العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ نوفمبر -ديسمبر 2016م
هل استيقظ العرب من أحالم النهضة؟
لحظة التنوير التي انطفأت
بوب ديالن موسيقي أحرج نوبل وامتدح إسرائيل
السيد ياسين :نظام اإلخوان ال يختلف عن والية الفقيه
أوباما من «الجرأة» إلى خيبة األمل www.alfaisalmag.com
الثقافة العربية بال إستراتيجية
alfaisalmag
@alfaisalmag
(+966 11) 4647851 ¢ùcÉa (+966 11) 4653027/ 4652255 ∞JÉg - ájOƒ©°ùdG á«Hô©dG áµ∏ªŸG 11411 ¢VÉjôdG (3) Ü.¢U www.alfaisalmag.com :ÊhεdE’G ™bƒŸG editorial@alfaisalmag.com :ÊhεdE’G ójÈdG
أسسها عام 1397هـ1977/م
األمير خالد الفيصل يصدرها
رئيس مجلس اإلدارة
األمير تركي الفيصل
العددان
في هذا العدد بوب ديالن الخائن يقاوم الزمن
56
الحرب الباردة الخفية التي تحرك العالم
68
المثقف الليبي يواجه العنف الطليق
72
شعريةُ المرأة الخليجية وفحولةُ اللغة
74
الفيصل تحاور السيد ياسين
84
العرب يتلمسون طريقهم في الظالم
94
أوباما وخيبة األمل
100
السرقات األدبية مستمرة
104
طه عبدالرحمن ورهان التأسيس
110
«ظل الريح» لإلسباني كارلوس زافون ّ
112
كتاب أتراك عبروا عن التهميش ووطأة الحداثة
122
رحيل ميشال بيتور
134
كل شيء الصحافة ليست َّ
142
«خنجر» رياض الصالح الحسين
154
رحلة حكواتي شرقي إلى الغرب
158
الناشر
دار
الثقافية
2
رئيس التحرير
ماجد الحجيالن editorinchief@alfaisalmag.com تعبر عن وجهة نظر اآلراء المنشورة ّكتَّابها ،وال تم ِّثل رأي مجلة الفيصل. تكفل المجلة حرية التعليق علىموضوعاتها المنشورة شريطة االلتزام بالموضوعية. تحتفظ المجلة بحقوق ملكيتها للموادالمنشورة فيها ،ويتطلب إعادة نشر أي ورقيا الحصول على إلكترونيا أو مادة ً ً موافقة المجلة مع اإلشارة إلى المصدر. ترسل المواد إلى بريد المجلةاإللكتروني:
editorial@alfaisalmag.com -لالطالع على سياسة النشر يرجى زيارة
482 - 481
مقاالت
الموقع اإللكتروني
www.alfaisalmag.com ردمد ٨٥٢٠ - ٠٤١١ رقم اإليداع مكتبة الملك فهد الوطنية 41/2450 العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
سلوى بكر زكي الميالد أحمد الصادق محمود الريماوي خيرية السقاف
61 118 140 164 184
مدن
تقارير
62
إقبال السعوديين على الفلسفة..
استعارة «الربيع العربي» ،ذات الطابع الموسمي والتي تحيل إلى ثورات سنة 1848م في أوربا ،وإلى قوة انتشارها عبر فضاء موزع على أمم مختلفة، كان لها على األقل فضل إبراز رغبة في المواطنة على الصعيد العربي.
146
مدن العالم العربي :الربيع فالحنين إليه
هل هو ضرورة لجيل جديد؟
ثقافات
فنون
126
178
نصوص
ظالل مؤسس السوريالية كما تراءت لميشال فوكو
فرنسا تفتش في الكنوز اإلسالمية عن الوجه
عماد الورداني
137
جوان تتر
145
رافائيل ألبرتي
150
محمود قرني
162
يحيى امقاسم
166
عبدالله الرشيد
181
الحضاري لإلسالم
ملف العدد
انتكاسة التنوير شارك في الملف: مراد وهبة هاشم صالح كمال عبداللطيف سيار الجميل إبراهيم البليهي عبدالباري طاهر موريس أبو ناضر رشيد الخيون ناجية الوريمي -محمد الشيباني
10
3
المركز
أهل السنة والجماعة وأهواء السياسة في حلقة نقاش
األمير تركي الفيصل يترأس حلقة النقاش
4
جانب من النقاش
عقد مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية
وأكد األمير تركي الفيصل أهمية عقد مثل هذه الحلقات
السنة والجماعة وأهواء السياسة» ،ترأسها رئيس مجلس
والحاجة الماسة إلى توحيد كلمة األمة لمواجهة الظروف التي تم ّر بها ،واالبتعاد من ّ كل ما يش ّتت جهودها ،ويف ّرق صفوفها.
مطلع أكتوبر الماضي حلقة نقاش بعنوان« :مصطلح أهل
إدارة المركز األمير تركي الفيصل .وشارك في هذه الحلقة التي
استمرت ساعات عدد من العلماء والمفكرين والمثقفين من داخل المملكة وخارجها ،ومن هؤالء :الشيخ الدكتور عبدالله
ابن محمد المطلق عضو هيئة كبار العلماء والمستشار في
الديوان الملكي ،والدكتور أحمد عبادي األمين العام للرابطة
المحمدية للعلماء في المغرب ،والدكتور رضوان السيد عضو المكتب السياسي في تيار المستقبل ،والدكتور عبدالعزيز بن
عثمان بن صقر رئيس مركز الخليج لألبحاث.
العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
النقاشية التي تواكب التطورات واألحداث المستجدة،
من ناحية أخرى ،وفي إطار سعي مركز الملك فيصل
للبحوث والدراسات اإلسالمية إلى توثيق أوجه التعاون مع مختلف المؤسسات البحثية والمنظمات اإلسالمية ،أعقب
حلقة النقاش توقيع اتفاقية تعاون ثقافي وعلمي بين المركز والرابطة المحمدية للعلماء في المغربّ ، وقع عليها األمير تركي الفيصل رئيس مجلس إدارة المركز ،والدكتور أحمد عبادي األمين العام للرابطة المحمدية للعلماء.
إصدارات المركز في معرض بجامعة الملك سعود
دشن األمير فيصل بن سعود بن عبدالمحسن مدير إدارة الشؤون الثقافية والعالقات العامة في المركز ،والدكتور عبدالرزاق الزهراني عميد كلية السياحة واآلثار في جامعة الملك سعود ،جناح المركز الذي أُقيم في جامعة الملك سعود
خالل الشهر الماضي ،وضمّ عددًا من إصدارات المركز وإصدارات دار الفيصل الثقافية ،وعددًا من الدوريات الثقافية
والعلمية المختلفة التي يصدرها المركز ،بهدف تشجيع طالب الجامعة على توسيع معارفهم ،ونشر ثقافة القراءة بينهم.
دانية الخطيب: فعال الضغط الخليجي على واشنطن غير ّ ّ أكدت الدكتورة دانية الخطيب،
ّ المتخصصة في العالقات العربية
األميركية ،أن دول الخليج لم تنجح حتى
اآلن في تكوين لوبي فعّ ال في الواليات المتحدة األميركية.
جاء ذلك في حلقة نقاش ّ نظمها
المركز مطلع الشهر الماضي لمناقشة الدراسة التي أصدرها المركز حديثاً
بعنوان« :كيف يمكن للعرب إنشاء جماعة
ضغط-لوبي؟» ضمن سلسلة «دراسات» التي
يصدرها المركز باللغتين العربية واإلنجليزية.
سياسة الضغط المطلوبة ،مع ضرورة فصل جهود بناء اللوبي عن السياسات الخاصة ّ بكل بلدٍ على حدةٍ .وأشارت إلى ضرورة إشراك
القاعدة الشعبية لألميركيين العرب ،وتعزيز الثقة بالنفس لديهم ،وأن تستند جهود الضغط على األبحاث العلمية ،واألهداف الواقعية .وأ ّكدت الخطيب أهمية إنشاء مجموعة ضغط اليوم أكثر من أيّ
وقت مضى بعد أن فقد النفط قيمته
اإلستراتيجية ،وتغيّر المزاج العام في
الواليات المتحدة األميركية إلى االنعزالية ،وعدم
وشارك في حلقة النقاش مسؤولون ودبلوماسيون خليجيون
حاجة واشنطن إلى دول الخليج العربي لضبط سلوك إيران.
دانية الخطيب بأن تأخذ إحدى الدول العربية زمام المبادرة، وأن تدعو الدول األخرى إلى ّ تولي مهامّ معينة في إطار
ضغط-لوبي؟» يمكن زيارة موقع مركز الملك فيصل للبحوث
وعدد من أساتذة العلوم السياسية ،وطالبت فيها الدكتورة
لالطالع على دراسة «كيف يمكن للعرب إنشاء جماعة
والدراسات اإلسالمية على الرابطwww.kfcris.net :
5
المركز
إصدارات «الفيصل الثقافية» والمركز على موقع النيل والفرات www.neelwafurat.com دشنت إدارة النشر والتسويق في
مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات
اإلسالمية مؤخرًا ،شراكة مع موقع
«النيل والفرات» لنشر إصدارات المركز وإصدارات دار الفيصل الثقافية؛ لتكون
متاحة للجميع على مستوى الوطن العربي
والعالم .وأوضح الدكتور هباس الحربي مدير النشر والتسويق في المركز أن اإلدارة
ستعمل جاهدة على استخدام الوسائل كافة التي تسهم في وصول هذه اإلصدارات
إلى الباحثين والمهتمين في جميع مجاالت اهتمامات الدار والمركز.
6
دراسات جديدة إلدارة البحوث ً ّ ست حديثا أصدرت إدارة البحوث في المركز
دراسات متنوّعة ضمن إصداراتها الثالثة :دراسات،
ومسارات ،وقراءات ،باللغتين العربية واإلنجليزية، بواقع دراستين ّ لكل إصدار. صدر ضمن سلسلة «دراسات» عدد دراسات
رقم ( )12بعنوان« :كيف يمكن للعرب إنشاء جماعة ضغط-لوبي؟» للدكتورة دانية الخطيب .وعدد دراسات رقم ( )13بعنوان« :أنشودة البحر األحمر :مجتمعات وشبكات المسلمين الصينيين في الحجاز» للدكتورة
هيوجو جيونغ .وصدر ضمن سلسلة «مسارات» عدد
مسارات رقم ( )25بعنوان« :قوات سوريا الديمقراطية: توافق بين واشنطن وموسكو وعداء مع تركيا» ،وعدد
مسارات رقم ( )26عن الحزب الديمقراطي الكردستاني اإليراني .وصدر ضمن سلسلة «قراءات» عدد قراءات
رقم ( )4بعنوان« :نقوش صفويَّة -صفائيَّة من قاع
األرنبيَّة أم جدير والعماريَّة في شمال المملكة العربية السعودية» للدكتور سليمان الذييب والدكتور مدّ الله
الهيشان ،وعدد قراءات رقم ( )5بعنوان« :استهالك وإنتاج الطعام والشراب في المملكة النبطية» للدكتور
زياد السالمين.
العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
7
كاريكاتير
فعاليات
في محاضرة نظمها المركز عن الوضع السياسي واالقتصادي في الصين
باحثان :سقوط االتحاد السوفييتي تحديا للحزب والربيع العربي ش ّكال ً الشيوعي الصيني فواز السيحاني
8
قدم الدكتور ين يان الباحث في المكون السياسي واالقتصادي الصيني ،موج ًزا عن األحوال العامة في جمهورية الصين الشعبية ،مشيرًا إلى اتسامها باالستقرار على الرغم ً قمعا للكثير من المظاهرات الجماهيرية؛ «ألن نظام الحكم هناك يخضع لسياسة مما عده الحزب الواحد وهو الحزب الشيوعي ،الذي يعقد كل خمس سنوات من خالل المؤتمر ً جديدا». رئيسا الوطني من أجل انتخاب ً
العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
وتحدث الباحث ين يان في محاضرة نظمها في أكتوبر الماضي
مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية بعنوان« :الوضع
السياسي واالقتصادي في الصين خالل حكم شي جين بينغ» عن تاريخ تأسيس الحزب الشيوعي الصيني ،موضحً ا أن انطالقته األولى
كانت في عام 1921م ،باستخدام النضال المسلح حتى وصل إلى قمة
السلطة عام 1949م.
ين يان أشار ،في المحاضرة ،إلى األعداد الغفيرة التي تنتمي إلى ً مليونا عضوية الحزب الشيوعي؛ إذ تبلغ في الوقت الحالي نحو 60
من األعضاء .وقال :إن الحزب حاضر في مؤسسات الدولة المهمة والصلبة ،ويتخذ من أفكار ماركس ولينين وتونغ ،ونظريات شياو
بينغ ،المنهج األساسي الذي يستنطق منه قراراته وتوجهاته.
قبل تولي الرئيس الحالي كان هناك مئة وثمانون ألف مظاهرة ُك ِبح جماحها ،وهذا يعكس السبب األساسي الذي جعل منظومة السلطة في الصين تنفق على الدفاع الوطني الداخلي ميزانية تتجاوز ما تنفقه على منظومة الدفاع الخارجية والمؤسسات العسكرية المتعلقة بالحروب الخارجية مرحلة العهد الجديد أو ما تسمّى بـ«عبور النهر» وهي كناية عن انفتاح الصين نحو العالم من حولها ،ومرحلة ما بعد الرجل الثوري «ماو».
وفيما يتعلق بمكانة رئيس الدولة والدور المنوط به والشروط
من ناحية أخرى ،وفي المحاضرة نفسها ،عرض تشن وي
بلغ من العمر خمسة وأربعين عامًا حتى يحق له الترشح واالنتخاب،
شركة «ميمورا» ،أبرز المعضالت االقتصادية التي ستعانيها الصين
التي يجب أن يخضع لها ،أوضح المحاضر أن الرئيس ينبغي أن يكون
وأن المجلس الوطني لنواب الشعب هو من يقوم باختياره أو عزله
المدير التنفيذي في واحدة من أهم الشركات الكبرى في العالم «إن لم تسعَ لتقديم بعض اإلصالحات واألفكار الجديدة التي تتناسب
وإقصائه ،إذا حاد عن القوانين الدستورية ،إضافة إلى أن مدة عمل الرئيس هناك ،أو ما يسمى بالمدة الرئاسية ،يجب ألاّ تتجاوز خمس
وقال تشن وي« :الصين وإن بدا اقتصادها مستق ًّرا وجيدًا في
وعن صالحيات الرئيس ،فإنه يصدر القوانين بعد أن يوافق
من دون أن يمسها أي تغيير أو هبوط» ،موضحً ا أنه بعد قراءة السياق
المفعول .وذكر ين يان أن للمجلس الوطني الحق في تقرير أمور
والخاص انخفض بسبب التراكم في الناتج المحلي ،لهذا قد نرى
سنوات ،وال يجوز أن تستمر أكثر من مدّتين متتاليتين.
عليها المجلس الوطني لنواب الشعب ولجنته الدائمة لتصبح سارية كثيرة ،ومنها :تعيين وعزل رئيس مجلس الدولة ،ونواب الرئيس وأعضاء مجلس الدولة ،والوزراء ورؤساء اللجان ،ورئيس جهاز
المحاسبات واألمن العام لمجلس الدولة ،ومنح أوسمة الدولة
وألقاب الشرف ،وإصدار العفو الخاص ،وإعالن األحكام العرفية، وإعالن حالة الحرب ،وإصدار أوامر التعبئة.
وفيما يتعلق بالصالحيات الخارجية فإن الرئيس ،كما يقول
الباحث ،يحق له أن يعتمد من يقوم بتمثيل جمهورية الصين خارجيًّا ،كذلك يحق له اعتماد القرارات والمعاهدات الخارجية
شريطة أن يوافق عليها المجلس.
الرجل القوي الذي يحب بوتين
مع المنظومة العالمية الحالية».
الوقت الحالي إال أن هذه المعجزة من المستحيل أن تستم ّر إلى األبد
االقتصادي للعشرين سنة الماضية «نجد أن االستهالك الحكومي في األشهر المقبلة أن الحكومة الصينية ستحاول أن تقوم بتنشيط
ً خصوصا بعد مجيء القيادة الجديدة». االستهالك الحكومي، وأ ّكد تشن وي أن الحكومة الحالية تحاول إعادة الجودة إلى اقتصادها؛ «ألنه لم يتقدم بالسرعة التي كان يتوقعها ،لذلك فإنها
تفكر حاليًا في نقل التركيز إلى جانب الواردات واالستثمارات العالمية ألن الطلب ضعيف نسبيًّا ،وهذا لن يتحقق إال إذا تخلت الحكومة ً مملوكة لها كي عن المحاولة الدائمة في أن تجعل كل المشاريع
يتحقق التوازن ،إضافة إلى أن ذلك سيجعل السوق تنافسيًّا وليس احتكاريًّا ،وكي يتحقق ذلك ال بد للحكومة الصينية أن تقوم بالكثير
من اإلصالحات والتشريعات الجديدة».
وتطرق المحاضر إلى أن الصين في عام 2012م تعرضت لحملة
ولفت المحاضر إلى أن الرئيس الصيني الحالي ي َ ُوصف في اإلعالم
هائلة من المواطنين؛ بسبب قضايا الفساد وإخفائها الكثير من
كثي ًرا «في تعزيز استقرار المجتمع الصيني ،والتقليل من انتفاضته
ويواجه الحاكم المقبل ،ويتمحور حول إعادة الثقة أو ما تسمى
الغربي بـ«الرجل القوي الذي يحب بوتين كثي ًرا» ،موضحً ا أنه أسهم المزعجة؛ إذ إنه وقبل توليه الرئاسة كان هناك نحو مئة وثمانين ألف مظاهرة ُك ِبح جماحها ،وهذا يعكس السبب األساسي الذي
جعل منظومة السلطة في الصين تنفق على الدفاع الوطني الداخلي ميزانية تتجاوز ما تنفقه على منظومة الدفاع الخارجية والمؤسسات
العسكرية المتعلقة بالحروب الخارجية» .واستعرض ين يان مراحل
التطور المتنوعة التي مرت بها جمهورية الصين التي كان من أهمها:
الحقائق المهمة« ،وهذا يوضح التحدي الذي واجه الحاكم الحالي، حاليًا بحملة «ضرب النور» ،وهي حملة شعبية أقصت نحو ستمائة مسؤول من مسؤولياتهم الحزبية ،ما جعل الرئيس يحاول التقليص
من النظام البيروقراطي المركزي ،وإعادة الثقة بين المجتمع
والدولة» .وأكد تشن وي أن الدروس التاريخية كسقوط االتحاد ً حديثا شكلت تهديدًا ملموسً ا أمام السوفييتي قديمًا والربيع العربي صناع القرار وأمام الحزب؛ كي ال يقع في الموت القريب.
9
ملف العدد
لماذا التنوير اآلن؟
10
ٌ ً فحصا ومساءلة ومراجعة، لحظة تستدعي سؤال التنوير، لعله لم توجد فيما مضى َّ يتلظى العرب بحروبها الوحشية ونزاعاتها الحادة ،لحظة بقدر هذه اللحظة الراهنة التي عدمية ال ينتج منها سوى ظالم عميم له رائحة الدم ولونه ،ظالم ال تعود معه الرؤية ممكنة ويستحيل معه ً أيضا التقدم أو حتى التراجع عما يحدث اليوم. هنا ال نبحث عن مناسبة لفتح مثل هذا الملف ،ولكن سعيًا لتكثيف الحاجة في مثل هذه األوقات الكالحة إلى االستنارة ،بما هي فعل ال يجلو الظالم الماثل بيننا وبين المستقبل فحسب ،إنما ً أيضا ممارسة تعيد إلى الواجهة تلك المشاريع الكبرى التي ً ً وبحثا عن تارة، أنتجها مفكرون وفالسفة عرب طوال مئة عام ،لطرح األسئلة عليها أجوبة في صفحاتها تارة أخرى. لقد سعى مفكرون إلى إيجاد صيغ نهضوية تتعاطى مع الراسخ الموروث وتتقدم ً ً شارطا لديهم ،ورأوا أنه شرطا بالثقافة العربية إلى المستقبل ،كانت العودة إلى التراث بدون قراءة جديدة للتاريخ العربي لن نستطيع معالجة أزمات العقل العربي في حاضره وال تهيئته للحاق بالمستقبل ،فيما تداول باحثون آخرون القيم الغربية المنطلقة من ثورات أوربا الثقافية والصناعية ،ورأوا فيها العالج المجرب ،وما بين المناهج والمدارس الفكرية من يسار ويمين ،ومن الماركسية إلى الليبرالية تقلب الفكر العربي محاولاً إيجاد دواء لعلل التقهقر والتبعية. ً ثورة ثقافية وكان من المنتظر أن تكون حصيلة كل هذه األعمال الفكرية العميقة كبرى ،تنهي حالة الركود والتخلف عن أمم الغرب والشرق ،فجاءت ثورات األقطار العربية لتعيد رسم االستبداد وترسخ طبائعه وتصعد بأصوليات متوحشة وتعزز التناحر المذهبي واأليديولوجي ..لقد ّ تفوق الواقع العربي اليوم على أسوأ كوابيس المفكرين العرب. ترى هل كانت مشاريع النهضة العربية فاشلة ،وما تحصده المجتمعات العربية اليوم نتيجة لقصور هذه المشاريع عن الفهم وتهافتها؟ أم أن المفكرين كانوا يحذرون ًّ –حقا- مما آل إليه الحال ولم يكن أحد يستمع إليهم؟ في معنى آخر :هل كان هناك ٌ مشروع نهضوي واضح المعالم وذو اتجاه واحد إلى المستقبل؟
العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
11
إشكالية التنوير في العالم العربي مراد وهبة مؤسس الجمعية الدولية البن رشد والتنوير
إن لفظ إشكالية يعني أن ثمة قضية
يقال عنها :إنها صادقة ،ومع ذلك فإنها
تبدو كاذبة .وإذا كان الصدق والكذب
12
متناقضين ،فمعنى ذلك أن اإلشكالية تنطوي على تناقض.
والسؤال إذن :أين يكمن التناقض في
التنوير؟
كان للفيلسوف األلماني العظيم ْ كانت
الذي يقف عند قمة التنوير في القرن الثامن
عشر مقال عنوانه «جواب عن سؤال:
ما التنوير؟» (1784م) ،ويمكن إيجازه في شعاره القائل« :كن جري ًئا في إعمال
عقلك» .وقد كان يقصد به أن ال سلطان على العقل إال العقل نفسه .وترتب على ذلك القول بأن قياس مدى التنوير مردود إلى مدى سلطان العقل.
وتأسيسا على ذلك يمكن إثارة السؤال ً
اآلتي :أين تكمن أزمة العقل فى إشكالية
التنوير؟ العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
يف نوفمرب من عام 1978م انعقد يف الجزائر «مهرجان ابن
رشد» بتنظيم من الجامعة العربية والحكومة الجزائرية، وإذا بأبحاث املهرجان ،يف معظمهاُ ،تضعف من شأن العقل
عند ابن رشد .مثال ذلك بحث الدكتور عبدالكريم خليفة رئيس مجمع اللغة العربية األردين إذ يقول :إنه يجب
إخراج الصراع الفلسفي بني الغزايل وابن رشد من مجال البحث الفلسفي الرصني؛ ألنه ينطوي عىل نربة انفعالية،
يف حني أنه كان الصراع التاريخي الذي حدد مسار العالم العربي يف اتجاه األصولية الدينية التي تبطل إعمال العقل
عام 1980م اجتمع في باريس أربعون عضوا من مشاهير مفكري العرب ً لتأسيس «حركة تنوير عربية» .وكانت فكرة التأسيس هذه قد راودت أسرة تحرير مجلة «الطليعة» في عام 1979م .والمفارقة هنا أن ذلك االجتماع التأسيسي كان هو األول واألخير
يف النص الديني ،وبالتايل يف النصوص األخرى أيًّا كانت.
أما زيك نجيب محمود فيطمس معالم التأويل عند ابن
رشد؛ إذ يرى أن ابن رشد ال يلجأ إىل التأويل إال للضرورة، حتى هذه الضرورة إن وجدت إنما تدلل عىل أن ظاهر الشريعة يؤيد ما نذهب إليه من تأويل ،وبذلك يقيض زيك نجيب محمود عىل التفرقة التي يجريها ابن رشد بني املعنى
الظاهر واملعنى الباطن للنص الديني .أما ألبري نادر فيذهب إىل أبعد مما ذهب إليه زيك نجيب محمود؛ إذ يرى أن من يقر بسلطان العقل فإنه سرعان ما ينزلق إىل التشكيك يف
الوحي.
تنويريون عرب يجتمعون يف باريس
يف مارس من عام 1980م اجتمع يف باريس أربعون
وتوفيق الحكيم يف يناير 1975م .ويف ذلك الحوار كان رأيي أن
أوربا قد مرت بحركتني للتنوير« :تحرير العقل» ،و«التزام العقل بتغيري الوضع القائم».
أما الدول العربية ومن بينها مصر فلم تمر بهاتني
الحركتني .وقد وافق توفيق الحكيم عىل هذا الرأي ،ثم استطرد قائلاً :لقد ارتددنا إىل الوراء من بعد العشرينيات
والثالثينيات من القرن العشرين؛ بسبب الرجعية الدينية الخرافية التي ال تتفق مع جوهر الدين ،ولكنها تتسرت باسم الدين لتلغي دائمً ا دور العقل .انظروا كمثال ملهرجان املالبس يف الجامعة .إنهم يقولون :هذا زي إسالمي ،وذاك زي غري إسالمي .وهنا تذكر توفيق الحكيم املقاالت التي كان
عضوًا من مشاهري مفكري العرب لتأسيس «حركة تنوير
يكتبها يف عام 1939م بمناسبة صراعه مع السلطة الدينية.
مجلة «الطليعة» القاهرية يف عام 1979م .واملفارقة هنا أن
العلمي.
عربية» .وكانت فكرة التأسيس هذه قد راودت أسرة تحرير
ذلك االجتماع التأسييس كان هو األول واألخري ،أي أنه قد أصيب بالفشل.
والسؤال إذن :ملاذا فشل؟
ومن هنا دعا إىل ضرورة نشر العلمانية يف التفكري ويف املنهج إال أن هذا الصراع الذي تحدث عنه توفيق الحكيم ً سابقا عىل زمانه؛ ففي عام 1834م أصدر رفاعة رافع كان
الطهطاوي كتابًا عنوانه «تخليص اإلبريز يف تلخيص باريز»
وأجيب بسؤال :ملاذا انعقد ذلك االجتماع يف باريس ولم
جاء فيه أنه ترجم اثنتي عشرة شذرة ملفكري التنوير ً شرطا لقراءة هذه الشذرات ،وهو الفرنيس ،ومع ذلك وضع
بنربة تشاؤمية يمكن القول :إن أسرة تحرير مجلة
وبها حشوات ضاللية مخالفة لسائر الكتب السماوية،
التنوير .وبنربة تفاؤلية يمكن القول :إن اختيار باريس كان
لالنتباه ههنا أن مخطوط كتاب «تخليص اإلبريز» كان به
ينعقد يف أي بلد عربي ،وبخاصة أنه يدعو إىل حركة تنوير
عربية؟
الطليعة لم تعرث عىل بلد عربي يقبل استضافة مؤتمر عن مردودًا إىل أنها عاصمة النور ،حيث بزغت فيها حركة تنويرية يف القرن الثامن عشر من فالسفة التنوير ،من
أمثال ديدرو وداالمبري وروسو وفولتري ومونتسكيو .أما أنا فمنحاز إىل النربة التشاؤمية؛ ألن التساؤل يظل قائمً ا :ملاذا لم تقبل الدول العربية استضافة مؤتمر التنوير؟ للجواب عن هذا التساؤل أستعني بحوار دار بني اليسار املصري
13
والسنة؛ ألنها محشوة بكثري من البدع، التمكن من القرآن ُّ
يقيمون عىل ذلك أدلة يعسر عىل اإلنسان ردها .والالفت فقرات حذفها رفاعة قبل نشر كتابه .ومن هذه الفقرات املحذوفة فقرة تتحدث عن إثبات علماء اإلفرنج لدوران
األرض حول الشمس.
والشيخ عيل عبدالرازق يف كتابه املعنون «اإلسالم
وأصول الحكم» أنكر الخالفة اإلسالمية بدعوى أنها ليست
من الخطط الدينية وال القضاء ،وال غريها من وظائف
ملف العدد
الحكم ومراكز الدولة ،إنما كلها خطط سياسية صرفة ال
عدم تكفري املؤول بدعوى خروجه عن اإلجماع .ويف هذا املعنى قال ابن رشد« :ال يقطع ُ بكفر مَ نْ خرج عىل اإلجماع»
والسنة النبوية كتابه يحوي أمورًا مخالفة للقرآن الكريم ُّ
والحكمة من االتصال».
شأن للدين بها ،إنما تركها لنا لرنجع فيها إىل أحكام العقل. وكانت النتيجة محاكمته أمام هيئة كبار العلماء بدعوى أن
وإجماع األمة ،ومن ثم صدر الحكم بإجماع اآلراء بإخراج
الشيخ عيل عبدالرازق من زمرة العلماء ،وطرده من كل وظيفة لعدم أهليته للقيام بأي وظيفة دينية أو غري دينية.
الدخول يف عالقة عضوية بني الرشدية العربية
والرشدية الالتينية حتى يزول التوتر الحاد بني العالم اإلسالمي والعالم الغربي ،ومن ثم تتوارى عبارة «تصادم
والالفت لالنتباه ههنا أن كتاب الشيخ عيل عبدالرازق
الحضارات» التي روَّج لها صموئيل هنتنغتون يف كتابه
3مارس 1924م .ومن هنا يمكن القول بأن قرار هيئة كبار
بزغت يف السبعينيات من القرن املايض ،وهي األصوليات
قد صدر بعد عام من إلغاء الخالفة اإلسالمية يف تركيا يف
العلماء بطرد الشيخ عيل عبدالرازق يتضمن ضمنيًّا انحياز هؤالء إىل الخالفة اإلسالمية .وكل ما هو حادث من إرهاب
تثريه حركات إسالمية أصولية مثل حركة اإلخوان املسلمني وحركة داعش وحركة النصرة وغريها ،إنما هو من أجل
إعادة الخالفة اإلسالمية ،ليس فقط يف الدول اإلسالمية، إنما ً أيضا يف جميع الدول املوجودة عىل كوكب األرض. وإذا كانت األصولية تعني إبطال إعمال العقل يف النص
الديني ،فاألصولية ضد التنوير الذي هو إعمال العقل، ليس فقط يف مجال الدين ،إنما ً أيضا يف جميع مجاالت
14
يف كتابه املعنون «فصل املقال وتقرير ما بني الشريعة
الحياة اإلنسانية.
الخروج من األزمة
والسؤال بعد ذلك :هل يف اإلمكان تأسيس تيار تنويري
للخروج من أزمة التنوير؟
جوابي باإليجاب ،بشرط أن يستند هذا التيار التنويري
إىل تأسيس رشدية عربية ملواجهة األصوليات العربية ،عىل أن تكون مكونات هذه الرشدية عىل النحو اآليت:
إن للنص الديني معنيني أحدهما ظاهر واآلخر باطن.
مشروعية إعمال العقل يف النص الديني للكشف عن
املعنى الباطن ،وهو ما يسمى بالتأويل ،وتعريفه عند ابن
املعنون هكذا يف عام 1997م؛ إذ التفت إىل ظاهرة جديدة الدينية التي أحدثت تغيريًا يف موازين القوى يف البلدان
اإلسالمية من انحياز إىل الحكومات الغربية إىل معاداتها
بعد ذلك .ومن هنا أثار هنتنغتون السؤال اآليت:
هل املؤسسات الكوكبية وتوزيع القوى ،وسياسات
واقتصاديات الدول يف القرن الحادي والعشرين هي التي ستشيع القيم الغربية ،أم أن األصولية اإلسالمية هي التي ستشيع قيمها املستندة إىل إبطال إعمال العقل عىل نحو ما
ارتأى الفقيه ابن تيمية من القرن الثالث عشر؟
الرأي عندي أن التنوير ،أو باألدق إعمال العقل
بجسارة ،هو محور التغيري املقبل .ويرتتب عىل ذلك نتيجة
حضارية هي أن العالم العربي ليس يف إمكانه إزالة إشكالية التنوير
إال بااللتزام بقيم التنوير.
إن هذا االلتزام لن يكون ممك ًنا إال بإحياء فكر ابن رشد بديلاً عن ابن تيمية .وهذه هي مفارقة العالم العربي.
رشد أنه« :إخراج اللفظ من داللته الحقيقية -أي الحسية - إىل حقيقته املجازية».
العالم العربي ليس في إمكانه إزالة إشكالية التنوير إال بااللتزام بقيم التنوير. إال أن هذا االلتزام لن يكون ممك ًنا إال بإحياء فكر ابن رشد بديال عن ابن تيمية. وهذه هي مفارقة العالم العربي العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
جان جاك روسو
15
ملف العدد
التنوير العربي كمنقذ من الطائفية والمذهبية
هاشم صالح كاتب سوري
16
بداية أود طرح هذا السؤال :لماذا يرفض الغربيون العودة إلى األصولية المسيحية؟ ألنهم يعرفون معنى التدين األصولي القديم وكل العصبيات الطائفية والمذهبية التي يحملها معه أو تحت طياته .وهذا شيء يريدون تحاشيه بأي شكل كان؛ فقد عانوا حروب المذاهب المسيحية ما عانوا إلى درجة أن مجرد ذكراها يبث الرعب واالشمئزاز في النفوس .يكفي أن نعلم أن حرب الثالثين عامً ا (1648-1618م) دمرت نصف ألمانيا تقريبًا، واجتاحت معظم أنحاء أوربا األخرى .وهم ال يريدون العودة تمزيقاُ . ً وقل األمر إلى هذه الحروب الطائفية التي مزقتهم ذاته عن الحرب األهلية الرهيبة التي جرت بين الكاثوليكيين والبروتستانتيين في فرنسا .أصلاً التنوير جاء كرد فعل على هذه الحروب المذهبية التي حطمت أوربا .الكاثوليكيون والبروتستانتيون ّ ً ً بعضا يكفر بعضهم أيضا كانوا مثلما تفعل المذاهب والطوائف عندنا حاليًا .كل طرف كان يدعي أنه يمثل العقيدة المسيحية القويمة المستقيمة التي ال تشوبها شائبة، وأن الطرف اآلخر منحرف عنها ومهرطق وزنديق ،ومن ثم فهو كافر يحل دمه.
العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
وهذا يعني أن عقيدة الفرقة الناجية موجودة ً أيضا في
المسيحية .جماعة البابا والفاتيكان يعتقدون اعتقادًا جازمً ا
أنهم هم الذين يمثلون المسيحية الحقة وليس البروتستانتيون أو األرثوذكس الروسيون أو غير الروسيين من يونانيين وصرب
ومسيحية شرقية عربية .وعلى هذا األساس كان الكهنة
والقساوسة يهيجون المتدينين البسطاء بعضهم على بعض
الرتكاب المجازر والذبح على الهوية .عندئذ قرر فالسفة التنوير فتح ملف العقيدة الالهوتية المسيحية .واتخذوا قرارًا بتفكيكها واالنتقام منها حتى العظم! ماذا فعل بيير بايل وسبينوزا وفولتير
ومونتسكيو وروسو وديدرو والموسوعيون ...إلخ؟ هذا ناهيك
عن كانط وهيغل وفويرباخ ونيتشه ...إلخ .هنا بالضبط يكمن جوهر مشروع التنوير الكبير الذي يريد بعض المثقفين العرب
القفز عليه بحجة أنهم تجاوزوه ووصلوا إلى مرحلة ما بعد الحداثة! برافو!
سؤال فلسفي مطروح على واقعنا العربي اإلسالمي
السؤال المطروح اآلن هو :ما معنى اللحظة التاريخية
التي نعيشها حاليًا؟ في أي لحظة من التاريخ نتموضع نحن كعرب وكمسلمين؟ هل ًّ حقا تجاوزنا مرحلة الحداثة إلى ما بعد
الحداثة ،والتنوير إلى ما بعد التنوير ،كما فعلت مجتمعات أوربا المتقدمة؟ أم أننا ال نزال متخلفين عقليًّا ومتأخرين فكريًّا؟ لماذا
لم تعد تحصل أي مجزرة طائفية أو مذهبية في فرنسا أو ألمانيا
أو سويسرا في حين أنها كانت شائعة طيلة القرون الوسطى بل حتى القرن الثامن عشر؟ ينبغي أن نعترف بأننا :ال نزال نتخبط
في أي لحظة من التاريخ نتموضع نحن كعرب وكمسلمين؟ هل ًّ حقا أننا تجاوزنا مرحلة الحداثة إلى ما بعد الحداثة، والتنوير إلى ما بعد التنوير ،كما فعلت مجتمعات أوربا المتقدمة؟ أم أننا ال نزال فكريا؟ متخلفين عقل ًّيا ومتأخرين ًّ لله .نحن ال نشكو من أي شيء .من قال لكم بأن عندنا مشكلة؟
نحن تجاوزنا مرحلة الحداثة والتنوير بسنوات ضوئية ووصلنا إلى مرحلة ما بعد الحداثة وما بعد التنوير القديم التافه! لماذا
يريد هذا الشخص أن يعيدنا مئتي سنة إلى الوراء؟ وأنا أقول:
إني أريد إعادتكم أربعمئة سنة إلى الوراء وليس فقط مئتين! ليتكم توصلتم إلى مستوى الوعي األوربي في القرن السادس عشر! ليت شمس النهضة اإليطالية العظيمة َّ أطلت عليكم ولو لحظة واحدة فأضاءت عتماتِكم ودياجي َركم المتراكمة بعضها
فوق بعض منذ إغالق باب االجتهاد والدخول في عصر االنحطاط قبل ألف سنة .ومن ثم كفانا مكابرة أيها األصدقاء .ورحم الله
امرءً ا عرف قدر نفسه.
17
الفرق بين المعاصرة الزمنية
والمعاصرة الفكرية أو اإلبيستمولوجية َ الفجوة التاريخية الكبيرة التي إذا لم نأخذ في الحسبان
تفصل الفكر األوربي عن الفكر العربي ،أو تؤخر المجتمعات العربية عن تقدم المجتمعات الغربية ،فإننا لن نفهم شي ًئا
في متاهات العصور الوسطى الطائفية التكفيرية .نحن نتخبط في خضم الحروب المذهبية التي َّ حذر منها باألمس القريب
من شيء ولن نستطيع طرح أي مشكلة بشكل صحيح ،ناهيك
هل تجاوز المجتمع الباكستاني مرحلة المجازر الطائفية؟ ماذا
واإلبيستمولوجي للفكر األوربي من جهة ،والفكر العربي
األمير الشاعر المثقف خالد الفيصل .أطرح عليكم هذا السؤال:
حصل فيه مؤخ ًرا من مجازر طائفية بل يحصل بشكل دوري من وقت آلخر؟ وقل األمر ذاته عن المجتمع األفغاني .ماذا يحصل
في نيجيريا أو العراق أو سوريا ...إلخ؟ وقس على ذلك بقية المجتمعات اإلسالمية والعربية من دون استثناء.
عن حلها وعالجها .وهنا تطرح علينا مشكلة التحقيب الزمني اإلسالمي من جهة أخرى .ينبغي لنا أن نعلم أن الفكر األوربي
مر بمختلف المراحل حتى اآلن وبشكل طبيعي تدريجي؛ مرحلة
العصور الوسطى المسيحية ،فمرحلة الحداثة ،فمرحلة ما بعد الحداثة .وهنا ينبغي لنا أن نتفق على أمور؛ فمرحلة ما بعد
إن مناهضي التنوير يتحدثون عن األمور بكل خفة -أو
الحداثة ال تعني إلغاء منجزات الحداثة ،إنما تعني تصحيحً ا
على نفس مستوى االستنارة العقلية عند المجتمع الهولندي
أما منجزات الحداثة كالتنوير الديني وتجاوز الطائفية
استخفاف -وكأن المجتمع السوري أو المصري أو السعودي يقف
أو الفرنسي ،أو األوربي عمومً ا .وأقصد باالستنارة العقلية هنا
انحسار العصبيات الطائفية والمذهبية بفضل هضم جماهير
لالنحرافات التي طرأت على الحداثة.
بوساطة العقل العلمي والدولة المدنية ،فال أحد يريد التراجع
عنها .ال ريب في أنهم أصبحوا يدعون إلى علمانية إيجابية منفتحة على البعد الروحاني لإلنسان ولكن من دون العودة إلى
الشعب (وليس فقط المثقفين) للفلسفة العقالنية الحديثة ً إلي وتجاوز المرحلة القروسطية للدين أو التدين. أحيانا يخيل َّ
النظام األصولي الطائفي القديم ،أو التراجع عن الفكرة األساسية
أهلية مضمرة أو صريحة .كل شيء على ما يرام عندنا والحمد
والقانون الذي ينطبق على الجميع .وال أحد يريد التراجع عن
وكأنهم يقولون :ال توجد طائفية عندنا وال مذهبية وال حروب
للعلمانية والدولة المدنية .ال أحد يريد التراجع عن دولة الحق
ملف العدد
الحرية الدينية المطلقة :أي حرية أن تتدين أو ال تتدين على
ً متخلفا عن ركب الحضارة علميًّا السادة ،العالم اإلسالمي ليس وتكنولوجيًّا وفلسفيًّا فقط .إنما هو متخلف دينيًّا والهوتيًّا ً أيضا
عبارته الشهيرة :في أوربا يوجد إسالم بدون مسلمين ،وعندنا
حاليًا شيء مضحك ومخجل .إنه يفضحنا أمام البشرية كلها .إنه
اإلطالق ،بمعنى آخر فإن آية﴿ :ال إكراه في الدين﴾ مطبقة في
أوربا وليس في العالم اإلسالمي .ولذلك قال اإلمام محمد عبده يوجد مسلمون بال إسالم .بمعنى أن مكارم األخالق والدقة في
المواعيد واإلخالص في العمل كلها أشياء موجودة في أوربا ولكن ليست عندنا.
أكاد أسمعهم يقولون« :يا أخي ،هذا الشخص يريد إعادتنا
إلى عصر التنوير األوربي .إنه يريد إعادتنا مئتي سنة إلى الوراء. ما هذا الهراء؟! نحن تجاوزنا كل ذلك .نحن في القرن العشرين،
بل الحادي والعشرين .متى سيفهم هذا الشخص أننا لم نعد
في القرن الثامن عشر؟!» .كر ٍّد على هذه المغالطة السهلة والمكابرة المضحكة( )1سوف أقول ما يلي :إني ال أريد إعادتكم
يعرينا على حقيقتنا .هل تعتقدون أننا سنخرج من هذا المغطس الكبير الذي وقعنا فيه عن طريق مثل هذا الخطاب القروسطي التكفيري الذي يبثه شيوخ الفضائيات على مدار الساعة ،ويمأل
العالم اإلسالمي من أقصاه إلى أقصاه؟
لقد أصبحنا مهزلة العالم كله ،بل أصبحنا بعبعً ا يرعب
العالم ،بعد أن كنا ذروة الحضارة إبان العصر الذهبي .ومن ثم فالمسألة ليست مضحكة على اإلطالق. الصراع الجدلي الخلاَّ ق
بين مثقفي الحداثة ومثقفي القدامة
إلى القرن الثامن عشر فقط ،إنما إلى القرن السادس عشر ً أيضا! هل تعتقدون أنكم تجاوزتم األسئلة التي طرحتها النهضة
قلتها مرارًا وتكرارًا في كتبي المتالحقة :هناك فرق بين
عشر وبدايات النهضة األوربية األولى؛ حيث انهمكوا في ترجمة
(فولتير ،وجان جاك روسو ،ومونتسكيو ،وكانط) وسواهم
اإليطالية العظيمة على الدين؟ بل أريد إعادتكم إلى القرن الثالث
علمائنا وفالسفتنا وبنوا على ذلك نهضتهم الكبرى.
18
بالدرجة األولى .ما يقال عن الدين في العالم العربي واإلسالمي
بل أريد إعادتكم إلى ما قبل ذلك بكثير :إلى القرن الثامن
والتاسع والعاشر للميالد؛ أي إلى العصر الذهبي العربي اإلسالمي بالذات .هل تعتقدون أننا تجاوزنا التساؤالت التي
طرحها ابن المقفع والتوحيدي والرازي والفارابي وابن سينا وابن
رشد والمعري وسواهم على الدين؟ بل حتى األسئلة التي طرحتها فرقة المعتزلة المتنورة العظيمة التي ال نستطيع طرحها اآلن .أيها
العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
التنوير الوسطي المؤمن والتنوير المتطرف الملحد؛ األول يمثله من عمالقة الفكر ،والثاني يمثله (ديدرو ،والبارون دولباك،
لم يعد هناك توتر ذهني أو صراع فكري في الساحة اإلسالمية؛ ألن أحد طرفي همش المعادلة ،أي العقل الفلسفيُ ، وقضي عليه ،بل اتهم بالتكفير والزندقة ُ
ونيتشه) وآخرون عديدون .وقد اخترت معسكري منذ البداية
أحدث النظريات الفلسفية واإلبيستمولوجية ،ولهذا السبب
والقيم األخالقية العليا لتراثنا العربي اإلسالمي العريق ،وقلت ً أيضا بأن تنويرنا لن يكون نسخة طبق األصل عن التنوير األوربي،
التقليديين المملة من كثرة التكرار واالجترار .وهذا يعني أن
بكل وضوح؛ فأنا مع التنوير المؤمن بالله والعناية اإللهية
فإن دراساته عن الدين تبدو قوية ومقنعة ،على عكس دراسات االحتكاك بين الدين والفلسفة مفيد لكال الطرفين .ومن ثم فال
معاكسا له على طول الخط؛ فهناك إيجابيات عديدة في وال ً ً وخصوصا في بداياته عندما كان ال يزال بري ًئا التنوير األوربي،
النهوض واستعادة العصر الذهبي مرة أخرى.
أي حال فإن صراع األضداد الذي جرى في أوربا بين الفالسفة
مندوحة عنه؛ ألنه «ال بد دون الشهد من إبر النحل»؛ كما
ولم ينحرف بعد .وال بأس من استلهامها واالستضاءة بها .وعلى ورجال الدين المسيحيين سوف يحصل ما يشبهه في الساحة
العربية ،بل قد بدأ يحدث من اآلن ،وبخاصة بعد أن وصل اإلخوان إلى سُ دَّ ة السلطة في بعض البلدان العربية قبل أن
يزاحوا عنها لحسن الحظ من متنوري مصر وتونس.
فمن الواضح أن الفهم اإلخواني لإلسالم يتعارض مع الفهم
العقالني المستنير .والصراع محتوم بين الطرفين .ولن نستطيع
تحاشي ذلك مهما فعلنا؛ فإما إسالم األنوار وإما إسالم اإلخوان.
انظر إلى ما حصل في مصر إبان حكم مرسي من صراعات حادة حول «األخونة» :أي أخونة اإلدارة الحكومية والتلفزيون واإلعالم والثقافة وكل شيء .ولكن الصراع ليس كله سلبيًّا كما ً سابقا .على العكس تمامً ا .كان هيغل يقول ما معناه« :ال ذكرت
شيءَ عظيمً ا في التاريخ يتحقق بدون صراعات البشر وأهوائهم
بد من إعادة االعتبار إلى الفلسفة والعقل الفلسفي إذا ما أردنا وختامً ا فإن تخبطات الربيع العربي شيء إجباري ال
يقول شاعرنا الكبير المتنبي الذي اكتشف معنى الجدل وقانون
التقدم قبل هيغل! وهذا يعني أن المرور بالمرحلة اإلخوانية األصولية على الرغم من صعوبتها وخشونتها شيء ال بد منه لكي نتحرر منها على طريقة« :وداوني بالتي كانت هي الداء»؛
كما يقول الشاعر الكبير أبو نواس .لهذا السبب أقول بأننا
نعيش لحظة تقدمية من التاريخ العربي حتى لو كانت تبدو ً تراجعية ،بل فجائعية. في ظاهرها الهوامش:
( )1للرد عليهم كان يكفي أن أستشهد بذلك المهرجان الكبير الذي أقامته المكتبة الوطنية الفرنسية لالحتفال بالتنوير وفالسفته تحت إشراف
المفكر المعروف تزفيتان تودوروف عام 2006م .وقد نظموه تحت الشعار الكبير التالي :التنوير كإرث للمستقبل! بمعنى أن التنوير
الهائجة» .ومن ثم فما نشهده حاليًا من اضطرابات في العالم
ال ينتمي إلى الماضي حتى بالنسبة إلى أوربا ،فما بالك بالنسبة
الراكدة الهامدة هي وحدها التي ال تعرف معنى الصراع ،ومن
إلى حد بعيد .ولكن ماذا عن أوربا الوسطى والشرقية؟ ماذا عن روسيا
العربي قد يكون ظاهرة صحية وليست مرضية؛ فالمجتمعات ثم تجهل معنى االبتكار واإلبداع واالنتقال من حال إلى حال.
وعلى مدار التاريخ كان هناك صراع جدلي خصب بين
للشعوب التي لم تشهده بعد؟ ال ريب في أن أوربا الغربية استنارت السالفية األرثوذكسية؟ بولونيا ال تزال كاثوليكية جدًّا ،على عكس فرنسا مثلاً .ومن ثم فهناك شعوب كثيرة ال تزال تنتظر أن تستنير. ال ريب في أنهم نظموا المعرض والمهرجان كرد فلسفي على ضربة
العقل الديني والعقل الفلسفي .وحضارتنا العربية اإلسالمية لم ً متألقا إبان العصر الذهبي تبلغ أوجها إال عندما كان هذا الصراع ُ المجيد .ولكن عندما توقف هذا الصراع وماتت الفلسفة أغلق
انظر الكتاب الجماعي الذي أصدروه بعد المؤتمر والمعرض تحت
الممل والتكرار واالجترار ...لم يعد هناك توتر ذهني أو صراع
الفرنسية 2006م.
باب االجتهاد ودخلنا في عصر االنحطاط الطويل والفكر ُ األحادي
فكري في الساحة اإلسالمية؛ ألن أحد طرفي المعادلة ،أي العقل الفلسفي ،هُ مش ُ وقضي عليه ،بل تم تكفيره وزندقته. وبموت العقل الفلسفي حصل جمود للعقل الديني فأصبح
فقي ًرا جدًّ ا من الناحية الفكرية؛ ألن الفلسفة لم تعد موجودة
11سبتمبر ،ال ريب في أنهم كانوا يقصدون به الشعوب العربية واإلسالمية بالدرجة األولى ،ولكن مسألة التنوير تخص الجميع.
نفس العنوان :األنوار إرث للمستقبل .مطبوعات المكتبة الوطنية Lumieres! Un heritage pourdemain. Collectif Bibliotheque Nationale de France 2006.
ومن ثم فالتنوير لم يصبح في ذمة التاريخ على عكس ما يتوهم بعض
المثقفين العرب! ...بل إنه لم يبتدئ بعد بالنسبة لثقافات عديدة وشعوب كثيرة في العالم ،إنه أمامنا ال خلفنا.
لكي تغذيه وتستفزه وتدفعه إلى المزيد من النضج واالنفتاح.
( )2انظر كتابه الكبير عن اإلسالم ويقع في نحو ألف صفحة .وقد ترجم
والعقل الديني في الغرب .بصراحة ال وجه للمقارنة؛ فرجال
لألسف الشديد! ال نستطيع أن نقارن مشايخنا بهذا العالم الكبير.
للتدليل على ذلك يكفي أن نقارن بين العقل الديني عندنا الدين في أوربا يطلعون على كتب الفلسفة ويستفيدون منها في
تعميق اإليمان وفهم الدين ،أما عندنا فيكتفون بقراءة الكتب التقليدية التي أكل عليها الدهر وشرب .نضرب على ذلك مثلاً : عالم الالهوت السويسري األلماني هانز كونغ( .)2إنه مطلع على
19
إلى اإلنجليزية والفرنسية.Hans Kung :L’Islam.Cerf.Paris 2010 :
وهذا أكبر دليل على مدى تخلف الفكر الديني في بالدنا .هناك مفكر
واحد يستطيع أن يرتفع إلى مستواه وربما يتفوق عليه هو :محمد
أركون ،أكبر مجدد للفكر اإلسالمي في هذا العصر .ولكن من يستمع إلى محمد أركون؟ لحظته لم تحن بعد..
ملف العدد
20
مآالت التنوير في الفكر العربي المعاصر كمال عبداللطيف كاتب وباحث مغربي ،أستاذ الفلسفة في جامعة محمد الخامس
ً موقفا من الراهن العربي ،وما يضمر سؤال مآالت التنوير في الفكر العربي يتفاعل داخله من أنماط الصراع التي أفرزتها تداعيات الحراك االجتماعي الذي شمل العديد من البلدان العربية طيلة سنوات العقد الثاني من األلفية الثالثة .وهو يضمر ً ً موقفا من نمط استيعاب الثقافة العربية المعاصرة لمكاسب عصر األنوار ،كما أيضا َتمَ َّث َلها جيل الرواد في عصر النهضة العربية ،ومن سار على دربهم من النخب التي ً انطالقا من إيمانها بأن القيم واصلت عمليات توطين وتوظيف قيم التنوير في ثقافتنا، ً سندا داعمً ا لمتطلبات المشروع النهضوي العربي. المذكورة تشكل
العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
نفرتض أن الذين يقبلون املضمرات املشار إليها يعتمدون
تصوُّرات محدَّدة للتاريخ وألدوار الفكر يف التاريخ ،وهي تصوُّرات ُتغفل ُّ تعقد املجال التاريخي وال تعريه االهتمام املطلوب؛ لقوة
التقليد والتقاليد يف مجتمعنا وثقافتنا .ونحن نرى أن الذين يعتقدون برتاجع قيم التنوير يف فكرنا يُغفلون أن التاريخ ال يسري بطريقة خطية متصاعدة ،وأن موجات الحماسة ملشروع
التنوير وموجات االعرتاض عليه مقابل اإلعالء مجددًا من شأن الفكر املحافظ والقيم املرتبطة به ،كما حصلت وتحصل يف فكرنا املعاصرُ ،تعَ ّد مج َّرد عناوين كربى يف صراع تاريخي متواصل ،وهو
التاريخية الحاصلة يف أوربا بدءً ا من القرن السابع عشر ،بل إنها كما نتصورها ونفكر فيها -تستوعب ذلك وتتجاوزه ،وذلك بناءعىل معطيات التاريخ الذي أسهم يف تبلورها وتبلور املكونات املركبة
واملتناقضة التي نشأت يف سياقات صريورتها وتطورها.
ال نستكني يف نظرتنا لعصر األنوار ومكاسبه إىل تصورات ورؤى فكرية م َ ُغلقة ،قدر ما نسلم بجملة من املبادئ النظرية التاريخية
العامة ،التي تنظر إىل اإلنسان واملجتمع والطبيعة والتاريخ من
منظور يستوعب ثورات املعرفة والسياسة ،كما تحققت وتتحقق يف التاريخ الحديث واملعاصر ،ويف أوربا تحديدًا ،موطن التشكل
َّ صراع ال يُحَ ُّل بني ليلة ُ يتطلب مسافات من وضحاها ،إنه صراع الزمن َت ُطول أو َت ْق ُصر ،تختفي ثم تعود ،وذلك حسب أنماط بنائنا
األخرى بحكم شروط التحول العاملية ،التي واكبت بعد ذلك
قد ال نكون مجازفني عندما نعلن أن مظاهر التوتر والتناقض
إن قوة املوقف الفلسفي الذي يحمله مشروع التنوير ،تتمثل
يف بعض جوانبها إىل قصر النفس النظري املهيمن عىل معاركنا
إىل التغيري استنادًا إىل قيم بديلة لقيم التقليد املتوارثة؛ حيث ُ مغامرة البحث اإلنساين بدءً ا من عصر النهضة يف القرن فجرت
وصور تفاعلنا مع مقدمات أسس التنوير وقواعده.
والرتاجع ،التي تشكل اليوم السمات األبرز يف فكرنا املعاصر ،تعود
يف الفكر والسياسة واملجتمع ..نحن هنا ال نفسر ظواهر تاريخية مركبة بعامل واحد ،ولكننا نتصور أن القصور النظري يعد واحدً ا من العوامل املساعدة عىل فهم أكرث ً دقة لجوانب عديدة من ٍ إشكاليات التحول السيايس الحدايث والتحديثي يف عاملنا العربي. نحو استيعاب مقدمات األنوار
األول للمشروع األنواري ،ثم يف باقي مناطق وقارات العالم عملية تعميم التنوير يف مختلف ثقافات العالم.
أولاً وقبل كل يشء يف الوعي بمبدأ املخاطرة اإلنسانية الساعية
16مً ، آفاقا واسعة أمام العقل البشري ،وهو األمر الذي ترتب عنه تبل ُو ُر مجموعة من القيم املعرفية واألخالقية الجديدة يف النظر إىل
الطبيعة واإلنسان واملستقبل.
ال تنفصل إذن يف نظرنا معارك املجال الثقايف والديني الحاصلة
يف مجتمعاتنا عن مشروع ترسيخ مقدمات األنوار وقيمها يف
لقد انطلقت معاركنا يف اإلصالح الديني والثقايف والسيايس
فكرنا .وضمن هذا السياق نعترب أن انتشار دعاوى تيارات التط ُّرف،
املعارك املذكورة يف صورها املتعددة ،استيعاب جملة من العناصر
مناسبة تاريخية جديدة ،إلطالق مجابهات يكون بإمكانها أن تكشف فقر ومحدودية ُ وغ ْربَة التصورات املتصلة بهذه التيارات،
وإصالح املؤسسات منذ ما يقرب من قرنني من الزمان ،وأتاحت لنا يف موضوع املرجعية السياسية الحداثية وما يرتبط بها من قيم
التنوير .تكشف مظاهر التأخر العامة يف مجتمعاتنا اليوم ،بما َ ُحصلة معاركنا وتجاربنا يف املجال ال يدع أي مجال للشك؛ أن م
املشار إليه لم تثمر ما يسعف بناءَ قواعد ارتكاز نظرية وتاريخية قادرة عىل تحصني مشروعنا يف النهوض ،والتقليص من حِ َّدة أزماتنا املزمنة يف مجال التواصل مع ذاتنا ومع اآلخرين يف العالم.
وألننا نتصور أن التحوالت الهامة يف التاريخ من قبيل ُّ وتمثل مقدمات التنوير ومكاسب عصر األنوار ،ومحاولة استيعاب تبيئتها بصورة ُمبْدِ َعة داخل نسيج حياتنا يف الفكر ويف املجتمع، َّ نتمكن من تجاوُز تتطلب مواصلة الجهد والعمل دون كلل؛ لعلنا العوائق التي حالت وما ف ِتئت تحول بيننا وبني انخراط فاعل يف
العالم؛ وهو األمر الذي يسهم يف تهيئة الشروط املساعدة عىل بلوغ املرامي التي َّ سطرها ال َّنه َ ْض ِويُّون العرب يف تاريخنا املعاصر. وقبل تشخيص بعض جوانب من معارك التنوير يف فكرنا،
نشري إىل أن تصورنا للتنوير وقيمه ال يرتكز عىل مبادئ فكرية مغلقة ،فليس فكر األنوار يف تصورنا مجرد جملة من املبادئ واملفاهيم املرتبطة ببعض األنساق واملنظومات الفلسفية والوقائع
21
ودعاوى تيارات التكفري والعنف يف ثقافتنا ومجتمعنا ،يمنحنا
وهو األمر الذي يتيح لنا بناء الفكر املبدع؛ أي إنشاء خيارات مطابقة لتطلعاتنا يف النهضة والتقدم. تنوير عربي إبداع نحو ٍ ِ
َ وصف اعتاد الذين يناهضون قيم التنوير يف فكرنا العربي
لفكر ال عالقة له بتاريخنا وال املتنورين يف ثقافتنا بنعت الناقلني ٍ بثقافتنا ومجتمعنا .وقد تأكد يف العقود األخرية من القرن املايض
-ويزداد تأكدًا اليوم وسط ما نعانيه يف مجتمعاتنا من تنامي
تيارات التطرف الديني بمختلف ألوانه -أن حاجة املجتمعات العربية إىل مبادئ األنوار وقيم التنوير تتطلبها معركة اإلصالح
الثقايف واإلصالح الديني يف حاضرنا.
ال يتعلق األمر إذن بعملية نسخ لتجربة معينة يف ً اختالفا كليًّا عن التاريخ؛ تجربة حصلت يف مجتمعات مختلفة مجتمعاتنا ،بل إنه يتعلق أساسً ا بتجربتنا الذاتية يف التاريخ.
وحاجتنا إىل التنوير اليوم تمليها وقائع ومعطيات عينية قائمة يف مجتمعاتنا وثقافتنا .أما النموذج اآلخر ،الذي حصل يف التاريخ
ملف العدد
يف سياقات أخرى وداخل مجتمعات أخرى ،فيمكن أن نستفيد من رصيده الرمزي والتاريخي ،كما يمكننا أن نعمل عىل تطوير
بعض معطياته ومكاسبه يف ضوء خصوصياتنا التاريخية ،التي ال تستبعد وال تنفي تشابه بعض معطيات التاريخ ،وإمكانية االستعانة بموضوع مواجهة قضاياه باالستفادة من دروسه.
يف جدليته التاريخية الحية ،وقد شكل -كما نعرف يف تاريخنا- مهما ًزا للحركة التاريخية املنتصرة لقيم األزمنة التي واكبته خالل
عصورنا الوسطى.
وهنا ال بد من توضيح أن قيم اإلسالم كما تبلورت يف التاريخ،
ٌ جملة إن تزايد مظاهر التطرف يف مجتمعاتنا -وقد أسهمت
أفكار أقل ما يمكن أن ال عالقة بينها وبني ما هو شائع اليوم من ٍ
ينبغي أن تكون متنوعة بتنوع األدوار التي تمارسها اليوم يف
النيص والحديث أكرب من األحكام والفتاوى املحافظة واملرتددة ،إنه
من العوامل يف توليدها -تجعلنا نتصور أن معارك مواجهتها واقعنا .وكلما ازداد عنف هذه املظاهر يف محيطنا االجتماعي والسيايس ،ازدادت الحاجة إىل تطوير آليات ووسائل املواجهة،
بهدف توسيع مساحات التنوير والتسامح ،واالنفتاح يف ثقافتنا ومجتمعنا ،وهو األمر الذي يقلص -متى ُع ِّمم -من أدوار التط ُّرف
واملغاالة وأدوار بعض الفقهاء الذين يمنحون أنفسهم امتيازات
الكهنوت ،وامتيازات مانحي صكوك الغفران ،وذلك بإصدارهم فتاوى التكفري والجهاد ومخاصمة العالم.
توصف به هو غربتها عن التاريخ وعن اإلنسان .فاإلسالم يف تاريخه
يف روحه العامة عبارة عن جهد يف التاريخ مشدود إىل التسامي وإىل املطلق ،لهذا السبب نحن ال نتصور اإلسالم دون اجتهاد.
وضمن هذا األفق ،نشري إىل أن اإلسالم ينفر من قيم املوت والقتل
والتخريب واالنغالق والتزمُّت ،ليحرص بدل كل ذلك عىل إشاعة
قيم الحياة ،قيم توسيع مساحة مكانة اإلنسان يف التاريخ. التنوير مطلب كوين يف عالم متحول
ال يتعلق األمر يف موضوع دفاعنا عن قيم التنوير يف العالم
يطرح مشكل تنامي إسالم التطرف يف واقعنا مطلب املواجهة بالتنوير والنقد؛ حيث ال يمكن أن ُتحَ و َِّل جماعات معينة التجربة
العربي اليوم ،بعملية نسخ أو نقل لتجربة تمت يف التاريخ،
التجربة الروحية يف اإلسالم تتجاوز األحكام النمطية املحفوظة يف
يف سياق تاريخي محدد يف القرنني السابع عشر والثامن عشر يف
الروحية يف التاريخ اإلسالمي إىل تجربة متحجّ رة مغلقة .إن
22
مستندة يف ذلك إىل تصورات ومبادئ ال عالقة بينها وبني اإلسالم
تراث ال يعدو أن يكون جزءً ا من تاريخ لم ينتهِ .لهذا السبب نرى
أن عودة املحفوظات التقليدية بالصورة التي تتمظهر بها اليوم يف ثقافتنا ويف مجالنا الرتبوي والسيايس ،يعود إىل عدم قدرتنا
عىل إنجاز ما يسعف بتطوير نظرتنا للدين والثقافة والسياسة يف
مجتمعاتنا .إن فشل مشاريع اإلصالح الديني واإلصالح الرتبوي
يف فكرنا يُعَ ُّد من بني العوامل التي كرست –وتكرس -مثل هذه العودات العنيفة إىل املعطيات العتيقة يف تراثنا وثقافتنا.
واألنوار ال تزال اليوم مطلبًا كونيًّا .وقيم عصر األنوار التي نشأت
أوربا ،تتعرض اليوم المتحانات عميقة يف سياق تاريخها املحيل،
وسياقات تاريخها الكوين ،وذلك بحكم الطابع العام ملبادئها،
وبحكم تشابه تجارب البشر يف التاريخ ،وتشابه عواملهم الروحية واملادية وعواملهم التاريخية يف كثري من مظاهرها وتجلياتها.
ترتبط حاجتنا إىل التنوير بأسئلة واقعنا ،كما ترتبط بسؤال
االجتهاد يف فكرنا ويف كيفيات تعاملنا مع قيمنا الروحية .وإذا
كنا نعرف أن املبدأ األكرب الذي وجه فكر األنوار يتمثل يف الدفاع
ننب الفكر اإلسالمي لم نتمكن من ترسيخ قيم االجتهاد ،ولم ِ
عن عدم قصور اإلنسان ،والسعي إلبراز قدرته عىل تعقل ذاته ومصريه بهدف ّ فك مغالق ومجاهل الكون والحياة؛ فإنه ال يمكن
ما فعلته التيارات املعادية لقيم العصر ويف قلبها قيم التنوير
مكان الصدارة يف العالم ،ويمنح اإلنسان مسؤولية صناعة حاضره
املنفتح والقادر عىل تركيب تصورات جديدة للعالم ،تتيح لنا
استيعاب مقدمات وأصول الحياة الجديدة يف عصرنا .ولعل أخطر والتقدم يف فكرنا املعاصر ،هو تعميمها لجملة من الدعاوى الرامية إىل استبعاد إمكانية تصالح ذواتنا التاريخية مع العالم،
من األمور المستعجلة اليوم في الثقافة العربية :العمل على تأسيس جبهة للتنوير ،من أجل أن تساعدنا على إيقاف مسلسالت التراجع واالنكفاء، درعا أماميةً جبهة يمكن أن تشكل ً لمواجهة أشكال االندحار الثقافي العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
ألحد أن يجادل يف أهمية هذا املبدأ ،الذي يمنح العقل البشري
ومستقبله .وتاريخ البشرية يقدم الدليل األكرب عىل قيمة هذا املبدأ ،ولهذا السبب نحن معنيون بإشاعة القيم التي تتضمن
وتستوعب االعتزاز باإلنسان واإلعالء من مكانته ورسالته يف
الوجود. ً ولعلنا نزداد تشبُّثا بهذا املبدأ عندما نعاين يف حاضرنا كثريًا من مظاهر تحقري اإلنسان والتنكيل به ،فندرك بصورة أفضل
أهمية االنخراط يف تعزيز قيم التنوير يف حياتنا ،وندرك يف اآلن ٌ شروط خارجية ،وال نفسه أن حاجتنا اليوم لهذه القيم ال ُتمليها
تمليها إرادة نقل تكتفي بنسخ الجاهز ،بل إن حاجتنا الفعلية لهذه القيم تحددها بكثري من القوة شروط حياتنا الواقعية والفعلية؛ حيث يصبح توسيع فضاء العقل والنقد والتنوير مجالاً للمعاناة
والتوتر والجهد الذايت الخلاّ ق ،يف عمليات بناء القيم واملبادئ التي
مأزق موصول بإرث تاريخي لم نتمكن بع ُد تتيح لنا الخروج من ٍ
من تشريحه ونقده تمهيدً ا إلعادة بنائه بتجاوزه.
نيس كثري من الذين يتحدثون اليوم عن إخفاق مشروع
التنوير يف فكرنا ،أن املأثرة الكربى إنما هي لرواد اإلصالح الذين عملوا عىل غرس قيم العقل يف فكرنا اإلصالحي ،ونيس هؤالء أن مهمة تركيب فكر التنوير يف ثقافتنا لم تكن مسألة نظرية
خالصة ،بل إنها كانت منذ بداياتها األوىل أشبه ما تكون بعملية يف املواجهة ،مواجهة سقف يف النظر واللغة ،ومواجهة تاريخ من
االستبداد ،وتاريخ من الهيمنة النصية .لهذا اختلطت وتداخلت كثري من عناصر مهمتهم ،رغم كل الجهود املضنية التي بذلوا
يف باب دعم وتعزيز منطق العقالنية ولغتها يف ثقافتنا .ولعلهم نسوا ً أيضا أن التوجهات النظرية التأصيلية الجديدة التي ما فتئت
تنشأ يف فكرنا منذ هزيمة 1967م ،وميالد ما أصبح يعرف بعتبة
«النهضة الثانية» ،تعد يف العمق محصلة ملختلف ُصور التمرين والتمرس التي مارسها الجيل األول
والثاين من النهضويني العرب .وهو ما يفيد أن مُحَ ِّص َل َة تطور عقالنية األنوار يف
فكرنا ،تستمد قوتها من آلية الرتاكم، التي أسهم الفكر اإلصالحي العربي يف بنائها ،لتشكل جهود املتأخرين
األحياء من مفكرينا يف أبعادها
النظرية العميقة ،الصورة املتطورة إلسهامات رواد اإلصالح يف القرن التاسع عشر والنصف األول من
القرن العشرين.
اإلصالح ليس وصفة سحرية ينبغي أالّ نغفل هنا التأكي َد عىل أننا ال نتصور سهولة املعركة التي تنتظرنا ،ذلك أن اإلصالح ليس وصفة سحرية من ِقذة من
شرور عالم نحن صانعوه ،إنّ الطريق مفتوح أمامنا عىل مشروع بذل جهود وتضحيات ومنازالت كربى يف مجاالت عديدة ،بهدف تعويد الذات عىل مواجهة أسئلة التاريخ والحرب واإلصالح ،تعويد الذات عىل املواجهة بالتضحيات التي َت ْنذِ ُر الغايل والنفيس
لالنتصار عىل أعباء التاريخ ،وما سيصنع لحظة حصول اإلصالح الذي نتطلع إليه؛ أي تعميم مكاسب التنوير ومغانمه الرمزية،
23
سيعد خالصة لرتاكم تاريخي ،قد ال نكون عىل بيِّنة تامة من مختلف أبعاده وأفعاله.
وبناء عليه ،تعد معركة التنوير يف بلداننا معركة شاملة ومر َّكبة ،إنها معركة يف الفكر ويف السياسة واملجتمع والتاريخ، وكل إغفال ملجموع عناصرها يف تكاملها وتقاطعها وتداخلها ،ي ِّ ُقلص من إمكانية اإلنجاز الذي نصبو إليه .ولهذا السبب ،يشكل
مشروع التنوير البؤرة الناظمة والجامعة ألسئلة اللحظة التاريخية الراهنة يف مجتمعنا ،وقد كان األمر كذلك قبل أربعني سنة، ولعله سيستمر بعد هذه اللحظة بما يعادلها أو يفوقها يف َكمِّ الزمان .إال أن األمر ينبغي عدم الرتاجع عنه أو التفريط فيه ،هو أن نتخلىّ تحت أي ضغط أو إكراه تاريخي أو نظري عن مواصلة العمل من أجل زرع قيم التنوير والحداثة ،وإعادة زرعها دُون َك َل ٍل
يف حاضرنا املفتوح عىل أزمنة مضت وأخرى قادمة. إن املمانعة التاريخية ْ َّ وال ِع َناد التاريخي الذي تمارسه قيود التقليد وأعباء التاريخ التي شكلت يف املايض جوانب من هويّتنا ،كما نشأت وما فتئت تنشأ ويُعاد ُّ تشكلها يف التاريخ ،يقتيض م ّنا العمل املتواصل يف اتجاه ابتكار أساليب جديدة يف الفكر ويف املمارسة، ملواصلة توطني مبادئ التنوير يف حاضرنا.
يمكن أن نؤكد إذن أنّ من األمور املستعجلة اليوم يف الثقافة العربية :العمل عىل تأسيس جبهة للتنوير ،من أجل أن تساعدنا
عىل إيقاف مسلسالت الرتاجع واالنكفاء ،جبهة يمكن أن تشكل ً درعا أماميّة ،ملواجهة أشكال االندحار الثقايف الحاصل يف بيئات
الثقافة العربية منذ عقود من الزمن ،وذلك بفعل اتساع تيارات الفكر النيص املحافظ وتناميها ،وانقطاع -بل توقف -وترية مغامرة االجتهاد واإلبداع يف فكرنا .نحن هنا ال نتحدث عن نموذج حدايث جاهز ،ذلك أنّ الحداثة إبداع يجسده تاريخ من املعارك .وإذا كان
االنفجار العربي املتواصل قد أفرز مشهدً ا جديدًا يف الواقع العربي ،واكتشف الجميع بامللموس أنّ التغيري ال يكون فقط بإسقاط النظم االستبدادية الفاسدة ،بل ّإنه يتطلب رؤية شاملة ملختلف زوايا النهوض والتنمية.
إنّ بناء مجتمع عصري يحتاج اليوم إىل جبهة للتحرك ،جبهة مسلحة بمبادئ الفكر املعاصر ومقدماته ،جبهة قادرة عىل
إعادة بناء املجتمع من جديد .ونحن نعتقد ّأنه لن تكون هناك مردودية لتحركات اليوم إذا لم تصنع الحدود التي تركب القطائع املطلوبة دون تر ُّد ٍد أو مخاتلة ،مع مختلف أوجه التقليد واالستبداد ومظاهرهما يف مجتمعنا؛ األمر الذي يفيد أنّ املعركة مفتوحة.
ملف العدد
العرب من االستنارة إلى التشرذم سيار الجميل ّ مؤرخ عربي -المدير التنفيذي لمركز دراسات اكنك -تورنتو -كندا
24
العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
العرب قد عاشوا في القرن العشرين بالرغم من ّ سيقول مؤرخو العرب بعد مئات السنين :إنّ َ كل تناقضاتهم السياسية والفكرية؛ أزهى أزمنتهم الحديثة ،بعد أن أحيت فيهم مشروعات النهضة مجاالت العقل واالستنارة واإلبداع ،وأنهم قد نفضوا عنهم غبار الماضي ،وخرجوا من سكون أكفان القرون التي سبقت اللحظة الزمنية للقرن العشرين ليلبسوا أثوا ًبا جديدة ،وقد أبدعوا بعد أن انفتحت عقولهم، وتعاملوا مع أصالتهم ،وخلقوا لهم أشياء جديدة لم يكونوا يعرفونها من قبل ،بل إنهم انسجموا مع مشروعهم النهضوي ويقظتهم الفكرية ،وناضلوا من أجل أن يكون لهم مكانهم تحت الشمس ،لكنهم انتكسوا انتكاسات مريرة عند نهايات القرن العشرين ،ودخلوا زم ًنا اختلفوا فيه عن أزمنة استنارتهم بالتقدم ،فتغيّرت حاالتهمّ ، ّ وتبدلت أوضاعهم ،وازدادت تناقضاتهم وباتوا النهضوية ،بافتقادهم الوعي ّ يكره بعضهم ً يتعلموا منه شي ًئا ،فهم لم يتوقفوا عن مشروعهم بعضا ،وأخذوا يزيفون تاريخهم ،ولم ً ّ ً وتفشت في مخيفا؛ إذ غلبت عليهم الجهالة، تراجعا واستنارتهم فحسب ،بل تراجعت خطاهم أوساطهم األميّة ،وخبا فيهم الوعي بالزمن ،بل ماتت فيهم جذوة التفكير والعقل ،واندلعت عندهم الحروب ،وعمّ ت في نفوسهم الكراهية! واألخطر من هذا وذاك ما حدث في مجتمعاتهم ونسيجهم الحضاري من تم ّزقات جراء أسباب غير مباشرة ما كانوا يحسبون حسابها ً أبدا ال في مرحلة االستنارة المد القومي العربي ونزاعاتهم الباردة ،وصولاً األولى ،وال في مرحلة الليبرالية الناشئة ،وال في خضم ّ ّ ً وخصوصا بعد سنة 1979م ،تلك السنة المستبدين والطغاة، إلى مرحلة الحروب المجنونة وأزمنة التي اعتبرتها أخطر سنة في القرن العشرين؛ إذ سحبت منهم مشروعاتهم األولى ،فتأخرت ثقافتهم، ّ ّ المتمدنة ،وباتوا يبحثون لهم عن حلول بليدة من العصور الوسطى! كيف؟ وتقلصت عالقاتهم مشروعات نهضوية عربية
مدارسهم األوىل ،وطوّروا لغتهم العربية القاموسية ،وعرفوا
قبل أن نحلل هذه اللحظة العربية الراهنة التي يكتنفها
تأسيس الصحافة من جرائد ومجالت ،وطوّروا أساليبهم
باختصار ما كان عليه العرب إبان القرن العشرين؛ يك نرى
سنة مع دخولهم القرن العشرين ،بدؤوا يشعرون بضرورة
الخروج منها .مسرتشدين بتطوّر أجيالهم املعاصرة التي
رجال بُنا ٍة أوائل فعُ رفوا فيما بني الحربني العظميني بوجود ٍ كانوا وراء تأسيس عدد من املؤسّ سات والوزارات واملجامع
الغموض ويميّزها االقتتال والتشرذم بأنواعه .دعونا نحلل
حجم الهاوية التي انزلقوا فيها اليوم وبات من الصعوبة
بدأت مع نهايات القرن التاسع عشر؛ حيث كانوا قد انفتحوا
عىل العالم ،فرتجموا جملة من الكتب املمتازة ،وتأسّ ست
عندما خرجنا من القرن العشرين كان عمالقة األدب والفكر والطرب والثقافة واحدا تلو اآلخر، واإلبداع يغادرون الحياة ً وغرقت مجتمعاتنا في ال وعي جمعي بالظالم الدامس ،وأخذ الناس يفكرون بماضويات الزمن بعد مغادرتهم االستنارة نهائ ًّيا ،بل وصل األمر إلى تكفير المبدعين والمفكرين والمؤسسين البناة األوائل
25
الكتابية وفنونهم األدبية وطرائق عيشهم .ويف غضون ثالثني النهضة والتخلص من األجنبي وتكوين األوطان الحديثة،
العلمية والجامعات ،وتطوّرت الثقافة العربية تطورًا إبداعيًّا،
وفكروا باالستقالالت الوطنية؛ إذ عرفوا قيمة أوطانهم ،وقوة مجتمعاتهم وروعة ازدهارهم الحضاري ،وكيفية اسرتجاع زهرة ماضيهم املتمدّ ن ،كما عرفوا القوانني وتناغموا عربيًّا مع
بعضهم اآلخر باستحداث اإلذاعات العربية ،والسينما ،ودور النشر العربية .ويكفي عىل سبيل املثال ال الحصر ،ظهور امرأة
أسطورية عربية التفوا حولها ليسمعوها ،وهي تشنف آذانهم
بالطرب العربي األصيل حتى أسموها« :كوكب الشرق»، فكانت وحدها عاملاً نهضويًّا وظاهرة تنويرية يف تجمّ عهم،
وهي فنانة قلما يجود الزمان بمثلها ،جاءت من ريف مصر العربي لتوحّ د األسماع واألذواق العربية بني املشرق واملغرب العربيني عىل مدى خمسني سنة مضت.
ملف العدد
26
عوامل الفشل وخطورة عام 1979م وبدء الزمن الكسيح
ومع نهايات الحرب العاملية الثانية ،تفاقمت تناقضاتهم
ومنذ تلك اللحظة البائسة ،بدأ زمن كسيح تفاقم فيه االستبداد من قبل ّ حكام جائرين حاربوا االستنارة واالنفتاح
ضباط ثكنات إىل سُ دَّ ة الحكم ليحكموا من دون أيّة حكمة،
وجعل الشعوب تلهث وراء لقمة العيش والسكن والعمل
السياسية واأليديولوجية بحدوث انقالبات عسكرية ووصول وال أي دهاء ،وال أيّ معرفة بطبيعة املجتمعات ،مع أحزاب سياسيّة شمولية متشدّ دة ال تفقه طبيعة الحياة الحزبية،
وشغلوا الناس بتوافه األمور وبالشعارات الخاوية .ناهيكم عن االنتقال من قوة العقل إىل العيش يف األوهام ،فازداد جموح
خيالهم للخروج إىل العالم كأمة موحدة من دون أية دراسات
وآمنوا باالنغالق والتف ّرد بالسلطة ،مع تبديد الرثوات،
واألمان ،بل وصل األمر إىل إصدار قرارات جنونية ،بإشعال
حروب ،وقصف مدن ،وإفقار شعوب؛ فبدأت تنحسر القوى االجتماعية الفاعلة ،وتنكمش الحياة اإلبداعية لدى العرب، وبدأ الوعي ي َْذ ِوي ،ودخل العرب يف مرحلة حروب أهلية وداخلية وإقليمية قاتلة ،يف لبنان والعراق واليمن والجزائر وسوريا والسودان ،وغريها .وكانت هذه املرحلة كافية لخلق
ومفاهيم؛ إذ إنهم لم يدركوا حجم التنوّعات والتباينات فيها، ً أثمانا ولم يتدارسوا الخلل الذي كان فيها ،فكان أنْ دفعوا
مافيات وعصابات وجماعات إرهابية ،مع زيادة االنحرافات
والصراعات األيديولوجية جراء التأثر بالحرب الباردة يف العالم،
ّ وتشكل البنية العمياء الدخول يف بحر الظلمات،
ٍّ تحد خطري واجهوه باهظة من الضحايا والخسائر أمام أخطر ممثلاً يف إسرائيل ،ومع تفاقم االنقسامات السياسية والثقافية بقي الوعي الجمعي باالستنارة قويًّا ،واألمل بالنهضة ساري
الفكرية بانعدام العقل والركض وراء األخيلة واألوهام!
وعندما خرجنا من القرن العشرين كان عمالقة األدب
والفكر والطرب والثقافة واإلبداع يغادرون الحياة واحدً ا
ً وخصوصا لدى جيل جديد كان يطمح لبناء املستقبل املفعول، أسوة باألمم األخرى حتى عام 1979م الذي أعتربه فاجعةً
تلو اآلخر .وغرقت مجتمعاتنا يف ال وعي جمعي بالظالم
دين معمّ م إىل أعىل سلطة يف إيران ،ومباشرة قال بتصدير
مغادرتهم االستنارة نهائيًّا ،بل وصل األمر إىل تكفري املبدعني
هب إعصار مظلم للمرة األوىل بوصول رجل تاريخية؛ حيث ّ ثورته الطائفية باسم الدين نحو مجتمعاتنا التي بدأت تهتز
خالياها الراكدة ،وعندما سمعنا بمصطلح «الصحوة الدينية» قلنا :يا عجبًا! هل كانت مجتمعاتنا بال دين حتى تصحو؟! العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
الدامس ،وأخذ الناس يفكرون بماضويات الزمن بعد
ً وخصوصا عندما واملفكرين واملؤسسني البناة األوائل، ً ممزوجة باإلسالم السيايس، غدت السياسة –عىل أيديهم-
فتفاقم حجم الجماعات واألحزاب الدينية املتشدّ دة بعد
عام 1979م مع انقسام املجتمع العربي انقسامات حادة،
لحظة 2010م التي أسموها« :الربيع العربي» تحمل يف جوفها أسرار انتحارها؛ إذ اس ُتلبت تلك الثورات استالبًا من قوى
ّ وتقلص إنتاج القوى الفاعلة يف وانكماش النخب املبدعة
الغموض ويسودها اإلرهاب ،ويميزها االقتتال والتشرذم ّ ولعل أقىس ما يمكن تخيّله اخرتاق إيران ملجتمعاتنا بأنواعه.
وبدأت الطائفية تلعب لعبتها سياسيًّا وإعالميًّا وثقافيًّا ،بل انقسم ّ كل املثقفني العرب انقسامات حادة مع غياب العقل
أغلب مجتمعاتنا ،وباتت األوضاع تنتقل من سيئ إىل أسوأ بدخول القرن الحادي والعشرين. َ لقد سجّ ل العرب يف أكرث من مكان حالة انتفاضة مع
تضخم قوة بشرية عربية شابة عانت يف نهايات القرن العشرين ّ ّ الحكام ،وتبديد الرثوات، التصلب السيايس ،واستبدادية
وغلبة اإلعالميات الكاذبة واملخادعة بوعود يف اإلصالح؛ فكانت
الظالم لتبدأ مرحلة ثالثني سنة نعيشها اليوم؛ حيث يكتنفها
باسم الطائفية ليتفجّ ر املزيد من الحروب واالقتتاالت والتم ّزقات االجتماعية ،واالنقسامات الفكرية .لقد هُ تكت أستار الثقافة
العربية ،وأصبحت عدة مدن وعواصم عربية ميادينَ لصراعات ّ التخلف والتضليل ،وابتذال الرتبويات دموية مع ازدياد حجم
والثقافات والفنون ،وهجرة املاليني من العرب من أوطانهم ً بحثا عن أوطان جديدة لهم فيما وراء البحار.
هب عام 1979م أعتبره فاجعة تاريخية؛ إذ ّ إعصار مظلم للمرة األولى بوصول رجل
إن مأساة العرب اليوم ومحنتهم التاريخية تبدو للمؤرخ بنيوية عمياءَ يستعيص ّ ً ّ تتشكل من هياكل صعبة حلها؛ إذ
ومباشرة قال بتصدير ثورته الطائفية
استفحال التشبّث بالسلطة ،وقهر اإلبداع وانعدام فرص
معمم إلى أعلى سلطة في إيران، دين ّ باسم الدين نحو مجتمعاتنا التي بدأت تهتز خالياها الراكدة ،وعندما سمعنا ّ عجبا! بمصطلح «الصحوة الدينية» قلنا :يا ً هل كانت مجتمعاتنا بال دين حتى تصحو؟!
جدًّ ا ،وهي :شمولية الحياة املعيشية ،وغياب الح ّريات ،مع نضوج املبدعني ،وتفاقم اإلرهاب باسم الدين والنزول من
سماحته إىل املعتقدات الرخوة ،وغلبة األساطري والخزعبالت،
ومحنة الطوائف وامللل واألقليات التي غدت تناحر األغلبيات
ردًّا عىل ثارات سيكولوجية قديمة ،وكأنّ مجتمعاتنا لم تعرف
التعايش والوئام منذ آالف السنني.
27
هل من استعادةٍ للتنوير والعقل؟ ٌ َ ّ للمفكر بعيد النظر وعميق الرؤية ،لكنها غامضة الحالة التي يعيشها العرب اليوم مع غلبة املشكالت ال أعتقد أبدً ا أن
تبدو غامضة لتلك الجماهري العريضة التي تفاقم حجم الجهل عندها حتى باألساسيات والبديهيات العامة .وممّ ا زاد من
تفاقم حجم املحنة العربية اليوم :الوسائل الحديثة التي هي نتاج حقيقي للعوملة التي يم ّر بها العالم اليوم ،فإنْ كان العالم يعيش ثورة معرفية وعلمية واسعة األبعاد ،فقد غدت هذه الوسائل الجديدة ليست سبيلاً للتواصل مع ثورة املعلومات ،بل
أدوات قهرية االستخدام بتوظيفها يف سفاسف األمور ،ويف توزيع العنف والعنف املضاد ،فضلاً عىل دورها يف حدوث صدوع واسعة يف البنى الفكرية والقيم األخالقية مع انعدام الرتبويات القوية.
إنّ استعادة االستنارة العربية بحاجة إىل مشروعات تحديث واسعة النطاق يف العقلية وتبديل الذهنية من كونها مر ّكبة
ومنغلقة ومتناقضة إىل موحّ دة ومبسطة ومنفتحة بتغيري املناهج الرتبوية والتعليمية ،واستحداث قوانني جديدة ،وزرع
قيم فكرية نظيفة تتقبّل األشياء ،وتخليص املجتمعات من ترسُّ باتها وأمراضها املستعصية ،إضافة إىل والدة نخب لها ثقافتها الحقيقية التي تعتني باملبدعني ،وإشباع الناس لحاجاتهم الضرورية ،وتهذيب أذواقهم ،وتجديد أساليبهم يف الحياة ،وزرع
قيم جديدة يف التعايش مع اآلخر ،وتقبّل أفكاره اإليجابية مع احرتام الزمن ،ودقة اإلنتاج ،ونقد الظواهر ،وإتاحة الفرص للح ّريات ،وتهذيب األذواق ،وتجديد القيم ،واالعتناء بالثقافة العامة ،وتحديث املؤسسات يف الدولة.
برجال بُنا ٍة من النهضويني الحقيقيني الذين لديهم القدرة عىل تربية أجيال إنّ تنوير العقل من أصعب املهام التي تناط ٍ جديدة يك يكونوا مادة أساسيّة يف ازدهار العرب إبان القرن الحادي والعشرين .وهذا ال يتحقق يف ّ ظل األوضاع الحالية التي وصلت إىل درجة أدىن من االهرتاء .إنني واثق بقدرة مجتمعاتنا العربية عىل االستجابة للتحدّ يات التاريخية ،وكما أنجبت يف املايض أجيالاً من املبدعني والعمالقة يف الفكر واألدب والفن والعلوم وصنع الحياة املتحضرة ،فإن أبناءهم وأحفادهم لهم
ً وخصوصا يف توظيف وسائل العصر الحديث ليتفوّقوا يف مجاالتهم ويكون لهم تأثريهم يف هذا العالم. القدرات نفسها،
ملف العدد
اختناق التنوير نتيجة حتمية
إبراهيم البليهي كاتب سعودي
28 يقف بعض المهتمين حائرًا أمام عقم وعجز جهود التنوير منذ
أكثر من قرنين عن التأثير في الواقع العربي البائس ،ولكن الحيرة تزول حين ندرك الطبيعة التلقائية لإلنسان ،ونعرف الكيفية التي َّ ونتعقل أن اإلنسان كائن ثقافي، تتكون بها عقول الناس تلقائيًّا،
ونستوعب حقيقة أن كل جيل يرث بشكل تلقائي ثقافة الجيل الذي قبله بانتظام تلقائي صلب ،وأن الثقافات كيانات متمايزة نوعيًّا، وأن المجتمعات محكومة بحتمية ثقافية حاسمة ،وأن كل القوى المهيمنة في المجتمع ترعى هذه الحتمية وتحميها ،وتمأل نفوس األجيال بإجالل السائد وتقديسه والوالء له والبراء ،مما ُي َظن
أو ُي َتو ََّهم أنه يتعارض معه ،وأن لكل فرد بنية ذهنية ووجدانية تختلف عن كل اآلخرين ،فمن السهل أن يتبادلوا المعلومات
واألخبار والمعارف ،لكن ال يمكن أن تتطابق تصوراتهم وأفكارهم ً تطابقا تامًّ ا حتى وإن ساروا متحدين. ورؤاهم
العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
فاملواقف تقوم عىل محاوالت التوافق وليس التطابق .إن
كل هذه العوامل وغريها تجعل رفض التغيري حتميًّا وتلقائيًّا، ألن التنوير يستهدف تغيري الواقع؛ فهو يتحرك باتجاه مضاد ملا
هو أثري ومخالط للنفوس ،ومتجدد التأكيد ،وكثيف التغذية، وعميق يف الوجدان ،ومستقر يف العقول ،ومتجذر يف التاريخ،
وراسخ يف الواقع ،ومألوف ومتوارث وسائد ومستحكم. إن التنوير يحمله أفراد ُع َّزل ال يملكون سوى الفكر النيرِّ ،
مقابل مجتمعات فخورة بثقافاتها املتجذرة ،وقوية بكياناتها
املتماسكة ،لذلك لم يكن غريبًا أن تختنق كل جهود التنوير يف العالم العربي خالل القرنني املاضيني.
ومجتمعات وأممً ا، وال ُّن ُظم ،فنتوَهَّ م أن البشرية أفرادًا ٍ قد قطعت مراحل متقدمة جدًّ ا من سالمة التفكري ُ وعمْ ق
اإلدراك ،وأنها قد تجاوزت التفكري البدايئ التلقايئ ،وأنها ُّ التحقق املوضوعي يف قد بلغت مستوى ال ُّرشد القائم عىل
كل أمورها ،ولكن بقراء ٍة فاحصةٍ للتاريخ اإلنساين ،وبالتأمل ُ الحقيقة املفزعة ،وهي أن العميق يف ما يجري يف العالم تنجيل البشرية يف شكل عام ما زالت من الناحية الفكرية واألخالقية
بدايئ سحيق غارق يف التخلف والبؤس. تعيش يف مستوى ّ وأمام هذه املفارقة الصارخة بني التطور الحضاري املذهل يف وسائل وأدوات الحياة ويف القدرات العملية ،مقابل التخلف
إن األصل يف كل الثقافات أنها ترفض وتقاوم بشكل
الشديد لعموم الناس وألكرث القيادات الثقافية والسياسية يف
ويتحقق التغيري النسبي إال بعد حروب طويلة دامية ،فقد
تحقق من إنجازات عظيمة ،إن فهم هذه املفارقة الصارخة ال
تلقايئ أيَّ فكر طارئ مغاير ،حتى أوربا لم يؤثر فيها التنوير ٌ فئات انقسمت املجتمعات األوربية معه وضده ،فانحازت مهمة وفاعلة إىل صف التنوير ،وبقيت فئات أخرى تقاومه بشراسة؛ فاالنتصار النسبي للتنوير لم يتحقق إال بعد
مقاومات عنيفة ،فلو لم تصادف ثورة مارتن لوثر هوى األمراء األملان كذريعة للتحرر من اإلمرباطورية املقدسة ،ومن سلطة الكنيسة الكاثوليكية وقرارات البابا التعسفية ملا كان لها أن
تنتصر ،ليس هذا فقط ،إذ لم يكن ذلك وحده هو العامل الذي جعل أوربا تتقبل التنوير حتى وإن جاء التقبل ببطء وتلكؤ،
وإنما تضافرت عوامل كثرية انتهت بأوربا والغرب عمومً ا إىل هذا التحرر النسبي من أغالل التاريخ ،واالنفكاك من بعض
القوالب الثقافية املوروثة .وأهم هذه العوامل اإليجابية أن الثقافات األوربية هي يف األساس تفريعات للثقافة اليونانية بفكرها الفلسفي وعقلها النقدي ،كما أنها قد ورثت الثقافة
الرومانية برتاثها القانوين العريق ،وإرثها السيايس الفريد،
ولكن عىل رغم كل هذا ،وعىل رغم مرور القرون عىل التحرر النسبي للغرب ،فإن الشعوب الغربية ما زالت كغريها من الشعوب تقاد فتنقاد ،فالكتل البشرية يف كل األمم ما زالت
تعيش بوعي زائف ،وسيبقى أكرث الناس يف كل األمم إمَّ عات
مهما نالوا من تعليم مهني ،فالناس يف كل املجتمعات هم مجرد ركاب يف سفينة التغيرُّ واالزدهار ،أو يف سفينة التحجر
واالنحدار.
مفارقة صارخة
إن الواقع البشري ينطوي عىل مفارقة صارخة بني ما
يملكه من إمكانيات عظيمة وقدرات هائلة يف كثري من جوانب الحياة ،وبني عجزه الفاضح عن معالجة مشكالته ،فنحن
غالبًا تخدعنا اإلنجازات الحضارية الهائلة يف املجاالت العملية
واملهنية ،ويف مجاالت الوسائل واألدوات والتنظيم واملؤسسات
العالم يف الجوانب الفكرية واألخالقية والحكمة ،قياسً ا بما يتحقق إال بقراءة تاريخ الحضارة قراءة فاحصة ،حيث نجده يجيب عن هذه املفارقة بأن يؤكد الحقائق اآلتية:
ْ وجدت نفسها األصل يف املجتمعات أنها تبقى منتظمة يف ما
عليه ،فاالستمرار تلقايئ ،أما التغيري فهو ضد هذا االنتظام
التلقايئ الحتمي ،أما التطورات الحضارية املتحققة ُ تمخ َ َّ ض ْ عقول عدد ت عنها يف كل املجاالت فقد محدود جدًّ ا من الرواد الخارقني الذين تح َّركوا عكس التيارات السائدة خالل
29
التاريخ البشري كله ،إنهم منذ طاليس وديمقراطيس وسقراط وأفالطون
وأرسطو وإقليدس وأرخميدس ودافنيش وكوبرنيكوس وجاليليو
ونيوتن ومونتاين ومارتن ْ وكانت لوثر وديكارت وفراداي ودالتون وباستور
وآينشتاين وأمثالهم من
األفراد الرواد االستثنائيني،
وكلهم لو اجتمعوا لن يتجاوز عددُهم عدَ َد ر َّكاب
طائرة كبرية ،أو عدد ركاب قطار كبري ،إنهم يمثلون نشا ًزا يف
الكرثة الهائلة من البشرية العمياء ،لكننا نغفل عن هذه الحقيقة الكربى الصادمة، ونتحدث عن أن اإلنسان بطبيعته َط ْل ٌ عة
َي ِق ٌظ ،وأنه متشو ٌ ِّف تلقائيًّا إىل أن
يعرف ،والتاريخ البشري والواقع
كالهما يؤكد العكس تمامً ا، فاملندفعون خالل التاريخ
رينيه ديكارت
ملف العدد
البشري كله لالكتشاف ،واملشغوفون باملعرفة ،واملستغرقون يف محاولة الفهم املوضوعي العميق ،هم أفرا ٌد معدودون
يمكن إحصاؤهم بأسمائهم ،وهم يف نصاعة تفكريهم ،ورفيع اهتمامهمُ ، وعمق تركيزهم ،ويف النتائج التي يتوصلون إليها
يكونون مغايرين تمامً ا لألنساق الثقافية السائدة يف كل العالم. إن األفكار الريادية الخارقة يف كل مراحل التاريخ قد
جاءت كومضات خاطفة وسط ظلمات حالكة ،وكلها من دون ٌ ْ رفض قد يمتد قوبلت بالرفض واملقاومة ،وهو أي استثناء قد ً قرونا ،كما هي حالة اكتشاف أن األرض ليست مركز الكون، فقد بقي هذا االكتشاف مطمورًا أكرث من ثمانية عشر ً قرنا حتى
أعاد االكتشاف كوبرنيكوس ،ومع أن معظم االكتشافات ال يمتد رفضها كل هذا االمتداد؛ إذ تجد من يستقبلها بالقبول بعد تلكؤ قد يطول أو ْ يق ُ صر حسب الحالة الثقافية السائدة، ولكن املؤكد أن الرفض يحصل دائمً ا بشكل تلقايئ ،أما القبول
فال يأيت إال متأخ ًرا ،وقد ال يأيت أبدً ا كما يف الثقافات الشديدة
االنغالق .ويف الكتاب الذي لم أنشره بعدُ بعنوان «الريادة واالستجابة» َقدَّ ُ مت شواهد متنوعة عىل ذلك من التاريخ والواقع ،ستكون كافية ملن يرغب يف االستبصار. ٌ ٌ حني َت ُ فكرة رائدة ،أو دخل حقيقة علمية فارقة ،أو تنظيمٌ
30
الفردي ،فالوعي النقدي الفاحص املنفصل عن تفكري القطيع
ال عالقة له بالتعليم الجمعي بمختلف تخصصاته ومستوياته، بل التعليم نَّ املقن يكرس الوعي السائد. تجسيد األفكار الريادية الخارقة يرتبط باتجاه حركة
املجتمع ،فإذا كانت حركة املجتمع باتجاه االزدهار ،فإن
األفواج الذين تخرجهم الجامعات واملعاهد يتولون تجسيد الرؤى واألفكار الريادية التي تقبَّلها املجتمع ،إذ يعمل ُّ كل فرد يف مجال اختصاصه .إن إنتاجهم يمثل قطرات املاء التي
يتكوَّن منها نهر االزدهار ،ولكن األفراد أنفسهم الذين أسهموا
يف تشييد االزدهار يف مجتمع تتجه حركته يف اتجاه النمو ،لو
عملوا يف مجتمعات متخلفة فسوف يكون عملهم محكومً ا
باتجاه حركة املجتمع ،وبذلك فقد يكون إسهامهم يف تكريس الواقع وليس تغيريه ،أي يف تكريس التخلف واستحكام أركانه وإغالق منافذ الرؤية فيه. الثقافة السائدة
إن استيعاب هذه الحقائق يجعلنا ندرك أن التعليم يف
أي مجتمع محكومٌ بالثقافة السائدة وليس حاكمً ا لها ،وأن
أفراد كل بيئة يتربمجون بثقافتها تلقائيًّا فيبقون محكومني
اجتماعي جديد متطور إىل ثقافة أي مجتمع ،فإنها ال تدخل
بها ،وتظل تتحكم بهم وتهيمن عىل اتجاههم وتفكريهم
بواسطة املمارسة واملعايشة والتكيف والتعود ،فعموم الناس
فالربمجة التلقائية هي التي تحدد هوية
عن طريق الفهم العام ،وإنما تصري جزءً ا من ثقافة املجتمع
ووجدانهم ،وتحدد قيمهم واهتماماتهم،
يف املجتمعات املزدهرة ال يدركون سبب أو أسباب ازدهارهم، ُّ التحضر أو مركبة التحجُّ ر من غري فهم محمولون يف م ْركبة
فاإلنسان ال يولد بماهية أو هُ وية
تربمجوا بما هم عليه تربمُ جً ا تلقائيًّا بواسطة التكيف والتعود،
طفولته قبل بزوغ وعيه.
أن يعرفوا كيف تكوَّنت هذه املركبة االجتماعية العامة ،فقد وليس بواسطة التفهُّم واإلدراك ،فاألفراد يف املجتمع كقطرات املاء يف النهر الزاخر ،فلوال هذه القطرات ملا كان النهر لكن ال
أهمية ألية قطرة إال بكونها ضمن النهر.
ّ التعلم بمختلف مراحله ،والتخ ُّرج من الجامعات ،أو
حتى إنهاء دراسات عليا يف أي مجال ،هدفه تكوين املهنيني من املمرض إىل جراح القلب ،أو أستاذ الجامعة أو الباحث العلمي ،فكل هذه املسارات ال تدل عىل تطور نوعي للوعي
التنوير يحمله أفراد ُعزَّ ل ال يملكون سوى الفكر الن ِّير مقابل مجتمعات فخورة بثقافاتها المتجذرة ،وقوية بكياناتها المتماسكة ،لذلك لم يكن غريبا أن تختنق كل جهود التنوير في ً العالم العربي خالل القرنين الماضيين
العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
الفرد حسب البيئة التي ينشأ فيها، محددة ،وإنما يتقولب تلقائيًّا يف إن كل إنسان يولد بقابليات
فارغة مفتوحة مطواعة ،فيتشكل
عقله ووجدانه باألسبق إىل قابلياته ،ثم يظل هذا األسبق يتحَ َّكم به مهما نال
من تعليم ،فهذا األسبق يصري هو الذات عي ُنها ،وهو املعيار املهيمن
لتقييم كل ما هو مغاي ٌر له .إن الفرد ال يفكر إال من خالل هذا األسبق ،فهو ال يرى أيَّ يشء
ليوناردو دافنشي
إال بواسطته ،فمن املحال أن يفكر املرء بتغيري ذاته إال بهزة فكرية مزلزلة توقظه من سباته ،وتخرجه من غبطته الغافلة ،وتفصله
عن التيار السائد ،وهي حالة ال تحصل إال نادرًا ،أما عموم الناس
فيبقون مأسورين بما تربمجوا به يف طفولتهم ،فال يرون الحياة والدنيا إال من خالل هذا التربمُ ج التلقايئ.
أما التعليم الذي يضطرون لقضاء ربع قرن وهم يكابدونه
فيبقى محصورًا يف املجال املهني والعميل فقط ،وكما يقول الدكتور فاخر عاقل يف كتابه (سيكولوجية اإلدراك)« :إن
املعلومات املبدئية تكون إطارًا ومفتاحً ا للمعلومات التالية، ً مخالفة للمعلومات األوىل فإنها وإذا كانت املعلومات التالية ُتلوى لتناسب املعلومات املبدئية» .إن الناس يجهلون عن أنفسهم هذه الحقيقة األساسية ،مع أنها أهَ مُّ من ركام
الحقائق الجزئية التي تمتئل بها أذهانهم ويهتم بها التعليم.
إن هذه الحقيقة املحورية التي أكدها الدكتور فاخر عاقل
قد باتت من الحقائق التي يكررها العلماء والباحثون ،فهذا الطبيب املشهور العالم إدوارد دي بونو يقول بوضوح يف كتابه ُ املعلومة األوىل بتغيري حالة العقل (تعليم التفكري)« :تقوم
َ املعلومة الثانية ترتبط بها أو توافقها ،وبهذه بشكل يجعل
األصل في كل الثقافات أنها ترفض أي فكر طارئ وتقاوم بشكل تلقائي َّ مغاير ،حتى أوربا لم يؤثر فيها التنوير ويتحقق التغيير النسبي إال بعد حروب طويلة دامية
الطريقة يتم بناء األنماط» .وألن الدماغ البشري ال يملك آلية ُّ للتحقق فإنه يعتمد املعلومات األسبق كمعيار للحكم عىل املعلومات التالية مهما كانت األوىل خاطئة ،وألن مسائل
العلوم التي يتلقاها الدارسون يف التعليم ال تأيت وال يمكن أن تأيت إال متأخرة أي بعد أن تكون البنيات الذهنية والوجدانية قد َت َش َّك َل ْ ت يف مرحلة الطفولة املبكرة ،فإنه ال يكون لها أي تأثري
31
إيجابي يف تصحيح ما تربمجت به القابليات بشكل تلقايئ من دون أي تمحيص.
التعليم في المجتمعات المتخلفة إن التعليم يف املجتمعات املتخلفة يكرس التخلف ،ويعمق أسبابه ،ويزيك البيئة الحاضنة له .إن التعليم محكومٌ
باألوضاع القائمة؛ فإذا جاء ضمن ثقافة حرة ومنفتحة ونامية ،فإنه ي ُّ ُمد املجتمع بالطاقات اإلنتاجية واإلبداعية التي ٌ تمهيد لتقدم أعظم ،أما إذا جاء التعليم ضمن ثقافة مغلقة ومتخلفة تدفعه للمزيد من التقدم واالزدهار ،فكل تقدم هو
ومرعوبة من األفكار املغايرة ،فإنه يكرس االنغالق ،ويرسخ التخلف ،ويوصد العقول ،ويشحن العواطف بالرفض العنيد األعمى ملقومات التقدم الطارئة.
َّ نتوهم أن تعميم التعليم ،ونشر املدارس ،واإلكثار من الجامعات ،وإغداق اإلنفاق عليه ،وتوفري فرص التعليم إننا
للجميع يؤدي تلقائيًّا إىل تهيئة املجتمعات لتحقيق التقدم واالزدهار ،لكننا نغفل عن أن التعليم محكومٌ بالثقافة
السائدة ،وليس بالعلوم الطارئة ،ونتجاهل بأن املجتمعات محكومة بثقافاتها التلقائية املتوارثة ،وليست محكومة بطالءات مجلوبة من خارجها.
إن املجتمعات تتناسل ثقافيًّا بشكل تلقايئ ،وترفض ما يغاير تصوراتها وقيمها ومألوفاتها ،فاألطفال يتربمجون ً اتفاقا كاملاً مع الربمجة تلقائيًّا بالثقافة السائدة قبل أن يلتحقوا بالتعليم ،فتنغلق قابلياتهم عن قبول ما ال يتفق
التلقائية ،لذلك ينبغي أن يدرك رجال الرتبية والتعليم واملسؤولون عن التنمية هذه الحقيقة األساسية ،وأن يتفهموا
التغريات النوعية التي طرأت عىل الحضارة البشرية.
ملف العدد
انتكاسة التنوير والبنى االجتماعية والسياسية
32
عبدالباري طاهر كاتب يمني
ً دقيقا وعلميًّا لمعرفة داء انتكاسة التنوير في الوطن العربي ،فال لكي يكون التشخيص بد من قراءة عميقة ودقيقة لنشأة «الدولة ُ الق ْطرية» ،وللتدخالت االستعمارية في هذه ً خصوصا: المنطقة ،بما فيها اتفاقات سايكس بيكو ،واصطناع دول ُق ْطرية بحدود اصطناعية سوريا ولبنان والعراق ،ووعد بلفور 1917م ،ونكبة ،48وهزيمة .67 فشل التنوير ُيبحث عنه ،وعن جذوره في البنية االقتصادية واالجتماعية والثقافية والسياسية .شهد الوطن العربي التشظي منذ البدايات الباكرة لبناء الدولة ُ الق ْطرية ،وغياب أو تغييب الكيان الواحد ،أو وجود كيانات حضارية تتوافر لها شروط الديمومة والتطور.
العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
ولدت الدولة ُ الق ْطرية مصابة بوباء ما يسميه قسطنطني
والتكفري قائمني يف العديد من مناهج التدريس ووعظ املساجد
أو مركز ما قبل عصر الدولة ،وتحقق االستقالل للعديد من هذه
أدى تراجع املد التنويري بعد هزيمة 67إىل عودة هذه
زريق بـ «العجز العربي» .معظم األقطار العربية خرجت من دائرة
البلدان ،ولكنها جلها لم تفلت من إرث القبيلة والطائفة ،ولعب االستعمار دورًا يف الهيمنة عىل مصاير هذه البلدان وثرواتها ،وهو ما باعد بينها وبني االنفتاح عىل عصور التنوير وتياراته ،وحرمها
الحداثة والتجديد.
يرى املفكر العربي عيل أومليل يف كتابه «اإلصالحية العربية
والدولة الوطنية» أنه يف العصر الوسيط ،ثم يف مستهل العصور الحديثة ،التحقت ببالد اإلسالم هزيمتان
كبريتان أمام قوى أوربية ،انتهت باحتالل مناطق من العالم اإلسالمي :األوىل يف مواجهة الحروب الصليبية ،والثانية :أمام
القوى اإليبريية ،ويرى أنه لم يجد ردة فعل إصالحية ،وال وعيًا بالتأخر تجاه األجنبي الغالب ،وال تساؤلاً عما يكون وراء تغلبه.
يستشهد أومليل بكتاب «إحياء علوم
الدين» لإلمام الغزايل ،ويرى أنه محاولة إلصالح اإلسالم من داخله ،وأضيف ً أيضا كتابي اإلمامني :أحمد بن تيمية الحراين (ت
واإلعالم الرسمي.
اإلشكالية إىل بلدان مثل مصر ،وكانت قد بدأت التجاوز منذ محمد عيل باشا وكتاب (اإلبريز يف تلخيص باريز) ،وطرحت اإلشكالية
مجددًا يف تونس بعد بروز تيار النهضة اإلسالمي كامتداد لإلخوان املسلمني يف مصر مطلع الثمانينيات ،لكن تونس التي عرفت كتاب
(أقوم املسالك يف معرفة أحوال املمالك) لخري الدين التونيس أبي ً مختلفا ً نوعا ما؛ فخري النهضة منذ عام 1873م ،كان الوضع فيها
الدين التونيس كالحاكم املصري محمد عيل باشا ،والسلطان محمود ومدحت باشا يف
تركيا يجمعهم موقف موحد قوامه كقراءة خري الدين ورفاعة الطهطاوي يف مصر :أن املسلمني ضعفاء ،وأن الطريق إىل عودة
القوة إليهم إنما يكمن يف أخذهم بالتكنيك والعلم اللذين أعطيا الغرب قوته.
يتوافق هؤالء الزعماء واملفكرون ً أيضا
عىل أن األخذ بمعالم الحياة األوربية ال يتعارض مع دعائم الدين اإلسالمي ،وال
علي أومليل يبتعد باملسلمني من تعاليم دينهم .ساد
728هـ) «السياسة الشرعية يف إصالح الراعي والرعية» ،وتلميذه
موقفهم وقناعاتهم طابع التبسيط الذي أراد أن يسد الهوة بني
الشرعية»؛ فاإلسالم املكتفي بذاته -كما رآه الغزايل وابن تيمية
األساسية ،واالكتفاء بموقف تربيري دفاعي ،ولعل ذلك مصدر
ابن قيم الجوزية (ت 751هـ) «الطرق الحكمية يف السياسة وابن القيم -لم يعد قائمً ا بعد تدخل أوربا الحديثة منذ النصف الثاين للقرن الثامن عشر؛ فلم يعد مفكرو املسلمني يعربون
عن إسالم عليه أن يرتد إىل ذاته وحدها لكشف الخلل وطلب
اإلصالح ،إنما سيدخل اآلخر كبعد أسايس ،ولعل طرح سؤال التأخر الذي طرحه شكيب أرسالن ومفكرون عديدون يف مراحل
متأخرة يعرب عن هذا املنحى املغاير. دولة ملغومة بالعنف
الثقافتني :اإلسالمية واألوربية عن طريق القفز فوق املشكالت تأخر اإلصالحات ،أو باألحرى انتكاستها يف تونس واملغرب العربي لعدة عقود ،وهي ً أيضا سبب تراجع املشروطية يف تركيا، وانتكاستها يف إيران حتى اليوم. لاً يف كتابها (التنويري) تطرح دوريندا أوترام سؤا :ما التنوير؟ يع ِّرف ْ كانت التنوير بكونه« :عملية خالص اإلنسان من سذاجته
التي جلبها لنفسه ،وذلك عن طريق استخدامه للعقل دون أن يشوه التعصب تفكريه».
إىل جانب اجتهادات وأعمال زمرة من الكتاب اآلخرين مثل:
ولدت الدولة العربية ملغومة بالعنف ،ومسكونة بالقوة؛
فولتري ،ومونتسكيو ،وديدرو ،ودالني برت ،وروسو ،وليسنغ،
أو السيف أصدق أنباء من الكتب ،كقول أبي تمام ،أو كقول
التنوير بمحو األمية ،وشيوع املعرفة والتعلم ،وزيادة اإلنتاج
فالله يزع بالسلطان ما ال يزع بالقرآن ،كما قال عثمان بن عفان، املتنبي وهو شاعر (شغل الناس واألقالم والكتبا) :حتى رجعت وأقالمي قوائل يل :املجد للسيف ليس املجد للقلم.
تضيف أن عملية التنوير لم تكن مقصورة عىل أوربا ،وتحدد أسس
الزراعي ،والثورة الصناعية التي كان التنوير مدماكها األسايس، وتربط بني الدين والتنوير يف ثالث قضايا :حركات اإلصالح
يف عصر بناء الدولة ُ الق ْطرية بعد الحربني الكونيتني-1914 : 1918م ،و1945 -1937م ُطرح سؤال التأخر والتقدم ،طرحه
املقدمات الضرورية واألساسية لعصر األنوار يف أوربا وأمريكا،
اإلسالم املكتفي بذاته عند الغزايل وابن تيمية وابن القيم ،ظل
املايض ،فإن الوضع اليوم أن األمية حسب إحصاءات منظمات
النهضويون العرب ،وإن كان ال يعم املنطقة العربية كلها.
حاض ًرا يف العديد من بلدان الجزيرة والخليج ،وظلت البدعة
33
الديني ،والعالقة بني الدين والعقل ،والدين والتسامح .وإذا قرأنا
وعمدنا للمقاربة مع الحالة الراهنة عربيًّا ،أو حتى بدايات القرن
دولية تصل إىل ،%60بما فيها أقدم البلدان تحض ًرا :مصر .أما عن
ملف العدد
عالقة الدين بالعقل فقد افتعلت عداوات
فتضعضعت حصانة العقل والجسد ،وتراجع
العالمة املجتهد أحمد بن تيمية الذي ألف
واالستعمار غائبني عن هذا الصراع الذي
مقيتة بني الدين والعقل بما يزري بسلفية
التنوير .لم تكن الصهيونية العاملية وال إسرائيل
كتابًا سماه (درء تعارض العقل والنقل)؛
أسهمت فيه املنظومة العربية جلها ،وتنافست
فقد ساد يف العديد من البلدان العربية
يف نقش لوحته املفجعة .الخوف من اإلبداع،
معاداة بني العقل والدين ،لكأن الدين ضد
ورفض االجتهاد ،وتجريم التجديد والحداثة،
العقل بما يتصادم مع جوهر الدين ونصوص
وسد األبواب والنوافذ أمام التغيري السلمي
القرآن يف غري آية.
وغاب عن أمتنا العربية اإلصالح الديني والتسامح ً أيضا ،وسادت موجة من التكفري والتخوين عمت البالد والعباد ،وضحاياها
أعاقت ،بل أدت أنوار العصر يف الوطن فولتير
العربي ،وأشرعت النوافذ واألبواب لتسيد الجهل ،وتطاول ليل الفنت والحروب واملآيس؛
كرث يف غري منطقة؛ وكلها أسباب رئيسة النتكاسة التنوير الذي بدأ خجولاً متأولاً ومتواضعً ا ،وتعرض لهزات عنيفة وانتكاسات
املواهب وخمود التنوير ،ولعل أنموذج اليمن دال وفاجع.
باالجتهاد ،وللرأي العام بالحسبة.
تدعى «املطرفية» ،طرحت بعض اآلراء الكالمية حول حدوث العالم
متتالية؛ فالطهطاوي يتأول للديمقراطية بالشورى ،ولحرية الرأي
بنية اجتماعية هرمة
فمقاصل التجريم والتخوين والتكفري لها األثر املدمر يف قتل يف منتصف القرن الخامس شهد اليمن ظهور فرقة من الزيدية
وإثبات الصانع ،وأن الحوادث اليومية كالنباتات واملولدات واآلالم ونحوها ،حادثة من الطبائع الحاصلة يف األجسام ،ويذهبون إىل
والواقع أن املنطقة العربية كلها ظلت ترزح تحت حكم
عدم حصر اإلمامة يف البطنني (أبناء الحسن والحسني) ،كما أشار
تحول حقيقي يف البنية االجتماعية االقتصادية ،وال تغري أسايس
اليمن الفكري يف العصر العبايس) ،وتعرضت هذه الفرقة لإلبادة،
الغلبة والقوة ،محتفظة بالبنية االجتماعية الهرمة ،ولم يجر
34
والتحول الديمقراطي وحرية الرأي والتعبري
يف القيم والتقاليد املوروثة من عصور الجهل والظالم ،وجاءت
االنقالبات العسكرية لتحقيق إنجازات يف مجاالت معينة ،لكنها -وهذا هو األهم – اتسمت بطبيعة مزدوجة ،ووعي ملتبس،
قطعت الطريق عىل التطور السلمي الديمقراطي ،وغيبت
الحرية ،وريفت املدينة ،وهمشت املجتمع املدين ،وصادرت حرية الرأي والتعبري ،وحافظت عىل العصبيات القبلية ،والطائفية
والجهوية ،وغلبت اإلرادوية واالعتداد بالقوة حد العجز عن
حماية السيادة واالستقالل والرتاب الوطني.
أسهمت الخالفات الداحسية يف النظام العربي كله مشرقه
ومغربه ،ملكياته وجمهورياته ،يف تمزيق عرى األخوة العربية،
وأضعفت التضامن العربي ،بل امتدت الخالفات داخل كل قطر بني االتجاهات الفكرية والحزبية والسياسية؛ فتصدعت
الوحدة الوطنية ،وساد الوعي الزائف وعداوات الجاهلية األوىل؛
سادت موجة من التكفير والتخوين عمت البالد والعباد ،وضحاياها كثر في غير منطقة؛ وكلها أسباب رئيسة النتكاسة التنوير الذي بدأ خجوال متأوال ومتواضعا ،وتعرض لهزات عنيفة ً وانتكاسات متتالية
العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
العالمة الباحث أحمد محمد الشامي يف موسوعته الفكرية (تاريخ وأسدل الستار عىل الجريمة.
كتاب الدكتور عيل محمد زيد «تيارات معتزلة اليمن» أول
من علق الجرس وتتالت الردود .يف األعوام 1941 -1937م صدرت
يف املتوكلية اليمنية مجلة «الحكمة اليمانية» مثلت البداية الحقيقية للحداثة والتجديد والتنوير ،صدر منها 28عددًا .تبنت املجلة دعوات اإلصالح الديني ،والتحديث السيايس ،ونشر
الجديد :القصيدة الحديثة ،والقصة القصرية ،والنقد األدبي،
واملقالة السياسية .كان معظم محرريها من علماء الدين ،وشاع
عنهم «اختصار القرآن» ،وأعدم الكثريون منهم بعد فشل حركة
48الدستورية ،وكانت االنتكاسة الثانية للتنوير يف اليمن ،ولكن بحد السيف.
وأصدر مجموعة من األدباء يف املتوكلية اليمنية مجلة
«الربيد األدبي» ،وقد صدرت منها بضعة أعداد ثم توارت .ويف عدن صدرت مجلة (املستقبل) 1950- 1949م ،وكانت األكرث حداثة
وعصرية وتنوي ًرا ،اتهم سكرتريها املفكر العربي عبدالله عبدالرزاق باذيب بتهمة ازدراء األديان ،وحوكم عىل مقاله« :مسيح جديد يتكلم اإلنجليزية».
مقاصل التخوين والتجريم والتكفري ،ابتداء باإلمامة
واالستعمار الربيطاين واإلسالم السيايس واألنظمة الشمولية
والدكتاتورية يف الشمال والجنوب ،هي من توىل كرب إعاقة التنوير ووأده وتقتيل رواده.
و«ثنائية» المشرق التنوير ّ والمغرب في مشروع الجابري ناجية الوريمي باحثة تونسية
ّ العربي المعاصر مرك ًزا محور ًّيا ّ يؤكده تقاطعها مع سائر تحتل مسألة التنوير في الفكر ّ ً ً نمطا مرادفا للعقالنيّة ،التي اعتبرت شروط النهضة والتحديث .ومصطلح التنوير يكاد يكون ّ ّ ّ التعصب ،والظالميّة ،واإليمان الشد إلى الوراء؛ مثل التخلف وعوامل تفكيريًّا يضمن تجاوز االستداللي .غير أنّ الزاوية التي ُن ِظر منها إلى هذه المنطقي بقوى معرفيّة تلغي التفكير ّ ّ ّ ّ وبخاصة من مشروع فكريّ إلى آخر ،وذلك عربي إلى آخر، المسألة كانت تختلف من مفكر ّ ّ وفق المقاربات المنهجيّة و»األيديولوجيّة» المعتمدة .فقد انطلق عد ٌد من المفكرين من حقيقة القصور الذي يشهده «العقل العربي» أو «العقل اإلسالمي» ،وراحوا يبحثون في األسباب التاريخيّة واإلبستمولوجيّة التي جعلت هذا القصور مزم ًنا ،وتسبّبت في فشل النهضة العربيّة وفي تعمّ ق التبعيّة لآلخر .ومن اللاّ فت لالنتباه أن نجدهم م ّتفقين على العودة بجذور هذا ب مضت ،حقب النشأة والتطوّر والجمود التي شهدها العقل العربي اإلسالمي. القصور إلى حِ َق ٍ
35
ملف العدد
ويعدّ مشروع محمّ د عابد الجابري يف هذا الصدد من أبرز ً نسقا ذا الشمويل الذي ّاتخذ املشاريع الفكريّة نظ ًرا إىل طابعه ّ
بني ٍة واضحةِ املنطلقات والنتائج ،ونظ ًرا ً أيضا إىل قدرته عىل إثارة اإلشكاليّات املحرجة ،واستثارة القارئ عرب استدراجه
إىل املشاركة يف الفعل النقديّ الذي انبنى عليه .ومجادلة هذا املشروع من خالل نقاط عديدة منهجيّة ومعرفيّة ،ال
اآلخر داخل اإلطار الحضاريّ الواحد الذي يجمعهما .وهنا ّ ّ ٌ يقسم أنظمة يحقق التنوي َر يحق لنا أن نسأل :كيف مشروع ّ
العقل العربي وفق معايري قديمة أنتجتها ظروف سياسيّة ال عالقة لها بالفكر وباإلبستمولوجيا؟ وكيف يستقيم أن َ كامل العقالنيّة ،وننسب إىل األخرى كامل ننسب إىل جهةٍ ما
العربي» ،بل تمس قيمته يف نقد «العقل يمكن بأيّة حال أن ّ ّ
تاريخي واحد، اللاّ عقالنيّة ،رغم ما يجمع بينهما من سياق ّ واختيارات ثقافيّة واحدة؟
الجغرايف -الثقايف الذي بنى عليه الجابري مشروعه النقديّ
املنهج اإلبستمولوجي يف قراءة الخطاب: ّ لقد استفاد الجابري من الرصيد الهامّ الذي حققته
عىل العكس من ذلك تدعمه عن طريق التفكري معه وإثرائه باملساءلة والحوار .ويف هذا املقال سنكتفي بمجادلة املعيار
الذي أسند إليه دورًا ال يُستهان به يف تحديد عوامل التنوير
العربي وعراقيله. ّ ص ّرح الجابري يف أكرث من سياق بأنّ العقالنيّة مفتاح َ شرطي النهضة التنوير ،واعتربها -إىل جانب الديمقراطيّة-
العربيّة املنشودة .وراح يبحث يف مدى حضورها يف األنظمة
الفكريّة التي كوّنت -وال تزال -العقل العربي ،معتقدً ا أنّ ذلك
الفلسفة الغربيّة الحديثة –بحكم اهتماماته الفلسفيّة -يف
اإلسالمي ومنتجاته الفكريّة؛ العربي مستوى تحليل الفكر ّ ّ فقام بتطبيق املنهج اإلبستمولوجي يف قراءة الخطاب ،معتربًا ّأننا يف أشدّ الحاجة إىل عمل من هذا القبيل بهدف تبينّ األسس
ً وخصوصا العربي، املعرفيّة واملنطقيّة التي قام عليها الفكر ّ النجاح يف حسن استثمار الجوانب العقليّة املميّزة يف تراثنا
الحضور هو الذي يمكن أن يؤسّ س لعقالنيّة عربيّة منفتحة ّ ومتجذرة يف عىل مكتسبات الحضارة اإلنسانيّة من ناحية،
والداعمة ملسار حداثة عربيّة .وص ّرح بأنّ مشروعه «نقد العقل
سبيل إىل التجديد والتحديث إال من داخل الرتاث نفسه
العربي»( .تكوين العقل العربي: العربيّة التي أنتجت العقل ّ
تاريخ األمّ ة وهويّتها من ناحية ثانية؛ ّ ألنه –حسب رأيه« -ال
36
أنتجت فكرة املفاضلة بني املشرق واملغرب :أيّهما يتقدّ م عىل
ّ الخاصة وإمكانيّاته الذاتيّة» ،وذلك بتوظيف «وسائل وبوسائله
العربي» قائم عىل «تحليل األساس اإلبستمولوجي للثقافة
عصرنا املنهجيّة واملعرفيّة»( .بنية العقل العربي :املركز الثقايف
الثقايف العربي ،1991 ،ص .)33وذلك بهدف الكشف عن املركز ّ ً نوعيّة اآلليّات العقليّة التي ّ –انطالقا تمكن من اكتساب املعرفة
غري أنّ مشروع الجابريّ رغم قيمته يف فهم الثقافة العربيّة فهمً ا جديدً اّ ، جانب منه لنزعة أيديولوجيّة؛ ظل خاضعً ا يف ٍ
ّ وتوصل إىل بلورة ثالثة أنظمة هي: الفكريّ – .»Epistémè ّ وسنتوقف عندها بعض اليشء؛ البيان ،والربهان ،والعرفان.
العربي1991 ،م ،ص.)568
ففيه تداخلت املعايري اإلبستمولوجيّة العلميّة ،واملعايري ّ للمفكر .وك ّنا (الجغرا-ثقافيّة) يف عالقتها باالنتماء الجغرايف نعتقد أنّ هذه املعايري قد ّ ولت مع ما ولىّ عهده من مواقف تقليديّة ،حاربها الجابري نفسه دون هَ وادةّ .إنها املعايري التي
من مبادئ وقواعد محدّ دة -وهو ما يؤسّ س مفهوم «النظام
ألنّ دواعي تحديدها ومعايري توزيع الحقول املعرفيّة بينها هي
التي ستكشف عن معايري املفاضلة بني املشرق واملغرب ،التي كانت توجّ ه من الداخل كامل املشروع الفكريّ الذي أسّ سه الجابريّ .
أدرج الجابري ضمن نظام البيان نصوص العلوم عربيّة
املنشأ؛ وهي :الفقه ،والكالم ،والنحو ،والبالغة( .تكوين
بأن ّ صرح الجابري في أكثر من سياق ّ العقالنية مفتاح التنوير ،واعتبرها -إلى ّ
شرطي النهضة الديمقراطية- جانب َ ّ يحقق العربية المنشودة ،لكن كيف ّ ّ
العقل العربي133 -96 ،؛ بنية العقل العربي.)248 -13 ، ّ وتتمثل خصائص هذا النظام يف أنّ «عمليّة التفكري محكومة البياين فاعليّة ذهنيّة ال تستطيع وال دومً ا بأصل؛ أي أنّ العقل ّ ً تقبل ممارسة أيّ نشاط إال انطالقا من أصل معطى ّ [نص ،أي الكتاب والس ّنة] أو مستفاد مـن أصل معـطى [ما ثبت باإلجماع
يقسم أنظمة العقل مشروع التنوير ٌ َ ّ
والقياس]»( .بنية العقل العربي.)113 ،
سياسية ال عالقة لها بالفكر ظروف ّ
ّ النص أو استثماره؛ لذلك هو محدود الفعالية وال دور صحّ ة ّ ّ له إال يف حسن االتباع .والخطابات املمثلة لهذا النظام ال تخرج
العربي وفق معايير قديمة أنتجتها وباإلبستمولوجيا؟
العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
إذن ليس للعقل من دور يف هذا النظام إال االستدالل عىل
عمّ ا أنتجه أعالم من املشرق ،هم سيبويه والشافعي والقاسم
الرسيّ ّ والجاحظ وابن األنباري والسريايف وأبو الحسن األشعريّ وابن ج ّن ّي والتوحيدي والقايض عبدالجبّار ،وأبو الحسني البصريّ والسكايك ،والقائمة طويلة .ال يكشف تتبّعها عن أسماء مغربيّة إال نادرًا .وكان حكم الجابري عىل هؤالء ّأنهم
جانبوا العقالنيّة؛ ّ ألنهم خضعوا لسلطة مرجعيّة ال تعدو أن
األعرابي» يف شبه الجزيرة( .بنية العقل العربي، تكون «عالم ّ
.)248 ّ النظام الثاين هو العرفان :ويتمثل يف أنّ الحصول عىل
العربي بحقولها املعرفيّة وأعالمها «املشارقة» ،يُصاب القارئ
بخيبة أمل يف هذا العقل العربي الذي عمل وفق أنظمة تصادر
املعريف .لكن فجأة ينبعث العقل أو هي تحدّ من فاعليته وإبداعه ّ ٌ املغربي؛ فخارج أمل فريدٌ من نوعه ،مصدره املغرب والفكر ّ
النظم الثالثة املذكورة ،ويف سياق ّ تفككها ،يقدّ م الجابري فك ًرا مغربيًّا -أندلسيًّا تجاوز مآزقها اإلبستمولوجيّة وأسّ س عقلاً
ّ ً ويتمثل هذا العقل يف منطق خالصا» -حسب عبارته. «برهانيًّا
عقيل ِص ْرف .كان هذا مع ابن حزم وابن باجة وابن رشد استدالل ّ
بالحس ،بل بالكشف؛ وهو ما املعرفة «ال يكون بالعقل وال ّ
ّ بخاصة .هؤالء عنده هم «أعالم والشاطبي ،ومع ابن خلدون
العليا»( .تكوين العقل العربي .)374 ،فالعرفان إلغاءٌ للعقل. وتمثل هذا النظام ّ ّ كل التيّارات (بنية العقل العربي.)379 ،
حسب قوله( .بنية العقل العربي .)541 ،فابن رشد ّ يمثل قمّ ة
يُلقى يف القلب إلقاءً عندما يرتفع الحجاب بينه وبني الحقيقة
العرفانيّة ،الصوفيّة منها والشيعيّة ،بروافدها األجنبيّة ً موقفا الشرقيّة .وكان الجابري صريحً ا يف اإلعالن عن وقوفه
نقديًّا من «العرفان» ،من منطلق تحليله العقالين املست ِند كما قال -إىل «اإليمان بقدرة العقل عىل تفسري ّكل الظواهر تفسريًا يعطيها معنى معقولاً » ،ومن منطلق إيمانه «بقدرة
التجديد يف الثقافة العربيّة اإلسالميّة يف املغرب واألندلس»، برز الواحد منهم «كمَ عْ َلمة من معالم لحظة النقد التجاوزي»، ما وصل إليه العقل العربي يف ميدان الفلسفة ،وابن خلدون ّ والسيايس يف الثقافة التاريخي واالجتماعي يمثل أوج الفكر ّ ّ العربيّة اإلسالميّة ،والشاطبي ّ يمثل قمّ ة ما وصل إليه العقل
العربي يف ميدان األصول»( .بنية العقل العربي .)538 ،وهؤالء جميعً ا «يقعون عىل مستوى واحد من النضج العقالين ،وعىل
العقل عىل تفسري ما يسمّ يه العرفانيّون :الكشف»( .بنية العقل العربي .)375 -374 ،ويؤ ّكد أنّ الكشف العرفاين هو
العربي .)538 ،ومن هنا يهيِّئ الجابري الفك َر املغربي لتمثيل
وأنّ أعالمه ال يتجاوزون حدود املشرق ،من قبيل إخوان الصفا
العربي. التواصل يف مجال التنوير ّ
وعاش يف املشرق) ،والطويس وغريهم .وعندما ذكر ضمن هذا الشيعي القايض النعمان ،ع ّرفه بفرتة النظام َع َلمً ا مغربيًّا هو ّ
عىل مدى استيعابنا للمكتسبات العلميّة واملنهجيّة املعاصرة
«أدىن درجات الفعالية العقليّة»( .بنية العقل العربي،)378 ،
والكليني والقشريي والهجويري وابن عربي( ،نشأ يف األندلس
انتمائه إىل املشرق مع املع ّز لدين الله الفاطمي مؤسّ س القاهرة. (بنية العقل العربي)321 ،؛ ح ّتى يحافظ عىل الصورة الناصعة لعقالنيّة مغربيّة كما سرنى. ّ النظام الثالث هو الربهان :يع ّرفه الجابري بأنه «يتأسّ س ّ الخاصة التي هي العقل وما يضعه من أصول ،وليس بوسائله
له سلطات مرجعيّة خارجة عنه»( .بنية العقل العربي،)416 ، ّ وبأنه يقوم عىل «منطلقات منهجيّة وتصوّريّة مستمدّ ة من
درجة واحدة يف مجال التجديد واإلبداع العقليّني»( .بنية العقل
الحلقة العقليّة األوىل التي يمكن أن نربط معها اليوم أواصر كان هذا صريحً ا يف قوله« :ما ننشده اليوم من تحديث ّ يتوقف ليس فقط للعقل العربي وتجديد للفكر اإلسالمي مكتسبات القرن العشرين وما قبله وما بعده -بل ًأيضا ولربّما ّ يتوقف عىل مدى قدرتنا عىل بالدرجة األوىل استعادة نقد ّي ِة ابن حزم ،وعقالن ّي ِة ابن
رشد ،وأصول ّي ِة الشاطبي ،وتاريخ ّي ِة
ابن خلدون ،هذه النزوعات العقليّة التي ال بدّ منها إذا أردنا
أن نعيد ترتيب عالقتنا برتاثنا بصورة ّ تمكننا من االنتظام فيه انتظامً ا يفتح مجالاً لإلبداع،
العلمي لذلك العصر (أي العصر القديم)؛ بل املعريف الحقل ّ ّ ّ لكل عصر ...مثل االستنتاج واالستقراء والسببيّة»( .بنية العقل العربي .)552 ،لكنّ العقل يف نظام الربهان املشرقي ّ ظل مُ ف َر ًغا
إبداع العقل العربي داخل
حسب استثمار الفالسفة املشارقة له ،مثل الكندي والفارابي
« ا لشر و ط
اإلبداعي؛ ألنّ العقل فيه ال يعدو أن يكون العقيل من محتواه ّ ّ
شكليًّا ،ولم يبتعد كثريًا عن وظيفة خدمة البيان والعرفان، وابن سينا وغريهم.
37
الثقافة التي يتكوّن فيها» .هذا ما بدا للجابري كفيلاً بتوفري
العقل العربي وخيبة األمل
إىل هذا الحدّ من تحديد أنظمة العقل
محمد الجابري
ملف العدد
الضروريّة لتدشني عصر تدوين جديد يف هذه الثقافة» ،وذلك عن طريق «استعادة العقالنيّة النقديّة التي ّ دشنت خطابًا جديدً ا يف األندلس واملغرب»( .بنية العقل العربي .)552 ،وال
يخفي يف هذا املستوى مفاضلته الصريحة بني هذه «املكتسبات» العقالنيّة املغربيّة وما اعتربه «تداخلاً تلفيقيًّا مكرّسً ا للتقليد يف
عالم البيان ،وللظالميّة يف عالم العرفان ،وللشكليّة يف عالم املشرقي مسؤولي َّة األزمة التلفيقي الربهان» .وحمّ ل هذا التداخل ّ ّ التي تردَّى فيها الفكر العربي ولم يخرج منها إىل اليوم( .بنية
العقل العربي.)559 -558 ،
هو ذا مشروع الجابري وفق توزيع (جغرايف -ثقايف):
ودول خارجيّة أو شيعيّة يف شمال إفريقيا .ومفاده أنّ الشرق
أفضل من الغرب «الخارج عن الشرعيّة» .ور ّد املغاربة الفعل فقلبوا املفاضلة .إذن هو موقف مرتبط بالسياسة ومقتضياتها
الظرفيّة ،وال عالقة له باملعرفة وآليّات إنتاجها؛ فالبيان
والعرفان موجودان يف املشرق مثلما هما موجودان يف املغرب. وألنّ السياق ال يسمح بالتوسّ ع نكتفي باإلشارة إىل أنّ البيان يف الثقايف يف املغرب ،وقاد صيغته املالكيّة كان مسيط ًرا عىل اإلنتاج ّ اإلمام سحنون حملته ضدّ املعتزلة بنفس الطريقة التي قاد بها
الشيعي ابن حنبل وأضرابه هذه الحملة يف املشرق ،والعرفان ّ يف املغرب ُع ِرف مع الفاطميّني قبل انتقالهم إىل املشرق (مصر). والربهان موجود يف املغرب مثلما هو موجود يف املشرق ،بل ّ لعله
ُّ حظ املشرق فيه :نظامان غاب فيهما العقل أو كان حضوره ً عقالين النزعة ضعيفا ،وهما :البيان ،والعرفان .ونظام فيهما ّ
هناك أوضح حضورًا يف مرحلة التأسيس ،مع القدريّة أ ّولاً ،ثمّ
املغرب من العقالنيّة النقديّة املبدعة فهو وافر ،كما رأينا.
إلشكاليّة املفاضلة رمت بظاللها عىل املعايري اإلبستمولوجيّة
لكن غلبت عليه الشكليّة وغاب اإلبداع وهو الربهان .أمّ ا ّ حظ غريب هذا التوزيع الخاضع لفكرة قديمة مدارها املفاضلة بني ٌ تاريخي واحد .إنهّ جه َت ْي حضارة واحدة وثقافة واحدة وسياق ّ
سيايس افتتحه العبّاسيّون عندما خرجت إعادة إنتاج ملوقف ّ من نفوذهم مناطق الغرب اإلسالمي :األمويّون يف األندلس،
مع املعتزلة ،ومع قسم من الفالسفة .ونعتقد أنّ إثارة الجابري التي اعتمدها يف توزيع العلوم والحقول املعرفيّة داخل األنظمة الثالثة .فعند التدقيق يف النماذج التي اعتمدها يف االستدالل عىل مادّة ّ كل نظام نتبينّ تعمّ ده السكوت عن النماذج التي
املتعسف لبعض منها؛ تخالف منطق توزيعه ،أو تعمّ ده التأويل ّ ً لحملها عىل دعم مشروعه املحمول مسبقا عىل مناصرة املغرب.
ولنقدّ م األمثلة التالية ألنّ السياق ال يسمح بالتوسّ ع كثريًا:
38
علم الكالم االعتزايل يف بداياته -أي مع عمرو بن عبيد ومع واصل بن عطاء وال َّن َّظام والعالّف والجاحظ -ال يمكن أن يُدرج
يف النظام البياين؛ ألنّ آليّات التفكري املعتمدة فيه ومنطق ترتيب
مصادر املعرفة مباينة ملا هو موجود يف النظام البياين :ففي ّ محكمني الوقت الذي يضع فيه علماء الكالم العقل يف الصدارة
ّ ّ النص عقيل ،يضع الفقهاء النص وتأويله وفق منطق إيّاه يف فهم ّ َ ّ مؤخرين العقل إىل املرتبة الرابعة باعتباره خادمً ا يف الصدارة،
ّ مشرقي. «النص» ليس أكرث .وعلم الكالم يف بداياته لحقائق ّ الجابري يقع يف الخلط
ما أوقع الجابري يف هذا الخلط بينه وبني الفقه أو أصول
الفقه يف آليّات إنتاج املعرفة ،هو عدم انتباهه إىل خصوصيّات
الكالمي يف مرحلته األوىل -أي قبل الحدث «األشعريّ »- الخطاب ّ
البياين ،جنبًا إىل وهذا ما جعله يقحم علم الكالم ضمن النظام ّ
كان حرص الجابري المسبق والواضح
جنب مع علم الفقه وأصوله .لقد اقتصر الجابري عىل املفهوم ّ املتأخر لعلم الكالم الذي أحدثه األشعريّ ،عندما خرج عىل
العقالنية الالزمة اليوم لفعل عنوان ّ َ ّ مؤشرات التحديث ،وراء سكوته عن
خادمً ا لحقائق الشريعة مدافعً ا عنها ضدّ «أصحاب البدع». َ وصلنا من نصوص ّ تمثل هذا الخطاب ونتبينّ من خالل ما
على جعل ثقافة الغرب اإلسالمي
العقالنية في المشرق ّ العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
ّ «نصيّة» لهذا العلم بأن جعله املعتزلة وأوجد صيغة س ّنيّة
أنّ مفهوم العقل عند املعتزلة األوائل يخضع لنفس اآلليّات ّ مفكري الغرب الفكريّة التي حدّ دها الجابري لدى بعض
39
اإلسالمي مثل ابن باجة وابن رشد. ّ يف املقابل ،ال يمكن التسليم بأنّ ّ كل األعالم املغاربة الذين
لذلك كان حرص الجابري املسبق والواضح عىل جعل
ابن حزم وابن خلدون؛ فمفهوم العقل عند ابن حزم هو ّ النص ،وال يمكنه ح ّتى القيام بعمليّة القياس .وهو ما خدم
الحدايث املسقط عىل نصوص مغربيّة مثل نصوص ابن تأويله ّ
الربهاين «الخالص» وضعهم يف خانة العقل ،أو يف النظام ّ -كما قال -هم كذلك .ويكفي أن نقف بعض اليشء عند
يرى أنّ الواقع –واقع املسلمني -عليه أال يتغيرّ ح ّتى يبقى وفيًّا ً والنهايئ الذي أنزله الله .وما دور ومتطابقا مع التشريع املكتمل ّ
ّ «النص». العقل إال الوقوف عىل األحكام املوجودة بالضرورة يف ويؤ ّكد ابن حزم يف مسألة املرجعيّة التي يجب أن توجّ ه فعل اإلنسان ،أن ال «حُ سنَ » وال ُ «قبحَ » إال ما ّ ً مخالفا علمنا الله، بذلك املعتزلة يف مفهومهم للحسن والقبح العقليّني؛ لذلك
فإنّ مكان ابن حزم هو «البيان» وليس «الربهان الخالص» وفق توزيع الجابري .أمّ ا ابن خلدون فإنّ ّ كل ما ذكره الجابري يف
شأن عقالنيّته هو من باب اإلسقاط والتوظيف األيديولوجي
الصريح؛ فهو خطاب ال يتجاوز –من حيث نوعيّة دالالته ومن َ البياين؛ بل ّإنه الخطاب ثوابت النظام حيث آليّاته الفكريّة- ّ ّ «النصيّة» التي يك ّرسها نظام الوحيد الذي نجح يف رفع الثوابت والتاريخي .وقد درسنا االجتماعي البيان ،إىل درجة القانون ّ ّ الخلدوين :األصول هذا الجانب يف كتابنا «حفريّات يف الخطاب ّ
السلفيّة ووهم الحداثة العربيّة» (سوريا ،دار برتا2008 ،م) ،وال
يمكن التوسّ ع فيه أكرث لضيق املقام.
ثقافة الغرب اإلسالمي عنوانَ العقالنيّة الالزمة اليوم لفعل ّ مؤشرات العقالنيّة يف املشرق، التحديث ،وراء سكوته عن ّ الفلسفي؛ ووراء االعتزايل املبكر ،أو داخل الفكر الس ّن ّي ،أو ّ ّ حزم والشاطبي وابن خلدون .لقد قام يف هذه املسألة بالذات بعمليّة تطويع للمادّة املعرفيّة ح ّتى تستقيم مع موقف أيديولوجي مسبق. ّ
إنّ مجادلة الجابري يف قراءته لنصوص الثقافة العربيّة،
دليل عىل قدرة هذه القراءة عىل االستحواذ عىل القارئ، لكن بطريقة ال تسلبه حريّة التفكري؛ فهي مبنيّة أساسً ا عىل
«العقالنيّة النقديّة» وعىل فعل اإلبداع ،وبقدر ما تنقد تقبل ّ توصل صاحبها من ورائها إىل التنبيه إىل الشروط النقد .لقد
اإلبستمولوجيّة الالزمة لفعل التنوير العربي ،وهي الشروط ّ لعل التي ال تزال يف حاجة إىل الكثري من املراجعات النقديّة، يف صدارتها مراجعة الثنائيّة البالية مشرق -مغرب .ثمّ أَ َلمْ يقل ابن خلدون يف هذه الثنائيّة« :ليس بني قطر املشرق واملغرب
ٌ تفاوت بهذا املقدار الذي هو تفاوت يف الحقيقة الواحدة»؟ ألم
يكن أوىل بالجابري -وهو الذي يعيل عقالنيّة ابن خلدون -أن ي ّتبعه يف هذا املوقف؟!
ملف العدد
التنوير يعني تحقيق الرقي لواقعنا العربي يعد التنوير األوربي من وجهة نظر تاريخية ،وريث الحركة ّ سخرت جهودها للتوفيق بين الفلسفة اليونانية اإلنسية التي وآدابها ،وبين التراث المسيحي في الدين من جهة أخرى .كما يعد ر ّدة فعل على الظالمية األصولية التي كانت تهيمن على البشر في أوربا .والتنوير بالمعنى الحرفي هو ّ ضد الظالم ،ولكنه بالمعنى المجازي االستنارة العقلية المضادة للفهم المغلق للدين.
40
العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
موريس أبوناضر كاتب وأكاديمي لبناني
بدأ إشعاع هذه الحركة مع مارتن لوثر يف أملانيا الذي حاول
زعزعة اليقينيات القديمة يف منظومة الخطاب الديني ،وأكمل انتشاره مع ديكارت الذي تم ّرد عىل فلسفة القرون الوسطى
القائمة عىل تراث الفكر األرسطي ،ورأى أن املناهج السابقة يف
الفلسفة مليئة بالعيوب ،وبعيدة من مواكبة العلم الجديد يف أوربا الذي ساد األوساط الثقافية مع نيوتن وغاليليو .أما كانط فقد أوضح مفهوم التنوير بقوله« :التنوير يعني خروج اإلنسان
من قصوره العقيل .وحالة القصور العقيل تعني عجز املرء عن استخدام عقله ،إذا لم يكن موجّ هًا من شخص آخر ،والخطأ
يقع علينا إذا كان هذا العجز ناتجً ا ال عن نقص يف العقل ،بل
عن نقص يف التصميم والشجاعة عىل استخدام العقل ،بدون أن نكون موجّ هني من شخص آخر .لتكن تلك الشجاعة والجرأة عىل استخدام عقلك أيها اإلنسان» .ويف مكان آخر من نصه
الشهري حول التنوير ،نلحظ أن كانط يقدّ م لنا بعض العالمات عىل هذه العقبات التي تضغط عىل اإلنسان ،وترعبه فال يعود ّ املعطل .يقول كانط يف هذا السياق: يجرؤ عىل استخدام عقله
«ليس هناك إال طريقة وحيدة لنشر األنوار هي الحرية ،ولكن
ما أن ألفظ هذه الكلمة ،حتى أسمعهم يصرخون من كل
حذار من التفكري ،الضابط يقول: حدب وصوب :ال تفكروا ِ ال تفكروا تم ّرنوا ،وجابي الضرائب يقول :ال تفكروا ادفعوا،
والكاهن يقول :ال تفكروا آمنوا». محاربة الوحش الضاري
رفع فولتري كبري التنويريني طيلة حياته شعار محاربة
الوحش الضاري ،أي التعصب واإلكراه يف الدين الذي يمارسه
رجال الكنيسة ،ونشط يف محاربة االستبداد السيايس املرتبط بكل ذلك ،من دون أن يعني هذا أن فولتري كان ضد النظام
املليك ،أو ضد اإليمان املطلق .فعىل عكس ما يروّج لم يكن فولتري ملحدً ا ماديًّا عىل طريقة فالسفة التنوير اآلخرين ،إنما كان مؤم ًنا إيمان الفالسفة ال إيمان الكهنة ورجال الدين، وكان كما نقول اليوم داعية إىل تنوير العامة حتى تخرج
من ظلمات الجهل ،والتعصب الديني ،وتدخل يف مرحلة ّ التحضر والتقدّ م .وقد فعل فولتري كل يشء ليك ينتزع السلطة ّ يخفف من هيمنتها عىل السياسية من براثن الكنيسة ،وليك
ّ يخص العقول ،وقد صدّ ق املستقبل توجّ هه األسايس فيما ً مشروعا كبريًا، هذه النقطة؛ ذلك أن القرن التاسع عشر أنجز
عندما فصل الدولة عن الكنيسة ،وح ّرر السياسة من هيمنة املطارنة والكرادلة وبقية األصوليني ،وكان ذلك أحد األسباب
األساسية لتقدّ م أوربا ،وتحوّلها إىل منارة حضارية .يف كتابه
41
املدعو بالقاموس الفلسفي يقول فولتري :إنه يهدف إىل إحداث ثورة يف العقول ،تكون مرتكزة عىل ممارسة العقل والروح
النقدية ،وتتيح لنا التح ّرر من األفكار املتعصبة التي نرثها عن أهلنا ،وهي كارهة لآلخر بشكل سابق؛ ألنه يختلف ع ّنا دي ًنا أو مذهبًا ،أو أصلاً اجتماعيًّا ،كما أنها تتيح لنا أن ّ نفكر بشكل ح ّر. ومعلوم أن فرنسا يف عصر فولتري كانت محكومة باالستبداد
السيايس املليك املتحالف مع األصولية املسيحية ،وكان املجتمع خاضعً ا للتصورات الطائفية التي تحاول الحركات اإلسالمية
املتطرفة اليوم فرضها يف بعض املجتمعات العربية واإلسالمية. ّ التعصب الديني كرهً ا شديدً ا ومن املعروف أن فولتري كان يكره
ويراه عدوّه األوّل ،وقد ك ّرس كل حياته ملحاربته ،ولذلك أصبح اسمه رم ًزا ملناهضة املتشددين املتزمتني يف أي مكان ّ وخلد اسمه يف التاريخ كمناضل شديد كانوا وألي دين انتموا، املراس من أجل حرية الفكر ،وكان يقول جملته الشهرية التي ذهبت مثلاً ،وأسست العقلية الديمقراطية يف الغرب يقول:
«قد أختلف معك يف الرأي ،ولكني مستعدّ أن أدفع حيايت ثم ًنا من أجل أن تقول رأيك» .باختصار كانت مضامني التنوير ّ تتحقق يف انحسار نفوذ الكنيسة ،وهيمنتها بالنسبة لفولتري صالون مدام جيوفرين
عىل الدولة والعقول يف آن واحد ،وتفكيك األفكار الطائفية
واملذهبية ،والخرافات الدينية ،وانبثاق إيمان جديد مضاد
ملف العدد
لإليمان القديم ،قائم عىل فكرة التسامح وحرية االعتقاد، وتوسيع دائرة الجمهور ّ املثقف ،وأخريًا نشر الفكر العقالين.
الديمقراطية الليربالية وحقوق اإلنسان».
جاء كوندروسيه بعد فولتري؛ ليك يرسّ خ املواقع نفسها،
بدأ خطاب التنوير يف العالم العربي مع بزوغ فجر النهضة
عىل يديه إىل أفضل وجه .ولكن ما هذا التنوير بالنسبة إىل
وقد سعى رجاله التنويريون؛ أمثال رفاعة الطهطاوي،
ويعمّ ق االتجاه ذاته ،ومعلوم أن برنامج التنوير وصل كوندروسيه ،وكيف يمكن أن نصل إليه؟ يذهب هذا األخري إىل
ّ التوصل إليه إال عن طريق عقلية التفحص القول بأنه ال يمكن
يف القرن التاسع عشر بمرجعيات فكرية وأيديولوجية مختلفة،
وبطرس البستاين ،مع اإلصالحيني اإلسالميني كمحمد عبده،
والشك بكل ما ورثناه عن القديم ،وال يمكن التوصل إىل ذلك
ورشيد رضا ،والليرباليني العلمانيني كفرح أنطون ،وشبيل الشميل ،وطه حسني ،وسالمة موىس ،سعى هؤالء إىل ّ بث
ّ التوصل إىل الحقيقة .والتنوير الوحيدة التي نمتلكها من أجل
وغربلة الرتاث ،ونقد الفقه القديم ،وإعادة طرح املسألة
إال عن طريق الثقة بالعقل ،ملاذا؟ ألن العقل هو الوسيلة يعني الحقيقة ،يعني نور الحقيقة الذي يبدّ د ظلمات الجهل
ّ والتعصب واألحكام السابقة .ولكن كيف يمكن لنا التأثري يف
عقول البشر وإخراجهم من ظلمات الجهل .عن هذا السؤال يجيب املفكر الفرنيس بأن هناك ثالث طرائق :إما الكتب ،وإما
التشريع ،وإما الرتبية.
مضامني التنوير الجديدة ،وأهدافه الكربى يف السمو بالعقل، الدينية بشكل نقدي ،والعمل عىل تحقيق العدالة االجتماعية
واملساواة ،وتكريس قيم الحرية والديمقراطية ،وحقوق ّ التعلم للتمكن من املعارف والعلوم اإلنسان ،والدعوة إىل ً أشواطا جبارة يف الرقي والتقدّ م. أسوة بالغرب الذي قطع
تمحورت املضامني الجديدة التي جلبها املتنورون العرب
لم يكن فالسفة التنوير الذين ذكرناهم يف تيارهم العريض
ّ وبثوها يف بالدهم ،ودعوا إىل اعتمادها ،يف عدة مسائل :أولها «التمدّ ن» الذي ّ تمثل يف إنجازات حققتها أوربا ،وجعلتها يف
سيطرة رجال الدين عىل الحكم ،والخلط بني السياسة
ّ ويخص جميع البشر .وقد آمن التنويريون بأن التمدّ ن إنساين،
يستهدفون الدين بحدّ ذاته ،وال حتى فكرة التعايل الرباين ،وال
العقيدة األخالقية لهذا الدين أو ذاك ،إنما كانوا يستهدفون
42
زائد انتصار دولة القانون واملؤسسات الحديثة ،زائد انتصار
والدين ،وترسيخ نظام طائفي ،أو مذهبي ،أو نشر أفكار
ّ التعصب األعمى والدفاع عنها .بمعنى آخر ،فالسفة التنوير لم يكن هدفهم رفض الدين ،أو حرمان الناس من أديانهم ،إنما
جعلهم أكرث تسامحً ا يف فهم هذه األديان وممارستها ،كما كان هدفهم األسايس تدشني مبدأ حرية الوعي والضمري ،ألوّل مرة
يف تاريخ الفكر البشري ،فأنت حسب هؤالء ح ّر يف أن تؤمن
أو ال تؤمن ،وكل إيمان قائم عىل القسر واإلكراه ال معنى له. تحرير فعل املعرفة
بكالم آخر ،ح ّرر فالسفة التنوير فعل املعرفة بحدّ ذاته،
ففي الوقت الذي كان يكفي أن تقول :إن املسيح قال ،أو قال القديسون ،أو قال آباء الكنيسة ليك يصدّ قك الناس ،أي
أن فعل املعرفة يعتمد عىل هيبة األقدمني ،ورجال الدين، أما يف عصر التنوير فإن مرجعية املعرفة لم تعد كذلك، إنما أصبحت العقل واملعرفةّ . يلخص املفكر البلغاري األصل
الفرنيس الجنسية تودوروف يف كتابه األخري «روح التنوير» ّ يلخص التنوير بقوله« :انتصار العقالنية العلمية يف املجتمع،
الحر إن معاداة العقل ،والبطش بالفكر ّ يؤخران الشعوب العربية في مسيرتها لتحقيق قيم التنوير
العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
أوّل األمم املتقدّ مة ،وهذا عائد إىل العمل والفكر الذي هو يرجع إىل فضائل ال بدّ من اكتسابها كالعلم والحرية والعمران
والوطنية .وثانيها مسألة الرتبية التي ال تعني اكتساب العلوم فحسب ،بل اكتساب الفضائل ً أيضا ،فالرتبية تعني تعويض ّ التأخر بالعلم والعمل ،والعلم ال يكسب اإلنسان املعارف
طه حسين
سالمة موسى
ّ يهذب طباعه ويشحذ هممه لخدمة الوطن. فقط ،ولكنه وثالثها مسألة الوطن ،فالرتبية الوطنية حسب البستاين والطهطاوي تؤسّ س للرابطة املعنوية بني أبناء الوطن .وفكرة
الوطن حسب رواد التنوير ترتبط بالفضائل ،أكرث مما ترتبط بالسياسة ومفهوم الدولة ،إال أنها نتجت عن وعي بعمق التاريخ الذي يجمع أبناء الوطن ،مهما اختلفت ديانتهم.
ورابعها مسألة الحرية التي تحدّث عنها التنويريون ودعوا ّ يتعلق بحرية التعبري والعمل. إليها ،كانت مفهومً ا واسعً ا يقول الطهطاوي يف هذا السياق :إن التمدن منوط بحرية انتشار املعارف ،أما خري الدين التونيس فيع ّرف الحرية بأنها
وراء التمدن يف البالد األوربية .وخامسها مسألة الدستور التي
تعني إقامة نظام سيايس يحدّ من السلطة املطلقة ،وإقامة هيئات منتخبة تمارس الرقابة واملحاسبة. مقاومة حقبة االنحطاط
خيرالدين التونسي
تودوروف
لكن هذه املقاومة ما لبثت أن منيت بهزيمة تاريخية أمام قوة
إسرائيل عام 1967م ،وكان أثر هذه الهزيمة كبريًا يف الشعوب العربية التي اكتشفت ّ تخلفها عىل جميع األصعدة ،وأدركت أن مشروع التنوير الذي راهنت عليه ،قد أجهض بمكوّناته
القائمة عىل الحرية والعدالة والعقالنية .لقد فشل مشروع النهضة العربية الذي ساهم التنويريون يف بنائه؛ ألنه أخفق يف بناء خطاب عقالين ،وانكفأ عىل الذات املاضوية مرة ،وارتمى
يف أحضان الغرب مرة ثانية .لذلك بقيت اليقينيات املطلقة يف
الدين واالجتماع سائدة ،وبقيت حالة االستبداد مهيمنة يف الدين والسياسة ً أيضا. يعد بعض املفكرين أن مشروع التنوير العربي ال يزال يعاين
االنسداد التاريخي ،وتقف يف وجه تحقيقه عدة معوقات ،منها
أن سياسة التحديث التي اتبعت منذ أيام محمد عيل قبل مئتي سنة ،ر ّكزت عىل نقل العلوم ال الفلسفة العميقة التي تقف
خلف العلوم ،وثانيها الخوف من الفكر الراديكايل ،أي الجذري
كما تكوّن مفهوم األنوار يف أوربا تعبريًا عن وظيفة
العميق الذي يدعو إىل القطيعة مع املايض ،واالنفصال عن
التفكري ،والحقائق العلمية ،كذلك تكوّن مفهوم التنوير يف
الحركات اإلسالمية املتطرفة اليوم لتقدّ م صورة عن اإلسالم
فكرية ،هي مقارعة الكنيسة وفكرها الظالمي املعادي لحرية العالم العربي ،تعبريًا عن وظيفة مقاومة حقبة االنحطاط.
43
الرتاث ،ومنها أطروحات اإلخوان املسلمني التي استفادت منها ّ التعصب الديني واملذهبي. الدموي ،والنابذ لآلخر ،والداعي إىل
استغالل فشل األيديولوجيات ّ استغلت الحركات اإلسالمية املتطرفة فشل األيديولوجيات القومية واملاركسية والليربالية التي تسعى لبناء دولة
الحق والقانون ،وراحت ّ تقدم خطابًا للجماهري يعد بالخالص من الحاكم وظلمه وطغيانه ،كما يعد بتحقيق قيم الدين يف حالتها الصافية والنقية ،األمر الذي أ ّدى إىل ّ توقف الحوار بني العقل والدين ،وإىل إشهار سيف العداء ضد قيم الحداثة والتنوير ،وبذلك انتقل الفكر من القرن الحادي والعشرين إىل القرون الوسطى ،وعصور االنحطاط الفكري التي
تميّزت بالتعصب والتزمت ،وبذلك كانت نتائج هذا التوجه كارثية ومأساوية عىل اإلنسان يف العالم العربي.
إن معاداة العقل ،والبطش بالفكر الح ّر يؤخران الشعوب العربية يف مسريتها لتحقيق قيم التنوير ،ويضعها يف
موقع النابذ ألفكار اآلخرين واحرتامهم ،لكن األمل ما زال معقو ًدا عىل صياغة رؤية مستقبلية تدفع بمشروع التنوير
نحو أهدافه املأمولة ،رؤية تؤكد عىل التنمية الشاملة يف مجال العلوم واملعارف ،وتكريس اإلبداع يف فضاء من الحرية، والرتكيز عىل مسالة املثاقفة مع الغرب بغض النظر عن االختالف الحاصل بني حضارتني متباينتني ثقافيًّا.
ملف العدد
دعوات التنوير بين السطوع والخفوت رشيد الخ ُّيون باحث عراقي دكتوراه في الفلسفة اإلسالمية
44
العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
جاء النور مقابل الظالم ،حتى إن هناك مَ ن ناقش المقابلة بينهما ،على الحقيقة ال المجاز، محسوسا فماذا يكون َّ الظالم ،هل هو جسم مِن األجسام السؤال :إذا كان ال ُّنور جسمً ا ً وكان ُّ أم هو مجرد انقطاع ال ُّنور؟ كان ذلك في عام (1911م) على صفحات مجلة «العلم» ،التي أنشأها الدين َّ الدين هبة ِّ (1910م) رجل ِّ الشهرستاني (ت 1967م) ،وأحد المحاورين في تلك القضية كان َّ الشاعر والمهتم بالفلسفة جميل صدقي الزهاوي (ت 1936م)(.)1 لن ندخل في تفاصيل المناظرة ،لكنني أجد في هذه المناظرة ،قبل أكثر مِن مئة عام، رمزية للحركة ال َّتنويرية ،التي أخذت ُّ تدب آنذاك ،وكان رمزاها داخل العراق :الشهرستاني، والزهاوي ،مع اختالفهما في األسلوب ،عرفهما الباحث االجتماعي علي الوردي (ت 1995م) الدين ،بينما سلك َّ بالرائدين الفكريين()2؛ سلك َّ الشهرستاني لتحقيق «ال َّتنوير» طريق ِّ الثاني العلم حتى افتتن بنظرية داروين ،وهو القائل« :المذهب القوي في رأيي هو مذهب داروين طريق ِ في ال ّنشوء واالرتقاء ،وقد تبعته ،ولم يتبعه غيري قبلي ،وقد شاع بسببي في العراق»(.)3 عندما ننظر يف النتيجة التي أسفر عنها الوضع السيايس
بالعراق ،ال نجد نجاحً ا قاطعً ا لواحد منهما ،مع واالجتماعي ِ العراقي منذ أن ال َّتقدم املدين والحضاري قد ساد يف املجتمع ِ
بداية الثالثينيات حتى نهاية الثمانينيات من القرن املايض، لكن ذهب كل ذلك أدراج ال ِّرياح ،وكأنْ لم تتحقق نهضة، سوى ما كانت عىل طريقة الشهرستاين أو ال َّزهاوي ،ومع مَ ن أيد كلاًّ منهما ،ولو عاش الوردي إىل يومنا هذا لراجع ما
شواهد املتقدمني
إين ألجد يف العبارة التي قالها الخليفة األموي األول ّ بغض النظر عن مناسبتها معاوية بن أبي سفيان (ت 60هـ)، أو غرضها ،إال أنها تبدو عميقة الداللة واملعنى يف التمييز
بني األزمنة ،وهذا ال يتحقق إال بالدعوة إىل التحديث؛ قال َ زمان قد مىض ،ومنك ُر معروف زما ِننا هذا منك ُر معاوية« :إن ٍ ُ معروف زما ِننا ري مِ ن الفتق»(.)6 يأت ،ولو أىت فال َّرتق خ ٌ زمان لم ِ ٍ
كتبه يف شأن ال َّرجلني« :نجحت دعوة ال َّزهاوي أخريًا ،بينما أخفقت دعوة الشهرستاين؛ ذلك ألن ال َّتيار الحضاري جبار
أال يمكن اعتبار نزوع األمري األموي خالد بن يزيد (ت 85هـ) ً حركة تنويرية؟ وكان «أول مَ ن ترجم العلم والرتجمة إىل ِ
السادس عشر الغربية يف ترسيخ التنوير ،بداية مِ ن القرن َّ
وركن من أركان ال َّتنوير ،كذلك حركة الرتجمة يف العصر
ساحق ،ال يقبل بأنصاف الحلول»(.)4 ألن العربة َّ بالثبات ال التذبذب ،وهذا ما يميز ال َّتجربة
امليالدي ،وكم ضحايا سقطوا بني قطع الرأس يف املقصلة والحرق يف املحارق التي ُعدت ملن اتهموا ب ــ«الهرطقة»( ،)5بينما
كتب النجوم والطب والكيمياء»( .)7ومعلوم أن الرتجمة تعني ُ التالقح يف األفكار ،وأحد أسس التقدم الثقايف والعلمي، العبايس ،وظهور فرقة املعتزلة (يف القرن الثاين الهجري)، ورسائل إخوان َّ الصفا (يف القرن الرابع الهجري) ،وحركة
تجربة التنوير بمنطقتنا اعتمدت عىل التقليد وليس األصالة
الفلسفة اإلسالمية ،وكتب األدب التي أبرز مثال لها ما صنفه
والعقيدة ،وبهذا ظهر االنشغال عن تحقيق الهدف بالنزاع
(ت 449هـ) .وتكفي نظرة عىل حضارة بغداد العباسية لنفهم
آنذاك ،وبني تيارين متفقني عىل الهدف مختلفني يف األسلوب
أبو حيان التوحيدي (ت 414هـ) ،ثم ظاهرة أبي العالء املعري
كم كان التنوير حاض ًرا يف االقتصاد واالجتماع والثقافة .
العراق سطع بني التنويريني أنفسهم؛ ففي حالة نموذج ِ التنوير ،وخفت كأن لم يكن شي ًئا ،وبقية بلدان املنطقة ً أيضا ،ونموذج الربيع العربي أظهر هشاشة حركة التنوير
–كما أسلفنا -يف االستمرار والثبات ،فكل ما تقدم ضاع وسط
لكن ليس هذا الواقع كله ،بل هناك عودة لتلك العودة،
نحن نعود إىل تلك النتف؛ ألصالتها ،والضحايا الذين سقطوا
التي لم تتوقف يف يوم مِ ن األيام ،وهي بني نجاح وفشل، وبوسائل وآليات أخرى تقوم عىل أساس فشل تيار اإلسالم
السيايس بفروعه كافة.
45
()8
كل ما تقدم يمثل حركة تنويرية يف املجتمع ،لكن العربة
الصراعات السياسية حتى حصل سقوط بغداد (656هـ) ،وها
دونها .وملحمد مهدي الجواهري (ت 1997م) ما يُعرب به: ُحد ُثنا /بأنَّ َ ألف مسيح َ ٌ تأريخ ي ِّ دونها ُ «لثورة الفكر صلِبا»(.)9 ٍ
ملف العدد
تطلعات املتأخرين
ٌ حركات تنويرية بالدعوة إىل بدأت يف العهود الالحقة
العلم والتقدم من دون النزوع عن الدين ،ولم يُسجل أحد أنه ً عائقا ،لكنَّ الخوف من ضياع أو تقهقر السائد من الفكر كان
واألعراف جعل املعارضني للتنوير يُشهرون الدين سالحً ا مِن دون نفي تطرف بعض أصحاب دعوات التنوير أنفسهم ،ومحاوالت
استنساخ التجربة الغربية بحذافريها؛ فبعد إصالحات محمد عيل باشا (ت 1848م) وإرسال البعثات الطالبية إىل أوربا ،اشتدَّت
الدعوات يف أقطار الدولة العثمانية لتحقيق التحديث ،التي برزت بدعوة للتقدم االقتصادي واستخدام اآلالت؛ ففي عام 1869م كتب إبراهيم صبغة الله الحيدري (ت 1882م) لـ«حث العامة عىل
تعليم الصنائع واملعارف ،بحيث ال يحتاجون إىل صنائع الدول
األجنبية وبناء املدارس واملكاتب»(.)10
َ الحركة ال َّتنويرية دعاهم إىل هذا غري أن الذين تصدروا
التصدر انبهارهم بالغرب ،ويأيت يف املقدمة الشيخ ِرفاعة رافع َّ الطهطاوي (ت 1873م) ،فأخذ يُصنف ويرتجم عن الفرنسية، ّ ويبث وعيًا يف طبقات املجتمع املصري ،لكنه كاملنقطع عن
الواقع ،مع أن الواقع كان خاليًا من بذرة نهضة. كان َّ الطهطاوي منبه ًرا وذائبًا يف الحضارة الغربية ،وألنه
46
منبهر بها حاول تأكيد اإليمان ِّ الديني لفالسفتها قياسً ا عىل
فالسفة اليونان القدماء ،وعىل ما يبدو للرتغيب بهم .قال:
«بالد اإلنجليز والفرنسيس والنمسا ،فإن حكماءها فاقوا الحكماء املتقدمني ،كأرسطو وأفالطون وأبقراط وأمثالهم،
وأتقنوا الرياضيات والطبيعيات واإللهيات وما وراء الطبيعة، أشدَّ اإلتقان ،وفلسفتهم أخلص مِ ن فلسفة املتقدمني؛ لمِ ا
أنهم يقيمون األدلة عىل وجود الله تعاىل ،وبقاء األرواح، ّ ِّ والثواب الدين والعقاب»( .)11بعده طلب السيد جمال ِ
األفغاين (ت 1898م) التجديد عرب الوحدة اإلسالمية ،مع
ما آلت إليه المنطقة أمسى ال ُيطاق،
ديني مِ ن تصاعد الغلو والتَّطرف ال ِّ
والمذهبي ،وكل هذه المفردات توضع في خانة َّ الظالم ،وببلدان كانت واحات َّ والشام، لذلك التَّنوير ،كالعراق ومصر وبلدان المغرب العربي كتونس مثال ،بما يمكن تحميل األنظمة االستبدادية ،التي حمكت هذه البلدان ،الحصة الكبرى مِ ن تقهقر مشاريع التَّنوير ،وقد استعيض عنها باأليديولوجيات والقهر الحزبي العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
الحذر من الغربيني ،ومِ ن استبداد فرد بأمة ،ودعا إىل إنشاء
حزب وطني للمسلمني ،وعول عىل السلطان عبدالحميد (ت 1918م) يف جمع كلمة املسلمني ،محببًا بأمجاد املايض البعيد، العراقي القديم( ،)12داعيًا إىل الخروج مِ ن املصري القديم أو ِ
الجهل بالتعليم لألوالد والبنات عىل ٍّ حد سواء .قال« :إنْ كان
العلم فيكم مقصورًا عىل الرجال ،بل أعيذكم من أن تجهلوا أنه ال يمكن لنا الخروج من خطة الجهل ،ومِ ن محبس
الذل والفاقة ،ومِ ن ورطة الضعف والخمول ،ما دامت
النساء محرومات من الحقوق ،وغري عاملات بالواجبات»(.)13 إال أن حلم األفغاين َّ تبخر بوفاته ،ومِ ن بعد بانهيار الدولة
العثمانية ،واستحالة تحقيق التنوير عربها ،فلم تكن تملك الدوافع واملستلزمات.
ثم ذاب بعده حلم تلميذه الشيخ محمد عبده (ت 1905م)،
الذي حصر نهضة الشرق يف املستبدّ العادل ،إال أنه حمل ()14
رجال الدين فشل التجديد الديني ،وتقهقر الشرق ،بأبيات
ُ «ولست أبايل أن يُقال :محمدٌ / شعرية قالها يف أواخر حياته: َّ أبل أو اكتظت عليه املآتم/ولكنه دينٌ أردت صالحه/أحاذ ُر أن
47
ٌ آمال يرجّ ون نيلها/إذا ّ مت ماتت تقيض عليه العمائمُ /وللناس
األسباب األخالقية وأبرزها :االستغراق يف الجهل ،واستيالء
فــي تلـك اآلونــة ت ـص ــدَّ ر ال ـشـيـ ــخ عـب ــدال ــرح ـم ـ ــن ال ـكـ ــواك ـب ـ ــي
وفقد القوة املالية االشرتاكية بالتهاون يف الزكاة ،ومعاداة العلوم
واشرتك فيها علماء مسلمون من األقطار كافة -الدعوة إىل ً قياسا بما خفوتا، التنوير ،وذلك بالبحث عن أسباب ما سموه ً
لم تحن الفرصة لوضع العالج لهذه األسباب؛ فالكواكبي تويف بعد أربع سنوات ،وتش َّتت شمل الجمعية ،ولم يظهر
واضمحلت عزائم»(.)15
(ت 1902م) ،وأع ـض ــاء «أم ال ـق ــرى» -الجـم ـع ـي ــة ال ـت ــي ي ـتـ ــرأس ـه ــا
تقدمت به أوربا .كانت حوارات الجمعية تعقد بمكة ،حدد
األعضاء أسباب الخفوت العام لدى املسلمني ،يف اجتماعات
الجمعية (1897م) ،ولخصها الكواكبي -وكان يُشار إليه بالفرايت ،وكذلك األعضاء أشري إليهم باأللقاب:-
أسباب سياسية وأبرزها :تف ُّرق األمة إىل عصبيات وأحزاب
اليأس واإلخالد إىل الخمول ،وانحالل الرابطة الدينية االحتسابية،
العالية ،والتباعد عن املكاشفات واملفاوضات يف الشؤون العامة . ()16
من ينوب عنه ،لكننا نجد كتاب الكواكبي «طبائع االستبداد ومصارع االستعباد»
()17
(1902م) ال يزال مؤث ًرا مستم ًّرا ،بل يف
اآلونة األخرية بعد ظهور فرص لإلسالم السيايس يف الحكم
والجماعات املتطرفة والتدين بال وعي ديني سليم؛ بدا االهتمام يزيد بالكتاب ،حتى ُطبع عدة طبعات ،بالسوية مع كتاب
سياسية ،والحكم املطلق ،والحرمان من الحرية ،وفقدان العدل واملساواة ،ووجود علماء ِّ مدلسني وجهلة صوفيني.
الشيخ عيل عبدالرازق (ت 1967م) «اإلسالم وأصول الحكم» (1926م) ،الذي وضع حدًّ ا فاصلاً بني الدين والسياسة .ويأيت
وتأثري فنت الجدل يف العقائد الدينية ،والتشدد يف الدين،
األمة وتنزيه امللة» (1909م) ،القائل بحكم الدُّ ستور ،عىل اعتبار أن االستبداد الديني ،وكما وضح الكواكبي ً متآخ أيضا، ٍ مع االستبداد السيايس ،بل األول أخطر درجة.
أسباب دينية وأبرزها :تأثري عقيدة الجرب يف أفكار األمة،
وإيهام الدَّ جالني بأمور سرية يف الدين ،والتعصب للمذاهب
واآلراء وهجر النصوص ،والعناد عىل نبذ الحرية الدينية.
()18
ثالثهما كتاب الشيخ محمد حسني النائيني (ت 1936م) «تنبيه ()19
ملف العدد
ال يخفى ،مِن غري هؤالء املتقدمني ،هناك دعاة للتنوير،
من خارج املجال الديني ،ومن املثقفني املسلمني مثل قاسم أمني (ت 1908م) يف دعوته لتحرير املرأة( ،)20وجميل صدقي الزهاوي (ت 1936م) يف شعره ونرثه( ،)21وما واجهه من َع َنت املجتمع (1910م)،
ودعواته يف مجلس املبعوثان العثماين (1914م) التخاذ السبل الحديثة والعلمية يف االقتصاد والتعليم ،وكان يقول ذلك يف
جلسات املجلس ،حتى كاد يفتك به رجال الدين بعد أن نعتوه بالزنديق وامللحد( ،)22وطه حسني (ت 1973م)َّ ، والضجة التي قامت
ضده (1926م)( ،)23ومَعْ روف ال ُّرصايف (ت 1945م) يف شعره ونرثه(،)24
وإسماعيل مظهر( )25يف ترجمته ألصل األنواع ،وصالح الجعفري (ت 1979م) يف قصائده ضد ال َّتزمُّت( ،)26وعبدالله القصيمي (ت 1996م) ،وله يف هذا الغرض أكرث من كتاب( ،)27وغري هؤالء الكثري.
الربيع العربي أظهر هشاشة نموذج َّ حركة التنوير ،التي لم تتوقف في يوم من األيام ،وهي بين نجاح وفشل، لكن ليس هذا الواقع كله ،بل هناك
48
عودة لتلك العودة ،بوسائل وآليات ُأخرى ،تقوم على أساس فشل التيار اإلسالمي السياسي ،بفروعه كافة
من يتحمل الفشل؟ نأت إال عىل جوانب منها لضيق املجال ،قد انتهت مآالتها من دون ال نستطيع القول :إن كل تلك الجهود ،ولم ِ
رجعة ،لكن يمكن القول ،وهذا ما حصل بالفعل :إنها تعرضت النتكاسات عىل يد األجيال التي تلتها .ومن قراءة للوضع الحايل فإن الدعوة إىل التنوير والتجديد ستعود من جديد ،بطرائق وأساليب مختلفة ،فما آلت إليه املنطقة أمىس ال
يُطاق؛ من تصاعد الغلو والتطرف الديني واملذهبي ،وكل هذه املفردات توضع يف خانة الظالم ،وببلدان كانت واحات لذلك التنوير ،كالعراق ومصر والشام ،وبلدان املغرب العربي كتونس مثلاً ،بما يمكن تحميل األنظمة االستبدادية التي
َ الحصة الكربى من تقهقر مشاريع التنوير ،وقد استعيض عنها باأليديولوجيات والقهر الحزبي. حكمت هذه البلدان، َّ كذلك لم يُكتب النجاح للحركات أو الشخصيات الدينية ،التي تدعو إىل التنوير بطريقتها؛ ألنها «ركزت عىل اإلصالح
الديني ،ثم تطورت إىل حركات سياسية تحررية ،حققت قدرًا من االستقاللية؛ فإنها -أي هذه الحركات -لم تستطع،
ألسباب أيديولوجية وسياسية ،أن تؤسس نظامً ا اجتماعيًّا واقتصاديًّا يؤهلها لبناء نهضة عصرية؛ ألن أصحاب هذه
الحركات أو قادتها ،كانت توجهاتهم منصبَّة بالدرجة األوىل عىل اإلصالح الديني ،أو مقاومة املستعمر» (.)28
ما يُساعد عىل قوة عودة الدعوة إىل التنوير باملنطقة :وجود وسائل التواصل املتقدمة ،وإباحتها للناس كافة ،وما
يُرافق ذلك من تأثري إيجابي عىل طرائق التفكري ،صحيح أنها سيف ذو حدين ،لكن الحاجة إىل التنوير قد تجاوزت
اإلخفاء ،ومثلما حدث انتصار التنوير بأوربا بفعل املثقف وامللك( ،)29سيكون بمنطقتنا ،إن استقرت سياسيًّا ،هذا يكتب تختف ويكشف ويحرض ،وذا يصدر القوانني؛ فحكاية «خروج طائر الفينيق من الرَّماد» ليست ُخرافة يف رمزيتها .لم ِ
الحاجة وال الدعوة للتنوير؛ إنما ظلت تتأرجح بني سطوع وخفوت ،والظرف الحايل سيدفع باتجاه السطوع من جديد.
العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
هوامش: العلم (1912-1910م) ،السنة األولى ،العدد الثاني عشر ،صفر1329 :هـ/آذار (مارس) 1911م ،العراق -ال َّنجف، ( )1الظلمة حقيقة وجودية أم عدمية ،مجلة ِ المجلد الثاني :ص 530وما بعدها. العراق الحديث ،بغداد :الطبعة الثانية1972 ،م ،الجزء الثاني ،ص .9 ( )2الوردي ،لمحات اجتماعية من تاريخ ِ 3الرشودي ،عبدالحميد (ت 2015م) ،ال ّزهاوي دراسات ونصوص ،بيروت :دار مكتبة الحياة1988 ،م ،ص .115 ( )4الوردي ،مصدر سابق ،ص .11 ( )5راجع :التجربة الغربية َّ الثرية في تحقيق التنوير ومرادفه التسامح الديني :لوكلير ،جوزيف (ت 1988م) ،تاريخ التسامح في عصر اإلصالح ،ترجمة: بدعم من مؤسسة محمد ابن راشد آل مكتوم ،بيروت :المنظمة العربية للترجمة ،الطبعة األولى2009 ،م. جورد سُ ليمان ،نشر ٍ ( )6أحمد بن يحيى بن جابر البالذري (ت 279هـ) ،أنساب األشراف ،تحقيق :سهيل زكار ،ورياض زركلي ،مج( ،5 :بيروت :دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع ،ط1996 ،1م) .37 :أحمد بن محمد بن عبد ربه األندلسي (ت 328هـ) ،العقد الفريد ،تحقيق :عبدالمجيد الترحيني ،مج ( ،4بيروت :دار الكتب العلمية ،ط1983 ،1م) .172-171 :هناك َمن نسب هذه الكلمة لعلي بن أبي طالب (اغتيل 40هـ) ،مثلما جاء في خطبة ألنطوان الجميّل (ت 1948م) باإلسكندرية في جمعية االتحاد اللبناني ،ثم شاع عنه (الجميّل ،التسامح ،مجلة الهالل 1 ،نوفمبر1918 :م) ،وبعد البحث في “نهج البالغة” ،الذي قيل علي بن أبي طالب ،لم نجدها ،وها هي منسوبة إلى معاوية في مصدرين معتبرين في البحث. إنه تضمن كل ما قاله ُّ ( )7الجاحظ ،عمرو بن بحر (ت 255هـ) ،البيان والتبيين ،تحقيق :عبدالسالم محمد هارون ،القاهرة :مكتبة الخانجي ،الطبعة السابعة ،الجزء األول، ص .328 ( )8عواد ،ميخائيل (ت 1995م) ،حضارة بغداد في العصر العباسي ،بيروت :دار اليقظة 1981م ،نشر المؤلف تلك الفصول في مجلة النفط 1954م. ( )9ديوان الجواهري ،دمشق :بيسان للنشر والتوزيع واإلعالم2000 ،م ،الجزء الثالث ،قصيدة أبي العالء المعري( :قف بالمعرة) ،ص. 10 ( )10الحيدري ،عنوان المجد في بيان أحوال بغداد والبصرة ونجد ،لندن :دار الحكمة ،الطبعة األولى1998 ،م( ،منسوخة من طبعة قديمة) ،ص .25 ( )11الطهطاوي ،تخليص األبريز في تلخيص باريز ،دمشق :دار المدى للثقافة والنشر2002 ،م ،ص .30 ( )12انظر :األفغاني ،سلسلة األعمال المجهولة ،تحقيق :علي شلش ،لندن :رياض الريس للكتب والنشر ،بال تاريخ نشر ،ص .78 ( )13المصدر نفسه ،ص .82-81 ( )14اإلمام محمد عبده ،ديوان النهضة ،اختيار النصوص :أدونيس ،وخالدة سعيد ،بيروت :دار العلم للماليين ،الطبعة األولى1983 ،م ،ص .163 ( )15المصدر نفسه ،ص .243 ( )16الكواكبي ،ديوان النهضة ،بيروت :دار العلم للماليين ،الطبعة األولى1982 ،م ،ص .209-205 ( )17الكواكبي ،طبائع االستبداد ومصارع االستعباد ،تحقيق :محمد عمارة ،القاهرة :دار الشروق2007 ،م. ( )18عبدالرازق ،اإلسالم وأصول الحكم ،تونس :دار الجنوب للنشر1996 ،م. ( )19النائيني ،تنبيه األمة وتنزيه الملة ،تعريب :عبدالحسن آل نجف ،قم :مؤسسة أحسن الحديث1419 ،هـ.
49
( )20كاتب وباحث مصري كردي األصل ،اشتهر بمناصرته للمرأة ودفاعه عن حريتها ،أكمل دراسة الحقوق بفرنسا ،وعاد لمصر (1885م) ،وعين في المحاكم وكيلاً للنائب العمومي ثم مستشارًا في محكمة التمييز ،له كتاب“ :تحرير المرأة” ،و”المرأة الجديدة”( .الزركلي ،األعالم ،مصدر سابق، ج ،6ص .)19 ( )21كان نائبًا في مجلس المبعوثان بإستانبول عن العراق ،وفي جلساته (1914م) أعلن عن آرائه في التطور ،وقبلها نشر مقالاً في الحجاب وتحرير المرأة، وامتدح في شعره نظرية التطور ،على الرغم من أن والده وأخاه كانا مفت َييْن في بغداد( .راجع :نبيل عبدالحميد عبد الجبار ،النزعة العلمية في الفكر العربي الحديث ،عمان :دار دجلة ،ط2007 ،1م ،ص 333وما بعدها). ( )22انظر :فيضي ،سليمان (ت 1951م) ،مذكرات سليمان فيضي من رواد النهضة العربية في العراق ،تحقيق :باسل سليمان فيضي ،لندن -بيروت :دار الساقي ،ص .189-188 ( )23كتابه :في الشعر الجاهلي ،القاهرة :مطبعة الكتب المصرية ،ط1926 ،1م. ( )24ديوانه :ديوان ال ُّرصافي ،القاهرة :المطبعة التجارية الكبرى بطلب من محمود حمي صاحب المكتبة العصرية ببغداد ،ط1959 ،6م .وكتابه الشخصية المحمدية أو حل اللغز المقدس ،كولونيا :منشورات الجمل2002 ،م ،وسلسلة األعمال المجهولة ،جمع :نجدة فتحي صفوة ،لندن :رياض الريس للكتب والنشر ،ويوسف ع ّز الدين ،الرصافي يروي سيرة حياته ،دمشق :دار المدى2004 ،م. ( )25نبيل عبدالحميد عبدالجبار ،ال ّنزعة العلمية في الفكر العربي الحديث (مصدر سابق) ،ص 399وما بعدها. ( )26راجع :علي الخاقاني (ت 1979م) ،شعراء الغري (ال َّنجفيات) ،قمّ :مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي1408 ،هـ ،ج ،4ص 299وما بعدها .ومما قاله في نبذ التزمت (1926م)َ : ً ُ «وقيْدٍ طالما ُق ِّيد ُ حنانا يا أماثلنا نبذت به ورائي ال أبالي /وإن غضب الكرام األقربونا/ ْت فيه /وأَهْ ِونْ بالرجال مقيدينا/ ُ ً ً حنانا أيها المتزمتونا /تبعناكم على خطأٍ سنينا /فأسفرت الحقيقة فاتبعونا»( .محمد جواد الغبان ،المعارك األدبية حول تحرير المرأة في الشعر حنانا/
العراقي المعاصر ،بغداد :وزارة الثقافة العراقية -دائرة العالقات الثقافية2006 ،م ،ص .)53 ( )27عبدالله بن علي القصيمي :مولود بقرية قريبة من بريدة من بلدات القصيم ،هاجر إلى عدة بلدان ،ودرس بالعراق وأقام بلبنان ومصر ،يمكن التفريق بين مؤلفاته في الثالثينيات ،التي كانت في وقت سَ َل ِفيّته ،ومنها “البروق ال َّنجدية في اكتساح ُّ الظلمات الدجوية» (1931م) ،بعدها كتب “هذي هي َّ األغالل” (1946م) ،و”عاشق لعار التاريخ”“ ،لئال يعود هارون ال َّرشيد”( .عن نبذة التعريف به ،في كتابه :الثورة الوهابية ،كولونيا -بغداد :منشورات الجمل2006 ،م). ( )28كافود ،محمد عبدال َّرحيم ،إشكالية َّ الثقافة العربية بين األصالة والمعاصرة ،ال َّدوحة :دار قطري بن فجاءة1966 ،م ،ص .14 ( )29هذا ما يخرج به من نتيجة قارئ كتاب لوكلير ،تاريخ التسامح في عصر اإلصالح ،مصدر سابق.
ملف العدد
أسئلة النهضة والتغيير محمد عبدالوهاب الشيباني كاتب يمني
50
إعادة قراءة تراث التنويريين اليمنيين المبكر ،والتعريف به وبأصحابه ،في هذه اللحظة المفصلية من تاريخ اليمن ،يعد إسهامً ا حيويًّا في التقليل من تأثيرات الردة السياسية، والنكوص الوطني اآلخذين في التغلغل في الوعي الجمعي ،بفعل أدوات الحرب، ومشروعاتها التفتيتية التي تحاول قوى االستبداد والتخلف (التاريخي) إعادة إنتاجها في الواقع .وإن بدلت وقتها وأدواتها وخطابها ،تظل هي نفسها قوى االستبداد التي عرّى زيفها وتخلفها أولئك التنويريون ،قبل أكثر من ثمانين عامً ا ،حين وضعوا أول حروف أسئلة النهضة والثورة في سفر التنوير المبجل. ليس ر ًّدا العتبار منجزهم الذي تعرض للنكران واإلهمال واإللغاء ،إنما ً أيضا استلهامً ا لفكرة التمرد الخالق الملهم لطريق الحرية والمواطنة ،الذي بشر به هذا التراث ،في بلد يستحق أن يحيا أبناؤه بكرامة.
العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
ظن النخبويون اليمنيون ،مطلع عشرينيات القرن املايض ،أن
كون شخصيته الثقافية الرائدة «فحفظ الحديث والتفاسري ،ودرس
العاملية األوىل (1918م) ،وفرضت سيطرتها عىل اليمنني (األعىل
ولولعه بالبحث واالستطالع درس العهدين القديم والجديد
باستطاعة الدولة التي استقلت عن الحكم العثماين غداة الحرب
واألسفل) ،الذهاب بعي ًدا نحو بناء دولة وطنية قوية وعصرية. لكن بعد عقد ونصف من قيام (اململكة املتوكلية) ،سيصحو
اليمنيون من وهمهم الكبري؛ فاإلمام يحيى أحال مشروع الدولة إىل إقطاعية خاصة به وبأبنائه .وبسبب عقليته التقليدية املحافظة، وتشدده الديني ،وشحه الشديد ،دمر كل يشء له عالقة ببناء
دولة مواطنة وخدمات.
القليلون من مثقفي عاصمة الحكم ،وبعض املدن اليمنية
األخرى ،الذين كانوا يقرؤون حالة النكوص هذه ،عملوا كل ما يستطيعون ،ليصل صوتهم الضعيف إىل املجتمع املغلق .ويف سبيل ذلك قدموا التضحيات الكبرية ،التي لم تقف عند حدود
التسفيه واملطاردة ،أو تصل لالعتقال ،بل امتدت لتنتهي يف حاالت كثرية إىل حبال املشانق .غري أن فعلاً مقاو ًما مثل هذا ،كان يفتح
أهم نافذة لدخول النور القليل لفعل التغيري.
العام الكارثة وصوت (اإلنتلجنسيا) الناهض
التاريخ والرياضيات والطب وأحوال البالد الشرقية والغربية،
عند حاخام صنعاء الكبري يحيى األبيض» ،كما قال العزي صالح
السنيدار يف «الطريق إىل الحرية».
وإىل جوار االثنني كان أحمد املطاع ،الضابط املثقف ،وثاين
رئيس تحرير ملجلة الحكمة بعد قتل رئيسها أحمد عبدالوهاب الوريث ،وفيها استكمل ما ابتدأه الوريث من نشر موضوعات
عن اإلصالح (الديني والسيايس) يف حلقات متتابعة تحت ً متخذا من موضوع اللغة محورًا عنوان «يف سبيل اإلصالح»،
للمساءلة عن أسباب وعوامل انحطاط وسقوط الفكر .محاكيًا وهو يف الطرف القيص واملغلق ذات األسئلة التي أنتجتها املراكز
الثقافية العربية آنذاك.
قبيل هذه الحقبة بقليل ،كان املحامي محمد عيل لقمان
يف مدينة عدن يقارب سؤال النهضة والتنوير ،بإصداره كتاب
«بماذا تقدم الغرب؟» يف عام 1933م ،والكتاب يف توجهه العام خاض يف السؤال املركزي ،الذي ظل يشغل الحيز األكرب من تفكري النهضويني العرب ،وعد هذا الكتاب تمثيلاً واضحً ا للتوجهات
مع عام 1934م بدأ صوت جريء يعرب عن رفضه لطريقة إدارة
التنويرية التي استوعبتها مدينة عدن ،التي شهدت يف عام 1925م والدة أول نا ٍد أدبي (رَأَسَ ُه لقمان نفسه) ،وصولاً إىل تشكيل
وأدار معاركه (الفكرية) باألدوات نفسها التي امتلكت ،يف الوقت
أحد املؤثرين الحيويني فيها ،بخوض صحيفته «فتاة الجزيرة» هذا
اإلمام للبالد ،بعقلية املالك املتزمت واملتعصب واملنغلق .هذا الصوت،
خرج من البنية الثقافية املحافظة نفسها ،التي كرسها نظام الحكم، عينه ،أسلوبها البسيط ،يف النفاذ إىل عقول كثري من املهجوسني
بالسؤال الكبري :من نحن؟ وماذا نريد؟ وعربت عن تجليات هذا
الصوت طالئع التنويريني (العصاميني) ،الذين لم يأتوا من حواضن
سياسية منظمة ،أو مدارس فكرية حديثة ،فقط بإمكانياتهم املعرفية البسيطة ،خطوا أوىل الخطوات ،يف الطريق الشاق والطويل
ملعارضة السلطة الغاشمة ،وتعرية أدواتها املستخدمة يف االستبداد الديني .وأكرث األسماء تمثيلاً لهذا املنزع الجديد الشيخ حسن الدعيس ،الفالح الفيلسوف ،الذي حضر يف معرتك املركز بوعيه الجديل املختلف واملؤثر ،وهو اآليت من أحد جبال اليمن (األسفل).
وخالل مدة قصرية استقطب العشرات من املثقفني امللولني من حكم اإلمام ،والذين أصبحوا املشغل الفاعل يف نواة املعارضة السياسية،
األحزاب والنقابات فيها بعيد الحرب العاملية الثانية .وكان لقمان املعرتك بكل مفرداته الضاجة.
يف عام 1937م أصدر الطالب األزهري أحمد محمد نعمان كتاب
«األنة األوىل» ،الذي ُعد أول مطبوعة يف أدبيات األحرار اليمنيني،
وهي حسب عبدالودود سيف «متميزة عىل مستوى مرحلتها الوطنية (التنويرية)» ،وقدم فيها كما يقول الدكتور أحمد القصري:
«رؤية مبكرة حول بعض جوانب التاريخ االجتماعي لليمن ،وشرحً ا ألسباب الهجرة وأشكال اضطهاد الرعية باستخدام اإلمامة أساليب
(الخطاط) و(التنافيذ) و(التخمني) يف تحصيل الضرائب».
هذا الطالب الذي سيتحول بعد سبعة أعوام ،إىل قائد يف حركة ً إيمانا األحرار التي تشكلت يف عدن يف عام 1944م ،وكان أكرثهم بالعلم كمدخل للتحول؛ ألنه رأى ،خالل رحلة تعلمه التي ابتدأها
يف العشرينيات يف مدينة زبيد ،وأتمها يف األزهر أواخر الثالثينيات،
التي بدأت تتحسس طريقها الشاق من «املقايل» وحلقات املسجد، متخذة من الخطاب الديني ،وموضوعاته اإلشكالية ،مدخلاً لنقد
أنه ال مناص أمام هذا الشعب للخروج من بؤسه وشقائه إال بالعلم.
وإىل جانبه ظهر األستاذ محمد عبدالله املحلوي ،الذي دخل
يف مدرسة (ذبحان األهلية) ،حيث عاش الصدمة املعرفية األوىل مع
بمعارضني عثمانيني ،نفتهم السلطات العثمانية إىل اليمن كنوع
وحني قربه اإلمام أحمد ،حني كان وليًّا للعهد ،أوكل إليه ً مسجونا تدريس ابنه البدر ،وإدارة املعارف .ويف حجة ،حيث كان
منظومة الحكم ورأسها.
هذا املعرتك بوعي عصراين أكرث انفتاحً ا؛ بسبب احتكاكه املباشر
من العقاب ،فاكتسب منهم اللغات وبعض علوم العصر ،التي
قادته بدورها إىل القراءات الفاحصة للفكر الديني ،الذي بواسطته
51
وقد قىض النعمان سنوات كثرية يف تعليم اآلخرين ابتداء من عمله
األستاذ (محمد أحمد حيدرة).
بعد ثورة 1948م ،أنشأ (املدرسة املتوسطة) لتعليم األطفال ،ويف
ملف العدد
ندائه للشعب اليمني لدعم (كلية بلقيس) التي افتتحت يف عام 1961م يف الشيخ عثمان بعدن قال« :ال بد أن تعد مجموعة من
الشباب نفسها لتحمل مهمات التعليم بعقلية متفتحة تعي جيدًا أحوال شعبها ،وتدرك املهالك التي طرح فيها باملواطنني» ،لهذا ً مثقفا عضويًّا «اتخذ التعليم مدخلاً لإلصالح السيايس ُعد النعمان ورأى أن تنوير العقول هو أساس تطوير املجتمع واإلنسان» ،كما
يرى هشام عيل يف كتابه «املثقفون اليمنيون والنهضة». الحكمة وأخواتها ومشروع اإلصالح والتغيري
ً صوتا جديدًا للمعارضة ،يوجه بعناية اليمنيني ومنوريها ،لتكون
يف (ديسمرب 1938م) صدر أول أعداد مجلة «الحكمة
للمهاجرين اليمنيني املشتتني يف األصقاع ،وقد التزمت منذ أعدادها
الشاب (من األدباء واملثقفني املطالبني باإلصالح) بإيجاد متنفس
وإن صاحبها ،بحسب قادري أحمد حيدر يف كتابه «املثقفون وحركة
يمانية» ،كوسيلة من وسائل سلطة اإلمام يحيى الحتواء الصوت
يمكن السيطرة عليه ،وكان ظهور هذا الصوت معربًا عن حالة السخط الشديد ،التي تملكت هذه الشريحة جراء انتكاسة
مشروع الدولة ،وانغالقها املميت فكانت( ،ببساطتها وبدائيتها)
أول مطبوع يصدر يف عاصمة اإلمام يحيى ،يفتح كوة صغرية
يف جدار االنغالق الصلب واملعتم .وستعد «الحكمة» إضافة إىل صحيفة «فتاة الجزيرة» التي أصدرها الرائد محمد عيل لقمان يف
عدن 1940م ،وصحيفة «صوت اليمن» التي صدرت يف 1946م عن
52
أبو بكر السقاف
عمر الجاوي
األحرار ،األوعية املهمة التي استوعبت الصوتني املطالبني باإلصالح والتغيري معً ا .لهذا ليس بمستغرب أن يكون قياديو هذه الصحف
وكتابها من أبرز شهداء ثورة 1948م ومعتقليها.
أما «الربيد األدبي» (مجموعة رسائل شخصية ذات طابع أدبي،
تبادلها فيما بينهم األدباء بني صنعاء وذمار وتعز يف األربعينيات)،
فسينظر إليها كمكملة للحلقات الثالث؛ ألنها حسب الدكتور سيد
مصطفى سالم« :نتاج مرحلة تاريخية واحدة ،وخضعت لظروف سياسية ومؤثرات فكرية واحدة ،لذلك كونت الحلقات يف مجموعها
تيارًا فكريًّا صاحب النشاط السيايس ،الذي برز بأشكال مختلفة،
وانتهى بثورة 1948م» .إضافة إىل صحيفة «السالم» التي أصدرها
يف (كارديف) عام 1948م ،كأول صحيفة عربية تصدر يف اململكة املتحدة ،الشيخ عبدالله عيل الحكيمي ،أحد رواد مدرسة األحرار
طالئع التنويريين (العصاميين) ،الذين لم يأتوا من حواضن سياسية منظمة ،أو مدارس فكرية حديثة ،فقط بإمكانياتهم المعرفية البسيطة ،خطوا أولى الخطوات، في الطريق الشاق والطويل لمعارضة السلطة الغاشمة ،وتعرية أدواتها المستخدمة في االستبداد الديني
العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
األوىل بحرية الرأي والتعبري ،لتكون فضاء ثقافيًّا إنسانيًّا مفتوحً ا. األحرار الدستوريني»« :صويف وثوري مقاوم ،انخرط يف تيار حركة
التحرر الوطني العربية والقومية يف بلدان املغرب العربي من أجل
استقالل املنطقة من االستبداد واالستعمار .ومن أوجهه البارزة
دعوته املبكرة لحوار األديان والثقافات والحضارات» .صحيفة
السالم ،التنويرية بحسب عبدالباري طاهر ،نشرت منذ أعدادها األوىل اإلعالن العاملي لحقوق اإلنسان.
يف يوليو 1947م ،غادرت من عدن صوب لبنان أول بعثة
تعليمية يمنية ألربعني طالبًا (يف سن املراهقة املبكرة تراوح أعمارهم
بني الثانية عشرة والخامسة عشرة) من مدن مملكة اإلمام الرئيسة (صنعاء -تعز -الحديدة) اختريوا بمقاييس فرضها األمري عبدالله
ابن اإلمام وزير املعارف وقتها ،لحسابات سياسية يف إطار التنافس
داخل بيت الحكم .األربعون طالبًا الذين نقلوا إىل
حواضن للوعي السيايس ،وروافعه املنظمة .ومن
يف لبنان (وما سيلتحق بهم من طالب مبتعثني
اليمنية املوحدة ،التي ضمت أبناء جميع مناطق
بعض مدن مصر بعد عام واحد فقط من دراستهم
هذه البعثات ،خرجت أول مرة الحركة الطالبية
من الشمال والجنوب ،ومبتعثي األندية واألحزاب
اليمن ،ودعت يف مؤتمرها الدائم املنعقد يف يوليو
واألسر يف عدن) سيشكلون اللحظة الفارقة يف
1956م يف القاهرة إىل الوحدة اليمنية ،وناهضت كل
التاريخ السيايس والثقايف الالحق لليمن.
ففي القاهرة حسب كيفن روزر يف كتابه
«بعثة األربعني الشهرية» كان هؤالء املبتعثون
دعوة تتناقض مع هذا التوجه ،وهي بذلك أول من
محمد عبدالولي
«منجذبني ً سلفا إىل النشاط السيايس ،ويف هذه العملية ،صاغوا
أكد يف العصر الحديث عىل وحدة الشعب اليمني ووحدة األرايض اليمنية ،وهو ما يعني أن فكر تلك
الحركة قد اتسم بالعمق ،كما انطوى عىل نظرة استشراف تتسم
عالقات سياسية قيمة مع حركات يمنية وعربية متعددة .وكانت
ببعد النظر حول مستقبل اليمن» .كما يرى الدكتور أحمد القصري
السياسية متكيفة مع نموذج الثورة املصرية» ،التي دخلت بكل
ومن هذه الحركة خرج كثري من وجوه التنوير والثورة والفكر
رؤاهم عن التطور االقتصادي ،والعالقات األجنبية ،والرتكيبة ثقلها يف معرتك التحول يف اليمن مع بزوغ ثورة سبتمرب ،وكان فيها
لطالب البعثات يف القاهرة (عسكريني ومدنيني) ،اإلسهام املميز فيها ،من خالل وجودهم ككادر متعلم يف دوائرها ومؤسساتها، أو تحولهم إىل قادة سياسيني يف األحزاب (الدينية والقومية واليسارية) التي حضرت يف مشهد التحول الجديد ،بوصفها
يف مخطوط «إصالحيون وماركسيون».
واألدب والسياسة ،وعربوا بكل وضوح عن وجه اليمن الجديد. وعىل سبيل الذكر ال الحصر يحضر هنا اسم الدكتور أبو بكر
السقاف املفكر اليساري الكبري ،وعمر الجاوي السيايس واملثقف املختلف ،ومحمد أحمد عبدالويل الروايئ الرائد ،والشعراء إبراهيم
صادق ،ومحمد أنعم غالب ،وسعيد الشيباين.
التنويريون بين تعالي السياسي وانكسار المثقف منذ انطالق رحلة املعارضة السياسية املبكرة يف الثالثينيات ،كان الهم األكرب الذي انشغلت به طالئعهم املثقفة،
53
هو كيفية إخراج البالد من عزلتها وتخلفها املريع .ويف سبيل ذلك اتبعت هذه املعارضة العديد من الوسائل يف توصيل
رسالتها الوطنية ،ابتداء بنصح الحاكم ،ثم الدعوة لإلصالح يف إطار منظومة الحكم ذاتها ،قبل االنتقال إىل التغيري يف إطارها ،وصولاً إىل تغيري نظام الحكم برمته ،واستبدال نظام آخر به هو النظام الجمهوري ،الذي جاءت به ثورة 26 سبتمرب1962م.
ويف كل املراحل ظهر املثقف الرائد ،مذوبًا بفعله الحدود ،بينه وبني السيايس يف الوظائف واألدوار «التي تحولت بمرور الوقت إىل حالة إشكالية ،اقتضت الحاجة إىل إعادة مراجعة وفحص هذه املفاهيم ،بدلاً من التماهي مع السيايس بوصفه السلطة ورأس املال ،وبوصفه ً أيضا القوة املادية والرمزية» كما قال عيل حسن الفواز.
القوة ورأس املال الرمزي للسيايس ،ستتكثف خالل خمسة عقود يف الحالة اليمنية ،وعىل وجه الدقة فيما كان
يعرف بالجمهورية العربية اليمنية ،التي امتد تأثريها إىل الجمهورية اليمنية بعد حرب 1994م ،كسلطة تعيد إنتاج نفسها يف إطار التحالف القبيل العسكري الديني ،ولم تنتج ،حسب وليد عالء الدين سوى الخراب «وأخطر مظاهر هذا الخراب تمثلت يف كسر إرادة النخبة ،التي تحول دورها من كونها تمثيلاً لسلطة املثقف النقدي والنقيض يف آن واحد ،إىل كونها أدوات تربيرية لخطاب سيايس يفتقر إىل أدىن الروادع القانونية واألخالقية».
لهذا ال غرابة يف أن نشهد اآلن وبعد خمسة عقود ونصف من ثورة 26سبتمرب ،هذا االنقسام املريع يف بنية النخبة
«بفعل االستقطابات القوية والحادة ،التي امتدت إىل شريحة املثقفني ،الذين بدؤوا بالتحوصل داخل هوياتهم الضيقة
(السياسية واملناطقية والطائفية) حني لم يجدوا مؤسسات الثقافة التي ينتمون إليها ،قادرة عىل حمايتهم ،والتعبري عن ً ً عوضا عن وحدته عنوانا النقسام املجتمع، استقالليتهم ،وقبل هذا إذابة أحاسيسهم بالتمايز داخلها ،فصاروا مع الوقت ً عنوانا ملتاريس املتحاربني يف كل الجبهات؛ ألنهم ببساطة لم يستطيعوا تشكيل صوت نابذ للحرب وتماسكه؛ بل صاروا
ومجر ٍِّم لها ،بسبب الضغوط الشديدة عليهم ،وبسبب هشاشة تكويناتهم الفكرية ،التي من املفرتض أن تكون عابرة
للجغرافيا والطائفة والعائلة» .كما أراد التنويريون األوائل.
ملف العدد
زمان الفيصل
54
العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
55
تقارير
وليد السويركي شاعر ومترجم أردني
56
ال يزال يتجاهل اتصاالت لجنة نوبل والجدل يتصاعد حول فوزه
بوب ديالن..
«الخائن» وممتدح «بلطجية» إسرائيل يقاوم الزمن بشعرية جديدة
العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
بوب ديالن« ..الخائن» وممتدح «بلطجية» إسرائيل يقاوم الزمن بشعرية جديدة
ّ المغني – الشاعر ما زال الجدل حول مفاجأة فوز اً متواصل األميركي بوب ديالن بجائزة نوبل لآلداب هذا العام
في الشرق والغرب ،ولم يزد امتناع الفائز عن الر ّد على
ّ اتصاالت لجنة الجائزة وعن التعليق على خبر فوزه هذا َ ً ّ انصب بصورة واحتداما .وإذا كان السجال قد الجدل إلاّ إثارة رئيسية على ما إذا كان ديالن يستحق هذا التكريم أم ال، ّ فإن فوزه بالجائزة أعاد إلى السطح كثيرًا من الخالفات والنقاشات حول الرجل ومسيرته الفنيّة.
ال يكاد أحد ممن اعترضوا على منح الجائزة لبوب ديالن ينكر ّأنه واحدٌ من أعظم ّ الشعراء في تاريخ الموسيقا الشعبية
ً وإبداعا عن نصوص عظام األميركية ،وأنّ نصوصه ال تقل قيمة
كتاب األغنية مثل :جون لينون ،وجيم موريسون ،ونيل يونغ
كموسيقي ومغنّ وغيرهم ،لك ّنهم يشدّ دون على هوية ديالن ّ مُ ذكرين بصعوبة الفصل في أغانيه بين الكلمات واللحن واألداء ّ ّ شك .ومع محل الصوتي مما يجعل انتماء نصوصه إلى األدب
االحتجاج وتبني مقوالت الدعاية الصهيونية
لكن السجال تعدّ ى مسألة جدارة ديالن بالجائزة إلى التذكير
باالضطراب والتناقض اللذين طبعا مسيرته ومواقفه السياسية والفكرية على وجه الخصوص ،فالرجل الذي كان أيقونة غناء الفولك الملتزم مطلع ستينيات القرن العشرين ،حيث ساند حركة الحقوق المدنية ،ودافع عن حقوق السود في أميركا،
وغنى ضدّ الحرب والظلم والعنصرية ،انتقل إلى موسيقا الروك واستخدام الغيتار الكهربائي منذ عام 1965م ،مبتعدً ا في نصوصه
االعتراف بـ«شعرية» نصوص ديالن فإن كثيرين لم يتقبّلوا أن يدرج ّ مصاف شعراء كبار سبقوه إلى الفوز بالجائزة اسمه شاع ًرا في
من أغنية االحتجاج االجتماعية ،فخاصمه كثيرون ووصفوه
موسيقا الروك الذي حظي بكل أشكال التكريم ،ونال ما لم ينله
سوريالية .وفي آواخر السبعينيات تحوّل من
ّ المعلقين أنّ أسطورة مثل نيرودا وسان جون بيرس .ورأى بعض
غيره من أرفع الجوائز في حقل الموسيقا ،ال يحتاج إلى جائزة نوبل قدر ما يحتاجها األدب ،وأن منحه الجائزة قد حرم كتابًا
كبارًا مثل :فيليب روث ،هاروكي موراكامي ،جويس كارول أوتس ّ المستحق ،وذهب آخرون إلى ّأنه أو إسماعيل كاداري من التكريم حتى في فئة كتاب األغنية ،ثمّ ة من هو جدير بالجائزة أكثر منه،
مثل :ليونارد كوهين ،وجوني كاش ،أو باتي سميث. أمّ ا المدافعون عن فوز ديالن ،فقد رأوا في فوزه مواكبةً
بالخائن ،بعد أن اختار تناول ثيمات شخصيّة حميميّة بمسحة
اليهودية إلى المسيحية ،وأصدر ثالثة ُ تخل من نبرة تبشيرية. ألبومات لم وقد استعاد الصحافي مايكل.
ف .براون جانبًا آخر في ماضي
ديالن مذ ّك ًرا ّ بأنه اختار مساندة
إسرائيل ،وتبنى مقوالت الدعاية
الصهيونية حين كتب بعد الغزو
للتحوالت الثقافية المعاصرة وزحزحة لحدود المؤسّ سة األدبية لتشمل أشكالاً تعبيرية ف ّنية وجمالية تتجاوز األجناس واألطر
«بلطجي الحارة»، أغنيته ّ
والشعبي ،وإعادة تعريف األدب واألديب ،مذكرين بين النخبويّ ّ
اإلسرائيلية:
المستقرة تقليديًّا وأكاديميًّا ،وتوجّ هًا محمودًا نحو إلغاء الحدود
بأن الشعر في أصوله البعيدة ،وعبر تقليد ممتدّ في التاريخ
قد ارتبط بالغناء والموسيقا .كما حاجج آخرون بأن نصوص ديالن باتت تدرّس في العقود األخيرة في الجامعات األميركية
والبريطانية والكندية ،وتعدّ عنها األطروحات األكاديمية
ّ المتخصصة ،مما أدخلها في المتن األدبي وفي حقل والبحوث
الدراسات الثقافية بوصفها تعبي ًرا فنيًّا وجماليًّا عن الثقافة
الشعبية في أميركا.
اإلسرائيلي للبنان عام 1982م التي دافع فيها عن الجرائم
57
تقارير بلطجي الحارة مج ّرد رجل، «نعم، ّ ّ يحتل أرضهم، يقول أعداؤه ّإنه
وهم يفوقونه عددًا :مليون مقابل واحد.
فال يمكنه الهروب أو الركض إلى أي مكان، بلطجي الحارة. ّإنه ّ
ّ كل إمبراطورية استعبدته زالت،
مصر وروما ،حتى بابل العظيمة. وها هو قد صنع من رمال الصحراء ج ّن ًة .»...وأعاد براون
إذ يقدم منذ ذلك الحين ما يقارب مئة حفل في ّ كل سنة ،كما بلغ
عدد األلبومات التي أصدرها حتى اآلن 37ألبومً ا .وها هو أكثر من ُق ّلد أو جرى استلهامه في تاريخ موسيقا الروك األميركية. نصوص مختارة لم يحل الظالم بعد
جذور هذه المواقف إلى مطلع السبعينيات ،حين اقترب ديالن
الظالل تهبط ،مكثت هنا النهار ّ كله
كاهان ،وبيّن استمراره في رفضه في عام 2014م االستجابة لنداءات
والوقت يم ّر ،كأن روحي غدت من الفوالذ
كثي ًرا من رابطة الدفاع اليهودية المتط ّرفة وامتدح زعيمها مائير حركة مقاطعة إسرائيل وإصراره على الغناء في تل أبيب.
وبعيدً ا من هذا السجال حول مواقف ديالن السياسية،
ً إجماعا على موهبته الفذة ،كاتبًا وملح ًنا ،وعلى كونه فإن ثمة
الموسيقي الوحيد الذي مارس ،في حياته ،تأثي ًرا كبي ًرا في أجيال
متعاقبة من المؤلفين -المغنين :من البيتلز ،ورولينغ ستونز،
وباتي سميث ،إلى ديفيد بووي ،وبروس سبرنغستين ،أو ليني كرافيتز .فالرجل الذي أعلن عن «موته» موسيقيًّا أكثر من مرة،
58
نصف قرن على انطالقته ،يجوب الطرقات والمدن ليقدم عروضه منذ أن ّ دشن في نهاية الثمانينيات ما أطلق عليه «جولة بال نهاية»،
كان يعود دائمً ا باقتراحات فنيّة وتعبيرات شعرية جديدة سواء غنى الفولك أو الروك أو البلوز ،متحدّ يًا بذلك مرور الزمن ،وما زال بعد
الج ّو شديد الحرارة فال أستطيع النوم
لم تزل لديّ الندوب التي لم تألمها الشمس
كاف ألستريح وما من مكان ٍ
حسي اإلنساني انتهى في المجاري فخلف ّ جمال ثمّ ة ألم كل ٍ
لقد كتبَت لي رسالة ،وكانت لطيفة،
قالت فيها كل ما جال في خاطرها
ولست أدري لِمَ علي أن أكترث لها. لم يحل الظالم بعد ،لكن ها هو يهبط
ألن غينسبرغ ،بوب ديالن ،مايكل مكلور ،روبي روبرتسون (سان فرانسيسكو 1965م)
العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
بوب ديالن« ..الخائن» وممتدح «بلطجية» إسرائيل يقاوم الزمن بشعرية جديدة
كنت في لندن ،وكنت في باريس البهيجة
قبل أن يبتلعها البحر؟
لست أبحث عن أي شيء في عيني أيّ أحد ً أحيانا من أن يحمل وعبئي أثقل
قبل أن يغدوا أحرارًا؟
ُ تتب ُ وبلغت البحر َعت ال ّنهر
لم يحل الظالم بعد ،لكن ها هو يهبط هنا ولدت ،وهنا سأموت رغم أنفي قد يبدو أنني أتحرك غير ّأني ما زلت واقفاً ُّ خاو وخدر كل ٍ عصب في جسدي ٍ
ُ هربت إلى هنا ح ّتى إنني لم أعد أتذ ّكر مما همس صالة وال أسمع ولو َ
لم يحل الظالم بعد ،لكن ها هو يهبط ّ مهب الريح في كم من طريق على اإلنسان أن يقطع ً إنسانا؟ قبل أن تسمونه
بحر على اليمامة البيضاء أن تعبر كم من ٍ قبل أن تغفو على الرمل؟
كم مرة ينبغي أن تدوّيَ المدافع
قبل أن تحظر لألبد؟
مهب الريح! الجواب يا صديقي في ّ مهب الريح! الجواب يا صديقي في ّ كم من السنين ينبغي أن تدوم الجبال
كم من السنين ينبغي أن يعيش بعض الناس وكم من الم ّرات بوسع اإلنسان أن يدير
مدّ عيًا أنه ال يرى شي ًئا؟
مهب الريح الجواب ،يا صديقي ،في ّ مهب الريح الجواب في ّ
كم مرة ينبغي للمرء أن يحدّ ق في األعلى
قبل أن يبصر السماء؟ كم ً أذنا ينبغي أن تكون للمرء
ّ يتمكن من سماع بكاء اآلخرين؟ قبل أن وكم من الميتات ينبغي أن تحدث
قبل أن ندرك
أن كثي ًرا من الناس قد ماتوا؟ مهب الريح الجواب ،يا صديقي ،في ّ الجواب في مهب الريح
حين خرجت في الصباح ّ ألتنفس الهواء الطلق حين خرجت صباحً ا بالقرب من توم بين
(٭)
لمحت أجمل فتاة قد مشت في السالسل يومً ا ُ مددت لها يدي
فتأبطت ذراعي
في تلك اللحظة بالضبط أدركت أنها تضمر لي ش ًّرا ُ صحت بها. «ابتعدي عني من فورك»،
«ولك ّني ال أريد» ،قالت.
فقلت« :إنك ال تملكين خيارًا».
ً هامسة إلي «أرجوك يا سيدي» ،توسَّ َلت ّ ْ «سأقبَلك في الس ّر ،وسنهرب معً ا إلى الجنوب» بشخصه عندها جاء توم بين ِ ً راكضا عبر الحقل مناديًا على الفتاة الجميلة ثم أمرها بأن تستسلم،
وفيما كانت ترخي عناقها ركض توم نحوي
«أنا آسف أيّها السيد» ،قال لي، ٌ «آسف على ما فعلته».
59
تقارير مثل شخص مجهول تمامً ا مثل حجر يتدحرج؟
لم تلتفتي لتري تقطيبة الحزن
ّ الخفة خلف أوجه المه ّرجين والعبي
حين جاؤوا جميعً ا يؤدون ألعابهم أمامك لم تدركي أن األمر سيِّئ
ما كان عليك أن تسمحي لآلخرين أن يتلقوا الرفسات بدلاً منك
ً حصانا فوالذيًّا كنت تركبين
دبلوماسي يحمل على كتفه صحبة ّ قطة سيامية
أكان مؤلمً ا اكتشافك
بوب ديالن و جوان باييز (1963م)
حجر يتدحرج مثل ٍ في غابر األيام ،ارتديت أبهى الثياب
ورميت من عليائك ً قرشا للمتسولين كنت في أوجك ،أليس كذلك؟
60
كان الناس ينادونك« :حاذري أيتها الدمية الطائشة..
ستسقطين»
فظننتهم يمزحون.
كان المتسكعون في الجوار يثيرون سخريتك لكنّ صوتك ال يعلو اآلن حين تتحدثين
وال تبدين فخورة إذ تضطرين لتسوّل وجبتك القادمة
كيف تشعرين
إذ أنت بال مأوى
مثل شخص مجهول تمامً ا مثل حجر يتدحرج؟ ... ارتدت أفضل المدارس, حس ًنا ،اآلنسة «وحيدة» ،لقد ِ الس ْكر لك ّنك تعرفين أنك لم تفعلي شي ًئا هناك سوى ُّ ولم ّ يعلمك أحدٌ كيف تعيشين على قارعة الطريق لكنك اآلن مرغمة على اعتياد األمر
كنت تقولين :لن أساوم المتش ّرد الغامض
لكنك اآلن تدركين أنه ال يختلق األعذار
حين تحدّ قين في فراغ عينيه ً ً صفقة معك طالبة أن يعقد كيف تشعرين
إذ أنت بال مأوى العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
ّ بأنه لم يكن حيث يجدر به ّ بعد أن سلب منك كل ما وصلت إليه يده. كيف تشعرين
إذ أنت بال مأوى
مثل شخص مجهول تمامً ا مثل حجر يتدحرج؟
ّ وكل هؤالء الظرفاء أيتها األميرة في البرج، يشربون ،واثقين من مستقبلهم
يتبادلون أثمن الهدايا فأجدر بك يا فتاتي
أن تنزعي خاتمك الماسي ،وأن ترهنيه.
ّ تتسلي بنابليون في األسمال ،بلغته في الحديث، لقد اعتدت أن
امضي إليه اآلن ،ها هو يناديك ،وال يمكنك الرفض
فحين ال تملكين شي ًئا ..ليس ثمة ما تخسرين
أنت اآلن ال مرئية تمامً ا ،وليس عندك ما تخفينه كيف تشعرين
إذ أنت بال مأوى
مثل شخص مجهول تمامً ا مثل حجر يتدحرج؟
هامش:
٭ توماس بينّ : مفكر ثوري وراديكالي إنجليزي .هاجر إلى أميركا عام 1774م في سن السابعة والثالثين ،حيث عمل في الصحافة و شارك في الثورة األميركية .يعد أحد آباء أميركا المؤسّ سين.
تحوّل منزله في نيو روشيل إلى متحف.
مقال
المثقف العربي... غيمة في بنطلون منذ عدة عقود مضت أخذت مصداقية المثقف العربي داخل مجتمعاته تتراجع شي ًئا فشي ًئا ،ولم يعد فاعلاً ،مؤث ًرا في اتخاذ القرار المجتمعي مثلما كان قبل ذلك ،وبات هذا المثقف بال مصداقية ،وعلى هامش الهامش ،حتى إن صورته في اإلعالم واألعمال الدرامية صارت مشبوهة ،مثيرة للسخرية والتندُّ ر في كثير من األحيان. يحدث ذلك في زمن صعب ،تكون المجتمعات العربية فيه في أشد حاجتها إلى المثقف والثقافة ،فظلمة الرؤى تشتد ،وماضوية الفكر تطال كل صغيرة وكبيرة من الحياة العربية ،والمثقف لم يعد ً مخططا لمشروعات مقترحة تعين هذه المجتمعات منتجً ا ألفكار ،وال على تجاوز عثراتها والخروج من مأزقها ،وقد تجلى في بعدها الشاسع عن جوهر العصر بشرقه وغربه ،واستسالمها لتلك الغيبوبة الماضوية الدالة على أن العرب يحيون وكأنهم ليسوا من هذا العالم ،وهذا الكون اإلنساني الراهن بالطبع .يمكن إرجاع ظاهرة تراجع دور المثقف ألسباب كثيرة؛ منها ما هو سياسي ،ومنها ما هو اقتصادي أو اجتماعي ،فلقد تعددت األسباب والتراجع ثابت ،ولكن يمكن أن يضاف لتلك األسباب ً مجتمعة سبب آخر يتعلق بتحوالت المثقف ذاته ،وربما كانت هذه التحوالت هي المرتكز الرئيس لتراجع دور المثقف. َ مشعل لقد ظل المثقف منذ بداية العصر العربي الحديث حامل ِ النور المضيء لظلمة العصور الوسطى التي طالما رتع فيها العالم ً ً قابضا على هذا المشعل بيده كالقابض على ممسكا العربي ،وقد ظل ً متسقا مع آرائه وأفكاره ،ال يغيرها أو يبدلها أو يبيعها مهما الجمر، ً كانت األثمان ،ولطالما كان قادرًا على قول :ال ،داحضا من يقولون: يغوه منصب أو سلطة أو مال ،وكان جُ ُّل مثقفي نعم ،وهو لم ِ يغره ولم ِ أزمنة التنوير العربية فقراءَ ،يعملون في مؤسسات التعليم المختلفة ّ ويعلمون ،فبات لهم تالميذ ومريدون ،وأشياع وأتباع فكر، يؤدّبون ّ يولون وجوههم شطر مجتمعاتهم وهمومها ويسعون لإلتيان بأفكار تجب أفكار من ربَّوهم وعلموهم إيجابية وتأثي ًرا. ربما ُّ لكن مثقف اليوم وحيد ،صنع عزلته بانصياعه لسلطات االستبداد السياسي ،واختار أن يكون مصنع أفكارها الرديئة ،ومروّج بضاعتها الخاسرة التي مزقت الخرائط العربية ونكبت األوطان .ولقد بات المثقف العربي من أكبر جامعي الذهب والدنانير ،يلهث وراء كل من يملكها وينثرها له على األرض ،وبات يصارع من أجل الجوائز والعطايا واألكل على موائد اللئام ،وفوق ذلك كله يقفز قفزات األرنب البري بين الفضائيات ليبربر ويبرر ويفتك بكل كلمة حق وقيمة من قيم الخير، الحق باطلاً ،والزو َر ًّ َّ حقا ،وهو ال يدري أن الناس صارت تدرك وليجعل حجمه الحقيقي ،ودوره التغييبي ،وأنه -كما يقول الشاعر الروسي مايكوفيسكي :-ليس إال غيمة في بنطلون.
سلوى بكر كاتبة مصرية
61 ل مثقفي أزمنة كان ُج ُّ التنوير العربية فقراءَ، يعملون في مؤسسات التعليم المختلفة يؤدبون ويعلّمون ،فبات ّ لهم تالميذ ومريدون، وأشياع وأتباع فكر، يو ُّلون وجوههم شطر مجتمعاتهم وهمومها ويسعون لإلتيان بأفكار تجب أفكار من ربما ُّ ر َّبوهم وعلموهم وتأثيرا إيجابية ً
تقارير
سوء الفهم واللبس ال يزاالن يكتنفانها
إقبال السعوديين على الفلسفة..
بح ًثا عن بديل للحداثة أم ضرورة لجيل جديد؟ هدى الدغفق الفيصل
62
العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
إقبال السعوديين على الفلسفة ..بح ًثا عن بديل للحداثة أم ضرورة لجيل جديد؟
أكثر من إشارة يحملها االهتمام بالفلسفة في أوساط السعوديين ،االهتمام الذي هو آخذ في االتساع الف ًتا األنظار هنا وهناك ،فاألمر ليس مجرد اقتناء كتاب فلسفي ،وال عقد جلسة
ومناقشة لموضوع يتعلق بـ«الوجود» ،و«الكينونة» ،أو «األخالق» عند هذا الفيلسوف أو ذاك ،كما أن األمر يتخطى تأسيس موقع إلكتروني ينشر مقاالت ومواد فلسفية.
إقبال السعوديين على الفلسفة يعني ،ضمن ما يعنيه ،االهتمام بقضايا كبرى وطيدة العالقة بالخطابات الفكرية المتصارعة حي ًنا والمتحاورة حي ًنا آخر ،وربما يعني ً أيضا ،كما يذكر بعض المشتغلين في حقل الفكر ،إخفاق مشروع التنوير والحداثة ،ومن ثم ال بد
من البحث عن بديل .الولع بكل ما هو فلسفي ،هو ولع بالتفكير المنطقي ،ولع بمساءلة األشياء وعدم التسليم في سهولة .هو ً أيضا البحث عن أسئلة جديدة ،تستوعب جملة
ً ً مختلفا أقرب ما يكون إلى مأزق وضعا المشكالت التي يعانيها جيل الشباب ،الذي يعيش
وجودي ،نتيجة الخيبات الكثيرة بسبب انكسار األحالم وانتشار التطرف في كل شيء. الفلسفة عند هذا الجيل الشاب ،ليست أيديولوجيا إنما
ثري ومتنوع يحرتم املنطق
االهتمام بالفلسفة يف ظل غياب فلسفي تعيشه الجامعات
جاد وفلسفة عميقة وحوار
علم ،وطريقة يف التفكري ومنهج لرؤية الذات والعالم .ويأيت ومقرراتها ،إضافة إىل اللبس يف فهم الفلسفة وتلقيها عند
العامة .ويؤكد مهتمون الحاجة إىل إعادة االعتبار للفلسفة ومفهومها ،من خالل طرح تساؤالت عدة ،من قبيل :ماذا يعني غياب الخطاب الفلسفي بصفته أداة أساسية إلنتاج املعرفة؟ عىل أن هناك من يرى أن الفلسفة حاضرة يف عدد كبري
من الخطابات حتى الخطابات الدينية ،باعتبارأن الفلسفة هنا
تعني التفكري بالعقل.
«الفيصل» سعت إىل عدد من املهتمني ،وطرحت عليهم
أسئلة حول الفلسفة واالهتمام بها ،وماذا يعني هذا االهتمام
عىل الرغم من األحكام التي تحيط بالفلسفة. تفكري فلسفي متوازن
يقول املشرف عىل الحلقة الفلسفية التي تعقد يف نادي
الرياض األدبي حمد الراشد :إن الحلقة «تحاول أن تسهم يف
تفكري عقيل وفلسفي متوازن للفرد واملجتمع ،سواء يف الحياة العامة أو يف املشهد الثقايف ،وبالتايل فإن الحلقة تسعى جاهدة َ تعريفها الحقيقي بإدخال عنصر ألن ُتعيد إىل منظومة الثقافة الفكر والفلسفة داخل هذه املنظومة ،وهو املحور املهم جدًّ ا
والعقل مع انتهاج فكر راق» ،مؤكدً ا أن هذا الهدف ٍ
63
سيتحقق «بواسطة نخبة من األقالم الجميلة اآلن ويف مراحل الحقة ،وهذا
ما تحاول «حلقة الرياض
الفلسفية» تحقيقه واقعً ا
حمد الراشد
من خالل إتاحة الفرصة لكل مثقف ومهتم وباحث ومفكر من الجنسني تفاعلاً أو كتابة ،بل إن الحلقة تتطلع إىل مشاركة املرأة يف خلق مستقبل ثقايف وفكري مشرق؛ إذ إنها املحرك االجتماعي والفاعل املكمل آلمال الرجل وطموحه».
ويوضح الراشد أن الفكر الفلسفي له أكرب األثر «نظ ًرا إىل
صلته القوية بالعقل الذي يميز اإلنسان عن غريه من الكائنات».
وقال :إن العرب تعودوا النظر إىل الفلسفة بوصفها بني طريف نقيض ،إما ال مباالة وتهميش لها ويمثل ذلك قول العامة« :ال تتفلسف» جهلاً بما يدل عليه معنى التفلسف وأهميته ،وإما النظر إىل الفلسفة بصفتها تمثل التعقيد يف الحياة والخطر
عىل عادات اإلنسان وعقيدته ومصالحه».
الحلقة الفلسفية ..الحلقة األقوى
الذي يحتاجه املجتمع واملثقف معً ا إىل جانب ما نلحظه من ً نطاقا اهتمام باآلداب والفنون» .ويرى أن الثقافة «أوسع
وترى الكاتبة سارة الرشيدان ،إحدى املواظبات عىل
ومن هنا فالحلقة الفلسفية تتطلع إىل تشكيل مشهد ثقايف
يتسم بالجدية والعمق ،ويغطي مجاالت ال توجد لها
من ضيق األفق والتحيزات التي نشاهدها عىل أرض الواقع،
حضور الحلقة الفلسفية ،أن ما يطرح يف الحلقة من أوراق
تقارير
دراسات متخصصة يف السعودية .وتقول :إن ما يحفزها عىل
يف محاولة سرب التجربة
يف الحلقة من جهة ،ومن جهة أخرى أن بعض املشاركني
غري تقليدية من خالل
الحضور« ،املتعة التي أجدها يف الطرح الفلسفي والفكري يف الحلقة بطرحهم أو حتى بحضورهم الشخيص يمثلون
صفوة مثقفة ومؤثرة يف املجتمع معرفيًّا ،سواء أكانوا أساتذة جامعات أو كتابًا ومفكرين ،وفيها يقدمون طرحهم
األعمق ،ورؤاهم املعرفية الفكرية املبنية عىل بحث وقراءة جادة للمعرفة وعلومها ،وكثريًا ما كانت الحلقة سباقة يف طرح القضايا املختلفة عن السائد» ،مشرية إىل أن األيام
أثبتت مصداقية الحلقة وجديتها «ألنها دأبت عىل تقييم
الفلسفة بوصفها منتجً ا ً مشرتكا ،وممارسة إنسانيًّا إلنتاج املفاهيم التي تتحكم بحياة الفرد لتمده بأجوبة
عجزت األيديولوجيات أن
تمده بها ،بشكل يعكس
خالد العنزي
هذا االرتباط الوجداين الرثي بني التاريخ وأسئلته والواقع أيضا سبب جوهري آخر يتعلق بأزمة تعثرُّ وتحوالته .هناك ً
وقراءة الواقع قراءة واعية غابت بغياب تدريس الفلسفة... باختصار تعد الحلقة الفلسفية منهلاً فلسفيًّا ذا تأثري فاعل
مشروع التنوير الذي ذهب ضحية عدم قدرة هذين الخطابني
الثقافية الوطنية».
ظال يتحركان كقوى فكرية مرجعية متصارعة داخل املجال
يف ظل إهمال الفلسفة وتهميشها يف كثري من املؤسسات
الكبريين (الخطاب الشرعي التقليدي والخطاب املدين) اللذين الفكري السعودي؛ من أجل بناء صيغة معرفية جامعة تمزج
انشغاالت فردية
الباحث يف الفكر اإلسالمي خالد العنزي قال :إنه ال يمكن ُّ بالتشكل يف أروقة القول بأن فضاء فلسفيًّا ملموسً ا قد بدأ فعليًّا الخطاب الثقايف السعودي ،فالتجربة ،يف رأيه ،ال تزال تتمثل
64
اإلنسانية بأدوات معرفية
يف مجرد انشغاالت ذات سمات فردية .ويوضح العنزي أن صعود وتزايد االهتمام بالفلسفة يف املشهد الثقايف السعودي، «يعود إىل أسباب تتعلق بهذا التوق الذي يعرتي الجيل الجديد
حمد الراشد :الحلقة الفلسفية تسعى ألن تعيد إلى منظومة الثقافة تعريفها الحقيقي بإدخال عنصر الفكر والفلسفة
بني األدوات والبنى املعرفية الكربى املؤسسة للعقل والوجدان اإلسالمي وهي :الحكمة ،والفلسفة ،والشريعة يف مدرسة
واحدة».
ويذكر العنزي أن الجيل الجديد خرج من منظومة
الثنائيات الحادة التي يتسم بها الواقع الثقايف اليوم يف السعودية« ،منحا ًزا إىل فضائه الخاص والوليد عىل أسس شبه مستقلة عن املشهد األم إىل حد ما .ويتحتم أن يكون
ذلك الفضاء البديل هو الفضاء الفلسفي الذي نشهد تصاعده اليوم وإن كان من الصعب قراءة هذا التصاعد وتحليله بناء عىل قواعد ومنطلقات جليلة؛ لكونه كما سبق أن أشرت لم
يزل يدور يف مجال فردي صرف ،يظهر كممارسة وليس له منتج أو رصيد معريف ناضج حتى اللحظة».
تقاليد للكتابة الفلسفية أكد الكاتب شايع الوقيان وجود إرهاصات مبشرة لقراءة الفلسفة يف السعودية وكتابة النص الفلسفي« ،وثمة
إقبال ملحوظ من شرائح القراء عىل الكتاب الفلسفي» .ويقول« :بما أن الفلسفة غائبة تمامً ا من نظم التعليم لدينا فإن األفق الذي سمح للقراء السعوديني باقتحام حقل الفلسفة هو أفق اإلنرتنت .فوسائل التواصل االجتماعي
واملدونات اإللكرتونية واملنتديات شهدت كثافة يف انهماك شريحة ال بأس بها من القراء عىل الفكر الفلسفي .لكن هذا
االنهماك لن يتطور إىل مرحلة النضج ما لم ترتسخ تقاليد للكتابة الفلسفية .وأهم عوامل ترسيخ تقاليد فكر فلسفي هو السماح للفلسفة يف التعليم العام والتعليم األكاديمي .فال وجود لدينا ألقسام أو كليات تعنى بالبحث الفلسفي واملنطقي .وهذا خلل كبري ال يليق ببلد مهم عىل املستوى اإلقليمي والدويل كبالدنا».
ويرى الوقيان أن ولوج الفلسفة إىل الحقل األكاديمي «سينقل االهتمام الفلسفي من املستوى الشخيص والفردي
إىل املستوى املؤسيس والرتبوي .إضافة إىل أن القراءة الحرة يف الكتب الفلسفية ال تفيض إىل «التخصص» العلمي
العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
إقبال السعوديين على الفلسفة ..بح ًثا عن بديل للحداثة أم ضرورة لجيل جديد؟
ويرى العنزي أن إفالس مشروع الحداثة والتنوير الذي يُعرب عنه اليوم -تجاو ًزا-
عيسى الغيث :الموقف المتشنج من الفلسفة وعلم
باملـش ــروع الليب ــرايل ،قــد يـ ــؤدي إل ــى ت ــزايد
اإلقبال عىل هذا االتجاه الفلسفي« ،بل ربما
الكالم والمنطق تاريخ ًّيا جاء
كان هو املحرض وامللهم األكرب لنقله من
بسبب جهل أو سوء فهم
هامش املشهد الثقايف إىل خطاب منافس ملا
بعض العلماء لهذه العلوم
يسمى بالخطاب التنويري يف تحقيق توازن من نوع ما عىل مستوى الخطاب الثقايف الوطني العام».
جهل أو سوء فهم
من ناحية أخرى ،يرى رئيس مركز الوسطية لألبحاث
والدراسات الشيخ عيىس الغيث أن املوقف املتشنج من الفلسفة وعلم الكالم واملنطق تاريخيًّا جاء بسبب «جهل أو
سوء فهمبعض العلماء لهذه العلوم اإلنسانية التي لو تأملنا القرآن الكريم والسنة املطهرة لوجدناهمايدعوان إليها؛ كاألمر الرباين بالتفكر والتأمل والتدبر والتعقل ونحوه .وأما املوقف
الحاد اليوم من كل جديد وتنفري الناس بهذا الغلو والتطرف
فبسبب الجهل بهذه العلوم ،وتعطيل العقول حتى أصبحت
جملة (عقالين) أو (تنويري) أو (تجديدي) محل تنابز وتهكم
خالد العنزي :تزايد االهتمام بالفلسفة في المشهد الثقافي السعودي ،يعود إلى أسباب تتعلق بهذا التوق إلى محاولة سبر التجربة اإلنسانية بأدوات معرفية غير تقليدية
اإلنسانية عيسى الغيث
وتحقري لألسف الشديد ،وال حل إال بالرجوع إىل تعاليم
اإلسالم الحقيقية الواردة يف الكتاب والسنة التي دعت لعلم
الفلسفة والكالم واملنطق بما ال يخالف الدين ،ويحقق املصلحة
العامة الدينية والدنيوية ويدرأ املفاسد عن البالد والعباد».
وللخالص من االلتباس بني الديني والفلسفي يشدد
الغيث عىل مسألة مهمة :ال بد من التفريق بني الفلسفة
وعلم الكالم واملنطق؛ فالفلسفة تهتم بمباحث كثرية منها: دراسة الوجود ،ودراسة املعرفة اإلنسانية ،وكيف نحصل عليها ،ودراسة القيم األخالقية ،ودراسة السياسة وغريها.
أما علم الكالم أو علم الجدل عند العرب فهو قرين الفلسفة
غالبًا ،وقد انحرفعندهم عن مساره الشامل إىل الرتكيز عىل الجوانب العقدية ،الف ًتا إىل أنه من هنا بدأ الخلل «ومن ثم
التحذير منه؛ إذ خرجت فرق متعددة متأثرة به؛ كالجهمية، واملعتزلة ،واألشعرية وغريهم ،وأما علم املنطق فهو العلم الذي يبحث يف التفكري الصحيح ،وكيف ننتقل بأحكامنا من
أشياءمجهولة تخفى علينا إىل أشياء أخرى معلومة (االنتقال من املجهول إىل املعلوم) مما يساعد يف تنمية َ امللكة العقلية عىل التصور واإلبداع».
الدقيق يف الفلسفة .وكل ما نراه هو جهود فردية متنوعة تنتقل من فكر إىل فكر ومن
مذهب إىل مذهب من دون تأسيس حقيقي الشتغال فلسفي شامل وعميق .بعبارة
أخرى ،التخصص يف أي مجال علمي أو معريف سيؤدي بالضروري إىل نشوء «تقاليد علمية» وإىل بروز مجتمع معريف .وهذا املجتمع املعريف هو أساس تطور أي علم ،والعلم
ال يتطور بالجهود الفردية».
ويرى الوقيان أن هناك ميلاً أكاديميًّا إىل العلوم التطبيقية ،وإهمالاً للعلوم النظرية.
«حتى يف العلوم االجتماعية واإلنسانية عموما يلحظ اشتداد ذلك امليل التطبيقي .وهذا أدى إىل انفصام الفكر العلمي األكاديمي عن الواقع املعيش .ففي العلوم االجتماعية مثلاً
شايع الوقيان
نجد مصادرة عىل التعريفات النظرية التي قررها علماء االجتماع الغربيون ،ومحاولة لتطبيق ذلك عىل واقعنا املغاير. وهذا خلل منهجي كبري؛ لذا فالحاجة إىل التنظري العلمي ملحة وضرورية .والحديث عن التنظري العلمي واملنهجي يقودنا مباشرة إىل الفلسفة .فكل املنظرين يف العلوم اإلنسانية هم فالسفة وقلما نجد منظ ًرا ال يعنى بالفلسفة».
65
تقارير
أسئلة الذات والوجود
من جهة أخرى ،أكد حسن ياغي مدير دار التنوير (إحدى
النوع من الكتابات لم يعد
الرئيسة) إقبال السعوديني عىل كتب الفلسفة بكثافة ،ويرد هذا
أن يف هذا النوع من الكتب
دور النشر العربية التي تعد الفلسفة واحدة من اهتماماتها اإلقبال إىل أنه بقدر ما تصبح أسئلة الذات ،والوجود والقيم، واألخالق واملايض والحاضر ،أسئلة مطروحة يف حياة املجتمع،
«بقدر ما تصبح الفلسفة حاجة؛ ألنها ميدان هذه األسئلة». ويقول :إن هذه األسئلة التي تبدو بعيدة أو وهميّة «هي يف ّ واملتعلمات الحقيقة أسئلة ملحّ ة عىل جيل جديد من املتعلمني
الذين ما عادوا يتقبّلون فكرة العالقة مع اآلخر ،وال العالقة بني الجنسني ،وال العالقة بالسلطة (زمنية ودينية) ،وال العالقة بالعالم ،والعلم ...كما كانت الحال لدى أهاليهم وأجدادهم. صحيح أنها أسئلة بسيطة ،لكنها قويّة وملحّ ة إىل حد جعل
للفلسفة ،وهي ميدان هذه األسئلة ،حضورًا ينمو ويتزايد يف أوساطهم .وهذا تعبري عن التطوّر الذي يحصل يف املجتمع.
فقبل سنوات عدة كانت كتب تطوير الذات هي الكتب األكرث رواجً ا لدى هذه الفئات ،وبخاصة تلك الكتب التي تالمس قضايا
66
فلسفيّة أو دينيّة ..لكن هذا
حسن ياغي :الشبان والشابات السعوديون يحتاجون إلى معرفة تدلّهم على مواجهة القلق الذي يعيشونه نتيجة ألزمات المجتمع
يريض فئة من القراء أدركت
تكرارًا لألفكار نفسها ،وأن مثل تلك القضايا تحتاج إىل
معرفة أعمق وقدرة أوسع ً عمقا يف النظر إىل وأكرث
األفكار التي تبني العالم».
حسن ياغي
ويلفت حسن ياغي إىل أن الشبان والشابات «صاروا يحتاجون إىل معرفة ّ تدلهم عىل مواجهة القلق الذي يعيشونه
كنتيجة ألزمات املجتمع .ويخطئ كثريًا من يظن أن يف هذا ً مروقا من املجتمع .إنهم يبحثون عن الحلول التي من واجبهم البحث عنها ،سواء عىل املستوى الفردي (وهذا مهم جدًّ ا) ،أو
عىل املستوى األخالقي (وهذا له تأثري كبري وهم يرون الفارق بني الخارج والباطن) .أو عىل مستوى القيم التي ّ تنظم حياة الناس ُ وتنظم عالقة الواحد (ة) منهم باآلخر».
ويتطرق إىل أن بعض هؤالء أصبح «يفتش عن كلمة
فلسفة يف أي كتاب ،كما لو أنها «موضة» وعليه أن يقتني
الكتاب وهو عاجز عن فهمه أو قراءته .ولذلك ذهبنا باتجاه
تقديم كتب مبسطة بالفعل تساعد عىل تلمّ س بداية الطريق للتفكري الفلسفي ،وهذا النوع من الكتب يلقى إقبالاً ممي ًزا يف السعودية».
غياب المرأة عن الفلسفة تقول الكاتبة الدكتورة أمرية كشغري :إن العالقة بني املرأة والكتابة الفكرية الفلسفية «يجب أن ينظر إليها من
زاويتني طبعتا تطور املجتمعات عىل مر العصور ،أوالهما :ظروف املجتمع وواقعه الثقايف الفكري ،ثم موقع املرأة يف هذا
املجتمع بشكل عام وقدرتها عىل تجاوز القيود السوسيوثقافية املفروضة عليها ،والخروج من دائرة االنشغال املعييش ً إنسانا» .وتميض قائلة« :بداية ال بد أن نعرتف بأن اليومي بوصفها «أنثى» إىل أفق االنشغال الفكري الفلسفي بوصفها
الفلسفة عىل مر التاريخ ويف كل املجتمعات كانت تمثل مجالاً نخبويًّا ،فاالنشغال الفلسفي كان يتطلب ،إىل جانب
سعة املعرفة ،وق ًتا كافيًا لالنشغال الفلسفي ،لذا كان النصيب األوفر من حظ الرجل؛ إذ لم تحظ النساء بالتعليم أو الوقت الكايف للدخول يف مجال الحياة املعرفية الفكرية ،ومع ذلك يمكن تعداد عدد من النساء الفالسفة (أو عىل أقل
تقدير مفكرات) يف الغرب مثل سيمون دي بوفوار .أما مجتمعنا بشكل عام ،فهو مجتمع غري صديق للتفكري النقدي وبناء املفاهيم ،ولذلك فهو ال يؤسس لعملية بناء اإلنسان املفكر .فالفلسفة إن لم تكن مجالاً محظورًا ،كما تعودنا، فهي ضرب من الرتف والسفسطة عىل أحسن تقدير ،املدارس ال تشجع عىل التفكري النقدي وال تبني املنهج العلمي يف الحكم عىل األشياء ،كما أن وسائل اإلعالم لدينا ال تسهم يف تنمية االتجاهات النقدية الخلاّ قة لدى الفرد».
وتلفت كشغري إىل أنه بناءً عىل تعريف الفلسفة بوصفها منظومة من األفكار واملفاهيم التي تفسر العالم وتقرتح
رؤية جديدة للعالقة بني اإلنسان والثقافة واملجتمع« ،يمكن القول بأنه ليس لدينا فالسفة من الرجال وال النساء».
العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
إقبال السعوديين على الفلسفة ..بح ًثا عن بديل للحداثة أم ضرورة لجيل جديد؟
كتب محاصرة بالخوف
محرمة كعلم ومحظورة كاتجاه ،ساهم
أما الكاتب والناشر عادل الحوشان (دار
بالطبع التصور الديني لها بنفيها وعدّ ها
حركة النشر املحلية «تدور يف إطار اآلداب
محاولة زحزحة هذا الثقل عىل مدى مئات
علمً ا منافيًا للعلوم الدينية .ولنا أن نتخيّل
طوى) ،فيقول :إنه لسنوات طويلة ظلت
السنوات يف غضون عشر سنوات من عمر
وفروعها ،وحبيسة مؤسسات رسمية
الحضارات املتقدمة».
خاضعة للرقابة بشكل مباشر ،لم تتطوّر حرية النشر املحلية إال يف العشر سنوات األخرية ،وهو عمر متأخر كثريًا يف تطور
العلوم والكتاب تحديدً ا».
عادل الحوشان
ويلحظ أن ما يسميه «الكتب املوضوعية»، ً مكانا جديدً ا بعد سيادة الشكل «احتلت
األدبي سنوات طويلة» .ويقول« :إن هناك
وفيما يخص الفلسفة وكتبها وأسئلتها يذكر أنها
ً أنواعا وأشكالاً أدبية شهدت حرب إزاحة ،لكن «باملراوغة احتل
هي نفسها أسباب تأخر حركة النشر املحلية ،يضاف
األخرية مع اتساع وسائل النشر والتواصل» .ويلحظ عادل
ظلت «محاصرة بالخوف من طرحها؛ ألسباب تكاد تكون
إليها ما الحقها من تحريم ديني واجتماعي عىل مستوى
الجامعات ،وعىل مستوى تظليل املفهوم العلمي لها». ويشري إىل أنه لم تتوافر مصادر مهمة ألسس الفلسفة
غري الكتب املرتجمة «عىل الرغم من مرور أكرث 2500عام عىل أول إطالق للمعنى واملفهوم الفلسفي ،وعدّ ت
األدب مكانه ،وأتيح له املزيد من الفرص يف العشر سنوات الحوشان أن عناوين الفلسفة الكبرية «بدأت يف أخذ مكانها يف املعارض املحلية .وامللحوظ ً أيضا أن القارئ أصبح يسأل ويجيب ويناقش ويسعى للحصول عىل كتاب الفلسفة ،وكأنه
كان بانتظار الفرصة ليثبت نوعيته داخل املجتمع وينفي هذا الخوف غري املسوّغ طوال عقود».
أميرة كشغري :عزوف المرأة
عادل الحوشان :القارئ أصبح يسأل
السعودية عن الفلسفة نتاج طبيعي
ويجيب ويناقش ويسعى للحصول
لظروف اجتماعية ثقافية تعيشها
على كتاب الفلسفة ،وكأنه كان بانتظار
المرأة في مجتمعنا
المسوغ الفرصة لينفي هذا الخوف غير ّ
وتقول :إن مسألة عزوف املرأة السعودية عن الفلسفة «نتاج طبيعي لظروف اجتماعية ثقافية تعيشها املرأة يف مجتمعنا ،فاملرأة معطلة يف مجتمع يفرض وصايته عليها ويعدّ ها
ناقصة عقل ،فكيف لناقصة عقل أن تفكر ،وكيف لها أن تبدع يف مجال الفلسفة وهي محاطة بسياج من املمنوعات يتعامل معها عىل أساس أنها قاصرة!! إذن فموضوع
الفلسفة وعزوف املرأة عنها هو نتاج طبيعي لظروف اجتماعية ثقافية تعيشها املرأة .وهذه الظروف تجعلنا ندرك أن موقع املرأة االجتماعي ومستواها الثقايف يعدّ مرآة تنعكس فيها
مواصفات هذا املجتمع وشروطه الحياتية».
أميرة كشغري
وتذكر أن الدخول إىل عالم الفلسفة «يمثل املرتبة العليا يف هرم االحتياجات اإلنسانية؛ إذ تتعلق بطرح قضايا ال
يمكن أن يتعرض لها إال من انتهى من إشباع الحاجات األساسية ،كما يقول عالم النفس ماسلو .ومن الواضح أن املرأة، بشكل عام والسعودية بشكل خاص ،ما زالت تصارع يف أسفل هرم الحاجات اإلنسانية األساسية ،فكيف لها والحال ً ميدانا يأيت يف املرتبة العليا من مستويات الفكر؟ ما زالت املرأة تناضل من أجل كسب قضايا وحقوق كذلك أن تخوض
ً إنسانا كامل األهلية ،يملك القدرة عىل اتخاذ قرارات حياته املصريية األساسية يف الزواج أساسية مثل حقها يف أن تكون والطالق وحضانة األطفال والعمل والحركة والسفر .وليس لنا أن نتوقع منها أن تخوض مجال الكتابة الفلسفية وهي
لم تتجاوز األساسيات يف الحياة بعد».
67
تقارير
جعلت من فيسبوك أكبر بلد على كوكب األرض
Big data
الحرب الباردةالخفية التي تحرك العالم محمود حامد الشريف كاتب مصري
68
ً وتحديدا في العقد الثاني من األلفية الثالثة ،حر ًبا يشهد العالم في اآلونة األخيرة، ضروسا ،لكنها حرب باردة ،أو بلفظة أكثر دقة حرب خفية ...المنتصر فيها اقتصادية ً
يستحق عن جدارة لقب «الجاسوس األعظم» ،من ينتصر فيها سيعرف كل شيء عن أي
شيء عن الناس :ماذا يأكلون؟ وما يدخرون في بيوتهم؟ ليس هذا فحسب ،بل بال مبالغة سيعرف أي شيء تحسبه من أخص خصوصياتك؛ وتخجل من أن تصارح به زوجتك.
العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
هي حرب من أجل االستئثار بالبيانات املتاحة عىل الويب،
« ،»Internet of thingsومحركات البحث ،وبرمجيات
والشركات التي يبحثون عنها ،واألسهم ،وطلبات التوظيف،
االجتماعي ،والحبل عىل الجرار .ومن خالل معالجة هذه
ومعرفة اهتمامات الجماهري ،وأي املطاعم التي يذهبون إليها،
والوجهات السياحية ،وتذاكر الطريان والفنادق ،ثم تحليل
هذه البيانات ،وفهم توجهات األفراد واألسواق من أجل التحكم يف األسواق والتوجهات ،بل طرائق التفكري ،وهي أكرب صناعة
قائمة اآلن ،وهي التي جعلت من فيسبوك أكرب بلد عىل كوكب األرض .هذا هو ما يعرف بـ« ،»Big dataأي البيانات الكبرية،
وهي تشري إىل ذلك الكمّ الهائل من البيانات املتاحة ،سواء كانت «مصادر متاحة للجمهور - البيانات املتاحة عىل شبكات
التواصل االجتماعي – البيانات املتدفقة» ،أو سواء كانت لدى شركة معينة تحتكر بيانات تخصها وتخص العاملني والعمالء
لديها؛ واألمر الحاسم هنا ليس يف امتالك البيانات ،ولكن يف تحويل تلك البيانات إىل معلومات ،واملعلومات إىل معرفة من أجل اتخاذ قرار مستنري ،سواء كان هذا القرار يف مجال التجارة أو السياسة أو الحرب أو مباراة رياضية.
التجسس املعروفة باسم « ،»cookiesوشبكات التواصل البيانات يتم تحديد أنماط السلوك وردود الفعل والتنبؤ بها؛
وتصل درجة دقة النتائج إىل أكرث من .%99
استحواذات «مايكروسوفت» عمالق الربمجيات
لعل إحدى املعارك الفاصلة يف أتون هذه الحرب كانت
منتصف شهر يونيو 2016م حني أعلنت شركة مايكروسوفت، وهي أكرب مصنع برمجيات يف العالم وشركة «لنكدإن» ،وهي شبكة التواصل املهنية األشهر يف العالم عن استحواذ شركة
«مايكروسوفت» عىل شبكة «لنكدإن» .بلغت قيمة الصفقة ما قدره 26مليارًا ومئتي مليون دوالر .هذه الصفقة هي ثالث أكرب صفقة يف تاريخ العالم االقتصادي .ليس هذا فحسب؛ فإن «مايكروسوفت» تمتلك أكرب سحابة حاسوبية مهنية
«مكنز كبري لتخزين امللفات والبيانات واملعارف» و«شبكة
فقد نشرت إحدى القنوات الفضائية أن أملانيا طلبت من
لنكدإن» هي أكرب شبكة تضم أصحاب األعمال والباحثني عن
ملواجهة فريق إيطاليا يف يورو 2016م ،وقدمت الشركة تطبيقني األول »SAP Challenger Insights« :وهو يقدم تحليلاً
ويف عام 2012م اشرتت «مايكروسوفت» شبكة التواصل
«يامر» بمبلغ مليار ومئتي مليون دوالر ،وهي شبكة تواصل
»Insights Functionوهو يقدم النصائح لحارس املرمى
وضمتها «مايكروسوفت» إىل حزمة تطبيقاتها املتاحة لتصبح
شركة « ،»SAPوباستخدام تطبيقات «ال ِبغ داتا» توفري حلول
للطرق الهجومية والدفاعية للخصم؛ الثاينSAP Penalty« : واملدرب حول تسديدات الخصم؛ وفازت أملانيا باملباراة.
أدوات هذه الحرب هي السيطرة عىل مسارات تدفق هذه
البيانات من خالل السحابات الحاسوبية ،وإنرتنت األشياء
وظائف.
ألصحاب املشاريع وللعاملني تحت سقف شركة واحدة، من جملة الخدمات املقدمة يف خدمة الربيد اإللكرتوين «آوتلوك» .وقبل ذلك يف عام 2011م كانت «مايكروسوفت» قد
استحوذت عىل «سكايب» بمبلغ قدره ثمانية مليارات ونصف
69
تقارير
املليار دوالر؛ وللعلم فإن معظم املقابالت املهنية الدولية
والخاصة باملنظمات الدولية تتم من خالل «سكايب». سيادة الدولة القومية
وقد نشرت الصحافة الفرنسية خالل شهر يوليو 2016م خربًا
مفاده تحذير من الحكومة الفرنسية لشركة «مايكروسوفت»
لقيام األخرية بنقل بيانات املستخدمني لنسخة «ويندوز» 2010م بشكل غري شرعي خارج حدود فرنسا .أما إيران فقد طلبت يف شهر
مايو املايض من شبكات التواصل أن تحتفظ بالبيانات عىل خوادم داخل حدود إيران؛ مع العلم أن إيران تحظر موقعي فيسبوك
وتويرت ،مثلها يف ذلك مثل الصني؛ إال أن املواطنني يتمكنون من الوصول إليها من خالل برمجيات تعرف تحت اسم «»proxy؛ وتتيح إيران فقط برامج املراسلة اآلنية مثل «واتس-آب».
أجل االستئثار بالبيانات المتاحة على الويب ،ومعرفة اهتمامات الجماهير، ثم تحليل هذه البيانات من أجل التحكم في التوجهات وطرائق التفكير ،وهي أكبر صناعة قائمة اآلن مجال الربمجيات؛ إذ قامت باالستحواذ عىل شركة «،»EMC
وكانت قيمة الصفقة 67مليار دوالر؛ وحتى ال يقع القارئ فريسة للعبة األرقام ننظر ملا وراء هذه األرقام ،وما مجاالت عمل تلك الشركات؟ كلمة السر ليست قيمة الصفقة ،كلمة
إن هذه االستحواذات التي تجري عىل هذا النحو ليس
السر تكمن يف طبيعة نشاط شركة « ،»EMCفالشركة تعمل يف
اإلنرتنت» إن جاز لنا نحت هذا املصطلح؛ لكن هي باألساس
ومعالجتها .والحوسبة السحابية هي ببساطة مصطلح يشري
الهدف منها فقط هو تعظيم حصة الشركات يف «اقتصادات
تهدف للسيطرة عىل هذه الصناعة لتحقيق الهدف األسمى املتمثل يف الوصول إىل أكرب قدر من البيانات املتاحة يف الفضاء
اإللكرتوين .هي حرب تجسس اقتصادي باألساس ،الهدف منها
70
ضروسا من حربا يشهد العالم حال ًّيا ً ً
السيطرة عىل أسواق العالم ،وربما القضاء عىل فكرة السيادة
للدول القومية.
هوس البوكيمون
ولعل ظهور لعبة «بوكيمون» قد أثار املخاوف بشأن
عمليات التجسس ،لكن ما ال يعلمه الكثريون أن الصالحيات املمنوحة لربنامج مثل « »True-callerأو فيسبوك تفوق
بمراحل ما تحظى به لعبة «بوكيمون» .فهي ال تستهدف
التجسس من خالل استخدامك لكامريا املوبايل كما زعم بعض الكتاب؛ تستهدف اللعبة الوصول للبيانات املتاحة عىل جهاز املوبايل باألساس ،وبقاء املستخدم داخل تطبيق اللعبة ،وأن يكون متصلاً شبكيًّا ،وبهذا تستطيع أن تزيح «فيسبوك» من
مجال الحوسبة السحابية ،وأمن املعلومات ،وتخزين البيانات إىل الوصول اللحظي واآلين للمعلومات والبيانات يف أماكن
مختلفة من العالم من خالل الخوادم والشبكات واإلنرتنت.
تشهد هذه الحرب كل يوم واقعة استحواذ جديدة،
فوقت االنتهاء من تدوين هذا التحقيق أواخر شهر يوليو
الجاري استحوذت شركة «فريزون» عىل شركة «ياهو»، وتمتلك األخرية شبكتي «فليكر» و«تمبلر» ،وبلغت قيمة
الصفقة خمسة مليارات دوالر. ً نموذجا أوبر
ولتقريب فكرة املزاوجة بني «البغ داتا» والحوسبة
السحابية؛ لعلك تعاملت وإن لم تتعامل فحتمً ا سوف
تتعامل مع شركة «أوبر» ،أو أي من الشركات التي قامت
بتقليد نشاطها؛ فشركة «أوبر» هذه ليست كما تعتقد مجرد شركة تعمل يف مجال النقل ،بل هي شركة تعمل يف مجال
الحوسبة السحابية! فنشاط الشركة يقوم عىل فكرة عبقرية
تربعه عىل عرش اإلعالنات .إن اللعبة يف جوهرها نتاج حملة
مفادها تقديم بيانات الوقت الحقيقي ،بمعنى أن سائقي
شركة «سفن بارك داتا» ،فإن معدل استخدام اللعبة فاق
بتحركاتهم وأماكن وجودهم؛ كما يتم تسجيل بياناتك أنت
دعائية ،وحرب تكسري عظام بني عمالقة اإلنرتنت ،فبحسب معدل بقاء املستخدم داخل شبكة «فيسبوك» و«يوتيوب».
هي رغبة يف االستحواذ عىل الجمهور وبيانات الجمهور للفوز
بأكرب نصيب من كعكة اإلعالنات. أكرب صفقة استحواذ
كانت الصفقة يف أواخر عام 2015م لصالح شركة دل «»Dell وهي من أكرب مصنعي الحواسب يف العالم ،وتعمل ً أيضا يف العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
التاكيس املسجلني يف تطبيق «أوبر» يسجلون البيانات الخاصة كطالب للخدمة ،ومن خالل السحابة يتم الربط بني طلبك
وأقرب سائق مسجل يف خدمة «أوبر» يعمل يف نطاقك
الجغرايف ،بحيث يصل إليك يف أقرب وقت ممكن.
وشركة «أوبر» مسجلة من بني أكرث مئة شركة يف العالم
جذبًا للموظفني وذلك بحسب قوائم «لنكدإن»؛ وتنتشر الشركة يف 444مدينة حول العالم؛ ومقرها يف كاليفورنيا عىل الساحل الغربي األمرييك .وقد انتشر نشاط الشركة حول
جعلت من فيسبوك أكبر بلد على كوكب األرض « ... »Big dataالحرب الباردة الخفية التي تحرك العالم
محمد بن سلمان في لقاء مع مارك زوكربيرغ في الواليات المتحدة يونيو 2016م
العالم ،وقامت شركات كثرية داخل أمريكا وخارجها بتقليد
ويل العهد السعودي األمري محمد بن سلمان شهر يونيو 2016م
إن املستقبل ملن يتحكم يف صناعة «البغ داتا» ،ولعل
العاملة يف وادي السيليكون ،وأشارت الصحافة السعودية
القادمة ،هي تلك املتعلقة بمجال هندسة البيانات ،والتنقيب
يف حال انتهاء عصر النفط ،أو تهاوي أسعاره بشكل يقارب
النشاط حتى ظهر مصطلح أبرنة «.» uberization
املهارات األكرث طلبًا ،والتي تطلبها جهات التوظيف يف املرحلة عنها ،وتحويل هذه البيانات إىل معلومات ذات داللة معينة، والخروج بما يعرف بقرار مستنري «well-informed
.»decision
ولعل هذا هو السبب الذي جعل أكرب اقتصاد نفطي
«السعودية» يسعى لالستثمار يف هذا القطاع ،وكانت زيارة ويل
ترجمة عملية لهذا؛ إذ التقى الرؤساء التنفيذيني للشركات
صراحة إىل استثمار اململكة يف البيانات الكبرية «بغ داتا» كبديل
كلفة اإلنتاج.
تكتمل الدائرة بما يعرف بإنرتنت األشياء « Internet
،»of thingsوهو التواصل الشبيك بني األجهزة واملعدات، مثلاً تتصل ثالجة املنزل إنرتنتيًّا بالسوق التجاري ،وتطلب
أوتوماتيكيًّا بصورة آلية حليبًا ،ودجاجة مجمدة ،وعلبة آيس
كريم؛ وذلك بناء عىل بيانات سبق إدخالها يف نظام الثالجة يف حال عدم وجود أصناف معينة بداخلها ،وكل ذلك من خالل
توجه السعودية لالستثمار في
أجهزة استشعار ...ولعل هذا يفسر استحواذ شركة غوغل عىل
شركة نستله؛ لكن ما هو أعقد من ذلك أن يفهم الجهاز أو
البيانات الكبيرة «بغ داتا» كبديل
الجماد احتياجاتك حتى أنك قبل أن تنقر كلمة معينة للبحث
تهاوي أسعاره بشكل يقارب كلفة
وذلك من خالل تحليل أنماط السلوك.
في حال انتهاء عصر النفط ،أو اإلنتاج
عنها عىل محرك البحث يأتيك الجهاز باملعلومات قبل طلبها، الخالصة هي :تحليل أنماط السلوك للتنبؤ بالفعل ورد
الفعل من أجل السيطرة والتوجيه.
71
تقارير
في زمن القذافي وما بعده..
المثقف الليبي يواجه العنف الطليق
72
كنت أؤكد ،كلما سنحت المناسبة ،أنني أرى أن الحركة الثقافية الليبية الحديثة ،تتميز بكونها، مقاومة .فهي تتقدم إجمالاً ،حركة ثقافية ِ وتتطور بمشقة ،تشتد أو تخفت ،بين حقبة وأخرى ،لكنها لم تنعدم في أي حقبة .إنها ،في المحصلة ،تتقدم رغمً ا عن الظروف المعاكسة، وليس بسببها. تاريخيًّا ،من المعروف أن ليبيا ظلت من أمالك الدولة العثمانية حتى نهاية العشرية األولى من القرن العشرين .ومع صدور الدستور العثماني، الذي عرف باسم «المشروطية» ،سنة 1908م، الذي سمح بالصحافة الخاصة في الواليات التابعة للدولة العثمانية ،ومنها ليبيا ،أو ما كان يعرف بإيالة طرابلس ،بدأت تظهر تلمسات األدب الحديث لدى بعض الكتاب والمثقفين الليبيين. «دكتور أحمد إبراهيم الفقيه ،بدايات القصة الليبية القصيرة ،المنشأة العامة للنشر والتوزيع واإلعالن .طرابلس1985 ،م ،ص .»8
عمر أبو القاسم الككلي كاتب ليبي يقيم في مصر
لكن هذا الوضع لم يستمر سوى برهة وجيزة ،إذ سرعان ما
وقعت البالد تحت االستعمار اإليطايل االستيطاين مع نهايات سنة 1911م ،فأُوقِف ،بذلك ،مسار التطور الثقايف يف ليبيا ،بحيث لم
تنشأ تحت نري االحتالل اإليطايل ما تمكن تسميته بحركة ثقافية ،ال بالعربية وال حتى باإليطالية ،ذلك أن هذا االستعمار كان استعمارًا استيطانيًّا لم يكن يهدف إىل استعمار البالد وطلينة الليبيني «عىل
خالف االستعمار الفرنيس يف الجزائر الذي كان يهدف إىل فرنسة الجزائريني» إنما كان يبتغي إفراغ البالد من سكانها ،وإحالل
اإليطاليني بدلهم؛ ألنه «عىل العكس من وضع االستعمار الفرنيس يف الجزائر» كان لديه فائض يف اليد العاملة .كما أن سيطرة الفاشية عىل إيطاليا سنة 1922م كانت نكبة للثقافة يف إيطاليا ذاتها .إضافة إىل أنه لم تتح لهذا االستعمار فرص االستقرار بسبب قصر مدة بقائه
يف البالد «حوايل ثالثني سنة» ،وبسبب املقاومة الباسلة التي أبداها
الليبيون طوال عشرين سنة ،وحدوث الحربني العامليتني املعروفتني.
كان ال بد من انتظار جالء االستعمار اإليطايل عن ليبيا بداية
أربعينيات القرن املايض ،ووقوع البالد تحت اإلدارة الربيطانية ،وهو الظرف الذي أتاح عودة كثري من املثقفني الليبيني املهاجرين ،وتحرر من بقي من املثقفني يف أرض الوطن ،وظهور الصحف الوطنية،
حتى تبدأ الحركة الثقافية الليبية يف االنتعاش واالنطالق من جديد. استمر هذا الحراك ،بقدر معقول من الحرية ،بعد نشوء دولة االستقالل امللكية سنة 1952م إىل وقوع االنقالب العسكري الذي قاده معمر القذايف ،واستيالء العسكر عىل السلطة ،ثم تجمع مقاليد هذه السلطة كافة يف يد معمر القذايف الذي أسفر «ولم يكن يف هذا الجانب متمي ًزا عن زمالئه يف مجلس
قيادة الثورة» عن عداء
العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
وحقد ضد الثقافة واملثقفني .فضيق عىل الحركة الثقافية، وجعلها تسري عىل ساق واحدة ،وتتنفس بصعوبة ،وطارد الكتاب
واملثقفني وسجنهم ،لكن الحركة الثقافية الليبية حافظت ،عىل رغم كل يشء ،عىل قدر من النشاط ،ولم تخمد خمودًا كاملاً . انعتاق املثقفني من القمع
بمجرد سقوط «أو إسقاط» نظام معمر القذايف مع نهايات
سنة 2011م تفجر أمل جياش بأن عهدً ا من الحريات العامة ،ويف
أساسها طبعً ا حرية التعبري ،والديمقراطية يطرق اآلن الباب،
معمر القذافي
أحمد إبراهيم الفقيه
املثقفون ينقسمون عىل أنفسهم
بإلحاح ،وأن أوان ازدهار الثقافة ،وانعتاق املثقفني من املحاصرة
صحيح أنه ،باستثناء بعض ممن كان لهم نشاط بارز يف
مجاالت أخرى ،بعضها لم يسمح بنشره إبان عهد معمر القذايف.
النطاق ضد الكتاب واملثقفني ،عىل غرار الحملة التي شنت عىل
والقمع أصبح عىل راحة اليد ،فصدرت كتب عدة يف األدب ويف ظهرت كتب تتناول مجاالت لم تكن مطروقة يف الكتابة
الليبية من قبل .توزعت هذه املجاالت بني ما تمكن تسميته «رواية
املنفى» التي تتخذ من وضع طالبي اللجوء السيايس يف أوربا، وحياتهم يف معسكرات اللجوء مدار سردها ،والحديث عن نظام
القذايف الطغياين ،أو تسجيل يوميات ثورة 17فرباير ،أو تناول
تجربة بعضهم يف السجن ،سواء إبان حكم القذايف ،أم خالل أحداث الثورة ،وصدرت الصحف ،وانعقدت الندوات ،ونشط
الكتاب واملثقفون.
املجال الحقوقي العام ،لم تشن حمالت اغتيال وخطف واسعة
العسكريني املحرتفني يف الجيش الليبي واإلعالميني ،لكن يف هذا
املناخ اختنق املثقفون والكتاب وانقسموا عىل أنفسهم ،فمنهم من تمرتس ،عل ًنا أو ضم ًنا ،وراء متاريس جهته أو مدينته أو قبيلته أو إثنيته ،ومنهم من تمسك برؤيته الوطنية العامة،
وحاول املحافظة عىل رؤية متوازنة موضوعية ،ومشكلة هؤالء
أنه ليس ثمة من يحميهم؛ ألنهم ليسوا محل رضا األطراف املتخاصمة واملتنازعة قاطبة ،فغادر البالد منهم من استطاع إىل مغادرتها سبيلاً .
يف نظام معمر القذايف الشمويل كان ثمة نظام سيايس
لكن تبني أن الحال كانت مماثلة ملحتوى حكاية جحا حني مأل جرة طي ًنا مغطى بطبقة رقيقة من العسل ،وأخذها لبيعها
ودولة ،وكان النظام ،عرب أجهزته األمنية ،يحتكر العنف .كنا
الله!» «بالدارجة الليبية .واملعنى :بعد عمق أصبعني تصل
نحاول أن نفعل ما يريض ضمائرنا محاذرين تجاوز «الخطوط
يف السوق مناديًا عليها «صبعني والحق الطني! يا عامي عماك
الطني .أيها األعمى [الغبي] لقد أعماك الله» ،إذ سرعان ما ً جارفا ،وأن ما كان يطرق الباب هو اتضح أن األمر كان وهمً ا استبداد جديد أشد من األول وأبشع ،وأن ما كانت تالمسه
أيادي الجميع ،ويف الطليعة منهم املثقفون ،قيود أعتى وأوجع. لقد بدا األمر كما لو أنه كان خدعة مدبرة ،وكمي ًنا منصوبًا
بمهارة وحنكة وقع فيه الشعب الليبي بسهولة كاملة.
فسريعً ا ما انطلقت الجماعات الدينية التكفريية من
قمقمها أو عقالها «باألحرى خرجت من كهوفها» ،وشرعت يف
شن حربها التكفريية التي ال تجيد عداها .بعض هذه الجماعات
لم تكن تنتهج أسلوب القتل ،إنما تركته لغريها من الجماعات التكفريية املسلحة .فكرثت حاالت اقتحام املكتبات ،وترويع
أصحابها ،ومصادرة بعض الكتب بتعليالت مختلفة .كما تقاسمت السيطرة عىل البالد وحياة املواطن اليومية جماعات مسلحة اختلط فيها الديني بالجهوي باملديني بالقبيل بالعرقي
باالرتزاقي ،وصار مناخ الخوف سيدً ا ،واالغتيال والخطف واملوت بالرصاص الطائش ً شأنا يوميًّا.
نعرف ،تقريبًا ،ما الذي يزعج النظام ،وما الذي ال يزعجه ،وكنا
الحمراء» .اآلن ،لم يعد ثمة دولة ،باملعنى السيادي والوظيفي، وال يوجد نظام سيايس يحتكر العنف يمكن تحديد إطار عام
للتعامل معه .إن ما يوجد حاليًّا جماعات «يك ال أقول عصابات»
تسيطر عىل البلد ،ولكل منها رؤيتها الخاصة للمحلل واملحرم، وما يجوز وما ال يجوز.
مع ذلك ،ما زال قلب الحركة الثقافية الليبية ينبض ،وإن
بمشقة .فما زال بعض املثقفني والكتاب يقيم الندوات ،ويمارس
الكتابة يف الفضاء املتاح ووفق الهامش املتوافر ،ومنهم من ً محافظا عىل الكتابة يف الشأن الليبي من بؤر الخطر حيث ظل
الغياب الكامل ،الفعيل والصوري ،للدولة وانعدام األمان .وما
زال كثري من الشباب ،ذكور وإناث ،يشكلون نوادي للقراءة، ويتجادلون يف ما يقرؤون ،ويقرتحون كتبًا للقراءة ،ويقيمون معارض متواضعة للكتاب ،إىل غري ذلك.
لكن املرحلة الحالية تعد أسوأ مرحلة تمر بها الحركة
الثقافية الليبية عرب تاريخها الحديث .ونود أال تطول هذه
املرحلة أكرث.
73
دراسات
ُ شعرية المرأة الخليجية ُ وفحولة اللغة قراءة في المشهد والتج ّلي ور حبيب ُب ْ ـوه ُـر ْ أستاذ األدب والنقد الحديث المشارك في جامعة قطر
74
ارتبطت شعرية المرأة الخليجية المعاصرة بعنصري
الصدام والدهشة ،كفعل انقالبي على أرض الواقع وموروث مكرَّس بسلطة ذكورية خرقت المتخيل الثقافي
واألدبي منذ القرن الثالث الهجري؛ حين كان النقد ذكور ًّيا والكتابة ذكورية واللغة ً أيضا ،ولم ُيسند للمرأة حينها وإلى يومنا سوى المعنى والصورة اللتين تتسابق الذكورة إلى نسجهما وفق معايير جسدية وثيولوجية
ّ ومعدة من قبل .من هنا ظهرت الكتابة الشعرية مفروضة في الخليج كفعل انقالبي؛ ألن «الشرط األساسي في
كل كتابة جديدة هو شرط انقالبي ،وهو شرط ال يمكن
التساهل فيه أو المساومة عليه ،وبغير هذا الشرط ً تأليفا لما سبق تأليفه ،وشرحً ا لما االنقالبي تغدو الكتابة انتهى شرحه ،ومعرفة بما سبق معرفته».
العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
إن السبب الرئيس يف تحرر الكتابة النسوية يف منطقة
وعن الكتابة الثقافية «وتفردت الفحولة باللغة ،فجاء الزمن مكتوبًا ومسجلاً بقلم املذكر واللفظ الفحل.)3(»...
يف إبرازه مختلف مظاهر الحياة الخليجية املعاصرة ،سواء
من الشواعر الخليجيات يف فضاء املمارسة والكتابة اإلبداعية، فهناك أسماء برزت منذ عقود (الثمانينيات) وال تزال ُتفاعل
الخليج من سلطة الفحولة وتكريس املعنى ،هو الرغبة
الجامحة يف تحقيق الذات ضمن فضاء ثقايف مميز ،ساهمت كانت هذه املظاهر ثقافية أو اجتماعية أو اقتصادية ،بل إن
الثيمة الفاعلة يف تقديري ذاتية؛ تحاول خاللها كل شاعرة أن تنتقل إىل مرحلة وأد الفحولة من خالل وأد لغتها،
ومتطلباتها الثقافية الراسخة عرب الزمن ،والتخلص من أزلية: املرأة معنى والرجل لغة .وعليه فقد «كتبت املرأة أخريًا ودخلت ّ وفكت شفرتها، إىل لغة اآلخر واقتحمتها ،ورأت أسرارها،
فتكلمت املرأة عن مأساتها الحضارية ،وأعلنت إدانتها للثقافة
والحضارة ،وبينت أن هذه الحضارة املزعومة ليست تحض ًرا أو تطورًا فكريًّا؛ فالحضارة التي تقمع املرأة ليست حضارة.)1(»...
إن فعل الكتابة الشعرية املعاصرة يف املجتمعات العربية
عمومً ا ،واملجتمع الخليجي عىل وجه التخصيص ،هي كتابة
َ ُ وقت مقاربة تفصيالت هذا املقال ،عددًا كبريًا جلت سَ
الكتابة والتشكيل وفق قناعات ذاتية ومتطلبات شكلية
ومعرفية نامية ومتغرية .ويف املقابل كانت أسماء أخرى تيضء يف مرحلة ثم يخفت ضوؤها؛ وكأنها اعتزلت أو تنتظر لحظة التجيل من جديد ،فظاهرة االعتزال يف األدب الخليجي النسوي ً سابقا من رواسب ثقافية ظاهرة حاضرة بقوة وبفعل ما ذكر وحموالت حضارية .و مع هذا فإن الشاعرات االنقالبيات عىل
نظرية الفحولة ومنطق لغة الفحولة رفضن دومً ا مفهوم األنوثة كمعنى؛ وقد ساهم يف تسجيل حضورهن ضمن
املشهد األدبي الخليجي أسباب كثرية ،ربما تكون الصحافة بعد انتشار التعليم يف صفوف البنات هي أبرز العوامل ّ املنشطة
تقف عند معادلة الذات واآلخر ،واألنا واألنا اآلخر ضمن
لألدب النسوي يف الخليج ،وتناولت األديبة اإلماراتية «ظبية
الشاعرة يف منطقة الخليج يتطلب كسر جدلية الصراع الثقايف
«إننا يف مرحلة تحول وانتقال ثقايف وحضاري وسيايس كبرية،
إطار إبستيمولوجي وسايكولوجي متداخلني؛ فتحقيق الذات الكامن يف املحموالت املرتاكمة منذ القرنني الثالث والرابع
الهجريني ،وعىل مدّ األزمنة واألمكنة ال تستقيم العملية االنقالبية إال بإعالء الذات وتضخيم األنا األنثوية يف فضاء
كتابة نسوية مدعمة بنظرية وافدة عىل املنطقة؛ عدت من بني الروافد األساسية املؤثرة يف تفعيل الكتابة الشعرية النسوية
يف الخليج.
لقد تساءل الدكتور عبدالله الغذامي حني قارب اإلشكالية
قائلاً ...« :هل تستطيع املرأة أن تسجل من خالل إبداعها ً اختالفا أنثويًّا إيجابيًّا يضيف إىل اللغة والثقافة بعدً ا اللغوي
إنسانيًّا جديدً ا ،ويجعل من التعبري اللغوي تعبريًا ذا جسد
خميس» أسباب التطور واالنتشار ألدب املرأة يف الخليج قائلة: إن التغريات الحادة يف املجتمعات الخليجية والتقدم املادي
السريع ،وتحول املنطقة إىل بوتقة للعوملة عىل كل املستويات، ال بد أن يفرز ً طرقا جديدة للتعبري عن الذات بما يف ذلك التعبري األدبي والفني ،وهي مرحلة سوف يرافقها الكثري من اإلنتاج اإلبداعي األدبي . »...وعليه أضحى الشعر النسوي ظاهرة ()4
وملمحً ا ومتطلبًا اقتحاميًّا ،ورافدً ا من روافد الشعرية العربية املعاصرة املدجّ جة بجدلية الهدم والتأسيس :هدم ثنائية
الفحولة والذكورة ،وتأسيس الثنائية النسوية واللغة بعيدً ا
من منطق :الرجل لغة ،واملرأة معنى.
ونظ ًرا للعدد الكبري من الشواعر املتميزات والحامالت للواء
التأسيس الشعري النسوي ،ارتأيت أن أعرض نماذج منتقاة
طبيعي حينما يسري عىل قدمني اثنتني مؤنثة ومذكرة ،ويجعل األنوثة معادلاً إبداعيًّا يوازي الفحولة وال يقل عنها وال يقبل
من التشكيل الشعري الحر والنرثي لكل من :الشاعرة هدى
أنطلق من هذا التساؤل املعريف املهم ملقاربة بعض النماذج
والشاعرة سعاد الصباح «الكويت»،والشاعرة زكية مال الله
الكتابة ،وإعادة إنتاج املختلف واملتشاكل يف الثقافة العربية من
تقدير أكاديمي وشخيص مضمونه أن القصيدة الحديثة حرة
بكون األنوثة فحولة ناقصة؟»(.)2
اإلبداعية الخليجية ،عند شواعر أعتقد أنهن أدركن الغاية من خالل هدم نظرية الفحولة اللغوية ،وتأسيس الذات األنثوية بعد غياب األنوثة التام عرب التاريخ؛ كونها غابت عن اللغة
سعدي «اإلمارات» ،والشاعرة صالحة غابش «اإلمارات»، «قطر» ،ولعل السبب يف هذا االنتقاء والتخصيص يرجع إىل
«شعر التفعيلة» كانت أو نرثية «قصيدة نرث» هي أفضل ثيمة عرض لثنائية الرفض والبناء الشعريني . يمكنها أن َت ِ
75
دراسات
ُهدى َّ عدي.. الس ِ ّ الحس القومي وإدراك تفصيالت الذات بني تفعيل
تعاملت هدى السعدي كشاعرة يف مختلف دواوينها
الشعرية مع التفصيالت اليومية للحياة العربية املعاصرة
بمختلف أبعادها القومية واالجتماعية ،فكتبت عن الوطن وعن املقاومة يف العراق وفلسطني ومختلف البلدان العربية،
ظهر هذا جليًّا يف ديوانها األول «دموع البنفسج» حيث ترافقت
املعاين يف قصيدة هدى مع سيل جارف من الدفق الثوري
العربي الذي فرضته املقاومة الحرة والشريفة عىل خط مسار الكتابة عندها .لقد جاء شعرها وهي بعيدة جغرافيًّا عن
مواقع الثوار ليعطي داللة فكرية وبنيوية عميقة ،أساسها ذلك التأثري الشعري يف الوجدان القومي؛ حيث اخ َتصر الشعر العفوي املدرك يف أسطر قصائدها كل مساحات الزمن ،لتعلن
وحدة الشعور القومي وما يستتبعه من تأثريات تجمع ماجدة اإلمارات إىل ماجدات فلسطني والعراق ولبنان.
حرصت هدى السعدي يف مختلف قصائدها عىل إحداث
الدهشة الشعرية يف املتلقي ،بل سعت إىل تأكيد ذلك من
خالل مستويات خطاب تشدك مباشرة إىل الصرخة املنبعثة
76
من بني الكلمات ،حينها تتعمَّ د الغوص يف جدران سجون الذات لتكتشف انتخاءات أمة عربية ،تقول يف قصيدة «عبلة»
توايس املعتقالت العراقيات:
هذا دمي.. َ قد جاءنا ناعي الكرام ِة نادبًا أقما َر بغدا َد السبية يف الهوادج َ مأتم عرس.. ذات ٍ ِ ِ ّ ُ ُ َ يزدانُ مربقعً ا بنقابها لم تؤت كلة خدرها العفاف من كان من بابها
ُ ظهر رت فوق لكنها هُ تكت -ويا للعار -من حُ جّ ابها و يبيت عن ُ ِ حشي ٍة ُ ُ عبس كلها ..شمّ اء فوق سرا ِة أدهمَ مُ لجم وتبيت عبلة دون ٍ
ْ ْ أوا ُه يا مجدً ا ي ْ ويباع كل قرارتني املتاع ُضاع كأنـه سقط
بدرهم ٍ زفراته انبطحت توسد خدها التاريخ
شوق بات يزهر بالردى تقضم شوك ٍ متمجسا مته ِّودًا ً
الســدى ات ُّ متنعمً ا بسعري ج ّن ِ ً شرفا لنا ولغت به سود الكالب.. أوا ُه يا
زمزم ومضمضت أفواهها من ٍ مالب ضاقت مرامي أرضنا عن عرضنا لم يبق فيها من ْ
الشارب املرتنم الذباب ..بها يغني وحده هزجً ا كفعل فرتى ْ ِ وأنت تعطنيَ الورى درس الفدى الل ُه يا بنت العراق ِ
العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
هدى السعدي
وتبس ِم بتألم.. ّ ٍ ُ الل ْه إذ ت ِقفنيَ ما بني املدى تتهكمنيَ عىل الردى َ ٌ أعراض سدى وتعلمني النخل أن زوابع األنواءِ
لن تركعي يف وجهها ،لن ُتهزمي.. ()5 أو ُتعدِ مي الجنب الذي استشرى بنا أو ُتعدَ مي وتقف الشاعرة ً أيضا عند ظاهرة تفعيل الحزن وتثويره
ومساءلته ضمن جدلية أزلية تؤسس لثيمة شعرية تضاف ملختلف ثيمات الصورة يف الديوان ،إنها تخاطب حزنها الذايت
والعربي والقومي معً ا ،وتسائل ذاتها األنثوية وتبحث عن
االنعتاق من قيود املايض والراهن ،تؤسس لفلسفة يف الكتابة
لها مسوغاتها ضمن إشارات الدهشة يف القصيدة الحرة ،تقول
يف قصيدة «باختصار»:
وتدمدمُ األشواق يف روحي ُ يسابق عدوَها عد ُو األنني
فيغيب عن وعيي القرا ْر
ويصارع األفكا َر يف رأيس الطفل نشيجُ ِ ٭٭٭
األشواق اخضرا ُر مالمح ِ ّ الكحل و اء ن الح يف معزوفة ِ احمرا ُر مشارق األحالم من َخ َفر الوليد ِة َ جمرة الخدين وهي تنضحُ الضحوك بالدمع ِ
شعريةُ المرأة الخليجية وفحولةُ اللغة ..قراءة في المشهد والتجلّي
تشمُّ أمشاج السعاد ِة
إذ تضم لصدرها همس القالد ِة ً ساهمة العرس يف ثياب ِ يناغيها السوا ْر
ُ وتجادل األقدا َر يف زمن الذكور ِة يف شهرزا ٌد َّ
تأبى أن يُهدهدَ ها لتغف َو يف سرير النوم ()6 إلاّ ..شه َريــا ْر لم تستطع الشاعرة كإنسانة وأنثى أن توقف مستويات
البوح الذايت يف ديوانيها «دموع البنفسج» و«أبجدية البوح
الصاخب»؛ وعىل الرغم من استعارتها الشخوص التاريخية النسوية املتفردة مثل «عبلة» و«شهرزاد» وغريهما من الذاكرة
واع مع الشعرية والسردية العربية القديمة يف عملية تناص ٍ التاريخ ،فإنها يف قصائد أخرى قررت التج ّرد من كل التماهيات
ال تتصل
كلمات س ْر إين وضعت لهاتفي ِ فاعلم إذن أن اتصالك لن يصلْ َ اللغة سأعامل
َ وبينك التي بيني بالضمري املنفصلْ ٭٭٭
ال تتصل
رسبت من األجواء ُ مغنطة الهواءْ
فكيف يمكنك اللقاء
عىل أثري منحس ْر ٭٭٭ يا ضمّ ًة
املضمونية يف النص الشعري ،واكتفت بتفعيل الذات الشاعرة
أمَّ ُ لت رفعَ اسمي بها
سعت إىل رفضها داخل التشكيل الشعري الحر ،تقول يف
كن شاع ًرا
كأنثى رافضة ألحكام الذكورة ضمن سياقات اجتماعية طاملا
قصيدة «نجوى»: ْ تتصل ال
من قال إين أنتظ ْر
فإذا بها بعد التأمل حرف جَ ْر واجعل سواقي الخمر تجري تحت أبيات الغزلْ ً نجمة كن َ ْ مناط َ زحل ك يف واجعل
يومي ميلءٌ باألغاين والصو ْر
باملختصر:
فراغ تفتش عن ٍ املشحون ظِ ْل ما له يف عمرها ِ
فلن أكون سوى قمر
لحظات ساعايت
والوقت يف وقتي
كن ما تشاء
ونقرأ لها ً أيضا يف منت الديوان خطابًا سوداويًّا قاتمة صوره،
يفتش عن مدا ُه ُ الوقت الثمِ ْل وكيف يملك وعيَه
أسئلة وجودية كثرية ال تقدَّم لها إجابة ضمن حوارية النص
يا هذا َ فلست املنتظ ْر
أنقاض عوالم الظلمة واملأساة .لقد استطاعت هدى الشاعرة األنثى أن تستعري يف قصيدتها ً نمطا تشكيليًّا شاع وازدهر عند
إن كنت تحسب أنك املهديُّ
٭٭٭
ارتبطت شعرية المرأة الخليجية المعاصرة بعنصري الصدام والدهشة ،كفعل مكرس انقالبي على أرض الواقع وموروث َّ بسلطة ذكورية خرقت المتخيل الثقافي واألدبي منذ القرن الثالث الهجري
يربز ذلك يف قصيدة «أول النعت» ،حيث تتشاكل أمام املتلقي املعتم ،إنما تومئ وتشري وتؤسس إىل عالم سريايل جديد عىل
شعراء العصر الحديث يف فرنسا؛ أمثال« :رامبو» و«ماالرميه»،
و«لويس برتران» وغريهم ،إنها تقود املتلقي بفحولة اللغة واملعنى نحو إدراك سوداوية املدينة العربية شأن «بودلري» وق َتما أدرك «سوداوية باريس» يف ديوانه الشعري الشهري .تقول: غضب شديدْ ٌ
يجتاح شريان الوليدْ
يف عتمة الرحم املنوَّر بالظالمْ يف ذلك الكون
77
دراسات
َ املدبل ِج وَفق (إيزو) القدرة العليا
الشعر من فن نظم الشعر ،والبحث عن إيقاع نرثي أنثوي
٭٭٭
عن السائد يف الشعرية الكالسيكية عند املرأة .فضلت صالحة
قياسً ا ..ال يقل و ال يزيدْ !
ذاك الجننيُ الغاضب اآلت ُ
اعتماد لغة النرث ،وق ّررت أن تكتب بالنرث؛ ألنه بكل بساطة
َ لعال ٍم يك ال يجيء ال بد لألنفاس يف قانون ِه
يدرك مباشرة رفضها املستمر للقوالب الجاهزة واإليقاعات
يكوّر نفس ُه
يح ّررها من القوالب الجاهزة ،وهذا ما جعل قارئ شعرها
الجاهزة؛ فمضت هاربة من الشعر إىل النرث ،ومن الرتاكيب
من حمل دمغات الربيدْ !
البالغية والقيم الداللية املسطرة إىل مرونة الفكرة الشعرية
األم تزفر روحها..
قبولها بسهولة يف النظم التقليدي.
٭٭٭
والطفل يلعق نبضه ً متمسكا بقرار ِه
أن ال يزجّ بنفس ِه يف عالم الق َر ِف الجديدْ عينا ُه مغلقتانْ
تتجمع األطراف ً خوفا
والقوابل تستج ُّر ْه
والشقاء يلوح ش ُّر ْه
78
تستمد منه قصائدها نتائج شعرية جديدة ومختلفة تمامً ا
ُ الغبي والهينمات تموج بالفرح ّ تزف بشرى لألب املشغوف بالنبأ السعيدْ
والغيب يضحك ساخ ًرا
التي يخلقها النرث جراء إغنائه للشاعرية ببضع صيغ ال يمكن لقد أدرك هذه الثيمة الرؤيوية يف أشعار صالحة الناقد
ناصر أبو عون حني قال« :تدخل صالحة غابش إىل الذات ّ املنكسة حي ًنا والشامخة أحايني كثرية موصولة العربية
بمنجز إبداعي ينتمي إىل جيل الرواد يف قصيدة النرث اإلماراتية
وتجربة شعرية ث ّرة يؤرَّخ لها بديوانني سابقني ،ويعدُّ (املرايا
ليست هي) أكرث تعبريًا عن رؤيتها الشعرية؛ حيث تنكشف
فيه عورة الروح ،وتتوارى الذات خلف زجاج هش تتبدى عىل
سطحه الخارجي انكسارات العقل العربي ،بينما املرايا كاذبة
تعكس تضخم الذات بينما هي تنطوي عىل خراب وخواء معريف ونفيس .وربما يكون ديوانها األول «بانتظار الشمس»
يحمل حداثة التجربة وإن كان ييش بمحاولة جادة للبحث عن
موطئ قدم للشاعرة عىل طريق الذائقة الشعرية العربية .ويف ديوانها الجديد تحاول أن تفتح كوة تتسع شي ًئا فشي ًئا يف جدار
إذ ما هنا بيت القصيد !
التقاليد وخيمة األعراف ،تحاول أن تخلق لها وجودًا وتحقق بالنص الشعري حياة باذخة باألسرار وزاخمة بالزمن ال ُتصلح
صالحة غابش.. ُر ؤيا الرفض َ َ وفرادة التشكيل
الداخل ،وشموخه يف الوقت ذاته»( .)8
...
()7
ما أفسده الدهر ،ولكنها تكتب عطب الروح وعلوها وكسور يف ديوانها «بمن تلوذين يا بثني» كتبت صالحة من منطلق
استطاعت صالحة غابش منذ منتصف الثمانينيات تحقيق
القصيدة كوحدة موضوعية متكاملة ،شأنها يف ذلك شأن
عىل وجه التخصيص ،بدأت مسارها الشعري بمقارعة عمود
ضمن فضاء املتخيل املدعم بلغة القناع ،ولعل الهدف من هذا
الحلم الذي تفجر يف شريان األدب الخليجي عمومً ا واإلمارايت الشعر فكتبت القصيدة العمودية التي أرهقتها متطلباتها ،ولم تستطع التخلص من قيودها وهي املرأة التي انتهجت التمرد عىل واقع ذكوري ملزم يف مختلف حيثيات الكتابة إال بعد ولوج
عوالم الرؤيا والتشكيل من خالل كتابة قصيدة النرث ،حيث ً اختالفا جوهريًّا من حيث التحديثات املضمونية لحظ القارئ
والبنائية الوافدة عىل أنموذج النص القصيدة عند غابش.
تولدُ القصيدة عندها من رغبة أنثوية جامحة يف التح ّرر
شعراء ورواد قصيدة النرث ،ففضلت أن تقوم بتأطري الرؤيا هو خلق نوع من الدهشة الشعرية غري املألوفة عند املتلقي
الخليجي الذي تعوّد لغة الوصف واجرتار املعاين الجاهزة،
ضمن السياق االجتماعي من جهة ،وفحولة لغة الذكورة من جهة أخرى.
يقودنا عنوان الديوان إىل استحضار الوجع األنثوي عرب
التاريخ من خالل قصة «بثينة بنت املعتمد بن عباد؛ وهي
واالنعتاق ،ومن تمر ٍد عىل التقاليد الشعرية والعروضية،
األمرية التي شهدت مباهج الحياة ،لها شعر كثري لم يبق منه إال قليل ،إذ عندما حلت النكبة بأبيها امللك املعتمد وأُسر
وبخاصة «املرايا ليست هي» و«بمن تلوذين يا بثني» هو إبعاد
من نساء القصر ،فاشرتاها أحد تجار إشبيلية يف األندلس
وعىل تقاليد اللغة ذاتها ،وكان هدفها يف دواوينها األربعة
العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
وتعرض قصره للسلب والنهب ،كانت بثينة يف جملة من سبي
شعريةُ المرأة الخليجية وفحولةُ اللغة ..قراءة في المشهد والتجلّي
وأهداها إىل ابنه وهو ال يعلم من أمرها شي ًئا ،فلما أراد االبن الدخول بها امتنعت وأظهرت له نسبها ،وقالت :ال أحل لك
إال بعقد يوافق عليه أبي ،وأشارت عليه بتوجيه كتاب إىل أبيها
الذي كان أمر أسرها أسوأ عليه من زوال امللك لتعلقه الشديد بها .فكتبت خطابًا إليه َ ضمَّ نت فيه قصتها كاملة ،وجعلت
منه قصيدة موشاة بحكمة الشيوخ وهي يف عمر الزهور ،ومن شعرها قولها ملا كانت هي وأبوها يف األسر: اسمع كالمي واستمع ملقالتي
فهي السلوك بدت عىل األجياد
ال تنكروا أنـي سبيت وأنني
بنت مللـك من بني عبــاد
صالحة غابش
()9
فجاء ديوان صالحة بما يحمل عنوانه من أبعاد ودالالت
سيميائية الصورة عبارة عن عملية اقتحام ونفور لكل ما هو
نمطي يكسر التواصل ،وأسست قصائده يف تقديري للبديل
الشعري غري الثابت زمنيًّا ،وتمكنت من توجيه املتلقي لديوانها
نحو الحالة الفنية املدركة كليًّا وليست متفردة يف قصائد وأسطر شعرية .تقول يف قصيدة «مسك الرميكية» أين تستحضر
التاريخ وتومئ إىل قصة بثينة بنت املعتمد بن عباد األندليس :
فاختتمت القصائد باسمه إهداء روح إليه
()10
لقد أدركت الشاعرة صالحة غابش كيفية تثوير الذات
وبعتبات نصي ٍة لها بتاريخ، األنثوية من خالل ربط راهنها ٍ ٍ
دالالتها يف الزمن املايض؛ ولذلك «دالالت عديدة ،منها أنها بصدد تقديم فكرة معينة ،وأنها حريصة عىل تقديم رؤيتها
ملتلقيها كاملة ،وهو ما يجعلها من أولئك الشعراء الذين ال يرون يف الحداثة الشعرية مجرد شكل ولغة ،بل إنها تعرب عن
ألآلن رهن محاولة الحلم أنت..
همٍّ خاص ،هو يف املحصلة ،همٌّ عامٌّ ،وإن كانت الشاعرة تعتمد
حتى تفيق اليمامات يف صوت هذا املدى؟
التحسر مجرد ذكر خسارة امللك ،وسقوط األندلس ،لتدفع إىل ّ
وأغنية تتأجل
ألآلن يكسرك االنتظار؟
ً رغيفا تقاسمك الحزن يف رحلة العابرين
وحيدً ا
يحاور رائحة الطرقات..
الرمز ،والقناع ،واإلسقاط ،عرب تساوق السبي حتى اآلن .إن
عىل ذلك الفردوس املفقود ،الذي تتناوله بثينة ،وبمرارة كبرية، ِّ مشخصة أسباب ذلك ،من خالل البطانة الفاسدة حول والدها امللك ،يك تقدم املفارقة الصارخة وهي سبي نساء قصر امللك،
وسقوط العرش ،وبيع ابنة امللك نفسه ،التي تأبى ذلك من
ولم ينكسر قلم يتقاسمه الدفء
خالل إصرارها عىل أن يتم اقرتانها بابن التاجر اإلشبييل بعد
ليكتب وردته يف يديك
للحدث التاريخي ،ومن ثم وضعه يف سياق جديد ،من قبلها،
لحظة جاء فتاك
وأهداك مسك رميكية قدماها طني املنايف
وأشعل يف األبجدي ِة موقده
إن السبب الرئيس في تحرر الكتابة
مباركة أبيها .ثمّ ة التقاط ذيك وبارع من جانب الشاعرة الالحقة إلثارة أسئلة اللحظة األكرث إيالمً ا» . ()11
ويجد املتلقي وقارئ باقي قصائد الديوان أن كثريًا منها يحمل قاسمً ا مشرت ًكا واحدً ا؛ إنه الحزن املرتامي بني سطور
القصيدة والكامن يف رؤاها الباهتة منذ سقوط عرش املعتمد بن عباد إىل يومها ،إنه التماهي مع التاريخ ومع الوجع األنثوي عند بثينة املرأة وبثينة الشاعرة ،وهي الحال ً أيضا عند صالحة غابش
النسوية في منطقة الخليج من سلطة
املرأة يف زمن سقطت فيه أقنعة الخشية األبدية .إن القصائد
الجامحة في تحقيق الذات ضمن فضاء
قصائد امرأة وشاعرة يطوقها الفقدان واأللم؛ يتضح ذلك
الفحولة وتكريس المعنى ،هو الرغبة ثقافي متميز
الوارد فيها اسم «بثينة» ببعدها يف التاريخ أو يف الراهن ،هي جليًّا يف قصيدة «ال تنكروا أين سبيت» حيث بثينة املرأة ساكنة
وخاضعة ملصريها .تقول:
79
دراسات
هنا كنت أدفن دمعة صربي
بالكينونة األنثوية ،فرسمت الكلمة الشعرية وفق متطلبات
التي سخرت من وفايئ وظلت تراقبني أتجمد شي ًئا فشيئاً
تؤسسها الروح ،فأصبحت القصيدة عند سعاد يف كثري من
أمزق أوراق كل الوعود
بثلج انتظارايت الساذجة
()12
وتصر الشاعرة عىل البوح بالوجع األنثوي الخليجي بجرأة
حني تجعل من بثينة اسمً ا تقف عىل قدميه دالالت األنوثة
والذكورة الحاملة لأللم الدفني منذ زمن وأد البنات .لقد أدركت أن أسر بثينة هو املعادل السيميايئ والداليل للسر الواقع عىل املرأة املكفنة بسوادها ،ومع هذا ال يبقى لبثينة وللمرأة يف
املخيال الرؤيوي عند الشاعرة صالحة إال االنتظار .تقول: ظنك واقفة مدينة ِ
تتأهب منذ سنني لضوء فتى ليس يؤملك
يعرب الحلم نحوك سيدة أنت أوىل
عىل عرش دولته
تخرجني إىل ضوئه تصعدين املنصة شاعرة حرة
80
تطلقني اسمه بني أفق وماء
فتلتقط البجعات حديثك عنه غناء
تماهى بأبيض رقصتها الهادئة
()13
ذاتها الرافضة لكل سلطة خارجية ال يفرضها الجسد وال
دواوينها عبارة عن قصيدة نحت جمايل بمهارات برناسية ؛ تقول يف املقطع األول من قصيدة «لألُنثى قصيدتها وللرجل ()15
شهوة القتل»:
َ سيظ ُّلونَ َورَائـي بالبواريـدِ َورَائـي
ـني َورَائـي و ال َّ ـسـكاك ِ لاَّ خيصات َورَايئ.. ت ال َّر ِ و املَج ِ فـأنـا أع ُ ـرف مـا مَ ـ ْوق ُِـفـهُـمْ
ـات الـ ِّنـسـاءِ .. مِ ـنْ كِـتـاب ِ غـيـ َر أنيِّ ..
مـا تـعـ َّود ُ ْت بـأن أن ُـظـ َر يـومـًا لـلـوَراءِ .. فـأنـا أع ُ ـرف دَربـي جـيـدً ا
ـصـعـالـي ُ وال َّ ـك عـلـى َك ْـثـ َر ِت ِـهـمْ ـب حِ ـذائـي لـن يـطـالـوا أبـدً ا َكعْ َ ً لـن يـنـالـوا َشعْ ـ َر ًة واحـدة مـنْ كِـ ْبـريـائـي فـلـقـد عـ ََّلـمـَنـي ال ِّ ـشـعْ ـ ُر ،بـأنْ أمـْ ِـشـي
ـسـمـاءِ .. ورأسـي فـي ال َّ
()16
لقد أدركت الشاعرة العربية املعاصرة -وهي واحدة منهن–
لقد تمكنت صالحة غابش يف دواوينها املختلفة ،وبخاصة
أن قصيدة النحت الجمايل والجسدي هي أفضل وسيلة لتقديم
الوصول أو إنتاج املشاعر التي تسهل الخيال املعريف بحسب قول
شاذة عن طقوس القبيلة ومعايري الكتابة الذكورية ،فعملية التجاوز والكسر والتخطي ّ تولد بالضرورة عملية تشكيل وإبداع
يف قصائدها النرثية أن تدرك القدرة عىل فهم املشاعر وعىل «بيرت سالفوين» فيما يعرف بنظرية الذكاء العاطفي والعقل الوجداين ،لهذا حملت دواوينها األربعة دالالت املكان بأبعاده
الثالثة ،فتحضر القبيلة كمكان يطغى بجربوته عىل املشاعر واألحالم الخافتة ،تقول يف قصيدة «فضايئ واألجنحة»: نار الحزن قبيلة ٍ تحرق كل وثائقها يف قلب فتاة تنمو فوق رمال براءتها
وحديث يسرق ذاته
البديل الجديد ضمن فضاء الرفض االجتماعي بمقاييس جمالية
ّ املتسلط ،حيث وخلق مختلفة تمامً ا عن ذوقية الشرع الذكوري تعمد إىل تصوير كل ما أضحى مكسورًا أو متخطى أو متجاو ًزا، سواء بفعل رفض الزمن له ،أو بحكم عدم مطابقته لواقع
الحال؛ هذا ما جعلها يف قصيدة «تمنيات استثنائية لرجل استثنايئ» تؤسس ملفهوم حب برنايس جديدة معامله ،تقول يف
املقطع األول من القصيدة الطويلة:
ثم يغادر ثكنته املطمورة يف اسرتخاء ال يهدأ
عـامٌ سـعـيـدْ ..
سعاد الصباح.. ومستويات النحت الجمايل
ـب سـعـيـد». «حُ ٌّ َ ـات حـيـنَ نـقـولـهـا كـاآلخـريـنْ . مـا أضـ َي َـق الـكـ ِلـم ِ
ديوان اآلن عرفت..
()14
صرخت الكويتية سعاد منذ سبعينيات القرن املايض
يف وجه املجتمع الذكوري الذي حاول سلبها الحق يف البوح العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
عـامٌ سـعـيـدْ .. َ إنيِّ أُف ِّ أنْ ـعْ ـضـ َنا: ب ـ ِ ل ـول ق ـ ن ـض ُـل َ ِ
أنـا ال أريـدُ بـأنْ تـكـونَ عـواطـفـي ـات اآلخـريـنْ .. مَ ـ ْنـقـول ًـة عـن أُمْ ـ ِنـي ِ
شعريةُ المرأة الخليجية وفحولةُ اللغة ..قراءة في المشهد والتجلّي
ً انطالقا من واقع املرأة العربية من جهة ومن كونها املطعّ مة
عضوًا يف املنظمّ ة العربية لحقوق اإلنسان ،فقد تطوّعت
للدفاع عن حقوق بنات جنسها بصوت قوي صريح .صوَّرت ما تعانيه املرأة املكبوتة واملخنوقة الصوت يف املجتمعات الذكورية. وعكفت عىل تثوير حق املرأة يف الحب واإلحساس باآلخر ضمن
حق أنوتثها املغيب ،فصرخت يف قصيدة «املجنونة» صرخة الشاعر الربنايس الثائر عىل واقع ال يجعل الحب دستورًا أبديًّا
للحياة ،تقول:
سعاد الصباح
أنـا أرف ُ ـات الـبـريـدْ .. ـض الـحُ َّ ـب الـمُ ـعـ َّبـأَ فـي بـطـاق ِ إنيّ أحـِ ُّب َ ـسـ َنـهْ.. ـات ال َّ ـك فـي بـداي ِ وأنـا أحِ ـ ُّب َ ـسـ َنـهْ.. ـات ال َّ ـك فـي نـهـاي ِ ـب أكـ َبـ ُر مِ ـن جـمـيـع األزمِ ـ َنـهْ فـالـحُ ُّ
أنا يف حالة ٍّ حب ليس يل منها شفاءْ ٌ مقهورة يف جسدي وأنا
كماليني النساءْ ِ ُ تطايرت د ً ُ ُ ُخانا يف تنفخ يف أُ ْذين األعصاب لو مشدودة وأنا ِ الهواءْ
٭٭٭
يا حبيبي:
ـب مـن جـمـي ِـع األمـكِـ َنـ ْه ـب أرحَ ُ والـحُ ُّ َ َ ُ ولـذا أُف ِّ ـضـ َنا ـضـل أنْ نـقـول لـِ َبـعْ ِ
ٌ ً عشقا دائخة إنني فلملمني ِّ بحق األنبياءْ
ـب يـثـو ُر عـلـى الـطـقـوس الـمـسـرحـ َّيـ ِة فـي الـكـالمْ حُ ٌّ ـب يـثـو ُر عـلـى ُ ـول.. ص األ حُ ٌّ ِ ـذور.. عـلـى الـج ِ
٭٭٭
ـب سـعـيـد».. «حُ ٌّ
عـلـى الـنـظـامْ .. َّ ـب يـح ُ َ ٌ ُ أنْ حُ ٌّ ـاول يـغـ ِّيـ َر كـل شـيءٍ ـس الـغـرامْ !!.. فـي قـوامـي ِ
()17
من هنا صار الشعر عند سعاد الصباح املرأة الثائرة
بأنوثتها مثل «كلمة السر؛ من عرف متى يقولها وكيف يقولها استطاع أن يزحزح الصخرة املسحورة عن املغارة،
ويصل إىل صناديق املرجان والحور املقصورات يف الجنان.. الشعر يمد يده إىل األشياء امليتة فيحييها كما فعل موىس
تمامً ا ،والفارق الوحيد ،أن أداة موىس هي العصا ..وأداة الشعر هي القلم»)18(..
وتشرتك سعاد الصباح يف تشكيل الصورة الربناسية
أصبح الوعي الماثل في كتابة المرأة وعيا بالفكر اإلنساني العام المطروح ً عبر انبثاق مفهوم النسوية في الرؤى والمفاهيم الغربية المعاصرة
ِّ َ الشمايل وأشواقي القطب أنت يف بخط االستواءْ ِّ ِ
للحب وما يل سوي انتمايئ هو ِّ ِّ الحب انتماءْ
()19
وعن الحب وعمّ ن ُتحب قالت يف الجزء األول من قصيدة
«تمنيات استثنائية لرجل استثنايئ» : ٍ ()20
إن آلية التخيُّل اإلستاطيقي التي تندرج من األدىن إىل
األعىل ،حتى تصل إىل الالمحدود تنبئ عن قدرة الشاعرة
العربية الربناسية يف حقل الرياضيات اإلقليدية التي تبدع فيها شي ًئا أكرث من أن تحفظ جدول الضرب عن ظهر قلب. إنَّ هذه الطريقة الكالسيكية التي تتخصص بمعالجة
جانب الواقع املوضوعي من زاوية املجال ،وضمن تشعبات وأبنية هندسية ،تؤدي بها إىل اإلطالق الساكن والخروج
عن مجال التفاعل الحيوي بني الفكر والطبيعة من جهة،
واإلحساس والواقع من جهة ثانية ،ال تأخذ من الكالسيكية ّ تشكله التي استوعبت مناخات الفكر اإلنساين منذ فجر حتى اليوم ،سوى القشرة الخارجية ،التي ستبقى عىل
سطح الواقع تطفو ضمن عالئقها الذهنية املتشابكة.
زكية مال الله.. والكتابة بالكشف والبحث عن الرؤيا (قطر)
تنتهج الشاعرة زكية مال الله أسلوب الصدام مع الذات
81
دراسات
ً بحثا عن األبعاد األنثوية من منظور التجيل والحضور؛
حيث أنا لم أبذر بعد..
الثقايف الراهن ،ولتحقيق هذا التجيل أدركت الشاعرة أن آليات
يكتبني يف الالمحدود..
الرافضة لسلطة اآلخر عرب تكريس الفعل ضمن املوروث القصيدة التقليدية ال تستطيع أن تفعل البوح األنثوي الكامن يف دخيالئها ،وعليه قررت الكتابة بأدوات جديدة تمكنها من
تأسيس الذات األنثوية الفاعلة تجاه متلق ذكوري طاملا رفض كينونتها املتشاكلة واملختلفة عن كينونته وعن تفكريه...
لقد أدركت الشاعرة زكية مال الله أن الكتابة تساؤل ،وأن
كل محاولة يف عوالم الشعر املعاصر لتقديم إجابة عما نطرحه
من تساؤل هو طمس لروح الشعرية والشاعرية يف الذات
املبدعة ،فقررت يف تقديري الكتابة من منطلق الكشف والبحث عن الرؤيا ،من منطق أن كل راءٍ كشاف وكل كشاف مبدع،
فجاء إبداعها متقاطعً ا من ذاتها الرائية رؤيا األنثى املختلفة عن
الذات وعن اآلخر معً ا ...تقول يف أسطر من قصيدة اعرتافات:
أكتبه يف الالمعنى
وتقرتب هذه الرؤيا املشعة من أسطر القصيدة – النص
من موقف «ألبريس» حني قال :إن الشعر ال يمكن أن يحدوه منطق لغوي معينّ ،ألنه يخلق لغته الخاصة به دون النرث الذي
عادة ما يرتبط بقوانني تقرتب إىل العقل واالنضباط ،فالشعر
هو التعبري «بواسطة اللغة البشرية عن انفعال أو حقيقة لم ُتخلق اللغة البشرية للتعبري عنه ،وبذلك يصبح الشعر خات ً مُ َ لة ،تمردًا ،نضالاً ضد اللغة»( ،)24ويتكرر هذا يف الكثري
من قصائدها ،وبخاصة يف ديوان أسفار الذات حيث تعكف الشاعرة من منظور سريايل عىل استنطاق األنا ضمن الجسد
األنثوي املضمر ،تقول يف أسطر من قصيدة هذيان جسد:
من بدء التكوين وخلق املوجودات
ال يعنيه أن يتكوم بني مداه
جللني عبق
يتسلط خلف حدود القمر
يلعق هذيان الشمس
اشتعلت نار يف طيني..
82
()23
انسابت يف جلد تصاويري أشباه
يلبس تاج امللكوت
أرصفة تعرتض الخصالت
يتآكل من دوده
تكبو ..تتساقط
يكتب بالصلصال
ال يعنيه أن يدعى بالجسد الرق
الشق األول «المرأة»
يرغب أن يدفن يف مقربة عاج
تتماوج
يلعقها غيم النظرات
زكية مال الله
الشق الثاين «مرآة»
والشق الثالث أسفار من وجه مرسوم القسمات أتعرث بني سطور الخط وأفواج الكلمات
تنشق نقاطي
ال قيد ..قد حل وثاقي..
()21
الجسد أنا
قد كنت بما أحببت
فاستعمرين الدود
()25
يتسارع عرض الذات والكشف عن الرؤيا يف مختلف أشعار
زكية مال الله ،وبخاصة قصائد النرث منها ،حيث تستعيض
الشاعرة عن األسس النمطية يف القصيدة التقليدية بآليات
وعىل ُخطا اعرتافات الذات املتجلية الهاربة نحو أفق
حداثية مستلهمة من الروافد الفرنسية يف تشكيل القصيدة
(نسبة آلرثر رامبو) يف قصيدة النرث ،وهي الطريقة التي تؤسس
املختلفة وتجربتها التشكيلية يف مجال القصيدة بأن «الشعر
توقعاتها األنثوية ،تكتب زكية مستعرية الطريقة الرامبوية للرفض املطلق يف عالم عبثي يفيض لالمعقول ،إنها تحاول أن ّ املصفى تجعل من النص – القصيدة يف أبهى تجلياته الكالم
املتألق ،الخارق للعادة يف محاولة مستمرة لهدم االحتذاء ،إنه ٌ تشكيل جديد للسكون بواسطة الكلمات( ....)22تقول يف قصيدة سفر البهجة:
يصعد بي
حيث الالمطلق.. الالموجود..
العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
الرؤيا ،لقد آمنت زكية يف تقديري ومن خالل استقراء أشعارها
ال يتكلم عن العالم بقدر ما يتكلم بلسان العالم ،وليس من مهامه تفسري العالم وتوضيحه لك؛ بل املنتظر منه هو صوغ تجربة مع العالم تعتمد صلة حميمية بمكوناته تسبق كل
فكرة عنه؛ ألن وظيفته الجوهرية هي اإليحاء وليس املطابقة. إنه السم ّو بتعبريية األشياء والسعي إىل إحداث عملية
تشويش مقصودة يف قاموس اللغة حني تسند صفات ألشياء غري معهودة ُتربك القرائن بني املسند واملسند إليه .)26(»..أقف يف النهاية وقفة تقدير للشعرية العربية النسوية يف الخليج
شعريةُ المرأة الخليجية وفحولةُ اللغة ..قراءة في المشهد والتجلّي
ملا لها من وسائل تفعيل الذات وامتطاء صهوة املتغري ،ونبذ
والف ًتا ،واستطاع أن يؤسس لظاهرة فنية وتشكيلية جديدة يف
ّ خص الذكورة بالتفرد الثابت الذي طاملا أرهق الكتابة حني اللفظي صياغة وتشكيلاً ،وجعل املرأة معنى ضمن فضاءات
اإلصدارات الشعرية النسوية يف مدة وجيزة تمثلت يف العقود
الكتابة النسوية الخليجية وصلت إىل ملتقى حضاري تثاقفي
ثانيًا -أصبح الوعي املاثل يف كتابة املرأة وعيًا بالفكر اإلنساين
النظم الذكوري ،هذا من جهة ،ومن جهة أخرى نسجل أن
مهم ،جراء الطفرة االجتماعية واالقتصادية الكبرية التي تعيشها بلدان الخليج منذ التسعينيات من القرن املايض،
وهو ما انعكس عىل مستويات الكتابة األدبية عامة والشعرية
خاصة ،فراجعت الشاعرة الخليجية حاضرها وماضيها معً ا، وانطلقت بعد مقاربة واعية للتاريخ يف ضوء متطلبات الراهن
لتؤسس عوامل رؤيا مبنية عىل جملة من التساؤالت الفكرية والفلسفية عجلت بظهور أنماط شعرية تتماىش مع التصور الفكري الجديد عندهن .ولعل هذا ما يفسر الحضور القوي
لقصيدة النرث وشعر التفعيلة .كما ال يجب إغفال املناخ الثقايف الجيد يف دول الخليج وانتشار الدورات الفكرية والثقافية
والورشات التدريبية النقدية واألدبية ،واألمسيات الشعرية، والقراءات األدبية املختلفة يف بعث مواهب التشكيل بقوة.
الشعرية العربية ،ويستدل عىل هذا بالعدد الوفري واملتميز من الثالثة األخرية.
العام املطروح عرب انبثاق مفهوم النسوية يف الرؤى واملفاهيم الغربية املعاصرة .ويتجىل هذا يف تعدد أنماط النتاج اإلبداعي النسوي الخليجي وتحوله جماليًّا ودالليًّا إىل مشروع مكاشفة ووعي ومثاقفة يف اآلن ذاته. ً ثالثا -تمكنت الشواعر –النسويات– الخليجيات من مقاربة
وتمثل نماذج التشكيل املعاصرة؛ فلقد وفر لهن الشعر الحر
وقصيدة النرث آليات ممارسة الرفض والتأسيس معا ،وجعلهن
لصب تجربتهن املكتومة عرب عصور مديدة يدركن الوعاء املناسب ّ
لبث شجونهن ونفث همومهن.
رابعً ا -عملت الشعرية النسوية املعاصرة يف الخليج عىل
كسر جدلية الصراع الثقايف الكامن يف املحموالت املرتاكمة منذ القديم ،وعىل إعالء الذات وتضخيم األنا األنثوية يف فضاء كتابة
ومجمل القول يف فلسفة املقاربة السابقة نسجله يف النتائج اآلتية: أولاً -حضر التأسيس للكتابة النسوية يف الخليج حضورًا قويًّا
األساسية املؤثرة يف تفعيل الكتابة الشعرية النسوية يف الخليج.
هوامش وإحاالت البحث : ( )1راجع : Catharine Stimpson: The Building of feminist Criticism, published in R .Cohen ed. New York.1989.p135. ( )2عبد الله الغذامي :املرأة واللغة ،ص .10 ( )3املرجع نفسه ،ص .11 ( )4ظبية خميس :أدب العورة ،مجلة الدوحة ،مجلة شهرية ثقافية تصدر عن وزارة الثقافة القطرية ،عدد .21 ( )5هدى السعدي :دموع البنفسج ،دار عكرمة،دمشق ،سوريا2004 ،م ،ص .32 ( )6املصدر نفسه ص .43 ( )7نفسه ص .46 ( )8ناصر أبو عون :جريدة ُعمان ،الصادرة يف سلطنة ُعمان ،امللحق الثقايف: شرفات األدبي ،نقال عن الرابط اآليت: http://nasseroon.maktoobblog.com ( )9سهيل زكار :يف التاريخ العبايس واألندليس :السيايس والحضاري ،جامعة دمشق 1998م،ص 338وما بعدها. ( )10صالحة غابش :ديوان «بمن تلوذين يا بثني» ،دائرة الثقافة واإلعالم، الشارقة 2002م،ص .35 ( )11إبراهيم اليوسف :صالحة غابش واالشتغال يف قلب الحداثة الشعرية، جريدة الخليج الثقايف،تصدر عن ملؤسسة دار الخليج للصحافة والطباعة والنشر عدد2010/10/26 ،م . ( )12صالحة غابش :ديوان «بمن تلوذين يا بثني» ،ص .14 ( )13املصدر نفسه ص .65 ( )14صالحة غابش :ديوان فضايئ واألجنحة ،منشورات الدار املصرية اللبنانية ،القاهرة 1998م ،ص .34
( )15الربناسية :Le parnassisme ou le Parnasseمذهب أدبي فلسفي ال ديني قام عىل معارضة الرومانسية من حيث أنها مذهب الذاتية يف الشعر ،وعرض عواطف الفرد الخاصة عىل الناس شعرًا واتخاذه وسيلة للتعبري عن الذات ..بينما تقوم الربناسية عىل اعتبار الفن غاية يف ذاته ال وسيلة للتعبري عن الذات ،وهي تهدف إىل جعل الشعر ف ًّنا موضوعيًّا همه استخراج الجمال من مظاهر الطبيعة أو إضفاؤه عىل تلك املظاهر، وترفض الربناسية التقيد ً سلفا بأي عقيدة أو فكر أو أخالق سابقة .وهي تتخذ شعار «الفن للفن». ( )16سعاد الصباح :امرأة بال سواحل ،قصيدة :لألنثى قصيدتها ،وللرجل شهوة القتل ،دار سعاد الصباح للنشر والتوزيع ،الكويت1994 ،م ،ص.61 ( )17سعاد الصباح :آلئل الخليج ،مختارات شعرية بالعربية واألملانية .ترجمة د .عدنان جواد الطعمة .ط /1ماربورغ1995 ،م ،ص .81 ( )18نزار قباين« :الله والشعر» ،مجلة «اآلداب» البريوتية ،عدد ،4إبريل 1957م ،ص . 2 ( )19سعاد الصباح :آلئل الخليج ،ترجمة د .عدنان جواد الطعمة ،ص .123 ( )20املصدر نفسه ص .138 ( )21زكية مال الله ،ديوان :أسفار الذات ،األعمال الكاملة ،ج ،2املجلس الوطني للثقافة والفنون والرتاث ،قطر2006 ،م. ( )22بنظر حمادي ،عبد الله .الربزخ والسكني ،دار هومة للطباعة والنشر والتوزيع ،ط ،3الجزائر2002،م ،ص .5 ( )23زكية مال الله ،ديوان :مرجان الضوء ،مركز الحضارة العربية،ط،1 القاهرة2006 ،م ،ص .64 ( )24ألبريس ،ر .م .االتجاهات األدبية الحديثة ،ترجمة جورج طرابييش،ط،3 منشورات عوبدات ،بريوت /باريس1983 ،م ،ص .126 ( )25زكية مال الله ،ديوان :من أسفار الذات، ( )26حمادي ،عبدالله .الربزخ والسكني ،ص . 6
نسوية مدعمة بنظرية وافدة عىل املنطقة؛ عدت من بني الروافد
83
حوار
المفكر المصري طالب النخب السياسية بالتجديد
السيد ياسين:
صراع الهويات في العالم العربي بلغ حالة التو ُّحش.. ونظام اإلخوان ال يختلف عن والية الفقيه
حاوره في القاهرة محمد الحمامصي
84
العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
تنطلق رؤى وتحليالت المفكر وأستاذ علم االجتماع السياسي السيد ياسين سياسيًّا وثقافيًّا وفكريًّا
واجتماعيًّا من قراءات علمية عميقة للقضايا والظواهر واألحداث والمشكالت التي يتعرض لها المجتمع
المصري والعربي .فهو يتابع التغيرات والتطورات في مناهج البحث جنبًا إلى جنب الدراسات والبحوث التي
تتناول ما يطرأ في المنطقة العربية والعالم ،ويجيد طرح األسئلة وال ييأس من البحث عن إجابات لها.
اشتغل منذ وقت مبكر من مسيرته العلمية على الشخصية العربية والفكر القومي ومفهوم المواطنة اً طويل أمام العولمة ،مفهومها وتأثيرها وانعكاساتها عربيًّا وعالميًّا .لكن وحوار الحضارات ،كما توقف َ مع تصاعد التطرف والتكفير والعنف ّ القتل منهجً ا ونظرية في أوائل ثمانينيات وتبني الجماعات اإلرهابية
القرن العشرين ،بدأ السيد ياسين العمل على تحليل ونقد الظاهرة ليقدم خارطة مهمة لجماعات اإلسالم ً ً ومفندا األسس التي قامت عليها مجمل أفكار وآراء قادتها. كاشفا السياسي، التحق بالمعهد القومي للبحوث الجنائية «المركز القومي للبحوث حاليًا» عام 1957م ليمضي فيه
ً 18 عاما ،حيث تركه عام 1975م لكي يصبح مديرًا لمركز الدراسات السياسية واإلستراتيجية في األهرام، ً ناشئا وقتها «عام 1964م» وكذلك علم االجتماع السياسي. واعتنى بعلم االجتماع األدبي الذي كان ال يزال وفي عام 1967م وهو عام النكسة والهزيمة والمرارة اتجه ً دراسة علمية ،وانضمَّ إلى مركز إلى دراسة المجتمع اإلسرائيلي
الدراسات الفلسطينية والصهيونية باألهرام عام 1968م الذي تحول بعد ذلك إلى مركز الدراسات السياسية واإلستراتيجية،
وكان هذا التحول وراء تعمقه في دراسة مناهج ونظريات البحوث اإلستراتيجية ،وقد رَأَس هذا المرك َز خالل المدة من ً أستاذا لعلم االجتماع السياسي 1975إلى 1994م؛ حيث ُعيِّن
بالمركز القومي للبحوث االجتماعية والجنائية.
وفي عام 2012م أعاد تأسيس «المركز العربي للبحوث
والدراسات» وضم إليه مجموعة من الخبراء في االقتصاد وعلم
السياسة وعلم االجتماع وعلوم اإلعالم والتاريخ ،وال يزال يرأس هذا المركز حتى اآلن.
العلوم والفنون واآلداب ،وجائزة الدولة التقديرية في العلوم
االجتماعية.
«الفيصل» التقته في القاهرة فكان هذا الحوار الشامل.
ـــــ
في مقال لك بعنوان« :الهويات المتوحشة» أشرت
إلى «نظرية التكفير» ..هل هناك نظرية للتكفير؟ ومن وضعها؟
وما األسس التي تقوم عليها؟
نعم هناك نظرية متكاملة للتكفير ،فقد سبق لي أن قمت
بدراسة متكاملة لكتب المراجعات التي قامت بها الجماعة
اإلسالمية التي بلغ عددها 25كتابًا. ِّ المنظرين لهذه الجماعة اسمه الدكتور واكتشفت أن أحد فضل -وهو اسم حركي ألحد قيادات الجماعة من محافظة
من مؤلفات السيد ياسين« :أسس البحث االجتماعي،
الفيوم -له كتاب بعنوان« :العمدة في إعداد العدة» عدد
الذات ومفهوم اآلخر ،ومصر بين األزمة والنهضة ،وتحليل
لخص كتابه ونظريته هذه في وثيقة «ترشيد العمل الجهادي في
ودراسات في السلوك اإلجرامي ،والشخصية العربية بين تصور مفهوم الفكر القومي ،والسياسة الجنائية المعاصرة ودراسة نقدية للدفاع االجتماعي ،وحوار الحضارات في عالم متغير،
والوعي التاريخي والثورة الكونية ،والزمن العربي والمستقبل العالمي ،والعولمة والطريق الثالث ،والعالمية والعولمة،
وتشريح العقل اإلسرائيلي ،والمعلوماتية وحضارة العولمة، واألسطورة الصهيونية واالنتفاضة الفلسطينية ،والمواطنة في
زمن العولمة،والحوار الحضاري في عصر العولمة.
وقد حصل على العديد من الجوائز واألوسمة؛ منها :جائزة
العويس ،ووسام االستحقاق األردني من الطبقة األولى ،ووسام
صفحاته ( )500صفحة ،يتضمن نظرية كاملة في التكفير ،وقد مصر والعالم» .وفي تقديري أن هذه الوثيقة النظرية هي األساس
الذي اعتمدت عليه الجماعات اإلرهابية المتطرفة في تكفير
الحكام وتكفير المجتمعات؛ ألنها ال تطبق الشريعة اإلسالمية وتكفير غير المسلمين ،بل تكفير بعض المسلمين ً أيضا بشروط ِّ المنظر على معينة .وتقوم هذه النظرية لهذا اإلرهابي المتطرف
ُلزم مقدمة أساسية ،يقول -وهنا أقتبس من كالمه« :-واإلسالم م ِ لجميع المكلفين من اإلنس والجن من وقت بعثة النبي صلى الله
عليه وسلم وإلى يوم القيامة» .ومن ثم فالبشر جميعهم منذ
البعثة النبوية إلى يوم القيامة أمة الدعوة «المدعوون العتناق
85
حوار
دين اإلسالم» ،فمن استجاب منهم لذلك فهم «أمة اإلجابة».
األصلي ضرورة أساسية؛ ألنه بناء على هذه اآلليات ُع ّد قتل المسلمين وغيرهم حاللاً وكذلك استباحة أموالهم وممتلكاتهم.
ويسرتسل الدكتور فضل فيقول« :ومعنى إلزام دين اإلسالم أن الله سبحانه لن يحاسب جميع خلقه املكلفني منذ بعثة النبي صىل الله عليه وسلم إىل يوم القيامة إال عىل أساس دين اإلسالم» ،والنتيجة هي« :فمن مل يعتنق دين اإلسالم أو اعتنقه ثم خرج عن رشيعته ٍ بناقض من نواقض اإلسالم فهو هالك ال محالة إن مات عىل ذلك». واستند الدكتور فضل يف هذا الحكم الخطري عىل آية قرآنية هي قوله سبحانه وتعاىل﴿ :ومن يبتغ غري اإلسالم دي ًنا فلن يُقبل منه وهو يف اآلخرة من الخارسين﴾ [آل عمران .]85 :وأيد كالمه باقتباس من كالم شيخ اإلسالم ابن تيمية« :ومعلوم باالضطرار من دين املسلمني وباتفاق جميع املسلمني أن من س ّوغ اتباع غري دين اإلسالم أو اتباع رشيعة غري رشيعة محمد صىل الله عليه وسلم فهو كافر».
«التوحشي» وراء هذه الهوية بكل أنماطها؟
مبدئية هي« :إن اإلسالم يتحقق بتقديم مراد الرب على مراد
يسفر عن وجهه إال في لحظات تاريخية فارقة ،لكن المشكلة اآلن
وهكذا يمضي فضل في نظريته التكفيرية ويبنيها على مقولة
النفس ،فإن ينقص أو ينتقص بمخالفة ذلك والمخالفة درجات: أولاً من قدم مراد نفسه على مراد ربه في أشياء يسيرة فهذا مرتكب الصغائر و«هي العصيان» ،ثانيًا من قدم مراد نفسه على
86
والتأويل المنحرف ،والكشف عن ذلك في النص الجهادي
ويقول الدكتور فضل« :من لم يدخل اإلسالم يجوز قتاله
في الداخل أو في الخارج» .إذن نحن أمام نظرية للتكفير ،وهذه
النظرية هي التي اعتمد عليها تنظيما القاعدة وداعش ،وبخاصة ً متوافقا مع أن كتاب «العمدة في إعداد العدة» صادر عام 1988م بدايات تأسيس تنظيم القاعدة.
ـــــ
تعددت مقاالتك حول «الهوية» سماتها ومشكالتها
وخرائطها وصراعاتها .هل اإلشكالية اآلن في المشهد العربي
صراع الهويات قائم في كل العصور ،غير أنه كان كام ًنا ولم
أن الهويات متصارعة في العالم العربي وقد انتقلت من حالة التوازن إلى حالة الصراع .هناك تعدد في الهويات في العالم العربي؛ هناك الهوية القبلية مقابل الدولة ،وهناك الصراع
مراد ربه في أشياء كبيرة فهذا مرتكب الكبائر و«هو الفسوق»، ً ثالثا من قدم مراد نفسه على مراد ربه في أشياء عظيمة فقد
ً صراعا مذهبيًّا مستع ًرا بين الشيعة والسنة .غير والبربر ،ونجد
عليها النظرية وهي الصغائر والكبائر واألشياء العظيمة.
في اليمن بين الحوثيين وأهل السنة ،وما يحدث في سوريا على
وقع في الكفر» .وهنا غموض في المفاهيم األساسية التي تقوم ويسترسل في مجال تعداد
المحظورات الشرعية ليصل إلى
أن «اضطرار البعض إلى عمل
لجوء سياسي لدى الدول األجنبية «بالد
الكفار
األصليين»
فيكون
بذلك قد دخل في الكفر تحت حكم
الكفار وقوانينهم باختياره» .ويقرر أن
«الشريعة لم ُت ِبحْ آلحاد الرعية معاقبة
عامة الناس أو إقامة الحدود عليهم»،
وهذه بديهية ألنها من مهام الدولة
بين األعراق ونموذجه الصراع بين األكراد والعرب وبين العرب
أنه إذا تأملنا ما يحدث في ليبيا بين القبائل والدولة ،وما يحدث وجه الخصوص بين النظام العلوي وبقية طوائف الشعب؛ أدركنا أن صراع الهويات انتقل من حالة الصراع العنيف إلى حالة التوحش التي ال سابقة لها في التاريخ العربي الحديث والمعاصر.
حالة
ممارسة يومية لكل األطراف المتصارعة في سوريا ،لكن النموذج الرئيس لحالة التوحش يمثلها تنظيم «داعش».
المعاصرة ،غير أن الوثيقة قررت أنه ال
يستثنى من ذلك إال إقامة المسلم الحدود على عبيده ،فأي عبيد وفي أي عصر! لقد َّ ولى عصر العبيد إلى غير رجعة.
التوحش
التي
أصبحت
بيت
القصيد
أن
المسألة بدأت بمفهوم تكفيري لغير المسلمين ،ثم تحولت
الجماعات التكفيرية إلى جماعات
إرهابية سوَّغت لنفسها ممارسة أفعال العنف حتى
إن فهم النص الجهادي األصلي الذي ورد في الكتب المطوّلة
ض ّد بعض المسلمين «الذين يوافقون الطاغوت على سياساته»
و«الجامع في طلب العلم الشريف» ،و«التضحية في التقرب
والداخل ،فانتقلنا من التكفير إلى التوحش ،والتوحش يتجلى ّ وشكلها في داعش وخالفتها اإلسالمية المزعومة التي أسسها
السابقة للدكتور فضل مثل« :العمدة في إعداد العدة»،
ً وخصوصا الكتاب األول الذي انبثقت منه وثيقة إلى الله تعالى»، نظرية التكفير؛ يحتاج إلى تحليل نقدي فقهي على أساس أن
هذه النصوص التكفيرية إنما تقوم أساسً ا على القياس الخاطئ العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
وبالطبع كل األجانب غير المسلمين يجوز قتالهم في الخارج
اإلرهابي «أبو بكر البغدادي» ،ومارس التوحش عل ًنا بقطع رقاب الرهائن وإحراقهم وإغراقهم.
المفكر المصري «السيد ياسين» ..طالب النخب السياسية القديمة والجديدة بالتجديد
لقد اكتشفت كتابًا ألحد ِّ منظري القاعدة
وألضرب لك مثالاً :شيخ األزهر الجليل
«إدارة التوحش ..أخطر مرحلة ستمر بها ً تعريفا لهذه اإلدارة أنها« :إدارة األمة» ،يقدم
فيها مجموعة من المثقفين من االتجاهات ُ شاركت فيها. كافة ،ومشايخ األزهر ،وقد
نظرية ،وما نراه من ممارسات داعش يمثل
ُ وجهت نقدً ا لألزهر فيها .في االجتماع األخير
اسمه «أبو بكر ناجي -اسم حركي -بعنوان:
اإلمام أحمد الطيب عقد لقاءات عدة شارك
الفوضى المتوحشة» ويضع مهماتها بوصفها
وحقيقة أصدر األزهر وثائق مهمة ،شاركنا قلت فيه :إن األزهر ّ قصر في تفنيد الخطاب
تطوي ًرا لنظرية التكفير التي وضعها الدكتور فضل وأمثاله من فقهاء اإلرهاب ،ولنظرية
التوحش التي وضعها «أبو بكر ناجي».
ـــــ
تجديد الخطاب الديني أحد أبرز
توجهات النظام في مصر اآلن ،فهل تم إنجاز شيء في هذا الشأن؟
التكفيري ،وذكرت لهم قصة الدكتور فضل ونظريته التكفيرية ،وقلت :هل هذا
التأويل صحيح أم هو تأويل منحرف؟ فجاء ً حديثا نبويًّا أن واحدً ا أبو بكر البغدادي رد اإلمام بأن هناك
خا َم َره الموت وتسأله عن اإلسالم أم ال...
ثم قال :إن األستاذ السيد ياسين يتحدث في العموميات ،وكان
في مصر لم ينجز شيء ألسباب متعددة :أولاً المشكلة
ذلك أمام المشاركين من المثقفين والمشايخ .فقلت :يا فضيلة
األيديولوجي ،فمن ناحية تعليم ديني خالص يساعد على بلورة
لن أطبق حديث الذبابة مهما كانت صحة سنده؛ ألنه يتنافى مع
الحقيقية هي ازدواجية التعليم التي تعد أحد أسباب التطرف رؤى للحياة تتسم باالنغالق ،ومن ناحية أخرى تعليم مدني مشوه .التعليم الديني يقوم على النقل وال يقوم على العقل، اجترار التفسيرات القديمة وع ّدها معاصرة ،وهذا غير صحيح،
ً مشروعا ،وسأتحدث اآلن في الجزئيات، اإلمام ،وجهت لي نقدً ا قواعد الصحة العامة ،لن أطبقه ،وهناك متون متعددة ال يجوز تطبيقها اآلن ،فات أوانها .من هنا :المدخل للتجديد الديني هو
االنتقال من نقد السند إلى نقد المتن ،هذه رسالتي لكم.
والتعليم المدني يقوم على معلومات تافهة .هذا الفصل بين التعليم الديني والمدني إحدى المشكالت ،ال بد من ّ فض
الخرافات التي تنسب لمصادر دينية ،وهي ليست كذلك.
قائم على تأسيس العقل العلمي الناقد الذي يطرح كل شيء
الجماعات المتطرفة ،التي تضفي الشرعية الدينية على أهدافها
هذه االزدواجية في التعليم ليصبح هناك نظام تعليمي واحد للمساءلة ،وليس على العقل االتباعي الذي يقوم على التلقين
والحفظ.
ثانيًا :كيف يمكن لألزهريين إعمال العقل في تفسير وتأويل
النصوص الدينية؟ هذا هو التحدي ،هم ال يمارسون إعمال العقل.
خطورة الهوية اإلسالمية المتخيلة تظهر حين تتحول إلى حركات «أصولية» لها قيادات وقواعد على األرض، وتسعى إلى تغيير المجتمعات ،سواء بالدعوة أم بالعنف معدل األمية في مصر ،%26و 26مليون مصري تحت خط الفقر ،و 18مليو ًنا
إن التعليم الديني التقليدي أكثر استعدادًا لقبول وتصديق
إضافة إلى آلية التأويل المنحرف للنصوص الدينية التي تطبقها وأساليبها اإلجرامية ،ومن بينها استحالل أموال غير المسلمين،
وشرعية قتلهم سعيًا وراء تحقيق هدفهم األسمى وهو االنقالب على الدول العلمانية ،وتأسيس الدول الدينية التي تقوم على
الفتوى وليس على التشريع ،تحت رقابة الرأي العام ،بواسطة
مجالس نيابية منتخبة في سياق نظام ديمقراطي يقوم أساسً ا على االنتخابات الدورية وتداول السلطة ،وحرية التفكير والتعبير
والتنظيم وسيادة القانون.
تنقية المناهج من الخزعبالت
ـــــ
مستمر؟
كيف السبيل لإلصالح والتعليم الديني التقليدي
ال بد من تنقية المناهج األزهرية في المعاهد والكليات من
الخزعبالت والحكاية الخرافية ،والقيام بثورة معرفية تركز على هذه المناهج العتيقة البالية ،سواء في المعاهد األزهرية التي
يعيشون في العشوائيات ،وهذا يشكل
تخصصت في تعليم الفكر الديني ،أم في مؤسسات التعليم
غزو عقولها البسيطة باألفكار المتطرفة
مستنير ،ثانيًا ال بد من التطبيق الدقيق لقواعد التفسير وقواعد
كارثة ثقافية ،هذه ماليين من السهل
المدني الزاخرة بقشور العلم ،التي ال محل فيها لفكر ديني
التأويل بشكل عصري.
87
حوار
إن هذه الثورة المعرفية المقترحة لها أركان أساسية ،أهمها
على اإلطالق تأسيس العقل النقدي الذي يطرح كل الظواهر
االجتماعية والثقافية والطبيعية للمساءلة وفق قواعد التفكير ّ المسلم بها في علوم الفلسفة والمنطق .وتشت ّد الحاجة النقدي
إلى تكوين العقل النقدي بعد ثورة المعلومات التي أدت إلى
تدفقها في كل المجاالت المعرفية على شبكة اإلنترنت؛ مما يستدعي في المقام األول عقلاً نقديًّا؛ ألن المعلومات ال تكوّن معرفة ،ومن هنا أهمية تصنيف هذا الفيض من المعلومات للتفرقة بين الصحيح والزائف والمتحيّز والموضوعي .والركن الثاني تجسير الفجوة بين العلوم الطبيعية والعلوم االجتماعية
على أساس مبدأ وحدة العلوم ،والركن الثالث هو الدراسة العلمية للسلوك الديني لمعرفة صوره وأنماطه السوية والمنحرفة على السواء .والركن الرابع واألخير استخدام
االكتشافات الجديدة في علم اللغة والمنهجيات المستحدثة في
تحليل الخطاب لتأويل اآليات القرآنية حتى تتناسب أحكامها مع روح العصر.
ـــــ
88
أال تعتقد أن سطوة الفكر السلفي المتطرف والمتشدد
في الشارع العربي تؤشر إلى هزيمة المثقفين والقيم الثقافية الليبرالية؟
ال ،الفكر السلفي جيوب فكرية متخلفة ،مقضي عليها
بالزوال؛ ألنها مخالِفة لروح العصر ،ومخالِفة للفهم الصحيح للدين اإلسالمي .في مناقشتي مع شيخ األزهر الدكتور أحمد الطيب قلت له :أنا أرى التركيز في الحوار مع العالم على
المقاصد العليا لإلسالم؛ القيم األساسية لإلسالم في الحرية
والعدالة والكرامة اإلنسانية .وأضفت أنه في سورة الحجرات هناك آية يقول فيها المولى عز وجل} :يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند
الله أتقاكم إن الله عليم خبير{ [الحجرات ،]13 :يمكن أن تصبح
أيقونة لحوار الحضارات لو طرحناه على العالم ،الله عز وجل
الملمح العربي األساسي انهيار الدولة الوطنية ،والتحدي المطروح على المشهد اآلن والمهمة الكبرى :هل سنستطيع إقامة وبناء الدولة الوطنية مرة أخرى ،أم ال؟ يقول} :جعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا{ ال لتتقاتلوا ،وليس
لكي يحارب المسلمون العالم كله ليدخلوه في اإلسالم ،هذا مضاد لروح اإلسالم ،ومن ثم عند الحوار مع اآلخر نذكر له هذه
اآلية القرآنية التي تصلح شعارًا لحوار الحضارات. َ فريق من الناس ،وليس الناس عمومً ا ،غزت عقولهم البسيطة أفكا ُر السلفية الرجعية ،وأثرت في ملبسهم وسلوكهم ،وليس صحيحً ا أنهم بأغلبية تهدد األمة المصرية، هم أقلية وليسوا أغلبية ،وأقلية منقرضة .وحين تتابع الفتاوى
التافهة الجاهلة لشخص مثل ياسر برهامي تدرك أن هذا عقل متخلف ،وهذه العقول المتخلفة تأثيرها سيزول مع الزمن
بارتفاع مستوى التعليم والوعي االجتماعي والثقافي. دولة موازية
ـــــ
ً فارقا بين جماعة اإلخوان المسلمين هل ترى
وجماعات السلفيين على اختالفها ،مع مالحظة أن النظام الحالي في مصر مع الجماعات السلفية؟ أولاً :ال أوافقك في أمر التحالف بين النظام والجماعات
السلفية ،وهو أمر خارج سياق السؤال ،وبالنسبة لإلخوان والسلفيين َ فثمَّ قواعد مشتركة بينهما تتمثل في العودة إلى
الدين وتطبيق الشريعة ،لكن لإلخوان المسلمين خصوصية في هذا الشأن؛ لديهم مشروع متكامل أسميته «الهوية المتخيلة»،
الهوية اإلسالمية المتخيلة كما يتبناها اإلخوان وجماعات دينية
أخرى متطرفة ،تتحدث عن أن هويتنا ليست عربية وال مصرية وال عراقية وال كويتية ...إلخ، هويتنا إسالمية ،ننتمي لإلمة اإلسالمية ،وهم بالتالي ال يعترفون بالوطن وال الوطنية. سيد قطب كان يقول« :الوطن حفنة من تراب عفن» ،إهدار
قيمة
الوطن
والوطنية،
هم يتوحدون مع األممية
اإلسالمية ،حلمهم تغيير النظم
العلمانية «الكافرة» -في رأيهم- في الدول العربية وإقامة الدولة
العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
المفكر المصري «السيد ياسين» ..طالب النخب السياسية القديمة والجديدة بالتجديد
الدينية التي تطبق شرع الله كما يفهمونه هم؛ تمهيدً ا السترداد
االقتصادية الغربية بزعم أنها تقوم على ال ِّربا المحرم ،وتأسيس
يحكم المسلمين في كل أنحاء العالم .هذا هو مشروع اإلخوان
كبرى؛ ألن البنوك اإلسالمية لها تعامالت اقتصادية كثيفة مع
حكم الخالفة اإلسالمية؛ أن يكون هناك خليفة إسالمي واحد
المسلمين ومن يتبعونهم ،وهو مختلف عن مشروع السلفيين. السلفيون يجترون بعض اآليات واألحاديث بطريقة متخلفة ،أما
اإلخوان فلديهم مشروع ولديهم صالت دولية واخترقوا أماكن
كثيرة في الواليات المتحدة األميركية وأوربا.
اإلخوان جماعة سياسية في المقام األول وليست جماعة
إسالمية ،ومنظمة تنظيمً ا حديديًّا يقوم
على السمع والطاعة والبيعة للمرشد
العام ،تنظيمها الداخلي يشكل دولة
موازية للدولة القائمة .المرشد العام هو
رئيس الجمهورية ،ومكتب اإلرشاد هو
مجلس الوزراء ،ومجلس الشورى هو مجلس
النواب ،ورؤساء المكاتب اإلدارية بالمحافظات
هم المحافظون ،ورؤساء الشعب هم الحكم
المحلي .دولة موازية ،لديها مشروع سياسي
يقوم على تغيير الدول بالعنف أو القوة أو بطرق
سلمية باالنتخابات ،واسترداد الخالفة اإلسالمية.
لو عدت إلى تصريح الدكتور محمد بديع المرشد
ما أطلقوا عليه «االقتصاد اإلسالمي» ،وهو في الواقع خدعة البنوك الرأسمالية الربوية .واألساس الرابع ويقوم على «ذهنية التحريم» ،لو استخدمنا عنوان الكتاب الشهير للفيلسوف
السوري صادق جالل العظم ،وهي التي أطلق عليها في عهد
الرئيس اإلخواني محمد مرسي «أسلمة المجتمع» ،بمعنى فرض قيود صارمة على السلوك االجتماعي للمواطنين، وممارسة الرقابة على األعمال الفكرية واألدبية والفنية ،ويمارس فيه التحريم بكل تزمُّت من خالل مصادرة الكتب واألعمال الفنية وي ّتهم أصحابها بالكفر والردّة عن اإلسالم .وأخي ًرا األساس الخامس -وهو أخطرها جميعً ا-
ألنه يتعلق بالقيم ورؤية العالم التي تنحصر لدى المؤمنين بهذا المشروع ّ وتحكمه في في استعادة الماضي الحاضر ،بما في ذلك رفض الحداثة
ً وخصوصا الحداثة الفكرية الغربية،
التي شعارها أن« :العقل -وليس النص
ّ محك الحكم على األشياء». الديني -هو
العام لإلخوان المسلمين بعد أن حصل حزب الحرية والعدالة
وخطورة الهوية اإلسالمية المتخيَّلة تظهر حين تتحول إلى
التحقق وبعد أن نتمكن سنصبح أساتذة العالم» .هذا حلمهم.
تغيير المجتمعات ،سواء بالدعوة أم بالعنف .وهذا العنف مارس ْته الحركات األصولية اإلسالمية بالفعل في الستينيات
مجلسي الشعب اإلخواني وحزب النور السلفي على األغلبية في َ والشورى ،صرح قائلاً « :يبدو أن حلم حسن البنا قد قارب على وكذلك عندما نجح محمد مرسي في االنتخابات الرئاسية التقاه محمد بديع وقبّل رأسه وقال« :أحلك من البيعة» ،والحقيقة أنه لم يحله من البيعة؛ إذ اكتشفنا أن مكتب اإلرشاد هو من كان
يدير البالد بأوامر ملزمة لمرسي؛ ألن مرسيًا كان تابعً ا للمرشد
رئيسا للجمهورية. حتى بعد أن أصبح ً
ـــــ
حركات «أصولية» لها قيادات وقواعد على األرض ،وتسعى إلى
في مصر وغيرها من الدول اإلسالمية ،وترتب عليه سقوط مئات الضحايا ،وقد تحول في السنوات األخيرة على يد تنظيم
«القاعدة» بقيادة أسامة بن الدن ،ومؤخ ًرا في صورة «الخالفة اإلسالمية» التي يتولى قيادتها اإلرهابي أبو بكر البغدادي إلى إرهاب معولم يوجه ضرباته للمسلمين وغير المسلمين في
مختلف بالد العالم .بعبارة أخرى :الخطورة تتمثل في تحول
ما األسس التي تقوم عليها هذه الهوية اإلسالمية اً ومستقبل؟ المتخيَّلة؟ وما الذي تحمله من خطورة اآلن
حركات أصولية تعتمد العنف وسيلة رئيسة لها للوصول إلى
واعتماد الشورى نظامً ا سياسيًّا -وإن كانت جماعات اإلخوان
وأخطر من ذلك كله محاولة غزو العالم كله لكي يدين
تقوم على أسس عدة ،أهمها رفض الديمقراطية الغربية
هذه الجماعات التي تعتنق الهوية اإلسالمية المتخيَّلة إلى
السلطة وتحكيم شرع الله كما يفهمونه هم.
والسلفيون عدلوا من موقفهم من رفض الديمقراطية سعيًا
باإلسالم حتى لو تحقق ذلك باإلرهاب الذي يترتب عليه عادة
الرئاسية كما أشرنا .واألساس الثاني للهوية اإلسالمية المتخيَّلة
لمفهوم األصولية ودراسة مختلف تجلياته في الواقع له أهمية
للوصول إلى عضوية المجالس البرلمانية المنتخبة واالنتخابات
سقوط مئات الضحايا األبرياء .وفي تقديرنا :أن التحديد الدقيق
يتمثل في مكو ٍِّن معرفي أطلقوا عليه «أسلمة المعرفة» بمعنى االستحواذ على المعرفة الغربية في العلوم االجتماعية
تدور بين الجماعات اإلرهابية اإلسالمية والنظم السياسية
حتى يصبغها بصبغة إسالمية .واألساس الثالث هو رفض النظرية
التخطيط للمستقبل بمعنى تكاتف جهود الدول لمحاربة
وأسلمتها ،بمعنى إعطاء خالصات لهذه المعرفة لكاتب إسالمي
قصوى ،ليس في فهم الصراعات الدموية في الحاضر التي العربية واإلسالمية القائمة أو الدول الغربية فحسب ،بل في
89
حوار
اإلرهاب وللتخطيط المستقبلي إلشباع حاجات الشعوب المادية
ومقاالت عدة في هذا المجال ،فإن أهم ما فيه في الواقع هو
الشديدة.
ألسابيع عدة على صفحات جريدة «األهرام» .هذه المناظرة لم
والمعنوية للقضاء النهائي على المشروع األصولي بمخاطره
ـــــ
أشرت في أكثر من موضع في كتاباتك إلى تشابه نظام
أخطط لها ،وبدأت بمقالة نقدية عنوانها «الحركة اإلسالمية بين حلم الفقيه وتحليل المؤرخ» ،وسرعان ما ر ّد عليها الشيخ
اإلخوان المسلمين مع نظام والية الفقيه في إيران ،هل ذلك
القرضاوي بمقالة حاول فيها تفنيد آرائي حول أوهام إحياء نظام
ال ،لقد قلت :إن نظام اإلخوان أشبه بنظام والية الفقيه ولكن على الطريقة الس ّنيّة .لماذا تطرقت لهذا األمر؟ ألن اإلخوان
والخليفة» ،واختتم الشيخ القرضاوي المناظرة بمقال أخير له عنوانه« :تعقيب حول مقال اإلمبراطورية والخليفة».
يريدون إقامتها وأرسلوه إلى المثقفين المصريين ،وكنت من
الفكر النظري لجماعة اإلخوان إلى فكر إرهابي يقوم على تكفير
وراء تقارب اإلخوان وإيران؟
ً مشروعا حول تصوراتهم للدولة التي قبل ثورة 25يناير عملوا بين المثقفين الذين تلقوا نسخة من المشروع، واكتشفت من
واقع النصوص أنه ليس سوى مشروع لتأسيس دولة دينية في مصر في ضوء مذهب والية الفقيه على الطريقة السنية؛ إذ َّ نص المشروع على تشكيل مجلس أعلى للفقهاء ُتعرض عليه قرارات رئيس الجمهورية وقرارات المجالس النيابية إلقرارها ،فإنْ وافق
90
تسجيل دقيق للمناظرة التي دارت بيني وبين يوسف القرضاوي
الخالفة اإلسالمية ،و َر َددْت عليه بمقال عنوانه« :اإلمبراطورية
هذه المناظرة كانت حوارًا فكريًّا ،مقدمة رصدي لتحول
ً وخصوصا غير المسلمين ،بل على تكفير المسلمين أنفسهم،
الحكام الذين ال يحكمون بالشريعة اإلسالمية والجماهير المسلمة التي تستسلم لهم وال تخرج عليهم .وقد تب َّنت هذا الفكر التكفيري جماعتان إرهابيتان مصريتان هما :جماعة
«الجهاد» ،و«الجماعة اإلسالمية» ،اللتان قامتا بأعمال إرهابية
كان بها ،وإن لم يوافق فال .وقد تخلصت الجماعة من هذا البند في المشروع بعد ِّ ً عنيفة على هذا النص ،لكن انتقادات تلقيها ٍ
وهناك كتابات نقدية مبكرة لغيري أبرزهم عبدالرحيم علي،
التأويل المنحرف َ تتبعت النماذج في كتابك «نقد الفكر الديني»
اإلرهابية والمتطرفة ،وله كتب في نقد الفكر الديني مبكرة جدًّا عن اإلخوان المسلمين وغيرها ،وهناك ُك َّتاب آخرون ،لقد حُ ِّل َلت
اإلخوان المسلمين إلى جحيم داعش مرورًا بالفكر التكفيري لجماعات مثل جماعة الجهاد والجماعة اإلسالمية» ،أَ َما من
إرهابية تتستر وراء آيات قرآنية وأحاديث وتمارس «التأويل
بعد أن كانت قد كشفت النقاب عن وجهها الحقيقي.
ـــــ
المتعددة للفكر الديني ،التي لخصتها في عبارة «من يوتوبيا
سبيل لحل إشكاليات الفكر الديني؟ ٍ
الفكر الديني متعدد؛ هناك فكر محافظ ،وآخر متشدد،
وآخر إصالحي وتجديدي ...إلخ ،هناك مراوحة كاملة من
التباينات واالختالفات في الفكر الديني ،الشيخ محمد عبده، والشيخ عبدالمتعال الصعيدي ،والشيخ علي عبدالرازق ،كانوا ً متطرفا ،بل هو إمام من المجددين ،سيد قطب كان تكفيريًّا المكفرين وصاحب نظرية التكفير األساسية ،إذن هناك تعدد
وفروق فيما يسمى الفكر الديني.
ُ مارست نقدً ا للتوجهات المتطرفة في هذا الفكر التي لو وقد
تحققت ألدت إلى تفكك الدول العربية والتغيير القسري لهويتها ُ وبدأت هذا المشروع النقدي في الوطنية وتوجهاتها القومية.
منتصف التسعينيات من القرن العشرين ،وجمعت أبحاثي في
هذا المجال في كتاب من جزأين عنوانه« :الكونية واألصولية ْ نشرته في وما بعد الحداثة :أسئلة القرن الحادي والعشرين»، ُ ُ وخصصت الجزء الثاني المكتبة األكاديمية بالقاهرة. عام 1996م
ألبحاثي النقدية للفكر الديني وجعلت عنوانه «أزمة المشروع ً أبحاثا اإلسالمي المعاصر» .وعلى الرغم أن هذا الجزء ضم العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
عدة كان أبرزها واقعة ذبح السياح في مدينة األقصر.
الذي كان يكتب منذ الستينيات وجمع وثائق عديدة عن الجماعات
الظاهرة ُ وت ِّ وصل إلى ُصلبها ،كاشفة أن هذه الجماعات جماعات
المنحرف والتأويل الخاطئ».
ـــــ
ما مصير إستراتيجيتك الثقافية التي طرحتها منذ ما
يقرب من عامين إلصالح المنظومة الثقافية المصرية؟ لاً ه ــذه اإلس ـت ــرات ـي ـج ـي ـ ــة خ ـض ـع ــت ل ـحـ ـ ــوار مجتمعي؛ أو وزير الثقافة السابق الدكتور جابر عصفور كوّن لجنتين متخصصتين،
ُ قمت بطرح اإلستراتيجية أمامهما وجرت مناقشتها ،ثم طبع منها آالف من النسخ ُ وعرضت على الشباب إلجراء ح ـ ـ ــوار مجتمعـ ـ ــي، ونتـ ـ ــائج هـ ـ ــذه الحوارات موجودة في الوزارة ،لكن لم تستكمل العملية ومن ثم لم تخرج الحوارات بوثيقة عمل .وعقب خروج جابر عصفور من الوزارة ومجيء وزير آخر انتهى األمر ،كالعادة،
نظرية اإلسالم الليبرالي نظرية أميركية تستهدف إمكانية إنشاء إسالم ليبرالي لتجنيد شركاء إسالميين معتدلين لتنفيذ المخطط األميركي في المنطقة.
المفكر المصري «السيد ياسين» ..طالب النخب السياسية القديمة والجديدة بالتجديد
ليس هناك استمرارية؛ الوزير الجديد ال
ـــــ
يستكمل مشروعات الوزير السابق ويبدأ من
تقليد ًّيا ويفرض سيطرته على الخطاب
الصفر ،تقليد بيروقراطي مصري أصيل.
ـــــ
وماذا إذا كان هذا الخطاب الثقافي
الحداثي العصري؟
كيف تقرأ المشهد الثقافي المصري
نعم ،هناك خطاب تقليدي يتبناه
أقرؤه كما قلت في اإلستراتيجية
يبسط رواقه على مختلف جنبات المجتمع
اآلن؟
مثقفون من اتجاهات فكرية شتى ،وهو
الثقافية المنشورة ،أنه في ضوء المؤشرات
االجتماعية ،نرى التالي :معدل األمية في
العربى ،ويخوض معركة شرسة مع علي عبدالرازق
الخطاب العصري الذي يتبناه مثقفون من
مصر ،%26و 26مليون مصري تحت خط ً مليونا يعيشون في العشوائيات ،وهذا يشكل كارثة الفقر ،و18
للخطاب التقليدي أنه يتشبَّث بالماضي ،وهذا الماضي المختار
المتطرفة ،من هنا جاء عنوان اإلستراتيجية« :نحو سياسة
من مواجهة الواقع ،وال يعترف بالتغيرات العالمية ،أو على
ثقافية ،هذه ماليين من السهل غزو عقولها البسيطة باألفكار ثقافية جماهيرية» ،بمعنى أننا ما لم نصل إلى الماليين في
القرى والنجوع فال أمل ،من خالل قصور الثقافة ،مع تطويرها
وتكوين كوادر ثقافية مدربة في وزارة الثقافة ،تعود إلى قصرها لتؤدي مهامها في نشر فكرة اإلسالم الوسطي والوعي الثقافي
واالجتماعي.
ـــــ
ً إمكانية لتطبيق إستراتيجيتك الثقافية؟ هل ترى
لو أن هناك إرادة سياسية أو إرادة ثقافية حتمً ا كانت
ستتوافر اإلمكانية لتطبيقها. ً المتابع للحركة الثقافية العربية والمصرية أيضا يرى
ـــــ
مشارب فكرية مغايرة .والسمات األساسية
المتخيل يختلف بحسب هوية منتج الخطاب ،وهو خطاب يهرب األقل يحاول التهوين من شأنها ،أو يدعو بصورة خطابية للنضال ضدها ومن غير أن يعرف القوانين التي تحكمها ،ومن سماته إلقاء مسؤولية القصور واالنحراف على القدر أو على الضعف
البشري أو على األعداء ،وهو في ذلك عادة ما يتبنى نظرية تآمرية عن التاريخ ،وهو أخي ًرا ينزع -في بعض صوره البارزة -إلى ّ بغض النظر عن اختالق عوامل مثالية يحلم دعاته بتطبيقها،
إمكانية التطبيق ،أو بُعدها عن الواقع.
أما الخطاب العصري فهو خطاب عقالني ،يؤمن بالتطبيق
الدقيق للمنهج العلمي ،وعادة ما يتبنى رؤية نقدية للفكر
وللمجتمع وللعالم ،وهو خطاب مفتوح أمام التجارب اإلنسانية
ً انقساما بين المثقفين حول ما يجري في المنطقة العربية...
المتنوعة يأخذ منها بال عقد ،ويرفض بعضها من موقع الفهم
ال مشكلة في ذلك؛ ألن هذا منطقي؛ الختالف
التاريخية الكبرى ،كما أنه يعرف أنه في عالم السياسة ليست
الثورات 25 ،يناير وغيرها ،ألم تكن هناك انقسامات بين المثقفين
من أن الحقيقة نسبية وليست مطلقة ،وأن السبيل لمعرفتها هو
ما تفسيرك لذلك؟
األيديولوجيات السياسية وتقدير المواقف واألحداث ،قبل العرب؟ بالطبع كان هناك انقسامات حول الوحدة والقومية
العربية ،الطريق نحو التنمية االشتراكية ،غزو العراق للكويت، تيارات اإلسالم السياسي .االنقسامات موجودة
وفي كل المجتمعات بما فيها المجتمعات
الغربية؛ في فرنسا يوجد يمين ووسط
ويسار ،فهذا وضع طبيعي ،وليس انقسامً ا
لكن تيارات سياسية متصارعة ،والمثقف
حسب أيديولوجيته وتكوينه الثقافي وتربيته
وقراءاته وانحيازاته يتخذ مواقفه .إن ثورة 25 ٌ إجماع عليها؛ هناك المؤيدون يناير ليس هناك
وهناك المعارضون ،وهناك المتشككون ،وهذا
منطقي في أي ظاهرة تاريخية أو سياسية أن تحدث
اختالفات في التقييم.
واالقتدار والثقة بالنفس ،وال يخضع إلغراءات نظرية المؤامرة هناك عداوات دائمة أو صداقات خالدة ،إضافة إلى أنه ينطلق الحوار الفكري والتفاعل الحضاري ،وال يدعو لمقاطعة العالم أو االنفصال عنه ،وال يدعو إلى استخدام القوة والعنف ،وال يمارس ُ اإلرهاب المادي أو الفكري. دعاته َ اإلسالم الليبرالي
ـــــ
ً أيضا مسألة أثرت في كتاباتك
وجود نظرية اإلسالم الليبرالي ،وهي أميركية باألساس ،أين تكمن جذورها وماذا كان المستهدف منها؟
إن نظرية اإلسالم الليبرالي نظرية
أميركية تستهدف إمكانية إنشاء إسالم ليبرالي لتجنيد شركاء
إسالميين معتدلين لتنفيذ المخطط
91
حوار
األميركي في المنطقة ،واألب الحقيقي للنظرية هو عالم
األمن القومي بمؤسسة راند األميركية ،الذي صدر عام 2003م
اإلسالمية :نقد لأليديولوجيات التنموية» الصادر 1978م ،وهو
واإلستراتيجيات» .والغرض من هذه النظرية تسويغ شرعية
السياسة األميركي المعروف «ليونارد بايندر» في كتابه «الليبرالية
دراسة للعالقة بين الليبرالية اإلسالمية والليبرالية السياسية، يضع فيها المؤلف في اعتباره الرأي الذي مؤدَّاه أن العلمانية تنخفض معدالت قبولها ،ومن المستبعد أن تصلح أساسً ا
أيديولوجيًّا لليبرالية السياسية في الشرق األوسط .ويتساءل فيما
إذا كان من الممكن بلورة ليبرالية إسالمية ،ويخلص إلى أنه بغير
تيار قوي لليبرالية اإلسالمية فإن الليبرالية السياسية لن تنجح في
الشرق األوسط ،بالرغم من ظهور دول بورجوازية.
وقد تبلورت هذه النظرية في التقرير اإلستراتيجي الخطير
الذي كتبته الباحثة «شيرلي بينارد» التي تعمل في قسم
هناك خطاب تقليدي يتبنَّاه مثقفون من اتجاهات فكرية شتى ،وهو يبسط رواقه على مختلف جنبات المجتمع العربي ،ويخوض معركة شرسة مع الخطاب العصري الذي يتبناه مثقفون
92
من مشارب فكرية مغايرة
بعنوان «اإلسالم المدني الديمقراطي :الشركاء والموارد اإلخوان المسلمين في الحكم؛ ألن اإلخوان في نظر األميركان
معتدلون بالمقارنة مع الجماعات المتطرفة واإلرهابية األخرى.
ومن هنا كان تأييدهم لحكم اإلخوان وغضبهم وعدم اعترافهم بثورة 30يونيو ،ثم إزاحتهم من الحكم في 3يوليو .كان الحلم األميركي هو التحالف مع اإلخوان كحائط صد ضد داعش
والحركات المتطرفة واإلرهابية األخرى ،بزعم أن اإلخوان أقل ً تطرفا وأكثر اعتدالاً ،وهذا وهم من األوهام. انهيار الدولة الوطنية
ـــــ
كيف ترى المشهد العربي الراهن في ضوء ما يجري
في سوريا والعراق وليبيا واليمن؟
سوف أصف لك المشهد الراهن :بعد 25يناير 2011م انهارت
الدولة الوطنية العربية ،انهيار الدول ،سوريا وليبيا واليمن والعراق ،الملمح العربي األساسي انهيار الدولة الوطنية،
والتحدي المطروح على المشهد اآلن والمهمة الكبرى :هل
سنستطيع إقامة وبناء الدولة الوطنية مرة أخرى أم ال؟ األمر
بحاجة إلى جهود ضخمة ،يعني سقطت ليبيا في يد القبائل
صياغة دور الدولة ً أحداثا جسيمة ،وقال :إن الدولة المصرية «استطاعت أن تستر ّد أوضح المفكر العربي السيد ياسين أن 30يونيو شهد ً هويتها الوطنية التي كادت أن تشوهها جماعة اإلخوان ،وكما قلت سابقا ،ال تؤمن بفكرة الوطن وال الوطنية ،إنما تؤمن باألممية اإلسالمية؛ كالم خطير .ما حدث في 30يونيو هو عودة الدولة التنموية ،الدولة التي تخطط للتنمية وتقوم بها
بأجهزتها من دون أن تستبعد القطاع الخاص ،فالنظام السياسي الجديد الذي انبثق من ثورة 30يونيو يعيد اآلن صياغة دور ً وعريضا لعودة نموذج الدولة التنموية التي رسختها ثورة يوليو 1952م ،باعتبار أن مهمتها الدولة ويفسح الطريق واسعً ا
الرئيسة هي التنمية الشاملة من خالل القيام بمشروعات قومية كبرى».
ولفت إلى أن الرئيس السيسي «بدأ هذا العصر التنموي الجديد في مصر بمشروع قناة السويس الجديدة التي اعتمد ً ساحقا ،وعلى اإلدارة الهندسية للقوات المسلحة في فيها ألول مرة في تمويلها على االكتتاب الشعبي الذي نجح نجاحً ا
تنفيذه في عام واحد بدالً من ثالثة أعوام كما كان مقدرًا ،وتم ذلك على أعلى مستوى .وقد ُت ِّوج هذا المشروع القومي الكبير بافتتاح تاريخي حضره جملة من ملوك ورؤساء العالم .وقد أعلن ً أيضا عن مشروع زراعة المليون ونصف المليون فدان، إضافة إلى مشروع بناء عاصمة جديدة .ويعني ذلك أن الدولة التنموية عادت بأقوى مما كانت حتى في الحقبة الناصرية، ً إقطاعا للنظام الخاص كما فعلت الدولة في عهد السادات أو في عصر مبارك الذي تزاوجت فيه السلطة ولم تعد التنمية مع الثروة؛ مما أدى إلى استفحال الفساد وإفقار ماليين المصريين».
إال أن هذا -في رأي السيد ياسين -لن يحل المشكلة« ،إذا كانت الدولة تتجدد لدولة تنموية فإن بقية المفردات
السياسية لم تتجدد ،األحزاب السياسية التقليدية لم تتجدد ومنظمات المجتمع المدني لم تتجدد والمثقفون والحركة الثقافية لم تتجدد معرفيًّا ،والنخب السياسية لم تتجدد .كيف تتجدد األحزاب السياسية؟ بأن تصبح أحزابًا تنموية ومواكبة
ومتناغمة مع الدولة التنموية الصاعدة ،فال بد من قيام هذه األحزاب بثورة مؤسسية -إن صح التعبير -من شأنها القضاء
العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
المفكر المصري «السيد ياسين» ..طالب النخب السياسية القديمة والجديدة بالتجديد
فهل نستطيع استرداد الدولة منها؟ نفس األمر في سوريا واليمن
والعراق ،هذا هو التحدي الحقيقي أن هناك انهيارًا في النظام
العربي نتيجة انهيار الدولة الوطنية.
ـــــ
ما رأيك في قضية الصراع الشيعي السني ،وهل هذا
الصراع حقيقي؟
بالطبع الصراع حقيقي؛ ألن العقائد الشيعية عقائد
منحرفة في األصل ،لقد نقلوا الصراع القديم على الخالفة إلى ً مطلقا، الحاضر ،يعني الهجوم على الصحابة أمر غير مقبول مذهب والية الفقيه غير مقبول سنيًّا؛ هناك خالفات في المعتقد
الديني ،وهناك خالفات سياسية في شكل الحكم ،في إيران هناك ما يسمى «مجلس تشخيص مصلحة النظام» ،و«المرشد
األعلى» ،و«الولي الفقيه» ،هذا غير موجود في الفكر السني ،في ً صراعا؛ ألنه الفكر السني هناك الخليفة .وهذا بالطبع يستدعي
خالفات جوهرية في العقائد الدينية ،يعني أهل السنة ال يقبلون ً إطالقا الطعن في الصحابة ،وجزء من الطقوس الشيعية هو الطعن في الصحابةً ، أيضا لديهم مذهب خاص «والية الفقيه»
ال وجود له لدى أهل السنة والجماعة.
ـــــ
في رأيك :هل تتمدد إيران في المنطقة في ظل
االنقسام بين أهل السنة؟
التمدد اإليراني يرجع إلى أمور دولية وإقليمية ،وليس له
عالقة بوضع السنة ،لكن له عالقة بأوزان القوى النسبية في
الدول العربية ،هناك محظورات على إيران دوليًّا أال تتمدد على حساب دول أخرى ،وهناك محظورات إقليمية ً أيضا عليها ،لن
تقبل الدول باالستعمار أو االحتالل أو السيطرة من جانب إيران، لكن محك المسألة ميزان القوى النسبي لكل دولة وقدرتها
على إيقاف التمدد ،هذه هي الفكرة ،وليس لألمر عالقة بكونها
شيعية أو سنية.
نهائيًّا على البيروقراطية الحزبية ،ووضع تقاليد رفيعة المستوى لدوران نخبة القيادات الحزبية ،بحيث ال تبقى قيادة
حزبية ما -أيًّا كان موقعها -أكثر من عامين؛ سعيًا وراء تجديد دماء الحزب ،والدفع بصفوف الشباب إلى األمام ،وتفريخ
القيادات الحزبية التي ستصبح من خالل الممارسة هم رجال الدولة في قابل األيام .كذلك منظمات المجتمع المدني التي تركز على حقوق اإلنسان على الطريقة الغربية نسيت حق اإلنسان في العمل والسكن والرعاية الصحية ،أليس بناء الرئيس عبد الفتاح السيسي مساكن جديدة لسكان العشوائيات في األسمرات احترامً ا لحقوق اإلنسان ،أم أن حقوق
اإلنسان فقط حرية التظاهر؟ هناك حقوق إنسان ثقافية واقتصادية».
وتطرق إلى الكتاب الذي أصدره في المركز العربي للبحوث والدراسات ،وقال :إنه ناقش فيه «أهم المشكالت التي
تواجه الدولة التنموية الراهنة ،وهي :النظام السياسي وتوجهات السياسة الخارجية والسياسات االقتصادية الجديدة
والممارسة السياسية الواقع والمستقبل ،والمشكالت االجتماعية الراهنة وسياسات الشباب واألوضاع الثقافية والسياسة الثقافية الجماهيرية المقترحة ،وتطوير السياسات التعليمية ،وترشيد السياسة اإلعالمية ودور اإلعالم في
مواجهة اإلرهاب ،والمحليات الواقع والمأمول ،وأخيرًا السياسات البديلة للطاقة .إنها خريطة تحليلية ونقدية كاملة للمشكالت المصرية الراهنةُّ ، خبير في تخصصه يقوم بالوصف الدقيق للمشكلة محل البحث باستخدام المؤشرات كل ٍ
الكمية والكيفية ،وأن يقوم باقتراح سياسات بديلة للسياسات القائمة ،مع اقتراح مشروعات القوانين المطلوب إصدارها لتطبيق السياسات المقترحة .إذن المعارضة هنا معارضة نقدية علمية ب ّناءة وليست غوغائية أو مظاهرات». ويرى ياسين أن مصر تسير على الطريق الصحيح« ،إذا تجددت المؤسسات واألحزاب والمنظمات وأصبح لدى
المثقفين فضيلة التجدد المعرفي ،ال بد من التعرف إلى التغيرات العالمية ومنطق هذه التغيرات ،العالم يتغير وال يعرفون عن هذا التغير شي ًئا ،والنخب السياسية القديمة والجديدة ال بد أن تتجدد ،واألحزاب ال بد أن تصبح أحزابًا حقيقية ،وأن تمارس على نفسها النقد الذاتي لكي تخرج برؤية تعمل عليها ً وفقا للدولة التنموية التي شرعت في البدء. انظر إلى حزب الوفد ،هناك انشقاقات حول زعامة الحزب».
93
قضايا
مثقفون أرجعوا السبب إلى نظرة األنظمة ثانويا إلى الثقافة بصفتها شي ًئا ًّ
بال إستراتيجية ثقافية العرب يتلمسون طريقهم في الظالم صبحي موسى القاهرة
94
على الرغم من تأكيد وزراء الثقافة العرب أهمية التفكير اإلستراتيجي ،وتشديدهم في مؤتمرهم الذي يعقد سنويًّا في إحدى العواصم العربية ،على وجود خطط إستراتيجية طويلة األمد تهدف إلى رفع مستوى الوعي لدى المجتمع ،إال أن المتأمل لواقع الثقافة العربية ال يكاد يلمس أي أثر لتفكير إستراتيجي ،فهل فعلاً لدينا إستراتيجية ثقافية ً بعدا مؤسسيًّا؟ أم أن العرب يفتقدون فعلاً التفكير تنظم العمل الثقافي وتعطيه اإلستراتيجي؟ ...إذا كان األمر كذلك فما األسباب التي جعلتنا بال خطط مدروسة بأهداف تعمل المؤسسات على تحقيقها في مراحل منتظمة ،ثم كيف يمكن للثقافة العربية أن تقوم بدورها تجاه المجتمع ،في ظل هذا الغياب؟ «الفيصل» لجأت إلى عدد من المثقفين العرب؛ لمعرفة إن كان لدينا إستراتيجية ثقافية حقيقية في بلدان العالم العربي أم ال ،وإذا كانت موجودة فلماذا ال يتم تفعيلها؟
العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
يف البدء أكد وزير الثقافة املصري األسبق الدكتور شاكر
عبدالحميد عدم وجود إسرتاتيجية ثقافية يف بلدان العالم
العربي ،موضحً ا أن غالبية األنظمة العربية «تعدّ الثقافة ً مرتبطا بالتسلية والرتفيه ،وليس تكوين اإلنسان، شي ًئا ثانويًّا أو أن للثقافة دورًا فعالاً يف املكون االقتصادي للدولة والبشر،
ومن ثم فهذه األنظمة تعدّ الثقافة كما يقولون« :فض مجالس» ،والثقافة يف نظر كثري من املسؤولني مجرد رقص
وغناء ،ويف بعض األحيان شعر وقصة وفن تشكييل».
ويلفت عبدالحميد إىل أن الثقافة «هي كل ما يخص
حياة اإلنسان ،بدءً ا من املأكل واملشرب وأدوات العمل وطريقة التفكري وصولاً إىل اآلداب والفنون والقيم واملفاهيم،
وبالتايل فأي إسرتاتيجية عليها أن تضع كل هذه الحسابات يف مخيلتها ،لكن الواقع يخربنا بنقيض ذلك ،ومن ثم فكل
مسؤول يتحرك وفق أهواء شخصية ورؤية يومية يحكمها «الشو اإلعالمي» ،أما فكرة وجود مفهوم كيل متكامل فهذا
غري وارد ،وفكرة اإلسرتاتيجية نفسها غري موجودة».
وأضاف عبدالحميد« :وبالرغم من ذلك فما زلت أحلم
بوجود تكامل بني بلدان العالم العربي يمكنه أن يخلق لنا
رؤية ثقافية واحدة ،وإن كان ذلك أم ًرا يحتاج إىل سنوات من التعاون يك يتحقق؛ لذا فإننا يمكننا أن نبدأ بعمل
خريطة واحدة للعالم العربي ،خريطة تخربنا باملواقع الثقافية املوجودة يف كل بلدان العالم العربي ،تخربنا بكل
مواقع وقاعات الفن التشكييل وأنشطته ،تخربنا بتباين املناطق العربية من الفقر إىل الغنى ،من العشوائيات إىل الصحراويات ،خريطة نرى أنفسنا من خاللها ،وحينها سوف ينتبه الجميع إىل ما يجب عليهم عمله حيال ما يرونه عىل
هذه الخريطة ،وهذه بداية وضع إسرتاتيجية ثقافية عربية
شبه موحدة ،أو عىل األقل متالئمة مع كل هذا التنوع والتباين والتفاعل العربي».
أما رئيس قسم املكتبات بجامعة حلوان والرئيس
األسبق لدار الكتب املصرية الدكتور زين عبدالهادي ،فأوضح
شاكر عبدالحميد: فكرة اإلستراتيجية نفسها غير موجودة ،وكل مسؤول يتحرك وفق أهواء شخصية ورؤية يومية يحكمها الشو اإلعالمي وتساءل عبدالهاديً : إذا كيف يمكننا بناء إسرتاتيجية
للثقافة يف هذه البيئة الطاردة؟ ربما كان لدينا يف مصر يف نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات مثل هذه البيئة بشكل أو بآخر ،فانتشرت صناعة الكتاب والسينما واملسرح واألدب
والفن التشكييل وغري ذلك ،لكن العقل الذي بنى ذلك ليس
كالعقل املوجود اآلن ،فهناك تحالفات سياسية دينية، وهناك تحالفات مذهبية وعرقية أو فئوية ،وكلها تحالفات ترى يف الثقافة مجالاً للزندقة ،وليست صناعة يمكن أن
تسهم يف العالم العربي بنسبة مئوية كبرية يف اقتصاد الخدمات».
وذهب إىل أن الفكر السيايس والديني املتطرف «يلتهم يف
طريقه كل يشء .ولم نصل بعد -كدول وجماعات وأفراد -إىل
درجة من النضج التي تمكننا من التوجه نحو اقتصاد معرفة
مبني عىل مفاهيم إنسانية عظيمة؛ إذ يعاين اإلنسان العربي
من نقص شديد يف املعرفة ،بدليل القرارات الخاطئة التي يتم
اتخاذها كل يوم ،لذلك لم يحن بعد الوقت إلسرتاتيجيات
الثقافة؛ ألن األرض نفسها تمتئل اآلن باملطبات والغبار
واملعارك الطاحنة ،دعنا نأمل يف املستقبل القريب أن يتفهم العالم العربي مدى حاجته إلسرتاتيجيات ثقافية توازي ما هو موجود بالعالم املتقدم وتفوقه».
أن الثقافة تحتاج إىل دعم سيايس كبري يأيت من الدولة
ومؤسساتها الكبرية املتحكمة« ،ومن دون ذلك تظل الثقافة ً واع بقيمتها وأهميتها، هامشا ،كما أنها تحتاج إىل عقل ٍ ومدى تأثريها يف الشارع ،وأشك كثريًا يف وجود مثل هذا
العقل يف العالم العربي ،وتحتاج إىل بيئة حاضنة ملفهوم الثقافة بكل أشكاله ،وأشك ً أيضا بأن هناك يف العالم العربي
هذه البيئة ،وإن كانت بعض دول الخليج اآلن لديها هذه املساحة وبشكل محدود».
زين عبدالهادي: كيف يمكننا بناء إستراتيجية للثقافة في هذه البيئة الطاردة؟
95
قضايا
للتأسيس من جديد إلسرتاتيجيات ثقافية عربية؟ أو ربما مصرية أو سورية أو مغربية أو خليجيةّ ... كل عىل حدة؟ وهل يمكن لهذه اإلسرتاتيجيات أن تلقى قبولاً إقليم ًّيا وعامل ًّيا؟
نديم الوزة: ما العوامل الممكنة لتأسيس إستراتيجيات ثقافية عربية؟ الشاعر والناقد السوري نديم الوزة يرى أننا عندما نتحدّ ث عن إسرتاتيجيات ثقافية يف بلدان فائتة حضار ًّيا مثل
البلدان العربية« ،فإننا أمام سؤال التأسيس الذي فشلت هذه ً مجتمعة أو منفردة يف اإلجابة عنه إن كان إحيائ ًّيا مع البلدان
عىل ما أرى يف ّ ظل األنظمة الحالية ،ومنظومات معارضاتها عيل اإلجابة ،وإن كنت ما زلت ّ ّ أفكر بها!». الهشة ،يصعب ّ من جانبه أرجع الروايئ املصري محمد املنيس قنديل غياب
إسرتاتيجية ثقافية يف العالم العربي ككل« ،إىل أننا نعيش يف
عالم عربي مأزوم ،وكل عوارض األزمة العربية تتجسد يف الثقافة ،ومن ثم ال توجد لدينا سياسات ثقافية ،وربما كانت لدينا مشروعات طموحة يف زمن ما ،كانت لدينا مجالت
عصر النهضة أو حداث ًّيا مع املدّ القومي؛ وهذا بسبب فقدان
العوامل الذاتية واملوضوعية إلنجاح مثل هذه اإلسرتاتيجيات. ويبدو السؤال حاليًا أكرث تعقيدً ا يف ّ ظل العوملة من جهة، ويف ّ ظل األنظمة التي هي امتداد للفشل العربي وعامل من
عوامله األساسية من جهة أخرى .بهذا املعنى يستطيع من يحلم بمستقبل ما أليّ من البلدان العربية املتشظية أو يف
96
طريقها إىل ذلك؛ أن يتساءل :ما العوامل أو الحوامل املمكنة
المنسي قنديل: كل عوارض األزمة العربية تتجسد في الثقافة ،ومن ثم ال توجد لدينا سياسات ثقافية
عائشة البصري:
تعد القطاع الثقافي غير منتج الدولة ّ من جانبها أكدت الشاعرة والروائية والفنانة التشكيلية املغربية عائشة البصري أن ما
تعرفه عن السياسات الثقافية يف البلدان العربية ال يسمح لها بإصدار أحكام .وإن كانت قد الحظت يف العموم أن هناك بعض الديناميات التي تشهدها بلدان عربية ،مثل مصر
وتونس ولبنان والجزائر وبعض البلدان يف منطقة الخليج ،وقالت البصري« :سأتحدث عن
عائشة البصري
املغرب فقط ،فأول مرة فكرت الدولة املغربية يف هيكلة قطاع الثقافة كان ذلك سنة 1968م ،بإسناده إىل وزارة التعليم .ثم أُلحقت بوزارة األوقاف والشؤون اإلسالمية بعد ذلك .قبل أن يستقل قطاع الثقافة بوزارة خاصة به سنة 1974م .الواقع أن
الشأن الثقايف يف املغرب اهتم به املجتمع املدين قبل أن تهتم به الدولة .فقد تأسس اتحاد كتاب املغرب سنة 1961م .وظهرت
مجالت ثقافية مستقلة منذ بداية الستينيات .فاهتمام الدولة بالشأن الثقايف كان رد فعل .حني أدركت أن الثقافة بدأت تصبح من اهتمامات اليسار املغربي .والحديث يطول بهذا املعنى التاريخيً . إذا ،فاملغرب ظل يمتلك سياسة ثقافية تشمل
مجاالت :الرتاث والفنون والنشر وترويج الكتاب وسوق القراءة العمومية ،والدبلوماسية الثقافية ...إلخ».
وتلفت البصري إىل أن اإلخفاق الذي ظل يطبع السياسات الثقافية العمومية يف املغرب« ،يرجع إىل انعدام مشروع ثقايف
ً وطني من جهة ،كما أن الدولة ظلت دائمً ا ّ قطاعا غري منتج ،بالرغم من أنه استثمار يف رأس املال تعد القطاع الثقايف
البشري .ما يفسر أن وزارة الثقافة ظلت تخصص لها أصغر االعتمادات املالية .وهي أرقام يصعب أن تستجيب لتطلعات ومطامح الفاعلني يف املجال الثقايف املغربي».
العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
بال إستراتيجية ثقافية العرب يتلمسون طريقهم في الظالم
ثقافية كربى ،لكن كل األشياء َت َف َّت َت ْ ت ،وكل بلد يحاول عىل حدة ،ومن ثم حجم العمل الثقايف أصبح خاف ًتا ،االهتمام
بالثقافة وتفعيلها بشكل عام أصبح خاف ًتا ،نظ ًرا ألننا نعيش يف جزر منعزلة ،بلدان العالم العربي جميعها تعيش يف
جزر منعزلة ،وتعيش يف أزمة التخلف ،إننا نكتشف كل فرتة ً تخلفا ،وندخل كل معركة جديدة ونحن أكرث أننا صرنا أكرث ً تخلفا مما سبق ،حتى يف إنتاجنا الثقايف ،فقد صار من النادر
وجود أعمال مهمة ،أو مجالت مهمة ،أو مشروعات مهمة،
واإلعالم ال يروج إال لألشياء التافهة ،التلفزيون ال يعرض إال املسلسالت واإلعالنات ،كل األمور طابعها صار تجار ًّيا، والثقافة بمعناها املجرد لم تعد موجودة».
وأضاف قنديل فيما يخص تمنياته للبدء يف وضع هذه اإلسرتاتيجية العربية الكربي قائلاً « :كنت أتمنى أن
علوان الجيالني: مشكالت بنيوية عميقة تعوق التنمية بشكل عام وعلى رأسها التنمية الثقافية لتلك املؤسسات التي يجب بديهيًّا أن تكون ذات شخصية اعتبارية ،ويتوزع نشاطها عىل كل أشكال الثقافة والتعبري واإلبداع بحرية كاملة وتمويل سخي رسمي وأهيل .وتلك
توجد دار نشر عربية موحدة ،أو مؤسسة كربى للرتجمة العكسية إىل اآلخر ،بحيث تدفعنا قليلاً إىل دائرة النور ،أو
نشهدها بني الحني واآلخر هنا وهناك أشبه ما تكون بالجزر
وتقوم بدعمها وتوزيعها يف العالم كله ،كنت أتمنى أن
وقال :إن وجود إسرتاتيجية ثقافية «يعني وجود
أن توجد مؤسسات تختار األعمال السينمائية الحقيقية،
توجد فرقة مسرحية جوالة يف العالم العربي ككل .أشياء
كثرية أتصور أو أتمنى أن تحدث لكن ال توجد إسرتاتيجية حقيقية لفعل ذلك».
شروط يستحيل أن تكون موجودة إال عىل شكل مبادرات
املعزولة .وغالبًا ما تفرت وتتقهقر بعد حني».
مجموعة مؤسسات يف شتى مجاالت العمل الثقايف تعمل عىل طريقة األواين املستطرقة ،أي تتكامل جهودها وترتادف
اشتغاالتها لتؤدي وظيفتها عىل نحو مكتمل ...ناهيك عن
ورفض الشاعر والناقد اليمني علوان الجيالين الحديث
كونها ذات رسالة من شقني؛ شق يتوجه إىل الداخل ،وشق
العربية كل عىل حدة ،مؤكدً ا أن هذا الحديث بات ال
والتسويق والرتويج للفنون املختلفة ...فهل هذا موجود
عن فكرة إسرتاتيجية عربية أو إسرتاتيجيات للبلدان
يقوم عىل أساس؛ «إذ إن ثلث دول العالم العربي يفتقر إىل وجود الدولة بمعناها املتعارف عليه ،كما هي الحال
يتوجه إىل العالم بما يعنيه ذلك من قدرات عىل الرتجمة عندنا؟!».
يف اليمن والعراق وسوريا ولبنان وليبيا ..وثلث آخر تفرتسه
مشكالت بنيوية عميقة تعوق التنمية بشكل عام ،وعىل رأسها التنمية الثقافية املستدامة كما هي الحال يف مصر
والسودان وتونس واألردن والبحرين ،والثلث األخري يتمتع
بقدر كبري من الرخاء واالستقرار لكن البنى املجتمعية تحول
دون استثمار هذا الرخاء واالستقرار وتحويله إىل خادم جيد للتنمية الثقافية» .ويشري الجيالين إىل أن املقصود باإلسرتاتيجية الثقافية «هو وجود خطة إسرتاتيجية دقيقة
يدرس فيها الواقع الثقايف بشكل دقيق وتحدد األهداف،
وتعد الربامج التنفيذية لتلك األهداف ،ويتم وضع آليات لعمل املؤسسات عىل نحو ما يتم يف دول العالم املتقدمة
التي تعتمد عىل مناهج صارمة وتطوير وتحديث مستمرين
ألساليب العمل والتنفيذ ،وعىل رأس ذلك مراكمة مجموعة
من القيم املؤسسية التي تضمن البقاء والنمو واالستمرارية
عيد إبراهيم: السياسة الثقافية هي الدليل ترقي المجتمع الوحيد على ّ بينما ذهب الشاعر واملرتجم املصري محمد عيد إبراهيم ّ ترقي إىل أن السياسة الثقافية هي الدليل الوحيد عىل ىّ يتفش يف كل يشء تنطلق الثقافة املجتمع« ،فالنظام حني إىل نمط أمني ،ال تظهر فيه تلك املظاهر التي تبني سوءاته. ّ أظل أمي ًنا العربي ،حتى وال أستطيع قطعً ا الكالم عن العالم ّ
يف وجهة نظري ،ويكفيني وزيادة مشاكل الثقافة يف مصر».
97
قضايا
وطبق عيد رؤيته من خالل ما جرى يف الثقافة املصرية عقب قيام ثورة يناير قائلاً « :بالنظر إىل ما حدث لدينا من ثورة ُنقضت بل سارت باألمور إىل ما هو أسوأ مما قبلها، فأرى أن وزراء الثقافة املتعاقبني منذ بداية الثورة ،ومع
احرتامي للجميع ،لم يكن لديهم الطاقة لتنفيذ ما يرون؛ لعدة أسباب :أن النظام يرى الثقافة وكأنها الحلقة األضعف
فباستطاعته الضغط عىل مسؤوليها أو تخفيض امليزانية أو
تعيني مسؤولني غري أكفاء ،وبعضهم ال ناقة له أو جمل أصلاً يف التنظري الثقايف ،أو حتى التنفيذ اإلداريّ ،كما كان
السيايس -بل ال يزال -مشدودًاّ ، كل يوم هو يف شأن، الج ّو ّ
اإلستراتيجية الثقافية ستجنبنا مرحلة الدمار االقتصادي والسياسي واالجتماعي تؤمن بالثقافة ،أو تناصبها العداء وتتجاهلها عن عمد ،ويف
فكيف تستق ّر األوضاع ،ومتى ،وأين ،وملاذا؛ إىل آخر الكلمات تحكم ّ ّ ىّ كل تتفش أمراض وعلل ،منها االستفهامية؟ ولذلك
تقديري إيمان الحكومات بدور الثقافة بائس جدًّ ا ،ومشوّه،
املبعَ دين ،فانهار مستوى الكتب واملطبوعة الثقافية أكرث من
يبعد عن معنى الثقافة باعتبارها جوهر بناء الدولة ،والسبيل
فريق يف منصب أو مطبوعة ،يخدم بها املقربني ،ويلوي عنق ذي قبل .عمومً ا ،هذه أعراض لغياب السياسة الثقافية،
حيث ال رقيب وال حسيب ملا يقوم به كل منا يف موقعه،
98
فاطمة بوهراكة:
فالثقافة تعني الرتفيه ،أو الدعاية الوطنية ،وغري ذلك مما
الرقي والتقدم اإلنساين، لبناء األفراد ،واملعبرّ الحقيقي عن ّ وهكذا ينتقل بؤس إيمان الحكومات بالثقافة إىل اإلعالم ،ومن
ثم إىل املجتمع ،أما األزمة األخرى فتأيت نتيجة طبيعية لألوىل
ناهيك عن غياب مفهوم الجمهور أو املتلقي ،فبارت سلعة الثقافة أو تكاد ،ويكفينا أىس أن الكتب اإلبداعية مثلاً لم تعد
وتتمثل يف عشوائية الفعل الثقايف ،فهو ال ينطلق من قاعدة
عىل حني تقول الباحثة املغربية فاطمة بوهراكة صاحبة
فقط ،أو اهتمامهم املرحيل ،وتلك العشوائية تقتل الثقافة؛
ً مليونا!». تو ّزع أكرث من مئتي نسخة وسط شعب تعداده 90
موسوعة الشعراء العرب« :من وجهة نظري الشخصية ومن خالل تجربتي املتواضعة يف فعاليات الحقل الثقايف العربي أستطيع أن أقول :إننا ال نتوافر عىل إسرتاتيجيات ثقافية حقيقية
يف أوطاننا العربية ،رغم تفاوتها من بلد إىل آخر ،والسبب يف ذلك يعزى إىل عدم االعرتاف بقيمة الدور الثقايف داخل الشعوب
التي عرفت تقهق ًرا فكريًّا خطريًا أوصل بعضها إىل تدمري بلدانها
تحت ما يسمى بالربيع العربي ،فلو كانت هناك إسرتاتيجية حقيقية للنهوض باملشاريع الثقافية الجادة التي تخدم العقلية
البشرية باألوطان العربية ملا كانت نتيجتها بهذا الحال» .
وتذكر فاطمة بوهراكة أنه آن األوان «لوضع خطط
ثابتة ،بل يعتمد عىل مزاج صانعي القرار ،أو وعيهم الفردي ألن الثقافة يف جوهرها تنظيم للعالم اإلنساين ،وال يمكن أن
تؤدي رسالتها بعشوائية».
ويشري فتحي عبدالسميع إىل جهود ثقافية ألفراد يؤمنون
بالثقافة ويستوعبون قيمتها« ،لكن تلك الجهود تتحطم يف الغالب؛ ألنها تتأثر باملناخ العام املعادي جهلاً أو عمدً ا للثقافة،
كما أن الواجب الثقايف أكرب من الطاقات الفردية رغم أهميتها، ً مرهونا بإرادة وهكذا يبقى وضع إسرتاتيجيات ثقافية فعالة
الحكومات ،أو املؤسسات األهلية ،ويبقى الجهد الفردي مجرد حفاظ عىل راية مهزومة ،واستغاثة طويلة املدى تعلن عن
إسرتاتيجية للعمل الثقايف الجاد ،ودعمه ماديًّا يف جميع
الدول العربية حتى ال نضطر إىل الوصول ملرحلة الدمار االقتصادي والسيايس واالجتماعي بسبب تفريط دولنا يف
دعم املجال الفكري والثقايف ،فما أحوجنا إىل أن يكون
اإلنسان املناسب يف املكان املناسب بغية الوصول إىل شاطئ
األمان من خالل هذه اإلسرتاتيجية» .
ويذهب الشاعر فتحي عبدالسميع إىل أن املجتمع العربي
«يعاىن أزمتني كبريتني ،تتمثل األوىل يف ضعف اهتمام
الحكومات العربية بالثقافة ،ويبلغ األمر حد الشعور بأنها ال العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
فتحي عبدالسميع: يبقى وضع إستراتيجيات ثقافية فعالة مرهو ًنا بإرادة الحكومات ،أو المؤسسات األهلية
بال إستراتيجية ثقافية العرب يتلمسون طريقهم في الظالم
بائسا». بؤس املصري الذي ينتظرنا ،ما دام الوضع الثقايف ً
بصلة ملصلحة الوطن األكرب أو األصغر (طبقتها أمريكا بشكل كامل يف العراق).
تخبط وعشوائية
ويشري إىل أنه «لو تتبعنا مسار األحداث
يرى الكاتب السعودي عيد الناصر أن
منذ بداية القرن العشرين حتى هذا اليوم
كافة« ،تعيش حالة تخبط وعشوائية
وإسرتاتيجيات كربى تحاول السيطرة عىل
لوجدنا أنها حدثت بفعل وجود خطط
األمة يف هذه املرحلة التاريخية بأقطارها
وارتجالية
عىل
املستويات
مقدرات البشرية يف كل مكان ،بما يف ذلك
السياسية
وطننا العربي الكبري ،عرب استخدامها لكل
واالقتصادية واالجتماعية ،وعليه فإنه ألمر
طبيعي جدًّ ا ،وكتحصيل حاصل ،أن نعيش
عيد الناصر
السبل وأدوات القهر البشعة والناعمة عىل
عىل نفس مسار التخبط والعشوائية فيما يخص الفن والفكر
السواء .وكانت النقطة الرئيسية يف محاولة السيطرة هي
أن ما يحدث اآلن هو نفسه إسرتاتيجية ،ولكنها إسرتاتيجية
إلخ)؛ ألن من يمتلك السيطرة عىل مكونات التفكري يمتلك
والثقافة .ولكن باإلمكان رؤية األمر من زاوية أخرى ،وهو باملعنى السلبي وليس املعنى اإليجابي ،إسرتاتيجية تهدف
إىل تفكيك وتمزيق العالقات الروحية والثقافية واالجتماعية والسياسية التي تكونت ونسجت خيوطها عىل مدى مئات السنني بني أبناء الوطن العربي ألهداف وأغراض ال تمت
التغلغل يف العقول عرب الثقافة (فكر وفن وأدب وسياحة ... القدرة عىل توجيه املستهلك لتلك الثقافة أينما شاء».
ويعتقد الناصر أن استمرار األوضاع عىل ما هي عليه
«يعني املزيد من الفرقة الثقافية والتمزق االجتماعي والسيايس
والدماء النازفة بال مربر أو قيمة إنسانية أو أخالقية».
سعد البازعي:
99
ما أكثر اإلستراتيجيات وما أقل العمل بها قال عضو مجلس الشورى السعودي الناقد الدكتور سعد البازعي :إن «اإلسرتاتيجية» من املفردات «التي تكاد تهيمن عىل الخطاب اإلعالمي والتنموي يف بالدنا وبالد كثرية
تشبهها .نشكو من غياب اإلسرتاتيجيات ونقصد بها التخطيط ،فتبدو الجهود تبذل عىل
سعد البازعي
غري هدى أو بشكل عفوي ،إن لم نقل :عشوايئ .غري أننا يف الوقت نفسه نعيش تخمة يف اإلسرتاتيجيات ،وهل خطط التنمية إال إسرتاتيجيات؟ فما الذي أدى إليه العمل عليها وتبويبها والسعي للسري بمقتضاها؟ ال شك أن هناك نجاحً ا ما قد تحقق ،وأن أشياء كثرية أنجزت ،لكني ال أدري ما مقدار ذلك الذي أنجز ،وما مقدار الذي لم ينجز ،وملاذا .إحدى
املشكالت هي أننا قلما نتحاور عىل نحو شفاف حول تلك الخطط أو اإلسرتاتيجيات».
كاف إلنجاز ذلك العمل؟ هل وجود اإلسرتاتيجية ضمان ويتساءل البازعي« :هل العمل وفق إسرتاتيجية بحد ذاته ٍ بالنجاح؟ أعتقد أن اإلجابة ستكون بال؛ ألن الخطط سهلة من حيث هي تصورات تبنى عىل وقائع ومعلومات ،لكنها
ً أيضا تنطوي عىل الكثري من األماين غري املختربة والتي كثريًا ما ترتاجع أمام قسوة الواقع».
ويرى أن ذلك «ال شك ليس مربرًا لعدم التخطيط ،واملؤسسات الثقافية بشكل خاص بحاجة إىل التخطيط ،بل هي
األوىل أن تكون واعية بذلك من حيث هي قائدة للمجتمع برؤيتها املستقبلية وطموحاتها الكبرية .لكن التخطيط دون
مقدرة عىل التنفيذ سيتحول إىل نوع من الرضا الذايت واملؤقت .لقد كنت ضمن لجنة وضعت إسرتاتيجية لوزارة الثقافة عند إنشائها ،وحتى اليوم ال أرى من تلك الخطة شي ًئا عىل أرض الواقع ،بل إن الوزارة حاليًا تفكر يف إسرتاتيجية أخرى. فما أكرث اإلسرتاتيجيات وما أقل العمل بها».
بورتريه
من «جرأة األمل» إلى خيبته: مقاربة ثقافية فيما آلت إليه أحمد بوقري كاتب سعودي
«األوبامية» ّ لما كتبت قبل ثمانية أعوام مقالة عن الظاهرة األوبامية البازغة
ُ ْ شرت في كتابي :السيف والندى) ،وهي في ذروة صعودها (ن مفعما باألمل ًّ ً حقا ،وما أكتبه اآلن عن الظاهرة في السياسي ،كنت
ً مفعما بالخيبة ،خيبة األمل ومرارته هي ما توسم به أفولها أجدني ً متصفا بالجرأة المأمولة طيلة أعوام حكمه ال جرأته! فأوباما لم يكن
الثمان ،والجرأة التي أقصد :جرأة الفعل السياسي ،وشجاعة قيادة
العالم إلى ضفاف األمل بالعيش اآلمن والمستقر ،واألكثر أهمية
100
تأسيس براديغم جديد في الرؤية والمعرفة السياسية الكونية إزاء
مشكالت وأزمات عالمنا المعاصر. تأملنا منه أن يقترح هذه الرؤية الجديدة واإلستراتيجية
ننسى أن دور أوباما في المنظومة اإلدارية األميركية هو أحد
نكن أمام براديغم سياسي كوني جديد يضفي على التصور
قواعد التكتيك واإلستراتيجية المؤسسية ،وال يكفي تأثيره
المغايرة ،لكننا كما خبرنا من سنواته الثمان العجاف لم
األدوار وليس كلها وأهمها؛ فهو ال يستطيع أن يخرج من
السياسي األميركي العتيد أبعادًا إنسانية وأخالقية مغايرة لما آلت إليه من توحش عولمي؛ بل ك ّنا أمام أوباما طائعً ا ً وجبانا خاضعً ا لمواضعات الفكر اإلستراتيجي المتجدد دومً ا
اإلستراتيجية العامة ،فروح الفردية ،وروح المغامرة
ومستسلمً ا تمامً ا لخطوطه العريضة المرتبطة بالحفنة
ولو كان شكليًّا وإن كان مصدره فرديًّا يعد سمة أساسية في
في صور تنكيله بمصائر الشعوب وثرواتها واستقرارها، المالية والعسكرية المهيمنة وتحالفاتها.
وال نعلم حتى اآلن هل أحالم أوباما النبيلة المؤملة في
خال من القهر والتعسف وكبرياء القوة سحقت عالم جديد ٍ
بال إرادة منه؟
بمفرده لتغيير قاعدة واحدة من قواعد اللعبة السياسية». لكنني هنا أضيف ً أيضا حقيقة أخرى عن هذه المنظومة والتحمّ س للمبادرات الفردية المُ ضافة ،والهوس بالتغيير طبيعة ومكونات الثقافة األمريكية ،وعقلها السياسي القديم والمعاصر في آن.
المزاج األميركي
أم بإرادة رغبوية إدارية مشتركة ومتفق عليها تكتيكيًّا،
وهذه المعرفة التاريخية بالمزاج األميركي هي ما جذبنا
استوحش واستمرأ التوحش؟ هنا علينا أال نبتعد عن حقيقة
الرئاسة ألول مرة .وهو ما جعلني أقول في السياق نفسه في مقالي السابق« :إن أوباما ليس إال اب ًنا للمؤسسة السياسية
أو أنها اصطدمت بقوة دفع التاريخ السياسي التقليدي الذي جذرية في المشهد السياسي األميركي كما عبر عنه المفكر المصري المعروف سيد القمني في واحدة من تحليالته بعد
خطاب أوباما في القاهرة العام ٢٠٠9م ،إذ قال ما معناه« :ال العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
إلى هذه الظاهرة المغايرة :ظاهرة صعود زنجي إلى سدة
العتيدة ،وليس ناقمً ا عليها كما توهم بعضهم ،وهو ليس ّ ً ً مخل ً منقذا أو مفترضا للبشرية المعذبة جراء سياسات صا
مؤسسته السياسية الخرقاء ،بل هو ثمرة أنضجتها وأفرزتها ممارساتها المهيمنة عولميًّا من حيث ال تريد ولم تتوقع» .إلى أن قلت في آخر السطر: ً جملة من الحقائق والوقائع «يخلق انتخاب أوباما
المستقبلية المتخيلة في تصوري ،فهذا االنتخاب
االستثنائي ليس إال حركة ضمير مستترة للمخيلة
األميركية الجامحة والجريحة ،المتعبة والمبدعة
في آن».
ّ تكشف لنا بعد هذه السنوات لنسأل اآلن :ما الذي
العجاف من حكم أوباما ألكبر دولة رأسمالية مؤثرة في
العالم؟ في التحليل الثقافي يمكنني القول بدءً ا :تكشفت زعامته ككاريزما خطابية مفوّهة ليس أبعد ،على المستوى الشخصي للرجل ،الرجل يمتلك ملكات الكالم الهادئ الرصين ،وهي ميزة ً خالفا لمن كان قبله يحسد عليها ،وال يمتلك ملكات األثر الكوني الذي امتلك المؤثر الفاعل ،وأقصد بوش الصغير الذي تميز بفعله التدميري الوحشي ،ولم يتميز برصانة القول وذكاء الكلمة المهذبة.
بمعنى أن قوة خطاب أوباما لم توازها على األرض قوة
الفعل! من القول إلى الفعل كانت هناك فجوة هائلة من االضطراب الذهني ،والتشوش اإلستراتيجي ،صراع فردي
نفسي وفكري واجتماعي عاشته األوبامية من مستوى الخطاب إلى مستوى الضرورة الفعلية الممكنة ،في وجُ ود طبقة سياسية وطغمة مالية حاكمة في الخفاء وغير رحيمة ،تعمل من وراء كواليس المسرح السياسي، وتحيك التآمرات واألحابيل ،وتضع العراقيل.
أوباما في نظري لم ي ُِجد استخدام ثقافته اإلنسانية
المرموقة كما انطوى عليه خطابه السياسي ،أو هو لم ي ُِرد االصطدام بثقافة الواقعية السياسية الرائجة تاريخيًّا التي اصطبغت باالستعالء العولمي، وتفشت فيها روح الهيمنة وشهوة االحتواء ،وفعلاً ّ تكشف الرجل جزءً ا أصيلاً من منظومة ونسيج الطبقة السياسية المسيطرة ،فاستسلم خياله السياسي الخالق المغاير ألحابيلها،
المحاصر للرؤية قصيرة النظر وأعطبه األفق ِ والمترددة التي ّاتبعها في معالجاته
السياسية ألزمات المنطقة العربية ومشكالت العالم.
الوجه التطهري
مجيء أوباما من قلب األقلية
السوداء المقهورة تاريخيًّا في أرض
101
بورتريه
أميركا ،إنما كان يمثل الوجه اآلخر المختفي في السياسة
لمتناقضات عدة ،مجتمع عجيب بتعقيداته البنيوية ،ومفعم ٍ
والمساواة ،فكما هو معروف فللسياسة األميركية وجهان:
وتنوعات حاكمة وال تحكم)، خيارات (هناك خزان من ٍ ٍ
األميركية ،الوجه التطهري المبدئي ،وجه التسامح والحريّة
وجه يمثل القوة الطاغية المتفردة ماليًّا وطبقيًّا ،ووجه آخر تحرر يمثل القوة /الظل ..أقليات وأعراق مظلومة ،وحركات ٍ عرقية ،وحسب ما يرى المفكر الفلسطيني األميركي إدوارد سعيد فإن للمجتمع األميركي ً أيضا وجهًا آخر مغاي ًرا لما هو ظاهر في سياسات الطبقة الحاكمة ،ولمعرفة هذا الوجه
في حقيقته الوجودية يصبح من الملحّ معرفة الديناميات الداخلية لتشكل هذه السمات األخرى الفاعلة في حركيّة انصهار المجتمع األمريكي المعاصر ،الذي هو بوتقة ٍ
بتياراته االجتماعية والسياسية المعاكسة والبديلة والمنتظرة تفرضها البنية المتجددة لمنظومة الفكر اإلستراتيجي ،ويلجأ إليها الوعي الجمعي المأزوم في لحظة تاريخية طارئة ،غير أن الطبقة السياسية الطاغية والمعاندة كثي ًرا ما تختزل هذه
التيارات لمصلحتها ووفق سياقات أهدافها اآلنية ،وكثي ًرا ما ً مفرغة إياها من شعارات تبسيطية مسطحة، تحولها إلى ٍ وعودها ومضموناتها االجتماعية النقيضة.
فالدينامية الداخلية التي حدثنا عنها إدوارد سعيد في
بعض أفكاره النيرة عنى بها معرفة طبيعة مواقف اإلنسان
«األسود» والعقدة الثقافية رؤية األسود عبر رؤية األبيض لم تكن إال عقدة ثقافية ،ومشكلة نفسية تك ّرست عبر السياق
التاريخي للهيمنة الطبقية على األقليات المظلومة ،فالنغمة األخالقية الجهيرة التي طربنا لها بنغمات نشاز سيطر عليها قرع طبول نحن في عالمنا العربي في خطاباته السياسية اختلطت ٍ
الطبقة السياسية العتيدة والمتربصة .تلك الطبول الصاخبة كانت تصم أذنيه ،وتشوّش
102
وجدانه النقي المزدوج ،وفكره ذا الملمح اإلنساني الفردي المنكسر ،دفنت تيارًا سياسيًّا ً ً عميقا في المجرى التاريخي للتفكير السياسي اإلستراتيجي ناهضا كان بمكنته أن يحفر
برمته ،ويؤسس لرؤية سياسية جديدة. وهكذا ً أيضا تلمسنا أثر هذه النغمات األخالقية الخافتة في مواقف سياسية متذبذبة ،وجدناها جلية واضحة في تراجعه وتقاعسه في االنحياز التاريخي الضدي ألحداث منطقتنا العربية ،انحيازه الضدي لمنطق الثورة السورية، والثورة المصرية ،ففي حالة األولى تركها لمصيرها لتأخذ مداها في تأجيج
الصراع األهلي الداخلي ،وإحداث التفكيك والتمزيق الجغرافي للدولة السورية امتثالاً ألهداف مشتركة بعيدة في اإلستراتيجية األميركية وربيبتها إسرائيل، ٍ
كبادئة لتمزيق الشرق العربي كله وتفكيكه ،ومن ثمّ إعادة تشكيله. أما في حالة الثورة المصرية فانتصر لها ً زيفا في انحيازه المشبوه لصعود ً ّ المتمثل في اإلخوان المسلمين ،فيما كان يبدو له متسقا مع الرؤية تيار اإلسالم السياسي ً اإلستراتيجية األميركية المهيمنة ،ومتسقا مع منطقها الجديد في النأي عن خوض الحروب الخارجية المباشرة التي اقترفها كل من بوش االبن ،ومن قبله بوش األب .أما منطقه االقتصادي
االجتماعي فقد تماسك وتماهى إلى حد كبير ونسبي مع رؤيته في جملة من اإلصالحات
السطحية التي امتثلت لها الطبقة السياسية العتيدة على مضض ،وهي اآلن ما تؤول إليه،
ونرى مالمح تراجعها إلى منطق التنكيل فيما لو فازت الترامبية البديلة!
ً مهترئا وغير ذي اتساق مع ما جاء به لقد كان الخطاب السياسي ألوباما
من تضمينات للبعد اإلنساني األخالقي ،وتم تفريغه من محتواه الثقافي ،ومن ً وزائفا ومنتميًا بامتياز ألهداف لكثير من األزمات الكونية باه ًتا هنا جاء حسمه ٍ
النموذج األميركي المهيمن ذي الطبيعة اإلمبراطورية التي تروم خضوع الجغرافيا األرضية لشهواتها.
العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
من «جرأة األمل» إلى خيبته :مقاربة ثقافية فيما آلت إليه «األوبامية»
األميركي اليومية والمتحولة؛ فهو معزول جغرافيًّا،
ومهموم باألساس بحاجاته الشخصية الصغيرة وقضاياه الشديدة في محليتها .هذه الدينامية النفسية العجيبة هي
في ظني التي وقع أوباما في أحابيلها ،ولم يستطع خروجً ا
من حصارها ،فكان بالنسبة له هذا الخروج المغامر من هذا
الطوق االجتماعي بمثابة قفزة في الفراغ التاريخي! فعندما ّ بشر بنموذج أميركي ذي نزعة إنسانية حال
سنوات قليلة، ترشحه في ٢٠٠٨م ،فقد مصداقيته القولية بعد ٍ
فاستعاد هذا النموذج المتخيّل والمقترح وجهه الحقيقي،
وجهه األصيل القبيح بقوة دفع هيمنة الطبقة السياسية
المتكونة من مالك المال ،ومالك المآل الكوني ،وأقصد الطبقة الحاكمة المأزومة التي كان همها الخروج من مأزقها
االقتصادي الطارئ الذي كاد يودي بأسس إمبراطوريتها
الكونية ،فلجأت إلى صورتها األخرى ،وقد وجدتها ناضجة
في مالمح الظاهرة األوبامية المغرية!
الضرورة التاريخية الضاحكة كانت ترى في صعود هذه
تحول بنيوي؛ بل مخرجً ا افتراضيًّا الظاهرة البديلة ليس داللة ٍ من مرحلة البوشية المتوحشة وما قبلها ،البوشية التي أغرقت صورة اإلمبراطورية المضمحلة في وحل المشكالت العالمية التي صارت عب ًئا أكثر تهديدً ا للنموذج األميركي - المثال التاريخي الرأسمالي الكوني للهيمنة.
ركوب التاريخ الجريح لاً وهكذا تم اكتشاف أن انتخاب أوباما ممث للطبقة
الوسطى الطامحة للوجود السياسي ،الطبقة المتعلمة والمتحررة ،سليلة الفكر التحرري واإلنساني ،ليس في نهاية
المطاف إال إحدى المغامرات السياسية األميركية المعروفة بقدرتها الجموح على ركوب التاريخ الجريح ،والقفز منه
صراع فردي نفسي وفكري واجتماعي عاشته األوبامية من مستوى الخطاب إلى مستوى الضرورة الفعلية الممكنة في وجود طبقة سياسية وطغمة مالية حاكمة في الخفاء وغير رحيمة تاريخ متجد ٍد يعاود السيطرة ،ويجدد الهيمنة من بعد إلى ٍ المأزق التركيبي السياسي االقتصادي الذي اجتاح صورة الحلم السياسي األمريكي في أقسى استبداديته ومحوريته
الكونية.
إن بزوغ الظاهرة الترامبية الجديدة اآلن بما تنطوي عليه من شوفينية وعنصرية وتمركز مالي طبقي ،ليس إال دليلاً
على صلف منطق القوة واالستعالء الفردي .وهو دليل على
منطق المغامرة ذاته ،ومعاودة منطق المقامرة في الدينامية
الداخلية المضطربة في الفكر السياسي األميركي المعاصر. ما سبق قوله عن الدينامية الداخلية المستترة يقودني للقول
بشكل غير ظني ،إن التفكير المزدوج ألوباما هو الذي أوقعه ٍ
طيلة سنوات حلمه السياسي المتعثر في إخفاقات جمة على المستوى السياسي الخارجي ،وإخفاقات اقتصادية نسبية
على المستوى االجتماعي الداخلي.
وعوده السياسية المتركزة في ثيمته الشعارية المغوية:
«التغيير» التي سيطرت على حملته االنتخابية لم تصمد طويلاً أمام حقائق وبنيات هذا التفكير والوعي المزدوج، معانيًا منه بين شدٍ وجذب في مدى رؤيته الكونية في حل
المشكالت واألزمات المتراكمة .نكرر القول بأن أوباما كان مشدودًا إلى تاريخه القهري األسود إذا جاز التعبير ،غير أنه بشكل ال ينكره حصيف إلى رؤية الحلول من لم يكن منفل ًتا ٍ
خالل منظور ذات الطبقة السياسية العتيدة.
103
تحقيق
104 سامر إسماعيل دمشق
من االختالس والقرصنة إلى النشر غير القانوني
السرقات األدبية مستمرة في أشكال وأقنعة جديدة.. و«حقوق المؤلف» نمر بال مخالب دانتي
العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
ً جميعا بعد أن أصابوا من «كتاباتهم» ما أصابوه في مشارق مشاهير السرقات األدبية ماتوا
األرض ومغاربها ،يكفي فقط أن نقرأ كتاب «الكوميديا اإللهية» لدانتي (1321-1256م) حتى نعرف
حجم السرقة الموصوفة لألديب اإليطالي من «رسالة الغفران» ألبي العالء المعري ،و«الفتوحات رجما من العربية إلى «القشتالية» عام 1264م على المكيّة» لمحيي الدين بن عربي؛ الكتابان اللذان ُت ِ
يد الطبيب اليهودي إبراهيم الحكيم ،بأمر من ملك قشتالة ألفونسو العاشر .لكن السرقات األدبية اً ً وتعريفا «أدبيًّا» مغايرًا فيما بعد بين «تناص وتالص» ،وترجمة ونسخ ،ونقل وتقليد، شكل أخذت ومعالقة ومعارضة ومحاكاة؛ وهذا يجعل البحث هنا عن «األصالة» ضر ًبا من المستحيل؛ فالبشر
بطريقة أو بأخرى ،على حد تعبير الفيلسوف األلماني نيتشه. جميعهم «ورثة» من بعضهم اآلخر ٍ مافيات الصحافة الثقافية
كأن النسخة األصلية باتت «خطيئة أصلية» في عرف من يحاولون
ظاهرة السرقات األدبية والفنية واإلبداعية العربية عمومً ا ً مختلفا في التزوير والتحريف والسطو على اكتست اليوم لبوسً ا
األحرار الذين ال يخضعون ألي سلطة معنوية أو قضائية تح ّد من
الصحافة الثقافية اإللكترونية ،وأبطال المدوّنات ،وأدباء
األصلية ،ومن دون حسيب أو رقيب.
المكتبة العالمية؛ ففي عصر «الميديا» المفتوحة ،ومافيات الفيسبوك ،ونسخ موقع «غوغل» لماليين الكتب وتخزينها لصالحه من دون االكتراث بحقوق مؤلفيها ،أو االمتثال للدعاوى
القضائية المرفوعة ضد القائمين على محرك البحث األشهر في العالم من مئات الك ّتاب وورثتهم؛ بسبب هذا وغيره بات من
الصعب الحصول على «النسخة األصلية» من دون تشويهات ُتبذل على مدار الساعة في كل أرجاء الكوكب. يتعرض النص األصلي باستمرار إلى تحوير ممنهج يجعل ً أحيانا -أم ًرا صعبًا جدًّا؛ من مهمة معرفته -حتى من أصحابه
إخفاء سرقاتهم وتمويهها؛ ناهيك عن مجموعات المترجمين نقلهم لذخائر المسرح والسينما والرواية والقصة إلى غير لغاتها الكاتب السوري حسن م .يوسف يع ّرف السرقة األدبية
بأنها« :أخذ ما للغير خفية ،والسرقة األدبية هي قيام أحد ما
بنسخ نص أبدعه شخص آخر وتقديمه على أنه له .والحق أن هذا المصطلح يخضع لتأويالت شتى حتى ضمن إطار الثقافة
الواحدة» ،ويتابع يوسف« :من المعروف أن مبادئ حقوق المؤلف ال تحمي األفكار ،وإنما تحمي تعبير المؤلف عنها ،إال
أننا نقرأ ما يشي بأن هذا المصطلح اكتسب طبيعة مطاطية؛ ألن
كل مستخدم يعطيه ما يناسب وجهة نظره ،حتى بات يختلف
105
تحقيق
باختالف المصالح كما مصطلح اإلرهاب تمامً ا!».
قبل سنوات نشرت الباحثة اإلنجليزية آندي ميدهيرست
دراسة الفتة في الملحق الفني لجريدة «األوبزيرفر» الصادر يوم
األحد 4أيلول «سبتمبر» 1994م ،بعنوان «الرائعون السبعة،
يستمرون ويستمرون» ،وقد قالت في مقدمة بحثها« :لم تعد
هناك أفكار جديدة ،هناك طرق مختلفة لقول األشياء نفسها».
وبعد ذلك تشير الباحثة إلى سبع حبكات أساسية تكمن في قلب أي نوع من الكتابة النثرية .وهي تورد تلك الحبكات من خالل
أسماء أشهر األعمال التي تعبّر عنها :حبكة روميو وجولييت، حبكة الطرف الثالث ،حبكة العنكبوت والذبابة ،حبكة الضعف القاتل ،حبكة الصفقة الفاوستية ،حبكة كانديد أو انتصار
البراءة ،حبكة ساندريال.
يتفق األديب حسن م .يوسف مع كالم الباحثة اإلنجليزية
فيما ذهبت إليه« :الفنانون األوائل ،كما الجغرافيون األوائل، اكتشفوا الحبكات الكبرى كلها ،والقارات كلها ،ونحن اآلن ،في
الجغرافيا والفن ،نعيش عصر اكتشاف التفاصيل! ما يؤسف له هو أن طالب الشهرة سوقوا دسائسهم األدبية كسرقات ،فقاموا
باتهام أهم الكتاب واألدباء العرب بالسرقة ،بهدف سرقة األضواء منهم ،وقد طالت اتهامات هؤالء المتنبي وطه حسين ومحمد
106
مندور وإبراهيم ناجي وأدونيس».
سرقات خبيثة وأخرى حميدة!
الشاعر والمسرحي التونسي حكيم مرزوقي يدعو إلى إقامة
«مرصد أدبي» يشهّر من خالله بكل من يسطو على متاع اآلخرين،
حسن م .يوسف :ما يؤسف له هو أن طالب الشهرة سوقوا دسائسهم األدبية كسرقات ،فقاموا باتهام أهم الكتاب واألدباء العرب بالسرقة ،بهدف سرقة األضواء منهم ،وقد طالت اتهامات هؤالء المتنبي وطه حسين ومحمد مندور وإبراهيم ناجي وأدونيس وآلياتها ومح ّرضاتها النفسية واالجتماعية واحدة من حيث هي
وينسبه إلى نفسه في مختلف حقول األدب والفكر والفن ،أسوة ّ وتتعقب بتلك المراصد التي تنشط في المجتمعات المدنية،
رغبة كامنة ،وسعي للتفوّق المادي والمعنوي على اآلخر؛ عبر
ويعقب مرزوقي« :قد يبتسم ويسخر في س ّره كل من يعتبر األمر
وبتواطؤ مع مؤسسات اجتماعية ضمن منظومة فساد واضحة
االنتهاكات الحقوقية فتفضح مرتكبيها في الدول والمؤسسات.
دعوة طوباويّة ،وضربًا من (الفذلكة الثقافية) في مجتمعات تنخرها شتى األمراض ما عدا (أحمدها وأنبلها) في التهام الكتب،
وإدمان حشيشة الفن والمعرفة؛ وقد يذهبون معي بعيدً ا ويفرضون جدلاً أنّ المراصد األدبية قد أُقيمت على قدم وساق
حصي المتلبسون من (اللصوص األذكياء) ،والزجّ بهم وقلم .وأُ ِ
ضمن لوائح سوداء قصد التشهير ،وردع كل من تسوّل له نفسه ّ األكف الناعمة من (الطمّاعة الذوّاقة) االعتداء على أصحاب ّ يجف حبرها (بروليتاريا) اإلبداع ،فتعيد لألقالم حقها قبل أن
وتعود إلى غمدها». لكن هل س ُتفتح غرف التحقيقُ ، وتقام المحاكم ،وتنصب ّ المقاصل لألقالم المزوّرة ،فينصف المعتدى عليه ،ويمكن من استرداد حقوقه المعنوية والمادية؟ يتساءل حكيم المرزوقي ويجيب« :الحقيقة التي ال تقبل الجدل هو أنّ فعل السرقة العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
االعتداء على ممتلكاته من دون اعتبار أخالقي أو رادع قانوني؛
ال غبار عليها».
يقول فقهاء القانون :ال جريمة وال عقوبة إال بنص قانوني؛
لكن جرائم السطو األدبي استمرت وتستمر حتى بعد سن ظلت ً القوانين الخجولة في الملكية الفكرية التي ّ ترفا حضاريًّا في
ورقي وبال مخالب، سوريا وغيرها من البالد العربية؛ مجرد نمر ّ كما غابت العقوبات إال فيما ندر ،ذلك أنّ هذه النصوص جاءت
في البالد العربية كنوع من ذ ّر الرماد ،والتبجّ ح بأننا أمة تحترم المبدعين ،وتدافع عنهم.
مسألة يرى فيها األديب التونسي حكيم المرزوقي« :أنه ال ّ ّ المتعلقة غض الطرف فيما يخص الملكية الفكرية بأس من
بمنجزات عالميّة من شأنها أن تنقذ مجتمعات فقيرة بكاملها من ّ تتعلق بأمنها الغذائي وثرواتها األوبئة كاللقاحات الدوائية ،أو ً إطالقا في عدم االستجابة لجشع الطبيعيّة؛ إذ إنني ال أرى حرجً ا
السرقات األدبية مستمرة في أشكال وأقنعة جديدة ..و«حقوق المؤلف» نمر بال مخالب
الشركات المحتكرة ذات النشاط الربحي .كما ال أجد مانعً ا من
تحويل النصوص العالمية إلى أعمال درامية محليّة من دون ّ المتخصصين؛ فما زلت أنتصر التغافل عن ذكر المصدر لدى
لنظرية روبن هود وطرفة بن العبد في جدوى العدالة االجتماعية، وإعادة توزيع الثروة عبر افتكاكها من خزائن المترفين ال من أدراج المبدعين طبعً ا ...ألم يكن هؤالء الصعاليك مبدعين؟
فلماذا لم تسرق منهم جذوة اإلبداع في العصور الحديثة المتسمة بثقافة الطمع والجبن؟».
لقد كان العرب على حق في تقديرهم لمبدأ «االقتباس»؛
ذلك أنّ هذا المصطلح جاء من فعل اقتناء قبس النار من خيمة نحو األخرى؛ كي تعمّ الفائدة ُ وتضاء مضارب القبيلة ،وكذلك
الشأن في مصطلح «االستنباط» الذي يعود أصله إلى حضارة
ناظم مهنا
خليل صويلح
ال تتعدى الحائط الهش للموقع ،يعقب خليل صويلح ،ويقول: «ربما كان (ماريو) بطل رواية أنطونيو سكارميتا (ساعي بريد
نيرودا) من أروع لصوص األدب؛ إذ كان يهدي حبيبته مقاطع
العرب األنباط في منطقة وادي موسى ،وعليه فقد سمّي كل ً ً خصوصا في بدايات استنباطا، تطوير في شؤون الدولة والمجتمع
شاعريته المستعارة .لكنني أظن أن فوضى ما نعيشه اليوم،
«التناص» الحديث كثير منه سرقة مب ّررة وغير موصوفة ،وكان
وليست خيانة ،بدليل انطفاء مثل هذه االنتهاكات بسرعة ،ليعود أصحابها إلى الساحة ببزة أدبية جديدة ،وكأن شي ًئا لم يحدث».
العصر األموي؛ أمّا «التضمين» و«االستعارة» و«المعارضة» في الشعر العربي القديم فتنمّ عن نبل في اإلشارة إلى المصدر؛ لكنّ
األجدر تسميته بـ«التالص».
من شعر نيرودا لتعزيز عالقته بها ،قبل أن تكتشفه أمها ،وتدمّر
جعلت من السرقة األدبية في حالة اكتشافها ،مجرد وجهة نظر،
سرقة مع بعض التضليل
موسوعة للسرقات
القاص واألديب ناظم مهنا يعقب على الموضوع ساردًا ً أيضا مع السرقات األدبية: حكايته
«ال أعلم مصير (موسوعة السرقات األدبية) التي أُعلن عن قرب صدورها
ُ أنهيت قراءة «منذ أيام قليلة مضت،
على هذا الخبر وقتها ،بأنها الموسوعة
صفحة ،اشتبهت بترجمة الكتاب، وتذ ّك ُ رت أن في مكتبتي طبعة قديمة
قبل سنوات» ،يقول الروائي السوري خليل صويلح ،ويضيف« :لكنني ّ علقت
كتاب مترجم يتجاوز السبعمائة
الوحيدة التي ال يتمنى كاتب عربي أن
للكتاب نفسه بجزأين لمترجم آخر
يجد اسمه في فهرسها .أظن أن (غوغل)
من بلد آخر ،وأن الترجمة مسروقة
لجم مثل هذه االعتداءات ،نظ ًرا
مع بعض التضليل ،وهذا مشين ،ال
لسهولة كشفها ،وانتفاء المسافات
سيما أن الترجمة المسروقة صادرة عن
بين الجغرافيات المتباعدة ،بسطوة
مؤسسة نشر رسمية قد تفقد مكانتها
الميديا ،على رغم أن محاوالت االنتهاك ّ تتوقف ،أقله في الشوارع الخلفية لم للكتابة ،عن طريق ك ّتاب مغمورين ً سابقا يخشون ال يمتلكون رصيدً ا إهداره» .اليوم هناك نوع من اللصوصية المضمرة ،وذلك بتحويل فلم أجنبي
إلى رواية ،بإضافة توابل محليّة على
الحدث ،بقصد إخفاء معالم الجريمة، أو اللجوء إلى مواقع التواصل االجتماعي
ولطش شذرة من هنا وشذرة من هناك، من دون ذكر صاحبها ،لمآرب عاطفية
إذا ما استمرت في التهاون بهذه األمور» .السرقات األدبية أمر شائع جدًّ ا
حكيم المرزوقي :لكن هل ستُفتح غرف التحقيق ،وتُقام المحاكم ،وتنصب المقاصل المزورة فينصف لألقالم ّ
في التاريخ األدبي ،وقد أفرد لها النقاد
العرب القدامى صفحات عديدة في كتبهم ،ويكاد ال يخلو كتاب نقد قديم،
بقليل أو بكثير ،من ذكر هذا الداء- يضيف القاص السوري مه ّنا ويتابع:
المعتدى عليه ،ويم ّكن من
«ابن رشيق يتحفنا بأنواع عديدة من
والمادية؟
االصطراف ،واالجتالب ،واالنتحال،
استرداد حقوقه المعنوية
السرقات في كتاب (العمدة) منها:
واالهتدام،
واإلغارة،
والمرافدة،
107
تحقيق
واالستلحاق ،وكلها قريب من قريب في باب السرقات .ومنها عند بعضهم :االختالس ،والعكس ،والمواردة (التوارد)،
والتلفيق ،وااللتقاط ،وبعضهم يسميه االجتذاب والتركيب.
وابن األثير جمعها في ثالثة أقسام :نسخ :أخذ اللفظ والمعنى. وسلخ :أي أخذ بعض المعنى .ومسخ :أي إحالة المعنى إلى ما
الجرجاني -كما يقول األديب ناظم مهنا -رفض هذا النعدام ّ ولشكه بإمكان أن يأتي أحد وجود معنى عار من لفظ يدل عليه،
بلفظ من عنده لمعنى من المعاني ،وأن التغير في اللفظ يتبعه تغير في المعنى والعكس ً أيضا. شعراء كبار اتهموا بالسرقة اتهموا بالسرقات! من امرئ شعراؤنا األقوياء جُ ُّلهم ِ
دونه» .بعض النقاد خفف من قسوة المصطلح فقال ابن قتيبة
بـ «االحتذاء أو األخذ» .ورأى ابن رشيق أن اتكال الشاعر على السرقة بالدة وعجز ،وتركه كل معنى سُ بق إليه جهل ،وخير
الحاالت الوسط ،والمخترع له فضل االبتداع ،غير أن المُ تبع إذا
تناول معنى فأجاده في أحسن كالم؛ فهو أول من مبتدعه ،وله فضيلة حسن االقتداء .وثمة من رأى منهم أن من أخذ معنى عاريًا ،فكساه ً لفظا من عنده ،كان أحق به .إال أن عبدالقاهر
القيس ،مرورًا بأبي نواس ،وأبي تمام ،والبحتري ،والمتنبي،
وحتى أدونيس .إنما ال بد أن نميز السرقة األدبية المذمومة، من التأثر الذي تتوالد منه السالالت األدبية وتتفاعل -يشرح الكاتب ناظم مهنا وجهة نظره في ذلك قائلاً « :على رغم تداخل
ً أحيانا يكون الخيط الذي يفصل بينهما واهيًا؛ ففي الحالتين
محمد مظلوم :تعرضت ألنواع من السرقة يرى الكاتب والشاعر العراقي محمد مظلوم أن عبارة (سرقة أدبية) تنطوي
على «تناقض داخلي في هذا التضاد الظاهر بين الصفة والموصوف ،فالسرقة
108
ً إبداعا ،لذا ال يمكن للسرقة أن تكون أدبًا ،مع أنها تتناقض مع األدب بوصفه ً أحيانا إلى أن تغدو ضربًا من اإلبداع المحتال! النقاد العرب القدامى انتبهوا ترقى
ِّ متشددين فيه ،فص َّنفوا حتى السرقات في المعاني ً نوعا لهذا الجانب فكانوا
من اإلغارة والغزو بما تحمله من معاني السلب والنهب ،وحتى القتل واألسر!
وبخاصة عندما يكون المعنى المغار عليه شخصيًّا ومبتكرًا ،وليس معنى عامً ا مبذولاً .في تجربتي الكتابية واجهت هذا النوع من االستحواذ غير الشرعي على
عبارات وأفكار معينة بدرجات متفاوتة في نصوصي وكتاباتي األخرى ،لكنني لم أحفل لألمر كثيرًا ،حتى إنني أوجدت لبعضها مبررًا من دون التدقيق في سوء النوايا المحتمل ،فأحلتها إلى اإلعجاب والتأثر وحتى التخاطر!».
ً مبلغا خطيرًا ،وسط في لحظتنا الراهنة انتعشت قضية السرقات األدبية مع انتشار وسائل التواصل الحديثة لتبلغ
هذا الكم المخيف من النصوص المتناسخة ،وال أقول المتشابهة حتى «تشابه البقر علينا» في ظالم هائل معبر عن
ظالمية ثقافية راهنة .وهي ظاهرة استشرت ولم تجد من يرصدها أو يدينها ،حتى أصبحت جزءً ا من أخالق العصر _ يضيف الشاعر العراقي متابعً ا« :مع شيوع تقنيات (النسخ واللصق) في وسائل الكتابة الحديثة أصبح األمر أقل عناءً من
(اإلغارة) ،ولم يعد السارق بحاجة حتى إلى نسخ ما يسرقه بالقلم والورقة ليخطر له إبدال عبارة أو كلمة أو حتى فاصلة! ّ نتحدث عن نصوص وأفراد ،بل ثمة مؤسسات ومنابر قامت على هذا النوع من االستيالء غير الشرعي» .بيد وهنا لم نعد
أن هذا النوع من السرقات يبقى ضربًا ساذجً ا من السرقة ،وما لصوصه سوى ضحايا لغوايات النص اآلخر ،ففي نهاية المطاف ال يمكن االستحواذ التاريخي على نص اآلخر .فالنص كالذكورة واألنوثة ال يمكن أن ُتسرق ،بل يمكن أن تشوَّه وتمسخ فحسب!
في موازاة هذا النوع ثمة سرقات أخرى يصفها محمد مظلوم «بأنها سرقات محترفين ،كأن يقوم أحدهم بسرقة
جهدك اعتباريًّا وماديًّا ،وتسويقه في عمل يدر عليه مردو ًدا ماديًّا ،هذا النوع من السرقة تعرضت له كذلك ،وهو
لصوصية صريحة من دون أدنى مواربة نقدية ،فهي ال تحتمل الكثير من مقوالت التناص والتأثر والتخاطر والقصة
المأثورة عن الحافرين!».
العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
السرقات األدبية مستمرة في أشكال وأقنعة جديدة ..و«حقوق المؤلف» نمر بال مخالب
نصوص الحداثة وما بعد الحداثة ،يأخذ التفاعل بين النصوص أشكالاً متعددة من التضمين أو عملية ابتالع وهضم نصوص
أخرى في نص واحد ،ويعدّ بعضهم هذا سرقة .وفي ذاكرتي ُ ُ وسمعت بها عن سرقات أدبية عاصرتها عشرات الشواهد التي تبلغ وقاحتها حد الطرافة ،فلقد تع ّر ُ ضت لحالتين مختلفتين من هذا التماس بين السرقة والتفاعل ال مجال وال جدوى من
الخوض فيهما؛ إال أنه ال يشغلني كثي ًرا موضوع السرقات األدبية ،وال توجد ملكية خاصة لألفكار ،وكما قال األسالف:
نذير جعفر
المعاني مطروحة في الطرقات لمن يشاء .إال أنني أرى أن
ً مخلصا لمخيلته ولشخصيته .وأعتقد على الكاتب أن يكون أن السرقة بشكلها البشع والوقح شائعة اليوم في عالمنا
الصفيق ،العدواني إلى هذا الحد ،حيث كل شيء فيه مباح بما في ذلك الحياة ذاتها!». السارق قاضيًا
من المفارقات العجيبة أن كثي ًرا من الصفحات على مواقع
التواصل االجتماعي التي تحمل اسم «السرقات األدبية»،
أو «معً ا ضد السرقات األدبية» تضم عضوية بعض لصوص
األدب والترجمة المشهود لهم! وشر البلية ما يجعل السارق
قاضيًا! فكم هو واطئ حائط األدب والفكر والفلسفة والعلم! لاً أمي – يعلق بدوره الناقد نذير جعفر متسائ « :كيف للص ّ مبتدئ أن يحسب ألف حساب لسرقة مادية عينية صغيرة،
وال يتوانى لص «مثقف» عن سرقة شكسبير أو نجيب محفوظ أو أدونيس أو لوتريامون أو رامبو أو الحالج بضغطة واحدة في وضح النهار! ال بل سرعان ما ي ّ ُنصب ذلك اللص (المثقف) نفسه
قاضيًا ،ويوجّ ه التهمة لهؤالء الذين سرقهم ليبعد الشبهة عما اقترفه ّ بحقهم!». كثير مما يسمى سرقات أدبية في التراث ليس سوى
تناص وتوارد صور وأفكار وتشابه في سياق التجارب اإلنسانية، ومع ذلك عدّ ه القدماء سرقات ،ولم يتساهلوا مع أصحابها سواء على مستوى بيت من الشعر أو مطلع قصيدة أو صورة
بيانية ،أما اليوم فهناك سرقات موصوفة كاملة لكتب بعينها، وأبحاث ،ورسائل جامعية ،ودواوين شعر ،وهي تمر دون ملتبسا ضجيج ألن هذا الحقل ،حقل السرقات األدبية بات ً
ومشبوهً ا ،بسارقيه ومسروقيه وشهوده وقضاته! ال بل إن
جرائم السطو األدبي مستمرة حتى بعد سن القوانين الخجولة في الملكية الفكرية التي ظلّت ترفً ا حضاريا في البالد العربية
إبراهيم المصري
كثي ًرا ممن يدعون سرقة نتاجهم أو يسرقون نتاج غيرهم ليسوا
سوى متطفلين على اإلبداع ،وغايتهم لفت األنظار ،أو تحقيق ربح ما ،أو نيل شهادة ليس غير! حتى قوانين الملكية الفكرية ّ الحق! فمن يملك شرعية لم ُتفعّ ل في بالدنا حتى اآلن إلحقاق
توجيه االتهام أو الحكم بالبراءة؟ قرصنة
َ إليك على أنك ُتلقي مزحة ،لو تحدثت عن سوف يُنظر
(حقوق الملكية الفكرية في العالم العربي) -يقول الشاعر
والروائي المصري إبراهيم المصري« :تلك الحقوق المتصلة أصيل ينتجه إنسانٌ ما أو يخترعه ،وإذا كانت هذه الحقوق بإنتاج ٍ ٍ
واضحة الحدود إلى حد كبير في شأن المنتجات الصناعية على سبيل المثال ،فإنها تكاد تنعدم في المنتجات اإلبداعية، إذ عدا السرقة المباشرة التي يتم فيها سرقة كتاب بالكامل أو
بعض فصوله ،فإن الغموض هو السائد في عدد ال يُحصى من السرقات ،ال تتطلب أكثر من تمويه أو إعادة صياغة ،ليصبح ثمة
مُنتج جديد لم يتعب صاحبه في إنتاجه .لكن حتى لو أمسكنا أحدً ا بالجُ رم المشهود ،فمن سيحاكمه أو يحاسبه؟ حتى لو ً حُ وسب قضائيًّاَّ ، طليقا بعد أن يدفع غرامة على سبيل فإنه يظل التعويض ،وثمة حكاية تم تداولها مدة طويلة عن (شاعر مصري
ً نصوصا من شاعر آخر في صعيد مشهور تلفزيونيًّا) سرق كما قيل
مصر ،وهذه النصوص مصنفة ضمن (فن الواو) أحد فنون القول
الشعبي في الصعيد ،وبعد الحكم على الشاعر الذي قيل إنه
سرق وتغريمه خمسة آالف جنيه ،حكمت محكمة النقض بعد ثالث سنوات من الجدل حول هذه القضية ببراءة الشاعر ،إذ يُع ُّد
من (الشطارة) في بلد كمصر أن تدوس القانون وتعبر عليه إلى مصلحتك الشخصية .وإذا خرجنا من السرقات األدبية والفكرية إلى عالم النشر العربي ،فماذا يمكن أن نقول عن الطباعة
الالقانونية للكتب ،إلى حد أن روائيًّا مصريًّا مشهورًا يشكو من أنه يجد نسخ روايته المزيفة طباعيًّا أي (المقرصنة بالفعل) مطروحة
للبيع على بسطات باعة الصحف في القاهرة!».
109
كتب
طه عبدالرحمن ورهان التأسيس ألنموذج فكري جديد المهدي مستقيم باحث مغربي
يعد المفكر المغربي طه عبدالرحمن ،أحد أكبر سدنة الدرس الفلسفي المنطقي في العالم العربي ،وما يرتبط به من قضايا ذات صلة بفلسفة اللغة ،وقد شرع في تطوير قضايا ومحاور هذا الدرس منذ وقت مبكر ،إثر التحاقه سنة 1969م بالتدريس بشعبة الفلسفة بكلية محمد الخامس لآلداب والعلوم اإلنسانية ،وخلف طه آثارًا عظيمة ،تجلو عن أصالة المجهودات التي ما انفك يبذلها بكثير من الحنكة األكاديمية والكفاءة العلمية، توجت بإصداره مجموعة من الدراسات المهمة ،التي تعبر عن قناعاته وتوجهاته واختياراته وتمثالته لنمط القول الفلسفي الذي يدعي أن بإمكانه أن يخدم إنماءنا واستدراك ما فاتنا.
110
استهل طه عبدالرحمن إصداراته بمصنفه األول سنة 1979م تحت
يستطيع أن يمنح للذات ما يهبها الرضا والقرب من طبيعة اإلنسان ومعنى العالم وحقيقة الله .وهو مشروع سيكتشف المطلع عليه ،أنه
ثان سنة 1983م بعنوان عنوان «اللغة والفلسفة» ،ثم أعقبه بإصدار ٍ «المنطق والنحو الصوري» ،وثالث بعنوان «فقه الفلسفة» ،وهو عبارة
أمام جهد نظري كبير ،جهد يعتني ،كما قال المفكر كمال عبداللطيف،
«الفلسفة والترجمة» ،والثاني بعنوان «القول الفلسفي ،كتاب المفهوم
الدقة والتدقيق باعتبارها الزمة أساسية في الكتابة الفلسفية ،وذلك من
عن مشروع في جزأين ،صدر منه الجزء األول سنة 1995م بعنوان فرعي:
والتأثيل» ،وقد هدفت هذه اإلصدارات التي شيد على أثرها طه مسيرته الفكرية ،استنطاق أسس فلسفة اللغة والمنطق .ثم عرج بعد ذلك إلى التناول النقدي لألطروحات والتصورات السائدة في الفكر الفلسفي
المغربي والعربي ككل ،مفصحً ا عن توجهه الفكري ،المؤسس على تجربة روحية تنهل من المبادئ األخالقية التخلقية ،وذلك في إصداراته
الموسومة بـ «في أصول الحوار وتجديد علم الكالم» (1987م) ،و«العمل الديني وتجديد العقل» (1989م) ،ثم «تجديد المنهج في تقديم التراث» (1994م) .وتصنف بقية إصدارات طه ضمن مقولة «االئتمان» ،وتدخل
فيها مجموعة من الدراسات التي أصدرها طه تبا ًعا في هذا المجال. نقد تيارات التقليد والحداثة
إن هذه المصنفات التي خطها طه عبد الرحمن بكثير
من الحنكة والدقة ،إنما تجلو عن مشروع فكري ضخم،
يتغيا نقد تيارات التقليد والحداثة في الفكر المغربي
والعربي ،سعيًا منه إلى تحقيق نوع من االستقالل الفلسفي
المبدع ،ينهل من تجربة روحية عقدية ،تربط صفاء السريرة
بالعقل العملي الصوفي ،على أن هذا األخير هو وحده من العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
«بالكلمات والعبارات كما يعتني بالمفاهيم والتصورات ،مستوعبًا خاصية
أجل مقالة واضحة المعالم ،وعبارة مسبوكة بكثير من العناية»( .كمال
عبداللطيف ،أسئلة الفكر الفلسفي في المغرب ،المركز الثقافي العربي). يضعنا مشروع طه ،أمام براديغم أو أنموذج إرشادي ،يهدف إلى
إعادة النظر في متخيلنا االجتماعي ،وفي القضايا التي يخوض فيها الفكر
العربي المعاصر ،ويعرف طه عبدالرحمن بهذا البراديغم أو األنموذج
في كتابه بؤس الدهرانية ،إذ يقول« :نستعمل (األنموذج) هاهنا بمعنى غير (النموذج) ،ولو أنهما مشتقان من أصل لغوي واحد ،فـ(النموذج)
عبارة عن (المثال) بمعنى (الطراز) ،ومقابله اإلنجليزي هو Modelأو ،Patternفي حين نقصد بـ(األنموذج) ،على وجه اإلجمال ،منهجية
متبعة ورؤية محددة للعالم ،فمثال نظرية نيوتن في الجاذبية أنموذج،
• «المنهجية التداولية» :تقويم العمل الفلسفي ال يتوصل إليه
( Paradigmeطه عبدالرحمن ،بؤس الدهرانية :النقد االئتماني للفصل
إبداعه الذي يميزه ويتفرد به عن باقي اإلنتاجات الثقافية األخرى ،فإن
ونظرية أينشتاين في النسبية أنموذج آخر ،ومقابله اإلنجليزي هو بين األخالق والدين ،الشبكة العربية لألبحاث والنشر) .إنه أنموذج مؤسس على قناعة ذاتية عميقة تخص تجربة طه اإليمانية ،وقائم على
ترسانة نظرية ومفاهيمية سميكة ،تحاجج من أجل سالمة هذه التجربة، وتبرهن على نجاعتها وصدقها وإمكانيات تعميمها خدمة لتصور معين
للعالم وللزمان.
الخيوط الكبرى الناظمة
إال بفقه آليات التداول الخاصة بالفيلسوف ،إذا كان للتراث اإلسالمي للتراث الغربي (اليوناني واألوربي) إبداعه الخاص به ،ومن منطلق الدعوة إلى التعارف التي تقتضي االنفتاح المعرفي والتالقح الفكري بين األمم، فإن استكشاف «المنهجية الفلسفية» التي اتبعتها ثقافة الغرب إلنتاج نموذجها الخاص في إبداع قولها الفلسفي يكون ً شرطا ضروريًّا الستئناف
مسيرتنا الفلسفية اإلبداعية بعد عصر االنحطاط ،من هنا دعوة طه إلى
النظر في الصنعة الفلسفية الغربية من منطلق علمي ،ال فلسفي ،حتى
نتمكن من الدخول إلى مصنع الفيلسوف وهو يضع ترجمته لنصوص
يصعب على القارئ مسايرة المشروع «الطاهائي» ،من دون إدراكه
غيره من الفالسفة ،ويبدع مفهومه ،ويضع تعريفه ،ويبني دليله،
حدا بالدكتور رضوان مرحوم إلى القول في التقديم الذي خصه لكتاب
مشروع «فقه الفلسفة» بوصفه جهدًا نظريًّا ينبغي أن تضطلع به أجيال
للخيوط الكبرى الناظمة لألنموذج الذي يتأسس عليه ،ولعل ذلك ما طه المعنون بـ(سؤال المنهج في أفق التأسيس ألنموذج فكري جديد):
«ولما كان الحديث عن (أنموذج النظر) ينبني على منهجية غير مسبوقة، ويؤسس ً نمطا معرفيًّا متمي ًزا – أي جملة من الصور والنظريات والمفاهيم
ويسلك وفق مقتضيات قوله الفلسفي ،لهذا ،يتعين التعامل مع مجتمعة من الباحثين والمفكرين ،من أجل استكشاف المنهجية التي صيغت بها الفلسفة عند العرب ،وذلك بقصد استعمالها بما يتناسب
مع مقتضياتنا التداولية في تحصيل أسباب اإلبداع.
والمسلمات واألحكام واألدلة التي تنبني عليها المعرفة اإلنسانية في مدة
• «المنهجية الحجاجية» :التقويم المنطقي للتراث اإلسالمي
المنهجية باعتبارها توجه النظر وترشده إلى تحصيل مطلوبه» .ومن ثم
المنهجية التي تم استمدادها من التراث اإلسالمي واستكشافها في الفلسفة الغربية لها ً أيضا شرائط منطقية ،ومقتضيات حجاجية ،فيكون
معينة -لزم التطرق إلى (األطر المفاهيمية) التي تلزم عن استعمال هذه فإن قارئ المشروع مطالب حسب رضوان مرحوم ،بإدراك ترسانة كبيرة
ًّ خاصا بفكر طه من المفاهيم المنهجية التي تشكل معجمًا اصطالحيًّا
عبدالرحمن ،وهذه المفاهيم هي:
• «المنهجية التكاملية» :تقويم التراث اإلسالمي العربي ال يصح
إال بفقه المنهاج التكاملي الخاص بهذا التراث ،يرى طه أن تحقيق
والخطاب الفلسفي ال يصح إال بقانون المنطق الحجاجي ،ذلك أن
النهوض بإمكانياتنا الفكرية ،واستئناف عطائنا اإلبداعي محتاجً ا ،لكي
يحيط بتمام عرضه ،إلى تحصيل قوانين هذه المنهجية ،واستعمالها عند صياغة نظرياتنا
الفكرية( .طه عبدالرحمن ،سؤال المنهج
اإلبداع الذي يوصلنا إلى التحرر الفكري ال يتم إال بواسطة استخراج المنهجية التي ّ نظر لها من تقدّمنا من النظار المسلمين ممن حافظ
المؤسسة العربية للفكر واإلبداع).
استقاللية عقل المسلم ،وهذه المنهجية المستنبطة من التراث ينبغي
الطاهائي إلى ممارسة
على الخصوصية التداولية لثقافته اإلسالمية األصلية ،وكرس في كتاباته إعمالها عند تقويم عطاء المتقدمين في مختلف المجاالت التي خاضوا
فيها بنظرهم ،وهو األمر الذي يوجب االبتعاد عن األحكام المتسرعة
والدعاوى األيديولوجية التي أطلقها بعض من خاض في تقويم التراث، ألن التمكن من وسائل النظر في التراث يتقدم طلب المعرفة بمضامين هذا التراث.
يتغيا طه عبدالرحمن نقد تيارات التقليد والحداثة في الفكر المغربي سعيا منه إلى تحقيق نوع من والعربي، ً االستقالل الفلسفي المبدع ينهل من تجربة روحية عقدية ،تربط صفاء السريرة بالعقل العملي الصوفي
في أفق التأسيس ألنموذج فكري جديد، أخي ًرا ،يركن المشروع
نوع من النقد الصوفي للحداثة ،ويلجأ من
أجل ذلك في أحايين عديدة،
إلى توظيف لغة دعوية تقليدية محافظة ،ليبرز بذلك جاهلية
وبهيمية ومادية الحضارة المعاصرة، حضارة الحداثة والتقنية،
وهذا ما يبعد طه
عبدالرحمن كما يقول كمال عبداللطيف،
عن الطموح الذي أعلن عنه.
111
ثقافات كتب
112
«ظل الريح» لإلسباني كارلوس زافون ّ
متخيلين اقتفاء آثار أبطال ّ دمرتهم الحروب ّ
كارلوس زافون
العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
هيثم حسين كاتب سوري يقيم في لندن
ّ «ظل الريح» الغوص في التاريخ ،واقتفاء اإلسباني كارلوس زافون (1964م) في روايته يحاول ّ ّ والمستجدة، أثر شخصياته في تنقالتها بين أمكنة وأزمنة مختلفة ،ليلتقط المتغيّرات الطارئة والتراكمات التي أنتجتها خالل رحلة العبور إلى اآلخر الذي يكون في الوقت نفسه صورة الذات في تمرئيها وتغيّرها .هل للريح أيّ ّ ظل؟ هل للكتب أ ّية ظالل؟ هل يمكن اقتفاء ظالل متخيّلة لبعض
ّ ماض ضائع في متاهة الزمن وكهف الظل إلى أثر األشياء واألفكار العصيّة القبض عليها؟ هل يرمز ٍ
الذات؟ إلى أيّ ّ حد يمكن تلمّ س آثار أحداث مفترضة على المرء في رحلته نحو اكتشاف محيطه وعالمه؟ هل يتحوّل اإلنسان إلى ّ ظل لنفسه وغيره في أزمنة الحرب؟ هل تغدو الكتب مصدر تعاسة ألصحابها ،وباعثة على تبديدهم كظالل في ضوء الوقائع األليمة؟ هذا بعض من األسئلة التي يثريها زافون ،روايته (نشرتها
دار مسكيلياين يف تونس برتجمة معاوية عبداملجيد 2016م) التي ّ يستهلها بفصل «مقربة الكتب املنسيّة» ،يعود إىل مدينة برشلونة ّ يسلم السرد لراويه الفتى الصغري دانيال الذي سنة 1945م،
يقتاده والده املكتبي إىل مكان سرّيّ ،ويطلب منه عدم إخبار أيّ أحد عنه .يتذ ّكر دانيال ّأنه ما إن وضعت الحرب األهلية أوزارها ح ّتى اجتاحت الكولريا البالد وسلبت منهم والدته .تغيرّ ت حياة
الفتى الذي نشأ بني الكتب ،وبصحبة أصدقاء خياليّني يسكنون صفحات الكتب الذابلة ذات الرائحة الفريدة ،بعد زيارته ملقربة الكتب املنسيّة ،وهو الذي كان قد اعتاد عىل حكاية بعض األحداث
الخيالية لروح والدته الراحلة ،ويشعر باألمان وهو يستحضرها ويشركها معه يف خياالته وأحالمه وأفكاره.
ّ منصات املكتبة الحظ الراوي وجود عشرات األشخاص عىل
ودعائمها ،عرف بعضهم ،بدوا ملخيلته الربيئة كأنهم جماعة س ّرية من الخيميائيّني يتآمرون عىل يشء ما يف غفلة من العالم .يخربه ّ خفيّ . والده أنّ ذاك املكان س ّرّ ، مجلد كل كتاب أو وأنه معبد ،حرم ّ
كل غالف يحوي وراءه عاملًا ال نهاية له ،عاملًا ّ أنّ ّ يحفز النفس عىل
استكشافه ،بينما يهدر الناس يف الخارج أوقاتهم يف متابعة مباريات كرة القدم واملسلسالت ،وينفقون املال عىل جهلهم ً أيضا. طفولة ضائعة
ال يدري إن كان األمر يتعلق بتأمّ الته أو بالصدفة ،لك ّنه أيقن
ّأنه وجد الكتاب الذي سيتب ّناه ،اقرتب منه بحذر وتلمسه ،كان ّ «ظل الريح» ملؤلف اسمه خوليان كاراكاس ،ينكب عىل عنوانه
قراءة القصة التي يتعلق بها ويغوص يف تفاصيلها ،ويشعر بها ّ معقدة ،رجل يبحث عن والده الحقيقي بعد تتحوّل إىل ملحمة أن أخربته أمه قبل وفاتها بلحظات عنه ،يناضل بطلها ً بحثا عن
طفولته الضائعة وشبابه املفقود حيث تتجىل شي ًئا فشي ًئا ظالل حب ملعون تالحقه حتى آخر يوم من عمره.
منغمسا يف يلفت الراوي إىل أنّ بنية الرواية التي يجد نفسه ً
قراءتها وأحداثها تذكره بالدمية الروسية التي تحتوي عىل عدد ال يحىص من الدمى املتشابهة .والسرد متشظ إىل ألف حكاية،
تعيش فيه روح ما ،روح من ّألفه وأرواح من قرؤوه وأرواح من وأنه يف ّ عاشوا وحلموا بفضلهّ ، كل م ّرة يغيرّ الكتاب صاحبه ،أو
االنعكاسات ،لكنها تظل محافظة عىل وحدة بنيتها .وهذه البنية
بعد أن تجوّل الفتى دانيال يف تلك املتاهة ،واستنشق عبق الصفحات ّ يتنقل بني الرفوف واألروقة التي القديمة والسحر والغبار ،راح
روايته وطريقة هندسته ملعمارها الف ّن ّي .يرى دانيال أن ذاك الكتاب ّ وكأنه حني انتشله من أرض إىل أخرى ،أنقذه من عالم غريب،
تلمس نظرات جديدة صفحاته تستحوذ الروح عىل قوة إضافية.
كانت تشعره ّ بأنها تعرف عنه أكرث مما يعرف عن نفسه .ملع يف رأسه
وكأنّ ّ القصة تدخل يف معرض للمرايا فتنقسم إىل عشرات
التي يتحدّث عنها راويه يف وصفه للرواية املتخيلة هي نفسها بنية
أنقذه من مقربة الكتب املنسية بادله الكتاب وفاء بوفاء ،وأنقذه
113
كتب بدوره من عجلة االستهالك والتسليع ،وح ّرر خياالته وأفسح له مجالاً للتح ّرك والتفكري بعيدً ا من قيود الواقع وظالل الحرب الكابوسية التي تغرق البالد.
ينتقل زافون من شخصية إىل أخرى ،يسلط األضواء عليها، بحيث يوحي ّأنها استلمت زمام األحداث ،يف لعبة تناسل شخصيات
ال تنتهي إال بالوصول إىل املآالت التي يختارها يف سنة 1966م ،حيث الفتى دانيال يغدو رجلاً خرب كثريًا من التجارب الحياتية ،تع ّرف
إىل أسرار وألغاز كثرية يف أثناء رحلة بحثه عن روائيه املجهول خوليان كاراكاس ،ويكتشف أنه صورة عن ماضيه ومستقبله ربّما.
«فريمني ،جوستابو ،برسلوه »..وغريهم من الشخصيات التي ّ تؤثث فضاء الرواية بأفكارها وارتحاالتها ،تساهم بتوثيق شهاداتها عن الحكايات والشخصيات الواقعية املستعادة بصيغ ش ّتى،
ربّما تختلف حكايات مزيّفة يف مسعى لتزييف الواقع أو الر ّد عىل
التزييف نفسه ،وتكون أمام امتحان التاريخ واختبار الرواية .هناك كارال التي تكشف بدورها جزءً ا من الس ّر ،أو تساهم يف شرح بعض
التفاصيل املحيطة بالحوادث التي ينبش عنها دانيال ،وما أن يميض
الروايئ نفسه الروايئ املفرتض ح ّتى يغدو ذاك الراوي يف بحثه عن ّ ّ بطلاً يف حكايته املتخيّلة عنه ،تكون حكاية الرواية هي أهمّ ما يبحث
114
عنه ،كما يكون البحث املضني عن شخصية الكاتب املجهولة وحياته وأسراره يف ّ ظل االهتمام برحلته واكتشافاته. شبح وخيال وأسطورة
ماض لخوليان الذي يتحوّل إىل شبح يستمتع دانيال باختالق ٍ
وخيال وأسطورة بالنسبة له ،وال سيما حني تعمقه يف السؤال عنه ممّ ن يفرتض ّأنهم كانوا عىل صلة به ،وكيف ّأنه م ّر بعالقة تاريخي ،حيث «بينيلوب» حب مع «بينيلوب» ،وهنا يكون إسقاط ّ ّ
يستنطق زافون شخصياته ليحكي
روايئ غامض ،عرب افرتاضات وحكايات اإلغريقية حاضرة يف حياة ّ
ّ لفك عنه ،انطلقت من مقربة الكتب التي كانت بمثابة شرارة طالسم التاريخ والواقع معً ا.
الروايئ املتخيّل الذي يبحث عنه ويتقصىّ أثره يتماهى الراوي مع ّ
ويتح ّرى سريته ،يتخيّله حني كان يف عمره وما إن كان سعيدً ا يف تلك األثناء ،ويفكر لوهلة أن األشباح الوحيدة هي أشباح الغياب
والفقدان ،وأنّ ذاك الضوء الذي يبتسم له كان مج ّرد ضوء عابر. الثواين ّ ويتم ّنى لو ّأنه ّ التمسك به .يستنطق لعله يستطيع ظل لبعض ّ ّ
زافون شخصياته ليحيك عىل ألسنتها تنبّؤات عن املستقبل يف النصف الثاين من القرن العشرين ،من ذلك مثلاً استشراف بطله فريمني
ما سيغدو عليه التلفزيون من تأثري يف املستقبل ،وهو يصفه ّ بأنه املسيح الدجال ،وأنه لن يعود بوسع الناس فعل أيّ يشء من دون
االستعانة به ،وأنّ الكائن البشريّ سيتقهقر إىل العصر الحجريّ ،إىل
بربريّة العصور الوسطى ،بل إىل مرحلة تخطاها الحلزون يف نهاية
العصور الجليدية .وتراه يعرب عن سخطه وتربّمه من االستهالكية التي تجتاح العالم ،وكيف أنّ التسليع دمّ ر كثريًا من التفاصيل
تنبؤات عن المستقبل، على ألسنتها ّ
الجميلة ،يص ّرح بأىس أنّ العالم لن يفنى بسبب قنبلة نوويّة كما
سيغدو عليه التلفزيون ،وهو يصفه
الواقع إىل نكتة سخيفة .يستمع بطله إىل رأي يقول :إنه يف األشهر
مثل استشراف بطله فيرمين ما بأ ّنه المسيح الدجال ،وأنه لن يعود أي شيء من دون بوسع الناس فعل ّ البشري وأن الكائن االستعانة به، ّ ّ الحجري ،إلى سيتقهقر إلى العصر ّ بربرية العصور الوسطى ،بل إلى ّ مرحلة تخطاها الحلزون في نهاية العصور الجليدية العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
تقول الصحف ،بل بسبب االبتذال واإلفراط يف التفاهة التي ستحوّل
األوىل من الحرب اختفى الكثري من األشخاص دون أن يرتكوا أث ًرا وراءهم ،ويتج ّنب الجميع التحدّث عنهم ،والقبور الجماعية كثرية، ويغدو معها من املستحيل العثور عىل شخص مفقود أو قرب له
وسط تلك الفوىض الكارثيّة واملقابر الجماعية املنتشرة.
يتبدّ ى مسعى زافون يف التحريض للبحث عن املفقودين
والراحلني ،وتوثيق حكاياتهم وحيواتهم ،وعدم التعامل معهم ّ التأثر لهم كأرواح راحلة ينبغي إعادة االعتبار كأرقام ،وضرورة لها ،كما يظهر مسعاه يف تشييد مقربة للكتب املنسية لتكون عبارة
عن مكتبة حياة الراحلني ،يدوّن فيها تفاصيلهم وأخبارهم.
إصدارات
صور الجهاد -من تنظيم القاعدة إلى داعش
المؤلف :سالمة كيلة
الناشر :منشورات المتوسط
يشير المؤلف في هذا الكتاب إلى «البيئة» التي أنتجت «جهاديين» ،نتيجة وضع الفقر
والتهميش ،كما يربط األمر بمسار سياسي يفرض توظيف هؤالء ،وهنا يبرز الفارق بين ّ مخلفة ومهمّ شة وتكتيكات دول .فالمسألة ليست مسألة دين ،بل هي سياسة، «بيئة» بمعنى أن الظاهرة متعدّ دة المستويات ،وال ترتبط بالدين ،أو التديّن فقط؛ ففيها ما ّ يتعلق بالبيئة التي ت ّتسم بالتهميش والفقر ،وما ُتنتجه من وعي ،لكن فيها كذلك تداخالت سياسية وإستراتيجية.
اليمن من اإلمامة إلى عاصفة الحزم
المؤلف :مجموعة من الباحثين العرب
الناشر :المسبار للبحوث والدراسات
بدأت في اليمن منذ عام 2011م فوضى أمنية وأيديولوجية تخضع لرغبات إيران
التوسعية بعد ترويجها لمفهوم اإلمامة ،بجانب ارتفاع نسبة األمية بما يعادل «،»%48
وارتفاع التكتل القبلي؛ ما يعني عجز النظام السابق عن تكوين دولة حديثة بمؤسسات
صلبة أو خدمية .كما يتناول الباحثون في هذا الكتاب أشكال التطور بين العالقة الحوثية والواليات المتحدة األميركية.
116 مهنة العيش
المؤلف :تشيزاري بافيزي
المترجم :عباس المفرجي
الناشر :دار المدى
أخي ًرا :تم نقل المذكرات إلى العربية وهي تتناول الكثير من العوالم المدهشة لهذا ً انطالقا من القبض عليه بعد أن ثبتت عليه تهمة ِّ َ رسائل من تلقيه االسم األدبي العمالق،
سجين سياسي ،مرورًا بنفيه إلى جنوب إيطاليا واستدعائه للتجنيد في الجيش الفاشي،
واشتراكه في الحزب الشيوعي اإليطالي ،وانتهاءً بقصة الحب القصيرة الفاشلة مع الممثلة
األميركية «كونستانس داولينغ» التي هجرته وعادت إلى بالدها؛ ليهدي إليها آخر أعماله قبل أن يقرر االنتحار.
معنى المعنى
المؤلف :أوغدن ،ورتشاردز
المترجم :كيان أحمد حازم
الناشر :دار الكتاب
ليست اللغة واضحة كما يعتقد البعض .إنها أخطر النعم كما يقول المفكر «هايدغر»، ً مراوغة؛ لهذا السبب حاول كثير من الفالسفة والمفكرين أن يحولوا اللغة وأكثر األشياء ّ الدال بالمدلول ،إال أن تلك المحاوالت فشلت ولهذا السبب قال إلى أرقام كي يلتصق المفكر الشهير «نيتشه» :ال توجد حقيقة في اللغة سوى شيء واحد :أنها بدون معنى». لهذا كله حاول المؤلفان -وهما باحثان في جامعة كمبردج -أن يحسما هذه المسألة
الشائكة لكل المهتمين بالفكر اللغوي. العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
فلسطين في الكتابة التاريخية العربية
المؤلف :ماهر الشريف
الناشر :دار الفارابي
عالقة فلسطين بالتاريخ هي المحرك األساسي لما كتبه المؤلف بعد أن تناول القضية
الفلسطينية وإشكالياتها في قلب تاريخ فلسطين المعاصر ،وتاريخ فلسطين القديم، وتاريخ فلسطين في العصر اإلسالمي ،مؤكدً ا بعد ذلك كله أن تاريخ فلسطين يتعرض
حاليًا لمحاولة جادة الغتياله من الذاكرة الجمعية.
في ظل العنف
المؤلف :مجموعة من األكاديميين
ترجمة :كمال المصري
الناشر :المجلس الوطني للثقافة والفنون واآلداب(الكويت)
يبدو أن البنك الدولي ال يقوم بمهمته األساسية والحيوية -كما يذكر الباحثون -في
تعزيز التنمية في الدول الناشئة ،بقدر ما يقوم بممارسة العنف المالي والسياسي لتحقيق مكاسبه التي يطمح لها ،بدليل تشكيل ائتالفات ومجموعات خاضعة لما يريد .لقد تحكم
البنك الدولي بقيادة الواليات المتحدة في توجيه االستثمارات المهمة إلى أبعاد جغرافية
معينة من دون أخرى ،بمعنى أنه يمارس سياسة اإلفقار لتحقيق التبعية.
117
سهوا كان هذا ً
المؤلف :أنسي الحاج
الناشر :دار نوفل
لم نعرف كل القصائد التي كتبها الشاعر اللبناني الشهير أنسي الحاج قبل أن يرحل
ً وخصوصا تلك التي كان يريد نشرها قبل أن يموت .دار نوفل حاولت إلى األبد عن الحياة، جمع ذلك كي ال يضيع في غياهب النسيان بعد أن تواصلت مع أقربائه ،وأصدقائه ،وقبل ً سابقا. الجميع عائلته ،لتقدم لنا عشرات النصوص والقصائد التي لم نقرأها
أجساد جافة
المؤلف :عبدالله التعزي
الناشر :كلمات
عندما أصدر الملك فيصل قرار تحرير العبيد في السعودية ،اختفت من أنحاء مكة
المكرمة كلها تلك الجارية التي اعتنت بسعدية ذات السنوات الخمس التي توفيت والدتها أثناء والدتها .لم يكن هناك سوى زوجات والدها الثالث ليقررن مصيرها ،فتاجرن بها. كيف كبرت سعدية الفاتنة الجمال؟ طفلة عذراء ،وفي شيخوختها حكايات سبعة رجال
مسنين ،تدوخهم بأكواب الشاي السحرية كي تستأنف اللعب بدمى العرائس ،تلك الدمى
اللواتي يحدثنها منذ كانت في الثالثة عشرة من العمر.
مقال
فكرة تعارف الحضارات.. وكيف تطورت؟ في صيف 1997م نشرت مقالة موسعة في مجلة الكلمة بعنوان:
«تعارف الحضارات» ،وكان هذا أول إعالن عن هذه الفكرة بهذا النحت
زكي الميالد كاتب سعودي
البياني ،وبهذا الصك االصطالحي ،وجاء انبثاق هذه الفكرة من حصيلة تأمالت مستفيضة من جهة ،ومن جهة أخرى من حصيلة متابعات متصلة ومتجددة لحقل الدراسات الحضارية.
واستندت في تكوين هذه الفكرة إلى أصل من القرآن الكريم ،الذي
هو األصل األول وأصل األصول حسب قول علماء األصول ،وتحدد ذلك
في اآلية الكريمة التي سميتها آية التعارف الواردة في سورة الحجرات في
قوله تعالى} :يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا
118
وقبائل لتعارفوا{ [الحجرات.]13 :
وبعد الفحص والنظر في هذه اآلية ،وجدت أنها تضمنت اإلشارة
إلى مبادئ كلية وأبعاد إنسانية عامة ،تضعنا أمام األفق اإلنساني الكلي الذي يتوجه فيه الخطاب إلى الناس كافة ،والتعارف هو المفهوم الذي
حاولت هذه اآلية تحديده وتأكيده والنص عليه ،من خالل سياق وخطاب
يبرز قيمته بوصفه مفهومً ا إنسانيًّا عامًّ ا يتصل بالناس كافة .وبمنطق
التحليل ،يمكن الكشف عن هذه المبادئ اإلنسانية الكلية والعامة في
اآلية المذكورة على هذا النحو: أولاً :خطاب إلى الناس كافة «يا أيها الناس» ،سورة الحجرات هي من السور المدنية ،الخطاب فيها متوجه من البداية إلى النهاية للمؤمنين
فكرة اإلنسانية التي تشمل دون تمييز في العرق أو الحضارة كل أشكال النوع البشري ،لم تظهر سوى متأخرة ج ًّدا
بلسان «يا أيها الذين آمنوا» ،لكنه تغير في هذه اآلية وتحول الخطاب إلى
الناس بلسان «يا أيها الناس» ،وهذا تحول من الخاص إلى العام في مورد يقتضي تقديم العام على الخاص ،بما يوحي إلى أن اآلية بصدد اإلشارة
لمبادئ إنسانية كلية وعامة .ولو اتصل الخطاب في هذه اآلية ،واتجه حص ًرا وتحديدً ا إلى المؤمنين ،لتغير سياق اآلية وموردها ،ولكان لها مورد
غير المورد الذي نتحدث عنه ،ونعني به مورد تعارف الحضارات. ً ً وبالغة ،نجد أن هذه الكلمة لغة وعند التوقف تجاه كلمة الناس فيها عموم استغراقي لجنس اإلنسان بغض النظر عن جميع صفاته
العارضة ،وهي من الكلمات التي ال تقبل التجزئة وال التقابل وال اإلضافة
وال الحصر النوعي ،فمن جهة التجزئة فإن كلمة الناس ال تتجزأ إلى العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
مفرد وتثنية ،بخالف الحال مثلاً مع كلمة الشعب التي تقبل التجزئة ،فيقال :شعب للمفرد ،وشعبان للتثنية ،وشعوب للجمع .ومن جهة التقابل ،فكلمة الناس من الكلمات التي ال تقابل لها ،بخالف الحال مثلاً مع كلمة الجماهير التي تقابلها كلمة النخبة .ومن جهة اإلضافة ،فكلمة الناس كذلك ال تقبل اإلضافة ،بخالف الحال مثلاً مع كلمة األمة التي تقبل اإلضافة، فيقال :األمة العربية ،واألمة اإلسالمية ،واألمة المصرية ،واألمة الفرنسية ،وهكذا.
ومن جهة الحصر النوعي ،فكلمة الناس ال تنصرف إلى جانب الذكورة فحسب ،وال إلى جانب األنوثة فحسب ،فهي ال ً مستغرقا عموم جنس تتحدد بنوع معين .األمر الذي يعني أن خطاب «يا أيها الناس» ،هو خطاب متوجه إلى الناس كافة اإلنسان ،ناظ ًرا لهم على تعدد وتنوع أعراقهم وألوانهم ،لغاتهم وألسنتهم ،دياناتهم ومذاهبهم ،ذكورهم وإناثهم ،إلى غير
ذلك من تمايزات أخرى.
لهذا كله يمكن اعتبار كلمة الناس ،من المصطلحات القرآنية التي وردت وتواترت وتكررت في 53سورة مكية ومدنية،
طويلة وقصيرة ،وتسمّت بها آخر سورة ،وجاءت في موضع آخر كلمة في القرآن «من الجنة والناس» ،حتى قيل :إن القرآن يبدأ بـ :بسم الله ،وينتهي بكلمة الناس.
ثانيًا :تذكير بوحدة األصل اإلنساني «إنا خلقناكم من ذكر وأنثى» ،أراد القرآن بهذا القول أن يقرر أعظم حقيقة في
مجال االجتماع اإلنساني ،هي حقيقة وحدة األصل اإلنساني ،وتعني أن الناس مهما تعددت وتنوعت أعراقهم وأجناسهم،
لغاتهم وألسنتهم ،ألوانهم وأشكالهم ،بيئاتهم وأمكنتهم إلى غير ذلك من اختالفات أخرى ،مع ذلك فإنهم يرجعون إلى أصل إنساني واحد.
والقصد من هذا األمر ،ضرورة أن يدرك الناس هذه الحقيقة ،ويتعاملوا معها كقاعدة إنسانية وأخالقية في نظرتهم
ألنفسهم ،وفي نظرة كل أمة وحضارة إلى غيرها ،كما لو أنهم ينتمون إلى أسرة إنسانية واحدة ممتدة على مساحة هذه
األرض ،ويمثل هذا األمر أقوى سبيل أخالقي للتخلص من نزعات التعالي والعنصرية والطبقية والكراهية والتراتب بين البشر. ماضي السالالت البشرية
ً وحديثا ،واختلفوا حولها ،وتعددت آراؤهم وطالما شغلت قضية وحدة األصل اإلنساني اهتمامات العلماء قديمً ا
ونظرياتهم وتباينت ،وذهبوا يفتشون عنها ويتحققون بدراسة تاريخ األجناس واألعراق ،وماضي السالالت البشرية ،ووجدوا
فرصتهم للتحقق منها بالعودة إلى ما عرف في أدبياتهم بالمجتمعات البدائية.
مع ذلك ظلت هذه القضية موضع جدل وشك في ساحة الفكر اإلنساني ،يصعب التسليم بها عند البعض ،وهذا ما كشف
عنه بوضوح كبير عالم األنثربولوجيا الفرنسي كلود ليفي شترواس (2009-1908م) في كتابه الوجيز «العرق والتاريخ» الصادر سنة
1952م ،بقوله« :نحن نعلم أن فكرة اإلنسانية التي تشمل دون تمييز في العرق أو الحضارة كل أشكال النوع البشري ،لم تظهر سوى متأخرة جدًّ ا ،ولم تعرف إال انتشارًا محدودًا ،وحيث إنها وصلت إلى أعلى درجات تطورها ،ليس مؤكدً ا على اإلطالق والتاريخ القريب يثبت ذلك ،أنها ترسخت بمنأى عن االلتباس والتقهقر ،ولكن كان يبدو بالنسبة لقطاعات واسعة من الجنس البشري وطوال عشرات األلوف من السنين ،أن هذه الفكرة كانت غائبة غيابًا كليًّا». لهذا فإن ما قرره القرآن الكريم ،يمثل شي ًئا كبي ًرا بالنسبة إلى علماء األجناس واألعراق والسالالت البشرية وعلماء
االجتماع والتاريخ واألنثربولوجيا ،وهؤالء هم األقدر من غيرهم على تقدير حقيقة وحدة األصل اإلنساني بين الناس كافة.
ً ثالثا :إقرار بالتنوع اإلنساني «وجعلناكم شعوبًا وقبائل» ،بعد التأكيد على وحدة األصل اإلنساني ،جاء اإلقرار بمبدأ التنوع
اإلنساني ،بمعنى أن وحدة األصل اإلنساني ال تقتضي أن يجتمع الناس كافة ويعيشوا في مجتمع واحد ومكان واحد ،وحينما َ وقبائل ،وتعددت وتنوعت أجناسهم وأعراقهم ولغاتهم وألوانهم فهذا ال يعني أبدً ا أن ال رابط بينهم ،فوحدة توزعوا شعوبًا األصل اإلنساني ال تنفي حقيقة التنوع اإلنساني ،كما أن التنوع اإلنساني ال ينفي حقيقة وحدة األصل اإلنساني.
والتنوع اإلنساني الذي قررته هذه اآلية ،هو ما ظهر إلى الوجود وتجلى في تاريخ االجتماع اإلنساني بمختلف مراحله
وأطواره ،وثبت كحقيقة اجتماعية وتاريخية ال خالف عليها وال نزاع في جميع حقول الدراسات االجتماعية والتاريخية
والحضارية واألنثربولوجية وغيرها.
رابعً ا :خطاب إلى الناس كافة ،وتذكير بوحدة األصل اإلنساني ،وإقرار بالتنوع بين اإلنساني ،فما هو شكل العالقة بين
الناس؟ من بين كل المفاهيم المحتملة في هذا الشأن ،يتقدم مفهوم التعارف «لتعارفوا» .األمر الذي يعني أن تنوع الناس
119
مقال
إلى شعوب وقبائل وتكاثرهم وتوزعهم في أرجاء األرض ،ال يعني أن يتفرقوا ،وتتقطع بهم السبل ،ويعيش كل شعب وأمة وحضارة في عزلة وانقطاع .كما ال يعني هذا التنوع أن يتصادم الناس ،ويتنازعوا فيما بينهم من أجل الثروة والقوة والسيادة،
إنما ليتعارفوا.
وال يكفي أن يدرك الناس أنهم من أصل إنساني واحد فال يحتاجون إلى التعارف ،أو أن يتوزعوا إلى شعوب وقبائل
ويتفرقوا في األرض فال يحتاجون إلى التعارف .وألن التعارف بين شعوب وقبائل؛ أي بين مجتمعات وجماعات ،وليس بين
أفراد ،فهو يصدق على جميع أشكال الجماعات الصغيرة والكبيرة ،ومنها الشعوب والمجتمعات واألمم حتى الحضارات؛
لذلك جاز لنا استعماله في مجال الحضارات ،االستعمال الذي نتوصل منه إلى مفهوم واصطالح «تعارف الحضارات».
خامسا :إذا انطلقنا من زاوية التفاضل والمقارنة ،لنتساءل :لماذا لم تستخدم اآلية كلمة لتحاوروا ،أو لتوحدوا ،أو ً
لتعاونوا ،إلى غير ذلك من كلمات ترتبط بهذا النسق ،ويأتي التفضيل لكلمة «لتعارفوا»؟ وهذا هو مصدر القيمة والفاعلية
في مفهوم التعارف ،فهو المفهوم الذي يؤسس لتلك المفاهيم المذكورة (الحوار ،الوحدة ،التعاون) ،ويحدد لها شكلها
ودرجتها وصورتها ،وهو الذي يحافظ على فاعليتها وتطورها واستمرارها ،هذا من جهة اإليجاب .أما من جهة السلب فإن
التعارف هو الذي يزيل مسببات النزاع والصدام والصراع. ً وحينما توصلت لهذا المفهوم وجدت أنه أكثر دقة وضبطا وإحكامً ا من مفهوم حوار الحضارات ،وهذا ما وجده كذلك بعض ً الحقا على هذا المفهوم ،وعبروا عن ذلك في كتابات نشروها ،فهل الحضارات تتحاور؟ وبأية صورة تتحاور؟ الذين تعرفوا وتأكد عندي هذا األمر ،حينما عدت إلى بعض أهل االختصاص في مجال الحضارات ،فوجدت أنهم في دراساتهم حول
الحضارة والحضارات ،قد تحدثوا عن مفاهيم أخرى عند الحديث عن العالقات بين الحضارات ،ولم يتحدثوا عن مفهوم حوار الحضارات ،فبعضهم تحدث عن تعاون الثقافات مثل :كلود ليفي شترواس في كتابه «العرق والتاريخ» ،وبعضهم تحدث عن
تفاعل الحضارات مثل :قسطنطين زريق (2000-1909م) في كتابه «في معركة الحضارة» ،وبعضهم تحدث عن تباين الحضارات
120
مثل :روالن بريتون في كتابه «جغرافيا الحضارات» ،وبعضهم تحدث عن صراع الحضارات مثل :حسين مؤنس (1996-1911م) في كتابه «الحضارة» ،وهكذا غيرهم.
وما إن عرف مفهوم تعارف الحضارات ،حتى أخذ طريقه سريعً ا إلى المجال التداولي ،ونال شهرة واسعة ،واكتسب ً ً معروفا محافظا على هذه الوتيرة الصاعدة ،وقد تجاوز مرحلة بناء المفهوم ،وبات اهتمامً ا كبي ًرا ،وتطورًا متراكمً ا ،وما زال
ً ومتحركا في حقل الدراسات الحضارية. مفهوم تعارف الحضارات
ومن جهة التطور ،فقد شهد مفهوم تعارف الحضارات تطورات مهمة وعلى أكثر من صعيد ،فعلى صعيد التأليف هناك
حتى هذه اللحظة –حسب ما رصدت -خمسة عشر كتابًا تحدث عن هذا المفهوم وتطرق له بصور متعددة ،تارة بصورة
الحديث الكامل عن المفهوم ،مثل الكتابين اللذين قمت بإعدادهما وتحريرهما ،وهما :كتاب «تعارف الحضارات» ،الصادر
عن دار الفكر بدمشق سنة 2006م ،وكتاب «تعارف الحضارات ..رؤية جديدة لمستقبل العالقات بين الحضارات» الذي حررته
باالشتراك مع الدكتور صالح الدين الجوهري ،الصادر عن مكتبة اإلسكندرية سنة 2014م.
وتارة بتخصيص فصل كامل ،كما في كتاب الباحث العراقي الدكتور علي عبود المحمداوي «اإلسالم والغرب من صراع
الحضارات إلى تعارفها» الصادر في بغداد سنة 2010م ،الذي احتوى على فصل بعنوان« :تعارف الحضارات».
وتارة بتخصيص مقالة كاملة ،كما في كتاب الباحث المصري أسامة األلفي «عوامل قيام الحضارات وانهيارها في القرآن
الكريم» الصادر في القاهرة 2006م ،الذي احتوى على مقالة بعنوان« :تعارف الحضارات ال تصادمها» ،وكذا في كتاب الباحث
العراقي الدكتور رسول محمد رسول «نقد العقل التعارفي ..جدل التواصل في عالم متغير» الصادر في بيروت سنة 2005م، الذي احتوى على مقالة بعنوان« :التعارف الحضاري في ضوء متغيرات العالم الجديد».
إلى جانب الحديث النقدي حول المفهوم ،كما في كتاب الباحث الجزائري الدكتور محمد بوالروايح «نظريات حوار
وصدام الحضارات» الصادر في قسنطينة سنة 2010م ،الذي خصص قسمً ا حمل عنوان« :أفكار زكي الميالد على محك النقد».
وهذه المؤلفات الخمسة عشر التي توصلت إليها ،صدرت في السعودية ومصر ولبنان وسوريا والعراق واألردن وقطر والجزائر. وعلى صعيد المقاالت ،فقد وجدت بعد الرصد والمتابعة أن هناك ما يزيد على خمسين مقالة حملت في عناوينها تسمية العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
فكرة تعارف الحضارات ..وكيف تطورت؟
تعارف الحضارات ،نشرت في صحف ومجالت ودوريات يومية وأسبوعية وشهرية وفصلية ،وبعضها ُنشر في مجالت جامعية
محكمة ،صدرت هذه المقاالت في معظم الدول العربية تقريبًا.
وعلى صعيد الرسائل الجامعية ،فقد نوقشت هذه الفكرة في عدد من الرسائل الجامعية ،بعض هذه الرسائل حمل في
عناوينه تسمية تعارف الحضارات ،وهذه الرسائل هي« :تعارف الحضارات ..األطروحة البديل في التعامل مع اآلخر» ،رسالة
ماجستير في الفلسفة من إعداد الباحث العراقي علي المحمداوي ،كلية اآلداب ،جامعة بغداد ،إشراف :الدكتور نبيل رشاد سعيد ،نوقشت بتاريخ 7أكتوبر 2007م.
و«البعد اإلنساني لفكرة تعارف الحضارات عند زكي الميالد» ،رسالة ماجستير في فلسفة الحضارة ،من إعداد الطالبتين
الجزائريتين :سمية غريب وحنان بن صغير ،إشراف :الدكتور قويدري األخضر ،جامعة عمار ثليجي ،كلية العلوم اإلنسانية
واالجتماعية ،مدينة األغواط جنوب الجزائر ،نوقشت بتاريخ األربعاء 18شعبان 1436هـ 3/يونيو 2015م .و«الخلفية الدينية
لنظرية تعارف الحضارات عند زكي الميالد» ،رسالة تخرج في الفلسفة ،من إعداد الطالبتين :صحراوي نادية وطاهري الزهرة،
إشراف الدكتور قويدري األخضر ،المدرسة العليا لألساتذة ،قسم الفلسفة ،األغواط -الجزائر ،نوقشت بتاريخ األحد 15
شعبان 1437هـ الموافق 22مايو 2016م.
مستقبل العالقة بين الحضارات هناك رسائل ناقشت الفكرة باهتمام كبير وخصصت لها فصلاً واحدً ا أو أكثر ،وهذه الرسائل هي« :إشكالية مستقبل
العالقة بين الحضارات ..زكي الميالد نموذجً ا» ،رسالة ماجستير في فلسفة الحضارة ،من إعداد الباحثة الجزائرية:
شبلي هجيرة ،إشراف :الدكتور عمراني عبدالمجيد ،جامعة الحاج لخضر ،مدينة باتنة – الجزائر ،كلية العلوم اإلنسانية واالجتماعية والعلوم اإلسالمية ،قسم العلوم اإلنسانية ،شعبة الفلسفة ،نوقشت بتاريخ 13يونيو 2013م.
و«الحداثة واالجتهاد عند زكي الميالد» ،رسالة ماجستير في الفلسفة ،من إعداد الطالبة :بزخامي زوليخة ،إشراف:
الدكتور براهيم أحمد ،تخصص فكر عربي معاصر ،جامعة عبدالحميد بن باديس ،كلية العلوم االجتماعية ،مدينة
مستغانم -الجزائر ،نوقشت بتاريخ 10ربيع األول 1437هـ 20 /يناير 2016م .و«صدام الحضارات وموقف المفكرين منه زكي
الميالد أنموذجً ا» ،رسالة ماجستير في الفلسفة اإلسالمية والحضارة المعاصرة ،من إعداد الطالب :اسضاعي عيسى، إشراف :الدكتورة رشيدة صاري ،جامعة وهران 2محمد بن أحمد ،كلية العلوم االجتماعية ،وهران -الجزائر ،نوقشت
بتاريخ األحد 29شعبان 1437هـ 5 /يونيو 2016م.
وعلى صعيد الندوات والمؤتمرات ،فهناك حتى هذه اللحظة ثالث ندوات وطنية ودولية ،عقدت حول هذه الفكرة،
وبحسب تعاقبها الزمني هي :ندوة «تعارف الحضارات في ظل األسرة اإلنسانية الواحدة» ،نظمها :معهد جمعية الفتح اإلسالمي بدمشق بالتعاون مع جامعة هاتفورد سيمزي األميركية ،عقدت بدمشق في يناير 2008م .ومؤتمر «تعارف الحضارات» ،نظمته :مكتبة اإلسكندرية بالتعاون مع مركز الحوار في األزهر الشريف ومركز الدراسات الحضارية وحوار
الثقافات بجامعة القاهرة ،عقد باإلسكندرية في المدة 15 - 14جمادى اآلخرة 1432هـ الموافق 19 - 18مايو 2011م .وندوة
«الحضارات بين الحوار والتصادم والتعارف» نظمتها :جامعة وهران ،وجاءت ضمن مشروع قيم السلم في الفلسفة
المعاصرة ،عقدت بوهران غرب الجزائر في 26يونيو 2014م .وعلى صعيد مناهج التعليم ،فقد أدرجت هذه الفكرة ضمن المقرر الدراسي لكتاب التاريخ للصف الحادي عشر في دولة اإلمارات العربية المتحدة ،المقرر الجديد والمطور الذي
وضع سنة 1430هـ 2009م ،وتدرس هذه الفكرة ضمن وحدة نظريات التفاعل الحضاري ،وأشار الكتاب إلى أربع نظريات هي بحسب ترتيبها وبيانها في الكتاب :أولاً :نظرية صراع الحضارات من وجهة نظر صمويل هنتينغتون .ثانيًا :نظرية حوار
الحضارات من وجهة نظر روجيه غاروديً . ثالثا :نظرية نهاية التاريخ من وجهة نظر فرانسيس فوكوياما .رابعً ا :نظرية تعارف الحضارات من وجهة نظر زكي الميالد.
هذه لمحة عن بعض التطورات المهمة ،وما زالت هذه الفكرة تشق طريقها نحو التجدد والتطور .وما تحتاج إليه
الحضارات في عالم اليوم هو التعارف الذي يرفع الجهل بصوره كافة ،الجهل المسبب للصدام بين الحضارات ،في المقابل أن التعارف هو الذي حافظ على تعاقب الحضارات في التاريخ اإلنساني.
121
ثقافات
كتاب أتراك عبروا عن التهميش والوحدة ووطأة الحداثة
«نوبل» أورهان باموك تضع األدب التركي على الخريطة األدبية للعالم صفوان الشلبي مترجم أردني عن التركية
في عام 2006م أصبح أورهان باموك أول كاتب
122
تركي ُيمنح جائزة نوبل لآلداب ،على روايته «اسمي أحمر» .هذا الحدث ّ أكد موقع تركيا على
الخريطة األدبية للعالم ،كما ّ أكد أهمية األدب التركي في سياق الدراسات األدبية المقارنة والعالمية المعاصرة ،ووضع األدب التركي
في دائرة الضوء الدولي ،وساعد على ظهور جمهور جديد سواء لباموك أو لغيره من الك ّتاب األتراك .بدأ اسم أورهان باموك يلمع بعد أن
نال جائزة أورهان كمال للرواية على روايته
جودت بك وأوالده ،عام 1983م ،وتبع هذه
الرواية التي وصلت إلى كتلة عريضة من القراء روايات أخرى؛ مثل :المنزل الصامت ،والقلعة البيضاء ،والكتاب األسود ،وغيرها .عكس
باموك في رواياته عالمً ا يمزج الوهم والواقع من خالل إسقاطات صنعها من التاريخ التركي والحكايات القديمة ،وأظهر اهتمامً ا بالقضايا
الساخنة المحلية منها والعالمية. العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
يشار كمال
عزيز نيسين
ناظم حكمت
خالدة أديب أضيفار
ً حديثا عىل مستوى املجالني هذا االهتمام وإن ظهر األكاديمي والعام ،فال بد من التنويه بأن لألدب الرتيك تاريخاً ً عميقا بصبغة عثمانية يمتد من نهايات القرن الثامن عشر
وقت قريب جدًّ ا .ولو ألقينا نظرة إحصائية عىل الك ّتاب يف مجال
ليشمل مجاالت األدب املختلفة .أسماء المعة ظهرت يف املراحل
(1990-1910م) لتبينّ لنا أن هناك ( )81كاتبة قصة من أصل ()750
ليصل إىل مرحلة تأسيس الدولة عام 1923م من القرن املايض املتقدمة ،نالت فرص ترجمة أعمالها إىل عدد من اللغات
العاملية ،كان أبرزها خالدة أديب أضيفار ،وناظم حكمت، وعزيز نسني ،ويشار كمال الذي ر ُّشح لنيل جائزة نوبل أكرث من مرة ،وقبل أورهان باموك بسنوات عدّ ة. ّ لكن ترجمة األدب الرتيك إىل اللغة العربية ظلت خجولة
ومحدودة حتى عهد قريب ،وما ظهر من ترجمات لبعض الك ّتاب عىل مدى العقود املاضية ،كان بجهود فردية ،وال
كتاب ال كاتبات ّ ظل الرتكيز يف الرتجمة عىل أدب الك ّتاب دون الكاتبات حتى
القصة وحدها دون غريها من املجاالت األخرى يف املدة ما بني كاتبًا وكاتبة ،نشرن ( )278مجموعة قصصية من أصل ()2760 كتاب قصة .لقد استطاعت املرأة الرتكية أن تثبت نفسها يف
الوسط األدبي بهويتها الخاصة ،وحصلت عىل مستوى تفوقت
فيه عىل الكاتب الرجل ،وذلك بفضل مساهماتها الكبرية يف
أغوار ما كان للرجل أن يكتشفها ،فنالت أربعني جائزة سرب ٍ أدبية يف مجال القصة من أصل تسع وتسعني جائزة مُ نحت؛ مثل :جائزة سعيد فائق ،وجائزة خلدون تانر ،وجائزة يونس
تتناسب مع عددهم وغزارة إنتاجهم عىل اختالف مراحل هذا
نادي للقصة القصرية ،منذ خمسينيات القرن املايض حتى عام
يعرف من األتراك سوى عدد محدود ،وأن القراء األتراك ال
املمنوحة من املجمع اللغوي الرتيك وجوائز يونس نادي للرواية
األدب وتنوّعه .بدورنا ال نستغرب إن كان القارئ العربي ال
يعرفون من العرب سوى القليل ،فالرتجمة من الرتكية إىل العربية أو العكس ،يغلب عليها النشاط الفردي والتطوعي ممن أجاد اللغة.
2016م .إضافة إىل ما نالته من جوائز يف املجاالت األدبية األخرى
والشعر والعلوم االجتماعية والسيناريو وجائزة أورهان كمال
للرواية وغريها من الجوائز األدبية األخرى. ً حديثا ،وبعد كسر الجليد الذي كان قائمً ا بني األدبني
ً تسارعا يف حركة ترجمة األدب الرتيك العربي والرتيك ،نرى إىل العربية ونلحظ تناميًا نحو أعمال الكاتبات الرتكيات، وبدأنا نشهد والدة جيل جديد من الرتجمات ألعمال كاتبات مثل آي ِفر ْ تونتش ،وأصيل أردوغان ،وإيبك تشالِشالر ،وأليف شافاك .وعىل الرغم من ذلك فما زال العرب يجهلون أسماء كثرية لك ّتاب وكاتبات ملعت عىل صفحات األدب الرتيك؛ أمثال:
سعيد فائق ،وخلدون تانر ،وعدالت آغا أوغلو ،وفوروزان،
في حقبة السبعينيات ابتعد الفنانون من االهتمامات الجمالية ،وأصبحوا جزءًا من الصراع األيديولوجي فاستسلموا لألفكار والشعارات
123
ثقافات
ونديم غورسيل ،وإردال أوز ،وعائشة كولني ،وأويا بايدار، وأيال كوتلو ،ونزيهة مرييتش ،وتومريس أويار ،وبكري يلدز، وبيلغا كاراسو ،وجاي سانجاك ،وأصيل أردوغان ،ومصطفى كوتلو ،وأسماء كثرية أخرى ال يتسع املجال لذكرها ،رغم أنها
أثرت األدب الرتيك الحديث واملعاصر بإنتاج أدبي رفيع املستوى.
بعد انتقال األدب الرتيك تحت تأثري الحضارة الغربية من
مرحلة أدب األمة إىل مرحلة األدب يف عهد الجمهورية ،اتجه نحو الواقعية االجتماعية كنسق أدبي جديد ،وملع اسم ك ّتاب مبدعني يف مجال الرواية؛ مثل :رشاد نوري ،وخالدة أديب أضيفار، وآخرين ،كما وُلدت حداثة حقيقية يف مجال الشعر عىل يد
ال نستغرب إن كان القارئ العربي ال يعرف من األتراك سوى عدد محدود، وأن القراء األتراك ال يعرفون من العرب سوى القليل ،فالترجمة من التركية إلى العربية أو العكس ،يغلب عليها النشاط الفردي والتطوعي ممن أجاد اللغة
فقير بايكورت
طارق بوورا
ناظم حكمت الذي ابتعد من مفهوم األبيات والعروض يف شعره. كما ظهرت القصة القصرية بمفهوم جديد ،تتناول هموم رجل
الشارع ،وانطلقت نحو الريف والقرية وشجون املجتمع بعيدًا من
املثقف االنعزايل بريادة سعيد فائق وصباح الدين عيل.
كانت «معاهد القرى» التي انتشرت بعد الجمهورية،
أداة لظهور جيل جديد من أوالد الريف املتعلمني الذين أضاف مبدعوهم كثريًا إىل األدب .وهكذا انعكست يف األدب
حياة الناس يف القرى واملدن ،بكل مشكالتها وتوقها ورغباتها
وتناقضاتها وصعوباتها االقتصادية واالجتماعية .لذلك نرى يف الخمسينيات والستينيات ك ّتابًا بدؤوا يركزون بدرجة كبرية عىل
124
وسط فوضوي واستقطاب أيديولوجي مع بدايات عقد السبعينيات وما شهده من انقسام
عدالت آغا أوغلو وتومريس أويار وفريدة تشيتشك أوغلو
واليسار وانقطاع الحوار .تأثرت الحياة األدبية بهذا الوسط
ونديم غورسيل وخلقي أكتونتش ،بالمقابل ،كتبت
سياسي حاد ،وانقطاع جسور التواصل بين اليمين
الفوضوي ،وقصرت المسافة بين السياسة والفن بجميع مجاالته ،حتى تماثلوا .في هذه المرحلة ابتعد الفنانون
من االهتمامات الجمالية ،وأصبحوا جزءً ا من الصراع، فاستسلموا لألفكار والشعارات في ظِ ل تلك المشكالت السياسية .كانت هيمنة العقيدة _ األيديولوجية سائدة ّ ّ توقعات الصراع الطبقي .لقد وتركز على على الفن،
ً قصصا بالمفهوم الواقعي إلى جانب سليم إلري يكتبن ً قصصا محافظة ومرتبطة بالماضي سيفينتش تشوكوم لاّ ّ القاصة إلى جانب مصطفى كوتلو .كما يجب أ نغفل عن
االنطباعية فروزان التي تمكنت من تجديد إمكانيات النص
السردي القصير ،وقامت بهدوء وبصيرة ،بفضح جور العالم الذي شيّده الرجال على حساب حقوق المرأة والرجل معً ا .والشاعر أنيس باتور الذي تجاوز حدود الشعر
اشترك كل الفنانين في هذه الرؤية ،كما يمكن رؤية نهج
نحو النثر والنص المستوحى من السيرة الذاتية ،ضمن
الحقبة .اإلضرابات ،وقمع الدولة ،وأحداث الطالب هي
فقد أدى فتور المجتمع وابتعاده من السياسة إلى نزوع
مماثل في كتابات ك ّتاب الرواية والقصة والمسرح في تلك الموضوعات الرئيسة في معظم المجاالت األدبية .كما
كانت لغة قصة الحقبة حادة وأليمة وغاضبة.
في ظل العيش في هذا المجال السياسي ،نرى
االستقطاب األيديولوجي الحاد في األدب ،وعندما كانت
العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
مقاربة مبتكرة وكيفيّة لفن السرد .أما عقد الثمانينيات،
المثقفين وتقربهم نحو المعرفة والفن .على حين القت المؤلفات حول التاريخ التركي إقبالاً ً شديدا من الجيل الجديد ،فلمع اسم مصطفى َسبَتجي أوغلو بسلسلة
رواياته حول تاريخ الدولة العثمانية وانتصاراتها.
كتاب أتراك عبروا عن التهميش والوحدة ووطأة الحداثة
حقائق الحياة الريفية والقروية ،وفتحوا مجالاً رحبًا يف التأليف األدبي الريفي الذي يرتجم حياة القرويني وأهل الريف الرتيك
بما يحيطها بجميع صورها ،فلمع اسم فقري بايكورت ،ويشار
كمال ،وكمال طاهر ،ويوسف أطيلغان ،ونزيهة مريتش،
ًّ خاصا به تسوده اإلشارات ،وركز وطوّر بيلغا كاراسو أسلوبًا أورهان كمال عىل هموم املجتمع باختالف فئاته بأسلوبه الخاص .وتعاطى طارق بوورا وخلدون تانر يف مؤلفاتهما مع
النهج الواقعي.
القصة واملهمشون واملهووسون
بعد عام 1990م عادت القصة إىل املسار الذي وضعه سعيد
فائق وأورهان كمال بالحديث عن األفراد املهمشني الذين ال نشعر بوجودهم يف حياتنا ،وأُبعدوا جانبًا كاملشردين يف
نديم غورسيل
أليف شافاك
وإن امتازت بغزارة إنتاجها .إىل جانب ِشب ِنم إشيغوزال التي امتازت بأسلوبها الخاص بعرض السلوك السيئ يف األدب
وطرحه يف أكرث الحاالت غرابة ،تع ّري الواقع يف تركيا وتش ّرحه، وتكتب عن التناقضات بني العلمانيني واملتديّنني ،وعن الهوّة
الشوارع واملهووسني ومدمني الكحول ،وعن فقدان الغنى
التي تفصل بني املناطق الريفية واملدن الكربى بلغة مستفزة. كما ظهر عدد كبري من الك ّتاب الشباب استطاع أن ينافس
واملواجهة واالنطواء من املوضوعات األساسية ،إضافة إىل
2016م بجائزة أورهان كمال للرواية ،وجائزيت سعيد فائق
الروحي والصراع بني األجيال وتأثري الحداثة املدمر يف الفرد
واألسرة والطفولة .وبات الحديث عن الشعور بالوحدة
تغيرّ أفكار الشباب وأن الحياة بالنسبة لهم امتحان وتوجههم إلعطاء منحى لحياتهم. ّ مع األخذ يف الحسبان أن معظم الكتاب األوائل يف
العقود املاضية ما زالوا يكتبون يف املجالت ،ويُصدرون الكتب بنشاطُ ، وتعاد طباعة كتبهم ،بل تعرض مسرحياتهم عىل خشبات املسرح؛ مثل :عدالت آغا أوغلو كاتبة القصة والرواية واملسرح ،ونديم غورسيل الذي امتاز بغزارة نتاجه األدبي منذ
بداية نشاطه األدبي عام 1960م ليصدر هذا العام 2016م أحدث
«ارو يل عن إيطاليا» ،ونال عددًا من الجوائز مؤلفاته بعنوان: ِ
األدبية الرتكية والعاملية .وعىل الرغم من أن معظم مؤلفاته قد ترجمت إىل أكرث من عشرين لغة عاملية ،فإن ما ترجم منها إىل
العربية ال يتجاوز عدد أصابع اليد.
عىل الجوائز األدبية الرتكية السنوية ،ليفوزوا يف األعوام -2011
وخلدون تانر للقصة ،وجائزيت يونس نادي للرواية والقصة؛
مثل :إبراهيم يلدرم عن روايته «الفخامة التاسعة» ،وحسني
آركان عن روايته «اللص والربغوازي» ،وحمدي كوتش عن روايته «الناسك» ،ويييت َبنرَ عن روايته «عودة الخيالء» ،وبورا عبدو عن مجموعته القصصية «ق َت َلنا املدعو بالعضاض»، وماهر أونسال عن مجموعته القصصية «كم كنا جميالت»،
وهاندة غوندوز عن مجموعتها القصصية عىل «امتداد النهر»، وسينة أرغون عن مجموعتها القصصية «هي الحياة».
وحظي التأليف املسرحي باالهتمام مع بدايات مرحلة
األدب الجمهوري حتى يومنا هذا ،وسار ضمن خط متفاعل مع املجتمع وهمومه ،وامتاز بنهجه االنتقادي الواقعي ،وظهرت
نخبة من املؤلفني املبدعني بأقالمهم وأعمالهم ،وأفرزت
وظهر إىل جانب الجيل القديم ،جيل جديد من الك ّتاب،
ً نصوصا مسرحية موفقة تضارع املستويات الغربية قريحتهم
العربية ،وملع اسمها عىل الساحة األدبية العربية ،وشهدت
داخلها النقد السيايس الالذع والرفيع يف آن واحد ،وكان من أملع
مثل أليف شافاك التي حظي نتاجها األدبي برتجمة واسعة إىل
اهتمامً ا شديدً ا أكرث مما شهدته بني األوساط األدبية يف بلدها،
عبر األدب التركي عن فقدان الغنى الروحي وتأثير الحداثة المدمر في الفرد واألسرة والطفولة ،وأصبح الشعور بالوحدة والمواجهة واالنطواء من الموضوعات األساسية لألدباء
باملعنى املعاصر من حيث الطابع واملضمون ،كما حملت يف هذه األسماء خلدون تانر وعدالت آغا أوغلو التي حملت ريادة ً ومضمونا إضافة إىل ريادتها يف التأليف املسرحي الرتيك غزارة
مجايل الرواية والقصة .كما ظهرت نصوص أخرى بموضوعات مستوحاة من التاريخ العثماين مع الرتكيز عىل مالحم البطولة
الشعبية واألساطري بلغة شعرية رائعة جدًّا .لكن التأليف املسرحي لم يكن أسعد ًّ حظا من مجاالت األدب األخرى يف لاً الثمانينيات ،فشهد ركودًا مماث للمجاالت األدبية األخرى.
قصارى الكالم ،تحتاج مواكبة هذا األدب القريب البعيد
إىل جهود عظيمة سواء عىل املستوى األكاديمي أو العام.
125
ثقافات
ظالل مؤسس الحركة السوريالية كما تراءت لميشال فوكو:
وجود أندريه بريتون الباهر خلق حوله شاسعا ما زلنا ضائعين فيه فراغً ا ً
ترجمة وإعداد :أحمد فرحات شاعر ومترجم لبناني
126
في عام 1966م ،وهو العام الذي انتقل فيه الفيلسوف الفرنسي الكبير ميشال فوكو إلى تونس ليدرّس الفلسفة في جامعتها ،كانت وفاة أندريه بريتون، الشاعر الفرنسي الكبير ،ومؤسّ س الحركة السوريالية ورمزها اإلبداعي ّ المتقدم ،إن على مستوى إصدار
البيانات الشعرية الخاصة بها ،أو على مستوى التنظير المفتوح ألطروحاتها النقدية و«الفلسفية» المفارقة ،التي استمرت إلى حين غاب الشاعر عن وجه هذه الدنيا. وقبل أن يستقل الطائرة إلى تونس بأيام ،كان مندوب مجلة Art Etloisirsالفرنسية ،كلود ّ بونفوا قد أجرى هذا اللقاء مع الفيلسوف ميشال فوكو (العدد ،54تاريخ 5أكتوبر 1966م) بمناسبة رحيل الشاعر السوريالي أندريه بريتون ،الذي شهد جنازته في حشد ّ ٌ قل باريس في 28سبتمبر 1966م نظيره من الشعراء والنقاد والفنانين والمفكرين الفرنسيين ،من مختلف التجمّ عات السياسية واأليديولوجية،
ميشال فوكو
العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
إضافة إلى التيارات النقدية والمذاهب الشعرية واألدبية والفنية.
لم تذكر مصادر املعلومات األدبية والثقافية الفرنسية أي صلة مباشرة مليشال فوكو بالسورياليني ،أو بمن ّ تبقى من رموز
حركتهم وأفرادها ،داخل فرنسا وأوربا والواليات املتحدة ،اللهم
إال معلومات عامة ،شتيتة ومبعرثة ،ذكر بعضها الشاعر والكاتب ً الكروايت رادوفان إيفيسك ،الذي ّ صديقا وفيًّا لربيتون حتى آخر ظل
يوم من حياته (أي حياة بريتون) ،ويقال :إنه هو من رافق جثمان مؤسّ س السوريالية إىل مثواه البارييس األخري ،ووضع ،حتى بيديه، مع آخرين ،النعش يف الرتاب قائلاً « :نم هان ًئا يف قصيدتك الجديدة َ أكملت ما عليك يا صديقي أندريه ..وغادرها وقتما تشاء ،فقد لنفسك أولاً ،ولإلنسان يف كل مكان عىل هذه األرض الهالكة ،ثانيًا». ويقول إيفيسك« :من املؤكد أن ميشال فوكو كان يعرف،
يف الصميم ،ماهيّة السوريالية ودواعي ظهورها وثورتها األدبية والنقدية واالجتماعية والسياسية؛ فهي قامت أصلاً كر ّد فعل،
من الجوارح واألعماق ،عىل الحروب التي اجتاحت أوربا ومسخت إنسانها ،وشيّأته حتى آخر حدود التشيّؤ ،وال يمكن الر ّد عليها، إلاّ بما قامت به السوريالية نفسها ،أي إطالق مواقف احتجاجية
مضادّة حاسمة ..ودائمً ا من مواقع ح ّرة ،طبيعية ،عفوية ،آلية
أندريه بريتون
فيما يأيت نص الحوار:
مـاذا يمثل أندريه بريتون والسـوريالية يف عام 1966م
لفيلسوف يتساءل حول اللغة واملعرفة؟
ومنفلتة من أي رقابة كابحة مسبّقة». ً ويف رأي إيفيسك أن شي ًئا مشرتكا كان يجمع ميشال فوكو
املؤسّ سني .فهناك البنـَّاؤون الذين يضعون الحجر األول .وهناك
ونزالئها من كل الفئات والطبقات ،واالهتمام بهذا النوع من
إىل الذين يحفرون :أقرب من «نيتشه» م ّنا إىل «هوسريل» ،من «بول
بأندريه بريتون ،وهو االهتمام بالطب النفساين ،وزيارة املصحّ ات
الناس (املجانني باللغة السائدة يف كل مكان) ،الذين ربما كانوا تشكل ّ ّ ضالة الجميع ،بل يمتلكونها ً أيضا، يعرفون «الحقيقة» التي
نحو أكرث ويحتجّ ون عربها عىل كل ظلم الحق باإلنسان ،وعىل ٍ بكثري من مدّعي التنوير والعدالة أنفسهم؛ فالتنويريون يمارسون ً أحيانا ،ويمشون ،حتى يف عقالنيتهم بشكل دوغمايئ وظالمي ً وخصوصا حينما تفرتض ركاب األنظمة الدكتاتورية ،بإرادتهم غالبًا،
مصالحهم ذلك ،سواء أفصحوا عن أمر هذه املصالح أم لم يفصحوا. وما يجمع بينهما بعد ،قولهما بعاملية كل من الفيلسوف
والشاعر؛ إذ إن األخريين يتحدثان بقضايا اإلنسان بشكل عام: كالحرية والحقيقة والسلطة والعلم واملستقبل ،والتفاعالت الحاصلة بني الفرد والجماعات ،التي ينتمي إليها وتلك التي ال ينتمي
إليها .كما يستشعر كل من الفيلسوف والشاعر أن عليهما أن يكونا
قادرين عىل أن يتخذا لنفسيهما ،بني تارة وأخرى ،جملة مواقف ذات معنى لآلخرين ..كل اآلخرين.
-االنطباع الذي أملكه هـو أن ثمة عائلتني اثنتني كبريتني من
الذين يحفرون ويفرغون الحفرة .ولعلنا نحن يف حـيِّزنا املتغـيرِّ أقرب كيل» م ّنا إىل «بابلو بيكاسو» .وبريتون ينتمي إىل هذه العائلة .ويقي ًنا
أن املؤسسة السـوريالية قـد قنـّعَ ت وموّهت هذه املبادرات الكربى الخرساء التي كانت تفتح الفضاء أمامهم .ومن يدري ،فلربمـا كانت
اللعبة هي هذه وحسب ،أي خداع السورياليني :االفتتاح بطقوس بعد ،وتنمّ ي الصحراء بوضع حدود تبدو كأنها تقيص وتسـتثني وتسـ َت ِ قاهرة .ونحن عىل أي حـال ،ال نزال حاليًّا يف الفجوة التي َّ خلـفها بريتون خلفه.
أفتكون هذه الفجوة قـديمة؟ رجل ميت؛ ليس ألنـه كصورة طويلاً مـا رأيت صورة بريتونٍ ّ توقف عن أن يكون حيًّا بالنسبة إلينا ،أو ألنـه لم يعـد يعنينا ،بل ألن ً وانطالقا منه (حول هذا الوجود وجوده الرائع الباهر خلق حوله، ً وانطالقا منه) فراغـًا شـاسعً ا ،ما زلنـا ضائعني فيه .لديّ انطباع بأننـا عشنا ومشينا وركضنا ورقصنا وأرسلنا إشارات وأومأنا بإيماءات،
وقمنا بمبادرات ،ومـا أتانـا ر ّد وال جواب ،من الحـيِّز املقدس الذي
يحيط بمثوى بريتون ،املمدّ د جامدً ا بال حراك ،مكسيًّا بالتـرب؛ وهـذا
ليس ألقول :إنـه بعيـدٌ عنا ،وإنمـا بأننـا ك ّنا قريبني منه تحت جربوت
صورة بريتون كشاعر الالمعقول يجب أن تواكبها صورة أخرى تشي بأنه شاعر المعرفة
صولجانه األسـود .موت أندريه بريتون اليوم ،هـو بمنزلة مضاعفة والدتنا .بريـتون كان ،وال يزال ً شأنا آخر .إنـه ميت جبّار وقريب ،كما
كان «آغـاممنون» لكل إغريقي قديم .هـذه هي ظالل أندريه بريتون وخياله والكيفية التي يرتاءى بها يل.
127
ثقافات هـذا الحضور شبه املقدس ،هذه الفجوة التي ّ خلفتها
السـوريالية ،ال تنتمي إىل سحر املتخيّل ،لكنها تفرتض تقدمة
أساسية ومساهمة جوهرية يف الفكر املعاصر ..بمـاذا يدين هذا الفكر ألندريه بريتون؟
أليس هناك لربيتون سلطان كتابة؟
ـ أعتقـد أن الكتابة هي يف حدّ ذاتها لربيتون ،سلطان تغيري
مـا يبدو يل مهـمًّا ،هـو أن بريتون ّتمكن من القيام بتبليغ
العالم .كانت اللغة وكانت الكتابة ،حتى نهاية القرن التاسع عشر، ّ ويتفكك ويرت ّكب .وعىل أي أداتني ش ّـفافتني ينعكس فيهما العالم
يسع األدب الفرنيس أن يكون نسيجً ا منسوجً ا من امللحوظات والتحليالت واألفكار( ،من بداياته) وصولاً إىل بريتون ،إلاّ أنـه لم
من مواجهة العالم ،وموازنته ومراجحته ،والتعويض عنه ،حتى
هذين الوجهني اللذين طاملـا كانـا غريبني :الكتابة واملعرفة؛ كان
يكن -إلاّ لدى ديديرو -أدب معرفة .وهـذا يف اعتقادي هـو الفارق الكبري بني الثقافتني األملانية والفرنسية .كان بريتون يف ّ تلقيه املعرفة يف مختلف امتداداتها (علم النفس التحلييل ،علم السالالت ،تاريخ
الفن )...بمنزلة غوته فرنيس .هناك صورة ال بـدّ أن يكون مصريها
املحو والزوال ،هي التي تجعل من بريتون شاعر الالمعقول .وهذه صورة ال بـدّ أن تواكبها وتتطابق معها ،ال أن تعارضها أو تضادّها،
صورة بريتون شاعر املعرفة. ٌ لكن هذا التسريح لألدب من الخدمة ،بما هـو جهل مستملح الذائقة (عىل طريقة أندريه جـيد) يجـد لنفسه تأكيدً ا فريـدً ا لدى
بريتون .األدب لدى األملـان (غوته ،توماس مان ،هريمان بروخ) يكون
معرفة عندما يكون مشروع استبطان ومشروع ذاكرة ،فتكون
128
سلطان تغيري العالم
ّ يشكالن جـزءً ا من العالم .لكن حال ،فإن الكتـابة والخطاب ،كانا ّ ربمـا كان ثمـة كتابة ،هي من الجذرية ومن التسيّد ،بحيث تتمكن
تـدمريه باملطلق ،والتوهج والتأللؤ خارجه .والواقع أن هذه التجربة تبـدأ بالتجليّ يف (كتاب نيتشه) هـو ذا االنسان eccehomoولدى
كنقض للعالم وكمضا ّد الشاعر ستيفان ماالرميه .تجربة الكتاب ٍ له ،نجدها لدى بريتون ،وهي تجـربة أسهمت يف تحريك وضعية الكتابة ومنزلتها ،وذلك عىل نحوين :أولاً ،ألن بريتون كان يُعيد تخليق الكتابة ،وهـو ينزع عنها طابعها األخالقي بالكامل .فمناقبية
الكتابة لم تعـد تأيت مما لديك لتقوله ،أو من األفكار التي تعبرّ
عنها ،إنمـا من فعل الكتابة نفسه .فحرية الكاتب كلها ،هي يف هذا الفعل الخام العاري ،وهـي تجد نفسها ملتزمة يف الحني ذاته الذي
يولد فيه عالم الكلمات املضاد. ّ إضافة إىل ذلك ،فإنـه يف الوقت عينه الذي تتخلق فيه الكتابة،
املسـألة مسـألة تجميع هادئ يستغرق املعرفة ويستوعبها ،ومسـألة ّ تملك العالم وجعله عىل قياس اإلنسان .والكتابة التي أصبحت
نفسها خارج كل ما يمكن أن يقال عربها .من هنـا ،وال ريب ،معاودة
ذلك ،عنينا أنها لـه وسيلة لدفع اإلنسان خارج حدوده ،والوصول
طردها وأقصاها؛ فالخيال ليس ما يولد يف القلب اإلنساين املظلم،
لربيتون ،معرفة (واملعرفة التي أصبحت كتابة) هي عىل العكس من
به إىل مـا ال يمكن عبوره ،ووضعه عىل مقربـ ٍة من أبعـد األشياء عنه. من هنـا اهتمامه بالالوعي وبالجنون وبالحلم. شــأن الرومنـطيقيني األملــان؟
-بىل ،لكن حلم الرومنـطيقيني األملــان ،هـو الليل الذي يُضيئه نور
البارحة ،عىل حني أن الحلم لربيتون ،هو نواة الليل التي ال تنكسر
واملوضوعة يف رابعة النهـار .لديّ انطباع بأن هـذا اإللغـاء للقسمة بني املعرفة والكتابة ،كان أمـ ًرا مهـمًّ ا جدًّ ا للتعبري املعاصر .فنحن تحـديدً ا
يف زمن التداخل والتشابك العميق بني الكتابة واملعرفة ،كما تشهد عىل ذلك كتابات لرييس وكلوسـوفسيك وبـوتـور وفاي ..وغريهم.
فإنهـا تبدأ يف الوجود وجودًا صلبًا يف مثل صالبة الصخر .وهي تفرض بريتون اكتشاف ساللة بأكملها من الخيال كان األدب الفرنيس قد
بقدر ما ينبثق يف أثناء الخطاب املنرية .وبريتون السـابح الذي يسـبح
بني كلمتني ،كان يطوف يف فضاء متخيّل لم يكتشفه أحـدٌ من قبله.
لكن كيف تفسـرون انـشـغال بريتون يف بعض املراحل
بااللتزام السـيايس؟
ـ كان يدهشني دومً ا أن أعمال بريتون لم تكن تتناول التاريخ،
إنمـا الثورة ..لم تتناول السياسة ،إنمـا االستطاعة املطلقة عىل تغيري الحياة .مـرد التباين والتغاير العميق بني املاركسيني والوجوديني من
النمط السارتري من جهة ،وبني بريتون من جهة ثانية ،يكمن ،وال ّ تشكل جزءً ا من العالم، ريب ،يف أن الكتابة ملاركس أو إىل سـارتر،
عىل حني أن كِتابًا أو جملة أو كلمة ،هي بذواتها تستطيع أن ّ تشكل
لربيتون ،مادة العالم املقابلة ،وأن تعوّض عىل الكون كله.
تلقيه المعرفة، كان بريتون في ّ من علم النفس التحليلي إلى علم السالالت إلى تاريخ الفن ..وغير ذلك، بمنزلة «غوته فرنسي»
العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
اكتشاف حيز التجربة لكن أ َو َلم يكن بريتون ُيويل الحياة القدر ذاته من األهمية
التي ُيوليها للكتابة؟ أليس ثمة يف نادجـا (1928م) ويف «الحب الجنوين» (1937م) أو «األواين املستطرقة» (1923م) ضرب من التناضح أو التنافذ الدائم ،والتأثري املتبادل املتواصل بني الكتابة
ظالل مؤسس الحركة السوريالية كما تراءت لميشال فوكو
وبني الحياة ،وبني الحياة والكتابة؟
عىل حني أن اكتشافات بريتون األخرى كان قـد جرى اإلعالنً إعالنا عىل األقل لدى غوته ونيتشه ولدى ماالرميه ،أو لدى عنهـا، آخـرين ،إلاّ أنّ مـا ندين لـربيتون بالذات ،هـو اكتشـافه حـ ِّي ًزا أو
فضاء ،هو بحـيّز الفلسفة وال هو بفضاء األدب ،أو بمجال الفن،
لكنـه حـيِّز التجـربة .فنحن اليوم يف عصر تتـنامى فيه التجربة ـ والفكـر
يتصرفا على الشاعر والفيلسوف أال ّ كأنهما يريدان إعادة بناء العالم من نقطة الصفر واحدة .ويف كل األحوال ،عىل الشاعر السوريايل ألاّ يتص ّرف كأنه
ٌ بعض منها ـ وتتزايـد برثاء مذهل .إن يف الوحدة أو يف التبعرث الذي
يريد أن يعيد بناء العالم من نقطة الصفر .وكذلك عىل الفيلسوف املثايل ،وغري املثايل ،أن ينطلق من هذه املعادلة ً أيضا؛ فالعالم أعقد
ولرييس ،وتجول فيها؛ كما تتجوّل وتطوف يف مجاالت علم
وإذا كان هناك من تأثري آخر لفيورباخ يف أندريه بريتون ،فهو
الذي يمحو حدود اإلياالت والواليات التي كانت قائمة قبل ذلك.
كل الشبكة التي تطوف يف أعمال بريتون وباتاي وبالنشـو
السالالت وتاريخ الفن وتاريخ األديان واأللسنية وعلم النفس التحلييل ،وتمحـو بكل تأكيد ،العناوين أو املوضوعات التي تص ّنفت
من أن يدّ عي اختزاله واكتناهه كل من الشاعر أو الفيلسوف.
من جهة عدّ ه اإلنسان ،بشكل عام ،فردًا مج ّردًا وقادرًا عىل وعي
الذات الالواعية فيه ،والعمل بموجب هذا الالوعي .والفلسفة ،كما
وجوارات وعالقات غري ثقافتنا فيها ،وتظهر أمام ناظرينا قرابات ِ متوقعة .ومن املحتمل تمامـًا أن يكون مر ّد هذه البهجة الجديدة،
واألنرثبولوجيا وحراك الوعي والالوعي ،إضافة إىل أسئلة التاريخ
وأعماله .فقـد كان الراعي واملبعرث إلرغاء وإزباد التجربة الحديثة
دعني أخلص للقول بأن ثمة نوبة هستريية كانت تؤجّ جها نار
وهذه الوحدة الطارفة يف ثقافتنا ،هو شخص أندريه بريتون
كلها.
اكتشاف نطاق التجربة هذا ،سمح ألندريه بريتون بأن يكون
خارج األدب بالكامل ،وأن يتمكن من أن يُنكر ويعارض ،ليس
األعمـال األدبية املوجودة كافة وحسب ،بل وجود األدب نفسه، لكنها كانت تتيح لـه كذلك ،أن يفتح نطاقات ومجاالت جديدة، عىل لغات جديدة ،بعـدما كانت قد ّ ظلت حتى ذاك الوقت، خرسـاء هامشية.
قد ال يلزمنا كثري من التفكري لنقول :إن الشاعر أندريه
بريتون تأثر بالفيلسوف األملاين لودفيغ فيورباخ ،وبخاصة من اً اً جهة ّ أصيل له عالقة باإلنسان مجال فلسفيًّا عد األنرثوبولوجيا
الشعر ،كأقنومني شبه متداخلني ،ليسا بعيدين عن السيكولوجيا
كسيولة قائمة يف املايض ويف املستقبل املفتوح عىل قاعدة الحاضر.
اليأس عند فيورباخ ،التقطها بريتون عىل طريقته ،وانربى يخربنا بما يجب أن يكون عليه العالم.
هل قامت السوريالية عند بريتون وغريه بخيانة العقد
االجتماعي اإلنساين ،عىل الرغم بالطبع من تظاهرها برفض كل
يشء ..وتجاوز كل يشء؟
-السوريالية ثورة كربى عىل طريقتها ،لكن دائمً ا من أجل
اإلنسان ،عىل الرغم من كل تلك الشنشنات السطحية ،والخلط يف
املفاهيم ،التي افتعلها ويفتعلها صغار السورياليني ،املكبّلني بثقافة االستبداد وقصور املعرفة النقدية واإلبداعية.
كفطرة أوىل ،والشاعر لربيتون ً أيضا هو الفطرة األوىل ،وهو املك ّون األعقد يف كل مرحلة ً شيئا مثل هذا زمنية ..أيعني لك الكالم؟
-ربط الشعر بالفلسفة ،هو
عنصر موجود بشكل عام وغامض
لدى كبار شعراء السوريالية، وبينهم بطبيعة الحال أندريه
بريتون .لكن هذا الكالم ال يعني
أن السوريايل بات شاع ًرا مصبوبًا بقالب فلسفي ،حتى إن امتزج لديه الطرح الفلسفي بالطرح
الشعري يف جغرافية مختربية
أعضاء الجماعة السوريالية وبينهم بريتون
129
ثقافات
130
االشتغال على خيارات متناقضة لفرض ديمومة فكرية
«بيير بورديو»
في ضوء مفاهيم بورديو نفسها
ديسمبر2016م نوفمبر -ديسمبر 1438هـ /نوفمبر - األول1438هـ / ربيعاألول صفر -ربيع 482صفر - 482- -481 العددان481 العددان 2016م
سعيد بوكرامي كاتب مغربي
ال ينتمي كتاب «بيير بورديو :بنيوية بطولية» للسوسيولوجي الفرنسي «جان لويس فابياني» إلى كتب السيرة الفكرية المتعارف عليها ،التي تنحاز غالبًا إلى التوثيق والتأريخ وهذا ما يعلي من قيمة هذا الكتاب فكريًّا ويضعه في صدارة المراجع التي كتبت عن «بيير بورديو» المفكر واإلنسان
(2002 – 1930م).
َ مرافقة لبورديو دامت سنوات طويلة ،ووفق إنصات عميق لمعنى عالقة نتيجة جاء الكتاب ٍ حميمة جمعت الباحث بالمفكر وبفكر أشهر عالم اجتماع معاصر .كما يشكل خالصة تعلق أكاديمي بعالم وإنسان لم يكن يبخل على مريديه بالفكرة الراجحة ،والموضوع الناجح
والمعرفة الثقافية واالجتماعية ،التي تتجاوز المجتمع الفرنسي إلى مجتمعات أخرى .هذا من جهة ،ومن جهة أخرى قدم لنا «فابياني» نتائج مراقبته لكيفية كتابة «بورديو» لعلم ُّ تشكل فكري وثقافي وسياسي غيرت مفهومنا عن العلوم اجتماع متجدد ومبتكر ،ولصيرورة
اإلنسانية واالجتماعية.
ً حديثا عن دار سوي الفرنسية يشكل الكتاب الصادر
إضافة نوعية وفارقة إىل مجموعة غزيرة من األبحاث البارزة
التي أنجزت حول «بيري بورديو»؛ ألنه يقرتح إعادة قراءة
املفاهيم املركزية لعلم االجتماع «البورديوي» عىل ضوء
املمارسات املمكنة عمليًّا ونظريًّا ،ثم ألن املؤلف يستخدم الشبكات الفكرية وطرائق التحليل التي حددها «بورديو»
تدريجيًّا ،أضف إىل ذلك الوضع الشخيص واألكاديمي لفابياين
الذي كان يتوافر عىل الشروط الذاتية واملوضوعية للنجاح يف مقاربته الفكرية.
مثقف بطل من نوع جديد
يواجهنا يف الصفحات األوىل من الكتاب سؤال محوري
األساسية لنظرية علم االجتماع .وقسم الباحث كتابه
هذا هو السؤال العام الذي يسعى «جان لويس فابياين»
املفاهيمي ،والهابيتوس« :املظاهر االجتماعية» ورأس املال
ومنهجي« :هل يمكننا اليوم الحديث بهدوء عن بورديو؟». لإلجابة عنه ،باستخدام منهجية تستهدف تحليل املفاهيم
إىل ثالثة أقسام :يهدف القسم األول إىل تحليل الحقل الثقايف والرمزي .وهذه مفاهيم مركزية يف البناء النظري لبيري
131
ثقافات
صممت أصلاً بورديو ،التي -كما يذكرنا «جان لويس فابياين»ُ -
للعمل بشكل شمويل .أما القسم الثاين فيتناول التصميم
املنهجي والسردي املوظف من عالم االجتماع .وأما يف القسم الثالث فيهتم عىل نطاق واسع بصورة «بيري بورديو» من خالل
مفاهيمه السياسية ،ثم يتحدث عن معاناة «بورديو» وشغفه بموضوعات بحثه .وأخريًا يرسم املالمح النهائية لـ«بطل مثقف
من نوع جديد». ُ حاول الباحث( -استنادًا إىل قراءة قريبة جدًّ ا من أعمال
«بورديو» جنبًا إىل جنب مع أدبيات «بورديو» السوسيولوجية
الوفرية ،مع العلم أن رصيد بيري بورديو ثالثون كتابًا ومئات َ تحليل «تاريخانية» التطورات املتالحقة الدراسات واملقاالت) التي عرفتها املفاهيم األساسية يف علم االجتماع .وهذا ّ مكن «جان لويس فابياين» من تسليط الضوء عىل التطور التدريجي لها عند «بورديو» منذ عام 1960م ،إضافة إىل بعض التناقضات املتنامية امليّالة إىل التعميم ،كما ّ مكن هذا َ املؤلف بدرجة أكرث أو أقل التحليل املفصل للمفاهيم الثالثة
وأخ ً ريا :يتناول املؤلف بالتحليل مفهوم «رأس املال
وهكذا ،فيما يتعلق بالحقل االجتماعي املوصوف
أبدعه ونظر له «بورديو» .ويشري الكاتب إىل أنه« :ال يمكن
«بورديو ال يرتدد يف اللجوء إىل مفهوم الغموض عندما يفتقر
بنصيب من الغموض ،حتى عندما نعيد القراءة بعناية
من التوصل إىل تفكيك أهم املفاهيم.
لدى «بورديو» بـ«النظرية املستحيلة» ،يوضح «فابياين» أن
132
إىل املصادر التحليلية» .وخالل تحليل الهابيتوس يشري «بيري
جان لوي فابياني
الرمزي» ،الصنف األبرز من جميع أشكال رأس املال الذي أن نمنع أنفسنا من التفكري يف املفهوم الرمزي ،الذي يحتفظ
دقيقة للمفاهيم ،التي صاغها «بورديو» وجمعها مبك ًرا خالل مسريته العلمية» .ويضرب مثالاً بمفهوم رأس املال
بورديو» إىل أنه« :مثل كل نظريات التنشئة االجتماعية يمكث ً صندوقا أسودَ» ،بمعنى من املعاين فعلم عىل نطاق واسع
ّ املشكلة من مظاهره الرمزي الذي يُحَ دد من سمات الفرد
وصعوبات يستحيل ترميمها أو حلها .وأبسط هذه األمور
مجتمع ،لكنها تتوحد يف سمات مشرتكة مثل الشرف
االجتماع لديه ال يملك أجوبة حاسمة إنما تعرتضه ثغرات حضور ذات املفكر السوسيولوجي وشروط اشتغاله العلمي،
ونجد هذه التوضيحات يف كتابه «اإلنسان األكاديمي» حينما تحدّ ث عن تأثري التاريخ الشخيص لعالم االجتماع يف عمله
األكاديمي؛ إذ تتدخل الذات املفكرة يف ممارسته العلمية ُ وتبلبل رؤيته للمجتمع ،ويف غالب األحيان دون وعي منه.
االجتماعية التي تختلف من فرد إىل فرد ومن مجتمع إىل والهيبة والسلوك الحسن والسمعة وغريها.
يف القسم الثاين :يستمر هذا البحث «التاريخاين»،
مع الرتكيز هذه املرة ليس عىل املفاهيم ولكن عىل املسالك
املنهجية والسردية التي وظفها «بيري بورديو» .وفيما يتعلق باألوىل فإن «جان لويس فابياين» يهتم بتفاصيل عالقة «بورديو» باإلحصاءات واألدب والتاريخ ،موضحً ا أن التحليل
الهنديس كان ثمرة تعاون مع اإلحصائيني ،بدأه «بورديو»
يف الفرتة الجزائرية ،ويبدو أنه حمله معه خالل دراساته
بورديو -كما يقول فابياني« :-هو أول ثوري رمزي قادم من الشعب»، لكن فابياني ال يخفي خيبة أمله؛ إذ يعتقد أن بورديو استسلم في نهاية المطاف لغطرسة المؤسسات المهيمنة التي حاربها طوال حياته
العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
تماسك بنيوي ،مراعيًا بصرامة االجتماعية للحفاظ عىل ٍ التغيري االجتماعي.
تنوع أنظمة الكتابة
وفيما يتعلق باملسالك السردية فإن الحجة الرئيسة
للمؤلف التي واجهت املهتمني بدراسة أعمال «بورديو» ،هي
تنوع «أنظمة الكتابة» لديه؛ إذ الحظ املؤلف أن أعماله يختلط
فيها العلمي بالفلسفي ،والنفيس باألدبي؛ فهناك تحول
االشتغال على خيارات متناقضة لفرض ديمومة فكرية «بيير بورديو» في ضوء مفاهيم بورديو نفسها
مذهل يف األساليب والتخصصات لكنها تكون دائمً ا تحت
«فابياين» يبدو كأنه وصل بشأن هذه املفاهيم إىل طريق
ويف القسم األخري :يعرض «فابياين» بطريقة شاملة َ ً واقفا ضد التصورات املقولبة التي صورة عالم االجتماع
األصعب يف البنيوية التوليدية ،وبورديو لم يساعد القراء ولم
سماء علم االجتماع بشروطه العلمية.
ً صورة عن «بورديو» الخجول سياسيًّا وضعت مرارًا وتكرارًا وامللتزم ثوريًّا يف الجزء األخري من حياته .بينما هو يف الواقع يدافع بشكل جديل عن صورة املثقف واملفكر املنتقد
واملندد ،واملجدد ألنماط التفكري الثقايف والسيايس والسلوك
االجتماعي ،جنبًا إىل جنب مع صديقه املفكر الفرنيس «بيار فيدال -نايك» .ومن َثمَّ يرى الباحث أهمية ما مارسه
«بورديو» من تأثري يف الحياة االجتماعية ،الذي أشار إليه «بورديو» نفسه خالل ممارسته وإنتاجه.
مسدود« :العالقة بالتحليل النفيس هي إحدى النقاط يمهّد الطريق للتفسري».
يف الفصل األخري :سنصل إىل املقاصد السامية للكتاب ً انطالقا من سرية حياته التي تتجىل يف إضاءة منهج «بورديو» ً وأيضا يف إبراز أهم املشاكل التي اعرتضت الذاتية والفكرية،
ممارسته العلمية عىل نطاق أوسع .ومن هنا تبدو أطروحة الكتاب واضحة :إن عالم االجتماع اتبع ً نمطا ممي ًزا من الحياة لاً اتسم يف مجمله بـ«البطولة» التي كانت وقودًا فعا يف مساره االجتماعي ،ودفعه إىل مضاعفة مجهوداته وزيادة إنجازاته العلمية .وبناء عليه يحدد «فابياين» الطابع االستثنايئ لهذا
هذا االهتمام هو يف الواقع ،حسب املؤلف ،موجود يف
البطل املتمثل يف قدرته االنعكاسية عىل نقد ذاته وتجاوز عرثاته
التي بُلورت يف األعمال األنرثوبولوجية يف موضوعات تتجسد
من تضحيات .والنتيجة :أن «بورديو» تمكن يف سنوات حياته
أشكال عدة هي :أولوية الجسد يف العالقة العملية بالعالم
َ موضوعي :املعاناة ،والشغف. يف
وفيما يتعلق بالنقطة األخرية ،نالحظ أن تحليل
واإلصرار عىل مواقفه الثقافية والسياسية مهما كلفه ذلك األخرية من تأسيس نظام سوسيولوجي نظري وتطبيقي شمويل
كان قد سهر عىل تشييد صرحه بجهد ذايت وفكري استثنايئ.
استعادة مفاهيم «بورديو» وتعقيداتها تكمن القوة الحقيقية للكتاب -كما أعتقد -في الثراء المعرفي ودقة المفاهيم في قراءة منجز «بورديو» ،وقد شكل هذا االستعراض التحليلي فرصة للتعرف إلى مهارة باحث و ُِّفق في استعادة مفاهيم «بورديو» وتعقيداتها ،لكن ً أيضا هشاشة التوضيحات النظرية لدى «بورديو» .وبهذا المعنى يبدو أن المؤلف يقف ًّ حقا على أسس عمل تجريبي مهم سمح باالنفالت من
«المواجهة العقيمة» التي عاناها «بورديو» وصنفته تصنيفات مُ جْ حِ فة. لكن الباحث ،لألسف ،لم يطور هذه النقاط إال قليلاً ،مشيرًا في سياقات متعددة إلى أنه يسعى إلى «تطبيق النظام
المفاهيمي الخاص ببورديو ،على بورديو نفسه» وهذا يبدو إشكاليًّا؛ ألن «فابياني» حاول خالل تحليله أن يبين التناقضات
ومختلف االستخدامات التي قام بها «بورديو» .ويمكن الشعور بهذه الفجوة في البناء الكلي للكتاب؛ إذ ال تتوافر فصول الكتاب ً أحيانا فهم على أقسام فرعية أو تنصيص من متون أخرى لالستدالل والمقارنة ،إنما ُكتبت الفصول دفعة واحدة .كما يصعب
الترابط الداخلي على نحو سلس ومنطقي؛ ما يفقد بعض الفقرات تماسكها .كما تجدر اإلشارة ،مع ذلك ،إلى أن العمل الذي اقترحه «فابياني» هو في رأينا مصدر قيم للغاية؛ ألنه يمكننا من شحن التفكير النقدي وتجريب منهجية اجتماعية وفرها لنا «بيير بورديو» من خالل أعماله الغنية والجدلية. بأنْ حاول «فابياني» إذن أن يجد مع ًنى لعمل «بيير بورديو» الشاق منحه صفة «البطولة» ،منبها إلى أن «بورديو» عاش اجتماعيًّا وعلميًّا بهذه الروح الشغوفة بالتحدي والرغبة في التغيير إلى ما هو أفضل محليًّا ودوليًّا .وتجلى ذلك في اختالفه
الدائم مع أنماط التفكير السائدة التي تستغل اإلنسان وتجرده من قيمه الثقافية واإلنسانية؛ لهذا يجب على المثقف أن يكون مناضلاً ليجعل المؤسسات المهيمنة في وضع غير مريح .إن «بورديو» -كما يقول «فابياني»« :-هو أول ثوري رمزي قادم من الشعب» ،لكن «فابياني» ال يخفي خيبة أمله؛ إذ يعتقد أن «بورديو» استسلم في نهاية المطاف لغطرسة المؤسسات
المهيمنة ،التي حاربها طوال حياته .وهذا ال ينتقص من عظمة المساهمة العلمية التي قدمها «بورديو» ،التي تظهر من خالل
مؤلفاته ومواقفه الشجاعة.
133
ثقافات
134
رحيل ميشال بيتور
الرواية الجديدة.. مدرسة النظر بامتياز! حسونة المصباحي ّ كاتب وروائي تونسي
العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
في الرابع والعشرين من شهر أغسطس (آب) 2016م ،انطفأت روح الكاتب الفرنسي الكبير ميشال بيتور عن عمر يناهز 89عامً ا .وقد فاجأه الموت في بيته الخشبي في منطقة «سافوا العليا»
السويسرية التي اختار اإلقامة فيها بعد أن عمل سنوات طويلة في جامعة جينيف ،شارحً ا أعمال
كتاب وشعراء كبار أحبهم ،وبهم تأثر ،من أمثال بلزاك ،وفلوبير ،وفيكتور هيغو ،ورامبو ،وآخرين.
وقد اختار هذا البيت مع زوجته؛ ألنه ال يسمع من حوله غير صوت الريح ،ورنين النواقيس ،وهدير المياه المتدفقة من أعلى الجبال ،وأغاني الطيور التي تكثر في الغابات بعد انجالء الشتاء.
حتى األيام األخرية من حياته املديدةّ ، ظل ميشال بيتور دائب محاطا بالكتب ،ومستمعً ا إىل املوسيقا ،ومستقبلاً ً النشاط والعمل،
كانوا يظهرون التعصب والتزمت ،والتمسك بالقواعد الدينيّة الصارمة ( .)...وهناك ً أيضا بضع كنائس قبطيّة ،وعادة ما تشتعل
واملتعددة املشارب .ويف عام 2006م ،قامت دار «ال ديفريانس» بنشر
ً خصوصا خالل االحتفاالت الدينية الكبرية .وقد املسيحية األخرى
أصدقاءه ،وصحافيني يرغبون يف التحاور معه حول أعماله املختلفة
هذه األعمال التي تضم روايات ،وأشعارًا ،ودراسات أدبية وفلسفية
ً ونصوصا عن رحالت كثرية عرب العالم ،يف 12مجلدًا .وآخر ونقدية، كتاب أصدره ميشال بيتور كان عن الشاعر الفرنيس الشهري فيكتور هوغو .وبذلك يبلغ عدد الكتب التي ألفها ما يزيد عىل ألفي كتاب!
املعارك حامية بني األقباط األرثوذكس ،وهم األغلبيّة ،وبقية الفرق
لحظ ميشال بيتور أن سكان املنيا يحتفظون ببعض التقاليد التي كانت سائدة يف العهود الفرعونيّة .فعندما يقبل الربيع ،يفضلون
السهر خارج بيوتهم ،مرتدين ثيابًا جديدة .وعىل األبواب يعلقون باقات من الزهور ،ومن الثوم .وتتعطر املدينة بروائح شذيّة ّ تدل عىل
وقد ولد ميشال بيتور يف شمال فرنسا يف الثاين عشر من شهر
السعادة ،وعىل فرحة الحياة .وغالبًا ما يستغل التالميذ االحتفاالت
السوربون؛ لدراسة األدب الفرنيس .وبعد حصوله عىل شهادة
يفعلون ذلك للتمتع بمباهج االحتفاالت فقط ،بل هربًا من خوض
سبتمرب (أيلول) 1926م .ويف سنوات شبابه ،انتسب إىل جامعة مرموقة يف هذا املجال ،انصب اهتمامه عىل الفلسفة ،فانصرف
لدراستها بحماس فيّاض .وقد وجد يف دروس ومحاضرات ً عشقا للفلسفة الفيلسوف الفرنيس الشهري غاستون باشالر ما زاده ّ ستظل حاضرة يف أعماله ويف أفكاره وأطروحاته حتى النهاية. التي دعوة من طه حسني
ويف مطلع الخمسينيات من القرن املايض ،انطلق ميشال بيتور
إىل مصر بدعوة من وزارة املعارف التي كان يشرف عليها طه حسني
لتدريس اللغة الفرنسية يف معهد مدينة املنيا بمنطقة الصعيد. وستكون األشهر الثمانية التي أمضاها هناك ،غنيّة بالتجارب عىل
جميع املستويات .وعىل رغم أن التالميذ لم يظهروا رغبة كبرية يف
تعلم لغة موليري ،فإن ميشال بيتور وجد يف أجواء مدينة القطن التي ال تزال عابقة بروائح التاريخ الفرعوين ،ما حرضه عىل
التعرف إىل أحوال الناس ،وطبائعهم،
وتقاليدهم وعاداتهم.
ويف النص البديع الذي خصصه
لتجربته املذكورة ،واملنشور يف كتابه
«عبقيّة املكان» ،يشري إىل أن أغلبية سكان املنيا مسلمون ،غري أن عددًا قليلاً منهم
الشعبيّة التي تكرث يف هذا الفصل ،ليك يهجروا الدروس .وهم ال امتحانات آخر السنة الدراسية التي ترعبهم كثريًا.
ويف مطلع الخمسينيات ،أصدر ميشال بيتور كتابه األول،
وكان بعنوان« :مم ّر ميالنو» .بعدها أمىض بضع سنوات يف مدينة
مانشسرت الربيطانية لتدريس الفلسفة يف جامعتها .ومن أجواء
هذه املدينة الصناعيّة التي يلفها الضباب الكثيف يف النهار كما يف الليل ،استوحى موضوع روايته «جدول األوقات» .بطل هذه الرواية
فرنيس يدعى جاك ريفال ،ينشغل بكتابة يومياته يف مدينة موظف ّ
«بالستون» الخيالية ،التي ال تختلف كثريًا عن مانشسرت .وهو يكرث ً أحيانا أن الضجر الذي يقرض من الحديث عن الزمن ،حيث يبدو له روحه وسط الضباب ،يمنعه من أن يدرك معنى املايض ،ومعنى
املستقبل .أمّ ا الحاضر فشبيه بكتلة متجمدة.
135
ثقافات
ويرى ميشال بيتور أنه من الخطأ أن ننظر خطيًّا إىل الزمن.
املايض ،ويف الحاضر ،ويف املستقبل .ومرة أخرى يظهر ميشال
واملستقبل له ليسا لهما واقع يف ذاتيهما .وهما ال يوجدان إال يف
حازت الرواية جائزة «رونودو» املرموقة .أمّ ا النقاد الطالئعيّون فقد
وهذا ما أشار إليه القديس أغسطني يف اعرتافاته؛ فاملايض
136
وعينا ،ويف ذاكرتنا .لذلك يمكن القول :إن هناك حاضر املايض،
وحاضر الحاضر ،وحاضر املستقبل.
الشهرة التي كان يطمح إليها
كان عىل ميشال بيتور أن ينتظر سنة 1957م ليك يحصل عىل
الشهرة التي كان يطمح إليها .ففي تلك السنة أصدر روايته الثالثة
وكانت بعنوان «التغيرّ » .وهي تصور رحلة ليلية يف القطار بني
باريس وروما« ،عاصمة إمرباطورية العالم» .والشخصية الرئيسة فيها رجل يرغب يف أن يلتقي عشيقته .وأثناء الرحلة يسافر يف
كان على ميشال بيتور أن ينتظر سنة 1957م لكي يحصل على الشهرة التي كان يطمح إليها .ففي تلك «التغير» .وقد السنة ،أصدر روايته ّ حازت الرواية على جائزة «رونودو» الطالئعيون فقد أما النقاد ّ المرموقةّ ، استقبلوها بحفاوة كبيرة ،وعدوها من تجسد تيار ما سمي أهم األعمال التي ّ في ذلك الوقت بـ«الرواية الجديدة»
بيتور اهتمامً ا بالزمن كما هي الحال يف «جدول األوقات» .وقد تجسد استقبلوها بحفاوة كبرية ،وعدوها من أهم األعمال التي ّ
تيار ما سمي يف ذلك الوقت بـ«الرواية الجديدة» .وها هو ذا ميشال بيتور يحتل مكانة بارزة بني رموز هذا التيّار من أمثال أالن روب
غرييه ،وناتايل ساروت ،وروبري بينجي ،وكلود سيمون .وقد قال
يف هذا الشأن« :الرواية الجديدة كانت بالنسبة يل مدرسة النظر بامتياز ،فليك نصف األشياء بشكل جيّد ،علينا أن نتمعن فيها، وعليها نر ّكز انتباهنا .من هنا حضور النظر الثاقب يف روايتي». ويف الستينيات من القرن املايض ،سافر كثريًا عرب العالم .فكان
يف أمريكا الجنوبية .وكان يف اليابان ،وكان يف الواليات املتحدة األمريكية .وقد سعى إىل كتابة رواية عن الفضاء األمرييك ،هائل
االتساع .لذلك جمع كثريًا من الوثائق التاريخية واألدبية وغريها .ويف
النهاية ،جعل من كل ما جمعه ،ومن كل ما عاشه من تجارب، كتابًا وصفيًّا للواقع األمرييك يف جميع تجلياته .ومنذ ذلك الحني،
انقطع ميشال بيتور عن كتابة الرواية لينشغل بكتابة أشعار،
وتحقيقات ،ودراسات فلسفية ونقدية ،ونصوص مستوحاة من رحالته عرب العالم .كما أنه أصبح يويل اهتمامً ا كبريًا للموسيقا التي
علمته كيف «يصغي إىل رنني الكلمات» بحسب تعبريه.
يف أحد الحوارات التي أجريت معه يف نهايات حياته ،قال
ميشال بيتور« :لم تعد يل مشروعات كبرية؛ فأنا أعيش اآلن ً عيل حالة وقف التنفيذ .والوقت يزداد ضيقا يومً ا بعد آخر ،لذا ّ أن أتعامل معه بشكل مختلف .ما زلت مواظبًا عىل الكتابة ،لكني
أكتب ألصدقايئ ،ولرسَّ امني ومصوّرين يرغبون يف التعاون معي». العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
نصوص
أنف القديسة
عماد الورداني كاتب مغربي
بضفريتني حريريتني ُتالعبني يف مهدي ،خصالتها الكستنائية تدغدغ أرنبة أنفي ،تتس َّرب إىل منخري رائحة الحناء املعطرة بماء الورد،
تخدرين ،وسرعان ما تنحبس أنفايس ،تحمر عيناي ،كأنهما تستعدان للبكاء ،تنتشلني من ضياعي ،تصنع يل أرجوحة من ضفريتيها ،أتشبث ُ بهما ،تهدهدين ألنام ،تتألم يف صمت وكلما ْ أمعنت يف إحكام قبضتي عىل الشعريات املنفلتة مني ،وحينما تطرحني يف مهدي أدخل يف جدبة تأملت
بكاء ال تنتهي ،تلقمني ثديَها فأنام بعنف ،بينما رائحة الحناء تداعب أحالمي البيضاء. حينما صحوت من مهدي وجدتني طفلاً مشاكسا بمالمح غري بريئة ،شري ًرا كنت ،وال أقبل بأَ ْنصاف الحكايات ،صارت أمي تطعمني خيالها ً َّ ُ ُ ْ ْ تحدق يف عيني وأنا أحدق ظلت ترسم عاملها يك أتملكه بال حذر، تتعب من صفاقتي، استنفرت أنفي ألف ّر من حلم يرتصدين .لم حكت ألنام ،كلما ْ
ُ تصمت ،أحتجُّ ،فتعيد حكايتها إىل الصفر ،وجهها يواجهني، س عىل جفوين ،أتظاهر بالنوم ،وحينما يف شفتيها وهما تطرزان الحكايات، تتجس ُ َّ
يلعنني يف سره ،أمعن يف اإلنصات ،تمعن يف الوصف والرثثرة ،تؤجل النهايات ،أؤجل النوم ،كأننا نتبارز ،كأننا نتعارك يف صمت ،لكنها تنتصر ُ كربت وأنا منهزم. عىل انتظاري،
ُ كربت مرة أخرى صارت تطردين من مجالس النساء ،ترميني بحثيات الثلج ،وأنا كامللسوع أطعم رأيس بقايا الحروف الناقصة التي وحينما
َّ أتلصص بكل حوايس عىل حكايات النسوة ،وبقايا الضحكات التي تلطم خدي ،تحيك بمهارة بينما النسوة يضحكن أقتنصها من وراء الباب،
بخبث ،كم كرهت ضحكاتهن ،كرهت الحكايات بروائحها التي تعكر مزاجي ،كلما باغتتني أمي وأنا متلبس بجرمي ،تطردين إىل شارع بارد يك أشارك أطفاله قتل الوقت ،ولم يكن مزاجي يسمح بالبحث عن حكايات جديدة خارج الخدر .يف الليل أتظاهر
باملرض ،أتظاهر باملوت ،يك ترافقني يف رحلة الخداع ،ويك أقتنص منها حكايتي الناقصة .أشمها ،أتبني أي معني تنهل ً ظمآنا كنت ،أتزود برذاذها وهو يتطاير يف منه .وهي تمنحني ما ينقصني ،أشرب من غيمها املدرار وال أرتوي، وجهي ،يغسلني من جرح يسكنني ،كذبتي ال تصلح إال لليلة واحدة ،لذلك أجهد عيني يك ال تنهزما .لكنهما
تخذالن هويس ،فألعنهما يف حلمي ،أفركهما ،ثم أبرحهما ضربًا ،تدمعان بال رحمة ،أسخر منهما ،وأعيش
النهايات يف حلمي مغمض العينني.
ْ صمتت فقدت عيني يف الحلم ،صارت املنامات سوداء ،لم أعد أتبني الوجوه ،أشعر بحركاتها ،وكلما
أَتيهُ ،كأن الصوت يرشدين يف تيهي ،وحينما تنطبق الشفاه أضيع ،تبتلعني دوامة الرمل ،تمتصني إىل
باطنها ،أقاوم بجسدي الضرير ،أتشبث بحبات الرمل التي صارت جم ًرا يحرق باطن كفي ،ألتهب ،يتسرب ً رقراقا ،أتنفس بعمق، الحريق إىل عيني ،تتفجر العيون مني ،تطفئ حرائقي ،فأنساب مع حركة املاء
أتحسس املاء املتدفق مني وحويل ،أغرق فيه ،كأن عيني تغرقان يف عيوين ،أستغيث ،ينفجر من حلقي هديل
أصوات مكدسة طالها النسيان ،أستغيث بعماي عله يخلصني من غرقي ،تمتد يدها لتنتشلني من منامايت
السوداء ،تمسح جبيني ،تلقمني حكاياها ،أنام بعينني مطمئنتني يلفهما البياض.
لم أفقد عيني ،ظلتا يف جحرهما تشهدان عىل جرمي ،تتواطآن يف صمت ،تباركان رجيل وهما تتوغالن يف األرض
الخضراء ،تشجعاين عىل قطف الفاكهة ،أشمها ثم أقضمها ،أطعم بقاياها ألرقي ،عاقبني أنفي ،أغلق خياشيمه، ً ُ أيقنت أن لعنة أصابتني، شدد الحراسة عىل منخاريه ،منع الروائح من العبور إىل عقيل املشتت ،تيقنت أن ْ تنبهت إىل أنفي الحساس ،عالج ْته بدموعها ،عطرته ،كأنها تطلب مغفرته، األنف يعاقبني ألنه سئم حييل. َ ُ ْ تم َّنعَ دربت أذين بحكاياها سعيت إىل الخالص منه. وانكمش ،صار ال يستنشق سوى رائحتي ،يهددين إن عىل التقاط الروائح .أترصد روائح الحكاية ،أسجلها يف دفرتي ،صارت الكتابة شفايئ من أنف يزين وجهي
دون أن يدق نواقيسه ،كما تدق قلبي.
ْ ْ أصبحت طفلة وديعة بضفريتني اشتعل البياض فيهما ،تمشطهما كما يليق نضجت، أمي
ِّ بقديسة ،تزينهما بخيوط حريرية ،تنتظرين كل مساء ألطعمها حكايايت الباردة التي ال تشبه حكاياها
ُ اقرتبت من منتصف الحكاية ،كأنها تص ُّر عىل إذاليل ،أنا الذي لم يتعلم من الدافئة ،كانت تنام كلما
حكاياها كيف أكون .أمي اآلن تنام قريرة العني ،تعلوها ابتسامة حنون ،كما يليق بقديسة ،وأنا كاملهبول أتطلع إىل أنفها وهو يعب حكايايت ،أتطلع إليها ،وأتساءل إن كان يشبهني أم أشبهه؟
مخطوطات
138
مخطوط شرح على ( النقاية مختصر الوقاية ) من مقتنيات مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية.
العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
139
لمؤلف لم يذكر ،يعود تاريخه إلى القرن الحادي عشر الهجري الموافق للقرن السابع عشر الميالدي، وهو مخطوط في الفقه اإلسالمي ويتصل بأشهر مؤلفات الفقه الحنفي ،فيه أبواب مصارف الخراج.
مقال
عاما خمسون ً على صدور موسم الهجرة إلى الشمال
140
لما غادر «الطيب صالح» السودان مطلع خمسينيات القرن المنصرم متوجهًا إلى المملكة المتحدةُ ،شغل أول ما ُشغل بالرد بالكتابة على أحد كتبة اإلمبراطورية ،أال وهو البريطاني ذو األصول اللبنانية «إدوارد عطية» الذي عمل مدي ًرا لقلم المخابرات البريطاني في الخرطوم ،كانت له اهتمامات أدبية وعلي وجه التحديد كانت له محاوالت في كتابة الرواية ،كما كتب الرجل بضعة كتب تتمحور كلها حول السياسة البريطانية في الشرق األوسط ،وله سيرة ذاتية صدرت مبك ًرا (1946م) بعنوان« :عربي يحكي قصته» وكتب ً أيضا روايتين؛ األولى بعنوان «الطليعي األسود» 1951م، واألخرى بعنوان «النسر» 1960م. * * * النهر ،يا سادتي ،على بعد بضعة فراسخ دفن؛ حيث «إن الموت ال شك يسكن في تلك البقعة من النهر» ،مثلما ذكر وُلد «الطيب صالح» قرب ِ «مريود» في أحد منولوغاته .وترك «ك ْرم َُكول» وهو يافعَ ، ّ المبتلة ،وأوراق األشجار ،والعين، وظ َّل «طعمُ ماء النيل أيام الفيضان ،وطعم األخشاب صاف في أماكن الرملَ ،عكِر في محالت الطين» يالحقه ،جاء إلى المدينة يالحقه أيضاً صوت جده وأُ ْل َفة المكان .دفعته تلك الذاكرة طعم الموتٍ ، دفعاً ،غير باغ في أن يندغم في أزمنة المدينة التي َّ ظلت تالحقه حيثما ذهب ،والسرد ومقاماته ولدت في المدينة ،على الرغم من زعم النقاد أن ٍ برجوازية المدينة وليبراليتها قد انتهتا بظهور الرواية. * * * نص «الطليعي األسود» نص كولونيالي وبامتياز ،صورة لآلخر األسود رسمت بريشة أحد كتبة اإلمبراطورية في صيغة سردية ،كيف أن شابًّا سودانيًّا ذهب لبريطانيا للدراسة وكان ما كان من صدمة حضارية ،احتال عليها بأمرين :األول أنه كان ً قارئا نهمًا ليس ثمة من سقف معرفي لقراءاته، والثاني حينما اكتشف قدراته في الرسم والتشكيل ً وأيضا قدراته في ترويض «الحصين البيض» بعبارته ،عرف نساء كثيرات ،وكما يدرك القارئ الحصيف ذكاء «الطيب» حينما حوّر كل ذلك بذكاء سردي إلى مجرد «أوهام استشراقية» في نصه «الموسم» ،الذي هو نص ما بعد كولونيالي وبامتياز .ال تخطئ عين القارئ الحرة عناصر التناص المتنوعة فيما بين النصين. كان ذلك آخر ما قرأه «الطيب صالح» :نص اللبناني إدوارد عطية «الطليعي األسود» ،وفكرة الرد بالكتابة جاءت كردة فعل متوترة لتواصله مع ذلك النص الكولونيالي ،ومن هنا كانت آلية الكتابة األولى للسؤال الذي شغل ذهنه طويلاً « :كيف الرد كتابة على ذلك النص»؟ بل ونضيف هنا أن عنصر السيرة الذاتية ال تخطئه عين الناقد الحرة بخاصة في «الموسم» من دون كل نصوص «الطيب صالح». * * * حينما وَطِ َئت أقدامُه بالد اإلنجليزَ ،ف َتحَ على تيارين في التفكير عي َنه؛ أولهما روايات فرجينيا وولف ،واآلخر الكتابة البريطانية التي نزعت نحو صيغ ٍة من صيَغ االشتراكية كانت شائعة آنئذ (برناردشو وكتابات هارولد السكي) .إال أن أهَ مّ من كل ذلك ،كان قصص البريطاني (سومرست موم) الذي أع َّد «الطيب صالح» عنه برنامجً ا إذاعيًّاُ ،نشر الحقاً في مجلة «هنا ً شائعة في حكايات لندن» .ما ذكره في سياق َع ْر ِضه لقصصه أنه ُف ِتنَ بطرائق نسجه للقصة ،وأنه تناول ،فيما تناول، ٍ بريطانيا ،وأعاد َصو َْغها (قصصياً -سردياً) ،وأغلب الظنّ أنه حالما كتب «نخلة على الجدول» وتوارت حماسته لـ(موم)، ً قصة تشبه قعر ذاكرة السودان ،بخاص ٍة ترابلته (مزارعيه) ورائحة وأَ َط َّل بصوت قوي وناضج في أن ي َُصوغ من ذاكرته وطعم أزمنتهم االجتماعية التي َّ خصها بكثير من (العناية السردية) .منذ تلك اللحظة رُفع الطيب إلى مراتب -مقامات السرد ومدارج الساردين. كتب «الطيب صالح» نصه «عرس الزين» 1963م ،ونشره ً الحقا في إحدى المجالت ،إال أنه وفي اللحظة التي فرغ فيها من كتابته كان قد عرف طريقه لكتاب المفكر المارتنيكي «فرانز فانون» «معذبو األرض» في ترجمته اإلنجليزية األولى التي صدرت في العام ذاته ،كما هو معلوم فإن مشروع «فانون» يمكن اختزاله اختزالاً غير مخل في كونه مشروع عمل على «نقد الهندسة الكولونيالية» ،وقد انفعل «الطيب» أيما انفعال مع «فانون» وكان ذلك متزام ًنا مع اهتمامه بفرويد وطور اهتمامًا ًّ خاصا بالبريطاني «رتشارد بيرتون» مترجم «ألف ليلة وليلة» إلى اإلنجليزية وعدد من المؤلفات األيروسية الشرقية .من هنا كانت آلية أخرى قوية هذه المرة لصياغة ذلك النص المنتهك والمحول للحقيقة السردية بعبارة «هومي بابا» في سياق تعليقه على «فانون» ،صيغ سردية سائدة آنذاك في المشهد السردي العربي أواسط عقد ستينيات القرن الماضي. العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
هكذا أرسل «الطيب» نسخة إلى صديقه «توفيق صايغ» رئيس تحرير مجلة ً نصوصا لنجيب محفوظ ويوسف حوار ،بعد أن بعث لصديقه آنذاك الذي ترجم إدريس وآخرين« ،دينس ديفز جونسون» ،وذلكم هو السبب في كون الطبعتين العربية واإلنجليزية صدرتا في التاريخ نفسه. صدرت «الموسم» في عدد سبتمبر المزدوج عام 1966م من مجلة حوار اللبنانية، وكان ذلك هو العدد قبل األخير منها؛ حيث توقفت حينما اتهمها البعض بـ«العمالة»، وقد كتب «الطيب صالح» (2005م) قائلاً ...« :نشرت الرواية في مجلة «حوار» وكان ذلك تضام ًنا مع صديقي توفيق صائغ ...والذي وعدته بأن أرسل له الرواية لنشرها في مجلته ...ولم يتوقف الهجوم على المجلة وعلى توفيق صائغ حتى أحس بشكل جلي بعدم قدرته على االستمرار وكان أنْ توقفت المجلة وهاجر إلى أميركا حيث عمل بالتدريس حتى توفي من بعد ذلك ببضع سنوات». سرعان ما تعددت االستجابات لذلك النص غير العادي ،تراوحت فيما بين كتابات انحازت بحماسة ال نظير لها ألفق التجريب وطرائق السرد غير المألوفة، وكتابات أخرى فجعت في كون النص كان «غريبًا» على ذاكرة الكتابة السردية العربية .في هذه األجواء كتب الناقد المصري الكبير الراحل «رجاء النقاش» ...« :يمتاز الطيب صالح بأسلوبه العربي الجميل النقي ،فجملته موسيقية صافية كما أنه يعرف بيئته المحلية معرفة دقيقة ويملك في نفس الوقت نظرة إنسانية عميقة وواضحة ويرسم صورًا ونماذج إنسانية قوية وشديدة التأثير» .وهكذا كانت هذه الكتابة كفيلة بأن تتبنى مؤسسة دار الهالل في إصدارها الراتب (شهري) وفي عددها 245لشهر مايو 1969م؛ طباعة ونشر «الموسم» في كتاب ُق ِّدر له أن يُشيع أجوا ًء نقدية فيها الكثير من االنفعال النقدي والعاطفي واالنطباعي في أحيان أخرى كثيرة. َن َف َذ «الطيب صالح» إلى عمق الحياة بذلك النص؛ ألنه أراد ،مثلما أراد «جويس» ،أن «يبحث عما تبقى من حياة حقيقية ً عوضا أن ننفخها بال ّرومانسية... ً ً ُسبَقة أحاول أن أؤسِّ س أدبًا انطالقا مِنْ تجربتي الشخصية ،وليس انطالقا من فكرة م ْ أو مِنْ إحساس عابر أو طارئ»؛ هذا ما تحكيه البنية الداخلية «لموسم الهجرة إلى ٍ ِّ الشمال» .فقد سعت الرواية ،فيما سعت إليه ،أن تنسف تجليات الكولونيالي في فضاءات جغرافيا سياسية أنهكها عنف االستعمار والهيمنةَ ، وت َش َّظت ُ ذات اإلنسان فيها وقيمه وتاريخه ،و َع َز َف «الطيب صالح» على وتر انشطار الخطاب الكولونيالي بصوت تع َّددَت نبراته؛ حيث عمل ُّ الذي َ كل َنب ٍْر نفث سُ مومَه ردحً ا من الزمن ٍ ً ً ً سَ حْ لاً وتمزيقا وشتاتا (دياسبورا) واسترقاقا للكائن المحيطي ،هكذا نزعم أن تلك ثيمة «الموسم» أو قل إنها أحد مستويات تفسير النص أو حدود تأويله أو مع إيكو «حقيقته السردية». هائل من شفرات وعالمات ِّ الشعْ ريِّ ،إال أنه بقدر فل قد العالمة» ذلكم «النص حَ ٍ ٍ لم ْ يق ُرب من «رواية شعرية» مثلما هو النص الخاتم في حسباننا لمشروعه السردي «مريود» ،إنه ٌّ نص عالمة في كونه قابلاً لكل التفسيرات وتوليد دالالت قارّة ،أد َْخ َل َ ونفض عنه أغبرة تراكمت عبر السنين من «الطيب» اإلنسان التاريخ بالكتابة السردية العنف واإلذالل واالسترقاق ،ال بل حَ َّررنا من ربقته .نراه اآلن ،ومن بعد مضي نصف قرن من لحظة كتابته وصدوره« :نص ذكي» ،زاوج بين الواقع والرمز واألسطورة والتاريخ .كما أشار الناقد التونسي الكبير «توفيق بكار» :هذا النص ،ومن بعد مضي نصف قرن من الزمان ،ما زال حضوره باه ًرا في مشهد الكتابة السردية وما زال يحال إليه في سياق الدراسات ما بعد الكولونيالية ويدرس في مؤسسات أكاديمية عديدة حول العالم كنص أثري بصورة ما فتح أفق الدراسات البينية واشتغاالت الخطاب الكولونيالي وتجلياته في المجتمعات المعاصرة.
أحمد الصادق أكاديمي وكاتب سوداني
141
هذا النص ،ومن بعد مضي نصف قرن من الزمان ،ما زال باهرا في مشهد حضوره ً الكتابة السردية وما زال يحال إليه في سياق الدراسات ما بعد الكولونيالية ويدرس في مؤسسات أكاديمية عديدة حول العالم
إعالم
الدبلوماسية الشعبية:
كل شيء الصحافة ليست َّ زيد الشكري كاتب سعودي متخصص في الصحافة ووسائل االتصال
في تعليق له مع القناة البريطانية الرابعة حول صورة المملكة في أوساط البريطانيين ،كشف
وزير الخارجية السعودي عادل الجبير بأنه على الرغم من عدالة قضايا المملكة ،إال أن المملكة
لم تقم حتى اآلن بالدور الالزم في التواصل مع دوائر التأثير داخل المجتمع البريطاني .الجديد
142
الذي يمكن مالحظته في تعليق الوزير أنه لم يقتصر في شرح تصوره لصناعة التأثير وصياغة الوعي بحصره على المؤسسات اإلعالمية ،بل تجاوزها ليركز أكثر على التواصل مع مراكز البحث، ً تحديدا أهمية التواصل مع المجتمع البريطاني. والمؤسسات األكاديمية والثقافية ،وذكر
العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
بشكل ضمني ،أراد الوزير أن يلخص اإلشكاالت املتعلقة
بصورة السعودية خارجيًّا يف غياب التأثري الفاعل ملفهوم
«الدبلوماسية الشعبية »Public Diplomacy /للمملكة، وهو املفهوم الذي يقدم رؤية أوسع نحو مصادر صناعة
التأثري؛ وتحديدً ا من يصنع هذا التأثري ،ومن أين يبدأ ،وكيف يبدأ ،وما املواقع التي ينتقل من خاللها ،وما اآلليات التي
تكرسه وتروج لوجوده؟
ما زال معظم املهتمني بتشخيص صورة اململكة خارجيًّا
يحصرونها عىل التأثري الصحايف واإلعالمي ،وتحديدً ا ما يكتب
وزير الخارجية السعودي عادل الجبير
وينشر عن السعودية يف وسائل اإلعالم املريئ ،واملقروء،
واملسموع .ويقرر هؤالء املهتمون من خالل ما تتناوله وسائل اإلعالم عن اململكة أن الصورة الذهنية واالنطباعات واملواقف املتشكلة عن اململكة نشأت بفعل افتقاد السعودية لصوتها يف
الصحافة الغربية ،وأن هذه الصحافة طاملا عمدت إىل عرض
القصص واملواد الصحافية غري الدقيقة عن اململكة ،وإىل تشويه مواقفها الحقيقية يف أوساط املجتمع الغربي واملؤسسات الدولية. ويتعاظم الشعور بأن اململكة مستهدفة بتشويه صورتها
واإلساءة ملواقفها بعد أن قررت اململكة أن تخوض دورًا أكرب يف كبح صراعات املنطقة ،وهو األمر الذي يمليه املنطق السيايس بحكم
حجم تأثريها السيايس ودورها الديني واالقتصادي ،والتزامها العروبي تجاه أحداث املنطقة ،ال سيما أن األحداث السياسية التي تعصف باملنطقة عىل أكرث من صعيد منذ خمسة أعوام قد
أفرزت حركات تطرف متوحشة ترفع شعارات دينية إسالمية، وتقاتل يف أكرث من بلد عربي .وعىل الرغم من أن السعودية تعد
من أكرث دول العالم التي تم استهداف أمنها ومنشآتها من هذه
املجموعات ،وعىل الرغم كذلك من موقفها الواضح يف دعم أي جهد دويل ملحاربة هذه الحركات ،إال أن هناك مؤسسات غربية
إعالمية وسياسية اجتهدت دومً ا يف محاولة تفسري جذور تطرف
هذه الحركات من خالل عرض قراءات ألصول هذه الظاهرة بربطها بدول معينة يف املنطقة ،ومنها اململكة. تفعيل األنشطة االتصالية
يتعاظم الشعور بأن المملكة مستهدفة بتشويه صورتها واإلساءة لمواقفها بعد أن قررت المملكة أن دورا أكبر في كبح صراعات تخوض ً المنطقة امليدان األصيل الذي يتم فيه بناء األفكار والصور الذهنية ،قبل أن تجد طريقها ،أو يتم ترحيلها معلبة وجاهزة إىل الوسائل
اإلعالمية.
يجب أن يتم تجاوز قناعة أن تحقيق مصالح الدول السياسية
يمكن االكتفاء بإنجازه عن طريق االتصال عىل مستوى املسؤولني
الرسميني بني الدولتني فقط ،والتقليل من أهمية التواصل مع الناس واملؤسسات العامة والخاصة يف تلك الدول ،إذ ال يجب أن يفوتنا مالحظة أن هناك دولاً تتأثر تحركات مسؤوليها
وتوجهاتها السياسية برأي دوائر كثرية يف مجتمعاتها ،وهذه
مهمة تنجزها الدبلوماسية الشعبية التي لم يعد تفعيلها مجرد ترف ،أو شي ًئا يمكن التخيل عنه ،أو التقليل من أهميته ،بل باتت ٍ ً رئيسا لدعم أداء وزارات الخارجية يف كثري من الدول اليوم مكونا ً
ال سيما الكربى ،ويقع يف صلب التوجهات اإلسرتاتيجية للسياسة
الخارجية لهذه الدول ،تحاسب عليه وال تتهاون فيه.
ومع هذا الواقع تتضاعف حاجة دولة بحجم اململكة إىل
وقد استدعى الكنيست اإلسرائييل مؤخ ًرا رئيس الوزراء
الدبلوماسية الشعبية كما لخصها الوزير ،بما يضمن تبيان
استثنائية ملساءلة حكومة نتنياهو حول أداء وزارة خارجيته فيما
تفعيل أنشطتها االتصالية بمفهومها الشامل تحت مظلة مواقفها يف سياقاتها الصحيحة ،ويحصن صورتها يف األوساط املؤثرة من أي محاوالت لتشويهها واإلساءة إليها .وعىل الرغم
من أن اإلعالم هو إحدى أدوات التأثري فيما يتعلق ببناء الصور الذهنية ،إال أنه يف مفهوم الدبلوماسية الشعبية هو محطة
نهائية لظهور هذا التأثري وليس صناعته ،إذ إن هناك محطات يف صناعة التأثري تسبق ما يتم تعاطيه يف وسائل اإلعالم ،وهي
بنيامني نتنياهو أمام لجنة الرقابة يف الكنيست ،وخصص جلسة وصفوه بإخفاقات الدبلوماسية الشعبية ضد حركة ( )BDSالتي
تنشط عامليًّا للدعوة إىل مقاطعة إسرائيل وسحب االستثمارات منها ،وفرض العقوبات عليها.
لكن الالفت يف معرض دفاع نتنياهو الطويل عن أداء
الدبلوماسية الشعبية يف وزارته ،أنه ركز عىل «صورة إسرائيل بني
الشعوب» يف إشارة للهدف الرئيس للدبلوماسية الشعبية وهي
143
إعالم
التأثري يف الشعوب وليس الحكومات فقط ،الف ًتا يف هذا السياق إىل أن هناك من يدعي أن عالقة إسرائيل مع الواليات املتحدة ً ومضيفا أنه عىل الرغم من اختالف إسرائيل مع آخذة يف التدهور،
املتمثلة حاليا بشبكات التواصل االجتماعي ،إذ تمكن األفراد
الشعب األمرييك ما زال يؤيد حقوق إسرائيل ،مشريًا إىل استطالع
يف صناعة التأثري واحتكار املعلومة عىل الكيانات؛ أيًّا كانت هذه
اإلدارة األمريكية الحالية حول موضوع إيران ،إال أن األهم هو أن
نشره مركز األبحاث األمرييك املعروف PEWالذي استطلع آراء األمريكيني حول من يؤيدون بني اإلسرائيليني والفلسطينيني،
فكانت نسبة من يدعمون إسرائيل كبرية جدًّا.
ً نشاطا وألن الدبلوماسية الشعبية يف أبسط تعريفاتها تمثل
ألي دولة بهدف التأثري يف شعوب الدول األخرى بما يحقق مصالح سياسية أو منافع اقتصادية،
وبما يحافظ عىل صورة إيجابية تمثل هذه الدولة ،فإن إنجاز
هذا التأثري يجب أن يمر بسلسلة متنوعة من األنشطة االتصالية.
ويف حالة صورة اململكة
144
وتتعاظم كلفة غياب تفعيل الجوانب االتصالية األخرى يف
الدبلوماسية الشعبية للمملكة يف ظل الثورة التقنية واالتصالية من منافذ الظهور ،وبروز صحافة املواطن ،ولم يعد األمر حك ًرا الكيانات ،سواء إعالمية أم غريها كما هو األمر يف السابق،
فبتنا نرى عددًا من الدول بعد أن أدركت طبيعة هذا التحول، تسارع وترصد امليزانيات الكبرية يف تفعيل ما بات يسمى
بالدبلوماسية الرقمية.
هناك دول تتأثر تحركات مسؤوليها وتوجهاتها السياسية برأي دوائر
الدبلوماسية الرقمية
وتعد
الواليات
املتحدة
أول دولة تدرك أهمية دور
كثيرة في مجتمعاتها ،وهذه مهمة
العالم الرقمي كميدان مهم
لم يعد تفعيلها مجرد ترف
الشعبية من خالل أسبقيتها
تنجزها الدبلوماسية الشعبية التي
لنشاطاتها
يف
الدبلوماسية
يف تأسيس أول إدارة بمسمى
خارجيًا ،فإن عددًا كبريًا من األنشطة االتصالية التي تبتدئ منها
«الدبلوماسية الرقمية» داخل وزارة الخارجية ،وتبعها بعد
رئيسا يف صناعة الصور الذهنية السلبية عن اململكة .ومن سببًا ً
تدرك كثري من الدول أنها كلما أرادت االنخراط أكرث يف لعب
صناعة التأثري ،لم تحظ بعناية كبرية من النشاط ،فكان إهمالها
ذلك عدد من الدول.
األرجح أن مرد هذا اإلهمال هو اللبس يف تقييم دور الصحافة
أدوار سياسية أو اقتصادية عىل املستوى الخارجي ،فإن ذلك يحتم
النظر إليها إمَّ ا كأهم نشاط يستحق الرتكيز عليه كأولوية بني
صورتها خارجيًا بني شعوب الدول األخرى .يف مطلع أغسطس
يف معادلة صناعة التأثري ،واملبالغة يف تعظيم دورها ،من خالل األنشطة األخرى يف صناعة التأثري ،وهذا يأيت عىل حساب إهمال
النشاطات االتصالية األخرى ،أو ربما بالنظر إليها كنشاط وحيد،
ويف هذا افرتاض خاطئ يقدم الصحافة كصانعة للتأثري ،ال ً محطة نهائية لظهور هذا التأثري الذي صنع خارج دائرتها.
عليها أن تقوم بجهود متوازية مع هذه األدوار عىل صعيد ضمان أسسا قانونية جديدة من العام الجاري ،وضعت كوريا الجنوبية ً لدعم األنشطة الهادفة إىل تعزيز صورة كوريا ،ورفع مستوى
الوعي بني شعوب الدول األخرى حول سياساتها ومصالحها.
ولقد بدا واضحً ا مما يتم تداوله عن اململكة يف األوساط
وكانت صحيفة «كوريا هريالد» اإلنجليزية قد وصفت هذه ً ً استجابة للنفوذ السيايس الفتة إىل أنها تأيت الخطوة باملهمة،
الدبلوماسية الشعبية للمملكة واملتمثل يف جوانبها الثقافية
الخارجي ،وقد زادت ميزانية نشاطاتها يف الدبلوماسية الشعبية
ضمن دائرة النشاط السيايس .فتم إهمال التواصل مع الدوائر
ويبقى أن اململكة تتمتع بموقع مثايل لتفعيل سلة كبرية
ً خصوصا ،غياب تفعيل الجزء األهم يف الخارجية والغربية
والرتفيهية واألكاديمية والبحثية وغريها من الجوانب التي ال تقع
الثقافية واملؤسسات األكاديمية والتجمعات الصغرية املنضوية داخل منظومتها ،ومراكز البحث ،والجهات الفاعلة غري
الحكومية واملنظمات غري الربحية ،والتواصل الفعال مع األفراد املؤثرين وقادة الرأي يف مجتمعات تتأثر بهذا النوع من االتصال.
واالقتصادي املتنامي الذي تريد كوريا أن تؤديه عىل املستوى
بأكرث من ضعفي ما تم رصده لهذه النشاطات يف السابق.
ومتنوعة من النشاطات االتصالية التي من شأنها تعزيز صورتها
اإليجابية يف األوساط الخارجية ،إذ تملك اإلمكانيات واملوارد
املتمثلة يف تعدد مؤسساتها التعليمية والبحثية والثقافية والرتاثية
واإلنسانية ،وهي مؤسسات يمكن أن تساهم بدور محوري يف
تعزيز فاعليتها نشاطات الدبلوماسية الشعبية السعودية ،عىل
وهذه الدوائر عامل أصيل ومهم يف بداية تكوين األفكار ً قضية ذات قيمة واملفاهيم ،وتطويرها ،وترويجها حتى تستوي
أن تبدأ الخطوة من خالل تبني اإلدارات املعنية بالدبلوماسية
خاللها هذا التأثري.
واالستفادة من نشاطاتها من خالل برنامج اتصايل شامل.
صحافية تتلقفها املؤسسات اإلعالمية كمحطة أخرية ،نرى من
العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
الشعبية يف وزارة الخارجية تنسيق األدوار بني هذه املؤسسات،
نصوص
«الديري» أغنية تصدح من بيت جاري ّ جوان تتر قاص سوري
َ َ عوائل من مختلف ولصق الحائط القرميديّ الذي يحوي خلفه يف مربع اإلسمنت الداخيل يف املأوى الجديد الذي استأجرته، ُ ُ لست يف الثكنة العسكريَّة أنغام من دير الزور ،أتعجَّ ب ،أنا عىل ا أستيقظ بالبالد، املدن السوريَّة بعد الخراب الذي َلحِ َق صباحً ٍ ح ّتى يتس ّنى يل أن أسمع هذا ال ّنغم ،ولست أحلمُ بكل تأكيد! يباغتني صوت الطفل وهو ينادي والدته« :يُمّ ه أريد طابتي» ،ال يشء يمنعني حينها من النهوض ألفتح باب الشرفة يك أرى الضوء الجديد ،وأتأمّ ل سكي َن َة ساعات الصباح ،وألرى بالذات ما ال سنوات طويلة ،وبلمع ٍة يف عينه ينظر إىل َشعْ ريَ َّ الطويل يمكن ألحدٍ أن يُبصره ،الطفل «الديريّ » بلك َنتهِ التي لم أسمعها منذ ٍ وكشريط سينمايئ مشدوهً ا« ،يُمّ ه هاظ مجنون!!» أبتعدُ قليلاً عن مرمى نظره يك ال أُفزعه ،أتذ ّكر دون أن أتح َّرك من مكاين، ٍ زمن الخدمة اإللزامية يف الثكنة العسكريَّة ،دمشق 2011م ،أرى بجالءٍ «حجّ ي» من دير الزور ،الذي كانَ يأخذ ّ حصته من اإلطعام الصباحي ليبيعها فيما بعد مُ جمَّ عَ ًة إىل باقي جنود الثكنة ،يك يؤمّ ن ثمن علبة التبغ التي كانت قيمتها فقط 15لرية سورية، مكان غري سنوات غابرة ،وعرث عليه فجأة يف والتي ال تساوي شي ًئا يف ليايل الحرب هذه ،أعو ُد إىل الفراش كمَ ن أضاع شي ًئا منذ ٍ ٍ َّ متوقع.
اآلن ،فنجان القهوة ال ِّ يبد ُل من األمر شي ًئا ،فقط أث ُر كحول الليلة املاضية يف جسدي النحيل يغيرّ من تكوين الذكرى لتغدو ً رحيمة أكرث. صباح 12تموز 2011م:
ً يف نوبات الحراسة يغدو املرء َ إهانة أمام املأل العسكري! آلة رصد ،ال يشء يمكنك أن تسهو عنه ،طاملا َّأنك ستدفع ثمن ذلك ً أو ربمّ ا عىل ّ مضافة إىل األعوام الطويلة من مكوثك يف األرض القاحلة ،كان «حجي» الفتى األصغر أقل تقدير سوف تخدم 30يومً ا
إيل ذات ليلة صيف َّي ٍة باردة ،لم يعتد رؤية الطاوالت الحجريَّة تلك التي توضع عليها أواين يف عائلة ريفية من دير الزور ،هكذا أس َّر َّ ً الطعام الصدئة ،والتي يعود تاريخها إىل عام 1973م ،بحركةٍ واحدة أفرغ «حجي» رصاصة يف رأسه جعلت دماغه املمسوسة
ّ خاصته ،الذي قال يل م َّرة ّإنه سطا عليه تندلق عىل الرتاب ،اندلقت الصور العتيقة واألنغام التي كانت تصدح من جهاز التسجيل َّ األزقة يف دمشق القديمة ،صو ِدر الجهازّ ، كرمز للجُ نب والخوف! وعلقت ثيابه العسكريَّة عىل باب الثكنة من أحد ٍ كيف أمكنه فعل ذلك؟ يتهامس الجندُ فيما بينهم يف عتمة املهجع مرتعدين من النقيب األبله ،املمسوس بداءٍ نفيس ّ ً تابوتا طوال حيايت ،حملت ممل ،كانَ يهوى تسديد ال ّنار عىل شاشات التلفزيونات الصغرية للجنود! لم أعتد كذلك أن أحمل ً كنت أبيك دونما دموع ،مخافة أن أورَّط ً ُ نب والخيانة للشرف نغمة من دير الزور، تابوت «حجي» وأنا أغني يف قلبي أيضا يف الجُ ِ
ً مطلقا! ّ بكل بساط ٍة وعار رميناه لذويه املنتظرين أمام الباب املعدين الضخم للثكنة خارجً ا ،رميناه عىل العسكريّ الذي لم ألحظه َّ َّ ُ رأيت وس َط همهمات الضباط عن الخيانة ،ملحت وجه والده الذي طأطأ رأسه آنَ اقرتابه من الجثة ،وكأنني اإلسفلت َّ الساخن ْ
َّ َ وينساب عىل اإلسفلت ،يف نوبات الحراسة يغدو ال ّنغمُ املُدندَ نُ خليل املرء. يتقطر أىس خمسني عامً ا ُ ليل 11تموز 2011م:
«حجي» ضربه النقيب وصرخ يف وجهه« :أنت مجنون ،أنت عا ٌر عىل الجيش السوريّ !» ،ال عار إال عار «حجّ ي» يف عموم أقول يف س ّري وأنا ّ ُ ُ أنظف الكالشينكوف مرتعدً ا من فكرة أن تستق ّر إحدى كنت سوريا ،ال خيانة يف سوريا إال خيانة «حجي»،
الصراخ ممك ًنا ،وال استذكار خبز الت ّنور وصباحات األحدُ ، ُ رب «حجي» عىل مرأى من الطلقات يف ذاكريت ،آنذاك لم يكن ض َ ً ً الجنود ،نحن الذين قلنا ً الجدَّ ات ،هذا ما تبينَّ الحقا ،وإال فكيف يغتسل ،كان داخله نظيفا كمنازل أيضا َّإنه معتوه ومأفون وال ِ
ً ألنه ُ شاب انتحر َّ ٍّ ض ِرب؟ رصاصة بهذه الخربة؟ ثمّ كيف لنا أن نجرؤ عىل أن نبد َو أكرث إنساني ًَّة من يمكن ملعتو ٍه أن يطلِق ُ كانت ً َ وشوش «حجّ ي» بموته يف آذان إشارة الحرب كانت جلي ًَّة يف ضوء القمر الشاحب، ليلة ذهبت بنا بعيدً ا نحو الخراب،
ُّ ّ اليومي ال تزال سنوات من املوت عقل يو ُّد الحياة ،سأرحل» .صباحً ا ،وبعد وكل ذي ويحب ال ّن َغم، «كل معتو ٍه يغ ّني الجميع: ّ ٍ ّ ٍ ُ ْ ُ َ ك أن تثلِج. األغنية نفسها تجتاحُ ني كغيم ٍة باردة عىل وش ِ
145
مدن
مدن العالم العربي:
الربيع فالحنين إليه فرانك مرمييه باحث وأكاديمي فرنسي
ترجمة :زكي بيضون -شاعر ومترجم لبناني
146
استعارة «الربيع العربي» ،ذات الطابع الموسمي والتي تحيل إلى ثورات سنة 1848م في أوربا ،وإلى قوة انتشارها عبر فضاء موزع على أمم مختلفة ،كان لها على األقل فضل إبراز رغبة في المواطنة على ً عاكسة في الصعيد العربي .كانت تلك الرغبة تنتشر من ساحة ألخرى، األفق العقلي لماليين األشخاص التصور الطوباوي لمدينة عربية فاضلة ّ يتوطد أولاً في فضاء وطني. ومتخطية للحدود ،وإن كان هذا المثال غدت المدينة في الوقت عينه مكان تجمّ ع المحتجين الذين يجمعهم شعار «الشعب يريد ،»....وحلبة مواجهة مع الدولة األمنية التي كانت صادرت الفضاء العام حتى ذاك الحين .في هذا الصراع على الساحات ،من تونس إلى صنعاء ،مرورًا بالقاهرة وتعز وعدن ودمشق وحمص وحلب وطرابلس ،...كانت دولة العنف تنكشف على حقيقتها العارية ،بمقدار من القسوة والتناقضات خاص بكل وضع وسياق سياسي .مثلت إعادة احتالل الفضاء العام بالتظاهرات والتجمعات العالمة على وجود مجتمع ّ يوكد نفسه بالصرخات والنقوش الجدارية في مواجهة حجب السلطة له.
العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
تونس
اجتماع الهوامش وانصهارها
يف مركز املدينة ،كانت الهوامش تجتمع وتنصهر مع
طبقيًّا مهمًّ ا ،كما هو حاسم ،للنخبة املدينية .يقدم مثال ً عارضا نموذجيًّا لظاهرة توجد ،وفق القاهرة عىل هذا الصعيد
يف حني لم تكف املجتمعات املدينية منذ عقود عن التشظي إىل
العربي .عىل هذا النحو ،وبالنسبة لقسم من طبقات املجتمع
الطبقات الوسطى املدينية يف نفس «أفق التطلعات» ،وهذا
أنماط مختلفة ،يف مجتمعات مدينية مختلفة من العالم
تجمعات منعزلة اجتماعية وثقافية وسياسية. عىل هذا النحوّ ، مثل تعاظم التمييز االجتماعي واملكاين
باإلنجليزية ،والتعليم الغربي ،واالختالط بني الجنسني،
وأفىض ميل النخب السياسية واالقتصادية الجديدة إىل
السكن ،وأمكنة التالقي االجتماعي ،هي أمور تشكل عناصر
داخل املدن أحد الظواهر األكرث أهمية يف العقود األخرية.
حصر تعاملها فيما بينها يف إنشاء أشكال مكانية جديدة مع ظهور تجمعات سكنية مغلقة ومتجانسة اجتماعيًّا .صارت ً أرضا متنازعة ،وعرضة لحروب أهلية صامتة بني املدينة
أنماط عيش مختلفة .يف هذه املحصلة الصراعية من التمييز والتمايز ،تشكل «الرأسمال الكوسموبوليتي» ً إذا مؤش ًرا
مرورا بالقاهرة من تونس إلى صنعاء ً وتعز وعدن ودمشق وحمص وحلب وطرابلس ،...كانت دولة العنف تنكشف على حقيقتها العارية ،بمقدار من القسوة والتناقضات خاص بكل وضع وسياق سياسي
املصري العليا ،استخدام اإلنجليزية ،أو لهجة ممزوجة
وامللبس ،وممارسات معينة من االستهالك واللهو ،وخيارات تلك املرجعية االجتماعية والثقافية ،ومنظومة للتصنيف
االجتماعي .يتباين ذلك بقوة مع أماكن وممارسات توصف بالشعبية ،عىل غرار صاالت سينما ومسرح وسط البلد يف القاهرة التي كانت ترتدد عليها فيما مىض الطبقات العليا، وصارت اليوم مرتع شبان الطبقات الشعبية ،أو مع العديد
من املناطق السكنية العشوائية التي تكاثرت عىل األرايض الزراعية السابقة.
كانت الخطابات املتكررة لبعض املثقفني العرب حول
«ترييف املدينة» تحمل ،عىل نحو مضمر أو صريح ،نقدً ا لألنظمة القائمة التي كان قادتها يجمعون يف اآلن نفسه بني ً ً معطوفا عىل االنتماء (أحيانا أصل ريفي أو جهوي هاميش إىل جماعة أقلوية كالعلويني يف سورية) وارتقاءٍ اجتماعي
وسيايس بواسطة الجيش .عىل هذا النحو ،كان الدفاع عن املدينة يقرن بينها وبني نموذج ثقايف واجتماعي مبني عىل
147
مدن
سوريا
148
االنفتاح ،ونموذج سيايس ديموقراطي بوسع مرجعيته أن
قبل جماعات عائلية ،وكذلك مع توريثها أو محاولة توريثها
الشرق األوسط بعد الحرب العاملية الثانية.
وغالبًا ما ينسب بروز األصولية اإلسالمية إىل أبناء املدن الجدد
تكون محلية ،كما كان الحال مع تجارب األنظمة الربملانية يف تهميش الربجوازيات املدينية
بعد موجة االنقالبات العسكرية يف الستينيات التي ً ضباطا متحدرين غالبًا من أصول ريفية، أوصلت إىل السلطة ترافق التهميش السيايس للربجوازيات املدينية مع تهميش مجالس الربملانَ ، وش َ خصنة السلطة ،واالستحواذ عليها من
حتى يف أنظمة مسماة جمهورية (سوريا ومصر واليمن).
الوافدين إىل املدينة من األرياف ،وينسبها كرث ،يف مصر وسوريا ،إىل املهاجرين إىل دول شبه الجزيرة العربية ،يف
وقت توصم السياسات االستبدادية بوصمة ريفية وقبائلية. وعليه ،يسود رأي بأن عادات مثل ذيوع الحجاب ،والتباهي بالتزام الفروض الدينية ،وأسلمة دوائر العالنية العامة،
اليمن العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
مثلت إعادة احتالل الفضاء العام بالتظاهرات والتجمعات العالمة على وجود مجتمع يو ّكد نفسه بالصرخات والنقوش الجدارية في مواجهة حجب السلطة له تفشت يف املدينة من طبقاتها الدنيا ،وأن السلطة املتعسفة تضيق
عليها الخناق عموديًّا ،وتحاصرها بواسطة أجهزتها األمنية .وهذه الرؤية املثالية إىل املدينة تسلط الضوء عىل ميل راسخ إىل ربط
التمدن باملدينة واملواطنة ،وهاتان من سمات الحضرية ،عىل ما
االشتراك السنوي 150ريالاً سعوديًّا لألفراد 250 ،ريالاً سعوديًّا للمؤسسات ،أو ما يعادلهما بالــدوالر األمـيـركــي خـــارج المملـكــة العربية السعودية.
يفعل عدد من علماء االجتماع والباحثني .ويسود عىل هذه الرؤية
ماض أفل. حنني إىل عالم مديني متخيل أكرث مما هو عالم ٍ ً شقوقا اجتماعية وثقافية الثورات تكشف
كشفت «الثورات العربية» عن الشقوق االجتماعية والثقافية
والسياسية العديدة التي تعرب جسد املجتمعات العربية .نجد
السعر اإلفرادي السعــوديـــة 10ريـــاالت ،اإلمــــارات 10دراهم ،قطر 10رياالت ،البحرين فلسا ،مصر 4 دينار واحد ،األردن 750 ً جنيهات ،المغرب 10دراهم.
بينها التمايزات واالختالالت املناطقية ،وهي صارخة يف حالة تونس حيث بدأت الثورة يف املناطق املحرومة من وسط وجنوب البلد.
ويف اليمن ،ليست مشاركة سكان تعز الواسعة النطاق يف حركة االعرتاض ،أكان ذلك يف املدينة نفسها أم يف صنعاء ،معدومة
الصلة مع شعور باإلقصاء أو التهميش .ويف سوريا ،سعى النظام السوري منذ بداية الثورة للسيطرة عىل املدن التي ُنظمت فيها
التظاهرات الكربى (حمص ودرعا وحماة ودير الزور) ،األمر الذي
دفع بالثوار وبقسم كبري من سكان املدن إىل اللجوء إىل األرياف، متسببًا يف تشظي املعارضة العسكرية أو املدنية .تسبب سقوط
املنعطف الثوري يف حروب داخلية تغذيها التدخالت الخارجية
بالتدمري ملدن عديدة ،بخاصة يف سوريا واليمن وليبيا ،وذلك ّ املحصلة منذ االجتياح األمرييك من دون ذكر العراق حيث بدأت
يف 2003م .وأبعد من الخسارة غري القابلة للتعويض للعديد من واجهات الرتاث املديني ،أَحصل ذلك يف غضون املعارك أو تبعً ا لرغبة الجهاديني يف تدمري معالم الذاكرة الثقافية والتاريخية،
تمت زعزعة النسيج االجتماعي بعمق ملجتمعات مدينية عديدة.
الخسائر البشرية ،والنزوح السكاين ،ورحيل النخبة
والطبقات الوسطى كانت نتيجة الحرب التي أوجدت وضعً ا
مدينيًّا جديدً ا يسمه تدمري الفضاءات العامة .يف املقابل ،ليست
مدينة «الربيع العربي» الفاضلة تصورًا طوباويًّا بقدر ما هي أفق تطلعات تلوح براعمه من تونس .وهي سبق أن استحالت حني ًنا ذا قوة كامنة إلعادة استيالء الفضاءات العامة ،واالعرتاف بتعددية
املجتمعات املدينية.
الموزعون السعودية ،الشركة الوطنية الموحدة للتوزيع ،هاتف ،)٠١1(٤٨٧١٤١٤ :فاكس: ،)٠١1(٤٨٧١٤٦٠مصر ،مؤسسة توزيع األهرام ،شارع الجالء ،هاتف: ،٣٣٩١٠٩٥فاكس ٣٣٩١٠٩٦ :ـ ،..٢٠٢ قطـر ،دار الشرق للطباعة والنشر والتوزيع ،ص.ب ،٣٤٨٨هاتف: ،٤٦٦١٢٨٢فاكس ٤٦٦١٨٦٥ :ـ ،٠٠٩٧٤ األردن ،شركة وكالة التوزيع األردنية، ص.ب ،٣٧٥هاتف ،٤٦٣٠١٩١ :فاكس: ٤٦٣٥١٥٢ـ ٦ـ ،٠٠٩٦٢البحرين ،مؤسســــة الهالل لتوزيع الصحف ،ص.ب ٢٢٤ هاتف ،٢٩٤٠٠٠ :فاكس ٥٣١٢٨١ :ـ ،٠٠٩٧٣اإلمارات العربية المتحدة، مكتبة دار الحكمة ص.ب ٢٠٠٧هاتف: ،٤٩٣٥٦٦٢فاكس ٢٦٦٩٨٢٧ :ـ ٤ـ ،٠٠٩٧١ المغرب ،الشركة الشريفية لتوزيع الصحف فاكس ٢٢٤٠٤٠٣١/٣٢ :ـ ،٠٠٢١٢ هاتف.٢٢٤٠٠٢٢٣ :
149
نصوص
150
أغنيات إلى الطيـر رافائيل ألبرتي ترجمة :عبدالهادي سعـدون كاتب ومترجم عراقي يقيم في إسبانيا
العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
رفائيل ألبرتي ،الشاعر اإلسباني المعروف ،وواحد من أهم شعراء ما سمي بجيل الـ 27الشعري
ً رساما، إضافة إلى لوركا ،وألكساندر وآخرين .ولد في قادش عام 1902م ،وتوفي عام 1999م .ابتدأ حياته
ثم اتجه إلى ممارسة الشعر ،ونشر ديوانه األول «بحار على األرض» عام 1924م ،الذي يعد أهم كتبه
الشعرية ،إضافة إلى ديوان «حول المالئكة» ،وديوانه «كنت أحمق ،وعندما رأيتك أصبحت أحمقين».
أغلب أشعاره تتغنى بالبحر والحرية .خرج من إسبانيا منفيًّا بعد الحرب األهلية اإلسبانية ،ولم يعد حتى وفاة فرانكو .القصائد التي نترجمها هنا «أغنيات إلى الطير ،»Canciones para Altairجزء من ديوان
كبير كتبه في سنواته األخيرة ،وفيه يتغنى بالطير على سياق أناشيد المتصوفة المسلمين ،والشاعر
يستخدم كلمة الطير العربية ( )Altairكتابة ومعنى وإيحاء. 1
ألجل شيء ما وصلت أيها الطير
هبطت من برجك في وضح الصباح. لم تهبط نجمة أبدً ا
151
كي تتعلق بأغصان شمس الزيتونات، ال كلس القرى
يمضي في بياضه حتى بياض أنصع وال ريح الليلة
قد وصلت بأغنيتها أبعد من الفجر.
لم ير أبدً ا نجمة في قارعة الطرقات،
لم يتوقف فجأة ،يتماهل ،يشير ،يتعلم ،يضيء شيء ما ال ينتظر.
ألجل شيء هبطت أيها الطير هاويًا من برجك تلك الليلة. 2
عندما يفرج عن قدميه الطير منتصف السماء،
يسطع في منتصفه أروع ليل
مرصع بنجوم تنبض ماطرة على شفتي، بينما هنا،
في األرض البعيدة
من أعمال ألبرتي
نصوص
الحدقة الوحيدة متقدة
مهت ًّزا في هاويتها
قوال،
حتى الموت بال صوت،
زبدها الحل ُو يغمره
تعلن وصول زائر جديد برجٌ أعمى مجهول.
أن يخرج مرة أخرى من عمق
3
نجمة هو الطير ،خفي ومقتدر.
هذا البحر السري ،بال حدود ،ومتطاول…
على غفلة يصل الطير.
5
كبره كنجمة تضطرم.
كيف يكون أشبه بالصفير ،كموسيقا ترتج
سماء عارية تتوهج.
ليس بغمامة ضائعة في ليل.
الطير العالي بعيد عن األصوات،
يجلب في حجره المتوهج
بتنهدات مالحة و صياح.
نار عالية تستهلك،
متزحلقة على متنه المتأني حتى الوادي
و الطير يتالشى.
هكذا هو الطير ،فيما لو يطلقها.
بطعم القواقع السماوية ،بطعم الطحالب السود
نابض هو،
ُ تتسلق ممتطية روابيه الطيبة األضواء
نجمة تلمس.
بجريان نهر وهدوء ريح.
تختنق في لهيبها.
152
6
4
ً أحيانا ،يميل يتأوه الطير ً مطعونا بالريح العاتية التي تلفه
في ذاك الليل العميق ،ابتدأ الطير تحليقه منقبًا ربما باألرض (أو دون ربما)،
حتى آالف الكيلومترات
وفي حفرة مظلمة ،حزينة في درب التبانة
وجد نجمة واحدة ،ضئيلة ومجهولة. ذاك المثلث البديع
أصلحه الطير في برجه، ً متعلقا ببرج آخر، حطمه
اسمه،غير الطير ،ال يعرفه أحد. هكذا ،الطير المسكين
كشف لون بريقه حتى غاب
في أطلس السماء. 7
الطير العالي ،الطير العالي، من أعمال ألبرتي العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
يستيقظ.
أغنيات إلى الطيـر رافائيل ألبرتي
في سماء السماوات
نجمة وحيدة هناك.
أيها الطير العالي في سمائه أنت هذي النجمة ال غير. 8
دائمً ا على ظهره
أكثر مما هو عليه من طير. 11
عندما أراد الطير في ليلة عتماء أو ربما حاول،
عندما حلق الطير من برجه
هجران الضوء السري الغامض
ليلة ظلماء صافية ،بال وجهة،
مطر نشيجي حرك النجمات فصنعت ُز ً هرة كبيرة
تلك الليلة،
سنونوة ضائعة مرتعشة عششت ما بين أقدامه ُ تقبل هناك تداعب، تتظاهر بالنوم خائفة
لقصره،
أطفأت بهاءه
ً موحشا ،وحيدً ا ظل القصر و ضائعً ا في السمْ ت.
أن عليها أن تطير وجهة فضاءات أخرى، لكن الطير الساهد
153
بين شفاه وأصابع يمنعها.
ً أحيانا ،ووجهته األرض. هكذا هو الطير عندما ينزل 9
ليست شفتاك بشفتين أيها الطير
إذ أشعر بهما بين شفتي في الليل،
بل هما مخفيتان ،سريتان ،معتمتان،
أي قبلة هي حتى تموت بين تقلبات الطيران الرشيقة تقلبات حلوة ومرهفة…
عندئذ ،يموت الطير بال موت. 10
أخطأ الطير تلك الليلة نازلاً بكل سرعة وعرضة للسقوط على الظهر ساهيًا بنيمته
ـ أو من يعرف ،متظاه ًرا بالنوم ـ تكشفه الشمس
شعاع خارق يحرقه ببطء حتى يصبح
من أعمال ألبرتي
فضاءات
«خنجر» رياض الصالح الحسين
منذر مصري شاعر سوري
154 «ثالث نقاط
ثالثة أحرف ال تلفظ
ثالثة أصوات صامتة
ثالث نظرات عمياء ّ ثالث عيون على صف واحد في جمجمة ثالث شهقات
ثالث لطمات رأس بال رنين على حافة معدنية لسرير في مشفى عام
ثالث خطوات باتجاه شفير هاوية
ثالث درجات إلى مقصلة أو مشنقة أو غرفة
تحقيق أو أيّ نوع من منصات الموت المحلية ثالث طلقات مسدس كاتم للصوت ثالث نقاط ...
ثالث قطرات دم متخثرة».
العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
«ما رأيك لو تنام عندي هذه الليلة؟» سألني« .ال مكان
مرات ألقى بأسلحته ،أقالم وأوراق ،تحت أقدامه ،ومرات
السهرة ،باتت مدخنة .ورغم أن الساعة قد تجاوزت الثانية
مرات ال حصر لها ،أطلق ساقيه للريح بغية الهرب ،وال أيّ
آخر لدي» أجبت .مغارة البدوي بندر عبدالحميد ،حيث قضينا بعد منتصف الليل ،فقد ذهبنا سي ًرا على األقدام ،أقدام الروح ربما ،يا للشاعرية! ألن أيًّا م ّنا لم يبال بالمسافة البعيدة التي
تفصل بين مغارة بندر والوكر الذي آل إلى (رياض) ،في حي
الديوانية ،بعد انتقال فواز الساجر منه -بدوره شدّ الرحال باك ًرا – من يصدق أنني أعيد اآلن كتابة ما كتبته منذ /35/عامً ا!
ألقى بجسده ،شاحبًا وباردًا ،على مائدة عشائه ،ومرات،
مجد آخر ...إلى أين؟! جدران الموت
الموت بالنسبة لرياض ،ليس مزاجً ا أسود ،لم يكن هواء ً دخانا يمأل الفضاء ،بل جدران تحيطه وتضيق عليه حتى أو
الحي الترابي الذي سكنت فيه يومً ا عائشة أرناؤوط في ذلك ّ
تكاد تطبق على صدره ،وتكتم على أنفاسه ،جدران كان عالم
علي تذكر اسمه ،وال موقعه ،وال كيف مضينا إليه .كنت َّ سعيدً ا ،وكان سعيدً ا ،ال أعرف (رياض الصالح الحسين)،
يسمعه ويراه ،أن يخترقها كي يحيا هذا العالم .ولكن كيف
الحي الذي كثي ًرا ما استحال وصخر فرزات -هو اآلخر مات – ّ
وأرجو أال يخيب هذا ظن بعضكم ،إال سعيدً ا! طوال الطريق كان ّ جانبي، ينط أمامي وخلفي وعلى ّ
ً ضاحكا« :إنها حياة جميلة.. وهو يردّد
إنها حياة حلوة ..إنها حياة لذيذة»،
بصوته الذي لم أستطع وصفه من
ّ توضح كل شيء، قبل ،أمّ ا اآلن ،وقد
فإنه صوت رجل عاش سنواته كلها
يلفظ ،أو ربما ،يلتقط ،أنفاسه األخيرة.
(رياض الصالح الحسين) -1954/4/10-
-1982/11/20رغم طيبته وطيشه ،كان يعلم،
كان يعلم في أعماقه ،أنه سريعً ا سريعً ا ما
سيكون واحدً ا من أولئك الذين يكرههم ،وال واحدً ا يكره شي ًئا في العالم أكثر من أن يكون
منهم ..الموتى .الموتى الذين ال ذنب لهم سوى
أنهم ماتوا! غصبًا عنهم ماتوا .وأنهم ،ال أحد
يدري غايتهم ،كانوا ينتظرونه! وما كان لرياض أن يغفر لهم شي ًئا كهذا ،هو الذي يكاد ال يعترف بخطيئة ،كان يؤمن أن
اآلخرين برمته يقبع خلفها ،وكان على رياض أن يخترقها كي
بمقدوره أن يفعل؟ ماذا بمقدوره أن يفعل؟ ماذا لديه؟ قصائد،
قصائد وال شيء آخر ،القصائد كانت كل سهامه ورماحه، وكانت دائمً ا ترتد عليه منكسرة ،محطمة، ميتة .أو فيما يرى النائم ،تتحول القصائد إلى عصافير صغيرة ،طائرات من الورق، تطير محلقة فوق هذه الجدران الثخينة العالية .إال أن (رياض) لم يكن أحمق كفاية ليصدق أن قصائده تستطيع أن تطير به فوق جدران الموت .ليته كان يصدّ ق ،ليته صدّ ق ،وهو يعلم أن الموت لن تثنيه أيّ معاهدة ،أيّ صفقة ،عن مباغتته ،وغدره.
حتى الصداقة التي لم
يجد مف ًّرا من عقدها معه،
وكان يفترض بها أن تساعده
على تهيئة نفسه لعناقه ،عناق الموت األبدي ،عناق
الموت األبدي ،لم تجده نفعً ا حتى في تأجيل موعد الحكم.
ومقابل كل هذا كان (رياض) يتلهى ويسلو بالحب واألصدقاء والشعر والقضايا المصيرية ،والقضايا التافهة ،وغير ذلك
الموت هو الخطيئة الوحيدة للبشر .كان (رياض) ،ليس كأيّ واحد م ّنا ،بل أكثر بما ال يقارن ،يكره الموت ويخافه ،يخاف
من حبال ،هي على ثخانتها ،مهترئة وواهية ،كان يتعلق
ليحاربه ،ليحاربه كل اليوم ،كل نفس ،كل خطوة ،كل حب،
بعينه الوحيدة ،بأظافره وأنيابه ،الموت بخوائه ،الموت
الموت ويكرهه ،إلى الحد الذي يجعله يستيقظ باك ًرا كل يوم كل قبلة ،كل قصيدة ،كل كلمة .يحارب كل أنواع الموت كل
أنواع الحرب ،رابحً ا دائمً ا كل أنواع الخيبة ،كل أنواع الهزيمة.
بها ويتأرجح كطفلة صغيرة ذات ضفيرتين ،وتحته الموت بموته ،يفغر شدقه المظلم الكبير ،منتظ ًرا أن يسقط ،بلحمه
وشحمه وعظامه ،فيه. لم ينتظر طويلاً ،تعرفون هذا ،ألن (رياض) ببراءته
كال ..ليس بسبب ذكرياتي الخاصة عنها،
وحماسته لم يطق انتظار ما سوف يأتي حتمً ا ،فألقى بنفسه
القصائد التي استطاع جيلنا الشعري
الخيوط ،ألننا ،نحن ،ما زلنا نتدلى منها ،وربما ألن الموت ً متسرعا قليلاً ،أكثر قليلاً مما يجب ،فأرسل كان هذه المرة
«الخنجر» واحدة من أفضل وأجمل الركيك والضائع أن يقدمها
قبل أن تنقطع تلك الخيوط .أقول ،قبل أن تنقطع تلك
لسانه األسود الطويل ّ ولفه فوق قلبه ،وسحبه.
155
فضاءات
وعل في غابة
حي كانت تقع ،لكنني ال أذكر أيّ طريق سلكنا ،وال في أيّ ّ
أذكر الغرفة ،صعدنا إليها بواسطة درج خشبي مكشوف يصل
إلى بابها مباشرة ،حيث يوجد مغسلة خارجية على يمين
جاربي الرماديين ،قبل أن أنام ،ونسيتهما الباب ،دعكت فيها َّ معلقين على عنق الصنبور( .رياض) من ذكرني يومً ا بهذا .أما في داخل الغرفة ،فقد كان السرير أول ما تنتبه له ،نتيجة ارتفاعه
الغريب بسبب الفراشين والعديد من األغطية المكدسة فوقه،
والنافذة التي ما إن فتح ردفتيها حتى اندلقت منها ماليين
النجوم ،وعلى الجدار ،كما يذكر في القصيدة ذاتها« :صورة لغيفارا ولوحة سوداء لمنذر مصري» .ال أذكر بماذا كنا نهذر،
حين بدأ (رياض) يخربش بجدية على الدفتر مسودة قصيدة.
كتب بسرعة ،بشغف ،القصيدة األحب لي في مجموعته األخيرة ،التي لم يقع نظره عليها ،ألنها طبعت بعد رحيله:
«وعل في غابة» ،التي حفظتها عن ظهر القلب ،من وقتها، وهي ما زالت مسودة ،وها أنذا أكتبها اآلن من الذاكرة: «الرجل مات
الخنجر في قلبه
واالبتسامة على شفتيه.
156
الرجل يتنزه في قبره
ينظر إلى األعلى
ينظر إلى األسفل ينظر حوله
ال شيء سوى التراب
وقبضة الخنجر في صدره
رياض الصالح الحسين ،كان يعلم ،كان سريعا سريعا يعلم في أعماقه ،أنه ً ً واحدا من أولئك الذين ما سيكون ً يكرههم ،وال يكره شي ًئا في العالم أكثر واحدا منهم..الموتى من أن يكون ً الجيل الشعري الركيك
كال ..ليس بسبب ذكرياتي الخاصة عنها« ،الخنجر» واحدة
من أفضل وأجمل القصائد التي استطاع جيلنا الشعري الركيك
والضائع أن يقدمها .لماذا إذن؟ إذا قلت ،طرافتها هي السبب، أعود وأقول :إن الطرافة معهودة في شعر «رياض» ،ال بل كثي ًرا
ما كانت برأيي ،زائدة ،وتسيء إليه .وإذا استدركت وقلت :إنها
ويربت على قبضة الخنجر
هذه المرة طرافة سوداء ،إنها هذه المرة لعب مع الموت ،فهذا ً أيضا ليس غريبًا عنه ،إذن ماذا؟ أهي تلك االبتسامة العجيبة،
الذكرى العزيزة من الذين
على قبضة الخنجر المغمد في صدره؟ كيف له أن يبتسم؟ كيف
يبتسم الرجل الميت صديقه الوحيد في األعلى»..
ّ وأخص هذه القصيدة ،مع ما يليها من «قصائد الموتى»
«فنان» ،وقصائد أخرى متفرقة في المجموعة ،مثل «أرجوك»،
و«المكتب» ،ربما أكثر قصائد «رياض» قربًا مني ،لكن «الخنجر»
وحدها بقيت مغروزة في صدغي ،طوال كل هذه السنين .إنها
ابتسامة في القبر ،التي يفت ّر عنها ثغر الرجل الميت ،وهو يربت له أن ينقل يده في التراب ويرفعها ويخفضها وهو يربت بها .أو
ربما هو ذلك الشعور األشد مدعاة للعجب ،الذي يعتريه ،فيدعو الخنجر صديقه الوحيد ،الذكرى العزيزة من الذين في األعلى!
السؤال :من هؤالء الذين في األعلى؟ أ ليسوا هم نفسهم..
قاتليه!؟ أو على األقل ،أليس قاتلوه من بينهم!؟ أليس صاحب هذا الخنجر ،صاحب اليد التي طعنته بهذا الخنجر ،واحدً ا
منهم؟! أوليس منهم من حفر له هذه الحفرة وألقى فيها
إحدى تلك التي ما أن تقرأها حتى تجد أنك تحيا بها ،فيها ،إلى ً وخالفا لما كان «رياض» دائمً ا أن يأتي شيء ما ،أحد ما ،ويقتلك.
بجثته ،وهي ما زالت دافئة ،ثم طمره بالتراب دون أن ينزع
وأرشفة ألحداث يومية ومشاعر عابرة في الحياة المعيشة،
بخاطره!؟ أإلى هذا الحد وصلت به البراءة ،والغفلة؟ أإلى هذا
يدعيه ويص ّر عليه في الشعر ،وكنت ال أوافقه عليه ،بأنه تسجيل
فالقصيدة تهبش من ثمار شجرة الموت اآلبدة.
العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
الخنجر من قلبه؟! أال يبالي بكل هذا!؟ أال يفكر فيه؟! أال يمر
الحد وصلت به الرقة وما يعرف عنه من لطف؟
«خنجر» رياض الصالح الحسين
أمّا اآلن ..وبعد كل هذه األسئلة ،كل هذه التلمّسات
اللب الغريب ،الذي العمياء ،ينفتح لي الجوهر الغامض، ّ
من ذكرى ،إنه شيء يمكنه لمسه من الذين في األعلى ،أولئك األحباء الذين ال يحب شي ًئا في العالم أكثر من أن يكون واحدً ا
أحببتها ألجله ،فأقول ،بكل هذه الفوضى ،وبكل هذا االنفعال، شي ًئا بالكاد أستطيع أن أعبر عنه بالكلمات ،ألنه ،وقبل أن أقوله،
الميت يريد أن يقوم من القبر ويعود إلى الحياة .إذن كان
إنه ال يبالي وال يفكر أدنى تفكير به ،فقد نسيه أو تناساه ال فرق،
بعسفي ومبالغتي فيه ،أثبته دون قصد مني.
أشعر باضطرابه ،وتناقضه ،لكني على رغم ذلك سأقوله :نعم.. مات ..وهذا كل شيء ،والميت ال يبالي وال يهتم .لكني أسرع وأقول ما كنت أو ّد لو كان باستطاعتي قوله بذات الوقت :ال.. إنه يبالي به فقط ،وال يهمه سواه ،إنه يتذ ّكره ويصر على تذ ّكره
وحده .أليس عجيبًا هذا الكالم؟ كيف ال يبالي به ثم أقول ال يبالي
إال به؟! ألم أقل :إنه كالم مضطرب متناقض.
لكن أليس الخنجر من صاحبه وانتقل معه من الحياة إلى
الموت؟ من النجوم واألشجار والبشر والقصائد ،مرورًا بذلك
النفق الطويل الملتوي والمعتم ،كقطار أعمى ،كدودة زاحفة،
حيث ال شيء سوى الصمت والعزلة والتراب؟! أليس الخنجر الصديق الذي لم يكتف بقتله والسير بجنازته واالندفاع في حمل
نعشه ،كما يفعل األصدقاء المقربون عادة ،بل غاص معه إلى
القبر ،فكيف ينظر ببرودة إلى وجوده ،إلى مشاركته مصيره..
إنه كل ما تبقى لديه من أدلة محسوسة على كونه حيًّا ذات
يوم ،إنه كل ذكرياته مكثفة ،إنه مفتاح كل ذكرياته ،إنه أكثر
منهم؛ ألنه يريد أن يكون حيًّا ،هذا كل ما يريد ،إنه «رياض» صوابًا ما سبق وقلته ،لقد ثبت صدقي على رغم ما كنت أشعر في تلك الليلة التي لم تغمض فيها عيوننا سوى ساعتين ً ضيوفا على الموت ،كتبت بدوري قصيدة: أو ثالث ،حللنا بها «هذ ِه اللحظة
وعندَ هذا الشهيق ٌ حياة جميلة. َّإنها هذا المساء
وعندَ هذ ِه الخطوة ٌ حياة جميلة. َّإنها هذا الليل ً َ ونحنُ نع ُب ُر الجبّانة ُ بخطا واجفة نسمَ عُ أنفاس الموتى َ ... ٌ حياة جميلة».. َّإنها
157
قتيل بطعنة خنجر ّ الهش ،بجسده الواهن ،يقوله ويكتبه ويحياه .القصيدة التي أستطيع أن أدعي، ها أنذا أر ّدد ما كان «رياض» بصوته
توأم «الخنجر» .ألم تولد من الرحم ذاته؟ الحياة؟ ومن الظهر ذاته ،الموت ،في الغرفة ذاتها ،وعلى الطاولة ذاتها ،وفي
الليلة ذاتها؟ ولكن ،إذا أردت الصدق ،هي ال أكثر من األخت الصغيرة ،تقطف من ثمار الفروع الواطئة لذات الشجرة اآلبدة ،التي تهبش منها أختها« :تسمع أنفاس الموتى – إنها حياة جميلة» ،فالرجل الميت في «الخنجر» واحد منهم ال ريب ،ومثلهم يردد بصوت كالفحيح« :إنها حياة جميلة» ،ويتململ محاولاً العودة للحياة .إال أن «الخنجر» يغوص أعمق في الجرح .فالرجل ليس مي ًتا فحسب ،بل قتيل ،قتيل بطعنة خنجر ،وهو يسمي الخنجر صديقه ،ويسمي قاتليه
أعزاءه .إنه شعور ينبجس من قبر شاعر قتيل .يذكرني ذلك بالشاعر (غارسيا لوركا) فهي قصيدة تصلح أن يكون قد كتبها
وهو في قبره المجهول .قد يقول أحدكم« :إال أن هذا يجعل القتيل أقرب ما يكون إلى مسيح يغفر لآلخرين كل شيء، حتى قتله؟! لكني ًّ حقا أرى أن ال عالقة لمفهوم الغفران المسيحي في هذه القصيدة ،القتيل ال يفكر به ،إنه ال يبكي ،ال
يندم ،ال يشفق على نفسه ،ال يفكر باالنتقام ،ال يغفر ،إنه يمد يده ،يمسك بقبضة الخنجر ،يريد أن يقف على قدميه
ويعود حيًّا ،هذا كل ما في األمر .بينما قصيدتي ال أكثر من محاولة الرؤية بعين مقذوفة كحصاة إلى خلف تلك الجدران،
ال أكثر من محاولة السماع بإذن تحت التراب .كتبتها وأنا أمسك الحياة هذه اللحظة ،وأهصرها بساعدي هذا المساء، وأدخلها في صدري مع هذا الشهيق ،الحياة الجميلة ،الحياة اللذيذة ،رغم كل شيء ،رغم أيّ شيء ،رغم المرور بخطا واجفة عبر الجبانة ،رغم الحياة في الجبانة .ولكن أيّة جبّانة أسأل نفسي؟ أيّة جبّانة تلك التي أتكلم عنها؟ بينما لم يكن
في الحقيقة ثمة شيء من هذا في الطريق الذي مضينا به ونحن نرقص ونضحك .ثم أسألكم أيّ موتى أولئك الذين كنا
نسمع أنفاسهم ،يرددون ،إنها حياة جميلة؟
دمشق -1981الالذقية 2016
تراث
رحلة حكواتي شرقي إلى الغرب
فحمة تييري: اكتشاف مخطوطة حنا دياب
أثر كثي ًرا في مجال دراسة ألف ليلة وليلة
حوار :جورجيا مخلوف كاتبة وناقدة لبنانية
158
ترجمة :محمد اإلدريسي باحث مغربي
العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
تحيلنا هذه الترجمة ،ضمن حيوية أسلوبها ،إلى دقة
ملحوظات دياب والمعنى الذي يضفيه عليها ،إضافة إلى إتقانه المنابع السردية .إن هذه الصفات الرائعة تعود
ً صانعا للتاريخ؛ إذ إنه ال يعد حنا دياب راو ًيا
يمثل فقط نظرة شرقية حول العالم المتوسطي
وفرنسا خالل مدة حكم الملك لويس الرابع عشر فقط ،إنما نجد أن هذا الرجل «العادي» يمثل حكواتيًّا منقطع النظير ،إذ ساعد «أنطوان
غاالن» بشكل كبير في تحرير كتاب «ألف ليلة وليلة» خالل مطلع القرن الثامن عشر ،لكنه ظل
إلى رجل بدأ رحلته في العشرين من عمره ،لكنه لم
يعكف على كتابتها إال بعد أربع وخمسين سنة من عودته إلى بالده .يشكل الكتاب ً أيضا تأملاً حول الحياة ،ويظهر حرية أكبر مقارنة بالعديد من كتاب الرحلة ،ويتجنب
األماكن المشتركة ،وإرباك المعرفة الواسعة التي تساعد في التفاخر .يجب أن تحظى قصته باهتمام القراء ألصالة
أدلتها التاريخية ،ونظرها الثاقب ،ومرونة لغتها التي تبحر بين أشكالها الشفهية والكتابية.
هذا الحوار مع بول فحمة – تييري التي ترجمت نص
منسيًّا .يروي دياب أكثر من ست عشرة حكاية.
حنا دياب ،ووجدت في لغة حلب ،وبشكل سردي،
و«علي بابا» .تظل هذه الحكايات «يتيمة» نظرًا
• كيف كان لقاؤك مع هذا المخطوط المدهش؟
اثنتان منها حظيتا بشهرة كبيرة وأصبحتا األكثر ً مبيعا في العالم ،وهما حكاية «عالء الدين» لفقدان مصدرها العربي ،الذي يعود لحنا
دياب .كان هذا الشاب الحلبي غريب المصير،
طفولته الماضية.
-يندرج هذا العمل في إطار أبحاثي حول أدب الرحالت
ضمن المخطوطات العربية للقرنين السابع عشر والثامن
عشر ،التي عثرت فيها على نص حنا دياب .سبق لي أن
سعى في المقام األول للهروب ورسم «طريقه
عملت على مخطوطة مشهورة للبطريرك مكاريوس في
وضع نفسه في خدمة أحد التجار :لقد وقع طي
من التعمق في هذا النوع من األدب في إطار سلسلة ندوات
الخاص» ،وانخرط في أحد األديرة .لتحقيق ذلك
روسيا سنة 1653م .مكنتني بعض المخطوطات الشرقية
النسيان على حين أن اسم أنطوان غاالن – الذي
المدرسة التطبيقية للدراسات العليا بفرنسا .في سنة 2009م،
نقل مذكراته وحرص على الخوض في كل ما يحتاج إليه -ظل ً براقا.
علي برنار هيبرغي هذا المخطوط الطويل ،الذي كتب عرض َّ
بلهجة مسقط رأسي وظل غير منشور .في البداية كنت أريد
و صانع للتاريخ ،ال يمثل فقط حنا دياب را ٍ نظرة شرقية حول العالم المتوسطي وفرنسا خالل مدة حكم الملك لويس الرابع عشر فقط ،إنما نجد هذا الرجل «العادي» يمثل حكوات ًّيا منقطع النظير؛ إذ ساعد «أنطوان غاالن» بشكل كبير في تحرير كتاب «ألف ليلة وليلة» خالل مطلع القرن الثامن عشر ،لكنه ظل منس ًّيا
159
تراث
أن «ألقي نظرة» فقط .وبالفعل ،ألقيت نظرة وعكفت أربع سنوات على ترجمة هذا المتن الرائع.
• من هو ً إذا حنا دياب؟ وما الذي يمكن أن تقوله لنا
وراو؟ حول أسلوب كتابته وحوله كرجل ٍ -بداية ،أود أن أعبر عن سروري الكبير لسماعي
واستماعي لهذا الرجل الذي يتجول في العشرين من عمره،
فحمة تييري
هذا المستأجر الشاب لدى أحد التجار الكبار والمستقر في
أنطوان غاالن الذي كتب له ألف ليلة وليلة .لم تكن في
ويحكي مغامراته التي دامت أكثر من ثمانين سنة .إن قصة مدينة حلب السورية غير عادية .يحظى بتجربة رهبانية
بلبنان ،ويستأجره أحد الرحالة الفرنسيين -بول لوكاس س ًّرا ،ويتعرف في زيارته إلى الخازن ،جامع الضرائب منالمسيحيين والموالي للعثمانيين ،ويتوجه نحو الصعيد
المصري ،ثم ليبيا ،وتونس ،وإيطاليا ،مواجهً ا العواصف ومتحديًا القراصنة وصولاً إلى مرسيليا الفرنسية .ويتوجه
نحو مدينة باريس ،ويقدم إلى الملك لويس الرابع عشر
أحد اليربوعيات غير المعروفة لدى هواة العلوم في ذلك العصر ،ويظل سنة قبالة جسر سان ميشيل ،ويلتقي
160
جعبة غاالن في تلك المدة أي حكايات ،لذلك طلب من
دياب أن يزوده بها .لم يتردد حنا في ذلك ،ونقل له من المشرق الشهير بعض الحكايات المشهورة منها «علي بابا» و«عالء الدين» ،التي ستعرف نجاحً ا باه ًرا .كتب حنا
دياب بلغة مألوفة واعتيادية ،تشبه إلى حد كبير لغة
طفولتي ،منذ أكثر من ثالثة قرون .استثمر مرونة اللهجة ً أحيانا .ابتكر العامية الستعادة األوضاع ،وبشكل عنيد ً وصيغا جديدة من الكلمات التي عبرت طرائق المالحق
عن مشاعره بشكل ممتاز .فيما وراء مهاراته الروائية ،تظل كتابته فريدة من نوعها :يتحدث عن مخاوفه ،وملذاته
واندهاشاته.
• يمكن أن نقول :إن حنا دياب
رجل «عادي» .ما دوافع رحلته العجيبة؟ ولماذا قرر أن يحكيها بعد
سنوات من عودته؟
-إنه بالتأكيد «رجل عادي» ،وخادم،
وطباخ وعامل تنظيف ،تعلم القراءة
والكتابة بالفرنسية ،لدى تجار حلب ،لكنه
اكتسب بعض المواهب .إنه أصغر أشقائه
المسيحيين الذي بنى شبكات ارتقائه االجتماعي.
لم تحد خياراته الحياتية عن المعايير ولم تعقد
عملية ارتقائه االجتماعي .لكن ،وبفضل جرعة من
العصيان ،بحث عن طريقه الخاص :غادر حلب س ًّرا؛
ألن إخوته «لم يكونوا ليسمحوا له بالذهاب» كما يقول. وفي الصعيد ،رد على رسول أبلغه برسالة تهديد تدعوه إلى العودة إلى حلب قائلاً « :أنا اآلن رجل يحدد مساره
بيده» .عندما سأله رئيسه المستقبلي حول رحلته ،رد
بنبرة قوية ،بأنه يريد «استكشاف العالم» .صحيح أن الكتابة المتأخرة لهذه الرحلة ،بعد خمسين سنة من وقوع
الحدث ،مدهشة للغاية ،لكنني أتفق من جهتي مع مسار
فكري دشنه أحد الجامعيين األلمان الشباب الذي يميز بين العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
رحلة حكواتي شرقي إلى الغرب
شخصين لدى حنا دياب :الراوي والمسافر .ترتبط قصة
المسافر بالمغامرات والتقلبات ،على حين أن كتابة الراوي هي انعكاس ذاتي« :وثيقة أنوية» .بهذا المعنى يصبح المؤلف مدخلاً نحو الحداثة. • ما االكتشافات التي نتحصل عليها من خالل قراءة
هذا النص؟ ما الذي يخبرنا به حول العالم والمجتمع
وزمن كتابة النص؟
-يعد هذا النص فخر الوصف الكالسيكي،
حيث يركز على ما يفاجئ عادة المسافرين الشرقيين إلى الغرب :اآلالت المنظفة
لميناء مرسيليا ،أو الساعة الفلكية بكاتدرائية سان جان في ليون على سبيل المثال ال الحصر .كما يروي
حنا اكتشافه الستخدام األواني
في الغرف ،واعتياده على استعمال
مراحيض مجهزة بالماء الجاري ،وأعجب
بتنظيم اإلنارة بباريس ،ويعلمنا التحضر .كما نشير ً أيضا إلى ثابت آخر لهذه القصة ،والمرتبط بلقاء حنا
161
بالشرقيين في جميع أنحاء البحر األبيض المتوسط. • ما الذي نتعلمه حول ألف ليلة وليلة؟
-لقد أثر اكتشاف مخطوطة حنا دياب بشكل كبير في
مجال دراسة ألف ليلة وليلة .سمحت هذه القصة واليوميات الباريسية لغاالن بالتحقق من أصل هذه الحكايات ،التي أعاد كتابتها بنفسه ،وربط هويتها بـ«حنا الماروني» كما تظهر في يوميات غاالن .ظل نص حنا هنا مجهولاً لوقت
طويل .يتعلق األمر ً إذا بأصل شفهي للقصص المكتشفة كما وردت لدى حنا دياب ،ويمكننا أن نتحدث عن «عنصر فرنسي -سوري» لحكايات ألف ليلة وليلة .هناك طريقة
أخرى للربط بين حنا دياب والقصص ،وتكمن في إتقانه فن الحكي ،وبخاصة قدرته على تضمين السرد خصائص
ألف ليلة وليلة.
يروي دياب أكثر من ست عشرة حكاية، اثنتان منها حظيتا بشهرة كبيرة مبيعا في العالم ،وهما وأصبحتا األكثر ً حكاية «عالء الدين» و«علي بابا» المخطوطة موقعة بيد الكاتب .لكن السعادة الحقيقية تكمن في اكتشاف حلبي يؤكد على فرادته خالل القرن
الثامن عشر ويشيدها بين اقتراض واختراع ،وبين امتثال للقيم وعصيان لها ،وبين خطاب متفق عليه ،وخطاب
• ما التحديات التي واجهت عملك ،وما أعظم
أحكام شخصية ...إنه مسيحي يقلد الغرب ،هنا «الفرنجي»
-تكمن الصعوبات التي واجهتني في عملية الترجمة
أخرى ،لكن هذا التقليد يعطيه فرصة لالبتكار ،كما يشهد
أطول النصوص ضمن هذا الجنس األدبي ،والحذف
الكتابة المتأخرة لحكاية رحلته يمكن أن يرسم لنا ما يسميه
سعادة لك؟
فيما يأتي :نص طويل 174 ،ورقة ،وربما يكون واحدً ا من واإلضافات الهامشية ،التي تظل داعمة لفرضية كون
هو بول لوكاس ،ويعتمد على طرائقه تارة ويخفيها تارة
على ذلك بنفسه .إن هذا االستكشاف لـ«الذات» وهذه غوتيه بـ«البطل الذي يصنع مصيره بيديه».
نصوص
قصيدتان محمود قرني شاعر مصري
العجوز األعمى
٭
الذي أفنى عمره باملكتبة الوطنية يف «ريو دي جانريو»
يقلب أوراقه الصفراء ً بحثا عن فساتني ورد األكمام وعن إخوتها
الذين أغلقت شواربهم بوابات املحيط
وعندما صادفه القصر
الذي زينته عشرات األقفال
162
أصر عىل تحطيم غرفته السرية
فوجد منحوتات هائلة لطيور خرافية
تسقط عىل رأس ملوك توليدو
وخيوالً مطهمة يسرجها الفرسان
مقاليع ومضارب ومجانيق
أساور ذهبية نقشت عىل متونها أسماء ملوك غابرين
وكت ًبا سوداء ال تحىص
ثم تعرث يف كتب العرافني األوائل
الذين بشروا من يفتح غرفة السر باملوت عىل يد الغزاة
ولم تمض أيام
حتى داس طارق بن زياد سهول أيبرييا هنا
سقط العجوز مغش ًّيا عليه وبني يديه الكتاب
فاستيقظت ورد األكمام مذعورة مسحت عىل جبني الرجل
بعد أن حُ مَّ لثالث ليال
وبعد أن أفاق قالت له: يا والد املتاهة
احذر الحلم
وأعد األقفال
عندئذ أنزل األعمى ريشته تنهد طويلاً
حاول إعادة األقفال إىل موضعها خورخي في المكتبة
لكن أشياء كثرية يف أيبرييا كان قد طالها الصدأ.
٭ املقصود هنا خورخي لويس بورخيس . العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
انفجا ٌر يف الرأس لم يذكر «أورهان ويل»
٭
أنه كان حزي ًنا عندما َ قطعَ ْ ت ُثركيا ل َِسانه
يكتب بالحروف الالتينية فصا َر ُ َ ُ العربية ينطق وال إال يف الحَ مَّ ام .
وعن الحريةِ
التي نالتها تركيا
فأمكنها – دونَ جهدٍ – َ تمتئل بـ()... أن وأنْ تغ ّني:
«مال الكاسات»..
و «آمااان ..يا ال ال ليل »..
باإليقاعات الالتينية ولكن ِ نيس األم َر فقط ،يذك ُر أنه َ َ بأس بها وكتب َ قصائد ال َ الحانات والسفر عن ِ
ُ تودع الراحلني والنجوم التي ِ ُ إسطنبول كانت َت ْخ ِر ُق َقاربَها ً مرتنحة ري وتس ُ
َ جنوة وبرلني وباريس عىل مقاهي بعد أن َس َّلم ُ َ «آل عثمانَ » َ ِعمَ َ اإلمرباطورية امة لجنود «أتاتورك»
ب مع الغاربني كان «أورهان» ي َْغ ُر ُ ُ يتحدث بأس
االستسالم اللذيذ عن ِ
ُ مقاالت الثورة تطبخ لألفران التي ِ ِ
الشاعر أورهان ولي
كذلك أَمْ َك َنها أنْ ُت َكرِّمَ و َ ُالتها يف األقاليم َف ُتعَ ينّ َ رئيس الطباخنيَ حاكمً ا عليهم . «أورهان ويل»
الذي غ َّنى لرتكيا
رب نفسه ضالعً ا يف حبها واعت َ َ صعد عىل أكتافِه
ُ األوباش وتجا ُر العبيد
َ فمات دون السادسة والثالثني بانفجار يف الرأس ٍ
«مسكني أورهان أفندي». ٭ شاعر تريك ولد عام 1914م ورحل عام 1950م .
163
مقال
شيمون بيريز.. نسر ينتحل لقب حمامة شيمون بيريز الذي رحل عن عالمنا عن 93عامً ا مصحوبًا بنعوت ال يستحقها من قبيل أنه رجل المصالحة
واالعتدال ،وحمامة السالم .لم يكن يحمل هذا االسم في األصل ،فاسمه الحقيقي شيمون بيرسكي ،وقد اختار بنفسه لقب بيريز بعد هجرته إلى فلسطين عام 1934م التي كانت آنذاك خاضعة لالنتداب البريطاني ،واسم بيريز يعني
بالعبرية :النسر .وهكذا فقد اختار الرجل بنفسه أن يكون نس ًرا ال حمامة ،ومع ذلك فقد انطلى خداعه على كثيرين في عالمنا ،بل رغب كثيرون في خداع أنفسهم وخداع جمهورهم ،بدلاً من تجشم عناء التماس الحقيقة والجهر بها
ّ تمت والعمل بمقتضاها ،ومسيرة بيريز المهنية والسياسية تؤكد أنه كان معنيًّا بسالم بمعايير صهيونية خالصة ،ال إلى حقوق اإلنسان وحقوق الشعوب بصلة وبخاصة حق شعب فلسطين في العودة إلى دياره.
ال شك أن الرجل الذي وُلد في بولندا كأحد أبناء ذلك البلد ،ثم أدار له ظهره إلى األبد ،كان يتمتع بمواهب دبلوماسية وخطابية مميزة ،وقد َّ سخر مواهبه في خدمة المشروع الصهيوني القائم على نفي اآلخر ،ال في خدمة
مشروع السالم ،وكذلك في خدمة مشروعه الشخصي للترقي إلى أعلى المناصب .لقد منح السالم رطانته الخطابية
وموهبته التي تكاد تكون أدبية ،وال تلزم صاحبها بشيء محدد ،ومن دون أن يبذل أية تضحية أو يتحمل أية متاعب في سبيل رؤية السالم وقد ساد .ومع هذا فإن كثيرين ظلوا يستذكرون خطاباته وصوته األجش وتهويماته اإلنسانوية،
ويتناسون سجله المهني غير السلمي.
164
عاش مثل لويس الرابع عشر
حتى على مستوى حياته الشخصية ،فلم يعش كواحد من عامة الناس أو قريبًا من طبقة وسطى عريضة ،فقد
كان يميل إلى نمط حياة أرستقراطية مترفة ،وقد وصفه الروائي اإلسرائيلي من أصل عراقي سامي ميخائيل قبل نحو سبعة أشهر من وفاة بيريز بأنه «عاش حياة بذخ أنفق فيها 20مليون دوالر كل عام كأنه لويس الرابع عشر» .ربما يبالغ ً اعتراضا او تفنيدً ا من أحد .وبينما بكى بيريز ميخائيل بعض الشيء ،غير أن انتقاده الالذع لنمط حياة بيريز لم يلق
بمرارة أمام أضواء الكاميرات ،في جنازة زوجته سونيا جيلمان التي توفيت عام 2011م ،فقد انفصل عنها عند بلوغه
رئاسة الدولة عام 2007م ،وبقيت تقيم وحيدة في شقة تل أبيب ،بعيدة عن أبنائهما الثالثة ،إلى أن وافاها الموت.
منذ مقتل رابين شريكه في الرابع من نوفمبر 1995م في حزب العمل وغريمه في التنافس على مواقع قيادية
في الدولة العبرية ،لم يعمد بيريز إلى استثمار موجة التعاطف مع رابين والنفور من معسكر اليمين المتطرف الذي معاكسا ،إذ لم ي َر في اندفاع الحكم ينتمي إليه قاتل رابين ،من أجل تعميق خط سياسي سلمي ،بل فعل شي ًئا ً
اإلسرائيلي أكثر فأكثر نحو اليمين ما يناقض قناعاته ،أو ما يعوقه عن االستمرار في حياته السياسية ،وهكذا كان سلوكه بالفعل ،وكأن شي ًئا من حوله لم يحدث .فقد عمل تحت قيادة شارون وزي ًرا للخارجية ،بل إنه انتمى إلى حزب البلدوزر شارون المسمى حزب «كاديما» ،متخليًا عن حزب العمل .فقد أدرك بحسه االنتهازي المرهف أن المجتمع
السياسي الصهيوني ينجرف نحو اليمين ،وسرعان ما تكيّف مع المناخ الجديد.
إذ اشتهر الرجل بأنه أحد صانعي اتفاق أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية ،وهو ما ّ مكنه من الحصول على
نوبل للسالم ،لكن ارتداد اليمين الصهيوني المتطرف عن هذا االتفاق لم يحمله أبدً ا على الدفاع عن االتفاق ،والتمسك
به والعمل على تطبيقه .لم يكن الرجل عسكريًّا ولم يخض معارك في حياته ،لكنه وضع نفسه كبيروقراطي مدني في خدمة المؤسسة العسكرية ،فقد التحق بعصابة الهاغاناه عام 1947م وكان مسؤولاً عن الموارد البشرية والتزود بالسالح .وظل يعمل في وزارة الدفاع بصفته المدنية وكأحد كبار العاملين فيها ،وكان ً بارعا في عالقاته السياسية الخارجية ،وقد شجع كلاًّ من بريطانيا وفرنسا على شن العدوان الثالثي على مصر وبمشاركة إسرائيلية ،وكان آنذاك في الثالثة والثالثين من عمره.
العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
بارع في التالعب بالعقول
بعد ثالث سنوات من العدوان وفي حوار أجرته معه صحيفة
«هآرتس» قال ردًّا على سؤال« :إن العرب والدول العربية وحكامها ال ً مطلقا» .ومن الطبيعي مع نزعته العنصرية الكامنة ،أنه لم يعنوني يُع َرف عنه الوقوف ضد العنصرية والتمييز اللذين الزما نشأة الكيان الصهيوني وأخذا يتضخمان في العقدين األخيرين ،وبدلاً من ذلك ظل مولعً ا بترديد عبارات عامة فخمة عن السالم والتعايش والعالقات بين الجيران .كانت الدولة العبرية بحاجة إلى مثل هذا الرجل البارع في
العالقات العامة السياسية ،وفي التالعب بالعقول وبالوقائع .لكن نبرة
الرجل تتغير إلى حد كبير في الكنيست (البرلمان)؛ إذ كان على الدوام يتحدث بنبرة عدوانية تصل إلى حد الصراخ ضد النواب العرب ،وأقل صفة كان ينعتهم بها هي أنهم ستالينيون.
محمود الريماوي كاتب أردني-فلسطيني
ومن الغريب ًّ حقا أن ِس ِج ّل الرجل في الحروب ،وبخاصة الحرب
رئيسا للوزراء يتم تناسيه؛ إذ ارتكب على لبنان في عام 1996م حينما كان ً َ ستذكر مجزرة قانا ضد مدنيين لجؤوا إلى ملجأ لألمم المتحدة ،فيما ُت خطاباته الوعظية .كما يتم تناسي قيام مقاتالت إسرائيلية في األول من أكتوبر ّ بدك مق ّرات فلسطينية في منطقة حمام الشط أسفرت عن مقتل
17فلسطينيًّا ،وكان الهدف األول للعملية ياسر عرفات ،وقد وقعت
هذه القرصنة إبّان تولي بيريز رئاسة الحكومة عام 1985م.
كذلك يتم تناسي أنه أول من أدخل السباق إلى التنافس على
امتالك األسلحة النووية في المنطقة ،فهو أب المشروع النووي
اإلسرائيلي ،وذلك من خالل اتفاقية سرية مع فرنسا أبرمها حين كان مدي ًرا لوزارة الدفاع ،أدّت إلى بناء مفاعل ديمونا النووي في صحراء
النقب الذي بدأ العمل به عام 1962م .وعقب وفاته قررت حكومة نتنياهو تغيير اسم مركز ديمونا إلى مركز شيمون بيريز الذي عمل كثي ًرا إلقامة هذا المركز المهم جدًّ ا ألمن إسرائيل ،كما قالت الحكومة اإلسرائيلية
في بيان لها بالمناسبة. ّ في يوليو 2014م انسل بيريز خارجً ا من مق ّر رئاسة الدولة في القدس، ّ وحل محله الرئيس الليكودي الحالي بمراسيم وداع روتينية وسريعة،
رؤوفين ريفلين .منصب رئيس الدولة ذو صفة فخرية ،مما كان يرضي غروره من جهة ،وال يتماشى من جهة ثانية مع النزوع السلطوي للرجل. وقد انطوى بيريز خالل العامين الماضيين في عزلته بعيدً ا عن األضواء التي يعشقها ،ولعل حياة الظل هي التي تسببت ً الحقا بإصابته بجلطة دماغية أودت به في 28سبتمبر 2016م.
منح السالم رطانته الخطابية وموهبته التي تكاد تكون أدبية ،وال تلزم صاحبها بشيء محدد ،ومن دون أن يبذل أية تضحية أو يتحمل أية متاعب في سبيل رؤية السالم وقد ساد
165
نصوص
ثمن البندقية يحيى امقاسم (1976م 1989 .م)* روائي وقاص سعودي
إهداء :أيها الرجل القديم «محمد بن راشد بن خنني» إليك القليل من إرث األب.
َ حكاية أبيه .رجع بتقاعد مبكر من الخدمة العسكرية .عاد الجندي يرتك لريح الفقد نهب البيت وزوجة خالية يتناقل الناس
اليدين والرجاء .يمتطي رغباته يف ِّ الدمن املحصورة بني جبال «امعارضة ،امنجوع ،بلغازي ،ال ّريث ،امداير »...،وسهل تهامة(.)1
تغمره السعادة عند «امجبالية»( .)2ينحر عىل مسامع رجال الجبال ذكرياته يف الجيش .يحيك لهم عن نساء يلهنب أمكنة بعيدة، ويُنازلن القمر حاملات به .يصب عىل لهفتهم أهازيج السيول ومواويل األمطار والخريف .كلما ّ هب متجهًا حكه الوجد إىل مجالسهم ّ إىل الجبال أو «اَمّ ها الصاعد» كما يسمّ ونها ،فال بدّ من مشقة الصعود ،ليقيض عىل وطر أشواقه هناكَ . دلق كل ما يملك إىل أن ً جفت يده .التفت إىل أراض ورثها ،وراح ينقصها بيعً ا حتى خلت جميعها للغري ،ثم انقلب عىل ّ ساخطا ..من جديد يمدُّ حظه
166
القلب نحو كل الجهات عدا بيته وأهله. َ ْ شدّت ويأسه حافل« ،مطر» يحدّث األم( )3عن األب« :كلهم يعودون قبل الظالم ،وهو ال يعودّ .إنه ال يخاف الظالمَ مثلهم». ًّ «حقا ّإنه شجاع ،وهذه املرة لن يغيب طويلاً .»... من عضد ثقته يف شجاعة األب بنظرة استحسان لمِ َا ذكر ،وعززت:
يُكرر« :ليته يشعر بالخوف ولو ملرة ليعود مثل بقية الرجال قبل املغيب.»... إنّ وقته ال يسع حتى لبهجتهم ،فهو معد لكل مباهج الوادي وما تاخمه من ربوع سعيدة ،وتعود األم املعبوبة بالحنق لتذكرّ
«مطر» بشخص يُعني اآلخرين يف يوم حصادهم؛ بينما أهله يف ذلك اليوم دون مُ عني!(.)4 بعد أن يبخسه العائدون أملاً يف أن يجد أخباره بني أمتعتهم ،إمّ ا ذكر هنا أو خرب هناك ،كثريًا ما يُردد «مطر» عن األب بمرارة:
«ليته يشعر بالخوف من الليل ولو ملرة واحدة .»...هذا بعد أن يقرأ آخ َر خطو ٍة يف أزقة القرية ،وذلك شأنه يف كل ليلة من سنة
انقضت عىل الرحيل األخري لألب .كل ليلة يعود لألم بخسارة يف الجبني.
يف مساء أخري ..أقبل ّ يبث شظايا تعبه عىل صدر األم؛ إذ نقل إليها ّأنهم رأوه منذ أيام يف سوق «امّ َشوف» ،فلم تكرتث لذلك لاّ ً شقي ،وراحت تهبه عزاءً يف قولها ...« :سيأيت ،وأنا لست خائفة ،فأنت رجيل لغرض سابقا ّأنه لن يعود إ كما شعرّ .إنها تعلم ٍ ّ
ّ العشة ،وقالت بصرامة« :رجولتك يف هذه .حافظ عليها حتى الوحيد يف القرية ،)5(»...ثم نظرت إىل البندقية املعلقة يف عرض ( )1وتطول قائمة ّ الدمن والوجهات التي يقصدها يف جبال «ساق الغراب» املحاذية لسهل تهامة من جازان بداية بجنوبها «اموسم ومعاليه امخوبة وجبال العبادل ،أما لو ّ قلش مشايم جنب بساحل الجعافرة وعىل وجهه حتى تقول سالم يا خبت البقر ودرب ابن ُشعبة ومن صاعد الريث والربوعة« ..»...عا ُده هذا الاّ امقليل ما اريتي يش» يعلقّ ، بأنها لم تشاهد من زينه إال القليل ،فما زال يكنز الكثري ،هذا كلما عاتبته عىل وضع الكحل وعطور الربيع ليكون يف صف الصبايا ورقصة «امّ عىش» الغفرية ْ بزفري النشوة واالتقاد والعيون التي يقر فيها كل حُ سن.
( )2يسكنون الجبال ،يبثون من مرتفعاتها رقصهم وتسيل من أعاليها أعراسهم ،وهو يف أول أفراحهم بالختان وعىل درب الرجال ..يزف إىل مسامع القرى املجاورة أخبار األلوان والبهجة ومنازل النجوم وبشرى السيول والحقول الحبىل.
( )3نال بحديثهما ينوش حاجتها يف الغائب ..الغائب الذي يعرفه الليل أكرث من النهار .الغائب الذي ينزع غبار جسده خارج البيت ،والسادر يف الرتحل إىل دنيا تخصه ،إىل الحياة التي ال هامش لها سواهما ..مطر واألم.
(« )4يا صاربة يف بالد ..واهلك امصوارب!» ..يُعزز املكان ثقتهم به كلما ابتدعت لغ ُتهم أهزوجة أو أمثولة تمجده وتبقيه يف أذهانهم أمد الدهر .فمن يعمل يف بالد غري بالد أهله ،ومن يف وقت الصرم يتوق لج ّز محصول أرض غري أرض أهله؟! ،كانت األم ُتعيد عىل «مطر» هذا املثل وتعود من جديد للمعنى الشاهق يف حفاظه عىل البندقية
وصون بالده. ( )...( )5فراغات تكشف يف مواقفها افتقار حديث األم لعبارات متممة ،وهذا النقصان يُعادل واجب التخفي ،وعدم إنجاز املوقف كاملاً ؛ فيكفي يف شراكتهما مطر واألم نصف اإليضاح ،ذلك النصف الذي يفي بقطعهما ملسافة الحياة اليومية معً ا ،وليس أبعد من ذلك ..هي تتوجع دون أن تنبس بكلمة ،وهو يعزي بشجاعة األب التي ال نظري لها يف الوادي .لكن غياب األب يعني هدر الكثري يف التم ّني أن ُتردم الهوة بني وعي األم بقيمة البندقية فعلاً وبني إدراك «مطر» لتلك القيمة ،وكل حسب حاجته.
العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
املوت» ،ثم أبصرها ُتحدّ ق بحرقة إىل فرجة البيت املقفر ِة من أمنيةٍ تتغيّاها ،ربما(.)6
ً شجاعا؟». سألها« :هل يلزمني الرحيل شمالاً ألكون مثل أبي
ْ أسرعت تجرحُ حنجرتها بآهة ،وتجيبه بوجل« :ال ..ال )7(..لو حافظت عىل هذه ً جوعا قديمً ا ،لكنه يشعر به ويسأل البندقية فأنت شجاع ..تفهم؟! ،»...وتجنبت أن يرى يف عينيها
قراره عنه« :ترى أيّ حاج ٍة تبتغيها من غائب بعيد؟». ّ ّ البندقية طاعنة يف الذكريات والرجال .بارودها ينوس يف العشة .هي كل ما بقي لهما .إنها مدد السماء إلزاحة ّ العشة أيادي الخفاء من الغيالن والجنيّات كـ«بُدَ ة املغرب» حني يلتقيها عىل خوفه من ليال مدلهمة باألعاصري يقرأ فيها من فرجة َ مسلعية» تقتسم معه النحيب عىل شجعان واديه ..هذه البندقية عادتها تطوق كتفيها بنهديها ،ويشاركها انتظار الغائبني ،و«ا ُ هي َزهْ وهما الوحيد يف قرية يفتقر أهلها لبندقية مماثلة. عاد يفكر« :كيف سأُالقيه غدً ا».
يجس وجعه الرطب .يقيس مقدرته عىل تحمل غيابه مرة أخرى .وفج ًرا استوى وجعه أمىض ليلته مهملاً كسؤاله دون إجابة. ّ ً قبالته عندما رأى وجه األب العائد يعصفه الحنق ،ويحتدّ بخطاب يحتمل فراقا قاسمً ا ،فسحق يف قلبه احتفاءه الصغري به .ظل
ً ّ العشة .شاهد األم جاثية أمامه ساخطا يف ُفر ُد يف خاطره الكثري من االحتماالت املزعجة ،ويعود بنظره إليه .كان األب يتحرك ي ِ ّ ُ كأسري ،تتشبث بالبندقية كما لو أنها تحضر نزعها األخري .كانت تناضل يف الحفاظ عليها .تضمّ ها إىل جذعها الجاف وتغرقها بدموع
أدركت مثل «سَ مْ َلة»( .)8كانت تبذل كل جهدها ضدّ محاوالته لسحب البندقية .تتلوّى عليها ،وتستنجد بأمجاد قومها( )9حتى ِ ري مصابها يف فزع من األشجار وفوق طرقات القرية. العصاف ُ لاً ّ لم يدم مشهدها الجارح طوي حتى أظهر األب تراجعً ا عن نيته ،وتوارى خارجً ا من البيت بسرعة تثري العجب ،وكأنه يخىش أن يشيع مع الصباح صوت نزاعهما(.)10
من فورها وضعت البندقية يف خرجها ،وقالت لــ«مطر» الصامت« :هو لن يسكت حتى ينال من هذه البندقية .لم يعد إلاّ
ليأخذها .يريد أن يبيعها .وال بد أن ُتكمل معي الطريق للدفاع عنها فهي فخرك القادم بني الناس .اليوم هو يوم رجولتك يا مطر ،»...ويف قرارها املظلم ُتسجل ً رفضا لغيابه؛ لذا وجب عليها تدبري انتقام يليق بصربها العتيق. ً مفتونا ،فهو خرجت تظفر بكل دقيقة يك ال يلحق بهما ذلك الجازع ،والبندقية من عىل كتفها تتدىل و«مطر» يتشوّف لها
حاملها املغوار يف غدٍ يُشرق عىل وادي الحسيني تلعلع فيه بالرصاص من فوق رؤوس األشهاد ،معلنة عن يومي شهرته وختانه، هذا ما تم ّنيه به األم دائمً ا. ( )6ربما ،فهي لم تحدد «العود» ففي اإلياب الحياة الواعدة ،لكنها قالت« :سيأيت» ويف ذلك استمرار وامتداد ملا هي فيه ال أقل وال أكرث. (« )7ال ..ال ..إلاّ الشام ،»...ال بد أن ُتوقفه عند قدسية جهلهم بكل الجهات ،وعليه أن يلمس وحده مبكرًا عواقب الخروج من الوادي.
ً ( )8وال َ صوتا يف الوادي ،فكان حزنها ال يعلو بصراخ ،لكنها إن ناشدت تاريخ أهلها فال بد من علو صوتها؛ ألنّ مقام األمجاد ال ـ«سمْ َلة» ال تركض مياهها سريعة وال تحدث
ً عميانا ال يقودهم إىل يكون بصوت خافت .تكتظ الدار بالحكايات التي يسرحها فمها كقطعان وتزدان بآهات الحنني إىل األجداد الذين عندما وصولوا هذا الوادي كانوا هدى إلاّ ظالم ..هكذا يرثون قبض القلب والروح عىل هذا الوادي فال يُغادرونه إلاّ وينالهم العمى الذي الزم أجدادهم حتى رأوا الدنيا يف هذا املكان ،كما يأيت يف تعاليمهم.
وصية واحدة ال ينفكون عنها وال يربطون عىل غريها وهي ألاّ يتخلوا عن هذا الوادي الضارب يف السر والسحر ما بقي ألحدهم فاه ينادي وحلق رطيب. ْ زايدة عىل الشرف بباع» ..وتلد من حنجرتها بعد هذا االستنهاض كل مفاخر قومها ..هم الذين أدموا «أبرهة» قبل «طري سجيل» ،وهم الذين يشمّ ون (« )9أنا بنت السباع «امنعقريز» البارود وهو عىل مسرية يومني من واديهم ،وهم الذين بإيمانهم ينزعون أمطار الغيوم ،ويسوقون املاء من صخره حتى طينه.
( )10الحقيقة أنّ نزوعها إىل تعداد مآثر أجدادها يقبض عىل حجر القلب فينال من نوازع غضبه حتى يلني وتمطر عيناه مذع ًنا لرغبة االبتعاد ..وذلك شأنهم كلما تنادوا ببطر ماضيهم.
167
نصوص
أعلنت له رغبتها يف الهروب بالبندقية إىل جبل «عكوة»( ،)11فهذه هي الطريقة الوحيدة التي سيتقيان بها ش ّرهّ .إنه لن يدعهما وشأنهما حتى يحقق مراده ،وإن لحق بهما فسوف ُتلقي بنفسها مع البندقية من الجهة الشمالية األكرث انحدارًا من الجبل ،ولن
ْ قررت!. يُثنيها أحد عن ذلك ..كما ً ً ْ وذكرت شيئا عن مجيئه مرة بإصرار كانت تنتصف الطريق يف سريهما شرقا ،صوب الجبل ،وتهذي بنزوات سندبادهما، واحدة من كل عام ليبذر صغارًا يف جوفها ويعود هائمً ا دون كلمة!.
واملزارعون والرعاة يف ّ حث خطاهم صباحً ا إىل الحقول كانوا يسألون «مطر» عن سبب تبكريه واألم وعن عالمات الفزع التي
تشحنهما ،فرثثر بالسر جميعه ،دون اعرتاض من األم. ُ ضحً ى استويا عىل قمّ ة جبل «عكوة»( ،)12ولم تجدّ الشمس بظهرية قاسية حتى كانت جموع غفرية تحت الجبل تمور بنية ُ معالجة هذا الحدث الجلل ،ويصيحون من أسفل ّأنها لن تمس بض ّر من زوجها «امهَامِ َلة»( ،)13كما نعته باإلهمال كبري القوم الذي ّ
نادى يف الناس أن يذعنوا لِسنة هذه املرأة وابنها يف الحفاظ عىل كرامتهما. وبقيت عىل حالها مع الفتى ،حتى ّ ُ ْ ْ ْ شيخهم عص ًرا تفرق أهايل الوادي فضل عزمت عليه، رفضت منهم كل دعو ٍة ُتثنيها عمّ ا لاً ُ كل إىل حاجته ،فال فائدة تذكر من قضاء النهار كام هناك ،كما رأى وردد عليهم« :هذا زمن امحريم ..تعلموا يا رجال ،هذا زمن امحريم». رأى «مطر» يف منظر تلك الجموع املتحركة من تحته ،نساءً ورجالاً ،إذكاءً لعزيمته؛ ليكون رجلاً مقدامً ا يف يوم ختانه ّ املخضبة باملساء القاين ومن تحته ربوع بالده تشهر للريح دوايل حقولها العظيم ،فراح يقبض عىل البندقية ويُلوّح بها يف السماء
َ حبال وصل توثق ارتماءات البحر عىل السهل الحميم ،وقد سلبت هيئته تلك ألباب الجميع وبساتينها مثل زفاف ،واألودية يراها بما فيهم األم ،عندما سفك من روحه أناشيدَ الفخر واالعتزاز بهذا املحفل البهيج(.)14
بينما الصبي يُواصل نشيده ،واملغادرون يُرخون مسامعهم له ،جاء رجل من أقىص غفلتهم ،يتسلل( .هذا هو!) .تمتم قلبها بذلك يف تردد ،وتبينّ شخصه عندما تفرق الناس من املكان وغيّب أطيافها ٌ ليل بدأ يسيل من الجبال .إثر شهقة مدججة بكل عوالج
168
ْ أدركت حيلة الشيخ وهوان وعوده. الحاجة والسؤال أكدت لشخصها الشاخص كصخرة( :هذا هو ،)...وعندها
صار الغروب رقعً ا ممزقة يف األفق ،حينما جلس نصب نظرهما الهلعني عند منبت الجبل تحديدً ا ،وجواره حمل
مسافر.
( )11جبل «عكوة» هو املالذ املنيع ،هو القلعة الكربى ..هذا الجبل امتداد تاريخ طويل مع البقاء .يلزمون واديهم كما يلزم الجبل مكانه ،ويكررون كل صباح يف نشيد روحي خفي «كربنا يا أبونا ..كربنا مع هذه الجبال؛ فإىل أي أرض نلوذ وهي ال تغادر .ال نرتك هذه الرفقة .وال نستطيع حملها وإلاّ كانت أول متاعنا .باقون يف بقائها .مقيمون
مثل ثقلها ..وهذه النوق مطعونة مثلنا بالحنني .كربت معنا وكربنا مع الجبال ..أخوة يف الصخر والثبات ..أخوة يف الوفاء» .و«جمر بيوتهم يتوكوك مثل نجوم امصيف يسرون امرجال يف غارة واحدة ّ كنهم معصر» ..ال بد لهذا الوادي من حماية ،وأول حماية هي أن يغريوا عىل األودية األخرى؛ إلثبات سطوتهم ال إلذكاء جذوة الحرب
فقط ،فيقطعون املطامع من بدايتها ،وينزلون عىل بالد غريهم كإعصار جامح ال يذر شي ًئا ،ويكملون ّ شق حبط الجبال حتى يشحذوا الشمس من هاماتها؛ لتبكر إىل
أرضهم وزرعهم وولدهم ،وبذلك عىل العهد يصلون األجداد بتنفيذ الوصية الخالدة أن يعلو الرجل الواحد منهم بـ«البقاء البأس» وليس سواه. ً وعمقا :إنّ أول أجدادهم كان قد ُفقد من قافلة بعيدة وهو فتى أعمى ،ولد بمحجرين مغلقني ،وراح ( )12هذا الجبل حصن أولهم وآخرهم ..تقول أكرث حكاياتهم حذرًا يُؤانس الدواب والهوام فال ُتؤذيه ،وتتبع يف خطوه أصواتها حتى وجد جمعها يف هذا الوادي وتحت ذلك الجبل ،ومع أول شمس أشرقت عليه هناك تفتق محجراه عن عينني لهما حذق الذئب ،فأدرك أنّ هذا املكان هو نوره حتى النهاية .لذلك ال تهمهم الجهات وال يعرفون حدو ًدا غري حاجتهم للزمن فيمتد بهم هنا دون توقف ..وال يكاد
«مطر» يذكر الشمال يف أي لحظة كانت؛ حتى تنهره األم عن نوازغ الشيطان ،وهناك تستوجب الحال ،بل تستنفر كل ذاكرتها؛ لتحيك له حكاية األب األكرب ،الحافل بالنور البدايئ ،بالبصرية األوىل يف هذا املكان الذي يمنعهم من كل أرض سواه ويقطع للواحد منهم كل خطوة ُتجانبه.
( )13سيستوي عنده ّأنه أهملهم أو تشاغل عنهم ،فال عذر له أمام الرغبة يف كل الحياة التي يختارها دونهم« .امهَ امِ َلة» ستكون شرك النبزة التي عمرها ألفا عام بينهم وبني من ينعت عتبات البيوت الفقرية بـ«عيىس عىل امكوابي يهمّ ي» ويف ذلك قصة تطول عىل «مطر» وتغوص به يف «فقه كالم» تخاف عليه منه ،فاألم ال تتوسع يف الشرح، ومتى نال وسام الرجولة بالختان وحمل البندقية عندها سيدرك املعذور واملحذور.
(« )14سالم يا قصر امثنايا ذهانا ..مكتوب عىل خده تبارك وياسني» ،فال تضطره األم للرد عىل نفسه عندما يعرف بنفسه أنه «مطر» .وهذا هو تحت قصر فتاته للسالم عىل الخد املكلل بالجمال اإللهي ،وتحدوه شجاعة كل رجل من دمه ،لتحذره العاشقة من أهلها «ال تلمس امدير ترى اَهيل ذهانا .. ..عندهم ناس تغشوا وماسني» ،فال يهابهم إن أخذوا حيطتهم منه ،وروحه عامرة بالهمّ ة وساعده له عتاد سالح ال يخذله .هو يف نشيده والبندقية فوق رأسيهما تعلو كل نايفة ملقامهما الشامخ ..هو مثل
زخ املطر فال وا ٍد يسعه وال سد يرده:
تسليم يوم ُ ماطره يف العرش ّ وكاد..
..من كرث زخه ُ ماطره ما يحمله واد
يريك عىل امليلة وعقوم مشرفة
وكانت األم يف غنائه الرجل يختار مكاتفة صبايا الجبال من دونها وتسأله أيّ عطر ليس لها ،وقد أنبت ولعه يف الجبال وقلبها مولع ببيت تنضج فيه كل الحياة الزكية، ولوال ذلك لكادت أن تقلعها حاجات الدنيا من دار التصرب: يا دوش يف عرض امجبل ما ب ََق ْلب ْ َك
م ـ ــا عـ ــادن ـ ــي بي ــد الـيـم ــن ب ـي ـ ــد شـ ــام ــي
العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
ّ ول ـ ـعـ ـ ــت ق ـ ـلـ ـ ــب غ ـ ـ ــاف ـ ـ ــل ال عـَ ـ َـقـ ـ ْـل ـ ـبَـ ــك ما حيث ما تزرع العظي والبشامي
ثمن البندقية
راح العجز يبلغ فيهما ،والتصقت بفتاها الذي ملس فيها استسالمًا لم يعهده عنها من قبل ،فأبدى تخفيفه من ذلك( :ال تخايف،)... ثم شدّ قبضته عىل البندقية ،إلاّ ّأنها لم ُتعر موقفه تقدي ًرا ،إمّا لعجزه كما جاء يف ظنه ،أو لربما ُتخفي عنه شي ًئا له عالقة برجله ً ْ ًّ خاصا يجول فيها. صوتا وغاصت يف عمقها تتأمل الرحّ ال( ،)15فاحتقن «مطر» بالخوف ،وتركته صيدً ا سهلاً للحرية وقوارع الظنون،
عاد يُعلن« :سأحمي البندقية لن يأخذها مني أحد.»... ْ ْ فأمسكت بكتفه مُ ضيفة لقلبه طمأنينة ،وألزمته جوارها طويلاً حتى طمر الليل بسطة الجبل ،ما عدا تنبهت إليه بعد برهة،
ومضات الفوانيس التي تتعاىل بتثاقل من قرى الوادي املحيطة. ّ مشقة نهارهما الطويل ،فغفا «مطر» يذرع هواجسه عىل معشوقته الراقدة يف حضنه ،ومتوسدً ا فخذ وأخريًا نالت منه ُ قائدته يف هذه املعركة ،التي ظلت تحيك من الظالم درب األب حني يُداهم عرشهما ال ريب ..وهي تعيد الزمتها القديمة «يا صابر
زمان اصرب ثمان»( ،)16وال ترى أبعد من ساعة ليقشع الصرب عن كاهله رفقتها طيلة كل هذا الزمن. ًّ مغطى بلحاف لم يحماله يف زادهما يف الهزيع املتأخر من الليل فقأ «مطر» عنيَ الخيانة املاثلة عندما استيقظ فوجد نفسه
ّ يشق غبار جسد صباحً ا ،وما كاد يتلفت حوله للتأكد مما يجري حتى وشىَ الليل له برغبة حافية ُتدار خلفه؛ إذ كان صليل األب يعرفه بمنجل يصيب حرثه بإتقانَ ، فخ َف َ ض لهما جناح السكون ،ولم يكن بوسعه إلاّ أن يُكمل ليله مستمعً ا إىل معالجة تعمري البندقية حي ًنا ،بعد أن أُخذت منه وهو نائم ،وحي ًنا يتناهى إليه تعمري الجسدين لتلك الرغبة النهمة. عندما أينع الصبحُ عىل الجبل والقرى كانا وحيدين وخاليني من سالحهما الفقيد .كان ينظر إليها يف حسرة بالغة ،وهي
تتشاغل مع نفسها بجمع متاع فقري واالستعداد للعودة إىل الديار ،وألول مرة لم يشعر بحاجة لتوضيح ما حدث .عرف أنّ األب ّ بكر مصطحبًا ما ظفر به ليلة البارحة ،كما علم بما نقده لقاء البندقية ..بعض األثمان ال يُمكن إظهارها ،أو يصعب ذلك ،وإخفاء عالمة الخسارة؛ بأيّ طريقة كانت ،ال يُعطي القدر الحقيقي للفارط من ماء الوجه ،كما ال يُمكنه ،بأيّ حال من األحوال ،ردع
ويل السؤال عن قلب األم الوحيد جدًّ ا لحظتئذ. كانت خاوية الروح وهي ما بني لحظة وأُخرى ،تعرب أمامه بوجه يُجعده البؤس ،وبها من فرط الخجل ما يؤود الجبل الذي آواهما .يلحقها بنظرات مؤنبة وصريحة العتب .نظرات خالية من خيارات الحياة الالزمة القرتاح الغفران أو حتى التغايض أملاً يف
أن ينمو بداخلهما توءم َ «لعَ َّل وعىس». نظرا طويلاً إىل الجزء الشمايل من الجبل .يتذكر آنذلك املنحدر ،واملنتهي إىل هوة سحيقة ال قرار لها ،هو تتمة الخطة التي قررت يوم أمس؛ فيما لو أُخذت منهما البندقية ،لكنها لم تقدم عىل إنجاز الخطوة األخرية والفاصلة .تبعها نزولاً إذ يقف الناس
هناك من جديد عىل جانبي الطريق مذهولني ومسمولني بأسئلة ملحاحة ال إجابة لها ،فيُلقي البعض عليهما أسفه من شدّ ة ّ يشقان دربهما بني الذين خرجوا للوقوف عىل نتيجة معركتهما يف سبيل بندقية أساهما الطافح باألذية .كان منظرهما مذلاًّ ،وهما لم تعد معهما ،وشاع عىل وجهيهما خنوع فادح أفىش بنهاية مريرة. ٌ كان بصرها يحفر الرتاب ،أما «مطر» يهيل عىل طموحاته الهزيمة املذلة لجيش قادته امرأة ال جند فيه سواه .كان يطحن صدره سؤال« :كيف أكون رجلاً اآلن؟!» .أعاد فتيل الحرقة بهذه املواجهة األخرية لذاته .ويف لحظة فاصلة دوّت منه صرخة عصفت
بالحاضرين واألم ،ثم التفت إىل الخلف ،وحزم أمره الجلل ،ودون تردد أو بادرة خشية انطلق عىل أعقابه يركض بكل حماسة تواترت من دم إىل دم حتى عظمه ،فانفرد بنشر الذهول بني الجميع .راح يمزق الريح صاعدً ا الجبل ،فال يلوي عىل انكسار األم
وال عىل صراخ النسوة أو جزع الرجال .واصل ذهابه امل ّر عاليًا ،والجبل الصامت كشيخ أثقلته الغبطة بفعل الزمن يتلقف خطاه العجىل ..هكذا انسل بعيدً ا يف املرتفع إىل أن تالىش خلف القمة ،من الجهة الشمالية ،وغاب تمامً ا.
بعد تلك اللحظة الخاطفة من زمن املكان والفاجعة ،لن يُذكر أنّ أحدً ا رآه مرة أخرى أو سمع عنه ،ولن يتناقلوا حول وجوده حتى ما هو أدعى ملظ ّنة ال لحقيقة ،ولكن قيل :إنّ األم أكملت حياتها فوق الجبل ،ورجل يأتيها يف العام مرة واحدة عشاء، ويُغادرها كحلمها يف عودة «مطر».
* 1976اختفاء مطر 1989 ،األب لم يعد يظهر أبدً ا. ( )15العالقة ترتبط بجوع ال ّ يطلع عليه حتى «مطر» وهو رفيق املعركة الحاسمةّ .إنه ال يقف عىل حقيقة نياط مهتاجة سرت من جسد األم إىل جذعه لحظة احتضنته مع البندقية.
(« )16يا صابر زمان اصرب ثمان»« ..قد صربت يا مطر كل هذا الزمان ما أنت قادر تصرب أسبوع؟! ،»...لن تستطع إقناعه ّ بأنه صغري عىل الصرب واملكابدة ،لكن شغله السؤال الكبري ،فكيف له أن يكون رجلاً بال بيت وأب وبندقية .البيت سيعيش
بالحكايات والوصايا املنضبطة ،واألب يأيت ويذهب ،بينما البندقية هي الخالص الوحيد ،وهي عالمة علوه يف صف الرجال.
169
سينما
170
دي نيرو والمتحول المتعدد ّ ّ روبرت دي نيرو ّ ّ ّ ومتعدد الوجوه ومتجدد ،ومتنوّع، ممثل خلاّ ق، واألشكال .منذ أن انبثق في السبعينيات كممثل استثنائي وهو يحفر في ذاكرة المشاهد سلسلة متوالية ،بارزة والفتة ،من الشخصيات ً مختلفا التي ال تتماثل إنما تختلف وتتعارض .مع كل فلم جديد يبدو عن الذي سبقه على نحو أخاذ ومدهش .يبدو أشبه بالحرباء. ّ ومركبة ،ومتعددة األبعاد ،تتأرجح بين شخصيات ثرية ،ومتنوعة، الرقة والعنف ،والحساسية والفظاظة ،والوداعة والقسوة ،والهدوء والتوتر ،الصفاء والغموض .شخصيات ذات أعماق مضطربة مبهمة، ً تعقيدا ،تلك التي تجوب عالم التراجيديا وشخصيات مباشرة أقل ً ً ّ ومحركة تارة أخرى ،وعالم الكوميديا الخفيفة تارة .شخصيات مؤثرة للمشاعر ،وفي الوقت ذاته ،موشومة بحس الدعابة والجاذبية.
العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
والمتحول المتعدد دي نيرو ّ ّ
171 أمين صالح روائي وناقد سينمائي
ولد روبرت دي نريو يف 17أغسطس 1943م ،يف الحي اإليطايل الواقع يف الجانب الشرقي من نيويورك .والده من أصل إيطايل -أيرلندي ،ويدعى ً أيضا روبرت دي نريو، وهو رسام وشاعر وناقد .أمه فرجينيا أدمريال ،رسامة ً أيضا .لقد نشأ دي نريو يف محيط فني ،حيث كان البيت بؤرة التقاء لعدد من الفنانني والك ّتاب والصحفيني .هذه الدائرة الثقافية ساهمت يف توجّ ه دي نريو نحو االهتمام بالفنون يف سن ّ مبكرة .لكن
هذا الصبي الخجول ،االنطوايئ ،وجد صعوبة يف التعبري عن نفسه حتى اكتشف ،وهو يف سن العاشرة ،متعة التمثيل الذي مارسه يف املسرح املدريس .آنذاك التحق بالورشة
الدرامية األمريكية بنيويورك.
ّ ليحقق ذاته يف املجال الفني عندما بلغ السادسة عشرة من عمره ترك املدرسة
كممثل ،فدرس التمثيل تحت إشراف «ستيال أدلر» و«يل سرتاسربغ» يف أستوديو املمثل .والداه لم يعرتضا عىل اختياره التمثيل« :كانا متعاونني جدًّا ،ق ّدما يل الدعم
والتشجيع .كانا سعيدين ألنني لم أرغب يف أن أكون مروّجً ا لصكوك التأمني» .مارس التمثيل عىل خشبة املسرح ،ويف بضعة أعمال تلفزيونية .يف عام 1964م ،يف أثناء
مشاركته يف إحدى املسرحيات ،لفت إليه انتباه املخرج بريان دي باملا ،الذي كان آنذاك طالبًا يف السنة األخرية بمعهد السينما ،وكان ّ يحضر لتنفيذ فلم التخرج «حفلة زفاف» ،The Wedding Partyفأسند إليه دورًا ثانويًّا ،وكان أول ظهور له عىل شاشة
سينما
السينما .دي باملا اختاره مرة أخرى ّ ليمثل يف فلميه التاليني :تحيات ،Greetingsأهلاً ماما . Hi Momبعدهما ظهر دي نريو يف عدد
من األعمال املسرحية ،وقد جذب أداؤه اهتمام املمثلة شييل وينرتز التي أص ّرت عىل أن ّ يمثل دور ابنها يف فلم «األم الدموية» Bloody .Mamaبعد ذلك شارك يف بضعة أفالم قبل أن يلفت األنظار ويحرز
الثناء عىل أدائه الجيد واملح ّرك يف فلم «اقرع الطبل عىل مهل»
.Bang The Drum Slowly
لكن املخرج مارتن سكورسيزي هو الذي فجّ ر طاقته وأبرز
موهبته الرائعة ووضعه يف بؤرة االهتمام عندما اختاره لدور مهم،
رئيسا ،يف فلمه «شوارع وضيعة» .Mean Streetsلقد وإن لم يكن ً فتح هذا الفلم بوابة الشهرة والنجومية لدي نريو ،ورسّ خ أقدام
سكورسيزي كواحد من أهم مخرجي السينما األمريكية .وكان الفلم بداية لتعاون وثيق ،الفت وفعّ ال ،عىل مدى سنوات طويلة ،أثمر أعمالاً قوية ومميّزة. صار دي نريو املمثل ا ّ ملفضل لسكورسيزي ،وكوّن معه عالقة
فنية وشخصية حميمة .يقول سكورسيزي (Photoplay, August « :)1983لقد طوّرنا معً ا ً نوعا من العالقة بحيث صار كل منا يعرف
وشؤونه الشخصية ،هذا من حقه».
نعرف القليل عن حياته الخاصة .يف عام 1976م تزوج املمثلة
الكثري عن اآلخر ،يعرف ما يفكر فيه قبل أن ينطق به .جئنا من
السوداء الجميلة ديان أبوت (التي ظهرت معه يف بعض األفالم:
منتم إىل محيطه .كممثل، بالطريقة ذاتها .كالنا كان يشعر بأنه غري ٍ أنا معجب به كثريًا .ال أعتقد أن هناك ممثلاً أفضل منه» .أما دي
رافائيل ،ودرينا .ويقال :إنه يف حياته العادية شخص خجول،
انطوايئ ،غامض ،مراوغ ،كتوم ،هادئ ،قليل الكالم ،ال يحب أن
هو شاق جدًّا وبطيء جدًّا ،هو ذلك النوع من املشاركة ،والتواطؤ،
ً إيل» .أما الجانب اآلخر من شخصيته فيعلن عنه شخصا ما ينظر ّ
املنطقة ذاتها ،فقد نشأنا يف الحي اإليطايل ذاته ،وكنا نرى األشياء
172
مارلون براندو في فلم العراب
نريو فيقول عن عالقته بسكورسيزي« :ما هو مهم يف عملنا ،والذي
والتضامن ،والحد األدىن من الهزل ..والذي يحول دون اإلصابة بالصداع النصفي».
خصوصية الفنان
نيويورك نيويورك ،ملك الكوميديا) ومنها أنجب ولدين هما:
يتحدث كثريًا عن أعماله وأدواره« .أشعر بالتوتر حني أكتشف أن أحد أصدقائه« :إنه مهرج .بوبي (دي نريو) ال يمارس تهريجه ولهوه
ومزاحه إال مع أصدقائه املقربني .لكنك تستطيع بسهولة أن تكتشف ً صعوبة وتعقيدًا». حس الدعابة لديه حتى يف أكرث أدواره ابتعاده عن األضواء وتجنبه اللقاءات الصحفية والدعاية،
قليلة هي املرات التي وافق فيها عىل إجراء لقاءات صحفية
جعل بعضهم يتهمه بالغطرسة والعجرفة والفظاظة .غري أن
كان يرفض اإلجابة بشكل مهذب .لم يكن يميل إىل البوح عن
مواجهة شخص مشاكس ،وقح ،كتوم ،عاجز عن اإلفصاح
معه .وعندما تتصل األسئلة بحياته الخاصة وعالقاته الشخصية طفولته ،وتجاربه األوىل ،حتى أسلوبه يف التمثيل ،حيث يرى مثل هذه األسئلة تدخلاً يف شؤونه الخاصة وانتها ًكا لخصوصياته. إجاباته غالبًا ما تكون مقتضبة ،إيجازية ،مراوغة ،غري مرضية أو
الذين تسنى لهم الحديث مع دي نريو ،يف املقابالت ،وتوقعوا
عن آرائه ومشاعره ،اكتشفوا شخصية جذابة ولطيفة ،وأشادوا بثقافته وهدوئه وروحه املرحة وطريقته املهذبة يف التصريح .منذ أواخر الثمانينيات ،بدأ دي نريو يف كسر هذه القاعدة ،وصار يتيح
مشبعة« ..ملاذا يرغب الناس يف معرفة ماذا أتناول يف إفطاري؟ ما
للصحافة ووسائل اإلعالم إجراء لقاءات معه ،إىل جانب مشاركته ً أحيانا يف الحمالت الدعائية للفلم .كذلك كسر قاعدة مشاركاته يف
الناس ،لكن ليس بسبب طريقتي يف االبتسام يف الحفالت إنما
يف العام ،لكنه منذئذٍ صار يظهر يف أكرث من عمل يف السنة.
أهمية معرفتهم بهوايايت أو مراحل دراستي؟ ما عالقة كل هذا بالتمثيل ،بما أفعله ،بما يدور يف ذهني؟ ال يشء .أريد أن يحبني
بسبب عميل يف األفالم» .هناك من يدافع عن خصوصية الفنان، كما يف حديث املخرج روالند جويف ،الذي عمل معه يف فلم The « :Missionدي نريو يبذل جهدًا جبارًا ،ويعطي الكثري من ذاته يف أي فلم يشارك فيه ،لذلك هو يقي ًنا بحاجة إىل صيانة خصوصيته العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
األفالم ،إذ حتى منتصف الثمانينيات لم يكن ّ يمثل إال يف فلم واحد وعن هذا يقول دي نريو« :يف هذه املرحلة من حيايت أشعر بأنني
أريد أن أعمل كثريًا ،أن أنجز أشياء كثرية .ربما سيختلف الوضع
يف املستقبل ،ولن أعود أشعر بالرغبة املحمومة يف العمل .يف املايض ّ كممثل ،ولهذا شعرت بأنه ليس من الضروري أن أعمل باستمرار،
والمتحول المتعدد دي نيرو ّ ّ
أمضيت وق ًتا طويلاً دون أن أفعل شي ًئا .سنوات مضت وأنا أنتظر.
تعبريية وإيحائية من خالل التكثيف واالختزال والرتكيز عىل املظاهر
اآلن أريد أن أعوّض عما فات ،فأنا شاب وقوي .ربما يف مرحلة الحقة سوف أر ّكز طاقتي عىل يشء آخر مختلف ..إخراج األفالم مثلاً ». عندما ُطلب من دي نريو أن يحدّد أفضل أدواره ،قال« :كثريًا
واملكشوفة.
وأختار أفضلها ..ربما أتمكن من ذلك بعد خمس أو عشر سنوات». وعندما سئل عن األفالم املفضلة لديه ،تردّد طويلاً قبل أن يجيب:
معتمدين عىل تقنية املنهج يف البحث والتحوّل أكرث من اعتمادهما
عيل هذا السؤال ،لكنني يف الواقع ال أستطيع أن أحدّد ما يُطرح ّ
«الباحثان» The searchersللمخرج جون
الصوتية املتنوعة كالغمغمة والهمهمة والتلعثم والتكرار .نبذ التقنيات املسرحية يف األداء وتحايش االنفعاالت الخارجية املفرطة
عىل مستوى املسار الفني نلحظ أن كليهما درس التمثيل يف أستوديو املمثل ،وتب ّنيا أسلوب «املنهج» methodيف األداء، عىل الغريزة والخربة املكتسبة .من جهة أخرى ،كالهما حينما وصل إىل مرحلة يف
فورد .أما عندما سئل عن املمثلني الذين كان
مسريته الفنية شعر بأنه ال يعود يتعينّ
يفضلهم يف شبابه ،فقد ذكر :مارلون براندو،
عليه تأدية األدوار الرئيسة فقط؛ بل
جيمس دين ،مونتغمري كليفت ،سبنسر
ترييس ،ولرت هيوستون .ومن املمثالت:
يمكنه التحرك خارج دائرة هذه األدوار،
جريالدين بيغ ،كيم ستانيل.
والظهور يف أدوار ثانوية من دون أن يفقد بريقه املهيمن ،وغالبًا ما تلقي شخصيتهما
دي نريو ومارلون براندو
القوية ظاللها الحادة واملؤثرة عىل الفلم
حني تفجرت موهبة دي نريو عىل
بأسره .براندو ظهر يف دقائق قليلة من
يف تأدية مختلف األدوار وأكرثها صعوبة،
لكن املتفرج يستطيع أن يشعر بحضوره
الزمن السينمايئ يف فلم «القيامة اآلن»
الشاشة ،وتع ّرف الجميع إىل قدراته املدهشة وعىل طريقته الجديدة ،غري املألوفة ،يف فهم
وسرب وتجسيد الشخصيات ،بدأ العديد من
ً خصوصا النقاد يف مقارنته بمارلون براندو، يف مراحله األوىل .لقد أدى إقالل براندو يف
يف كل كادر من الفلم .كذلك دي نريو يف
مارتن سكورسيزي
Untouchablesحيث يكون حضوره الطاغي محسوسً ا طوال الفلم عىل الرغم
من غيابه.
الظهور يف السبعينيات إىل انتخاب دي نريو كوريث بال منازع لرباندو. كان ًّ حقا الجدير واملؤهل ألن يحتل املكانة التي شغلها براندو يف
معالجة الشخصيات والتعبري عنها ،لتمتد إىل مظاهر معينة
برباندو طوال عقدين (الخمسينيات والستينيات) هي ذاتها التي
يرفضون العمل معهما لصعوبة التعامل معهما وترويضهما.
السينما األمريكية كممثل استثنايئ وفريد .الخاصيات التي ارتبطت
ارتبطت بدي نريو يف السبعينيات والثمانينيات :الحداثة ،واملغايرة، وممارسة التمثيل كحياة ال كمهنة ،والتكثيف ،واالختزال ،والتحوّل.
التماثالت أو املقارنات بينهما تتخطى حدود الشاشة وطرائق
ومحدّدة من السلوك الشخيص يقال :إن كثريًا من املخرجني التأويل املباشر والتربيري ،والعجرفة والغرور ،واملطالب اللحوحة غري املنطقية .لكن التأويل الحقيقي للخالف يكمن يف رغبة هذين
التماثالت بينهما كثرية ،ويسهل تحديدها عرب مستويات
املمثلني العظيمني يف بلوغ الكمال ،الذي يقتيض بالضرورة الحرص
يصبح املمثل هو الشخصية التي يؤديها .وضع كل شخصية يف
وعالقاتها ،ليس بالشخصيات األخرى فحسب ،بل بالعناصر الفنية ً أيضا من كامريا وإضاءة ومكياج.
متعددة :االنغمار الكيل يف الدور ،وتذويب الذات أو تحويلها بحيث الواقع املالئم لها نفسيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا ،والتعبري عنها بصدق وديناميكية .انتقاء الشخصيات املر ّكبة التي ال تتوافق مع ذاتها
ومحيطها ،التي تسعى إىل تأكيد نفسها .إعطاء اللغة سلطة إضافية
يبدو دي نيرو أشبه بالحرباء .شخصيات ثرية ،ومتنوعة ،ومر ّكبة ،ومتعددة األبعاد، تتأرجح بين الرقة والعنف ،والحساسية والفظاظة ،والوداعة والقسوة ،والهدوء والتوتر ،والصفاء والغموض
إىل حد الوسوسة ،ومعرفة كل التفصيالت وأدقها بشأن الشخصية
وهما يشرتكان ً أيضا يف كراهيتهما ،أو عدم ثقتهما بالنجومية ّ مفضلني النأي والعزلة ،معمقني واألضواء والوسائل الدعائية،
بذلك الغموض الذي يحيط بهما .كالهما لغز.
لقد أشار دي نريو يف مواضع عديدة إىل التأثري القوي الذي
مارسه براندو عليه يف بداية حياته الفنية .ومن الالفت أن نلحظ هذا
االرتباط ،أو هذه العالقة غري املباشرة ،متجلية يف الوسط نفسه:
جسد براندو شخصية الفيلم .يف الجزء األول من «األب الروحي» ّ
فيتو كورليوين ،ع ّراب املافيا ،يف مرحلة الشيخوخة ،وعنه نال
جسد دي نريو الشخصية ذاتها جائزة األوسكار .يف الجزء الثاينّ ،
173
سينما
لكن يف مرحلة الشباب ،مص ّورًا شباب براندو السينمايئ ،وعن دوره
الذي ّ مثل شخصيته يف الثور الهائج) تتذكر يوم تناول دي نريو
هذا حاز جائزة األوسكار .أما يف فلم The Raging Bullفقد وجّ ه
الغداء معهم ،ويف لحظة معيّنة بدأ دي نريو يف انتقادها وتوبيخها
حني كان يخاطب نفسه أمام املرآة مر ّددًا حوار براندو يف فلمه «عىل
كما لو أنه تقمّص شخصية والدها كليًّا .شعرت بأنها ليست أمام دي نريو ا ّ ملمثل بل األب الفعيل ،واالنتقاد الجارح دفعها إىل الخروج
دي نريو إىل براندو ما يشبه التحية ،أو ما يشبه االعرتاف بالفضل، رصيف امليناء» .On The Water Front شخصيات تمتلك واقعها الخاص
بقسوةٍ ،تما ًما مثلما يتصرف والدها معها يف مثل هذه املواقف .بدا
من الحجرة وهي تبيك .عملية التحضري والبحث أثمرت أدوارًا رائعة
ً وإبداعا، وناجحة ،وك ّرسته كواحد من أكرث املمثلني تفانيًا وجديّة
عرب عملية التحضري والبحث الطويلة الشاقة ،يسعى إىل
وكان ملنهجه مفعول إيجابي وتأثري قوي يف الجيل الالحق من املمثلني
هذا االندماج الكيل ،واملحاولة الصارمة لبلوغ الكمال ،وعملية
من جانب آخر ،تثري عملية التحضري والبحث عند دي نريو ذعر املحيطني به واملتعاونني معه .يعبرّ أحد ك ّتاب السيناريو عن خوفه عىل دي نريو ،فيقول« :لو ُطلب منه أن ّ يمثل شخصية رجل أكتع
خلق شخصيات تمتلك واقعها الخاص وتميّزها ومصداقيتها .مثل االستقصاء املضنية واملوجعة ،البد أنها ترهق وتستنزف كثريًا من
الشباب الذين اتبعوا طريقة مماثلة يف البحث واإلعداد.
ذاته .ودي نريو يعرتف بذلك« :كل شخصية أمثلها تستنزف قدرًا كبريًا من ذايت .فيما بعد ينتابني إحساس بالفقد بأين فقدت شي ًئا،
فلن يرتدّد يف برت يده» .وقال املخرج آالن باركر« :لست ً واثقا من أنني
الشخصية التالية».
مرهقة إىل أبعد حد .كان دي نريو ،عىل رغم قصر دوره يف (Angel
ً باحثا عن وهذا اإلحساس ال يزول إال حني أبدأ من جديد يف الحفر هو ال يصبح الشخصية يف أثناء التصوير فقط ،بل خارج املوقع
ً أيضا ..يف بيته ،مع أصدقائه ومعارفه ،مع اآلخرين .إنه يتصرف كالشخصية التي يجسدها أمام الكامريا .ابنة جاك الموتا (املالكم
174
أستطيع إسناد دور رئيس له يف عمل قادم .ستكون بال شك تجربة
،)Heartيطرح باستمرار كثريًا من األسئلة يف موقع التصوير ،ثم
يتصل بي هاتفيًّا كل يوم مقرتحً ا أفكارًا واحتماالت جديدة .استغراقه
يف العمل لم يكن اعتياديًّا عىل اإلطالق».
أما جورج أولد ،عازف الجاز الشهري ،الذي عمل مستشارًا فنيًّا يف فلم «نيويورك نيويورك» ،وساعد دي نريو عىل ّ تعلم العزف عىل
عيل عشرة ماليني سؤال يف الساكسفون ،فقد قال« :كان يطرح ّ اليوم .كان ذلك مزعجً ا وموجعً ا بالنسبة يل». كن مقام ًرا
يف بداياته ،لم يعتمد دي نريو عىل وكيل أعمال يتوىل شؤونه
الفنية« ..عندما تبدأ ،ال تعتمد عىل أحد .كن مقام ًرا .لن تعرف شي ًئا ما لم تجازف وتج ّرب ..بالتجربة تستطيع أن ّ تحقق ما ترغب يف فعله» .من شوارع وأحياء املدينة التي عاش فيها ،من الناس الذين
اختلط بهم وعاشرهم ،من الشخصيات التي رصدها واختزنها يف ذاكرته ،استمد األصوات والحركات واإليماءات والتصرفات« ..أنظر دائمًا إىل كل ما يقع تحت بصري ويدور أمامي .اليشء املهم هو أن ّ ً أحيانا أدوّن أفكاري .عندما تك ّرس وقتك وتفكر. تحدّق مليًّا وتتأمل
لذلك ،حتى لو كانت العملية مضجرة ،سوف تكتشف أنك قمت
دي نيرو في فلم سائق التاكسي
دي نيرو« :كل شخصية أمثلها تستنزف كبيرا من ذاتي .فيما بعد ينتابني قدرا ً ً إحساس بالفقد ..بأني فقدت شي ًئا ،وهذا اإلحساس ال يزول إال حين أبدأ من جديد في الحفر باح ًثا عن الشخصية التالية»
العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
بتغطية كل االحتماالت ،وكل األشياء املمكنة ،ولن تصادف مشقة
يف االختيار».
هل يستطيع دي نريو أن يقيّم أفالمه؟ الفلم مجرد محطة يف
رحلة طويلة مضنية ،ومثمرة وغنيّة بالتجارب .إنه ينتقل من محطة
إىل أخرى بال توقف ،وكل محطة تنتزع جزءًا من ذاته« ..ال أحب أن أشاهد أفالمي .عندما أفعل ،يغلبني النعاسّ . أفضل أن أشاهدها لاً بعد عشر أو خمس عشرة سنة؛ ألنني عندئذ أكون منفص عنها، مستقلاً منها ،وأستطيع رؤيتها عىل نحو أفضل».
سينما
سينمائية سعودية تحاول التعبير عن أعمق نقطة في الذات
هند الفهاد: السينما ليست وسيلة إصالح وليس من أدوارها إيجاد حل الرياض
حاز فلم «بسطة» للمخرجة السعودية هند الفهاد عد ًدا من الجوائز المهمة مثل :جائزة لجنة التحكيم في مهرجان دبي السينمائي الدولي عن أفضل فلم قصير ،وجائزة أفضل فلم في مهرجان الشباب لألفالم في جدة ،وجائزة النخلة الفضية عن أفضل فلم قصير في مهرجان أفالم السعودية. الفهاد التي شاركت في عدد من المهرجانات العربية والدولية تستعد إلخراج فلم جديد مع بداية 2017م« .الفيصل» التقت هند الفهاد وحاورتها حول تجربتها السينمائية وتحديات السينما وأحوالها في السعودية. هند الفهاد تتسلم جائزة في مهرجان دبي السينمائي الدولي
175
سينما
هل ترين أن حياة املرأة السعودية تحفل بالتجارب
الخصبة التي يمكن أن تطرحها السينما ،وتكون مثار جدل
حقيقي؟ وأي الجوانب أكرث ثراء يف تلك التجارب من وجهة
نظرك كمخرجة سينمائية تنتمي إىل املجتمع السعودي؟
ـــــ
السينما هي بوابة ونافذة تستطيع من خاللها أن تطلع
تعلمت من أعمالك اخرتت مجال السينما؟ وماذا ملاذا ِ ِ
اإلخراجية ومن السينما؟
ـ ـ ـ ـ ـ من خالل السينما أستطيع أن أعرب وأن يكون صويت
رث وضوحً ا ،اخرتتها ألنها تجمع كل الفنون :الصوت والصورة أك َ
ً وقصصا إنسانية تعكس املجتمع وأفراده ثقافات وتتعرف ٍ
والخيال واأللوان ،وبالتايل فإن مساحة تعبريي ستكون أشمل
يمكن أن تكون موضوعات متعددة غري متناهية يمكن تقديمها
فأعمايل األوىل كانت مباشرة ،وما زلت أجرب هل أنا مناسبة يف
وتجربة املجتمع السعودي .يف رأيي :من أغنى التجارب التي
سينمائيًّا عىل وجه الخصوص تجربة املرأة السعودية؛ فتجربتها
عىل صعيد إنساين واجتماعي مليئة بتفاصيل عديدة ومهمة تحىك وتروى .ال يمكن تحديد جانب محدد لكن قد يغلب عىل
تجربتها نضال اإليمان بها كإنسان كامل األهلية عىل ذاته.
وأوسع ،تعلمت من السينما التعبري بالشكل الفني املناسب، مجال السينما كوين فيما سبق مصورة فوتوغرافية وتعاميل مع
ُ شعرت برغبتي الشديدة يف الصورة قديم ويف مرحلة من املراحل التعبري بشكل حر ،وقد ساعدتني السينما عىل ذلك ،وهو ما
حدث يل مع فلمي األول «ثالث عرائس وطائرة ورقية» وقبوله يف
ما الدور الذي تتوقعني أن تقوم به السينما من تصحيح
مهرجانات متعددة إقليمية وعربية شجعني عىل اتخاذ الخطوة
السينما ليست وسيلة إصالح وال من أدوارها إيجاد
ألن لديَّ قناعة بأنني ألعرب وأحيك بأسلوب فني خاص بي ال
ألحوال املرأة يف السعودية؟
ـــــ
املتقدمة للفلم الثاين «مقعد خلفي» .أفالمي ذات طابع نسوي؛
حل ،هي وسيلة تعبري ،كما أراها وأتعامل معها .بالنسبة يل
بد من مالزمة الرتاكمات والحيك عما يشغلني بالحفر يف ذايت
السينما أكرث من أن أبحث عن حلول ،قد يكون هناك عرض
هموم النساء يف أفالمي السابقة هو محاولة للوصول إىل أعمق
السينما هي صوت وصوت واضح جدًّا؛ لذلك اتحدت من خالل
لتجارب واقعية لكن ال بد أن تكون بشكل فني يتناسب مع
176
طابع نسوي
الفكرة الفنية للسينما.
ماذا تحتاج السينما يف السعودية لتتقدم بثقة؟ وإىل أي
حد يمكن أن يؤثر انتقاص الدراما إىل الكوادر النسوية يف بطء
الحركة السينمائية يف السعودية؟
ـــــ
ما زالت السينما يف السعودية يف خطواتها األوىل لكنها
ومحاولة التعرف إىل ذايت أكرث وأكرث؛ فحديثي عن نفيس وعن نقطة يف ذايت والتعبري عني بشكل فني ناضج.
ما الصعوبات التي تواجهك كمخرجة سعودية حتى
اآلن ،بخاصة أنك تعيشني يف مجتمع ما زال ينظر إىل املرأة
بكثري من التحفظ؟ لاً الصعوبات كثرية ،وهي تحديات فع ،فلمي األول
ـــــ
كبرية ،فيما حققته من نجاحات وحضور عربي ودويل .نحتاج الكثري والكثري جدًّا حتى نستطيع أن نسمي التجارب واملحاوالت
الناجحة يف كثري من األحيان( :صناعة سينمائية)؛ فوجود معاهد متخصصة ودور عرض وصناديق تمويل سيكون له دور هام جدًّا يف صناعة سينما جادة تعرب ع َّنا وتحكينا بشكل سينمايئ فني.
الخطوات األخرية لدعم الفنون التي اتخذتها الدولة بشكل جاد ِّ مبشرة جدًّا.
أفالمي ذات طابع نسوي؛ ألن لدي قناعة بأنني ألعبر وأحكي بأسلوب فني خاص بي ،ال بد من الحكي عما يشغلني بالحفر في ذاتي ،فحديثي عن نفسي وعن هموم النساء محاولة للوصول إلى أعمق نقطة في ذاتي والتعبير عني بشكل فني ناضج هند الفهاد مع الممثلة سناء بكر يونس العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
سينمائية سعودية تحاول التعبير عن أعمق نقطة في الذات
والثاين لم يكن إشكاليًّا ،لكن مسألة التنقالت يف فلمي الثاين
كانت متعبة جدًّا ،وبخاصة أن الثقافة االجتماعية ما زالت
ترفض عمل املرأة يف هذا املجال العتبارات وأعراف اجتماعية بحتة .من أجل أن أكون مع فريق العمل ال بد أن أبقى يف سياريت مثلاً ،فليس سهلاً أن تكوين مخرجة سعودية .أتمنى أن تكون
هناك قوانني وأنظمة تسهل عمل املخرجة السعودية والتصوير. ً شغفا يل. أنا ال أتعامل مع السينما كيشء عابر؛ بل إنها أضحت
ما طبيعة أعمالك املقبلة؟ وهل هناك تعاون مع غري
السعوديني ؟
ـــــ
هناك فلم قصري يف بداية 2017م ،وهو محاولة للبحث عن الدعم َّ فقلما نجد من يدعمنا ويؤمن بأفكارنا ولذلك فإننا نضطر
إىل تأجيل كثري من األفكار املذهلة ،وبالنسبة للتعاون مع غري السعوديني فال تهمني الجنسية أكرث من الكفاءة ،يهمني فهم الثقافة االجتماعية وهو األهم.
وسائل التواصل أفادت السينمائيني
إىل أي حد ترين أن وسائل التواصل االجتماعي أسهمت
أعيش معانايت الشخصية جدًّا مع السائق ،ومعاناة التنقل،
يف تعزيز دور السينما ومن ينتمون إليها؟ ُ استطعت إنتاج فلمي لوال وجود وسائل التواصل لمَا
واملعاناة مع النظرة االجتماعية ،والفلم يناقش كل هذه األمور.
إىل املجتمع السينمايئ املوجود يف السعودية ،فمع األسف أننا
اكتسبت من حصول فلمك «بسطة» عىل أفضل ماذا ِ
ـــــ
األول والتواصل مع الشركة التي دعمته ،وملا أستطيع الوصول
كسينمائيني سعوديني ال نتواصل مع بعضنا ونتبادل األفكار إال خارج البالد يف املهرجانات السينمائية العربية والعاملية التي
تعرفنا بعضنا ببعض .وعىل شبكات التواصل تحسن تواصلنا
وعزز نشر الثقافة السينمائية يف اململكة ،وعرف بإنجازات السينمائيات والسينمائيني السعوديني ،فهي مثل أطواق النجاة بالنسبة إلينا َكو ََّنا من خاللها شبكة متواصلة نعزز فيها أعمالنا ونتشارك همومنا الفنية.
تجربتك اإلخراجية يف فلمك األول «مقعد ما الفارق بني ِ
خلفي» وفلمك األخري «بسطة»؟
ـــــ
الفرق بني فلمي األول «مقعد خلفي» وفلمي األخري
و«بسطة» أنضج لكونه يف بيئة إنتاج متخصصة. جائزة يف مهرجاناألفالم؟
ـــــ
الفلم «بسطة» نال جائزة كأفضل فلم سينمايئ قصري
يف مهرجان دبي السينمايئ العاملي ،ونال جائزة أفضل فلم يف
مهرجان األفالم السينمائية القصرية بجدة ،والنخلة الفضية يف مهرجان أفالم السعودية .وذلك األمر أكد يل أنني يف املسار
الصحيح وأن السينما هي أداة وأن صويت مسموع عندما أتكلم بشكل بصري وسينمايئ ،وهذا الفوز هو مضاعفة للمسؤولية. وأستفيد من تقويم لجنة التحكيم والنقد الذي تلقيته.
ماذا تنتظرين من «هيئة الرتفيه» يف ما يخص دعم
السينما السعودية؟
«بسطة» أن فلم «بسطة» كانت تتبعه ورش نص للفكرة ولبناء
ـ ـ ـ ـ ـ ننتظر منها أن تعمل عىل تسهيل توافر العروض ودعم
وكان هناك احرتام كبري للرؤية الفنية؛ وهو أمر حفزين للتعامل
دعم ،وافتتاح معاهد سينمائية ،وإيجاد دور عرض تحفز
القصة والشخصيات ،وكذلك وقت اإلنتاج كان يف أبوظبي،
معهم بشكل ممتاز ،إضافة إىل الفريق املتخصص الذي رافقنا يف التصوير واإلنتاج وكانت تجربة صعبة بالنسبة يل ،وبخاصة أننا
كسعوديني نتعامل مع السينما بجهودنا الشخصية وبتجاربنا الفردية ،عىل الضد من ذلك عندما تكونني يف بيئة إنتاجية
ً شخصا ،وهي مسألة مرهقة جدًّا متخصصة فيها فريق من 50 إال أنها تجربة صنعتني إخراجيًّا وأنضجت تجربتي ،ونبهتني إىل كثري من األمور .أما بالنسبة لفلم «مقعد خلفي» فأنا
املخرجني السينمائيني ،ونشر الثقافة السينمائية يف إيجاد جهات السينمائيني إلنتاج أعمالهم بشكل صحيح؛ فالسينما لم تعد مجرد أداة للرتفيه بل هي قوة ناعمة نستطيع من خاللها أن
نوقف أي هجوم؛ فاألسلحة لم تعد هي تلك األسلحة التقليدية املعتادة ،بل اختلفت الحال اآلن ،واألسلحة اآلن إعالمية بصرية. وقصصنا ،وتاريخنا ،وهويتنا ،ونحن كمجتمع؛ نمثل منجمً ا؛ ألنها ثرية بالتفاصيل التي تستحق أن يعرفها العالم ع َّنا، فالسينما هي األداة األكرث حقيقة يف أن تقول من أنت.
177
فنون
مؤتمر دولي في «اللوفر» فرنسا تفتش في الكنوز اإلسالمية عن الوجه الحضاري لإلسالم حتى ال يبقى أسي ًرا لجهلة يلطخون صورته أوراس زيباوي باريس
178
على الرغم من التوتر الذي يشهده المجتمع الفرنسي تجاه كل ما يتعلق بالعرب والمسلمين، وعلى الرغم من سيطرة حال عامة من الخوف من عمليات إرهابية جديدة يقوم بها متحدرون من أصول عربية ،فما زالت هناك أصوات فرنسية تؤمن بالتالقي والعيش المشترك ،وترفض الوقوع في الخطاب العنصري الذي يغذي توجهات اليمين المتطرف ،ومشاعر الكراهية ضد المهاجرين والمسلمين منهم باألخص .ويعي العديد من المثقفين والعاملين في الشأن الثقافي أن الثقافة يمكن أن تقوم بدور مهمّ في التخفيف من النزعات العنصرية؛ ألنها تكشف عن التراث المشترك بين الفرنسيين مهما اختلفت دياناتهم وأصولهم. ضمن هذا التوجه العام ،عقد في متحف «اللوفر» في باريس مؤتمر دولي حول مجموعات الفنون اإلسالمية في فرنسا ،شارك فيه عدد من الباحثين والمسؤولين عن األقسام اإلسالمية في بعض المتاحف الفرنسية.
العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
متاحف فرنسا والتحف اإلسالمية
بينّ َ املؤتمر أن املتاحف الفرنسية تضم كنو ًزا من التحف
ويملك «اللوفر» حاليًّا زهاء أربعة عشر ألف قطعة فنية
من العالم اإلسالمي ،يمكن مشاهدة أجملها يف الجناح
اإلسالمية التي تعد من بني األهم يف العالم اليوم .فعىل الرغم
الكبري الذي أعدّ لها خاصة ،وافتتح عام 2012م .وهنا ال بد من
يومً ا بني ملوك فرنسا والعالم اإلسالمي منذ زمن امللك شارملان
شرياك الذي كان قد أعلن عام 2003م عن رغبته يف أن يخصص
من الصراعات التاريخية والحروب ،فإن العالقات لم تنقطع والخليفة هارون الرشيد يف القرن التاسع امليالدي .ثم جاءت الحمالت الصليبية التي انتقل معها الكثري من التحف بني
ضفتي املتوسط ،إضافة إىل أنّ الحضارة األندلسية تواصلت ً قرونا من الزمن ،وكانت املدن كقرطبة وطليطلة وغرناطة
عواصم للفنون والعلوم ،ومنها تعلم األوربيون الكثري من اإلبداعات يف جميع املجاالت.
آالف التحف اإلسالمية التي أنجزت خالل مرحلة زمنية
طويلة تجاوزت األلف عام ،ضمن مساحة جغرافية شاسعة،
تتوزع اليوم كما أشرنا عىل العديد من املتاحف الفرنسية وأولها
متحف «اللوفر» الذي يعد واحدً ا من أكرب متاحف العالم، ويستقطب سنويًّا نحو ثمانية ماليني زائر.
ً متحفا ،كان قص ًرا ومن املعروف أن اللوفر قبل أن يصبح
مللوك فرنسا .وعند تحوله إىل متحف بعد الثورة الفرنسية
عرضت فيه عام 1893م وألول مرة بعض التحف اإلسالمية.
التذكري بالدور املهم الذي أداه الرئيس الفرنيس السابق جاك جناحً ا قائمً ا بذاته ،وبأكمله ،لفنون العالم اإلسالمي ،حتى
تكون للحضارة اإلسالمية املكانة التي تستحقها بني الحضارات األخرى املمثلة يف املتحف الفرنيس العريق ،ومنها الفرعونية،
وحضارات الشرق القديم ،واليونانية والرومانية. يميز الجناح املخصص للتحف اإلسالمية الذي يالقي إقبالاً الف ًتا من زوار «اللوفر» هندسته الحديثة والجذابة ،أما التحف املعروضة فيه فتغطي مراحل اإلبداع اإلسالمي منذ املرحلة
األموية ،حتى مرحلة اإلمرباطوريات الكربى ،وهي العثمانية،
179
فنون
والصفوية ،واملغولية يف الهند ،مرورًا باملراحل الفاطمية،
واأليوبية ،واململوكية ،واألندلسية. ُ عال تظهر الرثاء الثقايف تحف ذات مستوى جمايل ٍ للحضارة اإلسالمية ،حيث عاشت يف كنفها شعوب من قوميات ومذاهب مختلفة.
وتشرف عىل هذا الجناح السيدة يانيك لينتز التي صرحت
لـ«الفيصل» عىل هامش املؤتمر أنها تؤمن بالدور الثقايف «الذي
يمكن أن يؤديه قسم الفنون اإلسالمية يف «اللوفر» يف هذا الجو املشحون الذي تعيشه فرنسا ،حتى ال تنتصر نظرية صراع الحضارات وأصوات املتطرفني من الجانبني» .وتتابع قائلة:
«نريد يف املتحف أن نساهم يف الكشف عن الوجه الحضاري لإلسالم حتى ال يصبح أسري الجهلة الذين ّ يلطخون صورته». عبقرية الشرق
من باريس إىل «متحف الفنون الجميلة» يف مدينة ليون،
وهو أحد أهم املتاحف الفرنسية خارج العاصمة باريس ،هذا املتحف يملك ً أيضا مجموعة نادرة من الفنون اإلسالمية، منها ما جيء به من األندلس ،ومنها ما يعود إىل مصر وسوريا ،وقد أُنج َزت يف العصور األيوبية واململوكية
180
والعثمانية .غري أن متحف ليون لم يخصص
جناحً ا بأكمله للفنون اإلسالمية كما الحال يف متحف «اللوفر»؛ ألن التحف
اإلسالمية موجودة يف قسم معروف
السيدة يانيك لينتز
الحديث ،وأولهم يف فرنسا الفنان الراحل هرني ماتيس الذي يعدّ أحد رموز الحداثة ومن مبدعيها .كذلك كشف املعرض،
من خالل عرضه لتحف ولوحات شرقية وغربية ،أن االهتمام الفعيل لألوربيني بالفنون اإلسالمية بدأ يف نهاية القرن الثامن
عشر ،وتواصل إىل النصف األول من القرن التاسع عشر؛ إذ بدأت املتاحف املعروفة منذ تلك املرحلة بتكوين مجموعاتها الخاصة من التحف اإلسالمية ،ومنها متحف «اللوفر» يف باريس ،واملتحف الربيطاين يف لندن.
بموازاة مجموعتي متحف «اللوفر»
و«متحف الفنون الجميلة» يف مدينة ليون ،تطالعنا تحف إسالمية أخرى يف متاحف فرنسية أقل شهرة ،ومنها
بقسم األواين والقطع الفنية ،إىل جانب
«متحف عصر النهضة» الذي يقع يف
تحف من حضارات أخرى ،وتشرف
مدينة إيكوان ،وهي مدينة صغرية
عليه السيدة سليمة هالل .وللتعريف
تبعد قرابة العشرين كيلومرتًا شمال
بالتحف النادرة يف هذه املجموعة ّ تنظم السيدة هالل املعارض املؤقتة،
باريس .ويملك املتحف مجموعة نادرة من الخزف العثماين التي
وكان منها معرض رائع بعنوان
تختصر مسرية هذا الفن .وكان
«عبقرية الشرق ،أوربا الحديثة ّ وفنون اإلسالم» أقيم عام 2011م ،وشكل ً حدثا ثقافيًّا بار ًزا؛ ألنه كشف مرة أخرى عن تأثري الفنون حينها
مرحلة اإلمرباطورية العثمانية ،وهو لم ينحصر فقط يف صناعة األواين ،بل ً أيضا يف صناعة البالطات
عدد من مبدعيها الكبار الذين طبعوا بأعمالهم مسرية الفن
تشكل املتاحف جزءً ا مهمًّ ا من الحياة الثقافية الفرنسية؛
اإلسالمية خالل القرن العشرين يف الفنون األوربية ،ويف
آالف التحف اإلسالمية التي أنجزت خالل مرحلة زمنية طويلة تجاوزت األلف عام، ضمن مساحة جغرافية شاسعة ،تتوزع اليوم على العديد من المتاحف الفرنسية
العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
الخزف من الفنون األساسية خالل
التي كانت تغطي جدران املساجد والقصور.
إذ تقام فيها باستمرار املعارض املؤقتة والدائمة ،وترافقها
النشاطات والندوات التي تستقطب ماليني الزوار من فرنسا والخارج .وكما سبق أن أشرنا ،قد تكون هذه األنشطة ،إىل
جانب الرتبية والتعليم ،أحد الحلول التي من شأنها أن تساهم يف التخفيف من الضغوطات االجتماعية يف هذه األزمنة
الصعبة ،للوقوف يف وجه املح ّرضني عىل الكراهية ،والداعني
إىل نبذ اآلخر املختلف.
نصوص
ك المالذ شر ُ َ عبدالله بن سليم الرشيد شاعر سعودي
ً حسنا
هذه
َ مثخ َن
الكربيا ِء
ُ أكتب ُ فنادق
وهنا ْ نبذته
ُ حكاية
اعرتايف
الضو ِء
ُ تقتات
جوعي بأين
فانسلـْ عينا
خاو ذاو آلخ َر رصيف من ٍ ٍ ٍ ربما ضي ْ فصول ّفته أنثى ٍ
ربما غ َ ري أنه لم يه ِّي ْئ ِّ ٍّ فج كل الهيام يف عاد بعد ِ َ ْ ولكن الرجوع، ودعا ساعة ِ
ُ وتفاصيل
خيبتي
وهجوعي
ُ كسائح خضت عمري ٍ بغري َـل إىل حُ ْل ِمه ِ الشموع تات ُهـ ضياءً عىل ُف ِ ِ املوجوع كابتسامة فاتر ِ ٍ ِ َ ِّ َ َ ربيع وكعك ها، ي م س و ر خم ْ ِ َ الدموع كؤوس لألماين إال ِ يخبَأُ ْ َّ الضلوع الغم يف حنايا ِ نيس النايُ الرجوع أغنيات ِ َ ِ
مخدوع ِ شفيع ِ
٭٭٭ َ فيك حيًّا يا قصيدي ،دفنتني
َ فتالعبت أأنا
أم
بي (ضم َ غياب) ري ٍ ّ املعنى سواي ذاك
أين يف هذه القصيد ِة نفيس؟ فالت ِف ْ َ لحون الـ ت يا قصيد ،إن
َ الخشوع وتماديت يف ا ّدعاءِ ِ َ َ ِّ املوضوع تائه الحس خافت ِ البديع؟
واجرتار بالتشابيه ِ ِ حِ ُ ُ يع ضائع رت ما بني وم ِ ض ِ ٍ
الهموم شفيعي حومة ـقلب يف ِ ِ ِ
٭٭٭ َ أربك الشع َر مشتكايَ
ثم
أدىن
يل َ
اعتذارًا،
فأغىض فلما
َ أل َّذ ما ُ ُ مضيه خانني (توقيعي) كدت أ ِ َ ارتباكة
الينبوع!
181
مقال
عن بناء المدن وهدمها
ماجد الحجيالن رئيس التحرير
182
مدينة تعامل النهر بوصفه شريان حياتها وتزينه بالورد وتنمو على ضفافه كل بهجاتها ،ومدينة ترى النهر وسيلة نقل ومستوعبا لنفايات ً المصانع
اطلعت على كتاب (باريس) الذي جمعه الصحافي المصري الراحل أحمد الصاوي محمد ،وصدرت طبعته األولى عام 1933م ،ثم أعادت نشره هذا العام دار إصدارات في الرياض مع دار آفاق في القاهرة ،وفي الكتاب اللطيف يحشد الصاوي عشرات المقاالت والمقوالت التي كتبت في باريس، وبعضها أعده المشاركون ألجل مشروع الكتاب أوائل القرن الماضي. والواقع أن الكتاب يمثل رحلة ثقافية ووجدانية خاصة في ُطرقات باريس وميادينها ومقاهيها ،ولفتني أكثر ما لفتني محاوالت المثقفين على اختالف مشاربهم اإلجابة عن سؤال كبير حول ما سمّ وه لغز باريس ..سر باريس.. سحر باريس ..من دون أن تخرج بإجابة واحدة تصمد أمام س ّرها المزعوم. هل يكمن في تاريخها ،طقسها ،حدائقها ،حاناتها ،معمارها...؟ بل إن الصاوي نفسه وفي مقدمته الموجزة لم ِّ يعلل اختياره باريس ليجمع فيها هذه المقوالت ،واكتفى بوصف عمله هذا بأنه «طاقة من الزهر لباريس» التي هي «دنيا منيفة يصعب حصرها بين غالفي كتاب». ولطالما شغلني سؤال حول المدن وأسرارها .ما الذي يجعل مدينة ما حميمة ومؤنسنة ،ومدينة أخرى موحشة ال يق ّر لك فيها قرار .فباريس مثلاً التي يقول الصاوي إنه ُكتب فيها أكثر من مئتي ألف وصف حتى مطلع القرن الماضي؛ انفردت بين المدن األوربية األخرى بهذا الهيام الذي يبديه المثقفون والروائيون والسيّاح والعشاق من ساحة الكونكورد إلى غابة بولونيا ،والقارئ في تاريخ «باريس الجديدة» يعرف أن من هدمها وأعاد بناءها هو جورج أوجين هوسمان الموظف المدني البسيط الذي حوّلها من برك وبيوت للفقراء على هامش نهر السين إلى ما نعرفه اليوم بعاصمة النور ،واستمرت باريس تحافظ على بنيان هوسمان ومشروعه المعماري مهما توسعت على مر العقود الماضية ،فيما نعرف أن القاهرة الخديوية التي بناها هوسمان نفسه بطلب من الخديو إسماعيل ال يكاد يبقى منها اليوم شيء وكانت أجمل ما في القاهرة ،ربما ال يعرف سر المدن إال بُناتها العظام ومهندسوها األوائل .إنه الفارق الذي ال تخطئه العين بين لطف ميونخ على بساطتها وقسوة فرانكفورت على فخامتها ،بل إنه الفارق في جدار من بضعة سنتيمترات فصل بين برلين الغربية والشرقية ،مدينة تعامل النهر بوصفه شريان حياتها وتزينه بالورد وتنمو على ضفافه كل بهجاتها ،ومدينة ترى النهر وسيلة نقل ومستوعبًا لنفايات المصانع ،بين مدينة تحشر الناس في صناديق صفراء هائلة تسميها مساكن شعبية، ومدينة تفتح نوافذها على الحدائق والساحات والمهرجانات الملونة ،إنه الفارق بين ثقافة الحياة وثقافة الحزب. ولعله من الوهم أن ي َُظن أن بناء المدن وتخطيطها هو شأن هندسي معماري ال عالقة له بالثقافة والسياسة ،األحزاب الشمولية التي جثمت على
العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
بعض المدن األوربية حوّلتها لغرف للعمال وساحات للشعارات الحزبية وصور الزعماء وتماثيلهم ،ومخطئ من يظن أن البناء الحديث واألبراج الزجاجية العالية واإلسمنت المسلح يصنع مدينة ،فبعض أجمل مدن العالم يخلو من برج أو عمارة بأكثر من خمسة طوابق ،لكنها جميلة وعملية ّ مكتظة لكن فارغة، ونابضة ،فيما تبدو المدن الكوزموبوليتية المصنوعة مهولة لكن موحشة ،كأنما بنيت لتعيش فيها القاطرات والشاحنات .زائر الحي الالتيني في باريس لن يفطن إلى العمارات المتهالكة والحديد الصدئ واأللوان غير المتجانسة والممرات الضيقة ،لكنه سيرتاح إلى المكتبات الحي الذي يعشق الحياة العتيقة والمقاهي التاريخية ،وهذا المزيج البشري ّ ويتنفس الفنون ويعبر عن نفسه بال تزييف وتنميق. بناة المدن العظام كانوا مشغولين بالبشر قبل الحجر ،وأكثر ما يشد انتباهي وأنا أزور بعض العواصم العربية التي ما زالت مزدهرة هو مزارع الناطحات التي ال تنفك تتزايد ويعلو بعضها على بعض ،وتحت عنوان ً إنسانا تحت كعبها التحديث والتنمية تنسى هذه األبراج الشاهقة أن هناك يريد أن يمر بينها ويدخل إليها ويخرج منها ،معظم هذه األبراج بنيت للسيارات تصل إلى بابها وليست مشغولة أبدً ا بمن يدب على األرض من المشاة ،ووسط هذا التطاول يضيع كثير من المعنى اإلنساني وراء العمران ليحل محله شيء من التحدي والتنافس المحموم. ً مرتبطا ببناء ضخم لم يكن انتعاش الثقافة وتفاعل األفكار وانصهارها تحت عنوان مكتبة أو مركز أو متحف أو منتدى ال يفتح أبوابه إال في المناسبات الرسمية ،فعلى ضفاف التايمز في لندن تطل ثالثة مراكز ثقافية كبرى تفتح أبوابها للمبدعين أيًّا كان لونهم وجنسهم وسنهم ليمارسوا فنونهم ،وتظل المراكز مفتوحة حتى ساعة متأخرة من ليل العاصمة البريطانية ،وقد تنشأ التيارات الثقافية الكبرى ،وتؤلف الكتب وتعقد المناظرات والحوارات في أماكن ال يتوقعها أحد؛ مقهى صغير أو ميدان على جوانبه تباع الصحف والكتب والورد ويفترشه الرسامون والموسيقيون. لقد غابت النشاطات الثقافية العفوية التي كانت تبعث الحياة في المدن العربية ،وكثي ًرا ما يبرز سؤال عن المدن المغلقة وتلك التي ال تتيح لألفراد والمجموعات فرصة التعبير عن الذات في الهواء الطلق ،ومثل حقيقة فيزيائية سيجيء اليوم الذي تعبر فيه هذه الذوات عن رأيها بشكل عنيف ،بدلاً من طرحها أفكارًا قد ال تصمد طويلاً وتنتهي. هناك سر ما يميز المدن قديمها وحديثها ،يطبعها بخصوصية أهلها، يؤنسنها وال يحولها إلى مكان ضخم للعمل ووسائل النقل ،يجيء هذا الحديث ونحن نتابع أخبار الحواضر العربية الكبرى تهدم وتدمر كل يوم، وبأقصى قدر من التفاؤل الممتنع عقلاً يتمنى الواحد منا أن يكون كل ما يراه ً مخاضا لشيء جديد.
www.alfaisalmag.com مدير التحرير
أحمد زين اإلخراج
ينال إسحق التنفيذ
رياض دفدوف مبارك علي الموقع اإللكتروني
معتز عبدالماجد التدقيق والمراجعة اللغوية
عبدالله الدوسري محمد نصير سيد عبدالغفار عبدالعاطي
مراسالت التحرير واإلدارة
ص.ب ( )3الرياض 11411 المملكةالعربيةالسعودية هاتف المجلة )+966( 11٤٦٥3027 : )+966( 11٤٦٥٢٢٥٥ فاكس)+966( 11٤٦٤٧٨٥١ : contact@alfaisalmag.com
اإلعالنات هاتف .11٤٦٥٢٢٥٥ :ـ فاكس.11٤٦٤٧٨٥١ : advertising@alfaisalmag.com االشتراكات والتوزيع
.11٤٦٥٢٢٥٥تحويلة6640 : subscriptions@alfaisalmag.com
مقال
خيـــرية السقاف
ً وميضا!!.. يكون حال أن َ ُم ٌ
184
كاتبة سعودية
ُ سراديب ترتب فيهم نشرات األخبار للوهلةِ األولى كالتي تشبه وهلة الفجيعةِ الضطرابِها! تأخذهم َ ُ المجهول للرجفةِ ِ لاً ُ العبث يشاهدون أطفا يتضرجون في النكبة! يتلهّون تتجول بهم في طرقات مالهي متاهات توجسها! الخانقةِ لتمتدَّ في ِ ِ باألطراف المبتور ِة المهملةِ ! ِ ً األبواق ،تأخذهم وحل في ممرغة بقلوبهم يعبثون ألوانها! عن بأحالمهم تتطاير كالبالونات أمهاتهم بأطياف الباهتةِ ِ ِ السالح ،والخوف الرابض في الطرقات ..عند الزوايا، لغربة البحر ،وهاجس الريح ،ومنافي الحزن لقلوب يفزعها زئير ِ وتحت الهشيم المخاتل! يجهلون مالمحهم تنتحب في المرآة على صدى الضحكات في الخلفيات الغادرة!!.. نشرات األخبار!!... ً تأخذهم الوقائعُ بحرير زائف!! ..تطوِّح بهم كالمراهقين في اندفاعة عاطفة ساذجة ُتشجيهم مطرزة الخدائع لقلق فيها ٍ ُ حني ًنا في وهلة الفجاءة!! ..تضحكهم كأبطال الكوميديا الساخرة حد االستلقاء على ظهور خيباتهم!!.. في الخفاء تنتحب!!.. ُ ت ْش ِجنهم كحرقةِ الحالمين عند عناق األيدي في أول حس بفقد المقربين للوريد!! وكمُ ْسمِ ٍع نايًا حزي ًنا في طريق قافلة تتوه في االغتراب!!ُّ .. تزخهم بسحب من غسلين يكوي ما تبقى من رهف دعةٍ ٍ غافلةٍ ،أنزلتهم قممَ أحالم واهمةٍ بالزخرفة!! ..ال تتضح خريطتها في الضباب المتسيِّد بعدُ ،ولن!! ..تهز أكتاف ضعفهم حين ظنوها ترسانات طموحات ذاهبةٍ في التأويل!!.. النشرة هذه كلما امتدت بحدَّ يْها القاطعين الحطب !!..نشرات األخبار في الخالصة نارٌ ..نارٌ ..نارٌ!! استوت منشارًا!! ،واستووا لها َ ُ حال وقائع في هشيم الواقع!! ..تغي ُ ِّب في الناس أشجا َر المُ ِ أن تعود لها خضرتها!!.. * * * تأخذهم األبراجُ للتربة بعيدً ا عن منجل الحارث ومجرى الماء!!.. َّ تأخذهم إلى حيث ال عهد لهم إال بما يأكلون!! ..تخيفهم فزاعة الطيور وفي موسم الجراد يصيدون!! ..تأخذهم األبراج بعيدً ا ،وفي المخيلة يتآلف الماء والشواء.. ٌ ُ ِّ ُّ ابتهال!! وباب غيم ثمة ذائقة ،وثمة ذاكرة!!.. ِ ٍ صهيل ريح ،دك رعدٍ ،كفوف تنبسط لزخ ٍ تأخذهم األبراج لجزيرة «كنز»!! ..لكن بالكاد يجدفون في المعرفة ،أو يألفون في الخبرة!.. القطار ال يطير ،وفي اليقين األبراج ال تنزل إلى األرض!!.. * * * تأخذهم الدوّامة في صحبة الريح والماء ..في حضرة البركان!! ..للدورة األولى، ً وحريقا!! ..في تيه األلوان يدلق الرسامون علبَها في الدر ِْك اآلسن تستوي الساقية جذوة، ب من فرط الغابة!! ..تأخذهم الدوامة للدوار بعد الدوار!!.. إال من ضفدع ينوح ،وسكين تنحَ ُ تساقط األقنعة ،تسفر الوجوه!! ..في اليقين غيبوبة َّ ال ثمة غير المُ حَ ال!! العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م