assuu 487 488مجلة الفيصل

Page 1

‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬

‫ما وراء النفط‬

‫ماذا يقرأ زعماء البيت األبيض؟‬ ‫الطاهر لبيب‪ :‬التشبث بالماضي‬

‫تحديات الرواية‬

‫يفتوشينكو‪ :‬مراقبو‬

‫وراء ظهور كائنات متوحشة‬

‫السعودية‬

‫الكتب أفضل قرائي‬

‫‪www.alfaisalmag.com‬‬


‫‪www.kfcris.com‬‬

‫اﻟﺒﺤﻮث واﻟﺪراﺳﺎت‬

‫اﻟﻤﺤﺎﺿﺮات واﻟﻨﺪوات‬

‫‪kfcris@kfcris.com‬‬

‫‪@kfcris_sa‬‬

‫اﻟﻤﻜﺘﺒﺔ‬

‫اﻟﻤﺘﺎﺣﻒ‬

‫‪kfcris_sa‬‬

‫‪KFCRISKSA‬‬

‫اﻟﺘﺪرﻳﺐ‬

‫‪KFCRIS‬‬

‫اﻟﻜﺘﺐ واﻹﺻﺪارات‬

‫ص ب‪ ٥١٠٤٩ :‬اﻟﺮﻳﺎض ‪ ١١٥٤٣‬اﳌﻤﻠﻜﺔ اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ اﻟﺴﻌﻮدﻳﺔ ﻫﺎﺗﻒ‪ ٠٠٩٦٦ ١١ ٤٦٥٢٢٥٥ :‬ﻓﺎﻛﺲ‪٠٠٩٦٦ ١١ ٤٦٥٩٩٩٣ :‬‬ ‫‪Fax: 00966 11 4659993‬‬

‫‪Tel: 00966 11 4652255‬‬

‫‪P.O. Box 51049 Riyadh 11543 Kingdom of Saudi Arabia‬‬

‫اﻟﺸﺆون اﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ‬


‫«‬ ‫ﺗﺠﻮل ﻓﻲ ﻣﻮﻗﻊ »‬ ‫ﻣﻘﺎﻻت ﻟﻨﺨﺒﺔ ﻣﻦ أﻫﻢ اﻟﻜﺘﺎب‬ ‫ﻣﻠﻔﺎت وﺗﺤﻘﻴﻘﺎت وﻗﻀﺎﻳﺎ ﻋﻦ اﻟﺮاﻫﻦ اﻟﺜﻘﺎﻓﻲ واﻟﺴﻴﺎﺳﻲ‬ ‫ﻣﻊ إﻃﻼﻟﺔ ﻋﻠﻰ اﻹﺑﺪاع ﻓﻲ ﻣﺨﺘﻠﻒ اﻟﻔﻨﻮن‬

‫‪@alfaisalmag‬‬ ‫‪alfaisalmag‬‬ ‫‪alfaisalmag‬‬ ‫ﻣﺠﻠﺔ اﻟﻔﻴﺼﻞ‬

‫‪alfaisalmag.com‬‬

‫‪editorial@alfaisalmag.com‬‬

‫‪+966 11 4647851 :¢ùcÉa +966 11 4653027 :∞JÉg ájOƒ©°ùdG á«Hô©dG áµ∏ªŸG 11411 ¢VÉjôdG 3 Ü ¢U‬‬


‫يصدرها‬

‫أسسها عام ‪1397‬هـ‪1977/‬م‬

‫األمير خالد الفيصل‬

‫العددان‬

‫‪488-487‬‬

‫‪2‬‬ ‫الملف‬

‫كتاب الفيصل ‪16‬‬

‫ما وراء النفط ‪49 18‬‬ ‫محمد الرميحي‬ ‫(ثمانية عقود من النفط في الخليج‪..‬‬ ‫أين الثقافة؟)‬ ‫فوزية أبو خالد‬ ‫(يعيش مثل حالة سرية فينا)‬ ‫محمد اليحيائي‬ ‫(النفط الذي أعطى والنفط الذي أخذ)‬ ‫حسن مدن‬ ‫(ليس ظاهرة خليجية)‬ ‫عثمان الخويطر‬ ‫(دور البترول في حياتنا)‬ ‫عبدالله المدني‬ ‫(آثار إيجابية كاسحة)‬ ‫علي أبو الريش‬ ‫(سنوات النفط ال تكفي لصنع رواية حقيقية)‬ ‫سعاد العنزي‬ ‫(األدب الخليجي والنفط)‬

‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬


‫الناشر‬

‫رئيس مجلس اإلدارة‬

‫األمير تركي الفيصل‬

‫رئيس التحرير‬

‫الثقافية‬

‫دار‬

‫ماجد الحجيالن‬

‫‪editorinchief@alfaisalmag.com‬‬

‫بورتريه‬

‫دراسات‬

‫الحرب بعيون أنثوية‬ ‫(مايا الحاج)‬

‫ديريك والكوت‪ ..‬شاعر الشتات والتشظي‬

‫‪58‬‬

‫ً‬ ‫منساقا‬ ‫يصعب أن ُتنادي ضدّ تجنيس األدب ثمّ تجد نفسك‬ ‫أدب نسائي‪ .‬فالنظريات التي أرساها كثيرون‬ ‫نحو الكتابة عن ٍ‬ ‫من ّ‬ ‫النقاد العرب حول روايات النساء التي تنشغل بالذات على‬ ‫حساب العالم‪ ،‬راحت ُتثبت ضعفها يومً ا تلو آخر‪ .‬وما من شيء‬ ‫يُثبت تهافت تلك النظريات سوى دراسة الروايات (النسائية)‬ ‫الصادرة خالل السنوات األخيرة‪ ،‬حيث انشغلت معظم الكاتبات‬ ‫العربيات بالوضع السياسي‪ -‬االجتماعي العام‪ ،‬فكتبن عن الحرب‬ ‫التي ُعدَّت دائمً ا من الموضوعات «الذكورية»‪ ،‬ال «األنثوية»‪.‬‬

‫‪70‬‬

‫(محمود عبدالغني)‬

‫ولد الشاعر والمسرحي ديريك والكوت سنة ‪1930‬م‪،‬‬ ‫بجزيرة سانت لوسي‪ ،‬المستعمرة البريطانية التي نالت‬ ‫استقاللها سنة ‪1979‬م‪ .‬ظل طوال سنوات يقضي وقته‬ ‫بين ترينيداد وبوسطن حيث كان يدرّس األدب اإلنجليزي‬ ‫في جامعة بوسطن‪ .‬فاز بعدّ ة جوائز أهمها‪« :‬الميدالية‬ ‫الملكية الذهبية للشعر» سنة ‪1988‬م‪ ،‬وجائزة «و‪.‬هـ‪.‬‬ ‫سميث األدبية سنة ‪1990‬م عن ملحمته «أوميروس‪،‬‬ ‫هوميروس»‪ ،‬ثم جائزة نوبل لألدب سنة ‪1992‬م‪.‬‬ ‫تحقيقات‬

‫ثقافات‬

‫دورا في تكريس‬ ‫أدباء في الظل‪ ..‬هل لعبت الميديا‬ ‫ً‬

‫إمبرتو إيكو‪ ..‬سياسي حتى العظم‬ ‫(أحمد فرحات)‬

‫‪104‬‬

‫قرأنا الكثير عن الروائي اإليطالي إمبرتو إيكو أديبًا وأكاديميًّا‬ ‫ً‬ ‫وباحثا في القروسطيّات وعالمً ا في‬ ‫وسوسيولوجيًّا وناقدً ا‬ ‫ّ‬ ‫اللغويّات والسيميائيّات (دراسة‬ ‫األدلة)‪ ،‬ولم نقرأ عنه‬ ‫ً‬ ‫منخرطا في عالم السياسة‬ ‫كناشط سياسي؛ علمً ا بأنه كان‬ ‫حتى أذنيه‪ ،‬وكان يكتب في أحداثها وتطوّراتها بانتظام‪،‬‬ ‫ً‬ ‫خصوصا في مجلة «ليسبريسو» ‪ ،‬وفي الـ«نيويورك تايمز» ‪.‬‬

‫‪92‬‬

‫كتّاب وتهميش آخرين؟‬

‫(الفيصل خاص)‬

‫يقال‪ :‬إن المنافسة بين عميد األدب العربي طه حسين‬ ‫وخصمه الدائم الدكاترة زكي مبارك دفعت العميد‬ ‫إلى استخدام سلطاته لمنع غريمه من التدريس في‬ ‫الجامعة‪ ،‬مما دفع األخير ألن يطبع كروت تعارف كتب‬ ‫عليها‪« :‬الدكاترة زكي مبارك‪ ،‬حاصل على عالِميَّة األزهر‪،‬‬ ‫ولم يحصل عليها طه حسين»‪.‬‬

‫‪3‬‬


‫تشكيل‬

‫سينما‬

‫آل عياف‪ :‬ستستمر المحاوالت الفردية في السينما‬ ‫طالما ال يوجد دعم حكومي (هدى الدغفق)‬

‫‪172‬‬

‫يعد عبدالله آل عياف من األسماء التي برزت مؤخ ًرا في‬ ‫مجال السينما وصناعة األفالم القصيرة في السعودية‪ .‬أنجز‬ ‫آل عياف خمسة أفالم كانت من أفضل األفالم التي أُنتجت‬ ‫في الخليج في األعوام األخيرة‪ ،‬هي‪« :‬السينما ‪ 500‬كم»‪،‬‬ ‫و«إطار»‪ ،‬و«مطر»‪ ،‬و«عايش» و«ست عيون عمياء»‪.‬‬

‫كتب‬

‫‪126‬‬

‫‪136‬‬

‫ضياء العزاوي‪ :‬في السبعينيات ضاقت بنا بغداد‬

‫‪162‬‬

‫(خضير الزيدي)‬

‫ضياء العزاوي‪ ،‬فنان تشكيلي ينتمي إلى الجيل الستيني في‬ ‫العراق‪ ،‬حقق منذ ذلك التاريخ حتى هذه اللحظة قدرًا كبي ًرا من‬ ‫األهمية الفنية‪ ،‬من خالل تقنياته في الرسم والنحت‪ ،‬وإنجاز‬ ‫ً‬ ‫وأيضا‬ ‫المدونات التي تخص الشعر بصياغات جمالية تعبيرية‪،‬‬ ‫من خالل طروحاته المعرفية‪.‬‬ ‫شحيد‬ ‫جمال‬ ‫ّ‬ ‫عندما يتجاهل السياسيون‬

‫مقاالت‬

‫العرب ابن خلدون‬

‫‪4‬‬

‫‪68‬‬

‫محمد خضير‬ ‫البصرة ‪ -‬اإلسكندرية‬

‫‪90‬‬

‫عبدالله المطيري‬ ‫كيف يمكن إدخال قضايا التربية‬ ‫في الجدل الثقافي؟‬

‫‪116‬‬

‫ياسمينة خضرا‬ ‫لماذا أكتب؟‬

‫‪138‬‬ ‫عزت القمحاوي‬ ‫محنة ثقافة اطمأنت للكسل‬

‫‪148‬‬

‫جميلة عمايرة‬ ‫حين تكتب المرأة‪ ..‬عن الكتابة وأشكالها‬

‫‪160‬‬

‫سيف الرحبي‬ ‫غرفة استقبال الضواري‬

‫‪184‬‬

‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬


‫نصوص‬

‫‪50‬‬

‫آسبن ستروم‬ ‫قصائد من السويد‬

‫‪114‬‬

‫جيل رونار‬ ‫حكايات طبيعية‬

‫‪79‬‬

‫عاشور الطويبي‬ ‫نصوص‬

‫‪119‬‬

‫عبدالله األسمري‬ ‫من شعر الهايكو‬

‫‪80‬‬

‫محمد جازم‬ ‫مونولوغ لرجل الطربال‬

‫‪143‬‬

‫ممدوح عبد الستار‬ ‫اعتراف متأخر‬

‫‪113‬‬

‫نصار الحاج‬ ‫فراشات‬

‫‪158‬‬

‫إدريس علوش‬

‫مدير التحرير‬

‫أحمد زين‬ ‫اإلخراج‬

‫في فناء الفكرة المستديرة‬

‫في هذا العدد‬ ‫الرواية السعودية وتحدياتها (سلوى‪ ‬الميمان)‪...............‬‬ ‫السرد وغايته في النوفيال (جوديت اليبوفيتز)‪..................‬‬ ‫داعش والمهربون (صبحي موسى)‪...................................‬‬ ‫حوار مع الطاهر لبيب (حياة السايب)‪...................................‬‬ ‫زعماء البيت األبيض والكتاب (محمد حجيري)‪......................‬‬ ‫ثورة الحب (لوك فيري)‪..........................................................‬‬ ‫يفغيني يفتوشينكو (سهام العريشي)‪............................‬‬ ‫السيد ياسين‪ ..‬محطات النجاح والفشل‪..............................‬‬ ‫عياض بن عاشور (عبدالدائم السالمي)‪..............................‬‬ ‫أبرار سعيد‪( ..‬عبدالله السفر)‪................................................‬‬ ‫اليمن غير السعيد في منعطفه الثوري‪............................‬‬ ‫الجدل حول اإلسالم في أوربا (عبدالرحيم الرحوتي)‪........‬‬ ‫ذئب ليس له سوى عواء الموت‪( ..‬محمد الشيباني)‪.......‬‬ ‫القلم‪ ..‬في عصر الصف الضوئي (محمد إبراهيم)‪.............‬‬ ‫تاريخ جدة القديم؟ (حسن فقيه)‪..........................................‬‬ ‫مسرح المقهورين‪( ..‬نورا أمين)‪............................................‬‬ ‫موسيقا كناوة‪( ..‬سعيد بوكرامي)‪.......................................‬‬

‫‪52‬‬ ‫‪62‬‬ ‫‪72‬‬ ‫‪82‬‬ ‫‪98‬‬ ‫‪108‬‬ ‫‪110‬‬ ‫‪120‬‬ ‫‪126‬‬ ‫‪128‬‬ ‫‪130‬‬ ‫‪132‬‬ ‫‪140‬‬ ‫‪144‬‬ ‫‪150‬‬ ‫‪176‬‬ ‫‪180‬‬

‫االشتراك السنوي‬ ‫‪ 100‬ريال سعودي لألفراد‪ 250 ،‬ريالاً سعوديًّا للمؤسسات‪ ،‬أو ما يعادلهما بالــدوالر األمـيـركــي‬ ‫خـــارج المملـكــة العربية السعودية‪.‬‬ ‫السعر اإلفرادي‪ :‬السعــوديـــة ‪ 10‬ريـــاالت‪ ،‬اإلمــــارات ‪ 10‬دراهم‪ ،‬قطر ‪ 10‬رياالت‪ ،‬البحرين دينار‬ ‫فلسا‪ ،‬مصر ‪ 4‬جنيهات‪ ،‬المغرب ‪ 10‬دراهم‪.‬‬ ‫واحد‪ ،‬األردن ‪750‬‬ ‫ً‬ ‫الموزعون‬ ‫مصر‪ ،‬مؤسسة توزيع األهرام‪ ،‬شارع الجالء‪ ،‬هاتف‪ ،7704365 - 5796997 :‬فاكس‪:‬‬ ‫‪ ،00202 7703196‬قطـر‪ ،‬دار الشرق للطباعة والنشر والتوزيع‪ ،‬ص‪.‬ب ‪ ،3488‬هاتف‬ ‫‪ ،44557809‬فاكس‪ ،00974 44557819 :‬األردن‪ ،‬شركة وكالة التوزيع األردنية‪ ،‬ص‪.‬ب ‪،3371‬‬ ‫هاتف‪ ،65358855 :‬فاكس‪ ،00962 65337733 :‬البحرين‪ ،‬مؤسسة الهالل لتوزيع الصحف‪،‬‬ ‫ص‪ .‬ب ‪ ،8005‬هاتف‪ ،17480800 :‬فاكس‪ ،00973 17480818 :‬اإلمارات العربية المتحدة‪ ،‬مكتبة‬ ‫دار الحكمة‪ ،‬ص‪.‬ب ‪ ،2007‬هاتف‪ ،42665396 :‬فاكس‪ ،00971 42669827 :‬المغرب‪ ،‬الشركة‬ ‫الشريفية لتوزيع الصحف‪ ،‬ص‪.‬ب ‪ ،13683‬هاتف‪ ،2400223 :‬فاكس‪00212 2246249 :‬‬ ‫التوزيع داخل المملكة‬ ‫الشركة الوطنية الموحدة للتوزيع‬ ‫هاتـــــف‪ )011( 4871414 :‬فاكس‪)011( 4871460 :‬‬

‫ينال إسحق‬ ‫التنفيذ‬

‫رياض دفدوف‬ ‫مبارك علي‬ ‫الموقع اإللكتروني‬

‫معتز عبدالماجد‬ ‫التدقيق والمراجعة اللغوية‬

‫عبدالله الدوسري‬ ‫محمد نصير سيد‬ ‫االشتراكات والتوزيع‬

‫جعفر عبدالرحمن‬ ‫‪ -)+966(11٤٦٥٢٢٥٥‬تحويلة‪6640 :‬‬ ‫‪subscriptions@alfaisalmag.com‬‬

‫مراسالت التحرير‬ ‫‪editorial@alfaisalmag.com‬‬ ‫مراسالت اإلدارة‬ ‫ص‪.‬ب (‪ )3‬الرياض ‪11411‬‬ ‫المملكة العربية السعودية‬ ‫هاتف المجلة ‪)+966( 11٤٦٥3027:‬‬ ‫فاكس‪)+966( 11٤٦٤٧٨٥١ :‬‬ ‫‪contact@alfaisalmag.com‬‬ ‫اإلعالنات‬ ‫هاتف‪)+966( 11٤٦٤٧٨٥١ :‬‬ ‫‪advertising@alfaisalmag.com‬‬

‫‪5‬‬


‫المركز‬

‫خيارات السياسة األوربية في الشرق األوسط‬

‫افتتح األمير تركي الفيصل رئيس مجلس إدارة مركز الملك‬

‫السياسيين والمثقفين واألوساط األكاديمية ووسائل اإلعالم‬ ‫ً‬ ‫إضافة إلى نخبة من كبار المسؤولين‬ ‫من ألمانيا وأوربا‪،‬‬

‫خيارات السياسة األوربية في الشرق األوسط» بمبنى معهد‬

‫مناقشة بعض الموضوعات والقضايا السياسية التي شغلت‬ ‫ً‬ ‫إضافة إلى‬ ‫أوربا والشرق األوسط خالل المدة الماضية‪،‬‬

‫فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية حلقة نقاش االجتماع‬

‫الدوري رقم ‪ 164‬لمؤسسة برغدورف‪ ،‬بعنوان‪« :‬أكثر من االحتواء‪:‬‬

‫‪6‬‬

‫والمختصين والمهتمين من المملكة‪ .‬وجرى خالل االجتماع‬

‫الفيصل لتنمية الموارد البشرية في الرياض في ‪ 13‬مارس ‪2017‬م‪.‬‬ ‫وحضر االجتماع‪ ،‬الذي أُقيم بالتعاون بين مركز الملك‬

‫مستجدات القضايا اإلقليمية والدولية‪ ،‬والعالقات بين المملكة‬

‫األلمانية‪ ،‬لفيف من الشخصيات من داخل المملكة‪ ،‬ومن‬

‫والثقافية‪ .‬وتسعى حلقات النقاش التي تقدّ مها مؤسسة‬

‫فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية ومؤسسة كوربر البحثية‬

‫االتحاد األوربي‪ ،‬وأعضاء الوفد األوربي‪ ،‬وعلى رأسهم رئيس‬

‫ألمانيا االتحادية السابق كريستيان وولف‪ ،‬وعدد من السياسيين‬ ‫البارزين في االتحاد األوربي‪ ،‬ونخبة من قادة الفكر والرأي من‬

‫واالتحاد األوربي على مختلف الصعد السياسية واالقتصادية‬ ‫برغدورف لتقديم مساهمة ذات مغزى في التفاهم المتبادل في‬

‫السياسة الدولية‪ ،‬وتعزيز الحوار المفتوح بين المشاركين من‬ ‫الشخصيات الرفيعة المستوى‪.‬‬

‫عاما‬ ‫توثيق سيرة الفيصل في أكثر من ‪50‬‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫وثق المركز سيرة الملك الراحل فيصل بن عبدالعزيز وتاريخه‬

‫وأعماله ومنجزاته المحلية والعربية واإلسالمية والعالمية في‬

‫كتاب أرشيفي‪ ،‬يرصد مسيرته منذ تمثيله والده الملك عبدالعزيز‬

‫آل سعود‪ ،‬في مؤتمر فرساي للسالم بباريس عام ‪1919‬م‪ ،‬مرورًا‬ ‫بتعيينه نائبًا للملك المؤسِّ س ووصايته على العرش‪ ،‬وصولاً إلى‬ ‫توليه حكم المملكة وطوال عهده‪.‬‬

‫وال يمثل هذا األرشيف تاريخ الملك فيصل فحسب؛ بل‬

‫يجسد تاريخ السعودية في مرحلة البناء والتطوير‪ ،‬بل تاريخ‬ ‫ّ‬

‫األمة العربية واإلسالمية وما م َّرت به من منعطفات كبرى خالل‬ ‫رئيسا في التعامل معها‪ .‬ويعتمد «كشاف‬ ‫عهده‪ ،‬كما كان مشار ًكا ً‬

‫ويضم هذا الكشاف كل ما ُنشر عن الملك فيصل في‬

‫الفيصل في أم القرى» على مصدر وحيد هو الصحيفة الرسمية صحيفة أم القرى من أخبار وخطابات وكلمات وتصريحات‬ ‫للمملكة «أم القرى» التي أسسها الملك عبدالعزيز في مكة عام ولقاءات إذاعية وتلفزيونية وبرقيات ومراسيم وأوامر وأشعار‬ ‫‪1924‬م؛ لذا يعد هذا الكشاف بمنزلة وثيقة رسمية ترصد تاريخ وبالغات وغير ذلك‪ .‬واستغرق العمل على الكشاف عامين‪ ،‬وهو‬ ‫من إعداد الباحثة أروى عبدالله عبيدات‪.‬‬ ‫الفيصل النائب والملك من الصحيفة الرسمية للدولة‪.‬‬

‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬


‫رحيل سعد الفيصل‬ ‫نعى األم��ي��ر ت��رك��ي الفيصل رئ��ي��س مجلس إدارة مركز‬

‫الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية أخاه األمير‬

‫سعد الفيصل الذي انتقل إلى رحمة الله في الثالث عشر‬ ‫من شهر رجب الماضي الموافق العاشر من شهر إبريل‪،‬‬

‫وف��ي إش��ارة إل��ى رحيل ع��دد من أبناء الملك فيصل خالل‬ ‫ال���س���ن���وات ال���ث�ل�اث ال���م���اض���ي���ة؛ ق����ال األم���ي���ر ت���رك���ي ف���ي م��ق��ال��ة‬

‫ص���ح���اف���ي���ة‪« :‬خ���م���س وف����ي����ات ف����ي ت���ل���ك ال����م����دة إلخ������وة ب�����ررة‪،‬‬ ‫كانوا األصدقاء والرفاق منذ أن وعيت الدنيا‪ ،‬رثيت أربعة‬

‫منهم‪ ،‬وها أنذا أرثي الخامس‪.»..‬‬

‫واألم��ي��ر سعد الفيصل من مواليد مكة المكرمة عام‬

‫‪1942‬م‪ ،‬تخرج في جامعة كمبردج البريطانية‪ ،‬وتخصص‬ ‫في القانون الدولي‪ ،‬وعمل مستشارًا قانونيًّا في مؤسسة‬ ‫ب����ت����روم����ي����ن ال�����س�����ع�����ودي�����ة‪ ،‬م����س����ه����مً ����ا ف������ي ت����ط����وي����ر ال����س����ي����اس����ات‬

‫ال����ن����ف����ط����ي����ة ال�����وط�����ن�����ي�����ة‪ ،‬ك�����م�����ا اش�������ت�������رك ف�������ي ع�����ض�����وي�����ة ص�����ن�����دوق‬

‫ال��ت��ن��م��ي��ة ف����ي ب�����داي�����ات ت���ك���وي���ن���ه إل�����ى أن اس���ت���ق���ال م����ن ال��ع��م��ل‬ ‫ال��ح��ك��وم��ي‪ ،‬وك����ان ال���راح���ل أي ً‬ ‫���ض���ا ع���ض���وًا ف���ي م��ج��ل��س أم��ن��اء‬ ‫م����ؤس����س����ة ال����م����ل����ك ف���ي���ص���ل ال����خ����ي����ري����ة وع���������دد م�����ن ال���م���ج���ال���س‬

‫التعليمية والخيرية األخرى‪.‬‬

‫واخ����ت����ت����م األم�����ي�����ر ت����رك����ي ال���ف���ي���ص���ل م���ق���ال���ه ب����وص����ف ح���ي���اة‬

‫أخ���ي���ه ال������ذي خ���ض���ع ل����ج����راح����ات ف����ي ال���ق���ل���ب ف����ي وق�����ت م��ب��ك��ر‬ ‫م��ن ع��م��ره ق��ائ�ًل�اً ‪« :‬أص��اب��ه م��رض القلب ف��ي ري��ع��ان شبابه‪،‬‬

‫ف���ان���ك���ف���أ إل������ى داره‪ ،‬وض����ع����ف وه������ج ض�����وئ�����ه‪ ،‬وب����ق����ي س���ن���وات‬ ‫يستنهض قلبه ال��م��ص��اب إل���ى أن اس��ت��ك��ان قلبه ألم���ر ال��ل��ه‪،‬‬ ‫وك ّ‬ ‫��ف عن النبض‪ ،‬لقد رحل عنا أنيس آل فيصل‪ ،‬رحمه‬

‫الله‪ ،‬وأسكنه فسيح جناته»‪.‬‬

‫المركز يوقع اتفاقيات تعاون مع جهات علمية‬ ‫ّ‬ ‫وقع المركز في ‪ 16‬مارس الماضي بمدينة عوالي‬

‫ب���ال���ب���ح���ري���ن ات����ف����اق����ي����ة ت�����ع�����اون ب���ح���ث���ي وع����ل����م����ي م�����ع م���رك���ز‬

‫ال��ب��ح��ري��ن ل��ل��دراس��ات اإلس��ت��رات��ي��ج��ي��ة وال��دول��ي��ة وال��ط��اق��ة‬ ‫«دراسات»‪ّ ،‬‬ ‫ومثل المركز في التوقيع الدكتور سعود‬

‫ال�����س�����رح�����ان األم������ي������ن ال�������ع�������ام‪ ،‬وم ّ������ث������ل م�����رك�����ز «دراس�������������ات»‬ ‫ال����دك����ت����ور ال���ش���ي���خ ع���ب���دال���ل���ه آل خ���ل���ي���ف���ة رئ����ي����س م��ج��ل��س‬

‫األم���ن���اء‪ .‬وت��ه��دف االت��ف��اق��ي��ة إل���ى ت��ع��زي��ز أواص����ر ال��ت��ع��اون‬ ‫البحثي والعلمي بين الطرفين ف��ي م��ج��االت‪ :‬البحث‬

‫العلمي‪ ،‬والندوات والمؤتمرات واألنشطة العلمية‪،‬‬

‫وال�����م�����ع�����ل�����وم�����ات وال������ت������وث������ي������ق‪ ،‬وت��������ب��������ادل ال�����م�����ط�����ب�����وع�����ات‪ ،‬وال����������دراس����������ات‬

‫وال���ب���ح���وث‪ ،‬وغ��ي��ره��ا م���ن ال��ق��ض��اي��ا ذات االه��ت��م��ام ال��م��ش��ت��رك‪ .‬وي��ع��دّ‬ ‫م��رك��ز «دراس��������ات» م��ؤس��س ً��ة ب��ح��ث��ي ً��ة ب��ح��ري��ن��ي ً��ة م��ت��خ ّ‬ ‫��ص��ص ً��ة لتشجيع‬ ‫اس���ت���خ���دام ال��ب��ح��ث وال����ح����وار ل��ت��ن��وي��ر واض���ع���ي ال���س���ي���اس���ات وص��ان��ع��ي‬

‫ال���ل���غ���ة ال���ع���رب���ي���ة وال���ث���ق���اف���ة ال���ع���رب���ي���ة واإلس��ل�ام����ي����ة ع���ل���ى أوس������ع ن��ط��اق‬

‫محليًّا وإقليميًّا وعالميًّا‪ ،‬وتطوير واستحداث برامج تعليم اللغة‬ ‫ال��ع��رب��ي��ة ل��ل��ن��اط��ق��ي��ن ب��غ��ي��ره��ا‪ ،‬إض���اف���ة إل���ى ت��ع��زي��ز ال���ص���ورة اإلي��ج��اب��ي��ة‬

‫ل���ل���م���م���ل���ك���ة م�����ن خ���ل���ال ال�����ت�����واص�����ل وال�������ح�������وار م�����ع غ����ي����ر ال������ع������رب‪ .‬وي����أت����ي‬

‫ال�����ق�����رار‪ ،‬وت���ع���م���ي���ق ف���ه���م ال���ق���ض���اي���ا ال����دول����ي����ة ال����راه����ن����ة وال����ن����اش����ئ����ة‪ .‬ك��م��ا‬ ‫َّ‬ ‫وق�������ع ال����م����رك����ز ف�����ي ال�����راب�����ع م�����ن إب�����ري�����ل ال����م����اض����ي ات���ف���اق���ي���ة ت�����ع�����اون م��ع‬

‫والعالقات الثنائية مع مختلف المؤسسات والمنظمات المحلية‬

‫ال����ل����غ����ة ال����ع����رب����ي����ة ل���ل���ن���اط���ق���ات ب����غ����ي����ره����ا‪ .‬وت�����ه�����دف االت����ف����اق����ي����ة إل�������ى ن��ش��ر‬

‫اإلستراتيجية‪.‬‬

‫ج����ام����ع����ة األم�������ي�������رة ن���������ورة ب����ن����ت ع����ب����دال����رح����م����ن م���م���ث���ل���ة ب���م���ع���ه���د ت��ع��ل��ي��م‬

‫توقيع االتفاقيتين في إطار سعي المركز إلى توثيق أوجه التعاون‬ ‫واإلق��ل��ي��م��ي��ة وال���دول���ي���ة ال��ع��ام��ل��ة ف���ي م���ج���االت ال���ب���ح���وث وال����دراس����ات‬

‫‪7‬‬


‫المركز‬

‫مسيرة «سعود الفيصل»‬ ‫في ترسيخ الدبلوماسية السعودية‬ ‫أصدر المركز «كشاف سعود الفيصل في أم القرى» لتوثيق جهود األمير سعود‬ ‫ً‬ ‫خلفا لوالده الملك فيصل طوال أربعين‬ ‫الفيصل في ترسيخ الدبلوماسية السعودية‬

‫عامً ا‪ .‬ويمثل سعود الفيصل مرحلة مهمة في تاريخ الدبلوماسية السعودية والعربية‬ ‫واإلسالمية والدولية؛ فهو وزير الخارجية األطول خدمة في العالم؛ حيث قضى أكثر من‬

‫أربعين عامً ا وزي ًرا لخارجية السعودية من عام ‪1975‬م إلى ‪2015‬م بعد والده‪ ،‬خالل عهد‬ ‫ً‬ ‫أحداثا مهمة‬ ‫أربعة ملوك في السعودية‪ ،‬حقق خاللها إنجازات جليلة للمملكة‪ ،‬وعاصر‬ ‫ألمَّ ت بالمنطقة والعالم‪.‬‬

‫ويرتكز «كشاف سعود الفيصل في أم القرى» على مصدر وحيد هو الصحيفة الرسمية‬

‫للمملكة «أم القرى»؛ لذا يعد هذا الكشاف بمنزلة وثيقة رسمية ترصد تاريخ األمير الراحل من الصحيفة الرسمية للدولة‪،‬‬ ‫ويضم َّ‬ ‫كل ما ورد عن األمير سعود الفيصل أو على لسانه في الصحيفة‪ .‬ويتكون الكتاب من «‪ »505‬صفحات من القطع‬ ‫المتوسط‪ ،‬واستغرق العمل فيه ما يقارب العام؛ من جمع‪ ،‬وتحرير‪ ،‬وتصنيف‪ ،‬ومراجعة‪ ،‬وهو من إعداد الباحثة أروى‬

‫جوانب من حياة األمير الراحل منذ والدته حتى وفاته‪.‬‬ ‫عبدالله عبيدات‪ .‬ويغطي الكشاف‬ ‫َ‬

‫إطالق إصدار جديد من «خزانة التراث»‬ ‫‪8‬‬

‫ً‬ ‫جديدا من قاعدة بياناته «خزانة التراث» التي تضمّ فهرس‬ ‫أطلق المركز إصدارًا‬ ‫ً‬ ‫المخطوطات العربية في معظم المكتبات العالمية على قرص مدمج ‪CD‬؛ تزامنا مع‬ ‫مشاركة المركز في معرض الرياض الدولي للكتاب ‪٢٠١٧‬م‪ ،‬الذي أُقيم خالل الفترة من ‪8‬‬ ‫إلى ‪ 18‬مارس المنصرم‪.‬‬

‫وأوضح عبدالعزيز الراجحي‪ ،‬رئيس قسم المجموعات الخاصة في المركز‪ ،‬أن‬ ‫ّ‬ ‫سجل في مختلف العلوم‪ ،‬بزيادة أكثر من ‪30‬‬ ‫اإلصدار الجديد يضمّ أكثر من مئة ألف‬

‫ّ‬ ‫سجل عن اإلصدار القديم‪ ،‬كما يضمّ أكثر من ‪ 750‬ألف نسخة خطية‪ ،‬بزيادة أكثر من‬ ‫ألف‬ ‫‪ 250‬ألف نسخة خطية عن اإلصدار القديم‪ ،‬ويتوافق اإلصدار الجديد مع أنظمة التشغيل‬ ‫الحديثة التي صدرت بعد اإلصدار القديم‪.‬‬

‫وأضاف الراجحي أن «خزانة التراث» هي قاعدة البيانات الوحيدة في العالم التي تشمل التراث العربي‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫المخطوط‪ ،‬وتضمّ‬ ‫عربية لفهارس المخطوطات التي ُكتبت بغير اللغة العربية؛ مثل اللغات‪:‬‬ ‫ترجمة‬ ‫أيضا‬

‫اإلنجليزية‪ ،‬والفرنسية‪ ،‬واأللمانية‪ ،‬واإلسبانية‪ ،‬واإليطالية‪ ،‬وغيرها‪.‬‬

‫العربية‪ ..‬هذه اللغة الشريفة‬ ‫أصدر المركز كتابًا جديدً ا بعنوان «العربية‪ ..‬هذه اللغة الشريفة» يتضمن مجموعة من‬

‫الدراسات والمقاالت في علوم اللغة والنحو والمعجم والساميات‪ ،‬وهو من تأليف رمزي‬ ‫ً‬ ‫قائمة بمصادر‬ ‫بعلبكي‪ .‬وتضمّ ن الكتاب الذي يقع في ‪ 513‬صفحة من القطع المتوسط‬ ‫المقاالت‪ ،‬إضافة إلى فهرس لألعالم والقبائل واألماكن‪ ،‬وفهرس للغات واللهجات‪ ،‬وفهرس‬

‫لألشعار‪ ،‬وآخر للنقوش‪ .‬ويشتمل على سبع عشرة مقالة مختارة ‪-‬جمعها وحررها بالل‬ ‫ً‬ ‫مدرجة تحت أربعة محاور‪.‬‬ ‫األرفه لي‪-‬‬

‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬


‫كاريكاتير‬


‫فعاليات‬

‫الملك سلمان‬ ‫يتوج الفائزين بجائزة الملك فيصل العالمية‬

‫‪10‬‬

‫الملك سلمان يتسلم جائزة خدمة اإلسالم من األمير خالد الفيصل‬

‫ّ‬ ‫توج خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز‬

‫وكان الملك سلمان فاز بجائزة خدمة اإلسالم لعنايته‬

‫الفائزين بجائزة الملك فيصل العالمية لعام ‪2017‬م‪ ،‬في حفل‬

‫بخدمة الحرمين الشريفين وقاصديهما‪ ،‬واهتمامه بالسيرة‬

‫فندق الفيصلية‪ ،‬وحضره عدد كبير من األمراء والدبلوماسيين‬

‫وتنفيذه بدارة الملك عبدالعزيز‪ ،‬وإنشائه لمجمع الملك‬

‫عقد في الرابع من إبريل الماضي بقاعة األمير سلطان الكبرى في‬

‫والمفكرين والعلماء واإلعالميين‪ .‬وفي الحفل ألقى األمير خالد‬

‫الفيصل أمير منطقة مكة المكرمة الرئيس التنفيذي لمؤسسة‬

‫الملك فيصل الخيرية رئيس هيئة الجائزة كلمة قال فيها‪:‬‬

‫بجشع اإلنسان يضطرب‪ ،‬وكبار بالصغار تحترب‪ ،‬ونذير‬ ‫«عالمٌ‬ ‫ِ‬ ‫ش ٍّر بالبرية يقترب‪ ،‬وقيم استبدلت بقيم‪ ،‬ليست فيها من القيم‬ ‫شمم‪ ،‬وأسماء ليس فيها من علم‪ ،‬ومملكة تشع نورًا وحكمة‪،‬‬ ‫وتطرح نهجً ا جديدً ا ورؤية‪ ،‬وتكرم العلم والعلماء قدوة‪ ،‬نبني‬

‫النبوية‪ ،‬ودعمه لمشروع األطلس التاريخي للسيرة النبوية‬

‫عبدالعزيز للمكتبات الوقفية بالمدينة المنورة لحفظ التراث‬

‫العربي واإلسالمي‪ ،‬وسعيه الدائم لجمع كلمة العرب‬ ‫والمسلمين لمواجهة الظروف الصعبة التي تم ّر بها األمتان‬

‫العربية واإلسالمية‪ ،‬ومن ذلك إنشاؤه التحالف اإلسالمي‬

‫العسكري لمحاربة اإلرهاب واستضافة مقره بالرياض‪ ،‬ومواقفه‬

‫العربية واإلسالمية عبر عقود من الزمن تجاه قضية فلسطين‬ ‫ُّ‬ ‫وترؤسه‬ ‫المتمثلة في الدعم السياسي والمعنوي واإلغاثي‪،‬‬

‫على قواعد المجد صرحً ا‪ ،‬ونعالج على جسد العروبة جرحً ا‪،‬‬

‫وإشرافه المباشر على عدد من اللجان الشعبية والجمعيات‬

‫لعابث‬ ‫العقول‪ ،‬وإذا احتار الغير ابتكرنا الحلول‪ ،‬فال مكان بيننا‬ ‫ٍ‬

‫العربية واإلسالمية‪ ،‬وإنشاؤه مركز الملك سلمان لإلغاثة‬

‫والسالم‪ ،‬وجائزة فيصل اإلمام‪ ،‬والسالم»‪.‬‬

‫العربية واإلسالمية المحتاجة‪.‬‬

‫ونرسم على تجهُّم المسلمين فرحً ا‪ ،‬إذا ادلهَمَّ الليل أشعلنا‬

‫أو جهول‪ ،‬قفوا معي وحيوا ملك خدمة اإلسالم‪ ،‬وعلماء الفكر‬

‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬

‫الخيرية إلغاثة المنكوبين والمحتاجين في العديد من الدول‬ ‫واألعمال اإلنسانية ودعمه بسخاء ليقدم العون للشعوب‬


‫الملك سلمان مع الفائزين بجائزة الملك فيصل العالمية لعام ‪2017‬م‬

‫والفائزون الذين كرمهم الملك سلمان هم الدكتور‬

‫رضوان السيد (لبنان) عن فرع الدراسات اإلسالمية‪ ،‬لجمعه‬

‫في أبحاثه ودراساته بين االطالع المدقق الواسع على التراث‬ ‫العربي اإلسالمي الفقهي والسياسي‪ ،‬وبين اإلحاطة بمنهجيات‬

‫البحث الحديثة‪ ،‬وامتياز بحوثه األكاديمية بمنهجية علمية‬ ‫دقيقة‪ ،‬ومواءمته المتميزة بين األصول الفكرية السياسية‬

‫‪11‬‬

‫اإلسالمية وبين الواقع العربي اإلسالمي‪ ،‬وتعدد الدراسات‬

‫التي قدمها في الفكر السياسي عند المسلمين لتشمل‬ ‫موضوعات الحكم والسلطة والدولة والمجتمع واألمة‬ ‫وعالقتها بالواقع اإلسالمي التاريخي‪.‬‬

‫ومجمع اللغة العربية األردني عن فرع اللغة العربية‬

‫واألدب‪ ،‬تقدي ًرا لجهوده العلمية المتميزة في ترجمة العلوم‬ ‫والتقنية‪ ،‬ونقل المصطلحات العلمية‪ ،‬ووضعها في السياق‬

‫العربي‪ ،‬وإدخال التعريب في التعليم الجامعي في الوطن‬ ‫العربي سعيًا إلى توطين العلم والتقنية‪ ،‬وهي غاية تسعى‬

‫إليها المؤسسات العلمية في الوطن العربي‪ ،‬وإلسناد هذا‬

‫العمل إلى مترجمين‪ ،‬جمعوا بين العلم في التخصص‬ ‫الدقيق‪ ،‬والمعرفة العميقة باللغتين العربية واإلنجليزية‪،‬‬ ‫فكان عملهم عملاً مؤسسيًّا هُ ِّي َئت له أسباب النجاح‪.‬‬

‫المجال التجريبي لعلم دوران اإللكترونات‪ ،‬وقد تضمنت‬

‫أعماله اكتشاف طرائق مبتكرة لحقن الشحنات المستقطبة‬ ‫ِّ‬ ‫الموصالت‪ ،‬مع إمكانية استخدام‬ ‫بواسطة الدوران في أشباه‬

‫وسائل تخزين ممغنطة‪ ،‬ومعالجة حاالت الدوران‪ .‬وقد‬ ‫نجح البروفيسور مولينكامب تجريبيًّا في تأكيد نظرية تأثير‬ ‫دوران هال الكوانتي؛ مما يعزز مجال العوازل الكوانتية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ويمثل شكلاً جديدً ا من أشكال المادة الكوانتية‪ .‬والبروفيسور‬

‫والدكتور تاداميتسو كيشيموتو (اليابان) عن فرع الطب‪،‬‬

‫دانيال لوس عن فرع الفيزياء‪ ،‬لكونه من أهم رواد النظرية‬

‫وناجع ألمراض المناعة الذاتية‪ ،‬وعمله المتواصل على‬

‫النقاط الكوانتية وتطبيقاتها الممكنة في الكمبيوترات الكمية‪،‬‬

‫عن دوره الرائد في اكتشاف وتطوير عالج بيولوجي جديد‬ ‫مدى أكثر من ثالثين عامً ا‪ ،‬مكنته من اكتشاف إنترلوكين‪٦‬‬ ‫(منظم االلتهابات والمناعة) ومستقبالته ومساراته‪ ،‬كما‬

‫حدد الوظيفة الفسيولوجية ألنترلوكين‪ ،٦‬ودوره في أمراض‬ ‫االلتهابات المناعية الذاتية‪ .‬والبروفيسور لورينس مولينكامب‬

‫(بولندا) عن فرع الفيزياء‪ ،‬لكونه ساهم بدرجة كبيرة في‬

‫الخاصة بديناميكية دوران اإللكترونات وتماسك الدوران في‬ ‫ومهّدت أعماله للعديد من التجارب المهمة‪ .‬كما ساهم‬ ‫البروفيسور لوس في نظرية الكمبيوتر الكوانتي باستخدام‬

‫دوران اإللكترونات في النقاط الكوانتية كأرقام ثنائية كوانتية‪،‬‬

‫مما فتح المجال نحو تطوير حواسيب قوية من حيث سرعتها‬ ‫وقدرتها على تخزين المعلومات‪.‬‬


‫فعاليات‬

‫رضوان السيد‪ :‬عقدنة هائلة في التفكير بالدولة اإلسالمية‬ ‫أوضح الدكتور رضوان السيد أن فكرة كتابة تاريخ مفهومي للفكر‬

‫السياسي اإلسالمي في أزمنته الكالسيكية تبلورت لديه بين العامين‬

‫‪ 1977‬و ‪1979‬م‪ ،‬إضافة إلى فكرة التوسع في استكشاف مصادر جديدة‬ ‫للفكر السياسي اإلسالمي‪ .‬وقال في محاضرة نظمها المركز بمناسبة‬

‫فوزه بجائزة الملك فيصل العالمية في الثالث من إبريل الماضي‪ :‬إن‬ ‫الفكرة السائدة هي أن المسلمين لم يكتبوا في السياسة أو في التفكير‬

‫بالدولة إال أقل القليل‪ ،‬وعزا ذلك إلى أن العرب ليس لديهم مواريث‬ ‫عريقة للدولة‪ ،‬أو ألن السلطوية الشاملة في الخالفة والسلطنة ال‬ ‫تسمح بالتفكير في دولة المؤسسات‪ ،‬مشي ًرا إلى الفكر الموروث عن‬ ‫اإلغريق والتقاليد الملكية الموروثة عن األكاسرة‪.‬‬

‫وصنف السيد مدارس واتجاهات الفكر السياسي اإلسالمي في‬

‫خ��م��س م������دارس‪ :‬م���درس���ة ن��ص��ائ��ح ال��م��ل��وك وم���راي���ا األم�������راء‪ ،‬وم��درس��ة‬ ‫�����س����� َي�����ر وال�����خ�����راج‬ ‫ال����ف����ق����ه����اء‪ ،‬وم������درس������ة ال����ف��ل�اس����ف����ة‪ ،‬وم������درس������ة ُك������ َّت������اب ال ِّ‬

‫واألموال واإلدارة‪ ،‬ومدرسة المتكلمين‪ .‬وقال‪ :‬إن نشر ك ُتب نصائح‬

‫ُوج����������� َه ب����ان����ت����ق����ادات وال�����ق�����ول ب���أن���ه���ا ت���ش���ج���ع االس�����ت�����ب�����داد وت��ب��ن��ي‬ ‫ال����م����ل����وك و ِ‬ ‫ث����ق����اف����ت����ه‪ ،‬م���ض���ي ً���ف���ا ف�����ي س����ي����اق ح����دي����ث����ه ع�����ن ال����ع����ق����ب����ات ق������ائ���ًل��اً ‪« :‬ال���ع���ق���ب���ة‬

‫‪12‬‬

‫األخرى هي ظهور عقدنة هائلة في التفكير بالدولة‪ ،‬وصارت الدولة‬ ‫المسماة إس�لام��ي��ة رك�� ًن��ا م��ن أرك���ان ال��دي��ن؛ ألن الشريعة ال تطبق إال‬ ‫م���ن خ�لال��ه��ا‪ ،‬وي���واج���ه ه����ذه ال��ع��ق��دن��ة رأي ل��م��ث��ق��ف��ي��ن ع����رب ومسلمين‬ ‫ي���������رون أن ال�������م�������وروث اإلس���ل��ام������ي ك����ل����ه ص�������ار ع����ب���� ًئ����ا وع����ق����ب����ة ع����ل����ى ال����ع����رب‬

‫وال��م��س��ل��م��ي��ن ف���ي ح��اض��ره��م وم��س��ت��ق��ب��ل��ه��م‪ ،‬وي��ن��ب��غ��ي تفكيكه وإزاح���ت���ه‬ ‫ل���ي���ت���م���ك���ن ال������ع������رب وال����م����س����ل����م����ون م������ن اع�����ت�����ن�����اق ال������ح������داث������ة»‪ ،‬وف��������ي خ���ت���ام‬ ‫المحاضرة التي شهدت حضورًا ً‬ ‫كثيفا من مهتمين وباحثين‪ ،‬تحدَّث‬ ‫المفكر رض����وان ال��س��ي��د ع��ن إن��ت��اج��ه ال��ف��ك��ري ع��ل��ى م���دار األرب��ع��ي��ن سنة‬ ‫الماضية‪ ،‬وذك��ر أن لديه ثمانية وعشرين كتابًا بين َّ‬ ‫مؤلف ومترجَ م‬

‫وم����ح َّ����ق����ق‪ ،‬أم�����ا ع����ن م���ش���اري���ع���ه ال��م��ق��ب��ل��ة ف���ك���ش���ف أن ل����دي����ه م��ش��روع��ي��ن‬ ‫ك���ب���ي���ري���ن‪ ،‬أح���ده���م���ا ق���دي���م وه�����و ال���ك���ت���اب���ة ع����ن أه�����ل ال���س���ن���ة وال���ج���م���اع���ة‪،‬‬

‫واآلخر حديث وهو الكتابة في التقليد اإلسالمي ظهورًا واستتبابًا‪.‬‬

‫معركة الموصل وما بعدها‬

‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫المتخصصين‬ ‫محاضرة بعنوان‪« :‬معركة الموصل وما بعدها»‪ ،‬حضرها عدد كبير من‬ ‫نظم المركز مطلع مارس الماضي‬

‫في الشؤون السياسية والخبراء واألكاديميين وسفراء الدول األجنبية والشخصيات العامة‪.‬‬

‫ّ‬ ‫وأكد الدكتور فالح عبدالجبار ‪-‬مدير مركز دراسات عراقية‪ -‬في المحاضرة أن معركة الموصل بين السنة والشيعة‬

‫كانت معركة وجود اقتصادي وسياسي وعسكري؛ ألن الموصل بها تنوّع كبير ما بين عرب وأكراد وسنة وشيعة وقطاعات‬ ‫مسيحية‪ ،‬وأن الواليات المتحدة األميركية ّ‬ ‫تأخرت شهرين بعد سقوط الموصل‪ ،‬وهي غير موجودة اآلن على األرض‪ ،‬وأن‬

‫وجودها يقتصر على الجو فقط‪ ،‬مشيرًا إلى وجود ثالثة مشروعات في الموصل‪ :‬األول للعبادي‪ ،‬والثاني للحشد الشعبي‪،‬‬ ‫والثالث لألكراد‪ّ .‬‬ ‫وقدم عبدالجبار شرحً ا للموقف السياسي واالجتماعي في العراق‪ ،‬قائلاً ‪« :‬هناك في العراق حاليًّا سبعة‬ ‫جيوش وثالث دول‪ ،‬والقوى المجتمعية والسياسية تف ّتتت‪ ،‬والدولة انهارت اقتصاديًّا‪ ،‬وتدهورت األحوال بصورة كبيرة‬

‫بعد معركة الموصل‪ ،‬وهناك استقطاب شيعي سني واسع تقف وراءه الواليات المتحدة األميركية وإيران‪ .‬والهوية الوطنية‬ ‫انهارات في العراق في الوقت الحالي بعد أن ّ‬ ‫ً‬ ‫سنوات‪ ،‬كان فيها السني يصوّت للشيعي في االنتخابات البرلمانية‬ ‫موجودة‬ ‫ظلت‬ ‫ٍ‬ ‫أيام الملكية‪ ،‬والعكس‪ ،‬وما يجري اآلن هو نزع للهوية من السياسة‪ ،‬وإن كان يتمّ ببطء»‪ .‬وأشاد الدكتور عبدالجبار بزيارة‬ ‫وزير الخارجية السعودي عادل الجبير األخيرة إلى العراق‪ِّ ،‬‬ ‫ً‬ ‫وحيدا في هذا الوقت‪ ،‬ولفت إلى‬ ‫مؤك ًدا ضرورة عدم ترك العراق‬ ‫ّ‬ ‫للحد من سيطرة إيران وهيمنتها على العراق‪.‬‬ ‫أن واشنطن تدعم الجيش في وجه الحشد الشعبي‬

‫ومن جهته‪ ،‬أوضح الدكتور بيتر هارلينغ ‪-‬مدير مركز ‪ -SYNAPS‬أن الواليات المتحدة األميركية تعتمد على الحشد‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫التسلح في العراق‪ ،‬مب ِّي ًنا أن واشنطن ال‬ ‫سباقا نحو‬ ‫الشعبي في بعض المهام‪ ،‬وأن االعتماد على قوات غير نظامية أوجد‬

‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬


‫ِ‬ ‫المستعمر في دول المغرب‬ ‫الكركي يدعو للتصدي لعودة لغة‬ ‫أكد رئيس مجمع اللغة العربية األردني الدكتور خالد الكركي‬

‫أن غاية المجمع هي الحفاظ على العربية والنهوض بها‪ ،‬وإحياء‬

‫التراث العربي اإلسالمي‪ ،‬وتشجيع التأليف والنشر والترجمة في‬ ‫اللغة العربية وقضاياها‪ ،‬إضافة إلى عقد المؤتمرات اللغوية داخل‬

‫األردن أو خارجه‪ ،‬ونشر المصطلحات الجديدة وتعميمها‪ .‬وقال‬

‫في ندوة نظمها المركز بمناسبة فوز مجمع اللغة العربية األردني‬ ‫بجائزة الملك فيصل العالمية في الخامس من إبريل الماضي‪:‬‬

‫إن المجمع لجأ من أجل تحقيق أهدافه إلى الحصول على الدعم‬ ‫السياسي في سَ نِّ قانون حماية اللغة العربية الذي أُصدِ ر عام‬

‫ً‬ ‫واصفا سَ نَّ القانون بأنه تحول كبير؛ إذ أعطى المزيد‬ ‫‪2015‬م‪،‬‬ ‫من الصالحيات والنفوذ للمجمع‪ .‬وعن تفاصيل القانون ذكر‪:‬‬

‫«تلتزم الوزارات والمؤسسات والمنظمات والشركات باستخدام‬ ‫اللغة العربية في الوثائق والعقود واالتفاقيات وغيرها‪ ،‬وتسمية‬

‫الشوارع واألحياء والجادَّات بأسماء عربية‪ ،‬والتزام المعلمين‬ ‫بالتدريس بالعربية‪ ،‬وأن العربية هي لغة البحث العلمي‪ ،‬ووضع‬

‫معاجم للعلوم الحديثة واآلداب وغيرها من المعارف بالعربية‬ ‫لمواكبة التحديثات في المصطلحات العلمية والطبية»‪ .‬وعن‬

‫مشاريع المجمع المقبلة أوضح الكركي أنه منذ تشكيل اللجنة‬ ‫الوطنية للنهوض بالعربية قبل خمس سنوات «عملنا على أمرين‪،‬‬ ‫ً‬ ‫مضيفا أن‬ ‫أن نعرف المشكلة وندركها‪ ،‬ثم العمل على عالجها»‬

‫من المشاريع المقبلة‪« ،‬دراسة صورة العربية في اإلعالم األردني‬ ‫المنطوق والمسموع وفي وسائل التواصل الجديدة‪ ،‬إضافة‬

‫إلى دراسة حول وضع العربية في الجامعات األردنية»‪ .‬وفي‬ ‫المداخالت قال‪ :‬إن حال اللغة العربية لم يكن منفصلاً عن حال‬

‫األمة في وقت من األوقات‪ ،‬مطالبًا بوقوف المجمعات المختلفة‬

‫للغة العربية «وقفة جادة حيال ما يحدث في دول المغرب‬ ‫العربي؛ إذ تصعد لغات محلية‪ ،‬وتصعد ً‬ ‫أيضا أصوات مطالبة‬ ‫بالعودة للغة المستعمِ ر»‪.‬‬

‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يتمثل في‪ :‬زيادة‬ ‫وحذر هارلينغ من أن الخطر بعد معركة الموصل‬ ‫تساعد الجيش العراقي بأكمله‪ ،‬بل تساعد جزءً ا منه‪.‬‬ ‫نفوذ الحشد ونسبته النص َر إلى نفسه على خالف الحقيقة‪ ،‬والعنف بين السنة والشيعة واألكراد‪ ،‬مشيرًا إلى أن المتطوعين‬

‫في الحشد يبحثون اآلن عن مكاسب سياسية‪ ،‬ووصف الحشد بأنه يمأل الفراغ االجتماعي في الموصل‪ ،‬وأن الحكومة‬

‫المركزية يشوبها الفساد والبيروقراطية‪.‬‬

‫‪13‬‬


‫فعاليات‬

‫الصين و«التعاون الخليجي»‬ ‫في سبيل عالقة إستراتيجية‬

‫‪14‬‬

‫عقد المركز ندوة حول العالقات الصينية والخليجية‬

‫واحد» بهدف السماح لمنشآتها وشركاتها العامة والخاصة‬

‫المركز األمير تركي الفيصل واألمين العام لمجلس التعاون‬

‫والشرق األوسط‪ .‬وقال‪ :‬إن الصين عرضت على دول الخليج‬

‫في الخامس من إبريل الماضي‪ ،‬حضرها رئيس مجلس إدارة‬

‫الخليجي عبداللطيف الزياني وعدد كبير من الباحثين‬ ‫والمهتمين‪ ،‬وشارك فيها باحثون من الصين والسعودية‪.‬‬

‫وأوضح البروفيسور جيسيه وانغ من جامعة بكين أن‬

‫العالقات السعودية الصينية تطورت كثي ًرا منذ زيارة الرئيس‬ ‫الصيني للمملكة قبل عام‪ ،‬إضافة إلى زيارة خادم الحرمين‬ ‫الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز األخيرة للصين‪،‬‬

‫باالستثمار والعمل في ‪ 65‬دولة في آسيا الوسطى وأوربا‬ ‫المشاركة واالستثمار في هذا المشروع الضخم الذي «سيقدم‬ ‫الكثير من الخدمات للعالم»‪ .‬أما البروفيسور تيم نيلبوك من‬

‫جامعة إكستر فتحدث عن الفرص والقيود في العالقات‬ ‫الصينية السعودية الخليجية قائلاً ‪ :‬إنه بإمكان الشركات‬

‫الصينية االستفادة من موقع المملكة اإلستراتيجي على‬ ‫منصات للتصنيع‪،‬‬ ‫طريق الحرير البحري‪ ،‬من خالل تأسيس‬ ‫ٍ‬

‫مشي ًرا إلى أن العالقات الصينية والخليجية حققت تطورًا‬ ‫ً‬ ‫أيضا‪« ،‬وصعدت مع صعود الصين كقوة اقتصادية‪ ،‬إذ‬

‫الساحل الغربي‪ ،‬على أن تنطلق منها إلى أسواق الشرق‬

‫بالدرجة األولى»‪ .‬وحول تقاطع المصالح والعالقات‬

‫شريك تجاري للصين في منطقة غرب آسيا وشمال إفريقيا‪،‬‬

‫يتركز الكثير من قوة هذه العالقات على المستوى االقتصادي‬

‫الخليجية الصينية مع الواليات المتحدة األميركية قال وانغ‪:‬‬

‫إن الواليات المتحدة «تحاول احتواء الصعود الصيني لكنها‬ ‫ً‬ ‫مضيفا أن مصالح دول‬ ‫لم تنجح وهي تحاول إبطاءه اآلن»‪،‬‬

‫الخليج األولى والرئيسية مع الصين «هي مصالح اقتصادية‬ ‫أكثر منها سياسية‪ ،‬ولهذا فال تقاطع مض ّر في عالقتها‬

‫وتحالفها التاريخي مع الواليات المتحدة»‪.‬‬

‫والخدمات اللوجستية‪ ،‬واألبحاث والتطوير‪ ،‬وال سيَّما على‬

‫األوسط وشمال إفريقيا وأوربا‪ .‬وقال‪ :‬إن المملكة «تعدّ أكبر‬ ‫نتيجة للتبادل التجاري بينهما»‪ .‬وعن القيود في العالقات‬

‫السعودية الصينية والخليجية أشار إلى أن المواقف‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫عائقا إذ تتعارض السياسة الصينية مع‬ ‫«تمثل‬ ‫السياسية‬

‫الخليجية في قضايا كبرى‪ ،‬وربما هذا الموقف السياسي ّ‬ ‫مثل‬ ‫ً‬ ‫عائقا وعقبة أمام تطور التبادل التجاري بين البلدان الستة‬ ‫وجمهورية الصين الشعبية»‪.‬‬

‫وتطرق البروفيسور في جامعة بكين بينغبينغ وو إلى‬

‫وتحدث تينغ يي وانغ الباحث غير المقيم بمركز الملك‬

‫في عام ‪2013‬م تحت اسم مبادرة «حزام واحد‪ ..‬طريق‬

‫في العالقات الدولية بجامعة تسينغهوا عن أحد األسباب‬

‫طريق الحرير الجديد‪ ،‬وهو المشروع الذي أعلنته بالده‬

‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬

‫فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية وطالب الدكتوراه‬


‫ً‬ ‫عائقا أمام تطور العالقات الصينية السعودية‪،‬‬ ‫التي عدَّ ها‬

‫الجانبين‪ ،‬من أجل اإلسهام «بشكل أكبر في بناء جسور من‬

‫تمحورت حول القادة ووزراء الخارجية‪ ،‬في حين انعدم‬ ‫بشكل شبه كامل التواصل على مستوى الشعوب‪ ،‬الف ًتا إلى‬ ‫أن مئة طالب سعودي يدرسون في الصين‪ ،‬في مقابل َ‬ ‫ألف ْي‬

‫األخير أوجز محمد السديري الباحث غير المقيم بالمركز‬ ‫والثقافي بين البلدين‪ .‬وأشار إلى ازدياد واضح في عدد بعثة‬

‫استفهام كبيرة‪ ،‬داعيًا إلى ارتفاع نسبة الطلبة الدارسين في‬

‫األعوام األخيرة‪.‬‬

‫رغم المصالح االقتصادية المشتركة‪ .‬وقال‪ :‬إن العالقات‬

‫طالب صيني يدرسون في المملكة‪ ،‬ما عدَّ ه الباحث عالمة‬

‫الثقة والفهم الشامل لثقافتي البلدين»‪ .‬وفي محور الندوة‬ ‫وطالب الدكتوراه في جامعة هونغ كونغ‪ ،‬التاريخ الحضاري‬

‫الحج الصينية إلى األراضي المقدسة في المملكة خالل‬

‫مستقبل العالقات الدولية في باكو‬ ‫شارك األمير تركي الفيصل في فعاليات‬

‫منتدى باكو اإلنساني الدولي‪ ،‬الذي أقيم‬

‫بالعاصمة األذربيجانية باكو في ‪ 16‬مارس‬

‫الماضي تحت رعاية الرئيس األذربيجاني‬ ‫إلهام علييف‪ ،‬وبحضور عدد من رؤساء‬ ‫الدول والوزراء وكبار الشخصيات السياسية‬ ‫ّ‬ ‫وممثلي‬ ‫واالقتصادية والفكرية الدولية‬

‫المنظمات الدولية واإلقليمية واإلنسانية‪.‬‬

‫وتمثلت مشاركة الفيصل في ندوة‬

‫«مستقبل‬

‫العالقات‬

‫الدولية‪:‬‬

‫اجتماع‬

‫الرؤساء» إلى جانب‪ :‬ريموند فيونيس رئيس‬

‫التفيا‪ ،‬وجورجي إيفانوف رئيس مقدونيا‪ ،‬وبوجار نيشاني رئيس ألبانيا‪ ،‬وفيليب فويانوفيتش رئيس الجبل األسود‪ ،‬وغيورغي‬ ‫مارغفيالشفيلي رئيس جورجيا‪ ،‬وأدار الندوة خورخي كيروغا الرئيس البوليفي األسبق‪ .‬وناقش المنتدى في أعمال دورته‬

‫السنوية الخامسة على مدار يومين عددًا من القضايا التي تهمّ اإلنسان في مختلف دول العالم‪ ،‬وتط ّرق إلى تعزيز وتعميق‬

‫ثقافة التسامح بين الشعوب والثقافات والحضارات‪ .‬ويعدّ منتدى باكو اإلنساني الدولي من أبرز الملتقيات التي تناقش قضايا‬ ‫التعاون اإلنساني‪ ،‬وكيفية مواجهة التحديات العالمية التي تتعرض لها البشرية‪.‬‬

‫‪15‬‬


‫مقال‬

‫ماجد الحجيالن‬ ‫رئيس التحرير‬

‫اإلنسان الرقمي وحقيقة‬ ‫(التواصل االجتماعي)‬

‫‪16‬‬

‫تذهب بعض الدراسات إلى أن انطالقة مواقع اإلعالم‬ ‫االجتماعي قد بدأت في منتصف التسعينيات الميالدية‬ ‫مع االنطالقة الحقيقية لإلنترنت نفسها‪ ،‬لكن األهم هو‬ ‫تاريخ ظهور مواقعها الكبرى على مستوى العالم‪ ،‬ويمكن‬ ‫تقريبه إلى عام ‪2005‬م حيث انطلق ماي سبيس وفيسبوك‬ ‫وتبعهما عشرات المواقع األخرى‪ ،‬أي أن قرابة عقد مضى‬ ‫على االنطالقة الحقيقية لهذه الوسيلة اإلعالمية التي غيرت‬ ‫مفاهيم اإلعالم واالتصال‪ّ ،‬‬ ‫وأثرت بشكل مباشر في حياة‬ ‫البشر‪ ،‬غير أن ثورتها الحقيقية يمكن تأريخها بدخول‬ ‫تطبيقاتها في الهواتف الذكية‪ ،‬لتغدو شريكة اإلنسان في‬ ‫جيبه ووقته وقلبه‪.‬‬ ‫وكما يردد خبراء اإلعالم التقليدي في مسعاهم‬ ‫لتحجيم أثرها الهائل؛ فإن هذه تظل مدة زمنية قصيرة‬ ‫نسبيًّا لتقييم أثر مواقع التواصل االجتماعي‪ ،‬وما أحدثته‬ ‫من ثورة في المفاهيم االتصالية‪ ،‬وما يتجاوز أبعاد االتصال‬ ‫بمفاهيمه المدرسية‪ ،‬ومع ذلك يستطيع القارئ اليوم‬ ‫مطالعة عشرات الدراسات التي تحذر من أثر اإلدمان‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫دقيقا ألثرها‬ ‫توصيفا‬ ‫على هذه المواقع صحيًّا‪ ،‬وسيجد‬ ‫في العمود الفقري وعلى الرقبة وعلى أوتار اليد والرسغ‬ ‫واألصابع‪ ،‬هناك ً‬ ‫أيضا تحذيرات اجتماعية ونفسية من ميل‬ ‫مدمني اإلنترنت إلى االنعزال واالكتئاب وانعدام السلوك‬ ‫االجتماعي الواقعي‪ ،‬وإذا ما تجاوزت هذه اآلثار الفردية؛‬ ‫فهناك دراسات أمنية تتناول دور وسائل التواصل االجتماعي‬ ‫في إحداث القالقل واالضطرابات السياسية عبر تيسيرها‬ ‫تنظيم الحشود وتوجيه الدعوات للتظاهر‪ ،‬كما ال يخفى‬ ‫دورها المهم في الثورات الشعبية وخذ تجارب أوكرانيا‬ ‫وتونس ومصر وسواها من أحداث‪.‬‬ ‫غير أن الدراسات ال تلبث أن تتناقض‪ ،‬وفيما يطمئن‬ ‫معهد ألماني إلى أن مستخدمي هذه الوسائل اإلعالمية‬ ‫الجديدة قادرون على فرز الصحيح من المكذوب؛‪ ‬‬ ‫تنشغل الواليات المتحدة وأوربا هذه األيام بما يسمى‬ ‫األخبار المزيفة التي أحدث شيوعها تأثي ًرا ً‬ ‫بالغا في نتائج‬ ‫االنتخابات‪ ،‬وتبحث فيسبوك في وسائل تنقية األخبار وتنبيه‬ ‫المستخدمين إلى مدى موثوقيتها‪ ،‬وذلك تجنبًا للدخول في‬ ‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬

‫دوامات من المحاكمات والقضايا القانونية بسبب تضرر األفراد‬ ‫والشركات من األخبار المضللة‪ ،‬ويجري تحقيق غربي جاد حول‬ ‫توظيف االستخبارات الروسية لعبة اإلشاعات واألخبار الكاذبة‪،‬‬ ‫ونشرها على نطاق واسع في توقيت حاسم للتأثير في االنتخابات‬ ‫واالستفتاءات كما في خسارة هيالري كلينتون‪ ،‬وانفصال بريطانيا‬ ‫عن االتحاد األوربي‪.‬‬ ‫وبينما تنبه دراسة أميركية إلى أن السلطة قد تستفيد من‬ ‫اإلعالم االجتماعي أكثر من الشعوب‪ ،‬تذهب بعض الحكومات إلى‬ ‫تصنيف هذه المواقع ضمن محاولة غربية أميركية للسيطرة على‬ ‫العالم‪ ،‬وتعميم ثقافة واحدة تخدم مصالحها‪ ،‬كما تستخدمها‬ ‫في التجسس ومعرفة الخبايا واألسرار‪ ،‬وتنفيذ الخطط والمشاريع‬ ‫المناهضة للحكومات المعادية‪ ،‬ويأتي شاهد التجربة الصينية في‬ ‫مقاومة هذه المواقع وحجبها داخل الحدود ليمثل محاولة يائسة‬ ‫للوقوف في وجه سيل العولمة االجتماعية الجارف ما أجبر الصين‬ ‫على تحييد خطرها باختراع نسخ محلية من هذه المؤسسات‬ ‫األميركية‪ ،‬فأوجدت (بايدو) بديلاً لغوغل و(ويبو) بديلاً لتويتر‪،‬‬ ‫وبنسبة نجاح أفضل في التجارة االفتراضية أنشأت (علي بابا)‬ ‫لتقاوم إيباي وأمازون‪.‬‬ ‫ومن المحسوم أن التنافس الدولي في هذه التقنيات الجديدة‬ ‫يكاد ينحصر في الدول المتقدمة تكنولوجيًّا‪ ،‬وبالتالي تتمكن‬ ‫وحدها من فرض ثقافتها ومصالحها‪ ،‬وتطور قدرتها في استخالص‬ ‫المعلومات وتحليلها‪ ،‬وهذه المعلومات كما يبدو هي رغيف‬ ‫اليوم‪ ،‬فمن يمتلكها ال يمتلك القرار االقتصادي فحسب إنما يمتلك‬ ‫المستقبل اإلستراتيجي‪ ،‬وهي لعبة خرجت منها اليابان المتقدمة‬ ‫مثلاً ‪ ،‬وال تزال كوريا الجنوبية توجد فيها موطئ قدم عبر ذراعها‬ ‫الضخم سامسونغ الذي يعاند أبل األميركية وينافسها في بيتها في‬ ‫سان فرانسيسكو‪.‬‬ ‫‪ ‬أما محاوالت األمم األخرى فتبدو محدودة وخجولة ال‬ ‫تتجاوز تجربة تعريب التطبيقات والنطاقات؛ وال يبدو واقعها‬ ‫مثي ًرا للخيال‪ ،‬وصار على مستخدم هذه الوسائل االختيار بين‬ ‫تطبيق «واتس آب» لتكون بياناته في عهدة مارك زوكربيرغ وبالتالي‬ ‫(‪ )CIA‬األميركية‪ ،‬أو يلجأ إلى تطبيق تيليغرام في عهدة بافل‬ ‫دوروف وبالتالي (‪ )FSB‬الروسية‪ ،‬وهكذا يكتشف اإلنسان الرقمي‬ ‫أن معلوماته الشخصية هي مجرد أرقام هامشية في مستوعبات‬


‫ضخمة من البيانات التي يمكن استخدامها تجاريًّا أو سياسيًّا‪،‬‬ ‫لمصالح قد تعنيه أو ال تعنيه بشكل مباشر‪.‬‬ ‫وأغلب الظن أن دور هذه الوسائل في نقل األخبار وترويجها‬ ‫هو ما يهم كثيرين‪ ،‬ومن هنا دخلت وسائل اإلعالم التقليدي بقوة‬ ‫لهذه الوسائط‪ ،‬فوجدنا المؤسسات اإلخبارية الكبرى تراهن على‬ ‫حساباتها االجتماعية أكثر من رهانها التقليدي الذي اطمأنت له‬ ‫عقودًا‪ ،‬ولعل دخول وسائل اإلعالم التقليدية في هذه الوسائل‬ ‫المستحدثة منحها عم ًرا جديدً ا وشكلاً‬ ‫ً‬ ‫رشيقا بحيث استعادت‬ ‫عبر حساباتها جمهورًا بدأت تفقده‪ ،‬ونافست الوسائل االفتراضية‬ ‫الجديدة‪ ،‬وهي تجربة ال تزال ً‬ ‫أيضا في مهدها‪ ،‬وقد يصعب الحكم‬ ‫عليها اآلن‪.‬‬ ‫وعودًا على بدء تبدو الدراسات المهتمة باإلعالم االجتماعي‬ ‫واقعة تحت تأثير الصدمة الكبيرة النتشارها المذهل وآثارها‬ ‫ّ‬ ‫يخص تأثير الكم الضخم من‬ ‫المستجدة والمتعددة‪ ،‬ومنها ما‬ ‫المعلومات واألخبار في الصحة النفسية‪ ،‬فالطبيب النفسي غراهام‬ ‫ديفي المختص في دراسة القلق مشغول بأثر األخبار السيئة في‬ ‫حياة األفراد‪ ،‬وتؤكد أبحاثه أن ردود األفعال على األخبار السلبية‬ ‫تنتقل من مجرد كونها انفعالاً مؤق ًتا إلى عامل مؤثر في قرارات‬ ‫الفرد الشخصية وحياته الخاصة‪.‬‬ ‫وإذا ما تأكد أن طبيعة األخبار التي تتلقاها صباحً ا تؤثر في‬ ‫مزاجك سائر يومك؛ صار لزامً ا أن يفحص إنسان التكنولوجيا‬ ‫الرقمية طبيعة خياراته وما يتشربه يوميًّا من أخبار ومعلومات‬ ‫وميديا ضخمة صباح مساء‪ ،‬بوعي أو بغير وعي‪.‬‬ ‫فالغائب الحاضر في كل ما اطلعت عليه من دراسات إعالمية‬ ‫وصحية ونفسية حول اإلعالم االجتماعي والهواتف الذكية؛‬ ‫هو مدى قدرة اإلنسان على استيعاب هذا الكم من المعلومات‬ ‫والبيانات التي تهيلها عليه التطبيقات المتنوعة والوسائط الرقمية‬ ‫المتعددة‪ ،‬قدرته البيولوجية من حيث طبيعة ما يستوعبه‬ ‫ً‬ ‫ونوعا‪ ،‬وقدرته السيكولوجية من حيث فرز‬ ‫الدماغ البشري كمًّ ا‬ ‫هذه البيانات والتعامل معها‪ ،‬ثم مراقبة تداعياتها على صحته‬ ‫العقلية والنفسية معً ا‪ ،‬وبالتالي أثرها في اتخاذه القرارات اليومية‬ ‫صغيرها وكبيرها‪ ،‬وتعامله مع محيطه‪ ،‬وهو ما يوفر مئات األسئلة‬ ‫واالحتماالت االجتماعية والتربوية والنفسية والثقافية وسوى ذلك‪.‬‬ ‫ال تجود الشركات الرقمية عليك بدليل نفسي للتعامل مع (سناب‬ ‫شات) أو كيف تنظم وقتك وأنت تتابع (فيسبوك)‪ ،‬وليست (تويتر)‬ ‫بدورها مسؤولة عن اختياراتك ومواقفك مما تقرأ وانعكاساته‬ ‫على ثقافتك ومعلوماتك‪ ،‬وجميع األدلة والدورات التدريبية‬ ‫والتعليمات داخل األجهزة والبرامج تركز بشكل مباشر على‬ ‫التقنيات‪ ،‬فهي ليست معنية باآلليات النفسية للتعاطي مع اإلعالم‬ ‫االجتماعي الذي يفترض أنه وُجد للتواصل والتفاعل‪.‬‬ ‫وهكذا يكون اإلنسان الرقمي في عصر ديمقراطية آلية‬ ‫مباشرة‪ ،‬مسؤولية الفرد فيها عما يتلقاه تتعاظم كل يوم‪ ،‬وفي‬ ‫عالم منفتح على آفاق أوسع مما تربَّى عليه وعايشه واختبره في‬ ‫حياته السابقة‪ ،‬ما عاد هناك رقباء وال مؤسسات تملي عليك ما‬ ‫يجب أن تعرف‪ ،‬أو تحجب عنك معلومة‪ ،‬أو تمنعك من نشر رأي‬

‫صار على مستخدم هذه الوسائل االختيار بين‬ ‫تطبيق «واتس آب» في عهدة مارك زوكربيرغ‬ ‫وبالتالي (‪ )CIA‬األميركية‪ ،‬أو تطبيق تيليغرام في‬ ‫عهدة بافل دوروف وبالتالي (‪ )FSB‬الروسية‬ ‫أو خبر‪ .‬وهو أمر بقدر منافعه المذهلة ينطوي على احتماالت ال‬ ‫نهاية لها من الصدمات واألضرار‪.‬‬ ‫إن لعبة التسمية في مصطلح «التواصل االجتماعي» شديدة‬ ‫المخاتلة‪ ،‬فهو تواصل قتل كل الفروق الزمنية والمكانية‪ ،‬ومنح‬ ‫البشرية خيارات تجاوز ضعفها وقلة حيلتها وارتباط الجسد‬ ‫البشري بشروطه الحسية الضعيفة ومحدودية حركته‪ ،‬ونقله إلى‬ ‫عالم افتراضي أوسع يجد فيه اآلخرين أرقامً ا وصورًا وأسماء ولوحة‬ ‫مفاتيح‪ ،‬غير أنه بقي تواصلاً‬ ‫ً‬ ‫مفترضا‪ ،‬ال أثر فيه لكامل الحواس‬ ‫والخصائص البشرية التي تختبرها مع اللقاء الحقيقي‪ ،‬وهو ً‬ ‫أيضا‬ ‫اجتماعي غير أنه فردي جدًّ ا‪ ،‬محفوظ بأرقام سرية ومحاط بعلب‬ ‫مربعة شديدة الخصوصية‪ ،‬فرقاب الناس في األماكن العامة‬ ‫منحنية‪ ،‬وظهورهم محدودبة على وسائطهم‪ ،‬فأي عزلة أكثر من‬ ‫عزلة اإلنسان الرقمي؟ يعيش عقله في علبته الرقمية حتى لو كان‬ ‫في أكبر وسط اجتماعي‪.‬‬ ‫أما عن كمّ المعلومات والميديا التي تنبجس في هذا العصر‬ ‫عبر هذه التقنيات‪ ،‬فيكفي مراقبة الحاجة الملحّ ة لتوسيع الذاكرة‬ ‫اإللكترونية لألجهزة‪ ،‬فكلما حصلت على غيغابايت طلبت المزيد‪،‬‬ ‫وهكذا تتضخم البيانات حتى يلجأ اإلنسان الرقمي لحذفها أو‬ ‫تضخيم الذواكر في أجهزته‪ ،‬لكنه ينسى ذاكرة ما زالت متشبعة‬ ‫وممتلئة وليس بوسعه مسحها أو اختيار ما يبقى فيها وما يحذف‪،‬‬ ‫واإلنسان الرقمي وحده مسؤول عن هذه الذاكرة وما قد تستتبعه‬ ‫من شروط لتنظيفها حتى ال تتعرض لالمتالء وااللتياث‪.‬‬ ‫هجاء هذه الوسائط الرقمية أو تركها والبعد منها أصبح انتحارًا‬ ‫اجتماعيًّا وثقافيًّا وإعالميًّا‪ ،‬يريد اإلنسان الرقمي أن يكون شاهدً ا‬ ‫على عصره‪ ،‬يحب أن يراقب التاريخ وهو يصنع‪ ،‬واألحداث وهي‬ ‫تم ّر‪ ،‬وأن يحكم عليها بنفسه بدون وسيط وال رقابة‪ ،‬إنه يصنع‬ ‫روايته الخاصة لحياته وحياة اآلخرين‪ ،‬وعنده من الدالئل العلمية‬ ‫والوثائق الرقمية ما يثبت صحة روايته ودقة تحليله‪ ،‬إنها غريزته‬ ‫في حب المعرفة وحقه البشري في تكوين رأيه الخاص ونقل‬ ‫األخبار والتعليق عليها‪.‬‬ ‫لم يعد ترديد منافع اإلعالم االجتماعي بحاجة إلى إقناع‬ ‫أحد‪ ،‬قلة من البشر تحاول مقاومتها بالكتابة ضدها‪ ،‬وإصدار‬ ‫القوانين «الوطنية» واألنظمة الرقابية‪ ،‬لكن اإلنسان الرقمي ال‬ ‫يجد وق ًتا حتى للرد عليها؛ ألنه مشغول طوال يومه بالتفاعل مع‬ ‫بياناته الخاصة في تطبيقه المفضل‪ ،‬ولعله يتعامل مع هذه اآلراء‬ ‫والقرارات كما يتعامل مستخدمو وسائل اإلعالم االجتماعي مع‬ ‫أخبار كيم جونغ أون في باب الطرائف والغرائب‪.‬‬

‫‪17‬‬


‫الملف‬

‫ما وراء‬

‫النفط‬ ‫‪18‬‬

‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬


‫في عام ‪1938‬م استخرج أول برميل للنفط من بئر الدمام السعودية‪ ،‬واليوم إذ يمر أكثر من ثمانية‬

‫عقود على هذا الحدث الذي غيّر منطقة الخليج؛ يبلغ النفط شيخوخته سعرًا وربما جدوى اقتصادية‪..‬‬ ‫أما ثقافيًّا فيظل النفط معزولاً في آباره عن مجتمعات قطفت ثماره عقو ًدا‪.‬‬ ‫قيل في أدبيات عربية قديمة إن النفط كانت تطلى به اإلبل لعالج الجرب‪ .‬ولعل هذه العالقة‬

‫السطحية مع النفط أكثر حميمية من عالقة العرب به اليوم‪ .‬إذ كان العربي يعرف ملمسه ولونه‬

‫ويستخدمه عالجً ا ألغلى ما يملك وقتذاك‪ ،‬فيما ال يعرف معظم أبناء اليوم عن النفط إال مداخيله وربما‬ ‫سعر برميله‪ ..‬وحين يتحدث خبير نفطي عن لون النفط ورائحته قبل التكرير وبعده‪ ،‬أو حين تعرض‬

‫أرامكو عيّنات من المستخرجات النفطية تجد دهشة الناس بلغت أقصاها‪ .‬فال أحد تعرّف بنفسه إلى‬

‫البترول كمادة ال كمصدر مادي‪ .‬‬

‫كنا قبل النفط وسنكون بعده‪ ..‬هكذا يستشهد بعض أبناء الخليج عند السؤال عن العالقة مع‬

‫النفط‪ ،‬فالنفط مجرد سائل أسود كريه الرائحة‪ ،‬صدف أنه ظهر هنا‪ ،‬كما صدف أنه ثمين ًّ‬ ‫جدا‪ ،‬وعليه‬ ‫ً‬ ‫نخلة وال سنبلة‪ ،‬ليس ً‬ ‫لؤلؤا وال تمرًا‪ ،‬وهو ال يحتاج إلى اعتراف‬ ‫فالنفط لم ُيصنع ولم ُيزرع هنا‪ ،‬هو ليس‬ ‫رومانتيكي بالذنب تجاهه‪ ،‬بل األجدى أن يلتفت الدارسون إلى مدى اإلتقان في توظيف عائداته‬ ‫أو شعور‬ ‫ّ‬

‫االقتصادية‪ ،‬ونجاح أو إخفاق خطط التنمية في اإلفادة القصوى من براميل الزيت‪.‬‬ ‫غير أن السؤال يبقى كيف ّأثر النفط في إنسان هذه البالد وكيف غيّره ثقافيًّا واجتماعيًّا؟ ولماذا صار‬

‫النفط لعنة في األدبيات الثورية العربية؟ رغم أنه ثروة طبيعية ال عالقة لها باأليديولوجيات‪ ،‬ولماذا لم‬ ‫ينقل أبناء الخليج صدى النفط إلى األدب شعرًا وسر ًدا؟ ما الذي جعله محصورًا في بعده االقتصادي؟‬

‫لقد انحصر الكالم عن النفط في آباره ومصانع تكريره‪ ،‬ولم يتحول إلى معنى ثقافي‪ ،‬ولم يرمز إلى‬ ‫دوره الهائل في التحوالت التي شهدتها المنطقة‪ ،‬أليس هو ً‬ ‫أيضا ِهب ًَة ربانية ومصدر رزق كما في الصيد‬ ‫والزراعة والتجارة؟ هل يمكن إنكار فضل عوائد البترول على دول الخليج وعلى دول عربية وإقليمية‬

‫أخرى؟ ألم يغيّر النفط وجه المنطقة وحياة إنسانها من شظف العيش إلى رخائه‪ ،‬ومن الكتاتيب إلى‬

‫المؤسسات األكاديمية الكبرى؟ فما بالنا ال نسمعه في األغاني وال يتطرق له النشيد؟ لِمَ ال نطالع‬ ‫قصيدة تشير إلى بئر زيت؟ أو رواية تصوّر فضله على مدن الخليج وقراها؟ هل يستحق النفط كل هذا‬

‫الهجاء في الذاكرة العربية منذ الخمسينيات؟ هل دخل النفط ولو رمزيًّا في األمثال؟ في المرويات‬

‫الشعبية والقصص؟ في األساطير المحكية وسواها من أزياء وأطعمة وصناعات يدوية؟ هل غدا جزءً ا‬ ‫من حياة الناس االجتماعية والثقافية كما هو أساسها اقتصاد ًّيا؟‬

‫يكاد النفط اليوم يعلن تقاعده وسط تأرجح أسعاره واكتشاف بدائل متجددة للطاقة كل يوم‪ ،‬فهل‬

‫آن أوان التأمل في حكاية الزيت العربي؟‬ ‫تفتح الفيصل ملف النفط ثقافيًّا ُ‬ ‫وتسائل عد ًدا من كتاب وكاتبات الخليج عما وراء النفط‪.‬‬

‫‪19‬‬


‫الملف‬

‫ثمانية عقود من‬ ‫النفط في الخليج‪..‬‬ ‫أين الثقافة؟‬ ‫‪20‬‬

‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬


‫محمد بن غانم الرميحي‬

‫كاتب وأكاديمي كويتي‬

‫ً‬ ‫بسيطا ومباشرًا إال أن محتواه ومرماه‬ ‫السؤال الذي طرحته مجلة الفيصل‪ ،‬وإن بدا في ظاهره‬ ‫عميق ومتشعب اإلجابات؛ هل ّأثر ظهور واستخراج وتسويق النفط في الثقافة بمعناها العام في‬

‫مجتمعات الخليج‪ ،‬أم ال؟ ليس هناك إجابة يمكن لمتابع أن يعطيها بشكل قاطع‪ ،‬نعم أو ال! هي‬ ‫في الحقيقة نعم وال في نفس الوقت! الموضوع يأخذنا أولاً إلى تعريف الثقافة‪ ،‬رغم وجود عشرات‬

‫التعريفات للثقافة‪ ،‬التعريف الجامع عندي هو مجموع (معرفة ومهارة وموقف إيجابي من الحياة)‪،‬‬

‫أما التعريف العملياتي فهو (اإلنتاج الثقافي) مثل‪ :‬العمل الفني أو األدبي أو المسرحي أو غيره من‬ ‫المنتج ذي البعد الثقافي المتعارف عليه‪.‬‬

‫ماذا أعني بموقف إيجابي؟ كمثال قد يحصل شخص ما‬

‫مسرحي متميز‪،‬‬ ‫عىل معرفة ومهارة‪ ،‬مثل طبيب حاذق‪ ،‬أو‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫موقفا إيجابيًّا‬ ‫لكن إن افتقد هذا الطبيب أو ذاك املسرحي‬

‫من الحياة‪ ،‬فهو (ناقص ثقافة!) ‪ -‬أي أن رفض الطبيب‬

‫عالج شخص بسبب انتمائه العرقي أو الديني أو غش يف‬ ‫عمله‪ ،‬أو مسرحي قدم مسرحية ُتعيل أفكار التعصب‪،‬‬ ‫وتهزأ مثلاً من ذوي االحتياجات الخاصة‪ ،‬ذلكم عندي‬

‫يفتقد العنصر الثالث واملهم يف الثقافة (املوقف اإليجابي)‪،‬‬ ‫حتى إن حاز العنصرين األولني! ما هو املوقف اإليجابي من‬

‫الحياة؟ هو أن يكون اإلنسان الفرد أو الجماعة لها عالقة‬

‫إيجابية باإلنسانية وما توصلت إليه من قيم كربى وعليا‪،‬‬

‫مثل‪ :‬املساواة‪ ،‬والعدل‪ ،‬واحرتام اآلخر‪ ،‬وإعالء التسامح‪،‬‬

‫وحل الصراعات من خالل آليات متوافق عليها‪ ،‬أي تعظيم‬

‫الروح اإلنسانية بصرف النظر عن ديانتها أو مذهبها أو‬ ‫لونها‪ ،‬واألمانة يف العمل وقيمه‪ ،‬والسعي لرتقية املجتمع‬ ‫واحرتام املرأة‪ ،‬والصدق يف أداء العمل‪ ،‬إىل آخره من القيم‬

‫اإليجابية‪.‬‬

‫‪21‬‬


‫الملف‬

‫واحد‪ ،‬ظهر واستفيد منه عىل شكل حقب مختلفة‪ ،‬ربما‬

‫السؤال املركزي‬

‫والسعودية‪ ،‬والكويت) والستينيات يف أبوظبي ُ‬ ‫وعمان‪.‬‬

‫يف السؤال الذي طرحته مجلة الفيصل يذهب يف‬

‫إال أن اإلشكالية املطروحة أمامنا أن الكثري من العناصر‬

‫الثقايف بتنوعه‪ ،‬لكن الثقافة هي أوسع من النشاط‬

‫الخريات) يف الظهور‪ ،‬حتى لو امتلكت النفط‪ ،‬النمط الجديد‬

‫تقديري إىل الجزء (العمليايت) يف الثقافة وهو اإلنتاج‬

‫إىل الفكرة واملوقف‪ ،‬بل إن الثقافة يف نظري هي ُسلطة‬ ‫تستطيع أن تمنع وأن تمنح؛ تمنع التطرف مثلاً ‪ ،‬وقد‬ ‫تمنح التطرف‪ ،‬هي قد تمنع فهم اآلخر‪ ،‬وقد تمنح‬

‫اآلخر الفهم السليم‪ ،‬هي ُسلطة قد ال تكون ظاهرة‪،‬‬

‫لكنها مؤثرة يف األفراد واملجتمعات‪.‬‬

‫الثقافية يف كل تلك املجتمعات استمر تأثريها (أي شكل إنتاج‬

‫من اإلنتاج (النفط) لم يُساهم فيه املجتمع بشكل واسع‪،‬‬ ‫الشركات األجنبية اعتمدت عىل ُعمال أجانب فنيني وشبه‬

‫فنيني‪ ،‬وتركت األعمال البسيطة للمواطنني لفرتة طويلة‪،‬‬ ‫حتى الدولة الخليجية كان دخلها من النفط متواضعً ا بنسبة‬ ‫أقل من دخل الشركات املنتجة‪ ،‬ولم ُتعدَّ ل تلك املعادلة‬

‫إذا حسمنا الجزء األول من اإلشكالية‪ ،‬فلدينا‬

‫إال يف سبعينيات القرن املايض نسبيًّا‪ .‬فليس هناك قطيعة‬

‫واجتماعيًّا سلبًا أو إيجابًا؟ هنا نجد أنفسنا أمام إشكالية‬

‫قد تأثر بشكل أكرب بالثقافة العربية التي أنتجتها العواصم‬

‫الجزء الثاين منها‪ ،‬وهو‪ :‬هل انعكس النفط (استخراجً ا‬ ‫ً‬ ‫وتسويقا ودخلاً ) عىل مجتمعات الخليج ثقافيًّا‬ ‫تحليلية بالغة التعقيد‪ ،‬عادة الثقافة بمعناها الشامل‬ ‫لها عالقة بكيفية إنتاج املجتمع لخرياته‪ ،‬فمثلاً يف بعض‬

‫دول الخليج قبل النفط كانت تنتج الخريات (الدخل‬

‫املجتمعي) من العمل يف صناعة الغوص أو غريها من‬

‫‪22‬‬

‫تبدأ يف الثالثينيات من القرن املايض يف كل من (البحرين‪،‬‬

‫األعمال املنتجة‪ ،‬فلذلك تكوّنت (ثقافة) مجتمعية‬ ‫مبنية أساسً ا عىل تلك الطريقة إلنتاج الخريات‪ ،‬مثلاً ‪:‬‬ ‫توزيع الرثوة‪ ،‬والعالقات الرتاتبية يف املجتمع‪ ،‬والزواج‪،‬‬

‫بني ثقافة ما قبل النفط وما بعد النفط‪ ،‬مع االعرتاف بأن‬ ‫ً‬ ‫أنماطا ثقافية تبناها املجتمع الخليجي‪ -‬النفطي‪ ،‬لكونه‬ ‫هناك‬

‫العربية التي امتلكت الهيمنة الناعمة عىل الثقافة العربية‬ ‫بعد التحرر من االستعمار (منذ الثلث األول من القرن‬

‫العشرين) كالقاهرة ودمشق وبغداد‪ ،‬كما تبنت مجتمعات‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أنماطا من الثقافة الغربية‪ .‬ومن أجل حاجة‬ ‫الحقا‬ ‫الخليج‬

‫الدولة الجديدة للتنظيم‪ ،‬كان ال بُدّ من اعتناق وتب ّني أنماط‬ ‫ثقافية مستجدة‪.‬‬

‫واالحتفاالت يف املناسبات‪ ،‬والنظر إىل املرأة‪ ،‬وطريقة‬

‫البناء ونوع األكل‪ ،‬معظمها قائم عىل طريقة إنتاج‬ ‫الخريات يف ذلك املجتمع‪ ،‬سواء يف املجتمع الزراعي‬ ‫ً‬ ‫وأيضا رعي األغنام والعيش يف‬ ‫املحدود أو ركوب البحر‪،‬‬

‫البادية والغوص الستخراج اللؤلؤ‪ .‬كان لذلك املجتمع‬ ‫الذي عاش بني الغلظة يف الصحراء والليونة يف الساحل‬ ‫التجاري أو مواجهة أهوال البحر غري املتوقعة‪ ،‬ذلك‬

‫املجتمع كان له ثقافة ما مرتبطة بأنشطته االقتصادية‬ ‫وطريقة حياته‪ .‬فال يوجد مجتمع من دون ثقافة‪،‬‬

‫االختالف يف نوع ودرجة وشكل تلك الثقافة‪.‬‬

‫ماذا حدث للثقافة بعد ظهور النفط؟‬

‫هناك وجهات نظر متعددة يف التاريخ لظهور‬

‫النفط‪ ،‬بعضهم يأخذه إىل ثمانية عقود‪ ،‬وبعضهم‬

‫يتحدث عن العقود الخمسة الذهبية للنفط يف دول‬

‫الخليج‪ ،‬األول يؤرخ لبدء إنتاج النفط‪ ،‬والثاين يبدأ‬

‫من نقطة االستفادة العامة لهذه املادة يف املجتمع‪ ،‬ثمّ‬ ‫هُ ناك حقيقة أُخرى أن النفط لم يظهر أو حتى يستفاد‬ ‫منه بشكل جماعي يف منطقة الخليج كلها يف وقت‬

‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬


‫قديما‬ ‫صيد اللؤلؤ مهنة غواصي الخليج‬ ‫ً‬

‫حماية فمن املتطوعني) فظهرت طبقة متوسطة واسعة‪،‬‬

‫موضوع الثقافة لم ُيلتفَ ت إليه كما ينبغي‬

‫علينا هنا أن نلحظ أن الرثاء النسبي لدول الخليج قد أثار‬

‫صلب خطط الدولة الخليجية‪ ،‬وأال ُيعامل‬

‫أكرث غنى نسبيًّا وأكرث تطورًا بشكل عام‪ .‬هنا لعبت الثقافة‬

‫من خالل أهميته وجدارته بأن يوضع في‬

‫حفيظة مجتمعات قريبة عربية‪ ،‬كانت حتى وقت قريب‬

‫كأنه ( شكل زائد) من الكماليات‬

‫دورًا مزدوجً ا (بمعناها العمليايت والعام) فقد ساهم‬

‫ً‬ ‫إذا لدينا مشهد يف (العقود الثمانية أو الخمسة‬

‫املاضية) هو كالتايل‪ :‬انحسار تدريجي لكن سريع يف إنتاج‬ ‫الخريات التقليدية (املتواضعة) يف الخليج‪ ،‬ومن ثمّ تدفق‬

‫الدخل النفطي واالعتماد عىل (ما تقوم به الدولة من‬ ‫خدمات وفرص عمل) وهي املالكة ملصادر الرثوة الجديدة‪،‬‬

‫ويف الوقت نفسه تصاعد تدريجي لدخل الدولة من النفط‬ ‫الذي ّ‬ ‫مكنها من أن تكون (ربة العمل) ‪-‬بشكل شبه كامل‪-‬‬ ‫لليد العاملة‪ .‬يف الحال األخرية‪ ،‬قامت الدولة من الناحية‬ ‫الثقافية بافتتاح املدارس الحديثة (لكن ليس من دون‬ ‫مقاومة من العناصر الثقافية السابقة) كالقبول التدريجي‬

‫بتعليم األبناء ومقاومة تعليم الفتيات‪ ،‬عىل سبيل‬

‫املثال‪ .‬كما قامت الدولة الخليجية بإنشاء الجامعات‬ ‫وأيضا بتقديم الخدمات ُ‬ ‫ً‬ ‫األخرى كالعالج وتوسيع جماعة‬

‫كثري من العرب بوضع اللبنات األوىل لألعمال الثقافية‬ ‫(مدارس‪ ،‬وصحف‪ ،‬ومجالت) وبعد ذلك محطات تلفاز‬

‫إىل آخره‪ ،‬وكانت مساهماتهم إيجابية‪ ،‬وبخاصة يف‬ ‫(س ْندرُم)‬ ‫التدريس‪ ،‬لكن يف الوقت نفسه ظهر لدى بعض ِ‬ ‫سلبي‪ ،‬يقول يف الغالب‪ :‬إن هذه املجتمعات الخليجية‬

‫هي مجتمعات (بدوية) ال تستحق تلك الرثوة‪ ،‬بل تتصرف‬

‫فيها بشكل سلبي!‬

‫الثقافة والنفط‪ ،‬فجوات ثقافية غري ُمجسرة‬

‫يف املرحلة االنتقالية بني االقتصاد القديم واالقتصاد‬

‫الحديث‪ ،‬واجهت الدولة الخليجية الحديثة مجموعة‬

‫تقاطعات بني الحاجات املطلوبة للدولة الحديثة‪ ،‬وبني‬

‫املحافظة عىل املوروث ومطالب التحديث النابعة من‬

‫الضبط (الشرطة والجيش)‪ ،‬وتوسع القطاع التجاري‬

‫القوى الجديدة يف املجتمع (الطبقة الوسطى) ووجدت‬ ‫الدولة الخليجية أمامها ُثالثية صعبة ليس من السهل‬

‫القديم (كان هناك حرس أسواق‪ ،‬وإن احتاجت الدولة إىل‬

‫الثقايف األصيل‪.‬‬

‫(الخاص) وهي مؤسسات لم تكن موجودة يف نظام اإلنتاج‬

‫التعاون معها‪ .‬ولم تنتبه بشكل مُ بكر ألهمية التمهيد‬

‫‪23‬‬


‫الملف‬

‫مشروع (نفطي) في الكويت موجه لتعزيز الثقافة النفطية لدى األجيال عن البترول‬

‫ويف تقديري‪ ،‬من جهة أُخرى‪ ،‬لم تنتبه ال ُّنخب‬

‫يف الخليج حتى وقت مُ تأخر‪ ،‬وبشكل جدي ألهمية‬

‫به الغد‪ ،‬وهو جزء من التفكري الثقايف املرتبط بأسلوب إنتاج‬

‫الخليج‪ ،‬وكونها قاطرة للتنمية والتطور‪ .‬وقد أطلق‬

‫اضطهدت يف بالدها ألسباب صراعية ‪ -‬سياسية‪ ،‬ووجدت‬ ‫ً‬ ‫مالذا للعمل يف دول الخليج التي كانت تطمح إىل تقديم‬

‫الثقافة بمعناها العام والعمليايت يف تطوير مجتمعات‬ ‫النفط يف الخليج قوى متعارضة‪ ،‬فقد ظهرت وعىل‬

‫األخص توسعت النخب بمعناها الحديث يف هذه‬

‫املجتمعات‪ ،‬أي طبقة وسطى واسعة من موظفي‬ ‫الدولة يف القطاعات املختلفة ومن الطبقة التجارية‪.‬‬

‫كما أطلق النفط توترات اجتماعية؛ بسبب طبيعته‬

‫‪24‬‬

‫بأن (القائم دائم)‪ ،‬وبأن مشكالت اليوم سوف يحلها ما يأيت‬

‫(إنتاج الخريات خارج جهد النخب) أدى إىل وجود األمر‬

‫ونقيضه يف املجتمع‪ ،‬مثل وجود (تعليم املرأة والسماح‬ ‫بعملها وعزلها يف الوقت نفسه!) ووجود مطبوعات‬ ‫جديدة وبالغة الرثاء مع (رقابة نظامية أو مجتمعية‬ ‫صارمة) يف اإلطار الثقايف‪ ،‬فكثري من املشروعات‬

‫الثقافية التي ظهرت يف الخليج‪ ،‬لم تكن مؤطرة‬ ‫ومؤسسية وهادفة إىل تكوين ثقافة عامة للمجتمع‬

‫تساعد عىل التوجه إىل أهداف تنموية واضحة وإىل‬ ‫تنظيم الشعور الثقايف املجتمعي‪ .‬األسباب كثرية لهذه‬ ‫الظواهر‪ ،‬أحدها أسعار النفط‪ ،‬التي تنخفض وترتفع‪،‬‬ ‫أعطت الدولة شكلاً من األمان النسبي‪ ،‬وربما الخادع‬

‫الخريات السابق! ساعد عىل ذلك جماعات سياسية عربية‪،‬‬

‫خدمات‪ ،‬وبخاصة تعليمية لشعوبها‪ ،‬فاستولت تلك‬ ‫الجماعات عىل مراكز نافذة يف التعليم‪ ،‬خلطتها بأفكارها‬

‫التي اعتقدت أنها مقبولة للمجتمع التقليدي (يف الخليج)‪،‬‬ ‫وهي أفكار (تراثية) مطعمة بتصورات وطموحات سياسية!‬ ‫زامن ذلك اندالع صراع أيديولوجي يف املنطقة‪ ،‬جزء منه‬

‫الصراع الدويل (الحرب الباردة)‪ ،‬وجزء منه صراع اجتماعي‬

‫محيل يف اإلقليم املحيط بالخليج‪.‬‬

‫وبسبب تقلص فرص التعبري النسبي يف بالد كانت‬

‫قائدة لألعمال الثقافية العربية‪ ،‬مثل‪ :‬بغداد والقاهرة‬ ‫ودمشق‪ ،‬ظهرت مبادرات يف دول الخليج عىل قاعدة‬ ‫(خدمة الثقافة العربية) فنشأت مثلاً «مجلة العربي» يف‬ ‫الكويت ‪1958‬م‪ ،‬التي ذاع صيتها لعقود من الزمن‪ ،‬كما‬ ‫ظهرت سالسل كتب مثل (عالم املعرفة ‪1977‬م) كما صدرت‬

‫مجالت يف كل من اململكة العربية السعودية‪ ،‬ولحقت بعد‬ ‫ذلك قطر بإصدار «مجلة الدوحة»‪ ،‬ثمّ باحتضان مؤسسات‬

‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬


‫بحثية عربية أصبحت مرموقة‪ ،‬ولحقتها دولة اإلمارات‬

‫وسعاد الصباح يف الكويت‪ ،‬أو مؤسسة عبداملقصود‬

‫من مجلة (ناشيونال جيوغرافيك) الذائعة الصيت‪ ،‬كما‬

‫مؤسسات ثقافية رائدة‪ ،‬كما فعل األمري خالد الفيصل‬

‫العربية املتحدة‪ ،‬فأصدرت عىل سبيل املثال النسخة العربية‬ ‫ساهمت ُعمان بإصدار مطبوعات لها قيمة ثقافية عالية‪.‬‬ ‫وظهرت وتطورت مؤسسات بحثية‪ ،‬أما داخل الجامعات‬

‫الخليجية التي تكاثرت تدريجيًّا لتصبح اليوم أكرث من ستني‬

‫جامعة (حكومية وأهلية) عدا املؤسسات التعليمية ما دون‬ ‫الجامعة (كليات) أو مؤسسات بحثية خارج الجامعات‪،‬‬

‫مستقلة أو تابعة إلحدى اإلدارات أو الوزارات‪ .‬بل أنشأ‬ ‫القطاع الخاص يف الخليج مؤسسات ثقافية مرموقة‬

‫مثل‪ :‬مؤسسة التقدم العلمي يف الكويت ‪1977‬م (مؤسسة‬ ‫يمولها القطاع الخاص) ومثل‪ :‬مؤسسة العويس واملاجد‬

‫يف اإلمارات يف تسعينيات القرن املايض‪ ،‬ومؤسسة البابطني‬

‫هناك قطيعة بين ثقافة ما قبل النفط وما‬ ‫أنماطا‬ ‫بعد النفط‪ ،‬مع االعتراف بأن هناك‬ ‫ً‬ ‫ثقافية تبناها المجتمع الخليجي‪ -‬النفطي‪،‬‬ ‫لكونه تأثر بالثقافة العربية التي أنتجتها‬ ‫عواصم امتلكت الهيمنة الناعمة‬

‫خوجة يف مدينة جدة‪ ،‬بل أصبح رجال من الخليج يرعون‬ ‫يف التفكري وإنشاء املؤسسة املرموقة عربيًّا (مؤسسة الفكر‬ ‫العربي) وغري ذلك الكثري‪ ،‬وبخاصة يف ظهور النوادي األدبية‬

‫املختلفة‪ ،‬كل ذلك التطور الكمي شكل تراكمً ا معرفيًّا يُعزز‬ ‫نوعيًّا اإلنتاج الثقايف العربي‪.‬‬

‫ولكن ذلك «الكمي» سرعان ما سوف يصبح نوعيًّا‪،‬‬

‫بمعنى تشكيل منصة (خليجية) لإلبداع الثقايف أرى أن‬

‫تباشريها قد ظهرت يف مجاالت مثل‪ :‬الرواية‪ ،‬والعمارة‪،‬‬ ‫واإلدارة‪ ،‬والفنون املختلفة‪ .‬ونرى كتابًا قد صدر مؤخ ًرا‬ ‫بعنوان‪« :‬هيمنة ناعمة‪ :‬صعود وتراجع القوة الناعمة‬

‫املصرية» ألحمد محمد أبو زيد‪( ،‬دار عني للنشر‪2015 ،‬م)‬ ‫يقول صفحة ‪« :159‬بأن النصف األول من القرن الحادي‬

‫والعشرين ستكون الكلمة العليا يف تحديد مسار ومستقبل‬ ‫املنطقة العربية يف أيدي دول مجلس التعاون» هذا النص‬ ‫الطويل الذي اقتطفت منه كلمة موجزة‪ ،‬لم أرغب أن أكتبه‬

‫أنا‪ ،‬بل من متابع عربي من غري أبناء املنطقة‪ ،‬وهو شهادة‬ ‫إىل صعود القوة الناعمة الخليجية من خالل العمل الثقايف‬ ‫والعلمي واملؤسيس‪.‬‬

‫اإلشكالية مع اآلخر‬ ‫تنظر بعض النخب العربية إىل مجتمعات الخليج نظرة سلبية ثقافيًّا‪ ،‬نابعة إما من عدم معرفة أو دوافع ربما تكون‬ ‫ً‬ ‫سابقا‪ ،‬وربما ألسباب سياسية‪ ،‬تلك النظرة السلبية تقوم عىل فكرة غري علمية وهي (تفوُّقنا‬ ‫نفسية‪ ،‬ذكرت بعضها‬ ‫ُّ‬ ‫وتخلف اآلخر) وأن هذه املجتمعات ال تواريخ حقيقية لها قبل ظهور النفط‪ ،‬كانت قبله متخلفة ال تملك أدىن مقومات‬ ‫الحضارة؛ ألن الحضارة تنشأ عىل حد قول الكاتب محمد حسنني هيكل يف (األخضر وليس ال‬

‫الزراعية ومناطق الصحراء‪ ،‬تلك األفكار بجانب أنها غري علمية تتصف باملبالغة وربما التحيز أو التشفي‪ ،‬ألسباب مختلفة‪،‬‬ ‫وإن كان يل أن أضع نسبة من اللوم فإنه يُقاسم بالتساوي‪ ،‬بني النظرة السلبية من بعض النخب العربية‪ ،‬وبني تقاعس‬ ‫ً‬ ‫جهدا من أجل العمل والتفكري يف منظومة فقهية تساير العصر‪ ،‬أو إيمان راسخ‬ ‫من جانبنا يف الخليج‪ ،‬فنحن لم نبذل‬ ‫بأهمية الثقافة ومؤسساتها‪ ،‬بل إن بعض النخب العربية تدعي أن (التخلف الفكري) املتمثل يف (مالبس وأشكال ظاهرية‬

‫للرجال والنساء) هو ( فقه الصحراء)! هذا األمر لم نلتفت إليه بشكل جدي‪ ،‬كنا يف الغالب يف مكان االعتذار أو التربير‪،‬‬ ‫وليس يف مكان التفكري اإليجابي إلعادة النظر يف تخليص الفكر الفقهي مما اعرتاه من مفاهيم ميتافيزيقية‪ ،‬وإعادة النظر‬

‫يف املنظومة التعليمية من أجل تخليصها من الشوائب السلبية التي تبدو كأنها مناقضة لواقع العصر‪.‬‬

‫ال شك عندي شخصيًّا يف أن الثقافة بمعناها العام والعمليايت هي قائدة التطور‪ ،‬وأن ما نعانيه اليوم من أزمات‬

‫ّ‬ ‫جلها أساسه ثقايف‪ ،‬كما ال أشك يف أن (موضوع الثقافة) لم يلتفت إليه كما ينبغي من خالل أهميته وجدارته بأن يوضع‬ ‫يف صلب خطط الدولة الخليجية‪ ،‬وألاّ يُعامل كأنه (شكل زائد) من الكماليات‪ ،‬أول ما يصل إليه (سيف التخفيض) يصل‬

‫إىل مؤسساته وأنشطته‪ ،‬الثقافة سالح عرفته الشعوب جميعً ا‪ ،‬وقد قال جالل الدين الرومي‪ :‬أعطني قلمً ا أستطيع به‬ ‫وحده أن أواجه به السيوف والرماح! كناية عن أهمية العلم والثقافة يف تطور الشعوب ورقيّها‪.‬‬

‫‪25‬‬


‫الملف‬

‫‪26‬‬

‫يعيش مثل حالة‬ ‫سرية فينا‬ ‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬


‫فوزية أبو خالد‬

‫شاعرة وكاتبة سعودية‬

‫«مدن الملح» خماسية الروائي عبدالرحمن منيف قدمت رؤيتها الروائية لمرحلة معينة من‬ ‫التاريخ االجتماعي والسياسي واالقتصادي بتفاعالتها المتعددة األبعاد‪ .‬وصدف أن كان النفط بطل‬ ‫التحوالت لذلك التاريخ‪ .‬هذه مالحظة ليست عابرة وأعرف أن موضوع السؤال ليس «مدن الملح» لكن‬ ‫كان ال بد من ذكر المالحظة لألمانة التاريخية واألدبية والثقافية‪ ..‬وهذا يشكل مدخلاً مناسبًا لمحاولة‬ ‫اإلجابة عن صميم السؤال‪ ،‬وأن نتذكر أن تلك الرواية صدرت خارج المملكة ومنطقة الخليج عمومً ا‬ ‫على الرغم من أنها أدخلت صلب الحياة االقتصادية‪ ،‬النفط وانعكاساته على السرد الروائي‪ .‬ولعل‬ ‫سؤال‪ :‬لماذا صدرت تلك الرواية خارج المنطقة التي كتبت عنها؟ ولماذا كان الكاتب يعيش في باريس‬ ‫ً‬ ‫بعضا من إجابة السؤال‪.‬‬ ‫حين كتبها؟ يقدم‬ ‫تماسه‬ ‫فقد كان الخوض يف موضوع النفط وطبيعة‬ ‫ّ‬

‫مع الحياة االجتماعية والسياسية أحد التابوهات أو‬ ‫املمنوعات‪ ..‬وكأن النفط يف العمل الثقايف ولو كان سردًا‬

‫روائيًّا «حشيشة» أو «قات»‪ .‬ولذلك عىل سبيل املثال حفلت‬

‫أعمال عبدالعزيز املشري بسرية تحوالت القرى‪ ،‬وبخاصة يف‬ ‫الجنوب السعودي من دون أن تنطق بكلمة نفط رغم أن‬

‫تلك التحوالت التي تحدث عنها املشري كانت حبىل بتلك‬

‫‪27‬‬

‫الكلمة‪ .‬ويمكن أن يقال اليشء نفسه عن العمل الروايئ‬

‫لسعد الدوسري «الرياض ‪ -‬نوفمرب ‪ .»90‬فذلك العمل الفذ‬ ‫تناول مرحلة حاسمة لحرب (دولية) قامت بمنطقة الخليج‬

‫ولم تكن تلك الحرب لتحدث بذلك الزخم الدويل وتدخل‬ ‫ً‬ ‫رئيسا يف الحرب لوال بطولة النفط‬ ‫طرفا‬ ‫قوة عظمى كأمريكا‬ ‫ً‬ ‫املطلقة عىل املسرح السيايس واالقتصادي يف املشهد الدويل‬ ‫والخليجي‪ ...‬ومع ذلك لم تلمس كلمة نفط ملمس اليد‬

‫يف الرواية وإن كنت كقارئ ال تنتهي من قراءة تلك الروية‬ ‫إال وأنفاسك تتقطع من رائحة النفط ومحروقاته العنيفة‬

‫والناعمة معً ا‪ .‬‬

‫بل إن النفط عاش كالحالة السرية فينا رغم تأثريه‬

‫التفكييك والرتكيبي معً ا يف منطقة الخليج وناسها وبناء‬ ‫دولها الريعية‪ .‬فحتى الكتابات التحليلية املكتوبة بأقالم‬

‫محاولتي إنزال النفط منزلة علنية في‬ ‫التحليل االجتماعي باءت بالفشل عندما‬ ‫رفضت جامعة تقدمت لها المرة تلو المرة‪،‬‬ ‫بمقترح مفصل منهج ًّيا لتدريس مقرر باسم‬ ‫أدبيات النفط الخليجي وآخر باسم التأثير‬ ‫السوسيوسياسي والثقافي للنفط‬ ‫ً‬ ‫شرفا لندّ عيه‬ ‫النفط ليس تهمة لندفعها‪ ،‬وليس‬

‫سعودية وخليجية يف هذا املجال قليلة ككتابات محمد‬ ‫الرميحي األولية والبعيدة يف محاولة تناول النفط تناولاً‬

‫ونحرص عليه إال بالقدر والكيفية التي يؤثر بها فينا ونتفاعل‬

‫النفط منزلة علنية يف التحليل االجتماعي باءت بالفشل‬

‫إلجابة موضوعية عن أسباب الجفوة يف العالقة التفاعلية‬

‫سوسيولوجيًّا سياسيًّا‪ .‬ويل تجربة شخصية يف محاولة إنزال‬

‫عندما رفضت جامعة تقدمت لها املرة تلو املرة‪ ،‬بمقرتح‬ ‫مفصل منهجيًّا لتدريس مقرر باسم أدبيات النفط الخليجي‬

‫وآخر باسم التأثري السوسيوسيايس والثقايف للنفط‪ ..‬من‬

‫دون جدوى‪ .‬‬

‫معه بها‪ ...‬ولو فحصنا هذه الكيفية ميدانيًّا فربما نصل‬ ‫ذهنيًّا مع النفط‪ ،‬ويف البعد من تحويلها إىل طاقة إبداعية‬

‫يف العمل األدبي والثقايف‪ .‬أما النفط فأستعري كلمة الراحل‬ ‫امللك عبدالله‪( :‬الله يطول عمره)‪ ...‬ريثما نبلغ يف العالقة به‬ ‫مرحلة الندية بدل االتكالية املطلقة‪.‬‬


‫الملف‬

‫النفط الذي أعطى‬ ‫والنفط الذي أخذ‬ ‫الثوابت والمتغيرات في المجتمع والدولة‬

‫‪28‬‬

‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬


‫محمد اليحيائي‬

‫روائي وكاتب عماني‬

‫أود أن أركز مساهمتي المتواضعة في هذا الملف الذي يأتي في توقيت بالغ األهمية بالنسبة‬ ‫لعالقتنا‪ ،‬نحن أبناء وسكان هذه المنطقة بالنفط‪ ،‬والذي بدا وكأنه يلوّح لنا مو ِّد ًعا‪ ،‬أركزها على الجزء‬ ‫األخير من محاور الملف‪ :‬ما الذي أعطاه النفط للمنطقة‪ ،‬وما الذي أخذه منها؟ اإلجابة أو اإلجابات‬ ‫عن هذا السؤال كثيرة ومتعددة‪ ،‬بعضها بسيط ومباشر‪ ،‬وبعضها عميق ومعقد‪ ،‬ويشتبك مع علم‬ ‫االجتماع وعلم اإلنسان والسياسة‪ .‬على المستوى البسيط والمباشر‪ ،‬أعطى النفط هذه المنطقة الكثير‪،‬‬ ‫وأخذ منها الكثير‪ .‬هذه المنطقة انتقلت بفضل العائدات المالية الهائلة من حالة معيشية واقتصادية‬ ‫إلى حالة أخرى جديدة‪ ،‬غيّر في الجغرافيا والديموغرافيا‪ ،‬في المجتمع والناس والدولة‪ ،‬وحوَّل‬ ‫المستعمرين‪ ،‬ومم ّر ألطماعهم‪ ،‬إلى‬ ‫منطقة الخليج من هامش بعيد معزول‪ ،‬ومن محطة لصراعات‬ ‫ِ‬ ‫ستعمرين والمُ ستعمَ رين ً‬ ‫مركز استقطاب مالي وتجاري‪ ،‬وهذه المرة للمُ‬ ‫عمر األوربي‬ ‫معا‪ ،‬فالمُ س َت ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫السابق‪ ،‬أصبح في حاالت كثيرة‪ ،‬مُ‬ ‫ستخدمً ا (مُ س َتعمَ رًا بالمعنى المادي) لدى المُ س َتعمَ ر السابق في‬ ‫عواصم ومدن هذه المنطقة‪ .‬وهذا تحول مهم في العالقة بين الطرفين أنتجه النفط‪.‬‬ ‫املدينة الخليجية كـ«دبي» مثلاً ‪ ،‬أصبحت‪ ،‬بفضل الرثوة النفطية‬ ‫ً‬ ‫انطالقا من‬ ‫واملشاريع االقتصادية والتجارية األخرى التي تحققت‬

‫الوفرة املالية للنفط‪ ،‬مدينة كوزموبوليتانية بكل ما يعنيه املصطلح‬ ‫من تنوع واختالط هويات ولغات وألوان (أقلها حضورًا هو الهوية‬

‫واللغة واللون املحيل)‪ .‬هذا «االجتماع البشري» بلغة ابن خلدون‪،‬‬ ‫يف املدينة الخليجية الجديدة صاغ شكلاً جديدًا من أشكال التعايش‬ ‫التي لم تكن معروفة يف املنطقة قبل النفط؛ تعايش ِقيَم الكرم‬

‫ً‬ ‫وثالثا‪-‬‬ ‫أو املجتمعية‪ .‬وثانيًا‪ -‬يف أنماط السلوك وطبيعة العالقات‪.‬‬ ‫يف شكل وطبيعة الدولة «الخليجية»‪ .‬فهل َّ‬ ‫تمكنت الرثوة النفطية‬ ‫الهائلة التي تدفقت عىل شعوب هذه املنطقة من تحقيق التغيري‬ ‫الجذري الذي يُمكن قراءته يف النصوص املُن َتجة من داخل هذه‬

‫املجتمعات‪ ،‬التي تكون –هي ذاتها– جزءً ا من تلك التحوالت ونتيجة‬

‫لها‪ .‬لإلجابة عن هذا السؤال‪ ،‬نحتاج إىل قراءة سريعة (بما تسمح‬ ‫به املساحة املُتاحة لهذه املساهمة) لنقاط التحول أو التغريات الثالث‬ ‫املشار إليها أعاله‪ :‬غري أنه من املناسب أولاً أن نأخذ يف االعتبار ثالثة‬

‫والوفادة التي ُعرف بها سكان الخليج مع النفعية‪ ،‬واالنتهازية‪،‬‬ ‫والغرور‪ ،‬والتدافع املادي الذي اك ُتسب ُ‬ ‫ُورس‪ ،‬وال سيما‬ ‫وطوِّر‪ ،‬وم ِ‬

‫أمور مهمة تتقاطع مع تلك النقاط الثالث‪ :‬األول‪ -‬يتعلق بشكل‬

‫خليجية هي‪« :‬دبي» و«أبو ظبي» و«الدوحة»‪ ،‬جعلت منها محطات‬

‫وإنتاجه بكميات تجارية‪ ،‬وكيف أثر فيها‪ ،‬وكيف غيرّ ها‪ ،‬أو كيف‬ ‫لم ِّ‬ ‫يؤثر‪ ،‬ولم ُيغيرِّ ؟ الثاين‪ -‬حجم اإلنتاج‪ ،‬أو حجم الدخل املايل من‬

‫عىل مستوى مؤسسات الريع الرسمية والخاصة‪.‬‬ ‫عىل هذا املستوى ً‬ ‫أيضا‪ ،‬جعلت الرثوة النفطية من ثالث مدن‬

‫الصيني‬ ‫عاملية كربي يف شبكة النقل الجوي العاملية‪ ،‬حتى إن‬ ‫ّ‬ ‫والهنديّ لم يعد بمقدورهما السفر إىل أوربا أو الواليات املتحدة‬

‫األمريكية‪ ،‬إال عرب التوقف يف واحدة من هذه املحطات الثالث عىل‬ ‫األغلب‪ ،‬كما أن ليس بمقدور األمرييك أو األوربي السفر إىل الهند أو‬

‫الصني إال عرب التوقف يف واحدة من هذه املحطات العاملية الثالث‪.‬‬ ‫أما عىل املستوى اآلخر‪ ،‬العميق واملعقد‪ ،‬فإن البحث يف التغيريات‬

‫وطبيعة بنى الدولة واملجتمع التي كانت قائمة قبل اكتشاف النفط‬

‫النفط‪ ،‬وأثر ذلك عىل هذه التحوالت‪.‬‬ ‫مفاعيل الرثوة النفطية‬

‫هذه الدول ال تتشابه‪ ،‬ال يف األمر األول‪ ،‬وال يف الثاين‪.‬‬ ‫فالبحرين‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬التي ّ‬ ‫دشنت مرحلة اكتشاف النفط‬

‫ألول مرة يف هذه املنطقة عام ‪1932‬م تختلف يف بناها االجتماعية‬ ‫والسياسية ويف الخطاب الثقايف االجتماعي الذي كان قائمًا قبل‬

‫التي أحدثتها الطفرة النفطية عىل البنى االجتماعية والثقافية (بما‬ ‫فيها الكتابة واألدب) يتطلب تجاو ًزا للصور الظاهرة‪ ،‬اللمّاعة‪،‬‬

‫النفط‪ ،‬واستم ّر وتطوَّر‪ ،‬عىل نحو من األنحاء‪ ،‬بعد اكتشاف‬

‫األدب أو زاوية الكتابة عمومًا) للتحوالت االقتصادية واالجتماعية‬

‫البحرين بأكرث من ثالثني عامًا (بدأت إمارة أبو ظبي إنتاج النفط‬

‫واملدهشة واملُثرية لإلعجاب‪ .‬وسيبدو من الصعب‪ ،‬التأريخ (من زاوية‬

‫والسياسية التي شهدتها منطقة الخليج العربية نتيجة للوفرة‬ ‫املالية الكبرية وريع النفط‪ ،‬ما لم ُتصبح تلك التحوالت منظومة قيم‬ ‫راسخة‪ ،‬ينتج عنها تغيري جذري‪ :‬أولاً ‪ -‬يف البنى والهياكل االجتماعية‬

‫النفط‪ ،‬عن اإلمارات التي دخلت مرحلة إنتاج النفط وتصديره بعد‬ ‫بكميات تجارية منتصف الستينيات‪ ،‬قبل قيام االتحاد)‪ .‬كما أن‬

‫إنتاج البحرين كان وبقي متواضعً ا قياسً ا باإلمارات التي أصبحت‬

‫واحدًا من املنتجني الرئيسيني يف العالم‪ .‬األمر ذاته ينطبق عىل‬

‫‪29‬‬


‫الملف‬ ‫«االجتماع البشري» بلغة ابن خلدون‪،‬‬ ‫في المدينة الخليجية الجديدة صاغ شكال‬

‫الدول األخرى‪ ،‬بدرجات متفاوتة‪ .‬وهذا‪ ،‬بطبيعة الحال‪،‬‬

‫جديدا من أشكال التعايش التي لم تكن‬ ‫ً‬

‫قياس معياري مهمّ ملعرفة نتيجة مفاعيل الرثوة النفطية‬ ‫عىل مجتمعات هذه الدول‪ ،‬وبالتايل عىل منظومة القيم‬

‫والعالقات وعىل شكل وطبيعة الدولة‪ .‬األمر الثاين‪ :‬التفريق‬

‫بني ما نعنيه بالتحوالت أو التغريات يف البنى والهياكل‬

‫االجتماعية ويف أنماط السلوك وطبيعة العالقات‪ ،‬وبني‬ ‫املشروعات التنموية والعمرانية الهائلة التي غيرَّ ت وجه‬ ‫األرض يف هذه املنطقة من جهة‪ ،‬وبني ثقافة االستهالك‬

‫التي دخلتها مجتمعات هذه املنطقة بصورة ال توجد‪ ،‬بهذا‬ ‫الحجم واالنفالت حتى يف املجتمعات الغربية التي ص َّدرت‬ ‫هذه الثقافة‪ .‬فحداثة وكوزموبوليتانية دبي (والدوحة بدرجة‬

‫أقل) ذات الواجهة املعوملة أمر‪ ،‬وبناها الثقافية واالجتماعية‬ ‫ً‬ ‫وأحيانا تكون العالقة بني املسارين طردية؛‬ ‫املحلية أمر آخر‪،‬‬ ‫توسُّ ع يف الكونكريت‪ ،‬يقابله انغالق يف الثقافة‪.‬‬

‫عىل صعيد التبدالت التي أحدثتها الطفرة النفطية عىل‬

‫البنى والهياكل االجتماعية أو املجتمعية‪ ،‬ال يمكن أن ننكر‪،‬‬

‫بأي حال‪ ،‬أن تغيريات كبرية حصلت‪ ،‬فقد تقلصت املساحات‬

‫‪30‬‬

‫التي كانت تمثل البوادي املجتمعية إىل مساحات حضرية –‬

‫مدينية‪ ،‬تبدَّلت العالقات االجتماعية فيها من عالقات قائمة‬

‫عىل وشائج الدم والقرابة والعشرية إىل وشائج قائمة عىل‬ ‫املصلحة واملنفعة والجوار بمعناه اإلنساين‪ .‬هنا ً‬ ‫أيضا ثمة‬ ‫تباينات واختالفات بني مجتمعات هذه املنطقة‪ ،‬فاملجتمع‬

‫معروفة في المنطقة قبل النفط‬ ‫العماين مثلاً ليس كاملجتمع السعودي‪ ،‬والقطري ليس كالبحريني‪،‬‬ ‫والكويتي ليس كاإلمارايت‪ .‬مساحات الفضاءين الحضري والبدوي‪،‬‬ ‫قبل عصر النفط‪ ،‬تختلف بني هذه الدول‪ ،‬والبنى الثقافية التي‬ ‫ُتنتجها تلك الفضاءات ً‬ ‫أيضا تختلف‪ ،‬قبل النفط وبعد النفط‪ .‬املجال‬ ‫املديني واملجال الريفي يف هذه املجتمعات يختلفان‪ ،‬قبل النفط‬ ‫وبعد النفط‪ .‬هذه االختالفات يتوقف عليها رصدنا لتأثريات النفط‬

‫يف البنى والهياكل االجتماعية‪ ،‬ففي حني أن القبيلة يف بلد كعُ مان‬ ‫–الذي أعرف تاريخه ومكوناته الثقافية واالجتماعية بصورة أفضل‬ ‫من معرفتي لتاريخ ومكونات الدول األخرى– تاريخيًّا هي مؤسسة‬

‫ذات تقاليد سياسية قديمة ومستمرة‪ ،‬وتقوم شبكة العالقات فيما‬ ‫بني القبائل من جهة وفيما بينها وبني الدولة من جهة أخرى‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وحديثا‪ ،‬قبل النفط وبعد النفط‪ ،‬عىل املنفعة والتحالفات‬ ‫قديمًا‬

‫السياسية‪ ،‬فإن القبلية يف بلدان خليجية أخرى‪ ،‬تحركت قديمًا‬ ‫ً‬ ‫حديثا‪ ،‬قبل النفط وبعده‪ ،‬ضمن دائرة األعراف البدوية‬ ‫وتتحرك‬

‫األصيلة وعصبياتها القارَّة‪ .‬ويف حالة ُعمان كما يف حالة النماذج‬

‫األخرى‪ ،‬لم يُحدِث النفط تغيريًا جوهريًّا يف هذه البني‪ ،‬إال بقدر ما‬ ‫عمَّق عالقات املصلحة يف الحالة األوىل‪ ،‬وخلط املدينية ب ِقيَم البداوة‬ ‫كما يف بعض الحاالت األخرى‪.‬‬

‫تغيري القيم الثقافية‬

‫وما يندرج عىل صعيد البنى والهياكل‬

‫االجتماعية‪ ،‬يندرج عىل أنماط السلوك‬

‫وطبيعة العالقات بني األفراد‪ ،‬فصورة‬ ‫الرفاهية االجتماعية التي أوجدتها الرثوة‬ ‫ً‬ ‫عميقا يف حياة الناس‪،‬‬ ‫النفطية‪ ،‬وضربت‬

‫هي صورة‪ ،‬يف مركباتها األعم‪ ،‬استهالكية‪،‬‬ ‫وخارجية‪ ،‬وعابرة‪ ،‬ولم تتمكن الرثوة‬

‫النفطية بما أدخلته عىل مجتمعات هذه‬

‫املنطقة من أدوات ووسائط وتقنيات‪،‬‬ ‫من تغيري القيم الثقافية العميقة‪ ،‬ولم‬ ‫تدفع باتجاه املزيد من االنفتاح تجاه اآلخر‬ ‫املختلف يف الجنس أو اللون أو العرق أو حتى‬ ‫العشرية والقبيلة‪ ،‬إال ما كان قائمًا ومستق ًّرا‬

‫من انفتاح قبل النفط‪ .‬ولعل أبرز دليل هو‬

‫العالقة بني الرجال والنساء‪ ،‬والعالقة بني‬ ‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬


‫األوركسترا السيمفونية السلطانية العمانية‬

‫«املواطن» و«الوافد» يف بعض هذه املجتمعات‪ ،‬وهي عالقة مُر َّكبة‬

‫الخليجية‪ ،‬فعىل الرغم من مؤسساتها البريوقراطية وأجهزتها‬

‫نرجسية املال‪ .‬ولعل هذا يقود إىل سؤال حول نتائج التعليم‬

‫ووجود أعداد كبرية من املتعلمني ومن النخب الثقافية والسياسية‬

‫النفط‪ ،‬ونحو خمسني عامًا عىل قيام الدولة الحديثة‪ ،‬وعن آثاره‬

‫من الداخل وفلسفة الحكم فيها بقيت «قبلية» أو «عشائرية»‪،‬‬

‫رقي ووهْ م‬ ‫من مجموعة أوهام؛ وهْ م الذكورة ووهْ م التفوُّق ِ‬ ‫الع ّ‬

‫الحديث يف هذه املنطقة بعد نحو سبعني عامًا عىل اكتشاف‬

‫الثقافية يف األجيال الجديدة؟! غري أن هذا السؤال ليس مكانه هذه‬

‫املساهمة‪ .‬أما عىل صعيد شكل وطبيعة الدولة «الخليجية»‪ ،‬فإن‬

‫النفط أحدث تغيريات كبرية عىل صعيد شكل الدولة‪ ،‬أبرزها قيام‬ ‫ما يُمكن وصفه بـ«الدولة الوطنية» القائمة عىل بنى ومؤسسات‬

‫الحديثة املختلفة واملتعددة‪ ،‬وعالقاتها املفتوحة مع العالم‪،‬‬

‫واالقتصادية‪ ،‬ومعالم العوملة التي أشرنا إليها‪ ،‬فإن بنية الدولة‬ ‫أو «األوليغاركية» مغلقة‪ ،‬إال بقدر ما تفرضه الضرورات من‬

‫انفتاح عىل الشعوب وإشراكهم يف بعض شؤون الدولة‪ .‬حتى هذا‬

‫االنفتاح وتلك املشاركة تحكمهما مفاهيم النفعية و«الزبائنية»‬ ‫أكرث منها الشراكة الوطنية القائمة عىل مفهوم « الحق والواجب»‬

‫ُتدير شؤونها‪ ،‬ويف مقدمة هذه الشؤون إدارة ريع النفط وتوزيعه‪،‬‬

‫الذي تعرفه دولة املواطنة‪ .‬غري أن هذا االنغالق يف بنى الدولة ليس‬

‫النفطية‪ ،‬وإدارة املجتمعات التي بدأت يف النمو والتوسع بسبب‬

‫النفطية من تفكيكها وكسر قواعدها وأطرها‪ ،‬بل يمكن القول‪:‬‬ ‫إن النفط ساعد عىل ثباتها وتماسكها وإن َم َنحَ ها لبوسً ا حداثية‪.‬‬

‫ثم إدارة برامج التنمية التحتية التي لم يكن لها أن توجد لوال الرثوة‬ ‫البنى التحتية (املدن‪ ،‬والطرق‪ ،‬واملطارات‪ ،‬واملوائن‪ ،‬واملدارس‪،‬‬ ‫والجامعات‪ ،‬واملستشفيات‪ ،‬والجيش‪ ،‬وأجهزة األمن‪ ،...‬إلخ)‪،‬‬

‫وأخريًا إدارة العمالة الوافدة (بحسب تعداد عام ‪2016‬م‪ ،‬يبلغ عدد‬ ‫ً‬ ‫مليونا ونصف املليون تقريبًا‪،‬‬ ‫سكان دول الخليج واحدًا وخمسني‬

‫سوى نتيجة لبنى ثقافية واجتماعية قديمة وقارَّة لم تتمكن الرثوة‬

‫غري أن السؤال الذي علينا طرحه ومناقشته يف قادم األيام‬

‫هو‪ :‬هل سيكون بمقدور املجتمعات والدولة يف الخليج‪ ،‬وقد‬ ‫مكنتها الرثوة النفطية من بناء كل هذه املؤسسات؟ هل سيكون‬

‫ً‬ ‫مليونا ومئتا ألف مواطن‪ ،‬وخمسة وعشرون‬ ‫منهم ستة وعشرون‬ ‫ً‬ ‫مليونا ومئتا ألف أجنبي) أي أن نسبة غري املواطنني تصل إىل نصف‬

‫املجتمع واملؤسسات؟ وال سيما أن النفط لم يعد‪ ،‬كما يبدو‪،‬‬

‫يف دولة اإلمارات‪.‬‬

‫الثقافة‪ ،‬بمعنى اإلنتاج والتفاعل والتفكري‪ ،‬ويف املجتمع بمعنى‬

‫ً‬ ‫مجتمعة‪ ،‬وإىل ‪ %89.9‬يف قطر‪ ،‬و‪%88.5‬‬ ‫عدد السكان يف الدول‬

‫بمقدورها االنتقال من مؤسسات املجتمع والدولة إىل دولة‬

‫بمقدوره مواصلة العطاء‪ ،‬عىل النحو الذي كان‪ .‬سؤال يف‬

‫هذا العدد الهائل من العمالة األجنبية هو أحد نتائج الطفرة‬

‫االنفتاح واملشاركة واالشتغال بالشأن العام‪ ،‬ويف السياسية‬

‫الجاليات»‪ .‬عىل الوجه اآلخر‪ ،‬فإن النفط لم يُحدِث تغيريات‬

‫واإلنتاج‪ ،‬ال عالقات العطاء واملنفعة والتابعية‪ .‬باختصار سؤال‬

‫النفطية‪ ،‬ويتطلب‪ ،‬بالضرورة‪ ،‬أجهزة ومؤسسات لـ«إدارة‬ ‫مهمة عىل مستوى الثقافة السياسية أو فلسفة الحكم يف الدولة‬

‫بمعنى التفكري يف دولة قائمة عىل عالقات املواطنة والشراكة‬ ‫يف املستقبل‪ ،‬بالنفط أو بدونه‪.‬‬

‫‪31‬‬


‫الملف‬

‫ليس ظاهرة‬ ‫خليجية‬ ‫حسن مدن كاتب بحريني‬

‫‪32‬‬

‫ً‬ ‫بعيدا من الكتابة اإلبداعية؟ لماذا لم يتحول النفط إلى حافز‬ ‫بعد ثمانية عقود لماذا بقي النفط‬ ‫للمتخيل وعنصر من عناصر التخييل؟ ‪ ‬‬ ‫النفط ليس ظاهرة خليجية فحسب‪ ،‬من زاوية أخرى غير إنتاجه وتصديره‪ ،‬فهو في مفاعيل‬ ‫العوائد الناجمة عنه بات ظاهرة عربية‪ ،‬من خالل ما بات يعرف في دراسات علمي االجتماع واالقتصاد‬ ‫بـ«الهجرة إلى النفط»‪ ،‬حيث تعمل وتعيش جاليات عربية كبيرة‪ ،‬هي عرضة ألوجه متناقضة من‬ ‫التأثيرات الناجمة عن ذلك‪ ،‬فهي من جهة تشعر بشيء من الغبن وسوء المعاملة‪ ،‬ومن جهة أخرى‬ ‫فإنها تتأثر بشكل كبير بنمط الحياة االستهالكي السائد في المجتمعات النفطية‪ ،‬وبالقيم المحافظة‬ ‫التي َت ِسمُ هذه المجتمعات‪ ،‬بالقياس للمجتمعات المنفتحة التي أتت منها العمالة العربية المهاجرة‪،‬‬ ‫ومن ثم تحملها‪ ،‬أو تنقلها‪ ،‬إلى مجتمعاتها األصلية‪ ،‬في تأثير عكسي‪ ،‬ال يمكن أن نعده إيجابيًّا‪.‬‬

‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬


‫مهرجان البحرين السنوي للتراث‬

‫ً‬ ‫موضوعا ألعمال إبداعية‪ ،‬ولكن ذلك‬ ‫يفرتض أن يشكل هذا‬ ‫لم يحدث كما تفضلت «الفيصل» يف سؤالها‪ ،‬ما يتطلب بحثاً‬ ‫ً‬ ‫معمقا‪ ،‬وبخاصة أن قضية النفط وتأثرياته نالت قدرًا كبريًا من‬ ‫البحث والتحليل من الزوايا االجتماعية واالقتصادية والسياسية‪.‬‬

‫وإذا كان النفط ليس ظاهرة خليجية فحسب‪ ،‬فهو موجود‬

‫وبكميات كبرية يف بلدان عربية أخرى غري خليجية‪ ،‬إال أنه يف‬ ‫الخليج بالذات يمتلك مكانة محورية ال يف بنية االقتصاد وحده‪،‬‬

‫إنما يف مجمل التحوالت االجتماعية‪ ،‬ويف التكوين الثقايف والنفيس‬ ‫للبشر‪ .‬عىل الصعيد الخليجي‪ ،‬يمكنني القول‪ ،‬كاجتهاد شخيص‪:‬‬ ‫جانب رئيس منه عىل األقل‪ ،‬إىل حقيقة أن‬ ‫إن األمر يعود‪ ،‬يف‬ ‫ٍ‬ ‫املدينة الخليجية الحديثة‪ ،‬من حيث كونها نتاجً ا للحقبة النفطية‬ ‫ما زالت حتى اللحظة يف طور التشكل‪ ،‬ولم تثبت عىل حال بعد‪،‬‬

‫فهي دائمة التغري والتحول‪ ،‬ما يجعلها يف حالة من «السيولة»‬

‫وعدم الثبات‪ ،‬وهو يعيق الرتاكم الضروري الذي يسمح بتشكل‬ ‫ذاكرة إبداعية‪ ،‬وبخاصة عىل صعيد السرد‪ ،‬الذي يتطلب بانوراما‬

‫واسعة يف الزمان واملكان؛ لذا نلحظ تعدد األعمال اإلبداعية التي‬ ‫تناولت املرحلة السابقة للنفط‪ ،‬كونها مرحلة تاريخية منجزة جرى‬

‫تجاوزها‪ ،‬وشكلت ذاكرتها املنجزة‪ ،‬مقابل التهيب من االقرتاب من‬ ‫البيئة التي شكلها النفط‪.‬‬

‫المدينة الخليجية الحديثة‪ ،‬من حيث‬ ‫نتاجا للحقبة النفطية دائمة التغير‬ ‫كونها‬ ‫ً‬ ‫والتحول‪ ،‬ما يعيق التراكم الضروري‬ ‫الذي يسمح بتشكل ذاكرة إبداعية‪،‬‬ ‫وبخاصة على صعيد السرد‪ ،‬الذي يتطلب‬ ‫بانوراما واسعة في الزمان والمكان‬ ‫ً‬ ‫وتسويقا واستهال ًكا‪ ،‬وتفاصيل دقيقة عن اقتصاديات النفط‪،‬‬

‫وعن مكانة هذه السلعة اإلسرتاتيجية يف األسواق العاملية وصلة‬ ‫ذلك بالسياسة‪ ،‬لقد أصبح خبريًا فيما يمكن تسميته مجا ًزا‬

‫«االقتصاد السيايس للنفط»‪ .‬هذه املعرفة الواسعة التي عززتها‬ ‫جسدها يف «مدن امللح»‪ ،‬التي بدأ فيها‬ ‫التجربة املتابعة الدؤوبة َّ‬ ‫ً‬ ‫عارفا بتقنيات النفط‪ ،‬وباآلثار الحاسمة الناجمة عن اكتشافه عىل‬ ‫الحياة االجتماعية يف الجزيرة العربية وعىل نفسيات الناس فيها‪.‬‬

‫فقد أفلح «منيف» يف الخماسية يف تتبع التحوالت العميقة‬

‫التي حدثت يف البنية االجتماعية والقيمية يف منطقة الخليج بعد‬ ‫اكتشاف النفط وما جاء به من آثار متناقضة‪ ،‬وال شك أن املقاربة‬ ‫اإلبداعية لهذه التحوالت هي األكرث رهافة يف اقرتابها من العالم‬

‫ً‬ ‫ونوعا‪ ،‬لكن علينا‬ ‫تجربة عبدالرحمن منيف فريدة‪ ،‬كمًّا‬

‫الروحي لإلنسان الذي يتمزق بني بيئة نفسية وثقافية راسخة‬

‫خماسيته «مدن امللح»‪ ،‬لقد فعل ما يفعله الكتاب الكبار‬

‫يف ثناياها نقائض ال سبيل للخالص منها؛ ألنها خرقت مسارًا‬

‫مالحظة أن «منيف» لم يعش البيئة التي دارت فيها أحداث‬ ‫الناضجون املتمكنون من أدواتهم الفنية‪ ،‬بأن اشتغل عىل مادته‬ ‫شغلاً ‪ ،‬ولم يشتغل عىل مادة متاحة منجزة عاشها‪ .‬ويف األصل‬

‫التأثري يف وجدانه يجدها تتصدع أمامه‪ ،‬وبني ثقافة جديدة تحمل‬ ‫مستق ًّرا كان يميش الهوينى‪ ،‬فإذا بنا أمام انقالب عاصف أصابنا‬

‫بما يشبه الدوار‪.‬‬

‫فإن «منيف» درس اقتصاديات النفط‪ ،‬وفيها نال درجة الدكتوراه‪،‬‬

‫يمكن أن تكون تجربة «منيف» ملهمة للمبدعني من أبناء‬ ‫هذه املنطقة‪ ،‬ومن خارجها ً‬ ‫أيضا‪ ،‬يف تتبع أوجاع اإلنسان الحائر‬

‫تفاصيل دقيقة عن الصناعة النفطية كاملة‪ :‬استخراجً ا وتكري ًرا‬

‫يف طريقها نحو التمام‪.‬‬

‫وعمل كخبري يف هذا التخصص‪ ،‬يف سوريا والعراق‪ ،‬ويف بغداد‬ ‫رأس تحرير مجلة «النفط والتنمية»‪ .‬هذا األمر أتاح له معرفة‬

‫ماض اقتلع منه قس ًرا وحداثة مشوَّهة غري مكتملة‪ ،‬وليست‬ ‫بني‬ ‫ٍ‬

‫‪33‬‬


‫الملف‬

‫دور البترول‬ ‫في حياتنا‬ ‫عثمان الخويطر‬

‫‪34‬‬

‫نائب رئيس أرامكو سابقً ا‬

‫لنتصور حياتنا اليوم لو لم نكتشف البترول في بالدنا‪ ،‬فهناك بلدان كثيرة ال يوجد تحت‬ ‫أرضها برميل واحد من البترول‪ .‬هذه المادة السحرية التي غيرت مجرى التاريخ وهيَّأت لثورة عصر‬ ‫العلم والتكنولوجيا‪ ،‬كمصدر للطاقة وكمادة أساسية ألنواع متعددة من الصناعات الحديثة‪ .‬فلو‬ ‫لم يكن في بالدنا هذا الكم الهائل من البترول‪ ،‬لما شاهدت شوارع مدننا ُ‬ ‫وقرانا تتحول في الليل‬ ‫المظلم إلى نهار‪ ،‬تتألأل في جوانبها أنوار الكهرباء المتولدة من طاقة الغاز والبترول‪ ،‬ولما وُجدت‬ ‫لدينا أحدث أنواع المركبات وشيِّدت العمائر واألبراج‪ ،‬وشقت الطرق الواسعة بطول البالد وعرضها‪،‬‬ ‫تمخر الهضاب وتشق الجبال‪ ،‬فأصبحت كالشرايين تنقل الحياة من عضو إلى آخر‪ .‬ولوال المجهود‬ ‫ً‬ ‫الحقا دخل البترول‪ ،‬لما شهدنا على أرضنا‬ ‫والتوجيه المبكر من الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه‪ ،‬ثم‬ ‫اليوم عشرات الجامعات ومئات المعاهد وآالف المدارس‪ ،‬إلى جانب البعثات الخارجية المتواصلة‪.‬‬

‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬


‫الملك عبدالعزيز يفتح صمام التدفق في محطة التحكم في رأس تنورة‪ ،‬مايو ‪1939‬م‬

‫ماذا عن السياحة والسفر والرحالت املوسمية التي‬

‫مليون نسمة‪ .‬ولو ظلت حالنا عىل ما كانت عليه من دون‬

‫نكتشف البرتول؟ كانت حياتنا قبل اكتشاف البرتول‪،‬‬

‫عليه قبل سبعني عامً ا‪ .‬وهذا يقودنا إىل السؤال التايل‪ :‬ما‬

‫وقودها املال؟ هل سيكون يف مقدورنا فعل ذلك لو لم‬ ‫ومحدثكم ممن عاصروا ذلك الزمن‪ ،‬شحًّ ا شديدً ا يف‬ ‫املعيشة‪ ،‬وأرضنا خالية تمامً ا من املدارس الحديثة واملرافق‬

‫الصحية‪ .‬نعيش عىل ما نزرع ونحصد بأنفسنا وبمجهودنا‬ ‫املحدود‪ .‬لم نكن نعرف املركبات األرضية‪ ،‬دعك عن‬

‫الطائرات‪ .‬وكان عدد سكان اململكة آنذاك ال يزيد كثريًا عن‬

‫برتول ما صار سكان اململكة اليوم أكرث من ضعف ما كانت‬

‫مصرينا بعد انتهاء عصر البرتول إذا استمرت أحوالنا كما‬ ‫هي اليوم‪ ،‬حيث نعتمد كليًّا عىل دخل البرتول وعىل عمالة‬ ‫أجنبية تعمل من أجل راحتنا ورفاهيتنا ونحن يف ُسبات‬

‫عميق غري مدركني أن املصدر القابل للنضوب سوف ينضب‬ ‫ويرتكنا نعود إىل ما كنا عليه قبل اكتشافه‪.‬‬

‫‪35‬‬


‫الملف‬

‫خاص‪ ،‬كانوا يشاهدون جبال الظهران عن بعد ويخمنون‬ ‫أنها ترسو فوق قبة من مكامن البرتول‪ .‬وفعلاً صدق‬

‫قصة فريدة‬

‫حدسهم‪ ،‬لكن بعد جهد واستنباط علمي فريد‪ .‬انتقلوا إىل‬

‫والكتشاف البرتول يف السعودية قصة فريدة‪،‬‬

‫الظهران وبدؤوا يف الحفر عام ‪1935‬م‪ ،‬بعد أن اكتمل وصول‬

‫يسرية منها‪ .‬فقد أدرك مؤسس هذه البالد‪ ،‬امللك‬

‫لكن ليست بكميات تجارية‪ .‬فانتقلوا إىل البرئ الثانية ووجدوا‬

‫ال بدَّ ألوالدنا وألجيال املستقبل أن يعرفوا ولو نبذة‬ ‫عبدالعزيز‪ ،‬بما جُ بل عليه من الذكاء الفطري مبك ًرا‬

‫معدات الحفر‪ .‬حفروا البرئ األوىل‪ ،‬وصادفوا آثارًا للبرتول‪،‬‬

‫النتيجة نفسها‪ .‬ومع ذلك فقد كانوا عازمني عىل مواصلة‬

‫الطريق حتى يتأكدوا من النتائج النهائية‪ .‬وعيون جاللة‬

‫أنه ال بد من البحث عن مصادر طبيعية ‪-‬أي نوع منها‪-‬‬ ‫تكون معي ًنا عىل العيش والبقاء فوق أرض الصحراء‪.‬‬

‫امللك العبقري ترقبهم من بعيد‪ .‬انتقلوا إىل موقع البرئ‬

‫وجود ثروة هائلة مدفونة منذ مئات املاليني من السنني‬

‫تكن النتائج بأفضل من املحاولة األوىل‪ .‬وهنا بدأت الشركة‬

‫وأي فكر هذا الذي قاده‪ ،‬وهو ابن البادية‪ ،‬إىل تحري‬

‫تحت هذه األرض الطيبة؟ وبسبب الحاجة امللحّ ة‬ ‫وحرصه عىل ضمان مستقبل واعد لشعبه وأمته‪ ،‬لم‬

‫يأنف من دعوة أناس غرباء عن املجتمع وعن البيئة‬ ‫من أجل البحث عن املادة السحرية التي أطلقوا‬

‫عليها «البرتول»‪ ،‬لعلها تكون موجودة تحت أرضنا‪.‬‬

‫الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة حتى السابعة‪ .‬ولم‬

‫األمريكية صاحبة عقد االمتياز‪« ،‬سوكال»‪ ،‬وكان مقرها يف‬ ‫ً‬ ‫امتعاضا مشوبًا‬ ‫والية كاليفورنيا بالواليات املتحدة‪ ،‬تظهر‬ ‫بالحذر‪ .‬وقررت وقف مزيد من عمليات الحفر‪ .‬ولم يطرأ‬

‫عىل بالهم آنذاك االنتقال إىل موقع آخر خارج منطقة‬

‫وعقد مع الجانب األجنبي اتفاقية متوازنة بمقاييس‬ ‫ذلك الوقت‪ ،‬حصلوا بموجبها عىل حق االستكشاف‬

‫واالستثمار يف حال وجود البرتول بكميات تجارية‪.‬‬

‫‪36‬‬

‫كان ذلك عام ‪1933‬م‪ .‬بدأ البحث يف الصحراء‪ ،‬بعد أن‬

‫تكامل وصول املعدات األولية‪ .‬وقد كان للجيولوجيني‬ ‫الذين كان بعضهم يعمل يف البحرين املجاور‪ ،‬رأي‬

‫عاما‬ ‫على الرغم من مرور أكثر من ثمانين ً‬ ‫على اكتشاف البترول في بالدنا وكوننا‬ ‫نعتمد كل ًّيا على دخله‪ ،‬فإن الثقافة‬ ‫البترولية؛ االقتصادية واالجتماعية‬ ‫واألدبية تكاد تكون ال شيء ُيذكر‬

‫عمال سعوديون يمددون خط سكك حديد قطار الدمام‪-‬الرياض في عام ‪1950‬م‬

‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬


‫خميس بن رمثان يساعد البعثة الجيولوجية بالمملكة‬

‫الظهران‪ ،‬ربما لعدم توافر اإلمكانيات املالية واللوجيستية‬

‫واحد مدُّ وا خط أنابيب من منطقة اإلنتاج يف الظهران إىل‬

‫فكانت الربقيات تتواىل من مقر الشركة إىل الظهران حول‬

‫رأس تنورة من أكرب موائن تصدير البرتول يف العالم‪ .‬وبعد أن‬

‫وخشية الدخول يف مخاطرة مكلفة غري مضمونة النتائج‪.‬‬

‫خطة االنسحاب من اململكة‪ .‬ومن جميل الصدف أن يكون‬ ‫أحد جيولوجيي الشركة البارزين يف زيارة خاطفة إىل الرياض‬

‫ملهمة خاصة‪ .‬والحظ‪ ،‬بثاقب ذهنه ومهارته الجيولوجية‬ ‫طبيعة التكوينات الصخرية التي كانت ظاهرة عىل سطح‬

‫رأس تنورة من أجل التصدير‪ .‬ومنذ ذلك الوقت أصبحت‬ ‫اطمأنت الشركة األمريكية لوجود البرتول يف أرضنا‪ ،‬جيَّشت‬ ‫إمكانياتها الستكشاف حقول جديدة يف مناطق االمتياز‪ .‬ولم‬ ‫ْ‬ ‫اكتشفت حقل بقيق وأبو حدرية والسفانية‬ ‫يخب ظنها‪ ،‬فقد‬

‫ومناطق الغوار‪ ،‬وبقية الحقول األخرى‪.‬‬

‫تكوَّن البرتول من مواد نباتية وبقايا حيوانات برية‬

‫األرض هناك‪ .‬وقارنها بما شاهد من مكونات الطبقات التي‬ ‫كان يخرتقها الحفر يف آبار الظهران ويجري فحصها أولاً‬

‫وبحرية طمرتها السيول واألنهار منذ ما يقرب من ست‬

‫أن من األفضل تعميق إحدى اآلبار إىل أعمق من املستوى‬

‫صخور رسوبية تحت أعماق يراوح معظمها بني خمسة‬

‫بأول‪ .‬وربط بعبقريته وخربته بني تلك الصخور‪ ،‬واستنتج‬ ‫الذي كانوا يتوقفون عنده إلنهاء عملية الحفر‪ ،‬وطلب‬ ‫من الشركة األم منحهم الفرصة األخرية لتعميق الحفر‪،‬‬

‫مئة مليون سنة‪ ،‬وحولتها إىل سوائل وغازات بني طبقات‬ ‫آالف إىل عشرة آالف قدم‪ .‬وخالل ماليني السنني األوىل من‬

‫عمرها‪ ،‬هاجرت أغلبية السوائل والغازات من مكان تكوينها‬ ‫إىل مناطق أخرى مجاورة ً‬ ‫بحثا عن مكامن أو مصايد كانت‬

‫ووافقت الشركة‪ .‬وبما أن جهاز الحفر كان وقتها راسيًا عىل‬ ‫برئ رقم سبعة‪ ،‬فقد صار التعميق األول من نصيبها‪ .‬وفعلاً‬

‫قادرة عىل الحفاظ عليها من الهروب واالنتشار فوق سطح‬

‫قدم‪ .‬وأرسلوا تباشري االكتشاف إىل إدارة الشركة يف الواليات‬

‫تكون طبقات صخور املكامن عىل شكل قبب بفعل عوامل‬

‫تدفق البرتول بكميات تجارية بعد إضافة عمق يقارب ‪1000‬‬

‫األرض‪ ،‬ومن ثم ضياعها عرب السنني من دون فائدة‪ .‬وعادة‬ ‫جيولوجية سابقة وسقوفها من نوع الصخور غري املنفذة‬

‫املتحدة وإىل الحكومة السعودية‪ .‬وعادوا إىل بقية اآلبار من‬ ‫البرئ ُ‬ ‫األوىل إىل السادسة‪ ،‬وعمقوها ليجدوا النتيجة اإليجابية‬

‫أو الصماء بحيث تمنع تسرب السوائل والغازات إىل أعىل‪.‬‬

‫وجوده يف جبل الظهران‪ .‬كان ذلك عام ‪1938‬م‪ .‬وخالل عام‬

‫األرضية انبعاث مواد هيدروكربونية وجدت طريقها إىل أعىل‬

‫نفسها‪ .‬وأطلقوا عىل الحقل اسم «الدمام»‪ ،‬عىل الرغم من‬

‫وقد شاهد البشر عىل مر الزمن يف أماكن معينة من الكرة‬

‫‪37‬‬


‫الملف‬

‫الحال مع البرتول السائل‪ ،‬بل عن طريق تجميع املكونات‬

‫ويصعب استغاللها اقتصاديًّا‪ .‬وتبدأ عملية استكشاف‬ ‫حقول البرتول بإجراء ما يسمى املسح الزلزايل‪ .‬وهي‬

‫الصخرية والرملية ونقلها إىل أفران ذات حرارة عالية لفصل‬ ‫املواد البرتولية ونقلها إىل موائن التصدير أو معامل التكرير‪.‬‬ ‫الثقافة البرتولية ال تذكر‬

‫عملية بسيطة لكن نتائجها مهمة جدًّ ا‪ .‬وهي عبارة‬

‫عن ضربات قوية ومنتظمة فوق سطح األرض تسبب‬ ‫موجات صوتية متوالية تصل إىل أعماق بعيدة ويرتد‬

‫أجزاء منها إىل السطح نتيجة الصطدامها بأنواع‬

‫مختلفة من طبقات الصخور‪ .‬يلتقطون ارتداد املوجات‬ ‫الصوتية بواسطة أجهزة ذات حساسية عالية تسجل‬

‫زمن وصول ارتداد املوجات بأجزاء صغرية من الثانية‪.‬‬ ‫ومنها يحسبون عمق وأشكال الطبقات الصخرية‪.‬‬

‫ويستنبطون إن كان من بينها تكوينات صخرية محدبة‬ ‫أو عىل شكل قبب من املمكن أن تكون مكامن برتول‪.‬‬

‫لكن الذي يحدد وجود البرتول بعد كل ذلك املجهود‬

‫هو حفر بضع آبار يف وسط وجوانب التكوين املقصود‪.‬‬

‫فال بد من الوصول إىل طبقات املكامن ملعرفة وجود‬ ‫البرتول أو الغاز من عدمه‪ .‬ومعظم مصادر البرتول‬

‫السائل نجدها تحت األرض داخل مسام ميكروسكوبية‬

‫‪38‬‬

‫يف قلب الصخور الرسوبية‪ .‬وهناك أنواع أخرى من‬ ‫البرتول عىل الهيئة الصلبة ومعظمها فوق أو قريب‬ ‫من سطح األرض‪ ،‬مختلط مع الصخور والرمل بنسب‬ ‫مختلفة‪ .‬ويُن َتج ليس عن طريق حفر آبار كما هي‬

‫وعىل الرغم من مرور أكرث من ثمانني عامً ا عىل اكتشاف‬

‫البرتول يف بالدنا وكوننا نعتمد كليًّا عىل دخله‪ ،‬فإن الثقافة‬

‫البرتولية؛ االقتصادية واالجتماعية واألدبية تكاد تكون ال‬ ‫يشء يُذ َكر‪ .‬فنحن نعرف الكثري عن كرة القدم وعن السياحة‬

‫خارج البالد‪ .‬ويتحدث أفراد املجتمع بعمق عن املطاعم وأنواع‬

‫األكالت‪ .‬ويتغنى الشعراء بالطبيعة والصحراء الخالبة‬ ‫وباإلبل والخيول‪ ،‬ونقدس النخلة ونعدّ ها رم ًزا لشعارنا‬ ‫الوطني‪ .‬لكن ال أحد يتحدث بإبداع عن البرتول ومشتقاته‪،‬‬

‫وهو األكرث أهمية يف حياتنا املعاصرة‪ .‬سمّ وه الذهب األسود‬ ‫وهو يف الواقع أغىل من الذهب‪ .‬يحرقونه من أجل أن يسيرِّ‬

‫مركباتهم‪ ،‬األرضية والبحرية والجوية‪ ،‬ويولد لهم الطاقة‬ ‫الكهربائية‪ ،‬وينشرونه فوق أسطح الطرق ليسهِّل سري‬

‫عرباتهم‪ .‬وتغافلوا أو تناسوا أنه أثمن من أن تهدر طاقته‬

‫داخل مركبات ال تحمل إال نسبة قليلة من حمولتها القصوى‪.‬‬ ‫ونخىش أن يأيت اليوم الذي نسمع فيه من يلومنا عىل هدره‬

‫وإحراقه‪ .‬وال ننىس أن املواد الهيدروكربونية مصدر لعدد‬ ‫ال يحىص من املنتجات الصناعية واالستهالكية‪ .‬وما علينا‬ ‫إال االلتفات يمي ًنا وشمالاً لنشاهد أن معظم ما حولنا وما‬ ‫يُلبَس وما يُر َكب حتى مواد بناء املساكن‪،‬‬

‫مصنوع من املشتقات البرتولية‪.‬‬

‫وقد أدمن املجتمع الدويل عىل‬

‫استخدام البرتول الرخيص منذ اكتشاف‬ ‫هذه املادة السحرية قبل ما يزيد عن مئة‬

‫وخمسني عامً ا‪ .‬فنحن اليوم نستنزف‬

‫يوميًّا ما يقارب سبعة وتسعني مليون‬

‫برميل من حقول قد عفا عىل أغلبها‬ ‫الزمن‪ ،‬وأصبحت تنتج النصف األخري‬ ‫من مخزونها القابل لإلنتاج‪ .‬وقد ال‬ ‫يميض وقت طويل ونصل إىل مرحلة‬

‫يزيد فيها الطلب العاملي عىل اإلنتاج‪،‬‬

‫الذي مآله إىل االنخفاض القسري‪.‬‬ ‫ومن هنا يبدأ سعر برميل البرتول يف‬ ‫االرتفاع إىل مستويات قياسية‪ .‬عىل‬

‫الرغم من احتمال التوسع يف استخدام‬

‫مواطن يشارك أحد خبراء أرامكو في رحلة اكتشاف النفط‬

‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬

‫مصادر الطاقة املتجددة‪ ،‬وزيادة إنتاج‬ ‫مصادر البرتول غري التقليدية املكلفة‪،‬‬


‫مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي بالظهران‬

‫مثل البرتول الصخري والرمل البرتويل‪ ،‬وهذه املصادر‬

‫عادة شحيحة اإلنتاج ولن تكفي لتعويض كميات البرتول‬ ‫التقليدي املتوقع اختفاؤها بسبب النضوب الطبيعي‪.‬‬

‫كبرية من العمالة األجنبية التي أصبح قسم كبري منها عالة‬

‫عىل اقتصادنا‪ .‬فبضعة ماليني منها تعمل يف تجارة التجزئة‬

‫لحسابها الخاص بتفويض غري نظامي من الكفالء‪ .‬وأصبح‪،‬‬

‫ونحن‪ ،‬يف الدول الخليجية‪ ،‬نستنزف ثروتنا البرتولية‬

‫من غري الضروري‪ ،‬بل من امللحّ أن نتخلص من ماليني‬ ‫العمالة األجنبية حتى لو أدى ذلك مؤق ًتا إىل ضرر يطول فئة‬

‫أكرث من خمس وأربعني سنة ونحن نحاول جاهدين تنويع‬

‫أفضل لهذه األمة التي سوف تبقى تعيش فوق رمال‬

‫دونما حساب للمستقبل‪ .‬فدخل البرتول يك ِّون أكرث من ‪%90‬‬

‫من ميزانيات دول الخليج‪ .‬وقد مىض علينا يف السعودية‬ ‫مصادر الدخل‪ ،‬وتوطني نوع من الصناعات التي تتناسب مع‬

‫بيئتنا وقدراتنا وإمكانياتنا املالية والبشرية‪ .‬لكننا لم نفلح‬

‫حتى اآلن‪ ،‬رغم املجهود املبذول والخطط الخمسية التي‬ ‫كانت تهدف إىل تحقيق هذا املطلب‪ .‬وقد يكون من أسباب‬ ‫فشل الخطط الخمسية ضخامة الدخل من صادرات البرتول‪.‬‬ ‫فقد أدَّى ذلك إىل مضاعفة امليزانية العامة أكرث من ثالث‬ ‫مرات خالل عقد من الزمن؛ مما أوجد مشاريع إنشائية أكرب‬

‫من طاقتنا البشرية غري الجاهزة وال املدربة‪ .‬وهذا هو الذي‬ ‫اضطرنا إىل استقدام املاليني من العمالة األجنبية الرخيصة‪،‬‬

‫وتسبب ذلك‪ ،‬يف الوقت نفسه‪ ،‬إىل قفل الباب أمام شبابنا‬ ‫الذين لم يكونوا حينها مؤهلني للعمل يف املجاالت الحرفية‬ ‫واملهنية والتقنية‪ .‬إضافة إىل ضعف مستوى الرواتب بسبب‬

‫وجود عمالة أجنبية رخيصة‪ .‬وما زلنا نعاين هذه الظاهرة‬ ‫حتى اليوم‪ .‬وال بد من تحجيم املشاريع واالستغناء عن نسبة‬

‫قليلة من املواطنني‪ .‬وذلك من أجل الصالح العام ومستقبل‬ ‫الصحراء القاحلة‪ .‬ومستقبلنا ليس فقط مهددًا بنضوب‬ ‫مصدر دخلنا الرئيس‪ ،‬بل ً‬ ‫أيضا نضوب املاء الذي يعاين هو‬ ‫ً‬ ‫استنزافا جائ ًرا‪ .‬فمعدل استهالك املاء يف بالدنا أكرث من‬ ‫اآلخر‬

‫ضعفي املعدل العاملي‪ ،‬وبخاصة البلدان التي تنعم بكميات‬ ‫كبرية من األمطار وجريان األنهار‪.‬‬

‫فال شك أننا بحاجة إىل صحوة توقظنا من ُسباتنا لنعمل‬

‫ونكد ونعرق من أجل أن نلحق بركب األمم الجادة التي‬ ‫تعمل بنفسها وتبني مجدها بسواعد وعقول أبنائها‪ .‬وهذا‬ ‫ما نأمله من رؤية ‪ 2030‬املباركة‪ .‬فقد جاءت يف الوقت املناسب‬

‫وحركت املياه الراكدة‪ ،‬بعد أن أعيتنا الحيل‪ ،‬وأصبح قمة‬

‫طموحنا استقدام أكرب عدد ممكن من العمالة األجنبية‬

‫التي ‪-‬نسبة كبرية منها‪ -‬ليس لوجودها بني ظهرانينا ضرورة‬ ‫قصوى‪ .‬ونأمل أن تؤيت الرؤية ثمارها قريبًا بإذن الله‪ ،‬ابتداءً‬

‫بتوطني األعمال املن ِتجة‪ ،‬ليحل املواطن محل األجنبي‪.‬‬

‫‪39‬‬


‫الملف‬

‫آثار إيجابية‬ ‫كاسحة‬ ‫‪40‬‬

‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬


‫عبدالله المدني‬

‫أكاديمي بحريني ‪ -‬أستاذ العالقات الدولية‬

‫قبل سنوات طويلة من اكتشاف النفط في ديارهم‪ ،‬عرف الرعيل األول من أبناء الخليج النفط‪،‬‬ ‫أو بعبارة أدق اثنين من مشتقاته وهما‪ :‬بنزين السيارات وكيروسين الطبخ اللذين كانا يصالنهم من‬ ‫ميناء عبدان اإليراني في براميل محملة على ظهور السفن الشراعية‪ .‬منذ تلك األيام الخوالي سرت‬ ‫مقولة أن اإلنقريز (مفردة كانت تطلق على الغربيين عمومً ا وليس على البريطانيين فقط) قادرون على‬ ‫المعجزات‪ ،‬فطالما أنهم أخرجوا من باطن األرض سائلاً يـُصب في السيارة فتطوي األخيرة األرض طيًّا‪،‬‬ ‫فهم قادرون على اإلتيان بأشياء جديدة غير مسبوقة‪ .‬وقد صدقت توقعاتهم يوم أن أعلنت شركة‬ ‫أرامكو في عام ‪1957‬م عن قرب إطالقها ألول بث تلفزيوني ناطق بالعربية في منطقة الخليج والجزيرة‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ومكذب حول‬ ‫مصدق‬ ‫بالتزامن مع ظهور أجهزة التلفاز في األسواق‪ .‬ذلك أن جدلاً كبيرًا دار وقتها ما بين‬ ‫ما سموه ابتداء جهاز راديو يمكن لمقتنيه أن يسمع ويرى مطربه أو مطربته المفضلة في آن واحد‪.‬‬ ‫لقد استخدمنا هنا البث التلفزيوين‪ ،‬وهو أحد مآثر‬

‫شركة أرامكو النفطية العمالقة‪ ،‬كمدخل للحديث عن‬ ‫اآلثار اإليجابية الكبرية الكتشاف النفط وتصديره عىل‬

‫الحياة االجتماعية واالقتصادية والتجارية والثقافية‬

‫والفكرية يف مجتمعات الخليج وشرق الجزيرة العربية‪.‬‬ ‫وال نبالغ هنا لو قلنا‪ :‬إن تلك اآلثار كانت كاسحة‪،‬‬

‫‪41‬‬

‫وخلقت مجتمعات جديدة مزدهرة‪ ،‬ونقلت الناس من‬ ‫حياة البداوة إىل عصر التحضر‪ ،‬وع َّرفت املواطنني ما‬

‫لم يكن لهم سابق معرفة به من أدوات وآالت ومالبس‬ ‫وكماليات ومأكوالت ومفردات أجنبية‪ ،‬إضافة إىل أنشطة‬

‫ترفيهية وألعاب رياضية لم يألفوها من قبل‪ .‬فالتلفزيون‬ ‫مثلاً أحدث زلزالاً يف برنامج املواطن اليومي ووقت فراغه‬

‫وساعات نومه‪ ،‬بل إن ما كان يـُعرض عىل شاشته يوميًّا‬ ‫من أفالم عربية ومسلسالت أجنبية مدبلجة‪ ،‬ع َّرفه أنماط‬ ‫الحياة يف البالد األسبق إىل املدنية والتحضر‪ ،‬وزوده بجرعة‬

‫من الثقافة واملعلومات العامة يف زمن كانت فيه مصادر‬ ‫الثقافة شحيحة‪ ،‬وجُ ُّل الناس يعانون األمية‪ .‬واملدارس‬ ‫االبتدائية واملتوسطة التي تأسست بفضل مداخيل النفط‪،‬‬

‫وأوكلت الحكومة إىل شركة أرامكو تصميمها وبناءها‬ ‫وتأثيثها منحت طلبة وطالبات شرق السعودية مثلاً يف‬

‫خمسينيات وستينيات القرن العشرين أجواء نموذجية‬ ‫وصحية لتلقي العلم وفق أحدث املعايري والوسائل وأرقى‬

‫سبل الرفاهية الشبيهة بتلك التي لم تكن متوافرة إال يف‬ ‫الغرب والواليات املتحدة‪.‬‬

‫التقنية يف الظهران وبقيق ورأس تنورة‪ ،‬ناهيك عن ابتعاث‬

‫املتفوقني منهم إىل جامعة بريوت األمريكية وجامعات‬

‫الواليات املتحدة من أجل التخصص العايل‪ .‬فكانت النتيجة‬ ‫ظهور قيادات سعودية شابة حملت لواء التنمية واإلدارة‬

‫والتطوير بنجاح مشهود (عيل إبراهيم النعيمي وزير النفط‬ ‫السابق مثالاً )‪.‬‬

‫والجهود التي قامت بها أرامكو يف أعقاب اكتشافها‬

‫وطاملا تطرقنا إىل أثر النفط يف التعليم فال بد من‬

‫وتصديرها النفط السعودي يف مجال التوعية الصحية‬

‫الفالحية الذين احتضنتهم مدارس أرامكو ومعاهدها‬

‫بالظهران ال تقدر بثمن؛ ألنها حمت أرواح اآلالف من سكان‬

‫اإلشارة إىل آالف املوظفني من سكان البادية أو املجتمعات‬

‫وتوفري العالج يف مستوصفاتها ومستشفاها املركزي‬


‫الملف‬ ‫املنطقة الشرقية وأسرهم من أمراض كثرية كانت‬

‫تفتك بهم يف عقدي الخمسينيات والستينيات مثل‪:‬‬ ‫أمراض الرتاخوما واملالريا والتيفوئيد والدوسنطاريا‬

‫التي كانت منتشرة آنذاك يف مجتمعات األحساء‬ ‫والقطيف الزراعية؛ بسبب قلة الوعي وعدم اإلملام‬

‫بقواعد الوقاية‪ .‬إضافة إىل ذلك‪ ،‬كان من مآثر النفط‬ ‫وشركة أرامكو برنامج تملك البيوت الذي أطلقته‬

‫يف عام ‪1951‬م‪ ،‬ثم طوِّر عىل يد أحد أشهر رؤساء‬ ‫أرامكو األمريكيني شهرة وعملاً من أجل مرؤوسيه‬

‫عشرات األدباء الخليجيين استخدموا‬

‫السعوديني وهو «توماس بارقر»؛ إذ سهّل هذا‬

‫السرد الروائي والترميز للحديث بحرية‬

‫الربنامج لآلالف من السعوديني تملك منازل خاصة‬

‫بهم ذات تصاميم حديثة وملبية الحتياجاتهم‪،‬‬ ‫وذلك من خالل أقساط ميسرة تخصم شهريًّا من‬ ‫رواتبهم‪ .‬ومن مآثر النفط ً‬ ‫أيضا تحول بلدات وقرى‬

‫ساحلية كئيبة ال حراك وال نشاط فيها إىل مدن‬

‫عامرة تموج بالحركة ذات تخطيط هنديس رائع‬

‫‪42‬‬

‫مستوحى من تخطيط املدن األمريكية (مدينة الخرب‬ ‫مثالاً التي استعارت تخطيطها من التخطيط الهنديس‬

‫ملدينة نيويورك)‪ ،‬وتحول صحارى جرداء إىل حواضر‬

‫غناء يجد زائرها كل ما تتوق نفسه إليه من مرافق‬ ‫ومباهج وأدوات ترفيه (مدينة الظهران مثالاً )‪ .‬وإذا‬

‫عما شهدته مجتمعاتهم من تغييرات‬ ‫بفضل تدفق الذهب األسود‬ ‫كان تلفزيون أرامكو يجسد واحدً ا من اآلثار الثقافية التي‬

‫ارتبطت باكتشاف النفط يف اململكة العربية السعودية‪ ،‬فإن‬ ‫األثر الثقايف اآلخر يتمثل يف مجلة «قافلة الزيت» الشهرية‬ ‫التي دأبت أرامكو عىل إصدارها منذ عام ‪1953‬م حتى اليوم‬

‫يف طباعة فاخرة مع الحرص عىل أن تكون يف متناول‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مضمونا التي جندت لها‬ ‫مجانا‪ .‬فهذه املجلة الراقية‬ ‫اليد‬ ‫ُ‬ ‫أرامكو ثلة من الكتاب والعلماء املتميزين يف شتى الحقول‬ ‫واملعارف‪ ،‬لعبت دورًا مهمًّ ا يف تثقيف أجيال بأكملها‪.‬‬ ‫تنمية املجتمع وبناء اإلنسان‬

‫يف اعتقادي أن ما حدث يف شرق السعودية حدث مثله‬ ‫بشكل أو بآخر يف دول الخليج األخرى التي اك ُتشف فيها‬

‫النفط ابتداء بالبحرين وانتهاء بـ«أبو ظبي»‪ .‬وما الرخاء‬

‫الذي ينعم به الخليج وأبناؤه اليوم إال نتيجة طبيعية من‬ ‫نتائج االنتقال من اقتصاد الغوص الستخراج اللؤلؤ إىل‬ ‫اقتصاد النفط‪ ،‬ومن َثم إنفاق مداخيله عىل تنمية املجتمع‬ ‫وبناء اإلنسان وتشييد البنى التحتية الجبارة‪.‬‬

‫والحقيقة أن التحوالت التي أحدثها النفط يف‬

‫مفاهيم أبناء املنطقة وأحوالهم ابتداء من ثالثينيات‬

‫القرن العشرين لم تغب كثريًا يف األدب الخليجي أو‬

‫الدراسات واألبحاث املكتوبة بأقالم خليجية‪ .‬فهناك‬

‫العديد من رسائل املاجستري والدكتوراه التي تناولت هذا‬ ‫الشأن باستفاضة‪ ،‬ثم ُنشرت يف كتب (رسالة الدكتوراه‬ ‫برامج الطب الوقائي في األربعينيات والخمسينيات التي‬ ‫ساهمت بها شركة أرامكو للحد من انتشار األمراض واألوبئة‬

‫التي أعدها الدكتور عبدالله ناصر السبيعي حول أثر‬ ‫اكتشاف النفط عىل الحياة االقتصادية والعلمية والثقافية‬

‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬


‫موظفون سعوديون ضمن برامج التطوير المهني للعمل في مجال النفط في خمسينيات القرن العشرين‬

‫نقمة وليس نعمة»‪ ،‬وغريها‪ .‬ويف اعتقادي‬

‫أن هؤالء املثقفني العرب انطلقوا يف ترديد‬

‫هذه الشعارات مما اعتمر قلوبهم من غرية‬ ‫وحسد جراء ما نجحت فيه بلدان الخليج‬ ‫ولم تنجح فيه بلدانهم من جهة استثمار‬ ‫مداخيل النفط وثروات الوطن استثمارًا‬

‫أمثل يف البناء والرخاء‪ .‬أما من سايرهم من‬ ‫مثقفي الخليج فلم يكونوا سوى حفنة من‬

‫املتأثرين بالفكر القومي االنقالبي أو الفكر‬ ‫االشرتايك املطالب بالتأميم‪.‬‬

‫تقريبا‬ ‫عاما‬ ‫ً‬ ‫مدرسة للبنات أنشأتها شركة أرامكو في المنطقة الشرقية قبل ‪ً 70‬‬

‫والفكرية يف املنطقة الشرقية مثالاً )‪ .‬وهناك ً‬ ‫أيضا عشرات‬

‫ونختتم بالعنوان الذي اختاره عالم‬

‫االجتماع السيايس الكويتي الزميل الدكتور‬

‫األدباء الخليجيني الذين استخدموا السرد الروايئ والرتميز‬

‫محمد غانم الرميحي ألحد مؤلفاته وهو «الخليج ليس‬ ‫ً‬ ‫نفطا» فأحسن االختيار؛ ذلك أنه عىل الرغم من التحوالت‬

‫بفضل تدفق الذهب األسود (روايات عبدالرحمن منيف‬

‫األصعدة‪ ،‬فإن الخليج‪ ،‬من قبل ومن بعد‪ ،‬هو إنسان‬

‫للحديث بحرية عما شهدته مجتمعاتهم من تغيريات‬

‫الكبرية التي أحدثها النفط يف منطقة الخليج عىل مختلف‬

‫وتريك الحمد‪ ،‬ومؤلفات غازي القصيبي‪ ،‬وعبدالله املدين‬ ‫مثالاً )‪ .‬وأخريًا فإن النفط ارتبط عند الكثريين من املثقفني‬

‫بناء قاعدة حضارية وإنسانية تستوعب املستجدات‬

‫الخليج بمقوالت وشعارات ودعوات مؤججة للعواطف‬

‫التاريخ العبق برجاله امليامني من أولئك الذين انتشروا‪،‬‬

‫العرب خارج حدود منطقة الخليج وعدد من مثقفي‬ ‫مستمدة من توجهاتهم األيديولوجية اليسارية أو القومية‬

‫أو البعثية‪ ،‬مثل‪« :‬نفط العرب للعرب»‪ ،‬و«شركات‬ ‫النفط الغربية االحتكارية»‪ ،‬و«البرتودوالر»‪ ،‬و«النفط‬

‫وقيم وإباء وشيم‪ ،‬ومجتمع دينامييك حيوي قادر عىل‬ ‫وتحافظ عىل الثوابت‪ .‬والخليج من ناحية أخرى هو ذلك‬

‫يف حقبة ما قبل النفط‪ ،‬يف بالد الرافدين والشام والهند‬ ‫وشرق إفريقيا طلبًا للرزق والعلم أو جها ًدا يف سبيل حياة‬

‫أفضل‪ ،‬فتأثروا وأثروا‪.‬‬

‫‪43‬‬


‫الملف‬

‫سنوات النفط‬

‫لصنع رواية حقيقية‬ ‫علي أبو الريش‬

‫‪44‬‬

‫ال تكفي‬

‫روائي وكاتب إماراتي‬

‫ما قبل النفط‪ ..‬هذه المرحلة تمشي متخففة من ِو ْزر اللزوجة‪ ،‬وكانت الصحراء بمنزلة‬ ‫ْشبة بالشفافية والعفوية ما جعل‬ ‫الثوب الشفيف يطوي لفائفه على الروح‪ ،‬فتمضي مُ عْ َشو ِ‬ ‫اإلنسان يسكن في طوق ذهبي تلونه الصحراء بمُ َنمْ َنمات رمالها مستدعية خيوط الشمس التي‬ ‫كانت تنسج حريرها على السفوح الرملية الفارهة‪ .‬وما بين الهضاب وخضاب الشمس‪ ،‬لبث‬ ‫الوجدان اإلنساني في الخليج العربي‪ ،‬مثل نورس يحلق في الفضاء ويحدق في زرقة البحر‪ ،‬وينقر‬ ‫حبات الحياة من األعماق الصافية‪ ،‬وعندما جاءت الرواية لتالمس الوجدان اإلنساني وجدت فضاء‬ ‫ً‬ ‫رقراقا ً‬ ‫ً‬ ‫متشوقا‬ ‫تواقا للتجذر في األرض‪،‬‬ ‫مفتوحً ا‪ ،‬مشروحً ا‪ ،‬منقوحً ا‪ ،‬ال يعتريه ُغبَار وال سُ َعار‪ ،‬كان‬ ‫لالنغماس في عطر النخلة منسجمً ا مع نفسه‪.‬‬

‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬


‫وكون الرواية بنت الفلسفة‪ ،‬والفلسفة هي‬

‫الفكرة الوجودية يف األصل‪ ،‬أيقن الروايئ الخليجي‬ ‫أن يف تفاصيل الرواية يكمن الوجود‪ ،‬وأصل الوجود‬

‫هو اإلنسان الفرد كما قال الفيلسوف األملاين مارتن‬ ‫هايدغر حينما وضع فلسفته عىل أساس أن اإلنسان‬ ‫هنا‪ ،‬وهو القائل‪ :‬إن اإلنسان فقد مصداقية وجوده‬

‫عندما استعبدته امليكنة‪ .‬وبالتايل فإنه ال مجال للرواية‬ ‫غري فضائها الفطري والغريزي؛ ألنها من رحم الفطرة‬

‫تستعيد كيانها وبنيانها وبيانها‪ .‬الرواية يف األصل مثل‬ ‫الشجرة عندما تنقلها من بيئتها فإنها تذبل وتتهاوى‬ ‫أعضاؤها وتذهب إىل العدم‪ ،‬ال يمكن أن تختلق واقعً ا‬ ‫غري الواقع‪ ،‬وال يمكن أن نولد رواية من خارج رحم‬ ‫البيئة التي نشأت فيها وإال أصبحنا نستنسخ مولودًا‬

‫من رحم بالستييك‪.‬‬ ‫لاً‬ ‫النفط لن يكون بدي عن الدم‪ ،‬والرواية‬

‫كائن حي‪ ،‬يعيش عىل دورة الدم‪ ،‬وينمو من‬ ‫خالله‪ ،‬ويلون شخوصه بلون ُكريات الدم الجارية‬

‫متحف اللوفر في أبو ظبي‬

‫ّ‬ ‫نقض‬ ‫يف الجسم‪ ،‬فنحن نحتال عىل الواقع‪ ،‬بل‬

‫قضيضه إىل ما جئنا بثيمة روائية غري التي تكمن يف صلب الرواية‪،‬‬ ‫ونكون كمن يريد أن يبني بي ًتا يف املريخ ملجرد أنه علم أن هناك‬

‫املحيط يتحرك وال يتغري من لونه وإن شابه بعض البقع الزيتية‬

‫تبقى نافرة ومعزولة ألنها ليست من أصل تكوين املاء‪ .‬ال نقول لم‬

‫يكتب أحد عن مرحلة النفط‪ ،‬بل كتب بعض لكن هذه الكتابات‬

‫دراسات تجري لغزو هذا الكوكب ونحن بحاجة إىل زمن بعمر‬

‫جاءت مثل العملة املغشوشة‪ ،‬مثل البضاعة املقلدة؛ ألنها لم تعرب‬

‫لنذهب إىل لزوجة الرمل املمزوج بالنفط‪ .‬النفط كمادة ال تعني‬

‫يف الضفة األخرى حيث يكمن الزيف‪ ،‬أنا لست من الذين يعيشون‬

‫البشرية عىل أرض الصحراء يك ننسلخ من جلباب الرمل الجاف‬

‫الروايئ وإن كان هذا الساحر يسلب األلباب يف تغيري املسكن من‬ ‫وجدانا بشريًّا قابلاً‬ ‫ً‬ ‫الخيمة إىل القصر‪ ،‬ولكن هذا ال يعني أن هناك‬ ‫لالنسالخ‪ ،‬مستعدًّا لالستنساخ‪ ،‬مُهيَّأً للصراخ‪ .‬كل األشياء التي‬ ‫تجري عىل سطح املاء ال تعرب عن أعماقه‪ ،‬هناك يف األعماق إنسان‬ ‫آخر وكائن يرضع من حليب األرض‪ ،‬من التاريخ‪ ،‬ودورة التاريخ ال‬

‫تتحرك كما هي محركات املركبات‪ ،‬بل إنها تدور دورتها الحلزونية‬

‫ببطء وهدوء؛ ألن التاريخ أزىك من املادة‪ ،‬وبما أن املادة تعشق‬

‫األلوان الرباقة‪ ،‬فإن التاريخ يكتسب مصداقيته من عدم اتكائه عىل‬ ‫مساحيق التجميل‪.‬‬

‫الكتابة عن النفط مثل العملة املغشوشة‬

‫عن الحقيقة‪ ،‬بل َعبرَ َت الحقيقة وتجاوزتها إىل واقع مغاير‪ ،‬هناك‬

‫املايض كما هو‪ ،‬بل أشعر أن املايض هو سبب خذالننا ومأساتنا‪،‬‬ ‫لكن عبور املايض يشء واالنغماس يف الزيف يشء آخر‪ ،‬اللحظة هي‬

‫الفاصلة ما بني أحزان املايض وقلق املستقبل‪ ،‬وأشعر أنها املكان‬ ‫املالئم لتكون موئلاً للرواية؛ ألنها تقيها من سخونة العراك الثقايف‬ ‫املريض وتضعها يف املكان الصحيح‪ ،‬يف الخطوة األوىل التي يبدؤها‬ ‫اإلنسان يك يح ّرك أطرافه من دون قيود املايض وأشواك املستقبل‪.‬‬

‫ولذلك فإن الكتابة عن اللحظة‪ ،‬هي النجاة من الزيف وهي‬

‫الرهان الوحيد للخروج من اللزوجة‪ ،‬فما أحىل أن تكون نفطيًّا؛ ألنك‬

‫ستصبح غنيًّا وثريًّا وسوف تغري كل يشء حتى مالبسك الداخلية‪،‬‬ ‫لكن مقابل هذا كله سوف تعيش بال روح‪ ،‬وما قيمة رواية ميتة‬

‫اليوم يف اإلمارات والسعودية وكذلك دول الخليج العربي‬

‫أدواتها من نعش وكفن ثم القرب‪ ،‬فالخلود الحقيقي لألشياء كما‬

‫من النفط ساح سائله األسود عىل ثيابها‪ ،‬هذه املآثر متعلقة‬

‫الصحراء والصحراء هي يف األساس رواية كبرية واسعة الفصول‪،‬‬

‫كافة‪ ،‬هناك مآثر تاريخية وأيقونات ال يمكن إزالتها ملجرد برميل‬ ‫بالوجدان‪ ،‬والوجدان اإلنساين لم يخلق أمس أو حتى قبل ستني‬

‫عامًا أو أكرث‪ ،‬إنما هو نتيجة تراكم تاريخي ونتيجة والدات أحداث‬ ‫متعاقبة‪ ،‬قد نغري من مالبسنا ومن مساكننا ومن وسائل عيشنا‬ ‫ومواصالتنا‪ ،‬لكننا ال نستطيع أن نغري من وجداننا؛ ألنه مثل‬

‫هي‪ ،‬ال كما يتطلب السوق‪ .‬والجمال يف الرواية أن تتمتع بأحالم‬ ‫شخوصها كائنات ال تعيش يف الفضاء إنما تتجذر يف الرتاب‪.‬‬ ‫يقول لنا الحكيم الهندي «أوشو»‪ :‬إن رجلاً دخل عىل نحّ ات‬ ‫فاشمأ ّز من صنعته‪ ،‬وقال له‪ :‬كيف تريد أن تصنع تمثالاً جميلاً من‬ ‫هذا الحجر األصم‪ ،‬فالتفت إليه النحات ساخ ًرا‪ ،‬وقال‪ :‬أنا ال أصنع‬

‫‪45‬‬


‫الملف‬

‫باللزوجة ولم تتلوث‪ ،‬فال بد من فضاء حتى تأيت األشياء نظيفة‬

‫التمثال من الحجر‪ ،‬إنما التمثال موجود يف قلب الحجر‪ ،‬وكل‬

‫وجلية‪ ،‬فاملاء تحت األرض ال يخرج لذاته وال بد من الحفر‪ ،‬ال‬ ‫ً‬ ‫رقراقا‪ ،‬وهكذا الرواية‬ ‫بد من خلق الفجوة الفضائية حتى يخرج‬

‫جلية ملعنى الجمال الذي يصبو إليه الروايئ الحقيقي‪ ،‬إنه‬

‫النفط‪ .‬الرواية تأيت من الفضاء‪ ،‬والفضاء وليد التحرر من قيود‬

‫ما أفعله هو إزاحة الغبار عن التمثال‪ .‬هذه الحكاية صورة‬ ‫يزيح الغبار عن الوجود وال يغمس أصابعه يف اللزوجة؛ ألنه‬ ‫لو فعل ذلك فسوف يشوّه الوجوه‪ ،‬وتصبح الرواية عملاً من‬

‫ال تأيت بفعل الخيوط العنكبوتية التي يدعيها من أغرتهم لزوجة‬ ‫املراحل‪ ،‬وقد يكون للنفط شأن يف األعمال الروائية ولكن متى؟ ال‬ ‫بد من زمن‪ ،‬ال بد من ترا ُكم‪ ،‬ال بد من رسوخ‪ ،‬ال بد من تجذر‬

‫ّ‬ ‫متجذرة يف‬ ‫أعمال الشعوذة‪ .‬األعمال الخالدة هي التي بقيت‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫الواقع وال تخرج عن تفاصيله‪ ،‬بينما الفقاعات هي التي طفت‬

‫تكفي ألن تصنع رواية حقيقية‪ ،‬والكتابة الروائية يف موضوع ما‬

‫دعونا نحلم باليوم الذي نشأ فيه اإلنسان من غري‬

‫الداخل هي التي تصنع هذا التدخل‪ ،‬هي التي تكتب ما يرسخ يف‬

‫الزهرة الطالعة يف الصحراء‪ ،‬ونرى النخلة وهي تلقح نفسها‬

‫عن أحداث راهنة‪ ،‬صحيح أنها كانت مؤثرة وقوية لكنها ال يمكن‬

‫عىل السطح وسرعان ما زالت‪.‬‬

‫أقنعة سنجد أنفسنا نعيش خارج األسوار‪ ،‬ونشم رائحة‬

‫يف الوجدان وقياسً ا إىل عمر اإلنسانية‪ ،‬فإن سنوات النفط ال‬ ‫ال تأيت بقرار شخص أراد أن يكتب عن عصر النفط‪ ،‬هناك خاليا يف‬

‫الوجدان‪ ،‬وتلفظ ما يتعارض مع الجملة الوجدانية‪ ،‬كثريون كتبوا‬

‫أن تكون باملستوى الذي يصنعه التاريخ‪ ،‬ولذلك جاءت األعمال‬

‫يف الخالء الرحب من دون عوامل غري طبيعية‪ .‬فالطبيعة‬ ‫وحدها تعلمنا كيف ننجب أطفالاً أسوياء‪ ،‬وعندما يتدخل‬

‫الروائية مثل حكايات العجائز وخراريف آخر الليل ألنها مصطنعة‪،‬‬

‫يدّعي أنه صنع املعجزة مهما بلغ من بالغة ونبوغ‪ ،‬لكن‬

‫الحضارة اإلنسانية لم ُت نْ َ‬ ‫ب من أمس‪ ،‬بل من ماليني السنني؛‬

‫اإلنسان يغري املعالم والسلوك والحياة برمّتها‪ ،‬وال أحد‬ ‫تستعنْ‬ ‫الطبيعة وحدها التي جاءت باملعجزات ألنها لم‬ ‫ِ‬

‫وألنها متسرعة مثل األكالت السريعة ال طعم لها وال رائحة‪.‬‬

‫سارتر عندما كتب رائعته األدبية «الغثيان» لم يكن ليخرج بهذا‬

‫اليوم في اإلمارات ودول الخليج العربي‬

‫‪46‬‬

‫كافة‪ ،‬هناك مآثر تاريخية وأيقونات ال‬ ‫يمكن إزالتها لمجرد برميل من النفط‬ ‫ساح سائله األسود على ثيابها‬

‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬


‫العمل العمالق لوال أن خرج من صلب وجوديته املمتدة مثل‬ ‫العصر اإلغريقي (بروتاغوراس) وعىل أثر هذا التاريخ الطويل‪ ،‬بنى‬ ‫عمله الروايئ‪ ،‬وعربت الرواية عن فصل من فصول القرن التاسع‬ ‫ً‬ ‫مناقضا لفردية اإلنسان والحرية‪ ،‬وجاء هذا العصر‬ ‫عشر الذي جاء‬ ‫مح َّملاً بأوزار الثقافة املجتمعية الفجة التي أرادت محو الفرد تحت‬

‫سنابك الجياد الرأسمالية الجامحة‪.‬‬

‫النفط يقتحم بيوتنا دون استئذان‬

‫النفط‪ ...‬مادة روائية‬

‫أعتقد أننا ما زلنا بعيدين عن موضوع النفط‬

‫كمادة روائية؛ ألنه عىل الروايئ الخليجي أن يغوص‬ ‫يف أعماق التاريخ‪ ،‬وأن يبحث يف الرواية األهم‪ ،‬وهي‬

‫رواية اإلنسان نفسه‪ ،‬هذا الكائن الذي جاء يف األصل‬ ‫من صلب ثيمة روائية‪ ،‬وعندما يحصل هذا التواصل‬

‫نحن ال نطالب الروايئ بأن يكتب عن النفط إنما نريده أن‬

‫ونختتم عالقتنا برواية اإلنسان قبل رواية النفط‬

‫عوالم مختلفة‪ .‬وإنما جاء النفط مقتح ًما بيت اإلنسان من دون‬

‫أنهكت العقل البشري واستنزفت مشاعره‪ ،‬نحن‬

‫ينغمس يف الواقع‪ ،‬والواقع ليس وليد النفط‪ ،‬إنما هو نتيجة‬

‫نستطيع أن نتحدث عن النفط وغريه من موضوعات‬

‫استئذان‪ ،‬لذلك حتى يتم التعرف عىل هذا الضيف املفاجئ فال‬

‫بحاجة إىل هذا (التزمت) حتى ننتصر لإلنسان وحتى‬

‫مشاعر اإلنسان املضيف‪ ،‬ويستحق التحدث معه بطالقة من غري‬

‫نفط‪ ،‬نحن يجب أن نضع للعربات قوانني‪ ،‬وكما‬

‫بد من استضافته لزمن يستحق أن يكون فيه الضيف قد المس‬

‫توجس‪ ،‬وقد يقول قائل‪ :‬إن للنفط دورًا مهمًّا يف التغري الذي طرأ‬ ‫عىل حياة الناس يف الخليج العربي‪ ،‬ونقول‪ :‬أجل حصل هذا‪ ،‬ولكن‬

‫ما حصل لم يكن بفعل النفط‪ ،‬إنما بفعل االستعداد الالشعوري‬ ‫للناس بأن يتغريوا‪ ،‬وهذه هي طبيعة األشياء‪ ،‬وإذا أردنا االقرتاب‬ ‫من هذه الظاهرة روائيًّا فعلينا أن ندخل يف كنز الالشعور‪ ،‬وال بد أن‬ ‫نقرتب من هذا البحر لنعرف ما الذي تغري يف اإلنسان؛ الشعور أم‬

‫الالشعور‪ ،‬وأنا موقن تما ًما أن الالشعور الجمعي ما زال كما هو‪،‬‬

‫وما حدث هو تغيري يف الشعور‪ ،‬والروايئ ال تهمه الصفات بقدر‬ ‫ما تهمه السمات‪ ،‬األمر الذي يجعلنا دقيقني جدًّا يف الحديث عن‬

‫املوضوعات التي يجب أن يتطرق إليها الروايئ‪.‬‬

‫ال نضعف طموحاته يف الحياة يف اختزاله يف برميل‬

‫قال الوجودي العتيد «صموئيل بيكيت»‪« :‬إذا كانت‬

‫العربات الفارغة أكرث ضجيجً ا فال بد أن يكون هناك‬

‫قانون ما يحدد مستوى هذا الضجيج»‪ ،‬فالروايئ‬ ‫الخليجي بحاجة إىل أداة متمرّسة ّ‬ ‫تخلصه من الضجيج‬ ‫أولاً لتمكينه من فهم العالم‪ ،‬وبالتايل سيكون من‬

‫السهل عليه أن يكتب عن النفط وما يتبعه من تطورات‬ ‫يف الشكل واملضمون‪.‬‬

‫خالصة القول‪ ،‬أريد أن أقول هنا يف هذا املقال‪:‬‬

‫إننا لسنا شعوبًا نفطية‪ ،‬بل إن حضارتنا لها جذور يف‬ ‫التاريخ ضاربة األطناب‪ ،‬ولو أردنا أن نتجنى ونلصق‬ ‫أنفسنا فقط بالنفط فبالنسبة يل أنا ابن اإلمارات يجب‬

‫عيل أن أنفصل كليًّا عن أبي وأمي وجدي وجديت‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫وأن أعيش يف جلباب النفط فقط‪ ،‬لو فعلت ذلك‬ ‫سأصبح بالتايل مقطوع الجذور وبال هوية‪ ،‬وبهذا‬

‫االنفصال املزري لن أكتب رواية‪ ،‬إنما سأكتب أي يشء‬ ‫إال الرواية‪ ،‬فهذه الرواية جنس من أجناس التاريخ‬

‫والتاريخ يكمل وال يهمل الحلقات‪ .‬نحن مطالبون‬

‫اآلن بأن نكتب عن التاريخ واللحظة الراهنة التي نرى‬ ‫فيها وطننا العربي يتمزق بسيوف املنفصلني عن‬ ‫التاريخ‪ ،‬يجب علينا أن نضع أقالمنا رهن التاريخ ال‬

‫رهينة االنفصال عن التاريخ‪ ،‬ولو عرف املنفصلون‬

‫مدى فداحة األلم الذي يصيب الوجدان عندما تدمر‬ ‫مآثر التاريخ يف سوريا والعراق وليبيا وغريها‪ ،‬لمَ​َا نظروا‬ ‫لواقعية خارج الواقع‪ ،‬ولمَ​َا أحرقوا مالبس التاريخ يف‬

‫تنانري الحقد والجهل‪.‬‬

‫‪47‬‬


‫الملف‬

‫األدب الخليجي‬ ‫والنفط‬ ‫سعاد العنزي‬

‫‪48‬‬

‫ناقدة وكاتبة كويتية‬

‫أتفق مع محور «الفيصل» حول غياب تمثيل الذهب األسود عن أدب الخليج‪ ،‬وهو االكتشاف‬ ‫الذي يعد حجر األساس في قراءة تاريخ الخليج العربي الحديث؛ إذ غيَّر حياة الخليج المادية بشكل‬ ‫كبير ومفصلي‪ .‬فالحياة االقتصادية واالجتماعية والتصورات لقيم ومفاهيم الحياة الجديدة اليوم‬ ‫اختلفت بشكل الفت‪ ،‬وأصبحت الماديات تقود المجتمع نحو التغيير اإليجابي والسلبي من دون أن‬ ‫حدث تصفية وغربلة لألولويات والقيم الثقافية التي اس ُتبدلت بها قيم أخرى بديلة‪ .‬الالفت أن ما‬ ‫ُت ِ‬ ‫ُغيِّر هو قيم مادية َّ‬ ‫شكلت أسلوب الحياة المعاصرة بينما نجد بعض المجتمعات في دول الخليج إلى‬ ‫تمسكا بالعادات والتقاليد التي ّ‬ ‫ً‬ ‫تعطل تحقق مفاهيم السعادة االجتماعية رغم توافر‬ ‫اآلن ما زالت أشد‬ ‫شروط سعادة المجتمع المادية واالستهالكية‪.‬‬

‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬


‫منظور لمركز الشيخ جابر الثقافي بالكويت‬

‫فيما يخص األدب الخليجي‪ ،‬ال نستطيع القول‪ :‬إن األدب‬

‫لم يعرض لثيمة النفط؛ ألن هذا يتطلب منا قراءة شاملة لجميع‬

‫اإلنتاج الخليجي بمراحله كافة منذ البدايات حتى اآلن‪ ،‬ونحن ال‬ ‫ُ‬ ‫نجز فعليًّا عىل مستوى موضوعات‬ ‫نعرف كل كتاب الخليج وما أ ِ‬ ‫متعددة؛ ما يعني أنه قد تكون فاتتنا قراءة نصوص تطرقت بالفعل‬ ‫للنفط كحافز كبري لقراءة ثقافة املجتمع الرأسمايل الخليجي‪ .‬عند‬

‫التطرق ملثل هذا املوضوع‪ ،‬ليس بالضرورة أن نجده واضحً ا مباش ًرا‪،‬‬ ‫بل علينا النظر إىل النفط بوصفه املحرك األسايس باملشهد الخلفي‬ ‫لحياة املجتمعات الخليجية ونهضتها‪ ،‬ما يعني أن نبحث عن صورة‬

‫املجتمع الخليجي بعد النفط‪ ،‬وهذا هو املهم‪ ،‬فالنفط ال يعنينا‬ ‫إال بمدى تأثريه عىل الحياة االقتصادية واالجتماعية والسياسية يف‬ ‫الخليج العربي‪ .‬واآلثار االجتماعية واالقتصادية والسياسية واضحة‬ ‫يف األعمال اإلبداعية ولكن بصورة غري مباشرة‪ .‬إن من يقرأ األدب‬

‫الخليجي ما بعد النفط سوف يتعرف عىل التغريات الحادثة بشكل‬

‫جوهري‪ ،‬التي غريت بدورها هوية املجتمع بشكل جذري‪ .‬عىل‬ ‫ٍّ‬ ‫كل‪ ،‬ثمة نصوص سردية من مثل مجموعة «الهاجس والحطام»‬ ‫لسليمان الشطي‪ ،‬تحلل حياة الكويت ما بعد النفط والحنني إىل‬

‫كويت املايض‪ ،‬فدخول النفط وسرعة عجلة االقتصاد أحدثا نهضة‬ ‫عمرانية هائلة‪ ،‬جعلت فكرة التثمني تظهر وتسهم بتقليص دائرة‬

‫أماكن املايض الحميمية يف الذاكرة الخليجية‪ ،‬ويشهد عىل اختفاء‬ ‫الحي القديم‪ ،‬وهذا له عالقة كبرية بتغري أبعاد الهوية االجتماعية‬

‫الكويتية‪ .‬وهناك الشاعر السعودي عبدالواحد الزهراين الذي تحدث‬ ‫عن صورة الخليجي السلبية يف العالم بسبب البرتول يف قصيدته‬ ‫«البرتول»‪ ،‬التي هي بالرغم من مباشرتها تعكس تصورًا واضحً ا‬

‫لهوية الخليجي‪ ،‬فهو يقول‪:‬‬

‫من يقرأ األدب الخليجي ما بعد النفط‬ ‫سيتعرف على التغيرات الحادثة بشكل‬ ‫جوهري‪ ،‬التي غ َّيرت بدورها هوية‬ ‫المجتمع بشكل جذري‬ ‫يـدم اجدادنـا املدفـون يـا مرخصـة ينبـاع دمهـم‬ ‫يـا دام االرض ياواقـي متـى ينتهـي هـذا النزيـف‬

‫يا مـن شوهـت سمعتنـا وطمعـت فينـا الطامعينـا‬ ‫يـا مـن اسقيتنـا سمـا زحاحـا قتـل فينـا الضمـيـر‬

‫ان قمنـا قالـوا البتـرول خـذ بيدهـم وتعنـزوا لــه‪ ‬‬ ‫وان طحنـا قالـوا البتـرول هـدم بـنـا لـيـن طــاح»‪.‬‬

‫أعلم أن املحور يطمح لنوع من النصوص التي تجعل من النفط‬

‫يظهر يف املشهد الخليجي بوضوح‪ ،‬وأن تربز قيمته الفعلية عند‬ ‫املؤسسات السياسية والتجارية الخليجية والبحث العميق يف عالقات‬

‫الخليج بالدول العربية والعاملية‪ ،‬وهو بالفعل مهم لينقل لنا تصور‬ ‫اآلخر لنا وتصورنا لآلخر وتصورنا ألنفسنا ً‬ ‫أيضا‪ .‬وهذه قضية جوهرية‬

‫يف العالقات الدولية‪ .‬ومنذ مدة كنت أحكم يف مسابقة قصصية عىل‬

‫مستوى الكلية‪ ،‬فقرأت قصة قصرية لطالب‪/‬ة يف جامعة الكويت‪،‬‬ ‫كتب عن هذه الصورة النمطية املتكونة عند اآلخر الغربي‪ .‬وجدته ًّ‬ ‫نصا‬ ‫قصصيًّا الف ًتا يتحدث عن صورة الكويتي يف املجتمع الطالبي األمرييك‬

‫عىل أنه برميل نفط فقط‪ .‬وهذه الصورة النمطية عن الخليجي‬ ‫ُعولِجت يف القصة بشكل الفت‪ .‬يالحظ عدم وجود رؤية فكرية عند‬ ‫املثقف الخليجي تفتح لها ً‬ ‫آفاقا متعددة يف طرح العديد من القضايا‬ ‫املهمة والحساسة‪ .‬كذلك نجد قلة الثقافة واالطالع الواسعني؛‬

‫«كلها منـك لـوالك انـت مـا عندنـا شـيء اختلـف‬

‫مما يقلل من فرصة اتساع األفق عند األدباء‪ ،‬وعدم طرح القضايا‬

‫مـا يكـن مجتمعنـا خيمـة وبـيـر بـتـرول وجـمـل‬

‫املؤسسات السياسية واألنظمة الرأسمالية املسيطرة يف الخليج‪.‬‬

‫كلـهـا مـنـك يالبـتـرول واال فـمـا كــان انتـقـدنـا‬

‫االجتماعية والسياسية املهمة‪ ،‬إضافة إىل عدم الرغبة يف مواجهة‬

‫‪49‬‬


‫نصوص‬

‫حكايا شتوية‬ ‫قصائد من السويد‬ ‫آسبن ستروم‬

‫شاعر سويدي‬

‫ترجمة وتقديم‪ :‬كاميران حرسان‬

‫شاعر سوري‬

‫ُ‬ ‫ُسمَّ ون «بالفورتي تاليين»‪ ،‬أدباء األربعينيات قد حا َز هوى الشعب‪ّ ،‬‬ ‫ً‬ ‫إنْ أمكنَ‬ ‫القول‪ :‬إنَّ‬ ‫فإنه آسبن ستروم‬ ‫أحدا ممّ ن ي َ‬

‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫أديب يرسمُ‬ ‫األدبي وتطوّر ِه من شاعر األربعينيّات الرهيف إلى‬ ‫ختزل بها‬ ‫هذ ِه الكلمات لـ«بنغت إميل يونسون» ُت‬ ‫مراحل نضوجهِ‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬

‫بِ ِر َ‬ ‫الناس وهمومهم‪ ،‬ممّ ا منح ُه شعبيّة واسعة لدى القرّاء‪.‬‬ ‫اليوم البسيطة‪ ،‬مشاغل‬ ‫يشتهِ الحاذقة مالمحَ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫بسهل مم َت ِن ٍع‪:‬‬ ‫الواقع‬ ‫تالمس بمهار ٍة حضو َر‬ ‫عميقة‬ ‫كذلك‬ ‫بساطة مع السنين‪ ،‬أمست‬ ‫فإنْ أضحت أشعار ُه أكثر‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫واحدة‪،‬‬ ‫ونغمة‬ ‫واحد‬ ‫« إصب ٌَع‬ ‫أضحى اللحنُ قصيرًا‪،‬‬

‫َ‬ ‫رفر ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫الغروب‪.‬‬ ‫نوافذ‬ ‫تضرب بأجنحتها‬ ‫النغمات‪،‬‬ ‫ف‬ ‫ِ‬ ‫ُت ِ‬ ‫متجم ً‬ ‫ّ‬ ‫ٍّ‬ ‫ِّ‬ ‫شتوي‪.‬‬ ‫كدرب‬ ‫دة‬ ‫تصطف المفاتيحُ‬ ‫ٍ‬

‫ُ‬ ‫فعل هذا مع البيانو»‪.‬‬ ‫ال يجو ُز‬

‫‪50‬‬

‫بس بُغي َ​َة‬ ‫الواقع‬ ‫جوانب‬ ‫جميع‬ ‫تسليط األضواءِ على‬ ‫األديب تكمنُ في‬ ‫ّإنها قضي ٌّة نفسي ٌّة وأخالقي ٌّة‪ ،‬مهمّ ُة‬ ‫ِ‬ ‫الصعب‪ ،‬المُ ل َت ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫أعمق يفضي إلى جالءٍ ‪.‬‬ ‫فهم‬ ‫ِ‬ ‫الوصول إلى ٍ‬ ‫ُ‬ ‫خريف عام ‪1918‬م في قرية توربو الوديعة‪َ .‬‬ ‫يموت وال ُِد ُه‬ ‫أجل‬ ‫ولد الشاعر كارل وانر آسبن ستروم أواخ َر‬ ‫قصير من والدتهِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫بعد ٍ‬

‫ً‬ ‫َ‬ ‫بمرض ال ُّز ْهري‪ً ،‬‬ ‫زوجة وأوال ًدا ثالثة لحيا ٍة َس َر َد كارل وانر تفاصيلها في كتابهِ النثري «الغدير» عام ‪1957‬م‪،‬‬ ‫خلف ُه‬ ‫تاركا‬ ‫متأثرًا‬ ‫ِ‬

‫ُ‬ ‫غريب ال يُشب ُه في شيءٍ سويد الحاضر‪.‬‬ ‫والزمان‪ ،‬مسلطة األضواء على سويد‬ ‫للمكان‬ ‫رسمُ فيهِ صورة حقيقية‬ ‫حيث ُت َ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬

‫أبدا حُ ً‬ ‫الدموع الذي لم ينضب لديها ً‬ ‫األم وبُؤسها‪ ،‬معينُ‬ ‫الزوج والمُ عيل‪.‬‬ ‫لفقدان‬ ‫زنا‬ ‫ِ‬ ‫طفولته الغضة‪ ،‬أسرته الفقيرة ومعاناة ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬

‫تارة‬

‫رحيل الرسام روسو عن الحياة‬

‫أنا ال ُ‬ ‫ٌ‬ ‫متكافئ‪.‬‬ ‫أثق بما هو‬

‫فالتكافؤ في ُ‬ ‫القوى ُينذِ ُر بالحرب‪.‬‬

‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫الفهد‬ ‫ألسد‪،‬‬ ‫ا‬ ‫والخراف التي ترعى بهدوءٍ‬ ‫ُ‬ ‫األدغال بألوانها الزاهية‬ ‫القردة‪ ،‬األفاعي وطيو ُر‬ ‫ِ‬

‫كون التنازل ال يعني الموت‪.‬‬

‫نحن أبناؤه الحزانى‬

‫أنا ال أث ُِق بما هو ْ‬ ‫صل ٌد‪.‬‬

‫نحرس نعشه‬ ‫ُ‬ ‫آخر ليلةٍ‬ ‫وقفنا في ِ‬

‫َّ‬ ‫انفك الكثي ُر من َّ‬ ‫ف يحيا في العالم‬ ‫ما‬ ‫الص َل ِ‬

‫الغجري ُّة ً‬ ‫أيضا كانت هناك‬

‫ليس بوسع المرء أن يحرس وجود ُه مُ َ‬ ‫نف ِر ًدا‪.‬‬ ‫َ‬

‫الكرنفال في طريقهما‬ ‫العائدان توًّا من‬ ‫والزوجان الفتيان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬

‫الكثي ُر من سياد ِة الدم المُ َت ّ‬ ‫والثلج‪.‬‬ ‫صلب‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬

‫ُ‬ ‫عازف الناي‬ ‫يودوغا‬

‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫الهبوط‪،‬‬ ‫اآلخر‬ ‫ّاس الصعو ُد‪ ،‬وعلى‬ ‫إذ ينبغي على أحدِ الحر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫نسيانا‪،‬‬ ‫تارة يكونُ نارًا وأخرى‬

‫ُ‬ ‫الليل بطي ًئا‬ ‫سرى‬

‫َ‬ ‫الليلة َسيَقومُ حُ بّي بحملِنا‪.‬‬

‫أشجا ُر الشاطئ المتسمّ ُ‬ ‫رة‪ ،‬وآالف‬ ‫األوراق الخضراءِ‬ ‫ِ‬

‫ُّ‬ ‫ب‪.‬‬ ‫تبادل‬ ‫في‬ ‫مستدام وفي َترَق ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫ُّك‪.‬‬ ‫وغدا حُ ب ِ‬

‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬

‫إلى البيت‬

‫وقف القم ُر األصف ُر مثلنا متأهبًا‬

‫َ‬ ‫ُ‬ ‫المركب البخاريُّ مُ نحدرًا من‬ ‫أقبل‬ ‫بعيد السابعةِ صباحً ا‬


‫أعالي النهر‬

‫َ‬ ‫الرذاذ‬ ‫ناثرًا‬

‫المركب‬ ‫حملناه على م ْتن‬ ‫ِ‬ ‫أطلق القبطانُ ّ‬ ‫َ‬ ‫صفارة االنطالق‬

‫ُ‬ ‫أرغب أن أج َّز‬ ‫بيد ّأنني‬

‫ِّ‬ ‫الحلم األصغر‪.‬‬ ‫الكبير َغ ْز َل‬ ‫الحلم‬ ‫بمقص‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫هي َ‬ ‫تلك البرهة من اليوم‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫الناقلة ريكس‬ ‫تنطلق فيها‬ ‫التي‬

‫ال ّ‬ ‫الرسام روسو‬ ‫أفكار‬ ‫تعكر صف َو‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬

‫َ‬ ‫بيل‪.‬‬ ‫الشروق من‬ ‫لجلب‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫األرخ ِ‬ ‫هي في َ‬ ‫تلك البرهة من العام‬

‫أنّ َّ‬ ‫باق على حاله‬ ‫كل شيءٍ ٍ‬

‫خينارفيك‬

‫انفك الناي ير ِّو ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫وأنّ‬ ‫ضها‪.‬‬ ‫الوحوش ما‬

‫ُ‬ ‫ويبصق‬ ‫الحال فم ُه‬ ‫يفتحُ في‬ ‫ِ‬

‫يا إل َه ( ‪) ...‬‬ ‫دعه يظنُّ‬

‫لم يتغ ّي ْر‬

‫ُ‬ ‫والعالم‬ ‫أنا‬ ‫ال تسألي‪ :‬من تكونين؟ منْ أكون؟‬ ‫ولِمَ ُّ‬ ‫كل شيءٍ يكون‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫يتحققون‪،‬‬ ‫دعي األساتذة‬ ‫هم منْ يتقاضونَ األجورَ‪.‬‬

‫دعي ميزانَ‬ ‫البيت على الطاولة‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫الحقيقة َت ِزنُ نفسها‪.‬‬ ‫واتركي‬ ‫َ‬ ‫المعطف‪.‬‬ ‫ارتدي‬

‫وأغمضي األنوار‪.‬‬

‫َ‬ ‫الباب‪.‬‬ ‫أغلقي‬

‫َ‬ ‫األموات ُتحَ ِّن ُط األموات‪.‬‬ ‫واتركي‬

‫ها نحنُ نسيرُ‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫فمنْ‬ ‫ينتعل الجزمة البيضاء‬ ‫أنت‪.‬‬ ‫هو ِ‬

‫ينتع ُل السوداءَ‬ ‫ومن ِ‬

‫أنا‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫والمط ُر الذي يهطل علينا‬ ‫َ‬ ‫المطرُ‪.‬‬ ‫هو‬

‫املدينة‬ ‫ُ‬ ‫َّس‪.‬‬ ‫لست‬ ‫أنا‬ ‫غير مُ َسي ٍ‬ ‫برجل ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫وإنما لي رأيٌ عن كيفيّة‬

‫الصقل في هذ ِه البالدِ‪.‬‬ ‫ج ِّر حجار ِة‬ ‫ِ‬ ‫األفكار عظمة‪ً.‬‬ ‫أعتب ُر السالمَ أكث َر‬ ‫ِ‬

‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫المرتفعات في‬ ‫العمالق على‬ ‫يحمل فيها‬ ‫التي‬ ‫ِ‬

‫َ‬ ‫البنفسج في شعره‪.‬‬ ‫عناقيد‬ ‫ِ‬

‫َ‬ ‫فوق المدينةِ ‪.‬‬ ‫سر ًبا من‬ ‫النوارس الضاحكةِ‬ ‫ِ‬ ‫ٌ‬ ‫جميل ببساطةٍ ‪.‬‬ ‫أعت ِق ُد أنَّ هذا‬ ‫ُ‬ ‫إنساني‪،‬‬ ‫أعتقد أنَّ هذا‬ ‫ٌّ‬ ‫ً‬ ‫أحيانا‪.‬‬

‫ُ‬ ‫الق رَّبات‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫المزرعةِ السويديةِ المتوسطة‬ ‫تان في هذ ِه‬ ‫نا ِفذ ِ‬ ‫ّ‬ ‫أراض َ‬ ‫تان على‬ ‫منخفِضةٍ‬ ‫ٍ‬ ‫مُ ِطل ِ‬

‫َ‬ ‫أسفل بحير ٍة َ‬ ‫منش ِغلةٍ بأمواجها‪.‬‬ ‫ديدانُ‬ ‫الربيع‪.‬‬ ‫عمل‬ ‫األرض مُ ْن َكب ٌَّة على‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫والقب ُ‬ ‫األرض بطريقتها الخاصةِ ‪.‬‬ ‫َّرات ُتهي ُّئ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫الحقول هذه‪.‬‬ ‫امتالك‬ ‫أرغب‬ ‫لست‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫الحقول َ‬ ‫وإنما ُ‬ ‫أريد أن أكونَ‬ ‫ذاتها‪.‬‬

‫‪51‬‬


‫دراسات‬

‫‪52‬‬

‫الرواية السعودية‬ ‫المعاصرة وتحدياتها‬

‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬


‫سلوى‪ ‬الميمان‬

‫باحثة وأكاديمية سعودية‬

‫ترجمة‪ :‬خديجة حلفاوي‬

‫مترجمة مغربية‬

‫منذ ظهور الرواية في تاريخ األدب السعودي‪ ،‬أضحى هذا الجنس األدبي يطرح الكثير‬ ‫من اإلشكاليات‪ :‬جنس رديء‪ ،‬بالكاد يمكن وصفه باألدب‪ ،‬لم تثر الرواية اهتمامً ا كبيرًا على‬ ‫عكس الشعر‪« ،‬ديوان العرب»‪ .‬منذ بداية تسعينيات القرن الماضي‪ ،‬تغير الوضع وأضحى‬ ‫المتتبعون للمشهد األدبي يتساءلون حول هذه الروايات التي تظهر كل سنة‪ ،‬وتحظى باهتمام‬ ‫كبير من قبل الصحافة والنقاد وغيرهما من الفاعلين االجتماعيين الذين ليست لهم عالقة‬ ‫مباشرة بعالم األدب‪ .‬يثير تزايد العناوين‪ ،‬على الرغم من الصعوبات المرتبطة بشبكات الطبع‬ ‫والنشر‪ ،‬الكثير من الخالفات فيما يتعلق بشرعية الكاتب كما هذا الجنس األدبي‪ .‬ال تزال كتابة‬ ‫الرواية مرتبطة بالعديد من التحديات التي يواجهها الكاتب ً‬ ‫بحثا عن االعتراف‪.‬‬ ‫بداية من كتاب «الفراغ الروائي في األدب السعودي» للكاتب‬

‫األردني نسيم الصمادي في بداية ثمانينيات القرن الماضي‪،‬‬ ‫وصولاً إلى «تسونامي الرواية» –عنوان مقال حول اإلنتاج الروائي‬

‫في العربية السعودية في صحيفة «الشرق األوسط» في أكتوبر‬ ‫‪2006‬م‪ -‬اجتذبت الرواية على مدى العقدين الماضيين (‪2010-1990‬م)‬

‫اهتمام المراقبين المحليين (النقاد‪ ،‬واألكاديميين‪ ،‬والصحفيين‬ ‫والمدونين) العرب والمستشرقين‪ .‬في الواقع‪ ،‬ومما ال شك فيه أن‬ ‫غلبة الخيال الرومانسي منذ بداية التسعينيات أحد الموضوعات‬

‫التي تأتي عليها األقالم السعودية‪ ،‬ويثير «عصر الرواية» العديد من‬

‫األسئلة والنقاشات المرتبطة بالساحة األدبية‪.‬‬

‫استبدال التمايز بين المسموح به وغير المسموح به بالتمايز بين‬ ‫الجيد والسيئ‪ .‬ومن هنا‪ ،‬تهدف هذه المقالة إلى تسليط الضوء‬

‫على النقاشات الرئيسة الناشئة حول الرواية السعودية المعاصرة‬

‫بدءً ا من االعتراف بها كجنس أدبي‪.‬‬

‫الرواية جنس أدبي تواجهه مجموعة من التحديات‬ ‫ٌّ‬ ‫كل على دراية باالنتشار المتزايد والمفاجئ لألدب الروائي في‬

‫المملكة العربية السعودية‪ 26 :‬رواية في سنة ‪2005‬م‪ ،‬و‪ 50‬رواية‬ ‫في سنة ‪2006‬م‪ً ،‬‬ ‫وفقا لدراسة أنجزها المتخصص السعودي في‬ ‫الببليوغرافيا خالد اليوسف‪ .‬لقد دُمجت الرواية في المتن األدبي‬

‫من السهل أن نتفق‪ ،‬بالنظر إلى األرقام‪ ،‬على الزيادة‬

‫المحلي بشكل خجول جدًّا‪ :‬بدءً ا من سنة ‪1930‬م مع «التوأمان» ‪،‬‬

‫وحول هذه «الطفرة»‪ ،‬وهو مصطلح يشير عادة إلى فترة النمو‬

‫التضحية» لحامد دمنهوري‪ ،‬بحسب المهتمين‪ ،‬وأنه لم يكن هناك‬ ‫أتباع ُكثر لهذا الجنس األدبي لفترة طويلة‪ .‬في الحقيقة‪ ،‬وبالنسبة‬

‫الملحوظة في المؤلفات المنشورة خالل السنوات األخيرة‪،‬‬ ‫االقتصادي التي أعقبت الثورة البترولية سنة ‪1973‬م‪ ،‬وحول هذا‬ ‫«التسونامي‪-‬الموجز‪ ،‬وهذا االنفجار في األعمال المقروءة مثل‬

‫«الكعك الساخن»‪ ،‬بحسب بعض تعبيرات الصحافة المحلية‪.‬‬ ‫تعد الصحافة‪ً ،‬‬ ‫وأيضا وسائل اإلعالم السمعية البصرية‪ ،‬والندوات‬ ‫أو النقاشات التي تجمع الجهات المعنية كافة‬

‫بالحقل األدبي (الكتاب‪ ،‬والناشرين‪ ،‬والصحفيين‬ ‫واألكاديميين)‪ ،‬مسرحً ا إلثارة مجموعة من‬

‫(‪)1‬‬

‫لعبد القدوس األنصاري‪ ،‬أو بدءً ا من سنة ‪1959‬م مع «ثمن‬

‫لجُ ّل هذه األعمال‪ ،‬يتعلق األمر بأول رواية للروائيين الشباب الذين‬

‫راوحت أعمارهم بين ‪ 20‬و‪ 25‬سنة‪ ،‬التي سرعان ما أثارت ضجة‬

‫وجلبة كبيرة‪ .‬وطرح السؤال‪ :‬هل هذه الطفرة ظاهرة صحية؟‬

‫(‪)2‬‬

‫نظ ًرا لهذا البزوغ للرواية‪ ،‬اختلفت اآلراء في‬

‫المملكة العربية السعودية‪ ،‬فيرى بعض أن هذه‬

‫الظاهرة ناتجة عن اهتمام بعض الناشرين العرب‬

‫بـ«الفضائح»‪ ،‬الذي ال يتردد في نشر روايات من‬

‫المناقشات من كتاب الرواية‪ .‬يبدو أن كتابة روايات‬ ‫الخيال قد أضحت استفزا ًزا في حد ذاتها‪ :‬بالنسبة‬

‫هذا النوع‪ .‬في حين يعزو بعض آخر األمر إلى‬

‫المطلقة‪ .‬بالنسبة للناقد –على نطاق واسع‪ -‬يمكن‬

‫الجمهور السعودي‪ .‬وخير مثال على ذلك‪،‬‬

‫للروائي‪ ،‬تستمد الرواية قوتها األساسية من حريتها‬ ‫لهذه الحرية أن تكون مجرد افتراء‪ ،‬وال يجب‬ ‫القبول بها من دون وضع بعض الحواجز الستكمال‬ ‫الطبيعة غير المحددة لهذا الجنس األدبي‪ .‬كلما كان‬ ‫الجنس األدبي سائدًا‪ ،‬أ َّكد الناقد على الحاجة إلى‬

‫حدس جيل من الكتاب استبقوا «أفق توقع»‬

‫(‪)3‬‬

‫الكاتب الشاب إبراهيم بادي(‪ ،)4‬مؤلف الرواية‬

‫المثيرة للجدل «حب في السعودية» التي يناقش‬

‫فيها بجرأة كبيرة موضوعات جنسانية‪ .‬نشرت‬ ‫الرواية سنة ‪2007‬م عن «دار اآلداب» ببيروت‪،‬‬

‫‪53‬‬


‫دراسات‬

‫غازي القصيبي‬

‫يعتمد الروائي على تقنية السرد في الرواية‪ ،‬ويكرس الصفحات‬

‫القصيبي‪ ،‬كاتب «شقة الحرية» التي صدرت عن منشورات رياض‬ ‫الريس سنة ‪1994‬م‪ ،‬وأُعيد نشرها في خمس طبعات وترجمت إلى‬

‫وخمس نساء‪ ،‬ويكسر منذ البداية مختلف التابوهات الرئيسة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫أحيانا‪ ،‬وجريئة‪.‬‬ ‫بطريقة فجة‬

‫مفكر وكاتب سياسي‪ ،‬يكافح كي يُعت َرف به كروائي بعد نشره رواية‬

‫األولى من روايته للرواية نفسها‪ ،‬في حين أنه هو نفسه الشخصية‬

‫الرئيسة في الرواية‪ .‬تكتب هذه الشخصية‪ -‬الكاتب عن رجل‬

‫اآلن‪ ،‬ال مجال للشك في جرأتي‪ .‬وصفت بدقة ما دار بين‬ ‫ً‬ ‫متعجرفا‪ ،‬نرجسيًّا! لكن‪ ،‬ألن‬ ‫إيهاب وفاطمة‪ .‬ربما أكون راويًا‬

‫تحقق حياة وإيهاب مبيعات خيالية‪ ،‬وقياسية؟ ألن تحقق إقبالاً‬ ‫(‪)5‬‬ ‫هائلاً على قراءتها ومعرفة تفاصيلها المجنونة؟‬

‫‪54‬‬

‫تركي الحمد‬

‫هاني نقشبندي‬

‫اإلنجليزية‪ ،‬السؤال حول هويته ككاتب(‪ .)8‬كان ً‬ ‫أيضا تركي الحمد‪،‬‬

‫«أطياف األزقة المهجورة» سنة ‪1998‬م‪ ،‬عن دار الساقي للنشر ‪:‬‬ ‫(‪)9‬‬

‫يمكننا أن نعزو نجاح المؤلف إلى الرأسمال االجتماعي أو السياسي‬

‫للكاتب في الحقل األدبي‪ ،‬رغم افتقاره للرؤية الفنية ‪ .‬ولم يسلم‬ ‫تركي الحمد ً‬ ‫أيضا من حكم الزندقة‪ .‬إن الكاتب ليس بمنأى عن‬ ‫(‪)10‬‬

‫االتهامات األخالقية‪ ،‬وحتى األيديولوجية‪ .‬حينما ظهرت الرواية‬

‫إن هذه الفكرة التي تدعمها الشخصية ال تزال واسعة‬

‫األولى للقصيبي التي تحكي عن سنوات الدراسة الخاصة بمجموعة‬

‫الجنس األدبي الذي لطالما كان االعتراف به محط جدل واسع‪.‬‬

‫بعدها رواية «العصفورية»(‪ :)11‬اسم مستشفى لألمراض النفسية‬ ‫شهير في بيروت‪ُّ ،‬ات ِهمَ بالعلمانية والزندقة(‪.)12‬‬

‫االنتشار في المجتمع السعودي‪ ،‬وتضفي قيمة سلبية إلى هذا‬ ‫في الواقع‪ ،‬لم يُرحَّ ب بدخول جنس الرواية إلى التقليد السردي‬ ‫العربي من المعارضين للحداثة المستوردة من الغرب وأنصار‬

‫التقليد الذين رأوا في كتابة الشعر أبهى أشكال التعبير العربي‪.‬‬

‫يمكن أن نقرأ الكثير من شهادات كتاب الجيل األول‪ ،‬األسالف‪،‬‬ ‫ما يثبت نظرة «تسامح» رجال األدب مع جنس «الرواية»‪ .‬دعا‬ ‫محمد علي األفغاني إلى كتابة الرواية‪ ،‬في إحدى مقاالته‬

‫المنشورة سنة ‪1941‬م‪:‬‬

‫من الشباب السعودي في مصر خالل عهد جمال عبدالناصر‪ ،‬ثم‬

‫مما ال شك فيه أن قضية الحمد تعكس بشكل جلي لحظة‬

‫أساسية من تاريخ الرواية السعودية المعاصرة‪ .‬تقدم ثالثيته‬ ‫وجهة نظر سوسيوسياسية للواقع؛ إذ إن الكاتب اختار شكل‬

‫الرواية من أجل معالجة الموضوعات المسكوت عنها‪ .‬لكن ما‬ ‫«اعتبر فضيحة»‪ ،‬هو أن حبكة الشخصيات الخيالية تجعل من‬

‫السعودية موطن أحداثها الرئيسة وليس خارجها كما هي الحال‬

‫«ما يثير الدهشة‪ ،‬وهو أن العديد من أصدقائي الكتاب‬

‫مع باقي الروائيين السعوديين‪ .‬يمكن الغتراب الشخصيات‪ ،‬فقط‪،‬‬

‫تقارن بالعلم‪ ،‬وبالفضيلة واألدب‪ ،‬ويجدون عيبًا وخزيًا في‬

‫السعودية التي تعرض المشروع الواقعي الروائي للخطر‪ ،‬تزدهر‬ ‫ً‬ ‫تحفظا‪ ،‬حيث ّ‬ ‫تقل أعداد التابوهات‬ ‫الرواية في المجتمعات األقل‬

‫ورجاالت األدب يعتبرون الرواية مجرد بدعة وال تستحق أن‬ ‫االهتمام بها»(‪.)6‬‬

‫َّ‬ ‫القاصة هديل‬ ‫بعد ما يقرب من سبعين سنة‪ ،‬نجد أن‬

‫الحضيف‪ ،‬التي تنشر نصوصها على موقعها على اإلنترنت(‪،)7‬‬ ‫ترفض فكرة كتابة الرواية وتعدها مقولة «مشينة»‪.‬‬

‫التابوهات االجتماعية في قلب الرواية السعودية‬

‫أن يجعل الكتابة ممكنة‪ .‬بعيدًا من القوانين واألعراف االجتماعية‬

‫المرتبطة بالحياة‪.‬‬

‫من خالل تج ُّرئِه على فضاء حيث عادة ما ُتحجَ ب العيوب‪،‬‬

‫جعل الحمد من مدينة الرياض «مدينة المتع» حيث «كل شيء‬

‫ممكن» أو «كل شيء محرم‪ ،‬وكل شيء مباح»‪ .‬يعرض الروائي‪،‬‬ ‫ضمن نمط واقعي‪ ،‬تناقضات مجتمع مثله مثل باقي المجتمعات‪،‬‬

‫ال يتعامل الروائي مع الصعوبات المتعلقة بطبع عمله‬

‫كل ذلك مع اللعب على مقربة من حدود المتكلم‪ .‬نجد رواية‬

‫بعد أن نشر روايته في الساحة األدبية‪ ،‬طرح الوزير والشاعر غازي‬

‫صدرت سنة ‪2005‬م‪ ،‬تذهب أبعد من ذلك‪ ،‬وتكشف عن أسرار العالم‬

‫ونشره فقط‪ ،‬بل إنه يعمل على جعل مواهبه في خدمة الرواية‪.‬‬

‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬

‫«بنات الرياض» ‪ ،‬أول رواية للكاتبة الشابة «رجاء الصانع» التي‬ ‫(‪)13‬‬


‫الرواية السعودية المعاصرة وتحدياتها‬

‫األنثوي‪ ،‬وهو األمر الذي يشكل تابوهً ا‪،‬‬

‫عرفتها الساحة األدبية السعودية‪ .‬ومن‬

‫ويع ّد تحديًا في اآلن نفسه‪ .‬كيف أمكن لفتاة‬

‫أجل االلتفاف على الرقابة التي تعارض‬ ‫«تعرية الحقيقة»‪ ،‬لجأ العديد من ُ‬ ‫الكتاب‬

‫أن تقدم للعالم أخطاء مواطنات بلدها؟‬

‫السعوديين إلى النشر في بعض الدول‬ ‫العربية‪ ،‬وال سيما القطب الليبرالي(‪ً .)15‬‬ ‫بحثا‬

‫إن هذا األمر غير مقبول في مجتمع ليس‬ ‫من المألوف إظهار أخطائه‪ ،‬وحيث ُي َّتهم‬

‫عن هامش أكبر من الحرية أو االعتراف في‬

‫من يريد أو تريد وضع األصبع على الواقع‬

‫الحقل األدبي اإلقليمي‪ ،‬عمل هذا النمط‬

‫بتشويه صورته‪.‬‬ ‫ً‬ ‫أضحت الروايات الصادرة حديثا أكثر‬ ‫جرأة‪ ،‬بالنظر إلى التابوهات التي تكشف‬

‫من االلتفاف على سلطة الرقابة‪ ،‬بدءً ا من‬

‫رجاء الصانع‬

‫تسعينيات القرن الماضي‪ ،‬على إدخال‬

‫أن «الفضح» حاضر بقوة‪ .‬في إحدى هذه الروايات‪ ،‬ويتعلق األمر‬

‫أنماط وممارسات جديدة في الكتابة‪ ،‬األمر‬ ‫ً‬ ‫تحفظا‬ ‫الذي أضحى يطرح الكثير من األسئلة حول القطب األكثر‬

‫بيروت كما في العديد من العواصم العربية األخرى – قبل أن يصدر‬

‫خالصة مؤسسة على مصلحة المحظور(‪.)16‬‬

‫ورئيس تحرير مجلة نسائية‪ ،‬رسائل منتظمة وغريبة من قارئة‬

‫مجال األدب‪ .‬منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي‪ ،‬انتشرت‬

‫عنها‪ :‬جرأة أخالقية‪ ،‬ومشاهد جريئة‪ .‬يبدو‬

‫برواية «اختالس» لـ«هاني نقشبندي»(‪ ،)14‬التي حظر نشرها في‬

‫منها خمس طبعات عن دار الساقي‪ -‬يتلقى صحفي سعودي‪،‬‬

‫سعودية‪ ،‬التي تأتمنه على أسرارها ومغامراتها مع سائقها‪ .‬لكن‬

‫الجنس ليس هو التابو الوحيد الذي جرى التجرؤ عليه ضمن هذا‬ ‫األدب الذي يلعب على حدود المسموح‪ .‬شهدت سنة ‪2000‬م نشر‬

‫رواية الكاتب والصحفي محمود تراوري «ميمونة»‪ ،‬التي يناقش‬ ‫فيها الكاتب‪ ،‬من خالل قصة هجرة ميمونة وعائلتها من إفريقيا إلى‬ ‫الحجاز‪ ،‬قضية تهميش ذوي البشرة السوداء في المملكة العربية‬

‫في هذا المجال‪ ،‬من خالل ربط هذا النوع من الكتابة بإستراتيجية‬

‫مما ال شك فيه أن الثورة الرقمية قد كان لها وقع كبير على‬

‫مواقع الصحافة اإللكترونية‪ ،‬والمدوَّنات‪ ،‬وقدمت للكتاب شبكة‬ ‫نشر وتوزيع أكثر كفاءة وسهولة‪ .‬ونجد لهذا األمر صدى كبي ًرا‬

‫في رواية «بنات الرياض»‪ ،‬التي تدور أحداثها في عالم اإلنترنت‬ ‫والدردشة‪ ،‬وتستند على ما يبوح به مجموعة من شباب الرياض‬

‫حول مغامراتهم عبر اإلنترنت‪ .‬في كل يوم جمعة‪ ،‬ترسل إحدى‬

‫السعودية‪ .‬بعد سنوات قليلة‪ ،‬وفي سنة ‪2006‬م‪ ،‬صدرت رواية‬

‫«اآلخرون» عن دار الساقي للنشر‪ ،‬لروائية سعودية شابة‪« ،‬صبا‬ ‫الحرز»‪ ،‬تنحدر من القطيف‪ ،‬وهي مدينة في شرق المملكة‪ .‬تعالج‬ ‫روايتها قضية أقلية مرفوضة من اآلخرين‪ .‬هناك بعض الموضوعات‬

‫التي ال يمكن أن تعالجها سوى الكتابة الروائية‪ :‬يعد الخيال حيلة‬ ‫لرصد الواقع الذي ترفض الخطابات االجتماعية تمثيله‪.‬‬

‫في الواقع‪ ،‬عندما نتحدث عن حرية النشر العربي‪ ،‬نثير‬

‫دومًا التابو الثالثي‪ :‬الجنس‪ -‬الدين‪ -‬السياسة‪ .‬لكن هذه الحرية‬

‫متغيرة تبعً ا للدول‪ .‬في السعودية تفرض رقابة صارمة على‬ ‫هذه الموضوعات الثالثة‪ ،‬التي تتطلب إذن مسبق‪ .‬ضمن الرقابة‬ ‫المؤسساتية‪ ،‬يمكن أن نضيف فكرة «الخصوصية» العربية‪،‬‬

‫التي غالبًا ما تستخدم في الخطاب المحلي لحظر العديد من‬

‫الموضوعات في النقاش العام‪.‬‬ ‫تحدي النشر‬

‫ضمن مجتمع يعرف تدنيًا كبي ًرا في مستوى القراءة‪ ،‬يبدو‬

‫أن حجم المبيعات التي تتجاوز عشرات اآلالف ال يصدق‪60 :‬‬ ‫ً‬ ‫ألفا بالنسبة لرواية «رجاء الصانع» خالل السنوات األولى التي‬

‫أعقبت صدورها‪ ،‬و‪ 10‬آالف خالل الفترة التي تلت صدور رواية‬ ‫«فسوق» لـ«عبده خال»‪ .‬يتعلق األمر ً‬ ‫إذا بوجه آخر للطفرات التي‬

‫كبيرا في‬ ‫تدنيا‬ ‫ضمن مجتمع يعرف‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مستوى القراءة‪ ،‬يبدو أن حجم المبيعات‬ ‫التي تتجاوز عشرات اآلالف ال يصدق‪60 :‬‬ ‫ألفً ا بالنسبة لرواية «رجاء الصانع» خالل‬ ‫السنوات األولى التي أعقبت صدورها‪،‬‬ ‫و‪ 10‬آالف خالل الفترة التي تلت صدور‬ ‫رواية «فسوق» لـ«عبده خال»‬

‫‪55‬‬


‫دراسات‬

‫الشابات السعوديات ألصدقائها رسالة إلكترونية‪ ،‬وتصف بتفصيل‬

‫في«النوادي األدبية» االفتراضية فقط‪ ،‬لكن بمجرد تحريرها‬

‫لمتابعة مغامرات الشابة‪ ،‬بعضهم غاضب وبعضهم يريد أكثر من‬ ‫ً‬ ‫ذلك‪ .‬يتمُّ ً‬ ‫مكن ُ‬ ‫مدونة سردية ُت ِّ‬ ‫الق َّراء من‬ ‫إذا تقيُّد الرواية بوصفها‬

‫تنشر في الخارج ويكون من الصعب توافرها في المكتبات المحلية‪.‬‬

‫دقيق حياتها العاطفية‪ ،‬وحياة صديقاتها الثالثة‪ .‬يجتمع الشباب‬

‫متابعة هذه المغامرات(‪ .)17‬نسجل ً‬ ‫أيضا أن رواية «سقف الكفاية»‪،‬‬

‫لمحمد حسن علوان‪ ،‬التي نشرت عن دار الفارابي‪ ،‬قد كانت‬ ‫موجودة على الموقع الخاص بالكاتب‪،‬‬

‫بالتزامن مع نشرها سنة ‪2002‬م‪ ،‬واألمر‬ ‫ً‬ ‫أيضا بالنسبة لرواية «األوبة»‬ ‫نفسه‬ ‫لوردة عبدالمالك –وهو اسم مستعار‪-‬‬

‫التي نشرت سنة ‪2007‬م عن دار الساقي‪،‬‬ ‫وسبق أن طرحت في بداية األمر في‬

‫مجموعة أدبية افتراضية «منتدى دار‬ ‫الندوة»(‪ ،)18‬حيت تابعها نحو ‪ 23‬ألف زائر‬

‫قبل كتابتها ونشرها ورقيًّا‪.‬‬

‫أصبح «الويب» الفضاء األول في‬

‫النشر والتوزيع‪ :‬ال يجري نشر المؤلفات‬

‫‪56‬‬

‫هوامش‪:‬‬

‫‪ )1‬نشر هذا المقال في األصل باللغة الفرنسية في‪:‬‬

‫‪Salwa Almaiman, «Le roman saoudien contemporain‬‬ ‫‪face à ses défis », Arabian Humanities [En ligne], 3 | 2014,‬‬

‫‪mis en ligne le 25 novembre 2014, consulté le 08 janvier‬‬ ‫‪2017. URL : http://cy.revues.org/2793 ; DOI : 10.4000/cy.2793‬‬

‫‪ )2‬جريدة الشرق األوسط‪ ،‬عدد ‪ ،10193‬أكتوبر ‪2006‬م‪.‬‬ ‫‪ )3‬يعد مفهوم «أفق توقع القارئ» (‪)horizon d'attente du lecteur‬‬ ‫أساس نظرية التلقي لدى «هانز روبرت جوس» (‪Hans Robert‬‬ ‫‪.)Jauss‬‬

‫‪ )4‬إبراهيم بادي‪ 20 ،‬سنة‪ ،‬صحفي في جريدة الحياة‪.‬‬ ‫‪ )5‬المرجع نفسه‪.‬‬ ‫‪ )6‬محمد علي األفغاني‪ ،‬الرواية العربية وحاجتنا إليها‪ ،‬المنهل‪ ،‬العدد‬ ‫‪ 6-5‬جمادى األولى‪ /‬مايو ‪1941‬م‪.‬‬

‫‪7) http://www.hdeel.org/blog‬‬ ‫لم تعد هذه المدونة موجودة بعد وفاة الشابة السعودية سنة‬

‫‪2008‬م‪ ،‬عن عمر لم يناهز بعد ‪ 25‬سنة‪.‬‬

‫ً‬ ‫معترفا به كروائي من قبل بعض الجهات الفاعلة‬ ‫‪ )8‬لم يكن القصيبي دائمً ا‬ ‫في الساحة األدبية (شرعي أم ال)‪ .‬والحقيقة أن وضعه السياسي قد‬ ‫مكنه من اللعب على القيد السياسي‪.‬‬

‫‪ )9‬تتكون من ثالثة أزمنة قوية لحياة الراوي‪ ،‬هشام العابر‪ :‬سنوات دراسته‬ ‫األخيرة بحي العدامة بالدمام‪ ،‬خالل سبعينيات القرن الماضي‪،‬‬

‫والسنوات التي قضاها كطالب بالرياض في حي الشميسي‪ ،‬وأخي ًرا‬

‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬

‫بالطريقة التقليدية‪ ،‬يسهل اإلنترنت جزئيًّا نشرها‪ ،‬وبخاصة حينما‬

‫إن اإلنترنت هو وسيلة جديدة لتجاوز الخطوط الحمراء التي‬ ‫ً‬ ‫وأيضا وسيلة‬ ‫تفرضها الرقابة والخطابات االجتماعية السائدة‪،‬‬

‫فعَّ الة للتعريف بالروائيين السعوديين في الخارج‪ .‬من الواضح أنه‬

‫مهَّد الطريق إلقامة الدورة ‪ 11‬لمعرض الرياض الدولي للكتاب‪ ،‬الذي‬ ‫ً‬ ‫طفيفا فيما يخص ممارسة الرقابة‪.‬‬ ‫يعكس تراجعً ا‬

‫لجأ عدد من الكتاب السعوديين إلى‬ ‫النشر في الخارج؛ بح ًثا عن هامش أكبر‬ ‫من الحرية أو االعتراف في الحقل األدبي‬ ‫اإلقليمي‪ ،‬وعمل هذا النمط من االلتفاف‬ ‫على سلطة الرقابة‪ ،‬على إدخال أنماط‬ ‫وممارسات جديدة في الكتابة‬

‫سجنه بالكراديب بعد حل الحزب الشيوعي الذي كان قد انضم إليه‪.‬‬ ‫‪ )10‬جرى التشكيك في المهارات الفنية واألدبية للكاتب من العديد من‬ ‫الجهات الفاعلة في الساحة األدبية‪ ،‬بما في ذلك النقاد‪ ،‬والذين‬

‫تساءلوا عن مكانته في الحقل األدبي‪.‬‬

‫‪ )11‬غازي القصيبي‪ ،‬العصفورية‪ ،‬دار الساقي‪ ،‬بيروت‪1996 ،‬م‪.‬‬ ‫‪ )12‬اتهم القصيبي بإفساد الذوق العام للشباب السعودي من خالل شعره‬ ‫وكتاباته الجريئة وانجذابه إلى الغرب‪.‬‬

‫‪ )13‬رجاء الصانع‪ ،‬بنات الرياض‪ ،‬دار الساقي‪ ،‬بيروت‪2005 ،‬م‪.‬‬

‫‪Al-Sanea Rajaa, Les filles de Riyad, traduit de l’arabe par‬‬ ‫‪Simon Corthay et Charlotte Woillez, Plon, 2007.‬‬

‫‪ )14‬هاني نقشبندي‪ ،‬اختالس‪ ،‬دار الساقي‪ ،‬بيروت‪2007 ،‬م‪.‬‬ ‫‪ )15‬يعمد الكثير من الكتاب العرب إلى هذه اإلستراتيجية من أجل نشر‬ ‫ً‬ ‫هامشا من الحرية‪ :‬القاهرة‪ ،‬وباريس‬ ‫كتبهم في العواصم التي تضمن‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وأيضا لندن من خالل دار الساقي‪ ،‬وبرلين من‬ ‫سابقا‪ ،‬وبيروت حاليًّا‪،‬‬ ‫خالل دار الجمل‪ .‬لعبت هذه اإلستراتيجية دورًا مهمًّا جدًّا في تطور‬

‫التعبير األدبي العربي نحو مزيد من الحرية‪.‬‬

‫‪ )16‬يكشف عنوان‪ ،‬من بين أخرى كثيرة‪ ،‬الجدل الذي أثاره هذا النوع‬ ‫من الكتابة‪« :‬ظاهرة جديدة من الرواية السعودية‪ :‬المنع‪ ،‬جواز سفر‬

‫النجاح»‪ ،‬جريدة الشرق األوسط‪ ،‬عدد ‪ 10 ،10726‬إبريل ‪2008‬م‪.‬‬

‫‪17) Seerehwenfadha7et@yahoogroups.com‬‬ ‫‪ )18‬يعد هذا المنتدى ملتقى لليبراليين السعوديين‪ ،‬الذي وصف من‬ ‫معارضيهم «بنادي كفار قريش»؛ أغلق منذ سنة ‪2005‬م‪.‬‬


‫الرواية السعودية المعاصرة وتحدياتها‬

‫ﻣﺘﻮاﻓﺮة ﻓﻲ ﻣﺠﻠﺪ واﺣﺪ‬ ‫ﻟﻌﺎم‬

‫‪2016‬م‬ ‫‪57‬‬

‫ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ‪ 700‬ﻣﺎدة ﺛﻘﺎﻓﻴﺔ‪.‬‬‫ ﻣﻘﺎﻻت وﺣﻮارات ﻣﻊ ﻛﺒﺎر اﻷدﺑﺎء واﻟﻤﺜﻘﻔﻴﻦ اﻟﺴﻌﻮدﻳﻴﻦ واﻟﻌﺮب‪.‬‬‫ إﺿـﺎﻓـﺔ إﻟـﻰ ﻣـﻮاد وﻗـﺮاءات ﻓـﻲ اﻟـﻔـﻨﻮن‪ ،‬وﺗﺮﺟﻤﺎت ﻣﻦ اﻟﺜﻘﺎﻓﺎت اﻟﻌﺎﻟﻤﻴﺔ‪.‬‬‫ ﻣﻊ ﺧﻤﺴﺔ إﺻﺪارات ﻟ ـ )‬‫‪@alfaisalmag‬‬

‫( ﻟﻌﺎم ‪2016‬م‪ ،‬ﻓﻲ ﻋﻠﺒﺔ ورﻗﻴﺔ‪.‬‬ ‫‪alfaisalmag‬‬

‫‪alfaisalmag.com‬‬

‫‪(+966 11) 4647851 :¢ùcÉa ,(+966 11) 4653027 :∞JÉ¡H ∫É°üJ’G áYƒªéª`dG ≈∏Y ∫ƒ`°üë∏d‬‬


‫دراسات‬

‫‪58‬‬

‫الحرب بعيون أنثوية‬

‫الروائية العربية في مواجهة‬ ‫عالــمهـا الـخـارجـي وانـهـيـاراته‬ ‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬


‫الحرب بعيون أنثوية‬

‫مايا الحاج‬

‫روائية وكاتبة لبنانية‬

‫ً‬ ‫يصعب أن ُتنادي ّ‬ ‫أدب نسائي‪ .‬لكنّ المسألة‬ ‫ضد تجنيس األدب ثمّ تجد نفسك منساقا نحو الكتابة عن ٍ‬

‫تغدو طبيعية في حال كانت غايتها تخليص هذا األدب من تصنيفاته الجندرية‪ .‬فالنظريات التي أرساها كثيرون‬ ‫من ّ‬ ‫النقاد العرب حول روايات النساء التي تنشغل بالذات على حساب العالم‪ ،‬وبالجسد على العقل‪،‬‬

‫وبالمشاعر على الواقع‪ ،‬راحت ُتثبت ضعفها يومً ا تلو آخر‪ .‬وما من شيء ُيثبت تهافت تلك النظريات سوى‬ ‫دراسة الروايات (النسائية) الصادرة خالل السنوات األخيرة‪ ،‬حيث انشغلت معظم الكاتبات العربيات بالوضع‬ ‫السياسي‪ -‬االجتماعي العام‪ ،‬فكتبن عن الحرب التي ُع َّدت دائمً ا من الموضوعات «الذكورية»‪ ،‬ال «األنثوية»‪.‬‬ ‫ً‬ ‫انطالقا من‬ ‫أمّ ا هذا التقسيم (الجندري) فيأتي جرّاء اعتماد النقاد والباحثين ‪-‬في دراسة األدب‪-‬‬

‫جنس كاتبه‪ ،‬فأطلقوا على أدب المرأة تسميات كثيرة؛ منها‪« :‬األدب النسائي»‪ ،‬و«األدب النسوي»‪ ،‬و«األدب‬ ‫األنثوي»‪ ،‬من دون اشتقاق مسميات مقابلة كـ«األدب الذكوري» مثلاً ‪ ،‬وكأنّ الحالة الطبيعية لألدب أن يكتبه‬

‫الرجال‪ .‬ومن ثمّ منحوا ّ‬ ‫كل نوع منهما معايير ومواصفات خاصة‪ .‬وإذا اتفق معظمهم على أنّ روايات المرأة‬ ‫أساسا ر ّد فعل على واقعها االجتماعي في ظل نظام بطريركي‪ ،‬وإلى الغرق في ذاتيتها بغية إثبات هويتها‬ ‫هي‬ ‫ً‬ ‫األنثوية في كل ما تكتب‪ ،‬فإنّ دراسة الروايات الحديثة التي ُكتبت في مُ ناخ الحروب العربية الراهنة توضح‬ ‫حساسية المرأة تجاه قضايا عالمها الخارجي وانهياراته‪ .‬وإذا أحصينا الروايات (النسائية) السورية التي تناولت‬ ‫الحرب العاصفة في سوريا منذ سنوات‪ ،‬لوجدنا ّأنها ُتضاهي كمًّ ا ما كتبه الروائيون السوريون‪ ،‬إن لم نقل‪:‬‬

‫إنها تفوقت‪ .‬فمن رواية روزا ياسين الحسن إلى شهال العجيلي ومها حسن وسمر يزبك وديما ونوس ولينا‬ ‫هويان الحسن وغيرهن‪ ،‬يمكن أن نسجّ ل حضور المرأة في مواقع ُع َّدت دائما أنها بعيدة عنها‪.‬‬ ‫عالم ال يخلو من التخييل‬

‫وقد تكون رواية «المشاءة» (دار اآلداب)‪ ،‬ردًّا واضحً ا على‬ ‫ما كتبه ّ‬ ‫نقاد‪ ،‬منهم مثلاً عفيف فراج‪ ،‬من أن الكاتبات النساء‬

‫(العربيات) يتحركن في كتاباتهن في عالم الرجال‪ ،‬بوصفه خصمًا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وبركة‪ ،‬وينشغلن بقضايا الذات واألنا‪ ،‬من دون‬ ‫لعنة‬ ‫وحكمًا‪،‬‬

‫الخوض في قضايا إنسانية عامة‪ .‬في هذه الرواية‪ ،‬لم تكن ذات‬ ‫الكاتبة سمر يزبك‪ ،‬المقيمة في باريس‪ ،‬مدما ًكا بنت عليه عمارتها‬ ‫الروائية‪ ،‬إنما آثرت أن تتأمّل حرب بالدها الشعواء عبر نوافذ‬ ‫حي شعبي (داخل المخيم)‪ ،‬وبعيون‬ ‫بيت فقير في ّ‬

‫المهمشين والمحرومين‪ .‬بدت سمر يزبك شديدة‬ ‫االلتصاق بواقعها‪ ،‬نقصد الواقع السوري الراهن‪،‬‬ ‫عالم روائي ال‬ ‫وإن اختارت أن تقدّم هذا الواقع عبر‬ ‫ٍ‬ ‫يخلو من التخييل‪ .‬بطلة القصة فتاة بسيطة جدًّا‪،‬‬ ‫مُصابة بداء المشي والخرس االختياري‪ .‬حين ُقتلت‬

‫أمها برصاصة خاطئة على حاجز التفتيش‪ُ ،‬نقلت‬

‫تنظيف الحمّامات‪ .‬عرفت منهنّ أنّ الحياة في بلدها ال تحتمل‬

‫االختالف‪ ،‬وإن في وجهات النظر‪ .‬وصلتها حكايات االغتصاب‬

‫والتعذيب والخوف والسجون والقتل‪ .‬ثم انتقلت مع أخيها إلى‬ ‫الزملكا في الغوطة الشرقية‪ .‬سكنت في بيت تجتمع فيه عائالت‪،‬‬ ‫علمت من الحياة معها ّأنها لم تكن تعرف شي ًئا من حقيقة هذا‬ ‫ُ‬ ‫اعتقدت أنّ الكتب‬ ‫العالم‪« ،‬وال حتى ظالل هذا العالم الذي‬

‫أخبرتني عنه بكل شيء»‪ .‬شاهدت جريمة قصف األطفال والعائالت‬ ‫مكان آخر لكنها ّ‬ ‫ظلت‬ ‫بالكيماوي‪ ،‬ثمّ هربت من القصف إلى‬ ‫ٍ‬ ‫قبو ال شيء‬ ‫محاصرة في فسحة ضيقة داخل ٍ‬

‫فيه من مقوّمات الحياة‪« .‬وأنا حكاية سأختفي‬ ‫ربما‪ ...‬حلقي جاف‪ ،‬رأسي يدور‪ ،‬لم أعد أر ّكز‬

‫وعلي أن أصرخ»‪« .‬المشاءة» ال‬ ‫في الحروف‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ُتقرأ ً‬ ‫ّ‬ ‫كسجل اجتماعي لمؤلفتها‪ ،‬بل إنها‬ ‫إذا‬

‫عمل روائي قائم بذاته‪ .‬ما يتعارض طبعً ا مع‬ ‫دراسات نقدية طاولت األدب النسائي‪ .‬فالكاتبة‬

‫الراوية‪ /‬البطلة (المجروحة) إلى المستشفى‪ .‬هناك‬ ‫تعرفت للمرة األولى إلى سجينات اع ُتقلن النتمائهن‬

‫الحرب السورية بما فيها توحش النظام‬

‫ّ‬ ‫الست سعادة‪ ،‬أمينة‬ ‫كتب كثيرة أهدتها إياها‬ ‫في ٍ‬

‫الحصار‪ ،‬فق ّدمت تصوي ًرا للحرب من الداخل؛‬

‫المعادي للنظام‪ .‬سمعت منهنّ حكايات لم تقرأها‬

‫المكتبة في المدرسة حيث كانت تعمل أمها في‬

‫سمر يزبك تطرقت في روايتها إلى تعقيدات‬ ‫وتط ّرف المعارضين ولعنة الكيماوي وخطر‬ ‫الداخل السوري‪ ،‬والداخل اإلنساني‪.‬‬

‫‪59‬‬


‫دراسات‬

‫أمّا ديمة ّ‬ ‫ونوس‪ ،‬فكتبت ً‬ ‫أيضا «الخائفون» (دار اآلداب) من‬

‫وحي وضع سوريا المأسوي‪ .‬عبر امرأتين هما‪ :‬سلمى وسليمى‪،‬‬

‫حكت ونوس عن الصورة واألصل‪ ،‬الشخص والقرين‪ ،‬الذات‬ ‫ّ‬ ‫والظل‪ ،‬الغائب والحاضر‪ ،‬الوطن والمنفى‪ .‬اعتمدت ّ‬ ‫ونوس لعبة‬ ‫«الرمز» في رواية الحرب السورية حيث غدا الجميع متشابهًا في‬ ‫خوفه‪ ،‬وقلقه‪ ،‬وغيابه‪ ،‬وربما في موته‪ ...‬الحرب ً‬ ‫أيضا حضرت في‬

‫رواية شهال العجيلي‪« :‬سماء قريبة من بيتنا»‬

‫(منشورات ضفاف)‪ .‬التقى البطالن‪ ،‬السورية‬ ‫جمان والفلسطيني ناصر مصادفة في رحلة‬

‫العودة من إسطنبول إلى عمّان‪ .‬ثم تحوّل‬ ‫لقاؤهما العابر إلى قصة حب يبحث ّ‬ ‫كل طرف‬

‫فيها عمّا ينقصه في اآلخر‪ .‬ومن هذا اللقاء‬ ‫الفلسطيني ‪ -‬السوري في الطائرة ّ‬ ‫تتولد رموز‬ ‫االقتالع العربي ومأسويته‪ ،‬فتحضر مقولة‬

‫إدوارد سعيد‪ ،‬على لسان الراوية‪ ،‬لترسّ خ‬ ‫هذا الواقع‪« :‬الجغرافيا عدونا األول»‪ُ .‬تصاب‬ ‫البطلة بمرض السرطان بينما ُت ّ‬ ‫دك بلدها‬

‫بالكيماوي‪ .‬والمعلوم أنّ السرطان وفعل اإلشعاع الذري تجمعهما‬ ‫ً‬ ‫وأحيانا عضوية قائمة في أذهان الناس‪ ،‬بحيث يعني‬ ‫عالقة علمية‬

‫‪60‬‬

‫كالهما التفكك والموت‪ .‬وحين ُتخاطب الشابة الجميلة المفعمة‬ ‫بالحياة والثقافة والذكريات نفسها قائلة‪« :‬متألمة‪ ،‬متهافتة‪ ،‬أَمَا‬ ‫لهذا األلم أن ينتهي؟ ال أعرف كيف أحدد شكل الوجع أو مكانه»‪،‬‬

‫يصعب علينا تحديد ألمها‪ .‬هل هذا وجعها الجسدي أم وجع‬ ‫سوريا النازفة؟‬

‫وإذا ألغيت اسم الكاتبة شهال‬

‫العجيلي‪ ،‬قد يصعب عليك التكهّن‬ ‫ّ‬ ‫مؤلف الرواية‪ّ .‬إنها تعتمد‬ ‫بجنس‬ ‫تقنية تقوم على وثبات زمنية وتباين‬ ‫في المستويات السردية‪ ،‬ما يتنافى‬

‫والمقولة التي راجت عن أنّ الكاتبة‬ ‫«األنثى» تؤثر المونولوج وتقنية الصوت‬ ‫الواحد‪ .‬تنطلق الرواية بإشارة زمنية‬

‫«كان يوم اإلثنين ‪ 1947/4/30‬يومًا ربيعيًّا‬ ‫ً‬ ‫مشرقا من أيّام حلب»‪ ،‬قبل أن تنتقل‬

‫إلى الواقع الراهن‪ ،‬فتقدّم صورتين‬

‫متذادتين عن حلب الشهباء الشامخة (الماضي) وحلب الموجوعة‬ ‫والمغتربة (الحاضر)‪ .‬أمّا أحالم السوريين فاختلفت ً‬ ‫أيضا‪ .‬الفرار من‬

‫سوريا بات وحده الحلم المنتظر‪« .‬المطارات ساللم الحكايات‪ ،‬ونحن‬ ‫السوريين ربما لنا حكايتنا المختلفة معها‪ ،‬فبمج ّرد مرورنا من الكوة‬ ‫األخيرة ألي موظف جوازات‪ ،‬نكون قد استلمنا ّ‬ ‫صك والدة جديدة»‪ .‬ال‬ ‫تستجيب رواية شهال العجيلي إلى نظرية جورج طرابيشي بقوله‪ :‬إنّ‬ ‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬

‫المرأة تكتب الرواية بقلبها بينما يكتبها الرجل‪ ،‬وأنّ العالم هو مركز‬

‫أدب الذكور بينما الذات هي مركز رواية اإلناث‪.‬‬ ‫بانوراما الموت‬

‫حرب فقدت فيها‬ ‫وفي سياق آخر‪ ،‬كتبت لينا هويان الحسن عن ٍ‬

‫شقيقها ياسر‪ .‬ومع أنّ الذات كانت حاضرة في روايتها «الذئاب ال‬ ‫تنسى» (دار اآلداب)‪ ،‬لك ّنها رسمت بانوراما‬ ‫الموت السوري الذي ال يميز بين معارضة‬ ‫ومواالة وأناس عاديين ال ينتمون إلى هذه‬ ‫ّ‬ ‫الخط الدرامي في رواية‬ ‫الفئة أو تلك‪ .‬يسير‬ ‫الحسن بين «المدينة» و«البادية»‪ ،‬عبر‬

‫رحلة إلى قري ٍة على تخوم بادية حماة‪ ،‬حيث‬

‫مدفن الشقيق المقتول‪ ،‬ياسر‪ .‬وبموازاة‬ ‫هذه الحركة المكانية‪ ،‬تشهد الرواية‬

‫واقع راهن (الحرب‬ ‫حركة في الزمان بين‬ ‫ٍ‬ ‫ماض (طفولة في البادية‬ ‫وزمن‬ ‫السورية)‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ديمة ونّوس الرحبة)‪ .‬اتخذت الكاتبة من الصحراء بؤرة‬ ‫سردية َب َنت عليها روايتها‪ ،‬علمًا أنّ الصحراء كانت دومًا ً‬ ‫مكانا أثي ًرا‬

‫الحركة الروائية النسائية تُثبت اليوم‬ ‫تتحرك‬ ‫أ ّنها ال تعيش على الهامش‪ ،‬بل‬ ‫ّ‬ ‫في مركز األحداث لتتت َّبع تفاصيلها‬ ‫وتنقلها إلى القارئ عبر رؤية تتجاوز‬ ‫حدود الجندر ومعاييره‬


‫الحرب بعيون أنثوية‬

‫لينا هويان الحسن‬

‫في روايات الرجل (وليس النساء)؛ لما تعرضه من قيم «ذكورية»‬

‫مثل الفروسية والحروب والغزل‪ ...‬وكانت لينا هويان كتبت عن‬

‫باديتها في روايات عدة‪ ،‬منها‪« :‬سلطانات الرمل»‪ ،‬و«بنات نعش»‪،‬‬ ‫و«ألماس ونساء»‪ ،‬و«البحث عن الصقر غ ّنام»‪.‬‬ ‫وفي «مترو حلب»‪ ،‬تروي مها حسن تفاصيل المأساة السورية‬

‫من جانب إنساني ال أنثوي‪ ،‬عبر ثيمات عامة مثل‪ :‬الغياب والفقد‬ ‫واللجوء والمنفى‪ .‬تصوّر حياة فتاة سورية تدعى سارة‪ ،‬اضطرتها‬

‫مها حسن‬

‫جنى الحسن‬

‫إذا أحصينا الروايات (النسائية)‬ ‫السورية التي تناولت الحرب العاصفة‬ ‫في سوريا منذ سنوات‪ ،‬لوجدنا‬ ‫كما ما كتبه الروائيون‬ ‫أ ّنها تُضاهي ًّ‬ ‫السوريون‪ ،‬إن لم نقل‪ :‬إنها تفوقت‬

‫ظروف بلدها المشتعلة إلى الهجرة لتجد نفسها وسط العاصمة‬

‫الفرنسية محاطة بناس مختلفين وعادات جديدة وتقاليد لم‬ ‫ّ‬ ‫ولعل هذه الصدمة التي عاشتها بطلة «مترو حلب» ما هي‬ ‫تعتدها‪.‬‬

‫‪61‬‬

‫إال صدمة آالف من السوريين الذين توزعوا في عواصم أوربا والعالم‪.‬‬ ‫الحرب والهوية‬

‫وبعد استعراض عدد من الروايات السورية‪ ،‬قد نأتي على ذكر‬

‫روايات عربية (صدرت خالل السنوات الخمس األخيرة)‪ ،‬انشغلت‬ ‫ً‬ ‫أيضا بقضايا ُعدَّت طويلاً ضمن حيّز روايات «الرجال»‪ ،‬كالحرب‬

‫والهوية‪ .‬ومن هذه األعمال رواية «طشاري» (الجديد) للعراقية إنعام‬ ‫كجه جي التي حاولت من خاللها أن تتناول كارثة الشتات العراقي‪٬‬‬

‫في العقود األخيرة‪ ٬‬من خالل سيرة طبيبة عملت في أرياف جنوب‬ ‫العراق في خمسينيات القرن العشرين‪ ،‬وأبناؤها الثالثة الموزعون‬

‫في ثالث قارات‪ .‬وبمواجهة تمزق شمل العائلة يبتكر الحفيد‪،‬‬ ‫ًّ‬ ‫خاصا على اإلنترنت‪،‬‬ ‫إسكندر‪ ،‬مقبرة إلكترونية‪ ،‬جعل لها موقعً ا‬

‫دفن فيها الموتى من العائلة حيث يتعذر جمعهم في مقبرة على‬ ‫األرض‪ ،‬وخصص لكل فرد من أفراد الساللة المتفرقة في قارات‬ ‫خاصا به‪ً .‬‬ ‫ًّ‬ ‫وأيضا رواية «طابق ‪( »99‬منشورات ضفاف)‬ ‫العالم قب ًرا‬

‫للبنانية جنى الحسن‪ ،‬التي عادت فيها إلى الحرب اللبنانية األهلية‪،‬‬ ‫راصدة مجزرة صبرا وشاتيال بأهوالها وتبعاتها العصيبة‪ .‬أمّا في‬

‫رواية «قيد الدرس» (دار اآلداب)‪ ،‬تطرقت الكاتبة لنا عبدالرحمن‬

‫إلى قضية الهوية عبر عائلة مكتومة القيد‪ ،‬تنتمي إلى قرية دخلت‬ ‫ضمن األراضي الفلسطينية‪ ،‬فخسرت لبنانيتها من دون أن تصبح‬

‫فلسطينية‪ ،.‬فانتهى أبناؤها حاملين هوية «قيد الدرس»‪ .‬وتسترجع‬ ‫لنا تفاصيل الحرب األهلية اللبنانية في ثمانينيات القرن الماضي‬

‫شتات رسخته الحرب بعنفها وقسوتها‪.‬‬ ‫لتحكي قصة‬ ‫ٍ‬

‫الحركة الروائية النسائية ُتثبت اليوم ّأنها ال تعيش على الهامش‪،‬‬

‫بل تتح ّرك في مركز األحداث لتتتبَّع تفاصيلها وتنقلها إلى القارئ عبر‬

‫رؤية تتجاوز حدود الجندر ومعاييره‪ .‬فال تتح ّرك رواياتهن داخل عالم‬ ‫الرجل وحده‪ ،‬كما هي متهمة ً‬ ‫سلفا‪ ،‬وليست كتاباتهن عنص ًرا تزيينيًّا‬

‫للمشهد الثقافي كما يريد بعضهم أن تكون‪ .‬بل إنها أعمال إبداعية‬ ‫تخرج من رحم الواقع ل ُتضيء جوانب معتمة‪ ،‬بأساليب غير مألوفة‪،‬‬ ‫بحس روائي‬ ‫فتضعنا أمام حقائق غير مرئية دائمًا‪ ،‬تستشرفها‬ ‫ٍّ‬ ‫ً‬ ‫أحيانا‪.‬‬ ‫وتقدّمها بتقنيات كالسيكية حي ًنا‪ ،‬ومتقدّمة‬


‫دراسات‬

‫‪62‬‬

‫السرد وغايته‬ ‫في النوفيال‬

‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬


‫تأليف‪ :‬جوديت اليبوفيتز‬

‫ناقدة أميركية‬

‫ترجمة‪ :‬خيري دومة‬

‫ناقد ومترجم مصري‬

‫هدف هذه الدراسة هو تعريف النوفيلاّ ‪ Novella‬شكلاً سرد ًّيا مستقلاًّ‬ ‫بذاته‪ .‬وقليل هو النقد المعاصر الذي َتوجّ ه إلى دراسة النوفيلاّ ‪ ،‬رغم أن الحاجة‬ ‫إلى تفرقة نوعية واضحة أمر بديهي في غمار االستخدام الشائع والمرتبك‬

‫للمصطلح(‪ .)1‬والظاهرة الالفتة في الخمسينيات والستينيات هي تزايد االهتمام‬ ‫بالنوفيلاّ بين الجمهور والناشرين‪ ،‬والرغبة المتجددة في استخدام المصطلح؛‬ ‫ً‬ ‫«وداعا كولومبوس» بأنه اقتباس للنوفيلاّ التي كتبها‬ ‫فقد أُعلِن مثلاً عن فلم‬ ‫روث ‪ Roth‬بالعنوان نفسه‪ ،‬وتشير األعداد المتزايدة من كتب المختارات‪،‬‬ ‫ودراسات النوع في المعاهد العلمية‪ ،‬إلى أن النوفيلاّ باتت أكثر شعبية‪ .‬غير‬

‫ّ‬ ‫و«النوفيليت»‪ ،‬و«الرواية‬ ‫أننا ولسوء الحظ نستخدم مصطلحات «النوفيلاّ »‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫مصغرة‬ ‫القصيرة» بمعنى واحد‪ ،‬وهذا خلط سيئ؛ ألن الرواية القصيرة نسخة‬ ‫من النوع القصصي المسمَّ ى «رواية»‪ ،‬بينما «النوفيلاّ » شكل أدبي مختلف‪،‬‬

‫يتماثل عر ً‬ ‫َضا مع الرواية القصيرة في طولها فحسب‪ .‬وألننا في البلدان التي تتحدث اإلنجليزية نفتقر إلى‬ ‫مصطلح مستقرّ‪ ،‬فإننا نستخدم مصطلحات متعددة وغامضة نشير بها إلى هذا الشكل األدبي‪ ،‬وال نميل‬ ‫كذلك إلى التفرقة بين ما هو قصة قصيرة وما هو نوفيلاّ ‪ ،‬وبين ما هو رواية قصيرة وما هو نوفيلاّ ‪.‬‬ ‫حتى وقت قريب‪ ،‬كان مصطلح النوفيلاّ نادرًا ما يستخدم‪،‬‬

‫إال في شكله األلماني ‪ ،novelle‬وكانت اإلشارة هنا إلى أعمال‬

‫ألمانية من هذا النوع‪ ،‬أو في شكله الفرنسي ‪ ،nouvelle‬لدى‬ ‫كتاب مرموقين مثل هنري جيمس ممن يدركون الكتابة األوربية‬ ‫فضلاً عن الكتابة اإلنجليزية‪ .‬وباستثناء الدارسين األلمان‪ ،‬لم‬

‫تكن هناك إال مصادر قليلة متخصصة وقيِّمة بالنسبة للدارس‬

‫األميركي الذي يو ّد أن يتزوّد بمعلومات عن التراث النوعي‬ ‫للنوفيلاّ ‪ .‬غير أن النوفيلاّ كان يكتبها كذلك كتاب إنجليز وأميركان‬

‫وإسبان وإيطاليون وروس‪ ،‬وعلى نحو مستمر منذ أواسط القرن‬ ‫التاسع عشر حتى وقتنا الحالي‪ ،‬وكانت النوفيلاّ أقل ما تكون في‬ ‫فرنسا‪ ،‬وأكثر ما تكون في ألمانيا‪.‬‬ ‫لم ُتدرَس النوفيلاّ كثي ًرا خارج ألمانيا‪ ،‬غير أن ذلك لم يكن‬

‫بالضرورة نتيجة للجهل؛ فقصة «الموت في البندقية» لتوماس‬ ‫مان‪ ،‬التي عادة ما أُطل َِق عليها «نوفيلاّ »‪ ،‬لم ُتدرَس كشكل أدبي‬ ‫قط‪ ،‬حتى في ألمانيا؛ حيث كانت النوفيلاّ –كشكل أدبي مستقل–‬ ‫بمنزلة مفهوم راسخ‪ .‬وقد جاءت القصة في المختارات األميركية‬

‫تحت مسمّى «رواية قصيرة»‪ ،‬وهو ما يتعارض مع تصميمها من‬ ‫ينصب‬ ‫حيث الشكل‪ .‬القصة معروفة جدًّا‪ ،‬لكن االهتمام النقدي‬ ‫ّ‬ ‫على تأويلها (تلك المضامين الفلسفية مثلاً التي ترتبط ببقية أفكار‬

‫توماس مان)‪ .‬وهكذا‪ ،‬فإن عملاً أدبيًّا له مثل هذه القيمة الفنية‬

‫الرفيعة‪ ،‬وكتبه رجل شديد الوعي بالتراث األدبي‪ ،‬لم يُدرَس من‬ ‫حيث هو شكل أدبي‪.‬‬

‫إهمال النوفيال في أميركا‬

‫كان أحد أسباب إهمال النوفيلاّ في أميركا قائمً ا على‬

‫مصادفة لغوية؛ فالمصطلحات المستخدمة للداللة على‬

‫األشكال القصصية‪ ،‬تطوَّرت من دون أن تعطينا تسمية مستقلة‬ ‫لنوع النوفيلاّ ‪ .‬إن خريطة الكلمات المعروفة في لغات مختلفة‪،‬‬ ‫ستوضح أن اإلنجليزية‪ ،‬وكذلك اإلسبانية‪ ،‬تفتقر اآلن إلى كلمة‬

‫موجودة في لغات أخرى ‪:‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫‪(hi)story,‬‬ ‫‪Novel‬‬ ‫‪Tale‬‬ ‫‪Historia,‬‬ ‫‪Novela‬‬ ‫‪Spanish‬‬ ‫‪Novela‬‬ ‫‪cuento‬‬ ‫)‪(archaic‬‬ ‫‪Storia,‬‬ ‫‪Italian‬‬ ‫‪Novella Romanzo‬‬ ‫‪racconto‬‬ ‫‪Histoire,‬‬ ‫‪French‬‬ ‫‪Nouvelle Roman‬‬ ‫‪conte‬‬ ‫‪Geschichte,‬‬ ‫‪German‬‬ ‫‪Novelle‬‬ ‫‪Roman‬‬ ‫‪Erzâhlung‬‬ ‫‪English‬‬

‫لقد كنا معنيين في أميركا بالتفرقة النوعية بين الرومانس‬

‫والرواية‪ ،‬وهي المشكلة التي لم تهتم بها البلدان األخرى‪ .‬وكانت‬ ‫اإلنجليزية والفرنسية في الحقيقة هما اللغتان الوحيدتان اللتان‬ ‫أصابهما تشو ٌ‬ ‫ُّش فيما يتصل بتسمية القص الطويل‪ ،‬أما اللغات‬ ‫األخرى فلم تستخدم إال صورة من كلمة ‪Roman‬؛ ففي الروسية‬

‫‪63‬‬


‫دراسات‬

‫واأللمانية واإليطالية‪ ،‬تشير هذه اللغات نفسها إلى اهتمام المتكلم‬

‫التفرقة ً‬ ‫أيضا ميزة اإلبقاء على مصطلح «رواية قصيرة»‪ ،‬كتسمية‬

‫اإلنجليزية واإلسبانية‪ .‬لقد أخذنا كلمة ‪ Novel‬التي ترتبط بكلمات‬

‫وكما يشير عنوان كتابنا هذا‪ ،‬فإن األساس الذي يقوم عليه‬

‫بالفروق بين األشكال القصصية‪ ،‬حيث تمتلك مصطلحات أكثر من‬ ‫‪ Nouvelle‬و‪ Novelle‬و‪ ،Novella‬واستخدمنا الكلمة لإلشارة إلى‬ ‫صنف الرواية ‪ .Roman‬ولكي نسد الثغرة القائمة في مصطلحات‬ ‫النوفيلاّ ‪ ،‬استخدمنا مصطلح «رواية قصيرة» ‪ Short Novel‬الذي‬

‫يتنكر للتفرقة النوعية‪ ،‬ويتضمن فقط معنى أن الشكل أقصر‪ ،‬لكنه‬ ‫فيما عدا ذلك يعمل ً‬ ‫وفقا لقوانين الصياغة نفسها الموجودة في‬ ‫الرواية‪ .‬وكان خيارنا اآلخر هو مصطلح ‪ Novelette‬الذي ينطوي‬ ‫على الفكرة نفسها‪ ،‬لكنه يتضمن كذلك إيحاءً باالزدراء‪ .‬ويفضل‬ ‫بعض النقاد عليه مصطلح «رواية قصيرة»‪ ،‬بما أنه هو المصطلح‬

‫المستخدم اآلن(‪ )3‬ومع ذلك‪ ،‬وكخطوة أولى لشرح الفارق النوعي‪،‬‬

‫سنستخدم خالل دراستنا هذه المصطلح الذي أصبح إنجليزيًّا‪،‬‬ ‫مصطلح «نوفيلاّ » ‪Novella‬؛ فقد حان الوقت لكي ُنحيي مصطلحً ا‬ ‫نافعً ا‪ ،‬ونضع قائمة بالمفردات المفيدة لنا‪.‬‬

‫خالل ازدهار الواقعية‪ ،‬أصبح مصطلح «الرومانس» ذا داللة‬ ‫سلبية‪ ،‬ومصطلح «النوفيلاّ » ذا داللة إيجابية‪ ،‬وكان من يتحمس‬ ‫ألحدهما يبتعد من اآلخر‪ ،‬وهكذا فقدنا مصطلح «الرومانس» الذي‬

‫كان له ما يوازيه في اللغات األوربية األخرى‪ .‬لقد تبدّل مصطلح‬

‫‪64‬‬

‫الرواية ‪ ،Novel‬لكن مع بقاء مركز ثابت يقوم على الواقعية‪ ،‬أما‬ ‫النوفيلاّ فكانت هي المصطلح اإلنجليزي في القرن الثامن عشر‪.‬‬

‫كان مصطلح الرواية هو الغالب لقرن واحد فقط‪ ،‬ويجب ألاّ نسمح‬ ‫ألنفسنا بأن نش ّد على أعيننا عصابات عمرها قرن واحد فحسب‪.‬‬ ‫ً‬ ‫مألوفا بين الجمهور‬ ‫علينا أن نقبل ذلك المصطلح الذي بات‬ ‫أكثر فأكثر‪ ،‬كما أنه كان مصطلحً ا له معناه ذات مرة في العالم‬

‫المتحدث باإلنجليزية‪ .‬وحيث إننا نستخدم مصطلح ‪ conto‬في‬ ‫اإلنجليزية‪ ،‬ونجمعه على ‪ ،contos‬فإننا يمكن أن نسمي ً‬ ‫نمطا‬ ‫معي ًنا من القص ‪ ،novella‬ونجمعه على ‪ .novellas‬ولهذه‬

‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬

‫تختص بأعمال قصيرة تنتمي نوعيًّا إلى فصيلة الرواية‪.‬‬

‫تعريفنا للنوع هو المقصد السردي ‪ .Gestaltungsziel‬وتقوم‬

‫نظريتي على افتراض مؤداه أن كل شكل سردي له مناهجه الخاصة‬ ‫في تطور الحدث‪ ،‬وله طريقته الخاصة في تطوير أو تشكيل مادته‬ ‫القصصية‪ ..‬وهذا يعني على العموم أن طريقة الرواية في اختيار‬

‫مادتها تختلف عن طريقة القصة القصيرة؛ ذلك أن المقصد‬ ‫السردي للرواية هو التوسيع‪ ،‬بينما يكون التضييق هو مقصد‬ ‫القصة القصيرة‪ .‬وتختلف تقنيات النوفيلاّ في اختيار مادتها عن‬ ‫تقنيات هذين النوعين القصصيين؛ ألن مقصدها السردي هو‬ ‫ضغط المادة‪ ،‬بالطريقة التي س ُتحَ دَّد هنا‪ .‬سأحاول شرح هذه‬ ‫ً‬ ‫تعريفا لنوع‬ ‫األفكار العامة على مدار هذه الدراسة؛ ألننا ال نملك‬

‫معين ما لم ندرك نوعية تشكيل المادة‪ ،‬وندرك المقصد السردي‬ ‫القا ّر في األشكال السردية في المرحلة الحالية من تطورها‪.‬‬ ‫ً‬ ‫أحيانا للداللة على‬ ‫ورغم أن مصطلح «نوع» ‪ Genre‬يستخدم‬

‫فصائل فرعية من األشكال األدبية‪ ،‬مثل‪ :‬الرواية العاطفية‪ ،‬أو‬ ‫رواية التطور ‪ ،Entwicklungsroman‬أو النوفيلاّ الكالسيكية‪،‬‬ ‫أو النوفيلاّ الرومانتيكية‪ ..‬إلخ‪ ،‬فإنني سأقصر مصطلح «النوع» هنا‬ ‫على أنماط القص الكبرى‪ :‬القصة القصيرة‪ ،‬والنوفيلاّ ‪ ،‬والرواية‪.‬‬

‫والنوفيلاّ هي موضوع هذه الدراسة‪ ،‬غير أن الدراسة ستتضمن‬ ‫ً‬ ‫أنواعا قصصية أخرى؛ لبيان التقابل‪ ،‬ولتمييز المقصد السردي في‬ ‫كل نوع من هذه األنواع‪.‬‬

‫النقد والغاية والسردية‬

‫المدخل الذي أقترحه هنا‪ ،‬يقوم على فكرة مؤداها أن األنواع‬ ‫ال يمكن فهمها على نحو ّ‬ ‫دال‪ ،‬ما لم تكن المسميات النوعية تدل‬ ‫ضم ًنا على أنماط مختلفة من الشكل القصصي‪ .‬حتى اآلن‪ ،‬لم‬


‫السرد وغايته في النوفيال‬

‫يتجه نقد النوع إلى تأمل الغاية السردية‪ ،‬إنما أسّ س عمله بدلاً‬

‫من ذلك‪ ،‬على تلك التقنيات التي ارتبطت تاريخيًّا بكل نوع‪ ،‬أو على‬

‫الموضوعات التي سادت النوع‪ .‬وكال هذين المدخلين النقديين قد‬ ‫يكون مفيدًا‪ ،‬وبخاصة في دراسة أنواع مستقرة‪ ،‬لكن ال التقنيات‬

‫وال الموضوعات يمكن أن تكون مفيدة في التمييز بين أنواع القص‪.‬‬

‫لم تفشل هذه المداخل في إضاءة األعمال المتميزة فحسب‪،‬‬ ‫بل إنها وضعت دارسي النوفيلاّ على وجه الخصوص على طريق‬

‫مسدود‪ ،‬وسوف نجد مناقشة كاملة لفشل تلك المداخل إلى‬ ‫ً‬ ‫عرضا‬ ‫النوفيلاّ في الفصل التالي‪ ،‬كما أن ملحق الكتاب يقدم‬ ‫ً‬ ‫ملخصا للسمات التي جعلها‬ ‫تاريخيًّا مختص ًرا لنقد النوفيلاّ ‪ ،‬ويقدم‬

‫النقاد األلمان سمات أساسية للنوفيلاّ في نهاية القرن التاسع عشر‪.‬‬

‫لقد تعلمنا لبعض الوقت‪ ،‬أن األنواع يمكن أن تتمايز من‬

‫خالل اختيارها لمادتها القصصية‪ ،‬أو من خالل موضوعها‪ ،‬أو من‬ ‫خالل التسمية‪ .‬وكانت تلك وسائل غير مقنعة في تعريف النوع؛‬ ‫ذلك أن ما يعطينا سمات نوعية دالة تختص بها أنماط مختلفة‬

‫من المنجز األدبي‪ ،‬هو نوعية تناول الموضوع‪ ،‬وليس الموضوع‬ ‫ً‬ ‫موضوعا ألي نوع أدبي‪،‬‬ ‫في حد ذاته‪ .‬إن الحرب يمكن أن تكون‬

‫لكن التناول المختلف لهذا الموضوع هو الذي يؤدي إلى تشكيالت‬ ‫أو أشكال أدبية مختلفة‪ .‬واألشكال الثابتة نسبيًّا‪ ،‬مثل المرثية أو‬

‫القصيدة الرعوية‪ ،‬يمكن تعريفها جزئيًّا من خالل موضوعها‪ ،‬لكن‬

‫مسائل متعلقة بالنغمة أو التناول يجب أن تضاف إلى التعريف‬

‫من خالل الموضوع‪ .‬وعلى كل حال‪ ،‬يجب أن تتضمن التفرقة بين‬ ‫ً‬ ‫مالحظة ألسلوب النوع في تناول الموضوع‪ ،‬وبخاصة‬ ‫نوع وآخر‬

‫لسوء الحظ نستخدم مصطلحات‬ ‫«النوفيال»‪ ،‬و«النوفيليت»‪ ،‬و«الرواية‬ ‫القصيرة» بمعنى واحد‪ ،‬وهذا خلط سيئ؛‬ ‫ألن الرواية القصيرة نسخة مصغَّ رة من‬ ‫المسمى «رواية»‪ ،‬بينما‬ ‫النوع القصصي‬ ‫َّ‬ ‫«النوفيال» شكل أدبي مختلف‬ ‫بمعنى الكلمة؛ فهي كما يوجزها شولز‪:‬‬ ‫‪ -1‬إطار الحكاية‪.‬‬

‫‪ -2‬حضور الراوي الذي يعطي شخصيته صدى لألسلوب‪،‬‬ ‫فيؤثر في نسيجه بشدة‪.‬‬

‫‪ -3‬تطور النثر القصصي الذي له صلة بالمحاورة‪.‬‬

‫‪ -4‬اختيار الشخصيات العادية‪.‬‬

‫‪ -5‬الدقة في تقديم التواريخ والمواضع واألساليب‪.‬‬ ‫‪ -6‬معقولية األحداث (ص ‪.)111-110‬‬

‫ورأيي في هذا المدخل لدراسة النوع‪ ،‬أنه برغم إشارته إلى‬

‫السوابق التاريخية في النوع‪ ،‬يفشل في تقدير الهدف الذي من‬ ‫ٌ‬ ‫تقنيات معينة؛ ومن ثم فإنه ال يأخذ بيدنا إلى‬ ‫أجله اس ُتخدِ مت‬

‫فهم أهميتها النسبية‪ ،‬أو إلى القدرة على تمييز االختالفات‪ ،‬من‬

‫حيث دورها في سياقات نوعية متباينة‪ .‬إن وجود سمات من مسيرة‬

‫الحياة العادية‪ ،‬ال يمكن أن تكون له أية داللة نوعية‪ ،‬برغم أنه‬

‫ويؤكد روبرت شولز ‪ Scholes‬أن القراءة والكتابة كلتيهما‬

‫يحدد ما يقصده المؤلف في إطار بنية نوعية ما‪ .‬ولقد ظلت مشكلة‬ ‫البنية النوعية بال حل في كل األحوال‪ ،‬ولم يحل ِّ‬ ‫مؤلفا المقالة‬

‫تم فعل(‪ ،)4‬والقارئ يتلقى السمات النوعية في العمل‪ ،‬ويدرك‬

‫لم يميزا ذلك النوع عن الرواية‪ ،‬فما أشارا إليه هو تقليد من تقاليد‬

‫بالنسبة ألنواع القص‪.‬‬

‫عملية نوعية ‪generic‬؛ فالكاتب ال يتصور فكرته إال في سياق ما‬ ‫الشكل ويستجيب له في سياقه الخاص؛ ألنه يعرف –من السمات‬

‫النوعية– ما إذا كان المقصود من البطل تقديم سمات بطولية‪،‬‬

‫َ‬ ‫المشكلة بإطالق اسم «تاريخ» على «مانون ليسكاوت»؛ ذلك أنهما‬ ‫(ما يشبه التاريخ) في األدب‪ ،‬واستخدام بريفوست ‪ Prévost‬لذلك‬ ‫التقليد‪ .‬هذا ليس نقدًا نوعيًّا على أي حال؛ ألن الواقعية سمة‬

‫لبعض القصص‪ ،‬وسمة كذلك لبعض الدراما وبعض الشعر‪،‬‬

‫أم دفع القارئ إلى تفسير العمل أو أجزاء منه تفسي ًرا قائمًا على‬ ‫المفارقة‪ُ ..‬‬ ‫وهلمَّ ج ًّرا‪ .‬وأنا أضيف هنا أن القارئ يستجيب للعمل‬

‫لكنها ليست مسمّى نوعيًّا لنمط واحد من أنماط األدب‪ .‬وحيث إن‬

‫إن دراسة النوع يمكنها –من خالل معاونة القارئ على فهم تميز‬

‫الذي يريد أن يلقي ضوءًا على «نوع»ـها‪ ،‬ال بد أن يدرس عالقتها‬

‫في إطار الهدف السردي الذي يدركه عبر خبرته بأنواع متعددة‪.‬‬ ‫األشكال المختلفة– أن تنجز هدفها‪ ،‬الذي يحدده شولز كما يلي‪:‬‬

‫«إنتاج استجابات تالئم األعمال األدبية» (ص ‪.)111‬‬

‫ورغم أنني أتفق مع هذه األطروحات النظرية‪ ،‬فإنني أختلف‬

‫مع شولز في تطبيق هذا المفهوم؛ فنموذج النقد النوعي عنده‬ ‫تمثله المقالة التي يقدم بها ديلوفر ‪ Deloffre‬وبيكارد ‪Picard‬‬ ‫لـنوفيلاّ «مانون ليسكاوت»(‪ ،Manon Lescaut )5‬وعنوان المقالة‪:‬‬

‫«مصادر األدب وتاريخ النوع»‪ .‬ومهما يكن من أمر‪ ،‬فإن الخصائص‬ ‫النوعية المشار إليها في هذه المقالة‪ ،‬ليست خصائص «نوعية»‬

‫«مانون ليسكاوت» تقع في التراث النوعي للبيكاريسك‪ ،‬فإن النقد‬

‫من حيث الشكل– بذلك النمط من األنماط الروائية السابقة‪.‬‬‫والنظرية المطروحة في كتابي هذا‪ ،‬معنيَّة بشرح مشكلة «النوع»‪،‬‬

‫التي لم يحلها بعد مثل هذا النوع من النقد‪.‬‬ ‫لقد تأسس نقد النوفيلاّ التقليدي في ألمانيا‪ ،‬ونهض على‬ ‫دراسة نوفيلاّ ت ألمانية خاصة‪ ،‬والجزء األكبر من هذا النقد كتبه‬

‫ُكتاب النوفيلاّ أنفسهم خالل الفترة من ‪ 1830‬إلى ‪1900‬م‪ .‬ولقد واصل‬ ‫النقد األلماني المعاصر مقاربته للنوفيلاّ ‪ ،‬وهي مقاربة قائمة على‬

‫نظرية زائفة للنوع‪ ،‬ويأتي زيف هذه النظرية من أنها لم تطرح حتى‬

‫‪65‬‬


‫دراسات‬

‫حلولاً جزئية‪ ،‬أو مجرد حلول مضللة‪ ،‬لمشكالت تعريف النوفيلاّ ؛‬ ‫فمنهجها يأخذ سمات النوفيلاّ من أعمال مكتوبة في الماضي‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ووفقا لهذه‬ ‫ويحكم على األعمال الجديدة بناء على هذه السمات‪.‬‬ ‫النظرية‪ ،‬يتحتم على النوفيلاّ ت الجديدة أن تترسّ م خطا التقنيات‬

‫األساسية‪ ،‬التي ال تتضح أهميتها إال في نسبة تكرارها إحصائيًّا‪.‬‬ ‫والسمات الثالث األكثر تكرارًا‪ ،‬التي يتم التركيز عليها‪ ،‬هي ج ّدة‬

‫الحدث‪ ،‬ونقطة التحوّل الالفتة‪ ،‬والشخصيات التي تخضع‬ ‫لنموذج القدر‪ .‬وهذا يقتضي أن ُتص َّنف األعمال ً‬ ‫وفقا لتضمُّنها‬ ‫لهذه التقنيات‪ ،‬لكن دون أن يؤخذ في االعتبار الطبيعة الجوهرية‬ ‫للنوع التي قد تتطلب مثل هذه التقنيات‪ .‬ال أهمية لالتفاق حول أي‬

‫السمات التي يجب أن توجد في العمل‪ ،‬وال كيف توجد؛ ألنه ال‬

‫أساس لهذه األحكام إال اإلحصاء تاريخيًّا‪.‬‬ ‫إنتاج األثر نفسه‬

‫ال بد لنظرية النوع أن تكون نظرية وصفية‪ .‬لكن لو أمكن‬ ‫ً‬ ‫ٌ‬ ‫مقبولة على‬ ‫سمات معينة‬ ‫الوصول إلى منهج م ّتسق‪ ،‬تكون به‬

‫القصيرة بتضييق المادة‪ ،‬وتقوم الرواية‬ ‫معا‪،‬‬ ‫بتوسيعها‪ ،‬تقوم النوفيال بالدورين ً‬ ‫وبطريقة تؤدي إلى نوع مخصوص من‬ ‫البنية السردية‬ ‫وعلى عكس االتجاه العام السابق في نقد النوفيلاّ ‪ ،‬فإنه‬

‫ال توجد تقنيات معينة يمكن أن تنسب إلى نوع سردي واحد؛‬

‫فالمفارقة ال تنتمي للرواية بشكل مطلق‪ ،‬وكذلك ال تنتمي «نقطة‬ ‫التحول» ‪ turning point‬إلى النوفيلاّ وحدها‪ .‬لهذا السبب‬ ‫لن تفضي دراسة التقنيات إلى فهم المخطط السردي للنوع‪ .‬إن‬

‫فهم المفارقة عند «جيد» لن يفضي إال إلى فهم أعمال «جيد»‬

‫بصفتها كينونات مستقلة‪ ،‬لكن وظيفة المفارقة في إطار التصميم‬ ‫العام‪ ،‬واألثر الكلي الذي تتركه في «المزيفون» يختلف عن وظيفة‬ ‫المفارقة‪ ،‬واألثر الكلي الذي تتركه في «السيمفونية الرعوية»‪ .‬وما‬

‫أسس تاريخية‪ ،‬فلن تكون هذه إال ظواهر مؤقتة‪ ،‬مستخدمة حتى‬ ‫اآلن لهدف جمالي غير محدد‪ .‬وحيث إن مجمل سمات النوفيلاّ ت‬

‫وجود التقنية يظل ال عالقة له بالنوع‪ .‬ولكن حالما نعرف الوظائف‬

‫فقط مجرد تكرار سمات معينة‪ ،‬فإنني معنيَّة هنا بتقديم تفسير‬

‫للفروق والتعريفات النوعية‪.‬‬

‫المختلفة ال يساعدنا في الوصول إلى تعريف للنوفيلاّ ‪ ،‬بل يحصي‬

‫‪66‬‬

‫في الوقت الذي تقوم فيه القصة‬

‫لهذه التقنيات التي تقع بشكل متكرر‪ .‬وحالما تح َّد َد الهدف‬ ‫النوعي‪ ،‬أي غرض التشكيل السردي في النوفيلاّ ‪ ،‬ربما نجد لهذه‬

‫السمات بعض الداللة التي كانت مفتقدة‪ .‬وإذا أمكن أن نوضح أن‬ ‫وظيفة أي تقنية تستخدمها النوفيلاّ ‪ ،‬هي إنتاج نفس األثر دائمًا‪،‬‬ ‫فإن المقوالت التقليدية قد ُتستبعَ د‪ ،‬وقد ُتفهَم النوفيلاّ عبر هدفها‬ ‫النوعي الجمالي‪ ،‬أو عبر غرضها السردي‪.‬‬ ‫لاّ‬ ‫وقبل أن ندخل في دراسة «األثر» الذي تتركه النوفي ‪ ،‬ال بد‬

‫أن نوضح المفهوم كما نستخدمه هنا‪ .‬إن كل اآلثار الجمالية للسرد‬ ‫في عمومه‪ ،‬مثل التوسيع والتضييق‪ ،‬تختلف عن اآلثار األسلوبية‬ ‫داخل السرد‪ .‬وسيصبح من البديهي خالل دراستنا هذه‪ ،‬أال يكون‬ ‫للتقنيات األسلوبية أهمية في ذاتها فيما يتعلق بالتفرقة النوعية‪.‬‬ ‫إن «جيد» ‪ Gide‬مثلاً يستخدم تقنيات خاصة لكي ينتج ً‬ ‫نوعا‬ ‫معي ًنا من المفارقة‪ ،‬فقد يستخدم تقنية اإلخبار عن الذات ‪self-‬‬

‫‪reporting‬؛ لكي ينتج األثر الخاص ببوح الذات‪ ،‬وهو أثر قائم‬

‫على المفارقة‪ .‬وربما نالحظ تنويعات هذه التقنية وآثارها الجمالية‬

‫في أعمال «جيد»‪ ،‬لكن االلتفات إلى المفارقة بصفتها التقنية‬ ‫الجمالية الغالبة عند «جيد»‪ ،‬لن يساعدنا في فهم االختالف بين‬

‫«المزيفون» ‪ Les faux monnayeurs‬و«السيمفونية الرعوية»‬ ‫‪ ،La symphonie Pastorale‬بوصفهما بنيتين سرديتين‬ ‫متمايزتين من حيث النوع؛ ذلك أن مفارقة «جيد» تسهم على نحو‬

‫متفاوت في األثر الكلي الذي يتركه كل عمل على حدة‪.‬‬

‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬

‫لم نحلل كيف تؤدي التقنية دورها الحاكم في عمل أدبي ما‪ ،‬فإن‬

‫التي تؤديها التقنيات في سياقات محددة‪ ،‬سيع ّد هذا أساسً ا‬

‫في الوقت الذي تقوم فيه القصة القصيرة بتضييق المادة‪،‬‬ ‫وتقوم الرواية بتوسيعها‪ ،‬تقوم النوفيلاّ بالدورين معً ا‪ ،‬وبطريقة‬

‫تؤدي إلى نوع مخصوص من البنية السردية‪ .‬إنه نوع ينتج أث ًرا ممي ًزا‬

‫من الوجهة السردية‪ ،‬أث ًرا مزدوجً ا يجمع بين التكثيف والتوسيع‪.‬‬ ‫وحيث إن الموتيفات في نوفيلاّ معينة‪ ،‬تكون في العادة جزءً ا‬

‫من مجموعة مترابطة من الثيمات‪ ،‬فإن نفس المادة تظل في‬ ‫البؤرة‪ ،‬بينما تتغير البؤرة المركزية للرواية‪ .‬وعن طريق معالجة‬ ‫الثيمات بهذه الطريقة التي أسمِّيها «مر ّكب الثيمات»‪ ،‬تصبح‬ ‫كل الموتيفات في حالة عالقة متبادلة؛ وهو ما يسمح للنوفيلاّ‬

‫بأن تحقق تبئي ًرا حادًّا ودائمً ا على الموضوع‪ .‬وفي الوقت نفسه‪،‬‬ ‫وحيث إن مهمة كل موتيف يوحَ ى بها وال ُت َطوَّر بوضوح‪ ،‬فإن‬ ‫النوفيلاّ تظل على الدوام قصة قائمة على اإليحاء‪ .‬وهذا االنطالق‬

‫من بؤرة محدودة إلى الخارج المتسع‪ ،‬هو األثر الذي تتركه البنية‬ ‫النمطية لحبكة النوفيلاّ ؛ فالحدث في النوفيلاّ ال يعطي األثر الذي‬

‫ّ‬ ‫المطرد والنطاق المتسع الموجودان في الرواية‪،‬‬ ‫يعطيه التقدم‬ ‫َّ‬ ‫بل يعطي أث ًرا ناتجً ا عن نطاق محدود يُش َرح ويُكثف‪ .‬وضغط‬

‫ً‬ ‫عامة من خالل بنية تكرارية‪ ،‬لكننا سنرى أن التالعب‬ ‫الحدث يتم‬ ‫بتعاقب األحداث‪ ،‬وتقنيات أخرى كذلك‪ ،‬تساعد ُ‬ ‫الك ّتاب في‬ ‫تحقيق األثر‪ .‬إن استخدام البنية التكرارية ِّ‬ ‫يمكن المؤلف من إعادة‬

‫تطوير الثيمات والمواقف التي كان قد طورها من قبل‪ .‬وقد يتألف‬ ‫التكرار من مواقف متوازية‪ ،‬مضادة لتلك التي جرى تقديمها‬


‫السرد وغايته في النوفيال‬

‫فعلاً ‪ ،‬أو موتيفات متوازية‪ ،‬تعيد تقديم جوانب مختلفة من‬ ‫«مر ّكب الثيمات»‪ .‬يعمل مر ّكب الثيمات والبنية التكرارية معً ا على‬

‫ضغط المادة‪ ،‬ويوسعان من مهامّها في اللحظة نفسها؛ ففي‬ ‫َّ‬ ‫المكثف للموضوع‪،‬‬ ‫الوقت الذي تتوافق فيه الحبكة مع التناول‬ ‫عبر التكرار وتقنيات أخرى‪ ،‬وبينما يدعم ترابط الموتيفات ذلك‬

‫التكثيف‪ ،‬تقوم المهام غير المتطورة لمر ّكب الثيمات بتوسيع تلك‬ ‫المادة‪ .‬وسوف أُ ّ‬ ‫خصص فصلاً لكل من هذين التكنيكين‪ :‬مركب‬

‫الثيمات‪ ،‬والبنية التكرارية‪ ،‬وذلك حتى أوضح أنهما تكنيكان‬ ‫شائعان في كل األعمال المدروسة هنا‪ ،‬وأنهما يؤديان الغرض‬ ‫نفسه؛ ألنهما ينتجان أث ًرا سرديًّا مزدوجً ا‪.‬‬

‫اكتشاف المخطط الذي يتشكل منه النوع‬ ‫هدفي من وصف هذه التقنيات هو التركيز على وظيفتها؛ فعلى عكس المدخل القائم على السمات‪ ،‬تهدف نظريتي‬ ‫إلى اكتشاف المخطط الذي يتشكل منه النوع‪ ،‬وهو المخطط الذي يستدعي تقنيات معينة‪ .‬وحين أختار مر ّكب الثيمات‪،‬‬

‫والعمل البنائي المتكرر على موقف أو فكرة محدودة‪ ،‬فأنا ال أريد استبدال سمات جديدة بالسمات القديمة‪ ،‬إنما أود فقط‬ ‫أن أدرس التقنيات الثيمية والبنائية الحديثة الغالبة في صياغة النوفيلاّ ‪ ،‬كما أود أن ّ‬ ‫أوضح اعتباطية التوصيفات التقليدية‬ ‫للنوفيلاّ فيما يتعلق بالموضوع وبناء الحبكة؛ فالسمات التي ميزناها هنا‪ ،‬وعددناها شي ًئا مهمًّ ا في النوفيلاّ ‪ُ ،‬تدرَس في‬ ‫ذاتها‪ ،‬ونظ ًرا إلسهامها في التشكيل السردي للنوفيلاّ ‪ ،‬وليس لمجرد أنها عناصر متكررة‪.‬‬ ‫واقتراحي هنا مؤدّاه‪ :‬أن المخطط السردي في النوفيلاّ قائم على تشكيل السرد فيها بطريقة تفضي إلى أثر يقوم على‬

‫التوسيع والتكثيف‪ ،‬وعلى نحو مجرد يسمح بالتعريف النوعي‪ ،‬وبمرونة قدر اإلمكان فيما يتعلق بالجوانب التقنية من‬ ‫الصياغة‪ .‬وبغض النظر عن التكتيك‪ ،‬وإذا كانت النوفيلاّ الحديثة مختلفة في مخططها السردي عن األشكال القصصية‬ ‫األخرى‪ ،‬فإنه يمكن توصيفها بأنها تحليل ّ‬ ‫مكثف لنطاق محدود‪ ،‬مع مضامين موسعة وغير مطوّرة‪.‬‬

‫إن كل شكل قصصي‪ ،‬وهو يمتلك مخططاته التطورية الخاصة‪ ،‬يستخدم تقنيات في االختيار تالئم هذه المخططات‪،‬‬

‫إال أن التقنيات نفسها ال تصلح للتفرقة بين األنواع؛ فاختيار نوع معين يحدّ من قدرة المؤلف على استخدام مادته‪ ،‬ويفتح‬ ‫له في الوقت نفسه إمكانات قارّة في هذا النوع من التناول السردي‪ .‬ولكي ندرك المقدرة السردية الخاصة بالنوفيلاّ ‪ ،‬ال بد‬

‫أن نكون على دراية باألثر الناتج عنها هي‪ ،‬ال عن أي شكل أدبي آخر؛ فكل تنظيم للمادة‪ ،‬أي كل شكل‪ ،‬يعطينا تأثي ًرا جماليًّا‬ ‫كليًّا يختلف نوعيًّا عن تأثير األنماط األدبية األخرى‪ .‬إن تاريخ الرواية مثلاً يرصد تشابه الخبرة الجمالية‪ ،‬أو يرصد أن كل رواية‬ ‫تتناول كأنها نص مستقل‪ .‬ومن الواضح أن القارئ ال يستجيب ألهداف الكاتب المحددة وحدها‪ ،‬بل يستجيب كذلك للنوع‬

‫األدبي‪ .‬وهكذا تنطوي قراءة رواية معينة على مستويين من االستجابة الجمالية كما يقول شولز؛ فالمرء يستجيب لفلوبير‬ ‫مثلاً ‪ ،‬أو لهاردي‪ ،‬ويستجيب كذلك للقالب السردي الذي يراه قالبًا روائيًّا‪.‬‬ ‫هوامش‪:‬‬

‫* مقدمة كتاب‪.Judith Leibowitz, Narrative Purpose in the Novella, Mouton& Co.N.V, The Hague, Netherlands :‬‬

‫‪ )1‬تعطينا كريشنا بالديف فايد ‪ Krishna Baldev Vaid‬أمثلة في كتابها «مدخل إلى التكنيك في حكايات هنري جيمس» ‪1964‬م‪.‬‬

‫‪ )2‬هذه الخريطة اللغوية مأخوذة من مقالة غيرالد غيليسباي‪ .Gerald Gillespie: Novella, Nouvelle, Novelle, short Novel :‬مراجعة للمصطلحات‪،‬‬ ‫مجلة اللغويات الجديدة‪ ،‬إبريل ‪1967‬م‪.‬‬

‫‪ )3‬انظر على سبيل المثال كتاب دين‪ .‬إس‪ .‬فالور ‪« Dean. S. Flower‬ثماني روايات قصيرة»‪ ،‬نيويورك ‪1967‬م‪ ،‬حيث يؤكد أن لدى المحررين والنقاد ولعً ا‬ ‫ً‬ ‫غامضا بتسميتها «نوفيالت»‪ ،‬معتمدين على بوكاشيو‪ ،‬أو «نوفيلتات» وعلى جريدة ربات البيوت‪ .‬أما الكلمة التي يجمع عليها الناس في أيامنا هذه فهي‬ ‫«رواية قصيرة»‪ ،‬وهي تسمية مضللة مثل معظم التسميات األخرى‪ ،‬لكنها مُ رضية‪ .‬ومقالة ميلفين فيلهايم ‪« Melvin Felheim‬المختارات الحديثة من‬ ‫النوفيلاّ »‪ ،‬مجلة النوع ‪ ،Genre‬مارس ‪1969‬م‪ ،‬توضح أن مصطلح «رواية قصيرة» أصبح المصطلح النوعي المستقر‪ .‬أما هـ‪ .‬م‪ .‬وايدسون ‪H.M. Waidson‬‬

‫في مقالته «القصة القصيرة األلمانية ً‬ ‫نوعا أدبيًّا»‪ ،‬مجلة اللغات الحديثة‪1959 ،XL ،‬م‪ ،‬فيص ّر على مصطلح «النوفيلاّ »‪.‬‬

‫‪ )4‬نحو شعرية للقص‪ ،‬مدخل من خالل النوع‪ ،‬مجلة الرواية‪ ،‬العدد الثاني ‪1969‬م‪ ،‬ص ‪.103‬‬

‫‪« )5‬مانون ليسكاوت» نوفيلاّ كتبها الكاتب الفرنسي أبي بريفوست ‪ ، Abee Prévost‬ونشرها عام ‪1731‬م‪ ،‬وكانت الجزء السابع واألخير من سلسلة «مذكرات‬ ‫ومغامرات رجل الجودة»‪ .‬كانت في زمنها عملاً أدبيًّا إشكاليًّا وجرى منعها في أعقاب نشرها في فرنسا‪ ،‬ومع ذلك سرعان ما صارت من ألمع األعمال‬ ‫األدبية وأكثرها انتشارًا‪.‬‬

‫‪67‬‬


‫مقال‬

‫شحيد‬ ‫جمال‬ ‫ّ‬ ‫ناقد سوري‬

‫عندما يتجاهل السياسيون العرب‬ ‫ابن خلدون‬ ‫اهتم الغرب بابن خلدون (‪1406 -1332‬م)‪ ،‬منذ‬

‫بداية القرن التاسع عشر‪ ،‬فراح المستشرقون يترجمون‬

‫«المقدمة» وأجزاءً من «كتاب العبر» منذ عام ‪1810‬م‪ ،‬مع‬

‫سيلفستردي ساسي الفرنسي‪ ،‬وهامِر بورغشتال األلماني‪،‬‬

‫ورينهارتدوزي الهولندي‪ ،‬وإدوارد بوكوك اإلنجليزي‪،‬‬ ‫ودسالن الفرنسي‪ ،‬وألفريد فون كريمر النمساوي‪،‬‬

‫وعبداللطيف صبحي باشا التركي‪ ...‬وفي القرن العشرين‬

‫‪68‬‬

‫ترجمت المقدمة إلى معظم اللغات الكبرى في العالم‪،‬‬

‫ومن بينها الترجمة اليابانية عام ‪1987 -1964‬م‪ ،‬والعبرية‬ ‫عام ‪1967‬م‪.‬‬

‫وظهرت في السنوات األخيرة ترجمات علمية محققة‬

‫ومذيَّلة بشروحات وتعليقات مفيدة‪ ،‬ومن بينها الترجمة‬

‫الرائعة التي أنجزها األستاذ المغربي عبدالسالم شدّادي‪،‬‬ ‫وتب َّنتها دار غاليمار الباريسية الفرنسية‪ ،‬وطبعتها في أجمل‬ ‫سلسلة أوربية وهي «مكتبة البلياد» (‪ 1559 ،2004‬صفحة)‬ ‫التي ُتعَ ّد مفخرة للكتاب الفرنسي‪ .‬وكتب األستاذ شدادي‬

‫المؤرخين القدامى كهيرودوت وسوثوكيذيذيس وأفتيخوس‪،‬‬

‫والمسعودي‪ ،‬وابن العبري‪ ،‬والطبري‪ ...‬ويذكر آخرون أنه رسم‬

‫الخطوط العريضة لـ«علم االجتماع اإلنساني» أو لألنثروبولوجيا‬

‫االجتماعية والسياسية التي صارت علومً ا مهمة في اإلنسانيات‪،‬‬ ‫ونوَّه بفضلها ّ‬ ‫كل من إميل دوركايم وألكسيس دو توكفيل‪،‬‬ ‫وإدوارد إيفانز– بريتشارد‪.‬‬

‫الغرب ال العرب من أفاد من ابن خلدون‬

‫على الرغم من ذلك‪ ،‬لم يستفد العرب كثي ًرا من أفكار ابن‬ ‫ً‬ ‫حديثا‪ ،‬نظامًا يأخذ بعين االعتبار‬ ‫خلدون ليخلقوا نظامًا سياسيًّا‬

‫تطور المجتمعات علميًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا؛ بل نالحظ أن الغرب‬

‫هو الذي استفاد من أفكار ابن خلدون التي تنطبق على جميع‬ ‫مأخوذ ُّ‬ ‫ٌ‬ ‫جلها من‬ ‫المجتمعات البشرية بعامة‪ ،‬مع أن أمثلته‬

‫تاريخ المغرب واألندلس والمشرق‪ .‬وطبّق عدد من الباحثين‬

‫المعاصرين نظريات ابن خلدون على مجتمعاتنا المعاصرة وعلى‬ ‫الجيوسياسة التي نشهدها اآلن‪ .‬وتمثيلاً ال حص ًرا‪ ،‬هذا ما فعله‬

‫مقدمة وافية لترجمته‪ ،‬وأرفدها بعدد كبير من الحواشي‬

‫الباحث الفرنسي غابرييل مارتينيز غرو في كتابه‪« :‬موجز في‬ ‫ّ‬ ‫تضمحل» ترجمة د‪ .‬علي‬ ‫تاريخ اإلمبراطوريات‪ .‬كيف تنشأ‪ ،‬وكيف‬

‫العربية في القرون الوسطى‪ .‬وأضاف إلى متن «المقدمة»‬

‫بروز اإلمبراطوريات عبر التاريخ (آشور‪ ،‬والفرس‪ ،‬واإلغريق‪،‬‬

‫والتعليقات والفهارس‪ .‬وأدرج ترجمة السيرة الذاتية البن‬

‫خلدون قبل المقدمة‪ ،‬وهي من أجمل السير الذاتية‬

‫نجيب إبراهيم (دار الكتاب العربي‪2017 ،‬م)‪ .‬فبعد أن استعرض‬

‫عددًا من الخرائط والمراجع المتعددة اللغات‪ ،‬فأتت‬ ‫ترجمته وافية جمعت كمًّا هائلاً من المعلومات يفيد منها‬

‫وروما‪ ،‬والصين) توقف عند الكسوف اإلمبراطوري لجميع هذه‬ ‫وحلت َّ‬ ‫اإلمبراطوريات‪ .‬لقد اندثرت اإلمبراطورية العباسية َّ‬ ‫محلها‬

‫بهذه الدقة العلمية‪ ،‬مع أنها من عيون تراثنا العربي‪.‬‬

‫محلها اإلمبراطورية األميركية‪ ،‬واندثرت الممالك الصليبية في‬

‫القارئ الفرنسي كثي ًرا‪ .‬وال نجد طبعة عربية للـ«مقدمة»‬ ‫وصدرت في الربع األخير من القرن العشرين‬

‫دراسات فلسفية وتاريخية وأنثروبولوجية حول «مقدمة»‬ ‫ابن خلدون في معظم اللغات؛ مما دفع بعضهم‬

‫إلى القول بأن ابن خلدون هو مؤسس فلسفة التاريخ‬

‫ومكتشف مح ِّركه‪ ،‬وبأنه تفوَّق في كتابه هذا على أعمال‬ ‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬

‫اإلمبراطورية السلجوقية‪ ،‬واندثرت اإلمبراطورية البريطانية وحلت‬ ‫المشرق وحلت محلها السلطنة األيوبية‪ ،‬واندثرت اإلمبراطورية‬ ‫المملوكية وحلت محلها اإلمبراطورية العثمانية‪ ،‬وهكذا‪.‬‬ ‫ويعزف على النغمة ذاتها المؤرخ البريطاني إريك‬

‫هوبزباوم الذي يرى في كتابه «عصر التطرفات» ترجمة فايز‬

‫ُّ‬ ‫الصياغ (المنظمة العربية للترجمة‪2011 ،‬م) أن االستعمار‬


‫األوربي انحسر تدريجيًّا بعد الحرب العالمية الثانية‪ ،‬وفتح‬

‫الطريق أمام الدول القومية في العالم الثالث الذي خلخلته‬

‫ُ‬ ‫الثورات االجتماعية والسياسية‪ ،‬التي اندلعت في عدد من‬

‫بلداننا العربية بعد عام ‪2010‬م‪.‬‬

‫قرأ هذان المفكران الحاض َر على ضوء ما ذكره ابن خلدون‬

‫القائل‪ :‬إن األنظمة السياسية تشبه كل الكائنات الحية‪ ،‬تنشأ‬

‫صغيرة ثم تكبر وتبلغ أوجها ذات يوم‪ ،‬ثم تبدأ باالنحسار‬ ‫ّ‬ ‫وتضمحل‪ .‬فيأتي فريق آخر أشد قوة وفتوَّة ويستلم‬ ‫وتتالشى‬

‫زمام األمور‪ً .‬‬ ‫إذا‪ :‬عصبية ← مُلك ← عصبية ← مُلك‪ ...‬إلى ما ال‬ ‫نهاية‪ .‬هذه هي حركة التاريخ‪ ،‬وهي قائمة على التغيير وليس‬

‫الثبات‪ .‬التأبيد غير وارد‪ ،‬حسب منطق ابن خلدون؛ ألن حركة‬ ‫ُ‬ ‫التاريخ زوبعية وال تتوقف؛ ولن توجد أمَّة أو ساللة ُخ ِّلد سلطانها‬ ‫ورفعت شعار التأبيد الذي ينتشر بسذاجة في بعض أنظمة‬

‫الحكم المتخلفة‪ .‬رأى ابن خلدون أن العنف هو عصب التاريخ‪،‬‬

‫وأنه يخلق صنوَه‪ :‬العنف ينشئ العنف‪ .‬وال يبقى إال وجه ربك‬

‫ذي اإلكرام والجالل؛ لهذا السبب يكره سياسيو العالم الثالث‬

‫ابن خلدون‪ ،‬ويَعُ ُّدونه نذير شؤم يهدد كراسيهم‪ ،‬في حين‬

‫أن المجتمعات المتقدمة بنت أنظمتها على القوانين الحديثة‬

‫والمؤسسات؛ وهذه األخيرة هي التي تبقى بعد زوال األشخاص‬

‫َ‬ ‫شئت أن يخلدك التاريخ‪ ،‬اب ِْن‪،‬‬ ‫وانتقال السلطة دستوريًّا‪ .‬إذا‬ ‫َ‬ ‫نشئْ ‪َ ،‬ع ِّم ْر ثم ارحل‪ .‬هذا هو علم االجتماع اإلنساني الذي طرحته‬ ‫أ ِ‬

‫«مقدمة» ابن خلدون التي استفاد منها الغرب كثي ًرا وكرهتها‬ ‫أنظمتنا السياسية المتخلفة التي ال تعرف أن تقرأ التاريخ‪.‬‬ ‫الذاكرة الجمعية والوقائع البشرية‬

‫من ينظر في التاريخ‪ ،‬عليه أن يبرز العالقة بين التاريخ‬

‫رأى ابن خلدون أن العنف هو عصب‬ ‫صنوه‪ :‬العنف‬ ‫التاريخ‪ ،‬وأنه يخلق‬ ‫َ‬ ‫ينشئ العنف‪ .‬وال يبقى إال وجه ربك‬ ‫ذي اإلكرام والجالل؛ لهذا السبب يكره‬ ‫سياسيو العالم الثالث ابن خلدون‬ ‫وي ُع ُّدونه نذير شؤم يهدد كراسيهم‬ ‫َ‬

‫كل هذا ألقول‪ :‬إن مهمة السياسي الناجح هي أن يعقل‬

‫َ‬ ‫زمانه ويربط السوابق باللواحق؛ كي تتوافر لديه الرؤية الشمولية‬

‫والذاكرة الجمعية وأن يحفز دور هذه الذاكرة في استجالء الوقائع‬

‫للواقع الذي يعيش فيه‪ ،‬وكي ال يتوغل في أدغال متاهية ودروب‬

‫الذاكرة في التاريخ‪ ،‬وهي التي تبنيها األمة عبر مسيرتها خالل‬

‫عن السلطة تار ًكا نهر التاريخ يمضي حسب مجراه‪ .‬وهذا ما فعله‬

‫أكب المؤرخ الفرنسي بيير نورا على إظهار مطارح‬ ‫البشرية‪ .‬وقد ّ‬

‫قرون وقرون‪ .‬فأصدر عام ‪1997‬م أربعة مجلدات كتبتها مجموعة‬ ‫من المؤرخين‪ ،‬عن المعالم والرموز واألوابد والمؤسسات‬

‫والوثائق التي ترتكز على هذه الذاكرة الجمعية‪ .‬ذلك أن األمة‬

‫المصابة بمرض «النساوة ‪ »Amnésie‬هي أمة آيلة للسقوط‬

‫واالندثار اللذين تكلم عنهما ابن خلدون‪ ،‬كما سلف‪ .‬وكان نورا‬

‫وجاك لوغوف قد أصدرا عام ‪2011‬م كتابًا جماعيًّا عنوانه‪« :‬االشتغال‬ ‫بالتاريخ» ساهم في إعداده ‪ً 29‬‬ ‫باحثا عكفوا على دراسة فلسفة‬

‫قصيرة المدى‪ .‬وإذا انقلبت األمور عليه‪ ،‬يجب أن يتحلى بالتخلي‬

‫عدد من رؤساء وزعماء العالم‪ ،‬بعد خسارتهم في االنتخابات أو‬ ‫عجزهم الصحي‪ :‬باراك أوباما مؤخ ًرا‪ ،‬وديفيد كاميرون‪ ،‬والبابا‬ ‫ُّ‬ ‫الترشح‬ ‫يوحنا بولس الثاني‪ .‬ومنهم من استبق األمور فامتنع عن‬

‫لالنتخابات‪ ،‬لعلمه أن استطالعات الرأي لم تكن لصالحه‪ ،‬كما‬ ‫فعل الرئيس الفرنسي فرانسوا هوالند‪ .‬لئنْ كانت الدراسات‬

‫التاريخية قد خطت خطوات جبَّارة خالل العقود المنصرمة‪،‬‬ ‫ال سيَّما مع مدرسة «الحوليات» التي أطلقها ٌّ‬ ‫كل من مارك‬

‫التاريخ وعالقة التاريخ بشتى العلوم اإلنسانية والمجاالت الفكرية‬ ‫واالجتماعية‪ ،‬ودرسوا ً‬ ‫أيضا صلة التاريخ باألساطير والذهنيات‬

‫تستكمل مدرسة ابن خلدون ولم تخرج من عباءته‪ .‬وإذا أهمل‬

‫وتفاصيل الحياة اليومية‪( ...‬وستصدر ترجمته قريبًا عبر المركز‬

‫الغربيون منذ مطلع القرن التاسع عشر‪ -‬فألنهم استشعروا خطر‬

‫واللغات واألجيال الشابة والسينما والفنون واآلداب االجتماعية‬ ‫العربي لألبحاث ودراسة السياسات‪ ،‬مشروع ترجمان)‪.‬‬

‫بلوخولوسيان فيفر وفرنان بروديل (عام ‪1972‬م)‪ ،‬فإنها ما زالت‬ ‫العرب ابن خلدون خالل القرون الماضية –على عكس ما فعله‬ ‫نظرياته على أنظمتهم السياسية ومصالحهم اآلنية‪.‬‬

‫‪69‬‬


‫بورتريه‬

‫الكاريبي ديريك والكوت‪..‬‬ ‫شاعر الشتات والتشظي‬ ‫محمود عبدالغني‬

‫شاعر ومترجم مغربي‬

‫«سأغني عن ذلك الرجل‬

‫ألن قصصه تسرُّنا»‪.‬‬

‫د‪ .‬والكوت من قصيدة «عودة عوليس»‬ ‫ولد الشاعر واملسرحي ديريك والكوت سنة ‪1930‬م‪ ،‬وتويف يوم الجمعة ‪ 17‬مارس ‪2017‬م‪ ،‬بجزيرة‬

‫سانت لويس‪ ،‬املستعمرة الربيطانية التي نالت استقاللها سنة ‪1979‬م‪ .‬ظل طوال سنوات يقيض وقته‬

‫بني ترينيداد وبوسطن حيث كان يدرّس األدب اإلنجليزي يف جامعة بوسطن‪ .‬فاز بع ّدة جوائز أهمها‪:‬‬

‫«امليدالية امللكية الذهبية للشعر» سنة ‪1988‬م‪ ،‬وجائزة «و‪.‬هـ‪ .‬سميث األدبية سنة ‪1990‬م عن ملحمته‬

‫«أومريوس‪ ،‬هومريوس»‪ ،‬ثم جائزة نوبل لألدب سنة ‪1992‬م‪ .‬ورث اليشء الكثري من والده ووالدته التي‬ ‫بدأت حياتها مُدرّسة ثم مديرة مدرسة‪ .‬يقول عن تأثره الحتمي بهما‪« :‬تويف والدي وأنا يف السنة األوىل‬ ‫من عمري‪ .‬كان يرسم ويكتب الشعر‪ّ .‬‬ ‫ظلت والديت دومًا تع ّده نموذجً ا‪ .‬منذ شبابي ق ّررت أن أحمل‬

‫‪70‬‬

‫ُّ‬ ‫التعلم‪ ،‬عن طريق القراءة وتقليد الشعراء الكبار‪ .‬يف تلك‬ ‫مشعله‪ .‬هكذا اعتمدت عىل نفيس يف‬ ‫ّ‬ ‫املرحلة‪ ،‬لم تكن هنا دور للنشر أو متاحف‪ .‬ك ّنا نتعلم كل يشء من الكتب واملدرسة»‪ .‬وألنه‬ ‫ّ‬ ‫والتعلم الحصيف من اآلخرين‪ ،‬فإن الشاب ديريك‬ ‫كان يمتلك موهبة الحفظ السريع‬ ‫نهل كثريًا من مكتبة والدته واملكتبات املوجودة يف محيطه‪ ،‬حيث صادف الشعراء الكبار‪:‬‬ ‫شكسبري‪ ،‬ويت يس إليوت‪ ،‬وإزرا باوند‪ .‬ويف س ّنه الرابعة عشر نشر أوىل قصائده يف إحدى‬ ‫الصحف املحلية‪ .‬وقد كانت تلك القصيدة بداية أوىل لعمل شعري ضخم كان بمنزلة‬ ‫«أرخبيل شعري» حسب تعبري صديقه الشاعر جوزيف برودسيك ( ‪1996 -1940‬م)‪.‬‬

‫الفقرة أعاله‪ ،‬املقتطفة من حوار طويل كان قد أجراه معه «ملحق الكتب»‬ ‫بجريدة لوموند الفرنسية‪ ،‬تختصر جميع النزعات اإلنسانية واألدبية التي ّ‬ ‫ظل‬ ‫والكوت متشب ًّثا بها‪ .‬فالرسم‪ ،‬الذي أمسك‬ ‫مشعله من والده‪ ،‬هو ما جعله يمارس بإتقان‬ ‫فنّ األلوان‪ ،‬ويُصدر كتابًا جميلاً رفقة الرسام‬ ‫«بيرت دواغ»‪ .‬وتقليد الشعراء الكبار منذ ِس ِني‬ ‫شبابه األوىل عبرّ عنه بهذه الجملة وهو يف‬

‫السبعني من عمره‪« :‬الخوف من التقليد يُخيف‬ ‫ُّ‬ ‫الشعراء ِّ‬ ‫الصغار وحدهم»‪.‬‬ ‫وظائف طقسية‬ ‫َ‬ ‫أعطى والكوت الشع َر وظائف طقسية‪،‬‬

‫بمعنى أننا حني نتوجه إىل كتاب إبداعي‪ ،‬أو إىل‬ ‫ّ‬ ‫«فإننا نذهب هادئني‪،‬‬ ‫مجموعة أشعار نحبُّها‪،‬‬

‫بصمت‪ ،‬وباحرتام قد ينقلب إىل وجع من املؤ َّكد أنه‬ ‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬


‫سيُعيد تأكيد القناعات‪ .‬ال وجود لشعر‬ ‫الضرر لل ّروح اإلنسانية‪ ،‬وإال ّ‬ ‫ّب ّ‬ ‫فإنه‬ ‫يسب ُ‬ ‫ليس بالشعر»‪ ،‬وبذلك فقد ّ‬ ‫ظل والكوت‬

‫يدعو جميع املجتمعات إىل املشاركة يف تلك‬ ‫ُّ‬ ‫ويحث الشعراء عىل‬ ‫التجربة الطقسية‪.‬‬ ‫أن يوجّ هوا اعرتاضهم ض ّد ُّ‬ ‫الظلم وفقدان‬ ‫الحس اإلنساين‪ .‬وقد استعمل يف محاضرة‬

‫نوبل التي حملت عنوان‪« :‬األنتيل‪ :‬شظايا‬

‫ذاكرة ملحمية» مفاهيم واستعارات تعبرّ‬ ‫عن ّ‬ ‫الشتات اإلفريقي واآلسيوي‪ ،‬الذي‬ ‫شبهه بملحمة «رامايانا» الهندوسية‪.‬‬

‫والشتات طالع من وجوده كمواطن‬

‫ّ‬ ‫تشكل جغرافيًّا وثقافيًّا‬ ‫يعيش يف جزر‬ ‫ودينيًّا رم ًزا ّ‬ ‫للشتات والتشظي؛ فهو شاعر ناطق باإلنجليزية‪ ،‬تربّى يف‬ ‫حضن ّ‬ ‫أقلية بروتستانتية‪ ،‬يف جزيرة ذات أغلبية كاثوليكية لها ثقافة‬ ‫ّ‬ ‫التشظي املر َّكب يُنتج ما عبرّ عنه يف خطاب نوبل‬ ‫فرانكفونية‪ .‬لكن هذا‬

‫بهذه االستعارة الرائعة‪ :‬حني تنكسر مزهرية ويُعاد جمع أجزائها‬ ‫بحب أكرب من الحب األول حني كانت سليمة‪ّ .‬‬ ‫والصمغ‬ ‫ُتصبح محاطة ّ‬

‫الذي يُعيد جمع القطع ّ‬ ‫والشظايا يعيد ترسيخ الشكل األوّيل‪ .‬وهذا‬

‫الحب هو ما يوحّ د الشظايا اإلفريقية واآلسيوية‪.‬‬

‫يُع ّد ديريك والكوت من الشعراء الكبار القالئل الذين نقلوا‬ ‫املكان شعريًّا ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫متشظية‪ .‬ممّا دفع العديد من دارسيه‪،‬‬ ‫ذاكرة‬ ‫وخلدوه‬

‫نستشهد هنا بدراسة للناقدة األنتيلية دومينيك أوريليا‪ ،‬إىل ع ّد‬ ‫ً‬ ‫مرتبطة شديد االرتباط بمفهومي املكان والذاكرة‪.‬‬ ‫شعرية والكوت‬

‫ٌ‬ ‫مرتبط عضويًّا بالتاريخ‪ .‬فحسب والكوت املكان يصنع‬ ‫املكان‪ً ،‬إذا‬

‫عد ديريك والكوت من الشعراء الكبار‬ ‫ُي ّ‬

‫شعريا‬ ‫القالئل الذين نقلوا المكان‬ ‫ًّ‬ ‫وخلّدوه ذاكرةً متشظيةً‬ ‫جمهورية اسمها الشعر‬

‫تجسد بقوّة يف محاضرة‬ ‫هذا االرتباط الوثيق بأدب األنتيل‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫نوبل‪ ،‬حني ذ ّكر والكوت بأنّ الشاعر سان جون بريس كان أول أنتييل‬

‫يحصل عىل جائزة نوبل‪ ،‬هنا مقتطف مما قاله والكوت‪« :‬لقد وُلد‬ ‫بريس يف غواديلوب وكتب بالفرنسية‪ ،‬لكنه لم يجد ما هو أش ّد طراوة‬ ‫ووضوحً ا من اإلحساس من تلك القصائد التي كتبها يف طفولته‪...‬‬

‫ومن صوت الصفحات وأشجار النخيل التي تتمايل مثل صعود رائحة‬

‫الذاكرة‪ ،‬واملكان يقرأ الذاكرة ويقولها بمختلف اللغات التي يتحدثها‬

‫القهوة عىل األدراج»‪ .‬إن والكوت يحتفل بعبقرية شاعر كاريبي‪ ،‬رغم‬ ‫أن بريس كان ّ‬ ‫لبعض‪ ،‬رم ًزا الحتالل الجزر من طرف‬ ‫يمثل‪ ،‬بالنسبة‬ ‫ٍ‬

‫جديدة عىل عالم أراده أن يكون آدميًّا‪ .‬ورغم ذلك فإن والكوت‬ ‫َّ‬ ‫ظل منفل ًتا من التصنيفات الثنائية الضيقة التي تستند عىل مقولة‬

‫بهذه املفارقة‪« :‬لكنها مفارقة هذه الجمهورية التي اسمها الشعر؛ إذ‬ ‫ال أكاد أُبصر أوراق امللفوف أو جريد النخيل وهي تتمايل عند الفجر‪،‬‬

‫الناس املقيمون فيه‪ .‬املكان لغة وثقافة‪.‬‬

‫شعر والكوت إقامة جديدة يف تلك األمكنة‪ ،‬ويُطلق تسميات‬

‫ال ّتهجني‪ ،‬وذلك أمر طبيعي بالنسبة لكاتب أصدر أكرث من عشرين‬ ‫مجموعة شعرية (لم ُيترَ جم منها إىل العربية إال مجموعة من‬

‫القصائد كان الفضل فيها لصبحي حديدي وغريب إسكندر)‪ ،‬والعديد‬ ‫من الدراسات‪ ،‬وعشرات املسرحيات ُ(ترجم منها إىل اللغة العربية‬ ‫«عودة عوليس» بقلم الشاعر السوري ممدوح عدوان)‪ .‬وبذلك ّ‬ ‫وطد‬ ‫انتماؤه إىل جيل من ُك ّتاب جزر الكاريبي األنغلوفونية الذين خلقوا يف‬ ‫أوطانهم أدبًا خصوصيًّا منذ خمسينيات القرن املايض‪ ،‬قبل أن يُرغموا‬ ‫عىل املنفى (جورج المّينغ‪ ،‬وف‪.‬س‪ .‬نايبول‪ ،‬وصامويل سيلفون)‬

‫احتجاجً ا عىل العيش يف مجتمعات شغلتها كثريًا فكرة إيجاد مكانة‬ ‫يف العالم‪ ،‬جاهلة تمامًا أن ُك ّتابها وأدباءها قادرون عىل إيجاد ذلك‬

‫املكان داخل جغرافية العالم‪.‬‬

‫املستعمر األبيض الناطق بالفرنسية‪ .‬لكن والكوت يستطرد وعيًا منه‬

‫إال وأخال أنها تتلو شعر بريس»‪.‬‬

‫هذا الحوار النادر مع الطبيعة‪ ،‬ظل مصدر ثنائيات كثرية عند‬

‫والكوت املسكون بسؤال األصل والهوية والجذور والتاليش‪ .‬فكلما رأى‬ ‫غابة تحركها الرياح‪ ،‬أو ساحلاً تصطدم به األمواج؛ ناح باكيًا القبائل‬ ‫املندثرة‪ .‬متأ ِّملاً ضبابية األثر الذي ّ‬ ‫خلفته وراءها‪ ،‬وأصبح مح ّددًا‬ ‫باالختفاء األبدي‪ ،‬فيستخلص الشاعر‪« :‬م ّرة أخرى ليس هناك أح ٌد‬

‫هُ نا»‪ .‬البكاء هو ما يبقى من كل ما ضاع وتالىش من املكان ولم تستطع‬

‫إنقاذه إال الذاكرة‪ ،‬يقول يف حوار من مسرحيته «عودة عوليس»‪:‬‬ ‫السكلوب‪ :‬عيناي تغيمان حني أضحك‪ .‬يجب أن ّ‬ ‫تعلمني‬ ‫كيف أبيك‪.‬‬ ‫عوليس‪ :‬حسن‪ .‬أولاً يجب أن تفقد أشياء تحبّها‪.‬‬

‫‪71‬‬


‫قضايا‬

‫ما المشترك والمختلف في حضارات المنطقة؟‬

‫داعش والمهربون‬ ‫أخطر ما يهدد التراث اإلنساني‬ ‫في البلدان العربية‬ ‫صبحي موسى‬

‫‪72‬‬

‫القاهرة‬

‫في الوقت الذي كانت أوربا ال تزال في عصور الظالم كأنها لم تولد بعد‪ ،‬كانت حضارات‬ ‫الفراعنة والبابليين واآلشوريين والسومريين والكلدانيين ترفع مشاعل الفكر في العالم‪ ،‬هذه‬ ‫المشاعل التي حملها من بعدهم اليونان والرومان والفرس‪ ،‬ثم سرعان ما دارت الدورة وعادت‬ ‫الريادة إلى المنطقة العربية عبر الفكرة اإلسالمية التي مزجت قانونها السماوي بتراث كل هذه األمم‬ ‫منتجة حضارة أنارت العالم لعدة قرون‪ ،‬قبل أن يفقد قطار الشرق قدرته على مواصلة السير إلى‬ ‫األمام‪ً ،‬‬ ‫تاركا ريح التقدم في يد األوربيين بتنويعاتهم من إسبان وبرتغال وإنجليز وفرنسيين وأميركان‪.‬‬

‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬


‫باندالع ثورات الربيع العربي‪ ،‬أصبح الرتاث اإلنساين‬

‫املوجود بهذه البلدان يف خطر‪ ،‬فقد اقتحم اللصوص عام‬ ‫‪2012‬م متحف حماة يف سوريا‪ ،‬ونهبوا األسلحة القديمة التي‬

‫العالم أجمع بصور تدمري أعضائه معبد بعل شمني‪ ،‬ثم‬

‫املدرج املسرحي الروماين يف تدمر‪ ،‬ومعبد بل وأقواس النصر‬ ‫وغريها‪ ،‬وهو ما َّ‬ ‫ذكر الجميع بالصفعة التي وجهها طالبان‬ ‫عام ‪2001‬م إىل العالم كله بتفجريه تمثال بوذا‪...‬‬

‫به‪ ،‬كما نهبوا مدينة أبيال األثرية يف إدلب‪ ،‬وهو ما جعل‬ ‫اليونسكو تصدر ً‬ ‫بيانا تدعو فيه الهيئات الدولة لحماية اآلثار‬

‫كل ذلك يجعل «الفيصل» تعيد التساؤل عن القيمة‬

‫بحجم روبرت فيسك يكتب يف الخامس من أغسطس عام‬

‫هل يتعارض وجود هذه اآلثار مع سؤال الهوية العربية أو‬

‫الصليبيني واملساجد العتيقة والفسيفساء الرومانية‪ ،‬بات‬

‫تدمري تارة‪ ،‬وتهريب تارة أخرى؟ وما املشرتك واملختلف يف‬

‫السورية‪ ،‬وضمان عدم تعرضها للنهب‪ ،‬كما جعل كاتبًا‬

‫‪2012‬م عن أن الرتاث اإلنساين يف سوريا‪ ،‬بما فيه من قالع‬ ‫لقمة سائغة للصوص‪ ،‬بعدها نشرت نيويورك تايمز تقري ًرا‬

‫قالت فيه رئيسة صندوق الحفاظ عىل املواقع الرتاثية العاملية‬

‫الحضارية التي تمثلها اآلثار املوجودة يف بلداننا العربية؟‬

‫اإلسالمية للمنطقة‪ ،‬حتى تتعرض ملا تتعرض له اليوم من‬ ‫هذه اآلثار؟‬

‫يوين برينهام‪ :‬إن حلب بها العديد من الكنوز األثرية النادرة‬ ‫التي تتعرض لألضرار الفادحة‪ ،‬كهيكل آلهة العاصفة الذي‬

‫يعود إىل األلف الثاين قبل امليالد‪ ،‬وأكدت اليونسكو يف فرباير‬

‫عام ‪2014‬م عىل أن عمليات التنقيب عن اآلثار التي تجري‬

‫يف مواقع متفرقة من سوريا غري قانونية‪ ،‬ودعت جميع‬ ‫األطراف لوقف العنف يف املدن األثرية لحماية اآلثار‪ ،‬مؤكدة‬ ‫أن «داعش» دمر مواقع إسالمية ومسيحية ويهودية‪،‬‬

‫ونسف أضرحة و ُدور عبادة يعود تاريخ بنائها ألكرث من‬

‫عشرة قرون‪.‬‬

‫ومُ ِّ‬ ‫قدرة قيمة اآلثار املنهوبة يف كل من سوريا والعراق‬

‫بنحو ‪ 15‬مليار دوالر‪ ،‬ويف يونيو عام ‪2015‬م صفع «داعش»‬

‫‪73‬‬


‫قضايا‬

‫زاهي حواس‪ :‬أمر فوق املعقول‬

‫بالنسبة ملصر يف عامي ‪ 2011‬و‪2012‬م‬

‫بد من تخبئة اآلثار املوجودة يف املتاحف يف بدرومات املتاحف‪،‬‬

‫وحدثت‬

‫وقوي يف حماية آثار البلدان العربية‪ ،‬وال بد من إرسال‬

‫خرجت كميات كبرية من اآلثار‬ ‫الحقيقية‬

‫خلسة‪،‬‬

‫تعديات رهيبة عىل أرايض اآلثار‬

‫وجباناتها‪ ،‬وقام بعض األهايل‬ ‫بنهب العديد من املقابر‪ ،‬أما‬ ‫يف سوريا وليبيا والعراق‬

‫فقد دُمِّ رت عشرات املواقع واملتاحف‪ ،‬وما يحدث يف ليبيا‬

‫وال بد أن تقوم الجامعة العربية واملجتمع الدويل بدور واضح‬ ‫رسالة إىل كل املتطرفني والحمقى املعادين للثقافة األثرية‬ ‫بأن َخ ْلقهم الفوىض وتعدياتهم عىل املواقع األثرية ونهبهم‬

‫متاحفنا لن يثنينا عن تكريم علماء اآلثار‪ ،‬ويف مقدمتهم‬

‫العالم السوري الذي اغتيل عىل أيدي الجماعات املتطرفة‪.‬‬

‫وال أعتقد أن اإلسالم يف حد ذاته لديه مشكلة مع اآلثار‪،‬‬

‫وسوريا فهو أمر فوق املعقول‪ ،‬فال أحد يستطيع أن يحيص‬

‫لكن املشكلة مع املتطرفني‪ ،‬هؤالء الذين يسعون إلحضار‬

‫أو النهب والتهريب‪ ،‬والجامعة العربية ال بد أن يكون لها‬

‫وهذه اآلثار تحقق مبيعات كربى لدى مهربي اآلثار‪ ،‬ومن ثم‬

‫الخسائر التي وقعت يف آثار هذه البلدان‪ ،‬سواء بالتدمري‬

‫دور يف حماية آثار هذه البلدان‪ ،‬ففي مصر توقفت التعديات‬ ‫بحدوث االستقرار‪ ،‬وقدرة الدولة عىل حماية املواقع واملتاحف‬

‫سالح وعتاد‪ ،‬ومن ثم يبحثون عن كل ما يمكن بيعه‪،‬‬ ‫فكلما ضعفت يد األمن انتشر مهربو اآلثار‪ ،‬وكلما ظهرت‬

‫جماعة ترغب يف التمويل قامت بعمليات تهريب كربي إىل‬ ‫ّ‬ ‫يحض عىل تدمري‬ ‫الخارج‪ .‬الكتب اإلسالمية ليس فيها ما‬

‫األثرية‪ ،‬لكن يف كل من ليبيا وسوريا والعراق فاألمر خارج‬ ‫نطاق السيطرة‪ ،‬ويكفي أن نعلم أن عالم آثار سوريًّا جليلاً ‪،‬‬

‫اآلثار‪ ،‬والقرآن نفسه حدثنا عن فرعون واحد بوصفه حاكم‬

‫ومن ثم يجب االنتباه إىل ضرورة حماية اآلثار بعيدً ا من‬

‫الذين يسعون إىل تدمري اآلثار تحت ستار اإلسالم من أجل‬

‫مناخ عدم االستقرار‪ ،‬مما يجعل بعض األهايل والعصابات‬

‫ً‬ ‫سابقا‪.‬‬ ‫وزير آثار مصري‬

‫تخطى الثمانني من عمره‪ ،‬اغتيل عىل يد املتطرفني‪.‬‬

‫أيدي املتطرفني وعبثهم‪ ،‬إضافة إىل الفوىض التي يتيحها‬

‫‪74‬‬

‫الصغرية وغريهما يفكران يف االستيالء عىل آثار وبيعها؛ لذا ال‬

‫ظالم وليس كل الفراعنة وال كل عصورهم‪ ،‬املتطرفون هم‬ ‫مصالحهم الخاصة‪.‬‬

‫عالم اآلثار السوري خالد األسعد الذي اغتالته داعش‬

‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬


‫داعش والمهربون أخطر ما يهدد التراث اإلنساني في البلدان العربية‬

‫إياد السليم‪ :‬النظام العاملي الخاطئ‬ ‫أثر‬

‫الحضارات‬

‫والرتاث‬

‫فينا قد يكون أكرب مما تتصوره‬

‫أنت‪ ،‬فقيمنا ومبادئنا‪ ،‬وكثري من‬

‫عاداتنا‪ ،‬جاءت من هناك‪ ،‬صقلتها‬ ‫التجارب‬

‫والحضارات‪،‬‬

‫وهنا‬

‫يحضر ظرفنا القاهر القايس‬

‫هذه األيام‪ ،‬يف منطقتنا‪ ،‬الذي‬ ‫لألسف ال يصقل وحسب بل ينهش ً‬ ‫نهشا‪ .‬ظرفنا هذا‪ ،‬يفوق‬ ‫الخيال‪ ،‬وقد يصعب تصديق أحداثه ولو شاهدناها أمام‬

‫أعيننا‪ ،‬ونقول‪ :‬يا أسفاه‪ ،‬ماذا حصل للبشرية؟ نحن وصلنا‬

‫القرن الحادي والعشرين وقلنا لقد تخطينا بشاعة األمور‬

‫اإلنسانية‪ ،‬لكن ولألسف كانت مفاجأة كبرية لنا‪ .‬غدا سياسيو‬ ‫النظام العاملي الجديد يتعسفون بأنانية كبرية‪ ،‬بل بلؤم‬ ‫وحقد‪ ،‬وغريزة حيوانية‪ ،‬نعم هذا من أسباب الفتك بصروح‬

‫سياسات خارجية ومخابراتية‬ ‫حضاراتنا هذه األيام‪ ،‬فمسيرِّ و‬ ‫ٍ‬ ‫تجاه منطقتنا هذه األيام‪ ،‬هم مِ ن أعتى الحاقدين لألسف‪،‬‬ ‫وال يشبعون من تدمري ومحو حضاراتنا‪ ،‬غري مبالني بكونها ً‬ ‫إرثا‬

‫ً‬ ‫وملكا لألجيال القادمة‪.‬‬ ‫عامليًّا‬ ‫ّ‬ ‫هؤالء يستغلون كل فراغ أمني وحاجة عسكرية‪،‬‬

‫تخريب أثريّ ‪ ،‬صفقات مباشرة لحصص‬ ‫ليقايضوها بأمر‬ ‫ٍ‬ ‫سياسية‪ ،‬ولحصص عىل األرض‪ ،‬مقابل تهديم الصرح األثري‬ ‫ً‬ ‫ظرفا‪ ،‬تسمع فيه مقاتلاً يقول‪« :‬بوط‬ ‫هذا أو ذاك‪ ،‬فرضوا‬ ‫عسكريّ واحد‪ ،‬هو أهمّ من كامل آثار البلد»‪.‬‬

‫مدير مؤسسة االستكشاف السورية‪.‬‬

‫خالد عزب‪ :‬شكوك حول األساطري واملرويات القديمة‬

‫لبروز أطماع ومصالح بين قوى خارجية‪،‬‬ ‫وميدا ًنا لتصفية الحسابات بين أجهزة‬ ‫استخباراتية عالمية يكون فيها المواطن‬ ‫العربي وهويته الحضارية َح َط ًبا لحروب‬ ‫مفروضة‪ ،‬يصاحبها نشاط مكثف لتهريب‬ ‫الممتلكات الثقافية العربية‬ ‫وإذا كان لدينا كعلماء آثار شكوك كبرية حول صحة‬

‫البابيل‪ ،‬ومدى مطابقة‬ ‫السب ِْي‬ ‫روايات التوراة‪ ،‬التي كتبت بعد َّ‬ ‫ّ‬

‫هناك تطور كبري يف علم اآلثار‬

‫مروياتها مع ما يمكن تسميته باملكتشفات األثرية‪ ،‬فهل يصبح‬

‫إىل إعادة النظر يف املنطقة العربية‬

‫فمن املؤكد أن شبه الجزيرة العربية يف عصور ما قبل التاريخ‬

‫خالل الثالثني عامً ا املاضية أدى‬ ‫ككل‪ ،‬فنحن نتحدث اآلن عن‬

‫وجود لغة أم‪ ،‬ليست بالضرورة‬ ‫هي اللغة العربية التي نعرفها‬ ‫اليوم‪ ،‬لكنها كانت لغة‬

‫فيها مشرتكات كثرية بني‬ ‫النحو والصرف يف اللغة‬

‫املصرية القديمة والنحو والصرف يف اللغة العربية‪ ،‬وهناك‬

‫مشرتكات بني اللغة املصرية القديمة واللغة األمازيغية‪ .‬هذه‬

‫املنطلقات إما أن تستخدم استخدامً ا سياسيًّا لتعزيز املشرتك‬ ‫العربي‪ ،‬أو تستخدم للتفرقة العربية‪ُ ،‬‬ ‫ب القضية هو‬ ‫فل ّ‬

‫التوظيف السيايس لآلثار‪.‬‬

‫دائما مجاال‬ ‫منطقتنا العربية تشكل‬ ‫ً‬

‫لدينا اآلن شكوك حول بعض األساطري واملرويات العربية؟‬ ‫كانت بها حضارات وأنهار وغابات‪ ،‬ومنطقة الربع الخايل كانت‬ ‫منطقة زراعية‪ ،‬وعليه فإننا نتساءل‪ :‬هل نستطيع إعادة كتابة‬

‫تاريخ شبه الجزيرة العربية مرة أخرى؟ وذلك بناء عىل ما‬ ‫ُتو ِّ‬ ‫ُصل إليه من اكتشافات حديثة‪.‬‬ ‫وهذا كله يعني أننا خالل السنوات املقبلة سنعيد كتابة‬

‫تاريخ املنطقة مرة أخرى‪ ،‬وربما بطريقة مختلفة‪ ،‬ويصبح‬ ‫التساؤل امللحّ هو‪ :‬هل سنبحث عن املشرتكات التي تق ِّربنا كأمة‬

‫عربية أم سنبحث عن االختالفات التي تباعد بيننا؟ أعتقد أن‬

‫األمر مرهون بالفعل السيايس الثقايف أكرث منه بالفعل الثقايف‬ ‫األثري نفسه‪.‬‬

‫متخصص يف اآلثار اإلسالمية‪.‬‬

‫‪75‬‬


‫قضايا‬

‫حسني عبدالبصري‪ :‬العالم العربي املحظوظ‬

‫يعد سؤال البحث عن الهوية وماهية‬

‫هو االستمرارية والتواصل الحضاري‪ ،‬ال االنقطاع الزمني‪،‬‬ ‫عىل أرضها الحضارية العريقة؛ مما يشكل لها تمي ًزا بني‬

‫من األسئلة املؤرقة دومً ا وأبدً ا يف عاملنا‬

‫لتلك البالد التي تعيش يف ظروف حضارية مغايرة لنهضتها‬

‫الوجود الحضاري يف العالم العربي‬ ‫العربي العريق قديمً ا‪ ،‬الذي يعاين حاليًّا‬ ‫ت ــراجـعً ا حض ــار ًّي ــا كـبـي ـ ًرا‬ ‫عىل كل املستويات‬ ‫الحض ــارية‪.‬‬

‫ويزيد‬

‫من حرية ذلك‬

‫العالم وحرية أهله الوقوع بني هويات عدة تمتدّ إىل املايض‬

‫البعيد‪ ،‬ويحيط بها الحاضر غري البهيج‪ ،‬وال أحد يعلم مصريها‬ ‫يف عالم املستقبل الغامض‪ .‬وتدخل اآلثار يف البالد العربية يف‬

‫هذا الخضم الهائل لتزيد من عمق السؤال‪ ،‬وهوّة التناحر‪،‬‬

‫حضارات العالم قديمه وحديثه‪ ،‬ويف الوقت ذاته تحديًا كبريًا‬

‫القديمة التي أبهرت العالم قديمً ا وال تزال تبهره‪ .‬ومن دون‬

‫شك‪ ،‬فإن وجود آثار تلك الحضارات يف األرض العربية‪،‬‬ ‫يجعل املواطن العربي مذهولاً من عمق الهوة الحضارية‬ ‫الفاصلة بني ماضيه املش ّرف‪ ،‬حني كانت بعض الحضارات‬

‫املوجودة حاليًّا عىل األرض العربية سيدة للعالم القديم يف‬ ‫وقت كانت البشرية جمعاء تبحث لنفسها عن بصيص أمل‬ ‫يف الظالم الدامس الذي كانت تعيش فيه مسرتشدة بأنوار‬

‫حضارات العالم العربي الباهرة‪.‬‬

‫لكن السؤال الذي يثار باستمرار ‪«:‬ملاذا نحن متخلفون؟»‪.‬‬

‫وحدّ ة التعارض بني تلك الهويات املتعارضة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫محظوظا من كثافة ووفرة‬ ‫ويمكن اعتبار عاملنا العربي‬

‫هذا التقدم املذهل الذي ما زال العالم يبحث يف أسراره وكيفية‬

‫متعاقبة يف أقطار عديدة‪ ،‬لعل من بني أهمها الحضارة‬

‫معني بالكلية بالبحث عن تراثه‪ ،‬بل أكرث من ذلك يساهم عىل‬ ‫ّ‬

‫املواد الحضارية األثرية؛ نظ ًرا الحتوائه عىل حضارات مهمة‬

‫املصرية القديمة وحضارة بالد النهرين وحضارات بالد الشام‬ ‫وغريها‪ .‬ومن بني أروع ما يميز حضارات تلك البلدان العربية‬

‫عال‪« :‬كيف وصل أجدادنا إىل‬ ‫ويفكر العرب املحدثون بصوت ٍ‬ ‫حدوثه؟»‪ .‬ويف حقيقة األمر‪ ،‬فإن اإلنسان العربي الحايل غري‬

‫نحو من األنحاء يف العبث بهذا الرتاث العريق وتدمريه‪.‬‬

‫رئيس آثار منطقة الهرم واملتحف املصري الكبري‪.‬‬

‫‪76‬‬

‫الشرقي دهمالي‪ :‬محور أطماع ومصالح عالمية‬ ‫املتأمل يف التاريخ العربي يجد أن منطقتنا العربية شكلت وستشكل دائمً ا مجالاً لربوز أطماع ومصالح بني قوى خارجية‪،‬‬ ‫وميدانا لتصفية مجموعة من الحسابات بني أجهزة استخباراتية عاملية يكون فيها املواطن العربي وهويته الحضارية َ‬ ‫ً‬ ‫حطبًا‬ ‫لحروب مفروضة يصاحبها نشاط مكثف لتهريب املمتلكات الثقافية العربية تؤدي إىل فقداننا جزءً ا غاليًا من تراثنا‪ ،‬هذا‬

‫الرتاث الذي يباع بأثمان خيالية يف املزادات العلنية‪ ،‬وأصبح قسم منه يف ملكية متاحف عاملية تتباهى بعرضه للزوار‪ ،‬وتحقق‬

‫من ورائه مكاسب مالية مهمة ًّ‬ ‫جدا‪.‬‬

‫وبالرجوع إىل الخمس عشرة سنة األخرية فقط‪ ،‬نجد أن عاملنا العربي عرف مجموعة من األحداث املتسارعة واملؤملة التي‬

‫أضرت كثريًا بمعالم تراثنا املشرتك‪ ،‬من خالل استهداف «ممنهج» للمعالم البارزة للرتاث العربي كما سيتبينّ من خالل هذه‬

‫األمثلة التي سنوردها عىل سبيل املثال ال الحصر‪:‬‬

‫‪ -‬استمرار عمليات الحفر تحت املسجد األقىص املبارك منذ عام ‪1967‬م إىل اليوم‪ ،‬وما نتج عن ذلك من تشققات يف بنيته‬

‫األساسية وبخاصة يف الجدار الجنوبي‪ ،‬إضافة إىل هدم أحياء عربية قديمة بالقدس الشريف من طرف الكيان اإلسرائييل‪.‬‬

‫ تعرض املتاحف واملواقع األثرية لبالد الرافدين‪ ،‬خالل االجتياح األمرييك للعراق سنة ‪2003‬م‪ ،‬لعمليات واسعة من‬‫ً‬ ‫حديثا‬ ‫السرقة والتهريب قامت بها‪ ،‬يف أغلب األحيان‪ ،‬عصابات دولية منظمة ومحرتفة تحت أنظار قوات االحتالل‪ .‬وهنا أسرد‬ ‫دار بيني وبني الزميل املرحوم الدكتور توين جورج‪ ،‬مدير متحف بغداد آنذاك‪ ،‬خالل لقائنا يف الجمعية العامة للمجلس‬

‫الدويل للمتاحف بكوريا الجنوبية سنة ‪2004‬م‪ ،‬أكد يل فيه عن «وجود حقائق تثبت أن ما ُسرق من التحف من املتحف العراقي‬

‫يف بغداد خالل األيام األوىل لالحتالل تم بشكل منظم عىل أيدي عصابات مدرَّبة‪ ،‬كما يدل عىل ذلك طريقة اقتحام املتحف‪،‬‬ ‫ومن خالل درايتهم الدقيقة بمحتويات املتحف‪ :‬ففي املتحف نسخة طبق األصل من «املسلة السوداء» لشريعة حمورابي‬

‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬


‫داعش والمهربون أخطر ما يهدد التراث اإلنساني في البلدان العربية‬

‫عيل الحضوري‪ :‬هدموا املقابر وتركوا األوثان‬

‫اآلثار الليبية تعرضت للنبش‬

‫والتشويه‪ ،‬فبعد سقوط النظام‬ ‫سادت الفوىض‪ ،‬وانتشر اللصوص‪،‬‬ ‫والراغبون يف البحث عن اآلثار من‬

‫أجل بيعها‪ ،‬ولم يسلم موقع أثري‬ ‫ً‬ ‫بحثا عن‬ ‫يف ليبيا من النبش والحفر‬ ‫آثار فيه‪ ،‬ولم يسلم العديد‬ ‫من اآلثار من التشويه‬ ‫سواء بالكتابة عليها‬ ‫أو‬

‫دهنها‬

‫بمواد‬

‫ً‬ ‫مرتبطا باإلسالميني إال فيما يخص‬ ‫كيميائية‪ ،‬لكن األمر ليس‬

‫املقابر واألضرحة‪ ،‬وهي تعود إىل عقود وقرون بعيدة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫تحفا فنية مزدهرة بالنقوش واآليات‪،‬‬ ‫أغلبها كان يمثل‬

‫وهذه تعاملت معها الجماعات اإلسالمية بعنف؛ ألنهم‬ ‫يرونها حرامً ا‪ ،‬يف حني تركوا األعمدة الرومانية وغريها رغم‬

‫أنهم يسمونها باألوثان‪ ،‬وال نعرف آثارًا دُمِّ رت كما حدث‬ ‫بالشكل املروع يف سوريا‪ ،‬لكننا نعرف ما حدث من تشويه‬

‫ونبش يف املواقع األثرية الليبية‪ ،‬والقصة يف مجملها تجيء‬

‫‪77‬‬ ‫املوجودة يف «متحف اللوفر» يف باريس لم يسرقوها ملعرفتهم بعدم أصليتها‪.‬‬

‫تتواىل عمليات التخريب للشواهد املادية للرتاث العربي لتصل ذروتها مع ما‬

‫نيني وتدخل أجنبي سافر‪،‬‬ ‫يسمى بـ«الربيع العربي»‪ ،‬وما نتج منه من فراغ وانفالت أمْ ِ‬

‫وتفريخ ملجموعة من الجماعات املسلحة التي جندت‪ ،‬لألسف فئة من أبناء جلدتنا‪،‬‬ ‫وجعلت من تدمري الرتاث وسيلة للتعبري عن وهمها‪ ،‬ومن ّ‬ ‫االتجار يف التحف مصدرًا‬ ‫مللء خزينتها من العملة الصعبة‪ .‬وهنا أكتفي بسرد مجموعة من األحداث املؤملة‪:‬‬

‫‪ -‬تعرض مجموعة من اآلثار الليبية إىل التخريب والتنقيب غري املشروعني بعد‬

‫التدخل األجنبي سنة ‪2011‬م‪.‬‬

‫‪ -‬سرقة مجموعة من القطع من املتحف املصري بالقاهرة يف ليلة «جمعة‬

‫الشرقي دهمالي‬

‫الغضب» يوم ‪ 28‬يناير ‪2011‬م‪.‬‬

‫‪ -‬تفجري واجهة وبهو متحف الفن اإلسالمي بالقاهرة يف يناير ‪2014‬م‪ ،‬وتدمري مدخل متحف العريش يف يناير ‪2015‬م‪.‬‬

‫‪ -‬نهب وتخريب محتويات متحف املوصل يف فرباير ‪2015‬م‪ ،‬وتدمري تماثيل الثور اآلشوري املجنح يف املتحف ويف «بوابة‬

‫نركال» األثرية‪ ،‬التي ترجع إىل القرن التاسع قبل امليالد‪.‬‬

‫‪ -‬قتل مجموعة من زوار متحف باردو الوطني بتونس يف هجوم مسلح يوم ‪ 18‬مارس ‪2015‬م‪.‬‬

‫‪ -‬تدمري معابد وأقواس مدينة تدمر األثرية بسوريا‪ ،‬وإعدام مدير متاحف وآثار املدينة د‪ .‬خالد األسعد بتهمة العمالة‬

‫و«حراسة األصنام» يف أغسطس ‪2015‬م‪.‬‬

‫‪ -‬تدمري مجموعة من املتاحف والبنايات التاريخية باليمن خالل العمليات العسكرية املتتالية‪.‬‬

‫األمني العام للمنظمة العربية للمتاحف وعضو لجنة األخالقيات باملجلس الدويل للمتاحف‪.‬‬


‫قضايا‬

‫بإغراءات من السياح أو مهربي اآلثار‪ ،‬ومن ثم فالكل أصبح‬

‫يبحث عن اآلثار بطريقته ومجهوده الفردي؛ يك يبيعها‬ ‫ويصبح من األثرياء‪.‬‬

‫الرئيس األسبق ملصلحة اآلثار يف الجماهريية الليبية‪.‬‬

‫حسني العيدروس‪ ..‬نقاط مشرتكة‬

‫الرتاث الحضاري عىل املعمورة‪ ،‬يُعدّ‬

‫من الشواهد الحية عىل وجود اإلنسان‬ ‫وتفاعله ونشاطه الدؤوب واملستم ّر‬ ‫عىل مدى العصور‪ ،‬سواء يف البلدان‬

‫العربية أم يف العالم أجمع‪ .‬وإذا ما‬

‫اقتصرنا عىل البلدان العربية‪ ،‬فإننا ال‬ ‫بد أن نتعايش تحت أي ظرف‬ ‫من الظروف‪ ،‬وننىس هذه‬ ‫التقسيمات العقيمة‪ ،‬التي‬

‫شتتت شمل األمة وفرقتها‪ ،‬فمن خالل معظم التنقيبات‬

‫ُجدت شواهد تثبت الصالت والعالقات‬ ‫األثرية يف العالم‪ ،‬و ِ‬ ‫بني الشعوب‪ُ ،‬‬ ‫وعرف التالقح الحضاري فيما بينها‪ ،‬ولوال‬ ‫َّ‬ ‫تحضرت األمة باألخذ والعطاء (التبادل)‪،‬‬ ‫هذه الصالت ملا‬

‫‪78‬‬

‫هذه السمة األخالقية التي تدلنا عىل الفضيلة يف عدم‬ ‫االستئثار واألنانية‪ ،‬فالشعوب املحرومة‪ ،‬هي الشعوب‬

‫املنعزلة‪ ،‬املنكفئة عىل ذاتها‪ ،‬ال تسمح بالتواصل مع‬ ‫اآلخرين‪ ،‬وبالتايل ظلت متقوقِعة‪ ،‬حتى انتهت وأَ َف َل نجمها‬

‫مهما كان سطوعه‪.‬‬

‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬

‫ال بد أن تقوم الجامعة العربية والمجتمع‬ ‫الدولي بدور قوي في حماية آثار‬ ‫البلدان العربية‪ ،‬وال بد من رسالة إلى كل‬ ‫المتطرفين بأن نهبهم متاحفنا لن يثنينا‬ ‫عن تكريم علماء اآلثار‪ ،‬وفي مقدمتهم‬ ‫العالم السوري الذي اغتيل على أيدي‬ ‫الجماعات المتطرفة‬ ‫قد تكون الوحدة الجغرافية يف كثري من األحيان‪ ،‬لها‬

‫أثر يف التقارب بني املجموعات البشرية التي تعيش فيها‪،‬‬ ‫وهذا األمر طبيعي وإيجابي‪ ،‬ليس باالختيار‪ ،‬لكن يف الوقت‬

‫نفسه قد تنشأ خالفات فكرية‪ ،‬أو اجتماعية‪ ،‬أو سياسية‪،‬‬

‫أو خالف ذلك‪ ،‬تؤدي إىل نشوب نزاعات‪ ،‬وهذه غالبًا طبيعة‬ ‫بشرية‪ ،‬لكن باملقابل قد ُتحل وتعود إىل وضعها الطبيعي‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وقد تتعقد ُ‬ ‫طرفا من األطراف‪.‬‬ ‫نهي‬ ‫وت ِ‬ ‫أستاذ اآلثار بكلية اآلداب جامعة صنعاء‪.‬‬


‫نصوص‬

‫نصوص‬ ‫عاشور الطويبي‬

‫شاعر ومترجم ليبي يقيم في النرويج‬

‫املصيدة الحجرية‬

‫ْ‬ ‫اقلب ما شئت ينقلب‬

‫الكثبان الرملية بنات الريح الجنوبية‬

‫أجل! هذا هو الحال حتى الساعة‪:‬‬

‫ُ‬ ‫بيت العناكب صغير على سفينة النجاة‬ ‫ِّ‬ ‫ٌ‬ ‫كمتسل ِق نخيل‬ ‫رشيق‬ ‫الوادي‬

‫الراقص يسأل الناس عن إيقاعه المسروق‬

‫قدور البدو شحيحة ورمادهم لم يبرد بعد‬ ‫بال سهام مسمومة‬

‫بال صيحات المعارك‬

‫يخرج الفارس إلى الميدان‬

‫وحده القاتل والقتيل‬

‫يس َ‬ ‫الع ُ‬ ‫الع ْط َشى‬ ‫اقتربي أكثر أ َّيتها ِ‬

‫هذه قالدتك على البئر‬

‫الج ّن على كتف الريح‬ ‫وهذه ضحكات ِ‬ ‫ِّ‬ ‫الس ُّر في فم المصيدة‬ ‫َّ‬ ‫الجن ُة في حوضها الكبير‬

‫يديك َ‬ ‫َ‬ ‫ونمْ على حكاية الغريب‬ ‫ُم َّد‬

‫دخلت األنعام في المصيدة الحجرية‬ ‫لقد‬ ‫ِ‬

‫ص ْر بئرًا‬ ‫اقلب المئذنة َت ِ‬

‫ص ْر بحرًا‬ ‫اقلب الجبل َي ِ‬ ‫ص ْر ًّ‬ ‫لصا‬ ‫اقلب اليد َت ِ‬

‫ً‬ ‫سجنا‬ ‫ص ْر‬ ‫اقلب القدم َت ِ‬ ‫ص ْر سرا ًبا‬ ‫اقلب النار َت ِ‬

‫ص ْر طائرًا‬ ‫اقلب النهر َي ِ‬

‫ص ْر حجرًا‬ ‫اقلب الشجرة َت ِ‬

‫َ‬ ‫مشنقة‬ ‫حبل‬ ‫ص ْر‬ ‫ٍ‬ ‫اقلب الضحكة َت ِ‬ ‫قت ُل و ُي َ‬ ‫حاكما َي ُ‬ ‫ً‬ ‫قتل‬ ‫ص ْر‬ ‫اقلب القصيدة َت ِ‬

‫ص ْر ألواحَ أناشيد‬ ‫اقلب السماء َت ِ‬ ‫اقلب األرض تصر ً‬ ‫أرضا أخرى‬

‫ُ‬ ‫تنهض الدنيا بغري جناح‬ ‫هل‬ ‫جناحٌ ُم ْل ًقى على األرض‬

‫جناحٌ ُتد ّوم به الريح‬ ‫ٌ‬ ‫ريشة‬ ‫جناحٌ في أ ّوله‬ ‫ٌ‬ ‫شهقة‬ ‫وفي آخره‬

‫ُ‬ ‫في عين ّ‬ ‫دواة حبر‬ ‫كل ريشة‬

‫كل دواة ٌّ‬ ‫وفي قلب ّ‬ ‫خط ال ُيشبه غيره‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫مكحلة الفقراء‬ ‫الريشة‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫حافظة أسرار القنديل‬ ‫الدواة‬ ‫الشهقة بال أزرار‬

‫هل تنهض الدنيا بغير جناح؟!‬

‫‪79‬‬


‫نصوص‬

‫مونولوغ لرجل الطربال‬ ‫محمد عبدالوكيل جازم‬

‫كاتب يمني‬

‫منذ ساعات وصديقه يُعانق ذاكرته‪ ،‬يأبى مُ غادرتها يعبث بها ويبعثر كل محتويات ُغرفتها‪ !..‬صديقه كان يعمل‬

‫في إحدى المنظمات اإلغاثية‪ ...‬تتراءى أمام ُه صور لوجه صديقه الشارد وهو يَم ُّر على تلك الطرابيل والمرارة تسري في‬

‫جسده وقلبه ليتفقد أحوال النازحين من الحرب‪!..‬‬ ‫ً‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫انسياب من أبواب‬ ‫حرب َسرت في المدن والقرى والتباب وكأنها‬ ‫مكانا إال افترشت ُه وسلبت نضارته‪،..‬‬ ‫حرب لم تترك‬

‫الجحيم التي ُفتحت‪ !..‬كم يؤلم ُه ذلك الرجل «صاحب الطربال األزرق» يُقيم هو وزوجت ُه الذابلة وأطفال ُه الذين يتوسدون‬ ‫ً‬ ‫قسطا من القسوة‪ ..‬بل إنهم ينالون القسوة ُكلها‪...‬ال يجدون حض ًنا لهم سوى ذلك العراء‪ !..‬داهم ُه‬ ‫الحجارة كي ينالوا‬

‫ً‬ ‫باحثا عن زاوية ي ُّ‬ ‫ً‬ ‫بعيدا عن األنظار‪ ..‬همّ بالمغادرة إلى‬ ‫َحل البكاء فيها» أراد البكاء‬ ‫الوجع المُ ضجر «ادعى الضجر ليرحل‬

‫الالمكان‪ ..‬قادت ُه ُخطا ُه إلى مبنى مُ كفهر‪ !..‬انطوى في تلك الزاوية وجاشت عيناه‪ ..‬مر صديقه من أمام ذلك المبنى وسمع‬

‫نحيبًا خاف ًتا‪ ،‬دخل إلى ُهناك ووجده قد مسح دموع ُه ولكن اللمعة ما زالت تتحدث في عينيه‪!..‬‬

‫قال صديقه وقد تراكمت في صدره الزفرات‪ :‬ال تقل لي كيف حدث ذلك ألنني لم أنم منذ البارحة‪ ،‬وتمنى قلبي التائ ُه‬

‫‪80‬‬

‫في الظالم الصراخ في كل القراصنة‪ :‬دعوا مساكين الجبال يعيشون‪!!..‬‬

‫أأقول شي ًئا؟ طوال الساعات الماضية وأنا أفكر بحل ينقذ هذه العائلة؛ كيف لهم أن يتدثروا بطربال ثبته األب‬

‫بمسامير صدئة إلى جدار ذلك السور الطويل الذي يخفي مبنى البرلمان المتعثر‪ ..‬نعم يا صديقي‪ ،‬لقد أحسست بأن‬ ‫ً‬ ‫أحيانا‪ ..‬كان ينظر إلى أطفاله حين همس لي ‪«:‬لقد هربنا‪ »!!...‬البيوت‬ ‫والدهم المصاب بثقب في القلب يتحدث بسعادة‬ ‫التي تركنا بياضها طحنتها الدبابات والمدفعية؛ شوارع وبنايات وقرى تف ّتت وتناثرت وتالشت كما لو أنها الرماد‪ ..‬كنت‬

‫أرى ضحكته فأحس لثانية أن زعيق االنفجارات نهشت من عقله‪..‬‬ ‫لن أُخفي عليك يا صديقي أنني في الحقيقة أجللته وأكبرته‪ ،‬لقد استطاع أن ينقذ هذه الطفولة من مخالب‬

‫االرتطامات المهولة التي سببها بعض أفواه المدافع‪ ...‬حاول الفتى فك قيود صدره ومحاولة النهوض والهروب من تلك‬ ‫الزاوية المكفهرة‪ !..‬إال أن صديقه لحق به في أروقة المبنى‪ ،‬وحين انتهوا إلى حديقة خلفية قال‪ :‬ال تخف يا صديقي رُبما‬ ‫سينتهي بنا األمر إلى حديقة!!‬

‫ههه لكل نفق نهاية‪ ،‬ولكن أال ترى بأننا في الظل المعتم لم نكن سوى أصوات؟ هل تتذكر الكهرباء العمومية كيف‬

‫كانت تضيء الممرات والردهات وتعيننا على السير؟‬

‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬


‫ًّ‬ ‫حقا كل نفق يحتاج إلى إضاءة يا صديقي!! صمت الشاب المتحمس للعنة للحرب وكأن صبره قد نفد‪ ..‬جلس على‬ ‫أحد الكراسي الم ّتسخة بالغبار وهو يردد‪ :‬أعتقد بأن رجل الطربال شخص جبان‪ ،‬وعليه أن يحيا تحت الطربال طويلاً ‪!!..‬‬ ‫هه مخطئ أنت يا صديقي‪..‬‬

‫آه كم هو شجاع‪ ،‬لو رأيته لمرة واحدة وهو يتمزق في الجولة القريبة من قصر الرئاسة؛ مستنفرًا كل قواه الواهنة‬ ‫ً‬ ‫عارضا المناديل الورقية على المارة‪!..‬‬ ‫ً‬ ‫بعيدا عن الحي الذي تسكنه‪ ..‬وال تعتلف القات إال مع‬ ‫إنه العمل الوحيد والمتاح أمامه‪ ..‬أنت لم تره ألنك ال تذهب‬

‫الجوقة التي تناسب صوتك‪ ..‬حين رأيته ظننت بأنني قد رأيته من قبل‪ ،‬وتذكرت أنه كان يعمل في إحدى المكتبات التي‬ ‫أحرقها القصف بمدينة تعز‪ ..‬آه لو رأيته كيف يؤلب أطفاله وكأنه يلتقيهم أول مرّة‪ ..‬لو رأيت كيف أخرج الخبز اليابس‬

‫من كيس حراري وألقمه طفلته‪ ،‬التي نهضت من نومها للتو‪..‬‬

‫أعرف أنك تتململ‪ ،‬تريد أن تقول شي ًئا‪ ،‬ولكن أرجوك ال‬ ‫تقل فقط تعال معي لزيارته‪..‬‬

‫تعال واسمع حكايات اآلباء الذين‬

‫قتلوا أبناءهم لمجرد أن اليأس دب‬

‫ً‬ ‫جيدا ما يدور في‬ ‫في حياتهم‪ ..‬أعرف‬

‫داخلك‪ ،‬وما تفكر! أعرف أنك تريد‬

‫أن تقول‪ :‬إنه ميت ال محالة؛ تريد أن‬

‫تقول‪ :‬لماذا يموت رجل الطربال في‬ ‫ساحة المعركة؟ ولكن يا صديقي أنت‬

‫تجتزئه من عائلته‪ ،‬تقصيه من فلذات‬ ‫كبده‪ ..‬تريد منعه من إيصال رسالته‬

‫التي آمن بها‪ ،‬دعني أتخيل اآلن هذه األسرة المنكوبة العارية‪،‬‬

‫وأولئك األطفال الذين رأيتهم ذات ليل يحملون الحقائب المدرسية‬

‫ينتظرون مولو ًدا خالل األيام القادمة!!‬

‫ربما انتهى الكالم بينهما‪ ،‬لكن الحرب ال تزال مستمرة في ثرثرة تشبه‬

‫حممً ا بركانية‪ ،‬أو جحيمً ا مفتوحة إلى األبد‪.‬‬

‫‪81‬‬


‫حوار‬

‫‪82‬‬

‫عا ِلم االجتماع العربي قال إنه ال يتحمل‬ ‫المنمطة‬ ‫االستقرار في األفكار‬ ‫ّ‬

‫الطاهر لبيب‪:‬‬

‫التشبث بماض غير تاريخي أظهر كائنات متوحشة‬ ‫ّ‬ ‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬


‫التشبث بماض غير تاريخي أظهر كائنات متوحشة‬ ‫الطاهر لبيب‪:‬‬ ‫ّ‬

‫حاورته في تونس‪ :‬حياة السايب صحافية تونسية‬

‫إنه‪ ،‬كما يصف هو نفسه‪« ،‬ال يتحمل االستقرار في األفكار المنمّ طة وال في األفكار السائدة»؛‬ ‫لذلك تتعدد االهتمامات المعرفية للطاهر لبيب عالِم االجتماع والمفكر العربي والباحث والكاتب‬ ‫التونسي الذي حقق منذ نشر كتابه «سوسيولوجيا الغزل العربي» في السبعينيات من القرن الماضي‬ ‫بالفرنسية‪ ،‬ثم ترجم للعربية وصدر في طبعات عدة بتونس والمشرق العربي‪ ،‬صي ًتا في الشرق وفي‬ ‫الغرب‪ .‬وقد لفت كتاب «سوسيولوجيا الغزل العربي» االنتباه بسبب أن مؤلفه لم يطمئن كثيرًا‬ ‫لكل ما كتب من قراءات حول شعر الغزل العربي‪ ،‬وركز مبحثه على المكانة االجتماعية لشعراء‬ ‫الغزل العربي‪ ،‬مُ ِع ًّدا أن وجودهم في منطقة الهامش في المجتمع من جهة ومعايشتهم لـ«الهجر»‬ ‫و«الحرمان» و«العذابات» التي يتردد صداها بقوة في قصائدهم من جهة أخرى‪ ،‬إنما هو ناتج من‬ ‫التهميش االجتماعي وليس من التمرد على قيم أخالقية أو دينية كانت تحكم المجتمع‪.‬‬ ‫الطاهر لبيب الذي درس في البداية في تونس‪ ،‬ثم‬

‫انتقل إلى باريس‪ ،‬وحصل هناك على الدكتوراه في علم‬ ‫االجتماع‪ ،‬وعلى األستاذية في اللغة واآلداب العربية‪ ،‬عاش‬

‫في مسيرته العلمية الطويلة مراحل عدة‪ ،‬من بينها المرحلة‬ ‫األوربية والالتينو‪ -‬أميركية غير أنه‪ ،‬وفق تأكيده‪ ،‬ال يشعر‬

‫أنه موجود حيث يجب أن يكون إال في مرحلته العربية‪.‬‬

‫لماذا يعدّ األمر كذلك؟ وكيف تفاعل مع األحداث السياسية‬

‫المفارقة األساسية هي أن الثورة التي‬ ‫تغييرية كبرى نحو المستقبل‬ ‫هي حركة‬ ‫ّ‬ ‫سياسية‬ ‫أفضت‪ ،‬سياس ًّيا‪ ،‬إلى سلطة‬ ‫ّ‬ ‫جناحين من الماضي‬ ‫ماضوية ذات‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬

‫التي تشهدها المنطقة العربية منذ انطالقة ما يسمى‬

‫● هناك اليوم مسافة زمنية طويلة تفصلك عن تلك‬

‫ونزاعات وصراعات وإرهاب في أرجاء عربية؟ وكيف يقيّم‬

‫دار الثقافة بها اليوم اسمك‪ ،‬وهي تقع بمحافظة وسط‬

‫بالربيع العربي من تونس وما تبعها من اهتزازات اجتماعية‬ ‫دور المفكر العربي اليوم في ظل التغييرات المتسارعة وفي‬

‫ظل تعدد مصادر الخبر وسيل المعلومات وبخاصة أنه من‬ ‫المهتمين بسوسيولوجيا الثقافة في الوطن العربي؟ ثم هل‬ ‫يمكن أن نتشبث اليوم بمفهوم المفكر العضوي وفق ما‬

‫طرحه غرامشي‪ ،‬واألخير من بين المفكرين الذين تأثر بهم‬ ‫الطاهر لبيب وترك بصماته في مسيرته؟‬

‫‪ ...‬أسئلة طرحتها «الفيصل» على الباحث وعالم‬

‫االجتماع الذي اعترف بـ«أن إيقاع الحركة الثقافية‪ ،‬رغم‬ ‫كل المبادرات الفكرية الفردية‪ ،‬لم يساير‪ ،‬في العالم‬ ‫العربي‪ ،‬إيقاع التغيّر في مستويات ومجاالت أخرى»‪.‬‬

‫وبطبيعة الحال كان ال بد من طرح اإلشكال المتعلق‬ ‫باللغة العربية‪ ،‬فالمعروف عن الباحث أنه عبّر في‬

‫مناسبات عدة عن خشيته على لغة الضاد ولديه أدلة‬

‫علمية‪ ،‬تؤكد انحسار استعمالها وترجّ ح تحولها إلى مجرد‬ ‫لغة للمقدس‪ ...‬إلى نص الحوار‪:‬‬

‫اللحظة التي نشأت وعشت فيها في قرية صغيرة تحمل‬ ‫البالد لها مكانة رمزية واعتبارية مهمة بما أنها المحافظة‬ ‫التي انطلقت منها الشرارة األولى لما يسمى بالربيع‬ ‫العربي‪ .‬هل كان لعامل النشأة دور في «صناعة» شخصية‬

‫الطاهر لبيب أستاذ علم االجتماع والباحث والمفكر‬

‫المعروف عربيًّا ودوليًّا؟‬ ‫■ أن يكون للنشأة تأثير في مسار الشخص فهذا مبدأ‬

‫عام يمكن إثباته من أوجه مختلفة‪ .‬ولكن عندما يطول‬ ‫المسار وتكثر محطاته ومنعطفاته وتتراكم تجاربه يصبح‬ ‫من الصعب التميي ُز‪ ،‬في بناء الشخصيّة‪ ،‬بين ما يعود‬

‫إلى ظروف النشأة وما ال يعود إليها‪ .‬وإذا كان ال بد من‬ ‫المجازفة بإرجاع بعض المالمح إلى ظروف نشأتي فيمكن‬

‫القول بأن هذه الظروف هيّأتني للترحال وجعلت منه‪،‬‬ ‫ً‬ ‫سلوكا فكريًّا‪ .‬هذا الترحال جعلني ال أتحمل‬ ‫مع الزمن‪،‬‬

‫االستقرار في األفكار المنمّ طة وال في األفكار السائدة‪ .‬لقد‬

‫بقيت أميل إلى المعارف ذات الحدود المتحركة وأستمتع‬

‫‪83‬‬


‫حوار‬

‫كثي ًرا في مناطق التداخل بينها‪ ،‬من دون السكون في‬ ‫ّ‬ ‫ولعل انتمائي إلى العلوم االجتماعية‬ ‫اختصاص ضيّق‪.‬‬

‫ساعد على هذا الترحال الذي هو‪ ،‬في نهاية األمر‪ ،‬اعتراف‬

‫عربية من بينها دولة البحرين اليوم‪ .‬كيف تقيّم تجربتك‬

‫في التعاون مع مراكز بحوث عربية وهل يمكن القول‪:‬‬

‫بنسبيّة الحقائق والظواهر‪ .‬األهمّ من هذا أنّ الحديث عن‬ ‫ّ‬ ‫المثقف‬ ‫إحساسا قاسيًا بالتباس العالقة بين‬ ‫النشأة يثير‬ ‫ً‬

‫إن المنطقة العربية أصبحت تنافس البلدان الغربية في‬

‫عضوية وفاعلة مع موطن النشأة‪ ،‬تتجاوز مجرد اإلحساس‬

‫الفكري بمرحلة أوربية ثم بمرحلة التينو أميركيّة كان‬

‫وبيئته األصليّة‪ .‬أنا كغيري من المثقفين الذين يمدّ بهم‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫المدينة أشعر بالعجز أو التقصير في إيجاد عالقة‬ ‫الريف‬ ‫باالنتماء والوجدانيات المتصلة به‪ .‬قد يكون هذا االنتماء‬ ‫وراء اهتمامي الفكري بالعدالة االجتماعيّة وبالصراع من‬ ‫أجلها وبالمفكرين الذين ّ‬ ‫نظروا لها‪ .‬ولكن هذا ال يع ّوض‬

‫اإلحساس بالعجز أو التقصير‪.‬‬

‫استقطاب الكفاءات العلمية العربية؟‬ ‫■ شاءت ظروف تكويني ومساهمتي أن يم ّر مساري‬

‫لهما تأثير في مستوى النظريات والمقاربات واالهتمامات‪،‬‬ ‫ولكني لم أحس بأني حيث يجب أن أكون إلاّ في مرحلتي‬ ‫العربيّة التي هي األطول واألكثر حف ًزا للتفكير واإلنتاج‪.‬‬

‫صلتي بالمشرق العربي قامت على أساس اهتمامي‬

‫بالمسألة العربيّة‪ ،‬من وجهة سوسيوثقافية بالدرجة‬

‫● كنت قد ّ‬ ‫حذرت منذ األيام األولى التي تلت الثورة‬

‫األولى‪ ،‬وكذلك للمساهمة في مبادرات العمل الجماعي‬

‫انتظم بتونس بحضور المفكر والشاعر أدونيس وتنشيط‬

‫تأسيس الجمعية العربية لعلم االجتماع‪ .‬من الصعب‪ ،‬في‬

‫التونسية من السلطة‪ ،‬واستمعنا إليك تقول في لقاء‬ ‫الشاعر الراحل محمد الصغير أوالد أحمد‪ :‬إن السلطة‬ ‫وإن كانت بأيدي الثوريين تنزع نحو التسلط‪ ،‬ويبدو أن ما‬ ‫حذرت منه قد وقع فعلاً في تونس وفي سوريا وفي اليمن‬

‫‪84‬‬

‫الذين لم يختاروا الغرب كوجهة مطلقة للعيش والعمل‪،‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫وأقمت في دول‬ ‫اخترت السفر بين الشرق والغرب‪،‬‬ ‫بل‬

‫وفي ليبيا ومصر بعد نحو ست سنوات على قيام ثورات أو‬ ‫انتفاضات شعبية‪ ،‬فهل ما زلت تتمسك بفكرة الفصل بين‬

‫الحدث الثوري والمد الثوري؟‬ ‫لاً‬ ‫■ حين قامت الثورة في تونس كتبت مقا قصي ًرا‬

‫قلت فيه‪ :‬إن الثورات تأكل أوالدها وإن الخوف هو من أن‬

‫ً‬ ‫خصوصا في مجال العلوم االجتماعية‪ ،‬ومنه‬ ‫المستقل‪،‬‬ ‫الواقع‪ ،‬وإلى حد اآلن‪ ،‬الحديث عن استقطاب فكري في‬ ‫العالم العربي‪ .‬هناك انتداب كفاءات علمية متخصصة‪،‬‬ ‫بحسب حاجات بعض الدول‪ ،‬ال يتسع لها المجال‪ ،‬في‬

‫األغلب‪ ،‬لكي تشتغل أو تنتج‪ ،‬فكريًّا‪ ،‬خارج وظيفتها التي‬ ‫تنتدب من أجلها‪ .‬الوضع ً‬ ‫إذا مختلف عما هو في بلدان‬ ‫غربيّة حيث حرية التعبير واإلنتاج هما عامل استقطاب‬

‫أساسي‪.‬‬

‫● أنت اليوم الرئيس الفخري للجمعية العربية لعلم‬

‫تأكلهم باك ًرا‪ .‬هذا الخوف بدا لبعض متشائمً ا‪ ،‬ولكن تبيّن‬ ‫ّ‬ ‫محله‪ .‬لقد غاب الفاعلون بسرعة وعادوا‬ ‫حدسا في‬ ‫أنه كان‬ ‫ً‬

‫االجتماع والمنطقة العربية‪ ،‬كما تعلم تعيش تحوالت‬

‫اختيارًا وإنما ألن السلطة حتى لو كانت ثورية أو سمّ ت‬

‫وثقافية باألساس جعلتها محل دراسة المستشرقين‬

‫إلى مواقعهم‪ ،‬سالمين وغير سالمين‪ .‬لماذا عادوا؟ ليس‬

‫نفسها ثوريّة تنبني على صراع من أجل التموقع فيها‪ ،‬مع‬ ‫تبرير هذا الصراع بمواجهة الثورة المضادة‪ .‬هذا الصراع الذي‬

‫سرعان ما يتحول إلى صراع سياسي‪ ،‬بعيدً ا عن المطلب‬

‫االجتماعي‪ ،‬دفع مَ ن في السلطة الجديدة إلى إقصاء‬ ‫الفاعلين االجتماعيين حتى لو بقي يتكلم باسمهم‪ .‬هذا‪،‬‬ ‫فعلاً ‪ ،‬ما حدث مع أبناء الثورة‪ ،‬أي أولئك الناس العاديون‬

‫متواصلة‪ ،‬وهي تحوالت نتجت عنها تغيرات اجتماعية‬ ‫والباحثين بالغرب‪ .‬كيف تقيم ردة فعل علماء االجتماع‬ ‫العرب؟ وهل كانت الهزات الكبرى واالرتدادات كفيلة‬

‫بدفعهم نحو تجديد مناهج البحث وتطوير أدواتهم لفهم‬ ‫أفضل للظواهر االجتماعية؟‬ ‫■ إجمالاً ‪ ،‬يمكن القول بأن علماء االجتماع العرب‪،‬‬

‫الذين قاموا بها وضحَّ وا من أجلها‪ .‬من هذه الوجهة‪ ،‬ال‬

‫كغيرهم من المفكرين والمتخصصين فوجئوا بما حدث‪،‬‬ ‫ً‬ ‫مكانا وزم ًنا‪ .‬هذا ال يعني أنهم لم يتوقعوا‬ ‫وكما حدث‪،‬‬

‫يمكن تحميلهم مسؤولية تعطيل أو انحراف المسار الثوري‬

‫فهم كثي ًرا ما أشاروا إلى التناقضات المجتمعيّة التي من‬

‫يمكن القول بأن الثوريين استلموا السلطة‪ ،‬وبالتالي ال‬ ‫في تونس‪ .‬أما المفارقة األساسية فهي أن الثورة التي هي‬

‫حركة تغييريّة كبرى نحو المستقبل أفضت‪ ،‬سياسيًّا‪ ،‬إلى‬ ‫سلطة سياسيّة ماضويّة ذات جناحيْن من الماضي‪.‬‬

‫● الطاهر لبيب من المفكرين التونسيين والعرب‬

‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬

‫حدوثه‪ ،‬في المطلق أو من جهة الحدس التاريخي‪،‬‬ ‫المفترض أن تؤدي إلى مطالب تغييرية كبرى‪ ،‬وبالتالي إلى‬ ‫تحريك التاريخ العربي‪ ،‬لكن استشرافهم للمستقبل لم‬ ‫يدرج ضمن توقعاته سيناريو الثورة‪ ،‬في المدى المنظور‪.‬‬

‫ومهما يكن‪ ،‬فقد تأكد أن النظريات والمقاربات واألجهزة‬


‫التشبث بماض غير تاريخي أظهر كائنات متوحشة‬ ‫الطاهر لبيب‪:‬‬ ‫ّ‬

‫المفاهيميّة المعتمدة لم تكن لها القدرة المعرفيّة‬

‫والتحليليّة الكتشاف ما كان يتفاعل ويتراكم من فعل‬

‫اجتماعي‪ ،‬وراء الظواهر الظاهرة التي شغلت الباحثين‪ .‬إن‬ ‫ما يحدث في العالم العربي منذ ربع قرن‪ ،‬سواء كان كثورة‬

‫أو كفوضى أو كتوحش غير مسبوق‪ ،‬هو مخبر جديد تمامً ا‬ ‫للبحث العلمي ولكنه ال يبدو ّأنه حفز‪ ،‬بالقدر الكافي‪،‬‬

‫على تجديد آليات البحث االجتماعي‪ .‬إن الخطاب العربي‪،‬‬ ‫إجمالاً ‪ ،‬لم يتغيّر‪ ،‬بل ّإنه تراجع في مواقع كثيرة‪ ،‬حيث‬ ‫تس ّربت إليه رؤى وأفكار كان يُظنّ أنه تمّ تجاوزها‪.‬‬ ‫العلوم اإلنسانية بقيت تلقينية‬

‫● تصاعدت التحذيرات بعد انتشار العنف في‬

‫البلدان العربية وتوسع بؤر التوتر وظهور آفة اإلرهاب‬

‫من إهمال العلوم اإلنسانية‪ ،‬هل ترى أن اإلشكال يطرح‬ ‫بهذه الطريقة فعلاً ثم هل ترى أن المنطقة العربية‬

‫تولي العلوم بمختلف أصنافها االهتمام الالزم من خالل‬ ‫تخصيص االعتمادات وتشجيع البحوث العلمية وبناء‬ ‫مراكز البحوث؟‬ ‫■ إذا استثنينا بعض المجاالت التي لها استمرار تاريخي‬

‫كاللغة واآلداب وإلى حد ما الفلسفة فإن العلوم اإلنسانية‬

‫ّ‬ ‫خاصة بقيت مدرسية تلقينيّة‪،‬‬ ‫عمومً ا واالجتماعية بصورة‬

‫في األغلب‪ ،‬ولم تترسخ في المعرفة العربيّة كعلوم‬ ‫تحليلية نقديّة‪ ،‬وهذا ألسباب متنوعة يطول الحديث‬ ‫عنها‪ .‬ومع الطفرة التكنولوجية حدثت هجرة واسعة إلى‬ ‫العلوم التطبيقيّة التي نادت بها أسواق العمل‪ ،‬ولم َ‬ ‫يبق‬ ‫في «اإلنسانيات» إلاّ ضعفاء الحال في المعرفة‪ .‬وقد نتج‬

‫يتغير‪،‬‬ ‫الخطاب العربي‪ ،‬إجماال‪ ،‬لم‬ ‫ّ‬

‫بل إ ّنه تراجع في مواقع كثيرة‪ ،‬حيث‬ ‫ظن أنه‬ ‫َّ‬ ‫تسربت إليه رؤى وأفكار كان ُي ّ‬ ‫تم تجاوزها‬ ‫ّ‬

‫إليه‪ .‬هذا هو الحل الذي يتبادر تلقائيًّا إلى الذهن‪.‬‬ ‫● استفاق التونسيون وشعوب عربية أخرى عاشت‬

‫محنة العنف واإلرهاب التي تلت سقوط األنظمة‬ ‫الدكتاتورية على ما يسمونه بالتصحر الثقافي‪ .‬فقد‬

‫تبيّن أن الشعوب ليست محصنة بالقدر الكافي ضد‬ ‫محاوالت التدجين‪ ،‬وليست مسلحة بالمعارف وبالثقافة‬ ‫كي تواجه المشاريع الظالمية والدعوات للعودة إلى ما‬

‫عن هذا ما نالحظه من ِّ‬ ‫تدني مستوى العلوم اإلنسانية‬

‫تسميه بالمجتمع القروسطي‪ ...‬كيف نفسر ذلك وبلدان‬

‫كونية‪ ،‬ولكن ننسى أن البلدان المتقدمة لها متاريس‬ ‫ً‬ ‫خالفا للبلدان العربيّة‬ ‫حصينة وقديمة في هذه العلوم‪،‬‬

‫للمجتمع قادها مثقفون ومفكرون ورجال دين إضافة إلى‬

‫واالجتماعية في الجامعات العربيّة‪ .‬قد يقال‪ :‬إن الظاهرة‬

‫مثل تونس عرفت منذ القرن التاسع عشر حركات إصالح‬ ‫وجود مجتمع مدني نشيط ويقظ؟‬ ‫■ إيقاع الحركة الثقافية‪ ،‬رغم كل المبادرات الفكرية‬

‫التي فقدت فيها هذه العلوم حتى سالمة اللغة التي تسمح‬ ‫لها بأن تكون دقيقة‪ .‬ال يمكن أن نوجد حلولاً لمسائل ال‬

‫الفردية‪ ،‬لم يساير‪ ،‬في العالم العربي‪ ،‬إيقاع التغيّر‬

‫منها ما هو غير مألوف في العالم العربي فإن إعادة االعتبار‬

‫ودينية بالدرجة األولى‪ .‬الحراك الثقافي مصدر ريبة عند‬

‫ّ‬ ‫المركبة التي‬ ‫نفهمها فهمً ا سليمً ا‪ .‬وإذا اعتبرنا التحديات‬ ‫إلى العلوم اإلنسانية واالجتماعية تصبح ضرورة بديهيّة‪ .‬إن‬

‫المجتمعات العربية‪ ،‬وكذلك أنظمتها السياسية‪ ،‬هي اآلن‬

‫تدفع ثمن الجهل بذاتها الناتج عن تهميش أو إقصاء هذه‬

‫في مستويات ومجاالت أخرى‪ ،‬وهذا ألسباب سياسية‬ ‫كل األنظمة العربية ويزداد حذرها منه بقدر ما يتجه نحو‬ ‫اإلبداع الذي ال يخلو‪ ،‬بالضرورة‪ ،‬من «البدعة» الف ّنية‪ ،‬على‬

‫األقل‪ .‬شخصيًّا‪ ،‬أرى أن غياب مفهوم القطيعة في الثقافة‬

‫العربية اإلسالمية هو وراء كل العوامل الذهنيّة التي‬

‫العلوم‪ ،‬خارج معارفها‪ .‬وإذا أمكن تدارك الوضع فلن يكون‬ ‫ذلك إلاّ بناءً على قناعة وعلى قرار سياسي يعيد هيكلة‬

‫تعرقل المسار الثقافي العربي وتجعل انتكاسته ممكنة في‬

‫وييسر عمل الباحثين ويحفزهم‬ ‫وإمكانات وآليات متطورة‪،‬‬ ‫ّ‬

‫ساذجة ال تتضمّ ن التجاوز‪ ،‬ولذلك يتناضد فيها كل شيء‪،‬‬

‫التدريس وينشئ مؤسسات جديدة للبحث‪ ،‬بتصورات‬

‫كل لحظة‪ .‬مقولة التراكم في الفكر العربي السائد مقولة‬

‫‪85‬‬


‫حوار‬

‫وتتداخل فيها كل األزمنة وكذلك كل األنساق الفكرية‬

‫تعوّدنا على رصدها وتحليلها بين الثقافة والواقع قد‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫خصوصا مع انتشار ثقافة معولمة‬ ‫تفككت أو تميّعت‪،‬‬

‫القنوات والكتب والصحف‪ .‬والواقع‪ ،‬كما أثبتت تجارب‬

‫الحس‬ ‫إن الكثير مما كان يعدّ ثقافة النخبة أصبح من‬ ‫ّ‬

‫والذهنية‪ ،‬من األساطير والخرافات والشعوذات إلى أكثر‬ ‫ً‬ ‫عقالنية‪ .‬هذا ما نراه يتتابع ويتحاذى‪ ،‬يوميًّا‪ ،‬في‬ ‫المبادئ‬

‫من الصعب ربطها بمكوّنات البنية االجتماعية المحليّة‪.‬‬

‫المجتمعات المتقدمة‪ ،‬أن التغيُّر الذي ينقل مجتمعً ا‬

‫المشترك الذي تنشره وسائل االتصال الحديثة‪ .‬وإذا‬

‫من مرحلة إلى أخرى ال يكون من دون قطيعةٍ مع ثقافة‬

‫وذهنيات مراحل سابقة‪ .‬إن ظهور الكائنات المتوحشة‬ ‫اآلتية من تخيالت القرون المظلمة لم يكن ممك ًنا لوال‬

‫المثقف والمفكر‪ .‬كل الناس مثقفون بطريقة أو بأخرى‪،‬‬ ‫ولكن ليسوا كلهم مفكرين‪.‬‬

‫بماض متخيَّل‬ ‫التشبُّث السائد‪ ،‬في الحس المشترك‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫وغير تاريخي‪ .‬هذا التشبث الساذج والعبثي‪ ،‬في أغلب‬

‫ّ‬ ‫يعد الطاهر لبيب من المهتمين بفكر غرامشي‪،‬‬ ‫●‬

‫ميسرة ورصيده جاهز‪ .‬ولهذا السبب يمكن أن يتجلى في‬ ‫َّ‬

‫بعد تأخير كبير‪ ،‬لكنك حذرت في الوقت نفسه من نسخ‬

‫حاالته‪ ،‬ال يتطلب أي مجهود معرفي؛ ألن الطريق إليه‬ ‫أي بلد عربي‪ ،‬ولو بدرجات وأشكال مختلفة‪ .‬تبدو تونس‬ ‫ُّ‬ ‫تحص ًنا باعتبار تجربة‬ ‫من بين المجتمعات العربية األكثر‬

‫مجتمعها المدني وغياب الطائفية ونزعة االجتهاد الفكري‬ ‫والديني والميل إلى الوسطية‪ ...،‬إلخ‪ ،‬لكن وسائل االتصال‬

‫الحديثة تع ّرض بعض الفئات فيها إلى تأثير الفكر الظالمي‪.‬‬

‫وقد تبيّن لألسف‪ ،‬أن هذا المجتمع التحديثي المنفتح هو‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وحوشا نادتها الدماءُ فاستجابت لها في أرضها‬ ‫أيضا‪ ،‬أنتج‬

‫‪86‬‬

‫أردنا المحافظة على حد أدنى من التصنيف فليكن بين‬

‫وخارج أرضها‪ .‬مثال تونس يبيّن أنه ال بلد عربيًّا في مأمن‬

‫من هذه الوحوش‪ .‬من يظنّ خالف ذلك لم يفهم الدرس‪.‬‬ ‫االستغناء عن مفهوم النخبة‬

‫ووجهت لومً ا للعرب على اكتشاف فكر المثقف اإليطالي‬ ‫أفكاره؛ ألن لكل بيئة خصوصياتها والبيئة العربية تختلف‬

‫بطبيعة الحال عن البيئة اإليطالية وعن البيئة الغربية‬ ‫ً‬ ‫مفيدا‬ ‫عمومً ا‪ .‬فكيف يمكن لفكر غرامشي أن يكون‬ ‫للمنطقة ً‬ ‫إذا في ظل التحوالت التي تشهدها سياسيًّا‬ ‫واجتماعيًّا بالخصوص؟‬ ‫■ لفت النظر إلى المفكر والمناضل اإليطالي غرامشي‬

‫كان في فترة تبحث فيها الماركسية العربيّة عن مخارج‬ ‫نظرية من بعض االنغالق الدوغمائي الذي ّ‬ ‫عطل تحليل‬ ‫الخصوصية العربية‪ .‬فكر غرامشي فكر ماركسي لكنه‬ ‫منفتح على أبعاد ومجاالت لم تكن الماركسية التقليدية‬

‫تأخذها بعين االعتبار‪ .‬لقد قارن بين الوضع في روسيا التي‬

‫● هل نطبق على الحال التونسية ما أشرت إليه‬

‫حدثت فيها الثورة بصورة غير منتظرة وبين الوضع في‬ ‫ّ‬ ‫معقد‬ ‫أوربا الغربية‪ ،‬واستخلص أن وجود مجتمع مدني‬

‫مقابالت بين الثقافة والحضارة أو الثقافة والطبيعة إلى‬

‫بثورة فيه من دون هيمنة أيديولوجية‪ ،‬وهو ما يعني أن‬ ‫الصراع االجتماعي يتطلب عملاً فكريًّا يلعب المثقفون فيه‬

‫في كتابك «سوسيولوجيا الثقافة» عندما وجهت نقدك‬ ‫للمفاهيم المقترحة للثقافة‪ ،‬وبخاصة تلك التي تضع‬

‫وجود مفهوم للثقافة ينتهي إلى عزل المعرفة عن الواقع‪،‬‬ ‫استقاللاً بعالم «أرقى» خاص بنخبة لها قيمها وتصورات‬

‫في أوربا يجعل من الصعب على الطبقة العاملة القيام‬

‫ً‬ ‫مألوفا‬ ‫دورًا أساسيًّا‪ .‬لقد أبرز غرامشي بُعدً ا ثقافيًّا لم يكن‬

‫«عليا»‪ .‬ثم كيف نميز المثقف اليوم؟ وما هي وظيفته في‬

‫في الرؤية الماركسية للصراع االجتماعي السياسي‪ .‬هذا‬

‫بفضل الثورة الرقمية وتكنولوجيا المعلومات؟‬ ‫■ مفهوم النخبة انبنى في مراحل سابقة كمراحل‬

‫في المغرب العربي؛ ألن مثقفي المشرق العربي اهتم‬

‫ظل تعدد القنوات ومصادر المعرفة ووفرة المعلومات‬

‫ً‬ ‫خصوصا‬ ‫البعد بالذات هو الذي أغرى المثقفين العرب‪،‬‬

‫التحرير الوطني وبناء الدولة الوطنية أو في مراحل‬

‫أغلبهم بالجانب النضالي العملي‪ .‬المغاربة جعلوا من‬ ‫ً‬ ‫«مثقفا» بالدرجة األولى والمشارقة جعلوا منه‬ ‫غرامشي‬

‫في أغلب البلدان العربيّة‪ .‬في تلك المراحل أسند المثقف‬ ‫إلى نفسه أو أُسندت إليه أدوار كانت مرتبطة بأحالم‬

‫غياب‪ ،‬ألن الظواهر الثقافية‪ ،‬في معناها الواسع‪ ،‬اتخذت‬ ‫ّ‬ ‫والمحلي‪ .‬أما في‬ ‫أشكالاً خطرة على الصعيدين العالمي‬

‫نضالية كتلك التي عرفتها الستينيات وبعض السبعينيات‬

‫جماعية وبمشاريع وبدائل مجتمعية لم تعد قائمة‬ ‫اليوم‪ .‬انتهت هذه األدوار التي على أساسها كان المثقف‬

‫عنص ًرا أساسيًّا في تركيبة النخبة‪ .‬مفهوم النخبة نفسه‬ ‫أصبح غير ذي معنى‪ ،‬بل اس ُتغ ِني عنه‪ .‬إن العالقة التي‬ ‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬

‫«مناضلاً » بالدرجة األولى‪ .‬اليوم يعود غرامشي‪ ،‬بعد‬

‫تونس فاستدعاء غرامشي‪ ،‬في المدة األخيرة‪ ،‬هو لفهم‬ ‫ّ‬ ‫المتوقع أن يكتشف‬ ‫صعوبات التحوّل الثوري‪ ،‬ومن‬

‫المحللون أن هذه الصعوبات مرتبطة بعدم قدرة القوى‬ ‫الثورية على الهيمنة األيديولوجية‪ .‬لقد كانت الثورة بمنزلة‬


‫التشبث بماض غير تاريخي أظهر كائنات متوحشة‬ ‫الطاهر لبيب‪:‬‬ ‫ّ‬

‫«حرب حركة» سريعة في وضع يتطلب «حرب مواقع»‬ ‫ً‬ ‫نوعا من السلطة‬ ‫أيديولوجيّة‪« .‬حرب الحركة» قد تزيل‬ ‫لكنها ال تستطيع إزالة الترسانة األيديولوجية التي تقوم‬

‫عليها‪ ،‬وقد تضمن استمرارها بطريقة أو بأخرى‪.‬‬

‫● هل تعد ما يسمى بالربيع العربي قد أفقد‬

‫مفهوم المثقف العضوي الذي دافع عنه غرامشي بقوة‬ ‫آنيته؟ وهل المثقف اليوم في المنطقة العربية فاعل‬ ‫في المجتمع في ظل انتشار القنوات الفضائية ومواقع‬

‫التواصل االجتماعي وبرامج ما يسمى بتلفزيون الواقع‬ ‫َ‬ ‫المشهد اإلعالمي؟‬ ‫واكتساح من يسمون بالخبراء‬ ‫ّ‬ ‫■‬ ‫أتذكر أن تدريسي في الجامعة لم يستقطب‬ ‫الطلبة مثلما استقطبه الدرس حول المثقف العضوي‬ ‫عند غرامشي‪ .‬كان الطلبة أنفسهم يريدون أن يكونوا‬

‫مثقفين عضويين‪ .‬كانوا يبحثون عن طريق االرتباط‬

‫بطبقات وحركات اجتماعية كانت تبدو لهم صاعدة‪.‬‬ ‫والواقع أن تعبير المثقف عن عضويته‪ ،‬في المعنى الذي‬

‫أراده غرامشي‪ ،‬كان صعبًا في الظروف العربيّة‪ ،‬رغم‬ ‫السعي الفكري والنضالي إلى اكتسابها‪ .‬على أنّ المفارقة‬ ‫ّ‬

‫التي ظهرت في المجتمع العربي عمومً ا وإلى حد ما في‬ ‫ً‬ ‫المجتمع التونسي هي أن من كان يُعَ دّ‬ ‫مثقفا تقليديًّا‪،‬‬ ‫حسب غرامشي‪ ،‬أصبح أكثر عضوي ًّة من العضوي كما هي‬ ‫حال مثقفي الحركات الماضوية التي كان يظنّ ّ‬ ‫أنها مرتبطة‬ ‫بطبقات وحركات في طريقها إلى الزوال‪ .‬ومهما يكن فإن‬

‫درس غرامشي هو في ضرورة تطويع النظريات والمقاربات‬ ‫حسب خصوصية المجتمع الذي يراد التفكير أو العمل من‬

‫أجل تغييره‪.‬‬

‫أنطونيو غرامشي‬

‫األوربية أنتجت أغرب‬ ‫الديمقراطيات‬ ‫ّ‬ ‫من ترمب ومن اليمين العنصري؛‬

‫أنتجت االستعمار المباشر‪ ،‬والنازية‪،‬‬ ‫والفاشية‪ ،‬وحربين عالميتين‬ ‫ً‬ ‫إضافة إلى‬ ‫فإن تراجعها‪ ،‬بل غيابها في فضاءات حيويّة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫يؤشر على توجّ ه نحو اندثارها‪.‬‬ ‫عدم االكتراث بسالمتها‪،‬‬

‫االندثار يعني أنها لن تبقى‪ ،‬عمليًّا‪ ،‬لغة قوميّة أو وطنيّة‪،‬‬

‫بل لغة فئة خاصة ومحدودة‪ ،‬هي في الجملة فئة مرتبطة‬ ‫بالمقدس‪ .‬هذا ما حدث مثلاً ُّ‬ ‫للغة الالتينية‪ ،‬وهذا هو‬

‫ٌ‬ ‫بعض بأنه ال خوف‬ ‫المقصود‪ ،‬في نهاية األمر‪ ،‬حين يقول‬

‫على العربية ألن القرآن يحفظها‪ .‬صحيح أنه قد يحفظها‪،‬‬

‫لغة ال يتكلمها أهلها مآلها االندثار‬ ‫● ي ّ‬ ‫َعد الطاهر لبيب أن اللغة العربية مهددة‬

‫لكنه يحفظها لهذه الفئة ال للمجتمع‪ ،‬مثلما حفظها في‬ ‫بلدان إسالميّة غير عربيّة‪ .‬وفعلاً ‪ ،‬هناك بلدان عربيّة لم‬

‫المقدس ال غير‪ .‬هل يمكن مطالبة شعب أو أمة بالحفاظ‬

‫وبعض المناسبات الرسميّة‪ .‬ال أناقش ما هو مفروغ منه‬

‫بالتهميش وبانحسار دورها االجتماعي وتحولها إلى لغة‬

‫على لغتها في ظل انتشار لغة عالمية جديدة‪ ،‬لغة الويب‪:‬‬ ‫وهي لغة يتحكم فيها من بلغ مرحلة ما بعد الحداثة أي‬ ‫صناع تكنولوجيا المعرفة وتكنولوجيا المعلومات‪ ،‬في‬

‫حين ما زالت المجتمعات العربية تناقش مسألة االنتقال‬ ‫إلى الحداثة؟‬ ‫ّ‬ ‫يتكلمها أهلها أو يستغنون عنها بلغة‬ ‫■ اللغة التي ال‬

‫أخرى هي لغة مآلها االندثار‪ .‬هذا مبدأ عام ال أرى سببًا‬ ‫مقنعً ا الستثناء اللغة العربية من الخضوع له‪ .‬وإذا نظرنا‬ ‫إلى وضع اللغة العربية الفصحى نظرة ميدانية موضوعيّة‬

‫يعد فيها وجود حقيقي للغة العربية خارج هذه الفئة‬ ‫ّ‬ ‫وبخاصة المعولمة‬ ‫من ضرورات المعرفة باللغات األجنبيّة‬ ‫منها كاإلنجليزيّة‪ ،‬لكني أشير فقط إلى أن اللغة العربية‬ ‫الفصحى هي‪ ،‬كغيرها من اللغات‪ ،‬ستندثر إذا تواصل‬ ‫مسارها الحالي‪ ،‬وأن التغ ّني بها وتمجيدها لن ينقذها‬ ‫من ذلك‪ .‬لقد أشار طه حسين‪ ،‬قبل ستين سنة‪ ،‬إلى أن‬

‫اللهجات قد تتحول إلى لغات‪ ،‬وأنه قد يأتي وقت يحتاج‬ ‫فيه التونسي‪ ،‬مثلاً ‪ ،‬إلى من يترجم له ما يقول السعودي‪.‬‬ ‫المسألة مسألة وقت‪ .‬المهم أن يدرك العرب ذلك‪ ،‬وأن‬

‫يتحمل أصحاب القرار السياسي مسؤوليتهم التاريخيّة‪.‬‬

‫‪87‬‬


‫حوار‬

‫● يرى بعض المفكرين العرب من بينهم مثلاً‬

‫الدكتور هشام جعيط أن الصراعات اليوم في بعض‬

‫الثورات الشعبية في العالم وبخاصة األفكار التقدمية‬

‫العرب والمسلمين في حين ترى أن اآلخر بالنسبة لنا ال‬

‫التوهّ م بأن صعود اليمين في أوربا وأميركا هو صعود‬

‫البلدان العربية‪ ،‬وإن كانت بين العرب فيما بينهم‪ ،‬أنها‬ ‫ّ‬ ‫تحكم مطولاً في شؤون‬ ‫موجهة ضد الغرب؛ ألن الغرب‬ ‫ينبغي أن ينحصر في الغرب فقط‪ .‬هل يمكن أن نطمئن‬

‫اليوم لصورتنا لدى اآلخر؟ وهل يمكن أن نراها في مرآة‬ ‫اآلخر من دون أن ترافقها مخاوف من رفضه لنا بسبب‬

‫ارتباط صورة المغاربي والعربي والمسلم اليوم بالعنف‬

‫والقيم الكونية؟‬ ‫■ الضعف العربي هو الذي يخلق عند العرب هذا‬ ‫يستهدفهم‪ .‬إنهم ير ّدون الفعل وكأن أوربا وأميركا ال‬ ‫ترى غيرهم في العالم‪ ،‬هذا في حين أنهم ليسوا إلاّ بؤرة‬ ‫من بؤر الصراع الجيوسياسي‪ ،‬خلقتها مصالح مرحليّة‪.‬‬

‫وراء الشعارات واإلجراءات المعادية للعرب والمسلمين‬

‫واإلرهاب؟‬ ‫■ عندما كان العرب في مدّ هم الحضاري كان اآلخر‬

‫المجتمعات األوربية والمجتمع األميركي‪ ،‬أي في صلب‬

‫يهتموا به ونظروا إلى أمم أخرى وأخذوا منها‪ .‬تغير هذا‬

‫وأشباهه في أوربا هو من إفرازات مرحلة من مراحل ما‬

‫عندهم متعدّ دًا ولم يكن للغرب ما يعطيه للعرب فلم‬

‫منذ أن وجد العرب أنفسهم تحت سيطرة الغرب‪ ،‬بدءً ا‬ ‫بالحروب الصليبية ومرورًا باالستعمار إلى اليوم‪ .‬هذا ما‬ ‫يفسر أن الغرب هو اآلخر بالنسبة إليهم‪ ،‬وكأنه ال يوجد‬

‫غيره في الدنيا‪ .‬صحيح أن هناك خلفية‬ ‫صراع متخيّل مع الغرب ولكن التغيّرات‪،‬‬

‫ً‬ ‫خصوصا منذ تسعينيات القرن الماضي‪،‬‬

‫‪88‬‬

‫ثقافة جديدة تدير ظهرها لكل المكتسبات الناتجة عن‬

‫أسباب تتصل بالصراع االجتماعي والسياسي داخل‬ ‫النظام الرأسمالي الباحث عن تجاوز أزماته‪ .‬نمط ترمب‬

‫يسمى نظامً ا عالميًّا جديدً ا‪ .‬ومهما كان رأينا فيه‪ ،‬ورأينا‬ ‫ّ‬ ‫مؤثر‪ ،‬فإن صعود هذا النمط‬ ‫طبعً ا غير مطلوب وغير‬

‫إلى السلطة هو نتيجة تصويت الناس له‪ .‬الديمقراطيات‬ ‫األوربيّة أنتجت أغرب من ترمب ومن اليمين‬ ‫العنصري؛ أنتجت االستعمار المباشر‪،‬‬ ‫والنازية‪ ،‬والفاشية‪ ،‬وحربين عالميتين‪ .‬هناك‬ ‫رؤى ومقاربات متفائلة تستشرف مستقبلاً ال‬

‫بعثت مواجهات بين العرب أنفسهم‬ ‫وخلقت َ‬ ‫آخ َر جوَّا ِنيًّا تراجعت العداوة معه‬

‫يتحمّ ل استمرار عدم توازن النظام العالمي‬

‫يجعل من السهل إسقاط كل األحكام‬

‫قوى كبرى صاعدة أو عائدة إلى قوتها من‬ ‫ّ‬ ‫المتوقع أن تعدّ ل مصالحها من هذا النظام‪،‬‬

‫إلى الداخل العربي‪ .‬أما صورة العربي فلن‬ ‫تتغيَّر إلاّ إذا تغيّر العربي‪ .‬وضعه الحالي‬

‫السلبية عليه‪ .‬من العجيب أن العربي‬

‫الذي يجلد ذاته ال يقبل أن يجلدها غيره‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫يتشكى كثي ًرا من‬ ‫ثم إن العربي الذي‬ ‫ً‬ ‫تشويه صورته ال يتنبّه إلى أنه هو أيضا‬

‫يش ِّوه صورة اآلخر؛ ألن معرفته به مش َّوهة‬

‫ً‬ ‫بعضا يتحدث عن الغرب‪،‬‬ ‫ومحدودة‪ .‬عندما نسمع‬

‫الحالي وكوارث النيوليبرالية المعولمة‪ .‬هناك‬

‫ولكن أين العرب في هذا؟ قطعً ا‪ ،‬لن يكون‬

‫لهم مكان وال وزن إن واصلوا مسارات التفرقة‬ ‫ً‬ ‫صيغا تجمع بينهم‬ ‫الحالية‪ ،‬ولم يجدوا‬ ‫وتتجاوز الشعارات المستهلكة التي أصبحت‬

‫للتندّ ر أكثر مما هي للفعل‪.‬‬

‫ً‬ ‫خصوصا من وجهة معياريّة‪ ،‬ال نشك في أن ما يتحدث‬ ‫لاّ‬ ‫عنه ال وجود له إ في خياله‪ .‬هذا‪ ،‬بالمناسبة‪ ،‬ال يختلف‬

‫ما ينتشر باسم اإلبداع ال إبداع فيه‬ ‫َّ‬ ‫تمكن كتابك «سوسيولوجيا الغزل العربي»‬ ‫●‬

‫يكن فإن خوف العربي الدائم من تشويه صورته هو عالمة‬ ‫ضعف ّ‬ ‫وقلة ثقة بالذات‪.‬‬

‫من رفض للمسلمات حول الشعراء العذريين وعدم‬

‫عما يقوم به عند الحديث عن البعيد من تاريخه‪ .‬ومهما‬

‫من االنتشار عربيًّا وفي الغرب كذلك بفضل ما ورد فيه‬

‫التعامل معهم كمجرد تجارب فردية إنما كمعبرين عن‬

‫فئة اجتماعية عاشت مهمشة في بيئتها‪ ،‬لكن كل ذلك‬

‫● تكتسح األحزاب اليمينية أوربا‪ ،‬كما أن وصول‬

‫أفرز من جهة ِس َيرًا تاريخية مثيرة حتى وإن كانت الوقائع‬ ‫ً‬ ‫إبداعا ظل‬ ‫التاريخية تختلط باألسطورة‪ ،‬ومن جهة ثانية‬

‫وهو باألساس اإلنسان العربي والمسلم‪ ،‬هل ترى أننا‬

‫إنتاج فكر وإبداع حقيقيين حتى إن الثورات لم تستطع‬

‫دونالد ترمب للبيت األبيض أكد رغبة البلدان الغربية‬

‫في االنغالق على الذات واالحتماء بالقوميات ضد اآلخر‪،‬‬

‫دخلنا في منطق جديد تسيطر فيه على المجتمعات‬ ‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬

‫ً‬ ‫خالدا إلى اليوم‪ ...‬لماذا برأيك عجزنا اليوم إال ما ندر عن‬ ‫إنتاج خطاب ثوري حقيقي‪ ،‬وهذا أمر تؤكده بنفسك؟‬


‫التشبث بماض غير تاريخي أظهر كائنات متوحشة‬ ‫الطاهر لبيب‪:‬‬ ‫ّ‬

‫ّ‬ ‫الشك في قدرة العربي على اإلبداع‪.‬‬ ‫■ ال أحد يمكنه‬

‫المشكلة هي في صعوبة انتقال هذه القدرة من القوة إلى‬ ‫الفعل‪ ،‬أي في عدم توافر ظروف اإلبداع‪ .‬من المفروغ منه‬

‫أن الحريّة شرط أوّل لإلبداع‪ ،‬وهي‪ ،‬في الجملة‪ ،‬محاصرة‬

‫في البلدان العربيّة‪ ،‬سياسيًّا ودينيًّا واجتماعيًّا‪ ،‬ولو‬

‫بدرجات مختلفة‪ .‬تتضح هذه المحاصرة عندما ننظر‪ ،‬ال إلى‬ ‫ما ينتجه المبدعون إنما إلى ما يتحاشون إنتاجه أو يُم َنعون‬ ‫من إنتاجه‪ .‬الكثير مما ينتشر باسم اإلبداع ال إبداع فيه؛ ألنه‬ ‫مجرد تغطية رسمية مبتذلة لهذه المحاصرة‪ .‬كل مجاالت‬

‫المعرفة والحياة تتسع لإلبداع‪ ،‬لكنها محدودة‪ ،‬عمليًّا‪،‬‬ ‫في العالم العربي لغياب الظروف المناسبة‪ ،‬ال من جهة‬ ‫الحريات فحسب‪ ،‬إنما ً‬ ‫أيضا لغياب المؤسسات والقوانين‬ ‫والتمويالت الحافزة على ذلك‪ .‬اإلبداع العلمي‪ ،‬مثلاً ‪،‬‬

‫سواء كان في العلوم التطبيقية أو في العلوم اإلنسانية‬ ‫واالجتماعية غير ممكن من دون توافر هذه الظروف‪ ،‬ولذلك‬ ‫نالحظ انحسارًا عامًّ ا نحو اإلبداع األدبي والف ّني؛ ألن فيه‬

‫مرونة تستطيع‪ ،‬نسبيًّا‪ ،‬مواجهة الظروف الصعبة‪ .‬اإلبداع‬

‫العربي سردي بالدرجة األولى‪ ،‬وهو‪ ،‬بالمناسبة‪ ،‬اإلبداع‬

‫الوحيد الذي يُترجَ م إلى لغات أخرى‪ ،‬أي أنه النمط الوحيد‬ ‫الذي يُعت َرف باإلبداع العربي فيه‪ .‬اإلبداع هو إنتاج المعنى‪.‬‬ ‫هناك نصوص فكرية وأعمال أدبية وفنية عربيّة لها طابع‬

‫ريادي أو تأسيسي‪ ،‬هذا ال شك فيه‪ ،‬ولكن الثقافة السائدة‪،‬‬

‫غياب اللغة العربية الفصحى في‬

‫عربيًّا‪ ،‬تنتج الالمعنى وتعيد إنتاجه‪ .‬كل ما هو تكرار‪ ،‬وكل‬

‫حيوية‪ ،‬إضافةً إلى عدم‬ ‫فضاءات‬ ‫ّ‬ ‫ِّ‬ ‫توجه‬ ‫يؤشر على‬ ‫االكتراث بسالمتها‪،‬‬ ‫ّ‬

‫ال ينتج المعنى‪ ،‬ورغم ذلك فهو السائد‪ ،‬لألسف‪ .‬الثورة‬

‫نحو اندثارها‬

‫ما هو مفروغ منه‪ ،‬وكل ما هو لغة خشبية أو كالم فارغ‬

‫نفسها أعطت الكالم إلى من كانوا محرومين منه‪ ،‬لكنها لم‬ ‫متماسكا‪ ،‬ولم ّ‬ ‫ً‬ ‫تقلل من إنتاج الالمعنى‪.‬‬ ‫تنتج خطابًا‬

‫الترجمة من أبرز عناوين العجز الفكري السياسي العربي‬ ‫َّ‬ ‫معلقة‪ ،‬هي تلك التي تخص عالقة العرب‬ ‫● من األسئلة التقليدية التي ُتطرَح باستمرار لكن اإلجابة عنها بقيت‬

‫بالترجمة وأنت تهتم بالترجمة من قريب‪ ،‬وكنت لسنوات مدير عام المنظمة العربية للترجمة ببيروت‪ .‬فكل األرقام‬ ‫ً‬ ‫وكيفا رغم اإلقرار بأهمية الترجمة واالنفتاح على ما ينشر‬ ‫والدراسات تؤكد أن الترجمة ضعيفة في بلداننا العربية كمًّ ا‬ ‫ً‬ ‫وانطالقا من تجربتك؟ وهل عملية اإلصالح ممكنة؟‬ ‫في الخارج‪ .‬أين يكمن الخلل برأيك‬

‫■ الترجمة من أبرز عناوين العجز الفكري السياسي العربي‪ .‬فكريًّا‪ ،‬لم يُفهم ُ‬ ‫بعد أن الترجمة ليست خيارًا‪ ،‬إنما‬ ‫هي ضرورة لنقل المعارف‪ ،‬وللحياة الفكريّة‪ ،‬وإلنعاش اللغة العربيّة ً‬ ‫أيضا‪ .‬سياسيًّا‪ ،‬لم يُفهم ُ‬ ‫بعد أن المبادرات التي‬

‫ً‬ ‫يقوم بها بعض الدول العربية‪ ،‬هنا وهناك‪ ،‬مهما كان حجمها‪ ،‬ال ّ‬ ‫مقارنة بما هو مطلوب على‬ ‫تمثل شي ًئا ذا بال‪،‬‬ ‫ً‬ ‫سرعة‪ .‬أظن أنه لو كان العرب في حجم دولة صغيرة‬ ‫الصعيد العربي؛ لتدارك الفجوة في المعارف التي يزداد إيقاعها‬

‫ً‬ ‫عمقا من وعيهم القومي بها‪ .‬يطول الحديث عن الوضع الكارثي للترجمة‪،‬‬ ‫واحدة لكان وعيهم الوطني بالترجمة أكثر‬ ‫ّ‬ ‫تتمثل في قرار سياسي عربي صارم‬ ‫في العالم العربي‪ ،‬وهو وضع ال أراه قابلاً لإلصالح إال بمعجزة سياسية عربيّة‪،‬‬ ‫ونافذ ببعث مؤسسة قومية‪ ،‬ذات هياكل وفروع وآليات متط ّورة وذات إمكانيات مادية وكفاءات بشريّة واسعة‪ .‬في‬

‫انتظار ذلك ستبقى الترجمة رهن مبادرات عابرة وخيارات تجاريّة‪ ،‬وسيبقى ضرر أغلبها أكثر من فائدته؛ النعدام دقته‬ ‫المعرفية وأمانته األخالقية‪.‬‬

‫‪89‬‬


‫مقال‬

‫محمد خضير‬ ‫كاتب عراقي‬

‫البصرة ‪ -‬اإلسكندرية‬ ‫ماتت المهندسة العراقية زها حديد ولم تقدّم‬

‫تصميمً ا واحدً ا لمشروع عصري يقام في بلدها األصلي‬ ‫العراق‪ ،‬مثيلاً للتصميم الذي اقترحته لتطوير أرض‬

‫المعارض المصرية (كايرو أكسبو سيتي)‪ ،‬أو لمحطات‬

‫القديمة‪ ،‬وطريق المعرفة المتصلة بين إسكندرية الفكر‬

‫األفلوطيني وبصرة الفكر اإلسالمي‪ ،‬وما يجاورهما ويقع على‬ ‫َّ‬ ‫خط ْي نهضتيهما من حواضر التنوير والتمدين العربية‪.‬‬

‫المترو والجسور والمتاحف في مواقع مختلفة من العالم‪.‬‬

‫ال تضمّ البصرة العظمى (بتسمية سليمان فيضي‪ ،‬أحد‬

‫فصلت زها عن األرض العراقية‪ ،‬فلم تحتضن ضفاف دجلة‬

‫على استباق حركة الزمن الكوكبية‪ ،‬وال يشهد مربّعٌ من مربّعاتها‬

‫المهندسة العالمية بلمسات رافدينية على بيئة نائخة‬

‫اإلشراق في القرون الهجرية األربعة األولى‪ ،‬وال يُسرع بالظهور‬

‫يتساءل الحضريّون العراقيون عن المسافة الشائكة التي‬

‫أو شط العرب واحدً ا من تلك األجنحة الطائرة لتصميمات‬

‫‪90‬‬

‫وثورته على الجمود العقلي‪ ،‬هذا الذي قد يسمّى بحوار المدن‬

‫بثقلها المعماري الصحراوي‪.‬‬

‫ال أعرف كيف ضاعت هذه الفرصة الحضارية‪ ،‬لكنني‬

‫ال أزال أتخيل المنظر الفضائي لزاوية التقاء األنهر الثالثة‬ ‫في القرنة (دجلة والفرات وشط العرب)‪ ،‬والمنبسطات‬

‫السهلية التي ستضيف زها لمساتها على هذا الموقع‪،‬‬

‫وما ستزيده مهندستنا من امتداد قد يفوق تصميم ذلك‬

‫القرص الدائري المائل لمكتبة اإلسكندرية‪ ،‬شاهدً ا على‬

‫اضطجاع الروح المصرية الحكيمة بين أذرع النور والمعرفة‬

‫والحداثة المادية إلى أزمان قادمة‪ .‬كان هناك أمل في‬

‫ٌ‬ ‫قرص للشمس من بين صفوف النخيل جنوبي‬ ‫أن يرتفع‬ ‫العراق ليشع بما شعّ به أثر سومري استق ّر في المتحف‬

‫العراقي‪ ،‬وضاع مع غيره من اآلثار في غزوة ‪2003‬م‪.‬‬

‫تستحق مدينة الورّاقين (البصرة) التي يلهو سكانها‬

‫مثقفي مطلع القرن العشرين) في حاضرنا هذا بناءً واحدً ا قادرًا‬ ‫القبليّة أساسً ا من األسس التي بُنيت عليها حوارات فلسفة‬

‫نجمٌ مذيَّل على منحنى مستقبلها؛ فهي اليوم مربّع للصمت‬ ‫المطلق يهرع كالمي إليه ليبني تصوّره عن مدينة القواقع‬

‫واألحياء البرمائية التي تنزلق على سطوحها أفكار االتصال‬

‫اليوتوبية‪ .‬فالمبدأ التصميمي لمنشآت كورنيش البصرة يفارق‬

‫وظيفته األصلية ليلتحق بوظيفته الجمالية المكوّنة من سلسلة‬

‫قواقع حلزونية المظهر‪ ،‬ترتفع في الفضاء وتتبادل الوظيفة‬ ‫االتصالية بالزمن والمعرفة‪.‬‬ ‫أحالم النهر الشائخ‬

‫إنه حلم من أحالم النهر الشائخ يفرزها يوميًّا على ضفتيه‪،‬‬

‫تشكيل دائبة للصمت النابع من درع الطبيعة‪ .‬حلم‬ ‫في حركة‬ ‫ٍ‬ ‫َّ‬ ‫لتصميم من تصاميم زها حديد غير المنفذة‪ ،‬مرك ُز ُه هذه‬ ‫يرتقي‬ ‫ٍ‬

‫الحركة الطبيعية اليومية وإفراز مشغلها الجمالي والمعرفي‪.‬‬

‫ً‬ ‫استراحة وسط غابة من النخيل‬ ‫بألعاب الزمن القديمة‪،‬‬

‫ٌ‬ ‫قوقعة هائلة الحجم‬ ‫أما أعلى قمَّة في هذا التشكيل فستمثله‬

‫والتقابل مع مكتبة اإلسكندرية‪ .‬ال حدود لهذا المنظر‬

‫مكتبة اإلسكندرية المدفون في األرض‪ ،‬ومشغله االتصالي‬ ‫ب على شاطئ البصرة المديد ٌّ‬ ‫دال على زمن الجاحظ‬ ‫الجامع‪ُ .‬ن ْص ٌ‬

‫مبني على سبيل التناظر‬ ‫تتوغل طرقها إلى قلب بناء‬ ‫ّ‬

‫االفتراضي‪ ،‬حيث تتسلسل المباني من ملتقى شط العرب‬ ‫َّ‬ ‫ُستغل‬ ‫حتى مصبّه‪ ،‬على جانبي كورنيش طويل (لم ي‬ ‫من طوله حاليًّا غير كيلومتر واحد)‪ .‬وال عائق أمام هذه‬

‫ذات فضاء داخلي حلزوني‪ ،‬يناظر الجوف الفضائي لقرص‬

‫والفراهيدي والحريري‪ ،‬يقودك إلى إسكندرية كفافي وداريل‬ ‫والخراط وزمنها الذي طوى في ِّ‬ ‫ظل قرصه الروحَ المصرية‬

‫تصميمات الخامة‬ ‫النظرة التي تستخرج من السهل الطيني‬ ‫ِ‬

‫الشغوف باألسرار‪.‬‬

‫المعرفي الكالمي الممزوج من هدوء الطبع اإلنساني‬

‫الممزوجة بلعاب العصور والثقافات‪ ،‬ونصوص الكلمات‬

‫السمراء‪ ،‬وجماليات البيئة الخضراء‪ ،‬وموحيات الجدل‬

‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬

‫البصرة ‪ -‬اإلسكندرية توأما الضوء والرياح‪ ،‬مثاال المدينة‬


‫الهجينة‪ .‬استبدلت البصرة عمرانها مرارًا‪ ،‬ونسخت خططها من‬

‫خراب إلى خراب‪ ،‬حتى هجرت الصحراء‪ ،‬واستقرت على جبهة‬

‫ً‬ ‫أسواقا الستقبال تجارة الشرق‪ ،‬وكيّفت أسرار‬ ‫النهر‪ .‬أنشأت لها‬

‫حريمها لنوع معماري من الشرفات الخشبية سمِّي بالشناشيل‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫تخلت عن صراحتها البريَّة لتتاخم ً‬ ‫بيئة بحريَّة‪ ،‬كانت تأتيها‬ ‫بعجائب المخلوقات‪ ،‬ويخرج منها سندباديُّون مغامرون‪.‬‬

‫انتقل اإلرث الشفاهي ليقيم في صوامع الطباعة التي جاءت بها‬

‫حمالت أوربا االستعمارية مع أحدث المخترعات‪ .‬لكنها بين حلم‬

‫وآخر تستفيق على ّ‬ ‫نص لم يكتمل‪ ،‬وتصميم ضاع سبيله إليها‪،‬‬

‫فتستدير إلى توأمها اإلسكندرية‪.‬‬

‫مقابل التوأم البصرياثي اصطبغ التوأم اإلسكندراني بمعمار‬

‫األقوام التي غزتها أو هاجرت إليها منذ تأسيسها على يد اإلسكندر‬ ‫المقدوني العام الميالدي ‪ .232‬حاولت الهوية المزدوجة‬ ‫ّ‬ ‫تختط وسائطها العابرة للتحوالت السياسية‪ ،‬وأن‬ ‫لإلسكندرية أن‬ ‫تستبقي لها ما ّ‬ ‫يدل على قبولها القسمة بين اإلرث االستعماري‪،‬‬

‫زها حديد‬

‫فتمسكت بفنارها البحري‪ ،‬ومسرحها‬ ‫العثماني واألوربي‪،‬‬ ‫ّ‬

‫الروماني‪ ،‬وبأسوار قلعة قايتباي‪ ،‬وسراي رأس التين‪ ،‬وقصر‬

‫المنتزه‪ ،‬ومحطة الرمل‪ ،‬وكوم الدكة‪ ،‬ثم أخلت المكان القديم‬

‫الحضريون العراقيون عن‬ ‫يتساءل‬ ‫ّ‬

‫ّ‬ ‫يمتص الفائض الثقافي في الشرخ المتأصل في‬ ‫بطليموس لكي‬

‫ضفاف‬ ‫األرض العراقية‪ ،‬فلم تحتضن‬ ‫ُ‬

‫حي الشاطبي لقرص المكتبة المائل على أنقاض مكتبة‬ ‫في ّ‬ ‫هويتها‪ ،‬والتنافر السكاني المتعايش في بيئتها‪.‬‬

‫اإلسكندرية واألهواء األجنبية‬ ‫وبعد أن ّ‬ ‫مكنت اإلسكندرية األهواءَ األجنبية من ناصية‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫المفصل‬ ‫أسواقها ومالهيها‪ ،‬وأعطت فورستر مادة دليل ِه‬

‫المسافة الشائكة التي فصلت زها عن‬ ‫واحدا من تلك‬ ‫دجلة أو شط العرب‬ ‫ً‬ ‫األجنحة الطائرة لتصميمات المهندسة‬ ‫العالمية بلمسات رافدينية على بيئة‬ ‫نائخة بثقلها المعماري الصحراوي‬

‫لمعالمها‪ ،‬وداريل شخصيات رباعيته الروائية الداعرة‪ ،‬وكفافي‬

‫قصائ َده الكفيفة‪ ،‬عادت فاحتوت الشخصيات النقيضة لإلرث‬ ‫الغريب في روايات نجيب محفوظ وإدوار الخراط وإبراهيم‬

‫عبدالمجيد وبهاء طاهر‪ ،‬وقبلت بإضافة وجودهم البلدياتي‬

‫العابر على متن هويتها األممية‪ ،‬كل ذلك ألنّ البحر الذي أنجبها‬

‫من ظلماته ما زال يطالبها باستقبال هجرات وحمالت يولسيسية‬

‫من الجانب اآلخر للعالم‪ .‬أن تأخذك اإلسكندرية إلى البصرة‪،‬‬

‫أو تدير بصرك عن توأمها فتضيع منك؛ أن تقتبس رؤياك من‬

‫أخفقت‪ ،‬وآمالك التي أحبطت‪ ،‬دع عنك التوسالت غير المجدية‪.‬‬ ‫و ُكن كمنْ هو على أهبة االستعداد من قديم‪ ،‬كشجاع‬

‫جريء‪ ،‬ود ّْعها‪ ،‬ودّع اإلسكندرية التي ترحل‪ .‬وباألخص‪ ،‬حذار‬ ‫أن ُتخدَع‪ ،‬ال تقل‪ :‬إنّ األمر كان حلمً ا‪ ،‬وهمً ا في أذنيك وكذبًا‪،‬‬

‫ٌ‬ ‫آمال بالية مثل هذه ال ُتصدّق‪ .‬كمنْ هو على أهبة االستعداد من‬ ‫لاً‬ ‫لاً‬ ‫قديم‪ ،‬كشجاع جريء‪ ،‬كما لو كنت أه لها ًّ‬ ‫حقا‪ ،‬أه لمدينة‬

‫حوضها المُزبِد بالهويات العابرة أو تهاجر إليها بهوي ٍة بصرياثية‬

‫اقترب بخطا ثابتة من النافذة‪ ،‬واستمعْ بحزن‪ ،‬ولكن‬ ‫مثل هذه‪،‬‬ ‫ْ‬

‫القصيدة التي كتبها كفافي عن مأساة أنطونيو‪:‬‬ ‫ً‬ ‫«عندما تسمع في منتصف الليل فجأة‪ ،‬فرقة من المغنين‪،‬‬

‫األصداء المبتعدة‪ ،‬واستمتعْ بها‪ ،‬استمتع بالنغمات الرائعة من‬ ‫الفرقة الخفيّة التي تمضي إلى الزوال‪.‬‬

‫ّ‬ ‫يصمّ اآلذان‪ُ ،‬ك َّف عن أن تندب ّ‬ ‫وخط ْط حياتك التي‬ ‫حظك الذي ضاع‬

‫إلى األبد»‪.‬‬

‫فقيرة؛ لن تجد ما هو أقرب إلى قلب اإلسكندرية من هذه‬

‫تم ّر في الطريق غير مرئية‪ ،‬بموسيقاها الصاخبة‪ ،‬بصياحها الذي‬

‫بال توسالت جبانة‪ ،‬وال شكاوى ذليلة‪ .‬استمعْ حتى النهاية إلى‬

‫ود ّْعها‪ ،‬ودّع اإلسكندرية‪ ،‬اإلسكندرية التي تضيع منك‬

‫‪91‬‬


‫تحقيقات‬

‫أدباء في الظل‪..‬‬ ‫هل لعبت الميديا دو ًرا في‬ ‫تكريس كتّاب وتهميش آخرين؟‬ ‫‪92‬‬

‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬


‫دورا في تكريس كتاب وتهميش آخرين؟‬ ‫أدباء في الظل‪ ..‬هل لعبت الميديا‬ ‫ً‬

‫خاص‬

‫ً‬ ‫جيدا في الخمر‪ ،‬فلما سمعه منه‬ ‫يقال إن أبا نواس التقى ذات يوم شاعرًا نظم بي ًتا‬ ‫َّ‬ ‫مقدمً ا على جميع‬ ‫أبو نواس استحسنه‪ ،‬وبعد أيام التقاه في مجلس األمير‪ ،‬وكان أبو نواس‬ ‫لاً‬ ‫الشعراء‪ ،‬فأنشأ قصيدة تضمنت بيت صاحبه‪ ،‬فلما استنكر الرجل ذلك‪ ،‬نظر إليه األخير قائ ‪:‬‬ ‫أيعقل أن يقال بيت جيد في الخمر وال يكون لي؟ يقال ً‬ ‫أيضا‪ :‬إن المنافسة بين عميد األدب‬ ‫العربي طه حسين وخصمه الدائم الدكاترة زكي مبارك دفعت العميد إلى استخدام سلطاته‬ ‫لمنع غريمه من التدريس في الجامعة‪ ،‬مما دفع األخير ألن يطبع كروت تعارف كتب عليها‪:‬‬ ‫«الدكاترة زكي مبارك‪ ،‬حاصل على عالِميَّة األزهر‪ ،‬ولم يحصل عليها طه حسين»‪.‬‬ ‫ربما تجيء هذه ُّ‬ ‫الط َرف يف إطار الفكاهة التي تنسب‬ ‫إىل الخصوم‪ ،‬لكنها توضح أن تاريخ األدب العربي ُع ِرف‬ ‫من مظلومي األدب أكرث من مشاهريه‪ ،‬فلكل عصر عبقريّ‬

‫حسبما قال رجاء النقاش يف إحدى مقاالته يف الستينيات عن‬ ‫نجيب محفوظ‪ ،‬لكن هذا العبقري يك تتحقق عبقريته وحده‬ ‫فإنه بوعي أولاً وعي منه يحجب الضوء عن الكثريين‪ ،‬ويفقد‬

‫األدب كثريًا من ُك َّتابه املهمني‪ ،‬ال ليشء سوى أنهم ولدوا يف‬

‫عصر كاتب أو شاعر شهري‪ ،‬أو ألنهم لم يفطنوا إىل دوالب‬ ‫األلعاب السحرية للميديا يف زمانهم‪ ،‬فلم يستطيعوا الرتويج‬

‫لكتاباتهم‪ ،‬ولم يتمكنوا من التواصل مع الجماهري الغفرية‪،‬‬ ‫ً‬ ‫مغبونا بمظلوميته دون أن ينال اعرتاف‬ ‫وربما مات بعضهم‬ ‫النقاد بكتاباته‪ ،‬مما يجعلنا نقول‪« :‬ياما يف األدب مظاليم»‪،‬‬ ‫تلك املقولة التي عبرَّ عنها العرب قديمً ا بقولهم‪« :‬وأدركته‬

‫حرفة األدب»‪ ،‬بما تعنيه من تعب وكدّ ألجل مجدٍ ال يجيء‪.‬‬

‫«الفيصل» تساءلت‪ :‬مَ ن هؤالء األدباء الذين عاشوا‬

‫يف الظل‪ ،‬وملاذا؟ وهل ما زال الظلم مستم ًّرا رغم ما أتاحته‬

‫ثورة امليديا الجديدة من تقنيات وقدرات للجميع‪ ،‬أم أنه ال‬ ‫ٌّ‬ ‫وكل يأخذ نصيبه من املجد والشهرة‬ ‫مظلومني يف األدب‪،‬‬ ‫حسب قدر موهبته؟‬

‫رؤوف مسعد‪ :‬التاريخ غنب لويس عوض وسالمة موىس‬ ‫أعتقد أن اإلحساس باملظلومية عند املبدعني املصريني هو‬

‫إح���س���اس ص����ادق وص���ائ���ب ل���ع���دة أس���ب���اب ت��ت��ع��ل��ق ب��ح��ال��ة ال��ف��س��اد‬

‫امل���ت���ف���ش���ي���ة «ك���ط���ري���ق���ة ح����ي����اة» يف امل���ج���ت���م���ع امل����ص����ري ب���ك���ل ط��ب��ق��ات��ه‪،‬‬ ‫وهو فساد موروث من عصر الفراعنة (ارجع إىل شكاوى الفالح‬

‫رؤوف مسعد‪ :‬غبن التاريخ لويس‬ ‫عوض كما غبن سالمة موسى مع أن‬ ‫تأثيرهما في اإلبداع والفكر المصري‬ ‫يوازي بقوة تأثير طه حسين األريب‬ ‫الذي ارتبط بالوفد‪- ‬حزب األغلبية‪-‬‬ ‫وزيرا‬ ‫فأصبح‬ ‫ً‬ ‫ب���س���ي���ط���ة وم�������ح�������دودة‪ ..‬ل��ن�رج����ع إىل ذل������ك ال������زم������ن‪ ..‬زم������ن م��ح��ف��وظ‬

‫وإدري�����������������س‪ ،‬م�������ن امل�������س�������ؤول�������ون األس�������اس�������ي�������ون ع�������ن امل������ي������دي������ا يف ذل�����ك‬ ‫ال��وق��ت؟ ه��م ض��ب��اط ج��ي��ش ح��ص��ل��وا ع�لى ش��ه��ادة إت��م��ام ال��ث��ان��وي��ة‬ ‫العامة‪ ،‬ووجدوا أنفسهم يف قمة الهرم اإلداري‪ ،‬ويسيطرون‬ ‫ع�لى مُ َ���ق���دَّ رات ع��ش��رات وم��ئ��ات م��ن امل��ث��ق��ف�ين امل��ص��ري�ين‪ ،‬أم���ا عن‬ ‫ع��ص��ر ط��ه ح��س�ين وم���ا ي��ح��ي��ط ب���ه‪ ،‬ف��ك��ان م��ن ال��ع��ص��ور امل��ض��ط��رب��ة‬ ‫يف ت����اري����خ م���ص���ر ال����ح����دي����ث‪ ..‬ف���ه���و ع��ص��ر‬

‫كان يسمح لقرويٍّ أعمى أن يذهب‬

‫إىل ال��������س��������ورب��������ون ب�����ع�����د أن ك����������ان ك���ل‬ ‫م������������راد أه������ل������ه أن ي�����ح�����ف�����ظ ال�������ق�������رآن‪،‬‬ ‫وي������ ّت������خ������ذ م�����ن�����ه ص����ن����ع����ة ت����غ����ن����ي����ه ع���ن‬

‫س������������������ؤال ال��������ل��������ئ��������ي��������م‪ ،‬ب��������وص��������ف��������ه ك��������ان‬ ‫م����ع ً‬ ‫����وق����ا ج����س����د ًّي����ا‪ .‬ذل������ك ه�����و ال���ع���ص���ر‬

‫ال����ذه����ب����ي ل���ل���ن���ه���ض���ة ال���ث���ق���اف���ي���ة ب���رع���اي���ة‬

‫دول���ة ال��ب��اش��وات اإلق��ط��اع��ي�ين‪ ...‬وه��ا هو‬ ‫ط��ه حسني وال��ع��ق��اد وسالمة‬ ‫م����������������������������������������وىس وال������������������������راف������������������������ع������������������������ي‬

‫ال��ف��ص��ي��ح) وال���س���ؤال ه���و‪ :‬مل���اذا ل��م ي��ن��ت��ب��ه ال��ن��اس إىل ع���دد ال ب��أس‬ ‫به من ُ‬ ‫الك َّتاب املهمني الذين ظهروا يف عصر األقمار الساطعة‬

‫وال���������������ط���������������ه���������������ط���������������اوي وم������������ن‬

‫هو أن املسيطرين عىل امليديا واملوجهني لها ثقافتهم يف األصل‬

‫ب������������ه������������م م�����������������ن أج������������ي������������ال‬

‫والشموس املضيئة مثل محفوظ وإدريس‪..‬إلخ؟ السبب األول‬

‫س��ب��ق��ه��م وم����ن ال��ت��ح��ق‬

‫‪93‬‬


‫تحقيقات‬

‫ي���ح���رس���ون األرض ت���م���ه���ي���دً ا ل���ظ���ه���ور ل���وي���س ع����وض «ك���م���ف���ك���ر» م��ع‬

‫زمالئه اآلخرين‪ ،‬ثم ظهور نجيب محفوظ ويوسف إدريس‪.‬‬

‫ب��ال��ط��ب��ع ي��س��ت��ح��ق ال��ع��م��ي��د وم��ح��ف��وظ وإدري����س م��ا ن��ال��وه من‬

‫ش���ه���رة‪ ،‬ف���ط���ه ح���س�ي�ن ك����ان أول م���ن ف���ك���ر يف اخ���ت��راق ال���ت���اب���وه���ات‬ ‫ال�����دي�����ن�����ي�����ة امل������س َّ������ل������م ب�����ه�����ا يف دراس���������ات���������ه ال������ت������ي أش������ه������ره������ا «يف ال����ش����ع����ر‬ ‫ال����ج����اه��ل�ي»‪ ،‬ث����م م���ح���ف���وظ ال������ذي اس���ت���ط���اع ب�����دأب�����ه‪ ،‬رغ�����م م��وه��ب��ت��ه‬ ‫ّ‬ ‫يتسلق السلم األكرب‪ ،‬سلم الصحافة‪ ،‬فموهبة‬ ‫املحدودة‪ ،‬أن‬ ‫م����ح����ف����وظ م�������ح�������دودة يف ال�����خ�����ي�����ال األدب�����������ي واإلب��������داع��������ي ل���ك���ن���ه���ا غ�ي�ر‬

‫م����ح����دودة يف ال���ت���أم���ل واق���ت���ن���اص األف����ك����ار وال����ق����درة ع�ل�ى ص��ي��اغ��ت��ه��ا‬ ‫ب��أس��ل��وب ب��س��ي��ط وروايئ؛ ل��ذا ت��ج��د أك�ثر أع��م��ال��ه ت��أث�يرًا يف ال ُ��ق�� َّراء‬

‫(ال���ن���خ���ب���ة) ه���ي ال���ت���ي ت��ن��اق��ش ف���ك���رة ال���ق���در وال���س���م���اوات وال���وج���ود‬

‫وموضع اإلنسان يف النظام الكوين وبالتايل الظلم املجتمعي‪.‬‬

‫ً‬ ‫وانطالقا؛ لذا‬ ‫أما يوسف إدريس فكان أكرث جموحً ا وقوة‬

‫أبدع لنا قصصه القصار النادّة يف روعتها‪ ،‬ومسرحياته الغريبة‬

‫املتأملة لحال البشر‪ ،‬ورواياته القادرة عىل األخذ بتالبيبنا‬ ‫وأنفاسنا‪ ،‬وشخصياته الجامحة نفسيًّا وقدريًّا وبشريًّا‪ ،‬عىل‬ ‫عكس محفوظ (املوظف) املدجن املطيع الدؤوب الباحث عن رزق‬

‫شريف وعالوة يستحقها‪ .‬غنب التاريخ لويس عوض كما غنب‬ ‫سالمة موىس مع أن تأثريهما يف اإلبداع والفكر املصري يوازي‬

‫‪94‬‬

‫بقوة تأثري طه حسني األريب الذي ارتبط بالوفد‪- ‬حزب األغلبية‪-‬‬ ‫فأصبح وزي ًرا‪ ،‬بينما ارتبط إدريس باليسار املغضوب عليه من‬

‫كل أنظمة الحكم يف مصر‪ ،‬وكذا ارتبط به لويس عوض وسالمة‬

‫موىس ومعظم كتاب الستينيات األصالء الذين غيَّبهم نظام‬ ‫ناصر يف السجون ب ُتهَم متنوعة‪ ،‬ولم ينجُ منهم سوى عدد‬

‫خليل النعيمي ‪ :‬ضجيج العاديني يعتم عىل حضور الكبار‬

‫اإلعالم ال يمكنه أن يصنع كاتبًا كبريًا‪ ،‬والعُ ملة الرديئة ال‬ ‫تطرد إلاّ العملة األردأ منها من السوق‪ ،‬فالضجيج اإلعالمي‬ ‫ُ‬ ‫لكتاب «عاديني»‪ ،‬حتى ال نقول مبتذلني‪ ،‬أو غري مهمّ ني‪ ،‬يُعَ ِّتم‬ ‫عىل حضور ُكتاب «كبار»‪ .‬فالكاتب واحد‪ .‬وليس هناك كاتب‬ ‫كبري وآخر صغري‪ ،‬إلاّ بالحجم‪ .‬واملوهبة ال ُتقاس بالضجيج‪ ،‬وال‬

‫َ‬ ‫العالم‪،‬‬ ‫باإلشهار‪ .‬املوهبة ليست سلعة‪ .‬إنها موقف تاريخي من‬ ‫َّ‬ ‫معقد وعميق للحياة‪ ،‬فضاؤها هو العالقة الجدلية‬ ‫وتصوّر‬

‫مع الكائنات‪ ،‬ومجالها هو البحث املستمر عن جوهر الوجود‪.‬‬ ‫ولكن ما هذا الجوهر؟ وكيف تتجلىّ ُ‬ ‫صوَره؟ وما عالمة االقرتاب‬

‫منه؟ يف هذا املثلث تكمن طاقة املوهبة وخطورتها‪ .‬الفكر العربي‬ ‫ِّ‬ ‫ومتخل ًفا‪ .‬واإلعالم الذي تتكلم عنه كأنه‬ ‫املعاصر ما زال بدائيًّا‪،‬‬

‫طاقة حقيقية‪ ،‬ما هو إال «فقاعة معرفية» مثل فكر «السلطة‬ ‫َّ‬ ‫يتحكم فيه‪ .‬إنه إعالم مغرض‪ .‬ال يستند‬ ‫العربية الواحدة» الذي‬

‫عىل إسرتاتيجية معرفية لها بُعد‬ ‫تاريخي‪ ،‬وال يتم ّتع بمصداقية‬ ‫ّ‬ ‫حازمة‪ .‬لذا فهو ال يستطيع‬

‫أن يخلق موهبة حتى لو‬ ‫تجيّش من أجلها‪ ،‬وال‬ ‫ي ُْلغي أخرى‪ ،‬إذا كانت‬

‫موجودة‪ ،‬حتى لو‬ ‫أراد ذلك‪ .‬‬

‫محدود مثل بهاء طاهر‪ ،‬وجميل عطية إبراهيم‪ ،‬وإدوار الخراط‪.‬‬

‫روايئ مصري‪.‬‬

‫شعبان يوسف‪ :‬لكل زمن مظاليمه‬ ‫يرى الشاعر والناشط الثقايف املصري شعبان يوسف صاحب كتاب (ضحايا يوسف إدريس) أن «إدريس» بسلطاته‬

‫وامتداداته حرم الكثريين من الظهور إىل جانبه‪ ،‬كانت له سلطة يف العديد من املجاالت‪ ،‬وكان من الصعوبة أن‬ ‫ّ‬ ‫متصدرًا املشهد‪ ،‬وبخاصة أنه ابن تيار اليسار الذي‬ ‫يقام مؤتمر أو ندوة يف القصة أو املسرح أو الرتجمة وال تجده‬ ‫وقف بقوة داعمً ا له‪ ،‬فضلاً عن عالقته بالسادات‪ ،‬فقد كتب له كتابيه‪« :‬االتحاد القومي» و«قناة السويس»‪.‬‬

‫وذهب شعبان إىل أن هذا األمر لم يتوقف عىل إدريس وحده‪ ،‬فقد شمل جميع املجاالت والفنون‪ ،‬فعقب‬

‫موقعة الشعر الحديث بني العقاد وكل من صالح عبدالصبور وأحمد عبداملعطي حجازي تحوَّ ل األخريان إىل‬

‫سلطة واضحة يف مصر‪ ،‬فهمَّ شا كثريًا من الشعراء كعبدالحليم القباين وفتحي سعيد وكامل أمني‪ ،‬ولعل‬ ‫أبرز من ُه ِّمش لصالح حجازي وعبدالصبور هو الشاعر الكبري محمد عفيفي مطر‪ ،‬الذي لم يأخذ املكانة التي‬ ‫يستحقها‪ ،‬فقد رفض عبدالصبور نشر ديوانه األول‪ ،‬كما رفض حجازي أن يمنحه جائزة ملتقى الشعر العربي‪.‬‬ ‫ويف املسرح الشعري ُه ِّمش عبدالرحمن الشرقاوي ومعني بسيسو لصالح صالح عبدالصبور‪ ،‬ويف الرواية ُه ِّمش‬ ‫كتاب كبار كسعد مكاوي وعبدالرحمن فهمي وعادل كامل لصالح نجيب محفوظ‪ ،‬لكن «محفوظ» لم يمارس‬

‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬


‫دورا في تكريس كتاب وتهميش آخرين؟‬ ‫أدباء في الظل‪ ..‬هل لعبت الميديا‬ ‫ً‬

‫مَ نْ قال‪ :‬إن األدب الحقيقي يحب األضواء؟ ما هذه‬

‫املهزلة التاريخية؟ كيف يمكن ملبدع حقيقي (ألن املزيفني‬ ‫ُكثرُ ) أن يمسك بخيوط «لعبة الكريات الزجاجية» وهو تحت‬ ‫األضواء «العامِ يَة»؟ املبدع ضمري‪ ،‬وسالحه اللغة‪ .‬الضمري ال‬ ‫يقبل املساوَمة‪ ،‬واللغة ال تقبل التنازل‪ .‬فــ«مَ نْ يقب َْل أي تنازل‬ ‫يف اللغة‪ ،‬يقب َْل أي تنازل يف الحياة»‪.‬‬

‫روايئ سوري مقيم يف باريس‪.‬‬

‫ليىل األطرش‪ :‬عالم تسيطر عليه الشللية‬

‫لم تعد مسألة الرتويج اإلعالمي قص ًرا عىل أحد‪،‬‬

‫فالعالم يعيش عصر صناعة النجم؛ السيايس واالجتماعي‬ ‫والف ّني واألدبي‪ ،‬ومن ال يجيد هذه اللعبة أو يجد من يروّج‬ ‫له فيها‪ ،‬فهو بالتأكيد سي َ‬ ‫ُظلم كثريًا‪ ،‬وال ينال املكانة التي‬

‫العربية‪ ،‬فنحن نشهد نزعة شللية فيما يعرف بالصحافة‬ ‫األدبية‪ ،‬وغياب املنابر الثقافية واملجالت املتخصصة التي‬

‫تحتفل بالغث أكرث من السمني‪ ،‬ويؤخذ عىل بعض النقاد‬ ‫أنهم ال يتابعون الجديد‪ ،‬مع أن مسؤوليتهم كبرية لغربلة‬

‫األدب واإلبداع الحقيقي‪ .‬وتلعب الجوائز العربية دورًا كبريًا‬

‫يف تلميع أسماء من منطلق الجيوسياسية واأليديولوجية‬ ‫ً‬ ‫مألوفا أن نسمع القارئ العادي‬ ‫التي تحدد الفائزين‪ .‬وبات‬

‫يظهر خيبته من روايات نالت هذه الجوائز‪ ،‬وكان يمكن‬ ‫للجوائز أن تصحح الوضع القائم‪ ،‬لوال أن بعض لجان‬ ‫التحكيم مصابة بأمراض الساحة الثقافية‪ .‬ومعظمهم ال‬

‫يقرؤون ما يرسل إليهم ويك ّرسون أسماء بعينها‪.‬‬

‫روائية أردنية‪.‬‬

‫يستحق‪ ،‬ويرتك الواجهة ملن هم أقل قيمة ممن يجيدون‬ ‫الظهور الدائم‪ ،‬أو يعتمدون العالقات الخاصة والشللية‬ ‫واملحسوبية بل املناطقية التي تسود الوسط الثقايف العربي‬ ‫لألسف‪ .‬كثري من النجوم صنعهم اإلعالم وكسبوا من ذلك‬

‫الشهرة واملال رغم ضعف القيمة الفنية والفكرية ملنجزهم‬ ‫اإلبداعي‪ ،‬وهناك أسماء تك ّرست منتصف القرن العشرين‬ ‫كقامات أدبية استفادت من مواقعها الصحفية أو‬ ‫قربها من السلطة أو الحركات الثورية أو بسطوة‬

‫مادية أو وظيفية يفرضونها‪ ،‬تلمّ عت عربيًّا ودوليًّا‪،‬‬ ‫وحني زال الوهج بانت قيمتها الفكرية واإلبداعية‬

‫الحقيقية‪.‬‬

‫وليس اإلعالم وحده املسؤول عن هذا‪ ،‬بل‬

‫انحسار دور النقد العربي‪ ،‬وآليات الجوائز‬

‫سلطاته يف تهميش اآلخرين‪ ،‬وحدها امليديا هي التي فعلت ذلك‪ ،‬فرجاء النقاش‬ ‫ّ‬ ‫وعبقري هذا العصر هو نجيب‬ ‫يف الستينيات كتب قائلاً ‪ :‬إن لكل عصر عبقريًّا‪،‬‬ ‫محفوظ‪ ،‬وقد تكرست هذه النظرة إليه بعد فوزه بنوبل‪.‬‬

‫أما يف النقد فقد ُه ِّمش عبدالقادر القط وغريه لصالح محمد مندور‪،‬‬

‫ويف شعر العامية املصرية ُه ِّمش مجدي نجيب وفؤاد قاعود وغريهما لصالح‬

‫األبنودي وسيد حجاب‪ ،‬وما زال التهميش مستمرًّا‪ ،‬املتغري الوحيد أن السلطة‬

‫لم تعد رضا جماعات اليسار أو املؤسسة الرسمية‪ ،‬بقدر ما أصبحت عالقات‬

‫وصداقات ورسائل ماجستري ودكتوراه‪ ،‬ودور نشر ومراكز ثقافية‪ ،‬ورحالت‬

‫ومؤتمرات وندوات وترجمات وأسفار وحفالت توقيع‪ ،‬وجوائز‬ ‫محلية وعربية‪ ،‬وعدد طبعات وقوائم أكرث مبيعً ا‪ ،‬وطنطنة‬

‫دائمة يف كل مكان بأسماء مبدعني بعينهم‪ ،‬مما يقتل مواهب‬ ‫كبرية لصالح أناس يف كثري من األحيان ال عالقة لهم باألدب‪.‬‬

‫‪95‬‬


‫تحقيقات‬

‫ِعذاب الركابي‪ :‬الرموز ال تحجب‬ ‫نحن –كك ّتاب ومبدعني– ال ننكر أبدً ا أنّ لنا‬ ‫آباء‪ ..‬وأننا لم ُن َ‬ ‫ولدْ من رحم الفراغ‪ !..‬والكتابة‬

‫وج���������������ود م������ظ������ال������ي������م يف ع��������ال��������م األدب‪،‬‬

‫هي ّ‬ ‫بقي لنا من ذاكرة‪ ..‬واإلبداع‬ ‫كل ما‬ ‫َ‬ ‫والثقافة فعل حضاري‪ ،‬أبجديته أنني‬

‫ص���اح���ب م���وه���ب���ة ال ي���م���ك���ن ع������دّ ه م��ن‬

‫املعاناة‪ ..‬والثقافة واإلبداع تواصل دائم‪..‬‬

‫ش��������ه��������رت��������ه‪ ،‬ف������امل������ظ������ال������ي������م ه����������م أن�������ص�������اف‬

‫الروح وصالتها التي ال تكون قضاءً هي‬

‫ورموز إبداعنا وأدبنا وثقافتنا‪ ،‬هم أيقونة‬ ‫اإلنساين الفاعل‪ ..‬ونحن امتداد‬ ‫تراثنا‬ ‫ّ‬ ‫طبيعي لهم‪ ..‬ومن خالل‬ ‫قراءتنا لواقعنا الثقايف الذي‬

‫بات يُشبه كثريًا (البورصة) يف‬

‫االرتفاع والهبوط‪ ،‬واالزدهار‬ ‫واالنتكاس نرى أنّ هؤالء‬ ‫الرموز ال ذنب لهم يف حجب‬

‫الضوء عن غريهم‪ ،‬فمَ ن قام‬

‫بحجب األضواء هم مَ ن يتولون زمام املنابر اإلعالمية‪،‬‬

‫سواء يف الصحافة الثقافية التي تشبه مرآة مهشمة‪ ،‬أو‬

‫يف املؤسسات الراعية لإلبداع والثقافة بمؤتمراتها األدبية‬

‫‪96‬‬

‫إبراهيم فرغيل‪ :‬املظاليم هم أنصاف الكتاب‬ ‫ب����ش����ك����ل ش�����خ��ص��ي ال أُومِ ����������������ن ب����ف����ك����رة‬

‫والفكرية (الديكورية) التي ما زالت تعاين ُعقدة (األسماء‬

‫وترسخ لنجومية بعض األسماء التي لم تعُ دْ‬ ‫الكبرية)‪،‬‬ ‫ّ‬

‫ب��������م��������ع��������ن��������ى أن أيّ ك������������ات������������ب ح�����ق�����ي�����ق�����ي‬

‫م�����ظ�����ال�����ي�����م األدب ح�����ت�����ى ل��������و ت�����أخ�����رت‬

‫ال��������ك��������ت��������اب وأع���������������������داء ال�������ع�������م�������ق ال������ف������ك������ري‬

‫وامل���وه���ب���ة ح���ت���ى ل����و م��ك��ن��ت��ه��م األس���ب���اب‬ ‫م����ن ال���ش���ه���رة أو امل���ق���روئ���ي���ة‬ ‫ال���واس���ع���ة واالن���ت���ش���ار‪.‬‬

‫ه���������������ن���������������اك ن������������م������������اذج‬ ‫م���������������������������ن ال���������������ك���������������ت���������������اب‬

‫الذين حققوا املعادلة الصعبة أي بامتالكهم املوهبة والعمق‬ ‫وال��ش��ه��رة واالن��ت��ش��ار م��ث��ل‪ :‬ال��ع��ق��اد‪ ،‬وط���ه ح��س�ين‪ ،‬وم��ح��ف��وظ‪،‬‬ ‫أو ال�������ج�������واه�������ري يف ال���������ع���������راق‪ ،‬وب�����������در ش������اك������ر ال������س������ي������اب وس������واه������م‬

‫ل���ظ���روف ت��خ��ص اآلل����ة اإلع�ل�ام���ي���ة ال���ت���ي ك���ان���ت ت��ه��ت��م ب���إب���راز ال��ق��وة‬

‫ال�����ن�����اع�����م�����ة مل����ج����ت����م����ع����ات����ه����ا‪ ،‬ول������ك������ن الح����������ظ أن أي اس����������م م��������ن ه�����ذه‬ ‫األس���م���اء ك���ان م��س��ل��حً ��ا ب�ترس��ان��ة م���ن امل��ع��رف��ة وامل��وه��ب��ة واإلق���ب���ال‬ ‫عىل اإلعالم ً‬ ‫أيضا‪.‬‬ ‫لكن مع انخفاض مستوى التعليم الذي أدى إىل انحدار‬

‫تأيت بجديد‪ ،‬فما تمارسه بعض املنابر واملؤسسات الثقافية‬

‫الكفاءات يف املواقع القيادية يف اإلعالم والسياسة وغريهما‬

‫املتبادلة‪ ،‬وهذه املنابر أو (الدكاكني) التي تتاجر بدماء‬

‫وك�������ان ح�����ظ ال����ك����ت����اب امل���ن���ت���م�ي�ن ل���ل���ي���س���ار أف�����ض�����ل؛ ب���س���ب���ب ان���ت���ب���اه‬

‫يجيء ضمن هندسة «التلميع» و«الرتميم» واملصالح‬ ‫املبدعني‪ ،‬هي التي تهمّ ش إبداعاتهم وتحاول حجب‬ ‫الضوء عن الكلمة الهادفة‪ ،‬لكن تلك املحاوالت كثريًا ما‬

‫تكلل بالفشل أمام اإلبداع الجاد‪.‬‬

‫ب��������دأت اآلل��������ة اإلع��ل��ام�����ي�����ة ت����س��ي�ر يف درب امل���ص���ل���ح���ة وامل����ج����ام����ل����ة‪،‬‬ ‫األح��������زاب ال���ي���س���اري���ة يف م���ص���ر ل���ق���وت���ه���ا ال���ن���اع���م���ة‪ ،‬وت���ن���ج���ي���م ك��ل‬

‫ال�����ك�����ت�����اب ال������ذي������ن ي����ن����ت����م����ون ألح�����زاب�����ه�����م أو م�����ب�����ادئ�����ه�����م‪ ،‬ل����ك����ن م���ع‬

‫انتشار وسائل التواصل االجتماعي وامليديا الجديدة اختلف‬

‫ورموزنا لم يكونوا أنانيني أو دكتاتوريني‪ ،‬ومن‬

‫����اس����ا إال‬ ‫األم�����ر ك����ث��ي�رًا‪ ،‬وأص���ب���ح���ت ف���ك���رة امل���ظ���ال���ي���م م���ع���دوم���ة أس ً‬

‫أذكر عبقري الرواية نجيب محفوظ حني استقبلني يف‬

‫األخ��ط��ر ال��ي��وم ل��ق��درت��ه��ا ع�لى ت��ن��ج��ي��م ح��ت��ى ص��ب��ي��ان وم��راه��ق��ات‬

‫عرفناهم والتقيناهم كانوا شديدي التواضع واملسؤولية‪،‬‬ ‫لقائه األسبوعي بـ«فرح بوت» بكل و ّد وبهجة واهتمام‪..‬‬

‫وصديقي شاعر الحداثة الكبري عبدالوهاب البيايت‬

‫الذي أحتفظ برسائله الحميمة يل بخط يده وأعماله‬ ‫ّ‬ ‫خصص ثمن إحدى‬ ‫املمهمورة بتوقيعه‪ ،‬وأذكر أنه‬

‫جوائزه لطباعة أعمال الشباب الشعراء الواعدين‪،‬‬ ‫ومن املبدعني الكبار األحياء الصديقان الروائيان‪ :‬غادة‬

‫ُ‬ ‫زلت‬ ‫السمان‪ ،‬وعبدالرحمن مجيد الربيعي اللذان ما‬

‫أسعد بصحبتهما واتصاالتهما املستمرة ورسائلهما‬

‫الحميمة جدًّ ا‪ ،‬وغريهم ممن يضيئون يف فضائنا الثقايف‬ ‫كما الكواكب‪.‬‬

‫كاتب وشاعر عراقي‪.‬‬

‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬

‫ملن ال يمتلك أبجديات استخدام امليديا الجديدة‪ .‬وهي ربما‬ ‫ال��ك��ت��اب��ة مل���ج���رد أن ل��دي��ه��م ج���م���ه���ورًا اف�ت�راض��� ًّي���ا‪ ،‬وه����و م���ا ي��ق��ل��ب‬

‫امل��ع��ادل��ة اآلن ت��م��امً ��ا‪ ،‬م��ع ذل���ك ف��ت��اري��خ األدب وال��ك��ت��اب��ة غ��ال�� ًب��ا‬ ‫ما ينصف النصوص الحقيقية ولو بعد حني‪ ،‬مهما تعرض‬ ‫ُكتابها للتجاهل أو عدم اإلنصاف‪.‬‬ ‫قاص مصري‪.‬‬

‫خليل النعيمي‪ :‬الضجيج اإلعالمي‬ ‫كتاب «عاديين»‪ ،‬حتى ال نقول‬ ‫ل ُ‬ ‫مهمين‪ُ ،‬ي َعتِّم على‬ ‫مبتذلين‪ ،‬أو غير‬ ‫ّ‬ ‫كتاب «كبار»‬ ‫حضور ُ‬


‫دورا في تكريس كتاب وتهميش آخرين؟‬ ‫أدباء في الظل‪ ..‬هل لعبت الميديا‬ ‫ً‬

‫خليل صويلح‪ :‬تسليع األدب‬

‫هناك موجة إعالمية شرسة لتسليع األدب وتحويله‬

‫إىل «ماركتينغ»‪ ،‬عىل غرار ما يحصل يف الغناء‪ ،‬ومسابقات‬

‫الشعر‪ ،‬وجوائز الرواية‪ .‬قارئ اليوم يتبع املوضة يف املقام‬ ‫األول‪ ،‬بصرف النظر عن القيمة اإلبداعية للعمل‪ .‬هكذا ُتلفظ‬ ‫خارج القائمة أسماء مهمة‪ُ ،‬‬ ‫وتك ّرس أسماء أخرى أقل قيمة‬

‫بقوة امليديا والشلليّة‪ ،‬وصور السيلفي ‪-‬للكاتبات عىل نحو‬ ‫ّ‬ ‫للنقاد الكبار‪ ،‬هؤالء‬ ‫خاص‪ -‬وقبل كل ذلك االختفاء املريب‬

‫الذين كانوا يضيئون بكتاباتهم التجارب اإلبداعية النافرة‪،‬‬

‫بعيدً ا عن والئم الجوائز التي فرضت سطوتها عىل الذائقة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫خصوصا‪ .‬لهذه األسباب تندحر أسماء‬ ‫يتعلق بالرواية‬ ‫فيما‬

‫وتربز أخرى‪ ،‬فيكتفي الق ّراء بنحو عشر روايات يف كل موسم‬

‫قراءة‪ ،‬تحمل دمغة هذه الجائزة أو تلك‪ ،‬كما ال يمكننا‬ ‫تجاهل «التشبيك» بني بعض الك ّتاب ودور النشر وأعضاء‬ ‫لجان تحكيم الجوائز‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫رب����م����ا س���ن���ع���ي���د اك����ت����ش����اف أس�����م�����اء ظ���ل���م���ت يف زم���ن���ن���ا ال�����راه�����ن؛‬

‫أص�����ح�����اب�����ه�����ا أله�����م�����ي�����ة ال�����ت�����س�����وي�����ق م�������ن ج������ه������ةٍ ث����ان����ي����ة‪.‬‬ ‫ال��ت��س��وي��ق ه��ن��ا ل��ي��س إع�لام�� ًّي��ا ص ً‬ ‫ّ‬ ‫يتعلق‬ ‫��رف��ا‪ ،‬ف��ق��د‬

‫ب�����أي�����دي�����ول�����وج�����ي�����ا ص������اح������ب������ه‪ ،‬أو م�����ع�����ج�����م ص����اح����ب����ت����ه‪.‬‬ ‫وك��أن املعادلة اآلن هي «ناقد عجوز»‪ ،‬و«كاتبة‬

‫ش������������اب������������ة»‪ ،‬وإذا ب��������ال��������ن��������ص ال������������ع������������ادي أو ال������رك������ي������ك‬ ‫ي���ق���ف���ز إىل ال�����واج�����ه�����ة‪ ،‬وت�����ال����� ًي�����ا‪ ،‬ف������إن األم�������ر ي��ت��ع ّ��ل��ق‬

‫بالنزاهة النقدية‪ ،‬وه��ي سلعة منبوذة تقريبًا‪،‬‬

‫ع�������دا إش�������راق�������ات ن����������ادرة وس�������ط غ����ي����ب����وب����ة ع���م���وم���ي���ة‪.‬‬

‫ال������ي������وم ع����ل����ي����ك أن ت�����ك�����ون ج����������زءً ا م������ن ال������س���ي��رك يك‬ ‫ت��ج��ي��د ال��ل��ع��ب ع�ل�ى ال���ح���ب���ال م���ن دون أن ت��ق��ع يف‬

‫ال���ن���س���ي���ان‪ ،‬أو ال�����ع�����زل‪ ،‬أو ال���ظ���ل���م‪ .‬ال أع����ل����م م����اذا‬

‫س��ي��ف��ع��ل ال���ي���وم م��ب��دع م���ا‪ ،‬خ����ارج امل��اك��ي��ن��ة‬

‫اإلع�ل�ام���ي���ة‪ ،‬أو أن����ه ال ي��م��ت��ل��ك ص��ف��ح��ة‬ ‫ش������خ������ص������ي������ة ع�����ل�����ى وس�����������ائ�����������ل ال�������ت�������واص�������ل‬

‫االجتماعي؟‬

‫ب��س��ب��ب ع���ش���وائ���ي���ة ال���خ���رائ���ط اإلع�ل�ام���ي���ة م���ن ج���ه���ة‪ ،‬وع�����دم إدراك‬

‫كاتب سوري‪.‬‬

‫لنا عبدالرحمن‪ :‬شبكات التواصل تدفع ب ُكتاب وتظلم آخرين‬ ‫قطار الضحايا واملظاليم يف األدب يتعلق بعدة عوامل‪ ،‬بعضها يخص الجانب اإلبداعي للكاتب‪ ،‬وبعضها إعالمي وترويجي‬ ‫بحت‪ ،‬ليس له عالقة بالكتابة‪ ،‬لكن املدهش وجود حاالت إبداعية يف الثقافة العربية لديها نصوص إبداعية جيدة ًّ‬ ‫جدا وليس‬

‫لها حضور إعالمي؛ مما يؤدي إىل تغييب هذه النصوص أو اكتشافها بالصدفة من قبل قارئ أو ناقد حذق يسلط الضوء عليها‪.‬‬ ‫هذا يستدعي التساؤل‪ :‬هل بإمكان الكاتب أن يقوم بالكتابة والرتويج ألعماله‪ ،‬وبالوجود الصحايف الذي يحقق له االنتشار‪ ،‬إىل‬

‫جانب إدارة شؤون حياته الخاصة؟ يف تقديري يحتاج ذلك لقدرات خاصة‪ ،‬وهذه القدرات ال تتوافر للجميع‪.‬‬

‫من املؤكد أن اإلعالم يف املرحلة الحالية عرب سائر وسائل التواصل اإللكرتونية ساهم يف صعود أعمال‬ ‫إبداعية إىل الواجهة‪ ،‬وغياب أعمال أخرى‪ ،‬يكفي أن تتطلع إىل كتائب الجيوش عرب مواقع‬ ‫التواصل االجتماعي التي تعمل عىل تصدير خمسة أو ستة أعمال ُي َت َّ‬ ‫حدث عنها عىل أنها‬ ‫األفضل أدبيًّا‪ ،‬ويف حقيقة األمر أن القيمة األدبية لألعمال املذكورة متوسطة أو ضعيفة‪،‬‬ ‫لكن هذا ما يحدث فعلاً ‪ ..‬أضف إىل ذلك كله موضوع الجوائز الذي نقل العمل اإلبداعي‬ ‫سواء يف الرواية أو القصة القصرية‪ ،‬من خانة االمتداد الزمني إىل خانة «اآلنية» أو بعبارة‬ ‫ً‬ ‫تبسيطا أصبحت حال الروايات تشبه حال املسلسل الرمضاين‪ ،‬فكما أن هناك يف‬ ‫أكرث‬ ‫كل عام مجموعة من األعمال الدرامية التي تطلقها الفضائيات مع قدوم شهر رمضان‪،‬‬ ‫فإن هذا يحدث إبداعيًّا مع إعالن الجوائز‪ ،‬والقوائم الطويلة والقصرية‪ ،‬لنفرتض أن‬ ‫هناك عملاً إبداعيًّا ً‬ ‫جيدا أو أكرث من جيد‪ ،‬ولم يحصل عىل جائزة‪ ،‬ولم يصل ألي‬

‫قائمة‪ ،‬لن يكون له أي حضور خارج دائرة املثقفني‪ ،‬إىل جانب هذا‪ ،‬حتى األعمال‬ ‫ً‬ ‫التي تنال جائزة ً‬ ‫مرهونا‬ ‫أيضا‪ ،‬أو تصل للقائمة القصرية‪ ،‬سيكون حضورها‬ ‫بالوقت الراهن‪ ،‬وينتهي بعد إعالن الجائزة التالية‪ ،‬وهكذا‪ ،‬كما لو أن العمل‬ ‫ً‬ ‫مرهونا لفكرة املوضة‪.‬‬ ‫اإلبداعي صار‬ ‫كاتبة وناقدة لبنانية‪.‬‬

‫‪97‬‬


‫ثقافات‬

‫زعماء البيت األبيض‬ ‫ال أحد يستطيع العيش بال كتاب‬

‫‪98‬‬

‫إبراهام لينكولن‬ ‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬


‫محمد حجيري‬

‫كاتب لبناني‬

‫ّ‬ ‫تعد الكتب والقصائد من األدوات األكثر استخدامً ا من ِقبَل معظم الرؤساء األميركيين‪ ،‬إلعطاء‬ ‫صورة فكرية وسياسية للشعب األميركي‪ ،‬وكثيرًا ما كان اختيار بعض الرؤساء لكتب بعينها سببًا في‬ ‫ترويجها وانتشارها‪ .‬ما يقرؤه الرؤساء ال يعطيهم استراحة من الملل الذي يشعرون به عند قراءة التقارير‬ ‫والبيانات وتوقيع القرارات فحسب حتى إطالق المواقف‪ .‬والكتاب والقصيدة ميديا يستطيع المرء من‬ ‫خاللهما معرفة توجهات الرئيس كيف يفكر وما هي وجهة نظره‪ .‬وثمة الكثير من المقاالت والكتب عن‬ ‫الرؤساء األميركيين والقراءة‪ ،‬من بينها كتاب لهارولد إيفانز‪ ،‬يبين أن الميل إلى القراءة معيار نجاح أي‬ ‫ً‬ ‫مستندا إلى وقائع تثبت أن أنجح الرؤساء في الواليات المتحدة هم أولئك الذين يولون القراءة‬ ‫رئيس‪،‬‬ ‫ً‬ ‫دقيقا‪ ،‬فالقضية ليست في أن الرؤساء‬ ‫اهتمامً ا كبيرًا‪ ،‬لكن هذا االستنتاج ليس بالضرورة حقيقيًّا أو‬ ‫يقرؤون‪ ،‬بل أي كتب يقرؤون أو ماذا يقرؤون؟ والسؤال هل كل شيء يقرؤونه يعلنون عنه‪ ،‬هل يقرأ‬ ‫زعيم البيت األبيض كتبًا شيوعية أو إسالمية‪ ،‬أم أن إدارته توجهه في القراءة‪...‬‬ ‫بالطبع هذه األمور تبقى في دهاليز االستخبارات‬

‫أما ليندون جونسون فتأثر بكتاب االقتصادي البريطاني‬

‫من دون أن تشتهر مجموعة من الكتب‪ ،‬وقصة البيت‬ ‫ّ‬ ‫تمكن‬ ‫األبيض مع الكتاب عمرها عقود‪ ،‬فإبراهام لينكولن‬

‫قرأه أكثر من مرة‪ ،‬وح ّول الهجوم إلى حرب على الفقر‪.‬‬

‫األميركية‪ ،‬المهم القول‪ :‬إنه لم يمر عهد رئاسي في أميركا‬

‫من الوصول إلى مجموعة محدودة من الكتب‪ ،‬ومنها‪:‬‬

‫باربارا واردز «األمم الثرية واألمم الفقيرة»‪ ،‬وقال‪ :‬إنه‬ ‫وظهر على الطبعات المستقبلية من كتاب هارينغتون‬

‫عبارة «الكتاب الذي أشعل حربًا على الفقر» على الغالف‪.‬‬ ‫ريتشارد نيكسون قارئ نهم للسير الذاتية‪ ،‬وفي كلمة وداع‬

‫«حياة بارسون ويمز في واشنطن»‪ ،‬و«خرافات إيسوب»‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫و«تقدم الحاجّ »‪ ،‬و«تاريخ الواليات‬ ‫و«روبنسون كروزو»‪،‬‬ ‫المتحدة»‪ً .‬‬ ‫أيضا كان لينكولن يعشق الشعر‪ ،‬ومغرمً ا بصفة‬

‫طاقمه في ‪ 9‬أغسطس ‪1974‬م‪ ،‬قال‪« :‬لست متعلمً ا‪ ،‬لكنني‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫تحديدا‬ ‫قارئا نهمًّ ا ومهتمًّ ا‬ ‫أقرأ كتبًا»‪ ..‬هاري ترومان كان‬

‫قصائده عن ظهر قلب‪ .‬توماس جيفرسون كان يمتلك مكتبة‬

‫الوحيد الجديد في هذا العالم هو التاريخ الذي ال يعرفه‬

‫خاصة بالشاعر األسكتلندي روبرت بيرنز‪ ،‬ويحفظ الكثير من‬ ‫شخصية تضم ‪ 6487‬كتابًا‪ ،‬التي أصبحت األساس لمكتبة‬

‫الكونغرس‪ .‬ودوّن جيفرسون ذات مرة‪« :‬ال أستطيع العيش‬

‫من دون الكتب»‪ .‬وامتلك جون آدامز مكتبة تضم ‪3000‬‬ ‫َ‬ ‫أحمق‬ ‫كتاب‪ ،‬واعترف ذات مرة لزوجته أبيجيل‪« :‬لقد كنت‬ ‫وأنفقت ثمن عقار في شراء الكتب»‪ .‬في عام ‪1816‬م‪ ،‬كتب‬

‫آدامز يقول‪ :‬إنه «لو كان لي أن أختار عبقريتي وظروفي‪،‬‬

‫بالتاريخ والتراجم‪ ،‬وقال في إحدى المرات‪ :‬إن «الشيء‬

‫المرء»‪ .‬وكان المفكر المقيم في البيت األبيض آرثر شليزنغر‬ ‫يرشح كتبًا لكينيدي كما ّ‬ ‫ألف كتاب «ألف يوم»‪ .‬ووسط‬

‫الحديث عن الكتب والبيت األبيض‪ ،‬يطرح السؤال عن‬

‫عالقة الرؤساء األميركيين بالكتاب األدبي‪ ،‬الرواية والشعر‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وخصوصا باراك أوباما وبيل كلينتون‪.‬‬ ‫تحديدا‪،‬‬

‫الخترت أن أجعل من نفسي شاعرًا»‪ .‬لكنه اعترف أن شعره‬ ‫ً‬ ‫«ملعونا بالبقاء في ربقة المستوى المتوسط»‪ .‬تيودور‬ ‫كان‬

‫روزفلت‪ ،‬كان يتصفح الكثير من الكتب في يوم واحد‪،‬‬ ‫وكتب أكثر من اثني عشر عملاً في موضوعات تتنوع ما بين‬ ‫حرب ‪1812‬م والغرب األميركي‪ .‬ويقال‪ :‬إنه ال أحد يجاري‬

‫ً‬ ‫واحدا في اليوم في‬ ‫روزفلت في القراءة‪ ،‬فهو يقرأ كتابًا‬

‫حالة انشغاله القصوى‪ ،‬أما في أوقات الفراغ التي يتحرر‬

‫فيها من العمل فإنه يستطيع االنتهاء من قراءة كتابين إلى‬ ‫ثالثة كتب‪ ،‬وقد وصفه بعض بأنه «أكول للكتب» ويسعد‬

‫كثيرًا إذا ما زاد اطالعه‪.‬‬

‫ثيودور روزفلت‬

‫‪99‬‬


‫ثقافات‬

‫‪ ‬أوباما‪ ..‬والتوازن النسبي‬

‫بولدوين ورالف إليسون اللذين يركزان على مشاعر الزنوج‬

‫إذا بدأنا في الحديث عن تجربة الرئيس باراك أوباما‬

‫في المجتمع األميركي‪ ،‬كتب األول «اذهب وقل ذلك على‬

‫رئيسا‪ ،‬منذ‬ ‫أن تاريخ رؤساء الواليات المتحدة ال يذكر‬ ‫ً‬

‫قصائد الشاعر الزنجي النغستون هيوز‪ ،‬أحد كبار الشعراء‬

‫مع القراءة والكتاب‪ ،‬فقد ذكرت صحيفة نيويورك تايمز‬

‫عهد إبراهام لينكولن الذي تولى قيادة أميركا بين عامي‬ ‫‪ 1861‬و‪1865‬م‪ ،‬لعبت القراءة والكتابة دورًا كبيرًا في بلورة‬

‫شخصيته وقناعاته ورؤيته للعالم مثل الرئيس أوباما‬ ‫الذي قال‪« :‬سمحت لي بالمحافظة على توازن نسبي خالل‬

‫السنوات الثماني المنصرمة؛ ألن الرئاسة مكان تصيبك فيه‬

‫األحداث إصابة مباشرة باستمرار من دون أي هوادة»‪ .‬من‬ ‫يراقب مسيرة أوباما‪ ،‬يالحظ مدى اهتمامه بالكتب األدبية‬ ‫وتوظيفها‪ ،‬ففي مكالمة هاتفية له‬ ‫مع الرئيسة األرجنتينية السابقة‬ ‫كريستينا كيرشنر‪ ،‬أعرب عن‬ ‫اهتمامه بالتعرف إلى العاصمة‬

‫بوينس أيريس؛ ألنه في أثناء‬

‫فترة الدراسة الجامعية كان قد‬ ‫قرأ بشغف أعمالاً لكل من األديبين‬ ‫األرجنتينيين خوليو كورتاثار‬ ‫وبورخيس‪ .‬وحين خطب أوباما‬

‫‪100‬‬

‫عن القضية العرقية في الحياة‬ ‫األميركية استشهد بعبارة‬ ‫األميركي‬

‫للروائي‬

‫وليام‬

‫فوكنر تقول‪« :‬إن الماضي‬ ‫لم يمت ويدفن‪ ،‬وهو في‬ ‫الحقيقة ليس ماضيًا»‪،‬‬ ‫وأن يستشهد أوباما‬ ‫بفوكنر صاحب رواية‬ ‫«الصخب والعنف»‪،‬‬ ‫فهذا إيماء إلى أهمية‬ ‫هذا األخير‪ ،‬حظيت‬ ‫باهتمام‬

‫رواياته‬

‫بالغ في أميركا‬ ‫وخارجها‬

‫باراك أوباما‬

‫نظرًا‬

‫إلى تأثيرها الكبير‬

‫في إبراز حقيقة التناقضات‬ ‫في‬

‫المجتمع‬

‫األميركي‬

‫ً‬ ‫وخصوصا في الجنوب‪.‬‬ ‫يقول‬

‫أحد‬

‫الجبل»‪ ،‬وأصدر الثاني «الرجل الخفي»‪ .‬كذلك قرأ أوباما‬ ‫المعاصرين وأحد رموز ما عرف في القرن العشرين‬

‫بـ«نهضة هارلم»‪ ...‬وعام ‪2012‬م أشار كثير من متابعي حملة‬ ‫االنتخابات األميركية التي خاضها باراك أوباما إلى اعتماده‬ ‫على الشعر في سباق الرئاسة مع خصمه الجمهوري‬ ‫ميت رومني‪ ،‬وكتب الناقد روبرت مكورم في صحيفة‬

‫«ذي غارديان» البريطانية‪« :‬أوباما الذي اشتهر في حملته‬ ‫االنتخابية األولى بعبارة «نعم نستطيع»‪ ،‬توسل بلغة‬ ‫الشعر في حملته الثانية ليلهم أنصاره ويجذب الناخبين‬

‫لمنحه ثقتهم من جديد‪ ،‬بعدما وجد أن لغة النثر لن‬ ‫تسعفه كثيرًا أمام خصمه ميت رومني‪ .‬وعرضت صحيفة‬ ‫«لوس أنجليس تايمز» تقريرًا يرصد كتب أوباما المفضلة‬

‫التي دوَّن قائمتها على «فيسبوك» وتضمنت كتبًا لرالف‬

‫والدو إيمرسون وموبي ديك وتوني موريسون‪ ،‬وهذه‬ ‫األخيرة كرمها أوباما‪ ،‬واحتفل بالشعر في البيت األبيض‬ ‫ولم يتردد في القول‪« :‬إن القصيدة الرائعة هي تلك التي‬

‫تتغلغل في أحاسيسنا‪ ،‬وتتماهى مع وجداننا‪ ،‬وتتحدانا‬ ‫وتلقننا شي ًئا عن أنفسنا وعن العالم الذي نعيش فيه‪.‬‬

‫ولطالما أدى الشعراء دورًا بالغ األهمية في سرد ملحمتنا‬ ‫األميركية»‪ .‬والتقى كبير نقاد صحيفة «نيويورك تايمز»‬

‫ميكيكو كاكوتاني‪ ،‬أوباما لسؤاله عن «حياته كقارئ»‬ ‫وخالل المقابلة أشاد أوباما بعدد من الكتب والكتاب‪.‬‬

‫وذكرت نيويورك تايمز أن أوباما تحدث عن الكتب التي‬ ‫منحها ابنته ماليا‪ ،‬ومن بينها «المفكرة الذهبية» لدوريس‬

‫ليسينغ و«مئة عام من العزلة» لماركيز‪ ،‬و«امرأة محاربة»‬ ‫لماكسين هونغ كينغستون‪.‬‬

‫‪ ‬كلينتون «على نبض الصباح»‬ ‫ً‬ ‫في عهد الرئيس بيل كلينتون‪ ،‬أيضا كان للكتاب‬

‫األدبي والقصيدة الشعرية حضورهما في كواليس البيت‬ ‫األبيض‪ ،‬فخالل تنصيبه عام ‪1993‬م اختار كلينتون الشاعرة‬ ‫األميركية من أصل إفريقي مايا أنجيلو لتلقي واحدة من‬ ‫قصائدها األكثر شهرة «على نبض الصباح»‪ ،‬وقدمت مايا‬

‫قصيدتها بأداء مسرحي‪ ،‬وهلل لها اإلعالم مثلما هللوا قبل‬

‫نحو نصف قرن للشاعر روبرت فروست الذي أسس هذا‬

‫أصدقاء‬

‫التقليد حين قرأ قصيدته «الهبة المباشرة» في حفل افتتاح‬

‫ألدباء سود من بينهم جيمس‬

‫‪1993‬م أطلق بيل كلينتون على مايا أنجيلو لقب «الرئيسة‬

‫أوباما‪ :‬إنه كان يقرأ كتبًا‬

‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬

‫عهد الرئيس جون‪ .‬ف‪ .‬كينيدي في عام ‪1961‬م‪ .‬في حفل عام‬


‫زعماء البيت األبيض ال أحد يستطيع العيش بال كتاب‬

‫اإلفريقية لألمة» (يحبها إلى جانب رالف أليسون وتايلور‬ ‫برانتش)‪ .‬تبدأ قصيدة في نبض الصباح بتحية للطبيعة األم‬

‫التي احتضنت كل األعراق بال تمييز‪ :‬صخرة‪ ،‬نهر‪ ،‬شجرة‪،‬‬ ‫كانت موط ًنا لكل السالالت منذ تفارقت وحددت وجود‬ ‫الكائنات المنقرضة‪.‬‬

‫كلينتون قارئ جيد‪ ،‬وكتابه المفضل هو «التأمالت»‬

‫للكاتب ماركوس أوريلس‪ ،‬وكان يحب الروايات البوليسية‬

‫التي وصفها بأنها «سبيل المتعة البسيط والرخيص»‬ ‫بالنسبة له‪ .‬وأبعد من ذلك‪ ،‬ففي احتفال أقيم تكريمً ا‬

‫ثمة الكثير من المقاالت والكتب عن‬ ‫الرؤساء األميركيين والقراءة‪ ،‬من بينها‬ ‫كتاب لهارولد إيفانز‪ ،‬يبين أن الميل إلى‬ ‫مستندا‬ ‫القراءة معيار نجاح أي رئيس‪،‬‬ ‫ً‬ ‫إلى وقائع تثبت أن أنجح الرؤساء في‬ ‫الواليات المتحدة هم أولئك الذين‬ ‫كبيرا‬ ‫اهتماما‬ ‫يولون القراءة‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫لماركيز في مسقط رأسه في كولومبيا كانت لكلينتون‬ ‫مداخلة عن ماركيز قال فيها‪« :‬هو أهم روائي ُنشر له في‬ ‫اللغات ّ‬ ‫كلها منذ موت فوكنر‪ ،‬وعندما قرأت له رواية «مئة‬

‫الوقت‪ ،‬قرأ كلينتون كتاب روبرت كابالن «أشباح البلقان»‬

‫أستطع ترك الكتاب من يدي حتى في أثناء المحاضرات‪.‬‬

‫داخل المنطقة منذ فترة طويلة‪ ،‬قد جعل ذلك كلينتون‬

‫عام من العزلة» عام ‪1972‬م وأنا طالب في كلية الحقوق لم‬ ‫الحظت أن هذا الرجل يبحر في أشياء تبدو كخياالت أحالم‬ ‫اليقظة لكنها واقعية وبالغة الحكمة»‪ .‬مع التذكير أن‬ ‫كلينتون في أول حملة انتخابية له في بداية التسعينيات‬

‫أعلن أن كتابه المفضل هو «مئة عام من العزلة» لماركيز‬ ‫الذي َّ‬ ‫علق قائلاً ‪ :‬إن كلينتون «يحاول كسب أصوات‬ ‫األميركيين الالتينيين»‪ .‬وعندما التقى كلينتون ماركيز‬

‫التي كانت من قبل جزءً ا من يوغوسالفيا‪ .‬وفي ذلك‬

‫وفوجئ بوصف كابالن لمشاعر الكراهية اإلثنية الموجودة‬ ‫غير متحمس للتدخل في البوسنة‪ .‬وقال وزير الدفاع ليس‬ ‫أسبين لمستشار األمن القومي أنطوني ليك‪ :‬إن كلينتون لم‬

‫متحمسا لمقترحاتهم‪ .‬وبعد أعوام كتبت الصحافية‬ ‫يكن‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫«بعضا ال يسمع اسم روبرت كابالن من دون‬ ‫لورا روزن أن‬

‫تحميله مسؤولية التأخر في التدخل األميركي»‪.‬‬

‫‪101‬‬

‫جورج بوش (االبن) «الغريب»‬

‫والروائي المكسيكي كارلوس فوينتس في جلسة عشاء‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫تقدم بها‬ ‫أنصت بهدوء إلى مالحظات سياسية قاسية‬

‫إذا كانت نظرة الصحافيين عابرة في متابعة قراءات‬

‫كلينتون عن أحب األفالم إلى قلبه‪ ،‬فكان جوابه‪« :‬في عز‬

‫الرئيس جورج بوش (االبن) الذي ال يُعرَف عنه شغفه‬

‫ً‬ ‫خصوصا‪ .‬وفي اللقاء نفسه ُسئل‬ ‫الكاتبان حول حصار كوبا‬

‫الظهيرة»‪ ،‬وأدهش الرئيس الحضور بأحاديثه حول األدب‬ ‫والثقافة ملقيًا جملاً من رواية «دون كيخوتة» لثرفانتس‪،‬‬

‫كلينتون وأوباما القارئين بنهم‪ ،‬فهي ليست كذلك مع‬

‫ّ‬ ‫أحب الروايات إلى القلب اختار‬ ‫وحين حان موعد تسمية‬

‫ماركيز «كونت مونت كريستو» فيما وقع خيار الرئيس‬

‫على «حكم قصير» لجورج أورويل‪ .‬وحين اختار فوينتس‬ ‫ً‬ ‫مونولوغا‬ ‫«أبسالوم أبسالوم» لفوكنر نهض كلينتون ملقيًا‬ ‫طويلاً من روايته «الصخب والعنف»‪ .‬فحب كلينتون لروايات‬ ‫ماركيز وفوكنر يبدو الف ًتا؛ ذلك أن معظم الرؤساء يبحثون‬ ‫عن الكتب اإلستراتيجية وليس عن الروايات الثقافية‬

‫بامتياز‪ .‬وأثرت الكتب التي يقرؤها كلينتون في المنحى الذي‬ ‫اتبعه في مطلع التسعينيات مع أزمة البلقان‪ ،‬وهو الصراع‬

‫العنيف الدامي من أجل السيطرة على المنطقة البوسنية‬

‫بيل كلينتون‬


‫ثقافات‬

‫بالمفكرين وال سيما الفرنسيين منهم‪ .‬اطلعنا أنه أراد‬

‫االستفادة من وقته في مزرعته قبل مدة كي يقرأ‪ ،‬فاختار‬

‫رواية «الغريب» للكاتب الفرنسي ألبير كامو‪ .‬وكان بوش‬

‫اقتبس عبارة من كامو في خطاب ألقاه في بروكسل في‬ ‫فبراير ‪2005‬م‪ ،‬داعيًا فيه أوربا إلى االنضمام إلى الواليات‬ ‫ّ‬ ‫«تقدم الحريّة في العالم‪ ،‬ومن أجل‬ ‫المتحدة من أجل‬ ‫ً‬ ‫إحالل السالم في الشرق األوسط»‪ .‬مضيفا‪« :‬نحن ندرك أن‬ ‫العقبات كثيرة‪ ،‬وندرك أن الدرب طويل»‪ .‬كلمات بوش هذه‬ ‫تشبه إلى حد كبير قول كامو‪« :‬إنّ الحريّة هي جريٌ طويل»‪،‬‬

‫يومها برَّرت بعض الصحف األميركية شغف بوش بـ«غريب»‬

‫كامو المباغت بعثور بوش على ذاته الدفينة في شخصيّة‬ ‫بطل الرواية «قاتل العرب»‪ .‬وكتبت الصحافية في «نيويورك‬

‫تايمز» مورين داود‪ ،‬أن «القاتل في رواية كامو يتخذ كثيرًا‬ ‫من القرارات الخاطئة‪ ،‬ويقتل رجلاً عربيًّا وسط صحراء‬

‫عالم مظلم‪ ،‬وعنيف ال صلة له‬ ‫من الرمال‪ .‬إنه يتحرّك في‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫بمعتقداته ورغباته‪ .‬وإذا كان ثمّ ة ما يؤكد فهم كامو لعبثية‬

‫الحياة‪ ،‬فهو أنّ الرئيس يقرؤه»‪ .‬بذلك يكون بوش المحافظ‬ ‫والمتطرف دينيًّا انضمّ وبشكل غير متوقع‪ ،‬إلى المعجبين‬

‫بالكاتب الثائر الموصوف باإللحاد الذي كان دائمً ا قريبًا من‬

‫‪102‬‬

‫جورج بوش االبن‬

‫الحركة الفوضوية‪.‬‬

‫طيف «الحرب والسالم»‬ ‫ثمة روايات تتحول في أروقة السياسيين إلى أشبه بالكتب اإلستراتيجية أو أيقونات السياسة‪ ،‬فقد كتب جيمي كارتر‬ ‫في كتاب مذكراته‪« :‬الحفاظ على اإليمان‪ :‬مذكرات رئيس»‪ ،‬أن ثالث نساء َّأثرن في حياته‪ :‬والدته ليليان‪ ،‬وزوجته روزلين‪،‬‬

‫ومعلمته جوليا كولمان‪ ،‬التي كانت تدرّس له في مدرسة بلين الثانوية (حيث ولد كارتر وتربَّى)‪ .‬وأوضح كارتر أن كولمان‬

‫شجعته على قراءة كتب التاريخ واألدب‪ .‬جيمي كارتر من أشد المعجبين بشعر ديالن توماس‪ .‬ويقول‪« :‬شجعتني على قراءة‬ ‫كتاب «الحرب والسالم» للروائي الروسي ليو تولستوي‪ .‬ظننت‪ ،‬في البداية‪ ،‬أن الكتاب عن الحرب والسالم في الدنيا الجديدة‪،‬‬

‫وأن أبطاله رعاة بقر وهنود حمر»‪ .‬واستعان كارتر برواية «الحرب والسالم» في حكمه‪ ،‬واقتنع بفضله أنّ األحداث الكبرى ال‬ ‫يتحكم فيها الزعماء‪ ،‬إنما الجماهير وعامة الناس الذين يحددون مصير العالم ً‬ ‫وفقا آلمالهم وأحالمهم‪ .‬والالفت أن طيف‬

‫رواية تولستوي حاضر بقوة في أروقة البيض األبيض‪ ،‬كان ريتشارد نيكسون‪ ،‬الذي أشار في مذكراته إلى أنه قرأ كتب تولستوي‬ ‫بصورة مكثفة خالل فترة شبابه‪ ،‬ووصف نفسه بأنه من أتباع تولستوي‪ ،‬يبحث دومً ا عن الكتب التي لها عالقة بالقضايا الكبرى‬ ‫في حياته اليومية‪ .‬وسئل جورج بوش (األب) في حوار له عام ‪1995‬م عن أكثر الكتب إلهامً ا له فكان لكتاب «الحرب والسالم»‬

‫حظ وفير من مديحه‪ ،‬وقال‪« :‬لقد اعتدت على قراءته في المدرسة»‪ .‬والنافل أن الرواية نشرت ألول مرة بين سنتي ‪1865‬‬ ‫و‪1869‬م على شكل سلسلة في مجلة المراسل الروسي‪ ،‬تدور أحداثها في بدايات القرن الـ‪ ،19‬إبان االجتياح الفرنسي لروسيا‬ ‫بقيادة نابليون بونابرت‪ ،‬والتغيرات التي لحقت بالطبقة األرستقراطية‪ .‬وتسرد الرواية حكاية خمس عائالت وتقص حيواتهم‬

‫الشخصية مع التاريخ بين ‪ 1805‬و‪1813‬م‪ ،‬وبشكل رئيس غزو نابليون لروسيا سنة ‪1812‬م‪ ،‬ثم دخوله موسكو وانسحابه بعد‬ ‫الخيبة والفشل في مواجهة الشتاء الروسي القارس‪ ،‬ورفض القيصر الروسي ألكسندر األول االستسالم‪.‬‬

‫وال يتوقف األمر هنا‪ ،‬فثمة قصص كثيرة عن عالقة الرؤساء األميركيين بالشعر‪ ،‬كان الرئيس جيمس غارفيلد من أشد‬

‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬


‫زعماء البيت األبيض ال أحد يستطيع العيش بال كتاب‬

‫من جانبه‪ ،‬علق ريتشارد كوهين‪ ،‬في مقال له في‬

‫«واشنطن بوست»‪ ،‬بقوله‪« :‬الصورة الكاريكاتيرية لبوش‬

‫كشخص غير مثقف انتهت اليوم‪ ،‬أو ربما باألمس‪ ،‬لكن‬

‫تبقى حقيقة الرجل المثقف قائمة»‪ .‬وأثارت حقيقة أن‬ ‫بوش قرأ رواية «الغريب» لكامو صيحات سخرية من‬

‫وسائل اإلعالم‪ .‬على سبيل المثال‪ :‬كتب جون ديكرسون‬ ‫من مجلة «سليت» أن قراءة جورج بوش لروائي وجودي‬

‫فرنسي أشبه بقراءة أوباما لكتالوغ متجر «كابيال»‪.‬‬ ‫واستضاف تلفزيون «بي بي سي» الصحافية الفرنسية‬

‫بينديكيت باتون‪ ،‬والناقد البريطاني المتخصص في األدب‬

‫الفرنسي آالن دي بونو‪ ،‬لتخمين سبب اختيار بوش لهذا‬ ‫الكتاب‪ .‬وقالت باتون‪ :‬إن كثيرًا من الرجال يمسكون بكتاب‬

‫جورج بوش‬

‫عالي الثقافة ليس لقراءته ‪-‬إذ يتعذر عليهم فهمه‪ -‬إنما‬

‫إلبهار اآلخرين‪ ..‬إال أن الناقد ديبونو خالف باتون الرأي‬ ‫قائلاً ‪ :‬إن أحداث الكتاب وشخصية «الغريب» تروق‬ ‫للرئيس بوش وتماثل شخصيته‪ ،‬وربما اقترحه عليه أحد‬ ‫ً‬ ‫شخصا بري ًئا من دون‬ ‫مساعديه؛ إذ إن بطل الرواية يقتل‬

‫سبب وال يشعر بالندم‪ ،‬ويخالف نصيحة اآلخرين‪ ،‬وهي‬

‫مواصفات لدى بوش في ممارسته السياسة العالمية‪ ،‬إذ‬ ‫يظهر «غريبًا» عن أي من األعراف اإلنسانية العادية‪.‬‬

‫ال أحد يجاري روزفلت في القراءة‪،‬‬ ‫واحدا في اليوم‬ ‫كتابا‬ ‫فهو يقرأ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫في حالة انشغاله القصوى‪ ،‬أما في‬ ‫أوقات الفراغ التي يتحرر فيها من‬ ‫العمل فإنه يستطيع االنتهاء من‬ ‫قراءة كتابين إلى ثالثة كتب‬

‫‪103‬‬

‫المعجبين بالشاعر األلماني غوته‪ ،‬وقد استطاع في أثناء فترة رئاسته‬ ‫ً‬ ‫أرشيفا لقصاصات من الكتب التى صدرت في‬ ‫تكوين مكتبة كاملة ضمت‬ ‫عهده‪ .‬وفي صغره كان غيرالد فورد يتعرض لنوبات من الغضب‪ .‬وبعد‬ ‫نوبة غضب سيئة بصورة استثنائية‪ ،‬ألزمته أمه دوروثي فورد بحفظ‬

‫قصيدة «لو» للشاعر روديارد كبلنغ‪ ،‬وقالت له‪« :‬إن هذه القصيدة سوف‬

‫تساعدك على أن تتحكم في غضبك»‪ .‬هذه القصيدة تبدأ بقول الشاعر‪:‬‬ ‫«لو أنك قادر أن تبقي على رأسك‪/‬بينما كل من حولك يفقدون رؤوسهم‬ ‫ويلومونك أنت‪ .»...‬منذ أن تخرج هاري ترومان من المدرسة الثانوية سنة‬

‫‪1901‬م ظل يحمل في محفظته عبارة من قصيدة للورد تينيسن هي قصيدة‬

‫«قاعة لوكسلي» ظلت الورقة التي نقلت عليها تلك العبارة تبلى‪ ،‬وظللت‬ ‫أعيد نقلها على ورقات أخرى‪ .‬ال أعرف كم مرة حدث هذا‪ ،‬عشرين مرة‬

‫أم ثالثين‪ ،‬ربما» وأضاف ترومان في حديثه الشهير للصحفي مارتن فيلر‬ ‫قائلاً ‪« :‬إن إيماني بالشعراء أكبر بكثير من إيماني بالصحفيين»‪.‬‬

‫جيمي كارتر‬

‫ماذا يقرأ ترمب؟‬

‫هذا غيض من فيض عن مشهدية الرؤساء والقراءة األدبية ورمزيتها في البيت األبيض‪ ...‬والسؤال‪ :‬ماذا يقرأ الرئيس‬

‫الجديد دونالد ترمب؟ ماذا لو قرأ الرئيس األميركي رواية «المسخ» لكافكا‪ ،‬أو«رأس المال» لماركس‪ ،‬أو«المراقبة والعقاب»‬

‫لفوكو‪ ،‬أو أي روائي عربي‪ ،‬كيف ستكون التفسيرات وردود األفعال؟!‬


‫ثقافات‬

‫مرور سنة على رحيله‬

‫الروائي إمبرتو إيكو‪..‬‬ ‫سياسي حتى العظم‬ ‫أحمد فرحات‬

‫‪104‬‬

‫شاعر وكاتب لبناني‬

‫بعد رحيله في ‪ 19‬فبراير من العام الفائت ‪2016‬م عن ‪ 84‬عامً ا؛ قرأنا الكثير عن الروائي اإليطالي إمبرتو‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وباحثا في القروسطيّات وعالمً ا في اللغويّات والسيميائيّات‬ ‫وناقدا‬ ‫إيكو أديبًا وأكاديميًّا وسوسيولوجيًّا‬ ‫(دراسة ّ‬ ‫ً‬ ‫األدلة)‪ ،‬ولم نقرأ عنه كناشط سياسي؛ علمً ا بأنه كان منخرطا في عالم السياسة حتى أذنيه‪ ،‬وكان‬ ‫ً‬ ‫خصوصا في مجلة «ليسبريسو» اإليطالية‪ ،‬وفي صحيفة الـ«نيويورك‬ ‫يكتب في أحداثها وتطوّراتها بانتظام‪،‬‬ ‫تايمز» األميركية‪ .‬وبما أن الرجل ّ‬ ‫شكل ظاهرة ثقافية وإبداعية كبرى‪ ،‬جرّاء انتشار رواياته بالماليين‪ ،‬ليس‬ ‫على مستوى بلده إيطاليا واالتحاد األوربي فقط‪ ،‬إنما على مستوى العالم بأسره‪ ،‬فإن آراءه السياسية‪،‬‬ ‫هي بالتأكيد محل رصد ومتابعة وتقييم؛ ولها ‪-‬ال شك‪ -‬تأثيراتها االعتبارية؛ ناهيك عن أن الرجل معروف‬ ‫أصلاً بيساريته‪ ،‬التي يقال‪ :‬إنه َّ‬ ‫طعمَ ها بليبراليّة متمادية في العقدين األخيرين من حياته‪ ،‬ما أغضب الكثير‬ ‫من «رفاق األمس» داخل البالد وخارجها‪ .‬ومن هنا كان الف ًتا أن تقول صحيفة «الريبوبليكا» اإليطالية‬ ‫«بأننا سنفتقد نظرته إلى العالم»‪ .‬وقال فيه رئيس الوزراء اإليطالي السابق ماتيو رينتسي‪« :‬إن الراحل كان‬ ‫نموذجً ا استثنائيًّا للمثقفين األوربيين‪ ،‬حيث جمع بين فهمه الفريد للماضي وقدرة ال تنضب على التنبؤ‬ ‫بالمستقبل» وهو يقصد بالطبع المستقبل االجتماعي والسياسي والحضاري العام لبالده؛ ألن إمبرتو إيكو‬ ‫كان ينشق دومً ا عن ثقافة اتساع الرؤية‪ ،‬والسياسة كانت جانبًا حيويًّا من جوانب هذه الرؤية‪.‬‬ ‫أما صديقه المفكر الفرنسي جاك لوغوف فقال‪« :‬إمبرتو‬ ‫إيكو روائي سياسي حتى العظم‪ ،‬وعلى هذا األساس يجب أن ُتقرأ‬

‫مختلف رواياته»‪ .‬وهذا الرأي في ّ‬ ‫محله على ما نعتقد؛ إذ إن اللجوء‬ ‫إلى مسرح التاريخ واستخدام موضوعات أحداثه‪ ،‬هو سمة كتابة‬

‫إمبرتو إيكو الروائية في اإلجمال‪ ،‬بدءً ا من روايته «اسم الوردة» –‬

‫‪1980‬م‪ ،‬مرورًا بروايات‪« :‬بندول فوكو» – ‪1986‬م‪ ،‬و«جزيرة اليوم‬

‫السابق» ‪1944 -‬م‪ ،‬و«مقبرة براغ» – ‪2010‬م‪ ،‬و«الشعلة الغامضة‬ ‫للملكة لوانا» ‪2004 -‬م وصولاً إلى روايته األخيرة «العدد صفر» –‬

‫‪2015‬م‪ ،‬وعبرها جميعً ا عرف الروائي الكبير كيف ّ‬ ‫يوظف أحداث‬ ‫ّ‬ ‫ودالة بقوة على خارطة الحاضر بصراعاته‬ ‫التاريخ برمزية صارخة‬ ‫السياسية المركزية موضوع التناول أو المعالجة الفنية‪.‬‬

‫وإمبرتو إيكو كان يحذو بذلك حذو الروائي األسكتلندي الشهير‪،‬‬

‫السير والتر سكوت‪« ،‬أبو الرواية التاريخية» المكتملة العناصر‬ ‫والتشويقات في أوربا والعالم (‪1832 – 1771‬م)‪ ،‬وذلك مذ ّ‬ ‫سطر هذا‬ ‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬

‫األخير روايته األولى «ويفرلي» في عام ‪1814‬م‪ ،‬وأتبعها بـ ‪ 55‬رواية‬

‫تاريخية‪ ،‬كان ينتقي معظم أبطالها من العصور الوسطى‪ .‬ومن‬ ‫أشهر كتبه السياسية‪« :‬حياة نابليون» في تسعة أجزاء‪ .‬وقد درج‬ ‫على منوال والتر سكوت ُك َّتاب ُكثر في أوربا من أمثال فكتور هوغو‬ ‫وألكسندر ديماس في فرنسا‪ ،‬وتولستوي في روسيا‪ ،‬وألكسندرو‬

‫مانزوني في إيطاليا‪ .‬ومع إرهاصات نهايات القرن العشرين األدبية‪،‬‬ ‫ظهر إمبرتو إيكو في إيطاليا ً‬ ‫أيضا كمفجّ ر مستأنف لهذا النهج الكتابي‬

‫الروائي السياسي المشوّق‪.‬‬

‫السياسة وصناعة الكذب‬

‫قضايا سياسية كثيرة تط ّرق إليها إمبرتو إيكو في مقاالته التي‬

‫كان ينشرها دوريًّا في الـ«نيويورك تايمز»‪ ،‬من بينها مقالة أشارت إلى‬

‫صناعة الكذب في السياسة حملت عنوان‪« :‬الحياة السياسية‪ ..‬حتمية‬ ‫الكذب»‪ ،‬يعود فيها إلى كتاب الروائي والناقد اإلنجليزي جوناثان‬


‫ً‬ ‫مقتطفا منه‬ ‫سويفت‪« :‬فنون الكذب» الذي ألفه في عام ‪1712‬م‪،‬‬ ‫عبارات ّ‬ ‫دالة على زمننا الحاضر سياسيًّا‪ ،‬يقول على لسان سويفت‪:‬‬

‫ّ‬ ‫الكذاب السياسي عن سائر‬ ‫«إن ثمة نقطة أساسية يفترق فيها‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الكذابين‪ ،‬هي في قدرته على اجتراح الكذبة وجعلها تتسم بذاكرة‬ ‫قصيرة‪ ،‬وذلك كي يتجاوز بسرعة واقع كيف َ‬ ‫ناق َ‬ ‫ض نفسه أمام‬ ‫آن واحد»‪.‬‬ ‫نفسه‪ ،‬وأمام أتباعه في ٍ‬

‫وفي رأي سويفت «أن انتشار الكذب على نحو واسع‪ ،‬ال يستغرق‬ ‫ً‬ ‫زم ًنا طويلاً ‪ ،‬حتى لو كان المصدر َّ‬ ‫محترفا ومح ّن ًكا في‬ ‫كذابًا سياسيًّا‬ ‫الصميم»‪ .‬ويردف الكاتب «عادة ما تصحّ مقولة‪ :‬إن تصديق كذبة‬

‫ولو لساعة واحدة فقط‪ ،‬تفي بكامل الغرض المراد منها؛ فالكذب‬

‫المؤذي الخطير ينتشر بسرعة البرق‪ ،‬في حين أن الحقيقة تظهر‬ ‫بعده عرجاء ب َْكماء‪ ،‬وريثما يتحرر المرء من صدمة الكذبة واإلفاقة‬ ‫النهائية منها‪ ،‬تكون األمور قد فات أوانها وأتت أُ ُكلها»‪.‬‬

‫وفي مقالة أخرى له نشرتها الـ«نيويورك تايمز» ً‬ ‫أيضا تحت عنوان‪:‬‬

‫«قصتي مع األلوية الحمر»‪ ،‬وبعد مناقشته وتصحيحه لما نقل عنه‬ ‫في صحيفة «إلباييس» اإلسبانية بأنه قال‪« :‬إن «األلوية الحمر» كانت‬ ‫ّ‬ ‫محقة في اعتقادها بضرورة محاربة الشركات متعدّدة الجنسيّات‪،‬‬ ‫لكنها كانت مخطئة في إيمانها باإلرهاب كأسلوب‪ .‬ويستنتج بالتالي‬

‫كاتب «إلباييس» أني أوافق‪ ،‬بهذه الطريقة‪ ،‬على أن تلك المنظمة‬ ‫اإلرهابية‪ ،‬هي مجرد عبارة عن «رفاق ّ‬ ‫ضلوا الطريق»‪ ،‬وأني أدعم‬

‫مقولة‪« :‬إن األفكار كانت مقبولة‪ ،‬وأما الطرق فلم تكن»‪ .‬وقد‬ ‫اختتمت الجريدة اإلسبانية المقال المنشور كما يلي‪« :‬إن كانت هذه‬

‫المساهمة التي تقدّمها الذهنيّة الثقافية اإليطالية بعد‬

‫ثالثين عامًا على اغتيال رئيس الوزراء‬ ‫األسبق ألدو مورو‪ ،‬فهذا‬

‫يوظف أحداث‬ ‫عرف الروائي الكبير كيف ّ‬ ‫التاريخ برمزية صارخة ودالّة بقوة على‬ ‫خارطة الحاضر بصراعاته السياسية المركزية‬ ‫ّ‬ ‫ومعل ًقا‪:‬‬ ‫فلم سبق وشاهدناه يا لألسف‪ »..‬يقول إمبرتو إيكو مصحّ حً ا‬

‫«أما ما يمكننا أن نصفه بالهذيان في طريقة تفكير منظمة «األلوية‬ ‫الحمر» والمجموعات اإلرهابية األخرى‪ ،‬فهو االستنتاجات التي‬ ‫توصلت إليها‪ .‬فقد ظ ّنت المنظمة أولاً ‪ ،‬أنها إن أرادت القضاء على‬

‫الشركات متعدّدة الجنسيات‪ ،‬فعليها أن ّ‬ ‫تحث على اندالع «ثورة» من‬ ‫خالل اقتراف موجة واسعة من أعمال العنف في إيطاليا‪ .‬ثم اعتقدت‬

‫أنها بقتلها «ألدو مورو» والعديد من األشخاص الصالحين‪ ،‬تمارس‬ ‫ً‬ ‫ضغطا على الشركات متعدّدة الجنسيات‪ .‬وأخي ًرا رأت أن تلك‬ ‫بذلك‬

‫األعمال‪ ،‬ستدفع بأفراد الطبقة العاملة إلى التم ّرد‪ .‬وقد كانت هذه‬ ‫األفكار كلها جنونية ًّ‬ ‫حقا؛ ألسباب ثالثة‪ :‬ما كانت ثورة في بلد واحد‬ ‫لتزعج الشركات متعددة الجنسيات حتى لو قليلاً ‪ ،‬وفي أي حال كان‬

‫الضغط الدولي ليعيد وضع األمور في نصابها على الفور‪ .‬ثانيًا‪ -‬لم‬

‫‪105‬‬


‫ثقافات‬

‫تكن لسياسي إيطالي واحد أي أهمية تذكر في لعبة المصالح الدولية‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ثالثا‪ -‬كان األجدر بمنظمة «األلوية الحمر» أن تدرك أنه مهما قتلت من‬ ‫أشخاص‪ ،‬فإن الطبقة العاملة لن تثور»‪.‬‬ ‫رفيق أخطأ التفكير‬

‫ً‬ ‫معلقا‪« :‬إن من يستقي االستنتاجات‬ ‫ويستطرد إمبرتو إيكو‬

‫الخاطئة من مقدمة منطقية مقبولة إلى حد ما‪ ،‬ليس مجرد «رفيق‬

‫أخطأ التفكير»؛ وإذا قال أحد رفاقي في الفصل الدراسي‪ :‬إن الشمس‬ ‫تدور حول األرض‪ ،‬أو إن اثنين زائد واحد يساويان خمسة‪ ،‬فلن‬ ‫ً‬ ‫رفيقا أخطأ التفكير‪ ،‬بل سأ ُع ّده غبيًّا»‪ .‬وبخصوص مصطلح‬ ‫أعده‬

‫وبنجامين غوغنهايم‪ ،‬وإيزيدور شتراوس‪ ،‬الذين عارضوا في ذلك‬

‫الوقت تأسيس المصرف‪ .‬وبالعمل من خالل االحتياطي المركزي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫تمكن اليسوعيون من تمويل الحربين العالميتين اللتين صبّتا في‬ ‫مصلحة الفاتيكان دونما شك‪.‬‬

‫أما فيما يخص اغتيال الرئيس جون كينيدي‪ ،‬فيجدر التذكير‬

‫–وكله بحسب إمبرتو إيكو عن الموقع الفرنسي– بأن تأسيس وكالة‬ ‫ّ‬ ‫مخط ًطا يسوعيًّا ً‬ ‫أيضا‪،‬‬ ‫االستخبارات المركزية األميركية‪ ،‬كان‬

‫مستوحى من التمارين الروحية للقديس إغناطيوس‪ ،‬وأن اليسوعيين‬ ‫ّ‬ ‫تحكموا بوكالة االستخبارات المركزية األميركية من خالل جهاز الـ«كي‪.‬‬

‫«المؤامرة» الذي كان على ما يبدو سائدًا في األدبيّات السياسيّة‬

‫جي‪ .‬بي» السوفييتي‪ ،‬ومن ثمَّ اغتيل كينيدي على يد األشخاص‬

‫تناوله إمبرتو إيكو في مقالة ساخرة نشرتها الـ«نيويورك تايمز» في عام‬ ‫‪2008‬م‪ .‬ورد فيها أنه‪ ،‬وبعد ّ‬ ‫تصفحه موقعً ا لإلنترنت باللغة الفرنسية‪،‬‬

‫إيكو‪ -‬فإن التآمر اليسوعي‪ ،‬هو من يقف خلف الجماعات النازية‬

‫الجديدة والمناهضة للسامية كلها‪ ،‬واليسوعيون يسيطرون على‬

‫به العنوان‪ ،‬يقدم هذا الموقع مراجعة واسعة لألحداث كافة‪ ،‬التي‬

‫أوحى إلى الكاردينال سبيلمان‪ ،‬الذي ح ّرض على الحرب في فيتنام‪،‬‬

‫القديمة‪ ،‬مثلما هو سائد في األدبيّات السياسيّة الحديثة‪ ،‬فلقد‬

‫واسمه «عالم اليسوعيين المريض» لـ«جويل البرويير»؛ وكما يوحي‬

‫انطلقت من مؤامرة عالمية رسمها أعضاء جماعة اليسوعيين الدينية‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫التحكم‬ ‫فلطالما «جهد اليسوعيون نحو تأسيس حكومة عالمية عبر‬

‫بالبابا وبعدد من األمراء األوربيين‪ .‬ومن خالل جماعة المتنوّرين من‬

‫‪106‬‬

‫وفاة اليهود الثالثة األغنى في العالم‪ :‬جون جاكوب آستور الرابع‪،‬‬

‫إقليم بافاريا األلماني‪ ،‬حاولت «جماعة يسوع» الدينية إسقاط األمراء‬

‫الذين حظروا وجودها‪ .‬ليس هذا كل شيء‪ ،‬يتابع إيكو‪« :‬فأعضاء‬ ‫جماعة اليسوعيين الدينية هي من أغرق سفينة «تيتانيك»؛ ألنه‬

‫بداعي هذه الحادثة تمكنوا من تأسيس مصرف االحتياط الفدرالي‬ ‫األميركي وبوساطة من فرسان مالطا»‪ .‬ويشدد مح ِّررو موقع «العالم‬ ‫المريض» على أن غرق سفينة «تيتانيك» لم يؤ ّد بالمصادفة إلى‬

‫أنفسهم الذين أغرقوا سفينة «تيتانيك» الضخمة‪ .‬وبالطبع ‪-‬بحسب‬

‫نيكسون وكلينتون؛ كما قاموا بمجزرة مدينة أوكالهوما‪ .‬وهم من‬ ‫التي جلبت بدورها ‪ 220‬مليون دوالر إلى صناديق االحتياطي الفدرالي‬ ‫الخاضع ً‬ ‫أيضا لسيطرة اليسوعيين من خالل فرسان مالطا‪ .‬ويختم‬ ‫إمبرتو إيكو ساخ ًرا جدًّا من مصطلح «المؤامرة» أو «نظرية المؤامرة»‬

‫لئن انتقد إمبرتو إيكو بعض سياسات‬ ‫إسرائيل‪ ،‬فإنه في حقيقة األمر‪ ،‬كان‬ ‫حتى آخر يوم من حياته‪ ،‬من أشد‬ ‫المدافعين األذكياء عنها‬

‫إيكو وعصام محفوظ‪ ..‬لقاء في «الدوماغو»‬ ‫روى لي الناقد اللبناني الراحل عصام محفوظ أنه التقى في باريس الروائي إمبرتو إيكو في مقهى «الدوماغو» في أوائل التسعينيات‬

‫من القرن الفائت‪ ،‬وتحادثا في أمور ثقافيّة وسياسيّة شتى‪ ،‬لفته خاللها‪ ،‬وأكثر من مرة‪ ،‬سؤال شخصي كان يلحّ عليه إيكو له ومضمونه‪:‬‬ ‫أعرف أنك لبناني‪ ،‬لكن من أي منطقة من لبنان أنت؟‪ّ ..‬‬ ‫علقت مبتسمً ا بعض الشيء (يقول عصام محفوظ)‪ :‬ما وراء هذا السؤال يا سيد‬

‫إمبرتو‪ ،‬هب أنني أجبتك‪ ،‬فبماذا سيفيدك جواب عن هذا السؤال؟ قال إمبرتو‪ :‬أخبرني بعض المعارف اللبنانيين المشتركين أنك من‬

‫مدينة صغيرة مجاورة للحدود اإلسرائيلية– اللبنانية‪ ،‬فهل هذا صحيح؟ «هذا صحيح نعم» أجاب عصام محفوظ «واسم مدينتي الصغيرة‬ ‫إذا؟ هل هي ممكنة؟ ما ّ‬ ‫تحفز إمبرتو إيكو وسألني‪ :‬ما رأيك بعملية السالم اإلسرائيلي– الفلسطيني ً‬ ‫هو مرجعيون»‪ .‬هنا ّ‬ ‫حظها من النجاح؟‬ ‫ً‬ ‫وخصوصا من طرف العرب الذين بلدانهم مجاورة إلسرائيل‪ ،‬وأكثر بكثير من غيرهم‪ .‬إن لهذه‬ ‫وأنا كإيطالي متوسطي تهمّ ني اإلجابة هنا‪،‬‬ ‫اإلجابة مذاقها الخاص عندي بالتأكيد‪ .»...‬وعلى الفور أجابه الناقد والمسرحي عصام محفوظ‪« :‬ال أعتقد أن سالمً ا حقيقيًّا سيقوم بين‬

‫اللبنانيين واإلسرائيليين ‪-‬وبالتأكيد مع العرب اآلخرين‪ -‬أتعرف لماذا يا سيد إيكو؟ ببساطة ألن اإلسرائيليين أنفسهم ال يريدون السالم‬ ‫الحقيقي والمعافى‪ ،‬أولاً مع الفلسطينيين ومن ثمّ مع سائر العرب‪ ،‬ففي السالم تضؤل دولتهم وتضمحل»‪.‬‬

‫ولكن السالم اإلسرائيلي– المصري حقيقي ومعافى‪ ،‬ومعاهدته تؤك ّدها األيام والسنون‪ ،‬وكذلك معاهدة السالم اإلسرائيلية–‬ ‫أيضا ثابتة ومستمرة‪ّ .‬‬ ‫األردنية‪ ،‬فإنها ً‬ ‫علق إمبرتو إيكو على كالم عصام محفوظ‪ ..‬وأردف قائلاً ‪« :‬بالتأكيد سيُصار ذات يوم إلى قيام معاهدة‬

‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬


‫الروائي إمبرتو إيكو‪ ..‬سياسي حتى العظم‬

‫داع للتساؤل عن سبب إقبال الناس الكبير‬ ‫عندما يقول‪ :‬إنه «ما من ٍ‬ ‫على كتب الروائي دان براون‪ ،‬فلعل لليسوعيين عالقة بذلك ً‬ ‫أيضا!»‪.‬‬ ‫تبرير اغتصاب فلسطين‬

‫أما بخصوص إسرائيل‪ ،‬فإن إمبرتو إيكو‪ ،‬وإن كان ينتقد بعض‬

‫ً‬ ‫خصوصا لجهة قوله‪ ،‬وأكثر من مرة‪ :‬إن مصطلح «معاداة‬ ‫سياساتها‪،‬‬

‫السامية» مملوء بالتناقضات‪ ،‬إال أنه في حقيقة األمر‪ ،‬كان حتى‬ ‫آخر يوم من حياته‪ ،‬من أشد المدافعين األذكياء عن إسرائيل‪ .‬وقد‬ ‫استف ّز الكثير من قرائه العرب‪ ،‬وبخاصة الفلسطينيين منهم‪ ،‬عندما‬ ‫أص ّر على المشاركة في «معرض القدس للكتاب» في عام ‪2011‬م‪،‬‬ ‫مل ِّبيًا دعوة بلدية االحتالل اإلسرائيلي في المدينة المقدسة‪ ،‬وذلك‬

‫بعدما ضرب عرض الحائط بكل مناشدات قوى المقاطعة الثقافية‬ ‫واألكاديمية للدولة العبرية‪ ،‬التي طلبت منه عدم تلبية هذه الدعوة‪.‬‬ ‫من جانب آخر‪ ،‬وبدهاء مر َّكب‪ ،‬ب َّرر إمبرتو إيكو لإلسرائيليين‬

‫اغتصابهم أرض الشعب العربي الفلسطيني عندما قال في مقالة له في‬

‫النيويورك تايمز‪« :‬والبارز لدى اإلسرائيليين‪ ،‬هو أنهم‬

‫السامية ذلك؛ وأنا على علم بأن المكان الذي يعرف اليوم بإسرائيل‪،‬‬ ‫كان في الماضي ً‬ ‫أرضا فلسطينية؛ فلم ُتن َتزع هذه األراضي باستخدام‬

‫العنف وعن طريق القضاء على الشعب الفلسطيني صاحب األرض‪،‬‬ ‫كما كانت الحال في شمال أميركا‪ ،‬أو من خالل تدمير الدول التي‬

‫يحكمها الملوك‪ ،‬كما كانت الحال في جنوب أميركا‪ ،‬بل أساسً ا عن‬

‫طريق الهجرة واالستيطان البطيئين اللذين لم يَجْ ِر معارضتهما في‬ ‫دفاع ماكر ومتسلل هذا الذي يبتدعه هنا إمبرتو إيكو دفا ًعا‬ ‫البداية»‪ .‬أيُّ‬ ‫ٍ‬

‫عن مغتصبي األرض الفلسطينية‪ ،‬الذين تدفقوا بإرادة استعمارية‬ ‫استيطانية مكشوفة‪ ،‬ووفق برنامج رعائي استعماري ممسوك ومدار‪،‬‬

‫حضنته في البداية بريطانيا وفرنسا‪ ،‬وفيما بعد‪ ،‬الواليات المتحدة‬ ‫والغرب كله؟ على من يمرر ًإذا إمبرتو إيكو رسائل تبرير أن اإلسرائيليين‬ ‫هم مجرد مهاجرين عاديين لم يرتكبوا مجازر بحق أهل األرض‪ ،‬ولم‬ ‫يستأصلوا شأفة الفلسطينيين‪ ،‬وأنهم مجرد شعب يريد العيش بسالم‬

‫ووئام مع محيطه‪ ،‬ومن ثم فإن اإلسرائيلي لم يفعل ما فعله غزاة‬ ‫شمالي أميركا األوائل بحق من سُ مّوا خطأً بـ«الهنود الحمر»؟‬

‫استخدموا الوسائل األكثر تق ّدمًا بهدف حرث األرض‬ ‫وإنشاء المزارع النموذجية‪ .‬ولذلك في حال حاربوا‪،‬‬

‫ففي سبيل السيطرة على األرض التي استوطنوا فيها‪.‬‬ ‫فهذا هو العامل الذي يحمله العرب «المعادون‬ ‫ً‬ ‫مأخذا عليهم‪ ،‬علمًا بأن هدفهم األساسي‬ ‫للساميّة»‬

‫‪107‬‬

‫(أي العرب) يكمن في تدمير دولة إسرائيل»‪ .‬ويردف‬

‫إيكو في المقالة عينها‪« :‬ال يحبّذ معادو الساميّة‬ ‫فكرة أن يعيش اليهودي إال في إسرائيل‪ .‬وفي حال‬

‫اختار اليهودي أن يعيش في إسرائيل‪ ،‬يرفض معادو‬ ‫سالم بين إسرائيل ولبنان‪ ،‬وسيكون لها ّ‬ ‫َ‬ ‫حظ النجاح ً‬ ‫معاهدت ْي مصر‬ ‫أيضا‪ ،‬على غرار‬ ‫واألردن مع إسرائيل»‪ .‬وهنا قاطعه عصام محفوظ قائلاً ‪ :‬من حيث الشكل ربما كان األمر‬

‫صحيحً ا‪ ،‬لكن من حيث المضمون وقوة سلطة التاريخ وأنساق مفاهيم الشعوب وعمقها‬ ‫الواعي والالواعي فال أعتقد‪ ،‬بل أجزم‪ ،‬بأن األمر يعاكس وجهة نظرك يا سيد إيكو‪ .‬فأولاً ‪ -‬ال‬ ‫سالم حقيقيًّا بين إسرائيل والشعوب العربية في مصر واألردن ولبنان (في حال قامت أصلاً‬

‫معاهدة بين هذا البلد األخير وإسرائيل)‪ .‬ثانيًا‪ -‬إن مفهوم سالم إسرائيل مع العرب‪ ،‬هو‬

‫مفهوم إخضاعي لهم‪ ،‬وسيطرة مطلقة عليهم‪ ،‬حاضرًا ومستقبلاً ‪ ،‬فكل بلد عربي بالنسبة‬

‫إلى إسرائيل‪ ،‬هو أمة قائمة بذاتها‪ ،‬ويجري التعامل مع كل «أمة من األمم العربية» على‬ ‫هذا األساس‪ ..‬فأي سالم تص ّدقه سيقوم بين العرب وإسرائيل أيها الصديق إيكو؟!‪ .‬أكثر من‬ ‫ذلك يا سيدي‪ :‬إن اإلسرائيليين يدركون في أعماقهم بأن ال سالم عاش وسيعيش بينهم‬

‫عصام محفوظ‬

‫وبين سائر جيرانهم العرب‪ ،‬بالمعنى الشعبي هنا طبعً ا؛ لذلك فإن معدة الشعوب العربية لم تهضم إسرائيل في رأيي‪ ،‬ولن تهضمها‬ ‫يومً ا‪ .‬ولذلك فإن الدولة العبرية ستظل باستمرار دولة عسكرية وأمنية مستنفرة‪ ،‬وتخوض حروبًا مباشرة وبالواسطة مع العرب‪ ..‬فهي‬ ‫ّ‬ ‫تنحل وتبور»‪.‬‬ ‫بالحروب تحيا وتستمر‪ ،‬وبالسالم الحقيقي‬ ‫لم ّ‬ ‫يعلق الرجل على كالمي‪ ،‬يقول لي عصام محفوظ ويضيف‪ :‬وأنا انتقلت بالحديث معه إلى موضوع آخر‪.‬‬


‫ثقافات‬

‫ثورة الحب‬ ‫لوك فيري‬

‫فيلسوف فرنسي‬

‫ترجمة‪ :‬المهدي مستقيم ‪ -‬باحث مغربي‬

‫ُ‬ ‫والمثل التقليدية (الدينيّة‪ ،‬أو الوطنيّة‪ ،‬أو الثور ّية) قد عجزت عن استمرارية‬ ‫إذا كانت القيم‬ ‫ِّ‬ ‫المتجذرة في العبور من‬ ‫عملها بالمعاني التي تضفيها على حياتنا‪ ،‬فإن ما أنعته «ثورة الحب»‪،‬‬ ‫الزواج العرفي إلى الزواج المؤسس على قيمة الحب‪ ،‬بوصفها ً‬ ‫أفقا وغاية‪ ،‬أحدث تغييرًا كليًّا على‬ ‫حياتنا‪ .‬وهذه الثورة الصامتة‪ ،‬والشديدة العمق في اآلن نفسه‪ُّ ،‬‬ ‫تمدنا بمبدأ جديد من حيث المعنى‪،‬‬ ‫أضفى قيمته على تلك األبعاد اإلنسانية‪ ،‬التي طالما كانت مهمشة‪ ،‬والمجسدة في الحب الذي نك ُّنه‬ ‫لرفقائنا ورفيقاتنا‪ ،‬وألصدقائنا وأطفالنا وأقربائنا‪.‬‬ ‫بيد أن هذا االنقالب ال يمكن حصره فيما هو خاص؛ إذ‬

‫سرعان ما امتدّ ت عدوى التغيير الجذري الذي طال حياتنا‬

‫‪108‬‬

‫الخاصة‪ ،‬لتشمل عالقاتنا الجماعية‪ ،‬ذلك أن الحرص على أن‬ ‫ِّ‬ ‫نحقق لمن نحبهم‪ ،‬ابتداء بأطفالنا‪ ،‬عالمً ا ي َْسهل العيش فيه‪،‬‬ ‫وتتوافر فيه سبل االزدهار‪ ،‬يضع االهتمام باألجيال القادمة‬ ‫في صميم رؤيتنا لما هو سياسي‪ .‬لقد تبلورت أنسنة ثانية‬

‫بإيقاعات موسعة‪ ،‬على أنقاض األنسنة األولى القائمة على‬

‫فلسفة األنوار وحقوق اإلنسان‪ ،‬أنسنة جديدة تتسم باألخوَّة‬

‫والتعاطف‪ ،‬وتمتنع عن التضحية باإلنسان لفائدة الوطن أو‬ ‫الثورة أو حتى التقدم (وهي مُ ُث ٌل اشتهرت بأنها منفصلة عن‬ ‫اإلنسانية ومتعالية عليها)‪ ،‬في حين أنها تشعر بحضور ذاتها‬ ‫في وجودنا المحايث‪ ،‬وفي مشاعرنا تجاه اآلخرين منبعً ا‬

‫ليوتوبيا إيجابية‪ ،‬تنبثق من المشروع المتمثل في توريث من‬ ‫سيأتي من بعدنا عالمً ا يوفر لكل واحد مسوغات «التحقق»‪.‬‬ ‫لقد تبين أن َ‬ ‫األ ْن َس َن َة األولى‪ ،‬أي أنسنة األنوار والعلم‬ ‫المنتشي بنجاحات االنتصار‪ ،‬قد تعرضت في زمن التفكيك‬

‫إذ بوسع الجيولوجيا والرياضيات والفيزياء أن تمكننا من‬

‫ممارسة عمليات االحتمال‪ ،‬ومن ثمة تفادي انعكاس المآسي‬

‫ألنواع حادة من النقد‪ ،‬نقد لم يكن حك ًرا على الفلسفة العالِمة‬ ‫وحسب‪ ،‬بل طال السياسة ً‬ ‫أيضا (إضافة إلى اإليكولوجيا)‬

‫الناتجة عن عبث الطبيعة القاسي على قدرات الكائنات‬

‫بذلك‪ ،‬يكفي أن نراجع الحدود التي تغيرت فيها عالقتنا‬

‫المفكرين الالمعين‪ ،‬هو المالذ الوحيد الذي بإمكانه أن يجنبنا‬

‫ً‬ ‫اقتناعا‬ ‫والحياة اليومية لدى الغربيين‪ ،‬ولكي نصير أكثر‬

‫بالعلم منذ القرن الثامن عشر‪ .‬حظي رد فعل ألمع المفكرين‬ ‫تجاه الزلزال الذي خرب لشبونة سنة ‪1755‬م‪ ،‬وأودى الموت‬ ‫بآالف األشخاص‪ ،‬باإلجماع والثقة‪ ،‬بيد أن ما أحرزته العلوم‬

‫والتقنية من إنجازات وتقدم غير مسبوق‪ ،‬سيكون قادرًا‬ ‫مستقبلاً على تجنيب اإلنسانية مثل هذه الكارثة‪.‬‬ ‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬

‫البشرية‪ .‬وباختصار‪ ،‬التفكير العلمي حسب رأي هؤالء‬

‫طاغوت المادة الخام‪ .‬وقد شهد العصر تغ ُّي ًرا جذريًّا‪ ،‬حتى ال‬ ‫نقول انتقالاً من براديغم إلى آخر جديد‪ ،‬إذ تبدو لنا الطبيعة‬ ‫اليوم نظريًّا أقل تهديدً ا وأقل عدوانيّة‪ ،‬وأكثر رأفة من العلم‬

‫الذي بات يشكل مصدر تهديد للبشرية‪ ،‬ال سيما أن كل ما‬ ‫يع ِّرض وجودنا للخطر بات يبعث في أنفسنا الرعب‪ .‬نحن‬


‫نتظاهر باالعتقاد أنه بإمكاننا تجنب قلق الموت‪ ،‬لكن سرعان‬

‫االقتصادي أو األسواق المالية لم تعد هي األخرى تخضع‬

‫من الخمر‪ ،‬ومن التدخين‪ ،‬ومن السرعة‪ ،‬ومن ممارسة‬

‫االلتزام بالوعود التي يودون تقديمها‪ ،‬أمام تزايد وتيرة هذا‬

‫ما يتحول هذا االعتقاد إلى أصناف جديدة من الخوف‪ :‬الخوف‬

‫الجنس‪ ،‬ومن الذرة‪ ،‬ومن الهاتف النقال‪ ،‬ومن التعديل‬ ‫الوراثي‪ ،‬ومن االحتباس الحراري‪ ،‬ومن االستنساخ‪ ،‬ومن‬ ‫التكنولوجيا الحديثة‪ ،‬ومن ألف تحديث وتحديث شيطاني ال‬

‫يزال يهدده بنا صناع العلم التقني العالمي‪.‬‬

‫لقد انتعشت أساطير فرانكشتاين وشخصية الساحر من‬

‫جديد‪ ،‬حكى لنا التاريخ قصة كائن ممسوخ أو سحري ينفلت‬ ‫من خالقه‪ ،‬ويهدد بتخريب األرض‪ ،‬هذا النوع من المجاز هو‬

‫الذي ما لبث ينطبق في أيامنا على البحث العلمي‪ ،‬فبينما كان‬ ‫هذا األخير في بداياته خاضعً ا لسلطة بشرية روضته وتحكمت‬ ‫فيه بمشيئتها‪ ،‬فإنه اليوم أصبح ينذر ويهدد باالنفالت من‬

‫قبضتها‪ ،‬إلى درجة لم يعد معها أحد يستطيع في النهاية أن‬

‫ألوامر نواب الشعب‪ ،‬الذين توقفوا عن إخفاء عجزهم عن‬

‫النمو‪ .‬هنا بكل تأكيد يظهر سر نجاح أولئك الذين يريدون‬

‫إقناعنا‪ ،‬شأن جمهوريينا الجدد‪ ،‬بأنه تمت إمكانيات للرجوع‬ ‫إلى الوراء‪ ،‬وأن التحالف القديم بين العلم واألمة والتقدم‬ ‫مسألة ينحصر تحققها في «المدنية» و«اإلرادة السياسية»‬

‫ً‬ ‫خصوصا أن شحنة ال بأس بها من‬ ‫كم بو ِّدنا تصديق ذلك!‬

‫التعاطف ترافق حتمً ا أقوالهم المفعمة بالحنين‪.‬‬ ‫المصدر‪:‬‬

‫‪Luc Ferry , Claude Capelier , La plus Belle Histoire De La‬‬ ‫‪Philosophie , Editions Robert Laffont , S.A., Paris,2014.‬‬ ‫‪pages : 396405-404-403-402-401-400-399-398-397-.‬‬

‫يضمن بقاء النوع البشري وتوريثه لألجيال القادمة‪ ،‬ويكاد‬ ‫األمر يتعلق بمجال ذهني لم يشهد له التاريخ البشري مثلاً ‪.‬‬ ‫فيما يخص عالقة العلم بالطبيعة‪ ،‬نحيل إلى الثورة‬

‫الحقيقية التي شهدتها نهاية القرن العشرين‪ ،‬إذ منذ ذلك‬

‫الحين لم نعد نميل إلى إرجاع األخطار الجسيمة التي تحدق بنا‬

‫إلى الطبيعة‪ ،‬إنما (لألسف) إلى البحث العلمي‪ ،‬حيث لم نعد‬ ‫نراهن على الهيمنة على الطبيعة‪ ،‬بقدر مراهنتنا على إحكام‬

‫قبضتنا على البحث العلمي؛ ذلك أن العلم‪ ،‬وألول مرة في‬

‫تاريخه‪ ،‬أصبح ينتج للجنس البشري مسوغات دماره وأفوله‪،‬‬

‫وهذا غير وارد بالنسبة للمجتمعات الحديثة التي باتت تعاني‬ ‫مخلفات االستثمار الصناعي للتكنولوجيات الحديثة‪ ،‬بل‬ ‫أيضا‪ ،‬عندما ُت َّ‬ ‫يحصل ً‬ ‫وظف هذه التكنولوجيا من جانب غيرنا‪.‬‬

‫وإذا كنا اليوم نشعر بالتهديد أكثر من أي وقت مضى‪ ،‬فذلك‬ ‫يرجع لوعينا بأن اإلرهاب بإمكانه أن يمتلك منذ اليوم –أو في‬

‫وقت قريب‪ -‬األسلحة الكيماوية‪ ،‬بل حتى النووية المروّعة‪.‬‬

‫ً‬ ‫متملصا منا‪،‬‬ ‫لقد بات العلم الحديث بكل فروعه وتفعيالته‬ ‫وقوَّته الماحقة صارت تبعث فينا الدهشة‪.‬‬

‫لم تقف سحابة تشيرنوبيل بفعل معجزة جمهورية‪،‬‬

‫اخترقت حدود فرنسا‪ .‬كما أن السيرورات التي تحكم النمو‬

‫لئن خضع البحث العلمي في بداياته‬ ‫لسلطة بشرية روضته وتحكمت فيه‬ ‫بمشيئتها‪ ،‬فإنه اليوم أصبح ينذر‬ ‫ويهدد باالنفالت من قبضتها‪ ،‬إلى‬ ‫درجة لم يعد معها أحد يستطيع في‬ ‫النهاية أن يضمن بقاء النوع البشري‬

‫‪109‬‬


‫ثقافات‬

‫اختار أن يحمل اسم أمه وسخر من هوس الشهرة‬

‫يفغيني يفتوشينكو‪:‬‬ ‫مراقبو الكتب في موسكو أفضل قرائي‬

‫‪110‬‬

‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬


‫ترجمة وإعداد‪ :‬سهام العريشي‬

‫شاعرة ومترجمة سعودية‬

‫في منتصف رواية ُنشرت في االتحاد السوفييتي عام ‪1981‬م‪ ،‬تتبادل اثنتان من الشخصيات الحديث‬ ‫عن الشعر الروسي‪ ،‬وبعد أن ُتذكر مجموعة من األسماء‪ ،‬تطرح إحداهما السؤال‪« :‬وماذا عن يفتوشينكو؟»‬ ‫ً‬ ‫الحقا أن هذه الرواية‬ ‫فتجيبها األخرى‪« :‬كانت تلك مرحلة أخرى مضت وانتهت»‪ .‬الجملة التي سيتضح منها‬ ‫«التوت البري» َكتبها يفغيني يفتوشينكو نفسه‪ ،‬الذي رحل في األول من إبريل الماضي‪.‬‬ ‫مثل هذه اإللماحة تعطينا فكرة مبسطة عن سخرية الشاعر من هوس الشهرة‪ ،‬وإسقاطه لقيمة التبجيل‬ ‫عن نفسه‪ ،‬وقدرته على أن يضحك على نفسه ببساطة‪ .‬لكنها في الوقت نفسه تنبّهنا بقوة إلى أن الشعر‬ ‫ً‬ ‫بلد تحكمه األسطورة الماركسية التي تخلو‬ ‫الروسي كان في فترة ما‬ ‫مرادفا السم يفغيني يفتوشينكو‪ .‬في ٍ‬ ‫وقت كان فيه ُ‬ ‫الك َّتاب يناهضون الساسة في روسيا‪ ،‬وُلد الشاعر والروائي يفغيني‬ ‫ظاهريًّا من التعصب‪ ،‬وفي ٍ‬ ‫يفتوشينكو في سيبيريا عام ‪1932‬م‪ ،‬الفتى الذي اختار أن يحمل اسم أمه المغنية بعد طالقها من أبيه‪.‬‬ ‫قضى يفغيني طفولته مع أمه في موسكو‪ ،‬وحين اقتربت‬ ‫القوات األلمانية من حدود المدينة أواخر عام ‪1941‬م‪ ،‬أُخلِيت‬ ‫المدينة من سكانها‪ ،‬وانتقل بعد ذلك إلى زيما حيث بقي فيها حتى‬ ‫عام ‪1944‬م‪ .‬كان والده‪ ،‬المتخصص في علم األرض‪ ،‬يأخذه في‬

‫رحالت لمناطق برية في كازخستان وجبال ألتاي‪ ،‬وطوال الطريق‬ ‫ً‬ ‫شغوفا‬ ‫كان الوالد يقرأ الشعر على مسامع ولده‪ ،‬فكبر الطفل‬ ‫بالشعر واألدب‪.‬‬

‫ناهض يفغيني حكم ستالين‪ ،‬وكان يُلقي قصائده في المسيرات‬

‫العامة‪ ،‬وتستقبلها الحشود بصمت وإعجاب‪ ،‬ثم بتصفيق حماسي‬

‫أكبر؛ ما أدى إلى منعه من إلقاء قصائده في أوكرانيا حتى أواخر‬ ‫عام ‪1980‬م‪ .‬وقد بلغ من شهرته األدبية آنذاك أن قرأ شعره في‬

‫ساحات ملعب رياضي لجمهور يفوق ‪ 200‬ألف متفرج في عام ‪1991‬م‬ ‫عقب محاولة انقالب فاشلة في روسيا‪ .‬بعد عام ‪1950‬م‪ ،‬بدأ يفغيني‬

‫كتابة القصص والمقاالت الصحفية‪ ،‬وأخذت مساحة النثر تتسع‬ ‫في كتاباته‪ ،‬وإضافة إلى رواية «التوت البري» نشر يفغيني رواية‬ ‫أخرى عنوانها‪« :‬ال تمت قبل موتك» (‪1993‬م)‪ ،‬وفي وقت الحق‬ ‫أصبح يعرّف بنفسه كشاعر وكاتب ومخرج؛ إذ شارك في إخراج‬ ‫أفالم سينمائية‪َّ ،‬‬ ‫ومثل بعض األدوار ً‬ ‫أيضا‪ .‬حين انهارت الشيوعية‬

‫في عيد ميالده الستين‪ ،‬اختتم يفغيني الحفلة بقراءة أبيات‬

‫من إحدى قصائده المفضلة «جيل الستينيات» ويقول فيها‪« :‬كنا‬ ‫زمن ما‪ ،‬كنا محط السوء بالنسبة للبعض‪ ،‬لكننا‬ ‫الموضة في‬ ‫ٍ‬ ‫منحناك شرف أن تكون حرًّا‪ ،‬يا حاسدي المهان‪ ،‬فلتهمسوا بما‬

‫شئتم‪ ،‬قولوا‪ :‬إننا ال نعرف اإلبداع‪ ،‬قولوا‪ :‬إننا مستهلكون في‬ ‫النفاق‪ ،‬ال يهمني ً‬ ‫أبدا‪ .‬سنظل األساطير‪ ،‬نظل محط جدل‪ ،‬نظل‬ ‫نحن الخالدون»‪.‬‬

‫قصيدتان‬ ‫فاتحة‬

‫كثي ٌر ًّ‬ ‫جدا أنا‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫مستنزف‪ُ ،‬مرهق‪،‬‬

‫ُم َّ‬ ‫عط ٌل أنا‪.‬‬ ‫لي ُ‬ ‫حلم أنا‬ ‫ألف‬ ‫ٍ‬ ‫تخذلني الجهات‪.‬‬ ‫وال ُ‬ ‫أليق‪ ،‬ال أليق‪..‬‬

‫في االتحاد السوفييتي في بداية التسعينيات الميالدية وبدأت‬

‫بأي شي ٍء ُهنا‪.‬‬

‫السوفييتيين‪ .‬كانت قصائده ُتنشر في أهم المجالت الثقافية‪ ،‬وحاز‬ ‫معها على الكثير من الجوائز‪ ،‬كما ُعيِّن سفيرًا للنوايا الحسنة‪ .‬حين‬

‫ُ‬ ‫البغيض الط ِّيب‪.‬‬ ‫أنا‬ ‫أحب َّ‬ ‫ُّ‬ ‫كل هذا‪،‬‬

‫التغييرات الديمقراطية في البالد‪ ،‬سطع نجم يفغيني في النظام‬ ‫اإلصالحي ليصبح أحد أعضاء البرلمان وسكرتيرًا التحاد الك َّتاب‬

‫العصي الغريب‪،‬‬ ‫أنا‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫أنا الخجول الو ِقح‪،‬‬

‫سُ ئل ذات مرة عن الشريحة األكبر من قرائه‪ ،‬أجاب ساخرًا بأنهم‬ ‫«مراقبو ُ‬ ‫الكتب في موسكو‪ ،‬إنهم أفضل قرائي‪ ،‬وهم األكثر خبرة‬

‫ُّ‬ ‫أحب كيف يكتمل الشيء بشي ٍء آخر‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬ ‫أحب كيف يندمجُ كل شي ٍء بداخلي‪:‬‬

‫يسمي الشعر شعرًا سياسيًّا‪ ،‬بل شعر الحقوق اإلنسانية»‪.‬‬

‫من الحسدِ إلى الرضا‪.‬‬

‫في القبض على المعاني والفروق الدقيقة»‪ ،‬فبالنسبة ليفغيني «ال‬

‫الشرق إلى الغرب‪،‬‬ ‫من‬ ‫ِ‬

‫‪111‬‬


‫ثقافات‬

‫ال َّ‬ ‫بد أنكم تتساءلون اآلن‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫الغاية ُ‬ ‫المجملة في كل هذا؟‬ ‫ما‬

‫البطيخ القرمزية الباردة‪.‬‬

‫َّ‬ ‫ثمة جدوى باهرة في كل هذا الشيء!‬

‫ُ‬ ‫أريد أن أغني‪ ،‬أريد أن أثمل‪،‬‬

‫ُ‬ ‫الركام العالي‬ ‫أنا‬ ‫ّ‬ ‫ظهر شاحنة‪.‬‬ ‫ككومة قش على‬ ‫ِ‬ ‫األصوات أطير‪،‬‬ ‫في‬ ‫ِ‬

‫بذراعين مفرودتين‬

‫ال منجى لكم مني!‬

‫أن أرمي الموت ورائي‪.‬‬

‫ّ‬ ‫أتمدد على العشب‪.‬‬ ‫أريد أن‬

‫الوحشي‪ ،‬موتي‬ ‫ولو حدث‪ ،‬في هذا العالم‬ ‫ّ‬ ‫فسأموت من فرط الفرح الذي عشته‪.‬‬

‫غصون الشجر‪،‬‬ ‫وفي‬ ‫ِ‬ ‫ُيصادقني الضوء والتغريد‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ترتعش في عيني‪.‬‬ ‫وفراشات‬

‫لن أقبل بالنصف‬

‫َ‬ ‫السالم على كل الجهات‪،‬‬ ‫ألقي‬

‫ال‪ ،‬لن أقبل بالنصف‪ ،‬لن أقبل أنصاف األشياء‪.‬‬

‫ونبتة من شقوق الطريق‪.‬‬

‫أعطني السماء كاملة‪ ،‬أعطني األرض بما فيها‪.‬‬

‫على الشغف‪ ،‬على الشغف المبتهج بنصره‪.‬‬ ‫حدو ُد العالم كلها في طريقي‪.‬‬ ‫ُيربكني ألاّ أجد عاصمة األرجنتين في نيويورك‪.‬‬

‫كلها ملكي‪ ،‬لن أقبل بأقل من ذلك‪.‬‬

‫َّ‬ ‫أتحدث إلى الجميع‪،‬‬ ‫وأن‬

‫الكل أو ال شيء‪َ ،‬ك ِت ِفي ٌ‬ ‫َّ‬ ‫أهل للحمل‪.‬‬ ‫أعطيني‬

‫أريد أن َّ‬ ‫ُ‬ ‫أتنزه عبر شوارع لندن‪،‬‬

‫‪112‬‬

‫وفي حرارة أغسطس أريد أن أتلذذ بشرائح‬

‫حتى لو كان ذلك بإنجليزية مكسورة‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫أتمشى في باريس أول الفجر‪،‬‬ ‫أريد أن‬ ‫وأتنقل من حافلة لحافلة كطفل‪.‬‬

‫ً‬ ‫متنوعا‪،‬‬ ‫أريد للفن أن يكون‬ ‫كما هي نفسي‪.‬‬

‫ُّ‬ ‫الفن شقائي؟‬ ‫وماذا لو كان‬

‫ُّ‬ ‫الفن مضطهدي من كل الجهات؟‬ ‫ماذا لو كان‬ ‫لاً‬ ‫أنا محاص ٌر أص ‪.‬‬

‫ُ‬ ‫رأيت نفسي في كل شيء‪.‬‬ ‫أشعر باالنتماء ليسينين‪،‬‬ ‫لويتمان‪،‬‬

‫أشعر باالنتماء لموسورسكي وهو يحتضن المسرح‪،‬‬ ‫لغوغان ورسوماته البكر‪.‬‬

‫ُ‬ ‫أريد أن أغرس زالجاتي في الشتاء‪،‬‬

‫وخربشاتي على الورق‪،‬‬

‫الاً مع األرق‪.‬‬

‫ليالي طو‬ ‫وأن أقضي‬ ‫َ‬ ‫ٍّ‬ ‫ُ‬ ‫لعدو في وجهه‪ :‬ال‪،‬‬ ‫أريد أن أقول‬

‫أن أمشي مع امرأة على ضفة نهر‪،‬‬ ‫أن ألتهم الكتب‪،‬‬

‫أن أحمل خشب المدفأة‪،‬‬ ‫أن أحمل الصنوبر‪،‬‬

‫أن أبحث عن شيءٍ ال أعرف‪.‬‬

‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬

‫البحار واألنهار والجبال واالنهيارات الثلجية‪.‬‬

‫ال يا حياة‪ ،‬لن تخيفيني بالنصف‪.‬‬

‫لن أقبل نصف سعادة‪،‬‬ ‫لن أقبل نصف األحزان‪.‬‬

‫وسادة واحدة يمكنني أن أشاركها‪،‬‬ ‫وسادة يفترشها ٌّ‬ ‫خد ناعم‪،‬‬

‫كنجمة بائسة‪ ،‬كنجمة هاوية‪،‬‬

‫إصبع من يدك‪.‬‬ ‫كخاتم يومض في‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬


‫نصوص‬

‫فراشات‬ ‫نصار الحاج‬

‫شاعر سوداني‬

‫هناك‬

‫طيف غريب‬

‫ُيشبه قوس قزح‬

‫وأطراف األسوار المكسوة باألعشاب‬ ‫طيف جميل يتهادى في األفق‬

‫طيف فراشات صغيرة تظهر مثل ظالل خاطفة‬

‫يتلوى مع انعطاف السحاب‬

‫وتتالشى كأنها لم تكن هنا‬

‫مثل فقاعات شفافة تكسوها فضة المطر‬ ‫ً‬ ‫مشعة بلون البلور‬ ‫تلمع‬

‫خفيفة في كل شيء‬

‫في رشاقتها التي ُتضيء األرواح ُ‬ ‫الم ْت َعبَة‬

‫تحوم حول األشجار‬

‫في ّ‬ ‫رش ِة عطرها التي نتخيلها قطرات من ندى األمطار‬

‫وانحراف الغيوم‬

‫تتلون ّ‬ ‫ُ‬ ‫كلما تقاطعت مع خيوط الضوء‬

‫كأنها مرَّت مع البرق الذي أنا َر الوجوه الضاحكة‬

‫في تعقبها سرب الطيور المهاجرة‬

‫في لوحة األلوان‬ ‫وخفة الطيران‬

‫فراشات الخريف مولعة بالحياة‬ ‫تغسل أجنحة الكون‬ ‫وهي عابرة‬

‫تطوي المسافات بالسفر تحت غمام الصباح‬ ‫وفي عيون األطفال‬

‫ُ‬ ‫تلمع زاهية مثل بالونات الحلوى‬

‫وزينة أعياد الميالد‪.‬‬

‫‪113‬‬


‫نصوص‬

‫حكايات طبيعية‬ ‫جيل رونار‬

‫كاتب فرنسي ترجمة‪ :‬عبدالسالم بن خدة ‪ -‬مترجم مغربي‬

‫إلى شيماء بن خدة‬

‫في «حكايات طبيعية» (‪ ،)Histoires naturelles‬يتحول الكاتب «جيل رونار» ‪Jules‬‬

‫‪ Renard‬إلى «صائد صور»‪ :‬صور طبيعية‪ ،‬صور جديدة؛ في شباك عينيه المفتوحتين تنحبس‬

‫الحيوانات (عنزة‪ ،‬فراشة‪ ،‬فأرة‪ ،‬عظاية‪ ،‬إلخ‪ )...‬في حركاتها‪ ،‬في ذبذباتها البراقة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫أحيانا‪ ،‬يتقلص من ورقة سردية إلى مجرد‬ ‫إن األسلوب الذي تصور به هذه الحيوانات يصغر‬

‫جملة‪( ،...‬مثال‪ :‬هذه الورقة الناعمة المطوية بتناسق تبحث عن عنوان زهرة)‪ ،‬وهو ما دفع بعض‬ ‫الدارسين كـ«فرانك بوير» ‪ Frank Bauer‬و«مايومي أوزيكي» ‪ Mayumi Ozeki‬إلى التساؤل عن‬

‫عالقة «جيل رونار» في حكاياته الطبيعية بالتأثيرات اليابانية (الهايكو خاصة) ولم يسبق أن نشرت هذه‬ ‫النصوص القصيرة في منبر آخر (ورقيًّا أو إلكترونيًّا)‪.‬‬

‫‪114‬‬

‫النـمـل‬

‫كل نملة تشبه الرقم ‪.3‬‬

‫!الكثير منها! وهناك الكثير منها‬

‫العدد منها ‪ )...( 33333333333333333‬إلى ما ال نهاية‪.‬‬

‫الفراشة‬

‫هذه الورقة الناعمة المطوية بتناسق تبحث عن عنوان‬

‫زهرة‪.‬‬

‫العظاية‬

‫تنسحب بمرونة من على الصخرة المشقوقة التي أستند‬

‫إليها‪ .‬تتسلق كتفي‪ .‬تعتقد أنني امتداد للجدار ألنني جامد في‬ ‫مكاني‪ ،‬وألنني ألبس سترة رمادية اللون‪.‬‬ ‫مع ذلك األمر يدغدغني‪.‬‬

‫ال أدري ما االرتعاش الذي عبر ظهري؟ (سأل الحائط)‪.‬‬‫أنا العظاية‪( .‬أجابت)‪.‬‬‫القط‬ ‫(‪)1‬‬

‫قطي ال يقتات على الفئران؛ إنه ال يحبها‪ .‬وإن حدث أن‬

‫أمسك بواحدة‪ ،‬فلمجرد اللهو بها‪ .‬وما أن يتم لعبه حتى‬ ‫وجالسا‬ ‫يعفو عنها‪ ،‬وينسحب‪ ،‬البريء‪ ،‬إلى ركن ما ليحلم‪.‬‬ ‫ً‬

‫مكومً ا على ذيله‪ ،‬تبدو رأسه المدورة كقبضة اليد‪.‬‬ ‫لكن بسبب مخالبه‪ ،‬ماتت الفأرة‪.‬‬

‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬


‫(‪)2‬‬

‫صائد الصور‬

‫كم من مرة قلنا له‪« :‬خذ الفئران‪ ،‬واترك العصافير»‪ .‬‬ ‫ً‬ ‫أحيانا‪.‬‬ ‫إنها مسألة مهارة‪ ،‬والقط األكثر براعة يخطئ‬

‫الطوية‪ ،‬خفيف الجسد كقميص صيفي‪ .‬ال يأخذ معه زا ًدا‪ .‬في‬

‫الصرار‬

‫أسلحته في منزله ويكتفي بعينيه المفتوحتين‪ .‬عيناه ِشبَاك‬

‫ينهض باكرًا‪ ،‬وال يغادر منزله إال وهو صافي الذهن‪ ،‬سليم‬

‫طريقه‪ ،‬يتنسم الهواء العليل‪ ،‬ويتشمم الروائح الزكية‪ .‬يترك‬

‫أسود ولزج كثقب قفل‪.‬‬

‫تنحبس فيهما الصور من تلقاء نفسها‪ .‬أولى سجيناته صورة‬

‫العظاية الخضراء‬

‫مغروزة بين سياجي ِْن من أغصان أشجار البرقوق الشائكة‬ ‫والتوت البري‪ .‬من بعد يمسك بصورة نهر‪ ،‬الذي يبيض حتى‬ ‫ِّ‬ ‫المتدلية‪ .‬النهر‬ ‫السوحَ ر‬ ‫عقفاته‪ ،‬وينام تحت مداعبة أغصان ُّ‬

‫ال أحد يقرأ ورقة السجل الرسمي الملصقة على حائط‬

‫فضية‪ ،‬وما ‪B‬ن يتساقط الرذاذ‪ ،‬حتى يرتجف مسطحه المائي‪.‬‬

‫احذروا الصباغة!‬

‫العنزة‬

‫البلدية‪.‬‬

‫العــنزة‪ ،‬نعم‪.‬‬

‫تنتصب على قائمتيها الخلفيتين‪ ،‬تضع األماميتين على‬

‫أسفل الملصق‪ ،‬تهز قرنيها ولحيتها‪ ،‬وتنقل رأسها ذات اليمين‬

‫وذات الشمال‪ ،‬كما تفعل سيدة عجوز في أثناء المطالعة‪.‬‬

‫طريق تكشف عظامه عن أحجار صقيلة‪ ،‬وأخاديده عن عروق‬

‫يلمع ماؤه كلما انقلبت سمكة على بطنها‪ ،‬كمن يلقي قطعة‬

‫يأخذ صورة حقول القمح المتموجة‪ ،‬والبرسيم الشهي‬ ‫والمراعي المكتنفة بالجداول‪ .‬وفي طريقه‪ ،‬يحجز تحليق ُق َّبرَة‬ ‫حسون‪ .‬بعد ذلك يدخل الغابة‪ .‬لم يكن يدري أنه بمثل هذه‬ ‫أو ُّ‬ ‫الحواس الرهيفة‪ .‬بمجرد تشبعه بالعطور‪ ،‬لم يف ِّوت أية ضجة‬

‫مخنوقة‪ ،‬وليتواصل مع األشجار‪ ،‬توحدت أعصابه بتعاريق‬

‫وهي تنهي قراءتها‪ ،‬رائحة اللصاق الطرية تدغدغ أنفها‪،‬‬

‫األوراق‪ .‬سريعً ا‪ ،‬ومتأثرًا إلى حد االنزعاج بما قد جباه بإفراط‪،‬‬

‫ال شيء يتخلى عنه في البلدية‪.‬‬

‫من بعيد‪ ،‬عودة مجموعة من العمال إلى قريتهم في الخارج‪،‬‬

‫الدودة املضيئة‬

‫األفق ثيابها المضيئة‪ ،‬وسحبها المنتشرة هنا وهناك‪.‬‬

‫فتلتهم الورقة‪.‬‬

‫بدأت خواطره تغلي‪ ،‬ويتملكه الخوف‪ ،‬فغادر الغابة‪ ،‬وتابع‪،‬‬

‫َّ‬ ‫حدق برهة وبصعوبة في الشمس وهي تغيب‪ ،‬وتخلع على‬

‫(‪)1‬‬ ‫لاً‬ ‫ماذا يجري؟ إنها التاسعة لي وما زالت تضيء؟‬

‫أخيرًا‪ ،‬وهو في منزله‪ ،‬الرأس مترعة‪ ،‬أطفأ المصباح‪،‬‬ ‫وطويلاً ‪ ،‬قبل أن يداعب الكرى جفنيه‪َّ ،‬‬ ‫لذ له أن ي ِّ‬ ‫ُعدد صوره‪.‬‬

‫إنها قطــرة من القمر فوق العشب‪.‬‬

‫تنشط األخرى‪ ،‬وبال فتور‪ ،‬يتسع سربها المومض بقادمات‬ ‫ومقسمة طيلة النهار‪ ،‬وليلاً ‪ ،‬وفي‬ ‫جديدة كحجالت مطاردة‬ ‫َّ‬

‫(‪)2‬‬

‫الفأرة‬

‫ً‬ ‫صوتا‬ ‫فيما كنت أكتب كالمعتاد‪ ،‬على ضوء المصباح‪ ،‬سمعت‬ ‫ً‬ ‫خفيفا‪ .‬ما أن أتوقف حتى يختفي‪ .‬ثم يعاود‪ ،‬بمجرد أن أكشط الورق‪.‬‬

‫إنها فأرة تتنشط‪ .‬كلما وضعت ريشتي‪ ،‬يزعجها هذا الهدوء‪ .‬وكلما‬ ‫عاودت الكتابة‪ ،‬تعتقد ‪-‬ربما‪ -‬بوجود فأرة أخرى في مكان ما‪ ،‬وتعاود‬

‫االطمئنان‪ .‬بعد ذلك لم أعد أراها‪ .‬هي اآلن تحت طاولتي‪ ،‬بين ساقي‪.‬‬ ‫تنتقل من ركيزة الكرسي إلى أخرى‪ .‬تالمس قبقابي‪ ،‬تعضعض‬

‫الخشب‪ ،‬أو بجسارة‪ ،‬تتقافز فوقه‪ .‬يجب علي أال أحرك ساقي‪ ،‬أو‬ ‫ً‬ ‫وخوفا‬ ‫علي مواصلة الكتابة‪،‬‬ ‫أتنفس زيادة‪ ،‬وإال انسلت هاربة‪ .‬لكن َّ‬ ‫من أن تتركني ل ـ ِـ ـ ـِ ـ ـ ـِ ـ ـ ِـ ـ ـ ِ ـ ـ ـِ ـ ـ ِـ ـ ـِ ـ َه ـ ـ َ ـ ـ ـَ ـ ـ َـ ـ ـَ ـ ـ َـ ـ ـَ ـ ـ َــمّ وحدتي‪ ،‬انغمست في خط عالمات‪،‬‬ ‫وخربشات دقيقة ج ًّدا‪ ،‬كما صوت القضم الذي تمارسه‪.‬‬

‫ً‬ ‫ثانية تحت رحمة الذكرى‪ .‬كل واحدة منها‬ ‫وديعة‪ ،‬تنبثق‬

‫مأمن من الخطر‪ ،‬تشدو وتتذكر في مقعرات األخاديد‪.‬‬

‫‪« -‬جيل رونار» كاتب ومسرحي من فرنسا ( ‪1910-1868‬م)‪َّ .‬ألف العديد‬

‫من الروايات والمسرحيات واليوميات والقصص القصيرة‪ .‬خالط‬

‫األوساط الثقافية الفرنسية‪ ،‬وساهم بكتاباته في العديد من‬ ‫الصحف الباريسية الكبرى‪ .‬أهَّ لته أعماله المتميزة لدخول أكاديمية‬

‫غونكور عام ‪1907‬م‪.‬‬

‫ من أعماله األدبية‪« :‬المتطفل» (‪1891‬م)‪ ،‬و«يوميات» (‪1910-1887‬م)‪،‬‬‫و«حكايات طبيعية» (‪1894‬م)‪ ،‬و«محادثات» (‪1910‬م)‪ .‬النصوص‬ ‫المترجمة هي جزء من كتاب «حكايات طبيعية» (‪1894‬م)‪ .‬لالطالع‬

‫على األصل الفرنسي لهذه النصوص‪:‬‬

‫‪http://beq.ebooksgratuits.com‬‬

‫‪115‬‬


‫مقال‬

‫عبدالله المطيري‬ ‫كاتب سعودي‬

‫كيف يمكن إدخال قضايا التربية‬ ‫في الجدل الثقافي؟‬ ‫هذا المقال يبدأ من المالحظة التالية‪ :‬مناقشة‬

‫القضايا التربوية تكاد تكون محصورة في السياقات‬

‫األكاديمية أو السياقات التكنوقراطية والتقنية‪ .‬أعني بذلك‬

‫والمناهج الدراسية الذي اجتاح الجدل الثقافي السعودي ابتداءً‬ ‫من ‪٢٠٠٣‬م‪ ،‬وإن كان قد أخذ في الخفوت مؤخ ًرا‪ .‬االهتمام كان‬

‫أن مناقشة القضايا المتعلقة بالتربية ال تكاد تحظى باهتمام‬

‫حقيقيًّا بالتأكيد‪ ،‬لكنه يمكن أن يعبِّر عن التربية حين تتحول إلى‬

‫في الصحف والصوالين الثقافية والقنوات الثقافية وهي‬

‫تعنيه التربية بالتأكيد‪ ،‬لكن اهتمامه بها يختلف عن اهتمام‬

‫في مقارنة بسيطة مع القضايا األدبية والدينية والسياسية‬

‫متعلقة بالدولة والنظام السياسي وخطط المستقبل‪ .‬التربوي في‬

‫التعبير العمومي التي عادة ما تعبر عن وتستقطب اهتمام‬

‫معناها وقيمتها بغض النظر عن الخطط السياسية للمستقبل‪.‬‬

‫حقيقي من السياقات الثقافية بدليل محدودية طرحها‬ ‫المواقع التي تعبر غالبًا عن اهتمامات الوسط الثقافي‪.‬‬

‫‪116‬‬

‫هذا التحليل ال يمكن أن يتجاهل االهتمام بإصالح التعليم‬

‫نجد أن حضور القضايا التربوية محدود جدًّا في ساحات‬

‫سياسية‪ ،‬وبالتالي هو اهتمام سياسي في الدرجة األولى‪ .‬السياسي‬

‫التربوي بها‪ .‬السياسي تعنيه التربية كأداة لتحقيق أهداف كبرى‬

‫المقابل مشغول بالتربية كتجربة يومية يعيشها ماليين البشر لها‬

‫الجماعات الثقافية في مجتمعنا‪ .‬في هذه المقالة سأحاول‬

‫التربوي يشاهد النقاش السياسي للتربية كنقاش مهم وجوهري‬

‫الحالة‪ ،‬وبعد ذلك أقدم مقترحً ا إلدماج القضايا التربوية في‬

‫الموضوع التربوي‪ .‬التربية في األخير تعني كذلك كائنات ليست‬ ‫ً‬ ‫أطرافا في الصراعات السياسية (األطفال) وليس من‬ ‫حتى اآلن‬

‫البحث عن تفسير لهذه الظاهرة‪ ،‬ثم سأحاول أشكلة هذه‬

‫االهتمام العمومي ‪ -‬الثقافي في المجتمع‪.‬‬

‫لكن قبل ذلك ال بد من الحديث بشكل تفصيلي عما‬

‫أعني بالقضايا التربوية‪ .‬القضايا التربوية ببساطة هي كل‬

‫القضايا المتعلقة بالعالقات التربوية‪ .‬التربية هنا تستعمل‬ ‫بمعناها الواسع لتشمل القضايا المحيطة بالتواصل‬

‫البشري‪ ،‬ونقل الخبرات في األسرة والمدرسة والمجتمع‪.‬‬

‫هذه القضايا تنطلق من الطبيعة األخالقية للعالقات األولية‬

‫لكنه محفوف بمخاطر االنجرار للصراعات الحزبية على حساب‬

‫العدل أن يفكر في قضاياهم وحقوقهم من منظور سياسي بحت‪.‬‬

‫اآلن أنتقل لمحاولة تفسير ضعف حضور التربية في الساحة‬

‫الثقافية السعودية‪:‬‬ ‫في التفسير‬

‫سأبدأ محاولة تفسير الظاهرة أعاله من خالل حوار سريع‬

‫ِّ‬ ‫المعلم بطالبه‪ ،‬وعالقة األفراد‬ ‫كعالقة الطفل بأمه‪ ،‬وعالقة‬

‫جمعني مع أحد المثقفين الكبار في السعودية حيث كنت أطرح‬

‫ما يؤثر في تلك العالقات من الطبيعة الفكرية المنظمة‬

‫قال لي‪« :‬هل ستكون عن رواتب المعلمين والمعلمات؟»‪ .‬العبارة‬

‫بعضهم ببعض في المجال العام‪ .‬القضايا تتسع كذلك لكل‬

‫لتلك العالقات‪ ،‬المؤثرات السياسية واالجتماعية والدينية‬

‫واالقتصادية على تلك العالقات‪ .‬التربية بهذا المعنى يمكن‬

‫أن تدرس فلسفيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا‪ ...‬إلخ‪ .‬إذا‬ ‫كانت التربية بهذا المعنى المتصل بالسياقات األخرى ذات‬

‫الحظوة في االهتمام الثقافي‪ ،‬فما الذي يجعلها تتوارى عن‬

‫واجهة النقاشات في الوسط الثقافي؟‬

‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬

‫أمامه مقترحً ا بمناقشة قضية تربوية في محاضرة ثقافية عامة‪.‬‬

‫تحمل إحالة للقضايا التربوية بوصفها قضايا تقنية تنظيمية يهتم‬ ‫بها التكنوقراط في الوزارات وليست بهذا المعنى مجالاً للنقاش‬

‫الثقافي‪ .‬صحيح أن لكثير من القضايا التربوية جوانب تقنية مثلها‬

‫مثل أي مجال آخر‪ ،‬لكن هذا ال يعني أن تستغرق الجوانب التقنية‬ ‫ّ‬ ‫المعلمين والمعلمات يمكن أن‬ ‫كل االهتمام‪ .‬مثلاً قضايا رواتب‬ ‫تدرس وتناقش بوصفها قضايا عدالة‪.‬‬


‫أي‪ :‬إن سؤال العدالة‪ ،‬وهو أحد األسئلة الفلسفية الرئيسة‪،‬‬

‫يمكن أن يفتح تربويًّا من خالل رواتب المعلمين والمعلمات‪ .‬هل‬ ‫تعكس الرواتب مساواة بين الذكر واألنثى؟ هل تعكس الرواتب‬

‫تصورًا معي ًنا للعدالة التوزيعية التي تتبناها الوزارة؟ أيّ أولويات‬

‫تعكسها تلك الرواتب؟ هل لدى المعلمين والمعلمات مساحة من‬ ‫التعبير تكفل لهم مناقشة عدالة المقابل الذي يحصلون عليه؟‬

‫لماذا تنتشر بين الناس فكرة أن المعلمين والمعلمات يأخذون‬

‫أكثر مما يعطون؟ ما آلية توزيع ميزانية التعليم على المدارس‪،‬‬ ‫وما داللة هذه اآللية على العدالة؟ هل يصرف أكثر على الفئات‬ ‫األكثر حاجة أم أن التمييز اإليجابي يتوجه لمن هم أفضل حالاً‬ ‫كالموهوبين؟ هل تأخذ المدارس في األحياء الفقيرة مثل ما‬

‫تأخذه المدارس في األحياء الغنية؟ إلى أيّ مدى هناك مشاركة‬

‫من المجتمع في ميزانية المدارس وآلية توزيعها؟ كل هذه األسئلة‬ ‫يمكن أن تشغل النقاش الثقافي خارج الشروط التقنية التي تبدو‬

‫تفصيلية جدًّا وخارج اهتمام المهتم العام‪ .‬من النقاش أعاله‬

‫يمكن القول‪ :‬إن أحد أسباب خفوت حضور القضايا التربوية في‬

‫النقاش الثقافي هو إعطاء تلك القضايا مفهومًا تقنيًّا يجعلها حك ًرا‬

‫على التقنيين أهل االختصاص الدقيق‪.‬‬

‫السبب الثاني برأيي‪ :‬هو ضعف االهتمام بالقضايا األخالقية‬

‫بشكل عام؛ مما يجعل القضايا التربوية التي هي أخالقية بشكل‬

‫عام‪ ،‬تغادر مناطق المركز في النشاط الثقافي‪ .‬أحد أسباب تجنب‬

‫التربية بوصفها مجاال أساس ًّيا‬ ‫لالهتمام األخالقي تتوارى كنتيجة‬ ‫لتواري البحث األخالقي‬

‫المثقفين للقضايا األخالقية أنهم يخشون من الوقوع في إصدار‬

‫توجيهات لآلخرين‪ ،‬كما هي الحال في الفهم التقليدي لألخالق‪.‬‬

‫تقليديًّا األخالق تفهم بمعنى مجموعة من التعليمات التي تطرح‬

‫في حدود المنزل والمدرسة‪ ،‬ويجعلها حص ًرا من مهام النساء‪.‬‬

‫للناس لكي تكون قائدة وموجهة لسلوكياتهم‪ :‬كيف تلبس‪ ،‬وكيف‬

‫وبصفة أن الفضاء الثقافي ذكوري إلى درجة كبيرة‪ ،‬فإنه من‬

‫لألخالق ليس معنيًّا بإعطاء توجيهات بقدر ما هو مشغول بوصف‬

‫قدمتها مؤخ ًرا في جمعية الثقافة والفنون بالرياض بعنوان‪:‬‬

‫واآلخر قد تأخذ شكل الهيمنة‪ ،‬وقد تأخذ شكل الحوار والشراكة‪،‬‬

‫الحاضرات داخلن بخبرة التعليم وخبرة األمومة وخبرة العطاء‪.‬‬

‫لب التفلسف‬ ‫الفضاءات المختلفة من وجود الذات مع اآلخر هي ُّ‬

‫للدخول في األفق التربوي‪ .‬التربية لكل من عمل بها بحق يمكن‬

‫تشرب‪ ،‬وكيف تعامل اآلخرين‪ .‬في المقابل فإن الفهم الفلسفي‬ ‫وتحليل ودراسة العالقة بين الذات واآلخر‪ .‬العالقة بين الذات‬

‫وقد تأخذ شكل العزلة واالغتراب‪ ،‬وقد تأخذ شكل الضيافة‪ .‬هذه‬ ‫الحديث في المبحث األخالقي‪ ،‬لكنها تكاد تختفي من فضاءات‬ ‫ّ‬ ‫المحل ّي‪ .‬إلى أي الفضاءات السابقة تنتمي‬ ‫الجدل الثقافي‬

‫العالقات التربوية لدينا؟ هل عالقة الذات باآلخر تعبر عن الوجود‬ ‫من أجل الذات (الهيمنة ‪ -‬العزلة)؟ أم الوجود ‪-‬مع‪ -‬اآلخر (الحوار‬

‫والشراكة) أو الوجود ‪-‬من‪ -‬أجل اآلخر كما في (الضيافة)؟ بهذا‬

‫المشكلة تكون إشكالية التربية في الفضاء الثقافي هي إشكالية‬ ‫السؤال األخالقي وغيابه الكبير‪.‬‬

‫أحد التفسيرات المحتملة يستمد صالحيته من الصورة‬

‫الكبيرة للتقسيم التقليدي للشؤون االجتماعية حيث يحصر التربية‬

‫الطبيعي أن يزيح قضايا التربية للمساحات الخلفية‪ .‬في محاضرة‬

‫«التربية كضيافة» كانت المداخالت النسائية مختلفة‪ .‬كثير من‬ ‫خبرة العطاء تحديدًا جوهرية للتعاطي مع التربية أو بالتالي‬

‫التعبير عنها بأنها الوجود ‪-‬من‪ -‬أجل اآلخر أو أفق العناية باآلخر‪.‬‬

‫لذا فهي ضد لمنطق األنانية الذي جادلت أنه جوهري في الصورة‬ ‫النمطية للمثقف‪ .‬في قراءة هيثم حسين لكتاب «حليب أسود»‬ ‫إلليف شافاق تعبير عما أريد أن أقوله هنا‪:‬‬

‫يقول‪ :‬هيثم‪« :‬تشير شافاق إلى أن الروائي بصورة ما أناني‪،‬‬

‫وعليه أن يكون كذلك؛ كي يستطيع إنجاز أعماله التي تتطلب منه‬ ‫ً‬ ‫نوعا من العزلة‪ ،‬أما األمومة فأساسها العطاء‪ .‬وتجد أن الروائي‬

‫يبني غرفة صغيرة داخل ذهنه‪ ،‬ويقفل الباب عليه؛ كي ال يدخل‬ ‫عليه أحد‪.‬‬

‫‪117‬‬


‫مقال‬

‫يخبئ هناك أسراره وطموحاته عن كل األعين‬

‫المتطفلة‪ .‬أما األم فعلى كل أبوابها ونوافذها أن تكون‬

‫مشرعة صباحَ مساءَ‪ ،‬يستطيع أبناؤها أن يدخلوا من أي‬

‫مدخل يختارونه‪ ،‬والتجول حيث ما طاب لهم ذلك‪ ،‬فليست‬ ‫لألم زاوية ألسرارها»‪ .‬المربية والمربي أقرب لنموذج األم‬

‫هنا‪ ،‬فالعزلة بالنسبة لهم خيار صعب جدًّا‪ .‬الوسط الثقافي‬ ‫يعزز في أفراده االنشغال بالذات والحرص على إنجازاتها‬

‫وإبداعها وحضورها المستمر‪ .‬في المقابل التربية عالم من‬

‫الغيرية حيث يتوجه اهتمام اإلنسان فيه لآلخر‪ ،‬لرعايته‬ ‫والعناية به‪ .‬التربية ليست مجالاً للنجومية بل للتضحية‪ .‬قد‬ ‫يكون هذا سببًا لتواري التربية عن الساحة الثقافية المحلية‪.‬‬ ‫السبب الرابع يعود برأيي إلى كون الحساسية عالية‬

‫جدًّا تجاه التغييرات المقترحة في المجال التربوي‪ .‬المجال‬

‫ً‬ ‫خصوصا فيما يخص العناية‬ ‫التربوي بطبيعته محافظ‬

‫باألطفال الصغار‪ ،‬وهذه المحافظة تأخذ أبعادًا أوسع‬

‫للمثقف والمثقفة بوصفهما كائنات‬ ‫مشغولة بذاتها وبإبداعها وحضورها‬ ‫الشخصي التي تدفع باتجاه الصورة‬ ‫األنانية وهي بطبيعتها ضد تربوية‬

‫تتوارى كنتيجة لتواري البحث األخالقي‪ .‬السبب الثالث‪ :‬يعود إلى‬

‫ذكورية المجال العام؛ مما يعني إزاحة التربية وهي مجال أنثوي‬

‫بامتياز من دائرة االهتمام‪ .‬السبب الرابع‪ :‬يشير باختصار للمحاذير‬ ‫المحافظة التي تحيط بالتربية بشكل عام‪ ،‬وبالتالي ال ترحِّ ب‬ ‫ً‬ ‫دقيقا‪ ،‬فإن‬ ‫بأطروحات التغيير والتطوير‪ .‬إذا كان التحليل أعاله‬

‫وأشرس في المجتمعات المحافظة بالمعنى األيديولوجي‬

‫ما يمكن اقتراحه إلدخال التربية في محور اهتمام الوسط الثقافي‬

‫والمفاجئ‪ .‬هذا كله يزيح التربية في مساحات أبعد عن‬

‫الحديث عن القضايا التربوية بالمعنى الواسع للكلمة‪ .‬ما يالحظ‬

‫للكلمة‪ .‬هذا الفضاء غير مضياف للجديد والمختلف‬

‫‪118‬‬

‫من المهم مناقشة الصورة النمطية‬

‫االهتمام المشغول بالتغيير واإلبداع والتجديد‪.‬‬ ‫في األشكلة‬

‫النقاش أعاله كان يدفع باتجاه أشكلة غياب التربية‬

‫عن الجدل الثقافي العام‪ ،‬لكن يمكن التأكيد على النقاط‬

‫التالية‪ :‬غياب التربية بهذا الشكل يحرم التربية من اآلراء‬

‫المتنوعة التي غالبًا ما ّ‬ ‫يوفرها الجدل العمومي‪ .‬كذلك هذا‬

‫الغياب يحرم التربية من الرؤى النقدية التي عادة ما تتوافر‬

‫لدى المهتمين خارج االشتغال الدقيق والتقني بأي مجال‪.‬‬ ‫هذا كله يعني أن ُتدَار الشؤون التربوية بعيدًا عن طبيعتها‬

‫االجتماعية‪ .‬إشكال جوهري آخر يتمثل في كون غياب‬ ‫التربية عن المجال الثقافي يحرم التربية من أن تكون مجالاً‬ ‫جذابًا ويتركها مجالاً رحبًا لمن يسعى لتحقيق مكاسب‬ ‫وظيفية محدودة في النفع الشخصي‪.‬‬ ‫البديل‬

‫النقاش أعاله اقترح أربعة أسباب رئيسة لضعف‬

‫سيدور حول ذات المحاور‪ .‬على أهل االختصاص في التربية‬

‫على كليات التربية في الجامعات أنها ال تعزز هذا التواصل بين‬

‫المتخصصين فيها والمجتمع بمفهومه األوسع‪.‬‬

‫الكليات ذاتها تعزز االنحسار في البعد المدرسي للتربية‪.‬‬

‫المقترح الثاني يدور في أفق تعزيز التفكير األخالقي في النقاش‬ ‫العمومي‪ .‬هذا يتطلب إعادة التفكير في معنى األخالق ذاتها‬

‫وإخراجها من دائرة األخالق بمعنى إصدار التعليمات والتوجيهات‪.‬‬

‫الجدل األخالقي بالمعنى الفلسفي للكلمة جذاب للتفكير وحافز‬ ‫إلى المشاركة العامة‪ .‬قضايا مثل حدود الحرية والمسؤولية‬

‫تمس عصب الحياة‬ ‫األخالقية وحضور اآلخر في عالقته مع الذات ّ‬

‫اليومية للناس‪ .‬المقترح الثالث يدفع باتجاه تعزيز المنطق األنثوي‬ ‫أو المنطق الغيري بشكل عام كمنطق مساهم في المجال العام‪.‬‬ ‫مشاركة أوسع للمرأة في الجدل العام يمكن أن تدفعنا‬

‫باتجاه االنفتاح على قضايا التربية في المجال العام‪ .‬كذلك من‬

‫المهم مناقشة الصورة النمطية للمثقف والمثقفة بوصفهما‬ ‫كائنات مشغولة بذاتها وبإبداعها وحضورها الشخصي التي‬

‫تدفع باتجاه الصورة األنانية وهي بطبيعتها ضد تربوية‪ .‬العامل‬

‫المحافظ يحتاج لنقاش مستقل‪ ،‬لكن من المهمّ جدًّا للمهتمين‬

‫حضور التربية؛ السبب األول‪ :‬يعود للفهم المحدود لقضايا‬

‫بالتجديد في المجال التربوي أن تتحد أطروحاتهم بمنطق الحب‬

‫للمدارس‪ .‬السبب الثاني‪ :‬يعود إلى ضعف حضور القضايا‬

‫العبء هنا يقع على المهتم بنقد وتجديد الشأن التربوي في تفهم‬ ‫وتقدير مشاعر الناس الحريصة أولاً وقبل كل شيء على تأمين‬

‫التربية بوصفها محصورة في الشؤون اإلدارية والتنظيمية‬

‫األخالقية وقضايا العدالة بشكل عام في المجال العام‬ ‫المحلي‪ .‬التربية بوصفها مجالاً أساسيًّا لالهتمام األخالقي‬ ‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬

‫داع‪.‬‬ ‫واالحترام لآلخرين؛ لكي ال تستفز خصومتهم من دون ٍ‬

‫أطفالهم‪ ،‬والتأكيد على أن تربيتهم تتم في فضاءات مطمئنة‪.‬‬


‫نصوص‬

‫شذرات من شعر‬ ‫الهايكو‬ ‫عبدالله أحمد األسمري‬ ‫بوصلة الزمن‬

‫شاعر سعودي‬

‫*‬

‫*‬

‫هبط الطاووس‬

‫تخرجنا من دائرة الحياة‬

‫الدب يطارد‬

‫*‬

‫هوت في الفردوس!‬

‫باقة أزهار‬

‫بأذرع النسيان‬

‫الفراشة‬

‫أشرعتي الممتدة‬

‫*‬

‫إلى وطن يسفك دمها‬

‫دنت الديار‬

‫*‬

‫مناجل الفالحين‬

‫أبواب موصدة‬ ‫الليل يسورني‬ ‫زهايمر مؤقت‬

‫حبات البلوط‬ ‫*‬

‫تأتي غريبة‬

‫عناقيد األرض‬

‫شريعة الغاب‬

‫مهووس‬

‫أغسطس‬

‫يجرها قطار‬ ‫لم يصل!‬

‫أقسى الشهور‬

‫الفجر‬

‫*‬

‫*‬

‫ابنة الرمل تتململ‬

‫يستدرج الليل‬

‫الغاب يحرر‬

‫جدائله‬

‫استيقظ السنونو‬

‫كي يمشط‬ ‫*‬

‫نفسه من القيود‬ ‫*‬

‫فوق ذؤابة الجبل‬

‫فوق المياه الالزوردية‬

‫يغرد‬

‫نشوان بالحرية‬

‫وشذا الصنوبر‬ ‫طائر الدج‬

‫انقضى الربيع‬

‫طائر النورس‬ ‫ذرته الرياح‬

‫أمام نافذتي‬ ‫*‬

‫تعلوها النوارس‬ ‫*‬

‫ُشدت بأنساج العناكب‬ ‫سنين عجاف‬

‫‪119‬‬


‫تقارير‬

‫‪120‬‬

‫السيد ياسين‪..‬‬ ‫محطات النجاح والفشل‬ ‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬


‫القاهرة‬

‫لم يكن السيد ياسين (‪2017 _1933‬م) مفكرًا عابرًا طوال األربعين عامً ا التي عرفه الشارع‬ ‫المصري خاللها‪ ،‬فهو ُعرف كأحد صناع القرار فيما يخص الشأن الثقافي االجتماعي في البالد منذ‬ ‫مطلع الثمانينيات‪ ،‬فقد كانت الثقافة المصرية في عهد مبارك تقوم على أن كل فرع منها طريقة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫رئيسا‬ ‫شيخا يقوم على تنظيم شؤونها‪ ،‬فكان الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي‬ ‫وأن لكل طريقة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫سيدا على األدب الشعبي بعد رحيل فاروق خورشيد‪ ،‬وإدوار‬ ‫لشؤون الشعر‪ ،‬والدكتور أحمد مرسي‬ ‫الخراط سيد أهل الرواية قبل أن يكتب جابر عصفور «زمن الرواية» ويصبح الحاكم الناهي فيها‪ ،‬بينما‬ ‫كان السيد ياسين بمنزلة شيخ المشايخ؛ إذ يصب كل ذلك في أوراقه اإلستراتيجية لصناعة الثقافة‬ ‫وصياغة المجتمع‪ ،‬فقد صنع له موقعه كمدير لمركز األهرام للدراسات السياسية واإلستراتيجية‬ ‫منذ منتصف السبعينيات حتى منتصف التسعينيات الميالدية مكانة أكبر من الوزير وأصغر من‬ ‫رئيس الوزراء؛ إذ كان يعد الخطط والصياغات التي تقوم عليها الحكومات المتعاقبة‪ ،‬فيما يخص‬ ‫الخطاب الثقافي وبنيته في المجتمع المصري‪.‬‬ ‫ولد السيد ياسين في مدينة اإلسكندرية في سبتمبر من‬

‫هيكل هذا المركز إلى مركز الدراسات اإلستراتيجية باألهرام‬

‫الشعر هو البوابة التي طرقها سنوات عدة قبل أن يوقن أن‬ ‫ً‬ ‫طريقا لإلعالن‬ ‫ذلك لن يكون مجاله‪ ،‬فتركه واعتمد الخطابة‬

‫ياسين مديره الفعلي‪ ،‬فأنجز من خالله العديد من التقارير‬

‫اإلستراتيجية المهمة‪ ،‬وظل بالقدر نفسه من الطاقة والحماس‬

‫قدرة على االرتجال والتأثير في اآلخرين‪ ،‬فرشحته لاللتحاق‬

‫فكانت آخر أحالمه هو مشروع للخرائط المعرفية في العلوم‬

‫عام ‪1933‬م‪ ،‬وكان من الحالمين بدخول عالم األدب‪ ،‬كان‬

‫عن الذات‪ ،‬وبخاصة أن جماعة اإلخوان المسلمين رأت فيه‬ ‫بمدرسة الدعاة في محرم بك‪ ،‬وأطلعه أستاذه بالمعهد‬

‫مصطفى الشمارقة على كتب سيد قطب والغزالي وأبي الحسن‬

‫الندوي وغيرهم‪ ،‬فظل في صحبة الشمارقة حتى بعد دخول‬ ‫كلية الحقوق بجامعة اإلسكندرية‪ ،‬ليتخرج داعيًا من مدرسة‬

‫الدعاة‪ ،‬ويصبح خطيبًا مفوّهً ا لإلخوان على منابر مساجد‬ ‫اإلسكندرية العريقة‪.‬‬

‫وسرعان ما انفصل عن اإلخوان‪ ،‬وانتبه إلى دراسة الحقوق‪،‬‬

‫وما إن أنهى دراسته عام ‪1955‬م حتى وجد الدكتور أحمد خليفة‬ ‫يؤسس المركز القومي للبحوث الجنائية عام ‪1956‬م‪ ،‬فانضم‬

‫إليه ليكون واحدً ا من الرعيل األول في هذا المركز حسبما قال‬ ‫الدكتور محمد نور فرحات‪.‬‬

‫مؤمن بوحدة العلوم االجتماعية‬

‫يقول الدكتور محمد نور فرحات‪ :‬إن السيد ياسين‬ ‫منذ شبابه حتى شيخوخته كان مؤم ًنا بالوحدة بين العلوم‬

‫االجتماعية‪ ،‬ففي الثالثينيات من عمره أنجز واحدً ا من المراجع‬

‫المهمة في مناهج البحث االجتماعي‪ ،‬وعندما افتتح مركز‬ ‫الدراسات الفلسطينية واإلسرائيلية في مؤسسة األهرام بنهاية‬

‫الستينيات انتقل ياسين للعمل به‪ ،‬وما إن حوَّل محمد حسنين‬

‫تحت رئاسة الدكتور حاتم صادق عام ‪1975‬م حتى أصبح السيد‬

‫في االنشغال بالهم الوطني والعالمي حتى أيامه األخيرة‪،‬‬

‫االجتماعية بالعالم العربي‪.‬‬

‫لم يتوقف السيد ياسين عند حدود تجريب موهبته في‬

‫الشعر‪ ،‬مغرمً ا بالشاعر العالمي ت‪ .‬س‪ .‬إليوت‪ ،‬لكنه حاول‬ ‫ً‬ ‫أيضا مع النقد والقصة القصيرة‪ ،‬وأعجب بكتاب «مغامرات‬

‫فكرية» للفيلسوف هوايتهيد‪ ،‬إال أن هذه المرحلة األدبية‬ ‫انتهت بالفشل‪ ،‬ولم تكن كلمة فشل ذات سمعة سيئة لديه‪،‬‬ ‫فقد استخدمها في وصف عالقته باإلخوان‪ ،‬ثم في وصف‬

‫‪121‬‬


‫تقارير‬

‫رحلته العلمية إلى باريس لنيل درجة الدكتوراه في القانون‪،‬‬

‫من حوار سابق أجرته الفيصل مع الراحل‬

‫تلك الرحلة التي انتهت بانصرافه عن دراسة القانون إلى‬

‫دراسة علم االجتماع‪ ،‬ومن ثم يقول‪« :‬هنا محطة‬

‫فشل جديدة إذا أردنا إبقاء المفهوم‪ ،‬فقد‬ ‫تركت القانون إلى االجتماع‪ ،‬واهتممت‬

‫بعلم االجتماع األدبي الذي كان ال يزال‬ ‫ناش ًئا وقتها عام ‪1964‬م‪ ،‬وكذلك علم‬

‫االجتماع السياسي‪ ،‬فقلت لنفسي‬

‫لتذهب الدكتوراه إلى الجحيم‪ ،‬فليس من المعقول أن يُضيِّع‬

‫باحث مثلي ثالث سنوات من عمره يتعقب أحكام محكمة‬ ‫النقض‪ ،‬عدت بعد ذلك إلى القاهرة في عام ‪1967‬م‪ ،‬وهو عام‬

‫الفشل في مصر‪ :‬النكسة والهزيمة والمرارة‪ ،‬وهنا اتجهت إلى‬ ‫دراسة المجتمع اإلسرائيلي دراسة علمية‪ ،‬وانضممت إلى مركز‬

‫الدراسات الفلسطينية والصهيونية باألهرام عام ‪1968‬م»‪.‬‬ ‫المثقف المهموم‬

‫يرى أستاذ علم االجتماع السياسي بجامعة القاهرة الدكتور‬

‫ً‬ ‫مشروعا‬ ‫أحمد زايد‪ ،‬أن مشروع السيد ياسين الثقافي كان‬

‫تكامليًّا‪ ،‬فيه حس المثقف المهموم بقضايا الوطن ومتابعة‬

‫‪122‬‬

‫ومناقشة ما يجري على الصعيد العالمي‪ .‬ويلفت زايد إلى أن‬ ‫«ياسين» كانت لديه ميزة عظيمة في أنه كان يمزج حديثه عن‬

‫التطورات العالمية باألحداث والتغيرات المصرية والعربية‪ .‬فتح‬ ‫السيد ياسين ً‬ ‫آفاقا جديدة في بحوث العلوم االجتماعية كانت‬ ‫مغلقة في مصر؛ منها علم اجتماع األدب‪ ،‬كما أنه كان مثالاً‬

‫لنموذج المثقف «المتنور» أو المح ِّرك للمثقفين اآلخرين نحو‬ ‫القراءة واإلبداع‪ ،‬وظل على هذا النحو حتى رحيله في صباح‬

‫األحد الموافق ‪ 19‬مارس ‪2017‬م‪.‬‬

‫قدم السيد ياسين‬ ‫ّ‬ ‫مشروعا ثقاف ًّيا تكامل ًّيا‪ ،‬فيه حس‬ ‫ً‬ ‫المثقف المهموم بقضايا الوطن‪،‬‬ ‫ومتابعة ومناقشة ما يجري على‬ ‫الصعيد العالمي‬ ‫من حياته‪ ،‬وبخاصة بعدما ترك مركز الدراسات اإلستراتيجية‪.‬‬

‫ويتطرق سالم إلى كتاب «الشخصية العربية بين صورة الذات‬

‫ومفهوم اآلخر» الذي قدمه الراحل في مقتبل حياته‪ ،‬عادًّا إيّاه‬ ‫َ‬ ‫بداية المشاريع الفكرية العربية لنقد الذات‪ ،‬الذي ُش ِغل به‬ ‫كثيرون كمحمد عابد الجابري وزكي نجيب محمود وغيرهما‪.‬‬ ‫ويشير إلى انشغال ياسين بالتحليل االجتماعي لألدب‪ ،‬وفهم‬

‫المجتمع المصري من خالل كتابات جيل الستينيات وما بعدها‪.‬‬ ‫الهوية المتخيلة‬

‫في الحوار الذي نشرته «الفيصل» (عدد ‪ )482 -481‬وأجراه‬

‫على مدار سنوات من العمل في مركز الدراسات‬

‫الشاعر محمد الحمامصي‪ ،‬تحدث السيد ياسين عن جملة من‬

‫التي جرت في العالم‪ ،‬ورصدها في أعماله التي تجاوزت‬

‫األصوليات وتوحش الهويات‪ ،‬ونفى أن يكون ثمة تنسيق بين‬ ‫النظام القائم في مصر وبين الجماعات السلفية‪ ،‬لكنه أ َّكد أن‬

‫اإلستراتيجية تابَعَ السيد ياسين المتغيرات السياسية والثقافية‬ ‫األربعين كتابًا‪ ،‬حتى بعدما ترك إدارة مركز األهرام قام عام‬

‫‪2012‬م بتأسيس وإدارة المركز العربي للبحوث والدراسات‪،‬‬ ‫ليكمل الدور الذي بدأه من قبل‪ ،‬متابعً ا الحرب األميركية في‬

‫العراق أو أفغانستان‪ ،‬وصعود التيارات اإلسالمية‪ ،‬وانهيار‬

‫الدول القومية‪ ،‬ومجيء الربيع العربي‪ ،‬ليكتب كتابه «الشعب‬ ‫على منصة التاريخ» عقب قيام ثورة يناير‪ ،‬لكن سرعان ما سقط‬

‫الشعب وصعد اإلخوان الذين أبرزوا وجهًا لم يكن يعرفه السيد‬

‫ياسين في شبابه‪ ،‬فكتب كتابه األخير «نقد الفكر الديني»‪.‬‬ ‫في هذا اإلطار يرى صالح سالم الباحث في مركز األهرام‬

‫للدراسات اإلستراتيجية أن مشروع السيد ياسين الفكري قائم‬

‫على التحليل الثقافي الذي عمل عليه في آخر عشرين عامً ا‬ ‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬

‫القضايا التي شغلته في السنوات األخيرة‪ ،‬في مقدمتها صراع‬

‫اإلخوان لهم مشروع متكامل سمَّ اه «الهوية المتخيلة»‪ ،‬وأن‬ ‫هذه الهوية تقوم على أسس عدة؛ أهمها رفض الديمقراطية‬

‫الغربية‪ ،‬واعتماد الشورى نظامً ا سياسيًّا‪.‬‬

‫ورغم أن ثورة الخامس والعشرين من يناير لم تكن من‬

‫بين رهانات السيد ياسين في بداية األلفية الثالثة‪ ،‬فإنه استطاع‬ ‫التعامل معها بمرونة‪ ،‬مؤم ًنا أنها أفضل تعبير عن رغبة الشعب‬ ‫في التغيير‪ ،‬وأنها ثورة شعبية بامتياز‪ ،‬لكن ذلك كله لم يشفع‬ ‫له أنه كان أحد رموز نظام مبارك‪ ،‬وأنه أحد الصانعين الكبار‬

‫إلستراتيجية هذا النظام الثقافية واالجتماعية طوال عقدي‬

‫الثمانينيات والتسعينيات‪.‬‬


123


‫إصدارات‬

‫الكتاب‪ :‬من نافذة السفارة‬ ‫المؤلف‪ :‬نجدة فتحي صفوة‬ ‫الناشر‪ :‬دار الساقي‬

‫يحتوي الكتاب على مجموعة من وثائق الحكومة البريطانية الس ّرية عن البالد العربية‬

‫والقضايا العربية‪ ،‬تتضمّ ن تقارير كتبها دبلوماسيون بريطانيون عملوا في األقطار العربية‬

‫المختلفة عن األحداث التي عاصروها وشهدوها من نافذة ممثليّاتهم‪ ،‬وربما مدّ وا أيديهم‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫وتدخلوا في تلك األحداث‪.‬‬ ‫أحيانا‪،‬‬ ‫من النافذة‬

‫الكتاب‪ :‬رحلة إيطالية‬ ‫المؤلف‪ :‬غوته‬ ‫المترجم‪ :‬فالح عبدالجبار‬ ‫الناشر‪ :‬منشورات المتوسط‬

‫دوَّن غوته يومياته هذه استنادًا إلى رحلتين إلى إيطاليا‪ :‬األولى قام بها في سبتمبر عام‬

‫‪1786‬م‪ ،‬واستمرت حتى فبراير من عام ‪1787‬م‪ ،‬فقضى خمسة شهور في فيرونا‪ ،‬والبندقية‪،‬‬ ‫وروما‪ .‬والرحلة الثانية بدأها في يونيو من عام ‪1787‬م‪ ،‬واستمرت حتى إبريل من عام ‪1788‬م‪،‬‬

‫قضاها هذه المرة كلها في روما عازمً ا على التمتع بمعالمها وآثارها ومتاحفها‪.‬‬

‫‪124‬‬ ‫الكتاب‪ :‬أمل أقوى من البحر‬ ‫المؤلف‪ :‬ميليسا فليمينغ‬

‫الناشر‪ :‬الدار العربية للعلوم ناشرون‬

‫ميليسا فليمينغ المدافعة عن حقوق الالجئين في األمم المتحدة سمعت بقصة دعاء‬

‫ً‬ ‫شخصا من رفاقها الالجئين يوم سُ حِ بت من البحر‪ ،‬وهكذا قررت السفر إلى كريت‬ ‫وموت ‪489‬‬ ‫لمقابلة تلك الفتاة االستثنائية التي أنقذت طفلة صغيرة فيما شارفت هي على الموت‪ .‬ورأت‬

‫في دعاء حكاية الحرب السورية المتجسدة في امرأة شابة؛ لذا قررت أن تروي قصتها‪.‬‬

‫الكتاب‪ :‬العالم عام ‪2050‬‬ ‫المؤلف‪ :‬جالل أمين‬ ‫الناشر‪ :‬دار الكرمة‬

‫يتناول المؤلف مستقبل بعض المفاهيم والنظم وأنماط المعيشة التي تشغل بالنا‬

‫وتؤثر في حياتنا في الوقت الحاضر‪ ،‬كالرأسمالية والعدالة االجتماعية والديمقراطية‪ .‬وينهي‬

‫العالِم االقتصادي الكبير كتابه بفصل عما يمكن أن تصبح عليه حال علم االقتصاد والفكر‬ ‫االقتصادي بوجه عام بعد خمسين عامً ا‪.‬‬

‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬


‫الكتاب‪ :‬النسوية والقومية في العالم الثالث‬ ‫المؤلف‪ :‬كوماري جايا واردينا‬ ‫المترجم‪ :‬ضحوك رقية‪ ،‬وعبدالله فاضل‬ ‫الناشر‪ :‬دار الرحبة‬

‫تشير الدراسات في هذا الكتاب إلى أن الرجال‪ ،‬في فترة النضاالت القومية‪ ،‬كانوا‬ ‫محركي التاريخ الرئيسيين‪ّ .‬‬ ‫نظموا الحركات القومية واألحزاب السياسية‪ ،‬ووضعوا معايير‬

‫النضال‪ ،‬حتى إنهم قرروا الدور الذي يجب أن تلعبه النساء‪ .‬بهذا المعنى‪ ،‬وباستثناءات‬ ‫قليلة‪ ،‬عملت النساء ضمن الحدود التي رسمها لهن الرجال‪ .‬إن التاريخ الذي يكشف‪ ،‬على‬

‫هذا النحو‪ ،‬هو تاريخ «تشاركي»‪ .‬وهذا‪ ،‬في حد ذاته‪ ،‬مهم‪ ،‬ويؤكد أن النساء قد لعبن دورًا‬ ‫َ‬ ‫صورة الرجال على أنهم الممثلون التاريخيون الوحيدون‪.‬‬ ‫أُغفل باستمرار‪ ،‬ويصحح‬

‫الكتاب‪ :‬سوسيولوجيا الهوية‬ ‫المؤلف‪ :‬عبدالغني عماد‬ ‫الناشر‪ :‬مركز دراسات الوحدة العربية‬

‫يناقش هذا الكتاب إشكاليات سوسيولوجيا الهوية والمقاربات المختلفة حولها‪ ،‬التي‬

‫ً‬ ‫تخصصا علميًّا وأكاديميًّا في كثير من الجامعات‪ .‬ويطرح رؤيته لما آلت إليه‬ ‫أصبحت اليوم‬ ‫ً‬ ‫نحو‬ ‫الهوية والثقافة في عالم يزداد تعولمً ا وتفككا‪ ،‬وهو ما يتجلى في أكثر من مكان‪ ،‬وعلى ٍ‬ ‫كارثي في الوطن العربي حيث انفجرت عصبيات‪ ،‬وتضخمت هويات طائفية ومذهبية وإثنية‪،‬‬

‫وتحوّلت إلى ما يشبه «الوعي القطيعي»‪ ،‬حتى بدأت تتحول إلى سياج ال يسمح للعقل بأن‬ ‫يخترقها‪ ،‬ولـ«الجماعة» بأن تخرج عن طوقها‪.‬‬

‫الكتاب‪ :‬رجل الشتاء‬ ‫المؤلف‪ :‬يحيى امقاسم‬ ‫الناشر‪ :‬دار التنوير‪ ،‬ودار طوى‬

‫تقدم الرواية محاولة جديدة لقراءة الواقع العربي في باريس‪ .‬تتنقل إلبراز المشاهدات‬

‫عن (مدينة العالم) كما تسميها الرواية وأماكنها العريقة‪ .‬وتفرض رؤية حديثة حول تاريخ‬ ‫األمكنة باسترجاع الماضي بلغة الحاضر والمستقبل‪ .‬يقدم الكاتب مشاهداته الخاصة‬

‫ومحاكماته لتاريخ مشترك بين العرب وفرنسا‪ .‬ويتساءل‪ :‬أين باريس األمس أمام متغيرات‬ ‫العصر واستجابتها لتطرفات الحداثة؟ كما يثير أسئلة حول مثقفي أوربا وإعادة كبار مفككي‬

‫العقل العربي واإلسالمي لمواجهة المرحلة‪.‬‬

‫‪125‬‬


‫كتب‬

‫عياض بن عاشور‬ ‫يفكك حدث الثورة التونسية‬ ‫عبدالدائم السالمي‬

‫‪126‬‬

‫كاتب تونسي‬

‫أصدر األكاديمي عياض بن عاشور كتا ًبا‬ ‫بعنوان «تونس‪ ،‬ثورة في بالد اإلسالم» (‪)2016‬‬ ‫ناقش فيه سؤال الثورة التونسية من ناحية‬ ‫أسبابها وحيثياتها ونتائجها‪ .‬و ّزع بن عاشور‬ ‫كتابه الذي جاء في ‪ 381‬صفحة وصدر عن دار‬ ‫سيراس للنشر وبدعم من المعهد الفرنسي‬ ‫بتونس‪ ،‬على سبعة أبواب هي‪ :‬الثورة التونسية‬ ‫في سياقها‪ ،‬وسينوغرافيا الثورة التونسية‪،‬‬ ‫وتناقضات الثورة‪ ،‬والثورة والثورة المضادة‪،‬‬ ‫والمُ قايضات التاريخية للثورة‪ ،‬وق ّوة القانون‬ ‫في الثورة‪ ،‬ومعارك الدستور‪.‬‬

‫َ‬ ‫بمقدم ٍة ّ‬ ‫ِّ‬ ‫أطروحة كتابه‬ ‫مثلت‬ ‫وقد مهّد لهذه األبواب‬ ‫وهي أنّ الثورة التونسية حَ ٌ‬ ‫دَث غري مسبوق يف تاريخ الثورات‬ ‫ّ‬ ‫واستحقت أنْ يُنظر لها بعني إيجابية‪ ،‬وميزتها أنها‬ ‫البشرية‪،‬‬

‫ثورة محكومة بتناقضات عديدة؛ فهي ثورة عىل استبداد‬

‫ني الذي يرفض الخروج‬ ‫الحاكم من‬ ‫شعب يسوده املذهب ُّ‬ ‫ٍ‬ ‫الس ّ‬ ‫ّ‬ ‫عن الحاكم‪ ،‬وهي ثورة نادت بمَ دنيّة الدولة‪ ،‬وظل الناس فيها‬

‫متمسكني بمقدَّ ساتهم ومدافعني عنها‪ ،‬وهي ً‬ ‫أيضا ثورة عىل‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫نظام شمويل ولكنها منحت بعض قيادات ذاك النظام مناصب‬

‫سياسية عليا‪ ،‬وهي ثورة تدعو إىل ّ‬ ‫حق االنتخاب وضرورة‬

‫اإلقبال عليه؛ لقطع الطريق أمام عودة التوريث السيايس‪،‬‬ ‫ويتخلىّ فيها ما يناهز ثلث الشعب عن التصويت يف انتخاباتها‬

‫التشريعية والرئاسية‪ ،‬وهي كذلك ثورة قادها الشباب لتمنح‬ ‫شيخ تجاوز عمره الثمانني سنة‪ .‬وهو تناقض‬ ‫السلطة لرئيس‬ ‫ٍ‬ ‫أ ّكده عياض‪ ‬بن عاشور ّ‬ ‫ودعمه بإيراد مجموع ٍة من الوقائع التي‬ ‫عاشتها تونس إبّان ثورتها‪ ،‬وصاغها يف شكل أسئلة منها ما‬ ‫جاء يف قولِه‪« :‬هل رأيتم ثورة يقودها ‪-‬لعدة أشهر‪ -‬مسؤولون‬ ‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬

‫ُ‬ ‫الثورة؟‬ ‫نفسه الذي أسقطته‬ ‫من الشخصيات الكربى لل ِّنظام‬ ‫ِ‬

‫هل توجد حكومة ثورية تحتمي بمجلس دستوري‪ ،‬فاقد لكل‬ ‫شرعية قانونية‪ ،‬ليمألَ الفراغ السيايس بالبالد وي ّتخذ التدابري‬

‫َ‬ ‫بعض مالمحها‬ ‫القانونية الالزمة ملنح السلطة الجديدة فيها‬

‫الشرعية؟»‪.‬‬

‫أسئلة من الداخل‬

‫إنّ أسئلة عياض بن عاشور الذي أسهم يف تقديم تصوّر‬ ‫َ‬ ‫أسئلة مَ نْ يكتب سينوغرافيا‬ ‫للدستور التونيس الجديد‪ ،‬ليست‬

‫للثورة‪ ،‬يستنطق فيها الوقائعَ ‪ ،‬ويُعيد بناء أحداثها‪ ،‬ويتبينّ‬ ‫أيضا أسئلةُ‬ ‫فحسب‪ ،‬إنما هي ً‬ ‫مَ ْنطِ قها الحاكِمَ لسريورتِها‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُعي‬ ‫مثقف‬ ‫ّ‬ ‫وقانوين عايش حَ َراك الثورة من الداخل حيث د َ‬

‫رئيسا للهيئة العليا لتحقيق‬ ‫مباشرة بعد ‪ 14‬يناير ‪2011‬م ليكون‬ ‫ً‬


‫أهداف الثورة واإلصالح السيايس واالنتقال الديمقراطي‪ ،‬وكان‬ ‫ويومي مع الفاعلني السياسيّني ومع َّ‬ ‫ٌ‬ ‫منظمات‬ ‫اتصال مباشر‬ ‫له‬ ‫ّ‬

‫قلما ّ‬ ‫املجتمع املدين‪ .‬وهو أم ٌر نراه قد منح كتابَه صدقي ًّة ّ‬ ‫توفرت‬ ‫ّ‬ ‫ومكنه هو من أنْ يخ َتبرِ َ وقائع ثورة‬ ‫ب عن الثورة‪،‬‬ ‫يف ما ُك ِت َ‬

‫املشرتك العامِّ من‬ ‫بالده عىل ضوء وقائع الثورات العاملية ضمن‬ ‫ِ‬ ‫شروطها عىل غرار ثورات فرنسا وروسيا والصني وإيران‪ ،‬وسهّل‬ ‫عليه ُ‬ ‫الخ َ‬ ‫باستنتاج أنّ «تونس‬ ‫لوص إىل تأكيد أطروحة كتابه‬ ‫ِ‬ ‫اخرتعت ً‬ ‫نوعا من الثورة ليس له شبيه يف التاريخ»؛ ذلك أن‬

‫ثورتها «ليست ذات طابع ديني» ولم يفجّ رها صراع أيديولوجي‬ ‫أو حزبي أو عسكري دمويّ ‪ ،‬وهي «ال تطرح نفسها أنموذجً ا‬ ‫َ‬ ‫العالم»‪ ،‬إنما هي ثورة بال زعيم‪ ،‬أو ُق ْل‪ :‬هي ثورة‬ ‫للثورات يف‬

‫الشعب من أجل الشعب‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫«مثلت سببًا ملشاكلها‬ ‫فرادة خصائصها هي التي‬ ‫ولعل‬ ‫الحالية» عىل غرار ضعف األداء السيايس والتدهور االقتصادي‬

‫ينس‪،‬‬ ‫واالضطراب األمني عىل حدّ عبارة الكاتب الذي لم‬ ‫َ‬ ‫وهو ّ‬ ‫يحلل حدث الثورة التونسية‪ ،‬تأصيلها يف سياقها الثقايف‬

‫أسئلة عياض بن عاشور ليست أسئلة‬ ‫من يكتب سينوغرافيا للثورة يستنطق‬ ‫فيها الوقائع ويعيد بناء أحداثها‪ ،‬إنما‬ ‫أيضا أسئلة مثقف وقانوني عايش‬ ‫هي ً‬ ‫حراك الثورة من الداخل‬ ‫ُ‬ ‫ومعارضة كثري من الناس لتلك األعمال سواء يف مجال الفن‬ ‫ُ‬ ‫عرض‬ ‫التشكييل (أحداث قصر العبدلية باملرىس التي مُ نع فيها‬

‫تمس حرمة الدين اإلسالمي) أو‬ ‫لوحات تشكيلية قيل‪ :‬إنها‬ ‫ّ‬ ‫السينمايئ (أحداث سينما أفريكا التي ثارت فيها مجموعةٌ‬

‫من الشباب عىل عرض فلم سينمايئ رأوا يف عنوانه ًّ‬ ‫حطا من‬

‫قيمة الذات اإللهية) أو يف مجال الحريات الشخصية (ظهور‬

‫جمعية «شمس» للمثلية الجنسية التي جُ وبِ ْ‬ ‫هت برفض‬ ‫ّ‬ ‫ولعل «هذا التناقض» هو ما ميّز ثورة تونس‪،‬‬ ‫شعبي كبري)‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫لاً‬ ‫التأسييس‪ ،‬ثمّ يف مجلس النوّاب حول‬ ‫وخلق جد يف املجلس‬ ‫ّ‬

‫وال ِقيَمي‪ ،‬وهو ما نراه قد ّ‬ ‫مثل قو َّة كتابه‪ ،‬حيث عاد إىل‬ ‫استقراء مفهوم الثورة يف اإلسالم‪ ،‬واختالف الرأي فيه بني‬

‫دولة دينية؟ وهو جدل انتهى إىل توافق سيايس بني الحزبينْ‬

‫الظالم ومَ ن هم مع طاعة الحاكم وضرورة إصالحه‪ .‬وعلينا‬

‫يف مجلس النوّاب‪ ،‬ودفع باتجاه اختيار نظام سيايس «شبه‬

‫الشيعة والسنة‪ ،‬أي بني مَ ن ُ‬ ‫يدعون إىل الخروج عن الحاكم‬

‫أن نشري هنا إىل أنّ تاريخ تونس الحديث يكشف عن حقيقة أنّ‬

‫(السنة) كانوا منذ زمن بورقيبة مع ضرورة الخروج‬ ‫اإلسالميني ُّ‬ ‫َ‬ ‫عن الحاكم وعزله‪ ،‬عىل األقل كان هذا موقف جماعة اإلخوان‬ ‫املسلمني (حركة النهضة حاليًّا) من النظام البورقيبي‪ .‬وقد ألقى‬

‫هذا األمر بظالله االختالفية عىل تباين آراء الناس يف الثورة‪،‬‬

‫حيث ظهر سياق ثقايف جديد تتح ّرك فيه فئتان متناقضتان‪ :‬فئة‬ ‫َع ْلمانية ّ‬ ‫مثلتها النخبة الفكرية واألحزاب اليسارية ومنظمات‬

‫ً‬ ‫مجتمعية عديدة تدعو إىل مَ دَ نية الدولة َ‬ ‫شأنا‬ ‫وعدّ اإلسالم‬ ‫ًّ‬ ‫خاصا‪ ،‬وفئة إسالمية منها حركة النهضة‪ ،‬وهي أكرثهما‬ ‫فرديًّا‬

‫التونيس‪ ،‬وبعض الحركات السلفية املتط ّرفة‬ ‫حضورًا يف الشارع‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫مسلحة لعلّ‬ ‫التي تدعو إىل إنجاز ثورة تحكمها ثقافة جهادية‬ ‫من ترميزاتها‪« :‬الرايات السوداء والصور الكبرية التي يظهر فيها‬

‫رجال ونساء حاملني لبنادق الكالشنكوف»‪.‬‬

‫طبيعة الدولة ضمن الدستور الجديد‪ :‬هل هي دولة مَ دَ نية أم‬

‫الكبرييْن «نداء تونس» و«حركة النهضة» اللذيْن ناال األغلبية‬ ‫برملاين» يُك ِّرس مَ دَ نية الدولة ويحافظ عىل انتمائها العربي‬ ‫اإلسالمي يف اآلن ذاته‪ .‬بل إنّ يف هذا التناقض‪ ،‬وبخاصة‬ ‫عودة رموز النظام املخلوع وتفشيّ الفوىض السياسية وتقهقر‬

‫الوضع االجتماعي‪ ،‬ما سهّل ظهو َر االغتياالت السياسية يف‬ ‫تونس (شكري بلعيد ومحمد الرباهمي) التي تب ّنتها تنظيمات‬ ‫إرهابية عىل غرار تنظيم «أنصار الشريعة»‪ ،‬ذلك أنّ «تنامي‬ ‫اإلرهاب يف تونس لم ي ِّ‬ ‫ُغذه السياق األيديولوجي اإلسالموي‬ ‫الذي ظهر بعد الثورة فحسب إنما ً‬ ‫أيضا‪ ،‬وإىل حد كبري‪ ،‬عدم‬

‫قدرة حكومات الثورة عىل تدبري مسألة العدالة االجتماعية»‬ ‫التي ّ‬ ‫مثلت مطلبًا من مطالب الثائرين‪.‬‬ ‫َنات التأويلية يف كتاب عياض بن‬ ‫ومتى تجاوزنا بعض اله ِ‬

‫عاشور‪ ،‬عىل غرار حديثه عن الثورة وكأنها مكتملة يف الزمن‬ ‫ً‬ ‫والحال أنها ّ‬ ‫مفتوحة عىل‬ ‫نص جماهرييّ ما زالت فصوله‬

‫بحثي رصنيٌ اتكأ فيه كاتبه عىل‬ ‫املفاجآت‪ ،‬قلنا‪ّ :‬إنه اجتهاد‬ ‫ّ‬ ‫تجربته املعيشة‪ ،‬وعىل أغلب ما ُكتب عن ثورة ‪ 14‬يناير ‪2011‬م‬

‫تناقضات الثورة‬ ‫ً‬ ‫ويف هذا الصدد بينّ الباحث بعضا من مظاهر التناقض‬ ‫َ‬ ‫فمطلب الحرية‪،‬‬ ‫الذي حكم مُ َتصوَّر الشعب التونيس للثورة؛‬ ‫َ‬ ‫وهو أبرز شعار من شعاراتها‪ ،‬لم يكن‬ ‫مطلبًا ذا مدلول واحدٍ‬

‫الثقافية‪ ،‬كما هو معروف يف الثورات عامَّ ة‪ ،‬ولم يتم ّرد عىل‬

‫له إحدى الفئتينْ ‪ ،‬وصورة ذلك ظهو ُر أعمال فنية وكتابات‬ ‫إبداعية تناقش مسألة املقدَّ س ُ‬ ‫وتخضعه ألسئلة الفكر‪،‬‬

‫ً‬ ‫وحريصا عىل تأصيلها يف حَ َراكه الثوريّ ‪.‬‬ ‫تكوينه الثقايف‪ ،‬بل‬

‫َّ‬ ‫إنما كان مدلوله رخوًا قابلاً ألنْ‬ ‫يتشكل و َْف َق الهيئة التي تريدها‬

‫استنتاجات‬ ‫محليًّا وعربيًّا وأجنبيًّا‪ ،‬وهو ما جعله يخلص إىل‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫التونيس لم َيثرُ ْ عىل هويَّته‬ ‫لعل من أهمّ ها أنّ املجتمع‬ ‫وجيه ٍة‬ ‫ّ‬ ‫أنساقه االجتماعية والعقدية‪ ،‬إنما هو ثار عىل الظلم السيايس‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫محافظا عىل عناصر‬ ‫وظل يف خالل ذلك‬ ‫والحيف االجتماعي‪،‬‬

‫‪127‬‬


‫كتب‬

‫أبرار سعيد‪..‬‬ ‫ليس ليدي أن تتك ّلم‬ ‫عبدالله السفر‬

‫‪128‬‬

‫ناقد سعودي‬

‫ً‬ ‫مشدودة بين‬ ‫تبدو كتابة أبرار سعيد‬ ‫قطبين متنافرين وعلى الضد‪ ،‬يعكسان حالة‬ ‫التوتر واالضطراب والتر ّدد والحيرة‪ .‬الشاعرة جو ُ‬ ‫ّابة‬ ‫جهات ومواقع‪ ،‬ال تفتأ تجد نفسها بين الساخن‬ ‫ٍ‬ ‫والبارد‪ ،‬إن على مستوى حضور الذات في الجسد‬ ‫االجتماعي أو على مستوى معاينة الكتابة ودورها‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫نغمة هذه الحركة من ال َّنوَسان بروح كِتابها‬ ‫تمسك‬ ‫«ليس ليدي أن تتكلم» (جمعية الثقافة والفنون‬ ‫بأثر‬ ‫بالدمام – ‪٢٠١٧‬م‪ ،‬توزيع‪ :‬دار مسعى) وتطبعه ٍ‬ ‫بارز ال تذهب عنه عين القارئ‪.‬‬ ‫القفص بطائره املحبوس‪ .‬الطائر املعتقل بني الصفحات‪.‬‬ ‫السمكة املشكوكة إىل ِص َّنارة الصيّاد‪ .‬السمكة التي ترتطم‬ ‫بجدران الداخل‪ .‬النافذة املشرفة عىل الحياة واملحجوبة عنها‪.‬‬ ‫َ‬ ‫املحكمة اإلقفال‪ .‬العجلة الدائرة بغري هدى وال نهاية‪.‬‬ ‫الحلقة‬ ‫ٌ‬ ‫بناءات مكافِئة تنجزها الشاعرة تعبريًا عن الحصار املضروب‬ ‫ّ‬ ‫وتتخلص منه (هنالك‬ ‫حول املرأة وليس بمقدورها أن تخرج عليه‬

‫قو ٌّة ما‪ /‬ص َّن ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫عالقة بني الصخور‪ ،‬أتدلىّ من رأسها‪ /‬وأرفرف‬ ‫ارة‬ ‫كسمك ٍة ال تحاول الطريان)‪( ..‬ماذا ع ّنا؟‪ /‬عن هذا الطري الذي‬ ‫يرفرف يف الداخل؟)‪( ..‬النافذة مغلقة‪ /‬ألنّ السماء وجو ٌه وعيونٌ‬

‫ً‬ ‫يضرب السجني بإلحاح‪ /‬ألنّ‬ ‫بعوضة‬ ‫وشهوات‪ /‬ألنّ العصفور‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫كانت تحاول أن تذهب أبعدَ من عض ٍة عىل الجلد‪ /‬وألن السيّد‬

‫كان َدبِ ًقا َ‬ ‫وت ِعبًا)‪.‬‬

‫صوت يتسلق الصور‬

‫من إهاب املقاومة واالحتجاج تشحذ الشاعرة حنجرتها‬ ‫ّ‬ ‫يتسلق السور وتدفع بهوائها‪ ،‬وإن يكن شحيحً ا‪،‬‬ ‫وتطلق صوتها‬

‫ً‬ ‫أجنحة تحملها‬ ‫شمسه وأحالمه؛ تبذ ُر‬ ‫تطلب‬ ‫إىل عناق األفق؛‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬

‫تمس املستحيل بأصابع من دم‬ ‫نحو شغفها بضفافه املرتعة؛‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫فالهاجس‬ ‫وحنجر ٍة من لهب‪ .‬تقرع‪ .‬تتقد‪ .‬تدفع‪ .‬تضطرم؛‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫املرفوع‬ ‫هالة يجذبها بدواره الشديد وسطوعه يف العروق؛ نداءً‬

‫يميض بها إىل تصريف إرادتها وتعميق وعيها بقصد أن تعلو عىل‬ ‫موشوم بالقيد والخذالن وبمزيدٍ من الخسارات املرتاكمة‪..‬‬ ‫تاريخ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫«جسوم كثرية»؛ فالطيور التي لم‬ ‫بقصد أن تقطر صوتها يف‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫بساطا‬ ‫تحلق؛ ينبغي لها أن تسعى إىل رحلتها (أريد أن أكون‬

‫ّ‬ ‫سحريًّا أو‪ /‬طائ ًرا‪ /‬أريد َّ‬ ‫ً‬ ‫أتخل َ‬ ‫ص من‬ ‫جنونا‪ /‬أن‬ ‫كل ما يظ ّنونه‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫بأفكار ملتمع ٍة‬ ‫لست أليِّ فكرة محدّ دة‪ /‬إنني‬ ‫كل ما يح ّن ُطني‪/‬‬ ‫ٍ‬

‫ً‬ ‫ضيقا يف‬ ‫كالنصال)‪( ..‬من السخرية أن يقول الطبيب إنني أعاين‬ ‫األوردة‪ /‬أنا أعانيه أصلاً ‪ ،‬أعاين الضيق من كل جانب‪ /‬ولكن‪،‬‬

‫أيضا‪ْ /،‬‬ ‫يطلب تم ّردًا ً‬ ‫س الجدران‬ ‫أليست هذه إشارة؟‪ /‬داخيل‬ ‫ُ‬ ‫رف َ‬ ‫ٌ‬ ‫جذوة‪ /‬تطفو فوقَ‬ ‫َ‬ ‫قلب هذا الهدير‪ /‬أنا‬ ‫واختالق أيِّ نافذة)‪( ..‬يف ِ‬ ‫ُ‬ ‫لفم ِّ‬ ‫كل امرأ ٍة يعلو الوجع يف نربتِها)‬ ‫هزائمها)‪( ..‬أ ِ‬ ‫طعمُ صويت‪ِ /‬‬


‫لكن‪ ..‬أن تطرق وتطرق بال نتائج‪ ..‬أن تدوي بالصرخة بال‬ ‫طائل‪ ..‬أن تجوب باعرتاضاتك طولاً‬ ‫ً‬ ‫وعرضا بال فائدة‪ .‬ليس ثمة‬ ‫من رجْ ٍع وال مجيب‪ .‬املكان مصمت‪ .‬ال ينفذ منه الصوت‪ .‬ال تم ّر‬ ‫كتاب املحو فورًا‪ .‬جميع‬ ‫منه الرسائل‪ ،‬وإن م ّرت جرى عليها‬ ‫ُ‬

‫محاوالت التململ والرفس‪ .‬كل الركض واللهاث؛ تبوء باملحصلة‬

‫ذاتها من الخواء وفراغ اليدين ومن التسمّ ر عند الخطوة نفسها‪.‬‬

‫كأنما الحركة ليست حركة‪ .‬الوهمُ زيّنها وطار بها غري أنها فقاعة‬

‫فشل يتواىل؟‪ ..‬ماذا‬ ‫سرعان ما تنفثئ وتتالىش‪ .‬ماذا يحصل من‬ ‫ٍ‬ ‫أفعال تكرارية تتعثرَّ‬ ‫ينجم عن جهو ٍد تطيش؟‪ ..‬ماذا َّ‬ ‫يرتتب عىل‬ ‫ٍ‬

‫كل مرة؛ فهي يف املكان نفسه والزمان بتحوالته يسبق ويسبق؟‪..‬‬

‫النري ال يُرفع‪ .‬والبوابة يبدو أن مفتاحها ضائع وال سبيل إىل‬

‫اسرتجاعه‪ .‬نقرأ يف كتاب علم النفس عن «العجز املكتسب»‬

‫الذي يصل إليه الفرد أو يرتطم به عندما ال يتغيرّ يشء ال يف‬

‫محاوالت‬ ‫البيئة وال يف الظروف من حوله مهما يصدر عنه من‬ ‫ٍ‬

‫للتجاوز واالنتقال والتحوّل‪ .‬تتك ّرر أمامه صورة واحدة‪ .‬يعود‬

‫إليها دائمً ا‪ .‬عندها يحدث االستسالم والقبول يف أبشع وج ٍه‬

‫له؛ خضوع الضحية وانقيادها ملا هو مرسومٌ لها؛ انسحاقها بال‬ ‫رغبة ودون رجاء إىل درجة االستعذاب املاسوشية (أكتب ّ‬ ‫جثة‪/‬‬

‫تحت السياط‪ ،‬ال يشء يؤلم‪ /‬ال يشءَ حي)‪( ..‬لم أعد أهتمّ كثريًا‬ ‫بالوصول‪ /‬أو ْ‬ ‫دفع األيام أكرث مما تحتمل‪ /‬لديّ ما يكفي من‬

‫الوخز الذي ال أريد من أجله هذه اليقظة)‪ ( ..‬أصابعي تطرق‪/‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫واحدة تدور‪،‬‬ ‫دائرة‬ ‫كاملناقري اللحوحة‪ ،‬وأدرك أن ال يشء‪ /‬إذ إن‬ ‫وإن الحلقة هي نفسها الفراغ)‪( ..‬تدور يف املشهد‪ /‬تدور‪ّ /‬‬ ‫فأر‬ ‫بلذ ِة ٍ‬ ‫يالعب عجلة)‪.‬‬ ‫ذات مذبذبة بني ركنني‬

‫تقوم أبرار سعيد بإنزال مخترب الكتابة لديها ضمن ذلك‬ ‫التقاطب الذي يتو ّزع الذات مُ َ‬ ‫ذبذ ً‬ ‫بة بني ركنني يدفع أحدهما‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫جامعة يتالمحُ فيها الضددان عرب‬ ‫مرآة‬ ‫اآلخر‪ ،‬فيأيت املخترب‬ ‫َّ‬ ‫وسيط آخر هو الكلمة التي تختزن َّ‬ ‫وكل حال ٍة وتعيد‬ ‫مقام‪..‬‬ ‫كل‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬

‫ٍّ‬ ‫متخف لكنه ال يربح يشري إىل منشئه‬ ‫إنتاجها بشكل جمايل‬

‫ومربّر وجوده؛ الحدّ االختباري لبزوغ لغ ٍة واصفة تتعدّ ى‬

‫مشغلها الذي يدور حولها ويناور قريبًا منها‪ ،‬فتصبح جزءً ا من‬ ‫ُعدّ ٍة وظيفية تنخرط يف إجالء التوتر املزدوج بوضوح عىل ّ‬ ‫فضة‬ ‫ٍ‬ ‫بحر يف دوالب‬ ‫املرآة؛ االنعكاس املوّار املتبدّل بالتماعاته شأن‬ ‫ٍ‬ ‫مدّ ه وجزره (اقرأ الشعر‪ /‬اقرأْ هذه الجلبة امليتة)‪( ..‬أشع ُر بتفاهة‬ ‫الكلمة‪ /‬هي ال تفعل شي ًئا‪ ،‬هي ال تتح ّرك‪ /‬ال تنطق أو تصرخ‪/‬‬ ‫احرتس أو تمه ْ‬ ‫تسحب جذرًا‬ ‫ال تقول‬ ‫ُ‬ ‫َّل عىل األقل‪ّ /‬إنها ببطءٍ‬ ‫ْ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ترتك فمً ا‪/‬‬ ‫وترتك برئًا‪/‬‬ ‫تسحب أعماقا إىل الخارج‪/‬‬ ‫من األعماق‪/‬‬ ‫ُ‬ ‫حفرة لضحايا آخرين)‪( ..‬أضيق داخل شرنقة‪ /‬وأكتب قصيدةً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫حال اكتمال أطواري)‪( ....‬أفتح شرياين‬ ‫فراشة‬ ‫لن تخرجني‪/‬‬

‫أبرار سعيد تقرأ شعرها في مهرجان الشعر بالدمام‬

‫جوابةُ جها ٍ‬ ‫ت ومواقع‪ ،‬ال تفتأ‬ ‫الشاعرة ّ‬ ‫تجد نفسها بين الساخن والبارد‪ ،‬إن‬ ‫على مستوى حضور الذات في الجسد‬ ‫االجتماعي أو على مستوى معاينة‬ ‫الكتابة ودورها‬ ‫كخنجر‪ /‬تحت‬ ‫املخنوق ح ّتى آخره‪ /‬بحاف ِة كلم ٍة مس ّننة‪ /‬أضمّ ها‬ ‫ٍ‬

‫ولهب‬ ‫لساين)‪( ..‬الكلمة أصابع يف العني‪ /‬أصفا ٌد تنبح يف اليدين‪/‬‬ ‫ٌ‬ ‫ب َ‬ ‫ي َ‬ ‫فوقه الزيت)‪( ..‬تم ّر الفكرة بي‪ /‬تم ُّر بي‪ /‬بفتنةِ‪ /‬مَ ن قطعوا‬ ‫ُص ُّ‬

‫أصابعهم ولم ينتبهوا إىل الدم الذي ّ‬ ‫يلط ُخ الثمار)‪( ..‬يف فمي‬ ‫لاّ‬ ‫دم ينهمر) وهنا ‪ -‬يف هذا‬ ‫كلمة‪ /‬يف فمي زجاجة‪ /‬يف فمي ش ُل ٍ‬ ‫خاف التناص مع جالل الدين الرومي‪« :‬إنّ الدم‬ ‫املقطع ‪ -‬غري‬ ‫ٍ‬

‫ليتفجّ ُر من فمي مع الكلمات»‪.‬‬

‫يف بين ّي ٍة هاصر ٍة منذ العنوان حتى آخر ٍّ‬ ‫نص يف الكتاب عن‬ ‫ّ‬ ‫مطل ٍة «خلف السياج»؛ تسعى الشاعرة أبرار سعيد‪ .‬تقطع‬ ‫ورد ٍة‬

‫ً‬ ‫أشواطا‪ّ ،‬‬ ‫بحائط ما؛ تتشيّأ معه‪،‬‬ ‫وكلما فدح بها اليأس الذت‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫نسيان صغرية‪ .‬ربما تصبح ‪-‬عندما‬ ‫كرف ِة‬ ‫مؤق ًتا‬ ‫تصنع عزاءً‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫مغاير يعني املثابرة وحدها‪ .‬املسعى‬ ‫منظور‬ ‫عائدة‪ -‬ذات‬ ‫تنفلت‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫الذي ال يتبدّل رغم النهايات املحسومة سلفا‪« ..‬روحي طالءٌ‬

‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫يجف»‪ .‬فطوبى لـ«قلب يشمُّ الضوء وال يراه»‪.‬‬ ‫يقط ُر وال‬

‫‪129‬‬


‫كتب‬

‫اليمن غير السعيد‬ ‫في منعطفه الثوري‬ ‫خاص‬

‫‪130‬‬

‫يرصد كتاب «اليمن‪ :‬المنعطف الثوري»‬ ‫(دار الفرات ‪ -‬بيروت) التحوالت التي عصفت‬ ‫باليمن الذي عانى قدرًا كبيرًا من النزاعات‪،‬‬ ‫إضافة إلى التقسيمات التي شملت الجميع‬ ‫سواء ما بين شمال وجنوب‪ ،‬أو قبائل ومدن‪،‬‬ ‫أو ُسنة وشيعة‪ ،‬أو تنظيمات قومية وليبرالية‬ ‫ويسارية ودينية‪ ،‬وخروج من نفق اإلمامة‬ ‫للدخول في مستنقع حرب أهلية‪ ،‬وخروج‬ ‫من دكتاتورية عسكرية للوقوع في فوضى‬ ‫التدخالت اإلقليمية‪.‬‬ ‫ً‬ ‫باحثا‪ ،‬في‬ ‫الكتاب أنجزه نحو عشرين‬ ‫مقدمتهم‪ :‬مارين بواريه‪ ،‬ولوران بونفوا‪،‬‬ ‫وفرانك مرمييه‪ ،‬الذين خططوا للمشروع‬ ‫وأشرفوا عليه‪ ،‬وكان لهم الجهد األكبر في‬ ‫إنجاز دراساته المهمة‪ .‬في حين عكف على‬ ‫ترجمته كل من‪ :‬خالد الخالد‪ ،‬وعصام المحيا‪،‬‬ ‫ومصطفى الجيزي‪ ،‬وبشير زندال‪.‬‬ ‫كانت الطبعة األوىل من الكتاب قد صدرت عام ‪2012‬م‬

‫يمكن تقسيم التاريخ اليمني الحديث إىل ثالث مراحل‪،‬‬

‫أربع تغري خاللها املشهد اليمني‪ ،‬فقد جاءت فكرة الكتاب يف‬

‫فقد استطاع اإلمام يحيى أن يخرج األتراك من اليمن‪ ،‬لكنه‬

‫باللغة الفرنسية‪ ،‬ثم جاءت طبعته العربية بعد سنوات‬ ‫ظل متابعة الغرب للربيع العربي‪ ،‬وانبهاره بالحالة السلمية‬ ‫للثورة اليمنية ‪2011‬م‪ ،‬ومن ثم جاء التفكري يف تقديم جملة من‬ ‫املعارف املهمة للقارئ األوربي عن اليمن الذي يحتل موقعً ا‬ ‫ممي ًزا يف الجنوب الشرقي للجزيرة العربية‪.‬‬ ‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬

‫إذ كان يف املرحلة األوىل القطر العربي األول يف االستقالل‪،‬‬ ‫ً‬ ‫مشروعا سياسيًّا وال ثقافيًّا أو حتى اقتصاديًّا‪،‬‬ ‫لم يكن يمتلك‬

‫فقط كان كل ما لديه هو الرغبة يف الحفاظ عىل ملكه الذي‬ ‫استمر طويلاً عرب التوافق بني القبائل عىل بقائه‪ ،‬لريثه ابنه‬ ‫أحمد الذي تغريت األمور عليه‪ ،‬واندلعت الثورة‪ .‬وسرعان ما‬


‫استقلت عدن وخرج اإلنجليز منها‪ ،‬فقامت دولة اشرتاكية‬ ‫بها‪ ،‬ليبدأ الفصل الثاين من التاريخ الحديث‪ ،‬حيث يتواىل‬

‫الحكام إىل أن يجيء عيل عبدالله صالح‪ ،‬ويبدأ السعي‬ ‫للدخول يف دولة يمنية موحدة‪ .‬ووضع صالح يده مع اإلخوان‬

‫والسلفيني والجهاديني للتخلص من شيوعيي الجنوب‪،‬‬ ‫لتدخل البالد يف حرب أهلية عام ‪1994‬م‪ ،‬وبسقوط دولة‬

‫الجنوب ومطاردة كل رموزها والداعني لعودتها يدوم حكم‬

‫صالح حتى قيام الثورة يف ‪2011‬م‪ ،‬ويبدأ الفصل الثالث بالحرب‬ ‫األهلية املستمرة إىل اآلن‪.‬‬

‫السياسة والهويات‬

‫جاء تقسيم الكتاب عىل ثالثة أبواب‪ :‬حمل الباب األول‬

‫عنوان‪« :‬الحركات السياسية‪ ..‬املرونة والنزاعات والهويات»‪،‬‬

‫وفيه قدمت مارين بواريه إعادة تركيب للمشهد السيايس‬

‫جاءت فكرة الكتاب في ظل متابعة‬ ‫الغرب للربيع العربي‪ ،‬وانبهاره بالحال‬ ‫السلمية للثورة اليمنية‪ ،‬ومن ثم جاء‬ ‫التفكير في تقديم جملة من المعارف‬ ‫المهمة للقارئ األوربي عن اليمن‬ ‫مثلهم‪ .‬وما إن قامت الثورة حتى شارك الحوثيون فيها بقوة‪،‬‬

‫ودعموا سيطرتهم عىل صعدة واملحافظات املجاورة‪ ،‬ووقعت‬ ‫معارك بينهم وبني سلفيي مركز دماج يف ‪2012‬م‪ ،‬ثم استؤنفت‬

‫االشتباكات عام ‪2013‬م‪ ،‬وأطلق الحوثيون عىل أنفسهم «أنصار‬ ‫الله» فيما يشبه تسمية «حزب الله» الشيعي يف لبنان‪،‬‬ ‫واضطرت السعودية إىل زحزحة الحرب بينهم بعيدً ا منها‪،‬‬

‫فوافقت عىل أن ينتقل سلفيُّو دماج إىل سعوان‪.‬‬

‫جرى هذا قبل أن ينضم عبدالله صالح بقواته ومناصريه‬

‫اليمني بتشابكاته وتعقيداته‪ ،‬بينما رصد خالد الخالد كيفية‬ ‫تعامل اإلعالم الغربي مع اليمن‪ ،‬موضحً ا أن ثمة تضليلاً‬

‫إىل الحوثيني ليسيطروا عىل املشهد اليمني‪ ،‬فف ّر الرئيس‬

‫للقوى الكربى يف املنطقة‪ ،‬ومن ثم فما يقدم عن اليمن غري ما‬

‫مواجهته للحوثيني‪ .‬يف ختام هذا الباب قدمت لوران بونفوا‬

‫تمارسه وسائل اإلعالم املرتبطة باملصالح الخاصة والضيقة‬

‫يجري عىل أرض الواقع‪ .‬أما لوران بونفوا فقد تناولت عالقة‬

‫الجوار مع السعودية‪.‬‬

‫يقدم الكتاب تشريحً ا مهمًّ ا لعناصر القوى يف املشهد‬

‫السيايس اليمني‪ ،‬وتتبع الباحثون بدقة نشأة كل فصيل أو‬ ‫تيار وتطوره ووصوله إىل ما هو عليه اآلن بعد الثورة‪ ،‬وكان‬

‫أنصار عبدامللك الحويث من أبرز عناصر املشهد‪ ،‬فذهب سامي‬ ‫دورليان يف دراسته عنهم إىل أن جماعة الحويث تأسست‬ ‫يف بداية السبعينيات تحت مسمى «الشباب املؤمن»‪،‬‬

‫وهدفهم كان إحياء الرتاث الديني الشيعي الزيدي املهمش‬

‫عبدربه منصور هادي إىل السعودية‪ ،‬وبدأ التحالف العربي يف‬

‫عددًا من الدراسات التحليلية التاريخية املهمة للوضع السيايس‬

‫اليمني‪ ،‬من بينها‪« :‬التاريخ املوجز للعنف الجهادي يف اليمن»‪،‬‬

‫و«األسر السبع يف الساحة اإلسالمية اليمنية»‪ ،‬و«النخب‬

‫القبلية والدولة»‪ ،‬و«التيار الديني والثورة»‪ ،‬بينما كتب منصور‬ ‫بالنال عن «صحوة الرباغيل‪ :‬تعز والثورة اليمنية»‪.‬‬ ‫فضاءات عامة‬

‫وجاء الباب الثاين تحت عنوان‪« :‬الرهانات االجتماعية‬

‫ُصد‬ ‫واالقتصادية والجغرافية‪ :‬صعوبات وتسويات»‪ ،‬وفيه ر ِ‬ ‫مأزق االقتصاد اليمني الذي تزايدت به البطالة الريفية‪،‬‬

‫منذ اندالع ثورة ‪1962‬م التي أطاحت بحكم اإلمامة الزيدية‪،‬‬ ‫ويف عام ‪1990‬م أُ ِّسس حزب «الحق» الذي هدف إىل التوفيق‬

‫ُصدت‬ ‫وتقلصت األرض الزراعية‪ ،‬ونضبت فرص الهجرة‪ ،‬كما ر ِ‬

‫الحق‪ ،‬لكنهم بعد سبع سنوات انفصلوا عنه‪ ،‬وحدثت عدة‬

‫اليمنية‪ .‬أما الباب الثالث فقد جاء تحت عنوان‪« :‬الفضاءات‬

‫بني الفكر الزيدي والفكر الجمهوري‪ ،‬فانضم إليه الشباب‬ ‫انشقاقات كان آخرها انشقاق حسني الحويث الذي كان نائبًا‬

‫لرئيس حزب الحق‪ ،‬لكنه انفصل عنه بعد أحداث ‪ 11‬سبتمرب‪،‬‬

‫وسعى إلصالح التعليم الفقهي الزيدي بحيث يصبح أكرث‬ ‫فاعلية يف النضال ضد السياسة األمريكية الخارجية‪ ،‬وردد‬ ‫مع الشباب املؤمن شعار «الله أكرب‪ ،‬املوت ألمريكا‪ ،‬املوت‬

‫إلسرائيل‪ ،‬اللعنة عىل اليهود‪ ،‬النصر لإلسالم»‪ ،‬وهو ما‬

‫أزعج األمريكان ومن ثم عبدالله صالح‪ ،‬فحدثت االشتباكات‬

‫بينهم عام ‪2004‬م يف صعدة‪ .‬وسرعان ما حول صالح الحرب‬ ‫إىل شأن طائفي ليجعل السلفيني ورجال القاعدة والشوافع‬

‫السنة يف معيته ملحاربة الحوثيني‪ ،‬رغم أنه من أصول زيدية‬

‫أزمة املاء التي يعانيها اليمن‪ ،‬والرهانات املعاصرة للهجرة‬ ‫العامة والثقافة الرتاثية‪ :‬القيود واإلبداع»‪ .‬واشتمل عىل‬ ‫عشر دراسات من بينها ما كتبه الشاعر والروايئ عيل املقري‬

‫عن العالقة بني السلطة واملوت‪ ،‬وما رصده الكاتب والشاعر‬ ‫نبيل سبيع عن الثورة يف بلد يعاين الفرقة واالنقسامات‪ ،‬وما‬ ‫أكد عليه بنيامني فياكيك؛ إذ جرى استخدام وسائل إعالمية‬ ‫جديدة مع اندالع الثورة كاملدونات والفيس بوك وغريهما‪.‬‬

‫ليكون هذا الكتاب هو األبرز يف تغطية الواقع السيايس‬

‫واالقتصادي والثقايف اليمني؛ إذ قام باحثوه بتحليل كل‬

‫عنصر من العناصر األساسية يف املشهد اليمني‪ ،‬وتتبعها حتى‬ ‫لحظة اإلعداد للطبعة العربية‪.‬‬

‫‪131‬‬


‫كتب‬

‫المسلمون في الحياة اليومية‬ ‫الجدل حول اإلسالم في أوربا‬ ‫عبدالرحيم الرحوتي‬

‫‪132‬‬

‫كاتب مغربي‬

‫وجهت عالمة االجتماع الفرنسية من أصل‬ ‫تركي نيلوفر غول اهتمامها‪ ،‬في الكتاب الذي‬ ‫ً‬ ‫حديثا وعنوانه «المسلمون في الحياة‬ ‫أصدرته‬ ‫اليومية‪ :‬بحث ميداني أوربي عن الجدل حول‬ ‫اإلسالم» ( صادر عن ‪ )La Découverte‬لرصد‬ ‫المعيش اليومي للمسلمين في مختلف البلدان‬ ‫األوربية من زاوية الجداالت التي يثيرها اإلسالم‬ ‫بين الحين واآلخر‪ .‬باستثناء الفصل األول الذي‬ ‫تناولت فيه المؤلفة األدبيات السوسيولوجية‬ ‫المرتبطة بالعداء لإلسالم في أوربا‪ ،‬فإن بقية‬ ‫فصول الكتاب خصصت بالكامل لعرض نتائج‬ ‫بحث ميداني دارت أطواره في بلدان أوربية‬ ‫مختلفة‪ ،‬بهدف قياس حجم ردود األفعال عن‬ ‫الجداالت القائمة حول اإلسالم‪ :‬الصالة في‬ ‫الشارع العام‪ ،‬وصوامع المساجد‪ ،‬والرسوم‬ ‫الساخرة من شخصية الرسولﷺ‪ ،‬ومسألة‬ ‫الحجاب‪ ،‬والتمسك بتعاليم الشريعة اإلسالمية‪.‬‬ ‫تقوم املنهجية املتبعة يف البحث عىل توجيه أسئلة‬

‫فصول الكتاب التي خصص كل واحد منها ملعالجة أحد‬

‫للمسلمني ولغري املسلمني يف أماكن كانت مسرحً ا ملواجهات‬ ‫مرتبطة بحضور اإلسالم يف أوربا‪ .‬بدلاً من إعادة إنتاج الخطاب‬

‫سمحت بإبراز أهمية هذه املنهجية ومالءمتها ملوضوعها‬

‫اهتمامها إلبراز صورة املسلمني يف معيشهم اليومي كما‬

‫تأيت بها النظرة السوسيولوجية‪ .‬بعد تناول معنى ظاهرة‬

‫السيايس واإلعالمي الرائج‪ ،‬فضلت نيلوفر غول توجيه‬ ‫يرسمونها هم أنفسهم عرب آرائهم ومواقفهم‪ ،‬وفتح املجال‬ ‫لسماع أصوات أناس ليس لهم اهتمام باإلسالم لكنهم يرون‬

‫أنفسهم معنيني بالجدل القائم حوله‪ ،‬ويرغبون يف التعبري عن‬ ‫رأيهم فيه‪ ،‬وكذلك تمكني أولئك الذين يشعرون بأن أصواتهم‬

‫غري مسموعة من اإلفصاح عما لديهم من آراء وأفكار‪.‬‬ ‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬

‫أنواع الجدل التي عرفتها الفضاءات العمومية األوربية‪،‬‬ ‫بتوفريها املجال للرتكيز عىل التعرية الضرورية للواقع التي‬ ‫دينية مرتبطة باإلسالم‪ ،‬تعمد نيلوفر غول إىل وصف الحدث‬

‫العمومي الذي قاد إىل جدل محيل أو وطني مهم‪ ،‬ثم تقوم‬ ‫بحصر التصورات الخاصة والعامة التي وردت عند املستجوبني‪.‬‬ ‫إذا اتخذنا صالة الجماعة التي تتناولها الكاتبة يف الفصل الثالث‬ ‫مثالاً عىل ذلك‪ ،‬يمكن القول بأن الصالة يف اإلسالم تمارس يف‬


‫أي مكان‪ ،‬عىل انفراد أو جماعة‪ ،‬باستثناء صالة الجمعة التي‬

‫يشكلون جماعة تشتغل وفق منهجية معينة‪ ،‬وال هم ملتفون‬

‫للصالة هي التي تركز عليها وسائل اإلعالم األوربية‪ ،‬وتستغلها‬

‫والشرسة التي تروج لها بعض األطراف‪.‬‬

‫يشرتط فيها أن تقام بشكل جماعي‪ .‬هذه الصورة الجماعية‬ ‫أحزاب اليمني املتطرف كدليل عىل تعارض اإلسالم مع‬

‫القيم الغربية القائمة عىل الفردانية‪ .‬إذا كانت صورة الصالة‬ ‫الجماعية هذه‪ ،‬قد شكلت أكرث من مرة موضوع مشادات يف‬ ‫أملانيا ويف فرنسا خالل العشرية األوىل من األلفية‪ ،‬فقد أثارت‬ ‫جدلاً واسعً ا كذلك يف إيطاليا‪ ،‬سنة ‪2009‬م‪ .‬عند انتهاء أطوار‬

‫عىل رأي واحد‪ ،‬وال تنطبق عليهم صورة الجماعة العدوانية‬ ‫لحظت املؤلفة خالل الجلسات أن بعض املشاركني يلتزمون‬

‫الصمت يف أثناء النقاش‪ ،‬وهو ما يفتح املجال واسعً ا أمام‬

‫أعضاء رابطة الشمال للرتويج لخطابهم القائم عىل كراهية‬

‫اإلسالم واملسلمني‪ ،‬وهي الصورة التي تهيمن بصفة عامة عىل‬

‫امليدان اإلعالمي‪ .‬أخريًا‪ ،‬يتسم خطاب املنتمني لرابطة الشمال‬

‫مظاهرة لدعم الفلسطينيني يف غزة بمدينة بولونيا‪ ،‬قرر بعض‬

‫بنربة تروم التهجم عىل املسلمني الحاضرين‪ ،‬كما أنهم يكرثون‬

‫العام‪ ،‬عىل مرمى حجر من كاتدرائية القديس بيرتونيو‪ .‬يف‬

‫اآلخرين‪ ،‬ويعاكسونهم بحيث يمنعونهم من التعبري عن آرائهم‬

‫املتظاهرين إقامة صالة الجماعة يف عني املكان‪ ،‬أي يف الشارع‬ ‫األيام الالحقة عرب بعض السياسيني ومواطني املدينة عن‬ ‫ً‬ ‫انتهاكا لفضاء مسيحي خالص‪،‬‬ ‫غضبهم بسبب ما عدوه‬ ‫وتعبريًا عن إرادة سياسية ألسلمة القارة األوربية‪.‬‬ ‫دينامية الفضاء العمومي‬

‫من التعليقات املجانبة للصواب‪ ،‬ويقطعون كالم املشاركني‬

‫بشكل مالئم‪ .‬ترى املؤلفة يف هذا السلوك تجسيدً ا إلسرتاتيجية‬ ‫األحزاب اليمينية املتطرفة الجديدة املتمثلة يف العمل عىل ملء‬ ‫الفضاء العمومي‪ ،‬ومنع اآلخرين من ولوجه‪ ،‬ولو أدى ذلك‬ ‫إىل التهجم واالعتداء الجسدي والقدح يف حق من يرون أنهم‬

‫أجانب‪ ،‬ويسعون ليك يظلوا كذلك‪ .‬بالتايل‪ ،‬إذا كان املسلمون‬

‫ستة أشهر بعد حصول هذه األحداث‪ ،‬قصدت نيلوفر غول‬

‫يتعرضون لهجمات متكررة مع ارتفاع يف حدتها‪ ،‬فألنهم صاروا‬

‫تعكس الحقيقة االجتماعية‪ .‬شكلت هذه املبادرة املحاولة‬

‫حامل لجنسية بلد اإلقامة‪ ،‬وألنهم باتوا يحتلون فضاءات‬

‫مدينة بولونيا ملعاينة ما إذا كانت دينامية الفضاء العمومي‬ ‫األوىل يف فضاء عمومي تجريبي‪ .‬شارك يف النقاش أحد عشر‬

‫اليوم مرئيني أكرث بالنظر لعددهم‪ ،‬باإلضافة إىل جيل جديد‬ ‫عمومية‪ ،‬ومواقع اجتماعية لها مكانتها‪ ،‬وطوروا قدراتهم‬

‫ً‬ ‫شخصا‪ :‬ثالث فتيات من الجالية املسلمة‪ ،‬ورجالن مسلمان‬ ‫ً‬ ‫حديثا‪ ،‬وثالثة ناخبني من الحزب اليميني‬ ‫اعتنقا اإلسالم‬

‫مطالبهم‪ .‬بعبارة أخرى‪ ،‬إذا كان املسلمون اليوم يتهمون بعدم‬

‫النقاشات باستخالص دروس مختلفة توزعت عىل مختلف‬

‫يف مجتمعاتهم‪.‬‬

‫املتطرف‪ ،‬رابطة الشمال‪ ،‬ثم ثالثة من سكان بولونيا‪ .‬سمحت‬

‫فصول الكتاب‪ .‬عرب املسلمون الحاضرون عن مواقف مختلفة‬ ‫عن بعضها‪ ،‬وهي إشارة واضحة إىل أن املمارسة الدينية تختلف‬

‫باختالف املعيش الفردي‪ ،‬كما كانت وجهات نظرهم متباينة‬ ‫بخصوص إقامة صالة الجماعة يف الشارع العام‪ .‬اليشء نفسه‬ ‫تكرر عندما تعلق األمر بمواجهة االعتداءات اللفظية لناخبي‬ ‫ً‬ ‫خالفا‬ ‫رابطة الشمال؛ إذ فضلوا التزام الهدوء وتاليف املواجهة‪.‬‬

‫للتصورات التي يروج لها اإلعالم‪ ،‬فإن املسلمني يف أوربا‪ ،‬ال‬

‫إذا كان المسلمون يتعرضون لهجمات‬ ‫متكررة مع ارتفاع في حدتها‪ ،‬فألنهم‬ ‫صاروا اليوم مرئيين أكثر بالنظر‬ ‫لعددهم‪ ،‬وألنهم باتوا يحتلون فضاءات‬ ‫عمومية ومواقع اجتماعية لها مكانتها‬

‫عىل استعمال الوسائل املشروعة إلسماع صوتهم والتعبري عن‬

‫قدرتهم عىل االندماج‪ ،‬فذلك ألنهم بالضبط مندمجون تمامً ا‬ ‫أخريًا‪ ،‬الجانب األكرث إثارة للجدل يف الكتاب يتمثل يف‬

‫العينات املستجوبة‪ ،‬ويف طرائق انتقائها؛ فالكتاب يهدف إىل رصد‬ ‫التصورات االجتماعية للمسلمني حول ديانتهم‪ ،‬والرابط الذي‬

‫يربطهم بالحياة يف املجتمعات األوربية‪ ،‬وهي تصورات اختارت‬ ‫الجداالت العامة مدخلاً لتناولها‪ .‬بالتايل‪ ،‬فإن املنهجية املتبعة‬ ‫قامت عىل مقابالت عقدت مع عدد محدود نسبيًّا من األفراد‪.‬‬

‫جرى االتصال بهؤالء غالبًا يف أعقاب جداالت عامة‪ ،‬أو من خالل‬ ‫النسيج الجمعوي‪ .‬عندما ننظر إىل خصائصهم االجتماعية نجد‬ ‫راوح بني ‪ 19‬و‪ 45‬سنة‪ ،‬ويمارسون املهن التالية‪:‬‬ ‫أن أعمارهم ُت ِ‬ ‫صناع تقليديون ‪ -‬تجار ‪ -‬أرباب مقاوالت ‪ -‬أطر ‪ -‬مهن فكرية‬

‫عالية ‪ -‬لكن ال يوجد بينهم عمال أو مستخدمون‪ ،‬علمً ا بأن‬

‫هذه الشرائح تشكل نسبة كبرية من الساكنة النشيطة‪ .‬املسلمون‬ ‫املستجوبون هم مسلمون لكن ليسوا عاديني بالشكل املعلن‬

‫عنه‪ ،‬وال يمثلون مختلف شرائح الساكنة اإلسالمية األوربية‪.‬‬

‫‪133‬‬


‫كتب‬

‫صورة المثقف الموسوعي في يوميات‬

‫«خواطر الصباح»‬ ‫للمفكر عبدالله العروي‬

‫‪134‬‬

‫صدوق نور الدين‬

‫ناقد مغربي‬

‫يمكن القول‪ :‬إن رباعية يوميات «خواطر الصباح» تجسد نمذجة فعلية لما يجدر أن تكون عليه‬ ‫كتابة «اليوميات»‪ ،‬سواء من حيث التحديد الزمني الذي يمتد نحو أربعين سنة‪( :‬من‪1967 :‬م إلى‪2007 :‬م)‪،‬‬ ‫أو الصوغ المتعمد لالقتصاد اللغوي‪ ،‬إذا ما ألمحنا للتراكم المعرفي والثقافي الذي تجسده تجربة‬ ‫الدكتور عبدالله العروي‪ ،‬والجامعة بين الفكري بمعناه األوسع‪ ،‬واإلبداعي‪ .‬وهو ما يحيل على ثرائها‪،‬‬ ‫كما قيمتها حال تمثل الرأي والموقف‪ .‬إن تجربة رباعية يوميات «خواطر الصباح» تتأطر في سياق التعبير‬ ‫ً‬ ‫سابقا ضمن الرباعية الروائية‪ :‬الغربة‪ ،‬واليتيم‪ ،‬والفريق‪،‬‬ ‫عن الذات‪ .‬وبالتالي فهي االمتداد لما تشكل‬ ‫وأوراق‪ ،‬ثم النص المسرحي «رجل الذكرى»‪ ،‬إلى المذكرات المدونة عن الملك الراحل الحسن الثاني‪:‬‬ ‫مغرب الحسن الثاني‪ ،‬أو المغرب والحسن الثاني‪ .‬والواقع أن االمتداد يجلو طبيعة التداخل والتقاطع‬ ‫في الوقائع واألحداث المتضمنة‪ ،‬إلى المواقف واآلراء‪ .‬وبذلك يكون الدكتور عبدالله العروي قد انخرط‬ ‫تعبيريًّا في أكثر من شكل من أشكال الكتابة عن الذات‪ :‬السيرة الذاتية‪ ،‬واليوميات‪ ،‬والمذكرات‪.‬‬ ‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬


‫إن رباعية «خواطر الصباح» تعكس حضور ثنائية املثقف‪/‬‬

‫السيايس إذا جاز التعبري‪ ،‬علمً ا بأن هذه القاعدة تربز ً‬ ‫أيضا عىل‬

‫مستوى األعمال السابقة‪ ،‬ولنئ كان من الصعب حيال وضعية‬ ‫مؤلف كعبدالله العروي‪ ،‬التفريق بني املثقف والسيايس؛ إذ ليس‬ ‫املثقف الخبري يف حيز تخصصه الدقيق‪ ،‬وإنما املوسوعي الذي‬ ‫طبع جيلاً من املفكرين واألدباء العرب من طه حسني إىل إدوارد‬

‫سعيد‪ .‬تحق اإلشارة يف هذا التقديم‪ ،‬إىل كون مؤلف «أوراق» بما‬ ‫هو سرية إدريس الذهنية‪ ،‬مثل التجيل اإلشكايل ملختلف أجناس‬

‫الكتابة عن الذات‪ ،‬من السرية الذاتية حيث تتماهى شخصية‬ ‫إدريس وعبدالله العروي‪ ،‬إىل األوراق املحيلة عىل صيغة املذكرات‪،‬‬

‫وتقتيض من السارد وشعيب مللمتها وترتيبها وفق املعنى املتغيا‬

‫إنتاجه‪ ،‬إىل اليوميات والتعليقات عىل الكتب بالنقاش واملناظرة‪.‬‬ ‫من ثم يتفرد التأليف يف بابه‪ ،‬ويستعيص عىل التحديد والضبط‬

‫األجنايس‪ .‬إن الالفت واملثري عىل مستوى تلقي رباعية يوميات‬ ‫«خواطر الصباح»‪ ،‬كونه انحصر بشكل أساس إال فيما ندر‪ ،‬يف‬

‫املهتمني بالدرس الفلسفي‪ .‬وقد يكون لعامل املعنى املثار واملنتج‬ ‫ضمن الخواطر‪ ،‬وبالتايل ملوسوعية الدكتور عبدالله العروي بالغة‬

‫أثره‪ ،‬علمً ا بأن الدرس األدبي لم يفرد لليوميات حي ًزا عىل مستوى‬

‫عبدالله العروي‬

‫• التنوع‪ :‬ويمكن التمثيل له بحقل التعبري‪ ،‬حيث كتب‬

‫الدكتور عبدالله العروي يف أدب السرية‪ ،‬وفن الرواية‪ ،‬واملسرحية‬ ‫ً‬ ‫تأليفا وترجمة‪ ،‬واليوميات‪.‬‬ ‫• التماسك‪ :‬ويتجسد خاصة يف كون التأليف تحقق من خالل‬

‫مشروعات متكاملة ومتداخلة يف معناها ومبناها‪.‬‬

‫الدرس والنقد‪ ،‬بالنظر إىل حداثة املمارسة اإلبداعية وجدتها‪،‬‬

‫• الدقة‪ :‬ويحرص فيها عىل املنطقي والعقالين‪ ،‬واملوضوعية‬ ‫ً‬ ‫سابقا‪ ،‬اختزله الدكتور عبدالله‬ ‫العلمية‪ .‬ويمكن القول‪ :‬إن الوارد‬

‫واالستنتاجات التي انبنت عىل قراءة الجزء األول أو الثاين من‬

‫مرتبط بأحد هذه الفصول‪ :‬األيديولوجيا‪ ،‬والبحث التاريخي‪،‬‬

‫إىل قلق األسئلة املتعلقة باملمارسة من حيث إشكالية النوع أو‬ ‫الجنس‪ .‬يبقى القول يف ختام التقديم‪ :‬إن حصيلة من الخالصات‬

‫رباعية اليوميات‪ ،‬أكدت ضرورة إعادة النظر فيها ما دام منجز‬ ‫اليوميات اكتمل كمشروع بصدور الجزء الرابع املوسوم بـ«املغرب‬

‫املستحب‪ ،‬أو مغرب األماين»‪ ،‬واملؤطر زمنيًّا بني (‪2007/1999‬م)‪.‬‬ ‫املثقف الجامع‬

‫العروي يف قوله‪« :‬يمكن تجزئة أعمايل إىل أربعة محاور‪ ،‬كل محور‬

‫والتأصيل‪ ،‬والتعبري»‪( .‬مجلة النهضة‪ .‬م م)‪.‬‬ ‫تداخل األحداث وتقاطعها‬

‫إن مالمسة صورة املثقف املوسوعي يف اليوميات‪ ،‬ال تقتيض‬

‫تقصيها ضمن الرباعية بصفة عامة‪ ،‬وإنما االكتفاء بالجزء الواحد‬

‫إن ما يتحقق استجالؤه من املعاين املعرب عنها يف يوميات‬

‫ما دام التدوين اليوميايت يتحقق وفق اإليقاع ذاته‪ ،‬وإن تغري الزمن‬

‫املتعدد الذي يصعب حصره يف مجال تخصيص بذاته؛ فالتفكري‬

‫السيايس العاملي‪ ،‬العربي والوطني‪ .‬والواقع أن سعة االهتمام‬

‫«خواطر الصباح»‪ ،‬صورة املثقف املوسوعي‪ .‬والقصد‪ ،‬املثقف الجامع‬ ‫ممارسة دالة عن وعي ينزع رباط الحقول واملجاالت‪ ،‬بغاية تشكيل‬ ‫تصور ضمن بنية متكاملة تحيل عىل الكيل وليس الجزيئ‪ ،‬إذا ما‬

‫أملحنا لكون الصورة متوارثة عن مرحلة جسدها بقوة الرتاث الكوين‬ ‫واإلنساين‪ ،‬إىل طبيعة الخصوصية التي تسم املجتمعات الثالثية‪،‬‬

‫وتحتم إذا يف حال رغبنا يف إعمال التفكري يف ظاهرة التخلف‪ ،‬شمولية‬ ‫اإلحاطة بما بالسيايس‪ ،‬واالقتصادي‪ ،‬واالجتماعي‪ ،‬والثقايف‪.‬‬

‫ومسار األحداث‪ .‬ونجد بداية صورة املثقف املهتم املتابع للشأن‬

‫وليدة التأثريات التي ترتتب عىل تداخل األحداث وتقاطعها‪ .‬ويمكن‬ ‫القول إضافة ملا سبق‪ :‬إن هذه الصورة تجسد مستويات نذكر‬

‫منها‪ :‬املتابع املحايد‪ ،‬واملحلل‪ ،‬واملعلق باختصار واقتضاب‪ ...‬ونجد‬

‫صورة األديب املبدع‪ .‬وتتمظهر يف إيالء الفن مجسدً ا يف املوسيقا‪،‬‬ ‫ثم العمارة والتشكيل‪ ،‬واملسرح والرواية‪ ،‬مكانة ضمن االهتمامات‬

‫التي تعكس مظاهر الثقافة وتجلياتها بصفة عامة‪ .‬إذ إن ما يكسب‬

‫إن موسوعية عبدالله العروي املثقف واملؤلف‪ ،‬تتمثل تجلياتها‬

‫املثقف قوة حضوره‪ ،‬وسعة اهتمامه‪.‬‬

‫• التعدد‪ :‬ويطول أشكال الخطاب وتمظهراته الجامعة بني‬

‫يتداخل فيها املفكر باملؤرخ‪ ،‬إذ تربز دقة املعاينة وعمق التفكري‪،‬‬

‫يف اآليت‪:‬‬

‫املوضوع واملوصوف‪.‬‬

‫بيد أن الالفت ‪-‬من خالل تعداد النماذج‪ -‬الصورة التي‬

‫إىل سعة اإلملام بالتاريخ يف امتداداته وتحوالته‪ .‬والواقع أن‬

‫‪135‬‬


‫كتب‬ ‫التداخل يطرح عىل املتلقي استعصاء يتمثل يف صعوبة التمييز‬

‫ومن ثم فهذه الرباعية التي تقول الذات‪ ،‬والذاكرة والتاريخ‪،‬‬

‫والديني‪ ،‬واالجتماعي‪ ،‬بحكم أن طبيعة صوغ بعض اليوميات‬

‫عامة‪ ،‬وهي القيمة التي تستدعي تجديد قراءتها والتفاعل مع‬

‫بني ما يمكن أن يعد فكريًّا فلسفيًّا‪ ،‬وما يحسب عىل التاريخي‪،‬‬

‫تفرض مقاربتها من جوانب متعددة تتداخل وتتقاطع بعيدً ا‬ ‫من التصنيف‪ ،‬وهو ما يعود إىل شخصية املدون‪ ،‬وما تتفرد به‬

‫من عمق فكري جامع‪ ،‬أو ما أشرنا إليه بـاملوسوعية‪ .‬ومن صور‬ ‫العروي صورة الراصد االجتماعي‪ .‬وهي صورة تطالعنا حال توقف‬

‫العروي أمام مشهد اجتماعي بهدف قراءته واستنطاق داللته‬

‫مضامينها‪.‬‬

‫تجربة يف الكتابة‬

‫تبقى «خواطر الصباح» من خالل التحليل املعتمد‪ ،‬تجربة‬

‫يف الكتابة كما التعبري‪ ،‬من داخل جنس أدبي لم تتحقق عربيًّا‬

‫الرمزية؛ إذ الغاية حينها معرفة التحوالت التي تسم املجتمع‬ ‫املغربي‪ ،‬وتعد مؤشرات عىل ما يمكن أن يصار إليه مستقبلاً ‪.‬‬

‫الكتابة اإلبداعية‪ :‬القصة‪ ،‬والرواية‪ ،‬واملسرحية‪ ،‬علمً ا بأن‬

‫االجتماعي‪ ،‬تقدم مادة خصبة لعلماء االجتماع‪.‬‬

‫إبداعي‪ ،‬من دون أن تفسح بالغة هذه التأثريات لتجذير فن‬

‫وتأسيسا من دقة الرصد‬ ‫والواقع أن يوميات «خواطر الصباح»‪،‬‬ ‫ً‬

‫صورة مفقودة‬

‫املمارسة اإلبداعية فيه‪ ،‬لسيادة أجناس نرثية أسست تقاليد‬

‫التأثريات األدبية الغربية فرضت سلطتها عىل أكرث من محفل‬ ‫كتابة اليوميات‪ .‬والواقع أن الدكتور عبدالله العروي الكاتب‬ ‫املبدع وليس املفكر‪ ،‬اختط عرب مساره اإلبداعي الكتابة يف‬

‫إن ما يمكن استخالصه من مقاربة صورة عبدالله العروي‬

‫أجناس أدبية متعددة‪ :‬املسرحية‪ ،‬والقصة‪ ،‬والسرية الذاتية‪،‬‬

‫أن النموذج املعرب عنه لم يعد يمتلك حضوره يف الراهن‪،‬‬

‫إنتاج وعي إبداعي غايته األساس كتابة الذاكرة وأسئلة الذات‬

‫من التحديدات والتسميات‪ .‬ومن ثم فالقيمة األساس لهذه‬

‫اإلبداعي‪ ،‬رواية كربى صيغت وفق تنويعات تحيل ‪ -‬عىل رغم‬

‫تأسيسا من رباعية «خواطر الصباح»‬ ‫املثقف والكاتب املوسوعي‬ ‫ً‬

‫بحكم سيادة ما يدعى بالتخصص والخربة‪ ،‬وما إىل ذلك‬

‫‪136‬‬

‫وثيقة جامعة شاملة عن مرحلة دالة يف الحياة العربية بصفة‬

‫الخواطر‪ ،‬تتأسس من هذا النزوع والتوجه الدال عىل صنف‬

‫من املثقفني الفاعلني‪ ،‬ليس يف الحياة العربية وحسب‪ ،‬وإنما‬

‫العاملية‪ .‬ونمثل باإلضافة لعبدالله العروي بهشام جعيط‪،‬‬ ‫ومحمد أركون‪ ،‬وإدوارد سعيد‪ ،‬إىل املثقفني األفارقة الذين‬ ‫يوسعون حقل الدراسات الثقافية أو النقد الثقايف مثل نغوجي‬ ‫واتينغو‪ .‬والواقع أن هذه الصورة اليوم‪ ،‬ويف سياق التحوالت‬

‫السياسية واالجتماعية والثقافية العاصفة‪ ،‬هي املطلوبة‬

‫واملفقودة ملواجهة التخلف الجديد واملضاعف الذي يزحف عىل‬ ‫تأسيسا من بعض الخطابات الغربية‬ ‫العالم كله‪ ،‬واملوجه‬ ‫ً‬

‫املراهنة عىل الكسب االقتصادي‪.‬‬

‫ما تتفرد به يوميات «خواطر الصباح»‪:‬‬ ‫تعدد المعاني والحقول؛ ذلك أن‬ ‫التدوين اليومياتي لم يحصر في‬ ‫الحقل األدبي أو الفكري مثلما‬

‫والرواية‪ ،‬واليوميات‪ ،‬واملذكرات‪ ،‬عىل أن ما انتظم التعدد‪،‬‬

‫القلقة واملقلقة‪ .‬ومن ثم فالدكتور عبدالله العروي يعد منجزه‬ ‫التعدد والتداخل ‪ -‬عىل الواحد‪.‬‬

‫بيد أن ما تتفرد به يوميات «خواطر الصباح» هو‪ :‬اً‬ ‫أول‪ ،‬تعدد‬

‫املعاين والحقول؛ ذلك أن التدوين اليوميايت لم يحصر يف الحقل‬ ‫األدبي أو الفكري مثلما املألوف يف كتابة اليوميات‪ ،‬وإنما شمل‬

‫السيايس‪ ،‬بغاية تبيان توسع دوائر اهتمام املثقف‪ ،‬إىل الحقول التي‬ ‫يخوض الكتابة والتفكري فيها‪ .‬ثانيًا‪ ،‬التماسك‪ :‬ويحيل عليه الرهان‬ ‫عىل مكون الزمن‪ ،‬وبخاصة أن «خواطر الصباح»‪ :‬أ‪ -‬متابعة ورصد‬

‫ملا يمثل صورة عن أربعني سنة من تاريخ الحياة العربية والعاملية‪.‬‬

‫ب‪ -‬تخصيص كل مرحلة بتحديد زمني دقيق‪ ،‬علمً ا بأن نواة هذه‬ ‫اليوميات تشكلت كما ورد يف التقديم‪ ،‬يف مرحلة مبكرة‪ ،‬وفق ما‬

‫دلت عليه الروايتان‪ :‬اليتيم وأوراق‪ .‬ت‪ -‬الجرأة واملوضوعية‪ :‬وتربز‬ ‫يف سياق سرد بعض األحداث الفكرية والوقائع السياسية‪ ،‬حيث‬ ‫ال يكتفى بالتدوين‪ ،‬وإنما التعليق والنقد الرصني‪ً .‬‬ ‫ثالثا‪ ،‬كتابة‬

‫تاريخ الذات‪ :‬وهنا تجدر اإلشارة إىل كون رباعية يوميات «خواطر‬ ‫الصباح»‪ ،‬تشكل التوازي‪ ،‬واالستكمال‪ ،‬واالستمرار‪ ،‬ملا ُع رِّب عنه‬

‫ضمن الرباعية الروائية‪ :‬الغربة‪ ،‬والفريق‪ ،‬واليتيم‪ ،‬وأوراق‪،‬‬

‫المألوف في كتابة اليوميات‪ ،‬وإنما‬

‫خاصة فيما يتعلق ويرتبط باملسائل الذاتية والشخصية‪ .‬ويمكن‬

‫دوائر اهتمام المثقف‪ ،‬إلى الحقول‬

‫الحديث‪ ،‬تتباين عما أبدعه كل من‪ :‬محمد شكري‪ ،‬ومحمد خري‬

‫شمل السياسي‪ ،‬بغية تبيان توسع‬ ‫التي يخوض الكتابة والتفكير فيها‬

‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬

‫القول يف الختام‪ :‬إن هذه اليوميات عىل مستوى األدب املغربي‬

‫الدين‪ ،‬وعبداللطيف اللعبي‪ ،‬بحكم توسع املدة الزمنية‪ ،‬إىل تعدد‬ ‫الحقول وموسوعية عبدالله العروي الكاتب واملثقف‪.‬‬


137


‫مقال‬

‫ياسمينة خضرا‬ ‫روائي جزائري‬ ‫ترجمة‪ :‬محمد أحمد عثمان ‪ -‬روائي ومترجم يمني‬

‫لماذا أكتب؟‬ ‫أردت باستمرار أن أفهم زمني‪ ،‬معجزاته وخيباته‪،‬‬

‫عبقريته وسخفه‪ .‬القسط األعظم من رواياتي يستدعي‬ ‫ً‬ ‫أحداثا‪ ،‬ي َُسائل‪ ،‬يستجوب عالمنا‪ .‬ما الذي يمنح جيلاً ما‬

‫عبر عن سخطه من قبل بقوله‪« :‬إن امتالك الموهبة وحده ال‬

‫عظمته أو عرضيته‪ ،‬مسؤوليته أو تراخيه‪ ،‬التزامه أو تنصله‪.‬‬

‫يكفي‪ ،‬ينبغي أن يكون لديك اإلذن بالكتابة‪ ،‬أليس ذاك هو األمر‬

‫لنفسي االرتقاء بالجماهير نحو األفضل‪ .‬إنني أحاول فقط‬

‫استمر في الكتابة ألنه كان ح ًّرا‪ .‬والحال كذلك‪ ،‬لنكتب من دون‬

‫من هنا‪ ،‬ينبع سفري عبر الثقافات والذهنيات‪ .‬أنا ال أدّعي‬ ‫أن ألقي الضوء على ما يفلت منهم ويثير نفور اآلخرين‪.‬‬

‫‪138‬‬

‫ضمن حرية التعبير‪ ...‬ولكي يستطيع العقل أن يسمع نفسه‬

‫وسط جلبة األخبار الكاذبة‪ .‬أكتب لكي أغدو ح ًّرا‪ .‬كان نيتشه قد‬

‫يهدف عملي إلى مقارعة الخلطات والصور النمطية التي‬

‫يا أصدقائي؟» لكن نيتشه كان في غنى عن أي نوع من اإلذن‪ .‬فقد‬

‫انتظار أي إذن‪.‬‬

‫لنكتب من دون انتظار أية مباركة‪ .‬وعلى الشيطان اللعنات!‬

‫تستولي على حسيري النظر وتختزل حكمنا الحر إلى مجرد‬

‫في الوقت الذي تطيع فيه العبقرية اإلرادة الحديدية لجماعات‬

‫الناس يفكرون بما فيه الكفاية؛ إذ صاروا يكتفون باالنتماء‬

‫في مكانة أدنى من الحذلقة وتبادل المنافع‪ ،‬حيث يضفي‬ ‫ذيوع الصيت شي ًئا من الموهبة على غير المضطرين لردها‪،‬‬

‫نبتة مبتذلة وإلى جراحة ترقيعية ضد التسطيحية‪ .‬لم يعد‬ ‫إلى ما يقال من دون أن يهتموا بالتأكد من صحة مصادره‪.‬‬

‫لقد صرنا مجرد صناديق رنانة‪ ،‬نوع من الورق النشاف الذي‬

‫الضغط واللوبيات حيث ينشر التبحر في المعرفة بروفيال هو‬

‫وحيث تحل اإلكليشيهات محل حضور الروح‪ ،‬وحيث يجرد‬

‫يمتص كل شائعات األرض من دون أن يتوخى أدنى حذر في‬

‫الخوف والريبة ورهاب األجانب الناس من البصيرة‪ ،‬وحيث تقود‬

‫ضوار‪ .‬وعندما تصيبنا مصيبة‪،‬‬ ‫ونتعايش مع هذياناتنا مثل‬ ‫ٍ‬

‫تورث معه الكسل المفرط‪ ،‬آنئذ يتوجب على الكاتب أن يقاوم‬

‫استخدامها‪ .‬بهذه الطريقة نضفي الوثوقية على الفواحش‬ ‫حينئذ فقط نتساءل لماذا يفر كل شيء منا‪.‬‬

‫إننا نتغذى على اإلكليشيهات وعلى األكاذيب كل يوم‬

‫ونطلب منها المزيد‪ .‬فنحن نصدر أحكامنا بال فهم وندين‬

‫بال تردد‪ .‬لقد صارت العنصرية ً‬ ‫نوعا من القنزعة التي نحب‬

‫أن نبثها على سطح الشاشات بينما يندرج رهاب األجانب‬ ‫من اآلن فصاعدًا ضمن حماس منتعش‪ ،‬فوبيا اإلسالم‬

‫تظهر بمظهر الشجاعة الثقافية‪ .‬والحال كذلك‪ ،‬إلى أين‬

‫نمضي؟ المثقفون يفكرون في صورهم أكثر مما يفكرون‬ ‫في أفكارهم‪ .‬وهم‪ ،‬من اآلن فصاعدًا‪ ،‬يعيشون في إطار‬

‫االختصارات الجهد الثقافي إلى صيغ مختزلة إلى الحد الذي‬

‫وذلك ألنه خرطوشة الوضوح األخيرة «الجرح الذي يكمن قريبًا‬

‫من الشمس» (مونتسكيو)‪ .‬رفوف المكتبات هي متاريسه‪ ،‬القراء‬ ‫سالحه‪ ،‬ورواياته محاطة بالحبر «المقدس» وبالضوء‪ .‬إذا كان‬ ‫ً‬ ‫صادقا فإنه سيعرف كيف يمنح بعض الثقة لمغتابيه‪،‬‬ ‫الكاتب‬

‫ولجرعته السحرية‪ ،‬ولإلقصاء الذي يصيبه بالزهد‪ ،‬ولأللوان التي‬

‫يشكل له الناس منها أقواس قزح زاهية‪ .‬سيقول له كوكتو‪« :‬ما‬ ‫ّ‬ ‫سنؤنبك عليه‪ ،‬شذبه‪ ...‬األمر عائد إليك»‪ ،‬وسيبوح له غوغول‪:‬‬

‫«المجد ال يصيب بالرعدة إال األرواح الجديرة به» وعندما‪ ،‬تحت‬ ‫ً‬ ‫أحيانا‪ ،‬يتخلى الكاتب عن الشكوك والمخاوف‪،‬‬ ‫ثقل االنسحاق‬

‫نرجسية مغتبطة بنفسها‪ ،‬وفي هدير مدوخ‪ .‬الضمائر النقية‬

‫ً‬ ‫شجاعا في عالم‬ ‫فإنه سيستيقظ مرفوع الرأس من فرحة كونه‬

‫استبعادها‪ .‬في هكذا حال تصير الرواية هي المالذ األخير‬

‫ليس هنالك من فرح حقيقي سوى تلك األفراح التي تخلصنا من‬

‫والنادرة التي تحاول أن تأتي بردة فعل على كل ذلك يتم‬

‫المشتبه بالمطالبة بالصدى‪ .‬إنني أكتب لكي تندرج الرواية‬ ‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬

‫مستسلم للدوائر المغلقة ولحجرات الحراسة المظلمة‪ .‬بما أنه‬ ‫التحشيد بحيث تبقى حريتنا غالية «غالوة» الحب‪.‬‬


‫من أكون؟‬

‫اسمي هو محمد مولسهول‪ ،‬جزائري‪ ،‬وبعمر الثانية والستين‬ ‫ْ‬ ‫رجمت أعمالي داخل خمسين بلدًا إلى ‪ 43‬لغة‪ .‬لقد‬ ‫عامًا‪ ،‬روائي‪ُ ،‬ت‬

‫مارست تأثي ًرا على ماليين القراء في العالم (‪ 5‬ماليين في فرنسا‬

‫وحدها) مع ذلك فقد بقيت غير معروف داخل معظم البلدان‬ ‫العربية باستثناء المغرب حيث أُقرأ بكثرة هناك‪.‬‬

‫اليوم أقدم نفسي للقارئ السعودي والعربي‪ .‬لم أذهب إلى‬

‫المملكة العربية السعودية إال مرة واحدة‪ ،‬في ديسمبر من عام‬ ‫‪2013‬م‪ ،‬ألداء العمرة برفقة زوجتي‪ .‬ولقد استفدت من مروري‬

‫إلى أين نمضي؟ المثقفون يفكرون في‬ ‫صورهم أكثر مما يفكرون في أفكارهم‪.‬‬ ‫فصاعدا‪ ،‬يعيشون في إطار‬ ‫وهم‪ ،‬من اآلن‬ ‫ً‬ ‫نرجسية مغتبطة بنفسها‪ ،‬وفي هدير مدوخ‬

‫التي بدت لي أكثر علوًّا من الجبال‪ .‬كان يتملكني االنطباع بأنني‬

‫على جدة لمقابلة فنانين ومثقفين سعوديين‪ .‬وإنني ألحتفظ من‬

‫أتضاءل في وسط لونها الكابي ومخاطرها‪ .‬كانت مطالعاتي تهدف‪،‬‬

‫الجزائرية‪ ،‬في صبيحة العاشر من يناير ‪1955‬م‪ .‬وأنحدر من ساللة‬

‫المجهضة‪ .‬فقد كان كل كتاب يغدو لي بمثابة بساطي السحري‬

‫لدى القبائل خالل ستة قرون‪ :‬المولسهوليون الذين خدموا في‬

‫الطيبة‪ ،‬وحيث تكون الزهور في أوج تفتحها والشخصيات جذابة‪.‬‬

‫ُ‬ ‫ولدت في الصحراء‬ ‫لحظات المشاركة تلك بذكريات ال تنسى‪.‬‬

‫من الشعراء والفقهاء الذين عملوا على تشكيل الوعي والحكمة‬

‫الزاوية التي تحمل اسمهم‪ .‬في ذلك الوقت‪ ،‬كانت السورا (البلدة‬

‫التي وُلدت فيها) نقطة التقاء ال مف ّر منها للباحثين عن المعرفة‬

‫واإليمان‪ ،‬وكان أكثرهم شهرة األبيض سيد الشيخ (الجد األكبر‬ ‫ألوالد سيد الشيخ) الذي عاش في القرن التاسع عشر‪ .‬وكان‬ ‫أحمد مولسهول‪ ،‬وهو عالم متجول‪ ،‬قد َع َّلم في فاس وفي‬

‫ال شك في ذلك‪ ،‬إلى أن أطرح عني وضعية العصفور ذي األجنحة‬ ‫الطائر‪ .‬الذي يقودني إلى هناك‪ ،‬إلى حيث يضوع العالم روائحه‬

‫إذ كان يعيد موضعة أحالمي المصادرة‪.‬‬ ‫شاعر كالمتنبي‬

‫أكتب بالفرنسية ألنني أحب هذه اللغة‪ .‬عندما أكتب‬

‫بالفرنسية ال أواجه أية تعقيدات‪ .‬بخالف ذلك‪ ،‬عندما أقترف‬

‫تافياللت وفي تلمسان قبل أن يوافيه األجل على طرقات التيه في‬

‫قصائد بالعربية؛ إذ يذهب بالي إلى مفدي زكريا وإلى أبي القاسم‬

‫التل حيث فارقته روحه‪ .‬في صغري‪ ،‬كنت أحس بأن دماء لها‬

‫بعيد عن موهبتهم‪ .‬بالنسبة لي ليس ثمة أدب أطفال وال أدب‬ ‫أبيض‪ ،‬يوجد فقط ُك َّتاب‪ .‬بعضهم يكون استثنائيًّا وبعض آخر‬

‫إقليم سبدو في الغرب الجزائري‪ .‬وال يزال ضريحه ينتصب على‬

‫مذاق الحبر تجري في عروقي‪ .‬وكانت الموسقة المقفاة تقذفني‬ ‫ً‬ ‫مفتونا بالمطلق‪ .‬لم أكن أعرف‬ ‫بمنجنيق آالف النشوات‪ .‬لقد كنت‬

‫بعد أن أربط سيور حذائي عندما كنت أرتجل ما يشبه األغاني أمام‬

‫الشابي وإلى الشعراء العباسيين‪ ،‬وإذ أفعل ذلك أكتشف أنني‬

‫أقل استثنائية‪ .‬بيد أنهم جميعً ا يصدرون جميعً ا عن السخاء‬

‫وكرم الذات‪ .‬اختيار النوع لدي يتجاوب مع مهارات شخصياتي‪.‬‬

‫إخوتي‪ ،‬كلمات ال ذيل لها وال رأس لكن التي كان لها رنين اعتذاري‬

‫بعضهم يريدون أن يعبروا عن ذواتهم من خالل الروايات‬

‫مجموعتي القصصية األولى «الحرية» عن منشورات (إينال الجير)‬

‫العربية ‪ -‬البربرية من ناحية‪ ،‬والثقافة الغربية من ناحية أخرى‪،‬‬

‫كرنين األجراس‪ .‬كنت ألتهم كل كتب األطفال التي أصادفها‪.‬‬ ‫كتبت قصتي األولى في سن الحادية عشرة‪ .‬وصدرت‬

‫وأنا في سن السابعة عشرة‪ .‬لقد كنت صبيًّا متوحّ دًا حباه الله‬ ‫قلبًا منشدًا كما لو كنت أعرف ً‬ ‫سلفا‪ ،‬في ذلك العمر العذري‪ ،‬أن‬ ‫الحياة التي تنتظرني ال تملك لي شي ًئا من العطالة‪ .‬في التاسعة‬

‫من عمري‪ ،‬عهد بي أبي‪ ،‬وهو ضابط في جيش التحرير الوطني‬

‫إلى مدرسة عسكرية‪ ،‬هي مدرسة أشبال الثورة (صممت الستقبال‬

‫أيتام الحرب الجزائرية) كي يجعل مني قائدًا عسكريًّا‪ .‬وكانت هذه‬

‫البوليسية وبعض آخر من خالل الحكم الرومانسية‪ ،‬وهناك من‬ ‫يريد أن يعبّر من خالل الكتابة الكالسيكية‪ .‬بوصفي اب ًنا لثقافتين‪:‬‬

‫أسمح لنفسي بأن أقترح على قرائي أسلوبي في رؤية سوء الفهم‬ ‫الكبير لقرننا‪ ،‬وهو ما قمت به في كل من «الصدمة» و«حوريات‬

‫بغداد» و«سنونوات كابول» و«المعادلة اإلفريقية»‪ .‬ليس لدي أي‬

‫ع ّراب في األدب لكن لدي الكثير من األوثان‪ .‬إنني شديد اإلعجاب‬ ‫ُ‬ ‫بالك َّتاب‪ .‬إنهم شعبي السماوي‪ .‬كل الكتاب الجيدين واألقل جودة‬ ‫جردوني من األلياف الحساسة‪ .‬أحب ُ‬ ‫الك ّتاب الروس من غوركي‬

‫إلى أوستروسكي‪ُ ،‬‬ ‫والكتاب األوربيين‪ ،‬واألميركيين‪ ،‬واآلسيويين‪،‬‬

‫المدرسة تقف على النقيض من طبيعتي‪ .‬فقد كانت مدرسة متزمتة‬ ‫ً‬ ‫أحيانا‪ ،‬ظالمة بنظامها السجني تقريبًا ولقد صاغتني‪،‬‬ ‫ومرعبة‬

‫والمؤلفين العرب من الرائع طه حسين إلى النهر الذي ال ينضب‬

‫ستسمح لي أن أحدد‪ ،‬فيما بعد‪ ،‬على نحو أوضح العنصر اإلنساني‬

‫سفراوي والقائمة ال تنتهي‪ .‬جنسية الكاتب ال تهمني؛ إذ إنني‬

‫الطلبة (المشوار‪ ،‬تلمسان) عبارة عن حصن قروسطي بحيطانها‬

‫له داخل قلبي وداخل روحي‪.‬‬

‫بواسطة نظامها الصارم‪ ،‬داخل القسوة وطول البال‪ .‬وهي التي‬

‫الذي سيشكل لي عظيم الفائدة‪ ،‬في صيرورتي كاتبًا‪ .‬كانت مدرسة‬

‫نجيب محفوظ مرورًا بالجزائري مالك حداد والمغربي أحمد‬

‫عندما أقرأ فإنني أحلم وأعيد بناء نفسي‪ .‬كل السخاء يجد صدى‬

‫‪139‬‬


‫فضاءات‬

‫ذئب ليس له سوى عواء الموت ‪..‬‬ ‫مقاربات لسيرة الشاعر محمد حسين هيثم‬ ‫محمد عبدالوهاب الشيباني‬

‫‪140‬‬

‫شاعر وكاتب يمني‬

‫أعوام عشرة انقضت على رحيل واحد من أبرز أسماء الشعرية اليمنية الحديثة‪ ،‬ومن‬ ‫ً‬ ‫وعمقا‪ .‬فصاحب «اكتماالت سين» و«الحصان» و«مائدة مثقلة بالنسيان» و«رجل‬ ‫أكثرها تأثيرًا‬ ‫ذو قبعة ووحيد» و«رجل كثير» و«استدراكات الحفلة» و«على بعد ذئب» لم يزل حضوره‬ ‫الشعري باهيًا‪ ،‬وتأثيره واضحً ا على التجارب الشعرية الشابة‪ ،‬التي انحازت لصوت الحداثة؛‬ ‫ألن هذه التجربة بثرائها وخصوصيتها األسلوبية والجمالية أغرت‪ ،‬ولم تزل‪ ،‬الكثيرين لالقتراب‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وفحصا وتأثرًا؛ ألنها لم تتخشب لغة‪ ،‬أو تشيخ أسلو ًبا‪ ،‬بل ظلت تتجدد‪ ،‬وكان‬ ‫قراءة‬ ‫منها‬ ‫سريان الزمن في حياة الشاعر‪ ،‬الذي مات وهو في أوج عطائه‪ ،‬كان لمد شاعريته بالتجدد‬ ‫الالفت‪ ،‬الذي يشير إليه التصاعد الجمالي في بناء النصوص وموضوعاتها‪ ،‬وبلغة مقتصدة‬ ‫متخلصة من الغنائية الفارطة والتقريرية‪.‬‬

‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬


‫تجربة محمد حسين هيثم (عدن نوفمبر ‪1958‬م‪ -‬صنعاء‬ ‫مارس ‪2007‬م) تحيل الدارس وترشده ً‬ ‫أيضا إلى تجربته النقابية‬

‫الثقافي‪ ،‬فعمل على إعادة ترتيب وضع مجلة االتحاد المركزية‬ ‫«الحكمة» ونقلها إلى صنعاء حيث رأس تحريرها ابتداء من‬

‫في مؤسسة ذات صلة بشأن الكتابة ومقترباتها‪ ،‬وأعني هنا‬

‫عام ‪1998‬م‪ ،‬إذ انتظمت في الصدور بعد تعثرات طويلة‪ ،‬ومع‬

‫‪2005‬م)‪ ،‬حين كرس معظم اهتمامه لطباعة كتب أعضاء االتحاد‬

‫صدرت باسمها‪.‬‬

‫شغره موقع أمين عام اتحاد األدباء والكتاب اليمنيين (‪-2001‬‬

‫ومنتسبيه‪ ،‬في تجربة لم يشهدها االتحاد قبل فترته تلك أو‬ ‫حتى بعدها‪ .‬إضافة إلى تنظيمه لمهرجانين لألدب اليمني‬

‫بإمكانيات شحيحة تقريبًا‪ ،‬وكان رهانه على إسهامات الباحثين‬ ‫الشبان وطرقهم لموضوعات األدب اليمني (شع ًرا وسردًا‬ ‫ً‬ ‫وفنونا شعبية)‪ ،‬في مساحات غير مكبلة بالمحاذير‬ ‫ونقدً ا‬

‫ُّ‬ ‫ترؤسه‬ ‫والممنوعات‪ ،‬التي تفرضها المهرجانات الرسمية‪.‬‬

‫اللجنة التحضيرية لـ«ملتقى صنعاء األول للشعراء الشبان‬ ‫ً‬ ‫عاصمة‬ ‫العرب» الذي استضافته صنعاء في عام اختيارها‬ ‫للثقافة العربية (إبريل ‪2004‬م)‪ ،‬كتجربة‬

‫إعادة إصدارها تبني سلسلة مطبوعات لقصاصين وشعراء‬ ‫هذا هيثم (الشاعر ‪ -‬السيرة) الذى رأى القصيدة «ابنة‬

‫للمجازفة‪ ،‬وربيبة المحاولة»‪ .‬أما الشاعر الحقيقي عنده هو‬

‫مشروع داخل «المحاولة الدؤوبة للمغايرة» ورؤيته هذه هي‬

‫استخالص نابه لحالته كشاعر‪ ،‬ظل حتى آخر أيامه يجازف‬ ‫بدأب لكتابة قصائده المختلفة‪.‬‬

‫٭٭٭‬

‫جيل السبعينيات يعد المفصل األهم في الحداثة‬

‫الشعرية في اليمن‪ ،‬وأصبحت تاليًا تجارب الكثير من رموزه‪،‬‬ ‫الذاكرة الحية للشعرية الجديدة في‬ ‫تشكالتها الضاجة؛ ألن المغامرات‬

‫رائدة كسرت رسمية المهرجانات‪ ،‬التي‬

‫العديدة التي أقدم عليها عدد من‬

‫ظلت تروج لألسماء الكبيرة الالمعة في‬ ‫ً‬ ‫إضافة‬ ‫سماء الكتابة ونجوميتها‪ ،‬مَ َّث َل‬

‫األسماء المحسوبة على هذا الجيل‪،‬‬

‫الجديدة وتجاربها الشابة‪ ،‬وكان هيثم‬

‫الشعري المحافظ‪ ،‬وخلخلة ثباته‬

‫قامت على االنتهاكات الواعية للشكل‬

‫إلسهامات هيثم في التعريف بالقصيدة‬ ‫يرى في الصوت التسعيني الشعري‪،‬‬ ‫الذي عبر عنه بوضوح هذا الملتقى «مرآة‬

‫حقيقية لكل الهزات الكبرى التي شهدها‬

‫لصالح أشكال أكثر حداثة‪ ،‬بدأت‬

‫محمد حسين هيثم‬

‫تفرض نفسها بقوة داخل المدونة‬

‫الشعرية العربية المعاصرة‪ .‬أما العقد‬

‫العقد األخير من العقد العشرين وما تاله‪ ،‬بدءً ا من سقوط‬

‫الحاضن لهذا الجيل بأصواته المؤثرة أمثال‪« :‬عبدالرحمن‬

‫وانتهاء بالتحوالت الكونية التي تصنعها مخاضات العولمة‬

‫‪-‬عبدالرحمن إبراهيم ‪-‬زكي بركات»‪ ،‬فكان هو اآلخر الممر‬

‫األيديولوجيا مرورًا بخراب األوضاع العربية وتشظياتها‪،‬‬ ‫وانقالبات الحياة اإلنسانية بشكل عام»‪.‬‬

‫وقبل هذا يمكن معاينة محطة أخرى‪ ،‬لها عالقة بالسيرة‬

‫الثقافية لهيثم‪ ،‬بوصفها رافدً ا ع َّزز تجربته الشعرية‪ ،‬وأعني‬ ‫اشتغاله بالصحافة الثقافية الذي بدأ باك ًرا وتحديدً ا منذ‬

‫كان طالبًا في قسم الفلسفة في كلية التربية بمدينة عدن‪،‬‬

‫فخري ‪-‬عبدالودود سيف ‪-‬حسن اللوزي ‪-‬عبدالله قاضي‬ ‫الواسع للخطوات األولى لتجارب العديد من الشعراء الشبان‬ ‫ً‬ ‫الحقا على جيل الثمانينيات‬ ‫آنذاك‪ ،‬الذين سيحسبون‬ ‫الشعري‪ ،‬ومنهم محمد حسين هيثم الذي «تقدم زمالءه‬ ‫كلهم في تكريس صوت مميز ضمن تجربة كتابة «قصيدة‬

‫النثر» ً‬ ‫نوعا وكمًّ ا فقد ضم ديوانه مطلع الثمانينيات تجارب‬

‫وبعد تخرجه‪ ،‬حيث عمل محررًا ثقافيًّا في صحيفة «الثوري»‬

‫ناضجة في قصيدة النثر التي تقوم على التكثيف والقصر‪،‬‬

‫لإلقامة في صنعاء بعيد أحداث يناير ‪1986‬م الدامية في‬ ‫ً‬ ‫باحثا في مركز‬ ‫جنوب اليمن‪ .‬وفي عام ‪1992‬م‪ ،‬بعد أن صار‬

‫ورسم الشخصيات «كما ذهب إلى ذلك الناقد حاتم الصكر‪.‬‬

‫أما جيل التسعينيات‪ ،‬الذي سلط على أصواته المتعددة‬

‫مجلة ثقافية صدرت في صنعاء في سنوات الوحدة األولى‪.‬‬

‫ألنه سعى وبقوة للتخلص من جملة التراكمات التي أثقله بها‬

‫آنذاك طيلة النصف األول من عقد الثمانينيات‪ ،‬قبل أن ينتقل‬

‫الدراسات والبحوث اليمني‪ ،‬ترأس تحرير مجلة «أصوات» أبرز‬ ‫ومنذ المؤتمر الخامس التحاد األدباء والكتاب اليمنيين الذي‬ ‫احتضنته صنعاء‪ ،‬عشية حرب صيف ‪ 94‬تولى موقع األمين‬

‫واستضاف آليات السرد كالحوار والتسميات وتثبيت األمكنة‬

‫واستشكاالته القوية الكثير من الضوء من داخله ومن خارجه؛‬

‫جيالن شعريان سابقان عليه‪ ،‬فسعى إلى التعبير عن حضوره‬ ‫بمغامرات عدة‪ ،‬منها الكتابة بدون مسبقات مرجعية وأبوية‬

‫‪141‬‬


‫فضاءات‬

‫وبعيدً ا من الفتات المشاريع الكبرى‪ ،‬والطفح األيديولوجي‬

‫الذي ظهر جليًّا في غنائيات الشعراء المحسوبين على العقدين‬ ‫السابقين له‪ .‬ومن هنا يمكن القول‪ :‬إن تجربة هيثم في الكتابة‬

‫الشعرية هي واحدة من الشواهد الواضحة على ثالثة أجيال‬

‫شعرية تعايشت معها‪ ،‬وعبرت عن اتجاهاتها الفنية‪ ،‬بل‬ ‫ُ‬ ‫وقدمت في محطات مختلفة كتعبير ناضج ألساتذة الشاعر‬ ‫من السبعينيين‪ ،‬ومجايليه من الثمانينيين وتالمذته من‬ ‫الشعراء التسعينيين في اليمن‪.‬‬

‫األفكار تباعدً ا في المنطق وتقريبها إلى مساحة مقبولة في‬

‫وقد تنبه الدارسون باك ًرا للصوت الذي حمله محمد‬

‫لطرح مثل هذا سينبني على التساؤل‬ ‫التجانس الفني‪ .‬التمثيل‬ ‫ٍ‬

‫وجنوبها‪ ،‬وشجعهم على ذلك خصائص عديدة عبر عنها هذا‬

‫جوائز األوسكار‪ ،‬حال ظهوره قبل سنوات‪ ،‬وأعني فلم «إنقاذ‬

‫هيثم منذ بداياته الباكرة في خارطة الكتابة في شمال البالد‬ ‫الصوت الذي بدأ يتلمس حضوره من اللحظة الغنائية العالية‬ ‫التي كان يقترحها جيل الثمانينيات الشعري‪ ،‬لكنه في اللحظة‬

‫ذاتها انتقل بالنص إلى مساحات جديدة من التجريب داخل‬ ‫الشكل ذي المنزع المتمرد‪ .‬االحتضانات الباكرة لهذا الصوت‬

‫ورعايته من شاعرين عربيين مهمين أقاما في مدينة «عدن»‬

‫‪142‬‬

‫تجربة صاحب «اكتماالت سين»‬ ‫واستدراكات الحفلة‪ ،‬الذي مات وهو‬ ‫في أوج عطائه‪ ،‬بخصوصيتها األسلوبية‬ ‫وجمالياتها أغرت‪ ،‬ولم تزل‪ ،‬الكثيرين‬ ‫وتأثرا‬ ‫وفحصا‬ ‫لالقتراب منها قراءةً‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫اآلتي‪ :‬ما الذي سيجمع بين فلم أميركي باذخ حصد العديد من‬ ‫الجندي رايان» وبين السنوات األربعين التي يرثيها الشاعر‪،‬‬ ‫حتى إن قدمها بطرائق «التمويه» التي يقترحها العنوان‪،‬‬

‫وبين «االستعادات» المُ ّرة لجيش القتلة وهم يتقاطرون من‬ ‫حروبهم الالمرئية في عتمة «النوستالجيا»‪.‬؟! الذي سيجمع‬

‫بين هذه االنفالتات هو عنوان جامع اسمه «حروب دائخة»‬ ‫ُّ‬ ‫تكشفات هذا النص تمنح القارئ مساحات متعددة‬

‫مطلع ثمانينيات القرن الماضي وأعني «سعدي يوسف»‬ ‫و«جيلي عبدالرحمن» لعبت دورًا فاعلاً في توجيه هذه الطاقة‬

‫لإلسقاط القرائي‪ ،‬إحداها ما يتصل بمقتربات السيرة التي أراد‬

‫٭٭٭‬

‫«كل صباح»‪ ،‬وما لحق به من فعل االستمرار الذي ينجزه‬

‫نحو المغايرة منذ البداية‪.‬‬

‫الشاعر وضعها في عتبة التلقي‪ ،‬التي تبدأ مع استخدام ملفوظ‬

‫في مجموعته الشعرية األولى‪ ،‬وحملت عنوان «اكتماالت‬

‫الشاعر بالتكرار ذاته‪ .‬سيرة ال تنبني على الحادثة وتموضعها‬

‫األولى‪ ،‬وبكل ما وقع من تأثيرات في صوته الخاص‪ .‬فسنوات‬

‫ً‬ ‫التماعا للكتابة‪ ،‬والقادرة على استحضار سيرة المكتوب عنه‬

‫سين» (‪1983‬م) سيجد الدارس أنها قدمت صاحبها في تشكالته‬ ‫السبعينيات كمرحلة شعرية ضاجة ستظهر في المجموعة‪،‬‬ ‫حاملة بما تماهى مع مزاجها وموضوعاتها‪ .‬فالنص الذي‬ ‫حملت المجموعة األولى للشاعر عنوانه وهو «اكتماالت‬

‫سين» ًّ‬ ‫نصا صاخبًا عكس دالة الثمانينيين اليمنيين على األقل‬

‫في اشتغاالتهم على المرموزات التاريخية‪ ،‬والتماهي مع‬ ‫سير شخصيات وأماكن ورموز فاعلة في تاريخ اليمن‪ .‬على‬

‫نحو «علي ابن الفضل» و«منصور اليمن» (ابن حوشب) ومن‬

‫األماكن مأرب‪ ،‬ومن الرموز إله اليمانيين القدماء «سين»‪.‬‬ ‫سيجد الدارس لهذه المجموعة أفكارًا كبرى وجهت شعراء‬

‫تلك الفترة‪ ،‬ومنهم هيثم‪ ،‬لمقاربة موضوعات رُؤيوية بأساليب‬ ‫المغامرات النصية‪ ،‬التي اقترحتها فضاءات الكتابة المفتوحة‬

‫على أفق الشعار األيديولوجي ودواله‪.‬‬

‫أما في مجموعة «استدراكات الحفلة»‪ ،‬وهي المجموعة‬

‫األخيرة التي صدرت في حياته عام (‪2002‬م) ستكون تجربة‬

‫الشاعر قد وصلت إلى نضجها الفني وال ُّرؤيوي‪ ،‬مقدمة الشكل‬ ‫الفاعل في الخطاب والقادر على إيجاد صيغ حلولية بين أكثر‬ ‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬

‫في سياق الحكاية المشاعة‪ ،‬بل ستتحرك في المساحة األكثر‬ ‫بوصفه مجموعة من المرموزات الفاعلة لسيرة أي شخص بما‬

‫فيها األم‪ ،‬التي تتحول إلى متراس بدوّ‪ ،‬لمجرد أنها تستعيد‬ ‫ً‬ ‫مهترئا‪.‬‬ ‫من بين الركامات حبلاً سريًّا‬

‫وفي مجموعته الشعرية األخيرة التي صدرت بعد وفاته‬

‫مباشرة (‪2007‬م) وحملت عنوان «على بعد ذئب» أرادها أن‬ ‫تكون تنويعً ا راقيًا ألسلوبيات الكتابة التي اعتمدها في مسيرته‬

‫التي امتدت لثالثة عقود‪ .‬فالوزنية المتخلصة من المفردات‬ ‫الالشعرية السائبة والزائدة‪ ،‬حضرت إلى جانب النصوص‬

‫الالوزنية المنفتحة على أفق األفكار الممسكة بأحجار الحكمة‪،‬‬

‫وتقطي ًرا لتجربة الحياة بكل أنوائها التي قد تكثفت في نهاية‬ ‫المطاف على هيئة ذئب في الطريق الموحش‪ ...‬ذئب ليس له‬

‫سوى عواء الموت أو مخالب الجحود اللذين تربصا به قبل أن‬ ‫تطأ قدمه عتبة الخمسين‪ .‬إنها التجربة المميزة األكثر اكتمالاً‬

‫في المدونة الشعرية اليمنية المعاصرة‪ ،‬التي هي بحاجة‬ ‫ً‬ ‫عمقا‪ ،‬بعيدً ا من انفعاالت الذكرى‬ ‫إلى مقاربات نقدية أكثر‬ ‫وسيالن العاطفة‪.‬‬


‫نصوص‬

‫اعتراف متأخر‬ ‫ممدوح عبدالستار‬

‫قاص مصري‬

‫ً‬ ‫ْ‬ ‫فنثرت‬ ‫مريضا ومالزمً ا للفراش‪ .‬الفراش مكان يعلو عن األرض قليلاً ‪ ،‬وخامته من طين معجون بالتبن‪ .‬ظل أبي هكذا مدة؛‬ ‫كان أبي‬ ‫خاو من األمل‪ .‬لم أدخل دارنا هذا اليوم‪ ،‬فقد ُ‬ ‫ْ‬ ‫بحثت عني‬ ‫كنت مشغولاً باللعب‪ ،‬وأهيّج البط‪ ،‬واإلوز‪.‬‬ ‫وجرابها‬ ‫استغاثة‪،‬‬ ‫صرخة‬ ‫جدتي فوقنا‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ومشيت خلفها‪ ،‬حاملاً اإلوزة كما أمرتني‪ .‬تنظرني واإلوزة‬ ‫ماسكا إوزة كبيرة في حوش الجيران؛ فتحسستها‪،‬‬ ‫جدتي كثيرًا؛ حتى لمحتني‬ ‫بالتناوب‪ ،‬ودخلنا الدار‪:‬‬ ‫‪ -‬امسك هذه الزلطة‪.‬‬

‫فمسكتها‪:‬‬

‫‪ -‬اخبط اإلوزة على رأسها‪.‬‬

‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫وقالت‪:‬‬ ‫ورفعت إصبعها المائر في عيني‪،‬‬ ‫ونظفت ريشها األبيض‪ ،‬والماء يغلي فوق الموقد‪،‬‬ ‫وهرعت جدتي إلى السكين الصدئة‪،‬‬ ‫فضربتها‪،‬‬ ‫‪ -‬ال تخرج بالريش األبيض أمام الدار‪.‬‬

‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫إلي‪ ،‬وعروقها‬ ‫ومسكت ريش اإلوزة‪ ،‬وما وزوز عندنا‪ ،‬وال بقبق من ذي قبل‪.‬‬ ‫استغربت جدة بنت الجيران‪،‬‬ ‫فخرجت‪ ،‬ورميته أمام الدار‪.‬‬ ‫سارت ّ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫استقرت أمام الموقد‪ ،‬وجدتي تنفخ في النار‪ .‬تعكر‬ ‫دخلت ورائي‪ ،‬ولم تستأذن‪ ،‬وباحة الدار خالية‪ ،‬ثم‬ ‫فهرولت إلى حضن جدتي‪،‬‬ ‫منفوخة؛‬ ‫ْ‬ ‫ً‬ ‫بعيدا‪ ،‬وقالت الجدة لجدتي‪:‬‬ ‫وانزوت‬ ‫وجه أمي‪،‬‬ ‫لاً‬ ‫‪ -‬إن خطبت؛ اخطب قمرًا‪ ،‬وإن سرقت؛ اسرق جم ‪.‬‬

‫ْ‬ ‫قالت جدتي‪ ،‬وهي تحتضن الجدة‪ :‬لحقتها قبل أن تفطس‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫واطمأنت‬ ‫فهدأت‪ ،‬ودخلت ألبي‪،‬‬ ‫وأمسكت الحجر المغموس بدم اإلوزة‪،‬‬ ‫وأومأت ألمي لتصدق على كالمها‪ ،‬وجرتني جدتي من شعري‪،‬‬ ‫ِ‬

‫ً‬ ‫بعيدا‪ ،‬ثم ُ‬ ‫ُ‬ ‫نمت مرعوبًا هذه الليلة‪.‬‬ ‫جلست‬ ‫وجلست الجدتان تتذكران أيامهما معً ا‪.‬‬ ‫عليه‪،‬‬ ‫ِ‬

‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫وهبطت شارعنا مبكرًا ج ًّدا‪ ،‬وفرحة المالبس‬ ‫علي‪ ،‬وحضنني‪ ،‬ثم قبلني‪ ،‬وابتسم‪،‬‬ ‫في أحد األعياد‪ ،‬جاد أبي في سخائه‪،‬‬ ‫وسلم ّ‬ ‫بنطلونا قصيرًا‪ ،‬وكانت ورقة مالية قد ّ‬ ‫ً‬ ‫أطل ْت‬ ‫البسا‬ ‫الجديدة ظاهرة في تورد وجهي الممصوص والشاحب‪ .‬كان هشام ابن األبلة فتحية‪ً ،‬‬

‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫سمعت صوت األبلة فتحية‪ ،‬حتى‬ ‫ولذت بالفرار‪ .‬وما إن‬ ‫فتزحزحت حتى تالمسنا‪ ،‬وسحبتها خلسة‪،‬‬ ‫فأدركت أنها تناديني‪،‬‬ ‫لتشاهد المارين؛‬

‫ُ‬ ‫وجلست بجواره‪ .‬لبس أبي الحذاء‪ ،‬ووضع الورقة المالية في جيبه‪ ،‬ونظرني نظرة ال أعرف معناها‬ ‫أخفيت الورقة المالية في حذاء أبي‪،‬‬

‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫وبكيت‪،‬‬ ‫فارتجفت‪،‬‬ ‫وكنت قد تخيلته كلبًا‪ ،‬أو حمارًا؛‬ ‫اجتمعت البلدة على قلب ولسان رجل واحد (حرامي)‪،‬‬ ‫حتى اآلن‪ .‬بعدها بأيام‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫فعرفت أنه كان‬ ‫فنمت مرعوبًا‪ ،‬وسريعً ا على غير عادتي‪ ،‬وهزني في نومي‪،‬‬ ‫وحملتني أمي فرأيته مكبلاً ‪ ،‬ورفع بصره ناحية أمي‬ ‫يخصني بنظرته‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫الذكريات شحيحة‪ ،‬واأليام تم ّر بالتذكر الموجع‪ ،‬واألشياء المفرحة ال نستطيع لملمتها‪ ،‬أو تذكرها‪ ،‬حتى ك ِبرنا بالشحّ‬

‫نحس‪.‬‬ ‫دون أن‬ ‫ّ‬ ‫ونظرت يمنة ويسرة‪ ،‬ووجدتني ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫واقفا وحدي تحت شجرة وحيدة‪،‬‬ ‫ونسيت نفسي في التجوال‪،‬‬ ‫سرت في بطن المدينة‪،‬‬

‫ُ‬ ‫فسارعت بالوقوف أمام بائعي الجرائد بمحطة القطار‪ .‬قبل أن أبدأ خطوات الصعود لركوب‬ ‫كما هي عادتي‪ .‬هدني التعب‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫فوضعت كتابًا في حقيبتي‬ ‫لمحت الثمن‪ ،‬وتوافد المشترون‪،‬‬ ‫لمحت كتابين‪ ،‬وأنا في أش ّد الحاجة إليهما‪.‬‬ ‫قطار عودتي؛‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫أعطيت بائع الجرائد نقو ًدا‪،‬‬ ‫وانكمشت‪.‬‬ ‫واكتفيت بالفرجة‪،‬‬ ‫شمرت أكمامي للمساعدة‪،‬‬ ‫خلسة‪ .‬جلبة‪ ،‬وضوضاء‪( ،‬حرامي)‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫فتذك ُ‬ ‫ُ‬ ‫رت اإلوزة‬ ‫ومضيت خلسة‪ ،‬ثم جلبة وضوضاء مرة أخرى‪( ،‬حرامي)‪،‬‬ ‫رأى ثمن الكتاب الذي بيدي‪ ،‬وأعطاني الباقي‪،‬‬

‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ونظرت حولي؛ فلم أجد شي ًئا‪،‬‬ ‫وانكمشت على نفسي‪،‬‬ ‫توقفت أنفاسي‪،‬‬ ‫وجدتي‪ ،‬ووالدي والورقة المالية في أحد األعياد‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫قررت أال أقف ثانية أمام بائعي‬ ‫تراجعت‪ ،‬لكنني‬ ‫وتحمست لفكرتي‪.‬‬ ‫وقررت العودة لبائع الجرائد‪،‬‬ ‫ووقفت‪ ،‬أتحسس جيبي‪،‬‬ ‫الجرائد‪ ،‬وربما أعود إليه؛ حينما أمسك راتبي نهاية هذا الشهر‪.‬‬

‫‪143‬‬


‫فضاءات‬

‫القلم‪..‬‬

‫في عصر الصف‬ ‫الضوئي والرسائل الخلوية‬ ‫أداة التدوين األولى تخوض معركة البقاء‬ ‫أمام تسارع طفرة األتمتة والثورة التقنية‬

‫محمد محمد إبراهيم‬

‫كاتب يمني‬

‫حالة من الصدمة الذهنية‪ّ ،‬‬ ‫تذكر ْ‬ ‫َت أن آخر قلم‬ ‫في‬ ‫ٍ‬ ‫ْ‬ ‫رأت ُه كان قبل شهرين‪ ..‬كان ذلك عندما طلبت منها صديقتها‬ ‫ِّ‬ ‫لتوقع على ورقة مالية‪ ..‬فأجابتها‪ :‬على الفور‪ ..‬لكنها‬ ‫قلمً ا؛‬

‫‪144‬‬

‫حين فتحت حقيبة الكمبيوتر وجدت كل شيء إال القلم‪..‬‬ ‫لتفتش وصديقتها المنزل ‪-‬المليء باإللكترونيات‪ -‬للبحث‬ ‫عن قلم‪ ،‬في المكتب‪ ،‬والمطبخ واألدراج‪ ،‬وغرف النوم‪،‬‬ ‫وحتى في السيارة‪ ،‬ولكن دون جدوى‪ ،‬فقررت أنها تنعي‬ ‫حياة القلم في عصر الكمبيوتر‪ ...‬هذه القصة ليست من‬ ‫مقال حزين تحت‬ ‫قبيل المبالغة‪ ،‬فقد ورد فحواها في‬ ‫ٍ‬ ‫عنوان‪« :‬مات القلم» للكاتبة والصحفية األميركية إيلين‬ ‫واينستين في صحيفة «نيويورك تايمز» في يوليو ‪2014‬م‪.‬‬

‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬


‫من منا لم يصادفه نفس هذا الحدث! مع فارق سبب غياب‬

‫القلم الذي بات هامشيًّا في حياتنا المشغولة ح ّد التشويش‬

‫بما حولنا وبما في أناملنا من عصف الرسائل الخلوية والصف‬

‫والضوئي‪ .‬لكن هل هذا كافيًا ألن يغادر القلم قائمة أدوات تواصلنا‬

‫وتبادل أفكارنا وتدوين يومياتنا؟! قبل اإلجابة عن هذا السؤال في‬ ‫ً‬ ‫مكانة‪ ،‬وتطورًا‬ ‫هذا العمل الصحفي سنع ّرج على مفردة القلم‬ ‫صناعيًّا وباختزال يغني عن التفاصيل الكثيرة التي ال يتسع لها‬ ‫هذا المقام‪.‬‬

‫عبر هواة وعشاق الكتابة ‪-‬الذين صار‬ ‫ّ‬

‫القلم جزءًا من إلهام أفكارهم‪ -‬عن‬

‫مخاوفهم‪ ،‬من تالشي دور القلم‪ ،‬في‬ ‫طفرة الكتابة الرقمية التي بدأت في‬ ‫منتصف القرن الماضي‬ ‫خاصة بها‪ ،‬وميَّز كل صانع أو منتج أقالمه الرصاصية ‪-‬المصنوعة‬

‫«القلم»‪ ..‬أداة التدوين األولى والقاسم المشترك األسمى‬

‫من خشب الصنوبر أو األرز الشرقي األحمر في والية «تينيس»‬

‫المدارك المعرفية لطفولتنا في المدرسة فحسب‪ ،‬بل الرتباطه‬

‫عن غيره ‪ .‬وفي مطلع القرن العشرين‪ ،‬ظهرت األقالم الملوّنة‪،‬‬

‫ً‬ ‫مكانة في الثقافات اإلنسانية المختلفة‪ ،‬ليس ألنه ارتبط بفك‬ ‫األزلي بتنوير األجيال التي تعاقبت على م ّر الحياة البشرية‪،‬‬

‫ليصير القلم بناء على هذا المعطى نبراس الذاكرة‪ ،‬وميالد تاريخ‬

‫واألجزاء األخرى بجنوب شرق الواليات المتحدة‪ -‬بألوان تميزه‬ ‫(‪)4‬‬

‫وعودها مصنوع من أصباغ‪ ،‬ممزوجة بالصلصال‪ ،‬واألصماغ‪.‬‬ ‫قصة التحول الكبير‬

‫التدوين‪ ،‬وما لم يدونه القلم كان يسمى بـ«ما قبل التاريخ»‪ .‬غير أن‬ ‫نزول القرآن باللغة العربية وانتشار اإلسالم وتأسيس دولته ّ‬ ‫شكل‬

‫«في أحد أيام ‪1884‬م كان أحد عمالئه يتأهب للتوقيع على‬

‫والمسلمين؛ ليكونوا هم أصحاب الريادة األولى في ال ُبعْ د النظري‬

‫من ريشة ومحبرة سهلة الحمل‪ -‬أغرق طوفان المداد الوثيقة‪،‬‬

‫نقطة التحول المحورية باتجاه تطور صناعة األقالم عند العرب‬

‫والتجريبي الختزال أدوات المقلمة التي كانت تتألف من تفاصيل‬ ‫كثيرة جدًّا إذا تعطلت أو تغيبت واحدة من هذه األدوات تعثرت‬

‫وظيفة الكاتب‪ .‬ورغم سباق الخلفاء والوالة على صنعة هذه األقالم‬ ‫المختزلة لفسيفساء المقلمة‪ ،‬إلاّ أن المحبرة والريشة والقلم‬ ‫المصنوع من القصب وآلية الغمر في المحبرة ظلت زم ًنا طويل(‪.)1‬‬ ‫دوافع التطوير‬

‫طلب عقد تأمين ذي قيمة كبيرة‪ .‬ولحظة التماسه مقلمته ‪-‬المكونة‬ ‫مغضبًا العميل‪ ،‬الذي أحال الصفقة إلى وكيل منافس‪ ،‬ليترك‬

‫كبائع‬ ‫رجل األعمال األميركي «لويس أديسون ووترمان»‪ ،‬مهنته‬ ‫ٍ‬ ‫لعقود التأمين‪ ،‬متجهًا الستخدام مواهبه الطبيعية الميكانيكية‬ ‫في اختراع قلم حبر عملي يستطيع توزيع المداد في انسياب‬

‫مستمر‪ ،‬ومنفذ ضابط لسيل الحبر‪ ،‬يحركه الكاتب ويوقفه‬ ‫حسب حاجته‪ .‬ولكي يضمن ووترمان ً‬ ‫فيضا منتظمً ا من الحبر‪،‬‬ ‫استخدم الخاصية الشعرية‪ ،‬وهي خاصية السوائل الطبيعية في‬

‫لعل أبرز دوافع مساعي التطوير الحرفي والصناعي لوسيلة‬

‫االنسياب إلى أعلى في األنابيب الضيقة ضد الجاذبية األرضية‪،‬‬

‫أدوات الريشة والمحبرة واللوح الخشبي والدواة‪ ،‬صعبة بالنسبة‬ ‫ً‬ ‫باحثا عن وسيلة كتابية تكون‬ ‫لهم؛ لذا ظل العقل اإلنساني‬

‫أقالم الحبر حتى اليوم ‪ ،‬وفي عام ‪1888‬م سجل األميركي «جون‬

‫الكتابة «القلم» هو تعليم الصغار للقراءة والكتابة؛ إذ كانت‬

‫خفيفة على الطفل ويكون أثرها المكتوب قابل للكشط على‬

‫غرار األصابع الطباشيرية أو الفحمية‪ .‬فكان اكتشاف الغرافيت‬

‫عام ‪1500‬م‪ ،‬ب ــ(إنجلترا) هو بداية التفكير باستخدام هذه المادة‬ ‫المشابهة للرصاص في تعليم الصغار الكتابة(‪ )2‬بما يسمى قلم‬

‫الرصاص الذي بدأ إنتاجه في ألمانيا عام ‪1662‬م‪ .‬وفي عام ‪1795‬م‬

‫لتبقى نظرية ضبط المداد بالخاصية الشعرية تستخدم في كل‬ ‫(‪)5‬‬

‫الود» براءة اختراع قلم الحبر الجاف ذي السن الكروي بنمطه‬ ‫الجديد‪ ،‬ليصل هذا النوع إلى أوج الشهرة في عام ‪1945‬م‪ ،‬غير‬ ‫أن األمور انقلبت رأسً ا على عقب‪ ،‬حين انخفض ثمن هذا النوع‬ ‫من األقالم من خمسة عشر دوالرًا إلى خمسة عشر سن ًتا نظ ًرا‬ ‫لما كان يحدثه القلم من بقع حبرية في الورق ‪ .‬وفي عام ‪1949‬م‬ ‫(‪)6‬‬

‫اكتشف المجري «فران سيخ» التركيب السري الذي فك به أزمة‬

‫اكتشف «نيكوالس جاك» طريقة لخلط مسحوق الغرافيت مع‬ ‫الطمي‪ ،‬وتشكيل هذا الخليط في شكل أعواد ُتح َرق في فرن‬

‫«باتريك فراولي» ‪-‬من سان فرانسسكو‪ -‬تمكن من اختراع حبر‬

‫درجة صالبة األعواد‪ .‬وفي عام ‪1812‬م صنع النجار األميركي «ويليام‬

‫البقع‪ ،‬ليتجه التطوير الصناعي نحو التفنن في شكل القلم بما‬

‫حراري «أتون» وباختالف نسب خلط الغرافيت إلى الطمي تختلف‬

‫مونرو» من «كونكورد» بوالية «ماساشوستس» أول قلم رصاص‬

‫خشبي أميركي‪ ،‬وفي عام ‪1858‬م حصل «هايمن ليبمان» على أول‬ ‫براءة اختراع‪ ،‬بإضافته ممحاة إلى طرف القلم(‪ .)3‬وفي عام ‪1890‬م‬

‫أعطى صانعو أقالم الرصاص منتجاتهم أسماء وعالمات تجارية‬

‫قلم الحبر الجاف‪ ،‬ولمع اسمه بعد ذلك االختراع‪ ،‬إال أن الشاب‬ ‫يسمى «سيخ الجديد» ليمد به قلم الحبر الجاف منهيًا مشكلة‬ ‫يوافق ثقافة الكتابة‪ ،‬حيث استشعرت الشركات المصنعة لسباق‬ ‫الثراء والتفاخر بالقلم كرمز للكتابة والتنوير والشهرة‪ ،‬لتتنافس‬ ‫في مضمار صناعة األقالم الفاخرة والثمينة المرصعة بالذهب‬

‫والفضة‪ ،‬واألحجار الكريمة(‪.)7‬‬

‫‪145‬‬


‫فضاءات‬

‫طالئع العصر التقني‬

‫في عام ‪1889‬م دوّن الكاتب القانوني السيّد «واريل»‬

‫مالحظات عدة بشأن مستقبل القلم قال في إحداها‪« :‬تسود‬ ‫إشاعات كثيرة في السنة الحالية تفيد بأن آلة تدعى «اآللة الكاتبة»‬ ‫ّ‬ ‫تحل مكان الناسخ‪ .‬وقد رأيتها تعمل بنفسي‪ ،‬والشخص الذي‬ ‫سَ‬

‫‪146‬‬

‫يطبع عليها سيدة أخبرتني أنها تستطيع طباعة ‪ 40‬صفحة في‬

‫واآلالت الكاتبة وطرق معالجة الكلمات إلكترونيًّا والحواسب‬ ‫اآللية التي تستطيع من خالل لمس أحد مفاتيحها أن تنتج (‪)2000‬‬

‫حرف مطبوع في الساعة الواحدة؟ يبدو أن الفاعلية المتزايدة‬ ‫لألشكال الميكانيكية من االتصاالت ستقلص الحاجة الماسّ ة إلى‬

‫الكتابة السريعة (الخربشة) التي نقوم بها اليوم‪ ،‬فنحن لم نعد‬ ‫نتحدث بالحرف الواحد كما كان يفعل أسالفنا األوائل‪ ،‬لكننا‬

‫جميعً ا نشعر بأداة الكتابة‪ ،‬وبنوع اإلشارة التي تصنعها هذه‬

‫ساعة واحدة فقط» ويعلق مؤلف كتاب تاريخ الكتابة الرسام‬ ‫البريطاني دونالد جاكسون الذي أورد هذه المالحظات‪ ،‬متسائلاً‬

‫األداة وأثرها في سلوكنا من حيث آلية الكتابة نفسها‪ .‬أما «ألفرد‬

‫طوال اليوم‪ :‬ماذا سيقول السيد «واريل» بوجود أجهزة الهاتف‬

‫حركيًّا يقتضي اللمس»‪ ،‬وفي الحقيقة إن اإلحساس بالقلم‬

‫عن الزحف األهم الذي اجتاح مساحة وخارطة الحاجة إلى القلم‬

‫فيربانك» فقال في هذا الشأن‪ :‬إن الكتابة باليد كانت «نظامً ا‬

‫القلم ومعركة البقاء‬ ‫بالعودة إلى القصة المختصرة ‪-‬في مقدمة هذه التناولة الصحفية‪ -‬التي نعت فيها الكاتبة األميركية «إيلين واينستين» حياة القلم في‬

‫عصر الكمبيوتر‪ .‬لكن تلك القصة بما حملته من نعي حزين‪ ،‬اشتملت على داللة ضمنية لم نشر لها في المقدمة‪ .‬وهي أن مجريات بحث‬

‫الصديقتين عن القلم بتلك الطريقة‪ ،‬عكست مؤش ًرا قويًّا على أهمية الحاجة للقلم‪ ،‬لتؤكد أن طفرة الكتابة الضوئية والرقمية‪ ،‬وبلوغ ثورة‬ ‫األتمتة داخل غرف النوم‪ ،‬وانبالج تقنية الرسائل المكتوبة خلويًّا‪ ،‬وغيرها من العوامل لم تنه حضور القلم في قلب العصر‪ ،‬بل ّ‬ ‫ظل وسيبقى‬ ‫ً‬ ‫محافظا على مكانته في ثقافة العامة والخاصة والنخبة كرمز ثقافي إنساني‪ .‬وفي‬ ‫متربعً ا على عرش الذاكرة كذبال معرفي ال ينطفئ‪،‬‬

‫هذا المضمار يؤكد الشاعر األميركي «روبرت كاندل»‪ ،‬أحد رواد القصيدة الرقمية في الواليات المتحدة‪ ،‬أنّ الكتابة ليست سوى ضرب من‬ ‫التقنية‪ ،‬متسائلاً –في نظريته حول كتابة الشعر إلكترونيًّا‪ -‬عن أي االتجاهات سوف تتحوّل تقنيات الكتابة الحديثة في مجاراة عصر اإلعالم‬ ‫الرقمي؟ وهل ستنتقل أدوات الكتابة اإلبداعية‪ ،‬نتيجة لهذا التحوّل في حال وقوعه‪ ،‬من عوالم الحبر إلى إحداثيات «النقاط الضوئية»‬ ‫ّ‬ ‫محققة نقلتها النوعية من طواعية القلم إلى غواية الحرف اإللكتروني على الشاشة؟‬

‫وأكد كاندل بناء على تلك التساؤالت أن فعل الكتابة اإللكترونية لن يلغي أصالة الخط على الورق وخصوصية الكتابة بالقلم(‪ )10‬وهذا‬

‫الحكم الثقافي‪ ،‬يؤكد أن الحداثة والتطور الصناعي والتقني والكهروضوئي في أدوات الكتابة مثل اآلالت الكاتبة ال يلغيان القلم بل سيظل‬ ‫جزءًا من هوية اإلنسان وذاكرته وإكسسواره المعرفي‪ .‬وتب َّنى رجل األعمال األميركي «بيك»‪ ،‬أحد صانعي األقالم األسطورية تحت عنوان‪:‬‬

‫«قاتل من أجل كتابتك»‪ .‬وأكدت «بام ألين» خبيرة محو األمية والناطقة بلسان الحملة‪ ،‬أن الكتابة بالقلم تساعد الطفل على تنمية حس‬

‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬


‫القلم‪ ..‬في عصر الصف الضوئي والرسائل الخلوية‬

‫بلوغ ثورة األتمتة داخل غرف النوم‪ ،‬وانبالج تقنية‬ ‫خلويا‪ ،‬وغيرهما من العوامل لم‬ ‫الرسائل المكتوبة‬ ‫ًّ‬ ‫ظل وسيبقى‬ ‫ُتنهِ حضور القلم في قلب العصر‪ ،‬بل ّ‬

‫متربعا على عرش الذاكرة كذبال معرفي ال ينطفئ‬ ‫ً‬

‫واإلحساس بالورقة وسيالن الحبر تؤثر جميعً ا على الطريقة‬ ‫التي نعبر فيها عن مشاعرنا وأفكارنا(‪.)8‬‬

‫هكذا عبّر هواة وعشاق الكتابة ‪-‬الذين صار القلم جزءً ا‬

‫من إلهام أفكارهم‪ -‬عن مخاوفهم‪ ،‬من تالشي دور القلم‪ ،‬في‬ ‫طفرة الكتابة الرقمية التي بدأت في منتصف القرن الماضي‪.‬‬ ‫عال من ثقافة الكتابة‬ ‫لكن مجيء هذا التطور وسط مستوى ٍ‬

‫بالقلم‪ ،‬دفع مصنعي األقالم إلى مجاراة األتمتة ليأخذ القلم‬ ‫ً‬ ‫تعريفا أجد‪ ،‬حيث ظهر القلم اإللكتروني‪ ،‬الذي يستخدم‬ ‫في الكتابة كأي قلم عاديّ ولكن عندما تقوم بكتابة الكلمات‬ ‫َّ‬ ‫فإنه يقوم أوتوماتيكيًّا بتسجيل الشرح وتخزين ملفات صوتية‬

‫داخله‪ ،‬وعند االنتهاء من الكتابة يمكنك االستماع إلى ما‬ ‫قمت بكتابته بالصوت‪ ..‬وفي العقدين الماضيين ظهر القلم‬

‫الرقمي الخاص بالهواتف الخلوية حيث ركز هذا االختراع على‬ ‫أن تكون األقالم أكثر دقة فتساعد على الرسم والكتابة‪ ،‬غير‬ ‫أن تقنية اللمس أنهت جميع األقالم اإللكترونية‪ ،‬وفي نفس‬ ‫الوقت ّ‬ ‫قل َ‬ ‫صت كثي ًرا الحاجة اليومية للقلم العادي إلى أدنى‬

‫مستوياتها(‪.)9‬‬

‫هوامش‪:‬‬

‫‪ )1‬تقدم العرب في العلوم والصناعات‪ ..‬صـ ‪.214‬‬ ‫‪ )2‬مجلة القافلة –القلم‪ -‬ملف خاص‪ ،‬د‪ .‬فكتور‬ ‫سحاب‪ -‬العدد (‪ )6‬المجلد (‪ ،)63‬نوفمبر‪/‬ديسمبر‬ ‫‪2014‬م‪ ،‬صـ‪.94‬‬ ‫‪ )3‬المصدر نفسه (‪ )4‬صــ‪.96‬‬ ‫‪ )4‬موقع مكتبي اإللكتروني‪ .‬بوابات كنانة أونالين‬ ‫– الموضوع‪ :‬تاريخ القلم الرصاص‪ .‬الرابط‪:‬‬ ‫‪http://kenanaonline.com/users/‬‬ ‫‪Almarakby/posts/298487‬‬ ‫‪ )5‬امسك أدواتك وانطلق لتتعلم‪ ،‬مقال مطول‪:‬‬ ‫الرابط ‪:‬‬ ‫‪h t t p : // w w w. m e x a t . c o m / v b /‬‬ ‫‪showthread.php?t=409379‬‬ ‫‪ )6‬المصدر نفسه‪.‬‬ ‫‪ )7‬المصدر نفسه‪.‬‬ ‫‪ )8‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.25‬‬ ‫‪ )9‬منتديات ستار تايمز‪ -‬أثر التكنولوجيا‬ ‫المعاصرة على القيم الجمالية‪ ،‬د‪ .‬إياد‬ ‫محمّد الصقر‪http://www.startimes. :‬‬ ‫‪com/?t=28666285‬‬ ‫‪ )10‬المصدر نفسه‪.‬‬ ‫‪ )11‬المصدر نفسه (‪ )4‬ص‪.98‬‬ ‫‪ )12‬مقالة مطولة عن برنامج تحليل الشخصية‬ ‫عن طريق خط اليد للباحث جابر محمد بيومي‪،‬‬ ‫الرابط‪:‬‬ ‫‪http://saihat.net/vb/archive/index.‬‬ ‫‪php/t-5421.html‬‬

‫الهوية‪ .‬وأجرت «مولر» ‪-‬باحثة في قسم علم النفس في جامعة برنستون‪ -‬دراسة الفتة‪ ،‬عنوانها‪« :‬القلم أقوى من الكمبيوتر»(‪.)11‬‬

‫أما مجلة «علم وحياة» الفرنسية فنشرت تقري ًرا علميًّا تحت عنوان (ال! لم يمت) أكدت فيه أن النظام التربوي الفرنسي يتمسك –على‬ ‫ً‬ ‫تمسكا شديدًا بالورق والقلم في المدرسة‪ ،‬مشيرة إلى أن العلماء أخضعوا (‪ )76‬طفلاً في سن الحضانة‪ ،‬الختبار‬ ‫عكس النظام األميركي‪-‬‬

‫قدراتهم على القراءة والكتابة‪ ،‬فصلوهم إلى فئتين‪ ،‬األولى عليها أن تتعلم الحروف بكتابتها‪ ،‬والثانية بطباعتها على لوحة الكمبيوتر‪ .‬وبعد‬ ‫أربعة أسابيع‪ ،‬اختبروا قدرة كل من الفئتين على القراءة‪ .‬لقد تعرف األطفال على الحروف التي كتبوها باليد‪ ،‬أفضل من الحروف التي طبعوها‪.‬‬

‫وهذه الدراسات تؤكد ديمومة الحاجة التعليمية أو حاجة التحصيل المعرفي للقلم‪ .‬باإلضافة إلى ضرورات االستخدام اليومي في‬ ‫معان ودالالت تحتل وجدان اإلنسان‪ .‬أو اإلمضاء‬ ‫الجانب المالي مثلاً لكتابة شيك‪ ،‬واإلمضاء عليه أو إرسال بطاقة بريدية خطية لما لها من‬ ‫ٍ‬ ‫على معامالت العمل اإلداري والتجاري‪ .‬ناهيك عن كون القلم صار بمنزلة البصمة الحديثة لكل شخص؛ إذ إن خط كل إنسان عبارة عن بصمة‬ ‫تحدد هويته‪ ،‬مفضية إلى معرفة صاحب القلم‪ ،‬كما يمكن للخط الكشف عن‪( :‬الفروق بين الجنسين‪ ،‬والعمر‪ ،‬والحالة النفسية‪ ،‬والصحة‬ ‫العامة‪ ،‬واألدوية والعقاقير‪ ،‬والوراثة‪ ،‬والمستوى التعليمي‪ ،‬والبيئة‪ ،‬والمناخ‪ ،‬والوظيفة‪ ،‬والموروث الشعبي‪ ،‬والتطور التكنولوجي‪،‬‬

‫(‪)12‬‬ ‫َعني‬ ‫ومستويات ممارسة الكتابة ‪ .‬وهذه الحقيقة المالزمة لعالقة الشخصية بالقلم من الناحية السلوكية أثبتها ِعلم «الغرافولوجي»‪ ،‬الم ّ‬ ‫بتحليل الشخصية من أشكال الخط‪ ،‬ويعتمد كغيره من العلوم السلوكية على المالحظة‪ .‬ويستند هذا العلم إلى حقيقة علمية تقول‪ :‬إن ما‬

‫يكتب على الورق ليس اليد‪ ،‬ولكن أعصاب اليد التي تأخذ أوامرها من المخ‪ ،‬فما نراه على الورق هو حركة الجهاز العصبي التي تظهر بأشكال‬

‫محددة على الورق‪ ،‬ومن هنا يبدأ في فك شفرة هذه األشكال‪ ،‬ودالالتها من الناحية السلوكية واالنفعالية والتعبيرية لدى الشخص‪ ،‬بمعنى‬ ‫أدق شرح «سمات الشخصية»‪.‬‬

‫‪147‬‬


‫مقال‬

‫عزت القمحاوي‬ ‫روائي وكاتب مصري‬

‫محنة ثقافة اطمأنت للكسل‪..‬‬ ‫ليس بالرواية وحدها تحيا الثقافات!‬ ‫ماذا لو قرر ناقد عربي أن يؤلف كتابًا حول األسلوب‬

‫المتأخر لعدد من ُ‬ ‫الك َّتاب والفنانين العرب مثلما فعل إدوارد‬ ‫سعيد مع ُك ّتاب وفنانين غربيين‪ ،‬ليدلنا على من حافظ منهم‬

‫على عناده‪ ،‬ومن احتفظ بجذوة الموهبة مشتعلة للنهاية‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ومقلقا مثلما بدأ؟‬ ‫مختتمً ا حياته ضد زمانه مشاغبًا‬

‫ستكون خدمة جليلة يؤديها ذاك الناقد للثقافة العربية‪،‬‬

‫‪148‬‬

‫وستكون رحلة مقلقة ومخيبة لآلمال دون شك؛ فقد عرفنا‪،‬‬ ‫خالل قرن ونيف من النهضة العربية الحديثة‪ ،‬مفكرين كبارًا‬

‫تخلوا عن اإلزعاج في أخريات أيامهم؛ اعتذروا عن الشغب‬

‫ً‬ ‫الحقا في انهيار اإلبداع‪ .‬وقد تفاقمت الظاهرة في السنوات األخيرة‪،‬‬

‫حيث تلمع أسماء وتحمل صفة «الكبير» تمضي بمتاعها الهزيل آمنة‬ ‫مثل بقرة الهندوسي‪ ،‬ال توقفها بوابة الناشر وال بوابة الناقد وال‬ ‫معايير الجائزة األدبية!‬

‫يصل تواضع المستوى لدى الكثيرين ممن يتمتعون بدفء‬

‫صفة «الكبير» حد االفتقار إلى سالمة اللغة أسلوبًا ونحوًا وإمالءً‪،‬‬

‫لكن ذلك ال يقلقهم أو ينتقص من مكانتهم التي تظل محفوظة‬ ‫ً‬ ‫طوال حياتهم؛ يذودون عنها بالتودد والصداقة وبالشراسة أحيانا؛‬

‫فإن همُ ذهبت حيواتهم ذهب إبداعهم الرائج إلى النسيان ليفسحوا‬

‫الفكري الذي بدأوا به حيواتهم‪ ،‬أو تراجعوا عنه دونما اعتذار‪،‬‬

‫الساحة لكبار آخرين‪ ،‬ليسوا كبارًا إال بمعايير النقد المداهن والقارئ‬

‫العرب كتبوا أعمالهم المهمة في بواكير شبابهم‪ ،‬ونالوا عنها‬

‫ولم تفقد ثقافتنا قدرتها على النقد بين يوم وليلة‪ ،‬بل استغرق‬

‫بينما الظاهرة الالفتة في حقل اإلبداع أن معظم المبدعين‬

‫شهرة كبيرة‪ ،‬ثم كفوا عن أن يكونوا كتابًا دون أن يتوقفوا عن‬ ‫إصدار الكتب‪ .‬ربما لهذا يبدو الطيب صالح استثنا ًء نادرًا‪.‬‬

‫بعض أسباب التراجع الفكري ينبع من ذات المفكر‪،‬‬ ‫إعمالاً لمفهوم التوبة بالمعنى الديني‪ ،‬وبعضها يكمن في‬

‫أسباب قاهرة تعرضت لها الثقافة العربية؛ بسبب التحوالت‬

‫السياسية بما صاحبها من ردة اجتماعية‪ ،‬فلم يتركنا القرن‬

‫العشرون إال منهكين ثقافيًّا‪ ،‬فاقدين قدرتنا على النقد‪ ،‬فقرا َء‬ ‫في الفكر فقرًا كميًّا وكيفيًّا‪ .‬في الجهة األخرى‪ ،‬يبدو أن افتقاد‬ ‫الخوف من الكتابة السبب األساسي وراء انطفاء المبدعين‪.‬‬

‫ما أن يصبح الكاتب مشهورًا حتى يتخلى عن وظيفة الكاتب‬

‫المأخوذ بهالة الشهرة‪.‬‬

‫األمر النصف الثاني من القرن العشرين أو أغلب سنواته‪ .‬وإذا تأملنا‬ ‫تاريخنا الثقافي ً‬ ‫جيدا سنجد أن المعارك األدبية الكبيرة تركزت في‬

‫النصف األول من القرن‪ .‬ولم تزل الصحافة األدبية تستدعي معارك‬ ‫الرافعي والعقاد‪ ،‬ومعارك األخير مع طه حسين‪ ،‬وغيرها إلثارة‬ ‫فضول القراء وكسب اهتمامهم في حقبة التثاؤب التي قل فيها‬

‫الجدل‪ ،‬وأشرعت فيها أبواب المجاملة على اتساعها‪.‬‬ ‫٭٭٭‬

‫كانت الليبرالية العربية في مراكز إنتاج الثقافة (القاهرة‪،‬‬ ‫وبغداد‪ ،‬ودمشق) خالل النصف األول من القرن العشرين منقوصةً‬ ‫بال أدنى شك‪ ،‬لكنها أتاحت ً‬ ‫تنوعا فكريًّا وإبداعيًّا لم يزل ملهمً ا‪،‬‬

‫ويحترف الشهرة‪ ،‬لم ينجُ من هذا المرض سوى قلة‪ ،‬لهذا‬ ‫نبدو فقراء في الكيف اإلبداعي الذي يعاني ً‬ ‫كثرة كغثاء السيل‪،‬‬

‫يقع الحدث األسوأ في تاريخ الثقافة العربية‪ ،‬وهو تحول الحكم‬

‫دون مساءالت جادة‪.‬‬

‫من طبيعة األنظمة العسكرية في كل مكان مجافاة الفكر‪ ،‬بينما‬

‫ويكاد ينحصر في لون واحد من الكتابة هو الروايات التي تمر‬ ‫٭٭٭‬

‫ً‬ ‫خصوصا)‬ ‫تراجع النقد (الفكر النقدي عمومً ا والنقد األدبي‬

‫جعل ثقافتنا مسالمة مستريحة للكذب؛ األمر الذي تسبب‬ ‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬

‫ويمكننا أن نتخيل المدى الذي كان بوسعنا أن نصل إليه‪ ،‬إذا لم‬ ‫إلى أنظمة عسكرية في المراكز الثالثة مع مطلع الخمسينيات‪.‬‬

‫يمكنها أن تسمح بالفن واألدب؛ ألنه ينطوي على إمكانيات االحتفال‬

‫باإلنجاز‪ ،‬وإذا ما جنح للنقد فنقده مبطن ومحتمل‪ .‬وقد نظر الحكام‬

‫الضباط إلى الفنانين والمفكرين والمبدعين المخضرمين بريبة؛ مثل‬


‫النظرة إلى «الطلقاء» الذين أسلموا بعد فتح مكة عندما لم يكن‬

‫من اإلسالم بد‪ ،‬وكان ال بد من جيل جديد للعهد الجديد‪ ،‬تطمئن‬ ‫السلطة لمساندته وتثبت من خالله أن االنقالب على الليبرالية قد‬ ‫أثمر ف ًّنا وأدبًا ولم يصب األوطان بالعقم‪.‬‬ ‫في مصر‪ ،‬المركز األكبر‪ ،‬كانت الموسيقا والغناء الفن األكثر‬

‫طواعية‪ .‬سرعان ما لحن المخضرمون وغنوا للعهد الجديد‪ ،‬وتعايشوا‬

‫إلى جوار نجومه الشباب‪ ،‬وكذلك فعلت السينما التي أنتجت أفالمًا‬

‫تدين «العهد البائد» بينما ظل المخضرمون من المفكرين والمبدعين‬ ‫ً‬ ‫ارتباكا‬ ‫يكتبون على طريقتهم المثلى‪ .‬منهم من أبدى توجسه أو توقف‬

‫ً‬ ‫وامتعاضا من التغيير‪ ،‬مثلما فعل نجيب محفوظ الذي احتاج خمس‬ ‫سنوات من الصمت قبل أن يكتب رواية جديدة‪.‬‬ ‫٭٭٭‬

‫لم تكن الثقافة من الهواجس الملحّ ة على النظام الجديد في‬

‫البداية‪ .‬انشغل عبدالناصر معظم عقد الخمسينيات بالتغييرات‬ ‫السياسية واالجتماعية التي جلبت له شعبية جارفة‪ ،‬لكن ذلك‬

‫العقد لم ينتهِ‪ ،‬إال وقد أصبحت للثقافة وزارة في مصر‪ .‬وبدأ الضبط‬ ‫والربط العسكريان يعرفان طريقهما إلى الثقافة‪ ،‬التي ستفقد‬

‫تنوعها تدريجيًّا‪ .‬كان المخضرمون يكتبون أعمالهم الفكرية على‬

‫الهامش‪ ،‬بينما ال يكاد أبناء العصر الجديد يقاربون إال اإلبداع‪ ،‬في‬

‫الشعر والقصة والمسرح والرواية‪ ،‬وسرعان ما أخذ الشعر والقصة‬ ‫والمسرح في االنحسار‪ ،‬حتى إذا دخلنا حقبة الثمانينيات لم نجد‬ ‫سوى الرواية مَ ل َِكة وحيدة على عرش الثقافة العربية‪ .‬وال يمكن‬

‫أن نعزو معالجة المؤسسين من أمثال طه حسين ومحمد حسين‬

‫هيكل ومعروف الرصافي ألكثر من لون أدبي وبحثي إلى طبيعة عصر‬ ‫التأسيس أو إلى الحرية التي صبغته فحسب‪ ،‬بل إلى موسوعية‬

‫تراجع النقد جعل ثقافتنا مسالمة مستريحة‬ ‫للكذب‪ ،‬األمر الذي تسبب الحقً ا في انهيار‬ ‫اإلبداع‪ .‬وقد تفاقمت الظاهرة في السنوات‬ ‫األخيرة‪ ،‬حيث تلمع أسماء وتحمل صفة‬ ‫«الكبير» تمضي بمتاعها الهزيل آمنةً مثل‬ ‫بقرة الهندوسي‪ ،‬ال توقفها بوابة الناشر‬ ‫وال بوابة الناقد وال معايير الجائزة األدبية!‬

‫الكتاب والمقال النقدي والجائزة‪ ،‬بينما تنصرف الكثرة الكاثرة من‬

‫المواطنين عن القراءة‪ ،‬وتستمر القلة تقرأ دون ُهدى‪ ،‬أو ب َه ْد ٍي من‬

‫نقد قليل األمانة‪ ،‬والطريف في األمر أن الناقد الذي أخرج العفريت‪،‬‬ ‫يبدأ في الخوف منه مثله مثل القارئ العادي‪ ،‬فبعد أن َت َتعَ مْ َل َق‬

‫شهرة الكاتب ال يستطيع الناقد أن يفصح عن رأيه بعمل ذلك الكاتب‬ ‫إذا ما ُعرض أمامه في عملية تحكيم!‬ ‫٭٭٭‬

‫اليسار مدين باعتذار للثقافة العربية؛ فهو الذي دشن‬

‫االسترخاء الفكري والمجامالت النقدية الفجة في جيل الستينيات‪.‬‬

‫الكثير من األعمال كانت تصدر بتمهيد نيراني كثيف من النقد‬

‫المنحاز‪ ،‬بل كانت بعض الصحف تحمل مقاالت تبشيرية بأعمال‬ ‫قبل صدورها‪ ،‬اطلع عليها الناقد مخطوطة‪ ،‬بينما تنزوي أعمال‬

‫جيدة مع مبدعيها خلف سحابة الدخان المصاحبة لشهرة‬

‫المشاهير‪ .‬ربما كان في تواري مبدع مجيد مثل عبدالحكيم‬ ‫قاسم مثالاً‬ ‫ً‬ ‫دامغا على االنحياز النقدي الذي استقر مع جيل‬

‫هؤالء الشعراء والكتاب ومتانة تكوينهم الثقافي‪ ،‬وهذا لن نجده‬ ‫ً‬ ‫الحقا إال عند قلة من أبناء جيل‪ ،‬كانت أعجوبته األساسية أن جُ َّل‬

‫الستينيات‪ .‬مع ذلك الجيل استقرت ظاهرة انفصال الشهرة عن‬

‫التقى ضعف التكوين الفكري مع كفالة السلطة للثقافة‪.‬‬

‫الثمانينيات ازداد عدد الجوائز األدبية‪ ،‬وانتقل ثقلها المادي من‬

‫رموزه لم يلتحقوا بالجامعة‪.‬‬

‫والسلطة بطبعها ال تحب الفكر‪ .‬لكن الخسارة لن تقتصر على الفكر‪،‬‬

‫فسرعان ما سار األدب إلى الخمول‪.‬‬

‫لم يعد تمويل الكاتب والناشر يأتي من جيب القارئ‪ ،‬بل من‬

‫جيب الدولة‪ ،‬بمعنى آخر‪ :‬من جيب المواطن سواء قرأ أو لم يقرأ‪.‬‬

‫وال تتعرض لجان النشر الحكومية للمؤاخذة عندما تنشر المستوى‬ ‫الهابط ما دام آم ًنا! جوائز األدب التي نشأت في المجتمع المدني‬

‫خالل النصف األول من القرن العشرين صارت جوائز الدولة‪ ،‬يوزعها‬ ‫الع ْلم‪ ،‬وال يمكن لجائزة أن تصيب ً‬ ‫مارقا مهما كان‬ ‫الزعيم في عيد ِ‬ ‫حجم إنجازه؛ ألن لجان التصويت ‪-‬التي تضم موظفين غير مثقفين‬

‫ومثقفين كالموظفين‪ -‬ستتكفل بالضبط والسيطرة‪.‬‬

‫صارت شهرة الكاتب ومكانته تمضي في دائرة مغلقة فيها‬

‫اإلجادة‪ ،‬واستبسل المشاهير في الدفاع عن هاالتهم‪ .‬ومع حلول‬

‫المراكز التقليدية إلى الخليج‪ ،‬وظل التحكيم من المراكز‪ ،‬خاضعً ا‬ ‫لتراتب الشهرة ذاته‪ ،‬وظل مشاهير الستينيات يتسلمون الجوائز‬ ‫ً‬ ‫تباعا بالترتيب‪ ،‬كأنها مكافأة نهاية خدمة!‬ ‫ومع الجيل ذاته استقرت الرواية معادلاً لـ«الكتابة» ولم َنعبُر‬

‫أبواب األلفية الثانية حتى كان االنفجار الكبير الذي لم يتشكل منه‬ ‫َكوْنٌ‬ ‫روائي وال حتى ُكويْكِب‪ ،‬كل ما هنالك زيادة اإلقبال على مهنة‬ ‫ٌّ‬ ‫«المشهور» الذي يكتب روايات ضعيفة يستقبلها نقاد يخافون‬

‫المشاهير وقراء فاقدون للمناعة النقدية!‬ ‫ولإلنصاف‪ ،‬لم ُ‬ ‫تخل الساحة تمامًا من الروايات الجيدة‪ ،‬لكن أمة‬

‫تبتغي الحياة ال يمكن أن ينحسر فيها الفكر كل هذا االنحسار‪ ،‬وال يمكن‬ ‫أن تميل كل هذا الميل إلى نوع إبداعي واحد‪.‬‬

‫‪149‬‬


‫آثار‬

‫أي غموض يكتنف تاريخ‬ ‫جدة القديم؟‬ ‫حسن بن محمد فقيه‬

‫‪150‬‬

‫باحث سعودي في آثار ما قبل اإلسالم‬

‫الغموض الذي يكتنف تاريخ جدة القديم سببه قلة الباحثين وقلة األبحاث التي تتناول‬ ‫تاريخ جدة القديم‪ ،‬وسبب ذلك أن معظم الباحثين التاريخيين ركزوا جهودهم على تاريخ مكة‬ ‫ما عدا بعض االجتهادات التي كتبت عن تاريخ جدة خالل الفترة الماضية القريبة‪.‬‬ ‫وجدة بموقعها الجغرافي بصفتها أولاً فرضة مكة أهم بقعة في العالم ليس بمجيء‬ ‫اإلسالم فحسب بل منذ فجر التاريخ‪ ،‬وليس هناك أدل من قول الله تعالى‪﴿ :‬إِنَّ أَو َ‬ ‫ْت‬ ‫َّل َبي ٍ‬ ‫اس َل َّل ِذي بِب ََّك َة﴾ ما يعني أن مكة هي أقدم موقع مقدس في الكرة األرضية وبالنظر‬ ‫و ِ‬ ‫ُض َع لِل َّن ِ‬ ‫الرتباط جدة كثيرًا بمكة منذ استطاع اإلنسان ركوب عباب البحر‪ ،‬ومنذ أن سكنت جُ ْر ُهم في‬ ‫وادي مكة‪ ،‬ومنذ تأسيس مدينة يثرب على يد العماليق‪ ،‬وثانيًا أنها تقع على طريق التجارة‬ ‫ً‬ ‫وثالثا أنها تملك ميناء مقابلاً ومُ واز ًيا لحضارة عريقة أخرى وهي‬ ‫بين اليمن والشام الساحلي‪،‬‬ ‫الحضارة الفرعونية الواقعة على الضفة الثانية للبحر األحمر‪ ،‬وهذه المميزات التي أوردتها‬ ‫تجعل لجدة مكانة كبيرة ودورًا فعالاً في جميع مراحل التاريخ بما فيها عصور ما قبل التاريخ‬ ‫(أي ما قبل ‪ 3100‬ق‪.‬م)‪ ،‬وما زالت كذلك إلى وقتنا الحاضر‪.‬‬

‫قلعة قديمة ومهجورة ذكرها ابن بطوطة‬

‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬


‫وقد عثرت وكالة اآلثار والمتاحف في وادي فاطمة على بعض‬

‫األدوات الحجرية تعود إلى فترة العصر اآلشولي (‪100.000 – 250.000‬‬ ‫سنة)‪ ،‬وكذلك ُع ِثر على بعض األدوات الحجرية في بعض المواقع في‬ ‫طريق جدة ‪ -‬مكة تحديدًا تعود إلى فترة الحضارة الموستيرية (‪-100.000‬‬ ‫‪ 25.000‬سنة)‪ ،‬وبعض الرسومات الصخرية التي ُعثر عليها في أبحر‪.‬‬ ‫لذلك أود هنا أن أورد عددًا من الدالئل المؤكدة على أن االستيطان في‬

‫جدة ربما يمتد إلى العصر الحجري الحديث أي قبل ‪ 10.000‬سنة تقريبًا‬

‫من وقتنا الحاضر‪.‬‬

‫والدالئل كالتالي‪ :‬الرسوم الصخرية‬

‫ُع ِثر على رسوم صخرية حيوانية في منطقة أبحر على أحد‬

‫الغموض الذي يكتنف تاريخ جدة القديم‬ ‫سببه قلة الباحثين وقلة األبحاث التي‬ ‫تتناول تاريخ جدة القديم‪ ،‬وسبب ذلك‬ ‫أن معظم الباحثين التاريخيين ركزوا‬ ‫جهودهم على تاريخ مكة‬ ‫عبدالرحمن البشري وهو من سكان بلدة عسفان ومن منسوبي بلدية‬

‫عسفان ( طيبة حاليًا) وقمت بتصويرها‪ .‬وعند البحث عن تاريخ هذه‬ ‫المباني وهل ُذكِرت في كتب التاريخ وجدت أن ابن بطوطة قد ذكر‬ ‫هذه المباني في رحلة حجه عام ‪723‬هـ‪ ،‬وأن في عسفان حص ًنا ً‬ ‫عتيقا‬

‫التالل الصخرية بالقرب من خليج سلمان‪ ،‬وقد قام محمد أبو زيد‬

‫وبرجً ا مشيدًا قد أوهنه الخراب‪ ،‬فإذا كان الحصن المشيد الموجودة‬

‫المتحف‪ ،‬وما زالت موجودة إلى حينه‪ ،‬ولواله لطمستها المشاريع‬

‫يمت ّد عمرها إلى فترة سابقة لإلسالم؛ ألنه لو كانت هناك مدينة‬

‫مدير متحف قصر خزام بجدة بإنقاذ هذه الرسومات‪ ،‬وقام بنقلها إلى‬

‫التي أقيمت في أبحر‪ .‬والرسوم الصخرية كان يستخدمها اإلنسان‬

‫للتعبير عن جوانب حياته اليومية بالرسم في فترة العصور التي سبقت‬

‫معرفة اإلنسان الكتابة باألبجدية التي حددها علماء اآلثار بالنصف‬ ‫الثاني لأللف الرابع قبل الميالد (‪ 3100 -3800‬ق‪.‬م) وهي الفترة التي تعود‬ ‫لها أول كتابة أبجدية عرفها التاريخ وهي الكتابة السومرية أو التي‬ ‫تعرف لدى المؤرخين بالكتابة المسمارية التي اك ُتشفت في بالد ما بين‬

‫النهرين‪ ،‬وهي كتابة على شكل يشبه المسامير‪ .‬والرسوم الصخرية‬ ‫التي اك ُتشفت في الجزيرة العربية تؤرخ في األغلب إلى ما بين ‪9000 -7000‬‬ ‫قبل الميالد‪ ،‬وتدل على استئناس اإلنسان لهذه الحيوانات‪.‬‬

‫بقاياه اآلن قد أوهنه الخراب عام ‪723‬هـ فمن المحتمل أن هذه األبنية‬ ‫مسورة وعامرة في الفترة اإلسالمية لذكرت في كتب التاريخ اإلسالمي‪.‬‬ ‫األدوات الحجرية‬

‫قمت بمسوحات أثرية في عدة مواقع في مدينة جدة‪ ،‬وعثرت‬

‫على فأس حجرية على قمة أحد الجبال المنخفضة االرتفاع في أم‬

‫السلم بالقرب من مبنى بلدية أم السلم التي أعتقد أنها تعود لفترة‬ ‫الحضارة الموستيرية بين ‪ 120.000‬و ‪ 40.000‬سنة ق‪.‬م تقريبًا‪ ،‬وهذه‬

‫الحضارة نسبة إلى كهف في فرنسا يعرف باسم «موستييه»‪ ‬ويظهر‬

‫على الحجر ترسبات طينية تبدو أنها منذ فترة طويلة جدًّا‪.‬‬

‫كل ما أوردته يدل داللة واضحة على قدم االستيطان في جدة‬

‫النقوش والكتابات القديمة‬

‫ويعود على األرجح إلى ‪ 25000‬سنة من وقتنا الحاضر تقريبًا قد يزيد وقد‬

‫وقد ورد في حولية أطالل التي تصدر عن الهيئة العامة للسياحة‬

‫ينقص‪ ،‬ونحن في حاجة إلى أبحاث أخرى ومسوحات أخرى لكشف‬

‫و ُعثر على نقوش وكتابات ثمودية في مواقع عدة منها منطقة أبحر‪،‬‬

‫الصخرية على أقل تقدير لن يكون أقل من ‪ 10000‬سنة من وقتنا الحاضر‪.‬‬

‫والتراث الوطني أنه في عام ‪1409‬هـ أجريت مسوحات أثرية في جدة‪،‬‬ ‫وحاولت البحث والقيام بجهود ذاتية للبحث عن نقوش في‬

‫تاريخ جدة القديم بشكل أكبر‪ .‬ولكنه بالتأكيد واستنادًا إلى الرسومات‬

‫مواقع أخرى ولكن إلى تاريخ كتابة هذا المقال لم أعثر على‬ ‫ً‬ ‫سابقا في حولية‬ ‫شيء من ذلك‪ ،‬فأنا ال أريد أن أعيد ما ُذكِر‬

‫أطالل‪ ،‬ولعلنا نجد مواقع أخرى تحتوي على نقوش كتابية‪.‬‬ ‫مبان قرب بلدة عسفان‬ ‫أطالل ٍ‬

‫يوجد قرب بلدة عسفان على طريق مكة‪ -‬المدينة‬

‫مبني من الحجر‪ ،‬يمتد لمساحة كيلو متر تقريبًا‬ ‫آثار سور‬ ‫ّ‬ ‫مبان متهدمة ومطمورة وال يظهر منها‬ ‫وبداخل السور آثار ٍ‬

‫سوى أعالي تلك األبنية وأقواس النوافذ‪ ،‬كذلك توجد قلعة‬

‫قديمة مبنية من الحجر على أحد التالل الجبلية‪ ،‬وقد قمت‬

‫بجولة أنا واألستاذ بدر القادري المدير العام للعالقات‬ ‫العامة بأمانة جدة على تلك اآلثار‪ ،‬وكان دليلنا األخ‬

‫رسم صخري عثر عليه في موقع قرب خليج سلمان شمال جدة‬

‫‪151‬‬


‫تراث‬

‫قافلة الذهب‪..‬‬

‫أشهر قافلة على مر العصور‬ ‫إعداد‪ :‬ليلى صالح العلي‬

‫‪152‬‬

‫أكاديمية عراقية مقيمة في اإلمارات‬

‫يعد الملك موسى «‪ »Mansa Musa‬المولود‪ ‬عام ‪1280‬م أغنى‬ ‫رجل في تاريخ األرض‪ ،‬فقد ص َّنفه موقع ثروة المشاهير ‪Celebrity‬‬ ‫‪ Net Worth website‬عام ‪2012‬م كأغنى رجل عرفه التاريخ‬ ‫بثروة َّ‬ ‫تقدر بما يعادل ‪ 400‬مليار دوالر أميركي‪ .‬وقد كان‬ ‫ً‬ ‫ملكا على إمبراطورية مالي العظيمة في القرن الرابع عشر‬ ‫الميالدي‪ ،‬حيث كانت مشهورة بخيراتها‪ ،‬وعلى رأس‬ ‫تلك الخيرات يأتي الذهب والماس والملح الصخري‪.‬‬ ‫ً‬ ‫خلفا لوالده‬ ‫ُتوج موسى كيتا األول في سنة ‪1312‬م‬

‫السلطان «أبو بكر الثاني»‪ .‬ومنذ تتويجه أصبح‬ ‫اسمه ولقبه «مانسا موسى»‪ ،‬فكلمة «مانسا»‬ ‫تعني الملك األعظم‪ .‬فتح الملك موسى مدينة‬ ‫ُتمبكتو‪ ،‬وتمكن من توسيع مملكته وتحويلها‬ ‫إلى إمبراطورية في مدة وجيزة من الزمن‪.‬‬

‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬


‫ّ‬ ‫محط القوافل التجارية عبر الصحراء‬ ‫أصبحت عاصمته ُتمبكتو‬

‫كان «مانسا موسى» سليل أسرة عظيمة النفوذ‪ ،‬امتدت‬ ‫ً‬ ‫سيطرتها من بحيرة تشاد‬ ‫شرقا إلى الساحل األطلسي غربًا‪،‬‬

‫بالشمال‪ .‬نشر موسى اإلسالم في أنحاء إمبراطوريته كافة‪.‬‬

‫وغينيا وبوركينافاسو والنيجر وأجزاء من موريتانيا ونيجيريا‬

‫جزءً ا كبي ًرا منها في الحروب األهلية والجيوش الغازية‪ .‬وتعدّ‬

‫أي المنطقة التي تغطي اليوم كلاًّ من مالي والسنغال وغامبيا‬

‫وتشاد‪ .‬وقامت إمبراطورية مالي اإلسالمية على أنقاض مملكة‬

‫«غانة» الوثنية بعد أن هاجمها وأسقطها المرابطون عام ‪1087‬م‬ ‫الذين أخذوا على كاهلهم نشر الدين اإلسالمي وفتح البالد‬ ‫الوثنية‪ .‬ثم جاء أجداد مانسا موسى من مملكة «كانجابا»‬ ‫المسلمة وأسسوا عام ‪1240‬م دولة إسالمية جديدة ُعرفت بدولة‬

‫«مالي»‪ .‬وهو اسم ترجِّ حه المصادر‬ ‫التاريخية تبعً ا ألقدم مدينة عرفت بهذه‬

‫المنطقة وهي مدينة ‪.malel‬‬

‫امتد حكم مانسا موسى مدة ربع‬

‫قرن من سنة ‪ 1312‬إلى ‪1337‬م‪ ،‬وكان‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ونشيطا وكبي ًرا‪ ،‬حتى‬ ‫جيشا قويًّا‬ ‫يملك‬

‫إنه فتح ‪ 24‬مدينة من مدن السودان‬ ‫في مدة قصيرة جدًّ ا‪ُ .‬‬ ‫وتوفي مانسا‬ ‫موسى في سنة ‪1337‬م ً‬ ‫تاركا إمبراطورية‬ ‫مزدهرة ومترامية األطراف عاشت‬

‫لعشرات السنين من بعده‪ ،‬فاستحق‬ ‫أنْ يخلده التاريخ بوصفه الرجل الذي‬ ‫أدخل مالي إلى أزهى عصورها على‬ ‫ً‬ ‫ورعا إلى جانب‬ ‫اإلطالق‪ .‬وكان عالمً ا‬

‫حنكته السياسية‪ ،‬ففي عهده ازدهرت‬ ‫جامعة سانكوري كمركز للعلم في‬

‫إفريقيا‪ .‬وسَّ عَ دولته لتضم مناجم‬ ‫الذهب في غينيا بالجنوب‪ ،‬وفي عهده‬

‫بعد وفاة مانسا موسى‪ ،‬لم يحسن ورثته إدارة ثروته‪ ،‬وأنفقوا‬ ‫مالي اآلن من أفقر الشعوب اإلفريقية‪ ،‬لكنها تحتوي على كنز‬

‫ثمين يحاول العلماء العثور عليه وهو المخطوطات من الكتب‬

‫والوثائق التي جاء بها مانسا موسى من رحلة حجه الشهيرة‬ ‫التي احتفظ أهل ُتمبكتو ببعضها إلى اآلن في أغلفة من الجلد‬

‫أو في صناديق داخل بيوتهم وتحت األرض‪.‬‬

‫‪153‬‬


‫تراث‬

‫المسجد الكبير بتمبكتو‬

‫أشهر رحلة في التاريخ‬

‫تحركت من إمبراطورية مالي في عام ‪1324‬م أضخم وأثرى‬

‫وأكرم قافلة حجيج قادها حاكم مسلم للوصول إلى مكة‬ ‫المكرمة‪ .‬كان قوامها ‪ 60‬ألف رجل‪ ،‬منهم ‪ً 12‬‬ ‫ألفا يحملون ما‬ ‫مجموعه ‪ 24‬ط ًّنا من سبائك الذهب‪ .‬و(‪ )100 –80‬جمل يحمل الواحد‬

‫‪154‬‬

‫والجمال يلبسون‬ ‫منها قنطارًا من الذهب‪ .‬ورجال على الخيول‬ ‫ِ‬

‫عصي ذهبية يراقبون وينظمون شؤون القافلة‬ ‫الحرير‪ ،‬وبأيديهم‬ ‫ّ‬ ‫التي صارت أشهر قافلة في التاريخ والمسماة بقافلة الذهب‪،‬‬ ‫وكان على رأسها أغنى رجل عرفه التاريخ‪ .‬ولم يكن أول من يقود‬ ‫قافلة بهذه الضخامة من أسرته‪ ،‬فقد قاد أبوه أبو بكر الثاني‪،‬‬ ‫قبله قافلة بحرية من ‪ 3‬آالف سفينة بهدف الوصول إلى حدود‬

‫تحركت من إمبراطورية مالي في‬ ‫ْ‬ ‫عام ‪1324‬م أضخم قافلة حجيج قادها‬ ‫حاكم مسلم للوصول إلى مكة‬ ‫المكرمة‪ .‬قوامها ‪ 60‬ألف رجل‪ ،‬منهم‬ ‫‪ 12‬ألفً ا يحملون ما مجموعه ‪ 24‬ط ًّنا‬ ‫من سبائك الذهب‪ .‬و (‪ )100 – 80‬جمل‬ ‫قنطارا من الذهب‪.‬‬ ‫يحمل الواحد منها‬ ‫ً‬ ‫والجمال يلبسون‬ ‫ورجال على الخيول‬ ‫ِ‬ ‫عصي ذهبية يراقبون‬ ‫الحرير وبأيديهم‬ ‫ّ‬ ‫وينظمون شؤون القافلة التي صارت‬ ‫أشهر قافلة في التاريخ‬ ‫المحيط األطلسي‪ .‬ويذكر الدكتور إبراهيم طرخان في كتابه‬ ‫«دولة مالي اإلسالمية» أنَّ هناك بعض المبالغات في تقدير كمية‬ ‫الذهب التي كان يحملها السلطان موسى‪ ،‬وكذلك مبالغات‬ ‫في ضخامة الموكب‪ ،‬لكن ذلك يلقي ضوءً ا على أنه كان فعلاً‬

‫كثير الثراء والفخامة‪ ،‬فمالي كانت تتحكم في مناجم الذهب‪.‬‬ ‫وكان مانسا موسى يتصدق بالذهب على الفقراء في البالد التي‬

‫يمر بها‪ ،‬ويبني مسجدً ا في كل مكان يحط فيه ِرحاله‪ .‬وحين‬ ‫وصل إلى القاهرة‪ ،‬بهرته بعمرانها‪ ،‬فقابل السلطان المملوكي‬

‫الناصر محمد‪ ،‬وطلب منه أنْ يرشح له علماء ومهندسين‬ ‫وحرفيين‪ ،‬ليعمروا مدن مالي كما عمروا القاهرة ليأخذهم‬ ‫معه عند عودته من الحج‪ .‬وفي الحجاز أدى فريضة الحج وزار‬

‫المدينة‪ ،‬وأفاض على الحجيج وأهل الحرمين باإلحسان‪ .‬وقد‬ ‫طاب المقام له بالحجاز‪ ،‬فبقي هناك نحو ثالثة أشهر بعد انتهاء‬ ‫موسم الحج‪.‬‬

‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬


‫قافلة الذهب‪ ..‬أشهر قافلة على مر العصور‬

‫وفي طريق عودته من الحج‪ ،‬اشترى كميات ضخمة من الكتب‬

‫والوصول إليه‪ ،‬فأنشئت مدرسة في جزيرة «ميوركا» كان أهم‬

‫والمهندسين والحرفيين‪ ،‬ليشيدوا أكبر المساجد والقصور في‬

‫أغلب الخرائط التي رُسمت في أوربا في ذلك القرن‪ .‬وترجع أقدم‬ ‫خريطة إلى عام ‪1339‬م‪ ،‬وقد أوضحت الخريطة ً‬ ‫جالسا‬ ‫ملكا مهيبًا‬ ‫ً‬

‫في جميع فروع المعرفة‪ ،‬ورافقه إلى مالي عشرات من العلماء‬

‫إفريقيا في ذلك الوقت‪ .‬وكان أشهر من أتى من مصر المهندس‬

‫األندلسي أبو إسحاق الساحلي‪ .‬وكان مسجد (جينغاربير) إحدى‬ ‫ُتحف ِه الخالدة‪ .‬وقد واجه المهندس أبو إسحاق في ُتمبكتو وغاوة‬

‫أهدافها تعرف قلب إفريقيا‪ .‬وظهرت صورة مانسا موسى في‬

‫على عرشه في كامل لباسه الملكي‪ ،‬وعلى رأسه تاج‪ ،‬وفي إحدى‬

‫يديه صولجان الملك‪ ،‬وفي اليد األخرى قطعة من ذهب يقدمها‬

‫مشكلة كون المنطقة صحراوية ال يتوافر فيها الحجر‪ .‬ثم وجد‬

‫لشخص يهرول نحوه‪ ،‬ومنقوش على الخريطة الجملة‪« :‬هذا‬

‫المخلوط بالقش‪ ،‬ود ََّعمَ السقف بأخشاب النخيل‪ .‬ولم تزد‬

‫حتى صار أغنى وأعظم ملك في جميع البالد»‪ .‬الذي يمكن قوله‬

‫الحل في استعمال المواد المتوافرة محليًّا‪ ،‬فاستعمل الطين‬ ‫القرون السبعة التي مرت على الطين المخلوط بالقش إال الشدة‬ ‫والقسوة‪ .‬وتعتلي المسجد مئذنتان‪ ،‬ويشتمل على فناء واسع غير‬ ‫مسقوف ومساحة مسقوفة‪ .‬ويسع داخل المسجد َ‬ ‫ألف ْي م َ‬ ‫ُص ٍّل‪.‬‬ ‫بداية األطماع األوربية بالذهب‬

‫حين بدأ مانسا موسى رحلته لحج بيت الله َم َّر بدول ساحل‬

‫البحر المتوسط‪ ،‬مثل‪ :‬بالد الطوارق‪ ،‬وتونس‪ ،‬ثم مصر‪ .‬بذلك‬

‫أعطى الفرصة لتجار أوربا الذين كانوا يرتادون شمال إفريقيا‬ ‫لغرض التجارة لمشاهدة القافلة العظيمة‪ ،‬وحالة الغنى التي‬

‫سافر بها هذا الملك للحج‪ ،‬وقدر الذهب الذي يملكه ويوزعه‪.‬‬ ‫ثم وصلت شهرة مالي وأخبار قافلة الحج وداللتها إلى أوربا‬

‫كلها‪ .‬ومنذ ذلك الوقت ازداد التفكير األوربي لتعرف قلب إفريقيا‬

‫السيد الزنجي موسى مالي سيد زنوج غينيا‪ ،‬يكثر الذهب في بالده‬ ‫في هذا المجال‪ :‬إنَّ عظمة مالي زمن مانسا موسى كانت من بين‬

‫الحوافز التي أدت إلى زيادة الرغبة في تعرف قلب إفريقيا‪ ،‬تمهيدً ا‬ ‫لحركة الكشف واالستعمار األوربي‪.‬‬ ‫مراجع‪:‬‬

‫‪- http://www.unesco.org‬‬ ‫‪- http://www.ancient-origins.net‬‬ ‫‪- https://en.wikipedia.org‬‬ ‫‪- http://www.businessinsider.com‬‬ ‫‪- http://www.albayan.ae‬‬

‫ إبراهيم علي طوفان‪ ،‬دولة مالي اإلسالمية‪ ،‬دراسات في التاريخ‬‫القومي اإلفريقي‪ ،‬الهيئة العامة للكتاب‪1973 ،‬م‪.‬‬

‫‪155‬‬


‫مخطوطات‬

‫‪156‬‬

‫مخطوط‪ :‬الشفا في تعريف حقوق المصطفى‬ ‫المؤلف ‪ :‬القاضي عياض بن موسى اليحصبي (ت ‪ 544‬هـ)‪.‬‬

‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬


‫‪157‬‬

‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫مذهبة ‪.‬‬ ‫مؤطرة بجداول‬ ‫نسخة كتبت بجامع آيا صوفيا بإسطنبول سنة ‪1239‬هـ‪ .‬صفحاتها‬

‫ّ‬ ‫مذهبة ومزخرفة من مقتنيات مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية‪.‬‬ ‫وبصفحتها األولى حلية جميلة‬


‫نصوص‬

‫في فناء الفكرة المستديرة‬ ‫إدريس علوش ‬

‫شاعر مغربي‬

‫ِفي َفناءِ‬ ‫ال ِف ْكر ِة المُ ْستدير ِة‬ ‫ْ‬ ‫َكو ٌ‬ ‫ِّيح‬ ‫ْكب ال يأب ُه للر ِ‬ ‫يازك ال َّت َ‬ ‫ص ُّد ِع‬ ‫ول َن ِ‬

‫(‪)1‬‬

‫َكو َْك ٌ‬ ‫ب‬ ‫أَ ْشب ُه باألرْض و َ​َتوْأم َ‬ ‫ألديمها‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ول ِق ْشرة اليابِ َسة‬

‫‪158‬‬

‫ْ‬ ‫أفصحُ منَ ال ُّزهر ِة قليل‬ ‫س مَ ارس‬ ‫َيس َتحِ مُّ في َشمْ ِ‬ ‫تظل بأجْ نحَ ةِ َّ‬ ‫و َي ْس ُّ‬ ‫اللي ِْل‬ ‫وبما مَ َل َك ْت ُه َس ُ‬ ‫هار‬ ‫ريرة ال َّن ِ‬ ‫ب ُ‬ ‫لخطايَ‬ ‫َكو َْك ٌ‬

‫َ‬ ‫اس َت ْدرَج ْتني‬ ‫وللخطيئةِ التي ْ‬

‫أل ْد َ‬ ‫ناصية الوجُ و ِد‬ ‫رك ِ‬ ‫ت لي مَ ً‬ ‫وسحْ ر أمْ كِنةٍ َ‬ ‫كان ْ‬ ‫الذا‬ ‫ِ‬ ‫وو َ‬ ‫َرشات بِ َسعَ ة ال َّتأمُّ ِل‬ ‫والعي ِْن الحَ الِمَ ة‬ ‫ب َّ‬ ‫َك َ‬ ‫وك ٌ‬ ‫تدلى‬ ‫منْ ُن َ‬ ‫قطةِ مَ اء‬ ‫حَ َف َر ب ْئرًا‬

‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬

‫َتواطأَ َ‬ ‫ْ‬ ‫ب‬ ‫مع‬ ‫الخص ِ‬ ‫واستظه َر المُ شاة‪،‬‬ ‫ْ‬

‫والرُّحل‪،‬‬ ‫َ‬ ‫والغابات‪،‬‬

‫راب‬ ‫ِس َّر ْان َ‬ ‫تسابهم لل ُّت ِ‬

‫واليَابسةِ‬

‫والمرْعى‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫واللغة‪،‬‬ ‫والحَ رْف‪،‬‬

‫الساللة التي َّ‬ ‫تدل ْ‬ ‫ت‬ ‫وأنامل ُّ‬ ‫ِ‬ ‫مِ نْ ْ‬ ‫نطفةِ َّ‬ ‫الضوْءِ‬

‫وحَ افةِ الوجُ ود‪.‬‬

‫ِفي َف َناءِ‬ ‫المستدير ِة‬ ‫ال ِف ْكر ِة‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫وار‬ ‫َبقايا أ ْس ٍ‬ ‫أَ ْط ٌ‬ ‫الل منْ‬ ‫طين أَحْ مَ َر‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫لح‪،‬‬ ‫صخو ُر مِ ٍ‬ ‫َ‬ ‫وم ْرجانٌ أ ْبي ُ‬ ‫َض‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫فران‬ ‫َكوْمة َز ْع ٍ‬

‫(‪)2‬‬

‫َ‬ ‫َتزحْ َ‬ ‫خار العَ شير ِة وأَ ْنب َت ْ‬ ‫لق ْ‬ ‫ت َز ْهرًا‬ ‫ت حَ وْل ف ِ‬


‫رف إنعاش لأِ َرْواح مَ ْس ُكونةٍ بأج َّنةٍ َ‬ ‫ُغ ُ‬ ‫وفوْضى‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ياب‬ ‫َ‬ ‫قابر َد ْه َشةِ ِ‬ ‫الغ ِ‬ ‫وسما ُد أجْ سا ٍد َتشي بمَ ِ‬ ‫راب‬ ‫وأُفول مجْ دِ العَ ابرينَ في ْ‬ ‫فار ال ُّت ِ‬ ‫أس ِ‬ ‫بار و ْ‬ ‫َس ُ‬ ‫ِتاريخ ي ْنحَ ني‬ ‫َشوَش ل‬ ‫راب ُغ ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫وآخر يَعْ لو فو َْق حِ ْ‬ ‫ص ِن المُ ْفر َد ِة‬ ‫َ‬ ‫ُذيب حَ‬ ‫ِلي َ‬ ‫اشية المَ حْ ِو‬ ‫الم‬ ‫ولي ُْف ِ‬ ‫صحَ الرَّاوي َعنْ مَ عَ ِ‬ ‫َكي َ‬ ‫ْنونةٍ مُ ْس َتباحَ ةٍ‬ ‫رك ر َْشحَ ُ‬ ‫ُت ْد ُ‬ ‫الخ َطا‬ ‫اآلس ْ‬ ‫ْ‬ ‫واغ َ‬ ‫رة‪..‬‬ ‫تراب الر َّْغبةِ‬ ‫ِ‬

‫ِفي ف َناءِ‬ ‫المستدير ِة‬ ‫ال ِف ْكر ِة‬ ‫ْ‬ ‫مَ عْ ًنى‬

‫اهد ٍة ومَ وْتى‬ ‫أسي ُر َش ِ‬ ‫َ‬ ‫حَ َ‬ ‫مترف ٌة وال جَ ْدوى‬ ‫قيق ٌة‬

‫واس ُشعَ راء‬ ‫حَ ُّ‬

‫ُسر ْان ِسيابهم‬ ‫مَ مْ لوكينَ لي ْ‬ ‫ِفي َشلاَّ ل َق َ‬ ‫صيد ٍة‬ ‫َ‬ ‫وق ْ‬ ‫افية‪..‬‬ ‫َنايٌ ‪،‬‬

‫حاش ُ‬ ‫ِتاب‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ية ك ٍ‬ ‫وذ ِْكرى‪،‬‬ ‫َقلمٌ ‪،‬‬ ‫تان‪،‬‬ ‫َو ْر َد ِ‬ ‫َد ٌ‬ ‫الية‪،‬‬

‫َس ٌ‬ ‫اقية‪،‬‬ ‫اه َ‬ ‫ِّيح‬ ‫َش ِ‬ ‫دت ِ‬ ‫ان لي وللر ِ‬

‫(‪)3‬‬

‫ْ‬ ‫ك‬ ‫وائتلاَ ف ال َّتشا ُب ِ‬

‫في َبالغة جَ َسدٍ يَعْ وي‬ ‫ْ‬ ‫ب ي ْنأى َع ِن البَراري‬ ‫وذِئ ٍ‬ ‫ْصفة المُ ُدن‬ ‫و َيحْ ذر مِ نْ أر ِ‬ ‫ران‬ ‫ومَ ناعةِ العُ مْ ِ‬ ‫لص َس َ‬ ‫االستعَ ارَةُ‬ ‫ٌّ‬ ‫رق ْت ُه ْ‬

‫مِ نْ ُك َّو ِة نا ِفذ ٍة‬ ‫وأه َدت ُه ل ُِق ْ‬ ‫ْ‬ ‫بان ال ِك َنايةِ‬ ‫ض ِ‬

‫لِيب َْقى و َ‬ ‫َريث ِس ِّر المَ رَايا المُ َقعَّ َر ِة‬ ‫لاَ‬ ‫نهر‬ ‫ِفي ُدو ِ‬ ‫ب ٍ‬ ‫ومَ جْ رًى‬ ‫ِّ‬ ‫ْ‬ ‫َه ْل ُك ْن ُ‬ ‫ب‬ ‫ت َتوْأمً ا للذئ ِ‬ ‫َ‬ ‫جَ ْر ٌو آخ ُر ‪-‬بمَ عْ ًنى أ ْو آخرَ‪-‬‬ ‫َس ُ‬ ‫هو ْ‬ ‫ليل َفر ٍْو م ْز ٍّ‬ ‫ياب الجَ ليدِ ‪!..‬‬ ‫بأن ِ‬

‫أم َنديمُ ل ٍّ‬ ‫َوات‬ ‫ارق لجَ مْ ر حَ ي ِ‬ ‫ِص َس ٍ‬ ‫نقر ْ‬ ‫قاب‪،‬‬ ‫األل ِ‬ ‫مُ ولعين بِ ْ ِ‬

‫ْ‬ ‫واح‪،‬‬ ‫واألل ِ‬

‫رافئ َّ‬ ‫الد ْه َشةِ ‪..‬‬ ‫ومَ ِ‬ ‫الَ أَ ْدري‪..‬؟‬

‫ت مُ ْستدِ ً‬ ‫ْ ُ‬ ‫ْن َك َان ْ‬ ‫يرة‬ ‫الفكرة َع ِن الكو ِ‬ ‫ْ‬ ‫وأكث َر َشأْ ًنا‬ ‫ َتمامً ا‪-‬‬‫استيهَ‬ ‫َياض‬ ‫مِ نْ مجْ‬ ‫هول ْ‬ ‫ِ‬ ‫امات الب ِ‬ ‫ِ‬ ‫واللاَّ مَ عْ َنى‬ ‫آخ َر َي َت َّ‬ ‫ؤال َ‬ ‫جذ ُر‬ ‫مَ ْب ًنى ل ُ‬ ‫ِس ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ِفي ِس ِّ‬ ‫ض‬ ‫جل ال َّتناق ِ‬ ‫ليَحْ يا َ‬ ‫الكائنُ‬ ‫والسلاَ َلة مَ عً ا‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫ل َتبْقى َ‬ ‫صيدة مُ درَّجَ ًة‬ ‫الق‬ ‫ِفي ُزرْقةِ الهَ باءِ‬ ‫لِتب َْقى‪...‬‬

‫‪159‬‬


‫مقال‬

‫جميلة عمايرة‬ ‫كاتبة أردنية‬

‫حين تكتب المرأة‪..‬‬ ‫عن الكتابة وإشكاالتها‬ ‫تشبه الكتابة حروبًا صغيرة يخوضها المرء‪ ،‬حروبًا مع ‪-‬‬

‫وعلى أكثر من جبهة‪ ،‬وبهذا «مياه كثيرة جرت تحت الجسر»‬

‫من دون أن يشعر بها كثيرون‪ ،‬وفي كل مرة كنت أعود‬

‫وبالدور المنوط بي‪ ،‬ففي الوقت الذي كنت أراني فوق اآلخرين‪،‬‬

‫والناس العاديين كذات حتى بين أسرتي الصغيرة‪ ،‬وهذا التفكير‬

‫بخسائر أكثر أو بربح أقل‪ ،‬لكن من دون أن أعود كما كنت في‬

‫المتأتي من كوني كاتبة‪ ،‬وأتميز منهم وال أشبههم‪ ،‬اكتشفت أنني‬

‫استردادها بال زيادة أو نقصان‪ ،‬قبل أن يحدث ما حدث!‬

‫الكتاب والكاتبات بالعموم‪ ،‬في الحقيقية ال أختلف عنهم بشيء‬ ‫فأن تكون كاتبًا هذا ليس امتيا ًزا بشيء‪ ،‬فالكتابة مهنة أو حرفة ال‬

‫السابق‪ ،‬أنت لست نفسك قبل قليل‪ ،‬ولن تملك القدرة على‬ ‫على مستوى الفكرة‪ ،‬اللغة‪ ،‬القص بمفهومه الحديث‬

‫‪160‬‬

‫ومتفحصة‪ ،‬إلى أن غيرت لديّ كثي ًرا من اتجاهاتي بالقراءة والكتابة‬

‫ليس من شيء أمام الكاتب سوى الفكرة‪ ،‬فالحب فكرة‬

‫والحرب فكرة والوطن فكرة‪ ،‬مشكلة الكاتب األولى هي مع‬

‫الفكرة والفكرة هي التي تقود لإلنتاج‪ ،‬إنتاج األفكار‪ ،‬بمعنى‬

‫بهذا التفكير الساذج والمتوارث عن مفهوم الكاتب والشائع عند‬

‫تختلف عن أي حرفة أخرى كالزراعة أو الهندسة أو بائع الخضار‪،‬‬ ‫إال بمقدار ما تقدمه من طرائق تفكير مختلفة‪ ،‬وما تقترحه من‬

‫جماليات! قناعات عديدة أزحتها من رأسي لعل أهمها‪ :‬إعادة تشكيل‬

‫أن أفكارنا ليست سوى القدرة على تنشئة عالقات مع األشياء‬

‫ذاتي ككاتبة عبر تغيير كثير من التصورات والقناعات الجديدة في‬

‫وتصورات تقود للوهم والشك أو العزلة أو األمل أو اليقين‬ ‫وصولاً للكتابة عبر اللغة‪.‬‬

‫تجري أمامي‪ .‬وما هي مكانتي‪ ،‬ومهمتي ومفاهيمي للحرية والعدالة‬

‫وبما نشكله عن هذه األشياء من تداخالت وعالئق وأضداد‬

‫أما عن المعارك األخرى التي أسميها «الداخلية»‪،‬‬

‫سأتحدث عن تجربة وعمر وخيبات‪ ،‬عن حروب وقعت‪ ،‬وعن‬

‫حروب ستقع‪ ،‬وعن هزائم صغيرة وأخرى كبيرة ال تغتفر‪ ،‬عن‬ ‫الحب والخذالن في الحب والحرب أو الثورات بمعنى أدق‪،‬‬

‫ضوء الراهن المعيش من دون إغفال للمتغيرات واألحداث التي‬ ‫والحقيقة‪.‬‬

‫مثالية مفرطة‬

‫انزياح فكرة أن الكاتب حارس لألفكار وللقيم وللحرية وهو‬

‫صوت الضمير‪ ،‬أو المثالية المفرطة بمثاليتها‪ ،‬وهو الناطق الوحيد‬

‫نحن الذين خذلنا بالثورات وبالحب‪ ،‬وعن حيوات كثيرة مرت‬

‫باسم الحقيقة أو مناوأة السلطة‪ ،‬أية سلطة كانت! وهنا بماذا‬

‫تعيش الحلم وترنو ألفق آخر ال تغيب شمسه إال لتطلع صباح‬ ‫ً‬ ‫إشراقا‪.‬‬ ‫اليوم التالي أكثر‬

‫نفسه أولاً ‪ :‬لماذا تزداد األمور سوءًا أمام التحوالت التي تحدث في‬ ‫عالمنا العربي تحديدًا؟ وما الذي يحدث أصلاً ؟ ولماذا ال دور لي أو‬

‫بي ومررت بها‪ ،‬بعضها غادر إلى غير رجعة وبعضها ال يزال‬ ‫يطبع آثاره فوق روحي‪ ،‬عن حيواتي أنا المرأة التي ال تزال‬

‫توقفت متشككة ومراجعة ومتسائلة لعل أبرز هذه‬

‫يختلف الكاتب عن الواعظ أو إمام الجامع أو كاهن الكنيسة؟‬ ‫الكاتب كفاعل اجتماعي ينبغي له ألاّ يتوقف عن طرح األسئلة على‬

‫المحطات هي محطة الذات‪ ،‬وهي من أصعب المحطات! ذات‬

‫تساؤالت أو نقاشات فيما يحدث من متغيرات تكاد تعصف بكل‬ ‫ما في طريقها؟! ال بد لي ككاتبة من التوقف طويلاً أمام المقوالت‬

‫العالم‪ ،‬عالقتها مع الكتابة‪ ،‬أسئلة الكتابة وما هي الجدوى‬

‫العصر ومتغيراته‪ ،‬وأمام الثنائيات العقيمة التي تقسم المقسوم‬

‫المرأة الكاتبة‪ ،‬عالقة الذات بذاتها‪ ،‬عالقتها مع اآلخر‪ ،‬ومع‬ ‫المتأتية من ورائها؟ ومن هو الكاتب أو المثقف؟ أسئلة‬

‫كهذه‪ ،‬وغيرها كثير‪ ،‬استوقفتني كثي ًرا‪ ،‬متسائلة متشككة‬

‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬

‫المتحجرة والجاهزة‪ ،‬والمناهج التعليمية القاصرة عن مواكبة هذا‬

‫إلى أجزاء صغيرة متناثرة أمام أعيننا؛ ألننا إذا لم نفهم ما يحدث‬

‫فلن يكون لنا من دور بصناعة الحدث وبالتالي المشاركة في نتائجة!‬


‫على المثقف الكاتب إعادة ترتيب «عالقته باألفكار لنسج‬

‫عالقات جديدة مع الواقع» الواقع المتغير بكل شيء من خالل‬

‫شبكة جديدة من المفاهيم‪ ،‬وعليه صياغة أفكاره ثانية في ضوء ما‬

‫يحدث وفي خضم التجربة‪ ،‬هذا هو التحدي الذي على الكاتب أن‬ ‫يتوقف أمامه طويلاً ‪.‬‬ ‫هنا فقط يستطيع أن ينتج ًّ‬ ‫نصا مغاي ًرا‪ ،‬يملك وقائعيته‬

‫وامتداده؛ إذ إن األفكار ليست سوى عالقته بالواقع والحقيقة‪،‬‬ ‫حينها سيكون فاعلاً في مجتمعه تمامًا مثل أية فعالية أخرى‬

‫يمتهنها رجال األعمال والمهندسين والمزارعين وغيرهم‪ ،‬وسيكون‬

‫ابن عصره وزمنه عند توقفه عن تلقي األحداث بمنطق الصدمة‬ ‫والمؤامرة‪ ،‬وسيكون فاعلاً واعيًا بدوره في المدى اإلنساني برمته‪.‬‬

‫الكاتب كفاعل اجتماعي ينبغي له أال‬ ‫يتوقف عن طرح األسئلة على نفسه‬ ‫أوال‪ :‬لماذا تزداد األمور سوءًا أمام‬ ‫التحوالت التي تحدث في عالمنا‬ ‫تحديدا؟ وما الذي يحدث‬ ‫العربي‬ ‫ً‬ ‫أصال؟ ولماذا ال دور لي أو تساؤالت أو‬ ‫نقاشات فيما يحدث من متغيرات تكاد‬ ‫تعصف بكل ما في طريقها؟!‬

‫فأنت ال تذهب للمعركة من دون استعداد!‬

‫الكتابة هي ميدان الكاتب وهي تجربة تشتبك بها المعرفة‬

‫والسلطة‪ ،‬سلطة المعرفة‪ ،‬والعشق والمحبة‪ ،‬واألمل والصراع‪،‬‬

‫اختالفات جرت على المشهد أثناء كتابته أي أنني أستند لحدث‬

‫والتواصل والقطيعة‪ ،‬والتعمية واالستنارة أو الرؤية‪ .‬هذا باعتقادي‬

‫جوهره حقيقي‪ ،‬لكن ما يحدث بعد ذلك هو ما تأخذني الكتابة أو‬

‫مدوِّن اجتماعي أو أي مهنة أخرى غير مهنة الكاتب!‬

‫الشخصية‪ ،‬الشخوص‪ ،‬أثناء عملية الكتابة من دون أن يكون األمر‬

‫هو الدور المنوط بالكاتب وإال سيكون مثل كاتب تقرير أو مؤرخ أو‬

‫والكاتب بطبعة كائن متيقظ‪ ،‬بعينين متفتحتين على األشياء‪،‬‬

‫المرئية وغير المرئية وبما يحيط به‪ ،‬وما يمر من أحداث ووقائع‬

‫حوله وبالعالم‪ ،‬وهو بطبعه شخص يتمتع بذكاء حاد وبمكر فائق‪،‬‬

‫ويقتنص كثي ًرا من األحداث الكبيرة أو الصغيرة من أجل كتابة نص‪،‬‬

‫في الوقت الذي يبحث فيه عن غيره‪.‬‬

‫الحالة إليه من تأويالت أو انزياحات أو أحداث جديدة طرأت على‬

‫بيدي‪ ،‬وكثي ًرا ما توقفت أمام نصي عند اكتماله وأتفاجأ تمامًا كقارئة‬

‫أن الشخصية خرجت على ما كنت أو ّد لها أن تذهب إليه‪ ،‬وال أعرف‬

‫كيف حدث هذا أو متى خرجت األمور عن سيطرتي كذات كاتبة!‬ ‫عن مفهوم الحرية لدى الكاتب الكاتبة‬

‫كثي ًرا ما أجدني ومن غير تخطيط وبال قصد أو سابق إصرار أمام‬

‫ال تقتصر الحرية بمفهومها الواسع على حرية الرأي والتعبير‬

‫بالصمت بمكر ودهاء كبيرين‪ ،‬وأستدرج من حولي وأوقعه بشباكي‬ ‫ً‬ ‫وأحيانا‬ ‫اللغوية ببطء‪ ،‬ألكتبه فيما بعد‪ ،‬وأنا أبتسم في سري‪،‬‬

‫للحرية من دون أن يكون لديك كذات موقف ورؤية لهذه الحرية‪،‬‬

‫ما يستفزني للكتابة‪ ،‬وأكاد أصرخ‪ :‬أجل‪ ،‬وجدتها‪ ،‬غير أني ألوذ‬

‫كثيرة أضبط «الضحية» على غير توقعه‪ ،‬وأقوده من يده نحو ما‬

‫أعتقد أنه سينقاد إليه معي أو من دوني لكن ظهوري المفاجئ‬

‫ساعده من حيث ال يدري للوقوع بسهولة متناهية بما أدركت أنه‬

‫واقع به ال محالة‪.‬‬ ‫لاً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وليس مهمًّا أن يكون رج أو امرأة‪ ،‬قد يكون شيئا‪ ،‬أو حدثا‪،‬‬

‫أو حالة أو رائحة‪ ،‬هذا كله يقودني لتتبع األثر وسبر أغواره والكتابة‬ ‫عنه ً‬ ‫الحقا‪ .‬وكثي ًرا ما تجيء أحداث قصصي ومجرياتها من هناك‪،‬‬

‫من ذلك الركن المعتم‪ ،‬من مالمح ذاك الرجل التي تنطق بما هو‬ ‫مخبوء وال يجرؤ على البوح به ألحد‪ ،‬من هذا الرجل الذي يكتنفه‬ ‫الغموض‪ ،‬من تلك المرأة التي وهي ترسم ابتسامة عريضة على‬

‫وجهها فتتكشف هذه االبتسامة عن حزن يطلع بالرغم من هذا‬

‫كله‪ .‬لكن ال أعرف ما الذي يحدث أثناء الكتابة‪ ،‬بمعنى ال بد لي‬

‫عنه‪ ،‬أو مناوأة السلطة بغض النظر عن مدى شرعية هذه السلطة أو‬ ‫ً‬ ‫حديثا‬ ‫طغيانها‪ ،‬أو التآلف معها‪ ..‬أنت ال تستطيع أن تقدم مفهومًا‬ ‫ومن دون أن تكون ح ًّرا من الداخل‪ ،‬وأن تكون ح ًّرا من الداخل يعني‬ ‫أن تمتلك مفهومًا لهذه الحرية وعالقتك بها وتصورك لهذه الحرية‬ ‫المنشودة أو التي تحلم بها‪.‬‬

‫أنت لن تكون ح ًّرا بفكر أيديولوجي مهما كان هذا الفكر الذي‬

‫يقف وراءه‪ .‬اإليمان بحرية اآلخر ‪ -‬وكل ما عداي هو آخر ‪ -‬حرية‬

‫نزع الرقيب الذي يسكن داخلك منذ الطفولة‪ ،‬قبل ذاك الذي يقف‬

‫بانتظارك خارجً ا‪ .‬مدى تقبلك لالختالف والتمايز‪ ،‬والجهر بالحقيقة‪،‬‬ ‫حتى الحقيقة من يمتلك جوهرها الخالص؟‬

‫الحرية تعني أن تقف أمام المقوالت واألفكار والقيم الجديدة‬ ‫ً‬ ‫موقفا نقديًّا متسائلاً عن مدى الضرر الذي تلحقه بنا أفرادًا‬

‫وجماعات‪ ،‬ذكورًا ً‬ ‫وإناثا‪ .‬وصولاً لمجتمعات إنسانية معاصرة تجهد‬ ‫أن يكون لها موقع بين األمم‪ ،‬ومن دون هذا ستكون حريتنا ‪ -‬أو‬

‫من إدخال تغيرات طفيفة أو كبيرة على المشهد أو الحالة بوعي‬

‫تصورنا عن الحرية‪ -‬ناقصة وفي حاجة لدرس طويل من تغيير‬

‫أكتب من دون أن أكذب‪ ،‬ثمة انزياحات تحدث على المتن‪ ،‬بمعنى‬

‫الهجينة‪.‬‬

‫أو من دون وعي‪ ،‬أي الحالة التي قادتني للكتابة‪ ،‬ال أستطيع أن‬

‫بالسلوك والمفاهيم المكرسة والعادات المكتسبة‪ ،‬والقيم‬

‫‪161‬‬


‫تشكيل‬

‫تشكيلي عراقي يقيم معرضه االستعادي في الدوحة‬

‫ضياء العزاوي‪:‬‬ ‫في بداية السبعينيات ضاقت بغداد بنا لنجد في‬ ‫بيروت والكويت مختب ًرا للمواجهة مع اآلخرين‬

‫‪162‬‬

‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬


‫حاوره‪ :‬خضير الزيدي ‪ -‬كاتب عراقي‬

‫ضياء العزاوي‪ ،‬فنان تشكيلي ينتمي إلى الجيل الستيني في العراق‪ ،‬حقق منذ ذلك التاريخ‬ ‫حتى هذه اللحظة قدرًا كبيرًا من األهمية الفنية‪ ،‬من خالل تقنياته في الرسم والنحت‪ ،‬وإنجاز‬ ‫ً‬ ‫وأيضا من خالل طروحاته المعرفية‪ .‬اختار‬ ‫المدونات التي تخص الشعر بصياغات جمالية تعبيرية‪،‬‬ ‫مؤخرًا أهم متاحف قطر الفنية لينظم معرضه االستعادي الذي تضمن أكثر من خمس مئة وأربعين‬ ‫عملاً‬ ‫ً‬ ‫متنوعا‪ ،‬في احتفال كبير جمع الفنانين من أقطاب شتى‪ .‬عن أهمية معرضه األخير ودخوله‬ ‫معترك الجماعات الفنية في حقبة الستينيات‪ ،‬وثراء تجربته وتنوعها عبر طرائق متعددة‪ ،‬كان‬ ‫لـ«الفيصل» حوار مع ضياء عزاوي‪ ،‬الذي يوضح للقارئ عالقته بالفن وأسباب تمسكه به‪ ،‬بعد أن‬ ‫تجاوز السبعين عامً ا ليكون نموذجً ا حيًّا للفنان الملتزم بخطاب الجمال والفكر والثراء اإلنساني‪.‬‬ ‫● بعد كل هذه السنوات من العطاء اإلنساني الملتزم‬

‫كان ذلك تحديًا مغاي ًرا لما للمناخ الثقافي والفني المغربي من‬

‫االستعادي لك‪ ،‬في ظل متغيرات فهم اللوحة وتقنيات العمل‬

‫المناخات هي التي عززت قناعتي بضرورة ومدى أهمية المرجعية‬

‫بقضية الفن ورسالته الجمالية‪ ،‬ما الذي سيضيفه المعرض‬

‫أساسيات في امتحان العالقة بالغرب وكيفية مواجهتها‪ .‬هذه‬

‫وطريقة التفكير حيال الفن المعاصر؟‬ ‫■ ال يضيف لي شي ًئا على الصعيد العملي‪ ،‬غير إتاحة‬

‫لرفض القناعة الطارئة التي قد تدغدغ روح الفنان عند مواجهة‬

‫بالمتغيرات عبر تجاربي المختلفة‪ .‬إن مشاهدة األعمال عن قرب‬

‫عملية التغيير‪.‬‬

‫الفرصة لي أو للباحثين والمعنيين بتجربة الفن العراقي وعالقتها‬ ‫ببعدها التاريخي المختلف إلى جانب العديد من ال‬

‫تعرض ألول مرة رغم إنتاجها منذ سنوات طويلة قد توفر فرصة‬

‫لفحص السياقات األساسية لعملية اإلنتاج عبر وسائط متنوعة‬ ‫ومختلفة‪ .‬بانوراما خمسين عامًا من األعمال ال بد أن تعكس طرق‬

‫االشتغال الداخلي للعمل ومدى تبدل تناوباته روحيًّا رغم تنوع‬

‫المادة التي في الغالب تتحكم بالصيغة النهائية لعملية اإلنتاج‪.‬‬ ‫من هنا يوفر المعرض االستعادي ً‬ ‫نوعا من المراجعة الداخلية‬ ‫لمدى التداخل الكلي بين تلك االختيارات التي واجهتها إلجراء‬

‫تبدالت أسلوبية وعالقة ذلك بالحاجة الحقيقية لتلك التبدالت‪.‬‬

‫ً‬ ‫متوسطا‬ ‫● أتساءل عن أهمية فكرتك الفنية التي وقفت‬

‫فيها بين االهتمام بالتراث والدعوة للمعاصرة‪ ،‬لتنتج خطابًا فنيًّا‬

‫يلتزم األمرين‪ ،‬ويحافظ على وحداته الفنية ومرجعيته الفكرية؟‬ ‫■ ال بد أنك تعرف أنني من جيل أخذته الهوية بكل قدسيتها‬

‫عبر إنجازات جيل الرواد وبالذات جماعة بغداد‪ ،‬إنجازات لم‬

‫تختبر فعليًّا على الصعيد العربي إال بداية السبعينيات‪ ،‬وقد‬

‫تأخرت كثي ًرا على الصعيد العالمي‪ .‬ومع التحوالت التي أوجدتها‬ ‫ظروف االنفتاح السياسي واالجتماعي بداية السبعينيات‪ ،‬ضاقت‬ ‫بغداد بنا لنجد في صاالت بيروت ثم الكويت مختب ًرا للمواجهة‬

‫الفعلية مع اآلخرين‪ ،‬وبعدها توافرت لي الفرصة للذهاب بعيدً ا‬ ‫بإقامة معرض شخصي منتصف السبعينيات في الدار البيضاء‪،‬‬

‫الثقافية أو الفنية‪ ،‬وعالقتها بالتاريخ الجمعي للفنان‪ ،‬مع االنتباه‬

‫الجديد وإمكانية إلغاء مسارات أسلوبية لها بعدها الفعلي في‬

‫● ما الذي يمثله هذا االهتمام بالمناخ الشرقي والعودة‬

‫للموروث والميثولوجيا داخل لوحاتك مع أنك منذ زمن بعيد‬ ‫تعيش المكان وروحه الغربية؟‬

‫‪163‬‬


‫تشكيل‬

‫■ أنا ابن ذلك المناخ الذي منحني امتالك تاريخ أسطوري‬ ‫هائل‪ ،‬هو ً‬ ‫أيضا تاريخ اإلنسانية جمعاء‪ ،‬ألسطورة غلغامش‬ ‫مثلاً عشرات المساهمات من مبدعين عالميين في مجال‬

‫ووضعت ضمن حيز خاص سيدرك المرء كم لتلك المواجهة من‬ ‫قيمة تاريخية‪ ،‬ليس على الصعيد الفني فقط‪ ،‬بل ً‬ ‫أيضا على فعل‬

‫الموسيقا واألوبرا والرسم‪ ،‬جرى معاينتها ليس ألنها أسطورة‬

‫اإلدانة لتلك األيام الصعبة‪ .‬من هنا تعكس قيمة الفنان وتبدالته‪.‬‬

‫وخوفه من الموت‪ ،‬هذا هو المحرك الفعال لهذه االنتباهات‬

‫● ماذا عن كيفية ترسيخ هذا األسلوب الخاص بفنك؛‬

‫من التاريخ العراقي القديم‪ ،‬بل ألنها ببساطة قلق اإلنسان‬

‫العالمية‪ ،‬علينا بالطبع االنتباه إلى أن الشرق بشكل عام قد‬ ‫جرى معاينته في بعض األحيان رومانسيًّا كما حدث مع‬ ‫المستشرقين عبر وسائل التعبير المختلفة‪ ،‬وفي أحيان‬

‫أخرى كانت هناك قدرة خالقة في إعادة تصور الشرق وإغماء‬ ‫مصادره‪ .‬أما اهتمامي كما أشرت فهو ألنني حرصت منذ زمن‬

‫باالنتساب اإلنساني‪ ،‬وتطوير ذلك عبر مصادره الغنية ثقافيًّا أو‬ ‫فنيًّا ال الجغرافي ومحدوديته لهذا الشرق‪.‬‬

‫● حس ًنا إلى أي حد يمكن القول‪ :‬إن فن ضياء العزاوي‬

‫يولد جراء ذاته وبنظام هندسي ثابت ليبدو خطه الفني وتقنياته‬

‫األسلوبية أكثر حضورًا؟‬

‫■ ليس هناك نظام فعلي ولو خفي يمكن أن يحرك اإلبداع‪،‬‬

‫بل هناك تلك األسئلة التي تتولد بفعل المعاينة واالطالع‪ ،‬بفعل‬

‫‪164‬‬

‫المشاهِ د لبعض هذه األعمال التي جُ معت من مصادر مختلفة‬

‫التراكم المعرفي الذي ال بد أن يخلق تبدالت لحاجة‬ ‫اإلنسان وقناعاته‪ ،‬قدرة السيطرة على هذا الفعل‬ ‫ومدى انضباطيته هي التي تخلق مسارًا لألسلوب‪،‬‬ ‫وتدفع به نحو حدود قد تقود لإلخفاق حي ًنا أو‬ ‫النجاحات حي ًنا آخر‪.‬‬ ‫اتهمت بغواية اللون‬

‫● كنت في مرحلة من حياتك الفنية تجعل‬

‫من لوحاتك كأنها أقرب لطرائق التزيين في الرسم؛‬ ‫هل فرضت تجريداتك ً‬ ‫نوعا من هذا الفهم‪ ،‬أم هي‬ ‫مساحة من االهتمام بغنائية الرسم وقيمته البصرية؟‬

‫■ تبدلت بمقدار تعرفي على عالقتي باآلخر‪،‬‬

‫أعشق ما تسميه طرائق التزيين‪ ،‬وأفرح إن تمكنت من‬ ‫أن أخلق مناخات ّ‬ ‫تولد سعادة لمبصر هذا التزيين‪،‬‬ ‫واجهت هذه األسئلة منذ زمن وما زلت‪ ،‬إال أنني أجد‬

‫في ذلك الفعل الحقيقي لالمتحان عندما أواجه ما هو‬ ‫خالف ذلك‪ ،‬اتهمت مرات بغواية اللون ً‬ ‫أيضا لكنني‬ ‫عندما واجهت دمار العراق تحولت األلوان إلى فعل‬

‫مغاير‪ ،‬إلى سبر غور األسود وتبدالته الروحية‪ ،‬إلى ما‬ ‫يمكن أن يوفر صم ًتا مقدسً ا يتالءم ومناخ الكارثة‪ ،‬وقد‬ ‫واجهت الموقف نفسه قبل ذلك عندما أقمت معرضي‬

‫األخير في بغداد قبل مغادرتها‪ ،‬اآلن عندما يتطلع‬ ‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬

‫هل هو نتاج لمرحة التأسيس األول جراء دخولك جماعة‬

‫االنطباعيين‪ ،‬ومن ثم جماعة بغداد للفن الحديث أم هو رؤية‬ ‫خاصة ولدت جراء خيال خصب يحب التجريب‪ ،‬ويتحرك في‬

‫مديات متوسعة ليواكب اتجاهات الفنون اإلنسانية المعاصرة؟‬ ‫ً‬ ‫ضيفا خارجيًّا على جماعة االنطباعيين‪،‬‬ ‫■ كنت في الواقع‬

‫كانت فرصة للعرض ّ‬ ‫وفرها لي أستاذي حافظ الدروبي ال غير بعد‬ ‫أن وجدني من الموجودين الدائمين في مرسمه في كلية األدب‬

‫أنا من جيل أخذته الهوية بكل قدسيتها‬ ‫عبر إنجازات جيل الرواد التي لم تختبر‬ ‫فعل ًّيا على الصعيد العربي إال بداية‬ ‫السبعينيات‬


‫تشكيلي عراقي يقيم معرضه االستعادي في الدوحة‬

‫حيث كنت أدرس في فرع اآلثار‪ ،‬أما جماعة بغداد فلم أكن عضوًا‬ ‫فيها إال أنني كنت أقرب إلى أفكارها وممارستها‪ ،‬ولعل في التضاد‬ ‫المعرفي الذي كان نتيجة لدراستي الصباحية لفرع اآلثار وتبعاته‬ ‫في معرفة الفنون العراقية القديمة بشكل تفصيلي‪ ،‬ودراستي في‬ ‫معهد الفنون في المساء بكل ما فيها من معرفة أوربية‪ -‬هو الذي‬

‫لم أكن الفنان الوحيد الذي وفد إلى‬ ‫أيضا‬ ‫لندن أو باريس‪ ،‬ولم أكن الوحيد ً‬ ‫في محاولة بناء تفرده عن اآلخرين‬

‫أوجد وازع االختالف واإلصرار على تطوير ذلك‪ ،‬مستفيدً ا بشكل‬

‫ما من إنجازات الرائدين فائق حسن وجواد سليم‪ ،‬وفي االختالف‬

‫األسلوبي لمحمود صبري‪ ،‬هؤالء الثالثة كانوا خلف تعميم جملة‬ ‫مواقف في األسلوب واألفكار ظهرت فيما بعد بشكل مختلف في‬ ‫كاظم حيدر وشاكر حسن مع تنويع إبداعي وسياقات معرفية‬

‫تسربت لي ولبعض من جيلي من الفنانين‪ ،‬لتكون فيما بعد نزعات‬

‫مختلفة لكنها كانت ابنة نجاحات محلية‪ ،‬اختبرت بمواجهة مع‬ ‫من جاؤوا بمعارف جديدة نتيجة دراستهم في الخارج‪ ،‬تمثلت‬ ‫في تجارب إسماعيل فتاح‪ ،‬ومحمد مهر الدين‪ ،‬ورافع الناصري‪.‬‬

‫هذا الغنى الفني مجاورًا إلبداعات شعرية وكتابات جديدة مع‬ ‫انفتاح سياسي واجتماعي‪ ،‬كل ذلك َّ‬ ‫ولد عندي ولبعض من‬ ‫جيلي تلك الرؤى التي ظلت معنا‪ ،‬ساعين على تطويرها فرادى‬

‫وسرعان ما وزعتنا المستجدات من الظروف ليحمل كل واحد منا‬

‫ما اختزنه من أفكار وتجارب لتعد بعد ذلك طاقة للتجريب أمام‬ ‫المستجدات التي تمثلت في القدرة على محاورة اآلخر سواء كان‬

‫‪165‬‬

‫ذلك عالميًّا أو عربيًّا‪.‬‬

‫● أراك أكثر وفاء تجاه أعمالك األولى التي خضت فيها غمار‬

‫في غمرة هوسه بالحرف العربي قد وجد في تمثال جياكومتي‬

‫التجريب في الحروفيات وتطويعها في أشكال متنوعة؛ هل في‬ ‫ً‬ ‫مشروعا يدعو‬ ‫هذا األسلوب ما يدعونا إلى أن نقول‪ :‬إن لك‬

‫تماهيًا مع حرف األلف في العربية‪ .‬هذا التضاد الواقعي بين عمل‬

‫الحروف روحيًّا؟‬

‫جعلني أمام مساءلة مفهوم الهوية من جهة والتفرد من جهة‬

‫في صياغاته األسلوبية ونزعته لالهتمام بالتصوف وسر أهمية‬ ‫■ في كل محاوالتي األولى كان المح ِّرك الفعلي هو تعزيز‬

‫روح الهوية التي أخذتها من بعض من جيل الرواد‪ ،‬وقد أشرت‬ ‫ً‬ ‫سابقا إلى أن تلك المحاوالت لم تختبر على الصعيد العالمي‬

‫ال تخطئه العين وبين تصور افتراضي قابل للدحض بسهولة‪،‬‬

‫أخرى‪ :‬هل يمكن اعتبار لوحة ديني عربية كما روج في النقد‬ ‫كاف لهويته العربية‪،‬‬ ‫العربي انتساب العمل بشكله الخارجي‬ ‫ٍ‬ ‫أم أفترض من جهة أخرى أنها محاولة للتفرد من قبله بالذهاب‬

‫إال بشكل متأخر‪ ،‬وعندما توافرت لي الظروف لمعرفة التجارب‬

‫إلى الموروث اإلنساني الذي هو ملك الجميع كما حاول بيكاسو‬

‫الفنان الوحيد الذي وفد إلى لندن أو باريس‪ ،‬ولم أكن الوحيد‬ ‫ً‬ ‫أيضا في محاولة بناء تفرده عن اآلخرين‪ ،‬لعلني وبوازع روحي‬

‫● هل هذا األمر في مساحة الحروف واالهتمام بها ينطبق‬

‫األخرى‪ ،‬بدأت بتفحص مواصفات هذه الروح‪ ،‬فأنا لم أكن‬

‫ُب ِني على امتالك منغلق للحضارة التي نشأت أو مرت بالعراق‬

‫جعلتني كأنني حارس هذا الخزان الهائل بعيدًا من اآلخرين‪ .‬في‬

‫الثمانينيات كنت زائ ًرا متحف التيت‪ ،‬وسرعان ما استوقفني عمل‬ ‫لفنان إنجليزي اسمه روبن ديني‪ ،‬كان تكوين اللوحة قد اعتمد‬ ‫على شكل حروفي كوفي مربع‪ ،‬من السهولة قراءته وال يمكن‬ ‫للمرء إال أن يعرف أن هذا الفنان قد بنى عمله على بحث له عالقة‬

‫ما بالحرف العربي‪ ،‬في حينها تذكرت كيف لشاكر حسن وهو‬

‫وماتيس وغيرهما من المبدعين العالميين؟‬

‫على االهتمام بالميثولوجيا وقيمة وفهم الشهادة وطقوس‬ ‫النذور مثلما حدث مع لوحاتك التي تجسد فيها اإلرث كألف‬ ‫ً‬ ‫وأيضا لوحة الشهيد‪ ،‬وشموع النذر؟‬ ‫ليلة وليلة‪ ،‬وليلة عربية‪،‬‬ ‫■ كل ما أشرت إليه هو بحث عن الذات‪ ،‬بحث عن مرجعية‬

‫فكرية لم توفره لي دراستي في معهد الفنون لخمس سنوات‪،‬‬ ‫ً‬ ‫محظوظا مقارنة بفناني جيلي‪ ،‬بأنني درست اآلثار‬ ‫لقد كنت‬ ‫وكنت قريبًا من اللقى األثرية‪ ،‬وهذا ما دفعني لمسايرة تصورات‬


‫تشكيل‬

‫في حوار مع زوار وإعالميين حول معرضه‬

‫جواد سليم على الرغم من عملي ضمن مجموعة االنطباعيين‪،‬‬

‫‪166‬‬

‫لعل هذه العالقة هي التي جعلتني اقتنائيًّا في نظرتي للتجارب‬ ‫األوربية واألميركية‪ ،‬والتأكيد على إنجازات الفنانين الذين أقاموا‬ ‫حوارًا مع الثقافات األخرى‪ ،‬هذا الحوار الذي خلق مجموعة‬

‫رموز وتكوينات تتماهى مع ما نجده في موروثاتنا الشعبية‪ .‬ما‬

‫أود اإلشارة إليه أنه ال توجد مساحات فارغة بين الميثولوجيا‬ ‫والموروث الشعبي كما أن هذين المرجعين ليسا بعيدين من‬

‫الظروف اليومية وارتباطاتها السياسية‪.‬‬

‫● ما س ّر أهمية بقاء لوحة صبرا وشاتيال في ذاكرة اآلخرين‬

‫والعودة إلى دالالتها بعد كل هذه السنوات من االشتغال الفني‬ ‫والمعرفي عليها؟ هل يصيبك إحساس أنها مختلفة وقريبة‬

‫لروحك أكثر من باقي األعمال؟‬

‫■ بالنسبة لي هي جزء من تاريخي ال غير‪ ،‬إال أن ضمها‬

‫لمجموعة متحف من أهم متاحف العالم أعطاها بعدً ا إعالميًّا‬ ‫هائلاً ‪ ،‬ولكي تعرف قيمة العمل هذا‪ ،‬عندما وافق المتحف على‬ ‫إعارتها لمعرضي في الدوحة كان على مؤسسة المتاحف في‬

‫أنا ابن ذلك المناخ الذي منحني امتالك‬ ‫أيضا تاريخ‬ ‫تاريخ أسطوري هائل‪ ،‬هو ً‬ ‫اإلنسانية جمعاء‬ ‫التي ُ‬ ‫ارتكبت بكل نذالة وهمجية فاشستية‪ .‬فقد عرضت ألول مرة‬ ‫في معرضي الشخصي في الكويت‪ ،‬وفي حينها وافقت على‬

‫إعارتها للمتحف الكويتي بعقد مدته خمس سنوات‪ ،‬بعد ذلك‬ ‫أعيد لي قبل أسبوع من دخول صدام إلى الكويت‪ ،‬وقد علمت‬

‫في حينها أن المكان الذي كانت اللوحة قد ُعرضت فيه كان من‬ ‫األماكن الذي ُقصف‪ ،‬وقد ظلت اللوحة في المخزن لسنوات‪،‬‬

‫وفي عام ‪٢٠١٠‬م نشرت صورة جيدة للعمل في كتاب باإلنجليزية‬

‫عن الفن العربي واإليراني‪ ،‬تزامَنَ ذلك مع افتتاح المتحف العربي‬ ‫ً‬ ‫معرضا شخصيًّا مما جلبت االنتباه لكل من متحف‬ ‫الذي كان لي‬ ‫غوغنهايم وتيت مودرن‪ .‬من كل ذلك أود القول‪ :‬إن العمل ظل‬ ‫نحو ‪ ٣٥‬عامً ا لكي يتحول إلى عمل يعتز التيت بحيازته‪.‬‬

‫الدوحة أن تقبل بأن يضع المتحف شروط اإلعارة مع مجيئي‬ ‫ممثلاً عن المتحف في لندن‪ ،‬لكي يشرف على فتحها من‬

‫● كانت لك تجربة رائدة ومهمة في توظيف النص الشعري‬

‫من االهتمام ال بد أن يعطيها مواصفات مهمة‪ ،‬كل هذا ال أجد‬

‫استثنائية‪ ،‬السؤال هنا‪ :‬هل كانت أعمالك الطباعية ومنها‪:‬‬ ‫المعلقات السبع‪ ،‬والنشيد الجسدي‪ ،‬ونحن ال نرى إال ً‬ ‫جثثا‪،‬‬

‫الصناديق واإلشراف على تعليقها‪ ،‬ثم التأكد من درجة الضوء‬ ‫ً‬ ‫معلقا‪ .‬هذا النوع‬ ‫المتفق عليها؛ لكي ينتهي بأخذ صورة للعمل‬

‫فيه غير إخالص روحي للموضوع‪ ،‬وصدق في التعبير عن المجزرة‬ ‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬

‫شغف بالنص الشعري‬

‫وتجسيده في عمل فني‪ ،‬أعطى للقصيدة أهمية ثانية وبروح‬

‫هي دعوة لالنسجام بين البعد البصري وحساسية القصيدة‪،‬‬


‫تشكيلي عراقي يقيم معرضه االستعادي في الدوحة‬

‫ً‬ ‫وأيضا عودة للموروث الشفاهي‪ ،‬والحفاظ على الشعر وتجلياته‬ ‫َ‬ ‫الرؤية البصرية؟‬ ‫ليلتقي‬

‫عملاً اخترت منها ستة عشر‪ ،‬من هنا أؤكد أنني بدأت بتنفيذ العمل‬ ‫كتخطيط أولاً ‪ ،‬وبعدها عندما توافرت الفرصة عملت على تحويلها‬

‫نفذت تلك األعمال كتخطيطات وهو شغف ظل معي‪ ،‬وتطور بفعل‬ ‫اطالعي الذي توافر بعد مغادرتي العراق‪ ،‬فمثلاً عملت للمعلقات‬

‫جرى العمل عليه من منطلق طباعي له بعده المختلف مستفيدًا‬

‫وكذلك الحال مع النشيد الجسدي؛ إذ أنجزت أكثر من أربعين‬

‫لكي يأخذ بعدًا إضافيًّا عندما بدأت العمل على إنجاز ما يعرف‬

‫■ كان لدي اهتمام بالنص الشعري منذ معارضي األولى‪ ،‬وقد‬

‫السبع نحو ‪ ١٤‬عملاً ‪ ،‬ثم اخترت منها سبعة لتصدر كمجموعة‪،‬‬

‫إلى مجموعات طباعية محدودة‪ ،‬على العكس من ذلك مجموعة‬ ‫«نحن ال نرى إال ً‬ ‫جثثا» وكذلك مجموعة «ألف ليلة وليلة» كالهما‬ ‫مما تقدمه الطباعة بأنواعها من إضافات رائعة‪ .‬استمر هذا الشغف‬ ‫«بكتاب الفنان» حدث هذا عندما توافرت لي فرصة االطالع على‬

‫المخطوطات العربية واإلسالمية في مكتبة تشستربيتي في دبلن‪،‬‬ ‫والمكتبة البريطانية في لندن إضافة إلى المكتبات الوطنية في‬ ‫ميالن‪ ،‬وبرلين وباريس إلى جانب ذلك توافر لي ً‬ ‫أيضا تعرف التجربة‬ ‫الفرنسية وإنجازاتها الهائلة عبر العمل المشترك بين الشعر‬

‫والرسم‪ ،‬وما زلت أتذكر كمية الدهشة عندما اطلعت على النسخة‬ ‫األصلية لكتاب الجاز لماتيس الذي ظلت تصاحبني توزيعاته اللونية‬

‫وعالقتها بالنص‪ .‬كل هذه المعرفة جعلتني أمام مهمة أخذت‬ ‫أبعادًا مختلفة بفعل تنوع الرؤيا وطريقة إنجاز عمل ابتكاري ينحاز‬

‫للبصر ومزاوجته للنص‪ .‬لقد قدمت لي هذه التجربة تحديات كان‬

‫ُ‬ ‫فكرت في مدى إمكانية تحقيق عمل‬ ‫ال بد من مواجهتها عندما‬

‫حديث يعتمد على إعادة اكتشافه وتقديمه كنص إبداعي‪ ،‬عملت‬ ‫على هذه الفكرة مع الشاعر المغربي محمد بنيس إلعادة كتابة‬ ‫«طوق الحمامة» البن حزم‪ ،‬وكذلك مع الشاعر البحريني قاسم‬

‫حداد لكتابة نص «مجنون ليلى»‪ ،‬في كال العملين توافرت الفرصة‬ ‫للحوار والمشاركة اإلبداعية لم ّ‬ ‫توفرها التجارب األخرى‪.‬‬

‫‪167‬‬


‫سينما‬

‫أفالمه تحلل ال جدوى معتقداته السياسية الثورية‬

‫برتولوتشي‪..‬‬

‫تحويل المفاهيم المعقدة بشأن الطبقية‬ ‫إلى دراما شخصية أ َّخاذة‬ ‫أمين صالح كاتب وناقد سينمائي بحريني‬

‫‪168‬‬

‫استقبل النقاد الفرنسيون أفالم المخرج السينمائي اإليطالي‬ ‫برناردو برتولوتشي األولى بحفاوة بالغة‪ ،‬ربما أكثر من النقاد اإليطاليين‪.‬‬ ‫لقد وجدوا في أعماله أصدا ًء من الموجة الفرنسية الجديدة‪ ،‬وذلك‬ ‫عبر توظيفه لكاميرا قلقة‪ ،‬غير مستقرة‪ ،‬ومواقع خارجية‬ ‫نابضة بالحياة‪ ،‬وقصص شخصية بسيطة‪ ،‬وجماليات‬ ‫بصرية تتناغم مع المضامين الثورية‪.‬‬ ‫األساس األدبي ألعمال برتولوتشي ينشأ من‬ ‫بداياته كشاعر‪ .‬صرَّح ً‬ ‫مرة بأنه كان على وشك أن‬ ‫يتوجه إلى كتابة الرواية‪ ،‬لكنه بدلاً من ذلك اختار‬ ‫السينما‪ ،‬محاولاً أن يحافظ على الحرية‬ ‫ذاتها التي كان يمكن أن يتمتع بها لو‬ ‫كتب روايات‪ .‬اهتماماته األساسية هي‬ ‫باألمكنة‪ ،‬وبالمساحات التي‬ ‫ضمنها «يكتب» المشاهد في‬ ‫أشكال تلقائية‪ ،‬وباإلضاءة‬ ‫التي تساعده في خلق‬ ‫تلك األشكال‪ ،‬وبتفاعل‬ ‫الشخصيات ضمن تلك‬ ‫األمكنة أو المساحات‪.‬‬

‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬


‫في أفالمه‪ ،‬يوحِّ د برتولوتشي الوعي السياسي واألسلوب‬

‫المغوي بصريًّا‪ ،‬المتقن والمدروس من أجل إدهاش المتفرج‪.‬‬

‫أسلوبه السينمائي يتميَّز بتوظيفه الغنائي لحركات الكاميرا‬

‫الرشيقة‪ ،‬المتموجة‪ ،‬المديدة‪ .‬الكاميرا غالبًا ما تكون في حركة‬

‫مستمرة‪ ،‬وذات حضور متواصل‪ ،‬ال يهدأ‪ .‬إضافة إلى استخدامه‬ ‫التعبيري لأللوان‪ ،‬وأسلوبه السردي الذي يتالعب بالزمن في سبيل‬

‫خلق حاضر شبيه بالحلم‪ .‬ولد برناردو برتولوتشي في ‪ 16‬مارس‬ ‫‪1940‬م‪ ،‬في مدينة بارما بإيطاليا‪ .‬مارس كتابة الشعر منذ صباه‪.‬‬

‫وقد ازداد ولعً ا بالسينما مع انتقاله إلى روما واستقراره فيها أواخر‬

‫هنا‪ ،‬وكما في أفالمه الالحقة‪ ،‬يؤكد برتولوتشي على فكرة‬

‫تدفق الزمن‪ ،‬وهي الفكرة التي تستحوذ عليه‪ ،‬ويقول عنها‪« :‬هذه‬ ‫الفكرة‪ ،‬اإلحساس بمرور الزمن‪ ،‬هي بسيطة ج ًّدا‪ .‬لكن الفكرة ذاتها‬ ‫هي أساس أو منطلق الكثير من الشعر»‪ .‬الفلم اس ُتقبل بردود‬ ‫أفعال متضاربة‪ .‬ولم ينجح تجاريًّا؛ لذلك بقي برتولوتشي عاطلاً عن‬ ‫العمل نحو سنتين‪ .‬حين شرع في إخراج «قبل الثورة» (‪1964‬م)‪،‬‬

‫يقول برتولوتشي‪« :‬عنوان فلمي ‪-‬قبل الثورة‪ -‬يتصل بالتضمين‬ ‫المقتبس من تاليران في بداية الفلم‪( ..‬أولئك الذين عاشوا قبل‬ ‫الثورة‪ ،‬وحدهم يعرفون مدى عذوبة الحياة)‪ .‬الفلم هو أكثر من‬

‫الخمسينيات‪ .‬وسعى إلى االنخراط عمليًّا في هذا العالم الذي‬

‫مجرد سيرة ذاتية‪ ،‬كان عملية تطهّر‪ ..‬محاولة لتخليص نفسي‬

‫أول فلم له كان بعنوان‪« :‬موت خنزير» وهو صامت‪.‬‬

‫روابطه العائلية التقليدية؛ بسبب تربيته االجتماعية والثقافية‪.‬‬ ‫إنها قصة نضال خاسر‪ .‬هنا ِّ‬ ‫يحلل برتولوتشي ال جدوى معتقداته‬

‫سحره‪ ،‬وبحصوله على كاميرا ‪ 16‬ملي‪ ،‬راح يص ِّور أفالمه القصيرة‪.‬‬

‫مساعد مخرج لبازوليني‬

‫من مخاوفي الخاصة»‪ .‬البطل‪ ،‬فابريزيو‪ ،‬يعجز عن االنفصال عن‬

‫كان في العشرين من عمره عندما سنحت له فرصة العمل‬

‫كمساعد مخرج مع بازوليني في أول أفالمه‪ :‬أكاتونه ‪Acatone‬‬ ‫(‪1961‬م)‪ ..‬عن هذه التجربة يقول‪« :‬كانت المرة األولى التي أدخل فيها‬

‫موقعً ا للتصوير‪ .‬قلت لبازوليني‪ :‬أنا لم أعمل في السينما من قبل‪،‬‬ ‫فكيف يمكنني أن أساعدك؟» رد قائلاً ‪« :‬أنا ً‬ ‫أيضا‪ .‬إنها المرة األولى‬

‫لكلينا»‪ .‬كالهما كان يتعامل مع السينما للمرة األولى‪ ..‬بال خبرة وال‬

‫‪169‬‬

‫تجربة‪ .‬بعد أن نجح الفلم‪ ،‬عرض أحد المنتجين على برتولوتشي‬

‫ثالث صفحات كتبها بازوليني ولم يكملها‪ ،‬وطلب منه أن يح ِّول هذه‬ ‫ينجز الفلم مخرج‬ ‫الصفحات إلى سيناريو كامل‪« ..‬كان من المقرَّر أن ِ‬ ‫آخر‪ ،‬لكن حين قرأ المنتج السيناريو الذي كتبته‪ ،‬طلب مني أن‬

‫أخرجه بنفسي‪ ..‬كان ذلك أول أفالمي‪ :‬الحاصد المتجهم (‪1962‬م)»‪.‬‬

‫العنوان يشير إلى الموت‪ .‬من خالل هذا الفلم يوطد‬ ‫يقدم ً‬ ‫برتولوتشي هويته‪ :‬أسلوبيًّا وشخصيًّا‪ ..‬إنه ِّ‬ ‫لغة سينمائية‬ ‫مصقولة وأسلوبًا بصريًّا ديناميكيًّا يجعله يتصل بالسينما الحديثة‬

‫العالمية‪ .‬الفلم جوهريًّا قصيدة انطباعية عن روما كما يراها فتيان‬ ‫البروليتاريا الرثة‪ ،‬الذين يستمتعون بالحياة رغم فقرهم وافتقارهم‬

‫إلى الرؤية الواضحة‪ .‬ظاهريًّا‪ ،‬تبدو القصة بوليسية إثارية‪:‬‬ ‫جريمة قتل مومس‪ ،‬في منتصف العمر‪ ،‬حدثت ليلاً في المتنزه‪،‬‬ ‫والتحريات التي ُتجرَى للكشف عن القاتل‪ ،‬واستجواب عدد كبير من‬ ‫المشتبه بهم الذين يروون قصصهم مع اهتمام دقيق بالتفاصيل‪.‬‬

‫كبناء درامي‪ ،‬الفلم قريب من فلم كوروساوا «راشومون»‪ ،‬حيث‬ ‫عبر سلسلة من الفالش باك‪ ،‬التي تعبِّر عن وجهات نظر مختلفة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫(أحيانا يقول الشاهد شي ًئا‬ ‫حقيقي وبعضها زائف‬ ‫ومتباينة‪ ،‬بعضها‬ ‫ّ‬

‫في حين نرى‪ ،‬عبر الفالش باك‪ ،‬شي ًئا يناقض ما يقوله)‪ ،‬نتابع‬ ‫تحركات عدد من المشتبه بهم وقت حدوث الجريمة‪ .‬كل شهادة‪،‬‬

‫في تحريات الشرطة‪ ،‬تصبح عنصرًا في لوحة عريضة‪ .‬هنا ثمة توازن‬ ‫بين الحساسية تجاه القضايا االجتماعية والثراء البصري‪.‬‬

‫بوستر فلم «الحصاد المتجهم»‬


‫سينما‬

‫السياسية الثورية‪ ،‬مح ِّولاً المفاهيم المعقدة بشأن الهوية الطبقية‬

‫إلى دراما شخصية أخاذة‪ .‬ومع أن الفلم يستعير موقع األحداث‬ ‫(في بارما) وأسماء الشخصيات وبعض العناصر السردية من رواية‬

‫ستندال‪ ،‬الصادرة عام ‪1838‬م‪ ،‬فإن التفاصيل مختلفة تمامً ا‪.‬‬ ‫الوقوع تحت سحر األيديولوجيا‬

‫الفلم عبارة عن صورة ذاتية لشاب شديد الحساسية‪ ،‬يُد َعى‬

‫فابريزيو‪ ،‬يقع تحت سحر األيديولوجية الماركسية‪ ،‬فيقوم بمحاولة‪،‬‬

‫فاترة وتعوزها الحماسة‪ ،‬لرجّ خلفيته البورجوازية‪ .‬إنه الشاب‬ ‫المم َّزق بين رفاهية حياته وتوقه إلى التحرر منها‪ ،‬بين الراديكالية‬ ‫والنزوع المحافظ‪ ،‬بين العالقة العاطفية المحرَّمة وضرورة ارتباطه‬ ‫بالمرشحة ألن تكون زوجته‪ .‬إن حالة التر ُّدد لديه ظاهرة ناشئة عن‬ ‫محيطه التاريخي‪ ،‬والتأثير المتنامي لليسار اإليطالي‪ ،‬وعن الخوف‬ ‫ً‬ ‫عميقا في البورجوازية األوربية‪ .‬في‬ ‫من الثورة‪ ..‬هذا الخوف المطمور‬

‫هذا الفلم استخدم برتولوتشي التقنيات والعناصر األسلوبية التي‬ ‫كانت تميِّز حقبة الستينيات‪ ،‬مع بحث السينمائيين آنذاك عن لغة‬

‫جديدة‪ ،‬وتجديد السرد السينمائي‪ ،‬وابتكار تكوينات مغايرة‪.‬‬

‫وقد رحَّ ب النقاد بالفلم‪ ،‬ووصفوه باإلنجاز المهمّ والبارز‬

‫للسينما اإليطالية الجديدة‪ ،‬كما حاز جوائز‪ ،‬لكنه أخفق تجاريًّا‪ .‬بعد‬

‫‪170‬‬

‫هذا الفلم كان على برتولوتشي أن ينتظر أربع سنوات (خاللها أخرج‬

‫فلمً ا وثائقيًّا عن البترول من ثالثة أجزاء لصالح التلفزيون اإليطالي‬ ‫(‪1964‬م)‪ ،‬وأخرج فلمً ا قصيرًا بعنوان‪« :‬ألم» (‪1967‬م) كجزء من فلم‬

‫«حب وغضب»‪ .‬كما ساهم في كتابة سيناريو «حدث ذات مرة في‬ ‫الغرب» لسرجيو ليوني‪ ..‬وذلك قبل أن ِّ‬ ‫يحقق فلمه التالي «الشريك»‬ ‫(‪1968‬م)‪ .‬وهو معد بتصرُّف عن قصة دوستويفسكي «البديل»‪.‬‬

‫مشهد من فلم «خدعة العنكبوت»‬

‫أسلوبه السينمائي يتم َّيز بتوظيفه‬ ‫الغنائي لحركات الكاميرا الرشيقة‪،‬‬ ‫غالبا ما‬ ‫المتموجة‪ ،‬المديدة‪ .‬الكاميرا‬ ‫ً‬ ‫تكون في حركة مستمرة‪ ،‬وذات حضور‬ ‫متواصل‪ ،‬ال يهدأ‬ ‫الراديكالي العنيف‪ ،‬هو رجل فعل يحرِّض الطالب على الثورة‪ ..‬فنيًّا‬ ‫ً‬ ‫غموضا‪،‬‬ ‫واجتماعيًّا‪ .‬فيما االثنان يتمازجان‪ ،‬تتضبب األحداث وتزداد‬ ‫والفلم يصبح رحلة نحو عالم السوريال (ما فوق الواقع)‪.‬‬

‫الفلم صعب واستفزازي‪ ،‬يكون مفهومً ا على نحو أفضل‬ ‫بوصفه نتاج حلم‪ .‬الفلم ي ّتخذ مساره المتعرّج‪ ،‬الملتوي‪ ،‬بدون‬ ‫قواعد سردية قابلة للتمييز‪ ،‬قاف ًزا من مشهد صعب ومبهم إلى آخر‬

‫بيير كليمنت يؤدي دورين لشخصية مزدوجة أو فصامية‪..‬‬

‫مماثل في الصعوبة‪ .‬االنتقاالت مفاجئة بين مشاهد حلمية‪ ،‬غير‬

‫المادية والفوارق االجتماعية التي تحيله إلى حالة من السلوك العقيم‪.‬‬

‫والتالحم‪ .‬السرد هنا يخضع للتكثيف والتشظي‪ .‬يقول برتولوتشي‪:‬‬

‫المدرِّس في معهد الدراما‪ ،‬وهو متردد وحائر في عالم من الضغوطات‬ ‫إنه حذر‪ ،‬غير واثق من نفسه‪ ..‬سياسيًّا وجنسيًّا‪ .‬بينما اآلخر‪ ،‬الجانب‬

‫مترابطة‪ ،‬ال تلتزم بنظام منطقي‪ ،‬ومن غير أي إحساس بالتماسك‬

‫«الفلم حلم‪ ،‬والمخرج هو الحالم‪ .‬كل شخصيات الحلم تعكس‬ ‫أو تعبّر عن ذات الحالم»‪ .‬إنه أول أفالم برتولوتشي باأللوان‬

‫والسينما سكوب‪ .‬يتميّز بصريًّا بالقوة وبالتالعب بالضوء والظل‪،‬‬

‫وتوظيف الصوت بشكل مغاير‪ ،‬مع حركات كاميرا متقنة لكن‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وغامضا‪ ،‬واالنتقال من‬ ‫مراوغا‬ ‫مسرفة‪ .‬موضوعه –رغم حيويته– بدا‬ ‫ً‬ ‫مربكا‪.‬‬ ‫الشخصية إلى البديل بدا‬ ‫التغريب البريشتي‬

‫عن فلمه هذا يقول برتولوتشي‪«:‬هو فلمي الملعون‪ .‬ربما جاء‬ ‫مبكرًا ج ًّدا‪ ،‬ربما جاء متأخرًا ج ًّدا‪ ،‬ال أدري‪ .‬الفلم لم ينجح جماهيريًّا‪.‬‬

‫القليلون أعجبوا به‪ ،‬وقد جعلني أعاني الكثير‪ .‬ربما لم أكن أفهم‬ ‫مشهد من الفلم الوثائقي «حياة البترول»‬

‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬

‫نفسي‪ .‬إن فكرة التغريب البريشتي‪ ،‬التي يتبناها الفلم ويحاول أن‬

‫يفرضها‪ ،‬هي ملتبسة وغير حاسمة على المستوى الثقافي بسبب‬


‫برتولوتشي‪ ..‬تحويل المفاهيم المعقدة بشأن الطبقية إلى دراما شخصية أخَّاذة‬

‫القراءة السيئة لبريشت»‪ .‬فلمه التالي كان «خدعة العنكبوت»‬

‫(‪1970‬م) المبني على قصة قصيرة كتبها خورخي لويس بورخيس‬

‫بعنوان‪« :‬موضوع عن الخائن والبطل»‪ ،‬تدور في أيرلندا عام‬ ‫‪1824‬م‪ ،‬ويمكن أن تدور –كما قال بورخيس– في «أي بالد مقموعة»‪.‬‬ ‫برتولوتشي جعل األحداث تدور في بلدة صغيرة‪ .‬بنية الفلم تستدعي‬

‫درجة كبيرة من التماهي أو التطابق مع الشخصية الرئيسة‪ ،‬الشاب‬ ‫الذي يعود إلى بلدته‪ ،‬ويتحرى جريمة قتل أبيه قبل ثالثين سنة الذي‬ ‫ربما قتله الفاشيون كما يشاع‪ ،‬أو قد يكون خائ ًنا للقضية المضادة‬ ‫للفاشية فقتله زمالؤه في المقاومة‪ ،‬وحتى تتكشف الحقيقة يظل‬

‫األب الراحل في موضع التوقير والتبجيل عند أهالي البلدة بوصفه‬ ‫بطلاً وشهي ًدا معاديًا للفاشيين؛ لذلك فإن الغموض الذي يحيط‬ ‫بتفاصيل موته من الصعب‪ ،‬بل من الخطورة‪ ،‬اختراقه‪.‬‬

‫في النهاية تتضح له الحقيقة؛ إذ يكتشف أن أباه‪ ،‬في الواقع‪،‬‬

‫قد خان رفاقه والقضية –في لحظة ضعف‪ -‬وأفشى بالمؤامرة‬ ‫المخطط لها الغتيال الزعيم موسوليني عام ‪1936‬م‪ ،‬في أثناء‬

‫زيارته للبلدة‪ .‬هذا ما يعترف به رفاق أبيه المتقدمون في السن‪،‬‬

‫حين التقاهم في دار األوبرا‪ ،‬كما يذكرون له عن االتفاق الذي عقده‬

‫أبوه معهم؛ أن ينال عقابه على خيانته لكن من دون تلويث القضية‬ ‫وإفقادها نقاءها وبريقها أمام المؤمنين بها‪ ،‬أي أن يُع َدم جزاء‬ ‫فعلته لكن من دون إفشاء السبب‪ ،‬بل يجب أن يبدو األمر كما لو‬

‫أن الفاشيين هم الذين قاموا باغتياله‪ .‬وهم لسنوات طويلة أخفوا‬ ‫الحقيقة؛ ليبقى أبوه بطلاً‬ ‫ً‬ ‫شهيدا في نظر أهالي البلدة‪ .‬في النهاية‪،‬‬ ‫حين عرف االبن الحقيقة‪ ،‬كان عليه أن يختار بين كشف الحقيقة أو‬

‫إخفائها‪ .‬في الفلم كما في القصة‪ ،‬االبن ال يفشي السر‪ ،‬ال يكشف‬

‫الحقيقة ألحد‪ ..‬ربما ألن صورة األب تظل قوية ومهيمنة إلى درجة‬

‫تجعله يعجز عن كشف حقيقتها‪ ،‬عن تحطيمها‪ ،‬عن التحرّر منها‪.‬‬ ‫االبن يهمّ بمغادرة البلدة‪ ،‬بالهرب من األب‪ ،‬من الماضي المفترس‪،‬‬

‫من القدر‪ .‬يذهب إلى محطة القطار نفسها التي وصل إليها في بداية‬

‫الفلم‪ ،‬لكن يسمع من يعلن عن تأخر القطار لمدة ‪ 40‬دقيقة‪ ،‬ثم‬

‫مشهد من فلم «بوذا الصغير»‬

‫ً‬ ‫«أحيانا ينسوننا تمامً ا»‪.‬‬ ‫لمدة ساعتين‪ ،‬ثم يخبره مدير المحطة‪:‬‬

‫بينما يسير الشاب في موازاة خط السكة الحديدية‪ ،‬مع حركة‬

‫كاميرا مصاحبة على طول القضبان‪ ،‬يكتشف أن السكة‪ ،‬عند‬

‫موضع ما تصير مطمورة في األرض تحت شجيرات نامية‪ ،‬ومكسوَّة‬

‫باألعشاب‪ ،‬داللة على أن أي قطار لم يمر على هذه السكة منذ زمن‬ ‫طويل‪ ،‬ولن يم ّر أي قطار على اإلطالق‪ .‬إنها إشارة ضمنية إلى أن‬ ‫الماضي استطاع أخيرًا أن يغمر الحاضر‪ ،‬أو ربما هو مجاز بصريّ‬

‫لثيمة الفلم‪ :‬حجب أي أثر للماضي‪ ،‬وللتعبير عن شرَك الزمن‪ .‬على‬ ‫عالقا في شبكة العنكبوت‪ً ،‬‬ ‫أية حال‪ ،‬هو يجد نفسه ً‬ ‫عارفا أن ليس‬ ‫بإمكانه أب ًدا مغادرة البلدة‪ .‬إنه ينصهر تدريجيًّا مع الماضي‪ ،‬مع أبيه‪،‬‬ ‫في كينونة واحدة‪ .‬في هذه النهاية‪ ،‬التي ِّ‬ ‫تشكل صدمة شديدة للبطل‬

‫وللمتفرج على حد سواء‪ ،‬تختلط الحقيقة بالوهم‪ ،‬الصدق بالزيف‪.‬‬

‫بعد إخفاق أفالمه السابقة‪ ،‬على الصعيد التجاري‪ ،‬حاول‬

‫برتولوتشي أن يغيِّر طريقته في صنع الفلم متبنيًا أسلوب سرد‬ ‫مختلف قادر على أن يصل إلى الجمهور العريض‪ .‬يقول برتولوتشي‪:‬‬

‫«مع فلم خدعة العنكبوت بدأت في قبول فكرة الجمهور‪ ،‬بدأت‬ ‫باتصالي بالجمهور‪ ،‬هذا االتصال الذي كان مفقو ًدا في السابق»‪.‬‬

‫مشهد من فلم «اإلمبراطور األخير»‬

‫‪171‬‬


‫سينما‬

‫مخرج سعودي قال إنه ينتظر الكثير‬ ‫من المجمع الملكي وهيئة الترفيه‬

‫عبدالله آل عياف‪:‬‬ ‫ستستمر المحاوالت الفردية في‬ ‫السينما طالما ال يوجد دعم حكومي‬ ‫هدى الدغفق‬

‫‪172‬‬

‫يعد عبدالله آل عياف من األسماء التي برزت‬

‫مؤخرًا في مجال السينما وصناعة األفالم القصيرة‬

‫في السعودية‪ .‬أنجز آل عياف خمسة أفالم كانت‬ ‫من أفضل األفالم التي أُنتجت في الخليج في األعوام‬ ‫األخيرة‪ ،‬هي‪« :‬السينما ‪ 500‬كم»‪ ،‬و«إطار»‪،‬‬

‫و«مطر»‪ ،‬و«عايش» و«ست عيون عمياء»‪.‬‬

‫في هذا الحوار مع «الفيصل» يتحدث‬ ‫آل عياف عن سمات السينمائي‪،‬‬

‫ومستقبل السينما في السعودية‪،‬‬ ‫والصعوبات التي تواجهها‪.‬‬

‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬


‫ال تزال السينما في السعودية قائمة على محاوالت‬

‫فردية‪ ،‬وهي في الغالب من جيل الشباب؛ ما مستقبل هذه‬ ‫الجهود‪ ،‬وبخاصة أنها ال تجد الدعم؟‬

‫أتوقع استمرار تلك المحاوالت الفردية في الظهور إن‬

‫استمرت الحال تجاه الموقف من السينما على ما هي عليه‪،‬‬

‫كما يتوقع أن يواصل السينمائيون السعوديون والسعوديات‬ ‫إبداعاتهم الفردية وحصولهم على جائزة هنا وحضور إعالمي‬ ‫هناك‪ ،‬إال إن قامت الجهات الرسمية متمثلة في المجمع‬

‫الملكي للفنون أو هيئة الترفيه أو وزارة الثقافة واإلعالم بدعم‬

‫واضح لهذه المحاوالت‪ ،‬فالمتوقع أن تكون هنالك نقلة نوعية‬ ‫لحضور هؤالء الشباب في المحافل الدولية والمحلية بما يليق‬ ‫بمكانة بالدنا‪ ،‬لكن ما أعرفه تمامً ا سواء هناك دعم أو غاب‬ ‫فسيستمر هؤالء السينمائيون في محاوالتهم لتقديم كل ما‬

‫هو جميل‪.‬‬

‫من خالل األدوار المنوطة للمجمع الملكي للفنون؛ هل‬

‫تتوقعون أن يقوم بدور فعَّ ال في األيام المقبلة وبخاصة مع‬

‫نشوء هيئة الترفيه وتنظيم هيكلها؟‬

‫يمكن أن ُنقنع من ال يحب السينما بعرض‬ ‫أفالم جذابة تجعله يغير قناعاته‪ ،‬أفالم‬ ‫قيما إنسانية رفيعة‬ ‫تقدم فيها السينما‬ ‫ً‬ ‫دينية تتوافق مع مبادئ ديننا اإلسالمي‬ ‫وقيمنا العربية وعاداتنا السعودية‬ ‫كيف تنظر إلى المهرجانات السينمائية السعودية التي‬

‫تقام مؤخرا بين عام وآخر‪ ،‬على الرغم من الموقف السلبي‬

‫الظاهر من السينما؟ وماذا تقترح من رأي الستمرارها في ظل‬ ‫الظروف الراهنة؟‬

‫فلتسمحي لي بداية أن أحيي روح أولئك الذين وقفوا وراء‬ ‫ّ‬ ‫المنظمين أو المخرجين أو‬ ‫قيام تلك المهرجانات‪ ،‬سواء من‬

‫حتى الجمهور الذي حضر وتفاعل مع تجاربنا في ظل ظروف‬

‫عدم قبولها‪ .‬وبرأيي أن تلك المهرجانات لن تصل إلى المستوى‬ ‫المأمول إال بتقديم المساعدات من تسهيالت لها كمثل الدعم‬

‫المالي الكبير لترتقي مع المهرجانات في الدول المجاورة‪،‬‬ ‫وهذا الدعم تقدمه الدولة وجهاتها الرسمية مثل وزارة الثقافة‬

‫أجهل األدوار المنوطة بالمجمع الملكي للفنون وكذلك‬

‫واإلعالم‪ ،‬أو الجهات المعنية مثل المجمع الملكي للفنون‬

‫الجهتين‪ ،‬لكنني في المقابل أتوقع وأنتظر منهما الكثير مما‬

‫فإنني أرى أنه ال يقدم أي دعم‪ ،‬كما في دول العالم المتقدمة‪.‬‬

‫هيئة الترفيه؛ لعدم وجود تفاصيل واضحة إزاء هاتين‬ ‫يقدمانه من دور بحيث يكونان حاضنتين لكل المواهب الفنية‬ ‫في المملكة‪ ،‬وأن تكون جهة تدعم العروض والمعارض الفنية‬

‫الثقافية وغيرها الكثير‪.‬‬

‫متى تتوقع أن يزاح الستار عن السينما وافتتاح صاالتها‬

‫في السعودية؟‬

‫عندما صنعت أول فلم عام ‪2005‬م‬ ‫تلقيت سؤالاً من هذا النوع‪ ،‬وفي حديث‬ ‫مع البي بي سي قلت‪ :‬أتوقع أن تبدأ السينما‬

‫السعودية عصرها خالل عامين‪ .‬وسألني‬

‫أحدهم في عام ‪2007‬م السؤال ذاته‪ ،‬واآلن‬ ‫وأنا أكثر نضجً ا وواقعية وتفاؤلاً وثِقة أقول‬

‫بأن السينما السعودية ستنطلق خالل‬ ‫العامين المقبلين‪ .‬وأود التأكيد على رغبتي‬

‫الشخصية في أن ال يربط موضوع صاالت‬ ‫السينما بالسينمائي وكأنه ال توجد قضايا‬

‫إال صاالت السينما‪ .‬فليست صاالت السينما‬ ‫ومخرجين‬ ‫مخرجات‬ ‫بأهم من إيجاد‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫سعوديين‪ ،‬ليستخدموا هذه األداة لألفالم‬ ‫والسينما فيما يخدم بالدي مستقبلاً ‪.‬‬

‫وما على شاكلته‪ ،‬أو حتى من القطاع الخاص الذي مع األسف‬

‫وكذلك ال بد من االحتفاء والدعم والمؤازرة اإلعالمية الجادة‬

‫للسينما بوصفها رافدً ا ثقافيًّا مهمًّ ا ألي بلد‪ .‬وأن ال تموت‬

‫الظاهرة بمجرد إقفال المهرجانات أبوابها‪ ،‬بل أن تؤخذ هذا‬

‫التظاهرة بعين االعتبار‪ ،‬وتستثمر بتنقل هذه العروض إلى‬ ‫جميع مدن المملكة‪ .‬فما الذي يمنع أن نأخذ أفضل العروض‬

‫‪173‬‬


‫سينما‬

‫السينمائي السعودي ال بد أن يكون‬ ‫يستجد‬ ‫ومطلعا على ما‬ ‫مثقفً ا وقار ًئا‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫سواء في مجاله السينمائي أو في‬ ‫علمي النفس واالجتماع وأن يزداد‬ ‫وعيا بما يحدث حوله‬ ‫ً‬ ‫كيف يمكن للسينما إحداث تغيير في الواقع االجتماعي‬

‫السعودي وفي موقفه الحالي من السينما؟‬

‫أتحفظ شخصيًّا عن هذا السؤال؛ ألن هناك فرضية تروج‬

‫بأن السعوديين ضد السينما وأنهم ال يشاهدون األفالم‪ ،‬فخالل‬

‫صناعة فلمي األول «السينما ‪ 500‬كيلومتر» ‪2005‬م قابلت مدير‬

‫السينما في البحرين وقال‪ :‬إن ‪ 90‬في المئة من الجمهور في‬

‫البحرين في مواسم األعياد واإلجازات من السعودية‪ ،‬دليل آخر‬

‫يتضح من خالل تلك القنوات المدفوعة مثل‪ :‬الشو تايم وأوربت‬ ‫ً‬ ‫سابقا وغيرهما أكثر جمهورها المتابعين ألفالمها سعوديون‪.‬‬ ‫ذلك دليل قاطع وواضح على أن السعوديين يتابعون األفالم‪.‬‬

‫‪174‬‬

‫التي أقيمت في مهرجان الدمام مثلاً ونعرضها في حائل‬ ‫وتبوك وهكذا‪ .‬كما أعتقد أن عرض بعض األفالم الجيدة في‬ ‫ً‬ ‫الحقا‪ ،‬ودعم أصحابها بمقابل مادي‬ ‫التلفزيون السعودي‬

‫لقاء هذه العروض‪ ،‬قد يسهم في دعم هؤالء المبدعين في‬ ‫ً‬ ‫الحقا‪ .‬كما أن اختيار بعض األفالم‬ ‫تقديم أفالم أفضل إنتاجيًّا‬

‫السينما أضحت على قائمة اهتمامات وبرامج أي أسرة سعودية‬ ‫تسافر إلى الخارج‪ .‬مما سبق أعتقد بأننا ال نحتاج إلى أن ُنقنع‬ ‫من ال يحبذ السينما‪ .‬أعود إلى مغزى سؤالكم ألقول‪ :‬بإمكاننا‬ ‫أن نقنع من ال يحب السينما بعرض بعض األفالم الجذابة التي‬

‫يمكن أن تجعله يغيّر قناعاته‪ ،‬أفالم تقدم فيها السينما قيمً ا‬

‫إنسانية رفيعة دينية تتوافق مع مبادئ ديننا اإلسالمي وقيمنا‬

‫العربية وعاداتنا السعودية‪ ،‬وأثق بأنهم إذا شاهدوا عددًا من‬

‫الجيدة للمشاركة في بعض المحافل داخل المملكة وخارجها‬

‫تلك األفالم سيدركون أن السينما مجرد أداة إذا استخدمت في‬

‫واالعتراف بهم بعد سنوات طويلة من مقاطعتهم‪.‬‬

‫الشر فبالتأكيد أنها ستكون مؤثرة سلبيًّا‪.‬‬

‫يظهر على األقل مدى احتفاء الدولة وفخرها بأولئك المبدعين‬

‫هل يمكن تحديد مواصفات معينة ينبغي توافرها في‬

‫السينمائي السعودي الناجح؟‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫في نظري ال بد أن يكون مثقفا وقارئا ومطلعً ا على ما‬

‫يستجد سواء في مجاله السينمائي أو في علمي النفس‬ ‫واالجتماع ومختلف المجاالت‪ ،‬ويزداد وعيًا بما يحدث‬

‫من حوله‪ ،‬وينبغي أن يكون حساسً ا يلتقط أدق التفاصيل‬ ‫والخلجات اإلنسانية والمواقف المعبرة التي نشاهدها لتغير‬ ‫فينا وتغيرنا لألفضل‪ ،‬وأن يكون سفي ًرا نموذجيًّا لوطنه داخله‬

‫وخارجه كذلك‪ ،‬وأن ال يهتم ألضواء اإلعالم وبخاصة اإلعالم‬ ‫الخارجي الذي يتصيد ربما في أمثاله الستغالله في اإلثارة‬

‫الصحافية وحسب‪ .‬السينمائي السعودي الناجح هو من‬ ‫ً‬ ‫هدفا نبيلاً أمامه ويحاول الوصول إلى الهدف رغم كل‬ ‫يضع‬ ‫المعوقات التي تصادفه وتنال من جهده‪.‬‬

‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬

‫الخير ففيها الخير العميم‪ ،‬وأما إذا استخدمت في ترويج صور‬


‫‪175‬‬

‫ﻛﺘﺎب اﻟﻔﻴﺼﻞ أﺣﺪ إﺻﺪارات ﻣﺠﻠﺔ اﻟﻔﻴﺼﻞ‪ ،‬وﻳﻬﺪف إﻟﻰ إﺛﺮاء اﻟﺴﺎﺣﺔ اﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ‬ ‫اﻟﺴﻌﻮدﻳﺔ واﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ﺑﺈﻟﻘﺎء اﻟﻀﻮء ﻋﻠﻰ ﻣﻮﺿﻮﻋﺎت ﺟﺪﻳﺪة وﻣﺘﻨﻮﻋﺔ‪ ،‬ﻛﻤﺎ‬ ‫ﻳﺴﻌﻰ إﻟﻰ دﻋﻢ اﻟﻤﺒﺪﻋﻴﻦ ﻣﻦ اﻟﻤﺆﻟﻔﻴﻦ واﻷدﺑﺎء واﻟﻔﻨﺎﻧﻴﻦ‬

‫‪@alfaisalmag‬‬

‫‪alfaisalmag‬‬

‫‪alfaisalmag‬‬

‫‪www.alfaisalmag.com‬‬

‫ﻣﺠﻠﺔ اﻟﻔﻴﺼﻞ‬


‫مسرح‬

‫الخوف حليف الظلم بينما التغيير حليف الحلم‬

‫مسرح المقهورين‪..‬‬

‫أفق متعدد وال نهائي لمقترحات جديدة‬ ‫نورا أمين‬

‫‪176‬‬

‫كاتبة وفنانة مصرية‬

‫ُ‬ ‫قابلت المسرحي والبطل الشعبي البرازيلي أوغستو‬ ‫في عام ‪1997‬م‬ ‫بوال للمرة األولى في مصر‪ُ .‬‬ ‫كنت قد انتهيت لتوّي من ترجمة كتابه «قوس‬ ‫قزح الرغبة» الذي ُنشر في إصدارات مهرجان القاهرة الدولي للمسرح‬ ‫ً‬ ‫طبعا‬ ‫التجريبي تحت عنوان‪« :‬منهج أوغستو بوال المسرحي» (تفاد ًيا‬ ‫لكلمة «الرغبة»)‪ .‬كنت أعمل وقتها معيدة بأكاديمية الفنون بالقاهرة‪،‬‬ ‫ومترجمة‪ ،‬وكذلك كاتبة وممثلة ومخرجة مسرحية‪ .‬تفتحت عيناي على‬ ‫عالم مختلف من المسرح عندما قمت بترجمة إحدى تقنيات منهج‬ ‫مسرح المقهورين‪ ،‬ثم تفتح ذهني على عالم كامل من الفعل المسرحي‬ ‫في عالقته بالتغيير عندما تحدثت إلى بوال وجهً ا لوجه‪.‬‬

‫مشهد من مسرحية عدو الشعب‬

‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬


‫مسرح المقهورين‪ ..‬أفق متعدد وال نهائي لمقترحات جديدة‬

‫كنت وقتها غارقة في المسرح الجمالي الذي كنت أتمنى‬ ‫تدريجيًّا أن أفتتح فيه فصلاً‬ ‫ً‬ ‫جديدا من التجريب على التعبير‬

‫الجسدي‪ ،‬ومن ثم دمج خبراتي كراقصة ومصممة رقص مع خبراتي‬

‫كممثلة وكاتبة من أجل الوصول إلى لغة تعبيرية قادرة على فضح‬ ‫المسكوت عنه من قهر وقمع وحرمان‪ .‬كنت على دراية كاملة بأنني‬

‫أريد أن أغوص في حقل ألغام القهر‪ ،‬وأنني أسعى لخلق منظومة‬

‫جمالية ومعرفية جديدة قادرة على مواكبة جيل التسعينيات وفكره‬ ‫المستقل ومنتجه الثقافي المتمرد‪ .‬لكنني لم أدرك ً‬ ‫بتاتا أن هناك‬ ‫مجالاً كاملاً‬ ‫ً‬ ‫مرتبطا بذلك السعي إال أنه خارج العالم الجمالي‬ ‫والمعرفي للمسرح المغلق‪ ،‬وقد كان مسرح المقهورين الذي‬

‫أكمل دائرة مسعاي من خالل تعريفي بالبعد السياسي والتفاعلي‬ ‫والتربوي للمسرح من أجل التغيير‪.‬‬

‫دمج المسرح في عمليات التغيير‬

‫قمت بإطالق‬ ‫في خريف عام ‪2011‬م‬ ‫ُ‬ ‫«المشروع المصري لمسرح المقهورين»‬ ‫بعد أكثر من عامين على وفاة معلمي‬ ‫أوغستو بوال ودفعه لي كي ال أستريح‬ ‫قبل تحقيق الحلم‪ ،‬ذلك الحلم الذي‬ ‫استوحيته من تجربة البرازيل‪ ،‬وكان بوال‬ ‫نفسه ُملهِ ًما لي كي أقتفي خطواته‬ ‫بوال المُ ِّ‬ ‫نظر المسرحي والناشط السياسي‪ ،‬نجد أن المواطن‬ ‫المقهور‪ ،‬الذي عاش طويلاً في منظومة القهر الفكرية‪ ،‬ال يكفيه أن‬ ‫يتحرر بعزل النظام الدكتاتوري أو بتبديل رأسه؛ ألن هذا المواطن‬

‫نفسه كفيل بإعادة إنتاج هذه المنظومة حيث إنه ال يعرف غيرها‪،‬‬

‫نشأت بيننا صداقة رائعة‪ .‬سافرت في عام ‪2003‬م إلى البرازيل‪،‬‬

‫وألنها قد تحولت إلى نمط فكري تلقائي لديه‪ .‬لذلك ينبغي مد الثورة‬

‫المقهورين بريو دي جانيرو‪ ،‬وعلى يد المعلم أوغستو بوال شخصيًّا‬

‫الثقافي والتعليمي واالجتماعي‪ ،‬أي من خالل ابتكار منظومة تربوية‬

‫بمنحة من اليونسكو لشباب الفنانين للتدرب في مركز مسرح‬

‫وفريقه‪ .‬كنت حينئذ قد أسست فرقتي «الموزيكا المسرحية‬ ‫المستقلة» وقدمت عدة عروض وسافرت إلى مختلف أنحاء العالم‪،‬‬

‫لكن زيارة البرازيل بالنسبة لي كانت نقلة كيفية في نظرتي للعالم‬ ‫ولمصر ولكيفية دمج المسرح في عمليات التغيير االجتماعي‬ ‫ً‬ ‫تاريخا من القهر‬ ‫والسياسي‪ .‬لقد رأيت البرازيل قرينة لمصر‪ ،‬رأيت‬

‫ليس من خالل الفعل السياسي وحسب‪ ،‬إنما من خالل الفعل‬

‫متكاملة تستطيع إنتاج ذهنية جديدة للمواطن‪ ،‬تضمن المشاركة‬

‫الديمقراطية والعدل والمساواة والحرية‪.‬‬ ‫حاولت مرارًا وتكرارًا أن ّ‬ ‫ُ‬ ‫أنفذ ما تعلمته في مصر‪ ،‬فقمت‬ ‫ًّ‬ ‫بالتدريب في ورش عدة ناجحة جدا بالتعاون مع جمعيات أهلية‬

‫فاعلة‪ ،‬إال أن حلمي بالنزول للشارع ولقاء الجماهير بحرية وتلقائية‬

‫والحكم الدكتاتوري الشمولي‪ ،‬ومن التمرد والثورة والنصر‪ .‬رأيت‬ ‫«بوال» البطل الشعبي الذي ناضل واع ُت ِق َل ُ‬ ‫وع ِّذب في السبعينيات‪،‬‬ ‫ً‬ ‫عوضا عن اإلعدام؛ كي يعود ويساهم مع باولو فريري في‬ ‫ثم ُن ِف َي‬

‫تحريره ليتخذ موقعه في الشوارع‪ ،‬والميادين‪ ،‬والحدائق‪ ،‬وأفنية‬

‫خالل المسرح‪ ،‬ليتحرر من ذهنية القهر ومنظومته‪ ،‬فال يعيد إنتاج‬

‫أرى أننا هكذا سوف ندخل فعليًّا في إطار المسرح من أجل التغيير‪،‬‬

‫تحرير ذهنية المواطن المقهور وإعادة تدريبه وتأهيله تربويًّا من‬

‫النظام نفسه مرة ثانية‪.‬‬

‫يقوم منهج مسرح المقهورين‬

‫على خمس تقنيات أساسية‪ :‬مسرح‬ ‫الصورة‪ ،‬ومسرح الجريدة‪ ،‬والمسرح‬ ‫الخفي‪ ،‬ومسرح المنتدى‪ ،‬والمسرح‬

‫التشريعي‪ .‬وكلها تقنيات تعمل على‬ ‫دمج المُ تفرِّج ليصبح فاعلاً بدرجة‬

‫أو بأخرى‪ ،‬ولكي يتحول العرض‬

‫المسرحي إلى فعل قابل للتحول كل‬

‫مرة حسب تدخالت المُ تفرج‪ ،‬حيث‬

‫يصبح المنبر المسرحي ساحة للنقد‪،‬‬ ‫ومساحة للتفاعل الحي مع المتفرج‪.‬‬ ‫وبهذا المعنى ُتعَ ّد التقنيتان األخيرتان‬ ‫أكثرها تفاعلية‪ .‬في تجربة أوغستو‬

‫لم يتحقق على مدار ثالث سنوات من ‪2008‬م إلى ‪2010‬م‪ .‬كنت أرى‬ ‫ً‬ ‫مطلقا الوجود داخل األبنية‪ ،‬بل يجب‬ ‫أن مسرح المنتدى ال يكفيه‬ ‫المدارس‪ ،‬ومراكز الشباب‪ ،‬والنوادي الرياضية واالجتماعية‪ .‬كنت‬

‫‪177‬‬


‫مسرح‬

‫أحد العروض المسرحية للمعلم أوغستو بوال‬

‫حيث المنبر المسرحي يتخذ موقعه في الحقل العام‪ ،‬ويتحول‬ ‫منتدى للفعل الديمقراطي وللمشاركة‪ .‬وكان مهمًّ ا ج ًّدا بالنسبة‬ ‫لي أن يتم الفعل المسرحي كإعالن وشهادة عن أحقية المواطن‬

‫‪178‬‬

‫في التعبير والمشاركة الفعالة في التعامل مع قهره‪ ،‬ولو كانت‬

‫تلك المشاركة بمنزلة تدريب عملي على التغيير الحقيقي‪ ،‬فقد‬

‫قال بوال‪ :‬إن المسرح ليس هو الثورة الحقيقية مهما اقترحنا من‬

‫تغييرات ثورية‪ ،‬إنه فقط بروفة على الثورة‪ .‬كان المسرح المصري‬ ‫لعقود عديدة‪ ،‬وقبل مبادرات المسرح المستقل والشبابي‪ ،‬مسرحً ا‬

‫قائمً ا على المنظومة المعرفية والفكرية ذاتها التي يتبناها النظام‬ ‫الحاكم والمجتمع التقليدي‪ .‬لقد كان مسرحً ا متبنيًّا في معظم‬

‫األحوال ألفكار الطبقية المعرفية حيث المعرفة تأتي من خشبة‬ ‫المسرح وترسل إلى الجمهور‪ ،‬وحيث القسمة والفصل واضحان‬

‫جغرافيًّا ومعرفيًّا بين خشبة المسرح ومقاعد المتفرجين‪ ،‬وحيث‬ ‫يجب الحفاظ على جميع وجوه النفاق االجتماعي من خالل إعادة‬

‫إنتاجه داخل المنظومة المسرحية واألداء المسرحي‪ .‬ظهر المسرح‬ ‫كثيرًا كبوق للسلطة وأليديولوجية النظام الحاكم ولتمجيد الحاكم‬

‫الفرد البطل على غرار ثقافتنا الفرعونية‪ .‬وظهرت مواضعاته‬ ‫الجمالية والفنية ل ُترسي التمييز في المواطنين بين منتج للثقافة‬

‫وصاحب الكلمة العليا وبين القطيع المتلقي السلبي الصامت‪.‬‬ ‫في هذا السياق كانت «المشاركة» ُتعَ ّد كسرًا للتقاليد البرجوازية‬ ‫العتيقة وخروجً ا عن شفرة االتفاق الجمعي والمجتمعي‪.‬‬ ‫ممارسات مستبدة‬

‫مع إسهامات جيل التسعينيات في الثقافة والتغيير‪ ،‬ومع‬

‫نشوء العديد من مؤسسات المجتمع المدني الفاعلة والهادفة‪،‬‬ ‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬

‫وبسبب تراكم الممارسات المستبدة وتحوالت الفكر الفردي‬ ‫الشبابي بالتزامن مع أحداث مجتمعية وسياسية فادحة‪ ،‬دخلت‬

‫مصر األلفية الثالثة وهي مستعدة للتغيير‪ .‬بيد أن النظام السياسي‬ ‫ِّ‬ ‫المعطل األول وليس الشعب ذاته‪ .‬كانت مصر محكومة‬ ‫القامع كان‬ ‫بقانون الطوارئ‪ ،‬وكانت عروض الشارع ممنوعة أمنيًّا ومجرد‬ ‫ً‬ ‫تحديدا هو السراب الذي ِعش ُته مع حلمي‬ ‫سراب‪ .‬وكان ذلك‬ ‫لاً‬ ‫بمسرح المقهورين المصري وصو إلى ثورة ‪ 25‬يناير عام ‪2011‬م‪ .‬كان‬

‫على «المشروع المصري لمسرح المقهورين» (الذي يتكون اليوم‬

‫من ست مئة ناشط‪ ،‬ينتمون لنحو ثالثين مدينة مصرية تغطي‬ ‫معظم محافظات مصر) أن ينتظر أعوامً ا كي يولد في خضم الثورة‬ ‫المصرية‪ًّ .‬‬ ‫حقا لم يكن من المعقول تحت النظام المستبد أن يولد‬

‫وأن يجوب الشوارع والميادين والمحافظات والمدن بطول مصر‬ ‫وعرضها‪ .‬وكانت فكرة المشاركة التفاعلية ووضع المسرح داخل‬ ‫المجال العام المفتوح في حد ذاتها فكرة ثورية معارضة‪ ،‬تفتقد‬ ‫إلى لحظة سياسية وثورية ووطنية كي تحتضنها ُ‬ ‫وت ِّ‬ ‫يسر لها طريقها‪،‬‬

‫وقد كان‪.‬‬

‫ُ‬ ‫قمت بإطالق «المشروع المصري لمسرح‬ ‫في خريف عام ‪2011‬م‬

‫المقهورين» بعد أكثر من عامين على وفاة معلمي أوغستو بوال‬

‫ودفعه لي كي ال أستريح قبل تحقيق الحلم‪ ،‬ذلك الحلم الذي‬ ‫لهمً ا لي كي‬ ‫استوحيته من تجربة البرازيل‪ ،‬وكان بوال نفسه مُ ِ‬ ‫أقتفي خطواته‪ .‬بدأت بتدريب مجموعة من الناشطين في مدينة‬ ‫اإلسكندرية كي يتحوّلوا بدورهم تدريجيًّا إلى مساعدين لي في‬

‫التدريب‪ ،‬ثم مدربين‪ .‬كانت خطتي أن أخلق شبكة وطنية كاملة‬ ‫من ممارسي مسرح المنتدى بحيث تكون كل مدينة أو محافظة‬

‫لديها مجموعة محلية قادرة على تقديم عروض لمسرح المنتدى‬


‫مسرح المقهورين‪ ..‬أفق متعدد وال نهائي لمقترحات جديدة‬

‫بل تدريب أفراد إضافيين لالنضمام لها‪ ،‬ومن ثم التواصل مع بقية‬ ‫الوحدات والمجموعات والتجوال بالداخل‪ .‬هكذا رأيت أنه يمكن‬ ‫خلق حركة مسرحية من أجل التغيير وخارج مركزية القاهرة‪.‬‬

‫كان الشعب المصري قد خرج بكامله وثار وقام بالتغيير‪ .‬كانت‬

‫الشوارع والميادين قد عادت إلى المواطنين المصريين بعد أن كانت‬ ‫حكرًا على الدولة والحكومة‪ .‬كانت جموع المصريين كتلة واحدة‬ ‫منسجمة ومدركة لقوتها‪ .‬كانت لحظة المواطنة والديمقراطية‬

‫بامتياز‪ .‬وكان المواطنون قد استعدوا لجميع أنواع المشاركة‪،‬‬ ‫ولكسر أنماط الفصل والتمييز والقهر‪ .‬أصبح المجال العام مفتوحً ا‬

‫للفن وللممارسات التفاعلية من مسرح وغناء وموسيقا وغرافيتي‪.‬‬

‫وكان ذلك هو الميالد الذي يليق بالحلم‪ .‬يتميز مسرح المنتدى عن‬ ‫غيره من أنماط المسرح الشعبي ومسرح الشارع‪ ،‬بأنه يتعامل‬ ‫ً‬ ‫وتحديدا مع قضايا القهر‪ ،‬وبأنه مُ عَ ّد خِ ِّصيصى ليس‬ ‫مباشرة‬

‫للفرجة وال للترفيه والتسلية‪ ،‬إنما للتأثير في حياتنا وقضايانا‬ ‫اليومية ووعينا وفكرنا بحيث نعيش واقعً ا أفضل‪ .‬هو مسرح‬ ‫يعرض مشاهد بسيطة ج ًّدا عن قهر ما‪ ،‬لكنه قهر حقيقي ملموس‬ ‫من واقع المتفرجين‪ ،‬إال أنه ال يتوقف عند ذلك‪ ،‬فهو يفتح المنبر‬

‫للمتفرج ‪ -‬الفاعل كي يسهم ويشارك في العرض من خالل اقتراح‬ ‫تصرفات لمواجهة القهر الحادث بتغييره أو تفاديه أو تحجيمه‪.‬‬

‫هكذا يقود «الجوكر» (مُ ي َِّسر األمسية المسرحية) إلى حوار ونقاش‬

‫مع الجمهور حتى يظهر متفرج متطوع بفكرة‪ ،‬وهنا يصر الجوكر‬

‫على أنه ال يمكن اختبار الفكرة بسردها‪ ،‬بل ينبغي اختبارها بتطبيقها‬ ‫ّ‬ ‫محل االقتراح‬ ‫عمليًّا أي بالصعود بين الممثلين‪ ،‬وتجريب الفكرة‬

‫مهما بالنسبة لي أن يتم الفعل‬ ‫ًّ‬ ‫المسرحي كشهادة عن أحقية المواطن‬ ‫في المشاركة الفعالة في التعامل مع‬ ‫قهره‪ ،‬ولو كانت تلك المشاركة بمنزلة‬ ‫تدريب عملي على التغيير الحقيقي‬ ‫ُ‬ ‫الممثل‬ ‫وبالفعل يرتدي أحد إكسسوارات الشخصية‪ ،‬ويترك‬ ‫َ‬ ‫مكانه لهذا المتفرج‪ .‬وال مجال بالطبع ألن يحل المتفرج محل‬ ‫القاهر ألنه من غير المنطقي أن يقوم القاهر بالحل وهو صاحب‬

‫المصلحة األولى في القهر‪ ،‬كما يتعين على جميع المشاركين‬ ‫احترام أساسيات المنهج بعدم اقتراح حلول غيبية أو خرافية‪ ،‬أو‬ ‫حلول فاسدة قائمة على التحايل والكذب والرشوة بجميع أنواعها‪،‬‬

‫أو حلول عنيفة عدوانية تستخدم العدوان الجسدي الذي يزيد من‬ ‫دائرة القهر ويحيل حتى المقهور إلى قاهر‪.‬‬ ‫االرتجال الفوري‬

‫بينما يحاول المتفرج االرتجال الفوري يكون بالفعل قد بدأ‬

‫تدريبه الذهني على التغيير‪ ،‬فقد كسر نمط الالمباالة والسلبية‬ ‫واالقتناع باستحالة التغيير؛ كي يتبنى ذهنية اإليجابية والتفكير‬

‫الحر‪ ،‬والنقد الذاتي‪ ،‬واإليمان باإلرادة وبالكرامة اإلنسانية‪ .‬وفوق‬ ‫هذا وذاك‪ ،‬أصبح هذا المتفرج فاعلاً ‪ ،‬ولو فعلاً رمزيًّا مؤق ًتا‪ ،‬بحيث‬ ‫ً‬ ‫موقفا مماثلاً في المستقبل سوف يتمكن من تبني‬ ‫أنه عندما يواجه‬

‫داخل المشهد‪ .‬ثم يختار المتفرج إحدى الشخصيات المقهورة أو‬

‫ذهنية الفعل مرة أخرى‪ .‬وال ينبغي أن ننسى أن كل ذلك يتم في‬

‫للقيام بتلك الفكرة‪ ،‬ويختار لحظة محددة من الموقف المسرحي‪.‬‬

‫المتفرج ذاته مساهمً ا في المجال العام بأفكاره الخاصة‪ ،‬ويشهد‬

‫الحليفة للمقهور كي يحل محلها حيث يرى أنها أنسب الشخصيات‬

‫العلن وأمام الجمهور وفي المجال العام المفتوح‪ ،‬ومن ثم يصبح‬ ‫على ذلك أقرانه من المتفرجين الذين يدركون تدريجيًّا تحول‬ ‫األمسية المسرحية إلى تدريب مفتوح ومشاركة ديمقراطية تعيد‬

‫لهم أصواتهم‪ ،‬وتبني من جديد الحيز العام وعالقات المواطنة‪.‬‬ ‫ربما ما يقترحه المتفرج ال يؤدي إلى الخروج‪ ،‬ولو قليلاً ‪ ،‬من‬

‫موقف القهر‪ ،‬إال أن المحاولة هي الهدف‪ ،‬ليس الهدف هو حل‬ ‫القهر وإال النتهى العرض سريعً ا‪ ،‬وذهبنا جميعنا إلى بيوتنا‪ .‬بل‬

‫الهدف هو الوصول إلى تلك المحاولة مرارًا وتكرارًا‪ ،‬وفتح أفق‬

‫متعدد وال نهائي لمقترحات جديدة‪ .‬وفي هذا الصدد ينبغي أن‬ ‫نعرف أن ممثلي أو ممارسي مسرح المنتدى يتدربون ً‬ ‫جيدا على‬

‫تقنيات منهجية محددة وضعها أوغستو بوال كي يتمكنوا من‬ ‫ً‬ ‫مختلفا لمسار‬ ‫االرتجال الفوري مع المتفرج حال اقتراحه سيناريو‬

‫األحداث‪ .‬هي تقنيات ممنهجة جميعها تساعد الممثل على فهم‬

‫فلسفة القهر ومبادئ منهج مسرح المقهورين بحرفية عالية؛ كي‬

‫أوغستو بوال‬

‫يرتجل من هذا اإلطار فال يكسر المنهج‪ ،‬وبالتالي يدفع بالمتفرج‬ ‫إلى عكس الهدف من الحلم‪.‬‬

‫‪179‬‬


‫موسيقا‬

‫موسيقا كناوة ‪..‬‬ ‫تراث الصحراء الكبرى‬ ‫من جراح مفتوحة على العالم إلى‬ ‫غناء روحي فريد ورقص تعبيري خالق‬ ‫‪180‬‬

‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬


‫سعيد بوكرامي كاتب مغربي‬

‫إقبال كبير على موسيقا كناوة من زائري ساحة جامع الفنا الشهيرة في مراكش ومهرجان‬ ‫الصويرة‪ ،‬سواء كانوا مغاربة أو عر ًبا أو أجانب‪ ،‬ومع ذلك الكثير من الناس ال يعرفون شي ًئا عن ماضيها‬ ‫القديم؛ إذ تعود هذه الموسيقا الفريدة إلى جنوب الصحراء الكبرى‪ ،‬فمعظم الكناويين ترجع أصولهم‬ ‫إلى إمبراطورية السودان الغربية التي تضم السنغال ومالي والنيجر وغينيا‪ .‬ولكن أصل كلمة‪ :‬كناوة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ِّ‬ ‫مفسرًا أصل الكلمة‪ :‬يوجد تشابه لفظي مع العبارة‬ ‫معروفا حتى اآلن‪ .‬يقول موريس دوالفوس‬ ‫ليس‬ ‫األمازيغية «أقال‪-‬ن‪ -‬إغويناوين» وهي تعني أرض الزنوج‪ .‬وقد نتج عن هذا المصطلح والدة صفة «غينيا»‬ ‫ومنها «غناوة»‪ ،‬على الرغم من انعدام المعطيات التاريخية التي ِّ‬ ‫ً‬ ‫خالفا‬ ‫توثق وتدعم هذه األطروحة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫عبيدا تحولوا إلى اإلسالم؛‬ ‫للعديد من األفكار السائدة عن الموسيقيين الكناويين‪ ،‬فهم ليسوا كلهم‬ ‫إذ كان معظمهم من أصل إفريقي أسود‪ ،‬وهم ينتمون إلى جنوب الصحراء الكبرى‪ ،‬فهناك في الواقع‬ ‫فئات منهم من العرب أو األمازيغ؛ أي من ألوان وجماعات عرقية مختلفة‪ ،‬وذات أصول اجتماعية‬ ‫َّ‬ ‫مركبة‪ ،‬إال أن الموسيقا وجماعاتها وحَّ دت هذه األعراق‪ ،‬وجعلتها تؤسس مدارس عائلية‪ ،‬سهرت على‬ ‫رعاية الموسيقا الكناوية والمحافظة عليها أ ًبا عن ٍّ‬ ‫جد ممتدة في الزمان والمكان‪.‬‬ ‫االمتدادات‬ ‫امتدت ثقافة كناوة من خالل الموسيقا لتشمل فنوناً‬

‫مغاربية مثل‪ :‬موسيقا «الديوان» في الجزائر‪ ،‬و«ستانبلي» في‬ ‫ُ‬ ‫درج العديد من األساليب الموسيقية‬ ‫ليبيا وتونس‪ .‬ومنذ عقود أ ِ‬ ‫واإليقاعات الكناوية سواء في المغرب أو في الجزائر وتونس‬ ‫وليبيا أو على الصعيد العالمي‪ ،‬ويتمظهر هذا في أنواع عديدة‬

‫من الموسيقا مثل‪ :‬الراب المغربي‪ ،‬والموسيقا األمازيغية‬ ‫َّ‬ ‫وتجلى ذلك بوضوح في تجربة مجموعة «ناس‬ ‫العربية‪.‬‬

‫تجلت في تجارب عالمية ِّ‬ ‫الغيوان» الفريدة والثرية‪ .‬كما َّ‬ ‫توظف‬

‫موسيقا كناوة والجاز أو كناوة والريغي وكناوة والبلوز‪ .‬ونذكر‬ ‫على سبيل المثال ال الحصر تجارب كارلوس سانتانا‪ ،‬وبيتر‬ ‫غابرييل‪ ،‬وليد زيبلين‪ ،‬وروبرت بالنت‪ ،‬وراندي ويستون‪،‬‬

‫والبينك فلويد‪ ،‬وكات ستيفنز‪ ،‬وجيمي هندريكس‪ ،‬وهنري‬ ‫سلفادور‪ ،‬وسافو‪ ،‬وريتا ميتسوكو والقائمة طويلة‪ .‬ورغم‬

‫انتشار موسيقا كناوة في أرجاء العالم وعزفها من طرف فرق‬ ‫في أوربا وأميركا واليابان إال أنها لم ُتسجَّ ل موسيقيًّا إال في‬ ‫ُ‬ ‫نجز أول تسجيل صوتي لموسيقا كناوة على‬ ‫عام ‪1975‬م حينما أ ِ‬ ‫شريط كاسيت‪.‬‬ ‫في أوائل شهر يونيو من كل عام‪ ،‬ينظم مهرجان كناوة في‬

‫مدينة الصويرة تحت شعار‪« :‬مهرجان كناوة وموسيقا العالم»‪.‬‬

‫ويكون فرصة إلحياء ليالي موسيقية كناوية بقيادة «المعلمية»‬ ‫أو بمشاركة فرق عالمية‪ .‬كما يشكل للدارسين مناسبة فريدة‬ ‫لالستماع إلى كبار المعلمين الورثة الشرعيين لهذه الموسيقا‬

‫الروحية‪ .‬وفي السياق ذاته يكتشفون أن هناك أسرارًا دفينة‬

‫وراء هذه الموسيقا اآلسرة‪ ،‬بطقوسها التي ترقى إلى مستوى‬ ‫العالج النفسي‪ .‬يقول الشيوخ القدامى عن الموسيقا الكناوية‪:‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وثيقا بالطقوس العالجية التي‬ ‫ارتباطا‬ ‫إن موسيقاهم مرتبطة‬ ‫مارسها أجدادهم األفارقة في جنوب الصحراء الكبرى‪ ،‬ويمكن‬

‫للمتمعِّ ن في إيقاعات الموسيقا الكناوية أن يكتشف تشابهها‬

‫‪181‬‬


‫موسيقا‬

‫الكبير مع موسيقا الفودو في هايتي‪ ،‬أو السانتيريا الكوبية أو‬

‫بالكنبري‪ .‬وخالل ليلة العادة يستغنى ً‬ ‫أيضا عن القراقش‬

‫األفارقة من إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى خالل مراحل‬

‫ستعود خالل المرحلة التالية‪ .‬ثانيًا‪ -‬أوالد بامبارة‪ :‬بعد االنتهاء‬

‫الكاندومبلي البرازيلية‪ .‬وجميعها من أصول واحدة‪ ،‬استقدمها‬

‫االستعباد وتجارة الرقيق‪.‬‬

‫تمارس طقوس الموسيقا الكناوية ليلاً ؛ لهذا ُتسمَّ ى‬ ‫«الليلة»‪ُ ،‬‬ ‫وتمارَس سواء في بيت خاص أو في الزاوية‪ .‬ويكون‬

‫الهدف من طقوس كناوة الليلية التفريج عن النفوس وطرد‬ ‫األرواح التي تهيمن عليها‪ .‬وبذلك فهم يمارسون طقوسً ا‬ ‫ً‬ ‫وسيطا بين‬ ‫الموسيقي أو العازف‬ ‫إفريقية قديمة تجعل من‬ ‫ّ‬

‫العالم الواقعي وعالم األرواح‪ .‬بفضل حالة الالشعور الباطني‪،‬‬ ‫تصبح الليلة على حد سواء طقوسً ا للخالص وأداة عالجية‪.‬‬

‫وتتكون الفرقة الموسيقية من «المعلم» الكناوي والموسيقيين‬ ‫الراقصين‪ ،‬والمقدمة وهي حارسة الزاوية المقدسة‪.‬‬ ‫الليلة الكناوية‬

‫تنفذ الليلة الكناوية على ثالث مراحل‪ :‬العادة‪ ،‬وأوالد‬

‫من المرحلة األولى‪ ،‬يبدأ طقس جديد يسمى «النقشة» أو‬ ‫«النكشة» ينبري فيه راقصو الكناوة إلى الرقص االنفرادي‬ ‫تارة والجماعي تارة أخرى‪ .‬وبعد استرخاء وجيز تدخل الليلة‬

‫الكناوية مرحلة تسمى بـ«فتوح الرحبة» يُعَ دُّ فيها المكان الذي‬ ‫ستقام فيه الليلة المقدسة‪.‬‬

‫في هذه األثناء تحضر «المقدمة» وهي سيدة تهيمن على‬ ‫المراحل المتبقية‪ً .‬‬ ‫ثالثا‪ -‬الملوك‪ :‬في البداية تضع المقدمة‬ ‫صينية أمام «المعلم» بها بخور متنوع وأشياء أخرى‪ .‬ثم تبدأ‬ ‫بإلقاء قطع قماشية مختلفة األلوان‪ .‬وترمز إلى ملوك الجن‪.‬‬

‫وعلى إيقاع الموسيقا ومراحلها يؤمر المريدون بارتداء لون من‬ ‫ألوان القماش‪ ،‬مثلاً اللون األسود فصاحبه هو الملك «سيدي‬

‫ميمون» و«اللة ميمونة»‪ ،‬أما اللون األحمر فهو للملك «سيدي‬

‫حمو»‪ .‬بيد أن اللون األزرق فهو للملك «سيدي موسى»‪ .‬وترتب‬ ‫األلوان بحسب المحالت التي تنتمي إليها‪ ،‬وهي‪ :‬محلة األبيض‪،‬‬

‫بامبارة‪ ،‬والملوك‪ ،‬ويندرج جميعها فيما يسمى «الدردبة»‪.‬‬ ‫أولاً ‪ -‬العادة‪ :‬تبدأ بطواف الفرقة الكناوية أزقة وشوارع المدينة‬

‫واألسود‪ ،‬واألزرق‪ ،‬واألحمر‪ ،‬والمبرقش‪ ،‬واألخضر‪ ،‬ثم األبيض‬

‫َّ‬ ‫مرصعة بأنواع من الصدف‪ .‬خالل‬ ‫المتعددة األلوان‪ ،‬وطاقية‬

‫يقول الشيوخ القدامى عن الموسيقا‬

‫القديمة متشحين بمالبسهم المميزة المتكونة من الفوقية‬

‫‪182‬‬

‫تدريجيًّا لتعوض بإيقاع الكف‪ .‬لكنه استغناء مؤقت؛ ألنها‬

‫الطواف على إيقاع الطبول والقراقش أو القراقب الحديدية‪،‬‬ ‫ال تستعمل آلة الكنبري وهي آلة وترية تشبه إلى حد كبير‬ ‫آلة النكوني التي ما زالت يعزف بها في مالي إلى اليوم‪ .‬في‬ ‫مقدمة الموكب «العادة» تسير الفتيات حامالت الشموع‪.‬‬

‫وبمجرد العودة إلى البيت يستغنى عن الطبول وتعوض‬

‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬

‫الكناوية‪ :‬إن موسيقاهم مرتبطة‬ ‫ارتباطا وثيقً ا بالطقوس العالجية التي‬ ‫ً‬ ‫مارسها أجدادهم األفارقة في جنوب‬ ‫الصحراء الكبرى‬


‫موسيقا كناوة ‪ ..‬تراث الصحراء الكبرى‬

‫واألسود‪ ،‬واألبيض واألصفر‪ ،‬ثم على إيقاع الكنبري والقراقش‬

‫والثالثية‪ .‬قاعدته اإليقاعية تعتمد على آالت القراقب التي‬

‫واستجابوا روحيًّا للخالص‪ .‬خالل هذه المرحلة من الطقس‬

‫كلما تدفق الغناء أكثر‪ ،‬تتحكم فيه حاالت المغني النفسية‬

‫يتصاعد اإليقاع ليدخل المريدون الذين وصلوا إلى الحالة‪،‬‬

‫تضبط بشكل صارم كل مرحلة من الليلة‪ .‬وكلما تصاعد اللحن‬

‫يقوم المعلم بمالحظة المجموعات المختلفة من المغنين‬

‫المختلفة‪ ،‬وقدرته الحسية على الشعور باإليقاع؛ لهذا تبقى‬

‫ُ‬ ‫وتعَ دُّ الكنبري اآللة المركزية للطقوس الكناوية‪ ،‬فهي‬

‫الغناء‪ :‬يتألف برنامج الليلة من مجموعة من األغاني‪،‬‬

‫الدعوات إلى الملوك‪ .‬في حالة من التعبئة الموسيقية‬

‫بالغناء على إيقاع الكنبري وعلى مراحل قصيرة‪ .‬يتجاوب‬

‫المرتبطين بلون ملك من الملوك‪ ،‬بعدها يشير بضرورة‬

‫استقدام الشخص الذي وصل إلى مرحلة «الجدبة» والنشوة‪.‬‬

‫تساهم بإيقاعها الروحي في تصعيد النشوة عن طريق إرسال‬ ‫والروحية مع التقيد الصارم بشروط إحياء العادة التي من‬

‫شأنها أن تسمح باستدعاء األرواح وتحرير بعض األجساد من‬ ‫أمراضها النفسية‪.‬‬

‫الخصائص الموسيقية‬

‫المقام‪ُ :‬تص َّنف موسيقا كناوة من بين األنواع الخماسية‬

‫النغمات‪ .‬في الواقع هي كذلك‪ ،‬لكن نوتة واحدة من المقام‬ ‫ُّ‬ ‫تحل‬ ‫معرضة لالستبدال أو االنتقال المفاجئ‪ .‬وإليضاح أكثر‪،‬‬

‫ّ‬ ‫محل الدرجة «مي المنخفضة»‪،‬‬ ‫الدرجة الموسيقية «ري»‬ ‫وهذا االنتقال ِّ‬ ‫يذكرنا بمقام ال َّر ْ‬ ‫صد في الموسيقا األندلسية على‬ ‫وجه التحديد‪ ،‬وذلك باستخدام ست درجات‪.‬‬

‫اإليقاع‪ :‬في موسيقا الليلة‪ ،‬يلعب اإليقاع دورًا قياديًّا‪.‬‬

‫إيقاع كناوة نموذجي تتداخل وتصطف فيه الصيغ الثنائية‬

‫موسيقا كناوة موسيقا حسية يغلب عليها اإليقاع الباطني‬ ‫ّ‬ ‫المتقلب والمنسجم في اآلن نفسه‪.‬‬ ‫تتخللها معزوفات منفردة على الكنبري‪ .‬في حين يقوم الملوك‬ ‫المريد مع اإلشارات الغنائية ورموزها الوجدانية‪ ،‬فيستجيب‬ ‫ً‬ ‫خالفا لغيرها من أنواع الموسيقا‬ ‫فورًا للحالة الالشعورية‪.‬‬

‫الشعبية المغربية‪ ،‬فإن الحالة الموسيقية الكناوية يمكن أن‬ ‫ً‬ ‫أحيانا وقتها المحدد‪ .‬ويمكن أن نضيف جانبًا‬ ‫تتمدد وتتجاوز‬

‫نموذجيًّا في موسيقا كناوة وهو إمكانية مصاحبة المريدين‬

‫الملوك في غنائهم والتماهي مع نوباتهم ومراحل ارتقائهم من‬ ‫حالة أسر إلى حالة انعتاق‪.‬‬

‫موسيقا كناوة روحية تخاطب الوجدان والتاريخ‪ ،‬والضمير‬

‫اإلنساني‪ .‬تعزفها الذاكرة منذ بداية آالم اإلنسان اإلفريقي وهو‬ ‫يجُ َتث من أرضه وأصوله‪ ،‬ليباع في أسواق النخاسة في أوربا‬

‫واألميركيتين‪ ،‬أو في إفريقيا الشمالية‪ .‬هذه المحنة تحولت‬ ‫تدريجيًّا من جراح مفتوحة على العالم وصراخ واحتضار‪ ،‬إلى‬ ‫غناء روحي فريد ورقص تعبيري خلاَّ ق‪.‬‬

‫‪183‬‬


‫مقال‬

‫سيف الرحبي ‪ -‬شاعر عماني‬

‫غرفة استقبال الضواري‬ ‫أجلس على طاولة إزاء كونتر االستقبال في الفندق الذي أنزل فيه‪،‬‬

‫أتأمل القادمين والذاهبين من كل األلوان واألجناس‪ ،‬من البلدان البعيدة‬

‫والقريبة‪ ..‬في هذا الفندق الذي يقع وسط غابة صغيرة ّ‬ ‫تشكل امتدا ًدا للغابة‬

‫الكبيرة المتالطمة األشجار والحيوات والطيور الصادحة طوال الليل‪ ،‬بأصوات‬

‫تتهادى إلى مسمعي بين العواء الجريح‪ ،‬والفرح الحالم في نومه‪.‬‬

‫يذكر أو يختصر ّ‬ ‫قبالة غرفة االستقبال الخشبيّة‪ ،‬المكان الذي ّ‬ ‫محطات‬

‫قطارات حديثة أو تلك القديمة التي يعلوها الدخان‪ ،‬والسُّ خام‪ ...‬بالمطارات‬ ‫الكبيرة والصغيرة‪ ،‬أحدق في سحنات وجوه القادمين الم ْتعبَة من الرحالت‬ ‫الطويلة التي تشبه رحلتي من ُعمان في الضلع األقصى من شبه جزيرة‬

‫العرب‪ ،‬إلى الشرق اآلسيويّ األقصى‪ ..‬وبخاصة إذا كان المسافر قد تقدم به‬

‫العمر والزمن‪ ،‬تكون ضريبة التغيير وشمّ الهواء في البالد األخرى المختلفة‪،‬‬ ‫مرهقة وباهضة‪ ،‬وستأخذ الرحلة وتبعاتها يومًا أو يومين حتى يبدأ المترحّ ُل‬

‫‪184‬‬

‫في التخلص من عناء السفر ومتاعبه الجمّة‪ ،‬وبخاصة في هذه البرهة‬

‫المضطربة في تاريخ العالم بحواجزه البوليسية ودوائر مطاراته المتحفزة‬ ‫دومًا بالريبة واالنقضاض‪.‬‬

‫أحدق في وجوه القادمين والذاهبين إلى ديارهم بطمأنينة من قضى‬ ‫فترة نقاهة واستجمام‪ ،‬وتفترسني وجوه ماليين البشر الذين يتو ّزعون‬ ‫مخطوفين (بمعنى األلم وليس النشوة) في المتاهات البريّة والجويّة‬

‫والبحريّة ألسباب مختلفة‪ ،‬في طليعتها الحروب التدميريّة الصاعقة‪..‬‬

‫الشمس الغارقة في ُصفرة المغيب‬ ‫ِ‬ ‫أشكال‬ ‫كأنما النباحُ شكلاً من‬ ‫ِ‬ ‫التبجيل والوداع‪..‬‬

‫٭٭٭‬

‫سالمًا على ظهوراتك الشبحيّة أيتها‬

‫الضواري‪ ،‬ترتسمُ على صفحة األفق‬

‫المحيط متآخية مع البروق وانفجارات‬ ‫وأنت تلعبين الغمّيضة مع‬ ‫الرعد‪ِ ،‬‬

‫أطفالك على تخوم الغاب‪..‬‬ ‫سالمًا على النيازك تسّ اقط‬

‫أحضانك والحنين‪..‬‬ ‫في‬ ‫ِ‬

‫٭٭ ٭‬

‫أيتها العظاية الصغيرة‪ّ ،‬‬ ‫تتسللين من بين شجيرات األكمة إلى طاولة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫برق عابر‬ ‫رشيقة‪ ،‬بلسانك الصغير الذي ال يكاد يُرى‪،‬‬ ‫خفيفة‬ ‫اإلفطار‬ ‫ِ‬ ‫كومض ٍ‬ ‫حب كثيفة‪ .‬تح ّدقين بي وحي ًدا في هذا الصقع النائي‪ ،‬لكن رغم نأيه‬ ‫بين سُ ٍ‬ ‫ً‬ ‫ووحشته أكثر ألفة من أوطان البغضاء والحروب‪.‬‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫وأنت‬ ‫ساهمة أيتها الصغيرة‬ ‫سادرة‪ ..‬بماذا تحدثين نفسك يا مؤنستي ِ‬ ‫تقفين على مشارف الغابة المطيرة المأهولة بالوحشي والمجهول حيث تتنزهّ‬

‫الجوارح والتماسيح‪...‬؟ هل تحلمين بأن تكوني مثلها‪ ،‬مثل التماسيح ساللتك‬

‫وأستحضر رحلة البشر في التاريخ المتراكم والزمان‪ ،‬رحلة الكائن في مختلف‬

‫الكبرى والمثال االفتراسي األكثر ِقدمًا من اإلنسان والحيوان حين كان الكون‬ ‫شاسعة وحرّة للزواحف والماموث‪ .‬حين لم ْ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫تظهر بعد بذور النسل‬ ‫مفازة‬

‫بكائناته ورعاياه‪ ،‬لكني أستدرك على الفور أن هذا اإلله الوثني الذي تقع في‬

‫إطاللته البهيّة بهاء الغابة والشجرة‪ ،‬على رغم حزن محيّاك‪ ،‬كل صباح‪..‬‬

‫عصوره وأمكنته‪ ،‬من المهد إلى اللحد‪ .‬ملحمة األلم والعبث واألحالم‬

‫َ‬ ‫المجهضة في آخر المطاف أو أوَّله‪ ،‬وأنادي (هرمس) اإلله حامي المسافرين‬ ‫ً‬ ‫والرعاة في أساطير اإلغريق‪ ،‬أن يرفق إن كان مزاجه رائقا لمثل هذا الرفق‪،‬‬ ‫اختصاصه حماية المسافرين في ليل المسافة‪ ،‬هو نفسه المكلف بقيادة‬

‫األرواح إلى العالم السُّ فلي‪ .‬وهنا تكمن المفارقة المضيئة بالداللة والمعنى‬

‫في متون الرحلة الكبرى لهؤالء المترحّ لين والمسافرين عبر األزمان‪ ،‬التي‬ ‫تتأرجح بين ج ّنة الحماية‪ ،‬وجحيم السفر إلى المجهول‪.‬‬ ‫٭٭٭‬

‫في هذا المساء البحريّ‬ ‫أحسبُ القوارب والسفنَ ‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫قليل‬ ‫ضواري وجوارحَ‬ ‫ستنقض بعد ٍ‬ ‫الفتراس المغيب‪..‬‬ ‫ِ‬

‫بالنباح على‬ ‫كالبٌ محتدمة‬ ‫ِ‬

‫٭٭٭‬

‫العددان ‪ 488 - 487‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1438‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2017‬م‬

‫البشريّ كالق َر َدة وأشباهها (األورانغوتان على الخصوص) وليس من نبوء ِة‬ ‫آله ٍة بذلك ْ‬ ‫المقدم والظهور‪ ..‬بماذا تهجسين يا تمساح صباحاتي الذي أنتظر‬ ‫٭٭٭‬

‫أقرأ أللبير كامو‪ ،‬عن ّ‬ ‫مشقة السفر‪ ،‬وبخاصة للفقير ماديًّا‪ ..‬وعن قبح‬ ‫ً‬ ‫مخيفا في ح ّد ذاته لكن النوع القبيح منه‪..‬‬ ‫االستقرار‪ .‬وبأن االستقرار ليس‬

‫ومن حق اإلنسان أن يكون سعي ًدا في حياة عابرة مفعَ مة بالعبث والالجدوى‪.‬‬

‫لماذا كل هذا األلم؟ ‪-‬يضيف كامو‪ -‬ضمن أطروحته األثيرة‪ ،‬باالنتحار‬

‫بمسدس عيار‪ ...‬أو بالزواج‪ ...‬إلخ‪ ...‬أضيف أن إنجاب األطفال يبطل مماثلة‬ ‫الزواج بمسدس االنتحار أو يعجّ ل به وفق حساسية الشخص‪ ،‬ونزوعاته‬

‫ومحيطه‪..‬‬

‫أطفال البشر‪ ،‬هل يمكن التوقف عن التسلسل المنطقي لألفكار‪،‬‬

‫الوحشي مع‬ ‫واستدعاء أطفال التماسيح والضواري األخرى‪ ،‬يلعبون بغريزة‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬ ‫الشهب المتناثرة في فضاء الخليقة بسعاد ٍة وأنس؟‬



King Faisal Foundation

(+ 96611)4656524 :¢ù``cÉa (+96611)4652255 :∞JÉ``g á`` ` ` ` jOƒ`©` `°ù`dG á`` ` ` «Hô`` ©` dG á`` ` ` ` µ` ∏ª`ŸG 11411 :¢VÉ`` `jô``dG 352 :Ü .¢U

P.O.Box 352 Riyadh 11411 Kingdom of Saudi Arabia Tel: (+966 11) 4652255 Fax: (+966 11) 4656524

www.kff.com


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.