Issuu485:486مجلة الفيصل

Page 1

‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬

‫ال تقرأ القصائد ‪..‬‬

‫اقرأ جدول القطارات‬

‫طالل سلمان‪:‬‬ ‫ما يشغلني بعد «السفير»‬ ‫الطيب تيزيني‪ :‬القاتل‬ ‫الذي أنتج داعش هو الغرب‬

‫تودوروف‪ ..‬الذاكرة‬ ‫تهزم العدم‬ ‫‪www.alfaisalmag.com‬‬

‫األدب الروسي‬ ‫وحكام الكرملين‬


‫‪www.kfcris.com‬‬

‫اﻟﺒﺤﻮث واﻟﺪراﺳﺎت‬

‫اﻟﻤﺤﺎﺿﺮات واﻟﻨﺪوات‬

‫‪kfcris@kfcris.com‬‬

‫‪@kfcris_sa‬‬

‫اﻟﻤﻜﺘﺒﺔ‬

‫اﻟﻤﺘﺎﺣﻒ‬

‫‪kfcris_sa‬‬

‫‪KFCRISKSA‬‬

‫اﻟﺘﺪرﻳﺐ‬

‫‪KFCRIS‬‬

‫اﻟﻜﺘﺐ واﻹﺻﺪارات‬

‫ص ب‪ ٥١٠٤٩ :‬اﻟﺮﻳﺎض ‪ ١١٥٤٣‬اﳌﻤﻠﻜﺔ اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ اﻟﺴﻌﻮدﻳﺔ ﻫﺎﺗﻒ‪ ٠٠٩٦٦ ١١ ٤٦٥٢٢٥٥ :‬ﻓﺎﻛﺲ‪٠٠٩٦٦ ١١ ٤٦٥٩٩٩٣ :‬‬ ‫‪Fax: 00966 11 4659993‬‬

‫‪Tel: 00966 11 4652255‬‬

‫‪P.O. Box 51049 Riyadh 11543 Kingdom of Saudi Arabia‬‬

‫اﻟﺸﺆون اﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ‬


‫«‬ ‫ﺗﺠﻮل ﻓﻲ ﻣﻮﻗﻊ »‬ ‫ﻣﻘﺎﻻت ﻟﻨﺨﺒﺔ ﻣﻦ أﻫﻢ اﻟﻜﺘﺎب‬ ‫ﻣﻠﻔﺎت وﺗﺤﻘﻴﻘﺎت وﻗﻀﺎﻳﺎ ﻋﻦ اﻟﺮاﻫﻦ اﻟﺜﻘﺎﻓﻲ واﻟﺴﻴﺎﺳﻲ‬ ‫ﻣﻊ إﻃﻼﻟﺔ ﻋﻠﻰ اﻹﺑﺪاع ﻓﻲ ﻣﺨﺘﻠﻒ اﻟﻔﻨﻮن‬

‫‪@alfaisalmag‬‬ ‫‪alfaisalmag‬‬ ‫‪alfaisalmag‬‬ ‫ﻣﺠﻠﺔ اﻟﻔﻴﺼﻞ‬

‫‪alfaisalmag.com‬‬

‫‪editorial@alfaisalmag.com‬‬

‫‪+966 11 4647851 :¢ùcÉa +966 11 4653027 :∞JÉg ájOƒ©°ùdG á«Hô©dG áµ∏ªŸG 11411 ¢VÉjôdG 3 Ü ¢U‬‬


‫يصدرها‬

‫أسسها عام ‪1397‬هـ‪1977/‬م‬

‫األمير خالد الفيصل‬

‫العددان‬

‫‪486-485‬‬

‫كتاب الفيصل ‪15‬‬

‫‪2‬‬ ‫الملف‬

‫اقرأ جدول القطارات‬

‫‪64 16‬‬

‫فيصل دراج‬ ‫وتبدل األزمنة)‬ ‫(السرعة والمسافة‬ ‫ّ‬ ‫عبدالقادر الجنابي‬ ‫اسمها رغبة)‬ ‫(القطارات كلها‬ ‫ُ‬ ‫حسونة المصباحي‬ ‫(القطار في األدب األلماني)‬ ‫زياد عبدالله‬ ‫(سكك حديدية تفضي إلى محطات سينمائية)‬ ‫صبحي موسى‬ ‫(أساطير على هامش يوميات مترو القاهرة)‬ ‫مشاري النعيم‬ ‫(المترو‪..‬تحوالت ثقافية في العمران والمجتمع)‬ ‫هدى الدغفق‬ ‫(انتبهي! ال تركبي في عربة العمال)‬ ‫مترو الرياض‪ ..‬في المتخيل الروائي السعودي‬

‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬


‫الناشر‬

‫رئيس مجلس اإلدارة‬

‫األمير تركي الفيصل‬

‫رئيس التحرير‬

‫الثقافية‬

‫دار‬

‫دراسات‬

‫‪editorinchief@alfaisalmag.com‬‬

‫بورتريه‬

‫الظاهرة الداعشية‬ ‫(هاشم صالح)‬

‫صفية بن زقر‬

‫‪66‬‬

‫يعيب المثقفون الغربيون على تيار اإلسالم السياسي‬ ‫المتطرف أنه يحجر على العقول‪ ،‬ويقيد حرية التعبير‪،‬‬ ‫ويالحق المثقفين والفنانين‪ .‬بل قد يعتدي عليهم جسديًّا‪...‬‬ ‫ويعيبون على اإلخوان المسلمين تلك النزعة التوتاليتارية في‬ ‫تفسيرهم االنغالقي المتزمت لإلسالم متجاهلين سماحته‬ ‫ورحمته وشفقته على كل مخلوقات الله‪.‬‬

‫‪80‬‬

‫(محمد العامري)‬

‫الفنانة «صفية بن زقر» التي ك َّرمها خادم الحرمين‬ ‫الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز بوسام الملك‬ ‫عبدالعزيز من الدرجة األولى في مهرجان الجنادرية مطلع‬ ‫فبراير المنصرم‪ ،‬استطاعت تجاوُز تلك الظروف الصعبة‪،‬‬ ‫لتتحيز لهواجسها الفنية‪ ،‬وتفتح عبر ريادتها نافذة كبيرة‬ ‫لممارسة الرسم والتلوين‪.‬‬

‫ثقافات‬

‫فضاءات‬

‫وتبدل األزمنة‬ ‫مقاهي القاهرة‬ ‫ّ‬

‫ليلى سليماني‪ :‬مجرد كوننا نساء‬ ‫يجعلنا ضحايا‬

‫ماجد الحجيالن‬

‫(محمد اإلدريسي)‬

‫‪120‬‬

‫مع صدور روايتها الطويلة الثانية المستوحاة من األحداث‬ ‫المأساوية لمدينة نيويورك‪ ،‬تشرح الكاتبة المغربية ليلى‬ ‫سليماني للقراء النسق الشرطي لعالقات األبوة‪ -‬المربية‪.‬‬ ‫في هذا الحوار الذي أجراه معها موقع «هفنغتون بوست»‬ ‫قبل تتويجها بجائزة الغونكور بأيام قليلة ونشر يوم التتويج‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أحيانا‬ ‫أحيانا و«المثيرة»‬ ‫تتحدث عن روايتها «المخيفة»‬ ‫أخرى «أغنية هادئة» التي حازت الجائزة‪.‬‬

‫‪142‬‬

‫ليس بدافع البحث عن مأوى (سعيد الكفراوى)‬

‫لكل كاتب حسه باألماكن‪ ،‬يصغي لحديثها وذكرياتها‪،‬‬ ‫ويستدعيها!!‬ ‫ً‬ ‫بعضا من تاريخ الوطن‬ ‫والمقهى في كل تجلياته يمثل‬ ‫الوجداني‪ .‬أندهش وأنا أقلب صفحات من زمن مضى‪ ،‬وأتأمل‬ ‫جوهر المكان‪ ،‬وصفحات روّاده‪ ،‬ودوره المتميز في تكوين‬ ‫ذاكرة الوطن السياسية واالجتماعية والثقافية‪ ،‬واالحتفاظ‬ ‫في أحيان كثيرة بمجريات األمور ولو من كل عام يوم!!‬

‫‪3‬‬


‫كتب‬

‫سينما‬

‫محمد ملص‪ :‬عثرات التجربة ال تعود للسينما‬ ‫إنما لكل أشكال القمع‬

‫(عبدالكريم قادري)‬

‫معراج نون النسوة في«الغزلية الكبرى»‬

‫‪166‬‬

‫يتحدث المخرج السوري الكبير محمد ملص لـ«الفيصل»‪،‬‬ ‫عن أهم المحطات التي ميّزت تجاربه السينمائية‪ ،‬وعن‬ ‫ً‬ ‫إطالقا‬ ‫عثراتها ومنعطفاتها وانكساراتها التي ال تعود للسينما‬ ‫حسب قوله‪ ،‬بل لكل أشكال القمع التي واجهها رفقة جيل‬ ‫كامل من السينمائيين‪.‬‬

‫‪136‬‬

‫ُ‬ ‫الغزلية الكبرى‪ :‬عنوانٌ يُفاقمُ مسألة الزمن حضورًا في مواجهة‬ ‫بغزل‬ ‫َن ْفس ِه ماضيًا‪ ،‬عنوانٌ يبدو ظاهريًّا من الجاهلي ِة لكن م ّتحدً ا‬ ‫ٍ‬ ‫أكبر ًآنا حاض ًرا‪ ،‬هذه ليست إال وشاية يشي بها سليم بركات‬ ‫َنفس ُه عن كتاب ِه هو‪ .‬لكن ما أن يتم الغوص في بحر ومتن هذه‬ ‫الغزلية‪ ،‬حينها‪ُ ،‬ن ُ‬ ‫درك أيّ فخ نصبه سليم للقارئ كتابهِ‪.‬‬ ‫فهد حسين‬

‫قضايا‬

‫‪4‬‬

‫لسليم بركات‬

‫(غمكين مراد)‬

‫أين األدب الروسي اليوم؟‬ ‫ً‬ ‫شيوعا فيما يخص حضور‬ ‫لعل واحدً ا من أكثر األسئلة‬ ‫اآلداب العالمية والتواصل معها عربيًّا‪ ،‬هو‪ :‬أين األدب‬ ‫الروسي اليوم؟ لماذا لم نعد نقرأ أعمالاً ُ‬ ‫لكتاب جدد‬ ‫يختلفون في حساسياتهم وفي رؤاهم عن تلك النخبة من‬ ‫األسماء التي اكتسحت أعمالها المشهد األدبي العربي‬ ‫عقودًا‪ ،‬وأثرت فيه على نحو عميق؟‬

‫العريفي‪ ..‬يلجأ إلى الرواية‬

‫مقاالت‬

‫‪98‬‬

‫علي نوري زاده‬ ‫ارتياح السید برحیل الشیخ‬

‫‪108‬‬

‫عالية ممدوح‬ ‫نزيه خاطر‪ :‬جمهورية األعداء‬

‫‪118‬‬

‫حسن النعمي‬ ‫الشعراء القصاص من الغناء إلى المحاورة‬

‫‪128‬‬

‫رشيد بوطيب‬ ‫االقتصاد على سرير فرويد‬

‫‪138‬‬

‫نادر كاظم‬ ‫«تزفيتان تودوروف»‬

‫‪152‬‬

‫ريتا فرج‬ ‫النسوية اإلسالمية والمساواة‬

‫‪157‬‬

‫طالل سلمان‬

‫‪82‬‬ ‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬

‫مايشغلني بعد «السفير»‬

‫‪184‬‬


‫نصوص‬

‫‪65‬‬ ‫‪71‬‬ ‫‪111‬‬ ‫‪117‬‬

‫سعد الخشرمي‬ ‫قصائد‬ ‫محمد الحسيني‬ ‫األلم على المرآة‬ ‫ُ‬

‫أحمد زين‬

‫رحاب أبو زيد‬ ‫عام النزوح‬ ‫أحمد يوسف‬

‫اإلخراج‬

‫ينال إسحق‬

‫الرحيل‬

‫في هذا العدد‬

‫«خرز الوقت»لعلي الدميني (رضا عطية)‪72 ............................‬‬ ‫«شذرة نقدية» (شاكر لعيبي)‪76 .............................................‬‬ ‫حوار مع الطيب تيزيني (سامر إسماعيل)‪100 ..........................‬‬ ‫أبرز مشكالت الناشرين في معارض الكتب‪112 ..........................‬‬ ‫كتاب سعوديون يطالبون باالنفتاح‪ ( ...‬صالح العوض)‪115 .......‬‬ ‫خمس سنوات على رحيل شيمبورسكا (عماد أبو صالح)‪124 .......‬‬ ‫إصدارات‪130 ......................................................................................‬‬ ‫التمثل الثقافي‪( ..‬محمود قرني)‪132 ........................................‬‬ ‫الدولة مهما عظمت مجرد عقدة (محمد الحمامصي)‪134 .....‬‬ ‫بين كتابة المفكرات والصورة (ربيع ردمان)‪146 ..........................‬‬ ‫تجربة الهايكو في األحواز (سالم الكعبي)‪150 ........................‬‬ ‫تراثنا ليس لنا (نذير الماجد)‪154 ....................................................‬‬ ‫نهاية التلفزيون التقليدي (نصر الدين لعياضي)‪162 ...............‬‬ ‫مفارقات المضحك لدى شابلن (عادل آيت أزكاغ)‪172 ................‬‬ ‫جـدران الخليج والغرافيتي (رنا الجربوع)‪176 ...............................‬‬ ‫تاداشي سوزوكي (عبادة تقال)‪180 ............................................‬‬ ‫االشتراك السنوي‬ ‫‪ 100‬ريال سعودي لألفراد‪ 250 ،‬اً‬ ‫ريال سعوديًّا للمؤسسات‪ ،‬أو ما يعادلهما بالــدوالر األمـيـركــي‬ ‫خـــارج المملـكــة العربية السعودية‪.‬‬ ‫السعر اإلفرادي‪ :‬السعــوديـــة ‪ 10‬ريـــاالت‪ ،‬اإلمــــارات ‪ 10‬دراهم‪ ،‬قطر ‪ 10‬رياالت‪ ،‬البحرين دينار‬ ‫فلسا‪ ،‬مصر ‪ 4‬جنيهات‪ ،‬المغرب ‪ 10‬دراهم‪.‬‬ ‫واحد‪ ،‬األردن ‪750‬‬ ‫ً‬ ‫الموزعون‬ ‫مصر‪ ،‬مؤسسة توزيع األهرام‪ ،‬شارع الجالء‪ ،‬هاتف‪ ،7704365 - 5796997 :‬فاكس‪:‬‬ ‫‪ ،00202 7703196‬قطـر‪ ،‬دار الشرق للطباعة والنشر والتوزيع‪ ،‬ص‪.‬ب ‪ ،3488‬هاتف‬ ‫‪ ،44557809‬فاكس‪ ،00974 44557819 :‬األردن‪ ،‬شركة وكالة التوزيع األردنية‪ ،‬ص‪.‬ب ‪،3371‬‬ ‫هاتف‪ ،65358855 :‬فاكس‪ ،00962 65337733 :‬البحرين‪ ،‬مؤسسة الهالل لتوزيع الصحف‪،‬‬ ‫ص‪ .‬ب ‪ ،8005‬هاتف‪ ،17480800 :‬فاكس‪ ،00973 17480818 :‬اإلمارات العربية المتحدة‪ ،‬مكتبة‬ ‫دار الحكمة‪ ،‬ص‪.‬ب ‪ ،2007‬هاتف‪ ،42665396 :‬فاكس‪ ،00971 42669827 :‬المغرب‪ ،‬الشركة‬ ‫الشريفية لتوزيع الصحف‪ ،‬ص‪.‬ب ‪ ،13683‬هاتف‪ ،2400223 :‬فاكس‪00212 2246249 :‬‬ ‫التوزيع داخل المملكة‬ ‫الشركة الوطنية الموحدة للتوزيع‬ ‫هاتـــــف‪ )011( 4871414 :‬فاكس‪)011( 4871460 :‬‬

‫مدير التحرير‬

‫التنفيذ‬

‫رياض دفدوف‬ ‫مبارك علي‬ ‫الموقع اإللكتروني‬

‫معتز عبدالماجد‬ ‫التدقيق والمراجعة اللغوية‬

‫عبدالله الدوسري‬ ‫محمد نصير سيد‬ ‫االشتراكات والتوزيع‬

‫جعفر عبدالرحمن‬ ‫‪ -)+966(11٤٦٥٢٢٥٥‬تحويلة‪6640 :‬‬ ‫‪subscriptions@alfaisalmag.com‬‬

‫مراسالت التحرير‬ ‫‪editorial@alfaisalmag.com‬‬ ‫مراسالت اإلدارة‬ ‫ص‪.‬ب (‪ )3‬الرياض ‪11411‬‬ ‫المملكة العربية السعودية‬ ‫هاتف المجلة ‪)+966( 11٤٦٥3027:‬‬ ‫فاكس‪)+966( 11٤٦٤٧٨٥١ :‬‬ ‫‪contact@alfaisalmag.com‬‬ ‫اإلعالنات‬ ‫هاتف‪)+966( 11٤٦٤٧٨٥١ :‬‬ ‫‪advertising@alfaisalmag.com‬‬

‫‪5‬‬


‫المركز‬

‫الملك سلمان في مقدمة الفائزين‬ ‫بجائزة الملك فيصل العالمية‬

‫‪6‬‬ ‫عبدالعزيز السبيل واألمير خالد الفيصل في أثناء اإلعالن عن الفائزين بالجائزة‬

‫أعلن رئيس هيئة جائزة الملك فيصل العالمية األمير خالد‬

‫الفيصل فوز خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز‬ ‫بالجائزة في فرع خدمة اإلسالم‪ ،‬وذلك لعنايته بخدمة الحرمين‬

‫الشريفين وقاصديهما‪ ،‬واهتمامه بالسيرة النبوية‪ ،‬ودعمه‬

‫مشروع األطلس التاريخي للسيرة النبوية وتنفيذه بدارة الملك‬ ‫عبدالعزيز‪ ،‬وإنشائه مجمع الملك عبدالعزيز للمكتبات الوقفية‬ ‫بالمدينة المنورة لحفظ التراث العربي واإلسالمي‪ ،‬وسعيه الدائم‬

‫لجمع كلمة العرب والمسلمين لمواجهة الظروف الصعبة التي‬ ‫تمر بها األمة العربية واإلسالمية‪ ،‬ومن ذلك إنشاؤه التحالف‬

‫اإلسالمي العسكري لمحاربة اإلرهاب واستضافة مقره بالرياض‪،‬‬ ‫وإنشاؤه مركز الملك سلمان لإلغاثة واألعمال اإلنسانية ودعمه‬

‫بسخاء ليقدم العون للشعوب العربية واإلسالمية المحتاجة‪.‬‬

‫وتضمن بيان األمانة العامة الذي تاله األمين العام للجائزة‬

‫الدكتور عبدالعزيز السبيل في حفلة اإلعالن عن أسماء الفائزين‬

‫بمركز الخزامى في الرياض في يناير الماضي‪ ،‬وسط حضور‬ ‫ثقافي وفكري وإعالمي كبير‪ ،‬الكشف عن بقية الفائزين في‬

‫فروع الجائزة‪ ،‬ففي فرع الدراسات اإلسالمية فاز الدكتور رضوان‬ ‫السيد‪ ،‬لجمعه في أبحاثه ودراساته بين االطالع الدقيق الواسع‬ ‫على التراث العربي اإلسالمي الفقهي والسياسي‪ ،‬واإلحاطة‬ ‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬

‫بمنهجيات البحث الحديثة‪ ،‬وامتياز بحوثه األكاديمية بمنهجية‬

‫علمية دقيقة ومواءمته المتميزة بين األصول الفكرية السياسية‬ ‫اإلسالمية‪ ،‬والواقع العربي اإلسالمي‪.‬‬

‫أما في فرع اللغة العربية واألدب فقد حصل على الجائزة‬

‫مجمع اللغة العربية بالمملكة األردنية الهاشمية‪ ،‬تقدي ًرا لجهوده‬

‫العلمية المتميزة في ترجمة العلوم والتقنية‪ ،‬ونقل المصطلحات‬

‫العلمية‪ .‬ووضعها في السياق العربي‪ ،‬وإدخال التعريب في‬ ‫التعليم الجامعي في الوطن العربي سعيًا لتوطين العلم والتقنية‪.‬‬

‫وفي فرع الجائزة للطب فاز البروفيسور الياباني تاداميتسو‬ ‫كيشيموتو أستاذ المناعة في مركز فرونتير ألبحاث المناعة‬

‫بجامعة أوساكا اليابان‪ ،‬لدوره الرائد في اكتشاف وتطوير عالج‬ ‫بيولوجي جديد وناجع ألمراض المناعة الذاتية‪ .‬وعمله المتواصل‬ ‫على مدى أكثر من ثالثين سنة َّ‬ ‫تمكن خاللها من اكتشاف إنترلوكين‬

‫(منظم االلتهابات والمناعة) ومستقبالته ومساراته‪.‬‬

‫وفي فرع الجائزة الخامس للعلوم فاز باالشتراك البروفيسور‬

‫دانيل لويس (سويسري) والبروفيسور لورينس مولينكامب‬ ‫(هولندي) لمساهمتهما بدرجة كبيرة في المجال التجريبي لعلم‬

‫دوران اإللكترونات‪ ،‬مما فتح المجال نحو تطوير حواسب قوية‬

‫من حيث سرعتها وقدرتها على تخزين المعلومات‪.‬‬


‫رحيل محمد الفيصل‪ ..‬رائد االقتصاد اإلسالمي‬ ‫صدر عن الديوان الملكي في المملكة العربية‬

‫السعودية بيان ينعي فيه رائد االقتصاد اإلسالمي األمير‬ ‫محمد الفيصل الذي وافته المنية في ‪ 16‬ربيع اآلخر‬ ‫‪1438‬هـ (‪ 14‬يناير ‪2017‬م)‪ ،‬ورثى األمير تركي الفيصل أخاه‬

‫الراحل بمقالة قال فيها‪...« :‬أكثر ما بهرني فيك هو‬ ‫حنانك الذي ضاهى ِك َبرُه كِب َر جسدك‪ .‬فكثيرًا ما فرَّجت‬

‫كربة المحتاج وكثيرًا ما مددت يدك للمعوز‪ ،‬رحمك‬

‫الله أخي محمد‪ .‬مألت حياتنا بكبر أعمالك‪ ،‬وها أنت‬ ‫تلقى من الناس الحب الكبير»‪ ،‬وأضاف‪« :‬بهرتني عندما‬

‫تخرجت من الجامعة كأول حامل شهادة جامعية من‬

‫األمير محمد الفيصل يتوسط أخويه األميرين «خالد» و«تركي»‬

‫َ‬ ‫تسع لوظيفة أعلى على الرغم‬ ‫آل سعود‪ .‬وانبهرت عندما توظفت في مؤسسة النقد على المرتبة التي هيأتها لك شهادتك‪ ،‬ولم‬ ‫من مركزك االجتماعي‪ .‬تدرجت في الوظيفة حتى انتقلت إلى وزارة الزراعة‪ .‬وهناك‪ ،‬بهرتني بالحديث عن طريقة لتحلية مياه البحر‬

‫للشرب وتوليد الكهرباء في آن واحد‪ .‬ثم اعتمدتها الحكومة لتصبح المملكة أكبر منتج للمياه العذبة والكهرباء من مياه البحر‪،‬‬ ‫ووصلت المياه إلى كل أنحاء البالد»‪.‬‬

‫يُعَ ُّد الفقيد أحد أبرز أعالم االقتصاد اإلسالمي ورواده األوائل‪ ،‬فقد أسس شركة دار المال اإلسالمي‪ ،‬وبنك فيصل اإلسالمي‬

‫وفروعه في القاهرة والبحرين والسودان وباكستان‪ ،‬وكان رئيس الهيئة العامة لتحلية المياه المالحة في عهد الملك خالد‪ ،‬كما‬ ‫تولى رئاسة مجلس أمناء مؤسسة الملك فيصل الخيرية بعد رحيل أخيه األمير عبدالله الفيصل رحمه الله‪ ،‬وهو مؤسس مدارس‬

‫المنارات‪ ،‬وعضو مجلس أمناء جامعة عفت‪ ،‬تغمد الله الفقيد بواسع رحمته‪.‬‬

‫األمير تركي الفيصل يستقبل وف ًدا طالب ًّيا من جامعة هارفارد‬

‫األمير تركي الفيصل في صورة تذكارية مع وفد جامعة هارفارد‬

‫استقبل األمير تركي الفيصل ‪-‬رئيس مجلس إدارة مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية‪ -‬في مكتبه بالمركز صباح يوم‬

‫األحد ‪ 10‬ربيع اآلخر ‪1438‬هـ‪ 8 /‬يناير ‪2017‬م وفدًا طالبيًّا من جامعة هارفارد في إطار التعاون بين المركز والجامعة في المجال البحثي وتنظيم‬ ‫ّ‬ ‫التخصصات الدراسية للطالب والطالبات ضمن وفد الجامعة‪ ،‬وتحدّث عن‬ ‫الندوات والمحاضرات وورش العمل‪ ،‬وتع ّرف ‪-‬خالل اللقاء‪-‬‬

‫عالقته الوطيدة بجامعة هارفارد التي زارها عدة مرات‪ ،‬وألقى فيها العديد من المحاضرات في مناسبات مختلفة خالل السنوات الماضية‪،‬‬ ‫ً‬ ‫خصوصا في أثناء عمله سفي ًرا للمملكة لدى الواليات المتحدة األميركية‪ ،‬كما تناول تجربته الدراسية وهو طالب في جامعة جورجتاون‬

‫األميركية‪ .‬وتأتي هذه الزيارة في إطار سعي المركز إلى توثيق أوجه التعاون والعالقات الثنائية مع مختلف الجهات والمؤسسات والمنظمات‬

‫المحلية واإلقليمية والدولية العاملة في مجال البحوث والدراسات اإلستراتيجية إلى جانب التعليم واإلطار األكاديمي‪.‬‬

‫‪7‬‬


‫المركز‬

‫يكرم المفكر رضوان السيد‬ ‫مركز الملك فيصل‬ ‫ّ‬ ‫لحصوله على جائزة الملك فيصل العالمية‬ ‫ك ّرم مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات‬ ‫ّ‬ ‫المفكر اإلسالمي الدكتور رضوان السيد‬ ‫اإلسالمية‬ ‫‪-‬مستشار مفتي الجمهورية اللبنانية‪ ،‬وعضو‬

‫المجلس الشرعي اإلسالمي األعلى‪ ،‬واألستاذ في‬ ‫كلية اآلداب بالجامعة اللبنانية‪ -‬لحصوله على‬

‫جائزة الملك فيصل العالمية «فرع الدراسات‬ ‫اإلسالمية» في دورتها التاسعة والثالثين‪.‬‬

‫ونال الدكتور رضوان السيد الجائزة في‬

‫فرع الدراسات اإلسالمية‪ ،‬وموضوعها‪« :‬الفكر‬

‫السياسي عند المسلمين حتى القرن التاسع‬ ‫الهجري‪ /‬الخامس عشر الميالدي)؛ بسبب ريادته‬ ‫في مجال دراسات الفكر السياسي اإلسالمي في‬

‫رضوان السيد وسعود السرحان‬

‫المرحلة الكالسيكية حسبما ذكرت اللجنة العلمية للجائزة في مسوّغات فوزه بالجائزة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وأكد الدكتور سعود بن صالح السرحان ‪-‬األمين العام للمركز‪ -‬أن تكريم المركز للدكتور رضوان السيد يأتي تقديرًا لجهوده‬

‫‪8‬‬

‫كبير من أنشطة المركز وفعالياته‪ .‬كما شكر الدكتور رضوان السيد القائمين على‬ ‫الفكرية والبحثية‪ ،‬ومشاركاته الثريّة في عد ٍد‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫المركز على جهودهم في الدراسات والبحث العلمي الجاد‪ ،‬مبديًا سعادته بأن يكون فوزه بالجائزة هذا العام مقترنا بنيل خادم‬ ‫َّ‬ ‫وسلم األمين العام للمركز الدكتور رضوان‬ ‫الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز الجائزة في فرع خدمة اإلسالم‪.‬‬ ‫ً‬ ‫السيد ً‬ ‫كبير به من الباحثين في المركز‪.‬‬ ‫درعا‬ ‫تكريمية بهذه المناسبة‪ ،‬وسط احتفاءٍ‬ ‫ٍ‬

‫بهدف إنتاج ونشر سلسلة من الكتب باللغة اإلنجليزية‬

‫المركز يوقع اتفاق تعاون مع «آي بي توريس» العالمية للنشر‬ ‫ّ‬ ‫وقع مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية مؤخ ًرا‬

‫اتفاقية تعاون مع مجموعة (آي بي توريس) للنشر األكاديمي في‬

‫العاصمة البريطانية لندن‪ ،‬وهي إحدى أبرز دور النشر العالمية‬ ‫ّ‬ ‫المتخصصة في شؤون الشرق األوسط والعالمين العربي واإلسالمي‪،‬‬ ‫إلنتاج ونشر سلسلة من الكتب باللغة اإلنجليزية‪.‬‬

‫وتأتي هذه االتفاقية في إطار مبادرة جديدة للتعاون بين المركز‬ ‫ِّ‬ ‫‪-‬ممثلاً المؤسسات البحثية السعودية والعربية‪ -‬ومؤسسات النشر‬

‫الكتب التي تتألف من أوراق المؤتمرات السنوية‪ ،‬ودراسات البحوث‬

‫األكاديمية األخرى للمركز‪.‬‬

‫الدولية مثل (آي بي توريس)‪ ،‬وتتضمن الكتب التي سيتم إصدارها‬

‫وأوضح األمين العام للمركز الدكتور سعود بن صالح السرحان‬

‫الفكرية والقضايا التي تشغل الرأي العام‪ ،‬والكتب المتخصصة في‬

‫والعربية واإلسالمية في مختلف دول العالم‪ ،‬وتوسيع معارف العالم‬

‫باللغة اإلنجليزية بالتعاون مع (آي بي توريس) مختلف الموضوعات‬ ‫الدراسات اإلسالمية والتاريخ اإلسالمي‪ ،‬وكتب التراث واللغة العربية‬ ‫والدراسات المعاصرة وتاريخ الدول‪ ،‬وغيرها‪.‬‬

‫وتنص االتفاقية على إنتاج ونشر (آي بي توريس) سلسلة من‬

‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬

‫أن المركز يسعى من خالل هذه المبادرة إلى نشر الثقافة السعودية‬ ‫الغربي عن المملكة‪ ،‬وتوثيق أوجه التعاون والعالقات الثنائية مع‬

‫مختلف المؤسسات والمنظمات المحلية واإلقليمية والدولية العاملة‬ ‫في مجاالت البحوث والدراسات اإلستراتيجية والنشر األكاديمي‪.‬‬


‫كاريكاتير‬


‫فعاليات‬

‫الذييب أوضح أن تغير الطقس وراء الهجرات‬

‫الصويان‪ :‬الموسيقا كانت منتشرة‬ ‫بين سكان الجزيرة‬

‫‪10‬‬

‫سعد الصويان‬

‫صالح العوض‬ ‫عقد مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات‬

‫اإلسالمية ندوة عن األنشطة اإلنسانية والثقافية في الجزيرة‬

‫العربية‪ ،‬في منتصف يناير الماضي‪ ،‬وشارك فيها الباحث‬ ‫في حضارة شبه الجزيرة العربية وآثارها الدكتور سليمان‬

‫الذييب‪ ،‬والباحث في اإلرث الثقافي والحضاري لشبه الجزيرة‬

‫العربية الدكتور سعد الصويان‪ .‬وفي الندوة التي أقيمت في‬ ‫قاعة المحاضرات بمعهد الفيصل‪ ،‬وشهدت حضور باحثين‬

‫ومهتمين‪ ،‬أوجز الدكتور الذييب تاريخ بداية االهتمام بعلم‬ ‫اآلثار في المملكة؛ إذ ذكر أن عهد الملك فيصل شهد اهتمامً ا‬

‫باآلثار والتنقيب عنها‪ ،‬وأن عدد البعثات بلغ حاليًّا ‪ 30‬بعثة‬ ‫تضم باحثين أجانب‪ ،‬إضافة إلى باحثين سعوديين‪ ،‬مشي ًرا‬

‫إلى أن هذه البعثات تحظى باالهتمام ويوفر لها اإلمكانات من‬ ‫الجهات الرسمية‪.‬‬

‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬

‫وعن الفترة التي سبقت بداية علم اآلثار رسميًّا في‬

‫المملكة‪ ،‬قال الذييب‪ :‬إن علم اآلثار لم يكن ليتطور من دون‬ ‫جهود الرحالة والعلماء الغربيين الذين تحملوا المشاق‬

‫والسفر وانعدام األمن‪ ،‬وأرجع لهم الفضل في لفت انتباه‬ ‫ً‬ ‫مضيفا‬ ‫العالم للحضارة الموجودة في شبه الجزيرة العربية‪،‬‬ ‫أنه خالل العقود األربعة التي بدأت فيها الدراسات المسحية‬

‫اكتشف حتى اليوم أكثر من ‪ 10‬آالف موقع أثريّ في المملكة‪،‬‬ ‫وعزا السبب في تنوع هذه اآلثار وقيمتها وكثرتها إلى أن‬

‫الجزيرة العربية كان طقسها في التاريخ القديم يختلف عما‬ ‫عليه اليوم‪ ،‬ما يؤكد هذه الفرضية الكشف عن وجود بحيرة‬

‫مغمورة بمساحة ‪ 50‬كم مربع في منطقة الربع الخالي‪،‬‬

‫مرجحً ا أن الناس هجروها عندما تغير الطقس وقل الماء‪،‬‬

‫وبدأت الحروب تقوم بين القبائل ليضطر بعضها إلى الهجرة‬ ‫لتجنب الحرب‪ ،‬ومن هؤالء كان األكاديون الذين هاجروا إلى‬

‫العراق‪ ،‬وبنوا إمبراطورية األكادية‪ ،‬ثم كانت الهجرة الثانية‬


‫جانب من الحضور‬

‫لآلشوريين الذين هاجروا إلى سوريا‪ ،‬وتبعهم اآلراميون‬

‫الصويان‪ ،‬أقرب إلى الداللة على وجود األذن الموسيقية التي‬

‫في الجزيرة العربية‪ ،‬موضحً ا أنه وجد في الجزيرة العربية‬

‫اليوم إلى الشعر النبطي ال للشعر الفصيح‪ ،‬فكالهما‪ ،‬كما‬

‫والنبطيون‪ .‬وتطرق الذييب إلى النقوش والرسوم التي وجدت‬

‫فقط أكثر من ‪ 25‬ألف كتابة باللغة الثمودية‪ ،‬التي كانت‬ ‫منتشرة فيها‪ ،‬إضافة إلى اللغة اآلرامية التي كانت بمنزلة لغة‬

‫عالمية آنذاك‪.‬‬

‫تطرب للنغم وللغناء‪ .‬وذكر الصويان أن الشعر الجاهلي أقرب‬

‫يوضح‪ ،‬يشبه اآلخر في المفردات والصور الشعرية والمطلع‬ ‫الذي تبدأ به القصائد‪ ،‬وأنّ كليهما كان شعبيًّا ومنتش ًرا بين‬ ‫ً‬ ‫مضيفا أن اختالف اللغة واأللفاظ طبيعي بسبب تغير‬ ‫الناس‪،‬‬

‫من جانبه‪ ،‬تحدث الدكتور سعد الصويان عن أهمية‬

‫المكان والوقت‪ ،‬متمنيًا أن يركز الباحثون على جمع هذا اإلرث‬

‫يرجح أن أصل وجود اإلنسان كان في إفريقيا ولم يكن هناك‬

‫ودعا الصويان في محاضرته إلى عدم التوقف عن التنمية‬

‫موقع الجزيرة العربية‪ ،‬مشي ًرا إلى أن الكثير من العلماء‬ ‫معبر ب ّري سوى الجزيرة العربية‪ ،‬وأنه من هنا تكوّنت أهمية‬

‫الجزيرة حضاريًّا حيث اختلطت األعراق وتعايشت وبعضها‬ ‫استقر بسبب طبيعتها الخضراء‪ .‬ورجح الدكتور الصويان‬

‫هذه الفرضية لوجود النفط وكثرته إذ تحولت هذه الغابات‬ ‫المدفونة إلى نفط‪ .‬وذكر الصويان أن الساميين كانوا من‬ ‫األعراق الذين استوطنوا الجزيرة‪ ،‬وتنسب إليهم اللغة‬ ‫السامية‪ ،‬ومن فروعها العربية والعبرية واآلشورية واآلرامية‪.‬‬

‫وعرج الصويان على الثقافة اللفظية والكتابية‪ ،‬مؤكدً ا أنه حتى‬

‫الحضاري والفني‪ ،‬وعدم إهماله والتقليل منه لكونه شعبيًّا!‬

‫والتغيير والمضي نحو المستقبل‪« ،‬لكن في الوقت نفسه علينا أن‬

‫نوثق المراحل المهمة من تاريخنا االجتماعي‬ ‫والثقافي حتى نستطيع الرجوع إليه‬ ‫ّ‬ ‫نتخلى عن ثقافتنا‬ ‫متى أردنا‪ .‬وأال‬

‫إلرضاء غيرنا‪ ،‬بل يجب أن نفخر‬ ‫بموروثنا الثقافي والحضاري كما‬

‫يفخر اآلخرون بموروثهم»‪.‬‬

‫بداية اإلسالم كانت الثقافة العربية منطوقة وليست مكتوبة‪،‬‬

‫وأن ازدهار الكتابة بدأ بعد نزول الوحي‪ ،‬موضحً ا أن أهمية‬

‫الثقافة المكتوبة تكمن في إصالح األخطاء والحدّ من التغيرات‬

‫التي تطرأ على اللغة‪ ،‬في حين أن الثقافة اللفظية تتغير وال‬ ‫يمكن الحد من تغييرها‪.‬‬

‫وفي سؤال حول الموسيقا ووجودها في الجزيرة العربية‬

‫أجاب الدكتور الصويان أن الموسيقا كانت منتشرة بين‬ ‫سكانها‪ِّ ،‬‬ ‫مدللاً على ذلك بطريقتهم في تقديم ضيافة القهوة‬ ‫التي تكون بطريقة موسيقية؛ إذ تعد أمام الضيف وتقدم له‬ ‫أصواتا وأنغامً ا ُّ‬ ‫ً‬ ‫كلها‪ ،‬كما يذكر‬ ‫مع َط ْرق الفنجان‪ ،‬مُ صدِ رًا‬

‫سليمان الذييب‬

‫‪11‬‬


‫فعاليات‬

‫في ندوة نظمها المركز عن حماية المدنيين واألقليات في سوريا‬

‫السفير البريطاني‪ :‬الوضع السوري يؤثر في أوربا‬

‫‪12‬‬ ‫جانب من الندوة‬

‫ّ‬ ‫أكد سايمون كوليس السفير البريطاني لدى الرياض‬ ‫أن الوضع السوري ّ‬ ‫يؤثر في أوربا‪ ،‬وأنه ال يمكن قيام سوريا‬

‫وهناك ‪-‬من وجهة نظري‪ -‬فرصة للمعارضة لمواجهة‬

‫السنة وغيرهم في المدن‪ ،‬وأن‬ ‫النظام يقتل المدنيين من ُّ‬

‫الداهم‪ ،‬والتوازن بين المصالحة والمحاسبة إلنهاء أيّ‬

‫ّ‬ ‫موضحً ا أن‬ ‫مستقلة مستقرة تحت قيادة بشار األسد‪،‬‬ ‫الحلول السياسية فشلت في سوريا لعدم ربطها بالواقع‬ ‫على األرض‪ ،‬مستشهدً ا بمفوضات أستانا‪ ،‬التي كما يقول‪:‬‬

‫تهجير السوريين كارثة كبرى للنظام‪.‬‬

‫داعش واإلرهاب‪ ،‬ويجب التوحّ د في مواجهة ذلك الخطر‬

‫حرب»‪.‬‬

‫وعن التدخالت الخارجية الروسية واإليرانية في‬

‫لم تخرج بجديد على صعيد وقف إطالق النار‪ ،‬مشي ًرا إلى‬ ‫أن إنجلترا وأوربا ّ‬ ‫تركزان على حماية المدنيين والمساعدات‬

‫المدنيين بمن فيهم من األقليات «بل كان هدفها حماية‬

‫وقال كوليس‪ ،‬خالل مشاركته في ندوة «حماية‬

‫وتركت الجماعات اإلرهابية في الرقة وتدمر»‪ ،‬مشي ًرا إلى‬

‫الماضي وسط حضور كبير من المختصين بالشؤون‬

‫سياسي‪ .‬وفي سؤال حول ردة فعل المجتمع الدولي على‬ ‫ما يحدث أجاب كوليس قائلاً ‪« :‬لقد ارتكبنا أخطاء‪ ،‬وأنا‬

‫اإلنسانية‪.‬‬

‫المدنيين واألقليات في سوريا»‪ ،‬التي نظمها المركز الشهر‬ ‫السياسية والخبراء واألكاديميين وسفراء الدول األجنبية‬

‫والشخصيات العامة‪ :‬إن التعاون الروسي اإليراني في سوريا‬ ‫ّ‬ ‫وتدخالتهما ليست لحماية األقليات‪،‬‬ ‫«غير محدّ د المعالم‪،‬‬ ‫أو القضاء على اإلرهاب؛ ألن إيران وروسيا تساعدان نظام‬

‫األسد المجرم على قتل المعارضة والمدنيين‪ ،‬وأعتقد أن‬ ‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬

‫سوريا‪ ،‬أكد أنها لم تهدف للقضاء على اإلرهاب أو لحماية‬ ‫النظام‪ ،‬ورأينا كيف استهدفت المدنيين في حلب‪،‬‬

‫أن األولوية هي حماية المدنيين قبل الشروع في أي حل‬

‫أتوقع أن األجيال القادمة ستعود وستحاسبنا على ردة‬ ‫فعلنا كمجتمع دولي‪ ،‬لم يكن يجدر به التردد بين خياري‬ ‫ً‬ ‫مضيفا أن المجتمع الدولي‬ ‫عدم التدخل أو التدخل»‪،‬‬ ‫مجبر على إيجاد حل سياسي يرضي جميع األطراف‪.‬‬


‫من جهتها‪ ،‬أوضحت هند قبوات‪ ،‬عضو اللجنة العليا‬ ‫ّ‬ ‫تدخل‬ ‫للمفاوضات‪ ،‬أن كثي ًرا من السوريين مرعوبون من‬

‫إيجابي جدًّ ا حاليًّا في التنسيق مع رجال الدين اإلسالمي»‪.‬‬

‫النظام «لعب بورقة الطائفية طوال ‪ 50‬عامً ا وخالل الثورة»‪،‬‬

‫الحوار اإلنساني بجنيف‪ ،‬إلى أن نظام بشار األسد يدمّ ر المدن‬

‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫التدخل الروسي‪ ،‬مؤكدة أن‬ ‫ويفضلون‬ ‫إيران في بالدهم‪،‬‬

‫وأن بعض األشياء واألحداث الفردية أض ّرت بالثورة‪،‬‬ ‫مشدّ ً‬ ‫دة على أن الدستور الذي صنعه النظام عام ‪2012‬م‬ ‫جعل المسيحيين مواطنين من الدرجة الثانية‪ ،‬مشيرة إلى‬

‫الحاجة لدستور جديد يتوافق عليه الجميع‪ ،‬ويساوي بين‬

‫المواطنين‪ ،‬بعيدً ا من أديانهم وطوائفهم وأعراقهم وفق‬ ‫ميثاق اجتماعي جديد‪.‬‬ ‫لاً‬ ‫وتم ّنت قبوات مستقب لسوريا من دون محاصصة‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫الحل في المصالحة والعدالة االنتقالية‪.‬‬ ‫مؤكدة أن‬ ‫طائفية‪،‬‬ ‫وقالت‪« :‬سوريا طوال التاريخ وطن واحد‪ ،‬والتقسيمات‬

‫الدينية والعرقية لم يكن لها وجود فيها‪ ،‬والنسيج السوري‬

‫يقتل أبناء الوطن‪ ،‬ومجلس الكنائس في سوريا يقوم بدور‬ ‫وفي الندوة نفسها أشار مالك العبدة‪ ،‬الباحث في مركز‬

‫السنية لكسر الحاضنة االجتماعية للثورة‪ ،‬وأن النظام ما‬ ‫ُّ‬ ‫زال يستخدم األسلحة الكيماوية‪ ،‬ولم يُردع دوليًّا‪ ،‬موضحً ا‬

‫السنة باألسلحة المح َّرمة‪ ،‬ونظامه هو‬ ‫أن بشارًا يستهدف ُّ‬ ‫السنة‬ ‫المسؤول‪ ،‬لكنه يتحجّ ج بالحاضنة االجتماعية‪ ،‬وي ّتهم ُّ‬

‫بدعم الثورة‪ .‬وأكد أن ما يدور في سوريا هو حرب أهلية‪ ،‬وأن‬

‫النظام يستهدف المدنيين‪ ،‬وال يكترث بقتل اآلالف؛ إذ قتل‬ ‫منذ بداية الثورة أكثر من ‪ 300‬ألف سوري‪.‬‬

‫وحمّ ل العبدة المعارضة السورية جزءً ا من مسؤولية‬

‫ً‬ ‫خصوصا أن أكثر من نصف المجتمع‬ ‫الحرب الدائرة‪،‬‬

‫مهجَّ ر‪ ،‬وأن المعارضة لم تستطع إيجاد خطاب وطني يجمع‬ ‫ً‬ ‫واضحة من بداية الثورة فيما‬ ‫الشارع السوري‪ ،‬وأنها لم تكن‬

‫كان وحدة متماسكة‪ ،‬والتالحم المسيحي اإلسالمي بدمشق‬ ‫ّ‬ ‫ظل موجودًا في سوريا قبل ثورة عام ‪2011‬م‪ ،‬التي خرجت فيها‬

‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الحل في المصالحة‬ ‫يتعلق بحمل السالح‪ ،‬مشي ًرا إلى أن‬

‫من القمع والطائفية‪ ،‬والمسيحيون لم يقفوا مع النظام الذي‬

‫ً‬ ‫تاريخية لحماية المسيحيين»‪.‬‬ ‫لدى بعض المتابعين أبعادًا‬

‫جميع األطياف السورية للمطالبة بالحرية ضد نظام مستبدّ ‪،‬‬ ‫ً‬ ‫خوفا‬ ‫وبعض المسيحيين والمسلمين لم يخرج ضد النظام‬

‫والمصارحة «مع أنه في اعتقادي لن تتمّ محاسبة أيّ مرتكب‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫التدخل الروسي في سوريا «يحمل‬ ‫مضيفا أن‬ ‫للجرائم»‪،‬‬

‫حلقة نقاش‬ ‫عن األوضاع السياسية واألمنية والتعليمية في اليمن‬ ‫َّ‬ ‫نظم مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية حلقة نقاش عن الوضع‬

‫السياسي في اليمن وانعكاس ذلك على العديد من الخدمات األساسية وفي مقدمتها‬ ‫التعليم والصحة واألمن‪ .‬وقدَّ م الدكتور سعود السرحان –األمين العام لمركز الملك‬ ‫ً‬ ‫ورقة تناولت الوضعين السياسي واألمني باليمن‪،‬‬ ‫فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية‪-‬‬

‫وتحدَّث الدكتور منصور الخنيزان عن وضع التعليم العالي في اليمن ومعاناة األستاذ‬ ‫األكاديمي في الجامعة اليمنية من ج ّراء االنقالب‪ ،‬والتدمير الذي لحق بالجامعات‬

‫اليمنية بسبب الحرب‪.‬‬

‫وشارك في الحلقة العميد علي ناجي عبيد ‪-‬رئيس مركز الدراسات اإلستراتيجية في‬

‫علي ناجي عبيد‬

‫القوات المسلحة اليمنية بمداخلة تناولت إعادة إعمار اليمن وبخاصة المناطق المحررة‪ ،‬داعيًا دول الخليج إلى استقبال المزيد‬

‫من العمالة اليمنية‪ ،‬محذرًا من إقحام الحوثيين المذهبية والطائفية في مناهج التعليم باليمن‪ ،‬ومقترحً ا بناء مدارس من قبل‬

‫رجال األعمال السعوديين‪ .‬وقال عبيد‪« :‬إن الحرب دمرت البنية التحتية في اليمن‪ ،‬واإلرهاب والفقر ضربا «عدن» والعديد من‬ ‫المدن‪ ،‬وهناك ‪ 14‬مليون يمني يعاني الفقر الغذائي‪ ،‬إضافة إلى انقطاع الرواتب وعدم وجود إنتاج‪ ،‬مع انتشار بعض األمراض»‪،‬‬ ‫مشي ًرا إلى توغل عصابات التهريب‪ ،‬ونزوح الكثير من اليمنيين‪.‬‬

‫‪13‬‬


‫مقال‬

‫ماجد الحجيالن‬ ‫رئيس التحرير‬

‫عصر الغضب ومستقبل العالم‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مخيفا على وشك الوقوع»‪ ..‬هكذا يختصر‬ ‫شيئا‬ ‫«إن‬

‫الباحث الهندي بانكاج ميشرا خالصة كتابه الصادر‬ ‫ً‬ ‫حديثا «عصر الغضب» وهو ال يفاجئ قراءه بهذه‬

‫االنتخابات األميركية الذي سبقه تفشي الحوادث والخطابات‬ ‫العنصرية‪ ،‬وفي خروج بريطانيا من االتحاد األوربي الذي‬

‫النتيجة إذ يأخذهم في رحلة طويلة فيما سمّ اه «تاريخ‬

‫سبقه مقتل النائبة العمالية جو كوكس بالرصاص والسكين‬

‫التي تسود العالم اآلن إلى القرنين الماضيين‪ ،‬ويتكئ‬

‫وفق تفسيره‪.‬‬

‫الحاضر»‪ ،‬ويعود بجذور الغضب والعنف والكراهية‬

‫على مروياته المتعددة من أقوال وأطروحات مفكري‬

‫‪14‬‬

‫الديماغوجيون في األعلى‪ ،‬وهو ما حدث مع انتصار ترمب في‬

‫التنوير والحضارة الغربية ليصل إلى النتائج السياسية‬

‫والثقافية اليوم‪ ،‬وفي كتابه سيجد القارئ تفسي ًرا‬ ‫ً‬ ‫مختلفا لحوادث بات تفسيرها الشائع مبتذلاً ‪ ،‬فمن‬

‫صعود اليمين المتشدد في أوربا إلى البرغزت (‪)Brexit‬‬

‫معً ا‪ ،‬لكنها عالمات لم يكن أحد يضعها في سياقها الصحيح‬ ‫يقول بانكاج ميشرا ‪«:‬هناك مسار قديم من الوحشية‬

‫واأللم والمعاناة أوصل التجربة األوربية لواقعها المستقر‬ ‫اليوم» أي أن أوربا الحاضرة صنعتها كل هذه التجارب‬

‫واللحظات التاريخية المؤلمة في الحربين العالميتين وما‬

‫قبلهما‪ ،‬وهو يرى أن المليارات من البشر جرى اقتالعها من‬

‫ومن الت َرمْ بيّة إلى الحروب في أوكرانيا والشرق األوسط‪،‬‬

‫تقاليدها ومنظومتها القيمية والفكرية ‪-‬أيًّا يكن مستواها‪-‬‬

‫والكراهية الصاعدة ضد المهاجرين واألقليات‬ ‫والمسلمين‪ ،‬وصولاً إلى موجات التعبير عن الغضب‬

‫ومحبطة وخطيرة على نفسها وعلى غيرها‪ ،‬فوعود الحرية‬

‫أحدث كتاب ميشرا هزة في األوساط الفكرية‬

‫الناتج المحلي والمصالح االقتصادية إلى دين جديد وعقيدة‬

‫وظهور دولة داعش‪ ،‬واألزمات المالية واالقتصادية‪،‬‬

‫والحقد في وسائل اإلعالم الجديد والقديم معً ا‪.‬‬

‫وألقيت في العراء‪ ،‬فال هي بالتي استطاعت استيعاب الحداثة‬ ‫الغربية ولم َ‬ ‫تبق في مكانها التقليدي المريح‪ ،‬فصارت منب ّتة‬ ‫والرخاء لم تتحقق‪ ،‬وتحولت الثورة التقنية ومعدالت‬

‫الغربية‪ ،‬وهو رغم رفضه السردية الغربية السائدة‬ ‫ُقوبل باهتمام ونقاش مستفيض إن في وسائل‬

‫جعل المجتمعات تدخل في تنافس محموم لتحصيل هذه‬

‫المتخصصة‪ ،‬ويمثل «عصر الغضب» ما يشبه الثورة‬

‫هذه الشعوب إلى البؤس واليأس‪ ،‬ومن ثم الرغبة الملحّ ة في‬

‫في وجه الغرب‪ ،‬فالقول بأنها ردة فعل على وحشية‬ ‫داعش مثلاً ‪ ،‬أو ازدياد المهاجرين المسلمين هو‬

‫ويشدد ميشرا على أهمية عامل الخوف عند البشر‪،‬‬

‫اإلعالم أو في مراكز األبحاث والمطبوعات الثقافية‬

‫الفكرية على التفسيرات الجاهزة النفجار الشعبوية‬

‫تفسير سطحي‪ ،‬وهو يعيد ذلك كله إلى ما يصفه‬

‫هيمنت ال على السياسة فحسب بل على الفكر والثقافة‪ ،‬ما‬ ‫المكاسب التي هي كالسراب‪ ،‬والنتيجة عند ميشرا وصول‬ ‫الثورة على هذا النظام في شكل عنيف وعدمي‪.‬‬

‫الخوف من فقدان الشرف والكرامة والمكانة‪ ،‬وعدم ثقة‬

‫الشعوب في التغيير وعواقبه‪ ،‬ويرى أن الغرب تجاهل عوامل‬

‫بجذور الغضب والخوف الكامنة في النفس البشرية‪،‬‬ ‫ويربطها بمساراتها النفسية وأحداثها التاريخية معز ًزا‬

‫النظام العالمي الجديد مكان للدوافع البشرية الغريزية‬

‫أسفل المجتمعات الغربية بانتظار أن يقطف ثمراتها‬

‫والحاجة لحفظ ماء الوجه‪ ،‬والهوس بالتقدم المادي‪ ..‬كلها‬

‫ذلك بالشواهد‪ ..‬فلقد ظلت الشعبوية كامنة في‬

‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬

‫االستقرار المغرية وحميمية األلفة‪ ،‬ولم يعد فيما يسمى‬

‫األكثر تعقيدً ا‪ ،‬فالرعب من الظهور بمظهر الضعيف‪ ،‬والغرور‬


‫عوامل نفسية واجتماعية لم تؤخذ في الحسبان‪ .‬العقالنيون‬ ‫تجاهلوا عوامل االستياء من الشعور الدائم بالتخلف واللذة‬

‫العنيدة للشعور بدور الضحية المزمنة‪ ،‬فعلى سبيل المثال‬ ‫يعيد ميشرا دوافع ألمانيا للتوسع أوائل القرن العشرين‬

‫وكذلك عناد الصين وروسيا اليوم إلى الشعور بالمهانة أكثر‬

‫من أي شيء مادي آخر‪.‬‬

‫ومن معتزله في ماشوبرا على مقربة من الهماليا الهندية‬ ‫ّ‬ ‫المسلمات‬ ‫راح ميشرا يرسل أبحاثه التي تراجع كثي ًرا من‬

‫الغربية والشرقية على حد سواء‪ ،‬ومضى يصعّ ب مهمة من‬ ‫يريد تصنيفه في اليمين أو اليسار‪ ،‬فهو ينتقد الماركسية‬

‫والليبرالية معً ا‪ ،‬ويهاجم بوذيي ميانمار وقوميي ألمانيا‬

‫البيض‪ ،‬على أنه مشغول بنقد مبادئ التنوير والعقالنية‬

‫الغرب تجاهل عوامل االستقرار المغرية‬ ‫وحميمية األلفة‪ ،‬ولم يعد فيما يسمى‬ ‫النظام العالمي الجديد مكان للدوافع‬ ‫تعقيدا‬ ‫البشرية الغريزية األكثر‬ ‫ً‬

‫وأيًّا يكن االتفاق أو االختالف مع قراءة ميشرا لتاريخ‬

‫الحاضر وتوقعاته بمستقبل خطير؛ فإن كتابه محفز على‬ ‫ّ‬ ‫والمسلمات التي فرضتها قواعد‬ ‫التفكير مرات في القناعات‬

‫السيطرة الغربية على العالم‪ ،‬والحال أن كثي ًرا من الدراسات‬

‫في أوربا وما وصلت إليه من خالصات اليوم‪ ،‬فهو يراها غير‬

‫والتقارير الدولية والمعطيات السياسية اليوم تعزز هذه‬

‫دوستويفسكي يؤكد ميشرا أن دوافع البشر ليست عقالنية‬

‫ولعل من أهمها تقرير صدر مطلع عام ‪2017‬م عن مجلس‬

‫صالحة لتفسير العالم الذي نعيش‪ .‬ومستندً ا إلى ما كتبه‬

‫النظرة غير المتفائلة إلى مستقبل العالم في المدى المنظور‪،‬‬ ‫االستخبارات الوطنية األميركية (‪ )NIC‬وفيه يقرأ محللو‬

‫بالضرورة‪ ،‬ويعيد التذكير بما قاله سيغموند فرويد «الدوافع‬ ‫ً‬ ‫مطلقا إنما هي كامنة‬ ‫تختف‬ ‫البدائية والوحشية والشر لم‬ ‫ِ‬

‫وخبراء االستخبارات األميركية مؤشرات سياسية واقتصادية‬

‫من دراسات نفسية واجتماعية وفلسفية قدمها أمثال نيتشه‬

‫النادرة التي تنبأت باستعار الطائفية وباضطراب سيصيب‬

‫في كل فرد» ويرى أن كل ما أسس مبادئ العقالنية الغربية‬ ‫وفيبر جرى تجاهلها في العصر المادي اليوم‪.‬‬

‫ويمضي الباحث الهندي في تعداد الشواهد التي ترسم‬

‫في رأيه مؤش ًرا واضحً ا على انهيار عالمي قريب‪ ،‬داعيًا‬

‫لحركة القوى والمجتمعات حول العالم‪ ،‬وهو من التقارير‬ ‫الدول العربية قبل الثورات بأكثر من عقد‪.‬‬

‫ولعل من أبرز ما يلفت في هذا التقرير توقعه قرب‬

‫انتهاء عصر الهيمنة األميركية‪ ،‬وانكماش االقتصاد العالمي‪،‬‬

‫لاللتفات إلى العوامل الروحية والعاطفية لدى البشر في‬

‫وصعود النزعات القومية والعداء بين الدول المتنافسة‪،‬‬

‫والرخاء‪.‬‬

‫الحكومات ونهاية الديمقراطية بمعناها التقليدي‪ ،‬باإلضافة‬

‫سعيهم وفهمهم المتناقض لمبادئ الحرية والمساواة‬ ‫هذا الكتاب الذي يصفه أحد النقاد في الغارديان‬

‫بأنه جرس إيقاظ مخيف‪ ،‬قد ال تتفق مع جميع نتائجه‬

‫ومعالجاته‪ ،‬لكن يصعب أن تتجاهل فرادته في مجاله‪،‬‬ ‫تأريخا لألفكار خالل القرنين الماضيين ونقدً ا جريئاً‬ ‫ً‬ ‫وكونه‬ ‫ُ‬ ‫ومغاي ًرا لما آل إليه «عقل العالم» ولكل المواضعات الفكرية‬ ‫التي تقارب أزمات العصر الحاضر‪ ،‬غير أن ميشرا لم يتناول‬

‫بالتثمين ذلك الحرص الغربي المذهل على حكم القانون‬

‫واحترام المحاكم والقضاة وسيادة النظام‪ ،‬وهو منجز غربي‬

‫قد يجيب عن بعض األسئلة التي يطرحها الكتاب‪ ،‬وحيث‬ ‫إن نظرة ميشرا إلى الدين بوصفه عاملاً روحيًّا فيها كثير من‬

‫وبروز اتجاه عالمي لمعاداة المؤسسة ما يؤدي لضعف‬ ‫إلى حروب إلكترونية متوقعة وإرهاب سايبراني‪.‬‬

‫ليست هذه التقارير والكتب ضربًا من التنجيم وقراءة‬ ‫ً‬ ‫راسخا بحيث تأسست له‬ ‫الكف‪ ،‬فعلم المستقبليات صار‬

‫إطاراته المرجعية ومناهجه التحليلية ونماذجه ومفرداته‪،‬‬ ‫وهو األمر الذي يكفل الحصول على نتائج يمكن قياسها‬

‫واختبار جودتها‪ ،‬غير أن لدى أناس كثر ‪-‬حتى من الباحثين‪-‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫معلنة لهذا النوع من العلوم‪ ،‬وانحيا ًزا لألرقام‬ ‫كراهية‬

‫المحددة والوقائع المرئية رأي العين‪.‬‬

‫أمران مستمران في التقدم اإليجابي لخير البشرية اليوم‬

‫هما المنجزات التكنولوجية‪ ،‬واالكتشافات الطبية‪ ،‬وبين‬

‫التفاؤل والتشاؤم‪ ،‬حاضر تقاسيه شعوب كثيرة ال تكترث‬

‫اإلجالل؛ إذ يبرئ األديان من أخطاء البشرية اليوم؛ يأخذ‬ ‫عليه كتاب علمانيون رهانه على الفاتيكان مثلاً وكيف يدعو‬

‫نخبها بالتطلع للغد‪ ،‬فالمستقبل سيكون قضاءً وقدرًا‬

‫الهاوية التي يتوقعها‪.‬‬

‫بخيره وشره‪ ،‬وما عليك إال االنتظار‪.‬‬

‫البابا فرانسيس إلى القيام بدور أكبر في تجنيب العالم‬

‫مقدورًا‪ ،‬والغد الذي تفتش عن مالمحه اليوم سيدهمك‬

‫‪15‬‬


‫الملف‬

‫تأمالت في المترو والقطار من زوايا ثقافية واجتماعية وجمالية‬

‫ال تقرأ القصائد‪...‬‬

‫اقرأ جدول القطارات‬ ‫‪16‬‬

‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬


‫الذي اخترع وسائل النقل العام؛ القطار‪ ،‬والمترو‪ ،‬لعل أول ما تبادر إلى ذهنه قهر المسافة‬ ‫واختراق الزمن‪َّ ،‬‬ ‫فكر كيف يربط بين مدن متناهية في البعد‪ ،‬ويصل بين بالد كان مستحيلاً وصلها‪.‬‬ ‫لكنه ربما لم يتخيّل‪ ،‬على الرغم من سعة خياله‪ ،‬أن يتحول هذا الناقل‪ ،‬في األزمنة الحديثة‪ ،‬إلى‬

‫طفرة في منسوب الوعي‪ ،‬وثورة في مفاهيم العيش المشترك وفي تداخل االجتماعي والثقافي‬ ‫والجمالي‪ ،‬وتحوُّل جذري يطول أشياء كثيرة‪ ،‬تحول تشهده المدن‪ ،‬تتغير به ُ‬ ‫وتغيِّر من خالله‪،‬‬ ‫فلن تعود المدينة هي المدينة نفسها قبل أن تعرف هذا الناقل‪ ،‬كما أن سكانها يخضعون بمشيئتم‬

‫أو رغمً ا عنهم‪ ،‬للتحول‪.‬‬

‫ً‬ ‫أنماطا‬ ‫في القطار والمترو يلتقي بشر ينتمون إلى شرائح اجتماعية وأعراق وديانات‪ ،‬يعكسون‬ ‫من السلوك‪ ،‬ومستويات من التفكير‪ .‬هذا االلتقاء الذي قد ال يدوم طويلاً حسب زمن الرحلة‪،‬‬ ‫كفيل بجعلنا نعرف‪ ،‬من الوهلة األولى‪ ،‬إذا ما كان هذا المجتمع لديه قابلية للتعايش مع اآلخر‪،‬‬ ‫أ ًّيا كان نوعه وجنسيته‪ ،‬ومشاركته لحظة من الزمن‪ ،‬أو أنه يسدل ستارًا من حديد في وجوه‬ ‫اآلخرين‪ ،‬منطويًا على نفسه ومواطنيه‪.‬‬

‫يتحول اللقاء في الناقل العام إلى مختبر للحريات والمسؤولية االجتماعية والشرط األخالقي‬

‫للتعايش والقبول باآلخر‪ ،‬وربما إلى مرآة لطبائع الناس ولهجاتهم‪ ،‬لألفكار والمشاغل والهواجس‬ ‫اليومية لسكان المدينة‪.‬‬

‫وإذا كانت القطارات والمترو بنت خيال جامح‪ ،‬فإنها بدورها ّ‬ ‫غذت خيالاً أكثر جموحً ا عند‬

‫شعراء وأدباء رأوا في هذه اللقاء الكرنفالي‪ ،‬مناسبة يمكن تحويلها إلى متخيَّل أدبي‪ ،‬عناصره‬

‫حالِمة بقطع المسافات وارتياد اآلفاق‪ ،‬وأبطال يفتشون عن انتصارات‪ ،‬أو جنود جرحى عائدون‬ ‫ً‬ ‫بعضا؛ عمّ ال وأرباب عمل‪ ،‬موظفون ومديرون‪،‬‬ ‫من معارك خاسرة‪ ،‬أو عشاق للت ّو فار َ​َق بعضهم‬

‫نساء ورجال وأطفال‪ ،‬أو غرباء يبحثون عن معنى حتى لو من خالل رحلة ال وجهة محددة لها‪ ،‬أو‬ ‫لصوص وقطاع طرق وقتلة يهندسون حِ َيلاً لالنقضاض على ضحاياهم‪.‬‬

‫ستتحول القطارات والمترو إلى فضاء لروايات تحوك مصاير شخصياتها من تفاصيل الرحالت‬ ‫ذها ًبا وإيا ًبا‪ ،‬وإلى أجواء لقصائد َتتلمَّ س أسرار الزمن ُ‬ ‫نفوسا سعيدة‪،‬‬ ‫وك ْنه الوجود‪ ،‬ستحمل‬ ‫ً‬

‫ٌ‬ ‫ذوات معذبة تحت عجالتها السريعة راحتها األبدية‪.‬‬ ‫وستجد‬

‫ولئن كانت مناسبة هذا الملف الذي تقدمه «الفيصل» لقرائها هي استمرار العمل على «مترو‬ ‫حدث تحولاً جوهريًّا في المدينة‪ ،‬فإننا وجدنا أن وسائل النقل العام‬ ‫الرياض»‪ ،‬الذي يتوقع أن ُي ِ‬ ‫ً‬ ‫انطالقا من زوايا جمالية واجتماعية وثقافية واقتصادية‪ ،‬في حضورها‬ ‫جديرة باالنتباه والتأمل‪،‬‬ ‫الذي بات أساسيًّا ليس فقط في حياة المجتمعات وصيرورة المدن‪ ،‬إنما ً‬ ‫أيضا في المُ تخيَّل األدبي‪،‬‬ ‫وفي منطوق المفكرين والفالسفة والشعراء‪ ،‬كالشاعر األلماني الذي عبر بقوله‪« :‬ال تقرأ القصائد‬

‫يا ُبني‪ ...‬عليك أن تقرأ جدول القطارات!»‪.‬‬

‫‪17‬‬


‫الملف‬

‫‪18‬‬

‫غصبا‪،‬‬ ‫حكاية القطار الذي جمع‪ ،‬طواعية أو‬ ‫ً‬ ‫بين شعوب ال تتكلم لغة واحدة‬

‫السرعة والمسافة‬ ‫وتبدل األزمنة‬ ‫ّ‬ ‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬


‫فيصل دراج‬

‫ناقد فلسطيني‬

‫ال تنفصل الرواية‪ ،‬من حيث هي جنس أدبي حديث‪ ،‬عن ظواهر األزمنة الحديثة‪،‬‬ ‫سواء أكان ذلك في حقلي االقتصاد والسياسة‪ ،‬أم في حقل العلوم اإلنسانية‪ .‬فقد‬ ‫ّ‬ ‫الممثلة بالثروات‬ ‫صعدت في القرن الثامن عشر إلى جانب غيرها من الظواهر الصاعدة‪،‬‬ ‫القومية والصناعية والعلمية والفلسفية؛ ما أعطى المجتمع اإلنساني مالمح جديدة‪،‬‬ ‫وجعل من القرن الثامن عشر «عصر التاريخ»‪ ،‬بلغة المؤرخين‪.‬‬ ‫أرادت «الحداثة األوربية»‪ ،‬بلغة معينة‪ ،‬أو «رأسمالية الغرب المنتصرة»‪ ،‬بلغة أخرى‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫مقصرة المسافات‪ ،‬وفاتحة‬ ‫أن تروّض الجغرافيا‪ ،‬وأن تربط بين أقاليم األرض المختلفة‪،‬‬ ‫الحضارات اإلنسانية بعضها على بعض‪ .‬وسواء صدرت «الجغرافيا اإلنسانية الجديدة»‬ ‫عن تحديث أملته «الثورات العلمية»‪ ،‬التي واجهت المجهول بالمعلوم‪ ،‬أو عن طموح‬ ‫ً‬ ‫سيدا على العالم‪ ،‬فقد أسست لبيئة إنسانية جديدة‪ ،‬مختلفة‬ ‫اإلنسان األوربي بأن يكون‬ ‫األعراق واألديان والتقاليد‪ .‬ارتبطت البيئة الجديدة بوسائل اتصاالت غير مسبوقة‪ ،‬احتل‬ ‫ً‬ ‫مكانا مم ّي ًزا‪ .‬وما حكاية القطار إلاّ حكاية القوة والمعرفة‪ ،‬وحكايات الفضول‬ ‫فيها «القطار»‬ ‫اإلنساني الذي جمع‪ ،‬طواعية أو غصبًا‪ ،‬بين شعوب ال تتكلم لغة واحدة‪.‬‬

‫مشهد مستوحى من فلم أنّا كارنينا‬

‫‪19‬‬


‫الملف‬

‫املعب عن‬ ‫غريبني‪ ،‬فيتبادالن الكالم والحكايات‪ ،‬وهو اإلطار‬ ‫رّ‬

‫ال غرابة أن يظهر القطار يف روايات أوربية‪ ،‬اتخذت‬

‫العارض واملؤقت والصدفة «الحزينة ‪ -‬الطيبة»‪ ،‬فالغريب يجد‬ ‫ً‬ ‫مالذا يف غريب آخر‪ ،‬يأنس إليه ويبوح له بأسراره عىل غري توقع‪.‬‬

‫يف الصفحات األوىل من رواية ريديارد كبلنغ «كيم» عن‬ ‫الهند حيث يتحرك «السيد اإلنجليزي» متوسلاً القطار‪،‬‬

‫يصل بني جنوب العراق والريف املصري‪ ،‬ويالمس أسئلة عن‬

‫وإذا كان كبلنغ‪ ،‬الذي ال يقتصد يف عنصريته‪ ،‬رأى يف‬

‫مئة صفحة)‪ ،‬تسرد وقائع تمتد من «سقوط فلسطني» إىل‬

‫ً‬ ‫موضوعا لها‪ .‬فللقطار مكانة‬ ‫من الشعوب «املكتشفة»‬

‫ً‬ ‫ومتحدثا عن وسيلة نقله باطمئنان ال ينقصه التبجح‪.‬‬ ‫القطار أداة انتقال وسيطرة‪ ،‬فإن مواطنه إي‪ .‬إم‪ .‬فورسرت‬

‫يف روايته «ممر إىل الهند»‪ ،‬يأخذ بمنظور مغاير‪ ،‬كارهً ا‬ ‫ً‬ ‫متعاطفا مع ثقافة «أصيلة»‬ ‫االستعمار اإلنجليزي‪،‬‬

‫غريبة عن املوروث اإلنجليزي‪ ،‬دون أن ينىس القطار‪.‬‬ ‫آن واحد‬ ‫أداة سفر وإشارة ثقافية يف ٍ‬

‫أخذ القطار لدى كبلنغ وفورسرت‪ ،‬كما يف روايتي‬

‫الفرنيس جول فرين (حول العالم يف ثمانني يومً ا‬

‫وميشال سرتوغوف) داللتني‪ :‬فهو موضوع مباشر من‬

‫آن‬ ‫ناحية كونه أداة انتقال وسفر‪ ،‬وإشارة ثقافية يف ٍ‬ ‫ً‬ ‫«ألوانا» أخرى‬ ‫واحد‪ ،‬عنوانها إنسان أبيض متفوق يواجه‬

‫‪20‬‬

‫أعطى املصري الراحل محمد البساطي القطار موضعً ا يف‬ ‫ً‬ ‫كاشفا عن معنى الزمن يف القطار؛‬ ‫روايته «أصوات الليل»‪،‬‬

‫تواتر األزمنة؛ ذلك أن الرواية‪ ،‬يف صفحاتها القليلة (نحو‬ ‫سقوط العراق‪ ،‬وتسرد معها حكاية «ريفي بسيط»‪ ،‬منعته‬ ‫حياته الصعبة «تذ ّكر» عشق قديم‪ .‬أما السوري ممدوح‬

‫عدوان فأنجز‪ ،‬قبل رحيله‪ ،‬رواية تاريخية عنوانها «أعدايئ»‪،‬‬ ‫سرد فيها سقوط العهد العثماين ومجيء االستعمار‪ ،‬وقرأ‬ ‫«الحضارة الوافدة» يف قطار بني تركيا والداخل العربي‪ُ ،‬ي ِق ُّل‬ ‫امرأة تك ّرس ذكاءها لخدمة القضية العربية‪.‬‬

‫عبر القطار عن غرب متفوق ينأى عن‬ ‫ّ‬ ‫مركزه وينتشر في العالم‪ ،‬وعن «عالم‬ ‫تا ِبع» يريد أن يحاكي غيره وال يصل‬

‫يف أقاليم بعيدة من وطنه‪ .‬ولعل هاجس السرعة‪ ،‬الذي‬ ‫لتهمُ‬ ‫نقل َت ِ‬ ‫يحايثه اللهاث‪ ،‬كما التنوع البشري يف أداة ٍ‬

‫املسافات‪ ،‬هو الذي أقنع أغاثا كريستي‪ ،‬بأن تتخذ من‬ ‫ً‬ ‫عنوانا لروايتها البوليسية «جريمة يف قطار الشرق‬ ‫القطار‬ ‫السريع»‪ ،‬حيث احتماالت ارتكاب الجريمة من احتماالت‬ ‫طبائع املسافرين‪.‬‬

‫بيد أن القطار‪ ،‬يف داللتيه‪ ،‬لم يختصر يف شخص‬ ‫األوربي‪ ،‬بل تو ّزع عىل العالم كله‪ .‬فرواية األمرييك‬ ‫ثيودور درايزر «األخت كاري» تستهل بقطار ينقل فتاة‬ ‫ريفية إىل املدينة‪ ،‬تعيد صوغ أقدارها‪ ،‬كما لو كان القطار‬

‫يبدّل املسافات واملصاير معً ا‪ .‬وربما دور القطار كجسم‬

‫يتجسد‪ ،‬أكرث وضوحً ا‪ ،‬يف رواية تولستوي‬ ‫حديدي فاعل‬ ‫ّ‬ ‫الشهرية ّ‬ ‫«أنا كارنينا»‪ ،‬حيث الزوجة التي وقعت يف عشق‬

‫ال يراهن عليه‪ ،‬تنتهي إىل موت تراجيدي تحت عجالت‬

‫القطار‪ .‬وإذا كان يف القطار ما «يبدّ د» املسافات‪ ،‬بلغة‬ ‫ً‬ ‫مفرتضا‪ ،‬اعتمادًا عىل التبادل الالمتكافئ‪،‬‬ ‫طليقة‪ ،‬كان‬ ‫«موضوعا ً‬ ‫ً‬ ‫أليفا» يف البلدان التي فاتتها الثورة‬ ‫أن يغدو‬

‫الصناعية‪ ،‬شأن العالم العربي‪ .‬ولهذا احتل القطار مكانة‬ ‫يف الرواية العربية‪ .‬فللقطار دوره يف رواية عبدالرحمن‬

‫منيف «األشجار واغتيال مرزوق»‪ ،‬حيث املثقف املغرتب‬ ‫ِّ‬ ‫الحظ يسرد له مسار حياة‬ ‫يلتقي‪ ،‬يف القطار‪ ،‬آخ َر عا ِث َر‬

‫عامرة باملشقة‪ .‬وللقطار هنا داللتان‪ :‬يحقق لقاء بني‬ ‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬


‫جمال الغيطاني‬

‫القطار َّ‬ ‫حكاء صامت‬

‫َّ‬ ‫حكاء‬ ‫أخذ القطار‪ ،‬يف الروايات السابقة‪ ،‬شخصية‬

‫صامت‪ ،‬يروي باإلشارة والحركة‪ ،‬أو شخصية سارد رِّ‬ ‫يعب عن‬ ‫ّ‬ ‫املعلم يف اقتصاد الكلمة‪،‬‬ ‫سيولة األزمنة‪ .‬وإذا كان البساطي‪،‬‬

‫ممدوح عدوان‬

‫والتر بنيامين‬

‫إال مقدار لقاء العجالت بالقضبان عند اكتمال السرعة»‬ ‫(دنا فتدىل‪ -‬دفاتر التدوين‪ .‬جمال الغيطاين)‪ .‬التبس القطار‬

‫بشخصية إنسان يميل إىل الكآبة‪ ،‬له زهوه واختياله‪ ،‬ووحدته‬ ‫الباردة‪ .‬ولعل «نزف الزمن»‪ ،‬الذي استغرق الغيطاين‪ ،‬يف‬

‫قد أطلق لسان قطاره‪ ،‬وهو يكشف عن ذاكرة متعددة‬

‫روايات متعددة‪ ،‬هو الذي جعله يرى القطار يف «محطاته»‬ ‫املتواترة؛ إذ لكل محطة صفة وسمة‪« ،‬تتالمعان»‪ ،‬قليلاً ‪ ،‬قبل‬

‫«تميض القطارات هادرة‪ ،‬مختالة‪ ،‬لكنها عىل القضبان وحيدة‪،‬‬

‫عب القطار عن غرب متفوق ينأى عن مركزه وينتشر يف‬ ‫رّ‬

‫الطبقات‪ ،‬فإن جمال الغيطاين‪ ،‬يف عمله «دنا فتدىل»‪ ،‬جعل‬ ‫من القطارات مجا ًزا لسرية ذاتية متأسية‪ ،‬تميل إىل التصوف‪:‬‬

‫انطالق القطار إىل محطة جديدة‪.‬‬

‫يف الخالء منطلقة بمفردها مهما ثقلت الحمول ال تدوم الصلة‬

‫العالم‪ ،‬وعن «عالم تابِع» يريد أن يحايك غريه وال يصل‪ .‬يف‬

‫‪21‬‬


‫الملف‬

‫روجيه فايان‬

‫مقابل ذلك فإن «املرتو» صورة عن املدينة الحديثة‪،‬‬

‫قبض عىل ما هو جوهري يف الوجود‪ ،‬وأعرض عن الظواهر‬ ‫النافلة‪« :‬يف املرتو االنفعايل‪ ،‬الذي أتعامل معه‪ ،‬ال أدع شي ًئا‬ ‫للسطح»‪ ،‬يقول سيلني‪ ،‬محاولاً اإلمساك «بأعماق» الواقع‪،‬‬

‫يصل بني «قلبها» واألطراف املختلفة‪ ،‬ويؤمّ ن انتقال‬ ‫َّ‬ ‫أشل‬ ‫أهلها إىل مواقع قريبة أو بعيدة‪ .‬فإذا أصابه عطل‬

‫«مطروق» وقريب من االبتذال‪ ،‬يبتلع حركة ما فوقه ويشوّه‬

‫الالهثة‪ ،‬العاملة‪ ،‬الالهية‪ ،‬التي تضيق بالسطح العلوي‬ ‫املحدود وتذهب إىل عالم سفيل‪ ،‬هو امتداد لألول‬

‫ونقيض له‪ .‬واملرتو‪ ،‬يف الحالني‪ ،‬تجسيد لشرايني املدينة‪،‬‬

‫َ‬ ‫املدينة (حال أهل باريس) وأربك حياتها‪ ،‬كما لو كان آلة‬

‫‪22‬‬

‫عبدالوهاب البياتي‬

‫جبرا إبراهيم جبرا‬

‫وجاعلاً من األعماق مبتدأ لقراءة كل يشء‪ .‬ذلك أن السطح‬ ‫داللته‪ ،‬ويصريه إىل وجود رتيب فقري املعنى‪ ،‬عىل مبعدة من‬ ‫منظور سيلني الذي يحايثه انفعال حي ينجذب إىل الجوهري‬

‫مطيعة ومستبدًّ ا واسع النفوذ معً ا‪ ،‬ذلك أن حياة املدينة‬ ‫ً‬ ‫حدثا‬ ‫ال تنفصل عن «املرتو»؛ ما يجعل من إضراب عماله‬

‫أو «ليله امللتبس»‪ ،‬الغريب عن الليل والنهار العاديني‪« .‬كل ما‬

‫ومـع أن للمتـرو سائقـه ومفتشه ورجـال أمنه‪ ،‬وهؤالء‬

‫‪،).102 ,104 :p ,1981 ,»de la nuit, gallimard, «pleiade‬‬

‫اجتماعيًّا يف املدن الكبرية‪.‬‬

‫العاثرين النائميـن فـوق مقاعـده ‪-‬حتى منتصف الليل‪-‬‬ ‫واملتسولني بعزف عىل آلة موسيقية أو بيع «بضاعة فقرية‬

‫وغريبة»‪ ،‬فإن له‪ ،‬يف ساعات الصباح واملساء‪ ،‬حشوده‪،‬‬ ‫أو تلك «الجموع»‪ ،‬التي تميّز املدن الحديثة‪ ،‬كما أشار‬

‫والرت بنيامني يف أكرث من مكان‪ ،‬التي تجمع بني أخالط‬ ‫من البشر‪ ،‬لهم هيئاتهم ولغاتهم‪ ،‬والفضول اإلنساين‬ ‫الذي يصل بني غريب وآخر‪ ،‬وبني «عامل أجنبي» وسيم‬ ‫الطلعة وامرأة عجوز نسيت عمرها‪ ،‬أو تذ ّكرته حني‬

‫كانت مُ قبلة عىل الحياة‪ .‬سئل الروايئ الفرنيس اليساري‬

‫و«باطن األمور»‪ .‬ولهذا رأى يف «املرتو» عتمته وغموضه وعمقه‪،‬‬ ‫أريده أراه يف القاطرة العجيبة» ( ‪Celine: Voyage as bout‬‬ ‫يقول سيلني‪ ،‬بعد أن يقول‪« :‬ال إمكانية للوقوف‪ ،‬مهما تكن‬ ‫ضآلته‪ ،‬يف أي مكان»‪ ،‬بل إن يف لغة الروايئ ضجيجً ا ِّ‬ ‫يذكر‬ ‫«بعويل القطار»‪ .‬بلغة عبدالوهاب البيايت ذات مرة‪.‬‬ ‫مرتو مدينة تثري األعصاب‬

‫تحيل الهاوية واألعماق والحفرة السوداء‪ ،‬وغريها من‬

‫مفردات سيلني‪ ،‬إىل «مرتو» مدينة تثري األعصاب وتقتات‬

‫بالضجيج‪ ،‬يخرتقها نظام يحدد التفاصيل ووظائفها‪،‬‬

‫ويستدعي عقالنية باردة شديدة الحسبان‪ .‬ال يشء من هذا‬

‫«روجيه فايان» عن البشر الذين تحتفي بهم كتاباته‪،‬‬ ‫فأجاب‪« :‬ركاب املرتو يف ساعات الصباح ّ‬ ‫املبكرة»‪ ،‬قاصدً ا‬

‫صناعته الكثري‪ .‬وألن الرواية العربية تعكس واقعً ا تعرفه‬

‫كتب روجيه فايان عن فئة اجتماعية تركب «الدرجة‬

‫فلم ينتبه إليه محفوظ‪ ،‬ولم يعره الغيطاين والبساطي‬

‫بذلك «العمّ ال» الذاهبني إىل املصانع‪.‬‬

‫الثانية»‪ ،‬وابتعد الروايئ الفرنيس الكبري «سيلني» الذي‬ ‫اتهم بالفاشية‪ ،‬عن الطبقات وانصرف إىل داللة الحركة‬

‫يف مدن عربية «تصحّ رت» تسمع عن «املرتو» وال تعرف عن‬

‫وتعيه‪ ،‬فهي ال تلتقي «املرتو»‪ ،‬إال نادرًا‪ ،‬حال مدينة القاهرة‪.‬‬

‫ومحمود الورداين وغريهم الكثري من االهتمام‪ .‬حتى لو انتبهوا‬ ‫ً‬ ‫«عارضا»‪ .‬فاملرتو‪ ،‬الذي يرتجم‬ ‫إليه لكان‪ ،‬بالضرورة‪ ،‬مرورًا‬

‫وجمالية األسلوب‪ .‬ففي روايته «رحلة إىل آخر الليل»‪،‬‬ ‫التي هي من ُذرا األدب الفرنيس يف القرن العشرين‪ ،‬اتخذ‬

‫والجموع املتداخلة؛ ألن يف «العشوايئ» ما يمحو غريه‪.‬‬

‫واسع االضطراب»‪ .‬اقرتب من الفيلسوف باسكال‪ ،‬الذي‬

‫عن «هيئة القاهرة» يف تعاملها مع «أداة نقل جديدة»‪،‬‬

‫فرديناند سيلني من املرتو‪ ،‬أو مجاز املرتو بشكل أدق‪،‬‬ ‫ً‬ ‫موضوعا‪ ،‬قرأ به «عاملًا سفليًّا‪ ،‬وتأمل وجودًا إنسانيًّا‬

‫الدقة والنظام واحرتام الزمن‪ ،..‬ال يأتلف مع «العشوائيات»‬ ‫ربما يكون عمل مجدي الشافعي وعنوانه «مرتو»‪ ،‬صورة‬ ‫عن استقبال «قطار األنفاق» يف الكتابة األدبية املصرية‪ ،‬ومجا ًزا‬

‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬


‫ّ‬ ‫تخفف من «كابوس املرور»‪ .‬فهذا العمل الذي طبع مرتني‪،‬‬ ‫كما يقول غالفه‪ ،‬قدّ م نفسه «كرواية مصورة»‪ ،‬تصلح‬

‫«للكبار فقط»‪ ،‬وذلك يف طبعة جماهريية عشوائية املالمح‪،‬‬ ‫تلتبس بالسخرية‪ .‬تقوم «الرواية»‪ ،‬يف صفحاتها املئة‪ ،‬عىل‬ ‫رسم باألبيض واألسود قوامه «الكاريكاتري»‪ ،‬حيث الصور‬

‫الساخرة و«كتابة عامية» متشكية‪ ،‬تزجر القائم وتشتيك من‬

‫الزمن‪ ،‬يصبح «املرتو» إطارًا خارجيًّا للعمل؛ إذ تختلط اللغة‬ ‫العامية بمحطات املرتو املالحقة‪ :‬محطة املعادي‪ ،‬ومحطة‬ ‫محمد نجيب‪ ،‬ومحطة أنور السادات‪ ،‬ومحطة السيدة‬

‫زينب‪ ،‬ومحطة جمال عبدالناصر‪ ...،‬ويف كل محطة شكوى‬

‫تستأنف شكوى محطة سابقة‪ ...،‬والسؤال هو‪ :‬ما الذي‬ ‫جعل الشافعي يدرج «املرتو» يف فضاء كاريكاتريي عامي‬ ‫اللغة؟ والسؤال الثاين‪ :‬هل أراد يف ركونه الساخر إىل «مرتو‬

‫واقعا تعرفه‬ ‫ألن الرواية العربية تعكس‬ ‫ً‬ ‫نادرا‪،‬‬ ‫وتعيه‪ ،‬فهي ال تلتقي «المترو»‪ ،‬إال‬ ‫ً‬ ‫حال مدينة القاهرة‪ .‬فالمترو‪ ،‬الذي يترجم‬ ‫الدقة والنظام واحترام الزمن‪ ،...‬ال يأتلف‬ ‫مع «العشوائيات» والجموع المتداخلة؛‬ ‫ألن في «العشوائي» ما يمحو غيره‬

‫األعماق»‪ ،‬أن يعلن عن أعماق القهر الشعبي املصري‪ ،‬الذي‬ ‫يدور حول ذاته بال أفق؟ ربما كان القهر الشعبي الذي يطغى‬ ‫عىل غريه هو ما أعطى «املرتو» حضورًا ومضيًّا‪ ،‬محتملاً ‪ ،‬يف‬

‫روايات مصرية أخرى‪ ،‬مثل «يوتوبيا» ألحمد خالد توفيق‪،‬‬

‫التي مرت عىل حياة عشوائية ال ينقصها الكاريكاتري‪ ،‬و«البحث‬ ‫عن دينا» ملحمود الورداين التي تحدثت عن ركام التداعي‬

‫واإلخفاق‪ ،‬ورواية يوسف القعيد «قسمة الغرباء» التي‬ ‫عالجت الوعي الطائفي املاسخ؛ تستدعي هذه الروايات‪ ،‬كما‬

‫غريها‪ ،‬مفهوم الشكل‪ ،‬الذي يبدو واضحً ا يف عالم عقالين‬

‫تبنيه األشكال‪ ،‬بعيدً ا من عشوائيات يكسوها السديم‪.‬‬

‫أدار جربا إبراهيم جربا حوارًا رحيبًا بني غرباء يف روايته‬ ‫«السفينة»‪ ،‬كما لو كانت ّ‬ ‫ً‬ ‫بعضا‪،‬‬ ‫تقل ركابًا ال يعرف بعضهم‬

‫ّ‬ ‫وتقل معهم ثقافاتهم املختلفة‪ ،‬ووضع عبدالرحمن منيف يف‬

‫قطار «األشجار واغتيال مرزوق» غريبني يتبادالن القصص‪ ،‬ولم‬ ‫يعرث املصري مجدي الشافعي يف «مرتو» القاهرة‪ ،‬إال عىل بقايا‬ ‫الكالم وهيئات مشوّهة‪.‬‬

‫يف كتابه املثري لإلعجاب «كل ما هو صلب يتحوّل إىل‬

‫أثري»‪ ،‬تكلم مارشال بريمن عن اإلنسان الحديث ملمحً ا إىل‬

‫الطرق الواسعة والقطارات و«املرتوات العجيبة»‪ ،‬مؤكدً ا أن‬

‫حداثة اآللة التي يستعملها اإلنسان ال تستقيم إال بإنسان له‬

‫وعي حديث‪.‬‬

‫‪23‬‬


‫الملف‬

‫القطارات‬ ‫اسمها رغبة‬ ‫كلها‬ ‫ُ‬

‫‪24‬‬

‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬


‫عبدالقادر الجنابي‬

‫شاعر وناقد عراقي‬

‫ُ‬ ‫وصلت فيها إلى لندن (مطلع عام ‪1970‬م) واكتشفت ما لم يكن‬ ‫كم أتوق إلى األيام التي‬ ‫لدينا في بغداد‪ :‬األندرغراوند (‪ )Underground‬بأنفاقه العميقة تحت األرض‪ ،‬وعربات قطاراته‬ ‫العتيقة‪ .‬فأدركت فورًا كم كانت تفتقر الحداثة الشعرية العربية آنذاك إلى ما كان يمكن أنْ يجعلها‬ ‫حديثة‪ :‬السرعة ومعمعان الخيال‪ .‬محطة «هولبورن» ربما هي المحطة األعمق في لندن‪ ...‬حين‬ ‫كنت أنزل ساللمها المؤدية إلى رصيف القطار‪ ،‬كنت أشعر أني أنزل في إحدى ردهات كوميديا‬ ‫دانتي اإللهية‪ .‬ففي هذا العالم السفلي ترى سكان لندن بمظالتهم‪ ،‬وجرائدهم وقبعاتهم يتزاحمون‬ ‫ً‬ ‫جالسا‬ ‫واقفا وسط الزحام أو‬ ‫بانتظار القطار األفعى‪ ...‬وإذا بأبوابه تنفتح فتجد نفسك في العربة‬ ‫ً‬ ‫قبالة امرأة أو رجل أو مقعد فارغ‪.‬‬ ‫ألنها تختلف عن ّ‬ ‫أحب كثريًا نافذة القطار ّ‬ ‫ُّ‬ ‫كل نوافذ‬

‫املواصالت األخرى‪ ...‬لربّما بسبب ما تخلقه السرعة‪ ،‬أو‬

‫ما يسمّ ى السرعة يف السكون‪ ،‬من صور تتعاقب كشريط‬

‫سينمايئ‪ ...‬فهي ليست مجرّد زجاج‪ ،‬إنما مرآة نابضة يمتزج‬

‫فيها عالم القطار الخارجي الفسيح بعاملك الداخيل الصغري‪...‬‬ ‫املناظر التي يمر بها‪ ،...‬بأخيلة اليقظة التي تتقو َْقع فيها‪...‬‬

‫ٌ‬ ‫صورة‬ ‫ذهني» بامتياز؛ تومض فيها‬ ‫نافذة القطار «منظر‬ ‫ّ‬ ‫دفينة؛ رغبتك املقموعة التي غالبًا ما ترتاءى حلمً ا‪ ...‬حني‬ ‫عاكسا‪ ،‬ال أبحث عما‬ ‫أتراءى يف زجاج النافذة بصفتها سطحً ا‬ ‫ً‬ ‫يحدثه الشعاع الساقط عليه‪ ،‬وال أريد أنْ أشعر برنجسيتي‪...‬‬ ‫ُ‬ ‫سرعة القطار من امتزاج خيميايئ‬ ‫ّإنما أبحث عمّ ا تحدثه‬

‫آه‪ ،‬كم كنت آخذ القطار ليس بهدف الوصول إىل محطة‬

‫معينة‪ ،‬إنما ألغتني بأفكار جديدة‪...‬‬ ‫***‬

‫ُ‬ ‫ً‬ ‫بعيدة‪ ،‬فإنها تبقى دائمً ا‬ ‫محطة القطار‬ ‫مهما كانت‬

‫أقرب من مطار! ال تاكيس وال يحزنون‪ ...‬مجرد ساللم‪،‬‬ ‫ساللم‪ ،‬ساللم‪ ...‬ويف نهاية كل رحلة‪ ،‬يرتسم العالم كما‬ ‫هو‪ :‬قطار!‬

‫***‬ ‫ّ‬ ‫القطار جَ ّدد املخيّلة الكتابية! فكل تطوّر حصل له‪ ،‬حصل‬ ‫للسرد يف الجوهر‪ ...‬الصفحات هي سكك الك ّتاب!‬ ‫***‬

‫َ‬ ‫شريط فلم ينفلت‪ ،‬ف ُتعيد َّ‬ ‫بينهما‪ ...‬كما لو أنّ‬ ‫لفه يف أعماق‬

‫حني ينطلق بك القطار‪ ،‬يُغلِق ماضيك أبوابَه‪ُ ...‬‬ ‫َ‬ ‫ستأصل‬ ‫وت‬

‫وعيك‪ .‬اسند ظهرك‬ ‫وعيك وما تحت ِ‬ ‫الحاجز الذي يفصل بني ِ‬ ‫إىل خلفية املقعد‪ ...‬وأَ ْل ِق ّ‬ ‫بكل نظرك عىل زجاج النافذة‪ ،‬حيث‬ ‫يتدفق كم هائل من املناظر الخارجية‪َ ...‬‬ ‫ابق مستسلمً ا ح ّتى‬ ‫االنخطاف‪ ،‬ح ّتى تستيقظ ذاكرتك‪ ،‬يسقط شعاعها عىل‬

‫***‬

‫ذاتك‪ ...‬الزجاج الذي يفصل بينك وبني خارجه‪ ،‬هو عنيُ‬

‫َ‬ ‫ّ‬ ‫أناك‬ ‫سيل‬ ‫فريتد باتجاه عينك‪ :‬وها أنت تسبح يف‬ ‫الزجاج‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫البصريّ الذي تدفعه ّ‬ ‫تدفقات داخلية‪ ،‬ال ِعلمَ لك بها من‬ ‫ُ‬ ‫قبل‪ ،‬وإنْ هي يف أعماقك تجري‪ ...‬ويف الوقت ذاته تحافظ‬

‫عىل مسارك يف واقع ملموس ح ّتى ال يفقد االنعكاس َّ‬ ‫خط‬

‫سريه‪ ،‬فتجد نفسك يف مدار الهلوسة! املسألة هي أنْ تعرف‪،‬‬ ‫ًّ‬ ‫حقا‪ ،‬كيف تنظر‪ ،‬من زاوية ما‪ ،‬إىل نافذة القطار ح ّتى ترتاءى‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫لك أعماقك واقعً ا وحقيقة‪( ...‬انظر روايتي القصرية «املرآة‬

‫والقطار» الصادرة عام ‪2017‬م عن «دار التنوير»‪ ،‬بريوت)‪.‬‬

‫جذورك‪ ...‬فال يعود لك ُهوية سوى ذكرياتك!‬

‫كم عمل السينمائيون عىل استغالل القطار كملجأ‬ ‫َ‬ ‫أجملها‬ ‫ومخدع للعُ ّشاق الفارّين‪ .‬ما‬ ‫للصوص واملجرمني‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫لاً‬ ‫َ‬ ‫نهاية فلم هتشكوك «شما ‪ ،‬إىل الشمال الغربي»‪ ،‬إذ نرى‬ ‫بطل الفلم «كاري غرانت» يمد يده ملساعدة بطلة الفلم «إيفا‬ ‫ماري سانت» املتشبثة بصخرة وهي عىل وشك أن تسقط يف‬

‫الهاوية‪ ،‬ثم يسحبها (وإذا باملشهد يتغري) فرناه يرفعها إىل‬ ‫فراش املقصورة الخاصة بالعشاق! لقد قال هتشكوك‪« :‬إنه‬ ‫املشهد األكرث وقاحة بني املشاهد التي صورتها يف حيايت»!‬ ‫***‬

‫القطار ِّ‬ ‫يعلمنا الصرب أكرث من أي واسطة نقل أخرى‪..‬‬ ‫***‬

‫‪25‬‬


‫الملف‬

‫أنفسهم من‬ ‫ألاّ يصيبهم الربد‪ ...‬يسدلون الستار‪ ،‬فيحرمون‬ ‫َ‬

‫ال يمكن تنظيف نص من الشوائب إال يف قطار‬

‫املرتو‪ ...‬فقراءة قصيدة هنا لها تأثري مختلف عن قراءتها‬ ‫ّ‬ ‫الركاب ُتريك‬ ‫خارج املرتو‪ ...‬فسرعة القطار وهمهمات‬ ‫أين يكمن الخلل اإليقاعي‪ ...‬فتضطر إىل شطب أبيات‬ ‫وتنقل البيت الثالث‪ ،‬مثلاً ‪ ،‬إىل نهاية القصيدة! ال‬

‫يمكنك أنْ تكون عضوًا يف ثريا الشعراء‪ ...‬إال حني‬

‫َ‬ ‫أدركت الفرق الجوهري بني النسخة قبل أخذ‬ ‫تكون قد‬ ‫القطار‪ ،‬والنسخة بعد خروجك منه!‬ ‫***‬

‫النافذة! أما الشحّ اذون‪ ،‬الصعاليك‪ ،‬الفقراء املحشورون يف‬

‫عربات الدرجة الثانية‪ ،‬فإنهم ‪-‬والنوافذ شبه مفتوحة‪ ،‬وال‬ ‫يشء يقيهم سوى أسمالهم‪ -‬ينامون إىل أن ينغزهم شعاع‬ ‫ُّ‬ ‫يطلون برؤوسهم‪...‬‬ ‫من الشمس فيستيقظون‪ ،‬ومن ثم‬ ‫هكذا كان ديدين‪ ،‬حني كنت آخذ القطار‪ ،‬ليلاً ‪ ،‬من باريس‬ ‫إىل سالزبورغ يف منتصف سبعينيات القرن املايض‪َّ ...‬‬ ‫أتقل ُ‬ ‫ب يف‬

‫مقعدي‪ ،‬بني برودة الهواء ونعاس دافئ أحفز نفيس عىل‬ ‫االستسالم له‪ ،‬فأنام وأحلم بكل مجامر العالم وحرارة النفس‬ ‫ّ‬ ‫فأطل برأيس‪ ،‬أوان‬ ‫اإلنسانية‪ ،‬ليك أستيقظ الشاب نفسه‪...‬‬

‫إنّ أنفاق مرتو باريس املتشعبة تشعُّ َ‬ ‫ب األوردة يف‬

‫ترسل الشمس أشعتها‪ ،‬وأنظر إىل ما يقع بصري عليه‪ :‬مروج‬

‫املرتو داخل النفق هو االنعطاف عينه الذي تصادفه‬

‫يف البعيد‪ ...‬أستنشق هواء طازجً ا‪ ،‬فأشعر بنشاط محموم‪...‬‬ ‫ّ‬ ‫يتوقف القطار‪ ...‬وما أن أضع قدمي‬ ‫حتى‬

‫جسم اإلنسان‪ ،‬لهي شرايني باريس‪ .‬أيّ انعطاف يف‬

‫ً‬ ‫تشخيصا‬ ‫وأنت تميش يف شارع بارييس‪ .‬قرأت لكافكا‪،‬‬ ‫جميلاً ‪ ،‬يقول فيه‪« :‬إن املرتو يتيح للغريب أجود فرصة‬

‫ليك يتصور أنه أدرك عىل نحو سريع ودقيق‪ ،‬جوهر‬ ‫باريس»‪.‬‬

‫‪26‬‬

‫التمتع برؤية املناظر الوهمية الرائعة التي تتجىل عىل زجاج‬

‫***‬

‫املرتو يعلمك كيف تدرك أنّ الكتابة شبكة من‬ ‫ٍّ‬ ‫الخطوط‪ ...‬وأيَّ‬ ‫خط من خطوط الخيال يجب أن تأخذ‪.‬‬ ‫***‬ ‫املرتو هو «ال وعي» باريس الذي تغرف املخيّلةُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫أعمالها!‬ ‫تياره‬ ‫الشعرية من ِ‬ ‫***‬

‫وحقول‪ ،‬نهر ال أعرف اسمه إىل اليوم‪ ...‬وجبال األلب املمتدة‬

‫عىل الرصيف‪ ،‬ح ّتى يتملكني شعور‬ ‫بأين عىل أُهبة االستعداد ملعاشقة‪،‬‬ ‫النها َر َّ‬ ‫كله‪ ،‬خليلتي التي تنتظرين يف‬

‫كافكا‪ :‬إن المترو يتيح للغريب‬ ‫أجود فرصة لكي يتصور أنه أدرك على‬ ‫نحو سريع ودقيق‪ ،‬جوهر باريس‬

‫يف املرتو يجد الروايئ شخصيات روائية حقيقية‪:‬‬

‫ً‬ ‫لصوصا‪ ،‬عاهرات‪ ،‬تجا َر مخدرات‪ ،‬بسطاء‬ ‫شحّ اذين‪،‬‬ ‫معروضني طوال الرصيف لإليجار‪ ...‬القرار يعود‬

‫ملخيلتك‪ :‬أي يشء صالح لرواية جديدة! أما الشاعر‬

‫فحصته قليلة‪ :‬بيت أو بيتان!‬

‫***‬

‫ال خوف يف القطار إال إذا جاء شخص ال تعرفه‪،‬‬ ‫وجلس إىل جانبك والعربة ُّ‬ ‫كلها فارغة‪...‬‬ ‫***‬

‫القطار حياة‪ ...‬لذلك تبقى واعيًا بفكرة املوت طوال‬

‫الرحلة‪ .‬من يدري‪ ،‬ربما انحراف واحد عن السكة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫مدونا يف الئحة املختفني‪.‬‬ ‫ويُصبح اسمك‬ ‫***‬

‫ينام األثرياء يف مقصورات مخصصة للنوم؛ مدفأة‬ ‫ومجهزة ّ‬ ‫بكل ما يوحي بالرثاء والرتف‪ ،‬وبأضواء صغرية‬

‫زاهية األلوان‪ ،...‬لكن يف أعماقهم ثمّ ة خوف سحيق‪:‬‬ ‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬


‫محطة سالزبورغ‪ ...‬لو كان بوسعي أن آخذ واسطة نقل من‬ ‫باريس إىل سالزبورغ‪ ،‬أسرع من القطار‪ ،‬لمَا كان يل أجنحة‬ ‫تساعدين عىل التحليق! القطار مِ شحَ ُذ الخيال‪...‬‬ ‫***‬

‫يف القطار‪ ،‬يزداد شعور املسافرين بالجنس‪ ،‬ينام يف‬ ‫َ‬ ‫منفذ له‪ ،‬فيذوب يف حنايا أعماقهم‬ ‫أجسادهم محصورًا‪ ،‬ال‬

‫النفسية‪ ...‬فتصبح نظراتهم حادة‪ ،‬ثم تغفو يف تخيالت‪،‬‬ ‫فيخيم سكون ال تسمع فيه سوى هدير العجالت وأنني‬

‫األبواب‪ ...‬آه‪ ،‬كم من عالقة حب كانت تتمّ يف القطار خالل‬ ‫رحلة واحدة‪...‬‬

‫***‬

‫ُ‬ ‫يأكلني ظل‬ ‫يف قطار الـعُ زلةِ‬ ‫ً‬ ‫َمضة‪،‬‬ ‫«و‬

‫وَمضهْ»‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫بَعدها يَتقيَّؤين‬ ‫ً‬ ‫لقطة‬

‫لقط ْه‬ ‫يف َفسيــح المْ َ ّ‬ ‫حطة!‬ ‫ِ‬

‫ال يمكن تنظيف نص من الشوائب إال في‬ ‫قطار المترو‪ ...‬فقراءة قصيدة هنا لها‬ ‫تأثير مختلف عن قراءتها خارج المترو‪...‬‬ ‫فسرعة القطار وهمهمات الر ّكاب تُريك‬ ‫أين يكمن الخلل اإليقاعي‪!...‬‬ ‫نعد نسمع ذاك الصفري الجنائزي‪ ،‬يعلو وهو يقرتب‪ ،‬الذي‬

‫تميزت به قطارات املايض‪ ،‬وال ذاك الدخان الذي كانت الرغبة‬ ‫يف السفر تستيقظ فينا بمجرد أنْ نراه‪...‬‬ ‫***‬

‫يف ضواحي بعض املدن‪ ،‬ثمة خرائب ‪ -‬مقابر ترتكن فيها‬

‫بقايا قطارات األزمنة القديمة؛ عجالت الحلم وسرد املغامرة‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫مؤثثة تبتلع ّ‬ ‫كل‬ ‫شققا‬ ‫الفردانية؛ قطارات بعد أن كانت‬ ‫َ‬ ‫يشء‪ ...‬ها هي يف ذاكرة ّ‬ ‫ركاب اليوم مجرد‬ ‫هياكل حديديةٍ‬ ‫َّ‬ ‫محطمةٍ ال عجلة وال باب‪ ...‬مشرّعة للذباب والطري‪ ،‬للقطط‬ ‫والكالب السائبة‪ ...‬ال يعبأ بذِ ْكرها حتى الشاعر الرديء‪ ...‬يف‬

‫***‬

‫لم يعد اليوم القطار كما كان‪ :‬رمز السفر إىل مناطق‬

‫الحلم النائية‪ ...‬فالبخار بات زرًّا كهربائيًّا‪ ،‬واملحطة باتت‬

‫جزءً ا من عالم رقمي آخر‪ ...‬وكل يشء تالىش وتغري‪ :‬فلم‬

‫حني أنها كانت جزءً ا من إلهام عظماء الشعراء‪ ...‬يف حني أن‬

‫«قطارات» اليوم مجرد أنابيب بال روح أو اتجاه‪...‬‬ ‫***‬

‫القطارات هي ً‬ ‫أيضا مصريها املوت‪ ...‬دموع ذكرياتها تبلل‬

‫األرصفة!‬

‫‪27‬‬


‫الملف‬

‫القطار في األدب األلماني‬

‫أدباء عدوه إنجازًا‪..‬‬ ‫وآخرون وصفوه‬ ‫بـ«المارد الجبار»‬ ‫‪28‬‬

‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬


‫حسونة المصباحي‬

‫كاتب تونسي‬

‫منذ ظهوره في بدايات القرن التاسع عشر‪ ،‬أثار القطار‪ ،‬أو‪« ‬الحصان المحرّك بالبخار»‪ ‬إعجاب‬

‫وفضول كبار الشعراء والكتاب في ألمانيا التي لم تكن قد توحدت بعد تحت راية بسمارك‪ .‬وجميعهم ّ‬ ‫عده‬ ‫إنجا ًزا هائلاً ‪ ،‬قادرًا على أن ّ‬ ‫يحقق للبشر السعادة والرخاء‪ ،‬وصورة مشرقة للتقدم الصناعي والحضاري‪،‬‬

‫و«ثورة تاريخيّة» فتحت بعض البلدان على بعضها‪ ،‬وسهّلت المبادالت التجارية على أوسع نطاق‪ .‬قليل‬ ‫منهم فقط أظهروا نفورا منه‪ ،‬ورأوا فيه «مار ًدا جبّارًا ّ‬ ‫يهدد حياتهم‪ ،‬وقيمهم‪ ،‬وتقاليدهم القديمة»‪ .‬وقد‬ ‫كتب أحدهم يقول‪« :‬غيّر القطار حياتنا‪ ،‬وغيّر الطبيعة من حولنا‪ .‬كما غيّر وعينا بالزمان والمكان»‪.‬‬ ‫وكان الشاعر هايرنيش هاينه الذي أمىض شط ًرا مديدً ا‬ ‫من حياته مرتحلاً ‪ ،‬ومساف ًرا بني البلدان‪ ،‬من بني الذين‬

‫اهتموا بـ«الثورة» التي أحدثها القطار يف حياة املجتمعات يف‬ ‫ّ‬ ‫خطي‬ ‫القرن التاسع عشر‪ .‬وقد كتب يقول‪« :‬أثار تدشني‬

‫ّ‬ ‫الخطني يصل‬ ‫أحس بها الجميع‪ .‬أحد‬ ‫القطار الحديدي ه ّزة‬ ‫ّ‬

‫إىل مدينة‪« ‬أورليان»‪ ،‬واآلخر إىل مدينة‪« ‬روّان» (مدينتان‬ ‫فرنسيّتان)‪ .‬وبينما يحملق العامة ببالهة املخدرين يف تلك القوى‬

‫الضخمة املتحركة‪ ،‬ينتاب املفكرين رعب موحش يشعرون به‬ ‫دائمً ا إزاء الجبار والالمعقول‪ .‬وهم ال يدركون عواقبه‪ ،‬إنما‬

‫ّ‬ ‫ا‪ .‬كل‬ ‫تسهيل التبادل‪ ،‬هذا هو الشغل الشاغل للمثقفني راه ًن‬

‫واحد منهم يبالغ ويغايل‪ ،‬ويف النهاية يظل أسريًا للرداءة»‪ .‬أما‬

‫تحمسا‬ ‫لودفيك بورنه فلم يكن عىل اتفاق مع غوته‪ .‬فقد أظهر‬ ‫ً‬

‫للقطار؛ ألنه «سيكسر شوكة الطغيان‪ ،‬وستصبح الحروب من‬ ‫املستحيالت»‪ .‬كما أنه سيكون «مح ِّر ًكا للتطورات االجتماعية‬ ‫والسياسية»‪ .‬ويف رباعيته «طرق حديدية»‪ ،‬كتب الشاعر‬ ‫الرومانيس فون أرنيم أول قصيدة عن القطار يف الشعر األملاين‪،‬‬

‫التي تقول‪:‬‬

‫يفتح السيف الطريق للبعض‬

‫يلمسون عدم قدرتهم عىل التنبّؤ به‪ ،‬أو السيطرة عليه‪ .‬ما‬

‫للبعض اآلخر يفتحه املجراف‬

‫والشقاء يف الوقت نفسه‪ ،‬ويجذبنا املجهول بسحره املخيف‪،‬‬

‫الطريق الرديئة‬ ‫ّ‬ ‫ونمد جسورًا يف تلك التي‬

‫نلحظه هو أن وجودنا بأكمله يندفع‪ ،‬بل ينزلق إىل مجرى‬ ‫جديد‪ّ ،‬‬ ‫ترتقبنا فيه وضعيّة جديدة تحمل يف طيّاتها السعادة‪،‬‬ ‫ويغرينا ويرهبنا دفعة واحدة‪ .‬وأكيد أن هذه األحاسيس هي‬ ‫نفسها التي انتابت آباءنا عندما اك ُتشفت القارة األمريكية‪ ،‬أو‬ ‫حني أعلن عن اكتشاف البارود‪ ،‬أو عندما ّ‬ ‫توصل الناس بفضل‬

‫الطباعة إىل كتابة صفحات من الكتب السماوية»‪.‬‬

‫ويضيف هايرنيش هاينه أن القطار‪« ‬فصل جديد من فصول‬ ‫ّ‬ ‫يتبقى سوى الزمان»‪.‬‬ ‫التاريخ اإلنساين»‪ .‬وهو‪« ‬يقتل املكان فال‬ ‫ومتخ ّيلاً التحوالت التي سيحدثها القطار‪ ،‬فيكتب قائلاً ‪« :‬يتهيّأ‬ ‫يل أنّ جبال العالم وغاباته تزحف ّ‬ ‫كلها نحو باريس‪ .‬وها رائحة‬ ‫الزيزفون النابتة يف أملانيا تتس ّرب إىل أنفي‪ .‬وها أمواج البحر‬

‫الشمايل تطرق بابي» (كتب هايرنيش هاينه هذا وهو منفي يف‬ ‫باريس)‪.‬‬

‫حذر غوته‬

‫وثمة من يشري إىل أن شاعر أملانيا األكرب غوته سبق له أن‬

‫تحدث عن القطار‪ .‬حدث ذلك عام ‪١٨٢٥‬م‪ .‬ويبدو أنه كان من‬ ‫بني الذين أبدوا ً‬ ‫نوعا من الحذر إزاءه‪ .‬فقد كتب يقول‪« :‬قطارات‬

‫وسفن بخاريّة‪ ،‬ووسائل اتصال أخرى‪ ،‬يهدف جميعها إىل‬

‫نرتك آثارًا حديديّة يف‬

‫تقطعها األنهار‬

‫ّ‬ ‫تشق دائمً ا‬ ‫اإلرادة الحديديّة‬ ‫ً‬ ‫طريقا‪.‬‬ ‫لنفسها‬ ‫ويف قصيدة بعنوان‪« :‬الحصان البخاري»‪ ،‬كتب الشاعر‬

‫ألربت فون شاميسو يقول‪:‬‬ ‫يا حصاين البخاري‬

‫أنت مثال للسرعة‬

‫وراءك ترتك الزمن يعدو‬ ‫وتسرح اآلن م َّتجهً ا نحو الغرب‬

‫بينما باألمس كنت قادمً ا من الشرق‬

‫سرقت س ّر الزمن‬

‫أرغمته عىل أن يرتاجع بني األمس واألمس‬ ‫أض ُ‬ ‫ْ‬ ‫غط عليه يومً ا بعد يوم‬ ‫حتى أصل ذات يوم إىل يوم آدم‪.‬‬

‫إلاّ أن الشاعر نيكوالس لينار يرى أن القطار قد يفسد‬

‫‪29‬‬


‫الملف‬ ‫حياة الناس‪ .‬وهذا ما نستشفه من قصيدته التالية التي‬ ‫تعكس تشاؤمه‪:‬‬

‫يف وسط الغابة الصغرية الخضراء‬

‫مسرعة ومندفعة‬

‫تفرتس القطارات ما حولها‬ ‫ّ‬ ‫يحل عليك‬ ‫ضيف بشع‬

‫ستسقط األشجار يمي ًنا وشمال‬

‫أمام اندفاعها إىل األمام‬ ‫حتى جمالك الرائع‬

‫ال يمكن أن تحميه من ّ‬ ‫حدتها‪.‬‬

‫مع ظهور السيارة ثم الطائرة يف مطلع القرن‬

‫العشرين‪ ،‬أصبح القطار وسيلة عادية‪ ،‬ولم يعد يثري‬

‫الحرية والفضول والحماس مثلما كانت حاله خالل‬

‫القرن التاسع عشر‪ .‬وبعد نهاية الحرب الكونية الثانية‪،‬‬

‫برزت تيّارت فكرية وأدبية تسخر من املنجزات التي‬ ‫ّ‬ ‫حققها التقدم الصناعي والعلمي يف جميع املجاالت‪ .‬بل‬

‫‪30‬‬

‫هاينريش هاينه‪« :‬القطار فصل جديد من‬ ‫فصول التاريخ اإلنساني‪ ...‬وهو يقتل‬ ‫يتبقى سوى الزمان»‬ ‫المكان فال‬ ‫ّ‬

‫وجيل‬ ‫إن هذه املنجزات كانت ضالعة بشكل واضح‬ ‫ّ‬ ‫يف كارثة الحرب الكونية التي قتلت املاليني من البشر‪،‬‬ ‫ً‬ ‫مدنا‪ ،‬وأحرقت مساحات واسعة من الغابات‬ ‫وخربت‬

‫يرفعوا أنظارهم حتى لو وقعت معجزة يف وسط الساحة‪ .‬إنهم‬

‫ويف حياة أفضل‪ .‬‬

‫إن هناك بالدًا ما وراء القوقاز مستعدة إليوائهم لجمعوا‬

‫يف فرانكفورت بعد الحرب قائلاً ‪« :‬الالجئون مضطجعون يف‬ ‫ّ‬ ‫كل مكان عىل ساللم محطة القطار‪ .‬يخيّل للمرء أنهم لن‬

‫ومن األرايض الزراعية‪ ،‬ودمرت أمل الشعوب يف الرخاء‪،‬‬

‫يعلمون علم اليقني أنه ال يشء سيحدث‪ .‬فلو قيل لهم‪:‬‬

‫ويف القطارات اعتاد الناس أن يروا كل يوم جرحى‬

‫صناديقهم وبقايا أمتعتهم وارتحلوا دون أن يصدقوا كلمة‬

‫ومشوهني عائدين من جبهات القتال‪ ،‬و«توابيت‬ ‫داكنة»‪ .‬ومرة أخرى أثبتت الحرب الكونية الثانية أن‬ ‫التقدم الصناعي والتكنولوجي يفيض يف الحقيقة إىل مزيد‬ ‫من الكوارث واألوجاع‪ .‬وها هو الشعب األملاين الذي ظن‬

‫واحدة مما سمعوه‪ .‬حياتهم ليست حقيقية‪ ،‬بل انتظار من‬ ‫دون أمل»‪.‬‬

‫القطار يصل يف موعده‬

‫أنه سيستعيد أمجاده القديمة بقيادة هتلر كان مشردًا‬

‫ويحضر القطار يف «القطار يصل يف موعده»‪ ‬لهايرنيش بل‬

‫املحطات واألرصفة‪ ،‬ويحاول من خالل آالف املناقشات‬

‫نوبل لآلداب عام ‪١٩٧٠‬م‪ .‬بطل هذه الرواية القصرية جنديّ‬

‫ريشرت مؤسس‪« ‬مجموعة ‪ »١٩٤٧‬التي لعبت دورًا مهمًّ ا‬

‫الروسية‪ .‬فجأة تستبدّ به فكرة أنه لن يصل أبدً ا‪ ،‬وأن تلك‬

‫إحدى قصصه‪ ،‬يصف فولفغانغ بورشرت تلك املرحلة‬ ‫القاتمة من التاريخ األملاين املعاصر قائلاً ‪« :‬مخلوقات رثة‪،‬‬

‫ينتظره املوت‪ .‬ويف القطار يواصل حياته العادية‪ ،‬يأكل وينام‪،‬‬ ‫ويلعب الورق مع أصدقائه الجنود‪ .‬وهو يتذكر فصولاً من‬

‫من أنقذ نفسه من املوت يف آخر لحظة‪ ،‬ومنهم تاجر‬

‫القطار يف رحلته عرب أملانيا ثم بولندا‪ .‬وعندما يلتقي فتاة‬

‫يف الشوارع‪« ،‬يعيش فوق القضبان الحديدية‪ ،‬ويسكن‬

‫الذي كان من أبرز رموز‪« ‬مجموعة ‪ »١٩٤٧‬والحائز عىل جائزة‬

‫أن يربهن عىل حقه يف الوجود»‪ ‬بحسب هانس فِرنر‬

‫أملاين مأذون يركب القطار يف عام ‪١٩٤٣‬م ليلتحق بالجبهة‬

‫يف تطوير األدب األملاين بعد الحرب الكونية الثانية‪ .‬ويف‬

‫الرحلة هي رحلته األخرية‪ ،‬وأن القطار سينقله إىل قرية حيث‬

‫كائنات أشبه بأشباح‪ ،‬الجئون بال وطن وبال مأوى‪ ،‬منهم‬

‫حياته‪ ،‬ووجوهً ا من املايض‪ ،‬ويحاول ً‬ ‫أيضا أن يصيل‪ .‬ويتقدم‬

‫السوق السوداء منعدم الضمري‪ .‬هؤالء جميعً ا يجمعهم‬ ‫أمل واحد‪ :‬العودة إىل الديار»‪ .‬‬

‫ويصف ماكس فريش ما شاهده يف محطة القطارات‬

‫بولندية يتوهم أنه سيفلت من املصري الذي ينتظره‪ ،‬فيهرب‬ ‫معها يف سيارة‪ ،‬إلاّ أن السيارة يسحقها قطار‪ ،‬فتكون النهاية‬ ‫كما توقعها!‬

‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬


‫ويف أواخر الستينيات من القرن املايض‪ ،‬أسّ س هانس‬ ‫ماغنوس إنسنسربغر‪ ،‬وهو ً‬ ‫أيضا من أبرز وجوه «مجموعة‪»1947 ‬‬

‫مجلة «‪( »Kursbuch‬جدول القطارات)‪ ‬الشهرية‪ .‬وهو يعتقد أن‬ ‫هذا الجدول يثبت أن العمل األدبي بات عديم الفائدة؛‪ ‬لذا يجب‬

‫أن يستبدل به األخبار والتحقيقات الصحفية واملقاالت‪« :‬ال تقرأ‬

‫القصائد يا بني‪ ...‬عليك أن تقرأ جدول القطارات فهي أكرث دقة!»‪.‬‬

‫المجد للقطار‬ ‫قصيدة للشاعر الفرنسي فاليري الربو‬ ‫امنحني صخب َ‬ ‫َك الكبري وسرعتك اللذيذة‬

‫اللييل عرب أوربا املغمورة بالضوء‬ ‫وانزالقك‬ ‫ّ‬

‫آه يا قطار البذخ!‬ ‫ُ‬ ‫امنحني ً‬ ‫أيضا تلك املوسيقا املغمّ ة املدمدمة‬ ‫ّ‬ ‫املذهبة‬ ‫يف معابرك الجلديّة‬

‫يف مقصورة من مقصورات قطار الشمال السريع‬

‫بني‪« ‬فريبالن»‪ ،‬و«بسكاو»‬

‫كان القطار ينزلق عرب سهول‬

‫حيث يستند إىل جذوع أشجار ضخمة كما الهضاب‪،‬‬

‫بينما خلف األبواب «املربنقة» ذات املزاليج النحاسيّة الثقيلة‬

‫رعاة يرتدون جلود خرفان قذرة‬ ‫ً‬ ‫خريفا‪ ،‬وكانت الساعة تشري إىل الثامنة صباحً ا‪،‬‬ ‫(كان الوقت‬

‫أجتاز معابرك وأنا أعني‬

‫املقصورة املحاذية ملقصوريت)‬

‫ينام أصحاب املاليني‬

‫وكانت املغنية الجميلة ذات العينني البنفسجيتني تغني يف‬

‫وأتبع عدوك باتجاه فيينا وبودابست‬

‫أنت أيتها املرايا الكبرية التي عربك‬

‫آه يا هارمونيكا زوغ!‬ ‫ّ‬ ‫أحسست ألول مرة بلذة الحياة‬

‫وبحر مرمرة تحت مطر دافئ‪.‬‬

‫مازجً ا صويت بأصواتك املئة ألف‬

‫رأيت سيبرييا وجبال سامنيوم وهي تم ّر‬ ‫ً‬ ‫وأيضا قشتالة الوعرة الخالية من الزهور‬

‫‪31‬‬


‫الملف‬

‫سكك حديدية تفضي إلى محطات سينمائية‬

‫حين أمسكت السينما الزمن‬ ‫في قطار من ظالل‬

‫‪32‬‬

‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬


‫زياد عبدالله‬

‫روائي وناقد سوري‬

‫يمضي القطار على سكته‪ ،‬وما من نية ّ‬ ‫للحاق به وال النظر من نوافذه وال حتى تتبعه بكاميرا‪ ،‬بل‬ ‫إحالته إلى ارتباطه الوطيد بعنصرين أساسين في السينما أال وهما الحركة والزمن‪ ،‬وتثبيت اللحظة التي‬ ‫ظهرت فيها السينما رفقة قطار األخوين لوميير والدرب الذي مضى فيه الفن السابع متنقلاً من محطة إلى‬ ‫أخرى‪ ،‬وما القطار –كما كل وسائط النقل‪ -‬إال انتقال في المكان محكوم بالزمن‪ ،‬وما السينما –حسب‬ ‫جيل دولوز‪« -‬إال إعادة إنتاج وهم ثابت‪ ،‬عن طريق العرض؛ ألن السينما‪ ،‬كمنظومة‪ ،‬تعيد تأليف الحركة‬ ‫من خالل ردها إلى أية لحظة زمنية‪ ،‬تأتي قدرتها من التقلص أو التمدد‪ ،‬اإلبطاء أو التسارع‪ .‬ويتشكل‬ ‫في زمن المكان‪ :‬الماضي‪ ،‬كما يتشكل في زمن الحركة‪ :‬الحاضر؛ ألن الحركة في المكان انتقال‪ ،‬وحينما‬ ‫يحدث االنتقال في أجزاء في المكان‪ ،‬يحدث ً‬ ‫أيضا تغيّر نوعي في حالة الكل»(‪.)1‬‬ ‫يتبدّى تاريخ السينما كما لو أنه لحظة «وصول القطار إىل‬

‫املحطة» ثاين أفالم األخوين لوميري العشرة التي عرضت يف ‪ 25‬ديسمرب‬ ‫عام ‪1895‬م‪ ،‬يف «غراند كافيه‪ -‬الصالون الهندي» يف باريس‪ ،‬وقد‬ ‫أصيب حينها الجمهور بالذهول وهو يشاهد البشر يتحركون عىل‬

‫الشاشة ويرى حركة األمواج يف مشهد «قارب يغادر امليناء» وتطاير‬ ‫الغبار يف مشهد «هدم جدار»‪ .‬مع القطار امتزج الذهول بالخوف وهو‬ ‫يتوجه مباشرة نحو الجمهور‪ ،‬وأصيب من يف القاعة بالهلع‪ ،‬ومنهم‬ ‫من ارتمى تحت الكرايس‪ ،‬وقد بدا أنه سيحول «القاعة التي نجلس‬

‫فيها إىل ركام‪ -‬مع أنه مجرد قطار من ظالل» كما يورد مكسيم غوريك‬ ‫يف مقال له بعنوان «سينماتوغراف لوميري» نشره عام ‪1896‬م‪ .‬وليصف‬ ‫تاركوفسيك لحظة «وصول القطار إىل املحطة»‪ ،‬بأنها «ليست اللحظة‬ ‫التي أعلنت ظهور تقنية جديدة‪ ،‬وال اللحظة التي أسست إلعادة إنتاج‬

‫الحياة‪ .‬إنما كانت اللحظة التي وجد اإلنسان فيها وسيلة لإلمساك‬ ‫بالزمن وطباعته‪ ،‬ليصبح أساس السينما وقاعدتها»(‪.)2‬‬ ‫محطة مفصلية‬

‫سيواصل قطار لوميري رحلته‪ ،‬سيصل محطة جورج ميليه‬

‫املفصلية يف تاريخ السينما‪ ،‬ويخرج ذاك القطار عن سكة الوثائقي‬

‫ظهرت السينما رفقة قطار األخوين‬ ‫لوميير والدرب الذي مضى فيه الفن‬ ‫السابع متنقال من محطة إلى أخرى‬ ‫والتسجييل‪ ،‬ويوضع يف أفالم ميليه عىل سكة الروايئ‪ ،‬مازجً ا الفلم‬ ‫بالسحر‪ ،‬فاتحً ا الباب عىل مصراعيه أمام املخيِّلة‪ِّ ،‬‬ ‫مولدًا خد ًعا بصرية‬

‫تشد من أزر مخيلته العبقرية التي يبدو فيها القمر وجه إنسان تحيط‬ ‫به األخاديد أو التجاعيد كما تلك التي تظهر عىل وجه القمر‪ ،‬ولتنغرز‬

‫فيه كبسولة فضائية تطلق بواسطة مدفع وذلك يف فلمه الشهري‬ ‫«رحلة إىل القمر» ‪1902‬م‪ ،‬وليؤسس كل ذلك يف بنية مسرحية حيث‬

‫اللقطة‪ /‬املشهد تجري أمام كامريا ثابتة‪ ،‬واملمثلون يدخلون الكادر‬ ‫ثان‪ ،‬ولم‬ ‫يؤدون أدوارهم ثم ننتقل إىل مشهد‪ /‬لقطة ثانية يف موقع ٍ‬

‫يكتف ميليه «خيميايئ السينما» ‪-‬كما لقبه شاريل شابلن– بذلك بل‬ ‫ِ‬

‫أضاف إضافة أخرى إىل الفلم الصامت تتمثل يف اللوحات املكتوبة التي‬ ‫لعبت دورًا مهمًّا يف سرد الحكاية‪ ،‬وليست صدفة أن تدور أحداث‬

‫فلم مارتن سكورسيزي «هوغو» ‪2011‬م يف محطة قطارات باريس حيث‬ ‫يدير ميليه (بن كينغسيل) متج ًرا صغريًا يبيع فيه ما يصنعه من دُمى‬

‫مشهد من فلم «وصول القطار إلى المحطة»‬

‫‪33‬‬


‫الملف‬ ‫ميكانيكية‪ ،‬وذلك بعد تخليه عن السينما وخراب األستديو‬ ‫الذي أنشأه (أول أستديو يف أوربا) ومعه أفالمه عند اندالع‬

‫الحرب العاملية األوىل؛ هو الذي صنع أكرث من ‪ 500‬فلم قصري لم‬ ‫يصلنا منها إال النذر اليسري‪ ،‬وليكون ميليه فنان الفلم الروايئ‬

‫األول مثلما كان األخوان لوميري أول فناين الفلم الوثائقي‪.‬‬

‫يظهر القطار مجددًا لكن هذه املرة يف الواليات املتحدة‪،‬‬

‫وينعطف بالسينما انعطافة جديدة عرب حضور املونتاج للمرة‬

‫مشهد من فلم «سرقة القطار الكبرى»‬

‫األوىل يف فلم أدوين بورتر «سرقة القطار الكربى» ‪1903‬م‪ ،‬بما‬

‫يدفع للقول‪ :‬إن كانت أفالم ميليه تتابعية‪ ،‬فإن «السرد يف فلم‬ ‫بورتر سيجري وفق الرتتيب الزمني لألحداث كما لو أنه اكتشف‬ ‫املونتاج املتوازي يف شكله األويل‪ ،‬كما ستظهر يف هذا الفلم للمرة‬ ‫األوىل اللقطة الكبرية؛ إذ يظهر «الكاوبوي» يف نهاية الفلم موجهًا‬

‫مسدسه نحو الجمهور»(‪ )3‬الذي يصاب كما لدى عرض «القطار‬

‫يصل املحطة» بحالة هلع معت ِقدًا أنه سيطلق النار عليه‪ ،‬وعدا‬

‫ذلك فإن الفلم يحافظ عىل األسلوب املسرحي كما أفالم ميليه‬

‫مشهد من فلم «غريبان في القطار»‬

‫باستخدامه كامريا ثابتة تصور كل ما يجري من زاوية واحدة ال‬

‫تتغري‪ ،‬األمر الذي سيعتمده بورتر كليًّا يف فلمه التايل «كوخ العم‬

‫‪34‬‬

‫متواز كما لو أنه صنع‬ ‫توم» من دون لقطات كبرية وال مونتاج‬ ‫ٍ‬

‫ذلك يف «سرقة القطار الكربى» عن طريق الصدفة‪ ،‬وسيكون‬

‫عىل السينما أن تنظر غريفث وفلمه «مولد أمة» ‪1915‬م ليك يحرر‬ ‫السينما من البنية املسرحية‪ ،‬ويعلنها ف ًّنا يمتلك أدواته التعبريية‬ ‫والسردية الخاصة معل ًنا السينما ف ًّنا مستقلاًّ قائمًا بذاته‪.‬‬ ‫موقع تصوير استثنايئ‬

‫لن أميض كثريًا يف سياقات نظرية الفلم وتاريخ السينما‪،‬‬

‫وللقطار طاملا أنه الكلمة املفتاحية ملا جرى التقديم له‪ ،‬أن يكون‬ ‫مجالاً حيويًّا ألفالم ال ع َّد وال حصر لها‪ ،‬اتخذت من القطار‬ ‫موقع تصوير استثنايئ ومساحة للدراما والرومانسية والجريمة‬

‫واإلثارة والجاسوسية‪ ،‬كما يف فلم ألفريد هيتشكوك «غريبان‬ ‫يف القطار» ‪1950‬م‪ ،‬وفلمه اآلخر «شمالاً إىل الشمال الغربي»‬

‫‪1959‬م حيث تتشابك خيوط األحداث وتتصاعد درامية األحداث‬ ‫عىل منت القطار‪ ،‬وكيف ملن شاهد هذا الفلم أن ينىس الحوار‬

‫الساحر الذي يدور بني غاري غرانت وإيفا سنت يف مقصورة‬

‫املطعم؛ إذ تقول إيفا‪« :‬لقد أعطيت النادل خمس دوالرات‬ ‫ليجلسك أمامي إذا أتيت‪ .‬غاري‪ :‬هل هذا تصريح بالحب؟‬ ‫إيفا‪ :‬ال أحب الحديث عن الحب ومعديت خاوية‪ .‬غاري‪ :‬لكنك‬

‫انتهيت من طعامك للتو‪ .‬إيفا‪ :‬لكنك لم تأكل»‪.‬‬

‫ي َِرد يف كتاب املخرج األمرييك سيدين لوميت «صناعة‬

‫األفالم» مقطع مدهش يروي فيه تفصيليًّا كيفية تصويره‬

‫أفالم ال ع َّد وال حصر لها‪ ،‬اتخذت‬ ‫من القطار موقع تصوير استثنائي‬ ‫ومساحة للدراما والرومانسية‬ ‫والجريمة واإلثارة والجاسوسية‬ ‫لقطة القطار يف فلمه «جريمة يف قطار الشرق السريع» ‪1974‬م‪،‬‬ ‫ولهذا املقطع أن يرينا كم كانت األمور شاقة وصعبة يف خمسينيات‬ ‫القرن املايض‪ ،‬وكم من الجهد والتفاين بُذِال يف إنجاح لقطة‪« :‬نحن‬

‫يف حظرية كبرية يف باحة محطة القطار خارج باريس‪ .‬تحت الحظرية‬ ‫يقف قطار الهث ناخر مؤلف من ست عربات‪ .‬قطار كامل‪ .‬قطاري أنا‪.‬‬

‫ليس قطارًا دمية‪ ،‬بل قطار حقيقي! وقد جرى تجميعه جزئيًّا من‬

‫بروكسل حيث تحتفظ شركة «واغون ليتز» بعرباتها القديمة‪ ،‬ومن‬ ‫«بونتالرليه» يف جبال األلب الفرنسية حيث تحتفظ شركة «سكك‬

‫الحديد الفرنسية» بقاطراتها القديمة‪ .‬لقد بنينا ديكورًا ملحطة قطارات‬ ‫إسطنبول يف لندن‪ ،‬ونقلناه إىل باريس‪ ،‬ور ّكبناه تحت الحظرية بحيث‬

‫أصبحت هذه محطة إسطنبول لقطار الشرق السريع‪ .‬هناك ثالث مئة‬ ‫كومبارس يتجمعون فوق رصيف محطة القطار ويف قاعة االنتظار‪.‬‬

‫كانت اللقطة كما ييل‪ :‬الكامريا فوق جهاز «ناييك» وهو عبارة عن‬ ‫رافعة للكامريا بارتفاع خمسة أمتار وتعمل بمحرك‪ .‬هي يف الوضع‬

‫املنخفض‪ .‬حني يندفع القطار نحونا‪ ،‬تتحرك الكامريا إىل األمام‬ ‫لتقابله وترتفع يف الوقت نفسه إىل قرابة منتصف ارتفاع القطار‪ ،‬أي‬

‫نحو املرتين‪ .‬يسرع القطار وهو يتجه نحونا بينما نسرع نحن باتجاه‬

‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬


‫القطار‪ .‬وما أن يصل منتصف املقطورة الرابعة حتى تكون لدينا لقطة‬ ‫مقربة «كلوز أب» لشعار ‪ .Wagon – Lit‬املشهد جميل جدًّا‪ ،‬ذهبي‬ ‫عىل خلفية زرقاء‪ .‬وهذا يمأل الشاشة‪ .‬ومع مرور القطار بتنا نحرك‬

‫الكامريا لتتابع الشعار املضاء حتى نكون قد استدرنا بزاوية ‪ 180‬درجة‬ ‫ونصبح باالتجاه املقابل‪ .‬لقد ارتفعنا اآلن إىل أقىص ارتفاع الرافعة أي‬

‫خمسة أمتار‪ ،‬ونحن نصور القطار وهو يبتعد منا‪ ،‬فيصغر تدريجيًّا‬ ‫وهو يبتعد‪ .‬وأخريًا نرى الضوءين األحمرين آلخر مقطورة بينما‬

‫يختفي القطار يف عتمة الليل»(‪.)4‬‬

‫وإن كان القطار محوريًّا يف هذا الفلم‪ ،‬فإن له أن يكون كذلك‬

‫يف نمط سينمايئ كامل أال وهو «أفالم الويسرتن» وما أن تتوارد‬ ‫هذه األفالم بالذهن حتى تتالمح مشاهد ال حصر لها من القطارات‬ ‫التي يجري السطو عليها وتحويل مسارها وغري ذلك من صراعات‬

‫ومصاير ارتبطت بالقطار وما يحمله‪ ،‬وليتعاظم هذا الحضور يف أفالم‬ ‫«السباغيتي ويسرتن» وصولاً إىل اإلنتاجات القليلة ألفالم «الويسرتن»‬ ‫يف العقدين املاضيني وفلم أندريه دومينك «اغتيال جييس جيمس عىل‬

‫يد الجبان روبرت فورد» ‪2007‬م يحضر كمثال لفلم استثنايئ‪ ،‬والحدث‬ ‫املفصيل يف أحداثه يتمثل يف السطو عىل الربيد الذي يحمله القطار‪.‬‬ ‫دليل عىل إعجاز الحياة‬

‫نزعت إطارات السيارات بأنواعها املختلفة لتتناسب السكة وصولاً إىل‬ ‫الدراجات الهوائية والعربات التي تميض بالدفع اليدوي‪ ،‬وناظر املحطة‬ ‫يريد لقريته أن ُتميس قرية سياحية يصلها القطار بسالسة بينما تدور‬

‫رحى حرب أهلية طاحنة‪ ،‬ولعل إيراد فلم كوستاريكا سيقودنا إىل‬ ‫فلمه األشهر «أندر غراوند» (سعفة كان الذهبية عام ‪1995‬م) الذي‬

‫سيقودنا إىل «املرتو» أو «قطار األنفاق» لكن بعيدًا من الحرب العاملية‬

‫الثانية وحقبة حكم تيتو ليوغسالفيا التي يصورها كوستاريكا يف‬ ‫ذلك الفلم البديع‪ ،‬ليضعنا أمام حضور املرتو يف السينما الذي شهد‬

‫يف األفالم ما شهد من مصاير ومآالت شخصيات‪ ،‬وليكون مساحة‬

‫فلمية خاصة تتيح للمخرج أن يضع الشخصيات عىل مقربة بعضها‬ ‫من بعض‪ ،‬وللمصاير أن تتصل أو تنفصل‪ ،‬مساحة ّللقاء والفراق‪،‬‬ ‫يحتشد بها البشر‪ ،‬تمتلك إمكانية أن تكون فضاء مفتوحً ا أو سج ًنا‪.‬‬

‫ويف تعقب ما تقدّم عربيًّا يحضر بقوة فلمان استثنائيان يف‬

‫تاريخ السينما العربية‪ ،‬نجد فيهما أن القطار يشارك املمثلني بطولة‬ ‫الفلم كما يف فلم كمال الشيخ «حياة أو موت» ‪1955‬م؛ إذ ال ّ‬ ‫يشكل‬ ‫«الرتاموي» وسيلة نقل لحركة بطلة الفلم فقط‪ ،‬فكما هو معروف‬

‫فإن الفلم متأسس عىل حدث مغلق‪ ،‬يتمثل يف أن الطفلة التي تريد‬ ‫أن تحضر الدواء لوالدها تضطر للذهاب إىل صيدلية بعيدة لتحصل‬ ‫عليه‪ ،‬وليقوم الصيديل برتكيب سم قاتل بدلاً من الدواء‪ ،‬وهكذا‬

‫ال يمكن الحديث عن القطار يف السينما من دون ذكر فلم‬

‫ترتامى رحلتها وهي تبدّل الرتاموي يف محطات كثرية‪ ،‬وبالتايل يحول‬

‫القطار دليل كوستاريكا عىل إعجاز الحياة‪ ،‬وكل أحداث هذا الفلم‬

‫النقد السينمايئ‪ ،‬إضافة إىل تقديم الفلم بواسطة «الرتاموي» وثيقة‬ ‫ّ‬ ‫وجل الفلم مصور خارجيًّا‪.‬‬ ‫بصرية مدهشة للقاهرة يف الخمسينيات‪،‬‬

‫البوسني أمري كوستاريكا «الحياة معجزة» ‪2004‬م؛ حيث تكون سكة‬

‫تجري عىل السكة‪ ،‬ولتتعدد وسائط النقل التي تميض عليها‪ ،‬وقد‬

‫«الرتاموي» الفلم إىل «فلم طريق» قبل حضور هذا املصطلح يف أدبيات‬

‫أما الفلم الثاين فهو فلم يوسف شاهني «باب الحديد» ‪1958‬م‪ ،‬ومن‬ ‫منا ال يذكر بائع الصحف املهووس قناوي (يوسف شاهني) وحبه‬ ‫له ُّنومة (هند رستم) والقطارات شاهدة عىل كل يشء‪ ،‬وهي التي‬

‫تحمل جثة من قتلها قناوي وهو يحسبها هنومة‪.‬‬ ‫ال بد أن زم ًنا م ّر والقطارات عىل دأبها نشطة متحركة من مكان‬

‫إىل آخر‪ ،‬هناك من وصل إىل وجهته وآخر لم يصل بعد‪ ،‬هناك من‬ ‫ّ‬ ‫يستقل «املرتو» ويقرأ ما كتب ها هنا‪ ،‬ووسيلة النقل ليست بمعدنها‬

‫مشهد من فلم «حياة أو موت»‬

‫مشهد من فلم «باب الحديد»‬

‫وتقنياتها وميكانيكيتها بل باإلنسان الذي ّ‬ ‫تقله‪ ،‬وهذا هو شاغل‬ ‫ٍّ‬ ‫السينما الرئيس‪ ،‬والبشر مجتمعون يف قاطرته ٍّ‬ ‫ولكل‬ ‫لكل وجهته‪،‬‬ ‫قصته ومصريه‪.‬‬

‫‪ -1‬جيل دولوز‪ .‬الصورة – الحركة أو فلسفة الصورة‪ /‬ترجمة‪ :‬حسن عودة‪.‬‬ ‫دمشق‪ :‬منشورات وزارة الثقافة – المؤسسة العامة للسينما ‪1997‬م‪.‬‬ ‫‪ -2‬أندريه تاركوفسكي‪ .‬النحت في الزمن‪ /‬ترجمة‪ :‬أمين صالح‪ .‬القاهرة‪:‬‬ ‫دار ميريت‪2006 ،‬م‪.‬‬ ‫‪ -3‬قيس الزبيدي‪ .‬مونوغرافيات في الثقافة السينمائية‪ .‬القاهرة‪ :‬الهيئة‬ ‫العامة لقصور الثقافة – آفاق سينمائية‪2013 ،‬م‪.‬‬ ‫‪4- Lumet, Sidney. Making Movies. New York: Vintage‬‬ ‫‪Books, 1996.‬‬

‫‪35‬‬


‫الملف‬

‫أساطير على هامش‬ ‫يوميات مترو القاهرة‬

‫‪36‬‬

‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬


‫صبحي موسى‬

‫القاهرة‬

‫حين تتحدث مع أي من قاطني مصر الجديدة قائلاً ‪« :‬ترام مصر الجديدة ‪ »...‬يوقفك بانزعاج‬ ‫قائلاً ‪« :‬مصر الجديدة ليس بها ترام‪ ،‬دا مترو»‪ .‬هكذا تجد نفسك في مأزق غريب‪ ،‬فمترو األنفاق يربط‬ ‫في خطه األول ما بين شبرا والجيزة‪ ،‬وفي خطه الثاني ما بين حلوان والمرج‪ ،‬ويسير تحت األرض‬ ‫وفوق األرض بين سورين عظيمين يمنعان الناس والسيارات عن مساره‪ ،‬ويسير بالكهرباء وليس‬ ‫بالوقود كالقطارات‪ ،‬وال توجد به «سينجة» يشدها الشباب فيقفونه عن السير‪ ،‬وليس به مقابل‪،‬‬ ‫وليس له مزلقان كما في القطار‪ ،‬فكيف يمكن القول عن ذلك الذي يمشي على وجه األرض بين‬ ‫الناس والسيارات‪ ،‬وينعطف ليم ّر بين العمارات في الشوارع دون خصوصية وال استقالل‪ ،‬ودون‬ ‫هيبة وأسوار تحوالن دون مطاردة األطفال له‪ ،‬كيف يقولون عنه «مترو» وليس «ترام»؟‬ ‫سوف تتذكر أن مهندسً ا يف السكك الحديدية املصرية َتقدَّم إىل‬

‫امللك فاروق باقرتاح إلقامة أول مرتو أنفاق يف مصر وإفريقيا والشرق‬ ‫األوسط كله‪ ،‬لكن امللك أهمل االقرتاح فماتت الفكرة‪ ،‬ولم تستيقظ‬

‫إال مع مجيء جمال عبدالناصر‪ ،‬هذا الذي رغب يف أن يكون املؤسس‬

‫الثاين ملصر الحديثة بعد محمد عيل‪ ،‬فاقرتح عىل الخرباء الفرنسيني‬ ‫أن يضعوا تصورًا إلنشاء أول مرتو يف مصر‪ُّ ،‬‬ ‫وات ِفق مع بيت الخربة‬

‫الفرنيس «سوفريتو» عام ‪1970‬م عىل إنشاء خطني أحدهما يربط ما‬ ‫بني بوالق أبو العال وقلعة محمد عيل بطول ‪ 5‬كم‪ ،‬والثاين يربط ما‬

‫بني باب اللوق وترعة اإلسماعيلية بطول ‪ 12‬كم‪ ،‬ويف عام ‪1973‬م صدَّق‬ ‫أنور السادات عىل إنشاء مرتو القاهرة‪ ،‬لكنه لم يبدأ العمل فيه إال يف‬

‫عصر مبارك‪ ،‬وكان أول تشغيل له عام ‪1987‬م‪.‬‬

‫كانت القاهرة قبل أن يربط املرتو بني أطرافها أشبه بصندوق‬

‫مكتظ بالبشر‪ ،‬وكانت أحياء مثل حلوان واملعادي واملرج وغريها‬ ‫أشبه بدول أخرى‪ ،‬ال يذهب إليها أحد‪ ،‬وال يسمع بها أحد‪ ،‬ويتندر‬

‫الناس عىل من يفكر يف اإلقامة بها‪ ،‬لكنها مع املرتو أصبحت أقرب من‬ ‫وسط املدينة؛ ألن زحام املرور فوق سطح األرض ال يمنح أحدًا حق‬

‫عبت‬ ‫التحرك من مكانه‪ ،‬واإلشارات ال تفتح أضواءها إال لتغريها‪ ،‬وقد رَّ‬ ‫السينما يف السبعينيات والثمانينيات عن هذا االختناق املروري املزمن يف‬ ‫شوارع القاهرة وكباريها من خالل أفالم مثل «أربعة يف مهمة رسمية»‪.‬‬ ‫مدن داخلية عىل أبواب املحطات‬

‫لم يكن مرتو القاهرة مجرد حدث أو وسيلة مواصالت جديدة‪،‬‬

‫لكنه كان تغريًا ديموغرافيًّا كبريًا‪ ،‬فقد امتدت القاهرة الكربى عىل‬

‫ضفاف هذا الثعبان الحديدي‪ ،‬فنشأت مدن داخلية عىل أبواب‬ ‫محطاته‪ ،‬وصارت عالمة «‪ »M‬الحمراء رم ًزا لتجمعات بشرية‬ ‫متباينة‪ ،‬حيث تجار املالبس والفاكهة والزيوت واملساويك والكتب‬ ‫القديمة واملوبايالت وكروت الشحن والسماسرة والبهلوانات وأصحاب‬ ‫الثالث ورقات‪ ،‬فضلاً عن عيادات األطباء ومكاتب املهندسني وشركات‬

‫‪37‬‬


‫الملف‬

‫األموال الكبرية سواهم‪ ،‬ورواية ياسمني مجدي «معرب أزرق برائحة‬

‫الصرافة وسماسرة العقارات والشقق املفروشة وغريها‪ ،‬نشأت‬

‫بيع تذاكر يف إحدى محطات املرتو‪ ،‬وكذلك ديوان حمد عبدالعزيز‬

‫ليس عن نشأة القاهرة ومجيء املعز بسيفه وذهبه‪ ،‬ولكن عن‬

‫حول حادث قطار العياط الذي اشتعلت فيه النريان عند منطقة‬

‫حيوات وتغريت طبيعة أماكن‪ ،‬وتوالدت أساطري وحكايات‪،‬‬

‫املرتو والرتام والقطار الفرنساوي والقشاش‪ ،‬وتحول الناس من‬

‫آدميني يمشون عىل أقدامهم رافعني أنوفهم نحو السماء إىل‬

‫فرئان أو أرانب تهرول بمجرد دخولها من باب املحطة‪ ،‬تهرول‬ ‫عال وكثري‪ ،‬مسموع‬ ‫يف أنفاق طويلة وباردة‪ ،‬وسط ضجيج ٍ‬ ‫وغري مفهوم‪ ،‬ضجيج يبعث عىل التوتر والسرعة‪ ،‬ليتسابقوا‬ ‫يف دخوله عىل شباك التذاكر‪ ،‬ومرورهم من بوابات ممغنطة‪،‬‬ ‫فرحني بوصولهم إىل الرصيف‪ ،‬يف انتظار الثعبان الحديدي‬

‫الكبري‪ ،‬هذا الذي ال تمر دقائق إال بمجيئه‪ ،‬وحيث تكتظ املحطة‬ ‫بالنازلني والصاعدين‪ ،‬لكنها سرعان ما تصبح خالية يف انتظار‬ ‫قادمني جدد‪.‬‬

‫لم يكن األدب بعيدًا من حضور املرتو بثقافته الجديدة‬

‫عىل الجميع‪ ،‬فقد سجل العديد من الكتاب هذا الحضور يف‬ ‫أعمالهم‪ ،‬من بينها رواية «مرتو» املصورة ملجدي الشافعي‪،‬‬

‫التي تدور أحداثها حول «شهاب» مهندس اإللكرتونيات الحانق‬

‫‪38‬‬

‫الينسون» الفائزة بجائزة دبي عام ‪2009‬م‪ ،‬التي تدور أحداثها يف شباك‬

‫عىل النظام االجتماعي والفساد املنتشر يف مصر‪ ،‬الذي يقرتب‬

‫من اإلفالس بسبب املنافسة التي يسحق فيها أصحاب رؤوس‬

‫«عشرين سنة عىل سلم املرتو»‪ .‬وفلم «ساعة ونص» التي تدور أحداثه‬

‫ً‬ ‫قصصا إنسانية عن ركابه‪.‬‬ ‫«العياط»‪ ،‬ويحيك‬

‫يف هذا التحقيق نتعرف عىل مشاعر وانطباعات وذكريات وأفكار‬

‫وتصورات عدد من املثقفني املصريني والعرب‪ ،‬ممن تعرفوا عىل مرتو‬

‫القاهرة أو اتخذوا يف رحالتهم مرتو دبي أو غريها من مدن العالم‪،‬‬ ‫وكيف تركت هذه الوسيلة الجديدة حضورها لديهم‪ ،‬وكيف َت َّ‬ ‫شكل‬ ‫خيالهم معها‪.‬‬

‫عمر العاديل‪ :‬ضجيج ال ُيسمع وسرعة ُترى‬

‫القاهرة عام ‪1986‬م هي تقريبًا ثلث القاهرة عام ‪2017‬م‪ ،‬ليس‬

‫فقط من حيث عدد السكان إنما من حيث التنامي واالنتشار يف املدن‬

‫الجديدة املنتسبة لهذه املدينة العريقة‪ ،‬فهناك بعض املدن التي ال‬

‫عالقة لها بالقاهرة جغرافيًّا‪ ،‬لكن يبدو أن أصحابها سعداء باالنتساب‬

‫غري الدقيق للعاصمة املصرية‪.‬‬

‫يف عام ‪1986‬م لم يكن هناك ِسوى بعض أعمال حفر ملا سمعنا يف‬

‫تلك األيام أن اسمه مرتو األنفاق‪ ،‬ومرتو األنفاق الذي يجري يف إنجلرتا‬

‫منذ عام ‪1899‬م لم يدخل إىل القاهرة إال يف عام ‪1987‬م‪ ،‬وكان املرتو‬

‫جاكلين سالم‪ :‬نصوص في مترو تورنتو‬ ‫يشكل املرتو عصب التنقالت يف مدينة تورنتو الكندية التي تعد واحدة من أكرب مدن العالم‪ .‬شخصيًّا أستخدم املرتو‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أحيانا أكتب الشخصيات واملواقف يف‬ ‫وأحيانا أقرأ وجوه العابرين‪.‬‬ ‫أحيانا أقرأ الكتاب الذي يف يدي‪،‬‬ ‫للذهاب إىل العمل‪.‬‬

‫دفرت املالحظات‪ .‬هنا بعض أحوال مرتو املدينة التي يعيش فيها خليط بشري متنوع من كل األلوان واألجناس‪.‬‬ ‫***‬

‫ُ‬ ‫خرجت مرة يف الصباح الباكر وكنت عىل موعد للذهاب للرتجمة الفورية لوزراء كنديني سيتحدثون عن تجربة‬

‫استقدام الالجئني السوريني إىل كندا‪ .‬لبست ثيابي الرسمية ويف منتصف الطريق إىل مكان انعقاد املؤتمر‪ ،‬توقف املرتو‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫طريقا للخروج‪ ،‬استقللت سيارة أجرة‪ ،‬كانت عشرات‬ ‫اختنقت‪ .‬لم أستطع الخروج من النفق‪ .‬حني تدبرنا‬ ‫لعطل ما‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫الرسائل الصوتية قد وصلتني من مكتب العمل يسألون عن تأخر املرتجمة‪ .‬حني وصلت إىل املكان‪ ،‬دقائق فقط أمامي‬ ‫يك ّ‬ ‫أرتب شعري وأشرب املاء‪ ،‬ثم ُق ِّد ُ‬ ‫مت إىل الوزيرة والشخصيات التي ستلقي خطابًا سأقوم برتجمته مباشرة يف‬ ‫حضور عدد كبري من القنوات التلفزيونية الكندية‪ .‬أثناء إلقاء الخطابات عن دور كندا اإلنساين حيال مساعدة الالجئني‬

‫ُ‬ ‫كنت أقول يف نفيس‪ :‬أنا سورية‪ -‬كندية ومن املمكن أن أتضرر لو توقف املرتو يف ساعة‬ ‫وتقديم فرص العمل لهم‪،‬‬

‫حرجة‪ .‬املرتو واللغة وسيلتان للوصول إىل مكان والعبور إىل الطرف اآلخر‪.‬‬

‫***‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الكالب ً‬ ‫تستقل مرتو تورنتو‪ :‬حني تكون برفقة كلب وتستقل عربة يف املرتو‪ ،‬ستحظى بكل االهتمام من‬ ‫أيضا‬

‫الركاب‪ .‬إنهم يداعبون الكالب ويتحدثون مع مالكها بود شديد‪ .‬ذات مرة كانت سيدة بجواري تحمل يف حضنها كلبًا‬

‫صغريًا وسيمً ا‪ .‬الشاب يف الكريس املقابل‪ ،‬صار يداعب الكلب ويقول للسيدة‪« :‬لكلبك شخصية مميزة‪ ،‬أعجبني كلبك»‬

‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬


‫ً‬ ‫حدثا يع ّد األبرز وقتئذ‪ ،‬فمن حيث األهمية فهو وسيلة املواصالت‬

‫هذه املدينة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬جدَّد فيها املرتو شبابها يف السنوات األوىل‬

‫الفرنسية املشرفة عىل املشروع تحدد ميعاد التسليم باليوم والساعة‪،‬‬

‫املواصالت العامة يف حالة يرىث لها‪ ،‬فيمكن أن يستغرق قطع عشرين‬

‫األسرع عىل اإلطالق‪ ،‬ومن حيث دقة التنفيذ فقد كانت الشركة‬ ‫لدرجة وجود عداد رقمي يتناقص يومًا كل أربع وعشرين ساعة لدقة‬ ‫الع ّد التنازيل‪ ،‬ويف صيف عام ‪1987‬م أصبح يجري تحت أرض القاهرة‬

‫مرتو أنفاق كالذي يجري يف لندن وروما وباريس‪.‬‬

‫من عمله‪ ،‬فقد كانت قد وصلت حد الرتهُّ ل والبدانة‪ ،‬وأصبحت‬ ‫كيلو مرتًا أكرث من ساعتني‪ ،‬وقد كان املرتو يقطع املسافة نفسها يف‬

‫ثلث ساعة فقط ال غري‪ .‬تغري شكل االنتقال يف القاهرة‪ ،‬وتغري معها‬

‫نظرة الناس بشكل عام‪ ،‬فأصبح متاح إلنسان أن يعطي بسهولة‬

‫ُ‬ ‫نظرت إىل الكلب بعني فاحصة ويف داخيل مشاعر متناقضة‪ .‬مرات كثرية أرى امرأة تجلس‬

‫يف مقعد يف املرتو‪ ،‬تبيك وال أحد يلتفت إليها‪.‬‬

‫***‬

‫يف ساعات االزدحام الشديد‪ ،‬أركض بني الجموع يك أصل إىل املرتو وكليّ‬ ‫ٌ‬ ‫أمل يف أن‬ ‫ً‬ ‫مقعدا‪ .‬حني أصاب بالخيبة أبدأ بتصفح عناوين الكتب التي يقرؤها العابرون إىل قلب‬ ‫أجد‬

‫املدينة‪ .‬وأسرتق النظر إىل وجوه األشخاص‪ .‬بعضهم ينام وبعضهم يأكل‪ .‬أقرأ الوجوه‬ ‫ً‬ ‫أحيانا‪ .‬العالم محصور يف عربة أمامي‪ ،‬أتمنى لو أكتب املفارقات‬ ‫ككتاب وأد ِّون امللحوظات‬ ‫والصور‪.‬‬

‫***‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أكياسا كبرية تفوح منها رائحة عفنة‪ .‬رائحتهم أيضا تنتشر يف املقطورة‪.‬‬ ‫أحيانا‪ .‬يصحبون معهم‬ ‫ينام الشحاذون يف املرتو‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أحيانا أغيرِّ مكاين يك أبتعد من مصدر الرائحة‪.‬‬ ‫***‬

‫يف املناطق املكشوفة يف املرتو يتناهى إىل سمعي املحادثات التليفونية الخاصة‪ .‬أسرار تصلك بالعربية واإلنجليزية‪ .‬أبتسم‬

‫وأنا أستمع إىل امرأة عربية تشتيك من زوجها‪ ،‬أو العكس‪.‬‬

‫***‬

‫يحدث أن أنغمس يف قراءة رواية وأجتاز املحطة التي سأنزل فيها‪ ،‬حينها ألعن الكاتب وأبدأ بتأليف كذبة مناسبة عن‬

‫سبب تأخري عن العمل‪.‬‬

‫كاتبة ومرتجمة سورية مقيمة يف كندا‬

‫‪39‬‬


‫الملف‬

‫صالح حسن‪ :‬وسيلة عملية ونظيفة‬

‫موعدًا ويستطيع االلتزام به‪ ،‬وذلك ببساطة ألن فرق توقيت‬

‫اإلنسان غري محدودة يف استخدام الطبيعة لتسهيل حياة اإلنسان‪،‬‬

‫إن املرتو كان أداة تجميل ضرورية والزمة بسبب التكدس الذي‬

‫نشهد اليوم يف أوربا بالتحديد مشاريع عمالقة ملد األنفاق تحت‬

‫مرتو عن آخر لم يكن يزيد عىل خمس دقائق‪ ،‬ويمكن القول‪:‬‬

‫ضرب املدينة العريقة‪ ،‬وجعلها تستوعب أكرث مما يكفيها من‬ ‫البشر بثالثة أضعاف عىل أقل تقدير‪.‬‬ ‫لاً‬ ‫بعض املثقفني فضلوا التنقل عن طريق املرتو بد من‬

‫التاكيس أو وسائل املواصالت العامة‪ ،‬فقد ربط املرتو بني‬

‫وجعله قادرًا عىل االتصال باآلخرين مهما كانوا بعيدين من بعض‪.‬‬

‫البحر‪ ،‬وقد نجح كثري من البلدان يف ذلك‪ ،‬وأكرب األمثلة هو النفق‬ ‫الذي يربط فرنسا بربيطانيا‪ ،‬واملشروع العمالق بني أكرث من سبع‬

‫دول أوربية إلنجاز نفق طوله مئات الكيلومرتات‪ .‬إنها تجربة فريدة‬ ‫بالفعل أن تسافر يف قطار يسري تحت املاء‪ .‬بالنسبة يل وأنا أستخدم‬

‫هذه القطارات بني وقت وآخر أجدها طريقة عملية ونظيفة وسهلة‬

‫مراكز ثقافية يف أول املدينة بأخرى عىل أطرافها‪ ،‬فلو أن هناك‬ ‫منتدى يف املعادي مثلاً يُق ِّدم محتوى ثقافيًّا؛ ويريد شخص ما‬

‫للوصول إىل املكان الذي تريده دون تضييع كثري من الوقت‪ ،‬لكن نحن‬

‫هل كان يستطيع الوصول إىل هذه الضاحية البعيدة؟ اإلجابة‬

‫ألسباب سيكولوجية‪ ،‬وهي الخوف من األماكن املغلقة مع أنها غري‬

‫أن يذهب إليه وهو يقطن يف منطقة املرج أو منطقة الزيتون‪،‬‬

‫ال؛ ألنه من الصعب تخيل شخص يقطع قرابة سبعني كيلو‬ ‫مرتًا فوق أسفلت متكدس وطريق مزدحم وإشارات تغلق أكرث‬ ‫مما تسمح باملرور‪ ،‬وكان من الصعب ً‬ ‫أيضا أن تزيد هذه الكثافة‬

‫السكانية العالية يف هذا الزمن الوجيز دون حلول‪ ،‬فلوال مرتو‬ ‫األنفاق النفجرت القاهرة‪.‬‬

‫اآلن‪ ،‬ويف عام ‪2017‬م تمددت خطوط املرتو‪ ،‬وأصبحت‬

‫‪40‬‬

‫مرتو األنفاق هو واحد من املشاريع املهمة التي تثبت أن قدرة‬

‫تربط أطراف القاهرة من جميع االتجاهات‪ ،‬وهذا ي ََّسر عىل‬

‫الكثريين سرعة التنقل ودقة املواعيد‪ ،‬إضافة إىل يشء آخر أال‬ ‫وهو التخفف من الزحام قدر املستطاع‪ ،‬فالقاهرة يعمل بها‬

‫عمالة مؤقتة تتعدى خمسة ماليني نسمة‪ ،‬يزورونها كل صباح‬

‫ويرتكونها يف مساء اليوم نفسه‪.‬‬

‫روايئ مصري‬

‫العرب معتادون عىل املساحات املفتوحة‪ ،‬نخاف من هذه القطارات‬ ‫مربرة طاملا أثبتت نجاحها املستمر‪.‬‬

‫شاعر عراقي‬

‫إيناس العباس‪ :‬كامريا تراقب التفاصيل‬

‫املفارقة أنني لم أستعمل املرتو يف تونس‪ ،‬إنما يف سول ويف دبي‪،‬‬

‫وإن كانت مرتوهات سول يف معظمها تمر عرب األنفاق‪ ،‬فهي عالم‬ ‫ً‬ ‫الحقا يف‬ ‫كامل من املفاجآت املبنجة للعني واألفكار التي استعملتها‬ ‫كتابي حكايات شهرزاد الكورية‪ .‬عالم تحتي كامل من املحالت واملطاعم‬ ‫كشف نفسه مع ملسات حميمية‪ ،‬ستجد محلاًّ يبيع أحدث األفالم أو‬

‫أدوات الصيد وبجانبه محل مالبس وبجانبهما محل للعناية بأظافر‬ ‫ووجوه الركاب وعاداتهم الصباحية التي تختلف عن املسائية‪ ،‬من‬ ‫جالسا أو ً‬ ‫واقفا‪...‬‬ ‫يقرأ يف الصباح الجرائد ليس نفسه من يقرأ الكتب‬ ‫ً‬ ‫الصبايا الضاحكات صباحً ا يف مهرجان من األلوان‬ ‫والفساتني القصرية واألحذية العالية بطريقة الفتة‬

‫هن الاليئ يشاهدن الدراما الكورية مسا ًء متعبات‪...‬‬

‫وأنا هناك مثل كامريا تراقب التفاصيل وتحتويها‪.‬‬ ‫يف دبي‪ ،‬املرتو يعرب من فوق الطرقات‪ ،‬يعرب املدينة‬ ‫يف جولة شبه كاملة سياحيًّا‪ ،‬لو استعملتها من‬

‫أول إىل آخر محطة‪ ،‬ومن النادر أن تلتقي طلبة‬ ‫به مثلاً ‪ ،‬أو ربما كان الخط الذي استعملته ألشهر‬ ‫ال يمر ناحية الجامعات‪ ،‬لست متأكدة‪ ...‬ذاكريت‬

‫البصرية تحتشد بتفاصيل املمرضات والعامالت‬ ‫يف املطار ومشرفات الطريان‪ .‬أما مرتو القاهرة‬ ‫فقد رأيته عام ‪2006‬م أو ‪2007‬م‪ ،‬أذكر أنني انبهرت‬ ‫بالبنية التحتية للمرتو والعربات نفسها‪ ،‬أذكر أنني‬ ‫للحظة شعرت كأنني يف فلم أمرييك‪ ،‬حيث بدت‬

‫املحطة ضخمة ومليئة باالحتماالت والحكايات‪.‬‬

‫شاعرة وكاتبة تونسية‬

‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬


‫عزة حسني‪ :‬شبكة صي ٍد طائشة‬

‫نحو ‪ 10‬دقائق بالسيارة‪ ،‬قبل أن تمتد يد‪ ،‬طاملا انتظرتها‪ ،‬لتغرسني‬

‫شرق قريتنا‪ ،‬التي لم تعرف من اآلالت سوى ماكينة الطحني‪،‬‬

‫يف قلب العاصمة‪ ،‬كان الطريق بيتي‪ .‬ففي السابعة عشرة‪ ،‬وأنا‬ ‫ً‬ ‫حاملة أكرب حقيبة مالبس عرفتها يف تلك السن‪،‬‬ ‫أودع عائلتي‪،‬‬

‫كان هذا الكبري ال يعني سوى الرحلة‪ .‬األحالم املدونة عىل أغلفة‬

‫ً‬ ‫عالقا يف الطريق‪ -‬القطار‪ .‬يف‬ ‫املرفأ الجديد‪ ،‬وظل قلبي عىل الدوام‬

‫كان هدير القطار‪ ،‬عىل الشريط الحدودي املوازي للطريق لكل يشء‪،‬‬

‫آس ًرا‪ .‬أيام كنا ال نلتفت لدرجة العربة العمالقة‪ ،‬وال لفخامة املقاعد‪،‬‬ ‫الكراسات‪ ،‬وجدران البيت األسمنتي‪ ،‬كانت تعرف أن نقطة البداية‪،‬‬ ‫ال بد أن تتم بمباركته‪.‬‬

‫كل الوداعات ال تكتمل سوى بمحاذاة قطار‪ ،‬واللقاءات أتخيلها‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫سعيدة عىل مقعدين متجاورين يف قطار‪ .‬أما األىس‬ ‫مصادفة‬ ‫دائمًا‬ ‫فتكفيه جملة‪« :‬كل القطارات تحملني إليك وال وصول»‪ .‬كمغرتبة؛‬ ‫احتفظت بهذا الوصف‪ ،‬منذ التحقت باملدرسة التي تبعد من قريتنا‬

‫أدركت أنني لن أعود لبيتنا تمامًا‪ ،‬لكن روحي لم تصمد كثريًا يف‬

‫القطار كان كل يشء جديدًا‪ ،‬بال خرب ٍة سوى بعض حكايات مغرتبي‬

‫العائلة‪ ،‬ومشاهد أفالم السينما‪ :‬الفقر‪ ،‬والربد‪ ،‬واملزاح بدرجاته‪،‬‬ ‫والبضائع‪ ،‬والبشر‪ ،‬واملعممون‪ ،‬واألفندية‪ ،‬والطلبة‪ ،‬وبائعات‬

‫الجنب‪ ،‬والخبز‪ ،‬وبائعو «كل يشءٍ بجنيه»‪ ،‬كانوا رفاق طريق؛ لم‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫واحدة من أرقام‬ ‫مدنية‪،‬‬ ‫أعد أتفاداهم أو أخشاهم‪ .‬وعندما صرت‬ ‫وأصفار العاصمة‪ ،‬كان املرتو بديل القطار‪ ،‬شبيهه األقرب‪ ،‬والرفاق‬

‫أمجد ريان‪ :‬ضجيج حبيب إلى نفسي‬ ‫عالقتي بـ«املرتو»‪ ،‬عالمة توحد بيني وبني أبناء جييل جميعً ا؛ ألن هذه العالمة‬

‫تتكرر بشكل أو بآخر لدى الجميع‪ .‬تبدأ عالقتي باملرتو منذ الطفولة املبكرة يف سن‬

‫الخامسة وما بعدها‪ ،‬فقد كنت أعيش مع والدي يف إحدى العمارات يف شارع املقريزي‪،‬‬ ‫ويخرتقه بامتداده خط مرتو «مصر الجديدة» اآليت من ميدان «روكيس» متجهً ا‬ ‫راق‪ ،‬ال تتناسب مع املستوى‬ ‫إىل ميدان «رمسيس»‪ ،‬وكانت الشقة فخمة ويف حي ٍ‬ ‫االجتماعي الحقيقي لوالدي ووالديت‪ ،‬لكنها رمز لتطلعات الطبقة املتوسطة الصغرية‬

‫‪41‬‬

‫املرتبكة اقتصاديًّا دائمً ا‪ .‬وكان والدي الطالب الصعيدي تلميذ «طه حسني» يف كلية‬

‫مدرسا‬ ‫اآلداب لشدة فرحه بعروسه أجّ ر لها هذه الشقة‪ ،‬وكانت الشقق وقتئذ متاحة لكل من يمكنه أن يستأجر‪ .‬كان والدي‬ ‫ً‬

‫للغة العربية يف مدرسة سراي القبة الثانوية للبنات‪ ،‬وكان راتبه الشهري أقل من ثالثني جنيهً ا‪ ،‬فأجَّ ر هذه الشقة بسبعة‬ ‫جنيهات‪ ،‬وهو مبلغ كبري ًّ‬ ‫جدا بالقياس إىل ظروفه‪ .‬وزوجته (أمي) هي قريبته من بعيد تعيش يف حي «السبتية» الشعبي‬ ‫ً‬ ‫الفقري‪ .‬وكانت عالقتي بمرتو مصر الجديدة وطيدة‪ ،‬فهو يجري ليل نهار أمام باب العمارة محدثا هذا الضجيج الحبيب إىل‬ ‫النفس‪ ،‬ونوافذه فيها وجوه الركاب‪ ،‬وعيناي تتأمالن هذه الرحالت التي ال تتوقف‪ ،‬وكأنها رمز للحياة كلها بل للوجود كله‬

‫يف رهجه وحركته الذاتية املطردة‪ .‬وكنا نحن دائمي ركوب املرتو‪ ،‬وبخاصة عندما نذهب لزيارة جديت يف «السبتية»‪ ،‬فكان املرتو‬ ‫هو الذي ينقلني بني مشهدين أو حالتني هما الحي األرستقراطي من جهة والحي الشعبي من جهة أخرى‪ ،‬بكل ما فيهما‬ ‫معان ورموز ودالالت موحية‪ .‬وال أنىس ً‬ ‫أيضا يوم «الخناقة» الكربى التي اشتعلت يف بيتنا بني والديّ ‪ ،‬فوضعت أمي‬ ‫من‬ ‫ٍ‬ ‫عىل جسدها أول فستان وجدته يف الدوالب‪ ،‬ووضعت أقدامنا أنا وأخي «أحمد» يف حذائني وحملت أختي «آيات» الرضيعة‬

‫وجرت بنا غاضبة‪ ،‬ويف املرتو اقرتب منا الكومساري طالبًا التذاكر‪ ،‬ولكن أمي أخربته أنها ال تملك النقود‪ ،‬وأفهمته أنها يف‬

‫ظرف خاص‪ ،‬نظر الكومساري لحالتنا وابتعد عنا عىل الفور دون أن ينبس ببنت شفة‪ ،‬ويبدو أن هيئتنا كانت تنبئ بما كنا‬ ‫فيه‪ ،‬كما أن أخالق البشر وقتئذ كانت تفيض باملسامحة وبالتعاون‪.‬‬

‫وظلت عالقتي باملرتو قوية‪ ،‬حتى بعد أن سكنت يف «وادي حوف» بحلوان‪ ،‬وكانت تذكرة املرتو القديم بقرش ونصف‪،‬‬

‫ولكن الدرجة األوىل كانت بثالثة قروش‪ ،‬وكان مجرد الدخول إىل املرتو ينبئ باملستوى االجتماعي للركاب‪ ،‬وإن كانت املسألة‬ ‫قد تغريت اآلن يف املرتو الجديد (‪ )under ground‬الذي استوردناه من فرنسا‪ ،‬وبمناسبة فرنسا فأنا قد ركبت املرتو الفرنيس‬ ‫يف باريس‪ ،‬عندما ُدعيت أنا والشاعرة «رنا التونيس» لنمثل مصر يف مهرجان «لوديف» الشعري الدويل‪ .‬أما الفرق بني املرتو‬

‫ِّ‬ ‫فحدث وال حرج‪ ،‬أبسط فرق هو أنك بمجرد دخولك املرتو هناك‪ ،‬تجد أن معظم الناس يمسكون‬ ‫املصري واملرتو الفرنيس‬

‫الكتب املفتوحة بني أياديهم‪ ،‬وال تتوقف عيونهم عن القراءة‪ ،‬مستفيدين من الزمن الذي سيقطعونه يف أثناء ركوب املرتو‪.‬‬

‫شاعر مصري‬


‫الملف‬ ‫تغريوا إىل حد ما‪ ،‬وبخاصة عندما ُل ْذ ُت ككل البنات بعربة‬

‫السيدات؛ لتفادي كل املخاطر! يف البداية لم أرتح للمرتو؛‬

‫لكونه يسرق مني الطريق‪ ،‬بمساراته املظلمة‪ ،‬وجدرانه التي‬ ‫ال تشبه بأي حال املاء والنخيل واملدن التي تتآكل‪ ،‬بمحاذاة‬ ‫القطارات التي جاءت بي إىل هنا‪ ،‬لكنها العادة تطغى عىل كل‬

‫يشء يف العاصمة‪.‬‬

‫خربت يف املرتو إىل أي مدى تتشابه النساء‪ ،‬كيف يمكن‬

‫أن تتحاور غريبتان بالنظر‪ ،‬وكيف تتوحد الحياة واألمنيات‬

‫العابرة يف برهة من الزمن‪ ،‬يف مقعد صغري ونافذة‪ ،‬يمكن أن ترسم‬ ‫ً‬ ‫وحروفا مرتبكة‪ .‬طاملا اعتقدت أن ركاب املرتو‬ ‫األنفاس عربها قلبًا واه ًنا‬

‫مختلفون عن غريهم يف أي وسيلة انتقال أخرى‪ ،‬تلك الرحلة الخطية‬

‫يف الزمن واملسافة‪ ،‬املكرورة بنفس تفاصيلها‪ ،‬وبأقل احتماالت‬ ‫ً‬ ‫خاصة‪ ،‬تحكم قراراتهم‪ ،‬وانحيازاتهم‬ ‫كسب روادَها مالمحَ‬ ‫املفاجأة‪ُ ،‬ت ِ‬

‫وأفكارهم عن املغامرة‪ ،‬وعن مفارقة املسار‪ ،‬وعن هيئة الطمأنينة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مدينة أخرى‪ ،‬وزمن‬ ‫طريقا وال عربة‪ ،‬إنه‬ ‫املرتو يف مدن الزحام‪ ،‬ليس‬ ‫مواز‪ ،‬طاملا استفقت لنفيس يف املحطة املنشودة‪ ،‬دون أن أتذكر شي ًئا‬ ‫ٍ‬

‫عيل محطات الوصول‪ ،‬وكثريًا‬ ‫عن تفاصيل الرحلة‪ ،‬كثريًا ما تشابهت ّ‬

‫ما أضعتها عمدًا‪.‬‬

‫‪42‬‬

‫هاني الصلوي‪ :‬صيغة كالسيكية زمنية لإلبداع‬ ‫يعد املرتو ‪-‬بال شك‪ -‬من أهم وسائل املواصالت الحديثة عند العرب وغريهم بال فرق أو مزية‪ ،‬سوى أنه ليس منتش ًرا لدينا‬

‫كعرب بل يكاد ينحصر يف دول عربية ليست غنية البتة‪ ،‬عدا دولة اإلمارات وأعني «دبي» تحديدًا‪ ،‬وحداثة املرتو بني الدول‬

‫نسبية (دخل بعض املدن يف السنوات األخرية)‪ ،‬ولعل مسألة الكلفة املادية إلنشاء شبكة مرتو العائق األسايس إلنشاء مثل هذه‬ ‫ُ‬ ‫دخل الفرد مرتفع فيستبدل الناس به السيارات‪ ..‬وهو أمر معروف‬ ‫الشبكة يف الدول العربية الفقرية‪ ،‬أما الدول الغنية حيث‬

‫وغري محتاج لتفصيل‪ .‬األدباء العرب انبهروا كالغربيني بهذه الوسيلة الحديثة واملختلفة‪ ،‬بوسيط نقل متداخل كهذا‪ ،‬بانبهار‬ ‫قديم للكائن البشري بالقطـار‪ ،‬أي أن االندهاش باملرتو وليد االندهاش التاريخي بالقطـار‪ ،‬فليس املرتو سوى قطار حديث‪ ،‬وكذلك‬

‫الرتاموي بصفته وسيلة وسطى أو متوسطة الزمنية والخصائص بني القطار الكالسييك وقطار األنفاق‪ ،‬بل إن بعض الدول بنت‬ ‫شبكة املرتو عىل سكك الرتام (الرتاموي)‪.‬‬

‫عىل املستوى األدبي َّ‬ ‫شكل القطار (الجد) صيغة كالسيكية زمنية لإلبداع قراءة وكتابة‪ ،‬تتميز هذه الصيغة بالهدوء وراحة البال‬ ‫لاً‬ ‫واالسرتخاء والتأمل‪ ،‬كتب كثري من األدباء أعما أدبية عىل القطارات يف أسفارهم الطويلة أو املتوسطة من دون اشرتاط تعلق‬

‫موضوعات أعمال هؤالء بالحياة عىل القطار‪ ،‬بل عهدت شركات القطارات يف الغرب ملنظمي فعاليات ثقافية بتسيري الحياة اليومية‬ ‫عىل القطارات‪ .‬قد توظف شركة قطار شاع ًرا‪ ،‬يسافر يف وسائله بشكل يومي ويقرأ للمسافرين‪ ،‬ويشبه ارتباط األديب العربي‬

‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬


‫املرتو حيث أنا هناك اآلن ويف بيتي ً‬ ‫أيضا‪ ،‬وحيث عشرات‬

‫الكربى لرتبط بني أطرافها‪ ،‬تنتظر الصباح الباكر لتبدأ يف ابتالع هذه‬

‫للعواصم واملدن الكربى‪ ،‬كأنه شبكة صيدٍ طافية أفلتتها يد الصياد‪،‬‬

‫يف مدريد وبرشلونة وإسطنبول وبوخارست وباريس والقاهرة‬

‫االحتماالت واملصادفات والوجوه املفقودة‪ ،‬وسيلة مناسبة جدًّا‬ ‫تمتئل وتفرغ يوميًّا‪ ،‬دون أن تعرف األسماك أو الشبكة أيهما يسحب‬ ‫ً‬ ‫مكانا للكتابة‪ ،‬لكنه احتشاد‬ ‫اآلخر‪ .‬وبالنسبة إيل نادرًا ما كان املرتو‬

‫يومي لها‪ ،‬هو ربما كهف التأمل‪ ،‬برهة الصمت وسط الضجيج‬ ‫اليومي‪ ،‬ولوحة الحياة‪ ،‬بتجلياتها الساكنة واملهرولة‪ .‬يف بعض‬ ‫األحيان‪ ،‬وربما يعود ذلك لطبيعة الشعر‪ ،‬كتبت بعض القصائد يف‬ ‫املرتو‪ ،‬لكنها كانت قصرية نسبيًّا‪ ،‬وغائمة‪.‬‬

‫شاعرة مصرية‬

‫ً‬ ‫وقوفا داخل‬ ‫محمد أحمد بنيس‪ :‬مهاجرون يتمايلون‬

‫مقصورات تهدر تحت األنفاق‬

‫لم يعد مرتو األنفاق مجرد وسيلة نقل فرضها تطور املجتمعات‬

‫املعاصرة وتزايد إقبال الناس عىل وسائل النقل العمومية‪ ،‬يف ظل‬ ‫اتساع املدن والحواضر وتمددها املرعب يف عدد من بلدان العالم‪.‬‬

‫األمواج البشرية التي تتالحق حتى منتصف الليل‪.‬‬

‫ودبي وبوينوس آيرس وليما‪ ،‬ذاتها القطارات تركض مجهدة داخل‬

‫أنفاق مظلمة تحت األرض‪ ،‬وجوه شاردة تنتظر محطات بعينها‬ ‫ُ‬ ‫تفاصيل املكان بصمتها عىل‬ ‫تتشابه يف كل يشء إال يف أسمائها‪ .‬ترتك‬ ‫املرتو‪ ،‬فتصبح له هوية محلية‪ ،‬أتذكر مثلاً صورة الكاتب األرجنتيني‬ ‫خوليو كورتاثار يف إحدى محطات بوينوس آيرس‪ ،‬كان فيها نوع من‬ ‫التقدير لهذا الكاتب الكبري‪ ،‬ربما يف موقع ال يتوقعه عابر مثيل‪ .‬يف‬

‫دُبي‪ ،‬يبدو املرتو جزءًا من تلك «التسوية» بني التقليد والحداثة التي‬

‫تضمرها مشاريع البنية التحتية الضخمة يف بلدان الخليج العربي‪.‬‬ ‫يف القاهرة‪ ،‬تكاد ال تحس بأن املرتو يخفف قليلاً عن املدينة العمالقة‬

‫من ازدحام شوارعها بالسيارات والحافالت وماليني الناس‪ .‬يف باريس‬

‫ومدريد وبرشلونة‪ ،‬يجعلك املرتو تتعرث بوجوه وسحنات املهاجرين‬ ‫من مختلف األعراق والثقافات‪ ،‬عرب وأفارقة وأوربيون وآسيويون‬ ‫ً‬ ‫وقوفا داخل مقصورات تهدر تحت األنفاق‪،‬‬ ‫وغريهم يتمايلون‬

‫أصبح املرتو أحد التجليات اليومية التي تعكس غربة األفراد داخل هذه‬ ‫املجتمعات التي جعلت الحداثة التقنية واالقتصادية ً‬ ‫أفقا لتطلعاتها‪،‬‬

‫من ناحية أخرى‪ ،‬تعكس شبكات املرتو نو ًعا من الوعي العمراين‬

‫واألنفاق والساللم وشبابيك التذاكر اإللكرتونية صورة لسلطة املرتو يف‬

‫ملشكلة النقل املتفاقمة يف املدن الكربى‪ ،‬بمعنى أنه يف كثري من‬

‫غربة متعددة األوجه أمام سلطة هذه الحداثة‪ .‬تقدم املحطات‬ ‫مدن كربى تعيش تحت رحمة ازدحام يومي غري محتمل‪ ،‬يغذيه سيل‬

‫السيارات والحافالت الذي ال يتوقف‪ .‬مئات الرجال والنساء يتدفقون‬ ‫عىل األنفاق‪ ،‬تسبقهم أنفاسهم املتقطعة‪ ،‬وسحنات وجوههم‪،‬‬ ‫وصراعهم مع الدقائق التي تفصل بني وصول القطارات‪ ،‬يشرتكون يف‬ ‫ذات املالمح التي ال روح فيها تقريبًا‪ .‬محطات متناثرة عىل طول املدن‬

‫ينتظرون متى يفرغهم يف هذه املحطة أو تلك‪.‬‬

‫والحضري يف بلد معني‪ .‬مثل هذه املشاريع تمثل استجابة يف أوانها‬ ‫األحيان‪ ،‬ومع اتساع وتمدد هذه املدن‪ ،‬يف البلدان النامية عىل وجه‬ ‫الخصوص‪ ،‬يصبح إحداث شبكة للمرتو شبه مستحيل بعدما تتزايد‬ ‫مدن الصفيح والسكن العشوايئ وأحزمة الفقر‪ ،‬هذا فضلاً عن الكلفة‬ ‫املالية الكبرية ملثل هذه املشروعات‪.‬‬

‫شاعر مغربي‬

‫والكاتب غريه يف ممارسة الحياة عىل القطارات عدا يف ِسمة ارتباط القطارات يف أوربا ‪-‬يف حاالت ما ال‬ ‫يشرتط تواترها‪ -‬بفعليات ثقافية وفنية‪ ...‬كان القطار وما زال وسيلة سفر‪ ،‬وهو ما منحه ما مر من‬ ‫سمات يف عالقته باألدب أو الكتابة‪ ،‬أما مرتو األنفاق (الحفيد الشرعي) فهو وسيلة نقل داخيل داخل‬

‫املدن مما يجعل ممارسة االنتقال عربه سواء تمت بشكل يومي دوري أو غري دوري‪ ،‬متسمة بالسرعة‬

‫ومحاولة اإلنجاز واللحاق باملهمات أو أماكن الراحة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫إنه سياق نقل متوتر وآين‪ ،‬وإذا افرتضنا أن هناك من يستغل لحظات امتطائه من األدباء‬ ‫ً‬ ‫خفيفا وقليلاً يتناسب مع الوقت وطريقة‬ ‫للقراءة والكتابة (وهو ما يحدث كثريًا) سيكون املقروء‬

‫استخدام هذه الوسيلة ووقتها‪ ،‬سيكتب كاتب ما عىل سبيل املثال قصة قصرية جدًّا بدلاً من رواية‬ ‫أو قصة‪ ،‬ومضات صغرية وليست قصائد‪ ..‬من جانب آخر يوفر مرتو األنفاق أوق ًـاتا منزلية ثرية ملمارسة اإلبداع بعيدًا من االزدحام‬

‫وضياع الوقت يف الطرقات‪ ،‬مما يعد ازدوجـًا فيما تتيحه وسيلة املرتو اإلشكالية‪ .‬يف حالة كان املرتو (قطار أنفاق) ال بد أنه يمنح الذهن‬

‫فرصة أخرى للتأمل والتساؤل أثناء سري القطار يف األنفاق املظلمة‪ ،‬وهي مجاالت ذهنية وخيالية استغلها التفكري الفني اإلنساين منذ‬ ‫الوهلة البكر‪ ،‬نجد ذلك يف أفالم السينما تحديدًا‪ ،‬والربامج التصويرية‪ ،‬والروايات والشعر‪ ...‬يشبه االعتماد اليومي أو املنقطع عىل‬ ‫طقسا روحيًّا قديمًا‪ ...‬هل نقول عنه حجـًّـا آليًّا ميكانيكيًّا؟ ربمــا‪.‬‬ ‫وسيلة املرتو‬ ‫ً‬

‫شاعر يمني‬

‫‪43‬‬


‫الملف‬

‫المترو‪..‬‬ ‫تحوالت ثقافية‬ ‫في العمران والمجتمع‬ ‫‪44‬‬

‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬


‫مشاري بن عبدالله النعيم‬

‫مهندس وأكاديمي سعودي‬

‫خالل القرن الماضي كان لوسائل النقل تأثير عميق في أنماط الحياة لسكان المدن‪ ،‬وربما‬ ‫يكون هذا التأثير قبل ذلك بكثير‪ .‬وأنا هنا أقصد وسائل النقل الحديثة التي جعلت من فكرة المدينة‬ ‫ّ‬ ‫ولعلي أتوقف عند المدينة اإلنجليزية في نهاية القرن التاسع عشر (‪1898‬م)‬ ‫«المتروبولية» ممكنة‪،‬‬ ‫عندما بدأ مفهوم «الضواحي» يتشكل‪ ،‬حيث ظهرت األحياء السكنية المنفصلة عن جسد المدينة‬ ‫التاريخي وتبلور مفهوم «المدينة الحديقة» ‪ Garden City‬الذي قاده المصمم الحضري اإلنجليزي‬ ‫«هوارد» ‪ ،Sir Ebenezer Howard‬فقد كانت تلك الفترة مفصلاً مهمًّ ا في عمران المدن ومجتمعها‬ ‫المعاصر‪ .‬لقد كان الهدف هو خلق بيئات عمرانية هادئة وبعيدة من العمران التاريخي للمدينة المكتظ‬ ‫الذي ال يوفر الحياة المرتبطة بالطبيعة التي تتناسب مع الطبقة االجتماعية الثرية‪ ،‬لكن تحقيق مثل هذا‬ ‫الحلم كان يتطلب نقلة تقنية لم تكن متاحة بشكل اقتصادي على مستوى المدينة رغم مرور عدة عقود‬ ‫على تطور القطار البخاري‪ .‬لذلك لم يكن لهوارد أن يفكر في «المدن الحدائق» المنزوية وسط الطبيعة‬ ‫ً‬ ‫خصوصا القطار الكهربائي (الترام) الذي سمح باالنتقال‬ ‫والمنفصلة عن العمران لوال تطور وسائل النقل‬ ‫السريع والمتعدد للسكان من أماكن العمل إلى أماكن السكن الجديدة وبتكاليف اقتصادية مقبولة‪.‬‬

‫‪45‬‬

‫منظور لمحطة قصر الحكم بالرياض‬


‫الملف‬

‫منظور إلحدى محطات المترو بالرياض‬

‫‪46‬‬

‫إن ظهور الضواحي سمح للمدن بالتوسع األفقي‬ ‫وأعطى األرايض الخالء قيمة كربى‪ ،‬فمثلاً يف مطلع القرن‬

‫واالجتماعي شبه أكيدة‪ ،‬وقد وضع علماء دراسات البيئة العمرانية‬

‫ببناء حي مصر الجديدة «الهليوبولس» يف صحراء العباسية‬

‫للبيئة املادية يف سلوك البشر لكن هذه القاعدة واجهت العديد‬

‫العشرين قام البلجييك «البارون إمبان» ‪Baron Empain‬‬ ‫بعيدً ا من القاهرة التاريخية‪ ،‬وربط هذا الحي بوسط املدينة‬

‫العالقة بني التحول العمراين والتحول االقتصادي‬

‫السلوكية عدة احتماالت لهذه العالقة بدأت من التأثري الحتمي‬ ‫من االنتقادات؛ لذلك تط َّو َر توجهان‪ :‬األول احتمالية تأثري البيئة‬

‫التقليدي‪ ،‬بدأت الفكرة عام ‪1904‬م وانتهى بناء املشروع عام‬

‫العمرانية يف السلوك‪ ،‬والثاين إمكانية حدوث هذا التأثري‪ .‬التوجه‬

‫الوقت استغرب طلب «إمبان» شراء أرض وسط الصحراء‪،‬‬

‫توجه السلوك إيجابًا‪ ،‬فهل بناء مشاريع عمالقة مثل املرتو يمكن‬

‫‪1908‬م‪ ،‬ويحىك أن الخديو عباس حلمي حاكم مصر يف ذلك‬

‫ً‬ ‫متخصصا يف القطارات‬ ‫ولم يكن يعلم أن البارون كان‬ ‫الكهربائية‪ ،‬وقد فوجئ بما حدث يف املشروع عندما تم‬ ‫اكتماله حيث أسس إمبان شركة باسم «الشركة املصرية‬ ‫للقطارات الكهربائية»‪ ،‬وتحولت األرض التي اشرتاها بمبلغ‬

‫زهيد إىل أرض باهظة الثمن‪.‬‬

‫هذان الحدثان‪ ،‬وبالتأكيد هناك العديد من األمثلة‬

‫التي زامنتهما‪ ،‬لم يكونا فقط حدثني غيرَّ ا مفهوم املدن‬

‫وشكلها يف مطلع القرن بل غيرَّ ا كذلك نمط الحياة يف تلك‬

‫املدن وأعطيا سكانها خيارات متعددة خارج الفكر التقليدي‬ ‫للعمران يف ذلك الوقت‪ .‬لقد ساهم هذا يف إحداث نقلة‬ ‫نوعية يف التحضر العمراين وظهور أنماط الحياة الحديثة‬

‫التي لم تكن معروفة ومنتشرة يف العديد من مناطق‬ ‫العالم يف ذلك الوقت‪ ،‬ولكن بات واضحً ا مع اكتشاف‬

‫«الرتام» واستخدامه ألغراض حضرية داخل املدن وبشكل‬ ‫قاطع انتهاء عصر «املدينة التقليدية» وبداية لعصر حضري‬

‫مختلف يف مكوناته املادية وطبيعته االجتماعية والثقافية‪.‬‬

‫األخري يؤكد أن هناك خيارات عمرانية أفضل من األخرى يمكن أن‬ ‫أن يكون خيارًا سلوكيًّا وثقافيًّا إيجابيًّا؟ الحقيقة أن التعامل مع‬ ‫هذه التوجهات السلوكية يف البيئة العمرانية لم يتطور إال يف بداية‬ ‫النصف الثاين من القرن العشرين وبالتحديد بعد عمليات اإلعمار‬

‫الواسعة يف املدن األوربية بعد الحرب العاملية الثانية‪ ،‬فقبل ذلك‬ ‫ً‬ ‫خصوصا املدن األمريكية عندما قام‬ ‫توسعت املدن بشكل ملحوظ‬

‫«فورد» ‪ Ford‬بتطوير السيارات الشخصية التي أدّت إىل تشتت‬ ‫ً‬ ‫توحشا وأقل حساسية‬ ‫املدينة بكل االتجاهات‪ ،‬وجعلها أكرث‬

‫للحاجات االجتماعية يف سبيل تحقيق النمو االقتصادي‪.‬‬ ‫مرتو الرياض والقلق الـ«جندري»‬

‫اإلشكالية يف الوقت الراهن ترتكز حول التعقيدات االجتماعية‬

‫ً‬ ‫خصوصا عىل املستوى «الجندري»‪،‬‬ ‫التي تعيشها املدن املعاصرة‬ ‫فالقلق الذي صار يحدثه التحول السريع للمدن نتيجة تعقد‬

‫شبكة النقل وتزايد الحاجة إلرضاء حاجات أفراد املجتمع أثارت‬ ‫الكثري من املتخصصني ودفعتهم لبحث تأثري هذه الوسائل يف‬ ‫حياة الناس وسلوكم‪ ،‬ففي عام ‪1999‬م‪ ،‬أُجريت دراسة يف فيينا‬

‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬


‫حول كيفية استخدام الناس يف املدينة لوسائل النقل‪ ،‬املثري أنه‬

‫تم تعبئة االستبانة من قبل الرجال يف خمس دقائق‪ :‬الذهاب إىل‬ ‫العمل يف الصباح‪ ،‬والعودة للمنزل ليلاً ‪ .‬أما النساء فلم يستطعن‬ ‫التوقف عن الكتابة لتعدد احتياجاتهن لوسائل النقل التي تتقاطع‬ ‫مع األطفال واحتياجات املنزل‪ .‬لقد أثبتت هذه الدراسة أن عالقة‬

‫الرجل باملدينة تختلف عن عالقة املرأة‪ ،‬وبالتايل فإن أسلوب‬

‫استخدام وسائل النقل يختلف عند كل منهما‪ ،‬كذلك تأثريها يف‬ ‫أنماط حياة كل منهما‪ .‬ويف دراسة أخرى عن مدينة تورونتو التي‬ ‫استحدثت «نظام طلب التوقف» يف الباصات حتى تتمكن النساء‬ ‫من النزول من الحافالت بالقرب من بيوتهن يف وقت متأخر من‬

‫الليل‪ .‬ويف «سريناغار» يف كشمري‪ ،‬وكذلك مدينة مكسيكو خلقت‬ ‫عدة أماكن للحافالت وعربات املرتو للنساء فقط‪.‬‬

‫الرياض بهذا المشروع ستصبح مدينة‬ ‫كونية وهي تتخطى عتبة الـ ‪ 8‬ماليين‬ ‫نسمة‪ ،‬كما أنها ستقود المدن السعودية‬ ‫لتب ّني ثقافة اجتماعية جديدة قد تختلف‬ ‫كثيرا عن الصورة النمطية المرسومة عن‬ ‫ً‬ ‫المجتمع السعودي‬ ‫الناحية االجتماعية‪ .‬يرى الدكتور ملكاوي أنه من املهم الح ّد من‬

‫توسع املدينة أفقيًّا خارج النقاط الرئيسة للمرتو‪ ،‬ويجب أن يكون‬

‫تركيز السكان والنشاطات االجتماعية واالقتصادية عىل نقط‬ ‫املرتو حتى يحقق النجاح االقتصادي ويكون فعالاً ‪ .‬بالنسبة يل‬

‫‪(http://www.fastcoexist.com/3066264/how-to-‬‬

‫كان اهتمامي هو تأثري هذا الرتكيز السكاين والخدمايت يف الثقافة‬

‫)‪very-differently‬‬ ‫من الواضح هنا أن لوسائل النقل تأثريًا متباي ًنا يف أفراد‬

‫ستقوم عىل مفاصل املرتو الحضرية وحولها؟ وهل نحن أمام‬

‫‪build-the-perfect-city/women-and-men-use-cities-‬‬

‫املجتمع‪ ،‬وأن نجاح مشاريع النقل العامة يعتمد بشكل أسايس‬ ‫عىل مالءمتها ظروف املجتمع واالحتياجات الخاصة ألفراده‪،‬‬

‫ً‬ ‫خصوصا النساء‪ ،‬وهو ما يقودنا إىل «مرتو الرياض» وتأثريه‬ ‫العميق يف نمط الحياة يف املدينة‪ ،‬وكيف سيعيد صياغة ثقافة‬

‫األسرة السعودية ومن يقيم يف الرياض‪ .‬فهل املرتو بصورته الحالية‬ ‫ً‬ ‫وخصوصا املرأة؟ وهل تم‬ ‫ُصمّم للتفاعل مع احتياجات األسرة‬ ‫ً‬ ‫مسبقا؟‬ ‫التفكري يف هذه االحتياجات‬

‫اإلجابة عن هذه التساؤالت قد تجعلني أضع بعض‬

‫االستشرافات املستقبلية حول التأثري الثقايف املحتمل لهذا املشروع‬

‫الحضري‪ .‬يف حديث خاص مع املدير اإلقليمي للبنك الدويل يف‬ ‫الرياض الدكتور فؤاد ملكاوي قال يل‪ :‬إنه من الضروري إعادة‬

‫التفكري يف مرتو الرياض من الناحية االقتصادية‪ ،‬وبالتايل من‬

‫املجتمعية‪ ،‬وكيف سيؤدي ذلك إىل ظهور أنماط حياة جديدة‬ ‫خارطة ذهنية جديدة ملدينة الرياض ستنمو وتتشكل يف األذهان‪.‬‬

‫بالطبع تم األخذ يف االعتبار منذ البداية وجود عربات خاصة‬

‫بالنساء وأخرى للرجال‪ ،‬ورغم أنني أشكك يف جدوى هذه الخطوة‬

‫ً‬ ‫خصوصا يف مجتمع حديث عهد باملرتو‪ ،‬فإنه‬ ‫من الناحية العملية‪،‬‬ ‫يبدو أن هذا األمر يع ّد من مقتضيات الثقافة السائدة يف اململكة‪،‬‬ ‫وبالتايل يجب أن تكون جزءً ا من املشروع‪ ،‬وأحد مقتضيات مربراته‬

‫ثقافيًّا‪ .‬لقد تحدثت إىل املهندس إبراهيم السلطان (أمني منطقة‬

‫الرياض ورئيس مركز املشاريع بالهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض‬ ‫املسؤولة عن مشروع املرتو) حول رأيي يف تخصيص عربات للنساء‬

‫يف مرتو الرياض‪ ،‬وهل سيشجع هذا أفراد األسرة السعودية عىل‬ ‫استخدام املرتو يف حركتهم اليومية داخل املدينة‪ ،‬وأ َّكد يل أنه ال‬ ‫يمكن الجزم بهذا األمر إال بعد تشغيل املرتو فعلاً ‪ ،‬لكن الدراسات‬

‫التي قامت بها الهيئة أكدت عىل أهمية هذا الفصل‪.‬‬

‫منظور لمحطة العليا بالرياض‬

‫‪47‬‬


‫الملف‬ ‫هل ستستخدم املرأة السعودية املرتو؟‬

‫لذلك فإن السؤال املهم الذي يثريه كثري من املهتمني‬

‫يظل قائمًا‪ :‬هل ستستخدم املرأة السعودية املرتو؟ ولعل هذا‬ ‫السؤال نفسه هو الذي ّ‬ ‫أخر كثريًا من مشاريع النقل العام‬

‫بعنوان «جندرية املدينة» أ ّكدت فيه أن الرياض بشكل خاص‬ ‫واملدن السعودية بشكل عام هي بيئات «ذكورية» تهمّ ش املرأة‬

‫وتستبعدها من الفضاء العام‪«( .‬املرأة واملدينة‪ :‬هل هناك هوية‬

‫جندرية للعمارة»‪ ،‬مجلة البناء‪ ،‬السنة الخامسة والعشرون‪،‬‬

‫يف مدن اململكة‪ ،‬فهناك عالمة استفهام كبرية حول جدوى‬

‫العدد ‪ ،178‬جمادى األوىل ‪1426‬هـ‪ /‬يوليو ‪2005‬م ) وخالل الفرتة‬

‫العمرانية وازدحام طرقات املدينة رضخت الرياض لألمر‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫عمالقا للنقل العام‪ ،‬ستصل تكاليفه‬ ‫مشروعا‬ ‫الواقع‪ ،‬وتبنت‬

‫الرياض‪ ،‬جسرت الهوة بني ذكورية املدينة وأنثويتها‪ ،‬لكنها‬ ‫تحوّالت ليست بالقدر الذي يسمح للمرأة بأن تضاهي الرجل يف‬

‫رغم أن كثريًا من الدراسات تؤكد أن مثل هذه املشاريع ال‬

‫هذا هو ما ذكرته للزميل املهندس محمد املحمود وهو طالب‬

‫مثل هذه املشاريع‪ ،‬لكن يف نهاية األمر ومع تزايد الضغوط‬

‫نحو ‪ 80‬مليار ريال سعودي (قرابة ‪ 21‬مليار دوالر أمرييك)‪،‬‬

‫تحقق أرباحً ا مباشرة‪ ،‬ويف حالة فاعلية املشروع‪ ،‬وإقبال‬ ‫السكان عليه يمكن ألاّ يكون مصدر إنفاق‪ ،‬لكن املكاسب غري‬ ‫املنظورة التي سيحققها املشروع ال يمكن إحصاؤها سواء عىل‬

‫مستوى النشاط االقتصادي أو تقليل التوتر املروري‪ ،‬وبالتايل‬ ‫االحتقان االجتماعي داخل مدينة الرياض‪.‬‬

‫ورغم أن التساؤل عن مدى وجود الرغبة لدى املرأة‬

‫السعودية يف استخدام املرتو سيظل قائمً ا‪ ،‬عىل األقل حتى‬

‫‪48‬‬

‫عىل الحركة بمفردها لتصبح قادرة عىل اكتشاف املدينة بشكل‬ ‫مختلف عن السابق‪ .‬لقد كتبت قبل أكرث من ‪ 10‬سنوات مقالاً‬

‫مرور فرتة من تشغيل املرتو‪ ،‬إال أن التأثري الثقايف يف أفراد‬ ‫املجتمع السعودي الذي سيرتكه املرتو متوقعً ا‪ ،‬عىل األقل‬

‫من حيث إحداث التحول يف البنية االقتصادية لألسرة‪،‬‬ ‫فمن املتوقع أن يكون هناك استغناء عن عدد ال يستهان‬

‫به من السائقني الخاصني‪ ،‬وستمتلك املرأة جرأة أكرب‬

‫من كتابة املقال حتى اليوم حدثت تحوالت كبرية داخل مدينة‬

‫الفضاء العام‪.‬‬

‫دكتوراه موضوعه هو الرصيف والقابلية عىل امليش يف مدينة الرياض‪،‬‬

‫وخصص دراسته لشارع التحلية (األمري محمد بن عبدالعزيز)‪ .‬لقد‬ ‫كانت مالحظتي له أنه منذ أن بدأت فكرة تطوير ممرات املشاة يف‬

‫مدينة الرياض عام ‪2006‬م حتى اليوم (وكان حديثنا يف آخر أسبوع من‬ ‫ً‬ ‫عميقا يف ثقافة األسرة‬ ‫شهر ديسمرب ‪2016‬م) تركت هذه املمرات أث ًرا‬

‫من المتوقع أنه مع زيادة حركة المرأة‬ ‫بسبب المترو ستزيد فرصها الوظيفية‪،‬‬ ‫وسيقلل هذا من ظاهرة بطالة المرأة‬ ‫السعودية التي تحولت في اآلونة األخيرة‬ ‫إلى كابوس‬

‫البطالة «األنثوية» وقيود الحركة‬ ‫بالطبع املرتو ليس فقط للمرأة‪ ،‬لكنها عامل أسايس يف إحداث التحول املطلوب؛ ألن العائق األكرب الذي يواجه‬ ‫َّ‬ ‫املعطلة‪ ،‬وهذه املسألة يجب أن‬ ‫الحركة والتنقل داخل مدينة الرياض ويزيد الضغط املروري فيها هو «حركة املرأة»‬ ‫ٌ‬ ‫بعض يف استخدام املرأة للمرتو‪ ،‬فإنه مع الوقت سيحدث تغيري عميق يف ثقافة‬ ‫تؤخذ يف االعتبار؛ ألنه حتى لو شكك‬ ‫األسرة السعودية يف املدينة‪ ،‬سيجعل من تحمل األدوار واملسؤوليات االقتصادية داخل األسرة متكافئة‪ ،‬وهذا حتمً ا‬

‫سيؤدي إىل أن يصبح املرتو وسيلة النقل األكرث استخدامً ا من املرأة وأطفالها ومعها باقي أفراد األسرة‪ ،‬وسيكون‬ ‫هذا متزام ًنا مع تزايد فرص عمل املرأة يف القطاع الخاص؛ ألنه من املتوقع أنه مع زيادة حركة املرأة‪ ،‬ستزيد فرصها‬ ‫ِّ‬ ‫وسيقلل هذا من ظاهرة بطالة املرأة السعودية التي تحولت يف اآلونة األخرية إىل كابوس‪ .‬هذا ليس رأيًا‬ ‫الوظيفية‪،‬‬ ‫متفائلاً ‪ ،‬بل إنه توقع طبيعي؛ ألن البطالة «األنثوية» ناتجة عن القيود املفروضة عىل حركة املرأة وتفاعلها املباشر مع‬ ‫املجتمع الخارجي‪ ،‬وبالتايل صعوبة مالءمة الكثري من الوظائف لها‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫يمتد عىل مساحة شاسعة يف مدينة الرياض‪ ،‬نقلة يف مفهوم‬ ‫عىل مستوى الذائقة املعمارية سيُحدِ ث املرتو‪ ،‬الذي‬

‫العمارة لدى سكان املدينة‪ ،‬لعل هذه النظرة نابعة من قناعتي التامة بأن العمارة تحتاج إىل أن نعيشها ونجربها حتى‬ ‫نشعر بقيمتها‪ ،‬وألن املرتو مشروع «اجتماعي» كما أنه مشروع اقتصادي‪ ،‬وكون محطات املرتو قام بتصميمها كبار‬

‫املعماريني (مثل زها حديد يف محطة مركز امللك عبدالله املايل) فإن تفاعل سكان الرياض بشكل يومي مع هذه العمارة‬

‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬


‫السعودية‪ ،‬وجعلت املرأة أكرث ثقة يف تعاملها مع الفضاء العام‪،‬‬

‫قد تتحول إىل مشروع اقتصادي أو عمل فني أو روايئ‪ ،‬يف تنوع‬

‫للثقافة الذكورية الحضرية التي تميز املدن السعودية‪ .‬يف اعتقادي‬

‫ستكون املرأة جزءً ا من هذه املصادفات والحكايات االجتماعية التي‬

‫رغم أن هذه الفضاءات غري عادلة حتى اآلن‪ ،‬وتنحاز بشكل واضح‬ ‫أن املرتو سيرتك مثل هذا األثر اإليجابي يف الثقافة الحضرية للمرأة‬

‫السعودية‪ ،‬وسيغري من عاداتها االجتماعية‪ ،‬وسيدفعها بشكل‬ ‫أكرب لتجربة املدينة دون رهبة أو تردد‪.‬‬ ‫كسر العزلة االجتماعية‬

‫غري محدود وال يمكن حصره أو توقعه لهذه الحكايات‪ .‬وبالتأكيد‬ ‫سيتيحها استخدام املرتو اليومي‪.‬‬

‫من املتوقع كذلك أن يحدث تحول عىل مستوى األحياء‬

‫السكنية‪ ،‬وأقصد هنا أنه سيكون هناك حركة للمشاة من املساكن‬

‫حتى محطات املرتو‪ ،‬وهذا يقتيض تغيريًا مهمًّا عىل مستوى‬ ‫التفاصيل املعمارية لألحياء‪ ،‬ال أعلم حقيقة إن كانت أُخِ ذت يف‬

‫لعل املسألة املهمة هي حالة املصادفة التي عادة ما تتشكل يف‬

‫االعتبار‪ .‬األمر املهم هو أن هذه الحركة ستشمل النساء واألطفال؛‬

‫بني أفراد مجتمع املدينة‪ .‬ال أحد ينكر أن املصادفة يف الوقت الراهن‬

‫للنساء» ولألسرة ككل‪ .‬الدراسات تؤكد أن املرأة عادة ال تتحرك‬

‫املدن املتوازنة اجتماعيًّا‪ ،‬وأقصد هنا هو حدوث اللقاءات املتوقعة‬ ‫غري فاعلة‪ ،‬ومدينة الرياض تحث عىل العزلة أكرث من االنفتاح‬

‫ما يجعل هناك ضرورة ملحّ ة ألن تتطور بيئة عمرانية «صديقة‬

‫وحدها يف البيئة العمرانية التي قد يكون فيها «عزلة» وغالبًا ما‬

‫عىل اآلخر‪ ،‬والفضاءات العامة فيها غري حيوية‪ ،‬لكن املرتو‬ ‫ً‬ ‫ومعيشا وال مناص منه‪ .‬ربما‬ ‫سيجعل من املصادفة أم ًرا يوميًّا‬

‫حتى أصدقائها‪ ،‬لذلك تطوير ممرات مشاة مفتوحة ومظللة‬

‫يف فضاءاتها سكانها‪ ،‬ويبنون الحكاية االجتماعية العفوية التي‬

‫املجتمع عىل استخدام املرتو‪.‬‬

‫يكون «كسر العزلة» االجتماعية أول املكاسب غري املتوقعة لهذا‬ ‫املشروع‪ ،‬ولكوين مؤم ًنا بأن املدن املبدعة والخالقة هي التي يتقاطع‬

‫يصحبها أحد ما؛ إما من يعمل معها يف املنزل‪ ،‬أو أطفالها‪ ،‬أو‬

‫(لحماية األطفال) يمكن مراقبتها‪ ،‬مع مالءمتها حركة ذوي‬ ‫االحتياجات الخاصة ستكون عاملاً مهمًّا سيشجع املرأة وكل أفراد‬

‫‪49‬‬

‫منظور لمحطة مدينة الملك عبدالله المالية بالرياض‬

‫ال بد أن يحدث داخلهم بعض األسئلة‪ .‬ورغم أن الرياض تحتوي عىل العديد من املباين املهمة واملميزة فإن هذه املباين غالبًا‬

‫ما تكون معزولة عن الناس وحياتهم اليومية‪ ،‬وبالتايل فإن تأثريها لن يكون بقدر تأثري «عمارة املرتو» املتوقعة‪.‬‬

‫نحن نتحدث عن مشروع له تأثري اقتصادي مباشر وعمراين واضح للعيان‪ ،‬ليس فقط عىل مستوى الشكل‪ ،‬بل‬ ‫ً‬ ‫جديدا يُعيد ترابط األحياء السكنية والتجمعات التجارية‬ ‫عىل مستوى استخدام الفضاء العمراين‪ ،‬فهو سيُحدِ ث تنظيمً ا‬ ‫ً‬ ‫عميقا سيشكل الصورة املتخيلة لرياض املستقبل‪ ،‬ليس فقط‬ ‫واإلدارية مع العصب الحريك للمرتو‪ ،‬كما أن له تأثريًا بصريًّا‬

‫عىل مستوى املحطات العمالقة واملتوسطة والصغرية للركاب‪ ،‬بل كذلك لجسور القطارات التي بدأت منذ اآلن ترسم‬ ‫صورة الرياض‪ ،‬وتعيد تعريف أماكنها من جديد‪ .‬الرياض بهذا املشروع ستصبح مدينة كونية وهي تتخطى عتبة الـ ‪ 8‬ماليني‬ ‫نسمة‪ ،‬كما أنها ستقود املدن السعودية لتب ّني ثقافة اجتماعية جديدة قد تختلف كثريًا عن الصورة النمطية املرسومة عن‬ ‫املجتمع السعودي‪.‬‬


‫الملف‬

‫انتبهي!‬

‫ال تركبي في عربة العمال‬ ‫سعوديات يسردن حكايات‬ ‫مع المترو ويكتبن هواجسهن عنه‬ ‫‪50‬‬

‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬


‫هدى الدغفق‬

‫الرياض‬

‫ال يحضر مترو الرياض في النقاشات العامة‪ ،‬سوى بصفته فضاء يمكن للمرأة أن تقتحمه‪ ،‬المرأة بكل ما‬ ‫تعنيه من أسئلة وقضايا دائمً ا ما تثير الجدل‪ .‬ال يعني مترو الرياض‪ ،‬في أحد وجوهه‪ ،‬سوى ثنائية المرأة والسائق‪،‬‬ ‫المرأة والعمل؛ إذ ينتظر أن يلج المجتمع السعودي إلى فضاء يشتبك بأمور عديدة‪ ،‬اجتماعية واقتصادية‬ ‫وثقافية‪ ،‬منها ما يخص العالقة مع اآلخر‪ ،‬سواء كان هذا اآلخر المرأة‪ ،‬أم األجنبي‪ ،‬أم اآلخر «الجواني» الذي‬ ‫يعيش في داخلنا‪.‬‬ ‫من ناحية‪ ،‬لكل منا تصوراته التي يحملها في ذاكرته عن المترو ً‬ ‫تبعا لما تصوره لنا األفالم‏الغربية وتجارب‬ ‫السفر بشكل خاص‪ ،‬فحينما يخوض أحدنا تجربته األولى مع المترو يشعر كأن‏خارطة العالم وجغرافيته تداخلتا‬ ‫في رأسه‪ ،‬وكأنه يعيد تنظيمها من خالل المترو‪ .‬فكيف لجامد أن يخلق كل هذه الفوضى في الذهن‪.‬‬ ‫كثير من األسئلة تحوم حول المترو‪ ،‬منها‪ :‬كيف سيتحول هذا الشكل من شيئيته وجموده اآلن‪ ،‬إلى‬ ‫مؤثر في الحياة االجتماعية والثقافية في الرياض؟ هل نأمل في أن تتقلص تأثيرات الطابع األسمنتي في نفوسنا‬ ‫وأذواقنا وعالقاتنا وتواصلنا مع من نعرف ومن ال نعرف؟ كيف سيؤثر المترو في تقييم الوقت لدى مستخدميه؟‬ ‫ما العادات التي ستتولد مع المترو؟ ما الذي سيختفي منا؟ كيف ستكون عالقاتنا وأصواتنا وطريقة كالمنا‬ ‫ونظراتنا ونحن ندخل المحطات ونقطع التذاكر ونختار مقاعدنا؟ هل سيصبح هناك اندماج اجتماعي أكبر؟ أو‬ ‫على األقل إدراك مجتمعي للطبقات المختلفة داخله؟‬ ‫هنا أكاديميات وكاتبات وأديبات يسردن لـ«الفيصل» حكاياتهن مع المترو في خارج السعودية‪ ،‬ويقترحن‬ ‫جملة من النصائح استعدا ًدا لالندماج في لحظة ستغير ما قبلها‪.‬‬

‫‪51‬‬


‫الملف‬

‫اقتصادية أم اجتماعية من خالل قنوات اإلعالم املختلفة هي‬

‫حنان بنت جابر الحاريث‪ :‬ثقافة املرتو‬

‫قبل اإلجابة عما نتوقع ونأمل يف أن يتحقق يف‬

‫مشروع قطار الرياض‪ ،‬أو ّد اإلفصاح عن تجربة شخصية‬

‫حول استخدام املرتو وثقافته الحضارية يف اليابان‪،‬‬

‫الشعب الذي يتالقى مع العادات العربية اإلسالمية يف‬ ‫كثري من العادات والتقاليد‪ ،‬أكرث من أي شعب آخر‪ .‬‬ ‫ففي اليابان يعد القطار رمز حضارة‪ ،‬ومنهج ثقافة‪،‬‬

‫وقاعدة اقتصادية ذات أهمية بالغة يف الحياة اليومية‬ ‫للمواطن واملقيم يف اليابان؛ حيث تعد وسيلة املواصالت‬

‫األوىل يف اليابان‪ .‬والدليل عىل أهمية املرتو أن هناك نحو‬ ‫تسعة ماليني نسمة تستخدم املرتو يوميًّا يف طوكيو‬

‫وحدها‪ ،‬وهذا ال يضم رحالت القطارات السريعة التي‬

‫تربط املدن األخرى يف اليابان‪ .‬وبشكل عام‪ ،‬فاملرتو هو‬ ‫وسيلة املواصالت للجميع إىل املدارس‪ ،‬والجامعات‪،‬‬

‫واألسواق‪ ،‬واألماكن العامة‪ ،‬والدوائر الحكومية‪،‬‬

‫ويقتصر استخدام البدائل‪ ‬عىل فئة قليلة جدًّ ا‪ ،‬أو من‬

‫‪52‬‬

‫يضطر إىل ذلك من سكان القرى التي ال تربطها شبكات‬

‫املرتو‪ .‬وال أنىس هنا أن أذكر أن هناك عربات مخصصة‬ ‫للنساء ومجهزة بأحدث كامريات املتابعة‪ ،‬باإلضافة‬

‫إىل أجهزة مراقبة للمعوَّقني ملعرفة محطة الوصول‬

‫ما سيحدد معالم نجاح مرتو الرياض ومدى اإلقبال عليه‪،‬‬ ‫ً‬ ‫أخذا يف الحسبان التوعية عن وسائل السالمة واألمن‪ ،‬وكذلك‬ ‫الخصوصية التي تعد من أهم ركائز املرتو‪.‬‬

‫أكاديمية سعودية‬

‫منى املاليك‪ :‬الحمل والذئب املفرتس‬

‫مرتو الرياض حدث مهم يف حياتنا ألنه تجربة جديدة‬

‫يف التنقل‪ ،‬وكل تجربة جديدة تحمل يف داخلها الدهشة‬ ‫واالنبهار وإن كان أغلبنا قد مارس يف سفرياته املتعددة تجربة‬ ‫ركوب املرتو‪ ،‬ولكن ما نحن أمامه اآلن هو «مرتو الرياض»‬ ‫ً‬ ‫مختلفا؛ ألن البيئة‬ ‫ولذلك يستوجب الحدث تفاعلاً اجتماعيًّا‬

‫ستحاول صبغه بصبغة اجتماعية‪ ،‬ولكن مع التحوالت‬

‫املجتمعية والثقافية التي نعيشها أتصور أن مرتو الرياض‬ ‫ً‬ ‫محركا وفاعلاً يف إحداث تغيري ثقايف يف مفهوم التنقل‬ ‫سيكون‬ ‫والحركة والتواصل بني البشر‪ ،‬فالكل أمام بعض‪ ،‬وستختفي‬

‫إىل حد كبري تلك العزلة التي تخلقها مقاعد السيارة!‬ ‫وبما أن حركة املرأة مقيدة وال تستطيع قيادة السيارة‪،‬‬ ‫فسيكون املرتو أكرث أم ًنا وأوفر اقتصاديًّا‪ ،‬كما أتوقع أن املرأة‬

‫هي من ستدفع تذكرة املرتو وبالتايل ستعطيه زخمً ا اقتصاديًّا‬

‫كما يحدث اآلن مع شركتي «كريم» و«أوبر»‪.‬‬

‫وجود الرجل واملرأة يف ذات املكان ملدة زمنية مختلفة كل‬

‫يوم سيكسر حاجز الوهم بفكرة الحمل والذئب املفرتس‪ ،‬تلك‬

‫ً‬ ‫شخصا يف انتظاره ملساعدته‪ .‬‬ ‫للمعوَّق‪ ‬حتى يجد‬ ‫ً‬ ‫وانطالقا من الثقافة اإلسالمية التي هي أساس‬ ‫ملجتمعنا؛ فأتوقع أن يربز مرتو الرياض أولاً وقبل كل‬

‫املشرتكة بني الرجال والنساء أو يف الدراسة يف الخارج أثبت أن‬

‫التوظيف األمثل لقضاء حاجاتنا اليومية‪ ،‬وذلك عىل‬

‫وأزعم أن مرتو الرياض بجانب االبتعاث‪ ،‬وفتح مجاالت‬

‫يشء حسن االستخدام‪ ،‬وتوظيف هذه الخدمة الراقية‬ ‫غرار ما يقوم به شعب ثالث أكرب اقتصاد يف العالم‬

‫(اليابانيون)‪ .‬وتجدر اإلشارة إىل ضرورة تكثيف اإلعالم‬

‫لنشر ثقافة استخدام املرتو واالستفادة منه كوسيلة‬ ‫سهلة‪ ،‬واقتصادية‪ ،‬وآمنة‪ ،‬وحضارية‪ ،‬مع الرتكيز عىل‬

‫صور من واقع مرتو اليابان‪ .‬‬

‫الثنائية املريعة التي روج لها خطاب وعظي بارد ال يرى يف الحياة‬

‫غري جسد املرأة وفتنته! والواقع اليوم سواءٌ يف مجاالت العمل‬ ‫هذا الرأي الجائر يف عالقة املرأة بالرجل خطأ يجب تصحيحه‪،‬‬

‫جديدة لعمل املرأة‪ ،‬والخطاب اإلعالمي والديني املتوازن‬ ‫الواعي سيحقق تحولاً وتغريًا اجتماعيًّا‪ ،‬يؤنسن العالقة بني‬ ‫املرأة والرجل مرة أخرى بعد اختطافها زمن الغفوة‪.‬‬

‫كاتبة سعودية‬

‫أمل بنت الخيَّاط التميمي‪ :‬مشهد املوت يالحقني يف‬

‫وفيِ ضوء انتقاء محطات التوقف‪ ،‬يمكن القول‪:‬‬ ‫بأن مرتو الرياض سيكون له أثر إيجابي‪ ‬إذا ما تم اإلعداد‬ ‫ً‬ ‫سلفا‪ .‬وهنا سيكون أمام‬ ‫الستخدامه يف ضوء ما ذكر‬

‫سبقتني أختي إىل دبي بأسبوع وأوصتني بركوب املرتو‬

‫مميزة ومتناغمة مع رؤية ‪٢٠٣٠‬م‪ ،‬وقد تسهم وسائل‬

‫حتى تستمتعي بالجلوس‪ ،‬ال تركبي يف عربة العمال انتبهي‪.‬‬

‫املواطن السعودي واملقيم املجال لإلفصاح عن ثقافة‬

‫التواصل االجتماعي يف نشر الثقافة املنشودة‪ ،‬وتساعد‬ ‫عىل تطبيعها عىل أرض الواقع‪ .‬وأؤكد أن اإلعداد لبناء‬

‫الثقافة املنشودة‪ ،‬وتفعيل االستفادة سواء أكانت‬

‫كل مرتو‬

‫لنزهة أوالدي‪ ،‬وقالت‪ :‬احجزي البطاقة (الذهبية‪)VIP :‬‬

‫وصفت أختي رحلتها املاتعة إىل «دبي مول» وكيف نقلها املرتو‬

‫إىل مدينة األلعاب كيدزانيا بدون عناء الزحام‪ ،‬ووصفت‬ ‫جمال املنظر املشاهد من خلف الزجاج‪ .‬شعور سابق لتحقيق‬

‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬


‫‪53‬‬ ‫متعة التنزه واملشاهدة يف رحلة املرتو‪ ،‬ولكن‪ ،‬أوّل ما أفسد‬

‫أتكلم وأجد من يرد عيل‪ ،‬ولكنني أتعامل مع آلة بدون‬

‫عال‪ ،‬وقفنا ننتظر الحافلة يف محطة الحافالت‪ ،‬حتى تنقلنا‬ ‫ٍ‬

‫بكل قواها‪ ،‬وال يستجيب لعواطفها‪ ،‬البشر الذين كانوا فيه‬

‫عيل املتعة‪ ،‬طول املسافة من الفندق إىل املحطة وأنا بكعب‬ ‫إىل محطة املرتو؛ وألننا لم نتعود عىل االنتظار‪ ،‬استأجرنا‬

‫سيارة أجرة حتى تنقلنا إىل املحطة‪ ،‬قطعنا التذاكر‪ ،‬وخضنا‬

‫التجربة بفرح‪ ،‬نقدم الخطوات نحو املركبة‪ ،‬دخلنا املركبة وإذا‬ ‫هي مركبة عادية ولم ن َر الرفاهية التي وُصفت لنا‪ ،‬همست يف‬

‫أذن زوجي هذه درجة ‪VIP‬؟ قال ارجعي يبدو أن تذاكرنا يف‬

‫مركبة أخرى‪ ،‬خرجت ابنتي مناير‪ ،‬وأنا يف املنتصف وحال بيني‬ ‫وبينها الباب‪ ،‬وأقفل بسرعة كالربق‪ ،‬وبإحكام موصد وكأنه‬ ‫حاجز املوت الذي يخطف وال يعود بما خطف‪.‬‬

‫عقل يدرك صراخ أم تبيك تقفز تدق عىل الحديد والزجاج‬ ‫جمادات مثله‪ ،‬أصبحت أصرخ بأكرث من لغة يك يفهمني من‬

‫حويل‪ ،‬ابنتي دهسها فرمها قتلها خطفها‪ ،‬قف قف‪ ،‬قف‪،‬‬ ‫‪ stop‬ال أحد يتجاوب مع قفزي وبكايئ وركاليت عىل الحديد‪.‬‬

‫فجأة ثالثة شبان عرب يتحدثون بلهجة مغربية‪ ،‬أمسكوا‬

‫بيدي محاولني تهدئتي‪ ،‬تجاوبت مع اإلحساس البشري‪ ،‬وهم‬ ‫تفاعلوا مع صراخ األم الفاقدة لكبدها‪ ،‬همس أحدهم قائلاً ‪:‬‬

‫ال تخايف بإذن الله إنها بخري سيقف يف املحطة األخرى ُ‬ ‫ونبلغ‬

‫عنها‪ ،‬ثم نعود لها‪ .‬سمعت األمان يف همس الشاب املغربي‪،‬‬

‫خطف ابنتي وأنا تراجعت للخلف فلم أعلم ما مصريها‪،‬‬

‫وجمادات املرتو لم يستجيبوا لصراخي‪ ،‬أيقنت أن من يركب‬

‫ماما ماما‪ ،‬ال أعلم ما مصري ابنتي هل قطع يديها؟ هل فرمها؟‬

‫الثالثة‪ ،‬دهشت من نفيس‪ ،‬لم أتوقع أنني بهذه اللياقة أركض‬

‫كنت ال أرى سوى مشهد يديها ممتدة نحوي‪ ،‬وفم يصرخ‬ ‫هل داس عليها؟ كل مشاهد املوت رأيتها‪ ،‬خطف املوت ابنتي‪،‬‬

‫وخطفني املرتو إىل عالم مجهول‪ ،‬وهنا بدأت دهشة املغامرة‬

‫الخطرية التي ارتكبناها‪ ،‬نصعد مركبة ال نعلم طريقة التعامل‬ ‫معها‪ ،‬وتسبب هذا الجهل يل بعقدة من هذه املركبة الخطرية‪.‬‬

‫ثوان‪ ،‬ويقص‬ ‫ما كنت أعلم أنه بدون سائق‪ ،‬ويقفل الباب يف‬ ‫ٍ‬

‫الحديد‪ ،‬لم أتعود التعامل مع الجمادات الباردة‪ ،‬تعودت‬

‫املرتو جماد ال يتجاوب مع البشر‪ ،‬نزلت املحطة بصحبة الشباب‬ ‫املمرات‪ ،‬أجري عىل الساللم أقفز الحواجز‪ ،‬ربما كنت أسرع‬

‫من املرتو نفسه‪.‬‬

‫وجدت نفيس مع الشباب أمام بشر من موظفي املحطة‬ ‫ً‬ ‫بالغا عن فقدان طفلة يف محطة‬ ‫يتجاوبون معي‪ ،‬سجلنا‬

‫فندق البستان‪ ،‬كنت أتوقع أنهم سيخربونني بأنه دهسها‪،‬‬

‫وفجأة تأيت البشارة بأنها بخري‪ .‬حمدت الله وبكيت من الفرح‪.‬‬


‫الملف‬

‫عدت مع الشباب حيث ابنتي هناك‪ ،‬ال أعلم حينها‬

‫عىل ابنتي املاء حتى تغادرها الفجعة‪ ،‬وبعدها التفت إىل‬

‫أشكر الشباب؟ وجدت نفيس أسجد لله شاكرة‪ ،‬وأنرث‬

‫تفاعلوا معي‪ ،‬واملرتو يحطم نفسيتنا بقسوته ويدوس‬

‫اضطربت عندي املشاعر هل أبيك؟ هل أحضنها؟ هل‬

‫‪54‬‬

‫الشباب‪ ،‬وجدتهم يبكون من هول املوقف‪ ،‬تأملت أعينهم‪،‬‬

‫حنان األحمدي‪:‬‬ ‫التحرر من االتكال على اآلخر‬ ‫تجربتي الشخصية مع خدمات النقل العام يف أمريكا وأوربا التي تتميز بالجودة‬

‫بمعان ‏عديدة‪ ،‬أولها التحرر من االعتماد عىل اآلخرين‬ ‫والدقة واالنضباط ترتبط يف ذهني‬ ‫ٍ‬

‫يف التنقل‪ ،‬والتحرر من ضغوط قيادة السيارة يف ساعات الذروة‪ ،‬واإلحساس‏بالتمكني يف‬

‫مباشرة أموري وأعمايل بنفيس‪ ،‬وهو شعور مختلف كان يعني يل الكثري كشابة حديثة التخرج من الجامعة‪ ،‬لم تألف‏حتى‬ ‫هذه الدرجة البسيطة من االستقاللية‪.‬‬ ‫ً‬ ‫املجتمع السعودي اليوم يشهد حراكا كبريًا من الشباب والشابات الساعني لالعتماد عىل النفس لتحقيق أحالمهم‬

‫من خالل‏تأسيس مشروعات خاصة‪ ،‬أو القيام بأعمال غري تقليدية‪ ،‬وبخاصة يف ظل تغري الظروف االقتصادية وشح فرص‬

‫العمل؛ لذلك ‏سيمكنهم توافر مواصالت عامة من السعي نحو تحقيق أحالمهم وطرق أبواب الرزق‪ .‬وأتوقع أن يألف‬ ‫املجتمع وجود النساء يف ‏وسائل النقل العام بعد أن توسعت مجاالت عمل املرأة لتشمل األسواق واملجمعات التجارية‬

‫والعيادات والبنوك ومؤسسات القطاع‏الخاص‪ ،‬فلم يعد وجود املرأة يف الفضاء العام أمرًا غري مألوف‪ .‬ومع ذلك قد تظل‬ ‫بعض رواسب الثقافة التقليدية تمارس شي ًئا‏من الفضول‪ ،‬وربما الوصاية عىل النساء‪ ،‬وهو ما يجعل املراحل األوىل النطالق‬

‫مرتو الرياض تمثل تحديًا كبريًا للراغبات من النساء ‏يف استخدامه‪ .‬وعىل صعيد األسرة‪ ،‬فإن أبرز تغيري نتطلع لتحقيقه‬ ‫لألسرة السعودية من خالل توافر وسائل النقل العام هو التحرر من ثقافة ‏االعتماد عىل السائق الخاص التي ُفرضت عىل‬ ‫كثري من األسر؛ بسبب استحالة قيام رب األسرة بالجمع بني عمله ومهمة‏توصيل جميع أفراد أسرته ملدارسهم وأعمالهم‪.‬‬

‫ومع ذلك ال أتوقع أن نصل قريبًا إىل مرحلة نفضل فيها استخدام وسائل النقل العام عىل املواصالت الخاصة‪ ،‬كما‬

‫كنت أفعل‏خالل دراستي العليا يف الواليات املتحدة األمريكية‪ .‬إذ رغم امتاليك لرخصة قيادة السيارة كنت أفضل استخدام‬ ‫وسائل‏النقل العام يف التنقل من الجامعة وإليها بسبب سهولة استخدامها ونظافتها ودقة مواعيدها‪ ،‬وتوافرها يف كل زاوية‬

‫وشارع‪ ،‬وربما‏ألنها توفر يل فسحة خاصة من الوقت للتأمل أو االسرتخاء والقراءة أو االستماع للموسيقا‪ .‬لم يكن استخدام‬ ‫النقل العام محصورًا‏عىل فئة أو طبقة من الناس‪ ،‬ألن قلة مواقف السيارات يف وسط املدينة‪ ،‬وازدحام الطرق يجعل الذهاب‬

‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬


‫مشاعرنا ويسري إىل دهس مشاعر أخرى‪ ،‬بال مشاعر بال أدىن‬

‫بدون مشكالت؟ كم من القصص ستبقى يف الذاكرة وكم‬

‫سألت الشباب عن سبب ركوبهم هذه اآللة القاتلة‪،‬‬

‫أوالدي ومن أحب‪ ،‬بقي مشهد املوت يالحقني يف كل مرتو‬

‫الحاجة ما ركبناه‪ ،‬ومن حسن الحظ كانت حقيبتي مزودة‬

‫ولم أركب هذه املركبة الجامدة‪ ،‬وكنت أتكبد مبالغ باهظة‬ ‫وأنا أركب سيارة األجرة بديلاً منه‪ ،‬وحينما أرى املرتو أريد أن‬

‫مسؤولية أنه يؤملنا‪.‬‬

‫أجابوين بصوت واحد‪ ،‬قادمني نبحث عن وظيفة ولوال‬ ‫بالنقود‪ ،‬أصبحت أوزع عليهم النقود وهم يتمنعون‪ ،‬فقال‬ ‫وساقك الله إلينا‪ ،‬سنأخذ املال ألننا‬ ‫إليك‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫أحدهم‪ :‬ساقنا الله ِ‬

‫ال نملكه‪ ،‬ولعلنا نوفق بوظيفة من دعواتك‪ .‬شكرت الشباب‪،‬‬

‫واستنشقت الهواء بعمق‪ ،‬غابوا عن نظري‪ ،‬وبعدما ارتحت‪،‬‬

‫اسرتجعت املشاهد التي خضتها معهم وأنا أركض إلنقاذ‬ ‫ابنتي‪ ،‬وجدتها لقطات كأنني يف فلم مثري يعرض يف هوليوود‪.‬‬

‫كم من قصة مماثلة ستكون مع افتتاح مرتو الرياض‪،‬‬

‫ونحن شعب يجهل ثقافة املرتو‪ ،‬شعب يجهل التعامل‬

‫مع قصف اآللة‪ ،‬لن يركب هذه اآللة إال املحتاج جدًّ ا إليها‪،‬‬ ‫وستتعبه أكرث من تعبه‪ ،‬هل يستوعب بلد عربي مثل هذه‬ ‫املشاهد املثرية؟ الحظت يف الغرب حتى الحيوانات لها أماكن‬

‫مخصصة يف الباصات‪ ،‬فهل نحن مستعدون لهذه الثقافة‬

‫ستموت؟ عن نفيس لن أكرر هذه التجربة ولن أقبلها عىل‬ ‫أراه يف أي مكان أذهب إليه‪ ،‬شبح املوت أراه يف مرتو السويد‪،‬‬

‫أسرتجع فقط مشهد نشامة وشهامة الشبان املغاربة العرب‪.‬‬

‫أكاديمية سعودية‬

‫الهنوف الدغيشم‪ :‬سنعيد ضبط‬

‫ساعاتنا‬

‫هل ستتغري مالمح الرياض؟ هل‬

‫ستصبح هذه املدينة أقرب لإلنسان‬ ‫وحكاياته؟ وهل سيخبو صوت‬

‫منبهات السيارات؟ ويعلو صوت‬

‫حكايات العابرين يف جوانب‬ ‫املرتو وهو يعرب هذه املدينة‬

‫للعمل بسيارة خاصة ‏مصدرًا للضغوط‪ .‬وال تنظر الثقافة السائدة يف أمريكا ويف بعض الدول األوربية بدونية ملستخدمي النقل‬ ‫العام؛ ألنهم يمثلون غالبًا ‏معظم شرائح املجتمع‪ .‬لذلك فإن وجود خدمات نقل عام راقية وذات جودة عالية سيغري النظرة إليها‬

‫وإىل مستخدميها بشكل‏جذري‪.‬‬

‫ويتمتع قائدو املركبات العامة هناك بصفات الحزم واملهنية العالية‪ ،‬ويتمكنون من ضبط األمن والسلوك العام بكفاءة‪ .‬‏ويف‬

‫ظني لن تنجح وسائل النقل العام يف اجتذاب األسر السعودية أو األفراد إال بتوافر هذا االنضباط السلويك الذي تفرضه ثقافة‬

‫‏املواصالت العامة سواء يف املحطات أو داخل املركبات‪ .‬وبال شك نحن نستطيع تحقيق االنضباط السلويك نفسه يف مرتو‏الرياض من‬ ‫خالل توفري طاقم من العاملني عىل درجة من املهنية والحزم لرتسيخ ثقافة املواصالت العامة وفرض أنظمة‏صارمة الستخدامها‪ .‬من‬ ‫جانب آخر فإنني أتطلع بشكل خاص لتوافر خدمات النقل العام املتميزة لتساعد عىل تمكني العديد من‏فئات املجتمع غري القادرة‬

‫عىل االعتماد عىل نفسها يف توفري مواصالت خاصة‪ ،‬للمسنني واملعوقني والفئات محدودة الدخل‪.‬‏ويف ظني مع تزايد نسبة املسنني‬ ‫يف املجتمع وما نشهده من استقالل األبناء يف بيوت خاصة‪ ،‬يجعل املسنني أكرث قدرة عىل‏االستفادة من املواصالت العامة يف التنقل‬ ‫ألغراض مختلفة‪ ،‬لقضاء الحاجات‪ ،‬أو مراجعة املستشفيات‪ ،‬أو الرتياد األماكن العامة ‏بدون الحاجة لالنتظار لحني يتفرغ أحد‬

‫األبناء ملساعدتهم‪ .‬ومن املهم أن تراعي مواصفات واشرتاطات الحافالت والقطارات‏االحتياجات الخاصة لبعض فئات املجتمع‪ ،‬وأن‬

‫توفر مساحات للكرايس املتحركة وأحزمة األمان‪ ،‬وساللم متحركة لتسهيل دخول‏هذه الكرايس‪ ،‬وأن يُعطى أصحابها األولوية يف‬

‫الجلوس يف املقاعد األمامية‪.‬‬

‫ومن املشاهد التي ال أنساها من خالل تجربتي‏الطويلة يف استخدام هذه املواصالت يف الخارج‪ ،‬مشهد شاب مصاب بشلل كامل‬ ‫ً‬ ‫معتمدا عىل نفسه بشكل‬ ‫وال يستطيع تحريك إال بعض أصابع يديه‪،‬‏يركب الحافلة يوميًّا للذهاب للنزهة أو لقضاء بعض احتياجاته‬ ‫تام باستخدام كريس كهربايئ بمواصفات ‏عالية‪ .‬كان هذا الشاب يحرص عىل تبادل الحديث مع قائد املركبة أو مع الركاب كاسرًا‬

‫بذلك كثريًا من الحواجز النفسية ‏واالفرتاضات الضمنية التي تعزز عزلة ذوي االحتياجات الخاصة‪ ،‬وتمنع اندماجهم يف املجتمع‪.‬‬

‫وهذا قد يكون من املنجزات‏االجتماعية البارزة لوسائل النقل العام فيما لو تمكنت من إيجاد مساحة آمنة لذوي االحتياجات الخاصة‬

‫ملمارسة حياتهم بشكل‏طبيعي‪ .‬الخالصة هي أن باإلمكان أن تؤثر وسائل النقل العام يف ثقافة املجتمع‪ ،‬وأن تؤدي ملزيد من التمكني‬

‫‏واالستقاللية ملختلف فئاته‪ ،‬وأن تسهم يف إحداث تغيري ثقايف ملموس‪ ،‬ولكن ذلك يتطلب ثقة املستفيدين بمنظومة النقل العام‪،‬‬

‫‏وتوافر درجة عالية من الدقة والجودة واالعتمادية يف خدماتها‪.‬‏‬

‫عضو مجلس الشورى السعودي‬

‫‪55‬‬


‫الملف‬

‫اآلخرين فرصة الخروج أولاً ‪ .‬مع التجربة‪ ،‬سيكون هناك رتم يف‬

‫الضخمة؟ كيف سيتحول هذا الشكل األسمنتي من‬

‫شيئيته وجموديته اآلن‪ ،‬إىل مؤثر يف الحياة االجتماعية‬ ‫والثقافية يف الرياض قريبًا؟‬

‫هل نأمل أن تتقلص تأثريات الطابع األسمنتي عىل‬

‫نفوسنا وأذواقنا وعالقاتنا وتواصلنا مع من نعرف‬

‫ومن ال نعرف؟ هل ستغيب عن أعيننا وذواتنا هذه‬ ‫األشكال األسمنتية وكسراتها وزواياها الحادة وأرصفتها‬

‫وحواجزها؟ وهل سيختفي شعورنا بشيئيتها وجمودها؟‬

‫كيف ستكون عالقاتنا وأصواتنا وطريقة كالمنا ونظراتنا‬ ‫ونحن ندخل املحطات ونقطع التذاكر ونختار مقاعدنا‬

‫ونسأل عن أي محطةٍ نقصد؟‬

‫هذه األسئلة تنمو يف رأيس يف كل مرة أشاهد املرتو‬ ‫ً‬ ‫مخرتقا مدينة الرياض‪،‬‬ ‫وهو يتشكل بشكله األسمنتي‬ ‫محاولاً تجميع أطرافها‪.‬‬

‫املرتو‪ ،‬سيحمل هذا الرتم تأثريًا يف سلوك إنسان الرياض‪،‬‬

‫سيصبح أكرث صربًا‪ ،‬أكرث قدرة لضبط وقته‪ ،‬وأكرث مرونة يف‬

‫التعامل مع اآلخر‪ ،‬فسيتحول املرتو من شيئيته الجمودية إىل‬ ‫مؤثر يف النمط االجتماعي بأكمله‪.‬‬

‫ستحتوي املحطات بقاالت ومحالت تبيع معروضات‬

‫ومطاعم صغرية‪ ،‬سينتظر الركاب يف املقاهي‪ ،‬سيتحدثون‬ ‫من أين جاؤوا وإىل أين سيذهبون‪ ،‬سيسألون وسيتعارفون‪،‬‬

‫سيحكون عن حياتهم وأطفالهم‪ ،‬سيبتسمون‪ .‬لن يعودوا‬

‫معزولني كما يف سياراتهم الخاصة‪ .‬سيؤثر املرتو يف عالقات‬ ‫اإلنسان‪ ،‬ورؤيته لآلخر‪ ،‬سيقرتب الغريب عن الرياض من‬ ‫أهلها‪ ،‬هكذا أظن‪ ،‬وسيحمل يف ذاكرته صورة متنوعة وقريبة‬

‫من تفصيالت الحياة‪ .‬األسئلة ال تتوقف عن التربعم يف رأيس‪،‬‬ ‫فهل يمكن للعالقة بني الرجل واملرأة مع الوقت أن تكون أقل‬ ‫تحف ًزا؟ نسق الحياة يف الرياض جعل هذه العالقة يف حالة‬

‫أتخيل الرياض وهي تتغري وتتشكل مرات ومرات‪،‬‬

‫توجس‪ ،‬ويف حالة تضاد دائمة‪ .‬أتخيل أنه يف البداية سيزداد‬

‫ألهلها ستتقبل هذه التغريات الثقافية واالجتماعية‬

‫املرأة نفسها مضطرة بداية ألن تسأل عن اتجاه ما‪ ،‬عن مكان‬

‫ربما ببطء ومقاومة يف البداية‪ ،‬لكن الروح الشابة‬

‫‪56‬‬

‫حركتنا‪ ،‬وسيتحول املكان إىل نغم بني حركة اإلنسان وحركة‬

‫التي سيحملها املرتو معه‪ .‬يف البداية‪ ،‬ستنبت كثري‬

‫من الحكايات‪ ،‬ستتغري بوصلة الحديث يف اجتماعات‬ ‫العائلة واألصدقاء نحو املرتو‪ ،‬سنسمع حكايات لطيفة‪،‬‬ ‫وسنسمع ً‬ ‫أيضا حكايات غري منطقية‪ ،‬وستستخدم هذه‬

‫توجس املرأة تجاه الرجل‪ ،‬ومع زيادة استخدام املرتو‪ ،‬ستجد‬

‫ما‪ .‬وحينما ترى أن األمر أكرث بساطة مما تظن‪ ،‬وأنه سيأخذ‬ ‫منحى إنسانيًّا عاب ًرا‪ ،‬سيذوب هذا التوجس‪ ،‬ستبدو العالقة‬ ‫توجسا‪ .‬سيكسر املرتو ما بناه األسمنت‪،‬‬ ‫أكرث وضوحً ا‪ ،‬أقل‬ ‫ً‬

‫سيذيب جمودية العالقات‪ ،‬فكبار السن سيظهرون يف رتم‬

‫الحكايات للرتويج أو للتنفري منه‪ .‬مع الوقت‪ ..‬ستخبو‬

‫الحياة‪ ،‬سيكونون جزءً ا من الصورة‪ ،‬سرناهم أقرب لألجيال‬

‫روتينها الطبيعي الذي ال يحمل كل هذه االندهاشات‪،‬‬

‫ما‪ ،‬سيجدون كثريًا من الشباب والشابات املستعدين دائمً ا‬

‫هذه الحكايات‪ ،‬سيصبح املرتو من روتني الرياض‪،‬‬

‫اليافعة‪ ،‬سيتحركون داخل املدينة دون اعتماد عىل أحد‬ ‫ملساعدتهم‪ ،‬وسيشعرون أنهم أقرب للحياة‪ .‬سيعتاد األطفال‬

‫اندهاشات البداية‪ .‬سنتآلف معه‪ ،‬سيصبح جزءً ا‬ ‫ً‬ ‫مألوفا وغري مدرك من حياتنا‪ .‬أتخيل أن ثمة إقبالاً من‬

‫أو الناشئون عىل هذا النوع من الحركة‪ ،‬وحينما يرونه منظمً ا‬

‫الرغبة يف تجربة الجديد‪ ،‬أو دفع ثمن الفوىض املرورية‬

‫األقل‪.‬‬

‫طبقات مختلفة يف املجتمع لتجربة املرتو‪ ،‬أحد أسبابها‬

‫وآم ًنا‪ ،‬سيسهل فيما بعد تنقلهم وحدهم‪ ،‬هذا ما أتمناه عىل‬ ‫ما الذي سيختفي منا؟ هل سيصبح هناك اندماج‬

‫التي صاحبت إنشاءه‪ ،‬وتفادي االزدحام الذي أصبح‬ ‫ً‬ ‫عطشا ملصادفة حكاية‬ ‫طابعً ا ملدينة الرياض‪ ،‬أو ربما‬

‫اجتماعي أكرب؟ أو عىل األقل إدراك مجتمعي للطبقات‬

‫محاولة ملقاومة كل معوقات املواصالت لديها‪ .‬نحن‬

‫ربما سيخلق مفاجآت لم يكن لنا توقعها ورصدها‪.‬‬

‫مع العابرين‪ .‬كما أعتقد أن املرأة ستستخدمه أكرث يف‬

‫الذين اعتدنا دائمً ا أن تكون مواعيدنا مفتوحة‪ ،‬أن نقول‬ ‫مثلاً «املوعد بعد صالة العشاء»‪ ،‬وكم هو طويل وذائب‬

‫املختلفة داخله؟ كل هذا محاولة تخيل وقراءة لتأثري املرتو‪،‬‬

‫نوير العتيبي‪ :‬أنسب كتاب اجتماعي‬

‫كاتبة سعودية‬

‫هذا الوقت! فهل سيعلمنا املرتو أن التأخري نصف دقيقة‬

‫الرياض مدينة يضج فيها كل يشء إال صوتها‪ ،‬مدينة‬

‫أن نعيد ضبط ساعاتنا وإدراكنا للوقت‪ .‬سيعلمنا أكرث‬

‫التي سرقت طبيعتها كأنها‪ ،‬ويف لحظة تمدد خطوط سكك‬

‫يعني تفويت الرحلة وانتظار ما بعدها؟ سيعلمنا املرتو‬ ‫من ذلك‪ ،‬سيعلمنا كيف ننتظم يف الدخول والخروج‬ ‫من املرتو‪ ،‬سنتعلم كيف نقف عند باب املرتو لنمنح‬

‫مزدحمة بآالف الحكايات املطمورة واملنسية والحياة املتكلفة‬ ‫جديدة عىل صدر هذه املدينة ستقول‪ :‬القطار سيخرج مفاهيم‬ ‫اجتماعية عديدة‪ ،‬وستلبسون ً‬ ‫لونا حياتيًّا لم تعتادوه! فتلك‬

‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬


‫املدينة التي تقسم كل يشء عىل اثنني اختارت أن تغري املعادلة‬

‫كافة بلدان الجوار قبل البلدان املتقدمة‪ .‬ومن املؤكد أن تلك‬

‫يف التغيري غري أن وسيلة النقل الجديدة سترتك أث ًرا يف الجانب‬

‫أو غري مباشرة‪ ،‬كما أنه ستستجد قوانني اجتماعية تحكم‬

‫وتلغي القسمة‪ .‬وتتهيأ لخوض تجربة تضاف لسابق خطواتها‬ ‫االجتماعي واإلنساين‪ ..‬إن الحركة الدائمة لإلنسان وللبحث عن‬

‫ضروريات الحياة جعلته يستخدم وسائل النقل التي تسهل له‬ ‫عملية االنتقال وبالطبع تشكل هذه الوسائل بجانب أهميتها‬ ‫عب ًئا بيئيًّا ومشكالت حضرية‪ ،‬أبرزها االختناقات املرورية‬

‫الوسيلة ستنعكس عىل السلوك االجتماعي بطريقة مباشرة‬ ‫هذا الفعل االجتماعي (فعل التنقل)‪ ،‬وستنبت يف محطاتنا‬

‫الحكايات املخيفة قبل البدء وعند التجارب األوىل لتشغيله‪،‬‬ ‫وستشحذ العواطف الدينية كعادتنا عند أي تغري‪ ،‬وبعدها‬ ‫ستنىس تلك الحكايات حني يكون العقل يف مقدمة كل قول‬

‫والتلوث بكافة أشكاله؛ لهذا جاءت فكرة القطار يف مدينتنا‬

‫ليدحض الحكايا التي تعوق التقدم وتمنع الحياة‪ .‬فشبكات‬ ‫الخطوط الجديدة ربما تعيد شي ًئا مما فقدته املدينة‪ ،‬وربما‬

‫وسائل النقل يك تمكن أفراد املجتمع الواحد من التواصل فيما‬

‫يقول أدونيس‪« :‬إن املرتو أنسب مكان تقرأ فيه كتاب علم‬

‫أبرز الحلول التي نتطلع لبدء تشغيلها‪ .‬ولخوض تجربة مماثلة‬ ‫للدول السابقة يف ذلك‪ .‬فالتوسع العمراين هو األصل‪ ،‬ووجود‬

‫بينهم بعدما تعذر عليهم التواصل باألقدام‪.‬‬

‫سيسهم القطار إىل حد كبري يف إحداث التغيري االجتماعي‬

‫بني أفراد املجتمع عمومً ا؛ إذ إن املرتو سيقصده كل الفئات‪،‬‬ ‫وسيتاح بكلفة أقل مما هو متاح‪ ،‬ومن هنا ستكون عملية‬

‫االتصال االجتماعي متاحة بشكل أكرب‪ ،‬إذ إن املمرات الطويلة‬ ‫واملقاعد املرصوصة ومحطات االنتظار ستضج بحياة مختلفة‬ ‫وتبادل معريف‪ ،‬يلتقي فيها الفرد مختلف الفئات‪ ،‬ولن تكون‬ ‫التجربة مجردة ولو عىل سبيل التأمل لحركة الحياة‪ .‬سيصبح‬

‫املرتو رافدً ا ثقافيًّا ليتعرف املجتمع عىل كل فئاته دون الحواجز‬

‫املتكلفة‪ ،‬ولعله يعيد الطبيعة اإلنسانية كما هي صورها يف‬

‫تمنحها آلية جديدة تتعاطى مع الحياة بشكل يذيب جمودها‪.‬‬

‫النفس»‪ ،‬وأنا أقول‪ :‬إنه سيكون أمتع كتاب اجتماعي ممكن‬

‫أن تقرأه‪ ..‬هو مرتو الرياض‪.‬‬

‫أسماء الزهراين‪ :‬ماليني األحالم‬

‫شاعرة سعودية‬

‫تستيقظ لصالة الفجر وال تنام بعدها؛ ألنها إن أخذت‬

‫غفوة اسرتخاء مهما كانت قصرية فستفوت حضور عملها يف‬

‫موعده بني ‏السابعة والثامنة‪ ،‬املوعد الذي تفوته مهما كانت‬

‫دقيقة خروجها من املنزل‪ ،‬ألن العربة يف جدة والرياض‪،‬‬ ‫املدينتني اللتني‏تكربان كل ساعة‪ ،‬ليست بالتبكري بل باستحالة‬ ‫اللحاق بامتداد قطار السيارات الذي يضاف له عربات كل يوم‬

‫‪57‬‬


‫الملف‬

‫‏الرياض وجدة‪ ،‬وتحسب كم من الخطط والطموحات ستنجو‪،‬‬

‫ومزيد من التفافات‏الطرق للتحايل عىل الزحام!‬

‫وحيث ال يمكن لساكني هاتني املدينتني إنجاز أكرث‬

‫من مهمة يف اليوم‪ ،‬باحتساب الوقت الذي سيمضونه‬

‫يف الطرقات‪ ،‬فكم أريق ‏عىل تلك الطرقات من أفكار‬ ‫ً‬ ‫فارقا هائلاً ‪ .‬يف هذا اليوم‬ ‫ومشروعات كانت ستصنع‬ ‫سلسا بشكل لم تعهده‪ ،‬فهي لم‬ ‫بالتحديد كان الطريق‬ ‫ً‬ ‫تضطر للدخول يف مسرية سيارات واقفة‪ ،‬بل صعدت‬

‫من إحدى ‏محطات قطار األنفاق‪ ،‬الذي ال يقطع مسريه‬

‫تحويالت وال حفريات وال إشارات‪ .‬وجدت نفسها مبكرة‬ ‫أكرث مما ينبغي يف موقع ‏الجلسات العلمية‪ ،‬حتى إنها‬

‫شعرت ببعض القشعريرة! كانت السكينة تعم املكان‬

‫فقررت أن تغري موعد خروجها يف اليوم التايل! اليوم الذي‬ ‫لم تشعر فيه بحاجة لتعليق عينيها بالسائقني املتهورين‪،‬‬

‫وتركيزها مع السائق لتنبيهه ملفاجآت الطريق كعني ثالثة!‬ ‫‏فقررت أن تقرأ شي ًئا حتى الوصول ملوعدها‪ .‬يف ذلك املقعد‬ ‫الهادئ قضت أيام الرحلة األربعة تتأمل املاليني التي‬

‫يحملها القطار يوميًّا ذهابًا وإيابًا‪ ،‬وتحلم بمقعد يشبهه يف‬

‫وكم من املشروعات ستتحقق بدون أن تجهضها هذه الطرقات‬

‫التي‏تحمل كل يوم ماليني املواطنني مع ماليني األحالم!!‏‬

‫عضو مجلس الشورى السعودي‬

‫ً‬ ‫حميما‪ ،‬كما توقعت!‬ ‫أثري عبدالله النشمي‪ :‬ليس‬

‫ُ‬ ‫صعدت فيها‬ ‫أول مرة‬ ‫كان هذا أول ما تبادر إىل ذهني يف ِ‬ ‫عىل منت املرتو‪ُ ،‬كنت دائمً ا ما أتخيل املرتو بشكل مُ ختلف‪ ،‬أنا‬

‫القادمة من بالد ال تتعاطى مع املواصالت العامة بعمومها‪ ،‬ما‬ ‫بالكم بمرتو ينطلق بسرعة ثمانني كيلو مرتًا يف الساعة!‬ ‫دائمً ا ما ُكنت أتخيل رائحة املرتو أو القطارات‪ُ ،‬كنت أتصور‬ ‫دائمً ا أن لها رائحة ُتشبه بشكل ما رائحة ُ‬ ‫الكتب‪ ،‬هكذا صورت‬ ‫يل األفالم األمر‪ ،‬أُناس يتشابهون بشكل ما‪ ،‬يتقاطعون بطريقة‬ ‫ما‪ ،‬يستقلون كبائن القطار ومقاعد املرتو‪ ،‬يقضون الوقت يف‬

‫قراءة أدبيات كالسيكية‪ ،‬يلتقي بعضهم مُ صادفة من يُشبهه‪،‬‬ ‫يكتشفون أنهم توأم روح‪ ،‬يقعون يف الغرام‪ ،‬يتزوجون ُ‬ ‫وتخلد‬ ‫الحكاية!‬

‫يكن مثلما تخيلت عىل اإلطالق‪ ،‬لم ُ‬ ‫لكنه لم ُ‬ ‫يكن يُشبه قطار‬ ‫ُ‬ ‫فلم ‪ before sunrise‬ولم يكن من عليه يُشبهون من كانوا‬

‫‪58‬‬

‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬


‫عليه! كان أسرع مما كان من املفرتض عليه أن يكون‪ ،‬ممتئل‬ ‫بأناس مُ ختلفي املالمح والهيئات‪ ،‬أناس ال يتشابهون فيما‬

‫يرتدون وال يف الطريقة التي كانوا يجلسون أو يقفون فيها‪ ،‬لم‬ ‫تلتق أبدً ا طوال تلك‬ ‫تجمعهم لغة‪ ،‬وأكاد أجزم بأن أعينهم لم ِ‬

‫الرحلة‪ ،‬اليشء الوحيد الذي اتفق ركاب املرتو عليه هو انشغال‬ ‫معظمهم باألجهزة اإللكرتونية التي كانت يف أيدي األغلبية‪،‬‬ ‫باختالف أنواع تلك األجهزة‪ُ .‬كنت وحدي من يُحملِق يف مالمح‬

‫الجميع‪ُ ،‬كنت أتأمل ذلك االعتياد عىل الوجود يف مكان كهذا‪،‬‬

‫كاعتيادي عىل أن أستكني خلف مقعد سائقي يف الرياض‪ ،‬لم‬ ‫ُ‬ ‫يكن هُ ناك مُ توتر سواي‪ ،‬أنا التي كدت أتراجع عن اللحاق باملرتو‬ ‫ً‬ ‫عيل فيطحن جسدي قبل رأيس!‬ ‫خوفا من أن يُغلق بابه ّ‬

‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫وشعرت بالخجل حينما‬ ‫شعرت بالخجل من خويف‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وشعرت بالخجل كثريًا‬ ‫تخيلت أن الباب فعلاً قد أغلق عيل‪،‬‬

‫حينما تأملت تأخري يف املرور بمثل هذه التجربة‪ُ .‬كنت سعيدة‬ ‫ُ‬ ‫تأملت‬ ‫جدًّا يف اليوم الذي استقل أطفايل فيه املرتو ألول مرة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وجدت أنها كانت تشبه دهشتي بشكل ال‬ ‫طويلاً تلك الدهشة‪،‬‬ ‫يُصدق عند استقاليل املرتو ألول مرة‪ُ ،‬كنا عىل القدر نفسه من‬

‫الدهشة‪ ،‬عىل رغم فارق العمر الكبري عند استقالل كل منا املرتو‬ ‫ألول مرة! ُكنت ممتنة لتلك السرعة التي خطفت أنفاس أطفايل‬ ‫ونفيس ً‬ ‫أيضا‪ ،‬ال ملُجرد أنها أدهشتنا وأضافت لنا تجربة مُ ختلفة‬ ‫لم ُ‬ ‫يكن ليتسنى لنا املرور بها يف الوطن حينذاك‪ ،‬وال ألنها وفرت‬

‫عيل كثريًا من املال الذي ُكنت سأنفقه مقابل سيارات األجرة‬ ‫عدم وجود‬ ‫أو السيارات الخاصة التي ُكنت سأستقلها يف حالة‬ ‫ِ‬ ‫املرتو‪ ،‬بل ألنها جعلت تنقالتنا أكرث سهولة وأوفر وق ًتا مما كانت‬

‫عليه‪ ،‬سيعي تمامً ا معنى هذا األمر وقيمته من هو مسؤول عن‬ ‫أطفال صغار يف ُعمر امللل والحركة‪ .‬ممتنة أنا بأن أطفايل قد‬

‫عاشوا هذه التجربة مُ بك ًرا‪ ،‬ممتنة أكرث ألنهم سيمرون بها كثريًا‬

‫بإذن الله يف وطنهم‪ ،‬حتى يفقدوا دهشتهم حيال األمر‪ ،‬وحتى‬

‫يعتادوه مثلما كان يبدو عىل من كانوا يستقلون ذلك املرتو يف‬ ‫رحالتنا األوىل عليه‪.‬‬

‫حينما نزل أطفايل من املرتو ألول مرة قال يل ولدي األكرب‬

‫بخجل‪« :‬ماما‪ ،‬خفت يسكر عيل الباب ويكسر رأيس»‪ .‬ابتسمت‪،‬‬ ‫تذكرت نفيس يف أول رحلة عىل مرتو الدهشة!‬

‫روائية سعودية‬

‫ليلى األحيدب‪ :‬نافذة أولى للنساء‬ ‫الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض عملت بذكاء وبإسرتاتيجيات واضحة يف هذا املشروع‪ ،‬‏فقد أشركت املجتمع يف‬

‫مرتو الرياض مذ كان حربًا عىل ورق‪ ،‬طلبت من املواطنني ‏عرب مسابقة أطلقتها بعنوان «وش نسميها» أن يشاركوا يف‬

‫تسمية آالت الحفر السبع‏التي ستحفر األنفاق وستؤسس ملرتو الرياض‪ ،‬وضعت مواصفات معينة لهذه األسماء‪،‬‏وهذه‬ ‫املسابقة اشرتك فيها املواطنون من جميع أرجاء اململكة‪ ،‬وتم اختيار أسماء ‏آالت الحفر ً‬ ‫وفقا القرتاحات املواطنني؛ ففي‬ ‫نهاية األمر املواطنون هم من سمى اآلالت ‏بأسماء تعرب عنهم‪ ،‬وترتبط بذاكرتهم الجمعية؛ مثل‪ :‬ذربة وسنعة وظفرة‬ ‫تكتف الهيئة‬ ‫ومنيفة وجزلة ‏وصاملة وثاقبة‪ ،‬جميل أن تؤنسن الهيئة اآلالت وتربطها بوجدان املواطن وذاكرته‪ ،‬‏ولم‬ ‫ِ‬

‫بذلك؛ بل عمدت إىل إشراك املواطنني يف كل مرحلة تنجزها من هذا ‏املشروع‪ ،‬فتوجه الدعوات ألصحاب الحي القريب‬

‫ليحضروا شق نفق أو االنتهاء منه‏بإحدى هذه اآلالت التي أسموها بأنفسهم‪.‬‬

‫إشراك الناس يف التسمية ويف مراحل إنجاز مرتو الرياض جعل مرتو الرياض جزءً ا‏مهمًّ ا من حياة الناس‪ ،‬فهو مشروع‬

‫شاركوا فيه منذ البدء‪ ،‬وحضروا كل مرحلة تم ‏إنجازها بطريقة جعلتهم يعرفون خطوات بنائه خطوة خطوة‪ ،،‬فقد‬ ‫تحول ملشروعهم‏هم ال الهيئة‪ ،‬إضافة إىل الرسائل الدعائية املوجودة يف الشوارع ويف وسائل التواصل‏االجتماعي‪ ،‬وهي‬

‫رسائل ليست تقليدية‪ ،‬بل موجهة بذكاء بطريقة جديدة ومبتكرة‪.‬‏‬

‫هذا االشتغال الذيك من هيئة تطوير الرياض عىل جعل مرتو الرياض جزءً ا من حياة‏سكان الرياض سيسهم ال شك‬

‫يف نجاح تشغيل املرتو وإقبال الناس عليه‪.‬‏‬ ‫ً‬ ‫مرتو الرياض مالئم ًّ‬ ‫مشروعا ناجحً ا‪،‬‬ ‫جدا لرؤية ‪2030‬م من النواحي كافة‪ .‬وأعتقد جازمة أن مرتو ‏الرياض سيكون‬ ‫وسيحظى بإقبال كبري من سكان العاصمة‪ ،‬وسيلمس‏الناس فائدته االقتصادية‪ ،‬وبخاصة يف ظل ارتفاع أسعار الوقود‪،‬‬ ‫فقد ّ‬ ‫مل الناس من ازدحام ‏الطرق وحوادث السيارات والتحويالت‪ ،‬وسيكون مرتو الرياض نافذة أوىل تغني النساء ‏عن‬

‫استخدام السائقني الذين استنفدوا ميزانيتهم‪ .‬أنا مستبشرة بهذا املشروع‪ ،‬وأشكر هيئة تطوير مدينة الرياض عىل مهنيتها‬

‫ِّ‬ ‫وتجمل دائمً ا وجه الرياض‪.‬‏‬ ‫يف العمل‪ ،‬فهي‏هيئة تعمل بحب وإخالص‬

‫روائية سعودية‬

‫‪59‬‬


‫الملف‬

‫مترو الرياض‪..‬‬ ‫في المتخيل الروائي‬ ‫السعودي‬ ‫الرياض‬

‫‪60‬‬

‫هل يمكن أن يتحول مترو الرياض إلى فضاء روائي وجزء من المتخيل السردي لدى عدد‬ ‫من الروائيين والكتاب السعوديين؟ هل سيعثر الكاتب السعودي في عربات القطار ومحطاته‬ ‫على مادة طازجة‪ ،‬عن شخصيات مميزة‪ ،‬تدفعه إلى استلهامها؟ هل ستجد الرواية والقصة‬ ‫ً‬ ‫جديدا من المجتمع؟ وما التحديات‬ ‫ضالتهما في العالقات التي تحدث في المترو‪ ،‬ليكشفا جانبًا‬ ‫التي يمكن أن يواجهها ُ‬ ‫الكتاب في هذا الصدد؟‬ ‫تساؤالت طرحتها «الفيصل» على عدد من كتاب الرواية والقصة السعوديين‪.‬‬

‫قطار الرياض في رسومات األطفال‬ ‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬


‫يوسف املحيميد‪ :‬قصص الحب والعالقات بني الجنسني‬ ‫كما أعرف‪ ،‬يرتبط مجد أمناء‬

‫العواصم واملدن يف العالم وشهرتهم‪،‬‬

‫بإنشاء خطوط املرتو يف هذه املدن‪ ،‬ملا‬

‫يحمله املرتو من أهمية كربى يف تاريخ‬

‫املدن وتغرياتها االجتماعية واالقتصادية‬

‫والسياسية‪ ،‬وال يقتصر األمر عند ذلك‬ ‫فحسب‪ ،‬إنما ينعكس ً‬ ‫أيضا عىل فنونها وآدابها‪ ،‬فمحطات‬

‫املرتو مكان صالح للموسيقا والغناء والفنون بأشكالها‪،‬‬ ‫كالفن الغرافيتي‪ ،‬وعربات املرتو أماكن صالحة جدًّ ا‬ ‫لحكايات الناس‪ ،‬وقصص الحب والسرقة والقتل ً‬ ‫أيضا‪،‬‬ ‫هذه الخطوط والعربات واملحطات أمكنة واردة يف السرديات‬ ‫العاملية‪ ،‬فكثري من الروايات املرتجمة التي نقرؤها يرد فيها‬

‫اسم املرتو‪ ،‬أو اسم محطة من محطاته؛ ألنه ببساطة جزء‬ ‫يومي من نسيج هذه املجتمعات‪ ،‬فال يمكن ألي شخصية من‬

‫الشخصيات أن تتحرك دون أن تستخدم املرتو أو الحافلة‪،‬‬

‫فهي وسائل النقل التي تضم الجميع‪ ،‬ويلتقي بها الجميع‪،‬‬ ‫لذلك من الطبيعي أن يحضر املرتو بعرباته ومحطاته يف‬

‫الروايات السعودية التي توظف الرياض كمدينة ألحداثها‪،‬‬

‫عبدالرزاق اليوسف‪ :‬قيم فنية‬

‫للكتابة يف الرتام قيم فنية يف الداللة اإلبداعية‪،‬‬

‫مثل عالقتها بالواقع‪ ،‬واالختصار والدقة وإثارة الفضول‬ ‫واالهتمام‪ .‬بينما اإلطار الفني والتشكيل الهنديس محكوم‬ ‫بعوامل رسم هذا التشكيل من نسيج وبناء الشخوص‬

‫والسرد والحدث‪ .‬كما أن اإلمكانية التأويلية محدودة بسبب‬ ‫عوامل التشكيل‪ :‬الشخوص هم ركاب املرتو وتغريهم‪ ،‬حركة‬ ‫الرتام ووقوفه يف محطات معينة‪ ،‬عنصر املفاجأة يف الحدث‪:‬‬

‫دخول ركاب جدد واختفاء آخرين‪ .‬إذا كانت القيمة املكانية‬ ‫محصورة يف العربات‪ ،‬فإنها زمنيًّا مقيدة يف توقيت الوقوف‬

‫والحركة وما تحمل من شحنات التوقع عند القارئ‪ ...‬ولكن‬ ‫مهلاً ‪ ..‬هذا التمهيد عن فنيات الكتابة اإلبداعية للقصة ربما‬ ‫يحدث يف القاهرة أو أنقرة بسبب البعد النفيس واالجتماعي‬ ‫للكاتب بني مجتمعه الكبري‪ .‬وهو أن يكون الكاتب ح ًّرا‪،‬‬

‫مستق ّر االنفعال والوجدان بما يخدم كتابة النص‪ .‬أما‬

‫عندما تكون الكتابة يف السعودية فاألمر مختلف‪ .‬إن اإلطار‬ ‫االجتماعي الذي يعوم فيه الكاتب ومن ضمن أركانه الحرية‬

‫وانسياب الوعي بدون عقبات شرط أسايس يف اإلبداع‪.‬‬

‫ناقد سعودي‬

‫لكن ما أخشاه هو املبالغة يف استخدام هذا العنصر‪،‬‬ ‫مكانا كاملاً‬ ‫ً‬ ‫وربما أتوقع كذا رواية قادمة ستجعل املرتو‬

‫هناء حجازي‪ :‬القطار األشهر‬

‫الحب والعالقات بني الجنسني‪ ،‬وال عيب يف ذلك؛ ألن‬ ‫املهم يف نظري أن تكون أعمالاً مكتملة فنيًّا‪ ،‬وعميقة يف كل‬

‫يف رائعة تولستوي تلك‪ ،‬كان القطار‬

‫العنصر الجديد يف املكان يضمن الجدَّ ة يف النص الروايئ‪ ،‬أو‬

‫يف الخارج حيث القطارات جزء‬

‫ألحداثها‪ ،‬وبخاصة الروايات الشبابية التي تتصيد قصص‬

‫مستوياتها وطبقاتها‪ ،‬وأال ينخدع أحد بأن استخدام هذا‬

‫وسم الرواية بعنوان «مرتو الرياض» يكفي لتحقيق الشهرة‬ ‫املجانية واملبيعات العابرة‪.‬‬

‫القطار األشهر بالنسبة يل يف األدب‬ ‫هو الذي انتحرت تحت عجالته ّأنا كارنينا‪.‬‬

‫حاض ًرا بقوة‪ .‬كلما وقفت أمام قطار‬

‫مهم وأسايس يف مواصالت الكثري من البلدان‪ ،‬أشعر لوهلة‬

‫بخوف غامض‪ ،‬رهبة أو وجفة تنتابني حني أقف أمام ذلك‬

‫ً‬ ‫عمقا؛ التوغل يف‬ ‫الكتابة الروائية يشء آخر‪ ،‬أكرث‬

‫الجرف السحيق الذي ستملؤه بعد قليل عجالت القطار‬ ‫القادم‪ .‬واآلن أتساءل‪ :‬هل السبب ّأنا كارنينا؟ هل يوجد‬ ‫بداخيل ّأنا كارنينا مختبئة يف زاوية ما من عقيل؟‬

‫كرة القدم‪ ،‬كل هذه األماكن وغريها هي أماكن لتجمع‬

‫من ذكر املرتو القادم‪ ،‬هذا الذي سيصبح جزءً ا من الحياة‬

‫أعماق اإلنسان‪ ،‬رصد مشاعره وانفعاالته‪ ،‬التقاط أبسط‬

‫تفاصيله اليومية‪ ،‬سواء يف املرتو‪ ،‬أو الباص‪ ،‬أو املركبة‬ ‫الخاصة‪ ،‬أو حتى يف الشارع والحديقة والجامعة وملعب‬

‫الناس وتقابلهم‪ ،‬بمعنى أنها أماكن لوقوع األحداث‬

‫والحكايات‪ ،‬وفرصة الصطياد األفكار‪ ،‬ولكن علينا أن‬ ‫نتمثل مقولة الجاحظ‪« :‬األفكار ملقاة عىل قارعة الطريق»‬ ‫أي أنها متاحة للجميع‪ ،‬لكن كيف نلتقطها ونصهرها‬ ‫رِّ‬ ‫ونعب عنها‪ ،‬هذا هو املحك وما يميز الروايئ الحقيقي ممن‬ ‫هو دون ذلك‪.‬‬

‫روايئ سعودي‬

‫لذلك أتخيل كيف ستمتئل صفحات الروايات‪ ،‬رواياتنا‬

‫اليومية ألهايل الرياض‪ ،‬كم كاتب سيكتب عن املتعبني الذين‬

‫يضطرون لركوبه كل يوم‪ ،‬أو الشبان الذين سيلتقون عىل‬

‫ضفافه للذهاب إىل منطقة بعيدة أو مزدحمة‪ ،‬والفتيات‬ ‫الاليت سيستغنني عن السائق املشاكس‪ ،‬كم سيُسهِّل‬ ‫لقاءات مستحيلة‪ ،‬وكم سيحمل حكايات معقدة‪ .‬سيل‬

‫عارم من البشر يستقلونه كل يوم‪ .‬ولكل واحد منهم حكاية‪.‬‬ ‫قاصة وروائية سعودية‬

‫‪61‬‬


‫الملف‬

‫ناصر الجاسم‪ :‬مكان شاعري‬

‫املرتو أو القطار فضاء مغلق‪،‬‬

‫وهو يف حقيقته مكان شاعري‬ ‫يف الغالب‪ ،‬حيث تتوالد‬

‫فيه أحالم اليقظة وتنمو‬ ‫مشاعر الحب واأللفة‪،‬‬ ‫وبـ ـم ـ ــا أن اإلنـ ـس ـ ـ ــان‬

‫سيستقر أو سيمكث‬

‫يف هذا املكان زم ًنا معي ًنا مع إنسان آخر‪ ،‬سواء ذكر أو‬ ‫أنثى فستتكون شبكة من املشاعر أو تبنى خيمة من‬

‫ال شك أنهما من معطيات املكان نفسه‪.‬‬

‫قاص سعودي‬

‫عبري العيل‪ :‬لقد فعلها الكتاب املحليون‬

‫لقد فعلها الكتاب املحليون بالفعل؛ أعني الكتابة عن أمور‬ ‫ً‬ ‫مسبقا يف حياتهم‪ ،‬أو لم يعيشوها يف‬ ‫لم يختربوها أو يجربوها‬

‫بيئتهم املحلية‪ ،‬وربما لم يعيشوها خارجها قط‪ ،‬كالكتابة عن‬ ‫الثلج أو األنهار التي تخلو منها بالدنا‪ ،‬أو الكتابة حول أمور قديمة‬

‫لم يعاصروها‪ ،‬أو حديثة متخيلة تصل لحدّ الفانتازيا والخيال‬

‫العواطف؛ ألن عناصر القص والروي املهمة الثالثة‬ ‫البطل واملكان والزمان متوافرة‪ ،‬وس ُتهيِّئ بوجودها‬ ‫ً‬ ‫مناخا صالحً ا للسرد القصيص أو الروايئ‪ ،‬وبما أن‬

‫دور‪ ،‬أو يعيش يف أي فضاء‪ ،‬وأن يبتكر عوامله الخاصة التي‬ ‫ً‬ ‫مكونا يف أحداث الرواية‪،‬‬ ‫قد تجعل من املرتو عىل سبيل املثال‬

‫أحداث كثرية فيه‪ ،‬وسريافقها عنصر الصراع‪،‬‬

‫ويقنعنا وهو يتحدث عنه كأن وجوده حقيقة قطعية ال تقبل‬

‫املرتو مكان اللتقاء أطياف متنوعة من البشر فستتخلق‬ ‫وبالتأكيد ستبحث عن حلول ونهايات‪ ،‬وسيأخذ‬

‫‪62‬‬

‫السرد يف املرتو طابعً ا واقعيًّا أو رومانسيًّا‪ ،‬وهذان الطابعان‬

‫العلمي‪ .‬وهنا تكمن مقدرة الكاتب الحقيقي يف أن يتقمص أي‬

‫وتجعله يخرتق الجزيرة العربية من الخليج للبحر األحمر‪،‬‬ ‫الشك حتى نكاد نشعر أثناء القراءة بسرعة اخرتاقه للكثبان‬

‫جبير المليحان‪ :‬مترو منيرة‬ ‫نعم‪ ،‬ممكن ًّ‬ ‫جدا‪ ،‬وربما أكرث؛ فمجتمعنا لم يعد معزولاً عن العالم بعد أن تهاوت الحواجز‪ .‬نحن نتأثر‪ ،‬ونؤثر‪.‬‬

‫وإذا كانت البنية التحتية متماشية مع متطلبات العصر‪ ،‬فسيكون تأثريها كبريًا عىل املجتمع‪ ،‬وسينعكس عىل إبداعه‪.‬‬ ‫لنتخيل (منرية) يف هذا املشهد‪ ،‬بعد سنوات قليلة‪ ،‬يف مدينة ضاجّ ة بالحركة‪ ،‬والتغري كالرياض‪:‬‬

‫مرتو منرية‬ ‫‪ -‬هيا يا أبي‪ .‬لقد تأخرنا عن موعد (املرتو)!‬

‫٭٭٭‬

‫شرب الكهل بقية (بيالة) الشاي بسرعة‪ ،‬ووضع (شماغه) وعقاله فوق رأسه‪ ،‬ولبس نعليه‪ ،‬وحرك السيارة‪،‬‬

‫وابنته منرية تكاد تصفق بابها‪ .‬أسرع يف الطريق الضيق حتى وصل الشارع العام‪ .‬كان مدخل (املرتو) هناك‪ .‬لم يجد‬ ‫ً‬ ‫موقفا لسيارته‪ .‬نزلت منرية‪ ،‬وركضت وهي تلملم أطراف عباءتها‪ .‬األب كان ينظر إليها‪ ،‬وسيارته تميش ببطء‪ .‬كاد‬ ‫أن يصدم السيارة التي تقف أمامه‪ .‬قال لنفسه‪:‬‬ ‫‪ -‬لم أعد أحتاج هذه السيارة الكبرية!‬

‫منبهات سيارات أخرى تزعق خلفه‪ ،‬ويف كل اتجاه‪ .‬مىش بسيارته وهو يحس بتوتر‪ .‬بعد اختفاء ابنته يف مدخل‬

‫املرتو‪ .‬نظر يف ساعته‪ ،‬وقال‪:‬‬

‫باق سبع ساعات ونصف لتعود منرية‪ ..‬الله يعني عىل الزحمة!‬ ‫ ٍ‬‫٭٭٭‬

‫‪ -‬ال بد أن نبيع بيتنا هذا‪ ،‬ونشرتي بي ًتا قريبًا من محطات (املرتو) يا أبي‪.‬‬

‫هكذا ضج األوالد‪ ،‬وهم يناقشون والدهم‪ .‬األب يهز رأسه‪ ،‬ويمسد لحيته‪ ،‬ويقول لهم‪:‬‬ ‫‪ -‬هيا فقد أذن للصالة‪.‬‬

‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬


‫والهضاب‪ ،‬ونرى املقاعد واملمرات والحقائب‪ ،‬ونقف معه يف‬

‫األقرب يف اإلنجاز واالستخدام‪ -‬فبالتأكيد سيكون هذا‪ ،‬وبخاصة‬

‫بشرات كثرية معنا وحولنا‪ .‬أما عن احتمال أن يكون املرتو يف‬

‫أراد أن تكون محلية وأن يشعر بها القارئ البسيط‪.‬‬

‫محطات مختلفة نشاهد فيها وجوهً ا متعددة ونشم روائح‬

‫السعودية فضاء للرواية السعودية ‪-‬مرتو الرياض تحديدً ا ألنه‬

‫أن الكاتب ينتزع تفاصيل روايته من املكونات املحيطة به إذا ما‬ ‫روائية سعودية‬

‫قطار الرياض في رسومات األطفال‬

‫يلتفت إليهم ويقول‪:‬‬ ‫‪ -‬سأفكر باملوضوع‪.‬‬

‫‪63‬‬

‫الولد الصغري يقول‪:‬‬

‫اشرت يل سيارة (جيب) مثل صديقي‪.‬‬ ‫ بع البيت يا (بابا)‪ ،‬واستأجر لنا شقة‪..‬‬‫ِ‬

‫نذهب بها إىل الرب!‬

‫٭٭٭‬

‫منرية تلبس عباءتها‪ ،‬تغلق باب شقتها‪ ،‬وتنزل مسرعة من درج الربج‪ ،‬وتركض إىل السيارة‪ ،‬عند محطة املرتو‬

‫القريبة‪ ،‬تقف السيارة فوق الدائرة املعدنية أمام طوابق عمارة مواقف السيارات‪ ،‬وتضع البطاقة املمغنطة‪ ،‬ترتفع السيارة‬

‫إىل الدور العشرين؛ حسب العقد املوقع بني مالكتها وبني شركة املواقف‪.‬‬ ‫٭٭٭‬

‫منرية تركض من موقف السيارة يف عمارة املواقف املمغنطة‪ .‬تخرج إىل الشارع العام حيث مدخل املرتو‪ ..‬أثناء مشيها‬ ‫السريع تعدل لبس عباءتها‪ ،‬ثمة رجال ينظرون شزرًا إليها‪ .‬امرأتان ُتحَ و ِقالن‪ .‬شاب يبتسم‪ .‬رجل أمن ينظر بحياد‪ .‬تختفي‬ ‫منرية يف مدخل (املرتو)‪ ،‬وطرف عباءتها يرفرف كجناح حمامة مساملة‪.‬‬ ‫٭٭٭‬

‫خطوط شباب وشابات‪ ،‬ترتاكض إىل مدخل املرتو‪ ،‬وخطوط أخرى تخرج وتتوزع يف االتجاهات‪ .‬الكل راكض‪ ،‬وحقيبته‬

‫الصغرية فوق ظهره‪ ،‬البعض يقضمون وجباتهم وهم يمشون‪ ،‬ويلقون ببقايا األكل والورق يف الحاويات التي صممت‬ ‫كأكف مبتسمة‪ .‬املكان نظيف‪ ،‬ورجال األمن واقفون لحراسة القانون‪.‬‬ ‫٭٭٭‬

‫طائرات فردية صغرية‪ ،‬تتقاطع بانتظام يف األجواء‪ .‬تنقل أصحابها إىل املهابط يف أعىل أبراج البنوك والشركات‪ ،‬التي‬

‫تلمع واجهاتها يف الشوارع‪.‬‬

‫قاص وروايئ سعودي‬


‫الملف‬

‫فاطمة آل تيسان‪ :‬عربات القطار ومحطاته‬

‫يف الرواية يحضر املكان بكل تفاصيله وتأثريه‬

‫ً‬ ‫أيضا عىل الشخصيات‪ ،‬وكم من عمل كان املكان هو‬

‫البطل الحقيقي لكونه الحافز لألحداث والصراعات‬ ‫داخل العمل الروايئ‪ ،‬األماكن تنوعت يف الرواية‬ ‫ولم تنحصر يف مدينة أو قرية بل قد يحضر املكان‬

‫كلحظة عبور غري أنها ترسم خطط حياة تعج بالناس‬ ‫والقصص والحكايا كما هي حال عربات القطار‬

‫كان املرتو والقطار والسفينة مسرحً ا‬

‫ألعمال روائية مبهرة مثل رواية «فتاة‬

‫القطار» و«مرتو حلب»‪ ،‬وليس يف‬ ‫الرواية فقط‪ ،‬فهناك مثلاً أعمال‬ ‫سينمائية رائعة ومؤثرة كان مجال‬

‫أحداثها هو القطار واملرتو‬ ‫ووسائل مواصالت أخرى‪،‬‬

‫ومحطاته‪ ،‬ولعل من أعظم الروايات التي بدأت‬ ‫وانتهت هناك رواية ّ‬ ‫أنا كارنينا للروايئ الرويس ليو‬

‫ً‬ ‫شغوفا بقراءة روايات‬ ‫حقبة الثمانينيات امليالدية عندما كنت‬

‫عدة لغات‪ ،‬ويف الرواية األماكن هي ما تفرض نفسها‬

‫أنسها منذ ذلك الحني‪ ،‬هذه الرواية اسمها «جريمة يف‬ ‫ولم َ‬

‫تولستوي التي اكتسبت شهرة عاملية وترجمت إىل‬ ‫حسب قوة الحدث وقدرة الكاتب عىل توظيفها يف‬

‫العمل‪ ،‬وإن توافرت هذه العناصر فقد يكون املرتو‬ ‫بطلاً لعمل روايئ يومً ا ما‪ ،‬عندما يصبح وسيلة‬

‫وسؤالك هذا يعود بي إىل‬

‫أغاثا كريستي‪ ،‬وأذكر أن هناك رواية من أعمالها‪ ،‬قرأتها‪،‬‬ ‫قطار الشرق السريع» وباملناسبة تعد هذه الرواية من أجمل‬ ‫روايات أغاثا كريستي من حيث الحبكة والصياغة الروائية‬

‫املذهلة‪ ،‬وبالعودة إىل السؤال أو ّد أن أقول‪ :‬إن صياغة مثل‬

‫التنقل املفضلة للكاتب حيث يشاهد الواقع وسحنات‬

‫هذه األعمال الروائية التي تحدث يف املرتو أو القطار تحتاج إىل‬

‫بإزميل قوي ال يرحم‪ ،‬وهنا ستولد أعمال روائية ال‬

‫تشكيله وصياغته عىل عنصرين مهمني هما‪ :‬الزمان واملكان‪،‬‬

‫البشر خالية من التحسينات‪ .‬قساوة الواقع تحفر‬

‫‪64‬‬

‫مقبول العلوي‪ :‬الرواية واملكونات املحيطة‬

‫ترسم الواقع فقط بل تصور إفرازاته املستقبلية عىل‬

‫أناس تقلبت بهم الظروف من صحراء قاحلة وجمل‬ ‫إىل مدينة يتضخم فيها كل يشء حتى ضجيج املرتو‬

‫الذي شطرها بكل قسوة إىل نصفني‪.‬‬

‫قاصة سعودية‬

‫ُدرْبة عالية يف صياغة األحداث؛ ألن أي عمل إبداعي يعتمد يف‬ ‫وهما فضاءان مهمان يف صياغة الرواية‪ ،‬ونحن بصدد الحديث‬

‫عن عمل روايئ يتم داخل هذه املساحة الضيقة‪ ،‬مما يعني‬ ‫أن تكون كل كلمة يف موضعها‪ ،‬وكل حدث ال بد أن يكون‬ ‫مقنعً ا؛ ألن املساحة محصورة داخل هذا الحيز الضيق‪.‬‬

‫روايئ سعودي‬

‫قطار الرياض في رسومات األطفال‬

‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬


‫نصوص‬

‫قصائد‬ ‫سعد الخشرمي‬

‫شاعر سعودي‬

‫أحدنا‬

‫يتأمل البحر‪،‬‬

‫الذي لم ينقذه أحد من الغرق‪.‬‬

‫امرأة‬

‫كانت تضم كلمات يابسة إلى صدرها‬ ‫وتنام‪.‬‬

‫اكتئاب‬

‫بالحبر‬ ‫قلمٌ ممتلئ‬ ‫ِ‬ ‫لكنه كسول ًّ‬ ‫جدا‬ ‫ٌ‬ ‫وفكرة تشبه كثيرًا‬

‫ذلك الجدار الذي أمامي‬ ‫وأنا ُ‬ ‫أقف كفزاعةٍ أمام كل هذا‪..‬‬

‫العشق‬

‫خلع رأسه وتركه جانبًا‪.‬‬

‫ماذا لو أنني أستطيع تدخين أيامي؟‬

‫ما وراء‬

‫عولمة‬

‫قال الشيخ‪:‬‬ ‫ك ّنا نلف موتانا بشيء أبيض‪،‬‬

‫حتمً ا سأدخنها في جلسة واحدة‪.‬‬

‫لم يمت أحد منذ زمن‬

‫تقفز دوريان لوكس‬

‫ربما غيمة‪.‬‬

‫كل هذه المسافات‬

‫وحدة‬

‫الشاعرة األميركية‪،‬‬ ‫والبحور المتالطمة‬

‫بنظرة أخيرة للعالم‪،‬‬

‫والقارات الملتهبة؛‬

‫حبس أنفاسه‬

‫ُ‬ ‫الساعة العاشرة‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫مثلث‬ ‫مكتب‬

‫توأم‬

‫لتستقر بين يدي‪.‬‬

‫ً‬ ‫ُّ‬ ‫يضمُّ‬ ‫تطل‬ ‫نافذة‬

‫ً‬ ‫مباشرة‬ ‫على العالم‬

‫دفت ٌر من العام الماضي‬ ‫ُّ‬ ‫يغط كقطةٍ فارسية‬

‫وقفز في الوحدة‪.‬‬

‫قالت األم‪:‬‬ ‫ً‬ ‫كان بطني منتفخا‪،‬‬ ‫وال يزال‪،‬‬

‫َ‬ ‫ألنك‬ ‫ربما‬

‫نسيت صرختك في داخلي‪.‬‬

‫‪65‬‬


‫دراسات‬

‫‪66‬‬

‫مدخل إلى علم األصوليات المقارنة‪:‬‬

‫الظاهرة الداعشية‬ ‫ما بين اإلسالم والمسيحية‬ ‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬


‫هاشم صالح‬

‫كاتب سوري‬

‫يعيب المثقفون الغربيون على تيار اإلسالم السياسي المتطرف أنه يحجر على العقول‪ ،‬ويقيد‬ ‫ً‬ ‫أحيانا‪ .‬بل قد يعتدي عليهم جسد ًّيا كما‬ ‫حرية التعبير‪ ،‬ويالحق المثقفين والفنانين‪ ،‬ويهددهم‬

‫حصل لفرج فودة ونجيب محفوظ وآخرين عديدين‪ ...‬ويعيبون على اإلخوان المسلمين تلك النزعة‬

‫التوتاليتارية في تفسيرهم االنغالقي المتزمت لإلسالم الحنيف متجاهلين سماحته ورحمته وشفقته‬ ‫ً‬ ‫أحيانا ما فعله اإلخوان المسيحيون‬ ‫على كل مخلوقات الله‪ .‬وهذا صحيح‪ .‬ولكنهم ينسون أو يتناسون‬ ‫مع كبار علمائهم وفالسفتهم إبان محاكم التفتيش السيئة الذكر‪ .‬وبالتالي فليكفوا عن مهاجمة‬ ‫اإلسالم بمناسبة ودون مناسبة‪ ،‬وليكنسوا أمام بيتهم أولاً ‪ .‬ليتذكروا محاكم التفتيش الرهيبة التي‬ ‫طالما قمعت العلماء والمفكرين من كوبرنيكوس‪ ،‬إلى جيوردانو برونو‪ ،‬وغاليليو‪ ،‬وديكارت‪ ،‬ومعظم‬ ‫فالسفة التنوير في القرنين السابع عشر والثامن عشر‪ ،‬بل حتى التاسع عشر ومنتصف العشرين فيما‬ ‫يخص إسبانيا والبرتغال‪ .‬للحق واإلنصاف فإن معظم مثقفي أوربا يعترفون بذلك ما عدا تيار اليمين‬

‫المتطرف أو التيار األصولي الكاثوليكي‪ .‬وهما متداخالن ومتمايزان في الوقت ذاته‪.‬‬ ‫يجب العلم بأن محاكم التفتيش التي ماتت اآلن يف‬

‫هو أول من فكر بالحرق كعقاب للزنادقة عام ‪1224‬م‪ .‬وهي‬

‫أخرى‪ .‬وهي اآلن موجودة يف الفاتيكان وتدعى باسم‪« :‬املجمع‬

‫ثم يلقون باإلنسان الزنديق فيها وهو يزعق ويصيح مذعورًا‪.‬‬

‫أوربا بفضل استنارة العقول تحولت إىل يشء آخر أو مؤسسة‬ ‫املقدس للحفاظ عىل صحة العقيدة واإليمان املسيحي»‪.‬‬

‫صحيح أنها لم تعد تحرق املفكرين وكتبهم كما كانت تفعل‬ ‫ً‬ ‫سابقا‪ .‬ولكنها تراقب أي خروج عىل العقيدة أو أي انتهاك‬ ‫لها وتعاقبه عن طريق فصل األستاذ من عمله أو منعه عن‬

‫تدريس مادة الالهوت املسيحي كما فعلت مع عالم الالهوت‬ ‫الشهري هانز كونغ مثال‪.‬‬ ‫لاً‬ ‫لكن لنعد إىل الوراء قلي أو كثريًا‪ .‬يجب العلم بأن‬

‫محاربة الزندقة كانت سارية املفعول حتى قبل ظهور محاكم‬ ‫التفتيش كمؤسسة رسمية يف بدايات القرن الثالث عشر‪.‬‬

‫فقد كان هناك دائمً ا أناس يخرجون عىل هذا املبدأ أو ذاك‬ ‫من العقيدة املسيحية‪ .‬وكانت الكنيسة تعاقبهم بشكل أو‬ ‫بآخر‪ .‬ويمكن القول بأن املجمع الكنيس الذي اجتمع يف مدينة‬

‫التران عام (‪1139‬م) كان أول من بلور التشريعات البابوية ضد‬ ‫الزندقة والزنادقة‪.‬‬

‫الخروج عىل اإلجماع املسيحي‬

‫عقوبة فظيعة ومرعبة ألنهم كانوا يشعلون النار يف الحطب‪،‬‬

‫ولكم أن تتخيلوا املشهد إذا كنتم تستطيعون! ثم صدق البابا‬

‫غريغوار التاسع عىل هذا القرار الخاص باملعاقبة عىل الزندقة‬ ‫ً‬ ‫معرتفا به‪ ،‬بل‬ ‫عام ‪1231‬م‪ .‬وأصبح حرق الزنادقة أمرًا شرعيًّا‬ ‫خلعت عليه القداسة اإللهية؛ ألن البابا كان يتمتع بمكانة‬

‫املعصومية املطلقة يف نظر جمهور املسيحيني آنذاك‪ .‬كان يمثل‬

‫ظل الله عىل األرض‪ .‬وبالتايل فكل ما يأمر به أو يفعله مقدس‬ ‫وال را ّد له‪ .‬وقد كان الهدف من إقامة محاكم التفتيش هو‬ ‫الدفاع عن اإليمان املسيحي يف مذهبه الكاثولييك البابوي‬ ‫الروماين‪ .‬وقد أسسوها يف البداية ملحاربة بعض الفئات‬ ‫املسيحية «املارقة» يف فرنسا‪ .‬ثم وسعوها ليك تشمل طوائف‬

‫أخرى عديدة ال تلتزم كليًّا أو حرفيًّا بالشعائر املسيحية‬

‫الكاثوليكية‪ .‬وأخريًا وسعوها ليك تشمل بقايا الوثنية التي لم‬

‫تمت بعد يف أوربا‪ ،‬وكذلك ليك تشمل كل أعمال «الكفر»‬ ‫أو التجديف‪ :‬أي ازدراء املقدسات املسيحية أو النيل منها أو‬ ‫االستهزاء بها‪ .‬وبالتايل فاملسيحيون كانوا تكفرييني ً‬ ‫أيضا قبل‬

‫أن تتقدم أوربا وتستنري وتتحضر‪.‬‬

‫وقد طبقت هذه التشريعات عىل إحدى الفئات املسيحية‬

‫هكذا كان هدف محاكم التفتيش يف البداية‪ .‬ولكن كيف‬

‫التي اعتربت بمنزلة الخارجة عىل اإلجماع املسيحي‪ ،‬وبالتايل‬

‫وما هي منهجيتها يف املحاكمة؟ عن هذا السؤال يمكن أن‬

‫أثناء الحروب الصليبية ألول مرة وهي فئة «األلبيجيني»‬

‫فقد اعتربت مهرطقة أو زنديقة‪ .‬وكان اإلمرباطور املسيحي‬

‫كانت تشتغل هذه املحاكم يا ترى؟ كيف كانت تمارس عملها؟‬

‫نجيب بما ييل‪ :‬بمجرد أن يشتبهوا يف شخص ما أي يف إيمانه‬

‫‪67‬‬


‫دراسات‬

‫وعقيدته‪ ،‬كانوا يقبضون عليه ويخضعونه للتحقيق فإذا‬

‫ً‬ ‫وأحيانا كانوا يطالبونه بدفع مبلغ من املال‬ ‫رؤوس األشهاد‪.‬‬

‫ويعدونه بري ًئا من التهمة املوجهة إليه فيخلون سبيله‪ .‬وكانت‬ ‫َّ‬ ‫مشكلة عادة من رجيل‬ ‫محاكم التفتيش‬

‫الحاالت القصوى كانوا يلقونه يف املحرقة طعمة للنريان‪ .‬وقد‬ ‫بلغ التعذيب ذروته يف القرن الثالث عشر‪.‬‬

‫أو يحيط بهما أشخاص عديدون ال ينتمون‬

‫وانتشرت يف شتى أنحاء املسيحية األوربية‬

‫اعرتف بذنبه تركوه‪ ،‬وإذا لم يعرتف عذبوه حتى يعرتف‪ .‬وإذا‬ ‫ً‬ ‫وأحيانا كانوا يصدقونه‬ ‫أص ّر عىل موقفه ألقوه طعمة للنريان‪.‬‬

‫للفقراء بغية التكفري عن ذنبه‪ .‬أما إذا كان الشخص املالحق‬ ‫ً‬ ‫«زنديقا حقيقيًّا» فإنهم كانوا يسجنونه مدى الحياة‪ ،‬ويف‬

‫دين أو راهبني اثنني ولكن كان يساعدهما‬

‫ففي ذلك الوقت ازدهرت محاكم التفتيش‬

‫إىل سلك الكهنوت ككاتب العدل أو كاتب‬

‫من إيطاليا‪ ،‬إىل فرنسا‪ ،‬وأملانيا‪ ،‬وإسبانيا‬

‫املحكمة‪ ،‬وكالسجان أو حارس السجن‪.‬‬

‫والربتغال‪ ...،‬إلخ‪ .‬ففي فرنسا أدت هذه‬

‫والشخص الذي كان يرفض املثول أمام‬

‫املحاكم الالهوتية إىل حرق مناطق بأكملها‬

‫املحكمة كانوا يكفرونه فورًا ويخرجونه‬

‫من األمة املسيحية‪ .‬وبالتايل يباح دمه‬ ‫ً‬ ‫مشروعا ومن‬ ‫عندئذ ويصبح قتله أمرًا‬ ‫يقتله ال يعاقبه أحد وال يسائله أصلاً ‪.‬‬

‫وكانوا يطلبون من املشتبه فيهم أن يكشفوا للمحكمة عن‬ ‫كل ما يعرفونه عن أسرار الزندقة والزنادقة‪ .‬وكان كاتب‬ ‫العدل يسجل ما يقولونه كمحضر رسمي‪ .‬وكان القضاة‬ ‫ً‬ ‫أحيانا إىل الوشاة أو الجريان أو حتى شهود الزور؛‬ ‫يلجؤون‬

‫ليك يحصلوا عىل معلومات تدين الشخص املشتبه فيه الذي‬

‫‪68‬‬

‫يريدون معاقبته بأي شكل ألنه ال يؤدي الشعائر الدينية كما‬ ‫ينبغي‪ ،‬أو ألنه ال يؤمن بالعقائد املسيحية‬

‫جنوب البالد‪ ،‬بالقرب من مدينة تولوز‪.‬‬ ‫وهي مناطق كانت مسكونة من قبل طائفة‬

‫فرج فودة‬

‫يف الوقت نفسه الذي وجهوا الحمالت الصليبية نحو الشرق‬ ‫اإلسالمي‪.‬‬

‫استهداف العدو األقرب قبل األبعد‬

‫وبالتايل فالحروب الصليبية ابتدأت‬

‫أولاً يف الداخل قبل أن تنتقل إىل الخارج‪.‬‬

‫يصل األمر بهم إىل حد محاكمة الشخص‬

‫لقد استهدفت العدو األقرب قبل أن‬

‫حتى بعد موته! فإذا ما ثبت لهم أنه مذنب‬

‫تستهدف األبعد‪ .‬وهذا يشء يجهله‬

‫أو خارج عىل العقيدة املسيحية فإنهم‬

‫كثريون‪ .‬فقد كانت الكنيسة الرسمية‬ ‫ّ‬ ‫تعد زنادقة الداخل بمنزلة طابور خامس‬

‫كانوا ينبشونه من قربه‪ ،‬ويستخرجون‬

‫جثته‪ ،‬ويحرقونها معاقبة له!‬

‫بتقريع املذنب يف الكنيسة والتشهري به عىل‬

‫يعيب المثقفون الغربيون على تيار‬ ‫اإلسالم السياسي المتطرف أنه‬ ‫يحجر على العقول ويالحق المثقفين‬ ‫والفنانين ويهددهم أحيا ًنا‪ .‬بل قد‬

‫طائفة الكاتاريني‪ .‬وكان أتباعها يخلطون‬

‫العقائد املسيحية بعقائد أخرى ال عالقة لها باملسيحية‪ .‬ولهذا‬ ‫السبب ّ‬ ‫كفروهم‪ ،‬وأعلنوا عليهم حربًا صليبية الستئصالهم‬

‫كلها بشكل مطلق ودون أي تساؤل‪ .‬وكان‬

‫وكانت العقوبة من نوعني‪ :‬خفيفة‬ ‫ً‬ ‫خفيفا اكتفوا‬ ‫وثقيلة‪ .‬فإذا كان الذنب‬

‫مسيحية خارجة عىل القانون وتدعى‪:‬‬

‫يشكل خطرًا عىل املسيحية أكرث من‬ ‫اإلسالم‪ ،‬ولذلك حصلت مجازر كثرية يف‬

‫توماس توركمادا‬

‫تلك املنطقة الفرنسية‪ .‬ولم يستطيعوا‬ ‫التغلب عىل «الزنادقة» إال بعد مقاومة‬

‫عنيفة وجهد جهيد‪ .‬وال تزال آثار هذه املجازر حاضرة يف الذاكرة‬ ‫الفرنسية الجماعية حتى اآلن‪ .‬نضيف إليها بالطبع الحروب‬

‫املذهبية الكاثوليكية – الربوتستانتية التي اجتاحت آنذاك أوربا‬ ‫كلها وليس فرنسا فقط‪ .‬وهي تذكرنا بالصراعات املذهبية‬

‫املندلعة حاليًّا يف العالم اإلسالمي لألسف الشديد‪ .‬وقد ذهب‬

‫ضحيتها عشرات املاليني يف فرنسا وأملانيا وإنجلرتا‪ ...،‬إلخ‪،‬‬

‫جسديا‪ ،‬لكنهم ينسون‬ ‫يعتدي عليهم‬ ‫ًّ‬

‫وهي تشكل صفحة سوداء يف تاريخ فرنسا‪ .‬ولذلك فإن الساسة‬

‫المسيحيون مع كبار علمائهم‬

‫نريد تحويلها إىل حروب دينية! واملقصود بذلك أنهم ال يريدون‬

‫أو يتناسون أحيا ًنا ما فعله اإلخوان‬ ‫وفالسفتهم‬

‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬

‫الفرنسيني يقولون لك عندما تنشب مشكلة داخلية عويصة‪ :‬ال‬ ‫العودة إىل االنقسامات الطائفية والحروب األهلية التي‬ ‫مزقتهم طويلاً يف املايض‪ .‬وبالتايل فأكرث يشء يرعبهم هو شبح‬


‫الظاهرة الداعشية ما بين اإلسالم والمسيحية‬

‫دفاع عن املسلمني يف فرنسا‬

‫تلك الحروب املذهبية التي جرت يف القرون‬

‫أتوقف هنا لحظة ليك أشيد بموقف‬ ‫ً‬ ‫سابقا‪.‬‬ ‫آالن جوبيه رئيس وزراء فرنسا‬

‫الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر‬

‫والسادس عشر حتى السابع عشر‪ .‬بل لم‬

‫فقد اعرتف مؤخرًا بأن املذهب املسيحي‬ ‫الكاثولييك كان متعصبًا ًّ‬ ‫جدا يف املايض‪،‬‬

‫تنتهِ كليًّا إال بعد الثورة الفرنسية‪ .‬إنهم‬ ‫يريدون أن ينسوا تلك الذكرى األليمة‬

‫وأن التعصب ليس حكرًا عىل دين دون‬

‫ملحاكم التفتيش والحروب املذهبية التي‬

‫آخر‪ .‬وكان بذلك يدافع عن اإلسالم‬

‫تشكل صفحة أليمة يف تاريخهم‪ .‬وبالتايل‬

‫واملسلمني يف فرنسا‪ .‬وتتخذ شهادته كل‬

‫فمحاكم التفتيش والحروب املذهبية لم‬

‫تنتهِ من الذاكرة الجماعية‪ ،‬إنما ال تزال‬ ‫آثارها عالقة يف النفوس حتى اآلن‪ .‬وإن‬

‫كانوا قد تجاوزوها عمليًّا بالطبع‪.‬‬

‫آالن جوبيه‬

‫أهميتها إذا ما عرفنا أنه هو من أصل‬ ‫كاثولييك ويعتز بديانته ومذهبه‪ ..‬أما‬

‫أبشع محاكم التفتيش يف العالم فقد وجدت يف إسبانيا‬

‫وبني عامي ‪1257 - 1250‬م‪ ،‬أي طيلة سبع سنوات‪ ،‬قاد‬

‫التي كانت مشهورة بتعصبها الديني الكاثولييك‪ .‬وقد ابتدأت‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫شخصا‪ ،‬وسجن مدى الحياة (‪،)239‬‬ ‫واحدا وعشرين‬ ‫بالنار‬

‫العرب واملسلمني من إسبانيا‪ .‬وكان عىل رأسها امللكة إيزابيل‬ ‫الكاثوليكية ًّ‬ ‫جدا‪ ،‬وكذلك زوجها فريدنان‪ .‬وقد استهدفت‬ ‫لاً‬ ‫محاكم التفتيش أو «املسيحيني الجدد» ملعرفة فيما إذا‬

‫محاكم التفتيش يف جنوب فرنسا زعيم كاثولييك أصويل‬ ‫متعصب ًّ‬ ‫ّ‬ ‫جدا يدعى «روبري لوبوغر»‪ .‬وقد ف ّتش كل املدن‬ ‫واألرياف هناك ً‬ ‫بحثا عن الزنادقة أو املزعومني كذلك‪ .‬وحرق‬ ‫ورمى يف النار الكاهن «الزنديق» زعيم طائفة «الكاتاريني»‬

‫املارقة‪ ،‬وحكم عىل قرية بأكملها باملحرقة؛ ألنه اتهمها بإخفاء‬

‫هناك عام ‪1480‬م قبيل انتهاء الحروب التي أدت إىل طرد‬

‫كانوا قد اعتنقوا املسيحية عن جَ ّد أم ال‪ .‬وهؤالء الناس‬

‫ً‬ ‫سابقا إما مسلمني وإما يهو ًدا اعتنقوا مذهب األغلبية‬ ‫كانوا‬ ‫ً‬ ‫خوفا من االضطهاد واملالحقات‪ .‬وكان ذلك بعد أن انتصرت‬

‫أحد الزنادقة الكبار من رجال الدين الكاتاريني‪ .‬ما الفرق بينه‬ ‫وبني الدواعش حاليًّا؟ أال يمكن ّ‬ ‫عده داعشيًّا قبل األوان؟ هكذا‬

‫الجيوش املسيحية عىل العرب وإنهاء حكم ملوك الطوائف‬

‫واحد عىل عكس ما يزعم كثريون يف الغرب‪.‬‬

‫التفتيش يف إشبيلية‪ ،‬إحدى عواصم التنوير األندليس يف‬

‫نالحظ أن كل األديان يمكن أن تفرز ظاهرة التعصب ال دين‬

‫يف األندلس‪ .‬وليس من قبيل الصدفة أن يكون مركز محاكم‬

‫‪69‬‬


‫دراسات‬

‫سالف األزمان‪ ..‬ومن أشهر قادة محاكم التفتيش ليس فقط‬ ‫يف إسبانيا إنما يف العالم كله شخص يدعى‪ :‬توماس توركمادا‬

‫(‪1498 -1420‬م)‪ .‬ومجرد ذكر اسمه ال يزال يثري القشعريرة يف‬ ‫النفوس حتى هذه اللحظة‪ .‬فقد كان أشهر أصويل متزمت يف‬

‫الغرب املسيحي كله‪ .‬وكانت جرأته عىل القتل والذبح تفوق‬ ‫الوصف‪ .‬إنه أكرب داعيش يف العصور القديمة‪ .‬وكان مقربًا ًّ‬ ‫جدا‬ ‫من امللكة إيزابيل التي ال ّ‬ ‫تقل تعصبًا عنه‪.‬‬ ‫رئيسا ملحاكم التفتيش اإلسبانية بني عامي‬ ‫ولذلك عيَّنوه‬ ‫ً‬

‫‪1498 - 1481‬م‪ :‬أي طيلة سبعة عشر عامً ا! ويف ظل عهده‬ ‫«امليمون»‪ ،‬أطلقت محكمة التفتيش يف طليطلة األحكام‬

‫مؤخرا؛‬ ‫مررت بعواصم ومدن أوربية‬ ‫ً‬ ‫مثل‪ :‬باريس وبروكسل وجنيف ونيو‬ ‫شاتيل‪ ،‬واطلعت على مدى هيجان‬ ‫كثيرين وحساسيتهم بمجرد ذكر كلمة‬ ‫إسالم أمامهم‬

‫‪70‬‬

‫ً‬ ‫شخصا بالنار‪ ،‬ذبح‬ ‫التالية‪ :‬حرق عشرة آالف ومئتني وعشرين‬ ‫ً‬ ‫زنديقا آخر‪ ،‬تعذيب خمسة وستني‬ ‫ستة آالف وثمانية وأربعني‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫شخصا حتى املوت يف السجون‪،‬‬ ‫ألفا ومئتني وواحد وسبعني‬ ‫شنق اثني عشر ً‬ ‫ً‬ ‫شخصا متهمً ا بالزندقة‬ ‫ألفا وثالث مئة وأربعني‬

‫أو بالخروج عن الخط املستقيم للدين املسيحي (أي املذهب‬ ‫الكاثولييك البابوي)‪ ،‬الحكم عىل تسعة عشر ً‬ ‫ألفا وسبع مئة‬

‫ً‬ ‫شخصا باألشغال الشاقة والسجن املؤبد‪ .‬باختصار فإن‬ ‫وستني‬ ‫ّ‬ ‫هذه األحكام املرعبة شملت ما ال يقل عن ‪ 114‬ألف شخص‪،‬‬ ‫ويزيد‪ .‬وكل ذلك حصل يف منطقة طليطلة وحدها‪ .‬فما بالك‬

‫بما حصل يف مختلف مناطق إسبانيا األخرى؟!‬

‫وكل هؤالء الزنادقة كانوا يجردونهم من أمالكهم‬

‫وأموالهم وأرزاقهم‪ .‬ولكن «توركمادا» رفض أن يأخذها‬ ‫لنفسه‪ ،‬أو يغتني عىل حسابها‪ .‬إنما ظل رجلاً فقريًا كأي راهب‬ ‫صغري بعد أن أعطاها الكنيسة أو الجمعيات الخريية املسيحية‪.‬‬ ‫وهذا يعني أنه كان متزم ًتا حقيقيًّا ومؤم ًنا كل اإليمان بما‬ ‫ً‬ ‫شخصا انتهازيًّا وصوليًّا‪ .‬كان يعتقد أنه يتقرب إىل الله‬ ‫يفعل ال‬

‫إذ يذبح ويعذب ويحرق ولكن فاته أن الله رحمان رحيم‪.‬‬

‫التعصب يصيب األديان في حقب الجهل والقالقل‬

‫توقفت مطولاً عند هذه األحداث التاريخية ال ليك أش ّنع باملسيحية ً‬ ‫أبدا‪ ،‬إنما ليك أبني أن التعصب ليس محصورًا‬

‫بدين ما دون بقية األديان كما يزعم بعض الغربيني حاليًّا وكما تشيع وسائل إعالمهم عمومً ا‪ .‬إنما هو يصيب جميع‬ ‫األديان يف حقب الجهل والقلق والقالقل‪ .‬والدليل عىل ذلك أن املسيحيني تجاوزوها كليًّا يف الغرب بعد أن تقدموا‬

‫وتطوروا واستناروا‪ .‬وهذا يعني أنه يجب أن نكتب صفحة جديدة يف تاريخ األديان املقارنة أو باألحرى تاريخ األصوليات‬ ‫املقارنة‪ .‬فال توجد أصولية أفضل من أخرى‪ .‬كنا نتمنى لو أن متعصبي الغرب الحاليني قد تذكروا شي ًئا من ذلك قبل‬

‫أن يلصقوا تهمة التعصب باإلسالم واملسلمني فقط‪ .‬كنا نتمنى لو أنهم احرتموا الحقيقة واملوضوعية التاريخية‪ .‬أقول‬ ‫ذلك بعد أن مررت بعدة عواصم ومدن أوربية مؤخرًا؛ مثل‪ :‬باريس وبروكسل وجنيف ونيو شاتيل‪ ،‬واطلعت عىل مدى‬

‫هيجان كثريين وحساسيتهم بمجرد ذكر كلمة إسالم أمامهم‪.‬‬

‫فهم يربطونه فورًا برجم املرأة املخطئة‪ ،‬وقطع يد السارق‪ ،‬وتكفري املسيحيني‬

‫واليهود بشكل أتوماتييك‪ ،‬وتربير العنف الالهويت الذي يحصد املارّة بشكل‬

‫عشوايئ‪ ...،‬إلخ‪ ،‬وينسون أن هذه املمارسات قليلة ومحصورة يف بعض الفئات‬ ‫املتعصبة ًّ‬ ‫جدا؛ مثل‪ :‬طالبان والقاعدة وداعش وسواها‪ ،‬وال عالقة ألغلبية‬

‫املسلمني الوسطيني العقالء بها‪ .‬هناك صورة كاريكاتورية بل حتى هلوسية‬ ‫شائعة عن اإلسالم واملسلمني يف الغرب وحتمً ا يغذيها بعض األوساط املعادية‪.‬‬ ‫ولكن لحسن الحظ فإن أغلبية املستنريين الغربيني يرفضونها‪ .‬فهؤالء يعتقدون‬

‫أن املسلمني سائرون عىل طريق التقدم واالستنارة ال محالة‪ ،‬وأن املسألة مسألة‬ ‫وقت ليس إلاّ ‪ .‬من بني هؤالء ريجيس دوبريه الذي صرّح مؤخرًا قائلاً ‪ :‬يجب أن‬

‫ريجيس دوبريه‬

‫نكون صبورين مع اإلسالم والعالم اإلسالمي‪ .‬فاألصولية املسيحية عارضت أفكار الحداثة والتقدم والتسامح طيلة ثالث‬ ‫مئة سنة قبل أن تقبل بها مؤخرًا وتتصالح معها‪ .‬فلماذا ال يُعطى املسلمون املدة الزمنية الكافية ليك يستطيعوا تحقيق‬

‫املصالحة التاريخية بني اإلسالم والحداثة؟‬

‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬


‫الظاهرة الداعشية ما بين اإلسالم والمسيحية‬ ‫نصوص‬

‫األلم على المرآة‬ ‫ُ‬ ‫محمد عفيف الحسيني‬

‫شاعر كردي سوري يقيم في السويد‬

‫ويركب َن ْورَجً ا‪ ،‬يدرس به ّ‬ ‫يحمل ْ‬ ‫ُ‬ ‫قش الشمال‪ُ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫وكر ُْك َم شيخوخ ِته‪.‬‬ ‫كش ُكولاً ‪،‬‬ ‫كان‬ ‫ُ‬ ‫العاشقة‪ -‬تراه بمرآتِها‪:‬‬‫وهي‬

‫ُ‬ ‫رائحة ّ‬ ‫مدلل‪.‬‬ ‫كبش‬ ‫الجبلي‪ ،‬وعنا ُد‬ ‫يس‬ ‫له‬ ‫ِّ‬ ‫ٍ‬ ‫الت ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫األيسر‪.‬‬ ‫هالله أخض ُر على ِزنده‬ ‫ِ‬ ‫ّ ُ‬ ‫ْن‪.‬‬ ‫نقاش الخافقي ِ‬ ‫ّ‬ ‫نق ُ‬ ‫األلم‪.‬‬ ‫اش‬ ‫ِ‬

‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫الفض ِة من مرآتِها‪.‬‬ ‫قابس‬

‫ُ‬ ‫العاشق‪ -‬ببرونزه‪ ،‬يراها‪:‬‬‫وهو‬

‫ُ‬ ‫العسل‪ ،‬وعناد الكريستال‪.‬‬ ‫رائحة‬ ‫لها‬ ‫ِ‬

‫ٌ‬ ‫ْ‬ ‫أسقطتها بين أصابِعه‪ ،‬فأخذها‪.‬‬ ‫نجمة‪،‬‬ ‫لها‬ ‫نق ُ‬ ‫ّ‬ ‫الليل‪.‬‬ ‫اشة‬ ‫ِ‬

‫ٌ‬ ‫قابسة بنفسج شفتيه الراعلتين‪.‬‬

‫ُ‬ ‫قابسة هالله األخضر‪ ،‬البرونزيّ ‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫يرتجف‪.‬‬ ‫َك َف ُل حصان‬

‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫يرتعش‪.‬‬ ‫حصان غوستاف أدولف الثاني‪ ،‬البرونزيّ ‪،‬‬ ‫كفل‬ ‫ِ‬

‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫الغريب في غوتنبورغ‪.‬‬ ‫ذهبي‪ ،‬يسمعه‬ ‫صهيل‬ ‫ٌّ‬

‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫الغريبة‪ ،‬وهي تراقبه في مرآتِها‪.‬‬ ‫صهيل أخضرُ‪ ،‬تسمعه‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ظالم شيخوخ ِتهما؟‬ ‫تلمع في‬ ‫قصيرة‬ ‫أسيوف‬ ‫ِ‬

‫‪71‬‬


‫دراسات‬

‫‪72‬‬

‫شعرية التأمل الوجودي‬ ‫في «خرز الوقت»‬ ‫لعلي الدميني‬ ‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬


‫رضا عطية‬

‫ناقد مصري‬

‫يأتي ديوان «خرز الوقت» أحدث دواوين الشاعر السعودي علي‬ ‫الدميني‪ ،‬ليستأنف خطا ًبا جماليًّا لدى شاعر يبدو الشعر عنده سؤالاً‬ ‫وجود ًّيا‪ ،‬تطرحه القصيدة من خالل مسعى الذات إلى تقديم رؤية‬ ‫للعالم‪ ،‬عبر فاعلية التأمل الوجودي الذي تمارسه القصيدة في معاينتها‬ ‫العالم الذي يبدو موضع تساؤل دائم كموضوع للذات التي تتدبر دائمً ا‬ ‫أحوال هذا العالم وتحوالته‪ .‬تبرز في الخطاب الشعري لعلي الدميني‬ ‫الذات التي يبدو صوتها واضحً ا وجليًّا في تعبيرها عن وحدتها‪ ،‬وإعالنها‬ ‫ُ‬ ‫تفاقم اغتراباتها‪ ،‬لتمسي الذات نفسها‬ ‫عن عزلتها الوجودية الغالبة في‬ ‫ً‬ ‫موضوعا لتأملها؛ فاألنا ‪ -‬لدى علي الدميني ‪ُ -‬تحَ ِّدق في مراياها باستمرار‬ ‫ً‬ ‫بحثا عن ذاتها‪ ،‬في ضياع سائد ُيفا ِقم قلقها الوجودي‪.‬‬ ‫ماهية الوقت‬

‫تجليات له عىل مرايا الوعي‪ ،‬كرائحة‬

‫من عنوان الديوان «خرز الوقت»‬

‫القطار بما يحمله القطار كعالمة دالة‬

‫وعيها يف تعاطي الوقت بإدراك تكويناته‬

‫كرعشة املرآة بما تحمله املرآة من داللة‬

‫تتبدى لنا رهافة الذات‪ ،‬وحساسية‬

‫عىل الرحيل يف املكان والزمان‪ ،‬وهو‬

‫التمفصلية‪ ،‬وبنيته الوحدوية؛ ألنّ الوقت‬

‫معاينة الذات ألناها‪ ،‬وقد يكون لقرينها‬

‫هو التمظهُر الدقيق والتجزيئ للزمن‪ ،‬وهو‬

‫يف اآلن‪ ،‬ثم يبدو الوقت كأغصان الولع‬ ‫املعذب بالغناء‪ ،‬وهو ما يعكس َت ُّ‬ ‫َّ‬ ‫بطن‬

‫ُربز أرق الوعي الشقي للذات بالزمن‪،‬‬ ‫ما ي ِ‬

‫فتقول الذات الشاعرة يف قصيدة «خرز‬ ‫الوقت»‪:‬‬

‫ُ‬ ‫رائحة القطار‬ ‫للوقت‬

‫ورعشة املرآة المرأ ٍة تزيّن صدرها بسحابةٍ عطىش‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫املعذب بالغناءِ ‪،‬‬ ‫الولع‬ ‫وأغصان من‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫وللثواين‬ ‫ُ‬ ‫مثل رائحةِ الطفولة يف الحقائب‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الحصان‪،‬‬ ‫رنة األجراس يف عنق‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫وصوت وثبتهِ األخرية‪.‬‬

‫تعمل الذات عىل صناعة َت ُّ‬ ‫مثالت للوقت ُتحيله من معطى‬

‫مجرد إىل صور مادية‪ ،‬وتجسيدات ملموسة تكون بمثابة‬

‫البادي على الذات التي ترمق العالم‬ ‫بعيني التأمل ونظرات االندهاش‬ ‫في شعر علي الدميني هو توترها‬ ‫وقلقها بالمكان‬

‫الصورة بمشاعر الذات التي تصبغ‬ ‫علي الدميني‬

‫األشياء بها‪ .‬وفيما يتبدى من الصياغة‬

‫التصويرية لعيل الدميني تشجُّ ر‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أحيانا ما‬ ‫فروعا للمُ شبَّه به‪ ،‬كذلك‬ ‫الصورة؛ إذ يورق املشبَّه‬ ‫تقوم الصياغة الفنية بعملية قلب عىل عكس البنية الرتكيبية‬

‫التقليدية للتصوير وذلك بتقديم املشبَّه به كما يف (للثواين)‬ ‫عىل املشبَّه (رائح ِة الطفولة يف الحقائب‪ّ ،‬‬ ‫رنة األجراس يف عنق‬

‫الحصان) ويف هذه الحالة يُمكن أن يتبادل املشبَّه واملشبَّه به‬ ‫ِ‬ ‫أدوارهما‪ ،‬وهو ما يخلق مراوحة تصويرية‪ ،‬ويجعل للصورة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫دافقا‪.‬‬ ‫إيقاعا‬

‫ويف َت ُّ‬ ‫مثل الذات الشاعرة للوقت لدى الدميني يبدو أنّ ثمة‬ ‫ً‬ ‫ُّ‬ ‫وشيجة ما بينه واألحزان‪ ،‬كأنّ‬ ‫تفكر الذات يف الوقت هو ما‬ ‫يؤجج شجون الذات ويبعث أحزانها‪:‬‬ ‫الوقت نافذة عىل األحزان‬

‫ٌ‬ ‫ثوب من رماد العمر‪،‬‬

‫الكالم‪،‬‬ ‫عزف شاعرة عىل ماء‬ ‫وج ٌه من أساور‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ورقصة التانغو‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫التابوت‪،‬‬ ‫الحرب يف‬ ‫وعودة بعض جُ ْند‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬

‫‪73‬‬


‫دراسات‬

‫كان الوقت مبتسمً ا ألسرى يف معارك لم يخوضوها‪،‬‬ ‫الحربي يف جيش تخلىّ عن بنادقهِ ‪،‬‬ ‫ومنتشيًا بصوت القائد‬ ‫ِّ‬ ‫وأنت ُت ّ‬ ‫طل مكسورًا عىل ُّ‬ ‫َ‬ ‫ّاك‪،‬‬ ‫الشب ِ‬

‫تقرأ عن جنون الطري يف ملهاة «سريفانتس»‬ ‫ما الذي يجعل الوقت نافذة عىل األحزان؟ هل هو شعور‬

‫الذات بالفقد وتبدد العمر كالرماد؟ وما عالقة هذا اإلحساس‬

‫بالحزن املتفاقِم بعزف شاعرة عىل ماء الكالم؟ وكأنّ شعور‬

‫الذات بالحزن وتبدد العمر بأثر عزف شاعرة‪ .‬فيما هو با ٍد أنّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫متنوعا يف عديد من الحركات والصور‬ ‫إيقاعا‬ ‫الذات تتمثل الوقت‬

‫كعزف الشاعرة عىل ماء الكالم‪ ،‬ورقصة التانغو‪ ،‬وعودة بعض‬

‫جند الحرب يف التابوت‪ ،‬إيقاعات متفاوتة بني النشوة والحزن‪،‬‬

‫وإن كان الحزن هو الغالب‪ ،‬حتى ما قد تبدى من نشوة فهي‬ ‫إحساس‬ ‫نشوة زائفة لقائد حربي يف جيش تخىل عن بنادقه‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫طاغ بالهزيمة يساكن الذات إزاء الوقت‪.‬‬ ‫عارم بالفقد‪ ،‬وشعو ٌر ٍ‬

‫وكما يبدو من استعمال الصوت الشعري لضمري‬ ‫املخاطب أنّ الذات يف تحديقها يف مرايا الوقت‪ّ ،‬إنما هي يف‬ ‫الذات َّ‬ ‫ُ‬ ‫ظلها أو قري َنها الشبحي‬ ‫حالة انشطار تعاين من خالله‬

‫‪74‬‬

‫الذي يطل مكسورًا من الشباك‪ .‬وكما هو با ٍد فإنّ مفردات‬ ‫كالنافذة والشباك ترتدد بشكل الفت يف َت ُّ‬ ‫مثل الذات للوقت‪،‬‬

‫عىل رغم ّأنها عالمات مكانية باألساس‪ .‬وهو ما يعني ليس‬ ‫تمكي ًنا للزمن؛ أي جعل الزمن ذا أبعاد وعينات مكانية‬ ‫فحسب‪ّ ،‬إنما يعكس كذلك إحساسً ا ما لدى الذات بحاجة‬ ‫إىل االنفتاح عىل الخارج‪ ،‬غري أنّ هذا الخارج الذي تتوق‬

‫الذات ملعاينته ال تجني منه غري األحزان واالنكسار‪ .‬ولكأنّ‬

‫يأتي ديوان «خرز الوقت» أحدث‬ ‫خطابا‬ ‫دواوين علي الدميني ليستأنف‬ ‫ً‬ ‫جمال ًّيا لدى شاعر يبدو الشعر عنده‬ ‫وجوديا تطرحه القصيدة من خالل‬ ‫سؤاال‬ ‫ًّ‬ ‫مسعى الذات إلى تقديم رؤية للعالم‬ ‫عبر فاعلية التأمل الوجودي الذي‬ ‫تمارسه القصيدة‬ ‫وقت الذات‪ ،‬ما يكشف عن ذاتية ونفسانية هذا الوقت الذي‬ ‫تعيشه الذات وتعاينه‪ ،‬وهو ما يربز يف فعل هذا الوقت اللييل‬ ‫بكسر مجازات اللغات يف إشارة لسطوته‪ ،‬كما يتبدى عدم‬ ‫سيطرة الذات عىل ذلك الوقت اللييل عىل رغم كونه نفسيًّا حتى‬ ‫ّإنه يبدو منتش ًرا ومهيم ًنا يف أقايص الجهات‪ ،‬وكأنّ إحساس‬

‫الذات بالليل يفيض منسكبًا عىل الوجود متسيدً ا فضاءاته‪.‬‬ ‫مراوحات املكان‬

‫البادي عىل الذات التي ترمق العالم بعيني التأمل ونظرات‬

‫االندهاش يف شعر عيل الدميني‪ ،‬هو توترها وقلقها باملكان‪،‬‬ ‫والبادي عىل أمكنة عيل الدميني ّأنها مشحونة بوجع الذكرى‬

‫ورائحة الفقد‪ ،‬وهو ما يجعل الذات غري مستقرة باملكان الذي‬ ‫وتحس يف ثناياه بالوحدة‪ ،‬فيقول‬ ‫تعاين فيه الفقد والغياب‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الدميني‪:‬‬

‫ً‬ ‫أغنية‬ ‫البيت‪ ،‬يفتحُ‬ ‫خارجَ‬ ‫ِ‬

‫الذات تتلبسها روحٌ «دون كيشوتية» يف مواجهة رياح أقدارها‬

‫لتالل من الوجدِ تطرق باب املدينةِ ‪،‬‬ ‫ٍ‬

‫ويف وعي الذات بالوقت‪ ،‬يتبدى أنّ الليل هو الغالب‬ ‫َ‬ ‫العالم‪ ،‬فيقول عيل الدميني‪:‬‬ ‫واألكرث هيمنة عىل مشاهد‬

‫وحارقة كرحيق املدام‪.‬‬

‫العاتية ومصريها غري املوات‪.‬‬

‫شمس ِّ‬ ‫ب أغصانها للمنامْ‬ ‫ترت ُ‬ ‫تحت‬ ‫ٍ‬ ‫لاً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫يقف الليل مشتم بعباءتهِ ‪َ ،‬‬ ‫قرب وقتي‬

‫ْ‬ ‫اللغات‪.‬‬ ‫ويكس ُر بني يديهِ مجا َز‬ ‫ِ‬ ‫أمد يديَّ إىل ّ‬ ‫ُّ‬ ‫ظلهِ‬

‫فيبارحني‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫الجهات‬ ‫ناشرًا ريش ُه يف أقايص‬ ‫للوداع‬ ‫بال راية‬ ‫ِ‬ ‫وال ورد ٍة للعتاب األخريْ!‬

‫يتجىل ميل الذات الشاعرة للنهار والشمس يف استعارتها‬

‫املجازية للشمس بأنها «ترتب أغصانها» لتميس كشجرة يف‬ ‫قرب‬ ‫استعذاب الذات للشمس‪ ،‬يف حني يبدو الليل هو املرابض َ‬ ‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬

‫عارية كاللغات‬

‫(‪)...‬‬

‫ً‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫نائمة‬ ‫أغنية‬ ‫يطفئ‬ ‫داخل البيت‪،‬‬

‫عن‬ ‫نديم توارى كطري بعيدٍ‬ ‫ٍ‬

‫ويرقد منزويًا‬ ‫يف السرير الذي يشب ُه املقربة!ْ‬ ‫يتأسس الخطاب الشعري املتمركز حول (البيت) كبؤرة‬ ‫مركزية للمكان‪ ،‬كما ّأنه قد يكون استعارة عن الذات نفسها‪،‬‬ ‫والـ(أغنية) كبؤرة مركزية أخرى لفعل الذات يف الوجود‪ ،‬عىل‬

‫مصفوفة من املتقابالت‪ :‬الخارج‪ /‬الداخل‪ ،‬يفتح‪ /‬يُطفئ‪ ،‬ما‬ ‫ي ِّ‬ ‫ُغذي التوتر الدرامي للقصيدة النابضة بإيقاع نفيس مضطرب‬

‫للذات‪ ،‬وسواء يف الخارج أو الداخل‪ ،‬فال ينال الذات إال الوجد‬ ‫والفقد‪ ،‬بتواري النديم والرقاد واالنزواء فيما يشبه املوات‬ ‫تحسه الذات يف األشياء وموضوعات عاملها‪ .‬ونلحظ أن‬ ‫الذي‬ ‫ُّ‬


‫شعرية التأمل الوجودي في «خرز الوقت» لعلي الدميني‬

‫مفردة الغناء ترد بشكل مستمر يف خطاب الدميني الشعري‪،‬‬

‫رُبما بفعل وعي إبداعي مسكون بموروث شفاهي يعتقد باألثر‬

‫ملا تتيحه رخصة «الكذب الجمايل» التي تربز شي ًئا من الحس‬ ‫السوريايل الذي ي ِّ‬ ‫ُغلف وعي الذات الشاعرة بموضوعات العالم‪.‬‬ ‫ويف َت ُّ‬ ‫مثل عالقة (الكالم) الذي هو فعل الذات باستعماالتها‬

‫الغنايئ للشعر وتداوله‪.‬‬ ‫ُت َنوِّع الذات الشاعرة يف استعماالت الضمائر التي تتكلم‬

‫اللغوية إزاء (املاء) الذي هو موضوع العالم الذي تسعى الذات‬

‫القصيدة‪ ،‬وكأنّ الذات تعاين نفسها من عىل مبعدة ما يُتيح‬ ‫لها تأمل أحوالها امل َت َق ِّلبة‪ ،‬هذا التنوع الضمائري يف اإلشارة‬

‫يف ّر من معناه‪ ،‬بال صفة أو لغة أو أسماء‪ ،‬يف شعور ذايت‬ ‫بانبهام موضوعات العالم وأشيائه‪ ،‬وهو ما يفجِّ ر تساؤلاً حول‬

‫عربها الذات بني املتكلم واملخاطب والغائب كما يف هذه‬

‫للمضمر نفسه بغري ضمري يربز تعدد زوايا رؤية الذات نفسها‬ ‫ُنعش إيقاع القصيد‪.‬‬ ‫كما ي ِ‬ ‫لغة الشاعر‬

‫تبدو الذات الشاعرة يف خطاب عيل الدميني شديدة‬

‫الحساسية تجاه لغتها‪ ،‬وكأنّ عني الذات عىل اللغة يف‬

‫استيعابها األشياء‪ ،‬واحتوائها عناصر العالم‪ ،‬وتعبريها عن‬ ‫الوجود‪ ،‬وتمثيلها الجمايل له شديدة االنتباه والتبصر‪ ،‬فيقول‬

‫الدميني يف قصيدته «تمثال املاء»‪:‬‬

‫املاءُ‬ ‫َ‬ ‫الكالمُ‬ ‫يجيد وصف املاءِ ‪،‬‬ ‫هل كان‬ ‫حني يف ُّر من معناه‪،‬‬ ‫ً‬ ‫عريانا‪ ،‬نحيلاً ‪ ،‬دونما صفةٍ ‪،‬‬ ‫وال ُل َغةٍ ‪ ،‬وال أسماءْ ؟‬

‫إذا كان عنوان القصيدة «تمثال املاء» يحمل ً‬ ‫نوعا مما‬

‫يُمكن أن نصفه بـ«التنافر الضدّ ي» بني عنصري الرتكيب‪،‬‬ ‫فالتمثال أبرز ما ي َِسمه هو الصالبة والجمود‪ ،‬يف حني أنّ املاء‬

‫يوسم باالنسيال واالنسيابية‪ ،‬وهو ما يكون مضادًّا لصالبة‬ ‫التمثال؛ فإنّ ذلك يربز فاعلية الشعر وعمل املجاز استثمارًا‬

‫إلدراكه بفعل (الوصف)‪ ،‬يبدو هذا (املاء) عصيًّا عىل الوصف‪،‬‬

‫عالقة اللغة بالعالم‪ ،‬أيهما أسبق‪ ،‬وأيهما يخلق اآلخر‪ ،‬هل‬ ‫اللغة هي التي تصنع العالم وتصيغ موضوعاته؟ أم أنّ العالم‬ ‫ُشكل اللغة وي ِّ‬ ‫بأشيائه وعناصره هو الذي ي ِّ‬ ‫ُخلق الكالم؟‬ ‫ً‬ ‫إذا‪ ،‬فاللغة هي هاجس الذات الشاعرة ومناط تساؤلها‬

‫يف شعر عيل الدميني‪ ،‬فتبحث الذات يف عالقة اللغة بالعالم‪،‬‬

‫وفعل العالم باللغة‪:‬‬

‫ّ‬ ‫ً‬ ‫حاملة خطاياها إىل لغتي‪،‬‬ ‫تتسل ُل العنقاء‬ ‫ّ‬ ‫تتسل ُل األسرا ُر من عينني مثقلتني بالتقوى‬ ‫كما‬

‫وبالصبوات‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫توقد َ‬ ‫قرب طاولتي مواعيد الخرافة يف التفاتاتها‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وتهرب‬

‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫القصيدة‪.‬‬ ‫ارتباكات‬ ‫حني تفضحُ ني‬ ‫يتضح ‪-‬لدينا‪ -‬أنَّ الذات الشاعرة تدرك انتفاء سيادتها عىل‬

‫لغتها يف إدراك لفعل الالوعي اللغوي الذي تتسلل إليه عناصر‬ ‫الخرافة‪ً .‬‬ ‫إذا‪ ،‬فالعالم ‪-‬لدى عيل الدميني‪ -‬هو الذي ي ِّ‬ ‫ُشكل‬ ‫ُ‬ ‫واللغة هي التي تكتب الذات‪ ،‬كما يف الفكر ما‬ ‫اللغة ويكتبها‪،‬‬ ‫ً‬ ‫بعد البنيوي‪ ،‬وكذلك وفقا للمبدأ الهايدغري بأنّ اللغة هي‬

‫التي تكتبنا أكرث من كوننا نحن الذين نكتب اللغة‪ ،‬وهو ما‬ ‫يفيض بالقصيدة إىل االرتباك الذي يفضح ذاتها الشاعرة‪.‬‬

‫‪75‬‬


‫دراسات‬

‫هل يمكن الحديث عن‬ ‫«شذرة نقدية»؟‬ ‫شاكر لعيبي‬

‫شاعر وباحث عراقي‬

‫هل يمكن الحديث عن «شذرة نقد ّية»‬ ‫العربي‪ ،‬كما نتح ّدث عن شذرة أدبية‪،‬‬ ‫في اإلرث‬ ‫ّ‬ ‫شعرية أو نثرية‪ ،‬عالية؟ وما المقصود بذلك؟ ال‬ ‫عقلي‪ ،‬مرسوم‬ ‫نتحدث هنا إال عن تفكير نقديّ ‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الحدود إلى هذه الدرجة أو تلك‪ ،‬قيلت بصيغة‬ ‫ً‬ ‫أحيانا‪ ،‬مكتملة البنيان أو‬ ‫مختصرة‪َ ،‬عرَضيّة‬ ‫تكاد‪ ،‬وتنطوي على انغالق واكتفاء بذاتها أو‬ ‫تكاد‪ .‬قراءة التعريفات المق َّدمة للشذرة‪ ،‬تشير‬ ‫إلى أنها «صيغة أدبية» باألحرى‪ ،‬وليست نقدية‪،‬‬ ‫حتى لو أُ ْد ِرج بين مستخدميها باسكال وروالن‬ ‫بارت وهنري ميشو وسيوران وغيرهم كثير‪ ،‬وأن‬ ‫شكلها ُيسائل تجزئة الذاكرة والفكر‪ ،‬وأنها تقود‬ ‫إلى غير المكتمل والعابث المثير للسخرية‪ ،‬ومن‬ ‫َثمّ تقود‪ ،‬بشكل متنا ِقض‪ ،‬إلى شكل من أشكال‬ ‫الوعي الشامل‪ .‬لسنا لذلك في الوعي النقديّ شبه‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫المنهجي المكتفي بذاته في إطار شكل مُ ختصر‪.‬‬ ‫ّ‬

‫‪76‬‬

‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬


‫العربي‪ ،‬يُخيَّل لنا‪ ،‬أننا أمام (شذرة نقدية)‬ ‫األدبي‬ ‫يف اإلرث‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫األدبي أو عموم الجماليات‪،‬‬ ‫مُ تواتِرة‪ ،‬موضوعها النقد الشعريّ ‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫كأنها (البيت الشعريّ الواحد) املكتفي بنفسه عىل مستوى‬

‫آخر‪ ،‬ونضع نحن يف إطار هذه (الشذرة النقدية) بعض األبيات‬

‫الشعرية أو مجزوءاتها التي كان موضوعها الرئيس تفكريًا‬ ‫نقديًّا‪ ،‬شعريًّا وجماليًّا صريحً ا‪ .‬بالطبع‪ ،‬تتفاوت قيمة الشذرات‬ ‫النقدية‪ ،‬إملاحيّتها‪ ،‬عمقها‪ ،‬درجة اختصارها‪ ،‬وإحاالتها‪.‬‬

‫الجملة منسوبة البن عبـاس‪ ،‬وهي ّ‬ ‫تدل عىل عراقة الشعر‬

‫العربي‪ ،‬وأنه أقدم من القرن الرابع امليالديّ بكثري‪ ،‬وأقدم من‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫املعلقات‪ .‬كما تدل عىل أن النص‬ ‫القرآين قد يُعْ ِجم [أعجَ مَ‬ ‫ّ‬ ‫أي أَبهمَ ]‪ ،‬عرب مفردات أو استخدامات (غامضة أو أجنبية او‬

‫العربي ْ‬ ‫بأعجَ م‪.‬‬ ‫مبهمة = أعجمية)‪ ،‬وليس الشعر‬ ‫ّ‬ ‫(‪)4‬‬

‫بعضها يقوم بإحاالت مَ ْخ ِفيّة ال ي ُْفصح عنها منذ الوهلة األوىل‪،‬‬

‫ّ‬ ‫«خري الكالم ما ّ‬ ‫وجل‪ ،‬ولم َي ُط ْل في َُم ّل»‬ ‫قل‬

‫متيس ًرا بالضرورة اليوم‪.‬‬ ‫ال يكون‬ ‫ّ‬ ‫لاً‬ ‫نقدّ‬ ‫مُ هنا‪ ،‬مدخ للفكرة التي نقرتحها‪.‬‬

‫والفارق كبري دالليًّا بني (الداللة) و(الجاللة)‪ .‬الشعر واقع يف‬

‫الثقايف العام السائد الذي قد‬ ‫ويتوجّ ب تأملها أو ربطها بالسياق‬ ‫ّ‬

‫(‪)1‬‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫شاعرًا ل ِف ْط َن ِته [‪ ]...‬وقالوا (كلمة شاعرة) أي‬ ‫«س ّمي [الشاعرُ]‬ ‫ِ‬ ‫قصيدة»‪.‬‬

‫هذا ما جاء يف لسان العرب‪ ،‬وقبله‪« :‬ويقال َشعَ َر فالن‬ ‫َ‬ ‫شاع ٌر أي‬ ‫وشعْ ٌر‬ ‫وشعْ ًرا‪ ،‬وهو االسم [‪ِ ]...‬‬ ‫وشعُ َر ي َْشعُ ر َشعْ ًرا ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫واإلشادَة‪ ،‬وقيل هو بمعنى مشعور به‪،‬‬ ‫جيد؛ أرادوا به املبالغة ِ‬ ‫َ‬ ‫وقد قالوا «كلمة شاعرة» أي قصيدة»‪ .‬وهنا الفارق بني مفهوم‬ ‫الشعر عند العرب بصفته شعورًا‪ ،‬عن مثيله لدى اإلغريق مثلاً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وخلقا (انظر التايل)‪.‬‬ ‫إبداعا‬ ‫بصفته‬

‫(‪)2‬‬

‫«هذه قصيدة َم ْخلوقة»‪.‬‬ ‫أَي مَ ْنحولة إِىل غري قائلها‪ ،‬كما يف اللسان الذي يضيف‪،‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫الكذب‬ ‫وخلق‬ ‫فالخ ْل ُق يف اللسان هو الكذب [أي االختالق]‬ ‫َ‬ ‫واخ َت َل َقه ْ‬ ‫ك ُ‬ ‫يخلقه َ‬ ‫وتخ َّل َقه ْ‬ ‫واإل ْف َ‬ ‫وافرتاه ابتدَ عه ومنه قوله تعاىل‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫‪{:‬وتخ ُلقون إِ ً‬ ‫ْ‬ ‫فكا}‪ .‬ومنه قوله تعاىل‪{ :‬إِنْ هذا إِال َخ ْل ُق األوَّلني}‪،‬‬ ‫يمة َ‬ ‫وخ ُلق َ‬ ‫ب َ‬ ‫األوَّلني قيل ِش ُ‬ ‫األولني‪ُ ،‬‬ ‫األولني‪ ،‬وقيل‬ ‫فمعناه َكذِ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫عادة َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫األوَّلني‪ .‬ومَ ن قرأ {خلق األوَّلني} فمعناه افترِ اءُ األوَّلني؛ قال‬ ‫األوَّلني} أَراد اخ ِتالقهم وكذبهم‪ ،‬ومن قرأَ‬ ‫{خ ْل ُق َ‬ ‫الفراء‪« :‬من قرأَ َ‬ ‫{خ ُلق َ‬ ‫ُ‬ ‫يل»‪ .‬أراد بأنه يفهم العبارة بمعنى‬ ‫األولني}‪ ،‬وهو أَ ُّ‬ ‫حب إِ َّ‬ ‫َ‬ ‫عادة األولني‪ .‬ثم يضيف اللسان هذه اإلضافة الدالة‪« :‬والعرب‬

‫الخرافات من َ‬ ‫الخ ْلق‪ ،‬وهي ُ‬ ‫تقول حدَّ ثنا فالن بأَحاديث َ‬ ‫األحاديث‬ ‫ْ‬ ‫املف َتعَ لةِ»؛ وكذلك قوله‪{ :‬إِنْ هذا إِلاَّ ْ‬ ‫اخ ِتالق}‪ ،‬وقيل يف قوله‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫تعاىل‪{ :‬إِن هذا إِال اخ ِتالق} أي َت َخ ُّرص‪ .‬ويف حديث أبي طالب {إِنْ‬ ‫هذا إِال اختالق} أَي كذب‪ ،‬وهو ْ‬ ‫اف ِتعال من َ ْ‬ ‫واإلبْداع‪ ،‬كأَنَّ‬ ‫الخلق ِ‬ ‫الكاذب َّ‬ ‫تخلق قوله‪ ،‬وأَصل َ‬ ‫الخلق التقدير قبل القطع‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫«إذا َتعاجَ م يشء من القرآن‪ ،‬فـانظروا فـي الشعر‪ ،‬فإن‬

‫الشعر عرب ّـي»‪.‬‬

‫الثعالبي (التمثيل واملحاضرة) ص‪ .158‬نلحظ أننا ال نشري‬ ‫ّ‬ ‫ودل) الشائعة‪ ،‬بل إىل (ما ّ‬ ‫قل ّ‬ ‫إىل (ما ّ‬ ‫وجل) أي صار جليلاً ‪.‬‬ ‫قل‬

‫الجليل أكرث مما هو يف الدليل‪.‬‬

‫(‪)5‬‬

‫شاه ْد َغ َ‬ ‫شيات َِها‬ ‫إذا لم ُت ِ‬ ‫سن ِ‬ ‫ري حُ ِ‬ ‫أع َ‬ ‫س ُن َع َ‬ ‫َو ْ‬ ‫نك ُم َغي ُ‬ ‫َّب‬ ‫ضائ َِها فالحُ ْ‬ ‫بيت املتنبي يف الخيل‪ .‬من الواضح أن املتنبي يتحدث عن‬

‫املثايل ‪ proportion idéale‬يف الصورة‬ ‫الجمايل‬ ‫التناسُ ب‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الجميلة (الحسنة) ‪ ،‬وهو ال يعده كافيًا لقيام الجمال‬ ‫روحي أو أخالقي‪ ،‬وهو ما كان‬ ‫الحقيقي‪ ،‬إذا لم يرتبط بمعيار‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫يشري إليه البيت السابق يف القصيدة‪:‬‬ ‫ديق َق َ‬ ‫الخ ُ‬ ‫«وَما َ‬ ‫ّ‬ ‫ليلة‬ ‫يل إال‬ ‫كالص ِ‬

‫وَإنْ َكثرُ ْ‬ ‫ب»‬ ‫ني مَ ن ال يج ّر ُ‬ ‫َت يف َع ِ‬ ‫تناسب‬ ‫الخيول الحقيقة األصيلة قليلة كما الجمال امل ُ ِ‬ ‫ٌ‬ ‫قليل‪.‬‬ ‫الحقيقي‬ ‫األصيل‬ ‫ّ‬ ‫(‪)6‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫الجمال‬ ‫الجمال الظاهر‪ ،‬وحسن العقل‬ ‫س ُن الصورة‬ ‫«حُ ْ‬ ‫ُ‬ ‫الباطن»‪.‬‬

‫الثعالبي يف (التمثيل واملحاضرة)‪.‬‬ ‫من املأثورات التي يوردها‬ ‫ّ‬

‫وهي عبارة تتفق تمامً ا مع بيتي املتنبي اآلنفني عن األحصنة‪:‬‬ ‫َأع َ‬ ‫ضا ِئهَ ا فالحُ ْسنُ َع َ‬ ‫سن ِشياتِهَا و ْ‬ ‫نك‬ ‫شاه ْد َغ َ‬ ‫إذا لم ُت ِ‬ ‫ري حُ ِ‬ ‫مُ َغي ُ‬ ‫َّب‬ ‫الشكيل ال يكفي بدون املعنى العميق‪ .‬إن فك َرتيَ‬ ‫الجمال‬ ‫ّ‬ ‫(املريئ ‪ )visible‬و(الالمريئ ‪ )invisible‬األوربيتني‪ ،‬تجدان‬ ‫ّ‬

‫ترجمة أقدم يف التعبريين العربيني (الظاهر) و(الباطن)‪.‬‬

‫(‪)7‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫شيب‪ ،‬كفى ذاك عارا‬ ‫َبعد امل ِ‬ ‫ُ‬ ‫سـ ـ ُ‬ ‫كم ـ ــا َقـ َّي ــد األ ُ‬ ‫ـرات الــحِ ـم ـ ــارا‬

‫ْف أَن ــا وان ِتحايل َ‬ ‫فكي َ‬ ‫واف‬ ‫الق يِ َ‬ ‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫وق ـ ـ َّي ـ ـ َـدن ــي الش ْعـ ـ ـ ُر فــي بي ِته‬ ‫والبيتان لألَعىش بصدد االنتحال (سرقة الشعر)‪ .‬لنقرأْ‬ ‫جيدً ا َ‬ ‫«وق َّيدَ ين ِّ‬ ‫الشعْ ُر يف بي ِته»‪ ،‬فالحديث يجري عن (السرقة‬

‫‪77‬‬


‫دراسات‬

‫َص ُ‬ ‫الشعرية) القائمة اليوم عىل قدم وساق‪ .‬و ْ‬ ‫ف األعىش‬

‫االنتحال بـ (العار‪ ،‬عيب) هو توصيف حاسم‪ ،‬ال يُقنع املنتحلني‬ ‫السراق اليوم؛ ألن الفكرة الجوهرية لألعىش هي التصاق‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ِّ‬ ‫دَ‬ ‫عْ‬ ‫الشاعر بالشعر التصاقا وجودًا يمنعه السرقة‪( :‬وق َّي ين الش ُر‬ ‫يف بي ِته) ‪ ،‬وهي فكرة تغيب عن لصوص نصوص الشعر دومً ا‪،‬‬

‫ويعدونه (بضاعة ميتافيزيقية مشاعة)‪.‬‬ ‫(‪)8‬‬

‫س ُن الصورة أ ّو ُل السعادة»‪.‬‬ ‫«حُ ْ‬

‫الثعالبي (التمثيل‬ ‫من األقوال املأثورة أو األمثال زمن‬ ‫ّ‬ ‫واملحاضرة)‪ .‬والعبارة تقوم بعملية تعميم‪ ،‬وإن كان ظاهرها‬

‫اآلدمي) و(سعادة القلب) البشريّ ‪ ،‬لتمتدّ إىل‬ ‫صورة (الكائن‬ ‫ّ‬

‫والجمايل‪ ،‬وإىل سعادة اللذة الجمالية‬ ‫صورة وبنية الشعريّ‬ ‫ّ‬ ‫العريضة (يُستحسن مراجعة مفهوم السعادة عند الفالسفة‬ ‫فلسفي باألحرى‪.‬‬ ‫املسلمني)‪ .‬صيغتها صيغة َخلاَ ِصيّة‪ ،‬من نمط‬ ‫ّ‬ ‫إذا ما قرأت العبارة عىل أنها تتعلق بالشعريّ ‪ ،‬فلسوف نغوص‬ ‫ً‬ ‫الذهني أو‬ ‫عميقا يف داللة البنية الداخلية للصورة بمعناها‬ ‫ّ‬ ‫الصورة الشعرية املتخيَّلة‪.‬‬

‫‪78‬‬

‫(‪)9‬‬ ‫ِّ‬ ‫«اثنان َّ‬ ‫والش ْعر الجيّد»‪.‬‬ ‫قل ما يجتمعان‪ :‬اللسان البليغ‪،‬‬

‫الثعالبي (التمثيل‬ ‫من األقوال املأثورة أو األمثال زمن‬ ‫ّ‬ ‫واملحاضرة)‪ .‬ولعل بعضنا ال يوافق عىل هذا املعيار النقديّ ‪ .‬وال‬ ‫نوافق عىل ظاهره ّ‬ ‫قط‪ ،‬إال إذا فهمناه بمعنى آخر‪ :‬كأن اللسان‬

‫الفني) نفسه وهو األدب‪ ،‬فاستنفد‬ ‫البليغ قد تك ّرس يف (النوع‬ ‫ّ‬

‫نفسه‪ ،‬فلم يستطع اإلبداع يف الفن الشعريّ ‪ .‬أو كأنه أراد‪،‬‬

‫وهو التفسري الذي نقبله باألحرى‪ ،‬أن البالغة وحدها (خاصة‬ ‫عناصر بالغة الخطابة) ال تشكل النص الشعريّ املتكوّن من‬

‫عناصر وجودية وتجربة ذاتية ومعرفية ذات حساسية تتجاوز‬

‫نقدية»‬ ‫هل يمكن الحديث عن «شذرة‬ ‫ّ‬

‫نتحدث عن شذرة‬ ‫العربي‪ ،‬كما‬ ‫في اإلرث‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫أدبية‪ ،‬شعرية أو نثرية‪ ،‬عالية؟ في‬

‫العربي‪ُ ،‬يخ َّيل لنا‪ ،‬أننا أمام‬ ‫األدبي‬ ‫اإلرث‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫«شذرة نقدية» ُمتواتِرة‪ ،‬موضوعها النقد‬ ‫األدبي أو عموم الجماليات‪،‬‬ ‫الشعري‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫الشعري الواحد» المكتفي‬ ‫كأنها «البيت‬ ‫ّ‬ ‫بنفسه على مستوى آخر‬

‫وأوله‪ :‬قيل ليحيى بن خالد الربميك‪ :‬لو قلت الشعر‪،‬‬ ‫فقال‪ ...‬الثعالبي (التمثيل واملحاضرة) ص‪ .146‬ي ْ‬ ‫ُضمِ ُر الر ّد أن يف‬

‫طبيعة الشعر نفسه نزعة متم ّردة‪ ،‬ال تخضع لتسويات العقالنية‬

‫العربي‪.‬‬ ‫الباردة‪ .‬وبذا يتوجب فهم مفهوم (شيطان الشعر)‬ ‫ّ‬ ‫(‪)12‬‬

‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫عروس‪ ،‬مهرها العقل»‪.‬‬ ‫«النبيذ‬

‫الثعالبي يف (التمثيل واملحاضرة)‪.‬‬ ‫من املأثور الذي ينقله‬ ‫ّ‬ ‫اليوم تبدو مثل هذه الصيغ األدبية‪ ،‬التخيليّة أقرب للوعي‬ ‫الرومانيس‪ ،‬فهل يُباح لنا الحديث عن نزعة رومانسية‬ ‫الشعريّ‬ ‫ّ‬

‫الثعالبي‬ ‫جنينية يف القرن العاشر امليالدي‪ ،‬زمن أبي منصور‬ ‫ّ‬ ‫النيسابوريّ ‪.‬‬

‫«تنحّ عن طريق القافية»‪.‬‬

‫للثعالبي‪ .‬يراد‬ ‫من أقوالهم املأثورة‪( ،‬التمثيل واملحاضرة)‬ ‫ّ‬

‫بالشذرة أن كتابة الشعر صعبة‪ .‬ال يكفي ترتيب القوايف إلبداع‬

‫قصيدة‪ ،‬إنها تتجاوز التقفية‪.‬‬

‫و(املحسنات القديمة‪ ،‬والحديثة إذا شئنا)‪ .‬إذا‬ ‫فنون البالغة‬ ‫ّ‬

‫الحايل يف غاية األهمية‪.‬‬ ‫كان فهمنا صحيحً ا‪ ،‬فاملعيار‬ ‫ّ‬ ‫(‪)10‬‬

‫سن ِّ‬ ‫َ‬ ‫الجمال»‪.‬‬ ‫الش ْعر ملن‬ ‫«إن حُ ْ‬

‫وأوله‪« :‬حدّ ثنا عيل بن الجهم‪ ،‬قال كنت عند املتوكل‬ ‫فتذاكروا عنده الجمَ ال‪ ،‬فقال‪ :‬إن حُ ْسن ِّ‬ ‫الشعْ ر ملن الجمَ ال»‪.‬‬

‫من كتاب (أخبار الخلفاء) للسيوطي‪ .‬يتعلق األمر بأن (الشعر)‬ ‫يقع يف صلب مادة الجماليات ‪.esthétique‬‬ ‫(‪)11‬‬

‫«شيطانه أخبث من أن ّ‬ ‫أسلطه عىل عقيل»‪.‬‬ ‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬

‫(‪)13‬‬

‫(‪)14‬‬

‫ّ‬ ‫ُّ‬ ‫التصنع ُّ‬ ‫التكلف تظرُّف»‪.‬‬ ‫تمتع‪ ،‬وال مع‬ ‫«ليس يف‬

‫امليداين‪ .‬وهي شذرة واضحة الداللة‪،‬‬ ‫من أمثال العامة زمن‬ ‫ّ‬

‫ال تحتاج إيضاحً ا‪.‬‬

‫«هو َير ُْق ُم يف املاء»‪.‬‬

‫(‪)15‬‬

‫وهو من مجمع األمثال للميداين ويشرحه بالقول إنهُ‪:‬‬

‫«يُضرب للحاذق يف صنعته‪ .‬أي من حذقه يرقم حيث ال يثبت‬ ‫فيه الرقم‪ .‬قال الشاعر‪:‬‬

‫سأرقم يف املاء القراح إليكم‬

‫عىل نأيكم إن كان يف املاء راقم‬


‫نقدية»؟‬ ‫هل يمكن الحديث عن «شذرة‬ ‫ّ‬

‫انتهى‪ .‬واملسألة تتعلق بعموم (الصنعة الفنية)‪ ،‬والشعرية‬ ‫ْ‬ ‫والرقم عمومً ا هو الرسم والتخطيط‬ ‫يف قلبها دون شك‪.‬‬ ‫الغرافييك والنقش والكتابة‪ .‬املاهر بصنعته هو كمن يرسم أو‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُحدد املثل طبيعة املهارة‪ ،‬ولكنه يتحدث عن‬ ‫ينقش يف املاء‪ .‬وال ي ِ‬ ‫مهارة فنية وجمالية‪.‬‬

‫(‪)16‬‬

‫قال الجاحظ‪« :‬إن الشعر ضر ٌ‬ ‫ْب من النسج‪ ،‬وجنس من‬ ‫التصوير‪.‬‬

‫الجاحظ يف كتاب الحيوان ‪ :132/3‬والفكرة تشدّ د عىل‬ ‫عملية البناء‪ ،‬البنية املُحْ َكمَ ة للشعر‪.‬‬ ‫(‪)17‬‬

‫للنسج والتأليف والصياغة والبناء والويش‬ ‫«[النظم] نظري‬ ‫ْ‬ ‫والتحبري»‪.‬‬

‫مما ذكره الجرجاين يف (دالئل اإلعجاز)‪ ،‬ص‪ ،49‬والنص‬

‫للنسج‬ ‫الكامل هو‪« :‬وكذلك كان [النظم] عندهم نظريًا‬ ‫ْ‬

‫والتأليف والصياغة والبناء والويش والتحبري‪ ،‬وما أشبه ذلك‬ ‫مما يوجب اعتبار األجزاء بعضها مع بعض حتى يكون لوضع‬ ‫كل حيث وُضع ّ‬ ‫ّ‬ ‫علة تقتيض كونه هناك‪ ،‬وحتى لو و َ‬ ‫ُضع يف‬ ‫مكان غريه لم َيصحّ »‪ .‬نجد أن مفردة (النظم) ملتبسة قليلاً‬

‫الجرجاين‪ ،‬فال يبدو واضحً ا أنه يقصد بها‪ ،‬بالضرورة‪،‬‬ ‫يف نص‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫املحسنات البديعية‬ ‫املعنى األعمق للشعر‪ .‬أضف لذلك أنه يَقرن‬ ‫ّ‬

‫بمفهوم النظم (يُشار لها بالويش والتحبري)‪ .‬ما بقي يُعالج‬ ‫ّ‬ ‫تختل باختالل عنصر من‬ ‫فكرة البنية املحْ َكمَ ة املشار إليها التي‬ ‫العناصر‪.‬‬

‫(‪)18‬‬

‫ثمة استشهادان يتعلقان بالفن‪ ،‬يتوجب‪ ،‬حسب ظننا‪،‬‬

‫املعني بالفن والجماليات التوقف أمامهما مليًّا‪.‬‬ ‫عىل‬ ‫ّ‬

‫قال اآلمدي‪« :‬لن ينتفع بالنظر إال من يحسن أن يتأمل‪،‬‬

‫ومن إذا تأمل َعلِمَ ‪ ،‬ومن إذا َعلِمَ أنصف»‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫هذه الشذرة يف غاية األهمية؛ ألن الفعل نظ َر يف العربية‬

‫مرتبط بمفهوم (االنتظار) من جهة‪ ،‬وبعملية اإلبصار والرؤية‬ ‫التشكييل‪ ،‬من جهة أخرى‪ .‬تعاود‬ ‫التي هي جوهر العمل‬ ‫ّ‬

‫الشذرة ربط البصر بالبصرية‪.‬‬

‫السائدة) واملقدرة (اإلبداع الفرديّ )‪.‬‬

‫(‪)20‬‬ ‫ً‬ ‫متينا عىل عذوبته يف الفم‪،‬‬ ‫«[الشعر] الجزل أن يكون‬

‫ولذاذته يف السمع»‪.‬‬

‫ابن األثري «املثل السائر يف أدب الكاتب والشاعر»‪ .‬تعني‬ ‫الجزالة يف األصل‪ ،‬مثل رجل جَ ْزل‪ ،‬جودة الرأي‪ .‬وامرأة جَ ْزلة‬

‫أي تامة الخلق أو ذات كالم جَ ْزل أي قوي شديد‪ .‬واللفظ الجَ ْزل‬ ‫هو املتني خالف الركيك‪ .‬والجزالة تشري يف استخدامات النقد‬

‫الرتايث إىل الفصاحة والبالغة‪ .‬ولعلنا هنا أمام تحديد مختلف‬ ‫ّ‬

‫ملفهوم البالغة‪ ،‬يف الشعر خاصة‪ ،‬وهي تربطها بعذوبة النطق‬ ‫ولذة السمع‪.‬‬

‫(‪)21‬‬

‫«الفصاحة هي الظهور والبيان‪ ،‬ال الغموض والخفاء»‪.‬‬

‫ابن األثري «املثل السائر يف أدب الكاتب والشاعر»‪ .‬مشكلة‬

‫العربي‪ .‬هنا ال‬ ‫العربي وغري‬ ‫األدبي‪،‬‬ ‫الغموض قديمة يف النقد‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫(‪)19‬‬

‫وقال ابن رشيق‪« :‬إنما مثل القدماء واملحدثني كمثل رجلني‬

‫ابتدآ‪ :‬هذا بناه فأحكمه وأتقنه‪ ،‬ثم أىت اآلخر فنقشه وزينه‪،‬‬ ‫فالكلفة ظاهرة عىل هذا وإن حسن‪ ،‬والقدرة ظاهرة عىل‬

‫ذلك وإن خشن»‪.‬‬

‫يتعلق األمر بالفارق بني مفهوم التجويد (تحسني املنجزات‬

‫نتحدّث عن الفصاحة يف الشعر بالضرورة؛ لذا تبدو الشذرة‬ ‫ّ‬ ‫محلها السليم‪ .‬عندما يقع تناول الفصاحة يف الشعر‪ ،‬ليس‬ ‫يف‬ ‫هناك اتفاق مطلق عىل (شرط الوضوح)‪ .‬من هنا السجاالت‬ ‫بشأن شعر املتنبي الذي لم يُتهم‪ ،‬عىل رغم خفاء دالالت بعض‬

‫أبياته وغموضها‪ ،‬بعدم الفصاحة‪.‬‬

‫‪79‬‬


‫بورتريه‬

‫صفية بن زقر‬ ‫شغف بالرسم واستدراج المحيط‬ ‫محمد العامري‬

‫‪80‬‬

‫ناقد وفنان أردني‬

‫لم يكن األمر باليسير حين تقرر فنانة سعودية ترتبط بتقاليد اجتماعية لها محدداتها أن ِّ‬ ‫تقدم‬ ‫في وقت مبكر إنجا ًزا بائ ًنا في مجال الفنون التشكيلية‪ ،‬علمً ا بأن جغرافيا الوطن العربي كانت تعاني‬ ‫جهلاً وحصارًا للفنون التشكيلية‪ .‬فالفنانة «صفية بن زقر» التي كرَّمها خادم الحرمين الشريفين الملك‬ ‫سلمان بن عبدالعزيز بوسام الملك عبدالعزيز من الدرجة األولى في مهرجان الجنادرية مطلع فبراير‬ ‫المنصرم‪ ،‬استطاعت تجاوُز تلك الظروف الصعبة‪ ،‬لتتحيز لهواجسها الفنية‪ ،‬وتفتح عبر ريادتها نافذة‬ ‫ً‬ ‫تحديدا عند سفرها مع‬ ‫كبيرة لممارسة الرسم والتلوين‪ .‬وأعتقد أن الظروف ساعدتها في تجاوز ذلك‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫تحتك بمجتمعات تختلف‬ ‫أسرتها إلى القاهرة في عام ‪1947‬م‪ ،‬الذي أتاح لها الفرصة منذ طفولتها ألن‬ ‫ّ‬ ‫بمركباتها عن مسقط رأسها‪ ،‬فكانت القاهرة هي الجرعة األولى لتف ُّتح موهبتها الحرة‪ ،‬لتغادرها إلى‬ ‫بريطانيا كي تلتحق بمدرسة ‪ ،Finishing school‬مدة ثالث سنوات دراسية‪.‬‬ ‫لم تتوقف الفنانة «بن زقر» املولودة يف حارة الشام بجدة عام‬

‫ال يمكن إقصاؤه‪ ،‬لكونه حالة إنسانية داخلية‪ ،‬تضغط عىل صاحبها‬

‫كما ذهبت ثانية إىل بريطانيا لتلتحق بكلية سانت مارتن للفنون‪،‬‬

‫رائدة عىل مستوى السعودية بل هي من الرائدات العربيات عىل‬ ‫مستوى الفن التشكييل النسوي‪ ،‬فهي من أُوليات النساء اللوايت‬

‫‪1940‬م‪ ،‬عن البحث لتطوير أدواتها؛ إذ عادت إىل القاهرة يف عام ‪1965‬م‬

‫لتتعلم أصول الرسم والتلوين والغرافيك‪ ،‬فشغف «بن زقر» باملعرفة‬

‫جعل منها فنانة تمتلك أدواتها االحرتافية يف مجال الفنون‪ ،‬وعالمة‬ ‫من عالمات الفن التشكييل العربي‪.‬‬

‫ما يجذبني ألتأمل أعمال هذه الفنانة هو امتالكها ِصدقية عالية‬

‫يف طبيعة أشكالها‪ ،‬والحساسية الجمالية‬

‫لتقدم لها الظرف املناسب إلخراج تلك الهواجس‪ .‬فلم تكن «بن زقر»‬

‫درسن الفن الذي أسس لحالة مهمة يف الحركة النسوية السعودية‬ ‫يف مجاالت عدة‪ ،‬ولم يكن دورها مقتص ًرا عىل الرسم‪ ،‬بل هناك جانب‬ ‫توعوي مهم لها‪ ،‬وبخاصة تأسيسها دارة تحمل اسمها‪ ،‬افتتحت يف‬

‫واللونية يف إنتاج املشهد‪ ،‬وهذا ينمّ عن موهبة‬

‫أصيلة‪ ،‬تحققت عرب شغف هائل بالرسم‬

‫والتلوين‪ ،‬واختبار مجموعة من املوضوعات‬

‫التي تنتمي يف الغالب إىل محيطها الذي‬ ‫تعيش فيه‪ ،‬فهو الخ ّزان البصري البكر الذي‬ ‫ّ‬ ‫يغذي بصريتها بطبيعة املوضوعات ورصد‬ ‫تحوالتها يف أوقات متعددة من السنة‪ ،‬من‬

‫حيث طبيعة اإلضاءة وتبدالت الطقوس‬ ‫اللونية التي انعكست عىل طبيعة الباليتة‬

‫اللونية يف مجمل أعمالها‪ .‬فريادة «بن زقر»‬ ‫مؤشر إيجابي عىل تمظهرات اإلبداع الذي‬ ‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬

‫عمل لصفية بن زقر‬


‫عام ‪2000‬م لتضم الدارة يف جنباتها الرتاث السعودي بكل مكوناته‪ ،‬إىل‬ ‫جانب مكتبة تضم مجموعة من الكتب الفنية واألدبية‪ ،‬لتشكل الدارة‬ ‫منارة ثقافية تبث الوعي وتسهم يف تغذية األجيال بمعارف أساسية‪،‬‬

‫وتحديدًا يف ظرف سيايس دقيق يعاين مكوِّنات التط ُّرف واإلرهاب‪.‬‬ ‫إبداع وتوعوية‬

‫لقد صنعت الفنانة «صفية بن زقر» مسارين أساسيني؛ مسار‬

‫اإلبداع الفني املهم‪ ،‬واملسار التوعوي‪ ،‬الذي يشكل ديمومة إيجابية‬ ‫يف املجتمع السعودي‪ .‬كما أنها أسهمت مع مجموعة أساسية من‬

‫الفنانني السعوديني؛ منهم‪ :‬عبدالحليم رضوي‪ ،‬ومحمد السليم‪،‬‬ ‫وعبدالعزيز الحماد‪ ،‬وعبدالجبار اليحيا‪ ،‬ومنرية موصيل‪ ،‬وطه‬ ‫الصبان وآخرون‪ ،‬يف إيجاد منظومة تشرتك يف معاينة هموم ثقافية‬

‫تطمح إىل نشر الفنون بني الناس‪ .‬ونرى أنَّ الحياة الثقافية السعودية‬

‫اآلن يف حركة دائمة من معارض وأمسيات ونشر‪ ،‬وهذا املؤشر يقدم‬ ‫وجبة جمالية مهمة لهذا الشعب وصولاً إىل مؤثراته عىل بعض‬ ‫املجتمعات العربية‪.‬‬

‫من الظلم أن يصفها بعض الكتاب بأنها «ماتيس السعودية»‪،‬‬

‫فهي الفنانة التي أنصتت إىل جوارحها لتخلص لطبيعة مختلفة‬

‫طقوس الحناء عند العروس ورقصة السيف واألفراح بشتى أنواعها‪،‬‬

‫غني بالتفاصيل املغرية للرسم‪ ،‬فكانت‬ ‫فهي تعيش يف مجتمع‬ ‫ّ‬ ‫ألوانها أقرب إىل لباس املرأة السعودية‪ ،‬والسجاجيد والستائر امللونة‬ ‫واملذهَّ بة‪ ،‬وصولاً إىل طقوس شعبية متنوعة؛ منها‪ :‬طقس شرب‬

‫الشاي‪ ،‬وقراءة الطالع‪ ،‬وسوق الجمال يف الصحراء‪ ،‬واملدينة بكل‬

‫تفاصيلها‪ ،‬إىل صيد الصقور‪ ،‬وتعاطي الجراك‪ ،‬وبائعي الحلوى‪،‬‬ ‫ومشاهد الرعي‪ ،‬وطبيعة األلبسة البدوية واأللعاب الشعبية‪.‬‬

‫ومن أهم مميزات عملها إىل جانب التلوين‪ ،‬توظيف الفعل‬

‫الزخريف‪ ،‬سواء أكان نباتيًّا أم هندسيًّا‪ ،‬لصالح العمل‪ ،‬لكونه ينتظم‬ ‫يف التعبري عن الحياة الشعبية‪ ،‬بل َّ‬ ‫وظفت كثريًا من الحروفيات‬ ‫والكتابات يف مناخ عملها الفني الذي يحتمل الكثري من اإلضافات‬

‫واالمتالء يف التكوين‪ .‬إنَّ ما أنجزته «صفية بن زقر» يشكل مساحة‬

‫الفتة يف الفنون العربية املعاصرة‪ ،‬حني ينتظم عملها يف بنائية رصينة‬ ‫وقدرة هائلة عىل تطويع الباليتة اللونية لصالح موضوعاتها‪ ،‬لتنتج‬

‫غنائية لونية فردوسية‪ ،‬أسهمت يف إعطاء عملها حيوية وقدرة عىل‬

‫التواصل مع ما هو نخبوي وما هو عام‪ ،‬تلك هي املعادلة الصعبة التي‬ ‫أتقنتها «بن زقر»‪.‬‬

‫عما ذهب إليه «ماتيس»‪ ،‬فقد تأملت مناخات االحتفاالت الشعبية‬ ‫السعودية من رقصات وتقاليد شعبية يف األعياد واملناسبات‪،‬‬

‫‪81‬‬

‫بحس يمتلك رهافة صادقة‪ ،‬بل شكلت العني‬ ‫لتعكسها يف أعمالها‬ ‫ٍّ‬ ‫النقية للتعريف بطبيعة املجتمع السعودي عرب ِّ‬ ‫نصها الجمايل‪ ،‬فلها‬

‫أسلوبية ُّ‬ ‫تخصها يف التعامل مع موضوعات شربتها عينها مبك ًرا‪ ،‬بل‬

‫مارستها وساهمت فيها عرب طقوس املجتمع السعودي‪ ،‬فهي األصدق‬ ‫يف إعادة صياغة تلك الطقوس عرب أعمال خالدة ما زالت تنبض‬

‫بالحياة‪ ،‬لتشكل ذاكرة بصرية مهمة عىل مدى األجيال القادمة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫مكانا إال واختربته عرب مادة الرسم‪ ،‬فرنى‬ ‫لم ترتك «صفية بن زقر»‬

‫أعمالها تعكس طبيعة العمائر السعودية القديمة‪ ،‬حيث يتعرف‬

‫الناظر إىل أعمالها طبيعة تلك العمائر‪ ،‬واملواد املستخدمة فيها‪.‬‬ ‫حالة شعرية‬

‫املكان لدى صفية هو حالة شعرية وشعورية ترصد من خالله‬

‫تفاصيل األطفال وحركة الحشود البشرية يف األسواق وتفاصيل‬ ‫حركة الشارع‪ ،‬مؤكدة عىل طبيعة خاصة يف الغنى اللوين‪ ،‬فهي من‬

‫الفنانات العربيات امللوِّنات بامتياز‪ ،‬فاللون بالنسبة لها أساس مهم‬ ‫يف أعمالها؛ ألوان ذات زخم له حضوره الطاغي‪ .‬واملكان هو البيئة‬

‫املهمة التي تضم تلك الطقوس‪ ،‬حيث ترصد االحتفاليات العفوية‬

‫للناس‪ ،‬فرنى يف أعمالها رقصة العرضة النجدية إىل جانب‬

‫هودج مزخرف اتصفت به الفنون الشعبية السعودية‪.‬‬

‫إنها فنانة ال تمتلك إال الصدق يف التعبري عن‬

‫مجتمعها الذي تنتمي إليه‪ ،‬فوثقت بأسلوبها الخاص‪:‬‬

‫لم تكن «بن زقر» رائدة على مستوى‬ ‫السعودية‪ ،‬بل هي من الرائدات العربيات‬ ‫على مستوى الفن التشكيلي النسوي‪،‬‬ ‫فهي من ُأوليات النساء اللواتي درسن‬ ‫الفن الذي أسس لحالة مهمة في الحركة‬ ‫النسوية السعودية في عدة مجاالت‬


‫قضايا‬

‫أين األدب الروسي اليوم؟‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫شيوعا فيما يخص حضور اآلداب العالمية والتواصل معها عربيًّا‪ ،‬هو‪:‬‬ ‫واحدا من أكثر األسئلة‬ ‫لعل‬ ‫لاً‬ ‫ُ‬ ‫أين األدب الروسي اليوم؟ لماذا لم نعد نقرأ أعما لكتاب جدد يختلفون في حساسياتهم وفي رؤاهم‬

‫عن تلك النخبة من األسماء التي اكتسحت أعمالها المشهد األدبي العربي عقو ًدا‪ ،‬وأثرت فيه على‬ ‫نحو عميق؟ ألم يعد الروس يكتبون أد ًبا في مستوى ما ّ‬ ‫قدمه تورغينيف ودوستويفسكي وتولستوي‬

‫وتشيخوف وباسترناك وأخمتوفا وماياكوفسكي وسواهم من أسماء تنتمي إلى تلك الحقبة أو غيرها‬ ‫ّ‬ ‫تخص خيارات دور‬ ‫من الحقب الالحقة؟ أم أن الترجمة إلى العربية تعيش حالاً من الركود ألسباب قد‬ ‫النشر أو قلة حيلة المترجم؟‬ ‫ً‬ ‫لاً‬ ‫«الفيصل» تنشر هنا مقالين الثنين من المتخصصين في الترجمة عن الروسية‪ ،‬ومقا ثالثا يتناول‬ ‫شخصية بوتين وصعود نجمه السياسي‪ ،‬على اعتبار أنه ال يمكن فصل األدبي عن السياسي‪.‬‬

‫‪82‬‬

‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬


‫األدب الروسي الحديث‪..‬‬ ‫وأسئلة الراهن‬ ‫أحمد الخميسي‬

‫مترجم وأكاديمي مصري‬

‫اختلفت صورة األدب الروسي الحديث على مدى ربع قرن منذ زوال االتحاد السوفييتي بإعالن‬ ‫رسمي في ‪ 8‬ديسمبر ‪1991‬م حتى يومنا‪ .‬ويتفق النقاد الروس على وضع االتجاهات األدبية الجديدة‬ ‫تحت عنوان عريض هو‪« :‬أدب مرحلة التحول» الذي خلع خالل ربع قرن جذوره من الماضي‪ ،‬لم‬ ‫يستقر بعد على دروب واضحة‪ .‬وعندما يدور الحديث عن االتجاهات الحديثة في األدب الروسي‬ ‫المعاصر‪ ،‬فإن المقصود هو الظواهر والنزعات الفكرية والفنية المختلفة التي ظهرت خالل تلك‬ ‫المدة بعد فك االرتباط الوثيق بين األدب وتوجهات النظام السياسي الحاكم‪ .‬هو إذن أدب « مرحلة‬ ‫التحول»‪ ..‬إلى ماذا وإلى أين؟ اإلجابة تستدعي أن نعرف ولو في عجالة «التحول من ماذا؟» وقد‬ ‫يكون القارئ على اطالع بصورة الحريات والثقافة القاتمة في العهد السوفييتي‪ ،‬لكنه على األرجح‬ ‫لم يضع يده على حقيقتين تاريخيتين استندت إليهما السلطة‪ ،‬وشكلتا األساس الفكري والقانوني‬ ‫لمالحقة اإلبداع والتنكيل باألدباء على النحو المروع الذي جرى‪.‬‬

‫‪83‬‬


‫قضايا‬

‫أنا أخماتوفا‬

‫الحقيقة األوىل خاصة بصدور قانون املطبوعات الذي‬

‫نشرته الحكومة عقب الثورة يف ‪ 27‬أكتوبر ‪1917‬م‪ ،‬وأقرت به‬ ‫وقف نشاط الصحف واملطبوعات «املعادية» وبناء عليه أغلقت‬ ‫يف الشهرين األولني من عمر الثورة أكرث من مئة وخمسني‬

‫صحيفة‪ .‬ويف حينه وعد لينني زعيم الثورة أن ذلك القانون‬ ‫«قانون مؤقت تفرضه الظروف» وأنه ما إن تستقر أوضاع‬ ‫الثورة حتى ينال الشعب «أكرث القوانني تقدمية»‪ .‬لكن القانون‬

‫«املؤقت» تحول إىل قانون دائم‪ ،‬وظل يحكم الحياة الثقافية‬ ‫يف روسيا واالتحاد السوفييتي ثالثة وسبعني عامً ا كاملة إىل‬

‫‪84‬‬

‫أن صدر قانون جديد للصحافة واملطبوعات يف ‪ 20‬يونيو ‪1990‬م!‬ ‫هذا عىل مستوى الثقافة واإلعالم إجمالاً ‪ .‬أما يف املجال األدبي‬ ‫فتربز حقيقة أخرى ر ِّ‬ ‫ُسخت يف املؤتمر األول‬

‫لألدباء السوفييت عام ‪1934‬م‪ ،‬وفيه قام املؤتمر‬

‫بزعامة مكسيم غوريك وأندريه غدانوف بتدشني‬ ‫نظرية ومصطلح «الواقعية االشرتاكية» مذهبًا‬

‫أدبيًّا رسميًّا لإلبداع‪ .‬ومع أن تاريخ األدب يشري‬

‫سيرجي يسنين‬

‫فالديمير ماياكوفسكي‬

‫الحالة السوفييتية! وكان ذلك يعني فعليًّا أن فتح أي مسارات‬ ‫جديدة للخيال واألدب ‪-‬خارج نطاق عقيدة الدولة األدبية‪-‬‬

‫خروج عىل الدولة والنظام السيايس!‬ ‫القضاء عىل حرية األدب‬

‫هكذا قىض قانون الصحافة بشكل عام عىل حرية التعبري‪،‬‬

‫وقىض تبني مذهب أدبي عىل حرية األدب وتنوعه‪ ،‬وصودرت‬ ‫حرية التعبري وحرية األدب مع احتكار حزب واحد للسلطة‪.‬‬

‫وما بني مطرقة قانون الصحافة وسندان «املذهب األدبي‬ ‫للدولة» طارت رؤوس األدباء وصودرت أعمال ونفي ُك َّتاب إىل‬ ‫معسكرات االعتقال وراحت الدولة تالحق كل من يفكر أو يشعر‬ ‫خارج إطار السياسة الرسمية املعتمدة‪ ،‬وأغلقت‬ ‫الجمعيات والروابط األدبية‪ ،‬وطرد املبدعون من‬ ‫اتحاد الكتاب‪ُ ،‬‬ ‫وضيِّق عليهم يف أرزاقهم وفيما‬

‫يكتبون‪ .‬ويف أثناء تلك الصورة القاتمة الحت‬ ‫غارقة يف ظالل املوت واألىس أسماء وأرواح‬

‫دوما إىل انحياز النظم السياسية للمدارس‬

‫شعراء عظماء مثل‪ :‬أنا أخماتوفا وزوجها الشاعر‬ ‫نيقوالي غوميليوف الذي أُعدم بتهمة ملفقة‬

‫اتخذت دولة لنفسها مذهبًا أدبيًّا رسميًّا إال يف‬

‫بالتونوف‪ ،‬والروايئ املذهل ميخائيل بلغاكوف‬

‫واالتجاهات األدبية التي تخدم النظام الحاكم‪،‬‬

‫فإنه لم يحدث عىل امتداد ذلك التاريخ كله أن‬

‫االنفجار األدبي الروسي في النصف‬ ‫األول من تسعينيات القرن العشرين‬ ‫سيأخذ أشكا شتى‪ ،‬كان في مقدمتها‬ ‫لاً‬ ‫في ظل التحول التاريخي بروز تيار‬ ‫أدبي كامل يتقدم حام رايات (الرواية‬ ‫لاً‬ ‫التاريخية) لمراجعة الماضي القاتم‪،‬‬ ‫وإعادة قراءته على ضوء جديد‪ ،‬ليتلمس‬ ‫الحقيقة بين ركام األكاذيب‬

‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬

‫ّ‬ ‫والقاص العبقري أندريه‬ ‫بعد محاكمة صورية‪،‬‬

‫صاحب الرواية العبقرية «املعلم ومرغريتا» انتهاء‬ ‫بالكاتب الساخر ميخائيل زوشنكا الذي كان‬

‫يسخر دون توقف من كل املظاهر السلبية‪ ،‬فأجربته الدولة عىل‬

‫الصمت والعزلة‪ .‬وتأرجحت يف سماء روسيا وطوايا ضمريها‬ ‫أنشوطة االنتحار مُ ّ‬ ‫لتفة حول أعناق األدباء‪ ،‬وكان يف مقدمتهم‬

‫الشاعر العظيم سريجي يسنني الذي عرثوا عليه يف ديسمرب‬ ‫َّ‬ ‫معل ًقا بأنشوطة يف حجرة بفندق «إنرتناشونال» وقد‬ ‫‪1925‬م‬

‫ترك بيتني من الشعر عىل قصاصة يقول فيهما‪« :‬ليس ابتكارًا‬ ‫أن تموت وأن تحيا ليس أكرث ابتكارًا»‪.‬‬

‫األوضح داللة أن يجدوا بعد ذلك فالديمري ماياكوفسيك‬

‫الذي حسبوه «شاعر الثورة والطبقة العاملة» منتحرًا برصاصة‬


‫أين األدب الروسي اليوم؟‬

‫مارينا تسفيتايفا‬

‫يف إبريل ‪1930‬م! وتقطر األجواء بمآيس األدباء العزل الذين‬ ‫واجهوا فرادى كل ذلك الطغيان‪ ،‬فتدخل الشاعرة الروسية‬ ‫العظيمة مارينا تسفيتايفا إىل حجرة منعزلة يف بيتها لتنهي‬

‫ألكسندر سولجينتسين‬

‫فالديمير سوروكين‬

‫يف يونيو ‪1987‬م‪ ،‬فتشرع الكلمة يف فك قيودها وسالسلها‪،‬‬ ‫وتتقدم الحقيقة لتعلن عن نفسها سياسيًّا وأدبيًّا‪.‬‬ ‫إبداع بال ضفاف‬

‫حياتها بأنشوطة يف ‪ 31‬أغسطس ‪1941‬م وهي يف التاسعة‬ ‫ِّ‬ ‫مخلفة وراءها قصائدها‬ ‫واألربعني شاعرة ملء السمع والبصر‪،‬‬

‫«مرحلة التحول» األدبي إذن هي مرحلة االنتقال من‬

‫والقصص غري املريض عنها فقد ظلت دفاترها حبيسة خزائن‬

‫التعددية السياسية وإىل إبداع بال ضفاف عىل مستوى الشكل‬

‫امللهبة ومغزى مصريها الفاجع‪ .‬أما دواوين الشعر والروايات‬ ‫حديدية ألكرث من ثالثني عامً ا يف مقرّات اتحاد الكتاب! ولم ينجُ‬ ‫منها سوى األعمال التي َّ‬ ‫تمكن أصحابها من تهريبها إىل خارج‬

‫روسيا بمعجزة ُ‬ ‫فطبعت ُ‬ ‫ونشرت هناك‪.‬‬

‫بعد موت الزعيم السوفييتي ستالني وصل زعيم جديد إىل‬

‫استبداد النظام السيايس وفرضه رؤية خاصة لألدب إىل‬ ‫واملضمون‪ .‬لهذا يصبح مفهومً ا تمامً ا أن يحدث يف النصف‬ ‫األول من تسعينيات القرن العشرين بعد وقف الرقابة عىل‬

‫األدب ما أسماه أحد الكتاب «انفجارًا أدبيًّا يف كل االتجاهات»‪.‬‬ ‫وقد اتخذ ذلك االنفجار أشكالاً شتى‪ ،‬كان يف مقدمتها يف ظل‬ ‫التحول التاريخي بروز تيار أدبي كامل يتقدم حاملاً رايات‬

‫الحكم عام ‪1955‬م هو نيكيتا خروتشوف‪ ،‬ومعه ظهرت بوادر‬ ‫انفراجة صغرية ُعرفت بمرحلة «ذوبان الثلوج» نظرًا لسماح‬

‫(الرواية التاريخية) ملراجعة املايض القاتم‪ ،‬وإعادة قراءته عىل‬

‫أن نشر ألكسندر سولجينتسني روايته الشهرية‪« :‬يوم يف حياة‬ ‫ً‬ ‫راصدا فيها بشاعة معسكرات‬ ‫إيفان دينيسوفيتش» عام ‪1962‬م‬

‫هي روايات تاريخية إىل جانب أربع روايات شبه تاريخية؛‬ ‫ً‬ ‫وأيضا‬ ‫منها‪« :‬يوم من أوبرشنيك» تأليف فالديمري سوروكني‪،‬‬

‫الرقابة بنشر رواية إيليا إهرنبورغ «ذوبان الثلوج»‪ ،‬لكن سرعان‬ ‫ما ُس َّدت تلك االنفراجة لتتجمد الثلوج يف الصقيع ثانية بعد‬

‫االعتقال‪ ،‬ثم أعقبها بعمله الكبري‪« :‬أرخبيل غوالغ» يف ‪1965‬م‬ ‫(جزر املعتقالت) وسجل فيه من واقع رسائل املعتقلني إليه‬

‫عمليات التنكيل البشعة من عام ‪1918‬م إىل ‪1956‬م‪ ،‬وتمكن من‬ ‫تهريب الرواية إىل باريس حيث ُنشرت كما حدث مع رواية‪:‬‬

‫«دكتور زيفاغو» تأليف باسرتناك‬ ‫وغريها‪ .‬وال يستنكف الزعيم السوفييتي‬

‫ليونيد بريجنيف عن التصريح يف ‪7‬‬ ‫يناير ‪1974‬م داخل اجتماع رسمي وعل ًنا‬

‫ضوء جديد‪ ،‬ليتلمس الحقيقة بني ركام األكاذيب‪ .‬لهذا يرصد‬ ‫النقاد ‪ 12‬رواية من أصل ‪ 20‬رواية ُتدوولت يف روسيا عام ‪2016‬م‬

‫رواية «‬حلم حياة سوخانوف» ‬ألولغا غروشني‪ ،‬وتتناول وضع‬ ‫املرأة يف العهد السوفييتي‪ ،‬ورواية «‬التاريخ السري ملوسكو»‬

‫‬تأليف يكاترينا سديا‪ ،‬وفيها تستعرض الكاتبة حياة موسكو‬ ‫يف تسعينيات القرن العشرين‪ ،‬وأخريًا رواية «سانيكا» لزاخار‬ ‫بريلبني عن شخص عالق بني‬ ‫عهدين املايض الشيوعي والحاضر‬ ‫الرأسمايل‪ .‬كما فازت رواية‬

‫الكاتبة يليينا كوليادينا املسماة‬

‫بأن روايات سولجينتسني تمثل «هجاء‬ ‫ًّ‬ ‫فظا للسوفييت‪ ..‬ومن ثم فإن لدينا كل‬

‫الروسية يف عام ‪2010‬م‪ ،‬وفيها‬

‫وتظل البريوقراطية الحزبية تحكم‬

‫أرشيفية من القرن السابع عشر‬

‫املسوغات الكافية لوضعه يف السجن»!‬

‫وتنفي وتشيع الخوف إىل أن ظهرت‬

‫البريسرتويكا (سياسة إعادة البناء)‬

‫«الصليب املزهر» بجائزة البوكر‬ ‫تعتمد الكاتبة مباشرة عىل مواد‬

‫تسجل أحداث إحراق فتاة شابة‬

‫بتهمة مزاولة السحر‪‬‬‬‬.‬‬

‫‪85‬‬


‫قضايا‬

‫دوستويفسكي‬

‫االتجاه التاريخي ظهر ً‬ ‫أيضا يف رواية الكاتب املعروف فيكتور‬

‫السنوات األخرية فقد ظهرت كاتبة مثل ألكساندرا ماريننا منذ‬

‫الداخل‪ ،‬وتعيد النظر يف كل ما جرى‪ ،‬وقد ح ِّولت الرواية‬

‫وصلت مبيعات إحدى رواياتها إىل عشرة ماليني نسخة! ومن‬ ‫أشهر أعمالها رواية «خطوات الجنون الخفيفة»‪ ،‬وهناك ً‬ ‫أيضا‬

‫أستافييف «امللعونون والقتىل» التي تعري جوهر الحروب من‬ ‫إىل مسرحية عرضت يف عام ‪2010‬م عىل مسرح موسكو الفني‪،‬‬

‫والقت رواجً ا كبريًا‪ .‬ولعل أبرز ما يشري إىل اتجاه الرواية الروسية‬ ‫الحديثة إىل التاريخ بقوة هو منح جائزة نوبل للكاتبة سفيتالنا‬

‫ألكسيفتش عام ‪2016‬م‪ ،‬وعىل الرغم من الطابع الصحفي‬

‫ّ‬ ‫تصب يف مراجعة التاريخ السوفييتي‪ ،‬كما فعلت‬ ‫ألعمالها‪ ،‬فإنها‬

‫‪86‬‬

‫بولينا داشكوفا‬

‫بوريس أكونين‬

‫يف روايتها «أبناء الزنك» واملقصود بالزنك هو املادة التي تصنع‬ ‫منها توابيت جثث الجنود الروس العائدة من أفغانستان خالل‬

‫الحرب السوفييتية هناك ما بني عامي ‪1989 -1979‬م‪ .‬إذن تلوح‬ ‫الرواية التاريخية كأحد أهم التيارات األدبية الروسية الحديثة‪،‬‬

‫وأعتقد أن ذلك مفهوم ومربر حينما يجد اإلنسان أن عليه أن‬ ‫يعيد بناء تاريخه من منظور آخر أدبيًّا وفكريًّا وسياسيًّا‪.‬‬

‫عام ‪1995‬م بروايتها «الفصيح»‪ ،‬والكاتبة بولينا داشكوفا التي‬

‫بوريس أكونني ومن أشهر رواياته «مهمات خاصة» و«عشيقة‬

‫املوت» وغريها‪ .‬ويف مجال الخيال العلمي برز نيك بريوموف‬ ‫صاحب روايتي «وحدة الساحر» و«حارس السيوف»‪ ،‬وغريه‪.‬‬

‫وإذا نحينا جانبًا تياري «الرواية التاريخية» و«أدب التسلية‬ ‫الجماهريي» وهما األكرث انتشارًا وتحد ًدا شكلاً‬ ‫ً‬ ‫ومضمونا‪ ،‬فإن‬

‫العنوان العريض الذي يجمع التيارات األدبية األخرى هو «ما‬ ‫بعد الواقعية» ويف مقدمتها الواقعية السحرية‪ ،‬والسوريالية‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وأيضا‬ ‫والفانتازيا‪ ،‬والعودة إىل األساطري مادة للعمل الروايئ‪،‬‬ ‫التيار املعروف باسم «‪( »Nonfiction‬ضد القصة أو الالقصيص)‬

‫حيث يختلق الكاتب سريًا ذاتية لشخصية من العظماء‪ .‬ولعل‬

‫عىل صعيد آخر‪ ،‬ال يمكن تجاهل حقيقة أن التيار األدبي‬

‫أبرز نموذج عىل ذلك النوع رواية الكاتب بافل باسينسيك املسماة‬

‫البوليسية‪ ،‬وروايات الغرائز الجنسية والخيال العلمي‪.‬‬

‫قصة هروب الكاتب العمالق تولستوي منذ مئة عام من بيته يف‬ ‫ضيعته «ياسنايا بوليانا» ليلاً ‪ ،‬وهي من األحداث العائلية القليلة‬

‫األكرث رواجً ا هو تيار أدب التسلية الجماهريي‪ :‬أي الروايات‬

‫ويعود ذلك الرواج الهائل إىل النظرة السوفييتية السابقة إىل‬ ‫مثل ذلك النوع من األدب الذي حظرته عىل أساس أنه «غري‬ ‫هادف»‪ ،‬ومن ثم فإنه لم يكن عمليًّا متاحً ا للقراء عىل مدى‬ ‫أكرث من سبعني عامً ا‪ .‬وهي النظرة التي تجاهلت أن ذلك األدب‬ ‫الجماهريي بأنواعه خاطب ويخاطب دومً ا حاجة‬

‫اإلنسان امللحّ ة إىل التخفف من أعبائه بدرجة‬ ‫من الفن‪ ،‬وليس بكل أعماق الفن‪ .‬لهذا غرق‬

‫القارئ الرويس مع االنفتاح الفكري يف قراءة‬ ‫روايات أغاثا كريستي‪ ،‬وشرلوك هوملز‪ ،‬وجيمس‬

‫تشيس‪ ،‬ودارت بقوة عجلة الرتجمة يف ذلك‬ ‫االتجاه املربح‪ ،‬عىل الرغم من أن ذلك النوع ليس‬ ‫ً‬ ‫جديدا عىل األدب الرويس‪ ،‬فقد سبق أن كتبه‬

‫يف األربعينيات أدباء مثل‪ :‬ليونوف‪ ،‬ودانييل‬

‫كاريتسيك يف السبعينيات‪ ،‬وغريهما‪ .‬أما يف‬ ‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬

‫«ليف تولستوي‪ .‬الهروب من الجنة» وفيها يتخيل الكاتب وفق‬

‫ًّ‬ ‫جدا التي أصبحت جزءً ا من تاريخ األدب العاملي واهتماماته‪ .‬وقد‬ ‫أصبحت هذه الرواية أفضل كتاب بيع يف معرض الكتاب الدويل‬

‫الرويس بموسكو عام ‪2010‬م‪.‬‬


‫أين األدب الروسي اليوم؟‬

‫ليو تولستوي‬

‫وتشارك أجيال مختلفة يف خلق «أدب ما بعد الواقعية» من‬

‫بينها أدباء جيل الستينيات الذين عاصروا الحقبة السوفييتية‬

‫مثل‪ :‬فاضل إسكندر‪ ،‬وفالنتني راسبوتني‪ ،‬وفاسييل أكسيونوف‪،‬‬ ‫وغريهم‪ ،‬وأدباء جيل السبعينيات مثل‪ :‬فيكتوريا تاكورييفا‪،‬‬

‫وأندريه بيتوف‪ ،‬وغريهما‪ .‬أما الجيل الثالث فهو جيل األدباء‬ ‫الذين ظهروا بعد زوال االتحاد السوفييتي‪ ،‬مع سياسة إعادة‬ ‫البناء (بريسرتويكا) ويف مقدمتهم تاتيانا تولستايا بمجموعاتها‬

‫القصصية «الجدران البيضاء» ومجموعة «الدائرة»‪ ،‬وأيضا‬

‫الكاتب فيكتور بيليفن‪ ،‬وفالديمري سوروكني‪ ،‬وغريهم‪ .‬وهو‬ ‫الجيل الذي بدأ يكتب يف عصر ال يعرف الرقابة عىل األدب‪،‬‬

‫فاستهواه ما يسمى بتحطيم الطواطم املقدسة‪ ،‬أي الخوض يف‬ ‫كل ما كان محظورًا بشأن الجنس والعقيدة والسياسة‪.‬‬ ‫الخروج عىل النظرة التقليدية‬

‫عند نهايات القرن املايض تألق أدباء من جيل آخر تمامً ا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫موهبة واقتدارًا‪ ،‬مثل‪ :‬سريجي‬ ‫لعلهم أكرث أبناء الجيل الحديث‬

‫ً‬ ‫وأيضا الكاتب املبدع زاخار‬ ‫شارغونوف‪ ،‬والروايئ كوتشريجني‪،‬‬ ‫بريليبني الذي فازت روايته «الخطيئة» بجائزة «البوكر الرويس»‬ ‫التي تأسست عام ‪1991‬م يف روسيا ً‬ ‫وفقا لنموذج جائزة البوكر‬

‫الربيطانية بصفتها أول جائزة أدبية ضخمة يف روسيا منذ عام‬ ‫ًّ‬ ‫خاصا ألولئك‬ ‫‪1917‬م‪ ،‬وقد الحظ النقاد أن الجائزة تويل اهتمامً ا‬

‫الذين خرجوا عن طوع النظرة التقليدية‪ .‬عند أبناء ذلك الجيل‬ ‫الذي بدأ اإلبداع من دون رقابة‪ ،‬وفيما يكتبونه‪ ،‬سنشهد بقوة تلك‬

‫املرتكزات الفكرية التي تتقاسمها حركات أدبية عديدة يف العالم‪،‬‬

‫ويف مقدمة تلك املرتكزات اإليمان بأن عهد األيديولوجيا والقضايا‬ ‫الكربى قد وىل من زمن‪ ،‬وأن معنى الوطن قد اهتز وتبدل‪،‬‬

‫ولم يعد من املمكن التعلق بنموذج أو مثال يحتذى‪ ،‬وال الحلم‬ ‫َ‬ ‫بعالم فاضل‪ ،‬فقد سقط كل املثل‪ ،‬وأن معركة األدب الوحيدة‬

‫تدور ما بني اإلنسان وداخله‪ ،‬ويف عالم من ذكرياته الحميمة‪،‬‬ ‫وهواجسه‪ ،‬ولهذا كثريًا ما ي َّ‬ ‫ُركز عىل الشكل يف تلك األعمال‪،‬‬ ‫واألنا‪ ،‬والدوران املنهك حول الذات كنقطة انطالق ألي يشء‪ ،‬مع‬

‫ألكسندر بوشكين‬

‫تاتيانا تولستايا‬

‫يبقى التحدى األكبر أمام الجيل الجديد‬ ‫من الكتاب الروس متمث في العثور‬ ‫لاً‬ ‫على الطريق الذي يمتد من إنجازات‬ ‫األدب الروسي الكالسيكية العظيمة‬ ‫مفضيا في الوقت ذاته إلى مسارات‬ ‫ً‬ ‫جديدة وآفاق رحبة‪ ،‬تضيف الجديد إلى‬ ‫دفتر التفاعل الثقافي العربي الروسي‬ ‫إدارة الظهر للعالم الواقعي بمعناه القديم االعتيادي‪ ،‬فإن كان‬ ‫ثمة صراع قد َّ‬ ‫تبقى فإنه الصراع بني حرية الذات اإلنسانية والنظم‬ ‫الشمولية التي تسحق اإلنسان أينما كانت‪ ،‬ولعل أبرز ممثيل ذلك‬

‫االتجاه هو فيكتور بيليفني رغم انتمائه لجيل سابق‪ .‬وسينتبه من‬

‫يتابع إىل أن الرؤى الفكرية والفلسفية العامة التي امتاز بها األدب‬ ‫الرويس الكالسييك قد غربت تمامً ا يف أدب «مرحلة التحول»‪،‬‬ ‫فلم يعد يلوح أديب مثل ليف تولستوي صاحب الحرب والسالم‬

‫ونظرته األخالقية والفلسفية للعالم‪ ،‬وكيف ينبغي أن يكون‪،‬‬ ‫وال دوستويفسيك الذي حسب أن «الجمال سينقذ العالم» وأن‬

‫«الشفقة» وحدها هي القانون الذي يحكم الكون‪ .‬لن نرى يف أدب‬ ‫«مرحلة التحول» نظرة شاملة لإلنسان والكون إنما مجرد السري‬ ‫ً‬ ‫املنهك ً‬ ‫وبحثا عن هوية يف عالم تتداعى فيه‬ ‫بحثا عن نور وأمل‪،‬‬ ‫الهويات القومية والفكرية‪.‬‬

‫التفاعل الثقايف العربي الرويس‬ ‫يبقى التحدي األكرب أمام الجيل الجديد من الكتاب متمثلاً‬

‫يف العثور عىل الطريق الذي يمتد من إنجازات األدب الرويس‬ ‫الكالسيكية العظيمة مفضيًا يف الوقت ذاته إىل مسارات جديدة‬

‫وآفاق رحبة‪ ،‬تضيف الجديد إىل دفرت التفاعل الثقايف العربي‬ ‫الرويس الذي كتبت أول سطوره مع دخول اإلسالم آسيا الوسطى‬ ‫املتاخمة لروسيا يف القرن السابع امليالدي‪ ،‬وجنوب روسيا نفسها‬

‫‪87‬‬


‫قضايا‬

‫فاضل إسكندر‬

‫يف داغستان والشيشان بالقوقاز‪ ،‬ثم جاءت بعد ذلك رحلة‬

‫به أنه طلب االستماع إليه مرتلاً حني كان منفيًّا بني شعوب‬

‫فضالن إىل الفولغا»‪ ،‬وقدم فيه صورة الشعب الرويس للمرة‬

‫ً‬ ‫تحديدا يطلب محمد عيل باشا مؤسس‬ ‫‪1835‬م‪ ،‬ويف ذلك الوقت‬

‫ابن فضالن إىل روسيا مطلع القرن العاشر (‪922‬م) حني وصلها‬ ‫ً‬ ‫مبعوثا من بغداد لنشر اإلسالم‪ ،‬وكتب كتابه املسمى «رحلة ابن‬

‫األوىل إىل العرب‪ .‬ويف املقابل قدم الرحالون الروس صورة العرب‬

‫إىل روسيا ألول مرة يف كتاب «رحلة إيغومني دانييل إىل األرايض‬ ‫املقدسة يف القرن ‪ .»12‬وكان ذلك هو التعارف األول بني الثقافتني‪،‬‬

‫ومع نشأة األدب الرويس ظهر أثر الثقافة العربية بقوة لدى أمري‬

‫‪88‬‬

‫غائب طعمة فرمان‬

‫أبو بكر يوسف‬

‫الشعراء الروس ألكسندر بوشكني (‪1837 -1799‬م) مؤسس األدب‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وقصة‪ ،‬فقد قرأ بوشكني القرآن‬ ‫ورواية‬ ‫الرويس مسرحً ا وشعرًا‬ ‫الكريم مرتجمً ا باللغة الفرنسية واللغة الروسية‪ ،‬وبلغ من تأثره‬

‫آسيا املسلمة‪ ،‬ثم كتب قصيدته «قبسات من القرآن الكريم»‬ ‫ً‬ ‫الحقا «ليال مصرية» عام‬ ‫يف تسعة مقاطع عام ‪1824‬م‪ ،‬وكتب‬

‫نهضة مصر الحديثة من روسيا أن تساعده يف تعليم املصريني‬ ‫«التعدين» الستخراج الذهب من رمال السودان‪ .‬ويتصل ذلك‬

‫التفاعل يف القرن ‪ ،19‬فيعكف الروايئ العمالق ليف تولستوي‬

‫عىل ترجمة بعض أحاديث الرسول صىل الله عليه وسلم من‬ ‫اإلنجليزية إىل الروسية‪ ،‬ويصدرها عام ‪1909‬م يف كتاب بعنوان‪:‬‬

‫«حكم النبي محمد» مقدمً ا لها بدفاع حار عن اإلسالم‪ .‬وعندما‬ ‫حرمت الكنيسة تولستوي حقوقه كتب له اإلمام محمد عبده‬

‫زوال االتحاد السوفييتي أوقف الترجمة إلى العربية‬ ‫ال شك أن حركة الرتجمة قد قامت بدور كبري يف التفاعل الثقايف‪ ،‬ورسخت العالقات التاريخية السابقة عىل الرتجمة‪ ،‬وقد‬

‫بدأت تلك الحركة يف روسيا فعليًّا يف القرن ‪ 18‬عندما أمر القيصر بطرس األكرب (‪1725 -1672‬م) يف خضم بناء دولة حديثة بنسخ بقايا‬ ‫الكتابات العربية املحفوظة يف مدينة بلقار ذات األغلبية املسلمة وترجمة تلك الكتابات‪ ،‬ثم إنشاء أوىل مدارس املستعربني‪ ،‬ودخول‬ ‫اللغة العربية يف مناهج التعليم الثانوي عهد يكاترينا الثانية يف بعض املدن الروسية مثل أسرتاخان وغريها‪ .‬ويف عام ‪1804‬م بدأ‬

‫تدريس اللغات الشرقية يف الجامعات الروسية وأنئش أول قسم للغة العربية‪ .‬وبدأت تتسع حركة ترجمة الفكر واألدب من العربية‪.‬‬

‫وشهدت تلك الحركة وثبة عىل يدي املستشرق الكبري أغناتيوس كراتشكوفسيك (‪1951 -1883‬م) الذي ُعدت ترجمته القرآن الكريم‬ ‫أدق ترجمة أكاديمية مقارنة بما سبقها من محاوالت‪ ،‬كما ترجم أعدادًا كبرية من األعمال العربية‪،‬‬

‫وأشرف عىل إصدار «ألف ليلة» ونشر العديد من الدراسات واألبحاث املهمة قبل ثورة أكتوبر ‪1917‬م‪،‬‬

‫منها‪« :‬تشيخوف يف األدب العربي»‪ ،‬و«األدباء الروس يف العالم العربي» وغريهما‪ ،‬وساعده يف ذلك‬

‫أنه قىض عامني يف البلدان العربية‪ ،‬والتقى خاللهما طه حسني ومحمود تيمور وجورجي زيدان‬ ‫وآخرين من رواد النهضة الثقافية‪.‬‬

‫ويمكن التأريخ لحركة الرتجمة الحقيقية بأعمال كراتشكوفسيك‪ ،‬ومع ثورة ‪1917‬م وظهور‬

‫الدولة السوفييتية بثقل مصالحها االقتصادية والعسكرية تأسست عدة دور نشر يف روسيا‪ ،‬عكفت‬ ‫عىل ترجمة اآلداب العربية‪ ،‬ويف مقدمتها «دار التقدم»‪ ،‬و«دار رادوغا» (قوس قزح)‪ ،‬و«دار مري»‬

‫(السالم)‪ ،‬والقسم العربي يف «دار ناؤوكا» (العلم)‪ ،‬وقدمت تلك ال ُّدور ترجمات ممتازة ألعمال‬

‫عمالقة األدب الرويس‪ :‬تورجنيف وتشيخوف‪ ،‬قام بها األديب العراقي املعروف غائب طعمة فرمان‪،‬‬

‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬


‫أين األدب الروسي اليوم؟‬

‫رسالة بالفرنسية يهون فيها عليه قائلاً له‪« :‬وإن أكرب جزاء نلته‬

‫ودعوة املصريات لالقتداء بها‪ .‬وعندما بلغ نجيب محفوظ عامه‬

‫عىل متاعبك يف النصح واإلرشاد هو هذا الذي يسميه الغافلون‬

‫التسعني وكان نظره وسمعه قد ضعفا‪ ،‬سألته إحدى الصحف‬

‫اعرتاف منهم أعلنوه للناس أنك لست من القوم الضالني»‪ .‬ويرد‬

‫«الحرب والسالم لتولستوي»‪ .‬كما تأثر نعمان عاشور يف مسرحيته‬

‫بالحرمان واإلبعاد‪ ،‬فليس ما حصل لك من رؤساء الدين سوى‬ ‫تولستوي برسالة عىل خطاب اإلمام‪.‬‬

‫عن الرواية التي ما زال يذكرها يف هذه السن املتأخرة‪ ،‬فأجاب‪:‬‬

‫ومع بدايات تبلور الثقافة املصرية القومية يف ظل ثورة ‪1919‬م‬

‫«الناس اليل تحت» بمسرحية مكسيم غوريك «الحضيض»‪ ،‬وتأثر‬ ‫ً‬ ‫أحيانا‬ ‫يوسف إدريس بتشيخوف‪ ،‬واستمر ذلك التفاعل إىل يومنا‬

‫جناحي موباسان الفرنيس وأنطون تشيخوف الرويس‪ ،‬حتى إن‬

‫وما زالت هناك صفحات كثرية مجهولة لنا يف األدب‬

‫يقول األديب الكبري يحيى حقي‪ :‬إن القصة القصرية ولدت بني‬

‫أدباء تلك السنوات كانوا يجلسون يف املقاهي فريقني‪ :‬أنصار‬ ‫تشيخوف‪ ،‬وأنصار موباسان‪ .‬وال تخلو قصص األخوين عيىس‬

‫عبيد وشحاتة عبيد (‪1920‬م) من اإلشارة إىل املرأة الروسية ودورها‬

‫ً‬ ‫وأحيانا بضعف لكن من دون انقطاع‪.‬‬ ‫بقوة‬

‫الرويس‪ ،‬بعضها كتبها رحّ الون إىل منطقة الخليج يف القرن ‪،17‬‬

‫و‪ ،18‬وصفحات أخرى جديرة باالكتشاف والتعرف‪ ،‬مثلما أن‬

‫روسيا ما زالت حتى اليوم تكتشف الدنانري والدراهم العربية‬ ‫الذهبية يف املناطق الشمالية بها‪.‬‬

‫أجور الترجمة الزهيدة نسب ًّيا مع مشقة‬ ‫الترجمة أجبرت الكثيرين على تغيير‬ ‫مسارهم‪ .‬ويظل األمل في أن التفاعل‬ ‫الثقافي الروسي العربي سيعثر على‬ ‫طريقه لتستمر الثقافة واألدب في‬ ‫القيام بما قال عنه تولستوي «التعارف‬ ‫الروحي بين البشر»‬ ‫والدكتور أبو بكر يوسف‪ ،‬وغريهما‪ ،‬وعىل صعيد آخر استطاع املستعربون الروس أن يقدموا للقارئ الرويس معظم األعمال العربية‬

‫املهمة بالروسية‪ :‬رواية «زينب» لهيكل‪ ،‬وقصص محمد ومحمود تيمور‪ ،‬وعبدالرحمن الشرقاوي‪ ،‬ونجيب محفوظ‪ ،‬وبهاء طاهر‪،‬‬ ‫وتوفيق الحكيم‪ ،‬ويوسف إدريس‪ ،‬وطه حسني‪ ،‬بل استطاعت املستشرقة الكبرية فالرييا كريبتشنكو أن ترتجم كتاب «تخليص اإلبريز‬

‫يف تلخيص باريز» لرفاعة الطهطاوي وأن تنشره منذ عامني‪.‬‬

‫لكن حركة الرتجمة تلك توقفت تقريبًا مع زوال االتحاد السوفييتي وتراجع املصالح الروسية يف العالم العربي؛ بسبب توقف‬

‫دعم الدولة للمؤسسات الثقافية نهائيًّا‪ ،‬فوجد معظم املستعربني أنفسهم مرغمني عىل العمل يف مؤسسات تجارية خارج نطاق‬

‫العلم واللغة‪ .‬بينما بدأت حركة الرتجمة عندنا من الروسية إىل العربية يف وقت متأخر‪ ،‬مطلع القرن العشرين‪ ،‬لكن الرتجمات كلها‬ ‫كانت نقلاً من لغة وسيطة فرنسية أو إنجليزية‪ ،‬إىل أن ظهر يف منتصف الستينيات عدد من األساتذة العرب الذين أنهوا تعليمهم يف‬

‫روسيا‪ ،‬فأخذت تظهر للمرة األوىل ترجمات أدبية عربية مباشرة من الروسية تفادت كل أخطاء الرتجمة من لغات وسيطة‪.‬‬

‫إال أن حركة الرتجمة عندنا من الروسية إىل العربية قد توقفت عندنا هي األخرى تقريبًا‪ ،‬وهذا ألن سلسلة الدارسني العرب يف‬

‫روسيا قد انقطعت منذ نحو عشرين عامًا‪ ،‬بعد أن توقفت روسيا عن تقديم املنح الدراسية املجانية‪ ،‬مع هزال البعثات العلمية العربية‬ ‫إىل روسيا‪ ،‬بحيث لم يبق عىل الساحة الثقافية إال عدد قليل من املرتجمني العرب األ ْكفاء ممن تعلموا يف الستينيات والسبعينيات من‬

‫القرن املايض‪ .‬من ناحية أخرى فإن أجور الرتجمة الزهيدة نسبيًّا مع مشقة الرتجمة أجربت الكثريين عىل تغيري مسارهم‪ .‬ومع ذلك‬

‫يظل األمل يف أن التفاعل الثقايف الرويس العربي سيعرث عىل طريقه لتستمر الثقافة واألدب يف القيام بما قال عنه تولستوي «التعارف‬ ‫الروحي بني البشر»‪ ،‬ويتزايد هذا األمل بعد أن تحرر األدب الرويس من أقدام الرقابة واالستبداد التي داسته طويلاً ‪.‬‬

‫ذات يوم قال الشاعر الداغستاين الكبري أبو طالب غفوروف‪« :‬ال تطلق رصاص مسدسك عىل املايض ليك ال يفتح املستقبل عليك‬

‫نريان مدافعه»‪ ،‬وقد داست املرحلة السوفييتية بعنف عىل زهور كثرية‪ ،‬وآمال كبرية‪ ،‬وسحقتها‪ ،‬فأخذ األدب الرويس الحديث اآلن‬ ‫يفتح عليها نريانه وهو يجول بعينيه ً‬ ‫بحثا لنفسه عن درب تستقر عليه قدماه‪.‬‬

‫‪89‬‬


‫قضايا‬

‫محنة الك ّتاب الروس مع قادة الكرملين‪..‬‬

‫من لينين إلى بوتين‬

‫‪90‬‬

‫جودت هوشيار‬

‫كاتب عراقي‬

‫كان البالشفة قبل استيالئهم على السلطة في روسيا ينادون بحرية الرأي والتعبير‪ ،‬وينددون‬ ‫بالرقابة المفروضة على المطبوعات‪ ،‬واضطهاد الكتاب والشعراء والمفكرين‪ .‬ولكنهم بعد وصولهم إلى‬ ‫السلطة تناسوا شعاراتهم الديماغوجية‪ ،‬ومارسوا أعتى أنواع الرقابة على المطبوعات‪ ،‬واضطهدوا كل‬ ‫مفكر ومبدع ال يخضع لمقاييس الحزب الحاكم األيديولوجية‪ .‬واتخذ العلماء واألدباء الروس المعروفون‬ ‫مواقف متباينة من النظام الجديد‪ .‬هاجر عدد كبير منهم إلى البلدان األوربية‪ ،‬أما معظم الباقين فقد‬ ‫اتخذ موقف التوجس واالنتظار‪ .‬ولم يؤيد الثورة البلشفية إال عدد قليل من المفكرين واألدباء‪.‬‬ ‫فالديمير بوتين‪ ،‬وجوزيف ستالين‪ ،‬وفالديمير لينين‬ ‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬


‫أين األدب الروسي اليوم؟‬

‫يف عام ‪1922‬م قامت السلطة‬

‫السوفييتية برتحيل نخبة من خرية‬

‫املفكرين والفالسفة واألدباء الروس‬ ‫الرافضني للحكم الجديد إىل الخارج‪،‬‬

‫يف باخرة سميت فيما بعد بـ«باخرة‬

‫ً‬ ‫شخصا‪ ،‬وأعقبتها‬ ‫الفالسفة» تضم ‪160‬‬

‫بواخر أخرى مماثلة‪ .‬وقد ب ّرر تروتسيك‬

‫وكان ال يزال أحد القادة الكبار يف‬‫النظام البلشفي‪ -‬هذا الرتحيل الجماعي‬ ‫قائلاً ‪« :‬إننا نرحل هؤالء الناس؛ ألنه‬

‫ليس ثمة مربر إلعدامهم‪ ،‬ولكننا ال نحتمل بقاءهم»‪.‬‬ ‫آلة القتل الستالينية‬

‫بعد وفاة لينني يف أوائل عام ‪1924‬م استطاع جوزيف‬

‫ستالني‪ ،‬الذي كان أحد قادة السلطة الجديدة‪ ،‬تشديد قبضته‬ ‫عىل الحكم تدريجيًّا بالقضاء عىل منافسيه وتصفيتهم‪،‬‬

‫الواحد بعد اآلخر‪ .‬كان النظام الشمويل يرى يف كل زاوية‬ ‫عدوًّا‪ ،‬ويف كل كلمة حق مؤامرة إمربيالية‪ .‬وكان مصري كل‬ ‫كاتب أو شاعر ينتقد النظام هو اإلعدام أو االعتقال والنفي إىل‬

‫أقايص سيبرييا‪ .‬يف ‪ 15‬أغسطس ‪1934‬م أرسل ستالني تعليمات‬

‫سرية إىل الزار كاغانوفيج أحد أقطاب النظام السوفييتي حول‬ ‫كيفية التعامل مع األدباء‪ ‬يقول فيها‪« :‬ينبغي التوضيح لكل‬

‫األدباء‪ ،‬أن اللجنة املركزية للحزب وحدها هي صاحبة األمر‬ ‫والنهي يف األدب‪ ،‬كما يف املجاالت األخرى‪ ،‬وينبغي عليهم‬ ‫الخضوع لها من دون مناقشة»‪ .‬لكن ستالني كان يف حاجة إىل‬ ‫واجهة ثقافية أمام العالم‪ ،‬ولم يجد خريًا من غوريك –الذي‬ ‫كان قد غادر روسيا عام ‪1921‬م‪ ،‬بعد خالفه مع لينني‪ -‬للقيام‬

‫بهذا الدور‪ ،‬واستطاع إقناعه بالعودة إىل روسيا‪ .‬لم تكن صحة‬

‫غوريك يف سنواته األخرية عىل ما يرام‪ ،‬وتويف عام ‪1936‬م؛ مما‬

‫شكل صدمة كبرية للكتاب والشعراء املستقلني‪ ،‬ألن غوريك‬ ‫‪-‬بشخصيته الكاريزمية ونفوذه املعنوي وعالقته بستالني‪-‬‬

‫كان حاميًا لهم من االضطهاد‪ .‬وحدث ما كان يخشاه الكتاب‬

‫نيكيتا خروتشوف‬

‫ليون تروتسكي‬

‫الشيوعي) عام ‪1956‬م‪ ،‬وخطاب خروتشوف الشهري الذي‬

‫كشف فيه النقاب عن جرائم ستالني‪.‬‬

‫تميزت هذه الفرتة يف الحياة الثقافية بإعادة االعتبار‬

‫إىل معظم ضحايا العهد الشمويل ومن ضمنهم الشعراء‬

‫والكتاب‪ ،‬وإطالق سراح املعتقلني منهم‪ ،‬وتخفيف الرقابة عىل‬ ‫املطبوعات واملسرح والسينما والفنون األخرى؛ إذ أصبح ممك ًنا‬ ‫تسليط بعض الضوء عىل الجوانب السلبية للواقع السوفييتي‪.‬‬ ‫وأصبحت مجلة «العالم الجديد» األدبية املنرب الرئيس‬

‫للكتاب األحرار؛ حيث نشرت املجلة العديد من األعمال األدبية‬ ‫املتميزة؛ منها‪ :‬رواية‪« ‬ليس بالخبز وحده يعيش اإلنسان»‬

‫لفالديمري دودنتسوف‪ ،‬ورواية ألكسندر سولجينتسني «يوم‬

‫واحد يف حياة إيفان دينيسوفيتش» اللتان ترجمتا إىل العديد‬ ‫من لغات العالم‪ .‬ويف عام ‪1957‬م نشرت يف ميالنو رواية بوريس‬ ‫باسرتناك «دكتور جيفاغو» الذي نال عنها يف العام التايل جائزة‬

‫نوبل لآلداب‪ .‬كان بعض املتزمتني يف القسم األيديولوجي للحزب‬ ‫الشيوعي يح ّرض خروتشوف ضد األدباء األحرار‪ ،‬وينتهز كل‬

‫هفوة لهم للنيل منهم‪ ،‬وجاءت الفرصة الذهبية لهؤالء حني‬ ‫اتخذوا من نشر الرواية يف الخارج ذريعة لشن حملة شعواء‬

‫ضد باسرتناك‪ ،‬وإرغامه عىل رفض الجائزة‪ .‬ولكن التيار الليربايل‬ ‫يف اآلداب والفنون كان يكسب مواقع جديدة كل يوم؛ إذ برزت‬ ‫يف بداية الستينيات نخبة موهوبة من الكتاب والشعراء الشباب‬

‫الذين شكلوا ظاهرة أدبية جذبت األنظار‪ .‬وقد أطلق عليهم النقاد‬

‫املستقلون؛ إذ طحنت آلة القتل الستالينية يف السنوات التالية‬

‫اسم «جيل الستينيات» وأصبحوا منابر إبداعية للتعبري عن آمال‬

‫وأزالت أسماءهم أينما وردت‪.‬‬

‫األدباء وأساليبهم األدبية‪ .‬وقد أسعدين الحظ أن أحضر العديد‬

‫خربة الكتاب والشعراء والفنانني‪ .‬وحظرت السلطة نتاجاتهم‬

‫فرتة ذوبان الجليد‬

‫بعد وفاة ستالني ببضع سنني حلت فرتة «ذوبان الجليد»‪،‬‬

‫وهي االسم غري الرسمي للسنوات العشر (‪1964-1954‬م) التي‬ ‫توىل فيها نيكيتا خروتشوف (‪1971 -1894‬م) الحكم يف البالد‪.‬‬

‫وكانت فرتة قصرية شهدت انعقاد (املؤتمر العشرين للحزب‬

‫الشباب السوفييتي وتطلعاتهم‪ ،‬رغم اختالف مشارب هؤالء‬

‫من اللقاءات األدبية الجماهريية يف القاعات واملسارح واملالعب‬ ‫ّ‬ ‫تغص بآالف الشباب الذين جاؤوا من كل‬ ‫الرياضية التي كانت‬ ‫حدب وصوب لالستماع إىل قصائد هذه النخبة املبدعة من الشعراء‬

‫الشباب (يفغيني يفتوشينكو‪ ،‬وروبرت روجديستفنسيك‪ ،‬وأندريه‬ ‫فوزنيسينسيك‪ ،‬وبيال أحمدولينا) وقصص فالديمري تيندرياكوف‪،‬‬

‫وفاسييل أكسيونوف‪ ،‬وفيكتور أستافيف‪.‬‬

‫‪91‬‬


‫قضايا‬

‫ولم تخل هذه الفرتة من تدخل‬

‫الكرملني يف الشؤون الثقافية‪ ،‬فقد جمع‬ ‫خروتشوف األدباء الشباب بحضور جمع‬ ‫كبري من أبرز األدباء السوفييت يف إحدى‬

‫قاعات الكرملني عام ‪1963‬م؛ لتهديدهم إن‬

‫لم يلتزموا بمدرسة الواقعية االشرتاكية‪.‬‬ ‫ً‬ ‫الحقا يف مذكراته‬ ‫وقد اعرتف خروتشوف‬ ‫التي نشرت يف أوائل السبعينيات يف‬ ‫الخارج‪ ،‬بأن املسؤول األيديولوجي يف‬

‫الحزب قد ح َّرضه ضد األدباء الشباب‪،‬‬

‫ميخائيل غورباتشوف‬

‫السري بعقد ندوات جماهريية (تثقيفية) يف املصانع ومؤسسات‬

‫وأنه يأسف لذلك‪ .‬ظلت الرقابة الحزبية والحكومية عىل األعمال‬ ‫ّ‬ ‫أخف‪ .‬فعىل‬ ‫الفكرية واإلبداعية مستمرة وإن كانت عىل نحو‬

‫الدولة للتنديد بالكتاب املتمردين‪ ،‬والتشهري بهم‪ .‬والطريف يف‬

‫إهرنبورغ‪« :‬الناس واألعوام والحياة» ومن كل األعمال التي تعرب‬

‫وكان كل من لم يقرأ أعمالهم يحاول الحصول عليها بأي ثمن‪.‬‬

‫سبيل املثال حذفت الرقابة فقرات كثرية من مذكرات إيليا‬ ‫بصدق عن الواقع السوفييتي املرير‪.‬‬ ‫ركود وأدب سري‬

‫يف أكتوبر ‪1964‬م‪ُ ،‬عزل خروتشوف عن السلطة وتوىل‬

‫ليونيد بريجينيف (‪1982-1906‬م) مقاليد األمور‪ .‬دشن بريجينيف‬

‫‪92‬‬

‫ليونيد بريجينيف‬

‫عهده بالتضييق عىل حرية التعبري‪ .‬وجرت بني خريف ‪1965‬م‬ ‫وشباط ‪1966‬م محاكمة الكاتبني سينيافسيك ودانيل؛ إذ حكم‬

‫عىل األول بالسجن سبع سنوات وعىل الثاين خمس سنوات‬ ‫بدعوى تهريب بعض أعمالهم األدبية املحظورة‪ ،‬ونشرها‬

‫خارج البالد‪ .‬شهدت هذه الفرتة نوعني‬ ‫من األدب‪ :‬أولهما – األدب العلني امللتزم‬

‫بقواعد الواقعية االشرتاكية‪ .‬وثانيهما‪:‬‬

‫األدب السري املتداول يف الخفاء واملطبوع‬ ‫أو املستنسخ بوسائل بدائية‪ ،‬حيث‬

‫لم تكن أجهزة االستنساخ الحديثة‬ ‫والكمبيوتر قد شاعت بعد‪ .‬ومن أشهر‬

‫املطبوعات السرية يف تلك الفرتة مجلة‬ ‫«ميرتوبول» التي صدر أول عدد منها‬

‫عام ‪1970‬م وكانت مجلة فكرية وأدبية‬

‫األمر أن هذه الندوات شكلت دعاية مجانية لألدباء املتمردين‪.‬‬

‫الربيسرتويكا ونشر املحظور‬

‫كان ميخائيل غورباتشوف الذي توىل السلطة عام‬

‫‪1984‬م‪ ،‬يدرك أن حظر نشر نتاجات أي كاتب أو شاعر يؤدي‬

‫إىل تعظيم دوره وزيادة تأثريه يف مجتمع يعشق قراءة األعمال‬ ‫األدبية مثل املجتمع الرويس‪ ،‬ولهذا ُخ ِّففت الرقابة الحكومية‬ ‫عىل املطبوعات ثم أُلغيت‪ .‬خالل فرتة الربيسرتويكا ُنشرت‬

‫أهم األعمال األدبية املحظورة يف الحقبة السوفييتية السابقة‬

‫للكتاب والشعراء الذين قتلهم ستالني أو قضوا أجمل‬ ‫سنوات أعمارهم يف معتقالته‪ .‬كما‬

‫عاد إىل القارئ الرويس‪ ،‬كل النتاجات‬ ‫اإلبداعية ألدباء املهجر الذين كانت‬

‫السلطة يف الفرتات السابقة تستخف‬ ‫بهم‪ ،‬وتمنع تداول كتبهم داخل البالد‪.‬‬

‫أراد بوريس يلتسني بعد وصوله‬

‫إىل قمة السلطة عام ‪1991‬م أن يستنسخ‬ ‫التجربة الغربية يف االنتقال إىل الليربالية‬

‫واقتصاد السوق من دون توافر املقدمات‬

‫بوريس يلتسين الضرورية لذلك‪ ،‬فدبَّت الفوىض يف‬

‫غري دورية‪ ..‬وقد أثارت املجلة سخط السلطة‪ ،‬فلجأت إىل طرد‬

‫مفاصل املجتمع والدولة‪ .‬وشملت الفوىض الحياة الثقافية‬ ‫ً‬ ‫أيضا‪ ،‬ولم يعرف عن يلتسني اهتمامه باآلداب والفنون‪ .‬وكان‬

‫‪ ‬ولم يقتصر االضطهاد عىل جماعة «ميرتوبول»‪ ،‬ففي‬

‫دور النشر الروسية‪ ،‬التي كانت ترفض نشر األعمال الروسية‬ ‫الجادة بدعوى أنها ال تجد إقبالاً يف السوق‪ .‬وأصبح الطريق‬

‫بعض املشرفني أو املساهمني فيها إىل الخارج‪ ،‬وزجّ بعض آخر‬ ‫يف املصحّ ات العقلية والنفسية‪.‬‬

‫عام ‪1972‬م حكم عىل الشاعر جوزيف برودسيك (‪1996 – 1940‬م)‬ ‫بالنفي إىل قرية نائية يف أقىص الشمال الرويس‪ .‬وبعد انتهاء‬ ‫مدة نفيه ُنزعت الجنسية السوفييتية منه ُ‬ ‫وطرد من البالد‪.‬‬ ‫كانت السلطة تحاول محو اآلثار السلبية الناجمة عن النشر‬ ‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬

‫األدب األمرييك الجماهريي أو الشعبي يف مقدمة اهتمامات‬

‫ً‬ ‫سالكا أمام كل من يعرف اختالق القصص الهابطة فنيًّا ونظم‬

‫الشعر الرديء‪ .‬وجرى إلغاء الدعم الحكومي لالتحادات األدبية‬

‫والفنية‪ .‬وكانت فرتة انتقالية صعبة يتذكرها الروس بمرارة‪.‬‬


‫أين األدب الروسي اليوم؟‬

‫بوتني يضيق الخناق عىل الكتاب‬

‫منذ تويل فالديمري بوتني زمام السلطة تراجعت حرية‬ ‫التعبري وأخذت تضيق شي ًئا فشي ًئا‪ .‬وأصبحت كل وسائل‬ ‫اإلعالم اليوم خاضعة للتوجيهات الرسمية‪ .‬ولم َ‬ ‫تبق أي قناة‬

‫يعقد بوتني‪ ،‬بني حني وآخر لقاءات ‪-‬ينظمها مكتبه‬

‫اإلعالمي– مع عدد مختار من الكتاب املعروفني ملناقشة‬ ‫بعض القضايا األدبية‪ ،‬من قبيل كيفية الحفاظ عىل نقاوة‬

‫اللغة الروسية من التشويه واالبتذال‪ ،‬أو تطوير املقررات‬

‫تلفزة خاصة أو مستقلة يف البالد‪ ،‬وباتت كلها حكومية‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وتف َرض عىل برامجها رقابة سياسية صارمة‪ .‬وتمارس هذه‬ ‫لاً‬ ‫القنوات تضلي إعالميًّا واسع النطاق للرأي العام‪ ،‬وتدغدغ‬

‫والعقبات التي تحول دون نشر األعمال األدبية‪ .‬ويف العادة‬

‫ترفيهي‪،‬‬ ‫اإلمرباطوري لألجداد‪ ،‬والقسم األكرب من برامجها‬ ‫ّ‬

‫املوالني للسلطة‪ ،‬وإىل بعض الكتاب املعارضني؛ إلضفاء ج ّو‬

‫مشاعر البسطاء عن طريق التغني بالدولة العظمى واملجد‬ ‫وإن كانت تقدم بني حني وآخر لقاءات مع كتاب موالني‬

‫للسلطة‪ ،‬أو تنقل االحتفاالت الخاصة بمنحهم جوائز‬

‫الدولة التقديرية‪ .‬‬

‫الخاصة باألدب يف املدارس‪ ،‬أو مشاكل اتحاد األدباء ‪-‬الذي‬ ‫انشطر إىل اتحادات عدة بعد تفكك االتحاد السوفييتي‪-‬‬

‫توجه الدعوات لحضور مثل هذه اللقاءات إىل الكتاب‬ ‫من الحيوية عىل اللقاء‪ ،‬ألن عدم وجود أي صوت معارض‬ ‫يحوّل أي لقاء من هذا النوع إىل حوار السلطة مع نفسها‪.‬‬ ‫ويرفض معظم الكتاب األحرار الدعوة املوجهة إليهم للقاء‬

‫الجيل الجديد الذي ترعرع بعد تفكك االتحاد‬

‫رئيس الدولة‪ ،‬خشية توجيه االتهام لهم بالتعاون مع‬ ‫السلطة‪ .‬ويرى بعض الك ّتاب املعارضني (بوريس أكونني‪،‬‬

‫واملنافسات الرياضية‪ ،‬ومواقع التواصل االجتماعي‪،‬‬

‫لطرح القضايا امللحّ ة التي تهم الرأي العام؛ مثل‪ :‬الرقابة‬

‫السوفييتي‪ ،‬لم يعد يهتم كثريًا بالكتب الجادة‪ ،‬بل يتابع‬ ‫بشغف الربامج التلفزيونية املعادية للغرب‪ ،‬واملسلسالت‪،‬‬ ‫والوسائط املتعددة‪ .‬وتراجع دور الكاتب أو الشاعر يف‬

‫املجتمع‪.‬‬

‫وإدوارد ليمونوف) ضرورة انتهاز مثل هذه الفرص النادرة‬

‫السياسية املفروضة عىل التلفزيون‪ ،‬وانتهاك حقوق‬ ‫اإلنسان‪ ،‬ومحاكمة بعض الك ّتاب‪ ،‬منهم (يوري بيتوخوف‪،‬‬

‫‪ ‬ثمة عدد كبري من دور النشر والصحف واملجالت ومن‬

‫وتريوخليبوف‪ ،‬ومريونوف) وسحب كتبهم من السوق‬

‫ولكنها تتجنب نشر ما يغضب السلطة‪ ،‬فثمة عشرات‬

‫إجابات بوتني عن أسئلة الك ّتاب تكون يف العادة شافية‬ ‫ً‬ ‫وأحيانا مراوغة‪ ،‬ونادرًا ما تكون قاطعة‪،‬‬ ‫وتتسم بالهدوء‪،‬‬

‫ضمنها املجالت األدبية (السميكة) التي تدعي االستقاللية‪،‬‬

‫السبل لخنق دار النشر أو الصحيفة أو املجلة‪ ،‬أو تهميش‬

‫الكاتب‪ ،‬وأهمها قانون املطبوعات بموا ّده املطاطية التي‬

‫يمكن تفسريها عىل هوى الحكومة‪ ،‬وهناك الجوائز األدبية‬ ‫ّ‬ ‫ومتمل ًقا له‪ .‬وهذا ال‬ ‫التي ال تمنح إال مَ ن كان ظلاًّ للحاكم‬ ‫يعني أن ثمة قيودًا مباشرة عىل الكاتب‪ .‬فأي كاتب يمكن‬ ‫أن يكتب ما يشاء‪ ،‬ولكن عمله قد ال يرى النور‪ ،‬أو يطبع يف‬

‫أضيق الحدود‪ ،‬وال يصل إىل معظم أنحاء البالد‪.‬‬

‫يعقد بوتين بين حين وآخر لقاءات‬ ‫مع عدد مختار من الكتاب المعروفين‬ ‫لمناقشة بعض القضايا األدبية‪ ،‬من‬ ‫قبيل كيفية الحفاظ على نقاوة اللغة‬ ‫الروسية من التشويه واالبتذال‪ ،‬أو‬ ‫تطوير المقررات الخاصة باألدب في‬ ‫المدارس‪ ،‬أو مشاكل اتحاد األدباء‬ ‫الذي انشطر إلى اتحادات عدة بعد‬ ‫تفكك االتحاد السوفييتي‬

‫ومصادرتها الحتوائها عىل آراء قومية أو دينية متطرفة‪.‬‬

‫لكن ينبغي أن يقال‪ :‬إنه ال ينزعج من أي سؤال‪ ،‬وال يرفض‬ ‫اإلجابة عنه‪ .‬بعض الكتاب املعارضني يعتقد أن الغرض من‬

‫عقد هذه اللقاءات‪ ،‬قبيل كل دورة انتخابية‪ ،‬ليس االهتمام‬ ‫باألدب واألدباء‪ ،‬بل ألغراض دعائية لكسب الناخبني‪ .‬ونصح‬ ‫كاتب جريء بوتني بالتقاط الصور ليس فقط عىل خلفية‬ ‫صاروخ (توبول) ولكن ً‬ ‫أيضا عىل خلفية أرفف الكتب أو ما له‬ ‫عالقة باألدب‪.‬‬

‫معظم الجيل الجديد من الكتاب الروس يلهث وراء‬

‫التقليعات الشائعة يف اآلداب الغربية الحديثة‪ .‬وليس يف روسيا‬ ‫اليوم سوى عدد محدود جدًّ ا من الكتاب املجيدين‪ .‬ويتساءل‬

‫النقاد يف الغرب‪« :‬هل مات األدب الرويس؟» وملاذا لم يعد يف‬ ‫روسيا اليوم ك ّتاب عمالقة بمستوى تولستوي ودوستويفسيك؟‬ ‫ويذهب هؤالء النقاد يف تفسري ذلك مذاهب شتى‪ .‬لكننا نرى أن‬

‫السبب الرئيس لتخلف األدب الرويس املعاصر‪ ،‬ال يرجع فقط إىل‬ ‫ظهور وسائل جديدة لنشر املحتوى األدبي‪ ،‬أو أن السوق أخذت‬ ‫تفرض ً‬ ‫نوعا معي ًنا من النتاجات الخفيفة‪ ،‬التي تشبه الـ«فاست‬

‫فود» يلتهمها اإلنسان بسرعة وينساها بسرعة أكرب‪ ،‬بل يكمن‬

‫أساسً ا يف تضييق نظام بوتني الخناق عىل حرية الرأي والتعبري‪.‬‬ ‫وال يوجد أدب حقيقي وعظيم من دون حرية الكلمة‪.‬‬

‫‪93‬‬


‫قضايا‬

‫بوتين‬ ‫إستراتيجية ملء الفراغات‬ ‫وواقعية الطموح‬ ‫آبه محمد المختار‬

‫كاتب موريتاني‬

‫يف تلك الليلة الهيستريية املجنونة‪ ،‬جاءت الجموع‬

‫غضبى‪ ،‬ثائرة‪ ،‬تهمُّ بتكسري واقتحام أسوار وأبواب مقر‬

‫االستخبارات الروسية (يك ‪ -‬جي – بي) يف مدينة «دريسد»‬

‫األملانية بعد أن أجهزت قبل ذلك‪ ،‬عىل مكاتب جهاز استخبارات‬ ‫أملانيا الشرقية (شتازي) ومزقت وأحرقت بعض محتوياته‪ .‬ليلة‬

‫‪94‬‬

‫سقوط جدار برلني‪ ،‬يف ‪ 9‬نوفمرب ‪1989‬م‪ ،‬كانت حلقة فاصلة‬

‫يف انهيار الشيوعية وتفكك إمرباطورية االتحاد السوفييتي‪.‬‬ ‫وها هو رمز من رموز النفوذ السوفييتي يف أوربا الغربية مهدد‬

‫باالقتحام‪ ،‬يلف به متظاهرون يرومون العبث بمخزون مرعب‬ ‫من األسرار واملعلومات الحساسة‪ .‬خارج املبنى يزداد الهرج‪،‬‬

‫ويتصاعد التوتر‪ ،‬ويف الداخل يحاول موظفو املخابرات الروسية‬ ‫االتصال بمقرهم الرئيس يف موسكو؛ لتلقي التعليمات عن‬ ‫كيفية التعامل مع هذا الخطر الداهم‪ .‬لكن موسكو –يف تلك‬

‫الليلة‪ -‬لم ترد‪.‬‬

‫فجأة يخرج ضابط من املبنى ويتجه نحو الجموع‬

‫الهائجة‪ ،‬وبلغة حازمة وهادئة يقول‪« :‬أريد منكم الرتاجع عن‬ ‫اقتحام هذا املبنى‪ .‬أنا هنا بالداخل ومعي فريق مسلح‪ ،‬عىل‬ ‫استعداد أن يطلق النار‪ .‬ال أريد أن يقع ذلك»‪ .‬بعد لحظات من‬

‫الصمت‪ ،‬يتفرق الجمع وينسحب املتظاهرون‪ .‬االسم الكامل‬ ‫لذلك الضابط هو املقدم فالديمري فالديمريوفيتش‬ ‫بوتني‪ .‬ستدوّن الحادثة يف امللف الشخيص‬

‫للضابط واملحفوظ يف سجل املخابرات‬ ‫الروسية‪ ،‬ثم ُتذيَّل بتقييم مختصر يقول‪:‬‬ ‫«لديه القدرة عىل مواجهة الطوارئ مع‬

‫إحساس منخفض باملخاطر»‪ .‬كانت هذه‬

‫أول مناسبة مشهودة يتاح فيها لضابط‬ ‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬


‫أين األدب الروسي اليوم؟‬

‫االستخبارات املغمور أن يمأل لحظة فراغ‪ .‬وستتكرر اللحظات‬ ‫يف مناسبات أخرى‪.‬‬

‫تأيت الثانية منها‪ ،‬بعد ذلك بعشرة أعوام‪ ،‬عندما زار أحد‬

‫أباطرة املال واألعمال من ذوي النفوذ طوال فرتة حكم الرئيس‬

‫بوريس يلتسني‪ ،‬مدينة بياريتز‪ ،‬يف جنوب غرب فرنسا‪ ،‬حيث‬

‫يقيض مدير خدمة األمن الفيدرايل‪ ،‬حينها‪ ،‬فالديمري بوتني‬ ‫ً‬ ‫عرضا مفاج ًئا‪ .‬كانت جمهورية‬ ‫إجازته العائلية‪ ،‬فيقدم له‬ ‫روسيا االتحادية‪ ،‬بعد مرور عقد من الزمان عىل تفكك االتحاد‬

‫السوفييتي‪ ،‬تعيش أواخر حقبة الرئيس بوريس يلتسني (أول‬

‫رئيس منتخب يف الجمهورية الجديدة)‪،‬‬

‫كرايس ستتكرر باملعكوس بعد انقضاء والية‬ ‫الوزراء‪ ،‬يف لعبة‬ ‫ّ‬

‫«ميدفيديف» األوىل‪ ،‬ليستعيد «القيصر» كامل سلطة لم يفقد‬ ‫منها الكثري أصلاً ‪.‬‬

‫كانت فرتات بوتني األوىل مخصصة إلرساء قواعد حكمه‪،‬‬

‫و«بناء روسيا من الداخل» وها هو‪ ،‬مع عودته الثانية‪،‬‬

‫يطمح إىل أن يستعيد مكانتها اإلقليمية والدولية‪ .‬وستتيح‬ ‫له األحداث شي ًئا من ذلك‪ .‬كانت فرتة حكم الرئيس األمرييك‬ ‫باراك أوباما‪ ،‬مألى بالفراغات الناجمة عن تخيل أمرييكا‪ ،‬يف‬ ‫عهده‪ ،‬عن جزء من هويتها اإلمرباطورية‪ ،‬فتعددت الساحات‬ ‫الخالية واملساحات الرخوة يف الجغرافيا‬ ‫ً‬ ‫شرقا‬ ‫اإلسرتاتيجية للعالم‪ .‬اتجه بوتني‬

‫وما طبعها من تدهور اقتصادي فاقمه‬

‫ليرُ يس شراكة اقتصادية مع الصني‪ ،‬ولوّح‬

‫تفيش الفساد وتحكم رجاالت املال‬

‫بعضالته غربًا ليحمي خطوط التماس مع‬

‫واألعمال يف مفاصل الدولة‪ .‬وكانت‬

‫أوربا‪ ،‬فكانت أزمة أوكرانيا واحتالل جزيرة‬ ‫القرم‪ .‬وها هو الشرق األوسط املُغري دائمً ا‬

‫شلة «األوليغرشية» املحيطة بيلتسني‬ ‫ّ‬ ‫بمقدرات البلد‪ ،‬تحتاج‬ ‫واملمسكة‬

‫وامللتهب دومً ا‪ ،‬يغريه بأن يضع قدمً ا يف‬ ‫ِ‬

‫لخليفة‪ ،‬لديه من الحزم والقوة‬

‫ما يخرج روسيا من حالة الفوىض‬ ‫والرتدي‪ ،‬ومن الوفاء واالنصياع‪ ،‬ما‬

‫يضمن استمرار نفوذ «أولياء نعمه»‬ ‫ً‬ ‫الحقا‪ ،‬ستصدق فراستهم يف األوىل‪ ..‬ويخيب ظنهم‬ ‫الجدد‪.‬‬

‫يف الثانية‪ .‬اختري بوتني ليشغل منصب رئاسة الوزراء‪ ،‬وبدأت‬ ‫نهاية عهد يلتسني تتسارع َّ‬ ‫فقدم استقالته فجأة مع نهاية عام‬

‫‪1999‬م ليتوىل ضابط املخابرات السابق‪ ،‬ورئيس الوزراء املعني‬ ‫ً‬ ‫حديثا‪ ،‬اختصاصات رئيس‪ ‬روسيا االتحادية‪ ‬بالوكالة‪ ،‬ثم‬ ‫ي َ‬ ‫رئيسا للبالد‪.‬‬ ‫ُنتخب رسميًّا‪ ،‬يف مارس ‪2000‬م‪،‬‬ ‫ً‬ ‫محطة أخرى من فرص سد الفراغ‬

‫دميتري ميدفيديف‬

‫جحيم األزمة السورية‪ ،‬قدمً ا يحمي خلفه‬ ‫ً‬ ‫حليفا أوشك أن تسقطه فرقعات «الربيع‬ ‫العربي» ويستعيد به أوجً ا دبلوماسيًّا‬

‫وإسرتاتيجيًّا لروسيا‪ ،‬أمام عجز األوربيني وشلل األمريكان‪ .‬ملء‬

‫الفراغ‪ ،‬هذه املرة‪ ،‬سيكون بإراقة مزيد من دماء السوريني‪،‬‬ ‫وتهجريهم‪ ،‬وتدمري مدنهم وقراهم‪ .‬فما مصدر هذا العنف؟‬

‫وما مدى ذلك الحزم؟ وهل يستند إىل رؤية ومنطق يمكن‬ ‫استشراف أبعادهما؟ يف اعتقادي‪ :‬إن بوتني بالرغم من جسارته‬

‫ليس متهورًا‪ ،‬وفرط طموحه ال يبلغ حد الغباء‪ .‬ولفهم طوايا‬

‫شخصيته يجب الخوض يف انكسارات وخيبات روسيا كبلد‬

‫وكأمة‪ .‬فهو ينتمي إىل جيل عاش تفكك اإلمرباطورية السوفييتية‬

‫كانت حرب الشيشان مشتعلة‪ ،‬فأتاحت لبوتني يف شهوره‬

‫كجرح رويس صرف‪ ،‬تجسد بالنسبة لضابط املخابرات‪ ،‬يف‬

‫يف تعامله مع األزمات‪ .‬وملا تصدى لألوضاع الداخلية‪ ،‬بدأ‬

‫مؤسسة املخابرات السوفييتية (يك جي بي)‪ .‬والستيعاب‬ ‫عالقة بوتني بهذا الجهاز علينا أن نتذكر فلمً ا سوفييتيًّا أُن ِتج‬

‫األوىل أن يميط اللثام عن ملمح من مالمح الشراسة والعنف‬ ‫بالتخلص تدريجيًّا من جميع حلقات النفوذ ومظانّ القوة‬ ‫يف هرم السلطة الروسية وعىل رأسها مجموعة رجال املال‬

‫واألعمال الذين توسموا فيه يومً ا‪ ،‬خليفة وديعً ا‪ ،‬يحمي‬

‫انهيار جهاز كان بالنسبة له بمنزلة وعاء أمل‪ ،‬ورهان حياة‪:‬‬

‫يف ستينيات القرن املايض عنوانه «السيف والدرع» يتحدث عن‬

‫ضابط مخابرات رويس‪ ،‬تسلل إىل صفوف الجيش األملاين خالل‬ ‫الحرب العاملية الثانية‪ ،‬واستطاع منفر ًدا‪ ،‬بتصميمه وبسالته أن‬

‫الظهر ويؤتمَ ن عىل املصالح‪ .‬وتميض والية بوتني األوىل وتتبعها‬ ‫ُ‬ ‫خرست خاللها ُّ‬ ‫كل األصوات املناوئة‪،‬‬ ‫الثانية‪ .‬ثماين سنوات أ ِ‬ ‫ً‬ ‫أحيانا‪ .‬فاكتملت‬ ‫بالرتهيب وبالرتغيب‪ ،‬أو بالتصفية الجسدية‬

‫يغيرِّ مجرى األحداث‪ ،‬ويحقق النصر‪ .‬الفلم الذي ير ِّوج لصورة‬ ‫وردية مبهرة عن املخابرات الروسية َّ‬ ‫شكل حينها‪ ،‬مصدر انبهار‬

‫يف يد «قيصر روسيا املعاصر»‪ .‬وأمام استحالة تقدمه لوالية‬

‫كان عمر الفتى بوتني ‪ 16‬عامً ا‪ ،‬عندما قادته قدماه ودفعَ ه‬

‫كل خيوط السلطة وأدوات النفوذ اإلعالمية والسياسية واملالية‬

‫ثالثة‪ ،‬سيحرص بوتني (خريج كلية القانون‪ ،‬يف حياة سابقة)‬ ‫عىل التقيد بحرفية نص الدستور‪ ،‬ويرتك كريس الكرملني‬ ‫ً‬ ‫محتفظا لنفسه برئاسة‬ ‫لرئيس وزرائه الطيّع‪« ،‬ميدفيديف»‬

‫وحماس لدى جيل كامل من الشباب الروس‪.‬‬

‫حلمه‪ ،‬يف أحد صباحات ستالينغراد الشتوية‪ ،‬إىل طرق باب‬ ‫عربًا عن رغبته يف االنضمام للجهاز‪.‬‬ ‫مبنى املخابرات (يك جي بي) مُ ِ‬ ‫ر َّد عليه املوظفون بيشء من االزدراء‪« :‬عليك أولاً ‪ ،‬أن تتوافر‬

‫‪95‬‬


‫قضايا‬

‫أين األدب الروسي اليوم؟‬

‫فيك مميزات من أهمها‪ :‬املمارسة املكثفة للرياضة‪ ،‬والتفوق يف‬ ‫الدراسة‪ ،‬والحصول عىل مؤهل جامعي‪ ،‬وأن تكون لديك نظرة‬ ‫عيون معربة‪ ،‬عندها نحن من سيأيت إليك»‪ .‬سيتقيد املراهق‬

‫بوتني بدقة بجميع شروط ومقتضيات النصيحة ليجد نفسه‬ ‫ً‬ ‫منخرطا يف صفوف املخابرات‬ ‫بعد التخرج من كلية الحقوق‬ ‫الروسية‪ .‬فيتعلم ويتمرس عىل جميع فنون التجسس والتمويه‬

‫وأدوات االستدراج والتنصت واالستقصاء‪ .‬انغمس بوتني يف‬ ‫وظيفته‪ ،‬وتماهى مع أدوارها كما اكتسب جميع خصوصياتها‪:‬‬

‫العنف‪ ،‬والحيطة والغموض‪ ...‬ونظرة عيون مرعبة‪.‬‬ ‫قيصر يعيد لروسيا مجدها‬

‫د‬ ‫متهورا‪ ،‬وفرط طموحه ال يبلغ ح َّ‬ ‫ً‬ ‫الغباء‪ .‬ولفهم طوايا شخصيته‬ ‫يجب الخوض في انكسارات وخيبات‬ ‫روسيا كبلد وكأمة‪ .‬فهو ينتمي‬ ‫إلى جيل عاش تفكك اإلمبراطورية‬ ‫السوفييتية كجرح روسي صرف‬ ‫فضائها القريب‪ ،‬وال يف الفضاءات الجغرافية البعيدة‪ ..‬مهما‬

‫يروي روبريت غيتس وزير الدفاع األمرييك األسبق أنه قال‬ ‫لجورج بوش ذات مرة‪« :‬لقد حدقت يف عيون بوتني فرأيت قاتلاً‬

‫الوقت الراهن‪ ،‬هو أن تضمن شبه مكتسبات‪ ،‬ساعدت مجريات‬

‫األمريكية األسبق ليون بانيتا‪ ،‬فيقول‪« :‬عندما أنظر إىل عيون‬

‫سهولة‪ ،‬يف نسفها‪ .‬ومن هنا يأيت تسارع الدبلوماسية الروسية يف‬

‫بدم بارد»‪ .‬أما خلفه يف وزارة الدفاع ومدير وكالة االستخبارات‬ ‫بوتني أقرأ‪ .»KGB...KGB :‬يميل املسؤولون الغربيون‪ ،‬يف‬

‫الغالب‪ ،‬إىل شيطنة منافسيهم وإبراز جوانب كاريكاتريية أو‬

‫اختزالية من شخصياتهم‪ ،‬فيبالغون يف قدراتهم‪ ،‬ويضخمون‬ ‫ً‬ ‫قسطا كبريًا‬ ‫مخاطر قوتهم‪ .‬وقد نال بوتني‬

‫‪96‬‬

‫بوتين بالرغم من جسارته ليس‬

‫ضعف اآلخرون أو غفلوا‪ .‬قد يكون طموح إدارة بوتني‪ ،‬يف‬

‫األحداث الدولية يف تحقيقها وقد تتسبب املتغريات‪ ،‬بكل‬ ‫العمل عىل فتح آفاق للحل السيايس يف سوريا‪ ،‬رغم ما حققته‬ ‫حملتها العسكرية من نتائج ميدانية‪ ،‬ومن هنا ً‬ ‫أيضا نفهم‬

‫مرونة موسكو البادية‪ ،‬يف التعامل مع جميع األقطاب اإلقليمية‬ ‫والدولية‪ .‬أما ما تعجّ به وسائل اإلعالم‬

‫من ذلك التهويل‪ ،‬وتعرض لحملة إعالمية‬

‫من تهليل رويس لنجاح رئيس أمرييك يكرر‬ ‫عل ًنا‪ ،‬إعجابه بالرئيس بوتني‪ ،‬وي َِعد بفتح‬

‫صاخبة يف الفرتات األخرية ترى فيه‬

‫«القيصر الذي استعاد لروسيا مجدها»‪،‬‬

‫تعاون وتنسيق مشرتك‪ ،‬فالروس آخر من‬

‫و«الرجل األقوى يف العالم» وأمثال ذلك‬

‫سرياهن عليه؛ لسبب قريب وبسيط هو أن‬

‫من العناوين التي يصيغها املحللون‬ ‫ّ‬ ‫ويمططها‪ .‬إن‬ ‫والخرباء ويتلقفها اإلعالم‬

‫انخدع الجمهور وتعاطت بعض الدوائر‬ ‫طلقة وامل ُ َّ‬ ‫مع هذه الصورة امل ُ َ‬ ‫علبة فإن‬ ‫املعني األول بها قد ال تختلط عليه األوراق‬

‫بشأنها‪ .‬صحيح أن روسيا لم تعد ذلك البلد املنهك املتداعي الذي‬ ‫استلم فيه بوتني السلطة منذ ست عشرة سنة‪ .‬وصحيح ً‬ ‫أيضا أن‬

‫تصدر شخصية مثل شخصيته للمشهد‪ ،‬طوال تلك الفرتة أعاد‬ ‫ً‬ ‫وقسطا من القوة‪ .‬لكن بوتني يدرك ً‬ ‫جيدا‬ ‫لبالده قدرًا من الحضور‬ ‫حدود تلك القوة‪ ،‬ويميز ً‬ ‫أيضا العوامل الخارجية التي أتاحت لها‬ ‫أن تتجسد‪ .‬فاملساحات الفارغة ال تظل دائمً ا كذلك‪ .‬واقتناص‬ ‫أساسا لسياسة دائمة وفاعلة‪.‬‬ ‫الفرص ال يمكن أن يكون‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫فروسيا رغم قدراتها العسكرية الكبرية‪ ،‬تصنف حتى اآلن‪،‬‬

‫املصالح الذاتية لكل طرف هي التي ستحدد‬ ‫نوعية وجدية تلك العالقات‪ .‬واملعطيات‬

‫روبيرت غيتس‬

‫االقتصادية والجيوسياسية الراهنة ال‬ ‫ً‬ ‫تطابقا كبريًا يف املصالح‬ ‫ظهر‪ ،‬حتى اآلن‪،‬‬ ‫ُت ِ‬

‫بني موسكو وواشنطن‪ .‬يتاح لبوتني –‬

‫نظريًّا‪ -‬أن يبقى يف كرسيِّه بالكرملني حتى عام ‪2024‬م عىل األقل‪،‬‬

‫ويقال عنه‪ :‬إنه يجيد اإلصغاء إىل مستشاريه يف امللفات التي ال‬ ‫يتقنها‪ ،‬ومعروف عنه قدرته عىل انتظار الفرص واقتناصها‪ ،‬وهي‬

‫ميزات تساعد أصحاب السلطة الذين ال يريدون االبتعاد عنها‪،‬‬ ‫يف البقاء فيها‪ ..‬ما شاء الله أن يبقوا‪.‬‬

‫لكن أحد املؤرخني الروس‪ ،‬يزعم أن فالديمري بوتني‬

‫مهووس بالصورة التي سيتذكره بها التاريخ كقائد لروسيا‪،‬‬

‫فمسار األمة الروسية‪ ،‬عرب العصور‪ ،‬ميلء بقادة كبار ذاقوا‬

‫يف املرتبة العاشرة بني اقتصاديات العالم‪ ،‬وتواجه تحديات‬

‫مرارة الهزيمة أو الفشل‪ .‬ولم يسلم‪ ،‬تاريخيًّا‪ ،‬أي قائد تقريبًا‪،‬‬

‫التواضع يف طموحها اإلمرباطوري املزعوم‪ .‬أما واقع احتكاكاتها‬

‫األهم الذي يؤرّق بوتني ويدفعه إىل يشء من الواقعية‬

‫اقتصادية واجتماعية حقيقية‪ ،‬تلزمها الركون إىل يشء من‬

‫الجيوسرتاتيجية مع الناتو غربًا‪ ،‬وموروث حساسية جريتها‬ ‫ً‬ ‫شرقا‪ ،‬فتجعلها غري مطلقة اليدين ال يف‬ ‫مع العمالق الصيني‬ ‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬

‫من هذه الرتاجيديا الروسية املؤسفة‪ .‬هنا يكمن ربما‪ ،‬الهاجس‬

‫ومراجعة الحسابات‪ ،‬يف زمان يشهد فوىض تحوالت عارمة‬ ‫تجعل كل يشء ًّ‬ ‫هشا ومتغريًا ومُ بهَم العواقب‪.‬‬


‫أين األدب الروسي اليوم؟‬

‫‪97‬‬

‫ﻛﺘﺎب اﻟﻔﻴﺼﻞ أﺣﺪ إﺻﺪارات ﻣﺠﻠﺔ اﻟﻔﻴﺼﻞ‪ ،‬وﻳﻬﺪف إﻟﻰ إﺛﺮاء اﻟﺴﺎﺣﺔ اﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ‬ ‫اﻟﺴﻌﻮدﻳﺔ واﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ﺑﺈﻟﻘﺎء اﻟﻀﻮء ﻋﻠﻰ ﻣﻮﺿﻮﻋﺎت ﺟﺪﻳﺪة وﻣﺘﻨﻮﻋﺔ‪ ،‬ﻛﻤﺎ‬ ‫ﻳﺴﻌﻰ إﻟﻰ دﻋﻢ اﻟﻤﺒﺪﻋﻴﻦ ﻣﻦ اﻟﻤﺆﻟﻔﻴﻦ واﻷدﺑﺎء واﻟﻔﻨﺎﻧﻴﻦ‬

‫‪@alfaisalmag‬‬

‫‪alfaisalmag‬‬

‫‪alfaisalmag‬‬

‫‪www.alfaisalmag.com‬‬

‫ﻣﺠﻠﺔ اﻟﻔﻴﺼﻞ‬


‫مقال‬

‫فهد حسين‬ ‫ناقد بحريني‬

‫العريفي‪ ..‬رمز ثقافي‬ ‫يلجأ إلى الرواية‬ ‫عرف المبدع خليفة العريفي في مشهدنا‬

‫الثقافي‪ ،‬وبخاصة عند األجيال بعد الثمانينيات‬ ‫بأنه مسرحي‪ ،‬كتابة وتمثيلاً وإخراجً ا‪ ،‬ومحاورًا‬

‫رواية األمس التي تحيلك إلى التاريخ‪ ،‬يكتب‬

‫لكنه في هذا كله فهو أحد مؤسسي عدد من‬

‫واالجتماعي‪ ،‬ونظرة المجتمع لهما‪ ،‬يكتب المرأة‬

‫للمسرحيات‪ ،‬وقائدً ا الورش ومدر بًا فيها‪،‬‬

‫‪98‬‬

‫جمرة الروح‬

‫المؤسسات ذات الشـأن الثقافي‪ :‬أحد مؤسسي‬

‫في رواية «جمرة الروح» يكتب خليفة العريفي‬

‫المدينة والقرية والفوارق بينهما في الوسط الثقافي‬ ‫وحريتها في اتخاذ قرارها‪ ،‬يكتب فراق األحبة بقصد أو‬

‫أسرة األدباء والكتاب بوصفه كاتب قصة‪ ،‬وأحد‬

‫بدون قصد‪ ،‬بين المرأة والرجل في العالقات الزوجية‪،‬‬

‫مؤسسي الملتقى األهلي – مركز عبدالرحمن كانو‬ ‫ً‬ ‫مثقفا‪ ،‬وغيرها من األوساط الثقافية‬ ‫حاليًّا بوصفه‬

‫تلك النزوات العابرة‪ .‬إنه يكتب المجتمع بتفصيالت‬

‫قليلة‪ ،‬لكن برمزية مستعارة‪ ،‬ويأخذك إلى عوالم هذا‬

‫بالمسرح كثي ًرا لم يبعده من قراءة األعمال‬

‫اليومية‪ .‬هكذا تقرأ الرواية لتسأل نفسك أيهما فضل‬

‫مؤسسي مسرح أوال بوصفه مسرحيًّا‪ ،‬وأحد‬

‫والفنية‪ .‬وفي خضم الحياة ومشاغلها وارتباطه‬

‫أو ضمن العالقات العاطفية قبل الزواج‪ ،‬أو من خالل‬

‫المجتمع وتقلباته وتطلعاته‪ ،‬وإلى ممارسة الحياة‬

‫الروائية والقصصية‪ ،‬والكتب ذات العالقة بالفكر‬

‫الكاتب أن يبرزه‪ ،‬الشخصية أم الحدث‪ ،‬أم أوضاع‬ ‫المجتمع‪ ،‬أم التاريخ الذي لم يقف عند طويلاً ‪ ،‬إذ نرى‬

‫ومن خالل العديد من الحوارات حول ما‬

‫هما‪ :‬الشخصيتان البارزتان في الرواية‪ ،‬شخصية زينب‬

‫والثقافة‪ ،‬فكلما دخلنا معه في حوار ما نجده‬

‫يطرح فكر هذا الكاتب أو ذاك‪.‬‬

‫أنه حاول أن يجمع هذه العناصر كلها في شخصيتين‪،‬‬

‫يطمح إلى إصداره‪ ،‬كان من المؤمل أن نقرأ له‬

‫جعفر‪ ،‬وشخصية الشاعر محمود السيد‪ ،‬وإن كانت‬

‫أن ترى النور منذ أكثر من سنتين تقريبًا‪ ،‬هي‬

‫والجغرافية في الرواية‪ ،‬أما بقية الشخصيات فقد‬

‫المجموعة القصصية التي كان من المفترض‬

‫شخصية محمود هي التي أخذت المساحة الزمانية‬

‫المجموعة التي وعدنا الكاتب بها لتكون إضافة‬

‫تركها تؤدي أدوارها في السرد أو الوصف أو الحوار من‬

‫في سبعينيات القرن الماضي‪ ،‬لكن جاءت الرواية‬

‫نفسه في نمو هاتين الشخصيتين أو إحداهما‪.‬‬

‫العريفي روايته األولى «جمرة الروح» عن اإلصدار‬

‫وتموجاته‪ ،‬وكيف تتم عملية االستغالل واالستحواذ‬

‫األولى‪ ،‬في عام ‪2011‬م‪.‬‬

‫من بعض المثقفين‪ ،‬لذلك جعل الكاتب من الثقافة‬

‫إلى تلك القصة التي كتبها ضمن إصدار األسرة‬

‫سابقة المجموعة القصصية‪ ،‬هكذا أصدر خليفة‬ ‫المشترك مع وزارة الثقافة والتراث في طبعتها‬

‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬

‫أجل المساهمة في نمو األحداث التي تسهم في الوقت‬ ‫ويبدو أن الكاتب يعرف مزالق العمل الثقافي‬

‫على المبتدئين في الكتابة‪ ،‬وبخاصة أصحاب المواهب‬


‫مدخلاً للنيل من النساء‪ ،‬والحصول على الملذات‬

‫الجنسية والشبقية‪ ،‬وقد مثل هذا البعد في محمود‬ ‫السيد الكاتب في الجريدة‪ ،‬والشاعر المعروف ليس‬

‫محليًّا بل عربيًّا‪ ،‬فمحمود السيد المتزوج والمحب‬

‫لزوجته وعائلته‪ ،‬والرافض التخلي عنها مهما كان‪ ،‬رأى‬ ‫في نفسه دنجوان عصره‪ ،‬حيث يحاول دائمً ا الوصول‬ ‫إلى المرأة من خالل الكلمة العذبة‪ ،‬والنص اإلبداعي‬

‫الجميل سواء كتبه هو‪ ،‬أم أقنع المرأة بقدرتها على‬

‫الكتابة الشعرية؛ ألن «محمود تدوخه األنوثة الطاغية‪،‬‬ ‫ويستسلم لغواية الفتنة بسهولة ص‪ ،»97‬وهذا ما‬

‫حاول النص الروائي إبرازه في النساء األربع الالئي‬

‫خليفة العريفي‬

‫ارتبطن بعالقات مع محمود السيد‪ ...‬يحاول الكاتب‬

‫في هذا النص السردي أن يقدم لنا بعض نماذج من‬

‫الرجال والنساء في المجتمع‪ ،‬حيث ما من مجتمع في‬ ‫الحياة إال وفيه من هذه النوعية التي يقبلها أو يرفضها‬

‫المجتمع‪ ،‬وطرح هذه النماذج لم يكن لمجرد إبراز هذه‬

‫النماذج فحسب‪ ،‬إنما ألن هناك تداعيات ومعطيات‬

‫تسببت في وجود هذه النماذج النسوية والرجالية‪.‬‬ ‫الشعر ركيزة أساسية‬

‫ما يلفت النظر أن الكاتب جعل الشعر ركيزة‬

‫أساسية في العمل الذي نمت أحداثه‪ ،‬وبخاصة بين‬

‫النساء ومحمود السيد‪ ،‬ولم يشر إلى أي امرأة تكتب‬ ‫القصة مثلاً ‪ ،‬على الرغم من أن النص الروائي أشار‬

‫إلى وجود نا ٍد للشباب يعنى بهذا األمر‪ ،‬بكتابة الشعر‬ ‫والقصة‪ ،‬كما أننا نتساءل لماذا التأكيد على عرض‬

‫بعض نصوص المرأة الشاعرة في الرواية‪ ،‬فهل ألن‬

‫يبدو أن الكاتب يعرف مزالق العمل‬ ‫الثقافي وتموجاته‪ ،‬وكيف تتم عملية‬ ‫االستغالل واالستحواذ على المبتدئين‬ ‫في الكتابة‪ ،‬وبخاصة أصحاب المواهب‬ ‫من بعض المثقفين؛ لذلك جعل الكاتب‬ ‫من الثقافة مدخال للنيل من النساء‪،‬‬ ‫والحصول على الملذات الجنسية‬ ‫والشبقية‪ ،‬وقد مثل هذا البعد في‬ ‫محمود السيد الكاتب في الجريدة‪،‬‬ ‫والشاعر المعروف ليس محل ًّيا بل عرب ًّيا‬ ‫الوقوف عند هذه المحطات من العالقة الجندرية في‬

‫الكاتب يريد لفت انتباه القارئ إلى إمكانياته الشعرية‬

‫المجتمع البحريني‪ ،‬وغيرها من القضايا التي حاولت‬

‫وزينب؟ أو ألن تلك المرحلة كانت سطوة الشعر عالية‬

‫الالفتة في النص الروائي فهي تلك العالقة المتداخلة‬

‫يكون وراء ذلك أن سلطان الشعر كان وال يزال مهيم ًنا‬

‫تبرز بخط أسود يختلف عن خط كتابة الرواية‪ ،‬فمرة‬

‫والكتابة الشعرية‪.‬‬

‫أو تناقش أو تطلب التأمل فيما ستقوم به من عمل‪،‬‬

‫التي تمظهرت في نصوص محمود السيد ودالل‬

‫ومسيطرة على المشهد اإلبداعي في البحرين؟ أو قد‬

‫على المبدعين والمثقفين‪ ،‬وهم دائمو الحلم بالشعر‬ ‫هناك أمور كثيرة في الرواية يمكن للقارئ‬

‫مناقشتها كالعالقة بين القرية والمدينة وثقافة‬

‫أفرادهما‪ ،‬النظرة إلى المرأة من جانب المجتمع‬

‫واألعراف والرجل‪ ،‬بل من المثقف تحديدً ا‪ ،‬ولماذا‬

‫الرواية الوقوف عندها بشكل أو بآخر‪ ،‬وأما التقنية‬

‫بين الكاتب والراوي والشخصيات‪ ،‬تلك العالقة التي‬

‫نجد الشخصية تتحدث مع نفسها في منولوج تسأل‬

‫ومرة نجد التداخل في العبارة الواحدة بين الشخصية‬

‫والراوي عبر الحوار المبطن بينهما تجاه حدث ما‪،‬‬

‫ومرة ثالثة يدخل الكاتب موجهًا بصورة غير مباشرة‬

‫نحو هدف ما أو حدث ال بد أن يقع‪.‬‬

‫‪99‬‬


‫حوار‬

‫المفكر العربي أكد أن التاريخ مفتوح وأنه ال توجد ثوابت مطلقة‬

‫الطيب تيزيني‪:‬‬ ‫القاتل الذي أنتج داعش‬ ‫هو الغرب وتبعه الشرق األعلى‬ ‫حاوره في دمشق‪ :‬سامر إسماعيل‬

‫بين حمص ودمشق يعيش اليوم المفكر‬ ‫السوري الطيب تيزيني (‪1934‬م) منكبًّا على كتابة سيرته‬ ‫الذاتية‪ ،‬بمساعدة ابنته الباحثة االجتماعية منار تيزيني‪،‬‬ ‫حيث تظهر الفتاة أنها سر أبيها‪ ،‬فهي من تواظب على‬ ‫تحرير السيرة‪ ،‬وعلى تنظيم مواعيد الدواء‪ ،‬وتشرف‬ ‫على مراسالت األب مع مؤتمرات ولقاءات وندوات‬ ‫دولية لم ينقطع عنها صاحب كتاب «من يهوه إلى‬ ‫الله»؛ فالباحث والمفكر السوري الذي حمل لقب‬ ‫فيلسوف‪ ،‬وأصدر أول كتاب له باللغة األلمانية‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وقت مضى في مناصرة‬ ‫عنيدا أكثر من أي‬ ‫يبدو‬ ‫ٍ‬ ‫المستضعفين‪ ،‬والعيش قريبًا من‬ ‫حكايات الناس وهواجسهم‪.‬‬

‫‪100‬‬

‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬


‫الطيب تيزيني‪ :‬القاتل الذي أنتج «داعش» هو الغرب وتبعه الشرق األعلى‬

‫الطيب يخرب «الفيصل» عن مراجعاته النظرية األخرية‪،‬‬

‫وعن إعادته النظر يف كتبه التي أصدرها‪ ،‬وملاذا طرأ هذا عىل‬ ‫نظرته لإلنسان والعالم‪ .‬املفكر الذي اختري عام ‪1998‬م واحدً ا من‬ ‫أهم مئة فيلسوف يف العالم من املؤسسة األملانية الفرنسية‪،‬‬

‫يدعو اليوم إىل إعادة قراءة العالم يف مواجهة ظاهرة اإلرهاب‬ ‫ً‬ ‫كاشفا يف هذا الحوار أنه عىل وشك تحويل بيته الكائن‬ ‫الدويل‪،‬‬

‫يف حي دمشق الجديدة إىل مركز أبحاث اجتماعية‪ .‬شجون‬

‫كثرية ونقاش قطعته مرات عديدة دموع الطيب كلما تذكر‬ ‫ما ّ‬ ‫حل بوطنه‪ ،‬وما آلت إليه حال الناس يف بالده التي تدخل‬ ‫منتصف العام السادس من الحرب‪ .‬إىل نص الحوار‪:‬‬

‫● عندما نتحدث عن الفكر العربي‪ ،‬ماذا نقصد بالفكر‬

‫العربي وما سماته وما عدته الفكرية؟‬ ‫صاف يف‬ ‫ هذا سؤال يطرح سؤالاً آخر‪ :‬هل هناك فك ٌر ما‬‫ٍ‬ ‫مرجعيته إن كان فك ًرا فرنسيًّا أو أملانيًّا أو عربيًّا‪ ،‬لكن ال توجد‬

‫مشوب بما ال يستطيع‬ ‫حالة من هذه الحاالت‪ ،‬فكل فكر‬ ‫ٌ‬ ‫املفكر نفسه أن يضع يده عليه‪ ،‬لكن البنية األخرية هي التي‬

‫تشكل رصيدً ا‪ ،‬والفكر العربي خاضع لهذه العملية‪ ،‬الفكر‬

‫ً‬ ‫وخصوصا يف‬ ‫العربي مر بمراحل متداخلة كثرية من بداياته‪،‬‬ ‫الجزيرة العربية التي كانت مأوى للتجار والقوافل‪ ،‬وهذا كان‬

‫ذا أهمية كربى؛ ألن هناك من يقول‪ :‬إن اإلسالم نشأ يف بالد‬

‫أو فرح أنطون الحديث‪ ،‬هؤالء فالسفة سبقوهم‪ ،‬كما تأثر‬

‫صاف يف ذاته‪ ،‬الذات هي بنية‪،‬‬ ‫العظماء بآخرين‪ ،‬ال يوجد يشء‬ ‫ٍ‬ ‫ليس هو شي ًئا منفردًا‪ ،‬هناك كتاب صدر مؤخ ًرا بعنوان «حياة‬ ‫ً‬ ‫فيلسوفا نشأ يف أعقاب التقدم التاريخي‬ ‫إيزيدور»‪ ،‬وهذا كان‬

‫العربي الشرقي قبل ستة قرون‪ ،‬هذا الرجل كان منتهيًا يف نظر‬ ‫املؤرخني‪ ،‬فاك ُتشف مؤخ ًرا أنه كان شي ًئا‪.‬‬ ‫● هل نستطيع أن نحظى بأسماء تقدم نفسها كفالسفة‪،‬‬

‫وأين دور علماء االجتماع العرب‪ ،‬أين دورهم يف دراسة‬ ‫مجتمعاتهم كما فعل مثلاً عالم االجتماع الفرنيس بيري‬ ‫بورديو عندما وضع كتابه الضخم من ثالثة أجزاء «بؤساء‬ ‫العالم»؟ ملاذا اليوم علماء االجتماع العرب يعيشون فقط‬

‫يف الجامعات‪ ،‬ويف قاعات األكاديميات املغلقة مع طالبهم؟‬

‫‪ -‬السبب يعود إىل الصيغة التاريخية التي قطعها الفكر‬

‫العربي‪ ،‬أو الوجود العربي عمومً ا‪ ،‬فحني ظهر العرب كأمة‬

‫بفعل خارجي‪ ،‬وهذا ما قام‬ ‫كفعل داخيل فحسب‪ ،‬إنما‬ ‫ليس‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫به الغرب‪ ،‬النهوض الغربي كان ذا حضور كبري‪ .‬بمعنى آخر قبل‬ ‫الحديث عن الفلسفة العربية‪ ،‬يجب أن نتحدث عن الحضور‬

‫تدخل نسبي‬ ‫الغربي يف الشرق‪ ،‬هذا الحضور أسهم يف تكوين‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫الحقا عىل صعيد الفكر‪ ،‬إذا أخذنا حركة‬ ‫فكري بما سيتحقق‬ ‫االستشراق فهي نشأت مع محاولة الغرب القتحام الشرق‪،‬‬

‫ً‬ ‫خصوصا أن الرسول الكريم كان يزور الشام كثريًا‪،‬‬ ‫الشام‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وأشاد بالشام وأهلها وبفكر الشام وأهلها‪ .‬إذا ليس هناك‬

‫من املستشرقني والباحثني والعمالء‪ ،‬قدموا له مادة غنية حول‬

‫قد ال نشهد النهايات لذلك‪ .‬وعدم الصفاء أن اللحظة املعنية‬

‫نابليون وسواها من أدب الرحالة األوربيني‪ ،‬لذلك كان هذا‬

‫صاف‬ ‫فك ٌر‬ ‫تفكيك تحليلية‬ ‫بشكل مطلق‪ ،‬حتى لو قمنا بعملية‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫مشوبة بلحظات أخرى‪ ،‬فلست قادرًا عىل وضع اليد عىل يشء‬ ‫هو نسيج ذاته‪ ،‬وهو بلغة املنطق هو هو‪ ،‬ولكن بعد مروره‬

‫بمراحل قد ال نستطيع الوصول إليها‪ ،‬إذ إنه طبقات تاريخية‬ ‫تجثم فوق عشرات الطبقات‪ ،‬وهنا يأيت منهج الحفريات‪،‬‬

‫املنهج الحفري الذي أشدد عليه يف عقود ماضية يف الغرب كما‬

‫يف العالم العربي‪ ،‬لذلك أن نتحدث عن فكر عربي أو فلسفة‬ ‫عربية أمر وارد‪.‬‬

‫● لكن هل نستطيع أن نتكلم عن فيلسوف عربي‪ ،‬وهل‬ ‫يستطيع أصلاً فيلسوف عربي أن يبزغ وال يتعرض اليوم لقمع‬

‫أو تكفري من هذا الطرف أو ذاك؟‬

‫نابليون بونابرت عندما دخل مصر كان قد جلب معه مجموعة‬

‫الشرق‪ ،‬ففهم األوربيون الشرق استشراقيًّا عرب مجموعات‬

‫التدخل الغربي يف الشرق أكرث فاعلية مما كان موجودًا باسم‬

‫التعارض بني الشرق والغرب أيام اإلسالم‪ ،‬وقتها كان هناك‬

‫حدٌّ ما من التوازي التاريخي بني الحضارات‪ ،‬ومنها الحضارة‬ ‫العربية‪ .‬اآلن الحضارات الحديثة ُطوّقت‪ ،‬والغرب أمسك‬ ‫ً‬ ‫شرقا وما‬ ‫هذا الخط األساس‪ ،‬ورُسِّ مت الحدود بني ما يسمى‬

‫يسمى غربًا‪ .‬الخط االقتصادي والثقايف والسيايس‪ ،‬يعني أصبح‬

‫استعمارًا‪ ،‬وليس حالة اقتصادية وحسب‪ ،‬بل حالة ثقافية‪،‬‬

‫وكان االستشراق هو حصيلة هذا الفعل‪ ،‬أي نتيجة من نتائجه‪.‬‬ ‫الشرق الحقيقي‬

‫● ما رأيكم بما قدمه إدوارد سعيد يف هذا املجال؟‬

‫‪ -‬هذه مسألة تاريخية لها منهجيتها‪ ،‬وتنتظر نضوج ظروفها‬

‫‪ -‬سعيد قد يكون الباحث األول الذي قدم صورة قريبة مما‬

‫مثله مثل أي فكر يف بلد ما من العالم‪ ،‬حتى الفيلسوف األملاين‬ ‫ً‬ ‫وريثا»‪ ،‬وبهذا املعنى جميعنا‬ ‫نيتشه قال‪« :‬ما أصعب أن تكون‬ ‫ورثة‪ .‬فإذا أخذت ما كتبه مثلاً ابن رشد‪ ،‬أو الرازي‪ ،‬أو ابن سينا‪،‬‬

‫لم تكتمل عملية الفتح‪ ،‬فجاء باحثون ليكتشفوا ما هذا الذي‬ ‫أُطيح به عىل يد االستشراق الغربي‪ ،‬وأساء إساءة بالغة للشرق‪،‬‬

‫ُ‬ ‫أشرت لك من قبل الفكر العربي ليس صافيًا‪،‬‬ ‫املوضوعية‪ ،‬فكما‬

‫صنعه الغرب‪ ،‬وفتح بذلك الباب عىل الشرق الحقيقي‪ ،‬طبعً ا‬

‫واآلن االستشراق لم يعد له دور أساس‪ ،‬إن املستشرقني صاروا‬

‫‪101‬‬


‫حوار‬

‫ً‬ ‫ضعافا أمام شرق صار يظهر بشكل أو بآخر بأوجه مختلفة‪،‬‬

‫ً‬ ‫مخالفا‪ ،‬فحتى قبل ذلك كنت أقول‪:‬‬ ‫مع اآلخر الذي قد يكون‬

‫سيكون التشوه قائمً ا بمعنى ما‪ ،‬التدخل هو اإلساءة‪ ،‬والتقارب‬

‫يأيت بسبب تحول عاملي مثل سقوط االتحاد السوفييتي‪ ،‬إنما قد‬

‫فمن لم ينشأ بصورة مباشرة من بنيته وعرب إدخاالت أخرى‪،‬‬

‫بني الحضارات هو بمثابة نمو للفكر العربي‪ ،‬والتشوه الذي‬ ‫أحدثك عنه أىت عرب أفعال تتقصد أن تملك اآلخر عرب ملكية ما‬

‫يفكر به‪ ،‬وهذا ما حدث عن طريق االستشراق‪.‬‬

‫● حللتم الرتاث اإلسالمي تحليلاً ماد ًّيا نحو ثورة عىل‬

‫يحدث بالنسبة للمفكر أو الكاتب الذي يكتشف أم ًرا كتبه وفيه‬

‫ثغرات ال تحىص‪ ،‬فكنت أصدر طبعات جديدة من كتبي وأشري‬ ‫إىل ذلك‪ ،‬فلقد أعدت النظر يف كتاب «مقدمات أولية يف اإلسالم‬

‫املحمدي الباكر»‪ ،‬هذا الكتاب أضفت إليه كثريًا‪ ،‬واآلن ما أكتبه‬ ‫دائمً ا يضاف إليه أشياء أخرى‪ ،‬وهذا من طبائع األمور‪ ،‬لكن‬

‫النمط والنظرة التقليدية للرتاث‪ ،‬ووضعتم كتابكم املعروف‬

‫الذي جاء يف صيغة مدوية تمثلت يف االتحاد السوفييتي الذي‬ ‫قدم نفسه ليس فقط كحالة سياسية واقتصادية‪ ،‬بل ً‬ ‫أيضا‬

‫يف العالم‪ ،‬ومنها انهيار االتحاد السوفييتي السابق‪ ،‬وانكفاء‬

‫تأثر تأث ًرا كبريًا بهذا األمر‪.‬‬

‫«من الرتاث إىل الثورة» عام ‪1976‬م‪ ،‬برأيكم هل ما زال هذا‬ ‫ً‬ ‫قائما بعد جملة من املتغريات الكربى التي حدثت‬ ‫العنوان‬

‫اليسار العربي؟‬

‫‪ -‬قدمت هذا الكتاب ومعه كتب أخرى عن اليسار‬

‫التاريخي‪ ،‬اليسار عندي هنا ليس فك ًرا جاء من هنا أو هناك‪،‬‬ ‫إنما هو تعبري عن حدث أطاح بالنظر إىل العالم بوصفه نقطة‬ ‫واحدة‪ ،‬ولقد وضعت يدي عىل نقاط مغيبة أو غائبة‪،‬‬ ‫أبرزها أن هناك الوجه اآلخر ملا ُكتب عن الرؤيا‬ ‫ً‬ ‫بسيطا‬ ‫اليسارية‪ .‬باملناسبة كلمة يسار أتت تعبريًا‬

‫‪102‬‬

‫إنني أعيد النظر فيما كتبته‪ ،‬وحتى اآلن‪ .‬إعادة النظر ليس أم ًرا‬

‫كفكر ينتج عالـمً ا جديدً ا‪ ،‬فحتى تفكريي اليوم بالوطن العربي‬

‫َ‬ ‫ً‬ ‫تحديدا؟‬ ‫نظرتك‬ ‫● ما الذي تغري اليوم يف‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ برأيي كل املسائل سابقا أخضعت لتغيري أو آخر‪،‬‬‫ً‬ ‫دفعة واحدة‪ ،‬بل يأيت يف سياق الفعل‪،‬‬ ‫واإلخضاع للتغيري ال يأيت‬ ‫معروف أنني وضعت كتبًا أخرى جديدة وضح‬ ‫التغيري فيها عىل الصعيد الثقايف والسيايس‬ ‫ً‬ ‫إضافة إىل الشعري العاطفي‪،‬‬ ‫واإلنساين‪،‬‬

‫حال جديدة يف التاريخ الفرنيس أيام الثورة‪،‬‬ ‫عن ٍ‬ ‫حني اجتمع فريق سُ مي باليسار ألنه وقف يف‬

‫اللمحة والحالة الشعرية الدافئة يف النظر إىل‬

‫داللته بسيطة‪ ،‬لكن هذا التعبري أشار إىل حال ٍة‬

‫أن اكتشفت أمرين اثنني‪ :‬األمر األول الذي‬

‫اليسار‪ ،‬وآخرون وقفوا يف اليمني‪ ،‬فهو تعبري‬ ‫جديدة‪ .‬ليس من الضروري أن تكون متكاملة‪،‬‬ ‫فما عنيت ذلك ولم أع ِنه‪ ،‬فاليسار حالة وفكرة‬

‫يف إطار تحول عميق قد يذهب إىل اليمني وإىل‬ ‫يمني اليمني‪ .‬قبل أن يسقط االتحاد السوفييتي‬ ‫هذا السقوط املدوّي واملؤسف الذي خيّب آمال‬

‫أسس لم تخدم‬ ‫ماليني الناس ألنه قام عىل‬ ‫ٍ‬ ‫العلم‪ ،‬فقد سقط االتحاد السوفييتي من الداخل‪ ،‬وليس من‬ ‫الخارج‪ ،‬سقط عرب غياب اإلنسان الذي تحدث عنه ماركس‬ ‫عندما قال‪« :‬اإلنسان أولاً »‪ ،‬وسقط ألن الدولة البريوقراطية‬

‫األمنية – هذا الذي وضعت يدي عليه متأخ ًرا – أسقطت ذلك‬

‫الكيان ذا البعد الواحد‪ ،‬القائد الواحد‪ ،‬الحزب الواحد مع غياب‬ ‫الديمقراطية الربملانية‪ ،‬غياب القدرة عىل إمداد الحوار الذايت‬

‫ليست كتبًا شعرية‪ ،‬بل ما قصدته هو‬ ‫ً‬ ‫وخصوصا بعد‬ ‫البشر‪ ،‬هذه النظرة تعمقت‬ ‫حدث يف إطار الثورة الفرنسية حينما كانت‬ ‫النساء اللوايت يذهنب إىل العمل يمتنْ َ عىل‬

‫أبواب املعامل بسبب الفقر واملرض والجوع‪،‬‬ ‫وهذا ما ظهر يف رواية البؤساء‪ ،‬كتاب فيكتور‬ ‫هوغو العظيم الذي ّ‬ ‫خلد الثورة الفرنسية عرب‬

‫نضال النسوة الاليت كن ينتقلن من مدنهن‬

‫وبلداتهن البائسة إىل أماكن العمل ليقضني هناك‪.‬‬

‫األمر الثاين هو النساء يف االتحاد السوفييتي السابق‪،‬‬

‫وهذا عرفته شخصيًّا من أصدقاء يل يف أملانيا وروسيا‪ ،‬حيث‬

‫كان هناك تهجري للنساء إىل سيبرييا وسواها من منايف‬ ‫السوفييت‪ .‬حدثان جعالين أضع ًّ‬ ‫خطا حاسمً ا إلعادة قراءة‬ ‫ً‬ ‫خصوصا ما قدم إلينا كعرب عىل‬ ‫ما حدث فعلاً يف التاريخ‪،‬‬ ‫أنه هو األمثل‪ :‬فإن ما رأيته لم تره ولم تسمع به فعلاً ‪ .‬هذه‬

‫مشوب بما ال يستطيع المفكر‬ ‫كل فكر‬ ‫ٌ‬

‫ً‬ ‫مباشرة‪ ،‬ودفعني إىل أن أعيد‬ ‫األمور جعلتني ال أثق بيشء‬

‫رصيدا‪ ،‬والفكر‬ ‫األخيرة هي التي تشكل‬ ‫ً‬

‫ضمن هذا السياق‪ ،‬وحينما تأتيني الفرصة بإعادة طباعة ما‬

‫نفسه أن يضع يده عليه‪ ،‬لكن البنية‬ ‫العربي خاضع لهذه العملية‬

‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬

‫النظر يف كل ما كتبت‪ ،‬وهي فضيلة عظمى‪ ،‬وأنا اآلن أتابع‬ ‫كتبته‪ ،‬سأعيد النظر يف ذلك من بداياته‪ ،‬فالتاريخ مفتوح‬ ‫وليس هناك من ثوابت مطلقة‪.‬‬


‫الطيب تيزيني‪ :‬القاتل الذي أنتج «داعش» هو الغرب وتبعه الشرق األعلى‬

‫الجيوش غري العسكرية‬

‫● هنا عن أي تاريخ نتكلم بالضبط‪ ،‬عن التاريخ بوصفه‬ ‫ماضيًا دينيًّا أم ماضيًا حضار ًّيا؟ أم عن التاريخ املعيش؟ هل‬ ‫نستطيع القول‪ :‬إن لدينا مستقبلاً بهذا املعنى؟‬

‫‪ -‬هذا السؤال يتصل بحقل علمي اسمه اإلبستمولوجيا–‬

‫التدقيق املعريف الحاسم يف صوابية هذا أو ذاك‪ ،‬ما طرحته ال يأيت‬ ‫يف يوم وليلة؛ ألن التاريخ هو ً‬ ‫أيضا قادم‪ ،‬والقادم يصوّب ما انتهى‪،‬‬

‫فانهيار االتحاد السوفييتي‪ ،‬وفكرة العدالة أو املساواة فتحت‬ ‫ً‬ ‫آفاقا ال تغلق‪ ،‬خذ فكرة العالم الثالث عىل سبيل املثال‪ ،‬وفكرة‬ ‫ً‬ ‫مقالة بعنوان «ما بني الجيوش‬ ‫الجيوش الوطنية‪ .‬مؤخ ًرا كتبت‬

‫● ماذا تقصد باللغات الجديدة؟‬

‫ اللغات كلها‪ ،‬اللغة بذاتها‪ ،‬أي لغة اللغة التي عليها أن‬‫تجيب عما هو قائم فاعلاً يف حالة الفعل‪ ،‬اللغة التي اخرتعتها‬ ‫سوريا العظيمة الذبيحة‪ ،‬بعد أن كانت عبارة عن رسوم ورموز‬

‫وإشارات‪ ،‬وهذا يعني أن سوريا هي التي أوجدت األبجدية التي‬ ‫اكتشف اإلنسان نفسه من خاللها‪ ،‬اللغة أوصلتنا إىل املفهوم‬

‫وإىل املصطلح وإىل البنية‪ ،‬اللغة التي أصبحت أدوات للكشف‬

‫العلمي‪ ،‬يجب أن تخضع إىل والدة جديدة قادرة عىل أن تقرأ‬ ‫العالم‪ ،‬وتعيد إمكانية الحلم به‪.‬‬

‫● كررت مفرديت العالم واإلنسان‪ ،‬واملعروف أن‬

‫غري العسكرية واالنقالبات العسكرية»‪ ،‬والجيوش العسكرية هي‬ ‫ً‬ ‫إضافة إىل القدرة الكاملة‬ ‫الجيوش التي تمتلك القدرة العسكرية‬

‫العالم كمفهوم ظهر بعد الثورة الصناعية وبعد الحروب‬

‫السوفييت مدي ًرا أو محاسبًا ولم يكن يقوم بمهمات‪ ،‬وهذا يوجد‬

‫التقنية والحوسبة وعلوم الفضاء واألسلحة والفنون‪ .‬العالم‬

‫عىل وضع يدها عىل كل ثروات الوطن‪ ،‬وهذه الجيوش غري‬ ‫العسكرية ُ‬ ‫فعلها أخطر من العسكرية‪ ،‬حيث كان األخ الكبري لدى‬ ‫اليوم يف بالد العالم الثالث كلها؛ االنقالبات العسكرية حدثت‬ ‫تحت تأثري هذا الذي حدث منذ مدة طويلة سابقة‪ ،‬فلذلك نحن‬

‫بحاجة إىل إعادة قراءة العالم‪ ،‬وأظن أن ما يحدث اآلن مع ظهور‬ ‫داعش يضعنا أمام محط ٍة جديدة هائلة يف الداللة‪ ،‬وملاذا نشأ هذا‬

‫الداعش؟ أحد السياسيني الفرنسيني منذ مدة قصرية قال عرب‬ ‫وسائل اإلعالم‪« :‬نحن نحتاج إلزالة اإلرهاب إىل عشرين عامً ا»‪،‬‬ ‫َ‬ ‫عليك‬ ‫وهذا كالم غبي ويف غاية الغباء‪ ،‬أنت اآلن كإنسان يُفتح‬ ‫َ‬ ‫تاريخك كاملاً ‪ ،‬أين كان هؤالء الدواعش؟ وأجيب‪ :‬هؤالء كانوا‬ ‫خارج السلطة خارج امللكية‪ ،‬خارج الحياة‪ ،‬هؤالء هم الذين أمّنوا‬

‫الخلية التي أنتجت ما ولد تحت اسم داعش‪.‬‬

‫غياب الحرية والكرامة والعدالة واملحبة واملساواة كان‬

‫َ‬ ‫فأنت اآلن من أجل‬ ‫بمثابة الوالدة الحقيقية لهذا الداعش‪،‬‬ ‫َ‬ ‫عليك أن تعيد قراءة العالم‪،‬‬ ‫أن تفهم داعش من أين أىت‪،‬‬ ‫ً‬ ‫كتبت ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫تحدثت فيها عن ضرورة‬ ‫مقالة جديدة‬ ‫أيضا‬ ‫وباملناسبة‬

‫تأسيس مركز عاملي للدراسات والبحوث املقارنة‪ ،‬تكون له‬ ‫ٌ‬ ‫عمل ال قيمة له أن تصحح أمنيًّا ما حدث‬ ‫مراكز فرعية‪ ،‬إنه‬

‫يف نيس أو باريس أو ميونخ أو بروكسل‪ ،‬لكن األمر ليس هنا‬

‫أبدً ا‪ ،‬بل ربما يوظف هذا الذي يحدث يف الغرب من إجراءات يف‬

‫خدمة استمرارية داعش‪ ،‬عىل هذا النحو نحن ً‬ ‫فرض‬ ‫تباعا أمام‬ ‫ٍ‬ ‫تاريخي إلعادة قراءة العالم‪ ،‬وقبل هذه القراءة إعادة تصنيع‬ ‫ُ‬ ‫وضعت كتابًا هو مشروع ثقايف‬ ‫ما نستطيع تصنيعه‪ ،‬ولذلك‬

‫باألصل خاضع ملا يحدث اليوم‪ .‬من هنا جاءت فكرة إعادة ما‬ ‫كتبته وفق املنهج والنظرية والتأثريات الداخلية والخارجية‪،‬‬ ‫بل ذهبت باتجاه الدعوة إىل استنباط لغات جديدة تستوعب‬ ‫األحداث التي ُتعاش‪ ،‬فلقد بليت اللغة اليوم‪ ،‬بمعنى لم تعد‬ ‫قادرة عىل أن تكون وعاءً فكريًّا يقدم أجوبة ملا يحدث‪.‬‬

‫الكربى‪ ،‬ومعروف أن الحضارة استغرقت الزمن كله‪،‬‬ ‫ً‬ ‫خاطفا عىل صعيد‬ ‫فيما تطورت البشرية يف مئة عام تطورًا‬ ‫العربي كما يقول بعضهم لم يستوعب هذه الصدمة الرقمية‬

‫الحضارية‪ .‬برأيك هل يستطيع العالم العربي أن ينتقل من‬ ‫ً‬ ‫منتج لها؟‬ ‫مشارك أو‬ ‫مستهلكا للتقنية إىل‬ ‫كونه‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ العالم له منعرجات واتجاهات كثرية ومختلفة‪،‬‬‫فالعالم هو عوالم‪ ،‬وأي بيئة تشكل عالـمً ا بذاته‪ ،‬فحينما‬

‫تكتشف خصوصيتها تصري عالـمً ا‪ .‬هذه الخصوصية التي تجد‬ ‫ً‬ ‫مرحلة مهمة يف التطور‬ ‫ما يشبهها‪ ،‬وهذه الخصوصية مثلت‬ ‫التاريخي الحضاري‪ ،‬وبدونها ملا كانت العوالم يف عملية التشكل‬ ‫والتحول مختلفة‪ ،‬فقد تشكلت ً‬ ‫أيضا بيئات مختلفة يف البداية‬ ‫كانت متفارقة‪ ،‬لكن مع الزمن وعرب التجارة والحرب والهجرة‬

‫وكل أفعال الطبيعة واملجتمع‪ ،‬بدأ ينشأ ما نسميه عالـمً ا هو‬

‫العوالم مجتمعة‪ ،‬قد ال تكون العوالم كلها مجتمعة يف هذا‬

‫العالم‪ ،‬وقد نكتشف اآلن عوالم أخرى لنضمها إىل عاملنا‪ ،‬لذلك‬ ‫املسألة مفتوحة‪.‬‬

‫‪103‬‬


‫حوار‬

‫األنا واآلخر‬

‫● هل هذا التصور هو تصور أخالقي عن العالم‪ ،‬أم أنه‬

‫منها لتقدم وتطور البشرية؟‬

‫‪ -‬كالهما وأكرث من ذلك‪ ،‬اكتشاف عوالم أخرى يعني‬

‫أبدً ا‪ ،‬العنف هو الذي يحدث يف الطبيعة واملجتمع‪ ،‬فليس‬

‫بني اثنني حني اكتشفا بعضهما‪ ،‬بل إنه يف األساطري القديمة‬ ‫ٌ‬ ‫معروف أن املرأة والرجل يف البدايات لم يعرفا من أين جاء‬

‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫مكمل لها‪ ،‬وكذا اآلخر الذي ال يعرف مصالحه بعد إال‬ ‫وأنت‬ ‫َ‬ ‫ينتهكك‪ ،‬فجدلية الفعل واملفعول تصبح الجدلية هنا‬ ‫بعد أن‬ ‫الفاعل مفعولاً واملفعول فاعلاً ‪ ،‬كالهما يتحمل املسؤولية عرب‬

‫ترميز لهذا املعطى الذي ندعوه العالم؟‬

‫االعرتاف بوجود اآلخر‪ ،‬وأنت لست ذات العالم‪ ،‬أنت لن تكون‬ ‫شي ًئا دون اآلخر‪ ،‬والحظ أن هناك ثنائية األنا واآلخر نشأت حتى‬

‫وليدهما‪ ،‬لكن الوليد أىت وأضاف عالـمً ا جديدً ا‪ ،‬فالوليد هو عالم‬ ‫ً‬ ‫معروفا من هذه املرأة ومن هذا الرجل‪ ،‬فالعملية‬ ‫جديد لم يكن‬ ‫ٌ‬ ‫مفتوحة وتكتسب طابع املفاجأة‪.‬‬ ‫هنا‬

‫● وهل العالم العربي استطاع أن يحقق التجاوز من األنا‬

‫نحو اآلخر‪ ،‬رامبو يقول األنا هو اآلخر‪ ،‬والحالج وابن عربي‬ ‫كالهما تحدثا عن األنا واألنت ووحدة الوجود مع اآلخر يف‬

‫الخطاب الصويف الرفيع؟‬

‫ نعم‪ ،‬باألساس نشأة هذه الثنائية ( األنا – اآلخر) كانت‬‫َ‬ ‫نفسك إال إذا‬ ‫جزءً ا حاسمً ا يف تكوين البشرية؛ ألنك لن تعرف‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫غريك‪ ،‬األنا واآلخر هما ثنائية تقوم عىل طرفني مختلفني‬ ‫عرفت‬

‫‪104‬‬

‫ّ‬ ‫تعلقون عىل هذه املقولة التي تربر العنف كحركة جدلية ال بد‬

‫لكنهما متقابالن‪ ،‬بل إن األنا ال تعرف نفسها إال عرب اآلخر‪،‬‬

‫فأنت يف هذا املعنى مضطر أن تكون مع اآلخر‪،‬‬ ‫وقد يكون اآلخر معك‪ ،‬ومن هنا كان مصري كاريث‬ ‫عرب التعايش الكوين التاريخي‪ ،‬إىل أن نشأت‬

‫الحروب واملصالح االقتصادية فأطاحت بهذه‬ ‫الثنائية بعد تعاظم الحروب واملصالح القاتلة‪،‬‬

‫فاكتشف هؤالء املتقاتلون أن الخاسر يف هذه‬ ‫الحال كالهما‪ ،‬األنا واآلخر‪.‬‬

‫● لكن ماركس قال‪« :‬إن الحرب أو العنف‬ ‫ّ‬ ‫تولد املجتمعات‬ ‫هو القابلة القانونية التي‬

‫الحديثة من رحم املجتمعات القديمة»‪ ،‬كيف‬

‫نساء الثورة الفرنسية ونساء االتحاد‬ ‫حاسما‬ ‫خطا‬ ‫السوفييتي جعلوني أضع ًّ‬ ‫ً‬ ‫إلعادة قراءة ما حدث فعال في التاريخ‬ ‫اللغة التي أصبحت أدوات للكشف‬ ‫العلمي‪ ،‬يجب أن تخضع إلى والدة‬ ‫جديدة قادرة أن تقرأ العالم وتعيد‬ ‫إمكانية الحلم به‬

‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬

‫ً‬ ‫تسويغا للعنف‪،‬‬ ‫‪ -‬ال يمكن هذا القول أن يكون تربي ًرا أو‬

‫العنف هنا مقصودًا بالحرب والتحارب‪ ،‬أنت تمارس العنف‬ ‫ٌ‬ ‫مكمل َ‬ ‫لك‬ ‫مع الطبيعة حني ترغمها أن تنتج كذا وكذا‪ ،‬فهي‬

‫تبادل أدوار الجالد والضحية‪ ،‬وهذا يتم حتى تنبثق إشراقات‬ ‫ً‬ ‫مناهضا‬ ‫الوعي الجديد الذي يقوم عىل تبني أن اإلنسان ليس‬ ‫أو عدوًّا لآلخر‪.‬‬

‫● يف الفلسفة أو الفكر العربي ثمة من يعيب عىل هذا‬

‫الفكر أنه مع نشوء البدايات األوىل للدولة اإلسالمية هناك‬ ‫ً‬ ‫من ّ‬ ‫وفرقا صوفية وباطنية تحت طائلة‬ ‫همش وألغى فئات‬ ‫«من تمنطق تزندق»‪ .‬برأيك هل تكون املقوالت الصوفية اليوم‬

‫فسحة يتجدد عربها اإلسالم يف طرحه وقراءته للعالم؟‬

‫ حينما نفكك الخطاب اإلسالمي أو أي خطاب توحيدي‬‫نتبني أن اآللهة وتحديدً ا الله اإلسالمي ُق ِّدم‬ ‫للبشر عىل أنه الخطاب املطلق‪ ،‬هذا يدخل‬

‫فيما يسمى بالصفات الذاتية التي يعدها‬ ‫ً‬ ‫تسعة وتسعني‪ ،‬وبعضهم مئة‪،‬‬ ‫بعضهم‬ ‫وبعضهم اآلخر ً‬ ‫مئة وواحدً ا‪ .‬اتضح أن هذا‬ ‫األمر ذو أهمية قصوى‪ ،‬إنه يظهر عرب هذه‬

‫األسماء والصفات وال يظهر هو نفسه‪ ،‬ولقد‬ ‫ُ‬ ‫أكدت يف محاضرايت البريوتية أن كل طرف‬ ‫أو كل فرقة يف اإلسالم ترى الله من حيث‬ ‫هي‪ ،‬ال من حيث هو‪ ،‬وهذا ما أ ّكد عليه‬

‫النبي الكريم محمد حينما سأله أعرابي‪« :‬أين‬ ‫الله يا رسول الله؟» فأجاب‪« :‬الله موجو ٌد‬

‫حيث تراه»‪ .‬انظر إىل هذا الجواب البديع‪،‬‬

‫وهذا ما قدمته يف محاضرايت باملغرب‪ ،‬فعقبت بعد ذكري‬ ‫ٌّ‬ ‫محق يف إسالمه‪،‬‬ ‫لهذا القول أنه إذا كان األمر كذلك‪ ،‬فالجميع‬

‫لذلك كل املتصارعني يف املغرب يف لحظ ٍة واحدة اجتمعوا بعد‬ ‫سماعهم هذا الرأي‪.‬‬

‫إن أحدً ا ال يملك الحقيقة‪ ،‬فالجميع له حقيقته‪ ،‬ومن‬

‫املصدرية األساسية أال وهي النبوّة‪ ،‬هذا هو الحل‪ ،‬ولقد رآه‬ ‫بعض املفكرين يف املغرب حلاًّ جديدً ا‪ ،‬ودخل يف الروزنامة‬

‫الدينية‪ .‬التأكيد عىل إطالقية الله اإلسالمي هو تأكيد عىل أن‬ ‫الجميع يملكون الحقيقة‪ ،‬وهم كلهم محقون‪ ،‬ألنهم يرون الله‬


‫الطيب تيزيني‪ :‬القاتل الذي أنتج «داعش» هو الغرب وتبعه الشرق األعلى‬

‫من حيث هم‪ ،‬وليس من حيث هو‪ ،‬و(هم هم) يف التعريف‪ ،‬ماذا‬

‫وفاعليته‪ ،‬وأتت املؤسسة الدينية‪ ،‬وهذا جزء من التحوالت‬

‫والقوة‪ ،‬الناس يعرفون وفق هذه املداخل التي يمتلكونها‪ ،‬فهذا‬ ‫ّ‬ ‫متخلف لم يقرأ القرآن سيعرفه بطريقته‪:‬‬ ‫شخص فقري بائس‬

‫عن بواعثها العميقة البعيدة يحررك منها‪.‬‬

‫يعني يف التعريف؟ (هم هم) يف ثالثة أمور‪ :‬املعريف واملصالحي‬

‫(القادر‪ ،‬والحنون‪ ،‬والعارف‪ ،‬واللطيف)‪ ،‬والثاين هو‪( :‬املصالح)‪،‬‬ ‫وهنا يتكلم املرء عن الدين والسلطة‪ ،‬والثالث هذا وذاك مع‬ ‫القوة‪ ،‬مع من يملك القوة‪ ،‬فأنت بذلك مسلم بكل املعنى‪.‬‬

‫التاريخية التي ال يمكن أن تنكرها‪ ،‬فهي موجودة‪ ،‬لكن الكشف‬

‫● كيف يتم ذلك؟‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫إطالقا‪ ،‬النسبي‬ ‫إطالقا والنسبي‬ ‫ يتم حني تعود إىل املطلق‬‫ً‬ ‫مطلقا‪ ،‬واملطلق ال يمكن أن يصري نسبيًّا‬ ‫ال يمكن أن يصبح‬

‫ولكنه يستوعب النسبي‪ .‬هنا تطيح بكل املؤسسات الدينية‪.‬‬

‫املسألة الدينية والنخب الثقافية‬ ‫ُ‬ ‫لاً‬ ‫● قلتم‪ :‬إن املسألة الدينية العربية أهملت إهما مرعبًا‬

‫أنها كشف هائل‪ ،‬ووقف أحد الحضور فقال يل‪ :‬هذا نوع من‬

‫ونبهتم أن الخطورة تكمن يف أن النص يقرأ بطرق متعددة‪،‬‬

‫مسلمً ا ألنه يعرف الله‪ ،‬ويصيل له ويؤمن به ويقرتب منه‪،‬‬

‫من النخب الثقافية‪ ،‬ماركسية كانت أم قومية أم ليربالية‪،‬‬

‫ذات مرة يف محاضرة ببريوت تكلمت عن هذه الفكرة‪ ،‬ورأيت‬

‫التشفي من اإلسالم‪ ،‬فسألته‪ :‬كيف‪ ،‬فقال‪« :‬املسلم سُ مّ ي‬

‫واآلخرون يبتعدون»‪ .‬فأجبته أن هذه املشكلة ُتحل عرب تحديد‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫قلت‪:‬‬ ‫إطالقا؛ فالنسبي ليس نسبيًّا‪ ،‬إن‬ ‫العالقة بني املطلق‬

‫هل يمكن اليوم تقديم قراءة عقالنية تاريخية للنص الديني‬ ‫لاً‬ ‫فكر نهضوي جديد؟‬ ‫وصو إىل ٍ‬ ‫ هذا سؤال العصر اآلن‪ ،‬باألساس النص ٌّ‬‫نص يحمل‬

‫إنه نسبي معناه َ‬ ‫َ‬ ‫عب‬ ‫أنك‬ ‫أطحت به‪ ،‬فـ (الله) مطلق‪ ،‬لذلك رّ‬

‫ثنائية (البنية والقراءة)‪ ،‬وهي بنية واحدة‪.‬‬

‫هنا أصبح كل الناس مسلمني ومسيحيني مؤمنني بإسالمهم‬

‫دالالت لغوية‪ ،‬لكن من يقرؤه وفق ما هو عليه‪ ،‬لذلك نشأت‬

‫● لكن أال تعقد التفاسري واالجتهادات املسألة بني‬

‫املسلمني أنفسهم؟‬

‫‪ -‬كله مشروع عىل أساس أن هذه التفاسري أو القراءات‬

‫تأيت ناتجً ا لتلك القنوات الثالث كما أشرت‪( :‬املعريف واملصلحي‬ ‫والقوة)‪ ،‬فالجميع ً‬ ‫إذا مسلمون‪ ،‬إسالم للكل حسب ما يفهمه‪،‬‬

‫حتى تلك الطقوس التي يقوم بها من صالة وصوم وزكاة قد‬

‫يضاف إليها يشء‪ ،‬والحقيقة أنني استنبطت هذه الفكرة منذ‬

‫كنت يف الصني‪ ،‬حيث د ُ‬ ‫سنوات عندما ُ‬ ‫ُعيت للتحدث عن الدين‬

‫والثقافة اإلسالمية‪ ،‬وقبل املحاضرة أخذوين إىل مقابرهم‪،‬‬ ‫ولحظت أن مقابرهم مختلفة عن مقابر اآلخرين‪ ،‬فال يوجد‬

‫لها شواهد أو بنية معمارية‪ ،‬فسألتهم عن سبب ذلك فقالوا‪:‬‬ ‫«نحن هكذا»‪ ،‬خذ السعودية مثلاً حتى اليوم ال يوجد شواهد‬ ‫قبور ملوتاهم فـ«خري القبور الدوارس»‪ ،‬وهذا يختلف حسب‬ ‫اختالف فهم النص بني فرق ٍة وأخرى‪ .‬وهذا الفهم يأيت من‬

‫املصالح واملعارف والقوة‪ ،‬فإن لم يوجد الفهم‪ ،‬سيوجد اإليمان‬ ‫العفوي‪ ،‬فاإلنسان البسيط يؤمن بيشء ال يعيه لكنه يحتاجه‪.‬‬

‫● نتكلم عن الدين والدين حاجة إنسانية‪ ،‬لكن ماذا‬

‫عن دور املؤسسة الدينية يف حياة املجتمعات العربية؟ كيف‬ ‫تقيمه؟‬ ‫ً‬ ‫‪ -‬املؤسسة أتت الحقا‪ ،‬الدين من حيث هو أىت دون هذه‬

‫املؤسسات‪ ،‬فهذه األخرية جاءت كمحصلة للفهم واملصالح‬ ‫ً‬ ‫أيضا‪ ،‬فظهر املسجد وكان له قوته وخصوصيته‬ ‫والقوة‬

‫بعضهم عن الدين بأنه إلهام‪ ،‬نستلهم لكننا ال نعرف تمامً ا‪ .‬من‬

‫ومسيحيتهم‪ ،‬وال أحد يستطيع أن يملك الحقيقة‪ ،‬ال ملك وال‬ ‫أمري وال سلطان وال قائد وال إمام‪.‬‬

‫● بني املادي واملثايل حرصتم ً‬ ‫دوما عىل عدم الوقوع يف‬

‫التفسريات الغيبية امليتافيزيقية للتعبري عن اإلسالم كظاهرة‬ ‫اجتماعية؟‬

‫‪ -‬طبعً ا عندما نتحدث عن وحدة األديان السماوية نعني‬

‫ً‬ ‫إطالقا كما أشرت‪ ،‬عىل هذا‬ ‫أنها تقوم عىل ثنائية املطلق والنسبي‬ ‫األساس ألح اإلسالم عندما جاء عىل فكرة‬ ‫النسبي الفاعل‪ ،‬وجعل من املطلق‬ ‫قريبًا منه‪ ،‬أقرب من السواد إىل‬

‫البياض‪ ،‬أقرب من حبل الوريد‪،‬‬ ‫َ‬ ‫كأنك تتحدث عن وحدة‬ ‫وهنا‬ ‫كونية‪ ،‬وذلك هذا القرب الحميمي‬

‫الذي أنتج ما يالزمه عىل صعيد‬

‫ّ‬ ‫املشخص واملعيش‪ ،‬لذلك كان‬ ‫الواقع‬

‫اإلسالم أقرب األديان إىل الواقع‪ .‬دعنا‬

‫نتذكر هنا ما حدث يف التاريخ‬ ‫املسيحي يف روما‪ ،‬حيث‬

‫توجد‬

‫هناك‬

‫انتفاضة‬

‫كان زعيمها سبارتكوس‬

‫قائد ثورة العبيد الذي‬ ‫كان عبدًا‪ ،‬وهناك قول‬ ‫بديع‪:‬‬

‫«لو‬

‫نجحت‬

‫‪105‬‬


‫حوار‬

‫ثورة العبيد ملا كان محتملاً أن تنشأ املسيحية»‪ .‬العبيد ُق ِتلوا يف‬

‫ذلك الزمان بأعدا ٍد هائلة‪ ،‬حتى إنه سميت هذه الحادثة بأسبوع‬ ‫العبيد‪ ،‬ما أريد قوله أنه ما كان هناك مسيحٌ بعينه‪ ،‬بل مُسحاء‪،‬‬ ‫ربما واحد أكرث من اآلخر‪ ،‬فثورة العبيد أخفقت و ُدمّرت فجاءت‬

‫املسيحية التي أوجدت هذا الرباط‪ ،‬بعد أن كان سبارتكوس قد‬ ‫نادى بكل الحقوق التي نادت بها املسيحية‪ .‬املسيحية تاريخها ممتئل‬ ‫بالدالالت الكربى للتاريخ العاملي‪ ،‬أما اإلسالم فقد عاش يف عصر‬ ‫متقدم (القرن السابع امليالدي)‪ ،‬ويف بقعة أصبحت مرتادة من‬

‫مجموعات بشرية واسعة يف العالم‪ ،‬وال سيما عرب التجارة‪ ،‬فجاء‬ ‫اإلسالم دي ًنا فاعلاً مباش ًرا‪ ،‬وهو ً‬ ‫أيضا حرر العبيد لكن بطريقته‪،‬‬

‫والجميع أخذوا منه‪ ،‬وهذا ما جعل اإلسالم أقرب إىل الواقع عرب‬

‫معالجته مشكالت الناس العينية املباشرة‪ ،‬كالعبودية والرثوة‬

‫والخيص وغريها من املشكالت‪ .‬لقد أجاب اإلسالم عن‬ ‫والزواج‬ ‫ّ‬ ‫مشكالت مرحلته‪ ،‬وعىل رغم ذلك ظل كل من اإلسالم واملسيحية‬ ‫قائم عىل فكرة املطلق والنسبي‪ .‬املسيح هو ذاك الذي يف األعايل‬ ‫«يا أبانا الذي يف األعايل»‪ .‬اإليحاءات ُص ّنعت ُ‬ ‫وفعّ لت وكوِّنت منها‬ ‫أحداث هي مشكالت انتهت بهذا الفعل‪ ،‬هذه الخصائص قد ال‬

‫اإلسالم أقرب إلى الواقع عبر معالجته‬ ‫مشكالت الناس العينية المباشرة‬ ‫والخصي‬ ‫كالعبودية والثروة والزواج‬ ‫ّ‬ ‫وغيره من المشكالت‬

‫تكتشفها يف أديان أخرى‪.‬‬

‫‪106‬‬

‫● فرّقتم يف بحوثكم بني مفهوم الشفاعة املحمدية وبني‬

‫مفهوم الخالص املسيحي‪ .‬برأيكم هل من املمكن اليوم توحيد‬

‫ً‬ ‫مسلما كان أم‬ ‫رؤية فكرية وفلسفية عن اإلنسان العربي‬

‫مسيحيًّا يف إطار حضاري مشرتك؟‬ ‫ً‬ ‫‪ -‬التمييز بني هذا وذاك هو تمييز نسبي وليس مطلقا‪،‬‬

‫النسبي أنه خضع للتحوالت التي تمت باإلسالم نفسه‪ ،‬فكان‬ ‫اإلسالم يقرتب أكرث فأكرث من الناس ملعالجة مشكالتهم‪ .‬يف‬

‫املسيحية نشأ اتجاه يف هذا املنحى‪ ،‬لكن ظلت الفكرة األكرث‬

‫فاعلية ودخلت يف حياة البشر املدينني باملسيحية كمحفز‪ ،‬ولم‬ ‫تتدخل يف حياة البشر الخصوصية كالتجارة والتعليم واالقتصاد‪.‬‬ ‫ً‬ ‫داعشا ظاهرة عاملية‪ .‬كيف‬ ‫● يف حوار سابق قلتم‪ :‬إن‬

‫نستطيع اليوم قراءة ظاهرة اإلرهاب املنتشر يف العالم؟‬ ‫ً‬ ‫داعشا ظاهرة عاملية بقدر اإلفقار واإلذالل‬ ‫ نعم إن‬‫والالكرامة التي يعيشونها يف بلدانهم‪ ،‬هؤالء قتلة لكنهم ً‬ ‫أيضا‬ ‫ضحايا‪ ،‬قد يكون بعضهم اآلخر مجرمني‪ ،‬فهم ال يملكون‬ ‫ً‬ ‫داعشا هو الغرب‪ ،‬وتبعه الشرق األعىل‪.‬‬ ‫شي ًئا‪ ،‬القاتل الذي أنتج‬

‫الجابرية للفكر العربي‪ ،‬ثم كيف يمكن مواجهة فكر العوملة‬

‫الذي يهدد تفكيك الهوية العربية‪ ،‬وبالتايل إجهاض أي‬ ‫احتماالت لنهضة قادمة؟‬

‫‪ -‬سؤالك هذا ينقلنا إىل الذروة التي وصل إليها الفكر‬

‫العربي‪ ،‬ذروة ذات طابع حاسم‪ ،‬إما أن تكون أو ال تكون‪،‬‬ ‫الذروة هنا يف نبش الكينونة ونفي هذه الهوية‪ ،‬فالجابري‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مأسوفا عليه بطبيعة الحال أنه رحل‪ ،‬ولقد ظل‬ ‫صديقا‬ ‫كان‬ ‫ُ‬ ‫كنت يف املغرب‪ ،‬وكانت‬ ‫صديقي حتى آخر أيام حياته‪ .‬مؤخ ًرا‬

‫هناك لقاءات مهمة جدًّ ا‪ ،‬حيث التقيت عائلته وآخرين من‬ ‫أصدقائه‪ ،‬الحقيقة كانت هذه الزيارة مناسبة ملراجعة موقفي‬

‫من األستاذ الجابري‪ ،‬وذلك بعد عرض ما قدّ مه‪ ،‬فلقد كان‬ ‫لقاءً مركبًا بني الشخيص والفكري‪ ،‬والجميع بات يعرف أن يف‬ ‫ً‬ ‫مقموعة قبل نهاية األحداث يف‬ ‫املغرب حركة ثقافية‪ ،‬كانت‬

‫ً‬ ‫خصوصا‪ .‬الفكر العربي مر بصعوبات كربى‪ ،‬لكن هذه‬ ‫تونس‬ ‫الصعوبات حملت نتائج إيجابية‪ ،‬كانت بمثابة والدة أنتجت‬

‫أشياء مهمة جدًّ ا‪ .‬آخر لقاء مع املرحوم الجابري كان يف بلدٍ‬

‫خليجي‪ ،‬أظن يف اإلمارات‪ ،‬وكان الرجل قد أوصل فكره إىل‬

‫داعش نتيجة الغرب االستعماري املتجرب والشرق الذي أصبح‬

‫موقع الفكر الذي يندرج مع الشرق مقابل الغرب‪ ،‬تحديدً ا‬

‫لكن يف النية الخفية غري املرئية‪ ،‬لذلك التخلص من داعش يعني‬

‫الذروة التي قرأها الجابري بشكل مطول‪ ،‬لكن الجدير بالذكر‬

‫مقلدً ا للغرب يحاول أن يفعل ما يفعله‪ .‬لقد نشأ داعش عامليًّا‬ ‫أن تبني عالـمً ا جديدً ا‪.‬‬ ‫● أريد أن أستوضح منك أولاً‬ ‫َ‬ ‫موقفك الجديد من القراءة‬ ‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬

‫ثنائية الشرق والغرب التي أسس لها املستشرقون‪ ،‬وهذه‬ ‫أنه وقبل وفاته بمدة قصرية بحث عن ذروة أخرى ووجدها يف‬

‫الفكر اإلسالمي‪ ،‬وقال‪ :‬إن اإلسالم هو الحل كما يقول اآلن‬


‫الطيب تيزيني‪ :‬القاتل الذي أنتج «داعش» هو الغرب وتبعه الشرق األعلى‬

‫ُ‬ ‫كتبت‬ ‫اإلسالميون‪ ،‬ما زاد املوقف اضطرابًا بيني وبينه‪ ،‬وكنت قد‬

‫ًّ‬ ‫خاصا حول الجابري‪ ،‬بعنوان «من االستشراق الغربي إىل‬ ‫كتابًا‬ ‫ُ‬ ‫نقدت ما قام به الجابري‪ ،‬وريئ يف‬ ‫االستغراب املغربي»‪ ،‬وفيه‬

‫حينه أن مسألته وصلت إىل حدها النهايئ القاطع‪.‬‬

‫لكن قبل رحيله قدّ م الجابري ما كان مُ بعدً ا يف نفسه‪،‬‬

‫واتضح يل أنه كان باألساس إسالميًّا‪ ،‬لكنه تقمص شخص‬ ‫الباحث يف الفكر العربي‪ً ،‬‬ ‫إذا الجابري كان له موقفان‪ .‬طريف أن‬ ‫أقول‪ :‬إنني انطلقت من منطلق الجابري الفكري‪ ،‬وهو منطلق‬ ‫عام أساسه النقد التاريخي‪ ،‬ووصلت إىل أنه كان من املندهشني‬

‫بالغرب بصورة فاقعة‪ ،‬بحيث وصل ما وصل إليه الشاعر‬

‫الربيطاين (كبلينغ) عندما قال قولته الشهرية‪« :‬الشرق شرق‬

‫والغرب غرب وال يلتقيان»‪ .‬الجابري وصل إىل ذلك بلغة الفكر‪،‬‬ ‫ومن ثم الجابري ترك ً‬ ‫إرثا كبريًا يتحرك ضمن هذا الحقل‪،‬‬ ‫لكن يف آخر حياته اتضح أنه ينطوي عىل بنية خبيئة لم ُتفصح‬

‫عن نفسها‪ ،‬عىل األقل لم تفصح تمامً ا وظلت غري واضحة‪،‬‬ ‫وقبل وفاته أشار إىل ما كان خبي ًئا وبلغة كتبت بلغة املقاالت‬ ‫واملشاورات واألحاديث الذاتية‪.‬‬

‫هنا انطلقت من موقعني‪ :‬الغرب والشرق‪ ،‬فمرجعية‬

‫الجابري املنهجية التاريخية كانت الغرب‪ ،‬وكان يرى أن‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫الحقا مفكرون آخرون يقولون‪:‬‬ ‫شرقا كما يأيت‬ ‫الشرق يبقى‬ ‫نحن ال نستطيع أن نكون يف موقع قريب من الغرب‪ .‬هذه‬ ‫الفكرة هي فكرة استشراقية باألساس‪ ،‬مع العلم أن كثريين‬

‫ً‬ ‫خصوصا‬ ‫من املفكرين الغربيني بعد نشأة االستشراق‪،‬‬ ‫الطليان منهم لم يسلكوا مسلك املستشرقني اآلخرين‬ ‫وأخذوا ًّ‬ ‫خطا قاطعً ا‪ ،‬حيث النزعة الكولينالية تظهر ضم ًنا‪.‬‬ ‫لكن األمر يظهر فك ًرا واجتهادًا‪ ،‬فقد كان الدافع الخفي هو‬

‫العالم الجديد الذي انطلق منه الجابري حني رأى أن الفكر‬ ‫العربي فكر غري منتج وغري مبدع‪ ،‬وغري سآّل‪ ،‬أي ال يقدم‬ ‫أسئلة‪ ،‬وهذا ما أعلنه صراحة «بيجيه» أحد املستشرقني‬ ‫الفرنسيني حني أدرك أن الشرق ال ينتج أسئلة‪ ،‬وهناك‬

‫طرفة جديدة فكتاب بيجيه كان بعنوان «الباب الضيق»‪،‬‬ ‫وأراد أحدهم أن يرتجمه إىل العربية‪ ،‬وفعلاً ُترجم بإشارة‬

‫من طه حسني‪ ،‬وكان ذلك‪ ،‬وحني علِمَ صاحب الكتاب بذلك‬

‫بعث رسالة إىل املرتجم قال فيها‪ :‬إىل من تقدم كتابايت؟ وهل‬ ‫هناك من يقرأ عندكم‪ ،‬هل هناك من يهمّ ه املسائل التي‬

‫يأت من املرتجم بل من طه حسني إذ‬ ‫أطرحها؟ الجواب لم ِ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫لكنك ُخدِ عت‬ ‫مسلكا صحيحً ا عمليًّا‪،‬‬ ‫سلكت‬ ‫«إنك‬ ‫قال له‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫من آخرين‪ ،‬إن الفكر العربي ً‬ ‫أيضا هو فكر سآل»‪.‬‬

‫الجابري والذهاب إلى الوصية األخيرة‬ ‫قال املفكر العربي الطيب تيزيني‪ :‬إنه دهش حني اكتشف ما آل إليه املفكر الراحل محمد عابد الجابري‪« ،‬فالرجل‬ ‫قدم الكثري للفكر العربي‪ ،‬عىل رغم أنه يف قطعياته األخرية ألغى ما ُع َّد فكرًا عربيًّا فاعلاً متجد ًدا‪ ...‬أعتقد أن هذا املنعطف‬

‫كانت له جذور قديمة وعريقة يف نفسه ظهرت ألسباب كثرية تحيط باملفكر والكاتب‪ ،‬فظهر كأنه مفكر إسالمي‪ ،‬وانتهت‬ ‫املسألة العربية الفكرية لديه‪ ،‬ولهذا اآلخرون الذين ساروا باتجاه الفكر اإلسالمي التجديدي ساروا متوافقني مع املرحوم‬ ‫ً‬ ‫سندا لهم من مصريني ومغاربة‪ ،‬لكن هذه املدة لم تطل يف فاعليتها‪ .‬شخصيًّا إنني أحرتم الجابري‬ ‫الجابري ورأوا فيه‬

‫واجتهاداته يجب أن تؤخذ بعني االعتبار‪ ،‬لكن املهم أنه كان يف حياة الجابري عامل قائم ربما من الطفولة‪ ،‬وأتت الدراسة‬ ‫يف فرنسا وغريها لتحدث تحولاً ‪ ،‬وظهر أن هذا التحول أىت متأخرًا حني أصبحت األسس املتينة قد ثبتت‪ ،‬هذا تحليل أويل‪،‬‬

‫لكن الجابري مشكور يف كل األحوال حتى يف مسألة اكتشاف اإلسالمية؛ ألن هذا الكشف يقدم لنا مهمات جديدة بأن نقرأ‬ ‫ً‬ ‫شرخا بني األمرين‪ ،‬بل حافظ عىل كليهما‪ ،‬وهذا يضيف‬ ‫ما لم نقرأه‪ .‬فالجابري لم ينتقل من حقل إىل آخر‪ ،‬ولم يحدث‬ ‫إىل الفكر العربي إشكالية جديدة بأن مفكرين عربًا لم يستطيعوا أن يخرجوا من اإلشكال األول الذي ولد معهم‪ ،‬فنشأت‬ ‫نتوءات سمحت بإضافات جديدة ظهرت أواخر العمر‪ ،‬حينما يصل العمر إىل أواخره يحس أن األيام اقرتبت من نهايتها‪،‬‬

‫وأن عليه الذهاب إىل الوصية األخرية‪.‬‬

‫• هذا يقودنا إىل شخصية املفكر العربي التي لم تحل مشكلتها مع الغيب؟ كيف تعلقون عىل ذلك؟‬

‫هذا سؤال صحيح‪ ،‬ليس مع واحد أو اثنني من املفكرين العرب‪ ،‬بل ربما مع معظمهم‪ ،‬وأنا أقول ذلك عن معرفة‬ ‫بأصدقاء جمعتني بهم عالقات كبرية وطويلة‪ .‬ال أريد أن أقول شي ًئا عن املرحوم حسني مروة املفكر العلماين الذي نشأ‬

‫يف مكان إسالمي هو الحوزة الشيعية‪ ،‬وقد كان يحدثني عن ذلك كثريًا‪ ،‬أذكر أننا كنا أنا ومروة يف مؤتمر بإسبانيا‪ ،‬وكان‬

‫حديثه بحديث من يرغب يف العودة إىل بيئته الدينية أو يتبنى ذلك‪ ،‬إذ كان هذا جزءً ا من وعيه يحرتمه‪ ،‬لكن مروة كان‬ ‫يظن أنه وصل إىل ما وصل إليه عرب الطريق من هذا وذاك‪.‬‬

‫‪107‬‬


‫مقال‬

‫علي نوري زاده‬ ‫مدیر مرکز الدراسات العربية اإليرانية في لندن‬

‫ارتياح السید برحیل الشیخ‬ ‫لن یستمر طویل‬ ‫لقد كان الشاعر اإليراني الكبير «خاقاني شرواني»‬

‫صاحب قصيدة «مدائن» الحماسية الوطنية «‪-520‬‬ ‫‪595‬هـ» من أقرب أصدقاء جمال الدين عبدالرزاق‬ ‫الشاعر والكاتب المعروف في عصره‪ ،‬وعلى رغم‬

‫وجود نوع من التنافس بين الرجلين وهما شاعران‬

‫‪108‬‬

‫محظوظان بلطف وعناية شروان شاه ملك أذربيجان‪،‬‬

‫غير أن كمال الدين عبدالرزاق أنشد قصيدة حزينة‬

‫حين وفاة خاقاني التي بعد مرور أکثر من ثمانیة‬

‫قرون علی والدتها‪ ،‬ال تزال حیة في عواطف اإلیرانیین‬ ‫بل جمیع الناطقین باللغة الفارسية‪ ،‬ونقرأ بمطلع‬

‫القصيدة‪« :‬كنت أقول دائمً ا‪ :‬إن خاقاني سوف يردد‬

‫هيهات هيهات‪ ،‬برحيلي‪ /‬وما كنت أتصور بأنني سوف‬ ‫أرثيه»‪.‬‬

‫حینما وقف آیة الله علي خامنئي مرشد الثورة‬

‫اإليرانية أمام نعش صديق عمره هاشمي رفسنجاني‪،‬‬

‫رحيل رفسنجاني الذي أشار خالله إلى فتنة أكبر‪ ،‬وتحول‬

‫«شخص من مناصري الثورة‪ ،‬بل من قادتها إلی منافق في‬ ‫خدمة األعداء والقوى المناهضة للثورة»‪ ،‬كان بال أدنى‬

‫شك‪ ،‬تأكيدً ا على حقد المرشد لرفسنجاني‪ ،‬وعدم تمكنه‬

‫من ضبط أعصابه إزاء تقدير الشعب لرفسنجاني ومواقفه‬

‫في العقد األخير من حياته‪ ،‬وذلك خالل مراسيم تشييع‬ ‫جثمانه إلى مثواه األخير داخل حرم الخميني‪.‬‬ ‫المرشد یقلل من شأن الشیخ‬

‫لقد نعی خامنئي هاشمي رفسنجاني في بيانه بلقب‬

‫«حجة اإلسالم» وليس «آية الله» ما أدى إلى سحب لقب‬

‫آية الله عن هاشمي رفسنجاني من قبل رجاله وقادة‬

‫حرسه على رغم أنهم ذكروا اللقب في عبارات المواساة‬

‫والعزاء بعد رحيل الرجل مباشرة‪ ،‬كما أن المرشد حذف‬

‫عبارة «اللهم إنا ال نعلم منه إال خی ًرا وأنت أعلم به منا» من‬

‫كنا نتوقع بأن يذكره رحيل من وضع تاج والیة الفقیه‬

‫صالته على جثمان رفسنجاني على رغم ترديده هذه العبارة‬

‫خاقاني‪ ،‬ولكنه استفاد من فرصته األخيرة للنيل من‬

‫الراحل وبقية رجال النظام عند وفاتهم‪ .‬ومن ثم شهدنا من‬

‫خامنئي ورأسه بسماعه خبر وفاة هاشمي رفسنجاني‪،‬‬

‫مبنى بالسكو بطهران ألكثر من أسبوعين‪ ،‬وتخصیص‬

‫القريبين منه قادرًا على أن يذكر هاشمي رفسنجاني‬

‫حول أسباب الحادث ومن المسؤول‪ ،‬من دون اإلشارة‬

‫علی رأسه‪ ،‬بقصیدة جمال الدین إسماعیل في رثاء‬ ‫مكانة رفسنجاني‪ .‬وربما ساد شعور باالنتصار قلب‬

‫ولوال ذلك ما كان العمید قاسمي من قادة الحرس‬

‫في الصالة علی جثمان مهدوي کني رئيس مجلس الخبراء‬ ‫أعالم النظام تضخيمً ا غير عادي في تغطية حادث حريق‬

‫صفحات عدة في الصحف والمواقع اإللكترونية للنقاش‬

‫بأقبح العبارات وأكثرها قذارة بعد رحيله‪ ،‬لقد جعل‬

‫إلى أن مالك المبنى حبيب إلقانيان أعدم في بداية الثورة‬

‫المؤامرة الكبرى ضد النظام «انتفاضة الخضراء‬

‫السنين الماضية تحذيرات بلدية طهران ورجال األعمال‬

‫قاسمي هاشمي رفسنجاني رأس الفتنة ومخطط‬

‫في عام ‪2009‬م»‪ .‬خطاب المرشد بعد أسبوعين من‬ ‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬

‫ومالكه الحالي «مؤسسة المستضعفين» تجاهلت طوال‬ ‫والعاملين بالمبنى ووكيل العقارات من خلو المبنى من‬


‫أبسط أجهزة إطفاء الحريق و‪ ....‬بقصة مبنی بالسکو‬

‫المدمر‪ ،‬استطاع النظام وضع حد للسؤال المطروح منذ‬ ‫الساعات األولى إلعالن نبأ وفاة رفسنجاني‪« ،‬هل اغتيل‬

‫رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام أو مات في ظروف‬ ‫طبيعية؟»‪.‬‬

‫إلى ذلك فإن أجهزة دعاية خامنئي حاولت ً‬ ‫أيضا‬

‫استغالل الصداقة التي كانت تربط هاشمي رفسنجاني‬ ‫والقيادات السعودية لتخفيف شأنه «لمدة أسبوعين‬

‫لعبت أجهزة دعاية الولي الفقيه التابعة للحرس على‬

‫أوتار الكذب والنفاق بادعائها أن السعودية لم تشارك في‬

‫عزاء آل رفسنجاني ولو ببرقية موجزة‪ ،‬وبعد نشر خبر‬

‫رسالة العاهل السعودي وولي عهده وولي ولي عهده إلى‬ ‫أسرة رفسنجاني من إحدى القنوات التلفزيونية الفارسية‬

‫الفضائية من خارج البالد‪ ،‬نشرت وكالتا تسنيم ورجا‬

‫نيوز الخبر بشكل غير دقيق ومحرف‪ ،‬مضمونه أن رسائل‬

‫التعزية وصلت إلى أسرة رفسنجاني بعد أسبوعين من‬

‫وفاته‪ ،‬ما دفع الفضائية الفارسية السابق ذكرها لبث‬ ‫إيضاحات نقلاً عن شقيق رفسنجاني محمد هاشمي‪،‬‬

‫هاشمي رفسنجاني‬

‫مضمونها أن برقيات المواساة من األسرة الملكية وصلتنا‬

‫المدة الوجيزة المتاحة له قبل أن يدعوه الله إلى حيث لن‬

‫والمواقع اإللكترونية‪.‬‬

‫الحي القيوم القادر المتعال‪ ،‬البصير والعليم بأسرار سيد‬

‫بعد ثالثة أيام وليس أسبوعين كما زعمت بعض الصحف‬

‫ً‬ ‫وغدا‬ ‫مشاعر المرشد باألمس واليوم‬

‫عودة إلى موضوع خامنئي ومشاعره‪ ،‬فإنه بدأ يشعر‬ ‫حسب مصادرنا بعزلة بالغة‪ ،‬عن الشعب أولاً ‪ ،‬ومن ثم‬

‫تساعده مخابراته وال حرسه وأجهزة قمعه؛ بل سيواجه‬ ‫علي آغا مهما كان لقبه‪.‬‬

‫لقد أظهر غياب رفسنجاني عورة والية الفقيه‪ ،‬ومن‬

‫كانوا يعدون سيد علي آغا نائبًا للمهدي المنتظر بقلب‬

‫عن قطاعات كبيرة من رجال الحكم والحوزة واإلصالحيين‬

‫مليء بالحب والمعرفة اإللهية‪ ،‬اكتشفوا وجهه الحقيقي‬ ‫ً‬ ‫صديقا‬ ‫خالل بضعة أيام‪ .‬والرجل الذي يدعي أنه كان‬

‫وزمرته حيال الرجل الذي أوصله إلى كرسي القيادة‪،‬‬

‫مرتبته الدينية يوم رحيله من آية الله إلى حجة اإلسالم‪.‬‬

‫والمحافظين القدامى الذين أزعجتهم سلوكيات خامنئي‬ ‫بل أجلسه فوقه بخطاب مفصل‪ ،‬والذي تضمن نقل‬

‫روایات مفبركة عن الخميني حول خامنئي في جلسة‬ ‫اختيار المرشد الجدید بمجلس الخبراء بعد یوم من‬

‫وفاة الخميني‪ .‬وبعد غياب رفسنجاني ببضعة أيام‪ ،‬بعث‬

‫األستاذ سيد حسين ميردامادي خال خامنئي برسالة إليه‬

‫لهاشمي رفسنجاني ‪ 59‬عامً ا‪ ،‬يقلل من شأنه وتخفض‬

‫بل في الصالة على جثمانه‪ ،‬يقرر إلغاء الدعاء الواجب في‬ ‫اآلداب الدينية عند إقامة صالة الميت‪« :‬اللهم إنا ال نعلم‬ ‫منه إال خی ًرا وأنت أعلم به منا»‪ .‬وهل يمكن أن يكون هذا‬ ‫ً‬ ‫صديقا لهاشمي رفسنجاني؟‬ ‫الرجل‬ ‫بضعة أسابيع مضت على تشييع جثمان هاشمي‬

‫عاتب خاللها ابن شقيقته بسبب «تحوله إلى طاغوت مليء‬

‫رفسنجاني‪ ،‬وفيما تزيد كل يوم مكانته عند المواطنين‪،‬‬

‫رفسنجاني‪ ،‬حسبما جاء في رسالته‪ .‬وطالب میردامادي‬

‫المواطن اإليراني لم يعد يتذكر‪ ،‬سنوات سطوة رفسنجاني‬

‫بالحقد حيال» قائد شريف وبارز مثل المرحوم هاشمي‬ ‫نجل شقيقته «أن يغير سلوكه وخطابه وممارساته في‬

‫يخسر المرشد ما بقي من رصيده ساعة بساعة‪ .‬ويبدو أن‬ ‫وتلك األيام التي كان الشيخ الرئيس الحاكم الحقيقي‬

‫‪109‬‬


‫مقال‬

‫للبالد‪ ،‬أيام االغتياالت السياسية التي شملت عد ًدا‬

‫من أبرز الشخصيات السياسية والثقافية داخل إيران‬

‫وفي الخارج‪ ،‬نسي الناس ذلك وأبدوا تقديرهم‬

‫وإشادتهم برفسنجاني معمار اإلصالحات واالنفتاح‪.‬‬ ‫وبالنسبة للمرشد‪ ،‬الذي ال يخفي كرهه ونفوره‬

‫للرئيس محمد خاتمي بسبب الشعبية المثيرة التي‬

‫كان وال يزال يحظى بها وسمعته الطيبة ومكانته‬ ‫العالمية‪ ،‬فإنه بدلاً من أن يسمع توصيات رفسنجاني‬ ‫وخاتمي برفع علم اإلصالح بيده ويصبح قائدً ا ورم ًزا‬

‫لإلصالحات واالنفتاح والتقدم‪ ،‬حاول بكل قواه‬

‫وبشتى الطرق والوسائل‪ ،‬إفشال مشروع خاتمي‬

‫اإلصالحي‪ ،‬وتشويه وجهه أمام الرأي العام‪ ،‬غير أن‬

‫خاتمي ازداد شعبية کلما تعرض لهجوم من المرشد‬

‫الفقيه‪ ،‬ومن كانوا َي ُع ُّدون سيد علي‬ ‫نائبا للمهدي المنتظر بقلب مليء‬ ‫آغا ً‬ ‫بالحب والمعرفة اإللهية‪ ،‬اكتشفوا‬ ‫وجهه الحقيقي خالل بضعة أيام‬

‫ورفسنجاني كان ً‬ ‫أيضا المندوب األول ألهالي العاصمة‬

‫بمجلس الخبراء ويرغب روحاني أن يمأل كرسيه بالمجلس‪،‬‬

‫هادي خامنئي «شقيق المرشد المؤيد لإلصالحات وصديق‬ ‫خاتمي وروحاني الحميم» أو حسن الخميني حفيد آية‬

‫وزمرته‪ .‬واليوم تتكرر تجربة خاتمي‪ ،‬هذه المرة لزعيم‬

‫الله الخميني‪ ،‬أما خامنئي فينوي منح الشيخ محمد یزدي‬

‫على والية الفقيه ومستقبلها‪ ،‬من اليوم الذي كان‬

‫رئيسا للمجلس‪.‬‬ ‫رفسنجاني في مايو المقبل‪ ،‬تمهيدً ا النتخابه‬ ‫ً‬

‫ميت‪ ،‬ورفسنجاني في قبره‪ ،‬سيمثل خط ًرا أکثر‬

‫‪110‬‬

‫لقد أظهر غياب رفسنجاني عورة والية‬

‫حيًّا يرزق‪ ،‬وخالل سنوات رئاسته بمجمع تشخيص‬ ‫مصلحة النظام كان همّ رفسنجاني الوحيد ضمان‬

‫استمرارية النظام وصيانة مقام المرشد‪ ،‬بخطوات‬

‫جريئة للمصالحة الوطنية‪ ،‬وإزالة العوائق في مسيرة‬ ‫التعايش السلمي مع الجيران أولاً ‪ ،‬ومن ثم مع‬

‫المجتمع الدولي‪.‬‬

‫مصادري في إيران متفقة جميعً ا حول خسارة‬

‫الذي خسر في االنتخابات األخيرة لمجلس الخبراء‪ ،‬مكان‬

‫وجنتي الرئيس الحالي للمجلس شخص منبوذ حتى بين أتباع‬ ‫المرشد بمجلس الخبراء وليس مؤهلاً إلدارة المجلس يوم‬ ‫غياب خامنئي وانتخاب مرشحه سيد إبراهيم رئيسي مرشدً ا‬ ‫ً‬ ‫ثالثا للنظام‪ ،‬وأخذ االعتراف من النواب لمجتبى خامنئي‬

‫نائبًا لرئيسي ليتولى المنصب بعد رحيل رئيسي‪« .‬والمعروف‬

‫أن سيد إبراهيم رئيسي أصدر أحكام اإلعدام بحق ‪ 4500‬شاب‬ ‫وشابة من أعضاء مجاهدي خلق والتنظيمات اليسارية‬

‫خامنئي الكبرى برحيل رفسنجاني‪ ،‬وألكثر من بضعة‬

‫والوطنية والليبرالية في عام ‪1988‬م‪ ،‬وقد وصفه المرجع‬

‫عين مستشاره األعلى الدكتور علي أكبر واليتي عضوًا‬

‫يقول الدكتور محمود طهراني ابن شقيقة خامنئي «السيدة‬

‫مملكة والية الفقيه يمكن تعيين عضو في الهيئة‬

‫للخميني‪ :‬إن خاله المرشد‪ ،‬يعاني هذه األيام آالمً ا جسدية‬

‫أسابيع يبحث المرشد عن بدائل لرفسنجاني‪ ،‬لقد‬

‫الراحل آية الله حسين علي منتظري بلقب الجزار المعمم‪.‬‬

‫في الهيئة التأسيسية للجامعة الحرة!! «وفقط في‬

‫بدري» ونجل «الشيخ علي طهراني» رجل الدين المعارض‬

‫التأسيسية لجامعة ما‪ ،‬دون أن يكون لهذا الشخص‬

‫ونفسية شديدة‪ ،‬ويساوره خوف وقلق حول مستقبل النظام‬

‫شائعات حول تكليف آية الله موحدي كرماني عضو‬

‫يقيم‪ ،‬إلى المقبرة الفخمة التي يجري بناؤها له حاليًّا‪ ،‬بجوار‬

‫أي عالقة سابقة بالجامعة المذكورة»‪ .‬ووسط‬

‫مجلس الخبراء بإدارة شؤون المجمع‪ ،‬شن أنصار‬

‫أحمدي نجاد حملة دعائیة لمصلحته كأفضل مرشح‬

‫لتولي رئاسة المجمع‪ ،‬أما روحاني فينظر إلى هذا‬

‫ومستقبل أسرته بعد وفاته ونقله من مجمع أذربیجان حيث‬ ‫حرم اإلمام الرضا بمشهد‪ ،‬ليرقد في بيته األبدي‪.‬‬ ‫٭٭٭‬

‫ذهب رفسنجاني إلى حيث ال عودة‪ً ،‬‬ ‫تاركا صديق عمره‬

‫المنصب على أنه منصب يستحق هو فقط أن يتواله‪.‬‬

‫بمفرده يواجه تحديات‪ ،‬كان باستطاعة شيخه الرئيس‬

‫رئاسة المجمع وهما رئيسا الجمهورية‪.‬‬

‫قريبًا مطلع قصيدة عبدالرزاق إسماعيل في رثاء خاقاني‪.‬‬

‫بحيث سبق أن تولى كل من خامنئي ورفسنجاني‬

‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬

‫التصدي لها بحكمته‪ .‬وما من شك في أن خامنئي سيردد‬


‫نصوص‬

‫عام النزوح‬ ‫رحاب أبو زيد‬

‫كاتبة سعودية‬

‫يف صباح شتوي ذي ندى‪ ..‬‬ ‫‪ ‬وبينما كنت ّ‬ ‫أعد عناصر فطوري املقدس؛ قطعة جنب أصفر‪ ،‬وكسرة خبز مقرمش‪ ،‬وشاي مزدوج الكثافة‪ ،‬لم‬

‫أتمكن من شم رائحة الخبز أثناء التحميص‪ ،‬تعجبت فهي املرة األوىل التي يفعل فيها الخبز ذلك!‬

‫ُ‬ ‫حككت أرنبة أنفي أستحثه عىل إعادة التشغيل أو عىل التذكر‪ ،‬ففوجئت بالفراغ‪ ،‬كانت األرنبة والثقبان جميعهم‬

‫مستشعر الرائحة‪..‬‬ ‫مفقودين‪ ،‬لم يكن هناك عبث ُيذكر بوجهي سوى تسجيل غياب‬ ‫ِ‬

‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫وجدتني أطوف حول نفيس بكوب ينسكب باستخفاف عىل‬ ‫طفت حول املطبخ أبحث تحت الطاولة واملغسلة‪،‬‬

‫بالطات سرياميكية ملساء كانت تفاخر بلمعانها حتى قبل قليل‪..‬‬

‫ً‬ ‫آخذا معه كل يشء‪ ،‬لم يكن من ُب ّد الركض باتجاه السرير لعله انتزع‬ ‫هل من املعقول أن يغيب يف ليلة وضحاها‬ ‫شيئا يتقافز بني الشجريات محدِثاً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ملحت‬ ‫هرعت للحديقة دونما تفكري مدقق‪،‬‬ ‫طيات ما‪ ،‬لم أعرث عليه‪،‬‬ ‫هناك بني‬ ‫ٍ‬ ‫خشخشة كحفيف نسيم وكوقع ضفرية شمس عىل غصن مختبئ‪ ،‬إنه هو‪ ..‬رحت أتبعه بنظري لم ألحق به‪ ،‬كان‬

‫يعتمد عىل طريقة ال يمكن التنبؤ بها يف القفز‪ ،‬مسافة قصرية توقف ثم يتابع يف اتجاه آخر‪« ،‬أنفي‪ ..‬أنفي‪ ..‬أنا هنا»‪،‬‬ ‫ًّ‬ ‫ُ‬ ‫مرتدا إىل مكانه‪ ،‬يف حني تابع القفز حتى اختفى عن ناظريّ ‪..‬‬ ‫وظننت لوهلة يقني أنه حاملا يراين سيهفو‬ ‫ناديته‬ ‫ً‬ ‫حدثا جللاً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫دهشا ما بالها الوجوه‬ ‫مشابها وقع لوجه جارة لنا مطلع عام النزوح‪ ،‬وحينذاك تساءل الجمع‬ ‫أذكر أن‬

‫غدت تغادر أصحابها‪ ..‬بل تنقلب عليهم‪..‬‬ ‫«أنف مفقود‪ٌ ..‬‬ ‫عني ضالة‪»..‬‬

‫رهف سمعي يف جزء من الثانية لهسيس أو حسيس بني عشب أخضر نبت‬ ‫ً‬ ‫ِّ‬ ‫مبجلة كأنها تبتل أمام شجرة «ملكة الليل» والتي‬ ‫حديثا‪ ،‬إنه هناك يف وقفة‬ ‫ٍّ‬ ‫ُ‬ ‫بفتور متهدج قبل أن أفقده‬ ‫بادرت‬ ‫تجل ما‪،‬‬ ‫بدت ‪-‬يف سكون‪ -‬تبادله حالة‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫تتضوع مساءً ‪ ،‬وتطلق شذاها بمقدِ م السحَ ر‪ ،‬التفت‬ ‫مجد ًدا‪ :‬تعلم أنها‬ ‫تذ ُكرينها ً‬ ‫نحوي‪ْ :‬‬ ‫إذا؟‬ ‫يف العادة‪ ..‬نستيقظ َ‬ ‫ً‬ ‫حلما حتى النهاية‪ ،‬أما هذه املرة‬ ‫ولم نكمل قط‬ ‫انتهى الحلم َ‬ ‫ولم أصحُ ‪ ،‬فبقيت العبارة األخرية تردد صداها يف أذين‪. ...‬‬ ‫أتحسس أذين!‬

‫‪111‬‬


‫تحقيقات‬

‫الرقابة وضعف القوة الشرائية والتأشيرات وعجز االتحاد‬

‫أبرز مشكالت الناشرين‬ ‫في معارض الكتب‬

‫‪112‬‬

‫القاهرة‬

‫معارض الكتب في بلدان العالم العربي ليست مجرد سوق لتجارة الكتاب‪ ،‬لكنها‬ ‫عرس ثقافي كبير ينتظره الجميع من العام إلى العام‪ ،‬يتنقل الناشرون بإصداراتهم وأعمالهم‬ ‫خلفها من بلد إلى آخر‪ ،‬باحثين عن ملتقى مختلف‪ ،‬وقارئ جديد‪ ،‬وأرض تروج فيها فكرتهم‬ ‫كصانعي ثقافة راقية‪ ،‬لكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه؛ إذ يوجد كثير من التحديات التي‬ ‫تواجه هؤالء الذين أصبح شرط حياتهم االنتقال من دولة إلى أخرى للمشاركة في عرسها‬ ‫الثقافي السنوي‪« .‬الفيصل» سعت إلى التعرف على أبرز الصعوبات التي تواجه الناشرين‬ ‫وأحالمهم للوصول إلى واقع أفضل مما يعايشونه اآلن في المعارض العربية‪.‬‬

‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬


‫يقول صاحب املؤسسة العربية للعلوم «ناشرون» ومديرها‬

‫يف حني ذهب مدير دار وائل األردنية أشرف أبو غريبة إىل أن‬

‫معارض الكتب تقدم أفضل األماكن للناشرين‪« ،‬ومن ثم يمكن‬

‫جهاد شبارو‪ :‬إن ضعف القوة الشرائية «هي أكرب الصعوبات التي‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫«شكل يف األعوام‬ ‫مضيفا أن تزوير الكتب‬ ‫تواجه الناشرين اآلن»‪،‬‬

‫القول‪ :‬إن غالبية املعارض يف العالم العربي مقبولة‪ ،‬وال تختلف‬

‫بتصدير الكتاب إىل مختلف البلدان العربية»‪ .‬وذهب شبارو‬

‫ال يهمه غري البيع للجمهور‪ ،‬وهؤالء سلسلة طويلة متنوعة»‪،‬‬

‫األخرية ضربات قوية للناشرين‪ ،‬وبخاصة أن املزورين يقومون‬ ‫إىل أن األوضاع السياسية يف كثري من البلدان «لم تعد تسمح‬

‫بإقامة معارض‪ ،‬وإن سمحت فإن اإلقبال ال يكون جادًّا‪ ،‬ومن‬ ‫َثم فالشراء شبه منعدم‪ ،‬ولنا أن نفكر فيما يجري يف كل من‬

‫اليمن وسوريا وليبيا والسودان والعراق ومصر‪ ،‬ونسأل أنفسنا‬ ‫كيف يمكن أن تروج املعارض‪ ،‬ويُق ِبل الناس عىل الشراء يف ظل‬ ‫كل هذه الفوىض؟»‪.‬‬

‫عن بعضها إال يف القدرات الخاصة لكل بلد عن اآلخر‪ ،‬والناشر‬ ‫مؤكدًا أن لكل معرض خصوصياته‪« ،‬ففي مصر توجد مشكلة‬ ‫واضحة‪ ،‬وهي أن سعر الكتاب األردين مرتفع‪ ،‬والقوة الشرائية‬

‫ضعيفة‪ ،‬ويف معرض الرياض يتمتع بقوة شرائية عالية‪ ،‬لكن‬

‫ثمة مراجعة لكل العناوين‪ ،‬وثمة رفض لبعضها‪ ،‬وهو ما يجعل‬ ‫الناشر يخسر جهده يف الشحن للمشاركة يف املعرض»‪.‬‬

‫وأضاف أن ثمة مشكالت أخرى تواجهها مهنة النشر بشكل‬

‫عام‪« ،‬ال عالقة لها بمعارض الكتب‪ ،‬لكنها تؤثر يف الصناعة‪،‬‬

‫من بينها تزوير الكتب‪ ،‬و«اإلي بوك» الذي أصبح ينافس الكتاب‬ ‫الورقي‪ ،‬أما املشكلة الثالثة فهي أن كل اتحادات الناشرين‬

‫عاجزة‪ ،‬وتقف مثل الطري املقصوص جناحه‪ ،‬فهناك بعض‬ ‫املعارض املتضاربة يف املواعيد‪ ،‬كمعريض الجزائر والشارقة‪ ،‬ورغم‬

‫طلب اتحاد الناشرين من كل من الجزائر والشارقة التنسيق‬

‫لتفادي هذا املأزق إال أن أحدًا لم يلتفت ولم يهتم‪ ،‬وهو ما يؤكد‬ ‫عجز اتحاد الناشرين العرب‪ ،‬وعدم تفهم الحكومات لطلباته؛‬ ‫ً‬ ‫أحيانا إىل عدم قدرة االتحاد عىل معاقبة أي‬ ‫العجز الذي يصل‬ ‫من أعضائه حال خطئه‪ ،‬كما ال يستطيع إجباره عىل املشاركة»‪.‬‬

‫من جانبه قال مدير مبيعات مكتبة ابن الجوزي السعودية‬

‫ياسر حسني‪« :‬إننا كعرب لسنا متفقني عىل يشء‪ ،‬فكل دولة‬ ‫تشرتط أمورًا تختلف عن األخرى‪ ،‬والحس األمني أصبح مسيط ًرا‬

‫عىل الجميع‪ ،‬فمن املمكن أن ي َ‬ ‫ُرفض ناشر لسبب أمني غري‬ ‫مفهوم‪ ،‬أو يُصادَر كتاب لسبب أمني آخر غري مفهوم ً‬ ‫أيضا»‪،‬‬

‫موضحً ا أن الناشر هو الخاسر؛ «ألنه يقوم بشحن الكتاب ولم‬ ‫يتمكن من عرضه‪ ،‬و«كراتني» الكتب نفسها ُتف َّتش بطريقة‬ ‫سيئة‪ ،‬كما لو أننا نبيع ممنوعات وليس الكتب»‪ .‬وأشار حسني‬

‫إىل أن اتحاد الناشرين العرب ال يستطيع فعل يشء‪« ،‬فال‬

‫يستطيع أن يلزم دولة بخفض اإليجار‪ ،‬وال يستطيع أن يطالب‬ ‫دولاً بتعويض الناشرين‪ ،‬هو مؤسسة أهلية غري فاعلة؛ ألنه بال‬ ‫سلطة عىل الحكومات»‪.‬‬

‫وأوضح مسؤول يف دار الساقي أن لكل دولة خصوصيتها‪،‬‬

‫ما يجعل كل معرض مختلف عن غريه‪« ،‬فمعرض الرياض يعاين‬

‫الناشرون فيه ارتفاع إيجارات أماكن البيع والعرض‪ ،‬إضافة إىل‬

‫رفض مسؤويل املعرض عرض وبيع نوعيات من الكتب‪ ،‬وهذا‬

‫يتكرر كثريًا مع دار الساقي خاصة‪ ،‬أما يف مصر فسوء اإلدارة‬

‫والتنظيم هما أبرز املعوقات‪ ،‬إضافة إىل ارتفاع سعر إيجار أجنحة‬ ‫البيع والعرض‪ ،‬لكن يف املغرب تعد املشكلة األكرب واألبرز هي‬

‫تحويل األموال؛ إذ إنه ليس مسموحً ا به إال دخول مبالغ ضئيلة‪،‬‬

‫‪113‬‬


‫تحقيقات‬

‫وال توجد أماكن لتحويل العملة‪ ،‬وهو ما‬ ‫يمثل صعوبة بالنسبة للناشر»‪.‬‬

‫أما خالد الناصر مدير دار منشورات‬

‫املتوسط‪ ،‬فقال‪ :‬إن كلفة املشاركة يف املعارض‬ ‫أصبحت مرتفعة‪« ،‬ومن ثم يجب أن تلقى‬

‫معارض الكتب ً‬ ‫نوعا من الدعم‪ ،‬وإال فإنها‬

‫ستواجه أزمة كبرية‪ ،‬يف مقدمتها غياب‬ ‫الناشرين‪ ،‬وبخاصة أن القدرة الشرائية لدى‬ ‫ً‬ ‫مضيفا أن املؤسسات‬ ‫الناس ليست كبرية»‪،‬‬ ‫الحكومية يف البلدان التي تقام فيها املعارض‬ ‫«يجب أن ُتق ِبل عىل شراء الكتب‪ ،‬فمن‬

‫املدهش أن املؤسسات العامة ووزارات الثقافة‬ ‫ال تشرتي الكتب لتزويد مكتباتها‪ ،‬إضافة‬

‫إىل أن مؤسسات الدولة املنظمة للمعرض‬

‫ال تعمل مع الناشرين القادمني إليها عىل‬ ‫إنجاز مشروعات ثقافية كربى‪ ،‬ال أحد يطلب‬

‫مشاركة الناشرين يف يشء»‪ ،‬مشريًا إىل وجود كثري من القرى‬

‫املعرض إىل تحويل ما تحصل عليه إىل دوالر‪ ،‬فيبدو ملن ال يعرفه‬

‫الناشرين لتقديم كتاب مدعوم أو يف طبعة شعبية ألبناء هذه‬

‫الكتب من العرض‪« ،‬وبخاصة أن هذه الكتب تكون قد وصلت‬

‫واملناطق محرومة ثقافيًّا‪ ،‬وتساءل‪« :‬ملاذا ال تتعاون الدول مع‬

‫‪114‬‬

‫املناطق البعيدة عن املراكز؟»‪ .‬وامتدح الناصر املعارض التي تقام‬

‫يف اإلمارات‪ ،‬موضحً ا أنها الوحيدة املستثناة من هذه امللحوظات‪.‬‬

‫كأنه يتاجر يف العملة»‪ .‬وذكر كردية أن من املشكالت املهمة منع‬

‫بالفعل إىل دولة املعرض‪ ،‬وهو ما يشكل أزمة للناشر ومزيد‬ ‫من التكاليف التي توضع عىل الكتاب»‪ .‬وأوضح أن الناشرين‬

‫وأجمل صاحب دار األمل السورية عمار كردية الصعوبات‬

‫السوريني «لديهم أزمة يف استخراج تأشريات الدخول‪ ،‬التي قد‬ ‫ُت َ‬ ‫لغى ألسباب أمنية يف أي وقت وألي سبب‪ ،‬حتى بعد شحن‬

‫إىل أن بعض املعارض «تجرب الناشر عىل الدفع بالدوالر والتحصيل‬

‫للناشرين‪ ،‬عرب إلغاء رسوم إيجارات أماكن العرض‪ ،‬من كربى‬

‫التي يواجهها الناشرون يف التكاليف املرتفعة ألجنحة البيع‪« ،‬ما‬ ‫يجرب الناشر عىل تحميل هذه التكاليف عىل سعر الكتاب»‪ ،‬الف ًتا‬

‫الكتب نفسها»‪ .‬وذهب إىل أن التزوير وعدم مساعدة الحكومات‬

‫من الجمهور بالعملة املحلية‪ ،‬ومن ثم يضطر الناشر يف نهاية‬

‫املشكالت التي تواجه الناشرين اآلن‪.‬‬

‫رئيس االتحاد‪:‬‬ ‫مالحظات الناشرين ليست حقيقية‬ ‫رفض رئيس اتحاد الناشرين العرب محمد رشاد مالحظات الناشرين عىل االتحاد‪ ،‬وقال‪:‬‬ ‫إنها غري حقيقية‪ ،‬وعدد جملة مما َّ‬ ‫عده إنجازات مهمة قام بها االتحاد‪« ،‬من بينها أن اللجنة‬ ‫العربية لحماية حقوق امللكية الفكرية تمنع أي ناشر من املشاركة حال ثبوت قيامه بالسطو‬

‫محمد رشاد‬

‫ً‬ ‫مضيفا أنه منذ شهرين «اجتمع كل الناشرين العرب يف مؤتمر نظمه االتحاد‬ ‫عىل حقوق امللكية الفكرية لغريه»‪،‬‬

‫بالشراكة مع مكتبة اإلسكندرية واتخذ العديد من القرارات املهمة‪ ،‬ومنها أال يزيد إيجار املرت يف أي معرض عن مئة‬ ‫وعشرة دوالرات‪ ،‬وأن ي َّ‬ ‫ُخفض إيجار املرت ‪ %50‬لكل من ناشري سوريا والعراق واليمن وليبيا وفلسطني لظروفهم‬

‫ً‬ ‫شريكا يف تنظيم املعارض‪ .‬وهذا بدأ مع معرض القاهرة يف يناير املايض‪ ،‬إضافة إىل‬ ‫السياسية‪ ،‬وأن يكون االتحاد‬ ‫تخفيف اإلجراءات الرقابية عىل الكتب‪ ،‬ومنح تأشريات الدخول َّ‬ ‫كل من يطلب االتحاد دخولهم»‪ .‬وأكد رشاد أنه ليك‬ ‫يكون لالتحاد صوت مسموع «فال بد أن يلتزم األعضاء أنفسهم بقراراته»‪.‬‬

‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬


‫تحقيقات‬

‫ُكتّاب سعوديون يطالبون‬

‫« ِكتاب الرياض»‬

‫باالنفتاح وتطوير فعالياته‬ ‫صالح العوض‬

‫عبّر مثقفون ُ‬ ‫وكتاب شباب عن مطالب يتمنون أن تتحقق في معرض الرياض الدولي‬ ‫للكتاب الذي تنطلق دورته الجديدة في مطلع هذا الشهر (مارس)‪ ،‬ومن هذه المطالب أن تشهد‬ ‫الفعاليات الثقافية المصاحبة للمعرض تطويرًا يشمل إدخال الموسيقا لترافق قراءة الشعراء‬ ‫لنصوصهم‪ ،‬كما طالبوا بأسعار مخفضة للكتب‪ ،‬إضافة إلى زيادة عدد دور النشر المشاركة‪.‬‬ ‫الكاتب والباحث عادل الهذلول يقول‪ :‬إن أول ما يتبادر‬

‫بشكل مباشر من الناشر فالواجب بيع الكتاب‬ ‫القارئ يشرتي‬ ‫ٍ‬ ‫لاً‬ ‫بنصف سعر املكتبات خارج املعرض بد من استغالل القارئ‪،‬‬

‫أكرث من دار سنويًّا ليس بإرادتها بل بإرادة وزارة إعالمنا لألسف‪،‬‬

‫يف حني ذكرت الكاتبة والصحافية أسماء العبودي أنها‬

‫ألذهان املثقفني واملختصني بشؤون الكتاب والنشر عند ذكر‬ ‫معرض الرياض الدويل للكتاب «تناقص دور النشر فيه‪ ،‬وفقدان‬

‫وهذا يضعنا يف وجه تساؤل أبنائنا عن سبب هذا التضييق الذي‬

‫يقابله زيادة اإلقبال من سكان الرياض العاشقني للكتاب»‪،‬‬ ‫ً‬ ‫مضيفا أن املعرض يأيت سنويًّا «ليثبت إمكانية تعايش كل األطياف‬ ‫الفكرية من كافة امللل والنحل يف تظاهرة ثقافية جميلة غابت‬

‫عنها الفعاليات الفكرية والثقافية الجادة‪ ،‬وهو ما يجعلنا نتحرك‬ ‫ثقافيًّا بال هدى‪ .‬ونقطة أخرية أهمس بها يف أذن املسؤول‪ :‬إذا كان‬

‫ولن يتحقق ذلك إال برقابة ميدانية مشددة عىل األسعار»‪.‬‬

‫حني تذهب للمعرض ال تريد أن تحمل قائمة بيدها‪ ،‬وتتنقل‬

‫بني املمرات لتسأل عنها أو لتجادل يف سعرها‪« ،‬كثريًا ما‬

‫أتمنى لو أستطيع محاورة من يكتب لنا‪ ،‬ومحاورة من ينشر‪،‬‬ ‫ومحاورة من يشرتي‪ ..‬أحب الشعر كثريًا‪ ..‬وأحب أن أسمعه‬

‫ممن كتبه»‪ ،‬متسائلة‪« :‬ما الذي يمنع أن نجعل شاع ًرا يقف‬ ‫هاو عازف ليقرأ ً‬ ‫بعضا مما كتب أمام الحضور‬ ‫قرب دار النشر مع ٍ‬

‫‪115‬‬


‫تحقيقات‬

‫عادل الهذلول‬

‫أسماء العبودي‬

‫ليستمعوا للشعر إلقاءً ‪ .‬أتمنى لو عرض يف جانب آخر من املكان‬

‫عىل القراءة كفعل حاسم الزدهار املجتمع وتطور الناشئة‪.‬‬

‫األدب والفكر ليلتقي بهم الشباب واألطفال؛ ليستمعوا إليهم‬

‫وأنشطته كمثال عىل السعي الستثمار فرتة معرض الكتاب‬

‫فلمً ا مستوحى من قصة أو رواية‪ ..‬أن تخصص منصات لكتاب‬ ‫عن بداياتهم وسريهم الذاتية وجهًا لوجه»‪ .‬وأكدت أن معرض‬ ‫الرياض يف حاله الراهنة «ال يفي بمتطلباتنا‪ ..‬أطمح كثريًا ألنسنة‬

‫املعرض وتحويله إىل مكان هادئ من دون أن يتعرض الناس‬ ‫ألي منغصات‪ ،‬أتمنى أن أجد املعرض حياة ال جمود متكرر‪ ..‬ال‬

‫رقابة عىل كتاب‪ ..‬لنثق برقابتنا الذاتية‪ ..‬نريد أن نرحب باألقالم‬

‫الصغرية والشابة وندوات تفاعلية نستمع فيها للناس أكرث مما‬ ‫نتحدث إليهم‪ ..‬هل أنا حاملة؟»‪.‬‬

‫‪116‬‬

‫طارق المبارك‬

‫معتصم الهقاص‬

‫أما الباحث والكاتب طارق املبارك فيقول‪« :‬أكرث ما يبهجني‬

‫يف معرض الرياض هو درجة ارتفاع السقف يف قبول تنوع‬ ‫وجرأة موضوعات وعناوين الكتب باملعرض منذ ما يقارب‬

‫عشر سنوات‪ ،‬ال شك أن هذا االرتفاع يف السقف نسبي‪،‬‬

‫لكنه بالنسبة يل معقول جدًّ ا مقارنة بما هو موجود باملكتبات‬ ‫التجارية ال العامة»‪ .‬ويضيف قائلاً ‪ :‬إن ما ينقص املعرض «أن‬ ‫يتحول لتظاهرة سنوية تشد سكان العاصمة لالهتمام بالكتاب‬ ‫والقراءة‪ ،‬فاملعرض يقام من دون أنشطة موازية كافية يشارك‬

‫فيها التعليم وبقية قطاعات املجتمع للرتكيز خالل مدة املعرض‬

‫وأعتقد أنه باإلمكان اإلشارة ملعرض الشارقة الدويل للكتاب‬ ‫للرتويج للقراءة‪ .‬وبعيدً ا من هذا وذاك يحق لنا االحتفاء بهذا‬ ‫املعرض كأحد أهم املواعيد السنوية يف هذه املدينة»‪.‬‬

‫ويوضح الكاتب والطبيب معتصم الهقاص أنه من خالل‬

‫زيارات متتابعة ملعارض الكتب العربيّة الدولية‪ ،‬بدءً ا من‬

‫معرض جدّ ة للكتاب يف شهر نوفمرب من العام املنصرم‪ ،‬مرورًا‬

‫بمعرض بريوت الدويل للكتاب يف الشهر نفسه‪ ،‬وانتهاء عند‬

‫معرض مصر يف بداية هذا العام‪ ،‬الحظ نقطة مشرتكة «ظهرت‬ ‫يل يف غاية األهميّة‪ ،‬وهي التجاوب الواضح للمتغري الثقايف‬

‫العاملي‪ ،‬وتبدّ ى لنا ذلك يف ظهور كتب نوعيّة للسطح بعدما‬ ‫غاصت تحته زم ًنا طويلاً ‪ ،‬وباالنفتاح املتوازن عىل ش ّتى املدارس‬ ‫املختلفة واملذاهب الفكريّة الجديدة‪ ،‬وامتدادًا لهذا‪ ،‬مؤملاً أن‬

‫تكون الدورة من معرض الرياض جديدة يف محتواها‪ ،‬وأن تعْ رُب‬ ‫أنشطة املعرض الثقافيّة املختلفة وأمسياته املتنوعة من دون‬

‫ضجيج أو عجيج‪ ،‬وبهدوء ينمّ عن مجاراة متزنة للمتغري املحيل‬ ‫والثقايف‪ ،‬وألاّ‬ ‫ّ‬ ‫يتخلف عن مستواه املعهود املتصاعد دائمً ا‪ ،‬نحو‬ ‫غد أكمل وأفضل»‪.‬‬

‫عادل حوشان‪ :‬تجربة النشر السعودي لم تنضج بعد‬ ‫الكالم عن معرض الرياض الدويل للكتاب يستدعي هموم الناشر السعودي‬

‫والتحديات التي تواجه صاحب دار طوى الناشر والكاتب عادل الحوشان يقول يف هذا‬ ‫الصدد‪ :‬إن أكرب ما يواجه النشر السعودي ّ‬ ‫«أنه صناعة متأخرة‪ ،‬لم تنضج بعد‪ ،‬ال‬

‫املؤسسات الرسمية قادرة عىل فهمه‪ ،‬وال املؤلف‪ ،‬وال حتى الناشر‪ ،‬وأرجح ذلك لقلة‬ ‫التجربة بالرغم من املبادرات التي حدثت يف العشر سنوات األخرية»‪ ،‬مطالبًا بإقامة ورش‬

‫عمل مكثفة «تجمع الكتاب والناشرين والجهات الرسمية؛ إليجاد الحلول وللنهوض‬ ‫بالنشر السعودي»‪ .‬وعن أهم العقبات التي تواجهه كناشر يقول الحوشان‪« :‬جزء مهم‬

‫لم يلتفت إليه أحد يضاف إىل وجع املثقفني وهواجسهم بالنجاح والنجومية‪ ،‬منافذ البيع‬ ‫ّ‬ ‫يصدق ذلك‪ ،‬واملؤسسة الرسمية تفعل نفس‬ ‫وشروطها الخاصة‪ ،‬ومهما يفعل الناشر إال أنه يأيت يف آخر القائمة‪ ،‬املؤلف ال‬ ‫كريس ّ‬ ‫يمثل منفذ البيع»‪.‬‬ ‫اليشء وال أحد يسأل الرجل الجالس عىل‬ ‫ّ‬

‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬

‫عادل حوشان‬


‫نصوص‬

‫الرحيل‬ ‫أحمد إبراهيم يوسف‬

‫كاتب سعودي‬

‫لم يبق لي مقام هنا‪.‬‬

‫أصبح التراب المطيع نثار بارود تحت قدمي‪ .‬األكف التي حملت جمرات «مداعتي»‬

‫تتمرد على حرقة الخزي ولسعة الهوان‪ .‬أرى في عيونهم الشماتة تنطق بلغة مبينة‪ .‬انزاحت سحابات االنكسار من الحدقات‬

‫ُ‬ ‫أصبحت قزمً ا أمامها‪ .‬أنا اآلن ال شيء‬ ‫الذليلة‪ ..‬الزنود التابعة التي بخلت على األرض بدوس قدمي استطالت فوق رأسي حتى‬ ‫بعد أن كنت كل شيء‪ .‬أتذكر عندما دعيت‪ ...‬كانت الدعوة فاتحة تقزمي‪ ...‬خرجت من بحري األليف‪ .‬كانت األمواج تعزف لح ًنا‬

‫متشفيًا‪ ،‬كانت تغني بحماس‪ ...‬كنت أسمعها رصاصات مدوية في أذني‪ .‬مت غريبًا مثلما غربتني‪ .‬استمرت األمواج تصفع‬ ‫مركبي‪ ...‬أحس صفعاتها على وجهي نارًا‪ ...‬أطعمها علقمً ا في حلقي‪.‬‬

‫قلت لنفسي‪ :‬في زمن الصراعات يجب أن تحسن االختيار‪ ...‬مسكين أنا‪ .‬اخترت‪ ...‬لكني سرت في درب أسلمني إلى زرب‬

‫من األسئلة‪ .‬كانت العيون الالهبة تحرق كبريائي فأتقشر أمامهم‪ .‬رائحة احتراق سطوتي أشمها نفاذة‪ ..‬نفس رائحة األكف‬

‫التي كانت تحمل جمر مداعتي‪.‬‬

‫قلت في نفسي « دارت الدائرة»‪.‬‬

‫أسلمني السؤال إلى السؤال إلى السؤال إلى الحديد‪ ..‬حتى صدئت‪.‬‬

‫ً‬ ‫مقيدا بذلي‪ .‬عدت‬ ‫صرت ال شيء بعد أن كنت كل شيء‪ .‬وحين تيقنوا من حالتي تلك أطلقوني سجي ًنا في نفسي‪...‬‬

‫إلي وعلى صفحاتها نضارة‬ ‫منخورًا‪ ...‬كل من كان ترابيًّا صار وبائيًّا‪ ..‬كل الوجوه التي تلذذت برؤية عذاباتها ها هي تنظر ّ‬ ‫تعذبني‪ .‬حتى الدار التي أسكنها‪ ...‬الدار التي كانت حصني وعريني أصبحت شقوتي‪ .‬زواياها التي شهدت نار عزي ها هي تروي‬ ‫حكايات ترمدي‪.‬‬

‫زوجتي الشامخة بي أعطت نفسها للصغار والصغيرات تغرسهم تحت شجرة التين الكبيرة في فناء الدار ترويهم باآليات‪،‬‬

‫وتنقش حناء الحروف الخضراء في أكف الذاكرات‪ .‬زوجتي هي األخرى أراها بال بريق‪ ..‬ال أدري هل طفئت أم انطفأت أنا؟‬

‫كل ما حولي باهت‪ ،‬بارد‪ .‬شامت‪ .‬الناس‪ ،‬حجارة المنزل‪ ،‬األشجار في فناء الدار‪ ...‬تم ّر بها عيناي فال أرى فيها شي ًئا ما‬

‫هذا؟ موت حي‪ ...‬أوه لم يعد لي مكان هنا‪ .‬ابتلعت القرار الصعب‪ .‬قدمت كأس قهوة الفراق لزوجتي‪ ...‬ذرفت دموعها في‬

‫الكأس حتى فارت‪.‬‬

‫قلت‪ :‬اصبري إن أدهر النأي‪.‬‬

‫وسرت بال زنود تحملني‪ ...‬كانت الطرقات تنبسط دهشة تحت قدمي حتى أسلمني استغرابها إلى الميناء‪ .‬وضعت فتات‬

‫عزي في مركبي الكئيب وأبحرت‪ ...‬كانت الشواطئ تهتف بي بلغة فصيحة‪ :‬مت غريبًا مثلما غربتني‪.‬‬

‫‪117‬‬


‫مقال‬

‫عالية ممدوح‬ ‫كاتبة عراقية‬

‫نزيه خاطر‪:‬‬ ‫جمهورية األعداء‬ ‫كتاب النحاتة والباحثة واألكاديمية اللبنانية نادين‬

‫أبو زكي «نزيه خاطر جمهورية األعداء» الصادر عن دار‬

‫الحكايات على قدر التواد الشديد الذي كان يشع من سطور‬

‫النهار باللغة الفرنسية‪ ،‬وترجمة نهلة بيضون شديد‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫خطوطا‬ ‫عملت في صفحاته وسطوره‬ ‫النفاسة‪ .‬كتاب‬

‫الموجود في كل واحدة منا‪ .‬كان ال بد من أن نجمع أجزاءك‪.‬‬

‫ذاتها وكتاب تتلمس فيه أمالح الصداقة‪ ،‬كما نقول‪:‬‬

‫الكاتبة بمسح شعاعي وروحي وأرشيفي على جميع ما كتب‬

‫وجيلين ومثقفين‪ ،‬لمدينة تدعى بيروت‪ ،‬كلنا‪ ،‬نحن‬

‫والفني‪ ،‬عن رحالته إلى عموم البالد العربية‪ .‬الكاتبة بدت‬ ‫ً‬ ‫عميقا ويدفع بالغرس فيالمس‬ ‫لي كالبستاني الذي يحفر‬

‫وهوامش وتعليقات شتى‪ .‬كتاب شغف بلذة الكتابة‬

‫‪118‬‬

‫ً‬ ‫التياعا وولعً ا وهن كثيرات‪ ،‬وبين الراوي لسرد‬ ‫في دربه‬

‫بيننا الخبز والملح والحبر‪ ،‬بين صديقين وشخصين‬

‫اليتامى وبنات السبيل عشنا أو مررنا بها وتبجحنا بما‬

‫ومفردات الصفحات‪« :‬تعاهدنا على أن نواصل حضورك‬

‫هبة الوفاء في جميع الظروف‪ ،‬السخاء بال حدود»‪ .‬قامت‬

‫من أفكار ودراسات ومقاالت في النقد التشكيلي والمسرحي‬

‫لدينا من سرديات عنها‪ ،‬عن سرها المنيع‪ ،‬ف ُتمجَّ د بما‬

‫في لحظة حنان بعض الزنابق الهاربة من وجدان نزيه خاطر‪.‬‬

‫حالة من االحتضار واالستسالم لها‪ ،‬ال هي تبوح بما‬

‫تملك‪ ،‬وال نحن نعرف ماذا سنعمل بكل تلك األسرار؟‬

‫يثير الدهشة وأنا أقرأ عن تلك الحقبة التي كنت أعيش فيها‬ ‫ً‬ ‫بعضا ممن ذكرتهم‪ ،‬وهو نزيه‪ ،‬التقيته في‬ ‫ببيروت وألتقي‬

‫يمنى العيد وأنا في ضيافتها‪ ،‬وبما أنني أدون على أي‬

‫األول معه‪« :‬عندما تكتبين‪ ،‬تشعرين أنك أكثر تعقيدً ا مما‬

‫تستحق ويغادر من يغادر‪ ،‬ويبقى من يبقى وهو في‬

‫بدأت بقراءة الكتاب في بيت الصديقة الناقدة الكبيرة‬

‫كتاب فكان ال بد من الذهاب إلى مكتبة أنطوان في‬

‫في رأيي‪ ،‬هناك بعض البشر يستحق أعداءه‪ ،‬وهذا األمر‬

‫ً‬ ‫خطفا وأنا أزور الشاعر أنسي الحاج إلجراء حواري‬ ‫النهار‬

‫شارع الحمراء واقتناء نسختي‪« .‬نزيه ذاكرة من ذاكرة‬

‫كتبت‪ .‬حياتي‪ ،‬ال أريد أن أقبض عليها‪ ،‬هكذا أنا‪ ،‬متقلب‪،‬‬ ‫ً‬ ‫أحيانا وال أخشى أن أكون ذلك‬ ‫لست حقيقيًّا‪ ،‬أخترع نفسي‬

‫الذهبية‪ .‬إنه البطريرك الذي تربع على مدى نصف قرن‬

‫وكل ما أكتبه‪ ،‬أكتبه لنفسي‪ .‬لم أكتب في حياتي ألجل أحد»‪.‬‬

‫بيروت الثقافية‪ ،‬وعين ثاقبة‪ ،‬وشاهد على سنواتها‬

‫إلى جانب أسماء بارزة أخرى‪ ،‬على إمبراطورية النهار‪:‬‬

‫وفي‪ ،‬مستقيم‪ ،‬سخي‪ ،‬ال‬ ‫الصحيفة اللبنانية األولى‪ٌّ .‬‬ ‫يساوم على أفكاره‪ ،‬ثابت على مبادئه‪ ،‬متصالح مع‬ ‫نفسه‪ ،‬فخور‪ ،‬عنيد حتى الصفاقة‪ ،‬خفيف الروح‪،‬‬

‫الشخص الساكن في ذهني‪ .‬كل ما أفعله‪ ،‬أفعله لنفسي‪،‬‬ ‫٭٭٭‬

‫كان الرسام أو المسرحي والسينمائي الفالني ينتظر‬

‫مقالة خاطر‪« :‬استمتعت بكوني ناقدً ا فنيًّا‪ .‬فاألمر يتطلب‬

‫كثي ًرا من الوقاحة‪ .‬لشدة ما أعشق ذلك الجانب االستفزازي‬

‫كتوم‪ ،‬حلو المعشر‪ ،‬رقيق الجانب‪ ،‬غامض‪ ،‬خفي‪،‬‬

‫في شخصيتي ال أقوى على إخفائه‪ ،‬هذا جزء من طبعي‪ ،‬أن‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫شخصا محايدً ا‪ .‬الكتابة تفضح المرء؛‬ ‫محرضا‪ .‬لست‬ ‫أكون‬

‫األعداء‪-‬األصحاب وبعض األصدقاء‪ ،‬والالتي مررن‬

‫على حق»‪ .‬بعض الخصومات بينه وبين بعض الفنانين‬

‫متحفظ‪ ،‬قريب‪ ،‬بعيد يحدوه إيمان شديد بالحياة»‪.‬‬ ‫ب ـن ــاء الك ـتـ ــاب أخـ ــاذ ب ـي ــن ال ـت ــوث ـيـ ــق ع ــن أل ـس ـن ــة‬

‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬

‫لذلك لم أكذب قط في كتاباتي من دون االدّعاء بأنني دائما‬


‫التشكيليين والشعراء تستغرق عقودًا‪ ،‬لكن احتضاره وهو في‬ ‫المستشفى أزال جميع الضغائن‪ .‬دائمً ا الموت يحمل الحل‬

‫والمشكلة‪ .‬بعضهم كان يسعد إذا مر الناقد على المعرض‬

‫ولم يكتب عنه‪ ،‬فهذا أفضل من الهجوم الذي يهشمه‪ .‬كان‬ ‫العالم العربي ضاجًّ ا بالمعارض والمسرحيات والمؤتمرات‬

‫والندوات والسينما الجديدة‪ ،‬ما بين بغداد ودمشق وتونس‬ ‫والكويت والقاهرة‪ ،‬فكان يحمل توكيلاً ثقافيًّا لكي يغذي‬ ‫الذائقة والمزاج العربيين من القراء والفنانين والنخبة على‬

‫حد سواء‪ ،‬فقد كانت ثقافته الفرنسية العميقة وبعد دراسته‬ ‫في باريس ولسنوات هي مراجعه العالمية التي كانت تحت‬

‫‪119‬‬

‫تصرفه‪ ،‬يعرضها ويجمع عبرها األدلة ويدع مقاالته كالحجة‬

‫والمقترح‪ ،‬فيبدع في االعتراض أو الثناء‪ .‬كانت والدته تردد‬

‫عليه دائما‪ :‬تنتظرك العداوات‪ .‬ففي مقاالتك كنت ترفع‬

‫موهبة فنية أو تحط من قدر فنان‪ .‬جميعهم يخشاك‪،‬‬

‫يراعيك‪ ،‬أخالقك تمنعك من شن هجوم على األشخاص‬

‫الذين ال تحبهم فتتجاهلهم لئال تؤذيهم‪ ،‬وكان ذلك كالعقاب‬ ‫ً‬ ‫أحيانا‪ ،‬فليشتمنا لو شاء‪ ،‬ولكن فليكتب ع ّنا‪ .‬إذا ذكرني نزيه‬ ‫خاطر في صحيفة النهار فسيعرف اسمي الجميع»‪.‬‬

‫بعض الصداقات ال يتكرر في هذا‬ ‫الوقت‪ ،‬كما هناك كتابات‪ ،‬ربما تبدو‬ ‫كتابة صحيحة وجيدة لكنها محشوة‬ ‫بالعدوانية‪ .‬سطور هذا الكتاب تقطر‬ ‫إخالصا وأريحية قل نظيرهما‬ ‫ً‬

‫٭٭٭‬

‫يلسع ويلدغ ويقرص هذا الناقد‪ ،‬شاغل الرسامين‬

‫وملعون من عموم الفنانين‪ .‬بيروت كانت حاضنة ثمينة‬ ‫لتالطم واحتدام جميع األفكار‪ :‬الماركسية والقومية‪،‬‬

‫وبجميع أحزابها وأيديولوجياتها‪ .‬كلهم يترافق وينفصل‬

‫بالمناهج واألدوات والتفسيرات والتأويالت االجتماعية‬

‫كما هناك كتابات‪ ،‬ربما تبدو كتابة صحيحة وجيدة لكنها‬

‫ً‬ ‫إخالصا وأريحية‬ ‫محشوة بالعدوانية‪ .‬سطور هذا الكتاب تقطر‬ ‫ّ‬ ‫قل نظيرهما‪ .‬تصورت حالي في أحد مسارح المدينة األجمل‬

‫والثقافية والسياسية لمرحلة من تاريخ المنطقة الذي كان‬

‫وأنا أصغي لحوار نزيه‪ ،‬فبعد صداقة عمرها ‪ 45‬سنة‪ ،‬وفي‬

‫المستقبل‪ ،‬بالرغم من أن بذور الحرب األهلية كانت قد بدأت‬

‫شيء‪ ..‬ينهار جهاز مناعته بعد أن استغني عنه من الجريدة‪.‬‬

‫بيروت ترسّ ب المرئي الجميل والالمرئي الخطير الذي أحرق‬

‫بأسماء من تم االستغناء عنهم من الكتاب‪ ،‬فهم‪ ‬يستحقون‬

‫يشهد ولو خارجيًّا على نوع من التماسك النسبي باتجاه‬

‫حركة واحدة من يد رئيس التحرير غسان تويني يتوقف كل‬

‫تتراص كما هي طبقات الجيولوجيا الرسوبية الرخوة‪ ،‬فتربة‬

‫اليوم‪ ،‬علينا نحن‪ ،‬بعض األصدقاء في بيروت‪ ،‬ضبط‪ ‬قائمة‬

‫اليابس واألخضر‪ .‬بعض الصداقات ال يتكرر في هذا الوقت‪،‬‬

‫كتابًا كهذا‪.‬‬


‫ثقافات‬

‫‪120‬‬

‫كاتبة مغربية حازت جائزة الغونكور العام الماضي عن «أغنية هادئة»‬

‫ليلى سليماني‪:‬‬

‫مجرد كوننا نساء يجعلنا ضحايا‬ ‫محتمالت للعنف واالعتداءات‬ ‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬


‫ليلى سليماني‪ :‬مجرد كوننا نساء يجعلنا ضحايا محتمالت للعنف واالعتداءات‬

‫ترجمة‪ :‬محمد اإلدريسي‬

‫مترجم مغربي‬

‫مع صدور روايتها الطويلة الثانية المستوحاة من األحداث المأساوية لمدينة‬

‫نيويورك‪ ،‬تشرح الكاتبة المغربية ليلى سليماني للقراء النسق الشرطي لعالقات األبوة‪-‬‬ ‫المربية‪ .‬في هذا الحوار الذي أجراه معها موقع «هفنغتون بوست» قبل تتويجها بجائزة‬ ‫ً‬ ‫أحيانا و«المثيرة»‬ ‫الغونكور بأيام قليلة ونشر يوم التتويج‪ ،‬تتحدث عن روايتها «المخيفة»‬ ‫ً‬ ‫أحيانا أخرى «أغنية هادئة» التي حازت الجائزة‪.‬‬

‫• كيف استطعت الدخول إىل رأس مربية قاتلة وأم يف‬

‫الوقت نفسه؟ أليس األمر أشبه بحالة فصامية؟‬

‫‪ -‬عندما نكتب‪ ،‬فإننا نحاول استثمار ما نملك وما يرتبط‬

‫بخرباتنا‪ ،‬ويف الوقت نفسه نستدعي مخيالنا واستيهاماتنا؛‬

‫لذلك ال أعتقد أن األمر يتعلق بفصام‪ ،‬بل مجرد تما ٍه مع‬

‫شخصية معينة حينما نقرأ رواية أو نشاهد فلمً ا‪ .‬أود أن‬

‫‪121‬‬

‫أقول بأن سحر الخيال هو ما يسمح لنا بالخروج من ذواتنا‬ ‫واستثمار حقائق أخرى‪ ،‬وسرب أغوار نفوس أخرى غري أنفسنا‪.‬‬ ‫غال بالنسبة‬ ‫• أليست هناك مفارقة يف أن نأتمن ما هو ٍ‬

‫لنا إىل شخص غريب كلية؟‬ ‫‪ -‬بدلاً من القول بالتناقض‪ ،‬أعدّ األمر شكلاً من أشكال‬

‫الالوعي‪ ،‬والجنون‪ .‬حينما نفكر يف األمر‪ ،‬نجده يبعث عىل‬ ‫الدوار! ويف الوقت نفسه‪ ،‬نجده قائمً ا منذ قرون خلت‪.‬‬

‫لقد وقفت منظماتنا االجتماعية‪ ،‬منذ مئات السنني‪ ،‬عىل‬ ‫حقيقة أن النساء البورجوازيات يأتمن نساء أخريات‪ ،‬أقل‬ ‫فضلاً ‪ ،‬عىل أبنائهن‪ ،‬من أجل تكريس أنفسهن ليشء أخر‬

‫مستقلة‪ ،‬وألتقي الناس‪ ،‬وأحتفظ بلحظات خاصة‪ .‬إنه أمر‬

‫برودة‪ ،‬وأكرث رأسمالية وأقل حميمية‪ .‬لذلك‪ ،‬قد يبدو ضربًا‬

‫للعديد من النساء األخريات‪ .‬لكن‪ ،‬ملاذا ال نطرح هذا السؤال‬

‫غري األمومة‪ .‬أضحت العالقة مع املربية‪ ،‬أكرث تنظيمً ا‪ ،‬وأكرث‬ ‫من الجنون أن يرتكن طفلهن لشخص بالكاد يعرفنه‪ .‬إن هذا‬

‫«اإلرهاب» وهذه الالعقالنية هي ما يعطي اإلثارة للرواية‪.‬‬ ‫• أن تصبحي ربة بيت هي غاية غري مدركة؟‬

‫‪ -‬ال‪ ،‬أبدً ا! لن أكون قادرة عىل ذلك‪ ،‬لن أستطيع الصرب‬

‫أو املخاطرة بأن أتحول إىل «وحش»‪ ،‬ال بد يل أن أقول بأنني‬

‫سأشعر بملل فضيع جدًّ ا‪ .‬أحب العمل‪ ،‬وأحب أن أكون‬

‫ضروري‪ ،‬وال مف ّر منه‪ ،‬لعييش الكريم‪ ،‬كما هو بالنسبة‬ ‫عىل الرجال؟‬

‫• بشكل عام‪ ،‬ما هي وجهة نظرك حول دور األمهات‬

‫العامالت يف املجتمع الحديث؟‬

‫ًّ‬ ‫محكا صعبًا وغري متكيف بشكل‬ ‫ أجد أن املجتمع ما زال‬‫ّ‬ ‫كبري مع عمل املرأة‪ .‬أنا أفكر يف النساء اللوايت تمكن من‬ ‫االشتغال عىل مختلف الجبهات‪ .‬أجد أن األمر الفت للنظر‪،‬‬


‫كتب‬

‫وأعرف إىل أي حد هن مرهقات! ألنه‪ ،‬شئنا أم أبينا‪ ،‬ال تزال‬

‫• كيف سينظر إىل هذه املأساة إذا وقعت يف املغرب؟‬

‫األعباء؛ لكونها أول من يُستدعى يف حالة مرض طفل ما‪،‬‬

‫وينمن يف بيوت رؤسائهن يف العمل وليس لديهن حياة أخرى‬

‫األحكام املسبقة منتشرة واملرأة وحدها من يتحمل مزيدً ا من‬

‫وأكرث من يلجأ إىل التقليل من زمن العمل لرعايته‪.‬‬

‫إىل جانب هذه الحياة‪ .‬إضافة إىل ذلك‪ ،‬ما زالت الالمساواة‬

‫• نجد يف روايتك سر ًدا لحياة عائلة نيويوركية تعيش يف‬

‫االجتماعية والثقافية واضحة بشكل كبري مقارنة بباريس‪.‬‬ ‫أعتقد أن هذه الدراما مبالغ فيها‪ ،‬وأكرث ً‬ ‫عنفا‪ ،‬ربما‪ .‬لكن من‬

‫‪ -‬هنا أملس إحالة إىل األخبار (املنوعات) التي أعطتني‬

‫• ستصدرين يف مطلع عام ‪2017‬م دراسة حول «الجنس‬

‫الجانب الغربي‪ ،‬يف حني أن املربية ذات أصول دومينيكانية‪.‬‬ ‫يبدو أن األمر يتعلق ً‬ ‫أيضا برواية عن الصراع الطبقي؟‬ ‫الفكرة األوىل حول الرواية‪ ،‬لكنني مع ذلك لم أستلهم منها‬ ‫أي يشء عىل اإلطالق أثناء عملية بناء شخصيايت‪ .‬ومع ذلك‪،‬‬

‫بالطبع‪ ،‬تظل مسألة الصراع الطبقي حاضرة بقوة يف الكتاب‪.‬‬ ‫سيجد هذين الزوجني‪ ،‬بشكل بوهيمي قليلاً ‪ ،‬أنفسهم ألول‬

‫املؤكد أنه سيكون من املفيد جدًّ ا حدوث تغري يف الواقع املغربي‪.‬‬

‫واألكاذيب املرتبطة به» يف املغرب‪ ،‬ويف روايتك األوىل‬ ‫«حديقة الغول» وقفت عند صورة امرأة شابة مدمنة عىل‬ ‫الجنس‪ .‬نجدك ال ترتددين يف مناقشة املواضيع الحساسة‬

‫عىل ضفتي املتوسط‪ ،‬ملاذا؟‬

‫مرة وجهًا لوجه إزاء قيم التسامح‪ ،‬واالنفتاح‪ ...‬عىل الواقع‪.‬‬

‫‪ -‬عندما أكتب‪ ،‬ال أفكر يف مثل هذه الشروط‪ .‬أكتب‬

‫ولم يعيشوا أي نوع من الهرمية‪ .‬للمرة األوىل يف حياتهم‬

‫موضوعات كتبي حساسة أو ال‪ ،‬هي باألساس محط تأويل‬

‫إنهم عينة من أناس ال يعيشون ضمن مزيج اجتماعي‪،‬‬ ‫سيصبحون زعماء‪ ،‬وسينقلب البؤس عليهم‪ .‬وهذا كله‬

‫‪122‬‬

‫‪ -‬يف املغرب‪ ،‬يحدث أن نصادف كون «املربيات» يعشن‬

‫بسبب االحتكاك االجتماعي الرهيب‪.‬‬

‫حول ما يهمني‪ ،‬كل يشء يف الحقيقة‪ .‬وحقيقة أن تكون‬ ‫وتفسري من قبل العموم أو وسائل اإلعالم‪ .‬إنني أنقاد وراء‬ ‫أمنيايت أو التزامايت‪.‬‬

‫روايتها األولى رفضتها «سوي»‬ ‫وقبلتها «غاليمار»‪ ..‬وفوزها يواجه باالنتقاد‬ ‫ولدت ليىل سليماين بمدينة الرباط سنة ‪1981‬م من أب مغربي وأم فرنسية‪ -‬جزائرية‪ ،‬وتعد ثالث روائية عربية‬

‫تحصل عىل جائزة غونكور‪ ،‬بعد الروايئ املغربي الطاهر بن جلون (‪1987‬م) واللبناين أمني معلوف (‪1993‬م)‪ .‬لم تكن‬

‫الطريق نحو الغونكور مفروشة بالورد؛ إذ سبق لـ«دار سوي» الشهرية أن رفضت مخطوطة عملها األول «يف حديقة‬ ‫الغول»‪ ،‬وهو ما جعلها تحبط إىل حد كبري‪ ،‬قبل أن تقبل «دار غاليمار» نشرها فيما بعد‪ .‬أسهمت األحداث العنيفة‬ ‫التي عرفتها فرنسا خالل السنتني‬

‫املاضيتني بشكل كبري يف التعريف‬ ‫بالشخصية الصحفية واملناضلة‬

‫والحقوقية‬

‫لليىل‬

‫سليماين‬

‫يف املشهد اإلعالمي البارييس‬ ‫خاصة‪ ،‬والفرنيس عامة؛ مما‬

‫جعلها تمهد الطريق لروايتها‬

‫الثانية «أغنية هادئة» املستقاة‬ ‫أمين معلوف‬

‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬

‫الطاهر بن جلول‬

‫من قصة شائعة حول جريمة‬


‫ليلى سليماني‪ :‬مجرد كوننا نساء يجعلنا ضحايا محتمالت للعنف واالعتداءات‬

‫حقيقة أن تكون موضوعات كتبي حساسة‬ ‫أو ال‪ ،‬هي باألساس محط تأويل وتفسير‬ ‫من قبل العموم أو وسائل اإلعالم‬ ‫• هل تعرتفني بأنك نسوية؟‬

‫‪ -‬نعم‪ ،‬بطبيعة الحال‪ ،‬كليًّا وبشكل غريزي‪ .‬إن مجرد‬

‫كوننا نساء يجعلنا ضحايا محتمالت لالعتداءات الجنسية‪،‬‬ ‫ً‬ ‫اعرتافا‪،‬‬ ‫والتحرش والعنف‪ .‬النساء هن األقل أج ًرا‪ ،‬واألقل‬ ‫واألقل تمثيلاً يف املجاالت السياسية أو االقتصادية العليا‪.‬‬

‫يف معظم دول العالم‪ ،‬تنتهك حقوقهن بشكل كبري! إنهن‬ ‫ضحايا للفصل والعزل يف العديد من الدول‪ :‬يف أفغانستان‪...‬‬ ‫وغريها‪ً .‬‬ ‫إذا نعم‪ ،‬أنا نسوية وسأظل دومً ا معارضة الستمرار‬

‫هذا الوضع‪.‬‬

‫• هل تفكرين يف العودة لالستقرار يف املغرب؟‬

‫‪ -‬أنا أعيش يف باريس منذ ‪ 17‬سنة‪ .‬هذا هو املكان الذي‬

‫بنيت فيه عائلتي‪ ،‬حيث يعيش أصدقايئ وحيث أعمل‪ .‬أنا‬

‫قتل مربية لطفلني بمدينة نيويورك‪.‬‬

‫ولم يمر فوز سليماين بجائزة الغونكور بسالم؛‬

‫متعلقة جدًّ ا بباريس وال أستطيع أن أتخيل نفيس خارج هذه‬

‫املدينة‪ .‬ولكنني لم أقل إنني ال أفكر أبدً ا يف املغرب!‬

‫• ما الرسالة التي تريدين تمريرها للمغاربة؟‬

‫‪ -‬آه‪ ،‬سيكون ضربًا من الغرور‪ ،‬من جانبي‪ ،‬إذا أردت‬

‫أن أمرر رسالة إىل املغاربة! اليشء الوحيد الذي أستطيع أن‬ ‫أقوله‪ ،‬وكان دومً ا شعاري األساس‪ :‬كونوا أحرارًا‪.‬‬

‫«سيجعل القارئ يطالع ذاته ويتعرف إليها من خالل هذه‬

‫الرواية» بحسب تصريح رئيس أكاديمية غونكور بعد‬

‫اإلعالن عن فوز الروائية املغربية الشابة‪.‬‬

‫إذ انتقد بعض املنابر اإلعالمية الفرنسية حصول ليىل‬ ‫سليماين عىل الجائزة‪ ،‬أولاً ‪ ،‬ألنها «ولدت خارج فرنسا»‪،‬‬

‫حظيت رواية «أغنية هادئة» بعد صدورها بإقبال‬

‫يف املشهد األدبي والفني الفرنيس‪ .‬ثانيًا‪ ،‬لكونها «كاتبة‬

‫الذي خلفه صدور روايتها األوىل لدى الجمهور الفرنيس‪.‬‬

‫األمر الذي يحيل إىل الحضور الدائم لإلرث الكولونيايل‬ ‫شابة» وال تحمل يف رصيد أعمالها السابقة سوى رواية‬ ‫واحدة‪ ،‬يف حني أن «أكاديمية غونكور» اعتادت منح‬ ‫الجائزة للكتاب املتقدمني يف السن‪ ،‬أو بلغة أخرى‬ ‫للكتاب الذين ينتمون إىل املايض‪ ،‬وليس إىل الحاضر‪،‬‬ ‫ويكتبون عنه‪ .‬لكنّ عد ًدا من النقاد يرى أن السر وراء‬

‫فوز الروائية الشابة بجائزة غونكور يكمن يف استلهامها‬

‫كبري من القراء واستحسنها النقاد‪ ،‬نظرًا لالنطباع الجيد‬ ‫طبعً ا‪ ،‬هنا ال نتحدث عن الشروط املوضوعية املتحكمة‬ ‫يف استحسان املقومات الفنية واألدبية للعمل الروايئ‪،‬‬

‫بقدر ما نتحدث عن األثر الذي تركته شخصية «أديل»‬

‫(الشخصية الرئيسة يف رواية «يف حديقة الغول») لدى‬ ‫القراء الفرنسيني‪ ،‬وعموم النقاد‪ ،‬وجعلها تحصل عىل‬ ‫جائزة املامونية الفرانكفونية املغربية‪ .‬ولقد أسهمت‬

‫املوهبة الفنية للروائية‪ ،‬وقدرتها عىل الوصف وربط‬

‫شخصيات الرواية –وكذلك روايتها األوىل‪ -‬من الفضاء‬ ‫«الغربي» وليس العربي أو املغاربي‪ ،‬كما هو شأن جُ ّل‬

‫خيوط الحبكة الدرامية لروايتها –بشكل يقارب الروايات‬

‫إىل جعلها من املشكالت املعيشة وإيقاع الحياة اليومية‬

‫بؤس الحياة ورعب الرواية‪ ،‬عىل اخرتاق الروح اإلنسانية‬

‫الكتاب املغاربيني الذين يكتبون باللغة الفرنسية‪ ،‬إضافة‬

‫ميكانيزمً ا أساسيًّا لبناء حبكتها الدرامية‪ ،‬وهو األمر الذي‬

‫البوليسية‪ -‬وزجها بالقارئ داخل الرواية وجعله يتذوق‬ ‫بـ«قسوة» و«برود» شديدين‪.‬‬

‫‪123‬‬


‫ثقافات‬

‫خمس سنوات على رحيل‬ ‫فيسوافا شيمبورسكا‪..‬‬ ‫الشعر يتيم!‬ ‫تقديم وترجمة‪ :‬عماد أبو صالح‬

‫‪124‬‬

‫شاعر مصري‬

‫ولدت الشاعرة فيسوافا شيمبورسكا عام ‪1932‬م‪ ،‬وماتت في األول من فبراير ‪2012‬م بسرطان‬ ‫الرئة؛ هي التي ظلت آلخر يوم من عمرها تدخن السجائر بشراهة طفلة تأكل الحلوى‪ .‬قالت عائلتها‪:‬‬ ‫إنها أسلمت الروح بهدوء تام في أثناء نومها‪ .‬أوصت بحرق جثتها‪ ،‬وإقامة جنازة من دون بهرجة وال‬ ‫طقوس دينية‪ ،‬وشددت على المع ّزين بتوفير ثمن األزهار لمساعدة المحتاجين‪ ،‬ودفنت في نفس‬ ‫قبر أبيها (وينسنتي ‪1936 -1870‬م) وأمها ّ‬ ‫(أنا ‪1960 -1890‬م)‪.‬‬ ‫تكتب «شيمبورسكا» قصائدها على حافة الرهافة والصرامة‪ ،‬والرعب والسخرية‪ .‬التقطيع‬ ‫الحاد لسيولة السرد‪ ،‬والبساطة العميقة‪ ،‬والشيفرات الفلسفية الماكرة‪ ،‬هي أهم آليات عمل هذه‬ ‫دروسا إبداعية للشعراء (الشاعرات‬ ‫البولندية الباذخة المدوّخة‪ ،‬التي لم تكن تكتب‪ ،‬بقدر ما تعطي‬ ‫ً‬ ‫خاصة)‪ ،‬في معنى الصبر والحفر‪.‬‬ ‫هي مثال آخر بعد قسطنطني كفافيس‪ ،‬يثبت أن‬

‫الشعراء يمكن أن يزدادوا براعة مع الزمن‪ .‬كانت كلما تشيخ‪،‬‬ ‫تنضج وتتوهج‪ ،‬إذ ال تقل قصائدها التي كتبتها يف الثمانينيات‬ ‫من عمرها‪ ،‬عن أعمالها السابقة التي صدرت يف ع ّز تألقها‬ ‫روحيًّا وصحيًّا‪.‬‬

‫يف كلمتها يف حفل استالم جائزة نوبل‪ ،‬ربما نجد أحد‬

‫مفاتيح عاملها امليلء باألسرار‪ .‬تقول‪« :‬ال أعرف‪ ..‬كلمتان لهما‬ ‫جناحان‪ .‬لو أن نيوتن لم يقل لنفسه ال أعرف‪ ،‬كان يف أحسن‬

‫األحوال سيلتقط التفاحة ويأكلها»‪.‬‬

‫لكن إذا كان الشعراء ال يعرفون‪ ،‬فمن الذي يعرف؟‬

‫تجيب «شيمبورسكا» يف نص الكلمة ذاتها‪« :‬وحدهم‬

‫الجالدون والدكتاتوريون واملأفونون ومتملقو الجماهري‬

‫يعرفون‪ ،‬لكنهم يعرفون مرة واحدة إىل األبد»‪ .‬الدهشة ضد‬ ‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬

‫الخربة ً‬ ‫إذا‪ ،‬هي ما أتاح لها أن تمسك براءة الطفولة بيد‪،‬‬ ‫وحكمة الشيخوخة يف يد‪ ،‬وألاّ تخذلها ربّة الشعر حتى آخر‬

‫َ‬ ‫نفس يف حياتها‪.‬‬

‫يطلقون عليها يف بولندا «موزارت الشعر»‪ ،‬وتحظى‬

‫بقراءة واسعة يف كل العالم‪ ،‬نخبوية وشعبية عىل السواء‪.‬‬

‫لم تكن معروفة عىل نطاق واسع قبل حصولها عىل نوبل‬ ‫ً‬ ‫استهجانا ودهشة لدى مبدعني‬ ‫عام ‪1996‬م‪ ،‬والقى فوزها‬

‫وأكاديميني‪ .‬لها أكرث من عشرين مجموعة شعرية ما بني‬ ‫إصدارات ومختارات؛ منها‪ « :‬لهذا نحيا‪1952 -‬م»‪ ،‬و«امللح–‬ ‫‪1962‬م»‪ ،‬و«مئة سلوى– ‪1967‬م»‪ ،‬و«الرقم الكبري‪1976 -‬م»‪،‬‬

‫و«النهاية والبداية‪1993 -‬م»‪.‬‬

‫يف مناسبة ذكرى رحيلها الخامسة‪ ،‬ترجمت حوارًا مع‬

‫سكرتريها الخاص ومدير مؤسستها مايكل ريسينيك‪ .‬وكذلك‬ ‫قمت باختيار إحدى قصائدها وترجمتها لتنشر رفقة الحوار‪.‬‬


‫مايكل ريسينيك سكرتيرها الخاص ومدير مؤسستها‪:‬‬ ‫«شيمبورسكا» كرهت نفسها بعد حصولها على «نوبل»‬ ‫مايكل ريسينيك مرتجم‪ ،‬وكاتب‪ ،‬ومحاضر يف جامعة‬

‫جاجيلونيان‪ ،‬ويعمل حاليًّا رئيس مؤسسة الشاعرة فيسوافا‬

‫شيمبورسكا‪ .‬كان السكرتري الشخيص للشاعرة مدة ‪ 15‬عامً ا‬

‫بعد أن حصلت عىل جائزة نوبل يف عام ‪1996‬م‪ .‬هذا الحوار‬ ‫الذي أجراه غريغور زاورا مع «ريسينيك» يف ذكرى رحيلها‬ ‫الثانية عام ‪2014‬م‪ ،‬يلقى الضوء عىل جوانب مجهولة من حياة‬ ‫الشاعرة يف سنواتها األخرية‪.‬‬

‫● ما هي الظروف التي أدت إىل التعاون بينك وبني‬

‫فيسوافا شيمبورسكا؟‬

‫‪ -‬كل يشء بدأ بعد حصول السيدة شيمبورسكا عىل‬

‫جائزة نوبل يف أكتوبر ‪1996‬م‪ .‬أرادت توفري مزيد من الوقت‬

‫لنفسها عرب سكرتري أدبي؛ ألنها كانت مشغولة بكمية‬

‫ضخمة من االلتزامات املختلفة‪ .‬لقد كان عليها الرد عىل‬ ‫املراسالت‪ ،‬وذلك من الصعب ًّ‬ ‫جدا بالنسبة لها‪ .‬بحثت عن‬ ‫مساعد‪ ،‬وسألت صديقاتها عن سكرتري‪ ،‬وأنا ظهرت يف األفق‪.‬‬ ‫رشحتني األستاذة ترييزا واالس‪ ،‬صديقة السيدة فيسوافا‪،‬‬

‫وكنت قد تخرجت يف ذلك الوقت من الجامعة‪.‬‬

‫● كيف استطاع ذلك الشاب بناء عالقة وثيقة وطويلة‬

‫األمد مع الشاعرة؟‬

‫ً‬ ‫متأكدا مما إذا كان للسن أي‬ ‫‪ -‬ال أعرف‪ ،‬ولست‬

‫معنى‪ .‬كانت يف حاجة لشخص للرد عىل مراسالتها باللغة‬

‫اإلنجليزية‪ ،‬وإرسال رسائل الربيد اإللكرتوين والفاكسات‬ ‫(كانت ال تزال تقنية شعبية يف ذلك الوقت)‪ ،‬ويعرف قليلاً عن‬ ‫يف جميع الشروط‬ ‫كيفية استخدام جهاز كمبيوتر‪ ،‬وتوفرت ّ‬ ‫ً‬ ‫الالزمة‪ .‬أنا كنت مستشارًا لها‪ ،‬لكن أصبحنا أيضا صديقني‪،‬‬

‫وقد أعربت عن ثقتها بي‪ .‬كان من املخطط أن أعمل لديها مدة‬ ‫ثالثة أشهر فقط بعد حصولها عىل جائزة نوبل‪ ،‬وبقيت مدة‬ ‫خمسة عشر عامً ا‪.‬‬

‫● هل كان هناك حدود عند نقطة معينة بينك وبني‬

‫السيدة شيمبورسكا‪ ،‬أم أن العالقة كانت طبيعية؟‬ ‫‪ -‬بالطبع‪ .‬كان هناك دائمً ا بعض املسافة يف‬

‫عالقاتها مع اآلخرين‪ .‬كانت متحفظة عىل‬ ‫مناداتها بكلمة «صديق»‪ ،‬وتقصرها‬

‫ف ـق ـ ــط ع ـل ــى أصــدق ــائـ ـه ـ ــا الـقــدامـ ـ ـ ــى‬

‫واألشخاص من جيلها‪ .‬ومع ذلك‪،‬‬

‫مايكل ريسينيك وشيمبورسكا‬

‫كانت مرحة ًّ‬ ‫جدا مع الناس وتطلب منهم مباشرة أن ينادوها‬

‫باسمها األول‪ ،‬بمن يف ذلك زوجتي وأطفايل لكن ليس أنا‪.‬‬ ‫لقد حافظنا دائمً ا عىل عالقة العمل‪ .‬لم يكن مهمًّ ا ًّ‬ ‫جدا‬ ‫بالنسبة يل‪ ،‬حتى أنا وجدت أنه لطيف‪.‬‬

‫‪125‬‬


‫ثقافات‬

‫● متى قررت السيدة شيمبورسكا اإلعالن‬

‫عن فكرة املؤسسة؟‬

‫‪ -‬ظهرت الفكرة قبل بداية عميل معها‪ ،‬وذلك‬

‫خالل محادثة مع ترييزا واالس يف عام ‪1996‬م‪.‬‬

‫● ملاذا دخلت الفكرة حيز التنفيذ بعد وفاتها؟‬

‫‪ -‬ألنها ال تحب صنع ضجة حول نفسها‪ ،‬التي‬

‫ستكون ضرورية يف حالة تشغيل املؤسسة‪ .‬كان‬ ‫إنشاء مؤسسة‪ ،‬أو حتى كلمة «مؤسسة» أمرًا‬

‫غريبًا لها‪ .‬وقالت‪ :‬إنها تفضل أن يحدث كل يشء‬

‫من دون مشاركتها‪.‬‬

‫● هل ترى أي نتائج ملموسة بعد مرور عام‬

‫عىل إنشاء املؤسسة؟‬

‫‪ -‬أعتقد أنه ما زال من الصعب الحديث عن أي نتائج‬

‫مادية‪ .‬نحن يف املقام األول‪ ،‬نحاول بناء «العالمة التجارية»‬

‫للمؤسسة وتعريفها عىل نطاق واسع‪ .‬بطبيعة الحال‪ ،‬هو‬ ‫أسهل الخطوات؛ ألن اسم السيدة شيمبورسكا معروف‪.‬‬

‫ومع ذلك‪ ،‬فإنه ال يزال من السابق ألوانه الحديث عن أي‬

‫‪126‬‬

‫نتائج ملموسة‪ .‬نحن نقوم بتنفيذ وصيتها ببطء‪ .‬أنهينا‬

‫بالفعل صيغة منح الجائزة‪ .‬سنكون قادرين عىل الحديث عن‬ ‫اآلثار بعد ذلك‪ .‬لكن هذا هو جزء واحد فقط من النشاط‪.‬‬

‫● يبدو أن السيدة شيمبورسكا تثق بك كثريًا بحيث أنها‬

‫أعطت لك مطلق الحرية فيما يتعلق بنشاط املؤسسة؟‬

‫كانت تخاف الشهرة وتتجنب المديح‬ ‫وترتعب من كلمة «مؤسسة»‬ ‫تحب العزلة وتقضي وقتها مع‬ ‫صديقاتها على طراز صالونات القرن ‪19‬‬ ‫بها تجعل أشعارها يف متناول الجميع وليس فقط القراء‬ ‫يف بولندا‪ .‬إنه ألمر مدهش أنها ال تزال تلقى ذلك اإلقبال يف‬ ‫الخارج‪ ،‬عىل سبيل املثال يف إيطاليا وهولندا وأمريكا‪.‬‬

‫‪ -‬باستثناء الجائزة‪ ،‬حُ ِّددت النقاط بشكل دقيق‪ .‬قالت‬

‫ً‬ ‫مرتجما‪ ،‬ما هي برأيك أهم العناصر الصعبة‬ ‫● بوصفك‬

‫ذلك‪ .‬تركت لنا اتخاذ القرار‪ ،‬وبالتايل كان علينا أن نضع أكرب‬ ‫جهد يف الجائزة‪ .‬هناك ً‬ ‫أيضا الصندوق الذي أنشأناه ملساعدة‬ ‫ً‬ ‫ظروفا مالية صعبة‪ .‬كانت السيدة‬ ‫املؤلفني الذين يواجهون‬

‫‪ -‬مما ال شك فيه‪ ،‬أنه من املمكن ترجمة أشعارها؛ ألنها‬

‫صراحة‪ :‬إنها لم يكن لديها أي فكرة ملموسة عن كيفية فعل‬

‫فيسوافا ترغب يف مساعدة هؤالء الناس‪ ،‬وأرادت املؤسسة‬

‫مواصلة هذا العمل‪ .‬كما كان علينا إضفاء الطابع الرسمي‬ ‫عىل ذلك ليك ال تكون أنشطتنا وهمية‪ ،‬وذلك األمر يتطلب‬ ‫ً‬ ‫أيضا كثريًا من العمل‪.‬‬ ‫عاما‪ ،‬لكن كيف ّ‬ ‫● قد يكون السؤال ًّ‬ ‫تمكن شعر السيدة‬

‫شيمبورسكا من الوصول إىل الناس يف جميع أنحاء العالم؟‬ ‫‪ -‬هذا هو اللغز‪ .‬من الصعب اإلجابة عن هذا السؤال‪.‬‬

‫وأعتقد أن هناك العديد من العناصر التي ساهمت يف ذلك‪.‬‬ ‫باستثناء الجوانب الفنية‪ ،‬فإن أسلوبها بسيط يف الظاهر لكنه‬

‫يخفي العديد من الزخارف الفلسفية‪ .‬الطريقة التي تعرب‬ ‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬

‫أو املثرية لالهتمام يف شعر السيدة شيمبورسكا؟‬

‫ليست عميقة الجذور يف الثقافة البولندية والتقاليد‪ .‬كان‬ ‫ذلك واضحً ا يف مختلف ترجمات أعمالها التي تتطلب قليلاً‬

‫من الحوايش‪ .‬إنها تقدم حاالت غنائية عاملية تتيح استقبالاً‬

‫واسعً ا‪ .‬وأذكر العديد من القصائد؛ منها عىل سبيل املثال‬ ‫ً‬ ‫عميقا يف اللغة ذاتها‪ ،‬وتتطلب ترجمتها‬ ‫«عيد ميالد» املتجذرة‬ ‫خلق قصيدة جديدة‪ .‬وهذا هو ما فعله املرتجم يف الرتجمة‬ ‫اإلنجليزية‪ .‬أما مرتجم أعمالها إىل اللغة الفرنسية فقال‪ :‬إن‬

‫ترجمتها مستحيلة‪.‬‬

‫● هل سبق لك أن حاولت ترجمة شعرها إىل لغة‬

‫أخرى؟‬

‫‪ -‬ال‪ ،‬لكن يف بعض األحيان أعطي النصائح بشأن ترجمة‬

‫قصائد السيدة فيسوافا إىل اإلنجليزية‪.‬‬


‫خمس سنوات على رحيل شيمبورسكا‬

‫ً‬ ‫أيضا كاتب‪ ،‬هل يمكن القول‪ :‬إن السيدة‬ ‫● أنت‬

‫شيمبورسكا كانت نموذجً ا بالنسبة لك يف األعمال األدبية‬

‫الخاصة بك؟‬

‫‪ -‬بالتأكيد‪ ،‬أصابتني منها عدوى الحساسية واالنتباه إىل‬

‫اللغة‪ .‬قالت‪ :‬إنها تلعب مع اللغة وتتعامل معها عىل أنها‬

‫يشء مهم‪ .‬لم تطلب مني قصائدي للتعليق عليها‪ .‬رغم ذلك‪،‬‬ ‫أتذكر تلك املحادثات التي دارت بيننا كثريًا بشكل عارض عن‬

‫اللغة‪ .‬لم تقدم تعليقات عىل أعمال اآلخرين‪ ،‬لكن عندما‬ ‫أحضرت لها بعض قصائدي الساخرة‪ ،‬قدمت يل مالحظات‬ ‫ثاقبة بشأن الجوانب التقنية‪ ،‬وهو أمر نادر ًّ‬ ‫جدا اليوم‪ .‬كان‬

‫هذا النهج التزامً ا يف جيلها‪ ،‬كان هناك مفهوم وظيفة أدبية‪.‬‬ ‫● ماذا كان موقف السيدة شيمبورسكا تجاه الشهرة؟‬

‫ أوه! كانت خائفة‪ .‬كرهت حالها عندما كان عليها أن‬‫ً‬ ‫بعيدا تمامً ا من‬ ‫تتلقى أي نوع من املديح أو الحب‪ .‬كان ذلك‬

‫شخصيتها وما أنقذها‪ ،‬أعتقد‪ ،‬كان حس النكتة‪ ،‬والعزلة‪،‬‬ ‫والسخرية واملفارقة‪.‬‬

‫قالوا لها‪ :‬إنهم يعرفونها ويحبونها‪ .‬كان أهم يشء أن‬ ‫شعرها له جمهور واسع ًّ‬ ‫جدا‪.‬‬ ‫● هل تشعر أنها تكون طبيعية عندما تواجه القراء؟‬

‫‪ -‬ال فعلاً ‪ ،‬هي باألحرى تتجنب مثل هذه الحاالت‪ .‬من ناحية‬

‫أخرى‪ ،‬تلقت العديد من الرسائل مما يسمى الناس العاديني‬ ‫(ليسوا عىل دراية جيدة بالشعر)‪ .‬ذات مرة قالت‪ :‬إنها تلقت‬ ‫رسالة من رجل قدم نفسه عىل أنه رجل إطفاء متقاعد من والية‬

‫تكساس‪ .‬كتب لها أنه كان يجد القليل من القواسم املشرتكة مع‬ ‫الشعر يف حياته‪ ،‬إال أنه تمكن من قراءة شعرها‪ ،‬واكتشف أنها‬ ‫كتبت ما كان يشعر به‪ ،‬ولم يتمكن من التعبري عنه ووضعه‬

‫يف كلمات‪ .‬كانت الرسالة مؤثرة بالنسبة لها؛ ألن القدرة عىل‬ ‫التعبري عن مشاعر اآلخرين أعظم حلم للشاعر‪ .‬هذا هو ما‬

‫جعلها تصل إىل الجمهور يف أماكن بعيدة مثل والية تكساس‪.‬‬

‫● فيما يتعلق بعالقة السيدة شيمبورسكا مع السلطات‬

‫الشيوعية‪ ،‬هل ينتبه أحد يف الخارج لذلك‪ ،‬أم أنها تثار‬

‫داخل بولندا فقط؟‬

‫● هل كانت سعيدة بوصولها للعاملية‪ ،‬أم كانت تفضل‬

‫ يف الواقع‪ ،‬هذه مسألة بولندية‪ .‬كان هناك مقال يف‬‫إيطاليا حول هذا املوضوع‪ ،‬لكنه كان منحا ًزا بشكل رهيب‪.‬‬ ‫وقد ّ‬ ‫سخر القصة عىل الفور كما لو كان يحفر يف سر أخفته‬

‫حياة اجتماعية مشابهة لصالونات القرن ‪ .19‬كانت تحضر‬

‫فيما يتعلق بهذه الحقيقة‪ ،‬وال تنكرها يف كثري من األحيان‪ .‬يف‬

‫بيئة أكرث حميمية؟‬

‫‪ -‬قالت‪ :‬إنها تفضل العالقة الحميمية؛ ألنها تحب‬

‫قضاء الوقت مع صديقاتها‪ ،‬أو الخلوة عمومً ا‪ .‬لقد عاشت‬

‫حفالت االستقبال‪ ،‬لكن شخصيتها العاملية ال تعني أنها‬ ‫كانت تقيم يف أغىل الفنادق أو السفر إىل جميع أنحاء‬

‫العالم‪ .‬ال يشء من هذا القبيل‪ .‬كان أكرث األشخاص الذين‬ ‫يتعرفون إليها يف الشارع‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬يف إيطاليا‪،‬‬

‫فيسوافا شيمبورسكا‬

‫شاهد قبر‬ ‫ُ‬ ‫مؤلفة َد ّقة قديمة‬ ‫هنا ترقد‬

‫لحفنة أشعار‬

‫ً‬ ‫راحة أبدية‬ ‫تكرّمت األرض ومنحتها‬

‫مع أنها ّ‬ ‫جثة‬

‫ال تنتمي ألي جماعة أدبية‬

‫عىل أية حال ال يوجد أفضل من هذا القرب‬

‫سوى بضعة أبيات شعرية‬ ‫ونبتة أرقطيون‬

‫السيدة شيمبورسكا‪ ،‬مع أنها كانت تحتفظ فقط بمسافة‬ ‫بولندا‪ ،‬مثل هذه األشياء تظهر ألن الناس غالبًا يريدون إثارة‬

‫ضجة حول يشء لتعزيز أسمائهم‪ .‬يف مثل هذه الحاالت‪،‬‬ ‫أتلقى مكاملات هاتفية من أصدقايئ يف الخارج الذين يبدون‬ ‫دهشتهم قائلني‪ :‬إن مثل هذه األشياء تحدث فقط يف بولندا‪.‬‬

‫وبومة‬

‫أيها العابر‬

‫أخرج ًّ‬ ‫مخا إلكرتون ًّيا من حقيبتك‬ ‫ِ‬

‫ّ‬ ‫وفكر لحظة يف مصري شيمبورسكا‪.‬‬ ‫هوامش‪:‬‬

‫ هذه القصيدة ليست منقوشة على شاهد قبر «شيمبورسكا» كما‬‫ذكر بعض مترجمي أشعارها إلى العربية‪.‬‬ ‫آثرت استخدام تعبير ّ‬ ‫ُ‬ ‫«دقة قديمة» بدلاً من الترجمة الحرفية «طراز‬ ‫‬‫قديم» أو «أنتيكا»؛ ألنها تتناسب مع حس السخرية الذي يميز‬ ‫أسلوب «شيمبورسكا» الشعري‪« - .‬األرقطيون» نبات من فصيلة‬ ‫الشوكيّات‪ ،‬وله نتائج ناجعة في عالج أمراض الشيخوخة‪.‬‬

‫‪127‬‬


‫مقال‬

‫حسن النعمي‬ ‫ناقد سعودي‬

‫الشعراء القصاص‬ ‫من الغناء إلى المحاورة‬ ‫ساد شعور عام لدى النخب الثقافية واألدبية أن التفات‬

‫الشعراء في المملكة لكتابة الرواية والقصة حدث جديد‪،‬‬

‫وهو شعور مبرر في ظاهره‪ ،‬إذ ركز اإلعالم الثقافي على ظاهرة‬

‫مطلع الثمانينيات الميالدية قليل وال يقاس عليه‪ .‬ويفتقر في الغالب‬

‫والدميني‪ ،‬وهو ما جعل األمر يشبه االحتفالية من ناحية‪،‬‬

‫كتابة القصة التي قدمها األنصاري والسباعي والمغربي وعزيز ضياء‬

‫كتابة الرواية والقصة من جانب شعراء كبار بحجم القصيبي‬

‫والتساؤل من ناحية أخرى‪ ،‬تساؤل وصل إلى حد اتهام الشعر‬ ‫بفقدان دوره في الحياة األدبية‪ .‬وهو استنتاج متعجل تنقصه‬

‫‪128‬‬

‫األدب السعودي‪ ،‬نو ًعا أدبيًّا حديث الوالدة في ثقافة شعرية بامتياز‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫فجل ما ُكتب من القصص والروايات في األدب السعودي حتى‬

‫القراءة المتعمقة سواء في مستواها التاريخي أو الظاهراتي‪.‬‬ ‫هنا سأحاول استكشاف الظاهرة‪ ،‬ظاهرة كتابة شعراء‬

‫الجيلين األول والثاني في المملكة العربية السعودية‬

‫للتطور الفني الذي يؤكد إحداثه الختراقات فنية‪ .‬وكل الجهود في‬

‫وحتى دمنهوري والناصر ورضا حوحو وعالم األفغاني وغيرهم كانت‬ ‫ً‬ ‫طريقا غير مطروقة‪ ،‬وتسعى لتأسيس موقع داخل خارطة‬ ‫تتلمس‬

‫األدب السعودي‪ .‬إضافة إلى ذلك‪ ،‬فإن هؤالء الكتاب كانت لهم‬

‫انشغاالت أخرى إلى جانب كتابة القصة‪ ،‬ومعظم ما يكتبون يُدرج‬

‫في باب النثر ال السرد‪ .‬وتلك حكاية أخرى‪ .‬وعليه‪ ،‬فاالهتمام العام‬

‫للقصة بعد أن استقرت أدواتهم الشعرية‪ ،‬و ُعرفوا بعطائهم‬

‫كان موجهًا للشعر والحظوة كانت للشعراء‪ .‬وفي ظل هذا الواقع‪،‬‬

‫معنيًّا هنا بما قدمه شعراء العقدين األخيرين من مغامرة‬

‫بكتابة القصة؟!‬

‫الشعري الذي استحقوا به لقب شاعر‪ .‬وعليه فإني لست‬

‫في كتابة الرواية والقصة‪ ،‬بل سأعود بالقراءة إلى بدايات‬

‫األدب في المملكة‪ ،‬وبخاصة في مرحلة الجيلين األول‬

‫والثاني‪ ،‬لنرى محاولة اقتراب الشعراء من القصة في زمن‬

‫واقع حضور الشعر‪ ،‬وخفوت صوت القصة‪ ،‬ما الذي يغري الشعراء‬

‫تعبيرية شعرية‬

‫من محددات هذا المقال أنه ال ينظر في إنتاج من غلبت عليه‬

‫لم يكن للقصة شأن يذكر‪ ،‬بل ال حظ من الشهرة لمن يكتبها‬

‫جوانب تعبيرية أخرى غير شعرية‪ ،‬بمعنى أن الشعر هو موجب‬

‫من القصة تجربة يحرص الشعراء على كتابتها؟! وقبل‬

‫محمد حسن عواد‪ ،‬وحسن عبدالله القرشي‪ ،‬وسعد البواردي‪،‬‬

‫مثل ما للشعراء من حظ وحظوة‪ .‬فما األسباب التي جعلت‬

‫النظر في تجربة من يكتب القصة‪ .‬فمن بين هؤالء الشعراء يأتي‬

‫مقاربة األسباب أرى أنه لزامًا إثبات الظاهرة‪ ،‬ثم استخالص‬

‫وأحمد عبدالغفور عطار‪ ،‬وحسين سرحان‪ ،‬ومحمد حسن فقي‪،‬‬

‫في بدايات نهضة األدب كان االهتمام بالشعر‪ ،‬وهو‬

‫مجموعة أو مجموعتين‪ ،‬لكنهم ظلوا محتفظين بلقب شاعر‪ ،‬ولم‬

‫ما يبدو من أسباب ثقافية أو فنية‪.‬‬

‫وغيرهم‪ ،‬وهؤالء جميعهم كتبوا القصة‪ ،‬بل بعضهم أصدر‬

‫اهتمام يتجاوز قول الشعر إلى مواكبته دراسة ونقدًا ‪ ،‬بل‬

‫تغلب عليهم صفة القاص!‬

‫ما ينشره الشعراء من دواوين مستقلة‪ ،‬أو يلقونه في‬

‫قصص «سكين‪ ،‬وفيلسوف‪ ،‬وجيل»‪ ،‬وحسين سرحان نشر قصص‬

‫تخصيص صفحات الجرائد للقصائد الطوال‪ ،‬إضافة إلى‬

‫المنتديات‪ .‬أما ما سوى ذلك من الكتابات فيأتي في مرتبة‬ ‫متأخرة من حيث االهتمام‪.‬‬

‫إذن ما واقع القصة ومن يكتبها في تلك المرحلة المبكرة‬

‫من تاريخ األدب السعودي؟ كانت القصة‪ ،‬في مطلع نهضة‬ ‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬

‫فالعواد نشر قصة «الباب المغلق»‪ ،‬ومحمد حسن فقي نشر‬

‫«حياة ميت‪ ،‬ورجل من الناس‪ ،‬والعودة‪ ،‬والصياد والسمكة‪،‬‬

‫واألحالم ال تعود»‪ .‬وحسن عبدالله القرشي نشر «أنات الساقية»‪،‬‬

‫وأحمد عبدالغفور عطار أصدر «أريد أن أرى الله»‪ .‬وسعد البواردي‬ ‫نشر قصص «أغنية العودة‪ ،‬وشبح من فلسطين‪ ،‬وفلسفة‬


‫المجانين‪ ،‬وأجراس المجتمع»‪ .‬هذه عينة إلسهام الشعراء في كتابة‬

‫القصة بطريقة تبدو هامشية في خضم إنتاجهم الشعري‪ ،‬لكن يبقى‬ ‫سؤال حضور القصة في أدبهم قائمًا!! بل يستحق النظر‪.‬‬

‫السؤال اآلن‪ ،‬ماذا يعني أن تكون ًّ‬ ‫قاصا أو روائيًّا وليس شاع ًرا؟‬ ‫سؤال ربما يختصر ولع الشعراء بمغازلة القصة‪ .‬وبخاصة إذا‬

‫عرفنا أنه ربما يندر أن نجد ًّ‬ ‫قاصا أو روائيًّا متمك ًنا حاول كتابة الشعر‬

‫بعد أن استقرت أدواته القصصية‪ ،‬لكن العكس صحيح‪ ،‬إذ قد‬ ‫يتسلل الشاعر لخيمة القصة مستظلاًّ بفيئها‪ ،‬ومحاولاً نسج منظوره‬

‫للحياة بطريقة محاكاة العالم‪ .‬فهل الشاعر مهما عال شأنه يبقى‬ ‫مشدودًا تجاه تجارب خارج فضائه التقليدي؟ أو أن الشاعر يظل‬

‫مشدودًا إلغراء القصة بوصفها ًّ‬ ‫نصا يتحاور مع العالم بطريقة يبدو‬

‫العالم معها أكثر رحابة وإنسانية‪.‬‬

‫القصة حوار بين الذات والعالم‪ ،‬أما القصيدة فصوت الذات‬

‫اإلنسانية في صبواتها وإنسانيتها‪ ،‬ومرارة تجربتها‪ ،‬وهذا ال يقلل‬ ‫منها ومن شعرائها‪ ،‬بل هي تجربة تقارب الحلم‪ .‬لكن قد يلتبس‬ ‫على بعض قصائد الحكم والمناسبات وقصائد الموضوعات‬

‫االجتماعية التي يحاول فيها الشاعر أن يبدو مفك ًرا أو حكيمًا أو‬

‫ناقدًا‪ ،‬أو أن قصائده تمثل ً‬ ‫ربطا بين الشعر والواقع‪ ،‬أو أن قصائده‬

‫تعكس إسهامه في المشاركة في قضايا مجتمعه‪ .‬والحقيقة أن‬

‫هذا ليس دور الشعر وال الشاعر‪ .‬دور الشاعر الحلم بحياة أفضل‬

‫دون أن يدخل في مقاربات مباشرة للحياة من حوله‪ .‬الشعر إن‬ ‫لم يكن رمزيًّا إيحائيًّا فهو أقرب للنظم مهما جلجلت موسيقاه‬

‫وحسنت قوافيه‪.‬‬

‫تأسيس عوالم افتراضية‬

‫ذكرت أن القصة حوار بين الذات والعالم‪ ،‬وعليه‪ ،‬فالقاص‬

‫مشغول بتأسيس عوالم افتراضية يجري نحو نشدان الفضيلة‬

‫على نحو إيحائي‪ .‬فالقصة بطبعها ال تعالج مشكلة وال تحلها‪ ،‬بل‬

‫السؤال‪ ،‬ما الذي دفع الشعراء لكتابة‬ ‫تقديرا؟‬ ‫القصة في زمن كانت فيه أقل‬ ‫ً‬ ‫هل لرغبة في توسيع دائرة التعبير‪،‬‬ ‫أم أنهم يرون أن كتابة القصة فضيلة‬ ‫ال يجب أن تفوتهم؟!‬ ‫يقف الشاعر بين القصيدة والقصة ً‬ ‫باحثا عن عالم مختلف‪.‬‬

‫ففي القصيدة يُطرب نفسه‪ ،‬وفي القصة يتحاور مع العالم‪ .‬وبين‬

‫تعيشها تجربة افتراضية لكيفية الوصول لألجمل واألبهى في الحياة‪.‬‬

‫غنائه وحواره تكتمل متعته بالشعر‪ ،‬ويكتمل اتصاله بالعالم عندما‬

‫جزءًا من التجربة اإلنسانية‪ .‬وقد يحتج بعض بظهور قسمات الواقع‬ ‫جلية في القصة أو الرواية‪ ،‬وهذا أمر طبيعي‪ ،‬لكنها ُتحمل دائمًا‬ ‫نفسها في‬ ‫على المجاز‪ .‬فظهور أسماء األماكن‪ ،‬مثلاً ‪ ،‬ال يعني أنها ُ‬

‫بل حالة وجودية‪ ،‬تظهر أكثر عند الشعراء الذين يرون العالم أبعد‬

‫فالقاص يعيش تجربة خلق العوالم الموازية التي تجعل القارئ‬

‫الواقع مهما بدت جلية في مشابهتها الواقع‪.‬‬

‫السؤال‪ ،‬ما الذي دفع الشعراء إلى كتابة القصة في زمن‬

‫يكتب القصة‪ .‬من هنا فحاجته للقصة ليست مجرد حالة استثنائية‪،‬‬ ‫من مجرد صوت داخلي‪ .‬القصة تتيح للشاعر ما ال تتيحه القصيدة‪.‬‬ ‫من هنا فمحاولته تأكيد أبلغ على رغبته في فهم أكبر للعالم‪.‬‬

‫مرة أخرى هذه الفرضيات يفسرها اقتراب الشعراء من عالم‬

‫القصة أكثر من القصاص الذين ال يجدون حاجة للبحث عن صوت‬

‫كانت فيه أقل تقدي ًرا؟ هل لرغبة في توسيع دائرة التعبير‪ ،‬أم أنهم‬

‫داخلي لتجربتهم‪ ،‬إذ القصاص يغنون ويتحاورون في قصصهم‬

‫أنهم رأوا فيها بدائل تعبيرية ال يمكن للشعر أن يمألها‪ .‬وهذا دال‬

‫جمال العالم‪ .‬إن القصاص لديهم القدرة على خلق شعرائهم داخل‬

‫مواز ُيعمِ ل فيه‬ ‫على سبيل المشابهة‪ ،‬وعلى سبيل تأسيس واقع ٍ‬

‫تجربته الشعرية دون أن يسعى لكتابة القصة بوصفها جزءًا من‬

‫يرون أن كتابة القصة فضيلة ال يجب أن تفوتهم؟! الراجح عندي‬ ‫على ذكاء هؤالء الشعراء‪ .‬فالقصة لها خصوصية مقاربة الواقع‬ ‫الكاتب فرضياته‪.‬‬

‫عبر خلق عوالم افتراضية يعيشون تفصيالتها‪ ،‬وينشدون فيها‬

‫نصوصهم‪ ،‬وهو ما ال يستطيع مثله الشاعر في خلق قاص في‬ ‫حاجته التعبيرية في فهم العالم‪.‬‬

‫‪129‬‬


‫إصدارات‬

‫الكتاب‪ :‬التاريخ من أسفل‬ ‫المؤلف‪ :‬خالد اليعقوبي وخالد طحطح‬

‫الناشر‪ :‬منشورات الزمن‬

‫يسعى الباحثان في هذا الكتاب إلى التعريف بالسياق النظري النبعاث دراسات المهمش‬ ‫في العالم‪ُ .‬‬ ‫وت َق ِّدمُ لنا مقاربة تاريخ المُ هَمَّ ِشين فهمً ا آخر للتاريخ‪ ،‬إنها نوع من الكتابة‬

‫المختلفة التي تركز على الدهليز بدل السطح‪ ،‬غرضها فهم حياة الناس العاديين الذين‬

‫عاشوا في الماضي‪ ،‬وذلك من خالل نقل تجربتهم الخاصة‪ .‬يحاول الكِتاب الوقوف بشكل‬ ‫عام على المساهمات التي قدَّ متها المدارس التاريخية لتاريخ المهمَّ ش‪ ،‬وكيف أسهم رواد‬

‫التاريخ من أسفل في بلورة مشروع مجموعات بحث مؤسساتية‪.‬‬

‫الكتاب‪ :‬األداء اإلستراتيجي األميريكي‬ ‫المؤلف‪ :‬محمد وائل القيسي‬

‫الناشر‪ :‬مكتبة العبيكان‬

‫تعد الواليات المتحدة األميركية الدولة األكثر تأثي ًرا في السياسة الدولية المعاصرة‪،‬‬

‫لما تمتلكه من مدخالت القوة والتأثير ضمن أداء إستراتيجي منضبط‪ ،‬والمرتكن إلى عقيدة‬ ‫ُت َسير الماكينة األميركية بمجملها نحو هدف واحد أال وهو التربع على قمة الهرم الدولي؛‬ ‫إذ ال تكاد ترتكن لعقيدة تحدد مسارها وأسلوب عملها حتى ترهن أهدافها دفعة واحدة‬

‫عند مطلبها الكوني‪ ،‬األمر الذي فرض على إداراتها المتعاقبة التلون في أدائها اإلستراتيجي‬ ‫الشامل للوصول إلى غايتها العالمية‪.‬‬

‫‪130‬‬ ‫الكتاب‪َ :‬من يحكم العا َلم؟‬ ‫مروة‬ ‫ترجمة‪ :‬نصير‬ ‫ّ‬

‫المؤلف‪ :‬بـرتران بــادي ودومينيك فيدال‬

‫الناشر‪ :‬مؤسسة الفكر العربي‬

‫يرصد الكِتاب معالِم عدة من النظام الدولي ومتغيـراته التي يمكن أن ِّ‬ ‫تولد السلطة؛ فمُ يِّز‬ ‫َ‬ ‫العالم‬ ‫عدد من معالِم هذا النظام العالمي أو «بارامتراته»؛ مثل‪ :‬التقليد الذي اسـ َتحدث في‬ ‫ّ‬ ‫كله األدوات األولى للسـيطرة‪ ،‬ولم ينقطع عمله هـذا ولم يتوقف‪ ،‬ح ّتى في أكثر المجتمعات‬ ‫ّ‬ ‫يشكل امتدادًا لألعراف والتقاليد‪ ،‬ويستمر ويتواصل إمّ ـا‬ ‫حداثة‪ .‬والمقدَّ س والديني‪ ،‬لكونه‬

‫بتنظيم سيطرة بذاتها ولذاتها‪ ،‬أو بتزويـد دوائر أخرى بأدوات تدعيم وتعزيز ثمينة تفيدها في‬ ‫ّ‬ ‫الحق في‬ ‫تدعيم سيطرتها وتعزيز غلبتها‪ .‬والدولـة التي كان مب ّرر وجودها هـو تحـديدً ا ادّعاؤها‬ ‫احتكار ممارسة السلطة السياسية‪.‬‬

‫الكتاب‪ :‬نمر تريسي ‬ ‫ترجمة‪ :‬عادل عبدالجبار‬

‫المؤلف‪ :‬وليم سارويان‬ ‫الناشر‪ :‬دار أزمنة‬

‫حاول وليم سارويان‪ ،‬في كل ما كتب‪ ،‬أن يصوّر إنسان القرن العشرين في صراعه مع‬ ‫الغول الذي صنعه بيديه‪ :‬اآللة‪ .‬وعلى الرغم من أنه كتب معظم إنتاجه في وقت ّ‬ ‫مبكر من‬

‫القرن وقبل أن يصل تعقيد الحياة الصناعية والتقدم التكنولوجي إلى ما وصل إليه اآلن‪ ،‬فإن‬

‫كتاباته كانت خير تعبير عن تطلع اإلنسان إلى االنتصار على هذا الغول الذي صنعه بنفسه‪،‬‬ ‫لكنه تنامى وكبر بحيث أخذ يسحق كل مسحة إنسانية على وجه هذه اليابسة‪.‬‬

‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬


‫الكتاب‪ :‬سؤال العنف‬

‫المؤلف‪ :‬طه عبدالرحمن‬

‫الناشر‪ :‬المؤسسة العربية للفكر واإلبداع‬

‫إذا كانت الفلسفة‪ ،‬بحكم توسلها باالستدالل والحوار‪ ،‬تضاد العنف‪ ،‬فإن الفلسفة‬

‫االئتمانية التي وضع أسسها المفكر المجدد طه عبدالرحمن‪ ،‬بحكم جمعها بين «روح‬ ‫التفلسف» و«روح التدين» تثبت أن آثار العنف ال تقف عند حد هذا العالم المرئي‪ ،‬إنما تتعداه‬ ‫ً‬ ‫إنسانا يؤذي رب العالمين‪ ،‬منازعة له‬ ‫إلى ما وراءه من عوالم غير مرئية‪ ،‬جاعلة من العنيف‬ ‫ً‬ ‫واعتراضا عليه‪ ،‬بقدر ما يؤذي اآلخرين‪ ،‬جهلاً وظلمً ا‪.‬‬

‫المؤلف‪ :‬دنى غالي‬

‫الكتاب‪ :‬بطنها المأوى‬ ‫الناشر‪ :‬منشورات المتوسط‬

‫قصة عامر‪ ،‬التي صارت ترنيمة ردّدتها األمهات‪ ،‬وما زلن ُي َر ّقصن األطفال على إيقاع‬

‫نغماتها‪ ،‬ستجعلنا دُنى نتآلف معها؛ لقربها الحياتي منهم في مدينة اتسمت بانفتاح حياتها‬

‫االجتماعية في سنوات خلت‪ .‬لذا نجد في الهامش إعادة سرد لحياة الشخصيات المهاجرة في‬ ‫المتن (الرواية)‪ ،‬وتتبعً ا لجذور نشأتها األولى‪ ،‬عبر عودة إلى الماضي‪ ،‬وإضاءة بعض جوانب ما‬

‫م ّر به العراق في الستينيات عبورًا إلى مرحلة ما بعد االنتفاضة ‪1991‬م‪ ،‬ومنتصف التسعينيات‬

‫حيث سنوات الحصار التي أملت شروط عيش مغايرة تمامً ا‪.‬‬

‫الكتاب‪ :‬غيمة أربطها بخيط‬ ‫المؤلف‪ :‬عبده وازن‬

‫الناشر‪ :‬نوفل‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫شخصا يحلم‬ ‫نصوصا تماثلها‪ ،‬ما دمت‬ ‫ال نهاية لنصوص هذا الكتاب‪ .‬قد أكتب يومً ا‬ ‫ويكتب أحالمه‪ ،‬أو ما ينتقيه منها‪ّ .‬‬ ‫كل النصوص التي يتضمّ نها هذا الكتاب «المفتوح» هي‬ ‫أحالم أبصرتها في الليل‪ ،‬أو هي أحالم يقظة‪ ،‬تلك التي يعمد المرء عادة إلى تخيّلها أو‬ ‫ُ‬ ‫عكفت على‬ ‫«صنعها» في حال من شبه اليقظة‪ ،‬أو اليقظة الخدرة‪ّ .‬إنها نصوص أحالم‬ ‫في‪،‬‬ ‫تدوينها طوال أعوام‪ .‬ومن بينها أحالم أبصرتها منذ سنوات‪ ،‬وظللت أتذ ّكرها ج ّراء أثرها ّ‬

‫أحيان أسرد الحلم كما هو‪ ،‬وفي أخرى أنطلق من أضغاث‬ ‫أو حبّي لها‪ ،‬أو خوفي منها‪ .‬في‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫حلم ألنسج حوله ًّ‬ ‫وأحيانا كنت أكتفي بصورة أو لقطة أو وجوه أبصرتها في حلم ألكتب‬ ‫نصا‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫نصوصا حلميّة صرفة‪.‬‬ ‫انطالقا منها‬

‫الكتاب‪ :‬حكمة الحياة‬

‫المؤلف‪ :‬آرتور شوبنهور‬

‫ترجمة‪ :‬عبداللطيف الصديقي‬

‫الناشر‪ :‬دار التكوين‬

‫سوف أتحدث في هذه الصفحات عن حكمة الحياة بالمعنى العام للمصطلح بوصفها‬

‫ف ًّنا‪ ،‬بمعنى‪ ،‬ما تتمتع به من تنظيم وترتيب لحياتنا؛ لكي يتسنى لنا الحصول على القدر األكبر‬

‫الممكن من المتعة والنجاح‪ ،‬هي فن ألنها النظرية التي يمكن أن نطلق عليها «علم السعادة‬ ‫أو الرفاهة»‪ ،‬حيث تعلمنا هذه النظرية كيف تقودنا إلى عالم سعيد‪ ،‬وربما يعرف مثل هذا‬

‫الوجود كواحد ضمن األشياء التي يمكن النظر إليها من وجهة نظر موضوعية صرفة‪.‬‬

‫‪131‬‬


‫كتب‬

‫التمثل الثقافي‪..‬‬ ‫وتلقي األنواع األدبية الحديثة‬ ‫محمود قرني‬

‫‪132‬‬

‫كاتب مصري‬

‫تعرض النقد‪ ،‬تحت وطأة الرغبة في العلمية والمعملية‬ ‫وتعزيز فكرة التخصص تحت أسر المدارس الشكالنية‪ ،‬إلى‬ ‫درجات مروعة من االستغالق والتعسف‪ .‬وأظن أن كتاب «التمثل‬ ‫الثقافي» للناقد واألكاديمي الدكتور سامي سليمان أستاذ النقد‬ ‫الحديث بجامعة القاهرة‪ ،‬يفتح كوة هائلة في هذا الجدار‪ ،‬رغم‬ ‫ً‬ ‫واحدا ممن عملوا بوعي على استخدام كثير من تقنيات‬ ‫أنه يعد‬ ‫النقد الشكالني‪ ،‬وهي مرونة جديرة بالتأمل‪ .‬كتاب «التمثل‬ ‫الثقافي وتلقي األنواع األدبية الحديثة» حسب عنوانه الفرعي‬ ‫يتناول تجربة النقد العربي في النصف الثاني من القرن التاسع‬ ‫عشر‪ ،‬وقد صدر قبل أشهر قليلة عن مكتبة اآلداب بالقاهرة‪.‬‬ ‫عىل ما يشري «آرثر إيزابرغر» وتحديدً ا يف مركز الدراسات الثقافية‬

‫الكتاب مجهوداتهم الفذة لم يكونوا‬ ‫اإلحيائيون الذين تناول‬ ‫ُ‬ ‫وحدهم من يصارع ً‬ ‫تراثا تليدً ا حاولوا الفكاك من أسره ونجحوا‬

‫يف جامعة برمنغهام‪ .‬وقد تبدت قدرة الدراسات الثقافية املرنة‬

‫كل األشكال اإلبداعية الوافدة عىل الثقافة القومية؛ مثل‪:‬‬ ‫الرواية‪ ،‬واملسرحية‪ ،‬واملقالة‪ ،‬والقصة‪ ،‬وفنون النرث عامة‪ً .‬‬ ‫أيضا‬

‫والبنيوية والحركات االجتماعية عىل نحو عام‪.‬‬

‫البالية ومن درجات من االستنامة إىل أشكال نقدية مستقرة‬ ‫سيكون العمل عىل مغايرتها عملاً صعبًا ويحتاج إىل جسارة‬

‫العلمي عن سؤال مركزي هو‪ :‬كيف يمكن للغة الجمالية أن‬ ‫تجعل من النصوص األدبية خطابًا ثقافيًّا متمي ًزا يف ذاته ومتمي ًزا‬

‫يف ذلك‪ ،‬وبات بني أيدينا اليوم ثمرات ناضجة لجهودهم بينها‬

‫سامي سليمان هنا يصارع أمواجً ا عاتية من التقاليد الجامعية‬

‫من نوع خاص‪ .‬فأدوات التطوير التي ساعدت اإلحيائيني األوائل‬

‫واملتجددة عرب قدرتها عىل إعادة قراءة كثري من النظريات‬ ‫االجتماعية والنقدية وإعادة توظيفها ً‬ ‫أيضا؛ مثل‪ :‬املاركسية‬ ‫هنا يقدم الدكتور سامي سليمان إجابته املدعومة بالفحص‬

‫يف عالقته بالثقافات األخرى‪ ،‬وعرب هذا املفهوم تناول املؤلف‬

‫كما يشري املؤلف‪ ،‬سواء كانت املطبعة أو الصحافة أو املؤسسات‬ ‫ّ‬ ‫أحط األدوار ضد‬ ‫التعليمية واالجتماعية‪ ،‬تبدو اآلن وهي تلعب‬

‫النظر يف مفردات مؤثرة؛ مثل‪ :‬الثقافة الشعبية وخطابات الحياة‬

‫يرى الدكتور سليمان أن أطروحة الدكتور عبدالله الغذامي‬

‫التطبيقية التي قدمها املؤلف ال تقتصر قراءتها هنا عىل الرؤية‬

‫يسميه دراسات النسق الثقايف أو األنساق الثقافية يف املمارسة‬

‫أن إشاراته وتحليله الضايف ألسباب انتشار طبعات مختصرة‬

‫كل جا ّد وكل جديد‪.‬‬

‫يف عام ‪2000‬م حول النقد الثقايف كانت بداية حقيقية النطالق ما‬ ‫األدبية بحيث أصبحت املمارسة النقدية تسعى إىل قراءة النص‬

‫عرب بعديها الجمايل والثقايف‪ .‬والحقيقة أن التأصيل العميق‬

‫لهذا النسق يتعزز اليوم بشكل علمي شديد الدقة والتماسك‬ ‫يف كتاب التمثل الثقايف‪ ،‬وظني أن أطروحة الدكتور الغذامي‪،‬‬

‫بطبيعة الحال‪ ،‬متأثرة أشد التأثر باملصطلح الغربي‪ .‬فمصطلح‬

‫الدراسات الثقافية صعد إىل السطح منذ سبعينيات القرن املايض‬ ‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬

‫العديد من الخطابات الثقافية التي يمكن أن تكون نتاجً ا إلعادة‬

‫اليومية والخطابات السائدة يف وسائل اإلعالم‪ ،‬وأظن أن النماذج‬

‫النظرية وهي كثرية ومتاحة بل عىل الجانب التطبيقي‪ ،‬وأظن‬ ‫ومحققة من ألف ليلة يف النصف الثاين من القرن التاسع عشر‬ ‫يبدو إعادة اعتبار للقيمتني األخالقية والثقافية للثقافة الشعبية‪.‬‬

‫توقف الدكتور سامي سليمان أمام مشروع اإلحيائيني وعدّ حركة‬ ‫اإلحياء ظاهرة مصرية شامية بامتياز‪ ،‬وعرب تحليل دقيق وضع‬

‫الصراع االجتماعي والسيايس يف اعتباره‪ ،‬حيث يرى أن حركة‬

‫اإلحياء استندت إىل مقرتحني أساسيني‪ :‬أولهما اإلحياء‪ ،‬وثانيهما‬


‫التمدن‪ .‬وألن النقد الثقايف ممارسة وليس ً‬ ‫فرعا من فروع نظريات‬

‫ُخضع املفاهيم القارة يف الثقافة القومية لعدد من التحوالت‬ ‫ي ِ‬

‫التلقي ال سيما لدى «هانز روبرت ياوس» و«فولفانغ إيزر» من‬

‫بالفعل‪.‬‬

‫املعرفة فقد عاد الدكتور سامي إىل تقديم قراءة جديدة يف نظرية‬ ‫واقع أن تلقي األنواع الحديثة عمومً ا يف الثقافة العربية اعتمد‬

‫عىل نظرية التلقي يف جذرها الغربي وليس عىل ما ذهبت إليه‬

‫القراءات البالغية يف النقد العربي القديم والوسيط‪ .‬وهنا‬ ‫تجدر اإلشارة إىل املحاوالت املستمرة لسليمان لخلق معادالت‬

‫مصطلحية ومفاهيمية لتعزيز النسق الثقايف الذي يخدم الثقافة‬

‫القومية؛ ما يعزز بدوره فكرة التمثل الثقايف يف الوجود‪ ،‬والقبول‬

‫لدى القطاعات الواسعة من القراء الضمنيني الذين يستهدفهم‪.‬‬ ‫يف هذا السياق حرص ناقدنا عىل تقديم قراءة مقارنة ضافية‬

‫حول فكريت التمثل والتالؤم عند جان بياجيه‪ ،‬ثم قدم قراءة‬

‫لتفرقة بياجيه بني التمثل الثقايف واملعرفة من ناحية أن املعرفة‬

‫ذات طبيعة تطورية وتاريخية‪ ،‬غري أنه يشري إىل أن بياجيه كان‬

‫بتعظيم مفاهيم جديدة وإقصاء مفاهيم أخرى وهو ما حدث‬ ‫وكما يشري ناقدنا ويشري كتابه تستمد فكرة التمثل الثقايف‬

‫أطرها العامة من الدراسات الثقافية التي تتخذ من البحث عن‬ ‫ً‬ ‫منطلقا عامًّ ا لها من منطلق أن‬ ‫األدوار االجتماعية والسياسية‬ ‫علم االجتماع والتاريخ والدراسات األدبية تقدم مناهج مالئمة‬

‫لفهم الثقافة‪ ،‬وقد منح هذا التعدد الفرصة للنقد يك يتناول‬ ‫موضوعات وقضايا كانت مستبعدة من الدراسات التقليدية‪ ،‬وال‬

‫ينىس املؤلف هنا أن يشري إىل أن إحدى مشكالت تلك الدراسة هو‬ ‫قلق املصطلح النقدي وتغاير مواقف بعض النقاد إزاء املفاهيم‬

‫والقضايا التي كانت موضع اهتمامهم‪.‬‬

‫يثري املؤلف الدكتور سامي سليمان عددًا من اإلشكاليات‬

‫حول العقبات الثقافية التي قابلت جهد اإلحيائيني واضطرارهم‬

‫يقدم عرب تلك الدراسات املهمة رؤية لسيكولوجية األطفال بينما‬ ‫حديثه يواجه أعمالاً إبداعية ناضجة لكتاب تجاوزوا الرشد‪.‬‬

‫تحقيق جوهر اإلحياء يف سعي صادق ودؤوب لالرتقاء بالتقاليد‬

‫الثقافات موضحً ا معضالت ذلك االنتقال وصعوباته‪ ،‬وأولها‬

‫ذلك التحول عرب تجربتي أحمد فارس الشدياق وأحمد شوقي‪،‬‬

‫كذلك يتوقف ناقدنا أمام آليات انتقال النظريات بني‬

‫إىل االتكاء عىل املوروث الشعري والنقدي العربيني كطريق إىل‬ ‫الجمالية والثقافية لنماذج قديمة‪ ،‬ويقدم لنا نموذجني عىل‬

‫حاجة الثقافة الناقلة ملا تنقل‪ ،‬وإدراك الجماعة الناقلة ألهمية‬ ‫ما تنقل وضرورته‪ ،‬ويف فصول الحقة كشف ً‬ ‫أيضا عن أشكال‬

‫اإلقبال عىل األشكال اإلبداعية املستحدثة ال سيما النرث‪ ،‬وكذلك‬

‫كل األشكال الطليعية ذات النزعة التجديدية‪ .‬وألن املؤلف يقف‬

‫لو كانت داخل القالب الغنايئ مثلما فعل مع قراءته لرائية أبي‬

‫املقاومة التي تبديها الثقافة القومية يف تكويناتها املحافظة ضد‬

‫باعتبار كبري أمام الثقافة القومية فقد توقف أمام ما قاله إدوارد‬ ‫سعيد حول نسبية النظريات املنقولة سواء يف سياقات تولدها‬ ‫ونشأتها يف الثقافة املصدرة أو الثقافة املستقبلة ال سيما إذا كانت‬

‫تلك النظريات تنتقل إىل سياقات ثقافية ذات طابع شمويل‪ .‬لكن‬ ‫سليمان ال يرتك إدوارد سعيد قبل أن يبدي مالحظة دقيقة حول‬

‫قراءته لتلك الفكرة حيث إنه عندما حلل نظرية التشيؤ لدى‬ ‫ً‬ ‫وأيضا مع‬ ‫جورج لوكاتش إنما فعل ذلك ضمن سياق ثقايف واحد‬

‫ويتوقف أمام مقدمة ديوان الشدياق‪ ،‬وكيف أعىل من قيمة‬

‫ما فعل شوقي يف نرثه وكتاباته حول االنحياز لفكرة السرد حتى‬ ‫فراس «أراك عيص الدمع شيمتك الصرب»‪ .‬لقد تحول الشاعر‪،‬‬

‫كما يقول سليمان‪ ،‬من كونه منتجً ا لبالغة قديمة ليتشكل وعي‬ ‫جديد لنموذج الشاعر الكاتب‪ ،‬ولم أفهم هنا ملاذا وصف سليمان‬

‫تجربة تحديث الكتابة لدى شوقي بأنها لم تؤت‬ ‫ثمارها‪ ،‬رغم أنه يف الحقيقة قدم منج ًزا‬ ‫إحيائيًّا نادرًا ًّ‬ ‫وفذا يف الشعر وتحديدً ا‬ ‫يف الشعر الغنايئ‪.‬‬

‫لكن املؤلف يف النهاية‬

‫مفكرين ضمن اتجاه فكري واحد هو املاركسية‪.‬‬ ‫يرصد املؤلف ً‬ ‫أيضا كيف تولدت الحاجة لدى املستعمرات‬

‫يؤكد أن «الشدياق» و«شوقي»‬

‫األنواع األدبية الحديثة تصارع السياقات البالغية القديمة؛‬

‫مفهوم الفصاحة املوروث من‬

‫القديمة يف الشرق العربي للتجدد واألخذ عن اآلخر‪ ،‬وباتت‬

‫كالخطابة واملقامة‪ ،‬وكذلك الشعر الغنايئ الذي يمثل أعىل‬ ‫تعبريات الرسوخ والقوة يف الثقافة العربية‪ ،‬غري أن املؤلف يؤكد‬ ‫أن رعيل اإلحيائيني التجديدين كانوا األكرث إدرا ًكا لحتمية فكرة‬

‫عززا فكرة الحاجة إىل تعديل‬ ‫الرتاث البالغي‪ ،‬وهو األمر‬

‫الذي عزز عدة قيم توقف‬

‫عندها املؤلف‪ ،‬من بينها أن‬

‫اإلحيائيني استطاعوا وضع الكتابة‬

‫التمثل الثقايف‪ ،‬وكان ثمة ضرورة لنقل األنواع األدبية الجديدة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫دقيقا ملا‬ ‫تعريفا‬ ‫كموضوعات لهذا التمثل‪ ،‬وهنا يقدم املؤلف‬

‫كمفهوم قبل الخطابة والشعر حيث‬

‫يتخذها أو يعتمد عليها أبناء ثقافة ما يف سعيهم لالستفادة من‬

‫وكذلك تعظيم قيمة الثقافة التدوينية‬

‫يعنيه بفكرة التمثل الثقايف بوصفها «املسالك الذهنية التي‬

‫نتاج ثقايف قدمته حضارة أخرى» وهو يف النهاية‪ ،‬كما يشري ما‬

‫وضعهما النقد املحافظ يف املقدمة‪،‬‬ ‫عىل الثقافة الشفهية‪.‬‬

‫سامي سليمان‬

‫‪133‬‬


‫كتب‬

‫في عالم الشبكات‪..‬‬ ‫الدولة مهما عظمت مجرد عقدة‬

‫‪134‬‬

‫محمد الحمامصي‬

‫صحافي مصري‬

‫يوضح الدكتور عزمي خليفة المستشار األكاديمي بالمركز اإلقليمي للدراسات اإلستراتيجية‬ ‫في مصر أن الشكل الجديد للدولة القومية قد غيَّر من نمط عالقات السلطة بالكامل؛ بحيث فقدت‬ ‫الدولة احتكار السلطة نتيجة اكتساب المجتمع جزءً ا من السلطة من خالل ما يطلق عليه «سلطة‬ ‫الشبكات» وهذا سبب مقاومة الدولة في العديد من دول العالم ‪-‬ومنها منطقتنا العربية‪ -‬التحول‬ ‫ً‬ ‫حفاظا على كامل سلطتها‪ .‬وهذا هو مأزق الدولة العربية اليوم‪ ،‬وهي‬ ‫للشكل الشبكي والعولمة؛‬ ‫محاولة ميؤوس منها؛ ألنها ضد طبيعة العصر القائم على العولمة‪.‬‬ ‫ويرى يف كتابه الصادر عن وحدة الدراسات املستقبلية‬

‫لم يعد يقبل املنكفئ عىل ذاته‪ ،‬وبخاصة أن ضغوط العوملة‬

‫الدولة القومية والسلطة‪ :‬دراسة يف انعكاسات املجتمع‬

‫شأن الشرعية التي تغري محتواها ومضمونها مقابل السيادة‬

‫بمكتبة اإلسكندرية‪ ،‬سلسلة «أوراق»‪ ،‬بعنوان‪« :‬تحوالت‬ ‫الشبيك عىل الحكم وعالقات السلطة» أن حل مأزق الدولة‬ ‫العربية متاح‪ ،‬ويمكن بناؤه عىل حلول تعيد التوازن بني الدولة‬

‫واملجتمع؛ وهي حلول سياسية وتنظيمية وفنية مع وجود‬ ‫آليات تضمن للدولة دورها محليًّا وإقليميًّا ودوليًّا يف عصر‬ ‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬

‫أقوى من هذا االنكفاء‪ .‬كما أن تغيريات الدولة شملت إعالء‬

‫التي لم تعد تعني االنفراد بالقرار حتى لو كان يخص شعب‬ ‫هذه الدولة‪ .‬فالدول ال تعيش يف فراغ‪ ،‬بل تعيش يف عالم‬

‫من الشبكات‪ ،‬تتحول فيه الدولة ‪-‬أي دولة مهما عظمت‪ -‬إىل‬

‫مجرد عقدة‪.‬‬


‫وسعى املؤلف إىل اإلجابة عن تساؤالت مثل ماهية‬

‫العالقة بني التكنولوجيا واملجتمع مع الرتكيز عىل دور‬

‫تكنولوجيا املعلومات بداية‪ ،‬ثم تعرف التغيري الذي أدخلته‬ ‫هذه التكنولوجيا عىل الدولة القومية وسلوكها‪ ،‬وانعكاسات‬ ‫هذه الثورة الرقمية عىل املجتمع‪ ،‬ونمط العالقة بني الدولة‬

‫واملجتمع‪ ،‬ومستقبل شكل الحكم يف القرن الحادي والعشرين‪.‬‬ ‫ويرصد أهم التغيريات الثقافية واالجتماعية التي عربت‬ ‫عن هذه الثورة العلمية الرقمية يف ثماين نقاط؛ منها‪ :‬أولاً ‪-‬‬

‫االهتمام بالقيم الفكرية غري املادية املتعلقة أساسً ا بالتعبري عن‬ ‫الذات التي تعكس وعيًا بالجوهر الواحد لإلنسان بغض النظر‬ ‫عن موقعه الجغرايف وانتمائه الجنيس أو العرقي أو اإلثني‪.‬‬

‫ثانيًا‪ -‬االهتمام بعالقة اإلنسان بالبيئة التي تحيط به‪ ،‬ومن هنا‬

‫الثورة الرقمية أدت إلى سقوط كافة‬ ‫النظم الثقافية ذات األنساق المغلقة‬ ‫التي تدعي معرفة الحقيقة؛ ما أدى‬ ‫إلى سيادة األنساق المفتوحة وقيم‬ ‫التشاركية‪ ،‬وهذا أدى إلى ظهور‬ ‫الحكومة المنفتحة؛ حيث يشارك المجتمع‬ ‫المدني فيها الحكومة في الحكم‬ ‫للتفاعل االجتماعي‪ .‬وهذه الشبكات تحدد حدود املجتمع‬ ‫الجديد مع التأكيد عىل أن هذه الحدود مرنة ومتغرية جدًّ ا‪.‬‬

‫وللتأكد من ذلك ال بد أن نحدد خصائص املجتمع الشبيك‬

‫يمكن أن نفهم حركة الخضر التي انتشرت يف العالم يف ذلك‬ ‫الحني‪ً .‬‬ ‫ثالثا‪ -‬هذا الوعي بالبيئة وباإلنسانية أدى يف تفاعلهما‬

‫املستمدة من خصائص الشبكات‪ .‬ومن ثم يمكن الفصل بني‬ ‫املجتمع الشبيك بوصفه شبكات ّ‬ ‫تنشطها تكنولوجيا االتصال‬

‫كونية (عاملية) تحتاج لحلول عاملية عىل أساس من التشاركية‪.‬‬

‫ترتيبات تنظيمية للبشر يف عالقات اإلنتاج واالستهالك وإعادة‬

‫إىل وعي كوين بأن املشكالت الناتجة عن العوملة هي مشكالت‬

‫رابعً ا‪ -‬سقوط جميع الحواجز الجغرافية والزمنية والسياسية‬

‫مما يزيد من عمق التفاعل اإلنساين عىل مستوى العالم وعىل‬ ‫خامسا‪ -‬سقوط هذه الحواجز وزيادة‬ ‫مدار ‪ 24‬ساعة يومية‪.‬‬ ‫ً‬

‫التي تعالج املعلومات رقميًّا والهياكل االجتماعية التي تعد‬

‫اإلنتاج والخربة والسلطة‪.‬‬

‫ويتساءل املؤلف‪« :‬أين تكمن السلطة يف املجتمع‬

‫الشبيك؟»‪ .‬ويذكر أنه يف املجتمع الدويل يف ظل الدولة القومية‬

‫التفاعل اإلنساين أ َّديَا إىل ظهور املجتمع الشبيك وانعكاساته‬

‫«تكمن السلطة يف يد الدولة األقوى‪ ،‬أو الدول األقوى‪ ،‬ففي‬

‫فاعلِني‪،‬‬ ‫وعرف املؤلف الشبكة بأنها عبارة عن مجموعة ِ‬

‫السوفييتي الذي ورثته روسيا دوليًّا والواليات املتحدة األمريكية‪.‬‬

‫يتم بروابط متعددة ومتداخلة‪ ،‬ويؤمَّ ن بأدوات تكنولوجية‪.‬‬

‫مصدر يرتبط بالشبكة نفسها‪ ،‬ومصدر يرتبط بالتحويل أي‬

‫الويب‪ .‬وتتحدد أهمية العقد بقدرتها عىل املساهمة يف فاعلية‬

‫ويخلص املؤلف إىل عدد من النتائج أبرزها أن هذه الثورة‬

‫عىل ممارسة السلطة‪.‬‬

‫ٌّ‬ ‫كل منهم يسمى عقدة‪ ،‬متصل بعضهم ببعض‪ ،‬وهذا االتصال‬

‫وقد يطلق عىل هذا الشكل التنظيمي الشبكية أو املصفوفة أو‬ ‫الشبكة لتحقيق أهدافها؛ أي أنها تتحدد بمدى استيعابها‬

‫ألكرب تدفق ممكن للمعلومات‪ ،‬ومدى قدرتها عىل إصدار‬ ‫معلومات ألعضاء الشبكة‪ .‬ويلحظ خليفة أنه عندما تتخذ‬ ‫الشبكة الشكل العنقودي فإن سلوكها يكون مشابهًا لسلوك‬

‫تنظيم متماسك أو مجتمع صغري‪ ،‬وذلك ألن العقد يمكن‬ ‫اتصال بعضها ببعض‪ ،‬بالشبكة كلها وبالشبكات ذات الصلة‪،‬‬

‫ظل النظام الثنايئ القطبية كانت السلطة متمركزة يف االتحاد‬ ‫أما يف املجتمع الشبيك فالسلطة أكرث انتشارًا ولها مصدران؛‬

‫التفاعل بني الشبكات وبعضها‪.‬‬

‫الرقمية أدت إىل سقوط جميع النظم الثقافية ذات األنساق‬ ‫املغلقة التي تدعي معرفة الحقيقة؛ ما أدى إىل سيادة األنساق‬

‫املفتوحة وقيم التشاركية‪ ،‬وهذا أدى إىل ظهور الحكومة‬ ‫املنفتحة؛ حيث يشارك املجتمع املدين فيها الحكومة يف الحكم‬

‫من خالل الرقابة عىل امليزانية العامة‪ ،‬والقيام بمشروعات‬

‫يف مناطق قد ال تصل إليها الحكومة ألسباب مختلفة‪ .‬كما‬

‫من أي عقدة يف الشبكة‪ ،‬من خالل عدد محدود من الخطوات‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وعادة ما يضاف يف هذه الحال شرط املشاركة يف الربوتوكول‪،‬‬

‫استخدام اإلنرتنت؛ ما أدى إىل ظهور نوعني من التحوالت عىل‬

‫هي هياكل معقدة لالتصال القائم عىل مجموعة أهداف تضمن‬

‫تغيريات عىل املستوى املاكرو للدولة تمثلت يف تحولها إىل الشكل‬

‫وتسمى شبكة مغلقة‪ .‬ومن ثم فالخالصة أن الشبكات بإيجاز‬ ‫وحدة الهدف‪ ،‬ومرونة التنفيذ أو من خالل قدرتها عىل التكيف‬ ‫مع بيئة التشغيل وقدرتها عىل إعادة التشكل ذاتيًّا‪.‬‬

‫ويقول‪ :‬يمكن النظر إىل املجتمع الشبيك عىل أنه مجتمع‬

‫الشبكات املكون من أنماط مختلفة من الشبكات العاملية‬

‫واإلقليمية واملحلية يف مجال عام افرتايض متعدد املستويات‬

‫أنها تشكل دعمً ا لتحوالت سرعة تبادل املعلومات من خالل‬ ‫الدولة القومية التي ورثناها بعد الحرب العاملية الثانية‪ ،‬أولهما‬

‫الشبيك بضغط من املجتمع الذي كان أسرع يف التحول للشكل‬ ‫الشبيك‪ .‬والنوع الثاين من التحوالت ترتب عىل مستوى التحليل‬

‫الجزيئ للدولة؛ نتيجة استخدام بعض التطبيقات الشبكية؛‬ ‫مثل مواقع التواصل االجتماعي إجمالاً ‪ ،‬وكال التغيريين دعم‬ ‫التغيريات الشبكية للدولة‪ ،‬وأكد الواقع املعاصر هذه التغيريات‪.‬‬

‫‪135‬‬


‫كتب‬

‫معراج نون النسوة‬ ‫في«الغزلية الكبرى»‬ ‫لسليم بركات‬

‫‪136‬‬

‫غمكين مراد‬

‫شاعر سوري‬

‫ُ‬ ‫سه ماضيًا‪ ،‬عنوانٌ يبدو‬ ‫الغزلية الكبرى‪ :‬عنوانٌ يُفاقمُ مسألة الزمن حضورًا في مواجهة َن ْف ِ‬ ‫الجاهلية لكن م ّت ً‬ ‫بغزل أكبر ًآنا حاضرًا‪ ،‬هذه ليست إال وشاية يشي بها سليم بركات‬ ‫حدا‬ ‫ظاهريًّا من‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫درك أيّ ًّ‬ ‫كتابه هو‪ .‬لكن ما أن يتم الغوص في بحر ومتن هذه الغزلية‪ ،‬حينها‪ُ ،‬ن ُ‬ ‫فخ نصبه‬ ‫َنفس ُه عن‬ ‫ِ‬

‫الحبيبة‬ ‫بقامة وانسياب‬ ‫المتداول بالغزل المفتون‬ ‫كتابه‪ ،‬حيث الغزلية ليست كما‬ ‫سليم لقارئ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫األنثى ُ‬ ‫سيرة لهنَّ في مشاغ ِلهنَّ ومجالسهنَّ‬ ‫سيرة كاملة لألنثى‪،‬‬ ‫غزلية سليم‪:‬‬ ‫وغنجها‪ ،‬إنما هنا‬

‫وزرعهنَّ وحصا ِدهنَّ وسيرتهنَّ‬ ‫وكالمهنَّ وظر ِفهنَّ وأحوا ِلهنَّ وقيو ِدهنَّ وقدرهنَّ‬ ‫وأخوات‬ ‫أمهات‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫سيرة َش َغ ِفهنَّ ُ‬ ‫وكرههنَّ وحبِّهنَّ وحرما ِنهنَّ‬ ‫وقرويات‪،‬‬ ‫حضريات‬ ‫حامالت‪،‬‬ ‫وسيدات‬ ‫وزوجات‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫وامتالكهنَّ ‪ ،‬وثرثرتهنَّ ‪ ،‬وبكائهنَّ ‪ ،‬وكل األزمنة التي تدو ُر وفق ساعا ِتهنَّ أو حتى دونهُ نَّ ‪ُ ،‬هنَّ‬ ‫ً‬ ‫وجو ُد غيرهنَّ ‪ُ ،‬هنَّ ُّ‬ ‫مختومة بنون النسوة التي لهُ نَّ ‪.‬‬ ‫الكلمات بمضمونها‬ ‫كل‬ ‫ِ‬ ‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬


‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫الغموض فيها‪،‬‬ ‫بكل‬ ‫بكل تفصيالت كينونتها‪،‬‬ ‫األنثى‬ ‫ِ‬ ‫واملجهول يف تقلبات روحِ ها‪ ،‬يعجنُ سليم بماء الكلمات‪ ،‬طحني‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫تنور كلم ِة «أُح ُّبهُنَّ »‪:‬‬ ‫رغيفا من‬ ‫روحها يف صحن جسدها‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫«أُح ُّبهُنَّ ‪ ،‬هُ نَّ تخمنيٌ »‪ ،‬ص‪.22‬‬ ‫ٌ‬ ‫الرغم من ضآل ِة القو ِة يف هيكلهنَّ إذ‪« :‬إنهنَّ‬ ‫رضوض‪/‬‬ ‫عىل‬ ‫ِ‬ ‫الرمل‪ ،‬بل ُدعاءٌ بقشر ِه قشر الكوسا»‪.‬‬ ‫يف‪ /‬الهواء‪ /،‬وكسورٌ‪ /‬يف‪/‬‬ ‫ِ‬ ‫ص‪ ،116‬إال أنَّ سليماً يُعيدُ‬ ‫َ‬ ‫الذهول يف الوجود إليهنَّ ‪:‬‬ ‫منبت‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ويربط بني‬ ‫الذهول» ص‪.9‬‬ ‫بفائض من ثناء‬ ‫«لقد بذلنَ الوجود‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫املنثور يف‬ ‫املآز ِق ومخارجها‪ ،‬وبني الش ِّر‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الوجو ِد والخري املتمد ِد ظلاًّ لهُ‪ ،‬وبينهُنَّ‬

‫ِّ‬ ‫كحبل س ِّريٍّ يربطهُنَّ‬ ‫بكل بداية مأزق‬ ‫ٍ‬ ‫وش ِّر ِه ونهاي ِة ّ‬ ‫خرج وخريهِ‪ ،‬إنهُنَّ‬ ‫كل‬ ‫مَ‬ ‫ٍ‬ ‫وع ُ‬ ‫صخب الوجو ِد ُ‬ ‫نف املُعضل‪« :‬أُح ُّبهُنَّ‬ ‫ُ‬

‫عاشقات أو تعودنَ‬ ‫عاشقات أو تصبحنَ‬ ‫بوجعهنَّ ‪ ،‬يبقيهنَّ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ّدنَ‬ ‫أبواب‪ /‬بال نوافذ‪ /‬بال‬ ‫بال‬ ‫املنازل‬ ‫يف‬ ‫السكنى‬ ‫و‬ ‫«تع‬ ‫‪:‬‬ ‫عاشقات‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫تعرف‪ُّ /‬‬ ‫كل‪ /‬عاشق ٍة‬ ‫جدران‪ /‬لكن ملداخنها حمل البوح‪ /‬الذي‪/‬‬ ‫ٍ‬ ‫ّأنهُ‪ /‬بوحُ ‪ /‬قلبها املدخنة»‪ .‬ص‪ .48‬ال إيمان يُجزى وال إيمان‬ ‫خوف ي ُ‬ ‫ُربك حِ سابات قناعاتهنَّ وتدرُّج ظنونهنَّ ‪ ،‬إنهنَّ الرباهنيُ‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫والظنونُ‬ ‫القبض عىل املُعضل ِة أو يف خلقها لتكنَّ‬ ‫يف‬ ‫تتآلف‬ ‫حني‬ ‫ِ‬

‫ظالل األثر يف وجودهنَّ ‪« :‬الرباهنيُ أض َّرت ُ‬ ‫بأنفسها يف ِعنا ِقهنَّ ‪،‬‬

‫والظنونُ ‪ ،‬اشتكت الظنونَ »‪ ،‬ص‪.101‬‬

‫آخر اليشء أو الحدث‬ ‫ال يسعنيَ إىل ِ‬

‫لربح أو خسارة‪ ،‬هُ نَّ أخطأنَ حني‬ ‫ٍ‬ ‫لشبق ّ‬ ‫ُ‬ ‫سهنَّ‬ ‫جعلنَ‬ ‫اللذ ِة‬ ‫ًّا‬ ‫ب‬ ‫مص‬ ‫أنف‬ ‫من‬ ‫ِ‬ ‫الرجل‪ ،‬أخطأنَ‬ ‫وتركنَ حبل قدُّ ومها بيد‬ ‫ِ‬ ‫خطأ العمر يف بقائهنَّ َتح َتهُ‪ ،‬تتلقنيَ‬

‫ُ‬ ‫الخالدات‬ ‫املآز ُق‬ ‫ال يُصالحنَ إذ‬ ‫ِ‬ ‫تنفج ُر ِ‬ ‫بأقاويلها عن حدو ٍد للناريِّ » ص‪.94‬‬ ‫ُّ‬ ‫املآزق من خريه‬ ‫الدائر يف‬ ‫وكل الكالم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬

‫بأنفاس لذةٍ‪،‬‬ ‫والتعب‬ ‫الغضب‬ ‫ضربات‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫هُ نَّ الرحمُ يف والدتِها‪:‬‬ ‫لاً‬ ‫ُجازفنَ بيشءٍ قب ‪ ،‬إال حني‬ ‫“لم ي ِ‬ ‫َ‬ ‫َّأننثَ‬ ‫اللذاذة‪ ،‬وذ َّكرنَ مشيئتها»‪ .‬ص‪.24‬‬

‫«باستئذان‪ ،‬أو من دون ِه‬ ‫لالنقالب‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫ي ِّ‬ ‫ُكلفنَ ُ‬ ‫َ‬ ‫أنفسهُنَّ نقل الش ِّر إىل أرق الخري‬ ‫البوابات»‪ .‬ص‪.47‬‬ ‫جلوسً ا ُقرب‬ ‫ِ‬

‫فقط‪ ،‬بل إلساءة وتعنيف املوت‪ ،‬بتربج‬

‫البيوت ُ‬ ‫رق‬ ‫وش ّر ِه يتمُّ عىل بوابات‬ ‫ِ‬ ‫كط ٍ‬ ‫إىل املتعة برضا قلبهنَّ‬ ‫املتأهب دومً ا‬ ‫ِ‬

‫ُّ‬ ‫بحر‬ ‫الكل واليشءُ يف‬ ‫ال يقينيات تتملكهُنَّ أو يملكنها‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِّ‬ ‫الشك مُ ستدرج حسب عضل ِة قلبهنَّ الراقصة‪ ،‬ال تخومَ تحدُّ‬

‫لحظتهنَّ ‪ ،‬وال زمن يستدرجهُنَّ إىل صعود ِه بل يُنزلن ُه إليهنَّ ‪،‬‬ ‫هُ نَّ دائمً ا قبل الزمن الحقيقي بكثري‪« :‬أُح ُّبهُنَّ هُ نَّ ‪ /‬املألوف‪/‬‬ ‫‪/‬إنكار‪ّ /‬‬ ‫كل‪ /‬يقني» ص‪« .67-66‬أُح ُّبهُنَّ يتصنعن‬ ‫العازمُ ‪ /‬عىل‬ ‫ِ‬

‫ُ‬ ‫البكمَ إن خاطنب األعمارَ‪ ،‬ويتصنعن الصمَّ إن أنشدتهنَّ‬ ‫األعمدة‬

‫ما رفعت القرونُ ‪ /‬عليها‪ /‬من‪ /‬وساوس‪ /‬الهياكل»‪ .‬ص‪.61‬‬

‫ٌ‬ ‫بقلوب ‪ /‬أو ‪ /‬من ‪ /‬دونها»‪ .‬ص‪.5‬‬ ‫«عاشقات هُ نّ ‪،‬‬ ‫ٍ‬

‫أيًّا كانت نوع األقفال املوصد ِة لقلوبهم‪ ،‬وإن لم تكن أقفالاً‬

‫يف الطليق من املكان والظرف‪ ،‬تبقى قلوبهُنَّ مداخنَ للبوح‬

‫فخ نصبه سليم بركات لقارئ‬ ‫ن ُ‬ ‫أي ٍ‬ ‫ُدرك ّ‬

‫كتابهِ ‪ ،‬حيث الغزلية ليست كما المتداول‬ ‫بالغزل المفتون بقامةِ وانسياب الحبيبةِ‬ ‫وغنجها‪ ،‬إنما هنا‪ :‬سيرةٌ كاملة‬ ‫األنثى ُ‬

‫ِهن‬ ‫لألنثى‪ ،‬سيرةٌ‬ ‫لهن في مشاغل َّ‬ ‫َّ‬ ‫ِهن‬ ‫ومجالسهن‬ ‫هن وأحوال َّ‬ ‫وكالمهن وظرفِ َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫هن‬ ‫هن‬ ‫هن وحصادِ َّ‬ ‫وقدرهن وزرعِ َّ‬ ‫َّ‬ ‫وقيودِ َّ‬

‫هُ نَّ ‪ ،‬تتربجنَ ‪ ،‬ال لتغدونَ‬ ‫جميالت‬ ‫ٍ‬

‫أمام مرآ ٍة تنك ُر املوت‪ ،‬يف بقاء الخلو ِد‬ ‫سليم بركات‬ ‫َ‬ ‫لحظة رَ‬ ‫التب ُِّج‪ ،‬بدءً ا من أظافرهنَّ طالءً‬ ‫ً‬ ‫إىل خيوط شعرهنَّ‬ ‫صبغا‪« :‬بالغن يف اإلساءة إىل املوت بإنصاف ِه‬

‫مَ دحً ا َ‬ ‫َ‬ ‫املوت‪:‬‬ ‫أقلق‬ ‫العناق‪،‬‬ ‫الخفاف‪،‬‬ ‫شبه َن ُه بأقدامهنَّ يف‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫بأنفاسهنَّ يف ِ‬ ‫ً‬ ‫بالبخار صباحً ا من ماء استحمامهنَّ‬ ‫بخزائ ِنهنَّ‬ ‫مفتوحة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫بخفق مناماتهنَّ الواسع ِة قبل أن يندسسنَ يف ُ‬ ‫رش‪،‬‬ ‫الدافئ‪،‬‬ ‫الف ِ‬ ‫ِ‬ ‫شعورهُ نَّ أضاميمَ قبل النوم‪ ،‬بالنظر ِة مُ خ َت ً‬ ‫لسة إىل املرآة‬ ‫بربط‬ ‫ِ‬

‫عن بعدٍ ‪ ،‬بمراهم املاء امللينة عىل جلود أيديهنَّ ‪ ،‬بالجلوس‬ ‫َ‬ ‫أرجلهُنَّ عىل مساند عالية»‪ .‬ص‪70-69‬‬ ‫مدات‬ ‫مُ‬ ‫ٍ‬

‫ُصد ْقنَ إال ُ‬ ‫ُّ‬ ‫ما ي َُقلن ُه هو الصواب‪ ،‬ال ي ِّ‬ ‫وكل‬ ‫أنفسهنَّ ‪،‬‬ ‫ً‬ ‫حياة‪ ،‬وق ًتا‪ ،‬خريًا‪ ،‬مآزق‪ ،‬خريًا‪،‬‬ ‫األحوال بجمادها وناسها‪،‬‬ ‫جثث مُ ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫«الوقت مُ نطرحٌ ‪/‬‬ ‫لقاة عىل قارع ِة رعشة قهقهتهنَّ ‪:‬‬ ‫ش ًّرا‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫منطرحة ً‬ ‫ً‬ ‫أرضا‪/‬‬ ‫أرضا‪ /‬عىل‪ /‬مرمى‪ /‬قبلةٍ‪ /‬من أس َّرتهنَّ ‪ /‬والسماءُ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫منطرحة ً‬ ‫أرضا‪ ،‬والغدُ منطرحٌ عىل أرض البارحةِ‪،‬‬ ‫والحياة‬

‫َ‬ ‫ري الجواري بقياثر يف أيديهنّ يُطربنَ‬ ‫األهوال‪،‬‬ ‫أرضهُنَّ األساط ُ‬ ‫ً‬ ‫غرقا‪ ،‬ويُشجنيَ املالحمَ »‪ .‬ص‪.136-135‬‬ ‫ُ‬ ‫غزلية سليم بركات‪ ،‬ليست ولهًا باملحبوب‬ ‫هي هكذا‬ ‫وانغماسً ا فيهِ‪ ،‬إنما هي األنثى ِّ‬ ‫بكل الحاالت التي توجدُ فيها‪،‬‬

‫مع الدجاج‪ ،‬وعىل األرصف ِة أمام البوابات وهُ نَّ يُقشرنَ البزر‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫سبقهُنَّ‬ ‫غزلية عن ويف األنثى‪ ،‬الشجرةِ‪،‬‬ ‫الديك فقط يف الصباح‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫عض ِل‪.‬‬ ‫امل‬ ‫حني‬ ‫اإلدالء‬ ‫حني‬ ‫ها‬ ‫ز‬ ‫ته‬ ‫متمايلة‬ ‫بأيِّ يشءٍ‬ ‫الريحُ‬ ‫ِ‬

‫‪137‬‬


‫مقال‬

‫رشيد بوطيب‬ ‫كاتب مغربي‬

‫ليليث وشياطين الرأسمال‪:‬‬

‫االقتصاد على سرير فرويد‬ ‫«ليليث وشياطين الرأسمال‪ :‬االقتصاد‬

‫على سرير فرويد»‪ ،‬صدر عن دار هانزر‪ ،‬لتوماس‬

‫سيدالشيك وأوليفر تانسر‪ .‬أحدهما تشيكي‪ ،‬عمل‬ ‫لسنوات في القطاع البنكي‪ ،‬إلى جانب تدريسه‬

‫االقتصاد في الجامعة التشيكية‪ ،‬وحصوله على‬

‫عضوية المجلس األخالقي لمنتدى االقتصاد العالمي‪،‬‬

‫‪138‬‬

‫والثاني صحفي نمساوي‪ ،‬يعمل في الصحافة‬ ‫اليومية‪ ،‬وعمل لسنوات مراسلاً لإلذاعة والصحافة‬

‫المكتوبة النمساوية لدى االتحاد األوربي‪ .‬كالهما‬

‫سيبحر في مغامرة لم يسبق لغيرهما أن قام بها‪،‬‬

‫نجدها عند األفراد‪ ،‬حاضرة بشكل جمعي لدى المجتمع‪.‬‬ ‫وهما يعتقدان أنهما ربما يصالن عبر ذلك إلى عالج‬

‫لالقتصاد‪ ،‬عالج جمعي‪ ،‬أو «عالج الحضارة» كما أسماها‬

‫الكاتب والمحلل النفسي اإليطالي ‪.Luigi Zoja‬‬

‫لقد اعتدنا على تحليالت تهم «جسد» االقتصاد‪ ،‬أي‬

‫االقتصاد الواقعي‪ ،‬المادي‪ ،‬الوظيفي‪ ،‬الذي يمكن حسابه‪،‬‬ ‫والصناعة‪ ،‬وعالم اإلنتاج واالستهالك‪ ..‬إلخ لكن ما ندر‬

‫القيام به برأي الباحثين هو دراسة «روح» االقتصاد‪ .‬فداخل‬

‫تلك الروح‪ ،‬أي داخل االقتصاد كعلم‪ ،‬تتموقع معتقداته‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وأيضا تصوراتنا عن‬ ‫ومخاوفه وآماله‪ ،‬وفعلنا السياسي‪،‬‬

‫تطبيق منهجية التحليل النفسي على نظام اقتصادي‪،‬‬ ‫أضحى يشكل مشكلاً للسياسة والمجتمع عامة‪ ،‬بل‬

‫بداية في «جسد» االقتصاد‪ ،‬في االقتصاد الواقعي‪ .‬وكما‬

‫هو االقتصاد‪ ،‬وسنضع االقتصاد على سرير المحلل‬

‫وروحه ملتحمان‪.‬‬

‫كما يقوالن‪ ،‬لطريقتنا في التفكير‪« .‬إن طوطم عصرنا‬

‫النفسي ونصغي إليه؛ لنعرف ما الذي يقوله؟ ما‬

‫الذي يأمل أو يحلم به؟ عن أي شيء يفضل الحديث؟‬ ‫وما الذي يكبته في األعماق؟‪ ..‬إلخ»‪ .‬يبدو كما لو‬

‫الحرية والمراقبة‪ ،‬على الرغم من أنها تعبر عن نفسها‬

‫الحال عند اإلنسان وأمراضه النفسية‪ ،‬فإن جسد االقتصاد‬

‫اقتصاد يعاني اضطرابات نفسية‬

‫يسجل الباحثان وجود خمسة أنواع من االضطرابات‬

‫الهوس االكتئابي‪ .‬وينتج عن ذلك الفوضى‪ .‬إن الفكر‬

‫النفسية في االقتصاد المعاصر‪ ،‬ال تمثل فقط جزءً ا منه‪،‬‬ ‫بل تسيره بالطريقة التي تريد‪ .‬أولاً ‪ :‬اضطراب في معرفة‬

‫مع كل القيم األخرى بسخرية‪ ،‬وحتى إذا ما دخل‬

‫باستمرار بمزيد من اإلنتاج واالستهالك‪ .‬ثانيًا‪ :‬اضطرابات‬

‫أن االقتصاد يعاني اليوم اضطرابًا ثنائي القطب‪:‬‬

‫االقتصادي نتاج للنفعية الفردانية التي تتعامل‬

‫االقتصاد كعلم في عالقة بالتخصصات األخرى‪ ،‬تراه‬ ‫ال يسعى إلى تعلم شيء جديد‪ ،‬إنما للسيطرة عليها‬

‫وفرض منطقه‪.‬‬

‫يهتم التحليل النفسي تقليديًّا باألفراد وحيواتهم‪،‬‬

‫لكن الباحثين يسعيان إلى تطبيقه على مستوى أكبر‪،‬‬

‫وبحث إن لم تكن تلك السلوكيات المنحرفة التي‬

‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬

‫الواقع‪ :‬ويريان ذلك نتيجة لمبدأ اللذة الذي يطالب‬

‫ناتجة عن الخوف‪ .‬وهي ما يدفعنا للنظر إلى الواقع بشكل‬

‫ً‬ ‫وخصوصا في‬ ‫سلبي‪ ،‬ويقود إلى سلوكيات غير عادية‪،‬‬ ‫مراحل األزمة‪ً .‬‬ ‫ثالثا‪ :‬اضطرابات لها عالقة بالوضع النفسي‪،‬‬ ‫أو ما يسمى باالضطرابات العاطفية‪ ،‬وهنا ستتم دراسة‬

‫دورات الهوس االكتئابي‪ ،‬التي تتعلق بالتطورات المتصلة‬ ‫بالطفرات واألزمات االقتصادية‪ .‬رابعً ا‪ :‬اضطرابات تتعلق‬


‫بالسيطرة على الدوافع‪ ،‬وهنا ستتم دراسة نموذجين‬ ‫للسلوك‪ :‬إدمان اللعب الذي نلحظه لدى البنوك‬

‫االستثمارية‪ ،‬والسلوك الثاني المرتبط بإدمان السرقة‬

‫«الكليبوتوماني»؛ إذ من المثير لالنتباه أن ذلك الذي يحقق‬

‫نجاحً ا داخل هذا النظام االقتصادي‪ ،‬ويملك العمل والسلع‬ ‫خامسا‪:‬‬ ‫والرأسمال‪ ،‬هو الذي ال يقدم شي ًئا مقابل ذلك‪.‬‬ ‫ً‬

‫اضطرابات الشخصية‪ :‬من أجل المحافظة على النظام الذي‬ ‫يقوم على العنف والمنافسة‪ ،‬يتوجب على المشاركين فيه‬

‫ً‬ ‫أشخاصا‬ ‫أن يتلقوا تكوي ًنا مناسبًا لطبيعته‪ ،‬يصنع منهم‬

‫أنانيين وعنيفين‪ ،‬بعيدً ا من كل إحساس باإلنسانية‬

‫والغيرية‪ ،‬وبعيدً ا من كل حس سليم‪ .‬إنهم مجرد أدوات‬

‫في نظام لم يعد يخدم مَ ن صنعه‪ ،‬بل استولى بنفسه على‬

‫السلطة‪ .‬إن هذا ال يعني أن المشاركين في النظام أناس‬ ‫سيئون‪ ،‬بل إن النظام من يرغم َخدَ م ُه على االضطالع‬ ‫بأدوار باثولوجية‪.‬‬

‫يؤكد الكاتبان أنهما سينهجان طريق التحليل النفسي‪.‬‬

‫فليس هدفهما إصدار أحكام واتهامات‪ ،‬لكن اإلصغاء لما‬

‫يقوله االقتصاد‪ .‬فهذا الكتاب ال يجب عدّ ه كتابًا ضد اقتصاد‬

‫السوق الرأسمالي‪ ،‬البنوك واألسواق المالية‪ .‬إنهما يريان‬

‫النظام االقتصادي الحالي خطوة في مسار تقدم البشرية‪،‬‬ ‫جعل من حياة اإلنسان على األرض أفضل مما كانت عليه‬ ‫من قبل‪ .‬لكنهما يؤكدان ً‬ ‫أيضا أن ذلك ال يجب أن يمنعنا‬ ‫من انتقاد انحرافات النظام‪ ،‬وتوصيف أمراضه‪ ،‬وبحث‬

‫سبل عالجه‪ .‬إن أسطورة «ليليث» العبرية‪ ،‬التي اختير‬

‫ً‬ ‫عنوانا لهذا الكتاب‪ ،‬تلخص بنظر الباحثين‪ ،‬حقيقة‬ ‫اسمها‬ ‫االقتصاد الرأسمالي‪ .‬إن ليليث‪ً ،‬‬ ‫وفقا للرواية العبرية‪ ،‬أول‬ ‫امرأة آلدم‪ .‬لقد خلقت هي األخرى مثله من طين‪ ،‬وكانت‬ ‫تشبهه في كل شيء‪ .‬بل إن تمسكها بهذه المساواة بينها‬

‫وآدم‪ ،‬هو ما جعلها تدخل في صراع معه‪ .‬إنها رمز ألول‬

‫لقد اعتدنا على تحليالت تهم «جسد»‬ ‫االقتصاد‪ ،‬أي االقتصاد الواقعي‪ ،‬المادي‪،‬‬ ‫الوظيفي‪ ..‬إلخ‪ ،‬لكن ما ندر القيام به‬ ‫هو دراسة «روح» االقتصاد‪ .‬فداخل تلك‬ ‫الروح‪ ،‬أي داخل االقتصاد كعلم‪ ،‬تتموقع‬ ‫معتقداته‪ ،‬ومخاوفه وآماله‬ ‫التدمير‪ .‬إنها رمز للحياة والموت‪ ،‬لإلنسانية والسمو‪ ،‬وفي‬

‫اآلن نفسه للبدائية والتوحش‪ ،‬جوع ال يشبعه شيء‪ .‬فمبدأ‬

‫عصرنا‪ ،‬كما يؤكد الباحثان‪ ،‬ليس سد رمق الجائع‪ ،‬بل‬

‫كائن بشري طالب بالحرية‪ .‬ومن أجل ذلك هرب من جنة‬

‫إشباع الشبعان‪ .‬وهو ما يشكل في حد ذاته مشكلة كبيرة‪.‬‬

‫بقتل المواليد الجدد وامتصاص دمهم‪ .‬ومن هذه الطاقة‬

‫آخر أكثر من «إيقاظ جوعنا غير الحقيقي بشكل ليبيدي»‪.‬‬

‫عدن وحقت عليه لعنة الرب‪ .‬ستتحول إلى شيطان يقوم‬

‫التي ستحصل عليها‪ ،‬ستضع شياطين جددًا‪ ،‬مئة كل‬ ‫يوم‪ ،‬لتقوم بعدها بقتلهم ً‬ ‫أيضا‪ .‬وسبب كل هذه الثورة‪،‬‬

‫فاإلشهار‪ ،‬على سبيل المثال ال الحصر‪ ،‬ال يقوم بشيء‬

‫إننا أمام «دونجوانية اقتصادية»‪ ،‬ال تتحقق إال كاستهالك‬

‫مستمر‪ ،‬وكما يستهلك الدونجوان نساءه‪ ،‬يستهلك‬

‫هو أنها وجدت في الوضع الجنسي‪ ،‬أن تتمدد تحت جسد‬

‫االقتصاد العالمي السلع والموارد‪ .‬وهناك حيث يعجز عن‬

‫سلوك ليليث يقوم على مبدأين‪ :‬االستهالك والتدمير‪ .‬ولهذا‬

‫اقتصادي واقعي ال يتورع عن إنتاج المرض من أجل تسويق‬

‫ماكينة استهالك‪ ،‬ال تتوقف عن اإلنتاج كما ال تتوقف عن‬

‫الناس سمنة‪ ،‬كلما ازداد االقتصاد نموًّا»‪ .‬إن هذا االستنتاج‬

‫آدم خالل المضاجعة‪ ،‬رم ًزا للقمع والحط من كرامتها‪ .‬إن‬ ‫هي تشبه في كثير االقتصاد الذي يقوم على التدمير‪ .‬إنها‬

‫االستهالك‪ ،‬يحل الركود وتسيطر الكآبة‪ .‬إننا نقف أمام نظام‬ ‫الدواء‪ ،‬وفي هذا السياق يسجل الباحثان أنه «كلما ازداد‬

‫‪139‬‬


‫مقال‬

‫ال يدخل في باب النكتة أو السخرية السوداء‪ .‬إن‬

‫األرقام واإلحصائيات في الدول الغربية تؤكد ذلك‪.‬‬

‫يقوم االقتصاد العالمي اليوم على إشباع رغبات الدول‬

‫الذي يقوم عليه االقتصاد المعاصر‪ ،‬دفع اإلنسان‬

‫جهة‪ ،‬واأللم من جهة أخرى‪ .‬سلوك سادي وعدوانية استقلت‬

‫شخصيته‪ .‬أما الشخصية التي يحبذها االقتصاد‬

‫إضافة إلى «الكليبتومانية»‪ ،‬يؤدي الخوف دورًا مركزيًّا في هذا‬

‫إضافة إلى ذلك‪ ،‬فإن مبدأ النمو المستمر‬

‫إلى تسويق كل شيء‪ ،‬بل إلى تسويق أجزاء من‬

‫المتقدمة على حساب الدول المتخلفة والفقيرة‪ .‬اللذة من‬ ‫بنفسها‪ ،‬لم يعد هدفها التقدم‪ ،‬ولكن التدمير الذاتي‪ .‬لكن‬

‫المنفلت من عقاله‪ ،‬فهي سادية‪ ،‬نرجسية‪ ،‬عدوانية‪،‬‬

‫السياق‪« .‬إن الخوف‪ ،‬كما كتب عالم االجتماع األلماني نيكالس‬

‫الباحثان إلى مئة مقابلة أجراها كل من عالم النفس‬

‫األخرى»‪ .‬ولقد تحول إلى أداة بيد السياسيين واالقتصاديين‬

‫بول بابياك‪ ،‬التي تظهر بأن عدد المرضى النفسيين‬

‫يمكنهم التأثير في الماليين وهم يستعملون الخوف‪ ،‬وينشرون‬

‫وكلما ازدادت عدوانيتها‪ ،‬زادت أرباحها‪ .‬يشير‬

‫الكندي روبيرت هار والمستشار االقتصادي األميركي‬

‫في المناصب الرئيسة لدى الشركات الكبرى يتجاوز‬ ‫ثالث مرات عددهم في المجتمع العادي‪.‬‬

‫نقرأ في الكتاب‪« :‬منذ آالف السنين والبشر‬

‫لومان‪ ،‬هو المبدأ الذي يستمر بالعمل حين تتوقف كل المبادئ‬

‫كما كان باألمس القريب أداة بيد رجال الدين‪ ،‬فرجال السياسة‬ ‫الحقد ويشعلون الحروب‪ ،‬وما الحروب على اإلرهاب إال نموذج‬ ‫بسيط عن ذلك‪ ،‬أما رجال المال واالقتصاد‪ ،‬فيعيشون على‬ ‫صناعة الخوف وتسويقه وتقديم أجوبة عن تلك المخاوف‬

‫يفكرون في سبل توزيع السلع بشكل عادل بين البشر‪.‬‬

‫التي صنعوها‪ ،‬من المجاالت األمنية والصحية والغذائية حتى‬

‫والسكوالئية حتى آدم سميث ودافيد ريكاردو‪،‬‬

‫وهي تبيع الخالص الروحي للمؤمنين‪ .‬لم يبالغ سالفو جيجيك‬

‫منذ أفالطون وأرسطو إلى سينيكا وتوما األكويني‬

‫وكارل ماركس‪ ،‬وكينز وميلتون فريدمان‪ .‬فموضوع‬

‫‪140‬‬

‫التحرر من أحالم اليقظة‬

‫المجال المالي‪ ،‬تمامً ا كما كانت تفعل الكنيسة الكاثوليكية‬

‫تاريخ االقتصاد كان دومً ا توزيع السلع واالتجار بها‪.‬‬

‫حين أكد «أن خلق المخاوف مكون للذاتية المعاصرة‪ .‬إن‬ ‫ً‬ ‫حظوظا جيدة في أن يتحول إلى األيديولوجية التي‬ ‫للخوف‬

‫أفالطونية‪ ،‬كالسيكية‪ ،‬اشتراكية‪ ،‬طوباوية‪ ،‬كينزية‪،‬‬

‫برأي الكاتبين‪ ،‬هو رديف الحرية في السوق الحرة‪.‬‬

‫مدرسة تدعو إلى السرقة كأفضل السبل إلى السعادة‬

‫التكلس»‪ .‬يكتب المفكر األلماني فولف لوتر في كتابه‪،‬‬

‫اليوم‪ ،‬والمنافسة المحتدمة بين الفاعلين الماليين‬

‫ثغراته‪ ،‬والغضب الذي يخضب كلماته‪ ،‬محاولة لتجاوز هذا‬

‫لعبة األخذ والعطاء‪ ،‬ولكن ذاك الذي ال يعطي شي ًئا‬

‫يهدف إلى العالج‪ ،‬لكنه يمنحنا الوعي بوضعنا‪ ،‬فهو يحررنا‬

‫وكيفما كانت االختالفات بين المدارس المتعددة‬

‫بروتستانتية أو نيو كالسيكية‪ ،‬لم يسبق أن وجدت‬

‫اإلنسانية» (ص‪ .)138‬لكن اقتصاد الشركات الكبرى‬ ‫تؤكد أن من يجني األرباح‪ ،‬ليس هو من يحسن‬

‫تحدد كل شيء داخل الرأسمالية المعولمة»‪ .‬إن الخوف إذن‪،‬‬ ‫«إن الرأسمالية قادرة على التطور‪ ،‬لكن نقدها أصابه‬

‫«الرأسمالية المدنية»‪ .‬ربما يأتي هذا الكتاب‪ ،‬على الرغم من‬

‫التكلس الذي أصاب «نقد الرأسمالية»‪ .‬إن التحليل النفسي ال‬

‫ويأخذ كل شيء‪ .‬إننا أمام «تحول في الباراديم» يقول‬

‫من أحالم اليقظة ليربطنا بالواقع‪ .‬ولربما يكون الوعي بالمرض‬

‫المشكلة في رأيهم‪ .‬فالحرية االقتصادية واالجتماعية‬

‫ً‬ ‫خصوصا تلك البكائيات الدينية‬ ‫استمرار تكلس النقد‪ ،‬ومنها‬

‫على التحلي بالمسؤولية‪ .‬أما ما نعيشه اليوم‪ ،‬فهو‬

‫الرأسمال‪« .‬لقد حاولنا إعطاء صوت لالستالب الذي يعانيه‬

‫السيكولوجيا كشخص يعاني اضطرابات في التحكم‬

‫هذا ما نقرؤه في الفصل األخير من الكتاب‪ .‬لكن‪ ،‬وعلى أطراف‬

‫الباحثان‪ ،‬في تاريخ االقتصاد اإلنساني‪ .‬وهنا تكمن‬ ‫تشكل ربحً ا للجميع‪ ،‬متى ارتبطت بقدرة البشر‬

‫حرية العدوانية وبطلها «الكليبتومان» الذي تصفه‬

‫أهم من وصفات العالج السحرية التي ال تسهم سوى في‬

‫المعاصرة التي ال تفعل بنقدها المتهاوي سوى تأبيد سلطة‬

‫اإلنسان الغربي المعاصر‪ ،‬وتوضيح عناصر هذا االستالب»‪،‬‬

‫بنوازعه‪ .‬يعتقد «الكليبتومان» الذي يجد نفسه مضط ًّرا‬

‫اإلمبراطورية االقتصادية العالمية‪ ،‬هذه األطراف التي تجد‬

‫وزنا المحارم‪ ،‬ويرى أنه‪ ،‬عبر السرقة‪ ،‬يتجاوز رهابه‬

‫سلوكيات استهالكية أكثر دموية‪ ،‬ليس أقلها الحروب اإلثنية‬

‫للسرقة‪ ،‬لسبب نفسي وليس لسبب خارجي كالفقر‬ ‫مثلاً ‪ ،‬وعانى في األغلب األعم تجارب صادمة كالعنف‬ ‫واكتئابه‪ ،‬لكنه ال يزيد في الواقع إال من استفحالهما‪.‬‬

‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬

‫نفسها مرغمة على استيراد‪ ،‬ليس فقط السلع التي ينتجها‬ ‫المركز‪ ،‬بل أزماته ً‬ ‫أيضا‪ ،‬فإن هذا االستالب يعبر عن نفسه في‬ ‫والمذهبية‪.‬‬


141


‫فضاءات‬

‫وتبدل األزمنة‬ ‫مقاهي القاهرة‬ ‫ّ‬ ‫‪142‬‬

‫ليس بدافع‬ ‫البحث عن مأوى‬ ‫سعيد الكفراوى‬

‫كاتب مصري‬

‫لكل كاتب حسه باألماكن‪ ،‬يصغي لحديثها وذكرياتها‪ ،‬ويستدعيها!!‬ ‫ً‬ ‫قصصا عنها‪ ،‬ويتخيل رؤى‪ .‬وأنت تحاول‪ ،‬على قدر الطاقة تحقيق قيمة لما تراه‪،‬‬ ‫يسطر دون ارتعاش‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وتطرح من خالل السؤال تلو السؤال باحثا عن صورة وذكرى‪ ،‬واإلصغاء لصوت يجيء عابرًا السنين‪،‬‬

‫وعن أناس كانوا هنا ً‬ ‫يوما‪ ،‬ومضوا حيث وجه الكريم‪ ،‬فيما تثبّت الصور حركة مجتمع على مستويات‬

‫عدة‪ :‬الحوادث والثقافة والفنون وحياة الناس‪ .‬والمقهى في تاريخ مصر المحروسة ذاكرة الحكايات‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ومالذا لبعضهم عبر رفقة قد تطول من الشباب حتى الرحيل‪ .‬والمقهى في‬ ‫وشاهدا على متغيرات الدنيا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫بعضا من تاريخ الوطن الوجداني‪ .‬أندهش وأنا أقلب صفحات من زمن مضى‪ ،‬وأتأمل‬ ‫كل تجلياته يمثل‬ ‫جوهر المكان‪ ،‬وصفحات ر ّواده‪ ،‬ودوره المتميز في تكوين ذاكرة الوطن السياسية واالجتماعية والثقافية‪،‬‬ ‫واالحتفاظ في أحيان كثيرة بمجريات األمور ولو من كل عام يوم!!‬

‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬


‫‪143‬‬ ‫لقد ظلت المقاهي في تاريخ مصر االجتماعي أحد تجليات‬ ‫أحوال الوطن‪ ،‬ورك ًنا لثقافته‪ ،‬وورشة لتجريب الكتابة‪،‬‬

‫اإلبداعية ليكتب ما كتب حتى انتهى األمر بأحدهم في شهادة‬

‫الحوار واألفكار‪ ،‬وممارسة لعبة السياسة‪ ،‬وأكثر األماكن حرية‬

‫يجلس عليه نجيب محفوظ‪.‬‬

‫والتعرف على الجديد‪ ،‬وتكوين الرأي‪ ،‬والمكان األسمى لتبادل‬ ‫للفضفضة‪ ،‬بل ظلت طوال تاريخه مختبرًا لعالئق القيم في‬

‫المجتمع‪ .‬وظلت المقاهي جزءً ا من سياق تاريخي واجتماعي‬ ‫وسياسي وثقافي كان دائمً ا ما يعطي المدينة حكاياتها‬

‫وأساطيرها‪ ،‬ويغذي مشاعرها‪ ،‬ويفجر بداخلها السؤال‪.‬‬

‫المقاهي التي جلس عليها نجيب محفوظ في وعيه وذاكرته‬

‫عنه‪ ،‬حيث قال‪ :‬إنه ال يوجد مقهى في مدينة القاهرة لم‬

‫تاريخ حافل‬

‫ولمصر تاريخ حافل مع المقهى‪ .‬يشهد عليها رفة النرد‪،‬‬

‫وصوت أم كلثوم‪ ،‬والقعدة تحت تكعبية شجر في الظل الوارف‬

‫ليس هذا قاصرًا عليها‪ ،‬وال على بعض عواصم العرب‪،‬‬

‫تحت ليل رهيف‪ .‬فمنذ عرفت مصر المقهى‪ ،‬في عام ‪1750‬م‪،‬‬

‫«الفلور» في باريس تفجرت على كراسيه حركات أدبية وفنية‪،‬‬

‫خيال الظل والشعراء الشعبيين وأهل السياسة‪ ،‬والمضروبين‬

‫ولكن العالقة تشمل العديد من عواصم العالم‪ .‬مقهى‬ ‫وشهد من حوادث السنين الكثير‪ ،‬وجلس على طاوالته‬

‫سارتر‪ ،‬وسيمون دي بفوار‪ ،‬وألبير كامو‪ ،‬وأندريه مالرو‪،‬‬ ‫وفوكو‪ ،‬وأنجزت على طاوالته أهم المذاهب الفلسفية‪،‬‬ ‫وأفكار الحداثة‪ ،‬كما جلس زعماء؛ مثل‪ :‬لينين‪ ،‬وتروتسكي‪،‬‬

‫وسيزان‪ ،‬وبيكاسو‪ ،‬وفيكتور هوغو‪ ،‬وهيمنغواي‪ ،‬كل منهم له‬ ‫مقهاه الذي عشقه‪ ،‬وأنجز على كراسيه درة أعماله مستبدلين‬

‫بذائقة الفن والكتابة ذائقة جديدة وحداثية‪ .‬كيف أثرت‬

‫منذ اكتشاف القهوة‪ ،‬حيث جمعت المسامرين والروّاد وفرق‬ ‫بالغرام‪ ،‬وفي مساحة مكانه أنشدت على الربابة السيرة‬

‫الهاللية‪ ،‬والظاهرية‪ ،‬وحكايات الشطار والعيّاق‪ ،‬وحكايات‬

‫من ألف ليلة وليلة‪ ،‬وفي بعض المقاهي غنت الجواري أعذب‬ ‫الشعر‪ ،‬وأجمل األدوار‪ ،‬وفي موالد األولياء أقيمت المقاهي‬

‫على عجل في خالء العاصمة‪ ،‬والمدن الريفية‪ ،‬في حضرة‬ ‫أسيادنا شيوخ الطرق‪ ،‬والمضروبين بالشفاعة‪ ،‬وعشاق‬

‫النبي‪ ،‬والمقهى دائرة من نور ومسامرة‪.‬‬


‫فضاءات‬

‫وفي تاريخ مصر تميزت مقاهٍ‪،‬‬

‫واشتهرت في بالد الله‪ ،‬وحج إليها القاصي‬ ‫ً‬ ‫مكانا‪،‬‬ ‫والداني‪ ،‬واحتلت في ذاكرة التاريخ‬ ‫ولها الفضل بما قدمته من خدمة‪،‬‬

‫للمعارف من أدوار ثقافية وسياسية‬ ‫ً‬ ‫طرفا منها‪ ،‬وشكلت‬ ‫واجتماعية‪ ،‬عشت‬ ‫ً‬ ‫بعضا من الذاكرة‪ ،‬بالطرائف والحوادث‪.‬‬

‫قهوة «متاتيا» في ميدان إبراهيم‬

‫باشا‪ ،‬في قلب القاهرة‪ ،‬تحيطها حديقة‬ ‫األزبكية بروّادها من األفاضل‪ :‬شيوخ‪،‬‬ ‫وأفنديات‪ ،‬وأساتذة عائدون من بعثاتهم‬

‫في بالد اإلفرنج‪ ،‬حيث كان يجلس الثائر‬ ‫السيد جمال الدين األفغاني يو ّزع السعوط‬

‫بيمينه‪ ،‬ويشعل الثورة بشماله‪ ،‬وحوله‬

‫السياسة‪ ،‬مع برامج األحزاب‪ ،‬والشعار هو «االستقالل التام‬

‫يجلس األفاضل الشيخ محمد عبده‪ ،‬وسعد زغلول‪ ،‬وعبدالله‬

‫أو الموت الزؤام»‪ .‬كان مقهى عبدالله بالجيزة يمثل طليعة‬

‫والمازني وغيرهما‪ ،‬متكلمين في الثورة‪ ،‬طارحين سؤال‬

‫ورجاء النقاش وطيب الذكر الناقد أنور المعداوي والمحاور‬

‫النديم‪ ،‬ومحرر المرأة قاسم أمين‪ ،‬ولحق بهم الشابان العقاد‬ ‫االجتهاد في الدين‪ ،‬وحركة االستنارة والتمدن‪ ،‬وحق اإلنسان‬

‫في التعليم والمشاركة السياسية‪ ،‬وعالقته بما يجري في‬ ‫الدنيا من معرفة وعلوم‪ ،‬ويناقشون نتائج ما جرى للثورة‬

‫‪144‬‬

‫نجيب محفوظ في أحد المقاهي بالقاهرة‬

‫العرابية‪ ،‬ممهدين الطريق لتبزغ شمس ثورة ‪1919‬م المصرية‪،‬‬

‫فيما يصدرون جريدتهم الغراء «العروة الوثقى» التي تبنت‬

‫أفكار األفغاني ومحمد عبده في التغيير واالستقالل‪ ،‬وفي‬ ‫لحظات الصفاء ينطق صوت عبده الحامولي بالغناء فيمتد‬ ‫الليل حتى آخره‪.‬‬

‫للكتابة منذ الخمسينيات‪ ،‬ويؤمه رواده‪ :‬عبدالقادر القط‬ ‫الساخر الذي ال ينسى محمود السعدني‪.‬‬

‫في وسط المدينة يقع مقهى «ركس» وقريبًا منه‬

‫كازينو «صفية حلمي» الشهير وفيه يجلس نجيب محفوظ‬ ‫وشكري عياد وعبدالمحسن طه بدر وسليمان فياض واألديب‬

‫الناشئ جمال الغيطاني‪ .‬حوار حول القيمة‪ ،‬وحضور لمنجز‬

‫الغائبين‪ ،‬والذاكرة معرفة بما قاله نيتشه‪« :‬نحن ال نتحرر إال‬ ‫من خالل الذاكرة»‪ ،‬وفن الرواية تطل شمسه من خالل ما‬

‫قاله األديب الشاب نجيب محفوظ‪« :‬بأنها الشكل الذي يمثل‬

‫قريبًا من مقهى «متاتيا» شرفة «اإلنتركونتننتال» حيث‬

‫شغف اإلنسان الحديث بالحقائق وحنانه القديم للخيال»‪.‬‬

‫الجديد على مسرحها‪ .‬وبالقرب يقع ك ــاف ـي ــه وح ــدي ـق ــة‬

‫الفكر والمعرفة‪ ،‬مفتوحة األبواب أمام المغضوب عليهم في‬

‫تجلس فرقة «األوبرا» الخديوية في انتظار تقديم موسمها‬ ‫«جروبي» حيث يجلس أمير الشعراء شوقي بك‪ ،‬وتلميذه‬

‫الشاب محمد عبدالوهاب‪ ،‬المطرب الصاعد‪ .‬وفي الجوار‬ ‫مقهى ركس وروّاده من فناني المسرح ينتظرون أن ينفتح‬ ‫شارع عماد الدين بالنور حتى يبدأ الشيخ سالمة حجازي‬ ‫وجورج أبيض ويوسف وهبي والريحاني وفاطمة رشدي‬ ‫وأمينة رزق واألخوان رياض وأعضاء الفرقة القومية أعمالهم‬

‫المسرحية‪ ،‬ينتظرون على مقا ٍه تزدحم باألقليات من كل‬ ‫جنس وملة‪ ،‬فتختلط اللغات واللهجات في مدينة تعيش‬

‫تمدنها وغناها حيث تعقد الندوات الثقافية وتلقى األشعار‪،‬‬ ‫وفي شارع عماد الدين تتجلى صورة شارع بيغال في فرنسا‬

‫بأضوائه ومغانيه‪.‬‬

‫حوار حول القيمة‬

‫تعقد بالمقاهي ندوات الثقافة واألدب‪ .‬بها تختلط تيارات‬ ‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬

‫والقاهرة في حينها مدينة مزدهرة بتمدنها‪ ،‬واحتضانها لقضايا‬

‫بالدهم‪ ،‬وكنت طوال مشوارك ترى المغاربة والمشارقة‪،‬‬

‫وأغرب األجناس يحتلون كراسي مقاهيها‪ ،‬وأنا عرفت ورأيت‬ ‫الشاعر العراقي عبدالوهاب البياتي في مقهى «البس»‪،‬‬

‫والشاعر السوداني‪ ،‬شاعر إفريقيا محمد الفيتوري‪ ،‬والشاعر‬ ‫الفلسطيني معين بسيسو «على مقهى ريش» يرتل الشعر‬ ‫وسط أفراد جيله من الشعراء والفنانين‪ .‬عشت ردحً ا من‬ ‫زمان أجوب مقاهي المثقفين‪ ،‬وأبحث عنهم‪ً ،‬‬ ‫بحثا عن األلفة‬

‫والمسامرة‪ ،‬والتعرف على مدارس األدب وسمّ اره‪ ،‬وكان‬ ‫مقهى «إيزافيتش» حيث تعرفت على األبنودي وسيد حجاب‬

‫وخليل كلفت وغيرهم‪ ،‬حتى ألقاني البحث إلى مقهى «ريش»‪.‬‬ ‫صحبني إليه أول مرة في عام ‪1966‬م الروائي جمال‬

‫الغيطاني‪ ،‬وهناك التقيت أفراد هذا الجيل‪ :‬عبدالحكيم قاسم‬ ‫وأمل دنقل ومحمد عفيفي مطر ويحيى الطاهر عبدالله وعمنا‬

‫عبدالفتاح الجمل من فتح األبواب أمام هؤالء‪ .‬التقيتهم في‬


‫ليس بدافع البحث عن مأوى‬

‫ندوة كان يقيمها نجيب محفوظ على المقهى‪ .‬والمقهى هو‬

‫مقهى «ريش» العتيد‪ .‬أنشئ في عام ‪1908‬م في ميدان طلعت‬ ‫حرب‪ ،‬منتصف المدينة‪ ،‬أسسه رجل نمساوي من األقليات التي‬

‫كانت تزدحم بها مصر‪ ،‬ثم باعه ليوناني‪ ،‬الذي باعه لمصري‬

‫طيب هو عبدالمالك أفندي خليل‪ .‬لم يكن للمقهى صورته‬ ‫الحالية‪ ،‬وكانت تحيط به حديقة تطل على الميدان‪ ،‬وكانت به‬ ‫فرقة أوركسترالية‪ ،‬كما أن ثوار ثورة ‪ 19‬كانوا يجلسون عليه‪،‬‬ ‫لقد غنت في حديقته الصغيرة «أم كلثوم» مرتدية العقال‬

‫والغترة‪ ،‬وأنشدت في ذلك الوقت مدائحها الدينية وقصائدها‬ ‫الشعرية‪.‬‬

‫ً‬ ‫تجسيدا لخيال من جلس عليه من‬ ‫كان هذا المقهى‬

‫على طاوالت المقهى كتبت البيانات‬ ‫واالحتجاجات ضد تجاوزات السلطة‪ .‬وسارت‬ ‫مسيرة االحتجاج في شوارع وسط البلد في‬ ‫زمن كان قانون الطوارئ يمنع أية مسيرات‬ ‫يومً ا نجيب محفوظ‪« :‬كانوا يتعاركون ويتصايحون ثم في اليوم‬

‫التالي تراهم قادمين يتأبطون أذرعتهم»‪ .‬وعلى طاوالت هذا‬ ‫المقهى كتبت البيانات واالحتجاجات ضد تجاوزات السلطة‪،‬‬

‫منها ما أطلقنا عليه بيان توفيق الحكيم ضد السادات في أول‬

‫الفنانين‪ ،‬وتكونت على طاوالته كثير من مدارس الفنون‬

‫حكمه‪ .‬ومنه خرجت أول مسيرة يقودها يوسف إدريس حينما‬

‫حنين‪ ،‬وكان المكان المختار لكتاب روز اليوسف‪ ،‬فزاره صالح‬

‫وسارت مسيرة االحتجاج في شوارع وسط البلد في زمن كان‬

‫واألدب‪ ،‬السوريالية المصرية عبر رمسيس يونان وجورج‬ ‫جاهين وجورج البهجوري وكامل زهيري والشاعران صالح‬ ‫عبدالصبور وحجازي وغيرهما‪.‬‬ ‫شاهد عىل زمن مىض‬

‫مقهى «ريش» العتيد‪ ،‬بصوره من الفنانين والكتاب‬ ‫ً‬ ‫شاهدا على زمن‬ ‫وأشيائه المعلقة على جدرانه يؤكد أنه كان‬

‫ماض باذخ الغنى‪ ،‬وعالمة على مرحلة مرت بها الليبرالية‬

‫المصرية‪ .‬شهد هذا المقهى حوادث ال تنسى وقعت على‬

‫طاوالته وأركانه معارك الشباب واختالفاتهم التي قال عنها‬

‫اغتالت إسرائيل غسان كنفاني‪ ،‬الكاتب والمناضل الفلسطيني‪،‬‬

‫قانون الطوارئ يمنع أي مسيرات‪ .‬كان المكان بؤرة لمقاومة‬ ‫سياسة االنفتاح والتطبيع مع العدو‪ ،‬وصعود نجم اإلسالم‬

‫السياسي وجماعاته التي انتهى أمرها لممارسة اإلرهاب فيما‬

‫بعد‪.‬‬

‫أستعيد تاريخ المكان‪ ،‬زمنه وأيامه‪ ،‬بعد أن تغيرت الدنيا‬

‫واختلف الزمان‪ ،‬وغابت رفقة الحلم‪ :‬أمل دنقل ونجيب سرور‬ ‫ومحمد عفيفي مطر وإبراهيم أصالن وغيرهم‪ ،‬وعاد المقهى‬

‫بعد صياغته لكنه مقهى آخر هجره روّاده‪ ،‬ورحل من صنعوا‬ ‫بهجته وتاريخه في الثقافة المصرية ومثلوا زم ًنا ربما لن يعود!!‬

‫‪145‬‬


‫فضاءات‬

‫بين كتابة المفكرات (‪ )Autograph‬والصورة‪:‬‬

‫من تحفيز الذاكرة‬ ‫إلى تفعيل التواصل اإلنساني‬ ‫ربيع ردمان‬

‫باحث يمني‬

‫ّ‬ ‫تعد الكتابة في «المفكرات الشخصية» (‪ )Autograph‬أو ما ُيعرف بالتوقيع‪ ،‬من الممارسات‬

‫الحديثة التي تنهض الكتابة فيها بوظيفة التحفيز‪ ،‬ويتداول هذا النوع من الكتابة بالدرجة األولى‬

‫في المعاهد والجامعات بين زمالء الدراسة‪ ،‬وبين هؤالء وأساتذتهم‪ ،‬كما يتداول بدرجة أقل في‬ ‫الوسط الثقافي‪ .‬وغالبًا ما تكون العالقة المتولدة بين طرفي الكتابة ناتجة عن لقاء وصحب ٍة قصيرة‪،‬‬

‫قد تقتصر على مدة محدودة‪ ،‬وقد تمتد ألشهر وربما لسنوات‪ ،‬فهي صحبة مؤقتة تلوح نهايتها‬

‫‪146‬‬

‫حافز‬ ‫لحظة ابتدائها‪ ،‬ومن هنا يكون اللجوء إلى الكتابة ضرور ًّيا لديمومة تلك الصحبة‪ ،‬عبر تأسيس‬ ‫ٍ‬ ‫خارجي يسند الذاكرة اإلنسانية‪ ،‬ويحفزها إلى مواجهة‬ ‫ك ّر السنين‪ ،‬ومغالبة آفة النسيان‪.‬‬

‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬


‫من تحفيز الذاكرة إلى تفعيل التواصل اإلنساني‬

‫وبما أن الوظيفة السائدة للكتابة منذ قرون طويلة هي نقل‬

‫األفكار واملعارف وتسهيل التواصل بني البشر‪ ،‬فإن الكتابة يف‬

‫املفكرات قد تمثل انزياحً ا عن هذه الوظيفة؛ وذلك ألنها ال تعنى‬

‫بنقل املعرفة واألفكار بقدر ما تعنى بتحفيز التواصل‪ .‬وحتى هذا‬ ‫األخري الذي تعنى بتحفيزه قد يبدو للمتأمل تواصلاً من نوع آخر؛‬

‫ذات وأخرى‪ ،‬أما ما يقع يف حالة «املفكرات‬ ‫فالتواصل يكون عادة بني ٍ‬ ‫الشخصية» فبني الذات املتذ ِّكرة وماضيها فحسب‪ ،‬فالتواصل‬ ‫الناتج عن قراءة املفكرات إنما هو تواصل ينوس بني مايض الذات‬

‫بوقائعه وعالقاته‪ ،‬وبني حاضرها بمالبساته وتداعياته املوصولة‬ ‫باملايض‪ ،‬ويتمُّ هذا التواصل عرب القراءة التي تنسج خيوطه‪.‬‬

‫وما يلفت النظر تجاه هذا النوع من الكتابة‪ ،‬هو ما يحظى‬

‫عصر شهد اخرتاع كثري من األدوات التي‬ ‫به من حضور نسبي يف‬ ‫ٍ‬ ‫يمكن عدّها بديلاً أو معادلاً للكتابة‪ ،‬كالصورة بنوعيها الفوتوغرايف‬

‫ما يميز قراءة المفكرات الشخصية‬ ‫أنها تعيد سبر أغوار العالقة التي‬ ‫تربط القارئ بصاحب النص‪ ،‬وبهذه‬ ‫اإلحالة الدائمة على صاحب التوقيع‬ ‫نوعا من الحيوية‬ ‫فإن المكتوب يكتسب‬ ‫ً‬ ‫المتجددة‪ ،‬في حين أن الصورة‬ ‫الفوتوغرافية ال ت َْن ِطق بغير الجسد‬ ‫ٍ‬ ‫لحظة سكونية‬ ‫الثابت في‬ ‫املذكورة ً‬ ‫آنفا قد ال تشكل عنص ًرا إيجابيًّا دافعً ا لعمليات التذكر يف‬ ‫الصور الشخصية التي يكون القصد منها صون الذكريات‪ ،‬والرغبة‬

‫واملتحرك مثلاً ‪ .‬فالصور املتحركة من أبرز الوسائل فاعلية يف‬ ‫الحفظ والتذ ُّكر‪ ،‬وتتميز بقدرتها العالية عىل تجسيد املالمح‬

‫يمكن مالحظة اختالف الصور الفوتوغرافية عن الكتابة من‬

‫وبرغم وعي كثريين بما تنطوي عليه الصورة من قدرة وفاعلية يف‬

‫الصورة من طبيعة خاصة تتمثل يف سعيها ملقاربة األصل «ما تقع‬

‫الفيزيقية لألشخاص الذين نق ِّدرهم ونود تذكرهم عىل الدوام‪.‬‬ ‫التسجيل والحفظ‪ ،‬فإن التوسل بالكتابة ال يزال يحظى باهتمام‬ ‫ً‬ ‫أحيانا كثافة حضور الصورة‪ ،‬وهذا ما يدفع بدوره‬ ‫ملحوظ يتجاوز‬ ‫إىل التساؤل عن العوامل التي تع ّزز من حضور الكتابة‪ ،‬فلماذا‬

‫يلجأ بعض –مع احتفاظه بالصور– إىل دعوة اآلخرين للتوقيع يف‬ ‫مفكراتهم الخاصة؟ وهل ثمة ما يميز الكلمة «الكتابة» ويمنحها‬

‫مثل هذه املكانة؟‬

‫انتهاك الصورة للخصوصيات‬

‫يف تعزيز حضورها يف ذاكرة البشر‪.‬‬

‫زاوية كونهما أداتني يحتفظ بهما للذكرى‪ ،‬فيما تنطوي عليه‬ ‫عليه عدسة الكامريا من أمكنة وشخصيات وأشياء»‪ ،‬ومحاولة‬

‫نسخه وتقييده لالحتفاظ به كجزء من تاريخ الذات‪ .‬فالصورة‬ ‫ّ‬ ‫تقدّم نفسها هنا بوصفها بديلاً عن األصل‪ ،‬لكونها حَ ّل ْ‬ ‫محله‬ ‫ت‬

‫عند نسخِ ه‪ ،‬فاألصل يتغري‪ ،‬وقد تتسرب مالمحه وتختفي بعد أن‬ ‫تقع عليه عدسة الكامريا‪ ،‬وبذلك تغدو الصورة بديلاً عنه‪ .‬وبرغم‬

‫مخايلة الصورة وإيهامها بأنها تنوب عن األصل‪ ،‬فإن نقاط التوافق‬ ‫بينهما ال تعني بالضرورة تماثلهما؛ وذلك لكون األصل الذي‬ ‫ّ‬ ‫محله بنية زمنية تقوم عىل االمتداد والرتابط بني‬ ‫حلت الصورة‬

‫طاغ‪ ،‬وهيمنة تسمح لها بصياغة كثري‬ ‫أصبح للصورة حضور ٍ‬

‫مكوناتها ولحظاتها‪ ،‬فضلاً عن التغري الذي يطرأ عىل املكان ويلحق‬

‫واسع من سكان العالم‪ ،‬فتنتهك الصورة‬ ‫قطاع‬ ‫وتعميمها عىل‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫الخصوصيات الثقافية واالجتماعية‪ ،‬وتصل يف تأثريها إىل أدق‬

‫ملجموعة من اللحظات تتباعد زمنيًّا‪ ،‬وقد تفتقر إىل الرتابط فيما‬

‫تمتلكه من قدرة وحرفية يف النقل والتعبري‪ ،‬وإىل أثرها البالغ يف‬

‫يمأل الفجوات املوجودة بني كل صور ٍة وأخرى‪ ،‬إذا ما أراد ترميم‬

‫من التصورات واألفكار الخاصة بنمط الحياة وأنواع السلوك‪،‬‬

‫مفاصل الحياة املعاصرة‪ .‬ويرتد حضور الصورة وهيمنتها إىل ما‬

‫عمليتي التوصيل والتأثري‪ .‬والحق أن هذه الخصائص ليست حك ًرا‬ ‫عىل الصورة فقط‪ ،‬فالكتابة تنطوي ً‬ ‫أيضا عىل مثل هذه الخصائص‪،‬‬

‫غري أن الصورة تفوق الكتابة من حيث الشمول والدقة يف نسخ أدق‬

‫التفصيالت املادية الخاصة باملوقف الذي تقوم برصده وتسجيله‪،‬‬

‫كما تفوقها يف طاقتها االستيعابية للمعلومات‪ ،‬والقدرة عىل‬ ‫نقلها‪ ،‬باإلضافة إىل تأثريها الطاغي يف عقول املشاهدين‪/‬املتلقني‪.‬‬ ‫وهذا التوصيف لفاعلية الصورة وإن كان ينطبق – بشكل عام – عىل‬

‫الصورة بنوعيها الفوتوغرايف واملتحرك‪ ،‬إال أن ثمة ما يحمل عىل‬ ‫االعتقاد أنه ال ينطبق عىل الصورة يف حالة الصور الشخصية التي‬

‫بشكل خاص‪ .‬إن خصائص الصورة‬ ‫يجري االحتفاظ بها للذكرى‬ ‫ٍ‬

‫باإلنسان واألشياء‪ .‬يف حني أن الصورة أو اللقطات الفوتوغرافية‬ ‫ً‬ ‫نسخا‬ ‫موقف ما‪ ،‬ال تعدو كونها‬ ‫الخاصة بمناسب ٍة بعينها أو‬ ‫ٍ‬ ‫بينها‪ ،‬حيث يصعب عىل املرء – حني يعود إليها فيما بعد – أن‬ ‫املوقف يف ذهنه واستعادة تفصيالته يف إطار واحد‪ .‬فالصورة منها‬ ‫ال تمثل يف الواقع سوى لحظ ٍة واحدة تتسم بالسكونية والجمود‬

‫واآللية‪ ،‬يتمّ اجتزاؤها من تيار زمني سيّال يمور بالرثاء والحركة‬

‫املتواصلة‪ ،‬ولذلك فمهما خايلت الصورة الفوتوغرافية بكونها‬ ‫بديلاً عن األصل أو كاألصل؛ فاملؤكد أنها تختلف عن هذا األخري‬ ‫يف امتداده وسيولته وثراء حركته‪.‬‬

‫وفيما يتصل بما تتسم به الصورة من شمولية ودقة يف‬

‫الرصد والنقل ملوضوعاتها‪ ،‬فإن هذه السمات ال تسري إال عىل‬ ‫األشياء املادية التي تنعكس عىل عدسة الكامريا‪ .‬صحيح أن‬ ‫الوجوه يف الصورة الفوتوغرافية تحتفظ بمالمحها وتعابريها‪،‬‬

‫‪147‬‬


‫فضاءات‬

‫وبما قد يكتنفها من مشاعر مختلفة كالحزن والفرح‪ ،‬لكن‬

‫املتالحقة للم َ‬ ‫َشاهد ال تمنحه فرصة ليفكر ويتأمل ما يشاهده‪،‬‬

‫املصاحبة للموقف‪ ،‬ومن غري املمكن استعادتها أو تداعيها يف‬

‫وال يختلف األمر كثريًا يف الصور الفوتوغرافية‪ ،‬فتأثريها يف‬

‫الصورة مع ذلك تفتقر إىل نقل كثري من الجوانب والروابط‬

‫لحظات التذكر؛ وهو ما ي َِسم لحظات التذكر بالحَ ْرفية واآللية‪،‬‬ ‫ويقلل من حيوية لحظة االستعادة وثرائها‪ ،‬فالصورة يف نهاية‬

‫األمر ال تستطيع أن تمنح املتلقي أكرث مما نسخته عن األصل‪.‬‬ ‫التقليل من مقدرة املخيلة‬

‫وتأسيسا عىل ما تقدّم‪ ،‬يمكن القول‪ :‬إن االعتماد عىل‬ ‫ً‬ ‫الصورة – كمُحَ ِّف ٍز للذاكرة وكأدا ٍة للتذكر – ي َُق ِّل ُل من مقدر ِة امل ُ َخيِّلة‬

‫وفاعلي ِتها يف استعادة املايض وتأمله‪ ،‬وإعاد ِة النظر يف عوامله‬

‫امل ُ َخيِّلة ال يجعل من عملية التذكر أم ًرا صعبًا فحسب‪ ،‬بل إن وجود‬ ‫الصورة بحد ذاته قد ِّ‬ ‫يعطل عمل املخيلة؛ ألنّ الصورة ال ترتك‬

‫مجالاً للمخيلة يف عمليات استعادتها ذكريات املايض‪ ،‬وتواصلها‬ ‫معها‪ .‬إن وجود صورة ما تحمل جميع مالمح الشخص امل َُت َذ َّكر‬ ‫وتفصيالت املكان‪ ،‬يقف حائلاً دون استحضار التفصيالت الصغرية‬

‫وما يرتبط بها من تداعيات‪ ،‬وغالبًا ما يحول دون إعادة تشكيلها‬

‫من جانب املخيلة‪ .‬ومن هنا‪ ،‬يبدو أن وجود الصورة ومخايلتها‬

‫ومواقف أشخاصه‪ .‬ال شك أن الصورة ذات سطوة وتأثري عميق‬

‫لألصل يقيد عملية التذكر‪ ،‬ويجهد الذاكرة‪ ،‬ويغدو حضور املايض‬ ‫ُ‬ ‫النفس‪ ،‬وال يمنحها‬ ‫االتصال باملايض‬ ‫يف الوعي باه ًتا‪ ،‬فال يشفي‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫الراحة والحبور اللذين تشعر بهما مع الكتابة‪ /‬القراءة‪ .‬وحني َتجْ ري‬

‫مساحة للتأمل فيما يُع َرض‪ ،‬واملقابلة بني ما تعرضه الشاشة وما‬

‫محتوياتها‪ ،‬وال تسهم يف إثراء التجربة الشخصية‪.‬‬

‫يف عقول املشاهدين‪ ،‬ويكون هذا التأثري أبعد غورًا يف الصورة‬

‫املتحركة‪ ،‬فهي تعمل عىل إغواء املشاهِ د وال ترتك له فرصة أو‬ ‫تختزنه ذاكرته من أحداث ومواقف‪ .‬فتتابع الصور املتحركة يحول‬ ‫دون ممارسة الخربة الذاتية للم َ‬ ‫ُشاهِ د يف تأمل محتويات الشريط‬ ‫املصوَّر‪ ،‬وبخاصة حني يكون تسجيلاً ملناسباتنا الخاصة‪ ،‬فاملشاهد‬

‫ً‬ ‫ِّ‬ ‫املتدعم بالذاكرة‪،‬‬ ‫غريبة عىل وعينا‬ ‫والصور التي يعرضها ليست‬

‫‪148‬‬

‫وحسب جورج ديهاميل‪ ،‬فالصورة تنوب وتحل محل أفكاره‪.‬‬

‫بل تشكل جزءً ا من نسيج الذاكرة وتاريخها‪ .‬ويوضح فالرت‬ ‫بنيامني ما يحدثه تتابع الصور من أثر يف عقل املشاهد‪ ،‬وكيف‬

‫يستبد التتابع بوعيه‪ ،‬ويعمل عىل إلغاء انطباعاته الخاصة‪« :‬فما‬

‫إن تتوقف عينا املشاهد عند مشهد معني حتى يتغري إىل مشهدٍ‬ ‫تال ال سبيل إىل اللحاق به (‪ )...‬فعملية تداعي أفكار املُشاهد أمام‬ ‫ٍ‬

‫هذه الصور يقطعها التغيري املفاجئ واملستمر عىل الشاشة»‪ .‬وبهذا‬ ‫تغدو عملية التلقي من جانب املُشاهد سلبية؛ ألن التغيريات‬

‫ُ‬ ‫إنعاش الذاكرة وتجدد‬ ‫عملية التذكر بهذه الطريقة فال تؤدي إىل‬ ‫ِ‬

‫تداعي األفكار والذكريات‬

‫يف مقابل ذلك‪ ،‬تنفرد الكتابة بعدد من الخصائص التي ُتم ّي ُزها‬

‫من الصورة‪ ،‬وتأيت يف مقدمتها مرونة الكتابة بمفهومها العام‪ ،‬وقدرة‬ ‫ّ‬ ‫تشكل‬ ‫املكتوب عىل إثارة عمليات تداعي األفكار والذكريات التي‬

‫جدلية الحضور والغياب عند تواصل الذات القارئة مع ماضيها‪.‬‬

‫وتربز جدلية الحضور والغياب يف أثناء قراءة املكتوب‪ ،‬وتفعيل‬ ‫عملية التلقي‪ ،‬وتكون الحال عند ابتداء عملية القراءة حضور‬

‫النص املكتوب وغياب صاحبه‪ .‬ومع أن النص الكتابي يشكل دائمً ا‬

‫غيابًا لكاتبه أو ملنتجه‪ ،‬كما يرى جاك دريدا‪ ،‬غري أن األمر قد يختلف‬ ‫يف حالة الكتابة يف املفكرات الشخصية‪ ،‬نظ ًرا للعالقة الوثيقة التي‬

‫أغوار العالقة بين القارئ وصاحب النص‬ ‫ما يميز قراءة املفكرات الشخصية من القراءة يف مجاالت عديدة ومختلفة أنها تعيد سرب أغوار العالقة التي تربط‬

‫القارئ بصاحب النص‪ ،‬وبهذه اإلحالة الدائمة عىل صاحب التوقيع فإن املكتوب يكتسب ً‬ ‫نوعا من الحيوية املتجددة‪ ،‬وتكمن‬

‫هذه الحيوية يف مقدرة الكلمة الدائمة عىل ترميم بعض جوانب هذه العالقة وتعزيز حضورها يف الذاكرة‪ ،‬يف حني أن‬ ‫الصورة الفوتوغرافية –التي ال تشري إىل الغائب فحسب بل تخايل أنها تحل محله– ال َت ْنطِ ق بغري الجسد الثابت يف لحظةٍ‬ ‫َ‬ ‫تحويل الغياب إىل حضور أو العكس‪ .‬وهنا قد يعرتض بعض املختصني‬ ‫مقدرة ال ّنص الكتابي يف‬ ‫سكونية‪ ،‬فهي ال َتمتلك‬ ‫ِ‬ ‫بالقول‪ :‬إن الكتابة ال تختلف كثريًا عن الصور الفوتوغرافية‪ ،‬فهي عند تعيني مظاهر وجودها ال تعدو كونها رسومً ا وعالمات‬ ‫خرساء ساكنة‪ .‬وهو اعرتاض صحيح يف ظاهره‪ ،‬فالكتابة من حيث وجودها املتعني ليست سوى مجموعة من العالمات‪،‬‬

‫بيد أن ما يميز الكتابة ال يكمن يف وجودها من حيث هي أشكال وعالمات‪ ،‬إنما فيما تنطوي عليه من إمكانية االستجابة‬ ‫واإلحالة إىل األفكار والتصورات‪ .‬وتظل هذه اإلمكانية كامنة يف أشكالها وعالماتها إىل أن يأيت القارئ‪ /‬املتلقي الذي ينطقها‬

‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬


‫من تحفيز الذاكرة إلى تفعيل التواصل اإلنساني‬

‫القارئة وشخصية منتج النص املتخيلة التي ُت َ‬ ‫خلق عرب انقسام الذات‬

‫القارئة عىل نفسها‪ ،‬فالحوار يربز عىل سطح النص بمجرد قراء ِة أوىل‬

‫كلماته‪ ،‬فيتتابع الحوار ويتفاعل بتواصل القراءة‪.‬‬

‫وهذا التواصل الذي ينشأ بني وعي الذات القارئة وماضيها‬

‫املشتبك مع كاتب النص إنما يقوم عىل أساس ما تنطوي عليه‬

‫الكتابة من إمكانيات يف الكشف والتوصيل‪ ،‬فالكتابة تمنح‬ ‫املخيلة مساحة واسعة من الحرية والحركة‪ ،‬فتقوم املخيلة يف‬

‫أثناء القراءة بعدد من العمليات يف إطار االستعادة والتذكر‪.‬‬ ‫وهذا يعني أن الذات القارئة‪ ،‬وهي تتذ ّكر املايض ال تستعيد‬

‫بشكل حريف‪ ،‬إنما تعيد صوغه عند كل‬ ‫تفصيالته كما حدثت‬ ‫ٍ‬

‫قراءة‪ ،‬فتقوم بإعادة تشكيل ذكرياتها وعالقتها بصاحب النص‬

‫بما تنطوي عليه هذه العالقة من شخصيات ومواقف وأحداث‪،‬‬ ‫وغالبًا ما تعمد املخيلة إىل إضفاء مسحة مثالية عىل تلك‬

‫الذكريات‪ ،‬تتجاوز ما يحدث يف الواقع يف صلتنا باألشخاص‬ ‫ً‬ ‫أحيانا باالرتباك عندما‬ ‫ومواقفنا معهم‪ .‬ومن هنا‪ ،‬قد نشعر‬

‫غياب أو انقطاع‪،‬‬ ‫نعاود االتصال باألشخاص عمليًّا بعد مدة‬ ‫ٍ‬ ‫ونتفاجأ كثريًا حني نكتشف مدى إسراف املخيلة يف عملياتها‬

‫التشكيلية‪ .‬لكن هذا الفعل الخالق الذي تقوم به املخيلة يف أثناء‬

‫تربط الكاتب بالقارئ؛ فالنص املكتوب يتمحور يف الغالب حول هذه‬ ‫العالقة أو يعرب عنها‪ .‬ويف هذه الحالة‪ ،‬فالحديث عن القارئ ليس‬

‫عىل إطالقه‪ ،‬بل عن قارئ له وضعه الخاص‪ ،‬فهو يعرف صاحب‬ ‫ُ‬ ‫يشرع القارئ يف قراء ِة النص فإن حضور‬ ‫النص ومحتواه جيدًا‪ .‬وحني‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫النص الكتابي يتحول إىل غياب‪ ،‬وتفارق الشخصية املنتجة للنص‬ ‫َ‬ ‫منطقة الغياب‪ ،‬وتكتسب حضورًا يف وعي الذات القارئة‪ .‬و َي َتبدّى‬

‫هذا الحضور يف الحوارات الصامتة التي تنشأ وترتاسل بني الذات‬

‫عمليات القراءة ال يعود إىل طبيعة املخيلة‪ ،‬بقدر ما يعود إىل‬

‫ُّ‬ ‫النص‬ ‫قدرة املثري الهائلة واملتمثلة يف الكتابة‪/‬القراءة‪ ،‬وما يمنحه‬ ‫َ‬ ‫مخيلة القارئ سوف يظل عالمة فارقة تميز الكتابة مما‬ ‫الكتابي‬

‫سواها من أدوات التواصل‪ ،‬وكما يذكر الناقد صالح فضل‪،‬‬ ‫فالجانب األهم فيما يتصل بخصوصية النص الكتابي ال يتمثل‬

‫فيما يتيحه للقارئ عرب نافذة الخيال من استدعاء ذكرياته‬ ‫وإعادة تشكيلها‪ ،‬إنما يف أنه يُمَ ِّكنه من أن يعيد دومً ا تشكيل‬

‫وجدانه اإلنساين وذكرياته عىل نحو يتجدد عند كل قراءة‪.‬‬

‫ويبث فيها الحياة‪ ،‬فتربز وتتخلق عرب تفاعلها معه‪ ،‬فالنص –حسب توصيف السيميايئ اإليطايل أمربتو إيكو– ٌ‬ ‫آلة كسولة‬ ‫تتوسل إىل القارئ بأن يقوم بجزء من مهامها‪ ،‬فالنص يكتفي باإليحاء والتلميح‪ ،‬والباقي يأيت به القارئ الذي يقوم بملء‬

‫الفضاءات البيضاء للنص‪.‬‬

‫تتأسس عىل طبيعته الرمزية يف الكشف عن الحياة‪ ،‬ومقدرته عىل استعادة‬ ‫وهكذا يتضح لنا أن حيويّة النص الكتابي‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ُّ‬ ‫حيوية تتالءم إىل ّ‬ ‫التذكر‪ .‬إننا حني نتذكر عالقتنا‬ ‫حد كبري مع ممارسة عملية‬ ‫بعض جوانبها إىل وعينا اإلنساين‪ ،‬وهي‬

‫ُ‬ ‫الجسد بمنزلة الدال‬ ‫بشخص ما‪ ،‬فنحن ال نطمح منها إىل استحضار جسد الغائب‪ ،‬إنما نطمح الستعادة روحه التي كان‬ ‫ُ‬ ‫نتطرق إىل خصائص الجسد املادية‪ ،‬فالحديث‬ ‫الذي يشري إليها‪ .‬ويوضح هذا األمر حديثنا عن الشخص الغائب‪ ،‬فنادرًا ما‬ ‫يف الغالب يدور حول املواقف والخصائص الروحية واملعنوية‪َ .‬‬ ‫ولـمَّ ا كانت التجارب الحياتية املعيشة عنصرًا ال غنى عنه يف‬ ‫ِّ‬ ‫إثراء مسرية حيا ِة ٍّ‬ ‫َ‬ ‫تواصلنا بتلك الحياة‪ ،‬وأن نبحث عن أدا ٍة حية‪،‬‬ ‫حافز يُوثق‬ ‫كل منا‪ ،‬فمن الطبيعي أن نسعى إىل تأسيس‬ ‫ٍ‬ ‫ترتاسل مع تلك الحياة‪ُ ،‬‬ ‫وتمَ ِّكننا من اسرتجاع بعض تفصيالتها التي مررنا بها َ‬ ‫ْ‬ ‫وتشابكت عالقتنا بها‪ ،‬والكتابة‬ ‫يوم‪،‬‬ ‫ذات ٍ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫حياته فيما تنطوي عليه عالماته من قدرة عىل‬ ‫تتمثل‬ ‫حي‪،‬‬ ‫قدرة‬ ‫األدوات‬ ‫رث‬ ‫– كما رأينا – أك ُ‬ ‫ِ‬ ‫وفاعلية‪ ،‬والنص الكتابي كائنٌ ٌّ‬ ‫اإلحالة إىل األفكار والتصورات‪ ،‬فتلك هي روحه التي َت ُّ‬ ‫بث الحياة فيه فتجعله حيًّا ينبعث ويتجدد عند كل قراءة‪.‬‬

‫‪149‬‬


‫فضاءات‬

‫تجربة الهايكو في األحواز‬ ‫سالم الكعبي ‬

‫كاتب أحوازي‬

‫األحواز بلد عربي لن تجده على الخارطة العربية‪ ،‬أخباره مكتومة‪ ،‬الكتب والجرائد والمجالت‬ ‫ال يسمح بها‪ ،‬ولهذا كان األدب الفصيح الحديث فيما سبق شبه معدوم‪ ،‬وكانت القوالب الشعبية‬ ‫هي الرائجة والمتداولة‪ ،‬جاءت الشبكة العنكبوتية وفتحت األبواب على مصراعيها‪ ،‬فتعرَّف األديب‬ ‫األحوازي تجربة الشعوب المختلفة‪ ،‬واطلع بفضل هذا التطور على أنماط أدبية جديدة كالقصة‬ ‫القصيرة ًّ‬ ‫جدا والهايكو وغيرهما من األنماط الحديثة‪ ،‬وأخذ يزاولها ويتدرب عليها‪.‬‬ ‫الهايكو هو نوع من الشعر اكتشفه اليابانيون‪ ،‬وازدهر بفضل‬

‫والسرنيو‪ ،‬وعن صنوف أخرى من األدب الياباين واآلسيوي‪ .‬عىل‬

‫األكرب بال منازع‪ .‬يحاول شاعر الهايكو‪ ،‬من خالل ألفاظ موجزة‬

‫غري اليابانية عندما باشر الكتابة يف املوضوع‪ ،‬وعىل الرغم من أنه لم‬

‫ماتسو باشو (‪1694-1644‬م) وهو شاعر ياباين‪ ،‬ومعلم شعر الهايكو‬ ‫شفافة بعيدة من السرد التعبري عن مشاعر جياشة أو أحاسيس‬ ‫عميقة بعيدًا من الحكمة والتحليل الشخيص لألحداث‪ .‬ومن‬

‫‪150‬‬

‫الجدير بالذكر أن أشهر قصائد الهايكو تحيك تفاصيل وحاالت‬ ‫يومية لكن من زاوية جديدة تجعل الحالة املألوفة جديدة تمامً ا‬

‫عىل املتلقي‪ .‬الهايكو قصيدة اللحظة‪ ..‬التقاط املشهد الذي ال‬

‫ينتبه إليه العابرون‪ ..‬وعندما يقرؤون نصك تصيبهم الدهشة‬ ‫ويقولون‪« :‬يا الله كيف لم ننتبه لهذا؟!»‪ ..‬الهايكو أشبه بالتوقيعة‬ ‫واإلبيجراما‪ ..‬تجد فيه كل يشء‪ ،‬لكنك تجد فيه روحك أولاً !‬

‫يف سنة ‪1949‬م‪ ،‬مع نشر املجلد األول من كتاب ريغنالد هوراس‬

‫بليث (‪1964-1898‬م) «الهايكو»‪ ،‬دخل الهايكو بقوة إىل الغرب‪ .‬كان‬ ‫ذلك املجلد فاتحة جديدة ضمن سلسلة أعماله عن ال ِّزنْ والهايكو‬

‫الرغم من أن بليث لم يتوقع ظهور هايكو أصيل يف لغات أخرى‬

‫يؤسس ألي مدرسة يف الشعر‪ ،‬فقد حفزت أعماله كتابة الهايكو‬ ‫باإلنجليزي‪ .‬ففي آخر املجلد الثاين من كتابه «تاريخ الهايكو»‪ ،‬لحظ‬

‫أن «آخر التطورات يف تاريخ الهايكو هو تطور لم يتوقعه أحد‪...‬‬

‫كتابة الهايكو خارج اليابان‪ ،‬وليس باللسان الياباين»‪.‬‬

‫وصل الهايكو إىل اللغة العربية عن طريق ترجمة نصوص‬

‫عرب لغات وسيطة كاإلنجليزية حتى نهاية التسعينيات‪ ،‬ثم بدأت‬ ‫تظهر ترجمات عن اللغة اليابانية‪ .‬رغم أن كثريًا من النقاد العرب‬

‫ال يعرتف بالهايكو العربي كمدرسة شعرية مستقلة‪ ،‬بل فرع من‬

‫شعر النرث‪ ،‬إال أن عدد شعراء الهايكو ونواديهم يف ازدياد مستمر‪.‬‬ ‫والهايكو العربي بات يأخذ مكانته بقوَّة‪ ،‬بعد أن تب َّنته أسماء‬

‫عربيَّة المعة سطعت عىل صفحات التواصل االجتماعي أو من‬ ‫خالل الصحف واملجالت العربيَّة‪.‬‬

‫اختالف الهايكو األحوازي عن العربي‬ ‫لاً‬ ‫ً‬ ‫ربيع الهايكو يف الشعر العربي قد انتشر طو وعرضا من‬

‫املحيط إىل الخليج‪ ،‬وشعراء األحواز مِن هذا الربيع الهايكوي‬

‫العربي الذي ينمو ويرتعرع ويزدهر يومً ا بعد يوم وهايكو بعد‬ ‫هايكو‪ .‬وإذا كان شعراء الهايكو يف البلدان العربية قد تنفسوا‬

‫هواء الهايكو من خالل اللغة العربية فإن شعراء الهايكو‬ ‫األحوازيني قد تنشقوا نسمات الهايكو العذبة‬

‫من خالل نافذتني وليس نافذة واحدة فقط؛ إذ‬

‫إنهم اطلعـوا عىل الهايكو الفاريس والهايكو العربي‪،‬‬ ‫وهذا بدوره يجعل منهم مجموعة مختلفة قليلاً عن‬

‫الشعراء العرب الذين يكتبون الهايكو يف الوطن العربي‪.‬‬

‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬


‫ومن محاسن هذه املجموعة من الشعراء الذين يكتبون الهايكو يف‬ ‫األحواز قدرتهم جميعً ا عىل كتابة هايكو صحيح من حيث البنية‬ ‫والشكل‪ ،‬فال يخلطون بينه وبني القصيدة القصرية املتكونة من‬

‫ثالثة أسطر‪ ،‬بينما نجد أن هناك كثريًا من الذين يكتبون بالعربية‬ ‫ال يعرف بالضبط كيف يميزون بني قصيدة قصرية من ثالثة أسطر‬ ‫وبني الهايكو‪.‬‬

‫يكتب الهايكو يف األحواز مستمدًّا مادته من بيئته كما هي يف‬

‫الحاضر‪ ،‬وقد أخذ شعراء األحواز بحساباتهم عند كتابة الهايكو‬ ‫العربي ‪ -‬أحوازي‪ ،‬النخلة والساقية ولبطة الشبوط يف الهور‪،‬‬ ‫وقفزة الهامور يف البحر‪ ،‬ونقيق الضفادع إىل آخره‪ .‬فإن الهايكو‬

‫األحوازي هو ذلك الهايكو الذي يعكس خصوصية األحواز كمكان‬ ‫وحياة وأناس وفولكلور؛ ألن الهايكو إذا أه َ‬ ‫ـمل الخصوصية‬

‫املحليّة‪ ،‬سيصبح هايكو ال نستطيع تحديد هويته ألن كثريين من‬ ‫مختلف أنحاء العالم يكتبونه‪ ،‬فهو ً‬ ‫إذا هايكو شائع‪ .‬فلو أخذنا‬ ‫هذا الهايكو لعيل مطوريان من محمرة األحواز‪:‬‬ ‫شمس املغيب‪...‬‬

‫سيقان فتيات حقل األرز‬

‫أكرث سمنة‬ ‫لاً‬ ‫هذا الهايكو مث لو كتبه شاعر عربي من الكويت ال يمكن‬

‫قبوله؛ ألن الكويت ال يزرع فيها األرز‪ ،‬فإن هذا الهايكو يعكس‬

‫خصوصية أحوازية‪ ،‬ولو كتبه الكويتي سوف يشعر القارئ أن‬ ‫الشاعر كتبه ليس بعد تجربة عاشها بل كيشء ّ‬ ‫فكر فيه وتخيّله‪.‬‬ ‫ويف الهايكو التايل استند توفيق النصاري يف شعره إىل املزاوجة‬

‫املبدعة بني املتضادات‪ ،‬أي العاقل يف الالعاقل بطریقة فنية تؤدي‬

‫إلی توهج وتألق الهایکو‪.‬‬ ‫َ‬ ‫الق َ‬ ‫صب …‬

‫بصمت‬ ‫َي ْكربن‬ ‫ٍ‬ ‫يات َ‬ ‫َف َت ُ‬ ‫الق ِبيلة!‬ ‫یتکون هذا الهایکو من صورتین؛ األولی‪( :‬القصب)‪ ،‬والثانیة‪:‬‬ ‫(یکربن بصمت فتیات القبیلة)‪ ،‬وقد ُفصلت الصورتان بثالث‬

‫نقاط‪ ،‬وعلی القارئ أن یکتشف العالقة التي تربط الصورة األولی‬ ‫بالثانیة‪ .‬نحن يف هذا املقطع أمام مشهدٍ حي یتداخل فیه العنصران‬

‫«القصب» و«فتیات القبیلة» ویرسم الشاعر لنا بألفاظه املوجزة‬ ‫ً‬ ‫صورة فوتوغرافیة يف غایة الجمال‪ .‬إنّ القبیلة‬ ‫والبعیدة من السرد‬

‫تلعب دورًا مأساویًّا يف حیاة املرأة وهي التي أدّت بفتیاتها إلی‬ ‫ُ‬

‫العزلة وأجربتهن أن یملن إلی االختفاء يف الغرف القبلیة البلهاء‪،‬‬

‫وأن یشعرن بالوحدة ویکربن بصمت کما یکرب القصب يف صمت‬

‫رهیب من دون عنایة‪ ،‬وبعیدً ا من شعور الناس‪ .‬القصب ینبت‬ ‫وینمو ویعیش بعیدً ا من املجتمعات‪ ،‬یکرب ویطول ویجف ویذبل‬

‫وال أحد تقوده غریزته لفحصه إلی أن یصل إلیه قاتله ویقطعه من‬

‫جذوره لیجمعه لصناعة يشء ما‪.‬‬

‫الهايكو األحوازي هو ذلك الهايكو‬ ‫الذي يعكس خصوصية األحواز كمكان‬ ‫وحياة وناس وفولكلور‬ ‫الهايكو واللحظوي‬

‫الشاعر األحوازي عادل آل ناصر يقول‪ :‬الهايكو يستمد قوته‬

‫من اإلحساس واملشاهدة املتمثلة يف نظرة ثاقبة لحظوية يستخرج‬

‫منها «الهايكست» لقطة مميزة وصورة فوتوغرافية يف غاية‬ ‫الجمال‪ ،‬ملتقطة بالتفاتة ذكية وزاوية دقيقة ربما لم يشاهدها‬ ‫غريه‪ ،‬فيخلق لنا تلك الصورة يف ثالثة أسطر تحتوي عىل مشهد‬

‫رائع ومتكامل من دون عناء الرتكيز لقوة املفردة وضرورة اختيار‬ ‫ً‬ ‫أحيانا‪ ،‬ويقول الشاعر‪:‬‬ ‫الكلمات الصعبة أو املحنطة‬ ‫عش العصفور‬

‫خلف النافذة‪...‬‬

‫أتنسم يف الفناء‬

‫الهايكوات التالية لبدر نصاري من فالحية األحواز‪:‬‬ ‫مكتبة قديمة‪،‬‬

‫بني املعجم والقرآن‬ ‫نسيج عنكبوت‬

‫يف الغروب‬

‫تودع ظلها‬ ‫النخلة‬

‫غروب كارون‪،‬‬ ‫سودا َء تبدو‬

‫نوارس الشاطئ‬

‫الحظنا تأثري اللغة والبيئة والثقافة العربية األحوازية يف‬

‫الهايكو‪ ،‬واستطعنا يف الوقت ذاته أن نميّز بني الهايكو واألساليب‬

‫الشعرية الحديثة األخرى‪.‬‬ ‫المصادر‪:‬‬

‫ صادقیان‪ ،‬سماهر أسد‪ :‬الهايكو األحوازي مرآة بيئته‪ ،‬توفيق نصاري نموذجً ا‪،‬‬‫مجلة المداد‪ -‬العدد التاسع ‪ 1‬نوفمبر ‪2016‬م‪.‬‬

‫‪ -‬جمال مصطفى‪ :‬الهايكو أصغر قصيدة في العالم‪ ،‬مجلة المداد‪ -‬العدد‬

‫السابع ‪ 1‬سبتمبر ‪2016‬م‪.‬‬

‫‪ -‬النصاري‪ ،‬توفيق‪ :‬محاولة ابتدائية لتوضيح بنية الهايكو‪ ،‬مجلة المداد‪ -‬العدد‬

‫السادس ‪ 1‬أغسطس ‪2016‬م‪.‬‬

‫ طالبيان‪ ،‬مسيح – مجله إنشاء ونويسندگي – أعداد ‪67 ،39 ،62‬‬‫مسابقة كيغو غير مباشر لعام ‪2016‬م – نادي الهايكو العربي ‪.‬‬

‫‪ -‬هايكو شعر ژاپني از آغاز تا امروز – برگردان أحمد شاملو ‪ /‬ع پاشايي – چاپ‬

‫چهارم بهار ‪ ،1384‬تهران‪.‬‬

‫ نوذري‪ ،‬سيروس – درباره ي هايكو – انتشارات نويد شيراز ‪.1391‬‬‫ناهوكو تاواراتاني – هايكو – چاپ گلشن ‪.1390‬‬

‫ب ‪2014‬م‪.‬‬ ‫‪ -‬عقبي‪ ،‬حميد‪ :‬قصيدة الهايكو آخر صيحة لشعرائنا العرب‪ ،‬موقع َك َت َ‬

‫‪151‬‬


‫بورتريه‬ ‫مقال‬

‫تزفيتان تودوروف‪:‬‬ ‫الذاكرة تكسب في نضالها ضد العدم‬ ‫عاملنا العربي وثقافتنا وإسالمنا ومشكالتنا ومعضلة عالقتنا بالغرب‬ ‫والعالم من بني املشاغل األساسية التي اهتم بها تودوروف‪ .‬وربما‬

‫نادر كاظم‬

‫ناقد وأكاديمي بحريني‬

‫لطاملا كنت أشعر أن مسار حيايت‪ ،‬مهنيًّا وفكريًّا‪ ،‬كان‬ ‫يتشابه مع مسار حياة تزفيتان تودوروف (‪2017 -1939‬م) امل ُ ِّ‬ ‫نظر األدبي‬

‫البارع واملفكر اإلنساين الكبري‪ .‬كنت معجبًا به‪ ،‬بل مشدو ًدا إىل كل ما‬

‫يكتب منذ أن قرأت له‪ .‬واملفارقة أين تعرفت إىل تودوروف‪ ،‬أول مرة‪،‬‬

‫من خالل كتابه «فتح أمريكا‪ :‬مسألة اآلخر»‪ ،‬الذي نقله إىل العربية‬

‫‪152‬‬

‫بشري السباعي برتجمة بديعة ومتمكنة (صدرت الرتجمة عن دار‬ ‫سينا يف عام ‪1992‬م)‪ .‬كنت وقتها أدرس األدب والنقد يف كلية اآلداب‬

‫بجامعة البحرين‪ ،‬ومولعً ا أشد الولع بالتحليل األدبي ونظريات‬

‫النقد الحديثة من بنيوية وشعرية وسيميوطيقا أسلوبية وتفكيكية‬ ‫ونظرية القراءة والتلقي وغريها‪.‬‬

‫يف هذا الكتاب‪ ،‬لكني حني‬ ‫ال أتذكر اآلن حجم التأثري الذي تركه ّ‬ ‫ً‬ ‫مأخوذا بتودوروف وكتابه الذي‬ ‫أسرتجع مسار األحداث أراين كنت‬

‫غيرّ مجرى اهتمامي إىل حد أين قررت أن أوسّ ع دائرة تخصيص ملا‬ ‫هو أبعد من األدب ونصوصه ونظرياته‪ ،‬وتحدي ًدا إىل قراءة لحظة‬ ‫ّ‬ ‫تحتل موقع الهيمنة بحيث تصيرّ الثانية‬ ‫االشتباك بني ثقافتني‪ :‬األوىل‬ ‫مهيمَ ًنا عليها ومغلوبة ومهمَّ شة‪ .‬كان كتابي «تمثيالت اآلخر‪ :‬صور‬

‫هذا ما جعله حاضرًا بقوة يف الثقافة العربية املعاصرة‪ ،‬ويشهد عىل‬ ‫ذلك عدد ُكتبه التي ُترجمت إىل العربية‪.‬‬ ‫بيت مزدحم بالكتب‬

‫بدأ تودوروف حياته وسط الكتب واملكتبة‪ ،‬ويحيك عن طفولته‬

‫أنه وُلد يف بيت مزدحم بالكتب‪ ،‬وكان وهو طفل يحبو وسط أكداس‬ ‫من الكتب التي كان والداه يقتنيانها‪ ،‬ويضعان باستمرار ً‬ ‫رفوفا جديدة‬ ‫ً‬ ‫شغوفا‬ ‫الستيعابها‪ .‬نشأ تودوروف يف أحضان هذه الكتب؛ مما جعله‬ ‫بها‪ ،‬فما إن َّ‬ ‫تعلم القراءة حتى راح يلتهم القصص الكالسيكية مثل‬ ‫ألف ليلة وليلة‪ ،‬وتوم سوير‪ ،‬وأوليفر تويست‪ ،‬والبؤساء‪ .‬يَذكر‬

‫أنه‪ ،‬ذات مرة وهو يف سن الثامنة‪ ،‬قرأ رواية كاملة من ‪ 223‬صفحة‬

‫مستلق عىل «ركبة جده»‪ .‬واستمر معه هذا‬ ‫يف ساعة ونصف وهو‬ ‫ٍ‬ ‫الشغف بالكتب إىل مرحلة التلمذة يف املدرسة اإلعدادية والثانوية؛‬ ‫إذ أخذت قراءاته تتسع شي ًئا فشي ًئا لتشمل ُك ّتابًا كالسيكيني‬

‫ومعاصرين‪ ،‬بلغاريني وأجانب‪ .‬لم يكن هذا النوع من الشغف املتصل‬

‫بالقراءة وعالم الكتب ليرتك صاحبه يقرر مصريه بنفسه يف حياته‬ ‫ويف تخصصه الجامعي‪ .‬يذكر تودوروف أنه حاول أن يكتب الشعر‬

‫ومسرحية يف ثالثة فصول‪ ،‬بل شرع يف كتابة رواية‪ ،‬لكنه أحس‬ ‫سريعً ا أنه لم يولد ليكون شاعرًا أو مسرحيًّا أو روائيًّا‪ ،‬بل ناق ًدا لكل‬ ‫ذلك ومُ ّ‬ ‫نظرًا أدب ًّيا‪ ،‬وحتى هذا االستنتاج لم يكن صحيحً ا تمامً ا؛‬

‫السود يف املتخيل العربي الوسيط» الذي كان أطروحة الدكتوراه‪،‬‬ ‫ً‬ ‫مشبوكا بـ«فتح أمريكا» ومسألة اآلخر ولحظة االشتباك بني حضارة‬

‫ألن تودوروف سيغادر‪ ،‬منذ الثمانينيات من القرن العشرين‪ ،‬هذه‬

‫اختزال وجودهم إىل وضعية أدىن من اإلنسان‪ ،‬بل وضعية اليشء‬ ‫كموضوع (وليس ً‬ ‫ذاتا) قابلة لالستعمار واالستعباد والبيع والشراء‬

‫لطالب يف السابعة عشرة من عمره يف بلد محكوم بالدكتاتورية‬

‫متقدمة وآخذة يف التوسع‪ ،‬وثقافات أخرى وبشر آخرين جرى‬

‫وحتى اإلبادة‪.‬‬

‫منذ هذا اللقاء بتودوروف وأنا أالحق كل جديد يصدره أو‬

‫حوار يجريه وكأين أقرأ مستقبيل وانعطافايت‪ ،‬إال أين يف كل مرة‬ ‫أقرأ لتودوروف أشعر بفرادته كمفكر تأسرك قدرته عىل قراءة‬

‫مجريات العصر بعيون مفتوحة عىل آخرها‪ ،‬وبروح كبرية تتسع‬ ‫لكل االختالفات بني البشر‪ ،‬وتنتصر لإلنساين فينا دائمً ا‪ .‬ولقد كان‬ ‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬

‫األرضية بعد أن يكتشف‪ ،‬مع اشتغاله عىل كتاب «فتح أمريكا» أنه‬ ‫لم يولد ليكون مُ ّ‬ ‫نظرًا أدبيًّا‪ .‬لكن ذلك االستنتاج كان صحيحً ا بالنسبة‬ ‫الشيوعية وجزء من الكتلة الشيوعية آنذاك‪.‬‬ ‫االصطدام بأيديولوجيا الدولة‬

‫ابتدأ اهتمام تودوروف بالشعرية البنيوية بحيلة لجأ إليها‬

‫مضطرًّا يف بحث التخرج من أجل تجنب االصطدام بأيديولوجيا‬

‫الدولة املهيمِ نة؛ إال أن هذه الحيلة قد رسمت مساره عىل مدى‬


‫عقدين كاملني بقي خاللهما وفيًّا للتحليل البنيوي والشكالين حتى‬ ‫بعد أن غادر بلغاريا بظروفها ا ّ‬ ‫ملشلة واملحبطة ليحط رحاله يف فرنسا‪،‬‬

‫لكنه لم يعد حكرًا عليه وال حبيس نصوصه ومشاغله وتقنياته‪،‬‬

‫لنظام قمعي‪ .‬أنجز تودوروف بحثه حول التحليل اللغوي‪ ،‬ولكن فاته‬

‫واهتمامات مفكر «عصري» ونقدي وإنساين وتنويري قرَّر أن يعيش‬

‫حيث كل الظروف مهيأة للكتابة بحُ رّية ال من أجل االحتيال تجنبًا‬

‫أن يدرك أن املسلك الذي سار عليه لم يكن أسهل املسالك لتجنب‬ ‫الرقابة وتحايش املواجهة مع األيديولوجيا املهيمنة فحسب‪ ،‬بل هو‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫للتنصل من املسؤولية السياسية واألخالقية‪،‬‬ ‫كذلك‪ ،‬أسهل الطرق‬

‫وأسهل الطرق العتزال العالم وقضاياه وصراعاته‪.‬‬

‫يف فرنسا‪ ،‬وبمعية جريار جينيت وروالن بارت الذي أشرف‬

‫عىل أطروحته للدكتوراه‪ ،‬انغمس تودوروف يف التحليل األدبي‬ ‫ً‬ ‫الحقا تنبّه تودوروف إىل أن هذا‬ ‫النصويص والشكالين والبنيوي‪ .‬ثم‬

‫االهتمام الكيل بتحليل األسلوب والرتكيب والتقنيات السردية التي‬ ‫منغمسا فيها‪ ،‬قد انتهى إىل حبس األدب والنقد معً ا يف «غيتو‬ ‫كان‬ ‫ً‬

‫شكالين» أدى إىل عزل األدب ونقده عن الحياة والعالم‪ ،‬وتحويلهما‬ ‫إىل «ألعاب شكالنية» عاطلة وعدمية وبال جدوى وبمنأى عما يسميه‬ ‫تودوروف «السجال العريض لألفكار» واألحداث والتجارب التي‬

‫تجري من حولنا‪ .‬ولهذا كان مصممً ا عىل اإلفالت من مدار هذه‬

‫ببصره واهتمامه وشغفه عىل عالم ال يخلو من األدب بالتأكيد‪،‬‬ ‫عالم منفتح عىل مشاغل واهتمامات هي‪ ،‬يف الصميم‪ ،‬مشاغل‬

‫عصره بكل إنجازاته وويالته‪ ،‬ويكتب ألنه يريد أن يتحدث‪ ،‬كما‬

‫يقول‪ ،‬مع معاصريه عن املشكالت التي تهمنا جميعً ا كمسائل‪:‬‬

‫التسامح‪ ،‬وكراهية األجانب‪ ،‬وصراع الهويات‪ ،‬واالستعمار‪ ،‬وتعدد‬ ‫الثقافات‪ ،‬وتقبل اآلخر‪ ،‬والخوف من الربابرة الذي يحولنا إىل برابرة‪،‬‬ ‫والشمولية‪ ،‬والديمقراطية وأعدائها‪ ،‬والعوملة والنظام أو الفوىض‬

‫العاملية الجديدة‪ ،‬والحياة املشرتكة مع اآلخرين‪ ،‬وروح األنوار‪،‬‬

‫واألمل يف أن يكون املستقبل أفضل من الخالصة املتوترة والصراعية‬ ‫والدموية التي تركها لنا القرن العشرون‪.‬‬ ‫عام ‪2000‬‬

‫يذكر تودوروف أنه تساءل‪ ،‬وهو صبي يف الحادية عشرة من‬

‫عمره‪ ،‬عما إذا كان سيبلغ اليوم نفسه من عام ‪2000‬م‪ .‬كان ذلك هو‬

‫اليوم األول من ديسمرب ‪1950‬م الذي يتباعد عن عام ‪2000‬م بنصف قرن‬

‫العزلة واالعتزال والحبس‪ .‬كان كتاب «فتح أمريكا» هو نقطة التحول‬ ‫من تودوروف الناقد وامل ُ ّ‬ ‫نظر األدبي إىل تودوروف املفكر اإلنساين‬

‫لن يأيت إال وهو يف عداد األموات‪،‬‬

‫األدب ونظرياته– عىل مساحة واسعة من العلوم والتخصصات‬

‫تودوروف هذا العام‪ ،‬ويمتد‬

‫والتنويري واسع األفق الذي ترتامى اهتماماته ‪-‬إضافة إىل نصوص‬ ‫واالتجاهات من التاريخ وتاريخ األفكار إىل الفلسفة والسياسة‬

‫واألنرثوبولوجيا واألخالق‪.‬‬ ‫مفكر عصري‬

‫ً‬ ‫بادية يف تلك املقدمة التي وضعها‬ ‫كانت هذه االنعطافة‬

‫تودوروف للرتجمة اإلنجليزية والعربية ألهم كتبه يف حقبته األوىل‬ ‫وهو كتاب «الشعرية»‪ ،‬حيث كان يتساءل عن موقعه وسط‬

‫االهتمامات واالتجاهات األدبية الكربى؟ ليجيب بصرامة بأن «الكتاب‬ ‫الذي أُعطيه األهمية أكرب من بني إنتاجايت املتأخرة يتعلق باكتشاف‬ ‫أمريكا وغزوها»‪ .‬واملعنى أن تودوروف كان‪ ،‬منذ عام ‪1982‬م أي العام‬

‫الذي صدر فيه كتابه «فتح أمريكا»‪ ،‬يضرب يف كل اتجاه‪ ،‬ويلقي‬

‫«فتح أميركا» هو نقطة التحول من تودوروف‬ ‫نظر األدبي إلى تودوروف المفكر‬ ‫والم ِّ‬ ‫الناقد‬ ‫ُ‬ ‫اإلنساني والتنويري واسع األفق الذي‬ ‫تترامى اهتماماته على مساحة واسعة من‬ ‫العلوم والتخصصات واالتجاهات من التاريخ‬ ‫وتاريخ األفكار إلى الفلسفة والسياسة‬ ‫واألنثروبولوجيا واألخالق‬

‫كامل‪ .‬كان تودوروف يتصور أن هذا العام‬

‫لكن األقدار تشاء أن يدرك‬

‫به العمر إىل فجر الثالثاء ‪7‬‬

‫فرباير ‪2017‬م‪ ،‬حني توقف قلبه‪،‬‬

‫وسكنت روحه إىل األبد من دون‬

‫أن تموت تلك القضايا التي شغلته‬

‫وانخرط يف النضال من أجلها‪.‬‬

‫إنه ملن الجدير أن نتذكر يف هذه‬

‫اللحظة أن تودوروف هو الذي قال بأن‬ ‫«الحياة ال تستطيع أن تصمد يف وجه‬

‫املوت‪ ،‬لكن الذاكرة تكسب يف نضالها‬ ‫ضد العدم»‪ .‬لرتقد روحك يف سالمها‬ ‫َ‬ ‫وليبق اسمك وذكرك‬ ‫األبدي‪،‬‬ ‫وفكرك ونضالك وإنسانيتك‬

‫الكبرية‪ ،‬ليبق كل ذلك حيًّا يف‬ ‫ذاكرة تقاوم املوت والنسيان‪،‬‬ ‫وتنتصر لواحد من مبادئك‬

‫الخالدة‪« :‬إن اإلنسان‬ ‫يجب أن يبقى ً‬ ‫غاية‬ ‫لإلنسان مهما ّ‬ ‫كلف‬

‫األمر»‪.‬‬

‫‪153‬‬


‫تراث‬

‫تراثنا ليس لنا‬ ‫نذير الماجد‬

‫‪154‬‬

‫كاتب سعودي‬

‫كم من الشعر مدفون تحت ركام اللغات؟ العطش قدر الكائن الجمالي‪ ،‬كأن عليه لكي يقبض‬ ‫على الجوهر الشعري أن يتقن لغات العالم‪ .‬في كل لغة يختبئ جوهر شعري‪ ،‬والمهمة األساسية تكمن‬ ‫في اكتشافه‪ .‬اكتشف هيدغر جوهرًا شعريًّا في لغة غير لغته‪ ،‬فعمل على استدعاء الشعرية اإلغريقية‬ ‫لتدشين فلسفة حديثة‪ .‬اإلغريق هم األسالف الطبيعيون للفلسفة المعاصرة‪ .‬التراث اإلغريقي هو تراث‬ ‫الغرب الذي كان وراء نهوضه من سباته الطويل‪ .‬في كل تراث ثمة مادة ال تنفد وال تشيخ‪ ،‬من يعمل على‬ ‫مشك ً‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫صداعا ثقافيًّا‬ ‫لة‬ ‫اكتشافها في تراثنا العربي؟ من يتجشم عناء هذه المهمة الشاقة التي تراوح مكانها‬ ‫مزم ًنا؟ سؤال إشكالي له مذاق الهزيمة وتبجح اآلخر‪ ،‬فتراثنا ليس لنا‪ .‬لم نحسن القراءة‪ .‬مهمة اكتشاف‬ ‫الذات لم تستكمل‪ .‬تشوه التراث باختزال مزدوج‪ :‬اختزال الذات واختزال المركزية الغربية‪ .‬استبطنت‬ ‫الذات العربية الصورة الدونية التي رسمتها المركزية الغربية فصارت تمتهن ذاتها التراثية‪ ،‬ينبغي هنا‬ ‫استحضار إدوارد سعيد‪ ..‬كل صيحة تحديثية موشومة بالغرب‪ .‬أصبحت الدعوة إلى الموسيقا والشعر‬ ‫وحرية القول والفلسفة وفن الحياة دعوة تغريبية‪ .‬قصائد النثر والسرد منتجات غربية‪ ،‬الغرب علمنا ذلك‬ ‫وال بد من االعتراف بتفوقه أو باغترابنا‪ .‬الغرب! ذلك النعت الذي يجلب البركة أو اللعنة‪.‬‬

‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬


‫ثمة استعادة للرتاث لكن عىل نحو أحادي وبنكهة دينية‪،‬‬ ‫ً‬ ‫رديفا للرتاث الديني‪ ،‬ابتلع الجزء الكل‪ُ .‬شطِ ب‬ ‫أصبح الرتاث‬

‫مكونه الشعري األعم من القصائد وأغراض املديح أو الهجاء‬ ‫أو املهاترات القبلية‪ ،‬اختفت هرطقات الفلسفة وضالالتها‪،‬‬

‫وسُ حق وجه الثقافة الشعبي ليظل الوجه الرسمي املعتمد‬

‫كجوهر أزيل أو شاهدة قرب‪ .‬إنه تراث ممزق عاىن كثريًا من‬ ‫خطايا أبنائه‪ ،‬تراث لم يعد ً‬ ‫تراثا بصيغة الجمع‪.‬‬ ‫لوال هذا االستشراق‬

‫ً‬ ‫نبوغا‬ ‫أليس من السخرية أن تحقيق النصوص األكرث‬ ‫ًّ‬ ‫محقا إدوارد سعيد؟‬ ‫قام به االستشراق نفسه الذي أدانه‬

‫غيبوبة الذات من جهة والتثبيت الغربي لشرق رومانيس‬ ‫حالم حي ًنا‪ ،‬وديني أصويل حي ًنا آخر جعل من الرتاث الحي‬

‫جثة هامدة‪ .‬لم نكن نعرف ‪-‬مع ذلك‪ -‬التصوف و«ألف ليلة‬

‫وليلة» وكل النصوص املهمشة لوال هذا االستشراق‪ .‬كان يحفر‬

‫ويستخرج الكنوز فيما نحن غارقون يف تفاهات املايض وتمثالته‬ ‫الثيولوجية‪ ،‬يف سذاجات الحقيقة األحادية ونرجسية الطائفة‪.‬‬ ‫هذا االنشغال أجهز عىل تعددية الرتاث‪« .‬ألف ليلة وليلة» الذي‬ ‫ً‬ ‫قرونا هو نص محرم ومحكوم باإلدانة‪ .‬تخدش‬ ‫تشكل واستقر‬ ‫الليايل نقاء الصورة املتخيلة للذات‪ .‬الليايل محض هراء وتفاهة‪.‬‬

‫تحاط الليايل بنظرة ازدرائية‪ .‬كل نتاج ذايت محتقر‪ .‬ال تليق بنا‬ ‫الليايل‪ ،‬شغلتنا عنها مماحكات امل َِلل وال ِّنحل‪ .‬ليس بمقدورنا‬ ‫اكتشاف الشعرية يف ألف ليلة وليلة‪ .‬هي غريبة يف بيتها‪ ،‬عليها‬

‫انتظار عبقرية أجنبية ليك تعود‪ .‬قرأ ماركيز «ألف ليلة وليلة»‬

‫فكانت قراءة العمر‪ .‬اكتشف حكايات شهرزاد فاكتشف ذاته‪.‬‬ ‫القراءة كانت لها «قوة الحدث»‪ .‬ما بعد الكتاب ليس كما قبله‪.‬‬ ‫يقال‪ :‬إن اليشء نفسه حصل مع بروست صاحب «البحث عن‬

‫الزمن املفقود»‪ .‬الليايل ألهمت كثريين قبل عودتها‪ .‬باملناسبة‬ ‫هل ما زالت مدانة يف محاكم مصر؟ كم ماركيز وكم بروست‬

‫نحتاج ليك تكرم الليايل يف بيتها ويعود السندباد البحري من‬

‫سفره الطويل؟‬

‫العودة تعني االحتفاء مجددًا وإعادة االكتشاف‪ .‬العودة‬

‫ليست نستولوجيا إنما خروج من وضعية االغرتاب‪ .‬ليست‬ ‫املسألة حني ًنا لهوية مفقودة‪ .‬تكمن املسألة يف وعي الذات‬

‫بضرورة املشاركة يف بناء الكوين‪ ،‬يبنى الكوين يف الوقت الذي‬ ‫تتقوم فيه الخصوصيات‪ .‬ال يتعلق األمر بقطيعة مع الكوين أو‬

‫الدخيل أو اآلخر‪ .‬عىل العكس‪ ،‬يتعلق األمر بحوار داخل الكوين‬ ‫ومعه‪ .‬ينبغي الحوار مع اآلخر‪ ،‬لكن ً‬ ‫أيضا مع الذات نفسها‪ .‬مع‬ ‫الذات يف ماضيها عرب إعادة االكتشاف الدائم لعبقريتها املاثلة‬

‫كم ماركيز وكم بروست نحتاج لكي‬ ‫تكرم «الليالي» في بيتها ويعود‬ ‫السندباد البحري من سفره الطويل؟‬

‫‪155‬‬


‫تراث‬

‫غارسيا ماركيز‬

‫يف الشعر‪ .‬تبيت الكينونة يف الشعر‪ .‬والشعر هو الكنز املنثور‬ ‫واملخبوء يف الرتاث‪ .‬ينبغي البحث عنه واكتشافه عرب إقامة‬

‫الحوار ليس مع الثقافة الرسمية بل عرب املقموع فيها‪ .‬الحوار‬ ‫مع املهمش يف هذه الثقافة‪ ،‬مع الشعبي‪ ،‬الضاحك‪ ،‬الخرايف‪،‬‬

‫مع املقامة التي احتقرها محمد عبده وشطبها وهو اإلصالحي‬ ‫ً‬ ‫استنتطاقا أبديًّا‬ ‫الكبري‪ .‬املطلوب إعادة استنتطاق هذا املوروث‪،‬‬ ‫ودائمً ا ومستم ًّرا‪ .‬تتحول الذات ويتحول معها املوروث‪ .‬تعريف‬

‫املوروث هو نفسه عمل متحول ومفتوح‪ .‬تهرب التعريفات‬ ‫وتنسحب‪ ،‬وليس النقد بصفته ف ًّنا ضد الفن أو معه إال محاولة‬

‫‪156‬‬

‫دائبة لإلمساك بالتعريفات الهاربة كما قال يوما كونديرا‪.‬‬

‫مارسيل بروست‬

‫محمد عبده‬

‫املقامة وانتهاك القاعدة‬

‫إنها والله مقامة!‪ ..‬املقامة خطاب يف مجلس‪ ،‬ما يعني‬

‫وفرة األصوات وتشابكها وتداخلها وتقاطعها‪ ،‬املقامة خطاب‬ ‫روايئ باملعنى الذي عناه باختني‪ ،‬هناك إذن تعددية يف األصوات‪:‬‬

‫صوت العقل إىل جانب صوت الجنون‪ ..‬لكن يف املقامة ومن‬ ‫ناحية الشكل تحديدً ا تحتشد وفرة من األنواع ً‬ ‫أيضا‪ ،‬الشعر‬ ‫إىل جانب النرث املسجوع غالبًا‪ ،‬املديح إىل جانب الهجاء‪ .‬هي‬

‫مثل الرواية شكل هجني بال أب‪ ،‬كتابة حديثة تائهة يف القرن‬ ‫الرابع الهجري‪ .‬غري أنها شكل يقبل املحتوى ونقيضه‪ .‬ففي‬

‫املقامة يوجد الرسمي والشعبي‪ ،‬املعتمد واملهمش‪ ،‬الهزيل‬

‫يف هذا السياق ُتفهم أعمال عبدالفتاح كيليطو الناقد األدبي‬ ‫والقارئ الحدايث للرتاث‪ ،‬وهو املقتفي ُخطا باختني وتودوروف‪،‬‬

‫الذي بذله كيليطو بحاجة إىل من يستكمله برتجمة معاصرة‬

‫باختني كانت مهجوسة هي األخرى بهويتها السالفية‪ ،‬كانت‬

‫«بول ريكور»‪ .‬املقامة كالرتاث متعددة‪ ،‬يمكن القول‪ :‬إن‬

‫وبخاصة يف قراءة النص املهمش‪ ،‬ال ننىس أن روسيا املنحدر منها‬ ‫مسكونة برعب اآلخر الغربي‪ .‬من الواضح أن عبدالفتاح كيليطو‬

‫مشغول بردم الهوة‪ ،‬تسكنه هواجس التجسري‪ ،‬ضرورة الحوار‬

‫ليس مع اآلخر‪ ،‬بل مع الذات نفسها قبل ذلك‪ ،‬مع الذات‬

‫والجاد‪ ،‬القاعدة وانتهاكها‪ .‬الجهد الشكالين والبنيوي الثقايف‬

‫ملنطوق املقامة وجملتها التأويلية التي ال تختزل بحسب تعبري‬ ‫املقامات تختصر الرتاث‪ ،‬وإن األخري كله مقامة‪ .‬تتنازع الكلمة‬

‫استعماالت متشابكة‪ ،‬املقامة شكل أدبي لبنية سردية‪ ،‬لكننا‬ ‫أيضا أن مفردات كالقيامة واملقام تستمد ً‬ ‫نلحظ ً‬ ‫أيضا من الجذر‬

‫الكالسيكية والرتاثية‪ .‬يلح كيليطو عىل إعادة قراءة الرتاث‬ ‫ً‬ ‫وحديثا‪ .‬املطلوب قراءة‬ ‫والحوار معه وترجمته ليكون معاص ًرا‬

‫فسحة وجودية أو كرنفال‪ ،‬أما القيامة بمفهومها الخاليص‬

‫هي هكذا‪« :‬مادة تقليدية مستعملة يف منظور جديد»‪ .‬لكن‬

‫املخلص عودته املكللة باملجد‪ .‬بهذا املعنى يمكننا استعادة‬

‫معاصرة للرتاث إلنجاز وعد مصالحته مع الحداثة‪ ..‬والحداثة‬ ‫جهده النقدي تركز حول فن املقامة‪ .‬عد املقامة سلف الرواية‬

‫العربية واألب الشرعي للسرد العربي املعاصر تمامً ا مثلما عد‬

‫أدونيس نصوص النفري قصائد نرث مبكرة‪.‬‬

‫نفسه‪ ،‬املقام عند املتصوفة رتبة وجودية يف حني أن املقامة‬

‫فتمثل أمامنا بمعنى العودة لكن يف حلة جديدة‪ .‬تعني قيامة‬

‫الرتاث‪ :‬أن يقرأ مجددًا‪ ،‬أن يخضع للنقد‪ ،‬والنقد تعليم فن‬

‫القراءة كما يقول اإلستطيقي اإليطايل كروشته‪.‬‬

‫كان أبو الفتح اإلسكندراين يتنكر يف كل مقامة تحت‬

‫قناع‪ ،‬إىل أن يقوم الراوي «عيىس بن هشام» بفضحه‬

‫بيشء من الدهشة واملرح‪ .‬مع كل مقامة – وأنا هنا أخص‬

‫ينبغي الحوار مع المهمش في الثقافة‪،‬‬ ‫مع الشعبي‪ ،‬الضاحك‪ ،‬الخرافي‪ ،‬مع‬ ‫المقامة التي احتقرها محمد عبده‬ ‫وشطبها وهو اإلصالحي الكبير‬

‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬

‫مقامات الهمذاين‪ -‬يتكرر هذا االكتشاف املدهش يف صورة‬

‫الزمة‪« :‬إنه والله أبو الفتح اإلسكندراين»‪ .‬الفضيحة تختتم‬ ‫املقامة‪ ،‬أما قراءة الرتاث فتبدأ بها‪ .‬ثمة من ينتظر خلع‬ ‫أقنعته العديدة ليدهشنا نحن ً‬ ‫أيضا بالزمة تتكرر‪ :‬إنه والله‬ ‫تراث‪ ،‬إنها والله مقامة‪.‬‬


‫مقال‬

‫ريتا فرج‬ ‫كاتبة وباحثة لبنانية‬

‫النسوية اإلسالمية والمساواة‬ ‫تطورت حركة التأويل النسوي لموقع المرأة في‬ ‫ً‬ ‫ملحوظا؛ مما أكسبها‬ ‫اإلسالم في العقود األخيرة تطورًا‬

‫حفني ناصف (‪1918-1886‬م)‪ ،‬وعائشة عبدالرحمن (بنت الشاطئ)‬

‫واالنتماءات األكاديمية‪ .‬أصدرت النسويات في العالمين‬

‫الدين –داعية أحقية المرأة في االجتهاد الديني‪1976-1908( -‬م)‬

‫ب ــ«اإلسالم والمرأة» و«اإلسالم والجندر» و«النساء‬

‫الفقهية للقرآن ضمن كتابها الشهير «السفور والحجاب»‪،‬‬

‫حضورًا الف ًتا على مستوى الوعي والمناهج واالتجاهات‬ ‫العربي واإلسالمي أدبيات جادة في الحقول المعنية‬

‫والمعرفة الدينية»‪ ،‬وبخاصة في مضمار ما يمكن أن‬

‫نطلق عليه «فقه تحرير القرآن من الموروث األبوي»‪.‬‬ ‫وقد اضطلعت «النسوية اإلسالمية» ً‬ ‫شرقا وغربًا بأدوار‬

‫بارزة‪ ،‬واختلفت مقارباتها للنصوص الدينية التأسيسية‪،‬‬

‫مع التركيز الشديد على نقد القراءة الفقهية التقليدية‬

‫اإلسالمية للقضايا المتعلقة بالنساء‪ً ،‬‬ ‫بحثا عن المساواة‬ ‫الجندرية في القرآن ومناقشة الفقهيات البطريركية‪.‬‬

‫الوعي النسوي وإرهاصات النسوية اإلسالمية‬

‫ظهرت «النسوية اإلسالمية» أوائل التسعينيات من‬

‫عائشة تيمور (‪1902-1840‬م)‪ ،‬وزينب فواز (‪1914-1845‬م)‪ ،‬وملك‬ ‫(‪1998-1913‬م)‪ ،‬وهدى شعراوي (‪1947-1879‬م)‪ ،‬ونظيرة زين‬ ‫التي تعد أول امرأة عربية‪ ،‬تقدم أطروحة في نقد القراءة‬

‫ً‬ ‫خصوصا أن النساء العربيات قبلها ركزن في خطابهن وكتاباتهن‬

‫على قضايا تعليم المرأة ووعيها لذاتها وحقوقها السياسية‪،‬‬ ‫وذلك عبر السيَر الذاتية أو المقاالت أو األعمال األدبية‪.‬‬

‫تلحظ أستاذة األدب اإلنجليزي المقارن في جامعة القاهرة‬

‫أميمة أبو بكر «أن السعي إلى التمكين في الحقوق على خلفية‬ ‫ثقافية إسالمية عامة‪ ،‬كان من البديهيات [بدءً ا من أواخر‬

‫القرن التاسع عشر] وإن غاب عن ذلك السعي‪ ،‬التنظير المباشر‬

‫والمناهج التحليلية المتعمقة للمصادر الرئيسة والمسميات من‬

‫أجل طرح رؤية تجديدية شاملة حول قضايا المرأة في منظومة‬ ‫الفكر والعلوم الدينية»‪ .‬وتشير أبو بكر إلى أن مفهوم النسوية‬

‫القرن العشرين المنصرم في إفريقيا الجنوبية‪ ،‬كواحدة‬

‫من منظور إسالمي تطورت فكرته «في العشرين عامً ا األخيرة في‬

‫التقدمي» العاملة ضد نظام الفصل العنصري‪ .‬وفي العالم‬ ‫اإلسالمي برزت في بداية التسعينيات ً‬ ‫أيضا‪ ،‬في تركيا‪،‬‬

‫التفاوت بين رسالة اإلسالم التوحيدية‪ ،‬وترجمة قيم تلك الرسالة‬ ‫السامية إلى عدالة وتكافؤ الفرص‪ ،‬وشراكة على أرض الواقع بين‬

‫التقطت مقوالت نسوية وسط اإلسالميات التركيات‪ .‬ثم في‬

‫للمسلمين والمسلمات‪ ،‬ثم االتجاه كذلك إلى استخدام المناهج‬

‫النسويات اإليرانيات من الثورة اإلسالمية اإليرانية ( البزري‪،‬‬

‫اإلسالمية من وجهة نظر المرأة المسلمة وواقع حياتها‪،‬‬ ‫ً‬ ‫–أيضا‪ -‬لفتح باب االجتهاد لها‪ ،‬حتى يتسنى بناء معرفة‬ ‫لكن‬

‫من الرافعات الفلسفية والسياسية لحركة «اإلسالم‬

‫مع كتاب نوليفير غول «الحداثة الممنوعة» (‪1991‬م) حيث‬

‫إيران‪ ،‬عام ‪1992‬م مع مجلة «زنان» التي عبرت عن خيبة‬ ‫دالل‪« ،‬النسوية اإلسالمية أو الجهاد النوعي»‪ ،‬صحيفة‬

‫الحياة‪ 22 ،‬يناير (كانون الثاني) ‪2007‬م‪ ،‬العدد‪.)15998( :‬‬ ‫إن تطور الوعي النسوي العربي المرتبط بحقوق‬

‫العالم اإلسالمي من خالل تطبيق الوعي النسوي لفهم معضلة‬

‫الجنسين‪ ،‬وإلى األخذ في االعتبار الكرامة اإلنسانية المتساوية‬ ‫النسوية التحليلية –ليس فقط‪ -‬لغربلة الكثير من فكر العلوم‬

‫إسالمية‪ ،‬تحيي معاني العدل والمساواة والشراكة وتؤكدها؛‬

‫معرفة بديلة عن منطق االستبعاد والتمييز واألفضلية الذي شاب‬

‫النساء في الدين والمجتمع والثقافة ليس حديث النشأة‪،‬‬

‫خطابات التراث وطرائق استنباط العلماء لألحكام‪ ،‬الذين رغم‬

‫النسوي‪ ،‬مع العديد من المثقفات والكاتبات العربيات‬

‫عصورهم‪ ،‬وكان من الطبيعي أن يتأثروا بثقافات هذه العصور‪،‬‬ ‫ً‬ ‫–أيضا‪ -‬أال يهتموا بتأسيس المكانة الواحدة‬ ‫ومن الطبيعي‬

‫إذ وُجدت إرهاصاته التاريخية‪ ،‬لجهة حركة التفكير‬

‫والمسلمات‪ ،‬منذ أواخر القرن التاسع عشر‪ ،‬من بينهن‪:‬‬

‫براعتهم العلمية وجهدهم في تحري الشريعة‪ ،‬ما كانوا إال نتاج‬

‫‪157‬‬


‫مقال‬

‫المتساوية للرجال والنساء»‪( .‬انظر‪ :‬النسوية اإلسالمية‬

‫والمنظور اإلسالمي‪ ،‬آفاق جديدة للمعرفة واإلصالح‪،‬‬

‫مجموعة من الباحثين‪ ،‬تحرير أميمة أبو بكر‪ ،‬مؤسسة المرأة‬

‫والذاكرة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الطبعة األولى‪2013 ،‬م‪ ،‬ص ‪.)7‬‬ ‫خارج النسوية اإلسالمية‬

‫ثمة العديد من األكاديميات والباحثات درسن النص‬

‫الديني (القرآن والحديث والفقه) من خارج االنتساب إلى‬

‫النسوية اإلسالمية‪ ،‬وسجلن أسبقية تاريخية عليها‪ ،‬من‬

‫بينهن –على سبيل التمثيل ال الحصر‪ :-‬الكاتبة المصرية نوال‬ ‫السعدواي‪ ،‬وفاطمة المرنيسي عالِمة االجتماع المغربية‬ ‫والكاتبة النسوية (‪2015-1940‬م)‪ ،‬ورجاء بن سالمة أستاذة‬ ‫ِّ‬ ‫والمحللة النفسانية التونسية‪ ،‬وألفة‬ ‫التعليم العالي‬

‫حتى يبدو أكثر مالءمة مع البيئة اإلسالميّة؛ فالباحثة المصرية‬

‫هبة رؤوف عزت تقترح استبدال «الحركة النسائية اإلسالمية»‬ ‫ب ـ ــ«النسوية اإلسالمية»‪ .‬وتبدو ودود –داعية تحدي السلفيات‬ ‫الغالبة التي تحتكر تفسير النصوص‪ -‬كما تلفت األكاديمية‬

‫والباحثة التونسية آمال قرامي في مقال لها تحت عنوان‬

‫«الحركة النسوية اإلسالمية في أميركا» أكثر النسويات اهتمامً ا‬

‫بقضيّة العدالة االجتماعيّة في اإلسالم‪ ،‬وهو أمر مفهوم بسبب‬ ‫السياق االجتماعي التاريخي‪ ،‬الذي أُثيرت فيه قضايا السود‬ ‫في عالقتهم مع الثقافة المهيمنة‪ ،‬التي عادة ما كانت تعالج‬

‫المشكالت االجتماعية والسياسية من منظور المثقف المعبّر عن‬ ‫ثقافة البيض؛ لذا ألحّ ت على عالميّة اإلسالم‪ ،‬وتوجّ ه الرسالة‬

‫يوسف األكاديمية التونسية المتخصصة في اللغة العربية‬

‫إلى جميع الناس‪ .‬وتأتي أهمية النسويات المسلمات األميركيات‬

‫وبخاصة بعد إصدار كتابها ذائع الصيت «حيرة مسلمة»؛ إذ‬

‫للتطوّر المعرفي في مختلف العلوم‪ ،‬ما شجعهن على طرق‬

‫واللسانيات‪ .‬قد تكون ألفة يوسف األشد إثارة للجدل‪،‬‬

‫طرحت مسائل حرجة ونقدية‪.‬‬

‫‪158‬‬

‫كثي ًرا ما تجد الدارسة حرجً ا في التصريح ّ‬ ‫بأنها تتبنى فكر حركة‬ ‫«اإلسالم النسوي» دون ّ‬ ‫تحفظ أو دون حرص على تغييره‪،‬‬

‫اإلسالم النسوي وتحدي السلفيات الغالبة‬

‫يتفاوت تصادم تأويالت النسوية اإلسالمية مع الموروث‬ ‫خصوصا إذا ما ّ‬ ‫ً‬ ‫قارنا‬ ‫الفقهي بين العالم العربي والغرب‪،‬‬

‫خالصات النسويات المسلمات األميركيات مع نظيراتهن‬

‫ً‬ ‫نصوصا أقل حدة‪ .‬تع ّد آمنة ودود‬ ‫العربيات‪ ،‬الالئي أنتجن‬

‫(األفرو‪-‬أميركية) صاحبة «القرآن والمرأة‪ :‬إعادة قراءة النص‬

‫كما تشير قرامي من «تشبّعهن بالحرية الفكرية ومواكبتهن‬

‫موضوعات جريئة مثل المطالبة بإلغاء ع ّدة المرأة المطلقة‪،‬‬

‫وحق إمامة الصالة»‪( .‬انظر‪ :‬قرامي‪ ،‬آمال‪ :‬الحركة النسوية‬

‫اإلسالمية في أميركا‪ ،‬موقع الحوار المتمدن‪www.alhewar. ،‬‬ ‫‪.)org‬‬

‫النسوية اإلسالمية‪ :‬المقاربات والمناهج‬

‫تقترح النسوية اإلسالمية ثالث مقاربات في قراءتها النص‬ ‫القرآني‪ :‬أولاً ‪ -‬استدعاء بعض آيات القرآن التي ارتبطت بتفسيرات‬

‫القرآني من منظور نسائي» من أكثر النسويات المسلمات‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫جرأة في معالجة قضايا اإلسالم والجندر؛‬ ‫شهرة‪ ،‬وأكثرهن‬

‫من سيادة النظرة الذكورية وعلوّها على وضع المرأة ومكانتها‪.‬‬

‫نسوي» أو الهوت إسالمي‪ /‬نسوي‪ /‬حداثوي يمكن القول‪ :‬إن‬

‫بين الرجل والمرأة على نحو يب ّرر هيمنة الرجل وسيطرته (انظر‪:‬‬

‫لسببين‪ :‬االعتماد على القرآن كمصدر أول وأخير؛ والولوج‬ ‫إلى مرحلة ما بعد النص‪ .‬وإذا أردنا الحديث عن «إسالم‬

‫مغلوطة‪ ،‬مثل تلك المتعلقة بالخلق أو أحداث الجنة وما فيها‬

‫ثانيًا‪ -‬االستشهاد باآليات التي توضح بشكل ال لبس فيه المساواة‬ ‫بين الجنسين‪ً .‬‬ ‫ثالثا‪ -‬تفكيك اآليات التي تهتم بإبراز االختالف‬

‫«ودود» وزميالتها من النسويات المسلمات األميركيات األشد‬

‫عبدالوهاب‪ ،‬نورهان‪ ،‬النسوية اإلسالمية‪ ،‬إشكاليّات المفهوم‬ ‫ّ‬ ‫ومتطلبات الواقع‪ ،‬مؤمنون بال حدود للدراسات واألبحاث‪،‬‬

‫في االجتهاد‪ ،‬التأسيس إلسالم نسوي يمارس اإلصالح من‬

‫تستند النسوية اإلسالمية في أبحاثها إلى مناهج عدة؛ منها‪:‬‬

‫حداثة‪ ،‬وهن يشتركن في ثالث خصائص أساسية‪ :‬مناهضة‬ ‫الخطاب الفقهي الذكوري‪ ،‬تأكيد أحقية المرأة المسلمة‬

‫على الرابط المختصر التالي‪.)http://cutt.us/fWVTy :‬‬

‫الداخل على قاعدة تأويل القرآن بالقرآن‪ ،‬مع التركيز الكثيف‬

‫فقه اللغة‪ ،‬والهيرمينوطيقا (علم التأويل)‪ ،‬واألنثروبولوجيا‬

‫امرأة الفقهاء وامرأة الحداثة‪ ،‬خطاب الالمساواة في المدونة‬

‫واألحاديث النبوية والسياقات التاريخية‪ ،‬المتعلقة بالنساء‪.‬‬

‫على مناهج العلوم االجتماعية الحديثة (انظر‪ :‬فرج‪ ،‬ريتا‪،‬‬ ‫الفقهية‪ ،‬دار التنوير‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة األولى‪2015 ،‬م)‪.‬‬

‫تجاهر النسويات المسلمات األميركيات (آمنة ودود‪،‬‬ ‫وليلى أحمد‪ ،‬وعزيزة الهبري‪ ،‬وأسماء برالس) بتب ّني أكثرهنّ‬ ‫ً‬ ‫خالفا ألغلبية المسلمات‬ ‫لمصطلح «اإلسالم النسوي»‪،‬‬ ‫العربيات المقيمات في البلدان العربية واإلسالميّة‪« :‬إذ‬

‫‪2017‬م‬ ‫‪2017‬م‬ ‫إبريل‬ ‫إبريل‬ ‫مارس ‪-‬‬ ‫مارس ‪-‬‬ ‫‪1438‬هـ ‪/‬‬ ‫‪1438‬هـ ‪/‬‬ ‫رجب‬ ‫رجب‬ ‫اآلخرة ‪-‬‬ ‫اآلخرة ‪-‬‬ ‫جمادى‬ ‫جمادى‬ ‫‪486486‬‬ ‫‪- 485‬‬ ‫‪- 485‬‬ ‫العددان‬ ‫العددان‬

‫الدينية‪ ،‬وغيرها من المناهج الحديثة في تفسير اآليات القرآنية‬

‫رفعت حسن‪ :‬إسالم ما بعد األبوية‬ ‫ُتعد رفعت حسن ‪-‬أستاذة الدراسات الدينية والعلوم‬

‫اإلنسانية في جامعة لويسفيل (‪)University of Louisville‬‬ ‫(الواليات المتحدة األميركية)‪ ،‬المنضوية في اتجاه النسوية‬


‫اإلسالمية التأويلية كما يصنفها المفكر األردني فهمي جدعان‬

‫في كتابه «خارج السرب‪ :‬بحث في النسوية اإلسالمية الرافضة‬

‫وإغراءات الحرية‪ .‬الشبكة العربية لألبحاث والنشر‪ ،‬بيروت»‪-‬‬

‫من اللواتي اعتمدن على المنهج الهيرمينوطيقي‪ ،‬وتهدف من‬

‫خالله إلى محاولة تفسير القرآن من منظور الالهوت النسوي‪،‬‬ ‫الكتشاف أحكامه المتصلة بالمرأة‪ ،‬بغية تحرير النص من آثار‬

‫األحاديث المتناقضة مع روحية الكلية للمساواة القرآنية بين‬ ‫الجنسين‪ُ .‬‬ ‫وتشاطِ ر «حسن» قريناتها من النسويات المسلمات‬

‫التأويليات‪ ،‬االعتقاد المنهجي بأن العقلية البطريركية قد‬ ‫حكمت التقاليد اإلسالمية منذ عصر ّ‬ ‫مبكر من تاريخ اإلسالم‬

‫إلى أيامنا هذه‪ ،‬وأن أصول اإلسالم الماثلة في القرآن والحديث‬ ‫والسنة النبوية والفقه‪ ،‬قد وُجِّ هت ً‬ ‫وفقا لهذه العقلية؛ إذ‬

‫مفهوم النسوية من منظور‬ ‫إسالمي تطورت فكرته في العشرين‬ ‫عاما األخيرة من خالل تطبيق الوعي‬ ‫ً‬ ‫النسوي لفهم معضلة التفاوت بين‬ ‫رسالة اإلسالم التوحيدية‪ ،‬وترجمة‬ ‫قيم تلك الرسالة السامية إلى عدالة‬ ‫وتكافؤ الفرص‪ ،‬وشراكة على أرض‬ ‫الواقع بين الجنسين‬

‫مت هذه األصول ُ‬ ‫ُف ِه ْ‬ ‫وفسرت على أيدي الرجال المسلمين‬

‫وحدهم‪ ،‬وأن هؤالء الرجال قد احتكروا ألنفسهم مهمة تحديد‬

‫األحكام واألوضاع األنطولوجية والالهوتية والسوسيولوجية‬ ‫للنساء المسلمات‪ .‬وتشدد «حسن» على أهمية ع ّد القرآن‬ ‫في ضوء «المعيار األخالقي» أنه يلزم برفض أي استخدام‬

‫للقرآن من أجل تعزيز الظلم؛ ألن إله اإلسالم عادل‪( .‬انظر‪:‬‬

‫الخاصة من الرجال‪ ،‬فإن األغلبية العظمى من النساء الالئي‬

‫كانوا يتعاملون معهن‪ ،‬وعلى وجه الخصوص الالئي كان لهم‬ ‫بهن عالقة جنسية‪ ،‬كانت ً‬ ‫ملكا لهم وكانت عالقتهم بهن عالقة‬ ‫السادة بالعبيد»‪ .‬وتع ّد «أحمد» سيطرة اإلسالم على بعض‬

‫جدعان‪ ،‬فهمي‪ ،‬خارج السرب)‪ .‬تجترح «حسن» مصطلح‬ ‫ً‬ ‫قاصدة بذلك «اإلسالم القرآني»‪ ،‬وهو‬ ‫«إسالم ما بعد األبوية»‬

‫المناطق المجاورة للبحر المتوسط‪ ،‬دفعته إلى استيعاب التراث‬

‫حد سواء– من عبودية القيم التقليدية والسلطوية (الدينية‬

‫وجاء المسلمون الجدد ممن تحولوا عن دياناتهم األصلية‪،‬‬

‫إسالم يولي أهمية خاصة بتحرير البشر –النساء والرجال على‬

‫والسياسية واالقتصادية وغيرها) والقبلية والعنصرية والتحيز‬

‫الجنسي والرق‪ ،‬وأي قيم أخرى تمنع البشر أو تعوقهم عن‬ ‫تحقيق رؤية القرآن لمصير البشرية الذي نجده متمثلاً في ذلك‬ ‫َ َ‬ ‫َ ْ َ‬ ‫َى﴾ (سورة النجم‪ ،‬اآلية‬ ‫اإلعالن القياسي‪﴿ :‬وَأنَّ إِل ٰى َربِّك المُنته ٰ‬ ‫‪ ( )42‬انظر‪ :‬النسوية والدراسات الدينية‪ ،‬تحرير‪ :‬أميمة أبو‬

‫بكر‪ ،‬ترجمة‪ :‬رندة أبو بكر‪ ،‬سلسلة ترجمات نسوية العدد (‪،)2‬‬

‫مؤسسة المرأة والذاكرة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الطبعة األولى‪2012 ،‬م‪ ،‬ص‬ ‫‪.)233‬‬

‫التفسيرات األبوية والمجتمع البطريركي‬

‫ترى ليلى أحمد الباحثة المصرية في شؤون الدراسات‬

‫النسائية‪ ،‬أن التفسيرات األبوية لإلسالم ال تعود إلى القرآن‬

‫االجتماعي والعقدي للشعوب اليهودية والمسيحية المجاورة‪،‬‬

‫محمّلين بعاداتهم االجتماعية وتراثهم الفكري‪ .‬استخدمت‬ ‫النسويات المسلمات مصطلحات لها جذور غربية مثل‪:‬‬

‫البطريركية‪ ،‬والمركزية الذكورية‪ ،‬والنظام األبوي‪ ،‬والالهوت‬

‫النسوي‪ ،‬والجهاد من أجل الجندر‪ ،‬وإسالم ما بعد األبوية‪...‬‬

‫وغيرها‪ .‬ألقت هذه المصطلحات بثقلها على األدبيات النسوية‬ ‫العربية واإلسالمية‪ ،‬إنتاجً ا وتفسي ًرا‪ ،‬وأغنتها بأفكار حداثوية‬

‫انشغلت بالدرجة األولى بتحرير النص المقدس من الموروث‬ ‫ً‬ ‫إيمانا بروحية المساواة بين الجنسين التي كرسها‬ ‫الفقهي‪،‬‬

‫القرآن‪ ،‬وهذا يدفعنا إلى القول‪ :‬إننا أمام تشكل معرفي ثوري‬ ‫ً‬ ‫خصوصا في مضمار اإلسالم‬ ‫في حقل الدراسات النسوية‪،‬‬

‫والجندر‪ ،‬على مختلف اتجاهاته ومدارسه وتأويالته سواء اتفقت‬ ‫أم تباينت خالصاته‪.‬‬

‫حملت النسويات على مختلف انتماءاتهن الفكرية‬

‫نفسه‪ ،‬بل إلى المجتمع البطريركي الذي فرض على اإلسالم‬ ‫ً‬ ‫نمطا ذكوريّا سلطويًّا ّ‬ ‫جذره النظام العباسي الذي عزز النزعة‬

‫والمنهجية همًّا معرفيًّا غايته تقديم قراءة مغايرة للتفسيرات‬

‫المفهوم لموقع المرأة والجنوسة في العصر العباسي‪ ،‬ربما‬

‫بها النسويات المنشغالت في حقل المعرفة الدينية من جانب‬

‫المعادية الكارهة للمرأة‪ .‬تقول‪« :‬وفي إطار اإلدراك وتشكيل‬

‫كان الفرق ذو الداللة الذي يميّز المجتمع العباسي عن المجتمع‬

‫اإلسالمي األول في الحجاز‪َ ،‬يمْثل في النظرة الخاصة من الرجال‬ ‫إلى النساء‪ ،‬وفي العالقة التي تربطهم بهنّ ‪ .‬فبالنسبة لهؤالء‬

‫الفقهية التقليدية‪ .‬وبصرف النظر عن الرؤية السلبية التي تواجه‬ ‫«حراس العقائد والحدود»‪ ،‬من المهم االستماع إلى أصواتهن‬

‫ومتابعة إنتاجهن‪ ،‬بغية النقاش‪ ،‬وتوسيع الدائرة الفكرية التي‬

‫تسمح بفهم أفضل لموقع النساء في اإلسالم‪.‬‬

‫‪159‬‬


‫مخطوطات‬

‫‪160‬‬

‫مخطوط ليلى والمجنون ّ‬ ‫ألفه‪ :‬مكتبي شيرازي‪ ،‬المتوفى سنة ‪941‬هـ‪1534/‬م‪ .‬وهو باللغة الفارسية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫القصة األدبية المشهورة مجنون ليلى‪..‬‬ ‫يتحدث عن أحوال‬

‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬


‫‪161‬‬

‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫مذهب ومزخرف‪،‬‬ ‫القصة‪ ،‬وهو‬ ‫والمخطوط مزوّد بمجموعة صور منمنمة تحكي مراحل‬

‫من مقتنيات مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية‪.‬‬


‫إعالم‬

‫أستاذ علم اجتماع الميديا أكد نهاية التلفزيون التقليدي‬

‫جون لوي ميسيكا‪:‬‬ ‫اإلنترنت ال تزيل الرابط االجتماعي‪ ،‬بل‬ ‫تمنح األشخاص إمكانية التحكم فيه‬

‫حوار‪ :‬ماتلد كريستياني‬ ‫ترجمة‪ :‬نصر الدين لعياضي‬

‫‪162‬‬

‫أكاديمي جزائري‬

‫يؤكد أستاذ علم اجتماع الميديا بمعهد العلوم‬

‫السياسية بباريس‪ ،‬والباحث في مجال وسائل اإلعالم‬ ‫جون لوي ميسيكا نهاية التلفزيون‪ ،‬في كتابه الجديد‬

‫«نهاية التلفزيون»؛ إذ يرى أن مشاهدة التلفزيون‬

‫آخذة في االنحسار‪ ،‬إضافة إلى اختفاء تقاليد المواعيد‬ ‫المحددة لمشاهدة البرامج‪ .‬ويذكر أن اإلنترنت ستبتلع‬

‫التلفزيون‪ .‬ويقول لوي ميسيكا‪ ،‬في حوار معه صدر‬ ‫ضمن منشورات مركز «‪ »BNP Paribas‬للبحث‬ ‫واالستشراف‪ :‬إن الرابط االجتماعي الذي‬ ‫ينشئه التلفزيون يتضمن مجموعة من‬ ‫اإلكراهات‪ ،‬فالتلفزيون‪ ،‬في رأيه‪ ،‬يقدم‬ ‫الرسالة ذاتها إلى الجميع في الوقت‬ ‫نفسه‪ ،‬بينما الرابط الذي تنشئه اإلنترنت‬

‫يتسم بمرونة أكثر‪ ،‬كما أنّ هذا الرابط‬ ‫يمنح الشعور بالحرية‪ ،‬على العكس‬ ‫من التلفزيون التقليدي‪.‬‬

‫ديسمبر ‪2016‬م‬ ‫نوفمبر ‪-‬‬ ‫‪1438‬هـ ‪/‬‬ ‫ربيع‬ ‫‪ 486‬صفر ‪-‬‬ ‫‪482--485‬‬ ‫العددان ‪481‬‬ ‫‪2017‬م‬ ‫مارس ‪ -‬إبريل‬ ‫‪1438‬هـ ‪/‬‬ ‫األول رجب‬ ‫اآلخرة ‪-‬‬ ‫جمادى‬


‫ـــــ‬

‫أصدرتم كتا ًبا بعنوان‪« :‬نهاية التلفزيون»‪ .‬فماذا‬

‫تعنون بهذه النهاية في زمن تضاعف فيه عدد القنوات‬ ‫التلفزيونية‪ ،‬وتزايد إقبال المشاهدين عليها؟‬

‫_ بالعكس‪ ،‬تؤكد آخر اإلحصائيات أن الوقت املخصص‬

‫ملشاهدة التلفزيون يتناقص‪ ،‬بشكل واضح جدًّ ا لدى الشباب‬

‫عىل وجه التحديد‪ .‬إن القناة التلفزيونية تتحرك وفق العناصر‬ ‫اآلتية‪ :‬توصيل الصور املتحركة إىل البيت‪ ،‬وبرمجة املواد‬ ‫التلفزيونية وبثها وفق مواعيد محددة‪ ،‬والوصول إىل أكرب‬ ‫عدد من املشاهدين‪ .‬ففي الوقت الذي تنحصر فيه املشاهدة‬ ‫ّ‬ ‫وتتشذر إىل حد أن تصبح‬ ‫التلفزيونية وتصبح محدودة جدًّ ا‪،‬‬

‫فردية‪ ،‬وتختفي تقاليد املواعيد املحددة ملشاهدة الربامج‬ ‫تدريجيًّا‪ ،‬تاركة املجال ألنماط أخرى من املشاهدة؛ مثل‪:‬‬

‫التلفزيون االستدرايك‪ ،‬والفيديو تحت الطلب‪ ،‬واالشرتاك يف‬ ‫ً‬ ‫مختلفا‪ ،‬فهذا العالم‬ ‫نظام الفيديو تحت الطلب‪ ،‬فإننا نلج عاملًا‬

‫يقرتح وجود عدد كبري من الصور املتحركة والربامج املصورة‬ ‫ً‬ ‫تلفزيونا باملعنى التقليدي‬ ‫املقدمة إىل الجمهور‪ ،‬لكنها ال تشكل‬

‫ّ‬ ‫املنصات السمعية البصرية يف‬ ‫للعبارة‪ .‬ويجب أن نضيف له‬ ‫شبكة اإلنرتنت؛ مثل‪« :‬اليوتيوب» و«الدييل موشن» التي تسمح‬ ‫ببث املحتويات التي ينتجها األشخاص العاديون والهواة‪ ،‬وتغري‬

‫بعمق العالقة القائمة بني من يبث الصور ومن يتلقاها‪ ،‬وهي‬

‫لم تعد ثابتة ومستقرة كما كانت يف السابق‪.‬‬ ‫إنتاج مشرتك‬

‫ـــــ‬

‫أال تعلن شرائط الفيديو في شبكة اإلنترنت نهاية‬

‫البرمجة التلفزيونية بمعنى أنها تتيح لمستخدم اإلنترنت‬ ‫حرية أكثر‪ ،‬ومجالاً أوسع لالختيار؟‬ ‫_ بكل تأكيد‪ .‬لقد انتقلت سلطة الربمجة التلفزيونية من‬

‫يد املربمج التلفزيوين إىل جمهور املشاهدين‪.‬‬

‫ـــــ‬

‫هل يغير «مبدأ»‪ :‬إنني أشاهد متى أرغب في‬

‫المشاهدة ما ننتظره من التلفزيون؟‬

‫_ يف البداية يجب أن نلحظ ظاهرة مساهمات‬

‫الجمهور املستخدِ م يف املحتوى‪ ،‬وهو ما أصبح يعرف لدى‬

‫األنغلوسكسونيني بـ «‪ »User Generated Content‬أي أن‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫إبداعا يشرتك‬ ‫مشرتكا أو‬ ‫الربنامج التلفزيوين سيغدو إنتاجً ا‬

‫ما يبث عبر القناة التلفزيونية ال يتناسب‬ ‫مع ما نبحث عنه في شبكة اإلنترنت‪ ،‬أي‬ ‫تشكيل الجماعة واالعتراف بها‬ ‫التزايد الكبري يف عدد مشاهدي مواقع «تقاسم مواد الفيديو»‬ ‫‪ ،video sharing‬فإننا ندرك أن طريقة «استهالك» الصور‬

‫يف طور التغيري‪ .‬وهذا ال يعني أبدً ا أن استهالك الصور سيقل‪،‬‬ ‫بل عىل العكس‪.‬‬

‫ـــــ‬

‫إذن‪ ،‬ما الذي يجب القيام به تجاه األشخاص الذين‬

‫لم يكتسبوا عادات في مجال استخدام شبكة اإلنترنت حتى‬

‫ندفعهم إلى هذه االستخدامات الجديدة؟‬

‫_ أعتقد أن جزءً ا من الناس ال يتدافع نحو هذا االستهالك‪،‬‬

‫ويجب انتظار قطيعة جيلية (نسبة إىل الجيل) هذا مع تعايش‬

‫عدة طرق من استهالك الصور‪ .‬بكل تأكيد‪ ،‬لن تكون األمور‬ ‫ً‬ ‫تفاوتا‬ ‫مغلقة من هذا الجانب أو ذاك‪ ،‬لكن أعتقد أن هناك‬ ‫هائلاً بني أبناء الجيل الرقمي‪ ،‬واآلخرين!‬

‫ـــــ‬

‫أنحن مشاهدون ومستهلكون أكثر حرية أم على‬ ‫ّ‬ ‫لتعددية اختيار الحوامل‬ ‫العكس نحن خانعون أكثر؛‬ ‫(التلفزيون‪ ،‬واإلنترنت‪ ،‬والحوامل المتنقلة)؟‬

‫_ أعتقد أن االثنني يحدثان معً ا‪ .‬ففي التلفزيون الكالسييك‬

‫فيه الباث واملشاهد‪ .‬ثم إن (فورمات) املواد التلفزيونية‬

‫يوجد نظام من الهيمنة‪ ،‬رغم كل يشء‪ ،‬بني من يَستهلك‪ ،‬ومن‬ ‫يُن ِتج‪ ،‬ومن ينشر‪ ،‬ومن يحدد مواعيد البث‪ .‬فيجب ألاّ ننىس أن‬

‫اإلعالم راسخة بشكل عميق‪ .‬فهناك أشخاص تعودوا عادات‬

‫البيولوجية‪ ،‬ويتحكم يف إيقاع حياتهم املنزلية ووتريتها! فمن‬

‫بسهولة‪ .‬بيد أن األشياء تتحرك بسرعة نسبية‪ .‬فعندما نلحظ‬

‫يمنحهم الحرية‪ .‬لكننا نعرف جيدً ا أن الشركات؛ مثل‪ :‬غوغل‬

‫‪-‬قوالبها‪ -‬ومدوّناتها‪ ،‬وأوقات املشاهدة‪ ،‬كلها تتطور‬

‫تدريجيًّا‪ ،‬لكنها ال تحدث بني عشية وضحاها‪ .‬فعادات وسائل‬

‫متعلقة بمشاهدة التلفزيون منذ عشرين سنة‪ ،‬وال يغريونها‬

‫التلفزيون ظل سنوات طويلة مسيط ًرا عىل ساعة األشخاص‬

‫هذا الجانب يمكن القول‪ :‬إن العرض «التلفزيوين» الجديد‬

‫‪163‬‬


‫إعالم‬

‫وبعض محركات البحث ستقوم بدور حاسم‪ ،‬وستؤثر كثريًا‬

‫يف أنماط االستهالك‪ .‬فأدوات قياس السلوك وتحليله؛ أي ما‬

‫يسمى برصد مالمح مستخدمي اإلنرتنت ومسالكهم يف اإلبحار‬ ‫عرب الشبكة؛ تطرح مشكالت واقعية يف مجال الحرية الفردية‬ ‫واحرتام الحياة الخاصة‪ .‬يجب اإلقرار بوجود رصيد من املعارف‬

‫عن سلوك مستخدمي شبكة اإلنرتنت لم يحلم به حتى مجانني‬ ‫قياس املشاهدة التلفزيونية‪.‬‬

‫ـــــ‬

‫ّ‬ ‫تعددية العروض التي تتيحها شرائط الفيديو‬ ‫هل‬

‫في شبكة اإلنترنت تعلن عن تفوق الصورة على الوسائط‬

‫األخرى؟‬

‫ـــــ‬

‫ً‬ ‫ّ‬ ‫متنوعا حول البرنامج‬ ‫إن التلفزيون يجمع جمهورًا‬ ‫ً‬ ‫التلفزيوني‪ ،‬فيشكل رابطا اجتماعيًّا‪ .‬فهل تنشئ شبكة‬ ‫اإلنترنت شكلاً‬ ‫ً‬ ‫جديدا من الروابط االجتماعية؟‬

‫_ يتضمن الرابط االجتماعي الذي ينشئه التلفزيون كثريًا‬

‫من اإلكراهات‪ .‬فالتلفزيون يقدم الرسالة ذاتها إىل الجميع‬ ‫يف الوقت ذاته‪ ،‬عىل حني يتسم الرابط الذي تنشئه اإلنرتنت‬

‫بمرونة أكرث منه‪ ،‬مع جماعات سريعة االندثار تستند إىل‬

‫وشائج تسمح لألفراد بمغادرتها وقتما يشاءون‪ .‬إنّ هذا الرابط‬

‫يمنح الشعور بالحرية‪ .‬بالطبع إنّ عائق هذه الحرية يكمن يف‬

‫هشاشة الرابط االجتماعي‪ ،‬وضعف التضامن‪ ،‬ومخاطر عزل‬

‫_ ال أعتقد ذلك‪ .‬أظن ببساطة أن شبكة اإلنرتنت لم تكن‬

‫األعضاء الضعيفة‪ .‬فيمكن أن نكون أمام وضعيات ال يملك‬

‫يتمثل يف بطء تدفق البيانات ومختلف التطبيقات؛ ألنه لم‬

‫عىل الجماعة االجتماعية‪ .‬لكن يمكن القول اليوم‪ :‬إن شبكة‬

‫مدة طويلة وسيلة متعددة الوسائط بالكامل؛ بسبب بسيط‬ ‫يكن من السهل إنتاج صور متحركة وتوصيلها إىل املعنيّني‪ .‬لكن‬

‫ما نشاهده اليوم من سرعة تدفق البث‪ ،‬واستخدام األلياف‬ ‫البصرية‪ ،‬وتطبيق عدة برمجيات؛ مثل‪ :‬الربامج املتعلقة‬

‫بالصورة‪ ،‬وكل تقنيات الضغط عىل البيانات وتحجيمها‪،‬‬ ‫ومختلف التطبيقات الجديدة التي تقلل من حجم البيانات يف‬

‫‪164‬‬

‫عدد من اإلكراهات‬

‫الصفحات‪ ،‬تجعل الصورة املتحركة تأخذ املكانة التي تحتلها‬ ‫بقية الوسائط‪ .‬إن شبكة اإلنرتنت أصبحت أداة ذات وسائط‬ ‫متعددة بمعنى الكلمة‪ ،‬تجمع الصوت والصورة والنص‬

‫عال‬ ‫واإلنفوغرافيا والتفاعلية‪ ،‬وتتيح تحميل امللفات بتدفق‬ ‫ٍ‬ ‫ومنتظم‪ ،‬أي أن هناك كل األشياء التي ُتحَ وّل بعمق طبيعة‬

‫فيها الناس أي سبب للعيش معً ا؛ مما يطرح مشكلة حقيقية‬

‫اإلنرتنت ال تزيل الرابط االجتماعي‪ ،‬بل تمنح األشخاص إمكانية‬ ‫التحكم فيه أكرث من الوقت السابق‪.‬‬

‫ـــــ‬

‫هل تعتقدون أن منصات التشارك في شرائط‬

‫الفيديو‪ ،‬التي يكون فيها المستهلك منتجً ا ومبتكرًا‪ ،‬تملك‬

‫مقومات البقاء واالستمرارية؟‬

‫_ نعم‪ ،‬بكل تأكيد‪ .‬إننا نعيش اآلن بروز هذه املنصات‬

‫ممثلة يف كثري من املواقع؛ مثل‪« :‬دييل موشن» و«اليوتيوب»‬

‫اإلبداع‪ .‬أعتقد أنه سيتم الطعن يف فكرة التعارض بني النص‬

‫والصورة بفضل هذه العُ دّ ة التقنية التي تجمعهما بشكل‬

‫دينامييك أكرث من الورق والتلفزيون‪.‬‬

‫في التلفزيون الكالسيكي يوجد نظام‬ ‫من الهيمنة‪ ،‬على حين يمنحنا العرض‬ ‫«التلفزيوني» الجديد الحريةَ‬

‫شروط نقد الصورة‬ ‫قال أستاذ علم اجتماع امليديا جون لوي ميسيكا‪« :‬إن التعارض املوجود بني الكلمة واملكتوب «هو تعارض بني ما‬ ‫هو مُ َخ ّزن وما هو متدفق‪ .‬وهذا ينطبق عىل كل أشكال االتصال؛ أي ينطبق‪ً ،‬‬ ‫أيضا‪ ،‬عىل الصورة‪ .‬إذن الصورة املخزنة‬

‫يف شبكة اإلنرتنت التي يمكن مشاهدتها أكرث من مرة‪ ،‬وال «تستهلك»‪ ،‬أو تتالىش يف سريانها املتدفق كما هي حالها‬

‫يف جهاز التلفزيون‪ ،‬تخلق شروط نقد الصورة بقوة أكرث مما كان ممك ًنا مع التلفزيون؛ لذا يجري التنديد بالتالعب‬ ‫ً‬ ‫مألوفا لتكراره‪ ،‬وشجب اختالق الصور املزيفة يف شبكة اإلنرتنت‪.‬‬ ‫بالصورة‪ ،‬وبما تمارسه من التضليل‪ ،‬الذي أصبح‬ ‫ولفت إىل أننا «نملك إمكانية املقارنة بني كثري من الصور‪ ،‬وفحصها وتحليلها‪ .‬إذن يمكن معاينة كل املشكالت ذات‬

‫الصلة بالتالعبات بالصور‪ .‬وبهذا نقرتب من املقاربة التي تكون فيها الصورة املتدفقة شبيهة باالتصال الشفوي‪ ،‬عىل‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫أسايس يف اإلنرتنت‪،‬‬ ‫الكتابة‪ .‬أي مع إمكانيات التخزين‪ ،‬واملقارنة والنقد‪ ،‬سيحدث تح ّول‬ ‫املخزنة‬ ‫حني تشبه الصورة‬ ‫ّ‬ ‫يرتبط بالسهولة التي يمكن بوساطتها مقارنة صورة بأخرى»‪.‬‬

‫العددان ‪ 482 - 481‬صفر ‪ -‬ربيع األول ‪1438‬هـ ‪ /‬نوفمبر ‪ -‬ديسمبر ‪2016‬م‬


‫جون لوي ميسيكا‪ :‬اإلنترنت ال تزيل الرابط االجتماعي‪ ،‬بل تمنح األشخاص إمكانية التحكم فيه‬

‫التي تعاين صعوبات يف العثور عىل أنموذج اقتصادي مناسب‬ ‫له مقومات االستمرارية‪ .‬لكننا نرى بكل وضوح إىل أين تتجه‬ ‫هذه املنصات‪ ،‬مع إمكانية إنتاج األشخاص شرائط الفيديو‪،‬‬ ‫واالشرتاك يف إنتاجها‪ .‬هناك فرص جديدة الختيار املنتجات‬

‫التي هي يف طور التطور والربوز ‪-‬الكتالوغات االجتماعية عىل‬ ‫سبيل املثال‪ -‬وذلك ألن هناك بعض شرائط الفيديو ال يُشاهَ د‬

‫يف ظل تضخم تعداد ما هو معروض من شرائط يف هذه‬ ‫املواقع؛ لذا يجب إيجاد وسائل تسمح بربط إمكانية الجميع يف‬

‫«االستهالك» بإجراءات انتقاء شرائط الفيديو‪ ،‬مع وضع سلم‬ ‫لرتتيبها وتسلسلها‪ .‬توجد ثالثة أنواع من اإلجراءات؛ إجراءان‬

‫منها متاحان‪ ،‬وهما‪ :‬محركات البحث‪ ،‬ومنح مستخدمي‬

‫اإلنرتنت درجة لكل شريط فيديو‪ .‬ويجب البحث عن اإلجراء‬ ‫الثالث يف األنموذج االقتصادي‪ ،‬أي جعل محرتيف العمل‬ ‫التلفزيوين يشاركون يف االختيار والنشر‪.‬‬

‫ـــــ‬

‫ـــــ‬

‫هل يملك التلفزيون التقليدي مستقبلاً مزدهرًا؟‬

‫_ نعم بكل تأكيد‪ ،‬لكن ما سيحدث هو أن اإلنرتنت‬

‫ستبتلع التلفزيون‪ ،‬كما هي الحال اآلن‪ ،‬واإلذاعة‪ ،‬والصحافة‬ ‫املطبوعة‪ .‬سيكون هناك تلفزيون يف شبكة اإلنرتنت‪ .‬والذين‬

‫يريدون متابعة النموذج التقليدي للتلفزيون بشبكة برامجه‬ ‫ً‬ ‫سلفا‪ ،‬أو املوجهة بخوارزمات‪ ،‬يمكنهم‬ ‫التي يعدها غريهم‬

‫فعل ذلك‪ ،‬وسيمنحون األدوات لتحقيق ذلك‪ .‬سيظل‬

‫االستهالك الساكن والسلبي للتلفزيون قائمً ا‪ .‬استهالك الصور‬ ‫املريح والبطيء عرب إجراءات الربمجة التلفزيونية املعهودة‪.‬‬

‫ـــــ‬

‫هل يمكن حدوث التواؤم الدائم بين الحاملين؟ إن‬

‫قناة التلفزيون الفرنسي األولى‪ ،‬على سبيل المثال‪ ،‬مالكة‬

‫منصة التشارك في شرائط الفيديو المسماة‪« :‬وات تيفي»‬

‫وهي تعمل على بث شرائط الفيديو التي ينتجها الهواة عبر‬ ‫شاشتها‪ .‬فهل يمكن تعميم هذه المبادرة؟‬

‫هل التهافت على فرص اإلنتاج الجديدة سيتواصل‬ ‫أم أن نطلب من اإلنترنت أن يكون ً‬ ‫ً‬ ‫جديدا من استهالك‬ ‫نمطا‬

‫_ ال أعتقد أنه من املمكن أن يجري األمر بهذا الشكل‪ .‬إن‬ ‫«وات تيفي» فكرة لطيفة فعلاً ‪ ،‬لكن ولع مستخدم اإلنرتنت‬

‫_ أعتقد أنه سيستمر وسيصبح شبه حريف‪ .‬فما نلحظه‬

‫عرب قناة تلفزيونية كربى؛ ألن ما يبث عرب القناة التلفزيونية‬

‫موسوعة «الويكيبيديا» باملواد‪ ،‬عىل حني يوجد ‪ 90‬يف املئة من‬

‫الجماعة واالعرتاف بها‪ .‬بينما يمكن لهذا األنموذج أن يتحقق‬

‫شرائط الفيديو؟‬

‫اليوم أنه يوجد ‪ 10‬يف املئة فقط من املساهمني يف تغذية موقع‬ ‫مستهلكيها‪ .‬وستزداد الفرصة يف املستقبل بفضل املنظومة‬ ‫التقنية‪ ،‬املساهمة يف التحرير واالطالع عىل املواد‪ .‬لكن ستظل‬

‫أغلبية مستخدمي هذه املوسوعة من املطلعني عىل محتوياتها‬

‫بكل تأكيد‪.‬‬

‫بشرائط الفيديو يف هذه املنصة ال يدل عىل أنه سيشاهدها‬

‫ال يتناسب مع ما نبحث عنه يف شبكة اإلنرتنت‪ ،‬أي تشكيل‬ ‫يف مجال اإلنتاج‪ ،‬وفق منطق رصد الكفاءات‪ ،‬مع منتجي‬

‫التلفزيون الذين يستطيعون متابعة الفنانني يف شبكة‬

‫اإلنرتنت‪ ،‬واختيارهم‪ ،‬واالقرتاح عليهم إنتاج أعمالهم‪ .‬هذا هو‬ ‫األنموذج الذي أومن به‪.‬‬

‫‪165‬‬


‫سينما‬

‫المخرج السوري قال‪:‬‬ ‫إن السينما في البلدان‬ ‫العربية ليست في أفضل‬ ‫حاالتها اليوم‬

‫محمد‬ ‫ملص‪:‬‬

‫‪166‬‬

‫عثرات التجربة وانكساراتها‬ ‫ال تعود للسينما إطالقً ا‬ ‫إنما لكل أشكال القمع‬ ‫الذي واجهناه‬

‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬


‫حوار‪ :‬عبدالكريم قادري‬

‫ناقد جزائري‬

‫يتحدث المخرج السوري الكبير محمد ملص (‪1945‬م‪ )-‬لـ«الفيصل»‪ ،‬عن أهم المحطات‬ ‫التي ميّزت تجاربه السينمائية‪ ،‬وعن عثراتها ومنعطفاتها وانكساراتها التي ال تعود للسينما‬ ‫ً‬ ‫إطالقا حسب قوله‪ ،‬بل لكل أشكال القمع التي واجهها رفقة جيل كامل من السينمائيين‪.‬‬ ‫ويقدم نظرته لمختلف مدارس السينما ومناهجها‪ .‬كما يتطرق إلى أحالم المدن العربية‬ ‫وكوابيسها‪ .‬ويعود إلى فلمه المختفي «البحث عن عائدة» الذي أخرجه في تونس بمناسبة‬ ‫خمسينية نكبة فلسطين‪ ،‬لكنه لم ير النور إلى اليوم‪ .‬في هذا الحوار ّ‬ ‫يقدم مفهومه عن اإلبداع‬ ‫الذي يراه طاقة كامنة ال بد أن تفجرك أو تفجرها‪ .‬وتحدث عن فساد األنظمة وقمعها‪ ،‬عن‬ ‫الذات وأوجاعها‪ ،‬عن اإلنتاج ومصاعبه‪ .‬هي طاقة البوح التي يمتلكها المخرج محمد ملص‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫خص «الفيصل» بشيء من فيوضاتها في هذا الحوار الذي قال فيه الكثير والكثير‪ ،‬سواء‬ ‫التي‬ ‫عن تجربته كمخرج أو كمثقف عربي‪ .‬إلى نص الحوار‪:‬‬ ‫• قبل أن أغوص يف تجربتك السينمائية دعني اً‬ ‫أول أسألك‬

‫ولم تتحول لدى هذه البلدان إىل حالة عضوية يف حياة هذا‬

‫التاسعة من مهرجان وهران الدويل للفلم العربي‪ ،‬شاهدت‬ ‫‪ 12‬فلمً ا روائيًّا طويلاً يف املسابقة الرسمية‪ ،‬وشاهدت العديد‬

‫البلدان؛ كل منها يسعى ألن يختلف يف األسس التي تقوم‬

‫عليها اختياراته وتميزه‪.‬‬

‫هناك ما يجعلك تطمنئ عىل واقع السينما العربية؟‬

‫ً‬ ‫بعضا منها يحاول‬ ‫القضايا الراهنة التي يعانيها املجتمع؛ وأن‬

‫بحكم رئاستك للجنة تحكيم الفلم الروايئ الطويل بالدورة‬

‫من األفالم األخرى خارجها‪ ،‬وكلها إنتاجات حديثة وجديدة‬ ‫نسبيًّا‪ ،‬يف ضوء هذا كيف ُتقيم هذه األفالم بشكل عام؟ وهل‬

‫املجتمع‪ .‬كذلك فإن املهرجانات السينمائية العديدة يف هذه‬

‫لكني أؤكد أن مشاهديت األفالم املشاركة؛ يدفعني إىل أن‬ ‫ً‬ ‫انخراطا كليًّا يف‬ ‫أقول‪ :‬إن السينما يف البلدان العربية تنخرط‬

‫‪ -‬إن أكرث ما يلفت النظر يف اختيارات املهرجان لهذه‬

‫بانخراطه هذا أن يمتلك الحرية يف التعبري عن وجهة نظره؛‬

‫املقول الذي تسعى له؛ واألفكار التي تقدمها للمشاهد يف هذه‬

‫ذلك الفلم املغربي «مسافة ميل بحذايئ» لسعيد خالف؛‬

‫األفالم االثني عشر؛ إضافة لكونها أفالمً ا حديثة وجديدة؛ هو‬ ‫البلدان العربية‪ .‬فاألفالم املشاركة بمجملها تتناول القضايا‬ ‫الراهنة التي يعانيها البلد العربي الذي ينتمي له الفلم؛ وهي‬

‫تحاول أن تعرب عما يواجهه اإلنسان يف هذا املجتمع‪.‬‬

‫ويشحن لغته بطاقة وجدانية عميقة ومجددة؛ كمثال عىل‬

‫أو الفلم التونيس «خسوف» لفاضل الجزيري املعروف‬ ‫ً‬ ‫بعضا‬ ‫بعراقته وتجديده يف تجاربه اإلبداعية املتعددة‪ .‬كما أن‬

‫آخر من هذه يف سعيه إىل الواقعية الذاتية؛ فإنه يلتهب‬

‫أعتقد أن األفالم التي اختريت يف أي مهرجان سينمايئ؛‬

‫باملصداقية والوفاء لحركة الواقع‪ ،‬وموقفه الصادق مما‬

‫حال السينما يف البلدان املشاركة‪ .‬فكل مهرجان يسعى‬

‫خليل‪ .‬بالتأكيد ال يمكن تجاهل أن بعض هذه البلدان يعاين‬ ‫أحوالاً صعبة ودموية؛ وهو ما يرتك أثره يف نوع وكم وأثقال‬

‫يمكن للفلم أن يعرب عنها‪ .‬وبخاصة أن السينما يف البلدان‬

‫أن ينجو بنفسه من الهم التعبوي؛ الذي قد يطيح بالسينما‬

‫تشري وتدل عىل األهداف واملبادئ التي يقوم عليها هذا‬ ‫ً‬ ‫ودقيقا عن‬ ‫املهرجان‪ .‬وال يمكن أن تعطي تصورًا موضوعيًّا‬

‫نحو تصور وأهداف قد تتغلب عىل الجوانب املختلفة التي‬ ‫العربية ليست يف أفضل حاالتها اليوم‪ .‬وهي سينما ال تقوم‬

‫لدى كل البلدان العربية عىل أسس السوق باستثناء مصر‪.‬‬

‫أفالمي ليست ثورية؛ وهي أفالم‬ ‫معبرة عن الواقع بصدق وبلغة تطمح‬ ‫للتجديد في لغة التعبير وفي السرد‬

‫يعيشه مجتمعه كما يف الفلم املصري الجميل «نوارة» لهالة‬

‫األفالم املتحققة يف هذه البلدان التي ال يستطيع السينمايئ‬ ‫جانبًا‪ .‬كما أن سقوط بعض األنظمة أتاح لسينمائيني آخرين‬

‫إمكانية تناول حكايا لم يكن من املمكن تناولها من قبل؛‬ ‫كالفلم العراقي «صمت الراعي» لرعد مشتت‪ ...‬وعىل الرغم‬

‫من التقليدية يف األساليب التي يقدمها بعض هذه األفالم‬ ‫فال بد من اإلشارة إىل أن من كان يصعب عليه التجديد يف‬ ‫املوضوع الذي يتناوله؛ فقد استطاع أن يصوغ لنفسه أسلوبًا‬

‫وطريقة لتناول موضوع مألوف؛ ببناء سينمايئ جديد من‬

‫‪167‬‬


‫سينما‬

‫نوعه؛ والتعبري بلغة خاصة كما يف الفلم الجزائري‬ ‫«البرئ» للطفي بوشويش‪ .‬ال بد يل من اإلشارة ً‬ ‫أيضا‬

‫بتقدير كبري للحداثة اللغوية يف فلم «خسوف» التي‬ ‫تضيف للسينما التونسية ً‬ ‫ألقا إضافيًّا؛ كما أن فلم‬

‫«مسافة ميل بحذايئ» املغربي يدل من جديد عىل‬

‫النهضة الصريحة يف السينما املغربية محتوى ولغة‪.‬‬

‫• نعود إىل تجربتك السينمائية‪ ،‬فعىل الرغم‬

‫من تكوينك األكاديمي (خريج معهد السينما يف‬

‫ً‬ ‫خصوصا يف الشق الفني‬ ‫موسكو)‪ ،‬فإن هذا التكوين‬

‫ال نجده يف أفالمك‪ ،‬فمعظمها إن لم أقل كلها جاء‬ ‫ثوريًّا‪ ،‬فكنت مُ جد ًدا فيها عىل مستوى البناء السردي‬ ‫وحتى الفكري‪ ،‬فمثلاً نرى أن هناك تداخل الوثائقي‬ ‫يف الروايئ والعكس صحيح‪ .‬هل هي قناعة شخصية‬ ‫بوُجوب أن يكون املخرج مجد ًدا‪ ،‬أو أن األمر ال يعدو‬ ‫أن يكون مجرد صدفة وضرورة صنعها موضوع كل‬

‫فلم عىل حدة؟‬

‫‪ -‬أود يف البداية طاملا أشرت إىل التكوين األكاديمي؛‬

‫نظ ًرا لكوين أعتز وأقدر كوين درست يف هذا املعهد‪،‬‬

‫‪168‬‬

‫وتتلمذت عىل يدي املعلم إيغور تاالنكني؛ أن أستعيد‬ ‫الفكرة الجوهرية التي قالها يل هذا املعلم بعد خمس‬

‫سنوات من التتلمذ‪ ،‬وعشية تخرجي‪« :‬هل تعتقد أين‬

‫علمتك كيف تصنع فلمً ا؟! ال! خالل هذه السنوات الخمس‬

‫‪ -‬ليس هناك وصفة سحرية باملعنى املهني لإلبداع‬

‫كيف تعرب عنها»‪ .‬فكيف لنا أن نتساءل عن تكويني األكاديمي‬

‫كامنة ال بد أن تفجرك أو تفجرها؛ وهي تبقى كامنة تبحث عن‬

‫كنت أحاول أن أدربك عىل أن تعرف نفسك؛ وأن تكتشف‬ ‫ومدى وجوده يف أفالمي؟!‬

‫السينمايئ أو غريه يف مجاالت اإلبداع األخرى‪ .‬اإلبداع طاقة‬

‫منفذ؛ وال بد للموهبة والثقافة والحرفية ليك تنطلق‪ .‬بعدها‬

‫أنا أختلف معك يف هذا الفصل بني الشق الفني‬

‫تأيت التجربة واملمارسة يك تتطور هذه الطاقة‪ ...‬االختالف‬

‫بالنسبة يل السينما وحدة بذاتها؛ والفلم لغة ومحتوى إما‬

‫الرؤية‪ ،‬أي البصر والبصرية ثم اإلحساس بما يعيشه أو ما‬

‫والتجديد يف البناء والسرد والرسالة التي يحملها الفلم‪.‬‬ ‫أن يكون أو ال يكون‪ .‬ليس هناك فلم ثوري ولغة غري ثورية‪...‬‬

‫أفالمي ليست ثورية؛ وهي أفالم معربة عن الواقع بصدق‬

‫وبلغة تطمح للتجديد يف لغة التعبري ويف السرد؛ هذه‬ ‫قناعة وانتماء إبداعي للسينما وللعصر وللمجتمع؛ وليس‬ ‫هناك يف السينما أي يشء ‪-‬سواء لدي أو لدى غريي– يخضع‬

‫للصدفة‪ .‬وهي تشري بشكل عام إىل أن املخرج يمتلك مشروعه‬

‫السينمايئ الذي يسعى لتحقيقه فلمً ا بعد اآلخر‪.‬‬ ‫يف وعي ما يعيشه املجتمع ويعانيه‬

‫• ما الشروط الضرورية التي يجب توافرها يف املخرج‬ ‫ً‬ ‫مختلفا عن اآلخرين؟ وما الوصفة الفنية السحرية‬ ‫حتى يكون‬ ‫التي تجعل املخرج من األوائل؟‬

‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬

‫الوحيد بني املخرج وغريه‪ ،‬إضافة ملا ذكرته؛ هو القدرة عىل‬ ‫يراه‪ ،‬وما يعانيه هو خالل حياته وتجربته يف وعي ما يعيشه‬

‫مجتمه وما يعانيه‪.‬‬

‫ً‬ ‫وتحديدا إىل فلم «أحالم املدينة»‬ ‫• بالعود إىل سينماك‪،‬‬

‫املُنتج سنة ‪1984‬م‪ ،‬أال تلحظ أن الهم اإلنساين واالجتماعي‬

‫والسيايس وحتى الفكري الذي الحق الصبي «ديب» أحد‬

‫أبطال الفلم ومدينة دمشق يف الخمسينيات‪ ،‬ال يزال يالحق‬

‫«مُ دننا» اليوم؛ إذ تكاثر هذا الـ«ديب»‪ ،‬تعدد‪ ،‬تمدد وتناسل‪،‬‬ ‫وأصبح يف كل زاوية‪ ،‬هل هي نبوءة؟ وهل فعلاً «ديب»‬

‫وأحالم املدينة وكوابيسها يمكن إسقاطها اليوم عىل واقعنا؟‬

‫‪ -‬هذه قراءة معاصرة للفلم؛ وهي رؤية صائبة‪ .‬لكن‬

‫األمر ليس نبوءة بقدر ما هو رؤية للواقع؛ واستبصار قضاياه‬


‫محمد ملص‪ :‬عثرات التجربة وانكساراتها ال تعود للسينما إطالقً ا‬

‫الرئيسة واألساسية؛ والتوجه نحوها والتعبري عنها بشجاعة‬

‫كنقاد سينما أن ُنصنف تجربتك يف مدرسة «سينما املؤلف»‬

‫بالتحديد بلدي سوريا ‪ -‬هي التي ال تتطور وال تتغري؛ وكأنه‬

‫تجربتك السينمائية؟‬

‫وصدق‪ .‬وجوهر األمر أن البلدان العربية ‪ -‬طبعً ا أقصد هنا‬ ‫ليس هناك من يسمع أو يرى أو يقرأ‪ .‬وهذا ال يعني اإلنسان‬ ‫الفرد يف هذه املجتمعات؛ فهو يكفيه أنه يكتوي من فسادها‬

‫وظلمها وغياب العدالة؛ املشكلة يف السلطة الحاكمة التي‬ ‫ال تريد ليشء أن يتغري‪ .‬اليوم نحن نحصد النتائج أكرث بكثري‪.‬‬ ‫إن الشفافية والصدق والشجاعة يف التعبري هي التي تعطي‬ ‫البصرية إمكانية أن يستطيع الفلم العيش طويلاً ‪ ،‬وأن يمتلك‬

‫راهنيته دون أن يشيخ؛ أو أن يكون صفحة من املايض وفقط‪.‬‬

‫• نوستالجيا املدينة والحواري والطفولة ومرتع الصبا‪،‬‬

‫أو الذات حاضرة بقوة يف كل أفالمك تقريبًا‪ ،‬وكل مرة‬

‫تتشكل بقالب‪ ،‬وتتلون بلون‪ ،‬حتى صار بمقدورنا نحن‬

‫كلما زادت الدولة كمنتج في تضييق‬ ‫مسافة الرقابة‪ ،‬واستشرست في‬ ‫التمسك بتحقيق ما تريده من‬ ‫السينما؛ ازددت تمسكا بالحرية في‬ ‫التعبير عن نفسي‬

‫بكل اطمئنان‪ ،‬ما مدى تقارب هذا املفهوم وانعكاسه يف‬ ‫‪ -‬لنكن أكرث وضوحً ا؛ فتعبري «سينما املؤلف» بالنسبة يل‬

‫يعود بشكل أساس ملفهوم السينما الذي تشكل يف داخيل‪،‬‬ ‫والقائم عىل التعبري عما «عشته أو تتمنى أن تعيشه أو تخاف‬ ‫من أن تعيشه» حسب تعبري تروفو! سينما املؤلف ليست أن‬ ‫تكتب السيناريو وتخرج الفلم كما يظن البعض‪ .‬سينما املؤلف‬

‫هي أن تعرب عن إحساسك ومعايشتك وأحالمك من خالل‬ ‫انتمائك للمجتمع الذي تعيشه‪ .‬وهي ليست خيارًا شكليًّا أو‬ ‫تقنيًّا؛ هي اختيار سينمايئ بحت؛ يقوم عىل الهارموين العايل‬ ‫بني الشكل واملضمون؛ وشحن الفلم بطاقة وجدانية؛ أي‬

‫تكتب بالضوء وبالكامريا‪ .‬لذلك ويف كثري من املرات كنت أرفض‬ ‫ً‬ ‫محرتفا يخرج من فلم ويدخل يف آخر‪.‬‬ ‫ان أعد نفيس سينمائيًّا‬

‫والتعبري هو حاجة حني تغيب يغيب الفلم‪ ...‬لهذا ال بد من أن‬ ‫يحضر الحنني والطفولة والذات‪.‬‬ ‫لحظة تتألق فيها السينما‬

‫• يف آخر أفالمك السينمائية «سلم إىل دمشق»‪ ،‬نرى‬

‫يف الفلم الواحد تداخل العديد من األشكال الفنية‪ ،‬من‬

‫مسرح‪ ،‬وشعر‪ ،‬وتشكيل‪ ،‬وغرافيك‪ ،‬كيف استطعت أن‬

‫الرئيس التونسي يمنح محمد ملص الوسام الوطني لالستحقاق‬

‫‪169‬‬


‫سينما‬

‫األمر هو ليس تطويع األشكال األخرى لصالح السينما؛ إنما‬

‫العثور عىل اللحظة التي تتألق فيها السينما لتكون يف لحظة‬

‫ما شع ًرا أو لوحة‪ ...‬والتعامل مع هذا التألق بحساسية ودقة؛‬ ‫بحيث يتغلب عىل نفسه ويندجم يف السينما بتوافق يف اللحظة‬

‫واملقدار املناسبني‪ .‬السينما هي األم لهذه الفنون؛ عليك أال‬ ‫تضحي بها من أجل أوالدها؛ وال تضحي بأوالدها من أجلها‪.‬‬

‫• لديك تجارب ناجحة ًّ‬ ‫جدا يف تحقيق األفالم‪ ،‬عىل رغم‬ ‫هذا تبقى مقلاًّ يف إنتاجك‪ ،‬آخر أفالمك «سلم إىل دمشق»‬ ‫املنتج قبل أكرث من ثالث سنوات‪ ،‬ما األسباب التي تحول دون‬

‫تحقيق مشروعاتك السينمائية ؟‬

‫‪ -‬التباعد املنطقي بني فلم وآخر؛ أي سنتني أو ثالث؛‬

‫يعود يل وللمشروعات التي أعتزم تحقيقها؛ لكن املشكلة‬ ‫الجوهرية بالنسبة يل تعود لإلنتاج الغائب‪ .‬يف سوريا ليس‬

‫هناك إنتاج خاص؛ كما ليس هناك حرية إبداعية‪ .‬املنتج‬

‫الوحيد للسينما يف سوريا هي الدولة؛ وهي جهة إنتاجية‬

‫تمول املشروعات التي يمكن أن تخدم أهدافها فقط‪ .‬وأنا منذ‬ ‫أواخر التسعينيات لست عىل وفاق معها فيما أريد تحقيقه‪.‬‬

‫‪170‬‬

‫ُتطوّع هذه الفنون تحت مظلة السينما؟ وهل السينما قادرة‬

‫لذلك لجأت إىل محاولة التأسيس لسينما مستقلة؛‬ ‫ً‬ ‫بعضا من مشروعايت السينمائية‪ .‬لكن‬ ‫واستطعت أن أحقق‬

‫عىل استيعاب الفنون اآلخرى دون أن تمس جوهرها وقيمتها‬

‫كان هذا يتطلب املزيد من الوقت لتأمني اإلنتاج‪ .‬طبعً ا لم‬

‫‪ -‬لست أنا املكتشف لهذا االستخدام؛ فما أسعى لتحقيقه‬

‫واستطالت زمنيًّا؛ حيث إن الدولة كمنتج زادت يف تضييق‬

‫التاريخية؟‬

‫هو نموذج من النماذج العديدة املعمولة يف السينما‪ .‬األمر يف‬

‫جوهره ينطلق من مفهومك للسينما؛ والحاجة املستمرة دائمً ا‬ ‫لتجديد وتطوير اللغة واألسلوب وإمكانيات التعبري‪ .‬وكما هو‬ ‫يف التأثريات املتبادلة يف وسائل ومجاالت التعبري الثقافية‬ ‫كلها؛ سواء يف األدب أو املسرح أو املوسيقا‪ .‬كما أن هذا يعود‬

‫أساسً ا إىل أن السينما بحد ذاتها فن يتضمن هذه الفنون يف‬

‫أستطع أن أحقق أكرث من ذلك‪ .‬ثم جاءت األحداث الراهنة‬ ‫مسافة الرقابة؛ واستشرست يف التمسك بتحقيق ما تريده‬ ‫ً‬ ‫تمسكا بالحرية يف التعبري عن‬ ‫من السينما‪ .‬وأنا ازددت‬ ‫نفيس‪ .‬إضافة لصعوبة إمكانيات التصوير والحركة خالل‬

‫هذه الظروف‪ .‬اليوم ال أحتاج لزمن لكتابة مشروعايت؛ ولدي‬ ‫أكرث من ثالثة مشروعات قابلة للتنفيذ؛ لكن ليس هناك‬ ‫إنتاج لتحقيقها‪ .‬كما أين لم أعد راغبًا بعد هذه التجربة‬

‫عضويته‪ .‬فطاملا أن الكلمة موجودة يف السينما فلماذا ال يمكن‬

‫الطويلة من العمل بأن أطرح مشروعايت عىل الصناديق‬

‫صورة وضوء؛ فلماذا ال تسمو إىل مستوى التشكيل؛ وهكذا يف‬

‫أن تكتب املشروع ثم ترتجمه وتعد امللف املتعدد الجوانب؛‬

‫أن يتألق الكالم إىل مستوى األدب أو الشعر‪ .‬وطاملا أن السينما‬

‫املوسيقا والغرافيك وغريهما من أشكال التعبري الفني‪ .‬جوهر‬

‫إن الشفافية والصدق والشجاعة‬ ‫في التعبير هي التي تعطي‬ ‫البصيرة إمكانية أن يستطيع الفلم‬ ‫العيش طويال وأن يمتلك راهنيته‬ ‫دون أن يشيخ‬

‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬

‫الداعمة‪ ،‬أو اعتماد الطريق الكالسييك لإلنتاج األوربي؛ أي‬ ‫ثم تنتظر منتجً ا ثم داعمً ا ثم ثم‪ ...‬فهذه هي الحال حاليًّا‪.‬‬

‫يضاف لذلك أن مشروعي السينمايئ يتناول مجتمعي يف‬ ‫حاله العام وقضاياه الرئيسة؛ ال أعتقد اليوم أن هذا هو ما‬

‫يهم اإلنتاج األوربي‪.‬‬

‫• تجربتك السينمائية امتدت ألكرث من أربعة عقود من‬

‫الزمن‪ ،‬مررت من خاللها بالعديد من األحالم والكوابيس‪،‬‬ ‫الفرح واأللم‪ ،‬لكن عىل العموم كانت من أهم تجارب السينما‬ ‫العربية‪ ،‬وبعد كل هذا‪ ،‬من املؤكد أنك بت تملك نظرة للسينما‬


‫محمد ملص‪ :‬عثرات التجربة وانكساراتها ال تعود للسينما إطالقً ا‬

‫عىل عمومها‪ ،‬فهل هناك إمكانية أن تقدم للجمهور ونقاد‬

‫بنشر املفكرات اليومية لهذه التجربة بسينمائيتها ويومياتها‬

‫ ليست تجربتي تجربة منفردة؛ هي تجربة جيل بأكمله يف‬‫كل قضايا الثقافة ومنها السينما ً‬ ‫أيضا؛ سواء يف سوريا أو أي‬

‫لحظات الفرح كانت قليلة‪ .‬لكني أريد أن أؤكد لك وللنقاد‬

‫السينما ُ‬ ‫وصناعها هذه النظرة وتعريفك للسينما؟‬

‫بلد عربي آخر‪ .‬نحن كجيل سينمايئ يف سوريا لم يبق منه كثري؛‬

‫الثقافية والسياسية‪ .‬يف هذه املفكرة ربما سيلحظ القارئ أن‬

‫والقراء أن عرثات التجربة ومنعطفاتها وانكساراتها ال تعود‬ ‫ً‬ ‫إطالقا؛ بل لكل أشكال القمع الذي واجهناه؛ وهذا كان‬ ‫للسينما‬

‫فهناك من رحل إىل العالم اآلخر؛ وهناك من غادر إىل بلد‬ ‫آخر‪ ...‬التجربة التي عشناها؛ فعلاً تجربة غنية ومهمة؛ واملسار‬

‫والتعبري عنهم؛ وبأنها هي «املرآة» التي يقف أمامها الناس لريوا‬

‫للمشروعات التي ال أزال أرغب يف تحقيقها؛ فقد بدأت فعلاً‬

‫وإن هذا االحتياج هو الذي يخيف األنظمة القمعية؛ وهو ما‬ ‫يجعلها تستهدفها أولاً وتستهدف السينمائيني بقمعها لهم‪.‬‬

‫السينمايئ الذي قطعناه سواء بما فعلناه أو بما عجزنا عن‬ ‫ً‬ ‫بسيطا‪ ،‬بل معقدً ا وغنيًّا‪ .‬ربما باإلضافة‬ ‫تحقيقه؛ لم يكن مسارًا‬

‫يؤكد لنا إيماننا بالسينما وقدرة هذه األداة عىل االرتباط بالناس‬

‫ذاتهم‪ .‬وإننا يف هذه املنطقة العربية أكرث احتياجً ا لهذه املرآة؛‬

‫جليلة بكار‪..‬‬ ‫مقدسا فرفضت الحذف‬ ‫رأت نصها‬ ‫ً‬

‫• الفلم بشكل من األشكال بمثابة «االبن» بالنسبة للمخرج‪ ،‬وأنت شخصيًّا‬

‫سبق أن حدثتني عن أحد أفالمك الذي وألسباب ما لم ير النور إىل اليوم‪ ،‬والفلم‬ ‫أُنجز يف تونس‪ ،‬هل يمكن أن تحدثنا عن هذا الفلم والسبب الذي جعله يختفي؟‬ ‫ هذا الفلم كان عبارة عن رد جميل مني للمنتج أحمد بهاء الدين عطية؛ الذي‬‫برحيله املبكر فقدته السينما التونسية والعربية ً‬ ‫أيضا‪ ...‬وهو رد جميل لتلك الجهود التي‬ ‫جمعتنا يف تحقيق املشروعات السينمائية التي كنت أهجس بها آنذاك؛ أي عام ‪1998‬م‪.‬‬

‫وهو كما يدل هذا التاريخ؛ هو الذكرى الخمسني لنكبة فلسطني‪ ...‬يومها كانت املمثلة التونسية القديرة جليلة بكار؛ كتبت ًّ‬ ‫نصا‬

‫مسرحيًّا لهذه املناسبة بعنوان «البحث عن عائدة» وقامت بأدائه كـ «مونو دراما» مسرحية يف بريوت‪ .‬جاء أحمد عطية إىل باريس‬

‫حيث كنت أقوم بمونتاج فلم «فوق الرمل تحت الشمس» واقرتح عيل تحقيق هذا النص سينمائيًّا‪ .‬قرأت النص وشعرت عىل‬

‫رغم ملحوظايت وسذاجة بعض مشاهده؛ بأنها فرصة جميلة لتحقيق «مونو دراما» سينمائية؛ كنوع نادر أو جديد يف السينما‬ ‫العربية‪ .‬بعد أن وافقت عىل هذه املغامرة؛ وأتيت لتونس لتحقيقها؛ وخالل بحثي عن منصة واقعية وذات بعد بصري مهم؛‬

‫فقد عرثت عىل الفيال التي كانت مقرًّا لياسر عرفات وقصفها اإلسرائيليون؛ وتركت بعد القصف عىل حالها آنذاك‪.‬‬ ‫فاتخذت من هذه الفيال املقصوفة منصة رئيسة للفلم‪ .‬كان النص يحيك ً‬ ‫أيضا عن ذاكرة جليلة بكار يف الخمسينيات حيث‬ ‫تحيك برؤية ذاتية عن لحظات من التاريخ التونيس بالعالقة مع نكبة فلسطني‪ .‬فاخرتت سطح باخرة مقبورة عىل شاطئ بنزرت‬

‫منصة لسرد ما يخص اللحظات التونسية‪ .‬يف التصور البصري لهذه الدراما لجأت إىل تغليف كامل الفيال‪ -‬الجثة بالبالستيك‪.‬‬ ‫بهدف شحن هذه املونو دراما بقوة بصرية ومجازية‪ .‬وأخذت أصور اللحظات مع جليلة أمام البالستيك أو وراءه؛ وداخل الفيال‬

‫وخارجها؛ وكل ذلك يف أجواء ليلية تعصف بها رياح البحر املجاورة تمامً ا‪ .‬تم التصوير وكل يشء عىل ما يرام وكما أريد‪.‬‬

‫يف املونتاج وجدت نفيس أمام مشاهد جميلة وقوية وخاصة‪ ...‬كانت املشكلة أن الصورة كانت أقوى من النص ومن الحكاية‪.‬‬

‫لم تكن هذه هي مشكلتي؛ املشكلة بدأت حني قررت دون اإلساءة للنص أو للفكرة؛ هي يف حذف بعض املقاطع التي كانت‬ ‫ً‬ ‫مونولوغا من الواضح أن الصورة‬ ‫الصورة كافية للتعبري عنها بال كالم؛ وال يمكن لسينمايئ يحرتم نفسه أن يستخدم كلمات أو‬ ‫مقدسا ويجب‬ ‫تعرب عنه بوضوح شديد‪ .‬فهذا ييسء إىل العمل كله‪ .‬فاحتجَّ ت جليلة عىل هذا االنتقاص من نصها؛ ورأت نصها‬ ‫ً‬ ‫استخدامه كاملاً ‪.‬‬

‫نظرًا لكون التصوير قد تم قريبًا من البحر؛ فكان ال بد من دوبالج بعض املشاهد التي كان خاللها صوت األداء أضعف من‬ ‫ً‬ ‫شريكا يف إنتاج الفلم‪ .‬لذلك‬ ‫صوت البحر‪ .‬فرفضت جليلة الدوبالج إذا لم أعد استخدام نصها بأكمله فرفضت‪ .‬فقد كانت شركتها‬ ‫بعد أن أنجزت مونتاج الصورة كاملاً ‪ ،‬وكما أريد تركت الفلم وعدت إىل دمشق؛ وبقي األمر عىل هذه الحال حتى اآلن‪.‬‬

‫‪171‬‬


‫سينما‬

‫‪172‬‬

‫وجها لوجه‪..‬‬ ‫الجمهور والكوميدي‬ ‫ً‬

‫مفارقات المضحك لدى‬

‫شارلي شابلن‬ ‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬


‫وجها لوجه‪ ..‬مفارقات المضحك لدى شارلي شابلن‬ ‫الجمهور والكوميدي‬ ‫ً‬

‫عادل آيت أزكاغ‬

‫باحث مغربي‬

‫استعاد رائد السينما الصامتة‪ ،‬الفنان العالمي الكوميدي اإلنجليزي الشهير شارلي‬ ‫شابلن (‪1977 -1889‬م)‪ ،‬في سيرته الذاتية «قصة حياتي» التي ترجمها كميل داغر عن الفرنسية‪،‬‬ ‫وصدرت عن المركز الثقافي العربي‪ ،‬لحظة استثنائية ضمن لحظات أخرى مثيرة وفارقة‪ ،‬أوردها‬ ‫في سياق حديثه عن عرضه التمهيدي ألحد أفالمه‪ ،‬الذي جرى احتضانه في صالة من صاالت‬ ‫إحدى المدن األوربية‪ ،‬حيث تم العرض بشكل خفي ومن دون إعالن؛ ألنه اعتقد أن عمله لم‬ ‫ً‬ ‫طريفا بالقدر الذي كان ُي ِع ّد له هو وزمالؤه في الكواليس قبل عرضه‪ ،‬في أثناء إقامتهم‬ ‫يكن‬ ‫ً‬ ‫ممتعا وال مثيرًا‪.‬‬ ‫تجارب متكررة في مرحلة المونتاج‪ ،‬فانتهى إلى قناعة مفادها أن الفلم ليس‬ ‫ويف ضوء هذا املسار‪ ،‬نلفي شابلن يقدم إشارة مباشرة‬

‫يستعيد فيها لحظة جمعته بالجمهور‪ ،‬وتحمل تصوره‬ ‫الخاص –ككوميدي‪ -‬للجمهور ونظرته إليه يف إطار عالقته به‪،‬‬

‫إذ يعرب يف هذا الصدد عن األزمة التي انتابت حالته النفسية‪،‬‬ ‫ً‬ ‫مفرتضا كيف سيزداد قلقه إذا ثبت أنه أخفق‪،‬‬ ‫وهو يتوجس‬ ‫ثم انتقل بعد ذلك إىل وصف نفسية جمهوره‪ ،‬وشرح ما له‬

‫من مواقف وردود الفعل يف أثناء عملية التلقي‪ ،‬يمكن أن‬ ‫ً‬ ‫أحيانا حاسمة ولها تأثريها الخاص يف الحكم عىل الفلم‬ ‫تكون‬

‫‪173‬‬

‫وفكرته‪ ،‬حكمً ا قد يميس إما إيجابيًّا أو سي ًئا‪.‬‬

‫وعن ردة فعل الجمهور املحتملة‪ ،‬يستعيد شابلن ما اختمر‬ ‫يف ذهنه من تصورات ورؤى بصدد جمهوره‪ ،‬قائلاً ‪« :‬انقبضت‬ ‫يائسا‪ ،‬بانتظار بداية الفلم‪ .‬كان الجمهور‬ ‫معديت فجأة‪ .‬جلست ً‬ ‫يبدو عاج ًزا عن التعاطف مع أي يشء يمكنني أن أقدمه له‪،‬‬ ‫وكنت قد بدأت أشك يف الفكرة التي كنت أكونها عن أذواق‬ ‫الجمهور ورد فعله إزاء الكوميديا (‪ ،)...‬وتبادرت عندئذ إىل‬ ‫ً‬ ‫أحيانا خطأ‬ ‫ذهني الفكرة املريعة‪ ،‬بأنه يمكن أن يخطئ كوميديٌّ‬

‫ميثاق التلقي‪ ،‬يف إطار عالقة املمثل الكوميدي بالجمهور الذي ال‬

‫ذريعً ا يف تصوراته للكوميديا‪ .‬كم أستفظع عروض االفتتاح! كان‬

‫يخلو حضوره من سلطة وجدلية‪ ،‬يضرب لهما الفنان الكوميدي‬

‫(الغالم)‪ .‬وعلت يف القاعة صيحات إعجاب‪ ،‬وتصفيقات مبعرثة‪.‬‬

‫وال ينتهي شعوره بالقلق أو التخفيف منه إال ساعة نهاية العرض‪،‬‬

‫يمكن للمرء أن يقرأ عىل الشاشة‪« :‬شاريل شابلن يف فلمه األخري‬

‫وقد أقلقني رد الفعل هذا‪ ،‬وذكرين بمفارقة غريبة‪ :‬ربما كانوا‬ ‫ينتظرون الكثري‪ ،‬وسيصابون باإلحباط؟» كما يقول هو نفسه‪.‬‬ ‫إحساس بالتوجس‬

‫ألف حساب‪ ،‬حيث يقض االرتباك والحرية والتوجس مضجعه‪،‬‬ ‫كزمن نهايئ يستقر فيه رأي الجمهور وحكمه اإليجابي عىل العمل‬

‫الذي يعرب عنه من خالل التصفيقات والصيحات والضحك‪،‬‬ ‫والتفاعل بمختلف أشكاله وأساليبه التي تفيد معنى التواصل‬

‫اإليجابي‪ ،‬واملشاركة الفعالة مع العمل‪ ،‬وتقبله وفهمه وتذوقه‬

‫وإذا تأملنا إحساس شابلن بالتوجس والقلق يف ظل املحنة‬

‫واإلعجاب به‪ ،‬وال يرتاح بال املبدع الكوميدي إال عندما يطلق‬

‫ألحد أفالمه أمام الجمهور‪ ،‬فإنه ال يخرج يف الغالب عن معنى‬ ‫كونه إحساسً ا عامًّا ومشرت ًكا يتقاسمه كل املمثلني الفكاهيني‪ ،‬من‬

‫الذي يربطه بداية مع الجمهور حني يشركهم يف إبداعه الحامل‬ ‫يف عنوانه تسمية «الفكاهي» أو «الكوميدي» كصفتني للتصنيف‬

‫كذلك نطاق الدور الذي يجب أن تؤديه الفكاهة يف حالة تأكيدها‬

‫بواسطته الكوميدي لقياس درجة نجاح عمله من عدمه‪.‬‬

‫املريعة والشديدة التي تصور أنه سيواجهها يف أثناء عرضه التجريبي‬

‫مخرجني ومؤلفني وغريهم من رواد الكوميديا‪ ،‬كما أنه ال يتعدى‬

‫«الضحك» كعالمة عىل إصابة الهدف كما ينبغي؛ ألنه العقد‬

‫الذي يبني عليه الجمهور توقعه وأفق انتظاره‪ ،‬بمثل ما يهتدي‬


‫سينما‬

‫وإذا كان اإلحساس بالقلق والتوتر شي ًئا عامًّا‬ ‫ومشرت ًكا بني رواد الكوميديا يف السينما واملسرح‪ ،‬ملا‬ ‫للجمهور من خطورة بات يستمدها فيما له من سلطة‬

‫غدا يمارسها يف حضوره خالل العرض الكوميدي‪،‬‬

‫بشقيه املسرحي والسينمايئ؛ فإن شابلن نراه‬ ‫حالة خاصة إىل حد ما من بني هؤالء‪ ،‬ذلك أن‬

‫التوتر والقلق يظالن مالزمني له يف كل عرض‬

‫تمهيدي أو افتتاحي جديدين ألحد أفالمه‪ ،‬إذ‬ ‫يحدثنا يف هذا املجرى عما يحسه من قلق‪،‬‬

‫وما ينتابه من سخط وغضب عىل الناس‬

‫والعالم من حوله‪ ،‬يف أثناء وجوده‬

‫يف إحدى هذه اللحظات الحرجة التي‬

‫يمقتها‪ ،‬من ناحية كونها تشكل له تحديًا‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬ ‫امتحانا عسريًا‪.‬‬ ‫شاقا يبدو فيه َكمَنْ يجتاز‬

‫مفارقة‪ ،‬وهو ما أضفى عىل املشهد طرافة‪ ،‬يف الوقت‬ ‫الذي تحوّلت فيه األشياء إىل مثار للضحك‪ .‬ويف هذا‬

‫اإلطار يقدم لنا شابلن صورة لألشياء التي أدت‬ ‫دورها باملعكوس يف مشهد وصفه قائلاً ‪:‬‬ ‫«تتخىل أم عن طفلها‪ ،‬تاركة إياه يف‬

‫سيارة ليموزين‪ .‬ثم يأيت من يسرق السيارة‬

‫ويرتك الطفل يف األخري قرب مزبلة‪ .‬وعندئذ‬

‫أظهر يف شخص شاريل‪ .‬فتنفجر الضحكات‪،‬‬ ‫وتزداد شي ًئا فشي ًئا‪ .‬كان املشاهدون قد فهموا‬

‫املزحة! مذاك‪ ،‬لم يعد لألمور إال أن تسري سريًا‬ ‫حس ًنا‪ .‬لقد اكتشفت الطفل وتبنيته‪ .‬وقد ضحك‬

‫الناس حني رأوين أخرتع أرجوحة نوم مكونة من‬

‫قماش كيس قديم‪ ،‬وكانوا يصيحون ويزمجرون‬

‫أما املفارقة التي اندهش لها شابلن‪،‬‬

‫وهم يرونني أطعم الطفل بواسطة إبريق شاي عىل‬

‫من وجوم‪ ،‬فقد حدثت خالل لحظة‬

‫يف تقشيش كريس قديم وأضعه فوق وعاء للتربز‪.‬‬

‫وأزالت ما استبد به من قلق وخيم عليه‬

‫جمعته بالجمهور يف صالة أقيم فيها‬ ‫عرض االفتتاح لفلمه «الغالم» الذي‬

‫‪174‬‬

‫استعملت عكس الدور الذي صنعت ألجله‪ ،‬ويف سياقات‬

‫أنتجه سنة (‪1920‬م)‪ ،‬حيث شتتوا ذهنه‬

‫بتصفيقاتهم املبعرثة يف بداية متابعتهم‬

‫ومشاهدتهم للفلم‪ ،‬وهو ما أزعجه يف‬

‫فمه حلمة‪ .‬وانفجروا وهم يشاهدونني أحدث ثقبًا‬

‫ويف الواقع‪ ،‬لم يتوقفوا عن الضحك طيلة‬ ‫الفلم» (قصة حيايت)‪.‬‬

‫املضحك يف املشهد نابع من الطابع‬

‫الخيايل الذي تم إضفاؤه عىل األشياء‬ ‫التي جرى قلبها عىل عكس صورتها‪ ،‬ثم‬

‫أوان تقديمه‪ ،‬معتقدً ا أنه سيخيب ظنهم؛ لكنهم يف لحظة‬

‫استعمالها يف غري محلها كما هو معهود‪ ،‬وهو ما جعلها تتخذ‬

‫وتوقعه السلبي من جمهور غامض‪ ،‬ال يخلو حضوره من تأثري‬ ‫أصابه بارتعاب شديد ّ‬ ‫بث يف نفسه اضطرابًا‪ ،‬وهذا دفعه ليك‬ ‫ً‬ ‫يبدي ًّ‬ ‫شكا ضمنيًّا‪ ،‬عما تخيله سابقا من رؤى وتصورات تخص‬

‫فقدانها وظيفتها األساسية املألوفة التي تمارسها يف الواقع‪ .‬وهكذا‬

‫معينة أبدوا ردة فعل إيجابية تجاه العرض كسرت أفق انتظاره‬

‫أذواق الجمهور وانطباعاته‪ ،‬وعمّا كونه الجمهور باملقابل ً‬ ‫أيضا من‬

‫مواقفه بصدد الكوميديا‪.‬‬

‫هكذا إذن‪ ،‬أزيل شعور شابلن بالقلق‪ ،‬وتحول فجأة إىل‬

‫إحساس بنوع من الرضا واالرتياح‪ ،‬خالل تفاجئه بردة الفعل‬

‫اإليجابية التي انعكست عىل العرض‪ ،‬عندما أثار مشهد الفت‬ ‫اهتمام الحاضرين‪ ،‬وأدركوا معناه املفارق بفهمهم‪ ،‬فانفرجت‬ ‫له أساريرهم‪ ،‬ثم تفجرت ضحكاتهم‪ ،‬وتعالت صيحاتهم مع‬ ‫كل لقطة من لقطات املشهد‪ ،‬وهكذا استمر الضحك يف املشاهد‬

‫الالحقة إىل حدود نهاية الفلم‪.‬‬

‫ً‬ ‫أنموذجا لتجليات املُضحِ ك‬ ‫«الغالم»‬

‫إن من بني ما يثرينا بدورنا يف اسرتجاع حديثنا عن هذا‬

‫املشهد‪ ،‬هو الجانب املضحك ضمنه‪ ،‬الذي تعد األشياء أبرز‬ ‫موضوعاته الرئيسة؛ ألنها اتخذت يف الفلم وضعً ا غريبًا‪ ،‬حني‬ ‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬

‫وضعً ا غريبًا‪ ،‬شوش عالقتنا بها كما شوّه صورتها األصلية‪ ،‬بحكم‬

‫صار املشاهد ينظر إىل الكريس وقد أحدث يف وسطه ثقب‪ ،‬ثم‬ ‫أحيل يف صورته إىل مرحاض‪ ،‬حني فقد مهمته األصلية كيشء‬

‫مخصص للجلوس واالسرتاحة؛ وقماش الكيس القديم تحوّل‬

‫بدوره‪ ،‬فأصبح مكان الغطاء النقي أو املهد املريح‪ ،‬بوصفهما‬ ‫ً‬ ‫سلفا ليك يخلد فيهما إىل الراحة‬ ‫أشياء طبيعية معدة للطفل‬

‫والنوم الهنيء؛ أما الحَ لمة فقد تغريت صورتها لتتبدى يف رأس‬

‫اإلبريق‪ ،‬كما ناب اإلبريق مناب الثدي الطبيعي الذي يتغذى‬ ‫منه الطفل؛ وحلت املزبلة بدورها محل املستشفى أو البيت أو‬ ‫دار الحضانة‪ ،‬ألنها األماكن الطبيعية للوالدة والرعاية والتنشئة‬

‫السليمة لألطفال‪ .‬يف حني يمثل العثور عىل الطفل يف املزبلة‬ ‫شي ًئا يستدعي الغرابة‪ ،‬ويولد يف النفس إحساسً ا باالمتعاض‬

‫واالستهجان وعدم تقبل هذا الوضع‪ ،‬عىل رغم ما قد تحمله‬ ‫اللقطة من إثارة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫إال أن هذه اإلثارة ستزداد عمقا حني يلمح املشاهد اكتشاف‬ ‫شاريل هذا الطفل‪ ،‬حيث سيكون عاملاً يف إثارة مستدعيات‬

‫الجمهور بشأن شخصية شاريل التي ابتكرها شابلن‪ ،‬والفكرة‬


‫وجها لوجه‪ ..‬مفارقات المضحك لدى شارلي شابلن‬ ‫الجمهور والكوميدي‬ ‫ً‬

‫السابقة التي كوّنها عنه من خالل أفالمه الكوميدية الساخرة‬

‫السذاجة وعدم املباالة وعدم الوعي باملغامرة إىل حد املخاطرة‬

‫واملتهكمة‪ ،‬وهي معرفة ال تتعدى معنى كون هذه الشخصية‬

‫بمصري اآلخر؛ ونتيجة لذلك فنحن نضحك من عيوبه التي‬

‫والبالدة والحمق والبالهة‪ .‬غري أنها بالرغم من كونها حاالت ترمز‬

‫شابلن ألن ما يقوم به من أفعال وما يزاوله من أعمال وما‬

‫تؤدي أدوارًا إنسانية بسيطة‪ ،‬لكنها ترمز يف الوقت ذاته للسذاجة‬ ‫للغفلة‪ ،‬فإن الجمهور يتقبلها من شابلن وال ينظر إليها عىل‬

‫أنها عيب يف السلوك عندما يجسدها يف قالب فكاهي؛ ألنه من‬ ‫جهة أوىل فهم اللعبة وتوصل إىل أنها عادية يف مجال التمثيل‬ ‫الكوميدي‪ ،‬ما دام الجنون والبالدة والحمق والبالهة والغباء‬

‫وغريها‪ ،‬من الحاالت املختلفة التي تغيب فيها جدية اإلنسان‬ ‫واتزانه ورجاحة عقله وصرامته‪ ،‬املحيلة إىل عالم اآلخر الهاميش‪،‬‬ ‫املقموع واملنيس‪ ،‬ليستقر عنده الفهم بالتايل أنها ليست يف النهاية‬

‫سوى حاالت مغلفة بظالل العقل‪ ،‬وأنها تنطوي عىل مغزى‬

‫ما‪ ،‬يحمل خطابًا مضم ًرا ورسالة جدية‪ ،‬تختزل املعنى يف صوره‬ ‫املتعددة وأشكاله املختلفة‪.‬‬

‫معالجة األمور باملقلوب‬

‫من جهة ثانية يقبلها الجمهور كذلك من شابلن؛ ألنه‬

‫يأتيها بشكل طريف ومرح‪ ،‬ويستمتع الجمهور أكرث حينما‬ ‫تقدم هذه الشخصية عىل معالجة األمور باملقلوب‪ ،‬يف نوع من‬

‫ندركها وال يدركها هو‪ ،‬ونراها وال يراها عن نفسه‪ .‬يضحكنا‬

‫يسند إليه من أدوار ومهام‪ ،‬ال يأتيها يف الغالب كما يأتيها‬ ‫الناس عادة عىل وجه سليم‪ .‬فإذا دخل أحدهم من الباب‬

‫خرج شابلن من النافذة‪ ،‬وإذا قام أحدهم جلس شابلن أو‬ ‫افتعل سقطة غري إرادية‪ .‬السقوط والصالبة اآللية واملطاردة‬ ‫والركض السريع والتدحرج والدوران بصفة مستمرة‪ ،‬وغريها‬

‫من الحركات التي تظهر اإلنسان يف أوضاع غريبة‪ ،‬تمثل نماذج‬ ‫للحاالت املميزة لطابع املُضحك عند شابلن‪ .‬منطق شابلن يف‬ ‫عرض املشاهد هو إظهارها بال منطق‪ ،‬معكوسة ومقلوبة‪،‬‬

‫شابلن يسري دائمً ا عكس التيار‪ ،‬وحني يبادر إىل فعل ما أو أداء‬ ‫دور ما‪ ،‬فإن ذلك يصدر عنه بال عقل أو تفكري‪ ،‬وأعماله يف سائر‬

‫أفالمه قائمة عىل مبدأ عدم التدبري‪ ،‬كأنه يقول لنا‪ :‬إن التدبري‬ ‫السليم لألشياء يف مكان آخر غري هذا؛ إنه يحثنا عىل إعمال‬

‫الذهن ليك نفهم أفكاره‪ ،‬ونرتبها حتى نراها يف مرآتها السليمة‬ ‫الصحيحة التي ينبغي أن تظهر عليها يف الواقع‪ ،‬ال يف صورتها‬

‫املعكوسة املشوهة‪.‬‬

‫‪175‬‬

‫شابلن حالة خاصة بين الفنانين‪ ،‬فالتوتر والقلق يظالن‬ ‫مالزمين له في كل عرض تمهيدي أو افتتاحي جديدين‬ ‫ألحد أفالمه‪ ،‬إذ يحدثنا عما يحسه من قلق وما ينتابه من‬ ‫سخط وغضب على الناس والعالم من حوله‪ ،‬في أثناء‬ ‫وجوده في إحدى هذه اللحظات الحرجة التي يمقتها‪،‬‬ ‫ًّ‬ ‫شاقا يبدو فيه َك َم ْن‬ ‫تحديا‬ ‫من ناحية كونها تشكل له‬ ‫ً‬ ‫عسيرا‬ ‫يجتاز امتحا ًنا‬ ‫ً‬


‫فنون‬

‫كتابات اجتماعية وسياسية ودينية وتعليقات تخص الحب والقبيلة‬

‫ج ــدران الخليج‬ ‫فضاء لهيمنة‬

‫الغرافيتي‬ ‫رنا الجربوع‬

‫‪176‬‬

‫كاتبة وسينمائية سعودية‬

‫نستطيع أن نرى مدى تأثير النمو والتحديث السريعين في دول الخليج من خالل النظر‬ ‫إلى الثقافة البصرية والخطاب الحضري اللذين يظهران في الكتابة على الجدران‪ .‬ومع ذلك فإن‬ ‫العثور على الغرافيتي في الخليج يشكل تحد ًيا كبيرًا‪ .‬فهناك القليل من المباني التي أصبحت لوحات‬ ‫للفنانين وكتاب الغرافيتي‪ ،‬وفي الغالب توجد في القرى القديمة في البحرين‪ ،‬أو بين الهياكل‬ ‫والبنايات المهجورة والمتناثرة بعد الغزو في الكويت‪ ،‬أو بمدينة القطيف في المنطقة الشرقية في‬ ‫السعودية‪ .‬قلة المساحات العامة في الهواء الطلق يستغرق منا السير لمسافات طويلة ً‬ ‫بحثا عن‬ ‫مجرد تعبير أو رسمة‪.‬‬ ‫ليس لغ ًزا أن مثل هذه البلدان الغنية بالنفط تفتقر‬

‫واملراقبة يلعبان أدوارهما ً‬ ‫أيضا‪ .‬ولكن عىل الجدران البيضاء‬

‫املساحات الخضراء واألزقة املظللة‪ ،‬وبالتايل يوجد ترابط‬

‫بصماتهم‪.‬‬ ‫ً‬ ‫جدران السعودية والبحرين ال تمانع بعضا من التعليق‬

‫للمساحات العامة واالجتماعية‪ .‬فهناك عدد قليل من‬ ‫محدود بني شوارعها‪ .‬هذه الدول تتيح مساحات معزولة‬

‫مثل املوالت واملراكز التجارية التي غالبًا تستلزم قيادة السيارة‬

‫للوصول إليها‪ .‬باستثناء مرتو دبي الذي افتتح قبل سنوات‬ ‫معدودة‪ ،‬فسوء وسائل النقل العام يف املدن الخليجية يسبب‬ ‫االعتماد املفرط عىل املركبات‪ .‬عدم وجود ثقافة غرافيتي غنية‬

‫ومندمجة يعكس انعدام النظام البيئي الحضري للمساحات‬ ‫ّ‬ ‫تقل العالقات والنشاطات يف‬ ‫العامة واالجتماعية؛ لذلك‬

‫الهواء الطلق‪ .‬أصبح الغرافيتي يقتصر عىل القرى واملناطق‬ ‫السكنية حيث يوجد إحساس باالنتماء للمجتمع‪ .‬الرقابة‬ ‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬

‫النظيفة يف مدن الواحات الحديثة هناك أشخاص تركوا‬

‫االجتماعي والسيايس ولكن الجزء املريئ األكرب للدين‪،‬‬ ‫والحب‪ ،‬والشعر‪ ،‬وكلمات القصائد‪ ،‬ورموز القبلية‪،‬‬ ‫والوطنية أو الحنني لوطن ما‪ ،‬وكرة القدم‪ ،‬والرموز الرقمية‬

‫(مثل‪ :‬أرقام ‪ pin‬البالك بريي‪ ،‬وأسماء املستخدمني يف‬

‫التواصل االجتماعي)‪ .‬كل هذه املوضوعات تبدو أنها هيمنت‬

‫عىل ثقافة الغرافيتي يف هذه املدن‪.‬‬

‫هذه الصور عينة من أرشيف مستمر لتوثيق الغرافيتي يف‬

‫البلدان العربية من ‪٢٠٠٧‬م حتى اآلن‪.‬‬


‫الكويت‬ ‫الغرافيتي يف الكويت مشتت عرب املدينة ذات الجماليات واألغراض املتعددة‪ ،‬وتراوح بني فن البوب والفن النائش إىل السياسية مثل‬ ‫كتابات البدون التي تطالب باملواطنة‪ .‬لكن الغرافيتي يف املساحات التي توجد فيها بقايا الحرب ما زال مهيم ًنا عىل هذا النطاق‪.‬‬

‫‪177‬‬

‫التصلية «اللهم ِّ‬ ‫صل عىل محمد وعىل‬ ‫آل محمد» – سار‪ ،‬البحرين‬ ‫القرى البحرينية غنية بالغرافيتي؛ من آيات‬ ‫قرآنية‪ ،‬ألدعية وأقوال دينية‪ ،‬تظهر اإلحساس‬ ‫باالنتماء والذاكرة الجماعية للمجتمع‪.‬‬

‫«رحم الله جنود الوطن» – أبوظبي‪،‬‬ ‫اإلمارات‬ ‫الغرافيتي نادر يف أبوظبي ويف اإلمارات بشكل‬ ‫عام‪ ،‬بصرف النظر عن الكاتب الشهري يف دبي‬ ‫«أركاديا بالنك»‪ .‬ومع ذلك هناك عالمات وكتابات‬ ‫مخبأة بني األزقة هنا وهناك مثل كتابات تتعلق‬ ‫بالهجولة أو الشهادة «ال إله إال الله» املرتجمة‬ ‫باإلنجليزية‪ .‬هذه العبارة توجد عىل طريق رئيس‬ ‫متجه نحو جزيرة سعديات‪ ،‬ومن املفرتض أنه‬ ‫يشري إىل الحرب املستمرة يف اليمن‪.‬‬


‫فنون‬

‫«فيفتي سنت» – ضواحي الدوحة‪ ،‬قطر‬ ‫يف ضواحي الدوحة واملناطق التي تسكنها‬ ‫العمالة الوافدة توجد كتابات تؤكد الهوية العرقية‬ ‫لدى الكاتب‪« .‬البلوش» هم إحدى القوميات‬ ‫املهيمنة عىل جدران الدوحة رغم أن عمان‬ ‫واإلمارات مأهولتان بالبلوشيني أكرث من قطر‪.‬‬ ‫«فيفتي سنت» (مغني الراب) محبوب هنا تماشيًا‬ ‫مع الكثري من أيقونات «الهيب هوب» يف الغرب‬ ‫املشهورين يف مدن الخليج مثل توباك وسنوب‪.‬‬

‫‪178‬‬

‫«عمان نبض واحد» – قنتب‪ ،‬عمان‬ ‫بعض من الغرافيتي املستوحى من الغرب يوجد يف أزقة مسقط وضواحيها‪ ،‬وهو ضمن قلة من الكتابات التي يمكن العثور عليها يف عمان‪.‬‬ ‫«عمان نبض واحد» عبارة شائعة مكتوبة عىل الصخور والزوارق‪.‬‬

‫«انتهيت ملا هويت» – الرياض‪ ،‬السعودية‬ ‫الحب شائع عىل كل جدران العالم‪ ،‬لكن‬ ‫الحب يف السعودية يقال بأنه «عذاب»‪.‬‬

‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬


‫جدران الخليج فضاء لهيمنة الغرافيتي‬

‫«الكويت حرة» «تحيا الكويت» – الكويت‬ ‫يف عاصمة الكويت‪ ،‬كثري من املباين والبيوت‬ ‫املهجورة من الغزو العراقي عام ‪١٩٩٠‬م؛ أصبحت‬ ‫لوحات لكتاب ورسامي الغرافيتي‪.‬‬

‫الشارقة‪ ،‬اإلمارات‬ ‫الغرافيتي يف اإلمارات منتشر أكرث يف‬ ‫املجتمعات املحلية واملغرتبة يف املدن الصغرية‪ ،‬ومن‬ ‫املوضوعات عىل هذه الجدران‪ :‬الهيب هوب والدين‬ ‫والتمرد عن طريق استخدام األلفاظ املنافية لآلداب‬ ‫ً‬ ‫تحديدا ليست قصرًا عىل‬ ‫العامة (والنقطة األخرية‬ ‫مدن اإلمارات‪ ،‬لكن تبدو ظاهرة عاملية بني أوساط‬ ‫املراهقني)‪.‬‬

‫«حربي والوفاء دربي» حائل‪ ،‬السعودية‬ ‫كتابة العبارات القبلية واملفاخرة باللهجات املحلية هي ممارسة شائعة بني الشباب‪ ،‬وتمتد إىل بلدان خليجية أخرى‪ .‬بجانب الرموز الرقمية‬ ‫مثل أرقام «البالك بريي» و«الربوفايالت» عىل مواقع التواصل االجتماعي أو التواصل اإللكرتوين بشكل عام‪ ،‬هناك رموز تدل عىل القبائل‪ .‬الحافز‬ ‫ً‬ ‫مضيفا إىل ذلك «أنا من هنا أو هناك» و«تجدين يف العالم االفرتايض»‪.‬‬ ‫األساس لكاتب الغرافيتي هو إثبات وجوده ليقول‪« :‬أنا هنا»‪،‬‬

‫‪179‬‬


‫فنون‬

‫مسرحي ومفكر ياباني ابتكر طريقة متفردة‬ ‫في تدريب الممثل‬

‫تاداشي سوزوكي‬ ‫الطاقة التي تشع في جسد حي‬

‫‪180‬‬

‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬


‫عبادة تقال‬

‫كاتب ومخرج سوري يقيم في روسيا‬

‫تاداشي سوزوكي (‪1939‬م) مخرج مسرحي وكاتب وفيلسوف ياباني‪ ،‬مؤسس طريقة سوزوكي‬ ‫ً‬ ‫شيوعا في أميركا‪.‬‬ ‫المتفردة في تدريب الممثل‪ ،‬وهي واحدة من أكثر طرائق التمثيل‬ ‫واع بجسده‪ ،‬وذلك من خالل تمارين مستلهمة من‬ ‫تعمل هذه الطريقة على بناء ممثل ٍ‬ ‫المسرح اليوناني‪ ،‬ومواد فنية تتطلب كمية كبيرة من الطاقة والتركيز‪ ،‬لنصل إلى نتيجة أن الممثل‬ ‫أسس‬ ‫صار أكثر وعيًا للتعبير الطبيعي‪ ،‬وبإمكانه بلوغ مستويات عاطفية وفيزيائية أكثر في التمثيل‪َّ .‬‬ ‫ويدير شركة سوزوكي «توغا»‪ ،‬كما قام بتنظيم أول مهرجان ياباني مسرحي عالمي تحت مسمى‬ ‫«مهرجان التوغا»‪ ،‬الذي استمد التسمية من قرية توغا المتواضعة في أعماق جبال اليابان‪ .‬كما ّ‬ ‫علم‬ ‫طريقته في مدارس ومسارح حول العالم‪ ،‬من ضمنها نيويورك وموسكو‪ ،‬وصاغ نظرياته في عدد‬ ‫من الكتب؛ منها كتابه « طريق التمثيل» الذي صدر عن مجموعة االتصاالت المسرحية في الواليات‬ ‫المتحدة األميركية‪ .‬إضافة إلى كتب أخرى؛ مثل‪ :‬الثقافة هي الجسد‪ .‬قدم مسرحياته الشهيرة؛ مثل‪:‬‬ ‫الملك لير‪ ،‬وسيرانو دو بيرجيراك للفرنسي آدموند روستان‪ ،‬ومدام دي ساد وغيرها‪ ،‬في مسارح‬ ‫أميركا وروسيا وكوريا وغيرها من الدول األخرى‪.‬‬

‫‪181‬‬

‫تاداشي سوزوكي‬


‫فنون‬

‫بيرتبورغ‪،‬‬

‫وغايات املهرجان يف التقارب بني الثقافات‪ ،‬وتعزيز فكرة الوفاء‬

‫عاصمة‬

‫الثقافة‬

‫الروسية‪،‬‬

‫سانت‪-‬‬

‫آليكساندرينسيك‪ ،‬وقدم مع فرقته عرض «نساء طروادة»‪،‬‬

‫يف حديثه عن املسرح األوربي‪ ،‬يؤكد سوزويك أن النصوص‬

‫استضافت املخرج الكبري يف الدورة األخرية ملهرجان مسرح‬ ‫لكاتبه املفضل‪ ،‬املسرحي اإلغريقي الشهري يوربيديس‪ .‬حالة‬

‫فريدة يقدمها لك العرض‪ ،‬وجبة مسرحية تضع جسدك‬

‫وعينيك يف حالة استنفار دائم‪ ،‬وأنت تتابع مشهدية ال‬ ‫تصادفها إال نادرًا‪ ،‬عرب ممثلني تقرأ منذ اللحظات األوىل‬

‫للعرض مدى انغماسهم يف الحكاية‪ ،‬وتوافقهم وتناغمهم يف‬ ‫حركات أجسادهم‪ ،‬وأصواتهم الخارجة من أبعد أعماقهم‪،‬‬

‫وصمتهم الناطق‪.‬‬

‫التزام بالعمل الجاد‬ ‫بعد‬

‫العرض‬

‫قدم‬

‫للعادات الوطنية»‪.‬‬

‫الجيدة كانت متوافرة دائمً ا‪ ،‬واتجهت النية إلنتاجها باستمرار‪،‬‬

‫«ولكن ما يتعلق بطريقة استخدام املمثل لكامل جسده‪،‬‬

‫فإن هذا لم يتحقق حتى أيامنا هذه»؛ لذلك يرى يف لجوئه‬ ‫للمسرحيات اليونانية الرتاجيدية حلاًّ أفضل إليصال تقنية‬ ‫املسرح الياباين التقليدي‪.‬‬ ‫أصوات القسوة‬

‫يتحدث عن الصعوبة الدرامية ملسرحية «نساء طروادة»‪،‬‬ ‫سوزويك‬

‫وعن انفعاالت البطل يف لحظة انتظار مصريه القايس‪،‬‬ ‫وعن أصوات القسوة والطاقة البسيطة‬

‫محاضرة موسعة بحضور عدد كبري‬

‫بشكل ال يصدق‪ ،‬التي تنتقل من الخشبة‬ ‫إىل الصالة‪ ،‬فيُشحَ ن املُشاهِ د‪ ،‬وينغمس‬

‫من املسرحيني واملهتمني‪ ،‬وطالب‬ ‫الكليات املسرحية والفنية يف املدينة‪.‬‬

‫يف الزمن املسرحي القديم‪ .‬مشكلة املسرح‬

‫استقبلهم الرجل بابتسامته الطيبة‪،‬‬ ‫ووجهه العميق صم ًتا وصخبًا‪ ،‬وعينيه‬

‫‪182‬‬

‫املعاصر‪ ،‬يف رأي سوزويك‪ ،‬تكمن يف أن‬

‫املسرحيني ال يعرفون ما الذي يريدون قوله‬

‫املسكونتني بقلق األسئلة الدائم‪ .‬تحدث‬

‫للناس‪ .‬وهذا ينطبق عىل املسرح يف كل دول‬

‫استقرت بأكملها يف قرية بنيت يف أعايل‬

‫عىل نفسك كل يوم؟ هذه أسئلة حيوية‬

‫سوزويك يف البداية عن فرقته التي‬

‫العالم‪« ،‬ملاذا تحرك الجسد؟ ملاذا تعمل‬

‫الجبال‪ ،‬يف بيئة تعزز التدريب الفعال‬

‫يجب أن تفرض نفسها باستمرار»‪.‬‬

‫بالحافالت لحضور العروض‪« :‬أعمل‬

‫بفنون الشاشة‪ ،‬قال‪ :‬إن األمر بشكل عام‬

‫حسب طريقته‪ ،‬وكان املتفرجون يأتون‬

‫يف جوابه عن سؤال بخصوص عالقته‬

‫مع أشخاص يؤمنون بأفكاري كمخرج‬

‫ممتع بالنسبة له‪ ،‬لكن ليس فيما يتعلق‬

‫وفنان مسرحي‪ ،‬وضمن هذه العالقة‬ ‫يمكنك أن تسمي مركزي مدرسة أو‬

‫باألفالم الدرامية‪ ،‬بل الوثائقية‪ ،‬فهو ال‬

‫يستطيع أال يهتم بكادر يعرض الحرب يف‬

‫حتى حزبًا‪ .‬ال يهمني كثريًا ما يقوم به ممثلو فرقتي يف حياتهم‬

‫مكان ما من العالم‪ ،‬أو يلتقط النقاط الساخنة عىل مسرح‬

‫يهمني هو التزامهم بالتمرين والعمل الجاد»‪.‬‬

‫لكنه ال يحب عرض مشاهد سينمائية عىل الخشبة‪ « ،‬أنا‬

‫الخاصة‪ ،‬ال أهتم إن كانت لهم عائالت صغرية أو كبرية‪ .‬كل ما‬

‫حياتنا‪ ،‬كما أنه عىل عالقة جيدة مع الكمبيوتر والغرافيك‪.‬‬

‫بهذا االنضباط الياباين‪ ،‬يتحدث الرجل عن عالقته بأفراد‬ ‫فرقته‪ ،‬مثل مدرب صارم يقدم طريقة‪ُ ،‬تدرَّس لسنوات‪،‬‬

‫بالنسبة يل هو الطاقة‪ .‬تلك الطاقة التي تشع يف الكائن الحي‪.‬‬

‫الدفاع عن النفس‪ ،‬ورقص الباليه التقليدي واملعاصر‪« ،‬يمكن‬

‫ً‬ ‫شخصا أو‬ ‫الشخص ال أكرث‪ .‬يف وقت التمارين عليك أن تراقب‬

‫فيها إضافة إىل كل العناصر املوجودة يف املسرح‪ ،‬اليوغا‪ ،‬وفن‬ ‫مقارنة املوضوع بأي رياضة من الرياضات‪ .‬فاملدرب يحتاج إىل‬

‫عدة سنوات حتى يفهم العبيه‪ ،‬ويعرف مؤهالت كل منهم‪،‬‬ ‫ليقرر من سيكون بطلاً ‪ ،‬ومن لم يخلق لذلك‪ ،‬ومن هو القادر‬

‫مغرم باإلنسان‪ ،‬وهو ما يجعلني مخرجً ا مسرحيًّا‪ ،‬وأهم يشء‬

‫هذا ما يسمى الطاقة الحيوانية‪ .‬أما عىل الشاشة فأنت ترى ظل‬

‫عددًا محددًا من األشخاص‪ ،‬لثماين ساعات متتالية أو عشر‪.‬‬ ‫هذا هو عميل»‪.‬‬

‫ينهي تادايش سوزويك لقاءه املمتع مع مسرحيي املدينة‪،‬‬

‫عىل تسجيل رقم قيايس‪ ،‬ومن سيبقى دائمً ا يف حدود معينة‪.‬‬

‫وعشاق خشباتها‪ ،‬باالعرتاف بأنه يعيش يف قلق دائم‪ ،‬لم‬

‫أصحاب األرقام القياسية والبطوالت‪ ،‬وأنا فخور لرؤيتهم عىل‬

‫أبدً ا‪ :‬هل أصنع كل يشء بطريقة خاطئة؟ أم ربما ليست لديّ‬

‫هكذا جئت إىل مدينة سانت‪ -‬بيرتبورغ مع نجوم مسرحي‪،‬‬

‫مسرح آليكساندرينسيك‪ ،‬وهو األمر الذي يتوافق مع أهداف‬ ‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬إبريل ‪2017‬م‬

‫يتوقف يومً ا ولن يتوقف‪ ،‬وأن أسئلة من هذا النوع‪ ،‬ال تفارقه‬ ‫املوهبة الكافية!‬



‫مقال‬

‫طالل سلمان‬ ‫كاتب وصحافي لبناني‬

‫ما يشغلني بعد «‬ ‫‪ ..‬وتسألني‪ :‬ماذا يشغلني بعد «السفير»؟‬

‫يشغلني ما كان يشغلني قبل «السفير»‪ ،‬وخالل دهر‬

‫إصدارها‪ .‬بل ما قبل إصدارها واالستمرار في تحمل أعباء هذا‬

‫اإلصدار‪ ،‬وكل ما اتصل به ونتج عنه من فرح وإحساس ممتع‬ ‫بأننا قد حاولنا ونجحنا في التعبير عن ضمير الناس وفي رفع‬

‫صوت الذين ال صوت لهم‪ ،‬كما في خدمة قضايا أمّ تنا بكل‬ ‫ما نستطيع من جهد وما نملك من خبرة وما يعمر قلوبنا‬

‫ووجداننا من إيمان‪.‬‬

‫لقد اجتهدنا‪ ،‬زمالئي وأنا‪ ،‬في أن نخدم قضايا أمّ تنا‬ ‫ً‬ ‫انطالقا من بيروت‪ -‬األميرة‪ ،‬كتاب‬ ‫في وطننا العربي الكبير‪،‬‬

‫العرب ومنتداهم الفكري‪ ،‬جامعتهم ودار ضيافتهم وصحيفة‬

‫‪184‬‬

‫الصباح‪ ...‬عبَّرنا عن ضمير الناس‪ ،‬وعن طموحهم إلى التحرر‬ ‫وتحرير إرادتهم بعد أرضهم‪ ،‬وبناء غدهم األفضل‪ ،‬وعن‬

‫شوقهم إلى التقدم ولعب دورهم الثابت والمؤكد تاريخيًّا في‬

‫خدمة قضايا اإلنسان وحقوقه‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫حاولنا بقدر الطاقة أن نؤ ِّكد المؤكد في هوية لبنان‬

‫»‬

‫يراها –إذا ما مورست بكفاءة معززة بالضمير‪ -‬واحدة من‬ ‫أشرف مجاالت خدمة اإلنسان وقضاياه المُ حِ ّقة‪ ،‬بدءً ا بتحرير‬ ‫األرض واإلرادة‪ ،‬وصولاً إلى حقه في بناء مستقبله األفضل‬ ‫بجهده وعرق الجبين‪ ،‬بطلب العلم واالستزادة منه ‪-‬وهو‬

‫البحر البالحدود– من أجل خدمة مجتمعه‪ ،‬وتأكيد جدارة‬ ‫هذا اإلنسان العربي ‪-‬فضلاً عن حقه– ببناء مستقبله األفضل‪.‬‬

‫ومع التواضع فإنني أفترض أن تجربتي الشخصية‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫خصوصا أنها تمَّ ت عبر المخاض‬ ‫تستحق أن ُتروى‪،‬‬ ‫والمهنية‬ ‫العظيم الذي عاشته األمة العربية‪ ،‬بمختلف أقطارها‪ ،‬وهي‬

‫تحاول انتزاع حقها في الحياة الحرة الكريمة فوق أرضها‬

‫المستقلة من غاصبي ذلك الحق وهادري كرامتها على‬ ‫امتداد أجيال‪.‬‬

‫لقد عشت في قلب األحداث تجربة عريضة عرفت خاللها‬

‫معظم األقطار العربية‪ ،‬بشعوبها والتضحيات الغالية التي‬

‫تكبدتها من أجل الكرامة واالستقالل واستعادة قرارها الحر‪...‬‬

‫عرفت العديد من القيادات السياسية‪ ،‬بعضها رجع إلى‬

‫العربية‪ ،‬وفي دوره وإسهامه الثابت في النهوض العربي‪،‬‬

‫ربه‪ ،‬وبعضها اآلخر ما زال حيًّا‪ .‬عرفت مئات من المبدعين‬

‫المجال‪ :‬صحيفة العرب‪ ،‬كأمة ذات تاريخ مضيء‪ ،‬وذات حق‬

‫وممثالت ومخرجين‪ ،‬مطربين ومطربات سكنوا ضمائرنا‬

‫الناس المعبِّر عن ضميرهم‪ ،‬حاملة راية حقوقهم في وطنهم‬

‫من اليمن السعيد إلى المغرب األقصى‪ ،‬مرورًا بالعراق‬

‫فكريًّا وثقافيًّا‪ ،‬وأن تكون «السفير» شهادة جدارة في هذا‬

‫ثابت في اإلسهام في الحضارة اإلنسانية‪ ،‬وأن تكون صوت‬

‫وهم بُناته وحماته والمساهمون في صناعة دوره الحضاري‬ ‫إنني‪ ،‬بداية وانتهاء‪ ،‬صاحب قلم‪ ،‬وصاحب تجربة‬

‫عريضة في عالم الصحافة‪ ،‬وقبل ذلك وبعده صاحب قضية‬

‫مشرفة‪ ،‬وحامل أوجاع مُ مِ ّ‬ ‫ضة نتيجة الخيبات وتهاوي اآلمال‬

‫قبل األحالم وبعدها‪ ..‬فلقد عشت‪ ،‬مع أبناء جيلي نمدّ أيدينا‬ ‫ونقطف النجوم‪ ،‬نتطلع إلى الوحدة العربية فنراها في مدى‬

‫أذرعتنا‪ ،‬وإلى التقدم فنراه حقنا الذي يمكننا أن نحققه‬

‫بسواعدنا مع عقولنا وجهدنا‪ ،‬وإلى التحرر الكامل بعنوان‬

‫تحرير فلسطين من مستعمرها ومسترهن إرادتنا االحتالل‬ ‫الصهيوني المع َّزز بالدعم الدولي المفتوح‪.‬‬

‫وبالتأكيد فإن تاريخي هو أول ما يشغلني‪ ،‬كصاحب قلم‬

‫وصاحب تجربة عريضة أمضى أكثر من ثلثي عمره في مهنة‬

‫العددان ‪ 486 - 485‬جمادى اآلخرة ‪ -‬رجب ‪1438‬هـ ‪ /‬مارس ‪ -‬أبريل ‪2017‬م‬

‫والمثقفين‪ ،‬شعراء وكتابًا‪ ،‬باحثين ومفكرين‪ ،‬ممثلين‬

‫وأغنوا وجداننا‪ .‬وعرفت البالد العربية بأهلها الفقراء الطيبين‬ ‫وأقطار الجزيرة العربية وسوريا ومصر التي علمتنا وأرشدتنا‬

‫إلى الطريق‪ ،‬ومعها ليبيا وتونس والجزائر نشيد نضالنا الذي‬ ‫لن يهدأ ولن يتوقف حتى تحقيق أماني األمة المجيدة التي‬ ‫تستحق حياة أفضل ودورًا يليق بتاريخها‪.‬‬ ‫٭٭٭‬

‫أتمنى أن يكرمني الله بشيء من العمر يتيح لي أن أروي‬

‫تجربتي لعلها تفيد زمالئي وإخواني الذين يصرون على أن‬

‫يجدوا مستقبلهم األفضل في مهنة البحث عن المتاعب‪،‬‬ ‫إحدى ركائز الغد األفضل‪.‬‬

‫وشك ًرا لمجلة «الفيصل» التي نحتفظ بذكرى صاحب‬

‫الفضل في اسمها‪ ،‬في قلوبنا‪ ،‬على استضافتها لي ألكتب‬ ‫هذه الكلمات‪.‬‬



King Faisal Foundation

(+ 96611)4656524 :¢ù``cÉa (+96611)4652255 :∞JÉ``g á`` ` ` ` jOƒ`©` `°ù`dG á`` ` ` «Hô`` ©` dG á`` ` ` ` µ` ∏ª`ŸG 11411 :¢VÉ`` `jô``dG 352 :Ü .¢U

P.O.Box 352 Riyadh 11411 Kingdom of Saudi Arabia Tel: (+966 11) 4652255 Fax: (+966 11) 4656524

www.kff.com


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.