرج -الفاعل كي يسهم ويشارك في العرض من خالل اقتراح تصرفات لمواجهة القهر الحادث بتغييره أو تفاديه أو تحجيمه.
هكذا يقود «الجوكر» (مُ ي َِّسر األمسية المسرحية) إلى حوار ونقاش
مع الجمهور حتى يظهر متفرج متطوع بفكرة ،وهنا يصر الجوكر
على أنه ال يمكن اختبار الفكرة بسردها ،بل ينبغي اختبارها بتطبيقها ّ محل االقتراح عمليًّا أي بالصعود بين الممثلين ،وتجريب الفكرة
مهما بالنسبة لي أن يتم الفعل ًّ المسرحي كشهادة عن أحقية المواطن في المشاركة الفعالة في التعامل مع قهره ،ولو كانت تلك المشاركة بمنزلة تدريب عملي على التغيير الحقيقي ُ الممثل وبالفعل يرتدي أحد إكسسوارات الشخصية ،ويترك َ مكانه لهذا المتفرج .وال مجال بالطبع ألن يحل المتفرج محل القاهر ألنه من غير المنطقي أن يقوم القاهر بالحل وهو صاحب
المصلحة األولى في القهر ،كما يتعين على جميع المشاركين احترام أساسيات المنهج بعدم اقتراح حلول غيبية أو خرافية ،أو حلول فاسدة قائمة على التحايل والكذب والرشوة بجميع أنواعها،
أو حلول عنيفة عدوانية تستخدم العدوان الجسدي الذي يزيد من دائرة القهر ويحيل حتى المقهور إلى قاهر. االرتجال الفوري
بينما يحاول المتفرج االرتجال الفوري يكون بالفعل قد بدأ
تدريبه الذهني على التغيير ،فقد كسر نمط الالمباالة والسلبية واالقتناع باستحالة التغيير؛ كي يتبنى ذهنية اإليجابية والتفكير
الحر ،والنقد الذاتي ،واإليمان باإلرادة وبالكرامة اإلنسانية .وفوق هذا وذاك ،أصبح هذا المتفرج فاعلاً ،ولو فعلاً رمزيًّا مؤق ًتا ،بحيث ً موقفا مماثلاً في المستقبل سوف يتمكن من تبني أنه عندما يواجه
داخل المشهد .ثم يختار المتفرج إحدى الشخصيات المقهورة أو
ذهنية الفعل مرة أخرى .وال ينبغي أن ننسى أن كل ذلك يتم في
للقيام بتلك الفكرة ،ويختار لحظة محددة من الموقف المسرحي.
المتفرج ذاته مساهمً ا في المجال العام بأفكاره الخاصة ،ويشهد
الحليفة للمقهور كي يحل محلها حيث يرى أنها أنسب الشخصيات
العلن وأمام الجمهور وفي المجال العام المفتوح ،ومن ثم يصبح على ذلك أقرانه من المتفرجين الذين يدركون تدريجيًّا تحول األمسية المسرحية إلى تدريب مفتوح ومشاركة ديمقراطية تعيد
لهم أصواتهم ،وتبني من جديد الحيز العام وعالقات المواطنة. ربما ما يقترحه المتفرج ال يؤدي إلى الخروج ،ولو قليلاً ،من
موقف القهر ،إال أن المحاولة هي الهدف ،ليس الهدف هو حل القهر وإال النتهى العرض سريعً ا ،وذهبنا جميعنا إلى بيوتنا .بل
الهدف هو الوصول إلى تلك المحاولة مرارًا وتكرارًا ،وفتح أفق
متعدد وال نهائي لمقترحات جديدة .وفي هذا الصدد ينبغي أن نعرف أن ممثلي أو ممارسي مسرح المنتدى يتدربون ً جيدا على
تقنيات منهجية محددة وضعها أوغستو بوال كي يتمكنوا من ً مختلفا لمسار االرتجال الفوري مع المتفرج حال اقتراحه سيناريو
األحداث .هي تقنيات ممنهجة جميعها تساعد الممثل على فهم
فلسفة القهر ومبادئ منهج مسرح المقهورين بحرفية عالية؛ كي
أوغستو بوال
يرتجل من هذا اإلطار فال يكسر المنهج ،وبالتالي يدفع بالمتفرج إلى عكس الهدف من الحلم.
179
موسيقا
موسيقا كناوة .. تراث الصحراء الكبرى من جراح مفتوحة على العالم إلى غناء روحي فريد ورقص تعبيري خالق 180
العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
سعيد بوكرامي كاتب مغربي
إقبال كبير على موسيقا كناوة من زائري ساحة جامع الفنا الشهيرة في مراكش ومهرجان الصويرة ،سواء كانوا مغاربة أو عر ًبا أو أجانب ،ومع ذلك الكثير من الناس ال يعرفون شي ًئا عن ماضيها القديم؛ إذ تعود هذه الموسيقا الفريدة إلى جنوب الصحراء الكبرى ،فمعظم الكناويين ترجع أصولهم إلى إمبراطورية السودان الغربية التي تضم السنغال ومالي والنيجر وغينيا .ولكن أصل كلمة :كناوة، ً ِّ مفسرًا أصل الكلمة :يوجد تشابه لفظي مع العبارة معروفا حتى اآلن .يقول موريس دوالفوس ليس األمازيغية «أقال-ن -إغويناوين» وهي تعني أرض الزنوج .وقد نتج عن هذا المصطلح والدة صفة «غينيا» ومنها «غناوة» ،على الرغم من انعدام المعطيات التاريخية التي ِّ ً خالفا توثق وتدعم هذه األطروحة. ً عبيدا تحولوا إلى اإلسالم؛ للعديد من األفكار السائدة عن الموسيقيين الكناويين ،فهم ليسوا كلهم إذ كان معظمهم من أصل إفريقي أسود ،وهم ينتمون إلى جنوب الصحراء الكبرى ،فهناك في الواقع فئات منهم من العرب أو األمازيغ؛ أي من ألوان وجماعات عرقية مختلفة ،وذات أصول اجتماعية َّ مركبة ،إال أن الموسيقا وجماعاتها وحَّ دت هذه األعراق ،وجعلتها تؤسس مدارس عائلية ،سهرت على رعاية الموسيقا الكناوية والمحافظة عليها أ ًبا عن ٍّ جد ممتدة في الزمان والمكان. االمتدادات امتدت ثقافة كناوة من خالل الموسيقا لتشمل فنوناً
مغاربية مثل :موسيقا «الديوان» في الجزائر ،و«ستانبلي» في ُ درج العديد من األساليب الموسيقية ليبيا وتونس .ومنذ عقود أ ِ واإليقاعات الكناوية سواء في المغرب أو في الجزائر وتونس وليبيا أو على الصعيد العالمي ،ويتمظهر هذا في أنواع عديدة
من الموسيقا مثل :الراب المغربي ،والموسيقا األمازيغية َّ وتجلى ذلك بوضوح في تجربة مجموعة «ناس العربية.
تجلت في تجارب عالمية ِّ الغيوان» الفريدة والثرية .كما َّ توظف
موسيقا كناوة والجاز أو كناوة والريغي وكناوة والبلوز .ونذكر على سبيل المثال ال الحصر تجارب كارلوس سانتانا ،وبيتر غابرييل ،وليد زيبلين ،وروبرت بالنت ،وراندي ويستون،
والبينك فلويد ،وكات ستيفنز ،وجيمي هندريكس ،وهنري سلفادور ،وسافو ،وريتا ميتسوكو والقائمة طويلة .ورغم
انتشار موسيقا كناوة في أرجاء العالم وعزفها من طرف فرق في أوربا وأميركا واليابان إال أنها لم ُتسجَّ ل موسيقيًّا إال في ُ نجز أول تسجيل صوتي لموسيقا كناوة على عام 1975م حينما أ ِ شريط كاسيت. في أوائل شهر يونيو من كل عام ،ينظم مهرجان كناوة في
مدينة الصويرة تحت شعار« :مهرجان كناوة وموسيقا العالم».
ويكون فرصة إلحياء ليالي موسيقية كناوية بقيادة «المعلمية» أو بمشاركة فرق عالمية .كما يشكل للدارسين مناسبة فريدة لالستماع إلى كبار المعلمين الورثة الشرعيين لهذه الموسيقا
الروحية .وفي السياق ذاته يكتشفون أن هناك أسرارًا دفينة
وراء هذه الموسيقا اآلسرة ،بطقوسها التي ترقى إلى مستوى العالج النفسي .يقول الشيوخ القدامى عن الموسيقا الكناوية: ً ً وثيقا بالطقوس العالجية التي ارتباطا إن موسيقاهم مرتبطة مارسها أجدادهم األفارقة في جنوب الصحراء الكبرى ،ويمكن
للمتمعِّ ن في إيقاعات الموسيقا الكناوية أن يكتشف تشابهها
181
موسيقا
الكبير مع موسيقا الفودو في هايتي ،أو السانتيريا الكوبية أو
بالكنبري .وخالل ليلة العادة يستغنى ً أيضا عن القراقش
األفارقة من إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى خالل مراحل
ستعود خالل المرحلة التالية .ثانيًا -أوالد بامبارة :بعد االنتهاء
الكاندومبلي البرازيلية .وجميعها من أصول واحدة ،استقدمها
االستعباد وتجارة الرقيق.
تمارس طقوس الموسيقا الكناوية ليلاً ؛ لهذا ُتسمَّ ى «الليلة»ُ ، وتمارَس سواء في بيت خاص أو في الزاوية .ويكون
الهدف من طقوس كناوة الليلية التفريج عن النفوس وطرد األرواح التي تهيمن عليها .وبذلك فهم يمارسون طقوسً ا ً وسيطا بين الموسيقي أو العازف إفريقية قديمة تجعل من ّ
العالم الواقعي وعالم األرواح .بفضل حالة الالشعور الباطني، تصبح الليلة على حد سواء طقوسً ا للخالص وأداة عالجية.
وتتكون الفرقة الموسيقية من «المعلم» الكناوي والموسيقيين الراقصين ،والمقدمة وهي حارسة الزاوية المقدسة. الليلة الكناوية
تنفذ الليلة الكناوية على ثالث مراحل :العادة ،وأوالد
من المرحلة األولى ،يبدأ طقس جديد يسمى «النقشة» أو «النكشة» ينبري فيه راقصو الكناوة إلى الرقص االنفرادي تارة والجماعي تارة أخرى .وبعد استرخاء وجيز تدخل الليلة
الكناوية مرحلة تسمى بـ«فتوح الرحبة» يُعَ دُّ فيها المكان الذي ستقام فيه الليلة المقدسة.
في هذه األثناء تحضر «المقدمة» وهي سيدة تهيمن على المراحل المتبقيةً . ثالثا -الملوك :في البداية تضع المقدمة صينية أمام «المعلم» بها بخور متنوع وأشياء أخرى .ثم تبدأ بإلقاء قطع قماشية مختلفة األلوان .وترمز إلى ملوك الجن.
وعلى إيقاع الموسيقا ومراحلها يؤمر المريدون بارتداء لون من ألوان القماش ،مثلاً اللون األسود فصاحبه هو الملك «سيدي
ميمون» و«اللة ميمونة» ،أما اللون األحمر فهو للملك «سيدي
حمو» .بيد أن اللون األزرق فهو للملك «سيدي موسى» .وترتب األلوان بحسب المحالت التي تنتمي إليها ،وهي :محلة األبيض،
بامبارة ،والملوك ،ويندرج جميعها فيما يسمى «الدردبة». أولاً -العادة :تبدأ بطواف الفرقة الكناوية أزقة وشوارع المدينة
واألسود ،واألزرق ،واألحمر ،والمبرقش ،واألخضر ،ثم األبيض
َّ مرصعة بأنواع من الصدف .خالل المتعددة األلوان ،وطاقية
يقول الشيوخ القدامى عن الموسيقا
القديمة متشحين بمالبسهم المميزة المتكونة من الفوقية
182
تدريجيًّا لتعوض بإيقاع الكف .لكنه استغناء مؤقت؛ ألنها
الطواف على إيقاع الطبول والقراقش أو القراقب الحديدية، ال تستعمل آلة الكنبري وهي آلة وترية تشبه إلى حد كبير آلة النكوني التي ما زالت يعزف بها في مالي إلى اليوم .في مقدمة الموكب «العادة» تسير الفتيات حامالت الشموع.
وبمجرد العودة إلى البيت يستغنى عن الطبول وتعوض
العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
الكناوية :إن موسيقاهم مرتبطة ارتباطا وثيقً ا بالطقوس العالجية التي ً مارسها أجدادهم األفارقة في جنوب الصحراء الكبرى
موسيقا كناوة ..تراث الصحراء الكبرى
واألسود ،واألبيض واألصفر ،ثم على إيقاع الكنبري والقراقش
والثالثية .قاعدته اإليقاعية تعتمد على آالت القراقب التي
واستجابوا روحيًّا للخالص .خالل هذه المرحلة من الطقس
كلما تدفق الغناء أكثر ،تتحكم فيه حاالت المغني النفسية
يتصاعد اإليقاع ليدخل المريدون الذين وصلوا إلى الحالة،
تضبط بشكل صارم كل مرحلة من الليلة .وكلما تصاعد اللحن
يقوم المعلم بمالحظة المجموعات المختلفة من المغنين
المختلفة ،وقدرته الحسية على الشعور باإليقاع؛ لهذا تبقى
ُ وتعَ دُّ الكنبري اآللة المركزية للطقوس الكناوية ،فهي
الغناء :يتألف برنامج الليلة من مجموعة من األغاني،
الدعوات إلى الملوك .في حالة من التعبئة الموسيقية
بالغناء على إيقاع الكنبري وعلى مراحل قصيرة .يتجاوب
المرتبطين بلون ملك من الملوك ،بعدها يشير بضرورة
استقدام الشخص الذي وصل إلى مرحلة «الجدبة» والنشوة.
تساهم بإيقاعها الروحي في تصعيد النشوة عن طريق إرسال والروحية مع التقيد الصارم بشروط إحياء العادة التي من
شأنها أن تسمح باستدعاء األرواح وتحرير بعض األجساد من أمراضها النفسية.
الخصائص الموسيقية
المقامُ :تص َّنف موسيقا كناوة من بين األنواع الخماسية
النغمات .في الواقع هي كذلك ،لكن نوتة واحدة من المقام ُّ تحل معرضة لالستبدال أو االنتقال المفاجئ .وإليضاح أكثر،
ّ محل الدرجة «مي المنخفضة»، الدرجة الموسيقية «ري» وهذا االنتقال ِّ يذكرنا بمقام ال َّر ْ صد في الموسيقا األندلسية على وجه التحديد ،وذلك باستخدام ست درجات.
اإليقاع :في موسيقا الليلة ،يلعب اإليقاع دورًا قياديًّا.
إيقاع كناوة نموذجي تتداخل وتصطف فيه الصيغ الثنائية
موسيقا كناوة موسيقا حسية يغلب عليها اإليقاع الباطني ّ المتقلب والمنسجم في اآلن نفسه. تتخللها معزوفات منفردة على الكنبري .في حين يقوم الملوك المريد مع اإلشارات الغنائية ورموزها الوجدانية ،فيستجيب ً خالفا لغيرها من أنواع الموسيقا فورًا للحالة الالشعورية.
الشعبية المغربية ،فإن الحالة الموسيقية الكناوية يمكن أن ً أحيانا وقتها المحدد .ويمكن أن نضيف جانبًا تتمدد وتتجاوز
نموذجيًّا في موسيقا كناوة وهو إمكانية مصاحبة المريدين
الملوك في غنائهم والتماهي مع نوباتهم ومراحل ارتقائهم من حالة أسر إلى حالة انعتاق.
موسيقا كناوة روحية تخاطب الوجدان والتاريخ ،والضمير
اإلنساني .تعزفها الذاكرة منذ بداية آالم اإلنسان اإلفريقي وهو يجُ َتث من أرضه وأصوله ،ليباع في أسواق النخاسة في أوربا
واألميركيتين ،أو في إفريقيا الشمالية .هذه المحنة تحولت تدريجيًّا من جراح مفتوحة على العالم وصراخ واحتضار ،إلى غناء روحي فريد ورقص تعبيري خلاَّ ق.
183
مقال
سيف الرحبي -شاعر عماني
غرفة استقبال الضواري أجلس على طاولة إزاء كونتر االستقبال في الفندق الذي أنزل فيه،
أتأمل القادمين والذاهبين من كل األلوان واألجناس ،من البلدان البعيدة
والقريبة ..في هذا الفندق الذي يقع وسط غابة صغيرة ّ تشكل امتدا ًدا للغابة
الكبيرة المتالطمة األشجار والحيوات والطيور الصادحة طوال الليل ،بأصوات
تتهادى إلى مسمعي بين العواء الجريح ،والفرح الحالم في نومه.
يذكر أو يختصر ّ قبالة غرفة االستقبال الخشبيّة ،المكان الذي ّ محطات
قطارات حديثة أو تلك القديمة التي يعلوها الدخان ،والسُّ خام ...بالمطارات الكبيرة والصغيرة ،أحدق في سحنات وجوه القادمين الم ْتعبَة من الرحالت الطويلة التي تشبه رحلتي من ُعمان في الضلع األقصى من شبه جزيرة
العرب ،إلى الشرق اآلسيويّ األقصى ..وبخاصة إذا كان المسافر قد تقدم به
العمر والزمن ،تكون ضريبة التغيير وشمّ الهواء في البالد األخرى المختلفة، مرهقة وباهضة ،وستأخذ الرحلة وتبعاتها يومًا أو يومين حتى يبدأ المترحّ ُل
184
في التخلص من عناء السفر ومتاعبه الجمّة ،وبخاصة في هذه البرهة
المضطربة في تاريخ العالم بحواجزه البوليسية ودوائر مطاراته المتحفزة دومًا بالريبة واالنقضاض.
أحدق في وجوه القادمين والذاهبين إلى ديارهم بطمأنينة من قضى فترة نقاهة واستجمام ،وتفترسني وجوه ماليين البشر الذين يتو ّزعون مخطوفين (بمعنى األلم وليس النشوة) في المتاهات البريّة والجويّة
والبحريّة ألسباب مختلفة ،في طليعتها الحروب التدميريّة الصاعقة..
الشمس الغارقة في ُصفرة المغيب ِ أشكال كأنما النباحُ شكلاً من ِ التبجيل والوداع..
٭٭٭
سالمًا على ظهوراتك الشبحيّة أيتها
الضواري ،ترتسمُ على صفحة األفق
المحيط متآخية مع البروق وانفجارات وأنت تلعبين الغمّيضة مع الرعدِ ،
أطفالك على تخوم الغاب.. سالمًا على النيازك تسّ اقط
أحضانك والحنين.. في ِ
٭٭ ٭
أيتها العظاية الصغيرةّ ، تتسللين من بين شجيرات األكمة إلى طاولة ً ً برق عابر رشيقة ،بلسانك الصغير الذي ال يكاد يُرى، خفيفة اإلفطار ِ كومض ٍ حب كثيفة .تح ّدقين بي وحي ًدا في هذا الصقع النائي ،لكن رغم نأيه بين سُ ٍ ً ووحشته أكثر ألفة من أوطان البغضاء والحروب.
ً ً وأنت ساهمة أيتها الصغيرة سادرة ..بماذا تحدثين نفسك يا مؤنستي ِ تقفين على مشارف الغابة المطيرة المأهولة بالوحشي والمجهول حيث تتنزهّ
الجوارح والتماسيح...؟ هل تحلمين بأن تكوني مثلها ،مثل التماسيح ساللتك
وأستحضر رحلة البشر في التاريخ المتراكم والزمان ،رحلة الكائن في مختلف
الكبرى والمثال االفتراسي األكثر ِقدمًا من اإلنسان والحيوان حين كان الكون شاسعة وحرّة للزواحف والماموث .حين لم ْ ً ً تظهر بعد بذور النسل مفازة
بكائناته ورعاياه ،لكني أستدرك على الفور أن هذا اإلله الوثني الذي تقع في
إطاللته البهيّة بهاء الغابة والشجرة ،على رغم حزن محيّاك ،كل صباح..
عصوره وأمكنته ،من المهد إلى اللحد .ملحمة األلم والعبث واألحالم
َ المجهضة في آخر المطاف أو أوَّله ،وأنادي (هرمس) اإلله حامي المسافرين ً والرعاة في أساطير اإلغريق ،أن يرفق إن كان مزاجه رائقا لمثل هذا الرفق، اختصاصه حماية المسافرين في ليل المسافة ،هو نفسه المكلف بقيادة
األرواح إلى العالم السُّ فلي .وهنا تكمن المفارقة المضيئة بالداللة والمعنى
في متون الرحلة الكبرى لهؤالء المترحّ لين والمسافرين عبر األزمان ،التي تتأرجح بين ج ّنة الحماية ،وجحيم السفر إلى المجهول. ٭٭٭
في هذا المساء البحريّ أحسبُ القوارب والسفنَ ، ّ قليل ضواري وجوارحَ ستنقض بعد ٍ الفتراس المغيب.. ِ
بالنباح على كالبٌ محتدمة ِ
٭٭٭
العددان 488 - 487شعبان -رمضان 1438هـ /مايو -يونيو 2017م
البشريّ كالق َر َدة وأشباهها (األورانغوتان على الخصوص) وليس من نبوء ِة آله ٍة بذلك ْ المقدم والظهور ..بماذا تهجسين يا تمساح صباحاتي الذي أنتظر ٭٭٭
أقرأ أللبير كامو ،عن ّ مشقة السفر ،وبخاصة للفقير ماديًّا ..وعن قبح ً مخيفا في ح ّد ذاته لكن النوع القبيح منه.. االستقرار .وبأن االستقرار ليس
ومن حق اإلنسان أن يكون سعي ًدا في حياة عابرة مفعَ مة بالعبث والالجدوى.
لماذا كل هذا األلم؟ -يضيف كامو -ضمن أطروحته األثيرة ،باالنتحار
بمسدس عيار ...أو بالزواج ...إلخ ...أضيف أن إنجاب األطفال يبطل مماثلة الزواج بمسدس االنتحار أو يعجّ ل به وفق حساسية الشخص ،ونزوعاته
ومحيطه..
أطفال البشر ،هل يمكن التوقف عن التسلسل المنطقي لألفكار،
الوحشي مع واستدعاء أطفال التماسيح والضواري األخرى ،يلعبون بغريزة ّ ُّ الشهب المتناثرة في فضاء الخليقة بسعاد ٍة وأنس؟
King Faisal Foundation
(+ 96611)4656524 :¢ù``cÉa (+96611)4652255 :∞JÉ``g á`` ` ` ` jOƒ`©` `°ù`dG á`` ` ` «Hô`` ©` dG á`` ` ` ` µ` ∏ª`ŸG 11411 :¢VÉ`` `jô``dG 352 :Ü .¢U
P.O.Box 352 Riyadh 11411 Kingdom of Saudi Arabia Tel: (+966 11) 4652255 Fax: (+966 11) 4656524
www.kff.com