العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ مارس -إبريل 2017م
ال تقرأ القصائد ..
اقرأ جدول القطارات
طالل سلمان: ما يشغلني بعد «السفير» الطيب تيزيني :القاتل الذي أنتج داعش هو الغرب
تودوروف ..الذاكرة تهزم العدم www.alfaisalmag.com
األدب الروسي وحكام الكرملين
www.kfcris.com
اﻟﺒﺤﻮث واﻟﺪراﺳﺎت
اﻟﻤﺤﺎﺿﺮات واﻟﻨﺪوات
kfcris@kfcris.com
@kfcris_sa
اﻟﻤﻜﺘﺒﺔ
اﻟﻤﺘﺎﺣﻒ
kfcris_sa
KFCRISKSA
اﻟﺘﺪرﻳﺐ
KFCRIS
اﻟﻜﺘﺐ واﻹﺻﺪارات
ص ب ٥١٠٤٩ :اﻟﺮﻳﺎض ١١٥٤٣اﳌﻤﻠﻜﺔ اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ اﻟﺴﻌﻮدﻳﺔ ﻫﺎﺗﻒ ٠٠٩٦٦ ١١ ٤٦٥٢٢٥٥ :ﻓﺎﻛﺲ٠٠٩٦٦ ١١ ٤٦٥٩٩٩٣ : Fax: 00966 11 4659993
Tel: 00966 11 4652255
P.O. Box 51049 Riyadh 11543 Kingdom of Saudi Arabia
اﻟﺸﺆون اﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ
« ﺗﺠﻮل ﻓﻲ ﻣﻮﻗﻊ » ﻣﻘﺎﻻت ﻟﻨﺨﺒﺔ ﻣﻦ أﻫﻢ اﻟﻜﺘﺎب ﻣﻠﻔﺎت وﺗﺤﻘﻴﻘﺎت وﻗﻀﺎﻳﺎ ﻋﻦ اﻟﺮاﻫﻦ اﻟﺜﻘﺎﻓﻲ واﻟﺴﻴﺎﺳﻲ ﻣﻊ إﻃﻼﻟﺔ ﻋﻠﻰ اﻹﺑﺪاع ﻓﻲ ﻣﺨﺘﻠﻒ اﻟﻔﻨﻮن
@alfaisalmag alfaisalmag alfaisalmag ﻣﺠﻠﺔ اﻟﻔﻴﺼﻞ
alfaisalmag.com
editorial@alfaisalmag.com
+966 11 4647851 :¢ùcÉa +966 11 4653027 :∞JÉg ájOƒ©°ùdG á«Hô©dG áµ∏ªŸG 11411 ¢VÉjôdG 3 Ü ¢U
يصدرها
أسسها عام 1397هـ1977/م
األمير خالد الفيصل
العددان
486-485
كتاب الفيصل 15
2 الملف
اقرأ جدول القطارات
64 16
فيصل دراج وتبدل األزمنة) (السرعة والمسافة ّ عبدالقادر الجنابي اسمها رغبة) (القطارات كلها ُ حسونة المصباحي (القطار في األدب األلماني) زياد عبدالله (سكك حديدية تفضي إلى محطات سينمائية) صبحي موسى (أساطير على هامش يوميات مترو القاهرة) مشاري النعيم (المترو..تحوالت ثقافية في العمران والمجتمع) هدى الدغفق (انتبهي! ال تركبي في عربة العمال) مترو الرياض ..في المتخيل الروائي السعودي
العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
الناشر
رئيس مجلس اإلدارة
األمير تركي الفيصل
رئيس التحرير
الثقافية
دار
دراسات
editorinchief@alfaisalmag.com
بورتريه
الظاهرة الداعشية (هاشم صالح)
صفية بن زقر
66
يعيب المثقفون الغربيون على تيار اإلسالم السياسي المتطرف أنه يحجر على العقول ،ويقيد حرية التعبير، ويالحق المثقفين والفنانين .بل قد يعتدي عليهم جسديًّا... ويعيبون على اإلخوان المسلمين تلك النزعة التوتاليتارية في تفسيرهم االنغالقي المتزمت لإلسالم متجاهلين سماحته ورحمته وشفقته على كل مخلوقات الله.
80
(محمد العامري)
الفنانة «صفية بن زقر» التي ك َّرمها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز بوسام الملك عبدالعزيز من الدرجة األولى في مهرجان الجنادرية مطلع فبراير المنصرم ،استطاعت تجاوُز تلك الظروف الصعبة، لتتحيز لهواجسها الفنية ،وتفتح عبر ريادتها نافذة كبيرة لممارسة الرسم والتلوين.
ثقافات
فضاءات
وتبدل األزمنة مقاهي القاهرة ّ
ليلى سليماني :مجرد كوننا نساء يجعلنا ضحايا
ماجد الحجيالن
(محمد اإلدريسي)
120
مع صدور روايتها الطويلة الثانية المستوحاة من األحداث المأساوية لمدينة نيويورك ،تشرح الكاتبة المغربية ليلى سليماني للقراء النسق الشرطي لعالقات األبوة -المربية. في هذا الحوار الذي أجراه معها موقع «هفنغتون بوست» قبل تتويجها بجائزة الغونكور بأيام قليلة ونشر يوم التتويج، ً ً أحيانا أحيانا و«المثيرة» تتحدث عن روايتها «المخيفة» أخرى «أغنية هادئة» التي حازت الجائزة.
142
ليس بدافع البحث عن مأوى (سعيد الكفراوى)
لكل كاتب حسه باألماكن ،يصغي لحديثها وذكرياتها، ويستدعيها!! ً بعضا من تاريخ الوطن والمقهى في كل تجلياته يمثل الوجداني .أندهش وأنا أقلب صفحات من زمن مضى ،وأتأمل جوهر المكان ،وصفحات روّاده ،ودوره المتميز في تكوين ذاكرة الوطن السياسية واالجتماعية والثقافية ،واالحتفاظ في أحيان كثيرة بمجريات األمور ولو من كل عام يوم!!
3
كتب
سينما
محمد ملص :عثرات التجربة ال تعود للسينما إنما لكل أشكال القمع
(عبدالكريم قادري)
معراج نون النسوة في«الغزلية الكبرى»
166
يتحدث المخرج السوري الكبير محمد ملص لـ«الفيصل»، عن أهم المحطات التي ميّزت تجاربه السينمائية ،وعن ً إطالقا عثراتها ومنعطفاتها وانكساراتها التي ال تعود للسينما حسب قوله ،بل لكل أشكال القمع التي واجهها رفقة جيل كامل من السينمائيين.
136
ُ الغزلية الكبرى :عنوانٌ يُفاقمُ مسألة الزمن حضورًا في مواجهة بغزل َن ْفس ِه ماضيًا ،عنوانٌ يبدو ظاهريًّا من الجاهلي ِة لكن م ّتحدً ا ٍ أكبر ًآنا حاض ًرا ،هذه ليست إال وشاية يشي بها سليم بركات َنفس ُه عن كتاب ِه هو .لكن ما أن يتم الغوص في بحر ومتن هذه الغزلية ،حينهاُ ،ن ُ درك أيّ فخ نصبه سليم للقارئ كتابهِ. فهد حسين
قضايا
4
لسليم بركات
(غمكين مراد)
أين األدب الروسي اليوم؟ ً شيوعا فيما يخص حضور لعل واحدً ا من أكثر األسئلة اآلداب العالمية والتواصل معها عربيًّا ،هو :أين األدب الروسي اليوم؟ لماذا لم نعد نقرأ أعمالاً ُ لكتاب جدد يختلفون في حساسياتهم وفي رؤاهم عن تلك النخبة من األسماء التي اكتسحت أعمالها المشهد األدبي العربي عقودًا ،وأثرت فيه على نحو عميق؟
العريفي ..يلجأ إلى الرواية
مقاالت
98
علي نوري زاده ارتياح السید برحیل الشیخ
108
عالية ممدوح نزيه خاطر :جمهورية األعداء
118
حسن النعمي الشعراء القصاص من الغناء إلى المحاورة
128
رشيد بوطيب االقتصاد على سرير فرويد
138
نادر كاظم «تزفيتان تودوروف»
152
ريتا فرج النسوية اإلسالمية والمساواة
157
طالل سلمان
82 العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
مايشغلني بعد «السفير»
184
نصوص
65 71 111 117
سعد الخشرمي قصائد محمد الحسيني األلم على المرآة ُ
أحمد زين
رحاب أبو زيد عام النزوح أحمد يوسف
اإلخراج
ينال إسحق
الرحيل
في هذا العدد
«خرز الوقت»لعلي الدميني (رضا عطية)72 ............................ «شذرة نقدية» (شاكر لعيبي)76 ............................................. حوار مع الطيب تيزيني (سامر إسماعيل)100 .......................... أبرز مشكالت الناشرين في معارض الكتب112 .......................... كتاب سعوديون يطالبون باالنفتاح ( ...صالح العوض)115 ....... خمس سنوات على رحيل شيمبورسكا (عماد أبو صالح)124 ....... إصدارات130 ...................................................................................... التمثل الثقافي( ..محمود قرني)132 ........................................ الدولة مهما عظمت مجرد عقدة (محمد الحمامصي)134 ..... بين كتابة المفكرات والصورة (ربيع ردمان)146 .......................... تجربة الهايكو في األحواز (سالم الكعبي)150 ........................ تراثنا ليس لنا (نذير الماجد)154 .................................................... نهاية التلفزيون التقليدي (نصر الدين لعياضي)162 ............... مفارقات المضحك لدى شابلن (عادل آيت أزكاغ)172 ................ جـدران الخليج والغرافيتي (رنا الجربوع)176 ............................... تاداشي سوزوكي (عبادة تقال)180 ............................................ االشتراك السنوي 100ريال سعودي لألفراد 250 ،اً ريال سعوديًّا للمؤسسات ،أو ما يعادلهما بالــدوالر األمـيـركــي خـــارج المملـكــة العربية السعودية. السعر اإلفرادي :السعــوديـــة 10ريـــاالت ،اإلمــــارات 10دراهم ،قطر 10رياالت ،البحرين دينار فلسا ،مصر 4جنيهات ،المغرب 10دراهم. واحد ،األردن 750 ً الموزعون مصر ،مؤسسة توزيع األهرام ،شارع الجالء ،هاتف ،7704365 - 5796997 :فاكس: ،00202 7703196قطـر ،دار الشرق للطباعة والنشر والتوزيع ،ص.ب ،3488هاتف ،44557809فاكس ،00974 44557819 :األردن ،شركة وكالة التوزيع األردنية ،ص.ب ،3371 هاتف ،65358855 :فاكس ،00962 65337733 :البحرين ،مؤسسة الهالل لتوزيع الصحف، ص .ب ،8005هاتف ،17480800 :فاكس ،00973 17480818 :اإلمارات العربية المتحدة ،مكتبة دار الحكمة ،ص.ب ،2007هاتف ،42665396 :فاكس ،00971 42669827 :المغرب ،الشركة الشريفية لتوزيع الصحف ،ص.ب ،13683هاتف ،2400223 :فاكس00212 2246249 : التوزيع داخل المملكة الشركة الوطنية الموحدة للتوزيع هاتـــــف )011( 4871414 :فاكس)011( 4871460 :
مدير التحرير
التنفيذ
رياض دفدوف مبارك علي الموقع اإللكتروني
معتز عبدالماجد التدقيق والمراجعة اللغوية
عبدالله الدوسري محمد نصير سيد االشتراكات والتوزيع
جعفر عبدالرحمن -)+966(11٤٦٥٢٢٥٥تحويلة6640 : subscriptions@alfaisalmag.com
مراسالت التحرير editorial@alfaisalmag.com مراسالت اإلدارة ص.ب ( )3الرياض 11411 المملكة العربية السعودية هاتف المجلة )+966( 11٤٦٥3027: فاكس)+966( 11٤٦٤٧٨٥١ : contact@alfaisalmag.com اإلعالنات هاتف)+966( 11٤٦٤٧٨٥١ : advertising@alfaisalmag.com
5
المركز
الملك سلمان في مقدمة الفائزين بجائزة الملك فيصل العالمية
6 عبدالعزيز السبيل واألمير خالد الفيصل في أثناء اإلعالن عن الفائزين بالجائزة
أعلن رئيس هيئة جائزة الملك فيصل العالمية األمير خالد
الفيصل فوز خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز بالجائزة في فرع خدمة اإلسالم ،وذلك لعنايته بخدمة الحرمين
الشريفين وقاصديهما ،واهتمامه بالسيرة النبوية ،ودعمه
مشروع األطلس التاريخي للسيرة النبوية وتنفيذه بدارة الملك عبدالعزيز ،وإنشائه مجمع الملك عبدالعزيز للمكتبات الوقفية بالمدينة المنورة لحفظ التراث العربي واإلسالمي ،وسعيه الدائم
لجمع كلمة العرب والمسلمين لمواجهة الظروف الصعبة التي تمر بها األمة العربية واإلسالمية ،ومن ذلك إنشاؤه التحالف
اإلسالمي العسكري لمحاربة اإلرهاب واستضافة مقره بالرياض، وإنشاؤه مركز الملك سلمان لإلغاثة واألعمال اإلنسانية ودعمه
بسخاء ليقدم العون للشعوب العربية واإلسالمية المحتاجة.
وتضمن بيان األمانة العامة الذي تاله األمين العام للجائزة
الدكتور عبدالعزيز السبيل في حفلة اإلعالن عن أسماء الفائزين
بمركز الخزامى في الرياض في يناير الماضي ،وسط حضور ثقافي وفكري وإعالمي كبير ،الكشف عن بقية الفائزين في
فروع الجائزة ،ففي فرع الدراسات اإلسالمية فاز الدكتور رضوان السيد ،لجمعه في أبحاثه ودراساته بين االطالع الدقيق الواسع على التراث العربي اإلسالمي الفقهي والسياسي ،واإلحاطة العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
بمنهجيات البحث الحديثة ،وامتياز بحوثه األكاديمية بمنهجية
علمية دقيقة ومواءمته المتميزة بين األصول الفكرية السياسية اإلسالمية ،والواقع العربي اإلسالمي.
أما في فرع اللغة العربية واألدب فقد حصل على الجائزة
مجمع اللغة العربية بالمملكة األردنية الهاشمية ،تقدي ًرا لجهوده
العلمية المتميزة في ترجمة العلوم والتقنية ،ونقل المصطلحات
العلمية .ووضعها في السياق العربي ،وإدخال التعريب في التعليم الجامعي في الوطن العربي سعيًا لتوطين العلم والتقنية.
وفي فرع الجائزة للطب فاز البروفيسور الياباني تاداميتسو كيشيموتو أستاذ المناعة في مركز فرونتير ألبحاث المناعة
بجامعة أوساكا اليابان ،لدوره الرائد في اكتشاف وتطوير عالج بيولوجي جديد وناجع ألمراض المناعة الذاتية .وعمله المتواصل على مدى أكثر من ثالثين سنة َّ تمكن خاللها من اكتشاف إنترلوكين
(منظم االلتهابات والمناعة) ومستقبالته ومساراته.
وفي فرع الجائزة الخامس للعلوم فاز باالشتراك البروفيسور
دانيل لويس (سويسري) والبروفيسور لورينس مولينكامب (هولندي) لمساهمتهما بدرجة كبيرة في المجال التجريبي لعلم
دوران اإللكترونات ،مما فتح المجال نحو تطوير حواسب قوية
من حيث سرعتها وقدرتها على تخزين المعلومات.
رحيل محمد الفيصل ..رائد االقتصاد اإلسالمي صدر عن الديوان الملكي في المملكة العربية
السعودية بيان ينعي فيه رائد االقتصاد اإلسالمي األمير محمد الفيصل الذي وافته المنية في 16ربيع اآلخر 1438هـ ( 14يناير 2017م) ،ورثى األمير تركي الفيصل أخاه
الراحل بمقالة قال فيها...« :أكثر ما بهرني فيك هو حنانك الذي ضاهى ِك َبرُه كِب َر جسدك .فكثيرًا ما فرَّجت
كربة المحتاج وكثيرًا ما مددت يدك للمعوز ،رحمك
الله أخي محمد .مألت حياتنا بكبر أعمالك ،وها أنت تلقى من الناس الحب الكبير» ،وأضاف« :بهرتني عندما
تخرجت من الجامعة كأول حامل شهادة جامعية من
األمير محمد الفيصل يتوسط أخويه األميرين «خالد» و«تركي»
َ تسع لوظيفة أعلى على الرغم آل سعود .وانبهرت عندما توظفت في مؤسسة النقد على المرتبة التي هيأتها لك شهادتك ،ولم من مركزك االجتماعي .تدرجت في الوظيفة حتى انتقلت إلى وزارة الزراعة .وهناك ،بهرتني بالحديث عن طريقة لتحلية مياه البحر
للشرب وتوليد الكهرباء في آن واحد .ثم اعتمدتها الحكومة لتصبح المملكة أكبر منتج للمياه العذبة والكهرباء من مياه البحر، ووصلت المياه إلى كل أنحاء البالد».
يُعَ ُّد الفقيد أحد أبرز أعالم االقتصاد اإلسالمي ورواده األوائل ،فقد أسس شركة دار المال اإلسالمي ،وبنك فيصل اإلسالمي
وفروعه في القاهرة والبحرين والسودان وباكستان ،وكان رئيس الهيئة العامة لتحلية المياه المالحة في عهد الملك خالد ،كما تولى رئاسة مجلس أمناء مؤسسة الملك فيصل الخيرية بعد رحيل أخيه األمير عبدالله الفيصل رحمه الله ،وهو مؤسس مدارس
المنارات ،وعضو مجلس أمناء جامعة عفت ،تغمد الله الفقيد بواسع رحمته.
األمير تركي الفيصل يستقبل وف ًدا طالب ًّيا من جامعة هارفارد
األمير تركي الفيصل في صورة تذكارية مع وفد جامعة هارفارد
استقبل األمير تركي الفيصل -رئيس مجلس إدارة مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية -في مكتبه بالمركز صباح يوم
األحد 10ربيع اآلخر 1438هـ 8 /يناير 2017م وفدًا طالبيًّا من جامعة هارفارد في إطار التعاون بين المركز والجامعة في المجال البحثي وتنظيم ّ التخصصات الدراسية للطالب والطالبات ضمن وفد الجامعة ،وتحدّث عن الندوات والمحاضرات وورش العمل ،وتع ّرف -خالل اللقاء-
عالقته الوطيدة بجامعة هارفارد التي زارها عدة مرات ،وألقى فيها العديد من المحاضرات في مناسبات مختلفة خالل السنوات الماضية، ً خصوصا في أثناء عمله سفي ًرا للمملكة لدى الواليات المتحدة األميركية ،كما تناول تجربته الدراسية وهو طالب في جامعة جورجتاون
األميركية .وتأتي هذه الزيارة في إطار سعي المركز إلى توثيق أوجه التعاون والعالقات الثنائية مع مختلف الجهات والمؤسسات والمنظمات
المحلية واإلقليمية والدولية العاملة في مجال البحوث والدراسات اإلستراتيجية إلى جانب التعليم واإلطار األكاديمي.
7
المركز
يكرم المفكر رضوان السيد مركز الملك فيصل ّ لحصوله على جائزة الملك فيصل العالمية ك ّرم مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات ّ المفكر اإلسالمي الدكتور رضوان السيد اإلسالمية -مستشار مفتي الجمهورية اللبنانية ،وعضو
المجلس الشرعي اإلسالمي األعلى ،واألستاذ في كلية اآلداب بالجامعة اللبنانية -لحصوله على
جائزة الملك فيصل العالمية «فرع الدراسات اإلسالمية» في دورتها التاسعة والثالثين.
ونال الدكتور رضوان السيد الجائزة في
فرع الدراسات اإلسالمية ،وموضوعها« :الفكر
السياسي عند المسلمين حتى القرن التاسع الهجري /الخامس عشر الميالدي)؛ بسبب ريادته في مجال دراسات الفكر السياسي اإلسالمي في
رضوان السيد وسعود السرحان
المرحلة الكالسيكية حسبما ذكرت اللجنة العلمية للجائزة في مسوّغات فوزه بالجائزة. ّ وأكد الدكتور سعود بن صالح السرحان -األمين العام للمركز -أن تكريم المركز للدكتور رضوان السيد يأتي تقديرًا لجهوده
8
كبير من أنشطة المركز وفعالياته .كما شكر الدكتور رضوان السيد القائمين على الفكرية والبحثية ،ومشاركاته الثريّة في عد ٍد ٍ ً ّ المركز على جهودهم في الدراسات والبحث العلمي الجاد ،مبديًا سعادته بأن يكون فوزه بالجائزة هذا العام مقترنا بنيل خادم َّ وسلم األمين العام للمركز الدكتور رضوان الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز الجائزة في فرع خدمة اإلسالم. ً السيد ً كبير به من الباحثين في المركز. درعا تكريمية بهذه المناسبة ،وسط احتفاءٍ ٍ
بهدف إنتاج ونشر سلسلة من الكتب باللغة اإلنجليزية
المركز يوقع اتفاق تعاون مع «آي بي توريس» العالمية للنشر ّ وقع مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية مؤخ ًرا
اتفاقية تعاون مع مجموعة (آي بي توريس) للنشر األكاديمي في
العاصمة البريطانية لندن ،وهي إحدى أبرز دور النشر العالمية ّ المتخصصة في شؤون الشرق األوسط والعالمين العربي واإلسالمي، إلنتاج ونشر سلسلة من الكتب باللغة اإلنجليزية.
وتأتي هذه االتفاقية في إطار مبادرة جديدة للتعاون بين المركز ِّ -ممثلاً المؤسسات البحثية السعودية والعربية -ومؤسسات النشر
الكتب التي تتألف من أوراق المؤتمرات السنوية ،ودراسات البحوث
األكاديمية األخرى للمركز.
الدولية مثل (آي بي توريس) ،وتتضمن الكتب التي سيتم إصدارها
وأوضح األمين العام للمركز الدكتور سعود بن صالح السرحان
الفكرية والقضايا التي تشغل الرأي العام ،والكتب المتخصصة في
والعربية واإلسالمية في مختلف دول العالم ،وتوسيع معارف العالم
باللغة اإلنجليزية بالتعاون مع (آي بي توريس) مختلف الموضوعات الدراسات اإلسالمية والتاريخ اإلسالمي ،وكتب التراث واللغة العربية والدراسات المعاصرة وتاريخ الدول ،وغيرها.
وتنص االتفاقية على إنتاج ونشر (آي بي توريس) سلسلة من
العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
أن المركز يسعى من خالل هذه المبادرة إلى نشر الثقافة السعودية الغربي عن المملكة ،وتوثيق أوجه التعاون والعالقات الثنائية مع
مختلف المؤسسات والمنظمات المحلية واإلقليمية والدولية العاملة في مجاالت البحوث والدراسات اإلستراتيجية والنشر األكاديمي.
كاريكاتير
فعاليات
الذييب أوضح أن تغير الطقس وراء الهجرات
الصويان :الموسيقا كانت منتشرة بين سكان الجزيرة
10
سعد الصويان
صالح العوض عقد مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات
اإلسالمية ندوة عن األنشطة اإلنسانية والثقافية في الجزيرة
العربية ،في منتصف يناير الماضي ،وشارك فيها الباحث في حضارة شبه الجزيرة العربية وآثارها الدكتور سليمان
الذييب ،والباحث في اإلرث الثقافي والحضاري لشبه الجزيرة
العربية الدكتور سعد الصويان .وفي الندوة التي أقيمت في قاعة المحاضرات بمعهد الفيصل ،وشهدت حضور باحثين
ومهتمين ،أوجز الدكتور الذييب تاريخ بداية االهتمام بعلم اآلثار في المملكة؛ إذ ذكر أن عهد الملك فيصل شهد اهتمامً ا
باآلثار والتنقيب عنها ،وأن عدد البعثات بلغ حاليًّا 30بعثة تضم باحثين أجانب ،إضافة إلى باحثين سعوديين ،مشي ًرا
إلى أن هذه البعثات تحظى باالهتمام ويوفر لها اإلمكانات من الجهات الرسمية.
العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
وعن الفترة التي سبقت بداية علم اآلثار رسميًّا في
المملكة ،قال الذييب :إن علم اآلثار لم يكن ليتطور من دون جهود الرحالة والعلماء الغربيين الذين تحملوا المشاق
والسفر وانعدام األمن ،وأرجع لهم الفضل في لفت انتباه ً مضيفا العالم للحضارة الموجودة في شبه الجزيرة العربية، أنه خالل العقود األربعة التي بدأت فيها الدراسات المسحية
اكتشف حتى اليوم أكثر من 10آالف موقع أثريّ في المملكة، وعزا السبب في تنوع هذه اآلثار وقيمتها وكثرتها إلى أن
الجزيرة العربية كان طقسها في التاريخ القديم يختلف عما عليه اليوم ،ما يؤكد هذه الفرضية الكشف عن وجود بحيرة
مغمورة بمساحة 50كم مربع في منطقة الربع الخالي،
مرجحً ا أن الناس هجروها عندما تغير الطقس وقل الماء،
وبدأت الحروب تقوم بين القبائل ليضطر بعضها إلى الهجرة لتجنب الحرب ،ومن هؤالء كان األكاديون الذين هاجروا إلى
العراق ،وبنوا إمبراطورية األكادية ،ثم كانت الهجرة الثانية
جانب من الحضور
لآلشوريين الذين هاجروا إلى سوريا ،وتبعهم اآلراميون
الصويان ،أقرب إلى الداللة على وجود األذن الموسيقية التي
في الجزيرة العربية ،موضحً ا أنه وجد في الجزيرة العربية
اليوم إلى الشعر النبطي ال للشعر الفصيح ،فكالهما ،كما
والنبطيون .وتطرق الذييب إلى النقوش والرسوم التي وجدت
فقط أكثر من 25ألف كتابة باللغة الثمودية ،التي كانت منتشرة فيها ،إضافة إلى اللغة اآلرامية التي كانت بمنزلة لغة
عالمية آنذاك.
تطرب للنغم وللغناء .وذكر الصويان أن الشعر الجاهلي أقرب
يوضح ،يشبه اآلخر في المفردات والصور الشعرية والمطلع الذي تبدأ به القصائد ،وأنّ كليهما كان شعبيًّا ومنتش ًرا بين ً مضيفا أن اختالف اللغة واأللفاظ طبيعي بسبب تغير الناس،
من جانبه ،تحدث الدكتور سعد الصويان عن أهمية
المكان والوقت ،متمنيًا أن يركز الباحثون على جمع هذا اإلرث
يرجح أن أصل وجود اإلنسان كان في إفريقيا ولم يكن هناك
ودعا الصويان في محاضرته إلى عدم التوقف عن التنمية
موقع الجزيرة العربية ،مشي ًرا إلى أن الكثير من العلماء معبر ب ّري سوى الجزيرة العربية ،وأنه من هنا تكوّنت أهمية
الجزيرة حضاريًّا حيث اختلطت األعراق وتعايشت وبعضها استقر بسبب طبيعتها الخضراء .ورجح الدكتور الصويان
هذه الفرضية لوجود النفط وكثرته إذ تحولت هذه الغابات المدفونة إلى نفط .وذكر الصويان أن الساميين كانوا من األعراق الذين استوطنوا الجزيرة ،وتنسب إليهم اللغة السامية ،ومن فروعها العربية والعبرية واآلشورية واآلرامية.
وعرج الصويان على الثقافة اللفظية والكتابية ،مؤكدً ا أنه حتى
الحضاري والفني ،وعدم إهماله والتقليل منه لكونه شعبيًّا!
والتغيير والمضي نحو المستقبل« ،لكن في الوقت نفسه علينا أن
نوثق المراحل المهمة من تاريخنا االجتماعي والثقافي حتى نستطيع الرجوع إليه ّ نتخلى عن ثقافتنا متى أردنا .وأال
إلرضاء غيرنا ،بل يجب أن نفخر بموروثنا الثقافي والحضاري كما
يفخر اآلخرون بموروثهم».
بداية اإلسالم كانت الثقافة العربية منطوقة وليست مكتوبة،
وأن ازدهار الكتابة بدأ بعد نزول الوحي ،موضحً ا أن أهمية
الثقافة المكتوبة تكمن في إصالح األخطاء والحدّ من التغيرات
التي تطرأ على اللغة ،في حين أن الثقافة اللفظية تتغير وال يمكن الحد من تغييرها.
وفي سؤال حول الموسيقا ووجودها في الجزيرة العربية
أجاب الدكتور الصويان أن الموسيقا كانت منتشرة بين سكانهاِّ ، مدللاً على ذلك بطريقتهم في تقديم ضيافة القهوة التي تكون بطريقة موسيقية؛ إذ تعد أمام الضيف وتقدم له أصواتا وأنغامً ا ُّ ً كلها ،كما يذكر مع َط ْرق الفنجان ،مُ صدِ رًا
سليمان الذييب
11
فعاليات
في ندوة نظمها المركز عن حماية المدنيين واألقليات في سوريا
السفير البريطاني :الوضع السوري يؤثر في أوربا
12 جانب من الندوة
ّ أكد سايمون كوليس السفير البريطاني لدى الرياض أن الوضع السوري ّ يؤثر في أوربا ،وأنه ال يمكن قيام سوريا
وهناك -من وجهة نظري -فرصة للمعارضة لمواجهة
السنة وغيرهم في المدن ،وأن النظام يقتل المدنيين من ُّ
الداهم ،والتوازن بين المصالحة والمحاسبة إلنهاء أيّ
ّ موضحً ا أن مستقلة مستقرة تحت قيادة بشار األسد، الحلول السياسية فشلت في سوريا لعدم ربطها بالواقع على األرض ،مستشهدً ا بمفوضات أستانا ،التي كما يقول:
تهجير السوريين كارثة كبرى للنظام.
داعش واإلرهاب ،ويجب التوحّ د في مواجهة ذلك الخطر
حرب».
وعن التدخالت الخارجية الروسية واإليرانية في
لم تخرج بجديد على صعيد وقف إطالق النار ،مشي ًرا إلى أن إنجلترا وأوربا ّ تركزان على حماية المدنيين والمساعدات
المدنيين بمن فيهم من األقليات «بل كان هدفها حماية
وقال كوليس ،خالل مشاركته في ندوة «حماية
وتركت الجماعات اإلرهابية في الرقة وتدمر» ،مشي ًرا إلى
الماضي وسط حضور كبير من المختصين بالشؤون
سياسي .وفي سؤال حول ردة فعل المجتمع الدولي على ما يحدث أجاب كوليس قائلاً « :لقد ارتكبنا أخطاء ،وأنا
اإلنسانية.
المدنيين واألقليات في سوريا» ،التي نظمها المركز الشهر السياسية والخبراء واألكاديميين وسفراء الدول األجنبية
والشخصيات العامة :إن التعاون الروسي اإليراني في سوريا ّ وتدخالتهما ليست لحماية األقليات، «غير محدّ د المعالم، أو القضاء على اإلرهاب؛ ألن إيران وروسيا تساعدان نظام
األسد المجرم على قتل المعارضة والمدنيين ،وأعتقد أن العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
سوريا ،أكد أنها لم تهدف للقضاء على اإلرهاب أو لحماية النظام ،ورأينا كيف استهدفت المدنيين في حلب،
أن األولوية هي حماية المدنيين قبل الشروع في أي حل
أتوقع أن األجيال القادمة ستعود وستحاسبنا على ردة فعلنا كمجتمع دولي ،لم يكن يجدر به التردد بين خياري ً مضيفا أن المجتمع الدولي عدم التدخل أو التدخل»، مجبر على إيجاد حل سياسي يرضي جميع األطراف.
من جهتها ،أوضحت هند قبوات ،عضو اللجنة العليا ّ تدخل للمفاوضات ،أن كثي ًرا من السوريين مرعوبون من
إيجابي جدًّ ا حاليًّا في التنسيق مع رجال الدين اإلسالمي».
النظام «لعب بورقة الطائفية طوال 50عامً ا وخالل الثورة»،
الحوار اإلنساني بجنيف ،إلى أن نظام بشار األسد يدمّ ر المدن
ّ ّ التدخل الروسي ،مؤكدة أن ويفضلون إيران في بالدهم،
وأن بعض األشياء واألحداث الفردية أض ّرت بالثورة، مشدّ ً دة على أن الدستور الذي صنعه النظام عام 2012م جعل المسيحيين مواطنين من الدرجة الثانية ،مشيرة إلى
الحاجة لدستور جديد يتوافق عليه الجميع ،ويساوي بين
المواطنين ،بعيدً ا من أديانهم وطوائفهم وأعراقهم وفق ميثاق اجتماعي جديد. لاً وتم ّنت قبوات مستقب لسوريا من دون محاصصة ً ّ الحل في المصالحة والعدالة االنتقالية. مؤكدة أن طائفية، وقالت« :سوريا طوال التاريخ وطن واحد ،والتقسيمات
الدينية والعرقية لم يكن لها وجود فيها ،والنسيج السوري
يقتل أبناء الوطن ،ومجلس الكنائس في سوريا يقوم بدور وفي الندوة نفسها أشار مالك العبدة ،الباحث في مركز
السنية لكسر الحاضنة االجتماعية للثورة ،وأن النظام ما ُّ زال يستخدم األسلحة الكيماوية ،ولم يُردع دوليًّا ،موضحً ا
السنة باألسلحة المح َّرمة ،ونظامه هو أن بشارًا يستهدف ُّ السنة المسؤول ،لكنه يتحجّ ج بالحاضنة االجتماعية ،وي ّتهم ُّ
بدعم الثورة .وأكد أن ما يدور في سوريا هو حرب أهلية ،وأن
النظام يستهدف المدنيين ،وال يكترث بقتل اآلالف؛ إذ قتل منذ بداية الثورة أكثر من 300ألف سوري.
وحمّ ل العبدة المعارضة السورية جزءً ا من مسؤولية
ً خصوصا أن أكثر من نصف المجتمع الحرب الدائرة،
مهجَّ ر ،وأن المعارضة لم تستطع إيجاد خطاب وطني يجمع ً واضحة من بداية الثورة فيما الشارع السوري ،وأنها لم تكن
كان وحدة متماسكة ،والتالحم المسيحي اإلسالمي بدمشق ّ ظل موجودًا في سوريا قبل ثورة عام 2011م ،التي خرجت فيها
ّ ّ الحل في المصالحة يتعلق بحمل السالح ،مشي ًرا إلى أن
من القمع والطائفية ،والمسيحيون لم يقفوا مع النظام الذي
ً تاريخية لحماية المسيحيين». لدى بعض المتابعين أبعادًا
جميع األطياف السورية للمطالبة بالحرية ضد نظام مستبدّ ، ً خوفا وبعض المسيحيين والمسلمين لم يخرج ضد النظام
والمصارحة «مع أنه في اعتقادي لن تتمّ محاسبة أيّ مرتكب ً ّ التدخل الروسي في سوريا «يحمل مضيفا أن للجرائم»،
حلقة نقاش عن األوضاع السياسية واألمنية والتعليمية في اليمن َّ نظم مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية حلقة نقاش عن الوضع
السياسي في اليمن وانعكاس ذلك على العديد من الخدمات األساسية وفي مقدمتها التعليم والصحة واألمن .وقدَّ م الدكتور سعود السرحان –األمين العام لمركز الملك ً ورقة تناولت الوضعين السياسي واألمني باليمن، فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية-
وتحدَّث الدكتور منصور الخنيزان عن وضع التعليم العالي في اليمن ومعاناة األستاذ األكاديمي في الجامعة اليمنية من ج ّراء االنقالب ،والتدمير الذي لحق بالجامعات
اليمنية بسبب الحرب.
وشارك في الحلقة العميد علي ناجي عبيد -رئيس مركز الدراسات اإلستراتيجية في
علي ناجي عبيد
القوات المسلحة اليمنية بمداخلة تناولت إعادة إعمار اليمن وبخاصة المناطق المحررة ،داعيًا دول الخليج إلى استقبال المزيد
من العمالة اليمنية ،محذرًا من إقحام الحوثيين المذهبية والطائفية في مناهج التعليم باليمن ،ومقترحً ا بناء مدارس من قبل
رجال األعمال السعوديين .وقال عبيد« :إن الحرب دمرت البنية التحتية في اليمن ،واإلرهاب والفقر ضربا «عدن» والعديد من المدن ،وهناك 14مليون يمني يعاني الفقر الغذائي ،إضافة إلى انقطاع الرواتب وعدم وجود إنتاج ،مع انتشار بعض األمراض»، مشي ًرا إلى توغل عصابات التهريب ،ونزوح الكثير من اليمنيين.
13
مقال
ماجد الحجيالن رئيس التحرير
عصر الغضب ومستقبل العالم ً ً مخيفا على وشك الوقوع» ..هكذا يختصر شيئا «إن
الباحث الهندي بانكاج ميشرا خالصة كتابه الصادر ً حديثا «عصر الغضب» وهو ال يفاجئ قراءه بهذه
االنتخابات األميركية الذي سبقه تفشي الحوادث والخطابات العنصرية ،وفي خروج بريطانيا من االتحاد األوربي الذي
النتيجة إذ يأخذهم في رحلة طويلة فيما سمّ اه «تاريخ
سبقه مقتل النائبة العمالية جو كوكس بالرصاص والسكين
التي تسود العالم اآلن إلى القرنين الماضيين ،ويتكئ
وفق تفسيره.
الحاضر» ،ويعود بجذور الغضب والعنف والكراهية
على مروياته المتعددة من أقوال وأطروحات مفكري
14
الديماغوجيون في األعلى ،وهو ما حدث مع انتصار ترمب في
التنوير والحضارة الغربية ليصل إلى النتائج السياسية
والثقافية اليوم ،وفي كتابه سيجد القارئ تفسي ًرا ً مختلفا لحوادث بات تفسيرها الشائع مبتذلاً ،فمن
صعود اليمين المتشدد في أوربا إلى البرغزت ()Brexit
معً ا ،لكنها عالمات لم يكن أحد يضعها في سياقها الصحيح يقول بانكاج ميشرا «:هناك مسار قديم من الوحشية
واأللم والمعاناة أوصل التجربة األوربية لواقعها المستقر اليوم» أي أن أوربا الحاضرة صنعتها كل هذه التجارب
واللحظات التاريخية المؤلمة في الحربين العالميتين وما
قبلهما ،وهو يرى أن المليارات من البشر جرى اقتالعها من
ومن الت َرمْ بيّة إلى الحروب في أوكرانيا والشرق األوسط،
تقاليدها ومنظومتها القيمية والفكرية -أيًّا يكن مستواها-
والكراهية الصاعدة ضد المهاجرين واألقليات والمسلمين ،وصولاً إلى موجات التعبير عن الغضب
ومحبطة وخطيرة على نفسها وعلى غيرها ،فوعود الحرية
أحدث كتاب ميشرا هزة في األوساط الفكرية
الناتج المحلي والمصالح االقتصادية إلى دين جديد وعقيدة
وظهور دولة داعش ،واألزمات المالية واالقتصادية،
والحقد في وسائل اإلعالم الجديد والقديم معً ا.
وألقيت في العراء ،فال هي بالتي استطاعت استيعاب الحداثة الغربية ولم َ تبق في مكانها التقليدي المريح ،فصارت منب ّتة والرخاء لم تتحقق ،وتحولت الثورة التقنية ومعدالت
الغربية ،وهو رغم رفضه السردية الغربية السائدة ُقوبل باهتمام ونقاش مستفيض إن في وسائل
جعل المجتمعات تدخل في تنافس محموم لتحصيل هذه
المتخصصة ،ويمثل «عصر الغضب» ما يشبه الثورة
هذه الشعوب إلى البؤس واليأس ،ومن ثم الرغبة الملحّ ة في
في وجه الغرب ،فالقول بأنها ردة فعل على وحشية داعش مثلاً ،أو ازدياد المهاجرين المسلمين هو
ويشدد ميشرا على أهمية عامل الخوف عند البشر،
اإلعالم أو في مراكز األبحاث والمطبوعات الثقافية
الفكرية على التفسيرات الجاهزة النفجار الشعبوية
تفسير سطحي ،وهو يعيد ذلك كله إلى ما يصفه
هيمنت ال على السياسة فحسب بل على الفكر والثقافة ،ما المكاسب التي هي كالسراب ،والنتيجة عند ميشرا وصول الثورة على هذا النظام في شكل عنيف وعدمي.
الخوف من فقدان الشرف والكرامة والمكانة ،وعدم ثقة
الشعوب في التغيير وعواقبه ،ويرى أن الغرب تجاهل عوامل
بجذور الغضب والخوف الكامنة في النفس البشرية، ويربطها بمساراتها النفسية وأحداثها التاريخية معز ًزا
النظام العالمي الجديد مكان للدوافع البشرية الغريزية
أسفل المجتمعات الغربية بانتظار أن يقطف ثمراتها
والحاجة لحفظ ماء الوجه ،والهوس بالتقدم المادي ..كلها
ذلك بالشواهد ..فلقد ظلت الشعبوية كامنة في
العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
االستقرار المغرية وحميمية األلفة ،ولم يعد فيما يسمى
األكثر تعقيدً ا ،فالرعب من الظهور بمظهر الضعيف ،والغرور
عوامل نفسية واجتماعية لم تؤخذ في الحسبان .العقالنيون تجاهلوا عوامل االستياء من الشعور الدائم بالتخلف واللذة
العنيدة للشعور بدور الضحية المزمنة ،فعلى سبيل المثال يعيد ميشرا دوافع ألمانيا للتوسع أوائل القرن العشرين
وكذلك عناد الصين وروسيا اليوم إلى الشعور بالمهانة أكثر
من أي شيء مادي آخر.
ومن معتزله في ماشوبرا على مقربة من الهماليا الهندية ّ المسلمات راح ميشرا يرسل أبحاثه التي تراجع كثي ًرا من
الغربية والشرقية على حد سواء ،ومضى يصعّ ب مهمة من يريد تصنيفه في اليمين أو اليسار ،فهو ينتقد الماركسية
والليبرالية معً ا ،ويهاجم بوذيي ميانمار وقوميي ألمانيا
البيض ،على أنه مشغول بنقد مبادئ التنوير والعقالنية
الغرب تجاهل عوامل االستقرار المغرية وحميمية األلفة ،ولم يعد فيما يسمى النظام العالمي الجديد مكان للدوافع تعقيدا البشرية الغريزية األكثر ً
وأيًّا يكن االتفاق أو االختالف مع قراءة ميشرا لتاريخ
الحاضر وتوقعاته بمستقبل خطير؛ فإن كتابه محفز على ّ والمسلمات التي فرضتها قواعد التفكير مرات في القناعات
السيطرة الغربية على العالم ،والحال أن كثي ًرا من الدراسات
في أوربا وما وصلت إليه من خالصات اليوم ،فهو يراها غير
والتقارير الدولية والمعطيات السياسية اليوم تعزز هذه
دوستويفسكي يؤكد ميشرا أن دوافع البشر ليست عقالنية
ولعل من أهمها تقرير صدر مطلع عام 2017م عن مجلس
صالحة لتفسير العالم الذي نعيش .ومستندً ا إلى ما كتبه
النظرة غير المتفائلة إلى مستقبل العالم في المدى المنظور، االستخبارات الوطنية األميركية ( )NICوفيه يقرأ محللو
بالضرورة ،ويعيد التذكير بما قاله سيغموند فرويد «الدوافع ً مطلقا إنما هي كامنة تختف البدائية والوحشية والشر لم ِ
وخبراء االستخبارات األميركية مؤشرات سياسية واقتصادية
من دراسات نفسية واجتماعية وفلسفية قدمها أمثال نيتشه
النادرة التي تنبأت باستعار الطائفية وباضطراب سيصيب
في كل فرد» ويرى أن كل ما أسس مبادئ العقالنية الغربية وفيبر جرى تجاهلها في العصر المادي اليوم.
ويمضي الباحث الهندي في تعداد الشواهد التي ترسم
في رأيه مؤش ًرا واضحً ا على انهيار عالمي قريب ،داعيًا
لحركة القوى والمجتمعات حول العالم ،وهو من التقارير الدول العربية قبل الثورات بأكثر من عقد.
ولعل من أبرز ما يلفت في هذا التقرير توقعه قرب
انتهاء عصر الهيمنة األميركية ،وانكماش االقتصاد العالمي،
لاللتفات إلى العوامل الروحية والعاطفية لدى البشر في
وصعود النزعات القومية والعداء بين الدول المتنافسة،
والرخاء.
الحكومات ونهاية الديمقراطية بمعناها التقليدي ،باإلضافة
سعيهم وفهمهم المتناقض لمبادئ الحرية والمساواة هذا الكتاب الذي يصفه أحد النقاد في الغارديان
بأنه جرس إيقاظ مخيف ،قد ال تتفق مع جميع نتائجه
ومعالجاته ،لكن يصعب أن تتجاهل فرادته في مجاله، تأريخا لألفكار خالل القرنين الماضيين ونقدً ا جريئاً ً وكونه ُ ومغاي ًرا لما آل إليه «عقل العالم» ولكل المواضعات الفكرية التي تقارب أزمات العصر الحاضر ،غير أن ميشرا لم يتناول
بالتثمين ذلك الحرص الغربي المذهل على حكم القانون
واحترام المحاكم والقضاة وسيادة النظام ،وهو منجز غربي
قد يجيب عن بعض األسئلة التي يطرحها الكتاب ،وحيث إن نظرة ميشرا إلى الدين بوصفه عاملاً روحيًّا فيها كثير من
وبروز اتجاه عالمي لمعاداة المؤسسة ما يؤدي لضعف إلى حروب إلكترونية متوقعة وإرهاب سايبراني.
ليست هذه التقارير والكتب ضربًا من التنجيم وقراءة ً راسخا بحيث تأسست له الكف ،فعلم المستقبليات صار
إطاراته المرجعية ومناهجه التحليلية ونماذجه ومفرداته، وهو األمر الذي يكفل الحصول على نتائج يمكن قياسها
واختبار جودتها ،غير أن لدى أناس كثر -حتى من الباحثين- ً ً معلنة لهذا النوع من العلوم ،وانحيا ًزا لألرقام كراهية
المحددة والوقائع المرئية رأي العين.
أمران مستمران في التقدم اإليجابي لخير البشرية اليوم
هما المنجزات التكنولوجية ،واالكتشافات الطبية ،وبين
التفاؤل والتشاؤم ،حاضر تقاسيه شعوب كثيرة ال تكترث
اإلجالل؛ إذ يبرئ األديان من أخطاء البشرية اليوم؛ يأخذ عليه كتاب علمانيون رهانه على الفاتيكان مثلاً وكيف يدعو
نخبها بالتطلع للغد ،فالمستقبل سيكون قضاءً وقدرًا
الهاوية التي يتوقعها.
بخيره وشره ،وما عليك إال االنتظار.
البابا فرانسيس إلى القيام بدور أكبر في تجنيب العالم
مقدورًا ،والغد الذي تفتش عن مالمحه اليوم سيدهمك
15
الملف
تأمالت في المترو والقطار من زوايا ثقافية واجتماعية وجمالية
ال تقرأ القصائد...
اقرأ جدول القطارات 16
العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
الذي اخترع وسائل النقل العام؛ القطار ،والمترو ،لعل أول ما تبادر إلى ذهنه قهر المسافة واختراق الزمنَّ ، فكر كيف يربط بين مدن متناهية في البعد ،ويصل بين بالد كان مستحيلاً وصلها. لكنه ربما لم يتخيّل ،على الرغم من سعة خياله ،أن يتحول هذا الناقل ،في األزمنة الحديثة ،إلى
طفرة في منسوب الوعي ،وثورة في مفاهيم العيش المشترك وفي تداخل االجتماعي والثقافي والجمالي ،وتحوُّل جذري يطول أشياء كثيرة ،تحول تشهده المدن ،تتغير به ُ وتغيِّر من خالله، فلن تعود المدينة هي المدينة نفسها قبل أن تعرف هذا الناقل ،كما أن سكانها يخضعون بمشيئتم
أو رغمً ا عنهم ،للتحول.
ً أنماطا في القطار والمترو يلتقي بشر ينتمون إلى شرائح اجتماعية وأعراق وديانات ،يعكسون من السلوك ،ومستويات من التفكير .هذا االلتقاء الذي قد ال يدوم طويلاً حسب زمن الرحلة، كفيل بجعلنا نعرف ،من الوهلة األولى ،إذا ما كان هذا المجتمع لديه قابلية للتعايش مع اآلخر، أ ًّيا كان نوعه وجنسيته ،ومشاركته لحظة من الزمن ،أو أنه يسدل ستارًا من حديد في وجوه اآلخرين ،منطويًا على نفسه ومواطنيه.
يتحول اللقاء في الناقل العام إلى مختبر للحريات والمسؤولية االجتماعية والشرط األخالقي
للتعايش والقبول باآلخر ،وربما إلى مرآة لطبائع الناس ولهجاتهم ،لألفكار والمشاغل والهواجس اليومية لسكان المدينة.
وإذا كانت القطارات والمترو بنت خيال جامح ،فإنها بدورها ّ غذت خيالاً أكثر جموحً ا عند
شعراء وأدباء رأوا في هذه اللقاء الكرنفالي ،مناسبة يمكن تحويلها إلى متخيَّل أدبي ،عناصره
حالِمة بقطع المسافات وارتياد اآلفاق ،وأبطال يفتشون عن انتصارات ،أو جنود جرحى عائدون ً بعضا؛ عمّ ال وأرباب عمل ،موظفون ومديرون، من معارك خاسرة ،أو عشاق للت ّو فار ََق بعضهم
نساء ورجال وأطفال ،أو غرباء يبحثون عن معنى حتى لو من خالل رحلة ال وجهة محددة لها ،أو لصوص وقطاع طرق وقتلة يهندسون حِ َيلاً لالنقضاض على ضحاياهم.
ستتحول القطارات والمترو إلى فضاء لروايات تحوك مصاير شخصياتها من تفاصيل الرحالت ذها ًبا وإيا ًبا ،وإلى أجواء لقصائد َتتلمَّ س أسرار الزمن ُ نفوسا سعيدة، وك ْنه الوجود ،ستحمل ً
ٌ ذوات معذبة تحت عجالتها السريعة راحتها األبدية. وستجد
ولئن كانت مناسبة هذا الملف الذي تقدمه «الفيصل» لقرائها هي استمرار العمل على «مترو حدث تحولاً جوهريًّا في المدينة ،فإننا وجدنا أن وسائل النقل العام الرياض» ،الذي يتوقع أن ُي ِ ً انطالقا من زوايا جمالية واجتماعية وثقافية واقتصادية ،في حضورها جديرة باالنتباه والتأمل، الذي بات أساسيًّا ليس فقط في حياة المجتمعات وصيرورة المدن ،إنما ً أيضا في المُ تخيَّل األدبي، وفي منطوق المفكرين والفالسفة والشعراء ،كالشاعر األلماني الذي عبر بقوله« :ال تقرأ القصائد
يا ُبني ...عليك أن تقرأ جدول القطارات!».
17
الملف
18
غصبا، حكاية القطار الذي جمع ،طواعية أو ً بين شعوب ال تتكلم لغة واحدة
السرعة والمسافة وتبدل األزمنة ّ العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
فيصل دراج
ناقد فلسطيني
ال تنفصل الرواية ،من حيث هي جنس أدبي حديث ،عن ظواهر األزمنة الحديثة، سواء أكان ذلك في حقلي االقتصاد والسياسة ،أم في حقل العلوم اإلنسانية .فقد ّ الممثلة بالثروات صعدت في القرن الثامن عشر إلى جانب غيرها من الظواهر الصاعدة، القومية والصناعية والعلمية والفلسفية؛ ما أعطى المجتمع اإلنساني مالمح جديدة، وجعل من القرن الثامن عشر «عصر التاريخ» ،بلغة المؤرخين. أرادت «الحداثة األوربية» ،بلغة معينة ،أو «رأسمالية الغرب المنتصرة» ،بلغة أخرى، ِّ مقصرة المسافات ،وفاتحة أن تروّض الجغرافيا ،وأن تربط بين أقاليم األرض المختلفة، الحضارات اإلنسانية بعضها على بعض .وسواء صدرت «الجغرافيا اإلنسانية الجديدة» عن تحديث أملته «الثورات العلمية» ،التي واجهت المجهول بالمعلوم ،أو عن طموح ً سيدا على العالم ،فقد أسست لبيئة إنسانية جديدة ،مختلفة اإلنسان األوربي بأن يكون األعراق واألديان والتقاليد .ارتبطت البيئة الجديدة بوسائل اتصاالت غير مسبوقة ،احتل ً مكانا مم ّي ًزا .وما حكاية القطار إلاّ حكاية القوة والمعرفة ،وحكايات الفضول فيها «القطار» اإلنساني الذي جمع ،طواعية أو غصبًا ،بين شعوب ال تتكلم لغة واحدة.
مشهد مستوحى من فلم أنّا كارنينا
19
الملف
املعب عن غريبني ،فيتبادالن الكالم والحكايات ،وهو اإلطار رّ
ال غرابة أن يظهر القطار يف روايات أوربية ،اتخذت
العارض واملؤقت والصدفة «الحزينة -الطيبة» ،فالغريب يجد ً مالذا يف غريب آخر ،يأنس إليه ويبوح له بأسراره عىل غري توقع.
يف الصفحات األوىل من رواية ريديارد كبلنغ «كيم» عن الهند حيث يتحرك «السيد اإلنجليزي» متوسلاً القطار،
يصل بني جنوب العراق والريف املصري ،ويالمس أسئلة عن
وإذا كان كبلنغ ،الذي ال يقتصد يف عنصريته ،رأى يف
مئة صفحة) ،تسرد وقائع تمتد من «سقوط فلسطني» إىل
ً موضوعا لها .فللقطار مكانة من الشعوب «املكتشفة»
ً ومتحدثا عن وسيلة نقله باطمئنان ال ينقصه التبجح. القطار أداة انتقال وسيطرة ،فإن مواطنه إي .إم .فورسرت
يف روايته «ممر إىل الهند» ،يأخذ بمنظور مغاير ،كارهً ا ً متعاطفا مع ثقافة «أصيلة» االستعمار اإلنجليزي،
غريبة عن املوروث اإلنجليزي ،دون أن ينىس القطار. آن واحد أداة سفر وإشارة ثقافية يف ٍ
أخذ القطار لدى كبلنغ وفورسرت ،كما يف روايتي
الفرنيس جول فرين (حول العالم يف ثمانني يومً ا
وميشال سرتوغوف) داللتني :فهو موضوع مباشر من
آن ناحية كونه أداة انتقال وسفر ،وإشارة ثقافية يف ٍ ً «ألوانا» أخرى واحد ،عنوانها إنسان أبيض متفوق يواجه
20
أعطى املصري الراحل محمد البساطي القطار موضعً ا يف ً كاشفا عن معنى الزمن يف القطار؛ روايته «أصوات الليل»،
تواتر األزمنة؛ ذلك أن الرواية ،يف صفحاتها القليلة (نحو سقوط العراق ،وتسرد معها حكاية «ريفي بسيط» ،منعته حياته الصعبة «تذ ّكر» عشق قديم .أما السوري ممدوح
عدوان فأنجز ،قبل رحيله ،رواية تاريخية عنوانها «أعدايئ»، سرد فيها سقوط العهد العثماين ومجيء االستعمار ،وقرأ «الحضارة الوافدة» يف قطار بني تركيا والداخل العربيُ ،ي ِق ُّل امرأة تك ّرس ذكاءها لخدمة القضية العربية.
عبر القطار عن غرب متفوق ينأى عن ّ مركزه وينتشر في العالم ،وعن «عالم تا ِبع» يريد أن يحاكي غيره وال يصل
يف أقاليم بعيدة من وطنه .ولعل هاجس السرعة ،الذي لتهمُ نقل َت ِ يحايثه اللهاث ،كما التنوع البشري يف أداة ٍ
املسافات ،هو الذي أقنع أغاثا كريستي ،بأن تتخذ من ً عنوانا لروايتها البوليسية «جريمة يف قطار الشرق القطار السريع» ،حيث احتماالت ارتكاب الجريمة من احتماالت طبائع املسافرين.
بيد أن القطار ،يف داللتيه ،لم يختصر يف شخص األوربي ،بل تو ّزع عىل العالم كله .فرواية األمرييك ثيودور درايزر «األخت كاري» تستهل بقطار ينقل فتاة ريفية إىل املدينة ،تعيد صوغ أقدارها ،كما لو كان القطار
يبدّل املسافات واملصاير معً ا .وربما دور القطار كجسم
يتجسد ،أكرث وضوحً ا ،يف رواية تولستوي حديدي فاعل ّ الشهرية ّ «أنا كارنينا» ،حيث الزوجة التي وقعت يف عشق
ال يراهن عليه ،تنتهي إىل موت تراجيدي تحت عجالت
القطار .وإذا كان يف القطار ما «يبدّ د» املسافات ،بلغة ً مفرتضا ،اعتمادًا عىل التبادل الالمتكافئ، طليقة ،كان «موضوعا ً ً أليفا» يف البلدان التي فاتتها الثورة أن يغدو
الصناعية ،شأن العالم العربي .ولهذا احتل القطار مكانة يف الرواية العربية .فللقطار دوره يف رواية عبدالرحمن
منيف «األشجار واغتيال مرزوق» ،حيث املثقف املغرتب ِّ الحظ يسرد له مسار حياة يلتقي ،يف القطار ،آخ َر عا ِث َر
عامرة باملشقة .وللقطار هنا داللتان :يحقق لقاء بني العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
جمال الغيطاني
القطار َّ حكاء صامت
َّ حكاء أخذ القطار ،يف الروايات السابقة ،شخصية
صامت ،يروي باإلشارة والحركة ،أو شخصية سارد رِّ يعب عن ّ املعلم يف اقتصاد الكلمة، سيولة األزمنة .وإذا كان البساطي،
ممدوح عدوان
والتر بنيامين
إال مقدار لقاء العجالت بالقضبان عند اكتمال السرعة» (دنا فتدىل -دفاتر التدوين .جمال الغيطاين) .التبس القطار
بشخصية إنسان يميل إىل الكآبة ،له زهوه واختياله ،ووحدته الباردة .ولعل «نزف الزمن» ،الذي استغرق الغيطاين ،يف
قد أطلق لسان قطاره ،وهو يكشف عن ذاكرة متعددة
روايات متعددة ،هو الذي جعله يرى القطار يف «محطاته» املتواترة؛ إذ لكل محطة صفة وسمة« ،تتالمعان» ،قليلاً ،قبل
«تميض القطارات هادرة ،مختالة ،لكنها عىل القضبان وحيدة،
عب القطار عن غرب متفوق ينأى عن مركزه وينتشر يف رّ
الطبقات ،فإن جمال الغيطاين ،يف عمله «دنا فتدىل» ،جعل من القطارات مجا ًزا لسرية ذاتية متأسية ،تميل إىل التصوف:
انطالق القطار إىل محطة جديدة.
يف الخالء منطلقة بمفردها مهما ثقلت الحمول ال تدوم الصلة
العالم ،وعن «عالم تابِع» يريد أن يحايك غريه وال يصل .يف
21
الملف
روجيه فايان
مقابل ذلك فإن «املرتو» صورة عن املدينة الحديثة،
قبض عىل ما هو جوهري يف الوجود ،وأعرض عن الظواهر النافلة« :يف املرتو االنفعايل ،الذي أتعامل معه ،ال أدع شي ًئا للسطح» ،يقول سيلني ،محاولاً اإلمساك «بأعماق» الواقع،
يصل بني «قلبها» واألطراف املختلفة ،ويؤمّ ن انتقال َّ أشل أهلها إىل مواقع قريبة أو بعيدة .فإذا أصابه عطل
«مطروق» وقريب من االبتذال ،يبتلع حركة ما فوقه ويشوّه
الالهثة ،العاملة ،الالهية ،التي تضيق بالسطح العلوي املحدود وتذهب إىل عالم سفيل ،هو امتداد لألول
ونقيض له .واملرتو ،يف الحالني ،تجسيد لشرايني املدينة،
َ املدينة (حال أهل باريس) وأربك حياتها ،كما لو كان آلة
22
عبدالوهاب البياتي
جبرا إبراهيم جبرا
وجاعلاً من األعماق مبتدأ لقراءة كل يشء .ذلك أن السطح داللته ،ويصريه إىل وجود رتيب فقري املعنى ،عىل مبعدة من منظور سيلني الذي يحايثه انفعال حي ينجذب إىل الجوهري
مطيعة ومستبدًّ ا واسع النفوذ معً ا ،ذلك أن حياة املدينة ً حدثا ال تنفصل عن «املرتو»؛ ما يجعل من إضراب عماله
أو «ليله امللتبس» ،الغريب عن الليل والنهار العاديني« .كل ما
ومـع أن للمتـرو سائقـه ومفتشه ورجـال أمنه ،وهؤالء
،).102 ,104 :p ,1981 ,»de la nuit, gallimard, «pleiade
اجتماعيًّا يف املدن الكبرية.
العاثرين النائميـن فـوق مقاعـده -حتى منتصف الليل- واملتسولني بعزف عىل آلة موسيقية أو بيع «بضاعة فقرية
وغريبة» ،فإن له ،يف ساعات الصباح واملساء ،حشوده، أو تلك «الجموع» ،التي تميّز املدن الحديثة ،كما أشار
والرت بنيامني يف أكرث من مكان ،التي تجمع بني أخالط من البشر ،لهم هيئاتهم ولغاتهم ،والفضول اإلنساين الذي يصل بني غريب وآخر ،وبني «عامل أجنبي» وسيم الطلعة وامرأة عجوز نسيت عمرها ،أو تذ ّكرته حني
كانت مُ قبلة عىل الحياة .سئل الروايئ الفرنيس اليساري
و«باطن األمور» .ولهذا رأى يف «املرتو» عتمته وغموضه وعمقه، أريده أراه يف القاطرة العجيبة» ( Celine: Voyage as bout يقول سيلني ،بعد أن يقول« :ال إمكانية للوقوف ،مهما تكن ضآلته ،يف أي مكان» ،بل إن يف لغة الروايئ ضجيجً ا ِّ يذكر «بعويل القطار» .بلغة عبدالوهاب البيايت ذات مرة. مرتو مدينة تثري األعصاب
تحيل الهاوية واألعماق والحفرة السوداء ،وغريها من
مفردات سيلني ،إىل «مرتو» مدينة تثري األعصاب وتقتات
بالضجيج ،يخرتقها نظام يحدد التفاصيل ووظائفها،
ويستدعي عقالنية باردة شديدة الحسبان .ال يشء من هذا
«روجيه فايان» عن البشر الذين تحتفي بهم كتاباته، فأجاب« :ركاب املرتو يف ساعات الصباح ّ املبكرة» ،قاصدً ا
صناعته الكثري .وألن الرواية العربية تعكس واقعً ا تعرفه
كتب روجيه فايان عن فئة اجتماعية تركب «الدرجة
فلم ينتبه إليه محفوظ ،ولم يعره الغيطاين والبساطي
بذلك «العمّ ال» الذاهبني إىل املصانع.
الثانية» ،وابتعد الروايئ الفرنيس الكبري «سيلني» الذي اتهم بالفاشية ،عن الطبقات وانصرف إىل داللة الحركة
يف مدن عربية «تصحّ رت» تسمع عن «املرتو» وال تعرف عن
وتعيه ،فهي ال تلتقي «املرتو» ،إال نادرًا ،حال مدينة القاهرة.
ومحمود الورداين وغريهم الكثري من االهتمام .حتى لو انتبهوا ً «عارضا» .فاملرتو ،الذي يرتجم إليه لكان ،بالضرورة ،مرورًا
وجمالية األسلوب .ففي روايته «رحلة إىل آخر الليل»، التي هي من ُذرا األدب الفرنيس يف القرن العشرين ،اتخذ
والجموع املتداخلة؛ ألن يف «العشوايئ» ما يمحو غريه.
واسع االضطراب» .اقرتب من الفيلسوف باسكال ،الذي
عن «هيئة القاهرة» يف تعاملها مع «أداة نقل جديدة»،
فرديناند سيلني من املرتو ،أو مجاز املرتو بشكل أدق، ً موضوعا ،قرأ به «عاملًا سفليًّا ،وتأمل وجودًا إنسانيًّا
الدقة والنظام واحرتام الزمن ،..ال يأتلف مع «العشوائيات» ربما يكون عمل مجدي الشافعي وعنوانه «مرتو» ،صورة عن استقبال «قطار األنفاق» يف الكتابة األدبية املصرية ،ومجا ًزا
العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
ّ تخفف من «كابوس املرور» .فهذا العمل الذي طبع مرتني، كما يقول غالفه ،قدّ م نفسه «كرواية مصورة» ،تصلح
«للكبار فقط» ،وذلك يف طبعة جماهريية عشوائية املالمح، تلتبس بالسخرية .تقوم «الرواية» ،يف صفحاتها املئة ،عىل رسم باألبيض واألسود قوامه «الكاريكاتري» ،حيث الصور
الساخرة و«كتابة عامية» متشكية ،تزجر القائم وتشتيك من
الزمن ،يصبح «املرتو» إطارًا خارجيًّا للعمل؛ إذ تختلط اللغة العامية بمحطات املرتو املالحقة :محطة املعادي ،ومحطة محمد نجيب ،ومحطة أنور السادات ،ومحطة السيدة
زينب ،ومحطة جمال عبدالناصر ...،ويف كل محطة شكوى
تستأنف شكوى محطة سابقة ...،والسؤال هو :ما الذي جعل الشافعي يدرج «املرتو» يف فضاء كاريكاتريي عامي اللغة؟ والسؤال الثاين :هل أراد يف ركونه الساخر إىل «مرتو
واقعا تعرفه ألن الرواية العربية تعكس ً نادرا، وتعيه ،فهي ال تلتقي «المترو» ،إال ً حال مدينة القاهرة .فالمترو ،الذي يترجم الدقة والنظام واحترام الزمن ،...ال يأتلف مع «العشوائيات» والجموع المتداخلة؛ ألن في «العشوائي» ما يمحو غيره
األعماق» ،أن يعلن عن أعماق القهر الشعبي املصري ،الذي يدور حول ذاته بال أفق؟ ربما كان القهر الشعبي الذي يطغى عىل غريه هو ما أعطى «املرتو» حضورًا ومضيًّا ،محتملاً ،يف
روايات مصرية أخرى ،مثل «يوتوبيا» ألحمد خالد توفيق،
التي مرت عىل حياة عشوائية ال ينقصها الكاريكاتري ،و«البحث عن دينا» ملحمود الورداين التي تحدثت عن ركام التداعي
واإلخفاق ،ورواية يوسف القعيد «قسمة الغرباء» التي عالجت الوعي الطائفي املاسخ؛ تستدعي هذه الروايات ،كما
غريها ،مفهوم الشكل ،الذي يبدو واضحً ا يف عالم عقالين
تبنيه األشكال ،بعيدً ا من عشوائيات يكسوها السديم.
أدار جربا إبراهيم جربا حوارًا رحيبًا بني غرباء يف روايته «السفينة» ،كما لو كانت ّ ً بعضا، تقل ركابًا ال يعرف بعضهم
ّ وتقل معهم ثقافاتهم املختلفة ،ووضع عبدالرحمن منيف يف
قطار «األشجار واغتيال مرزوق» غريبني يتبادالن القصص ،ولم يعرث املصري مجدي الشافعي يف «مرتو» القاهرة ،إال عىل بقايا الكالم وهيئات مشوّهة.
يف كتابه املثري لإلعجاب «كل ما هو صلب يتحوّل إىل
أثري» ،تكلم مارشال بريمن عن اإلنسان الحديث ملمحً ا إىل
الطرق الواسعة والقطارات و«املرتوات العجيبة» ،مؤكدً ا أن
حداثة اآللة التي يستعملها اإلنسان ال تستقيم إال بإنسان له
وعي حديث.
23
الملف
القطارات اسمها رغبة كلها ُ
24
العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
عبدالقادر الجنابي
شاعر وناقد عراقي
ُ وصلت فيها إلى لندن (مطلع عام 1970م) واكتشفت ما لم يكن كم أتوق إلى األيام التي لدينا في بغداد :األندرغراوند ( )Undergroundبأنفاقه العميقة تحت األرض ،وعربات قطاراته العتيقة .فأدركت فورًا كم كانت تفتقر الحداثة الشعرية العربية آنذاك إلى ما كان يمكن أنْ يجعلها حديثة :السرعة ومعمعان الخيال .محطة «هولبورن» ربما هي المحطة األعمق في لندن ...حين كنت أنزل ساللمها المؤدية إلى رصيف القطار ،كنت أشعر أني أنزل في إحدى ردهات كوميديا دانتي اإللهية .ففي هذا العالم السفلي ترى سكان لندن بمظالتهم ،وجرائدهم وقبعاتهم يتزاحمون ً جالسا واقفا وسط الزحام أو بانتظار القطار األفعى ...وإذا بأبوابه تنفتح فتجد نفسك في العربة ً قبالة امرأة أو رجل أو مقعد فارغ. ألنها تختلف عن ّ أحب كثريًا نافذة القطار ّ ُّ كل نوافذ
املواصالت األخرى ...لربّما بسبب ما تخلقه السرعة ،أو
ما يسمّ ى السرعة يف السكون ،من صور تتعاقب كشريط
سينمايئ ...فهي ليست مجرّد زجاج ،إنما مرآة نابضة يمتزج
فيها عالم القطار الخارجي الفسيح بعاملك الداخيل الصغري... املناظر التي يمر بها ،...بأخيلة اليقظة التي تتقو َْقع فيها...
ٌ صورة ذهني» بامتياز؛ تومض فيها نافذة القطار «منظر ّ دفينة؛ رغبتك املقموعة التي غالبًا ما ترتاءى حلمً ا ...حني عاكسا ،ال أبحث عما أتراءى يف زجاج النافذة بصفتها سطحً ا ً يحدثه الشعاع الساقط عليه ،وال أريد أنْ أشعر برنجسيتي... ُ سرعة القطار من امتزاج خيميايئ ّإنما أبحث عمّ ا تحدثه
آه ،كم كنت آخذ القطار ليس بهدف الوصول إىل محطة
معينة ،إنما ألغتني بأفكار جديدة... ***
ُ ً بعيدة ،فإنها تبقى دائمً ا محطة القطار مهما كانت
أقرب من مطار! ال تاكيس وال يحزنون ...مجرد ساللم، ساللم ،ساللم ...ويف نهاية كل رحلة ،يرتسم العالم كما هو :قطار!
*** ّ القطار جَ ّدد املخيّلة الكتابية! فكل تطوّر حصل له ،حصل للسرد يف الجوهر ...الصفحات هي سكك الك ّتاب! ***
َ شريط فلم ينفلت ،ف ُتعيد َّ بينهما ...كما لو أنّ لفه يف أعماق
حني ينطلق بك القطار ،يُغلِق ماضيك أبوابَهُ ... َ ستأصل وت
وعيك .اسند ظهرك وعيك وما تحت ِ الحاجز الذي يفصل بني ِ إىل خلفية املقعد ...وأَ ْل ِق ّ بكل نظرك عىل زجاج النافذة ،حيث يتدفق كم هائل من املناظر الخارجيةَ ... ابق مستسلمً ا ح ّتى االنخطاف ،ح ّتى تستيقظ ذاكرتك ،يسقط شعاعها عىل
***
ذاتك ...الزجاج الذي يفصل بينك وبني خارجه ،هو عنيُ
َ ّ أناك سيل فريتد باتجاه عينك :وها أنت تسبح يف الزجاج، ِ البصريّ الذي تدفعه ّ تدفقات داخلية ،ال ِعلمَ لك بها من ُ قبل ،وإنْ هي يف أعماقك تجري ...ويف الوقت ذاته تحافظ
عىل مسارك يف واقع ملموس ح ّتى ال يفقد االنعكاس َّ خط
سريه ،فتجد نفسك يف مدار الهلوسة! املسألة هي أنْ تعرف، ًّ حقا ،كيف تنظر ،من زاوية ما ،إىل نافذة القطار ح ّتى ترتاءى ُ ً لك أعماقك واقعً ا وحقيقة( ...انظر روايتي القصرية «املرآة
والقطار» الصادرة عام 2017م عن «دار التنوير» ،بريوت).
جذورك ...فال يعود لك ُهوية سوى ذكرياتك!
كم عمل السينمائيون عىل استغالل القطار كملجأ َ أجملها ومخدع للعُ ّشاق الفارّين .ما للصوص واملجرمني، ٍ لاً َ نهاية فلم هتشكوك «شما ،إىل الشمال الغربي» ،إذ نرى بطل الفلم «كاري غرانت» يمد يده ملساعدة بطلة الفلم «إيفا ماري سانت» املتشبثة بصخرة وهي عىل وشك أن تسقط يف
الهاوية ،ثم يسحبها (وإذا باملشهد يتغري) فرناه يرفعها إىل فراش املقصورة الخاصة بالعشاق! لقد قال هتشكوك« :إنه املشهد األكرث وقاحة بني املشاهد التي صورتها يف حيايت»! ***
القطار ِّ يعلمنا الصرب أكرث من أي واسطة نقل أخرى.. ***
25
الملف
أنفسهم من ألاّ يصيبهم الربد ...يسدلون الستار ،فيحرمون َ
ال يمكن تنظيف نص من الشوائب إال يف قطار
املرتو ...فقراءة قصيدة هنا لها تأثري مختلف عن قراءتها ّ الركاب ُتريك خارج املرتو ...فسرعة القطار وهمهمات أين يكمن الخلل اإليقاعي ...فتضطر إىل شطب أبيات وتنقل البيت الثالث ،مثلاً ،إىل نهاية القصيدة! ال
يمكنك أنْ تكون عضوًا يف ثريا الشعراء ...إال حني
َ أدركت الفرق الجوهري بني النسخة قبل أخذ تكون قد القطار ،والنسخة بعد خروجك منه! ***
النافذة! أما الشحّ اذون ،الصعاليك ،الفقراء املحشورون يف
عربات الدرجة الثانية ،فإنهم -والنوافذ شبه مفتوحة ،وال يشء يقيهم سوى أسمالهم -ينامون إىل أن ينغزهم شعاع ُّ يطلون برؤوسهم... من الشمس فيستيقظون ،ومن ثم هكذا كان ديدين ،حني كنت آخذ القطار ،ليلاً ،من باريس إىل سالزبورغ يف منتصف سبعينيات القرن املايضَّ ... أتقل ُ ب يف
مقعدي ،بني برودة الهواء ونعاس دافئ أحفز نفيس عىل االستسالم له ،فأنام وأحلم بكل مجامر العالم وحرارة النفس ّ فأطل برأيس ،أوان اإلنسانية ،ليك أستيقظ الشاب نفسه...
إنّ أنفاق مرتو باريس املتشعبة تشعُّ َ ب األوردة يف
ترسل الشمس أشعتها ،وأنظر إىل ما يقع بصري عليه :مروج
املرتو داخل النفق هو االنعطاف عينه الذي تصادفه
يف البعيد ...أستنشق هواء طازجً ا ،فأشعر بنشاط محموم... ّ يتوقف القطار ...وما أن أضع قدمي حتى
جسم اإلنسان ،لهي شرايني باريس .أيّ انعطاف يف
ً تشخيصا وأنت تميش يف شارع بارييس .قرأت لكافكا، جميلاً ،يقول فيه« :إن املرتو يتيح للغريب أجود فرصة
ليك يتصور أنه أدرك عىل نحو سريع ودقيق ،جوهر باريس».
26
التمتع برؤية املناظر الوهمية الرائعة التي تتجىل عىل زجاج
***
املرتو يعلمك كيف تدرك أنّ الكتابة شبكة من ٍّ الخطوط ...وأيَّ خط من خطوط الخيال يجب أن تأخذ. *** املرتو هو «ال وعي» باريس الذي تغرف املخيّلةُ َ ُ أعمالها! تياره الشعرية من ِ ***
وحقول ،نهر ال أعرف اسمه إىل اليوم ...وجبال األلب املمتدة
عىل الرصيف ،ح ّتى يتملكني شعور بأين عىل أُهبة االستعداد ملعاشقة، النها َر َّ كله ،خليلتي التي تنتظرين يف
كافكا :إن المترو يتيح للغريب أجود فرصة لكي يتصور أنه أدرك على نحو سريع ودقيق ،جوهر باريس
يف املرتو يجد الروايئ شخصيات روائية حقيقية:
ً لصوصا ،عاهرات ،تجا َر مخدرات ،بسطاء شحّ اذين، معروضني طوال الرصيف لإليجار ...القرار يعود
ملخيلتك :أي يشء صالح لرواية جديدة! أما الشاعر
فحصته قليلة :بيت أو بيتان!
***
ال خوف يف القطار إال إذا جاء شخص ال تعرفه، وجلس إىل جانبك والعربة ُّ كلها فارغة... ***
القطار حياة ...لذلك تبقى واعيًا بفكرة املوت طوال
الرحلة .من يدري ،ربما انحراف واحد عن السكة، ً مدونا يف الئحة املختفني. ويُصبح اسمك ***
ينام األثرياء يف مقصورات مخصصة للنوم؛ مدفأة ومجهزة ّ بكل ما يوحي بالرثاء والرتف ،وبأضواء صغرية
زاهية األلوان ،...لكن يف أعماقهم ثمّ ة خوف سحيق: العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
محطة سالزبورغ ...لو كان بوسعي أن آخذ واسطة نقل من باريس إىل سالزبورغ ،أسرع من القطار ،لمَا كان يل أجنحة تساعدين عىل التحليق! القطار مِ شحَ ُذ الخيال... ***
يف القطار ،يزداد شعور املسافرين بالجنس ،ينام يف َ منفذ له ،فيذوب يف حنايا أعماقهم أجسادهم محصورًا ،ال
النفسية ...فتصبح نظراتهم حادة ،ثم تغفو يف تخيالت، فيخيم سكون ال تسمع فيه سوى هدير العجالت وأنني
األبواب ...آه ،كم من عالقة حب كانت تتمّ يف القطار خالل رحلة واحدة...
***
ُ يأكلني ظل يف قطار الـعُ زلةِ ً َمضة، «و
وَمضهْ». ُ بَعدها يَتقيَّؤين ً لقطة
لقط ْه يف َفسيــح المْ َ ّ حطة! ِ
ال يمكن تنظيف نص من الشوائب إال في قطار المترو ...فقراءة قصيدة هنا لها تأثير مختلف عن قراءتها خارج المترو... فسرعة القطار وهمهمات الر ّكاب تُريك أين يكمن الخلل اإليقاعي!... نعد نسمع ذاك الصفري الجنائزي ،يعلو وهو يقرتب ،الذي
تميزت به قطارات املايض ،وال ذاك الدخان الذي كانت الرغبة يف السفر تستيقظ فينا بمجرد أنْ نراه... ***
يف ضواحي بعض املدن ،ثمة خرائب -مقابر ترتكن فيها
بقايا قطارات األزمنة القديمة؛ عجالت الحلم وسرد املغامرة َّ ً مؤثثة تبتلع ّ كل شققا الفردانية؛ قطارات بعد أن كانت َ يشء ...ها هي يف ذاكرة ّ ركاب اليوم مجرد هياكل حديديةٍ َّ محطمةٍ ال عجلة وال باب ...مشرّعة للذباب والطري ،للقطط والكالب السائبة ...ال يعبأ بذِ ْكرها حتى الشاعر الرديء ...يف
***
لم يعد اليوم القطار كما كان :رمز السفر إىل مناطق
الحلم النائية ...فالبخار بات زرًّا كهربائيًّا ،واملحطة باتت
جزءً ا من عالم رقمي آخر ...وكل يشء تالىش وتغري :فلم
حني أنها كانت جزءً ا من إلهام عظماء الشعراء ...يف حني أن
«قطارات» اليوم مجرد أنابيب بال روح أو اتجاه... ***
القطارات هي ً أيضا مصريها املوت ...دموع ذكرياتها تبلل
األرصفة!
27
الملف
القطار في األدب األلماني
أدباء عدوه إنجازًا.. وآخرون وصفوه بـ«المارد الجبار» 28
العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
حسونة المصباحي
كاتب تونسي
منذ ظهوره في بدايات القرن التاسع عشر ،أثار القطار ،أو« الحصان المحرّك بالبخار» إعجاب
وفضول كبار الشعراء والكتاب في ألمانيا التي لم تكن قد توحدت بعد تحت راية بسمارك .وجميعهم ّ عده إنجا ًزا هائلاً ،قادرًا على أن ّ يحقق للبشر السعادة والرخاء ،وصورة مشرقة للتقدم الصناعي والحضاري،
و«ثورة تاريخيّة» فتحت بعض البلدان على بعضها ،وسهّلت المبادالت التجارية على أوسع نطاق .قليل منهم فقط أظهروا نفورا منه ،ورأوا فيه «مار ًدا جبّارًا ّ يهدد حياتهم ،وقيمهم ،وتقاليدهم القديمة» .وقد كتب أحدهم يقول« :غيّر القطار حياتنا ،وغيّر الطبيعة من حولنا .كما غيّر وعينا بالزمان والمكان». وكان الشاعر هايرنيش هاينه الذي أمىض شط ًرا مديدً ا من حياته مرتحلاً ،ومساف ًرا بني البلدان ،من بني الذين
اهتموا بـ«الثورة» التي أحدثها القطار يف حياة املجتمعات يف ّ خطي القرن التاسع عشر .وقد كتب يقول« :أثار تدشني
ّ الخطني يصل أحس بها الجميع .أحد القطار الحديدي ه ّزة ّ
إىل مدينة« أورليان» ،واآلخر إىل مدينة« روّان» (مدينتان فرنسيّتان) .وبينما يحملق العامة ببالهة املخدرين يف تلك القوى
الضخمة املتحركة ،ينتاب املفكرين رعب موحش يشعرون به دائمً ا إزاء الجبار والالمعقول .وهم ال يدركون عواقبه ،إنما
ّ ا .كل تسهيل التبادل ،هذا هو الشغل الشاغل للمثقفني راه ًن
واحد منهم يبالغ ويغايل ،ويف النهاية يظل أسريًا للرداءة» .أما
تحمسا لودفيك بورنه فلم يكن عىل اتفاق مع غوته .فقد أظهر ً
للقطار؛ ألنه «سيكسر شوكة الطغيان ،وستصبح الحروب من املستحيالت» .كما أنه سيكون «مح ِّر ًكا للتطورات االجتماعية والسياسية» .ويف رباعيته «طرق حديدية» ،كتب الشاعر الرومانيس فون أرنيم أول قصيدة عن القطار يف الشعر األملاين،
التي تقول:
يفتح السيف الطريق للبعض
يلمسون عدم قدرتهم عىل التنبّؤ به ،أو السيطرة عليه .ما
للبعض اآلخر يفتحه املجراف
والشقاء يف الوقت نفسه ،ويجذبنا املجهول بسحره املخيف،
الطريق الرديئة ّ ونمد جسورًا يف تلك التي
نلحظه هو أن وجودنا بأكمله يندفع ،بل ينزلق إىل مجرى جديدّ ، ترتقبنا فيه وضعيّة جديدة تحمل يف طيّاتها السعادة، ويغرينا ويرهبنا دفعة واحدة .وأكيد أن هذه األحاسيس هي نفسها التي انتابت آباءنا عندما اك ُتشفت القارة األمريكية ،أو حني أعلن عن اكتشاف البارود ،أو عندما ّ توصل الناس بفضل
الطباعة إىل كتابة صفحات من الكتب السماوية».
ويضيف هايرنيش هاينه أن القطار« فصل جديد من فصول ّ يتبقى سوى الزمان». التاريخ اإلنساين» .وهو« يقتل املكان فال ومتخ ّيلاً التحوالت التي سيحدثها القطار ،فيكتب قائلاً « :يتهيّأ يل أنّ جبال العالم وغاباته تزحف ّ كلها نحو باريس .وها رائحة الزيزفون النابتة يف أملانيا تتس ّرب إىل أنفي .وها أمواج البحر
الشمايل تطرق بابي» (كتب هايرنيش هاينه هذا وهو منفي يف باريس).
حذر غوته
وثمة من يشري إىل أن شاعر أملانيا األكرب غوته سبق له أن
تحدث عن القطار .حدث ذلك عام ١٨٢٥م .ويبدو أنه كان من بني الذين أبدوا ً نوعا من الحذر إزاءه .فقد كتب يقول« :قطارات
وسفن بخاريّة ،ووسائل اتصال أخرى ،يهدف جميعها إىل
نرتك آثارًا حديديّة يف
تقطعها األنهار
ّ تشق دائمً ا اإلرادة الحديديّة ً طريقا. لنفسها ويف قصيدة بعنوان« :الحصان البخاري» ،كتب الشاعر
ألربت فون شاميسو يقول: يا حصاين البخاري
أنت مثال للسرعة
وراءك ترتك الزمن يعدو وتسرح اآلن م َّتجهً ا نحو الغرب
بينما باألمس كنت قادمً ا من الشرق
سرقت س ّر الزمن
أرغمته عىل أن يرتاجع بني األمس واألمس أض ُ ْ غط عليه يومً ا بعد يوم حتى أصل ذات يوم إىل يوم آدم.
إلاّ أن الشاعر نيكوالس لينار يرى أن القطار قد يفسد
29
الملف حياة الناس .وهذا ما نستشفه من قصيدته التالية التي تعكس تشاؤمه:
يف وسط الغابة الصغرية الخضراء
مسرعة ومندفعة
تفرتس القطارات ما حولها ّ يحل عليك ضيف بشع
ستسقط األشجار يمي ًنا وشمال
أمام اندفاعها إىل األمام حتى جمالك الرائع
ال يمكن أن تحميه من ّ حدتها.
مع ظهور السيارة ثم الطائرة يف مطلع القرن
العشرين ،أصبح القطار وسيلة عادية ،ولم يعد يثري
الحرية والفضول والحماس مثلما كانت حاله خالل
القرن التاسع عشر .وبعد نهاية الحرب الكونية الثانية،
برزت تيّارت فكرية وأدبية تسخر من املنجزات التي ّ حققها التقدم الصناعي والعلمي يف جميع املجاالت .بل
30
هاينريش هاينه« :القطار فصل جديد من فصول التاريخ اإلنساني ...وهو يقتل يتبقى سوى الزمان» المكان فال ّ
وجيل إن هذه املنجزات كانت ضالعة بشكل واضح ّ يف كارثة الحرب الكونية التي قتلت املاليني من البشر، ً مدنا ،وأحرقت مساحات واسعة من الغابات وخربت
يرفعوا أنظارهم حتى لو وقعت معجزة يف وسط الساحة .إنهم
ويف حياة أفضل .
إن هناك بالدًا ما وراء القوقاز مستعدة إليوائهم لجمعوا
يف فرانكفورت بعد الحرب قائلاً « :الالجئون مضطجعون يف ّ كل مكان عىل ساللم محطة القطار .يخيّل للمرء أنهم لن
ومن األرايض الزراعية ،ودمرت أمل الشعوب يف الرخاء،
يعلمون علم اليقني أنه ال يشء سيحدث .فلو قيل لهم:
ويف القطارات اعتاد الناس أن يروا كل يوم جرحى
صناديقهم وبقايا أمتعتهم وارتحلوا دون أن يصدقوا كلمة
ومشوهني عائدين من جبهات القتال ،و«توابيت داكنة» .ومرة أخرى أثبتت الحرب الكونية الثانية أن التقدم الصناعي والتكنولوجي يفيض يف الحقيقة إىل مزيد من الكوارث واألوجاع .وها هو الشعب األملاين الذي ظن
واحدة مما سمعوه .حياتهم ليست حقيقية ،بل انتظار من دون أمل».
القطار يصل يف موعده
أنه سيستعيد أمجاده القديمة بقيادة هتلر كان مشردًا
ويحضر القطار يف «القطار يصل يف موعده» لهايرنيش بل
املحطات واألرصفة ،ويحاول من خالل آالف املناقشات
نوبل لآلداب عام ١٩٧٠م .بطل هذه الرواية القصرية جنديّ
ريشرت مؤسس« مجموعة »١٩٤٧التي لعبت دورًا مهمًّ ا
الروسية .فجأة تستبدّ به فكرة أنه لن يصل أبدً ا ،وأن تلك
إحدى قصصه ،يصف فولفغانغ بورشرت تلك املرحلة القاتمة من التاريخ األملاين املعاصر قائلاً « :مخلوقات رثة،
ينتظره املوت .ويف القطار يواصل حياته العادية ،يأكل وينام، ويلعب الورق مع أصدقائه الجنود .وهو يتذكر فصولاً من
من أنقذ نفسه من املوت يف آخر لحظة ،ومنهم تاجر
القطار يف رحلته عرب أملانيا ثم بولندا .وعندما يلتقي فتاة
يف الشوارع« ،يعيش فوق القضبان الحديدية ،ويسكن
الذي كان من أبرز رموز« مجموعة »١٩٤٧والحائز عىل جائزة
أن يربهن عىل حقه يف الوجود» بحسب هانس فِرنر
أملاين مأذون يركب القطار يف عام ١٩٤٣م ليلتحق بالجبهة
يف تطوير األدب األملاين بعد الحرب الكونية الثانية .ويف
الرحلة هي رحلته األخرية ،وأن القطار سينقله إىل قرية حيث
كائنات أشبه بأشباح ،الجئون بال وطن وبال مأوى ،منهم
حياته ،ووجوهً ا من املايض ،ويحاول ً أيضا أن يصيل .ويتقدم
السوق السوداء منعدم الضمري .هؤالء جميعً ا يجمعهم أمل واحد :العودة إىل الديار» .
ويصف ماكس فريش ما شاهده يف محطة القطارات
بولندية يتوهم أنه سيفلت من املصري الذي ينتظره ،فيهرب معها يف سيارة ،إلاّ أن السيارة يسحقها قطار ،فتكون النهاية كما توقعها!
العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
ويف أواخر الستينيات من القرن املايض ،أسّ س هانس ماغنوس إنسنسربغر ،وهو ً أيضا من أبرز وجوه «مجموعة»1947
مجلة «( »Kursbuchجدول القطارات) الشهرية .وهو يعتقد أن هذا الجدول يثبت أن العمل األدبي بات عديم الفائدة؛ لذا يجب
أن يستبدل به األخبار والتحقيقات الصحفية واملقاالت« :ال تقرأ
القصائد يا بني ...عليك أن تقرأ جدول القطارات فهي أكرث دقة!».
المجد للقطار قصيدة للشاعر الفرنسي فاليري الربو امنحني صخب َ َك الكبري وسرعتك اللذيذة
اللييل عرب أوربا املغمورة بالضوء وانزالقك ّ
آه يا قطار البذخ! ُ امنحني ً أيضا تلك املوسيقا املغمّ ة املدمدمة ّ املذهبة يف معابرك الجلديّة
يف مقصورة من مقصورات قطار الشمال السريع
بني« فريبالن» ،و«بسكاو»
كان القطار ينزلق عرب سهول
حيث يستند إىل جذوع أشجار ضخمة كما الهضاب،
بينما خلف األبواب «املربنقة» ذات املزاليج النحاسيّة الثقيلة
رعاة يرتدون جلود خرفان قذرة ً خريفا ،وكانت الساعة تشري إىل الثامنة صباحً ا، (كان الوقت
أجتاز معابرك وأنا أعني
املقصورة املحاذية ملقصوريت)
ينام أصحاب املاليني
وكانت املغنية الجميلة ذات العينني البنفسجيتني تغني يف
وأتبع عدوك باتجاه فيينا وبودابست
أنت أيتها املرايا الكبرية التي عربك
آه يا هارمونيكا زوغ! ّ أحسست ألول مرة بلذة الحياة
وبحر مرمرة تحت مطر دافئ.
مازجً ا صويت بأصواتك املئة ألف
رأيت سيبرييا وجبال سامنيوم وهي تم ّر ً وأيضا قشتالة الوعرة الخالية من الزهور
31
الملف
سكك حديدية تفضي إلى محطات سينمائية
حين أمسكت السينما الزمن في قطار من ظالل
32
العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
زياد عبدالله
روائي وناقد سوري
يمضي القطار على سكته ،وما من نية ّ للحاق به وال النظر من نوافذه وال حتى تتبعه بكاميرا ،بل إحالته إلى ارتباطه الوطيد بعنصرين أساسين في السينما أال وهما الحركة والزمن ،وتثبيت اللحظة التي ظهرت فيها السينما رفقة قطار األخوين لوميير والدرب الذي مضى فيه الفن السابع متنقلاً من محطة إلى أخرى ،وما القطار –كما كل وسائط النقل -إال انتقال في المكان محكوم بالزمن ،وما السينما –حسب جيل دولوز« -إال إعادة إنتاج وهم ثابت ،عن طريق العرض؛ ألن السينما ،كمنظومة ،تعيد تأليف الحركة من خالل ردها إلى أية لحظة زمنية ،تأتي قدرتها من التقلص أو التمدد ،اإلبطاء أو التسارع .ويتشكل في زمن المكان :الماضي ،كما يتشكل في زمن الحركة :الحاضر؛ ألن الحركة في المكان انتقال ،وحينما يحدث االنتقال في أجزاء في المكان ،يحدث ً أيضا تغيّر نوعي في حالة الكل»(.)1 يتبدّى تاريخ السينما كما لو أنه لحظة «وصول القطار إىل
املحطة» ثاين أفالم األخوين لوميري العشرة التي عرضت يف 25ديسمرب عام 1895م ،يف «غراند كافيه -الصالون الهندي» يف باريس ،وقد أصيب حينها الجمهور بالذهول وهو يشاهد البشر يتحركون عىل
الشاشة ويرى حركة األمواج يف مشهد «قارب يغادر امليناء» وتطاير الغبار يف مشهد «هدم جدار» .مع القطار امتزج الذهول بالخوف وهو يتوجه مباشرة نحو الجمهور ،وأصيب من يف القاعة بالهلع ،ومنهم من ارتمى تحت الكرايس ،وقد بدا أنه سيحول «القاعة التي نجلس
فيها إىل ركام -مع أنه مجرد قطار من ظالل» كما يورد مكسيم غوريك يف مقال له بعنوان «سينماتوغراف لوميري» نشره عام 1896م .وليصف تاركوفسيك لحظة «وصول القطار إىل املحطة» ،بأنها «ليست اللحظة التي أعلنت ظهور تقنية جديدة ،وال اللحظة التي أسست إلعادة إنتاج
الحياة .إنما كانت اللحظة التي وجد اإلنسان فيها وسيلة لإلمساك بالزمن وطباعته ،ليصبح أساس السينما وقاعدتها»(.)2 محطة مفصلية
سيواصل قطار لوميري رحلته ،سيصل محطة جورج ميليه
املفصلية يف تاريخ السينما ،ويخرج ذاك القطار عن سكة الوثائقي
ظهرت السينما رفقة قطار األخوين لوميير والدرب الذي مضى فيه الفن السابع متنقال من محطة إلى أخرى والتسجييل ،ويوضع يف أفالم ميليه عىل سكة الروايئ ،مازجً ا الفلم بالسحر ،فاتحً ا الباب عىل مصراعيه أمام املخيِّلةِّ ، مولدًا خد ًعا بصرية
تشد من أزر مخيلته العبقرية التي يبدو فيها القمر وجه إنسان تحيط به األخاديد أو التجاعيد كما تلك التي تظهر عىل وجه القمر ،ولتنغرز
فيه كبسولة فضائية تطلق بواسطة مدفع وذلك يف فلمه الشهري «رحلة إىل القمر» 1902م ،وليؤسس كل ذلك يف بنية مسرحية حيث
اللقطة /املشهد تجري أمام كامريا ثابتة ،واملمثلون يدخلون الكادر ثان ،ولم يؤدون أدوارهم ثم ننتقل إىل مشهد /لقطة ثانية يف موقع ٍ
يكتف ميليه «خيميايئ السينما» -كما لقبه شاريل شابلن– بذلك بل ِ
أضاف إضافة أخرى إىل الفلم الصامت تتمثل يف اللوحات املكتوبة التي لعبت دورًا مهمًّا يف سرد الحكاية ،وليست صدفة أن تدور أحداث
فلم مارتن سكورسيزي «هوغو» 2011م يف محطة قطارات باريس حيث يدير ميليه (بن كينغسيل) متج ًرا صغريًا يبيع فيه ما يصنعه من دُمى
مشهد من فلم «وصول القطار إلى المحطة»
33
الملف ميكانيكية ،وذلك بعد تخليه عن السينما وخراب األستديو الذي أنشأه (أول أستديو يف أوربا) ومعه أفالمه عند اندالع
الحرب العاملية األوىل؛ هو الذي صنع أكرث من 500فلم قصري لم يصلنا منها إال النذر اليسري ،وليكون ميليه فنان الفلم الروايئ
األول مثلما كان األخوان لوميري أول فناين الفلم الوثائقي.
يظهر القطار مجددًا لكن هذه املرة يف الواليات املتحدة،
وينعطف بالسينما انعطافة جديدة عرب حضور املونتاج للمرة
مشهد من فلم «سرقة القطار الكبرى»
األوىل يف فلم أدوين بورتر «سرقة القطار الكربى» 1903م ،بما
يدفع للقول :إن كانت أفالم ميليه تتابعية ،فإن «السرد يف فلم بورتر سيجري وفق الرتتيب الزمني لألحداث كما لو أنه اكتشف املونتاج املتوازي يف شكله األويل ،كما ستظهر يف هذا الفلم للمرة األوىل اللقطة الكبرية؛ إذ يظهر «الكاوبوي» يف نهاية الفلم موجهًا
مسدسه نحو الجمهور»( )3الذي يصاب كما لدى عرض «القطار
يصل املحطة» بحالة هلع معت ِقدًا أنه سيطلق النار عليه ،وعدا
ذلك فإن الفلم يحافظ عىل األسلوب املسرحي كما أفالم ميليه
مشهد من فلم «غريبان في القطار»
باستخدامه كامريا ثابتة تصور كل ما يجري من زاوية واحدة ال
تتغري ،األمر الذي سيعتمده بورتر كليًّا يف فلمه التايل «كوخ العم
34
متواز كما لو أنه صنع توم» من دون لقطات كبرية وال مونتاج ٍ
ذلك يف «سرقة القطار الكربى» عن طريق الصدفة ،وسيكون
عىل السينما أن تنظر غريفث وفلمه «مولد أمة» 1915م ليك يحرر السينما من البنية املسرحية ،ويعلنها ف ًّنا يمتلك أدواته التعبريية والسردية الخاصة معل ًنا السينما ف ًّنا مستقلاًّ قائمًا بذاته. موقع تصوير استثنايئ
لن أميض كثريًا يف سياقات نظرية الفلم وتاريخ السينما،
وللقطار طاملا أنه الكلمة املفتاحية ملا جرى التقديم له ،أن يكون مجالاً حيويًّا ألفالم ال ع َّد وال حصر لها ،اتخذت من القطار موقع تصوير استثنايئ ومساحة للدراما والرومانسية والجريمة
واإلثارة والجاسوسية ،كما يف فلم ألفريد هيتشكوك «غريبان يف القطار» 1950م ،وفلمه اآلخر «شمالاً إىل الشمال الغربي»
1959م حيث تتشابك خيوط األحداث وتتصاعد درامية األحداث عىل منت القطار ،وكيف ملن شاهد هذا الفلم أن ينىس الحوار
الساحر الذي يدور بني غاري غرانت وإيفا سنت يف مقصورة
املطعم؛ إذ تقول إيفا« :لقد أعطيت النادل خمس دوالرات ليجلسك أمامي إذا أتيت .غاري :هل هذا تصريح بالحب؟ إيفا :ال أحب الحديث عن الحب ومعديت خاوية .غاري :لكنك
انتهيت من طعامك للتو .إيفا :لكنك لم تأكل».
ي َِرد يف كتاب املخرج األمرييك سيدين لوميت «صناعة
األفالم» مقطع مدهش يروي فيه تفصيليًّا كيفية تصويره
أفالم ال ع َّد وال حصر لها ،اتخذت من القطار موقع تصوير استثنائي ومساحة للدراما والرومانسية والجريمة واإلثارة والجاسوسية لقطة القطار يف فلمه «جريمة يف قطار الشرق السريع» 1974م، ولهذا املقطع أن يرينا كم كانت األمور شاقة وصعبة يف خمسينيات القرن املايض ،وكم من الجهد والتفاين بُذِال يف إنجاح لقطة« :نحن
يف حظرية كبرية يف باحة محطة القطار خارج باريس .تحت الحظرية يقف قطار الهث ناخر مؤلف من ست عربات .قطار كامل .قطاري أنا.
ليس قطارًا دمية ،بل قطار حقيقي! وقد جرى تجميعه جزئيًّا من
بروكسل حيث تحتفظ شركة «واغون ليتز» بعرباتها القديمة ،ومن «بونتالرليه» يف جبال األلب الفرنسية حيث تحتفظ شركة «سكك
الحديد الفرنسية» بقاطراتها القديمة .لقد بنينا ديكورًا ملحطة قطارات إسطنبول يف لندن ،ونقلناه إىل باريس ،ور ّكبناه تحت الحظرية بحيث
أصبحت هذه محطة إسطنبول لقطار الشرق السريع .هناك ثالث مئة كومبارس يتجمعون فوق رصيف محطة القطار ويف قاعة االنتظار.
كانت اللقطة كما ييل :الكامريا فوق جهاز «ناييك» وهو عبارة عن رافعة للكامريا بارتفاع خمسة أمتار وتعمل بمحرك .هي يف الوضع
املنخفض .حني يندفع القطار نحونا ،تتحرك الكامريا إىل األمام لتقابله وترتفع يف الوقت نفسه إىل قرابة منتصف ارتفاع القطار ،أي
نحو املرتين .يسرع القطار وهو يتجه نحونا بينما نسرع نحن باتجاه
العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
القطار .وما أن يصل منتصف املقطورة الرابعة حتى تكون لدينا لقطة مقربة «كلوز أب» لشعار .Wagon – Litاملشهد جميل جدًّا ،ذهبي عىل خلفية زرقاء .وهذا يمأل الشاشة .ومع مرور القطار بتنا نحرك
الكامريا لتتابع الشعار املضاء حتى نكون قد استدرنا بزاوية 180درجة ونصبح باالتجاه املقابل .لقد ارتفعنا اآلن إىل أقىص ارتفاع الرافعة أي
خمسة أمتار ،ونحن نصور القطار وهو يبتعد منا ،فيصغر تدريجيًّا وهو يبتعد .وأخريًا نرى الضوءين األحمرين آلخر مقطورة بينما
يختفي القطار يف عتمة الليل»(.)4
وإن كان القطار محوريًّا يف هذا الفلم ،فإن له أن يكون كذلك
يف نمط سينمايئ كامل أال وهو «أفالم الويسرتن» وما أن تتوارد هذه األفالم بالذهن حتى تتالمح مشاهد ال حصر لها من القطارات التي يجري السطو عليها وتحويل مسارها وغري ذلك من صراعات
ومصاير ارتبطت بالقطار وما يحمله ،وليتعاظم هذا الحضور يف أفالم «السباغيتي ويسرتن» وصولاً إىل اإلنتاجات القليلة ألفالم «الويسرتن» يف العقدين املاضيني وفلم أندريه دومينك «اغتيال جييس جيمس عىل
يد الجبان روبرت فورد» 2007م يحضر كمثال لفلم استثنايئ ،والحدث املفصيل يف أحداثه يتمثل يف السطو عىل الربيد الذي يحمله القطار. دليل عىل إعجاز الحياة
نزعت إطارات السيارات بأنواعها املختلفة لتتناسب السكة وصولاً إىل الدراجات الهوائية والعربات التي تميض بالدفع اليدوي ،وناظر املحطة يريد لقريته أن ُتميس قرية سياحية يصلها القطار بسالسة بينما تدور
رحى حرب أهلية طاحنة ،ولعل إيراد فلم كوستاريكا سيقودنا إىل فلمه األشهر «أندر غراوند» (سعفة كان الذهبية عام 1995م) الذي
سيقودنا إىل «املرتو» أو «قطار األنفاق» لكن بعيدًا من الحرب العاملية
الثانية وحقبة حكم تيتو ليوغسالفيا التي يصورها كوستاريكا يف ذلك الفلم البديع ،ليضعنا أمام حضور املرتو يف السينما الذي شهد
يف األفالم ما شهد من مصاير ومآالت شخصيات ،وليكون مساحة
فلمية خاصة تتيح للمخرج أن يضع الشخصيات عىل مقربة بعضها من بعض ،وللمصاير أن تتصل أو تنفصل ،مساحة ّللقاء والفراق، يحتشد بها البشر ،تمتلك إمكانية أن تكون فضاء مفتوحً ا أو سج ًنا.
ويف تعقب ما تقدّم عربيًّا يحضر بقوة فلمان استثنائيان يف
تاريخ السينما العربية ،نجد فيهما أن القطار يشارك املمثلني بطولة الفلم كما يف فلم كمال الشيخ «حياة أو موت» 1955م؛ إذ ال ّ يشكل «الرتاموي» وسيلة نقل لحركة بطلة الفلم فقط ،فكما هو معروف
فإن الفلم متأسس عىل حدث مغلق ،يتمثل يف أن الطفلة التي تريد أن تحضر الدواء لوالدها تضطر للذهاب إىل صيدلية بعيدة لتحصل عليه ،وليقوم الصيديل برتكيب سم قاتل بدلاً من الدواء ،وهكذا
ال يمكن الحديث عن القطار يف السينما من دون ذكر فلم
ترتامى رحلتها وهي تبدّل الرتاموي يف محطات كثرية ،وبالتايل يحول
القطار دليل كوستاريكا عىل إعجاز الحياة ،وكل أحداث هذا الفلم
النقد السينمايئ ،إضافة إىل تقديم الفلم بواسطة «الرتاموي» وثيقة ّ وجل الفلم مصور خارجيًّا. بصرية مدهشة للقاهرة يف الخمسينيات،
البوسني أمري كوستاريكا «الحياة معجزة» 2004م؛ حيث تكون سكة
تجري عىل السكة ،ولتتعدد وسائط النقل التي تميض عليها ،وقد
«الرتاموي» الفلم إىل «فلم طريق» قبل حضور هذا املصطلح يف أدبيات
أما الفلم الثاين فهو فلم يوسف شاهني «باب الحديد» 1958م ،ومن منا ال يذكر بائع الصحف املهووس قناوي (يوسف شاهني) وحبه له ُّنومة (هند رستم) والقطارات شاهدة عىل كل يشء ،وهي التي
تحمل جثة من قتلها قناوي وهو يحسبها هنومة. ال بد أن زم ًنا م ّر والقطارات عىل دأبها نشطة متحركة من مكان
إىل آخر ،هناك من وصل إىل وجهته وآخر لم يصل بعد ،هناك من ّ يستقل «املرتو» ويقرأ ما كتب ها هنا ،ووسيلة النقل ليست بمعدنها
مشهد من فلم «حياة أو موت»
مشهد من فلم «باب الحديد»
وتقنياتها وميكانيكيتها بل باإلنسان الذي ّ تقله ،وهذا هو شاغل ٍّ السينما الرئيس ،والبشر مجتمعون يف قاطرته ٍّ ولكل لكل وجهته، قصته ومصريه.
-1جيل دولوز .الصورة – الحركة أو فلسفة الصورة /ترجمة :حسن عودة. دمشق :منشورات وزارة الثقافة – المؤسسة العامة للسينما 1997م. -2أندريه تاركوفسكي .النحت في الزمن /ترجمة :أمين صالح .القاهرة: دار ميريت2006 ،م. -3قيس الزبيدي .مونوغرافيات في الثقافة السينمائية .القاهرة :الهيئة العامة لقصور الثقافة – آفاق سينمائية2013 ،م. 4- Lumet, Sidney. Making Movies. New York: Vintage Books, 1996.
35
الملف
أساطير على هامش يوميات مترو القاهرة
36
العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
صبحي موسى
القاهرة
حين تتحدث مع أي من قاطني مصر الجديدة قائلاً « :ترام مصر الجديدة »...يوقفك بانزعاج قائلاً « :مصر الجديدة ليس بها ترام ،دا مترو» .هكذا تجد نفسك في مأزق غريب ،فمترو األنفاق يربط في خطه األول ما بين شبرا والجيزة ،وفي خطه الثاني ما بين حلوان والمرج ،ويسير تحت األرض وفوق األرض بين سورين عظيمين يمنعان الناس والسيارات عن مساره ،ويسير بالكهرباء وليس بالوقود كالقطارات ،وال توجد به «سينجة» يشدها الشباب فيقفونه عن السير ،وليس به مقابل، وليس له مزلقان كما في القطار ،فكيف يمكن القول عن ذلك الذي يمشي على وجه األرض بين الناس والسيارات ،وينعطف ليم ّر بين العمارات في الشوارع دون خصوصية وال استقالل ،ودون هيبة وأسوار تحوالن دون مطاردة األطفال له ،كيف يقولون عنه «مترو» وليس «ترام»؟ سوف تتذكر أن مهندسً ا يف السكك الحديدية املصرية َتقدَّم إىل
امللك فاروق باقرتاح إلقامة أول مرتو أنفاق يف مصر وإفريقيا والشرق األوسط كله ،لكن امللك أهمل االقرتاح فماتت الفكرة ،ولم تستيقظ
إال مع مجيء جمال عبدالناصر ،هذا الذي رغب يف أن يكون املؤسس
الثاين ملصر الحديثة بعد محمد عيل ،فاقرتح عىل الخرباء الفرنسيني أن يضعوا تصورًا إلنشاء أول مرتو يف مصرُّ ، وات ِفق مع بيت الخربة
الفرنيس «سوفريتو» عام 1970م عىل إنشاء خطني أحدهما يربط ما بني بوالق أبو العال وقلعة محمد عيل بطول 5كم ،والثاين يربط ما
بني باب اللوق وترعة اإلسماعيلية بطول 12كم ،ويف عام 1973م صدَّق أنور السادات عىل إنشاء مرتو القاهرة ،لكنه لم يبدأ العمل فيه إال يف
عصر مبارك ،وكان أول تشغيل له عام 1987م.
كانت القاهرة قبل أن يربط املرتو بني أطرافها أشبه بصندوق
مكتظ بالبشر ،وكانت أحياء مثل حلوان واملعادي واملرج وغريها أشبه بدول أخرى ،ال يذهب إليها أحد ،وال يسمع بها أحد ،ويتندر
الناس عىل من يفكر يف اإلقامة بها ،لكنها مع املرتو أصبحت أقرب من وسط املدينة؛ ألن زحام املرور فوق سطح األرض ال يمنح أحدًا حق
عبت التحرك من مكانه ،واإلشارات ال تفتح أضواءها إال لتغريها ،وقد رَّ السينما يف السبعينيات والثمانينيات عن هذا االختناق املروري املزمن يف شوارع القاهرة وكباريها من خالل أفالم مثل «أربعة يف مهمة رسمية». مدن داخلية عىل أبواب املحطات
لم يكن مرتو القاهرة مجرد حدث أو وسيلة مواصالت جديدة،
لكنه كان تغريًا ديموغرافيًّا كبريًا ،فقد امتدت القاهرة الكربى عىل
ضفاف هذا الثعبان الحديدي ،فنشأت مدن داخلية عىل أبواب محطاته ،وصارت عالمة « »Mالحمراء رم ًزا لتجمعات بشرية متباينة ،حيث تجار املالبس والفاكهة والزيوت واملساويك والكتب القديمة واملوبايالت وكروت الشحن والسماسرة والبهلوانات وأصحاب الثالث ورقات ،فضلاً عن عيادات األطباء ومكاتب املهندسني وشركات
37
الملف
األموال الكبرية سواهم ،ورواية ياسمني مجدي «معرب أزرق برائحة
الصرافة وسماسرة العقارات والشقق املفروشة وغريها ،نشأت
بيع تذاكر يف إحدى محطات املرتو ،وكذلك ديوان حمد عبدالعزيز
ليس عن نشأة القاهرة ومجيء املعز بسيفه وذهبه ،ولكن عن
حول حادث قطار العياط الذي اشتعلت فيه النريان عند منطقة
حيوات وتغريت طبيعة أماكن ،وتوالدت أساطري وحكايات،
املرتو والرتام والقطار الفرنساوي والقشاش ،وتحول الناس من
آدميني يمشون عىل أقدامهم رافعني أنوفهم نحو السماء إىل
فرئان أو أرانب تهرول بمجرد دخولها من باب املحطة ،تهرول عال وكثري ،مسموع يف أنفاق طويلة وباردة ،وسط ضجيج ٍ وغري مفهوم ،ضجيج يبعث عىل التوتر والسرعة ،ليتسابقوا يف دخوله عىل شباك التذاكر ،ومرورهم من بوابات ممغنطة، فرحني بوصولهم إىل الرصيف ،يف انتظار الثعبان الحديدي
الكبري ،هذا الذي ال تمر دقائق إال بمجيئه ،وحيث تكتظ املحطة بالنازلني والصاعدين ،لكنها سرعان ما تصبح خالية يف انتظار قادمني جدد.
لم يكن األدب بعيدًا من حضور املرتو بثقافته الجديدة
عىل الجميع ،فقد سجل العديد من الكتاب هذا الحضور يف أعمالهم ،من بينها رواية «مرتو» املصورة ملجدي الشافعي،
التي تدور أحداثها حول «شهاب» مهندس اإللكرتونيات الحانق
38
الينسون» الفائزة بجائزة دبي عام 2009م ،التي تدور أحداثها يف شباك
عىل النظام االجتماعي والفساد املنتشر يف مصر ،الذي يقرتب
من اإلفالس بسبب املنافسة التي يسحق فيها أصحاب رؤوس
«عشرين سنة عىل سلم املرتو» .وفلم «ساعة ونص» التي تدور أحداثه
ً قصصا إنسانية عن ركابه. «العياط» ،ويحيك
يف هذا التحقيق نتعرف عىل مشاعر وانطباعات وذكريات وأفكار
وتصورات عدد من املثقفني املصريني والعرب ،ممن تعرفوا عىل مرتو
القاهرة أو اتخذوا يف رحالتهم مرتو دبي أو غريها من مدن العالم، وكيف تركت هذه الوسيلة الجديدة حضورها لديهم ،وكيف َت َّ شكل خيالهم معها.
عمر العاديل :ضجيج ال ُيسمع وسرعة ُترى
القاهرة عام 1986م هي تقريبًا ثلث القاهرة عام 2017م ،ليس
فقط من حيث عدد السكان إنما من حيث التنامي واالنتشار يف املدن
الجديدة املنتسبة لهذه املدينة العريقة ،فهناك بعض املدن التي ال
عالقة لها بالقاهرة جغرافيًّا ،لكن يبدو أن أصحابها سعداء باالنتساب
غري الدقيق للعاصمة املصرية.
يف عام 1986م لم يكن هناك ِسوى بعض أعمال حفر ملا سمعنا يف
تلك األيام أن اسمه مرتو األنفاق ،ومرتو األنفاق الذي يجري يف إنجلرتا
منذ عام 1899م لم يدخل إىل القاهرة إال يف عام 1987م ،وكان املرتو
جاكلين سالم :نصوص في مترو تورنتو يشكل املرتو عصب التنقالت يف مدينة تورنتو الكندية التي تعد واحدة من أكرب مدن العالم .شخصيًّا أستخدم املرتو ً ً ً أحيانا أكتب الشخصيات واملواقف يف وأحيانا أقرأ وجوه العابرين. أحيانا أقرأ الكتاب الذي يف يدي، للذهاب إىل العمل.
دفرت املالحظات .هنا بعض أحوال مرتو املدينة التي يعيش فيها خليط بشري متنوع من كل األلوان واألجناس. ***
ُ خرجت مرة يف الصباح الباكر وكنت عىل موعد للذهاب للرتجمة الفورية لوزراء كنديني سيتحدثون عن تجربة
استقدام الالجئني السوريني إىل كندا .لبست ثيابي الرسمية ويف منتصف الطريق إىل مكان انعقاد املؤتمر ،توقف املرتو ً ُ طريقا للخروج ،استقللت سيارة أجرة ،كانت عشرات اختنقت .لم أستطع الخروج من النفق .حني تدبرنا لعطل ما. ٍ الرسائل الصوتية قد وصلتني من مكتب العمل يسألون عن تأخر املرتجمة .حني وصلت إىل املكان ،دقائق فقط أمامي يك ّ أرتب شعري وأشرب املاء ،ثم ُق ِّد ُ مت إىل الوزيرة والشخصيات التي ستلقي خطابًا سأقوم برتجمته مباشرة يف حضور عدد كبري من القنوات التلفزيونية الكندية .أثناء إلقاء الخطابات عن دور كندا اإلنساين حيال مساعدة الالجئني
ُ كنت أقول يف نفيس :أنا سورية -كندية ومن املمكن أن أتضرر لو توقف املرتو يف ساعة وتقديم فرص العمل لهم،
حرجة .املرتو واللغة وسيلتان للوصول إىل مكان والعبور إىل الطرف اآلخر.
*** ّ ّ الكالب ً تستقل مرتو تورنتو :حني تكون برفقة كلب وتستقل عربة يف املرتو ،ستحظى بكل االهتمام من أيضا
الركاب .إنهم يداعبون الكالب ويتحدثون مع مالكها بود شديد .ذات مرة كانت سيدة بجواري تحمل يف حضنها كلبًا
صغريًا وسيمً ا .الشاب يف الكريس املقابل ،صار يداعب الكلب ويقول للسيدة« :لكلبك شخصية مميزة ،أعجبني كلبك»
العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
ً حدثا يع ّد األبرز وقتئذ ،فمن حيث األهمية فهو وسيلة املواصالت
هذه املدينة ،القاهرة ،جدَّد فيها املرتو شبابها يف السنوات األوىل
الفرنسية املشرفة عىل املشروع تحدد ميعاد التسليم باليوم والساعة،
املواصالت العامة يف حالة يرىث لها ،فيمكن أن يستغرق قطع عشرين
األسرع عىل اإلطالق ،ومن حيث دقة التنفيذ فقد كانت الشركة لدرجة وجود عداد رقمي يتناقص يومًا كل أربع وعشرين ساعة لدقة الع ّد التنازيل ،ويف صيف عام 1987م أصبح يجري تحت أرض القاهرة
مرتو أنفاق كالذي يجري يف لندن وروما وباريس.
من عمله ،فقد كانت قد وصلت حد الرتهُّ ل والبدانة ،وأصبحت كيلو مرتًا أكرث من ساعتني ،وقد كان املرتو يقطع املسافة نفسها يف
ثلث ساعة فقط ال غري .تغري شكل االنتقال يف القاهرة ،وتغري معها
نظرة الناس بشكل عام ،فأصبح متاح إلنسان أن يعطي بسهولة
ُ نظرت إىل الكلب بعني فاحصة ويف داخيل مشاعر متناقضة .مرات كثرية أرى امرأة تجلس
يف مقعد يف املرتو ،تبيك وال أحد يلتفت إليها.
***
يف ساعات االزدحام الشديد ،أركض بني الجموع يك أصل إىل املرتو وكليّ ٌ أمل يف أن ً مقعدا .حني أصاب بالخيبة أبدأ بتصفح عناوين الكتب التي يقرؤها العابرون إىل قلب أجد
املدينة .وأسرتق النظر إىل وجوه األشخاص .بعضهم ينام وبعضهم يأكل .أقرأ الوجوه ً أحيانا .العالم محصور يف عربة أمامي ،أتمنى لو أكتب املفارقات ككتاب وأد ِّون امللحوظات والصور.
*** ً ً أكياسا كبرية تفوح منها رائحة عفنة .رائحتهم أيضا تنتشر يف املقطورة. أحيانا .يصحبون معهم ينام الشحاذون يف املرتو ً ً أحيانا أغيرِّ مكاين يك أبتعد من مصدر الرائحة. ***
يف املناطق املكشوفة يف املرتو يتناهى إىل سمعي املحادثات التليفونية الخاصة .أسرار تصلك بالعربية واإلنجليزية .أبتسم
وأنا أستمع إىل امرأة عربية تشتيك من زوجها ،أو العكس.
***
يحدث أن أنغمس يف قراءة رواية وأجتاز املحطة التي سأنزل فيها ،حينها ألعن الكاتب وأبدأ بتأليف كذبة مناسبة عن
سبب تأخري عن العمل.
كاتبة ومرتجمة سورية مقيمة يف كندا
39
الملف
صالح حسن :وسيلة عملية ونظيفة
موعدًا ويستطيع االلتزام به ،وذلك ببساطة ألن فرق توقيت
اإلنسان غري محدودة يف استخدام الطبيعة لتسهيل حياة اإلنسان،
إن املرتو كان أداة تجميل ضرورية والزمة بسبب التكدس الذي
نشهد اليوم يف أوربا بالتحديد مشاريع عمالقة ملد األنفاق تحت
مرتو عن آخر لم يكن يزيد عىل خمس دقائق ،ويمكن القول:
ضرب املدينة العريقة ،وجعلها تستوعب أكرث مما يكفيها من البشر بثالثة أضعاف عىل أقل تقدير. لاً بعض املثقفني فضلوا التنقل عن طريق املرتو بد من
التاكيس أو وسائل املواصالت العامة ،فقد ربط املرتو بني
وجعله قادرًا عىل االتصال باآلخرين مهما كانوا بعيدين من بعض.
البحر ،وقد نجح كثري من البلدان يف ذلك ،وأكرب األمثلة هو النفق الذي يربط فرنسا بربيطانيا ،واملشروع العمالق بني أكرث من سبع
دول أوربية إلنجاز نفق طوله مئات الكيلومرتات .إنها تجربة فريدة بالفعل أن تسافر يف قطار يسري تحت املاء .بالنسبة يل وأنا أستخدم
هذه القطارات بني وقت وآخر أجدها طريقة عملية ونظيفة وسهلة
مراكز ثقافية يف أول املدينة بأخرى عىل أطرافها ،فلو أن هناك منتدى يف املعادي مثلاً يُق ِّدم محتوى ثقافيًّا؛ ويريد شخص ما
للوصول إىل املكان الذي تريده دون تضييع كثري من الوقت ،لكن نحن
هل كان يستطيع الوصول إىل هذه الضاحية البعيدة؟ اإلجابة
ألسباب سيكولوجية ،وهي الخوف من األماكن املغلقة مع أنها غري
أن يذهب إليه وهو يقطن يف منطقة املرج أو منطقة الزيتون،
ال؛ ألنه من الصعب تخيل شخص يقطع قرابة سبعني كيلو مرتًا فوق أسفلت متكدس وطريق مزدحم وإشارات تغلق أكرث مما تسمح باملرور ،وكان من الصعب ً أيضا أن تزيد هذه الكثافة
السكانية العالية يف هذا الزمن الوجيز دون حلول ،فلوال مرتو األنفاق النفجرت القاهرة.
اآلن ،ويف عام 2017م تمددت خطوط املرتو ،وأصبحت
40
مرتو األنفاق هو واحد من املشاريع املهمة التي تثبت أن قدرة
تربط أطراف القاهرة من جميع االتجاهات ،وهذا ي ََّسر عىل
الكثريين سرعة التنقل ودقة املواعيد ،إضافة إىل يشء آخر أال وهو التخفف من الزحام قدر املستطاع ،فالقاهرة يعمل بها
عمالة مؤقتة تتعدى خمسة ماليني نسمة ،يزورونها كل صباح
ويرتكونها يف مساء اليوم نفسه.
روايئ مصري
العرب معتادون عىل املساحات املفتوحة ،نخاف من هذه القطارات مربرة طاملا أثبتت نجاحها املستمر.
شاعر عراقي
إيناس العباس :كامريا تراقب التفاصيل
املفارقة أنني لم أستعمل املرتو يف تونس ،إنما يف سول ويف دبي،
وإن كانت مرتوهات سول يف معظمها تمر عرب األنفاق ،فهي عالم ً الحقا يف كامل من املفاجآت املبنجة للعني واألفكار التي استعملتها كتابي حكايات شهرزاد الكورية .عالم تحتي كامل من املحالت واملطاعم كشف نفسه مع ملسات حميمية ،ستجد محلاًّ يبيع أحدث األفالم أو
أدوات الصيد وبجانبه محل مالبس وبجانبهما محل للعناية بأظافر ووجوه الركاب وعاداتهم الصباحية التي تختلف عن املسائية ،من جالسا أو ً واقفا... يقرأ يف الصباح الجرائد ليس نفسه من يقرأ الكتب ً الصبايا الضاحكات صباحً ا يف مهرجان من األلوان والفساتني القصرية واألحذية العالية بطريقة الفتة
هن الاليئ يشاهدن الدراما الكورية مسا ًء متعبات...
وأنا هناك مثل كامريا تراقب التفاصيل وتحتويها. يف دبي ،املرتو يعرب من فوق الطرقات ،يعرب املدينة يف جولة شبه كاملة سياحيًّا ،لو استعملتها من
أول إىل آخر محطة ،ومن النادر أن تلتقي طلبة به مثلاً ،أو ربما كان الخط الذي استعملته ألشهر ال يمر ناحية الجامعات ،لست متأكدة ...ذاكريت
البصرية تحتشد بتفاصيل املمرضات والعامالت يف املطار ومشرفات الطريان .أما مرتو القاهرة فقد رأيته عام 2006م أو 2007م ،أذكر أنني انبهرت بالبنية التحتية للمرتو والعربات نفسها ،أذكر أنني للحظة شعرت كأنني يف فلم أمرييك ،حيث بدت
املحطة ضخمة ومليئة باالحتماالت والحكايات.
شاعرة وكاتبة تونسية
العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
عزة حسني :شبكة صي ٍد طائشة
نحو 10دقائق بالسيارة ،قبل أن تمتد يد ،طاملا انتظرتها ،لتغرسني
شرق قريتنا ،التي لم تعرف من اآلالت سوى ماكينة الطحني،
يف قلب العاصمة ،كان الطريق بيتي .ففي السابعة عشرة ،وأنا ً حاملة أكرب حقيبة مالبس عرفتها يف تلك السن، أودع عائلتي،
كان هذا الكبري ال يعني سوى الرحلة .األحالم املدونة عىل أغلفة
ً عالقا يف الطريق -القطار .يف املرفأ الجديد ،وظل قلبي عىل الدوام
كان هدير القطار ،عىل الشريط الحدودي املوازي للطريق لكل يشء،
آس ًرا .أيام كنا ال نلتفت لدرجة العربة العمالقة ،وال لفخامة املقاعد، الكراسات ،وجدران البيت األسمنتي ،كانت تعرف أن نقطة البداية، ال بد أن تتم بمباركته.
كل الوداعات ال تكتمل سوى بمحاذاة قطار ،واللقاءات أتخيلها ً ً سعيدة عىل مقعدين متجاورين يف قطار .أما األىس مصادفة دائمًا فتكفيه جملة« :كل القطارات تحملني إليك وال وصول» .كمغرتبة؛ احتفظت بهذا الوصف ،منذ التحقت باملدرسة التي تبعد من قريتنا
أدركت أنني لن أعود لبيتنا تمامًا ،لكن روحي لم تصمد كثريًا يف
القطار كان كل يشء جديدًا ،بال خرب ٍة سوى بعض حكايات مغرتبي
العائلة ،ومشاهد أفالم السينما :الفقر ،والربد ،واملزاح بدرجاته، والبضائع ،والبشر ،واملعممون ،واألفندية ،والطلبة ،وبائعات
الجنب ،والخبز ،وبائعو «كل يشءٍ بجنيه» ،كانوا رفاق طريق؛ لم ً ً واحدة من أرقام مدنية، أعد أتفاداهم أو أخشاهم .وعندما صرت وأصفار العاصمة ،كان املرتو بديل القطار ،شبيهه األقرب ،والرفاق
أمجد ريان :ضجيج حبيب إلى نفسي عالقتي بـ«املرتو» ،عالمة توحد بيني وبني أبناء جييل جميعً ا؛ ألن هذه العالمة
تتكرر بشكل أو بآخر لدى الجميع .تبدأ عالقتي باملرتو منذ الطفولة املبكرة يف سن
الخامسة وما بعدها ،فقد كنت أعيش مع والدي يف إحدى العمارات يف شارع املقريزي، ويخرتقه بامتداده خط مرتو «مصر الجديدة» اآليت من ميدان «روكيس» متجهً ا راق ،ال تتناسب مع املستوى إىل ميدان «رمسيس» ،وكانت الشقة فخمة ويف حي ٍ االجتماعي الحقيقي لوالدي ووالديت ،لكنها رمز لتطلعات الطبقة املتوسطة الصغرية
41
املرتبكة اقتصاديًّا دائمً ا .وكان والدي الطالب الصعيدي تلميذ «طه حسني» يف كلية
مدرسا اآلداب لشدة فرحه بعروسه أجّ ر لها هذه الشقة ،وكانت الشقق وقتئذ متاحة لكل من يمكنه أن يستأجر .كان والدي ً
للغة العربية يف مدرسة سراي القبة الثانوية للبنات ،وكان راتبه الشهري أقل من ثالثني جنيهً ا ،فأجَّ ر هذه الشقة بسبعة جنيهات ،وهو مبلغ كبري ًّ جدا بالقياس إىل ظروفه .وزوجته (أمي) هي قريبته من بعيد تعيش يف حي «السبتية» الشعبي ً الفقري .وكانت عالقتي بمرتو مصر الجديدة وطيدة ،فهو يجري ليل نهار أمام باب العمارة محدثا هذا الضجيج الحبيب إىل النفس ،ونوافذه فيها وجوه الركاب ،وعيناي تتأمالن هذه الرحالت التي ال تتوقف ،وكأنها رمز للحياة كلها بل للوجود كله
يف رهجه وحركته الذاتية املطردة .وكنا نحن دائمي ركوب املرتو ،وبخاصة عندما نذهب لزيارة جديت يف «السبتية» ،فكان املرتو هو الذي ينقلني بني مشهدين أو حالتني هما الحي األرستقراطي من جهة والحي الشعبي من جهة أخرى ،بكل ما فيهما معان ورموز ودالالت موحية .وال أنىس ً أيضا يوم «الخناقة» الكربى التي اشتعلت يف بيتنا بني والديّ ،فوضعت أمي من ٍ عىل جسدها أول فستان وجدته يف الدوالب ،ووضعت أقدامنا أنا وأخي «أحمد» يف حذائني وحملت أختي «آيات» الرضيعة
وجرت بنا غاضبة ،ويف املرتو اقرتب منا الكومساري طالبًا التذاكر ،ولكن أمي أخربته أنها ال تملك النقود ،وأفهمته أنها يف
ظرف خاص ،نظر الكومساري لحالتنا وابتعد عنا عىل الفور دون أن ينبس ببنت شفة ،ويبدو أن هيئتنا كانت تنبئ بما كنا فيه ،كما أن أخالق البشر وقتئذ كانت تفيض باملسامحة وبالتعاون.
وظلت عالقتي باملرتو قوية ،حتى بعد أن سكنت يف «وادي حوف» بحلوان ،وكانت تذكرة املرتو القديم بقرش ونصف،
ولكن الدرجة األوىل كانت بثالثة قروش ،وكان مجرد الدخول إىل املرتو ينبئ باملستوى االجتماعي للركاب ،وإن كانت املسألة قد تغريت اآلن يف املرتو الجديد ( )under groundالذي استوردناه من فرنسا ،وبمناسبة فرنسا فأنا قد ركبت املرتو الفرنيس يف باريس ،عندما ُدعيت أنا والشاعرة «رنا التونيس» لنمثل مصر يف مهرجان «لوديف» الشعري الدويل .أما الفرق بني املرتو
ِّ فحدث وال حرج ،أبسط فرق هو أنك بمجرد دخولك املرتو هناك ،تجد أن معظم الناس يمسكون املصري واملرتو الفرنيس
الكتب املفتوحة بني أياديهم ،وال تتوقف عيونهم عن القراءة ،مستفيدين من الزمن الذي سيقطعونه يف أثناء ركوب املرتو.
شاعر مصري
الملف تغريوا إىل حد ما ،وبخاصة عندما ُل ْذ ُت ككل البنات بعربة
السيدات؛ لتفادي كل املخاطر! يف البداية لم أرتح للمرتو؛
لكونه يسرق مني الطريق ،بمساراته املظلمة ،وجدرانه التي ال تشبه بأي حال املاء والنخيل واملدن التي تتآكل ،بمحاذاة القطارات التي جاءت بي إىل هنا ،لكنها العادة تطغى عىل كل
يشء يف العاصمة.
خربت يف املرتو إىل أي مدى تتشابه النساء ،كيف يمكن
أن تتحاور غريبتان بالنظر ،وكيف تتوحد الحياة واألمنيات
العابرة يف برهة من الزمن ،يف مقعد صغري ونافذة ،يمكن أن ترسم ً وحروفا مرتبكة .طاملا اعتقدت أن ركاب املرتو األنفاس عربها قلبًا واه ًنا
مختلفون عن غريهم يف أي وسيلة انتقال أخرى ،تلك الرحلة الخطية
يف الزمن واملسافة ،املكرورة بنفس تفاصيلها ،وبأقل احتماالت ً خاصة ،تحكم قراراتهم ،وانحيازاتهم كسب روادَها مالمحَ املفاجأةُ ،ت ِ
وأفكارهم عن املغامرة ،وعن مفارقة املسار ،وعن هيئة الطمأنينة. ً ً مدينة أخرى ،وزمن طريقا وال عربة ،إنه املرتو يف مدن الزحام ،ليس مواز ،طاملا استفقت لنفيس يف املحطة املنشودة ،دون أن أتذكر شي ًئا ٍ
عيل محطات الوصول ،وكثريًا عن تفاصيل الرحلة ،كثريًا ما تشابهت ّ
ما أضعتها عمدًا.
42
هاني الصلوي :صيغة كالسيكية زمنية لإلبداع يعد املرتو -بال شك -من أهم وسائل املواصالت الحديثة عند العرب وغريهم بال فرق أو مزية ،سوى أنه ليس منتش ًرا لدينا
كعرب بل يكاد ينحصر يف دول عربية ليست غنية البتة ،عدا دولة اإلمارات وأعني «دبي» تحديدًا ،وحداثة املرتو بني الدول
نسبية (دخل بعض املدن يف السنوات األخرية) ،ولعل مسألة الكلفة املادية إلنشاء شبكة مرتو العائق األسايس إلنشاء مثل هذه ُ دخل الفرد مرتفع فيستبدل الناس به السيارات ..وهو أمر معروف الشبكة يف الدول العربية الفقرية ،أما الدول الغنية حيث
وغري محتاج لتفصيل .األدباء العرب انبهروا كالغربيني بهذه الوسيلة الحديثة واملختلفة ،بوسيط نقل متداخل كهذا ،بانبهار قديم للكائن البشري بالقطـار ،أي أن االندهاش باملرتو وليد االندهاش التاريخي بالقطـار ،فليس املرتو سوى قطار حديث ،وكذلك
الرتاموي بصفته وسيلة وسطى أو متوسطة الزمنية والخصائص بني القطار الكالسييك وقطار األنفاق ،بل إن بعض الدول بنت شبكة املرتو عىل سكك الرتام (الرتاموي).
عىل املستوى األدبي َّ شكل القطار (الجد) صيغة كالسيكية زمنية لإلبداع قراءة وكتابة ،تتميز هذه الصيغة بالهدوء وراحة البال لاً واالسرتخاء والتأمل ،كتب كثري من األدباء أعما أدبية عىل القطارات يف أسفارهم الطويلة أو املتوسطة من دون اشرتاط تعلق
موضوعات أعمال هؤالء بالحياة عىل القطار ،بل عهدت شركات القطارات يف الغرب ملنظمي فعاليات ثقافية بتسيري الحياة اليومية عىل القطارات .قد توظف شركة قطار شاع ًرا ،يسافر يف وسائله بشكل يومي ويقرأ للمسافرين ،ويشبه ارتباط األديب العربي
العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
املرتو حيث أنا هناك اآلن ويف بيتي ً أيضا ،وحيث عشرات
الكربى لرتبط بني أطرافها ،تنتظر الصباح الباكر لتبدأ يف ابتالع هذه
للعواصم واملدن الكربى ،كأنه شبكة صيدٍ طافية أفلتتها يد الصياد،
يف مدريد وبرشلونة وإسطنبول وبوخارست وباريس والقاهرة
االحتماالت واملصادفات والوجوه املفقودة ،وسيلة مناسبة جدًّا تمتئل وتفرغ يوميًّا ،دون أن تعرف األسماك أو الشبكة أيهما يسحب ً مكانا للكتابة ،لكنه احتشاد اآلخر .وبالنسبة إيل نادرًا ما كان املرتو
يومي لها ،هو ربما كهف التأمل ،برهة الصمت وسط الضجيج اليومي ،ولوحة الحياة ،بتجلياتها الساكنة واملهرولة .يف بعض األحيان ،وربما يعود ذلك لطبيعة الشعر ،كتبت بعض القصائد يف املرتو ،لكنها كانت قصرية نسبيًّا ،وغائمة.
شاعرة مصرية
ً وقوفا داخل محمد أحمد بنيس :مهاجرون يتمايلون
مقصورات تهدر تحت األنفاق
لم يعد مرتو األنفاق مجرد وسيلة نقل فرضها تطور املجتمعات
املعاصرة وتزايد إقبال الناس عىل وسائل النقل العمومية ،يف ظل اتساع املدن والحواضر وتمددها املرعب يف عدد من بلدان العالم.
األمواج البشرية التي تتالحق حتى منتصف الليل.
ودبي وبوينوس آيرس وليما ،ذاتها القطارات تركض مجهدة داخل
أنفاق مظلمة تحت األرض ،وجوه شاردة تنتظر محطات بعينها ُ تفاصيل املكان بصمتها عىل تتشابه يف كل يشء إال يف أسمائها .ترتك املرتو ،فتصبح له هوية محلية ،أتذكر مثلاً صورة الكاتب األرجنتيني خوليو كورتاثار يف إحدى محطات بوينوس آيرس ،كان فيها نوع من التقدير لهذا الكاتب الكبري ،ربما يف موقع ال يتوقعه عابر مثيل .يف
دُبي ،يبدو املرتو جزءًا من تلك «التسوية» بني التقليد والحداثة التي
تضمرها مشاريع البنية التحتية الضخمة يف بلدان الخليج العربي. يف القاهرة ،تكاد ال تحس بأن املرتو يخفف قليلاً عن املدينة العمالقة
من ازدحام شوارعها بالسيارات والحافالت وماليني الناس .يف باريس
ومدريد وبرشلونة ،يجعلك املرتو تتعرث بوجوه وسحنات املهاجرين من مختلف األعراق والثقافات ،عرب وأفارقة وأوربيون وآسيويون ً وقوفا داخل مقصورات تهدر تحت األنفاق، وغريهم يتمايلون
أصبح املرتو أحد التجليات اليومية التي تعكس غربة األفراد داخل هذه املجتمعات التي جعلت الحداثة التقنية واالقتصادية ً أفقا لتطلعاتها،
من ناحية أخرى ،تعكس شبكات املرتو نو ًعا من الوعي العمراين
واألنفاق والساللم وشبابيك التذاكر اإللكرتونية صورة لسلطة املرتو يف
ملشكلة النقل املتفاقمة يف املدن الكربى ،بمعنى أنه يف كثري من
غربة متعددة األوجه أمام سلطة هذه الحداثة .تقدم املحطات مدن كربى تعيش تحت رحمة ازدحام يومي غري محتمل ،يغذيه سيل
السيارات والحافالت الذي ال يتوقف .مئات الرجال والنساء يتدفقون عىل األنفاق ،تسبقهم أنفاسهم املتقطعة ،وسحنات وجوههم، وصراعهم مع الدقائق التي تفصل بني وصول القطارات ،يشرتكون يف ذات املالمح التي ال روح فيها تقريبًا .محطات متناثرة عىل طول املدن
ينتظرون متى يفرغهم يف هذه املحطة أو تلك.
والحضري يف بلد معني .مثل هذه املشاريع تمثل استجابة يف أوانها األحيان ،ومع اتساع وتمدد هذه املدن ،يف البلدان النامية عىل وجه الخصوص ،يصبح إحداث شبكة للمرتو شبه مستحيل بعدما تتزايد مدن الصفيح والسكن العشوايئ وأحزمة الفقر ،هذا فضلاً عن الكلفة املالية الكبرية ملثل هذه املشروعات.
شاعر مغربي
والكاتب غريه يف ممارسة الحياة عىل القطارات عدا يف ِسمة ارتباط القطارات يف أوربا -يف حاالت ما ال يشرتط تواترها -بفعليات ثقافية وفنية ...كان القطار وما زال وسيلة سفر ،وهو ما منحه ما مر من سمات يف عالقته باألدب أو الكتابة ،أما مرتو األنفاق (الحفيد الشرعي) فهو وسيلة نقل داخيل داخل
املدن مما يجعل ممارسة االنتقال عربه سواء تمت بشكل يومي دوري أو غري دوري ،متسمة بالسرعة
ومحاولة اإلنجاز واللحاق باملهمات أو أماكن الراحة. ّ إنه سياق نقل متوتر وآين ،وإذا افرتضنا أن هناك من يستغل لحظات امتطائه من األدباء ً خفيفا وقليلاً يتناسب مع الوقت وطريقة للقراءة والكتابة (وهو ما يحدث كثريًا) سيكون املقروء
استخدام هذه الوسيلة ووقتها ،سيكتب كاتب ما عىل سبيل املثال قصة قصرية جدًّا بدلاً من رواية أو قصة ،ومضات صغرية وليست قصائد ..من جانب آخر يوفر مرتو األنفاق أوق ًـاتا منزلية ثرية ملمارسة اإلبداع بعيدًا من االزدحام
وضياع الوقت يف الطرقات ،مما يعد ازدوجـًا فيما تتيحه وسيلة املرتو اإلشكالية .يف حالة كان املرتو (قطار أنفاق) ال بد أنه يمنح الذهن
فرصة أخرى للتأمل والتساؤل أثناء سري القطار يف األنفاق املظلمة ،وهي مجاالت ذهنية وخيالية استغلها التفكري الفني اإلنساين منذ الوهلة البكر ،نجد ذلك يف أفالم السينما تحديدًا ،والربامج التصويرية ،والروايات والشعر ...يشبه االعتماد اليومي أو املنقطع عىل طقسا روحيًّا قديمًا ...هل نقول عنه حجـًّـا آليًّا ميكانيكيًّا؟ ربمــا. وسيلة املرتو ً
شاعر يمني
43
الملف
المترو.. تحوالت ثقافية في العمران والمجتمع 44
العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
مشاري بن عبدالله النعيم
مهندس وأكاديمي سعودي
خالل القرن الماضي كان لوسائل النقل تأثير عميق في أنماط الحياة لسكان المدن ،وربما يكون هذا التأثير قبل ذلك بكثير .وأنا هنا أقصد وسائل النقل الحديثة التي جعلت من فكرة المدينة ّ ولعلي أتوقف عند المدينة اإلنجليزية في نهاية القرن التاسع عشر (1898م) «المتروبولية» ممكنة، عندما بدأ مفهوم «الضواحي» يتشكل ،حيث ظهرت األحياء السكنية المنفصلة عن جسد المدينة التاريخي وتبلور مفهوم «المدينة الحديقة» Garden Cityالذي قاده المصمم الحضري اإلنجليزي «هوارد» ،Sir Ebenezer Howardفقد كانت تلك الفترة مفصلاً مهمًّ ا في عمران المدن ومجتمعها المعاصر .لقد كان الهدف هو خلق بيئات عمرانية هادئة وبعيدة من العمران التاريخي للمدينة المكتظ الذي ال يوفر الحياة المرتبطة بالطبيعة التي تتناسب مع الطبقة االجتماعية الثرية ،لكن تحقيق مثل هذا الحلم كان يتطلب نقلة تقنية لم تكن متاحة بشكل اقتصادي على مستوى المدينة رغم مرور عدة عقود على تطور القطار البخاري .لذلك لم يكن لهوارد أن يفكر في «المدن الحدائق» المنزوية وسط الطبيعة ً خصوصا القطار الكهربائي (الترام) الذي سمح باالنتقال والمنفصلة عن العمران لوال تطور وسائل النقل السريع والمتعدد للسكان من أماكن العمل إلى أماكن السكن الجديدة وبتكاليف اقتصادية مقبولة.
45
منظور لمحطة قصر الحكم بالرياض
الملف
منظور إلحدى محطات المترو بالرياض
46
إن ظهور الضواحي سمح للمدن بالتوسع األفقي وأعطى األرايض الخالء قيمة كربى ،فمثلاً يف مطلع القرن
واالجتماعي شبه أكيدة ،وقد وضع علماء دراسات البيئة العمرانية
ببناء حي مصر الجديدة «الهليوبولس» يف صحراء العباسية
للبيئة املادية يف سلوك البشر لكن هذه القاعدة واجهت العديد
العشرين قام البلجييك «البارون إمبان» Baron Empain بعيدً ا من القاهرة التاريخية ،وربط هذا الحي بوسط املدينة
العالقة بني التحول العمراين والتحول االقتصادي
السلوكية عدة احتماالت لهذه العالقة بدأت من التأثري الحتمي من االنتقادات؛ لذلك تط َّو َر توجهان :األول احتمالية تأثري البيئة
التقليدي ،بدأت الفكرة عام 1904م وانتهى بناء املشروع عام
العمرانية يف السلوك ،والثاين إمكانية حدوث هذا التأثري .التوجه
الوقت استغرب طلب «إمبان» شراء أرض وسط الصحراء،
توجه السلوك إيجابًا ،فهل بناء مشاريع عمالقة مثل املرتو يمكن
1908م ،ويحىك أن الخديو عباس حلمي حاكم مصر يف ذلك
ً متخصصا يف القطارات ولم يكن يعلم أن البارون كان الكهربائية ،وقد فوجئ بما حدث يف املشروع عندما تم اكتماله حيث أسس إمبان شركة باسم «الشركة املصرية للقطارات الكهربائية» ،وتحولت األرض التي اشرتاها بمبلغ
زهيد إىل أرض باهظة الثمن.
هذان الحدثان ،وبالتأكيد هناك العديد من األمثلة
التي زامنتهما ،لم يكونا فقط حدثني غيرَّ ا مفهوم املدن
وشكلها يف مطلع القرن بل غيرَّ ا كذلك نمط الحياة يف تلك
املدن وأعطيا سكانها خيارات متعددة خارج الفكر التقليدي للعمران يف ذلك الوقت .لقد ساهم هذا يف إحداث نقلة نوعية يف التحضر العمراين وظهور أنماط الحياة الحديثة
التي لم تكن معروفة ومنتشرة يف العديد من مناطق العالم يف ذلك الوقت ،ولكن بات واضحً ا مع اكتشاف
«الرتام» واستخدامه ألغراض حضرية داخل املدن وبشكل قاطع انتهاء عصر «املدينة التقليدية» وبداية لعصر حضري
مختلف يف مكوناته املادية وطبيعته االجتماعية والثقافية.
األخري يؤكد أن هناك خيارات عمرانية أفضل من األخرى يمكن أن أن يكون خيارًا سلوكيًّا وثقافيًّا إيجابيًّا؟ الحقيقة أن التعامل مع هذه التوجهات السلوكية يف البيئة العمرانية لم يتطور إال يف بداية النصف الثاين من القرن العشرين وبالتحديد بعد عمليات اإلعمار
الواسعة يف املدن األوربية بعد الحرب العاملية الثانية ،فقبل ذلك ً خصوصا املدن األمريكية عندما قام توسعت املدن بشكل ملحوظ
«فورد» Fordبتطوير السيارات الشخصية التي أدّت إىل تشتت ً توحشا وأقل حساسية املدينة بكل االتجاهات ،وجعلها أكرث
للحاجات االجتماعية يف سبيل تحقيق النمو االقتصادي. مرتو الرياض والقلق الـ«جندري»
اإلشكالية يف الوقت الراهن ترتكز حول التعقيدات االجتماعية
ً خصوصا عىل املستوى «الجندري»، التي تعيشها املدن املعاصرة فالقلق الذي صار يحدثه التحول السريع للمدن نتيجة تعقد
شبكة النقل وتزايد الحاجة إلرضاء حاجات أفراد املجتمع أثارت الكثري من املتخصصني ودفعتهم لبحث تأثري هذه الوسائل يف حياة الناس وسلوكم ،ففي عام 1999م ،أُجريت دراسة يف فيينا
العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
حول كيفية استخدام الناس يف املدينة لوسائل النقل ،املثري أنه
تم تعبئة االستبانة من قبل الرجال يف خمس دقائق :الذهاب إىل العمل يف الصباح ،والعودة للمنزل ليلاً .أما النساء فلم يستطعن التوقف عن الكتابة لتعدد احتياجاتهن لوسائل النقل التي تتقاطع مع األطفال واحتياجات املنزل .لقد أثبتت هذه الدراسة أن عالقة
الرجل باملدينة تختلف عن عالقة املرأة ،وبالتايل فإن أسلوب
استخدام وسائل النقل يختلف عند كل منهما ،كذلك تأثريها يف أنماط حياة كل منهما .ويف دراسة أخرى عن مدينة تورونتو التي استحدثت «نظام طلب التوقف» يف الباصات حتى تتمكن النساء من النزول من الحافالت بالقرب من بيوتهن يف وقت متأخر من
الليل .ويف «سريناغار» يف كشمري ،وكذلك مدينة مكسيكو خلقت عدة أماكن للحافالت وعربات املرتو للنساء فقط.
الرياض بهذا المشروع ستصبح مدينة كونية وهي تتخطى عتبة الـ 8ماليين نسمة ،كما أنها ستقود المدن السعودية لتب ّني ثقافة اجتماعية جديدة قد تختلف كثيرا عن الصورة النمطية المرسومة عن ً المجتمع السعودي الناحية االجتماعية .يرى الدكتور ملكاوي أنه من املهم الح ّد من
توسع املدينة أفقيًّا خارج النقاط الرئيسة للمرتو ،ويجب أن يكون
تركيز السكان والنشاطات االجتماعية واالقتصادية عىل نقط املرتو حتى يحقق النجاح االقتصادي ويكون فعالاً .بالنسبة يل
(http://www.fastcoexist.com/3066264/how-to-
كان اهتمامي هو تأثري هذا الرتكيز السكاين والخدمايت يف الثقافة
)very-differently من الواضح هنا أن لوسائل النقل تأثريًا متباي ًنا يف أفراد
ستقوم عىل مفاصل املرتو الحضرية وحولها؟ وهل نحن أمام
build-the-perfect-city/women-and-men-use-cities-
املجتمع ،وأن نجاح مشاريع النقل العامة يعتمد بشكل أسايس عىل مالءمتها ظروف املجتمع واالحتياجات الخاصة ألفراده،
ً خصوصا النساء ،وهو ما يقودنا إىل «مرتو الرياض» وتأثريه العميق يف نمط الحياة يف املدينة ،وكيف سيعيد صياغة ثقافة
األسرة السعودية ومن يقيم يف الرياض .فهل املرتو بصورته الحالية ً وخصوصا املرأة؟ وهل تم ُصمّم للتفاعل مع احتياجات األسرة ً مسبقا؟ التفكري يف هذه االحتياجات
اإلجابة عن هذه التساؤالت قد تجعلني أضع بعض
االستشرافات املستقبلية حول التأثري الثقايف املحتمل لهذا املشروع
الحضري .يف حديث خاص مع املدير اإلقليمي للبنك الدويل يف الرياض الدكتور فؤاد ملكاوي قال يل :إنه من الضروري إعادة
التفكري يف مرتو الرياض من الناحية االقتصادية ،وبالتايل من
املجتمعية ،وكيف سيؤدي ذلك إىل ظهور أنماط حياة جديدة خارطة ذهنية جديدة ملدينة الرياض ستنمو وتتشكل يف األذهان.
بالطبع تم األخذ يف االعتبار منذ البداية وجود عربات خاصة
بالنساء وأخرى للرجال ،ورغم أنني أشكك يف جدوى هذه الخطوة
ً خصوصا يف مجتمع حديث عهد باملرتو ،فإنه من الناحية العملية، يبدو أن هذا األمر يع ّد من مقتضيات الثقافة السائدة يف اململكة، وبالتايل يجب أن تكون جزءً ا من املشروع ،وأحد مقتضيات مربراته
ثقافيًّا .لقد تحدثت إىل املهندس إبراهيم السلطان (أمني منطقة
الرياض ورئيس مركز املشاريع بالهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض املسؤولة عن مشروع املرتو) حول رأيي يف تخصيص عربات للنساء
يف مرتو الرياض ،وهل سيشجع هذا أفراد األسرة السعودية عىل استخدام املرتو يف حركتهم اليومية داخل املدينة ،وأ َّكد يل أنه ال يمكن الجزم بهذا األمر إال بعد تشغيل املرتو فعلاً ،لكن الدراسات
التي قامت بها الهيئة أكدت عىل أهمية هذا الفصل.
منظور لمحطة العليا بالرياض
47
الملف هل ستستخدم املرأة السعودية املرتو؟
لذلك فإن السؤال املهم الذي يثريه كثري من املهتمني
يظل قائمًا :هل ستستخدم املرأة السعودية املرتو؟ ولعل هذا السؤال نفسه هو الذي ّ أخر كثريًا من مشاريع النقل العام
بعنوان «جندرية املدينة» أ ّكدت فيه أن الرياض بشكل خاص واملدن السعودية بشكل عام هي بيئات «ذكورية» تهمّ ش املرأة
وتستبعدها من الفضاء العام«( .املرأة واملدينة :هل هناك هوية
جندرية للعمارة» ،مجلة البناء ،السنة الخامسة والعشرون،
يف مدن اململكة ،فهناك عالمة استفهام كبرية حول جدوى
العدد ،178جمادى األوىل 1426هـ /يوليو 2005م ) وخالل الفرتة
العمرانية وازدحام طرقات املدينة رضخت الرياض لألمر ً ً عمالقا للنقل العام ،ستصل تكاليفه مشروعا الواقع ،وتبنت
الرياض ،جسرت الهوة بني ذكورية املدينة وأنثويتها ،لكنها تحوّالت ليست بالقدر الذي يسمح للمرأة بأن تضاهي الرجل يف
رغم أن كثريًا من الدراسات تؤكد أن مثل هذه املشاريع ال
هذا هو ما ذكرته للزميل املهندس محمد املحمود وهو طالب
مثل هذه املشاريع ،لكن يف نهاية األمر ومع تزايد الضغوط
نحو 80مليار ريال سعودي (قرابة 21مليار دوالر أمرييك)،
تحقق أرباحً ا مباشرة ،ويف حالة فاعلية املشروع ،وإقبال السكان عليه يمكن ألاّ يكون مصدر إنفاق ،لكن املكاسب غري املنظورة التي سيحققها املشروع ال يمكن إحصاؤها سواء عىل
مستوى النشاط االقتصادي أو تقليل التوتر املروري ،وبالتايل االحتقان االجتماعي داخل مدينة الرياض.
ورغم أن التساؤل عن مدى وجود الرغبة لدى املرأة
السعودية يف استخدام املرتو سيظل قائمً ا ،عىل األقل حتى
48
عىل الحركة بمفردها لتصبح قادرة عىل اكتشاف املدينة بشكل مختلف عن السابق .لقد كتبت قبل أكرث من 10سنوات مقالاً
مرور فرتة من تشغيل املرتو ،إال أن التأثري الثقايف يف أفراد املجتمع السعودي الذي سيرتكه املرتو متوقعً ا ،عىل األقل
من حيث إحداث التحول يف البنية االقتصادية لألسرة، فمن املتوقع أن يكون هناك استغناء عن عدد ال يستهان
به من السائقني الخاصني ،وستمتلك املرأة جرأة أكرب
من كتابة املقال حتى اليوم حدثت تحوالت كبرية داخل مدينة
الفضاء العام.
دكتوراه موضوعه هو الرصيف والقابلية عىل امليش يف مدينة الرياض،
وخصص دراسته لشارع التحلية (األمري محمد بن عبدالعزيز) .لقد كانت مالحظتي له أنه منذ أن بدأت فكرة تطوير ممرات املشاة يف
مدينة الرياض عام 2006م حتى اليوم (وكان حديثنا يف آخر أسبوع من ً عميقا يف ثقافة األسرة شهر ديسمرب 2016م) تركت هذه املمرات أث ًرا
من المتوقع أنه مع زيادة حركة المرأة بسبب المترو ستزيد فرصها الوظيفية، وسيقلل هذا من ظاهرة بطالة المرأة السعودية التي تحولت في اآلونة األخيرة إلى كابوس
البطالة «األنثوية» وقيود الحركة بالطبع املرتو ليس فقط للمرأة ،لكنها عامل أسايس يف إحداث التحول املطلوب؛ ألن العائق األكرب الذي يواجه َّ املعطلة ،وهذه املسألة يجب أن الحركة والتنقل داخل مدينة الرياض ويزيد الضغط املروري فيها هو «حركة املرأة» ٌ بعض يف استخدام املرأة للمرتو ،فإنه مع الوقت سيحدث تغيري عميق يف ثقافة تؤخذ يف االعتبار؛ ألنه حتى لو شكك األسرة السعودية يف املدينة ،سيجعل من تحمل األدوار واملسؤوليات االقتصادية داخل األسرة متكافئة ،وهذا حتمً ا
سيؤدي إىل أن يصبح املرتو وسيلة النقل األكرث استخدامً ا من املرأة وأطفالها ومعها باقي أفراد األسرة ،وسيكون هذا متزام ًنا مع تزايد فرص عمل املرأة يف القطاع الخاص؛ ألنه من املتوقع أنه مع زيادة حركة املرأة ،ستزيد فرصها ِّ وسيقلل هذا من ظاهرة بطالة املرأة السعودية التي تحولت يف اآلونة األخرية إىل كابوس .هذا ليس رأيًا الوظيفية، متفائلاً ،بل إنه توقع طبيعي؛ ألن البطالة «األنثوية» ناتجة عن القيود املفروضة عىل حركة املرأة وتفاعلها املباشر مع املجتمع الخارجي ،وبالتايل صعوبة مالءمة الكثري من الوظائف لها. ً ّ يمتد عىل مساحة شاسعة يف مدينة الرياض ،نقلة يف مفهوم عىل مستوى الذائقة املعمارية سيُحدِ ث املرتو ،الذي
العمارة لدى سكان املدينة ،لعل هذه النظرة نابعة من قناعتي التامة بأن العمارة تحتاج إىل أن نعيشها ونجربها حتى نشعر بقيمتها ،وألن املرتو مشروع «اجتماعي» كما أنه مشروع اقتصادي ،وكون محطات املرتو قام بتصميمها كبار
املعماريني (مثل زها حديد يف محطة مركز امللك عبدالله املايل) فإن تفاعل سكان الرياض بشكل يومي مع هذه العمارة
العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
السعودية ،وجعلت املرأة أكرث ثقة يف تعاملها مع الفضاء العام،
قد تتحول إىل مشروع اقتصادي أو عمل فني أو روايئ ،يف تنوع
للثقافة الذكورية الحضرية التي تميز املدن السعودية .يف اعتقادي
ستكون املرأة جزءً ا من هذه املصادفات والحكايات االجتماعية التي
رغم أن هذه الفضاءات غري عادلة حتى اآلن ،وتنحاز بشكل واضح أن املرتو سيرتك مثل هذا األثر اإليجابي يف الثقافة الحضرية للمرأة
السعودية ،وسيغري من عاداتها االجتماعية ،وسيدفعها بشكل أكرب لتجربة املدينة دون رهبة أو تردد. كسر العزلة االجتماعية
غري محدود وال يمكن حصره أو توقعه لهذه الحكايات .وبالتأكيد سيتيحها استخدام املرتو اليومي.
من املتوقع كذلك أن يحدث تحول عىل مستوى األحياء
السكنية ،وأقصد هنا أنه سيكون هناك حركة للمشاة من املساكن
حتى محطات املرتو ،وهذا يقتيض تغيريًا مهمًّا عىل مستوى التفاصيل املعمارية لألحياء ،ال أعلم حقيقة إن كانت أُخِ ذت يف
لعل املسألة املهمة هي حالة املصادفة التي عادة ما تتشكل يف
االعتبار .األمر املهم هو أن هذه الحركة ستشمل النساء واألطفال؛
بني أفراد مجتمع املدينة .ال أحد ينكر أن املصادفة يف الوقت الراهن
للنساء» ولألسرة ككل .الدراسات تؤكد أن املرأة عادة ال تتحرك
املدن املتوازنة اجتماعيًّا ،وأقصد هنا هو حدوث اللقاءات املتوقعة غري فاعلة ،ومدينة الرياض تحث عىل العزلة أكرث من االنفتاح
ما يجعل هناك ضرورة ملحّ ة ألن تتطور بيئة عمرانية «صديقة
وحدها يف البيئة العمرانية التي قد يكون فيها «عزلة» وغالبًا ما
عىل اآلخر ،والفضاءات العامة فيها غري حيوية ،لكن املرتو ً ومعيشا وال مناص منه .ربما سيجعل من املصادفة أم ًرا يوميًّا
حتى أصدقائها ،لذلك تطوير ممرات مشاة مفتوحة ومظللة
يف فضاءاتها سكانها ،ويبنون الحكاية االجتماعية العفوية التي
املجتمع عىل استخدام املرتو.
يكون «كسر العزلة» االجتماعية أول املكاسب غري املتوقعة لهذا املشروع ،ولكوين مؤم ًنا بأن املدن املبدعة والخالقة هي التي يتقاطع
يصحبها أحد ما؛ إما من يعمل معها يف املنزل ،أو أطفالها ،أو
(لحماية األطفال) يمكن مراقبتها ،مع مالءمتها حركة ذوي االحتياجات الخاصة ستكون عاملاً مهمًّا سيشجع املرأة وكل أفراد
49
منظور لمحطة مدينة الملك عبدالله المالية بالرياض
ال بد أن يحدث داخلهم بعض األسئلة .ورغم أن الرياض تحتوي عىل العديد من املباين املهمة واملميزة فإن هذه املباين غالبًا
ما تكون معزولة عن الناس وحياتهم اليومية ،وبالتايل فإن تأثريها لن يكون بقدر تأثري «عمارة املرتو» املتوقعة.
نحن نتحدث عن مشروع له تأثري اقتصادي مباشر وعمراين واضح للعيان ،ليس فقط عىل مستوى الشكل ،بل ً جديدا يُعيد ترابط األحياء السكنية والتجمعات التجارية عىل مستوى استخدام الفضاء العمراين ،فهو سيُحدِ ث تنظيمً ا ً عميقا سيشكل الصورة املتخيلة لرياض املستقبل ،ليس فقط واإلدارية مع العصب الحريك للمرتو ،كما أن له تأثريًا بصريًّا
عىل مستوى املحطات العمالقة واملتوسطة والصغرية للركاب ،بل كذلك لجسور القطارات التي بدأت منذ اآلن ترسم صورة الرياض ،وتعيد تعريف أماكنها من جديد .الرياض بهذا املشروع ستصبح مدينة كونية وهي تتخطى عتبة الـ 8ماليني نسمة ،كما أنها ستقود املدن السعودية لتب ّني ثقافة اجتماعية جديدة قد تختلف كثريًا عن الصورة النمطية املرسومة عن املجتمع السعودي.
الملف
انتبهي!
ال تركبي في عربة العمال سعوديات يسردن حكايات مع المترو ويكتبن هواجسهن عنه 50
العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
هدى الدغفق
الرياض
ال يحضر مترو الرياض في النقاشات العامة ،سوى بصفته فضاء يمكن للمرأة أن تقتحمه ،المرأة بكل ما تعنيه من أسئلة وقضايا دائمً ا ما تثير الجدل .ال يعني مترو الرياض ،في أحد وجوهه ،سوى ثنائية المرأة والسائق، المرأة والعمل؛ إذ ينتظر أن يلج المجتمع السعودي إلى فضاء يشتبك بأمور عديدة ،اجتماعية واقتصادية وثقافية ،منها ما يخص العالقة مع اآلخر ،سواء كان هذا اآلخر المرأة ،أم األجنبي ،أم اآلخر «الجواني» الذي يعيش في داخلنا. من ناحية ،لكل منا تصوراته التي يحملها في ذاكرته عن المترو ً تبعا لما تصوره لنا األفالمالغربية وتجارب السفر بشكل خاص ،فحينما يخوض أحدنا تجربته األولى مع المترو يشعر كأنخارطة العالم وجغرافيته تداخلتا في رأسه ،وكأنه يعيد تنظيمها من خالل المترو .فكيف لجامد أن يخلق كل هذه الفوضى في الذهن. كثير من األسئلة تحوم حول المترو ،منها :كيف سيتحول هذا الشكل من شيئيته وجموده اآلن ،إلى مؤثر في الحياة االجتماعية والثقافية في الرياض؟ هل نأمل في أن تتقلص تأثيرات الطابع األسمنتي في نفوسنا وأذواقنا وعالقاتنا وتواصلنا مع من نعرف ومن ال نعرف؟ كيف سيؤثر المترو في تقييم الوقت لدى مستخدميه؟ ما العادات التي ستتولد مع المترو؟ ما الذي سيختفي منا؟ كيف ستكون عالقاتنا وأصواتنا وطريقة كالمنا ونظراتنا ونحن ندخل المحطات ونقطع التذاكر ونختار مقاعدنا؟ هل سيصبح هناك اندماج اجتماعي أكبر؟ أو على األقل إدراك مجتمعي للطبقات المختلفة داخله؟ هنا أكاديميات وكاتبات وأديبات يسردن لـ«الفيصل» حكاياتهن مع المترو في خارج السعودية ،ويقترحن جملة من النصائح استعدا ًدا لالندماج في لحظة ستغير ما قبلها.
51
الملف
اقتصادية أم اجتماعية من خالل قنوات اإلعالم املختلفة هي
حنان بنت جابر الحاريث :ثقافة املرتو
قبل اإلجابة عما نتوقع ونأمل يف أن يتحقق يف
مشروع قطار الرياض ،أو ّد اإلفصاح عن تجربة شخصية
حول استخدام املرتو وثقافته الحضارية يف اليابان،
الشعب الذي يتالقى مع العادات العربية اإلسالمية يف كثري من العادات والتقاليد ،أكرث من أي شعب آخر . ففي اليابان يعد القطار رمز حضارة ،ومنهج ثقافة،
وقاعدة اقتصادية ذات أهمية بالغة يف الحياة اليومية للمواطن واملقيم يف اليابان؛ حيث تعد وسيلة املواصالت
األوىل يف اليابان .والدليل عىل أهمية املرتو أن هناك نحو تسعة ماليني نسمة تستخدم املرتو يوميًّا يف طوكيو
وحدها ،وهذا ال يضم رحالت القطارات السريعة التي
تربط املدن األخرى يف اليابان .وبشكل عام ،فاملرتو هو وسيلة املواصالت للجميع إىل املدارس ،والجامعات،
واألسواق ،واألماكن العامة ،والدوائر الحكومية،
ويقتصر استخدام البدائل عىل فئة قليلة جدًّ ا ،أو من
52
يضطر إىل ذلك من سكان القرى التي ال تربطها شبكات
املرتو .وال أنىس هنا أن أذكر أن هناك عربات مخصصة للنساء ومجهزة بأحدث كامريات املتابعة ،باإلضافة
إىل أجهزة مراقبة للمعوَّقني ملعرفة محطة الوصول
ما سيحدد معالم نجاح مرتو الرياض ومدى اإلقبال عليه، ً أخذا يف الحسبان التوعية عن وسائل السالمة واألمن ،وكذلك الخصوصية التي تعد من أهم ركائز املرتو.
أكاديمية سعودية
منى املاليك :الحمل والذئب املفرتس
مرتو الرياض حدث مهم يف حياتنا ألنه تجربة جديدة
يف التنقل ،وكل تجربة جديدة تحمل يف داخلها الدهشة واالنبهار وإن كان أغلبنا قد مارس يف سفرياته املتعددة تجربة ركوب املرتو ،ولكن ما نحن أمامه اآلن هو «مرتو الرياض» ً مختلفا؛ ألن البيئة ولذلك يستوجب الحدث تفاعلاً اجتماعيًّا
ستحاول صبغه بصبغة اجتماعية ،ولكن مع التحوالت
املجتمعية والثقافية التي نعيشها أتصور أن مرتو الرياض ً محركا وفاعلاً يف إحداث تغيري ثقايف يف مفهوم التنقل سيكون والحركة والتواصل بني البشر ،فالكل أمام بعض ،وستختفي
إىل حد كبري تلك العزلة التي تخلقها مقاعد السيارة! وبما أن حركة املرأة مقيدة وال تستطيع قيادة السيارة، فسيكون املرتو أكرث أم ًنا وأوفر اقتصاديًّا ،كما أتوقع أن املرأة
هي من ستدفع تذكرة املرتو وبالتايل ستعطيه زخمً ا اقتصاديًّا
كما يحدث اآلن مع شركتي «كريم» و«أوبر».
وجود الرجل واملرأة يف ذات املكان ملدة زمنية مختلفة كل
يوم سيكسر حاجز الوهم بفكرة الحمل والذئب املفرتس ،تلك
ً شخصا يف انتظاره ملساعدته . للمعوَّق حتى يجد ً وانطالقا من الثقافة اإلسالمية التي هي أساس ملجتمعنا؛ فأتوقع أن يربز مرتو الرياض أولاً وقبل كل
املشرتكة بني الرجال والنساء أو يف الدراسة يف الخارج أثبت أن
التوظيف األمثل لقضاء حاجاتنا اليومية ،وذلك عىل
وأزعم أن مرتو الرياض بجانب االبتعاث ،وفتح مجاالت
يشء حسن االستخدام ،وتوظيف هذه الخدمة الراقية غرار ما يقوم به شعب ثالث أكرب اقتصاد يف العالم
(اليابانيون) .وتجدر اإلشارة إىل ضرورة تكثيف اإلعالم
لنشر ثقافة استخدام املرتو واالستفادة منه كوسيلة سهلة ،واقتصادية ،وآمنة ،وحضارية ،مع الرتكيز عىل
صور من واقع مرتو اليابان .
الثنائية املريعة التي روج لها خطاب وعظي بارد ال يرى يف الحياة
غري جسد املرأة وفتنته! والواقع اليوم سواءٌ يف مجاالت العمل هذا الرأي الجائر يف عالقة املرأة بالرجل خطأ يجب تصحيحه،
جديدة لعمل املرأة ،والخطاب اإلعالمي والديني املتوازن الواعي سيحقق تحولاً وتغريًا اجتماعيًّا ،يؤنسن العالقة بني املرأة والرجل مرة أخرى بعد اختطافها زمن الغفوة.
كاتبة سعودية
أمل بنت الخيَّاط التميمي :مشهد املوت يالحقني يف
وفيِ ضوء انتقاء محطات التوقف ،يمكن القول: بأن مرتو الرياض سيكون له أثر إيجابي إذا ما تم اإلعداد ً سلفا .وهنا سيكون أمام الستخدامه يف ضوء ما ذكر
سبقتني أختي إىل دبي بأسبوع وأوصتني بركوب املرتو
مميزة ومتناغمة مع رؤية ٢٠٣٠م ،وقد تسهم وسائل
حتى تستمتعي بالجلوس ،ال تركبي يف عربة العمال انتبهي.
املواطن السعودي واملقيم املجال لإلفصاح عن ثقافة
التواصل االجتماعي يف نشر الثقافة املنشودة ،وتساعد عىل تطبيعها عىل أرض الواقع .وأؤكد أن اإلعداد لبناء
الثقافة املنشودة ،وتفعيل االستفادة سواء أكانت
كل مرتو
لنزهة أوالدي ،وقالت :احجزي البطاقة (الذهبية)VIP :
وصفت أختي رحلتها املاتعة إىل «دبي مول» وكيف نقلها املرتو
إىل مدينة األلعاب كيدزانيا بدون عناء الزحام ،ووصفت جمال املنظر املشاهد من خلف الزجاج .شعور سابق لتحقيق
العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
53 متعة التنزه واملشاهدة يف رحلة املرتو ،ولكن ،أوّل ما أفسد
أتكلم وأجد من يرد عيل ،ولكنني أتعامل مع آلة بدون
عال ،وقفنا ننتظر الحافلة يف محطة الحافالت ،حتى تنقلنا ٍ
بكل قواها ،وال يستجيب لعواطفها ،البشر الذين كانوا فيه
عيل املتعة ،طول املسافة من الفندق إىل املحطة وأنا بكعب إىل محطة املرتو؛ وألننا لم نتعود عىل االنتظار ،استأجرنا
سيارة أجرة حتى تنقلنا إىل املحطة ،قطعنا التذاكر ،وخضنا
التجربة بفرح ،نقدم الخطوات نحو املركبة ،دخلنا املركبة وإذا هي مركبة عادية ولم ن َر الرفاهية التي وُصفت لنا ،همست يف
أذن زوجي هذه درجة VIP؟ قال ارجعي يبدو أن تذاكرنا يف
مركبة أخرى ،خرجت ابنتي مناير ،وأنا يف املنتصف وحال بيني وبينها الباب ،وأقفل بسرعة كالربق ،وبإحكام موصد وكأنه حاجز املوت الذي يخطف وال يعود بما خطف.
عقل يدرك صراخ أم تبيك تقفز تدق عىل الحديد والزجاج جمادات مثله ،أصبحت أصرخ بأكرث من لغة يك يفهمني من
حويل ،ابنتي دهسها فرمها قتلها خطفها ،قف قف ،قف، stopال أحد يتجاوب مع قفزي وبكايئ وركاليت عىل الحديد.
فجأة ثالثة شبان عرب يتحدثون بلهجة مغربية ،أمسكوا
بيدي محاولني تهدئتي ،تجاوبت مع اإلحساس البشري ،وهم تفاعلوا مع صراخ األم الفاقدة لكبدها ،همس أحدهم قائلاً :
ال تخايف بإذن الله إنها بخري سيقف يف املحطة األخرى ُ ونبلغ
عنها ،ثم نعود لها .سمعت األمان يف همس الشاب املغربي،
خطف ابنتي وأنا تراجعت للخلف فلم أعلم ما مصريها،
وجمادات املرتو لم يستجيبوا لصراخي ،أيقنت أن من يركب
ماما ماما ،ال أعلم ما مصري ابنتي هل قطع يديها؟ هل فرمها؟
الثالثة ،دهشت من نفيس ،لم أتوقع أنني بهذه اللياقة أركض
كنت ال أرى سوى مشهد يديها ممتدة نحوي ،وفم يصرخ هل داس عليها؟ كل مشاهد املوت رأيتها ،خطف املوت ابنتي،
وخطفني املرتو إىل عالم مجهول ،وهنا بدأت دهشة املغامرة
الخطرية التي ارتكبناها ،نصعد مركبة ال نعلم طريقة التعامل معها ،وتسبب هذا الجهل يل بعقدة من هذه املركبة الخطرية.
ثوان ،ويقص ما كنت أعلم أنه بدون سائق ،ويقفل الباب يف ٍ
الحديد ،لم أتعود التعامل مع الجمادات الباردة ،تعودت
املرتو جماد ال يتجاوب مع البشر ،نزلت املحطة بصحبة الشباب املمرات ،أجري عىل الساللم أقفز الحواجز ،ربما كنت أسرع
من املرتو نفسه.
وجدت نفيس مع الشباب أمام بشر من موظفي املحطة ً بالغا عن فقدان طفلة يف محطة يتجاوبون معي ،سجلنا
فندق البستان ،كنت أتوقع أنهم سيخربونني بأنه دهسها،
وفجأة تأيت البشارة بأنها بخري .حمدت الله وبكيت من الفرح.
الملف
عدت مع الشباب حيث ابنتي هناك ،ال أعلم حينها
عىل ابنتي املاء حتى تغادرها الفجعة ،وبعدها التفت إىل
أشكر الشباب؟ وجدت نفيس أسجد لله شاكرة ،وأنرث
تفاعلوا معي ،واملرتو يحطم نفسيتنا بقسوته ويدوس
اضطربت عندي املشاعر هل أبيك؟ هل أحضنها؟ هل
54
الشباب ،وجدتهم يبكون من هول املوقف ،تأملت أعينهم،
حنان األحمدي: التحرر من االتكال على اآلخر تجربتي الشخصية مع خدمات النقل العام يف أمريكا وأوربا التي تتميز بالجودة
بمعان عديدة ،أولها التحرر من االعتماد عىل اآلخرين والدقة واالنضباط ترتبط يف ذهني ٍ
يف التنقل ،والتحرر من ضغوط قيادة السيارة يف ساعات الذروة ،واإلحساسبالتمكني يف
مباشرة أموري وأعمايل بنفيس ،وهو شعور مختلف كان يعني يل الكثري كشابة حديثة التخرج من الجامعة ،لم تألفحتى هذه الدرجة البسيطة من االستقاللية. ً املجتمع السعودي اليوم يشهد حراكا كبريًا من الشباب والشابات الساعني لالعتماد عىل النفس لتحقيق أحالمهم
من خاللتأسيس مشروعات خاصة ،أو القيام بأعمال غري تقليدية ،وبخاصة يف ظل تغري الظروف االقتصادية وشح فرص
العمل؛ لذلك سيمكنهم توافر مواصالت عامة من السعي نحو تحقيق أحالمهم وطرق أبواب الرزق .وأتوقع أن يألف املجتمع وجود النساء يف وسائل النقل العام بعد أن توسعت مجاالت عمل املرأة لتشمل األسواق واملجمعات التجارية
والعيادات والبنوك ومؤسسات القطاعالخاص ،فلم يعد وجود املرأة يف الفضاء العام أمرًا غري مألوف .ومع ذلك قد تظل بعض رواسب الثقافة التقليدية تمارس شي ًئامن الفضول ،وربما الوصاية عىل النساء ،وهو ما يجعل املراحل األوىل النطالق
مرتو الرياض تمثل تحديًا كبريًا للراغبات من النساء يف استخدامه .وعىل صعيد األسرة ،فإن أبرز تغيري نتطلع لتحقيقه لألسرة السعودية من خالل توافر وسائل النقل العام هو التحرر من ثقافة االعتماد عىل السائق الخاص التي ُفرضت عىل كثري من األسر؛ بسبب استحالة قيام رب األسرة بالجمع بني عمله ومهمةتوصيل جميع أفراد أسرته ملدارسهم وأعمالهم.
ومع ذلك ال أتوقع أن نصل قريبًا إىل مرحلة نفضل فيها استخدام وسائل النقل العام عىل املواصالت الخاصة ،كما
كنت أفعلخالل دراستي العليا يف الواليات املتحدة األمريكية .إذ رغم امتاليك لرخصة قيادة السيارة كنت أفضل استخدام وسائلالنقل العام يف التنقل من الجامعة وإليها بسبب سهولة استخدامها ونظافتها ودقة مواعيدها ،وتوافرها يف كل زاوية
وشارع ،وربماألنها توفر يل فسحة خاصة من الوقت للتأمل أو االسرتخاء والقراءة أو االستماع للموسيقا .لم يكن استخدام النقل العام محصورًاعىل فئة أو طبقة من الناس ،ألن قلة مواقف السيارات يف وسط املدينة ،وازدحام الطرق يجعل الذهاب
العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
مشاعرنا ويسري إىل دهس مشاعر أخرى ،بال مشاعر بال أدىن
بدون مشكالت؟ كم من القصص ستبقى يف الذاكرة وكم
سألت الشباب عن سبب ركوبهم هذه اآللة القاتلة،
أوالدي ومن أحب ،بقي مشهد املوت يالحقني يف كل مرتو
الحاجة ما ركبناه ،ومن حسن الحظ كانت حقيبتي مزودة
ولم أركب هذه املركبة الجامدة ،وكنت أتكبد مبالغ باهظة وأنا أركب سيارة األجرة بديلاً منه ،وحينما أرى املرتو أريد أن
مسؤولية أنه يؤملنا.
أجابوين بصوت واحد ،قادمني نبحث عن وظيفة ولوال بالنقود ،أصبحت أوزع عليهم النقود وهم يتمنعون ،فقال وساقك الله إلينا ،سنأخذ املال ألننا إليك، ِ أحدهم :ساقنا الله ِ
ال نملكه ،ولعلنا نوفق بوظيفة من دعواتك .شكرت الشباب،
واستنشقت الهواء بعمق ،غابوا عن نظري ،وبعدما ارتحت،
اسرتجعت املشاهد التي خضتها معهم وأنا أركض إلنقاذ ابنتي ،وجدتها لقطات كأنني يف فلم مثري يعرض يف هوليوود.
كم من قصة مماثلة ستكون مع افتتاح مرتو الرياض،
ونحن شعب يجهل ثقافة املرتو ،شعب يجهل التعامل
مع قصف اآللة ،لن يركب هذه اآللة إال املحتاج جدًّ ا إليها، وستتعبه أكرث من تعبه ،هل يستوعب بلد عربي مثل هذه املشاهد املثرية؟ الحظت يف الغرب حتى الحيوانات لها أماكن
مخصصة يف الباصات ،فهل نحن مستعدون لهذه الثقافة
ستموت؟ عن نفيس لن أكرر هذه التجربة ولن أقبلها عىل أراه يف أي مكان أذهب إليه ،شبح املوت أراه يف مرتو السويد،
أسرتجع فقط مشهد نشامة وشهامة الشبان املغاربة العرب.
أكاديمية سعودية
الهنوف الدغيشم :سنعيد ضبط
ساعاتنا
هل ستتغري مالمح الرياض؟ هل
ستصبح هذه املدينة أقرب لإلنسان وحكاياته؟ وهل سيخبو صوت
منبهات السيارات؟ ويعلو صوت
حكايات العابرين يف جوانب املرتو وهو يعرب هذه املدينة
للعمل بسيارة خاصة مصدرًا للضغوط .وال تنظر الثقافة السائدة يف أمريكا ويف بعض الدول األوربية بدونية ملستخدمي النقل العام؛ ألنهم يمثلون غالبًا معظم شرائح املجتمع .لذلك فإن وجود خدمات نقل عام راقية وذات جودة عالية سيغري النظرة إليها
وإىل مستخدميها بشكلجذري.
ويتمتع قائدو املركبات العامة هناك بصفات الحزم واملهنية العالية ،ويتمكنون من ضبط األمن والسلوك العام بكفاءة .ويف
ظني لن تنجح وسائل النقل العام يف اجتذاب األسر السعودية أو األفراد إال بتوافر هذا االنضباط السلويك الذي تفرضه ثقافة
املواصالت العامة سواء يف املحطات أو داخل املركبات .وبال شك نحن نستطيع تحقيق االنضباط السلويك نفسه يف مرتوالرياض من خالل توفري طاقم من العاملني عىل درجة من املهنية والحزم لرتسيخ ثقافة املواصالت العامة وفرض أنظمةصارمة الستخدامها .من جانب آخر فإنني أتطلع بشكل خاص لتوافر خدمات النقل العام املتميزة لتساعد عىل تمكني العديد منفئات املجتمع غري القادرة
عىل االعتماد عىل نفسها يف توفري مواصالت خاصة ،للمسنني واملعوقني والفئات محدودة الدخل.ويف ظني مع تزايد نسبة املسنني يف املجتمع وما نشهده من استقالل األبناء يف بيوت خاصة ،يجعل املسنني أكرث قدرة عىلاالستفادة من املواصالت العامة يف التنقل ألغراض مختلفة ،لقضاء الحاجات ،أو مراجعة املستشفيات ،أو الرتياد األماكن العامة بدون الحاجة لالنتظار لحني يتفرغ أحد
األبناء ملساعدتهم .ومن املهم أن تراعي مواصفات واشرتاطات الحافالت والقطاراتاالحتياجات الخاصة لبعض فئات املجتمع ،وأن
توفر مساحات للكرايس املتحركة وأحزمة األمان ،وساللم متحركة لتسهيل دخولهذه الكرايس ،وأن يُعطى أصحابها األولوية يف
الجلوس يف املقاعد األمامية.
ومن املشاهد التي ال أنساها من خالل تجربتيالطويلة يف استخدام هذه املواصالت يف الخارج ،مشهد شاب مصاب بشلل كامل ً معتمدا عىل نفسه بشكل وال يستطيع تحريك إال بعض أصابع يديه،يركب الحافلة يوميًّا للذهاب للنزهة أو لقضاء بعض احتياجاته تام باستخدام كريس كهربايئ بمواصفات عالية .كان هذا الشاب يحرص عىل تبادل الحديث مع قائد املركبة أو مع الركاب كاسرًا
بذلك كثريًا من الحواجز النفسية واالفرتاضات الضمنية التي تعزز عزلة ذوي االحتياجات الخاصة ،وتمنع اندماجهم يف املجتمع.
وهذا قد يكون من املنجزاتاالجتماعية البارزة لوسائل النقل العام فيما لو تمكنت من إيجاد مساحة آمنة لذوي االحتياجات الخاصة
ملمارسة حياتهم بشكلطبيعي .الخالصة هي أن باإلمكان أن تؤثر وسائل النقل العام يف ثقافة املجتمع ،وأن تؤدي ملزيد من التمكني
واالستقاللية ملختلف فئاته ،وأن تسهم يف إحداث تغيري ثقايف ملموس ،ولكن ذلك يتطلب ثقة املستفيدين بمنظومة النقل العام،
وتوافر درجة عالية من الدقة والجودة واالعتمادية يف خدماتها.
عضو مجلس الشورى السعودي
55
الملف
اآلخرين فرصة الخروج أولاً .مع التجربة ،سيكون هناك رتم يف
الضخمة؟ كيف سيتحول هذا الشكل األسمنتي من
شيئيته وجموديته اآلن ،إىل مؤثر يف الحياة االجتماعية والثقافية يف الرياض قريبًا؟
هل نأمل أن تتقلص تأثريات الطابع األسمنتي عىل
نفوسنا وأذواقنا وعالقاتنا وتواصلنا مع من نعرف
ومن ال نعرف؟ هل ستغيب عن أعيننا وذواتنا هذه األشكال األسمنتية وكسراتها وزواياها الحادة وأرصفتها
وحواجزها؟ وهل سيختفي شعورنا بشيئيتها وجمودها؟
كيف ستكون عالقاتنا وأصواتنا وطريقة كالمنا ونظراتنا ونحن ندخل املحطات ونقطع التذاكر ونختار مقاعدنا
ونسأل عن أي محطةٍ نقصد؟
هذه األسئلة تنمو يف رأيس يف كل مرة أشاهد املرتو ً مخرتقا مدينة الرياض، وهو يتشكل بشكله األسمنتي محاولاً تجميع أطرافها.
املرتو ،سيحمل هذا الرتم تأثريًا يف سلوك إنسان الرياض،
سيصبح أكرث صربًا ،أكرث قدرة لضبط وقته ،وأكرث مرونة يف
التعامل مع اآلخر ،فسيتحول املرتو من شيئيته الجمودية إىل مؤثر يف النمط االجتماعي بأكمله.
ستحتوي املحطات بقاالت ومحالت تبيع معروضات
ومطاعم صغرية ،سينتظر الركاب يف املقاهي ،سيتحدثون من أين جاؤوا وإىل أين سيذهبون ،سيسألون وسيتعارفون،
سيحكون عن حياتهم وأطفالهم ،سيبتسمون .لن يعودوا
معزولني كما يف سياراتهم الخاصة .سيؤثر املرتو يف عالقات اإلنسان ،ورؤيته لآلخر ،سيقرتب الغريب عن الرياض من أهلها ،هكذا أظن ،وسيحمل يف ذاكرته صورة متنوعة وقريبة
من تفصيالت الحياة .األسئلة ال تتوقف عن التربعم يف رأيس، فهل يمكن للعالقة بني الرجل واملرأة مع الوقت أن تكون أقل تحف ًزا؟ نسق الحياة يف الرياض جعل هذه العالقة يف حالة
أتخيل الرياض وهي تتغري وتتشكل مرات ومرات،
توجس ،ويف حالة تضاد دائمة .أتخيل أنه يف البداية سيزداد
ألهلها ستتقبل هذه التغريات الثقافية واالجتماعية
املرأة نفسها مضطرة بداية ألن تسأل عن اتجاه ما ،عن مكان
ربما ببطء ومقاومة يف البداية ،لكن الروح الشابة
56
حركتنا ،وسيتحول املكان إىل نغم بني حركة اإلنسان وحركة
التي سيحملها املرتو معه .يف البداية ،ستنبت كثري
من الحكايات ،ستتغري بوصلة الحديث يف اجتماعات العائلة واألصدقاء نحو املرتو ،سنسمع حكايات لطيفة، وسنسمع ً أيضا حكايات غري منطقية ،وستستخدم هذه
توجس املرأة تجاه الرجل ،ومع زيادة استخدام املرتو ،ستجد
ما .وحينما ترى أن األمر أكرث بساطة مما تظن ،وأنه سيأخذ منحى إنسانيًّا عاب ًرا ،سيذوب هذا التوجس ،ستبدو العالقة توجسا .سيكسر املرتو ما بناه األسمنت، أكرث وضوحً ا ،أقل ً
سيذيب جمودية العالقات ،فكبار السن سيظهرون يف رتم
الحكايات للرتويج أو للتنفري منه .مع الوقت ..ستخبو
الحياة ،سيكونون جزءً ا من الصورة ،سرناهم أقرب لألجيال
روتينها الطبيعي الذي ال يحمل كل هذه االندهاشات،
ما ،سيجدون كثريًا من الشباب والشابات املستعدين دائمً ا
هذه الحكايات ،سيصبح املرتو من روتني الرياض،
اليافعة ،سيتحركون داخل املدينة دون اعتماد عىل أحد ملساعدتهم ،وسيشعرون أنهم أقرب للحياة .سيعتاد األطفال
اندهاشات البداية .سنتآلف معه ،سيصبح جزءً ا ً مألوفا وغري مدرك من حياتنا .أتخيل أن ثمة إقبالاً من
أو الناشئون عىل هذا النوع من الحركة ،وحينما يرونه منظمً ا
الرغبة يف تجربة الجديد ،أو دفع ثمن الفوىض املرورية
األقل.
طبقات مختلفة يف املجتمع لتجربة املرتو ،أحد أسبابها
وآم ًنا ،سيسهل فيما بعد تنقلهم وحدهم ،هذا ما أتمناه عىل ما الذي سيختفي منا؟ هل سيصبح هناك اندماج
التي صاحبت إنشاءه ،وتفادي االزدحام الذي أصبح ً عطشا ملصادفة حكاية طابعً ا ملدينة الرياض ،أو ربما
اجتماعي أكرب؟ أو عىل األقل إدراك مجتمعي للطبقات
محاولة ملقاومة كل معوقات املواصالت لديها .نحن
ربما سيخلق مفاجآت لم يكن لنا توقعها ورصدها.
مع العابرين .كما أعتقد أن املرأة ستستخدمه أكرث يف
الذين اعتدنا دائمً ا أن تكون مواعيدنا مفتوحة ،أن نقول مثلاً «املوعد بعد صالة العشاء» ،وكم هو طويل وذائب
املختلفة داخله؟ كل هذا محاولة تخيل وقراءة لتأثري املرتو،
نوير العتيبي :أنسب كتاب اجتماعي
كاتبة سعودية
هذا الوقت! فهل سيعلمنا املرتو أن التأخري نصف دقيقة
الرياض مدينة يضج فيها كل يشء إال صوتها ،مدينة
أن نعيد ضبط ساعاتنا وإدراكنا للوقت .سيعلمنا أكرث
التي سرقت طبيعتها كأنها ،ويف لحظة تمدد خطوط سكك
يعني تفويت الرحلة وانتظار ما بعدها؟ سيعلمنا املرتو من ذلك ،سيعلمنا كيف ننتظم يف الدخول والخروج من املرتو ،سنتعلم كيف نقف عند باب املرتو لنمنح
مزدحمة بآالف الحكايات املطمورة واملنسية والحياة املتكلفة جديدة عىل صدر هذه املدينة ستقول :القطار سيخرج مفاهيم اجتماعية عديدة ،وستلبسون ً لونا حياتيًّا لم تعتادوه! فتلك
العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
املدينة التي تقسم كل يشء عىل اثنني اختارت أن تغري املعادلة
كافة بلدان الجوار قبل البلدان املتقدمة .ومن املؤكد أن تلك
يف التغيري غري أن وسيلة النقل الجديدة سترتك أث ًرا يف الجانب
أو غري مباشرة ،كما أنه ستستجد قوانني اجتماعية تحكم
وتلغي القسمة .وتتهيأ لخوض تجربة تضاف لسابق خطواتها االجتماعي واإلنساين ..إن الحركة الدائمة لإلنسان وللبحث عن
ضروريات الحياة جعلته يستخدم وسائل النقل التي تسهل له عملية االنتقال وبالطبع تشكل هذه الوسائل بجانب أهميتها عب ًئا بيئيًّا ومشكالت حضرية ،أبرزها االختناقات املرورية
الوسيلة ستنعكس عىل السلوك االجتماعي بطريقة مباشرة هذا الفعل االجتماعي (فعل التنقل) ،وستنبت يف محطاتنا
الحكايات املخيفة قبل البدء وعند التجارب األوىل لتشغيله، وستشحذ العواطف الدينية كعادتنا عند أي تغري ،وبعدها ستنىس تلك الحكايات حني يكون العقل يف مقدمة كل قول
والتلوث بكافة أشكاله؛ لهذا جاءت فكرة القطار يف مدينتنا
ليدحض الحكايا التي تعوق التقدم وتمنع الحياة .فشبكات الخطوط الجديدة ربما تعيد شي ًئا مما فقدته املدينة ،وربما
وسائل النقل يك تمكن أفراد املجتمع الواحد من التواصل فيما
يقول أدونيس« :إن املرتو أنسب مكان تقرأ فيه كتاب علم
أبرز الحلول التي نتطلع لبدء تشغيلها .ولخوض تجربة مماثلة للدول السابقة يف ذلك .فالتوسع العمراين هو األصل ،ووجود
بينهم بعدما تعذر عليهم التواصل باألقدام.
سيسهم القطار إىل حد كبري يف إحداث التغيري االجتماعي
بني أفراد املجتمع عمومً ا؛ إذ إن املرتو سيقصده كل الفئات، وسيتاح بكلفة أقل مما هو متاح ،ومن هنا ستكون عملية
االتصال االجتماعي متاحة بشكل أكرب ،إذ إن املمرات الطويلة واملقاعد املرصوصة ومحطات االنتظار ستضج بحياة مختلفة وتبادل معريف ،يلتقي فيها الفرد مختلف الفئات ،ولن تكون التجربة مجردة ولو عىل سبيل التأمل لحركة الحياة .سيصبح
املرتو رافدً ا ثقافيًّا ليتعرف املجتمع عىل كل فئاته دون الحواجز
املتكلفة ،ولعله يعيد الطبيعة اإلنسانية كما هي صورها يف
تمنحها آلية جديدة تتعاطى مع الحياة بشكل يذيب جمودها.
النفس» ،وأنا أقول :إنه سيكون أمتع كتاب اجتماعي ممكن
أن تقرأه ..هو مرتو الرياض.
أسماء الزهراين :ماليني األحالم
شاعرة سعودية
تستيقظ لصالة الفجر وال تنام بعدها؛ ألنها إن أخذت
غفوة اسرتخاء مهما كانت قصرية فستفوت حضور عملها يف
موعده بني السابعة والثامنة ،املوعد الذي تفوته مهما كانت
دقيقة خروجها من املنزل ،ألن العربة يف جدة والرياض، املدينتني اللتنيتكربان كل ساعة ،ليست بالتبكري بل باستحالة اللحاق بامتداد قطار السيارات الذي يضاف له عربات كل يوم
57
الملف
الرياض وجدة ،وتحسب كم من الخطط والطموحات ستنجو،
ومزيد من التفافاتالطرق للتحايل عىل الزحام!
وحيث ال يمكن لساكني هاتني املدينتني إنجاز أكرث
من مهمة يف اليوم ،باحتساب الوقت الذي سيمضونه
يف الطرقات ،فكم أريق عىل تلك الطرقات من أفكار ً فارقا هائلاً .يف هذا اليوم ومشروعات كانت ستصنع سلسا بشكل لم تعهده ،فهي لم بالتحديد كان الطريق ً تضطر للدخول يف مسرية سيارات واقفة ،بل صعدت
من إحدى محطات قطار األنفاق ،الذي ال يقطع مسريه
تحويالت وال حفريات وال إشارات .وجدت نفسها مبكرة أكرث مما ينبغي يف موقع الجلسات العلمية ،حتى إنها
شعرت ببعض القشعريرة! كانت السكينة تعم املكان
فقررت أن تغري موعد خروجها يف اليوم التايل! اليوم الذي لم تشعر فيه بحاجة لتعليق عينيها بالسائقني املتهورين،
وتركيزها مع السائق لتنبيهه ملفاجآت الطريق كعني ثالثة! فقررت أن تقرأ شي ًئا حتى الوصول ملوعدها .يف ذلك املقعد الهادئ قضت أيام الرحلة األربعة تتأمل املاليني التي
يحملها القطار يوميًّا ذهابًا وإيابًا ،وتحلم بمقعد يشبهه يف
وكم من املشروعات ستتحقق بدون أن تجهضها هذه الطرقات
التيتحمل كل يوم ماليني املواطنني مع ماليني األحالم!!
عضو مجلس الشورى السعودي
ً حميما ،كما توقعت! أثري عبدالله النشمي :ليس
ُ صعدت فيها أول مرة كان هذا أول ما تبادر إىل ذهني يف ِ عىل منت املرتوُ ،كنت دائمً ا ما أتخيل املرتو بشكل مُ ختلف ،أنا
القادمة من بالد ال تتعاطى مع املواصالت العامة بعمومها ،ما بالكم بمرتو ينطلق بسرعة ثمانني كيلو مرتًا يف الساعة! دائمً ا ما ُكنت أتخيل رائحة املرتو أو القطاراتُ ،كنت أتصور دائمً ا أن لها رائحة ُتشبه بشكل ما رائحة ُ الكتب ،هكذا صورت يل األفالم األمر ،أُناس يتشابهون بشكل ما ،يتقاطعون بطريقة ما ،يستقلون كبائن القطار ومقاعد املرتو ،يقضون الوقت يف
قراءة أدبيات كالسيكية ،يلتقي بعضهم مُ صادفة من يُشبهه، يكتشفون أنهم توأم روح ،يقعون يف الغرام ،يتزوجون ُ وتخلد الحكاية!
يكن مثلما تخيلت عىل اإلطالق ،لم ُ لكنه لم ُ يكن يُشبه قطار ُ فلم before sunriseولم يكن من عليه يُشبهون من كانوا
58
العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
عليه! كان أسرع مما كان من املفرتض عليه أن يكون ،ممتئل بأناس مُ ختلفي املالمح والهيئات ،أناس ال يتشابهون فيما
يرتدون وال يف الطريقة التي كانوا يجلسون أو يقفون فيها ،لم تلتق أبدً ا طوال تلك تجمعهم لغة ،وأكاد أجزم بأن أعينهم لم ِ
الرحلة ،اليشء الوحيد الذي اتفق ركاب املرتو عليه هو انشغال معظمهم باألجهزة اإللكرتونية التي كانت يف أيدي األغلبية، باختالف أنواع تلك األجهزةُ .كنت وحدي من يُحملِق يف مالمح
الجميعُ ،كنت أتأمل ذلك االعتياد عىل الوجود يف مكان كهذا،
كاعتيادي عىل أن أستكني خلف مقعد سائقي يف الرياض ،لم ُ يكن هُ ناك مُ توتر سواي ،أنا التي كدت أتراجع عن اللحاق باملرتو ً عيل فيطحن جسدي قبل رأيس! خوفا من أن يُغلق بابه ّ
ُ ُ وشعرت بالخجل حينما شعرت بالخجل من خويف، ُ وشعرت بالخجل كثريًا تخيلت أن الباب فعلاً قد أغلق عيل،
حينما تأملت تأخري يف املرور بمثل هذه التجربةُ .كنت سعيدة ُ تأملت جدًّا يف اليوم الذي استقل أطفايل فيه املرتو ألول مرة، ُ وجدت أنها كانت تشبه دهشتي بشكل ال طويلاً تلك الدهشة، يُصدق عند استقاليل املرتو ألول مرةُ ،كنا عىل القدر نفسه من
الدهشة ،عىل رغم فارق العمر الكبري عند استقالل كل منا املرتو ألول مرة! ُكنت ممتنة لتلك السرعة التي خطفت أنفاس أطفايل ونفيس ً أيضا ،ال ملُجرد أنها أدهشتنا وأضافت لنا تجربة مُ ختلفة لم ُ يكن ليتسنى لنا املرور بها يف الوطن حينذاك ،وال ألنها وفرت
عيل كثريًا من املال الذي ُكنت سأنفقه مقابل سيارات األجرة عدم وجود أو السيارات الخاصة التي ُكنت سأستقلها يف حالة ِ املرتو ،بل ألنها جعلت تنقالتنا أكرث سهولة وأوفر وق ًتا مما كانت
عليه ،سيعي تمامً ا معنى هذا األمر وقيمته من هو مسؤول عن أطفال صغار يف ُعمر امللل والحركة .ممتنة أنا بأن أطفايل قد
عاشوا هذه التجربة مُ بك ًرا ،ممتنة أكرث ألنهم سيمرون بها كثريًا
بإذن الله يف وطنهم ،حتى يفقدوا دهشتهم حيال األمر ،وحتى
يعتادوه مثلما كان يبدو عىل من كانوا يستقلون ذلك املرتو يف رحالتنا األوىل عليه.
حينما نزل أطفايل من املرتو ألول مرة قال يل ولدي األكرب
بخجل« :ماما ،خفت يسكر عيل الباب ويكسر رأيس» .ابتسمت، تذكرت نفيس يف أول رحلة عىل مرتو الدهشة!
روائية سعودية
ليلى األحيدب :نافذة أولى للنساء الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض عملت بذكاء وبإسرتاتيجيات واضحة يف هذا املشروع ،فقد أشركت املجتمع يف
مرتو الرياض مذ كان حربًا عىل ورق ،طلبت من املواطنني عرب مسابقة أطلقتها بعنوان «وش نسميها» أن يشاركوا يف
تسمية آالت الحفر السبعالتي ستحفر األنفاق وستؤسس ملرتو الرياض ،وضعت مواصفات معينة لهذه األسماء،وهذه املسابقة اشرتك فيها املواطنون من جميع أرجاء اململكة ،وتم اختيار أسماء آالت الحفر ً وفقا القرتاحات املواطنني؛ ففي نهاية األمر املواطنون هم من سمى اآلالت بأسماء تعرب عنهم ،وترتبط بذاكرتهم الجمعية؛ مثل :ذربة وسنعة وظفرة تكتف الهيئة ومنيفة وجزلة وصاملة وثاقبة ،جميل أن تؤنسن الهيئة اآلالت وتربطها بوجدان املواطن وذاكرته ،ولم ِ
بذلك؛ بل عمدت إىل إشراك املواطنني يف كل مرحلة تنجزها من هذا املشروع ،فتوجه الدعوات ألصحاب الحي القريب
ليحضروا شق نفق أو االنتهاء منهبإحدى هذه اآلالت التي أسموها بأنفسهم.
إشراك الناس يف التسمية ويف مراحل إنجاز مرتو الرياض جعل مرتو الرياض جزءً امهمًّ ا من حياة الناس ،فهو مشروع
شاركوا فيه منذ البدء ،وحضروا كل مرحلة تم إنجازها بطريقة جعلتهم يعرفون خطوات بنائه خطوة خطوة ،،فقد تحول ملشروعهمهم ال الهيئة ،إضافة إىل الرسائل الدعائية املوجودة يف الشوارع ويف وسائل التواصلاالجتماعي ،وهي
رسائل ليست تقليدية ،بل موجهة بذكاء بطريقة جديدة ومبتكرة.
هذا االشتغال الذيك من هيئة تطوير الرياض عىل جعل مرتو الرياض جزءً ا من حياةسكان الرياض سيسهم ال شك
يف نجاح تشغيل املرتو وإقبال الناس عليه. ً مرتو الرياض مالئم ًّ مشروعا ناجحً ا، جدا لرؤية 2030م من النواحي كافة .وأعتقد جازمة أن مرتو الرياض سيكون وسيحظى بإقبال كبري من سكان العاصمة ،وسيلمسالناس فائدته االقتصادية ،وبخاصة يف ظل ارتفاع أسعار الوقود، فقد ّ مل الناس من ازدحام الطرق وحوادث السيارات والتحويالت ،وسيكون مرتو الرياض نافذة أوىل تغني النساء عن
استخدام السائقني الذين استنفدوا ميزانيتهم .أنا مستبشرة بهذا املشروع ،وأشكر هيئة تطوير مدينة الرياض عىل مهنيتها
ِّ وتجمل دائمً ا وجه الرياض. يف العمل ،فهيهيئة تعمل بحب وإخالص
روائية سعودية
59
الملف
مترو الرياض.. في المتخيل الروائي السعودي الرياض
60
هل يمكن أن يتحول مترو الرياض إلى فضاء روائي وجزء من المتخيل السردي لدى عدد من الروائيين والكتاب السعوديين؟ هل سيعثر الكاتب السعودي في عربات القطار ومحطاته على مادة طازجة ،عن شخصيات مميزة ،تدفعه إلى استلهامها؟ هل ستجد الرواية والقصة ً جديدا من المجتمع؟ وما التحديات ضالتهما في العالقات التي تحدث في المترو ،ليكشفا جانبًا التي يمكن أن يواجهها ُ الكتاب في هذا الصدد؟ تساؤالت طرحتها «الفيصل» على عدد من كتاب الرواية والقصة السعوديين.
قطار الرياض في رسومات األطفال العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
يوسف املحيميد :قصص الحب والعالقات بني الجنسني كما أعرف ،يرتبط مجد أمناء
العواصم واملدن يف العالم وشهرتهم،
بإنشاء خطوط املرتو يف هذه املدن ،ملا
يحمله املرتو من أهمية كربى يف تاريخ
املدن وتغرياتها االجتماعية واالقتصادية
والسياسية ،وال يقتصر األمر عند ذلك فحسب ،إنما ينعكس ً أيضا عىل فنونها وآدابها ،فمحطات
املرتو مكان صالح للموسيقا والغناء والفنون بأشكالها، كالفن الغرافيتي ،وعربات املرتو أماكن صالحة جدًّ ا لحكايات الناس ،وقصص الحب والسرقة والقتل ً أيضا، هذه الخطوط والعربات واملحطات أمكنة واردة يف السرديات العاملية ،فكثري من الروايات املرتجمة التي نقرؤها يرد فيها
اسم املرتو ،أو اسم محطة من محطاته؛ ألنه ببساطة جزء يومي من نسيج هذه املجتمعات ،فال يمكن ألي شخصية من
الشخصيات أن تتحرك دون أن تستخدم املرتو أو الحافلة،
فهي وسائل النقل التي تضم الجميع ،ويلتقي بها الجميع، لذلك من الطبيعي أن يحضر املرتو بعرباته ومحطاته يف
الروايات السعودية التي توظف الرياض كمدينة ألحداثها،
عبدالرزاق اليوسف :قيم فنية
للكتابة يف الرتام قيم فنية يف الداللة اإلبداعية،
مثل عالقتها بالواقع ،واالختصار والدقة وإثارة الفضول واالهتمام .بينما اإلطار الفني والتشكيل الهنديس محكوم بعوامل رسم هذا التشكيل من نسيج وبناء الشخوص
والسرد والحدث .كما أن اإلمكانية التأويلية محدودة بسبب عوامل التشكيل :الشخوص هم ركاب املرتو وتغريهم ،حركة الرتام ووقوفه يف محطات معينة ،عنصر املفاجأة يف الحدث:
دخول ركاب جدد واختفاء آخرين .إذا كانت القيمة املكانية محصورة يف العربات ،فإنها زمنيًّا مقيدة يف توقيت الوقوف
والحركة وما تحمل من شحنات التوقع عند القارئ ...ولكن مهلاً ..هذا التمهيد عن فنيات الكتابة اإلبداعية للقصة ربما يحدث يف القاهرة أو أنقرة بسبب البعد النفيس واالجتماعي للكاتب بني مجتمعه الكبري .وهو أن يكون الكاتب ح ًّرا،
مستق ّر االنفعال والوجدان بما يخدم كتابة النص .أما
عندما تكون الكتابة يف السعودية فاألمر مختلف .إن اإلطار االجتماعي الذي يعوم فيه الكاتب ومن ضمن أركانه الحرية
وانسياب الوعي بدون عقبات شرط أسايس يف اإلبداع.
ناقد سعودي
لكن ما أخشاه هو املبالغة يف استخدام هذا العنصر، مكانا كاملاً ً وربما أتوقع كذا رواية قادمة ستجعل املرتو
هناء حجازي :القطار األشهر
الحب والعالقات بني الجنسني ،وال عيب يف ذلك؛ ألن املهم يف نظري أن تكون أعمالاً مكتملة فنيًّا ،وعميقة يف كل
يف رائعة تولستوي تلك ،كان القطار
العنصر الجديد يف املكان يضمن الجدَّ ة يف النص الروايئ ،أو
يف الخارج حيث القطارات جزء
ألحداثها ،وبخاصة الروايات الشبابية التي تتصيد قصص
مستوياتها وطبقاتها ،وأال ينخدع أحد بأن استخدام هذا
وسم الرواية بعنوان «مرتو الرياض» يكفي لتحقيق الشهرة املجانية واملبيعات العابرة.
القطار األشهر بالنسبة يل يف األدب هو الذي انتحرت تحت عجالته ّأنا كارنينا.
حاض ًرا بقوة .كلما وقفت أمام قطار
مهم وأسايس يف مواصالت الكثري من البلدان ،أشعر لوهلة
بخوف غامض ،رهبة أو وجفة تنتابني حني أقف أمام ذلك
ً عمقا؛ التوغل يف الكتابة الروائية يشء آخر ،أكرث
الجرف السحيق الذي ستملؤه بعد قليل عجالت القطار القادم .واآلن أتساءل :هل السبب ّأنا كارنينا؟ هل يوجد بداخيل ّأنا كارنينا مختبئة يف زاوية ما من عقيل؟
كرة القدم ،كل هذه األماكن وغريها هي أماكن لتجمع
من ذكر املرتو القادم ،هذا الذي سيصبح جزءً ا من الحياة
أعماق اإلنسان ،رصد مشاعره وانفعاالته ،التقاط أبسط
تفاصيله اليومية ،سواء يف املرتو ،أو الباص ،أو املركبة الخاصة ،أو حتى يف الشارع والحديقة والجامعة وملعب
الناس وتقابلهم ،بمعنى أنها أماكن لوقوع األحداث
والحكايات ،وفرصة الصطياد األفكار ،ولكن علينا أن نتمثل مقولة الجاحظ« :األفكار ملقاة عىل قارعة الطريق» أي أنها متاحة للجميع ،لكن كيف نلتقطها ونصهرها رِّ ونعب عنها ،هذا هو املحك وما يميز الروايئ الحقيقي ممن هو دون ذلك.
روايئ سعودي
لذلك أتخيل كيف ستمتئل صفحات الروايات ،رواياتنا
اليومية ألهايل الرياض ،كم كاتب سيكتب عن املتعبني الذين
يضطرون لركوبه كل يوم ،أو الشبان الذين سيلتقون عىل
ضفافه للذهاب إىل منطقة بعيدة أو مزدحمة ،والفتيات الاليت سيستغنني عن السائق املشاكس ،كم سيُسهِّل لقاءات مستحيلة ،وكم سيحمل حكايات معقدة .سيل
عارم من البشر يستقلونه كل يوم .ولكل واحد منهم حكاية. قاصة وروائية سعودية
61
الملف
ناصر الجاسم :مكان شاعري
املرتو أو القطار فضاء مغلق،
وهو يف حقيقته مكان شاعري يف الغالب ،حيث تتوالد
فيه أحالم اليقظة وتنمو مشاعر الحب واأللفة، وبـ ـم ـ ــا أن اإلنـ ـس ـ ـ ــان
سيستقر أو سيمكث
يف هذا املكان زم ًنا معي ًنا مع إنسان آخر ،سواء ذكر أو أنثى فستتكون شبكة من املشاعر أو تبنى خيمة من
ال شك أنهما من معطيات املكان نفسه.
قاص سعودي
عبري العيل :لقد فعلها الكتاب املحليون
لقد فعلها الكتاب املحليون بالفعل؛ أعني الكتابة عن أمور ً مسبقا يف حياتهم ،أو لم يعيشوها يف لم يختربوها أو يجربوها
بيئتهم املحلية ،وربما لم يعيشوها خارجها قط ،كالكتابة عن الثلج أو األنهار التي تخلو منها بالدنا ،أو الكتابة حول أمور قديمة
لم يعاصروها ،أو حديثة متخيلة تصل لحدّ الفانتازيا والخيال
العواطف؛ ألن عناصر القص والروي املهمة الثالثة البطل واملكان والزمان متوافرة ،وس ُتهيِّئ بوجودها ً مناخا صالحً ا للسرد القصيص أو الروايئ ،وبما أن
دور ،أو يعيش يف أي فضاء ،وأن يبتكر عوامله الخاصة التي ً مكونا يف أحداث الرواية، قد تجعل من املرتو عىل سبيل املثال
أحداث كثرية فيه ،وسريافقها عنصر الصراع،
ويقنعنا وهو يتحدث عنه كأن وجوده حقيقة قطعية ال تقبل
املرتو مكان اللتقاء أطياف متنوعة من البشر فستتخلق وبالتأكيد ستبحث عن حلول ونهايات ،وسيأخذ
62
السرد يف املرتو طابعً ا واقعيًّا أو رومانسيًّا ،وهذان الطابعان
العلمي .وهنا تكمن مقدرة الكاتب الحقيقي يف أن يتقمص أي
وتجعله يخرتق الجزيرة العربية من الخليج للبحر األحمر، الشك حتى نكاد نشعر أثناء القراءة بسرعة اخرتاقه للكثبان
جبير المليحان :مترو منيرة نعم ،ممكن ًّ جدا ،وربما أكرث؛ فمجتمعنا لم يعد معزولاً عن العالم بعد أن تهاوت الحواجز .نحن نتأثر ،ونؤثر.
وإذا كانت البنية التحتية متماشية مع متطلبات العصر ،فسيكون تأثريها كبريًا عىل املجتمع ،وسينعكس عىل إبداعه. لنتخيل (منرية) يف هذا املشهد ،بعد سنوات قليلة ،يف مدينة ضاجّ ة بالحركة ،والتغري كالرياض:
مرتو منرية -هيا يا أبي .لقد تأخرنا عن موعد (املرتو)!
٭٭٭
شرب الكهل بقية (بيالة) الشاي بسرعة ،ووضع (شماغه) وعقاله فوق رأسه ،ولبس نعليه ،وحرك السيارة،
وابنته منرية تكاد تصفق بابها .أسرع يف الطريق الضيق حتى وصل الشارع العام .كان مدخل (املرتو) هناك .لم يجد ً موقفا لسيارته .نزلت منرية ،وركضت وهي تلملم أطراف عباءتها .األب كان ينظر إليها ،وسيارته تميش ببطء .كاد أن يصدم السيارة التي تقف أمامه .قال لنفسه: -لم أعد أحتاج هذه السيارة الكبرية!
منبهات سيارات أخرى تزعق خلفه ،ويف كل اتجاه .مىش بسيارته وهو يحس بتوتر .بعد اختفاء ابنته يف مدخل
املرتو .نظر يف ساعته ،وقال:
باق سبع ساعات ونصف لتعود منرية ..الله يعني عىل الزحمة! ٍ٭٭٭
-ال بد أن نبيع بيتنا هذا ،ونشرتي بي ًتا قريبًا من محطات (املرتو) يا أبي.
هكذا ضج األوالد ،وهم يناقشون والدهم .األب يهز رأسه ،ويمسد لحيته ،ويقول لهم: -هيا فقد أذن للصالة.
العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
والهضاب ،ونرى املقاعد واملمرات والحقائب ،ونقف معه يف
األقرب يف اإلنجاز واالستخدام -فبالتأكيد سيكون هذا ،وبخاصة
بشرات كثرية معنا وحولنا .أما عن احتمال أن يكون املرتو يف
أراد أن تكون محلية وأن يشعر بها القارئ البسيط.
محطات مختلفة نشاهد فيها وجوهً ا متعددة ونشم روائح
السعودية فضاء للرواية السعودية -مرتو الرياض تحديدً ا ألنه
أن الكاتب ينتزع تفاصيل روايته من املكونات املحيطة به إذا ما روائية سعودية
قطار الرياض في رسومات األطفال
يلتفت إليهم ويقول: -سأفكر باملوضوع.
63
الولد الصغري يقول:
اشرت يل سيارة (جيب) مثل صديقي. بع البيت يا (بابا) ،واستأجر لنا شقة..ِ
نذهب بها إىل الرب!
٭٭٭
منرية تلبس عباءتها ،تغلق باب شقتها ،وتنزل مسرعة من درج الربج ،وتركض إىل السيارة ،عند محطة املرتو
القريبة ،تقف السيارة فوق الدائرة املعدنية أمام طوابق عمارة مواقف السيارات ،وتضع البطاقة املمغنطة ،ترتفع السيارة
إىل الدور العشرين؛ حسب العقد املوقع بني مالكتها وبني شركة املواقف. ٭٭٭
منرية تركض من موقف السيارة يف عمارة املواقف املمغنطة .تخرج إىل الشارع العام حيث مدخل املرتو ..أثناء مشيها السريع تعدل لبس عباءتها ،ثمة رجال ينظرون شزرًا إليها .امرأتان ُتحَ و ِقالن .شاب يبتسم .رجل أمن ينظر بحياد .تختفي منرية يف مدخل (املرتو) ،وطرف عباءتها يرفرف كجناح حمامة مساملة. ٭٭٭
خطوط شباب وشابات ،ترتاكض إىل مدخل املرتو ،وخطوط أخرى تخرج وتتوزع يف االتجاهات .الكل راكض ،وحقيبته
الصغرية فوق ظهره ،البعض يقضمون وجباتهم وهم يمشون ،ويلقون ببقايا األكل والورق يف الحاويات التي صممت كأكف مبتسمة .املكان نظيف ،ورجال األمن واقفون لحراسة القانون. ٭٭٭
طائرات فردية صغرية ،تتقاطع بانتظام يف األجواء .تنقل أصحابها إىل املهابط يف أعىل أبراج البنوك والشركات ،التي
تلمع واجهاتها يف الشوارع.
قاص وروايئ سعودي
الملف
فاطمة آل تيسان :عربات القطار ومحطاته
يف الرواية يحضر املكان بكل تفاصيله وتأثريه
ً أيضا عىل الشخصيات ،وكم من عمل كان املكان هو
البطل الحقيقي لكونه الحافز لألحداث والصراعات داخل العمل الروايئ ،األماكن تنوعت يف الرواية ولم تنحصر يف مدينة أو قرية بل قد يحضر املكان
كلحظة عبور غري أنها ترسم خطط حياة تعج بالناس والقصص والحكايا كما هي حال عربات القطار
كان املرتو والقطار والسفينة مسرحً ا
ألعمال روائية مبهرة مثل رواية «فتاة
القطار» و«مرتو حلب» ،وليس يف الرواية فقط ،فهناك مثلاً أعمال سينمائية رائعة ومؤثرة كان مجال
أحداثها هو القطار واملرتو ووسائل مواصالت أخرى،
ومحطاته ،ولعل من أعظم الروايات التي بدأت وانتهت هناك رواية ّ أنا كارنينا للروايئ الرويس ليو
ً شغوفا بقراءة روايات حقبة الثمانينيات امليالدية عندما كنت
عدة لغات ،ويف الرواية األماكن هي ما تفرض نفسها
أنسها منذ ذلك الحني ،هذه الرواية اسمها «جريمة يف ولم َ
تولستوي التي اكتسبت شهرة عاملية وترجمت إىل حسب قوة الحدث وقدرة الكاتب عىل توظيفها يف
العمل ،وإن توافرت هذه العناصر فقد يكون املرتو بطلاً لعمل روايئ يومً ا ما ،عندما يصبح وسيلة
وسؤالك هذا يعود بي إىل
أغاثا كريستي ،وأذكر أن هناك رواية من أعمالها ،قرأتها، قطار الشرق السريع» وباملناسبة تعد هذه الرواية من أجمل روايات أغاثا كريستي من حيث الحبكة والصياغة الروائية
املذهلة ،وبالعودة إىل السؤال أو ّد أن أقول :إن صياغة مثل
التنقل املفضلة للكاتب حيث يشاهد الواقع وسحنات
هذه األعمال الروائية التي تحدث يف املرتو أو القطار تحتاج إىل
بإزميل قوي ال يرحم ،وهنا ستولد أعمال روائية ال
تشكيله وصياغته عىل عنصرين مهمني هما :الزمان واملكان،
البشر خالية من التحسينات .قساوة الواقع تحفر
64
مقبول العلوي :الرواية واملكونات املحيطة
ترسم الواقع فقط بل تصور إفرازاته املستقبلية عىل
أناس تقلبت بهم الظروف من صحراء قاحلة وجمل إىل مدينة يتضخم فيها كل يشء حتى ضجيج املرتو
الذي شطرها بكل قسوة إىل نصفني.
قاصة سعودية
ُدرْبة عالية يف صياغة األحداث؛ ألن أي عمل إبداعي يعتمد يف وهما فضاءان مهمان يف صياغة الرواية ،ونحن بصدد الحديث
عن عمل روايئ يتم داخل هذه املساحة الضيقة ،مما يعني أن تكون كل كلمة يف موضعها ،وكل حدث ال بد أن يكون مقنعً ا؛ ألن املساحة محصورة داخل هذا الحيز الضيق.
روايئ سعودي
قطار الرياض في رسومات األطفال
العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
نصوص
قصائد سعد الخشرمي
شاعر سعودي
أحدنا
يتأمل البحر،
الذي لم ينقذه أحد من الغرق.
امرأة
كانت تضم كلمات يابسة إلى صدرها وتنام.
اكتئاب
بالحبر قلمٌ ممتلئ ِ لكنه كسول ًّ جدا ٌ وفكرة تشبه كثيرًا
ذلك الجدار الذي أمامي وأنا ُ أقف كفزاعةٍ أمام كل هذا..
العشق
خلع رأسه وتركه جانبًا.
ماذا لو أنني أستطيع تدخين أيامي؟
ما وراء
عولمة
قال الشيخ: ك ّنا نلف موتانا بشيء أبيض،
حتمً ا سأدخنها في جلسة واحدة.
لم يمت أحد منذ زمن
تقفز دوريان لوكس
ربما غيمة.
كل هذه المسافات
وحدة
الشاعرة األميركية، والبحور المتالطمة
بنظرة أخيرة للعالم،
والقارات الملتهبة؛
حبس أنفاسه
ُ الساعة العاشرة ٌ ٌ مثلث مكتب
توأم
لتستقر بين يدي.
ً ُّ يضمُّ تطل نافذة
ً مباشرة على العالم
دفت ٌر من العام الماضي ُّ يغط كقطةٍ فارسية
وقفز في الوحدة.
قالت األم: ً كان بطني منتفخا، وال يزال،
َ ألنك ربما
نسيت صرختك في داخلي.
65
دراسات
66
مدخل إلى علم األصوليات المقارنة:
الظاهرة الداعشية ما بين اإلسالم والمسيحية العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
هاشم صالح
كاتب سوري
يعيب المثقفون الغربيون على تيار اإلسالم السياسي المتطرف أنه يحجر على العقول ،ويقيد ً أحيانا .بل قد يعتدي عليهم جسد ًّيا كما حرية التعبير ،ويالحق المثقفين والفنانين ،ويهددهم
حصل لفرج فودة ونجيب محفوظ وآخرين عديدين ...ويعيبون على اإلخوان المسلمين تلك النزعة
التوتاليتارية في تفسيرهم االنغالقي المتزمت لإلسالم الحنيف متجاهلين سماحته ورحمته وشفقته ً أحيانا ما فعله اإلخوان المسيحيون على كل مخلوقات الله .وهذا صحيح .ولكنهم ينسون أو يتناسون مع كبار علمائهم وفالسفتهم إبان محاكم التفتيش السيئة الذكر .وبالتالي فليكفوا عن مهاجمة اإلسالم بمناسبة ودون مناسبة ،وليكنسوا أمام بيتهم أولاً .ليتذكروا محاكم التفتيش الرهيبة التي طالما قمعت العلماء والمفكرين من كوبرنيكوس ،إلى جيوردانو برونو ،وغاليليو ،وديكارت ،ومعظم فالسفة التنوير في القرنين السابع عشر والثامن عشر ،بل حتى التاسع عشر ومنتصف العشرين فيما يخص إسبانيا والبرتغال .للحق واإلنصاف فإن معظم مثقفي أوربا يعترفون بذلك ما عدا تيار اليمين
المتطرف أو التيار األصولي الكاثوليكي .وهما متداخالن ومتمايزان في الوقت ذاته. يجب العلم بأن محاكم التفتيش التي ماتت اآلن يف
هو أول من فكر بالحرق كعقاب للزنادقة عام 1224م .وهي
أخرى .وهي اآلن موجودة يف الفاتيكان وتدعى باسم« :املجمع
ثم يلقون باإلنسان الزنديق فيها وهو يزعق ويصيح مذعورًا.
أوربا بفضل استنارة العقول تحولت إىل يشء آخر أو مؤسسة املقدس للحفاظ عىل صحة العقيدة واإليمان املسيحي».
صحيح أنها لم تعد تحرق املفكرين وكتبهم كما كانت تفعل ً سابقا .ولكنها تراقب أي خروج عىل العقيدة أو أي انتهاك لها وتعاقبه عن طريق فصل األستاذ من عمله أو منعه عن
تدريس مادة الالهوت املسيحي كما فعلت مع عالم الالهوت الشهري هانز كونغ مثال. لاً لكن لنعد إىل الوراء قلي أو كثريًا .يجب العلم بأن
محاربة الزندقة كانت سارية املفعول حتى قبل ظهور محاكم التفتيش كمؤسسة رسمية يف بدايات القرن الثالث عشر.
فقد كان هناك دائمً ا أناس يخرجون عىل هذا املبدأ أو ذاك من العقيدة املسيحية .وكانت الكنيسة تعاقبهم بشكل أو بآخر .ويمكن القول بأن املجمع الكنيس الذي اجتمع يف مدينة
التران عام (1139م) كان أول من بلور التشريعات البابوية ضد الزندقة والزنادقة.
الخروج عىل اإلجماع املسيحي
عقوبة فظيعة ومرعبة ألنهم كانوا يشعلون النار يف الحطب،
ولكم أن تتخيلوا املشهد إذا كنتم تستطيعون! ثم صدق البابا
غريغوار التاسع عىل هذا القرار الخاص باملعاقبة عىل الزندقة ً معرتفا به ،بل عام 1231م .وأصبح حرق الزنادقة أمرًا شرعيًّا خلعت عليه القداسة اإللهية؛ ألن البابا كان يتمتع بمكانة
املعصومية املطلقة يف نظر جمهور املسيحيني آنذاك .كان يمثل
ظل الله عىل األرض .وبالتايل فكل ما يأمر به أو يفعله مقدس وال را ّد له .وقد كان الهدف من إقامة محاكم التفتيش هو الدفاع عن اإليمان املسيحي يف مذهبه الكاثولييك البابوي الروماين .وقد أسسوها يف البداية ملحاربة بعض الفئات املسيحية «املارقة» يف فرنسا .ثم وسعوها ليك تشمل طوائف
أخرى عديدة ال تلتزم كليًّا أو حرفيًّا بالشعائر املسيحية
الكاثوليكية .وأخريًا وسعوها ليك تشمل بقايا الوثنية التي لم
تمت بعد يف أوربا ،وكذلك ليك تشمل كل أعمال «الكفر» أو التجديف :أي ازدراء املقدسات املسيحية أو النيل منها أو االستهزاء بها .وبالتايل فاملسيحيون كانوا تكفرييني ً أيضا قبل
أن تتقدم أوربا وتستنري وتتحضر.
وقد طبقت هذه التشريعات عىل إحدى الفئات املسيحية
هكذا كان هدف محاكم التفتيش يف البداية .ولكن كيف
التي اعتربت بمنزلة الخارجة عىل اإلجماع املسيحي ،وبالتايل
وما هي منهجيتها يف املحاكمة؟ عن هذا السؤال يمكن أن
أثناء الحروب الصليبية ألول مرة وهي فئة «األلبيجيني»
فقد اعتربت مهرطقة أو زنديقة .وكان اإلمرباطور املسيحي
كانت تشتغل هذه املحاكم يا ترى؟ كيف كانت تمارس عملها؟
نجيب بما ييل :بمجرد أن يشتبهوا يف شخص ما أي يف إيمانه
67
دراسات
وعقيدته ،كانوا يقبضون عليه ويخضعونه للتحقيق فإذا
ً وأحيانا كانوا يطالبونه بدفع مبلغ من املال رؤوس األشهاد.
ويعدونه بري ًئا من التهمة املوجهة إليه فيخلون سبيله .وكانت َّ مشكلة عادة من رجيل محاكم التفتيش
الحاالت القصوى كانوا يلقونه يف املحرقة طعمة للنريان .وقد بلغ التعذيب ذروته يف القرن الثالث عشر.
أو يحيط بهما أشخاص عديدون ال ينتمون
وانتشرت يف شتى أنحاء املسيحية األوربية
اعرتف بذنبه تركوه ،وإذا لم يعرتف عذبوه حتى يعرتف .وإذا ً وأحيانا كانوا يصدقونه أص ّر عىل موقفه ألقوه طعمة للنريان.
للفقراء بغية التكفري عن ذنبه .أما إذا كان الشخص املالحق ً «زنديقا حقيقيًّا» فإنهم كانوا يسجنونه مدى الحياة ،ويف
دين أو راهبني اثنني ولكن كان يساعدهما
ففي ذلك الوقت ازدهرت محاكم التفتيش
إىل سلك الكهنوت ككاتب العدل أو كاتب
من إيطاليا ،إىل فرنسا ،وأملانيا ،وإسبانيا
املحكمة ،وكالسجان أو حارس السجن.
والربتغال ...،إلخ .ففي فرنسا أدت هذه
والشخص الذي كان يرفض املثول أمام
املحاكم الالهوتية إىل حرق مناطق بأكملها
املحكمة كانوا يكفرونه فورًا ويخرجونه
من األمة املسيحية .وبالتايل يباح دمه ً مشروعا ومن عندئذ ويصبح قتله أمرًا يقتله ال يعاقبه أحد وال يسائله أصلاً .
وكانوا يطلبون من املشتبه فيهم أن يكشفوا للمحكمة عن كل ما يعرفونه عن أسرار الزندقة والزنادقة .وكان كاتب العدل يسجل ما يقولونه كمحضر رسمي .وكان القضاة ً أحيانا إىل الوشاة أو الجريان أو حتى شهود الزور؛ يلجؤون
ليك يحصلوا عىل معلومات تدين الشخص املشتبه فيه الذي
68
يريدون معاقبته بأي شكل ألنه ال يؤدي الشعائر الدينية كما ينبغي ،أو ألنه ال يؤمن بالعقائد املسيحية
جنوب البالد ،بالقرب من مدينة تولوز. وهي مناطق كانت مسكونة من قبل طائفة
فرج فودة
يف الوقت نفسه الذي وجهوا الحمالت الصليبية نحو الشرق اإلسالمي.
استهداف العدو األقرب قبل األبعد
وبالتايل فالحروب الصليبية ابتدأت
أولاً يف الداخل قبل أن تنتقل إىل الخارج.
يصل األمر بهم إىل حد محاكمة الشخص
لقد استهدفت العدو األقرب قبل أن
حتى بعد موته! فإذا ما ثبت لهم أنه مذنب
تستهدف األبعد .وهذا يشء يجهله
أو خارج عىل العقيدة املسيحية فإنهم
كثريون .فقد كانت الكنيسة الرسمية ّ تعد زنادقة الداخل بمنزلة طابور خامس
كانوا ينبشونه من قربه ،ويستخرجون
جثته ،ويحرقونها معاقبة له!
بتقريع املذنب يف الكنيسة والتشهري به عىل
يعيب المثقفون الغربيون على تيار اإلسالم السياسي المتطرف أنه يحجر على العقول ويالحق المثقفين والفنانين ويهددهم أحيا ًنا .بل قد
طائفة الكاتاريني .وكان أتباعها يخلطون
العقائد املسيحية بعقائد أخرى ال عالقة لها باملسيحية .ولهذا السبب ّ كفروهم ،وأعلنوا عليهم حربًا صليبية الستئصالهم
كلها بشكل مطلق ودون أي تساؤل .وكان
وكانت العقوبة من نوعني :خفيفة ً خفيفا اكتفوا وثقيلة .فإذا كان الذنب
مسيحية خارجة عىل القانون وتدعى:
يشكل خطرًا عىل املسيحية أكرث من اإلسالم ،ولذلك حصلت مجازر كثرية يف
توماس توركمادا
تلك املنطقة الفرنسية .ولم يستطيعوا التغلب عىل «الزنادقة» إال بعد مقاومة
عنيفة وجهد جهيد .وال تزال آثار هذه املجازر حاضرة يف الذاكرة الفرنسية الجماعية حتى اآلن .نضيف إليها بالطبع الحروب
املذهبية الكاثوليكية – الربوتستانتية التي اجتاحت آنذاك أوربا كلها وليس فرنسا فقط .وهي تذكرنا بالصراعات املذهبية
املندلعة حاليًّا يف العالم اإلسالمي لألسف الشديد .وقد ذهب
ضحيتها عشرات املاليني يف فرنسا وأملانيا وإنجلرتا ...،إلخ،
جسديا ،لكنهم ينسون يعتدي عليهم ًّ
وهي تشكل صفحة سوداء يف تاريخ فرنسا .ولذلك فإن الساسة
المسيحيون مع كبار علمائهم
نريد تحويلها إىل حروب دينية! واملقصود بذلك أنهم ال يريدون
أو يتناسون أحيا ًنا ما فعله اإلخوان وفالسفتهم
العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
الفرنسيني يقولون لك عندما تنشب مشكلة داخلية عويصة :ال العودة إىل االنقسامات الطائفية والحروب األهلية التي مزقتهم طويلاً يف املايض .وبالتايل فأكرث يشء يرعبهم هو شبح
الظاهرة الداعشية ما بين اإلسالم والمسيحية
دفاع عن املسلمني يف فرنسا
تلك الحروب املذهبية التي جرت يف القرون
أتوقف هنا لحظة ليك أشيد بموقف ً سابقا. آالن جوبيه رئيس وزراء فرنسا
الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر
والسادس عشر حتى السابع عشر .بل لم
فقد اعرتف مؤخرًا بأن املذهب املسيحي الكاثولييك كان متعصبًا ًّ جدا يف املايض،
تنتهِ كليًّا إال بعد الثورة الفرنسية .إنهم يريدون أن ينسوا تلك الذكرى األليمة
وأن التعصب ليس حكرًا عىل دين دون
ملحاكم التفتيش والحروب املذهبية التي
آخر .وكان بذلك يدافع عن اإلسالم
تشكل صفحة أليمة يف تاريخهم .وبالتايل
واملسلمني يف فرنسا .وتتخذ شهادته كل
فمحاكم التفتيش والحروب املذهبية لم
تنتهِ من الذاكرة الجماعية ،إنما ال تزال آثارها عالقة يف النفوس حتى اآلن .وإن
كانوا قد تجاوزوها عمليًّا بالطبع.
آالن جوبيه
أهميتها إذا ما عرفنا أنه هو من أصل كاثولييك ويعتز بديانته ومذهبه ..أما
أبشع محاكم التفتيش يف العالم فقد وجدت يف إسبانيا
وبني عامي 1257 - 1250م ،أي طيلة سبع سنوات ،قاد
التي كانت مشهورة بتعصبها الديني الكاثولييك .وقد ابتدأت
ً ً شخصا ،وسجن مدى الحياة (،)239 واحدا وعشرين بالنار
العرب واملسلمني من إسبانيا .وكان عىل رأسها امللكة إيزابيل الكاثوليكية ًّ جدا ،وكذلك زوجها فريدنان .وقد استهدفت لاً محاكم التفتيش أو «املسيحيني الجدد» ملعرفة فيما إذا
محاكم التفتيش يف جنوب فرنسا زعيم كاثولييك أصويل متعصب ًّ ّ جدا يدعى «روبري لوبوغر» .وقد ف ّتش كل املدن واألرياف هناك ً بحثا عن الزنادقة أو املزعومني كذلك .وحرق ورمى يف النار الكاهن «الزنديق» زعيم طائفة «الكاتاريني»
املارقة ،وحكم عىل قرية بأكملها باملحرقة؛ ألنه اتهمها بإخفاء
هناك عام 1480م قبيل انتهاء الحروب التي أدت إىل طرد
كانوا قد اعتنقوا املسيحية عن جَ ّد أم ال .وهؤالء الناس
ً سابقا إما مسلمني وإما يهو ًدا اعتنقوا مذهب األغلبية كانوا ً خوفا من االضطهاد واملالحقات .وكان ذلك بعد أن انتصرت
أحد الزنادقة الكبار من رجال الدين الكاتاريني .ما الفرق بينه وبني الدواعش حاليًّا؟ أال يمكن ّ عده داعشيًّا قبل األوان؟ هكذا
الجيوش املسيحية عىل العرب وإنهاء حكم ملوك الطوائف
واحد عىل عكس ما يزعم كثريون يف الغرب.
التفتيش يف إشبيلية ،إحدى عواصم التنوير األندليس يف
نالحظ أن كل األديان يمكن أن تفرز ظاهرة التعصب ال دين
يف األندلس .وليس من قبيل الصدفة أن يكون مركز محاكم
69
دراسات
سالف األزمان ..ومن أشهر قادة محاكم التفتيش ليس فقط يف إسبانيا إنما يف العالم كله شخص يدعى :توماس توركمادا
(1498 -1420م) .ومجرد ذكر اسمه ال يزال يثري القشعريرة يف النفوس حتى هذه اللحظة .فقد كان أشهر أصويل متزمت يف
الغرب املسيحي كله .وكانت جرأته عىل القتل والذبح تفوق الوصف .إنه أكرب داعيش يف العصور القديمة .وكان مقربًا ًّ جدا من امللكة إيزابيل التي ال ّ تقل تعصبًا عنه. رئيسا ملحاكم التفتيش اإلسبانية بني عامي ولذلك عيَّنوه ً
1498 - 1481م :أي طيلة سبعة عشر عامً ا! ويف ظل عهده «امليمون» ،أطلقت محكمة التفتيش يف طليطلة األحكام
مؤخرا؛ مررت بعواصم ومدن أوربية ً مثل :باريس وبروكسل وجنيف ونيو شاتيل ،واطلعت على مدى هيجان كثيرين وحساسيتهم بمجرد ذكر كلمة إسالم أمامهم
70
ً شخصا بالنار ،ذبح التالية :حرق عشرة آالف ومئتني وعشرين ً زنديقا آخر ،تعذيب خمسة وستني ستة آالف وثمانية وأربعني ً ً شخصا حتى املوت يف السجون، ألفا ومئتني وواحد وسبعني شنق اثني عشر ً ً شخصا متهمً ا بالزندقة ألفا وثالث مئة وأربعني
أو بالخروج عن الخط املستقيم للدين املسيحي (أي املذهب الكاثولييك البابوي) ،الحكم عىل تسعة عشر ً ألفا وسبع مئة
ً شخصا باألشغال الشاقة والسجن املؤبد .باختصار فإن وستني ّ هذه األحكام املرعبة شملت ما ال يقل عن 114ألف شخص، ويزيد .وكل ذلك حصل يف منطقة طليطلة وحدها .فما بالك
بما حصل يف مختلف مناطق إسبانيا األخرى؟!
وكل هؤالء الزنادقة كانوا يجردونهم من أمالكهم
وأموالهم وأرزاقهم .ولكن «توركمادا» رفض أن يأخذها لنفسه ،أو يغتني عىل حسابها .إنما ظل رجلاً فقريًا كأي راهب صغري بعد أن أعطاها الكنيسة أو الجمعيات الخريية املسيحية. وهذا يعني أنه كان متزم ًتا حقيقيًّا ومؤم ًنا كل اإليمان بما ً شخصا انتهازيًّا وصوليًّا .كان يعتقد أنه يتقرب إىل الله يفعل ال
إذ يذبح ويعذب ويحرق ولكن فاته أن الله رحمان رحيم.
التعصب يصيب األديان في حقب الجهل والقالقل
توقفت مطولاً عند هذه األحداث التاريخية ال ليك أش ّنع باملسيحية ً أبدا ،إنما ليك أبني أن التعصب ليس محصورًا
بدين ما دون بقية األديان كما يزعم بعض الغربيني حاليًّا وكما تشيع وسائل إعالمهم عمومً ا .إنما هو يصيب جميع األديان يف حقب الجهل والقلق والقالقل .والدليل عىل ذلك أن املسيحيني تجاوزوها كليًّا يف الغرب بعد أن تقدموا
وتطوروا واستناروا .وهذا يعني أنه يجب أن نكتب صفحة جديدة يف تاريخ األديان املقارنة أو باألحرى تاريخ األصوليات املقارنة .فال توجد أصولية أفضل من أخرى .كنا نتمنى لو أن متعصبي الغرب الحاليني قد تذكروا شي ًئا من ذلك قبل
أن يلصقوا تهمة التعصب باإلسالم واملسلمني فقط .كنا نتمنى لو أنهم احرتموا الحقيقة واملوضوعية التاريخية .أقول ذلك بعد أن مررت بعدة عواصم ومدن أوربية مؤخرًا؛ مثل :باريس وبروكسل وجنيف ونيو شاتيل ،واطلعت عىل مدى
هيجان كثريين وحساسيتهم بمجرد ذكر كلمة إسالم أمامهم.
فهم يربطونه فورًا برجم املرأة املخطئة ،وقطع يد السارق ،وتكفري املسيحيني
واليهود بشكل أتوماتييك ،وتربير العنف الالهويت الذي يحصد املارّة بشكل
عشوايئ ...،إلخ ،وينسون أن هذه املمارسات قليلة ومحصورة يف بعض الفئات املتعصبة ًّ جدا؛ مثل :طالبان والقاعدة وداعش وسواها ،وال عالقة ألغلبية
املسلمني الوسطيني العقالء بها .هناك صورة كاريكاتورية بل حتى هلوسية شائعة عن اإلسالم واملسلمني يف الغرب وحتمً ا يغذيها بعض األوساط املعادية. ولكن لحسن الحظ فإن أغلبية املستنريين الغربيني يرفضونها .فهؤالء يعتقدون
أن املسلمني سائرون عىل طريق التقدم واالستنارة ال محالة ،وأن املسألة مسألة وقت ليس إلاّ .من بني هؤالء ريجيس دوبريه الذي صرّح مؤخرًا قائلاً :يجب أن
ريجيس دوبريه
نكون صبورين مع اإلسالم والعالم اإلسالمي .فاألصولية املسيحية عارضت أفكار الحداثة والتقدم والتسامح طيلة ثالث مئة سنة قبل أن تقبل بها مؤخرًا وتتصالح معها .فلماذا ال يُعطى املسلمون املدة الزمنية الكافية ليك يستطيعوا تحقيق
املصالحة التاريخية بني اإلسالم والحداثة؟
العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
الظاهرة الداعشية ما بين اإلسالم والمسيحية نصوص
األلم على المرآة ُ محمد عفيف الحسيني
شاعر كردي سوري يقيم في السويد
ويركب َن ْورَجً ا ،يدرس به ّ يحمل ْ ُ قش الشمالُ ، ُ وكر ُْك َم شيخوخ ِته. كش ُكولاً ، كان ُ العاشقة -تراه بمرآتِها:وهي
ُ رائحة ّ مدلل. كبش الجبلي ،وعنا ُد يس له ِّ ٍ الت ِ ٍ ُ األيسر. هالله أخض ُر على ِزنده ِ ّ ُ ْن. نقاش الخافقي ِ ّ نق ُ األلم. اش ِ
ّ ُ الفض ِة من مرآتِها. قابس
ُ العاشق -ببرونزه ،يراها:وهو
ُ العسل ،وعناد الكريستال. رائحة لها ِ
ٌ ْ أسقطتها بين أصابِعه ،فأخذها. نجمة، لها نق ُ ّ الليل. اشة ِ
ٌ قابسة بنفسج شفتيه الراعلتين.
ُ قابسة هالله األخضر ،البرونزيّ . ُ يرتجف. َك َف ُل حصان
ُ ُ يرتعش. حصان غوستاف أدولف الثاني ،البرونزيّ ، كفل ِ
ٌ ُ الغريب في غوتنبورغ. ذهبي ،يسمعه صهيل ٌّ
ُ ٌ الغريبة ،وهي تراقبه في مرآتِها. صهيل أخضرُ ،تسمعه ٌ ٌ ُ ظالم شيخوخ ِتهما؟ تلمع في قصيرة أسيوف ِ
71
دراسات
72
شعرية التأمل الوجودي في «خرز الوقت» لعلي الدميني العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
رضا عطية
ناقد مصري
يأتي ديوان «خرز الوقت» أحدث دواوين الشاعر السعودي علي الدميني ،ليستأنف خطا ًبا جماليًّا لدى شاعر يبدو الشعر عنده سؤالاً وجود ًّيا ،تطرحه القصيدة من خالل مسعى الذات إلى تقديم رؤية للعالم ،عبر فاعلية التأمل الوجودي الذي تمارسه القصيدة في معاينتها العالم الذي يبدو موضع تساؤل دائم كموضوع للذات التي تتدبر دائمً ا أحوال هذا العالم وتحوالته .تبرز في الخطاب الشعري لعلي الدميني الذات التي يبدو صوتها واضحً ا وجليًّا في تعبيرها عن وحدتها ،وإعالنها ُ تفاقم اغتراباتها ،لتمسي الذات نفسها عن عزلتها الوجودية الغالبة في ً موضوعا لتأملها؛ فاألنا -لدى علي الدميني ُ -تحَ ِّدق في مراياها باستمرار ً بحثا عن ذاتها ،في ضياع سائد ُيفا ِقم قلقها الوجودي. ماهية الوقت
تجليات له عىل مرايا الوعي ،كرائحة
من عنوان الديوان «خرز الوقت»
القطار بما يحمله القطار كعالمة دالة
وعيها يف تعاطي الوقت بإدراك تكويناته
كرعشة املرآة بما تحمله املرآة من داللة
تتبدى لنا رهافة الذات ،وحساسية
عىل الرحيل يف املكان والزمان ،وهو
التمفصلية ،وبنيته الوحدوية؛ ألنّ الوقت
معاينة الذات ألناها ،وقد يكون لقرينها
هو التمظهُر الدقيق والتجزيئ للزمن ،وهو
يف اآلن ،ثم يبدو الوقت كأغصان الولع املعذب بالغناء ،وهو ما يعكس َت ُّ َّ بطن
ُربز أرق الوعي الشقي للذات بالزمن، ما ي ِ
فتقول الذات الشاعرة يف قصيدة «خرز الوقت»:
ُ رائحة القطار للوقت
ورعشة املرآة المرأ ٍة تزيّن صدرها بسحابةٍ عطىش، َّ املعذب بالغناءِ ، الولع وأغصان من ٍ ِ وللثواين ُ مثل رائحةِ الطفولة يف الحقائب، ّ الحصان، رنة األجراس يف عنق ِ ُ وصوت وثبتهِ األخرية.
تعمل الذات عىل صناعة َت ُّ مثالت للوقت ُتحيله من معطى
مجرد إىل صور مادية ،وتجسيدات ملموسة تكون بمثابة
البادي على الذات التي ترمق العالم بعيني التأمل ونظرات االندهاش في شعر علي الدميني هو توترها وقلقها بالمكان
الصورة بمشاعر الذات التي تصبغ علي الدميني
األشياء بها .وفيما يتبدى من الصياغة
التصويرية لعيل الدميني تشجُّ ر ً ً أحيانا ما فروعا للمُ شبَّه به ،كذلك الصورة؛ إذ يورق املشبَّه تقوم الصياغة الفنية بعملية قلب عىل عكس البنية الرتكيبية
التقليدية للتصوير وذلك بتقديم املشبَّه به كما يف (للثواين) عىل املشبَّه (رائح ِة الطفولة يف الحقائبّ ، رنة األجراس يف عنق
الحصان) ويف هذه الحالة يُمكن أن يتبادل املشبَّه واملشبَّه به ِ أدوارهما ،وهو ما يخلق مراوحة تصويرية ،ويجعل للصورة ً ً دافقا. إيقاعا
ويف َت ُّ مثل الذات الشاعرة للوقت لدى الدميني يبدو أنّ ثمة ً ُّ وشيجة ما بينه واألحزان ،كأنّ تفكر الذات يف الوقت هو ما يؤجج شجون الذات ويبعث أحزانها: الوقت نافذة عىل األحزان
ٌ ثوب من رماد العمر،
الكالم، عزف شاعرة عىل ماء وج ٌه من أساور ِ ِ ُ ورقصة التانغو، ُ التابوت، الحرب يف وعودة بعض جُ ْند ِ ِ
73
دراسات
كان الوقت مبتسمً ا ألسرى يف معارك لم يخوضوها، الحربي يف جيش تخلىّ عن بنادقهِ ، ومنتشيًا بصوت القائد ِّ وأنت ُت ّ طل مكسورًا عىل ُّ َ ّاك، الشب ِ
تقرأ عن جنون الطري يف ملهاة «سريفانتس» ما الذي يجعل الوقت نافذة عىل األحزان؟ هل هو شعور
الذات بالفقد وتبدد العمر كالرماد؟ وما عالقة هذا اإلحساس
بالحزن املتفاقِم بعزف شاعرة عىل ماء الكالم؟ وكأنّ شعور
الذات بالحزن وتبدد العمر بأثر عزف شاعرة .فيما هو با ٍد أنّ ً ً متنوعا يف عديد من الحركات والصور إيقاعا الذات تتمثل الوقت
كعزف الشاعرة عىل ماء الكالم ،ورقصة التانغو ،وعودة بعض
جند الحرب يف التابوت ،إيقاعات متفاوتة بني النشوة والحزن،
وإن كان الحزن هو الغالب ،حتى ما قد تبدى من نشوة فهي إحساس نشوة زائفة لقائد حربي يف جيش تخىل عن بنادقه. ٌ طاغ بالهزيمة يساكن الذات إزاء الوقت. عارم بالفقد ،وشعو ٌر ٍ
وكما يبدو من استعمال الصوت الشعري لضمري املخاطب أنّ الذات يف تحديقها يف مرايا الوقتّ ،إنما هي يف الذات َّ ُ ظلها أو قري َنها الشبحي حالة انشطار تعاين من خالله
74
الذي يطل مكسورًا من الشباك .وكما هو با ٍد فإنّ مفردات كالنافذة والشباك ترتدد بشكل الفت يف َت ُّ مثل الذات للوقت،
عىل رغم ّأنها عالمات مكانية باألساس .وهو ما يعني ليس تمكي ًنا للزمن؛ أي جعل الزمن ذا أبعاد وعينات مكانية فحسبّ ،إنما يعكس كذلك إحساسً ا ما لدى الذات بحاجة إىل االنفتاح عىل الخارج ،غري أنّ هذا الخارج الذي تتوق
الذات ملعاينته ال تجني منه غري األحزان واالنكسار .ولكأنّ
يأتي ديوان «خرز الوقت» أحدث خطابا دواوين علي الدميني ليستأنف ً جمال ًّيا لدى شاعر يبدو الشعر عنده وجوديا تطرحه القصيدة من خالل سؤاال ًّ مسعى الذات إلى تقديم رؤية للعالم عبر فاعلية التأمل الوجودي الذي تمارسه القصيدة وقت الذات ،ما يكشف عن ذاتية ونفسانية هذا الوقت الذي تعيشه الذات وتعاينه ،وهو ما يربز يف فعل هذا الوقت اللييل بكسر مجازات اللغات يف إشارة لسطوته ،كما يتبدى عدم سيطرة الذات عىل ذلك الوقت اللييل عىل رغم كونه نفسيًّا حتى ّإنه يبدو منتش ًرا ومهيم ًنا يف أقايص الجهات ،وكأنّ إحساس
الذات بالليل يفيض منسكبًا عىل الوجود متسيدً ا فضاءاته. مراوحات املكان
البادي عىل الذات التي ترمق العالم بعيني التأمل ونظرات
االندهاش يف شعر عيل الدميني ،هو توترها وقلقها باملكان، والبادي عىل أمكنة عيل الدميني ّأنها مشحونة بوجع الذكرى
ورائحة الفقد ،وهو ما يجعل الذات غري مستقرة باملكان الذي وتحس يف ثناياه بالوحدة ،فيقول تعاين فيه الفقد والغياب، ّ الدميني:
ً أغنية البيت ،يفتحُ خارجَ ِ
الذات تتلبسها روحٌ «دون كيشوتية» يف مواجهة رياح أقدارها
لتالل من الوجدِ تطرق باب املدينةِ ، ٍ
ويف وعي الذات بالوقت ،يتبدى أنّ الليل هو الغالب َ العالم ،فيقول عيل الدميني: واألكرث هيمنة عىل مشاهد
وحارقة كرحيق املدام.
العاتية ومصريها غري املوات.
شمس ِّ ب أغصانها للمنامْ ترت ُ تحت ٍ لاً ُ ُ يقف الليل مشتم بعباءتهِ َ ، قرب وقتي
ْ اللغات. ويكس ُر بني يديهِ مجا َز ِ أمد يديَّ إىل ّ ُّ ظلهِ
فيبارحني َ ْ الجهات ناشرًا ريش ُه يف أقايص للوداع بال راية ِ وال ورد ٍة للعتاب األخريْ!
يتجىل ميل الذات الشاعرة للنهار والشمس يف استعارتها
املجازية للشمس بأنها «ترتب أغصانها» لتميس كشجرة يف قرب استعذاب الذات للشمس ،يف حني يبدو الليل هو املرابض َ العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
عارية كاللغات
()...
ً ْ ُ نائمة أغنية يطفئ داخل البيت،
عن نديم توارى كطري بعيدٍ ٍ
ويرقد منزويًا يف السرير الذي يشب ُه املقربة!ْ يتأسس الخطاب الشعري املتمركز حول (البيت) كبؤرة مركزية للمكان ،كما ّأنه قد يكون استعارة عن الذات نفسها، والـ(أغنية) كبؤرة مركزية أخرى لفعل الذات يف الوجود ،عىل
مصفوفة من املتقابالت :الخارج /الداخل ،يفتح /يُطفئ ،ما ي ِّ ُغذي التوتر الدرامي للقصيدة النابضة بإيقاع نفيس مضطرب
للذات ،وسواء يف الخارج أو الداخل ،فال ينال الذات إال الوجد والفقد ،بتواري النديم والرقاد واالنزواء فيما يشبه املوات تحسه الذات يف األشياء وموضوعات عاملها .ونلحظ أن الذي ُّ
شعرية التأمل الوجودي في «خرز الوقت» لعلي الدميني
مفردة الغناء ترد بشكل مستمر يف خطاب الدميني الشعري،
رُبما بفعل وعي إبداعي مسكون بموروث شفاهي يعتقد باألثر
ملا تتيحه رخصة «الكذب الجمايل» التي تربز شي ًئا من الحس السوريايل الذي ي ِّ ُغلف وعي الذات الشاعرة بموضوعات العالم. ويف َت ُّ مثل عالقة (الكالم) الذي هو فعل الذات باستعماالتها
الغنايئ للشعر وتداوله. ُت َنوِّع الذات الشاعرة يف استعماالت الضمائر التي تتكلم
اللغوية إزاء (املاء) الذي هو موضوع العالم الذي تسعى الذات
القصيدة ،وكأنّ الذات تعاين نفسها من عىل مبعدة ما يُتيح لها تأمل أحوالها امل َت َق ِّلبة ،هذا التنوع الضمائري يف اإلشارة
يف ّر من معناه ،بال صفة أو لغة أو أسماء ،يف شعور ذايت بانبهام موضوعات العالم وأشيائه ،وهو ما يفجِّ ر تساؤلاً حول
عربها الذات بني املتكلم واملخاطب والغائب كما يف هذه
للمضمر نفسه بغري ضمري يربز تعدد زوايا رؤية الذات نفسها ُنعش إيقاع القصيد. كما ي ِ لغة الشاعر
تبدو الذات الشاعرة يف خطاب عيل الدميني شديدة
الحساسية تجاه لغتها ،وكأنّ عني الذات عىل اللغة يف
استيعابها األشياء ،واحتوائها عناصر العالم ،وتعبريها عن الوجود ،وتمثيلها الجمايل له شديدة االنتباه والتبصر ،فيقول
الدميني يف قصيدته «تمثال املاء»:
املاءُ َ الكالمُ يجيد وصف املاءِ ، هل كان حني يف ُّر من معناه، ً عريانا ،نحيلاً ،دونما صفةٍ ، وال ُل َغةٍ ،وال أسماءْ ؟
إذا كان عنوان القصيدة «تمثال املاء» يحمل ً نوعا مما
يُمكن أن نصفه بـ«التنافر الضدّ ي» بني عنصري الرتكيب، فالتمثال أبرز ما ي َِسمه هو الصالبة والجمود ،يف حني أنّ املاء
يوسم باالنسيال واالنسيابية ،وهو ما يكون مضادًّا لصالبة التمثال؛ فإنّ ذلك يربز فاعلية الشعر وعمل املجاز استثمارًا
إلدراكه بفعل (الوصف) ،يبدو هذا (املاء) عصيًّا عىل الوصف،
عالقة اللغة بالعالم ،أيهما أسبق ،وأيهما يخلق اآلخر ،هل اللغة هي التي تصنع العالم وتصيغ موضوعاته؟ أم أنّ العالم ُشكل اللغة وي ِّ بأشيائه وعناصره هو الذي ي ِّ ُخلق الكالم؟ ً إذا ،فاللغة هي هاجس الذات الشاعرة ومناط تساؤلها
يف شعر عيل الدميني ،فتبحث الذات يف عالقة اللغة بالعالم،
وفعل العالم باللغة:
ّ ً حاملة خطاياها إىل لغتي، تتسل ُل العنقاء ّ تتسل ُل األسرا ُر من عينني مثقلتني بالتقوى كما
وبالصبوات، ِ ُ توقد َ قرب طاولتي مواعيد الخرافة يف التفاتاتها، ُ وتهرب
ْ ُ القصيدة. ارتباكات حني تفضحُ ني يتضح -لدينا -أنَّ الذات الشاعرة تدرك انتفاء سيادتها عىل
لغتها يف إدراك لفعل الالوعي اللغوي الذي تتسلل إليه عناصر الخرافةً . إذا ،فالعالم -لدى عيل الدميني -هو الذي ي ِّ ُشكل ُ واللغة هي التي تكتب الذات ،كما يف الفكر ما اللغة ويكتبها، ً بعد البنيوي ،وكذلك وفقا للمبدأ الهايدغري بأنّ اللغة هي
التي تكتبنا أكرث من كوننا نحن الذين نكتب اللغة ،وهو ما يفيض بالقصيدة إىل االرتباك الذي يفضح ذاتها الشاعرة.
75
دراسات
هل يمكن الحديث عن «شذرة نقدية»؟ شاكر لعيبي
شاعر وباحث عراقي
هل يمكن الحديث عن «شذرة نقد ّية» العربي ،كما نتح ّدث عن شذرة أدبية، في اإلرث ّ شعرية أو نثرية ،عالية؟ وما المقصود بذلك؟ ال عقلي ،مرسوم نتحدث هنا إال عن تفكير نقديّ ، ّ الحدود إلى هذه الدرجة أو تلك ،قيلت بصيغة ً أحيانا ،مكتملة البنيان أو مختصرةَ ،عرَضيّة تكاد ،وتنطوي على انغالق واكتفاء بذاتها أو تكاد .قراءة التعريفات المق َّدمة للشذرة ،تشير إلى أنها «صيغة أدبية» باألحرى ،وليست نقدية، حتى لو أُ ْد ِرج بين مستخدميها باسكال وروالن بارت وهنري ميشو وسيوران وغيرهم كثير ،وأن شكلها ُيسائل تجزئة الذاكرة والفكر ،وأنها تقود إلى غير المكتمل والعابث المثير للسخرية ،ومن َثمّ تقود ،بشكل متنا ِقض ،إلى شكل من أشكال الوعي الشامل .لسنا لذلك في الوعي النقديّ شبه ّ ْ َ المنهجي المكتفي بذاته في إطار شكل مُ ختصر. ّ
76
العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
العربي ،يُخيَّل لنا ،أننا أمام (شذرة نقدية) األدبي يف اإلرث ّ ّ
األدبي أو عموم الجماليات، مُ تواتِرة ،موضوعها النقد الشعريّ ، ّ كأنها (البيت الشعريّ الواحد) املكتفي بنفسه عىل مستوى
آخر ،ونضع نحن يف إطار هذه (الشذرة النقدية) بعض األبيات
الشعرية أو مجزوءاتها التي كان موضوعها الرئيس تفكريًا نقديًّا ،شعريًّا وجماليًّا صريحً ا .بالطبع ،تتفاوت قيمة الشذرات النقدية ،إملاحيّتها ،عمقها ،درجة اختصارها ،وإحاالتها.
الجملة منسوبة البن عبـاس ،وهي ّ تدل عىل عراقة الشعر
العربي ،وأنه أقدم من القرن الرابع امليالديّ بكثري ،وأقدم من ّ ّ ْ املعلقات .كما تدل عىل أن النص القرآين قد يُعْ ِجم [أعجَ مَ ّ أي أَبهمَ ] ،عرب مفردات أو استخدامات (غامضة أو أجنبية او
العربي ْ بأعجَ م. مبهمة = أعجمية) ،وليس الشعر ّ ()4
بعضها يقوم بإحاالت مَ ْخ ِفيّة ال ي ُْفصح عنها منذ الوهلة األوىل،
ّ «خري الكالم ما ّ وجل ،ولم َي ُط ْل في َُم ّل» قل
متيس ًرا بالضرورة اليوم. ال يكون ّ لاً نقدّ مُ هنا ،مدخ للفكرة التي نقرتحها.
والفارق كبري دالليًّا بني (الداللة) و(الجاللة) .الشعر واقع يف
الثقايف العام السائد الذي قد ويتوجّ ب تأملها أو ربطها بالسياق ّ
()1 َ ُ شاعرًا ل ِف ْط َن ِته [ ]...وقالوا (كلمة شاعرة) أي «س ّمي [الشاعرُ] ِ قصيدة».
هذا ما جاء يف لسان العرب ،وقبله« :ويقال َشعَ َر فالن َ شاع ٌر أي وشعْ ٌر وشعْ ًرا ،وهو االسم [ِ ]... وشعُ َر ي َْشعُ ر َشعْ ًرا ِ ِ َ واإلشادَة ،وقيل هو بمعنى مشعور به، جيد؛ أرادوا به املبالغة ِ َ وقد قالوا «كلمة شاعرة» أي قصيدة» .وهنا الفارق بني مفهوم الشعر عند العرب بصفته شعورًا ،عن مثيله لدى اإلغريق مثلاً ً ً وخلقا (انظر التايل). إبداعا بصفته
()2
«هذه قصيدة َم ْخلوقة». أَي مَ ْنحولة إِىل غري قائلها ،كما يف اللسان الذي يضيف، َ َ الكذب وخلق فالخ ْل ُق يف اللسان هو الكذب [أي االختالق] َ واخ َت َل َقه ْ ك ُ يخلقه َ وتخ َّل َقه ْ واإل ْف َ وافرتاه ابتدَ عه ومنه قوله تعاىل ِ َ {:وتخ ُلقون إِ ً ْ فكا} .ومنه قوله تعاىل{ :إِنْ هذا إِال َخ ْل ُق األوَّلني}، يمة َ وخ ُلق َ ب َ األوَّلني قيل ِش ُ األولنيُ ، األولني ،وقيل فمعناه َكذِ ُ َ َ َ عادة َ ْ ْ ُ َ األوَّلني .ومَ ن قرأ {خلق األوَّلني} فمعناه افترِ اءُ األوَّلني؛ قال األوَّلني} أَراد اخ ِتالقهم وكذبهم ،ومن قرأَ {خ ْل ُق َ الفراء« :من قرأَ َ {خ ُلق َ ُ يل» .أراد بأنه يفهم العبارة بمعنى األولني} ،وهو أَ ُّ حب إِ َّ َ عادة األولني .ثم يضيف اللسان هذه اإلضافة الدالة« :والعرب
الخرافات من َ الخ ْلق ،وهي ُ تقول حدَّ ثنا فالن بأَحاديث َ األحاديث ْ املف َتعَ لةِ»؛ وكذلك قوله{ :إِنْ هذا إِلاَّ ْ اخ ِتالق} ،وقيل يف قوله َ َ تعاىل{ :إِن هذا إِال اخ ِتالق} أي َت َخ ُّرص .ويف حديث أبي طالب {إِنْ هذا إِال اختالق} أَي كذب ،وهو ْ اف ِتعال من َ ْ واإلبْداع ،كأَنَّ الخلق ِ الكاذب َّ تخلق قوله ،وأَصل َ الخلق التقدير قبل القطع. ()3
«إذا َتعاجَ م يشء من القرآن ،فـانظروا فـي الشعر ،فإن
الشعر عرب ّـي».
الثعالبي (التمثيل واملحاضرة) ص .158نلحظ أننا ال نشري ّ ودل) الشائعة ،بل إىل (ما ّ قل ّ إىل (ما ّ وجل) أي صار جليلاً . قل
الجليل أكرث مما هو يف الدليل.
()5
شاه ْد َغ َ شيات َِها إذا لم ُت ِ سن ِ ري حُ ِ أع َ س ُن َع َ َو ْ نك ُم َغي ُ َّب ضائ َِها فالحُ ْ بيت املتنبي يف الخيل .من الواضح أن املتنبي يتحدث عن
املثايل proportion idéaleيف الصورة الجمايل التناسُ ب ّ ّ الجميلة (الحسنة) ،وهو ال يعده كافيًا لقيام الجمال روحي أو أخالقي ،وهو ما كان الحقيقي ،إذا لم يرتبط بمعيار ّ ّ
يشري إليه البيت السابق يف القصيدة: ديق َق َ الخ ُ «وَما َ ّ ليلة يل إال كالص ِ
وَإنْ َكثرُ ْ ب» ني مَ ن ال يج ّر ُ َت يف َع ِ تناسب الخيول الحقيقة األصيلة قليلة كما الجمال امل ُ ِ ٌ قليل. الحقيقي األصيل ّ ()6 ُ ُ الجمال الجمال الظاهر ،وحسن العقل س ُن الصورة «حُ ْ ُ الباطن».
الثعالبي يف (التمثيل واملحاضرة). من املأثورات التي يوردها ّ
وهي عبارة تتفق تمامً ا مع بيتي املتنبي اآلنفني عن األحصنة: َأع َ ضا ِئهَ ا فالحُ ْسنُ َع َ سن ِشياتِهَا و ْ نك شاه ْد َغ َ إذا لم ُت ِ ري حُ ِ مُ َغي ُ َّب الشكيل ال يكفي بدون املعنى العميق .إن فك َرتيَ الجمال ّ (املريئ )visibleو(الالمريئ )invisibleاألوربيتني ،تجدان ّ
ترجمة أقدم يف التعبريين العربيني (الظاهر) و(الباطن).
()7 َ َ َ شيب ،كفى ذاك عارا َبعد امل ِ ُ سـ ـ ُ كم ـ ــا َقـ َّي ــد األ ُ ـرات الــحِ ـم ـ ــارا
ْف أَن ــا وان ِتحايل َ فكي َ واف الق يِ َ ِّ َ وق ـ ـ َّي ـ ـ َـدن ــي الش ْعـ ـ ـ ُر فــي بي ِته والبيتان لألَعىش بصدد االنتحال (سرقة الشعر) .لنقرأْ جيدً ا َ «وق َّيدَ ين ِّ الشعْ ُر يف بي ِته» ،فالحديث يجري عن (السرقة
77
دراسات
َص ُ الشعرية) القائمة اليوم عىل قدم وساق .و ْ ف األعىش
االنتحال بـ (العار ،عيب) هو توصيف حاسم ،ال يُقنع املنتحلني السراق اليوم؛ ألن الفكرة الجوهرية لألعىش هي التصاق ُّ َ ً ِّ دَ عْ الشاعر بالشعر التصاقا وجودًا يمنعه السرقة( :وق َّي ين الش ُر يف بي ِته) ،وهي فكرة تغيب عن لصوص نصوص الشعر دومً ا،
ويعدونه (بضاعة ميتافيزيقية مشاعة). ()8
س ُن الصورة أ ّو ُل السعادة». «حُ ْ
الثعالبي (التمثيل من األقوال املأثورة أو األمثال زمن ّ واملحاضرة) .والعبارة تقوم بعملية تعميم ،وإن كان ظاهرها
اآلدمي) و(سعادة القلب) البشريّ ،لتمتدّ إىل صورة (الكائن ّ
والجمايل ،وإىل سعادة اللذة الجمالية صورة وبنية الشعريّ ّ العريضة (يُستحسن مراجعة مفهوم السعادة عند الفالسفة فلسفي باألحرى. املسلمني) .صيغتها صيغة َخلاَ ِصيّة ،من نمط ّ إذا ما قرأت العبارة عىل أنها تتعلق بالشعريّ ،فلسوف نغوص ً الذهني أو عميقا يف داللة البنية الداخلية للصورة بمعناها ّ الصورة الشعرية املتخيَّلة.
78
()9 ِّ «اثنان َّ والش ْعر الجيّد». قل ما يجتمعان :اللسان البليغ،
الثعالبي (التمثيل من األقوال املأثورة أو األمثال زمن ّ واملحاضرة) .ولعل بعضنا ال يوافق عىل هذا املعيار النقديّ .وال نوافق عىل ظاهره ّ قط ،إال إذا فهمناه بمعنى آخر :كأن اللسان
الفني) نفسه وهو األدب ،فاستنفد البليغ قد تك ّرس يف (النوع ّ
نفسه ،فلم يستطع اإلبداع يف الفن الشعريّ .أو كأنه أراد،
وهو التفسري الذي نقبله باألحرى ،أن البالغة وحدها (خاصة عناصر بالغة الخطابة) ال تشكل النص الشعريّ املتكوّن من
عناصر وجودية وتجربة ذاتية ومعرفية ذات حساسية تتجاوز
نقدية» هل يمكن الحديث عن «شذرة ّ
نتحدث عن شذرة العربي ،كما في اإلرث ّ ّ
أدبية ،شعرية أو نثرية ،عالية؟ في
العربيُ ،يخ َّيل لنا ،أننا أمام األدبي اإلرث ّ ّ
«شذرة نقدية» ُمتواتِرة ،موضوعها النقد األدبي أو عموم الجماليات، الشعري، ّ ّ
الشعري الواحد» المكتفي كأنها «البيت ّ بنفسه على مستوى آخر
وأوله :قيل ليحيى بن خالد الربميك :لو قلت الشعر، فقال ...الثعالبي (التمثيل واملحاضرة) ص .146ي ْ ُضمِ ُر الر ّد أن يف
طبيعة الشعر نفسه نزعة متم ّردة ،ال تخضع لتسويات العقالنية
العربي. الباردة .وبذا يتوجب فهم مفهوم (شيطان الشعر) ّ ()12
ُ ٌ عروس ،مهرها العقل». «النبيذ
الثعالبي يف (التمثيل واملحاضرة). من املأثور الذي ينقله ّ اليوم تبدو مثل هذه الصيغ األدبية ،التخيليّة أقرب للوعي الرومانيس ،فهل يُباح لنا الحديث عن نزعة رومانسية الشعريّ ّ
الثعالبي جنينية يف القرن العاشر امليالدي ،زمن أبي منصور ّ النيسابوريّ .
«تنحّ عن طريق القافية».
للثعالبي .يراد من أقوالهم املأثورة( ،التمثيل واملحاضرة) ّ
بالشذرة أن كتابة الشعر صعبة .ال يكفي ترتيب القوايف إلبداع
قصيدة ،إنها تتجاوز التقفية.
و(املحسنات القديمة ،والحديثة إذا شئنا) .إذا فنون البالغة ّ
الحايل يف غاية األهمية. كان فهمنا صحيحً ا ،فاملعيار ّ ()10
سن ِّ َ الجمال». الش ْعر ملن «إن حُ ْ
وأوله« :حدّ ثنا عيل بن الجهم ،قال كنت عند املتوكل فتذاكروا عنده الجمَ ال ،فقال :إن حُ ْسن ِّ الشعْ ر ملن الجمَ ال».
من كتاب (أخبار الخلفاء) للسيوطي .يتعلق األمر بأن (الشعر) يقع يف صلب مادة الجماليات .esthétique ()11
«شيطانه أخبث من أن ّ أسلطه عىل عقيل». العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
()13
()14
ّ ُّ التصنع ُّ التكلف تظرُّف». تمتع ،وال مع «ليس يف
امليداين .وهي شذرة واضحة الداللة، من أمثال العامة زمن ّ
ال تحتاج إيضاحً ا.
«هو َير ُْق ُم يف املاء».
()15
وهو من مجمع األمثال للميداين ويشرحه بالقول إنهُ:
«يُضرب للحاذق يف صنعته .أي من حذقه يرقم حيث ال يثبت فيه الرقم .قال الشاعر:
سأرقم يف املاء القراح إليكم
عىل نأيكم إن كان يف املاء راقم
نقدية»؟ هل يمكن الحديث عن «شذرة ّ
انتهى .واملسألة تتعلق بعموم (الصنعة الفنية) ،والشعرية ْ والرقم عمومً ا هو الرسم والتخطيط يف قلبها دون شك. الغرافييك والنقش والكتابة .املاهر بصنعته هو كمن يرسم أو ّ ّ ُحدد املثل طبيعة املهارة ،ولكنه يتحدث عن ينقش يف املاء .وال ي ِ مهارة فنية وجمالية.
()16
قال الجاحظ« :إن الشعر ضر ٌ ْب من النسج ،وجنس من التصوير.
الجاحظ يف كتاب الحيوان :132/3والفكرة تشدّ د عىل عملية البناء ،البنية املُحْ َكمَ ة للشعر. ()17
للنسج والتأليف والصياغة والبناء والويش «[النظم] نظري ْ والتحبري».
مما ذكره الجرجاين يف (دالئل اإلعجاز) ،ص ،49والنص
للنسج الكامل هو« :وكذلك كان [النظم] عندهم نظريًا ْ
والتأليف والصياغة والبناء والويش والتحبري ،وما أشبه ذلك مما يوجب اعتبار األجزاء بعضها مع بعض حتى يكون لوضع كل حيث وُضع ّ ّ علة تقتيض كونه هناك ،وحتى لو و َ ُضع يف مكان غريه لم َيصحّ » .نجد أن مفردة (النظم) ملتبسة قليلاً
الجرجاين ،فال يبدو واضحً ا أنه يقصد بها ،بالضرورة، يف نص ّ ْ ْ املحسنات البديعية املعنى األعمق للشعر .أضف لذلك أنه يَقرن ّ
بمفهوم النظم (يُشار لها بالويش والتحبري) .ما بقي يُعالج ّ تختل باختالل عنصر من فكرة البنية املحْ َكمَ ة املشار إليها التي العناصر.
()18
ثمة استشهادان يتعلقان بالفن ،يتوجب ،حسب ظننا،
املعني بالفن والجماليات التوقف أمامهما مليًّا. عىل ّ
قال اآلمدي« :لن ينتفع بالنظر إال من يحسن أن يتأمل،
ومن إذا تأمل َعلِمَ ،ومن إذا َعلِمَ أنصف». َ َ هذه الشذرة يف غاية األهمية؛ ألن الفعل نظ َر يف العربية
مرتبط بمفهوم (االنتظار) من جهة ،وبعملية اإلبصار والرؤية التشكييل ،من جهة أخرى .تعاود التي هي جوهر العمل ّ
الشذرة ربط البصر بالبصرية.
السائدة) واملقدرة (اإلبداع الفرديّ ).
()20 ً متينا عىل عذوبته يف الفم، «[الشعر] الجزل أن يكون
ولذاذته يف السمع».
ابن األثري «املثل السائر يف أدب الكاتب والشاعر» .تعني الجزالة يف األصل ،مثل رجل جَ ْزل ،جودة الرأي .وامرأة جَ ْزلة
أي تامة الخلق أو ذات كالم جَ ْزل أي قوي شديد .واللفظ الجَ ْزل هو املتني خالف الركيك .والجزالة تشري يف استخدامات النقد
الرتايث إىل الفصاحة والبالغة .ولعلنا هنا أمام تحديد مختلف ّ
ملفهوم البالغة ،يف الشعر خاصة ،وهي تربطها بعذوبة النطق ولذة السمع.
()21
«الفصاحة هي الظهور والبيان ،ال الغموض والخفاء».
ابن األثري «املثل السائر يف أدب الكاتب والشاعر» .مشكلة
العربي .هنا ال العربي وغري األدبي، الغموض قديمة يف النقد ّ ّ ّ
()19
وقال ابن رشيق« :إنما مثل القدماء واملحدثني كمثل رجلني
ابتدآ :هذا بناه فأحكمه وأتقنه ،ثم أىت اآلخر فنقشه وزينه، فالكلفة ظاهرة عىل هذا وإن حسن ،والقدرة ظاهرة عىل
ذلك وإن خشن».
يتعلق األمر بالفارق بني مفهوم التجويد (تحسني املنجزات
نتحدّث عن الفصاحة يف الشعر بالضرورة؛ لذا تبدو الشذرة ّ محلها السليم .عندما يقع تناول الفصاحة يف الشعر ،ليس يف هناك اتفاق مطلق عىل (شرط الوضوح) .من هنا السجاالت بشأن شعر املتنبي الذي لم يُتهم ،عىل رغم خفاء دالالت بعض
أبياته وغموضها ،بعدم الفصاحة.
79
بورتريه
صفية بن زقر شغف بالرسم واستدراج المحيط محمد العامري
80
ناقد وفنان أردني
لم يكن األمر باليسير حين تقرر فنانة سعودية ترتبط بتقاليد اجتماعية لها محدداتها أن ِّ تقدم في وقت مبكر إنجا ًزا بائ ًنا في مجال الفنون التشكيلية ،علمً ا بأن جغرافيا الوطن العربي كانت تعاني جهلاً وحصارًا للفنون التشكيلية .فالفنانة «صفية بن زقر» التي كرَّمها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز بوسام الملك عبدالعزيز من الدرجة األولى في مهرجان الجنادرية مطلع فبراير المنصرم ،استطاعت تجاوُز تلك الظروف الصعبة ،لتتحيز لهواجسها الفنية ،وتفتح عبر ريادتها نافذة ً تحديدا عند سفرها مع كبيرة لممارسة الرسم والتلوين .وأعتقد أن الظروف ساعدتها في تجاوز ذلك، ّ تحتك بمجتمعات تختلف أسرتها إلى القاهرة في عام 1947م ،الذي أتاح لها الفرصة منذ طفولتها ألن ّ بمركباتها عن مسقط رأسها ،فكانت القاهرة هي الجرعة األولى لتف ُّتح موهبتها الحرة ،لتغادرها إلى بريطانيا كي تلتحق بمدرسة ،Finishing schoolمدة ثالث سنوات دراسية. لم تتوقف الفنانة «بن زقر» املولودة يف حارة الشام بجدة عام
ال يمكن إقصاؤه ،لكونه حالة إنسانية داخلية ،تضغط عىل صاحبها
كما ذهبت ثانية إىل بريطانيا لتلتحق بكلية سانت مارتن للفنون،
رائدة عىل مستوى السعودية بل هي من الرائدات العربيات عىل مستوى الفن التشكييل النسوي ،فهي من أُوليات النساء اللوايت
1940م ،عن البحث لتطوير أدواتها؛ إذ عادت إىل القاهرة يف عام 1965م
لتتعلم أصول الرسم والتلوين والغرافيك ،فشغف «بن زقر» باملعرفة
جعل منها فنانة تمتلك أدواتها االحرتافية يف مجال الفنون ،وعالمة من عالمات الفن التشكييل العربي.
ما يجذبني ألتأمل أعمال هذه الفنانة هو امتالكها ِصدقية عالية
يف طبيعة أشكالها ،والحساسية الجمالية
لتقدم لها الظرف املناسب إلخراج تلك الهواجس .فلم تكن «بن زقر»
درسن الفن الذي أسس لحالة مهمة يف الحركة النسوية السعودية يف مجاالت عدة ،ولم يكن دورها مقتص ًرا عىل الرسم ،بل هناك جانب توعوي مهم لها ،وبخاصة تأسيسها دارة تحمل اسمها ،افتتحت يف
واللونية يف إنتاج املشهد ،وهذا ينمّ عن موهبة
أصيلة ،تحققت عرب شغف هائل بالرسم
والتلوين ،واختبار مجموعة من املوضوعات
التي تنتمي يف الغالب إىل محيطها الذي تعيش فيه ،فهو الخ ّزان البصري البكر الذي ّ يغذي بصريتها بطبيعة املوضوعات ورصد تحوالتها يف أوقات متعددة من السنة ،من
حيث طبيعة اإلضاءة وتبدالت الطقوس اللونية التي انعكست عىل طبيعة الباليتة
اللونية يف مجمل أعمالها .فريادة «بن زقر» مؤشر إيجابي عىل تمظهرات اإلبداع الذي العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
عمل لصفية بن زقر
عام 2000م لتضم الدارة يف جنباتها الرتاث السعودي بكل مكوناته ،إىل جانب مكتبة تضم مجموعة من الكتب الفنية واألدبية ،لتشكل الدارة منارة ثقافية تبث الوعي وتسهم يف تغذية األجيال بمعارف أساسية،
وتحديدًا يف ظرف سيايس دقيق يعاين مكوِّنات التط ُّرف واإلرهاب. إبداع وتوعوية
لقد صنعت الفنانة «صفية بن زقر» مسارين أساسيني؛ مسار
اإلبداع الفني املهم ،واملسار التوعوي ،الذي يشكل ديمومة إيجابية يف املجتمع السعودي .كما أنها أسهمت مع مجموعة أساسية من
الفنانني السعوديني؛ منهم :عبدالحليم رضوي ،ومحمد السليم، وعبدالعزيز الحماد ،وعبدالجبار اليحيا ،ومنرية موصيل ،وطه الصبان وآخرون ،يف إيجاد منظومة تشرتك يف معاينة هموم ثقافية
تطمح إىل نشر الفنون بني الناس .ونرى أنَّ الحياة الثقافية السعودية
اآلن يف حركة دائمة من معارض وأمسيات ونشر ،وهذا املؤشر يقدم وجبة جمالية مهمة لهذا الشعب وصولاً إىل مؤثراته عىل بعض املجتمعات العربية.
من الظلم أن يصفها بعض الكتاب بأنها «ماتيس السعودية»،
فهي الفنانة التي أنصتت إىل جوارحها لتخلص لطبيعة مختلفة
طقوس الحناء عند العروس ورقصة السيف واألفراح بشتى أنواعها،
غني بالتفاصيل املغرية للرسم ،فكانت فهي تعيش يف مجتمع ّ ألوانها أقرب إىل لباس املرأة السعودية ،والسجاجيد والستائر امللونة واملذهَّ بة ،وصولاً إىل طقوس شعبية متنوعة؛ منها :طقس شرب
الشاي ،وقراءة الطالع ،وسوق الجمال يف الصحراء ،واملدينة بكل
تفاصيلها ،إىل صيد الصقور ،وتعاطي الجراك ،وبائعي الحلوى، ومشاهد الرعي ،وطبيعة األلبسة البدوية واأللعاب الشعبية.
ومن أهم مميزات عملها إىل جانب التلوين ،توظيف الفعل
الزخريف ،سواء أكان نباتيًّا أم هندسيًّا ،لصالح العمل ،لكونه ينتظم يف التعبري عن الحياة الشعبية ،بل َّ وظفت كثريًا من الحروفيات والكتابات يف مناخ عملها الفني الذي يحتمل الكثري من اإلضافات
واالمتالء يف التكوين .إنَّ ما أنجزته «صفية بن زقر» يشكل مساحة
الفتة يف الفنون العربية املعاصرة ،حني ينتظم عملها يف بنائية رصينة وقدرة هائلة عىل تطويع الباليتة اللونية لصالح موضوعاتها ،لتنتج
غنائية لونية فردوسية ،أسهمت يف إعطاء عملها حيوية وقدرة عىل
التواصل مع ما هو نخبوي وما هو عام ،تلك هي املعادلة الصعبة التي أتقنتها «بن زقر».
عما ذهب إليه «ماتيس» ،فقد تأملت مناخات االحتفاالت الشعبية السعودية من رقصات وتقاليد شعبية يف األعياد واملناسبات،
81
بحس يمتلك رهافة صادقة ،بل شكلت العني لتعكسها يف أعمالها ٍّ النقية للتعريف بطبيعة املجتمع السعودي عرب ِّ نصها الجمايل ،فلها
أسلوبية ُّ تخصها يف التعامل مع موضوعات شربتها عينها مبك ًرا ،بل
مارستها وساهمت فيها عرب طقوس املجتمع السعودي ،فهي األصدق يف إعادة صياغة تلك الطقوس عرب أعمال خالدة ما زالت تنبض
بالحياة ،لتشكل ذاكرة بصرية مهمة عىل مدى األجيال القادمة. ً مكانا إال واختربته عرب مادة الرسم ،فرنى لم ترتك «صفية بن زقر»
أعمالها تعكس طبيعة العمائر السعودية القديمة ،حيث يتعرف
الناظر إىل أعمالها طبيعة تلك العمائر ،واملواد املستخدمة فيها. حالة شعرية
املكان لدى صفية هو حالة شعرية وشعورية ترصد من خالله
تفاصيل األطفال وحركة الحشود البشرية يف األسواق وتفاصيل حركة الشارع ،مؤكدة عىل طبيعة خاصة يف الغنى اللوين ،فهي من
الفنانات العربيات امللوِّنات بامتياز ،فاللون بالنسبة لها أساس مهم يف أعمالها؛ ألوان ذات زخم له حضوره الطاغي .واملكان هو البيئة
املهمة التي تضم تلك الطقوس ،حيث ترصد االحتفاليات العفوية
للناس ،فرنى يف أعمالها رقصة العرضة النجدية إىل جانب
هودج مزخرف اتصفت به الفنون الشعبية السعودية.
إنها فنانة ال تمتلك إال الصدق يف التعبري عن
مجتمعها الذي تنتمي إليه ،فوثقت بأسلوبها الخاص:
لم تكن «بن زقر» رائدة على مستوى السعودية ،بل هي من الرائدات العربيات على مستوى الفن التشكيلي النسوي، فهي من ُأوليات النساء اللواتي درسن الفن الذي أسس لحالة مهمة في الحركة النسوية السعودية في عدة مجاالت
قضايا
أين األدب الروسي اليوم؟ ً ً شيوعا فيما يخص حضور اآلداب العالمية والتواصل معها عربيًّا ،هو: واحدا من أكثر األسئلة لعل لاً ُ أين األدب الروسي اليوم؟ لماذا لم نعد نقرأ أعما لكتاب جدد يختلفون في حساسياتهم وفي رؤاهم
عن تلك النخبة من األسماء التي اكتسحت أعمالها المشهد األدبي العربي عقو ًدا ،وأثرت فيه على نحو عميق؟ ألم يعد الروس يكتبون أد ًبا في مستوى ما ّ قدمه تورغينيف ودوستويفسكي وتولستوي
وتشيخوف وباسترناك وأخمتوفا وماياكوفسكي وسواهم من أسماء تنتمي إلى تلك الحقبة أو غيرها ّ تخص خيارات دور من الحقب الالحقة؟ أم أن الترجمة إلى العربية تعيش حالاً من الركود ألسباب قد النشر أو قلة حيلة المترجم؟ ً لاً «الفيصل» تنشر هنا مقالين الثنين من المتخصصين في الترجمة عن الروسية ،ومقا ثالثا يتناول شخصية بوتين وصعود نجمه السياسي ،على اعتبار أنه ال يمكن فصل األدبي عن السياسي.
82
العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
األدب الروسي الحديث.. وأسئلة الراهن أحمد الخميسي
مترجم وأكاديمي مصري
اختلفت صورة األدب الروسي الحديث على مدى ربع قرن منذ زوال االتحاد السوفييتي بإعالن رسمي في 8ديسمبر 1991م حتى يومنا .ويتفق النقاد الروس على وضع االتجاهات األدبية الجديدة تحت عنوان عريض هو« :أدب مرحلة التحول» الذي خلع خالل ربع قرن جذوره من الماضي ،لم يستقر بعد على دروب واضحة .وعندما يدور الحديث عن االتجاهات الحديثة في األدب الروسي المعاصر ،فإن المقصود هو الظواهر والنزعات الفكرية والفنية المختلفة التي ظهرت خالل تلك المدة بعد فك االرتباط الوثيق بين األدب وتوجهات النظام السياسي الحاكم .هو إذن أدب « مرحلة التحول» ..إلى ماذا وإلى أين؟ اإلجابة تستدعي أن نعرف ولو في عجالة «التحول من ماذا؟» وقد يكون القارئ على اطالع بصورة الحريات والثقافة القاتمة في العهد السوفييتي ،لكنه على األرجح لم يضع يده على حقيقتين تاريخيتين استندت إليهما السلطة ،وشكلتا األساس الفكري والقانوني لمالحقة اإلبداع والتنكيل باألدباء على النحو المروع الذي جرى.
83
قضايا
أنا أخماتوفا
الحقيقة األوىل خاصة بصدور قانون املطبوعات الذي
نشرته الحكومة عقب الثورة يف 27أكتوبر 1917م ،وأقرت به وقف نشاط الصحف واملطبوعات «املعادية» وبناء عليه أغلقت يف الشهرين األولني من عمر الثورة أكرث من مئة وخمسني
صحيفة .ويف حينه وعد لينني زعيم الثورة أن ذلك القانون «قانون مؤقت تفرضه الظروف» وأنه ما إن تستقر أوضاع الثورة حتى ينال الشعب «أكرث القوانني تقدمية» .لكن القانون
«املؤقت» تحول إىل قانون دائم ،وظل يحكم الحياة الثقافية يف روسيا واالتحاد السوفييتي ثالثة وسبعني عامً ا كاملة إىل
84
أن صدر قانون جديد للصحافة واملطبوعات يف 20يونيو 1990م! هذا عىل مستوى الثقافة واإلعالم إجمالاً .أما يف املجال األدبي فتربز حقيقة أخرى ر ِّ ُسخت يف املؤتمر األول
لألدباء السوفييت عام 1934م ،وفيه قام املؤتمر
بزعامة مكسيم غوريك وأندريه غدانوف بتدشني نظرية ومصطلح «الواقعية االشرتاكية» مذهبًا
أدبيًّا رسميًّا لإلبداع .ومع أن تاريخ األدب يشري
سيرجي يسنين
فالديمير ماياكوفسكي
الحالة السوفييتية! وكان ذلك يعني فعليًّا أن فتح أي مسارات جديدة للخيال واألدب -خارج نطاق عقيدة الدولة األدبية-
خروج عىل الدولة والنظام السيايس! القضاء عىل حرية األدب
هكذا قىض قانون الصحافة بشكل عام عىل حرية التعبري،
وقىض تبني مذهب أدبي عىل حرية األدب وتنوعه ،وصودرت حرية التعبري وحرية األدب مع احتكار حزب واحد للسلطة.
وما بني مطرقة قانون الصحافة وسندان «املذهب األدبي للدولة» طارت رؤوس األدباء وصودرت أعمال ونفي ُك َّتاب إىل معسكرات االعتقال وراحت الدولة تالحق كل من يفكر أو يشعر خارج إطار السياسة الرسمية املعتمدة ،وأغلقت الجمعيات والروابط األدبية ،وطرد املبدعون من اتحاد الكتابُ ، وضيِّق عليهم يف أرزاقهم وفيما
يكتبون .ويف أثناء تلك الصورة القاتمة الحت غارقة يف ظالل املوت واألىس أسماء وأرواح
دوما إىل انحياز النظم السياسية للمدارس
شعراء عظماء مثل :أنا أخماتوفا وزوجها الشاعر نيقوالي غوميليوف الذي أُعدم بتهمة ملفقة
اتخذت دولة لنفسها مذهبًا أدبيًّا رسميًّا إال يف
بالتونوف ،والروايئ املذهل ميخائيل بلغاكوف
واالتجاهات األدبية التي تخدم النظام الحاكم،
فإنه لم يحدث عىل امتداد ذلك التاريخ كله أن
االنفجار األدبي الروسي في النصف األول من تسعينيات القرن العشرين سيأخذ أشكا شتى ،كان في مقدمتها لاً في ظل التحول التاريخي بروز تيار أدبي كامل يتقدم حام رايات (الرواية لاً التاريخية) لمراجعة الماضي القاتم، وإعادة قراءته على ضوء جديد ،ليتلمس الحقيقة بين ركام األكاذيب
العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
ّ والقاص العبقري أندريه بعد محاكمة صورية،
صاحب الرواية العبقرية «املعلم ومرغريتا» انتهاء بالكاتب الساخر ميخائيل زوشنكا الذي كان
يسخر دون توقف من كل املظاهر السلبية ،فأجربته الدولة عىل
الصمت والعزلة .وتأرجحت يف سماء روسيا وطوايا ضمريها أنشوطة االنتحار مُ ّ لتفة حول أعناق األدباء ،وكان يف مقدمتهم
الشاعر العظيم سريجي يسنني الذي عرثوا عليه يف ديسمرب َّ معل ًقا بأنشوطة يف حجرة بفندق «إنرتناشونال» وقد 1925م
ترك بيتني من الشعر عىل قصاصة يقول فيهما« :ليس ابتكارًا أن تموت وأن تحيا ليس أكرث ابتكارًا».
األوضح داللة أن يجدوا بعد ذلك فالديمري ماياكوفسيك
الذي حسبوه «شاعر الثورة والطبقة العاملة» منتحرًا برصاصة
أين األدب الروسي اليوم؟
مارينا تسفيتايفا
يف إبريل 1930م! وتقطر األجواء بمآيس األدباء العزل الذين واجهوا فرادى كل ذلك الطغيان ،فتدخل الشاعرة الروسية العظيمة مارينا تسفيتايفا إىل حجرة منعزلة يف بيتها لتنهي
ألكسندر سولجينتسين
فالديمير سوروكين
يف يونيو 1987م ،فتشرع الكلمة يف فك قيودها وسالسلها، وتتقدم الحقيقة لتعلن عن نفسها سياسيًّا وأدبيًّا. إبداع بال ضفاف
حياتها بأنشوطة يف 31أغسطس 1941م وهي يف التاسعة ِّ مخلفة وراءها قصائدها واألربعني شاعرة ملء السمع والبصر،
«مرحلة التحول» األدبي إذن هي مرحلة االنتقال من
والقصص غري املريض عنها فقد ظلت دفاترها حبيسة خزائن
التعددية السياسية وإىل إبداع بال ضفاف عىل مستوى الشكل
امللهبة ومغزى مصريها الفاجع .أما دواوين الشعر والروايات حديدية ألكرث من ثالثني عامً ا يف مقرّات اتحاد الكتاب! ولم ينجُ منها سوى األعمال التي َّ تمكن أصحابها من تهريبها إىل خارج
روسيا بمعجزة ُ فطبعت ُ ونشرت هناك.
بعد موت الزعيم السوفييتي ستالني وصل زعيم جديد إىل
استبداد النظام السيايس وفرضه رؤية خاصة لألدب إىل واملضمون .لهذا يصبح مفهومً ا تمامً ا أن يحدث يف النصف األول من تسعينيات القرن العشرين بعد وقف الرقابة عىل
األدب ما أسماه أحد الكتاب «انفجارًا أدبيًّا يف كل االتجاهات». وقد اتخذ ذلك االنفجار أشكالاً شتى ،كان يف مقدمتها يف ظل التحول التاريخي بروز تيار أدبي كامل يتقدم حاملاً رايات
الحكم عام 1955م هو نيكيتا خروتشوف ،ومعه ظهرت بوادر انفراجة صغرية ُعرفت بمرحلة «ذوبان الثلوج» نظرًا لسماح
(الرواية التاريخية) ملراجعة املايض القاتم ،وإعادة قراءته عىل
أن نشر ألكسندر سولجينتسني روايته الشهرية« :يوم يف حياة ً راصدا فيها بشاعة معسكرات إيفان دينيسوفيتش» عام 1962م
هي روايات تاريخية إىل جانب أربع روايات شبه تاريخية؛ ً وأيضا منها« :يوم من أوبرشنيك» تأليف فالديمري سوروكني،
الرقابة بنشر رواية إيليا إهرنبورغ «ذوبان الثلوج» ،لكن سرعان ما ُس َّدت تلك االنفراجة لتتجمد الثلوج يف الصقيع ثانية بعد
االعتقال ،ثم أعقبها بعمله الكبري« :أرخبيل غوالغ» يف 1965م (جزر املعتقالت) وسجل فيه من واقع رسائل املعتقلني إليه
عمليات التنكيل البشعة من عام 1918م إىل 1956م ،وتمكن من تهريب الرواية إىل باريس حيث ُنشرت كما حدث مع رواية:
«دكتور زيفاغو» تأليف باسرتناك وغريها .وال يستنكف الزعيم السوفييتي
ليونيد بريجنيف عن التصريح يف 7 يناير 1974م داخل اجتماع رسمي وعل ًنا
ضوء جديد ،ليتلمس الحقيقة بني ركام األكاذيب .لهذا يرصد النقاد 12رواية من أصل 20رواية ُتدوولت يف روسيا عام 2016م
رواية «حلم حياة سوخانوف» ألولغا غروشني ،وتتناول وضع املرأة يف العهد السوفييتي ،ورواية «التاريخ السري ملوسكو»
تأليف يكاترينا سديا ،وفيها تستعرض الكاتبة حياة موسكو يف تسعينيات القرن العشرين ،وأخريًا رواية «سانيكا» لزاخار بريلبني عن شخص عالق بني عهدين املايض الشيوعي والحاضر الرأسمايل .كما فازت رواية
الكاتبة يليينا كوليادينا املسماة
بأن روايات سولجينتسني تمثل «هجاء ًّ فظا للسوفييت ..ومن ثم فإن لدينا كل
الروسية يف عام 2010م ،وفيها
وتظل البريوقراطية الحزبية تحكم
أرشيفية من القرن السابع عشر
املسوغات الكافية لوضعه يف السجن»!
وتنفي وتشيع الخوف إىل أن ظهرت
البريسرتويكا (سياسة إعادة البناء)
«الصليب املزهر» بجائزة البوكر تعتمد الكاتبة مباشرة عىل مواد
تسجل أحداث إحراق فتاة شابة
بتهمة مزاولة السحر.
85
قضايا
دوستويفسكي
االتجاه التاريخي ظهر ً أيضا يف رواية الكاتب املعروف فيكتور
السنوات األخرية فقد ظهرت كاتبة مثل ألكساندرا ماريننا منذ
الداخل ،وتعيد النظر يف كل ما جرى ،وقد ح ِّولت الرواية
وصلت مبيعات إحدى رواياتها إىل عشرة ماليني نسخة! ومن أشهر أعمالها رواية «خطوات الجنون الخفيفة» ،وهناك ً أيضا
أستافييف «امللعونون والقتىل» التي تعري جوهر الحروب من إىل مسرحية عرضت يف عام 2010م عىل مسرح موسكو الفني،
والقت رواجً ا كبريًا .ولعل أبرز ما يشري إىل اتجاه الرواية الروسية الحديثة إىل التاريخ بقوة هو منح جائزة نوبل للكاتبة سفيتالنا
ألكسيفتش عام 2016م ،وعىل الرغم من الطابع الصحفي
ّ تصب يف مراجعة التاريخ السوفييتي ،كما فعلت ألعمالها ،فإنها
86
بولينا داشكوفا
بوريس أكونين
يف روايتها «أبناء الزنك» واملقصود بالزنك هو املادة التي تصنع منها توابيت جثث الجنود الروس العائدة من أفغانستان خالل
الحرب السوفييتية هناك ما بني عامي 1989 -1979م .إذن تلوح الرواية التاريخية كأحد أهم التيارات األدبية الروسية الحديثة،
وأعتقد أن ذلك مفهوم ومربر حينما يجد اإلنسان أن عليه أن يعيد بناء تاريخه من منظور آخر أدبيًّا وفكريًّا وسياسيًّا.
عام 1995م بروايتها «الفصيح» ،والكاتبة بولينا داشكوفا التي
بوريس أكونني ومن أشهر رواياته «مهمات خاصة» و«عشيقة
املوت» وغريها .ويف مجال الخيال العلمي برز نيك بريوموف صاحب روايتي «وحدة الساحر» و«حارس السيوف» ،وغريه.
وإذا نحينا جانبًا تياري «الرواية التاريخية» و«أدب التسلية الجماهريي» وهما األكرث انتشارًا وتحد ًدا شكلاً ً ومضمونا ،فإن
العنوان العريض الذي يجمع التيارات األدبية األخرى هو «ما بعد الواقعية» ويف مقدمتها الواقعية السحرية ،والسوريالية، ً وأيضا والفانتازيا ،والعودة إىل األساطري مادة للعمل الروايئ، التيار املعروف باسم «( »Nonfictionضد القصة أو الالقصيص)
حيث يختلق الكاتب سريًا ذاتية لشخصية من العظماء .ولعل
عىل صعيد آخر ،ال يمكن تجاهل حقيقة أن التيار األدبي
أبرز نموذج عىل ذلك النوع رواية الكاتب بافل باسينسيك املسماة
البوليسية ،وروايات الغرائز الجنسية والخيال العلمي.
قصة هروب الكاتب العمالق تولستوي منذ مئة عام من بيته يف ضيعته «ياسنايا بوليانا» ليلاً ،وهي من األحداث العائلية القليلة
األكرث رواجً ا هو تيار أدب التسلية الجماهريي :أي الروايات
ويعود ذلك الرواج الهائل إىل النظرة السوفييتية السابقة إىل مثل ذلك النوع من األدب الذي حظرته عىل أساس أنه «غري هادف» ،ومن ثم فإنه لم يكن عمليًّا متاحً ا للقراء عىل مدى أكرث من سبعني عامً ا .وهي النظرة التي تجاهلت أن ذلك األدب الجماهريي بأنواعه خاطب ويخاطب دومً ا حاجة
اإلنسان امللحّ ة إىل التخفف من أعبائه بدرجة من الفن ،وليس بكل أعماق الفن .لهذا غرق
القارئ الرويس مع االنفتاح الفكري يف قراءة روايات أغاثا كريستي ،وشرلوك هوملز ،وجيمس
تشيس ،ودارت بقوة عجلة الرتجمة يف ذلك االتجاه املربح ،عىل الرغم من أن ذلك النوع ليس ً جديدا عىل األدب الرويس ،فقد سبق أن كتبه
يف األربعينيات أدباء مثل :ليونوف ،ودانييل
كاريتسيك يف السبعينيات ،وغريهما .أما يف العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
«ليف تولستوي .الهروب من الجنة» وفيها يتخيل الكاتب وفق
ًّ جدا التي أصبحت جزءً ا من تاريخ األدب العاملي واهتماماته .وقد أصبحت هذه الرواية أفضل كتاب بيع يف معرض الكتاب الدويل
الرويس بموسكو عام 2010م.
أين األدب الروسي اليوم؟
ليو تولستوي
وتشارك أجيال مختلفة يف خلق «أدب ما بعد الواقعية» من
بينها أدباء جيل الستينيات الذين عاصروا الحقبة السوفييتية
مثل :فاضل إسكندر ،وفالنتني راسبوتني ،وفاسييل أكسيونوف، وغريهم ،وأدباء جيل السبعينيات مثل :فيكتوريا تاكورييفا،
وأندريه بيتوف ،وغريهما .أما الجيل الثالث فهو جيل األدباء الذين ظهروا بعد زوال االتحاد السوفييتي ،مع سياسة إعادة البناء (بريسرتويكا) ويف مقدمتهم تاتيانا تولستايا بمجموعاتها
القصصية «الجدران البيضاء» ومجموعة «الدائرة» ،وأيضا
الكاتب فيكتور بيليفن ،وفالديمري سوروكني ،وغريهم .وهو الجيل الذي بدأ يكتب يف عصر ال يعرف الرقابة عىل األدب،
فاستهواه ما يسمى بتحطيم الطواطم املقدسة ،أي الخوض يف كل ما كان محظورًا بشأن الجنس والعقيدة والسياسة. الخروج عىل النظرة التقليدية
عند نهايات القرن املايض تألق أدباء من جيل آخر تمامً ا، ً موهبة واقتدارًا ،مثل :سريجي لعلهم أكرث أبناء الجيل الحديث
ً وأيضا الكاتب املبدع زاخار شارغونوف ،والروايئ كوتشريجني، بريليبني الذي فازت روايته «الخطيئة» بجائزة «البوكر الرويس» التي تأسست عام 1991م يف روسيا ً وفقا لنموذج جائزة البوكر
الربيطانية بصفتها أول جائزة أدبية ضخمة يف روسيا منذ عام ًّ خاصا ألولئك 1917م ،وقد الحظ النقاد أن الجائزة تويل اهتمامً ا
الذين خرجوا عن طوع النظرة التقليدية .عند أبناء ذلك الجيل الذي بدأ اإلبداع من دون رقابة ،وفيما يكتبونه ،سنشهد بقوة تلك
املرتكزات الفكرية التي تتقاسمها حركات أدبية عديدة يف العالم،
ويف مقدمة تلك املرتكزات اإليمان بأن عهد األيديولوجيا والقضايا الكربى قد وىل من زمن ،وأن معنى الوطن قد اهتز وتبدل،
ولم يعد من املمكن التعلق بنموذج أو مثال يحتذى ،وال الحلم َ بعالم فاضل ،فقد سقط كل املثل ،وأن معركة األدب الوحيدة
تدور ما بني اإلنسان وداخله ،ويف عالم من ذكرياته الحميمة، وهواجسه ،ولهذا كثريًا ما ي َّ ُركز عىل الشكل يف تلك األعمال، واألنا ،والدوران املنهك حول الذات كنقطة انطالق ألي يشء ،مع
ألكسندر بوشكين
تاتيانا تولستايا
يبقى التحدى األكبر أمام الجيل الجديد من الكتاب الروس متمث في العثور لاً على الطريق الذي يمتد من إنجازات األدب الروسي الكالسيكية العظيمة مفضيا في الوقت ذاته إلى مسارات ً جديدة وآفاق رحبة ،تضيف الجديد إلى دفتر التفاعل الثقافي العربي الروسي إدارة الظهر للعالم الواقعي بمعناه القديم االعتيادي ،فإن كان ثمة صراع قد َّ تبقى فإنه الصراع بني حرية الذات اإلنسانية والنظم الشمولية التي تسحق اإلنسان أينما كانت ،ولعل أبرز ممثيل ذلك
االتجاه هو فيكتور بيليفني رغم انتمائه لجيل سابق .وسينتبه من
يتابع إىل أن الرؤى الفكرية والفلسفية العامة التي امتاز بها األدب الرويس الكالسييك قد غربت تمامً ا يف أدب «مرحلة التحول»، فلم يعد يلوح أديب مثل ليف تولستوي صاحب الحرب والسالم
ونظرته األخالقية والفلسفية للعالم ،وكيف ينبغي أن يكون، وال دوستويفسيك الذي حسب أن «الجمال سينقذ العالم» وأن
«الشفقة» وحدها هي القانون الذي يحكم الكون .لن نرى يف أدب «مرحلة التحول» نظرة شاملة لإلنسان والكون إنما مجرد السري ً املنهك ً وبحثا عن هوية يف عالم تتداعى فيه بحثا عن نور وأمل، الهويات القومية والفكرية.
التفاعل الثقايف العربي الرويس يبقى التحدي األكرب أمام الجيل الجديد من الكتاب متمثلاً
يف العثور عىل الطريق الذي يمتد من إنجازات األدب الرويس الكالسيكية العظيمة مفضيًا يف الوقت ذاته إىل مسارات جديدة
وآفاق رحبة ،تضيف الجديد إىل دفرت التفاعل الثقايف العربي الرويس الذي كتبت أول سطوره مع دخول اإلسالم آسيا الوسطى املتاخمة لروسيا يف القرن السابع امليالدي ،وجنوب روسيا نفسها
87
قضايا
فاضل إسكندر
يف داغستان والشيشان بالقوقاز ،ثم جاءت بعد ذلك رحلة
به أنه طلب االستماع إليه مرتلاً حني كان منفيًّا بني شعوب
فضالن إىل الفولغا» ،وقدم فيه صورة الشعب الرويس للمرة
ً تحديدا يطلب محمد عيل باشا مؤسس 1835م ،ويف ذلك الوقت
ابن فضالن إىل روسيا مطلع القرن العاشر (922م) حني وصلها ً مبعوثا من بغداد لنشر اإلسالم ،وكتب كتابه املسمى «رحلة ابن
األوىل إىل العرب .ويف املقابل قدم الرحالون الروس صورة العرب
إىل روسيا ألول مرة يف كتاب «رحلة إيغومني دانييل إىل األرايض املقدسة يف القرن .»12وكان ذلك هو التعارف األول بني الثقافتني،
ومع نشأة األدب الرويس ظهر أثر الثقافة العربية بقوة لدى أمري
88
غائب طعمة فرمان
أبو بكر يوسف
الشعراء الروس ألكسندر بوشكني (1837 -1799م) مؤسس األدب ً ً وقصة ،فقد قرأ بوشكني القرآن ورواية الرويس مسرحً ا وشعرًا الكريم مرتجمً ا باللغة الفرنسية واللغة الروسية ،وبلغ من تأثره
آسيا املسلمة ،ثم كتب قصيدته «قبسات من القرآن الكريم» ً الحقا «ليال مصرية» عام يف تسعة مقاطع عام 1824م ،وكتب
نهضة مصر الحديثة من روسيا أن تساعده يف تعليم املصريني «التعدين» الستخراج الذهب من رمال السودان .ويتصل ذلك
التفاعل يف القرن ،19فيعكف الروايئ العمالق ليف تولستوي
عىل ترجمة بعض أحاديث الرسول صىل الله عليه وسلم من اإلنجليزية إىل الروسية ،ويصدرها عام 1909م يف كتاب بعنوان:
«حكم النبي محمد» مقدمً ا لها بدفاع حار عن اإلسالم .وعندما حرمت الكنيسة تولستوي حقوقه كتب له اإلمام محمد عبده
زوال االتحاد السوفييتي أوقف الترجمة إلى العربية ال شك أن حركة الرتجمة قد قامت بدور كبري يف التفاعل الثقايف ،ورسخت العالقات التاريخية السابقة عىل الرتجمة ،وقد
بدأت تلك الحركة يف روسيا فعليًّا يف القرن 18عندما أمر القيصر بطرس األكرب (1725 -1672م) يف خضم بناء دولة حديثة بنسخ بقايا الكتابات العربية املحفوظة يف مدينة بلقار ذات األغلبية املسلمة وترجمة تلك الكتابات ،ثم إنشاء أوىل مدارس املستعربني ،ودخول اللغة العربية يف مناهج التعليم الثانوي عهد يكاترينا الثانية يف بعض املدن الروسية مثل أسرتاخان وغريها .ويف عام 1804م بدأ
تدريس اللغات الشرقية يف الجامعات الروسية وأنئش أول قسم للغة العربية .وبدأت تتسع حركة ترجمة الفكر واألدب من العربية.
وشهدت تلك الحركة وثبة عىل يدي املستشرق الكبري أغناتيوس كراتشكوفسيك (1951 -1883م) الذي ُعدت ترجمته القرآن الكريم أدق ترجمة أكاديمية مقارنة بما سبقها من محاوالت ،كما ترجم أعدادًا كبرية من األعمال العربية،
وأشرف عىل إصدار «ألف ليلة» ونشر العديد من الدراسات واألبحاث املهمة قبل ثورة أكتوبر 1917م،
منها« :تشيخوف يف األدب العربي» ،و«األدباء الروس يف العالم العربي» وغريهما ،وساعده يف ذلك
أنه قىض عامني يف البلدان العربية ،والتقى خاللهما طه حسني ومحمود تيمور وجورجي زيدان وآخرين من رواد النهضة الثقافية.
ويمكن التأريخ لحركة الرتجمة الحقيقية بأعمال كراتشكوفسيك ،ومع ثورة 1917م وظهور
الدولة السوفييتية بثقل مصالحها االقتصادية والعسكرية تأسست عدة دور نشر يف روسيا ،عكفت عىل ترجمة اآلداب العربية ،ويف مقدمتها «دار التقدم» ،و«دار رادوغا» (قوس قزح) ،و«دار مري»
(السالم) ،والقسم العربي يف «دار ناؤوكا» (العلم) ،وقدمت تلك ال ُّدور ترجمات ممتازة ألعمال
عمالقة األدب الرويس :تورجنيف وتشيخوف ،قام بها األديب العراقي املعروف غائب طعمة فرمان،
العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
أين األدب الروسي اليوم؟
رسالة بالفرنسية يهون فيها عليه قائلاً له« :وإن أكرب جزاء نلته
ودعوة املصريات لالقتداء بها .وعندما بلغ نجيب محفوظ عامه
عىل متاعبك يف النصح واإلرشاد هو هذا الذي يسميه الغافلون
التسعني وكان نظره وسمعه قد ضعفا ،سألته إحدى الصحف
اعرتاف منهم أعلنوه للناس أنك لست من القوم الضالني» .ويرد
«الحرب والسالم لتولستوي» .كما تأثر نعمان عاشور يف مسرحيته
بالحرمان واإلبعاد ،فليس ما حصل لك من رؤساء الدين سوى تولستوي برسالة عىل خطاب اإلمام.
عن الرواية التي ما زال يذكرها يف هذه السن املتأخرة ،فأجاب:
ومع بدايات تبلور الثقافة املصرية القومية يف ظل ثورة 1919م
«الناس اليل تحت» بمسرحية مكسيم غوريك «الحضيض» ،وتأثر ً أحيانا يوسف إدريس بتشيخوف ،واستمر ذلك التفاعل إىل يومنا
جناحي موباسان الفرنيس وأنطون تشيخوف الرويس ،حتى إن
وما زالت هناك صفحات كثرية مجهولة لنا يف األدب
يقول األديب الكبري يحيى حقي :إن القصة القصرية ولدت بني
أدباء تلك السنوات كانوا يجلسون يف املقاهي فريقني :أنصار تشيخوف ،وأنصار موباسان .وال تخلو قصص األخوين عيىس
عبيد وشحاتة عبيد (1920م) من اإلشارة إىل املرأة الروسية ودورها
ً وأحيانا بضعف لكن من دون انقطاع. بقوة
الرويس ،بعضها كتبها رحّ الون إىل منطقة الخليج يف القرن ،17
و ،18وصفحات أخرى جديرة باالكتشاف والتعرف ،مثلما أن
روسيا ما زالت حتى اليوم تكتشف الدنانري والدراهم العربية الذهبية يف املناطق الشمالية بها.
أجور الترجمة الزهيدة نسب ًّيا مع مشقة الترجمة أجبرت الكثيرين على تغيير مسارهم .ويظل األمل في أن التفاعل الثقافي الروسي العربي سيعثر على طريقه لتستمر الثقافة واألدب في القيام بما قال عنه تولستوي «التعارف الروحي بين البشر» والدكتور أبو بكر يوسف ،وغريهما ،وعىل صعيد آخر استطاع املستعربون الروس أن يقدموا للقارئ الرويس معظم األعمال العربية
املهمة بالروسية :رواية «زينب» لهيكل ،وقصص محمد ومحمود تيمور ،وعبدالرحمن الشرقاوي ،ونجيب محفوظ ،وبهاء طاهر، وتوفيق الحكيم ،ويوسف إدريس ،وطه حسني ،بل استطاعت املستشرقة الكبرية فالرييا كريبتشنكو أن ترتجم كتاب «تخليص اإلبريز
يف تلخيص باريز» لرفاعة الطهطاوي وأن تنشره منذ عامني.
لكن حركة الرتجمة تلك توقفت تقريبًا مع زوال االتحاد السوفييتي وتراجع املصالح الروسية يف العالم العربي؛ بسبب توقف
دعم الدولة للمؤسسات الثقافية نهائيًّا ،فوجد معظم املستعربني أنفسهم مرغمني عىل العمل يف مؤسسات تجارية خارج نطاق
العلم واللغة .بينما بدأت حركة الرتجمة عندنا من الروسية إىل العربية يف وقت متأخر ،مطلع القرن العشرين ،لكن الرتجمات كلها كانت نقلاً من لغة وسيطة فرنسية أو إنجليزية ،إىل أن ظهر يف منتصف الستينيات عدد من األساتذة العرب الذين أنهوا تعليمهم يف
روسيا ،فأخذت تظهر للمرة األوىل ترجمات أدبية عربية مباشرة من الروسية تفادت كل أخطاء الرتجمة من لغات وسيطة.
إال أن حركة الرتجمة عندنا من الروسية إىل العربية قد توقفت عندنا هي األخرى تقريبًا ،وهذا ألن سلسلة الدارسني العرب يف
روسيا قد انقطعت منذ نحو عشرين عامًا ،بعد أن توقفت روسيا عن تقديم املنح الدراسية املجانية ،مع هزال البعثات العلمية العربية إىل روسيا ،بحيث لم يبق عىل الساحة الثقافية إال عدد قليل من املرتجمني العرب األ ْكفاء ممن تعلموا يف الستينيات والسبعينيات من
القرن املايض .من ناحية أخرى فإن أجور الرتجمة الزهيدة نسبيًّا مع مشقة الرتجمة أجربت الكثريين عىل تغيري مسارهم .ومع ذلك
يظل األمل يف أن التفاعل الثقايف الرويس العربي سيعرث عىل طريقه لتستمر الثقافة واألدب يف القيام بما قال عنه تولستوي «التعارف الروحي بني البشر» ،ويتزايد هذا األمل بعد أن تحرر األدب الرويس من أقدام الرقابة واالستبداد التي داسته طويلاً .
ذات يوم قال الشاعر الداغستاين الكبري أبو طالب غفوروف« :ال تطلق رصاص مسدسك عىل املايض ليك ال يفتح املستقبل عليك
نريان مدافعه» ،وقد داست املرحلة السوفييتية بعنف عىل زهور كثرية ،وآمال كبرية ،وسحقتها ،فأخذ األدب الرويس الحديث اآلن يفتح عليها نريانه وهو يجول بعينيه ً بحثا لنفسه عن درب تستقر عليه قدماه.
89
قضايا
محنة الك ّتاب الروس مع قادة الكرملين..
من لينين إلى بوتين
90
جودت هوشيار
كاتب عراقي
كان البالشفة قبل استيالئهم على السلطة في روسيا ينادون بحرية الرأي والتعبير ،وينددون بالرقابة المفروضة على المطبوعات ،واضطهاد الكتاب والشعراء والمفكرين .ولكنهم بعد وصولهم إلى السلطة تناسوا شعاراتهم الديماغوجية ،ومارسوا أعتى أنواع الرقابة على المطبوعات ،واضطهدوا كل مفكر ومبدع ال يخضع لمقاييس الحزب الحاكم األيديولوجية .واتخذ العلماء واألدباء الروس المعروفون مواقف متباينة من النظام الجديد .هاجر عدد كبير منهم إلى البلدان األوربية ،أما معظم الباقين فقد اتخذ موقف التوجس واالنتظار .ولم يؤيد الثورة البلشفية إال عدد قليل من المفكرين واألدباء. فالديمير بوتين ،وجوزيف ستالين ،وفالديمير لينين العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
أين األدب الروسي اليوم؟
يف عام 1922م قامت السلطة
السوفييتية برتحيل نخبة من خرية
املفكرين والفالسفة واألدباء الروس الرافضني للحكم الجديد إىل الخارج،
يف باخرة سميت فيما بعد بـ«باخرة
ً شخصا ،وأعقبتها الفالسفة» تضم 160
بواخر أخرى مماثلة .وقد ب ّرر تروتسيك
وكان ال يزال أحد القادة الكبار يفالنظام البلشفي -هذا الرتحيل الجماعي قائلاً « :إننا نرحل هؤالء الناس؛ ألنه
ليس ثمة مربر إلعدامهم ،ولكننا ال نحتمل بقاءهم». آلة القتل الستالينية
بعد وفاة لينني يف أوائل عام 1924م استطاع جوزيف
ستالني ،الذي كان أحد قادة السلطة الجديدة ،تشديد قبضته عىل الحكم تدريجيًّا بالقضاء عىل منافسيه وتصفيتهم،
الواحد بعد اآلخر .كان النظام الشمويل يرى يف كل زاوية عدوًّا ،ويف كل كلمة حق مؤامرة إمربيالية .وكان مصري كل كاتب أو شاعر ينتقد النظام هو اإلعدام أو االعتقال والنفي إىل
أقايص سيبرييا .يف 15أغسطس 1934م أرسل ستالني تعليمات
سرية إىل الزار كاغانوفيج أحد أقطاب النظام السوفييتي حول كيفية التعامل مع األدباء يقول فيها« :ينبغي التوضيح لكل
األدباء ،أن اللجنة املركزية للحزب وحدها هي صاحبة األمر والنهي يف األدب ،كما يف املجاالت األخرى ،وينبغي عليهم الخضوع لها من دون مناقشة» .لكن ستالني كان يف حاجة إىل واجهة ثقافية أمام العالم ،ولم يجد خريًا من غوريك –الذي كان قد غادر روسيا عام 1921م ،بعد خالفه مع لينني -للقيام
بهذا الدور ،واستطاع إقناعه بالعودة إىل روسيا .لم تكن صحة
غوريك يف سنواته األخرية عىل ما يرام ،وتويف عام 1936م؛ مما
شكل صدمة كبرية للكتاب والشعراء املستقلني ،ألن غوريك -بشخصيته الكاريزمية ونفوذه املعنوي وعالقته بستالني-
كان حاميًا لهم من االضطهاد .وحدث ما كان يخشاه الكتاب
نيكيتا خروتشوف
ليون تروتسكي
الشيوعي) عام 1956م ،وخطاب خروتشوف الشهري الذي
كشف فيه النقاب عن جرائم ستالني.
تميزت هذه الفرتة يف الحياة الثقافية بإعادة االعتبار
إىل معظم ضحايا العهد الشمويل ومن ضمنهم الشعراء
والكتاب ،وإطالق سراح املعتقلني منهم ،وتخفيف الرقابة عىل املطبوعات واملسرح والسينما والفنون األخرى؛ إذ أصبح ممك ًنا تسليط بعض الضوء عىل الجوانب السلبية للواقع السوفييتي. وأصبحت مجلة «العالم الجديد» األدبية املنرب الرئيس
للكتاب األحرار؛ حيث نشرت املجلة العديد من األعمال األدبية املتميزة؛ منها :رواية« ليس بالخبز وحده يعيش اإلنسان»
لفالديمري دودنتسوف ،ورواية ألكسندر سولجينتسني «يوم
واحد يف حياة إيفان دينيسوفيتش» اللتان ترجمتا إىل العديد من لغات العالم .ويف عام 1957م نشرت يف ميالنو رواية بوريس باسرتناك «دكتور جيفاغو» الذي نال عنها يف العام التايل جائزة
نوبل لآلداب .كان بعض املتزمتني يف القسم األيديولوجي للحزب الشيوعي يح ّرض خروتشوف ضد األدباء األحرار ،وينتهز كل
هفوة لهم للنيل منهم ،وجاءت الفرصة الذهبية لهؤالء حني اتخذوا من نشر الرواية يف الخارج ذريعة لشن حملة شعواء
ضد باسرتناك ،وإرغامه عىل رفض الجائزة .ولكن التيار الليربايل يف اآلداب والفنون كان يكسب مواقع جديدة كل يوم؛ إذ برزت يف بداية الستينيات نخبة موهوبة من الكتاب والشعراء الشباب
الذين شكلوا ظاهرة أدبية جذبت األنظار .وقد أطلق عليهم النقاد
املستقلون؛ إذ طحنت آلة القتل الستالينية يف السنوات التالية
اسم «جيل الستينيات» وأصبحوا منابر إبداعية للتعبري عن آمال
وأزالت أسماءهم أينما وردت.
األدباء وأساليبهم األدبية .وقد أسعدين الحظ أن أحضر العديد
خربة الكتاب والشعراء والفنانني .وحظرت السلطة نتاجاتهم
فرتة ذوبان الجليد
بعد وفاة ستالني ببضع سنني حلت فرتة «ذوبان الجليد»،
وهي االسم غري الرسمي للسنوات العشر (1964-1954م) التي توىل فيها نيكيتا خروتشوف (1971 -1894م) الحكم يف البالد.
وكانت فرتة قصرية شهدت انعقاد (املؤتمر العشرين للحزب
الشباب السوفييتي وتطلعاتهم ،رغم اختالف مشارب هؤالء
من اللقاءات األدبية الجماهريية يف القاعات واملسارح واملالعب ّ تغص بآالف الشباب الذين جاؤوا من كل الرياضية التي كانت حدب وصوب لالستماع إىل قصائد هذه النخبة املبدعة من الشعراء
الشباب (يفغيني يفتوشينكو ،وروبرت روجديستفنسيك ،وأندريه فوزنيسينسيك ،وبيال أحمدولينا) وقصص فالديمري تيندرياكوف،
وفاسييل أكسيونوف ،وفيكتور أستافيف.
91
قضايا
ولم تخل هذه الفرتة من تدخل
الكرملني يف الشؤون الثقافية ،فقد جمع خروتشوف األدباء الشباب بحضور جمع كبري من أبرز األدباء السوفييت يف إحدى
قاعات الكرملني عام 1963م؛ لتهديدهم إن
لم يلتزموا بمدرسة الواقعية االشرتاكية. ً الحقا يف مذكراته وقد اعرتف خروتشوف التي نشرت يف أوائل السبعينيات يف الخارج ،بأن املسؤول األيديولوجي يف
الحزب قد ح َّرضه ضد األدباء الشباب،
ميخائيل غورباتشوف
السري بعقد ندوات جماهريية (تثقيفية) يف املصانع ومؤسسات
وأنه يأسف لذلك .ظلت الرقابة الحزبية والحكومية عىل األعمال ّ أخف .فعىل الفكرية واإلبداعية مستمرة وإن كانت عىل نحو
الدولة للتنديد بالكتاب املتمردين ،والتشهري بهم .والطريف يف
إهرنبورغ« :الناس واألعوام والحياة» ومن كل األعمال التي تعرب
وكان كل من لم يقرأ أعمالهم يحاول الحصول عليها بأي ثمن.
سبيل املثال حذفت الرقابة فقرات كثرية من مذكرات إيليا بصدق عن الواقع السوفييتي املرير. ركود وأدب سري
يف أكتوبر 1964مُ ،عزل خروتشوف عن السلطة وتوىل
ليونيد بريجينيف (1982-1906م) مقاليد األمور .دشن بريجينيف
92
ليونيد بريجينيف
عهده بالتضييق عىل حرية التعبري .وجرت بني خريف 1965م وشباط 1966م محاكمة الكاتبني سينيافسيك ودانيل؛ إذ حكم
عىل األول بالسجن سبع سنوات وعىل الثاين خمس سنوات بدعوى تهريب بعض أعمالهم األدبية املحظورة ،ونشرها
خارج البالد .شهدت هذه الفرتة نوعني من األدب :أولهما – األدب العلني امللتزم
بقواعد الواقعية االشرتاكية .وثانيهما:
األدب السري املتداول يف الخفاء واملطبوع أو املستنسخ بوسائل بدائية ،حيث
لم تكن أجهزة االستنساخ الحديثة والكمبيوتر قد شاعت بعد .ومن أشهر
املطبوعات السرية يف تلك الفرتة مجلة «ميرتوبول» التي صدر أول عدد منها
عام 1970م وكانت مجلة فكرية وأدبية
األمر أن هذه الندوات شكلت دعاية مجانية لألدباء املتمردين.
الربيسرتويكا ونشر املحظور
كان ميخائيل غورباتشوف الذي توىل السلطة عام
1984م ،يدرك أن حظر نشر نتاجات أي كاتب أو شاعر يؤدي
إىل تعظيم دوره وزيادة تأثريه يف مجتمع يعشق قراءة األعمال األدبية مثل املجتمع الرويس ،ولهذا ُخ ِّففت الرقابة الحكومية عىل املطبوعات ثم أُلغيت .خالل فرتة الربيسرتويكا ُنشرت
أهم األعمال األدبية املحظورة يف الحقبة السوفييتية السابقة
للكتاب والشعراء الذين قتلهم ستالني أو قضوا أجمل سنوات أعمارهم يف معتقالته .كما
عاد إىل القارئ الرويس ،كل النتاجات اإلبداعية ألدباء املهجر الذين كانت
السلطة يف الفرتات السابقة تستخف بهم ،وتمنع تداول كتبهم داخل البالد.
أراد بوريس يلتسني بعد وصوله
إىل قمة السلطة عام 1991م أن يستنسخ التجربة الغربية يف االنتقال إىل الليربالية
واقتصاد السوق من دون توافر املقدمات
بوريس يلتسين الضرورية لذلك ،فدبَّت الفوىض يف
غري دورية ..وقد أثارت املجلة سخط السلطة ،فلجأت إىل طرد
مفاصل املجتمع والدولة .وشملت الفوىض الحياة الثقافية ً أيضا ،ولم يعرف عن يلتسني اهتمامه باآلداب والفنون .وكان
ولم يقتصر االضطهاد عىل جماعة «ميرتوبول» ،ففي
دور النشر الروسية ،التي كانت ترفض نشر األعمال الروسية الجادة بدعوى أنها ال تجد إقبالاً يف السوق .وأصبح الطريق
بعض املشرفني أو املساهمني فيها إىل الخارج ،وزجّ بعض آخر يف املصحّ ات العقلية والنفسية.
عام 1972م حكم عىل الشاعر جوزيف برودسيك (1996 – 1940م) بالنفي إىل قرية نائية يف أقىص الشمال الرويس .وبعد انتهاء مدة نفيه ُنزعت الجنسية السوفييتية منه ُ وطرد من البالد. كانت السلطة تحاول محو اآلثار السلبية الناجمة عن النشر العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
األدب األمرييك الجماهريي أو الشعبي يف مقدمة اهتمامات
ً سالكا أمام كل من يعرف اختالق القصص الهابطة فنيًّا ونظم
الشعر الرديء .وجرى إلغاء الدعم الحكومي لالتحادات األدبية
والفنية .وكانت فرتة انتقالية صعبة يتذكرها الروس بمرارة.
أين األدب الروسي اليوم؟
بوتني يضيق الخناق عىل الكتاب
منذ تويل فالديمري بوتني زمام السلطة تراجعت حرية التعبري وأخذت تضيق شي ًئا فشي ًئا .وأصبحت كل وسائل اإلعالم اليوم خاضعة للتوجيهات الرسمية .ولم َ تبق أي قناة
يعقد بوتني ،بني حني وآخر لقاءات -ينظمها مكتبه
اإلعالمي– مع عدد مختار من الكتاب املعروفني ملناقشة بعض القضايا األدبية ،من قبيل كيفية الحفاظ عىل نقاوة
اللغة الروسية من التشويه واالبتذال ،أو تطوير املقررات
تلفزة خاصة أو مستقلة يف البالد ،وباتت كلها حكومية، ُ وتف َرض عىل برامجها رقابة سياسية صارمة .وتمارس هذه لاً القنوات تضلي إعالميًّا واسع النطاق للرأي العام ،وتدغدغ
والعقبات التي تحول دون نشر األعمال األدبية .ويف العادة
ترفيهي، اإلمرباطوري لألجداد ،والقسم األكرب من برامجها ّ
املوالني للسلطة ،وإىل بعض الكتاب املعارضني؛ إلضفاء ج ّو
مشاعر البسطاء عن طريق التغني بالدولة العظمى واملجد وإن كانت تقدم بني حني وآخر لقاءات مع كتاب موالني
للسلطة ،أو تنقل االحتفاالت الخاصة بمنحهم جوائز
الدولة التقديرية .
الخاصة باألدب يف املدارس ،أو مشاكل اتحاد األدباء -الذي انشطر إىل اتحادات عدة بعد تفكك االتحاد السوفييتي-
توجه الدعوات لحضور مثل هذه اللقاءات إىل الكتاب من الحيوية عىل اللقاء ،ألن عدم وجود أي صوت معارض يحوّل أي لقاء من هذا النوع إىل حوار السلطة مع نفسها. ويرفض معظم الكتاب األحرار الدعوة املوجهة إليهم للقاء
الجيل الجديد الذي ترعرع بعد تفكك االتحاد
رئيس الدولة ،خشية توجيه االتهام لهم بالتعاون مع السلطة .ويرى بعض الك ّتاب املعارضني (بوريس أكونني،
واملنافسات الرياضية ،ومواقع التواصل االجتماعي،
لطرح القضايا امللحّ ة التي تهم الرأي العام؛ مثل :الرقابة
السوفييتي ،لم يعد يهتم كثريًا بالكتب الجادة ،بل يتابع بشغف الربامج التلفزيونية املعادية للغرب ،واملسلسالت، والوسائط املتعددة .وتراجع دور الكاتب أو الشاعر يف
املجتمع.
وإدوارد ليمونوف) ضرورة انتهاز مثل هذه الفرص النادرة
السياسية املفروضة عىل التلفزيون ،وانتهاك حقوق اإلنسان ،ومحاكمة بعض الك ّتاب ،منهم (يوري بيتوخوف،
ثمة عدد كبري من دور النشر والصحف واملجالت ومن
وتريوخليبوف ،ومريونوف) وسحب كتبهم من السوق
ولكنها تتجنب نشر ما يغضب السلطة ،فثمة عشرات
إجابات بوتني عن أسئلة الك ّتاب تكون يف العادة شافية ً وأحيانا مراوغة ،ونادرًا ما تكون قاطعة، وتتسم بالهدوء،
ضمنها املجالت األدبية (السميكة) التي تدعي االستقاللية،
السبل لخنق دار النشر أو الصحيفة أو املجلة ،أو تهميش
الكاتب ،وأهمها قانون املطبوعات بموا ّده املطاطية التي
يمكن تفسريها عىل هوى الحكومة ،وهناك الجوائز األدبية ّ ومتمل ًقا له .وهذا ال التي ال تمنح إال مَ ن كان ظلاًّ للحاكم يعني أن ثمة قيودًا مباشرة عىل الكاتب .فأي كاتب يمكن أن يكتب ما يشاء ،ولكن عمله قد ال يرى النور ،أو يطبع يف
أضيق الحدود ،وال يصل إىل معظم أنحاء البالد.
يعقد بوتين بين حين وآخر لقاءات مع عدد مختار من الكتاب المعروفين لمناقشة بعض القضايا األدبية ،من قبيل كيفية الحفاظ على نقاوة اللغة الروسية من التشويه واالبتذال ،أو تطوير المقررات الخاصة باألدب في المدارس ،أو مشاكل اتحاد األدباء الذي انشطر إلى اتحادات عدة بعد تفكك االتحاد السوفييتي
ومصادرتها الحتوائها عىل آراء قومية أو دينية متطرفة.
لكن ينبغي أن يقال :إنه ال ينزعج من أي سؤال ،وال يرفض اإلجابة عنه .بعض الكتاب املعارضني يعتقد أن الغرض من
عقد هذه اللقاءات ،قبيل كل دورة انتخابية ،ليس االهتمام باألدب واألدباء ،بل ألغراض دعائية لكسب الناخبني .ونصح كاتب جريء بوتني بالتقاط الصور ليس فقط عىل خلفية صاروخ (توبول) ولكن ً أيضا عىل خلفية أرفف الكتب أو ما له عالقة باألدب.
معظم الجيل الجديد من الكتاب الروس يلهث وراء
التقليعات الشائعة يف اآلداب الغربية الحديثة .وليس يف روسيا اليوم سوى عدد محدود جدًّ ا من الكتاب املجيدين .ويتساءل
النقاد يف الغرب« :هل مات األدب الرويس؟» وملاذا لم يعد يف روسيا اليوم ك ّتاب عمالقة بمستوى تولستوي ودوستويفسيك؟ ويذهب هؤالء النقاد يف تفسري ذلك مذاهب شتى .لكننا نرى أن
السبب الرئيس لتخلف األدب الرويس املعاصر ،ال يرجع فقط إىل ظهور وسائل جديدة لنشر املحتوى األدبي ،أو أن السوق أخذت تفرض ً نوعا معي ًنا من النتاجات الخفيفة ،التي تشبه الـ«فاست
فود» يلتهمها اإلنسان بسرعة وينساها بسرعة أكرب ،بل يكمن
أساسً ا يف تضييق نظام بوتني الخناق عىل حرية الرأي والتعبري. وال يوجد أدب حقيقي وعظيم من دون حرية الكلمة.
93
قضايا
بوتين إستراتيجية ملء الفراغات وواقعية الطموح آبه محمد المختار
كاتب موريتاني
يف تلك الليلة الهيستريية املجنونة ،جاءت الجموع
غضبى ،ثائرة ،تهمُّ بتكسري واقتحام أسوار وأبواب مقر
االستخبارات الروسية (يك -جي – بي) يف مدينة «دريسد»
األملانية بعد أن أجهزت قبل ذلك ،عىل مكاتب جهاز استخبارات أملانيا الشرقية (شتازي) ومزقت وأحرقت بعض محتوياته .ليلة
94
سقوط جدار برلني ،يف 9نوفمرب 1989م ،كانت حلقة فاصلة
يف انهيار الشيوعية وتفكك إمرباطورية االتحاد السوفييتي. وها هو رمز من رموز النفوذ السوفييتي يف أوربا الغربية مهدد
باالقتحام ،يلف به متظاهرون يرومون العبث بمخزون مرعب من األسرار واملعلومات الحساسة .خارج املبنى يزداد الهرج،
ويتصاعد التوتر ،ويف الداخل يحاول موظفو املخابرات الروسية االتصال بمقرهم الرئيس يف موسكو؛ لتلقي التعليمات عن كيفية التعامل مع هذا الخطر الداهم .لكن موسكو –يف تلك
الليلة -لم ترد.
فجأة يخرج ضابط من املبنى ويتجه نحو الجموع
الهائجة ،وبلغة حازمة وهادئة يقول« :أريد منكم الرتاجع عن اقتحام هذا املبنى .أنا هنا بالداخل ومعي فريق مسلح ،عىل استعداد أن يطلق النار .ال أريد أن يقع ذلك» .بعد لحظات من
الصمت ،يتفرق الجمع وينسحب املتظاهرون .االسم الكامل لذلك الضابط هو املقدم فالديمري فالديمريوفيتش بوتني .ستدوّن الحادثة يف امللف الشخيص
للضابط واملحفوظ يف سجل املخابرات الروسية ،ثم ُتذيَّل بتقييم مختصر يقول: «لديه القدرة عىل مواجهة الطوارئ مع
إحساس منخفض باملخاطر» .كانت هذه
أول مناسبة مشهودة يتاح فيها لضابط العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
أين األدب الروسي اليوم؟
االستخبارات املغمور أن يمأل لحظة فراغ .وستتكرر اللحظات يف مناسبات أخرى.
تأيت الثانية منها ،بعد ذلك بعشرة أعوام ،عندما زار أحد
أباطرة املال واألعمال من ذوي النفوذ طوال فرتة حكم الرئيس
بوريس يلتسني ،مدينة بياريتز ،يف جنوب غرب فرنسا ،حيث
يقيض مدير خدمة األمن الفيدرايل ،حينها ،فالديمري بوتني ً عرضا مفاج ًئا .كانت جمهورية إجازته العائلية ،فيقدم له روسيا االتحادية ،بعد مرور عقد من الزمان عىل تفكك االتحاد
السوفييتي ،تعيش أواخر حقبة الرئيس بوريس يلتسني (أول
رئيس منتخب يف الجمهورية الجديدة)،
كرايس ستتكرر باملعكوس بعد انقضاء والية الوزراء ،يف لعبة ّ
«ميدفيديف» األوىل ،ليستعيد «القيصر» كامل سلطة لم يفقد منها الكثري أصلاً .
كانت فرتات بوتني األوىل مخصصة إلرساء قواعد حكمه،
و«بناء روسيا من الداخل» وها هو ،مع عودته الثانية،
يطمح إىل أن يستعيد مكانتها اإلقليمية والدولية .وستتيح له األحداث شي ًئا من ذلك .كانت فرتة حكم الرئيس األمرييك باراك أوباما ،مألى بالفراغات الناجمة عن تخيل أمرييكا ،يف عهده ،عن جزء من هويتها اإلمرباطورية ،فتعددت الساحات الخالية واملساحات الرخوة يف الجغرافيا ً شرقا اإلسرتاتيجية للعالم .اتجه بوتني
وما طبعها من تدهور اقتصادي فاقمه
ليرُ يس شراكة اقتصادية مع الصني ،ولوّح
تفيش الفساد وتحكم رجاالت املال
بعضالته غربًا ليحمي خطوط التماس مع
واألعمال يف مفاصل الدولة .وكانت
أوربا ،فكانت أزمة أوكرانيا واحتالل جزيرة القرم .وها هو الشرق األوسط املُغري دائمً ا
شلة «األوليغرشية» املحيطة بيلتسني ّ بمقدرات البلد ،تحتاج واملمسكة
وامللتهب دومً ا ،يغريه بأن يضع قدمً ا يف ِ
لخليفة ،لديه من الحزم والقوة
ما يخرج روسيا من حالة الفوىض والرتدي ،ومن الوفاء واالنصياع ،ما
يضمن استمرار نفوذ «أولياء نعمه» ً الحقا ،ستصدق فراستهم يف األوىل ..ويخيب ظنهم الجدد.
يف الثانية .اختري بوتني ليشغل منصب رئاسة الوزراء ،وبدأت نهاية عهد يلتسني تتسارع َّ فقدم استقالته فجأة مع نهاية عام
1999م ليتوىل ضابط املخابرات السابق ،ورئيس الوزراء املعني ً حديثا ،اختصاصات رئيس روسيا االتحادية بالوكالة ،ثم ي َ رئيسا للبالد. ُنتخب رسميًّا ،يف مارس 2000م، ً محطة أخرى من فرص سد الفراغ
دميتري ميدفيديف
جحيم األزمة السورية ،قدمً ا يحمي خلفه ً حليفا أوشك أن تسقطه فرقعات «الربيع العربي» ويستعيد به أوجً ا دبلوماسيًّا
وإسرتاتيجيًّا لروسيا ،أمام عجز األوربيني وشلل األمريكان .ملء
الفراغ ،هذه املرة ،سيكون بإراقة مزيد من دماء السوريني، وتهجريهم ،وتدمري مدنهم وقراهم .فما مصدر هذا العنف؟
وما مدى ذلك الحزم؟ وهل يستند إىل رؤية ومنطق يمكن استشراف أبعادهما؟ يف اعتقادي :إن بوتني بالرغم من جسارته
ليس متهورًا ،وفرط طموحه ال يبلغ حد الغباء .ولفهم طوايا
شخصيته يجب الخوض يف انكسارات وخيبات روسيا كبلد
وكأمة .فهو ينتمي إىل جيل عاش تفكك اإلمرباطورية السوفييتية
كانت حرب الشيشان مشتعلة ،فأتاحت لبوتني يف شهوره
كجرح رويس صرف ،تجسد بالنسبة لضابط املخابرات ،يف
يف تعامله مع األزمات .وملا تصدى لألوضاع الداخلية ،بدأ
مؤسسة املخابرات السوفييتية (يك جي بي) .والستيعاب عالقة بوتني بهذا الجهاز علينا أن نتذكر فلمً ا سوفييتيًّا أُن ِتج
األوىل أن يميط اللثام عن ملمح من مالمح الشراسة والعنف بالتخلص تدريجيًّا من جميع حلقات النفوذ ومظانّ القوة يف هرم السلطة الروسية وعىل رأسها مجموعة رجال املال
واألعمال الذين توسموا فيه يومً ا ،خليفة وديعً ا ،يحمي
انهيار جهاز كان بالنسبة له بمنزلة وعاء أمل ،ورهان حياة:
يف ستينيات القرن املايض عنوانه «السيف والدرع» يتحدث عن
ضابط مخابرات رويس ،تسلل إىل صفوف الجيش األملاين خالل الحرب العاملية الثانية ،واستطاع منفر ًدا ،بتصميمه وبسالته أن
الظهر ويؤتمَ ن عىل املصالح .وتميض والية بوتني األوىل وتتبعها ُ خرست خاللها ُّ كل األصوات املناوئة، الثانية .ثماين سنوات أ ِ ً أحيانا .فاكتملت بالرتهيب وبالرتغيب ،أو بالتصفية الجسدية
يغيرِّ مجرى األحداث ،ويحقق النصر .الفلم الذي ير ِّوج لصورة وردية مبهرة عن املخابرات الروسية َّ شكل حينها ،مصدر انبهار
يف يد «قيصر روسيا املعاصر» .وأمام استحالة تقدمه لوالية
كان عمر الفتى بوتني 16عامً ا ،عندما قادته قدماه ودفعَ ه
كل خيوط السلطة وأدوات النفوذ اإلعالمية والسياسية واملالية
ثالثة ،سيحرص بوتني (خريج كلية القانون ،يف حياة سابقة) عىل التقيد بحرفية نص الدستور ،ويرتك كريس الكرملني ً محتفظا لنفسه برئاسة لرئيس وزرائه الطيّع« ،ميدفيديف»
وحماس لدى جيل كامل من الشباب الروس.
حلمه ،يف أحد صباحات ستالينغراد الشتوية ،إىل طرق باب عربًا عن رغبته يف االنضمام للجهاز. مبنى املخابرات (يك جي بي) مُ ِ ر َّد عليه املوظفون بيشء من االزدراء« :عليك أولاً ،أن تتوافر
95
قضايا
أين األدب الروسي اليوم؟
فيك مميزات من أهمها :املمارسة املكثفة للرياضة ،والتفوق يف الدراسة ،والحصول عىل مؤهل جامعي ،وأن تكون لديك نظرة عيون معربة ،عندها نحن من سيأيت إليك» .سيتقيد املراهق
بوتني بدقة بجميع شروط ومقتضيات النصيحة ليجد نفسه ً منخرطا يف صفوف املخابرات بعد التخرج من كلية الحقوق الروسية .فيتعلم ويتمرس عىل جميع فنون التجسس والتمويه
وأدوات االستدراج والتنصت واالستقصاء .انغمس بوتني يف وظيفته ،وتماهى مع أدوارها كما اكتسب جميع خصوصياتها:
العنف ،والحيطة والغموض ...ونظرة عيون مرعبة. قيصر يعيد لروسيا مجدها
د متهورا ،وفرط طموحه ال يبلغ ح َّ ً الغباء .ولفهم طوايا شخصيته يجب الخوض في انكسارات وخيبات روسيا كبلد وكأمة .فهو ينتمي إلى جيل عاش تفكك اإلمبراطورية السوفييتية كجرح روسي صرف فضائها القريب ،وال يف الفضاءات الجغرافية البعيدة ..مهما
يروي روبريت غيتس وزير الدفاع األمرييك األسبق أنه قال لجورج بوش ذات مرة« :لقد حدقت يف عيون بوتني فرأيت قاتلاً
الوقت الراهن ،هو أن تضمن شبه مكتسبات ،ساعدت مجريات
األمريكية األسبق ليون بانيتا ،فيقول« :عندما أنظر إىل عيون
سهولة ،يف نسفها .ومن هنا يأيت تسارع الدبلوماسية الروسية يف
بدم بارد» .أما خلفه يف وزارة الدفاع ومدير وكالة االستخبارات بوتني أقرأ .»KGB...KGB :يميل املسؤولون الغربيون ،يف
الغالب ،إىل شيطنة منافسيهم وإبراز جوانب كاريكاتريية أو
اختزالية من شخصياتهم ،فيبالغون يف قدراتهم ،ويضخمون ً قسطا كبريًا مخاطر قوتهم .وقد نال بوتني
96
بوتين بالرغم من جسارته ليس
ضعف اآلخرون أو غفلوا .قد يكون طموح إدارة بوتني ،يف
األحداث الدولية يف تحقيقها وقد تتسبب املتغريات ،بكل العمل عىل فتح آفاق للحل السيايس يف سوريا ،رغم ما حققته حملتها العسكرية من نتائج ميدانية ،ومن هنا ً أيضا نفهم
مرونة موسكو البادية ،يف التعامل مع جميع األقطاب اإلقليمية والدولية .أما ما تعجّ به وسائل اإلعالم
من ذلك التهويل ،وتعرض لحملة إعالمية
من تهليل رويس لنجاح رئيس أمرييك يكرر عل ًنا ،إعجابه بالرئيس بوتني ،وي َِعد بفتح
صاخبة يف الفرتات األخرية ترى فيه
«القيصر الذي استعاد لروسيا مجدها»،
تعاون وتنسيق مشرتك ،فالروس آخر من
و«الرجل األقوى يف العالم» وأمثال ذلك
سرياهن عليه؛ لسبب قريب وبسيط هو أن
من العناوين التي يصيغها املحللون ّ ويمططها .إن والخرباء ويتلقفها اإلعالم
انخدع الجمهور وتعاطت بعض الدوائر طلقة وامل ُ َّ مع هذه الصورة امل ُ َ علبة فإن املعني األول بها قد ال تختلط عليه األوراق
بشأنها .صحيح أن روسيا لم تعد ذلك البلد املنهك املتداعي الذي استلم فيه بوتني السلطة منذ ست عشرة سنة .وصحيح ً أيضا أن
تصدر شخصية مثل شخصيته للمشهد ،طوال تلك الفرتة أعاد ً وقسطا من القوة .لكن بوتني يدرك ً جيدا لبالده قدرًا من الحضور حدود تلك القوة ،ويميز ً أيضا العوامل الخارجية التي أتاحت لها أن تتجسد .فاملساحات الفارغة ال تظل دائمً ا كذلك .واقتناص أساسا لسياسة دائمة وفاعلة. الفرص ال يمكن أن يكون ً ُ َّ فروسيا رغم قدراتها العسكرية الكبرية ،تصنف حتى اآلن،
املصالح الذاتية لكل طرف هي التي ستحدد نوعية وجدية تلك العالقات .واملعطيات
روبيرت غيتس
االقتصادية والجيوسياسية الراهنة ال ً تطابقا كبريًا يف املصالح ظهر ،حتى اآلن، ُت ِ
بني موسكو وواشنطن .يتاح لبوتني –
نظريًّا -أن يبقى يف كرسيِّه بالكرملني حتى عام 2024م عىل األقل،
ويقال عنه :إنه يجيد اإلصغاء إىل مستشاريه يف امللفات التي ال يتقنها ،ومعروف عنه قدرته عىل انتظار الفرص واقتناصها ،وهي
ميزات تساعد أصحاب السلطة الذين ال يريدون االبتعاد عنها، يف البقاء فيها ..ما شاء الله أن يبقوا.
لكن أحد املؤرخني الروس ،يزعم أن فالديمري بوتني
مهووس بالصورة التي سيتذكره بها التاريخ كقائد لروسيا،
فمسار األمة الروسية ،عرب العصور ،ميلء بقادة كبار ذاقوا
يف املرتبة العاشرة بني اقتصاديات العالم ،وتواجه تحديات
مرارة الهزيمة أو الفشل .ولم يسلم ،تاريخيًّا ،أي قائد تقريبًا،
التواضع يف طموحها اإلمرباطوري املزعوم .أما واقع احتكاكاتها
األهم الذي يؤرّق بوتني ويدفعه إىل يشء من الواقعية
اقتصادية واجتماعية حقيقية ،تلزمها الركون إىل يشء من
الجيوسرتاتيجية مع الناتو غربًا ،وموروث حساسية جريتها ً شرقا ،فتجعلها غري مطلقة اليدين ال يف مع العمالق الصيني العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
من هذه الرتاجيديا الروسية املؤسفة .هنا يكمن ربما ،الهاجس
ومراجعة الحسابات ،يف زمان يشهد فوىض تحوالت عارمة تجعل كل يشء ًّ هشا ومتغريًا ومُ بهَم العواقب.
أين األدب الروسي اليوم؟
97
ﻛﺘﺎب اﻟﻔﻴﺼﻞ أﺣﺪ إﺻﺪارات ﻣﺠﻠﺔ اﻟﻔﻴﺼﻞ ،وﻳﻬﺪف إﻟﻰ إﺛﺮاء اﻟﺴﺎﺣﺔ اﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ اﻟﺴﻌﻮدﻳﺔ واﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ﺑﺈﻟﻘﺎء اﻟﻀﻮء ﻋﻠﻰ ﻣﻮﺿﻮﻋﺎت ﺟﺪﻳﺪة وﻣﺘﻨﻮﻋﺔ ،ﻛﻤﺎ ﻳﺴﻌﻰ إﻟﻰ دﻋﻢ اﻟﻤﺒﺪﻋﻴﻦ ﻣﻦ اﻟﻤﺆﻟﻔﻴﻦ واﻷدﺑﺎء واﻟﻔﻨﺎﻧﻴﻦ
@alfaisalmag
alfaisalmag
alfaisalmag
www.alfaisalmag.com
ﻣﺠﻠﺔ اﻟﻔﻴﺼﻞ
مقال
فهد حسين ناقد بحريني
العريفي ..رمز ثقافي يلجأ إلى الرواية عرف المبدع خليفة العريفي في مشهدنا
الثقافي ،وبخاصة عند األجيال بعد الثمانينيات بأنه مسرحي ،كتابة وتمثيلاً وإخراجً ا ،ومحاورًا
رواية األمس التي تحيلك إلى التاريخ ،يكتب
لكنه في هذا كله فهو أحد مؤسسي عدد من
واالجتماعي ،ونظرة المجتمع لهما ،يكتب المرأة
للمسرحيات ،وقائدً ا الورش ومدر بًا فيها،
98
جمرة الروح
المؤسسات ذات الشـأن الثقافي :أحد مؤسسي
في رواية «جمرة الروح» يكتب خليفة العريفي
المدينة والقرية والفوارق بينهما في الوسط الثقافي وحريتها في اتخاذ قرارها ،يكتب فراق األحبة بقصد أو
أسرة األدباء والكتاب بوصفه كاتب قصة ،وأحد
بدون قصد ،بين المرأة والرجل في العالقات الزوجية،
مؤسسي الملتقى األهلي – مركز عبدالرحمن كانو ً مثقفا ،وغيرها من األوساط الثقافية حاليًّا بوصفه
تلك النزوات العابرة .إنه يكتب المجتمع بتفصيالت
قليلة ،لكن برمزية مستعارة ،ويأخذك إلى عوالم هذا
بالمسرح كثي ًرا لم يبعده من قراءة األعمال
اليومية .هكذا تقرأ الرواية لتسأل نفسك أيهما فضل
مؤسسي مسرح أوال بوصفه مسرحيًّا ،وأحد
والفنية .وفي خضم الحياة ومشاغلها وارتباطه
أو ضمن العالقات العاطفية قبل الزواج ،أو من خالل
المجتمع وتقلباته وتطلعاته ،وإلى ممارسة الحياة
الروائية والقصصية ،والكتب ذات العالقة بالفكر
الكاتب أن يبرزه ،الشخصية أم الحدث ،أم أوضاع المجتمع ،أم التاريخ الذي لم يقف عند طويلاً ،إذ نرى
ومن خالل العديد من الحوارات حول ما
هما :الشخصيتان البارزتان في الرواية ،شخصية زينب
والثقافة ،فكلما دخلنا معه في حوار ما نجده
يطرح فكر هذا الكاتب أو ذاك.
أنه حاول أن يجمع هذه العناصر كلها في شخصيتين،
يطمح إلى إصداره ،كان من المؤمل أن نقرأ له
جعفر ،وشخصية الشاعر محمود السيد ،وإن كانت
أن ترى النور منذ أكثر من سنتين تقريبًا ،هي
والجغرافية في الرواية ،أما بقية الشخصيات فقد
المجموعة القصصية التي كان من المفترض
شخصية محمود هي التي أخذت المساحة الزمانية
المجموعة التي وعدنا الكاتب بها لتكون إضافة
تركها تؤدي أدوارها في السرد أو الوصف أو الحوار من
في سبعينيات القرن الماضي ،لكن جاءت الرواية
نفسه في نمو هاتين الشخصيتين أو إحداهما.
العريفي روايته األولى «جمرة الروح» عن اإلصدار
وتموجاته ،وكيف تتم عملية االستغالل واالستحواذ
األولى ،في عام 2011م.
من بعض المثقفين ،لذلك جعل الكاتب من الثقافة
إلى تلك القصة التي كتبها ضمن إصدار األسرة
سابقة المجموعة القصصية ،هكذا أصدر خليفة المشترك مع وزارة الثقافة والتراث في طبعتها
العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
أجل المساهمة في نمو األحداث التي تسهم في الوقت ويبدو أن الكاتب يعرف مزالق العمل الثقافي
على المبتدئين في الكتابة ،وبخاصة أصحاب المواهب
مدخلاً للنيل من النساء ،والحصول على الملذات
الجنسية والشبقية ،وقد مثل هذا البعد في محمود السيد الكاتب في الجريدة ،والشاعر المعروف ليس
محليًّا بل عربيًّا ،فمحمود السيد المتزوج والمحب
لزوجته وعائلته ،والرافض التخلي عنها مهما كان ،رأى في نفسه دنجوان عصره ،حيث يحاول دائمً ا الوصول إلى المرأة من خالل الكلمة العذبة ،والنص اإلبداعي
الجميل سواء كتبه هو ،أم أقنع المرأة بقدرتها على
الكتابة الشعرية؛ ألن «محمود تدوخه األنوثة الطاغية، ويستسلم لغواية الفتنة بسهولة ص ،»97وهذا ما
حاول النص الروائي إبرازه في النساء األربع الالئي
خليفة العريفي
ارتبطن بعالقات مع محمود السيد ...يحاول الكاتب
في هذا النص السردي أن يقدم لنا بعض نماذج من
الرجال والنساء في المجتمع ،حيث ما من مجتمع في الحياة إال وفيه من هذه النوعية التي يقبلها أو يرفضها
المجتمع ،وطرح هذه النماذج لم يكن لمجرد إبراز هذه
النماذج فحسب ،إنما ألن هناك تداعيات ومعطيات
تسببت في وجود هذه النماذج النسوية والرجالية. الشعر ركيزة أساسية
ما يلفت النظر أن الكاتب جعل الشعر ركيزة
أساسية في العمل الذي نمت أحداثه ،وبخاصة بين
النساء ومحمود السيد ،ولم يشر إلى أي امرأة تكتب القصة مثلاً ،على الرغم من أن النص الروائي أشار
إلى وجود نا ٍد للشباب يعنى بهذا األمر ،بكتابة الشعر والقصة ،كما أننا نتساءل لماذا التأكيد على عرض
بعض نصوص المرأة الشاعرة في الرواية ،فهل ألن
يبدو أن الكاتب يعرف مزالق العمل الثقافي وتموجاته ،وكيف تتم عملية االستغالل واالستحواذ على المبتدئين في الكتابة ،وبخاصة أصحاب المواهب من بعض المثقفين؛ لذلك جعل الكاتب من الثقافة مدخال للنيل من النساء، والحصول على الملذات الجنسية والشبقية ،وقد مثل هذا البعد في محمود السيد الكاتب في الجريدة، والشاعر المعروف ليس محل ًّيا بل عرب ًّيا الوقوف عند هذه المحطات من العالقة الجندرية في
الكاتب يريد لفت انتباه القارئ إلى إمكانياته الشعرية
المجتمع البحريني ،وغيرها من القضايا التي حاولت
وزينب؟ أو ألن تلك المرحلة كانت سطوة الشعر عالية
الالفتة في النص الروائي فهي تلك العالقة المتداخلة
يكون وراء ذلك أن سلطان الشعر كان وال يزال مهيم ًنا
تبرز بخط أسود يختلف عن خط كتابة الرواية ،فمرة
والكتابة الشعرية.
أو تناقش أو تطلب التأمل فيما ستقوم به من عمل،
التي تمظهرت في نصوص محمود السيد ودالل
ومسيطرة على المشهد اإلبداعي في البحرين؟ أو قد
على المبدعين والمثقفين ،وهم دائمو الحلم بالشعر هناك أمور كثيرة في الرواية يمكن للقارئ
مناقشتها كالعالقة بين القرية والمدينة وثقافة
أفرادهما ،النظرة إلى المرأة من جانب المجتمع
واألعراف والرجل ،بل من المثقف تحديدً ا ،ولماذا
الرواية الوقوف عندها بشكل أو بآخر ،وأما التقنية
بين الكاتب والراوي والشخصيات ،تلك العالقة التي
نجد الشخصية تتحدث مع نفسها في منولوج تسأل
ومرة نجد التداخل في العبارة الواحدة بين الشخصية
والراوي عبر الحوار المبطن بينهما تجاه حدث ما،
ومرة ثالثة يدخل الكاتب موجهًا بصورة غير مباشرة
نحو هدف ما أو حدث ال بد أن يقع.
99
حوار
المفكر العربي أكد أن التاريخ مفتوح وأنه ال توجد ثوابت مطلقة
الطيب تيزيني: القاتل الذي أنتج داعش هو الغرب وتبعه الشرق األعلى حاوره في دمشق :سامر إسماعيل
بين حمص ودمشق يعيش اليوم المفكر السوري الطيب تيزيني (1934م) منكبًّا على كتابة سيرته الذاتية ،بمساعدة ابنته الباحثة االجتماعية منار تيزيني، حيث تظهر الفتاة أنها سر أبيها ،فهي من تواظب على تحرير السيرة ،وعلى تنظيم مواعيد الدواء ،وتشرف على مراسالت األب مع مؤتمرات ولقاءات وندوات دولية لم ينقطع عنها صاحب كتاب «من يهوه إلى الله»؛ فالباحث والمفكر السوري الذي حمل لقب فيلسوف ،وأصدر أول كتاب له باللغة األلمانية، ً وقت مضى في مناصرة عنيدا أكثر من أي يبدو ٍ المستضعفين ،والعيش قريبًا من حكايات الناس وهواجسهم.
100
العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
الطيب تيزيني :القاتل الذي أنتج «داعش» هو الغرب وتبعه الشرق األعلى
الطيب يخرب «الفيصل» عن مراجعاته النظرية األخرية،
وعن إعادته النظر يف كتبه التي أصدرها ،وملاذا طرأ هذا عىل نظرته لإلنسان والعالم .املفكر الذي اختري عام 1998م واحدً ا من أهم مئة فيلسوف يف العالم من املؤسسة األملانية الفرنسية،
يدعو اليوم إىل إعادة قراءة العالم يف مواجهة ظاهرة اإلرهاب ً كاشفا يف هذا الحوار أنه عىل وشك تحويل بيته الكائن الدويل،
يف حي دمشق الجديدة إىل مركز أبحاث اجتماعية .شجون
كثرية ونقاش قطعته مرات عديدة دموع الطيب كلما تذكر ما ّ حل بوطنه ،وما آلت إليه حال الناس يف بالده التي تدخل منتصف العام السادس من الحرب .إىل نص الحوار:
● عندما نتحدث عن الفكر العربي ،ماذا نقصد بالفكر
العربي وما سماته وما عدته الفكرية؟ صاف يف هذا سؤال يطرح سؤالاً آخر :هل هناك فك ٌر ماٍ مرجعيته إن كان فك ًرا فرنسيًّا أو أملانيًّا أو عربيًّا ،لكن ال توجد
مشوب بما ال يستطيع حالة من هذه الحاالت ،فكل فكر ٌ املفكر نفسه أن يضع يده عليه ،لكن البنية األخرية هي التي
تشكل رصيدً ا ،والفكر العربي خاضع لهذه العملية ،الفكر
ً وخصوصا يف العربي مر بمراحل متداخلة كثرية من بداياته، الجزيرة العربية التي كانت مأوى للتجار والقوافل ،وهذا كان
ذا أهمية كربى؛ ألن هناك من يقول :إن اإلسالم نشأ يف بالد
أو فرح أنطون الحديث ،هؤالء فالسفة سبقوهم ،كما تأثر
صاف يف ذاته ،الذات هي بنية، العظماء بآخرين ،ال يوجد يشء ٍ ليس هو شي ًئا منفردًا ،هناك كتاب صدر مؤخ ًرا بعنوان «حياة ً فيلسوفا نشأ يف أعقاب التقدم التاريخي إيزيدور» ،وهذا كان
العربي الشرقي قبل ستة قرون ،هذا الرجل كان منتهيًا يف نظر املؤرخني ،فاك ُتشف مؤخ ًرا أنه كان شي ًئا. ● هل نستطيع أن نحظى بأسماء تقدم نفسها كفالسفة،
وأين دور علماء االجتماع العرب ،أين دورهم يف دراسة مجتمعاتهم كما فعل مثلاً عالم االجتماع الفرنيس بيري بورديو عندما وضع كتابه الضخم من ثالثة أجزاء «بؤساء العالم»؟ ملاذا اليوم علماء االجتماع العرب يعيشون فقط
يف الجامعات ،ويف قاعات األكاديميات املغلقة مع طالبهم؟
-السبب يعود إىل الصيغة التاريخية التي قطعها الفكر
العربي ،أو الوجود العربي عمومً ا ،فحني ظهر العرب كأمة
بفعل خارجي ،وهذا ما قام كفعل داخيل فحسب ،إنما ليس ٍ ٍ به الغرب ،النهوض الغربي كان ذا حضور كبري .بمعنى آخر قبل الحديث عن الفلسفة العربية ،يجب أن نتحدث عن الحضور
تدخل نسبي الغربي يف الشرق ،هذا الحضور أسهم يف تكوين ٍ ً الحقا عىل صعيد الفكر ،إذا أخذنا حركة فكري بما سيتحقق االستشراق فهي نشأت مع محاولة الغرب القتحام الشرق،
ً خصوصا أن الرسول الكريم كان يزور الشام كثريًا، الشام، ً وأشاد بالشام وأهلها وبفكر الشام وأهلها .إذا ليس هناك
من املستشرقني والباحثني والعمالء ،قدموا له مادة غنية حول
قد ال نشهد النهايات لذلك .وعدم الصفاء أن اللحظة املعنية
نابليون وسواها من أدب الرحالة األوربيني ،لذلك كان هذا
صاف فك ٌر تفكيك تحليلية بشكل مطلق ،حتى لو قمنا بعملية ٍ ٍ ٍ مشوبة بلحظات أخرى ،فلست قادرًا عىل وضع اليد عىل يشء هو نسيج ذاته ،وهو بلغة املنطق هو هو ،ولكن بعد مروره
بمراحل قد ال نستطيع الوصول إليها ،إذ إنه طبقات تاريخية تجثم فوق عشرات الطبقات ،وهنا يأيت منهج الحفريات،
املنهج الحفري الذي أشدد عليه يف عقود ماضية يف الغرب كما
يف العالم العربي ،لذلك أن نتحدث عن فكر عربي أو فلسفة عربية أمر وارد.
● لكن هل نستطيع أن نتكلم عن فيلسوف عربي ،وهل يستطيع أصلاً فيلسوف عربي أن يبزغ وال يتعرض اليوم لقمع
أو تكفري من هذا الطرف أو ذاك؟
نابليون بونابرت عندما دخل مصر كان قد جلب معه مجموعة
الشرق ،ففهم األوربيون الشرق استشراقيًّا عرب مجموعات
التدخل الغربي يف الشرق أكرث فاعلية مما كان موجودًا باسم
التعارض بني الشرق والغرب أيام اإلسالم ،وقتها كان هناك
حدٌّ ما من التوازي التاريخي بني الحضارات ،ومنها الحضارة العربية .اآلن الحضارات الحديثة ُطوّقت ،والغرب أمسك ً شرقا وما هذا الخط األساس ،ورُسِّ مت الحدود بني ما يسمى
يسمى غربًا .الخط االقتصادي والثقايف والسيايس ،يعني أصبح
استعمارًا ،وليس حالة اقتصادية وحسب ،بل حالة ثقافية،
وكان االستشراق هو حصيلة هذا الفعل ،أي نتيجة من نتائجه. الشرق الحقيقي
● ما رأيكم بما قدمه إدوارد سعيد يف هذا املجال؟
-هذه مسألة تاريخية لها منهجيتها ،وتنتظر نضوج ظروفها
-سعيد قد يكون الباحث األول الذي قدم صورة قريبة مما
مثله مثل أي فكر يف بلد ما من العالم ،حتى الفيلسوف األملاين ً وريثا» ،وبهذا املعنى جميعنا نيتشه قال« :ما أصعب أن تكون ورثة .فإذا أخذت ما كتبه مثلاً ابن رشد ،أو الرازي ،أو ابن سينا،
لم تكتمل عملية الفتح ،فجاء باحثون ليكتشفوا ما هذا الذي أُطيح به عىل يد االستشراق الغربي ،وأساء إساءة بالغة للشرق،
ُ أشرت لك من قبل الفكر العربي ليس صافيًا، املوضوعية ،فكما
صنعه الغرب ،وفتح بذلك الباب عىل الشرق الحقيقي ،طبعً ا
واآلن االستشراق لم يعد له دور أساس ،إن املستشرقني صاروا
101
حوار
ً ضعافا أمام شرق صار يظهر بشكل أو بآخر بأوجه مختلفة،
ً مخالفا ،فحتى قبل ذلك كنت أقول: مع اآلخر الذي قد يكون
سيكون التشوه قائمً ا بمعنى ما ،التدخل هو اإلساءة ،والتقارب
يأيت بسبب تحول عاملي مثل سقوط االتحاد السوفييتي ،إنما قد
فمن لم ينشأ بصورة مباشرة من بنيته وعرب إدخاالت أخرى،
بني الحضارات هو بمثابة نمو للفكر العربي ،والتشوه الذي أحدثك عنه أىت عرب أفعال تتقصد أن تملك اآلخر عرب ملكية ما
يفكر به ،وهذا ما حدث عن طريق االستشراق.
● حللتم الرتاث اإلسالمي تحليلاً ماد ًّيا نحو ثورة عىل
يحدث بالنسبة للمفكر أو الكاتب الذي يكتشف أم ًرا كتبه وفيه
ثغرات ال تحىص ،فكنت أصدر طبعات جديدة من كتبي وأشري إىل ذلك ،فلقد أعدت النظر يف كتاب «مقدمات أولية يف اإلسالم
املحمدي الباكر» ،هذا الكتاب أضفت إليه كثريًا ،واآلن ما أكتبه دائمً ا يضاف إليه أشياء أخرى ،وهذا من طبائع األمور ،لكن
النمط والنظرة التقليدية للرتاث ،ووضعتم كتابكم املعروف
الذي جاء يف صيغة مدوية تمثلت يف االتحاد السوفييتي الذي قدم نفسه ليس فقط كحالة سياسية واقتصادية ،بل ً أيضا
يف العالم ،ومنها انهيار االتحاد السوفييتي السابق ،وانكفاء
تأثر تأث ًرا كبريًا بهذا األمر.
«من الرتاث إىل الثورة» عام 1976م ،برأيكم هل ما زال هذا ً قائما بعد جملة من املتغريات الكربى التي حدثت العنوان
اليسار العربي؟
-قدمت هذا الكتاب ومعه كتب أخرى عن اليسار
التاريخي ،اليسار عندي هنا ليس فك ًرا جاء من هنا أو هناك، إنما هو تعبري عن حدث أطاح بالنظر إىل العالم بوصفه نقطة واحدة ،ولقد وضعت يدي عىل نقاط مغيبة أو غائبة، أبرزها أن هناك الوجه اآلخر ملا ُكتب عن الرؤيا ً بسيطا اليسارية .باملناسبة كلمة يسار أتت تعبريًا
102
إنني أعيد النظر فيما كتبته ،وحتى اآلن .إعادة النظر ليس أم ًرا
كفكر ينتج عالـمً ا جديدً ا ،فحتى تفكريي اليوم بالوطن العربي
َ ً تحديدا؟ نظرتك ● ما الذي تغري اليوم يف ُ ً برأيي كل املسائل سابقا أخضعت لتغيري أو آخر،ً دفعة واحدة ،بل يأيت يف سياق الفعل، واإلخضاع للتغيري ال يأيت معروف أنني وضعت كتبًا أخرى جديدة وضح التغيري فيها عىل الصعيد الثقايف والسيايس ً إضافة إىل الشعري العاطفي، واإلنساين،
حال جديدة يف التاريخ الفرنيس أيام الثورة، عن ٍ حني اجتمع فريق سُ مي باليسار ألنه وقف يف
اللمحة والحالة الشعرية الدافئة يف النظر إىل
داللته بسيطة ،لكن هذا التعبري أشار إىل حال ٍة
أن اكتشفت أمرين اثنني :األمر األول الذي
اليسار ،وآخرون وقفوا يف اليمني ،فهو تعبري جديدة .ليس من الضروري أن تكون متكاملة، فما عنيت ذلك ولم أع ِنه ،فاليسار حالة وفكرة
يف إطار تحول عميق قد يذهب إىل اليمني وإىل يمني اليمني .قبل أن يسقط االتحاد السوفييتي هذا السقوط املدوّي واملؤسف الذي خيّب آمال
أسس لم تخدم ماليني الناس ألنه قام عىل ٍ العلم ،فقد سقط االتحاد السوفييتي من الداخل ،وليس من الخارج ،سقط عرب غياب اإلنسان الذي تحدث عنه ماركس عندما قال« :اإلنسان أولاً » ،وسقط ألن الدولة البريوقراطية
األمنية – هذا الذي وضعت يدي عليه متأخ ًرا – أسقطت ذلك
الكيان ذا البعد الواحد ،القائد الواحد ،الحزب الواحد مع غياب الديمقراطية الربملانية ،غياب القدرة عىل إمداد الحوار الذايت
ليست كتبًا شعرية ،بل ما قصدته هو ً وخصوصا بعد البشر ،هذه النظرة تعمقت حدث يف إطار الثورة الفرنسية حينما كانت النساء اللوايت يذهنب إىل العمل يمتنْ َ عىل
أبواب املعامل بسبب الفقر واملرض والجوع، وهذا ما ظهر يف رواية البؤساء ،كتاب فيكتور هوغو العظيم الذي ّ خلد الثورة الفرنسية عرب
نضال النسوة الاليت كن ينتقلن من مدنهن
وبلداتهن البائسة إىل أماكن العمل ليقضني هناك.
األمر الثاين هو النساء يف االتحاد السوفييتي السابق،
وهذا عرفته شخصيًّا من أصدقاء يل يف أملانيا وروسيا ،حيث
كان هناك تهجري للنساء إىل سيبرييا وسواها من منايف السوفييت .حدثان جعالين أضع ًّ خطا حاسمً ا إلعادة قراءة ً خصوصا ما قدم إلينا كعرب عىل ما حدث فعلاً يف التاريخ، أنه هو األمثل :فإن ما رأيته لم تره ولم تسمع به فعلاً .هذه
مشوب بما ال يستطيع المفكر كل فكر ٌ
ً مباشرة ،ودفعني إىل أن أعيد األمور جعلتني ال أثق بيشء
رصيدا ،والفكر األخيرة هي التي تشكل ً
ضمن هذا السياق ،وحينما تأتيني الفرصة بإعادة طباعة ما
نفسه أن يضع يده عليه ،لكن البنية العربي خاضع لهذه العملية
العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
النظر يف كل ما كتبت ،وهي فضيلة عظمى ،وأنا اآلن أتابع كتبته ،سأعيد النظر يف ذلك من بداياته ،فالتاريخ مفتوح وليس هناك من ثوابت مطلقة.
الطيب تيزيني :القاتل الذي أنتج «داعش» هو الغرب وتبعه الشرق األعلى
الجيوش غري العسكرية
● هنا عن أي تاريخ نتكلم بالضبط ،عن التاريخ بوصفه ماضيًا دينيًّا أم ماضيًا حضار ًّيا؟ أم عن التاريخ املعيش؟ هل نستطيع القول :إن لدينا مستقبلاً بهذا املعنى؟
-هذا السؤال يتصل بحقل علمي اسمه اإلبستمولوجيا–
التدقيق املعريف الحاسم يف صوابية هذا أو ذاك ،ما طرحته ال يأيت يف يوم وليلة؛ ألن التاريخ هو ً أيضا قادم ،والقادم يصوّب ما انتهى،
فانهيار االتحاد السوفييتي ،وفكرة العدالة أو املساواة فتحت ً آفاقا ال تغلق ،خذ فكرة العالم الثالث عىل سبيل املثال ،وفكرة ً مقالة بعنوان «ما بني الجيوش الجيوش الوطنية .مؤخ ًرا كتبت
● ماذا تقصد باللغات الجديدة؟
اللغات كلها ،اللغة بذاتها ،أي لغة اللغة التي عليها أنتجيب عما هو قائم فاعلاً يف حالة الفعل ،اللغة التي اخرتعتها سوريا العظيمة الذبيحة ،بعد أن كانت عبارة عن رسوم ورموز
وإشارات ،وهذا يعني أن سوريا هي التي أوجدت األبجدية التي اكتشف اإلنسان نفسه من خاللها ،اللغة أوصلتنا إىل املفهوم
وإىل املصطلح وإىل البنية ،اللغة التي أصبحت أدوات للكشف
العلمي ،يجب أن تخضع إىل والدة جديدة قادرة عىل أن تقرأ العالم ،وتعيد إمكانية الحلم به.
● كررت مفرديت العالم واإلنسان ،واملعروف أن
غري العسكرية واالنقالبات العسكرية» ،والجيوش العسكرية هي ً إضافة إىل القدرة الكاملة الجيوش التي تمتلك القدرة العسكرية
العالم كمفهوم ظهر بعد الثورة الصناعية وبعد الحروب
السوفييت مدي ًرا أو محاسبًا ولم يكن يقوم بمهمات ،وهذا يوجد
التقنية والحوسبة وعلوم الفضاء واألسلحة والفنون .العالم
عىل وضع يدها عىل كل ثروات الوطن ،وهذه الجيوش غري العسكرية ُ فعلها أخطر من العسكرية ،حيث كان األخ الكبري لدى اليوم يف بالد العالم الثالث كلها؛ االنقالبات العسكرية حدثت تحت تأثري هذا الذي حدث منذ مدة طويلة سابقة ،فلذلك نحن
بحاجة إىل إعادة قراءة العالم ،وأظن أن ما يحدث اآلن مع ظهور داعش يضعنا أمام محط ٍة جديدة هائلة يف الداللة ،وملاذا نشأ هذا
الداعش؟ أحد السياسيني الفرنسيني منذ مدة قصرية قال عرب وسائل اإلعالم« :نحن نحتاج إلزالة اإلرهاب إىل عشرين عامً ا»، َ عليك وهذا كالم غبي ويف غاية الغباء ،أنت اآلن كإنسان يُفتح َ تاريخك كاملاً ،أين كان هؤالء الدواعش؟ وأجيب :هؤالء كانوا خارج السلطة خارج امللكية ،خارج الحياة ،هؤالء هم الذين أمّنوا
الخلية التي أنتجت ما ولد تحت اسم داعش.
غياب الحرية والكرامة والعدالة واملحبة واملساواة كان
َ فأنت اآلن من أجل بمثابة الوالدة الحقيقية لهذا الداعش، َ عليك أن تعيد قراءة العالم، أن تفهم داعش من أين أىت، ً كتبت ً ُ ُ تحدثت فيها عن ضرورة مقالة جديدة أيضا وباملناسبة
تأسيس مركز عاملي للدراسات والبحوث املقارنة ،تكون له ٌ عمل ال قيمة له أن تصحح أمنيًّا ما حدث مراكز فرعية ،إنه
يف نيس أو باريس أو ميونخ أو بروكسل ،لكن األمر ليس هنا
أبدً ا ،بل ربما يوظف هذا الذي يحدث يف الغرب من إجراءات يف
خدمة استمرارية داعش ،عىل هذا النحو نحن ً فرض تباعا أمام ٍ تاريخي إلعادة قراءة العالم ،وقبل هذه القراءة إعادة تصنيع ُ وضعت كتابًا هو مشروع ثقايف ما نستطيع تصنيعه ،ولذلك
باألصل خاضع ملا يحدث اليوم .من هنا جاءت فكرة إعادة ما كتبته وفق املنهج والنظرية والتأثريات الداخلية والخارجية، بل ذهبت باتجاه الدعوة إىل استنباط لغات جديدة تستوعب األحداث التي ُتعاش ،فلقد بليت اللغة اليوم ،بمعنى لم تعد قادرة عىل أن تكون وعاءً فكريًّا يقدم أجوبة ملا يحدث.
الكربى ،ومعروف أن الحضارة استغرقت الزمن كله، ً خاطفا عىل صعيد فيما تطورت البشرية يف مئة عام تطورًا العربي كما يقول بعضهم لم يستوعب هذه الصدمة الرقمية
الحضارية .برأيك هل يستطيع العالم العربي أن ينتقل من ً منتج لها؟ مشارك أو مستهلكا للتقنية إىل كونه ٍ ٍ العالم له منعرجات واتجاهات كثرية ومختلفة،فالعالم هو عوالم ،وأي بيئة تشكل عالـمً ا بذاته ،فحينما
تكتشف خصوصيتها تصري عالـمً ا .هذه الخصوصية التي تجد ً مرحلة مهمة يف التطور ما يشبهها ،وهذه الخصوصية مثلت التاريخي الحضاري ،وبدونها ملا كانت العوالم يف عملية التشكل والتحول مختلفة ،فقد تشكلت ً أيضا بيئات مختلفة يف البداية كانت متفارقة ،لكن مع الزمن وعرب التجارة والحرب والهجرة
وكل أفعال الطبيعة واملجتمع ،بدأ ينشأ ما نسميه عالـمً ا هو
العوالم مجتمعة ،قد ال تكون العوالم كلها مجتمعة يف هذا
العالم ،وقد نكتشف اآلن عوالم أخرى لنضمها إىل عاملنا ،لذلك املسألة مفتوحة.
103
حوار
األنا واآلخر
● هل هذا التصور هو تصور أخالقي عن العالم ،أم أنه
منها لتقدم وتطور البشرية؟
-كالهما وأكرث من ذلك ،اكتشاف عوالم أخرى يعني
أبدً ا ،العنف هو الذي يحدث يف الطبيعة واملجتمع ،فليس
بني اثنني حني اكتشفا بعضهما ،بل إنه يف األساطري القديمة ٌ معروف أن املرأة والرجل يف البدايات لم يعرفا من أين جاء
ٌ َ مكمل لها ،وكذا اآلخر الذي ال يعرف مصالحه بعد إال وأنت َ ينتهكك ،فجدلية الفعل واملفعول تصبح الجدلية هنا بعد أن الفاعل مفعولاً واملفعول فاعلاً ،كالهما يتحمل املسؤولية عرب
ترميز لهذا املعطى الذي ندعوه العالم؟
االعرتاف بوجود اآلخر ،وأنت لست ذات العالم ،أنت لن تكون شي ًئا دون اآلخر ،والحظ أن هناك ثنائية األنا واآلخر نشأت حتى
وليدهما ،لكن الوليد أىت وأضاف عالـمً ا جديدً ا ،فالوليد هو عالم ً معروفا من هذه املرأة ومن هذا الرجل ،فالعملية جديد لم يكن ٌ مفتوحة وتكتسب طابع املفاجأة. هنا
● وهل العالم العربي استطاع أن يحقق التجاوز من األنا
نحو اآلخر ،رامبو يقول األنا هو اآلخر ،والحالج وابن عربي كالهما تحدثا عن األنا واألنت ووحدة الوجود مع اآلخر يف
الخطاب الصويف الرفيع؟
نعم ،باألساس نشأة هذه الثنائية ( األنا – اآلخر) كانتَ نفسك إال إذا جزءً ا حاسمً ا يف تكوين البشرية؛ ألنك لن تعرف َ َ غريك ،األنا واآلخر هما ثنائية تقوم عىل طرفني مختلفني عرفت
104
ّ تعلقون عىل هذه املقولة التي تربر العنف كحركة جدلية ال بد
لكنهما متقابالن ،بل إن األنا ال تعرف نفسها إال عرب اآلخر،
فأنت يف هذا املعنى مضطر أن تكون مع اآلخر، وقد يكون اآلخر معك ،ومن هنا كان مصري كاريث عرب التعايش الكوين التاريخي ،إىل أن نشأت
الحروب واملصالح االقتصادية فأطاحت بهذه الثنائية بعد تعاظم الحروب واملصالح القاتلة،
فاكتشف هؤالء املتقاتلون أن الخاسر يف هذه الحال كالهما ،األنا واآلخر.
● لكن ماركس قال« :إن الحرب أو العنف ّ تولد املجتمعات هو القابلة القانونية التي
الحديثة من رحم املجتمعات القديمة» ،كيف
نساء الثورة الفرنسية ونساء االتحاد حاسما خطا السوفييتي جعلوني أضع ًّ ً إلعادة قراءة ما حدث فعال في التاريخ اللغة التي أصبحت أدوات للكشف العلمي ،يجب أن تخضع إلى والدة جديدة قادرة أن تقرأ العالم وتعيد إمكانية الحلم به
العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
ً تسويغا للعنف، -ال يمكن هذا القول أن يكون تربي ًرا أو
العنف هنا مقصودًا بالحرب والتحارب ،أنت تمارس العنف ٌ مكمل َ لك مع الطبيعة حني ترغمها أن تنتج كذا وكذا ،فهي
تبادل أدوار الجالد والضحية ،وهذا يتم حتى تنبثق إشراقات ً مناهضا الوعي الجديد الذي يقوم عىل تبني أن اإلنسان ليس أو عدوًّا لآلخر.
● يف الفلسفة أو الفكر العربي ثمة من يعيب عىل هذا
الفكر أنه مع نشوء البدايات األوىل للدولة اإلسالمية هناك ً من ّ وفرقا صوفية وباطنية تحت طائلة همش وألغى فئات «من تمنطق تزندق» .برأيك هل تكون املقوالت الصوفية اليوم
فسحة يتجدد عربها اإلسالم يف طرحه وقراءته للعالم؟
حينما نفكك الخطاب اإلسالمي أو أي خطاب توحيدينتبني أن اآللهة وتحديدً ا الله اإلسالمي ُق ِّدم للبشر عىل أنه الخطاب املطلق ،هذا يدخل
فيما يسمى بالصفات الذاتية التي يعدها ً تسعة وتسعني ،وبعضهم مئة، بعضهم وبعضهم اآلخر ً مئة وواحدً ا .اتضح أن هذا األمر ذو أهمية قصوى ،إنه يظهر عرب هذه
األسماء والصفات وال يظهر هو نفسه ،ولقد ُ أكدت يف محاضرايت البريوتية أن كل طرف أو كل فرقة يف اإلسالم ترى الله من حيث هي ،ال من حيث هو ،وهذا ما أ ّكد عليه
النبي الكريم محمد حينما سأله أعرابي« :أين الله يا رسول الله؟» فأجاب« :الله موجو ٌد
حيث تراه» .انظر إىل هذا الجواب البديع،
وهذا ما قدمته يف محاضرايت باملغرب ،فعقبت بعد ذكري ٌّ محق يف إسالمه، لهذا القول أنه إذا كان األمر كذلك ،فالجميع
لذلك كل املتصارعني يف املغرب يف لحظ ٍة واحدة اجتمعوا بعد سماعهم هذا الرأي.
إن أحدً ا ال يملك الحقيقة ،فالجميع له حقيقته ،ومن
املصدرية األساسية أال وهي النبوّة ،هذا هو الحل ،ولقد رآه بعض املفكرين يف املغرب حلاًّ جديدً ا ،ودخل يف الروزنامة
الدينية .التأكيد عىل إطالقية الله اإلسالمي هو تأكيد عىل أن الجميع يملكون الحقيقة ،وهم كلهم محقون ،ألنهم يرون الله
الطيب تيزيني :القاتل الذي أنتج «داعش» هو الغرب وتبعه الشرق األعلى
من حيث هم ،وليس من حيث هو ،و(هم هم) يف التعريف ،ماذا
وفاعليته ،وأتت املؤسسة الدينية ،وهذا جزء من التحوالت
والقوة ،الناس يعرفون وفق هذه املداخل التي يمتلكونها ،فهذا ّ متخلف لم يقرأ القرآن سيعرفه بطريقته: شخص فقري بائس
عن بواعثها العميقة البعيدة يحررك منها.
يعني يف التعريف؟ (هم هم) يف ثالثة أمور :املعريف واملصالحي
(القادر ،والحنون ،والعارف ،واللطيف) ،والثاين هو( :املصالح)، وهنا يتكلم املرء عن الدين والسلطة ،والثالث هذا وذاك مع القوة ،مع من يملك القوة ،فأنت بذلك مسلم بكل املعنى.
التاريخية التي ال يمكن أن تنكرها ،فهي موجودة ،لكن الكشف
● كيف يتم ذلك؟
ً ً إطالقا ،النسبي إطالقا والنسبي يتم حني تعود إىل املطلقً مطلقا ،واملطلق ال يمكن أن يصري نسبيًّا ال يمكن أن يصبح
ولكنه يستوعب النسبي .هنا تطيح بكل املؤسسات الدينية.
املسألة الدينية والنخب الثقافية ُ لاً ● قلتم :إن املسألة الدينية العربية أهملت إهما مرعبًا
أنها كشف هائل ،ووقف أحد الحضور فقال يل :هذا نوع من
ونبهتم أن الخطورة تكمن يف أن النص يقرأ بطرق متعددة،
مسلمً ا ألنه يعرف الله ،ويصيل له ويؤمن به ويقرتب منه،
من النخب الثقافية ،ماركسية كانت أم قومية أم ليربالية،
ذات مرة يف محاضرة ببريوت تكلمت عن هذه الفكرة ،ورأيت
التشفي من اإلسالم ،فسألته :كيف ،فقال« :املسلم سُ مّ ي
واآلخرون يبتعدون» .فأجبته أن هذه املشكلة ُتحل عرب تحديد ً َ قلت: إطالقا؛ فالنسبي ليس نسبيًّا ،إن العالقة بني املطلق
هل يمكن اليوم تقديم قراءة عقالنية تاريخية للنص الديني لاً فكر نهضوي جديد؟ وصو إىل ٍ هذا سؤال العصر اآلن ،باألساس النص ٌّنص يحمل
إنه نسبي معناه َ َ عب أنك أطحت به ،فـ (الله) مطلق ،لذلك رّ
ثنائية (البنية والقراءة) ،وهي بنية واحدة.
هنا أصبح كل الناس مسلمني ومسيحيني مؤمنني بإسالمهم
دالالت لغوية ،لكن من يقرؤه وفق ما هو عليه ،لذلك نشأت
● لكن أال تعقد التفاسري واالجتهادات املسألة بني
املسلمني أنفسهم؟
-كله مشروع عىل أساس أن هذه التفاسري أو القراءات
تأيت ناتجً ا لتلك القنوات الثالث كما أشرت( :املعريف واملصلحي والقوة) ،فالجميع ً إذا مسلمون ،إسالم للكل حسب ما يفهمه،
حتى تلك الطقوس التي يقوم بها من صالة وصوم وزكاة قد
يضاف إليها يشء ،والحقيقة أنني استنبطت هذه الفكرة منذ
كنت يف الصني ،حيث د ُ سنوات عندما ُ ُعيت للتحدث عن الدين
والثقافة اإلسالمية ،وقبل املحاضرة أخذوين إىل مقابرهم، ولحظت أن مقابرهم مختلفة عن مقابر اآلخرين ،فال يوجد
لها شواهد أو بنية معمارية ،فسألتهم عن سبب ذلك فقالوا: «نحن هكذا» ،خذ السعودية مثلاً حتى اليوم ال يوجد شواهد قبور ملوتاهم فـ«خري القبور الدوارس» ،وهذا يختلف حسب اختالف فهم النص بني فرق ٍة وأخرى .وهذا الفهم يأيت من
املصالح واملعارف والقوة ،فإن لم يوجد الفهم ،سيوجد اإليمان العفوي ،فاإلنسان البسيط يؤمن بيشء ال يعيه لكنه يحتاجه.
● نتكلم عن الدين والدين حاجة إنسانية ،لكن ماذا
عن دور املؤسسة الدينية يف حياة املجتمعات العربية؟ كيف تقيمه؟ ً -املؤسسة أتت الحقا ،الدين من حيث هو أىت دون هذه
املؤسسات ،فهذه األخرية جاءت كمحصلة للفهم واملصالح ً أيضا ،فظهر املسجد وكان له قوته وخصوصيته والقوة
بعضهم عن الدين بأنه إلهام ،نستلهم لكننا ال نعرف تمامً ا .من
ومسيحيتهم ،وال أحد يستطيع أن يملك الحقيقة ،ال ملك وال أمري وال سلطان وال قائد وال إمام.
● بني املادي واملثايل حرصتم ً دوما عىل عدم الوقوع يف
التفسريات الغيبية امليتافيزيقية للتعبري عن اإلسالم كظاهرة اجتماعية؟
-طبعً ا عندما نتحدث عن وحدة األديان السماوية نعني
ً إطالقا كما أشرت ،عىل هذا أنها تقوم عىل ثنائية املطلق والنسبي األساس ألح اإلسالم عندما جاء عىل فكرة النسبي الفاعل ،وجعل من املطلق قريبًا منه ،أقرب من السواد إىل
البياض ،أقرب من حبل الوريد، َ كأنك تتحدث عن وحدة وهنا كونية ،وذلك هذا القرب الحميمي
الذي أنتج ما يالزمه عىل صعيد
ّ املشخص واملعيش ،لذلك كان الواقع
اإلسالم أقرب األديان إىل الواقع .دعنا
نتذكر هنا ما حدث يف التاريخ املسيحي يف روما ،حيث
توجد
هناك
انتفاضة
كان زعيمها سبارتكوس
قائد ثورة العبيد الذي كان عبدًا ،وهناك قول بديع:
«لو
نجحت
105
حوار
ثورة العبيد ملا كان محتملاً أن تنشأ املسيحية» .العبيد ُق ِتلوا يف
ذلك الزمان بأعدا ٍد هائلة ،حتى إنه سميت هذه الحادثة بأسبوع العبيد ،ما أريد قوله أنه ما كان هناك مسيحٌ بعينه ،بل مُسحاء، ربما واحد أكرث من اآلخر ،فثورة العبيد أخفقت و ُدمّرت فجاءت
املسيحية التي أوجدت هذا الرباط ،بعد أن كان سبارتكوس قد نادى بكل الحقوق التي نادت بها املسيحية .املسيحية تاريخها ممتئل بالدالالت الكربى للتاريخ العاملي ،أما اإلسالم فقد عاش يف عصر متقدم (القرن السابع امليالدي) ،ويف بقعة أصبحت مرتادة من
مجموعات بشرية واسعة يف العالم ،وال سيما عرب التجارة ،فجاء اإلسالم دي ًنا فاعلاً مباش ًرا ،وهو ً أيضا حرر العبيد لكن بطريقته،
والجميع أخذوا منه ،وهذا ما جعل اإلسالم أقرب إىل الواقع عرب
معالجته مشكالت الناس العينية املباشرة ،كالعبودية والرثوة
والخيص وغريها من املشكالت .لقد أجاب اإلسالم عن والزواج ّ مشكالت مرحلته ،وعىل رغم ذلك ظل كل من اإلسالم واملسيحية قائم عىل فكرة املطلق والنسبي .املسيح هو ذاك الذي يف األعايل «يا أبانا الذي يف األعايل» .اإليحاءات ُص ّنعت ُ وفعّ لت وكوِّنت منها أحداث هي مشكالت انتهت بهذا الفعل ،هذه الخصائص قد ال
اإلسالم أقرب إلى الواقع عبر معالجته مشكالت الناس العينية المباشرة والخصي كالعبودية والثروة والزواج ّ وغيره من المشكالت
تكتشفها يف أديان أخرى.
106
● فرّقتم يف بحوثكم بني مفهوم الشفاعة املحمدية وبني
مفهوم الخالص املسيحي .برأيكم هل من املمكن اليوم توحيد
ً مسلما كان أم رؤية فكرية وفلسفية عن اإلنسان العربي
مسيحيًّا يف إطار حضاري مشرتك؟ ً -التمييز بني هذا وذاك هو تمييز نسبي وليس مطلقا،
النسبي أنه خضع للتحوالت التي تمت باإلسالم نفسه ،فكان اإلسالم يقرتب أكرث فأكرث من الناس ملعالجة مشكالتهم .يف
املسيحية نشأ اتجاه يف هذا املنحى ،لكن ظلت الفكرة األكرث
فاعلية ودخلت يف حياة البشر املدينني باملسيحية كمحفز ،ولم تتدخل يف حياة البشر الخصوصية كالتجارة والتعليم واالقتصاد. ً داعشا ظاهرة عاملية .كيف ● يف حوار سابق قلتم :إن
نستطيع اليوم قراءة ظاهرة اإلرهاب املنتشر يف العالم؟ ً داعشا ظاهرة عاملية بقدر اإلفقار واإلذالل نعم إنوالالكرامة التي يعيشونها يف بلدانهم ،هؤالء قتلة لكنهم ً أيضا ضحايا ،قد يكون بعضهم اآلخر مجرمني ،فهم ال يملكون ً داعشا هو الغرب ،وتبعه الشرق األعىل. شي ًئا ،القاتل الذي أنتج
الجابرية للفكر العربي ،ثم كيف يمكن مواجهة فكر العوملة
الذي يهدد تفكيك الهوية العربية ،وبالتايل إجهاض أي احتماالت لنهضة قادمة؟
-سؤالك هذا ينقلنا إىل الذروة التي وصل إليها الفكر
العربي ،ذروة ذات طابع حاسم ،إما أن تكون أو ال تكون، الذروة هنا يف نبش الكينونة ونفي هذه الهوية ،فالجابري ً ً مأسوفا عليه بطبيعة الحال أنه رحل ،ولقد ظل صديقا كان ُ كنت يف املغرب ،وكانت صديقي حتى آخر أيام حياته .مؤخ ًرا
هناك لقاءات مهمة جدًّ ا ،حيث التقيت عائلته وآخرين من أصدقائه ،الحقيقة كانت هذه الزيارة مناسبة ملراجعة موقفي
من األستاذ الجابري ،وذلك بعد عرض ما قدّ مه ،فلقد كان لقاءً مركبًا بني الشخيص والفكري ،والجميع بات يعرف أن يف ً مقموعة قبل نهاية األحداث يف املغرب حركة ثقافية ،كانت
ً خصوصا .الفكر العربي مر بصعوبات كربى ،لكن هذه تونس الصعوبات حملت نتائج إيجابية ،كانت بمثابة والدة أنتجت
أشياء مهمة جدًّ ا .آخر لقاء مع املرحوم الجابري كان يف بلدٍ
خليجي ،أظن يف اإلمارات ،وكان الرجل قد أوصل فكره إىل
داعش نتيجة الغرب االستعماري املتجرب والشرق الذي أصبح
موقع الفكر الذي يندرج مع الشرق مقابل الغرب ،تحديدً ا
لكن يف النية الخفية غري املرئية ،لذلك التخلص من داعش يعني
الذروة التي قرأها الجابري بشكل مطول ،لكن الجدير بالذكر
مقلدً ا للغرب يحاول أن يفعل ما يفعله .لقد نشأ داعش عامليًّا أن تبني عالـمً ا جديدً ا. ● أريد أن أستوضح منك أولاً َ موقفك الجديد من القراءة العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
ثنائية الشرق والغرب التي أسس لها املستشرقون ،وهذه أنه وقبل وفاته بمدة قصرية بحث عن ذروة أخرى ووجدها يف
الفكر اإلسالمي ،وقال :إن اإلسالم هو الحل كما يقول اآلن
الطيب تيزيني :القاتل الذي أنتج «داعش» هو الغرب وتبعه الشرق األعلى
ُ كتبت اإلسالميون ،ما زاد املوقف اضطرابًا بيني وبينه ،وكنت قد
ًّ خاصا حول الجابري ،بعنوان «من االستشراق الغربي إىل كتابًا ُ نقدت ما قام به الجابري ،وريئ يف االستغراب املغربي» ،وفيه
حينه أن مسألته وصلت إىل حدها النهايئ القاطع.
لكن قبل رحيله قدّ م الجابري ما كان مُ بعدً ا يف نفسه،
واتضح يل أنه كان باألساس إسالميًّا ،لكنه تقمص شخص الباحث يف الفكر العربيً ، إذا الجابري كان له موقفان .طريف أن أقول :إنني انطلقت من منطلق الجابري الفكري ،وهو منطلق عام أساسه النقد التاريخي ،ووصلت إىل أنه كان من املندهشني
بالغرب بصورة فاقعة ،بحيث وصل ما وصل إليه الشاعر
الربيطاين (كبلينغ) عندما قال قولته الشهرية« :الشرق شرق
والغرب غرب وال يلتقيان» .الجابري وصل إىل ذلك بلغة الفكر، ومن ثم الجابري ترك ً إرثا كبريًا يتحرك ضمن هذا الحقل، لكن يف آخر حياته اتضح أنه ينطوي عىل بنية خبيئة لم ُتفصح
عن نفسها ،عىل األقل لم تفصح تمامً ا وظلت غري واضحة، وقبل وفاته أشار إىل ما كان خبي ًئا وبلغة كتبت بلغة املقاالت واملشاورات واألحاديث الذاتية.
هنا انطلقت من موقعني :الغرب والشرق ،فمرجعية
الجابري املنهجية التاريخية كانت الغرب ،وكان يرى أن
ً ً الحقا مفكرون آخرون يقولون: شرقا كما يأيت الشرق يبقى نحن ال نستطيع أن نكون يف موقع قريب من الغرب .هذه الفكرة هي فكرة استشراقية باألساس ،مع العلم أن كثريين
ً خصوصا من املفكرين الغربيني بعد نشأة االستشراق، الطليان منهم لم يسلكوا مسلك املستشرقني اآلخرين وأخذوا ًّ خطا قاطعً ا ،حيث النزعة الكولينالية تظهر ضم ًنا. لكن األمر يظهر فك ًرا واجتهادًا ،فقد كان الدافع الخفي هو
العالم الجديد الذي انطلق منه الجابري حني رأى أن الفكر العربي فكر غري منتج وغري مبدع ،وغري سآّل ،أي ال يقدم أسئلة ،وهذا ما أعلنه صراحة «بيجيه» أحد املستشرقني الفرنسيني حني أدرك أن الشرق ال ينتج أسئلة ،وهناك
طرفة جديدة فكتاب بيجيه كان بعنوان «الباب الضيق»، وأراد أحدهم أن يرتجمه إىل العربية ،وفعلاً ُترجم بإشارة
من طه حسني ،وكان ذلك ،وحني علِمَ صاحب الكتاب بذلك
بعث رسالة إىل املرتجم قال فيها :إىل من تقدم كتابايت؟ وهل هناك من يقرأ عندكم ،هل هناك من يهمّ ه املسائل التي
يأت من املرتجم بل من طه حسني إذ أطرحها؟ الجواب لم ِ ً َ َ َ لكنك ُخدِ عت مسلكا صحيحً ا عمليًّا، سلكت «إنك قال له: ّ من آخرين ،إن الفكر العربي ً أيضا هو فكر سآل».
الجابري والذهاب إلى الوصية األخيرة قال املفكر العربي الطيب تيزيني :إنه دهش حني اكتشف ما آل إليه املفكر الراحل محمد عابد الجابري« ،فالرجل قدم الكثري للفكر العربي ،عىل رغم أنه يف قطعياته األخرية ألغى ما ُع َّد فكرًا عربيًّا فاعلاً متجد ًدا ...أعتقد أن هذا املنعطف
كانت له جذور قديمة وعريقة يف نفسه ظهرت ألسباب كثرية تحيط باملفكر والكاتب ،فظهر كأنه مفكر إسالمي ،وانتهت املسألة العربية الفكرية لديه ،ولهذا اآلخرون الذين ساروا باتجاه الفكر اإلسالمي التجديدي ساروا متوافقني مع املرحوم ً سندا لهم من مصريني ومغاربة ،لكن هذه املدة لم تطل يف فاعليتها .شخصيًّا إنني أحرتم الجابري الجابري ورأوا فيه
واجتهاداته يجب أن تؤخذ بعني االعتبار ،لكن املهم أنه كان يف حياة الجابري عامل قائم ربما من الطفولة ،وأتت الدراسة يف فرنسا وغريها لتحدث تحولاً ،وظهر أن هذا التحول أىت متأخرًا حني أصبحت األسس املتينة قد ثبتت ،هذا تحليل أويل،
لكن الجابري مشكور يف كل األحوال حتى يف مسألة اكتشاف اإلسالمية؛ ألن هذا الكشف يقدم لنا مهمات جديدة بأن نقرأ ً شرخا بني األمرين ،بل حافظ عىل كليهما ،وهذا يضيف ما لم نقرأه .فالجابري لم ينتقل من حقل إىل آخر ،ولم يحدث إىل الفكر العربي إشكالية جديدة بأن مفكرين عربًا لم يستطيعوا أن يخرجوا من اإلشكال األول الذي ولد معهم ،فنشأت نتوءات سمحت بإضافات جديدة ظهرت أواخر العمر ،حينما يصل العمر إىل أواخره يحس أن األيام اقرتبت من نهايتها،
وأن عليه الذهاب إىل الوصية األخرية.
• هذا يقودنا إىل شخصية املفكر العربي التي لم تحل مشكلتها مع الغيب؟ كيف تعلقون عىل ذلك؟
هذا سؤال صحيح ،ليس مع واحد أو اثنني من املفكرين العرب ،بل ربما مع معظمهم ،وأنا أقول ذلك عن معرفة بأصدقاء جمعتني بهم عالقات كبرية وطويلة .ال أريد أن أقول شي ًئا عن املرحوم حسني مروة املفكر العلماين الذي نشأ
يف مكان إسالمي هو الحوزة الشيعية ،وقد كان يحدثني عن ذلك كثريًا ،أذكر أننا كنا أنا ومروة يف مؤتمر بإسبانيا ،وكان
حديثه بحديث من يرغب يف العودة إىل بيئته الدينية أو يتبنى ذلك ،إذ كان هذا جزءً ا من وعيه يحرتمه ،لكن مروة كان يظن أنه وصل إىل ما وصل إليه عرب الطريق من هذا وذاك.
107
مقال
علي نوري زاده مدیر مرکز الدراسات العربية اإليرانية في لندن
ارتياح السید برحیل الشیخ لن یستمر طویل لقد كان الشاعر اإليراني الكبير «خاقاني شرواني»
صاحب قصيدة «مدائن» الحماسية الوطنية «-520 595هـ» من أقرب أصدقاء جمال الدين عبدالرزاق الشاعر والكاتب المعروف في عصره ،وعلى رغم
وجود نوع من التنافس بين الرجلين وهما شاعران
108
محظوظان بلطف وعناية شروان شاه ملك أذربيجان،
غير أن كمال الدين عبدالرزاق أنشد قصيدة حزينة
حين وفاة خاقاني التي بعد مرور أکثر من ثمانیة
قرون علی والدتها ،ال تزال حیة في عواطف اإلیرانیین بل جمیع الناطقین باللغة الفارسية ،ونقرأ بمطلع
القصيدة« :كنت أقول دائمً ا :إن خاقاني سوف يردد
هيهات هيهات ،برحيلي /وما كنت أتصور بأنني سوف أرثيه».
حینما وقف آیة الله علي خامنئي مرشد الثورة
اإليرانية أمام نعش صديق عمره هاشمي رفسنجاني،
رحيل رفسنجاني الذي أشار خالله إلى فتنة أكبر ،وتحول
«شخص من مناصري الثورة ،بل من قادتها إلی منافق في خدمة األعداء والقوى المناهضة للثورة» ،كان بال أدنى
شك ،تأكيدً ا على حقد المرشد لرفسنجاني ،وعدم تمكنه
من ضبط أعصابه إزاء تقدير الشعب لرفسنجاني ومواقفه
في العقد األخير من حياته ،وذلك خالل مراسيم تشييع جثمانه إلى مثواه األخير داخل حرم الخميني. المرشد یقلل من شأن الشیخ
لقد نعی خامنئي هاشمي رفسنجاني في بيانه بلقب
«حجة اإلسالم» وليس «آية الله» ما أدى إلى سحب لقب
آية الله عن هاشمي رفسنجاني من قبل رجاله وقادة
حرسه على رغم أنهم ذكروا اللقب في عبارات المواساة
والعزاء بعد رحيل الرجل مباشرة ،كما أن المرشد حذف
عبارة «اللهم إنا ال نعلم منه إال خی ًرا وأنت أعلم به منا» من
كنا نتوقع بأن يذكره رحيل من وضع تاج والیة الفقیه
صالته على جثمان رفسنجاني على رغم ترديده هذه العبارة
خاقاني ،ولكنه استفاد من فرصته األخيرة للنيل من
الراحل وبقية رجال النظام عند وفاتهم .ومن ثم شهدنا من
خامنئي ورأسه بسماعه خبر وفاة هاشمي رفسنجاني،
مبنى بالسكو بطهران ألكثر من أسبوعين ،وتخصیص
القريبين منه قادرًا على أن يذكر هاشمي رفسنجاني
حول أسباب الحادث ومن المسؤول ،من دون اإلشارة
علی رأسه ،بقصیدة جمال الدین إسماعیل في رثاء مكانة رفسنجاني .وربما ساد شعور باالنتصار قلب
ولوال ذلك ما كان العمید قاسمي من قادة الحرس
في الصالة علی جثمان مهدوي کني رئيس مجلس الخبراء أعالم النظام تضخيمً ا غير عادي في تغطية حادث حريق
صفحات عدة في الصحف والمواقع اإللكترونية للنقاش
بأقبح العبارات وأكثرها قذارة بعد رحيله ،لقد جعل
إلى أن مالك المبنى حبيب إلقانيان أعدم في بداية الثورة
المؤامرة الكبرى ضد النظام «انتفاضة الخضراء
السنين الماضية تحذيرات بلدية طهران ورجال األعمال
قاسمي هاشمي رفسنجاني رأس الفتنة ومخطط
في عام 2009م» .خطاب المرشد بعد أسبوعين من العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
ومالكه الحالي «مؤسسة المستضعفين» تجاهلت طوال والعاملين بالمبنى ووكيل العقارات من خلو المبنى من
أبسط أجهزة إطفاء الحريق و ....بقصة مبنی بالسکو
المدمر ،استطاع النظام وضع حد للسؤال المطروح منذ الساعات األولى إلعالن نبأ وفاة رفسنجاني« ،هل اغتيل
رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام أو مات في ظروف طبيعية؟».
إلى ذلك فإن أجهزة دعاية خامنئي حاولت ً أيضا
استغالل الصداقة التي كانت تربط هاشمي رفسنجاني والقيادات السعودية لتخفيف شأنه «لمدة أسبوعين
لعبت أجهزة دعاية الولي الفقيه التابعة للحرس على
أوتار الكذب والنفاق بادعائها أن السعودية لم تشارك في
عزاء آل رفسنجاني ولو ببرقية موجزة ،وبعد نشر خبر
رسالة العاهل السعودي وولي عهده وولي ولي عهده إلى أسرة رفسنجاني من إحدى القنوات التلفزيونية الفارسية
الفضائية من خارج البالد ،نشرت وكالتا تسنيم ورجا
نيوز الخبر بشكل غير دقيق ومحرف ،مضمونه أن رسائل
التعزية وصلت إلى أسرة رفسنجاني بعد أسبوعين من
وفاته ،ما دفع الفضائية الفارسية السابق ذكرها لبث إيضاحات نقلاً عن شقيق رفسنجاني محمد هاشمي،
هاشمي رفسنجاني
مضمونها أن برقيات المواساة من األسرة الملكية وصلتنا
المدة الوجيزة المتاحة له قبل أن يدعوه الله إلى حيث لن
والمواقع اإللكترونية.
الحي القيوم القادر المتعال ،البصير والعليم بأسرار سيد
بعد ثالثة أيام وليس أسبوعين كما زعمت بعض الصحف
ً وغدا مشاعر المرشد باألمس واليوم
عودة إلى موضوع خامنئي ومشاعره ،فإنه بدأ يشعر حسب مصادرنا بعزلة بالغة ،عن الشعب أولاً ،ومن ثم
تساعده مخابراته وال حرسه وأجهزة قمعه؛ بل سيواجه علي آغا مهما كان لقبه.
لقد أظهر غياب رفسنجاني عورة والية الفقيه ،ومن
كانوا يعدون سيد علي آغا نائبًا للمهدي المنتظر بقلب
عن قطاعات كبيرة من رجال الحكم والحوزة واإلصالحيين
مليء بالحب والمعرفة اإللهية ،اكتشفوا وجهه الحقيقي ً صديقا خالل بضعة أيام .والرجل الذي يدعي أنه كان
وزمرته حيال الرجل الذي أوصله إلى كرسي القيادة،
مرتبته الدينية يوم رحيله من آية الله إلى حجة اإلسالم.
والمحافظين القدامى الذين أزعجتهم سلوكيات خامنئي بل أجلسه فوقه بخطاب مفصل ،والذي تضمن نقل
روایات مفبركة عن الخميني حول خامنئي في جلسة اختيار المرشد الجدید بمجلس الخبراء بعد یوم من
وفاة الخميني .وبعد غياب رفسنجاني ببضعة أيام ،بعث
األستاذ سيد حسين ميردامادي خال خامنئي برسالة إليه
لهاشمي رفسنجاني 59عامً ا ،يقلل من شأنه وتخفض
بل في الصالة على جثمانه ،يقرر إلغاء الدعاء الواجب في اآلداب الدينية عند إقامة صالة الميت« :اللهم إنا ال نعلم منه إال خی ًرا وأنت أعلم به منا» .وهل يمكن أن يكون هذا ً صديقا لهاشمي رفسنجاني؟ الرجل بضعة أسابيع مضت على تشييع جثمان هاشمي
عاتب خاللها ابن شقيقته بسبب «تحوله إلى طاغوت مليء
رفسنجاني ،وفيما تزيد كل يوم مكانته عند المواطنين،
رفسنجاني ،حسبما جاء في رسالته .وطالب میردامادي
المواطن اإليراني لم يعد يتذكر ،سنوات سطوة رفسنجاني
بالحقد حيال» قائد شريف وبارز مثل المرحوم هاشمي نجل شقيقته «أن يغير سلوكه وخطابه وممارساته في
يخسر المرشد ما بقي من رصيده ساعة بساعة .ويبدو أن وتلك األيام التي كان الشيخ الرئيس الحاكم الحقيقي
109
مقال
للبالد ،أيام االغتياالت السياسية التي شملت عد ًدا
من أبرز الشخصيات السياسية والثقافية داخل إيران
وفي الخارج ،نسي الناس ذلك وأبدوا تقديرهم
وإشادتهم برفسنجاني معمار اإلصالحات واالنفتاح. وبالنسبة للمرشد ،الذي ال يخفي كرهه ونفوره
للرئيس محمد خاتمي بسبب الشعبية المثيرة التي
كان وال يزال يحظى بها وسمعته الطيبة ومكانته العالمية ،فإنه بدلاً من أن يسمع توصيات رفسنجاني وخاتمي برفع علم اإلصالح بيده ويصبح قائدً ا ورم ًزا
لإلصالحات واالنفتاح والتقدم ،حاول بكل قواه
وبشتى الطرق والوسائل ،إفشال مشروع خاتمي
اإلصالحي ،وتشويه وجهه أمام الرأي العام ،غير أن
خاتمي ازداد شعبية کلما تعرض لهجوم من المرشد
الفقيه ،ومن كانوا َي ُع ُّدون سيد علي نائبا للمهدي المنتظر بقلب مليء آغا ً بالحب والمعرفة اإللهية ،اكتشفوا وجهه الحقيقي خالل بضعة أيام
ورفسنجاني كان ً أيضا المندوب األول ألهالي العاصمة
بمجلس الخبراء ويرغب روحاني أن يمأل كرسيه بالمجلس،
هادي خامنئي «شقيق المرشد المؤيد لإلصالحات وصديق خاتمي وروحاني الحميم» أو حسن الخميني حفيد آية
وزمرته .واليوم تتكرر تجربة خاتمي ،هذه المرة لزعيم
الله الخميني ،أما خامنئي فينوي منح الشيخ محمد یزدي
على والية الفقيه ومستقبلها ،من اليوم الذي كان
رئيسا للمجلس. رفسنجاني في مايو المقبل ،تمهيدً ا النتخابه ً
ميت ،ورفسنجاني في قبره ،سيمثل خط ًرا أکثر
110
لقد أظهر غياب رفسنجاني عورة والية
حيًّا يرزق ،وخالل سنوات رئاسته بمجمع تشخيص مصلحة النظام كان همّ رفسنجاني الوحيد ضمان
استمرارية النظام وصيانة مقام المرشد ،بخطوات
جريئة للمصالحة الوطنية ،وإزالة العوائق في مسيرة التعايش السلمي مع الجيران أولاً ،ومن ثم مع
المجتمع الدولي.
مصادري في إيران متفقة جميعً ا حول خسارة
الذي خسر في االنتخابات األخيرة لمجلس الخبراء ،مكان
وجنتي الرئيس الحالي للمجلس شخص منبوذ حتى بين أتباع المرشد بمجلس الخبراء وليس مؤهلاً إلدارة المجلس يوم غياب خامنئي وانتخاب مرشحه سيد إبراهيم رئيسي مرشدً ا ً ثالثا للنظام ،وأخذ االعتراف من النواب لمجتبى خامنئي
نائبًا لرئيسي ليتولى المنصب بعد رحيل رئيسي« .والمعروف
أن سيد إبراهيم رئيسي أصدر أحكام اإلعدام بحق 4500شاب وشابة من أعضاء مجاهدي خلق والتنظيمات اليسارية
خامنئي الكبرى برحيل رفسنجاني ،وألكثر من بضعة
والوطنية والليبرالية في عام 1988م ،وقد وصفه المرجع
عين مستشاره األعلى الدكتور علي أكبر واليتي عضوًا
يقول الدكتور محمود طهراني ابن شقيقة خامنئي «السيدة
مملكة والية الفقيه يمكن تعيين عضو في الهيئة
للخميني :إن خاله المرشد ،يعاني هذه األيام آالمً ا جسدية
أسابيع يبحث المرشد عن بدائل لرفسنجاني ،لقد
الراحل آية الله حسين علي منتظري بلقب الجزار المعمم.
في الهيئة التأسيسية للجامعة الحرة!! «وفقط في
بدري» ونجل «الشيخ علي طهراني» رجل الدين المعارض
التأسيسية لجامعة ما ،دون أن يكون لهذا الشخص
ونفسية شديدة ،ويساوره خوف وقلق حول مستقبل النظام
شائعات حول تكليف آية الله موحدي كرماني عضو
يقيم ،إلى المقبرة الفخمة التي يجري بناؤها له حاليًّا ،بجوار
أي عالقة سابقة بالجامعة المذكورة» .ووسط
مجلس الخبراء بإدارة شؤون المجمع ،شن أنصار
أحمدي نجاد حملة دعائیة لمصلحته كأفضل مرشح
لتولي رئاسة المجمع ،أما روحاني فينظر إلى هذا
ومستقبل أسرته بعد وفاته ونقله من مجمع أذربیجان حيث حرم اإلمام الرضا بمشهد ،ليرقد في بيته األبدي. ٭٭٭
ذهب رفسنجاني إلى حيث ال عودةً ، تاركا صديق عمره
المنصب على أنه منصب يستحق هو فقط أن يتواله.
بمفرده يواجه تحديات ،كان باستطاعة شيخه الرئيس
رئاسة المجمع وهما رئيسا الجمهورية.
قريبًا مطلع قصيدة عبدالرزاق إسماعيل في رثاء خاقاني.
بحيث سبق أن تولى كل من خامنئي ورفسنجاني
العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
التصدي لها بحكمته .وما من شك في أن خامنئي سيردد
نصوص
عام النزوح رحاب أبو زيد
كاتبة سعودية
يف صباح شتوي ذي ندى .. وبينما كنت ّ أعد عناصر فطوري املقدس؛ قطعة جنب أصفر ،وكسرة خبز مقرمش ،وشاي مزدوج الكثافة ،لم
أتمكن من شم رائحة الخبز أثناء التحميص ،تعجبت فهي املرة األوىل التي يفعل فيها الخبز ذلك!
ُ حككت أرنبة أنفي أستحثه عىل إعادة التشغيل أو عىل التذكر ،ففوجئت بالفراغ ،كانت األرنبة والثقبان جميعهم
مستشعر الرائحة.. مفقودين ،لم يكن هناك عبث ُيذكر بوجهي سوى تسجيل غياب ِ
ُ ُ وجدتني أطوف حول نفيس بكوب ينسكب باستخفاف عىل طفت حول املطبخ أبحث تحت الطاولة واملغسلة،
بالطات سرياميكية ملساء كانت تفاخر بلمعانها حتى قبل قليل..
ً آخذا معه كل يشء ،لم يكن من ُب ّد الركض باتجاه السرير لعله انتزع هل من املعقول أن يغيب يف ليلة وضحاها شيئا يتقافز بني الشجريات محدِثاً ً ُ ُ ملحت هرعت للحديقة دونما تفكري مدقق، طيات ما ،لم أعرث عليه، هناك بني ٍ خشخشة كحفيف نسيم وكوقع ضفرية شمس عىل غصن مختبئ ،إنه هو ..رحت أتبعه بنظري لم ألحق به ،كان
يعتمد عىل طريقة ال يمكن التنبؤ بها يف القفز ،مسافة قصرية توقف ثم يتابع يف اتجاه آخر« ،أنفي ..أنفي ..أنا هنا»، ًّ ُ مرتدا إىل مكانه ،يف حني تابع القفز حتى اختفى عن ناظريّ .. وظننت لوهلة يقني أنه حاملا يراين سيهفو ناديته ً حدثا جللاً ً ً دهشا ما بالها الوجوه مشابها وقع لوجه جارة لنا مطلع عام النزوح ،وحينذاك تساءل الجمع أذكر أن
غدت تغادر أصحابها ..بل تنقلب عليهم.. «أنف مفقودٌ .. عني ضالة»..
رهف سمعي يف جزء من الثانية لهسيس أو حسيس بني عشب أخضر نبت ً ِّ مبجلة كأنها تبتل أمام شجرة «ملكة الليل» والتي حديثا ،إنه هناك يف وقفة ٍّ ُ بفتور متهدج قبل أن أفقده بادرت تجل ما، بدت -يف سكون -تبادله حالة ٍ ّ تتضوع مساءً ،وتطلق شذاها بمقدِ م السحَ ر ،التفت مجد ًدا :تعلم أنها تذ ُكرينها ً نحويْ : إذا؟ يف العادة ..نستيقظ َ ً حلما حتى النهاية ،أما هذه املرة ولم نكمل قط انتهى الحلم َ ولم أصحُ ،فبقيت العبارة األخرية تردد صداها يف أذين. ... أتحسس أذين!
111
تحقيقات
الرقابة وضعف القوة الشرائية والتأشيرات وعجز االتحاد
أبرز مشكالت الناشرين في معارض الكتب
112
القاهرة
معارض الكتب في بلدان العالم العربي ليست مجرد سوق لتجارة الكتاب ،لكنها عرس ثقافي كبير ينتظره الجميع من العام إلى العام ،يتنقل الناشرون بإصداراتهم وأعمالهم خلفها من بلد إلى آخر ،باحثين عن ملتقى مختلف ،وقارئ جديد ،وأرض تروج فيها فكرتهم كصانعي ثقافة راقية ،لكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه؛ إذ يوجد كثير من التحديات التي تواجه هؤالء الذين أصبح شرط حياتهم االنتقال من دولة إلى أخرى للمشاركة في عرسها الثقافي السنوي« .الفيصل» سعت إلى التعرف على أبرز الصعوبات التي تواجه الناشرين وأحالمهم للوصول إلى واقع أفضل مما يعايشونه اآلن في المعارض العربية.
العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
يقول صاحب املؤسسة العربية للعلوم «ناشرون» ومديرها
يف حني ذهب مدير دار وائل األردنية أشرف أبو غريبة إىل أن
معارض الكتب تقدم أفضل األماكن للناشرين« ،ومن ثم يمكن
جهاد شبارو :إن ضعف القوة الشرائية «هي أكرب الصعوبات التي ً َّ «شكل يف األعوام مضيفا أن تزوير الكتب تواجه الناشرين اآلن»،
القول :إن غالبية املعارض يف العالم العربي مقبولة ،وال تختلف
بتصدير الكتاب إىل مختلف البلدان العربية» .وذهب شبارو
ال يهمه غري البيع للجمهور ،وهؤالء سلسلة طويلة متنوعة»،
األخرية ضربات قوية للناشرين ،وبخاصة أن املزورين يقومون إىل أن األوضاع السياسية يف كثري من البلدان «لم تعد تسمح
بإقامة معارض ،وإن سمحت فإن اإلقبال ال يكون جادًّا ،ومن َثم فالشراء شبه منعدم ،ولنا أن نفكر فيما يجري يف كل من
اليمن وسوريا وليبيا والسودان والعراق ومصر ،ونسأل أنفسنا كيف يمكن أن تروج املعارض ،ويُق ِبل الناس عىل الشراء يف ظل كل هذه الفوىض؟».
عن بعضها إال يف القدرات الخاصة لكل بلد عن اآلخر ،والناشر مؤكدًا أن لكل معرض خصوصياته« ،ففي مصر توجد مشكلة واضحة ،وهي أن سعر الكتاب األردين مرتفع ،والقوة الشرائية
ضعيفة ،ويف معرض الرياض يتمتع بقوة شرائية عالية ،لكن
ثمة مراجعة لكل العناوين ،وثمة رفض لبعضها ،وهو ما يجعل الناشر يخسر جهده يف الشحن للمشاركة يف املعرض».
وأضاف أن ثمة مشكالت أخرى تواجهها مهنة النشر بشكل
عام« ،ال عالقة لها بمعارض الكتب ،لكنها تؤثر يف الصناعة،
من بينها تزوير الكتب ،و«اإلي بوك» الذي أصبح ينافس الكتاب الورقي ،أما املشكلة الثالثة فهي أن كل اتحادات الناشرين
عاجزة ،وتقف مثل الطري املقصوص جناحه ،فهناك بعض املعارض املتضاربة يف املواعيد ،كمعريض الجزائر والشارقة ،ورغم
طلب اتحاد الناشرين من كل من الجزائر والشارقة التنسيق
لتفادي هذا املأزق إال أن أحدًا لم يلتفت ولم يهتم ،وهو ما يؤكد عجز اتحاد الناشرين العرب ،وعدم تفهم الحكومات لطلباته؛ ً أحيانا إىل عدم قدرة االتحاد عىل معاقبة أي العجز الذي يصل من أعضائه حال خطئه ،كما ال يستطيع إجباره عىل املشاركة».
من جانبه قال مدير مبيعات مكتبة ابن الجوزي السعودية
ياسر حسني« :إننا كعرب لسنا متفقني عىل يشء ،فكل دولة تشرتط أمورًا تختلف عن األخرى ،والحس األمني أصبح مسيط ًرا
عىل الجميع ،فمن املمكن أن ي َ ُرفض ناشر لسبب أمني غري مفهوم ،أو يُصادَر كتاب لسبب أمني آخر غري مفهوم ً أيضا»،
موضحً ا أن الناشر هو الخاسر؛ «ألنه يقوم بشحن الكتاب ولم يتمكن من عرضه ،و«كراتني» الكتب نفسها ُتف َّتش بطريقة سيئة ،كما لو أننا نبيع ممنوعات وليس الكتب» .وأشار حسني
إىل أن اتحاد الناشرين العرب ال يستطيع فعل يشء« ،فال
يستطيع أن يلزم دولة بخفض اإليجار ،وال يستطيع أن يطالب دولاً بتعويض الناشرين ،هو مؤسسة أهلية غري فاعلة؛ ألنه بال سلطة عىل الحكومات».
وأوضح مسؤول يف دار الساقي أن لكل دولة خصوصيتها،
ما يجعل كل معرض مختلف عن غريه« ،فمعرض الرياض يعاين
الناشرون فيه ارتفاع إيجارات أماكن البيع والعرض ،إضافة إىل
رفض مسؤويل املعرض عرض وبيع نوعيات من الكتب ،وهذا
يتكرر كثريًا مع دار الساقي خاصة ،أما يف مصر فسوء اإلدارة
والتنظيم هما أبرز املعوقات ،إضافة إىل ارتفاع سعر إيجار أجنحة البيع والعرض ،لكن يف املغرب تعد املشكلة األكرب واألبرز هي
تحويل األموال؛ إذ إنه ليس مسموحً ا به إال دخول مبالغ ضئيلة،
113
تحقيقات
وال توجد أماكن لتحويل العملة ،وهو ما يمثل صعوبة بالنسبة للناشر».
أما خالد الناصر مدير دار منشورات
املتوسط ،فقال :إن كلفة املشاركة يف املعارض أصبحت مرتفعة« ،ومن ثم يجب أن تلقى
معارض الكتب ً نوعا من الدعم ،وإال فإنها
ستواجه أزمة كبرية ،يف مقدمتها غياب الناشرين ،وبخاصة أن القدرة الشرائية لدى ً مضيفا أن املؤسسات الناس ليست كبرية»، الحكومية يف البلدان التي تقام فيها املعارض «يجب أن ُتق ِبل عىل شراء الكتب ،فمن
املدهش أن املؤسسات العامة ووزارات الثقافة ال تشرتي الكتب لتزويد مكتباتها ،إضافة
إىل أن مؤسسات الدولة املنظمة للمعرض
ال تعمل مع الناشرين القادمني إليها عىل إنجاز مشروعات ثقافية كربى ،ال أحد يطلب
مشاركة الناشرين يف يشء» ،مشريًا إىل وجود كثري من القرى
املعرض إىل تحويل ما تحصل عليه إىل دوالر ،فيبدو ملن ال يعرفه
الناشرين لتقديم كتاب مدعوم أو يف طبعة شعبية ألبناء هذه
الكتب من العرض« ،وبخاصة أن هذه الكتب تكون قد وصلت
واملناطق محرومة ثقافيًّا ،وتساءل« :ملاذا ال تتعاون الدول مع
114
املناطق البعيدة عن املراكز؟» .وامتدح الناصر املعارض التي تقام
يف اإلمارات ،موضحً ا أنها الوحيدة املستثناة من هذه امللحوظات.
كأنه يتاجر يف العملة» .وذكر كردية أن من املشكالت املهمة منع
بالفعل إىل دولة املعرض ،وهو ما يشكل أزمة للناشر ومزيد من التكاليف التي توضع عىل الكتاب» .وأوضح أن الناشرين
وأجمل صاحب دار األمل السورية عمار كردية الصعوبات
السوريني «لديهم أزمة يف استخراج تأشريات الدخول ،التي قد ُت َ لغى ألسباب أمنية يف أي وقت وألي سبب ،حتى بعد شحن
إىل أن بعض املعارض «تجرب الناشر عىل الدفع بالدوالر والتحصيل
للناشرين ،عرب إلغاء رسوم إيجارات أماكن العرض ،من كربى
التي يواجهها الناشرون يف التكاليف املرتفعة ألجنحة البيع« ،ما يجرب الناشر عىل تحميل هذه التكاليف عىل سعر الكتاب» ،الف ًتا
الكتب نفسها» .وذهب إىل أن التزوير وعدم مساعدة الحكومات
من الجمهور بالعملة املحلية ،ومن ثم يضطر الناشر يف نهاية
املشكالت التي تواجه الناشرين اآلن.
رئيس االتحاد: مالحظات الناشرين ليست حقيقية رفض رئيس اتحاد الناشرين العرب محمد رشاد مالحظات الناشرين عىل االتحاد ،وقال: إنها غري حقيقية ،وعدد جملة مما َّ عده إنجازات مهمة قام بها االتحاد« ،من بينها أن اللجنة العربية لحماية حقوق امللكية الفكرية تمنع أي ناشر من املشاركة حال ثبوت قيامه بالسطو
محمد رشاد
ً مضيفا أنه منذ شهرين «اجتمع كل الناشرين العرب يف مؤتمر نظمه االتحاد عىل حقوق امللكية الفكرية لغريه»،
بالشراكة مع مكتبة اإلسكندرية واتخذ العديد من القرارات املهمة ،ومنها أال يزيد إيجار املرت يف أي معرض عن مئة وعشرة دوالرات ،وأن ي َّ ُخفض إيجار املرت %50لكل من ناشري سوريا والعراق واليمن وليبيا وفلسطني لظروفهم
ً شريكا يف تنظيم املعارض .وهذا بدأ مع معرض القاهرة يف يناير املايض ،إضافة إىل السياسية ،وأن يكون االتحاد تخفيف اإلجراءات الرقابية عىل الكتب ،ومنح تأشريات الدخول َّ كل من يطلب االتحاد دخولهم» .وأكد رشاد أنه ليك يكون لالتحاد صوت مسموع «فال بد أن يلتزم األعضاء أنفسهم بقراراته».
العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
تحقيقات
ُكتّاب سعوديون يطالبون
« ِكتاب الرياض»
باالنفتاح وتطوير فعالياته صالح العوض
عبّر مثقفون ُ وكتاب شباب عن مطالب يتمنون أن تتحقق في معرض الرياض الدولي للكتاب الذي تنطلق دورته الجديدة في مطلع هذا الشهر (مارس) ،ومن هذه المطالب أن تشهد الفعاليات الثقافية المصاحبة للمعرض تطويرًا يشمل إدخال الموسيقا لترافق قراءة الشعراء لنصوصهم ،كما طالبوا بأسعار مخفضة للكتب ،إضافة إلى زيادة عدد دور النشر المشاركة. الكاتب والباحث عادل الهذلول يقول :إن أول ما يتبادر
بشكل مباشر من الناشر فالواجب بيع الكتاب القارئ يشرتي ٍ لاً بنصف سعر املكتبات خارج املعرض بد من استغالل القارئ،
أكرث من دار سنويًّا ليس بإرادتها بل بإرادة وزارة إعالمنا لألسف،
يف حني ذكرت الكاتبة والصحافية أسماء العبودي أنها
ألذهان املثقفني واملختصني بشؤون الكتاب والنشر عند ذكر معرض الرياض الدويل للكتاب «تناقص دور النشر فيه ،وفقدان
وهذا يضعنا يف وجه تساؤل أبنائنا عن سبب هذا التضييق الذي
يقابله زيادة اإلقبال من سكان الرياض العاشقني للكتاب»، ً مضيفا أن املعرض يأيت سنويًّا «ليثبت إمكانية تعايش كل األطياف الفكرية من كافة امللل والنحل يف تظاهرة ثقافية جميلة غابت
عنها الفعاليات الفكرية والثقافية الجادة ،وهو ما يجعلنا نتحرك ثقافيًّا بال هدى .ونقطة أخرية أهمس بها يف أذن املسؤول :إذا كان
ولن يتحقق ذلك إال برقابة ميدانية مشددة عىل األسعار».
حني تذهب للمعرض ال تريد أن تحمل قائمة بيدها ،وتتنقل
بني املمرات لتسأل عنها أو لتجادل يف سعرها« ،كثريًا ما
أتمنى لو أستطيع محاورة من يكتب لنا ،ومحاورة من ينشر، ومحاورة من يشرتي ..أحب الشعر كثريًا ..وأحب أن أسمعه
ممن كتبه» ،متسائلة« :ما الذي يمنع أن نجعل شاع ًرا يقف هاو عازف ليقرأ ً بعضا مما كتب أمام الحضور قرب دار النشر مع ٍ
115
تحقيقات
عادل الهذلول
أسماء العبودي
ليستمعوا للشعر إلقاءً .أتمنى لو عرض يف جانب آخر من املكان
عىل القراءة كفعل حاسم الزدهار املجتمع وتطور الناشئة.
األدب والفكر ليلتقي بهم الشباب واألطفال؛ ليستمعوا إليهم
وأنشطته كمثال عىل السعي الستثمار فرتة معرض الكتاب
فلمً ا مستوحى من قصة أو رواية ..أن تخصص منصات لكتاب عن بداياتهم وسريهم الذاتية وجهًا لوجه» .وأكدت أن معرض الرياض يف حاله الراهنة «ال يفي بمتطلباتنا ..أطمح كثريًا ألنسنة
املعرض وتحويله إىل مكان هادئ من دون أن يتعرض الناس ألي منغصات ،أتمنى أن أجد املعرض حياة ال جمود متكرر ..ال
رقابة عىل كتاب ..لنثق برقابتنا الذاتية ..نريد أن نرحب باألقالم
الصغرية والشابة وندوات تفاعلية نستمع فيها للناس أكرث مما نتحدث إليهم ..هل أنا حاملة؟».
116
طارق المبارك
معتصم الهقاص
أما الباحث والكاتب طارق املبارك فيقول« :أكرث ما يبهجني
يف معرض الرياض هو درجة ارتفاع السقف يف قبول تنوع وجرأة موضوعات وعناوين الكتب باملعرض منذ ما يقارب
عشر سنوات ،ال شك أن هذا االرتفاع يف السقف نسبي،
لكنه بالنسبة يل معقول جدًّ ا مقارنة بما هو موجود باملكتبات التجارية ال العامة» .ويضيف قائلاً :إن ما ينقص املعرض «أن يتحول لتظاهرة سنوية تشد سكان العاصمة لالهتمام بالكتاب والقراءة ،فاملعرض يقام من دون أنشطة موازية كافية يشارك
فيها التعليم وبقية قطاعات املجتمع للرتكيز خالل مدة املعرض
وأعتقد أنه باإلمكان اإلشارة ملعرض الشارقة الدويل للكتاب للرتويج للقراءة .وبعيدً ا من هذا وذاك يحق لنا االحتفاء بهذا املعرض كأحد أهم املواعيد السنوية يف هذه املدينة».
ويوضح الكاتب والطبيب معتصم الهقاص أنه من خالل
زيارات متتابعة ملعارض الكتب العربيّة الدولية ،بدءً ا من
معرض جدّ ة للكتاب يف شهر نوفمرب من العام املنصرم ،مرورًا
بمعرض بريوت الدويل للكتاب يف الشهر نفسه ،وانتهاء عند
معرض مصر يف بداية هذا العام ،الحظ نقطة مشرتكة «ظهرت يل يف غاية األهميّة ،وهي التجاوب الواضح للمتغري الثقايف
العاملي ،وتبدّ ى لنا ذلك يف ظهور كتب نوعيّة للسطح بعدما غاصت تحته زم ًنا طويلاً ،وباالنفتاح املتوازن عىل ش ّتى املدارس املختلفة واملذاهب الفكريّة الجديدة ،وامتدادًا لهذا ،مؤملاً أن
تكون الدورة من معرض الرياض جديدة يف محتواها ،وأن تعْ رُب أنشطة املعرض الثقافيّة املختلفة وأمسياته املتنوعة من دون
ضجيج أو عجيج ،وبهدوء ينمّ عن مجاراة متزنة للمتغري املحيل والثقايف ،وألاّ ّ يتخلف عن مستواه املعهود املتصاعد دائمً ا ،نحو غد أكمل وأفضل».
عادل حوشان :تجربة النشر السعودي لم تنضج بعد الكالم عن معرض الرياض الدويل للكتاب يستدعي هموم الناشر السعودي
والتحديات التي تواجه صاحب دار طوى الناشر والكاتب عادل الحوشان يقول يف هذا الصدد :إن أكرب ما يواجه النشر السعودي ّ «أنه صناعة متأخرة ،لم تنضج بعد ،ال
املؤسسات الرسمية قادرة عىل فهمه ،وال املؤلف ،وال حتى الناشر ،وأرجح ذلك لقلة التجربة بالرغم من املبادرات التي حدثت يف العشر سنوات األخرية» ،مطالبًا بإقامة ورش
عمل مكثفة «تجمع الكتاب والناشرين والجهات الرسمية؛ إليجاد الحلول وللنهوض بالنشر السعودي» .وعن أهم العقبات التي تواجهه كناشر يقول الحوشان« :جزء مهم
لم يلتفت إليه أحد يضاف إىل وجع املثقفني وهواجسهم بالنجاح والنجومية ،منافذ البيع ّ يصدق ذلك ،واملؤسسة الرسمية تفعل نفس وشروطها الخاصة ،ومهما يفعل الناشر إال أنه يأيت يف آخر القائمة ،املؤلف ال كريس ّ يمثل منفذ البيع». اليشء وال أحد يسأل الرجل الجالس عىل ّ
العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
عادل حوشان
نصوص
الرحيل أحمد إبراهيم يوسف
كاتب سعودي
لم يبق لي مقام هنا.
أصبح التراب المطيع نثار بارود تحت قدمي .األكف التي حملت جمرات «مداعتي»
تتمرد على حرقة الخزي ولسعة الهوان .أرى في عيونهم الشماتة تنطق بلغة مبينة .انزاحت سحابات االنكسار من الحدقات
ُ أصبحت قزمً ا أمامها .أنا اآلن ال شيء الذليلة ..الزنود التابعة التي بخلت على األرض بدوس قدمي استطالت فوق رأسي حتى بعد أن كنت كل شيء .أتذكر عندما دعيت ...كانت الدعوة فاتحة تقزمي ...خرجت من بحري األليف .كانت األمواج تعزف لح ًنا
متشفيًا ،كانت تغني بحماس ...كنت أسمعها رصاصات مدوية في أذني .مت غريبًا مثلما غربتني .استمرت األمواج تصفع مركبي ...أحس صفعاتها على وجهي نارًا ...أطعمها علقمً ا في حلقي.
قلت لنفسي :في زمن الصراعات يجب أن تحسن االختيار ...مسكين أنا .اخترت ...لكني سرت في درب أسلمني إلى زرب
من األسئلة .كانت العيون الالهبة تحرق كبريائي فأتقشر أمامهم .رائحة احتراق سطوتي أشمها نفاذة ..نفس رائحة األكف
التي كانت تحمل جمر مداعتي.
قلت في نفسي « دارت الدائرة».
أسلمني السؤال إلى السؤال إلى السؤال إلى الحديد ..حتى صدئت.
ً مقيدا بذلي .عدت صرت ال شيء بعد أن كنت كل شيء .وحين تيقنوا من حالتي تلك أطلقوني سجي ًنا في نفسي...
إلي وعلى صفحاتها نضارة منخورًا ...كل من كان ترابيًّا صار وبائيًّا ..كل الوجوه التي تلذذت برؤية عذاباتها ها هي تنظر ّ تعذبني .حتى الدار التي أسكنها ...الدار التي كانت حصني وعريني أصبحت شقوتي .زواياها التي شهدت نار عزي ها هي تروي حكايات ترمدي.
زوجتي الشامخة بي أعطت نفسها للصغار والصغيرات تغرسهم تحت شجرة التين الكبيرة في فناء الدار ترويهم باآليات،
وتنقش حناء الحروف الخضراء في أكف الذاكرات .زوجتي هي األخرى أراها بال بريق ..ال أدري هل طفئت أم انطفأت أنا؟
كل ما حولي باهت ،بارد .شامت .الناس ،حجارة المنزل ،األشجار في فناء الدار ...تم ّر بها عيناي فال أرى فيها شي ًئا ما
هذا؟ موت حي ...أوه لم يعد لي مكان هنا .ابتلعت القرار الصعب .قدمت كأس قهوة الفراق لزوجتي ...ذرفت دموعها في
الكأس حتى فارت.
قلت :اصبري إن أدهر النأي.
وسرت بال زنود تحملني ...كانت الطرقات تنبسط دهشة تحت قدمي حتى أسلمني استغرابها إلى الميناء .وضعت فتات
عزي في مركبي الكئيب وأبحرت ...كانت الشواطئ تهتف بي بلغة فصيحة :مت غريبًا مثلما غربتني.
117
مقال
عالية ممدوح كاتبة عراقية
نزيه خاطر: جمهورية األعداء كتاب النحاتة والباحثة واألكاديمية اللبنانية نادين
أبو زكي «نزيه خاطر جمهورية األعداء» الصادر عن دار
الحكايات على قدر التواد الشديد الذي كان يشع من سطور
النهار باللغة الفرنسية ،وترجمة نهلة بيضون شديد ً ُ خطوطا عملت في صفحاته وسطوره النفاسة .كتاب
الموجود في كل واحدة منا .كان ال بد من أن نجمع أجزاءك.
ذاتها وكتاب تتلمس فيه أمالح الصداقة ،كما نقول:
الكاتبة بمسح شعاعي وروحي وأرشيفي على جميع ما كتب
وجيلين ومثقفين ،لمدينة تدعى بيروت ،كلنا ،نحن
والفني ،عن رحالته إلى عموم البالد العربية .الكاتبة بدت ً عميقا ويدفع بالغرس فيالمس لي كالبستاني الذي يحفر
وهوامش وتعليقات شتى .كتاب شغف بلذة الكتابة
118
ً التياعا وولعً ا وهن كثيرات ،وبين الراوي لسرد في دربه
بيننا الخبز والملح والحبر ،بين صديقين وشخصين
اليتامى وبنات السبيل عشنا أو مررنا بها وتبجحنا بما
ومفردات الصفحات« :تعاهدنا على أن نواصل حضورك
هبة الوفاء في جميع الظروف ،السخاء بال حدود» .قامت
من أفكار ودراسات ومقاالت في النقد التشكيلي والمسرحي
لدينا من سرديات عنها ،عن سرها المنيع ،ف ُتمجَّ د بما
في لحظة حنان بعض الزنابق الهاربة من وجدان نزيه خاطر.
حالة من االحتضار واالستسالم لها ،ال هي تبوح بما
تملك ،وال نحن نعرف ماذا سنعمل بكل تلك األسرار؟
يثير الدهشة وأنا أقرأ عن تلك الحقبة التي كنت أعيش فيها ً بعضا ممن ذكرتهم ،وهو نزيه ،التقيته في ببيروت وألتقي
يمنى العيد وأنا في ضيافتها ،وبما أنني أدون على أي
األول معه« :عندما تكتبين ،تشعرين أنك أكثر تعقيدً ا مما
تستحق ويغادر من يغادر ،ويبقى من يبقى وهو في
بدأت بقراءة الكتاب في بيت الصديقة الناقدة الكبيرة
كتاب فكان ال بد من الذهاب إلى مكتبة أنطوان في
في رأيي ،هناك بعض البشر يستحق أعداءه ،وهذا األمر
ً خطفا وأنا أزور الشاعر أنسي الحاج إلجراء حواري النهار
شارع الحمراء واقتناء نسختي« .نزيه ذاكرة من ذاكرة
كتبت .حياتي ،ال أريد أن أقبض عليها ،هكذا أنا ،متقلب، ً أحيانا وال أخشى أن أكون ذلك لست حقيقيًّا ،أخترع نفسي
الذهبية .إنه البطريرك الذي تربع على مدى نصف قرن
وكل ما أكتبه ،أكتبه لنفسي .لم أكتب في حياتي ألجل أحد».
بيروت الثقافية ،وعين ثاقبة ،وشاهد على سنواتها
إلى جانب أسماء بارزة أخرى ،على إمبراطورية النهار:
وفي ،مستقيم ،سخي ،ال الصحيفة اللبنانية األولىٌّ . يساوم على أفكاره ،ثابت على مبادئه ،متصالح مع نفسه ،فخور ،عنيد حتى الصفاقة ،خفيف الروح،
الشخص الساكن في ذهني .كل ما أفعله ،أفعله لنفسي، ٭٭٭
كان الرسام أو المسرحي والسينمائي الفالني ينتظر
مقالة خاطر« :استمتعت بكوني ناقدً ا فنيًّا .فاألمر يتطلب
كثي ًرا من الوقاحة .لشدة ما أعشق ذلك الجانب االستفزازي
كتوم ،حلو المعشر ،رقيق الجانب ،غامض ،خفي،
في شخصيتي ال أقوى على إخفائه ،هذا جزء من طبعي ،أن ً ً شخصا محايدً ا .الكتابة تفضح المرء؛ محرضا .لست أكون
األعداء-األصحاب وبعض األصدقاء ،والالتي مررن
على حق» .بعض الخصومات بينه وبين بعض الفنانين
متحفظ ،قريب ،بعيد يحدوه إيمان شديد بالحياة». ب ـن ــاء الك ـتـ ــاب أخـ ــاذ ب ـي ــن ال ـت ــوث ـيـ ــق ع ــن أل ـس ـن ــة
العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
لذلك لم أكذب قط في كتاباتي من دون االدّعاء بأنني دائما
التشكيليين والشعراء تستغرق عقودًا ،لكن احتضاره وهو في المستشفى أزال جميع الضغائن .دائمً ا الموت يحمل الحل
والمشكلة .بعضهم كان يسعد إذا مر الناقد على المعرض
ولم يكتب عنه ،فهذا أفضل من الهجوم الذي يهشمه .كان العالم العربي ضاجًّ ا بالمعارض والمسرحيات والمؤتمرات
والندوات والسينما الجديدة ،ما بين بغداد ودمشق وتونس والكويت والقاهرة ،فكان يحمل توكيلاً ثقافيًّا لكي يغذي الذائقة والمزاج العربيين من القراء والفنانين والنخبة على
حد سواء ،فقد كانت ثقافته الفرنسية العميقة وبعد دراسته في باريس ولسنوات هي مراجعه العالمية التي كانت تحت
119
تصرفه ،يعرضها ويجمع عبرها األدلة ويدع مقاالته كالحجة
والمقترح ،فيبدع في االعتراض أو الثناء .كانت والدته تردد
عليه دائما :تنتظرك العداوات .ففي مقاالتك كنت ترفع
موهبة فنية أو تحط من قدر فنان .جميعهم يخشاك،
يراعيك ،أخالقك تمنعك من شن هجوم على األشخاص
الذين ال تحبهم فتتجاهلهم لئال تؤذيهم ،وكان ذلك كالعقاب ً أحيانا ،فليشتمنا لو شاء ،ولكن فليكتب ع ّنا .إذا ذكرني نزيه خاطر في صحيفة النهار فسيعرف اسمي الجميع».
بعض الصداقات ال يتكرر في هذا الوقت ،كما هناك كتابات ،ربما تبدو كتابة صحيحة وجيدة لكنها محشوة بالعدوانية .سطور هذا الكتاب تقطر إخالصا وأريحية قل نظيرهما ً
٭٭٭
يلسع ويلدغ ويقرص هذا الناقد ،شاغل الرسامين
وملعون من عموم الفنانين .بيروت كانت حاضنة ثمينة لتالطم واحتدام جميع األفكار :الماركسية والقومية،
وبجميع أحزابها وأيديولوجياتها .كلهم يترافق وينفصل
بالمناهج واألدوات والتفسيرات والتأويالت االجتماعية
كما هناك كتابات ،ربما تبدو كتابة صحيحة وجيدة لكنها
ً إخالصا وأريحية محشوة بالعدوانية .سطور هذا الكتاب تقطر ّ قل نظيرهما .تصورت حالي في أحد مسارح المدينة األجمل
والثقافية والسياسية لمرحلة من تاريخ المنطقة الذي كان
وأنا أصغي لحوار نزيه ،فبعد صداقة عمرها 45سنة ،وفي
المستقبل ،بالرغم من أن بذور الحرب األهلية كانت قد بدأت
شيء ..ينهار جهاز مناعته بعد أن استغني عنه من الجريدة.
بيروت ترسّ ب المرئي الجميل والالمرئي الخطير الذي أحرق
بأسماء من تم االستغناء عنهم من الكتاب ،فهم يستحقون
يشهد ولو خارجيًّا على نوع من التماسك النسبي باتجاه
حركة واحدة من يد رئيس التحرير غسان تويني يتوقف كل
تتراص كما هي طبقات الجيولوجيا الرسوبية الرخوة ،فتربة
اليوم ،علينا نحن ،بعض األصدقاء في بيروت ،ضبط قائمة
اليابس واألخضر .بعض الصداقات ال يتكرر في هذا الوقت،
كتابًا كهذا.
ثقافات
120
كاتبة مغربية حازت جائزة الغونكور العام الماضي عن «أغنية هادئة»
ليلى سليماني:
مجرد كوننا نساء يجعلنا ضحايا محتمالت للعنف واالعتداءات العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
ليلى سليماني :مجرد كوننا نساء يجعلنا ضحايا محتمالت للعنف واالعتداءات
ترجمة :محمد اإلدريسي
مترجم مغربي
مع صدور روايتها الطويلة الثانية المستوحاة من األحداث المأساوية لمدينة
نيويورك ،تشرح الكاتبة المغربية ليلى سليماني للقراء النسق الشرطي لعالقات األبوة- المربية .في هذا الحوار الذي أجراه معها موقع «هفنغتون بوست» قبل تتويجها بجائزة ً أحيانا و«المثيرة» الغونكور بأيام قليلة ونشر يوم التتويج ،تتحدث عن روايتها «المخيفة» ً أحيانا أخرى «أغنية هادئة» التي حازت الجائزة.
• كيف استطعت الدخول إىل رأس مربية قاتلة وأم يف
الوقت نفسه؟ أليس األمر أشبه بحالة فصامية؟
-عندما نكتب ،فإننا نحاول استثمار ما نملك وما يرتبط
بخرباتنا ،ويف الوقت نفسه نستدعي مخيالنا واستيهاماتنا؛
لذلك ال أعتقد أن األمر يتعلق بفصام ،بل مجرد تما ٍه مع
شخصية معينة حينما نقرأ رواية أو نشاهد فلمً ا .أود أن
121
أقول بأن سحر الخيال هو ما يسمح لنا بالخروج من ذواتنا واستثمار حقائق أخرى ،وسرب أغوار نفوس أخرى غري أنفسنا. غال بالنسبة • أليست هناك مفارقة يف أن نأتمن ما هو ٍ
لنا إىل شخص غريب كلية؟ -بدلاً من القول بالتناقض ،أعدّ األمر شكلاً من أشكال
الالوعي ،والجنون .حينما نفكر يف األمر ،نجده يبعث عىل الدوار! ويف الوقت نفسه ،نجده قائمً ا منذ قرون خلت.
لقد وقفت منظماتنا االجتماعية ،منذ مئات السنني ،عىل حقيقة أن النساء البورجوازيات يأتمن نساء أخريات ،أقل فضلاً ،عىل أبنائهن ،من أجل تكريس أنفسهن ليشء أخر
مستقلة ،وألتقي الناس ،وأحتفظ بلحظات خاصة .إنه أمر
برودة ،وأكرث رأسمالية وأقل حميمية .لذلك ،قد يبدو ضربًا
للعديد من النساء األخريات .لكن ،ملاذا ال نطرح هذا السؤال
غري األمومة .أضحت العالقة مع املربية ،أكرث تنظيمً ا ،وأكرث من الجنون أن يرتكن طفلهن لشخص بالكاد يعرفنه .إن هذا
«اإلرهاب» وهذه الالعقالنية هي ما يعطي اإلثارة للرواية. • أن تصبحي ربة بيت هي غاية غري مدركة؟
-ال ،أبدً ا! لن أكون قادرة عىل ذلك ،لن أستطيع الصرب
أو املخاطرة بأن أتحول إىل «وحش» ،ال بد يل أن أقول بأنني
سأشعر بملل فضيع جدًّ ا .أحب العمل ،وأحب أن أكون
ضروري ،وال مف ّر منه ،لعييش الكريم ،كما هو بالنسبة عىل الرجال؟
• بشكل عام ،ما هي وجهة نظرك حول دور األمهات
العامالت يف املجتمع الحديث؟
ًّ محكا صعبًا وغري متكيف بشكل أجد أن املجتمع ما زالّ كبري مع عمل املرأة .أنا أفكر يف النساء اللوايت تمكن من االشتغال عىل مختلف الجبهات .أجد أن األمر الفت للنظر،
كتب
وأعرف إىل أي حد هن مرهقات! ألنه ،شئنا أم أبينا ،ال تزال
• كيف سينظر إىل هذه املأساة إذا وقعت يف املغرب؟
األعباء؛ لكونها أول من يُستدعى يف حالة مرض طفل ما،
وينمن يف بيوت رؤسائهن يف العمل وليس لديهن حياة أخرى
األحكام املسبقة منتشرة واملرأة وحدها من يتحمل مزيدً ا من
وأكرث من يلجأ إىل التقليل من زمن العمل لرعايته.
إىل جانب هذه الحياة .إضافة إىل ذلك ،ما زالت الالمساواة
• نجد يف روايتك سر ًدا لحياة عائلة نيويوركية تعيش يف
االجتماعية والثقافية واضحة بشكل كبري مقارنة بباريس. أعتقد أن هذه الدراما مبالغ فيها ،وأكرث ً عنفا ،ربما .لكن من
-هنا أملس إحالة إىل األخبار (املنوعات) التي أعطتني
• ستصدرين يف مطلع عام 2017م دراسة حول «الجنس
الجانب الغربي ،يف حني أن املربية ذات أصول دومينيكانية. يبدو أن األمر يتعلق ً أيضا برواية عن الصراع الطبقي؟ الفكرة األوىل حول الرواية ،لكنني مع ذلك لم أستلهم منها أي يشء عىل اإلطالق أثناء عملية بناء شخصيايت .ومع ذلك،
بالطبع ،تظل مسألة الصراع الطبقي حاضرة بقوة يف الكتاب. سيجد هذين الزوجني ،بشكل بوهيمي قليلاً ،أنفسهم ألول
املؤكد أنه سيكون من املفيد جدًّ ا حدوث تغري يف الواقع املغربي.
واألكاذيب املرتبطة به» يف املغرب ،ويف روايتك األوىل «حديقة الغول» وقفت عند صورة امرأة شابة مدمنة عىل الجنس .نجدك ال ترتددين يف مناقشة املواضيع الحساسة
عىل ضفتي املتوسط ،ملاذا؟
مرة وجهًا لوجه إزاء قيم التسامح ،واالنفتاح ...عىل الواقع.
-عندما أكتب ،ال أفكر يف مثل هذه الشروط .أكتب
ولم يعيشوا أي نوع من الهرمية .للمرة األوىل يف حياتهم
موضوعات كتبي حساسة أو ال ،هي باألساس محط تأويل
إنهم عينة من أناس ال يعيشون ضمن مزيج اجتماعي، سيصبحون زعماء ،وسينقلب البؤس عليهم .وهذا كله
122
-يف املغرب ،يحدث أن نصادف كون «املربيات» يعشن
بسبب االحتكاك االجتماعي الرهيب.
حول ما يهمني ،كل يشء يف الحقيقة .وحقيقة أن تكون وتفسري من قبل العموم أو وسائل اإلعالم .إنني أنقاد وراء أمنيايت أو التزامايت.
روايتها األولى رفضتها «سوي» وقبلتها «غاليمار» ..وفوزها يواجه باالنتقاد ولدت ليىل سليماين بمدينة الرباط سنة 1981م من أب مغربي وأم فرنسية -جزائرية ،وتعد ثالث روائية عربية
تحصل عىل جائزة غونكور ،بعد الروايئ املغربي الطاهر بن جلون (1987م) واللبناين أمني معلوف (1993م) .لم تكن
الطريق نحو الغونكور مفروشة بالورد؛ إذ سبق لـ«دار سوي» الشهرية أن رفضت مخطوطة عملها األول «يف حديقة الغول» ،وهو ما جعلها تحبط إىل حد كبري ،قبل أن تقبل «دار غاليمار» نشرها فيما بعد .أسهمت األحداث العنيفة التي عرفتها فرنسا خالل السنتني
املاضيتني بشكل كبري يف التعريف بالشخصية الصحفية واملناضلة
والحقوقية
لليىل
سليماين
يف املشهد اإلعالمي البارييس خاصة ،والفرنيس عامة؛ مما
جعلها تمهد الطريق لروايتها
الثانية «أغنية هادئة» املستقاة أمين معلوف
العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
الطاهر بن جلول
من قصة شائعة حول جريمة
ليلى سليماني :مجرد كوننا نساء يجعلنا ضحايا محتمالت للعنف واالعتداءات
حقيقة أن تكون موضوعات كتبي حساسة أو ال ،هي باألساس محط تأويل وتفسير من قبل العموم أو وسائل اإلعالم • هل تعرتفني بأنك نسوية؟
-نعم ،بطبيعة الحال ،كليًّا وبشكل غريزي .إن مجرد
كوننا نساء يجعلنا ضحايا محتمالت لالعتداءات الجنسية، ً اعرتافا، والتحرش والعنف .النساء هن األقل أج ًرا ،واألقل واألقل تمثيلاً يف املجاالت السياسية أو االقتصادية العليا.
يف معظم دول العالم ،تنتهك حقوقهن بشكل كبري! إنهن ضحايا للفصل والعزل يف العديد من الدول :يف أفغانستان... وغريهاً . إذا نعم ،أنا نسوية وسأظل دومً ا معارضة الستمرار
هذا الوضع.
• هل تفكرين يف العودة لالستقرار يف املغرب؟
-أنا أعيش يف باريس منذ 17سنة .هذا هو املكان الذي
بنيت فيه عائلتي ،حيث يعيش أصدقايئ وحيث أعمل .أنا
قتل مربية لطفلني بمدينة نيويورك.
ولم يمر فوز سليماين بجائزة الغونكور بسالم؛
متعلقة جدًّ ا بباريس وال أستطيع أن أتخيل نفيس خارج هذه
املدينة .ولكنني لم أقل إنني ال أفكر أبدً ا يف املغرب!
• ما الرسالة التي تريدين تمريرها للمغاربة؟
-آه ،سيكون ضربًا من الغرور ،من جانبي ،إذا أردت
أن أمرر رسالة إىل املغاربة! اليشء الوحيد الذي أستطيع أن أقوله ،وكان دومً ا شعاري األساس :كونوا أحرارًا.
«سيجعل القارئ يطالع ذاته ويتعرف إليها من خالل هذه
الرواية» بحسب تصريح رئيس أكاديمية غونكور بعد
اإلعالن عن فوز الروائية املغربية الشابة.
إذ انتقد بعض املنابر اإلعالمية الفرنسية حصول ليىل سليماين عىل الجائزة ،أولاً ،ألنها «ولدت خارج فرنسا»،
حظيت رواية «أغنية هادئة» بعد صدورها بإقبال
يف املشهد األدبي والفني الفرنيس .ثانيًا ،لكونها «كاتبة
الذي خلفه صدور روايتها األوىل لدى الجمهور الفرنيس.
األمر الذي يحيل إىل الحضور الدائم لإلرث الكولونيايل شابة» وال تحمل يف رصيد أعمالها السابقة سوى رواية واحدة ،يف حني أن «أكاديمية غونكور» اعتادت منح الجائزة للكتاب املتقدمني يف السن ،أو بلغة أخرى للكتاب الذين ينتمون إىل املايض ،وليس إىل الحاضر، ويكتبون عنه .لكنّ عد ًدا من النقاد يرى أن السر وراء
فوز الروائية الشابة بجائزة غونكور يكمن يف استلهامها
كبري من القراء واستحسنها النقاد ،نظرًا لالنطباع الجيد طبعً ا ،هنا ال نتحدث عن الشروط املوضوعية املتحكمة يف استحسان املقومات الفنية واألدبية للعمل الروايئ،
بقدر ما نتحدث عن األثر الذي تركته شخصية «أديل»
(الشخصية الرئيسة يف رواية «يف حديقة الغول») لدى القراء الفرنسيني ،وعموم النقاد ،وجعلها تحصل عىل جائزة املامونية الفرانكفونية املغربية .ولقد أسهمت
املوهبة الفنية للروائية ،وقدرتها عىل الوصف وربط
شخصيات الرواية –وكذلك روايتها األوىل -من الفضاء «الغربي» وليس العربي أو املغاربي ،كما هو شأن جُ ّل
خيوط الحبكة الدرامية لروايتها –بشكل يقارب الروايات
إىل جعلها من املشكالت املعيشة وإيقاع الحياة اليومية
بؤس الحياة ورعب الرواية ،عىل اخرتاق الروح اإلنسانية
الكتاب املغاربيني الذين يكتبون باللغة الفرنسية ،إضافة
ميكانيزمً ا أساسيًّا لبناء حبكتها الدرامية ،وهو األمر الذي
البوليسية -وزجها بالقارئ داخل الرواية وجعله يتذوق بـ«قسوة» و«برود» شديدين.
123
ثقافات
خمس سنوات على رحيل فيسوافا شيمبورسكا.. الشعر يتيم! تقديم وترجمة :عماد أبو صالح
124
شاعر مصري
ولدت الشاعرة فيسوافا شيمبورسكا عام 1932م ،وماتت في األول من فبراير 2012م بسرطان الرئة؛ هي التي ظلت آلخر يوم من عمرها تدخن السجائر بشراهة طفلة تأكل الحلوى .قالت عائلتها: إنها أسلمت الروح بهدوء تام في أثناء نومها .أوصت بحرق جثتها ،وإقامة جنازة من دون بهرجة وال طقوس دينية ،وشددت على المع ّزين بتوفير ثمن األزهار لمساعدة المحتاجين ،ودفنت في نفس قبر أبيها (وينسنتي 1936 -1870م) وأمها ّ (أنا 1960 -1890م). تكتب «شيمبورسكا» قصائدها على حافة الرهافة والصرامة ،والرعب والسخرية .التقطيع الحاد لسيولة السرد ،والبساطة العميقة ،والشيفرات الفلسفية الماكرة ،هي أهم آليات عمل هذه دروسا إبداعية للشعراء (الشاعرات البولندية الباذخة المدوّخة ،التي لم تكن تكتب ،بقدر ما تعطي ً خاصة) ،في معنى الصبر والحفر. هي مثال آخر بعد قسطنطني كفافيس ،يثبت أن
الشعراء يمكن أن يزدادوا براعة مع الزمن .كانت كلما تشيخ، تنضج وتتوهج ،إذ ال تقل قصائدها التي كتبتها يف الثمانينيات من عمرها ،عن أعمالها السابقة التي صدرت يف ع ّز تألقها روحيًّا وصحيًّا.
يف كلمتها يف حفل استالم جائزة نوبل ،ربما نجد أحد
مفاتيح عاملها امليلء باألسرار .تقول« :ال أعرف ..كلمتان لهما جناحان .لو أن نيوتن لم يقل لنفسه ال أعرف ،كان يف أحسن
األحوال سيلتقط التفاحة ويأكلها».
لكن إذا كان الشعراء ال يعرفون ،فمن الذي يعرف؟
تجيب «شيمبورسكا» يف نص الكلمة ذاتها« :وحدهم
الجالدون والدكتاتوريون واملأفونون ومتملقو الجماهري
يعرفون ،لكنهم يعرفون مرة واحدة إىل األبد» .الدهشة ضد العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
الخربة ً إذا ،هي ما أتاح لها أن تمسك براءة الطفولة بيد، وحكمة الشيخوخة يف يد ،وألاّ تخذلها ربّة الشعر حتى آخر
َ نفس يف حياتها.
يطلقون عليها يف بولندا «موزارت الشعر» ،وتحظى
بقراءة واسعة يف كل العالم ،نخبوية وشعبية عىل السواء.
لم تكن معروفة عىل نطاق واسع قبل حصولها عىل نوبل ً استهجانا ودهشة لدى مبدعني عام 1996م ،والقى فوزها
وأكاديميني .لها أكرث من عشرين مجموعة شعرية ما بني إصدارات ومختارات؛ منها « :لهذا نحيا1952 -م» ،و«امللح– 1962م» ،و«مئة سلوى– 1967م» ،و«الرقم الكبري1976 -م»،
و«النهاية والبداية1993 -م».
يف مناسبة ذكرى رحيلها الخامسة ،ترجمت حوارًا مع
سكرتريها الخاص ومدير مؤسستها مايكل ريسينيك .وكذلك قمت باختيار إحدى قصائدها وترجمتها لتنشر رفقة الحوار.
مايكل ريسينيك سكرتيرها الخاص ومدير مؤسستها: «شيمبورسكا» كرهت نفسها بعد حصولها على «نوبل» مايكل ريسينيك مرتجم ،وكاتب ،ومحاضر يف جامعة
جاجيلونيان ،ويعمل حاليًّا رئيس مؤسسة الشاعرة فيسوافا
شيمبورسكا .كان السكرتري الشخيص للشاعرة مدة 15عامً ا
بعد أن حصلت عىل جائزة نوبل يف عام 1996م .هذا الحوار الذي أجراه غريغور زاورا مع «ريسينيك» يف ذكرى رحيلها الثانية عام 2014م ،يلقى الضوء عىل جوانب مجهولة من حياة الشاعرة يف سنواتها األخرية.
● ما هي الظروف التي أدت إىل التعاون بينك وبني
فيسوافا شيمبورسكا؟
-كل يشء بدأ بعد حصول السيدة شيمبورسكا عىل
جائزة نوبل يف أكتوبر 1996م .أرادت توفري مزيد من الوقت
لنفسها عرب سكرتري أدبي؛ ألنها كانت مشغولة بكمية
ضخمة من االلتزامات املختلفة .لقد كان عليها الرد عىل املراسالت ،وذلك من الصعب ًّ جدا بالنسبة لها .بحثت عن مساعد ،وسألت صديقاتها عن سكرتري ،وأنا ظهرت يف األفق. رشحتني األستاذة ترييزا واالس ،صديقة السيدة فيسوافا،
وكنت قد تخرجت يف ذلك الوقت من الجامعة.
● كيف استطاع ذلك الشاب بناء عالقة وثيقة وطويلة
األمد مع الشاعرة؟
ً متأكدا مما إذا كان للسن أي -ال أعرف ،ولست
معنى .كانت يف حاجة لشخص للرد عىل مراسالتها باللغة
اإلنجليزية ،وإرسال رسائل الربيد اإللكرتوين والفاكسات (كانت ال تزال تقنية شعبية يف ذلك الوقت) ،ويعرف قليلاً عن يف جميع الشروط كيفية استخدام جهاز كمبيوتر ،وتوفرت ّ ً الالزمة .أنا كنت مستشارًا لها ،لكن أصبحنا أيضا صديقني،
وقد أعربت عن ثقتها بي .كان من املخطط أن أعمل لديها مدة ثالثة أشهر فقط بعد حصولها عىل جائزة نوبل ،وبقيت مدة خمسة عشر عامً ا.
● هل كان هناك حدود عند نقطة معينة بينك وبني
السيدة شيمبورسكا ،أم أن العالقة كانت طبيعية؟ -بالطبع .كان هناك دائمً ا بعض املسافة يف
عالقاتها مع اآلخرين .كانت متحفظة عىل مناداتها بكلمة «صديق» ،وتقصرها
ف ـق ـ ــط ع ـل ــى أصــدق ــائـ ـه ـ ــا الـقــدامـ ـ ـ ــى
واألشخاص من جيلها .ومع ذلك،
مايكل ريسينيك وشيمبورسكا
كانت مرحة ًّ جدا مع الناس وتطلب منهم مباشرة أن ينادوها
باسمها األول ،بمن يف ذلك زوجتي وأطفايل لكن ليس أنا. لقد حافظنا دائمً ا عىل عالقة العمل .لم يكن مهمًّ ا ًّ جدا بالنسبة يل ،حتى أنا وجدت أنه لطيف.
125
ثقافات
● متى قررت السيدة شيمبورسكا اإلعالن
عن فكرة املؤسسة؟
-ظهرت الفكرة قبل بداية عميل معها ،وذلك
خالل محادثة مع ترييزا واالس يف عام 1996م.
● ملاذا دخلت الفكرة حيز التنفيذ بعد وفاتها؟
-ألنها ال تحب صنع ضجة حول نفسها ،التي
ستكون ضرورية يف حالة تشغيل املؤسسة .كان إنشاء مؤسسة ،أو حتى كلمة «مؤسسة» أمرًا
غريبًا لها .وقالت :إنها تفضل أن يحدث كل يشء
من دون مشاركتها.
● هل ترى أي نتائج ملموسة بعد مرور عام
عىل إنشاء املؤسسة؟
-أعتقد أنه ما زال من الصعب الحديث عن أي نتائج
مادية .نحن يف املقام األول ،نحاول بناء «العالمة التجارية»
للمؤسسة وتعريفها عىل نطاق واسع .بطبيعة الحال ،هو أسهل الخطوات؛ ألن اسم السيدة شيمبورسكا معروف.
ومع ذلك ،فإنه ال يزال من السابق ألوانه الحديث عن أي
126
نتائج ملموسة .نحن نقوم بتنفيذ وصيتها ببطء .أنهينا
بالفعل صيغة منح الجائزة .سنكون قادرين عىل الحديث عن اآلثار بعد ذلك .لكن هذا هو جزء واحد فقط من النشاط.
● يبدو أن السيدة شيمبورسكا تثق بك كثريًا بحيث أنها
أعطت لك مطلق الحرية فيما يتعلق بنشاط املؤسسة؟
كانت تخاف الشهرة وتتجنب المديح وترتعب من كلمة «مؤسسة» تحب العزلة وتقضي وقتها مع صديقاتها على طراز صالونات القرن 19 بها تجعل أشعارها يف متناول الجميع وليس فقط القراء يف بولندا .إنه ألمر مدهش أنها ال تزال تلقى ذلك اإلقبال يف الخارج ،عىل سبيل املثال يف إيطاليا وهولندا وأمريكا.
-باستثناء الجائزة ،حُ ِّددت النقاط بشكل دقيق .قالت
ً مرتجما ،ما هي برأيك أهم العناصر الصعبة ● بوصفك
ذلك .تركت لنا اتخاذ القرار ،وبالتايل كان علينا أن نضع أكرب جهد يف الجائزة .هناك ً أيضا الصندوق الذي أنشأناه ملساعدة ً ظروفا مالية صعبة .كانت السيدة املؤلفني الذين يواجهون
-مما ال شك فيه ،أنه من املمكن ترجمة أشعارها؛ ألنها
صراحة :إنها لم يكن لديها أي فكرة ملموسة عن كيفية فعل
فيسوافا ترغب يف مساعدة هؤالء الناس ،وأرادت املؤسسة
مواصلة هذا العمل .كما كان علينا إضفاء الطابع الرسمي عىل ذلك ليك ال تكون أنشطتنا وهمية ،وذلك األمر يتطلب ً أيضا كثريًا من العمل. عاما ،لكن كيف ّ ● قد يكون السؤال ًّ تمكن شعر السيدة
شيمبورسكا من الوصول إىل الناس يف جميع أنحاء العالم؟ -هذا هو اللغز .من الصعب اإلجابة عن هذا السؤال.
وأعتقد أن هناك العديد من العناصر التي ساهمت يف ذلك. باستثناء الجوانب الفنية ،فإن أسلوبها بسيط يف الظاهر لكنه
يخفي العديد من الزخارف الفلسفية .الطريقة التي تعرب العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
أو املثرية لالهتمام يف شعر السيدة شيمبورسكا؟
ليست عميقة الجذور يف الثقافة البولندية والتقاليد .كان ذلك واضحً ا يف مختلف ترجمات أعمالها التي تتطلب قليلاً
من الحوايش .إنها تقدم حاالت غنائية عاملية تتيح استقبالاً
واسعً ا .وأذكر العديد من القصائد؛ منها عىل سبيل املثال ً عميقا يف اللغة ذاتها ،وتتطلب ترجمتها «عيد ميالد» املتجذرة خلق قصيدة جديدة .وهذا هو ما فعله املرتجم يف الرتجمة اإلنجليزية .أما مرتجم أعمالها إىل اللغة الفرنسية فقال :إن
ترجمتها مستحيلة.
● هل سبق لك أن حاولت ترجمة شعرها إىل لغة
أخرى؟
-ال ،لكن يف بعض األحيان أعطي النصائح بشأن ترجمة
قصائد السيدة فيسوافا إىل اإلنجليزية.
خمس سنوات على رحيل شيمبورسكا
ً أيضا كاتب ،هل يمكن القول :إن السيدة ● أنت
شيمبورسكا كانت نموذجً ا بالنسبة لك يف األعمال األدبية
الخاصة بك؟
-بالتأكيد ،أصابتني منها عدوى الحساسية واالنتباه إىل
اللغة .قالت :إنها تلعب مع اللغة وتتعامل معها عىل أنها
يشء مهم .لم تطلب مني قصائدي للتعليق عليها .رغم ذلك، أتذكر تلك املحادثات التي دارت بيننا كثريًا بشكل عارض عن
اللغة .لم تقدم تعليقات عىل أعمال اآلخرين ،لكن عندما أحضرت لها بعض قصائدي الساخرة ،قدمت يل مالحظات ثاقبة بشأن الجوانب التقنية ،وهو أمر نادر ًّ جدا اليوم .كان
هذا النهج التزامً ا يف جيلها ،كان هناك مفهوم وظيفة أدبية. ● ماذا كان موقف السيدة شيمبورسكا تجاه الشهرة؟
أوه! كانت خائفة .كرهت حالها عندما كان عليها أنً بعيدا تمامً ا من تتلقى أي نوع من املديح أو الحب .كان ذلك
شخصيتها وما أنقذها ،أعتقد ،كان حس النكتة ،والعزلة، والسخرية واملفارقة.
قالوا لها :إنهم يعرفونها ويحبونها .كان أهم يشء أن شعرها له جمهور واسع ًّ جدا. ● هل تشعر أنها تكون طبيعية عندما تواجه القراء؟
-ال فعلاً ،هي باألحرى تتجنب مثل هذه الحاالت .من ناحية
أخرى ،تلقت العديد من الرسائل مما يسمى الناس العاديني (ليسوا عىل دراية جيدة بالشعر) .ذات مرة قالت :إنها تلقت رسالة من رجل قدم نفسه عىل أنه رجل إطفاء متقاعد من والية
تكساس .كتب لها أنه كان يجد القليل من القواسم املشرتكة مع الشعر يف حياته ،إال أنه تمكن من قراءة شعرها ،واكتشف أنها كتبت ما كان يشعر به ،ولم يتمكن من التعبري عنه ووضعه
يف كلمات .كانت الرسالة مؤثرة بالنسبة لها؛ ألن القدرة عىل التعبري عن مشاعر اآلخرين أعظم حلم للشاعر .هذا هو ما
جعلها تصل إىل الجمهور يف أماكن بعيدة مثل والية تكساس.
● فيما يتعلق بعالقة السيدة شيمبورسكا مع السلطات
الشيوعية ،هل ينتبه أحد يف الخارج لذلك ،أم أنها تثار
داخل بولندا فقط؟
● هل كانت سعيدة بوصولها للعاملية ،أم كانت تفضل
يف الواقع ،هذه مسألة بولندية .كان هناك مقال يفإيطاليا حول هذا املوضوع ،لكنه كان منحا ًزا بشكل رهيب. وقد ّ سخر القصة عىل الفور كما لو كان يحفر يف سر أخفته
حياة اجتماعية مشابهة لصالونات القرن .19كانت تحضر
فيما يتعلق بهذه الحقيقة ،وال تنكرها يف كثري من األحيان .يف
بيئة أكرث حميمية؟
-قالت :إنها تفضل العالقة الحميمية؛ ألنها تحب
قضاء الوقت مع صديقاتها ،أو الخلوة عمومً ا .لقد عاشت
حفالت االستقبال ،لكن شخصيتها العاملية ال تعني أنها كانت تقيم يف أغىل الفنادق أو السفر إىل جميع أنحاء
العالم .ال يشء من هذا القبيل .كان أكرث األشخاص الذين يتعرفون إليها يف الشارع ،عىل سبيل املثال ،يف إيطاليا،
فيسوافا شيمبورسكا
شاهد قبر ُ مؤلفة َد ّقة قديمة هنا ترقد
لحفنة أشعار
ً راحة أبدية تكرّمت األرض ومنحتها
مع أنها ّ جثة
ال تنتمي ألي جماعة أدبية
عىل أية حال ال يوجد أفضل من هذا القرب
سوى بضعة أبيات شعرية ونبتة أرقطيون
السيدة شيمبورسكا ،مع أنها كانت تحتفظ فقط بمسافة بولندا ،مثل هذه األشياء تظهر ألن الناس غالبًا يريدون إثارة
ضجة حول يشء لتعزيز أسمائهم .يف مثل هذه الحاالت، أتلقى مكاملات هاتفية من أصدقايئ يف الخارج الذين يبدون دهشتهم قائلني :إن مثل هذه األشياء تحدث فقط يف بولندا.
وبومة
أيها العابر
أخرج ًّ مخا إلكرتون ًّيا من حقيبتك ِ
ّ وفكر لحظة يف مصري شيمبورسكا. هوامش:
هذه القصيدة ليست منقوشة على شاهد قبر «شيمبورسكا» كماذكر بعض مترجمي أشعارها إلى العربية. آثرت استخدام تعبير ّ ُ «دقة قديمة» بدلاً من الترجمة الحرفية «طراز قديم» أو «أنتيكا»؛ ألنها تتناسب مع حس السخرية الذي يميز أسلوب «شيمبورسكا» الشعري« - .األرقطيون» نبات من فصيلة الشوكيّات ،وله نتائج ناجعة في عالج أمراض الشيخوخة.
127
مقال
حسن النعمي ناقد سعودي
الشعراء القصاص من الغناء إلى المحاورة ساد شعور عام لدى النخب الثقافية واألدبية أن التفات
الشعراء في المملكة لكتابة الرواية والقصة حدث جديد،
وهو شعور مبرر في ظاهره ،إذ ركز اإلعالم الثقافي على ظاهرة
مطلع الثمانينيات الميالدية قليل وال يقاس عليه .ويفتقر في الغالب
والدميني ،وهو ما جعل األمر يشبه االحتفالية من ناحية،
كتابة القصة التي قدمها األنصاري والسباعي والمغربي وعزيز ضياء
كتابة الرواية والقصة من جانب شعراء كبار بحجم القصيبي
والتساؤل من ناحية أخرى ،تساؤل وصل إلى حد اتهام الشعر بفقدان دوره في الحياة األدبية .وهو استنتاج متعجل تنقصه
128
األدب السعودي ،نو ًعا أدبيًّا حديث الوالدة في ثقافة شعرية بامتياز. ّ فجل ما ُكتب من القصص والروايات في األدب السعودي حتى
القراءة المتعمقة سواء في مستواها التاريخي أو الظاهراتي. هنا سأحاول استكشاف الظاهرة ،ظاهرة كتابة شعراء
الجيلين األول والثاني في المملكة العربية السعودية
للتطور الفني الذي يؤكد إحداثه الختراقات فنية .وكل الجهود في
وحتى دمنهوري والناصر ورضا حوحو وعالم األفغاني وغيرهم كانت ً طريقا غير مطروقة ،وتسعى لتأسيس موقع داخل خارطة تتلمس
األدب السعودي .إضافة إلى ذلك ،فإن هؤالء الكتاب كانت لهم
انشغاالت أخرى إلى جانب كتابة القصة ،ومعظم ما يكتبون يُدرج
في باب النثر ال السرد .وتلك حكاية أخرى .وعليه ،فاالهتمام العام
للقصة بعد أن استقرت أدواتهم الشعرية ،و ُعرفوا بعطائهم
كان موجهًا للشعر والحظوة كانت للشعراء .وفي ظل هذا الواقع،
معنيًّا هنا بما قدمه شعراء العقدين األخيرين من مغامرة
بكتابة القصة؟!
الشعري الذي استحقوا به لقب شاعر .وعليه فإني لست
في كتابة الرواية والقصة ،بل سأعود بالقراءة إلى بدايات
األدب في المملكة ،وبخاصة في مرحلة الجيلين األول
والثاني ،لنرى محاولة اقتراب الشعراء من القصة في زمن
واقع حضور الشعر ،وخفوت صوت القصة ،ما الذي يغري الشعراء
تعبيرية شعرية
من محددات هذا المقال أنه ال ينظر في إنتاج من غلبت عليه
لم يكن للقصة شأن يذكر ،بل ال حظ من الشهرة لمن يكتبها
جوانب تعبيرية أخرى غير شعرية ،بمعنى أن الشعر هو موجب
من القصة تجربة يحرص الشعراء على كتابتها؟! وقبل
محمد حسن عواد ،وحسن عبدالله القرشي ،وسعد البواردي،
مثل ما للشعراء من حظ وحظوة .فما األسباب التي جعلت
النظر في تجربة من يكتب القصة .فمن بين هؤالء الشعراء يأتي
مقاربة األسباب أرى أنه لزامًا إثبات الظاهرة ،ثم استخالص
وأحمد عبدالغفور عطار ،وحسين سرحان ،ومحمد حسن فقي،
في بدايات نهضة األدب كان االهتمام بالشعر ،وهو
مجموعة أو مجموعتين ،لكنهم ظلوا محتفظين بلقب شاعر ،ولم
ما يبدو من أسباب ثقافية أو فنية.
وغيرهم ،وهؤالء جميعهم كتبوا القصة ،بل بعضهم أصدر
اهتمام يتجاوز قول الشعر إلى مواكبته دراسة ونقدًا ،بل
تغلب عليهم صفة القاص!
ما ينشره الشعراء من دواوين مستقلة ،أو يلقونه في
قصص «سكين ،وفيلسوف ،وجيل» ،وحسين سرحان نشر قصص
تخصيص صفحات الجرائد للقصائد الطوال ،إضافة إلى
المنتديات .أما ما سوى ذلك من الكتابات فيأتي في مرتبة متأخرة من حيث االهتمام.
إذن ما واقع القصة ومن يكتبها في تلك المرحلة المبكرة
من تاريخ األدب السعودي؟ كانت القصة ،في مطلع نهضة العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
فالعواد نشر قصة «الباب المغلق» ،ومحمد حسن فقي نشر
«حياة ميت ،ورجل من الناس ،والعودة ،والصياد والسمكة،
واألحالم ال تعود» .وحسن عبدالله القرشي نشر «أنات الساقية»،
وأحمد عبدالغفور عطار أصدر «أريد أن أرى الله» .وسعد البواردي نشر قصص «أغنية العودة ،وشبح من فلسطين ،وفلسفة
المجانين ،وأجراس المجتمع» .هذه عينة إلسهام الشعراء في كتابة
القصة بطريقة تبدو هامشية في خضم إنتاجهم الشعري ،لكن يبقى سؤال حضور القصة في أدبهم قائمًا!! بل يستحق النظر.
السؤال اآلن ،ماذا يعني أن تكون ًّ قاصا أو روائيًّا وليس شاع ًرا؟ سؤال ربما يختصر ولع الشعراء بمغازلة القصة .وبخاصة إذا
عرفنا أنه ربما يندر أن نجد ًّ قاصا أو روائيًّا متمك ًنا حاول كتابة الشعر
بعد أن استقرت أدواته القصصية ،لكن العكس صحيح ،إذ قد يتسلل الشاعر لخيمة القصة مستظلاًّ بفيئها ،ومحاولاً نسج منظوره
للحياة بطريقة محاكاة العالم .فهل الشاعر مهما عال شأنه يبقى مشدودًا تجاه تجارب خارج فضائه التقليدي؟ أو أن الشاعر يظل
مشدودًا إلغراء القصة بوصفها ًّ نصا يتحاور مع العالم بطريقة يبدو
العالم معها أكثر رحابة وإنسانية.
القصة حوار بين الذات والعالم ،أما القصيدة فصوت الذات
اإلنسانية في صبواتها وإنسانيتها ،ومرارة تجربتها ،وهذا ال يقلل منها ومن شعرائها ،بل هي تجربة تقارب الحلم .لكن قد يلتبس على بعض قصائد الحكم والمناسبات وقصائد الموضوعات
االجتماعية التي يحاول فيها الشاعر أن يبدو مفك ًرا أو حكيمًا أو
ناقدًا ،أو أن قصائده تمثل ً ربطا بين الشعر والواقع ،أو أن قصائده
تعكس إسهامه في المشاركة في قضايا مجتمعه .والحقيقة أن
هذا ليس دور الشعر وال الشاعر .دور الشاعر الحلم بحياة أفضل
دون أن يدخل في مقاربات مباشرة للحياة من حوله .الشعر إن لم يكن رمزيًّا إيحائيًّا فهو أقرب للنظم مهما جلجلت موسيقاه
وحسنت قوافيه.
تأسيس عوالم افتراضية
ذكرت أن القصة حوار بين الذات والعالم ،وعليه ،فالقاص
مشغول بتأسيس عوالم افتراضية يجري نحو نشدان الفضيلة
على نحو إيحائي .فالقصة بطبعها ال تعالج مشكلة وال تحلها ،بل
السؤال ،ما الذي دفع الشعراء لكتابة تقديرا؟ القصة في زمن كانت فيه أقل ً هل لرغبة في توسيع دائرة التعبير، أم أنهم يرون أن كتابة القصة فضيلة ال يجب أن تفوتهم؟! يقف الشاعر بين القصيدة والقصة ً باحثا عن عالم مختلف.
ففي القصيدة يُطرب نفسه ،وفي القصة يتحاور مع العالم .وبين
تعيشها تجربة افتراضية لكيفية الوصول لألجمل واألبهى في الحياة.
غنائه وحواره تكتمل متعته بالشعر ،ويكتمل اتصاله بالعالم عندما
جزءًا من التجربة اإلنسانية .وقد يحتج بعض بظهور قسمات الواقع جلية في القصة أو الرواية ،وهذا أمر طبيعي ،لكنها ُتحمل دائمًا نفسها في على المجاز .فظهور أسماء األماكن ،مثلاً ،ال يعني أنها ُ
بل حالة وجودية ،تظهر أكثر عند الشعراء الذين يرون العالم أبعد
فالقاص يعيش تجربة خلق العوالم الموازية التي تجعل القارئ
الواقع مهما بدت جلية في مشابهتها الواقع.
السؤال ،ما الذي دفع الشعراء إلى كتابة القصة في زمن
يكتب القصة .من هنا فحاجته للقصة ليست مجرد حالة استثنائية، من مجرد صوت داخلي .القصة تتيح للشاعر ما ال تتيحه القصيدة. من هنا فمحاولته تأكيد أبلغ على رغبته في فهم أكبر للعالم.
مرة أخرى هذه الفرضيات يفسرها اقتراب الشعراء من عالم
القصة أكثر من القصاص الذين ال يجدون حاجة للبحث عن صوت
كانت فيه أقل تقدي ًرا؟ هل لرغبة في توسيع دائرة التعبير ،أم أنهم
داخلي لتجربتهم ،إذ القصاص يغنون ويتحاورون في قصصهم
أنهم رأوا فيها بدائل تعبيرية ال يمكن للشعر أن يمألها .وهذا دال
جمال العالم .إن القصاص لديهم القدرة على خلق شعرائهم داخل
مواز ُيعمِ ل فيه على سبيل المشابهة ،وعلى سبيل تأسيس واقع ٍ
تجربته الشعرية دون أن يسعى لكتابة القصة بوصفها جزءًا من
يرون أن كتابة القصة فضيلة ال يجب أن تفوتهم؟! الراجح عندي على ذكاء هؤالء الشعراء .فالقصة لها خصوصية مقاربة الواقع الكاتب فرضياته.
عبر خلق عوالم افتراضية يعيشون تفصيالتها ،وينشدون فيها
نصوصهم ،وهو ما ال يستطيع مثله الشاعر في خلق قاص في حاجته التعبيرية في فهم العالم.
129
إصدارات
الكتاب :التاريخ من أسفل المؤلف :خالد اليعقوبي وخالد طحطح
الناشر :منشورات الزمن
يسعى الباحثان في هذا الكتاب إلى التعريف بالسياق النظري النبعاث دراسات المهمش في العالمُ . وت َق ِّدمُ لنا مقاربة تاريخ المُ هَمَّ ِشين فهمً ا آخر للتاريخ ،إنها نوع من الكتابة
المختلفة التي تركز على الدهليز بدل السطح ،غرضها فهم حياة الناس العاديين الذين
عاشوا في الماضي ،وذلك من خالل نقل تجربتهم الخاصة .يحاول الكِتاب الوقوف بشكل عام على المساهمات التي قدَّ متها المدارس التاريخية لتاريخ المهمَّ ش ،وكيف أسهم رواد
التاريخ من أسفل في بلورة مشروع مجموعات بحث مؤسساتية.
الكتاب :األداء اإلستراتيجي األميريكي المؤلف :محمد وائل القيسي
الناشر :مكتبة العبيكان
تعد الواليات المتحدة األميركية الدولة األكثر تأثي ًرا في السياسة الدولية المعاصرة،
لما تمتلكه من مدخالت القوة والتأثير ضمن أداء إستراتيجي منضبط ،والمرتكن إلى عقيدة ُت َسير الماكينة األميركية بمجملها نحو هدف واحد أال وهو التربع على قمة الهرم الدولي؛ إذ ال تكاد ترتكن لعقيدة تحدد مسارها وأسلوب عملها حتى ترهن أهدافها دفعة واحدة
عند مطلبها الكوني ،األمر الذي فرض على إداراتها المتعاقبة التلون في أدائها اإلستراتيجي الشامل للوصول إلى غايتها العالمية.
130 الكتابَ :من يحكم العا َلم؟ مروة ترجمة :نصير ّ
المؤلف :بـرتران بــادي ودومينيك فيدال
الناشر :مؤسسة الفكر العربي
يرصد الكِتاب معالِم عدة من النظام الدولي ومتغيـراته التي يمكن أن ِّ تولد السلطة؛ فمُ يِّز َ العالم عدد من معالِم هذا النظام العالمي أو «بارامتراته»؛ مثل :التقليد الذي اسـ َتحدث في ّ كله األدوات األولى للسـيطرة ،ولم ينقطع عمله هـذا ولم يتوقف ،ح ّتى في أكثر المجتمعات ّ يشكل امتدادًا لألعراف والتقاليد ،ويستمر ويتواصل إمّ ـا حداثة .والمقدَّ س والديني ،لكونه
بتنظيم سيطرة بذاتها ولذاتها ،أو بتزويـد دوائر أخرى بأدوات تدعيم وتعزيز ثمينة تفيدها في ّ الحق في تدعيم سيطرتها وتعزيز غلبتها .والدولـة التي كان مب ّرر وجودها هـو تحـديدً ا ادّعاؤها احتكار ممارسة السلطة السياسية.
الكتاب :نمر تريسي ترجمة :عادل عبدالجبار
المؤلف :وليم سارويان الناشر :دار أزمنة
حاول وليم سارويان ،في كل ما كتب ،أن يصوّر إنسان القرن العشرين في صراعه مع الغول الذي صنعه بيديه :اآللة .وعلى الرغم من أنه كتب معظم إنتاجه في وقت ّ مبكر من
القرن وقبل أن يصل تعقيد الحياة الصناعية والتقدم التكنولوجي إلى ما وصل إليه اآلن ،فإن
كتاباته كانت خير تعبير عن تطلع اإلنسان إلى االنتصار على هذا الغول الذي صنعه بنفسه، لكنه تنامى وكبر بحيث أخذ يسحق كل مسحة إنسانية على وجه هذه اليابسة.
العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
الكتاب :سؤال العنف
المؤلف :طه عبدالرحمن
الناشر :المؤسسة العربية للفكر واإلبداع
إذا كانت الفلسفة ،بحكم توسلها باالستدالل والحوار ،تضاد العنف ،فإن الفلسفة
االئتمانية التي وضع أسسها المفكر المجدد طه عبدالرحمن ،بحكم جمعها بين «روح التفلسف» و«روح التدين» تثبت أن آثار العنف ال تقف عند حد هذا العالم المرئي ،إنما تتعداه ً إنسانا يؤذي رب العالمين ،منازعة له إلى ما وراءه من عوالم غير مرئية ،جاعلة من العنيف ً واعتراضا عليه ،بقدر ما يؤذي اآلخرين ،جهلاً وظلمً ا.
المؤلف :دنى غالي
الكتاب :بطنها المأوى الناشر :منشورات المتوسط
قصة عامر ،التي صارت ترنيمة ردّدتها األمهات ،وما زلن ُي َر ّقصن األطفال على إيقاع
نغماتها ،ستجعلنا دُنى نتآلف معها؛ لقربها الحياتي منهم في مدينة اتسمت بانفتاح حياتها
االجتماعية في سنوات خلت .لذا نجد في الهامش إعادة سرد لحياة الشخصيات المهاجرة في المتن (الرواية) ،وتتبعً ا لجذور نشأتها األولى ،عبر عودة إلى الماضي ،وإضاءة بعض جوانب ما
م ّر به العراق في الستينيات عبورًا إلى مرحلة ما بعد االنتفاضة 1991م ،ومنتصف التسعينيات
حيث سنوات الحصار التي أملت شروط عيش مغايرة تمامً ا.
الكتاب :غيمة أربطها بخيط المؤلف :عبده وازن
الناشر :نوفل
ً ً شخصا يحلم نصوصا تماثلها ،ما دمت ال نهاية لنصوص هذا الكتاب .قد أكتب يومً ا ويكتب أحالمه ،أو ما ينتقيه منهاّ . كل النصوص التي يتضمّ نها هذا الكتاب «المفتوح» هي أحالم أبصرتها في الليل ،أو هي أحالم يقظة ،تلك التي يعمد المرء عادة إلى تخيّلها أو ُ عكفت على «صنعها» في حال من شبه اليقظة ،أو اليقظة الخدرةّ .إنها نصوص أحالم في، تدوينها طوال أعوام .ومن بينها أحالم أبصرتها منذ سنوات ،وظللت أتذ ّكرها ج ّراء أثرها ّ
أحيان أسرد الحلم كما هو ،وفي أخرى أنطلق من أضغاث أو حبّي لها ،أو خوفي منها .في ٍ ً حلم ألنسج حوله ًّ وأحيانا كنت أكتفي بصورة أو لقطة أو وجوه أبصرتها في حلم ألكتب نصا. ً ً نصوصا حلميّة صرفة. انطالقا منها
الكتاب :حكمة الحياة
المؤلف :آرتور شوبنهور
ترجمة :عبداللطيف الصديقي
الناشر :دار التكوين
سوف أتحدث في هذه الصفحات عن حكمة الحياة بالمعنى العام للمصطلح بوصفها
ف ًّنا ،بمعنى ،ما تتمتع به من تنظيم وترتيب لحياتنا؛ لكي يتسنى لنا الحصول على القدر األكبر
الممكن من المتعة والنجاح ،هي فن ألنها النظرية التي يمكن أن نطلق عليها «علم السعادة أو الرفاهة» ،حيث تعلمنا هذه النظرية كيف تقودنا إلى عالم سعيد ،وربما يعرف مثل هذا
الوجود كواحد ضمن األشياء التي يمكن النظر إليها من وجهة نظر موضوعية صرفة.
131
كتب
التمثل الثقافي.. وتلقي األنواع األدبية الحديثة محمود قرني
132
كاتب مصري
تعرض النقد ،تحت وطأة الرغبة في العلمية والمعملية وتعزيز فكرة التخصص تحت أسر المدارس الشكالنية ،إلى درجات مروعة من االستغالق والتعسف .وأظن أن كتاب «التمثل الثقافي» للناقد واألكاديمي الدكتور سامي سليمان أستاذ النقد الحديث بجامعة القاهرة ،يفتح كوة هائلة في هذا الجدار ،رغم ً واحدا ممن عملوا بوعي على استخدام كثير من تقنيات أنه يعد النقد الشكالني ،وهي مرونة جديرة بالتأمل .كتاب «التمثل الثقافي وتلقي األنواع األدبية الحديثة» حسب عنوانه الفرعي يتناول تجربة النقد العربي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ،وقد صدر قبل أشهر قليلة عن مكتبة اآلداب بالقاهرة. عىل ما يشري «آرثر إيزابرغر» وتحديدً ا يف مركز الدراسات الثقافية
الكتاب مجهوداتهم الفذة لم يكونوا اإلحيائيون الذين تناول ُ وحدهم من يصارع ً تراثا تليدً ا حاولوا الفكاك من أسره ونجحوا
يف جامعة برمنغهام .وقد تبدت قدرة الدراسات الثقافية املرنة
كل األشكال اإلبداعية الوافدة عىل الثقافة القومية؛ مثل: الرواية ،واملسرحية ،واملقالة ،والقصة ،وفنون النرث عامةً . أيضا
والبنيوية والحركات االجتماعية عىل نحو عام.
البالية ومن درجات من االستنامة إىل أشكال نقدية مستقرة سيكون العمل عىل مغايرتها عملاً صعبًا ويحتاج إىل جسارة
العلمي عن سؤال مركزي هو :كيف يمكن للغة الجمالية أن تجعل من النصوص األدبية خطابًا ثقافيًّا متمي ًزا يف ذاته ومتمي ًزا
يف ذلك ،وبات بني أيدينا اليوم ثمرات ناضجة لجهودهم بينها
سامي سليمان هنا يصارع أمواجً ا عاتية من التقاليد الجامعية
من نوع خاص .فأدوات التطوير التي ساعدت اإلحيائيني األوائل
واملتجددة عرب قدرتها عىل إعادة قراءة كثري من النظريات االجتماعية والنقدية وإعادة توظيفها ً أيضا؛ مثل :املاركسية هنا يقدم الدكتور سامي سليمان إجابته املدعومة بالفحص
يف عالقته بالثقافات األخرى ،وعرب هذا املفهوم تناول املؤلف
كما يشري املؤلف ،سواء كانت املطبعة أو الصحافة أو املؤسسات ّ أحط األدوار ضد التعليمية واالجتماعية ،تبدو اآلن وهي تلعب
النظر يف مفردات مؤثرة؛ مثل :الثقافة الشعبية وخطابات الحياة
يرى الدكتور سليمان أن أطروحة الدكتور عبدالله الغذامي
التطبيقية التي قدمها املؤلف ال تقتصر قراءتها هنا عىل الرؤية
يسميه دراسات النسق الثقايف أو األنساق الثقافية يف املمارسة
أن إشاراته وتحليله الضايف ألسباب انتشار طبعات مختصرة
كل جا ّد وكل جديد.
يف عام 2000م حول النقد الثقايف كانت بداية حقيقية النطالق ما األدبية بحيث أصبحت املمارسة النقدية تسعى إىل قراءة النص
عرب بعديها الجمايل والثقايف .والحقيقة أن التأصيل العميق
لهذا النسق يتعزز اليوم بشكل علمي شديد الدقة والتماسك يف كتاب التمثل الثقايف ،وظني أن أطروحة الدكتور الغذامي،
بطبيعة الحال ،متأثرة أشد التأثر باملصطلح الغربي .فمصطلح
الدراسات الثقافية صعد إىل السطح منذ سبعينيات القرن املايض العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
العديد من الخطابات الثقافية التي يمكن أن تكون نتاجً ا إلعادة
اليومية والخطابات السائدة يف وسائل اإلعالم ،وأظن أن النماذج
النظرية وهي كثرية ومتاحة بل عىل الجانب التطبيقي ،وأظن ومحققة من ألف ليلة يف النصف الثاين من القرن التاسع عشر يبدو إعادة اعتبار للقيمتني األخالقية والثقافية للثقافة الشعبية.
توقف الدكتور سامي سليمان أمام مشروع اإلحيائيني وعدّ حركة اإلحياء ظاهرة مصرية شامية بامتياز ،وعرب تحليل دقيق وضع
الصراع االجتماعي والسيايس يف اعتباره ،حيث يرى أن حركة
اإلحياء استندت إىل مقرتحني أساسيني :أولهما اإلحياء ،وثانيهما
التمدن .وألن النقد الثقايف ممارسة وليس ً فرعا من فروع نظريات
ُخضع املفاهيم القارة يف الثقافة القومية لعدد من التحوالت ي ِ
التلقي ال سيما لدى «هانز روبرت ياوس» و«فولفانغ إيزر» من
بالفعل.
املعرفة فقد عاد الدكتور سامي إىل تقديم قراءة جديدة يف نظرية واقع أن تلقي األنواع الحديثة عمومً ا يف الثقافة العربية اعتمد
عىل نظرية التلقي يف جذرها الغربي وليس عىل ما ذهبت إليه
القراءات البالغية يف النقد العربي القديم والوسيط .وهنا تجدر اإلشارة إىل املحاوالت املستمرة لسليمان لخلق معادالت
مصطلحية ومفاهيمية لتعزيز النسق الثقايف الذي يخدم الثقافة
القومية؛ ما يعزز بدوره فكرة التمثل الثقايف يف الوجود ،والقبول
لدى القطاعات الواسعة من القراء الضمنيني الذين يستهدفهم. يف هذا السياق حرص ناقدنا عىل تقديم قراءة مقارنة ضافية
حول فكريت التمثل والتالؤم عند جان بياجيه ،ثم قدم قراءة
لتفرقة بياجيه بني التمثل الثقايف واملعرفة من ناحية أن املعرفة
ذات طبيعة تطورية وتاريخية ،غري أنه يشري إىل أن بياجيه كان
بتعظيم مفاهيم جديدة وإقصاء مفاهيم أخرى وهو ما حدث وكما يشري ناقدنا ويشري كتابه تستمد فكرة التمثل الثقايف
أطرها العامة من الدراسات الثقافية التي تتخذ من البحث عن ً منطلقا عامًّ ا لها من منطلق أن األدوار االجتماعية والسياسية علم االجتماع والتاريخ والدراسات األدبية تقدم مناهج مالئمة
لفهم الثقافة ،وقد منح هذا التعدد الفرصة للنقد يك يتناول موضوعات وقضايا كانت مستبعدة من الدراسات التقليدية ،وال
ينىس املؤلف هنا أن يشري إىل أن إحدى مشكالت تلك الدراسة هو قلق املصطلح النقدي وتغاير مواقف بعض النقاد إزاء املفاهيم
والقضايا التي كانت موضع اهتمامهم.
يثري املؤلف الدكتور سامي سليمان عددًا من اإلشكاليات
حول العقبات الثقافية التي قابلت جهد اإلحيائيني واضطرارهم
يقدم عرب تلك الدراسات املهمة رؤية لسيكولوجية األطفال بينما حديثه يواجه أعمالاً إبداعية ناضجة لكتاب تجاوزوا الرشد.
تحقيق جوهر اإلحياء يف سعي صادق ودؤوب لالرتقاء بالتقاليد
الثقافات موضحً ا معضالت ذلك االنتقال وصعوباته ،وأولها
ذلك التحول عرب تجربتي أحمد فارس الشدياق وأحمد شوقي،
كذلك يتوقف ناقدنا أمام آليات انتقال النظريات بني
إىل االتكاء عىل املوروث الشعري والنقدي العربيني كطريق إىل الجمالية والثقافية لنماذج قديمة ،ويقدم لنا نموذجني عىل
حاجة الثقافة الناقلة ملا تنقل ،وإدراك الجماعة الناقلة ألهمية ما تنقل وضرورته ،ويف فصول الحقة كشف ً أيضا عن أشكال
اإلقبال عىل األشكال اإلبداعية املستحدثة ال سيما النرث ،وكذلك
كل األشكال الطليعية ذات النزعة التجديدية .وألن املؤلف يقف
لو كانت داخل القالب الغنايئ مثلما فعل مع قراءته لرائية أبي
املقاومة التي تبديها الثقافة القومية يف تكويناتها املحافظة ضد
باعتبار كبري أمام الثقافة القومية فقد توقف أمام ما قاله إدوارد سعيد حول نسبية النظريات املنقولة سواء يف سياقات تولدها ونشأتها يف الثقافة املصدرة أو الثقافة املستقبلة ال سيما إذا كانت
تلك النظريات تنتقل إىل سياقات ثقافية ذات طابع شمويل .لكن سليمان ال يرتك إدوارد سعيد قبل أن يبدي مالحظة دقيقة حول
قراءته لتلك الفكرة حيث إنه عندما حلل نظرية التشيؤ لدى ً وأيضا مع جورج لوكاتش إنما فعل ذلك ضمن سياق ثقايف واحد
ويتوقف أمام مقدمة ديوان الشدياق ،وكيف أعىل من قيمة
ما فعل شوقي يف نرثه وكتاباته حول االنحياز لفكرة السرد حتى فراس «أراك عيص الدمع شيمتك الصرب» .لقد تحول الشاعر،
كما يقول سليمان ،من كونه منتجً ا لبالغة قديمة ليتشكل وعي جديد لنموذج الشاعر الكاتب ،ولم أفهم هنا ملاذا وصف سليمان
تجربة تحديث الكتابة لدى شوقي بأنها لم تؤت ثمارها ،رغم أنه يف الحقيقة قدم منج ًزا إحيائيًّا نادرًا ًّ وفذا يف الشعر وتحديدً ا يف الشعر الغنايئ.
لكن املؤلف يف النهاية
مفكرين ضمن اتجاه فكري واحد هو املاركسية. يرصد املؤلف ً أيضا كيف تولدت الحاجة لدى املستعمرات
يؤكد أن «الشدياق» و«شوقي»
األنواع األدبية الحديثة تصارع السياقات البالغية القديمة؛
مفهوم الفصاحة املوروث من
القديمة يف الشرق العربي للتجدد واألخذ عن اآلخر ،وباتت
كالخطابة واملقامة ،وكذلك الشعر الغنايئ الذي يمثل أعىل تعبريات الرسوخ والقوة يف الثقافة العربية ،غري أن املؤلف يؤكد أن رعيل اإلحيائيني التجديدين كانوا األكرث إدرا ًكا لحتمية فكرة
عززا فكرة الحاجة إىل تعديل الرتاث البالغي ،وهو األمر
الذي عزز عدة قيم توقف
عندها املؤلف ،من بينها أن
اإلحيائيني استطاعوا وضع الكتابة
التمثل الثقايف ،وكان ثمة ضرورة لنقل األنواع األدبية الجديدة ً ً دقيقا ملا تعريفا كموضوعات لهذا التمثل ،وهنا يقدم املؤلف
كمفهوم قبل الخطابة والشعر حيث
يتخذها أو يعتمد عليها أبناء ثقافة ما يف سعيهم لالستفادة من
وكذلك تعظيم قيمة الثقافة التدوينية
يعنيه بفكرة التمثل الثقايف بوصفها «املسالك الذهنية التي
نتاج ثقايف قدمته حضارة أخرى» وهو يف النهاية ،كما يشري ما
وضعهما النقد املحافظ يف املقدمة، عىل الثقافة الشفهية.
سامي سليمان
133
كتب
في عالم الشبكات.. الدولة مهما عظمت مجرد عقدة
134
محمد الحمامصي
صحافي مصري
يوضح الدكتور عزمي خليفة المستشار األكاديمي بالمركز اإلقليمي للدراسات اإلستراتيجية في مصر أن الشكل الجديد للدولة القومية قد غيَّر من نمط عالقات السلطة بالكامل؛ بحيث فقدت الدولة احتكار السلطة نتيجة اكتساب المجتمع جزءً ا من السلطة من خالل ما يطلق عليه «سلطة الشبكات» وهذا سبب مقاومة الدولة في العديد من دول العالم -ومنها منطقتنا العربية -التحول ً حفاظا على كامل سلطتها .وهذا هو مأزق الدولة العربية اليوم ،وهي للشكل الشبكي والعولمة؛ محاولة ميؤوس منها؛ ألنها ضد طبيعة العصر القائم على العولمة. ويرى يف كتابه الصادر عن وحدة الدراسات املستقبلية
لم يعد يقبل املنكفئ عىل ذاته ،وبخاصة أن ضغوط العوملة
الدولة القومية والسلطة :دراسة يف انعكاسات املجتمع
شأن الشرعية التي تغري محتواها ومضمونها مقابل السيادة
بمكتبة اإلسكندرية ،سلسلة «أوراق» ،بعنوان« :تحوالت الشبيك عىل الحكم وعالقات السلطة» أن حل مأزق الدولة العربية متاح ،ويمكن بناؤه عىل حلول تعيد التوازن بني الدولة
واملجتمع؛ وهي حلول سياسية وتنظيمية وفنية مع وجود آليات تضمن للدولة دورها محليًّا وإقليميًّا ودوليًّا يف عصر العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
أقوى من هذا االنكفاء .كما أن تغيريات الدولة شملت إعالء
التي لم تعد تعني االنفراد بالقرار حتى لو كان يخص شعب هذه الدولة .فالدول ال تعيش يف فراغ ،بل تعيش يف عالم
من الشبكات ،تتحول فيه الدولة -أي دولة مهما عظمت -إىل
مجرد عقدة.
وسعى املؤلف إىل اإلجابة عن تساؤالت مثل ماهية
العالقة بني التكنولوجيا واملجتمع مع الرتكيز عىل دور
تكنولوجيا املعلومات بداية ،ثم تعرف التغيري الذي أدخلته هذه التكنولوجيا عىل الدولة القومية وسلوكها ،وانعكاسات هذه الثورة الرقمية عىل املجتمع ،ونمط العالقة بني الدولة
واملجتمع ،ومستقبل شكل الحكم يف القرن الحادي والعشرين. ويرصد أهم التغيريات الثقافية واالجتماعية التي عربت عن هذه الثورة العلمية الرقمية يف ثماين نقاط؛ منها :أولاً -
االهتمام بالقيم الفكرية غري املادية املتعلقة أساسً ا بالتعبري عن الذات التي تعكس وعيًا بالجوهر الواحد لإلنسان بغض النظر عن موقعه الجغرايف وانتمائه الجنيس أو العرقي أو اإلثني.
ثانيًا -االهتمام بعالقة اإلنسان بالبيئة التي تحيط به ،ومن هنا
الثورة الرقمية أدت إلى سقوط كافة النظم الثقافية ذات األنساق المغلقة التي تدعي معرفة الحقيقة؛ ما أدى إلى سيادة األنساق المفتوحة وقيم التشاركية ،وهذا أدى إلى ظهور الحكومة المنفتحة؛ حيث يشارك المجتمع المدني فيها الحكومة في الحكم للتفاعل االجتماعي .وهذه الشبكات تحدد حدود املجتمع الجديد مع التأكيد عىل أن هذه الحدود مرنة ومتغرية جدًّ ا.
وللتأكد من ذلك ال بد أن نحدد خصائص املجتمع الشبيك
يمكن أن نفهم حركة الخضر التي انتشرت يف العالم يف ذلك الحنيً . ثالثا -هذا الوعي بالبيئة وباإلنسانية أدى يف تفاعلهما
املستمدة من خصائص الشبكات .ومن ثم يمكن الفصل بني املجتمع الشبيك بوصفه شبكات ّ تنشطها تكنولوجيا االتصال
كونية (عاملية) تحتاج لحلول عاملية عىل أساس من التشاركية.
ترتيبات تنظيمية للبشر يف عالقات اإلنتاج واالستهالك وإعادة
إىل وعي كوين بأن املشكالت الناتجة عن العوملة هي مشكالت
رابعً ا -سقوط جميع الحواجز الجغرافية والزمنية والسياسية
مما يزيد من عمق التفاعل اإلنساين عىل مستوى العالم وعىل خامسا -سقوط هذه الحواجز وزيادة مدار 24ساعة يومية. ً
التي تعالج املعلومات رقميًّا والهياكل االجتماعية التي تعد
اإلنتاج والخربة والسلطة.
ويتساءل املؤلف« :أين تكمن السلطة يف املجتمع
الشبيك؟» .ويذكر أنه يف املجتمع الدويل يف ظل الدولة القومية
التفاعل اإلنساين أ َّديَا إىل ظهور املجتمع الشبيك وانعكاساته
«تكمن السلطة يف يد الدولة األقوى ،أو الدول األقوى ،ففي
فاعلِني، وعرف املؤلف الشبكة بأنها عبارة عن مجموعة ِ
السوفييتي الذي ورثته روسيا دوليًّا والواليات املتحدة األمريكية.
يتم بروابط متعددة ومتداخلة ،ويؤمَّ ن بأدوات تكنولوجية.
مصدر يرتبط بالشبكة نفسها ،ومصدر يرتبط بالتحويل أي
الويب .وتتحدد أهمية العقد بقدرتها عىل املساهمة يف فاعلية
ويخلص املؤلف إىل عدد من النتائج أبرزها أن هذه الثورة
عىل ممارسة السلطة.
ٌّ كل منهم يسمى عقدة ،متصل بعضهم ببعض ،وهذا االتصال
وقد يطلق عىل هذا الشكل التنظيمي الشبكية أو املصفوفة أو الشبكة لتحقيق أهدافها؛ أي أنها تتحدد بمدى استيعابها
ألكرب تدفق ممكن للمعلومات ،ومدى قدرتها عىل إصدار معلومات ألعضاء الشبكة .ويلحظ خليفة أنه عندما تتخذ الشبكة الشكل العنقودي فإن سلوكها يكون مشابهًا لسلوك
تنظيم متماسك أو مجتمع صغري ،وذلك ألن العقد يمكن اتصال بعضها ببعض ،بالشبكة كلها وبالشبكات ذات الصلة،
ظل النظام الثنايئ القطبية كانت السلطة متمركزة يف االتحاد أما يف املجتمع الشبيك فالسلطة أكرث انتشارًا ولها مصدران؛
التفاعل بني الشبكات وبعضها.
الرقمية أدت إىل سقوط جميع النظم الثقافية ذات األنساق املغلقة التي تدعي معرفة الحقيقة؛ ما أدى إىل سيادة األنساق
املفتوحة وقيم التشاركية ،وهذا أدى إىل ظهور الحكومة املنفتحة؛ حيث يشارك املجتمع املدين فيها الحكومة يف الحكم
من خالل الرقابة عىل امليزانية العامة ،والقيام بمشروعات
يف مناطق قد ال تصل إليها الحكومة ألسباب مختلفة .كما
من أي عقدة يف الشبكة ،من خالل عدد محدود من الخطوات. ً وعادة ما يضاف يف هذه الحال شرط املشاركة يف الربوتوكول،
استخدام اإلنرتنت؛ ما أدى إىل ظهور نوعني من التحوالت عىل
هي هياكل معقدة لالتصال القائم عىل مجموعة أهداف تضمن
تغيريات عىل املستوى املاكرو للدولة تمثلت يف تحولها إىل الشكل
وتسمى شبكة مغلقة .ومن ثم فالخالصة أن الشبكات بإيجاز وحدة الهدف ،ومرونة التنفيذ أو من خالل قدرتها عىل التكيف مع بيئة التشغيل وقدرتها عىل إعادة التشكل ذاتيًّا.
ويقول :يمكن النظر إىل املجتمع الشبيك عىل أنه مجتمع
الشبكات املكون من أنماط مختلفة من الشبكات العاملية
واإلقليمية واملحلية يف مجال عام افرتايض متعدد املستويات
أنها تشكل دعمً ا لتحوالت سرعة تبادل املعلومات من خالل الدولة القومية التي ورثناها بعد الحرب العاملية الثانية ،أولهما
الشبيك بضغط من املجتمع الذي كان أسرع يف التحول للشكل الشبيك .والنوع الثاين من التحوالت ترتب عىل مستوى التحليل
الجزيئ للدولة؛ نتيجة استخدام بعض التطبيقات الشبكية؛ مثل مواقع التواصل االجتماعي إجمالاً ،وكال التغيريين دعم التغيريات الشبكية للدولة ،وأكد الواقع املعاصر هذه التغيريات.
135
كتب
معراج نون النسوة في«الغزلية الكبرى» لسليم بركات
136
غمكين مراد
شاعر سوري
ُ سه ماضيًا ،عنوانٌ يبدو الغزلية الكبرى :عنوانٌ يُفاقمُ مسألة الزمن حضورًا في مواجهة َن ْف ِ الجاهلية لكن م ّت ً بغزل أكبر ًآنا حاضرًا ،هذه ليست إال وشاية يشي بها سليم بركات حدا ظاهريًّا من ِ ٍ درك أيّ ًّ كتابه هو .لكن ما أن يتم الغوص في بحر ومتن هذه الغزلية ،حينهاُ ،ن ُ فخ نصبه َنفس ُه عن ِ
الحبيبة بقامة وانسياب المتداول بالغزل المفتون كتابه ،حيث الغزلية ليست كما سليم لقارئ ِ ِ ِ ِ ُ ٌ ٌ األنثى ُ سيرة لهنَّ في مشاغ ِلهنَّ ومجالسهنَّ سيرة كاملة لألنثى، غزلية سليم: وغنجها ،إنما هنا
وزرعهنَّ وحصا ِدهنَّ وسيرتهنَّ وكالمهنَّ وظر ِفهنَّ وأحوا ِلهنَّ وقيو ِدهنَّ وقدرهنَّ وأخوات أمهات ٍ ٍ ِ ُ سيرة َش َغ ِفهنَّ ُ وكرههنَّ وحبِّهنَّ وحرما ِنهنَّ وقرويات، حضريات حامالت، وسيدات وزوجات ٍ ٍ ٍ ٍ ٍ ّ َ وامتالكهنَّ ،وثرثرتهنَّ ،وبكائهنَّ ،وكل األزمنة التي تدو ُر وفق ساعا ِتهنَّ أو حتى دونهُ نَّ ُ ،هنَّ ً وجو ُد غيرهنَّ ُ ،هنَّ ُّ مختومة بنون النسوة التي لهُ نَّ . الكلمات بمضمونها كل ِ العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
ِّ ِّ الغموض فيها، بكل بكل تفصيالت كينونتها، األنثى ِ واملجهول يف تقلبات روحِ ها ،يعجنُ سليم بماء الكلمات ،طحني ِ ً تنور كلم ِة «أُح ُّبهُنَّ »: رغيفا من روحها يف صحن جسدها، ِ «أُح ُّبهُنَّ ،هُ نَّ تخمنيٌ » ،ص.22 ٌ الرغم من ضآل ِة القو ِة يف هيكلهنَّ إذ« :إنهنَّ رضوض/ عىل ِ الرمل ،بل ُدعاءٌ بقشر ِه قشر الكوسا». يف /الهواء /،وكسورٌ /يف/ ِ ص ،116إال أنَّ سليماً يُعيدُ َ الذهول يف الوجود إليهنَّ : منبت ِ ُ ويربط بني الذهول» ص.9 بفائض من ثناء «لقد بذلنَ الوجود ٍ ِ املنثور يف املآز ِق ومخارجها ،وبني الش ِّر ِ ِ الوجو ِد والخري املتمد ِد ظلاًّ لهُ ،وبينهُنَّ
ِّ كحبل س ِّريٍّ يربطهُنَّ بكل بداية مأزق ٍ وش ِّر ِه ونهاي ِة ّ خرج وخريهِ ،إنهُنَّ كل مَ ٍ وع ُ صخب الوجو ِد ُ نف املُعضل« :أُح ُّبهُنَّ ُ
عاشقات أو تعودنَ عاشقات أو تصبحنَ بوجعهنَّ ،يبقيهنَّ ٍ ٍ ِ ّدنَ أبواب /بال نوافذ /بال بال املنازل يف السكنى و «تع : عاشقات ٍ ٍ ِ ُ تعرفُّ / كل /عاشق ٍة جدران /لكن ملداخنها حمل البوح /الذي/ ٍ ّأنهُ /بوحُ /قلبها املدخنة» .ص .48ال إيمان يُجزى وال إيمان خوف ي ُ ُربك حِ سابات قناعاتهنَّ وتدرُّج ظنونهنَّ ،إنهنَّ الرباهنيُ ٍ ُ والظنونُ القبض عىل املُعضل ِة أو يف خلقها لتكنَّ يف تتآلف حني ِ
ظالل األثر يف وجودهنَّ « :الرباهنيُ أض َّرت ُ بأنفسها يف ِعنا ِقهنَّ ،
والظنونُ ،اشتكت الظنونَ » ،ص.101
آخر اليشء أو الحدث ال يسعنيَ إىل ِ
لربح أو خسارة ،هُ نَّ أخطأنَ حني ٍ لشبق ّ ُ سهنَّ جعلنَ اللذ ِة ًّا ب مص أنف من ِ الرجل ،أخطأنَ وتركنَ حبل قدُّ ومها بيد ِ خطأ العمر يف بقائهنَّ َتح َتهُ ،تتلقنيَ
ُ الخالدات املآز ُق ال يُصالحنَ إذ ِ تنفج ُر ِ بأقاويلها عن حدو ٍد للناريِّ » ص.94 ُّ املآزق من خريه الدائر يف وكل الكالم ِ ِ
بأنفاس لذةٍ، والتعب الغضب ضربات ِ ِ ِ هُ نَّ الرحمُ يف والدتِها: لاً ُجازفنَ بيشءٍ قب ،إال حني “لم ي ِ َ َّأننثَ اللذاذة ،وذ َّكرنَ مشيئتها» .ص.24
«باستئذان ،أو من دون ِه لالنقالب: ٍ ي ِّ ُكلفنَ ُ َ أنفسهُنَّ نقل الش ِّر إىل أرق الخري البوابات» .ص.47 جلوسً ا ُقرب ِ
فقط ،بل إلساءة وتعنيف املوت ،بتربج
البيوت ُ رق وش ّر ِه يتمُّ عىل بوابات ِ كط ٍ إىل املتعة برضا قلبهنَّ املتأهب دومً ا ِ
ُّ بحر الكل واليشءُ يف ال يقينيات تتملكهُنَّ أو يملكنها، ِ ِّ الشك مُ ستدرج حسب عضل ِة قلبهنَّ الراقصة ،ال تخومَ تحدُّ
لحظتهنَّ ،وال زمن يستدرجهُنَّ إىل صعود ِه بل يُنزلن ُه إليهنَّ ، هُ نَّ دائمً ا قبل الزمن الحقيقي بكثري« :أُح ُّبهُنَّ هُ نَّ /املألوف/ /إنكارّ / كل /يقني» ص« .67-66أُح ُّبهُنَّ يتصنعن العازمُ /عىل ِ
ُ البكمَ إن خاطنب األعمارَ ،ويتصنعن الصمَّ إن أنشدتهنَّ األعمدة
ما رفعت القرونُ /عليها /من /وساوس /الهياكل» .ص.61
ٌ بقلوب /أو /من /دونها» .ص.5 «عاشقات هُ نّ ، ٍ
أيًّا كانت نوع األقفال املوصد ِة لقلوبهم ،وإن لم تكن أقفالاً
يف الطليق من املكان والظرف ،تبقى قلوبهُنَّ مداخنَ للبوح
فخ نصبه سليم بركات لقارئ ن ُ أي ٍ ُدرك ّ
كتابهِ ،حيث الغزلية ليست كما المتداول بالغزل المفتون بقامةِ وانسياب الحبيبةِ وغنجها ،إنما هنا :سيرةٌ كاملة األنثى ُ
ِهن لألنثى ،سيرةٌ لهن في مشاغل َّ َّ ِهن ومجالسهن هن وأحوال َّ وكالمهن وظرفِ َّ َّ َّ هن هن هن وحصادِ َّ وقدرهن وزرعِ َّ َّ وقيودِ َّ
هُ نَّ ،تتربجنَ ،ال لتغدونَ جميالت ٍ
أمام مرآ ٍة تنك ُر املوت ،يف بقاء الخلو ِد سليم بركات َ لحظة رَ التب ُِّج ،بدءً ا من أظافرهنَّ طالءً ً إىل خيوط شعرهنَّ صبغا« :بالغن يف اإلساءة إىل املوت بإنصاف ِه
مَ دحً ا َ َ املوت: أقلق العناق، الخفاف، شبه َن ُه بأقدامهنَّ يف ِ ِ بأنفاسهنَّ يف ِ ً بالبخار صباحً ا من ماء استحمامهنَّ بخزائ ِنهنَّ مفتوحة، ِ بخفق مناماتهنَّ الواسع ِة قبل أن يندسسنَ يف ُ رش، الدافئ، الف ِ ِ شعورهُ نَّ أضاميمَ قبل النوم ،بالنظر ِة مُ خ َت ً لسة إىل املرآة بربط ِ
عن بعدٍ ،بمراهم املاء امللينة عىل جلود أيديهنَّ ،بالجلوس َ أرجلهُنَّ عىل مساند عالية» .ص70-69 مدات مُ ٍ
ُصد ْقنَ إال ُ ُّ ما ي َُقلن ُه هو الصواب ،ال ي ِّ وكل أنفسهنَّ ، ً حياة ،وق ًتا ،خريًا ،مآزق ،خريًا، األحوال بجمادها وناسها، جثث مُ ٌ ٌ ُ «الوقت مُ نطرحٌ / لقاة عىل قارع ِة رعشة قهقهتهنَّ : ش ًّرا، ٌ منطرحة ً ً أرضا/ أرضا /عىل /مرمى /قبلةٍ /من أس َّرتهنَّ /والسماءُ ُ ٌ منطرحة ً أرضا ،والغدُ منطرحٌ عىل أرض البارحةِ، والحياة
َ ري الجواري بقياثر يف أيديهنّ يُطربنَ األهوال، أرضهُنَّ األساط ُ ً غرقا ،ويُشجنيَ املالحمَ » .ص.136-135 ُ غزلية سليم بركات ،ليست ولهًا باملحبوب هي هكذا وانغماسً ا فيهِ ،إنما هي األنثى ِّ بكل الحاالت التي توجدُ فيها،
مع الدجاج ،وعىل األرصف ِة أمام البوابات وهُ نَّ يُقشرنَ البزر، ٌ ُ سبقهُنَّ غزلية عن ويف األنثى ،الشجرةِ، الديك فقط يف الصباح، ً ُ ُّ عض ِل. امل حني اإلدالء حني ها ز ته متمايلة بأيِّ يشءٍ الريحُ ِ
137
مقال
رشيد بوطيب كاتب مغربي
ليليث وشياطين الرأسمال:
االقتصاد على سرير فرويد «ليليث وشياطين الرأسمال :االقتصاد
على سرير فرويد» ،صدر عن دار هانزر ،لتوماس
سيدالشيك وأوليفر تانسر .أحدهما تشيكي ،عمل لسنوات في القطاع البنكي ،إلى جانب تدريسه
االقتصاد في الجامعة التشيكية ،وحصوله على
عضوية المجلس األخالقي لمنتدى االقتصاد العالمي،
138
والثاني صحفي نمساوي ،يعمل في الصحافة اليومية ،وعمل لسنوات مراسلاً لإلذاعة والصحافة
المكتوبة النمساوية لدى االتحاد األوربي .كالهما
سيبحر في مغامرة لم يسبق لغيرهما أن قام بها،
نجدها عند األفراد ،حاضرة بشكل جمعي لدى المجتمع. وهما يعتقدان أنهما ربما يصالن عبر ذلك إلى عالج
لالقتصاد ،عالج جمعي ،أو «عالج الحضارة» كما أسماها
الكاتب والمحلل النفسي اإليطالي .Luigi Zoja
لقد اعتدنا على تحليالت تهم «جسد» االقتصاد ،أي
االقتصاد الواقعي ،المادي ،الوظيفي ،الذي يمكن حسابه، والصناعة ،وعالم اإلنتاج واالستهالك ..إلخ لكن ما ندر
القيام به برأي الباحثين هو دراسة «روح» االقتصاد .فداخل
تلك الروح ،أي داخل االقتصاد كعلم ،تتموقع معتقداته، ً وأيضا تصوراتنا عن ومخاوفه وآماله ،وفعلنا السياسي،
تطبيق منهجية التحليل النفسي على نظام اقتصادي، أضحى يشكل مشكلاً للسياسة والمجتمع عامة ،بل
بداية في «جسد» االقتصاد ،في االقتصاد الواقعي .وكما
هو االقتصاد ،وسنضع االقتصاد على سرير المحلل
وروحه ملتحمان.
كما يقوالن ،لطريقتنا في التفكير« .إن طوطم عصرنا
النفسي ونصغي إليه؛ لنعرف ما الذي يقوله؟ ما
الذي يأمل أو يحلم به؟ عن أي شيء يفضل الحديث؟ وما الذي يكبته في األعماق؟ ..إلخ» .يبدو كما لو
الحرية والمراقبة ،على الرغم من أنها تعبر عن نفسها
الحال عند اإلنسان وأمراضه النفسية ،فإن جسد االقتصاد
اقتصاد يعاني اضطرابات نفسية
يسجل الباحثان وجود خمسة أنواع من االضطرابات
الهوس االكتئابي .وينتج عن ذلك الفوضى .إن الفكر
النفسية في االقتصاد المعاصر ،ال تمثل فقط جزءً ا منه، بل تسيره بالطريقة التي تريد .أولاً :اضطراب في معرفة
مع كل القيم األخرى بسخرية ،وحتى إذا ما دخل
باستمرار بمزيد من اإلنتاج واالستهالك .ثانيًا :اضطرابات
أن االقتصاد يعاني اليوم اضطرابًا ثنائي القطب:
االقتصادي نتاج للنفعية الفردانية التي تتعامل
االقتصاد كعلم في عالقة بالتخصصات األخرى ،تراه ال يسعى إلى تعلم شيء جديد ،إنما للسيطرة عليها
وفرض منطقه.
يهتم التحليل النفسي تقليديًّا باألفراد وحيواتهم،
لكن الباحثين يسعيان إلى تطبيقه على مستوى أكبر،
وبحث إن لم تكن تلك السلوكيات المنحرفة التي
العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
الواقع :ويريان ذلك نتيجة لمبدأ اللذة الذي يطالب
ناتجة عن الخوف .وهي ما يدفعنا للنظر إلى الواقع بشكل
ً وخصوصا في سلبي ،ويقود إلى سلوكيات غير عادية، مراحل األزمةً . ثالثا :اضطرابات لها عالقة بالوضع النفسي، أو ما يسمى باالضطرابات العاطفية ،وهنا ستتم دراسة
دورات الهوس االكتئابي ،التي تتعلق بالتطورات المتصلة بالطفرات واألزمات االقتصادية .رابعً ا :اضطرابات تتعلق
بالسيطرة على الدوافع ،وهنا ستتم دراسة نموذجين للسلوك :إدمان اللعب الذي نلحظه لدى البنوك
االستثمارية ،والسلوك الثاني المرتبط بإدمان السرقة
«الكليبوتوماني»؛ إذ من المثير لالنتباه أن ذلك الذي يحقق
نجاحً ا داخل هذا النظام االقتصادي ،ويملك العمل والسلع خامسا: والرأسمال ،هو الذي ال يقدم شي ًئا مقابل ذلك. ً
اضطرابات الشخصية :من أجل المحافظة على النظام الذي يقوم على العنف والمنافسة ،يتوجب على المشاركين فيه
ً أشخاصا أن يتلقوا تكوي ًنا مناسبًا لطبيعته ،يصنع منهم
أنانيين وعنيفين ،بعيدً ا من كل إحساس باإلنسانية
والغيرية ،وبعيدً ا من كل حس سليم .إنهم مجرد أدوات
في نظام لم يعد يخدم مَ ن صنعه ،بل استولى بنفسه على
السلطة .إن هذا ال يعني أن المشاركين في النظام أناس سيئون ،بل إن النظام من يرغم َخدَ م ُه على االضطالع بأدوار باثولوجية.
يؤكد الكاتبان أنهما سينهجان طريق التحليل النفسي.
فليس هدفهما إصدار أحكام واتهامات ،لكن اإلصغاء لما
يقوله االقتصاد .فهذا الكتاب ال يجب عدّ ه كتابًا ضد اقتصاد
السوق الرأسمالي ،البنوك واألسواق المالية .إنهما يريان
النظام االقتصادي الحالي خطوة في مسار تقدم البشرية، جعل من حياة اإلنسان على األرض أفضل مما كانت عليه من قبل .لكنهما يؤكدان ً أيضا أن ذلك ال يجب أن يمنعنا من انتقاد انحرافات النظام ،وتوصيف أمراضه ،وبحث
سبل عالجه .إن أسطورة «ليليث» العبرية ،التي اختير
ً عنوانا لهذا الكتاب ،تلخص بنظر الباحثين ،حقيقة اسمها االقتصاد الرأسمالي .إن ليليثً ، وفقا للرواية العبرية ،أول امرأة آلدم .لقد خلقت هي األخرى مثله من طين ،وكانت تشبهه في كل شيء .بل إن تمسكها بهذه المساواة بينها
وآدم ،هو ما جعلها تدخل في صراع معه .إنها رمز ألول
لقد اعتدنا على تحليالت تهم «جسد» االقتصاد ،أي االقتصاد الواقعي ،المادي، الوظيفي ..إلخ ،لكن ما ندر القيام به هو دراسة «روح» االقتصاد .فداخل تلك الروح ،أي داخل االقتصاد كعلم ،تتموقع معتقداته ،ومخاوفه وآماله التدمير .إنها رمز للحياة والموت ،لإلنسانية والسمو ،وفي
اآلن نفسه للبدائية والتوحش ،جوع ال يشبعه شيء .فمبدأ
عصرنا ،كما يؤكد الباحثان ،ليس سد رمق الجائع ،بل
كائن بشري طالب بالحرية .ومن أجل ذلك هرب من جنة
إشباع الشبعان .وهو ما يشكل في حد ذاته مشكلة كبيرة.
بقتل المواليد الجدد وامتصاص دمهم .ومن هذه الطاقة
آخر أكثر من «إيقاظ جوعنا غير الحقيقي بشكل ليبيدي».
عدن وحقت عليه لعنة الرب .ستتحول إلى شيطان يقوم
التي ستحصل عليها ،ستضع شياطين جددًا ،مئة كل يوم ،لتقوم بعدها بقتلهم ً أيضا .وسبب كل هذه الثورة،
فاإلشهار ،على سبيل المثال ال الحصر ،ال يقوم بشيء
إننا أمام «دونجوانية اقتصادية» ،ال تتحقق إال كاستهالك
مستمر ،وكما يستهلك الدونجوان نساءه ،يستهلك
هو أنها وجدت في الوضع الجنسي ،أن تتمدد تحت جسد
االقتصاد العالمي السلع والموارد .وهناك حيث يعجز عن
سلوك ليليث يقوم على مبدأين :االستهالك والتدمير .ولهذا
اقتصادي واقعي ال يتورع عن إنتاج المرض من أجل تسويق
ماكينة استهالك ،ال تتوقف عن اإلنتاج كما ال تتوقف عن
الناس سمنة ،كلما ازداد االقتصاد نموًّا» .إن هذا االستنتاج
آدم خالل المضاجعة ،رم ًزا للقمع والحط من كرامتها .إن هي تشبه في كثير االقتصاد الذي يقوم على التدمير .إنها
االستهالك ،يحل الركود وتسيطر الكآبة .إننا نقف أمام نظام الدواء ،وفي هذا السياق يسجل الباحثان أنه «كلما ازداد
139
مقال
ال يدخل في باب النكتة أو السخرية السوداء .إن
األرقام واإلحصائيات في الدول الغربية تؤكد ذلك.
يقوم االقتصاد العالمي اليوم على إشباع رغبات الدول
الذي يقوم عليه االقتصاد المعاصر ،دفع اإلنسان
جهة ،واأللم من جهة أخرى .سلوك سادي وعدوانية استقلت
شخصيته .أما الشخصية التي يحبذها االقتصاد
إضافة إلى «الكليبتومانية» ،يؤدي الخوف دورًا مركزيًّا في هذا
إضافة إلى ذلك ،فإن مبدأ النمو المستمر
إلى تسويق كل شيء ،بل إلى تسويق أجزاء من
المتقدمة على حساب الدول المتخلفة والفقيرة .اللذة من بنفسها ،لم يعد هدفها التقدم ،ولكن التدمير الذاتي .لكن
المنفلت من عقاله ،فهي سادية ،نرجسية ،عدوانية،
السياق« .إن الخوف ،كما كتب عالم االجتماع األلماني نيكالس
الباحثان إلى مئة مقابلة أجراها كل من عالم النفس
األخرى» .ولقد تحول إلى أداة بيد السياسيين واالقتصاديين
بول بابياك ،التي تظهر بأن عدد المرضى النفسيين
يمكنهم التأثير في الماليين وهم يستعملون الخوف ،وينشرون
وكلما ازدادت عدوانيتها ،زادت أرباحها .يشير
الكندي روبيرت هار والمستشار االقتصادي األميركي
في المناصب الرئيسة لدى الشركات الكبرى يتجاوز ثالث مرات عددهم في المجتمع العادي.
نقرأ في الكتاب« :منذ آالف السنين والبشر
لومان ،هو المبدأ الذي يستمر بالعمل حين تتوقف كل المبادئ
كما كان باألمس القريب أداة بيد رجال الدين ،فرجال السياسة الحقد ويشعلون الحروب ،وما الحروب على اإلرهاب إال نموذج بسيط عن ذلك ،أما رجال المال واالقتصاد ،فيعيشون على صناعة الخوف وتسويقه وتقديم أجوبة عن تلك المخاوف
يفكرون في سبل توزيع السلع بشكل عادل بين البشر.
التي صنعوها ،من المجاالت األمنية والصحية والغذائية حتى
والسكوالئية حتى آدم سميث ودافيد ريكاردو،
وهي تبيع الخالص الروحي للمؤمنين .لم يبالغ سالفو جيجيك
منذ أفالطون وأرسطو إلى سينيكا وتوما األكويني
وكارل ماركس ،وكينز وميلتون فريدمان .فموضوع
140
التحرر من أحالم اليقظة
المجال المالي ،تمامً ا كما كانت تفعل الكنيسة الكاثوليكية
تاريخ االقتصاد كان دومً ا توزيع السلع واالتجار بها.
حين أكد «أن خلق المخاوف مكون للذاتية المعاصرة .إن ً حظوظا جيدة في أن يتحول إلى األيديولوجية التي للخوف
أفالطونية ،كالسيكية ،اشتراكية ،طوباوية ،كينزية،
برأي الكاتبين ،هو رديف الحرية في السوق الحرة.
مدرسة تدعو إلى السرقة كأفضل السبل إلى السعادة
التكلس» .يكتب المفكر األلماني فولف لوتر في كتابه،
اليوم ،والمنافسة المحتدمة بين الفاعلين الماليين
ثغراته ،والغضب الذي يخضب كلماته ،محاولة لتجاوز هذا
لعبة األخذ والعطاء ،ولكن ذاك الذي ال يعطي شي ًئا
يهدف إلى العالج ،لكنه يمنحنا الوعي بوضعنا ،فهو يحررنا
وكيفما كانت االختالفات بين المدارس المتعددة
بروتستانتية أو نيو كالسيكية ،لم يسبق أن وجدت
اإلنسانية» (ص .)138لكن اقتصاد الشركات الكبرى تؤكد أن من يجني األرباح ،ليس هو من يحسن
تحدد كل شيء داخل الرأسمالية المعولمة» .إن الخوف إذن، «إن الرأسمالية قادرة على التطور ،لكن نقدها أصابه
«الرأسمالية المدنية» .ربما يأتي هذا الكتاب ،على الرغم من
التكلس الذي أصاب «نقد الرأسمالية» .إن التحليل النفسي ال
ويأخذ كل شيء .إننا أمام «تحول في الباراديم» يقول
من أحالم اليقظة ليربطنا بالواقع .ولربما يكون الوعي بالمرض
المشكلة في رأيهم .فالحرية االقتصادية واالجتماعية
ً خصوصا تلك البكائيات الدينية استمرار تكلس النقد ،ومنها
على التحلي بالمسؤولية .أما ما نعيشه اليوم ،فهو
الرأسمال« .لقد حاولنا إعطاء صوت لالستالب الذي يعانيه
السيكولوجيا كشخص يعاني اضطرابات في التحكم
هذا ما نقرؤه في الفصل األخير من الكتاب .لكن ،وعلى أطراف
الباحثان ،في تاريخ االقتصاد اإلنساني .وهنا تكمن تشكل ربحً ا للجميع ،متى ارتبطت بقدرة البشر
حرية العدوانية وبطلها «الكليبتومان» الذي تصفه
أهم من وصفات العالج السحرية التي ال تسهم سوى في
المعاصرة التي ال تفعل بنقدها المتهاوي سوى تأبيد سلطة
اإلنسان الغربي المعاصر ،وتوضيح عناصر هذا االستالب»،
بنوازعه .يعتقد «الكليبتومان» الذي يجد نفسه مضط ًّرا
اإلمبراطورية االقتصادية العالمية ،هذه األطراف التي تجد
وزنا المحارم ،ويرى أنه ،عبر السرقة ،يتجاوز رهابه
سلوكيات استهالكية أكثر دموية ،ليس أقلها الحروب اإلثنية
للسرقة ،لسبب نفسي وليس لسبب خارجي كالفقر مثلاً ،وعانى في األغلب األعم تجارب صادمة كالعنف واكتئابه ،لكنه ال يزيد في الواقع إال من استفحالهما.
العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
نفسها مرغمة على استيراد ،ليس فقط السلع التي ينتجها المركز ،بل أزماته ً أيضا ،فإن هذا االستالب يعبر عن نفسه في والمذهبية.
141
فضاءات
وتبدل األزمنة مقاهي القاهرة ّ 142
ليس بدافع البحث عن مأوى سعيد الكفراوى
كاتب مصري
لكل كاتب حسه باألماكن ،يصغي لحديثها وذكرياتها ،ويستدعيها!! ً قصصا عنها ،ويتخيل رؤى .وأنت تحاول ،على قدر الطاقة تحقيق قيمة لما تراه، يسطر دون ارتعاش، ً وتطرح من خالل السؤال تلو السؤال باحثا عن صورة وذكرى ،واإلصغاء لصوت يجيء عابرًا السنين،
وعن أناس كانوا هنا ً يوما ،ومضوا حيث وجه الكريم ،فيما تثبّت الصور حركة مجتمع على مستويات
عدة :الحوادث والثقافة والفنون وحياة الناس .والمقهى في تاريخ مصر المحروسة ذاكرة الحكايات، ً ً ومالذا لبعضهم عبر رفقة قد تطول من الشباب حتى الرحيل .والمقهى في وشاهدا على متغيرات الدنيا، ً بعضا من تاريخ الوطن الوجداني .أندهش وأنا أقلب صفحات من زمن مضى ،وأتأمل كل تجلياته يمثل جوهر المكان ،وصفحات ر ّواده ،ودوره المتميز في تكوين ذاكرة الوطن السياسية واالجتماعية والثقافية، واالحتفاظ في أحيان كثيرة بمجريات األمور ولو من كل عام يوم!!
العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
143 لقد ظلت المقاهي في تاريخ مصر االجتماعي أحد تجليات أحوال الوطن ،ورك ًنا لثقافته ،وورشة لتجريب الكتابة،
اإلبداعية ليكتب ما كتب حتى انتهى األمر بأحدهم في شهادة
الحوار واألفكار ،وممارسة لعبة السياسة ،وأكثر األماكن حرية
يجلس عليه نجيب محفوظ.
والتعرف على الجديد ،وتكوين الرأي ،والمكان األسمى لتبادل للفضفضة ،بل ظلت طوال تاريخه مختبرًا لعالئق القيم في
المجتمع .وظلت المقاهي جزءً ا من سياق تاريخي واجتماعي وسياسي وثقافي كان دائمً ا ما يعطي المدينة حكاياتها
وأساطيرها ،ويغذي مشاعرها ،ويفجر بداخلها السؤال.
المقاهي التي جلس عليها نجيب محفوظ في وعيه وذاكرته
عنه ،حيث قال :إنه ال يوجد مقهى في مدينة القاهرة لم
تاريخ حافل
ولمصر تاريخ حافل مع المقهى .يشهد عليها رفة النرد،
وصوت أم كلثوم ،والقعدة تحت تكعبية شجر في الظل الوارف
ليس هذا قاصرًا عليها ،وال على بعض عواصم العرب،
تحت ليل رهيف .فمنذ عرفت مصر المقهى ،في عام 1750م،
«الفلور» في باريس تفجرت على كراسيه حركات أدبية وفنية،
خيال الظل والشعراء الشعبيين وأهل السياسة ،والمضروبين
ولكن العالقة تشمل العديد من عواصم العالم .مقهى وشهد من حوادث السنين الكثير ،وجلس على طاوالته
سارتر ،وسيمون دي بفوار ،وألبير كامو ،وأندريه مالرو، وفوكو ،وأنجزت على طاوالته أهم المذاهب الفلسفية، وأفكار الحداثة ،كما جلس زعماء؛ مثل :لينين ،وتروتسكي،
وسيزان ،وبيكاسو ،وفيكتور هوغو ،وهيمنغواي ،كل منهم له مقهاه الذي عشقه ،وأنجز على كراسيه درة أعماله مستبدلين
بذائقة الفن والكتابة ذائقة جديدة وحداثية .كيف أثرت
منذ اكتشاف القهوة ،حيث جمعت المسامرين والروّاد وفرق بالغرام ،وفي مساحة مكانه أنشدت على الربابة السيرة
الهاللية ،والظاهرية ،وحكايات الشطار والعيّاق ،وحكايات
من ألف ليلة وليلة ،وفي بعض المقاهي غنت الجواري أعذب الشعر ،وأجمل األدوار ،وفي موالد األولياء أقيمت المقاهي
على عجل في خالء العاصمة ،والمدن الريفية ،في حضرة أسيادنا شيوخ الطرق ،والمضروبين بالشفاعة ،وعشاق
النبي ،والمقهى دائرة من نور ومسامرة.
فضاءات
وفي تاريخ مصر تميزت مقاهٍ،
واشتهرت في بالد الله ،وحج إليها القاصي ً مكانا، والداني ،واحتلت في ذاكرة التاريخ ولها الفضل بما قدمته من خدمة،
للمعارف من أدوار ثقافية وسياسية ً طرفا منها ،وشكلت واجتماعية ،عشت ً بعضا من الذاكرة ،بالطرائف والحوادث.
قهوة «متاتيا» في ميدان إبراهيم
باشا ،في قلب القاهرة ،تحيطها حديقة األزبكية بروّادها من األفاضل :شيوخ، وأفنديات ،وأساتذة عائدون من بعثاتهم
في بالد اإلفرنج ،حيث كان يجلس الثائر السيد جمال الدين األفغاني يو ّزع السعوط
بيمينه ،ويشعل الثورة بشماله ،وحوله
السياسة ،مع برامج األحزاب ،والشعار هو «االستقالل التام
يجلس األفاضل الشيخ محمد عبده ،وسعد زغلول ،وعبدالله
أو الموت الزؤام» .كان مقهى عبدالله بالجيزة يمثل طليعة
والمازني وغيرهما ،متكلمين في الثورة ،طارحين سؤال
ورجاء النقاش وطيب الذكر الناقد أنور المعداوي والمحاور
النديم ،ومحرر المرأة قاسم أمين ،ولحق بهم الشابان العقاد االجتهاد في الدين ،وحركة االستنارة والتمدن ،وحق اإلنسان
في التعليم والمشاركة السياسية ،وعالقته بما يجري في الدنيا من معرفة وعلوم ،ويناقشون نتائج ما جرى للثورة
144
نجيب محفوظ في أحد المقاهي بالقاهرة
العرابية ،ممهدين الطريق لتبزغ شمس ثورة 1919م المصرية،
فيما يصدرون جريدتهم الغراء «العروة الوثقى» التي تبنت
أفكار األفغاني ومحمد عبده في التغيير واالستقالل ،وفي لحظات الصفاء ينطق صوت عبده الحامولي بالغناء فيمتد الليل حتى آخره.
للكتابة منذ الخمسينيات ،ويؤمه رواده :عبدالقادر القط الساخر الذي ال ينسى محمود السعدني.
في وسط المدينة يقع مقهى «ركس» وقريبًا منه
كازينو «صفية حلمي» الشهير وفيه يجلس نجيب محفوظ وشكري عياد وعبدالمحسن طه بدر وسليمان فياض واألديب
الناشئ جمال الغيطاني .حوار حول القيمة ،وحضور لمنجز
الغائبين ،والذاكرة معرفة بما قاله نيتشه« :نحن ال نتحرر إال من خالل الذاكرة» ،وفن الرواية تطل شمسه من خالل ما
قاله األديب الشاب نجيب محفوظ« :بأنها الشكل الذي يمثل
قريبًا من مقهى «متاتيا» شرفة «اإلنتركونتننتال» حيث
شغف اإلنسان الحديث بالحقائق وحنانه القديم للخيال».
الجديد على مسرحها .وبالقرب يقع ك ــاف ـي ــه وح ــدي ـق ــة
الفكر والمعرفة ،مفتوحة األبواب أمام المغضوب عليهم في
تجلس فرقة «األوبرا» الخديوية في انتظار تقديم موسمها «جروبي» حيث يجلس أمير الشعراء شوقي بك ،وتلميذه
الشاب محمد عبدالوهاب ،المطرب الصاعد .وفي الجوار مقهى ركس وروّاده من فناني المسرح ينتظرون أن ينفتح شارع عماد الدين بالنور حتى يبدأ الشيخ سالمة حجازي وجورج أبيض ويوسف وهبي والريحاني وفاطمة رشدي وأمينة رزق واألخوان رياض وأعضاء الفرقة القومية أعمالهم
المسرحية ،ينتظرون على مقا ٍه تزدحم باألقليات من كل جنس وملة ،فتختلط اللغات واللهجات في مدينة تعيش
تمدنها وغناها حيث تعقد الندوات الثقافية وتلقى األشعار، وفي شارع عماد الدين تتجلى صورة شارع بيغال في فرنسا
بأضوائه ومغانيه.
حوار حول القيمة
تعقد بالمقاهي ندوات الثقافة واألدب .بها تختلط تيارات العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
والقاهرة في حينها مدينة مزدهرة بتمدنها ،واحتضانها لقضايا
بالدهم ،وكنت طوال مشوارك ترى المغاربة والمشارقة،
وأغرب األجناس يحتلون كراسي مقاهيها ،وأنا عرفت ورأيت الشاعر العراقي عبدالوهاب البياتي في مقهى «البس»،
والشاعر السوداني ،شاعر إفريقيا محمد الفيتوري ،والشاعر الفلسطيني معين بسيسو «على مقهى ريش» يرتل الشعر وسط أفراد جيله من الشعراء والفنانين .عشت ردحً ا من زمان أجوب مقاهي المثقفين ،وأبحث عنهمً ، بحثا عن األلفة
والمسامرة ،والتعرف على مدارس األدب وسمّ اره ،وكان مقهى «إيزافيتش» حيث تعرفت على األبنودي وسيد حجاب
وخليل كلفت وغيرهم ،حتى ألقاني البحث إلى مقهى «ريش». صحبني إليه أول مرة في عام 1966م الروائي جمال
الغيطاني ،وهناك التقيت أفراد هذا الجيل :عبدالحكيم قاسم وأمل دنقل ومحمد عفيفي مطر ويحيى الطاهر عبدالله وعمنا
عبدالفتاح الجمل من فتح األبواب أمام هؤالء .التقيتهم في
ليس بدافع البحث عن مأوى
ندوة كان يقيمها نجيب محفوظ على المقهى .والمقهى هو
مقهى «ريش» العتيد .أنشئ في عام 1908م في ميدان طلعت حرب ،منتصف المدينة ،أسسه رجل نمساوي من األقليات التي
كانت تزدحم بها مصر ،ثم باعه ليوناني ،الذي باعه لمصري
طيب هو عبدالمالك أفندي خليل .لم يكن للمقهى صورته الحالية ،وكانت تحيط به حديقة تطل على الميدان ،وكانت به فرقة أوركسترالية ،كما أن ثوار ثورة 19كانوا يجلسون عليه، لقد غنت في حديقته الصغيرة «أم كلثوم» مرتدية العقال
والغترة ،وأنشدت في ذلك الوقت مدائحها الدينية وقصائدها الشعرية.
ً تجسيدا لخيال من جلس عليه من كان هذا المقهى
على طاوالت المقهى كتبت البيانات واالحتجاجات ضد تجاوزات السلطة .وسارت مسيرة االحتجاج في شوارع وسط البلد في زمن كان قانون الطوارئ يمنع أية مسيرات يومً ا نجيب محفوظ« :كانوا يتعاركون ويتصايحون ثم في اليوم
التالي تراهم قادمين يتأبطون أذرعتهم» .وعلى طاوالت هذا المقهى كتبت البيانات واالحتجاجات ضد تجاوزات السلطة،
منها ما أطلقنا عليه بيان توفيق الحكيم ضد السادات في أول
الفنانين ،وتكونت على طاوالته كثير من مدارس الفنون
حكمه .ومنه خرجت أول مسيرة يقودها يوسف إدريس حينما
حنين ،وكان المكان المختار لكتاب روز اليوسف ،فزاره صالح
وسارت مسيرة االحتجاج في شوارع وسط البلد في زمن كان
واألدب ،السوريالية المصرية عبر رمسيس يونان وجورج جاهين وجورج البهجوري وكامل زهيري والشاعران صالح عبدالصبور وحجازي وغيرهما. شاهد عىل زمن مىض
مقهى «ريش» العتيد ،بصوره من الفنانين والكتاب ً شاهدا على زمن وأشيائه المعلقة على جدرانه يؤكد أنه كان
ماض باذخ الغنى ،وعالمة على مرحلة مرت بها الليبرالية
المصرية .شهد هذا المقهى حوادث ال تنسى وقعت على
طاوالته وأركانه معارك الشباب واختالفاتهم التي قال عنها
اغتالت إسرائيل غسان كنفاني ،الكاتب والمناضل الفلسطيني،
قانون الطوارئ يمنع أي مسيرات .كان المكان بؤرة لمقاومة سياسة االنفتاح والتطبيع مع العدو ،وصعود نجم اإلسالم
السياسي وجماعاته التي انتهى أمرها لممارسة اإلرهاب فيما
بعد.
أستعيد تاريخ المكان ،زمنه وأيامه ،بعد أن تغيرت الدنيا
واختلف الزمان ،وغابت رفقة الحلم :أمل دنقل ونجيب سرور ومحمد عفيفي مطر وإبراهيم أصالن وغيرهم ،وعاد المقهى
بعد صياغته لكنه مقهى آخر هجره روّاده ،ورحل من صنعوا بهجته وتاريخه في الثقافة المصرية ومثلوا زم ًنا ربما لن يعود!!
145
فضاءات
بين كتابة المفكرات ( )Autographوالصورة:
من تحفيز الذاكرة إلى تفعيل التواصل اإلنساني ربيع ردمان
باحث يمني
ّ تعد الكتابة في «المفكرات الشخصية» ( )Autographأو ما ُيعرف بالتوقيع ،من الممارسات
الحديثة التي تنهض الكتابة فيها بوظيفة التحفيز ،ويتداول هذا النوع من الكتابة بالدرجة األولى
في المعاهد والجامعات بين زمالء الدراسة ،وبين هؤالء وأساتذتهم ،كما يتداول بدرجة أقل في الوسط الثقافي .وغالبًا ما تكون العالقة المتولدة بين طرفي الكتابة ناتجة عن لقاء وصحب ٍة قصيرة،
قد تقتصر على مدة محدودة ،وقد تمتد ألشهر وربما لسنوات ،فهي صحبة مؤقتة تلوح نهايتها
146
حافز لحظة ابتدائها ،ومن هنا يكون اللجوء إلى الكتابة ضرور ًّيا لديمومة تلك الصحبة ،عبر تأسيس ٍ خارجي يسند الذاكرة اإلنسانية ،ويحفزها إلى مواجهة ك ّر السنين ،ومغالبة آفة النسيان.
العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
من تحفيز الذاكرة إلى تفعيل التواصل اإلنساني
وبما أن الوظيفة السائدة للكتابة منذ قرون طويلة هي نقل
األفكار واملعارف وتسهيل التواصل بني البشر ،فإن الكتابة يف
املفكرات قد تمثل انزياحً ا عن هذه الوظيفة؛ وذلك ألنها ال تعنى
بنقل املعرفة واألفكار بقدر ما تعنى بتحفيز التواصل .وحتى هذا األخري الذي تعنى بتحفيزه قد يبدو للمتأمل تواصلاً من نوع آخر؛
ذات وأخرى ،أما ما يقع يف حالة «املفكرات فالتواصل يكون عادة بني ٍ الشخصية» فبني الذات املتذ ِّكرة وماضيها فحسب ،فالتواصل الناتج عن قراءة املفكرات إنما هو تواصل ينوس بني مايض الذات
بوقائعه وعالقاته ،وبني حاضرها بمالبساته وتداعياته املوصولة باملايض ،ويتمُّ هذا التواصل عرب القراءة التي تنسج خيوطه.
وما يلفت النظر تجاه هذا النوع من الكتابة ،هو ما يحظى
عصر شهد اخرتاع كثري من األدوات التي به من حضور نسبي يف ٍ يمكن عدّها بديلاً أو معادلاً للكتابة ،كالصورة بنوعيها الفوتوغرايف
ما يميز قراءة المفكرات الشخصية أنها تعيد سبر أغوار العالقة التي تربط القارئ بصاحب النص ،وبهذه اإلحالة الدائمة على صاحب التوقيع نوعا من الحيوية فإن المكتوب يكتسب ً المتجددة ،في حين أن الصورة الفوتوغرافية ال ت َْن ِطق بغير الجسد ٍ لحظة سكونية الثابت في املذكورة ً آنفا قد ال تشكل عنص ًرا إيجابيًّا دافعً ا لعمليات التذكر يف الصور الشخصية التي يكون القصد منها صون الذكريات ،والرغبة
واملتحرك مثلاً .فالصور املتحركة من أبرز الوسائل فاعلية يف الحفظ والتذ ُّكر ،وتتميز بقدرتها العالية عىل تجسيد املالمح
يمكن مالحظة اختالف الصور الفوتوغرافية عن الكتابة من
وبرغم وعي كثريين بما تنطوي عليه الصورة من قدرة وفاعلية يف
الصورة من طبيعة خاصة تتمثل يف سعيها ملقاربة األصل «ما تقع
الفيزيقية لألشخاص الذين نق ِّدرهم ونود تذكرهم عىل الدوام. التسجيل والحفظ ،فإن التوسل بالكتابة ال يزال يحظى باهتمام ً أحيانا كثافة حضور الصورة ،وهذا ما يدفع بدوره ملحوظ يتجاوز إىل التساؤل عن العوامل التي تع ّزز من حضور الكتابة ،فلماذا
يلجأ بعض –مع احتفاظه بالصور– إىل دعوة اآلخرين للتوقيع يف مفكراتهم الخاصة؟ وهل ثمة ما يميز الكلمة «الكتابة» ويمنحها
مثل هذه املكانة؟
انتهاك الصورة للخصوصيات
يف تعزيز حضورها يف ذاكرة البشر.
زاوية كونهما أداتني يحتفظ بهما للذكرى ،فيما تنطوي عليه عليه عدسة الكامريا من أمكنة وشخصيات وأشياء» ،ومحاولة
نسخه وتقييده لالحتفاظ به كجزء من تاريخ الذات .فالصورة ّ تقدّم نفسها هنا بوصفها بديلاً عن األصل ،لكونها حَ ّل ْ محله ت
عند نسخِ ه ،فاألصل يتغري ،وقد تتسرب مالمحه وتختفي بعد أن تقع عليه عدسة الكامريا ،وبذلك تغدو الصورة بديلاً عنه .وبرغم
مخايلة الصورة وإيهامها بأنها تنوب عن األصل ،فإن نقاط التوافق بينهما ال تعني بالضرورة تماثلهما؛ وذلك لكون األصل الذي ّ محله بنية زمنية تقوم عىل االمتداد والرتابط بني حلت الصورة
طاغ ،وهيمنة تسمح لها بصياغة كثري أصبح للصورة حضور ٍ
مكوناتها ولحظاتها ،فضلاً عن التغري الذي يطرأ عىل املكان ويلحق
واسع من سكان العالم ،فتنتهك الصورة قطاع وتعميمها عىل ٍ ٍ الخصوصيات الثقافية واالجتماعية ،وتصل يف تأثريها إىل أدق
ملجموعة من اللحظات تتباعد زمنيًّا ،وقد تفتقر إىل الرتابط فيما
تمتلكه من قدرة وحرفية يف النقل والتعبري ،وإىل أثرها البالغ يف
يمأل الفجوات املوجودة بني كل صور ٍة وأخرى ،إذا ما أراد ترميم
من التصورات واألفكار الخاصة بنمط الحياة وأنواع السلوك،
مفاصل الحياة املعاصرة .ويرتد حضور الصورة وهيمنتها إىل ما
عمليتي التوصيل والتأثري .والحق أن هذه الخصائص ليست حك ًرا عىل الصورة فقط ،فالكتابة تنطوي ً أيضا عىل مثل هذه الخصائص،
غري أن الصورة تفوق الكتابة من حيث الشمول والدقة يف نسخ أدق
التفصيالت املادية الخاصة باملوقف الذي تقوم برصده وتسجيله،
كما تفوقها يف طاقتها االستيعابية للمعلومات ،والقدرة عىل نقلها ،باإلضافة إىل تأثريها الطاغي يف عقول املشاهدين/املتلقني. وهذا التوصيف لفاعلية الصورة وإن كان ينطبق – بشكل عام – عىل
الصورة بنوعيها الفوتوغرايف واملتحرك ،إال أن ثمة ما يحمل عىل االعتقاد أنه ال ينطبق عىل الصورة يف حالة الصور الشخصية التي
بشكل خاص .إن خصائص الصورة يجري االحتفاظ بها للذكرى ٍ
باإلنسان واألشياء .يف حني أن الصورة أو اللقطات الفوتوغرافية ً نسخا موقف ما ،ال تعدو كونها الخاصة بمناسب ٍة بعينها أو ٍ بينها ،حيث يصعب عىل املرء – حني يعود إليها فيما بعد – أن املوقف يف ذهنه واستعادة تفصيالته يف إطار واحد .فالصورة منها ال تمثل يف الواقع سوى لحظ ٍة واحدة تتسم بالسكونية والجمود
واآللية ،يتمّ اجتزاؤها من تيار زمني سيّال يمور بالرثاء والحركة
املتواصلة ،ولذلك فمهما خايلت الصورة الفوتوغرافية بكونها بديلاً عن األصل أو كاألصل؛ فاملؤكد أنها تختلف عن هذا األخري يف امتداده وسيولته وثراء حركته.
وفيما يتصل بما تتسم به الصورة من شمولية ودقة يف
الرصد والنقل ملوضوعاتها ،فإن هذه السمات ال تسري إال عىل األشياء املادية التي تنعكس عىل عدسة الكامريا .صحيح أن الوجوه يف الصورة الفوتوغرافية تحتفظ بمالمحها وتعابريها،
147
فضاءات
وبما قد يكتنفها من مشاعر مختلفة كالحزن والفرح ،لكن
املتالحقة للم َ َشاهد ال تمنحه فرصة ليفكر ويتأمل ما يشاهده،
املصاحبة للموقف ،ومن غري املمكن استعادتها أو تداعيها يف
وال يختلف األمر كثريًا يف الصور الفوتوغرافية ،فتأثريها يف
الصورة مع ذلك تفتقر إىل نقل كثري من الجوانب والروابط
لحظات التذكر؛ وهو ما ي َِسم لحظات التذكر بالحَ ْرفية واآللية، ويقلل من حيوية لحظة االستعادة وثرائها ،فالصورة يف نهاية
األمر ال تستطيع أن تمنح املتلقي أكرث مما نسخته عن األصل. التقليل من مقدرة املخيلة
وتأسيسا عىل ما تقدّم ،يمكن القول :إن االعتماد عىل ً الصورة – كمُحَ ِّف ٍز للذاكرة وكأدا ٍة للتذكر – ي َُق ِّل ُل من مقدر ِة امل ُ َخيِّلة
وفاعلي ِتها يف استعادة املايض وتأمله ،وإعاد ِة النظر يف عوامله
امل ُ َخيِّلة ال يجعل من عملية التذكر أم ًرا صعبًا فحسب ،بل إن وجود الصورة بحد ذاته قد ِّ يعطل عمل املخيلة؛ ألنّ الصورة ال ترتك
مجالاً للمخيلة يف عمليات استعادتها ذكريات املايض ،وتواصلها معها .إن وجود صورة ما تحمل جميع مالمح الشخص امل َُت َذ َّكر وتفصيالت املكان ،يقف حائلاً دون استحضار التفصيالت الصغرية
وما يرتبط بها من تداعيات ،وغالبًا ما يحول دون إعادة تشكيلها
من جانب املخيلة .ومن هنا ،يبدو أن وجود الصورة ومخايلتها
ومواقف أشخاصه .ال شك أن الصورة ذات سطوة وتأثري عميق
لألصل يقيد عملية التذكر ،ويجهد الذاكرة ،ويغدو حضور املايض ُ النفس ،وال يمنحها االتصال باملايض يف الوعي باه ًتا ،فال يشفي َ َ الراحة والحبور اللذين تشعر بهما مع الكتابة /القراءة .وحني َتجْ ري
مساحة للتأمل فيما يُع َرض ،واملقابلة بني ما تعرضه الشاشة وما
محتوياتها ،وال تسهم يف إثراء التجربة الشخصية.
يف عقول املشاهدين ،ويكون هذا التأثري أبعد غورًا يف الصورة
املتحركة ،فهي تعمل عىل إغواء املشاهِ د وال ترتك له فرصة أو تختزنه ذاكرته من أحداث ومواقف .فتتابع الصور املتحركة يحول دون ممارسة الخربة الذاتية للم َ ُشاهِ د يف تأمل محتويات الشريط املصوَّر ،وبخاصة حني يكون تسجيلاً ملناسباتنا الخاصة ،فاملشاهد
ً ِّ املتدعم بالذاكرة، غريبة عىل وعينا والصور التي يعرضها ليست
148
وحسب جورج ديهاميل ،فالصورة تنوب وتحل محل أفكاره.
بل تشكل جزءً ا من نسيج الذاكرة وتاريخها .ويوضح فالرت بنيامني ما يحدثه تتابع الصور من أثر يف عقل املشاهد ،وكيف
يستبد التتابع بوعيه ،ويعمل عىل إلغاء انطباعاته الخاصة« :فما
إن تتوقف عينا املشاهد عند مشهد معني حتى يتغري إىل مشهدٍ تال ال سبيل إىل اللحاق به ( )...فعملية تداعي أفكار املُشاهد أمام ٍ
هذه الصور يقطعها التغيري املفاجئ واملستمر عىل الشاشة» .وبهذا تغدو عملية التلقي من جانب املُشاهد سلبية؛ ألن التغيريات
ُ إنعاش الذاكرة وتجدد عملية التذكر بهذه الطريقة فال تؤدي إىل ِ
تداعي األفكار والذكريات
يف مقابل ذلك ،تنفرد الكتابة بعدد من الخصائص التي ُتم ّي ُزها
من الصورة ،وتأيت يف مقدمتها مرونة الكتابة بمفهومها العام ،وقدرة ّ تشكل املكتوب عىل إثارة عمليات تداعي األفكار والذكريات التي
جدلية الحضور والغياب عند تواصل الذات القارئة مع ماضيها.
وتربز جدلية الحضور والغياب يف أثناء قراءة املكتوب ،وتفعيل عملية التلقي ،وتكون الحال عند ابتداء عملية القراءة حضور
النص املكتوب وغياب صاحبه .ومع أن النص الكتابي يشكل دائمً ا
غيابًا لكاتبه أو ملنتجه ،كما يرى جاك دريدا ،غري أن األمر قد يختلف يف حالة الكتابة يف املفكرات الشخصية ،نظ ًرا للعالقة الوثيقة التي
أغوار العالقة بين القارئ وصاحب النص ما يميز قراءة املفكرات الشخصية من القراءة يف مجاالت عديدة ومختلفة أنها تعيد سرب أغوار العالقة التي تربط
القارئ بصاحب النص ،وبهذه اإلحالة الدائمة عىل صاحب التوقيع فإن املكتوب يكتسب ً نوعا من الحيوية املتجددة ،وتكمن
هذه الحيوية يف مقدرة الكلمة الدائمة عىل ترميم بعض جوانب هذه العالقة وتعزيز حضورها يف الذاكرة ،يف حني أن الصورة الفوتوغرافية –التي ال تشري إىل الغائب فحسب بل تخايل أنها تحل محله– ال َت ْنطِ ق بغري الجسد الثابت يف لحظةٍ َ تحويل الغياب إىل حضور أو العكس .وهنا قد يعرتض بعض املختصني مقدرة ال ّنص الكتابي يف سكونية ،فهي ال َتمتلك ِ بالقول :إن الكتابة ال تختلف كثريًا عن الصور الفوتوغرافية ،فهي عند تعيني مظاهر وجودها ال تعدو كونها رسومً ا وعالمات خرساء ساكنة .وهو اعرتاض صحيح يف ظاهره ،فالكتابة من حيث وجودها املتعني ليست سوى مجموعة من العالمات،
بيد أن ما يميز الكتابة ال يكمن يف وجودها من حيث هي أشكال وعالمات ،إنما فيما تنطوي عليه من إمكانية االستجابة واإلحالة إىل األفكار والتصورات .وتظل هذه اإلمكانية كامنة يف أشكالها وعالماتها إىل أن يأيت القارئ /املتلقي الذي ينطقها
العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
من تحفيز الذاكرة إلى تفعيل التواصل اإلنساني
القارئة وشخصية منتج النص املتخيلة التي ُت َ خلق عرب انقسام الذات
القارئة عىل نفسها ،فالحوار يربز عىل سطح النص بمجرد قراء ِة أوىل
كلماته ،فيتتابع الحوار ويتفاعل بتواصل القراءة.
وهذا التواصل الذي ينشأ بني وعي الذات القارئة وماضيها
املشتبك مع كاتب النص إنما يقوم عىل أساس ما تنطوي عليه
الكتابة من إمكانيات يف الكشف والتوصيل ،فالكتابة تمنح املخيلة مساحة واسعة من الحرية والحركة ،فتقوم املخيلة يف
أثناء القراءة بعدد من العمليات يف إطار االستعادة والتذكر. وهذا يعني أن الذات القارئة ،وهي تتذ ّكر املايض ال تستعيد
بشكل حريف ،إنما تعيد صوغه عند كل تفصيالته كما حدثت ٍ
قراءة ،فتقوم بإعادة تشكيل ذكرياتها وعالقتها بصاحب النص
بما تنطوي عليه هذه العالقة من شخصيات ومواقف وأحداث، وغالبًا ما تعمد املخيلة إىل إضفاء مسحة مثالية عىل تلك
الذكريات ،تتجاوز ما يحدث يف الواقع يف صلتنا باألشخاص ً أحيانا باالرتباك عندما ومواقفنا معهم .ومن هنا ،قد نشعر
غياب أو انقطاع، نعاود االتصال باألشخاص عمليًّا بعد مدة ٍ ونتفاجأ كثريًا حني نكتشف مدى إسراف املخيلة يف عملياتها
التشكيلية .لكن هذا الفعل الخالق الذي تقوم به املخيلة يف أثناء
تربط الكاتب بالقارئ؛ فالنص املكتوب يتمحور يف الغالب حول هذه العالقة أو يعرب عنها .ويف هذه الحالة ،فالحديث عن القارئ ليس
عىل إطالقه ،بل عن قارئ له وضعه الخاص ،فهو يعرف صاحب ُ يشرع القارئ يف قراء ِة النص فإن حضور النص ومحتواه جيدًا .وحني ُ ُ النص الكتابي يتحول إىل غياب ،وتفارق الشخصية املنتجة للنص َ منطقة الغياب ،وتكتسب حضورًا يف وعي الذات القارئة .و َي َتبدّى
هذا الحضور يف الحوارات الصامتة التي تنشأ وترتاسل بني الذات
عمليات القراءة ال يعود إىل طبيعة املخيلة ،بقدر ما يعود إىل
ُّ النص قدرة املثري الهائلة واملتمثلة يف الكتابة/القراءة ،وما يمنحه َ مخيلة القارئ سوف يظل عالمة فارقة تميز الكتابة مما الكتابي
سواها من أدوات التواصل ،وكما يذكر الناقد صالح فضل، فالجانب األهم فيما يتصل بخصوصية النص الكتابي ال يتمثل
فيما يتيحه للقارئ عرب نافذة الخيال من استدعاء ذكرياته وإعادة تشكيلها ،إنما يف أنه يُمَ ِّكنه من أن يعيد دومً ا تشكيل
وجدانه اإلنساين وذكرياته عىل نحو يتجدد عند كل قراءة.
ويبث فيها الحياة ،فتربز وتتخلق عرب تفاعلها معه ،فالنص –حسب توصيف السيميايئ اإليطايل أمربتو إيكو– ٌ آلة كسولة تتوسل إىل القارئ بأن يقوم بجزء من مهامها ،فالنص يكتفي باإليحاء والتلميح ،والباقي يأيت به القارئ الذي يقوم بملء
الفضاءات البيضاء للنص.
تتأسس عىل طبيعته الرمزية يف الكشف عن الحياة ،ومقدرته عىل استعادة وهكذا يتضح لنا أن حيويّة النص الكتابي ُ ٌ ُّ حيوية تتالءم إىل ّ التذكر .إننا حني نتذكر عالقتنا حد كبري مع ممارسة عملية بعض جوانبها إىل وعينا اإلنساين ،وهي
ُ الجسد بمنزلة الدال بشخص ما ،فنحن ال نطمح منها إىل استحضار جسد الغائب ،إنما نطمح الستعادة روحه التي كان ُ نتطرق إىل خصائص الجسد املادية ،فالحديث الذي يشري إليها .ويوضح هذا األمر حديثنا عن الشخص الغائب ،فنادرًا ما يف الغالب يدور حول املواقف والخصائص الروحية واملعنويةَ . ولـمَّ ا كانت التجارب الحياتية املعيشة عنصرًا ال غنى عنه يف ِّ إثراء مسرية حيا ِة ٍّ َ تواصلنا بتلك الحياة ،وأن نبحث عن أدا ٍة حية، حافز يُوثق كل منا ،فمن الطبيعي أن نسعى إىل تأسيس ٍ ترتاسل مع تلك الحياةُ ، وتمَ ِّكننا من اسرتجاع بعض تفصيالتها التي مررنا بها َ ْ وتشابكت عالقتنا بها ،والكتابة يوم، ذات ٍ ً ً َّ ُ حياته فيما تنطوي عليه عالماته من قدرة عىل تتمثل حي، قدرة األدوات رث – كما رأينا – أك ُ ِ وفاعلية ،والنص الكتابي كائنٌ ٌّ اإلحالة إىل األفكار والتصورات ،فتلك هي روحه التي َت ُّ بث الحياة فيه فتجعله حيًّا ينبعث ويتجدد عند كل قراءة.
149
فضاءات
تجربة الهايكو في األحواز سالم الكعبي
كاتب أحوازي
األحواز بلد عربي لن تجده على الخارطة العربية ،أخباره مكتومة ،الكتب والجرائد والمجالت ال يسمح بها ،ولهذا كان األدب الفصيح الحديث فيما سبق شبه معدوم ،وكانت القوالب الشعبية هي الرائجة والمتداولة ،جاءت الشبكة العنكبوتية وفتحت األبواب على مصراعيها ،فتعرَّف األديب األحوازي تجربة الشعوب المختلفة ،واطلع بفضل هذا التطور على أنماط أدبية جديدة كالقصة القصيرة ًّ جدا والهايكو وغيرهما من األنماط الحديثة ،وأخذ يزاولها ويتدرب عليها. الهايكو هو نوع من الشعر اكتشفه اليابانيون ،وازدهر بفضل
والسرنيو ،وعن صنوف أخرى من األدب الياباين واآلسيوي .عىل
األكرب بال منازع .يحاول شاعر الهايكو ،من خالل ألفاظ موجزة
غري اليابانية عندما باشر الكتابة يف املوضوع ،وعىل الرغم من أنه لم
ماتسو باشو (1694-1644م) وهو شاعر ياباين ،ومعلم شعر الهايكو شفافة بعيدة من السرد التعبري عن مشاعر جياشة أو أحاسيس عميقة بعيدًا من الحكمة والتحليل الشخيص لألحداث .ومن
150
الجدير بالذكر أن أشهر قصائد الهايكو تحيك تفاصيل وحاالت يومية لكن من زاوية جديدة تجعل الحالة املألوفة جديدة تمامً ا
عىل املتلقي .الهايكو قصيدة اللحظة ..التقاط املشهد الذي ال
ينتبه إليه العابرون ..وعندما يقرؤون نصك تصيبهم الدهشة ويقولون« :يا الله كيف لم ننتبه لهذا؟!» ..الهايكو أشبه بالتوقيعة واإلبيجراما ..تجد فيه كل يشء ،لكنك تجد فيه روحك أولاً !
يف سنة 1949م ،مع نشر املجلد األول من كتاب ريغنالد هوراس
بليث (1964-1898م) «الهايكو» ،دخل الهايكو بقوة إىل الغرب .كان ذلك املجلد فاتحة جديدة ضمن سلسلة أعماله عن ال ِّزنْ والهايكو
الرغم من أن بليث لم يتوقع ظهور هايكو أصيل يف لغات أخرى
يؤسس ألي مدرسة يف الشعر ،فقد حفزت أعماله كتابة الهايكو باإلنجليزي .ففي آخر املجلد الثاين من كتابه «تاريخ الهايكو» ،لحظ
أن «آخر التطورات يف تاريخ الهايكو هو تطور لم يتوقعه أحد...
كتابة الهايكو خارج اليابان ،وليس باللسان الياباين».
وصل الهايكو إىل اللغة العربية عن طريق ترجمة نصوص
عرب لغات وسيطة كاإلنجليزية حتى نهاية التسعينيات ،ثم بدأت تظهر ترجمات عن اللغة اليابانية .رغم أن كثريًا من النقاد العرب
ال يعرتف بالهايكو العربي كمدرسة شعرية مستقلة ،بل فرع من
شعر النرث ،إال أن عدد شعراء الهايكو ونواديهم يف ازدياد مستمر. والهايكو العربي بات يأخذ مكانته بقوَّة ،بعد أن تب َّنته أسماء
عربيَّة المعة سطعت عىل صفحات التواصل االجتماعي أو من خالل الصحف واملجالت العربيَّة.
اختالف الهايكو األحوازي عن العربي لاً ً ربيع الهايكو يف الشعر العربي قد انتشر طو وعرضا من
املحيط إىل الخليج ،وشعراء األحواز مِن هذا الربيع الهايكوي
العربي الذي ينمو ويرتعرع ويزدهر يومً ا بعد يوم وهايكو بعد هايكو .وإذا كان شعراء الهايكو يف البلدان العربية قد تنفسوا
هواء الهايكو من خالل اللغة العربية فإن شعراء الهايكو األحوازيني قد تنشقوا نسمات الهايكو العذبة
من خالل نافذتني وليس نافذة واحدة فقط؛ إذ
إنهم اطلعـوا عىل الهايكو الفاريس والهايكو العربي، وهذا بدوره يجعل منهم مجموعة مختلفة قليلاً عن
الشعراء العرب الذين يكتبون الهايكو يف الوطن العربي.
العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
ومن محاسن هذه املجموعة من الشعراء الذين يكتبون الهايكو يف األحواز قدرتهم جميعً ا عىل كتابة هايكو صحيح من حيث البنية والشكل ،فال يخلطون بينه وبني القصيدة القصرية املتكونة من
ثالثة أسطر ،بينما نجد أن هناك كثريًا من الذين يكتبون بالعربية ال يعرف بالضبط كيف يميزون بني قصيدة قصرية من ثالثة أسطر وبني الهايكو.
يكتب الهايكو يف األحواز مستمدًّا مادته من بيئته كما هي يف
الحاضر ،وقد أخذ شعراء األحواز بحساباتهم عند كتابة الهايكو العربي -أحوازي ،النخلة والساقية ولبطة الشبوط يف الهور، وقفزة الهامور يف البحر ،ونقيق الضفادع إىل آخره .فإن الهايكو
األحوازي هو ذلك الهايكو الذي يعكس خصوصية األحواز كمكان وحياة وأناس وفولكلور؛ ألن الهايكو إذا أه َ ـمل الخصوصية
املحليّة ،سيصبح هايكو ال نستطيع تحديد هويته ألن كثريين من مختلف أنحاء العالم يكتبونه ،فهو ً إذا هايكو شائع .فلو أخذنا هذا الهايكو لعيل مطوريان من محمرة األحواز: شمس املغيب...
سيقان فتيات حقل األرز
أكرث سمنة لاً هذا الهايكو مث لو كتبه شاعر عربي من الكويت ال يمكن
قبوله؛ ألن الكويت ال يزرع فيها األرز ،فإن هذا الهايكو يعكس
خصوصية أحوازية ،ولو كتبه الكويتي سوف يشعر القارئ أن الشاعر كتبه ليس بعد تجربة عاشها بل كيشء ّ فكر فيه وتخيّله. ويف الهايكو التايل استند توفيق النصاري يف شعره إىل املزاوجة
املبدعة بني املتضادات ،أي العاقل يف الالعاقل بطریقة فنية تؤدي
إلی توهج وتألق الهایکو. َ الق َ صب …
بصمت َي ْكربن ٍ يات َ َف َت ُ الق ِبيلة! یتکون هذا الهایکو من صورتین؛ األولی( :القصب) ،والثانیة: (یکربن بصمت فتیات القبیلة) ،وقد ُفصلت الصورتان بثالث
نقاط ،وعلی القارئ أن یکتشف العالقة التي تربط الصورة األولی بالثانیة .نحن يف هذا املقطع أمام مشهدٍ حي یتداخل فیه العنصران
«القصب» و«فتیات القبیلة» ویرسم الشاعر لنا بألفاظه املوجزة ً صورة فوتوغرافیة يف غایة الجمال .إنّ القبیلة والبعیدة من السرد
تلعب دورًا مأساویًّا يف حیاة املرأة وهي التي أدّت بفتیاتها إلی ُ
العزلة وأجربتهن أن یملن إلی االختفاء يف الغرف القبلیة البلهاء،
وأن یشعرن بالوحدة ویکربن بصمت کما یکرب القصب يف صمت
رهیب من دون عنایة ،وبعیدً ا من شعور الناس .القصب ینبت وینمو ویعیش بعیدً ا من املجتمعات ،یکرب ویطول ویجف ویذبل
وال أحد تقوده غریزته لفحصه إلی أن یصل إلیه قاتله ویقطعه من
جذوره لیجمعه لصناعة يشء ما.
الهايكو األحوازي هو ذلك الهايكو الذي يعكس خصوصية األحواز كمكان وحياة وناس وفولكلور الهايكو واللحظوي
الشاعر األحوازي عادل آل ناصر يقول :الهايكو يستمد قوته
من اإلحساس واملشاهدة املتمثلة يف نظرة ثاقبة لحظوية يستخرج
منها «الهايكست» لقطة مميزة وصورة فوتوغرافية يف غاية الجمال ،ملتقطة بالتفاتة ذكية وزاوية دقيقة ربما لم يشاهدها غريه ،فيخلق لنا تلك الصورة يف ثالثة أسطر تحتوي عىل مشهد
رائع ومتكامل من دون عناء الرتكيز لقوة املفردة وضرورة اختيار ً أحيانا ،ويقول الشاعر: الكلمات الصعبة أو املحنطة عش العصفور
خلف النافذة...
أتنسم يف الفناء
الهايكوات التالية لبدر نصاري من فالحية األحواز: مكتبة قديمة،
بني املعجم والقرآن نسيج عنكبوت
يف الغروب
تودع ظلها النخلة
غروب كارون، سودا َء تبدو
نوارس الشاطئ
الحظنا تأثري اللغة والبيئة والثقافة العربية األحوازية يف
الهايكو ،واستطعنا يف الوقت ذاته أن نميّز بني الهايكو واألساليب
الشعرية الحديثة األخرى. المصادر:
صادقیان ،سماهر أسد :الهايكو األحوازي مرآة بيئته ،توفيق نصاري نموذجً ا،مجلة المداد -العدد التاسع 1نوفمبر 2016م.
-جمال مصطفى :الهايكو أصغر قصيدة في العالم ،مجلة المداد -العدد
السابع 1سبتمبر 2016م.
-النصاري ،توفيق :محاولة ابتدائية لتوضيح بنية الهايكو ،مجلة المداد -العدد
السادس 1أغسطس 2016م.
طالبيان ،مسيح – مجله إنشاء ونويسندگي – أعداد 67 ،39 ،62مسابقة كيغو غير مباشر لعام 2016م – نادي الهايكو العربي .
-هايكو شعر ژاپني از آغاز تا امروز – برگردان أحمد شاملو /ع پاشايي – چاپ
چهارم بهار ،1384تهران.
نوذري ،سيروس – درباره ي هايكو – انتشارات نويد شيراز .1391ناهوكو تاواراتاني – هايكو – چاپ گلشن .1390
ب 2014م. -عقبي ،حميد :قصيدة الهايكو آخر صيحة لشعرائنا العرب ،موقع َك َت َ
151
بورتريه مقال
تزفيتان تودوروف: الذاكرة تكسب في نضالها ضد العدم عاملنا العربي وثقافتنا وإسالمنا ومشكالتنا ومعضلة عالقتنا بالغرب والعالم من بني املشاغل األساسية التي اهتم بها تودوروف .وربما
نادر كاظم
ناقد وأكاديمي بحريني
لطاملا كنت أشعر أن مسار حيايت ،مهنيًّا وفكريًّا ،كان يتشابه مع مسار حياة تزفيتان تودوروف (2017 -1939م) امل ُ ِّ نظر األدبي
البارع واملفكر اإلنساين الكبري .كنت معجبًا به ،بل مشدو ًدا إىل كل ما
يكتب منذ أن قرأت له .واملفارقة أين تعرفت إىل تودوروف ،أول مرة،
من خالل كتابه «فتح أمريكا :مسألة اآلخر» ،الذي نقله إىل العربية
152
بشري السباعي برتجمة بديعة ومتمكنة (صدرت الرتجمة عن دار سينا يف عام 1992م) .كنت وقتها أدرس األدب والنقد يف كلية اآلداب
بجامعة البحرين ،ومولعً ا أشد الولع بالتحليل األدبي ونظريات
النقد الحديثة من بنيوية وشعرية وسيميوطيقا أسلوبية وتفكيكية ونظرية القراءة والتلقي وغريها.
يف هذا الكتاب ،لكني حني ال أتذكر اآلن حجم التأثري الذي تركه ّ ً مأخوذا بتودوروف وكتابه الذي أسرتجع مسار األحداث أراين كنت
غيرّ مجرى اهتمامي إىل حد أين قررت أن أوسّ ع دائرة تخصيص ملا هو أبعد من األدب ونصوصه ونظرياته ،وتحدي ًدا إىل قراءة لحظة ّ تحتل موقع الهيمنة بحيث تصيرّ الثانية االشتباك بني ثقافتني :األوىل مهيمَ ًنا عليها ومغلوبة ومهمَّ شة .كان كتابي «تمثيالت اآلخر :صور
هذا ما جعله حاضرًا بقوة يف الثقافة العربية املعاصرة ،ويشهد عىل ذلك عدد ُكتبه التي ُترجمت إىل العربية. بيت مزدحم بالكتب
بدأ تودوروف حياته وسط الكتب واملكتبة ،ويحيك عن طفولته
أنه وُلد يف بيت مزدحم بالكتب ،وكان وهو طفل يحبو وسط أكداس من الكتب التي كان والداه يقتنيانها ،ويضعان باستمرار ً رفوفا جديدة ً شغوفا الستيعابها .نشأ تودوروف يف أحضان هذه الكتب؛ مما جعله بها ،فما إن َّ تعلم القراءة حتى راح يلتهم القصص الكالسيكية مثل ألف ليلة وليلة ،وتوم سوير ،وأوليفر تويست ،والبؤساء .يَذكر
أنه ،ذات مرة وهو يف سن الثامنة ،قرأ رواية كاملة من 223صفحة
مستلق عىل «ركبة جده» .واستمر معه هذا يف ساعة ونصف وهو ٍ الشغف بالكتب إىل مرحلة التلمذة يف املدرسة اإلعدادية والثانوية؛ إذ أخذت قراءاته تتسع شي ًئا فشي ًئا لتشمل ُك ّتابًا كالسيكيني
ومعاصرين ،بلغاريني وأجانب .لم يكن هذا النوع من الشغف املتصل
بالقراءة وعالم الكتب ليرتك صاحبه يقرر مصريه بنفسه يف حياته ويف تخصصه الجامعي .يذكر تودوروف أنه حاول أن يكتب الشعر
ومسرحية يف ثالثة فصول ،بل شرع يف كتابة رواية ،لكنه أحس سريعً ا أنه لم يولد ليكون شاعرًا أو مسرحيًّا أو روائيًّا ،بل ناق ًدا لكل ذلك ومُ ّ نظرًا أدب ًّيا ،وحتى هذا االستنتاج لم يكن صحيحً ا تمامً ا؛
السود يف املتخيل العربي الوسيط» الذي كان أطروحة الدكتوراه، ً مشبوكا بـ«فتح أمريكا» ومسألة اآلخر ولحظة االشتباك بني حضارة
ألن تودوروف سيغادر ،منذ الثمانينيات من القرن العشرين ،هذه
اختزال وجودهم إىل وضعية أدىن من اإلنسان ،بل وضعية اليشء كموضوع (وليس ً ذاتا) قابلة لالستعمار واالستعباد والبيع والشراء
لطالب يف السابعة عشرة من عمره يف بلد محكوم بالدكتاتورية
متقدمة وآخذة يف التوسع ،وثقافات أخرى وبشر آخرين جرى
وحتى اإلبادة.
منذ هذا اللقاء بتودوروف وأنا أالحق كل جديد يصدره أو
حوار يجريه وكأين أقرأ مستقبيل وانعطافايت ،إال أين يف كل مرة أقرأ لتودوروف أشعر بفرادته كمفكر تأسرك قدرته عىل قراءة
مجريات العصر بعيون مفتوحة عىل آخرها ،وبروح كبرية تتسع لكل االختالفات بني البشر ،وتنتصر لإلنساين فينا دائمً ا .ولقد كان العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
األرضية بعد أن يكتشف ،مع اشتغاله عىل كتاب «فتح أمريكا» أنه لم يولد ليكون مُ ّ نظرًا أدبيًّا .لكن ذلك االستنتاج كان صحيحً ا بالنسبة الشيوعية وجزء من الكتلة الشيوعية آنذاك. االصطدام بأيديولوجيا الدولة
ابتدأ اهتمام تودوروف بالشعرية البنيوية بحيلة لجأ إليها
مضطرًّا يف بحث التخرج من أجل تجنب االصطدام بأيديولوجيا
الدولة املهيمِ نة؛ إال أن هذه الحيلة قد رسمت مساره عىل مدى
عقدين كاملني بقي خاللهما وفيًّا للتحليل البنيوي والشكالين حتى بعد أن غادر بلغاريا بظروفها ا ّ ملشلة واملحبطة ليحط رحاله يف فرنسا،
لكنه لم يعد حكرًا عليه وال حبيس نصوصه ومشاغله وتقنياته،
لنظام قمعي .أنجز تودوروف بحثه حول التحليل اللغوي ،ولكن فاته
واهتمامات مفكر «عصري» ونقدي وإنساين وتنويري قرَّر أن يعيش
حيث كل الظروف مهيأة للكتابة بحُ رّية ال من أجل االحتيال تجنبًا
أن يدرك أن املسلك الذي سار عليه لم يكن أسهل املسالك لتجنب الرقابة وتحايش املواجهة مع األيديولوجيا املهيمنة فحسب ،بل هو، ّ للتنصل من املسؤولية السياسية واألخالقية، كذلك ،أسهل الطرق
وأسهل الطرق العتزال العالم وقضاياه وصراعاته.
يف فرنسا ،وبمعية جريار جينيت وروالن بارت الذي أشرف
عىل أطروحته للدكتوراه ،انغمس تودوروف يف التحليل األدبي ً الحقا تنبّه تودوروف إىل أن هذا النصويص والشكالين والبنيوي .ثم
االهتمام الكيل بتحليل األسلوب والرتكيب والتقنيات السردية التي منغمسا فيها ،قد انتهى إىل حبس األدب والنقد معً ا يف «غيتو كان ً
شكالين» أدى إىل عزل األدب ونقده عن الحياة والعالم ،وتحويلهما إىل «ألعاب شكالنية» عاطلة وعدمية وبال جدوى وبمنأى عما يسميه تودوروف «السجال العريض لألفكار» واألحداث والتجارب التي
تجري من حولنا .ولهذا كان مصممً ا عىل اإلفالت من مدار هذه
ببصره واهتمامه وشغفه عىل عالم ال يخلو من األدب بالتأكيد، عالم منفتح عىل مشاغل واهتمامات هي ،يف الصميم ،مشاغل
عصره بكل إنجازاته وويالته ،ويكتب ألنه يريد أن يتحدث ،كما
يقول ،مع معاصريه عن املشكالت التي تهمنا جميعً ا كمسائل:
التسامح ،وكراهية األجانب ،وصراع الهويات ،واالستعمار ،وتعدد الثقافات ،وتقبل اآلخر ،والخوف من الربابرة الذي يحولنا إىل برابرة، والشمولية ،والديمقراطية وأعدائها ،والعوملة والنظام أو الفوىض
العاملية الجديدة ،والحياة املشرتكة مع اآلخرين ،وروح األنوار،
واألمل يف أن يكون املستقبل أفضل من الخالصة املتوترة والصراعية والدموية التي تركها لنا القرن العشرون. عام 2000
يذكر تودوروف أنه تساءل ،وهو صبي يف الحادية عشرة من
عمره ،عما إذا كان سيبلغ اليوم نفسه من عام 2000م .كان ذلك هو
اليوم األول من ديسمرب 1950م الذي يتباعد عن عام 2000م بنصف قرن
العزلة واالعتزال والحبس .كان كتاب «فتح أمريكا» هو نقطة التحول من تودوروف الناقد وامل ُ ّ نظر األدبي إىل تودوروف املفكر اإلنساين
لن يأيت إال وهو يف عداد األموات،
األدب ونظرياته– عىل مساحة واسعة من العلوم والتخصصات
تودوروف هذا العام ،ويمتد
والتنويري واسع األفق الذي ترتامى اهتماماته -إضافة إىل نصوص واالتجاهات من التاريخ وتاريخ األفكار إىل الفلسفة والسياسة
واألنرثوبولوجيا واألخالق. مفكر عصري
ً بادية يف تلك املقدمة التي وضعها كانت هذه االنعطافة
تودوروف للرتجمة اإلنجليزية والعربية ألهم كتبه يف حقبته األوىل وهو كتاب «الشعرية» ،حيث كان يتساءل عن موقعه وسط
االهتمامات واالتجاهات األدبية الكربى؟ ليجيب بصرامة بأن «الكتاب الذي أُعطيه األهمية أكرب من بني إنتاجايت املتأخرة يتعلق باكتشاف أمريكا وغزوها» .واملعنى أن تودوروف كان ،منذ عام 1982م أي العام
الذي صدر فيه كتابه «فتح أمريكا» ،يضرب يف كل اتجاه ،ويلقي
«فتح أميركا» هو نقطة التحول من تودوروف نظر األدبي إلى تودوروف المفكر والم ِّ الناقد ُ اإلنساني والتنويري واسع األفق الذي تترامى اهتماماته على مساحة واسعة من العلوم والتخصصات واالتجاهات من التاريخ وتاريخ األفكار إلى الفلسفة والسياسة واألنثروبولوجيا واألخالق
كامل .كان تودوروف يتصور أن هذا العام
لكن األقدار تشاء أن يدرك
به العمر إىل فجر الثالثاء 7
فرباير 2017م ،حني توقف قلبه،
وسكنت روحه إىل األبد من دون
أن تموت تلك القضايا التي شغلته
وانخرط يف النضال من أجلها.
إنه ملن الجدير أن نتذكر يف هذه
اللحظة أن تودوروف هو الذي قال بأن «الحياة ال تستطيع أن تصمد يف وجه
املوت ،لكن الذاكرة تكسب يف نضالها ضد العدم» .لرتقد روحك يف سالمها َ وليبق اسمك وذكرك األبدي، وفكرك ونضالك وإنسانيتك
الكبرية ،ليبق كل ذلك حيًّا يف ذاكرة تقاوم املوت والنسيان، وتنتصر لواحد من مبادئك
الخالدة« :إن اإلنسان يجب أن يبقى ً غاية لإلنسان مهما ّ كلف
األمر».
153
تراث
تراثنا ليس لنا نذير الماجد
154
كاتب سعودي
كم من الشعر مدفون تحت ركام اللغات؟ العطش قدر الكائن الجمالي ،كأن عليه لكي يقبض على الجوهر الشعري أن يتقن لغات العالم .في كل لغة يختبئ جوهر شعري ،والمهمة األساسية تكمن في اكتشافه .اكتشف هيدغر جوهرًا شعريًّا في لغة غير لغته ،فعمل على استدعاء الشعرية اإلغريقية لتدشين فلسفة حديثة .اإلغريق هم األسالف الطبيعيون للفلسفة المعاصرة .التراث اإلغريقي هو تراث الغرب الذي كان وراء نهوضه من سباته الطويل .في كل تراث ثمة مادة ال تنفد وال تشيخ ،من يعمل على مشك ً ّ ً صداعا ثقافيًّا لة اكتشافها في تراثنا العربي؟ من يتجشم عناء هذه المهمة الشاقة التي تراوح مكانها مزم ًنا؟ سؤال إشكالي له مذاق الهزيمة وتبجح اآلخر ،فتراثنا ليس لنا .لم نحسن القراءة .مهمة اكتشاف الذات لم تستكمل .تشوه التراث باختزال مزدوج :اختزال الذات واختزال المركزية الغربية .استبطنت الذات العربية الصورة الدونية التي رسمتها المركزية الغربية فصارت تمتهن ذاتها التراثية ،ينبغي هنا استحضار إدوارد سعيد ..كل صيحة تحديثية موشومة بالغرب .أصبحت الدعوة إلى الموسيقا والشعر وحرية القول والفلسفة وفن الحياة دعوة تغريبية .قصائد النثر والسرد منتجات غربية ،الغرب علمنا ذلك وال بد من االعتراف بتفوقه أو باغترابنا .الغرب! ذلك النعت الذي يجلب البركة أو اللعنة.
العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
ثمة استعادة للرتاث لكن عىل نحو أحادي وبنكهة دينية، ً رديفا للرتاث الديني ،ابتلع الجزء الكلُ .شطِ ب أصبح الرتاث
مكونه الشعري األعم من القصائد وأغراض املديح أو الهجاء أو املهاترات القبلية ،اختفت هرطقات الفلسفة وضالالتها،
وسُ حق وجه الثقافة الشعبي ليظل الوجه الرسمي املعتمد
كجوهر أزيل أو شاهدة قرب .إنه تراث ممزق عاىن كثريًا من خطايا أبنائه ،تراث لم يعد ً تراثا بصيغة الجمع. لوال هذا االستشراق
ً نبوغا أليس من السخرية أن تحقيق النصوص األكرث ًّ محقا إدوارد سعيد؟ قام به االستشراق نفسه الذي أدانه
غيبوبة الذات من جهة والتثبيت الغربي لشرق رومانيس حالم حي ًنا ،وديني أصويل حي ًنا آخر جعل من الرتاث الحي
جثة هامدة .لم نكن نعرف -مع ذلك -التصوف و«ألف ليلة
وليلة» وكل النصوص املهمشة لوال هذا االستشراق .كان يحفر
ويستخرج الكنوز فيما نحن غارقون يف تفاهات املايض وتمثالته الثيولوجية ،يف سذاجات الحقيقة األحادية ونرجسية الطائفة. هذا االنشغال أجهز عىل تعددية الرتاث« .ألف ليلة وليلة» الذي ً قرونا هو نص محرم ومحكوم باإلدانة .تخدش تشكل واستقر الليايل نقاء الصورة املتخيلة للذات .الليايل محض هراء وتفاهة.
تحاط الليايل بنظرة ازدرائية .كل نتاج ذايت محتقر .ال تليق بنا الليايل ،شغلتنا عنها مماحكات امل َِلل وال ِّنحل .ليس بمقدورنا اكتشاف الشعرية يف ألف ليلة وليلة .هي غريبة يف بيتها ،عليها
انتظار عبقرية أجنبية ليك تعود .قرأ ماركيز «ألف ليلة وليلة»
فكانت قراءة العمر .اكتشف حكايات شهرزاد فاكتشف ذاته. القراءة كانت لها «قوة الحدث» .ما بعد الكتاب ليس كما قبله. يقال :إن اليشء نفسه حصل مع بروست صاحب «البحث عن
الزمن املفقود» .الليايل ألهمت كثريين قبل عودتها .باملناسبة هل ما زالت مدانة يف محاكم مصر؟ كم ماركيز وكم بروست
نحتاج ليك تكرم الليايل يف بيتها ويعود السندباد البحري من
سفره الطويل؟
العودة تعني االحتفاء مجددًا وإعادة االكتشاف .العودة
ليست نستولوجيا إنما خروج من وضعية االغرتاب .ليست املسألة حني ًنا لهوية مفقودة .تكمن املسألة يف وعي الذات
بضرورة املشاركة يف بناء الكوين ،يبنى الكوين يف الوقت الذي تتقوم فيه الخصوصيات .ال يتعلق األمر بقطيعة مع الكوين أو
الدخيل أو اآلخر .عىل العكس ،يتعلق األمر بحوار داخل الكوين ومعه .ينبغي الحوار مع اآلخر ،لكن ً أيضا مع الذات نفسها .مع الذات يف ماضيها عرب إعادة االكتشاف الدائم لعبقريتها املاثلة
كم ماركيز وكم بروست نحتاج لكي تكرم «الليالي» في بيتها ويعود السندباد البحري من سفره الطويل؟
155
تراث
غارسيا ماركيز
يف الشعر .تبيت الكينونة يف الشعر .والشعر هو الكنز املنثور واملخبوء يف الرتاث .ينبغي البحث عنه واكتشافه عرب إقامة
الحوار ليس مع الثقافة الرسمية بل عرب املقموع فيها .الحوار مع املهمش يف هذه الثقافة ،مع الشعبي ،الضاحك ،الخرايف،
مع املقامة التي احتقرها محمد عبده وشطبها وهو اإلصالحي ً استنتطاقا أبديًّا الكبري .املطلوب إعادة استنتطاق هذا املوروث، ودائمً ا ومستم ًّرا .تتحول الذات ويتحول معها املوروث .تعريف
املوروث هو نفسه عمل متحول ومفتوح .تهرب التعريفات وتنسحب ،وليس النقد بصفته ف ًّنا ضد الفن أو معه إال محاولة
156
دائبة لإلمساك بالتعريفات الهاربة كما قال يوما كونديرا.
مارسيل بروست
محمد عبده
املقامة وانتهاك القاعدة
إنها والله مقامة! ..املقامة خطاب يف مجلس ،ما يعني
وفرة األصوات وتشابكها وتداخلها وتقاطعها ،املقامة خطاب روايئ باملعنى الذي عناه باختني ،هناك إذن تعددية يف األصوات:
صوت العقل إىل جانب صوت الجنون ..لكن يف املقامة ومن ناحية الشكل تحديدً ا تحتشد وفرة من األنواع ً أيضا ،الشعر إىل جانب النرث املسجوع غالبًا ،املديح إىل جانب الهجاء .هي
مثل الرواية شكل هجني بال أب ،كتابة حديثة تائهة يف القرن الرابع الهجري .غري أنها شكل يقبل املحتوى ونقيضه .ففي
املقامة يوجد الرسمي والشعبي ،املعتمد واملهمش ،الهزيل
يف هذا السياق ُتفهم أعمال عبدالفتاح كيليطو الناقد األدبي والقارئ الحدايث للرتاث ،وهو املقتفي ُخطا باختني وتودوروف،
الذي بذله كيليطو بحاجة إىل من يستكمله برتجمة معاصرة
باختني كانت مهجوسة هي األخرى بهويتها السالفية ،كانت
«بول ريكور» .املقامة كالرتاث متعددة ،يمكن القول :إن
وبخاصة يف قراءة النص املهمش ،ال ننىس أن روسيا املنحدر منها مسكونة برعب اآلخر الغربي .من الواضح أن عبدالفتاح كيليطو
مشغول بردم الهوة ،تسكنه هواجس التجسري ،ضرورة الحوار
ليس مع اآلخر ،بل مع الذات نفسها قبل ذلك ،مع الذات
والجاد ،القاعدة وانتهاكها .الجهد الشكالين والبنيوي الثقايف
ملنطوق املقامة وجملتها التأويلية التي ال تختزل بحسب تعبري املقامات تختصر الرتاث ،وإن األخري كله مقامة .تتنازع الكلمة
استعماالت متشابكة ،املقامة شكل أدبي لبنية سردية ،لكننا أيضا أن مفردات كالقيامة واملقام تستمد ً نلحظ ً أيضا من الجذر
الكالسيكية والرتاثية .يلح كيليطو عىل إعادة قراءة الرتاث ً وحديثا .املطلوب قراءة والحوار معه وترجمته ليكون معاص ًرا
فسحة وجودية أو كرنفال ،أما القيامة بمفهومها الخاليص
هي هكذا« :مادة تقليدية مستعملة يف منظور جديد» .لكن
املخلص عودته املكللة باملجد .بهذا املعنى يمكننا استعادة
معاصرة للرتاث إلنجاز وعد مصالحته مع الحداثة ..والحداثة جهده النقدي تركز حول فن املقامة .عد املقامة سلف الرواية
العربية واألب الشرعي للسرد العربي املعاصر تمامً ا مثلما عد
أدونيس نصوص النفري قصائد نرث مبكرة.
نفسه ،املقام عند املتصوفة رتبة وجودية يف حني أن املقامة
فتمثل أمامنا بمعنى العودة لكن يف حلة جديدة .تعني قيامة
الرتاث :أن يقرأ مجددًا ،أن يخضع للنقد ،والنقد تعليم فن
القراءة كما يقول اإلستطيقي اإليطايل كروشته.
كان أبو الفتح اإلسكندراين يتنكر يف كل مقامة تحت
قناع ،إىل أن يقوم الراوي «عيىس بن هشام» بفضحه
بيشء من الدهشة واملرح .مع كل مقامة – وأنا هنا أخص
ينبغي الحوار مع المهمش في الثقافة، مع الشعبي ،الضاحك ،الخرافي ،مع المقامة التي احتقرها محمد عبده وشطبها وهو اإلصالحي الكبير
العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
مقامات الهمذاين -يتكرر هذا االكتشاف املدهش يف صورة
الزمة« :إنه والله أبو الفتح اإلسكندراين» .الفضيحة تختتم املقامة ،أما قراءة الرتاث فتبدأ بها .ثمة من ينتظر خلع أقنعته العديدة ليدهشنا نحن ً أيضا بالزمة تتكرر :إنه والله تراث ،إنها والله مقامة.
مقال
ريتا فرج كاتبة وباحثة لبنانية
النسوية اإلسالمية والمساواة تطورت حركة التأويل النسوي لموقع المرأة في ً ملحوظا؛ مما أكسبها اإلسالم في العقود األخيرة تطورًا
حفني ناصف (1918-1886م) ،وعائشة عبدالرحمن (بنت الشاطئ)
واالنتماءات األكاديمية .أصدرت النسويات في العالمين
الدين –داعية أحقية المرأة في االجتهاد الديني1976-1908( -م)
ب ــ«اإلسالم والمرأة» و«اإلسالم والجندر» و«النساء
الفقهية للقرآن ضمن كتابها الشهير «السفور والحجاب»،
حضورًا الف ًتا على مستوى الوعي والمناهج واالتجاهات العربي واإلسالمي أدبيات جادة في الحقول المعنية
والمعرفة الدينية» ،وبخاصة في مضمار ما يمكن أن
نطلق عليه «فقه تحرير القرآن من الموروث األبوي». وقد اضطلعت «النسوية اإلسالمية» ً شرقا وغربًا بأدوار
بارزة ،واختلفت مقارباتها للنصوص الدينية التأسيسية،
مع التركيز الشديد على نقد القراءة الفقهية التقليدية
اإلسالمية للقضايا المتعلقة بالنساءً ، بحثا عن المساواة الجندرية في القرآن ومناقشة الفقهيات البطريركية.
الوعي النسوي وإرهاصات النسوية اإلسالمية
ظهرت «النسوية اإلسالمية» أوائل التسعينيات من
عائشة تيمور (1902-1840م) ،وزينب فواز (1914-1845م) ،وملك (1998-1913م) ،وهدى شعراوي (1947-1879م) ،ونظيرة زين التي تعد أول امرأة عربية ،تقدم أطروحة في نقد القراءة
ً خصوصا أن النساء العربيات قبلها ركزن في خطابهن وكتاباتهن
على قضايا تعليم المرأة ووعيها لذاتها وحقوقها السياسية، وذلك عبر السيَر الذاتية أو المقاالت أو األعمال األدبية.
تلحظ أستاذة األدب اإلنجليزي المقارن في جامعة القاهرة
أميمة أبو بكر «أن السعي إلى التمكين في الحقوق على خلفية ثقافية إسالمية عامة ،كان من البديهيات [بدءً ا من أواخر
القرن التاسع عشر] وإن غاب عن ذلك السعي ،التنظير المباشر
والمناهج التحليلية المتعمقة للمصادر الرئيسة والمسميات من
أجل طرح رؤية تجديدية شاملة حول قضايا المرأة في منظومة الفكر والعلوم الدينية» .وتشير أبو بكر إلى أن مفهوم النسوية
القرن العشرين المنصرم في إفريقيا الجنوبية ،كواحدة
من منظور إسالمي تطورت فكرته «في العشرين عامً ا األخيرة في
التقدمي» العاملة ضد نظام الفصل العنصري .وفي العالم اإلسالمي برزت في بداية التسعينيات ً أيضا ،في تركيا،
التفاوت بين رسالة اإلسالم التوحيدية ،وترجمة قيم تلك الرسالة السامية إلى عدالة وتكافؤ الفرص ،وشراكة على أرض الواقع بين
التقطت مقوالت نسوية وسط اإلسالميات التركيات .ثم في
للمسلمين والمسلمات ،ثم االتجاه كذلك إلى استخدام المناهج
النسويات اإليرانيات من الثورة اإلسالمية اإليرانية ( البزري،
اإلسالمية من وجهة نظر المرأة المسلمة وواقع حياتها، ً –أيضا -لفتح باب االجتهاد لها ،حتى يتسنى بناء معرفة لكن
من الرافعات الفلسفية والسياسية لحركة «اإلسالم
مع كتاب نوليفير غول «الحداثة الممنوعة» (1991م) حيث
إيران ،عام 1992م مع مجلة «زنان» التي عبرت عن خيبة دالل« ،النسوية اإلسالمية أو الجهاد النوعي» ،صحيفة
الحياة 22 ،يناير (كانون الثاني) 2007م ،العدد.)15998( : إن تطور الوعي النسوي العربي المرتبط بحقوق
العالم اإلسالمي من خالل تطبيق الوعي النسوي لفهم معضلة
الجنسين ،وإلى األخذ في االعتبار الكرامة اإلنسانية المتساوية النسوية التحليلية –ليس فقط -لغربلة الكثير من فكر العلوم
إسالمية ،تحيي معاني العدل والمساواة والشراكة وتؤكدها؛
معرفة بديلة عن منطق االستبعاد والتمييز واألفضلية الذي شاب
النساء في الدين والمجتمع والثقافة ليس حديث النشأة،
خطابات التراث وطرائق استنباط العلماء لألحكام ،الذين رغم
النسوي ،مع العديد من المثقفات والكاتبات العربيات
عصورهم ،وكان من الطبيعي أن يتأثروا بثقافات هذه العصور، ً –أيضا -أال يهتموا بتأسيس المكانة الواحدة ومن الطبيعي
إذ وُجدت إرهاصاته التاريخية ،لجهة حركة التفكير
والمسلمات ،منذ أواخر القرن التاسع عشر ،من بينهن:
براعتهم العلمية وجهدهم في تحري الشريعة ،ما كانوا إال نتاج
157
مقال
المتساوية للرجال والنساء»( .انظر :النسوية اإلسالمية
والمنظور اإلسالمي ،آفاق جديدة للمعرفة واإلصالح،
مجموعة من الباحثين ،تحرير أميمة أبو بكر ،مؤسسة المرأة
والذاكرة ،القاهرة ،الطبعة األولى2013 ،م ،ص .)7 خارج النسوية اإلسالمية
ثمة العديد من األكاديميات والباحثات درسن النص
الديني (القرآن والحديث والفقه) من خارج االنتساب إلى
النسوية اإلسالمية ،وسجلن أسبقية تاريخية عليها ،من
بينهن –على سبيل التمثيل ال الحصر :-الكاتبة المصرية نوال السعدواي ،وفاطمة المرنيسي عالِمة االجتماع المغربية والكاتبة النسوية (2015-1940م) ،ورجاء بن سالمة أستاذة ِّ والمحللة النفسانية التونسية ،وألفة التعليم العالي
حتى يبدو أكثر مالءمة مع البيئة اإلسالميّة؛ فالباحثة المصرية
هبة رؤوف عزت تقترح استبدال «الحركة النسائية اإلسالمية» ب ـ ــ«النسوية اإلسالمية» .وتبدو ودود –داعية تحدي السلفيات الغالبة التي تحتكر تفسير النصوص -كما تلفت األكاديمية
والباحثة التونسية آمال قرامي في مقال لها تحت عنوان
«الحركة النسوية اإلسالمية في أميركا» أكثر النسويات اهتمامً ا
بقضيّة العدالة االجتماعيّة في اإلسالم ،وهو أمر مفهوم بسبب السياق االجتماعي التاريخي ،الذي أُثيرت فيه قضايا السود في عالقتهم مع الثقافة المهيمنة ،التي عادة ما كانت تعالج
المشكالت االجتماعية والسياسية من منظور المثقف المعبّر عن ثقافة البيض؛ لذا ألحّ ت على عالميّة اإلسالم ،وتوجّ ه الرسالة
يوسف األكاديمية التونسية المتخصصة في اللغة العربية
إلى جميع الناس .وتأتي أهمية النسويات المسلمات األميركيات
وبخاصة بعد إصدار كتابها ذائع الصيت «حيرة مسلمة»؛ إذ
للتطوّر المعرفي في مختلف العلوم ،ما شجعهن على طرق
واللسانيات .قد تكون ألفة يوسف األشد إثارة للجدل،
طرحت مسائل حرجة ونقدية.
158
كثي ًرا ما تجد الدارسة حرجً ا في التصريح ّ بأنها تتبنى فكر حركة «اإلسالم النسوي» دون ّ تحفظ أو دون حرص على تغييره،
اإلسالم النسوي وتحدي السلفيات الغالبة
يتفاوت تصادم تأويالت النسوية اإلسالمية مع الموروث خصوصا إذا ما ّ ً قارنا الفقهي بين العالم العربي والغرب،
خالصات النسويات المسلمات األميركيات مع نظيراتهن
ً نصوصا أقل حدة .تع ّد آمنة ودود العربيات ،الالئي أنتجن
(األفرو-أميركية) صاحبة «القرآن والمرأة :إعادة قراءة النص
كما تشير قرامي من «تشبّعهن بالحرية الفكرية ومواكبتهن
موضوعات جريئة مثل المطالبة بإلغاء ع ّدة المرأة المطلقة،
وحق إمامة الصالة»( .انظر :قرامي ،آمال :الحركة النسوية
اإلسالمية في أميركا ،موقع الحوار المتمدنwww.alhewar. ، .)org
النسوية اإلسالمية :المقاربات والمناهج
تقترح النسوية اإلسالمية ثالث مقاربات في قراءتها النص القرآني :أولاً -استدعاء بعض آيات القرآن التي ارتبطت بتفسيرات
القرآني من منظور نسائي» من أكثر النسويات المسلمات ً ً جرأة في معالجة قضايا اإلسالم والجندر؛ شهرة ،وأكثرهن
من سيادة النظرة الذكورية وعلوّها على وضع المرأة ومكانتها.
نسوي» أو الهوت إسالمي /نسوي /حداثوي يمكن القول :إن
بين الرجل والمرأة على نحو يب ّرر هيمنة الرجل وسيطرته (انظر:
لسببين :االعتماد على القرآن كمصدر أول وأخير؛ والولوج إلى مرحلة ما بعد النص .وإذا أردنا الحديث عن «إسالم
مغلوطة ،مثل تلك المتعلقة بالخلق أو أحداث الجنة وما فيها
ثانيًا -االستشهاد باآليات التي توضح بشكل ال لبس فيه المساواة بين الجنسينً . ثالثا -تفكيك اآليات التي تهتم بإبراز االختالف
«ودود» وزميالتها من النسويات المسلمات األميركيات األشد
عبدالوهاب ،نورهان ،النسوية اإلسالمية ،إشكاليّات المفهوم ّ ومتطلبات الواقع ،مؤمنون بال حدود للدراسات واألبحاث،
في االجتهاد ،التأسيس إلسالم نسوي يمارس اإلصالح من
تستند النسوية اإلسالمية في أبحاثها إلى مناهج عدة؛ منها:
حداثة ،وهن يشتركن في ثالث خصائص أساسية :مناهضة الخطاب الفقهي الذكوري ،تأكيد أحقية المرأة المسلمة
على الرابط المختصر التالي.)http://cutt.us/fWVTy :
الداخل على قاعدة تأويل القرآن بالقرآن ،مع التركيز الكثيف
فقه اللغة ،والهيرمينوطيقا (علم التأويل) ،واألنثروبولوجيا
امرأة الفقهاء وامرأة الحداثة ،خطاب الالمساواة في المدونة
واألحاديث النبوية والسياقات التاريخية ،المتعلقة بالنساء.
على مناهج العلوم االجتماعية الحديثة (انظر :فرج ،ريتا، الفقهية ،دار التنوير ،بيروت ،الطبعة األولى2015 ،م).
تجاهر النسويات المسلمات األميركيات (آمنة ودود، وليلى أحمد ،وعزيزة الهبري ،وأسماء برالس) بتب ّني أكثرهنّ ً خالفا ألغلبية المسلمات لمصطلح «اإلسالم النسوي»، العربيات المقيمات في البلدان العربية واإلسالميّة« :إذ
2017م 2017م إبريل إبريل مارس - مارس - 1438هـ / 1438هـ / رجب رجب اآلخرة - اآلخرة - جمادى جمادى 486486 - 485 - 485 العددان العددان
الدينية ،وغيرها من المناهج الحديثة في تفسير اآليات القرآنية
رفعت حسن :إسالم ما بعد األبوية ُتعد رفعت حسن -أستاذة الدراسات الدينية والعلوم
اإلنسانية في جامعة لويسفيل ()University of Louisville (الواليات المتحدة األميركية) ،المنضوية في اتجاه النسوية
اإلسالمية التأويلية كما يصنفها المفكر األردني فهمي جدعان
في كتابه «خارج السرب :بحث في النسوية اإلسالمية الرافضة
وإغراءات الحرية .الشبكة العربية لألبحاث والنشر ،بيروت»-
من اللواتي اعتمدن على المنهج الهيرمينوطيقي ،وتهدف من
خالله إلى محاولة تفسير القرآن من منظور الالهوت النسوي، الكتشاف أحكامه المتصلة بالمرأة ،بغية تحرير النص من آثار
األحاديث المتناقضة مع روحية الكلية للمساواة القرآنية بين الجنسينُ . وتشاطِ ر «حسن» قريناتها من النسويات المسلمات
التأويليات ،االعتقاد المنهجي بأن العقلية البطريركية قد حكمت التقاليد اإلسالمية منذ عصر ّ مبكر من تاريخ اإلسالم
إلى أيامنا هذه ،وأن أصول اإلسالم الماثلة في القرآن والحديث والسنة النبوية والفقه ،قد وُجِّ هت ً وفقا لهذه العقلية؛ إذ
مفهوم النسوية من منظور إسالمي تطورت فكرته في العشرين عاما األخيرة من خالل تطبيق الوعي ً النسوي لفهم معضلة التفاوت بين رسالة اإلسالم التوحيدية ،وترجمة قيم تلك الرسالة السامية إلى عدالة وتكافؤ الفرص ،وشراكة على أرض الواقع بين الجنسين
مت هذه األصول ُ ُف ِه ْ وفسرت على أيدي الرجال المسلمين
وحدهم ،وأن هؤالء الرجال قد احتكروا ألنفسهم مهمة تحديد
األحكام واألوضاع األنطولوجية والالهوتية والسوسيولوجية للنساء المسلمات .وتشدد «حسن» على أهمية ع ّد القرآن في ضوء «المعيار األخالقي» أنه يلزم برفض أي استخدام
للقرآن من أجل تعزيز الظلم؛ ألن إله اإلسالم عادل( .انظر:
الخاصة من الرجال ،فإن األغلبية العظمى من النساء الالئي
كانوا يتعاملون معهن ،وعلى وجه الخصوص الالئي كان لهم بهن عالقة جنسية ،كانت ً ملكا لهم وكانت عالقتهم بهن عالقة السادة بالعبيد» .وتع ّد «أحمد» سيطرة اإلسالم على بعض
جدعان ،فهمي ،خارج السرب) .تجترح «حسن» مصطلح ً قاصدة بذلك «اإلسالم القرآني» ،وهو «إسالم ما بعد األبوية»
المناطق المجاورة للبحر المتوسط ،دفعته إلى استيعاب التراث
حد سواء– من عبودية القيم التقليدية والسلطوية (الدينية
وجاء المسلمون الجدد ممن تحولوا عن دياناتهم األصلية،
إسالم يولي أهمية خاصة بتحرير البشر –النساء والرجال على
والسياسية واالقتصادية وغيرها) والقبلية والعنصرية والتحيز
الجنسي والرق ،وأي قيم أخرى تمنع البشر أو تعوقهم عن تحقيق رؤية القرآن لمصير البشرية الذي نجده متمثلاً في ذلك َ َ َ ْ َ َى﴾ (سورة النجم ،اآلية اإلعالن القياسي﴿ :وَأنَّ إِل ٰى َربِّك المُنته ٰ ( )42انظر :النسوية والدراسات الدينية ،تحرير :أميمة أبو
بكر ،ترجمة :رندة أبو بكر ،سلسلة ترجمات نسوية العدد (،)2
مؤسسة المرأة والذاكرة ،القاهرة ،الطبعة األولى2012 ،م ،ص .)233
التفسيرات األبوية والمجتمع البطريركي
ترى ليلى أحمد الباحثة المصرية في شؤون الدراسات
النسائية ،أن التفسيرات األبوية لإلسالم ال تعود إلى القرآن
االجتماعي والعقدي للشعوب اليهودية والمسيحية المجاورة،
محمّلين بعاداتهم االجتماعية وتراثهم الفكري .استخدمت النسويات المسلمات مصطلحات لها جذور غربية مثل:
البطريركية ،والمركزية الذكورية ،والنظام األبوي ،والالهوت
النسوي ،والجهاد من أجل الجندر ،وإسالم ما بعد األبوية...
وغيرها .ألقت هذه المصطلحات بثقلها على األدبيات النسوية العربية واإلسالمية ،إنتاجً ا وتفسي ًرا ،وأغنتها بأفكار حداثوية
انشغلت بالدرجة األولى بتحرير النص المقدس من الموروث ً إيمانا بروحية المساواة بين الجنسين التي كرسها الفقهي،
القرآن ،وهذا يدفعنا إلى القول :إننا أمام تشكل معرفي ثوري ً خصوصا في مضمار اإلسالم في حقل الدراسات النسوية،
والجندر ،على مختلف اتجاهاته ومدارسه وتأويالته سواء اتفقت أم تباينت خالصاته.
حملت النسويات على مختلف انتماءاتهن الفكرية
نفسه ،بل إلى المجتمع البطريركي الذي فرض على اإلسالم ً نمطا ذكوريّا سلطويًّا ّ جذره النظام العباسي الذي عزز النزعة
والمنهجية همًّا معرفيًّا غايته تقديم قراءة مغايرة للتفسيرات
المفهوم لموقع المرأة والجنوسة في العصر العباسي ،ربما
بها النسويات المنشغالت في حقل المعرفة الدينية من جانب
المعادية الكارهة للمرأة .تقول« :وفي إطار اإلدراك وتشكيل
كان الفرق ذو الداللة الذي يميّز المجتمع العباسي عن المجتمع
اإلسالمي األول في الحجازَ ،يمْثل في النظرة الخاصة من الرجال إلى النساء ،وفي العالقة التي تربطهم بهنّ .فبالنسبة لهؤالء
الفقهية التقليدية .وبصرف النظر عن الرؤية السلبية التي تواجه «حراس العقائد والحدود» ،من المهم االستماع إلى أصواتهن
ومتابعة إنتاجهن ،بغية النقاش ،وتوسيع الدائرة الفكرية التي
تسمح بفهم أفضل لموقع النساء في اإلسالم.
159
مخطوطات
160
مخطوط ليلى والمجنون ّ ألفه :مكتبي شيرازي ،المتوفى سنة 941هـ1534/م .وهو باللغة الفارسية، ّ ّ القصة األدبية المشهورة مجنون ليلى.. يتحدث عن أحوال
العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
161
ّ ّ مذهب ومزخرف، القصة ،وهو والمخطوط مزوّد بمجموعة صور منمنمة تحكي مراحل
من مقتنيات مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية.
إعالم
أستاذ علم اجتماع الميديا أكد نهاية التلفزيون التقليدي
جون لوي ميسيكا: اإلنترنت ال تزيل الرابط االجتماعي ،بل تمنح األشخاص إمكانية التحكم فيه
حوار :ماتلد كريستياني ترجمة :نصر الدين لعياضي
162
أكاديمي جزائري
يؤكد أستاذ علم اجتماع الميديا بمعهد العلوم
السياسية بباريس ،والباحث في مجال وسائل اإلعالم جون لوي ميسيكا نهاية التلفزيون ،في كتابه الجديد
«نهاية التلفزيون»؛ إذ يرى أن مشاهدة التلفزيون
آخذة في االنحسار ،إضافة إلى اختفاء تقاليد المواعيد المحددة لمشاهدة البرامج .ويذكر أن اإلنترنت ستبتلع
التلفزيون .ويقول لوي ميسيكا ،في حوار معه صدر ضمن منشورات مركز « »BNP Paribasللبحث واالستشراف :إن الرابط االجتماعي الذي ينشئه التلفزيون يتضمن مجموعة من اإلكراهات ،فالتلفزيون ،في رأيه ،يقدم الرسالة ذاتها إلى الجميع في الوقت نفسه ،بينما الرابط الذي تنشئه اإلنترنت
يتسم بمرونة أكثر ،كما أنّ هذا الرابط يمنح الشعور بالحرية ،على العكس من التلفزيون التقليدي.
ديسمبر 2016م نوفمبر - 1438هـ / ربيع 486صفر - 482--485 العددان 481 2017م مارس -إبريل 1438هـ / األول رجب اآلخرة - جمادى
ـــــ
أصدرتم كتا ًبا بعنوان« :نهاية التلفزيون» .فماذا
تعنون بهذه النهاية في زمن تضاعف فيه عدد القنوات التلفزيونية ،وتزايد إقبال المشاهدين عليها؟
_ بالعكس ،تؤكد آخر اإلحصائيات أن الوقت املخصص
ملشاهدة التلفزيون يتناقص ،بشكل واضح جدًّ ا لدى الشباب
عىل وجه التحديد .إن القناة التلفزيونية تتحرك وفق العناصر اآلتية :توصيل الصور املتحركة إىل البيت ،وبرمجة املواد التلفزيونية وبثها وفق مواعيد محددة ،والوصول إىل أكرب عدد من املشاهدين .ففي الوقت الذي تنحصر فيه املشاهدة ّ وتتشذر إىل حد أن تصبح التلفزيونية وتصبح محدودة جدًّ ا،
فردية ،وتختفي تقاليد املواعيد املحددة ملشاهدة الربامج تدريجيًّا ،تاركة املجال ألنماط أخرى من املشاهدة؛ مثل:
التلفزيون االستدرايك ،والفيديو تحت الطلب ،واالشرتاك يف ً مختلفا ،فهذا العالم نظام الفيديو تحت الطلب ،فإننا نلج عاملًا
يقرتح وجود عدد كبري من الصور املتحركة والربامج املصورة ً تلفزيونا باملعنى التقليدي املقدمة إىل الجمهور ،لكنها ال تشكل
ّ املنصات السمعية البصرية يف للعبارة .ويجب أن نضيف له شبكة اإلنرتنت؛ مثل« :اليوتيوب» و«الدييل موشن» التي تسمح ببث املحتويات التي ينتجها األشخاص العاديون والهواة ،وتغري
بعمق العالقة القائمة بني من يبث الصور ومن يتلقاها ،وهي
لم تعد ثابتة ومستقرة كما كانت يف السابق. إنتاج مشرتك
ـــــ
أال تعلن شرائط الفيديو في شبكة اإلنترنت نهاية
البرمجة التلفزيونية بمعنى أنها تتيح لمستخدم اإلنترنت حرية أكثر ،ومجالاً أوسع لالختيار؟ _ بكل تأكيد .لقد انتقلت سلطة الربمجة التلفزيونية من
يد املربمج التلفزيوين إىل جمهور املشاهدين.
ـــــ
هل يغير «مبدأ» :إنني أشاهد متى أرغب في
المشاهدة ما ننتظره من التلفزيون؟
_ يف البداية يجب أن نلحظ ظاهرة مساهمات
الجمهور املستخدِ م يف املحتوى ،وهو ما أصبح يعرف لدى
األنغلوسكسونيني بـ « »User Generated Contentأي أن ً ً إبداعا يشرتك مشرتكا أو الربنامج التلفزيوين سيغدو إنتاجً ا
ما يبث عبر القناة التلفزيونية ال يتناسب مع ما نبحث عنه في شبكة اإلنترنت ،أي تشكيل الجماعة واالعتراف بها التزايد الكبري يف عدد مشاهدي مواقع «تقاسم مواد الفيديو» ،video sharingفإننا ندرك أن طريقة «استهالك» الصور
يف طور التغيري .وهذا ال يعني أبدً ا أن استهالك الصور سيقل، بل عىل العكس.
ـــــ
إذن ،ما الذي يجب القيام به تجاه األشخاص الذين
لم يكتسبوا عادات في مجال استخدام شبكة اإلنترنت حتى
ندفعهم إلى هذه االستخدامات الجديدة؟
_ أعتقد أن جزءً ا من الناس ال يتدافع نحو هذا االستهالك،
ويجب انتظار قطيعة جيلية (نسبة إىل الجيل) هذا مع تعايش
عدة طرق من استهالك الصور .بكل تأكيد ،لن تكون األمور ً تفاوتا مغلقة من هذا الجانب أو ذاك ،لكن أعتقد أن هناك هائلاً بني أبناء الجيل الرقمي ،واآلخرين!
ـــــ
أنحن مشاهدون ومستهلكون أكثر حرية أم على ّ لتعددية اختيار الحوامل العكس نحن خانعون أكثر؛ (التلفزيون ،واإلنترنت ،والحوامل المتنقلة)؟
_ أعتقد أن االثنني يحدثان معً ا .ففي التلفزيون الكالسييك
فيه الباث واملشاهد .ثم إن (فورمات) املواد التلفزيونية
يوجد نظام من الهيمنة ،رغم كل يشء ،بني من يَستهلك ،ومن يُن ِتج ،ومن ينشر ،ومن يحدد مواعيد البث .فيجب ألاّ ننىس أن
اإلعالم راسخة بشكل عميق .فهناك أشخاص تعودوا عادات
البيولوجية ،ويتحكم يف إيقاع حياتهم املنزلية ووتريتها! فمن
بسهولة .بيد أن األشياء تتحرك بسرعة نسبية .فعندما نلحظ
يمنحهم الحرية .لكننا نعرف جيدً ا أن الشركات؛ مثل :غوغل
-قوالبها -ومدوّناتها ،وأوقات املشاهدة ،كلها تتطور
تدريجيًّا ،لكنها ال تحدث بني عشية وضحاها .فعادات وسائل
متعلقة بمشاهدة التلفزيون منذ عشرين سنة ،وال يغريونها
التلفزيون ظل سنوات طويلة مسيط ًرا عىل ساعة األشخاص
هذا الجانب يمكن القول :إن العرض «التلفزيوين» الجديد
163
إعالم
وبعض محركات البحث ستقوم بدور حاسم ،وستؤثر كثريًا
يف أنماط االستهالك .فأدوات قياس السلوك وتحليله؛ أي ما
يسمى برصد مالمح مستخدمي اإلنرتنت ومسالكهم يف اإلبحار عرب الشبكة؛ تطرح مشكالت واقعية يف مجال الحرية الفردية واحرتام الحياة الخاصة .يجب اإلقرار بوجود رصيد من املعارف
عن سلوك مستخدمي شبكة اإلنرتنت لم يحلم به حتى مجانني قياس املشاهدة التلفزيونية.
ـــــ
ّ تعددية العروض التي تتيحها شرائط الفيديو هل
في شبكة اإلنترنت تعلن عن تفوق الصورة على الوسائط
األخرى؟
ـــــ
ً ّ متنوعا حول البرنامج إن التلفزيون يجمع جمهورًا ً التلفزيوني ،فيشكل رابطا اجتماعيًّا .فهل تنشئ شبكة اإلنترنت شكلاً ً جديدا من الروابط االجتماعية؟
_ يتضمن الرابط االجتماعي الذي ينشئه التلفزيون كثريًا
من اإلكراهات .فالتلفزيون يقدم الرسالة ذاتها إىل الجميع يف الوقت ذاته ،عىل حني يتسم الرابط الذي تنشئه اإلنرتنت
بمرونة أكرث منه ،مع جماعات سريعة االندثار تستند إىل
وشائج تسمح لألفراد بمغادرتها وقتما يشاءون .إنّ هذا الرابط
يمنح الشعور بالحرية .بالطبع إنّ عائق هذه الحرية يكمن يف
هشاشة الرابط االجتماعي ،وضعف التضامن ،ومخاطر عزل
_ ال أعتقد ذلك .أظن ببساطة أن شبكة اإلنرتنت لم تكن
األعضاء الضعيفة .فيمكن أن نكون أمام وضعيات ال يملك
يتمثل يف بطء تدفق البيانات ومختلف التطبيقات؛ ألنه لم
عىل الجماعة االجتماعية .لكن يمكن القول اليوم :إن شبكة
مدة طويلة وسيلة متعددة الوسائط بالكامل؛ بسبب بسيط يكن من السهل إنتاج صور متحركة وتوصيلها إىل املعنيّني .لكن
ما نشاهده اليوم من سرعة تدفق البث ،واستخدام األلياف البصرية ،وتطبيق عدة برمجيات؛ مثل :الربامج املتعلقة
بالصورة ،وكل تقنيات الضغط عىل البيانات وتحجيمها، ومختلف التطبيقات الجديدة التي تقلل من حجم البيانات يف
164
عدد من اإلكراهات
الصفحات ،تجعل الصورة املتحركة تأخذ املكانة التي تحتلها بقية الوسائط .إن شبكة اإلنرتنت أصبحت أداة ذات وسائط متعددة بمعنى الكلمة ،تجمع الصوت والصورة والنص
عال واإلنفوغرافيا والتفاعلية ،وتتيح تحميل امللفات بتدفق ٍ ومنتظم ،أي أن هناك كل األشياء التي ُتحَ وّل بعمق طبيعة
فيها الناس أي سبب للعيش معً ا؛ مما يطرح مشكلة حقيقية
اإلنرتنت ال تزيل الرابط االجتماعي ،بل تمنح األشخاص إمكانية التحكم فيه أكرث من الوقت السابق.
ـــــ
هل تعتقدون أن منصات التشارك في شرائط
الفيديو ،التي يكون فيها المستهلك منتجً ا ومبتكرًا ،تملك
مقومات البقاء واالستمرارية؟
_ نعم ،بكل تأكيد .إننا نعيش اآلن بروز هذه املنصات
ممثلة يف كثري من املواقع؛ مثل« :دييل موشن» و«اليوتيوب»
اإلبداع .أعتقد أنه سيتم الطعن يف فكرة التعارض بني النص
والصورة بفضل هذه العُ دّ ة التقنية التي تجمعهما بشكل
دينامييك أكرث من الورق والتلفزيون.
في التلفزيون الكالسيكي يوجد نظام من الهيمنة ،على حين يمنحنا العرض «التلفزيوني» الجديد الحريةَ
شروط نقد الصورة قال أستاذ علم اجتماع امليديا جون لوي ميسيكا« :إن التعارض املوجود بني الكلمة واملكتوب «هو تعارض بني ما هو مُ َخ ّزن وما هو متدفق .وهذا ينطبق عىل كل أشكال االتصال؛ أي ينطبقً ، أيضا ،عىل الصورة .إذن الصورة املخزنة
يف شبكة اإلنرتنت التي يمكن مشاهدتها أكرث من مرة ،وال «تستهلك» ،أو تتالىش يف سريانها املتدفق كما هي حالها
يف جهاز التلفزيون ،تخلق شروط نقد الصورة بقوة أكرث مما كان ممك ًنا مع التلفزيون؛ لذا يجري التنديد بالتالعب ً مألوفا لتكراره ،وشجب اختالق الصور املزيفة يف شبكة اإلنرتنت. بالصورة ،وبما تمارسه من التضليل ،الذي أصبح ولفت إىل أننا «نملك إمكانية املقارنة بني كثري من الصور ،وفحصها وتحليلها .إذن يمكن معاينة كل املشكالت ذات
الصلة بالتالعبات بالصور .وبهذا نقرتب من املقاربة التي تكون فيها الصورة املتدفقة شبيهة باالتصال الشفوي ،عىل َ ُ أسايس يف اإلنرتنت، الكتابة .أي مع إمكانيات التخزين ،واملقارنة والنقد ،سيحدث تح ّول املخزنة حني تشبه الصورة ّ يرتبط بالسهولة التي يمكن بوساطتها مقارنة صورة بأخرى».
العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
جون لوي ميسيكا :اإلنترنت ال تزيل الرابط االجتماعي ،بل تمنح األشخاص إمكانية التحكم فيه
التي تعاين صعوبات يف العثور عىل أنموذج اقتصادي مناسب له مقومات االستمرارية .لكننا نرى بكل وضوح إىل أين تتجه هذه املنصات ،مع إمكانية إنتاج األشخاص شرائط الفيديو، واالشرتاك يف إنتاجها .هناك فرص جديدة الختيار املنتجات
التي هي يف طور التطور والربوز -الكتالوغات االجتماعية عىل سبيل املثال -وذلك ألن هناك بعض شرائط الفيديو ال يُشاهَ د
يف ظل تضخم تعداد ما هو معروض من شرائط يف هذه املواقع؛ لذا يجب إيجاد وسائل تسمح بربط إمكانية الجميع يف
«االستهالك» بإجراءات انتقاء شرائط الفيديو ،مع وضع سلم لرتتيبها وتسلسلها .توجد ثالثة أنواع من اإلجراءات؛ إجراءان
منها متاحان ،وهما :محركات البحث ،ومنح مستخدمي
اإلنرتنت درجة لكل شريط فيديو .ويجب البحث عن اإلجراء الثالث يف األنموذج االقتصادي ،أي جعل محرتيف العمل التلفزيوين يشاركون يف االختيار والنشر.
ـــــ
ـــــ
هل يملك التلفزيون التقليدي مستقبلاً مزدهرًا؟
_ نعم بكل تأكيد ،لكن ما سيحدث هو أن اإلنرتنت
ستبتلع التلفزيون ،كما هي الحال اآلن ،واإلذاعة ،والصحافة املطبوعة .سيكون هناك تلفزيون يف شبكة اإلنرتنت .والذين
يريدون متابعة النموذج التقليدي للتلفزيون بشبكة برامجه ً سلفا ،أو املوجهة بخوارزمات ،يمكنهم التي يعدها غريهم
فعل ذلك ،وسيمنحون األدوات لتحقيق ذلك .سيظل
االستهالك الساكن والسلبي للتلفزيون قائمً ا .استهالك الصور املريح والبطيء عرب إجراءات الربمجة التلفزيونية املعهودة.
ـــــ
هل يمكن حدوث التواؤم الدائم بين الحاملين؟ إن
قناة التلفزيون الفرنسي األولى ،على سبيل المثال ،مالكة
منصة التشارك في شرائط الفيديو المسماة« :وات تيفي»
وهي تعمل على بث شرائط الفيديو التي ينتجها الهواة عبر شاشتها .فهل يمكن تعميم هذه المبادرة؟
هل التهافت على فرص اإلنتاج الجديدة سيتواصل أم أن نطلب من اإلنترنت أن يكون ً ً جديدا من استهالك نمطا
_ ال أعتقد أنه من املمكن أن يجري األمر بهذا الشكل .إن «وات تيفي» فكرة لطيفة فعلاً ،لكن ولع مستخدم اإلنرتنت
_ أعتقد أنه سيستمر وسيصبح شبه حريف .فما نلحظه
عرب قناة تلفزيونية كربى؛ ألن ما يبث عرب القناة التلفزيونية
موسوعة «الويكيبيديا» باملواد ،عىل حني يوجد 90يف املئة من
الجماعة واالعرتاف بها .بينما يمكن لهذا األنموذج أن يتحقق
شرائط الفيديو؟
اليوم أنه يوجد 10يف املئة فقط من املساهمني يف تغذية موقع مستهلكيها .وستزداد الفرصة يف املستقبل بفضل املنظومة التقنية ،املساهمة يف التحرير واالطالع عىل املواد .لكن ستظل
أغلبية مستخدمي هذه املوسوعة من املطلعني عىل محتوياتها
بكل تأكيد.
بشرائط الفيديو يف هذه املنصة ال يدل عىل أنه سيشاهدها
ال يتناسب مع ما نبحث عنه يف شبكة اإلنرتنت ،أي تشكيل يف مجال اإلنتاج ،وفق منطق رصد الكفاءات ،مع منتجي
التلفزيون الذين يستطيعون متابعة الفنانني يف شبكة
اإلنرتنت ،واختيارهم ،واالقرتاح عليهم إنتاج أعمالهم .هذا هو األنموذج الذي أومن به.
165
سينما
المخرج السوري قال: إن السينما في البلدان العربية ليست في أفضل حاالتها اليوم
محمد ملص:
166
عثرات التجربة وانكساراتها ال تعود للسينما إطالقً ا إنما لكل أشكال القمع الذي واجهناه
العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
حوار :عبدالكريم قادري
ناقد جزائري
يتحدث المخرج السوري الكبير محمد ملص (1945م )-لـ«الفيصل» ،عن أهم المحطات التي ميّزت تجاربه السينمائية ،وعن عثراتها ومنعطفاتها وانكساراتها التي ال تعود للسينما ً إطالقا حسب قوله ،بل لكل أشكال القمع التي واجهها رفقة جيل كامل من السينمائيين. ويقدم نظرته لمختلف مدارس السينما ومناهجها .كما يتطرق إلى أحالم المدن العربية وكوابيسها .ويعود إلى فلمه المختفي «البحث عن عائدة» الذي أخرجه في تونس بمناسبة خمسينية نكبة فلسطين ،لكنه لم ير النور إلى اليوم .في هذا الحوار ّ يقدم مفهومه عن اإلبداع الذي يراه طاقة كامنة ال بد أن تفجرك أو تفجرها .وتحدث عن فساد األنظمة وقمعها ،عن الذات وأوجاعها ،عن اإلنتاج ومصاعبه .هي طاقة البوح التي يمتلكها المخرج محمد ملص، ّ خص «الفيصل» بشيء من فيوضاتها في هذا الحوار الذي قال فيه الكثير والكثير ،سواء التي عن تجربته كمخرج أو كمثقف عربي .إلى نص الحوار: • قبل أن أغوص يف تجربتك السينمائية دعني اً أول أسألك
ولم تتحول لدى هذه البلدان إىل حالة عضوية يف حياة هذا
التاسعة من مهرجان وهران الدويل للفلم العربي ،شاهدت 12فلمً ا روائيًّا طويلاً يف املسابقة الرسمية ،وشاهدت العديد
البلدان؛ كل منها يسعى ألن يختلف يف األسس التي تقوم
عليها اختياراته وتميزه.
هناك ما يجعلك تطمنئ عىل واقع السينما العربية؟
ً بعضا منها يحاول القضايا الراهنة التي يعانيها املجتمع؛ وأن
بحكم رئاستك للجنة تحكيم الفلم الروايئ الطويل بالدورة
من األفالم األخرى خارجها ،وكلها إنتاجات حديثة وجديدة نسبيًّا ،يف ضوء هذا كيف ُتقيم هذه األفالم بشكل عام؟ وهل
املجتمع .كذلك فإن املهرجانات السينمائية العديدة يف هذه
لكني أؤكد أن مشاهديت األفالم املشاركة؛ يدفعني إىل أن ً انخراطا كليًّا يف أقول :إن السينما يف البلدان العربية تنخرط
-إن أكرث ما يلفت النظر يف اختيارات املهرجان لهذه
بانخراطه هذا أن يمتلك الحرية يف التعبري عن وجهة نظره؛
املقول الذي تسعى له؛ واألفكار التي تقدمها للمشاهد يف هذه
ذلك الفلم املغربي «مسافة ميل بحذايئ» لسعيد خالف؛
األفالم االثني عشر؛ إضافة لكونها أفالمً ا حديثة وجديدة؛ هو البلدان العربية .فاألفالم املشاركة بمجملها تتناول القضايا الراهنة التي يعانيها البلد العربي الذي ينتمي له الفلم؛ وهي
تحاول أن تعرب عما يواجهه اإلنسان يف هذا املجتمع.
ويشحن لغته بطاقة وجدانية عميقة ومجددة؛ كمثال عىل
أو الفلم التونيس «خسوف» لفاضل الجزيري املعروف ً بعضا بعراقته وتجديده يف تجاربه اإلبداعية املتعددة .كما أن
آخر من هذه يف سعيه إىل الواقعية الذاتية؛ فإنه يلتهب
أعتقد أن األفالم التي اختريت يف أي مهرجان سينمايئ؛
باملصداقية والوفاء لحركة الواقع ،وموقفه الصادق مما
حال السينما يف البلدان املشاركة .فكل مهرجان يسعى
خليل .بالتأكيد ال يمكن تجاهل أن بعض هذه البلدان يعاين أحوالاً صعبة ودموية؛ وهو ما يرتك أثره يف نوع وكم وأثقال
يمكن للفلم أن يعرب عنها .وبخاصة أن السينما يف البلدان
أن ينجو بنفسه من الهم التعبوي؛ الذي قد يطيح بالسينما
تشري وتدل عىل األهداف واملبادئ التي يقوم عليها هذا ً ودقيقا عن املهرجان .وال يمكن أن تعطي تصورًا موضوعيًّا
نحو تصور وأهداف قد تتغلب عىل الجوانب املختلفة التي العربية ليست يف أفضل حاالتها اليوم .وهي سينما ال تقوم
لدى كل البلدان العربية عىل أسس السوق باستثناء مصر.
أفالمي ليست ثورية؛ وهي أفالم معبرة عن الواقع بصدق وبلغة تطمح للتجديد في لغة التعبير وفي السرد
يعيشه مجتمعه كما يف الفلم املصري الجميل «نوارة» لهالة
األفالم املتحققة يف هذه البلدان التي ال يستطيع السينمايئ جانبًا .كما أن سقوط بعض األنظمة أتاح لسينمائيني آخرين
إمكانية تناول حكايا لم يكن من املمكن تناولها من قبل؛ كالفلم العراقي «صمت الراعي» لرعد مشتت ...وعىل الرغم
من التقليدية يف األساليب التي يقدمها بعض هذه األفالم فال بد من اإلشارة إىل أن من كان يصعب عليه التجديد يف املوضوع الذي يتناوله؛ فقد استطاع أن يصوغ لنفسه أسلوبًا
وطريقة لتناول موضوع مألوف؛ ببناء سينمايئ جديد من
167
سينما
نوعه؛ والتعبري بلغة خاصة كما يف الفلم الجزائري «البرئ» للطفي بوشويش .ال بد يل من اإلشارة ً أيضا
بتقدير كبري للحداثة اللغوية يف فلم «خسوف» التي تضيف للسينما التونسية ً ألقا إضافيًّا؛ كما أن فلم
«مسافة ميل بحذايئ» املغربي يدل من جديد عىل
النهضة الصريحة يف السينما املغربية محتوى ولغة.
• نعود إىل تجربتك السينمائية ،فعىل الرغم
من تكوينك األكاديمي (خريج معهد السينما يف
ً خصوصا يف الشق الفني موسكو) ،فإن هذا التكوين
ال نجده يف أفالمك ،فمعظمها إن لم أقل كلها جاء ثوريًّا ،فكنت مُ جد ًدا فيها عىل مستوى البناء السردي وحتى الفكري ،فمثلاً نرى أن هناك تداخل الوثائقي يف الروايئ والعكس صحيح .هل هي قناعة شخصية بوُجوب أن يكون املخرج مجد ًدا ،أو أن األمر ال يعدو أن يكون مجرد صدفة وضرورة صنعها موضوع كل
فلم عىل حدة؟
-أود يف البداية طاملا أشرت إىل التكوين األكاديمي؛
نظ ًرا لكوين أعتز وأقدر كوين درست يف هذا املعهد،
168
وتتلمذت عىل يدي املعلم إيغور تاالنكني؛ أن أستعيد الفكرة الجوهرية التي قالها يل هذا املعلم بعد خمس
سنوات من التتلمذ ،وعشية تخرجي« :هل تعتقد أين
علمتك كيف تصنع فلمً ا؟! ال! خالل هذه السنوات الخمس
-ليس هناك وصفة سحرية باملعنى املهني لإلبداع
كيف تعرب عنها» .فكيف لنا أن نتساءل عن تكويني األكاديمي
كامنة ال بد أن تفجرك أو تفجرها؛ وهي تبقى كامنة تبحث عن
كنت أحاول أن أدربك عىل أن تعرف نفسك؛ وأن تكتشف ومدى وجوده يف أفالمي؟!
السينمايئ أو غريه يف مجاالت اإلبداع األخرى .اإلبداع طاقة
منفذ؛ وال بد للموهبة والثقافة والحرفية ليك تنطلق .بعدها
أنا أختلف معك يف هذا الفصل بني الشق الفني
تأيت التجربة واملمارسة يك تتطور هذه الطاقة ...االختالف
بالنسبة يل السينما وحدة بذاتها؛ والفلم لغة ومحتوى إما
الرؤية ،أي البصر والبصرية ثم اإلحساس بما يعيشه أو ما
والتجديد يف البناء والسرد والرسالة التي يحملها الفلم. أن يكون أو ال يكون .ليس هناك فلم ثوري ولغة غري ثورية...
أفالمي ليست ثورية؛ وهي أفالم معربة عن الواقع بصدق
وبلغة تطمح للتجديد يف لغة التعبري ويف السرد؛ هذه قناعة وانتماء إبداعي للسينما وللعصر وللمجتمع؛ وليس هناك يف السينما أي يشء -سواء لدي أو لدى غريي– يخضع
للصدفة .وهي تشري بشكل عام إىل أن املخرج يمتلك مشروعه
السينمايئ الذي يسعى لتحقيقه فلمً ا بعد اآلخر. يف وعي ما يعيشه املجتمع ويعانيه
• ما الشروط الضرورية التي يجب توافرها يف املخرج ً مختلفا عن اآلخرين؟ وما الوصفة الفنية السحرية حتى يكون التي تجعل املخرج من األوائل؟
العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
الوحيد بني املخرج وغريه ،إضافة ملا ذكرته؛ هو القدرة عىل يراه ،وما يعانيه هو خالل حياته وتجربته يف وعي ما يعيشه
مجتمه وما يعانيه.
ً وتحديدا إىل فلم «أحالم املدينة» • بالعود إىل سينماك،
املُنتج سنة 1984م ،أال تلحظ أن الهم اإلنساين واالجتماعي
والسيايس وحتى الفكري الذي الحق الصبي «ديب» أحد
أبطال الفلم ومدينة دمشق يف الخمسينيات ،ال يزال يالحق
«مُ دننا» اليوم؛ إذ تكاثر هذا الـ«ديب» ،تعدد ،تمدد وتناسل، وأصبح يف كل زاوية ،هل هي نبوءة؟ وهل فعلاً «ديب»
وأحالم املدينة وكوابيسها يمكن إسقاطها اليوم عىل واقعنا؟
-هذه قراءة معاصرة للفلم؛ وهي رؤية صائبة .لكن
األمر ليس نبوءة بقدر ما هو رؤية للواقع؛ واستبصار قضاياه
محمد ملص :عثرات التجربة وانكساراتها ال تعود للسينما إطالقً ا
الرئيسة واألساسية؛ والتوجه نحوها والتعبري عنها بشجاعة
كنقاد سينما أن ُنصنف تجربتك يف مدرسة «سينما املؤلف»
بالتحديد بلدي سوريا -هي التي ال تتطور وال تتغري؛ وكأنه
تجربتك السينمائية؟
وصدق .وجوهر األمر أن البلدان العربية -طبعً ا أقصد هنا ليس هناك من يسمع أو يرى أو يقرأ .وهذا ال يعني اإلنسان الفرد يف هذه املجتمعات؛ فهو يكفيه أنه يكتوي من فسادها
وظلمها وغياب العدالة؛ املشكلة يف السلطة الحاكمة التي ال تريد ليشء أن يتغري .اليوم نحن نحصد النتائج أكرث بكثري. إن الشفافية والصدق والشجاعة يف التعبري هي التي تعطي البصرية إمكانية أن يستطيع الفلم العيش طويلاً ،وأن يمتلك
راهنيته دون أن يشيخ؛ أو أن يكون صفحة من املايض وفقط.
• نوستالجيا املدينة والحواري والطفولة ومرتع الصبا،
أو الذات حاضرة بقوة يف كل أفالمك تقريبًا ،وكل مرة
تتشكل بقالب ،وتتلون بلون ،حتى صار بمقدورنا نحن
كلما زادت الدولة كمنتج في تضييق مسافة الرقابة ،واستشرست في التمسك بتحقيق ما تريده من السينما؛ ازددت تمسكا بالحرية في التعبير عن نفسي
بكل اطمئنان ،ما مدى تقارب هذا املفهوم وانعكاسه يف -لنكن أكرث وضوحً ا؛ فتعبري «سينما املؤلف» بالنسبة يل
يعود بشكل أساس ملفهوم السينما الذي تشكل يف داخيل، والقائم عىل التعبري عما «عشته أو تتمنى أن تعيشه أو تخاف من أن تعيشه» حسب تعبري تروفو! سينما املؤلف ليست أن تكتب السيناريو وتخرج الفلم كما يظن البعض .سينما املؤلف
هي أن تعرب عن إحساسك ومعايشتك وأحالمك من خالل انتمائك للمجتمع الذي تعيشه .وهي ليست خيارًا شكليًّا أو تقنيًّا؛ هي اختيار سينمايئ بحت؛ يقوم عىل الهارموين العايل بني الشكل واملضمون؛ وشحن الفلم بطاقة وجدانية؛ أي
تكتب بالضوء وبالكامريا .لذلك ويف كثري من املرات كنت أرفض ً محرتفا يخرج من فلم ويدخل يف آخر. ان أعد نفيس سينمائيًّا
والتعبري هو حاجة حني تغيب يغيب الفلم ...لهذا ال بد من أن يحضر الحنني والطفولة والذات. لحظة تتألق فيها السينما
• يف آخر أفالمك السينمائية «سلم إىل دمشق» ،نرى
يف الفلم الواحد تداخل العديد من األشكال الفنية ،من
مسرح ،وشعر ،وتشكيل ،وغرافيك ،كيف استطعت أن
الرئيس التونسي يمنح محمد ملص الوسام الوطني لالستحقاق
169
سينما
األمر هو ليس تطويع األشكال األخرى لصالح السينما؛ إنما
العثور عىل اللحظة التي تتألق فيها السينما لتكون يف لحظة
ما شع ًرا أو لوحة ...والتعامل مع هذا التألق بحساسية ودقة؛ بحيث يتغلب عىل نفسه ويندجم يف السينما بتوافق يف اللحظة
واملقدار املناسبني .السينما هي األم لهذه الفنون؛ عليك أال تضحي بها من أجل أوالدها؛ وال تضحي بأوالدها من أجلها.
• لديك تجارب ناجحة ًّ جدا يف تحقيق األفالم ،عىل رغم هذا تبقى مقلاًّ يف إنتاجك ،آخر أفالمك «سلم إىل دمشق» املنتج قبل أكرث من ثالث سنوات ،ما األسباب التي تحول دون
تحقيق مشروعاتك السينمائية ؟
-التباعد املنطقي بني فلم وآخر؛ أي سنتني أو ثالث؛
يعود يل وللمشروعات التي أعتزم تحقيقها؛ لكن املشكلة الجوهرية بالنسبة يل تعود لإلنتاج الغائب .يف سوريا ليس
هناك إنتاج خاص؛ كما ليس هناك حرية إبداعية .املنتج
الوحيد للسينما يف سوريا هي الدولة؛ وهي جهة إنتاجية
تمول املشروعات التي يمكن أن تخدم أهدافها فقط .وأنا منذ أواخر التسعينيات لست عىل وفاق معها فيما أريد تحقيقه.
170
ُتطوّع هذه الفنون تحت مظلة السينما؟ وهل السينما قادرة
لذلك لجأت إىل محاولة التأسيس لسينما مستقلة؛ ً بعضا من مشروعايت السينمائية .لكن واستطعت أن أحقق
عىل استيعاب الفنون اآلخرى دون أن تمس جوهرها وقيمتها
كان هذا يتطلب املزيد من الوقت لتأمني اإلنتاج .طبعً ا لم
-لست أنا املكتشف لهذا االستخدام؛ فما أسعى لتحقيقه
واستطالت زمنيًّا؛ حيث إن الدولة كمنتج زادت يف تضييق
التاريخية؟
هو نموذج من النماذج العديدة املعمولة يف السينما .األمر يف
جوهره ينطلق من مفهومك للسينما؛ والحاجة املستمرة دائمً ا لتجديد وتطوير اللغة واألسلوب وإمكانيات التعبري .وكما هو يف التأثريات املتبادلة يف وسائل ومجاالت التعبري الثقافية كلها؛ سواء يف األدب أو املسرح أو املوسيقا .كما أن هذا يعود
أساسً ا إىل أن السينما بحد ذاتها فن يتضمن هذه الفنون يف
أستطع أن أحقق أكرث من ذلك .ثم جاءت األحداث الراهنة مسافة الرقابة؛ واستشرست يف التمسك بتحقيق ما تريده ً تمسكا بالحرية يف التعبري عن من السينما .وأنا ازددت نفيس .إضافة لصعوبة إمكانيات التصوير والحركة خالل
هذه الظروف .اليوم ال أحتاج لزمن لكتابة مشروعايت؛ ولدي أكرث من ثالثة مشروعات قابلة للتنفيذ؛ لكن ليس هناك إنتاج لتحقيقها .كما أين لم أعد راغبًا بعد هذه التجربة
عضويته .فطاملا أن الكلمة موجودة يف السينما فلماذا ال يمكن
الطويلة من العمل بأن أطرح مشروعايت عىل الصناديق
صورة وضوء؛ فلماذا ال تسمو إىل مستوى التشكيل؛ وهكذا يف
أن تكتب املشروع ثم ترتجمه وتعد امللف املتعدد الجوانب؛
أن يتألق الكالم إىل مستوى األدب أو الشعر .وطاملا أن السينما
املوسيقا والغرافيك وغريهما من أشكال التعبري الفني .جوهر
إن الشفافية والصدق والشجاعة في التعبير هي التي تعطي البصيرة إمكانية أن يستطيع الفلم العيش طويال وأن يمتلك راهنيته دون أن يشيخ
العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
الداعمة ،أو اعتماد الطريق الكالسييك لإلنتاج األوربي؛ أي ثم تنتظر منتجً ا ثم داعمً ا ثم ثم ...فهذه هي الحال حاليًّا.
يضاف لذلك أن مشروعي السينمايئ يتناول مجتمعي يف حاله العام وقضاياه الرئيسة؛ ال أعتقد اليوم أن هذا هو ما
يهم اإلنتاج األوربي.
• تجربتك السينمائية امتدت ألكرث من أربعة عقود من
الزمن ،مررت من خاللها بالعديد من األحالم والكوابيس، الفرح واأللم ،لكن عىل العموم كانت من أهم تجارب السينما العربية ،وبعد كل هذا ،من املؤكد أنك بت تملك نظرة للسينما
محمد ملص :عثرات التجربة وانكساراتها ال تعود للسينما إطالقً ا
عىل عمومها ،فهل هناك إمكانية أن تقدم للجمهور ونقاد
بنشر املفكرات اليومية لهذه التجربة بسينمائيتها ويومياتها
ليست تجربتي تجربة منفردة؛ هي تجربة جيل بأكمله يفكل قضايا الثقافة ومنها السينما ً أيضا؛ سواء يف سوريا أو أي
لحظات الفرح كانت قليلة .لكني أريد أن أؤكد لك وللنقاد
السينما ُ وصناعها هذه النظرة وتعريفك للسينما؟
بلد عربي آخر .نحن كجيل سينمايئ يف سوريا لم يبق منه كثري؛
الثقافية والسياسية .يف هذه املفكرة ربما سيلحظ القارئ أن
والقراء أن عرثات التجربة ومنعطفاتها وانكساراتها ال تعود ً إطالقا؛ بل لكل أشكال القمع الذي واجهناه؛ وهذا كان للسينما
فهناك من رحل إىل العالم اآلخر؛ وهناك من غادر إىل بلد آخر ...التجربة التي عشناها؛ فعلاً تجربة غنية ومهمة؛ واملسار
والتعبري عنهم؛ وبأنها هي «املرآة» التي يقف أمامها الناس لريوا
للمشروعات التي ال أزال أرغب يف تحقيقها؛ فقد بدأت فعلاً
وإن هذا االحتياج هو الذي يخيف األنظمة القمعية؛ وهو ما يجعلها تستهدفها أولاً وتستهدف السينمائيني بقمعها لهم.
السينمايئ الذي قطعناه سواء بما فعلناه أو بما عجزنا عن ً بسيطا ،بل معقدً ا وغنيًّا .ربما باإلضافة تحقيقه؛ لم يكن مسارًا
يؤكد لنا إيماننا بالسينما وقدرة هذه األداة عىل االرتباط بالناس
ذاتهم .وإننا يف هذه املنطقة العربية أكرث احتياجً ا لهذه املرآة؛
جليلة بكار.. مقدسا فرفضت الحذف رأت نصها ً
• الفلم بشكل من األشكال بمثابة «االبن» بالنسبة للمخرج ،وأنت شخصيًّا
سبق أن حدثتني عن أحد أفالمك الذي وألسباب ما لم ير النور إىل اليوم ،والفلم أُنجز يف تونس ،هل يمكن أن تحدثنا عن هذا الفلم والسبب الذي جعله يختفي؟ هذا الفلم كان عبارة عن رد جميل مني للمنتج أحمد بهاء الدين عطية؛ الذيبرحيله املبكر فقدته السينما التونسية والعربية ً أيضا ...وهو رد جميل لتلك الجهود التي جمعتنا يف تحقيق املشروعات السينمائية التي كنت أهجس بها آنذاك؛ أي عام 1998م.
وهو كما يدل هذا التاريخ؛ هو الذكرى الخمسني لنكبة فلسطني ...يومها كانت املمثلة التونسية القديرة جليلة بكار؛ كتبت ًّ نصا
مسرحيًّا لهذه املناسبة بعنوان «البحث عن عائدة» وقامت بأدائه كـ «مونو دراما» مسرحية يف بريوت .جاء أحمد عطية إىل باريس
حيث كنت أقوم بمونتاج فلم «فوق الرمل تحت الشمس» واقرتح عيل تحقيق هذا النص سينمائيًّا .قرأت النص وشعرت عىل
رغم ملحوظايت وسذاجة بعض مشاهده؛ بأنها فرصة جميلة لتحقيق «مونو دراما» سينمائية؛ كنوع نادر أو جديد يف السينما العربية .بعد أن وافقت عىل هذه املغامرة؛ وأتيت لتونس لتحقيقها؛ وخالل بحثي عن منصة واقعية وذات بعد بصري مهم؛
فقد عرثت عىل الفيال التي كانت مقرًّا لياسر عرفات وقصفها اإلسرائيليون؛ وتركت بعد القصف عىل حالها آنذاك. فاتخذت من هذه الفيال املقصوفة منصة رئيسة للفلم .كان النص يحيك ً أيضا عن ذاكرة جليلة بكار يف الخمسينيات حيث تحيك برؤية ذاتية عن لحظات من التاريخ التونيس بالعالقة مع نكبة فلسطني .فاخرتت سطح باخرة مقبورة عىل شاطئ بنزرت
منصة لسرد ما يخص اللحظات التونسية .يف التصور البصري لهذه الدراما لجأت إىل تغليف كامل الفيال -الجثة بالبالستيك. بهدف شحن هذه املونو دراما بقوة بصرية ومجازية .وأخذت أصور اللحظات مع جليلة أمام البالستيك أو وراءه؛ وداخل الفيال
وخارجها؛ وكل ذلك يف أجواء ليلية تعصف بها رياح البحر املجاورة تمامً ا .تم التصوير وكل يشء عىل ما يرام وكما أريد.
يف املونتاج وجدت نفيس أمام مشاهد جميلة وقوية وخاصة ...كانت املشكلة أن الصورة كانت أقوى من النص ومن الحكاية.
لم تكن هذه هي مشكلتي؛ املشكلة بدأت حني قررت دون اإلساءة للنص أو للفكرة؛ هي يف حذف بعض املقاطع التي كانت ً مونولوغا من الواضح أن الصورة الصورة كافية للتعبري عنها بال كالم؛ وال يمكن لسينمايئ يحرتم نفسه أن يستخدم كلمات أو مقدسا ويجب تعرب عنه بوضوح شديد .فهذا ييسء إىل العمل كله .فاحتجَّ ت جليلة عىل هذا االنتقاص من نصها؛ ورأت نصها ً استخدامه كاملاً .
نظرًا لكون التصوير قد تم قريبًا من البحر؛ فكان ال بد من دوبالج بعض املشاهد التي كان خاللها صوت األداء أضعف من ً شريكا يف إنتاج الفلم .لذلك صوت البحر .فرفضت جليلة الدوبالج إذا لم أعد استخدام نصها بأكمله فرفضت .فقد كانت شركتها بعد أن أنجزت مونتاج الصورة كاملاً ،وكما أريد تركت الفلم وعدت إىل دمشق؛ وبقي األمر عىل هذه الحال حتى اآلن.
171
سينما
172
وجها لوجه.. الجمهور والكوميدي ً
مفارقات المضحك لدى
شارلي شابلن العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
وجها لوجه ..مفارقات المضحك لدى شارلي شابلن الجمهور والكوميدي ً
عادل آيت أزكاغ
باحث مغربي
استعاد رائد السينما الصامتة ،الفنان العالمي الكوميدي اإلنجليزي الشهير شارلي شابلن (1977 -1889م) ،في سيرته الذاتية «قصة حياتي» التي ترجمها كميل داغر عن الفرنسية، وصدرت عن المركز الثقافي العربي ،لحظة استثنائية ضمن لحظات أخرى مثيرة وفارقة ،أوردها في سياق حديثه عن عرضه التمهيدي ألحد أفالمه ،الذي جرى احتضانه في صالة من صاالت إحدى المدن األوربية ،حيث تم العرض بشكل خفي ومن دون إعالن؛ ألنه اعتقد أن عمله لم ً طريفا بالقدر الذي كان ُي ِع ّد له هو وزمالؤه في الكواليس قبل عرضه ،في أثناء إقامتهم يكن ً ممتعا وال مثيرًا. تجارب متكررة في مرحلة المونتاج ،فانتهى إلى قناعة مفادها أن الفلم ليس ويف ضوء هذا املسار ،نلفي شابلن يقدم إشارة مباشرة
يستعيد فيها لحظة جمعته بالجمهور ،وتحمل تصوره الخاص –ككوميدي -للجمهور ونظرته إليه يف إطار عالقته به،
إذ يعرب يف هذا الصدد عن األزمة التي انتابت حالته النفسية، ً مفرتضا كيف سيزداد قلقه إذا ثبت أنه أخفق، وهو يتوجس ثم انتقل بعد ذلك إىل وصف نفسية جمهوره ،وشرح ما له
من مواقف وردود الفعل يف أثناء عملية التلقي ،يمكن أن ً أحيانا حاسمة ولها تأثريها الخاص يف الحكم عىل الفلم تكون
173
وفكرته ،حكمً ا قد يميس إما إيجابيًّا أو سي ًئا.
وعن ردة فعل الجمهور املحتملة ،يستعيد شابلن ما اختمر يف ذهنه من تصورات ورؤى بصدد جمهوره ،قائلاً « :انقبضت يائسا ،بانتظار بداية الفلم .كان الجمهور معديت فجأة .جلست ً يبدو عاج ًزا عن التعاطف مع أي يشء يمكنني أن أقدمه له، وكنت قد بدأت أشك يف الفكرة التي كنت أكونها عن أذواق الجمهور ورد فعله إزاء الكوميديا ( ،)...وتبادرت عندئذ إىل ً أحيانا خطأ ذهني الفكرة املريعة ،بأنه يمكن أن يخطئ كوميديٌّ
ميثاق التلقي ،يف إطار عالقة املمثل الكوميدي بالجمهور الذي ال
ذريعً ا يف تصوراته للكوميديا .كم أستفظع عروض االفتتاح! كان
يخلو حضوره من سلطة وجدلية ،يضرب لهما الفنان الكوميدي
(الغالم) .وعلت يف القاعة صيحات إعجاب ،وتصفيقات مبعرثة.
وال ينتهي شعوره بالقلق أو التخفيف منه إال ساعة نهاية العرض،
يمكن للمرء أن يقرأ عىل الشاشة« :شاريل شابلن يف فلمه األخري
وقد أقلقني رد الفعل هذا ،وذكرين بمفارقة غريبة :ربما كانوا ينتظرون الكثري ،وسيصابون باإلحباط؟» كما يقول هو نفسه. إحساس بالتوجس
ألف حساب ،حيث يقض االرتباك والحرية والتوجس مضجعه، كزمن نهايئ يستقر فيه رأي الجمهور وحكمه اإليجابي عىل العمل
الذي يعرب عنه من خالل التصفيقات والصيحات والضحك، والتفاعل بمختلف أشكاله وأساليبه التي تفيد معنى التواصل
اإليجابي ،واملشاركة الفعالة مع العمل ،وتقبله وفهمه وتذوقه
وإذا تأملنا إحساس شابلن بالتوجس والقلق يف ظل املحنة
واإلعجاب به ،وال يرتاح بال املبدع الكوميدي إال عندما يطلق
ألحد أفالمه أمام الجمهور ،فإنه ال يخرج يف الغالب عن معنى كونه إحساسً ا عامًّا ومشرت ًكا يتقاسمه كل املمثلني الفكاهيني ،من
الذي يربطه بداية مع الجمهور حني يشركهم يف إبداعه الحامل يف عنوانه تسمية «الفكاهي» أو «الكوميدي» كصفتني للتصنيف
كذلك نطاق الدور الذي يجب أن تؤديه الفكاهة يف حالة تأكيدها
بواسطته الكوميدي لقياس درجة نجاح عمله من عدمه.
املريعة والشديدة التي تصور أنه سيواجهها يف أثناء عرضه التجريبي
مخرجني ومؤلفني وغريهم من رواد الكوميديا ،كما أنه ال يتعدى
«الضحك» كعالمة عىل إصابة الهدف كما ينبغي؛ ألنه العقد
الذي يبني عليه الجمهور توقعه وأفق انتظاره ،بمثل ما يهتدي
سينما
وإذا كان اإلحساس بالقلق والتوتر شي ًئا عامًّا ومشرت ًكا بني رواد الكوميديا يف السينما واملسرح ،ملا للجمهور من خطورة بات يستمدها فيما له من سلطة
غدا يمارسها يف حضوره خالل العرض الكوميدي،
بشقيه املسرحي والسينمايئ؛ فإن شابلن نراه حالة خاصة إىل حد ما من بني هؤالء ،ذلك أن
التوتر والقلق يظالن مالزمني له يف كل عرض
تمهيدي أو افتتاحي جديدين ألحد أفالمه ،إذ يحدثنا يف هذا املجرى عما يحسه من قلق،
وما ينتابه من سخط وغضب عىل الناس
والعالم من حوله ،يف أثناء وجوده
يف إحدى هذه اللحظات الحرجة التي
يمقتها ،من ناحية كونها تشكل له تحديًا ًّ ً امتحانا عسريًا. شاقا يبدو فيه َكمَنْ يجتاز
مفارقة ،وهو ما أضفى عىل املشهد طرافة ،يف الوقت الذي تحوّلت فيه األشياء إىل مثار للضحك .ويف هذا
اإلطار يقدم لنا شابلن صورة لألشياء التي أدت دورها باملعكوس يف مشهد وصفه قائلاً : «تتخىل أم عن طفلها ،تاركة إياه يف
سيارة ليموزين .ثم يأيت من يسرق السيارة
ويرتك الطفل يف األخري قرب مزبلة .وعندئذ
أظهر يف شخص شاريل .فتنفجر الضحكات، وتزداد شي ًئا فشي ًئا .كان املشاهدون قد فهموا
املزحة! مذاك ،لم يعد لألمور إال أن تسري سريًا حس ًنا .لقد اكتشفت الطفل وتبنيته .وقد ضحك
الناس حني رأوين أخرتع أرجوحة نوم مكونة من
قماش كيس قديم ،وكانوا يصيحون ويزمجرون
أما املفارقة التي اندهش لها شابلن،
وهم يرونني أطعم الطفل بواسطة إبريق شاي عىل
من وجوم ،فقد حدثت خالل لحظة
يف تقشيش كريس قديم وأضعه فوق وعاء للتربز.
وأزالت ما استبد به من قلق وخيم عليه
جمعته بالجمهور يف صالة أقيم فيها عرض االفتتاح لفلمه «الغالم» الذي
174
استعملت عكس الدور الذي صنعت ألجله ،ويف سياقات
أنتجه سنة (1920م) ،حيث شتتوا ذهنه
بتصفيقاتهم املبعرثة يف بداية متابعتهم
ومشاهدتهم للفلم ،وهو ما أزعجه يف
فمه حلمة .وانفجروا وهم يشاهدونني أحدث ثقبًا
ويف الواقع ،لم يتوقفوا عن الضحك طيلة الفلم» (قصة حيايت).
املضحك يف املشهد نابع من الطابع
الخيايل الذي تم إضفاؤه عىل األشياء التي جرى قلبها عىل عكس صورتها ،ثم
أوان تقديمه ،معتقدً ا أنه سيخيب ظنهم؛ لكنهم يف لحظة
استعمالها يف غري محلها كما هو معهود ،وهو ما جعلها تتخذ
وتوقعه السلبي من جمهور غامض ،ال يخلو حضوره من تأثري أصابه بارتعاب شديد ّ بث يف نفسه اضطرابًا ،وهذا دفعه ليك ً يبدي ًّ شكا ضمنيًّا ،عما تخيله سابقا من رؤى وتصورات تخص
فقدانها وظيفتها األساسية املألوفة التي تمارسها يف الواقع .وهكذا
معينة أبدوا ردة فعل إيجابية تجاه العرض كسرت أفق انتظاره
أذواق الجمهور وانطباعاته ،وعمّا كونه الجمهور باملقابل ً أيضا من
مواقفه بصدد الكوميديا.
هكذا إذن ،أزيل شعور شابلن بالقلق ،وتحول فجأة إىل
إحساس بنوع من الرضا واالرتياح ،خالل تفاجئه بردة الفعل
اإليجابية التي انعكست عىل العرض ،عندما أثار مشهد الفت اهتمام الحاضرين ،وأدركوا معناه املفارق بفهمهم ،فانفرجت له أساريرهم ،ثم تفجرت ضحكاتهم ،وتعالت صيحاتهم مع كل لقطة من لقطات املشهد ،وهكذا استمر الضحك يف املشاهد
الالحقة إىل حدود نهاية الفلم.
ً أنموذجا لتجليات املُضحِ ك «الغالم»
إن من بني ما يثرينا بدورنا يف اسرتجاع حديثنا عن هذا
املشهد ،هو الجانب املضحك ضمنه ،الذي تعد األشياء أبرز موضوعاته الرئيسة؛ ألنها اتخذت يف الفلم وضعً ا غريبًا ،حني العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
وضعً ا غريبًا ،شوش عالقتنا بها كما شوّه صورتها األصلية ،بحكم
صار املشاهد ينظر إىل الكريس وقد أحدث يف وسطه ثقب ،ثم أحيل يف صورته إىل مرحاض ،حني فقد مهمته األصلية كيشء
مخصص للجلوس واالسرتاحة؛ وقماش الكيس القديم تحوّل
بدوره ،فأصبح مكان الغطاء النقي أو املهد املريح ،بوصفهما ً سلفا ليك يخلد فيهما إىل الراحة أشياء طبيعية معدة للطفل
والنوم الهنيء؛ أما الحَ لمة فقد تغريت صورتها لتتبدى يف رأس
اإلبريق ،كما ناب اإلبريق مناب الثدي الطبيعي الذي يتغذى منه الطفل؛ وحلت املزبلة بدورها محل املستشفى أو البيت أو دار الحضانة ،ألنها األماكن الطبيعية للوالدة والرعاية والتنشئة
السليمة لألطفال .يف حني يمثل العثور عىل الطفل يف املزبلة شي ًئا يستدعي الغرابة ،ويولد يف النفس إحساسً ا باالمتعاض
واالستهجان وعدم تقبل هذا الوضع ،عىل رغم ما قد تحمله اللقطة من إثارة. ً إال أن هذه اإلثارة ستزداد عمقا حني يلمح املشاهد اكتشاف شاريل هذا الطفل ،حيث سيكون عاملاً يف إثارة مستدعيات
الجمهور بشأن شخصية شاريل التي ابتكرها شابلن ،والفكرة
وجها لوجه ..مفارقات المضحك لدى شارلي شابلن الجمهور والكوميدي ً
السابقة التي كوّنها عنه من خالل أفالمه الكوميدية الساخرة
السذاجة وعدم املباالة وعدم الوعي باملغامرة إىل حد املخاطرة
واملتهكمة ،وهي معرفة ال تتعدى معنى كون هذه الشخصية
بمصري اآلخر؛ ونتيجة لذلك فنحن نضحك من عيوبه التي
والبالدة والحمق والبالهة .غري أنها بالرغم من كونها حاالت ترمز
شابلن ألن ما يقوم به من أفعال وما يزاوله من أعمال وما
تؤدي أدوارًا إنسانية بسيطة ،لكنها ترمز يف الوقت ذاته للسذاجة للغفلة ،فإن الجمهور يتقبلها من شابلن وال ينظر إليها عىل
أنها عيب يف السلوك عندما يجسدها يف قالب فكاهي؛ ألنه من جهة أوىل فهم اللعبة وتوصل إىل أنها عادية يف مجال التمثيل الكوميدي ،ما دام الجنون والبالدة والحمق والبالهة والغباء
وغريها ،من الحاالت املختلفة التي تغيب فيها جدية اإلنسان واتزانه ورجاحة عقله وصرامته ،املحيلة إىل عالم اآلخر الهاميش، املقموع واملنيس ،ليستقر عنده الفهم بالتايل أنها ليست يف النهاية
سوى حاالت مغلفة بظالل العقل ،وأنها تنطوي عىل مغزى
ما ،يحمل خطابًا مضم ًرا ورسالة جدية ،تختزل املعنى يف صوره املتعددة وأشكاله املختلفة.
معالجة األمور باملقلوب
من جهة ثانية يقبلها الجمهور كذلك من شابلن؛ ألنه
يأتيها بشكل طريف ومرح ،ويستمتع الجمهور أكرث حينما تقدم هذه الشخصية عىل معالجة األمور باملقلوب ،يف نوع من
ندركها وال يدركها هو ،ونراها وال يراها عن نفسه .يضحكنا
يسند إليه من أدوار ومهام ،ال يأتيها يف الغالب كما يأتيها الناس عادة عىل وجه سليم .فإذا دخل أحدهم من الباب
خرج شابلن من النافذة ،وإذا قام أحدهم جلس شابلن أو افتعل سقطة غري إرادية .السقوط والصالبة اآللية واملطاردة والركض السريع والتدحرج والدوران بصفة مستمرة ،وغريها
من الحركات التي تظهر اإلنسان يف أوضاع غريبة ،تمثل نماذج للحاالت املميزة لطابع املُضحك عند شابلن .منطق شابلن يف عرض املشاهد هو إظهارها بال منطق ،معكوسة ومقلوبة،
شابلن يسري دائمً ا عكس التيار ،وحني يبادر إىل فعل ما أو أداء دور ما ،فإن ذلك يصدر عنه بال عقل أو تفكري ،وأعماله يف سائر
أفالمه قائمة عىل مبدأ عدم التدبري ،كأنه يقول لنا :إن التدبري السليم لألشياء يف مكان آخر غري هذا؛ إنه يحثنا عىل إعمال
الذهن ليك نفهم أفكاره ،ونرتبها حتى نراها يف مرآتها السليمة الصحيحة التي ينبغي أن تظهر عليها يف الواقع ،ال يف صورتها
املعكوسة املشوهة.
175
شابلن حالة خاصة بين الفنانين ،فالتوتر والقلق يظالن مالزمين له في كل عرض تمهيدي أو افتتاحي جديدين ألحد أفالمه ،إذ يحدثنا عما يحسه من قلق وما ينتابه من سخط وغضب على الناس والعالم من حوله ،في أثناء وجوده في إحدى هذه اللحظات الحرجة التي يمقتها، ًّ شاقا يبدو فيه َك َم ْن تحديا من ناحية كونها تشكل له ً عسيرا يجتاز امتحا ًنا ً
فنون
كتابات اجتماعية وسياسية ودينية وتعليقات تخص الحب والقبيلة
ج ــدران الخليج فضاء لهيمنة
الغرافيتي رنا الجربوع
176
كاتبة وسينمائية سعودية
نستطيع أن نرى مدى تأثير النمو والتحديث السريعين في دول الخليج من خالل النظر إلى الثقافة البصرية والخطاب الحضري اللذين يظهران في الكتابة على الجدران .ومع ذلك فإن العثور على الغرافيتي في الخليج يشكل تحد ًيا كبيرًا .فهناك القليل من المباني التي أصبحت لوحات للفنانين وكتاب الغرافيتي ،وفي الغالب توجد في القرى القديمة في البحرين ،أو بين الهياكل والبنايات المهجورة والمتناثرة بعد الغزو في الكويت ،أو بمدينة القطيف في المنطقة الشرقية في السعودية .قلة المساحات العامة في الهواء الطلق يستغرق منا السير لمسافات طويلة ً بحثا عن مجرد تعبير أو رسمة. ليس لغ ًزا أن مثل هذه البلدان الغنية بالنفط تفتقر
واملراقبة يلعبان أدوارهما ً أيضا .ولكن عىل الجدران البيضاء
املساحات الخضراء واألزقة املظللة ،وبالتايل يوجد ترابط
بصماتهم. ً جدران السعودية والبحرين ال تمانع بعضا من التعليق
للمساحات العامة واالجتماعية .فهناك عدد قليل من محدود بني شوارعها .هذه الدول تتيح مساحات معزولة
مثل املوالت واملراكز التجارية التي غالبًا تستلزم قيادة السيارة
للوصول إليها .باستثناء مرتو دبي الذي افتتح قبل سنوات معدودة ،فسوء وسائل النقل العام يف املدن الخليجية يسبب االعتماد املفرط عىل املركبات .عدم وجود ثقافة غرافيتي غنية
ومندمجة يعكس انعدام النظام البيئي الحضري للمساحات ّ تقل العالقات والنشاطات يف العامة واالجتماعية؛ لذلك
الهواء الطلق .أصبح الغرافيتي يقتصر عىل القرى واملناطق السكنية حيث يوجد إحساس باالنتماء للمجتمع .الرقابة العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
النظيفة يف مدن الواحات الحديثة هناك أشخاص تركوا
االجتماعي والسيايس ولكن الجزء املريئ األكرب للدين، والحب ،والشعر ،وكلمات القصائد ،ورموز القبلية، والوطنية أو الحنني لوطن ما ،وكرة القدم ،والرموز الرقمية
(مثل :أرقام pinالبالك بريي ،وأسماء املستخدمني يف
التواصل االجتماعي) .كل هذه املوضوعات تبدو أنها هيمنت
عىل ثقافة الغرافيتي يف هذه املدن.
هذه الصور عينة من أرشيف مستمر لتوثيق الغرافيتي يف
البلدان العربية من ٢٠٠٧م حتى اآلن.
الكويت الغرافيتي يف الكويت مشتت عرب املدينة ذات الجماليات واألغراض املتعددة ،وتراوح بني فن البوب والفن النائش إىل السياسية مثل كتابات البدون التي تطالب باملواطنة .لكن الغرافيتي يف املساحات التي توجد فيها بقايا الحرب ما زال مهيم ًنا عىل هذا النطاق.
177
التصلية «اللهم ِّ صل عىل محمد وعىل آل محمد» – سار ،البحرين القرى البحرينية غنية بالغرافيتي؛ من آيات قرآنية ،ألدعية وأقوال دينية ،تظهر اإلحساس باالنتماء والذاكرة الجماعية للمجتمع.
«رحم الله جنود الوطن» – أبوظبي، اإلمارات الغرافيتي نادر يف أبوظبي ويف اإلمارات بشكل عام ،بصرف النظر عن الكاتب الشهري يف دبي «أركاديا بالنك» .ومع ذلك هناك عالمات وكتابات مخبأة بني األزقة هنا وهناك مثل كتابات تتعلق بالهجولة أو الشهادة «ال إله إال الله» املرتجمة باإلنجليزية .هذه العبارة توجد عىل طريق رئيس متجه نحو جزيرة سعديات ،ومن املفرتض أنه يشري إىل الحرب املستمرة يف اليمن.
فنون
«فيفتي سنت» – ضواحي الدوحة ،قطر يف ضواحي الدوحة واملناطق التي تسكنها العمالة الوافدة توجد كتابات تؤكد الهوية العرقية لدى الكاتب« .البلوش» هم إحدى القوميات املهيمنة عىل جدران الدوحة رغم أن عمان واإلمارات مأهولتان بالبلوشيني أكرث من قطر. «فيفتي سنت» (مغني الراب) محبوب هنا تماشيًا مع الكثري من أيقونات «الهيب هوب» يف الغرب املشهورين يف مدن الخليج مثل توباك وسنوب.
178
«عمان نبض واحد» – قنتب ،عمان بعض من الغرافيتي املستوحى من الغرب يوجد يف أزقة مسقط وضواحيها ،وهو ضمن قلة من الكتابات التي يمكن العثور عليها يف عمان. «عمان نبض واحد» عبارة شائعة مكتوبة عىل الصخور والزوارق.
«انتهيت ملا هويت» – الرياض ،السعودية الحب شائع عىل كل جدران العالم ،لكن الحب يف السعودية يقال بأنه «عذاب».
العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
جدران الخليج فضاء لهيمنة الغرافيتي
«الكويت حرة» «تحيا الكويت» – الكويت يف عاصمة الكويت ،كثري من املباين والبيوت املهجورة من الغزو العراقي عام ١٩٩٠م؛ أصبحت لوحات لكتاب ورسامي الغرافيتي.
الشارقة ،اإلمارات الغرافيتي يف اإلمارات منتشر أكرث يف املجتمعات املحلية واملغرتبة يف املدن الصغرية ،ومن املوضوعات عىل هذه الجدران :الهيب هوب والدين والتمرد عن طريق استخدام األلفاظ املنافية لآلداب ً تحديدا ليست قصرًا عىل العامة (والنقطة األخرية مدن اإلمارات ،لكن تبدو ظاهرة عاملية بني أوساط املراهقني).
«حربي والوفاء دربي» حائل ،السعودية كتابة العبارات القبلية واملفاخرة باللهجات املحلية هي ممارسة شائعة بني الشباب ،وتمتد إىل بلدان خليجية أخرى .بجانب الرموز الرقمية مثل أرقام «البالك بريي» و«الربوفايالت» عىل مواقع التواصل االجتماعي أو التواصل اإللكرتوين بشكل عام ،هناك رموز تدل عىل القبائل .الحافز ً مضيفا إىل ذلك «أنا من هنا أو هناك» و«تجدين يف العالم االفرتايض». األساس لكاتب الغرافيتي هو إثبات وجوده ليقول« :أنا هنا»،
179
فنون
مسرحي ومفكر ياباني ابتكر طريقة متفردة في تدريب الممثل
تاداشي سوزوكي الطاقة التي تشع في جسد حي
180
العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
عبادة تقال
كاتب ومخرج سوري يقيم في روسيا
تاداشي سوزوكي (1939م) مخرج مسرحي وكاتب وفيلسوف ياباني ،مؤسس طريقة سوزوكي ً شيوعا في أميركا. المتفردة في تدريب الممثل ،وهي واحدة من أكثر طرائق التمثيل واع بجسده ،وذلك من خالل تمارين مستلهمة من تعمل هذه الطريقة على بناء ممثل ٍ المسرح اليوناني ،ومواد فنية تتطلب كمية كبيرة من الطاقة والتركيز ،لنصل إلى نتيجة أن الممثل أسس صار أكثر وعيًا للتعبير الطبيعي ،وبإمكانه بلوغ مستويات عاطفية وفيزيائية أكثر في التمثيلَّ . ويدير شركة سوزوكي «توغا» ،كما قام بتنظيم أول مهرجان ياباني مسرحي عالمي تحت مسمى «مهرجان التوغا» ،الذي استمد التسمية من قرية توغا المتواضعة في أعماق جبال اليابان .كما ّ علم طريقته في مدارس ومسارح حول العالم ،من ضمنها نيويورك وموسكو ،وصاغ نظرياته في عدد من الكتب؛ منها كتابه « طريق التمثيل» الذي صدر عن مجموعة االتصاالت المسرحية في الواليات المتحدة األميركية .إضافة إلى كتب أخرى؛ مثل :الثقافة هي الجسد .قدم مسرحياته الشهيرة؛ مثل: الملك لير ،وسيرانو دو بيرجيراك للفرنسي آدموند روستان ،ومدام دي ساد وغيرها ،في مسارح أميركا وروسيا وكوريا وغيرها من الدول األخرى.
181
تاداشي سوزوكي
فنون
بيرتبورغ،
وغايات املهرجان يف التقارب بني الثقافات ،وتعزيز فكرة الوفاء
عاصمة
الثقافة
الروسية،
سانت-
آليكساندرينسيك ،وقدم مع فرقته عرض «نساء طروادة»،
يف حديثه عن املسرح األوربي ،يؤكد سوزويك أن النصوص
استضافت املخرج الكبري يف الدورة األخرية ملهرجان مسرح لكاتبه املفضل ،املسرحي اإلغريقي الشهري يوربيديس .حالة
فريدة يقدمها لك العرض ،وجبة مسرحية تضع جسدك
وعينيك يف حالة استنفار دائم ،وأنت تتابع مشهدية ال تصادفها إال نادرًا ،عرب ممثلني تقرأ منذ اللحظات األوىل
للعرض مدى انغماسهم يف الحكاية ،وتوافقهم وتناغمهم يف حركات أجسادهم ،وأصواتهم الخارجة من أبعد أعماقهم،
وصمتهم الناطق.
التزام بالعمل الجاد بعد
العرض
قدم
للعادات الوطنية».
الجيدة كانت متوافرة دائمً ا ،واتجهت النية إلنتاجها باستمرار،
«ولكن ما يتعلق بطريقة استخدام املمثل لكامل جسده،
فإن هذا لم يتحقق حتى أيامنا هذه»؛ لذلك يرى يف لجوئه للمسرحيات اليونانية الرتاجيدية حلاًّ أفضل إليصال تقنية املسرح الياباين التقليدي. أصوات القسوة
يتحدث عن الصعوبة الدرامية ملسرحية «نساء طروادة»، سوزويك
وعن انفعاالت البطل يف لحظة انتظار مصريه القايس، وعن أصوات القسوة والطاقة البسيطة
محاضرة موسعة بحضور عدد كبري
بشكل ال يصدق ،التي تنتقل من الخشبة إىل الصالة ،فيُشحَ ن املُشاهِ د ،وينغمس
من املسرحيني واملهتمني ،وطالب الكليات املسرحية والفنية يف املدينة.
يف الزمن املسرحي القديم .مشكلة املسرح
استقبلهم الرجل بابتسامته الطيبة، ووجهه العميق صم ًتا وصخبًا ،وعينيه
182
املعاصر ،يف رأي سوزويك ،تكمن يف أن
املسرحيني ال يعرفون ما الذي يريدون قوله
املسكونتني بقلق األسئلة الدائم .تحدث
للناس .وهذا ينطبق عىل املسرح يف كل دول
استقرت بأكملها يف قرية بنيت يف أعايل
عىل نفسك كل يوم؟ هذه أسئلة حيوية
سوزويك يف البداية عن فرقته التي
العالم« ،ملاذا تحرك الجسد؟ ملاذا تعمل
الجبال ،يف بيئة تعزز التدريب الفعال
يجب أن تفرض نفسها باستمرار».
بالحافالت لحضور العروض« :أعمل
بفنون الشاشة ،قال :إن األمر بشكل عام
حسب طريقته ،وكان املتفرجون يأتون
يف جوابه عن سؤال بخصوص عالقته
مع أشخاص يؤمنون بأفكاري كمخرج
ممتع بالنسبة له ،لكن ليس فيما يتعلق
وفنان مسرحي ،وضمن هذه العالقة يمكنك أن تسمي مركزي مدرسة أو
باألفالم الدرامية ،بل الوثائقية ،فهو ال
يستطيع أال يهتم بكادر يعرض الحرب يف
حتى حزبًا .ال يهمني كثريًا ما يقوم به ممثلو فرقتي يف حياتهم
مكان ما من العالم ،أو يلتقط النقاط الساخنة عىل مسرح
يهمني هو التزامهم بالتمرين والعمل الجاد».
لكنه ال يحب عرض مشاهد سينمائية عىل الخشبة « ،أنا
الخاصة ،ال أهتم إن كانت لهم عائالت صغرية أو كبرية .كل ما
حياتنا ،كما أنه عىل عالقة جيدة مع الكمبيوتر والغرافيك.
بهذا االنضباط الياباين ،يتحدث الرجل عن عالقته بأفراد فرقته ،مثل مدرب صارم يقدم طريقةُ ،تدرَّس لسنوات،
بالنسبة يل هو الطاقة .تلك الطاقة التي تشع يف الكائن الحي.
الدفاع عن النفس ،ورقص الباليه التقليدي واملعاصر« ،يمكن
ً شخصا أو الشخص ال أكرث .يف وقت التمارين عليك أن تراقب
فيها إضافة إىل كل العناصر املوجودة يف املسرح ،اليوغا ،وفن مقارنة املوضوع بأي رياضة من الرياضات .فاملدرب يحتاج إىل
عدة سنوات حتى يفهم العبيه ،ويعرف مؤهالت كل منهم، ليقرر من سيكون بطلاً ،ومن لم يخلق لذلك ،ومن هو القادر
مغرم باإلنسان ،وهو ما يجعلني مخرجً ا مسرحيًّا ،وأهم يشء
هذا ما يسمى الطاقة الحيوانية .أما عىل الشاشة فأنت ترى ظل
عددًا محددًا من األشخاص ،لثماين ساعات متتالية أو عشر. هذا هو عميل».
ينهي تادايش سوزويك لقاءه املمتع مع مسرحيي املدينة،
عىل تسجيل رقم قيايس ،ومن سيبقى دائمً ا يف حدود معينة.
وعشاق خشباتها ،باالعرتاف بأنه يعيش يف قلق دائم ،لم
أصحاب األرقام القياسية والبطوالت ،وأنا فخور لرؤيتهم عىل
أبدً ا :هل أصنع كل يشء بطريقة خاطئة؟ أم ربما ليست لديّ
هكذا جئت إىل مدينة سانت -بيرتبورغ مع نجوم مسرحي،
مسرح آليكساندرينسيك ،وهو األمر الذي يتوافق مع أهداف العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -إبريل 2017م
يتوقف يومً ا ولن يتوقف ،وأن أسئلة من هذا النوع ،ال تفارقه املوهبة الكافية!
مقال
طالل سلمان كاتب وصحافي لبناني
ما يشغلني بعد « ..وتسألني :ماذا يشغلني بعد «السفير»؟
يشغلني ما كان يشغلني قبل «السفير» ،وخالل دهر
إصدارها .بل ما قبل إصدارها واالستمرار في تحمل أعباء هذا
اإلصدار ،وكل ما اتصل به ونتج عنه من فرح وإحساس ممتع بأننا قد حاولنا ونجحنا في التعبير عن ضمير الناس وفي رفع
صوت الذين ال صوت لهم ،كما في خدمة قضايا أمّ تنا بكل ما نستطيع من جهد وما نملك من خبرة وما يعمر قلوبنا
ووجداننا من إيمان.
لقد اجتهدنا ،زمالئي وأنا ،في أن نخدم قضايا أمّ تنا ً انطالقا من بيروت -األميرة ،كتاب في وطننا العربي الكبير،
العرب ومنتداهم الفكري ،جامعتهم ودار ضيافتهم وصحيفة
184
الصباح ...عبَّرنا عن ضمير الناس ،وعن طموحهم إلى التحرر وتحرير إرادتهم بعد أرضهم ،وبناء غدهم األفضل ،وعن
شوقهم إلى التقدم ولعب دورهم الثابت والمؤكد تاريخيًّا في
خدمة قضايا اإلنسان وحقوقه. َّ حاولنا بقدر الطاقة أن نؤ ِّكد المؤكد في هوية لبنان
»
يراها –إذا ما مورست بكفاءة معززة بالضمير -واحدة من أشرف مجاالت خدمة اإلنسان وقضاياه المُ حِ ّقة ،بدءً ا بتحرير األرض واإلرادة ،وصولاً إلى حقه في بناء مستقبله األفضل بجهده وعرق الجبين ،بطلب العلم واالستزادة منه -وهو
البحر البالحدود– من أجل خدمة مجتمعه ،وتأكيد جدارة هذا اإلنسان العربي -فضلاً عن حقه– ببناء مستقبله األفضل.
ومع التواضع فإنني أفترض أن تجربتي الشخصية ّ ً خصوصا أنها تمَّ ت عبر المخاض تستحق أن ُتروى، والمهنية العظيم الذي عاشته األمة العربية ،بمختلف أقطارها ،وهي
تحاول انتزاع حقها في الحياة الحرة الكريمة فوق أرضها
المستقلة من غاصبي ذلك الحق وهادري كرامتها على امتداد أجيال.
لقد عشت في قلب األحداث تجربة عريضة عرفت خاللها
معظم األقطار العربية ،بشعوبها والتضحيات الغالية التي
تكبدتها من أجل الكرامة واالستقالل واستعادة قرارها الحر...
عرفت العديد من القيادات السياسية ،بعضها رجع إلى
العربية ،وفي دوره وإسهامه الثابت في النهوض العربي،
ربه ،وبعضها اآلخر ما زال حيًّا .عرفت مئات من المبدعين
المجال :صحيفة العرب ،كأمة ذات تاريخ مضيء ،وذات حق
وممثالت ومخرجين ،مطربين ومطربات سكنوا ضمائرنا
الناس المعبِّر عن ضميرهم ،حاملة راية حقوقهم في وطنهم
من اليمن السعيد إلى المغرب األقصى ،مرورًا بالعراق
فكريًّا وثقافيًّا ،وأن تكون «السفير» شهادة جدارة في هذا
ثابت في اإلسهام في الحضارة اإلنسانية ،وأن تكون صوت
وهم بُناته وحماته والمساهمون في صناعة دوره الحضاري إنني ،بداية وانتهاء ،صاحب قلم ،وصاحب تجربة
عريضة في عالم الصحافة ،وقبل ذلك وبعده صاحب قضية
مشرفة ،وحامل أوجاع مُ مِ ّ ضة نتيجة الخيبات وتهاوي اآلمال
قبل األحالم وبعدها ..فلقد عشت ،مع أبناء جيلي نمدّ أيدينا ونقطف النجوم ،نتطلع إلى الوحدة العربية فنراها في مدى
أذرعتنا ،وإلى التقدم فنراه حقنا الذي يمكننا أن نحققه
بسواعدنا مع عقولنا وجهدنا ،وإلى التحرر الكامل بعنوان
تحرير فلسطين من مستعمرها ومسترهن إرادتنا االحتالل الصهيوني المع َّزز بالدعم الدولي المفتوح.
وبالتأكيد فإن تاريخي هو أول ما يشغلني ،كصاحب قلم
وصاحب تجربة عريضة أمضى أكثر من ثلثي عمره في مهنة
العددان 486 - 485جمادى اآلخرة -رجب 1438هـ /مارس -أبريل 2017م
والمثقفين ،شعراء وكتابًا ،باحثين ومفكرين ،ممثلين
وأغنوا وجداننا .وعرفت البالد العربية بأهلها الفقراء الطيبين وأقطار الجزيرة العربية وسوريا ومصر التي علمتنا وأرشدتنا
إلى الطريق ،ومعها ليبيا وتونس والجزائر نشيد نضالنا الذي لن يهدأ ولن يتوقف حتى تحقيق أماني األمة المجيدة التي تستحق حياة أفضل ودورًا يليق بتاريخها. ٭٭٭
أتمنى أن يكرمني الله بشيء من العمر يتيح لي أن أروي
تجربتي لعلها تفيد زمالئي وإخواني الذين يصرون على أن
يجدوا مستقبلهم األفضل في مهنة البحث عن المتاعب، إحدى ركائز الغد األفضل.
وشك ًرا لمجلة «الفيصل» التي نحتفظ بذكرى صاحب
الفضل في اسمها ،في قلوبنا ،على استضافتها لي ألكتب هذه الكلمات.
King Faisal Foundation
(+ 96611)4656524 :¢ù``cÉa (+96611)4652255 :∞JÉ``g á`` ` ` ` jOƒ`©` `°ù`dG á`` ` ` «Hô`` ©` dG á`` ` ` ` µ` ∏ª`ŸG 11411 :¢VÉ`` `jô``dG 352 :Ü .¢U
P.O.Box 352 Riyadh 11411 Kingdom of Saudi Arabia Tel: (+966 11) 4652255 Fax: (+966 11) 4656524
www.kff.com