issuu483:484 مجلة الفيصل

Page 1

‫اﻟﻌﺪدان ‪ ٤٨٤ - ٤٨٣‬رﺑﻴﻊ اﻵﺧﺮ ‪ -‬ﺟﻤﺎدى اﻷوﻟﻰ ‪١٤٣٨‬ﻫـ ﻳﻨﺎﻳﺮ ‪ -‬ﻓﺒﺮاﻳﺮ ‪٢٠١٧‬م‬

‫ﻣﻦ اﻻﺳﺘﻐﻼل اﻟﺴﻴﺎﺳﻲ إﻟﻰ اﻟﻌﻨﻒ واﻟﺘﻬﻤﻴﺶ‬

‫ﺑﻼد اﻷﻗﻠﻴﺎت اﻟﻬﺎﺋﻠﺔ‬

‫ﻏﺮاﻣﻴﺎت رؤﺳﺎء ﻓﺮﻧﺴﺎ‬ ‫ﻓﻬﻤﻲ ﺟﺪﻋﺎن‪ :‬اﻟﻔﻘﻬﺎء ﻫﻢ‬ ‫اﻟﺬﻳﻦ ﺷﻜﻠﻮا )اﻟﻌﻘﻞ اﻹﺳﻼﻣﻲ(‬

‫اﻟﺜﺒﻴﺘﻲ واﺑﺘﻜﺎر‬ ‫ﻣﺎ ﺑﻌﺪ اﻟﻨﻔﻄﻲ‬ ‫‪www.alfaisalmag.com‬‬

‫اﻟﺤﻴﺎة اﻟﺴﺮﻳﺔ‬ ‫ﻟﻤﻔﻜﺮﻳﻦ وﻓﻼﺳﻔﺔ‬


‫‪www.kfcris.com‬‬

‫اﻟﺒﺤﻮث واﻟﺪراﺳﺎت‬

‫اﻟﻤﺤﺎﺿﺮات واﻟﻨﺪوات‬

‫‪kfcris@kfcris.com‬‬

‫‪@kfcris_sa‬‬

‫اﻟﻤﻜﺘﺒﺔ‬

‫اﻟﻤﺘﺎﺣﻒ‬

‫‪kfcris_sa‬‬

‫‪KFCRISKSA‬‬

‫اﻟﺘﺪرﻳﺐ‬

‫‪KFCRIS‬‬

‫اﻟﻜﺘﺐ واﻹﺻﺪارات‬

‫ص ب‪ ٥١٠٤٩ :‬اﻟﺮﻳﺎض ‪ ١١٥٤٣‬اﳌﻤﻠﻜﺔ اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ اﻟﺴﻌﻮدﻳﺔ ﻫﺎﺗﻒ‪ ٠٠٩٦٦ ١١ ٤٦٥٢٢٥٥ :‬ﻓﺎﻛﺲ‪٠٠٩٦٦ ١١ ٤٦٥٩٩٩٣ :‬‬ ‫‪Fax: 00966 11 4659993‬‬

‫‪Tel: 00966 11 4652255‬‬

‫‪P.O. Box 51049 Riyadh 11543 Kingdom of Saudi Arabia‬‬

‫اﻟﺸﺆون اﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ‬



‫يصدرها‬

‫أسسها عام ‪1397‬هـ‪1977/‬م‬

‫األمير خالد الفيصل‬

‫العددان‬

‫‪484-483‬‬

‫كتاب الفيصل ‪14‬‬

‫‪2‬‬ ‫الملف‬

‫بالد األقليات الهائلة‬

‫‪70 18‬‬

‫حدين)‬ ‫حسين قبيسي (األقليات سالح ذو ّ‬ ‫مهدي حميش (المسألة الطائفية)‬ ‫(األقليات في مصر)‬ ‫سامر إسماعيل (األقليات السورية)‬ ‫نزهة صادق (أمازيغ المغرب)‬ ‫خاليد فؤاد طحطح (يهود المغرب)‬ ‫سهام صالح (اليهود في السودان)‬ ‫جمال حسن (الحوثيون)‬ ‫فتحي أبو النصر (يهود اليمن)‬ ‫حسن جوان (ما بين النهرين)‬ ‫جعفر العقيلي (األقليات في األردن)‬ ‫أحمد أبو خنيجر (العنصرية والعنصرية المضادة)‬

‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬


‫الناشر‬

‫رئيس مجلس اإلدارة‬

‫األمير تركي الفيصل‬

‫رئيس التحرير‬

‫الثقافية‬

‫دار‬

‫دراسات‬

‫ماجد الحجيالن‬

‫‪editorinchief@alfaisalmag.com‬‬

‫مسرح‬

‫محمد العلي‬ ‫داخل خنادق الحداثة (علي الدميني)‬

‫المسرح الوثائقي فضاء‬

‫‪74‬‬

‫منذ أن غادر محمد العلي طريق متابعته لدراسة المنهج‬ ‫الديني‪ ،‬وسلك طريق التعليم المدني ‪ -‬رمزيًّا وثقافيًّا ‪ -‬فقد‬ ‫خلع عباءة «رجل الدين» وعمامته‪ ،‬واختار طريق «طالب‬ ‫المعرفة»‪ ،‬متخليًا عن مسار «العقل التقليدي» ومنحا ًزا‬ ‫إلى فضاء بناء «العقل النقدي»‪ ،‬وإلى فكر السؤال والنقد‬ ‫والعقالنية‪.‬‬

‫‪178‬‬

‫للسياسي والفني (نورا أمين)‬

‫عندما قدم المخرج المسرحي ميلو راو عمله األشهر‬ ‫«محاكمات موسكو»‪ ،‬كان يفتتح بذلك موجة جديدة من‬ ‫الشهية األوربية للمسرح التوثيقي‪ .‬فعلى الرغم من امتداد‬ ‫نزعة المسرح التوثيقي بمختلف أساليبه في أوربا‪ ،‬فإن تلك‬ ‫الشهية الجديدة قد وضعت هذا التيار في قلب االهتمام‬ ‫المسرحي‪.‬‬

‫بورتريه‬

‫ثقافات‬

‫مالك شبل‪..‬في أفول العقل‬ ‫التنويري (عبدالحق بلعابد)‬

‫الحياة السرية لمفكرين وفالسفة‬

‫‪120‬‬

‫يعد المفكر الجزائري مالك شبل‪ ،‬من بين المفكرين القالئل‬ ‫الذين زاوجوا العلم بالعمل‪ ،‬والقول بالفعل‪ ،‬بانيًا بذلك‬ ‫هوية فكرية مفارقة للهويات الفكرية األخرى التي تبني‬ ‫جدارًا عاليًا بين ذاتها في الحياة‪ ،‬وذاتها مع الفكر‪ ،‬فقد وعى‬ ‫المفكر مبك ًرا بهذه اإلحراج المعرفي‪ ،‬ليصبح فن العيش‬ ‫متسامحً ا مع اآلخر‪.‬‬

‫‪132‬‬

‫صراعات وجنس (متعب القرني)‬

‫حين كتب الغزالي كتابه «تهافت الفالسفة» لم تكن الفلسفة‬ ‫ّ‬ ‫وتحلت بإهابها التحليلي الرصين‪،‬‬ ‫األخالقية حينها قد ظهرت‬ ‫بل كانت أسيرة للمحاوالت األولى المهمومة بتعريفات‬ ‫الخير والشر والسلم والحرب‪ ،‬ثم سرعان ما كشفت القرون‬ ‫التالية عن حيازة األخالق مساحة بالغة األهمية من الخريطة‬ ‫الفلسفية العامة‪.‬‬

‫‪3‬‬


‫كتب‬

‫معارض‬

‫السورياليون المصريون‪:‬‬ ‫حين يكون الفن حرية‬

‫سهــوا» فصوص‬ ‫«كـان هـذا‬ ‫ً‬

‫‪174‬‬

‫تعرف جورج حنين إلى رواد الحركة السوريالية‪ ،‬وأرسل‬ ‫خطابه األول ألندريه بريتون‪ ،‬وفي عام ‪1936‬م نشر في مصر‬ ‫بمجلة «لو رينت» مقالته «السوريالية في الميزان»‪ ،‬وهي‬ ‫أول تأسيس معرفي عن السوريالية لدى المثقفين المصريين‬ ‫واألجانب المقيمين بها‪.‬‬

‫‪4‬‬

‫‪144‬‬

‫غير منشورة ُ‬ ‫ألنسي الحاج (صالح بوسريف)‬

‫في كتابه الصادر بعد رحيله «كان هذا سهوًا»‪ ،‬بقدر ما كان‬ ‫أُنسي الحاج‪ ،‬شاع ًرا‪ ،‬بقدر ما كان مُ تأملاً ‪ ،‬وناقدً ا‪ ،‬وصاحب‬ ‫ّ‬ ‫يتعلق بشؤون الوُجُ ود‪ ،‬وعالقة‬ ‫وموقف‪ ،‬في ُك ّل ما‬ ‫رأي‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫البشر بالسماء‪ ،‬أو بالميتافيزيقا والدين‪ ،‬والموت والحياة‪،‬‬ ‫والحب‪ ،‬والفن واألدب‪.‬‬

‫مقاالت‬ ‫حوار‬

‫سعدي يوسف‬ ‫فيديل كاسترو واستقاللية القرار‬

‫عبدالعزيز السبيل‪:‬‬ ‫إجراءات التحكيم في جائزة الملك فيصل العالمية‬

‫‪94‬‬

‫تتم بكثير من الحذر والسرية والتجرد من األهواء‬

‫فتحي المسكيني‬ ‫صادق العظم‪ ..‬نقد الذات‬ ‫أقوى من االنتماء‬

‫‪104‬‬ ‫عبدالله ثابت‬ ‫الهوة «السكوونك»‬ ‫مشاجرات‬ ‫ّ‬

‫‪106‬‬ ‫نهلة الشهال‬ ‫ماذا يعني انتخاب ترمب؟‬

‫‪150‬‬ ‫أمجد ناصر‬ ‫الطريق إلى حلب‬

‫‪116‬‬ ‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬

‫‪184‬‬


‫نصوص‬

‫‪72‬‬ ‫‪115‬‬ ‫‪181‬‬ ‫‪183‬‬

‫عاشور الطويبي‬ ‫مختارات من قصائد التانكا‬ ‫سهير مقدادي‬

‫مدير التحرير‬

‫حين تصير خسارتنا ن ًّدا‬

‫أحمد زين‬

‫إبراهيم العواجي‬ ‫أنثى أنا‬

‫اإلخراج‬

‫ينال إسحق‬

‫محمود شقير‬ ‫على الرصيف‬

‫التنفيذ‬

‫رياض دفدوف‬ ‫مبارك علي‬ ‫في هذا العدد‬

‫‪82‬‬ ‫بنيس‪ ..‬الكتابة بتاريخيتها (عزالدين الشنتوف)‪88 ...................‬‬ ‫الجوائز األدبية في العالم العربي (صبحي موسى)‪108 .......‬‬ ‫(دنى غالي)‪138 .................................................‬‬ ‫كاليمت فيكشن ُ‬ ‫لي)‪..........................................‬‬ ‫األرفه‬ ‫(بالل‬ ‫طبع في بيروت‬ ‫‪146‬‬ ‫حارس النهر القديم (رسول محمد رسول)‪148 ..........................‬‬ ‫هل تعليم الصحافة في مأزق؟ (عبدالله أبا الخيل)‪154 ..........‬‬ ‫عون وتعزيز سياسة النأي (أمل الهزاني) ‪162 .........................‬‬ ‫فهد اليحيا والسينما السعودية (فواز السيحاني)‪164 ..........‬‬ ‫فلم جزيرة الدكتور مورو (منصور الصويم)‪168 ........................‬‬ ‫عين بودلير (أوراس زيباوي)‪171 ..................................................‬‬ ‫الثبيتي‪ :‬إحياء ما قبل النفطي (حاتم الزهراني) ‪.............‬‬

‫الموقع اإللكتروني‬

‫معتز عبدالماجد‬ ‫التدقيق والمراجعة اللغوية‬

‫عبدالله الدوسري‬ ‫محمد نصير سيد‬ ‫االشتراكات والتوزيع‬

‫جعفر عبدالرحمن‬ ‫‪ -)+966(11٤٦٥٢٢٥٥‬تحويلة‪6640 :‬‬ ‫‪subscriptions@alfaisalmag.com‬‬

‫مراسالت التحرير‬ ‫‪editorial@alfaisalmag.com‬‬ ‫االشتراك السنوي‬ ‫‪ 100‬ريالاً سعوديًّا لألفراد‪ 250 ،‬ريالاً سعوديًّا للمؤسسات‪ ،‬أو ما يعادلهما بالــدوالر األمـيـركــي‬ ‫خـــارج المملـكــة العربية السعودية‪.‬‬ ‫السعر اإلفرادي‪ :‬السعــوديـــة ‪ 10‬ريـــاالت‪ ،‬اإلمــــارات ‪ 10‬دراهم‪ ،‬قطر ‪ 10‬رياالت‪ ،‬البحرين دينار‬ ‫فلسا‪ ،‬مصر ‪ 4‬جنيهات‪ ،‬المغرب ‪ 10‬دراهم‪.‬‬ ‫واحد‪ ،‬األردن ‪750‬‬ ‫ً‬ ‫الموزعون‬ ‫مصر‪ ،‬مؤسسة توزيع األهرام‪ ،‬شارع الجالء‪ ،‬هاتف‪ ،7704365 - 5796997 :‬فاكس‪:‬‬ ‫‪ ،00202 7703196‬قطـر‪ ،‬دار الشرق للطباعة والنشر والتوزيع‪ ،‬ص‪.‬ب ‪ ،3488‬هاتف‬ ‫‪ ،44557809‬فاكس‪ ،00974 44557819 :‬األردن‪ ،‬شركة وكالة التوزيع األردنية‪ ،‬ص‪.‬ب ‪،3371‬‬ ‫هاتف‪ ،65358855 :‬فاكس‪ ،00962 65337733 :‬البحرين‪ ،‬مؤسسة الهالل لتوزيع الصحف‪،‬‬ ‫ص‪ .‬ب ‪ ،8005‬هاتف‪ ،17480800 :‬فاكس‪ ،00973 17480818 :‬اإلمارات العربية المتحدة‪ ،‬مكتبة‬ ‫دار الحكمة‪ ،‬ص‪.‬ب ‪ ،2007‬هاتف‪ ،42665396 :‬فاكس‪ ،00971 42669827 :‬المغرب‪ ،‬الشركة‬ ‫الشريفية لتوزيع الصحف‪ ،‬ص‪.‬ب ‪ ،13683‬هاتف‪ ،2400223 :‬فاكس‪00212 2246249 :‬‬ ‫التوزيع داخل المملكة‬ ‫الشركة الوطنية الموحدة للتوزيع‬ ‫هاتـــــف‪ )011( 4871414 :‬فاكس‪)011( 4871460 :‬‬

‫مراسالت اإلدارة‬ ‫ص‪.‬ب (‪ )3‬الرياض ‪11411‬‬ ‫المملكة العربية السعودية‬ ‫هاتف المجلة ‪)+966( 11٤٦٥3027:‬‬ ‫فاكس‪)+966( 11٤٦٤٧٨٥١ :‬‬ ‫‪contact@alfaisalmag.com‬‬ ‫اإلعالنات‬ ‫هاتف‪)+966( 11٤٦٤٧٨٥١ :‬‬ ‫‪advertising@alfaisalmag.com‬‬

‫‪5‬‬


‫المركز‬

‫األمير تركي الفيصل‪..‬‬ ‫رئيسا للجنة الحكماء العرب‬ ‫ً‬ ‫بجامعة الدول العربية‬ ‫اختارت األمانة العامة لجامعة الدول العربية األمير تركي‬

‫رئيسا للجنة الحكماء العرب‬ ‫الفيصل ‪-‬رئيس مجلس إدارة المركز‪ً -‬‬ ‫ّ‬ ‫التسلح وعدم االنتشار النووي التابعة للجامعة‪.‬‬ ‫المعنية بقضايا‬ ‫وترأس األمير تركي الفيصل أعمال االجتماع األول للجنة الذي‬

‫ُعقد في العاصمة المصرية القاهرة يوم الخميس ‪ 9‬ربيع األول‬ ‫‪1438‬هـ‪ 8 /‬ديسمبر ‪2016‬م‪ .‬وتضمّ اللجنة في عضويتها ثماني‬

‫شخصيات عربية بارزة من دبلوماسيين وسياسيين وقانونيين‬

‫وباحثين مشهود لهم بالكفاءة‪ ،‬اختيروا بصفتهم الشخصية‪ ،‬وبما يحافظ على التمثيل الجغرافي للدول العربية‪ .‬وتهدف‬ ‫اللجنة إلى تقديم تقرير إلى األمين العام لجامعة الدول العربية حول مجمل السياسات العربية في مجاالت ضبط التسلح‬ ‫وعدم االنتشار النووي ونزع السالح‪ ،‬يتضمّ ن توصيات محدّ دة ُتعرض في مجلس جامعة الدول العربية على المستوى‬ ‫الوزاري في دورة مارس عام ‪2017‬م‪ ،‬وذلك في إطار دعم جامعة الدول العربية جهود نزع السالح من أجل تعزيز االستقرار‬

‫واألمن والسلم في المنطقة العربية‪.‬‬

‫‪6‬‬

‫خاص بالمركز في‬ ‫جناح‬ ‫ّ‬ ‫ملتقى ألوان السعودية ‪2016‬م‬ ‫ّ‬ ‫خاص في الدورة‬ ‫شارك المركز بجناح‬

‫الخامسة من ملتقى ألوان السعودية ‪2016‬م‬ ‫في المدة «‪ 18-12‬ربيع األول سنة ‪1438‬هـ‪/‬‬

‫‪ 17-11‬ديسمبر ‪2016‬م» بمركز الرياض الدولي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫كل‬ ‫تنظمه‬ ‫للمؤتمرات والمعارض‪ ،‬الذي‬

‫عام الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني‪.‬‬ ‫ً‬ ‫مجموعة من إصداراته‬ ‫وتضمّ ن جناح المركز‬

‫ودورياته الثقافية والعلمية التي تتناول مختلف‬ ‫الموضوعات الفكرية والقضايا التي تشغل‬

‫الرأي العام‪.‬‬

‫وشارك في ملتقى ألوان السعودية هذا‬

‫العام عدد كبير من المصوّرين المحترفين‬

‫والهواة من المملكة ودول الخليج العربي‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫متخصصة‬ ‫عارضا من جهات‬ ‫وأكثر من ‪80‬‬ ‫وشركات تكنولوجيا التصوير ومحترفي وص ّناع‬

‫األفالم‪ ،‬وضمّ برنامج الملتقى أكثر من ‪ 30‬ورشة‬ ‫ّ‬ ‫متخصصة‪.‬‬ ‫عمل‬

‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬


‫سعود السرحان‪..‬‬ ‫عاما لمركز الملك فيصل‬ ‫أمينًا‬ ‫ًّ‬ ‫أصدر األمير تركي الفيصل رئيس مجلس إدارة مركز الملك فيصل‬

‫للبحوث والدراسات اإلسالمية قرارًا بتعيين الدكتور سعود بن صالح السرحان‬

‫أمي ًنا عامًّ ا للمركز‪.‬‬

‫وكان السرحان قد شغل منصب مدير إدارة البحوث والباحث الرئيس في‬ ‫وحدة الفكر السياسي المعاصر بالمركز‪ ،‬ثم ُك ِّلف بأعمال األمين العام قبل‬

‫تعيينه في الثاني من المح َّرم سنة ‪1438‬هـ أمي ًنا عامًّ ا للمركز‪.‬‬

‫ُ‬ ‫وعرف الدكتور سعود السرحان الذي نال درجة الماجستير في القانون‬

‫من جامعة سنترال النكشير والدكتوراه من جامعة إكستر البريطانية‬

‫باهتماماته البحثية وكتاباته المتخصصة في الشأنين العربي والسعودي‪ ،‬ومن مؤلفاته‪« :‬إعادة بناء اليمن‪ :‬التحديات‬ ‫السياسية واالقتصادية واالجتماعية»‪ ،‬و«السعوديون وإدارة الحج»‪ ،‬و«مسائل أحمد بن حنبل ونشأة الحنبلية»‪،‬‬

‫و«الصراع على الشرعية‪ :‬الحركات السلفية الجهادية في السعودية»‪ ،‬و«الرسائل العقدية المنسوبة إلى أحمد بن‬ ‫حنبل»‪ ،‬و«اإلصالحيون الجدد‪ :‬خطاب إسالمي ديمقراطي جديد»‪ ،‬كما ساهم وأشرف على عدد من الدراسات العلمية‬

‫والمشاريع اإلستراتيجية؛ عن كل من اليمن وسوريا والعراق والصين‪ ،‬وأدار السرحان برنامج «الباحث الزائر» الذي‬ ‫ً‬ ‫باحثا من ‪ 55‬دولة وأثمر مجموعة متميزة من البحوث العلمية المتخصصة‪.‬‬ ‫استقطب ما يزيد على ‪260‬‬ ‫ويعدّ األمين العام للمركز أول باحث خليجي يُستك َتب في دائرة المعارف اإلسالمية‪ ،‬وهو زميل فخري في جامعة‬

‫إكستر بالمملكة المتحدة‪ ،‬وعضو مؤسس في المجلس الخليجي األوربي–لندن‪ ،‬وباحث متميّز في الشؤون الخارجية‬ ‫بالمجلس القومي للعالقات العربية في واشنطن‪.‬‬

‫عبدالله العثيمين‪ ..‬مؤرخً ا وأدي ًبا‬ ‫عقدت األمانة العامة لجائزة الملك فيصل العالمية‬

‫ندوة علمية يوم األربعاء ‪ 15‬ربيع األول ‪1438‬هـ الموافق ‪14‬‬

‫ديسمبر ‪2016‬م في قاعة المحاضرات بمبنى مؤسسة الملك‬ ‫ً‬ ‫مؤرخا وأديبًا»‪.‬‬ ‫فيصل الخيرية بعنوان‪« :‬عبدالله العثيمين‬

‫تضمن برنامج الندوة ثالث جلسات حول الفقيد والشاعر‬ ‫واألديب والمؤرخ الدكتور عبدالله العثيمين‪.‬‬

‫يذكر أن الدكتور عبدالله العثيمين قد نال درجة‬ ‫ً‬ ‫أستاذا في‬ ‫الدكتوراه من جامعة إدنبره عام ‪1972‬م‪ ،‬وعمل‬ ‫التاريخ بكلية اآلداب‪ ،‬جامعة الملك سعود‪ ،‬مدة ثالثة‬ ‫ّ‬ ‫وتقلد منصب األمين العام لجائزة الملك فيصل‬ ‫عقود‪،‬‬

‫العالمية منذ سنة ‪1407‬هـ ‪1987 /‬م‪ ،‬ويُعَ ّد أحد روّاد الدراسات‬ ‫التاريخية في التاريخ السعودي المعاصر‪ ،‬وتوفي الفقيد عن‬

‫عمر ناهز ثمانين عامً ا وقد أثرى المكتبة العربية بالعديد من‬ ‫المؤلفات التاريخية واألدبية والدواوين الشعرية‪ ،‬إضافة إلى‬

‫تحقيقاته العلمية ومحاضراته وترجماته عن اإلنجليزية‪.‬‬

‫‪7‬‬


‫المركز‬

‫حلقة نقاش عن أوضاع المنطقة مع‬ ‫المجلس األوربي للعالقات الخارجية‬

‫‪8‬‬ ‫احتضنت قاعة معهد الفيصل بالمركز يوم االثنين ‪ 13‬ربيع‬

‫بيلدت نائب رئيس المجلس ورئيس الوزراء ووزير الخارجية‬

‫مسؤولي المجلس األوربي للعالقات الخارجية‪ ،‬تضمّ نت ثالثة‬

‫المجلس والمساعد السابق لوزيرة الخارجية األميركية هيالري‬

‫األول ‪1438‬هـ‪ 12 /‬ديسمبر ‪2016‬م حلقة نقاش مع وفد من كبار‬

‫محاور‪ ،‬هي‪ :‬الدور السعودي في المنطقة‪ :‬دور مبادر وحازم‪،‬‬ ‫والتعاون اإلقليمي السعودي األوربي‪ :‬من الدبلوماسية إلى‬

‫الدعم العسكري‪ ،‬والوضع األمني في المنطقة‪ :‬الطموح‬

‫والقدرات والطريق نحو االستقرار‪.‬‬

‫السويدي السابق‪ ،‬وجيرمي شابيرو رئيس وحدة األبحاث في‬ ‫كلينتون‪ ،‬وإيلي جيرانميه الباحثة السياسية في المجلس‪،‬‬ ‫وألكسندر ستوب رئيس الوزراء ووزير الخارجية الفنلندي‬

‫السابق وعضو البرلمان األوربي‪ ،‬وجوزيف مفسود مدير‬ ‫أكاديمية لندن الدبلوماسية‪ ،‬وأرنود دانجين عضو البرلمان‬

‫وانطلقت فعاليات حلقة النقاش في تمام الساعة العاشرة‬

‫األوربي ورئيس لجنة األمن والدفاع في المجلس‪ ،‬وجوليان‬

‫المركز‪ ،‬رحّ ب فيها بوفد المجلس األوربي للعالقات الخارجية‬

‫من برنامج شؤون الشرق األوسط وشمال إفريقيا في المجلس‪.‬‬

‫ّ‬ ‫تحدث األمير‬ ‫وأساتذة العلوم السياسية السعوديين‪ .‬كما‬

‫األوربية‪ ،‬منهم‪ :‬السفير اإليطالي لوكا فيراري‪ ،‬والسفير‬

‫صباحً ا بكلمةٍ من األمير تركي الفيصل رئيس مجلس إدارة‬

‫والحضور من السفراء األوربيين واألكاديميين والباحثين‬ ‫تركي بن عبدالله بن عبدالعزيز ‪-‬الرئيس التنفيذي لمؤسسة‬ ‫الملك عبدالله العالمية لألعمال اإلنسانية‪ -‬عن تميّز العالقات‬

‫السعودية األوربية على مدار تاريخها‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ومثل المجلس األوربي للعالقات الخارجية في حلقة‬ ‫وفد من كبار مسؤولي المجلس ضمّ اًّ‬ ‫النقاش ٌ‬ ‫كل من‪ :‬كارل‬ ‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬

‫بارنس ديسي الرئيس المؤقت لبرنامج ‪ ،MENA‬وماتيا توالدو‬ ‫وحضر حلقة النقاش عدد من سفراء ودبلوماسيي الدول‬

‫الفنلندي بيكا فوتيالينين‪ ،‬والسفير السويدي جان كانتسون‪،‬‬ ‫والسفير النرويجي رالف ويلي هانسن‪ ،‬والسفير الدانماركي‬

‫أوليه فريجس مادسين‪ ،‬والسفير القبرصي نيكوس بانيي‪،‬‬

‫والمستشار األول في السفارة الفرنسية إريك جيرو تيلم نائبًا‬ ‫عن السفير الفرنسي‪.‬‬


‫‪9‬‬

‫كاريكاتير‬


‫فعاليات‬

‫في حلقة نقاش نظمها المركز عن أمن الشرق األوسط‪:‬‬

‫إيران ترى األقليات الشيعية أحد أسلحتها‬

‫جاك كارافالي‪ ،‬وسيباستيان ماير‪ ،‬وماثيو ليفيت‬

‫‪10‬‬

‫عقد مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية حلقة‬

‫في القيام بأعمال تخريبية‪ ،‬والتآمر الرتكاب جرائم في مناطق حيوية‪،‬‬

‫نقاش مشتركة تحت عنوان‪« :‬سياسة وأمن الشرق األوسط» قدَّمها‬ ‫ٌّ‬ ‫كل من الدكتور «ماثيو ليفيت» مدير برنامج ستاين لمكافحة اإلرهاب‬

‫وللقيام بأعمال تخريبية يتكرر كثي ًرا حيث إنه في غضون ثالث سنوات‬

‫األستاذ الزائر بأكاديمية الدفاع في المملكة المتحدة وصاحب كتاب‬

‫بتهمة التخطيط لتنفيذ هجمات إرهابية‪ ،‬موضحً ا أن آخر المخططات‬

‫بمعهد واشنطن لسياسة الشرق األدنى‪ ،‬والدكتور «جاك كارافالي»‬

‫«عصر الكراهية‪ :‬داعش وإيران والشرق األوسط الجديد»‪ ،‬وبمشاركة‬ ‫الباحث السعودي كامل الخطي وحضور لفيف من الباحثين‬

‫والمهتمين‪.‬‬

‫في البداية أوضح الدكتور «ليفيت» أنه في يوليو قبل قرابة‬ ‫ثالث سنوات أو تزيد قليلاً ‪ ،‬قام «حزب الله» بتفجير حافلة للسياح‬ ‫في بلغاريا‪ ،‬أعقبها قيام االتحاد األوربي بحظر نشاطاته بمختلف‬

‫صنوفها وأنواعها‪ ،‬لكن على الرغم من إدراجه على القائمة السوداء‬

‫لالتحاد األوربي وانخراطه بشدة في الحرب السورية المندلعة حاليًّا‬ ‫ومنذ سنوات‪ ،‬فما زال «حزب الله» يخطط لتنفيذ هجمات في جميع‬ ‫أنحاء العالم وكأنه ال يأبه ليس بالشرق األوسط وحده بل بأوربا ً‬ ‫أيضا‪،‬‬

‫إضافة إلى الكشف عن مخططات إجرامية مؤخ ًرا لـ «حزب الله» في‬ ‫أماكن بعيدة مثل‪ :‬بيرو‪ ،‬وتايالند‪ ،‬وكندا‪ ،‬واليونان؛ علمًا بأن آخر‬ ‫مخطط أُح ِبط كان في قبرص‪ ،‬حيث خ ّزن المواطن الكندي من أصول‬

‫كما أكد «ليفيت» أن ما يقوم به حزب الله من محاوالت للتفجير‬ ‫حكمت محكمة قبرص على عناصر كثر من «حزب الله» بالسجن‬

‫اإلرهابية كانت مختلفة كليًّا من حيث القدرات وكون حزب الله لم يعد‬

‫يأبه بإنذارات وتحذيرات االتحاد األوربي له في التحرك على األراضي‬

‫األوربية وأصبح متماديًا إلى ح ّد مخيف جدًّا‪.‬‬

‫أموال غير مشروعة ووثائق مزورة لنشر الفوضى في العالم‬

‫وأضاف «ماثيو ليفيت» أن حزب الله ال يزال مستم ًّرا في عمليات‬

‫شراء األسلحة والتكنولوجيا ذات األهداف التخريبية في أوربا‪،‬‬ ‫مستشهدًا بأنه في يوليو عام ‪2014‬م‪ ،‬أدرجت وزارة الخزانة األميركية‬

‫شركة اإللكترونيات االستهالكية اللبنانية التي تسمى بــ«ستارز غروب‬ ‫هولدنغ»‪ ،‬ومالكيها‪ ،‬والشركات التابعة لها‪ ،‬على القائمة السوداء‪،‬‬ ‫إضافة إلى «بعض المديرين واألفراد الذين يدعمون األنشطة غير‬ ‫المشروعة للشركة والشركات التابعة لها والمالكين‪ .‬وكانوا جميعً ا‬

‫يشكلون شبكة مشتريات رئيسة تحت أوامر «حزب الله»؛ تهدف‬ ‫هذه الشبكة إلى شراء كل ما يساهم في تطوير الذراع العسكرية‬

‫لبنانية ‪-‬ويدعى حسين بسام عبدالله‪ -‬قرابة ‪ 8.2‬أطنان من مادة نترات‬ ‫ً‬ ‫ومعترفا بعد‬ ‫األمونيوم المستخدمة كثي ًرا في صنع المتفجرات‪ ،‬مُق ًّرا‬

‫لهذا الحزب من مختلف بقاع العالم وتطوير الطائرات من دون طيار‬

‫انتسابه إلى منظمة حزب الله اإلرهابية‪ ،‬وحيازة متفجرات‪ ،‬ورغبته‬

‫أعضاء يحملون جوازات سفر مزورة كما حدث مع أحد المنتمين له‬

‫محاكمته بأن التهم التي وجهت له جميعها صحيح‪ ،‬وكان من ضمنها‪:‬‬

‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬

‫التي يرسلها إلى األجواء اإلسرائيلية والسورية‪ ،‬ويكون ذلك عن طريق‬


‫وهو «حسين بسام عبدالله» المتخصص أكاديميًّا في الكيمياء؛ إذ‬

‫الحصول على أغلبية موالية‪ ،‬لكن طبيعة األمور في الظاهر ال تسير‬ ‫وفق الواقع الذي قد ّ‬ ‫تشخصه الدراسة واإلحصاء‪ ،‬فالدراسة واإلحصاء‬

‫بتزويد العاملين معه ببطاقات هوية بريطانية مزورة وأموال ضخمة؛‬

‫سطوة أقليات منظمة تمتلك أدوات توجيه وأدوات تعبير تبدو من‬

‫كانت مهمته العثور على مستودع لتخزين المواد المتفجرة‪ ،‬ونقلها‬

‫بعد ذلك بحزمات صغيرة إلى أوربا بعد أن قامت قيادات «حزب الله»‬ ‫الستخدامها محليًّا في قبرص واستئجار هذا المستودع‪ .‬وقد يكون هذا‬ ‫األمر هو الذي أدى إلى كشفه ً‬ ‫الحقا؛ مما جعل حزب الله حاليًّا يفضل‬

‫استخدام وثائق السفر بمستندات أصلية لكن باستخدام بطاقات‬ ‫ائتمانية مزورة إلجراء أعمال احتيالية محلية ال تتعلق باإلجراءات‬ ‫الحكومية‪َّ .‬‬ ‫وعلل «ليفيت» ذلك بقوله‪« :‬لو لم يستخدم بطاقة الهوية‬

‫ّ‬ ‫تشك السلطات في الشحنات‪ .‬مشي ًرا‬ ‫المزورة‪ ،‬لكان من المحتمل أال‬ ‫إلى أنه ً‬ ‫وفقا للتقارير فإن الحزب يستخدم شركات تجارية وهمية‬

‫بشكل سري جدًّا بعضها في مناطق بعيدة مثل الصين ودبي لشحن‬

‫قد ُينطِ قان صمت األغلبية‪ ،‬على حين أن المشهد الظاهر يقع تحت‬ ‫خاللها للعين المجردة‪ ،‬كأنها ممثل شرعي للغالبية‪ ،‬وهذا األمر يجلب‬

‫معه تبعات‪ ،‬أخطرها على اإلطالق تعميق أزمة الثقة‪ ،‬وتعزيز الشكوك‬ ‫في الوالء الوطني‪ ،‬وإدامة قلق ازدواج الهوية»‪.‬‬

‫وأكد أن إيران «استثمرت في عامل التمييز الذي أض ّر األقليات‬

‫الشيعية العربية‪ ،‬وشاركها في استثمارها طيف من اليسار واليسار‬

‫معارض‬ ‫القومي خابت آماله بفشل مشروعه السياسي‪ ،‬ما حوله إلى‬ ‫ِ‬ ‫لألنظمة القائمة من دون مشروع نهضوي واضح السمات»‪.‬‬

‫مواد كيميائية ذات استخدام مزدوج لصنع المتفجرات‪ ،‬كما أن مكتب‬

‫االتفاق النووي سيجعل إيران تطور مفاعالتها العسكرية‬

‫على تورط حزب الله في أعمال بشعة وأموال غير شرعية‪ ،‬إضافة إلى‬

‫في المملكة المتحدة أهم النتائج التي توصل لها في آخر كتبه الذي‬

‫التحقيقات الفيدرالية لديه كثير من الوثائق والمستندات التي تدل‬

‫أنه منظمة عسكرية تكنّ لمنطقة الخليج الكره الكثير الذي يتجاوز كره‬

‫العرب إلسرائيل‪.‬‬

‫كوادر حزب الله هم األكثر تدريبًا‬

‫كما قدّم الدكتور «جاك كارافالي» األستاذ الزائر بأكاديمية الدفاع‬

‫كان بعنوان‪« :‬عصر الكراهية‪ :‬داعش وإيران والشرق األوسط الجديد»‬

‫ومن أهمها أن حزب الله يساعد إيران في تنفيذ عملياتها‪ ،‬إضافة إلى‬ ‫تنامي النفوذ اإليراني في المنطقة‪ ،‬وبخاصة بعد تنفيذ االتفاق النووي‬

‫عام ‪2015‬م الذي ينظر إليه على أنه اتفاق سيئ وحسن في الوقت نفسه‪،‬‬

‫من جهته أوضح الباحث كامل الخطي أن «حزب الله» يشكل‬

‫فقد استطاع المفاوض الغربي إقناع إيران ببعض األمور التي من‬

‫فكوادره هم األكثر تدريبًا واألحسن إعدادًا بين منتسبي التيار العريض‬

‫تستطيع اآلن تحسين منشآتها النووية والبنية التحتية فيها‪ ،‬وربما‬

‫النخبة في حركة «السائرون على نهج اإلمام» أو «خط اإلمام»‪،‬‬

‫الذي يُع َرف باسم «السائرون على نهج اإلمام»‪ ،‬مؤكدًا أهمية الدور‬ ‫الذي تلعبه الحركة وخطورته‪.‬‬

‫ورأى الخطي أن إيران الثورة لم تتوانَ ‪ ،‬في الصراع السياسي‬

‫والحرب الباردة الناتجة عنه في منطقتنا‪ ،‬عن استخدام األقليات‬

‫الشيعية العربية كأحد أسلحتها في إدارة الحرب من جانبها؛ إذ‬ ‫اعتمدت على ُنخب مج ّندة؛ لكي تعمل رأس حربة لها في توجيه‬ ‫الرأي والمزاج السياسي العام للدفاع عن مواقفها ومواقف الفصائل‬ ‫المحسوبة عليها عل ًنا في األوساط‬

‫المستحيل أن تم ّر في السابق‪ ،‬وفيما يتعلق بالجانب السيئ فإن إيران‬ ‫تقوم إيران بتطوير أبحاثها في هذا المجال‪ ،‬ومع مرور الوقت تطور‬

‫قدراتها الحربية وتتفاقم األمور بشكل أسوأ‪ ،‬ويعتقد الدكتور كارافالي‬ ‫أن الشرق األوسط يشهد تحولاً وتغيرات متسارعة‪ ،‬وهناك من يريد أن‬

‫تسود الوحشية والتدمير‪ ،‬وهناك من يريد االستقرار واألمن‪ ،‬ويجب‬ ‫الوقوف مع من يريد السالم واألمن‪ ،‬والتماس الفرص في هذا العالم‬ ‫المليء بالمشكالت من أجل الغد الذي ال بد من اإلعداد له‪ ،‬وذلك‬

‫بالتوجه إلى جيل الشباب وتطويره؛ ألنه يمثل القادة والمستقبل‪.‬‬

‫الشيعية العربية‪.‬‬

‫الوالء الوطني واالستثمار في‬

‫عامل التمييز‬

‫يضيف الخطي قائلاً ‪« :‬أزعم أنه‬

‫لو د ُِرست خارطة توزيع الوالءات‬ ‫السياسية في المجتمعات الشيعية‬

‫في دول الخليج العربية بدقة‪ ،‬فلن‬ ‫تظهر نتيجة إحصائية لصالح إيران‪،‬‬ ‫وربما لن تظهر أي نتيجة إحصائية‬ ‫تدل على قدرة أي فصيل من فصائل‬

‫اإلسالم السياسي الشيعي‪ ،‬على‬

‫جانب من الحضور‬

‫‪11‬‬


‫فعاليات‬

‫المؤتمر السنوي للفكر السياسي اإلسالمي‪:‬‬

‫باحثون يعالجون فكر «الموا َدعة»‬ ‫في الفقه اإلسالمي‬

‫‪12‬‬

‫من جلسات المؤتمر‬

‫ُعقد في قاعة معهد الفيصل بالمركز يوم الثالثاء ‪7‬‬

‫ما بعد العصر األموي في األندلس»‪ ،‬وتناول راينر برونر ‪-‬من‬

‫ربيع األول ‪1438‬هـ‪ 6 /‬ديسمبر ‪2016‬م المؤتمر السنوي للفكر‬

‫المركز الوطني للبحوث العلمية في باريس‪« -‬اإلسالم الشيعي‬

‫السنة والشيعة والصوفية في العصور الكالسيكية اإلسالمية‬

‫المعاصرة»‪ ،‬واستعرض جيريمي كاليدوستي ‪-‬من أكاديمية‬

‫السياسي اإلسالمي بعنوان‪« :‬المُ وادَعة السياسية في فقه‬

‫والمعاصرة»‪.‬‬

‫بدأت فعاليات المؤتمر‪ ،‬التي استم ّرت يومين‪ ،‬بمحاضرة‬

‫افتتاحية لكريستوفر ميلشرت ‪-‬أستاذ اللغة العربية‬ ‫والدراسات اإلسالمية في كلية برمبروك بجامعة أكسفورد‪-‬‬

‫بعنوان‪« :‬الخلفاء الراشدون‪ :‬اآلراء المتعددة المحفوظة في‬

‫الحديث»‪ ،‬أعقبتها حلقة النقاش األولى بعنوان‪« :‬مفهوم‬ ‫الموادعة في الفكر اإلسالمي»‪ ،‬تحدّث خاللها جان بيتر‬ ‫هارتونغ ‪-‬األستاذ في دراسة اإلسالم بجامعة سواس في لندن‪-‬‬

‫عن «استقراء تحليلي لمفهوم الموادعة السياسية»‪ ،‬وديفيد‬

‫أوين ‪-‬من جامعة هارفارد‪ -‬عن «الخالفة والشرعية الروحية‪،‬‬

‫والموادعة الفلسفية‪ ،‬ومشكلة األنظمة القاصرة في مرحلة‬ ‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬

‫المُ وادِع في العصور الكالسيكية والحديثة‪ :‬بعض الملحوظات‬ ‫فنلندا‪« -‬الدستورية بوصفها إستراتيجية موادعة‪ :‬الحالة‬

‫التونسية»‪.‬‬

‫ودارت حلقة النقاش الثانية حول «الموادعة السياسية‬

‫والحركات االجتماعية السياسية»‪ ،‬وقدّ مت فيها والء قويسي‬ ‫‪-‬من جامعة أكسفورد‪ -‬ورقة عمل بعنوان‪« :‬الموادعة‬

‫السياسية في خطاب التقليديين الجُ دد‪ :‬العائق المعرفي‬ ‫ً‬ ‫متطرقة إلى الموادعة السياسية‬ ‫أمام تجزئة الحداثة للسلطة»‬ ‫ً‬ ‫ومتخذة من عبدالحكيم واد نموذجً ا‬ ‫في خطاب التقليديين‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ومعتبرة أنه هو الذي شكل سردًا واضحً ا للدارسين‬ ‫لذلك‪،‬‬

‫فيما يتعلق بالعواقب الروحية التي يواجهها التقليديون الجدد‬ ‫والناقمون بشكل نقدي للحداثات اإلسالمية التي ُع ِرضت‬


‫ُ‬ ‫وتط ِّرق إليها إبان تلك الحقبة؛ إذ إنهم ‪-‬كما تذكر المتحدثة‪-‬‬

‫يرفضون بكل صراحة تلك الحقبة‪ ،‬ويرون أننا جميعً ا فقدنا‬ ‫شي ًئا من الماضي ومُ ِّزق الدين والسياسة والجهاد على حين‬ ‫أننا بكل أسف تجاهلنا الحقيقة الداخلية للجهاد؛ مما َ‬ ‫أدخل‬ ‫اإلسالم‪ ،‬نتيجة عدم وجود قراءات جديدة‪ ،‬في دوامة الحداثة‬ ‫السائلة التي جعلت العالم الغربي مستم ًّرا في المعاناة‬ ‫األخالقية والمالية‪ ،‬وإقصاء كثير من التصورات اإلسالمية‪،‬‬

‫والمفاهيم المهمة؛ كالمقاومة واالستشهاد‪ ،‬واستبدل بها‬

‫مفاهيم أخرى كالربح والمصلحة والحرية الذاتية وتحقيق‬

‫الذات‪ ،‬وإقصاء المفاهيم االجتماعية المهمة كالجماعة‬ ‫والوالء والتضحية؛ ألنها تعُ دّ من يتصرف خارج مفاهيم‬ ‫ً‬ ‫شخصا غير عقالني وال يسير على الطريق‬ ‫الحداثة السائلة‬

‫الصحيح‪.‬‬

‫وتحدث الخبير فؤاد علييف ‪-‬من جامعة أذربيجان‬

‫الوطنية‪ -‬عن «حركة غولن في أذربيجان‪ :‬موادعة سياسية أم‬ ‫ً‬ ‫منطلقا أساسيًّا‬ ‫تقيّة؟» طارحً ا من خالل حديثه سؤالاً يشكل‬

‫لبحثه وهو‪ :‬هل نعدّ حركة غولن موادعة سياسية في أذربيجان‬ ‫أم ال؟ مجيبًا عن ذلك بأن حركة غولن ظاهريًّا تتب ّنى مفهومً ا‬

‫غير مُ سيّس للدين؛ إذ إن تلك الجماعة تؤمن أن اإلسالم‬ ‫ليس أيديولوجية سياسية أو نظام حكم أو شكلاً للدولة‪ ،‬وهي‬ ‫جماعة فوق السياسية‪ ،‬لكنها وبشكل باطني رغم أنها تبتعد‬

‫من العمل السياسي الحزبي؛ فإنها تنهمك في التحالف مع‬ ‫األحزاب السياسية في مقابل الدعم واالمتيازات التي تريد أن‬ ‫ّ‬ ‫تتلقاها منها‪ ،‬وتعمل ً‬ ‫أيضا على التغلغل في مؤسسات الدولة‬ ‫والتقدم في المناصب المهمة؛ لهذا تتخذ من الخدمات‬ ‫ً‬ ‫وسيلة للنفوذ والتغلغل في أجهزة‬ ‫االجتماعية التي تقدمها‬

‫الدولة ومؤسساتها الصلبة كوسيلة للوصول لمرحلة تسمى‬

‫ما بعد التمكين؛ فبسبب ذلك يرى بعض المختصين أن‬ ‫الجماعة تمارس ما يسمى بــ«التقية السياسية»؛ للوصول إلى‬ ‫المناطق الحساسة في مفاصل الدولة وإن اضطر أفرادها إلى‬

‫إخفاء مشاعرهم‪ ،‬وفيما يتعلق بما تمارسه تلك الحركة في‬

‫أذربيجان فقد أشار الباحث إلى أن حركة فتح الله غولن وما‬ ‫ً‬ ‫خصوصا ما بعد االتحاد السوفييتي م ّرت‬ ‫تمارسه من الدعوة‬ ‫ً‬ ‫ممنوعا‬ ‫بكثير من المراحل وحاولت تجديد اإلسالم الذي كان‬

‫تحت السلطة السوفييتية؛ لهذا فإنها كانت مختلفة في أولى‬ ‫سنوات االستقالل مقارنة بالحركات اإلسالمية األخرى ذات‬ ‫الطابع الديني‪ ،‬إذ إن كثي ًرا من الناشطين اإلسالميين حاليًّا‬ ‫يصفون حركة غولن بأنها مؤامرة ولها أهدافها السياسية‪،‬‬

‫وعن األيديولوجيات التي استمدت منها جماعة غولن منهجها‬

‫ورؤيتها فقد أشار إلى أنها أخذت أفكارها من النورسية‬ ‫المنسوبة إلى سعيد النورسي‪ ،‬واختتم الباحث حديثه بأن‬

‫جانب من الحضور‬

‫حركة غولن هي حركة اجتماعية تندمج في المجتمع بهدف‬

‫اإلصالح‪ ،‬وبالتدرج تعادي النظام القائم بطرائق ملتوية‪،‬‬ ‫ً‬ ‫خصوصا بعد االنقالب الذي‬ ‫وفيما يتعلق بمحاربتها من تركيا‬ ‫حدث مؤخ ًرا‪ ،‬فقد قام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان‬ ‫بزيارة أذربيجان مطالبًا القيادات هناك بإغالق المدارس‬

‫والمنشآت التي يمتلكها غولن وتسليمها للسلطة؛ ألن لديهم‬ ‫ً‬ ‫أهدافا باطنية توسعية‪ ،‬وهذا ما شعرت به حكومة أذربيجان‪.‬‬ ‫وتناول الباحث السيد علي الموسى «اإلخباريون الشيعة‬

‫ومنهجهم المتصالح مع الواقع السياسي الحاكم‪ :‬علماء‬ ‫ً‬ ‫متحدثا في بداية األمر عن نشوء المدرسة‬ ‫البحرين نموذجً ا»‬

‫اإلخبارية وارتباطها باسم «اإلخباريون» وهم الذين يشتغلون‬ ‫بالتاريخ‪ ،‬وعندما جاء اإلسالم ارتبطت تسميتهم بمن ينقل‬

‫الحديث النبوي‪ ،‬وهكذا ُعرف هذا العلم بعلم األخبار‪ُ ،‬‬ ‫وعرف‬ ‫عنه اعتماد نقله عن الرواة والمحدثين أو اإلخباريين‪ .‬وكان‬

‫قدماء اإلخباريين يسمّ ون بأصحاب الحديث‪ ،‬وكانوا موجودين‬ ‫ّ‬ ‫ولعل أقدم نص يتحدّث‬ ‫لدى أهل الس ّنة والشيعة على السواء‪.‬‬ ‫عن اإلخبارية بوصفها فرقة قائمة ضمن المذهب الشيعي‬

‫اإلمامي هو ما ذكره الشهرستاني في كتابه الشهير «الملل‬

‫والنحل»؛ إذ وصفها بأنها طائفة تأخذ بظاهر الرواية وصريح‬ ‫لفظها من دون تأويل أو استنباط‪ ،‬واستخدم اإلخباريون‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫بعض األساليب‬ ‫الشيعة بعد الغيبة الكبرى ‪-‬كما يذكر الباحث‪-‬‬

‫السنية‪ .‬وعلل أسباب نشوء المدرسية اإلخبارية بردّة الفعل‬ ‫القوية أمام فتح الباب لالستنباط وقبول الخبر والتسامح في‬ ‫اإلسناد‪ ،‬كما أن المنهج اإلخباري أصبح يعتمد متأخ ًرا على‬

‫الكتب اإلخبارية األربعة كالكافي والتهذيب وغيرهما من الكتب‬ ‫الشيعية الشهيرة‪ .‬وفيما يتعلق بالتسامح السياسي ومنهج‬ ‫التصالح مع واقع السلطة في البحرين فإنهم أثبتوا إيمانهم‬ ‫ً‬ ‫انطالقا من رواية الكاظمي‪« :‬ال تذلوا رقابكم‬ ‫بضرورة التعايش‬ ‫بترك سلطانكم» وما م ّرت به البحرين من حكومات مختلفة‬

‫‪13‬‬


‫فعاليات‬

‫واتحاد الموقف الشيعي المتسامح حولها أكبر دليل‪ ،‬ولنا في‬

‫تجربة سليمان المدني عام ‪1421‬م والخطبة التي ألقاها في يوم‬

‫‪14‬‬

‫الجمعة إبان تلك الحقبة خير دليل وبرهان‪.‬‬

‫بخاري «فقه اإلمام سعيد النورسي في التعامل مع الحاكم‬

‫الجائر»‪ ،‬وقدّ م بومدين بوزيد ‪-‬وكيل وزارة الثقافة اإلسالمية‬

‫في وزارة األوقاف والشؤون اإلسالمية بالجزائر‪ -‬ورقة عمل‬

‫ورصد محمد غزبوالييف ‪-‬من األكاديمية الروسية‬

‫عن «الجزائر التصوّف‪ :‬بين التوظيف السياسي والتأويل‬

‫انهيار إمامة شامل‪ :‬الرسالة الشريفة التي كتبها العالمة‬ ‫الداغستاني عبدالرحمن الثغوري» إذ إنه في عام ‪1861‬م أُعدم‬

‫القومي في أفغانستان‪« -‬العودة إلى الموادعة في مقابل‬ ‫اإلسالم السياسي‪ :‬حالة آية الله محمد إسحاق فياض»‪.‬‬

‫هجرات كثيرة من شرق القوقاز إلى شمالها‪ ،‬ثم عادت األمور‬

‫من مفهوم الموادعة السياسية»‪ ،‬وقدّ مت فيها الباحثة‬

‫للعلوم‪« -‬النقاشات الفقهية حول الهجرة في القوقاز بعد‬

‫كثير من اإلسالميين في شمال القوقاز؛ مما أدى إلى حدوث‬ ‫ً‬ ‫خصوصا مع عبدالرحمن الصخوري‪ ،‬وبدأ يتكون‬ ‫إلى الهدوء‬

‫ما يسمى بالحوار اإلسالمي لكن ما كتبه رجب محمد اإلمام‬ ‫في بحثه «إقامة البرهان على ارتداد البرهان والمجتمعات‬

‫التقليدية» المتضمن أن على كل مسلم أن يهاجر بعيدً ا من‬ ‫الحكم الشامل؛ أدى إلى نشأة حركات مهمة في داغستان‪،‬‬ ‫لعل أبرزها تلك التي قادها عبدالرحمن السفوري‪.‬‬

‫الثقافي»‪ ،‬وتناول قيوم سروش ‪-‬من مكتب مجلس األمن‬

‫وحملت حلقة النقاش الرابعة عنوان‪« :‬ظواهر مستمدّ ة‬

‫تبسم بارفين ‪-‬من جامعة الملة اإلسالمية في الهند‪ -‬ورقة‬ ‫عمل «السلفيون والموادعة السياسية في الماضي والحاضر»‬

‫تناولت فيها السلفيين والموادعة السياسية في الماضي‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫مستهل حديثها إلى أن توحيد الربوبية‬ ‫متطرقة في‬ ‫والحاضر‪،‬‬

‫واأللوهية لدى السلفيين ال بد أن يكون على نهج اإلسالميين‬ ‫األوائل وتطبيق أعمالهم ألنهم يطبقونها عن رسول الله وخاتم‬

‫واستؤنفت فعاليات المؤتمر في اليوم الثاني بمحاضرة‬

‫األنبياء واصفين بذلك أي خالف للمنهج الصحيح بالبدعة‪،‬‬

‫إكستر البريطانية‪ -‬عن «الموادعة والشرعية السياسية‪ :‬اآلراء‬

‫بالطريقة الصحيحة على حين أن هناك تيارات حاليًّا تنتسب‬

‫افتتاحية لروبرت غليف ‪-‬أستاذ الدراسات العربية في جامعة‬ ‫الشيعية في السياق اإلسالمي على النطاق األوسع»‪ ،‬وتحدّ ث‬

‫وأن السلفيين –وفق تعبيرها‪ -‬تعاملوا مع الدعوة اإلسالمية‬

‫للسلفية ال تطبق الدعوة السلفية تمامً ا‪ ،‬ولها أطماع خفية‪،‬‬

‫الدكتور سعود بن صالح السرحان ‪-‬األمين العام للمركز‪-‬‬ ‫ّ‬ ‫والمفكرون»‪ ،‬ثم بدأت فعاليات حلقة‬ ‫عن‪« :‬الفكر المُ وادِع‬

‫إيران وثورة الخميني المشهورة‪ ،‬وتحدث أليساندرو كانشيان‬

‫«الصبر على ما نحن فيه خير من الفتن‪ :‬نشأة الموادعة‬ ‫السياسية في الفكر الس ّني»‪ ،‬وشرح الباحث منصور‬

‫ُ‬ ‫«لست سوى مزارع قرويّ ودرويش‪ ..‬بين الموادعة السياسية‬ ‫ّ‬ ‫المبكر وتحدي الحداثة»‪،‬‬ ‫والقيادة الروحية‪ :‬التصوف الشيعي‬

‫النقاش الثالثة‪ ،‬وتحدّ ث فيها الدكتور سعود السرحان عن‬

‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬

‫وتريد الوصول إلى السلطة تحت شرعية الدين كما حدث مع‬ ‫‪-‬الباحث في معهد الدراسات اإلسماعيلية في لندن‪ -‬عن‬


‫وتناولت ليلى مقبول ‪-‬الباحثة في جامعة أوسلو بالنرويج‪-‬‬ ‫ً‬ ‫مشيرة‬ ‫«التقوى وسياسة الوعظ بين الداعيات السعوديات»‬

‫برؤاهن وتطلعاتهن من دون فرضها معتمدات على رأس‬

‫وتناقشت معهن حول تجنبهن القضايا السياسية؛ لتجيب‬

‫حبيب ‪-‬من جامعة حامية الهور في الهند‪« -‬الحوار الداخلي‬

‫إلى أنها اجتمعت مع مجموعة من الداعيات السعوديات‪،‬‬

‫إحداهنّ عن ذلك بأنها تحاول أن تركز على القضايا االجتماعية‬ ‫ً‬ ‫ومعتبرة أن السياسة هي عالم‬ ‫ذات الفوائد األكثر أهمية‪،‬‬ ‫الرجال‪ ،‬وأنه ‪-‬وفق الباحثة مقبول‪ -‬قد نشأ أسلوب جديد‬

‫للداعيات السعوديات‪ ،‬وهو ما يسمى «بالداعيات المثقفات»‬

‫إذ إنهن –أي الداعيات‪ -‬متضامنات مع رؤى المملكة وسياساتها‬

‫إال أنهن في الوقت نفسه يشاركن في المسائل السياسية‬ ‫مالهن الفكري والمالي الشرعي‪ ،‬واستعرض محمد شهيد‬ ‫بين المُ وادعين وغير الموادعين من المنظور الفقهي السني‬

‫والصوفي والشيعي»‪.‬‬

‫ويُذكر أن إدارة البحوث في مركز الملك فيصل للبحوث‬ ‫والدراسات اإلسالمية س ُتصدر كتابًا يتضمن أوراق هذا المؤتمر‬

‫السنوي‪.‬‬

‫وفد رفيع من مؤسسة راند األميركية يزور المركز‬

‫‪15‬‬

‫استقبل األمير تركي الفيصل ‪-‬رئيس مجلس اإلدارة‪ -‬في مكتبه بالمركز يوم األحد ‪ 5‬ربيع األول سنة ‪1438‬هـ‪ 4 /‬ديسمبر‬

‫‪2016‬م وفدً ا رفيعً ا من مؤسسة راند ‪ RAND‬األميركية‪ ،‬برئاسة مايكل دي ريتش الرئيس والمدير التنفيذي للمؤسسة‪ .‬وجرى‬ ‫خالل اللقاء مناقشة بعض الموضوعات التي تشغل العالم في الوقت الراهن‪ ،‬وتناوُل عد ٍد من األفكار التي ُتسهم في‬

‫تحسين السياسات ومواجهة التحديات عبر البحث والتحليل لدعم اتخاذ القرار المناسب‪.‬‬ ‫وأ ّكد األمير تركي الفيصل خالل استقباله وفد المؤسسة أن الدول والجهات الحكومية والخاصة باتت بحاجة ماسّ ة‬

‫في هذا العصر إلى االعتماد على بيوت الخبرة والبحث في العالم‪ ،‬مشي ًرا إلى أهمية الخبرة والبحث والتحليل في الخروج‬ ‫بأفكار خلاّ قة غير تقليدية تقوم على األدلة في بيئة صناعة القرار في ّ‬ ‫ظل األزمات السياسية واالقتصادية والعسكرية التي‬ ‫يعيشها العالم‪.‬‬

‫وتأتي مثل هذه الزيارات في إطار سعي المركز إلى توثيق أوجه التعاون والعالقات الثنائية مع مختلف المؤسسات‬

‫والمنظمات المحلية واإلقليمية والدولية العاملة في مجاالت البحوث والدراسات اإلستراتيجية‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫بحثية غير ربحية‪ ،‬تساعد على تحسين السياسات‬ ‫منظمة‬ ‫وتعدّ مؤسسة راند األميركية‪ ،‬التي تأسّ ست عام ‪1948‬م‪،‬‬ ‫بتكليف من الجهات‬ ‫ودعم ّاتخاذ القرار من خالل البحث والتحليل‪ ،‬وتقوم بعمل بحوثها ‪-‬على مدار سبعة عقود تقريبًا‪-‬‬ ‫ٍ‬

‫ّ‬ ‫الخاصة‪ ،‬واقترن اسمها بالبحث والتحليل الموضوعي في أهم القضايا؛ مثل‪:‬‬ ‫الحكومية والمنظمات والمؤسسات الدولية‬

‫الطاقة‪ ،‬والتعليم‪ ،‬والصحة‪ ،‬واالستدامة‪ ،‬والنمو‪ ،‬والتطوير‪ ،‬واألمن‪ ،‬والعدالة‪ ،‬والبيئة‪ ،‬والشؤون العسكرية‪ ،‬للمساعدة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫صحة وازدهارًا‪.‬‬ ‫وسالمة‪ ،‬والناس أكثر‬ ‫على جعل العالم أكثر أم ًنا‬


‫مقال‬

‫ماجد الحجيالن‬ ‫رئيس التحرير‬

‫ـاما‬ ‫‪ 40‬ع ـ ً‬

‫بحلول هذا العام الميالدي تبلغ «الفيصل» عامها‬

‫األربعين؛ إذ تستكمل أربعة عقود منذ إصدارها‬

‫األول عام ‪1977‬م‪ ..‬سنوات طويلة مرت اعترى خاللها‬

‫وقد نشرت المجلة خالل العام المنصرم عددًا كبي ًرا من‬

‫السياسة والثقافة والصحافة ما اعتراها مما يعرفه كل‬

‫المقاالت والدراسات والتحقيقات والنصوص والترجمات‬

‫تتفاعل مع المتغير وثابتها الوحيد خدمة القارئ‬

‫كل عدد هي عنوان المجلة األول؛ إذ تختار هيئة التحرير‬

‫متابع وقارئ‪ .‬وظلت المجلة وفيّة لموعدها الشهري‪،‬‬

‫‪16‬‬

‫الجديدة انفتاحً ا على كل ما هو ثقافي‪ ،‬كما واكبت المجلة‬ ‫ً‬ ‫أحداثا ال غنى لقارئ اليوم عن مطالعتها والتفاعل معها‪.‬‬

‫العربي حيث كان‪.‬‬

‫التي انفردت بها‪ ،‬وكانت الملفات الثقافية الكبرى في‬

‫ً‬ ‫موضوعا ثقافيًّا آنيًّا وتستكتب له أبرز المعنيين‪ ،‬بما يقدم‬

‫ففي الوقت الذي يتوقف فيه عدد من الصحف‬

‫للقارئ جرعة معرفية غنية في موضوع واحد من زوايا‬

‫ومركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية‬

‫وكما تعتز المجلة بما تلقته من قرائها وكتابها من‬

‫والمجالت التزمت مؤسسة الملك فيصل الخيرية‬

‫متعددة وآراء مختلفة‪.‬‬

‫برسالة الفيصل‪ .‬وظل الق ّراء وعشاق المجالت الثقافية‬

‫ثناء على ما تنشره؛ فإننا نثمن عاليًّا ما طالعناه من نقد‬

‫القائمين عليها‪ ،‬ومبعث حرصهم على االستمرار‬

‫وفي الحالين فإن المجلة تعتذر عن عدم نشر هذه الرسائل‬

‫هم عمادها األول‪ ،‬وكان وفاؤهم للمجلة مصدر اعتزاز‬

‫نثق أن مر ّده حرص القارئ على إيصال صوته إلى مجلته‪،‬‬

‫وتجاوز العقبات التي تعتري صحافة اليوم؛ من تعثر‬

‫على صفحاتها التزامً ا من هيئة التحرير بالخط المهني‬

‫والطباعة‪ ،‬وأخي ًرا هجرة جماعية للقراء من المطبوع‬

‫مثقفون في منابرهم الخاصة تجاه الفيصل‪.‬‬

‫التوزيع‪ ،‬وقلة التمويل اإلعالني‪ ،‬وتكاليف الورق‬

‫إلى اإللكتروني‪.‬‬

‫قبل عام من اآلن أعلنت الفيصل عن رؤية جديدة‬

‫للمجلة صدر منها حتى اآلن خمسة أعداد مزدوجة‬

‫الذي اعتمدته للمجلة‪ ،‬غير أننا جميعً ا نسعد بما عبر عنه‬ ‫وبهذه المناسبة األربعينية فإن الفيصل ستعمل على‬

‫ملف خاص بمسيرة المجلة‪ ،‬تستعيد فيه بعض تاريخها‬

‫وتتناول حاضرها‪ ،‬وترحب المجلة بمشاركات القراء ممن‬

‫هذا سادسها‪ ،‬غيرت المجلة حجمها الورقي‪ ،‬وزادت‬

‫قرأها وعرفها قبل عقود‪ ،‬أو ممن انضم إلى قرائها اليوم‪،‬‬

‫وحسابات إعالم اجتماعي‪ ،‬وأضافت (كتاب الفيصل)‬

‫ذكرى‪ ،‬كل موقف مع الفيصل سننشره في هذا الملف‬

‫عدد صفحاتها وموادها‪ ،‬وأنشأت موقعً ا إلكترونيًّا‬

‫ليكون هديتها لقرائها مع كل عدد‪ ،‬وشملت الرؤية‬

‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬

‫من ك ّتاب المجلة وممن عمل فيها أو تعاون معها‪ .‬كل‬

‫المقبل‪ ،‬وبين العدد الورقي واإللكتروني سيطالع القارئ‬


‫شي ًئا من تاريخ المجلة وأثرها الذي صنعته في الحياة‬

‫الثقافية لمتابعيها‪.‬‬

‫كل شيء تغير في الظروف المحيطة بالصحافة‬

‫الثقافية‪ ،‬غير أن الثوابت األساسية بقيت كما هي‪ ،‬فالثابت‬

‫هو المادة الثقافية الرصينة‪ ،‬والمتغير هو موضوعها وآلية‬ ‫نشرها وإخراجها‪.‬‬

‫لقد بلغتنا مشاعر عدد من متابعي المجلة ممن يذكر‬

‫‪17‬‬

‫أن أول مادة صحافية نشرها في شبابه كانت في الفيصل‪،‬‬

‫فقد اتسعت صفحاتها في ذلك الحين لمشاركات الشباب‬ ‫وعشاق األدب والشعر والفنون من الجيل الغض‪ ،‬وكان‬

‫ذاك منهج معظم الصحف والمجالت‪ ،‬أما المتغير اليوم‬

‫فلم تعد الصحف والمجالت هي المنبر الوحيد الذي‬

‫يستطيع فيه الجيل الناشئ أن يعبر عن نفسه وأن يطور‬

‫مواهبه الكتابية‪ ،‬فقد أتاحت وسائل االتصال الجديدة لكل‬

‫مبدع مهما بلغت سنه وخبرته أن يكتب وينشر ويتفاعل مع‬

‫قرائه من دون الحاجة إلى وسيط صحافي يراقبه ويقيمه‪.‬‬

‫وال بد من تحية يقدمها الفريق العامل على إعداد مجلة‬

‫ً‬ ‫حريصا على اقتنائها‬ ‫الفيصل لكل قارئ ظل وفيًّا لمجلته‬

‫في مكتبته‪ ،‬وشكر خاص لكل من عمل في هذه المجلة من‬ ‫الزمالء الذين غادروا إلى مواقع أخرى‪ ،‬وللمئات من الكتاب‬

‫والصحافيين الذين راسلوا المجلة ونشروا فيها أعمالهم‪،‬‬

‫وستبقى الفيصل بدورها على العهد في خدمة القارئ‬ ‫العربي لتواصل رسالتها الثقافية‪.‬‬

‫ترحب المجلة بمشاركات القراء ممن‬ ‫قرأها وعرفها قبل عقود‪ ،‬أو ممن انضم‬ ‫إلى قرائها اليوم‪ ،‬من كتّاب المجلة ومن‬ ‫عمل فيها أو تعاون معها‪ .‬كل ذكرى‪،‬‬ ‫كل موقف مع الفيصل سننشره في هذا‬ ‫الملف المقبل‬


‫الملف‬

‫من االستغالل السياسي إلى العنف والتهميش‬

‫بالد األقليات الهائلة‬ ‫‪18‬‬

‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬


‫فور اإلطاحة بصدام حسين في العراق قبل أكثر من عقد نبّه باحثون إلى احتمال عودة‬

‫البالد إلى «مكوناتها األساسية» ذلك أن الدكتاتوريات‪ ،‬ولطبع أصيل فيها‪ ،‬تطحن الهويات‬

‫الفرعية واالنتماءات بجميع أشكالها لتصهرها في شخص الزعيم وحزبه‪ .‬وفور االنفكاك من‬ ‫ربقة االستبداد تظهر على السطح أشكال جديدة من الوالءات واالنتماءات بما يعكس نسيج‬

‫المجتمع الحقيقي‪ .‬ولمّ ا كانت السلطة قد أخفقت على مدى عقود في إيجاد هوية وطنية‬

‫جامعة تتسع لجميع األطياف؛ انبجست هذه الهويات الفرعية في صورة «هويات قاتلة» على‬ ‫ما يصفها أمين معلوف في كتابه الشهير‪.‬‬

‫ّ‬ ‫تشظي الدولة‬ ‫وقد كان ما كان في العراق الذي زالت سلطته المركزية حينها‪ ،‬وتبين أن‬

‫العربية احتمال حاضر ال يمنعه إال القوة القاهرة‪ ،‬وحيثما وجّ َ‬ ‫هت بصرك في المنطقة العربية‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫صراعا منفجرًا في شكل حروب متناسلة ال حرب واحدة بجبهة واحدة وفريقين‬ ‫وجدت‬ ‫اليوم‬ ‫ككتلة صماء‪ ،‬فإن لم تجد فاألرجح أن بذرة الصراع موجودة وكامنة بانتظار اللحظة المناسبة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وأحيانا ما هو أكثر من ذلك‪..‬‬ ‫اعترافا بكيانها‬ ‫هذه البذرة تكمن في االختالف‪ ..‬وجود أقلية تريد‬

‫أقليات لها خصائص مختلفة ال بد أن تعلن عن نفسها في لحظة ما‪ ،‬وهنا يلتقط السياسي‬

‫الغربي أو الشرقي فرصة التدخل بذرائع ال ّ‬ ‫حد لها‪.‬‬

‫إنها أقليات فريدة في منطقة هي أقدم بقاع األرض وأغناها بالحضارات‪ ،‬أقليات قد تكون‬

‫محدودة العدد لكن هائلة التأثير‪.‬‬

‫ويبقى السؤال األكبر‪ :‬هل هذه المقاربة الرمادية هي اآللية الوحيدة لتناول موضوع‬

‫«األقليات» في المنطقة العربية؟ أليس التنوع والتعدد ثراء؟ ألم يكن المجتمع العربي‬

‫واإلسالمي منذ فجره األول غنيًّا باألعراق واللغات واألديان؟ أال تغتني المكتبات العربية بنتاج‬ ‫أفراد ينتمون إلى أقليات؟ ألم يسهم هؤالء في المنجز الحضاري العربي من قيادة الجيوش‬

‫إلى ريادة العلوم الطبيعية؟‬ ‫ُتخصص الفيصل ملف هذا العدد لتناول موضوع األقليات في العالم العربي‪ ،‬وتختار‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫غالفا معبرًا عن ثراء هذا التنوع وجماله كما تعكسه األزياء‪ ،‬وكما يصوّره تراث كل‬ ‫عامدة‬ ‫أقلية في المنطقة العربية على اتساعها‪ ،‬إنها محاولة إلبراز المسكوت عنه في معنى التعددية‬ ‫ً‬ ‫خالقا لإلبداع اإلنساني‬ ‫وحيوية االختالف‪ ،‬وكيف يمكن أن تكون االنتماءات والهويات مصدرًا‬

‫ً‬ ‫مبعثا للشقاق والتناحر‪.‬‬ ‫ال‬ ‫قياسا إلى ضخامة موضوع األقليات وتنوعها إلى‬ ‫ويمثل هذا الملف تناولاً صحافيًّا موج ًزا‬ ‫ً‬ ‫عرقية ودينية ومذهبية‪ ،‬فضلاً عن السجال الكبير حول ما يمكن أن يصنف أقلية أو أكثرية من‬

‫حيث اإلحصاء أو التاريخ‪ ...‬إنها ومضة من الضوء على ملف واسع نضعها بين يدي القارئ‪.‬‬

‫‪19‬‬


‫الملف‬

‫سؤال الهوية‬

‫األقليات في الوطن‬ ‫حدين‬ ‫العربي سالح ذو ّ‬ ‫‪20‬‬

‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬


‫حسين جواد قبيسي‬

‫كاتب وباحث لبناني‬

‫ً‬ ‫حرارة طاغية‪ ،‬وأهمية استثنائية بعدما‬ ‫تكتسب موضوعة األقليات في المنطقة العربية‬ ‫باتت في قلب األحداث الساخنة‪ ،‬بل الملتهبة في المنطقة العربية‪ ،‬وهي أحداث شبيهة بحرب‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ووجوها مختلفة‪،‬‬ ‫مختلفا‬ ‫طابعا‬ ‫عالمية تختلف عن الحربين العالميتين السابقتين‪ ،‬باتخاذها‬

‫وأبرز هذه الوجوه الحرب التي تشنها المنظمات اإلرهابية على األقليات في الدول العربية المكتوية‬ ‫بلظاها‪ .‬غير أن أسئلة كثيرة تحيط بمسألة األقليات في الوطن العربي‪ :‬لماذا يكون التعدد الثقافي‬ ‫في نسيج الدول االجتماعي أمرًا إيجابيًّا‪ ،‬ودليلاً على الديمقراطية يستحق الثناء في المجتمعات‬ ‫ً‬ ‫ومدعاة للرثاء‪ ،‬ويستوجب التقسيم بجعل هوية سياسية مستقلة‬ ‫الغربية‪ ،‬ويصبح أمرًا سلبيًّا‬ ‫لكل أقلية‪ ،‬يتشكل منها نسيج الوطن العربي االجتماعي؟ وقبل ذلك‪ ،‬ما معنى أقليات؟ وكيف‬ ‫يكون لكل منها هوية ثقافية‪ ،‬حتى يستوجب األمر الكالم على هوية سياسية؟‬ ‫قبل الحرب الداعشية‪ ،‬كانت موضوعة األقليات موضع‬

‫حوار ومناقشات بني املفكرين والسياسيني واملثقفني والباحثني‪،‬‬ ‫تجري عىل صفحات املجالت والجرائد‪ ،‬ويف سجال يحتدّ حي ًنا‬ ‫ويخفت‪ ،‬وكان يف جميع األحيان يستند إىل نظريات ومبادئ‬

‫فكرية استمدها العائدون من املعاهد والجامعات األوربية‬

‫واألمريكية؛ فالدولة‪/‬األمة الحديثة التي تكوّنت يف الغرب‪ ،‬قامت‬

‫عىل أساس من تطابق الهوية السياسية مع الهوية الثقافية كما‬ ‫نادى به فالسفة السياسة واالجتماع منذ عصر األنوار‪ .‬لكن‬

‫بقيت هناك خالفات بني املدرستني الفرنسية واألمريكية حول‬ ‫تعريف الهوية الثقافية الناشئة عن االختالف يف تعريف مفهوم‬

‫الثقافة نفسه‪ .‬هذا االختالف كثري التشعب‪ ،‬ويحتاج إىل دراسة‬ ‫ال يتسع لها املجال هنا واآلن‪ .‬ونكتفي بذكر ما هو مشرتَك بني‬

‫املدرستني‪ ،‬وهو توافر معايري عدّ ة يف الهوية الثقافية لقوم من‬ ‫األقوام‪ُّ ،‬‬ ‫أقلها لغة مشرتكة‪ ،‬ودين مشرتك‪ ،‬وتاريخ مشرتك‪،‬‬

‫وطموح مشرتك‪ .‬إذ تتداخل علومٌ كثرية يف دراسة األقليات‬

‫كالسوسيولوجيا السياسية‪ ،‬واألنرثوبولوجيا الثقافية‪ ،‬وتاريخ‬ ‫الحضارات‪ ،‬وعلم الوراثة‪ .‬فهذه املوضوعة القديمة الجديدة‬

‫تتجدد مع التغريات االجتماعية واالقتصادية والثقافية التي‬

‫تحدث يف الحقب التاريخية املختلفة‪ ،‬كما تنطوي عىل صراعات‬ ‫سياسية واجتماعية واقتصادية تتخذ شكل صراعات عرقية‬

‫إثنية‪ ،‬أو دينية مذهبية‪.‬‬

‫التواطؤ مع اإلمربيالية‬

‫ومع أنه يجب أن يُنظر إىل تصنيف األقليات الدينية‬

‫واإلثنية واللغوية يف ضوء هذه العلوم‪ ،‬فإن النخب الفكرية‬

‫‪21‬‬


‫الملف‬

‫كان نظام الحكم العثماين يق ُّر بها‪ ،‬ولكن منضوية تحت حكم‬

‫والسياسية يف الوطن العربي ّ‬ ‫َ‬ ‫مخافة‬ ‫قلما تتناولها‪،‬‬ ‫ّاتهامها بالتواطؤ مع القوى الغربية واإلمربيالية‬

‫حتى الصهيونية الساعية إىل تفتيت املنطقة العربية‬

‫وتقسيمها‪ ،‬إذ ال بد أن نلحظ أن مسألة األقليات‬ ‫كانت موضع اهتمام الدول الخارجية الستخدامها يف‬

‫مشروعات االحتالل والهيمنة والتقسيم؛ فقد كانت‬ ‫الدولة العثمانية يف مرحلة صعودها وقوتها‪ ،‬تميز بني‬

‫الطبقة الحاكمة والرعايا‪ ،‬وتقسم الرعايا عىل أساس‬ ‫نظام امللل العثماين الذي أعطى لكل طائفة حق إدارة‬ ‫شؤونها الدينية بنفسها‪ ،‬وبناء مؤسساتها الرتبوية‪،‬‬ ‫والثقافية‪ ،‬واالجتماعية‪ ،‬وإدارة أوقافها عرب مجلس‬ ‫لكل منها دون تدخل مباشر من جانب الدولة‪ ،‬ثم ما‬

‫لبث نظام امللل العثماين الذي استم ّر العمل فيه طوال‬ ‫القرنني السادس عشر والسابع عشر‪ ،‬أن تحول يف‬

‫لتفسخها‬ ‫مرحلة انحدار السلطنة وضعفها‪ ،‬إىل سبب‬ ‫ُّ‬ ‫من الداخل بعد هزائمها العسكرية منذ أواسط القرن‬

‫الثامن عشر‪ ،‬أمام هجمات الدول األوربية‪ ،‬وبخاصة‬

‫‪22‬‬

‫مع حملة نابوليون بونابرت يف أواخر ذلك القرن من‬

‫أجل احتالل مصر وبالد الشام تمهيدً ا الحتالل األستانة‬

‫وإنهاء الدولة العثمانية‪ ،‬مستخدمً ا أسلوب التعاطف‬

‫السلطان وسلطته املطلقة‪ .‬هذه امللل هي التي أصبحت فيما‬ ‫ً‬ ‫خليطا من العرب والكرد واألرمن‬ ‫بعد ُتدعى أقليات‪ ،‬وكانت‬

‫والشركس والسريان واملسيحيني بطوائفهم املختلفة‪ ،‬واليهود‬ ‫ً‬ ‫عالوة بطبيعة الحال عىل الرتك‬ ‫واملسلمني بمذاهبهم املتعددة‪،‬‬ ‫وغريهم‪ ..‬والحق أن مجموع هذه األقليات أو امللل كان يكوّن‬ ‫ٌ‬ ‫خليط‬ ‫النسيج االجتماعي الفسيفسايئ املتنوع واملتعدد‪ ،‬فهو‬

‫من األقوام والقبائل واألديان واملذاهب واألعراق واأللسن‪.‬‬

‫قبل الحكم العثماين وقبل املسألة الشرقية‪ ،‬كان هناك ما‬ ‫ّ‬ ‫يستقلون يف مساحة‬ ‫ُع ِرف بعصر الدويالت حينما كان الحكام‬

‫جغرافية يسمونها باسم القبيلة التي ينتمون إليها‪ ،‬كدولة بني‬ ‫حمدان‪ ،‬ودولة بني بويه‪ ...‬تمامً ا مثلما كانت الدول اإلسالمية‬

‫نفسها تتسمّ ى باسم جد القبيلة‪ ،‬كدولة بني أمية (الدولة‬ ‫األموية)‪ ،‬ودولة بني العباس (الدولة العباسية)‪ ،‬والدولة‬

‫الفاطمية‪ ،‬والدولة األيوبية‪ .‬حتى الدولة العثمانية نفسها‬ ‫تسمّ ت باسم جد القبيلة الرتكية عثمان‪.‬‬ ‫معان سلبية وإيجابية‬

‫ومع أن الدول التي تخلو من األقليات نادرة جدًّ ا‪،‬‬

‫فإن مفهوم األقليات يف بالدنا بات يحتمل كثريًا من املعاين‬ ‫السلبية واإليجابية‪ ،‬يف ظل مشروعات تفكيك األرض والهوية‬

‫والشعب‪ ،‬إذ تصبح هويات األقليات من دون هوية جامعة‪،‬‬

‫مع طوائف بالد الشام ومصر‪ ،‬واستمالة زعماء األقليات‬

‫ويطغى فيها الخاص دومً ا عىل العام‪ :‬إذا كانت الهوية‬

‫أنظمة ديمقراطية عىل النمط الغربي‪ ،‬وإنقاذهم من‬

‫والؤهم للوطن‪ ،‬من دون أن ينتفي وجود أقليات ذات‬

‫الدينية والعرقية واللغوية‪ ،‬ومساعدتهم عىل إقامة‬

‫الحكم العثماين االستبدادي‪ .‬وعىل الرغم من فشل‬

‫الجامعة هي الوطن يصبح املواطنون جميعً ا أكرثية مطلقة‪،‬‬ ‫انتماءات ثقافية مختلفة؛ أما إذا انتفت الهوية الجامعة انفتح‬ ‫باب هويات األقليات عىل مصراعيه‪ ،‬وانتفى الوالء للوطن‬

‫مشروعه السيايس والعسكري‪ ،‬فإن الدولة العثمانية‬ ‫واجهت مطالب تلك األقليات التي ُع ِر َفت بالـمسألة‬ ‫الشرقية باملزيد من القمع واإلرهاب من جهة أوىل‪،‬‬

‫يف الكالم عىل األقليات يف العالم العربي هو السعي إىل إلباس‬

‫من الخارج األوربي من جهة ثانية‪ .‬لكن تلك التدابري‬ ‫ً‬ ‫ضعفا وباتت ُتسمّ ى الرجل املريض‪ ،‬والجثة شبه‬ ‫زادتها‬

‫لماذا يكون التعدد الثقافي في نسيج‬

‫والقبول ببعض اإلصالحات والتنظيمات املفروضة‬

‫املهرتئة‪ ،‬فخسرت كثريًا من والياتها البلقانية والعربية‪،‬‬

‫وتحولت مسألة األقليات الدينية‪ ،‬والعرقية‪ ،‬والقومية‪،‬‬ ‫واللغوية‪ ،‬والجماعات القبلية والعشائرية‪ ،‬إىل منطلق‬

‫لتدمري الدولة من الداخل‪ ،‬وقيام أنظمة من الحكم‬ ‫املحيل تحت السيطرة األوربية‪.‬‬

‫كانت ملسألة األقليات يف الشرق األوسط تسمية‬

‫أخرى يف القرنني الثامن عشر والتاسع عشر وهي‪ :‬املسألة‬

‫الشرقية‪ ،‬وقد أطلقت الدول الكربى آنذاك (بروسيا‪،‬‬ ‫وروسيا‪ ،‬وفرنسا‪ ،‬وبريطانيا) هذه التسمية عىل امللل التي‬

‫الجامع‪ ،‬واستأثر االنتماء الثقايف وحده بهذا الوالء‪ .‬فأسوأ ما‬

‫هذه األقليات لبوسً ا سياسيًّا يؤدي إىل إقامة كيانات سياسية‬

‫أمرا إيجاب ًّيا ودليال‬ ‫الدول االجتماعي ً‬ ‫على الديمقراطية يستحق الثناء في‬ ‫أمرا سلب ًّيا‬ ‫المجتمعات الغربية‪ ،‬ويصبح ً‬ ‫ومدعاةً للرثاء‪ ،‬ويستوجب التقسيم‬ ‫بجعل هوية سياسية مستقلة لكل‬ ‫أقلية يتشكل منها نسيج الوطن‬ ‫العربي االجتماعي؟‬

‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬


‫بعدد الكيانات الثقافية‪ ،‬وتذرير العالم العربي إىل أقىص حدّ ؛‬

‫هذه املذاهب‪ .‬وإذا اعتمدنا األعراق واللغات تحصلت لدينا‬

‫حقوقها الثقافية يف إطار وحدة سياسية جامعة‪ ،‬إذ يذهب‬

‫كرد‪ ،‬وفرس‪ ،‬وترك‪ ،‬وتركمان‪ ،‬وشركس‪ ،‬وشيشان‪،‬‬

‫وأفضل ما يف الكالم عىل أقليات العالم العربي هو إحقاق‬ ‫كثري من الدراسات إىل أن الغالبية العظمى من سكان الوطن‬

‫العربي (‪ )% 80‬يتحدثون اللغة العربية كلغة أصلية‪ ،‬ويدينون‬ ‫باإلسالم‪ ،‬وينتمون سالليًّا إىل العنصر السامي الحامي‪ ،‬وأن‬

‫األقليات اإلثنية يف املجتمع العربي تختلف عن األغلبية يف أحد‬ ‫املتغريات األربعة اآلتية‪ :‬اللغة‪ ،‬والدين‪ ،‬والعرق‪ ،‬والعادات‬ ‫والتقاليد والسلوك‪ ،‬أو ما يُع َرف يف علم أنرثوبولوجيا الثقافة‬ ‫بالـعقلية‪ .‬السؤال البديهي الذي يطرح نفسه يف سياق الكالم‬

‫عىل حقوق األقليات هو‪ :‬ماذا عن حقوق األكرثية؟‬

‫األقليات اآلتية واملوزعة عىل مختلف املجتمعات العربية‪:‬‬ ‫وهنود‪ ،‬وبلوش‪ ،‬وأفغان‪ ،‬ويونان‪ ،‬وأرمن‪ ،‬وبربر‪ ،‬أو أمازيغ‬ ‫(وفيهم شاوية‪ ،‬وقبائلية‪ ،‬وشلوح‪ ،‬ومزابيون) وغجر‪ ،‬ونور‪،‬‬

‫وطوارق‪ ،‬ونوبيون بجا (ومنهم البشارية) وسيويون‪ ،‬وهوسا‪،‬‬

‫وقبائل صحراوية‪ ،‬وقبائل نهرية وشبه نهرية‪ ،‬وبدو‪ ،‬ورُحَّ ل‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ومولدون (يف موريتانيا) أحباش‪،‬‬ ‫وبانتو‪ ،‬وأفارقة وزنج‪،‬‬ ‫وباكستانيون‪ ،‬وفيلبينيون‪.‬‬

‫فإذا كان الوطن العربي موطن األقليات ألنه مهد‬

‫الحضارات القديمة‪ ،‬وقلب العاملني املسيحي واإلسالمي‪ ،‬فإن‬

‫كانت للدين يف منطقة الشرق األوسط أهمية فائقة يف‬

‫مسألة األقليات ليست عربية فقط‪ ،‬بل هي ظاهرة عاملية؛ فمع‬

‫هذه املنطقة غري متحدرة من األديان التوحيدية الثالثة‪ ،‬بل هي‬ ‫من أديان أخرى‪ .‬فمن املهم ً‬ ‫إذا من الناحية التاريخية والثقافية‬

‫يف النصف الثاين من القرن العشرين أصبح من الصعب إنكار‬

‫الحضارات املختلفة التي سادتها‪ .‬وهناك أديان ومذاهب يف‬

‫ظهور أفكار الديمقراطية وحقوق اإلنسان وحق تقرير املصري‬ ‫حق األقليات العرقية أو الدينية يف املساواة‪ .‬يف القرن املايض‬

‫النظر إىل هذه املنطقة عىل أنها ملتقى الديانات‪ ،‬والبوتقة التي‬

‫كانت عملية التخيل عن هوية األقلية لصالح هوية األغلبية أم ًرا‬

‫وإفريقيا وأوربا‪ .‬فإذا اعتمدنا الدين معيارًا وجدنا أن هناك‬

‫وال سيّما تلك الناشئة عن الهجرة‪ ،‬سواء كانت طواعية بدوافع‬

‫انصهرت فيها االنتماءات الدينية والعرقية املختلفة بني آسيا‬

‫ومجوسا‪ ،‬وصابئة‬ ‫وثنيني ومسلمني ومسيحيني ويهودًا‬ ‫ً‬ ‫وأزيديني وعبدَ ة الشيطان‪ ..‬وإذا اعتمدنا املذاهب الدينية‬ ‫معيارًا وجدنا مسيحيني عربًا (روم كاثوليك‪ ،‬وروم أرثوذكس‪،‬‬

‫ً‬ ‫وأقباطا‪ ،‬وبروتستانت‪ ،‬وإنجيليني‪ ،‬وفرنسيسكان‪،‬‬ ‫وموارنة‪،‬‬

‫ومريميني)‪ ،‬ومسيحيني غري عرب (أشوريني‪ ،‬وسريان‪،‬‬ ‫وكلدان) وس ّنة (مالكية‪ ،‬وشافعية‪ ،‬وحنفية‪ ،‬وحنبلية)‬ ‫وشيعة (جعفرية وإثني عشرية‪ ،‬وسبعية‪ ،‬وعلويني‪ ،‬ودرو ًزا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وفرقا مختلفة داخل‬ ‫وإسماعيليني‪ ،‬وأباضيني‪ ،‬وزيديني)‬

‫شائعً ا‪ ،‬لكن األقليات ترفض اليوم التخيل عن هويتها الثقافية‪،‬‬

‫اقتصادية أو اجتماعية‪ ،‬مثل هجرة األتراك للعمل يف أملانيا‪،‬‬ ‫وهجرة الهنود والباكستانيني وغريهم إىل دول الخليج العربي‪،‬‬

‫وهجرة أبناء مستعمرات آسيوية وإفريقية سابقة إىل بلدان‬ ‫االستعمار السابقة (اململكة املتحدة‪ ،‬وفرنسا وهولندا)‪ ،‬أم‬

‫كانت قسرية (تهجري)‪ ،‬حني يُطرد سكان من ديارهم بالقوة إىل‬ ‫مكان آخر يصبحون فيه أقلية‪ ،‬مثل تهجري األرمن من شرقي‬

‫األناضول‪ ،‬والشركس من القفقاس الشمايل‪ ،‬واملسلمني من‬ ‫مينمار (بورما) إىل بنغالدش‪ ،‬واملسيحيني إىل تايالند‪ .‬وهناك‬

‫‪23‬‬


‫الملف‬ ‫ً‬ ‫أيضا األقليات الناشئة عن الغزو واالحتالل واالستعمار‬ ‫االستيطاين‪ ،‬كالغزو االستيطاين الصهيوين لفلسطني؛‬

‫إذ كان اليهود أقلية بني العرب‪ ،‬الذين تحولوا بعد‬ ‫قيام الكيان الصهيوين إىل أقلية يف بحر املستوطنني‬

‫الصهاينة‪ .‬كما تحوّل سكان أمريكا األصليون من أكرثية‬ ‫مطلقة إىل أقلية تكاد تنقرض بعدما احتل األوربيون‬ ‫أرضهم‪ ،‬وأبادوا معظمهم‪ .‬والواليات املتحدة نفسها‬

‫هي خليط من األقليات‪ ،‬ففيها ممثلون لجميع أعراق‬ ‫العالم تقريبًا‪ .‬كما تضم أجناسً ا وفئات مختلفة الهويات‬

‫اإلثنية‪ .‬وفيها أكرث من ‪ 250‬طائفة دينية مذهبية مسيحية‬ ‫إضافة إىل األقلية اليهودية (‪ )% 1٫8‬واإلسالمية‪،‬‬ ‫والسيخية‪ ،‬والبهائية‪ ،‬والبوذية‪ ،‬وغريها‪ .‬وتعد مسألة‬

‫التمييز العرقي بني البيض األوربيني والسود واألفارقة‬

‫بني جماعات الحيوان من صراع وتوحش وتنابذ‪ .‬والحضارات‬ ‫اإلنسانية هي بالضبط ثمرة هذا التعايش والتالقح الفكري الذي‬ ‫سهم فيه جميع الجماعات والشعوب واألقوام عىل م ّر تاريخ‬ ‫ُت ِ‬ ‫التعايش فيما بينها‪ .‬وبمقدار نجاح إدارة االختالف بني األقوام‬ ‫والشعوب يُقاس مدى الرقي اإلنساين وتطوّر األمم؛ فالصراع بني‬ ‫األقوام املختلفة هو موروث عصور بائدة من االجتماع البشري‪.‬‬

‫وإذا كانت األمم املتحدة هي الشكل الذي تصبو إليه يف‬

‫طريق تقدمها الحضاري‪ ،‬فإن األمم املتحدة ما زالت دون‬

‫املستوى الذي تطمح إليه اإلنسانية‪ ،‬وهو أعىل سقف جامع‪،‬‬ ‫وتوجد دونه سقوف جامعة أخرى‪ ،‬كسقف االتحاد األوربي‬

‫الذي صنع هوية مشرتكة ألوطان خاضت فيما بينها أعتى‬ ‫وأعنف حربني متتاليتني يف النصف األول من القرن املايض‪ ،‬ثم‬

‫انضوت تحت هوية واحدة‪ .‬ويسعى أقوام آخرون يف أماكن من‬

‫واملكسيكيني من أهم املشكالت يف الواليات املتحدة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫عالوة عىل األقليات‬ ‫كذلك تضم الصني ‪ 55‬أقلية قومية‪،‬‬

‫العالم إىل خوض التجربة نفسها يف االتحاد اإلفريقي واالتحاد‬

‫التبتية‪ ،‬واملسيحية واإلسالمية‪ .‬كما يضم االتحاد الرويس‬

‫جامعة هي الهوية الوطنية التي تعرتف لجميع مواطنيها‬

‫الدينية كالبوذية والكونفوشية والطاوية والالمية ‪-‬‬

‫‪24‬‬

‫والقوانني ُت ِق ُّر هذا الحق يف أول ّ‬ ‫سلم اإلنسان‪ .‬وهذا ما يجعل‬ ‫التعايش ممك ًنا‪ ،‬بل سببًا للرقي والتحضر والتقدم‪ ،‬بالتفاعل‬ ‫ً‬ ‫خالفا ملا هو قائم‬ ‫بني الجماعات البشرية‪ ،‬وتبادل خرباتها‪،‬‬

‫أقليات قومية عرقية يصل عددها إىل أكرث من ‪ 128‬أقلية‬

‫كالتتار واألوكرانيني والتشوفاش والبشكري والروس‬

‫البيض واملوردوف واألملان‪ ،‬ومن الداغستان والشيشان‬

‫واألوسيت واألديغة والشركس‪ .‬ويف تركيا أقليات‬ ‫عرقية تصل نسبتها إىل أكرث من ‪ % 30‬من السكان‪ .‬ويف‬ ‫اململكة املتحدة وكذلك يف فرنسا‪ ،‬أقليات أوربية وأخرى‬

‫وافدة من مستعمراتهما السابقة‪ ،‬كالعرب والهنود‬ ‫واألتراك وغريهم‪ ،‬إضافة إىل عشرات الطوائف املذهبية‬

‫والعرقية األخرى‪ .‬وقد حصل الويلزيون واألسكتلنديون‬

‫الرويس واالتحاد األمرييك‪ .‬ودون هذا السقف هوية أخرى‬ ‫بحق املعتقد الديني وبحق التعبري واالنتماء‪ ،‬شريطة أن يبقى‬

‫الوالء لهذه االنتماءات دون الوالء للهوية الجامعة‪ ،‬وأن يبقى‬

‫االلتزام بواجباتها تحت سقف االلتزام بالقانون الجامع‪.‬‬

‫بمقدار نجاح إدارة االختالف بين األقوام‬ ‫والشعوب ُيقاس مدى الرقي اإلنساني‬ ‫وتطور األمم‬ ‫ّ‬

‫عىل حكم ذايت‪ ،‬وأصبحت لهم برملاناتهم الخاصة بهم‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ضغوطا ملنح الربيتانيني‬ ‫وتواجه فرنسا‬

‫والكورسيكيني‬

‫حقوقهم‬

‫الثقافية‪.‬‬

‫كذلك يطلق الكاتالونيون يف إسبانيا‬

‫اسم الدولة عىل إقليم كاتالونيا‪ .‬ويف‬ ‫تركيا أقليات تصل نسبتها إىل أكرث من‬

‫‪ %30‬من السكان‪.‬‬

‫حق اختالف البشر‬

‫فإذا كان هذا االختالف بني‬

‫الجماعات طبيعيًّا‪ ،‬فمن الطبيعي‬ ‫ً‬ ‫إذا أن يكون االعرتاف بحق اختالف‬

‫البشر طبيعيًّا ً‬ ‫أيضا‪ ،‬ولذا فإن الدساتري‬ ‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬


‫يف األوطان االتحادية أو الوحدوية ذات السقف العايل يف‬ ‫ً‬ ‫حقوقا‬ ‫هويتها الجامعة التي تو ّزع عىل جميع املنضوين تحتها‬

‫متساوية وواجبات متساوية‪ ،‬تنضوي هويات أخرى كثرية‬ ‫جماعية وفردية‪ ،‬ال تخرج عىل الهوية الجامعة‪ ،‬وال يكون‬

‫لها أي تأثري سلبي فيها‪ ،‬ما دام الجميع متساوين يف الخضوع‬ ‫لقانون واحد‪ ،‬يرعى حقوقهم وواجباتهم جميعً ا‪ ،‬ويصونها‬

‫من دون تمييز‪ .‬هذا القانون يتصف بصفات هي خالصة‬

‫الفلسفات السياسية التي نمت وتطورت منذ عصر األنوار‬ ‫ّ‬ ‫وتلخصت يف تسميات تستحق الشرح والتفسري‪:‬‬ ‫األوربي‪،‬‬

‫املواطنة والعلمانية والديمقراطية؛ فهذه جميعً ا تهدف إىل‬ ‫صون الهوية الجامعة‪ ،‬وعدم السماح للهويات املتنوعة التي‬ ‫تنضوي تحتها بأن تخرج عىل القانون الذي يرعاها‪ .‬والخروج‬

‫عىل هذا القانون الوطني الجامع لجميع الهويات يُفيض إىل‬ ‫تم ّزق الوطن الجامع‪ ،‬وإىل ما بات يسمّ ى بالبلقنة أو باللبننة‬ ‫بالنظر إىل ما حدث يف البلقان من صراعات أدّت إىل تقسيمها‬ ‫إىل دول تبعً ا لالنتماءات الدينية واملذهبية والعرقية‪ ،‬وكذلك‬ ‫بالنظر إىل االنقسامات الطائفية واملذهبية التي حصلت يف لبنان‬

‫يف أثناء الحرب األهلية من دون أن تؤدي إىل تقسيمه‪.‬‬

‫مشروعان سياسيان في المنطقة العربية‬ ‫يف بداية القرن العشرين سار مشروعان سياسيان يف املنطقة العربية جنبًا إىل جنب‪ ،‬وكل منهما نقيض اآلخر‪ :‬مشروع‬ ‫كيان سيايس لألقلية اليهودية‪ ،‬ومشروع الكيان السيايس لألكرثية العربية‪ .‬ومعلومٌ كيف دُعم املشروع األول وأُخفق املشروع‬

‫الثاين من الدول الظافرة يف الحربني العامليتني بعد دحر الدولة العثمانية عن سائر املنطقة العربية‪ .‬فاألقلية اليهودية التي‬ ‫أقامت ً‬ ‫كيانا سياسيًّا لها يف إسرائيل هيمنت‪ ،‬إىل هذا الحدّ أو ذاك‪ ،‬عىل املنطقة العربية عسكريًّا ودبلوماسيًّا‪ .‬إذ لم يُنئش‬ ‫َ‬ ‫دولة إسرائيل فقط يف املنطقة العربية؛ بل رسم ً‬ ‫أيضا لهذه املنطقة‬ ‫انتصار املشروع القومي اليهودي وتحقيق وعد بلفور‬ ‫ترسيمات وحدودًا ودولاً عربية بموجب اتفاقيات بني الحليفني الظاف َرين‪ ،‬كان أبرزها االتفاقية املعروفة باسم سايكس بيكو‬

‫التي استبدلت بتسمية املنطقة باملنطقة العربية تسمية أخرى هي منطقة الشرق األوسط التي سادت يف األدبيات السياسية‬

‫واإلسرتاتيجية الدولية‪ .‬وثمة فارق كبري بني النظر إىل األقليات من زاوية الشرق األوسط‪ ،‬والنظر إليها من زاوية املنطقة‬ ‫العربية؛ ذلك أن كال املنظورين ينطوي عىل منطلقات وأهداف مختلفة‪ :‬فاملنظور األول يعد األقلية اليهودية يف الشرق األوسط‬

‫صاحبة حق يف إقامة دولة تهيمن عىل املنطقة العربية لتحوّلها إىل دويالت أقوام وجماعات‪ .‬أما املنظور الثاين فيعدها جزءً ا‬ ‫من نسيج املنطقة يتساوى مع أجزائه ومكوّناته األخرى تحت سقف هوية عروبية جامعة وسيادية تعرتف لها بحقوقها‬ ‫ً‬ ‫خالفا للمشروع الصهيوين الذي ينبذ خارج النسيج‬ ‫الثقافية‪ ،‬وفق القوانني الدولية‪ ،‬فاملشروع العروبي علماين الوجهة‬ ‫االجتماعي والوطني كل االنتماءات الثقافية األخرى املغايرة لالنتماء الديني اليهودي‪ .‬كذلك‪ ،‬فإن منظور داعش يحل محل‬ ‫القانون الوطني الجامع قانون فئة أو فرقة تضعه لنفسها بنفسها‪ ،‬وتسعى إىل فرضه عىل الجميع‪ ،‬ويصبح كل ما عداها من‬ ‫فئات وجماعات أقليات تستحق االضطهاد ألنها ال تخضع لقانونها‪ .‬أقليات الشرق األوسط هي مشروعات دويالت‪ ،‬وأقليات‬

‫املنطقة العربية نسيج اجتماعي تعددي وحضاري‪ .‬ولو أن النجاح كان حليف املشروع القومي العربي يف بداية انطالقته عندما‬ ‫ّ‬ ‫انحلت الدولة العثمانية وتفككت أمام انتصار الحلفاء‪ ،‬ملا رأى املنظور الثاين النور‪ ،‬وملا ظهر إىل الوجود؛ غري أن انتصار‬

‫فرنسا وبريطانيا‪ ،‬وانتصار مشروعاتهما االستعمارية والتقسيمية للمنطقة العربية‪ ،‬أخرج إىل حيّز الوجود والتداول تقسيمً ا‬ ‫أمل بمشروع عربي‬ ‫جيوبوليتيكيًّا جديدً ا تسمية الشرق األوسط لطمس التسمية العربية للمنطقة‪ ،‬والحيلولة دون انبعاث ٍ‬

‫قومي أو وحدوي أو ما شابه‪.‬‬

‫قد يكون تصنيف النسيج االجتماعي يف أقليات وجماعات ثقافية من باب الفرز والتقسيم يف مجتمع متعدد ثقافيًّا‬

‫بغية إنشاء كيانات سياسية لكل مكوّن من مكوّناته الثقافية‪ ،‬وقد يكون من باب الضم والتوحيد يف سياق االعرتاف بفضيلة‬ ‫التعددية الثقافية يف إطار الوحدة السياسية التي تضمّ ها جميعً ا‪ .‬فالتعدد الثقايف يف إطار وحدة سياسية جامعة هو موضع‬

‫إشادة وتقدير؛ إذ تتغ ّنى به مجتمعات متقدمة يف العالم كاملجتمع الفرنيس‪ ،‬أنموذج صهر األقليات وذوبانها (‪)integration‬‬ ‫يف ثقافة املجتمع الفرنيس‪ ،‬واملجتمع األمرييك أنموذج التعايش بني الكتل الثقافية املختلفة (‪ )multing pot‬يف إطار وحدة‬

‫أمريكية جامعة‪ .‬فأين يصبح التغني بالتعدد الثقايف يف املنطقة العربية إذا شاء الشروع السيايس العروبي أن يضم جميع‬

‫أقلياته الثقافية ضمن مشروع سيايس توحيدي جامع؟‬

‫‪25‬‬


‫الملف‬

‫نحو مجتمع يرفض التقسيم العمودي ألطيافه‬

‫قراءة في كتاب‬ ‫المسألة الطائفية ومشكلة‬ ‫األقليات لبرهان غليون‬

‫‪26‬‬

‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬


‫مهدي حميش‬

‫كاتب مغربي‬

‫يعيد المفكر برهان غليون في كتابه «المسألة الطائفية ومشكلة األقليات» (الذي كان قد نشر‬

‫عام ‪1979‬م عن دار الطليعة‪ ،‬في نسخة صادرة عن المركز العربي لألبحاث ودراسة السياسات) قراءة‬ ‫الواقع الطائفي‪ ،‬وكيف كانت وما زالت مسألة التطاحن الطائفي بما تفرزها من تفاعالت‪ ،‬تؤثر سلبًا‬

‫ً‬ ‫وخصوصا العربية أو القريبة من العربية‪ ،‬بما في ذلك ما تعانيه األقليات‬ ‫في لحمة المجتمعات‬ ‫فيها‪ ،‬بدءً ا من مشكالت كعنصرية مصطلح «أقلية»‪ ،‬ومرورًا وختامً ا بعدد من الجزئيات التي قد‬

‫ال تغادر إشراك فئة «األقلية» في سلطة الدولة‪ ،‬وكذلك تذويبها ثقافيًّا وفكريًّا في إطار «األغلبية»‪.‬‬ ‫يرى املؤلف أن مشكلة األقليات يف املنطقة العربية ال تقتصر فقط‬

‫عن نفسها ينجرف إىل محاربة إسالمية الدول وحتى عربيتها‪ ،‬قبل أن‬

‫األقوامية كذلك‪ ،‬بل تزداد سُ وءًا عندما تصبح هذه األقليات دينية‬

‫الذاتية عنها كما حدث لدى األقليات‪ ،‬وهو ما جعل مشكلة األقليات‬ ‫ً‬ ‫ارتباطا ً‬ ‫وثيقا باملسألة السياسية‪ ،‬بعدما كانت يف األصل مسألة‬ ‫ترتبط‬

‫عىل كون هذه األقليات دينية فقط؛ ألن املشكلة تمتد إىل األقليات‬

‫وأقوامية وثقافية يف الوقت نفسه‪ ،‬وهو ما يدفع بتلك األقليات إىل‬ ‫مسألة «تأكيد الذاتية»‪ ،‬وهو ما يدفع ً‬ ‫أيضا ببعض هذه األقليات التي‬

‫تبتكر الدولة لنفسها مفهوم الدولة العلمانية‪ ،‬علها تنجح يف نفي‬

‫ذاتية‪ ،‬منحصرة يف إنكار تمايز الجماعة الكربى‪ ،‬وجماعة األقلية‪.‬‬

‫استطاعت توثيق تمايزها الذايت‪ ،‬إىل االنصهار يف الجماعة الكربى‪،‬‬

‫لقد أدى هذا األسلوب يف معالجة قضية األقليات حسب املؤلف‬

‫لكن يف املقابل‪ ،‬وعندما تفشل جماعة أقلية يف تثبيت تمايزها‬

‫الثقافية‪ ،‬ما جعل هذه الذاتية الثقافية قاعدة يف اللعبة السياسية‬

‫يف املشكل‪ ،‬الذي ينهل يف الغالب من نظرية القومية التي أفرزتها‬

‫املتنافسني عىل ذاتيتهم‪ ،‬وضرب الذاتية الثقافية لآلخر‪ ،‬وهو ما جعل‬

‫واألرمن والشركس هنا أصدق مثال‪.‬‬

‫الذايت‪ ،‬فإن القضية قد تنحرف إىل قضية قومية يصعب معها التحكم‬ ‫الحالة األوربية يف القرنني الثامن العشر والتاسع عشر‪.‬‬

‫يستعرض غليون يف الفصل األول من كتابه املعنون بـ«األمة‪:‬‬

‫األقلية واألغلبية» جملة من األفكار والتحليالت املعتمدة عىل‬ ‫البحث يف العمق التاريخي ملشكلة األقليات يف الوطن العربي‪ ،‬وينبه‬ ‫إىل أنه من غري الصواب الخلط بني «األقليات الدينية» و«األقليات‬

‫األقوامية الكربى»‪ ،‬حيث يرى أن الفئة األوىل أكرث صعوبة يف تناول‬

‫خصوصيتها‪ ،‬ويستدل عىل ذلك بتاريخ الحروب التي نشبت يف عدد‬ ‫من املحطات بني طوائف دينية عربية‪ ،‬أو حتى بني دول عربية وبعض‬ ‫أقاليمها‪ ،‬أما الفئة الثانية فتبقى مشكالتها غالبًا حبيسة «املفهوم‬

‫السائد لألمة وللقومية»‪.‬‬

‫تكون أساسات املشكلة‬

‫غليون‪ ،‬إىل استهانة كربى من طرف املمارسة السياسية بالذاتية‬ ‫بني األطراف‪ ،‬فصار إثبات القوة يف املمارسة السياسية مبنيًّا عىل حفاظ‬ ‫السياسة املحلية مبنية حسب توصيف الكاتب عىل «غش متبادل»‪،‬‬ ‫ما دفع باألغلبية واألقلية عىل حد سواء إىل إنتاج ردود فعل عنيفة‬

‫لحظة اإلحساس بأنها قد خدعت‪ ،‬وهو ما يجعل الوطن الواحد الذي‬ ‫ً‬ ‫مهب قضية قومية تهدد‬ ‫نكرانا متبادلاً للذاتية‪ ،‬يف‬ ‫اختار أعضاؤه‬ ‫ّ‬ ‫سالمة البلد واستقراره سياسيًّا‪ ،‬وكذلك وحدته التي تنعدم قيمتها‬

‫فيما بعد‪ ،‬لتصري شكلية ليس إال‪« ،‬مضمونها تخيل الجماعة عن كل‬

‫هوية قومية»‪ .‬وهذا الصراع هو ما يخلف اليوم حسب املؤلف استالبًا‬

‫وتقديسا لثقافته من أجل ملء الفراغ الذي يشكله الصراع‬ ‫للغرب‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫الذايت‪ ،‬ليصبح الجميع يف الوطن الواحد متعلقا بالثقافة األجنبية‬ ‫وباللغة األجنبية السائدة‪ ،‬التي أضحت لغة النخبة والدولة واإلدارة‪.‬‬

‫وأمام كل ما سبق‪ ،‬تطفو عىل السطح دعوات ‪-‬بحسب غليون‪-‬‬

‫إىل العودة إىل الهوية القومية‪ ،‬لكنها ال تنجح بسبب تكوّن نظرة‬

‫ويستمر الباحث يف عرض أساسات تكون مشكلة األقليات‬

‫ً‬ ‫خصوصا عندما تشعر‬ ‫الرجعية والنكوص حولها داخل املجتمع‪،‬‬

‫األمر لم يكن سوى «تحويل املوضوع إىل محرمات يمنع الحديث‬

‫إىل الذاتية اإلسالمية املوسومة دائمًا بالسلفية‪ ،‬ستهدد املكتسبات‬

‫ً‬ ‫وخصوصا الدينية يف الفضاء العربي‪ ،‬حيث يرى أن ما زاد من تفاقم‬

‫عنها»‪ ،‬إضافة إىل تأطريها ومحاصرتها‪ ،‬حتى يتم تناولها فقط من‬ ‫خالل ما أسماها الكاتب «مرآة الصراع السيايس»‪ ،‬بعيدًا عن أي نقاش‬

‫يحللها من وجهة نظر فكرية ثقافية‪ ،‬وهو األمر الذي ذهب بالقضية‬ ‫إىل غياهب عميقة أصبح فيها الصراع محصورًا بني الحداثة والتقليد‪،‬‬ ‫أو بني دولة علمانية وأخرى دينية‪ ،‬وهو ما جعل كذلك دفاع األقليات‬

‫أقليات دينية داخل املجتمع الواحد بأن العودة الكثيفة لدى األغلبية‬

‫العصرية العلمانية للدولة الحديثة‪ ،‬فتلجأ ملواجهتها باملعتقدية‬

‫العلمانوية التي تنادي بنزع الدين عن الدولة‪ ،‬ما يسهم يف تأجج‬ ‫التحدي والصراع والتعصب ورفض الحوار بني أطراف املجتمع‪.‬‬ ‫ً‬ ‫تبسيطا للفكرة‪ ،‬أنه حتى األقليات الدينية التي باتت‬ ‫ويضيف الكاتب‬ ‫تميل ملسألة االنتصار للدولة العلمانية‪ ،‬باتت ترى أن هذه األخرية‬

‫‪27‬‬


‫الملف‬

‫للنظام االجتماعي‪ ،‬ويعتمد باألساس يف تشكله عىل االقرتاب‬

‫ليست دولة مساواة بني األديان‪ ،‬وحتى لو كانت هناك مساواة‬ ‫فإنها تبقى شكلية يف مضمونها‪ ،‬وال تؤدي أي دور سيايس يف‬ ‫تحديد مكانة الجماعات واألفراد اجتماعيًّا‪ ،‬ويف أفضل حاالتها‬ ‫فإنها تبقى كبديل ثقايف للذاتية الدينية أي مجرد نفي للذاتية‬

‫القومية‪.‬‬

‫لقد ساهم هذا الصراع‪ ،‬حسب املؤلف غليون‪ ،‬يف التمكني‬ ‫لإلسالم املُستعاد من أن يدخل الحلبة السياسية العصرية‬

‫كمقاتل من أجل الديمقراطية واملساواة الغائبة عن نموذج‬

‫الدولة العلمانية‪ ،‬وهو ما ساهم بالتايل بزيادة تعقيد الوضع‪،‬‬ ‫ً‬ ‫خصوصا عندما يظهر هناك توافق بني سعي األقليات لدعم‬ ‫دولة علمانية‪ ،‬ورغبة النخبة يف إبعاد الجمهور عن السياسة‬

‫والسلطة‪ ،‬وهو ما تتهم فيه األغلبية الدينية داخل الوطن‬ ‫األقليات بالتحالف مع الخارج أو مع السلطة العصرية املحلية‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫يستعرض غليون أيضا يف كتابه مفهومًا آخر عن األقلية‪،‬‬ ‫وهو ذلك الذي يتأثر وينتج من التوسع االقتصادي والثقايف‬

‫دفاع األقليات عن نفسها انجرف‬

‫‪28‬‬

‫إلى محاربة إسالمية الدول وحتى‬ ‫عربيتها‪ ،‬قبل أن تبتكر الدولة‬ ‫لنفسها مفهوم الدولة العلمانية‪،‬‬ ‫ما جعل مشكلة األقليات ترتبط‬ ‫ارتباطا وثيقً ا بالمسألة السياسية‬ ‫ً‬

‫التدريجي نحو نموذج حياة واحدة لدى مختلف الجماعات‪ ،‬أقليات‬

‫وأغلبيات‪ ،‬حيث مع بدء فقدانها لتاريخيتها وتضامناتها الذاتية‪،‬‬

‫تنشأ هناك عملية إعادة تقسيم املجتمع تقسيمًا أفقيًّا يجعل املطالب‬

‫ترتكز حول تعديل الفروقات االجتماعية وتعميم النموذج السائد‬ ‫لدى الطبقة العليا‪ ،‬بخالف ما كانت عليه املطالب الثقافية الذاتية‪،‬‬

‫التي هي تقسيمات عمودية تأخذ صيغ صراعات عصبوية طائفية أو‬

‫إقليمية أو أجناسية‪ ،‬ما يساهم بالتايل يف تأسيس نظام مستقر يسمح‬ ‫ببداية االندماج االجتماعي املوسع داخل الوطن الواحد‪.‬‬ ‫مشكلة األغلبية‬

‫ال يخفي برهان غليون يف كتابه أن مشكلة األقليات يف درجة‬

‫أوىل‪ ،‬مشكلة متعلقة باألغلبية قبل أن تكون مشكلة لدى األقليات‬

‫نفسها‪ ،‬من أجل تحقيق ذاتيتها وتمايزها؛ ألن هذا املطلب لدى‬ ‫األقليات هو طموح تاريخي ومنطقي بالنهاية‪ ،‬غري أنه باملقابل وعندما‬

‫تصبح تلك األقلية «قناة للسلطة»‪ ،‬فإن األغلبية تتجه لرفض تلك‬

‫الجماعة وتمايزها بدواعي النتائج السياسية التي تفرزها األقلية‪،‬‬

‫متهمة إياها بالتحالف مع الخارج لإلطاحة باألغلبية‪.‬‬

‫يرى املؤلف أن أهم الحلول التي يمكنها أن تحل مشكلة األقليات‬

‫يف الوطن العربي‪ ،‬ال تغادر مسألة التخيل عن االعتقاد السائد الذي‬

‫يرجع الطائفية إىل التمايز الثقايف أو الديني يف املجتمع؛ ألن هذا‬

‫التمايز حسب غليون‪ ،‬والذي يوجد يف كل بلد‪ ،‬لو حسن توظيفه‬ ‫إيجابيًّا صار أساسً ا للغنى الثقايف واالنصهار‪ ،‬بخالف لو أُخذ بمنظور‬

‫ذايت منفصل‪ ،‬فسيصبح معول هدم ينخر املجتمعات بدافع االنتصار‬ ‫الشخيص لذاتية الطائفة‪ ،‬وهويتها القومية املنفصلة عن األخرى‪.‬‬

‫األقليات خارج العلمانية والدين‬

‫يويص برهان غليون يف كتابه ً‬ ‫أيضا‪ ،‬بعدم االنصياع وراء فكرة ضرورة سري‬

‫كل مجتمعاتنا يف الطريق التي سارت عليها املجتمعات الغربية‪ ،‬إلنهاء مشكلة‬ ‫االنقسام الطائفي واألقليات؛ ألن االعتقاد بأن هناك ًّ‬ ‫ً‬ ‫واحدا للتاريخ يسري‬ ‫خطا‬

‫بالجماعات من العبودية إىل اإلقطاع إىل الرأسمالية إىل العقالنية إىل الحرية وإىل‬ ‫الديمقراطية والحرية‪ ،‬سيأخذنا إىل الفشل يف الوصول إىل إجماع قومي وإىل وحدة‬ ‫قومية من أي نوع كانت‪ .‬ويضيف غليون‪ ،‬أنه ال يمكن البحث عن حل للنزاعات‬

‫الطائفية يف الدعوة العلمانية التي تدعو للمساواة‪ ،‬أو يف الدعوة الدينية التي تؤكد‬

‫برهان غليون‬

‫التسامح‪ ،‬وال حتى يف القوانني التي تحدد الحقوق والواجبات؛ ألن كل هذه الوصفات استعملت وما زالت من دون نتائج‬

‫مبهرة‪ ،‬وذلك ألن القضية ببساطة ليست متجسدة ال يف دعوة وال يف قضية أيديولوجية شكلية‪ ،‬إنما هي قضية سلطة‬ ‫متجسدة يف عالقة األفراد بالدولة‪ ،‬أضف إىل ذلك أن الواقع يفرض اليوم عىل املفكر العربي أن يجهد يف سبيل توضيح‬

‫األفكار واملفاهيم‪ ،‬ويف نقد املمارسات السائدة‪ ،‬حتى يزول التشويش الذهني الذي يمنع فهم حقيقة الخالف وجوهره‪،‬‬ ‫ويعيق بذلك إمكانية الوصول إىل إجماع سيايس يتجاوز الخالفات املذهبية من دون أن يلغيها‪.‬‬

‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬


29


‫الملف‬

‫األقليات في مصر‪..‬‬

‫التجانس التاريخي‬ ‫تحول إلى فتنة‬

‫‪30‬‬

‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬


‫القاهرة‬

‫تبدو مصر للوهلة األولى ً‬ ‫بلدا خاليًا من األقليات‪ ،‬فالتجانس التاريخي الذي عاشه الجميع في ظل‬ ‫دول مركزية متعاقبة جعلهم ينتمون إلى المكان أكثر من انتمائهم إلى الدين أو العرق‪ ،‬لكن مع توالي‬ ‫سنوات الضعف‪ ،‬وظهور االستعمار أخذت الفتنة تطل برأسها‪ ،‬سواء بين أغلبية مسلمة وأقلية مسيحية‪،‬‬ ‫أو أغلبية سنية وأقلية شيعية‪ ،‬وتسارع الجميع في اإلعالن عن كونه أقلية تحتاج إلى مزيد من االهتمام‬ ‫في ظل سعي القوى الغربية لتفتيت المنطقة على أسس دينية وعرقية‪ ،‬وتشجيع الخالفات الطائفية‬ ‫واإلثنية‪ ،‬حتى إنه بات من الممكن القول‪ :‬إن مصر بها نوعان من األقلية؛ األول ديني‪ ،‬والثاني عرقي‪.‬‬ ‫أولاً ‪ -‬أقليات دينية‬

‫قانون دور العبادة الجديد الذي منحهم الحق يف بناء كنائس جديدة‬

‫يعرف املسيحيون املصريون باسم األقباط‪ ،‬وهم أصحاب املذهب‬

‫أخرى بنحو ثمانية ماليني مواطن‪ ،‬أي أن املسيحيني يف مصر يشكلون‬

‫‪ -1‬األقباط‬

‫األرثوذكيس‪ ،‬وهو أقدم املذاهب املسيحية‪ ،‬تعود نشأته إىل الخالف‬

‫الالهويت القديم حول طبيعة املسيح؛ إذ قالت كنيسة اإلسكندرية‬

‫بالطبيعة الواحدة‪ ،‬وقالت الكنيسة النسطورية وكنيسة روما‬ ‫بالطبيعتني‪ ،‬وقد تحمل األقباط املصريون ضريبة هذا الخالف لسنوات‬ ‫طويلة‪ ،‬إذ عانوا اضطهاد األباطرة الرومان لهم بسبب خالفهم املذهبي‬ ‫معهم‪ ،‬ولم تنته معاناتهم إال بمجيء الفتح العربي‪ ،‬لكن حسب‬

‫رؤى األقباط فإنهم قد عانوا يف ظل هذا الفتح‪ ،‬حتى قامت أشهر ثورة‬ ‫لألقباط يف عهد املأمون وهي ثورة البشموريني يف مصر‪ ،‬التي انتهت‬

‫بالسحق التا ّم‪ ،‬ومنذ هذا التاريخ والوجود املسيحي يف حالة تناقص‬

‫نظ ًرا لدخول أغلب أبنائه يف اإلسالم‪.‬‬

‫بمقدار زيادتهم السكانية‪ ،‬ويقدر املسيحيون سواء أقباط أو من مذاهب‬ ‫ما يقرب من ‪ %10‬من املجتمع‪.‬‬ ‫‪ -2‬الشيعة‬

‫يعود الوجود الشيعي يف مصر إىل الدولة الفاطمية التي استمرت‬

‫ألكرث من قرنني من الزمان‪ ،‬وهي الدولة التي وضعت حجر األساس‬ ‫ّ‬ ‫اختطها وبناها جوهر الصقيل قائد املعز‬ ‫ملا يعرف اآلن بالقاهرة‪ ،‬حيث‬

‫لدين الله‪ ،‬وقد تركت العديد من اآلثار املهمة‪ ،‬بداية من الجامع‬ ‫األزهر‪ ،‬ومسجد الحسني‪ ،‬ومسجد السيدة نفيسة‪ ،‬ومسجد السيدة‬ ‫زينب‪ ،‬وسور مجرى العيون وغريها‪ ،‬ويف ظلها انتشر مذهب الشيعة‬

‫اإلثني عشرية‪ ،‬وتكاد تكون مصر كلها يف ذلك الوقت شيعية‪ ،‬حتى‬

‫ويعتقد األقباط أنهم أصحاب مصر‪ ،‬وأهلها‪ ،‬وأن الوجود اإلسالمي‬

‫جاءها صالح الدين األيوبي فأغلق األزهر وطارد الشيعة ومذهبهم‪ ،‬ورد‬

‫الفتح‪ ،‬ورغم أن اإلحساس بفكرة األقلية لم يكن موجودًا لدى األقباط‬

‫جاء املماليك وأعادوا فتح األزهر عىل أن يكون قبلة للجميع‪ ،‬وبدأ‬

‫وافد عليهم‪ ،‬ويذهب بعضهم إىل االعتقاد أنه نوع من االحتالل وليس‬ ‫فإن االحتالل الربيطاين لعب عىل شطر األمة إىل نصفني‪ ،‬فرفعت ثورة‬ ‫‪1919‬م ألول مرة شعار يحيا الهالل مع الصليب‪ ،‬وهو ما لم يكن موجودًا‬

‫ال يف ثوريت القاهرة أثناء مقاومة االحتالل الفرنيس‪ ،‬وال يف ثورة عرابي‪،‬‬ ‫وقد تزايدت الهوة مع زواج األمرية فريال شقيقة امللك فاروق من رجل‬ ‫قبطي يدعى رياض غايل‪ ،‬ومع صعود التيارات الدينية يف السبعينيات‬ ‫شهدت مصر عددًا من حوادث الفتنة‪ ،‬كان أشهرها حادث الدرب‬

‫األحمر الذي تحدث عنه الرئيس أنور السادات يف خطاب شهري‪ ،‬ومع‬ ‫ضعف الدولة تحولت الكنيسة إىل الحضن الواسع لألقباط‪ ،‬وحدث‬

‫الصدام الشهري بني السادات واألنبا شنودة‪ ،‬ورغم هدوء األمور عقب‬ ‫رحيل السادات فإن التيارات السلفية أخذت يف التزايد‪ ،‬فطالب بعضها‬

‫بأن يدفع األقباط الجزية‪ ،‬وقد ظهر ما يعرف بأقباط املهجر كلوبي يف‬ ‫املجتمع الخارجي يمارس ضغوطه لصالح األقباط يف الداخل‪ ،‬لكن‬

‫دستور ‪2014‬م أق ّر للمسيحيني بحقوقهم الكاملة‪ ،‬كما صدر مؤخ ًرا‬

‫الدعاء للخليفة العبايس السني يف بغداد‪ ،‬لكن بانقضاء الدولة األيوبية‬

‫عصر التسامح مع الشيعة وغريهم‪ ،‬لكن القاهرة لم تعد إىل املذهب‬

‫الشيعي‪ ،‬وظلت عىل مذاهبها السنية‪.‬‬

‫ال توجد إحصائيات واضحة للوجود الشيعي يف مصر‪ ،‬لكن أفضل‬

‫التقديرات ال تذهب به إىل أبعد من ‪ 15‬ألف مواطن‪ ،‬ينتشرون يف العديد‬

‫من املحافظات وال يتمركزون يف مكان واحد‪ ،‬ولم يكن لوجودهم‬ ‫حضور يذكر حتى قيام الثورة اإلسالمية يف إيران عام ‪1979‬م‪ ،‬التي‬ ‫ً‬ ‫موقفا عدائيًّا منها‪ ،‬ويف عام ‪1987‬م رُصد تنظيم يضم‬ ‫اتخذ السادات‬

‫العشرات من املتشيعني الذين حاولوا نشر مذهبهم يف عدد من قرى‬ ‫الدلتا‪ ،‬ويف عام ‪1988‬م ُقبض عىل أربعة عراقيني وكويتيني وبحريني‬ ‫ولبناين وفلسطيني وباكستاين بتهمة الدعوة للشيعة‪ ،‬وأُغلقت دار نشر‬ ‫البداية التي كانت تنشر كتبًا شيعية‪ ،‬ووُجهت إليها تهمة تمويل من‬ ‫إيران‪ ،‬وكذلك أُغلق فرع لدار نشر لبنانية تسمى البالغة عام ‪1996‬م‪،‬‬ ‫و ُكشف عن تنظيم يضم ‪ 55‬عضوًا يف ‪ 5‬محافظات‪ ،‬ويف عام ‪2002‬م‬

‫‪31‬‬


‫الملف‬ ‫ُقبض عىل تنظيم بزعامة مدرّس يف محافظة الشرقية بتهمة‬

‫الدعوة للمذهب الشيعي‪ ،‬وبعد ثورة ‪ 25‬يناير هوجم بيت لرجل‬

‫شيعي كان يمارس فيه هو وأصدقاء له طقوس التطبري‪ ،‬وذلك‬ ‫من جانب جريانه السنة‪ .‬ويطالب الشيعة يف السنوات األخرية‬ ‫باحرتام طقوسهم‪ ،‬والسماح لهم بممارستها عل ًنا‪.‬‬ ‫‪ -3‬البهائيون‬

‫هم أتباع حسني عيل النوري املعروف يف إيران باسم بهاء‬

‫الله‪ ،‬وقد دخل مذهبه أو طريقته البهائية إىل مصر يف منتصف‬ ‫القرن التاسع عشر مع تجار السجاد اإليرانيني‪ ،‬وال توجد‬

‫تقديرات رسمية حول عدد البهائيني يف مصر‪ ،‬حيث إنها تع ّد‬ ‫ديانة غري معرتف بها من الشارع واملش ِّرع املصري‪ ،‬فقد صدرت‬

‫عام ‪1925‬م فتوى من املحكمة الشرعية بأن البهائية إلحاد‪،‬‬

‫وأمر القايض بتفريق ثالثة بهائيني عن أزواجهم‪ ،‬ورغم ذلك‬ ‫استطاع البهائيون أن يؤسسوا عددًا من املحافل واملراكز الخاصة‬

‫بهم‪ ،‬وهو ما استدعى صدور قرار جمهوري عام ‪1960‬م بإغالق‬ ‫محافلهم‪ ،‬وذلك بعد دعوى اتهمت عددًا من البهائيني بنشر‬

‫‪32‬‬

‫حسين علي النوري‬

‫يهود مصر‪ ..‬تاريخ طويل على حافة االنقراض‬ ‫لم يبتعد كثريًا مسلسل «حارة اليهود» عن الواقع يف‬

‫إظهاره اليهود جزءً ا من املجتمع املصري‪ ،‬وأن ثمة عالقات‬ ‫طيبة كانت تجمع أبناء الديانات الثالث يف مصر؛ فاليهود‬

‫كانوا جزءً ا من نسيج الواقع االجتماعي‪ ،‬حتى أنهم لم‬

‫يكونوا متمركزين يف مكان بعينه يك نتحدث عن ثقافة‬ ‫الجيتو‪ ،‬ولم يحدث ارتباك يف هذا النسيج إال مع ظهور‬

‫الصهيونية‪ ،‬ووقوع نكبة ‪1948‬م‪ .‬وهو ما سعى املسلسل‬ ‫الذي عرض مؤخ ًرا للتعبري عنه‪ ،‬وقد القى قبولاً واسعً ا‬ ‫لدى األوساط الشعبية‪ ،‬ربما لشهرة اسم «حارة اليهود»‪،‬‬

‫وربما لنعومة األحداث وجماليات التصوير‪ ،‬لكن النخب‬ ‫لم تستطع قبوله‪ ،‬فقد وصفه ألبري أريه (يهودي مصري)‬

‫يف حوار معه بأنه مسلسل لالستهالك اإلعالمي‪ ،‬ووصفه‬ ‫املؤرخ الدكتور قاسم عبده قاسم بأنه مجرد تأليف من‬ ‫الخيال‪ .‬وبعيدً ا عما أثاره املسلسل من جدل فإن اليهود‬

‫يف مصر يكادون ينقرضون‪ ،‬فحسبما قالت رئيسة الجالية‬ ‫ماجدة هارون‪ :‬إنهم ال يستطيعون إقامة الصلوات يف املعبد‪،‬‬ ‫ألن الصالة تحتاج إىل عشرة رجال عىل األقل‪ ،‬وكل اليهود‬ ‫املصريني اآلن عشرون سيدة‪ ،‬فما الذي حدث؟‬

‫يرى قاسم عبده قاسم أن الهجرات التي حدثت يف القرن‬

‫الثالث عشر سواء من املشرق العربي بسبب الغزو املغويل‪ ،‬أو‬ ‫املغرب العربي بسبب سقوط األندلس‪ ،‬زاد من هجرات اليهود‬

‫إىل مصر‪ ،‬وبعدما كان تعدادهم ال يصل إىل عشرة آالف أصبح‬ ‫عشرين ً‬ ‫ألفا مع بداية الدولة اململوكية‪ ،‬وقال‪ :‬إن املصادر‬ ‫التاريخية حددت تعداد اليهود قبل اإلسالم يف مصر بنحو‬

‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬


‫دعوتهم يف مصر‪ ،‬منذ ذلك التاريخ والبهائية تكاد تكون جماعة سرية‬

‫يتوازى وجود النوبي مع الوجود املصري القديم‪ ،‬حيث عصر‬

‫عن حرية العقيدة‪ ،‬مطالبني بإثبات البهائية يف خانة الديانة‪ ،‬أو رفع‬

‫كانوا نوبيني‪ ،‬نظ ًرا لتطابق البشرة السمراء واملالمح الزنجية والشعر‬

‫ال يسمع بها الكثريون‪ ،‬لكن مع ثورة ‪ 25‬يناير ظهر العديد من املدافعني‬

‫خانة الديانة من بطاقة الهوية للجميع‪ ،‬وهو ما رفضته املحكمة‪،‬‬ ‫لكنها أقرت بأنه يحق للشخص البهايئ أن يضع شرطة (‪ )-‬أمام خانة‬ ‫الديانة‪ ،‬لكن األزهر ما زال ً‬ ‫رافضا للبهائية‪ ،‬ويرى أنها خروج عىل امللة‪،‬‬ ‫رغم أن لجنة صياغة الدستور عام ‪2013‬م قدمت دعوة رسمية لوفد من‬

‫البهائيني مستمعة إىل مطالبهم الدستورية‪.‬‬

‫الفراعنة‪ ،‬هذا الذي تذهب بعض الدراسات إىل أن عددًا من ملوكه‬

‫واألنف مع املالمح النوبية‪ ،‬ويتحدث أبناء الشمال منهم الكنزية‪ ،‬عىل‬ ‫حني يتحدث أبناء الجنوب الفاديجا‪.‬‬

‫وحتى بداية القرن العشرين لم تكن هناك إشكالية خاصة‬

‫بالنوبيني‪ ،‬فقد كانوا جزءًا من نسيج املجتمع الذي ضم الدولتني‬

‫السودانية واملصرية تحت تاج واحد‪ ،‬لكن حني فكرت مصر يف بناء‬ ‫خزان أسوان عام ‪1933‬م ظهرت املشكلة؛ إذ إن املياه التي حجزها‬

‫ثانيًا‪ -‬أقليات عرقية‬

‫الخزان خلفه جاءت عىل حساب القرى النوبية‪ ،‬لكن األمر لم يكن‬

‫النوبيون هم مجموعة من القبائل التي تسكن يف شمال السودان‬

‫الدولة املصرية طالبت النوبيني بالخروج من أرضهم‪ ،‬وقامت بتجهيز‬

‫الكوشية‪ ،‬وكانت يف ثالث ممالك هي‪ :‬نبتة‪ ،‬وكرمة‪ ،‬ومروى‪ .‬ويتحدث‬

‫يصعد إىل أعايل الجبال عىل أمل انحسار الفيضان‪ ،‬لكن ذلك لم‬

‫‪ -1‬النوبة‬

‫وجنوب مصر‪ ،‬وقد كانت لهم حضارة عريقة عرفت بالحضارة النوبية‬ ‫النوبيون اللغة النوبية‪ ،‬وهي تنقسم إىل قسمني أساسيني؛ الكنزية‬

‫والفاديجية‪ ،‬وتتفرع إىل خمس لهجات أو أكرث يف مناطق مختلفة‬ ‫ما بني مصر والسودان‪ .‬ويتحدث السكان الحاليون بجانب اللغة‬

‫النوبية اللغة العربية بطالقة مع لغات أخرى كاإلنجليزية والفرنسية‬ ‫واإليطالية بحكم اختالطهم بالسائحني والزوار األجانب‪.‬‬

‫بقوة ما حدث بعد بناء السد العايل يف ستينيات القرن املايض‪ ،‬ورغم أن‬ ‫أماكن إلقامتهم يف أسوان‪ ،‬فإن بعضهم رفض الخروج‪ ،‬وفضل أن‬ ‫يحدث‪ ،‬ومن ثم انتقلوا جميعً ا إىل قرى يف الشمال‪ ،‬وبعضهم تفرق‬

‫يف مدن وبلدان كثرية‪ .‬ومن النوبة رموز مهمة يف الفنون واآلداب‪ ،‬من‬ ‫بينها املطرب الشهري محمد منري امللقب بامللك‪ ،‬والكاتب الكبري محمد‬

‫خليل قاسم صاحب رواية «الشمندورة»‪ ،‬وغريهما‪.‬‬

‫ويف نهايات عصر مبارك غازلت الضغوط الخارجية بعض أبناء‬

‫‪ً 70‬‬ ‫ألفا‪ ،‬لكن هذا الرقم تناقص بعد اإلسالم يف ظل عصر الوالة‬

‫وأدى آخرون دورًا بار ًزا يف الثقافة املصرية‪ ،‬كيعقوب صنوع‬

‫وذلك إما للدخول يف اإلسالم‪ ،‬أو للهجرة إىل عواصم الخالفة‬

‫وحني نفاه الخديوي إسماعيل إىل باريس ظل يدافع عن حرية‬

‫ودولتي طولون واإلخشيد حتى وصل إىل ‪ %1‬من تعداد السكان‪،‬‬

‫سواء يف دمشق أو بغداد أو حتى األندلس‪ ،‬وال توجد إحصائيات‬

‫امللقب برائد املسرح املصري‪ ،‬الذي أسس جريدة «أبو نضارة»‪،‬‬ ‫مصر من هناك‪ .‬وكان املخرج توجو مزراحي من أهم املخرجني‬

‫واضحة لهذه الحقبة حتى مجيء الدولة الفاطمية‪ ،‬حيث نشطت‬ ‫فيها التجارة بشكل ملحوظ‪ ،‬فضلاً عن كونها صارت عاصمة‬

‫املصرية شخصيات يهودية شهرية من النساء‪ ،‬من بينها ليليان‬

‫ذكر املقريزي أن القاهرة يف أيامه كان بها خمسة معابد‪ ،‬اثنان‬

‫عرفت باسم راقية إبراهيم‪ ،‬واملمثلة نجمة إبراهيم التي مثلت‬

‫خالفة جديدة‪ ،‬وهذا رفع التعداد إىل نحو مئة ألف يهودي‪ ،‬وقد‬

‫لطائفة الربانيني‪ ،‬واثنان للقرائني‪ ،‬وواحد لطائفة السامرة‪،‬‬ ‫وذهب قاسم إىل أن األسرة اليهودية لم تكن تزيد عىل أربعة أبناء‪،‬‬

‫وأن عامل الهجرات كان املؤثر األول يف زيادة تعداد اليهود أو قلته‪،‬‬ ‫فضلاً عما كان يقع عىل املصريني جميعً ا من أوبئة ومجاعات‪.‬‬ ‫يف العصر الحديث‬

‫كانت الثالثينيات واألربعينيات هي مرحلة االزدهار للوجود‬

‫اليهودي حسبما يقول الدكتور محمد عفيفي‪ ،‬فقد أدى اليهود‬

‫بجالياتهم املختلفة وانتماءاتهم األوربية دورًا يف ربط االقتصاد‬ ‫املصري باالقتصاد العاملي‪ ،‬وكانت لهم محالت شهرية من بينها‬

‫شيكوريل‪ ،‬و شمال‪ ،‬وعدس‪ ،‬وإريكو‪ ،‬و بنزايون‪ ،‬وقد كان‬ ‫لبعضهم دور مهم يف السياسة املصرية‪ ،‬مثل قطاوي باشا‪،‬‬

‫يف مصر‪ ،‬وهو أحد املؤسسني للسينما املصرية‪ ،‬وعرفت السينما‬ ‫ليفي التي اشتهرت باسم كاميليا‪ ،‬وراشيل إبراهام ليفي التي‬

‫مسرحيات تربعت هي واملمثلة نجمة إبراهيم بدخلها للجيش‬

‫املصري‪ ،‬ونظرية موىس شحاته التي عرفت باسم نجوى سالم‪،‬‬ ‫التي حصلت عىل درع الجهاد املقدس لدورها الوطني يف حرب‬ ‫االستنزاف‪ ،‬واملغنية الشهرية ليىل مراد‪ ،‬وكان يف بداية السينما‬

‫املصرية شخصية يهودية تدعى «شالوم»‪ ،‬كان أول من قدم‬

‫سلسلة أفالم بهذا االسم‪ ،‬لكنه اختفى‪.‬‬ ‫حارة اليهود‬

‫تقع حارة اليهود الشهرية عىل مقربة من شارع املوسيك يف‬

‫القاهرة‪ ،‬وهي تتبع إداريًّا حي الجمالية‪ ،‬وهي بمثابة حي كامل‬ ‫يضم ‪ 360‬حارة‪ ،‬وكانت مقسمة إىل شياختني إحداهما لليهود‬

‫الربانيني‪ ،‬والثانية لليهود القرائني‪ ،‬وكانت تشتمل عىل ‪ 13‬معبدًا‬

‫‪33‬‬


‫الملف‬

‫التاريخ جامع بني العناصر املقيمة عىل األرض يف هذا املكان‪ ،‬ويرجع‬ ‫بعض األمازيع تقويمهم إىل اليوم الذي دخل فيه ملكهم شيشنق‬

‫النوبة يك يطالبوا بالعودة إىل أرضهم القديمة‪ ،‬بدعوى أنهم‬

‫أرض مصر واعتىل عرشها‪ ،‬ويقدر تعداد األمازيغ املقيمني يف سيوة‬ ‫وما حولها بنحو ‪ً 25‬‬ ‫ألفا‪ ،‬لكن ذلك ال ينفي وجود أمازيغ انتشروا يف‬

‫الحكومة املصرية بحزم‪ ،‬فمثلما سمحت بوجود تمثيل نوبي جيد‬

‫مصر كيانان يهتمان بالشأن األمازيغي‪ ،‬هما‪« :‬الشبكة املصرية من أجل‬

‫حضارة منفصلة‪ ،‬لها أرض ولغة وتاريخ منفصل‪ ،‬وذهب‬ ‫بعضهم إىل املطالبة بتكوين وطن منفصل‪ ،‬وهو ما تعاملت معه‬

‫يف الثقافة والفن‪ ،‬فإنها لم تسمح بهذا التمثيل السيايس‪ ،‬وما‬ ‫زالت حتى اآلن بعض األصوات تطالب بحق العودة إىل الديار التي‬ ‫خرجوا منها؛ بسبب تعلية خزان أسوان أو بناء السد العايل‪.‬‬ ‫‪ -2‬األمازيغ‬

‫جنوب البالد وشمالها بحكم الهجرات الداخلية ً‬ ‫بحثا عن الرزق‪ ،‬ويف‬

‫األمازيغ»‪ ،‬ومركز «ميزران للثقافات املحلية»‪ ،‬أسستهما الناشطة أماين‬

‫الوشاحي‪ ،‬وهي مستشار رئيس منظمة الكونغرس العاملي األمازيغي‪.‬‬ ‫وقد استمعت إليها لجنة إعداد الدستور عام ‪2013‬م؛ إذ طالبت بتعيني‬

‫عضو يف مجلس النواب عن األمازيغ وثقافتهم‪.‬‬ ‫‪ -3‬الغجر‬

‫لم يكن املصريون يعرفون أن يف بالدهم أمازيغ‪ ،‬وكانوا‬

‫ينظرون طيلة الوقت إليهم بوصفهم عربًا أو بدوًا‪ ،‬لكن مع‬

‫الصحوة التي قام بها األمازيغ يف بلدان املغرب العربي‪ ،‬وظهور‬

‫رغم أن بعض املراجع ترجع وجود الغجر يف مصر إىل ما بني عامي‬

‫أو الجزائر أو ليبيا‪ ،‬فقد أثر ذلك يف املجموعات القليلة املقيمة‬

‫سالم؛ إذ ذهبت إىل أنهم عرب جساس الذين لقوا الهزيمة عىل يد‬

‫الحركات املطالبة باالنفصال عن البلدان القديمة سواء يف املغرب‬

‫يف مصر‪ ،‬وبخاصة يف منطقة واحة سيوة‪ ،‬حيث تعد االمتداد‬

‫الطبيعي لألمازيغ املقيمني يف الصحراء الليبية‪ ،‬واألمازيغ‬ ‫ال ينفصلون عن الكيان املصري‪ ،‬مثلهم مثل النوبة‪ ،‬فعمق‬

‫‪34‬‬

‫ً‬ ‫معروفا عىل وجه التحديد تاريخ ارتباط الغجر بمصر‪،‬‬ ‫ليس‬

‫‪ 1546‬و‪1549‬م‪ ،‬عىل حني ربطتهم مصادر أخرى بقصة جساس والزير‬ ‫الزير سالم‪ ،‬فتفرقوا يف البالد وأقاموا عىل هوامش املدن والقرى‪ ...‬وقد‬ ‫اعتاد الناس عىل اتهامهم بالسرقة وتسميتهم بال َّنوَر‪ ،‬وهم يقيمون يف‬

‫أماكن متواضعة‪ ،‬مع أغنامهم وماشيتهم‪ ،‬ويحتكمون إىل مجلس‬

‫لليهود‪ ،‬لم يبق منهم إال معبد موىس بن ميمون‪ ،‬ومعبد أبو‬

‫بعد التأميم عامي ‪1962 ،1961‬م‪ .‬وأكد الدكتور محمد عفيفي‬

‫الغار صاحب كتاب «يهود مصر من االزدهار إىل الشتات»‪ :‬إن‬

‫ظل األوضاع الحالية؛ فالحياة االجتماعية واالقتصادية املصرية‬

‫حاييم كابويس‪ ،‬ومعبد بار يوحاي‪ .‬ويقول الدكتور محمد أبو‬

‫الحارة لم تكن تقتصر عىل اليهود فقط‪ ،‬فسكانها كانوا من‬ ‫اليهود واملسلمني واألقباط‪ ،‬ولم يكن هناك حي مقتصر عىل‬ ‫اليهود فقط‪ ،‬وإن كان قد وجد يف هذا املكان عدد أكرث كثافة‬

‫عن غريه من اليهود‪ ،‬لقرب الحارة من شارع الحرفيني‪ ،‬حيث‬ ‫كان اليهود يعملون يف الحرف‪ ،‬ما جعلها عىل مقربة من‬

‫مصدر رزقهم‪ ،‬وعندما كانت حالتهم االقتصادية تصبح أفضل‬

‫كانوا يرتكون الحارة ليقيموا يف باب الشعرية‪ ،‬أو باب اللوق‪،‬‬ ‫أو العباسية‪ ،‬أو مصر الجديدة‪.‬‬ ‫الخروج من مصر‪.‬‬

‫عىل أنه من الصعب القول بعودة اليهود مرة أخرى إىل مصر يف‬

‫ال تمثل لهم اآلن أي عامل من عوامل الجذب عىل اإلطالق‪.‬‬ ‫طوائف وخالفات‬

‫يوضح أستاذ التاريخ بجامعة القاهرة الدكتور محمد‬

‫عفيفي أن يهود مصر كانوا من أكبر الطوائف‪ ،‬وأن التركيبة‬ ‫السكانية األساسية لهم تتكون من الناطقين بالعربية وهم‬

‫الربانيون والقراؤون‪ ،‬ومن انضم إليهم من السفارديم‬ ‫القادمين من األندلس‪ ،‬ثم األشكناز الذين جاؤوا من أوربا في‬ ‫أعقاب المذابح التي دبرت لليهود في نهايات القرن التاسع‬ ‫عشر‪ .‬وذهب عفيفي إلى أن اليهود عملوا في مختلف الحرف‬

‫تعددت أسباب خروج اليهود من مصر‪ ،‬لكن ليس من‬

‫وشتى أنواع التجارة‪ ،‬لكنهم لم يكونوا مزارعين‪ ،‬ولم يعملوا‬

‫قاسم أنهم خرجوا عىل مراحل‪ ،‬املرحلة األوىل مع النكبة‬

‫تمتعوا بمختلف االمتيازات‪ ،‬بخاصة أن كثيرين منهم كانوا‬

‫بينها اإلجبار بحال من األحوال؛ إذ يرى الدكتور قاسم عبده‬

‫وقيام دولة إسرائيل‪ ،‬والثانية مع العدوان الثاليث الذي جاء‬ ‫بعد عملية سوزانا التي اشتهرت باسم فضيحة الفون‪ ،‬والتي‬

‫قبض فيها عىل عدد من اليهود بتهمة التجسس والقيام بأعمال‬ ‫تخريبية‪ ،‬واملرحلة الثالثة وكانت الضربة القاضية والتي كانت‬

‫ً‬ ‫ضياعا وعزبًا‪ .‬وأضاف أنهم‬ ‫بالزراعة حتى وإن امتلك أثرياؤهم‬ ‫يحملون جنسيات أخرى‪ ،‬فقدر عدد اليهود من أصول مصرية‬ ‫بنحو ‪ً 11‬‬ ‫ألفا‪ ،‬واليهود المصريين الذين يحملون جنسيات‬

‫أخرى بنحو ‪ً 75‬‬ ‫ألفا‪ ،‬واليهود األجانب المقيمين في مصر بنحو‬ ‫‪ً 40‬‬ ‫ألفا‪ .‬وذلك في حقبة الثالثينيات واألربعينيات‪.‬‬

‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬


‫يسمى بمجلس املغارمة‪ ،‬وهو مكون من كبري يعاونه ثالثة من رجاله‪،‬‬

‫العيون‪ ،‬وقرى سنباط واملقطم وأبو النمرس ومنشية ناصر‪ ،‬ويقيم‬

‫الغجر ولم يتزوجوهن‪ ،‬وتعد املرأة هي العائل األول لألسرة؛ لذا فمهرها‬

‫بطلخا نحو ‪ 1500‬غجري‪ ،‬ويف املنصورة نحو ‪ 500‬غجري‪ ،‬إال أنه ال‬

‫وال يتزوجون من الغرباء‪ ،‬وأغلب أغنياتهم تدور عن الذين عشقوا من‬

‫غال‪ ،‬وتقام األفراح حني تولد أنثى يف بيت غجري‪ ،‬ويعد لون الشعر‬ ‫ٍ‬ ‫األصفر من عالمات الجمال لديهم؛ لذا فأغلبهن تقمن بصبغه‪ ،‬ويرتكز‬

‫وجود الغجر يف بعض املناطق مثل‪ :‬حي غربيال باإلسكندرية‪ ،‬وقرى‬

‫طهواي بالدقهلية‪ ،‬وكفر الغجر بالشرقية‪ ،‬وحوش الغجر بسور مجرى‬

‫يف الدقهلية وحدها نحو أربعة آالف غجري‪ ،‬ويف قرية العصيا‬

‫يوجد تعداد واضح وشامل للغجر املقيمني يف مصر حتى اآلن‪،‬‬

‫ربما لرتحالهم الدائم‪ ،‬وربما ألنهم ينكرون هويتهم وال يرغبون‬ ‫يف إثباتها‪ ،‬وهم يف العموم ليست لهم أية مطالب سياسية‪ ،‬وال‬ ‫يشكلون ً‬ ‫مأزقا للدولة وال للمجتمع املصري‪.‬‬

‫‪35‬‬ ‫وتكونت الجماعة اليهودية في مصر والعالم العربي من ثالثة‬

‫يهود آخرين محلهم‪ ،‬وكانت مدينة السامرة هي عاصمة مملكة‬

‫األكثر عددًا‪ ،‬ومن ثم كان غالبًا ما يكون رئيس الجالية اليهودية‬

‫وقد بنى فيها اليهود الجدد هيكلهم على جبل جزريم‪ ،‬وحين أمر‬

‫أطياف‪ ،‬هم الربانيون والقراؤون والسامرة‪ ،‬وكان الربانيون هم‬ ‫من بينهم‪ ،‬وتعود التسمية إلى كلمة رباني أو أوريانيم التي تعني‬

‫اإلمام أو الحبر أو الفقيه‪ ،‬وهم يؤمنون بالتوراة والتلمود‪ ،‬أما‬

‫القراؤون فهم أقل عددًا من الربانيين‪ ،‬لكنهم كانوا أكثر غنى‪،‬‬ ‫ومن ثم كانوا في المناصب والوظائف العليا‪ ،‬وتأتي تسميتهم من‬

‫كلمة قرأ‪ ،‬أي نادى ودعا‪ ،‬وهم ال يعترفون بالتلمود‪ ،‬وال يؤمنون‬ ‫إال بما جاء في النص التوراتي فقط‪ ،‬ويعرفون باسم أهل الدعوة‬ ‫ألنهم يدعون إلى طريقتهم‪ .‬ويرجع بعض الباحثين ظهورهم إلى‬ ‫زمن أبي جعفر المنصور‪ ،‬إذ تأثر زعيمهم عنان بن داود بأفكار‬

‫المعتزلة الذين رفضوا جعل الحديث النبوي من مصادر التشريع‪،‬‬ ‫وتشككوا في التراث الشفوي اإلسالمي‪ ،‬ومن ثم رفض عنان‬

‫وطائفته اإليمان بالتلمود وما جاء فيه‪ ،‬وزاد الخالف بين الفريقين‬

‫إلى درجة تحريم الزواج واالختالف في كثير من الطقوس واألعياد‪.‬‬ ‫أما الطائفة الثالثة فهي السامرة‪ ،‬وهم أقلية‪ ،‬وال يعدهم الربانيون‬

‫وال القراؤون طائفة‪ ،‬لكن المصريين حكامًا ومحكومين تعاملوا‬

‫معهم على أنهم طائفة‪ ،‬و تعود نشأتهم إلى زمن السبي البابلي‪،‬‬ ‫حيث تم نقل يهود القدس وفلسطين إلى شمال إيران‪ ،‬وإحالل‬

‫داود وسليمان‪ ،‬وهي المدينة القديمة التي تسمى اآلن «نابلس»‪،‬‬

‫قورش بعودة اليهود الذين كانوا في السبي سعى هؤالء المقيمون‬ ‫في السامرة إلى تعطيل عودتهم‪ ،‬كما سعوا إلى تعطيل ترميمهم‬

‫لهيكلهم القديم في القدس‪ ،‬فنشب الخالف بين الطائفتين‪ ،‬وهم‬

‫ال يؤمنون إال باألسفار الخمسة إلى جانب سفر يوشع والقضاة‪،‬‬ ‫وال يؤمنون إال بنبوة موسى وهارون ويوشع‪ ،‬ويخالفون الربانيين‬ ‫والقرائين في القبلة؛ إذ يتوجهون إلى جبل جزريم‪ ،‬أما اآلخرون‬

‫فيتوجهون إلى القدس‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وعرفت مصر الطوائف الثالث‪ ،‬وكانت مركزا مهمًّا لجذب‬

‫الكثيرين‪ ،‬لكن القيادة الروحية لهم كانت في العراق وفلسطين‪،‬‬ ‫حيث مدارس التلمود هناك‪ ،‬وكان مبارك بن سعديا أول رئيس‬

‫للطائفة اليهودية في مصر عام ‪1056‬م‪ ،‬وخلفه ابنه موسى‪ ،‬وكان‬

‫اختيار رئيس اليهود يسمى الناجد‪ ،‬ويتم اختياره من السلطان‬ ‫أو الخليفة‪ ،‬ويعهد إليه بتدبير شؤون الطوائف الثالث في فصل‬

‫المنازعات والقضاء‪ ،‬وكان لكل طائفة رئيس يخصها‪ ،‬لكننا ال‬ ‫نعرف على أي أساس يتم االختيار سوى أن صاحبه يكون متقاطعً ا‬

‫مع بالط الحاكم‪.‬‬


‫الملف‬

‫األقليات السورية‬ ‫في مرايا األدب‪:‬‬ ‫في نقد سيكولوجيا الضحية!‬

‫‪36‬‬

‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬


‫سامر إسماعيل‬

‫دمشق‬

‫ما يصح في السياسة قد ال تقبله الثقافة بمعناها المعرفي الواسع‪ ،‬فالتعدد الثقافي اإلثني‬ ‫والمذهبي والطائفي في بالد مثل سوريا كان على الدوام أحد أغزر المنابع الثقافية وأكثرها ثراءً‬ ‫وسط جغرافية تمتد بين بادية الشام مرورًا بالجزيرة السورية وصولاً إلى ساحل البحر المتوسط‪،‬‬ ‫ومن عين ديوار في أقصى شمال شرق سوريا إلى سهول حوران وجبل العرب جنو ًبا‪ .‬فال السنة علب‬ ‫سردين مصفوفة بعضها فوق بعض‪ ،‬وال الشيعة علب كبريت مصطفة بعضها فوق بعض‪ ،‬وال‬ ‫المسيحي أو الدرزي عبوات كوكاكوال متناظرة في حجومها‪.‬‬ ‫إن الخصومات التي مهدت لها النخب الحاكمة يف املدن‬

‫روايته «الوباء» التي اعتمد فيها (الراهب) عىل تفكيك البنى القائمة‬

‫كون معظم هذه النخب شكلت ما بعد االستقالل عام ‪1946‬م نواة‬

‫الفقراء يف الثقافات الفرعية‪ ،‬والتي برأيه «تتعارض مع قيم الطبقة‬ ‫املتوسطة التي اكتسبها الفالحون والعمال وصغار الكسبة» متنب ًئا‬

‫الرئيسة السورية‪ ،‬كانت عىل الدوام هي بذرة كل ما يحدث اليوم‪،‬‬ ‫لربجوازية وطنية جمعت أموالها من سرقة مواسم القمح والقطن‬

‫يوم أن كانت ال تزال تمثل السلطة اإلقطاعية الرسمية‪ ...‬هذا يحيلنا‬ ‫ً‬ ‫مباشرة إىل طبيعة النص الذي أفرزته تلك النخب الهاربة‪ ،‬التي تركت‬ ‫الحبل عىل غاربه لنشوء برجوازية عسكرية عملت فيما بعد وعرب‬

‫العديد من االنقالبات عىل تقليد سلفها الربجوازي‪ ،‬لكن هذه املرة‬ ‫عرب سرقة املال العام والهيمنة عىل امتيازات اقتصادية عمالقة داخل‬

‫جسم الدولة‪ .‬هذا النمط االقتصادي من مراكمة الرثوات جعل‬ ‫الصراع يف سوريا دائمً ا هو صراع بني الفقراء والفقراء‪ .‬حرب يمولها‬

‫األغنياء بغض النظر عن الطائفة واملذهب والقومية‪ .‬عائالت بعينها‬ ‫تسيطر عىل مقدرات البالد‪ ،‬وتعمل ليل نهار عىل استنساب وريث‬

‫دائم لرثواتها املنهوبة من قوت الجياع واملستضعفني واملغلوبني عىل‬

‫أمرهم‪ ،‬واألهم من هذا وذاك هو استقواء هذه النخب االقتصادية‬ ‫بالعائلة كمرجع نهايئ ّ‬ ‫يبت يف أمور التجارة والصناعة وتحالفاتها‬

‫مع شركات عابرة للجنسية والحدود الدولية‪ ،‬لصوص بال حدود‬ ‫ّ‬ ‫مصاف األباطرة واملعصومني‪.‬‬ ‫ترفعهم العائلة إىل‬

‫ً‬ ‫إشارة قوية عىل عكس هذا‬ ‫من هنا كانت الرواية السورية‬

‫الخراب العميم يف إصداراتها‪ .‬أقليات غنية مدعومة بعائالت أبدية‬ ‫يف مواجهة أكرثية منكوبة ومحتقرة‪ .‬لقد أسس هاين الراهب لهذه‬ ‫املفارقة يف روايته «بلد واحد اسمه العالم» تمامً ا كما هي الحال يف‬

‫يوما كتلة‬ ‫الشعب السوري لم يكن‬ ‫ً‬ ‫متجانسة ومتماسكة‪ .‬فالشعب الواحد‬ ‫مقولة فارغة من أي معنى‪ ،‬أو محتوى‪،‬‬ ‫بعيدا من وعي المواطنة في إطار‬ ‫ً‬ ‫الدولة الوطنية الديمقراطية العلمانية‬

‫ماركسيًّا يف جدلية الدولة والعنف‪ ،‬مشرحً ا القيم التي نشأ عليها‬

‫بـ«مئة سنة قادمة ستكون عصر العنف‪ ،‬فضغط الدولة يف العالم‬ ‫ً‬ ‫مادة‬ ‫سيزداد‪ ،‬والخائفون سيخرجون من جلودهم ويصريون‬

‫للعنف‪ .‬العنف الشامل وطغيان الدولة سيلغي القانون نهائيًّا‪،‬‬ ‫ويعيد الفقراء إىل وضع همجي‪ ،‬تفكك وانحالل‪ ،‬لكل قيمة وبنية‬

‫وعالقة»؟‬

‫نزاعات جانبية‬

‫هذه النبوءة هي ما دفعت فيما بعد الكاتب سعد الله ونوس‬

‫(‪1997 -1941‬م) لقراءة املدينة العربية املعاصرة من موقع الفقراء‬

‫نفسه والشعور بغطرسة املركز عىل األطراف‪ ،‬فنصوصه التي‬ ‫ً‬ ‫وخصوصا كتاب الليايل العربية‬ ‫استلهمها من الرتاث العربي‪،‬‬ ‫«ألف ليلة وليلة» كانت جميعها تدور أحداثها يف مدينة بغداد‪،‬‬

‫عىل نحو «مغامرة رأس اململوك جابر» و«امللك هو امللك» حيث‬ ‫تحضر املدينة كفضاء للدسائس وحفالت التنكر‪ ،‬وسقوط األقنعة‪،‬‬ ‫وقطع الرؤوس‪ ،‬يف حقبة تاريخية وصفها املؤرخون بزمن «الشطار‬

‫والعيارين» وتحالف السلطة مع عيونها وأصحاب شرطتها وجالديها‬ ‫ُّ‬ ‫تحضر دمشق كمدينة تتألف يف‬ ‫عىل الشعب ومصايره؛ فيما‬ ‫نصوص صاحب مقولة «محكومون باألمل» من سجون ومواخري‬

‫وأسواق وقالع كما يف مسرحيته «طقوس اإلشارات والتحوالت»‪.‬‬ ‫ليصل الصراع إىل أشده يف مسرحيته «سهرة مع أبي خليل القباين»‬

‫النص الذي يع ّد مجابهة صادمة بني العقلية الرجعية وفن‬

‫املسرح‪ ...‬مجابهة وضعت إشارات استفهام كثرية عىل دور املدينة‬

‫ملسؤولياتها الحضارية‪ ،‬لكنها ال تخلو من حزازات نخبوية مضمرة‪،‬‬ ‫تعلن انتماءها لقيم اجتماعية مرموقة‪ ،‬لكنها مواربة يف تحديد‬

‫موقفها من تطاحن «أكرثيات ريفية فقرية» و«أقليات مدن غنية»‪،‬‬ ‫وأسبقية سكان الثانية عىل األوىل‪ً .‬‬ ‫إذا ليست األقليات وال األكرثية‪،‬‬

‫‪37‬‬


‫الملف‬

‫ال الغالبية املذهبية بل الغالبية السياسية التي تقهقرت عامً ا‬

‫و(محكمة املشايخ) لدى الدروز‪ .‬يُفرتض بأتباع هذه الديانات وامل ِلل‬

‫ولتظهر فروقات هائلة بني عائالت ريفية وأخرى مدينية‪ ،‬أو‬

‫املسماة محاكم؛ ألنهم يف معظمهم يمارسون (ظلمني) ظلم الدين‬ ‫وظلم رجاله‪ ،‬فضلاً عن الظلم املكتسب لدى البشر‪ .‬وعدم اللجوء‬

‫بعد عام‪ ،‬لتجد النزاعات الجانبية ثغرات يف هذا الجدار‪،‬‬

‫‪38‬‬

‫انتمت إىل املدينة وتقمصت (الدمشقة) يف سلوكها الحيايت‬ ‫ومظاهرها العامة‪ ،‬وصولاً إىل سيادة أخالق السوق‪ ،‬وانهيار‬

‫كبري للطبقة الوسطى يف املجتمع السوري التي كانت تخفف‬ ‫من الغلواء بني جانبي الصراع‪ ،‬ما ظهر جليًّا يف ازدياد أحزمة‬

‫الفقر حول املدن الكربى‪ ،‬من أحياء عشوائية يقعي فيها‬ ‫حطام هذه الطبقة املتوسطة السورية من متعلمني وحرفيني‬

‫ومثقفني وعمال وموظفني حكوميني‪.‬‬

‫واقع معقد عكس صورة تحت مدينية يف شؤون عديدة‬

‫اختص بالقضاء واملحاكم الشرعية واألحوال الشخصية‪،‬‬ ‫ليدفع الكاتبة واألديبة روعة يونس إىل القول‪« :‬أبناء األقليات‬

‫أو املذاهب الذين يفضلون تبعية شؤونهم القضائية إىل غري‬

‫القضاء الرسمي‪ -‬وزارة العدل‪ .‬أقصد تحديدًا‪ :‬املسيحيني‬ ‫والشيعة والدروز‪ ،‬الذين يقصدون يف تخاصمهم (املحكمة‬

‫الروحية) لدى املسيحيني‪ .‬و(املحكمة الجعفرية) لدى الشيعة‪.‬‬

‫أن يوجّ هوا ضرباتهم القاضية لرجال الدين‪ -‬القضاة يف تلك (املزارع)‬

‫إليهم للتخاصم واالحتكام لديهم»‪ .‬إن شئتم بعض الجرأة‪ ،‬ولتكن‬

‫وقاحة‪ -‬تتابع يونس‪« :‬إن ظلم املؤسسة القضائية املتمثلة بوزارة‬ ‫ّ‬ ‫أخف وقعً ا عىل النفس من ظلم من يخربك أنه‬ ‫العدل ومحاكمها‬

‫ممثل املسيح‪ ،‬وممثل اإلمام املهدي‪ ،‬وممثل الحاكم بأمره عىل‬

‫األرض»‪.‬‬

‫األقليات واألكرثية ومآالتها‬

‫باستشهاد طويل لصبحي العمري‪ ،‬أحد الضباط الذين‬

‫خاضوا ِغمار الثورة ضد العثمانيني وشهد معركة ميسلون ضد‬

‫الفرنسيني‪ ،‬يعكس فيه مسألة األقليات واألكرثية ومآالتها مع‬

‫رحيل العثمانيني‪ .‬إذ يقول العمري‪« :‬خرجنا من الحكم الرتيك‬ ‫ونحن متفرقون ّ‬ ‫مفككون إىل مسلم‪ ،‬ومسيحي‪ ،‬وشيعي‪ ،‬وسني‪،‬‬ ‫وإسماعييل‪ ،‬ونصريي‪ ،‬ودرزي… ومن القوميات األخرى‪ :‬تريك‪،‬‬

‫وتركماين‪ ،‬وشركيس‪ ،‬وكردي‪ ،‬وألباين‪ ،‬وأرمني… وجميع هذه‬

‫الديانات واملذاهب والقوميات مختلفة مع بعضها‪ ،‬كل منها تعترب‬

‫كانت الرواية السورية إشارةً‬ ‫قوية على عكس هذا الخراب‬ ‫العميم‪ :‬أقليات غنية مدعومة‬ ‫بعائالت أبدية في مواجهة أكثرية‬ ‫منكوبة ومحتقرة‬

‫نفسها غريبة عن اآلخرين‪ ،‬وتعتقد أنها مغبونة مهضومة الحقوق‪.‬‬ ‫فلقد كان املسيحيون بصورة عامة ال يزالون تحت تأثري املايض‪ .‬لقد‬ ‫كان املسيحي يف العهد العثماين مواط ًنا من الدرجة الثالثة‪ ،‬ال‬ ‫يشعر أنه مواطن له حقوق وعليه واجبات‪ ،‬فال يعقل أن ينقلبوا‬

‫بمجرد خروج األتراك قوميني عربًا‪ ،‬وينسوا كل ما م ّر بهم من‬

‫مظالم وإهانات خالل تلك القرون الطويلة‪ ،‬وهكذا كانت أكرثية‬ ‫املسيحيني‪ ،‬غري مرتاحة للحكم الوطني‪ ،‬فبقوا أصدقاء لفرنسا؛‬

‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬


‫أما اليهود فهم شعب عد ّو لكل ما هو غري يهودي‪ ،‬يفضلون أن‬ ‫يكونوا تابعني ألي حكم أجنبي؛ والشيعة يف حيّهم منكمشون‬

‫يشعرون بغربتهم عن األكرثية السنية‪ ،‬وقد لجأ عدد غري قليل‬ ‫منهم للحصول عىل الجنسية اإليرانية لتحميه من ظلم الدولة؛‬ ‫والنصريية يف جبالهم منعزلني تحت وطأة الفقر والجهل واإلهمال‪،‬‬

‫ال يعرفون عن الحكم سوى أنه ضريبة إىل الجابي يف يد الجندرمة‬ ‫(الدرَك)؛ وهكذا اإلسماعيليون املرتبطون مذهبيًّا واجتماع ًّيا بآغا‬

‫خان؛ والدروز يف مناطقهم الجبلية يشعرون بغربتهم عن جميع‬ ‫من يحيط بهم‪ ،‬وهم دائمًا يف ريبة وعدم اطمئنان‪ ،‬والحكومة‬

‫يف نظرهم عدو مرتبص بهم‪ .‬أما األقليات العنصرية‪ ،‬كاألتراك‬ ‫والشراكسة والرتكمان وغريهم‪ ،‬فبقي والؤهم لألتراك‪ ،‬يعتربون أن‬ ‫حركة القومية العربية‪ ،‬التي فصلتهم عن األتراك املسلمني بالتعاون‬

‫مع اإلنكليز الكفار‪ ،‬حركة خائنة‪ ،‬ويتفق معهم بهذه الفكرة أكرثية‬

‫رجال الدين املسلمني‪ ،‬والكثري من العامة»‪.‬‬

‫ممدوح عزام‬

‫سمر يزبك‬

‫السورية عام ‪ 1998‬وقال البيان‪ :‬إن الرواية والراوي عىل السواء شوَّها‬

‫أبطال التحرير األسطوريني أمثال (سلطان باشا األطرش)‪.‬‬

‫تجاهل اإلعالم السوري وقتها هذا البيان وردود األفعال األخرى‬

‫عليه‪ ،‬مثل بيان املثقفني للتضامن مع الكاتب‪ .‬عىل حني غض النظر‬

‫اتحاد الكتاب العرب آنذاك عن هذا الحدث‪ ،‬ولم يتضامن مع‬

‫الكاتب‪ ،‬بل دعاه إىل طلب الغفران والرتاجع عما فعل ومصالحة‬ ‫شيوخ طائفته‪ .‬مازن عرفة يف روايته «وصايا الغبار» يذهب ً‬ ‫أيضا إىل‬

‫يف روايته «قصر املطر» يتعرض ممدوح عزام لهذا املوضوع‬

‫استعراض واقع عيش األقليات من خالل قصة حب يرويها بني شاب‬

‫دفع بعض املشايخ يف الطائفة الدرزية التي ينتمي إليها الكاتب‬

‫قصة العاشقني بزواج الفتاة من رجل ينتمي إىل طائفتها‪ .‬الواقع‬

‫راصدًا ألنماط عقائدية يف محافظته السويداء ‪ -‬جبل العرب‪ ،‬مما‬ ‫السوري عزام‪ ،‬إىل إصدار بيان بإهدار دمه بحجة أن «قصر املطر»‬

‫دمشقي من الطائفة السنية وبني فتاة من الطائفة الدرزية‪ ،‬تنتهي‬

‫الفني األدبي للرواية السورية يزخر بهذه األمثلة‪ ،‬ومنها روايات كل‬ ‫من روزا ياسني حسن «أبنوس» ورواية سمر يزبك «طفلة السماء»‬

‫أساءت إىل املجتمع الدرزي وأخالقه‪ ،‬وشوهت عاداته وتقاليده‬ ‫ومقدساته وأبطاله األسطوريني‪ .‬طالب هذا البيان الذي ّ‬ ‫وقعه‬

‫ورواية «تجليات جدي الشيخ املهاجر» لحسيبة عبدالرحمن؛ إذ‬

‫وسحبها من األسواق‪ ،‬علمًا بأن الرواية صادرة عن وزارة الثقافة‬

‫عند الطائفة العلوية‪.‬‬

‫مشايخ طائفة عقل الدرزية الحكومة السورية بمنع تداول روايته‬

‫تناقش كل من الروائيات السالفة الذكر موضوع التقمص والدين‬

‫حق منح الهوية الوطنية لألقليات‬ ‫«واحد واحد واحد‪ ...‬الشعب السوري واحد» أظنه شعارًا كشف وحشية وال إنسانيّة الحرب السورية‪ ،‬وهو من أكرث الشعارات‬

‫يعن هذا الشعار سوى إعالن أكرثية عن ملكيتها‬ ‫افرتاء عىل الحقيقة والواقع‪ ،‬يقول الكاتب والناقد ياسر إسكيف ويتابع‪« :‬لم‬ ‫ِ‬

‫الحصرية لحق منح الهوية الوطنية لألقليات‪ .‬فالشعب السوري لم يكن يومً ا كتلة متجانسة ومتماسكة‪ .‬فالشعب الواحد مقولة‬ ‫ً‬ ‫بعيدا من وعي املواطنة يف إطار الدولة الوطنية الديمقراطية العلمانية‪ .‬وهذا ما لم يعرفه‪ ،‬أو‬ ‫فارغة من أي معنى‪ ،‬أو محتوى‪،‬‬ ‫ّات دينيّة‪ ،‬وقومية‪ ،‬ومذهبيّة‪ ،‬تتعايش‬ ‫يختربه‪ ،‬السوريون يومً ا‪ .‬وكان املجتمع السوري‪ ،‬تاريخيًّا‪ ،‬أكرثيّة عربية مُ سلمة (سنيّة)‪ ،‬وأقلي ٍ‬

‫ركبة ومُ ّ‬ ‫فيما بينها وفق عالقة‪ ،‬أو عالقات‪ ،‬مُ ّ‬ ‫عقدة‪ .‬حيث تتقاطع هذه األكرثية قوميًّا مع األقلية املسيحية العربية‪ ،‬ومع األقليات‬

‫املذهبية اإلسالمية‪ .‬بينما تتقاطع إسالميًّا مع أقليات أخرى (أكراد‪ ،‬وتركمان‪ ،‬وشركس) وتتباعد‪ ،‬أو تتناقض‪ ،‬كما يف حالة األكراد‪،‬‬ ‫قوميًّا»‪.‬‬

‫إن الخصوصيات الثقافية هي الطاغية يف التمييز بني األكرثية واألقليات السورية‪ ،‬إذ لم تتوقف تلك األقليات عن إنتاج مجموعتها‬ ‫الخاصة من القيم واملعايري‪ ،‬كما األعراف والتقاليد والطقوس‪ ،‬وتجىل هذا بشكل شديد الوضوح يف النتاجات اإلبداعية (أدبًا وف ًّنا)‬

‫التي عكست فضاء الحريّة الذي تمنحه تلك األقليات ألفرادها‪ ،‬من ناحية أنها باألساس تكوّنت عىل املُفارقة واالختالف والتمايز‪ .‬ومن‬ ‫الالفت بهذا الخصوص حجم املُكابدة التي عانتها اللغة يف الخروج من استنقاعها وتخثرّ ها لتتمكن من قبول واحتواء املُختلف من‬ ‫التصوّرات‪ ،‬والرؤى‪ ،‬واملشاعر‪ ،‬واألحاسيس‪ ،‬حتى بدت يف أحيان كثرية غريبة عن نفسها‪ ،‬أو مُ ختطفة منها‪ ،‬حتى إن بعضهم قد‬

‫رأى يف هذا تخريبًا للغة‪ ،‬أو أن اللغة ذاتها قد تواطأت مع خرابها وسعت إليه‪ .‬وبالتايل ال أظنها مصادفة أن يكون‪ ،‬عىل سبيل املثال‬ ‫ال الحصر كل من أدونيس‪ ،‬وحنا مينة‪ ،‬وسعد الله ونوس‪ ،‬وسليم بركات‪ ،‬وممدوح عدوان‪ ،‬ممن ولدوا يف بيئات تعود لألقليات‪.‬‬

‫‪39‬‬


‫الملف‬

‫أمازيغ المغرب‪..‬‬ ‫هل هم أقلية؟‬

‫‪40‬‬

‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬


‫نزهة صادق‬

‫باحثة مغربية‬

‫ً‬ ‫أساسا من مكونات الحضارة المغربية‪ ،‬وقد أثروا فيها سلبًا وإيجا ًبا‪ ،‬في‬ ‫مكونا‬ ‫يشكل األمازيغ‬ ‫ً‬ ‫ظل أوضاع سياسية واجتماعية ودينية عرفت تحوالت متعددة‪ ،‬ومكنت من خالل تنوعها من بناء حضارة‬ ‫وعلم وتاريخ ودين ومدن قديمة‪ ،‬شكلت هوية مغرب اليوم التي تتميز بالتنوع والتعدد واالختالف‪.‬‬ ‫وتعد القضية األمازيغية في المغرب مسألة في غاية التعقيد؛ إذ تتم مقاربتها من خالل أوجه عديدة‪،‬‬ ‫كما تشوبها خلفيات سياسية واجتماعية وثقافية‪ ،‬تنطلق من تعقيد طرح االسم‪ ،‬إلى تحديد المجال‬ ‫الجغرافي‪ ،‬وصولاً إلى األصول‪.‬‬ ‫وقد عرف املسار التاريخي لألمازيغ تغريات جذرية‬

‫وبخاصة بعد الفتح اإلسالمي واعتناق األمازيغ اإلسالم‪ ،‬ما‬ ‫شكل تجاذبًا مهمًّ ا بني باحثني وجدوا الدين الجديد عنص ًرا‬ ‫أقىص هويتهم وطمسها‪ ،‬وبني آخرين رأوا أن الدين‬

‫الجديد شكل نقلة ثورية وحدت املماليك األمازيغية‪،‬‬

‫وأسهم يف بناء الحضارة اإلسالمية‪ ،‬وكما قال املفكر‬ ‫اإلسالمي طارق السويدان‪« :‬فلوال عظماء األمازيغ ما‬

‫كانت حضارة اإلسالم يف األندلس وشمال إفريقيا»‪،‬‬ ‫ما يضع الراغب يف الغوص يف تركيبة األمازيغ أمام‬

‫حقائق أوضحت عمق الحضارة األمازيغية‪،‬‬ ‫وانفتاحها عىل انتقاالت ثورية نسجت للشعب‬ ‫املغربي هوية مركبة بني أمازيغ ُع ّربوا‪ ،‬وعرب‬

‫مُ ّزغوا‪ ،‬وهو ما شكل نسيجً ا هوياتيًّا يتميز‬

‫بالتنوع والتماسك والتعقيد‪.‬‬ ‫حضور ثقايف عريق‬

‫ووضع سيايس جديد‬

‫وردت كلمة أمازيغ يف نقوش املصريني‬

‫القدماء‪ ،‬وعند كتاب اليونان والرومان وغريهم‬

‫من الشعوب القديمة التي عاصرت األمازيغيني‪،‬‬

‫وبصم األمازيغ التاريخ السيايس لشمال إفريقيا‪ ،‬كما‬

‫أسهموا يف بلورته‪ ،‬ويف تطوير املجال الحضاري من خالل‬

‫املساهمة الفعالة يف ظهور الحضارة والتمدن‪ ،‬فنبغ منهم‬ ‫الفالسفة واملفكرون أمثال لوكيوس أبوليس (‪125- 120‬م)‬

‫وهو خطيب أمازيغي‪ ،‬وفيلسوف وعالم طبيعي‪،‬‬ ‫وكاتب أخالقي‪ ،‬وصاحب روايات التحوالت‬

‫والتغريات‪ ،‬وقد كتبها يف ‪ 11‬جزءً ا‪ ،‬أما يف‬

‫ميدان األدب فقد ظهر ماركوس ماتيولوس‪،‬‬

‫وهو شاعر وعالم فلك‪( .‬د‪.‬محمد بن لحسن‪ ،‬األمازيغ‬ ‫أضواء جديدة عىل املسرية الحضارية عرب التاريخ‪ ،‬مطابع‬ ‫الرباط نت‪2015 ،‬م‪ ،‬ص‪.)11:‬‬ ‫تعددت‬

‫النظريات‬

‫حول‬

‫األمازيغ‬

‫وأصولهم‪،‬‬

‫ويرى التيار األول أن أصل األمازيغ يرجع إىل الدول‬ ‫اإلسكندنافية يف شمال أوربا؛ إذ اجتازت مجموعة‬ ‫من القبائل الهمجية تدعى قبائل الفاندال أوربا‪،‬‬ ‫واستقر جزء منها يف كل من فرنسا وإسبانيا‪،‬‬ ‫عىل حني عرب بعضها اآلخر البحر األبيض‬ ‫املتوسط جنوبًا حتى استقر يف املغرب‪.‬‬

‫ويربط التيار الثاين أصل األمازيغ‬

‫بسكان املغرب األقدمني باملشرق‪،‬‬ ‫إذ يرى أن أصول األمازيغ تعود‬ ‫إىل الكنعانيني الذين طردوا من‬ ‫فلسطني بعد قتل النبي داود‬ ‫لجالوت‪ ،‬وهو الرأي الذي انحاز‬

‫إليه ابن خلدون‪ ،‬كما ذهب‬

‫آخرون إىل أن أصل األمازيغ من‬

‫اليمن‪ ،‬أي من العرب العاربة الذين‬

‫هاجروا بعد سيل العرم‪ ،‬واختلطوا‬

‫بالقبط املصريني يف أثناء هجرتهم غربًا‪.‬‬

‫(سيل العرم‪ ،‬هو السيل الذي ال يطاق‪ ،‬والذي‬

‫خرب وفرق أهل اليمن‪ ،‬وقد ذكر يف سورة سبأ)‪.‬‬

‫أما التيار الثالث ‪-‬الذي يمثله الباحثون األمازيغيون‪-‬‬ ‫فريى أن جذور األمازيغ محلية‪ ،‬وأنهم لم يأتوا من‬ ‫أي مكان آخر‪ ،‬بل هم أصحاب األرض واملكان‪،‬‬ ‫والدليل عىل ذلك أن مجموعة من علماء‬

‫التاريخ قد كذبوا أسطورة كون أصل األمازيغ من‬

‫‪41‬‬


‫الملف‬

‫نسيج خصب للتاريخ املغربي‪ ،‬وعىل حد تعبري العالم‬

‫ً‬ ‫انطالقا من الحفريات وعلم‬ ‫اليمن‪ ،‬وقد ردوا كالمهم‬

‫والرجل اليسرى بالنسبة ألي شخص عادي‪ ،‬إذا فقد أي‬

‫ويف السياق نفسه فقد أثبتت الوراثة أن بصمة األمازيغ‬

‫وباألحرى القدرة عىل السري بالسرعة والوترية التي تتطلبها‬

‫الجينات الذي فند أسطورة قدوم األمازيغ من اليمن‪،‬‬

‫واحدة منهما فلن تكون له القدرة عىل امليش بشكل عادي‪،‬‬

‫تختلف جذريًّا عن البصمة الوراثية للعرب‪.‬‬ ‫إجمالاً ‪ ،‬األمازيغ شعوب سكنت صحراء شمال‬

‫تقلبات التاريخ املعاصر‪ .‬لنقل كما قال كانط يف إطار آخر‪ :‬إن‬

‫املجتمع املغربي بدون نمو اللغة العربية أعور‪ ،‬وبدون نمو‬

‫من أوربا‪ ،‬وهي قبائل الفاندال نسبة إىل مدينة فاندال‬

‫وعىل الرغم من استغالل بعض الجهات املشبوهة‬

‫ً‬ ‫تنوعا عىل مستوى‬ ‫وسكان السودان‪ ،‬وهو ما منحها‬

‫واألمازيغ‪ ،‬وزرع الفتنة بينهما‪ ،‬فإن التعاطي الرسمي مع‬

‫إفريقيا‪ ،‬وتميزت بمزيج هويايت جمع بني قبائل جاءت‬

‫الثقافة واللغة األمازيغية أعمى»‪.‬‬

‫السويدية‪ ،‬وقبائل أخرى من املشرق كعرب اليمن‪،‬‬

‫داخليًّا وخارجيًّا لدق إسفني الفرقة والتعصب بني العرب‬

‫األعراق واأللوان‪.‬‬

‫األمازيغية غري هذا املسار‪ ،‬وجعل األمازيغ ثقافة وشعبًا من‬

‫هل األمازيغ أقلية يف املغرب؟‬

‫أولويات البلد؛ إذ لم يقتصر فقط عىل االستيعاب والتفهم‪،‬‬ ‫بل انتقل إىل مستويات أهم‪ ،‬وهي تنظيم برامج لتعليم اللغة‬

‫ال يمكن أن يكون األمازيغ أقلية يف املغرب‪،‬‬ ‫فباإلضافة إىل أنهم يشكلون ثقلاً بشريًّا مهمًّ ا يصل إىل‬

‫ترعى هذه الثقافة عرب أنشطة ثقافية وأبحاث تسعى إىل‬

‫املغرب يف مرحلة ما قبل اإلسالم‪ .‬كما أن معظم‬

‫للحضارة املغربية‪ ،‬كاملعهد املليك للثقافة األمازيغية الذي‬

‫‪ ،%60‬فإنهم يعدون أهم وأول عنصر بشري استوطن‬

‫‪42‬‬

‫السوسيولوجي محمد جسوس‪« :‬هما كالرجل اليمنى‬

‫املعطيات التاريخية أثبتت أن اإلسالم أسهم يف بلورة‬

‫األمازيغية يف املدارس االبتدائية‪ ،‬كما بنى للغة مؤسسات‬ ‫التعريف بالدور التاريخي واملهم لألمازيغية كلبنة أساسية‬

‫الثقافة األمازيغية‪ ،‬وصياغة هوية األمازيغ‪ ،‬وكان‬ ‫فاعلاً مساهمً ا يف تشكيل الوعي الجمعي‪ ،‬وقيادة‬ ‫التحوالت الكربى يف التاريخ املغربي‪ ،‬كما كان أداة‬

‫فعالة ونقطة ارتكاز لتذويب الروح القبلية‪ ،‬وظل‬ ‫حضوره مستم ًّرا طوال أربعة عشر ً‬ ‫قرنا بالرغم من‬

‫التقلبات والحروب‪ ،‬وهو ما جعل من الشق الهويايت‬ ‫للمغرب مركبًا ال يمكن فصل أحد عناصره عن اآلخر‪،‬‬

‫والدليل عىل ذلك كون األمازيغية والعربية تشكالن‬

‫مرتكزات أساسية لغوية وهوياتية أسهمت يف بناء‬

‫تعد القضية األمازيغية في‬ ‫المغرب مسألة في غاية التعقيد؛‬ ‫إذ تتم مقاربتها من خالل أوجه‬ ‫عديدة‪ ،‬كما تشوبها خلفيات‬ ‫سياسية واجتماعية وثقافية‬ ‫تنطلق من تعقيد طرح االسم‪ ،‬إلى‬ ‫تحديد المجال الجغرافي‪ ،‬وصوال‬ ‫إلى األصول‬

‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬


‫‪43‬‬ ‫أُردف إنشاؤه بصدور ظهري مليك يحدد األبعاد املؤسساتية‬

‫تنظيم الدولة عىل النموذج اإلغريقي‪ ،‬حيث طوروا آليات‬

‫الدستورية للمملكة‪ ،‬اليشء الذي جعل من كل األطراف‬

‫توحيد القبائل األمازيغية يف الشمال اإلفريقي‪ ،‬وتمدين‬

‫للحضور األمازيغي يف املغرب دون أن يطال الخصوصية‬ ‫املتنازعة حول القضية األمازيغية تفوز‪.‬‬ ‫بلد التعددية‬

‫الحكم السيايس والتنظيم االقتصادي‪ .‬وقد حاول بطليموس‬ ‫مملكته حضاريًّا وثقافيًّا وعلميًّا‪ ،‬وتزيينها عمرانيًّا وهندسيًّا‬

‫بالطريقة الجمالية اليونانية والرومانية واألمازيغية‪،‬‬ ‫وتوسيعها خارج النطاق املرسوم له من الحكومة الرومانية‪،‬‬

‫يتميز املغرب بتاريخ عريق؛ إذ مرت عىل أرضه أجناس‬

‫وهو ما أدى إىل اغتياله من اإلمرباطور كاليغوال‪ ،‬وذلك للحد‬

‫منه بلد التنوع بامتياز‪ ،‬فالتعددية يف بلد املغرب ثروة‬

‫بن فرناس‪ ،‬وابن بطوطة‪ ،‬وعبدالكريم الخطابي‪ ،‬وهم‬

‫مختلفة ومتنوعة‪ ،‬واختلط شعبه بأعراق متعددة جعلت‬

‫روحية وفكرية‪ ،‬جعلت من املغرب شعبًا منفتحً ا عىل‬

‫أساسا‬ ‫العالم‪ .‬ومحبًّا لهويته يف تعددها‪ ،‬ويف كونها عنص ًرا‬ ‫ً‬

‫من طموحاته التوسعية‪ .‬كما أن طارق بن زياد‪ ،‬وعباس‬

‫رموز أمازيغية‪ ،‬لهم بصمتهم يف التاريخ املغربي خاصة‪،‬‬ ‫والعربي عامة‪( .‬د‪.‬محمد بن لحسن‪ ،‬األمازيغ أضواء جديدة‬

‫جعل من وعيه لذاته الثقافية واالجتماعية وعيًا يعيل من‬

‫عىل املسرية الحضارية عرب التاريخ‪ ،‬مطابع الرباط نت‪،‬‬

‫وجمعهم وطن يحتوي سمات وخصائص مشرتكة تميز‬

‫ويف نهاية الطرح يمكن القول‪ :‬إن األمازيع ال يمكن‬

‫شأن األفراد الذين تعددت لغتهم وحضارتهم وتاريخهم‪،‬‬

‫املجتمع املغربي بأمازيغه وعربه‪.‬‬

‫وال أحد ينكر أن املغرب عرف ازدهارًا كبريًا مع كبار ملوك‬

‫األمازيغ‪ ،‬أمثال يوبا األول‪ ،‬وبوكوس األول‪ ،‬ويوبا الثاين‪،‬‬ ‫وبطليموس‪ .‬وقد تمكن هؤالء من توسيع مملكتهم‪ ،‬ومن‬

‫‪2015‬ص‪.)13:‬‬

‫جعلهم بسهولة أقلية‪ ،‬فهم كما سبق الذكر أغلبية عرقية‪،‬‬ ‫تعرب لسان جزء منهم بسبب اختالطهم باملدن ذات الوجود‬

‫العربي‪ ،‬عىل حني بقيت الدواخل محافظة عىل أمازيغيتها‬ ‫اللسانية‪ ،‬مع االنتماء إىل اإلسالم حضاريًّا‪.‬‬


‫الملف‬

‫يهود المغرب‪..‬‬ ‫وحديث الذاكرة‬

‫‪44‬‬

‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬


‫خاليد فؤاد طحطح‬

‫باحث مغربي‬

‫صدر في اآلونة األخيرة عن منشورات كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية بالرباط كتاب «يهود‬

‫المغرب وحديث الذاكرة»‪ ،‬وهو من تأليف الباحث عمر بوم‪ ،‬أستاذ األنثروبولوجيا والتاريخ‬ ‫بجامعة كاليفورنيا‪ ،‬ومن ترجمة خالد بن الصغير أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة محمد الخامس‬

‫بالرباط‪ .‬تتمركز أعمال الباحث عمر بوم واهتماماته األكاديمية حول موضوعات األقليات الدينية‬ ‫والعرقية في شمال إفريقيا والعالم العربي‪ .‬وكتابه األخير عن يهود المغرب هو في أصله أطروحة‬

‫لنيل دكتوراه في التاريخ واألنثروبولوجيا‪ ،‬ناقشها بجامعة أريزونا سنة ‪2006‬م‪ .‬واستغرقت مدة‬

‫إنجاز الموضوع منه عشر سنوات من البحث الوثائقي واإلثنوغرافي‪.‬‬ ‫صدر كتاب يهود املغرب وحديث الذاكرة ألول مرة‬

‫باللغة اإلنجليزية سنة ‪2013‬م‪ ،‬بعنوان‪Memories of :‬‬ ‫‪Absence How Muslims remember Jews in‬‬

‫‪ Morocco‬عن منشورات جامعة ستانفورد بكاليفورنيا‪،‬‬ ‫وألهمية هذا العمل قام املؤرخ الجامعي خالد بن الصغري‬

‫برتجمته‪ ،‬وقد عرف طريقه للنشر ضمن سلسلة نصوص‬

‫‪45‬‬

‫وأعمال مرتجمة لكلية اآلداب والعلوم اإلنسانية بالرباط‬

‫(موسم ‪2015‬م)‪ .‬وحاز جائزة املغرب للكتاب لسنة ‪2016‬م يف‬

‫صنف الرتجمة مناصفة مع رجاء بومدين املثنى عن ترجمتها‬ ‫إىل اإلسبانية كتاب مجنون الورد ‪،El Loco de Las Rosas‬‬ ‫ملحمد شكري‪.‬‬

‫سبق للمؤرخ خالد بن الصغري أن ترجم كتابًا آخر عن‬

‫يهود املغرب خالل القرن التاسع عشر‪ ،‬والذي يرصد فيه‬

‫الذاكرة والتاريخ‬

‫تتناول الدراسة الجديدة لعمر بوم‪ ،‬عن اليهود املغاربة‬

‫مؤلفه دانييل شروتر سرية أسرة آل مقنني‪ ،‬وهي من بني‬ ‫أكرث األسر التجارية اليهودية ُشهرة يف املغرب أواخر القرن‬

‫وحديث الذاكرة‪ ،‬التي تتخذ من القرن العشرين إطارًا زمنيًّا‬

‫السياسة التي نهجها السالطني العلويون‪ ،‬بدءً ا من املوىل‬

‫الصحراء املوجودين يف أقا عىل وجه الخصوص) من خالل‬

‫الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر‪ ،‬وقد استفادت من‬

‫محمد بن عبدالله‪ ،‬يف االعتماد عىل اليهود لتمتني األواصر‬ ‫بني بلدهم املغرب والعالم األوربي‪ .‬والكتاب صدر ً‬ ‫أيضا عن‬ ‫منشورات كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية بالرباط سنة ‪2011‬م‬

‫لها‪ ،‬إشكالية األقلية الدينية اليهودية يف املغرب (يهود‬ ‫إبراز التقاطعات املوجودة بني الذاكرة والتاريخ‪ ،‬وذلك‬

‫عرب إبراز العوامل الرئيسة املتحكمة يف ذكريات املسلمني‬ ‫املغاربة حول اليهود الغائبني اليوم بعد هجرة معظمهم‬ ‫بعد استقالل املغرب سنة ‪1956‬م‪ ،‬متأثرين يف ذلك بدعاية‬

‫بعنوان « َيهُو ِديُّ السلطان‪ :‬املغرب وعالم اليهود السفرد»‪.‬‬ ‫كما أن هناك أعمالاً يف غاية األهمية لباحثني مغاربة أنجزوها‬

‫الحركات الصهيونية التي شجعت آنذاك اليهود عىل الرحيل‬

‫كتاب يهود املغرب ‪1912-1948‬م ملحمد كنبيب (‪1998‬م)‪،‬‬

‫هذه الدعوات صدى لدى اليهود املغاربة الذين توجسوا‬

‫عن يهود املغرب‪ ،‬ونذكر منها عىل سبيل املثال ال الحصر‪:‬‬ ‫ترجمه عن اللغة الفرنسية إدريس بنسعيد‪ .‬وكتاب اليهود‬ ‫املغاربة من منبت األصول إىل رياح الفرقة‪ :‬قراءة يف املوروث‬ ‫واألحداث (‪2009‬م) ألحمد شحالن‪.‬‬

‫إلقامة دولة قومية لهم يف أرض فلسطني‪ ،‬حيث وجدت‬ ‫خيفة من تبني الحكومة املغربية األوىل بعد االستقالل‬

‫النزعة العربية اإلسالمية القائمة عىل تفعيل برنامج وطني‬ ‫للتعريب‪ ،‬وشرعوا تدريجيًّا يف مغادرة الرتاب املغربي‪.‬‬


‫الملف‬ ‫ومن املعلوم أن الخالف اشتد بشأن رحيل اليهود‬

‫املغاربة إىل األرايض الفلسطينية مع بداية الستينيات‬ ‫من القرن املايض‪ ،‬فقد رفض حزب االتحاد الوطني‬

‫للقوات الشعبية ذلك‪ ،‬وانتقد مواقف الحكومة‬ ‫التي غضت الطرف عن هذه الهجرة‪ ،‬بينما هي تكرر‬

‫يف كل لحظة شعاراتها بشأن التضامن العربي‪ .‬عىل‬ ‫حني صدرت تصريحات مضادة عىل لسان زعيم حزب‬

‫االستقالل عالل الفايس‪ ،‬إذ عبرَّ عن موافقته عىل هجرة‬ ‫اليهود شريطة عدم السماح لهم بالعودة مجددًا إىل‬ ‫البالد‪ .‬ويف ظل هذه األجواء املتوترة ازداد االحتقان‬

‫السيايس إثر اإلعالن عن طريق اإلذاعة والتلفزة بدء‬

‫الحملة للتصويت عىل مشروع الدستور يوم ‪ 7‬ديسمرب‬ ‫‪1962‬م‪ .‬وكان الف ًتا موقف الجالية اليهودية التي دعت‬

‫إىل التصويت بنعم عىل املقرتح استجابة منها للنداء‬ ‫املليك الذي أطلقه الراحل الحسن الثاين‪ ،‬وقد أشيع‬ ‫آنذاك بأن ضغوطات مورست عىل املسؤولني اليهود‬

‫‪46‬‬

‫للتصويت إيجابيًّا مقابل الحصول عىل جوازات سفر‬

‫ملغادرة املغرب‪.‬‬

‫يستحضر كبار السن من األجداد‪ ،‬ممن‬ ‫عايشوا اليهود كجيران لهم‪ ،‬بكثير‬ ‫من الحزن المشوب بالحنين جراء غياب‬ ‫جسديا‪ ،‬وعدم وجودهم‬ ‫اليهود‬ ‫ًّ‬ ‫في أرض المغرب‪ ،‬على حين نجد أن‬ ‫من هم أصغر س ًّنا ال يترددون في‬ ‫استعمال قاموس ينهل من أساليب‬ ‫الفكاهة والتنكيت والتلويح بعبارات‬ ‫السخرية واالستهزاء‪ ،‬كطريقة‬ ‫تعبر عن احتجاجهم اليوم على‬ ‫اإلسرائيليين واليهود بصفة عامة‬ ‫الصراع العربي اإلسرائييل‪ ،‬هي التي تشكل اآلراء واملواقف‬

‫من اليهود وعالقتهم باملسلمني؟‬ ‫رحلة إثنوغرافية‬

‫لإلجابة عن هذه التساؤالت ينطلق الباحث عمر بوم‬

‫اليوم‪ ،‬وقد أصبح الوجود اليهودي املكثف باملغرب‬

‫يف رحلة إثنوغرافية تاريخية للكشف عن الذكريات الخاصة‬

‫املسلمني عن هؤالء؟ هل هو سرد األجيال السابقة‬

‫باألمس من اليهود يف املجتمعات الهامشية املوجودة‬

‫يف خرب كان‪ ،‬ما العامل املهم املتحكم يف تشكيل ذاكرة‬ ‫لتجاربهم املشرتكة مع اليهود يف السابق؟ أم أن‬

‫األحداث الجارية حاليًّا بالشرق األوسط‪ ،‬وبخاصة‬

‫بأربعة أجيال متعاقبة من املسلمني املغاربة‪ ،‬حول جريانهم‬ ‫بمناطق املغرب الجنوبية الشرقية – إقليم طاطا تحديدً ا‪-‬‬ ‫ليكشف لنا حجم التنافر والتناقض املوجود يف مواقف‬

‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬


‫هؤالء بشأن اليهود‪ ،‬فعىل حني يستحضر كبار السن من‬

‫لم يعتمد الباحث عمر بوم الرواية الشفوية وحدها‪،‬‬

‫الحزن املشوب بالحنني جراء غياب اليهود جسديًّا‪ ،‬وعدم‬ ‫وجودهم يف أرض املغرب‪ ،‬نجد أن من هم أصغر س ًّنا ال‬

‫املخطوطات املحلية‪ ،‬والرسائل والرسوم العدلية‪ ،‬ونصوص‬

‫الرحالت الفرنسية األوىل إىل املغرب قبل االستعمار‪ ،‬ومنها‬

‫والتنكيت والتلويح بعبارات السخرية واالستهزاء‪ ،‬كطريقة‬

‫‪ ،)du Maroc‬الذي قدم إىل املغرب سنة ‪1884-1883‬م‪،‬‬

‫األجداد‪ ،‬ممن عايشوا اليهود كجريان لهم‪ ،‬بكثري من‬

‫يرتددون يف استعمال قاموس ينهل من أساليب الفكاهة‬

‫تعرب عن احتجاجهم اليوم عىل اإلسرائيليني واليهود بصفة‬

‫عامة‪ ،‬والتعبري بذلك ضمنيًّا عىل مقاومتهم إىل أبعد حدود‬

‫بوصفهم أعداء للفلسطينيني‪ .‬وهؤالء لم يسبق لهم أن‬ ‫التقوا أحدً ا من اليهود يف الداخل املغربي‪ ،‬لكنهم استأنسوا‬

‫وإنما استثمر مجموعة من املصادر األخرى األساسية‪ ،‬ومنها‬

‫باألخص‪ :‬رحلة شارل دوفوكو (‪Reconnaissance‬‬ ‫متنك ًرا يف زي يهودي‪ ،‬ليتمكن بذلك من زيارة غالبية‬ ‫املناطق املغربية‪ ،‬وقد احتفظ لنا بمعطيات مهمة عن‬

‫الطائفة اليهودية باملغرب‪ .‬كما قدم رؤى عن نظرة األجيال‬

‫السابقة يف املغرب لليهود‪ ،‬وهي املعلومات التي تحتاج‬

‫بوجودهم يف فلسطني من خالل تغطية وسائل اإلعالم‬

‫إىل دراسة نقدية مستقلة مبنية عىل أن دوفوكو (رجل‬

‫ومشاهدتهم املتكررة ملعاناة فلسطينيي الداخل والشتات‪،‬‬ ‫كوَّنوا صورة أخرى مختلفة عن صورة املس ِّنني من األجداد‬

‫الثقافة املعادية للسامية التي استشرت آنذاك يف األوساط‬

‫املختلفة‪ ،‬فعرب متابعتهم ألطوار النزاع العربي اإلسرائييل‪،‬‬

‫املغاربة‪ ،‬وهي ناتجة عن الخلط الواقع يف ذهنهم بني اليهود‬

‫املغاربة‪ ،‬وسياسات الكيان الصهيوين يف الشرق األوسط‪.‬‬

‫منغمسا حتى أخمص قدميه يف‬ ‫الدين املسيحي) كان‬ ‫ً‬ ‫الدينية والعسكرية الفرنسية‪ .‬كما كان مناص ًرا للسياسة‬

‫االستعمارية الكولونيالية لبالده‪.‬‬

‫إن دراسة الثابت واملتغري يف الصور َ‬ ‫املخ َّزنة يف ذاكرة‬

‫يحمل الجيل الجديد صورة مختلفة وناقصة عن اليهود‬

‫األفراد املغاربة عن اليهود املحليني تمكننا من رصد وتتبع‬

‫اليهود يف املايض‪ ،‬واختالف التمثالت التي استقاها الباحث‬

‫فمواقف األجيال املسلمة املعاصرة تجاه اليهود املنحدرين‬

‫الدقيقة (األجداد الكبار ‪ -‬األجداد ‪ -‬اآلباء ‪ -‬األبناء)‪ ،‬تمكننا‬

‫أكرث من ارتباطها بالسياقات املحلية والوطنية‪ ،‬وهو أمر‬

‫املغاربة بخالف أجدادهم ممن عاشوا جنبًا إىل جنب مع‬

‫عمر بوم من ألسنة العيِّنات األربع موضوع االستجوابات‬ ‫من مالمسة التقاطعات بني الذاكرة املشرتكة لألجيال‬ ‫املختلفة‪ ،‬ويف الوقت نفسه تربز لنا حجم االختالفات الناتجة‬

‫عن املؤثرات الجديدة الطارئة‪.‬‬

‫التحوالت التي عرفها املجتمع املغربي يف صريورته التاريخية‪،‬‬ ‫من أصل مغربي‪ ،‬مرتبطة بشكل كبري بالسياقات الدولية‬

‫يختلف عن مواقف الجيل السابق ممن عايش الحضور‬ ‫اليهودي يف قرى مختلفة يف أنحاء متعددة من جنوب شرق‬ ‫املغرب‪ ،‬وكذلك يف باقي املناطق األخرى من اململكة‪.‬‬

‫‪47‬‬


‫الملف‬

‫اليهود في السودان‪..‬‬

‫ٍ‬ ‫ماض لن ينسى‬

‫‪48‬‬

‫طلبة كلية كمبوني الخرطوم خليط من طلبة يهود وأقباط وأرمن وسودانيين‬

‫زواج عائلة يهودية في الخرطوم عام ‪1930‬م‬

‫يوفوني كوهين ملكة جمال الخرطوم عام ‪1956‬م‬

‫محراب المعبد اليهودي في الخرطوم‬ ‫مصدر الصور ‪ :‬مجموعة صور السودان القديمة على فيسبوك‬

‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬


‫سهام صالح‬

‫الخرطوم‬

‫«البنيامين» هو االسم الذي يطلق على اليهود في السودان؛ حيث جاؤوا الجئين في أكبر‬

‫موجة هجرة يهودية في نهايات القرن التاسع عشر‪ ،‬واستوطنوا مدينة أم درمان‪ ،‬إحدى مدن العاصمة‬

‫ً‬ ‫تحديدا في حي المسالمة‪ ،‬وقاموا ببناء أول معبد يهودي في السودان عام ‪1889‬م‪ ،‬وجرى‬ ‫السودانية‪،‬‬ ‫تكوين رابطة للجالية اليهودية حينها برئاسة «بن كوستي» ابن حاخام يهودي تعود أصوله إلى إسبانيا‪.‬‬ ‫بلغ عدد أفراد الجالية اليهودية في ذلك الوقت نحو ألف نسمة موزعين ما بين مدن العاصمة‬

‫المثلثة‪ :‬الخرطوم‪ ،‬والخرطوم بحري‪ ،‬وأم درمان‪ ،‬لكن بعضهم فضل أن يعيش في مدن سودانية‬

‫أخرى مثل‪ :‬نوري‪ ،‬ومروي‪ ،‬والدبة‪ ،‬وبورسودان‪ ،‬وود مدني‪.‬‬ ‫يعرف اليهود الذين قدموا إىل السودان بـ«السفارديم»‬

‫الذين ينحدرون من سالالت يهودية كانت تعيش يف إسبانيا‪،‬‬ ‫لكن ُن ِّكل بهم ُ‬ ‫وطردوا بعد سقوط غرناطة الشهري‪ ،‬فاتجهوا إىل‬

‫ٍّ‬ ‫كل من‪ :‬دول الشمال اإلفريقي‪ ،‬ثم إىل السودان‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫يتخفون وراء أسماء عربية‬

‫أطفال يف بقعة املهدي‬

‫يف العهد املهدوي يف السودان استعان الخليفة عبدالله‬

‫باليهودي «بن كوستي» للتجارة بني مصر والسودان‪ ،‬وغيرّ‬ ‫اسمه إىل عبدالقادر البستنيني‪ .‬بعد ذلك أَجرب الخليفة‬ ‫عبدالله التعاييش األقباط واليهود عىل الدخول يف اإلسالم؛‬ ‫لذلك قام يهود السودان باستقدام حاخام يدعى «سلمون‬

‫اندمج اليهود «السفارديم» يف املجتمع السوداين من خالل‬

‫ملكا» من أجل إقامة الصلوات وتعليم الصغار الشعائ َر الدينية‬

‫كان يخىش إظهار يهوديته‪ ،‬وبخاصة كبار السن‪ ،‬وشاهدُ ذلك‬

‫يف رجوع عدد كبري منهم إىل اليهودية‪ ،‬بعدها أصبح «ملكا»‬

‫ممارسة األنشطة التجارية واألنشطة االجتماعية‪ ،‬لكن بعضهم‬

‫أنهم لم يكونوا يحملون أسماء تشري أو تدل عىل أصولهم‬ ‫اليهودية؛ فكانوا يحملون أسماء عربية مثل‪ :‬املغربي‪،‬‬ ‫البغدادي‪ ،‬اإلستانبويل‪ ،‬وهي أسماء تدل عىل األماكن التي‬

‫جاؤوا منها أو عاش بها أجدادهم أو آباؤهم يف حقبة معينة‬

‫من حياتهم‪ ،‬وبطبيعة الحال فإنهم كانوا يتحدثون اللغة‬ ‫العربية باللهجة السودانية أو املصرية ويتحدثون اإلنجليزية‬

‫بطالقة وبعض اللغات األخرى كالفرنسية واإلسبانية‪.‬‬

‫اشتغل يهود السودان بتأسيس أعمال تجارية ضخمة؛‬

‫مثل العمل يف مجال االسترياد والتصدير وبخاصة للمنتجات‬ ‫الزراعية ويف تجارة الجلود أو ما يعرف بـ«الدباغة»‪ ،‬وسيطروا‬ ‫عىل هذا املجال وأثروا ثراء واضحً ا‪ ،‬واستغلوا الفرص كافة‬

‫وأسسوا مجموعة شركات عاملية يف جميع املجاالت املالية‬ ‫ّ‬ ‫مستغلني بذلك خربتهم‬ ‫واإلنشائية والفنادق واألدوية‪،‬‬

‫كنيسا يف منزله بحي املساملة وأسهم‬ ‫اليهودية؛ حيث أقام لهم‬ ‫ً‬ ‫رئيسا للجالية اليهودية وأعلن عن تكوين جالية بشكل رسمي‬ ‫ً‬ ‫يف عام ‪1908‬م‪ ،‬بعد عشر سنوات من هذا التاريخ حولت الجالية‬

‫اليهودية مركزها من أم درمان إىل الخرطوم‪ ،‬يف هذه الحقبة‬ ‫أٌ ِّلفت كتب عدة عن الجالية اليهودية يف السودان كان أشهرها‬ ‫ً‬ ‫وأيضا كتاب «أطفال يف‬ ‫كتاب «بنو إسرائيل يف أرض املهدي»‪،‬‬

‫بقعة املهدي»‪.‬‬

‫بعد توغل اليهود السودانيني يف الحياة السودانية قاموا‬

‫ببناء نا ٍد ريايض ترفيهي وأطلقوا عليه «النادي اليهودي‬ ‫ً‬ ‫فريقا رياضيًّا‬ ‫بالخرطوم»‪ ،‬أو ما يعرف باسم «مكابي» وأسسوا‬

‫يحمل االسم نفسه‪ ،‬وشيَّدوا ً‬ ‫أيضا ملعبًا للتنس‪ .‬وأصبحت‬ ‫ً‬ ‫دائرة بني العمل والنادي اليهودي يف‬ ‫حياة يهود السودان‬

‫الخرطوم للقاء العائالت اليهودية وقضاء أوقات ممتعة‪.‬‬ ‫بعدها شيدوا مسرحً ا خلف النادي وقاموا بشراء قطعة أرض‬

‫وتجاربهم يف مجال األعمال التجارية‪ ،‬إضافة إىل أن السودان‬ ‫ً‬ ‫مالذا آم ًنا يتصف بالتسامح املجتمعي والبعد عن التطرف‬ ‫كان‬

‫«كلوزيوم»‪.‬‬

‫يف األسواق ويف مناسباتهم االجتماعية من دون خوف‪ .‬ومن‬

‫من املجتمع‪ ،‬لكن يف عام ‪1948‬م ظهرت مشاعر العداء لهم‪،‬‬

‫الديني؛ ما جعل كثريًا من اليهود يعتمرون طاقيتهم الصغرية‬

‫أشهر التجار اليهود يف السودان «أوالد مراد إسرائيل‪ ،‬وحبيب‬

‫كوهني‪ ،‬وليون تمام وإخوانه‪ ،‬واإلخوة سريوريس‪ ،‬وفيكتور‬ ‫شالوم‪ ،‬وآل عبودي» وهم معروفون بتجارة التجزئة‪.‬‬

‫أنشؤوا عليها سينما معروفة لكل السودانيني هي سينما‬ ‫كان اليهود يف السودان يُعَ دُّ ون من األقلية املستوعبة‬

‫وبخاصة بعد إعالن قيام دولة إسرائيل والعدوان الثاليث عىل‬ ‫ضعْ ُ‬ ‫مصر‪َ .‬ت َ‬ ‫ضعُ الثقة بني اليهود السودانيني وبني املجتمع‬

‫أدى إىل خروجهم من السودان واستقرارهم يف بلدان إفريقية‬

‫‪49‬‬


‫الملف‬ ‫مثل «عائلة عدس» الذين هاجروا إىل نيجرييا‪ ،‬لكن‬ ‫غالبية العائالت اليهودية هاجرت مرة أخرى إىل أوربا‬ ‫ْ‬ ‫آثرت بعض‬ ‫وأمريكا وعودة بعضهم إىل إسرائيل‪.‬‬

‫العائالت اليهودية البقاء يف السودان‪ ،‬وبمرور الزمن‬

‫اعتنقوا اإلسالم وتزوجوا بسودانيات مسلمات‪ ،‬لكن‬ ‫بعضهم بقي عىل يهوديته؛ أمثال عائلة «الدويك» من‬ ‫يهود الشام املتشددين وكانوا يعملون يف مجال تجارة‬

‫األقشمة‪.‬‬

‫نعش الوجود اليهودي‬ ‫بعدها د َُّق آخ ُر مسمار يف نعش الوجود اليهودي‬

‫يف السودان‪ ،‬إثر قيام العقيد آنذاك «جعفر النمريي»‬ ‫تأميم ومصادرة واسعة ملمتلكات اليهود‪،‬‬ ‫بحركةِ‬ ‫ٍ‬ ‫وبخاصة شركات الحاخام اليهودي «سلمون ملكا»‬ ‫التي كانت باسم «جالتيل هانيك»‪ .‬ولم يقتصر التأميم‬

‫عىل الشركات فقط بل عىل مستوى بيت العائلة‪ ،‬الذي‬ ‫أصبح يف العهد املايوي مق ًّرا لالتحاد االشرتايك‪ ،‬فمق ًّرا‬

‫‪50‬‬

‫لوزارة الخارجية السودانية‪ .‬ويف عام ‪1987‬م هُ دم املعبد‬ ‫اليهودي يف الخرطوم‪ ،‬وبيعت األرض ملصلحة أحد‬ ‫البنوك السودانية‪.‬‬

‫املصادرة ملمتلكات اليهود لم تشمل مقابر اليهود‬

‫املوجودة اآلن يف وسط منطقة تجارية يف منطقة السوق‬ ‫ً‬ ‫أرضا فضاءً ‪ ،‬وكثريون من‬ ‫العربي؛ حيث ال تزال‬

‫السودانيني ال يعرفون أنها مقابر اليهود‪.‬‬

‫اندمج اليهود «السفارديم» في‬ ‫المجتمع السوداني من خالل‬ ‫ممارسة األنشطة التجارية واألنشطة‬ ‫االجتماعية‪ ،‬لكن بعضهم كان‬ ‫يخشى إظهار يهوديته‪ ،‬وبخاصة‬ ‫كبار السن‪ ،‬وشاهد ذلك أنهم لم‬ ‫يكونوا يحملون أسماء تشير أو تدل‬ ‫على أصولهم اليهودية‪ ،‬فكانوا‬ ‫يحملون أسماء عربية مثل‪ :‬المغربي‪،‬‬ ‫البغدادي‪ ،‬اإلستانبولي‬ ‫ينس اليهود أموالهم املوجودة التي إما أُمِّ مت‪ ،‬أو تركوها‬ ‫لم َ‬ ‫ً‬ ‫وهربوا خوفا عىل أرواحهم إثر تنامي وتصاعد الصراع العربي–‬

‫اإلسرائييل؛ لذلك تقود اآلن إدارة األمالك بوزارة الخارجية‬ ‫اإلسرائيلية حملة دبلوماسية الستعادة ممتلكات اليهود البالغ‬ ‫عددهم ‪ 850‬ألف يهودي كانوا يعيشون يف السودان‪ ،‬ومصر‪،‬‬

‫واملغرب‪ ،‬وموريتانيا‪ ،‬وتونس‪ ،‬وليبيا‪ ،‬والجزائر‪ ،‬وسوريا‪،‬‬ ‫والعراق‪ ،‬ولبنان‪ ،‬واألردن‪ ،‬والبحرين‪َ .‬‬ ‫وقدرت وزارة الخارجية‬

‫اإلسرائيلية حجم التعويضات بــ«‪ »300‬مليار دوالر أمرييك حسب‬ ‫تقريرها الذي ُقدم للكنيست اإلسرائييل‪.‬‬ ‫يهود السودان والحياة السياسية‬

‫من أبرز اليهود السودانيني الذين أقاموا يف السودان ولهم‬

‫دور يف الحياة السياسية‪« :‬بنيامني نتنياهو» رئيس الوزراء‬

‫اإلسرائييل الذي ينتمي إىل عائلة «شاؤول الياهو» املقيمة‬

‫يف منطقة نوري–مروي‪ .‬وكذلك عائلة «آل ساسون» الذين‬ ‫عاشوا يف منطقة «كردفان»‪ ،‬ثم هاجروا إىل الخرطوم‪ ،‬فكان‬

‫سفري لدولة إسرائيل يف مصر أحد أبناء هذه العائلة بعد‬ ‫أول‬ ‫ٍ‬

‫«اتفاقية كامب ديفيد» يف عهد الرئيس أنور السادات‪.‬‬

‫ويبدو أن الجالية اليهودية بالسودان لم تنقطع صلتها‬

‫بدوائر صنع القرار اليهودية؛ فلقد تقلد «إبراهيم جوزيف‬

‫عبودي» رئاسة الجمعية اليهودية يف الواليات املتحدة‬ ‫األمريكية‪ ،‬وهو ينتمي إىل أشهر عائالت اليهود السودانيني‬

‫املعروفني بـ«آل عبودي» الذين عاشوا يف «الخرطوم بحري»‪.‬‬

‫تجدر اإلشارة إىل أن يهود السودان أتوا إليه معدمني‬

‫ليخرجوا منه وقد أصبحوا من أثرياء العالم؛ إذ يمتلكون‬ ‫(حاليا)‬ ‫مقبرة اليهود في الخرطوم‬ ‫ً‬

‫شركات ومستشفيات ودور محاماة عاملية‪.‬‬

‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬


51

 www.research.kfcris.org research@kfcris.com


‫الملف‬

‫الحوثيون‬ ‫من المظلومية‬ ‫إلى االستبداد‬

‫‪52‬‬

‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬


‫جمال حسن‬

‫صحافي يمني‬

‫منذ ظهر الحوثيون كحركة متمردة في اليمن‪ ،‬استخدم مناصروهم تعريف أقلية لهم‬ ‫ضمن فكرتين‪ ،‬األولى‪ :‬منحهم حق التمايز عن اآلخرين‪ ،‬وفي الثانية‪ :‬إثارة مجال متعاطف‬ ‫كاف لمنح حروبهم شكلاً‬ ‫ً‬ ‫مشروعا؟ وأي نوع من األقلية هم؟ هكذا حاول‬ ‫معهم‪ .‬لكن هل هذا‬ ‫ٍ‬ ‫الخطاب المتعاطف‪ ،‬عبر استخدام مصطلح أقلية‪ ،‬نقل مشروع الحوثي السياسي من مستوى‬ ‫العنف إلى قضية حقوقية فيها كثير من التضليل‪.‬‬ ‫إذن يمكن التعامل معهم بوصفهم أقلية يف سياق النسبة‬

‫استفاد الحويث من التعميم الذي فرضه مفهوم األقلية‪،‬‬

‫تشغله مبادئ عامة عن حقوق األقليات‪ .‬لكن عىل مستوى التعريف‬

‫وبالتايل ديمومة استعدادهم القتايل‪ .‬ويف الوقت نفسه إنتاج‬

‫ملتبسا ضمن احتجاج سيايس‬ ‫السكانية‪ ،‬وإن ظل هذا التعريف‬ ‫ً‬ ‫النظري ال يمكن حجب االلتباس إذا أردنا تعريف الحويث كهوية‬

‫سياسية‪ ،‬أو سكانية‪ ،‬أو حتى إنسانية‪ .‬والحويث حرص عىل إثارة‬ ‫املوضوع الطائفي‪ ،‬عىل أساس أنه يمثل فئة أو هوية مختلفة‪،‬‬

‫ليس فقط عرب رمزية طقوسية واحتفالية ميزتها أقمشة خضراء‪،‬‬ ‫وشعارات كرست التلويث البصري بقدر ما كرس مسلحوه تعكريًا‬ ‫للسلم العام‪ ،‬بل ً‬ ‫أيضا يف خطاب وممارسات عرّفت اليمن ضمن‬

‫هويات مقسمة‪ .‬فعندما بدأت ميليشياته بحصار صنعاء‪ ،‬استدعى‬ ‫الحويث التقسيم املناطقي‪ ،‬فكان يخاطب أبناء الجنوب‪ ،‬وأبناء تعز‪،‬‬ ‫لكنه ً‬ ‫أيضا غازل توجهًا عامليًّا حضرت حسابات مصالحه السياسية يف‬ ‫املنطقة تحت مظلة الحرب عىل اإلرهاب‪.‬‬

‫عند احتفال مناصريه يوم ‪ 22‬سبتمرب بعد سقوط صنعاء يف عام‬

‫‪2014‬م‪ ،‬وجه الحويث تحذيرًا إىل مأرب والبيضاء بأنه سيقوم بمالحقة‬ ‫القاعدة وداعش هناك‪ .‬وكان املسرح جاه ًزا لتفسري حروب غرضها‬

‫فهو عىل مستوى مناصريه يضمن تحفيزهم لوجود عدو دائم‪،‬‬ ‫ثقافة املظلومية الحاضرة يف تراث عقائدي عميق‪ .‬حتى إن أي حرب‬

‫سيخوضونها هي دائمً ا نحو عدو أمرييك‪ ،‬وآخر محيل داعيش‬

‫صنعه هذا العدو‪ .‬فحربهم ضد القاعدة هي دائمً ا ضد أمريكا‪،‬‬ ‫يعززها شعار أو مقولة مؤسس الجماعة حسني الحويث‪« :‬القاعدة‬

‫صناعة أمريكية»‪ .‬هذا بالنسبة للخطاب املوجه ملناصريه‪ .‬وعىل‬ ‫ً‬ ‫تعاطفا محليًّا وآخر دوليًّا متناغمً ا‬ ‫مستوى حقوق األقليات‪ ،‬يضمن‬

‫مع أكالشيهات خطاب املنظمات الحقوقية‪ .‬أنتج ذلك مستوى‬ ‫ً‬ ‫واحدا‪ ،‬بصفتهم أقلية مضطهدة‪ .‬وذلك صاغ‬ ‫تعريفيًّا‪ ،‬يكاد يكون‬ ‫إىل حد كبري‪ ،‬مشروعية العنف الذي دشن به الحوثيون ظهورهم‬

‫املعلن عىل الساحة اليمنية‪.‬‬

‫تعميمات دينية وسياسية‬

‫منذ البداية تهر َ​َّب الخطاب الحويث من إعالن أجندة سياسية‬

‫شرعنة استيالئه عىل السلطة‪ ،‬أو انقالبه‪ .‬إذن لم تعد املسألة صورة‬

‫واضحة‪ .‬كان دائمً ا يغلف خطابه وراء تعميمات دينية وسياسية‪.‬‬

‫العدوان‪ .‬والدعشنة كان املصطلح الجديد الذي ارتداه الحويث بعد‬

‫من عمران‪ ،‬ظل الحويث يدعي أنها حروب دفاعية‪ .‬ضد من؟ إنه‬

‫الطائفية يف العراق تكوين ميليشيا الحشد الشعبي الشيعية يف‬

‫وأين ستتوقف تلك الحروب الدفاعية؟ فبوصفهم أقلية سيكونون‬ ‫مُ طالبني ً‬ ‫أيضا بتقديم إيضاحات عامة عن مطالب سياسية‪ .‬لكنه‬

‫أقلية تواجه فضاء عامًّ ا معاديًا؛ بل ميليشيا منحت نفسها حق‬

‫سنوات من ادعاء املظلومية‪ .‬وهو املبدأ الذي شرعنت عربه الحكومة‬ ‫العراق تحت ذريعة مواجهة داعش‪ ،‬ومارست التنكيل بأبناء السنة‪.‬‬ ‫مشروع ممنهج البتالع األكرثية‬

‫وعندما كان مسرح وجوده املسلح مقتصرًا عىل صعدة وأجزاء‬ ‫مجال غري واضح أو محدد‪ .‬ضد أمريكا وإسرائيل‪ ،‬ضد التكفرييني‪.‬‬

‫خطاب يضمر طموحً ا باالستيالء الكامل عىل الحكم‪ .‬مع توسع‬ ‫سيطرة املسلحني الحوثيني‪ ،‬تغريت النربة الخطابية‪ ،‬لم تعد حروبًا‬

‫منذ اللحظة األوىل كان خطاب الحويث يضمر طموحه السيايس‬

‫دفاعية‪ ،‬بل صارت ذات نربة خمينية «مناصرة املستضعفني»‪ ،‬ما‬ ‫يعني ً‬ ‫أرضا مفتوحة‪ .‬كما أنه بعد طرد «سلفيي دماج» ظل يعلن‬

‫داخليًّا‪ ،‬أرسل مسلحيه للسيطرة عىل املدن‪ ،‬ويف الوقت نفسه‬ ‫ً‬ ‫حليفا ممك ًنا ألمريكا يف حربها ضد داعش والقاعدة‪ .‬هنا‬ ‫بوصفه‬

‫يثري الصراعات ذات البعد الطائفي‪ .‬اعتقد بعض املراقبني أن الحرب‬

‫عرب ادعاءين‪ :‬املظلومية‪ ،‬وشعاراته ذات الطابع الديني واملعادي‬ ‫ً‬ ‫حليفا‬ ‫ألمريكا وإسرائيل‪ .‬وعندما أتيحت له الدولة‪ ،‬حتى بوصفه‬

‫أنه سيقوم بتطهري البالد من التكفرييني‪ .‬كان لهذا االستدعاء حافز‬ ‫يف الجغرافية القبلية جهوية خالصة‪ .‬وهو املجال الذي منح الحويث‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫مشروعا يالحق‬ ‫مشروعا ممنهجً ا البتالع األكرثية‪،‬‬ ‫تصبح األقلية‬

‫فضا ًء يراوغ فيه‪ ،‬ومكنه من إسقاط املدن‪ ،‬أي أن تفتت املضمون‬

‫اإلمام يف القرون املاضية‪.‬‬

‫كل مقومات البقاء‪.‬‬

‫إرثه السيايس القائم عىل تغليف اليمن بالعمامة البالية التي مثلها‬

‫الوطني يف اليمن أسهم يف تصاعد تلك الجماعة‪ ،‬وسيظل يمنحها‬

‫‪53‬‬


‫الملف‬

‫وال يمكن تصنيف جماعة الحويث بوصفها جماعة‬

‫اإلمامة الزيدية‪ ،‬ي ََّد ِعي لنفسه‪ ،‬أو لفئته‪ ،‬الحق الوحيد بالحكم‪،‬‬

‫تحاول بناء هذا االدعاء العرقي‪ ،‬فعندما سقطت إحدى قرى‬

‫والقسر‪ ،‬واالستيالء عىل مصادر الرثوة والسلطة‪ .‬إن طبيعة هذا‬

‫عرقية‪ ،‬أو لغوية‪ ،‬أو قومية مختلفة بالنسبة لليمنيني‪ .‬لكنها‬

‫جبل صرب يف تعز يف يد املقاومة‪ ،‬كانت تحت سيطرة مسلحي‬ ‫الحويث‪ ،‬روج إعالمهم وأشاع عن حدوث تطهري عرقي هناك‪.‬‬

‫‪54‬‬

‫مع هذا‪ ،‬لم يعرتف الحويث بحقوق أي جماعات مختلفة‪.‬‬

‫فعند سيطرته عىل صعدة قام بطرد ما تبقى من اليهود‪ .‬ثم‬

‫إنه مارس كل أشكال القهر والقسوة ضد خصومه‪ ،‬فقام‬ ‫مسلحوه بتفجري مساجدهم ومنازلهم‪.‬‬

‫ادعاء متعجرف ال يريد مساواة مع اآلخرين‬

‫وما يمنحه حق التحكم باألكرثية‪ ،‬ويشرع له كل أشكال االضطهاد‬ ‫االنتساب ال يمكن إدراجه يف مستوى واحد مع حقوق األقليات‪،‬‬

‫إال يف شروط سياسية منحرفة‪ .‬وهي كفكرة تكشف تمايز مركب‬ ‫داخل الحركة نفسها‪ ،‬بما أنه يعتمد عىل كيان واسع من أبناء‬

‫القبائل ووجاهاتها‪.‬‬

‫يلعب الحويث عىل فضاء املوروث السيايس الذي هيمنت‬

‫عليه جغرافية قبلية محددة يف اليمن‪ ،‬استطاعت اإلمامة الهادوية‬ ‫توحيدها يف اإلطار الزيدي‪ .‬وهو اإلطار الذي سيحاول الحويث إعادة‬

‫تشكيله يف مضمون يستدعي النموذج الخميني‪ ،‬وإن بصيغة زيدية‪.‬‬

‫يعتقد الحويث أنه أقلية متمايزة من غريها‪ ،‬بمعنى أنه‬

‫يف ثمانينيات القرن املايض‪ ،‬ابتدع بدر الدين الحويث والد حسني‬

‫شريك أو منازع‪ .‬وهذا االدعاء املتعجرف ال يريد مساواته‬

‫بني الزيدية والخمينية‪ ،‬ومنه نسج تقاربًا يضمن إليران موطئ قدم‬

‫يندرج ضمن مفهوم سيطرة األقلية‪ ،‬وهيمنتها الكلية دون‬ ‫مع اآلخرين‪ ،‬لزعمه أنه ينتسب إىل النبي محمد ﷺ من‬

‫ابنته فاطمة‪ ،‬أي الهاشمية‪ .‬ووفق ادعاء مذهبي كرسته‬

‫اعتقد بعض المراقبين أن الحرب في‬ ‫الجغرافية القبلية جهوية خالصة‪.‬‬ ‫وهو المجال الذي منح الحوثي‬

‫مؤسس الجماعة الحوثية وعبدامللك الزعيم الحايل‪ ،‬تقاربًا عقائديًّا‬ ‫يف اليمن‪ .‬لكن هذا التقارب ال يحظى بقبول معظم املجتمع الزيدي‪،‬‬

‫إال يف حال استدراجه داخل تحوالت سياسية تضمن للحويث أن‬ ‫يكون حيزه الضيق والوحيد‪.‬‬

‫يتطابق مفهوم األقلية‪ ،‬مع خطاب املظلومية الذي يستند إليه‬

‫الحويث راديكاليًّا‪ .‬لكن عرب احتكاره السلطة يمارس القسر واإللغاء‬ ‫ضد مجتمع تمثله أكرثية سنية‪ ،‬وهو ما جسدته ممارسات الحويث‬

‫بعد انقالب ‪ 21‬سبتمرب‪ .‬ويمكن أن يكون الحويث أكرثية عىل املستوى‬

‫فضاء يراوغ فيه‪ ،‬ومكنه من إسقاط‬

‫العصبوي واملتضامن؛ ألنه ال يوجد يف اليمن فضاء سني واحد‬ ‫متضامن‪ ،‬وحتى مناطقيًّا‪ ،‬ال يشكل الجنوب ً‬ ‫ً‬ ‫واحدا‪ ،‬أو حتى‬ ‫كيانا‬

‫تصاعد تلك الجماعة‪ ،‬وسيظل‬

‫«حافظ عىل أن تكون أكرثية عرب تشتيت العدو»‪ .‬وهو ما سعى إليه‬

‫المدن‪ ،‬أي أن تفتت المضمون‬ ‫الوطني في اليمن أسهم في‬ ‫يمنحها كل مقومات البقاء‬

‫تعز‪ .‬وبالعودة إىل نصيحة الصيني تزو يف كتابه فن الحرب‪ ،‬يقول‪:‬‬ ‫الحويث يف خطابه عرب تعامله مع اليمن كهويات منقسمة‪ ،‬تضمن‬ ‫تفوق مجاله العصبوي‪ .‬وهكذا يتاح لألقلية ابتالع األكرثية املشتتة‪.‬‬

‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬


‫يهود اليمن‪..‬‬

‫أقلية يكتنفها الغموض‬ ‫وتاريخها ملتبس‬

‫‪55‬‬


‫الملف‬ ‫فتحي أبو النصر‬

‫صنعاء‬

‫ال تتوقف محنة أقلية اليهود في اليمن‪ ،‬التي ال يتجاوز عدد أفرادها اليوم ‪ 200‬نسمة؛ فمنذ‬ ‫بضعة أسابيع وجماعة «أنصار الله‪ -‬الحوثيين» تحتجز الحاخام يحيى يوسف؛ حاخام اليهود اليمنيين‬ ‫للتحقيق معه‪ ،‬تحت مسوّغ تهريب مخطوط قديم للتوراة إلى إسرائيل قبل أشهر‪ .‬وكانت سلطات‬ ‫دولة االحتالل اإلسرائيلية أعلنت في مارس الماضي‪ ،‬أنها نقلت ‪ 19‬يهود ًّيا من اليمن إلى األراضي‬ ‫المحتلة‪ ،‬ضمن ما أسمتها بـ«عملية سرّية ومعقدة» قامت بها «الوكالة اليهودية» شبه الحكومية‪،‬‬ ‫معلنة أنها بهذه العملية تختتم «المهمة التاريخية» المستمرة إلحضار يهود اليمن إلى هناك ‪ .‬وحينها‬ ‫كان الف ًتا بالطبع ظهور رئيس الوزراء اإلسرائيلي بنيامين نتنياهو‪ ‬وهو يستقبل بحفاوة آخر القادمين‬ ‫إلى تل أبيب من أقلية يهود اليمن‪ ،‬كما استعرض ما جلبوه معهم من لفائف توراة ُيعتقد أن عمرها‬ ‫يراوح بين ‪ 500‬و‪ 800‬عام‪ ،‬على حين يرى متخصصون أن عمرها أبعد من ذلك بكثير‪ ،‬وأما بحسب‬ ‫مهتمين بتراث وتاريخ اليهودية في اليمن؛ فإن أقلية يهود اليمن تفضح كثيرًا مغالطات صهيونية‪،‬‬ ‫إضافة إلى التباسات جغرافيا التاريخ اليهودي نفسه‪ ،‬التي ال تزال محيّرة وملغزة حتى اللحظة‪.‬‬

‫‪56‬‬

‫لقد دانت اليمن باليهودية مبك ًرا‪ ،‬وتع ّد من أعرق‬

‫ديانة توحيد حكمت اليمن يف الدولة الحمريية الثالثة‪ ،‬وظل‬

‫معنى التوحيد‪ ،‬وبالتأكيد تحوي أسرارًا توراتية لم تتعرض‬

‫لكن «تهجري اليهود العرب يف البلدان العربية قد أسهم يف‬

‫البلدان التي عرفت األديان السماوية الثالثة التي قامت عىل‬ ‫للتحريف بعد‪ ،‬أما مخطوطة التوراة الغامضة التي كانت‬

‫يف حوزة املغادرين إىل إسرائيل مؤخ ًرا‪ ،‬فهي بالتأكيد ركن‬ ‫من أركان املسألة اليهودية يف مهد العرب األول؛ فما بالكم‬

‫باألطروحات التي تع ّد اليمن هي‪« ‬مهد اليهودية» ولم تهدأ‬

‫منذ زمن املؤرخ الكبري كمال الصليبي‪ ،‬الذي زلزل الكثري من‬ ‫املعتقدات الراسخة يف املسألة اليهودية ومسرحها الوهمي‬ ‫الذي ُك ِّرس ُزورًا؛ يف رأيه‪ .‬والحال أن املصادر املوثوقة أفادت‬

‫بأن سلطات األمر الواقع االنقالبية يف صنعاء‪ ،‬ال تزال َتعتقل‬ ‫عىل خلفية تلك العملية ً‬ ‫أيضا عددًا من موظفي املطار‪.‬‬

‫بيان لهم حول الحادثة‬ ‫ويؤكد مثقفون يمنيون يف ٍ‬ ‫أن «الحاخام اليمني اليهودي قد عاىن كأبناء دينه فرض‬

‫اإلقامة الجربية والتهديد باملوت من ميليشيا أنصار الله‪،‬‬ ‫ويُحَ قق اآلن معه‪ ،‬وهو رهن االعتقال؛ ألنه يرفض‬ ‫مغادرة وطنه اليمن»‪.‬‬

‫بحسب البيان‪« :‬جرى –ويجري‪ -‬التنكيل منذ‬

‫أزمنة متطاولة باليهود اليمنيني يف عهود الظالم‬

‫والقهر‪ ..‬كما رفع األنصار شعار «املوت ألمريكا واملوت‬

‫إلسرائيل‪ ..‬اللعنة عىل اليهود»؛ وهو الشعار املنقول‬

‫حرفيًّا من الحرس الثوري اإليراين‪ ،‬وال ينطبق بحال‬

‫عىل الوضع اليمني»‪ .‬وهؤالء يتفقون عىل أن «اليهودية‬

‫اليهود عرضة لإلذالل واإلهانة والتمييز يف فرتات مختلفة»‪،‬‬

‫تحقيق املؤامرة‪ ‬االستعمارية‪ ،‬ورفد الحركة الصهيونية بطاقات‬

‫ومربرات ودعاوى ال يزال النظام العربي والتمييز واالستعالء‬ ‫ّ‬ ‫يغذيها يف املشرق العربي كله‪ ،‬ويستفيد الصهاينة ‪-‬قادة‬ ‫التمييز العنصري يف فلسطني‪ -‬من هذه املمارسات القبيحة‪.‬‬ ‫أقلية كتومة بتاريخ ملتبس ‪ ‬‬

‫معلوم أن يهود اليمن أقلية تكاد تتالىش نهائيًّا؛ فعددهم‬ ‫اآلن ال يتجاوز مئ َت ْي فرد كما أسلفنا‪ .‬عىل أن لهم خصوصية‬

‫ثقافية تتمايز من بقية اليهود حول العالم‪ .‬والثابت أن‬ ‫خطة البساط السحري التي نفذت يف نهاية أربعينيات القرن‬

‫املايض؛‪ ‬مثلت أعىل تجليات عمليات التهجري املنظمة من شمال‬ ‫ً‬ ‫سابقا‪ .‬أما يف الجنوب فقد «أشعل متظاهرون ضد قيام‬ ‫اليمن‬ ‫إسرائيل النا َر يف مساكن اليهود ومحالتهم التجارية ووكاالتهم‬

‫يف عدن يف تلك الفرتة‪ ،‬تحت سمع وبصر االستعمار الربيطاين‬ ‫الضالع يف مخطط التهجري للوفاء بوعد بلفور»‪.‬‬

‫اليوم يمكن القول‪ :‬إن اإلسرائيليني يدركون أن تراث أقلية‬

‫يهود اليمن الديني والثقايف أشد أصالة من أي جماعة يهودية‬

‫أخرى يف العالم؛ إذ إنهم موجودون يف اليمن منذ ما قبل‬ ‫امليالد‪ ،‬ورغم صنوف التداعيات التاريخية املختلفة حافظوا عىل‬

‫خصوصيتهم عىل نحو مدهش‪.‬‬

‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬


‫وفدا من يهود اليمن‬ ‫بنيامين نتنياهو عند استقباله‬ ‫ً‬

‫ً‬ ‫تدينا!‬ ‫أكرث اليهود‬

‫يف عام ‪2002‬م قام معهد الدراسات السامية ٌّ‬ ‫وكل من شركة‬

‫كارنجي وقسم الدراسات الشرقية يف جامعة بريستون‪ ،‬برعاية‬ ‫ً‬ ‫مشاركا من أجل تقييم حالة العالقات العربية‬ ‫ندوة بحضور ‪250‬‬

‫اإلسالمية‪ -‬اليهودية يف اليمن‪ ،‬ومن ثم التوصل إىل تقييم‬

‫العالقات العربية اإلسالمية عىل العموم مع اليهود‪ ،‬سواء يف‬ ‫القرون املاضية أم يف العصر الحاضر‪ ،‬حضر الندوة ممثلون عن‪:‬‬ ‫املعهد اليمني للديمقراطية‪ ،‬ومركز الرتاث واألبحاث اليمني‪،‬‬

‫ومركز اإلسالم والديمقراطية‪ ،‬ومتحف اليهود اليمنيني‪،‬‬ ‫ومركز شلوم لألبحاث‪ ،‬وكذلك علماء ومفكرون من‪ :‬جامعة‬

‫بريستون‪ ،‬والجامعة املفتوحة بإسرائيل‪ ،‬وجامعة كولون‬ ‫بأملانيا‪ ،‬وجامعة نيويورك‪ ،‬وجامعة صنعاء‪ .‬الندوة تطرقت‬

‫للعالقات العربية– اليهودية يف اليمن عرب مختلف املجاالت؛‬ ‫من التفاعل السيايس‪ ،‬وجملة التقاليد والعادات ‪-‬يف الغناء‬

‫والرقص والعمارة واملهن املختلفة‪ -‬يف املوروث اليمني‪.‬‬

‫وبحسب الباحث أفرايم أيزاك ‪-‬وفق دراسة له عن‬

‫مركز الجزيرة للدراسات‪ -‬فإنه‪« :‬إذا كان املسلمون اليمنيون‬

‫سرعان ما اصطدم يهود اليمن بالتمييز‬ ‫مثل بقية اليهود الشرقيين‌ المرزاحيين‪،‬‬ ‫وال يزالون يشكون تعرضهم لالضطهاد من‬ ‫األغلبية األشكنازية «اليهود الغربيين»‬

‫أكرث املسلمني تدي ًنا‪ ،‬فإن اليهود اليمنيني أكرث اليهود تدي ًنا»‪.‬‬ ‫وكذلك تبقى «اليمن مادة قيمة للدراسة حيث نأخذ منها‬

‫الدروس والعرب عن الجهود التاريخية لليهود واملسلمني يف‬ ‫السعي لتحقيق توازن جزيئ لتعايش ثقافتني مختلفتني من‬

‫خالل االحرتام والتفاهم املتبادل بالرغم من وجود الحواجز‬ ‫َ‬ ‫«اتصاف يهود‬ ‫الثيوقراطية»‪ .‬هذا الباحث يؤكد يف دراسته‬ ‫اليمن بأنهم أناس عصاميون كادحون استطاعوا أن يحافظوا‬

‫عىل الرتاث اليهودي عرب العصور حتى يف أحلك الظروف‪،‬‬

‫كما أنهم كانوا حرفيني مهرة؛ مما أكسبهم إعجاب وتقدير‬ ‫املسلمني»‪ .‬ويف رأيه‪« :‬مثلت اليمن وإثيوبيا األرض املقدسة‬

‫األسطورية ململكة سبأ‪ ،‬وتشهد عىل ذلك آالف النقوش‬

‫والتماثيل واألعمدة والجدران العتيقة‪ ،‬واملدن املبنية بأسلوب‬ ‫مذهل‪ ،‬واملعابد والحصون والسدود‪ ،‬مما يدل عىل غنى‬ ‫املوروث الثقايف واالقتصادي لحضارة ما قبل اإلسالم»‪.‬‬

‫بل «يتفرد اليهود اليمنيون بأشياء عديدة‪ ،‬فهم يمثلون‬

‫أنموذجً ا مصغ ًرا لليهود العرب يف الشرق األوسط بقيمهم‬

‫وثقافتهم التي تتجىل يف ملبسهم ومأكلهم وتقاليد الزواج‬ ‫واملوسيقا والعديد من أنماط الحياة الدينية والعامة التي‬

‫تشابه نمط الحياة العربية‪ .‬وكأغلب الجماعات اليهودية‬ ‫األخرى حافظ اليهود اليمنيون عىل أدق تفاصيل الشريعة‬ ‫والتعاليم اليهودية القديمة‪ ،‬بل إنهم الفئة اليهودية الوحيدة‬

‫يف العالم التي تقرأ الكتاب املقدس لليهود مع تالوة مسموعة‬ ‫ً‬ ‫وفقا لتقاليد الكنيس اليهودي القديم‬ ‫للرتجومة اآلرامية‬

‫‪57‬‬


‫الملف‬

‫بينما لم يكن سوى اليهود من ي ُْقدِ مون عليه؛ مما جعلهم‬

‫وكما وردت يف التلمود؛ يتلو أوالدهم الكتاب املقدس‬

‫من ناحية أخرى‪ :‬لعل أشهر يهودي ذاع صيته من الناحية‬

‫السن عن ظهر قلب‪ .‬وتتميز تالوتهم بأن نطقهم يرجع‬

‫بسالم الشبزي‪ ،‬الذي سكن مدينة تعز يف القرن السابع عشر‪،‬‬

‫يف أربعة اتجاهات يف محيط دائري‪ ،‬بينما يتلوه كبار‬ ‫عىل األقل إىل عهد العصور الوسطى؛ فبحسب علماء‬ ‫األصوات الذين درسوا أصواتهم فإن أسلوبهم الخاص يف‬

‫النشيد واتساق أصواتهم تعود إىل عهد موسيقا الكنيسة‬ ‫القديمة وكرتنيمة «جريجوريان»‪ ،‬وكلتاهما متأصلة يف‬ ‫موسيقا الشعائر القديمة للهيكل يف القدس»‪.‬‬ ‫إبداعات األقلية‬

‫الثقافية والفكرية الشاعر والحاخام موري شالوم شابازي الشهري‬ ‫وكان يحرتمه املسلمون قبل اليهود حتى أصبح اسمه كاألسطورة‬

‫يف عموم اليمن‪ ،‬رغم ذلك ال تزال الكثري من أفكاره مبهمة بحيث‬

‫لم تدون ولم تصل للقراء‪ ،‬كما التصقت به سمعة الربكات اإللهية‬ ‫ً‬ ‫وخصوصا االستشفاء من األمراض‪ ،‬لكنه كان يسعى للتعايش‬

‫أغان‪ ،‬وتميز‬ ‫كاتب‬ ‫الخالق بني اإلسالم واليهودية‪ ،‬كما كان‬ ‫َ‬ ‫ٍ‬ ‫بالشعر الشعبي باللغتني العربية والعربية‪ .‬ويؤكد مهاجرون أن‬ ‫مخطوطات أعماله ُنقلت إىل إسرائيل‪ .‬وهو اليوم من أهم الرموز‬

‫الشاهد أن يهود اليمن برعوا وتفننوا يف صناعة‬

‫هناك‪ ،‬حتى إن إسرائيل أطلقت اسمه عىل أحد الشوارع‪ ،‬كما‬

‫النظري يف صياغة الفضة والذهب والتطريز واألزياء‪،‬‬

‫توافق‪ .‬وأما أول امرأة يُعمل لها نصب تذكاري يف إسرائيل فهي‬

‫الخنجر اليماين الشهري بـ«الجنبية»‪ ،‬ويف اإلبداع منقطع‬ ‫وفنون الحدادة والنجارة والعمارة واإليقاعات وصك‬

‫العملة قديمً ا‪ .‬بل إن األكرثية املسلمة ال تضاهي إبداعات‬ ‫أقلية اليهود يف هذا الجانب‪ .‬وعىل وجه التحديد يعدّ‬

‫‪58‬‬

‫أشد الذين صانوه من االندثار‪.‬‬

‫اليهود الذين من أسر يمنية أبرع املوسيقيني واملطربني‬ ‫ً‬ ‫حفاظا عىل خصوصيتهم الثقافية‬ ‫يف إسرائيل واألكرث‬ ‫اليمنية يف اإليقاعات واأللحان‪.‬‬

‫يرتدد بشدة أنها أرادت نقل رُفاته إليها لكن السلطات اليمنية لم‬

‫الفنانة اليمنية اليهودية الكبرية عفراء هزاع‪.‬‬

‫عربية مختلفة عن بقية يهود العالم‬

‫إنهم ريفيون بوعي مسالم ومتسامح‪ ،‬يمضغون القات‬

‫كبقية اليمنيني‪ ،‬وهم أهل ذمة يف حماية القبائل بحسب العرف‬

‫والواقع أن اليهود تركوا بصمة تأثريية قوية يف فن‬

‫الغناء اليمني‪ ،‬بينما يعد الرتاث الغنايئ هو األساس‬ ‫الفعيل لتعايش اليمنيني جميعً ا عىل رغم الهويات‬

‫الدينية املتشابكة‪ .‬ثم إن املوسيقا عابرة للديانات‪ ..‬إال أن‬ ‫ً‬ ‫جاهدة لتقديم‬ ‫اإلشكالية تكمن يف أن إسرائيل تعمل‬ ‫املوسيقا اليمنية عىل أنها تراث يهودي‪ ،‬مع أنها نتاج‬ ‫بيئتها االجتماعية الثقافية «اليمن»‪ .‬والحاصل أن غالبية‬

‫يهود اليمن يف إسرائيل يصرون عىل االعتزاز بتكوينهم‬

‫اليمني وهويتهم املرتاكمة؛ فهم يقيمون متاحف‬

‫للموروثات الشعبية اليمنية العريقة‪ ،‬كما يحافظون‬ ‫عىل تقاليد اليمن وثقافتها الشعبية واألكالت واألزياء‬ ‫ذات املزاج اليمني يف غالب مناسباتهم داخل إسرائيل‪.‬‬

‫وتنتشر يف اليمن األغاين الرتاثية التي يؤديها‬

‫الفنانون اليمنيون اليهود بطرق حديثة عىل رغم الحظر‬

‫الرسمي‪ ،‬كما تنعكس يف أدائهم األحاسيس االستثنائية‬ ‫باإليقاعات اليمنية بما يؤكد متانة ذاكرتهم الجماعية‬

‫ولوعتهم الدرامية االغرتابية لفراق الوطن‪ ،‬بل إن‬ ‫بعضهم يشارك يف مسابقات فنية عاملية حاملاً علمَ‬ ‫اليمن وليس علم إسرائيل‪ .‬‏وعىل مدى قرون لطاملا منع‬

‫األئمة الذين تناوبوا عىل حكم الشمال الغناءَ والطرب‪،‬‬ ‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬


‫العشائري والديني‪ ،‬ال يتحملون أي أعباء كالحروب وغريها‪،‬‬ ‫ً‬ ‫جماعة محمية عند وقوع النزاعات‪ ،‬وخصالت‬ ‫كما يُصنفون‬

‫َشعرهم هي ما يميزهم من املسلمني‪ ،‬وهم محافظون‬

‫بحسب الحياة الريفية اليمنية شديدة الشرقية وااللتزام‪ .‬عىل‬ ‫أن األطفال منهم يتعلمون العربية والتوراة وال َّزبور فقط منذ‬

‫ُّ‬ ‫تشكل تاريخهم يف البالد‪ .‬وللتذكري‬ ‫من جانبهم تسرد كيفية‬

‫أقول‪ :‬إنه مع بداية ظهور جماعة الحويث‪ ،‬وتصاعد ثقافة‬ ‫الكراهية التي حملتها لليهود وإسرائيل‪ ،‬بات وجود يهود آل‬

‫سالم هناك أكرث خطورة يومً ا بعد يوم‪ ،‬ثم مع تصاعد شعار‬ ‫َ‬ ‫عبارة‪« :‬اللعنة عىل اليهود»‪ ،‬إضافة إىل‬ ‫الحوثيني املتضمن‬

‫وقت مبكر‪ ،‬بينما يقف مستواهم التعليمي عند هذا الحد؛‬

‫سيطرة الجماعة عسكريًّا يف املحافظة بعد حروب عدة أقدموا‬

‫من جمعيات ومنظمات يهودية مهتمة بأحوالهم وأوضاعهم‬

‫والواقع اليوم أنهم يعانون انتقاص مواطنتهم؛ فقبل‬ ‫أعوام ُقتل يهودي عىل يد مواطنه املسلم املتطرف الذي‬

‫إذ ال يحبذون التعليم الرسمي املتضمن ملواد إسالمية‪ ،‬إال أن‬ ‫ً‬ ‫بعضا من شباب األقلية اليهودية يحصلون عىل فرص تعليم‬ ‫البائسة‪ ،‬وغالبًا يهاجرون إىل أمريكا لذلك الغرض‪.‬‬

‫يقول متخصصون‪ :‬إن لهجتهم العربية مختلفة عن‬

‫بقية يهود العالم‪ ،‬ولهم تراتيل مختلفة عن اليهود املزراحيني‬ ‫واألشكيناز ً‬ ‫أيضا‪ .‬‏وبحسب متخصصني ال توجد رؤى علمية‬

‫يهود اليمن الفئة اليهودية الوحيدة‬ ‫في العالم التي تقرأ الكتاب المقدس‬ ‫لليهود مرفقً ا بتالوة مسموعة للترجومة‬ ‫اآلرامية وفقً ا لتقاليد الكنيس اليهودي‬ ‫القديم وكما وردت في التلمود‬

‫يف عام ‪2007‬م عىل ترحيل أقلية يهود آل سالم الذين ال يتجاوز‬ ‫عددهم ‪ 80‬مواط ًنا ومواطنة من صعدة إىل العاصمة صنعاء‪.‬‬

‫أق َّر بجريمته تق ُّربًا إىل الله؛ ألن اليهودي رفض الدخول يف‬ ‫اإلسالم‪ .‬وقبل أعوام ً‬ ‫أيضا حاول يهودي ترشيح نفسه يف‬ ‫االنتخابات املحلية فوجدوه مي ًتا يف حادث غامض‪ .‬واملؤكد‬ ‫أن عددًا من نسل اليهود املهاجرين يزورون اليمن كسياح‬

‫بجوازات سفر أوربية أو أمريكية ‪-‬حسب معلومات موثوقة‪-‬‬ ‫تهربًّا من التحريض القائم ضدهم واملواقف الرافضة للتطبيع‬

‫مع إسرائيل‪ .‬جدير بالذكر أن موقف أقلية اليهود يف اليمن من‬

‫االحتالل الصهيوين واضح وحاسم بحيث يتمسكون بتعاطفهم‬ ‫مع فلسطني‪ ،‬بل إن بعضهم يؤمنون ببطالن قيام إسرائيل‬

‫أساسً ا‪ ،‬ولذلك لم يفضلوا الهجرة رغم ظروفهم الصعبة‪.‬‬

‫‪59‬‬


‫الملف‬

‫ما بين النهرين‪..‬‬ ‫بالد األقليات الهائلة‬

‫‪60‬‬

‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬


‫حسن جوان‬

‫كاتب عراقي‬

‫واضح أن األعمال العسكرية‪ ،‬والتغييرات السياسيّة في البلدان العربية‪ ،‬قد أحدثت ه ّزات‬ ‫المجتمعي‪ .‬وفي الغالب‪ ،‬إن ّ‬ ‫الصدمة األولى التي حرّكت صفائح‬ ‫عميقة في البنى المُ كوّنة للنسيج‬ ‫ّ‬ ‫عديدة‪ ،‬كانت ُت ّ‬ ‫عد فيما مضى‪ ،‬مُ رتكزات اعتمد عليها التمازح المدني والوطني في المنطقة‪ ،‬كانت‬ ‫من نصيب العراق «بالد ما بين النهرين»‪ ،‬حجر زاوية هذا التداعي المتتالي‪ .‬فما كان يعد مثالاً تاريخيًّا‬ ‫ّ‬ ‫يني لعدة مئات من السنين‪ ،‬بل إن إحدى عالمات ازدهاره حضار ًّيا‬ ‫اإلثني‬ ‫لالندماج والتالقح‬ ‫والد ّ‬ ‫ّ‬ ‫في حقب مضيئة من تأريخه‪ ،‬هو ّأنه ّ‬ ‫الثقافي‪ ..‬أصبح مَ صدرًا لنقيض‬ ‫مثل نموذجً ا سلميًّا للتنوّع‬ ‫ّ‬ ‫هذا التصوّر في تقبل اآلخر وتنوّعه‪ .‬هذا التنوع الذي انقلب وبالاً فيما بعد‪ ،‬ليتحوّل به سحر التنوّع‬ ‫وتنازع باعتبار النوع‪ .‬وبهذا اختفى‬ ‫تفاصل‬ ‫كعنصر تقوم عليه غالب النهضات المدنية والحضرية‪ ،‬إلى‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫ليحل مفهوما «األنا» و«الهُ م»‪.‬‬ ‫متصاعد مفهوم الـ«نحن»‬ ‫بشكل‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫َب هذا الفايروس املُج ِّزئ للكتلة الوطنية بمفهومها‬ ‫وما أن د ّ‬

‫متسلسل مرعب‪ ،‬حتى‬ ‫الحاضن‪ ،‬نحو مفاصل تف ّرعت كتفاعل‬ ‫ٍ‬ ‫والعرق واملناطقيّة‬ ‫الطائفة‬ ‫وُلدت أجزاء أخرى‪ ،‬اتخذت من‬ ‫ِ‬ ‫ٌ‬ ‫منطق جديد بدأ يسود املشهد‪ ،‬ومن‬ ‫والعائليّة نماذج للوالء املُطلق‪.‬‬ ‫ثمّ تنامى بشراهة‪ ،‬ليُصبح املنطق األشمل الذي يمكن عربه وحده‪،‬‬ ‫تفسري الواقع الجديد‪ .‬وإذا كانت هنالك حواضن سابقة‪ ،‬احتمت‬ ‫فيها مكونات أطلق عليها اصطالح ّ‬ ‫«أقلية» كتصنيف عددي استثنايئ‬ ‫من الغالبية املُهيمنة‪ ،‬فإن تلك األقليّات كانت تحظى بمشاركة‬

‫قانونيّة وحماية يف إطار الدولة‪ .‬لكنّ تفاقم العُ زلة‪ ،‬وتوايل التعمية‬ ‫ُ‬ ‫كثري من تلك املُكوّنات‪ ،‬أدّى يف‬ ‫والغنب االجتماعي‬ ‫ّ‬ ‫والحقوقي‪ ،‬لدى ٍ‬

‫داخيل لديها‪،‬‬ ‫حس‬ ‫العديد من الدول إىل نشوء ٍّ‬ ‫ّ‬ ‫عىل أنها ال ينظر إليها باعتبارها جزءًا من هذه‬

‫البالد أو ال ّدولة‪ ،‬وبالتايل صارت تبحث يف هُ ويّتها‬

‫الداخلية‪ ،‬وعن خالصها التاريخي‪.‬‬ ‫ً‬ ‫انفالتا وتط ّر ًفا يف السنوات‬ ‫ما زاد األمر‬ ‫األخرية‪ ،‬هو االستهداف املُفجع من اإلرهاب‬ ‫لتلك األقليّات‪ ،‬واإليغال يف ترويعهم وإبادتهم‬ ‫جماع ًّيا‪ ،‬كما حدث يف صفحات سنجار املنكوبة‬

‫شمال غرب العراق‪ .‬تورّط كثري من األطراف‬

‫الدّاخلية والخارجيّة يف هذا امللف اإلقليمي يف الوقت الحاضر‪ ،‬يقتيض‬

‫هل يمكننا إذن‪ ،‬اعتبار أن الحروب التي تندلع اليوم‪ ،‬كانت‬

‫األقليّات أهمّ أسبابها؟ ولو كانت هناك أنظمة عربية تؤمن باملساواة‬

‫والعدالة االجتماعيّة‪ ،‬هل كانت شعرت األقليّات بأنها أقليّات؟‬ ‫هل كانت مساعي الغرب اإلفادة من هذا االحتقان لدى األقليّات‬ ‫وتغذيته‪ ،‬وسيلة ّ‬ ‫للذهاب إىل تمزيق املنطقة عىل هذا األساس؟ كيف‬

‫السيايس مع األقليّات يف العراق؟ ما الخطورة‬ ‫كان تعامل القرار‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ضغطا عىل‬ ‫يشكلوا‬ ‫يف بقائهم كأقليّات‪ ،‬وإىل أيّ ح ّد يمكن أن‬ ‫الحكومة؟‬

‫توظيف حماية األقليات للتدخل يف شؤون املنطقة‬

‫يف هذا الفضاء‪ ،‬طرحنا هذه التساؤالت‬

‫ّ‬ ‫متخصصني يف شؤون األقليّات‪ ،‬عىل‬ ‫عىل باحثني‬

‫أمل الوصول إىل بعض التصوّرات واملعالجات‪،‬‬

‫التي نسعى إىل اإلفادة منها‪ ،‬من واقع تجربة‬ ‫ميدانية وإحصائية‪ ،‬تتعلق بالتجربة العراقيّة‪.‬‬ ‫سعد ّ‬ ‫سلوم‪ ..‬الخبري يف األقليّات العراقيّة‪،‬‬ ‫وعضو املجلس العراقي لحوار األديان‪ ،‬يبسط‬ ‫ها هنا تشخيصاته املستندة إىل رؤية عريضة يف‬

‫سعد سلّوم قراءة املشهد‪ ،‬حيث يستعري تطبيقات عاملية يف‬ ‫فهم جزئيات الحدث واآلليات التي يتحرك يف فضائها‪ .‬يرى ّ‬ ‫سلوم أنّ‬

‫ّ‬ ‫للتدخل يف شؤون املنطقة إسرتاتيجية قديمة‬ ‫«توظيف حماية األقليّات‬

‫وضعه عىل الطاولة وتسمية األشياء بوضوح‪ ،‬إذا كان ثمّة من يبحث‬ ‫عن رَتق الجراح‪ ،‬ومعالجة ّ‬ ‫الشقوق الخطرية اآلخذة باالتساع‪ .‬وما‬

‫وخبيثة‪ ،‬باألمس أعلنت فرنسا حماية الكاثوليك واملوارنة‪ ،‬واتجهت‬

‫فمن املناسب أن نسعى إىل مناقشة عدد من التساؤالت املحدّدة حول‬ ‫واقع ّ‬ ‫األقليات هنا‪ ،‬عىل سبيل تشخيص بعض الظواهر واملعالجات‬

‫حمايتها للربوتستانت‪ ،‬وروسيا قامت بحماية األرثوذكس‪ ،‬قبل أن‬ ‫تدخل الواليات املتحدة عىل ّ‬ ‫خط ّ‬ ‫اللعبة يف منتصف القرن العشرين‪.‬‬

‫دمنا نتحدث هنا يف إطار التجربة العراقيّة يف التعاطي مع هذا امللف‪،‬‬

‫املجتمعية والحكومية بهذا الشأن‪ .‬وعىل ذلك‪ ،‬فإنّ طرح تساؤالت‬

‫عدة يف هذا التوقيت تصبح مشروعة وضروريّة‪.‬‬

‫النمسا وإيطاليا لحماية مصالح الروم الكاثوليك‪ ،‬وأعلنت بريطانيا‬

‫ولكن ما كان لهذه القوى ال ّدولية أن تستخدم األقليّات كحصان‬ ‫ّ‬ ‫للتدخل يف شؤون املنطقة‪ ،‬لوال استثمارها يف نقطة ضعف‬ ‫طروادة‬

‫‪61‬‬


‫الملف‬ ‫العربي‪ ،‬التي كانت دولة قائمة عىل‬ ‫ال ّدولة الوطنيّة يف العالم‬ ‫ّ‬

‫مناطق صافية إثنيًّا َتسهُل السيطرة عليها وتمزيقها؛ لذا‪ ،‬يُع ّد منح‬

‫أنموذج هُ ويّة أحاديّ طار ٍد لالختالف والتنوّع‪ .‬إنّ عدم املساواة‬

‫األقليّات حقوقها‪ ،‬إسرتاتيجية للحفاظ عىل الوحدة الوطنية لدول‬

‫منذ االستقالل عن االستعمار‪ ،‬والتمييز االجتماعي والسيايس‬

‫بح ّد ذاته اليوم أنبوبة اختبار لشكل العالم املقبل‪ ،‬ويف هذا السياق‬ ‫تستخدم الطائفية كإسرتاتيجية تعبئة‪ّ ،‬‬ ‫واللعب عىل وتر االختالف‬

‫وانعدام العدالة االجتماعية بسبب سياسات حكومات املنطقة‬

‫املنطقة‪ ،‬واستقرار الشرق األوسط بشكل عام‪ .‬يصبح الشرق األوسط‬

‫وعىل جميع املستويات‪ ،‬وعدم توزيع الدّخل بعدالة‪ ،‬وضعف‬ ‫مستويات املشاركة السياسيّة لألقليّات‪ ،‬جميعها عوامل ع ّززت‬ ‫الدويل لحماية األقليّات يف املنطقة‪ ،‬فضلاً‬ ‫ّ‬ ‫التدخل‬ ‫من إمكانية‬ ‫ّ‬

‫استثمار يف الهُويّات املتخيّلة‪ ،‬سيؤدي إىل تفكيك الشرق األوسط إىل‬

‫املسلمة خاصة بالتهديد؛ بسبب النظر إليها من خالل منظور‬

‫ترتيب العالقة بني األغلبية واألقليّات‪ ،‬والعالقة بني الدولة والدّين‪،‬‬

‫عن سيادة ثقافة إلغاء اآلخر‪ ،‬وإحساس أفراد األقليّات غري‬ ‫قروسطي عن اآلخر الذم ّ​ّي والكافر‪.‬‬ ‫ّ‬

‫للتدخل‬ ‫األقليات‬ ‫توظيف حماية‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫في شؤون المنطقة إستراتيجية‬ ‫قديمة وخبيثة‪ ،‬باألمس أعلنت‬

‫‪62‬‬

‫الديني‬ ‫الغني‬ ‫ال يمكن تدمري تراث الشرق األوسط بتنوّعه‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫واللغويّ دون تهجري األقليّات‪ ،‬ومن خالل تهجريها ُت َ‬ ‫واإلثني ّ‬ ‫خلق‬ ‫ّ‬

‫ني ّ‬ ‫يعي‪ ،‬ليس سوى‬ ‫ّيني اإلسالمي املسيحي أو املذهبي ّ‬ ‫الش ّ‬ ‫الس ّ‬ ‫الد ّ‬ ‫العربي‪ ،‬يُعاد‬ ‫األبد‪ ،‬بعد انهيار أنموذج الدولة الوطنية يف العالم‬ ‫ّ‬

‫ومكانة املرأة‪ ،‬ودور الشريعة‪ ،‬وحقوق األقليّات‪ ،‬عىل نحو قد يؤدي‬ ‫إىل انتهاكات جديدة لحقوق اإلنسان يف أعقاب انهيار األنموذج‬

‫القديم إلدارة الدولة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ويقول الباحث سعد‪ :‬إنّ علينا جميعً ا «أن نفكر يف نموذج‬

‫جديد لدولة مواطنة يتساوى يف ظله الجميع ويتقبلون االختالف عىل‬

‫أنه مصدر غنى‪ .‬ال يعني دفاعنا عن التعدديّة عدم تشبثنا بالهُويّة‬

‫فرنسا حماية الكاثوليك والموارنة‪،‬‬

‫الجامعة‪ ،‬أو رفضنا لها‪ ،‬بل إننا نسوق التنوّع بوصفه فكرة حامية‬

‫مصالح الروم الكاثوليك‪ ،‬وأعلنت‬

‫البالد واختالطها ببقية الجماعات‪ ،‬صمام أمان من تفكك البالد إىل‬

‫واتجهت النمسا وإيطاليا لحماية‬

‫للهوية الجامعة من التقسيم وانفراط عقدها‪ ،‬فبقاء األقليّات يف‬

‫بريطانيا حمايتها للبروتستانت‪،‬‬

‫هويّات كربى متصارعة عىل الحيّز املكاين والسلطة والرثوة‪ .‬يفتح‬

‫وروسيا قامت بحماية األرثوذكس‬

‫الدفاع عن الحقوق الضامنة للتنوع واالختالف فرصة لتجاوز الشعور‬ ‫باالستضعاف ً‬ ‫وفقا ملنطق العدد واملقياس الكمّي األعمى‪ ،‬فرتسيخ‬

‫سياسات تعزز عدم قبول اآلخر‬ ‫وحل النزاعات بجامعة دهوك ّأنه ً‬ ‫ّ‬ ‫وفقا‬ ‫السالم‬ ‫ويف‬ ‫تناول غري بعيد‪ ،‬يرى الباحث خضر دوميل عضو مركز دراسات ّ‬ ‫ٍ‬ ‫للواقع ومعطياته «فإنّ عامل تهميش األقليّات ي ّ‬ ‫ُعد دائمً ا عنصرًا لحدوث النزاعات‪ ،‬ولكن الحروب التي تشهدها املنطقة‬

‫اآلن ليست أسبابها األقليّات‪ ،‬فأسباب الحروب الحالية تندرج ضمن عدم وجود العدالة االجتماعية‪ ،‬وتشريعات تضمن‬ ‫حقوق املواطنني واملشاركة الفاعلة يف القرار السيايس‪ ،‬وتلحق بها سياسات تع ّزز عدم قبول اآلخر املختلف‪ ،‬ومصادرة‬ ‫حقوق وح ّريّات الناس‪ ،‬وفرض األفكار والرؤى الدينيّة عليهم رُغمً ا عن إرادتهم‪ .‬كما أنّ أحد األسباب الرئيسة للحروب‬

‫الحالية هي شكل األنظمة الحاكمة وعدم إيمانها بالتعدديّة‪ ،‬وعدم وجود رؤية لديها يف تعزيز التنوع‪ ،‬بل استخدام‬

‫التنوع كعامل خوف للغالبية بأن اإلقرار بحقوق ‪-‬لألقليّات‪ -‬سيقلل من مكانة الدولة والحكومة التي توظف الطابع الديني‬ ‫ملزيد من استغالل السلطة‪.‬‬

‫إن عدم إيمان األنظمة يف الشرق األوسط بحقوق اآلخرين – األقليّة‪ ،‬يف العيش بكرامة‪ ،‬ي ّ‬ ‫ُعد‪ ،‬يف رأي دوميل‪ ،‬سببًا‬

‫رئيسا ملا يحصل اليوم من انتهاكات وتجاوزات واعتداءات عىل األقليّات‪« ،‬وصلت إىل جرائم اإلبادة الجماعية كما حصل‬ ‫ً‬ ‫من تنظيم داعش ضد اإليزيدية يف سنجار أغسطس عام ‪2014‬م من جرائم سبي النساء والقتل الجماعي وتدمري البنية‬ ‫التحتية وتدمري الهُوية الحضارية والدينية والرتاثية‪ ،‬وهو ما حصل للمسيحيني ً‬ ‫أيضا يف املوصل وسهل نينوى والكاكائية‬

‫رئيسا‬ ‫السلطة تصادر حقوقهم أو ال تدافع عنهم‪ ،‬يكون سببًا‬ ‫ً‬ ‫أو الشبَك والرتكمان الشيعة‪ .‬لذلك فإن شعور األقليّات بأن ّ‬ ‫ً‬ ‫ووفقا للمتابعات املستمرة‬ ‫ليك يهجروا البلد؛ ألنهم يشعرون بأن القانون ال يطبّق لصالحهم‪ ،‬وأبرز دليل عىل ذلك مثلاً ‪،‬‬

‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬


‫عائلة إيزيدية في أحد مخيمات اللجوء‬

‫التمييز اإليجابي يجعل من األقليات تتص ّرف كأغلبية؛ أي بشعور‬

‫مواطنة كامل‪ ،‬وهو ما يشيع أجوا ًء إيجابية ونفسية تدفع للتمسك‬

‫بالهوية الوطنية‪ ،‬وبالكيان األوسع»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫القومي‬ ‫يخص تجربة بلد ثريّ بتنوّعه‬ ‫ويضيف قائلاً ‪« :‬فيما‬ ‫ّ‬ ‫ّيني ّ‬ ‫واللغويّ مثل العراق‪ ،‬فإن تقسيم املنطقة عىل أساس‬ ‫والد ّ‬ ‫الجغرافيا اإلثنوطائفية سيكون الخاسر األكرب فيه األقليات‬

‫الصغرى؛ مثل املسيحيني‪ ،‬واملندائيني‪ ،‬واإليزيديني‪ ،‬والشبك‪،‬‬ ‫والكاكائيني‪ ...‬وغريهم‪ ،‬ويؤسس ملناطق بيوريتانية الهُويّة‪ ،‬ومثليّة‬

‫شيعي‪ ،‬يستبعد األقليات‬ ‫الثقافة؛ كيان كرديّ ‪ ،‬وكيان سُ ّني‪ ،‬وكيان‬ ‫ّ‬ ‫الصغرى‪ ،‬أو يذوّب هوياتها‪ .‬يؤسس االنتقال إىل ديمقراطية‬

‫مستق ّرة يف العراق‪ ،‬ودول املنطقة عىل االعرتاف بأهمّية التعددية‬ ‫والتفكري بمعاين وإيجابيات التنوع الثقايف لخلق دولة تعرتف بحقوق‬

‫مكوناتها‪ ،‬وحق مختلف الثقافات يف حفظ هويتها وتراثها وتميّزها‬ ‫ً‬ ‫حقوقا محميّة عىل صعيد االتفاقيات‬ ‫عن ثقافة األغلبية بوصفها‬ ‫الدولية والدساتري الوطنية‪ ،‬وهو ما يمكن أن نطلق عليه تسمية‬

‫أنموذج دولة مواطنة حاضنة للتنوّع الثقايف»‪.‬‬

‫أنه يف السنوات العشر ‪2014 – 2005‬م رغم حصول عشرات االنتهاكات واالستهداف املستمر‬ ‫لألقليات يف وسط العراق وجنوبه‪ ،‬فإنه لم ُتحرَّك أيّة دعوى قضائية ضد امل ّتهمني‪ ،‬حتى‬ ‫إنّ بعض الذين ارتكبوا تلك الجرائم كانوا معروفني للضحايا»‪.‬‬

‫ويوضح خضر دوميل أنّ ربط موضوع األقليّات بالسيطرة الغربية عىل املنطقة «ديدن‬

‫األنظمة الفاشلة يف سبيل تأجيج األوضاع وزرع الفتنة حتى تبقى ملدة أطول يف الحكم‪.‬‬ ‫ولذلك فإنّ التحرّك الغربي واضح دائمً ا يف دعم األقليات يف مواقع سكنها‪ .‬ولكن يف حال‬

‫عدم استعداد األنظمة والسلطات لتحقيق هذا التوجّ ه‪ ،‬يتحول نمط الصراع إىل فرض‬ ‫اإلرادة عىل أنظمة الحكم وقد تتحول إىل فرض نظم سياسة جديدة من خالل نظام فرض‬

‫الحماية الدولية لحماية األقليّات‪ ،‬وال يُستبعد أن يتحقق هذا األمر يف العراق بالنسبة‬

‫خضر دوملي‬

‫للمسيحيني واإليزيدية»‪ .‬وحول فرصة املشاركة السياسية لألقليات يف العراق‪ ،‬يشري دوميل إىل أنها لو استمرت مشاركة شكلية‬

‫والسماح ألن تكون األقليّات شركاء‬ ‫السلطات مطالبة «بتغيري هذا النهج‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫فإنها ال تحقق كثريًا من الضمانة لبقائهم‪ .‬لذلك فإنّ ّ‬ ‫لاً‬ ‫ً‬ ‫فعليني يف إدارة الحكم والرتبية والتوجيه للمجتمع؛ والقبول بهذا األمر سيكون عام مساعدا ملزيد من االستقرار يف املجتمع»‪.‬‬

‫ويف الرؤية الخاتمة فإن األفق الحايل ملوضوع األقليات ضمن املشهد الحايل ينذر بأنّ «بقاءهم كأقليات حقوقهم ليست‬

‫ضامنة بالشكل أو باملستوى الالئق سيستمر مدة أطول‪ .‬وعىل ما تقدم‪ ..‬فإن تفكري السلطة‪ ،‬يف أنّ التعامل بهذه ّ‬ ‫الصورة مع‬ ‫األقليّات سيجدي نفعً ا‪ ،‬أم ٌر خاطئ‪ .‬فدون ضمانة حقوق األقليات وتعزيز تلك الحقوق ومكانتها يف املجتمع لن تشهد املنطقة‬ ‫االستقرار‪ ،‬ولن تتوقف النزاعات»‪.‬‬

‫‪63‬‬


‫الملف‬

‫األقليات في األردن‪:‬‬ ‫يحرسون الملك ومنهم رؤساء‬ ‫حكومات ووزراء وفنانون‬ ‫ورواد في األدب‬ ‫ّ‬ ‫‪64‬‬

‫الملكة رانيا مع الحرس الملكي األردني في الزي الشركسي‬

‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬


‫جعفر العقيلي‬

‫َع َّمان‬

‫تبدو األقليات في األردن مختلفة عنها في أنحاء من الوطن العربي‪ ،‬فكثير ممن ينتمون إلى‬ ‫ً‬ ‫عميقا وجذر ًّيا في مختلف مؤسسات الدولة‪ ،‬من دون أن يثير أحد هؤالء أي‬ ‫األقليات كان إسهامهم‬ ‫أسئلة من أي نوع‪ .‬إذ إن من المعروف أن رشيد طليع هو أول رئيس للوزراء في إمارة شرقي األردن‬ ‫(‪1921‬م)‪ ،‬لكنّ ّ‬ ‫قل ًة من األردنيين يعرفون أنه درزيّ ‪ ،‬فمثل هذه المعلومة قد تبدو ثانوية‪ ،‬وخارج‬ ‫األصل) عروبيًّا وذا نزعة وطنية واستقاللية‪.‬‬ ‫لبناني‬ ‫اهتمام الناس ما دام الرجل (وهو‬ ‫ُّ‬ ‫ِ‬ ‫عندما تولىّ سعيد املفتي رئاسة الحكومة عام ‪1952‬م‪ ،‬لم يلتفت‬

‫وانصب‬ ‫أحد إىل كونه شركسيًّا ينتمي إىل عائل ٍة مهاجرة من روسيا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫رجل دولة نجح يف نيل موافقة مجلس‬ ‫الرتكيز بدلاً من ذلك عىل‬ ‫ِ‬ ‫األمة باإلجماع عىل وحدة الضفتني‪ ،‬ولم يكن مستغ َربًا إسناد هذا‬

‫املنصب له ثالث مرات أخرى من دون أن يؤثر هذا يف تقديمه بوصفه‬ ‫زعي ًما للشركس‪ .‬أما سعد جمعة الذي تولىّ رئاسة الحكومة عام‬

‫‪1967‬م مرتني‪ ،‬وذلك يف مرحلة عصيبة شهدت اضطرابات متتالية‬

‫سعيد مفتي‬

‫سعد جمعة‬

‫أصل‬ ‫يف تاريخ األردن املعاصر‪ ،‬فكان الكثريون ال يعرفون أنه من‬ ‫ٍ‬ ‫وحسبُهم أنه أول رئيس وزراء يحصل عىل الثقة باإلجماع‬ ‫كرديّ ‪،‬‬ ‫ْ‬

‫من دون أن يواجهوا مشكالت الهوية املر ّكبة‪ ،‬أو تعدّد الوالءات‪،‬‬

‫العرق‪ ،‬أو القومية‪ ،‬أو الدين‪ ،‬هي التي جعلت تعبريًا مثل األقلية‪،‬‬

‫املشهد‪ ،‬وبما يحقق املثاقفة مع بقية املكونات‪.‬‬

‫من مجلس النواب‪.‬‬

‫هذه النظرة التي ال تف ّرق بني مواطن وآخر بسبب املذهب‪ ،‬أو‬

‫وصفي يشري إىل العدد ونسبته‪ ،‬وال‬ ‫تعبري‬ ‫يبدو إىل ح ّد كبري محض‬ ‫ٍّ‬ ‫ٍ‬

‫عالقة له بالحقوق أو الواجبات من قريب أو بعيد‪ ،‬فاألردنيون أمام‬ ‫القانون سواءٌ‪ .‬ويق َّدر عدد سكان األردن بنحو ثمانية ماليني نسمة‪،‬‬

‫أو ازدواجيتها‪ ،‬وتشارك فِرقهم الفولكلورية يف املهرجانات الثقافية‬ ‫إطار من الخصوصية التي ُتغني‬ ‫والفنية‪ ،‬لتعبرّ عن موروثهم يف‬ ‫ٍ‬

‫فنانون وشخصيات اعتبارية‬

‫معظمهم من العرب املنحدرين من قبائل هاجرت إىل املنطقة عىل‬

‫دمج املكونات املختلفة‪ ،‬وصهرها لتصل إىل‬ ‫هذا الوعي بأهمية‬ ‫ِ‬ ‫الدرجة الكافية من االتفاق مع محيطها املتنوع‪ ،‬بدأ مبك ًرا‪ ،‬ويكفي‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫محاطا بالحرس الخاص للقصور‬ ‫صورة ألحد ملوك األردن‬ ‫أن تتأمل‬

‫التاسع عشر‪ ،‬وهناك الشيشان الذين يشكلون مجموعة أصغر مقارنة‬

‫الحرس من الشركس‪ ،‬بالنظر إىل ما ُعرف عن هؤالء من والءٍ ‪ ،‬وما‬

‫مر السنني‪ ،‬إضافة إىل ذلك‪ ،‬هناك الشركس الذين هم من أحفاد‬ ‫الالجئني املسلمني من جراء الغزو القيصري الرويس للقوقاز يف القرن‬

‫بالشركس‪ .‬وثمة أعداد قليلة من األكراد والدروز واألرمن والبهائيني‪.‬‬

‫دول التهمتها نريانُ النزاعات والحروب األهلية‪،‬‬ ‫عند الحديث عن ٍ‬ ‫حالة متقدمةً‬ ‫ً‬ ‫يشار إىل األردن الذي يشهد تنو ًعا عرقيًّا ودينيًّا‪ ،‬بوصفه‬

‫يف تجانس الرتكيبة االجتماعية‪ ،‬وصهر الفوارق يف مكوّناتها‪ ،‬دون‬

‫مس بحرية العقيدة الدينية‪ ،‬أو حرية تكوين الجمعيات‪ ،‬أو حرية‬ ‫ٍّ‬ ‫التعليم أو الحق بالعمل‪ .‬فأبناء ّ‬ ‫األقليات‪ ،‬يتحركون يف الفضاء العام‬

‫أبناء األقلّيات‪ ،‬يتحركون في الفضاء‬ ‫العام من دون أن يواجهوا مشكالت‬ ‫تعدد الوالءات أو‬ ‫الهوية المر ّكبة أو‬ ‫ّ‬ ‫ازدواجيتها‬

‫امللكية لتتأكد من هذا‪ .‬فقد جرت العادة أن يُختار معظم أفراد هذا‬

‫يتمتعون به من أمانة‪ ،‬بل إن الزيّ الخاص بالحرس املليك هو زيّ‬ ‫فولكلوريّ شركيس! واش ُتهر أفراد يف العائلة املالكة بعالقتهم الوثيقة‬

‫بالشركس‪ ،‬وبخاصة األمري عيل الذي ما زال الناس يتداولون مقطعَ‬ ‫فيديو يَظهر فيه وهو يشارك الشركس إحدى رقصاتهم الفولكلورية‪.‬‬

‫ويسهل عىل املرء استذكار عشرات الشخصيات االعتبارية‬

‫من الشركس‪ ،‬مثل‪ :‬الفنان املسرحي الرائد أشرف أباظة‪ ،‬وشكيب‬ ‫الداغستاين الذي كان من أوائل ا ّ‬ ‫ملعلمني يف مدرسة السلط الثانوية‪،‬‬ ‫والكاتبة زهرة عمر صاحبة الرواية الشهرية «الخروج من سوسروقة»‪،‬‬ ‫واألكاديمية النا مامكغ التي ّ‬ ‫تولت وزارة الثقافة‪ ،‬وإحسان شقم الذي‬ ‫عمل مدي ًرا عامًّا لإلذاعة والتلفزيون‪ ،‬والشاعر فيصل قات‪ ،‬والكاتب‬ ‫الصحفي املعروف باتر وردم‪ ،‬والروايئ واملخرج السينمايئ العاملي‬

‫محيي الدين قندور‪ ،‬والروايئ محمد عمر أزوقة‪ ،‬ونانيس باكري التي‬ ‫ّ‬ ‫تولت وزارة الثقافة ومنصب األمني العام املساعد لجامعة الدول‬

‫‪65‬‬


‫الملف‬

‫محيي الدين قندور‬

‫محمد عمر أزوقة‬

‫العربية‪ ،‬وعلياء حاتوغ التي تولت وزاريت السياحة والبيئة‪،‬‬

‫باحتالل والية قوصوة‪ ،‬حيث استقر قسم منهم يف فلسطني وبعد‬

‫وللبلقان حضو ٌر رمزيٌّ بني األقليات يف األردن كما يقول‬

‫بكنية تميّزهم هي األرناؤوط‪ .‬وقد برزت منهم شخصيات معروفة‬

‫ونبيه شقم وزير الثقافة الحايل‪.‬‬

‫الدكتور محمد األرناؤوط‪ ،‬أستاذ التاريخ يف جامعة العلوم‬

‫اإلسالمية العاملية بعمّان‪ ،‬فهناك جزء من الشركس استقروا‬

‫يف والية قوصوة (جنوب صربيا وجمهورية كوسوفو الحالية)‬ ‫وبنوا نحو خمسني قرية جديدة بعد هجرتهم من موطنهم‬

‫األصيل‪ ،‬ولكن مع اندالع الحرب الروسية العثمانية (‪1877‬م)‬ ‫وقيام القوات الصربية بتجريف املنطقة هاجروا من جديد إىل‬ ‫آسيا الصغرى وبالد الشام‪ ،‬واستقر بعضهم يف شرق األردن‬

‫حيث ُعرفوا باسم شراكسة قوصوة‪ ،‬وكان من أبرزهم اللواء‬

‫‪66‬‬

‫نانسي باكير‬

‫النا مامكغ‬

‫مريزا وصفي الذي أصبح قائدًا لسالح الفرسان يف إمارة شرق‬ ‫األردن‪ .‬وعندما قامت النمسا باحتالل البوسنة سنة ‪1878‬م‬

‫هاجر مئات األلوف من املسلمني إىل داخل الدولة العثمانية‬ ‫التي و ّزعتهم عىل والياتها‪ ،‬فقدم بعضهم إىل فلسطني وأصبح‬ ‫بعد عام ‪1948‬م جزءًا من األردن‪ ،‬حيث تميَّز بكنية «بشناق»‬

‫التي تدل عىل موطنه األصيل‪ .‬وقد أعاد بعض هؤالء تواصله‬ ‫مع املوطن األصيل بعد استقالل البوسنة‪ .‬ومن أبناء البشناق‬

‫الذين ُعرفوا يف مجاالت الثقافة واإلدارة عبدالرحمن بشناق‬

‫(‪1999-1913‬م) عضو مجمع اللغة العربية األردين‪ ،‬واملدير العام‬

‫السابق ملؤسسة عبدالحميد شومان‪.‬‬

‫وإىل جانب هؤالء املئات من البشناق‪ ،‬يلفت األرناؤوط إىل‬ ‫أقلية صغرية ً‬ ‫أيضا ُتع ّد باملئات من األلبان الذين هاجروا من‬

‫موطنهم بعد حرب البلقان (‪1913/1912‬م) وبعد قيام صربيا‬

‫عام ‪1948‬م أصبحوا جزءًا من األردن‪ .‬وأسوة بالبشناق ُعرف هؤالء‬ ‫يف اإلدارة والطب والتعليم‪ ،‬مثل نوري شفيق وزير الرتبية األسبق‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫السكري محمد األرناؤوط‪.‬‬ ‫والطبيب املعروف املختص بالغدد وأمراض‬

‫أما الشيشان فقد هاجروا لألردن من غروزين ـ القوقاز يف أواخر‬

‫القرن التاسع عشر‪ .‬ويُعزى إليهم بناء مدينة الزرقاء يف التاريخ‬ ‫املعاصر‪ ،‬ويبلغ عددهم نحو عشرة آالف نسمة‪ .‬وقد اندمجوا يف‬

‫املجتمع والتزموا بمنظومة التقاليد العربية واإلسالمية مع حفاظهم‬ ‫يتمسكون‬ ‫عىل لغتهم األم «ناخ» أو «ناخ داغستان»‪ ،‬وما زالوا‬ ‫ّ‬

‫بعاداتهم وتقاليدهم التي تعكس هويتهم وشخصيتهم واعتزازهم‬ ‫بقوميتهم‪ ،‬مثل تقليد خطف العروس برضاها وضد إرادة أسرتها‪،‬‬ ‫وهو التقليد الذي يمارسونه إىل اليوم تمثيلاً ‪ ،‬بوصفه تعبريًا عن‬

‫الفروسية والرجولة والشجاعة‪.‬‬

‫ومن أبرز الشخصيات الشيشانية يف األردن‪ :‬بهاء الدين الشيشاين‪،‬‬ ‫س بلدية‬ ‫وهو أول رئيس لبلدية الزرقاء (‪1928‬م)‪ ،‬وقاسم بوالد الذي رَأَ َ‬ ‫الزرقاء ً‬ ‫أيضا‪ ،‬وان ُتخب عضوًا يف الربملان‪ ،‬وسعيد بينو الذي ُعني وزي ًرا‬

‫لألشغال العامة وأصدر كتابًا مرجعيًّا عن الشيشان‪ ،‬ومحمد بشري‬ ‫إسماعيل الشيشاين الذي ُعني وزي ًرا للزراعة وأمي ًنا للعاصمة‪ ،‬وسميح‬ ‫بينو الذي تولىّ منصبًا وزاريًّا‪ ،‬وان ُتخب يف مجلس النواب‪ ،‬واختري يف‬ ‫مجلس امللك (األعيان) وكان أول مدير لهيئة مكافحة الفساد‪.‬‬ ‫زهد يف املشاركة السياسية‬

‫وبما يخص البهائيني‪ ،‬فقد استق ّروا يف األردن منذ أواخر القرن‬

‫التاسع عشر (‪1890‬م)‪ ،‬بعدما ف ّروا من االضطهاد اإليراين القاجاري‪،‬‬ ‫وعىل الرغم من أن الغالبية العظمى منهم تنتمي إىل أصول إيرانية‪،‬‬

‫نيران‬ ‫دول التهمتها‬ ‫عند الحديث عن‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫النزاعات والحروب األهلية‪ ،‬يشار‬

‫فإنها ال تعبرّ عن ثقافة فرعية خاصة بها‪ ،‬وال تع ّد نفسها مجموعة‬

‫تنوعا عرق ًّيا‬ ‫إلى األردن الذي يشهد‬ ‫ً‬

‫فولكلوري يميزها من سواها‪.‬‬

‫تجانس التركيبة االجتماعية وصهر‬

‫بنحو ‪ 1000‬شخص‪ ،‬وقد خصصت بلدية إربد يف الخمسينيات من‬

‫ودين ًّيا‪ ،‬بوصفه حالةً متقدمةً في‬ ‫مكوناتها‬ ‫الفوارق في‬ ‫ّ‬

‫إثنية‪ ،‬بل جزءًا من نسيج املجتمع األردين‪ ،‬حتى إنه ليس لها زيّ‬

‫ويق ّدر عدد البهائيني الذين يتوزعون يف جميع أنحاء البالد‪،‬‬

‫القرن املايض‪ ،‬جزءًا من املقربة اإلسالمية لهم‪ ،‬وكانوا قد بنوا يف ذلك‬

‫ً‬ ‫ومكانا لالجتماع والعبادة يف العدسية يسمّونه حظرية‬ ‫الوقت مدرسة‬

‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬


‫القدس‪ ،‬قبل أن يشيدوا بنا ًء مماثلاً يف عمّان‪ ،‬ثم بنا ًء ً‬ ‫ثالثا يف إربد‬ ‫يف مطلع الثمانينيات‪ .‬ولهم كذلك مقابر يف منطقتي طرببور (عمّان)‬

‫والعدسية (األغوار)‪ ،‬وهو ما يشري إىل اعرتاف واضح بهذه الطائفة‪،‬‬ ‫وبحريتها يف التعبري عن معتقدها‪.‬‬

‫من دمشق بعد انتهاء الحكم الفيصيل؛ فؤاد سليم الذي شغل‬

‫منصب رئيس هيئة أركان الجيش‪ ،‬واألمري عادل أرسالن الذي ُعني‬ ‫ً‬ ‫مؤرخا وأديبًا‬ ‫رئيسا للديوان األمريي‪ ،‬وعجّ اج نويهض الذي كان‬ ‫ً‬ ‫لىّ‬ ‫ومرتجمًا تو إدارة اإلذاعة العربية يف القدس يف أثناء الحرب‬

‫ً‬ ‫ووفقا للباحثة واألكاديمية نسرين أخرتخاوري‪ ،‬فإن البهائيني‬

‫العاملية الثانية‪ ،‬ثم إدارة املطبوعات والنشر باألردن‪ ،‬والذي نال‬

‫وينصب اهتمامهم عىل تحفيز الشباب‬ ‫وقضايا املجتمع املدين‪،‬‬ ‫ّ‬

‫الدروز بوصفها جماعة يف األردن بدأ يف عام ‪1918‬م عندما وصلت‬

‫يزهدون يف املشاركة السياسية‪ ،‬لكنهم فاعلون يف الشؤون العامة‬ ‫والناشئة عىل االنخراط يف خدمة مجتمعاتهم املحلية‪.‬‬

‫كتابه «بروتوكوالت حكماء صهيون» شهرة كبرية‪ .‬وكان استقرار‬ ‫‪ 22‬عائلة درزية من جبل العرب بعد خروج األتراك من املنطقة‪،‬‬

‫ويرت ّكز وجود البهائيني يف منطقة العدسية‪ ،‬ويعود لهم الفضل‬

‫وسكنت القص َر األموي يف واحة األزرق‪ ،‬قبل أن يتوجه أبناؤها‬

‫آليات وطرق زراعية حديثة‪ ،‬إىل جانب إدخالهم عددًا من املحصوالت‬

‫وكان استخراج ملح الطعام وتكريره من أهم مصادر دخلهم‪،‬‬

‫يف تطويرها عرب استصالح مساحات واسعة من األرايض‪ ،‬واستخدام‬

‫التي لم تكن معروفة يف املنطقة‪ ،‬مثل املوز والحمضيات والباذنجان‬ ‫الذي يسمى العجمي نسبة إليهم‪.‬‬

‫لتشييد مساكنهم حول القصر‪.‬‬

‫وقد نشطوا يف تأسيس الجمعيات الخريية والتعاونية والنوادي‬

‫الثقافية والرياضية‪ ،‬ومن أبرزها منتدى األزرق الثقايف الذي ينظم‬

‫وبرز من بني معلمي مدرسة السلط الثانوية «أم املدارس يف‬

‫مهرجان األزرق للثقافة والفنون سنويًّا يف قلعة األزرق األثرية‪ .‬أما‬

‫املدرسية‪ ،‬وكان عىل عالقة طيبة بامللك عبدالله األول‪ .‬كما أن محمود‬

‫باملسيحية‪ ،‬وينتمي معظمهم إىل كنيسة األرمن األرثوذكس‪ ،‬كما‬

‫األردن» حسني روحي‪ ،‬وعيل روحي الذي أسهم يف تطوير املناهج‬ ‫سيف الدين اإليراين‪ ،‬رائد القصة القصرية يف فلسطني واألردن‬

‫«صدرت مجموعته األدبية األوىل أوّل الشوط سنة ‪1937‬م» كان‬ ‫بهائيًّا‪ .‬ومن الشخصيات البهائية املشهورة ً‬ ‫أيضا د‪ .‬نسرين أخرتخاوري‬

‫التي تقيم اآلن يف الواليات املتحدة األمريكية‪ ،‬حيث تعمل يف إحدى‬ ‫الجامعات هناك وتتوىل التعريف باألدب العربي عرب استضافة ك ّتاب‬ ‫عرب وترجمة أعمالهم‪.‬‬

‫بروتوكوالت حكماء صهيون‬

‫وفيما يتصل بالدروز (بنو معروف)‪ ،‬فمن أهم رجاالتهم الذين‬

‫كانوا أعضاء يف حزب االستقالل والذين وفدوا إىل األردن قادمني‬

‫األرمن فيبلغ عددهم يف األردن نحو ثالثة آالف نسمة‪ ،‬وهم يدينون‬ ‫حي‬ ‫يحافظون عىل لغتهم األم‪ ،‬إىل جانب تحدثهم بالعربية‪ .‬ولهم ٌّ‬ ‫باسمهم يف جبل األشرفيّة بالعاصمة‪.‬‬ ‫يف ضوء ما سبق‪ ،‬يمكن القول‪ :‬إن الثقافة العربية واإلسالمية‬

‫ال تزال هي السائدة واملسيطرة‪ ،‬وهي التي تمنح املجتمع األردين‬

‫الصبغة الغالبة يف تقديم نفسه للعالم بالرغم من التنوع الغريب‬

‫والعشوايئ يف تشكيلته‪ ،‬وبموازاة ذلك‪ ،‬ال ترتدد األقليات يف‬ ‫التعبري عن نفسها يف مناسباتها املختلفة‪ ،‬من خالل التمسك‬

‫بالزي الفولكلوري‪ ،‬وممارسة طقوسها املتوارثة يف األفراح واألتراح‪،‬‬ ‫واستخدام لغاتها القومية يف التواصل بني أفرادها‪ ،‬وإحياء عاداتها‬

‫وتقاليدها يف مهرجاناتها الفنية والثقافية‪.‬‬

‫‪67‬‬


‫الملف‬

‫النوبة في أعمال إدريس علي‪:‬‬

‫العنصرية والعنصرية‬ ‫المضادة‬

‫‪68‬‬

‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬


‫أحمد أبو خنيجر‬

‫كاتب مصري‬

‫في أواخر الثمانينيات من القرن المنصرم ظهرت مجموعة من التجليات‬ ‫اإلبداعية‪ ،‬ذات الصوت المميز والمختلف عما هو سائد في حقل السرد المصري‬ ‫والعربي آنذاك‪ ،‬جاعلة من النوبة في جنوب مصر فضاءها السردي والتعبيري‪،‬‬ ‫منشغلة بهموم النوبة وأحالمها‪ ،‬وأزمة الهوية التي تمثل العصب الرئيس في ذلك‬ ‫ً‬ ‫بعيدا عن االهتمام من العاصمة المركزية‬ ‫المجتمع المنعزل‪ ،‬والقابع في الجنوب‬ ‫القاهرة‪ ،‬فجاءت كتابات‪ :‬إبراهيم فهمي‪ ،‬ويحيى مختار‪ ،‬وإدريس علي‪ ،‬وحسن‬ ‫نور‪ ،‬وحجاج حسن أدول‪ ،‬متابعة لما كان استهله محمد خليل قاسم في روايته‬ ‫الرائدة في تاريخ السرد العربي‪ :‬الشمندورة‪ .‬التي نشرت في عام ‪1968‬م‪.‬‬ ‫إذ بدت الرواية «الشمندورة» صرخة مبكرة ملا حاق بأهل النوبة‬

‫من غرق وتهجري وترك للوطن عقب تعلية الخزان الثانية يف عام‬ ‫‪1932‬م‪ .‬ربما كانت تداعيات ذلك التهجري القسري الذي طال بعض‬

‫القرى النوبية يف ذلك الزمن البعيد مستمدة من حالة التهجري‬

‫الثانية مع بناء السد العايل جنوب مدينة أسوان يف عام ‪1964‬م‪ .‬التي‬ ‫عاصرها وعايشها الكاتب‪ ،‬التي ستطول كل القرى النوبية؛ لكن‬

‫كتابنا الجدد ربما كان بعضهم بدايات شبابه يف زمن التهجري الثاين‪،‬‬

‫وهو ما جعل توجهات الكتابة مختلفة‪ ،‬وإن لم تبتعد كثيرً ا من الهم‬ ‫العام ألهايل النوبة‪.‬‬ ‫أقلية عرقية‬

‫تمثل النوبة أقلية عرقية وثقافية داخل املجتمع املصري‪ ،‬وذلك‬

‫من حيث منظومة القيم التي تتبناها الجماعة النوبية‪ ،‬ويبدو ذلك‬ ‫واضحً ا وجليًّا يف املالمح والسمات للشخصية النوبية من حيث اللون‬

‫وامتالك لغة خاصة‪ ،‬هي اللغة النوبية‪ ،‬وغري ذلك من املحددات؛‬ ‫فجاءت واقعة التهجري‪ ،‬وغرق أرايض النوبة عند بناء السد العايل‬

‫كنكبة حاقت باملجتمع النوبي‪ ،‬لتصري تلك الواقعة هي النقطة‬

‫املركزية التي تتمحور حولها أغلب الكتابات األدبية التي أنتجها أبناء‬ ‫ً‬ ‫سابقا‪ ،‬فواقعة الغرق وحلم العودة لذلك‬ ‫النوبة الذين أشرنا إليهم‬ ‫الفردوس املفقود‪ ،‬كما يراه أبناء النوبة‪ ،‬والحنني للبالد البعيدة‬

‫الضائعة تحت مياه بحرية السد العايل ستكون أكرث النغمات ترددًا‬ ‫داخل لحن الكتابة النوبية‪ ،‬يف محاولة جادة منها للتمسك بالهوية‬

‫النوبية‪ ،‬ومقاومة االندثار والذوبان داخل املجتمع املصري‪ ،‬وهو ما‬

‫دفع بعضهم التهامات تصل للعنصرية ومرتادفاتها املتعددة‪ .‬وعىل‬ ‫رغم وجاهة القضية وجدارتها بالعرض والتحليل‪ ،‬وهو ما فعله‬ ‫ً‬ ‫موقفا مغاي ًرا من‬ ‫أغلب الكتاب النوبيني‪ ،‬إال أن إدريس عيل وقف‬

‫كل الكتابات التي اتخذت من النوبة مسرحً ا لها‪ ،‬إذ بدت عينه تنظر‬ ‫إىل بنية هذا املجتمع املغلق‪ ،‬وترى معوقاته الداخلية‪ ،‬قبل أن يصب‬

‫‪69‬‬


‫الملف‬

‫جماعة مختلفة‪ ،‬فقط بسبب ظروف خاصة مرت بتجربة مختلفة‪،‬‬

‫اللوم عىل الخارج الشمال‪ ،‬وهو ما جلب له كثريًا من املصاعب‬ ‫واملتاعب‪ ،‬كما أنه هو السبب نفسه الذي جلب له الشهرة‬

‫والذيوع‪ ،‬وترجمة أعماله األدبية‪ ،‬ونيل الجوائز املرموقة عنها‪.‬‬

‫بدأ إدريس كتاباته القصصية بعيدًا من حقل النوبة‬

‫قبل أن يتحول كلية للكتابة عنها‪ ،‬فكانت‪ :‬املبعدون‪ ،‬وواحد‬

‫ضد الجميع‪ .‬تأمل العنوان‪ ،‬لتدرك ما هو‬

‫لكن حول االدعاءات العرقية والعصبية‪ ،‬فهو ضدها عىل طول الخط‪.‬‬ ‫اللعب فوق جبال النوبة‬

‫يف رواية «اللعب فوق جبال النوبة» يعكس إدريس عيل اللعبة‬

‫الروائية‪ ،‬فغادة الشابة املولدة من أب نوبي وأم قاهرية يرسلها والدها‬ ‫إىل الجنوب‪ ،‬قريته النوبية القابعة يف حضن الجبل متسربلة بعاداتها‬ ‫وتقاليدها القديمة‪ ،‬تلك القرية الهاجعة التي ال‬ ‫يحرك ركودها سوى مركب البوسطة كل أسبوعني‪،‬‬

‫قادم من أعمال‪ ،‬وما سيكون بمنزلة النغمة‬

‫تصل غادة للقرية مبعدة من القاهرة ذات األفق‬

‫املحورية التي تقود اللحن‪ ،‬فقط تنويعات هنا‬

‫املفتوح والحياة السريعة وشديدة التبدل‪ ،‬يرسلها‬

‫وهناك‪ ،‬بشكل مختلف تأخذ قالبها لتصري‬ ‫عملاً جديدًا؛ إن فكرة اإلبعاد والتهميش‬

‫والدها كعقاب لها عىل حبها أحد شباب الحارة التي‬

‫تقطنها أسرة ذلك النوبي الذي هاجر للشمال يف‬ ‫حياته الباكرة ً‬ ‫بحثا عن الرزق ولقمة العيش‪ ،‬وهناك‬

‫داخل نسق الحياة‪ ،‬ألي سبب‪ ،‬وجعلك‬ ‫هامشيًّا وغري مرغوب فيك يف أغلب األوقات‪،‬‬

‫هو أن تقف وحدك‪ ،‬مع روحك وذاتك‪ ،‬ضد‬

‫العوامل التي تعمل عىل إبعاد اإلنسان وتهميشه‪ ،‬بدءًا من‬ ‫األفكار العنصرية األوىل للقبيلة والجماعة‪ ،‬واألفكار الطبقية‬ ‫بكل تجلياتها‪ ،‬والنفي املتعمد داخل الوطن وخارجه‪ ،‬ضد‬

‫القيم السلبية التي يجري التكريس لها‪ ،‬وجعل قانونها هو‬

‫‪70‬‬

‫السائد‪ ،‬بكلمات أقل‪ :‬أن تقف بعيدًا‪ ،‬خارج الصف‪ ،‬والسطر‬ ‫والطابور‪ ،‬فأنت تحديدًا مبعد ضد الجميع يف الوقت نفسه‪.‬‬

‫استهل إدريس عيل رواياته النوبية بالرواية الفاتنة‬

‫إدريس علي تزوج من أم غادة‪ ،‬لكنه كنوبي أصيل سريفض أن‬ ‫تتزوج ابنته من رجل ليس نوبيًّا‪ ،‬فالنوبية ال تتزوج إال من نوبي‪،‬‬

‫هكذا العادات‪ ،‬أما الرجل فيحق له أن يتزوج من غري النوبيات‪،‬‬ ‫ً‬ ‫مجحفا وتميي ًزا ضدها‪ ،‬مجربة تبعد‬ ‫وهو ما تراه غادة‪ ،‬ابنة املدينة‪،‬‬ ‫للجنوب‪ ،‬لتقلب سكون القرية البعيدة واملنسية واملهملة رأسً ا عىل‬

‫عقب‪ ،‬وهو ما سوف يستفز حراس الجمود والتقاليد البالية‪ ،‬والويل‬

‫كل الويل ملن يحاول أن يغري من تلك العادات أو يخرتقها‪ ،‬ستكون‬ ‫حياته هي ثمن جرأته هذه‪ ،‬كما حدث مع غادة‪.‬‬

‫وإذا كان مربرًا بعض اليشء قبول تلك العنصرية التي يكاد يكون‬

‫«دنقلة» يف عام ‪1994‬م‪ ،‬وبقدر ما ج ّرت عليه هذه الرواية من‬ ‫مشكالت وتهديدات عصبية بالقتل‪ ،‬لكنها ً‬ ‫أيضا جاءت‬

‫مفهوم مربراتها والتي يعاين منها املجتمع النوبي‪،‬‬

‫من التعويض النفيس واملعنوي‪ ،‬فآخر ما كان‬

‫عيل يضرب بعيدًا حيث العنصرية جزء أصيل من‬

‫بالشهرة والجوائز والرتجمة‪ ،‬وهو ما بدا نو ًعا‬

‫ونظرة الناس له وطريقة التعامل معه‪ ،‬لكن إدريس‬ ‫كيان اإلنسان أيما كان لونه أو دينه ووعيه وثقافته؛‬

‫يبتغيه إدريس عيل هو الفضائحية‪ ،‬لكنه كان‬

‫فاملجتمع الذي يعاين العنصرية الخارجية‪ ،‬هو يف‬

‫يشري إىل مواطن الخلل‪ ،‬ويحث عىل التبصر‬

‫حقيقة األمر أشد عنصرية‪ ،‬فنظرة القرية لغادة‬

‫باألخطاء العنصرية لدى الجماعة‪ ،‬التي تتصور‬

‫الجميلة هي يف نظرهم «نصف بغلة»‪ ،‬ذلك أن أمها‬

‫أنها نقية وخالية من العيوب‪ ،‬حتى إن وجدت‬

‫غري نوبية‪ ،‬ومن ثم وحسب هذا التصنيف تصبح أقل‬

‫هذه العيوب الراسخة يف الطبيعة اإلنسانية‪،‬‬

‫درجة منهم‪ ،‬وال يحق لها أن تتمتع بجميع الحقوق‬

‫فيجب عليه ‪ -‬هكذا تتصور القبيلة والجماعة –‬

‫التي يتمتع بها غريها‪ ،‬يف الوقت نفسه ال يمكنها أن‬

‫أن يقوم بسرتها‪ ،‬وعدم التعرض لها‪ ،‬وهو ما‬

‫كان يراه نو ًعا من الهشاشة وعدم الفهم وقبول‬

‫تتزوج بعيدًا من الحقل النوبي‪ ،‬وبطبيعة الحال ال‬

‫النقد الذايت‪ ،‬بل اإلصرار عىل بقاء حالة النقاء املزعومة‪ ،‬وعدم‬

‫يمكنها أن تمارس الحرية التي كانت تمارسها يف املدينة‪ ،‬حقها يف‬

‫األخطاء عقب التعرف واإلقرار بوجودها وعدم التنكر لها؛ ذلك‬ ‫ما سوف يكمله ً‬ ‫أيضا يف متتالياته النوبية‪ :‬النوبي‪ ،‬واللعب فوق‬ ‫جبال النوبة‪ ،‬وتحت خط الفقر‪ .‬يف كل مرة يرفع الغطاء قليلاً‬

‫لو جهرت برأيها أو فعلها كما كانت تفعل ذلك يف املكان الذي قدمت‬ ‫صاغ بها عالم الرواية من خالل عني الصبي الذي كأنه الكاتب يف زمن‬

‫تخص الجماعة‪ ،‬وهو ما ال يرضاه إدريس عيل‪ ،‬فهو ال يرى أنها‬

‫السد بعد مدة من الزمن‪.‬‬

‫االعرتاف حتى لو بني الجماعة أنفسهم‪ ،‬بأنه يمكن معالجة‬

‫عما هو مسكوت عنه ومتواطأ عليه‪ ،‬وجعله من األسرار التي‬

‫االختيار واالنتقاء للشخص الذي سيتزوج بها‪ ،‬األدهى من كل هذا‬ ‫منه؛ يحسب إلدريس عيل تلك اللغة البسيطة الدالة واملوحية التي‬ ‫بعيد يف تلك القرية البعيدة واملهملة‪ ،‬وسوف تغرقها مياه بحرية‬

‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬


71


‫نصوص‬

‫مختارات من قصائد‬

‫التانكا اليابانية الحديثة‬ ‫ترجمة‪ :‬عاشور الطويبي‬

‫شاعر ومترجم ليبي‬

‫قصيدة التانكا‪ ،‬شكل من أشكال القصيدة اليابانية القصيرة‪ ،‬ظهرت منذ القرن الثامن‬ ‫ً‬ ‫مقطعا صوتيًّا يابانيًّا‪:‬‬ ‫الميالدي‪ .‬قصيدة التانكا‪ ،‬تتكون من ‪31‬‬ ‫لاً‬ ‫‪ 5-7-5-7-7‬من اليسار إلى اليمين‪ .‬وقد تزيد أو تنقص قلي ‪ .‬وعادة ما يكون في منتصف التانكا (بين‬ ‫‪ 5-7-5‬و ‪ )7-7‬كسر أو قطع بين الجزء العلوي والجزء السفلي سواء كان ذلك في المعنى أو اإليقاع‬ ‫أو االثنين ً‬ ‫معا‪ .‬وفي العقود الثالثة األخيرة حازت قصيدة التانكا على شهرة كبيرة في كثير من اللغات‪.‬‬ ‫هذه القصائد ترجمت عن اإلنجليزية‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫تيكان يوسانو ‪1935-1873‬م‬ ‫كأنك‬

‫برشاقةِ‬ ‫ُ‬ ‫السديم يحيط بك‬ ‫ٌ‬ ‫حركة‬

‫ميوكو غوتو ‪1978-1898‬م‬

‫تنتقدين عالقتي العاطفية؟‬

‫سيمفونية تخط ُر على بالي‬

‫ُ‬ ‫وجه ِطفلي‬ ‫األزهار‪،‬‬

‫يوشيكو ميكاجيما ‪1927-1886‬م‬

‫كونيو تاكاياسو ‪1984-1913‬م‬

‫شديد البرودة‪ ،‬يمكنني‬

‫تسألين القرمزيّ‬

‫‪72‬‬

‫يوشيمي كوندو ‪2006-1913‬م‬

‫ّ‬ ‫في‬ ‫ويحد ُق َّ‬ ‫المضي أكثر‬ ‫ال أقد ُر على‬ ‫ّ‬

‫لماذا أنت قرمزيّ ؟‬ ‫يا للغباء‪ ،‬كيف‬

‫يوم واحدٍ‬ ‫في ٍ‬ ‫ّ‬ ‫أت ُ‬ ‫حد مع طفلتي‬ ‫أُصلحُ الطيّات المفتوحة‬ ‫لكيمونها‬

‫وهي ترتديه‬

‫ساموي ميكاوا ‪1990-1903‬م‬

‫ُ‬ ‫أذهب في رحلة‬

‫بيْد ّ‬ ‫باق‬ ‫أن األلم ٍ‬ ‫يا جبالُ‬ ‫ُ‬ ‫حقول وأنتم جميعكم‬ ‫يا‬ ‫ً‬ ‫بعيدا! تالشوا!‬ ‫امضوا‬

‫أكيكو يوسانو ‪1942-1878‬م‬ ‫ُ‬ ‫النجوم‬

‫ليل الشتاء أنت‬ ‫في ِ‬ ‫ال أقول نجمة واحدة فقط‬ ‫ّ‬ ‫كلها أنت‬

‫ٌ‬ ‫باذخة من‬

‫ال ّ‬ ‫بد ّ‬ ‫أن‬

‫الطفل ٌ‬ ‫نائم بجانب أمه‬ ‫فوق الحقول‬

‫القم ُر أزرق‬ ‫ٌ‬ ‫عائد أنا إلى البيت‬

‫فوميكو ناكاجو ‪1954-1922‬م‬ ‫تلك الهضاب‬ ‫ُت ُ‬ ‫شبه تزيي المفقودين‬ ‫في الشتاء‬ ‫ستكون مبرقشةً‬ ‫باألزهار الذابلة‬

‫تورو مائيدا ‪1984-1914‬م‬ ‫وهو ّ‬ ‫يتلقى‬

‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫الطفل‬ ‫المقدس‪،‬‬ ‫الماء‬ ‫يرتعش‬

‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬

‫بين‬

‫الميت‬

‫االحتفاظ بهذه البرودة مدى الحياة‬

‫نوبو أونو ‪1984-1914‬م‬ ‫طرات‬ ‫بمِ ْم‬ ‫ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫نسوة ينتظرن‬ ‫ّ‬ ‫المحطة‬ ‫عند‬

‫ٌ‬ ‫في المساء‪ ،‬ثلجٌ‬ ‫خفيف‬ ‫قد ّ‬ ‫يغل ّ‬ ‫فهن‬

‫هيروهيكو أوكانو ‪-1924‬‬ ‫كل ّواحدٍ منا‬ ‫ٌ‬ ‫حافظة ً‬ ‫أسى‬

‫رأسي يتدلى إلى أسفل‪ ،‬وعقلي‬ ‫هائم في قطار ّ‬ ‫ٌ‬ ‫الليل‬

‫فومي ساييتو ‪2002-1909‬م‬ ‫عندما تضاء‬

‫من جهة الموت‬


‫أكيد الحياة تسطع‬

‫حمراء براقة‬ ‫ّ‬ ‫بكل ّ‬ ‫قوتها‬

‫سومي كون نو ‪-1952‬‬ ‫شهر مايو ذاك‬

‫إلى ضوء الشمس األخضر‬ ‫أُس ِق ْط ُ‬ ‫ت‪،‬‬

‫يوكو ناغاي ‪2000-1951‬م‬

‫ٌ‬ ‫حياة سقطت‬

‫أعواد الخيزران المتشابكة تخشخش‬

‫نوريو توكيتا ‪-1946‬‬

‫ّ‬ ‫كل ليلة‪ ،‬ليلةٍ بعد ليلةٍ‬

‫ألف قرعة‬

‫ماساكو تسويجي ‪2006-1920‬م‬

‫ُ‬ ‫رجعت‬ ‫فوق المقطورة‪،‬‬ ‫لاً‬ ‫عبر الحقول مبلو بالضباب‬

‫على الطاولة‬

‫ماتشي تاوارا ‪-1962‬‬

‫ر ّبما ليس‬ ‫الحزن الذي أُ ّ‬ ‫حس به‬ ‫في حُ ّ‬ ‫ب أحدٍ ما‪ّ ،‬إنما‬ ‫خفيضة‬

‫أدحرجُ‬

‫ً‬ ‫بيضة في ّ‬ ‫الضوء‬ ‫وألعب‬

‫ال تلمسني‬

‫هيديوكي كوناكا ‪2001-1937‬م‬

‫من ّ‬ ‫أمي‬

‫ّ‬ ‫حملنا‬

‫أنا وزوجتي‬

‫ٌ‬ ‫صقيع‪ ،‬أليس كذلك‬

‫أسألك وتجيب‬ ‫ٌ‬ ‫صقيع‪ ،‬أليس كذلك؟‬ ‫أنا َد ِف ٌ‬ ‫ئة َ‬ ‫بك‬

‫ُ‬ ‫اعتقدت‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ثلج‬ ‫أني لمست قطعة ٍ‬

‫إي تايا ‪2013-1917‬م‬

‫هل اختارني‬

‫شيء منفر ٌد‬

‫ثم استيقظت‬

‫الحُ ّ‬ ‫ب‬

‫الله ألمرض؟‬

‫أرى‬

‫إي أكيتسو ‪-1950‬‬

‫على شاطئ البحر‬

‫ستلدين‬

‫هيروشي إشيدا ‪2011-1930‬م‬

‫كنت‬ ‫لو‬ ‫ِ‬

‫أنجبي العالم‬

‫في الغابات اليافعة‬

‫الخضراء المليئة بالبراعم‬

‫هوداي يامازاكي ‪1985-1914‬م‬ ‫مرّة واحدة فقط‬

‫كانت لي قصة حب حقيقية‬ ‫ُ‬ ‫التوت‬ ‫ُ‬ ‫يعلم‬

‫بذلك‬

‫شخصين يلعبان‬

‫ً‬ ‫وحيدا في حانة‬

‫في مساء ربيعي‪،‬‬ ‫ساكي‬ ‫أرتشف‬ ‫َ‬ ‫آمل أن يأتي ٌ‬ ‫أحد‬ ‫أريد ً‬ ‫ال‪ ،‬ال ُ‬ ‫أحدا‬

‫كازوكو أوتاكي ‪-1958‬‬ ‫أخطو في‬

‫صندل أزرق‬ ‫ُ‬ ‫أقف‬

‫أشعر بالزهو‬ ‫ّ‬ ‫كأني َخ ُ‬ ‫لقت مجرّة‬

‫هيروشي يوشيكاوا ‪-1969‬‬ ‫ٌ‬ ‫شخص سوف يموت‬ ‫ّ‬ ‫وهو يفكر بالموت‬

‫زهور الباذنجان‬ ‫ّ‬ ‫متفتحة‬

‫في سكينة ضوء الشمس‬

‫يوكو كاوانو ‪2010-1946‬م‬ ‫إنْ ُّ‬ ‫مت اآلن‬

‫حان عامي األخير‬

‫طيور البوبشير‬ ‫شكل ًّ‬ ‫ُت ّ‬ ‫خطا‬

‫في الشمس الغاربة‬

‫‪73‬‬


‫دراسات‬

‫‪74‬‬

‫الصوت‪ ..‬واألجراس‬

‫محمد العلي‬

‫على طريق الحداثة‬ ‫وداخل خنادقها‬ ‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬


‫علي الدميني‬

‫شاعر وكاتب سعودي‬

‫«ليست هنالك استقاللية عن شرط الحرية‪ ،‬ولكن الكتابة المقموعة تخلق‬ ‫لنفسها درو ًبا تحقق بها شرط الحرية‪ ...‬إن انعدام الحرية ال يوقف الكتابة‪ ...‬إنه فقط‬ ‫محمد العلي‬ ‫يوقف ازدهارها وتفتحها»‬

‫قطيعة وتجاوز‬

‫كما انحاز إىل كتابة شعر التفعيلة وفق رؤية إبداعية وفكرية‬

‫منذ أن غادر محمد العيل طريق متابعته لدراسة املنهج‬

‫متميزة‪ ،‬تطورت خالل مرحلة قصرية لتتجاوز ما أبدعه‬

‫خلع عباءة «رجل الدين» وعمامته‪ ،‬واختار طريق «طالب‬ ‫املعرفة»‪ ،‬متخليًا عن مسار «العقل التقليدي» ومنحا ًزا‬

‫حسن القريش‪ ،‬وسعد البواردي‪ ،‬وغازي القصيبي‪ ،‬ومحمد‬

‫املنصور‪ ،‬والرميح‪ ،‬وناصر أبوحيمد‪ ،‬ومحمد العثيمني‬

‫والعقالنية‪ ،‬وإىل حلم التقدم اإلنساين الذي يتغيا حرية‬

‫الحر خيارهم الشعري منذ البدء‪ ،‬مثل سعد الحميدين‪،‬‬

‫الديني‪ ،‬وسلك طريق التعليم املدين ‪ -‬رمزيًّا وثقافيًّا ‪ -‬فقد‬

‫إىل فضاء بناء «العقل النقدي»‪ ،‬وإىل فكر السؤال والنقد‬

‫اإلنسان وسعادته‪ ،‬وذلك من خالل اإلسهام يف إنتاج القيم‬ ‫الحديثة املرتبطة بضرورات العصر‪ ،‬واالنخراط يف املمارسة‬ ‫الفاعلة لصياغة رؤية مختلفة لحيا ٍة جديدة‪ .‬وهنا نراه وقد‬

‫انتقل منذ مطلع ستينيات القرن املنصرم من ضفة سيادة‬

‫سلطة النمط والتقليد واألنساق الرتاثية املهيمنة عىل الفكر‬

‫واإلبداع والحياة‪ ،‬إىل ضفاف تيارات التنوير والتقدم الحضاري‬ ‫يف العالم العربي‪ ،‬وهي العالمات البارزة للسري عىل الطريق‬

‫إىل الحداثة‪.‬‬

‫شعراء اململكة يف تلك املرحلة وما قبلها‪ ،‬من العواد إىل‬

‫وسواهم‪ ،‬وما قدمه الشعراء الشباب الذين جعلوا الشعر‬ ‫وأحمد الصالح‪ ،‬وعيل الدميني‪ ،‬وغريهم‪.‬‬

‫وقد غدت قصائده مثل «العيد والخليج‪ ،‬ال ماء يف املاء‪،‬‬

‫آ ٍه متى أتغ ّزل‪ ،‬وغريها»‪ ،‬كمرتكزات للقصيدة الحداثية يف‬

‫اململكة يف أبعادها الجمالية والداللية‪ ،‬يف عقد السبعينيات‬ ‫من تلك املرحلة‪.‬‬

‫وباملوقف الحاسم والقاطع نفسه مع الرؤية التقليدية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫كيانا شخصيًّا مستقلاًّ عىل مستوى البعد الثقايف‬ ‫شكل‬ ‫الواقعي والرمزي‪ ،‬للمثقف الحر والصادق مع ذاته‪ ،‬ومع‬

‫يف حوار ملحطة (‪ )LBC‬اللبنانية مع محمد العيل قال‪:‬‬

‫قراء كتاباته الصحفية منذ بدأها يف جريدة اليوم حتى‬

‫أن النجف مدينة إما أن تدفعك إىل الخمول واالستسالم الذي‬

‫ينحني لجني صفقات األرباح بالتكيف مع أدوات أو مغريات‬ ‫التهجني املؤسساتية‪ ،‬مثلما لم يكتب مجاملاً مؤسسة أو‬

‫«إن شهادة السطوع التي حصلت عليها حني تخرجت من‬ ‫ً‬ ‫مضيفا‪،‬‬ ‫املعاهد الدينية يف النجف‪ ،‬قد خلقت مني متمردًا!‬ ‫ليس بعده صحو‪ ،‬أو تدفعك إىل التمرد»(‪.)1‬‬

‫هذه اللحظة‪ ،‬فلم يرضخ لضرورات السري مع القطيع‪ ،‬أو‬

‫ً‬ ‫صديقا أو كاتبًا‪ ،‬وأخلص فقط لتدوين ما يؤمن‬ ‫مسؤولاً أو‬

‫ويف عام ‪1963‬م عاد العيل مع عائلته إىل الدمام التي‬

‫به تمامً ا‪ ،‬وضمن أفق رؤيته النقدية‪ ،‬عىل رغم ضيق الحيز‬

‫فيها‪ ،‬تجاوز العيل محاضرته األوىل التي قدمها يف الرياض‬

‫وطيلة عمره املكلل بالعطاء املستمر‪ ،‬لم يشأ العيل‬

‫كانت تنمو كحاضرة للمنطقة الشرقية‪ ،‬وعرب أربعة أعوام‬ ‫عام ‪1964‬م‪ ،‬باشتغاله عىل تطوير رؤيته وتعميق مرتكزاتها‬

‫الفكرية واألدبية واالجتماعية‪ ،‬وتوّج ذلك بكتابة مقالة‬ ‫أسبوعية يف جريدة اليوم أضحت مع الزمن مضمارًا ومنربًا‬

‫لصوته وأجراس حراكه الثقايف‪ ،‬وقدم خالل عقد السبعينيات‬ ‫عددًا من املحاضرات املهتمة بحقل األدب والفكر االجتماعي‪،‬‬

‫املتاح للتعبري الثقايف الح ّر يف صحافتنا‪ ،‬وإكراهاته املستبدة‪.‬‬

‫جمع قصائده ومقاالته يف كتاب‪ ،‬ألسباب كثرية‪ ،‬وقف عليها‬

‫الناقد أحمد بوقري حني قال‪« :‬أشار عيل الدميني يف كتابه‬

‫(أمام مرآة محمد العيل) إىل أسباب متفرقة أو مجتمعة‬

‫كالزهد يف األضواء‪ ،‬أو القناعة الناقصة ألهمية ما كتب‪،‬‬ ‫أو السأم الوجودي‪ ...‬أو لعطالة املناخ الثقايف القادر عىل‬

‫‪75‬‬


‫دراسات‬

‫االستقبال والحوار والتحريض‪ ،‬وقد أزيد عليه‬ ‫وأقول‪ :‬إنها ربما راجعة إىل الحس السقراطي‬ ‫الفلسفي‪ ،‬الذي انطوت عليه شخصية محمد‬

‫العيل‪ .‬فهذه الشخصية يف إهابها تهوى طرح‬ ‫األسئلة وال تبحث عن األجوبة اآلنية‪ ،‬بل‬

‫تحث اآلخرين عىل املشاركة الدؤوبة يف البحث‬

‫عن املعنى‪ ،‬وخلق الدالالت والتأويالت‪ .‬إنها‬ ‫الشخصية السقراطية التي ال تجد نفسها‬

‫بني دفتي كتاب‪ ،‬قدر ما تجدها يف حضورها‬ ‫ّ‬ ‫«املشاء» يف‬ ‫الفيزيقي والصويت والحريك‪ ،‬وكأنه‬

‫غياب فاعل‪ ،‬ال يتحقق حضوره إال يف األثر الذي يرتكه ويطبع‬ ‫بميسمه أفق التحول‪ ،‬وصريورة التجدّ د اإلبداعي»(‪.)2‬‬ ‫عتبات املشروع الثقايف‬

‫مهمومً ا بسؤال املعنى‪ ..‬معنى الوجود اإلنساين‪ ،‬وبدأب‬ ‫ً‬ ‫باحثا عن أفق الحياة التي تنعم‬ ‫متواصل‪ ،‬يميض العيل‬

‫بمثاالت العدالة والكرامة والحرية‪ ،‬خارج أثقال األساطري‬

‫‪76‬‬

‫والرتاكمات الثقافية وسلطاتها الكثرية‪ ،‬ليقود خطواته نحو‬ ‫وإبداعا‪ ،‬تساؤلاً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ونقضا‪،‬‬ ‫تشييد معمار مشروع ثقايف‪ ،‬فك ًرا‬ ‫هدمً ا وبناءً ‪.‬‬

‫وعىل رغم أنه لم يشر يف أي كتابة أو حوار إىل أنه صاحب‬

‫مشروع‪ ،‬وال سيما وهو لم يعمد إىل نشر نتاجاته يف كتب‪،‬‬

‫إال أننا وقد تجمعت بني أيدينا معظم كتاباته يف مجلدات‬

‫عديدة قام بها محبوه‪ ،‬لن نعدو طريق الصواب حني نقول‪:‬‬ ‫إننا أمام عتبات مشروع ثقايف الفت ينهض عىل املقومات‬

‫اآلتية‪ :‬عدة معرفية‪ ،‬وعني نقدية قارئة للرتاث العربي‬

‫والثقافة املعاصرة‪ ،‬ومنفتحة عىل الحداثة‪ .‬رؤية جدلية‬

‫لتحليل الواقع‪ ،‬ورؤيا متشوفة آلفاق املستقبل‪ .‬ملكة ثقافية‬

‫قدر كبري من فاعلية الشك املعريف‪ ،‬وعىل‬ ‫نقدية تنطوي عىل ٍ‬

‫الشجاعة الكافية للتعبري عنها‪ ،‬مثلما تستطيع موضعة ذاتها‬

‫بقدر من الحيادية «اإلبستمولوجية»‪ ،‬حيال اإلشكاليات التي‬ ‫تتناولها‪.‬‬

‫ويف عجالة يقتضيها مقام هذه املقالة‪ ،‬سأقف عىل بعض‬

‫تجليات مشروعه وفق املحاور اآلتية‪:‬‬ ‫أولاً ‪ :‬املنحى اإلبستمولوجي‬

‫وهو منحى نقدي يروم الوقوف عىل األسس املعرفية‬

‫املكرسة بفعل السلطات املختلفة عرب الزمن‪ ،‬والحوار مع‬ ‫مرتكزاتها‪ ،‬إما لتأكيد مصداقيتها‪ ،‬أو لطرح األسئلة حولها‬ ‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬

‫سعد الحميدين‬

‫غازي القصيبي‬

‫ونقضها‪ ،‬وهو ما يصب يف موضوعة «نسبية الحقيقة»‪ .‬ولذا‬ ‫نقف يف كتاباته عىل اهتمام عميق ومستمر بتحديد «املفاهيم»‬

‫وتطورها عرب الزمن‪ ،‬سواء يف مقاالته القصرية أو الطويلة أو‬

‫يف محاضراته‪ ،‬وقد خصص الشاعر أحمد العيل القائم عىل‬

‫نشر نتاجه كتابًا ضخمً ا بعنوان «نمو املفاهيم»‪ ،‬وقف فيه‬

‫عىل موضوعات ومفاهيم كثرية منها‪ :‬الشك واليقني‪ ،‬مفهوم‬ ‫الرتاث‪ ،‬نمو املفاهيم‪ ،‬ما هو التاريخ‪ ،‬الفرق بني الرؤية‬

‫واملوقف‪ ،‬عن الثقافة ومكوناتها‪ ،‬املثقف واأليديولوجيا‪،‬‬ ‫مفهوم الوطن»‪.‬‬

‫كما نقرأ يف كتابه اآلخر «درس البحر» مقاربات معرفية‬ ‫معمقة ً‬ ‫أيضا عن إشكاالت وظواهر ثقافية واجتماعية قارب‬ ‫فيها كثريًا من االهتمامات مثل‪« :‬ما هو املجتمع‪ ،‬ما هو‬

‫املفهوم‪ ،‬التفكري الحضاري‪ ،‬كيف نقرأ املايض‪ ،‬كيف نقرأ‬

‫الحاضر‪ ،‬التخلف‪ ،‬ثقوب الوعي‪ ،‬قتل العرب‪ ،‬العدالة‪،‬‬ ‫وسواها من عشرات العناوين املختلفة يف النقد والشعر‬ ‫والفكر واالجتماع»‪.‬‬

‫ولعل هذه الفقرة من كتابه «نمو املفاهيم» تأخذنا بكل‬

‫وضوح صوب الجوهر الثقايف املحرك لفاعلية مشاغل العيل‬ ‫وضمريه‪ ،‬املنبثة يف كل كتاباته وقصائده‪ ،‬حيث يقول‪« :‬إن‬

‫أول اشتياقات اإلنسان الروحية هو البحث عن املعنى‪ ...‬إن‬

‫الوصول إىل معنى الوجود اإلنساين وإىل معارفه وتصوراته‬ ‫وقيمه ومواقفه وحاجاته الروحية والبدنية‪ ،‬هو هدف‬ ‫اإلنسان األول‪ ..‬ألنه بهذا الوصول إىل بلورة معنى األشياء‬

‫يصل إىل االطمئنان الروحي‪ ،‬ويتخلص من كالم املجهول‬

‫والتخبط يف التفسري» ‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫ثانيًا‪ :‬منحى النقد الثقايف‬

‫تنحو قراءات العيل يف الحقل الثقايف الستخدام مكوناته‬

‫املعرفية املتصلة بحقول علوم االجتماع والفلسفة والتاريخ‬


‫محمد العلي‪ ،‬على طريق الحداثة وداخل خنادقها‬

‫واألدب‪ ،‬ملقاربة العديد من الظواهر وأنساقها املضمرة يف‬

‫يمشون حتى يف املدرجات كالطواويس»‪.‬‬

‫النقدية لألدب عىل التشكيل الجمايل للنص‪ ،‬وعىل دالالته‬ ‫كقيمة ومحرك اجتماعي‪ ،‬مثلما يشري ً‬ ‫أيضا إىل جماليات‬

‫إنها عارية تمامً ا من األقنعة والرموز وضباب املايض»‪.‬‬

‫مكونات الثقافة والواقع االجتماعي‪ ،‬كما يقف يف مقارباته‬

‫الثقافة الشفوية وتمثالتها يف الشعر واملثل والنكتة واللعب‬ ‫والضحك‪.‬‬

‫ «إنها لغة ال يمكنك فيها أن تكذب مثل لغة األفكار‪..‬‬‫‪« -‬إنك (وهذا هو الجوهر) تستطيع التعبري فيها عن‬

‫نفسك‪ ،‬أما لغة األفكار فهناك سيوف صقيلة تمنعك من‬ ‫هذا الحق البسيط يف التعبري عن النفس» ‪.‬‬ ‫(‪)5‬‬

‫ولذا نراه يشتغل عىل الثقافة لكونها «كل طريقة للحياة‬

‫ب‪ -‬وضمن هذا املحور‪ ،‬تحتفي إحدى سلسلة مقاالته‬

‫أن «الثقافة تعد مسرحً ا تشتبك فيه قضايا سياسية وعقائدية‬

‫كتعبري عفوي وكحاجة نفسية‪ ،‬وكحكاية دالة يف مدوناتها‪،‬‬

‫يعيشها الناس»‪ ،‬وبما قال عنها غراميش وإدوارد سعيد من‬ ‫مختلفة‪ ،‬وأن كل ثقافة تولد ثقافة مغايرة ومضادة»(‪.)4‬‬

‫بحالة «الضحك»‪ ،‬ذاهبًا يف البحث عن جذورها اإلنسانية‬ ‫من الجاحظ إىل هرني برجسون‪ ،‬ومن املايض إىل لحظة انتظار‬

‫وإذا كانت جهوده الكتابية يف محاضراته ومقاالته‬

‫شاعر لشاعرة يف مقهى لتقرأ عليه قصيدتها الجديدة‪ ،‬حيث‬ ‫ً‬ ‫صديقا آخر ثقيل الوزن‬ ‫خصص لها مقعدً ا بجواره‪ ،‬ولكن‬

‫مقاالته التي يمكن أن يغلب عليها طابع التفاعل اليومي مع‬

‫ويستمر يف التنقيب عن حاالت «الضحك» ودالالته‪،‬‬

‫املتسلسلة الطويلة‪ ،‬قد اعتنت بجوانب فكرية وفلسفية‬

‫وأدبية واجتماعية‪ ،‬فإننا سنكتفي هنا بأن نعرض لبعض‬ ‫األحداث أو اآلراء التي يناقشها كجزء من االنشغال بالنقد‬

‫الثقايف‪:‬‬

‫أ‪ -‬كتب عن لعبة «البلوت»‪ ،‬واألسهم‪ ،‬وذهنية التحريم‪،‬‬

‫وقارب لعبة كرة القدم يف مباريات كأس العالم يف عام ‪1996‬م‬

‫يف عدة مقاالت نختصر هنا بعض مرئياتها‪:‬‬

‫‪« -‬بعض األقدام تجاوزت صراع األفكار بني الروح‬

‫والجسد‪ ..‬ألنها متأكدة من أن الروح والجسد يشء واحد‪..‬‬

‫فالهدف ال يحرزه الجسد وحده وال الروح وحدها‪ ..‬يحرزه‬

‫اإلنسان بال أجزاء» (ولنلحظ التورية الكامنة يف كلمة الهدف)‪.‬‬ ‫«أحب كرة القدم؛ ألنها ال تحمل أحكامً ا مسبقة‪،‬‬ ‫‬‫ُّ‬

‫والدم يهبط عليه فجأة ويحتل ذلك الكريس!!‬

‫باإلشارة إىل ما أورده الفقيه ابن الجوزي يف كتابه أخبار‬ ‫الحمقى واملغفلني‪ ،‬من قيام معلم بإدخال سورة عىل سورة‪،‬‬ ‫وهو ّ‬ ‫ّ‬ ‫يفك‬ ‫يعلم أحد الصبيان الفقراء‪ ،‬ألن والد الصبي ال‬ ‫الحرف وال يملك مالاً لدفعه للمعلم‪ ،‬بقوله‪« :‬حني سكنت‬

‫عجب‬ ‫موجة الضحك يف داخيل بعد قراءة هذه النكتة‪ ،‬أخذين‬ ‫ٌ‬ ‫من نوع آخر‪ ،‬هو أن راويها رجل فقيه يوصف بأنه إمام‪ ،‬وكان‬

‫عجبي عن مدى التسامح الذي يملكه هذا الرجل» ‪.‬‬ ‫لاً‬ ‫ج‪ -‬يأخذ حديثه عن النظام العاملي الجديد شك من‬ ‫(‪)6‬‬

‫أشكال النقد الثقايف‪ ،‬حيث يحضر ذلك الشبح املرعب الذي‬ ‫ّ‬ ‫تشكل كأنساق ثقافية وسياسية وأخالقية مهيمنة منذ‬

‫فاألحكام املسبقة هي التي أعاقت وتعيق البشر‪ ،‬أو‬

‫تم تداوله يف مطلع التسعينيات من القرن املنصرم‪ ،‬وغدا‬

‫وموضوعية»‪.‬‬

‫الثقايف والتغري يف القيم‪ ،‬حيث يقول‪« :‬منذ زمن وأنا أكتب‬

‫معظمهم عن رؤية الواقع‪ ،‬وعن قراءة التاريخ قراءة ناقدة‬ ‫‪« -‬حكام املباريات يشغلون مهنة من أصعب املهن‬

‫وأعسرها‪ ..‬يركضون ويتابعون ويحكمون بالقانون‪ ،‬ومع هذا‬ ‫ّ‬ ‫(حكام الدول)‪ ..‬فإنهم‬ ‫تالحقهم لعنات النقاد والجماهري! أما‬

‫مهموما بسؤال المعنى‪ ..‬معنى‬ ‫ً‬ ‫الوجود اإلنساني‪ ،‬وبدأب متواصل‪،‬‬ ‫يمضي العلي باح ًثا عن أفق الحياة‬ ‫التي تنعم بمثاالت العدالة والكرامة‬ ‫والحرية‪ ،‬خارج أثقال األساطير‬ ‫والتراكمات الثقافية وسلطاتها الكثيرة‬

‫كأطياف ال تفارق مقاربات العيل‪ ،‬للمثقف ودوره‪ ،‬وللتكوين‬

‫‪77‬‬


‫دراسات‬

‫عن املثقف‪ ،‬ما هو تعريفه؟‪ ....‬املوضوع يؤرقني فعلاً ‪ ....‬ملاذا؟‬ ‫ألن املثقف مثل أي يشء يف ظل النظام العاملي الجديد‪ ،‬دخل‬

‫يف متاهة الالتحديد‪ ،‬وتخىل عن أن يكون ضمريًا»(‪.)7‬‬ ‫ً‬ ‫ثالثا‪ :‬منحى القراءة الحوارية‬

‫«هذه الرؤية املشرقة لحازم القرطاجني‪ ،‬الذي تفصلنا عنه عدة‬ ‫ً‬ ‫حداثة من رؤوس لفيف يرتبّع عىل كرايس‬ ‫قرون‪ ،‬أليست أكرث‬ ‫الجامعات عندنا اآلن؟»‪ .‬وهنا‪ ،‬وبعد تلك الرحلة الحوارية‬

‫الطويلة بني العديد من اآلراء والرؤى يقول‪ :‬نعم إنها لكذلك‪،‬‬

‫ينتظم البعد الحواري جل نتاجات العيل‪ ،‬حيث تأخذ‬

‫يقصد رؤية حازم‪ ،‬ومن ثم يقوم بمحاورة زيك نجيب محمود‬ ‫وأدونيس حول مفهوم الرتاث(‪ .)8‬ويمكن لنا ً‬ ‫أيضا أن نتأمل‬

‫عناصر املقابلة واملقارنة والتضاد واملفارقة شديدة الحضور‪،‬‬

‫لقراءة عدد كبري من الكتب التي عنيت بتطور الفلسفة أو‬

‫أقوال أو آراء أو تصريحات أطراف متعددة ومتناقضة حول‬

‫املوضوع نفسه موقعها يف القراءة أو البحث‪ .‬وبذلك تصبح‬ ‫فتفتح أبواب الشك والتساؤل مساراتها من أجل تعميق‬

‫مضمار األسئلة املستفزة واملحفزة عىل التأمل والتفكري‪ ،‬قبل‬

‫أن يضع رأيه أو يلمّ ح إليه‪،‬كأحد اآلراء املمكنة‪ ،‬ضمن هذا‬ ‫األفق الحواري الخصب‪.‬‬

‫البعد الحواري يف متون مقاالته املتسلسلة والتي خصصها‬ ‫الحضارة عند ديوارنت‪ ،‬وتلك التي اهتمت بقراءة ثقافة املايض‪،‬‬ ‫أو غريها من الكتب التي بحثت يف نقد ثقافة الحاضر والرنو‬

‫صوب مالمح املستقبل‪ ،‬حيث يعرض لألفكار واآلراء ويعارضها‬ ‫أو ينقضها أو يوسع من مدى رؤيتها‪ ،‬من خالل ما كتبه آخرون‬

‫وتنبني معظم محاضراته ومقاالته الطويلة عىل هذا‬

‫عن اإلشكالية أو الفكرة نفسها‪ ،‬ثم يطرح بعد ذلك آراءه‬

‫الضوء‪ ،‬البرئ املستحيلة‪ .‬ويمكننا يف هذا املجال أن نشري إىل‬

‫أما مقاالته القصرية‪ ،‬فإنها تتشكل عىل هيئة كبسوالت‬ ‫ً‬ ‫لغة وداللة‪ ،‬اعتصر فيها جوهر الفكرة‬ ‫صغرية‪ ،‬مكثفة‬

‫النسق‪ .‬انظر كتبه‪ :‬نمو املفاهيم‪ ،‬درس البحر‪ ،‬هموم‬ ‫محاضرته املوسومة بـ «مفهوم الرتاث» لرنى تبديات تلك‬

‫الحوارية املتعددة األصوات‪ ،‬سواء يف تعدد محاورها أو تعدد‬

‫‪78‬‬

‫عن الشعر والشعرية‪ ،‬حتى يطرح التساؤل العريض اآليت‪:‬‬

‫آراء الكتاب الذين استشهدت بهم‪ ،‬مثلما نجده يف ابتعاد‬ ‫الكاتب عن اليقينية أو اإلطالقية أو الوعظية الدوغمائية‪.‬‬

‫ولنقف معه عىل املحور الذي تحدث فيه عن النقد األدبي‬

‫لكونه أحد مكونات الرتاث األدبي العربي‪ ،‬فرناه يورد تعريف‬ ‫محمد مندور للنقد األدبي يف كتابه النقد املنهجي عند العرب‪،‬‬

‫وما تبعه ‪ -‬كما قال ‪ -‬من تعاريف ال حصر لها‪ ،‬حتى يأيت إىل‬

‫ضرورة نقد تلك التعريفات‪ ،‬متك ًئا عىل محاضرة املسدي يف‬ ‫هذا الصدد‪ ،‬والتي ر ّكزت عىل أهمية نقد النقد‪ .‬وبعد تفتيق‬ ‫األسئلة حول «كيف يولد النص؟ وما هي قسماته؟ هل هي‬

‫فردية أم اجتماعية؟ ما هي‬ ‫عالقته‬

‫بسياقه؟‬

‫ما‬

‫هي‬

‫إضافته؟ عىل أي منهج يمكن‬

‫قراءته؟» يذهب إىل اإلشكاليات‬

‫التي تطرحها هذه األسئلة يف‬

‫ضوء استحضار كالم الجابري‬

‫عن تداخل األزمنة الثقافية يف‬

‫تراثنا العربي وحاضرنا اليوم‪،‬‬

‫ويأيت بما يعضدها عند إحسان‬

‫عباس يف كتابه تاريخ النقد األدبي‬

‫عند العرب‪ ،‬ليستحضر بعد ذلك‬

‫الناقد حازم القرطاجني مثب ًتا ما قاله‬ ‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬

‫وملحوظاته حولها‪ .‬انظر كتابه‪ :‬هموم الضوء‪.‬‬

‫ّ‬ ‫وشكلها بطريقة تنبني عىل املفارقة الكامنة يف اختالف رؤيتني‬

‫أو هدفني‪ ،‬ويعمقها‪ ،‬للتلميح إىل رؤيته‪ ،‬بفاعلية السخرية‬ ‫الضمنية وحرقة األسئلة‪ ،‬حيث إنه غالبًا ما يطرح عىل قارئه‬ ‫ً‬ ‫ومنطلقا‬ ‫تساؤلاً يف آخر املقالة‪ ،‬ليبقي أفق الحوارية مفتوحً ا‬

‫من القارئ نفسه إىل ذاته وإىل واقعه وفكره ومواقفه هو!!‬ ‫ً‬ ‫رابعا‪ :‬مفهوم الحداثة عند محمد العيل‬

‫العقل الدينامييك والعقالنية النقدية يشكالن رافعة‬

‫فاعلية اإلنسان يف واقعه‪ ،‬من أجل تجاوز حموالت االستبداد‬ ‫الثقافية والسياسية املتعاضدة عرب األزمنة؛ ليك يبلغ زمن‬


‫محمد العلي‪ ،‬على طريق الحداثة وداخل خنادقها‬

‫الحرية وإعالء قيمة اإلنسان وذاته‪ ،‬وهي الرافعة الرئيسة‬ ‫لثقافة عصور النهضة والتنوير التي ّ‬ ‫دشنت يف الغرب زمن‬ ‫الحداثة والحرية والديمقراطية وحقوق اإلنسان‪ ،‬والتي تمثل‬

‫يف نسبيتها– أفضل تجليات تحقق النزوع التاريخي للبشرية‬‫صوب حياة جديدة ومختلفة‪.‬‬

‫بيد أن هذه الديناميكية العقالنية والنقدية مشروطة‬

‫بظروفها الزمانية واملكانية‪ ،‬التي تجعل من مفهوم الحداثة‬ ‫ّ‬ ‫تشكل مقدماته وأولوياته‪ ،‬ويف تحقيق‬ ‫مفهومً ا نسبيًّا‪ ،‬يف‬ ‫مستوياته املختلفة يف الواقع‪ .‬ولذلك فإن العيل يأخذ كغريه‬

‫من املفكرين العرب بمفهوم الحداثة التاريخانية‪ ،‬حيث‬ ‫يرى محمد عابد الجابري بأن الحداثة «ظاهرة تاريخية‪،‬‬ ‫وهي ككل الظواهر التاريخية مشروطة بظروفها‪ ،‬محدودة‬

‫بحدود زمنية ترسمها الصريورة عىل خط التطور»(‪ .)9‬أو كما‬ ‫يرى الباحث التونيس الدكتور حمادي بن جاء بالله «بأن‬

‫حداثة عصرنا نتاج مطاف تاريخي فكري حلمت به اإلنسانية‬ ‫منذ أقدم العهود‪ ،‬وعبرّ ت عنه األساطري واألديان والفنون؛‬ ‫إذ ليس من ثقافة إنسانية مهما كانت درجة وعيها بذاتها‬

‫ثاو يف أعماقها‪ .‬وما أنجزه العصر الحديث‬ ‫إال وحلم الحرية ٍ‬

‫حقق جوانب من ذلك الحلم ال يستهان بها بعد أن تهيأ‪،‬‬ ‫بتوسط العقالنية اليونانية – العربية ‪ -‬األوربية ‪-‬الالتينية‪،‬‬

‫وبفضلها»(‪)10‬؛ فالحداثة عند محمد العيل تنبثق من تلك‬

‫االنفكاك من القيود التي تكبّل وصول اإلنسان إىل السعادة‪،‬‬

‫تسمى‪ :‬حرية»(‪ .)12‬ويف حوار ثقايف مع العيل يف النادي األدبي‬ ‫بجدة يقول ً‬ ‫أيضا‪ :‬إن «الحداثة مفهوم يتغري‪ ،‬بمعنى أنها‬

‫صريورة تتطور‪ ،‬واملعنى اآلخر للحداثة هو تجدّ د املعنى‪،‬‬ ‫فحينما يتجدد املعنى ألي يشء‪ ...‬يتجدّ د املفهوم‪ ...‬وهذا‬ ‫ّ‬ ‫ليحل غريه‬ ‫يعني أن يكون ما يف أذهاننا مستعدًّ ا ألن يهبط‬ ‫محله‪ ،‬و تلك هي الحداثة» ‪.‬‬ ‫(‪)13‬‬

‫ويوضح ذلك يف كتابه «هموم الضوء» حني يقول‪:‬‬

‫«والخروج من نظام تفكرينا الراهن ‪ -‬ليصبح تفكريًا يف‬

‫العقل وليس بالعقل وحسب – إىل نظام آخر يستوعب ثمار‬ ‫العصر ومنعطفاته‪ ...‬ليس سهلاً ‪ ،‬فهو يستلزم شي ًئا يسمونه‬ ‫ً‬ ‫(الحداثة) التي هي ليست شكلاً بل‬ ‫مضمونا» ‪ .‬ويؤكد يف‬ ‫(‪)14‬‬

‫كتاب جديد يصدر قريبًا عن دار الساقي‪ ،‬عىل هذا املعنى‬

‫للحداثة بقوله‪« :‬الحداثة قفزة يف القيم واملفاهيم‪ .‬قفزة يف‬

‫تبلور الذهنيات وكل ما يتميز به الحاضر عن املايض‪ .‬الحداثة‬ ‫هي انتقال املجتمع‪ ،‬ال األفراد من مستوى ذهني إىل مستوى‬ ‫أرفع منه»‪.‬‬

‫ً‬ ‫خامسا‪ :‬املوقف من الرتاث والحداثة‬

‫ال يتفق العيل – ضمن رؤيته التاريخانية للحداثة – مع‬

‫من يرى يف الحداثة قطيعة كلية مع الرتاث‪ ،‬حيث يرى يف‬

‫الرؤية التاريخانية التي ترى أنها رؤية للكون والحياة‬

‫الرتاث ما يبقى وما ال بد أن يموت‪ ،‬فيقول يف هذا السياق‪:‬‬

‫وأن عمادها العقالنية والحرية‪ ،‬حيث يقول عن األوىل‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫التحضر عىل دعائم كثرية من أهمها العقالنية‪...‬‬ ‫«يقوم‬

‫إىل أين نتجه» ‪ .‬أما يف تعقيبه عىل ما قاله الدكتور برهان‬

‫املادية واالجتماعية والنفسية واألدبية والفنية جميعً ا‪.)11(»...‬‬

‫التخيل عن هذه الثقافة لغريها»‪ ،‬فإنه يؤيد الرؤية‪ ،‬ويعدد‬

‫ولإلنسان وللمستقبل؛ وأنها تعني «أال يسبقك الزمن»‪،‬‬

‫والعقالنية هي االستناد إىل الرتابط السببي يف تفسري الظواهر‬ ‫كما يقول عن الحرية‪« :‬هناك أحالم تشرتك فيها اإلنسانية‬

‫جمعاء‪ ...‬حددتها الفلسفة القديمة بثالث قيم هي‪ :‬الحق‬ ‫والخري والجمال‪ .‬أما الفكر الحديث فيحددها يف ثالث قيم‬

‫هي‪ :‬الحرية والعدل والسالم‪ .‬ونقصد بالحرية هنا معناها‬

‫الفلسفي ال السيايس؛ فالتخلص من الفقر حرية‪ ،‬والخروج‬ ‫من الجهل حرية‪ ،‬والشفاء من األمراض حرية‪ ،‬وكل أنواع‬

‫تجربة العلي‪ ،‬تعد إحدى التجارب‬ ‫المؤسسة للحداثة الشعرية في‬ ‫المملكة‪ ،‬بما توافرت عليه من رؤية‬ ‫تنويرية وموقف تقدمي‬

‫«يحتاج املايض إىل قراءة‪ ،‬لنعرف ما غرسه فينا من أشجار‬ ‫مثمرة‪ ،‬ومن أشواك ً‬ ‫أيضا‪ ،‬ويحتاج الحاضر إىل قراءة لنعرف‬ ‫(‪)15‬‬

‫غليون حول الرتاث والحداثة‪ ،‬من أنه «ليس من املمكن‬

‫أسباب قناعته بها‪ ،‬بقوله‪« :‬ألن طرق السلوك والتفكري‬

‫وتحرك الوجدان مصاغة حسب هذه الثقافة‪ ،‬فهي البنيان‬ ‫الداخيل بكامله‪ ،‬وحني نلغيها نكون قد ألغينا يف الوقت‬

‫نفسه الذاكرة والوجدان» ‪ .‬ويف حوار مجلة النص الجديد‬ ‫(‪)16‬‬

‫معه قال‪« :‬الحداثة‪ ،‬كما أفهمها‪ ،‬مصطلح عربي تليد قبل‬ ‫أن يكون غربيًّا‪ .‬الغرب ابتكر أسلوب حداثته وفق مقاييسه‬

‫ومسار تطوره وحدودها‪ .‬ولكننا نحن ورثنا مقاييسها‪،‬‬ ‫وأدخلنا عليها مفهومً ا غريبًا أحالها إىل شبح مخيف بالنسبة‬

‫للغالبية من مثقفينا وقرائنا‪ .‬هذا املفهوم هو أن كل حداثة‬ ‫ّ‬ ‫ومضلل‪.‬‬ ‫تبدأ من القطيعة مع الرتاث! هذا املفهوم خاطئ‬ ‫إن الحداثة ليست شي ًئا سوى (التطور واالرتقاء عىل الذات‪،‬‬

‫وانتقاء اإليجابيات يف الرتاث وتعميقها إلغناء الحاضر»(‪.)17‬‬

‫‪79‬‬


‫دراسات‬

‫ً‬ ‫سادسا‪ :‬حداثة القصيدة عند العيل‬

‫(‪)18‬‬

‫تجربة العيل تعد إحدى التجارب املؤسسة للحداثة‬

‫الصورة الشعرية (يف صياغة الجملة‪ ،‬ويف تشكيل البنية‬

‫وموقف تقدمي‪ ،‬وبما نهضت عليه من عدة إبداعية تميزت‪:‬‬

‫‪ -‬املفارقة الحاملة ألبعاد تراجيدية السخرية‪( ،‬عرب‬

‫الشعرية يف اململكة‪ ،‬بما توافرت عليه من رؤية تنويرية‬ ‫بالعذوبة اللغوية‪ ،‬وأناقة بناء الصورة وتفردها‪ ،‬وكثافة‬ ‫التعبري يف بناء الجملة الشعرية‪ ،‬والنص الذي يجمع بني‬

‫البساطة والعمق‪ ،‬والوضوح والغموض الشفاف‪ ،‬وكذلك‬ ‫باإلفادة من معرفته املوسوعية بالرتاث الشعري واإلبداع‬

‫املعاصر‪ ،‬إلنتاج نص خاص ومتفرد يف رؤيته وتعبريه‪ ،‬بكل‬ ‫املقاييس النقدية وبكل ممكنات االستقبال الجمايل‪.‬‬ ‫كسر الغنائية يف نصه الشعري‬

‫الكلية للنص)‪.‬‬

‫توظيف الدوال املتباعدة إلنتاج دال آخر)‪ ،‬بحسب الدكتور‬ ‫محمد الشنطي‪.‬‬

‫ تعد قصائده من النماذج البارزة عىل مفهوم االنزياح‬‫التي نظر لها نقاد الحداثة (جان كوهني مثلاً )‪ ،‬والتي تقوم‬ ‫عىل فاعلية االنتقال من مجاز املفردة إىل مجاز القصيدة‪،‬‬

‫وتحويل كنائية الكلمات والجمل إىل فضاء استعاري كيل‬

‫للنص‪ ،‬ينهض بمهمة التعبري املنتج لدواله الجديدة خارج‬ ‫الحموالت الجاهزة أو املرجعيات التقريرية املباشرة‪.‬‬

‫قد يذهب النقد الحدايث إىل توصيف العيل بالشاعر‬

‫‪ -‬استثمار فاعلية التناص مع الرتاث‪ ،‬وتوظيفه بشكل‬

‫كذات‬ ‫بؤرة انعكاس التجربة ومنبعها يف نصه اإلبداعي‪،‬‬ ‫ٍ‬

‫ العيل شاعر تجربة غنية بمذخورها املعريف والفني‬‫ً‬ ‫وموقفا‪ ،‬ويتبدى فيها صراعه الحضاري من‬ ‫والحيايت‪ ،‬فك ًرا‬

‫الغنايئ‪ ،‬نظ ًرا لحضور ذات الشاعر يف كليّة النص‪ ،‬لكونها‬

‫خالق يف إثراء جماليات النص وبؤره الداللية‪.‬‬

‫رومانسية تنشد الحرية الفردية‪ ،‬وتتمرد عىل جميع األنظمة‬ ‫ّ‬ ‫وتتولع بالتغ ّرب والتغريب‪ ،‬والفرار‬ ‫والقوانني االجتماعية‪،‬‬

‫أجل استيالد الجديد‪ ،‬لذلك تغدو تجربته الشعرية أنموذجً ا‬

‫قصائد العيل سيقف حتمً ا أمام روحه املتشبثة بالحرية‪،‬‬

‫حدايث متجاوز‪ ،‬يقوم عىل فاعلية ما أسماه الدكتور كمال أبو‬

‫إىل عوالم جديدة متخيلة‪ ،‬متدثرة بالكآبة والحزن‪ .‬لكن قارئ‬

‫‪80‬‬

‫‪ -‬الحساسية اللغوية العالية وتجليها يف رهافة وأناقة‬

‫وإعالء قيمة الفرد‪ ،‬مثلما سريى غابة من الحزن الشفيف‬ ‫تطبع كثريًا من نتاجه الشعري‪ ،‬البتعاد األحالم عن التحقق‪،‬‬

‫ولكن جدل هذين املكونني سيتضافران يف تشكيل جمالية‬ ‫بنية نصيّة‪ ،‬تخرج القصيدة من غنائيتها التقليدية أو نزوعها‬

‫لتجادل املعريف والجمايل مع الواقع‪ ،‬من أجل إنتاج بنية نص‬ ‫ديب «الفجوة مسافة التوتر» يف جل قصائده‪.‬‬

‫‪ -‬يعمل عىل إخراج نصه من السمة الغنائية إىل التأملية‬

‫الدرامية‪ ،‬عرب تشكيل حالة النموذج الفني التي ال يستخدم‬ ‫فيها تقنية القناع أو التوظيف الرمزي األسطوري أو التاريخي‪،‬‬

‫الرومانيس‪ ،‬إىل أفق مغاير ينبني عىل امتزاج الخاص بالعام‪،‬‬

‫إنما يقوم بإنتاج رموزه الخاصة وأساطريه الصغرية املختلفة‪،‬‬

‫ويمكن أن نلخص أبرز خصائص شعرية العيل يف النقاط‬

‫ولعل أجمل ما قيل عن مالمح النموذج الفني‪ ،‬وتشكيل‬

‫والذايت باملوضوعي‪ ،‬والفردي باالجتماعي‪ ،‬والداخل بالخارج‪.‬‬

‫اآلتية‪:‬‬

‫وتفتيق ثنايا النص باألسئلة والحوار‪.‬‬

‫الصورة الشعرية يف تجربة العيل ما كتبه الدكتور محمد‬ ‫الشنطي ‪ ،‬إذ يرى أن بنية النص الشعري عند‬ ‫(‪)19‬‬

‫شاعرنا‪ ،‬تنهض غالبًا عىل املزاوجة بني خصوصية‬ ‫الداللة‬

‫وعمومية‬

‫التجربة‪،‬‬

‫واستخدام‬

‫الثنائيات لتفجري املفارقة‪ ،‬ويف تجاوز املستوى‬ ‫الغنايئ والتقرير الحيس‪ ،‬إىل توظيف‬ ‫فاعلية التداخل النصويص‪ ،‬أو التضمني‬ ‫باالستعارة‪ ،‬واستدعاء النماذج الرتاثية‪،‬‬ ‫واإلفادة من آليات السرد والتحول‪،‬‬ ‫وبناء درامية النص حول الجدل‬ ‫والحوار‬

‫واالستهالل‬

‫بالسؤال‬

‫واالفرتاض‪ ،‬ليبتعد النص عن‬

‫املوقف الرومانيس والنربة الغنائية‪.‬‬ ‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬


‫محمد العلي‪ ،‬على طريق الحداثة وداخل خنادقها‬

‫‪ -‬يتميز بالقدرة عىل اإليجاز واالختزال‪ ،‬والعمل عىل‬

‫بمقدرتها عىل التجادل مع الجملة األوىل يف النص والتي‬

‫هو أبعد من اللغة‪ ،‬بحسب تعبري صبحي حديدي عن أحد‬

‫‪ -‬يتئك عىل ذاته يف ابتكار أساطريه ورموزه الخاصة‪ ،‬حيث‬

‫إبراء الشعر من اللغو‪ ،‬حيث يبدو كمن يجر اللغة إىل ما‬ ‫الشعراء‪ .‬لذلك نلحظ قصر نصه الشعري وكثافته‪ ،‬حتى وإن‬ ‫تعددت مقاطعه وبؤره الداللية‪ ،‬وغالبًا ما يتكون العنوان من‬

‫كلمة واحدة تحمل أبعادها اإليحائية الشاسعة‪ ،‬مشحونة‬

‫تحمل بؤرة النص وإمكانيات تنميته‪.‬‬

‫ال يعتمد يف شعره عىل توظيف أي معطى جاهز يتمثل يف‬ ‫األساطري املعروفة‪ ،‬أو الرموز األسطورية أو التاريخية‪ ،‬أو تلك‬

‫التي ترمّ زها الحياة‪.‬‬

‫الصوت‪ ...‬واألجراس‬ ‫يف الختام‪ ،‬هدفت هذه القراءات «الصوت ‪ ...‬واألجراس» إىل القول بأن النزوع إىل الحداثة ظاهرة تاريخية تعمقت‬

‫عرب مراحل النهضة والتنوير يف أوربا التي وضعت العالم عىل بوابة الواقع املنبني عىل العقالنية والتجريب العلمي‬ ‫والحرية وحقوق اإلنسان‪ ،‬واملتحققة يف نسبيتها يف الحداثة كمفهوم متعدد األبعاد يف مختلف الحقول االجتماعية‬ ‫ُ‬ ‫حاولت إلقاء الضوء عىل مقومات وفواعل ذلك النزوع والتشوف‬ ‫والثقافية والسياسية‪ ،‬وليس يف اإلبداع وحده‪ .‬وقد‬

‫الحارق للحداثة لدى بعض آبائنا من األدباء يف اململكة‪ ،‬عرب ما أنتجوه‪ ،‬من محمد حسن عواد إىل محمد العيل‪.‬‬

‫وإذا كانت األجراس التي دقوا نواقيسها‪ ،‬وأحدثوا أصواتها يف فضائنا االجتماعي والثقايف‪ ،‬لم تكن مؤثرة بالشكل‬

‫الذي حلموا به‪ ،‬أو لم تعمل كما ينبغي عىل ترابط األجيال‪ ،‬وتكامل الفعل الثقايف املؤثر يف الطريق إىل الحداثة‪ ،‬التي‬ ‫نشهد اليوم خصوبة عطائها وبخاصة يف الحقل األدبي يف اململكة‪ ،‬إال أن تلك األصوات قد أسهمت يف تعميق الجرأة لدى‬

‫الكتاب واملبدعني عىل اجرتاح التعبري عن تطلعاتهم نحو التقدم والحداثة‪ .‬كما أنها قد هيأت املناخ ‪ -‬وإن بشكل جنيني‪-‬‬ ‫لخوض املغامرة الفردية مثلما فعل هؤالء اآلباء‪ ،‬عىل رغم إكراهات األنساق الثقافية واالجتماعية واملؤسسية املحافظة‪.‬‬

‫ولعلنا لن نجاوز الحق والحقيقة إن ذهبنا إىل أن محمد العيل ‪ -‬بحكم الزمن واملتغريات – يعد اليوم أكرثهم فاعلية‬ ‫وحضورًا وتأثريًا يف حياتنا الثقافية‪ ،‬عرب كتاباته املستمرة‪ ،‬وإبداعه ومواقفه الثقافية والنضالية خالل ما يقارب الخمسني‬

‫عامً ا‪ ،‬وأنه هو األكرث قربًا إىل الفاعلية األعمق ملفهوم الحداثة من كل رصفائه الشيوخ‪ ،‬ومن أدبائنا الشباب يف اململكة‪.‬‬ ‫المراجع‪:‬‬

‫(‪ )1‬حوار على محطة ‪ LBC‬أجراه معه أحمد عدنان ‪www.youtube.com‬‬

‫(‪ )2‬الطريق إلى أبواب القصيدة – كتاب عن تجربة علي الدميني الثقافية واإلبداعية – النادي األدبي بالمنطقة الشرقية – ‪2014‬م – ص ‪.166 ،165‬‬ ‫(‪ )3‬نمو المفاهيم – دار االنتشار العربي والنادي األدبي بالرياض – ‪2012‬م – ص ‪.10‬‬

‫(‪ )4‬سحر كاظم حمزة الشحيري – مجلة جامعة بابل – مجلد ‪ – 122‬العدد ‪2014 – 1‬م‪.‬‬ ‫(‪ )5‬كلمات مائية – دار االنتشار العربي – ‪2009‬م ‪ -‬ص ‪.171-163‬‬ ‫(‪ )6‬درس البحر – دار الجمل ودار طوى – ‪ -2012‬ص ‪.346‬‬

‫(‪ )7‬حلقات أولمبية – دار مدارك ونادي تبوك األدبي ‪2013‬م ‪ -‬ص‪.58‬‬

‫(‪ )8‬انظر محاضرة «مفهوم التراث» ‪ -‬ص ‪ 73‬و ما بعدها‪ ،‬في كتاب «نمو المفاهيم» ‪-‬مصدر سابق‬ ‫(‪ )9‬نحن والتراث‪ -‬المركز الثقافي العربي‪1991-‬م‪ -‬ص ‪.17‬‬

‫(‪ )10‬الحداثة – جدل الكونية والخصوصية – المركز الثقافي العربي – بيروت ‪2014‬م – حوار مع د‪.‬حمادي جاء بالله‪.‬‬ ‫(‪ )11‬درس البحر – مصدر سابق ‪ -‬ص ‪.203‬‬

‫(‪ )12‬درس البحر – مصدر سابق – ص ‪.168‬‬

‫ً‬ ‫ملخصا للحوار أعده صالح الخزمري – العدد ‪2008\11\21 – 13203‬م)‪.‬‬ ‫(‪ )13‬نشرت جريدة الجزيرة‬ ‫(‪ )14‬هموم الضوء – دار الجمل ودار طوى – ‪2013‬م ‪ -‬ص‪.340‬‬

‫( ‪ )15‬درس البحر – ‪ – 234‬مصدر سابق‪.‬‬

‫(‪ )16‬هموم الضوء – ص ‪ – 338‬مصدر سابق‪.‬‬

‫(‪ 17‬مجلة النص الجديد – العدد األول – ‪1993‬م ص‪.45-44‬‬

‫(‪( )18‬اتكأت في هذه الفقرة على كتابي « أمام مرآة محمد العلي» دار االنتشار العربي‪2012 -‬م‪ -‬ص ‪ 132‬وما بعدها)‪.‬‬ ‫(‪ )19‬من كتاب عزيزة فتح الله ‪ -‬محمد العلي ‪ /‬دراسات وشهادات – دار المريخ ‪ 2005‬م‪ -‬ص ‪.140‬‬

‫‪81‬‬


‫دراسات‬

‫«موقف الرمال ‪ -‬موقف الجناس»‬

‫محمد الثبيتي‬ ‫إحياء ما قبل النفطي‬ ‫من أجل ابتكار ما بعد النفطي‬

‫‪82‬‬

‫حاتم الزهراني‬

‫شاعر وناقد سعودي ـ واشنطن‬

‫يمكن مقاربة المشروع الجمالي للشاعر السعودي‬ ‫محمد الثبيتي (‪2011—1952‬م) بتحليل نصوص‬ ‫«الذروة الشعرية» في ديوانه‪ ،‬وهي‬ ‫النصوص التي أحدثت اختراقات فنية‬

‫ألهمت‬

‫تجربة‬

‫الطليعة‬

‫الشعرية‪،‬‬

‫وشغلت اهتمام الخطاب النقدي‪ ،‬وجمهور‬

‫الشعر على حد سواء‪ ،‬إلى أن أصبحت عالمة‬

‫على التجربة الثبيتية‪ ،‬وشعر الحداثة في الجزيرة العربية‪،‬‬

‫ومن المعالم الرئيسة للحركة الشعرية الحداثية في العالم‬ ‫ٌ‬ ‫تاريخ منزوع العقد واألساطير‪،‬‬ ‫العربي‪ ،‬حين ُيكتب لهذه الحركة‬

‫يقيها من تجمدها في لحظات تف ِّو ٍق فوق تاريخية‪ ،‬من شأنها أن تعزز‬

‫َ‬ ‫مركزيات موهومً ا‪ .‬تجادل هذه المقالة بأن إيجاد موقع مستحق‬ ‫خطاب‬ ‫ٍ‬

‫للذات في سردية قاهرة تعميمية وتنميطية هو بالضبط «الحدث الشعري»‪،‬‬

‫بتعبير جوديث بالسو‪ ،‬الذي يؤسسه مشروع الثبيتي والذي تم تكثيفه في آخر الثبيتيات‬ ‫الكبرى‪( :‬موقف الرمال ـ موقف الجناس)‪.‬‬

‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬


‫شكل ثنايئ هوية ممتدة‬

‫رئيسني يرمز لهما‬ ‫تتكون القصيدة من قسمني‬ ‫َ‬

‫الديوان املطبوع برقمي (‪ )1‬و (‪ ،)2‬ما يشري إىل‬

‫تمايز ما يف الرؤية بينهما‪.‬‬ ‫وعي الشاعر بوجود‬ ‫ٍ‬ ‫من هنا يمكن اعتبا ُر دالل ِة هذا التقسيم جزءً ا‬

‫ال يتجزأ من الداللة الكلية للنص‪ .‬ويعضد هذا‬ ‫إيقاعي؛ فالقسم األول يحتوي‬ ‫التماي َز البصريَّ تماي ٌز‬ ‫ٌّ‬

‫عىل نقالت إيقاعية متعددة‪ ،‬حتى داخل البيت الواحد‪،‬‬

‫ويكتفي القسم الثاين بتفعيلة (متفاعلن) وحدها‪ ،‬وبحرف روي‬

‫واحد هو امليم‪ .‬إن هذا يعزز فكرة النظر إىل القصيدة بوصفها‬ ‫ً‬ ‫«حدثا شعريًا» يتمرحل يف لحظتني اثنتني‪ ،‬تتوزعان عىل قسمي‬

‫ا لد جى » ‪.‬‬

‫جوانب الحدث الكلية‪.‬‬

‫تتقاطع‪،‬‬

‫القصيدة اللذين يتنوعان بصورة سيكون لها دور كبري يف تشكيل‬ ‫وإضافة إىل ذلك‪ ،‬يركز القسم األول (‪ )20—11‬عىل عالقة‬

‫الشاعر بالنخلة‪ ،‬بوصفهما ماهيتني متمايزتني‪ ،‬ويعقد سلسلة‬ ‫طويلة من املقارنات بينهما مصدرها «مقوالت» من صوت‬

‫يخاطب الشاعر‪ ،‬يف حني يفرد القسم الثاين (‪)30—21‬‬ ‫خارجي‬ ‫ُ‬ ‫فضاءه الصويت كاملاً لصوت الشاعر‪ ،‬ويجسد حالة التماهي‬

‫ولكن الطرقات‬

‫ويستمر‬

‫السفر ألنه ليس هنالك‬

‫يمٌّ يلمُّ شتات أشرعة الشاعر‪،‬‬

‫وألن نجم سهيل الذي كان العرب يستبشرون به‪ ،‬ترك املكان‬ ‫َّ‬ ‫فحل ظل الشاعر أمامه كناية عن ال نهائية السفر‪.‬‬ ‫ووىل‪،‬‬

‫بينه وبني النخلة‪ .‬عشر صفحات لكل قسم تمنح املساحة‬

‫للحظتي‬ ‫إذن‪ :‬أذهب إىل القول بأن هذا التقسيم الثنايئ‬ ‫ْ‬ ‫ً‬ ‫داللة رمزية تسهم يف إرساء الهوية يف‬ ‫«موقف الرمال» يأخذ‬

‫ولحظة الذات‪.‬‬ ‫يمكن ً‬ ‫أيضا لدارس الشعر القديم أن يقرأ التقسيم الثنايئ‬

‫يعزز من حالة النوستالجيا التي يثريها املعجم ما قبل النفطي‬ ‫للقصيدة‪ .‬هذه امليتاشعرية اإلحالية إىل الرتاث الشعري‪ ،‬متمثلاً‬

‫الطباعية الظاهرة عىل الورقة داللة املوازنة بني لحظة اآلخر‬

‫لـ(موقف الرمال) يف ضوء البناء الثنايئ للقصيدة الكالسيكية‪،‬‬

‫كما يتجسد يف بعض القصائد الجاهلية‪ ،‬أو يف مرحلة القصيدة‬ ‫العباسية كما درسها شتيفان شبريل يف مقالته الرائدة حول‬

‫امللكية اإلسالمية وشعر املديح يف بدايات القرن التاسع امليالدي‪.‬‬ ‫وعند شاعر منغمس يف الرتاث الشعري كالثبيتي‪ ،‬تسعنا‬

‫املقارنة بني اللحظة األوىل يف الحدث الشعري لـ«موقف الرمال»‬

‫وقسم النسيب الكالسييك‪ ،‬ولكنَّ االختالف هنا هو أن الذي‬ ‫يقف ويستوقف يف نص الثبيتي هو الصوت الخارجي الذي يقدم‬

‫ميناء ثقايف يتأسس عىل التجربة الرتاثية للهوية الشعرية‪ ،‬ما‬

‫هنا يف روح البناء الثنايئ للقصيدة الكالسيكية‪ ،‬تستمر يف‬

‫اإلفصاح عن مصادر فنية كالسيكية أخرى تحيل إليها‪.‬‬ ‫النفري والثبيتي‪ :‬بني السلطوية والتفاوضية‬

‫اللحظة األوىل من القصيدة تستشف روح كتاب «املواقف»‬

‫للصويف محمد النفري (ت ‪ 354‬هـ ‪ 965‬م)‪ ،‬إذ تبدأ بالعبارة‬

‫أبواب كتابه هذا‪« :‬أوقفني ‪ ...‬وقال»‪ .‬يف‬ ‫التي يفتتح بها النفري‬ ‫َ‬ ‫كل مقطع «يقول» هذا الصوت شي ًئا عن العالقة بني الشاعر‬ ‫والنخلة‪ ،‬وهذه املقوالت وما يتفرع عنها من أصوات جانبية‬

‫للذات تعريفاتها‪ ،‬ويذكرها بهويتها املفقودة‪ .‬ومن هنا فعبارات‬ ‫من مثل «أنت بعيدٌ َّ‬ ‫كأنك ماء السماء» و «يا طاع ًنا يف النأي»‬

‫تشكل أجزاء القسم األول‪ .‬وعىل رغم أن القصيدة قد تحيل‬

‫قسم النسيب‪ .‬أما اللحظة الثانية‪ ،‬والتي تتحدث فيها الذات عن‬

‫إىل دور اللغة‪ ،‬ممثلة يف كلمة «اقرأ»‪ ،‬يف إيجاد هوية جديدة‬

‫ابتهاالت الشاعر الكالسييك بني يدي‬ ‫تستدعي إىل الذاكرة املدربة‬ ‫ِ‬ ‫نفسها‪ ،‬فيمكن الزعم بأنها تعادل قسم الرحلة الكالسييك؛‬

‫فباإلضافة إىل الفكرة املركزية لهذه اللحظة واملتمثلة يف البحث‬

‫الدائم عن القصيدة‪ ،‬يدعم املعجم الشعري‪ ،‬املبني بشكل تامٍّ‬

‫تقريبًا عىل فكرة الرحيل‪ ،‬هذا الزعم‪ :‬يبدأ القسم بـ«أميض إىل‬

‫يف عبارة «ضمّ ني» إىل حادثة نزول الوحي لتلتقط منها ما يشري‬

‫للجماعات املتخيلة‪ ،‬كما حدث للجماعة العربية بعد نزول‬ ‫القرآن الكريم‪ ،‬إال أن «مواقف» النفري تظل أكرث قربًا ملعجم‬

‫القصيدة وأسلوب الحوار فيها‪ .‬هذا التشابه‪ ،‬عىل أية حال‪،‬‬ ‫ً‬ ‫اختالفا جوهريًا بني (مقوالت) النفري ومقوالت (موقف‬ ‫يخفي‬

‫املعنى» ثم «وأمر ما بني املسالك واملهالك» والتي ترجِّ ع صدى‬

‫الرمال)‪ .‬يتأسس هذا االختالف عىل أمرين رئيسني‪:‬‬

‫الكالسييك‪ ،‬ثم «أميض إىل املعنى» مرة أخرى‪« ،‬وأجوب بيداء‬

‫غري مجسد ٍة يف‬ ‫(مقوالت) النفري تجريدي‪ ،‬عبارة عن مفاهيمَ ِ‬

‫فكرة املهالك التي يتكبد مشاقها الشاعر يف قسم الرحيل‬

‫‪ )1‬الفيزيائية (الثبيتي) التجريدية (النفري)‪ :‬املكان يف‬

‫‪83‬‬


‫دراسات‬

‫الواقع‪ .‬هذه عينة من مواقف النفري التي يوقفه فيها الصوت‬

‫هنا يبدو أن الثبيتي قد أخذ بنصيحة واالس ستيفينز وهو يقرر‬

‫اقشعرار الجلود‪ ،‬واالصطفاء)‪ ،‬وهي املواقف التجريدية ذاتها‬

‫كتابة «قصائد أرض عظيمة»‪ ،‬أي قصائد عن هذا العالم الذي‬

‫قبل أن يخاطبه‪( :‬العز‪ ،‬الكربياء‪ ،‬األمر‪ ،‬الصفح والكرم‪ ،‬القوة‪،‬‬ ‫التي نجدها عند بعض شعراء الحداثة العربية الذين استلهموا‬

‫مواقف النفري‪ .‬أما الثبيتي فمكانه جغرايف محدد هو الرمال‪،‬‬

‫وهو ال يظهر إال يف افتتاح القصيدة ثم يغيب تمامً ا‪ .‬إن جغرافية‬

‫مكان الثبيتي تدعم فكرة هوية محلية وطبيعية‪ ،‬ألنها تجسد‬ ‫املوقف يف حيز جغرايف معني متصل بأبعاد ثقافية متميزة‪.‬‬

‫‪ )2‬التفاوضية (الثبيتي) السلطوية (النفري)‪ :‬الحوار يف‬

‫(مقوالت) النفري يسري يف اتجاه واحد‪ :‬من الصوت الخفي إىل‬ ‫النفري‪ ،‬وهذا الصوت ال يتحدث غالبًا إال عن نفسه‪« :‬أوقفني‪...‬‬

‫وقال‪ :‬ال يستقل به من دوين يشء»‪« .‬أوقفني ‪...‬وقال‪ :‬ما مني‬ ‫يشء أبعد من يشء»‪« .‬أوقفني‪ ...‬وقال‪ :‬أنا مظهر األظهار»‪ .‬يف‬

‫بعض املناسبات يوجه الصوت كالمه إىل الطرف الثاين‪ ،‬ولكن‬

‫فقط لتوجيه أوامر وتعليمات معينة من قبيل‪« :‬اجعل الحرف‬ ‫وراءك»‪ .‬هنا‪ ،‬إذن‪ ،‬تسيطر ذات الصوت الخفي‪ ،‬وتفرض‬ ‫رؤيتها عىل اآلخر املتلقي والسلبي دائمً ا‪.‬‬

‫عىل العكس من ذلك يظهر الصوت املتحدث يف مقوالت‬

‫‪84‬‬

‫الثبيتي؛ حيث يتوجه بالحديث إىل اآلخر‪« :‬أنت قريب»‪« ،‬أنت‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ٌ‬ ‫مستندة عىل‬ ‫إنشائية‬ ‫خربية وليست‬ ‫جمله‬ ‫بعيد»‪ ،‬كما أن‬ ‫صيغة أفعال األمر‪ .‬إضافة إىل ذلك‪ ،‬يشرتك الصوتان يف تكوين‬

‫حوارات تفاوضية‪ .‬إن‬ ‫النص‪ ،‬فهو ليس خطابًا سلطويًا‪ ،‬بل‬ ‫ٍ‬

‫هذا يتفق تمامً ا مع الحدث الكيل للقصيدة كما اقرتحته هذه‬ ‫القراءة أعاله‪ ،‬وهو ابتكار هوية بديلة للشاعر بوصفه رم ًزا‬ ‫إبداعيًا للجماعة‪ .‬هذا االبتكار يتم عن طريق التفاوض حول‬

‫تعريفات مقرتحة للشاعر تربطه بعناصر املكان الطبيعية‬

‫أن «قصيدة الجنة والنار قد كتبت»‪ ،‬ومهمة الشعر اليوم هي‬

‫نعيشه‪.‬‬

‫تنوع اإليقاع ثراء الهوية‬

‫إن تنوع األصوات يف قصيدة الثبيتي يرفِده تنوع آخر يسهم‬

‫يف إضفاء حيوية عىل النص‪ ،‬ومن ثم عىل األصوات املشرتكة يف‬

‫صنعه‪ .‬يتمثل ذلك يف تنوع اإليقاع يف القسم األول‪ ،‬كما أشارت‬ ‫املقالة أعاله‪ .‬يبدأ القسم بتفعيلة (فاعلن)‪ ،‬وسرعان ما يدمج‬ ‫َ‬ ‫تفعيلة (متفاعلن)‪ ،‬إىل أن يضيف مقطعً ا‬ ‫بها‪ ،‬يف مقطع واحد‪،‬‬ ‫قصريًا مستقلاً عىل تفعيلة (مفاعلن)‪ ،‬قبل أن يعود إىل حالة‬

‫الدمج بني (فاعلن) و(متفاعلن) مرة أخرى‪ .‬يعطي هذا التنوع‬

‫اإليقاعي حركية للنص تبعده عن الرتابة املوسيقية‪ ،‬كما يتسق‬ ‫مع التطور الدرامي لحركة األفكار داخل القصيدة‪.‬‬

‫يمكن التمثيل عىل ذلك باملقطعني األخريين يف القسم‬

‫األول؛ حيث تنحصر تفعيلة (فاعلن) يف عبارة‪« :‬قال يا أيها‬

‫النخل» يف افتتاحية كال املقطعني وحسب‪ ،‬وتأيت بقية أبيات‬

‫املقطع عىل تفعيلة (متفاعلن) التي تسمح بورود جمل أطول ال‬ ‫تقطعها القافية‪ .‬يعرب امتداد الجمل وقلة القوايف هنا عن تآلف‬

‫ينمو بني طريف عملية القول‪ ،‬ما يجعل الدخول يف التفاصيل‬ ‫املطولة أم ًرا ممك ًنا‪ ،‬وال يعسر االستنتاج بأن الجمل القصرية‬ ‫ْ‬ ‫بشفرات سرية بني‬ ‫واملقفاة فورًا يف املقاطع األوىل تبدو أشبه‬

‫غري متآلفني تمامً ا‪.‬‬ ‫طرفني ِ‬ ‫إن تنوع اإليقاع هنا يمكن قراءته ً‬ ‫أيضا بوصفه إحالة إىل‬ ‫اإليقاع الكالسييك املكوِّن للهوية الشعرية الرتاثية‪ .‬هذا يشري‬

‫والثقافية املعروفة‪ ،‬دون افرتاض سلطوية متعالية له نابع ٍة‬

‫إىل تنوع روافد الهوية املحلية‪ ،‬ويمنح القصيدة هوية فنية غري‬

‫إن القصيدة توظف النفري بشكل رمزي فقط‪ ،‬منذ أن‬

‫نص يقوم عىل إبراز هوية بديلة يصبح تنوع الثقافة املحلية عنصر‬

‫الشعري الحدايث لتدعيم التصور القائل بوجود كتابة شعرية‬

‫الثبيتي النفريَّ لالختالف عنه‪ ،‬وكما استخدم‬ ‫وكما وظف‬ ‫ُّ‬

‫من تجريدية مصدر مقوالته‪.‬‬

‫شاع االستشهاد ببعض نصوصه من لدن ثلة من رموز الخطاب‬ ‫تراثية‪ ،‬ال ترتهن لشروط الوزن التقليدية‪ ،‬بل تستند أساسً ا‬

‫عىل مبدأ التكثيف اللغوي‪ ،‬حتى ذهب بعض النقاد إىل حد‬ ‫املقارنة بني النص النفري والنص السوريايل املعاصر! يتشابه‬ ‫ُ‬ ‫الثبيتي النفريَّ مع توظيف الشعراء العباسيني رمو َز‬ ‫توظيف‬ ‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫البعيدة عن تجربتهم الحياتيةِ‪ ،‬من أجل‬ ‫الشعر الجاهيل‬ ‫موقع ملدونتهم الشعرية ضمن استمرارية شعرية أكرب‬ ‫حفظ‬ ‫ٍ‬ ‫وأشمل‪ .‬هنا تحيل القصيدة إىل التجربة الصوفية فقط من أجل‬

‫أن تمأل فضاءها التجريدي بعناصر املكان الثقافية‪ .‬إنه توظيف‬ ‫وعي بالذات‪ ،‬وبتاريخيتها‪،‬‬ ‫من أجل التجاوز‪ ،‬وهو ينطلق من‬ ‫ٍ‬

‫وبقدرتها عىل التجديد املتأسس عىل العناصر الثقافية للمكان‪.‬‬ ‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬

‫ضيقة تؤهلها‪ ،‬من ثــمّ ‪ ،‬لجدارة اقرتاح هوية ثقافية منفتحة‪ .‬ويف‬

‫مقاومة لواحدية ونمطية الهوية الصناعية النفطية املعوملة‪.‬‬

‫نظام التفعيالت يف الشعر الكالسييك البتكار حيوية إيقاعية‬

‫لقصيدته‪ ،‬سوف نرى اآلن كيف يستخدم إحدى أهم األدوات‬ ‫الفنية للرتاث الشعري‪ ،‬أعني الجناس‪ ،‬البتكار الجديد من‬ ‫املكرور واملختلف من الشبيه من أجل تعزيز «الحدث الشعري»‬

‫للقصيدة واملتمثل يف إعادة إحياء هوية ثقافية ما قبل نفطية‬ ‫تتميز بالتنوع والرثاء واالرتباط باملكان‪.‬‬

‫الرمل والجناس‪ :‬الفريد من املتجانس‬

‫ً‬ ‫تنوعا إيقاعيًا‬ ‫وشهدت اللحظة األوىل لـ«الحدث الشعري»‬

‫نابعً ا من تعدد األصوات والشخصيات (الشاعر والنخلة)‪،‬‬


‫«موقف الرمال ‪ -‬موقف الجناس» محمد الثبيتي‪ ..‬إحياء ما قبل النفطي من أجل ابتكار ما بعد النفطي‬

‫ُ‬ ‫استعذبت ماءَ بكايئ»‪ .‬فرد عليه أبو تمام‬ ‫صب قد‬ ‫فإنني ‪...‬‬ ‫ٌّ‬ ‫ً‬ ‫إحالة إىل اآلية القرآنية الكريمة‪:‬‬ ‫بطلب ريشة من جناح الذل‪،‬‬

‫«واخفض لهما جناح الذل من الرحمة»‪ .‬يمثل أبو تمام هنا‬ ‫األب الفني للهوية الشعرية املحتفية باملعنى‪ ،‬وبأشكال الفنون‬

‫اللغوية التي يمثلها الجناس يف هذه القصيدة‪.‬‬

‫لقد كان أبو تمام‪ ،‬بحسب سوزان ستيتكيفيتش يف كتابها‬ ‫َ‬ ‫البديعية‬ ‫عن أبي تمام والشعرية العباسية‪ ،‬يوظف األشكال‬ ‫بشكل ميتاشعري لتشفري املمارسة الشعرية الجاهلية‪،‬‬

‫بشكل تستوعبه الحاضرة العباسية الجديدة‪ ،‬كما‬ ‫ولتأويلها‬ ‫ٍ‬ ‫يؤهلها ألداء دورها األسطوري الذي يحفظ لها استمراريتها‬

‫ضمن التقليد الشعري الرتايث‪ .‬ويف «موقف الرمال موقف‬

‫الجناس» توفر عبارة «ماء املالم» للتقنية البديعية املتمثلة يف‬ ‫الجناس َ‬ ‫قوة تشفري شعرية أبي تمام الحداثية فنيًا‪ ،‬فتدخل‬ ‫قصيدة الثبيتي يف حالة حوارية إليوتية طرفاها املوهبة الفردية‬

‫والرتاث‪ ،‬يف الوقت الذي تحافظ فيه عىل استمراريتها يف التقليد‬ ‫ً‬ ‫مؤكدة عىل عالقة تشابه بينها وبني سابقاتها‪،‬‬ ‫الشعري‪،‬‬

‫حدث ٌ‬ ‫نوع من التماهي بينهما يف األسطر األخرية لهذا القسم‬

‫تتأسس عىل فلسفة الجناس التي تنتج املعنى الجديد من‬ ‫اللفظ املكرور‪ ،‬واملتفرد من املقلَّــد‪.‬‬

‫حني قال الصوت للــشاعر‪« :‬أنت والنخل سيان»‪ .‬هنا بدأت‬

‫إن إحالة «موقف الرمال» إىل أبي تمام تندرج ضمن‬

‫هذه الجملة عن النخلة‪ ،‬وحان الوقت اآلن ليك تعرب الذات عن‬

‫امليتاشعرية كان التقنية البارزة التي وظفها الشاعر العبايس‬

‫القصيدة تتحول إىل شخصية واحدة‪ ،‬فعربت ثالثة مقاطع بعد‬

‫نفسها يف القسم الثاين‪.‬‬

‫ميتاشعرية إحالية أكرب يتأسس عليها النص‪ ،‬وهذا النوع من‬ ‫إلبراز حداثة نصه الشعريّ ‪ ،‬كما تقرتح هدى فخرالدين‬

‫أهم ما يلحظ يف القسم الثاين هو أن «الذات»‪ ،‬وقد‬

‫يف كتابها الصادر مؤخ ًرا ‪Metapoesis in the Arabic‬‬

‫نفسها بضمري املتكلم‪ .‬يبدأ «الشاعر» تعريف نفسه بهذا املقطع‪:‬‬ ‫وأمتص الرحيق من الحريق‪ /‬فأرتوي ُ‬ ‫ُّ‬ ‫وأع ُّـل‬ ‫«أميض إىل املعنى‪/‬‬

‫يحوِّل الفعل اإلبداعي إىل عملية قراءة تأويلية‪ .‬يف نص الثبيتي‪،‬‬

‫اكتملت عملية التفاوض عىل الهوية البديلة‪ ،‬تتحدث عن‬

‫‪ .Tradition‬هنا يتبدى الوسط الفني للقصيدة بحد ذاته تعبريًا‬ ‫ميتاشعريًا وترمي ًزا لحالة حوارية بني الشاعر وسابقيه‪ ،‬وهذا‬

‫املالم»‪.‬‬ ‫من ماء‬ ‫ِ‬ ‫إن قصيدة يطغى عليها الجناس إىل درجة كبرية كهذه‬

‫نص أبي تمام‪ ،‬فهو بالتايل يمثل نص امليتاشعرية املزدوجة‪.‬‬

‫وزخرفيًا للوهلة األوىل‪ ،‬تعد املعنى مقصدها الفني الذي تميض‬

‫يف رمزه اإلبداعي‪ :‬الشاعر‪ ،‬وبهذا يحقق لهذه الهوية عمقها‬

‫القصيدة عليها أن تلفت االنتباه إىل أنها‪ ،‬يف ما يبدو لفظيًا‬

‫نحن بصدد ميتاشعرية إحالية إىل ميتاشعرية إحالية أخرى هي‬ ‫إن النص يوظف عناصر من الرتاث لتعريف هويته ممثلة‬

‫إليه فال تفصل بني الشكل واملضمون‪ ،‬ولذا فليس بال دالل ٍة أن‬

‫التاريخي‪ .‬ويف تأسسه عىل الجناس تحديدً ا‪ ،‬يفصح النص عن‬

‫يف تأكيد تأسسها عىل عناصر ثقافية غري مصطنعة (محلية أو‬

‫املبدع إمكانية اكتشاف الصقيل يف املطمور والفريد يف املتجانس؛‬

‫تتكرر جملة «أميض إىل املعنى» ثالث مرات‪ .‬وعىل عادة القصيدة‬ ‫تاريخية)‪ ،‬تلجأ هنا إىل استخدام عبارة «ماء املالم» لتفتح من‬ ‫خاللها نافذة تحيل إىل املدونة الشعرية األكرث تمثيلاً لفكرة‬ ‫امتزاج الشكيل باملعنوي‪ :‬مدونة أبي تمام‪.‬‬

‫إن القصيدة هنا تحيل‪ ،‬يف لقطة فنية سريعة‪ ،‬إىل قصة‬

‫أبي تمام (‪ 231‬أو ‪ 232‬هـ‪ 845 /‬أو ‪ 846‬م) املشهور ِة يف كتب‬ ‫الرتاث‪ ،‬حينما أرسل إليه أحدهم كأسً ا يطلب فيها شي ًئا من‬ ‫«ماء املالم»‪ ،‬كناية عن استنكار األسلوب «املحدَث» الذي كان‬ ‫أبو تمام ينسج عىل منواله يف مثل قوله‪« :‬ال تسقني ماء املالم‬

‫«موقف» من الوجود (لنتذكر العنوان‪« :‬موقف» الرمال) يمنح‬

‫فمثلما يمكن أن تولد تجربة شعرية جديدة من االحتماليات‬

‫بشكل يعيد إحياء‬ ‫الفنية التي لم تزل كامنة يف الجناس‬ ‫ٍ‬ ‫«اإلبداعي» يف «البديع» عىل رغم انطماره تحت ركام التقليد‪،‬‬ ‫فكذلك يمكن أن تتولد الرمال‪ ،‬التي تبدو متشابهة ظاهريًا‬

‫كتشاب ِه الكلمات املتجانسة‪ ،‬عن ممكنات أخرى غري النفط‪،‬‬ ‫تتميز بالتواصل مع التجربة التاريخية للجماعة املتخيلة‪،‬‬

‫وبالقدرة عىل اإلبداع من داخل هذه التجربة‪.‬‬

‫ولكن‪ :‬كيف يقوم الجناس بإنتاج املعنى هنا؟‬

‫‪85‬‬


‫دراسات‬

‫النخلة والشاعر‪ :‬الجناس املفهومي‬

‫ما املقصود هنا بالجناس املفهومي عىل أية حال؟ إن النص‬

‫يقوم عىل استعارة كربى يمكن اختصارها يف عبارة «الشاعر‬ ‫هو نخلة»‪ .‬هذه االستعارة ليست لفظية بل مفهومية تنقل‬

‫كامل مجال النخلة املفهومي إىل الشاعر والعكس‪ .‬لقد تطورت‬ ‫فكرة االستعارة املفهومية ابتداءً من نشر جورج الكوف ومارك‬ ‫جونسون لعملهما الريادي ‪ .Metaphors We Live By‬يقوم‬ ‫عملهما عىل فكرة مركزية تقول بأن االستعارة ليست ظاهرة‬ ‫لفظية‪/‬لغوية‪ ،‬بل هي عملية ذهنية تقوم عىل أساس إبدال‬

‫مجال مفهومي بآخر‪ ،‬وهي موجودة يف لغة الكالم العادي‬ ‫أساسً ا‪ .‬أدت هذه الفكرة إىل تطورات مماثلة يف النظر إىل‬ ‫االستعارة األدبية تكفلت بها تحديدً ا الشعريات اإلدراكية التي‬

‫تأسست عىل العمل الرئيس لروفن تسور ‪ : Reuven Tsur‬ما‬ ‫الشعريات اإلدراكية؟ ?‪.What Is Cognitive Poetics‬‬

‫فيما يتعلق بنص الثبيتي‪ ،‬يمكن القول بأنه نتيجة للرتكيز‬

‫عىل االستعارة املفهومية «الشاعر هو نخلة»‪ ،‬أصبحت فكرة‬

‫التشابه الفيزيايئ التام بني العنصرين «الشاعر والنخلة» مركز‬ ‫جذب أسلوبي يف النص‪ ،‬ومن هنا كان ال بد أن تظهر «مالمحُ »‬ ‫ٍ‬ ‫شكلية تجسد هذا التشابه بينهما‪ .‬جاء الجناس هنا ليكون‬

‫‪86‬‬

‫بمثابة مالمح الوجه التي تظهر عىل املساحة الطباعية‪ ،‬لتؤكد‬

‫بشكل ظاهري ملموس مدى التشابه بني «الطفلني» الشاعر‬

‫والنخلة‪ ،‬كما تعرب القصيدة‪ .‬وألنه نابع من استعارة مفهومية‬ ‫فيمكن تسميته بالجناس املفهومي‪.‬‬ ‫وحتى يهيئ النص لفكرة اعتبار الجناس يف األلفاظ معادلاً‬

‫شعريًا للتشابه الجسدي بني الفاعل الرئيس يف النص وبني‬ ‫«الطفل» اآلخر‪ ،‬أي النخلة‪ ،‬اف ُتـتحت القصيدة بإعطاء هذا‬ ‫الفاعل نفسه هوية قائمة عىل األحرف املتفرقة‪:‬‬ ‫«ضمني‬ ‫ْ‬ ‫الرمال‬ ‫ثم أوقفني يف‬

‫ْ‬ ‫بميم وحا ٍء وميمْ‬ ‫ودال»‪.‬‬ ‫ودعاين‪:‬‬ ‫ِ‬

‫إن األحرف املتفرقة هذه دليل عىل أن هوية الذات تتشكل‬

‫لغويًا‪ ،‬وبالتايل يكون التشابه يف األحرف بني صفاتها وصفات‬ ‫النخلة عن طريق الجناس دليلاً عىل تشابه الهوية بينهما‪،‬‬ ‫كما أن مساءلة تكوين القصيدة عن طريق األحرف املتفرقة‬

‫والجناس تعادل مساءلة تكوين صورة الهوية‪.‬‬

‫يمتد الجناس من هذه البداية حتى نهاية القسم األول‪،‬‬

‫ويظهر بشكل جزيئ يف القسم الثاين‪ ،‬حني انتهت عالقات‬ ‫التشابه وأصبح الشاعر والنخلة سيان‪ .‬هذه عينة ملواضع‬ ‫الجناس الكربى الرئيسة‪:‬‬

‫فرعان‬ ‫«أنت والنخل‬ ‫ِ‬ ‫أنت افرتعت بنات النوى‬

‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬

‫إن تنوع األصوات في قصيدة الثبيتي‬ ‫يرفِ ده تنوع آخر يسهم في إضفاء‬ ‫حيوية على النص ومن ثم على‬ ‫األصوات المشتركة في صنعه‬ ‫ورفعت النواقيس‪َّ ،‬‬ ‫هن اعرتفن بسر النوى‬ ‫وعرفن النواميس»‬

‫ُ‬ ‫النياشني‬ ‫صنوان‪ :‬هذا الذي تدعيه‬ ‫«أنت والنخل‬ ‫ِ‬

‫ذاك الذي تشتهيه البساتني‬

‫هذا الذي‪ :‬دخلت إىل أفالكه العذراء‬

‫ذاك الذي‪ :‬خلدت إىل أكفاله العذراء»‬ ‫ٌ‬ ‫ً‬ ‫شاهدا يف الرجال‬ ‫طفل قىض‬ ‫طفالن‪:‬‬ ‫«أنت والنخل‬ ‫ِ‬ ‫ٌ‬ ‫ْ‬ ‫وطفل مىض شاهرًا للجمال»‬

‫ونتيجة لدور الجناس يف ترسيخ التشابه بني الشاعر‬ ‫والنخلة‪ ،‬انتهى القسم األول بالتماهي بينهما‪ ،‬فأصبحا شي ًئا‬ ‫واحدً ا‪:‬‬

‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫يداك‬ ‫وهن‬ ‫ـان‪ :‬قد صرت ديدنهن‪،‬‬ ‫«أنت والنخل ِسـ َّي ِ‬ ‫وصرت ِس ً‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ـماكا عىل سـمْـكِـهـِ َّـن‪ ،‬وهـُ َّـن سـَـماك»‬

‫أما القسم الثاين فإنه يختتم بالشاعر وهو يتربم من املكان‬ ‫النفطي ممثلاً بالبارجة‪ ،‬التي قد تكون ناقلة برتولية‪ ،‬أو بارجة‬ ‫حربية أجنبية تحميها‪ ،‬كما يتربم من الصورة الثقافية النمطية‬

‫لهذا املكان ممثلة بمن يسميهم النص‪ :‬الخوارج‪ .‬تجانس بني‬ ‫«البوارج» و«الخوارج» يطرح عديد األسئلة عىل رؤية النص‬

‫لنوعية العالقة بينهما‪:‬‬

‫العرثات‬ ‫«يف ساحة‬ ‫ِ‬

‫ما بني الخوارج والبوارج‬

‫ضج بي صربي وأقلقني مقامي‪»...‬‬

‫وحتى يقاوم هذه السردية النمطية املشوهة للمكان‪ ،‬يعمد‬

‫النص إىل تقديم تعريفات جديدة للهوية عن طريقة اقرتاح‬

‫تسميات للحبيبة‪ ،‬أو للقصيدة بما هي األساس األبرز لثقافة‬ ‫املكان‪ ،‬بل هي الوطن‪ ،‬مذ كانت التسمية هي أول ما تعلمه آدم‬

‫لتتحقق له هويته اإلنسانية‪:‬‬

‫«فمضيت للمعنى‪ :‬أحدق يف أسارير الحبيبة يك أسميها‬ ‫فــضاقت عن سجاياها األسامي!‬

‫ألفيتها وطني‬

‫وبهجة صوتها شجني‬

‫ومجد حضورها الضايف مناي‬ ‫وريقها الصايف مدامي»‬

‫بعد ذلك‪ ،‬يصل الحدث الشعري إىل ذروة اكتماله حني‬


‫«موقف الرمال ‪ -‬موقف الجناس» محمد الثبيتي‪ ..‬إحياء ما قبل النفطي من أجل ابتكار ما بعد النفطي‬

‫تنشق السماء عن مطر من غمام الشاعر‪ ،‬أي عن قصائد‪،‬‬

‫وتتكثف رموز العالم الطبيعي‪/‬الثقايف يف مقطع واحد يهطل‬ ‫عليه هذا املطر ليخلق العالم الجديد املحتفل بثقافة املكان‪ .‬هذا‬ ‫هو املعادل الفني لفكرة إعادة إحياء الهوية املفقودة عرب الفن‬

‫الشعري‪ ،‬أو كما يسميها الشاعر‪« :‬نشر ما انطوى» من رموز‬

‫الهوية‪:‬‬

‫ُ‬ ‫«ونظرت يف عني السما‬ ‫فخبت شرارات الظما‬

‫مطر غمامي‪.‬‬ ‫وانشق عن‬ ‫ٍ‬ ‫للبائتني عىل الطوى‬

‫والناشرين ملا انطوى‬

‫األمام‪.‬‬ ‫والناظرين إىل‬ ‫ِ‬

‫للنخل‬

‫للكثبان‬

‫الشمايل‬ ‫للشيح‬ ‫ّ‬ ‫وللنفحات من ريح الصبا‬ ‫للطري يف خضر الربى‬ ‫للشمس‬ ‫ِ‬ ‫ِّ‬ ‫الحجازي‬ ‫للجبل‬ ‫ِّ‬ ‫وللبحر التهامي»‬

‫مرة أخرى‪ ،‬تأيت النخلة يف صدارة رموز الهوية البديلة‪،‬‬

‫وهي رموز طبيعية يعززها الحدث الشعري ليس من أجل‬ ‫االحتماء بها من املستقبل املجهول‪ ،‬بل من أجل الذهاب إىل‬ ‫املستقبل دون التفريط بها‪ ،‬ولهذا تؤكد القصيدة أنها ل ـ«ـناظرين‬

‫األمام»‪.‬‬ ‫إىل‬ ‫ِ‬

‫تكثيف ختامي‪ :‬من ما قبل النفطي إلى ما بعده‬ ‫أخي ًرا‪ ،‬إن اعتماد مفهوم (الحدث الشعري) في تحليل نص الثبيتي‪ ،‬وبعض النصوص األخرى المجاورة تاريخيًا وجغرافيًا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫إقناعا لمركزية رموز العالم الطبيعي بالنسبة للرؤية الشعرية لتلك النصوص‪ ،‬ولمحورية األدوات‬ ‫يجدر به أن يوفر تفسيرات أكثر‬ ‫الكالسيكية فيما يتعلق بشكلها الفني‪ ،‬مع التأكيد على أن الفصل بين الشكل والرؤية هنا هو فصل تقني بحت لغرض الدراسة‬

‫النقدية‪ .‬إن الحدث الشعري يقف على المسافة الفاصلة بين الواقع والخيال‪ ،‬يأخذ مادته منهما ليبني عالمه الخاص المتأسس‬ ‫على منطق وجودي مختلف عن ٍّ‬ ‫أي منهما يتبدى في المنتج الشكلي النهائي‪ .‬إن نص الثبيتي ومجايليه ال يعبر عما سمي بـ«ثقافة‬ ‫ً‬ ‫الصحراء» كما اقترحت بعض القراءات التي قد يفهم أنها تتأسس على رؤية جوهرانية لألشياء‪ ،‬بل هو نص يصمم حدثا شعريًا‬ ‫ً‬ ‫واحدا منها‪ ،‬من أجل‬ ‫هو حدث إعادة إحياء رموز المكان الثقافية ما قبل النفطية‪ ،‬والتي ال تشكل الصحراء (الكثبان هنا) إال جزءًا‬

‫األمام»‪ :‬إحياء ما قبل النفطي من أجل ابتكار ما بعد النفطي‪.‬‬ ‫االنطالق بها مع «الناظرين إلى‬ ‫ِ‬

‫وبالنسبة لـ«ـموقف الرمال» بشكل خاص‪ ،‬فلقد أسهم اعتماد الحدث الشعري على الجناس في توفير مساحة نصية‬ ‫للتجسيد الفيزيائي الملموس للهوية الشعرية البديلة الملتحمة بالطبيعي ممثلاً‬ ‫ً‬ ‫إحالة إلى سمة فنية‬ ‫أساسا بالنخلة‪ ،‬كما وفر‬ ‫ً‬

‫تعد عالمة على الشعرية الكالسيكية في عصرها الذهبي‪.‬‬ ‫لم تعد النخلة مرك ًزا للهوية البديلة فحسب‪ ،‬بل أصبحت التجسيد الطبيعي لها‪ ،‬مثلما أصبح الجناس التجسيد األسلوبي‬ ‫للتماهي بينهما؛ وبسبب هذا التماهي لم تذكر النخلة في العنوان‪ ،‬بل ذكر الجناس بوصفه العنص َر‬ ‫المتماهي معها‪ .‬وبتوظيفه للتراث الشعري ممثلاً في الشكل الثنائي للقصيدة‬ ‫الثقافي‬ ‫َ‬ ‫َ‬

‫الكالسيكية والتجربة البديعية ألبي تمام‪ ،‬والتراث الروحي ممثلاً في حادثة نزول الوحي‬ ‫ً‬ ‫ممثلة في تنويعات‬ ‫والمواقف الصوفية للنفري‪ ،‬وبإحالته إلى األدوات الفنية الكالسيكية‬ ‫التفعيالت العروضية والجناس‪ ،‬عمّ ق النص من جذور الهوية الثقافية البديلة‪ ،‬في الوقت‬ ‫الذي مارس فيه االختالف اإلبداعي عنها‪ .‬لقد قام النص بتفريغ طاقات المكان الثقافية على‬ ‫امتداد مساحة الورقة‪ ،‬فكثفها في لغة شعرية تسهم في حث الجماعة المتخيلة على‬ ‫«نشر ما انطوى» من ذاكرة المكان الثقافية التي تتأسس عليها هويتها ما قبل النفطية‪.‬‬

‫لقد كان الشاعر محورًا لقصيدة أصبحت عالمة على الشاعر‪ ،‬حين ضاقت به الطرقات‬

‫فلجأ إلى اللغة القتراح تسمية جديدة للقصيدة‪ ،‬أو قل القتراح هوية جديدة أساسها المكاني‬ ‫هو النخلة‪ ،‬وأساسها الثقافي ـ الفلسفي هو الجناس‪.‬‬

‫٭ تشكل هذه المقالة إعادة كتابة مكثفة لورقة شارك بها الكاتب في (مؤتمر جامعة جورجتاون للشعر العربي الحديث) في أكتوبر ‪٢٠١٥‬م ‪.‬‬

‫‪87‬‬


‫دراسات‬

‫‪88‬‬

‫محمد بنيس‬

‫الكتابة بتاريخيتها‬ ‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬


‫عزالدين الشنتوف‬

‫ناقد مغربي‬

‫يتطلب التعامل مع شعر محمد بنيس زا ًدا نظريًّا واستبصارًا باألوضاع النصية التي‬ ‫ُ‬ ‫النصي الذي يبدأ مع ديوانه األول «ما‬ ‫تاريخه‬ ‫تستقبل تلك المعرفة وتتحاور معها‪ .‬ولهذا الحوار‬ ‫ُّ‬ ‫قبل الكالم» (‪1969‬م)‪ ،‬من حيث طبيعة االختيار الشعري‪ ،‬ذات الصلة بأوضاع التجارب المغربية‬ ‫والعربية في مطلع السبعينيات‪ .‬وبتقدم الممارسة نحو سؤالها الخاص‪ ،‬ضمن تلك األوضاع‪،‬‬ ‫ً‬ ‫كان التعدد ً‬ ‫متواز‪،‬‬ ‫وسمة تميز كتابة هذا الشاعر الذي ربط بين الممارسة والتنظير كفعل‬ ‫أفقا‬ ‫ٍ‬ ‫له إستراتيجيته المعرفية المتواشجة مع الجغرافيات الشعرية في العالم‪ .‬ويبدو أن ما نشره من‬ ‫نصوص في مجلة «مواقف» سنة ‪1969‬م‪ ،‬لم يكن من قبيل االستثناء االعتباطي أو العرضي الذي‬ ‫رافق المشهد الشعري المغربي باألفق التقليدي في بعض المراكز المشرقية األخرى‪ ،‬وإنما كان‬ ‫ً‬ ‫مغامرة عمقت الوعي عنده بمرحلة السبعينيات‪ ،‬من حيث هي حالة فارقة في الثقافة المغربية‪،‬‬ ‫من أجل معرفة طموحاتها‪ ،‬وحاجاتها‪ ،‬ومستوى قدرتها على اقتراح ثقافة جديدة في الشعر‬ ‫وغيره‪ .‬وال شك أن البحث المتقدم عن األسئلة العميقة‪ ،‬وبخاصة بعد اللقاء مع نتائج ثورة‬ ‫الطالب بفرنسا سنة ‪1968‬م‪ ،‬كان عاملاً في إغناء االختيار الشعري عند بنيس(‪.)1‬‬ ‫ومع نتائج أطروحته الجامعية «ظاهرة الشعر المعاصر‬

‫مع جيل الثمانينيات‪ ،‬من خالل اإلنصات إلى رؤي ٍة مختلفة تقرأ‬

‫بالمغرب» (‪ ،)1978‬وما خلقته من ردود أفعال متباينة‪ ،‬كان‬ ‫ً‬ ‫الوعي‬ ‫أبنية في اللغة والخط والصفحة‪ ،‬فتعمق‬ ‫نصه يختبر‬ ‫ُ‬

‫اآلراء موضع تساؤل‪ ،‬بدءً ا من عملية توثيق النصوص‪ ،‬وإعداد‬

‫األسئلة األيديولوجية التي وسمت نقد الشعر بالمغرب‪ .‬ومن‬

‫سؤال وضعه بنيس هو‪« :‬ماذا نعني بالشعر المغربي الحديث‬

‫بضرورة استئناف المغامرة بقيم وأسئلة شعرية تزيد من تأزيم‬ ‫الالفت للنظر أن اشتغاله بالتركيب وبناء‬

‫اآلية‪ ،‬في الثمانينيات‪ ،‬أفسح المجال أمام‬

‫شعراء آخرين اللتماس مبدأ حرية االقتراب‬

‫من المختلف والمتعدد‪ ،‬رغم محدودية ذلك‬

‫المطلب وقدرتهم على الصوغ المفهومي لذلك‬

‫المنجز‪ .‬وقد كان لـ»بيان الكتابة» الصادر سنة‬

‫‪1981‬م بمجلة الثقافة الجديدة‪ ،‬األث ُر العميق في‬

‫فهم وضع الشعر المغربي الحديث والمعاصر‪،‬‬

‫ورفع االلتباس عن أوجه التحديث التي اختلط فيها‬

‫السياسي والثقافي‪ ،‬وهيمن على آفاقه وأسئلته التي‬

‫كان من المفترض أن تجد مسوغها اإلبداعي منذ‬

‫الخمسينيات‪ ،‬بعيدً ا عن المؤسسة وأيديولوجياتها المتكررة‪.‬‬ ‫ولم يكن نقل هذا السؤال إلى الدرس الجامعي ه ِّي ًنا‪ ،‬بل‬ ‫واكب ْته إشكاالت عديدة‪ ،‬أبرزها صعوبة الحديث عن شعر‬

‫مغربي معاصر ال يزال في طور التشكل والبحث عن هوية‬ ‫َ‬ ‫موضوع‬ ‫ممكنة بخصائص غير معلومة ومحددة؛ كي يكون‬ ‫درس أكاديمي في مختلف المسالك‪ .‬وقد تبلور الحوار األكاديمي‬ ‫ٍ‬

‫المنجز المغربي الحديث بوسائل منهجية جديدة‪ ،‬وتضع كل‬

‫ترجمات للشعراء‪ ،‬ثم وضع األسئلة الممكنة للدراسة‪ .‬وأول‬ ‫والمعاصر؟ وأين هي نصوصه الدالة عليه؟»؛‬ ‫لكي ينجز المقدمات األولى لحفريات الشعر‬ ‫المغربي‪ .‬ولذلك كان هذا العمل من صميم‬ ‫اهتمامه بوضع الكتابة؛ ألن الرؤية المختلفة‬ ‫التي شيدها عن هذا الدرس لم تكن تجاو ًزا‬ ‫للبيداغوجيات السائدة‪ ،‬بل كانت عملاً‬

‫آخ َر ذا توجه نقدي‪َّ ،‬‬ ‫مكن الطالب‪/‬القارئ‬ ‫من مقاربة نسقية ومنهجية‪ ،‬في‬ ‫غياب اهتمام الجامعة بدراسة الشعر‬

‫المغربي الحديث قبل السبعينيات‪،‬‬

‫اللهم ما تناثر من كتابات تهم تاريخ األدب‪.‬‬

‫وبقدر ما انشغل محمد بنيس بحفريات الشعريات‬

‫َس ِم نصه الشعري‬ ‫العالمية‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫انكب ‪-‬في هذه المرحلة‪ -‬على و ْ‬ ‫بإيقاع اللغة والبياض والصفحة المتعددة‪ ،‬فكان ديوان «مواسم‬

‫الشرق» وديوان «ورقة البهاء» عملين مؤرِّخين لمشروع الكتابة‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫إبدال واضحُ العناصر في التصور والبناء النصي‪.‬‬ ‫من حيث هو‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫سؤال الترجمة من جهة توسيع انفتاح‬ ‫المشروع‬ ‫ورافق هذا‬

‫‪89‬‬


‫دراسات‬

‫الشعرية العربية على ما هو كوني في التاريخ والذات واللغة‬ ‫ً‬ ‫رهانا ثقافيًّا وإبداعيًّا‪ ،‬كان‬ ‫والمجتمع‪ .‬ولما كانت الترجمة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫قيمة مضافة لفهم خاصية اللغة المترجَ م‬ ‫التماس شرط اإلبداع‬ ‫ُ‬

‫إليها‪ ،‬سواء أكانت اللغة العربية أم غيرها‪ .‬وللفعل الترجمي‬ ‫ً‬ ‫تاريخه الشعري الذي أنتج ًّ‬ ‫باذخا بإقدامه على ترجمة قصيدة‬ ‫نصا‬

‫«رمية نرد» للشاعر مالرمي؛ تلك القصيدة التي عاشت مع‬ ‫َ‬ ‫سؤالي الكتابة والترجمة ألكثر من عشرين سنة‪،‬‬ ‫مشروع بنيس‬

‫اقترن خاللها نص محمد بنيس بالفرنسية والتركية واإلسبانية‬ ‫ً‬ ‫إقامة في المسكن الحر‪ ،‬مع مترجمين‬ ‫واأللمانية وغيرها‪،‬‬

‫شعراء وباحثين‪ -‬من أجل قصيدة للعبور بين اللغات‪ .‬هكذا عبر‬‫ديوان «كتاب الحب» وديوان «المكان الوثني» وديوان «نهر بين‬ ‫س الكتابة وهي تحتمي بنقصانها وقلقها‪.‬‬ ‫جنازتين» ب َن َف ِ‬ ‫الكتابة والتأريخ‬

‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫بعض االعتبارات‬ ‫أقدم‪ ،‬في مقاربة هذا الموضوع‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫المنهجية التي تسيِّجُ الوضع اإلبستمولوجي الوارد في صيغة‬ ‫الكتابة والتأريخ‪ ،‬وأختار مقدمتين متصلتين كما يلي‪:‬‬

‫‪ -1‬ال تنظر الكتابة‪ ،‬في شعرية محمد بنيس‪ ،‬إلى تاريخها‬ ‫من حيث هو م ً‬ ‫ُعطى‪ ،‬بل تسعى إلى المعرفة التأثيلية‪ ،‬وتترك‬

‫‪90‬‬

‫ُ‬ ‫المعرفة التحصيلية به؛ وبهذا تكونُ‬ ‫الكتابة نفيًا ألي سلطة‬ ‫كيفما كانت‪.‬‬

‫‪ -2‬وبتحقيقها لهذا الشرط تغدو موردًا إلنتاج السؤال في‬ ‫الممارسة والتنظير معً ا؛ وبهذا تكونُ فعلاً نقديًّا‪.‬‬ ‫وفي ضوء الصلة القائمة بين النظر‬

‫والصوغ البنائي لفعل تأمل الكتابة‪ ،‬تضطلع‬

‫أسئلة بنيس الكبرى بوضع هذه الكتابة‬

‫ُ‬ ‫الذات‬ ‫ضمن مجال معرفي‪ ،‬ال تنفصل فيه‬

‫عن المجتمع وعن التاريخ؛ وذلك هو مجال‬

‫نقد منظومة المتعاليات في كليتها‪ .‬ونقطة‬

‫االنطالق هي بيان الكتابة‪ ،‬بما هو إعالنٌ كشف‬

‫التخلف المضاعف لمختلف األنظمة الثقافية‪،‬‬ ‫واالجتماعية‪ ،‬والسياسية‪.‬‬

‫الدرس مرة أخرى‪ ،‬بعد خمس وثالثين‬ ‫يتعمق‬ ‫ُ‬

‫سنة من تجميع الشعرية المغربية ألعطابها؛ فيما‬

‫الحاجة إلى سؤال تمثيل البيان في الثقافة العربية محسومة‬

‫من الالفت للنظر أن اشتغال محمد بنيس‬ ‫بالتركيب وبناء اآلية‪ ،‬في الثمانينيات‪،‬‬ ‫أفسح المجال أمام شعراء آخرين اللتماس‬ ‫مبدأ حرية االقتراب من المختلف والمتعدد‬

‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬

‫بتغيير جهة النظر‪ ،‬عندما نعلم أن ال شيء تغ َّي َر في المشاريع‬ ‫المجتمعية والثقافية‪ ،‬بل ال تزال األنظمة الفكرية مقتنعة‬

‫بتحيين المشاريع في غير زمنها‪ .‬لم يكن سؤال الوعي بالزمن‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫وجوب لممارسة الحرية‬ ‫شرط‬ ‫شرطا أخالقيًّا بقدر ما كان‬ ‫ٍ‬

‫والمغايرة واالختالف‪ ،‬وبه يمتلك الشاع ُر ُل َغ َتهُ‪ ،‬تلك التي تتكلم‬ ‫عن اللغة‪ ،‬وتبينُ ما يفعل ويصنع بها الشاع ُر؛ كي يغد َو هو‬

‫وغي ُره محتوى هذه اللغة‪ .‬وبهذا المحتوى يفك بيان الكتابة‬

‫االرتباط بفكرة البداهة واالرتجال‪ .‬ولم تتغير ردو ُد األفعال‪،‬‬ ‫ولم تزد على ثالثة مواقف‪ :‬موقف يقوم على منطق التجريب‬

‫وال يستوعب مفهوم اإلبدال فينتج فكرة التعطيل‪ ،‬وموقف‬

‫يقوم على استعادة التاريخ وال يستوعب حركية التاريخ فينتج‬ ‫فكرة عودة الماضي إلى ماضيه‪ ،‬وموقف يقوم على الحاجة إلى‬ ‫التنظير وال يستوعب آلية االنتقال من اللغة إلى الخطاب فينتج‬

‫وهم التماثل بشروط مغايرة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫أهمية بيان الكتابة ماثلة في وضع سؤال‬ ‫وإذا كانت‬ ‫الوعي‬ ‫المعرفة داخل حركة التاريخ وليس على هامشها‪ ،‬فإن‬ ‫َ‬ ‫الذي استقبله كان وعيًا في حال اشتباه؛ ألن الممارسة النصية‬ ‫ٌ‬ ‫مشروطة بوعيها بالزمن من حيث ُ‬ ‫كونه محر ًكا لفعل اإلبداع‬

‫بالمعنى الحداثي‪ .‬وفي هذا المعنى يتأسس االختالف الذي يجلبه‬ ‫َ‬ ‫فاعلية التحديث‪،‬‬ ‫البيانُ إلى مختلف الخطابات‪ ،‬عبر إعطائه‬

‫وعبر إدخاله إلى دائرة الحوار‪ .‬ولكن هذه الخطابات حدست‬ ‫َ‬ ‫الكثرة بدل التعدد‪.‬‬ ‫تهديد البيان لمركزيتها‪ ،‬فأنتجت‬ ‫ً‬ ‫توصيفا أو‬ ‫لم تكن تاريخية الممارسة‪ ،‬في وضع الكتابة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫حركة تتفاعل بها في الزمن والتاريخ؛‬ ‫استقراءً ‪ ،‬بل‬ ‫وهو ما يفيد أن الكتابة‪ ،‬منذ البيان‪ ،‬غير معزولة‬ ‫عن التمثالت الفكرية‪ ،‬والتأويالت المرافقة‬ ‫لها‪ ،‬في امتدادها الذي يجعلها ً‬ ‫قوة معرفية‬ ‫أساسً ا‪ .‬ولذلك فهي قارئة يقظة تجاه ذرائعية‬ ‫الوقائع في التاريخ‪ ،‬والبحث عن شرعية‬ ‫وهمية‪ .‬وما لم ينتبه إليه نقد الشعر‬ ‫بالمغرب وغيره‪ ،‬هو أن الحقيقة‬

‫في البيان هي االنفتاح الذي ال يعني‬

‫االستدراك والحاشية بمسمى الحوار‬

‫والنقد والتوسيع‪ .‬ولما كان فعل التنظير وفعل الممارسة‬ ‫متالزمين في مشروع بنيس‪ ،‬أمكن النظر إلى االنفتاح ً‬ ‫أفقا نصيًّا‬

‫تحتفل به القصيدة عبورًا للغة في الجسد‪ ،‬وللتاريخ في الممكن‬ ‫واحتماالته في الخطاب‪.‬‬

‫يمكن أن نالمس ثالث حركات كبرى في شعرية بنيس‪.‬‬

‫وأستعمل الحركة هنا بالمعنى الذي يقدمه جيل دولوز‪ ،‬أي‬

‫الحركة في الطية؛ حيث ال وجود لمقاطع ثابثة‪ ،‬وال إعادة‬ ‫تشكيل الحركة مرة ثانية(‪ .)2‬ويبدو أن هذه الحركات هي‪:‬‬


‫محمد بنيس‪ ..‬الكتابة بتاريخيتها‬

‫تفضية الكتابة ‪-‬إعادة الكتابة‪ -‬مادية الكتابة؛ وهي حركات‬

‫ٌ‬ ‫قول‪ .‬تفيدنا كلمة ليفناس هذه في تعرف الكتابة‬ ‫عدا الشعر‬

‫مؤطرة هي‪ :‬النقصان‪ ،‬والمحو‪ ،‬والحبسة‪ ،‬بحيث تصير تجاذبًا‬ ‫نصيًّا‪ّ ،‬‬ ‫يجليه البناء وإنتاج الداللية‪ .‬وعلى الرغم من أن مصطلح‬

‫االختالف إلى دائرة اآلخر كي تتحقق صيغة االستضافة‪ .‬فمثلما‬

‫غير منفصلة عن بعضها‪ ،‬بل متداخلة وفق مفاهيم إبداعية‬

‫َسمً ا‬ ‫القصيدة أضحى يضيق عما بدأه بنيس في التماس الكتابة و ْ‬ ‫ً‬ ‫مغامرة لمستمر‬ ‫لممارسته النصية‪ ،‬فإن هجرة النصوص كانت‬ ‫اإليقاع وممكنه؛ ألنه مستم ٌّر يضع تاريخية الكتابة ً‬ ‫ذاتا تفكر‬

‫ير القلق باللغة وفي اللغة‪ ،‬ولذلك تسم هذه الهجرة‬ ‫في مَ ِس ِ‬ ‫فعل القراءة من جهة تقريب النصوص من بعضها مع مراعاة‬ ‫اختالفها في البناء‪.‬‬

‫تقوم الكتابة‪ ،‬إذن‪ ،‬على تجربة الفعل؛ إذ‬

‫تتب َّنى اللغة ما يحدث أثناء الكتابة‪ ،‬وخاصة‬

‫المفاجئ وغير المتوقع الذي يقتحم هذا‬

‫خارج القول‪ ،‬أي خارج المشابهة والمعارضة اللتين تمثالن‬ ‫ً‬ ‫صيغة من صيغ مقاومة دخول اآلخر إليها‪ .‬ولكن الكتابة تحمل‬

‫استضاف بنيس نبيذ أبي نواس‪ ،‬استضاف نبيذ أبولينير‪ ،‬ونبيذ‬ ‫ٌ‬ ‫وأفق لحياة اللغة‬ ‫بوردو وبغداد؛ إنه مبدأ الكتابة بماديتها‪،‬‬ ‫العربية التي عاشت في النص رحلة دانتي‪ ،‬ورمية مالرمي‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫حركة اإلحال ِة نحو‬ ‫يعترض النص‬ ‫وأناشيد عزرا باوند‪ .‬فحينما‬

‫ُّ‬ ‫تكف الكلمات عن االنمحاء أمام األشياء‪ ،‬فتغدو‬ ‫اإلظهار‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫كلمات لِذاتها‪ .‬وعندما تبدأ اليدُ في خط أول‬ ‫المكتوبة‬ ‫الكلمات‬ ‫ٍ‬

‫حرف‪ ،‬وتتضامن بما يسري وبما يصنع الحدث‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫الكتابة بممارسة المجاورة‪ ،‬مجاورة النقطة‬ ‫تقوم‬

‫العمياء‪ ،‬والنقطة الخرساء‪ ،‬وتقوم بمجاورة‬ ‫آثارهما‪ .‬فبنيس يهيئ تجربة العمى كي ال تتعينَ‬

‫الحدوث‪ .‬ويأتي المفاجئ من عوالم‪ ،‬ومن‬

‫فضاءات‪ ،‬ومن فنون مختلفة في آليات البناء‬ ‫والعرض‪ ،‬سواء أكان تشكيلاً ‪ ،‬أم موسيقى‪،‬‬

‫األشياءُ في حيز االستعارة فقط‪ ،‬بل بالتركيب‬

‫من حيث هو محاورة ومجاورة لألشياء في‬ ‫تماس‬ ‫وغيريّ ِتها‪ .‬إن الغيري َ​َّة‬ ‫تناقضاتها‬ ‫ٌ‬ ‫ِ‬

‫أم وثيقة‪ ...‬ولهذا االنفتاح لغته الثانية‪ :‬لغة‬

‫في الكتابة يراهنُ عليها محمد بنيس‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫رائية‬ ‫تجعلك تراها من حيث هي‬ ‫كي‬

‫النصي إيقاع شخصي يحيا‬ ‫الحواس؛ حيث الدال‬ ‫ّ‬

‫في مناطق النسيان‪ ،‬ويتجاوب مع ما تتذكره العين‬

‫أيضا‪ ،‬لتملك الكتابة ً‬ ‫ً‬ ‫قارئا بوجهة نظر‪.‬‬

‫واألذن واألدمة في غفلة عما تخطه يد الشاعر‪.‬‬

‫ويتم صوغ هذا التقريب في مختلف دواوينه بدءً ا‬

‫من ديوان «وجه متوهج عبر امتداد الزمن»‪ ،‬علمً ا‬

‫رهانٌ‬

‫ِّ‬ ‫يعد ُد‬

‫صيغ‬

‫المساءلة‪،‬‬

‫فتعددت أنماط االمتالك؛ ومن أفق تداول السؤال بين القراءة‬

‫بأن مقامات التقريب غير متماثلة وغير متشابهة‪ ،‬فقد تلتقي‬

‫ٌ‬ ‫إنصات وتعلمٌ دائمان‪:‬‬ ‫والنظر‪ ،‬تحمي الكتابة تاريخيتها؛ ألنها‬ ‫ُ‬ ‫تتعرف بها مكانَ القدام ِة وحدودها‪ ،‬ومغامرة اللغة في متغير‬

‫مع موال جبلي أو أمازيغي في مكان وثني يحتفل بجنازة الذات‬

‫الطريق‪.‬‬ ‫ومنعقد أهوال العثور على الطريق نحو‬ ‫ِ‬

‫نوبة أندلسية مع لوحة فان جوخ‪ ،‬أو فيرير‪ ،‬وقد تلتقي صيرورة‬

‫حجر مع سكون الفراغ في صفحة متعددة‪ ،‬وقد يلتقي صوت‬ ‫وجنازة اللغة‪.‬‬

‫ال شك أن مادية الكتابة ليست صيغة تجريدية لممارسة‬ ‫عرضا يُحْ م ُ‬ ‫ً‬ ‫َل على فعل الكتابة‬ ‫نصية‪ ،‬إنها تنأى عن أن تكون‬ ‫نفسه؛ فهي إبدال مستمر وفاعل في مجال تاريخية الشعر‪.‬‬ ‫ويعني ذلك أن مادية الكتابة تستوعب إعادة الكتابة وال تنفيها‪،‬‬

‫صوغ مغاير؛ كي تتيح للقراءة عناصر نظرية‬ ‫إنها تصحبها إلى‬ ‫ٍ‬

‫خاصة بها‪ ،‬تسمي ذاتيتها‪ .‬ثم إن مادية الكتابة‪ ،‬بعدُ‪ ،‬هي في‬ ‫وضع حيا ٍد مع التمثيل مهما تكن ص َو ُر ُه وأشكاله؛ ألن مادية‬ ‫ٌ‬ ‫قائمة على االختبار الموسوم بالمحو؛‬ ‫الكتابة في أعمال بنيس‬ ‫أما التمثيل(‪ )3‬فقائم على تمجيد االستضافة؛ استضاف ِة اآلخر‪،‬‬ ‫والغريب‪ ،‬وتاريخه ولغته بالعربية وأفقها‪.‬‬

‫وبما أن مقول الفكر ال يعثر على وجوده إال إذا صار عاج ًزا‬ ‫َ‬ ‫الكتابة‬ ‫عن قول ما يجب أن يبقى متعاليًا على الكالم‪ ،‬فإن‬ ‫طاقة فاعلةً‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫تجعل منه‬ ‫وتأمل في هذا العجز‪ ،‬لكي‬ ‫تفكي ٌر‬

‫بس ُة محمد بنيس؛ ألن كل شيء‬ ‫أمام األشياء؛ وتلك هي حُ َ‬

‫نسق اشتغالها‪ ،‬ومكان الحداثة وممكن اإلقامة في المستقبل‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫الكتابة ُ‬ ‫بم ْم ِك ِنها‬

‫ممكن النص من حيث هو مختب ٌر‬ ‫ممكنُ الكتابة من‬ ‫ِ‬ ‫ٌ‬ ‫جهة يتع َّينُ‬ ‫منفتحٌ على إيقاعه المتبدل‪ .‬وليس لهذا الممكن‬ ‫ٌّ‬ ‫بها‪ ،‬أو عنص ٌر يحتمي به في البناء‪ ،‬وإنما هو دال في اللغة‬

‫ُ‬ ‫الكتابة نح َو الشعر‪،‬‬ ‫وما يحيط بها أثناء الكتابة‪ .‬وحينما تختبر‬ ‫ُ‬ ‫مجهول فكر الشعر‬ ‫أي باالنتقال من اللغة إلى الخطاب‪ ،‬يغدو‬

‫يكتب محمد بنيس هذا السف َر بما تقدمه‬ ‫أحدَ ممكناتها‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫تضيق عن هذا االصطالح متجهة نحو الكتابة‪-‬‬ ‫القصيدة ‪-‬وهي‬ ‫من استشراف ألهوال الحواس‪:‬‬

‫ُ‬ ‫سافرت في ليل القصيدة‬ ‫أنا الذي‬ ‫وابتهاج المح ْو‬ ‫َ‬ ‫الخطوط لمجدِ هاوي ٍة‬ ‫أدعو‬

‫لها الهذيانُ‬ ‫والهذيانْ‬

‫(‪)4‬‬

‫‪91‬‬


‫دراسات‬

‫سؤال الشعر سؤال كوني‬

‫ال يرتبط الشعر بالهويات والوطنيات‪ ،‬وإنما يشتغل بما‬

‫هو إنساني وكوني‪ ،‬كي يغد َو لسؤاله الحيوي معنى‪ .‬ويبدو أن‬ ‫الكوني في مجاالت معرفية وإبداعية‬ ‫القرن الماضي دشن عهد‬ ‫ِّ‬

‫مختلفة‪ ،‬من الفلسفة والعلوم المعرفية‪ ،‬إلى التشكيل والنحت‬ ‫والموسيقى‪ .‬وما يقوم به محمد بنيس من حوار مع الشعريات‬ ‫وتقريب لوضع‬ ‫العالمية‪ ،‬هو توسيعٌ لمداخل هذا السؤال‪،‬‬ ‫ٌ‬

‫اللغة العربية من مبدأ االنفتاح واالستضافة‪ .‬ولم تكن استضافة‬ ‫دانتي‪ ،‬ومالرمي‪ ،‬وعزرا باوند‪ ،‬من قبيل االستعارة‪ ،‬بل قراءة‬

‫واعية لمعنى الحداثة في الثقافات واللغات‪ ،‬من حيث هي‬ ‫مطلب إنساني يستجيب إلبداالت الزمن والذات والتاريخ‪ .‬ولما‬ ‫ٌ‬ ‫كانت «حداثة السؤال» اختيارًا شعريًّا‪ ،‬يروم تغيي َر وجهات‬

‫النظر‪ ،‬أصبح مبدأ حرية الكتابة ُ‬ ‫عض َد السؤال وقوامَه في صوغ‬ ‫ُ‬ ‫اللغة العربية من إمكانات وآفاق‪،‬‬ ‫طرائق الكتابة‪ ،‬بما تتيحه‬ ‫ً‬ ‫وتوقا نحو وضع البدهيات‬ ‫بدءً ا من محاورة تاريخها وأوضاعه‪،‬‬

‫والمتعاليات ضمن السيرورة التاريخية لإلبداع‪ ،‬من حيث هو‬ ‫ممارسة قبل كل شيء‪.‬‬

‫‪92‬‬

‫لغة الكتابة نمط حياة‬ ‫ليست ُ‬ ‫لغة الكتابة هي المكتوب فحسب‪،‬‬

‫تنظيم للمبدأ المحرك للتركيب‬ ‫بل هي صيرورة‬ ‫ٍ‬

‫والمعجم والبناء؛ لذلك تكون هذه اللغة‬

‫ً‬ ‫مشروعا يتنامى في االختالف والتعدد‪ .‬وإذا كانت‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫اللغة ممارسة خاصة لإليقاع‪ ،‬بما هي ممارسة‬

‫خاصة للذات‪ ،‬فإن الكتابة‪ ،‬لدى الشاعر بنيس‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫معرفة تضطلعُ بمهمة الحفر خارج «التعبيرية»‬

‫وبعيدًا عنها‪ ،‬أي ضد التصور الرومانسي بكل تجلياته‪.‬‬ ‫وأن تكون اللغة َ‬ ‫نمط حياة‪ ،‬هو أن تعيش زمنها مستشرفةً‬ ‫َ‬ ‫مستقبلها‪ ،‬بما يؤهلها وضعُ ها االعتباري واالختباري إلعادة‬

‫ً‬ ‫متعلقا بالصياغة‬ ‫النظر في كل ما يأسرها ويحنطها‪ ،‬سواء أكان‬ ‫والبناء‪ ،‬أم بالمحموالت التي َت ْث ِوي بداخلها‪ .‬وقد كانت المقدمة‬

‫ً‬ ‫دالة على نمط الحياة‬ ‫التي وضعها بنيس ألعماله الشعرية‬ ‫َ‬ ‫اللغة بالشخصي وغير الشخصي في الممارسة‬ ‫الذي ال يُق ِّي ُد‬

‫ٌ‬ ‫حياة للكتابة‬ ‫النصية‪ .‬ومن الجلي أن «حياة في القصيدة» هي‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫لغات تدَّعي الوحدة في‬ ‫ممارسة للنقد تجاه‬ ‫التي ترى في اللغة‬ ‫ٍ‬ ‫منظومة كلية‪ .‬وبهذا تكون مصاحبة القصيدة غير منفصلة عن‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫متكامل للبحث عن الكتابة والذات‬ ‫فعل‬ ‫تجربته التنظيرية؛ فهي‬

‫أمكنة ِّ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫سؤال المعرفة‪ .‬وبقدر ما تمس‬ ‫تول ُد‬ ‫والعالم‪ ،‬بما هي‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫«حياة في القصيدة» حياة الشاعر‪ ،‬تمس حياة القصيدة ً‬ ‫أيضا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وأسئلة‪ .‬إنها‬ ‫ورغبات‪،‬‬ ‫ولغة‪،‬‬ ‫من حيث هي كائنٌ يتبدَّل جسدً ا‪،‬‬ ‫ٍ‬

‫تحيا إذ تسكنها قصائ ُد أخرى‪ ،‬بلغات أخرى تهاجر فيها‪.‬‬

‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬

‫أولاً ‪ :‬تتبنى سؤالها خارج التجريب؛ ألنها مرتبطة بالمعرفة‬ ‫ٌ‬ ‫منطق‬ ‫الشعرية التي تنتجها ال التي تستدعيها‪ .‬إن منطق التجريب‬ ‫ً‬ ‫التجريب‬ ‫مرتهنة به‪ ،‬ويغدو هذا‬ ‫أحادي؛ ألن الممارسة تظل‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫موضوعها بوعي أو بدون وعي‪ .‬وعندما اختارت ممارسة بنيس‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫صوغا بنائيًّا في اللغة والذات والتاريخ‪ ،‬فإنما اختارته‬ ‫اإلبدال‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫شعرية باألساس؛ فارتبط النص بسؤاله في أوضاع‬ ‫معرفة‬

‫مغايرة‪ ،‬وأماكن نظرية تنبع من داخله‪ .‬ومن الصعب الحديث‬ ‫عن استدعاء لمعرفة تجريبية خارج نصية؛ ألن أي مقاربة ترومُ‬

‫فصل الممارسة عن التنظير‪ ،‬لن تقوى على فهم حوارية النص‬

‫بمعرفته‪ ،‬إزاء مبدأ التقريب الشعري الذي يسوغ‪ ،‬لدى بنيس‪،‬‬ ‫ً‬ ‫شرطا ماديًّا‬ ‫مبدأَي الضيافة والحوار‪ .‬أما التداخل النصي فليس‬ ‫ٌ‬ ‫صيغة من صيغ التقريب‬ ‫إلنتاج شعرية العمل‪ -‬األعمال‪ ،‬إنما هو‬ ‫ليس غير‪ .‬ولكن حينما يتحول إلى فعل إعادة الكتابة‪ ،‬فإنه‬

‫آن‪.‬‬ ‫يتلبس سؤالها بالنص وبأفقه الشعري في ٍ‬

‫ثانيًا‪ :‬تبرز فاعليتها في القيمة والتداول من خالل لغتها‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫التلفظي‪ .‬وهذا الفعل‬ ‫دون أن تنفصل عنها في ذاكرتها وفي أفقها‬ ‫ُ‬ ‫دعوته بذاتية الكتابة‪ ،‬من حيث هو توقيع‬ ‫الشعري هو ما‬ ‫شخصي يمس كلية العمل؛ ألن ُّ‬ ‫تحقق تلك الذاتية‬ ‫تسمي‬ ‫ليس سمة إضافية تلحق بالنصوص لكي‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫ً‬ ‫ديوانا دون غيره‪ ،‬بل هي قيمة وتداول في‬ ‫عملاً أو‬ ‫تاريخية البناء الشعري لشعرية محمد بنيس؛‬ ‫ففي اللغة يكون سؤال الكتابة اختبارًا لهذه‬ ‫َ‬ ‫الكتابة هي ٌّ‬ ‫كل ال يظهر في‬ ‫المعرفة‪ ،‬أي أن‬

‫اللغة ويحضر من لدن الذات حضورًا غي َر‬

‫مسبوق؛ لذلك تتضمن ممارسة بنيس‬ ‫َ‬ ‫شرط تجددها في بناء النصوص‪ .‬ولم تكن‬

‫هذه المغامرة تجريبًا ألشكال وأدوات نصية‪ ،‬بقدر ما كانت‬

‫ممارسة ذات توقيع شخصي يتميز بقوة الفعل واألثر في المعرفة‬ ‫الشعرية وإمكاناتها أثناء تتبع القارئ لها‪ .‬وبقراءته للمتن ال‬

‫يحس بالمختلف‪ ،‬بل يعيه‪ ،‬وذلك هو رهان شعرية بنيس‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ثالثا‪ :‬ال تنجذب‪ ،‬في الممارسة النصية‪ ،‬إلى المقوالت‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫يتعارض‬ ‫بل تخلق وتبني باستمرار ِصيَغاً لما يمكن أن يُكتب‪ .‬قد‬

‫الممكنُ‬ ‫النصي مع تلك المقوالت‪ ،‬سواءٌ أكانت فلسفية أم‬ ‫ُّ‬

‫موضوعا‬ ‫الكتابة لدى بنيس ليست‬ ‫ً‬ ‫موج ًبا‬ ‫مباشرا في نصوصه‪ ،‬وليست تمثيال‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫سمى‬ ‫م‬ ‫تحت‬ ‫موضوعاتي‬ ‫تصنيف‬ ‫ألي‬ ‫ُ َّ‬ ‫متجدد الحضور من‬ ‫سياق‬ ‫التجربة‪ ،‬ولكنها‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫خالل نصوص متجاورة ومتحاورة ومهاجرة‬ ‫بين مختلف الدواوين‬


‫محمد بنيس‪ ..‬الكتابة بتاريخيتها‬

‫شعرية أم جامعة بينهما؛ إذ تغدو ‪-‬في هذه الحال‪ -‬متعالية‬ ‫نفسها‪ ،‬فتلغي فاعلي َتها التي حفرتها بلغتها‬ ‫على جوهر الكتابة ِ‬

‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫مراجعة‪ ،‬بالقصيدة ومآلها‪،‬‬ ‫فعل‪ ،‬فهي‬ ‫وبما أن الكتابة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫شعرية في‬ ‫باعتبارات قد ال تكون‬ ‫مسكونا‬ ‫لهذا التاريخ الذي يظل‬ ‫ٍ‬

‫وغير متعين بشكل أو صيغة‪ ،‬وإنما يتخذ من الصيغ ذلك‬ ‫ُ‬ ‫المستم َّر الذي َّ‬ ‫والحركات الثالث التي‬ ‫يتأص ُل في المحو والنقصان‪.‬‬

‫في النظر أم في الممارسة؛ ويعني ذلك أنها في غنى عن أي تبرير‬

‫الخاصة‪ .‬ولهذا السبب كان الممكن‪ ،‬في ممارسة بنيس‪ ،‬متعددًا‬

‫تحدَّثنا عنها ً‬ ‫آنفا‪ :‬تفضية الكتابة‪ ،‬وإعادة الكتابة‪ ،‬ومادية الكتابة‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫نابعة من روح اإلبدال الذي تخلقه النصوص أثناء البناء‪ ،‬بطريقة‬ ‫متداخلة ومتفاعلة مع بعضها؛ فكل حركة تفضي إلى األخرى من‬

‫غير أن يكون إلحداها األسبقية أو األولوية على األخريين‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫فعل وليست ر َّد فعل‬ ‫هي‬

‫نفي أليِّ سلطة كيفما كانت طبيعتها؛ وال‬ ‫وهذا ما يفسر أنها ٌ‬ ‫يأتي هذا النفي َت َبعً ا أو ر َّد فعل بعدي لما يمكن أن تمارسَ ه تلك‬

‫ٌ‬ ‫وثابت‪ ،‬يتحرك بهذا األفق كلما كانت‬ ‫السلطة‪ ،‬بل هو مبدأ جوه ٌر‬ ‫ً‬ ‫مهيأة لتخريب أداة من أدواتها المنتجة‪.‬‬ ‫السلطة‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫خطاب‬ ‫وذات خطاب يناقض‬ ‫شعرية‬ ‫السلطة‬ ‫وقد تكون هذه‬ ‫َ‬

‫الكتابة من جهة النظر إلى الشعر في طبيعته ومآله‪ ،‬وإلى اعتباره‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫سلطة‬ ‫سؤال حياة حديثة وحداثية‪ .‬ولذلك فهي تشرعن االنفتاحَ‬ ‫ٌ‬ ‫وفعل مثب ٌ‬ ‫َت في‬ ‫للشعر‪ ،‬بما هو حوا ٌر له تاريخيته الكونية‪،‬‬ ‫النصوص القديمة والحديثة‪.‬‬

‫أصلها‪ ،‬ومن الطبيعي أال تكون ر َّد فعل تجاه بنية َقبْلية‪ ،‬سواء‬ ‫يمس أفق اختيارها إزاء بنية شعرية كالتقليدية أو الرومانسية؛‬ ‫فقد تكون مناقضة لهما في التصور والبناء لكنها ليست ر َّد فعل‬ ‫تجاههما سلبًا أو إيجابًا؛ ألنها تروم سؤالاً‬ ‫ً‬ ‫مختلفا ال يوجد في‬ ‫لتبني فعلها‬ ‫البنيتين معً ا‪ .‬وبهذا االختالف تنأى عن مسيرهما‬ ‫َ‬ ‫الخاص دون إي إلغاء‪.‬‬ ‫الهوامش‪:‬‬

‫(‪ )1‬عز الدين الشنتوف‪ :‬شعرية محمد بنيس‪ :‬الذاتية والكتابة‪ ،‬دار توبقال‬ ‫للنشر‪ ،‬ط‪ ،2014 ،1‬ص‪.99‬‬ ‫‪(2) Gilles Deleuze, L’image-Mouvement, éd.Minuit,‬‬ ‫‪Paris, 1983, P9‬‬ ‫(‪ )3‬ال نقصد بالتمثيل االصطالح البالغي الفج‪ ،‬بل نقصد به‪:‬‬ ‫‪ ،représentation inconditionnée‬كما صاغه بول ريكور في‬

‫كتابه‪la métaphore vive :‬؛ أي ما تنتجه النصوص من إمكانات‬ ‫خاصة بها‪ ،‬في المعجم والتركيب والخطاب؛ التماسً ا لخصيصة‬ ‫الكتابة‪ .‬وقد أكدنا في نهاية المقال على غياب التمثيل بالمعنى األول‪.‬‬ ‫(‪ )4‬محمد بنيس‪ ،‬األعمال الشعرية‪ ،‬ورقة البهاء‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪.24‬‬

‫حوار الكتابة والنأي عن التعبيرية‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫تضاعف ُ‬ ‫ٌ‬ ‫َّ‬ ‫يتقصى النظريات‬ ‫بحث ال‬ ‫بحثها عن ممكنها؛ غير أنه‬ ‫الكتابة شعري َتها في األبنية النصية‪،‬‬ ‫كلما اختبرت‬ ‫ويسقطها قس ًرا على النصوص‪ ،‬بل يكشف العناصر النظرية من داخلها عبر الحوار والمراجعة والتقريب‪ .‬ذلك هو مناطُ‬

‫ً‬ ‫عميقا مع المتغيرات النظرية في الشعريات العالمية‪ ،‬سواء تلك التي‬ ‫سؤال الكتابة عن ذاتها لدى بنيس‪ ،‬الذي أقام‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫جنسا في الشعر والنثر‬ ‫خاصا بإمكانه أن يغد َو‬ ‫الكتابة بديلاً مفهوميًّا عن األدب‪ ،‬أم تلك التي رأت الكتابة نسقا‬ ‫اختارت‬ ‫ً‬

‫على السواء‪ .‬وباالبتعاد عن التعبيرية أصبح «االنكتاب» ً‬ ‫أفقا نصيًّا يضاعف احتماالت التركيب بكل تجاوباته إلنتاج الداللية‪.‬‬ ‫وبهذه الصيغة توافقت «اليد الثالثة»‪ ،‬التي استشعرها بنيس في ممارسته‪ ،‬مع مجهول موريس بالنشو‪ ،‬ومع محتمل‬ ‫ٌ‬ ‫توافق يحتمي باللغة العربية‪ ،‬باعتبارها عنص َر حوار يمجدُ ماء الكتابة عبر إعادة قراءة‬ ‫نيتشه‪ ،‬وغائب جورج باطاي‪ .‬ولكنه‬

‫تاريخ منجزها الشعري وغير الشعري‪.‬‬

‫ومن الالفت للنظر أن النص المتعدد لدى بنيس‪ ،‬بعيدٌ كل البعد عن أي تمثيل كيفما كانت موارده وصيَغه‪ .‬ويعني‬ ‫موضوعا مباش ًرا في نصوصه‪ ،‬وليست تمثيلاً‬ ‫ً‬ ‫موجبًا ألي تصنيف موضوعاتي تحت مُ سمَّ ى التجربة‪،‬‬ ‫ذلك أن الكتابة ليست‬ ‫ِ‬ ‫ٌ‬ ‫نصوص متجاورة ومتحاورة ومهاجرة بين مختلف الدواوين‪ ،‬ال تقف عند وضع‬ ‫خالل‬ ‫من‬ ‫الحضور‬ ‫سياق متجد ُد‬ ‫ولكنها‬ ‫ٍ‬

‫واحد أو عنصر واحد ضمن آلية المشابهة‪ .‬إنها بعيدة‪ ،‬في اآلن نفسه‪ ،‬عن الترميز بحكم ماديتها التي َتحُ ُ‬ ‫ول دون المجاز‪،‬‬ ‫َ‬ ‫المحمولة بالقول؛ ولهذا يفرق محمد بنيس بين القول والكتابة؛ التماسً ا لذاكرة الحواس‬ ‫علمً ا بأنها تستدعيه لتبينَ حدود ُه‬

‫في حيويتها‪ ،‬بعيدً ا عن قصيدة الذاكرة‪ ،‬وقصيدة المعادل الموضوعي والقناع وغيرها‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫ذاتية تتشكل أثناء البناء‪ ،‬ال قبله وال بعده‪ .‬وفيه يجد محمد‬ ‫هذه بعض عناصر االقتراب من مادية الكتابة‪ ،‬بما هي‬

‫بنيس تاريخية ممارسته الشعرية بالحوار مع السالالت الشعرية الباذخة‪ ،‬عبورًا بين جنازة الذات وجنازة اللغة؛ حيث‬ ‫يس ُطره المستقبل‪.‬‬ ‫يرتفع نداء المنافي إلى بذرة المجهول وماء الكتابة في كتاب ْ‬

‫‪93‬‬


‫مقال‬

‫فيديل كاسترو‬ ‫واستقاللية القرار‬ ‫سعدي يوسف‬

‫شاعر عراقي‬

‫ً‬ ‫فلسفة‬ ‫في تأسيس الدوَل التي ّاتخذت االشتراكية‬

‫ً‬ ‫ُ‬ ‫التاريخ إلى معاينة أنموذجَ ين‬ ‫وتطبيقا‪ ،‬سوف يأخذنا‬ ‫متف ِّر َدين‪:‬‬

‫الصين‬

‫كوبا‬

‫‪94‬‬

‫وأعتقد أنّ لهذا التف ُّر ِد َ‬ ‫ُ‬ ‫اليد الطولى في ديمومة الخيار‬ ‫منظومة كاملةٌ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫البلدين‪ ،‬بينما انهارت‬ ‫االشتراكي‪ ،‬في هذين‬ ‫ّ‬ ‫االشتراكي‪ ،‬وعلى رأسه (كما كان‬ ‫لما كان يُسمى المعسكر‬ ‫ّ‬

‫يقال) االتحاد السوفييتي‪.‬‬

‫٭٭٭‬ ‫أهميّة فيديل كاسترو‪ ،‬النظرية‪ ،‬والتنظيمية‪ ،‬هي‬ ‫في أنه ّ‬ ‫ب على ما ُّ‬ ‫تغل َ‬ ‫مستحيل‪ ،‬في التوفيق‬ ‫أعده ِشبْه‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫بات السوفييتيّة‪ ،‬والخصائص المحليّة للثورة‬ ‫بين‬ ‫المتطل ِ‬

‫الكوبيّة‪.‬‬ ‫َ‬ ‫العنان لتشي غيفارا في القارة الالتينية‪.‬‬ ‫لقد أطلق ِ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وحافظ‪ ،‬هو‪ ،‬على كوبا‪ ،‬حرّة‪ ،‬مستقلة‪ ،‬اشتراكيّة حتى‬

‫هذه اللحظة!‬

‫٭٭٭‬

‫ما السبب؟‬

‫الصينيّون اختاروا سبيلهم في تطبيق نظرية ماركس‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫محليّةٍ ‪:‬‬ ‫أي أنهم أخضعوا ماركس لقراء ٍة‬ ‫بدلاً من الطبقة العاملة‪ ،‬جاء الفالّحون‪.‬‬ ‫الفالّحون هم الذين ّ‬ ‫شكلوا الجسمَ‬ ‫األساس لمسيرة‬ ‫َ‬

‫ماو الكبرى‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫والسبب بسيط‪ :‬لم تكن الصين ذات طبقة عامل ٍة يُعت ُّد بها‪.‬‬ ‫انتفاضة شانغهاي (الكالسيكية) في الثالثينيّات‪ُ ،‬قمِ عَ ْ‬ ‫ت‬

‫بليغا ّ‬ ‫درسا ً‬ ‫تعلم منه الشيوعيّون الصينيّون‬ ‫بسهولةٍ ‪ ،‬لتكون ً‬

‫الكثيرَ‪( .‬انظر « الوضع البشري » ألندريه مالرو)‪.‬‬

‫٭٭٭‬ ‫في كوبا يكاد الوضع‪ ،‬من الناحية النظرية‪ ،‬يتماثل مع‬ ‫الصيني في المَ ْـلمح العام‪.‬‬ ‫الخيار‬ ‫ّ‬

‫أعني فيما ّات َ‬ ‫صل بالطبقة العاملة‪.‬‬ ‫شكل الفالّحون‪ ،‬ال العمّ ُ‬ ‫في كوبا‪ ،‬كما في الصين‪ّ ،‬‬ ‫ال‪،‬‬

‫بِ ْن َ‬ ‫ية الحركة الثوريّة‪ ،‬التي تب ّن ْ‬ ‫ت فيما بَعْ ُد‪ ،‬تسمية «الحزب‬ ‫رفاقي من السوفييت‪.‬‬ ‫بضغط‬ ‫الكوبي»‪ ،‬ربّما‬ ‫الشيوعي‬ ‫ٍ‬ ‫ٍّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬

‫على أن هذا‪ّ ،‬‬ ‫الرجل ّ‬ ‫َ‬ ‫حقه‪.‬‬ ‫كله‪ ،‬لن يفي‬

‫َ‬ ‫يحفظ للشعب‬ ‫في زعمي أن فيديل كاسترو نجحَ في أن‬ ‫الكوبي‪َ ،‬‬ ‫كيانه‪ ،‬وفي أن هذا الكيان ال يقوم على األيديولوجيا‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫تعصف بها ريحٌ ما‪ ،‬وإنْ لم تكنْ هذه الريح‬ ‫وحدها‪ ،‬التي قد‬ ‫ً‬ ‫عاتية‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫فضل إرسائه الراسخ‪،‬‬ ‫الكيانُ الذي كان لفيديل كاسترو‬

‫ُ‬ ‫عاديات الدهر‪.‬‬ ‫تخض َدها‬ ‫مات ليس من اليسير أن‬ ‫ِ‬ ‫هو ذو مق ِّو ٍ‬ ‫من هذه المق ِّومات‪ ،‬تقويم الشخصية الكوبيّة‪ ،‬أي‬

‫االنتقال بها من شخصية التابع إلى شخصية الحُ رّ‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫معروف أن كوبا الجزيرة‪ ،‬كانت‪ ،‬قبل كاسترو‪ ،‬مَ ْقصفاً‬ ‫وملهً ى‪ ،‬ومُ رتب َ​َع ما َخ ّد َر وأسكرَ‪.‬‬

‫مات‪ .‬أمّ ا ُ‬ ‫كانت َ‬ ‫َ‬ ‫أهلها‪ ،‬فهم ضحايا‪،‬‬ ‫خدم‬ ‫أرض‬ ‫وخد ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫تات‪ ،‬ضحايا يجهلون في أيّ‬ ‫ُسعَ داءُ بما يُلقى عليهم من ُف ٍ‬ ‫مباء ٍة هم‪.‬‬

‫الناس كرام َتهم‪.‬‬ ‫كاسترو‪ ،‬أعا َد إلى‬ ‫ِ‬ ‫ليس عن طريق ُ‬ ‫ب العصماءِ ‪ ،‬مع أن فيديل كاسترو‬ ‫الخ َط ِ‬

‫َ‬ ‫ُ‬ ‫مخاطبيه‪.‬‬ ‫يستحوذ بسهولةٍ على‬ ‫كان خطيبًا مفو ًّها‪،‬‬


‫الملموس‪:‬‬ ‫الناس كرام َتهم‪ ،‬بالمنجَ ز‬ ‫كاسترو أعا َد إلى‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫توفير العمل الشريف‪.‬‬

‫اني‪.‬‬ ‫توفير التعليم الشامل المجّ ّ‬

‫توفير الخدمات الصحيّة المتقدمة‪.‬‬

‫٭٭٭‬

‫َ‬ ‫الكوبي ذا شخصيةٍ مرموقةٍ ‪ ،‬هو‬ ‫جعل الفر َد‬ ‫إلاّ أن ما‬ ‫ّ‬

‫ّ‬ ‫يتحدى‪:‬‬ ‫شعوره بأنه‬ ‫في‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫يتحدى الشظف‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫المشقة‪.‬‬ ‫يتحدى‬ ‫يتحدى الع َوز‪َ.‬‬ ‫ّ‬

‫خطيبا‬ ‫مع أن فيديل كاسترو كان‬ ‫ً‬ ‫الخ َط ِب‬ ‫ها فليس عن طريق ُ‬ ‫مفو ً‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫بسهولة على‬ ‫العصماءِ استحوذ‬ ‫ِ‬ ‫الناس‬ ‫أعاد إلى‬ ‫مخاطبيه‪ .‬كاسترو‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫الملموس‪ :‬توفير‬ ‫بالمنجز‬ ‫كرامتَهم‪،‬‬ ‫َ‬ ‫العمل الشريف‪ .‬توفير التعليم‬ ‫اني‪ .‬توفير الخدمات‬ ‫الشامل‬ ‫المج ّ‬ ‫ّ‬ ‫الصحية المتقدمة‬ ‫ّ‬

‫ّ‬ ‫يتحدى‪ ،‬في جزيرته‬ ‫لكنْ ‪ ،‬قبل ذلك كله‪ ،‬شعورُه بأنه‬ ‫ً‬ ‫الصغيرة‪ ،‬وبوسائله المحدودة‪ ،‬مقايَسة‪ ،‬أعتى‬ ‫ُ‬ ‫تبعد عنه أكثر من مئة‬ ‫قوّة استعماريّة‪ ،‬ال‬

‫ميل!‬ ‫ٍ‬

‫٭٭٭‬ ‫سوف تظل حياة‬

‫الرجل‪ ،‬فيديل كاسترو‪،‬‬ ‫َ‬ ‫موضع‬ ‫طويل‪،‬‬ ‫وألمدٍ‬ ‫ٍ‬ ‫وأمل!‬ ‫تأمُّ ٍل‬ ‫ٍ‬

‫لكنّ للدهر أحكامَ ه‪...‬‬ ‫ْ‬ ‫إذ ذك َر مَ ن زاروا كوبا‪ ،‬أعني‬

‫العارفينَ منهم‪ ،‬زمنَ راؤول‬

‫كاسترو‪ ،‬أن األمو َر تعود‪،‬‬

‫تدريجيًّا‪َ ،‬س ِج ّي َتها األولى‪ ،‬أي‬

‫قبل ‪1959‬م؛ سياحة‪ ،‬بغاء‪...،‬‬ ‫إلخ‬

‫اآلن‪ ،‬مع رحيل فيديل‪،‬‬

‫ومجيء ترمب‪...‬‬ ‫َ‬ ‫هل سيعو ُد العالمُ القديمُ‬ ‫إلى جزيرة الحرية؟‬

‫لندن في‬

‫‪2016/11/26‬م‬

‫‪9595‬‬


‫حوار‬

‫المفكر العربي أكد أنه ليس «أيديولوج ًّيا»‬ ‫وال يرغب في أن يكون داعية‬

‫فهمي جدعان‪:‬‬ ‫تحليل الواقع يعتمد على قول‬ ‫المفكر ال على رغبة المثقف‬

‫‪96‬‬

‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬


‫حاوره‪ :‬موسى برهومة كاتب وأكاديمي أردني ‪ -‬الجامعة األمريكية في دبي‬

‫ّ‬ ‫والتمثالت الفلسفيّة في مشاغله كافة‬ ‫يربط المفكر العربي الدكتور فهمي جدعان األفكار‬ ‫ّ‬ ‫المحددات التي يعوّل عليها من‬ ‫بمعين الوجدان‪ ،‬ونهر الحياة‪ ،‬وقوة األمل‪ ،‬فهذه في نظره من‬ ‫أجل تعبيد السبيل أمام األجيال القادمة‪ ،‬والحيلولة دون إنتاج المزيد من اآلفاق المسدودة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ويحلله ويوجهه‪ ،‬إلى المفكر وأدواته العلميّة‬ ‫ويعتقد جدعان أنّ المثقف يحتاج‪ ،‬كي يفهم الواقع‬ ‫والفلسفيّة المنضبطة والضابطة؛ ألنّ التعويل يكون على «قول» المفكر‪ ،‬ال على «رغبة» المثقف‪.‬‬ ‫ويدافع جدعان‪ ،‬المولود في قرية عين غزال بفلسطين المحتلة‪ ،‬عن حتميّة البرمجة الوجدانيّة‬ ‫ً‬ ‫وغدا‪ ،‬ففي نظره أنّ غياب هذه القيم والمبادئ‪ ،‬التي‬ ‫«الصحيّة»‪ ،‬النبيلة‪ ،‬ال ّنزيهة ألبنائنا‪ ،‬اليوم‬ ‫ّ‬ ‫التدلي والتخلف والعقم الذي ّ‬ ‫ّ‬ ‫يغلف‬ ‫يفسر‬ ‫ينبغي أن تقترن بها التربية الوجدانيّة‬ ‫المبكرة‪ ،‬هو الذي ّ‬ ‫ويتلبّس هذه األجيال المتأخرة من شعوبنا العربيّة‪.‬‬ ‫ويدعو يف مجمل نتاجه الفكري‪ ،‬وبخاصة كتبه األخرية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫والتمثالت واملواقف التي تفسد‬ ‫إىل تحرير اإلسالم من التصوّرات‬

‫وتيسر إصابته واإلساءة إليه‪ ،‬وربما ً‬ ‫أيضا‬ ‫صورته وتجور عليها‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫يحث أيضا عىل إقرار مبدأ‬ ‫الحي‪ .‬كما‬ ‫إقصاءه من لوح الوجود‬ ‫ّ‬ ‫لاً‬ ‫«التأويل» القرآين ‪ -‬باملعنى العقالين‪ -‬بدي ملبدأ القراءة الظاهريّة‬ ‫للنصوص‪ ،‬وهو ما يأذن بالتحوّل من سياسة «العنف» إىل سياسة‬ ‫«السلم» و«العدل» القرآنية‪ .‬ويعتقد صاحب «يف الخالص النهايئ»‬ ‫ِّ‬

‫أنّ الحركات الدينيّة ‪ -‬السياسيّة الحديثة تريد أن تجعل «زمن‬ ‫التاريخي زم ًنا أبديًّا‪ ،‬وأن تكون العالقة بني اإلسالم وبني‬ ‫الصراع»‬ ‫ّ‬ ‫املخالفني أو املختلفني عالقة «صراعيّة» دائمة‪ ،‬حتى بعد أن استق ّر‬ ‫إنساين‬ ‫أخالقي‬ ‫دينُ اإلسالم يف العالم وبني البشر بما هو دين‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫حضاريّ ‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ويف ضوء الشقاق والصراع واالختالف يف فهم وتمثل القيم‬

‫الدينيّة‪ ،‬يصبح الذهاب إىل نظريّة «إنسانيّة» كونيّة يف األخالق أم ًرا‬

‫ال مف ّر منه‪ ،‬كما يقول جدعان الذي يشدّد يف حواره مع «الفيصل»‬

‫عىل أنّ الغائيّة األساسيّة لدين اإلسالم تكمن يف مبدأ (العدالة)‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫شرع الله»‪.‬‬ ‫وإنه «حيثما ظهرت أمارات العدل فثمّ‬ ‫ودارت مشاغل جدعان‪ ،‬الذي حاز الدكتوراه من جامعة‬

‫السوربون بباريس‪ ،‬عىل تكريس هذه املفاهيم وتجذيرها منذ كتابة‬

‫«أسس التقدّم عند مفكري اإلسالم يف العالم العربي الحديث»‬ ‫الذي تبعه مؤلفات عدّة من بينها «نظرية الرتاث» و«املحنة»‬ ‫و«الطريق إىل املستقبل» و«املايض يف الحاضر» و«رياح العصر» و«يف‬

‫الخالص النهايئ» و«املقدّس والحرية» و«خارج السرب»‪ ،‬إضافة‬

‫إىل كتابيه األخريين «تحرير اإلسالم» و«مرافعة للمستقبالت‬

‫العربية املمكنة» اللذيْن سألناه عن بعض القضايا املستبطنة فيهما‪.‬‬ ‫هنا ّ‬ ‫نص الحوار‪:‬‬

‫● ترى ّ‬ ‫أن الحركات اإلسالميّة الثور ّية الراديكاليّة كـ«القاعدة»‬

‫و«داعش» تنهل من مرجعيّة نصيّة دينيّة‪ .‬هل يعني ذلك ّ‬ ‫أن‬ ‫أفعالها «شرعيّة» أم ّ‬ ‫نزعات‬ ‫التأسييس‬ ‫الديني‬ ‫أن يف النص‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫«عنفيّة»‪ .‬وما السبيل إىل الخروج من هذا املأزق؟‬ ‫‪ -‬قلت وأقول دومًا‪ ،‬وأكرر أنّ العقدة األساسيّة؛ العقدة‬

‫البنيويّة يف مشكل الحركات اإلسالميّة السياسيّة‪ ،‬سوا ٌء أكانت‬

‫اإلبيستيمولوجي الذي‬ ‫ثوريّة راديكاليّة‪ ،‬أم غري ذلك‪ ،‬تكمن يف املنهج‬ ‫ّ‬ ‫يحكم عالقة ّ‬ ‫ّ‬ ‫الديني‪ ،‬أعني يف طريقة‬ ‫بالنص‬ ‫منظري هذه الحركات‬ ‫ّ‬

‫فهمهم للمعطيات الدينيّة أو للمعطيات التاريخيّة ذات العالقة‬

‫بأصول دينيّة‪.‬‬

‫ّ‬ ‫املسلمات التالية‪:‬‬ ‫يقوم هذا املنهج‪ ،‬عند هذه الحركات‪ ،‬عىل‬ ‫هي أولاً ذات نزعة «ذريّة»‪ ،‬بمعنى أنها تجتزئ بال ّنصوص املفردة‬

‫وبالوقائع الجزئية‪ ،‬وتقوم بعملية تجريد وتعميم يخرتقان‬ ‫ويتجاوزان املكان والزمان والتاريخ‪ ،‬وال تلتفت إىل الوجوه العالئقيّة‬

‫«الهولستي»‬ ‫التي تربط بني الجزيئ وبني الكيل‪ ،‬أو بني «الذريّ » وبني‬ ‫ّ‬ ‫الشمويل‪ .‬وهي ثانيًا ال تأبه بتاريخية ال ّنصوص التي تيسء بها‬ ‫أو‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫عىل األقل «أسباب النزول»‪ .‬وهي ثالثا تتعلق براديكاليّة مسرفة يف‬

‫القراءة «الظاهريّة» للنصوص الدينيّة‪ ،‬وال تعرتف بأنّ يف النصوص‬ ‫ً‬ ‫نصوصا ال يمكن‪ ،‬وال يجوز أن ُتفهم عىل ظاهرها‪ ،‬وأنّ فهمها‬ ‫الدينيّة‬

‫اإلسالمي‪ ،‬حتى‬ ‫الديني‬ ‫عىل الظاهر يُلحق إساءات بالغة باالعتقاد‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫عندما ترفض قراءة آية املحكم واملتشابه والظاهر واملؤوّل قراءة‬

‫قائمة عىل مبدأ العطف‪ ،‬ال االستئناف‪ ،‬أعني القراءة االعتزاليّة‬ ‫والرشديّة التي تجعل «التأويل» لله وللراسخني يف العلم‪ً .‬‬ ‫عطفا عىل‬

‫ً‬ ‫نصوصا يف القتال والجهاد‬ ‫التأسييس‬ ‫الديني‬ ‫هذا أقول‪ :‬إن يف ال ّنص‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ويف التقابل «العنيف» الذي ييش كله‪ ،‬يف ظاهر النص ويف الواقع‬ ‫املشخص‪ ،‬بهذا الذي ينسب إىل «نزعات عنفيّة»‪ .‬لكنّ الحقيقة هي‬

‫‪97‬‬


‫حوار‬

‫أننا لسنا بإزاء «نزعة» بقدر ما نحن بإزاء وقائع تفرض «العنف»‪،‬‬ ‫لكنه العنف املتبادل الذي يفرضه «الصراع»؛ ألنّ ّ‬ ‫كل النصوص التي‬

‫تيش بمظاهر العنف مقرتنة بحالة «الصراع» التاريخي التي تبلورت‬

‫والتاريخي الذي نجم بسبب هذا التقابل بني «األوضاع القائمة» وبني‬ ‫ّ‬

‫متفاوتة‪ ،‬ال ّ‬ ‫يسلم باألفهام نفسها لهذه القيمة أو تلك‪ ،‬فيحدث من‬ ‫«إنساين»‬ ‫ذلك التضاد والتقابل واالختالف‪ .‬ويصبح اللجوء إىل سُ ّلم‬ ‫ّ‬

‫تريد الحركات الدينية ‪ -‬السياسية الحديثة أن تجعل «زمن‬ ‫التاريخي زم ًنا أبديًّا‪ ،‬وأن تكون العالقة بني اإلسالم وبني‬ ‫الصراع»‬ ‫ّ‬

‫الديني» الذي ّ‬ ‫تتمثله الحركات الدينيّة ‪ -‬السياسيّة‬ ‫تعتقد أنّ «اآلمر‬ ‫ّ‬

‫غداة انبعاث الرسالة اإلسالميّة‪ ،‬ويف أعطاف «التناقض» الوجوديّ‬ ‫«األوضاع املستجدة»‪.‬‬

‫املخالفني أو املختلفني عالقة «صراعيّة» دائمة‪ ،‬حتى بعد أن استق ّر‬ ‫إنساين‬ ‫أخالقي‬ ‫دينُ اإلسالم يف العالم وبني البشر بما هو دين‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يتطلب حلاًّ‬ ‫ّ‬ ‫وكاريث‪ .‬لذلك هو‬ ‫حضاريّ ‪ .‬هذا خِ يار‪ ،‬لكنه خِ يار بائس‬ ‫ّ‬ ‫تجاوزيًّا‪ ،‬وهذا الحل يكمن عندي يف ثالثة أمور‪:‬‬

‫األول‪ :‬الدفاع عن إسرتاتيجيّات معرفيّة تع ّزز مبدأ «تاريخيّة»‬

‫النصوص الدينيّة «الصراعيّة»‪ ،‬وما يقاربها من نصوص «مربكة»‬

‫ُ‬ ‫الدراسات التاريخية واملفهومية املعمّقة توجي َه فهمهما‬ ‫تتطلب‬ ‫توجيهًا سديدًا‪.‬‬

‫«الجزيئ» أو ّ‬ ‫«الذريّ »‬ ‫املنهجي املستند إىل ر ّد‬ ‫الثاين‪ :‬تعزيز الفهم‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫«الكيل» أو «العام» أو «الهولستي» أي املقاصديّ ‪.‬‬ ‫إىل‬ ‫ّ‬ ‫لاً‬ ‫الثالث‪ :‬إقرار مبدأ «التأويل» القرآين ‪ -‬باملعنى العقالين‪ -‬بدي ملبدأ‬

‫‪98‬‬

‫الدين‪ ،‬تاريخيًّا‪ ،‬ليشري إىل سُ ّلمه الخاص يف القيم‪ .‬لكنّ قراءة األفكار‬ ‫و«ال ّنصوص» يف الديانات املختلفة تتفاوت يف شأن هذه القيم‪ .‬وهي‪،‬‬ ‫باألغلبي من هذه القيم‪ ،‬لكنّ بعضها‪ ،‬يف قراءات‬ ‫يف جملتها‪ُ ،‬ت ْزهى‬ ‫ّ‬

‫القراءة الظاهريّة للنصوص‪ .‬هذه املبادئ تأذن‪ ،‬بصراحة‪ ،‬بالتحوّل‬ ‫«السلم» و«العدل» القرآنية‪.‬‬ ‫من سياسة «العنف» إىل سياسة ِّ‬

‫● يف ضوء ذلك‪ ،‬هل يحتاج اإلنسان املسلم يف هذه القنطرة‬ ‫الحضار ّية امللتبسة إىل نظرية أخالق جديدة تنهل‬ ‫الديني؟‬ ‫اإلنساين أكرث مما تنهل من‬ ‫من‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫ َ‬‫أنت تعلم أنني لست «داعية إسالميًّا»‪،‬‬

‫إنساين‬ ‫لذا فإنني ال أوحّ د‪ ،‬بالضرورة‪ ،‬بني ما هو‬ ‫ّ‬ ‫ديني‪ .‬وال أعتقد أنّ املرء ينبغي أن يكون‪،‬‬ ‫وما هو‬ ‫ّ‬ ‫بالضرورة‪« ،‬متد ّي ًنا» أو «ذا دين» محدّد ليك يكون‬ ‫«أخالقيًّا»‪ .‬ثمة ثلة من القيم «املطلقة» التي يتبيّنها‬

‫اإلنساين وتطلبها الطبيعة اإلنسانية «املكوَّنة»‬ ‫العقل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫اجتماع ًيا وثقاف ًيا‪ .‬هذه القيم ال مف ّر منها لكل البشر‪:‬‬ ‫العدل‪ ،‬والحرية‪ ،‬والتواصل‪ ،‬والكرامة‪ ،‬والخري‪،‬‬

‫والسعادة‪ ،‬والفضيلة‪ ،‬والنزاهة‪ ،‬واملحبّة‪ ...‬كلها‬

‫ابتدا ًء ذات طبيعة «إنسانيّة» سابقة للدين‪ .‬ثم يأيت‬

‫األساسية في مشكل الحركات‬ ‫العقدة‬ ‫ّ‬

‫السياسية‪ ،‬تكمن في المنهج‬ ‫اإلسالمية‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫اإلبيستيمولوجي الذي يحكم عالقة‬ ‫ّ‬ ‫الديني‬ ‫بالنص‬ ‫منظري هذه الحركات‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬

‫َ‬ ‫متوافق عليه كونيًّا‪ ،‬أم ًرا حتميًّا وضرور ًّيا‪ْ .‬‬ ‫العربي الراهن‪،‬‬ ‫خذ زمننا‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫وما أحَ ل َت إليه من أمر «هذه القنطرة الحضارية امللتبسة»‪ ..‬هل‬

‫اإلسالميّة اليوم ‪ -‬وهو اآلمر املستند إىل مبدأ «الثورة العنيفة»‬ ‫واالقتتال الذايت والتقابل الذي ال يرحم‪ -‬يصلح ألن يكون مبدأً‬ ‫ّ‬ ‫ألخالق «إنسانيّة» حقيقيّة سعيدة‪ ،‬فضلاً عن أن يكون مبدأً ألخالق‬ ‫دينية «رحيمة» و«عادلة»؟!‬

‫ّ‬ ‫وتمثل القيم‬ ‫يف ضوء الشقاق والصراع واالختالف يف فهم‬

‫الدينيّة‪ ،‬يصبح الذهاب إىل نظريّة «إنسانيّة» كونيّة يف األخالق أم ًرا ال‬

‫مف ّر منه‪ .‬هذا ال يعني أننا نحن يف اإلسالم نضادّ‪ ،‬بالضرورة‪ ،‬مثل هذه‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫املتصلبة‬ ‫التمثالت املعاصرة‬ ‫خالفا ملا تجري عليه‬ ‫النظريّة‪ .‬أنا أعتقد‪،‬‬ ‫لدين اإلسالم‪ ،‬أنّ هذا الدين الرحيم يحمل يف «أصوله البذريّة» ويف‬ ‫معطياته املُحكمة‪ ،‬ما يوافق نظرية إنسانيّة كونيّة يف األخالق‪ .‬لكنّ‬

‫تأوييل لل ّنصوص الدينيّة‬ ‫هذه النظرية ال تستقيم إال يف حدود منهج‬ ‫ّ‬

‫«املتشابهة»‪ .‬وأنا أعتقد أنّ القيم األخالقيّة العليا التي ينطوي عليها‬ ‫الديني) ُتوافق القيم اإلنسانية العليا‪ ،‬وال تضادّها‪.‬‬ ‫(ال ّنص‬ ‫ّ‬ ‫سقوط األيديولوجيا بدعة‬ ‫● لعل هذا األمر ُيحيلنا إىل النظر يف‬

‫األيديولوجيا‪ .‬فهل ما زال لأليديولوجيا مكان‬ ‫يف العالم املعاصر‪ .‬هل ّ‬ ‫تفككت املنظومات‬ ‫األيديولوجيّة‪ ،‬أم أنها أعادت تموضعها‪،‬‬

‫وإنتاج مقوالتها بشكل عنيف‪ .‬وهل العنف‬

‫أيديولوجيا‪ ،‬أم هو محض شظايا لتطاير‬ ‫األفكار عىل نحو فوضويّ عاصف؟‬

‫‪ -‬الدعوى الزاعمة بسقوط األيديولوجيا‬

‫«بدعة» اخرتعتها الرأسمالية الغربيّة الظافرة‬ ‫السوفييتي وأيديولوجيته‬ ‫غداة انهيار االتحاد‬ ‫ّ‬ ‫املاركسيّة؛ أي غداة انهيار الشيوعيّة‪ .‬لكن كيف‬

‫يقال‪ :‬إن األيديولوجيا قد انحسرت من العالم‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫عميقا لليرباليّة‬ ‫وتجذرًا‬ ‫املعاصر‪ ،‬ونحن نشهد صعودًا وانتشارًا‬

‫الجديدة (النيو‪ -‬ليرباليّة)؟ أليست (الليرباليّة الجديدة) ‪ -‬وهي النقيض‬

‫الجذريّ للشيوعيّة واملاركسيّة‪ -‬أيديولوجيا؟ والعلمانيّة الراديكاليّة‬

‫السيايس» أليس أيديولوجيا؟‬ ‫أليست أيديولوجيا؟ و«اإلسالم‬ ‫ّ‬ ‫الحقيقة أنّ ما ّ‬ ‫تفكك وتراجع‪ ،‬يف حدود‪ ،‬هو ما يسميه فالسفة‬

‫(ما بعد الحداثة) «السردي ُ‬ ‫ّات الكربى» كالعقل‪ ،‬والعلم‪ ،‬واليقني‪.‬‬


‫فهمي جدعان‪ :‬تحليل الواقع يعتمد على قول المفكر ال على رغبة المثقف‬

‫مثلاً ‪ ،‬مثلما يقول الشيخ القرضاوي‪ ،‬دولة مدنيّة بمرجعية إسالمية!‬

‫سيايس‪-‬‬ ‫اجتماعي‪-‬‬ ‫شمويل فكريّ ‪-‬‬ ‫أما األيديولوجيا‪ ،‬بما هي نظام‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أخالقي‪ ،‬فإنها ما زالت حية ترتع‪ ،‬وبشدة وعنف ال يقلاّ ن‬ ‫اقتصاديّ ‪-‬‬ ‫ّ‬ ‫عن شدة األيديولوجيّات اآلفلة وعنفها‪ .‬هل العنف أيديولوجيا؟‬

‫الدينيّة‪ ،‬أعني الدولة التي تستقي قوانينها وشرائعها وسياساتها‬

‫من ارتكاسات الغضب واالحتجاج أو الرفض أو القهر أو الخلل يف‬

‫االعرتاف بأنّ «الدولة املدنيّة» الحديثة‪ ،‬أي الدولة الغربيّة‪ ،‬دولة ال‬

‫ال‪ ،‬العنف ليس أيديولوجيا؛ ألنه مج ّرد «موقف» أو «ارتكاسة»‬ ‫«الربمجة الوجدانيّة» للعنيف‪ ،‬وهو ليس «منظومة فكريّة» شمولية‬ ‫وجامعة لكل األنشطة اإلنسانية املوجّ هة لرؤية شاملة للفرد‬

‫واملجتمع والدولة‪.‬‬

‫بمعنى آخر‪ ،‬الدولة املدنيّة دولة تقال عىل الدولة املضادة للدولة‬

‫النظريّة والعمليّة من الدين نفسه‪ ،‬بما هو وحي‪ .‬وبهذا املعنى ينبغي‬ ‫تقبل بتطبيق أحكام الشريعة مثلما يريد دعاة مبدأ «الحاكميّة»‪ .‬لك‬

‫أن تسميها دولة علمانية‪ .‬هذه التسمية مطابقة تمام املطابقة حني‬ ‫يتعلق األمر بالعلمانيّة الراديكاليّة‪« ،‬علمانيّة‬ ‫الفصل» التي ُتقيص الدين وأحكامه من املجال‬

‫● تحدثت عن مبدأ «التأويل» القرآين – باملعنى‬

‫والقانوين‪ .‬لكنّ األمر يختلف بعض‬ ‫السيايس‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫االختالف حني نتكلم عىل «علمانيّة الحياد»‪،‬‬

‫العقالين‪ .‬فهل يحتاج املسلمون اآلن إىل «مارتن‬

‫لوثر» عىل غرار ما جرى يف التجربة األوربيّة‪ .‬أم ّ‬ ‫أن‬

‫التي ال تضا ّد الدين مثلما تفعل العلمانيّة‬

‫عوائق كأداء تحول دون ذلك؟‬

‫الراديكاليّة‪ ،‬وترتك املجال مفتوحً ا للحياة‬

‫ً‬ ‫انشقاقا‬ ‫‪( -‬مارتن لوثر) و(جان كالفان) أحدثا‬

‫الدينيّة واألنشطة الدينيّة‪ ،‬أي أنها تحافظ أو‬

‫الديني» لم ُتصلح‬ ‫بتعبري آخر «حركة اإلصالح‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫انشقاقا فيها‪ :‬بروتستانتيّة‬ ‫املسيحية بقدر ما أحدثت‬

‫تتمسك باالعتقاد بأنّ تشريعات الدولة ينبغي‬ ‫ّ‬

‫تحفظ للمؤمنني حقوقهم الدينيّة‪ ،‬بل إنها تقدّم‬ ‫املساعدات املاديّة للمؤسسات الدينيّة‪ ،‬لك ّنها‬

‫يف املسيحية‪ ،‬و(حركة اإلصالح) هي عنوان هذا‬ ‫االنشقاق الذي ّ‬ ‫جذر «االختالف» يف هذه الديانة‪.‬‬

‫أن تكون «إنسانيّة»‪ .‬أيهما أقرب إىل الصواب؟‬

‫املسألة مسألة «اختيار» ال مسألة صواب وصدق‬ ‫ّ‬ ‫تتدخل‬ ‫وحقيقة‪ .‬أعتقد أنّ الظروف التاريخية‬

‫من طرف‪ ،‬وكاثوليكيّة من طرف آخر‪ .‬هذا االنشقاق‬

‫حاصل عندنا يف اإلسالم منذ زمن بعيد‪ ،‬وهو ماثل يف التقابل‬ ‫ّ‬ ‫يتعذر إصالحه عىل املدى املنظور‪،‬‬ ‫الشيعي‪ .‬وهو تقابل‬ ‫الس ّن ّي –‬ ‫ّ‬ ‫وبخاصة أنه بات يتخذ طابعً ا سياس ًّيا حا ًّدا‪ ،‬عىل الرغم من أنه أصلاً‬ ‫السني عىل وجه‬ ‫ذو بذور وعوارض سياسيّة‪ .‬املشكل يف اإلسالم‬ ‫ّ‬ ‫الخصوص هو أنّ «النواة القاعديّة» العقدية فيه لم تستجب لجهود‬

‫اإلصالح التي بدأت منذ محمد عبده‪ ،‬وأنّ «الرؤية االتباعية» صلبة ال‬

‫ً‬ ‫صيغا متفاوتة يف قبالة هذا املشكل‪ .‬وفيما يتعلق بنا نحن‪،‬‬ ‫وتفرض‬

‫وبدين اإلسالم‪ ،‬اليوم‪ ،‬نالحظ أنّ الدين‪ ،‬يُوجَّ ه إىل صيغة أيديولوجية‬ ‫ّ‬ ‫أتمثله أنا شخصيًّا لهذا‬ ‫سياسيّة راديكاليّة‪ ،‬تضاد التصوّر الذي‬

‫الدين بما هو منظومة اعتقاديّة‪ ،‬أي إيمانيّة‪ ،‬ذات ماهيّة إنسانيّة‪،‬‬ ‫وأخالقيّة‪ ،‬وحضاريّة‪ ،‬وجماليّة‪ ،‬تتوافق مع «علمانيّة الحياد» ال مع‬

‫«علمانيّة الفصل»‪ .‬أي مع «دولة مدنيّة» تصون الدين من التعدّيات‬

‫تتقبّل «االجتهادات» الجديدة‪ ،‬وال تطيق مقاربة «الرؤية اإلسالميّة»‬ ‫ّ‬ ‫التقليدية مقاربة إبداعيّة‪ .‬العوائق كأداء ّ‬ ‫ويجذر من‬ ‫بكل تأكيد‪،‬‬

‫واإلساءات‪ ،‬وتحفظ ألهله الحريّة والكرامة والعدل التي هي قيم‬

‫األقىص‪ .‬ثم إنني أعتقد أنّ اقرتان الحداثة بالحركة االستعماريّة‬ ‫الغربيّة قد ّ‬ ‫قلص فرص التأثريات اإليجابيّة التي يمكن للحداثة أن‬

‫● يف سياق متصل‪ ،‬تقول يف كتابك األخري «مرافعة‬

‫الصعوبات فيها أنّ اإلنكار والرفض أصبحا مقرتنينْ بالتكفري والعنف‬

‫تجريها يف النزعات االجتهاديّة اإلسالميّة‪ .‬وهذه نقطة خطرية لم‬ ‫يتنبّه إليها دارسو هذه النزعات‪.‬‬

‫مشرتكة بني الدين وبني الدولة اإلنسانيّة العادلة‪.‬‬

‫للمستقبالت العربيّة املمكنة»‪ّ :‬‬ ‫إن «الدولة العربيّة الحديثة ال‬ ‫تستطيع أن تستمر يف التشبّث بالقيم الدارسة يف الحكم‪ ،‬أو أن‬

‫تتجاهل عىل الدوام الحقائق الثاوية وراء ّ‬ ‫تقدم العالم الحديث‬

‫● يثار بني الفينة واألخرى حديث عن الدولة املدنيّة‪ .‬ثمة من‬

‫وظفر الحداثة وأهلها» وتنبّه الستمرار االرتهان إىل مبدأ السيّد‬

‫إىل ّ‬ ‫أن الدين والدولة املدنيّة ليسا متعارضني‪َ .‬من مِن الطرفني يف‬

‫إىل منظومة األخالق والقوانني أكرث من استناده إىل التص ّورات‬

‫علماين‪ ،‬وهناك من يذهب‬ ‫يرى أنها ال تتحقق إال يف ظل نظام‬ ‫ّ‬

‫ظنك أقرب إىل الصواب ومعقوليّة التطبيق؟‬

‫‪ -‬ال ينبغي أن نخدع أنفسنا‪ .‬الدولة املدنيّة دولة تحتكم إىل‬

‫اإلنساين‪ ،‬إىل الخربة اإلنسانيّة‪،‬‬ ‫االجتهادات البشريّة‪ ،‬إىل العقل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال إىل «الشرائع الدينيّة» الوَحْ يية عىل النحو الذي يتمثله القائلون‬ ‫بالدولة الدينيّة‪ ،‬أو الدولة «ذات املرجعيّة الدينيّة» أو اإلسالميّة‬

‫والعبد يف عالقته مع املواطنني‪ ،‬أليس هذا أمرًا دنيويًّا يستند‬ ‫الدينيّة؟‬

‫ هذا التقدير صحيح‪ .‬أعني أنّ منظومة القيم واملبادئ التي‬‫ّ‬ ‫مسلمات‬ ‫تحكم املجتمع والدولة ينبغي أن تكون ابتدا ًء مستقاة من‬

‫العقل‬ ‫اإلنساين‪ ،‬ومن مقتضيات وضرورات الواقع الدنيويّ‬ ‫ّ‬ ‫التاريخي‪ ،‬ومن الخربة البشريّة التي تحتكم ملبادئ العدالة‪ .‬لكن‬ ‫ّ‬

‫‪99‬‬


‫حوار‬

‫ّ‬ ‫للمسلمات‬ ‫ليس معنى ذلك أنّ هذه املنظومة هي بالضرورة مضادة‬

‫الدينيّة البديهيّة‪ ،‬وبخاصة حني أقول‪ ،‬يف أمر دين اإلسالم بالذات‪:‬‬

‫إنّ الغائيّة األساسيّة لهذا الدين تكمن يف مبدأ (العدالة)‪ ،‬وإنه‬ ‫ُ‬ ‫شرع الله»‪ ،‬وأضيف أنّ القيم‬ ‫«حيثما ظهرت أمارات العدل فثمّ‬ ‫العليا اإلنسانية كامنة يف «األصول البذريّة» والنصوص «امل ُ َ‬ ‫حكمة»‬

‫ّ‬ ‫الديني) الذي هو عندي ذو ماهيّة إنسانيّة‬ ‫(النص‬ ‫لهذه القيم يف‬ ‫ّ‬ ‫أخالقيّة أولاً وآخ ًرا‪ ،‬وأنّ فهم جميع ال ّنصوص ينبغي أن يوجّ ه هذه‬ ‫الوجهة استنادًا إىل مبدأَ ِي املُحكم واملؤوّل‪.‬‬ ‫َ‬ ‫سألت نفسك‪ ،‬يف حوار سابق‪ :‬إن كان اإلسالم نفسه‪ ،‬بما‬ ‫●‬ ‫هو رؤية أنطولوجيّة عقد ّية تد ُّينيّة حضار ّية‪ ،‬يتقبّل الديمقراطيّة‬

‫َ‬ ‫والعلمانيّة الحياد ّية‬ ‫التمثيليّة‪ ،‬والليرباليّة االجتماعيّة‪،‬‬ ‫الليرباليّة‪ ،‬ال علمانيّة الفصل الجذر ّية‪ .‬وسألت ً‬ ‫أيضا‪َ :‬م ْن هم‬

‫املسلمون الذين يمكن أن «يتكيّفوا» أو «يتوافقوا» مع هذه املبادئ؟‬

‫ُ‬ ‫سألت هذا السؤال يف (املرافعة‪ ،)..‬وسواه‪ ،‬يف أكرث من‬ ‫ نعم‪،‬‬‫ً‬ ‫إيجابي؛ ألنني أعتقد يقينا أنّ اإلسالم هو قبل كل يشء‬ ‫حوار‪ ،‬عىل نحو‬ ‫ّ‬ ‫آخر «دين»‪ ،‬أي أنه منظومة من العقائد األنطولوجيّة وامليتافيزيقيّة‬

‫اإللهيّة ‪-‬أو الالهوتيّة‪ -‬املسيّجة بمنظومة من القيم األخالقية الرفيعة‬

‫القمينة بأن تحوّل اإلنسان من «حالة الطبيعة» إىل «حالة الثقافة»‪،‬‬

‫‪100‬‬

‫وإنساين أخالقي قائم عىل العدل والرحمة‬ ‫يف حدود نسق حضاريّ‬ ‫ّ‬ ‫واملساواة والفضيلة والحرية‪ .‬وقلت‪ :‬إنّ «إسالم األغلبيّة» إسالم‬ ‫«التيّار العام» أو الـ (‪ -)main stream‬ال اإلسالم‬

‫يتقبّل العلمانيّة الحياديّة الليرباليّة؛ ألنه ال يطلب إال ممارسة حياته‬ ‫االعتقاديّة الدينيّة بدون قسر أو قهر‪ ،‬وأنّ هذه الصيغة من العلمانيّة‬

‫االجتماعي‪.‬‬ ‫الحياديّة تحرص عىل «حفظ الدين» ودعمه يف الفضاء‬ ‫ّ‬

‫صحيح أنها ال تقبل بمبدأ «الحاكميّة» الذي يميّز الحركات‬

‫الدينيّة ‪ -‬السياسيّة الراديكاليّة‪ ،‬لكنّ املؤمن يف حياته املجتمعيّة ال‬ ‫يطلب أكرث من أن ُتصان له حريته ودينه ومعتقداته وشعائره‪ ،‬مما‬

‫يدخل يف وظيفة «الدولة العادلة»‪ .‬وأنا أعتقد أنّ عنصر اإلشكال ال‬ ‫يكمن يف املضمون‪ ،‬إنما يف الذيول واألطياف السلبيّة التي تتلبّس‬

‫مصطلح «العلمانيّة»‪.‬‬

‫املشكل يكمن يف املصطلح‬ ‫ً‬ ‫وتحديدا يف كتابك «تحرير اإلسالم ورسائل‬ ‫● ألهذا تعتقد‪،‬‬

‫زمن التحوالت»‪ ،‬أنه من األجدى أن ندعو إىل «إسالم متصالح‬ ‫ً‬ ‫عوضا عن «إسالم‬ ‫مع العلمانيّة‪ ،‬أو «علمانيّة موافقة لإلسالم»‪،‬‬ ‫علماين»‪ .‬وتأمل أن يفيض املستقبل بعصر آخر يتقبّل املفهوم‬ ‫ّ‬ ‫ويهضمه‪ .‬أهو «رهاب العلمانيّة»؟!‬

‫ أك ّرر ما قلته قبل قليل‪ .‬املشكل يكمن يف املصطلح‪ ،‬ويف‬‫العربي املعاصر‪ ،‬إذ ّ‬ ‫تمكنت الحركات‬ ‫السلبي يف العالم‬ ‫تاريخه‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الدينيّة التقليديّة واألصوليّة من «شيطنة املصطلح»‪ .‬وأسهم كثري‬ ‫من العلمانيني يف تعزيز هذه الشيطنة؛ ألنهم تمرتسوا دومًا وراء‬

‫املفهوم الفرنيس للعلمانيّة‪ ،‬أعني «علمانيّة الفصل» املناهضة لكل‬

‫دعوى أو رؤية دينيّة‪ ،‬وذهب فريق منهم إىل تقديم هذا املصطلح بما‬ ‫هو قرينٌ لإللحاد‪ّ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫لست‬ ‫فولد ذلك ما أسمي َته «رهاب العلمانية»! أنا‬

‫السيايس الذي هو محض «أيديولوجيا»‬ ‫ّ‬ ‫تمتح من امليكافيليّة والخداع ونشدان‬

‫«أيديولوجيًّا» عىل الرغم من جنوحي إىل هذه الصيغة أو تلك يف‬

‫الديمقراطيّة التمثيليّة؛ ألنها تعبري‬

‫«داعية» لهذه الصيغة أو تلك من العلمانيّة‪ ،‬وأتوق إىل تجاوز هذه‬

‫املنفعة الخالصة والسيطرة‪ -‬يتقبّل‬ ‫عن اإلرادة العامة للشعب أو‬ ‫األمة‪ ،‬وهذا يُوافق صريح النصوص‬ ‫الدينيّة‪ .‬وأنّ (إسالم التيار‬

‫األغلبي) يتقبّل‬ ‫العمومي أو‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الليرباليّة االجتماعيّة؛ ألنّ‬

‫هذه الليرباليّة تعني الحريّة‬

‫لجميع أفراد املجتمع والعدالة‬ ‫واملساواة لكل املواطنني‪ ،‬وهذا ً‬ ‫أيضا‬ ‫يُوافق صريح ال ّنصوص الدينية‪ ،‬وأنّ‬ ‫األغلبي)‬ ‫العمومي أو‬ ‫(إسالم التيار‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫مجال األفكار والنظم االجتماعية‪ -‬السياسية‪ .‬وال أرغب يف أن أكون‬

‫املصطلحات التي باتت «صدئة»‪ .‬ما أطلبه اليوم وغدًا هو أن يحمل‬

‫املستقبل لشعوبنا العربيّة وألجيالنا القادمة‪ ،‬عىل وجه التحديد‪،‬‬

‫العربي العدالة والحريّة‬ ‫«الدولة العادلة»‪ ،‬التي تكفل للمواطن‬ ‫ّ‬ ‫والرفاهيّة واالستقالل واإلرادة وال ّنزاهة والطمأنينة‪ ،‬وما أسماه أبو‬ ‫الحسن املاوردي قديمًا «األمل الفسيح»‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫بعض التحليالت االجتماعيّة والنفسيّة إىل تص ّور‬ ‫● تميل‬ ‫تاريخي لثقافتهم‪،‬‬ ‫تاريخي لألفراد‪ ،‬بمعنى أنهم امتداد‬ ‫كيان‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫شمولي‬ ‫األيديولوجيا‪ ،‬بما هي نظام‬ ‫ّ‬ ‫اقتصادي‪-‬‬ ‫سياسي‪-‬‬ ‫اجتماعي‪-‬‬ ‫فكري‪-‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أخالقي‪ ،‬ما زالت حية ترتع‪ ،‬وبشدة‬ ‫ّ‬ ‫األيديولوجيات‬ ‫وعنف ال يقالن عن شدة‬ ‫ّ‬ ‫اآلفلة وعنفها‬

‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬


‫فهمي جدعان‪ :‬تحليل الواقع يعتمد على قول المفكر ال على رغبة المثقف‬

‫َّ‬ ‫املؤسسة عىل العنف‪ ،‬وتسويغ اإلذعان‬ ‫ونتاج لها‪ .‬فالثقافة‬ ‫ً‬ ‫طريقا إىل العفة‪ ،‬هي التي‬ ‫بوصفه طاعة‪ ،‬وقهر النساء بوصفه‬

‫ُتنجب أدبيّات دينيّة تمجّ د العنف‪ ،‬وتدعو إىل إحراق املخالفني‬ ‫وسوْمهم سوء العذاب‪ .‬ولنا يف تراثنا ّ‬ ‫أدلة كثرية عىل ذلك‪َ .‬‬ ‫َ‬ ‫فلم‬

‫العجب‪ً ،‬‬ ‫إذا‪ ،‬من شيوع «الداعشيّة» يف املمارسة والسلوك‪،‬‬

‫العربي يف هذه اللحظة املرتبكة؟‬ ‫وهيمنتها عىل خيارات الفرد‬ ‫ّ‬

‫ ال عجب أبدًا؛ ألنه ال شك عىل اإلطالق يف أمرين‪ :‬األول‬‫التاريخيّة الثقافيّة للفرد‪ ،‬والثاين «الربمجة الوجدانيّة» ّ‬ ‫املبكرة‪ .‬يف‬

‫الحالة األوىل تنتج الثقافة التاريخيّة أبناءها‪ ،‬ومن بني هؤالء من‬ ‫ّ‬ ‫«حظه» أو «ظروفه» إىل الوقوع يف براثن أفراد أو دعاة أو‬ ‫يوجّ هه‬ ‫أحزاب أو جماعات أو أسرة «أبويّة» ّ‬ ‫تمثلت التجربة التاريخية بعيون‬

‫العنف‪ ،‬فيذهب هؤالء يف هذه الطريق أو تلك‪ .‬ويف الحالة الثانية‬ ‫تقوم «الربمجة الوجدانيّة» ّ‬ ‫املبكرة بتشكيل الشخصيّة وتوجيهها يف‬

‫هذه الطريق أو تلك‪ .‬ليس ثمة أخطر من مرحلة الطفولة والفتوّة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫تتشكل الشخصيّة الفرديّة و(األنا) العميقة‪ ،‬وفيها‬ ‫أو الصبا‪ .‬فيها‬ ‫تتحدّد النزعات االنفعاليّة والعاطفيّة األساسيّة التي تحكم‬

‫ملموسة‪ .‬وعىل الرغم من أنّ «الثقافة الكونيّة» (‪)global culture‬‬

‫املقرتنة بـ(العوملة) تسهم يف التغيريات الحداثيّة‪ ،‬فإنّ هذه الثقافة‬ ‫تحمل ً‬ ‫أيضا عناصر مضادة للحداثة الحقيقيّة‪ .‬ويف جميع األحوال‬

‫ّ‬ ‫التحكم‬ ‫ال مف ّر من هذه التغيريات‪ ،‬لكنّ املشكل يكمن يف قدرتنا عىل‬ ‫فيها وضبطها والسيطرة عليها‪ .‬يف ّ‬ ‫ظل األوضاع الكارثيّة والفوىض‬

‫الضاربة يف ّ‬ ‫كل مكان‪ ،‬ليس لديّ القدرة عىل «التكهّن» والتنبّؤ»‪.‬‬ ‫دائرة اإلفتاء غري مغلقة‬

‫● ربما ينتسب إىل هذه الفوىض العارمة‪ ،‬ما نب َ‬ ‫ّهت إليه يف‬

‫كتابك «تحرير اإلسالم‪ ،‬ورسائل زمن التحوالت» من هيمنة‬ ‫األساطري والخرافات التي تش ّوه صورة اإلسالم‪ ،‬كما يتجلىّ ذلك‬

‫ً‬ ‫«دينا‬ ‫يف فضائيّات ووسائل إعالم ُتشيع أفكارًا تجعل اإلسالم‬ ‫ً‬ ‫خرافيًّا»‪ .‬أال تعتقد ّ‬ ‫إسرافا يف إصدار‬ ‫أن بموازاة هذه الصورة املفزعة‬

‫الفتاوى التي تسجن الكائن يف زنزانة الحرام والحالل‪ ،‬وتنزع عنه‬ ‫قدرته عىل التفكري بعقل مقاصديّ ُي ّ‬ ‫صدع سلطة هؤالء الفقهاء‪،‬‬ ‫وال يقيم ً‬ ‫وزنا لها؟‬

‫املستقبل‪ ،‬ال الفرديّ فقط‪ ،‬إنما ً‬ ‫الجمعي؛ لذا كانت «الرتبية‬ ‫أيضا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫املبكرة» و«الثقافة القاعديّة» الصحيّة التداوليّة هي الضامن األساس‬

‫ بكل تأكيد‪ .‬وبخاصة أنّ دائرة اإلفتاء «غري مغلقة»‪ ،‬وأنّ الذين‬‫يتصدّون لإلفتاء يأتون من كل حدب وصوب‪ ،‬تتو ّزعهم املذاهب‬ ‫واألهواء والقيود‪ ،‬وتصدر عنهم آراء «خارقة»‪ ،‬فضلاً عن أنهم‬

‫● هذا األمر يقودنا إىل ّ‬ ‫السجال املندلع يف غري ما مكان يف‬

‫الهولستيّة‪ ،‬الشموليّة‪ ،‬وإىل اإلحاطة بالعلوم‬

‫داعيش»‪.‬‬ ‫و«طبيعي»‪« ،‬غري‬ ‫لنم ّو سليم‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫َ‬ ‫العالم وتطوّراته الجوهريّة‪ ،‬ويفتقرون إىل الرؤية‬ ‫غرباء عن حركة‬

‫العالم العربي حول تطوير املناهج املدرسيّة‬

‫اإلنسانيّة واالجتماعيّة الدقيقة‪ .‬أعتقد أنّ قضية‬

‫والعقالين‬ ‫العلمي‬ ‫وتحديثها‪ ،‬وحقنها بالفكر‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫والتنويريّ ‪ .‬هل ترى ّ‬ ‫أن ذلك ممكن يف ظل «انسداد‬

‫«اإلفتاء» واحدة من القضايا املربكة والعويصة‬ ‫ّ‬ ‫تتطلب «رؤية‬ ‫يف النظام الديني اإلسالمي‪ ،‬وأنها‬

‫اآلفاق»‪ ،‬ال سيما إذا علمنا ّ‬ ‫أن تعديل املناهج‬ ‫لن ُيثمر ما نتمناه ما دام ّ‬ ‫أن ثمة «منهجً ا خفيًّا»‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يتمثل يف املدرسني الذين ينتسبون‪ ،‬يف جلهم‪ ،‬إىل‬

‫لكنّ الخوض يف شعابها ويف تقنيّاتها ال يدخل يف‬

‫‪ -‬أعلم جيدًا أنّ «الصعوبة» خارقة‪ ،‬وأنّ ما‬

‫● تدعو ً‬ ‫أيضا يف «تحرير اإلسالم‪ »..‬وأنت‬

‫راديكالية»‪ .‬أنا أنبّه فقط إىل عقابيلها ومخاطرها‪،‬‬ ‫مجال كفايتي واهتمامي‪.‬‬

‫ُّ‬ ‫التزمت والخرافة؟‬ ‫أيديولوجيا‬

‫تتأمل يف حال اإلسالم اليوم‪ ،‬إىل التح ّول عن‬

‫املنطقي» يتلبّس املشكل‪ :‬نريد تحديث‬ ‫يشبه «الدور‬ ‫ّ‬ ‫الرتبية بأدوات «غري حديثة»! كيف نستبدل ما هو‬ ‫ّ‬ ‫واملعلمني‪-‬‬ ‫خري بما هو أدىن؟ من أين نأيت باملربّني‬

‫العلميّني‪ ،‬العقالنيني‪ ،‬التنويريني‪ ،‬يف مؤسسات‬ ‫ّ‬ ‫والخرايف؟ وأين «الدولة الحكيمة»‬ ‫والعقيل‬ ‫تنضح‬ ‫بالتخلف الفكريّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫منهج قياس الغائب عىل الشاهد‪ ،‬والذهاب‬ ‫إىل معطيات الواقع املباشرة واشتقاق‬

‫املبادئ منها‪ .‬عىل من تقع هذه املهمة؛ عىل‬ ‫ً‬ ‫خوفا من سلطة «اإليمان الشعبي»‬ ‫املفكرين ال َوجلني املرتعدين‬ ‫وغلوائه‪ ،‬أم عىل «الفقهاء» املرتبطني بمصالح السلطات‬

‫التي تتبنى سياسات تتوافر فيها هذه الشروط يف قبالة قوى‬ ‫ومؤسّ سات رافضة؟ لن ّ‬ ‫أتكلم من جديد عىل «اآلفاق املسدودة»‪..‬‬

‫الحاكمة والناطقني باسمها؟ أليس هؤالء هم األوىل بالتحرير‪..‬‬

‫الدعوة والدفاع عن «مبادئ الحداثة»‪ ،‬من خالل الجهود املتضافرة‬

‫‪ -‬التحرير يجب أن يطال الجميع‪ .‬العيوب والتقصري ماثالن يف‬

‫وبصراحة ال أكاد أرى من طريق للعبور والخروج إال بمزيد من‬

‫التي يبذلها املثقفون املستنريون‪ ،‬واملفكرون‪ ،‬ومنابر الرأي‪،‬‬ ‫واملؤسسات الثقافيّة الحديثة‪ ،‬والضغط املستمر عىل الدولة من أجل‬

‫إحداث التطويرات الضروريّة‪ .‬نحتاج إىل أزمنة ممتدّة إلدراك نتائج‬

‫والتطهري؟!‬

‫ّ‬ ‫حي ومجال‪ .‬منهجيًّا ُ‬ ‫قلت دومًا‪ :‬إن نقطة االنطالق ينبغي أن تكون‬ ‫كل ّ‬

‫هي املعطيات املباشرة للواقع املعيش‪ .‬واملبادرات «النقديّة» ينبغي‬ ‫اإلسالمي نحن نعلم‬ ‫الديني‬ ‫أن توجّ ه إىل كل القطاعات‪ .‬ويف املجال‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫‪101‬‬


‫حوار‬

‫أنّ الفقهاء هم الذين ّ‬ ‫شكلوا «العقل اإلسالمي» وأسهموا‪ ،‬بالتايل‪،‬‬

‫وتدويلها‪ ،‬ودخلت (داعش) و(القاعدة) عىل الخط‪ ،‬ولم يعد‬ ‫الربيع ربيعً ا‪ .‬وبعد أن قلت‪ :‬إنّ للتاريخ حِ َ‬ ‫يله‪ ،‬وإنّ الجدليّات‬ ‫االجتماعيّة «ولاّ دة»‪ ،‬قلت ما قاله أرسطو وك ّرره آخرون‪« :‬إنّ‬

‫عن مدى ما أصاب دين اإلسالم من اجتهاداتهم امللتبسة أو املربكة‪.‬‬ ‫«املتكلمني» وافرتاقهم ً‬ ‫ّ‬ ‫ال شك ً‬ ‫فرقا ومذاهب قد‬ ‫أيضا يف أنّ تناقضات‬

‫قد نجم ‪-‬وال داعي لإلنكار‪ -‬وأنّ الحدث قد فقد «براءته األوىل»‬

‫يف الفوىض العمليّة يف الحياة اإلسالمية املشخصة‪ ،‬وذلك بسبب‬ ‫اختالفاتهم التي لم تكن رحيمة دومًا‪ ،‬وبسبب ما صدر عنهم من‬ ‫أحكام ومن فتاوى وتقديرات يكشف التحليل و«التفكيك» الدقيقان‬

‫«السيايس»‬ ‫فاقمت من فوىض «االعتقاد» يف اإلسالم‪ .‬كما أنّ استبداد‬ ‫ّ‬ ‫ـ«الديني» قد أسهم يف هذه الفوىض ويف «الجوْر» الذي لحق بدين‬ ‫ب‬ ‫ّ‬ ‫اإلسالم‪ .‬فالتطهري والتحرير‪ً ،‬إذا‪ ،‬مطلوبان يف جميع القطاعات‬ ‫املعرفيّة والعمليّة الدينيّة‪ ،‬وليس فقط يف «عقل العامة» الغارقة يف‬

‫ّ‬ ‫التعصب والخرافة والجهل‪ .‬املشكل عميق‪ ،‬وشامل‪ ،‬ويزداد اتسا ًعا‬ ‫وشدّة يومًا بعد يوم‪.‬‬

‫● تصف «الربيع العربي» ووعوده‪ ،‬بـ«الربيع الكاذب»‪ّ .‬‬ ‫لكنك‬

‫يف أكرث كتبك وأبحاثك تراهن عىل انبعاث اإلرادة العربيّة من رماد‬ ‫ّ‬ ‫والتخلف واالستعباد‪ .‬أال يمكن أن نكون عىل موعد قادم‬ ‫القهر‬

‫حقيقي» يفي بوعوده الجماليّة‪ ،‬وال سيما أن مربّرات‬ ‫مع «ربيع‬ ‫ّ‬ ‫ودواعي هذا الربيع «االنفجاريّ » ال تزال شاخصة؟‬

‫‪ -‬لم يكن لسعاديت حدود حني انفجر الحدث األول والثاين‬

‫‪102‬‬

‫والثالث‪ ،‬وحني خرجت الجموع تصدح بالحرية وبالعدالة‬ ‫ُ‬ ‫عقدت آمالاً خارقة‬ ‫وبقهر االستبداد وبالعيش الكريم‪ .‬وقد‬ ‫عىل املستقبل‪ .‬واعتقدت أنّ تلك كانت فعلاً‬ ‫ً‬ ‫«أعراضا ربيعيّة»‪،‬‬ ‫تطل كثريًا؛ إذ تمّت َ‬ ‫ْ‬ ‫أقلمة الظاهرة‬ ‫لكنّ «املرحلة الربيعيّة» لم‬

‫طائر سنونو واحدً ا ال يصنع الربيع»! من املؤكد أنّ خللاً عظيمً ا‬

‫ومجده العظيم‪ ،‬وأنّ التصوّرات الكارثيّة التي جرت وتجري‬ ‫ليست هي ما نطلبه من أجل الخروج من النفق‪ .‬هل يتعارض‬

‫ُ‬ ‫جريت عليه يف جملة أعمايل؟ أبدً ا‪ .‬ألنني‬ ‫هذا التقدير لألمور مع ما‬ ‫ّ‬ ‫متعل ًقا بأنّ التاريخ «ولاّ د»‪ ،‬وبأنّ له «حِ يَله»‪،‬‬ ‫ما زلت وسأظل‬ ‫ً‬ ‫صادقا‪ ،‬نزيهًا‪ ،‬جميلاً ‪..‬‬ ‫وأنّ علينا أن ننتظر ربيعً ا قادمً ا‪ ،‬حقيقيًّا‪،‬‬

‫بديهي‪ ،‬وهو كما تقول‪ :‬إنّ مسوّغات ودواعي هذا‬ ‫لسبب بينّ ‪،‬‬ ‫ّ‬

‫«الربيع االنفجاريّ » ال تزال شاخصة تطلب حقوقها‪ ،‬وتطلب هذه‬

‫الحقوق بقوة‪.‬‬

‫الفقهاء هم الذين ش ّكلوا «العقل‬ ‫اإلسالمي» وأسهموا‪ ،‬بالتالي‪ ،‬في‬ ‫العملية في الحياة اإلسالمية‬ ‫الفوضى‬ ‫ّ‬ ‫المشخصة‪ ،‬وذلك بسبب اختالفاتهم‬

‫دوما‪ ،‬وبسبب ما‬ ‫التي لم تكن رحيمة‬ ‫ً‬ ‫صدر عنهم من أحكام ومن فتاوى‬ ‫وتقديرات‬

‫أنا في وضع «سيزيف»‪..‬‬ ‫أتحمل وأطيق وأصبر وأقع وأقوم‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫التقدم عند مفكري اإلسالم يف العالم العربي الحديث» حتى «مرافعة للمستقبالت العربيّة‬ ‫● منذ «أسس‬ ‫أن الواقع يخون والعقل يخون واإلرادة ّ‬ ‫املمكنة» وأنت ّ‬ ‫ّ‬ ‫وتعد اليأس خيانة‪ ،‬مع ّ‬ ‫تتنكب ُ‬ ‫ترتنح‪ .‬هل تحمي‪،‬‬ ‫سبل األمل‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يكف عن‬ ‫املفكر من التساقط يف هوة العدميّة‪ ،‬أم أنك تتمثل هيئة «سيزيف» الذي ال‬ ‫يف رهاناتك املتفائلة هذه‪ ،‬صورة‬

‫رفع الصخرة إىل أعىل الجبل كلما تقهقرت إىل قاع الوادي السحيق؟!‬ ‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ «الوضع الوجودي الذي ّ‬ ‫عيل دومً ا أن أتحمّ ل وأطيق وأصرب وأكافح‪..‬‬ ‫أتقلب فيه منذ (الخروج) هو الوضع الرواقي‪ .‬كان ّ‬ ‫أقع وأقوم‪ ،‬ككثريين من أبناء جييل ووطني‪ .‬بهذا املعنى أنا يف وضع «سيزيف»‪ .‬لكن من ناحية أخرى‪ ،‬مقرتنة بالوضع نفسه‪،‬‬ ‫أنا ال أطيق العدميّة‪ ،‬وال أطيق «الخيانة»‪ .‬وبني العدميّة من طرف‪ ،‬واألمل من طرف آخر‪ ،‬أختار األمل‪ ..‬ألنه ما الذي ّ‬ ‫يتبقى‬

‫حني نفقد األمل؟!‬

‫● تحدثت عن العقل الوجداين أو الرتبية الوجدانية أو إعادة الربمجة الوجدانيّة لإلنسان‪ .‬أنت تراهن كثريًا عىل‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫جنيت‬ ‫شخصا ومفك ًرا‪ .‬ماذا‬ ‫«الوجدان» وتراه رافعة أساسيّة لتحقيق النزاهة‪ .‬ودعني أقول‪ :‬إن «النزاهة» جز ٌء منك‬

‫من النزاهة‪ .‬وهل جنت عليك؟!‬

‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬


‫فهمي جدعان‪ :‬تحليل الواقع يعتمد على قول المفكر ال على رغبة المثقف‬

‫● ُتميّز بني «املفكر» و«املثقف» ُ‬ ‫فتعيل من شأن األول‪ ،‬العتقادك‬

‫الصارم‪ ،‬كما تقول‪ ،‬بأن «الكلمة الوثقى هي لقول املفكر‪ ،‬ال لرغبة‬ ‫املثقف»‪ .‬أال يكتنف هذه املراتبيّة استعال ٌء من نوع ما؟‬

‫‪ -‬هذا التمييز ضروريّ ‪ ،‬وهو يخفى عىل الجميع‪ .‬وليس املقصود‬

‫«الوظيفي» لكل‬ ‫منه اصطناع تراتبيّة أو طبقيّة‪ ،‬إنما املقصود التحديد‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ذهبت فيه إىل أنّ‬ ‫منهما‪ .‬كان يل قول ّ‬ ‫«املفكر»‬ ‫مفصل يف هذه املسألة‪،‬‬

‫ّ‬ ‫مبسط ومثري‪ .‬هل يدهشك هذا األمر‪.‬‬ ‫كتبها معروضة بشكل‬

‫َ‬ ‫وإالم تحيله؟‬ ‫لاً‬ ‫ ال‪ .‬ال يدهشني أبدًا‪ .‬أستحضر قو ألرسطو يف مطلع (ما‬‫بعد الطبيعة) هو أنّ ّ‬ ‫كل الناس ينشدون بصورة طبيعيّة املعرفة‪،‬‬

‫وبخاصة املعرفة املن ّزهة عن املنفعة‪ .‬الذي يحدث يف الغالب األعمّ‬

‫هو أنّ الناس ينفرون من الفلسفة بسبب التجريد الذي يتلبّس‬ ‫أعمال الفالسفة‪ ،‬لكن إذا ُقدّمت الفلسفة لهم بلغة وأسلوب‬

‫يتميّز باملرجعيّة العقليّة‪ ،‬والفلسفيّة والعلميّة‪ ،‬واملوضوعيّة ‪-‬بقدر‬ ‫اإلمكان‪ -‬وال ّنزاهة‪ ،‬والتح ّرر ‪-‬بقدر اإلمكان‪ -‬من الذرائعيّة والنفعيّة‬

‫مبسطني فإنهم سيُقبلون عليها؛ ألنهم يريدون مكافحة «الجهل»‬ ‫ّ‬

‫ّ‬ ‫«التدخل املباشر املشخص» والجنوح الشديد إىل‬ ‫ويلجأ يف ذلك إىل‬

‫«الفلسفة العمليّة» ‪-‬أعني الفلسفة السياسيّة والفلسفة األخالقيّة‪-‬‬

‫والهوى أو «الرغبة»‪ ،‬وغائيته األساسيّة التحليل والتنوير والنقد‬ ‫واالقرتاح‪ .‬أما ّ‬ ‫املثقف فإنه يطلب بالدرجة األوىل «تغيري الواقع»‪،‬‬ ‫األدلة «الخطابيّة» أو «الشعريّة» أو «االحتماليّة» املقرتنة بالرغبة‬

‫يقيني «معقول» يف كثري من األحيان‪ .‬لكنني‬ ‫التي تتجاوز ما هو‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫أضفت أنّ ّ‬ ‫«مثقفا» يطلب التغيري‪ّ ،‬‬ ‫املفكر يمكن أن يكون ً‬ ‫ومثلت‬ ‫أيضا‬

‫الذي يهاجمهم‪ ،‬ويريدون أن يفهموا العالم والعصر اللذيْن يزدادان‬ ‫ً‬ ‫غموضا وتعقيدًا‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإنّ الذي يبدو يل هو أنّ‬ ‫حولهم‬ ‫هي التي تثري اليوم االهتمام األكرب لدى الجمهرة من الناس‪.‬‬

‫لذلك بإدوارد سعيد‪ .‬ويف جميع األحوال‪ ،‬املثقف يحتاج حاجة ماسّ ة‬

‫إىل املفكر وأدواته العلميّة والفلسفيّة املنضبطة والضابطة‪ .‬ويف أمر‬

‫فهم الواقع وتحليله وتوجيهه ينبغي‪ ،‬يف رأيي‪ ،‬التعويل عىل «قول»‬

‫املفكر‪ ،‬ال عىل «رغبة» املثقف‪ .‬و«القول» يُحيل إىل العقل والعلم‪،‬‬ ‫و«الرغبة» ُتحيل إىل الظنّ والشهوة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫الناس من محبّي‬ ‫مرموقا عما يرغب‬ ‫سألت ناشرًا عربيًّا‬ ‫●‬

‫املعرفة يف قراءته‪ ،‬فلفت انتباهي إىل أمر أدهشني يتمثل يف‬

‫إقبال عدد كبري من القراء عىل الفلسفة‪ ،‬وال سيما إذا كانت‬ ‫ً‬ ‫كنت يف أيّ يوم مىض أشدّ‬ ‫ُ‬ ‫اقتناعا وأصلب عودًا يف الدفاع عن حتميّة الربمجة‬ ‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ كالم جميل! لك ّنني اليوم‪ ،‬أكرث مما‬

‫الوجدانية «الصحيّة»‪ ،‬النبيلة‪ ،‬النزيهة ألبنائنا‪ ،‬اليوم وغدً ا؛ ألنّ غياب هذه القيم واملبادئ التي ينبغي أن تقرتن بها الرتبية‬ ‫يفسر التدليّ والتخلف والعقم الذي ّ‬ ‫الوجدانيّة ّ‬ ‫يغلف ويتلبّس هذه األجيال املتأخرة من شعوبنا العربيّة ومن‬ ‫املبكرة هو الذي ّ‬

‫ّ‬ ‫«املهذبة» عىل وصفه‪ .‬وأنا شخصيًّا سعيد جدًّ ا ألنك تنسبني إىل ال ّنزاهة‪ ،‬وأنا‬ ‫العربي الغارق اليوم فيما ال تقدر لغتي‬ ‫إنساننا‬ ‫ّ‬ ‫ًّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫عيل؟ أنا أسألك! هل‬ ‫كنت أتصف بها حقا‪ .‬تسألني‪ :‬ما الذي جنيته من هذه النزاهة؟ وهل‬ ‫سعيد جدًّ ا بهذه النزاهة إن‬ ‫جنت ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫استسلمت لإلغراءات غري النبيلة التي عرضت يل؟ هل كنت سأكون نبيلاً لو أنني‬ ‫كنت ستعتقد أنني سأكون أفضل لو أنني‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫وبعت نفيس للشيطان؟ هل سيكون ضمريي مرتاحً ا لو أنني‬ ‫فعلت‪ ،‬مثلما يفعل كثري من املثقفني و«املفكرين» األدعياء‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ورضيت أن أتحوّل إىل «مرافق ذليل» أو مستشار تافه لرجل دولة أو مال أو جاه؟!‬ ‫تنازلت عن كرامتي‪،‬‬

‫كنت سأكون أسمى وأعظم وأخطر لو ُ‬ ‫هل ُ‬ ‫كنت وزي ًرا أو رئيس جامعة‪ ،‬أو صاحب مُ لك أو مال وضيع؟! صدّ قني‪ ..‬النزاهة‬

‫ُ‬ ‫ً‬ ‫شخصا ومفك ًرا‪ ،‬كما تقول‪ .‬وعىل األقل هي منحتني الرضا الداخيل‪،‬‬ ‫جنيت منها‪ ..‬جنيت منها كثريًا‬ ‫عيل‪ ..‬أنا الذي‬ ‫لم‬ ‫تجن ّ‬ ‫ِ‬

‫والنبل‪ ،‬والثقة بالنفس‪ ،‬واالعتزاز بالذات‪ ،‬واحرتام اآلخرين يل‪ ،‬واحرتامي لنفيس‪ .‬ويكفيني أنك َ‬ ‫أنت ومن يقاربك يف الفهم‬ ‫ً‬ ‫والخسة‬ ‫ذيوعا وانتشارًا وتأثريًا إىل النذالة‬ ‫والتقدير تنسبونني إىل هذه القيمة النبيلة‪ ،‬يف الوقت الذي تنسبون أكرب األسماء‬ ‫ّ‬

‫ُ‬ ‫الطبيعي أن أجنح إىل‬ ‫دافعت دومً ا عن القيم‪ ،‬وجعلتها املبدأ الرئيس لكل إصالح وتقدّ م‪ .‬لذا كان من‬ ‫والكذب والنفاق! لقد‬ ‫ّ‬ ‫لاً‬ ‫ً‬ ‫ال ّنزاهة والنبل واالستقامة‪ ،‬وأن يُقال بعد مغادريت هذا العالم‪ :‬كان نبي ‪ ،‬نزيهًا‪ ،‬شريفا‪ ،‬ولم يطلب ما يطلبه اآلخرون الذين‬ ‫ّ‬ ‫والذل‪.‬‬ ‫يرفلون بثياب الع ّز والنذالة‬

‫‪103‬‬


‫مقال‬

‫صادق جالل العظم‪..‬‬ ‫نقد الذات أقوى من كل انتماء‬ ‫كان «نقد الفكر الديني» كتابًا في نقد السلطة بعد‬

‫فتحي المسكيني‬

‫كاتب تونسي‬

‫وهو نوع من تزييف النقاش حول الدين في ثقافتنا ال يزال‬ ‫ًّ‬ ‫ممتدا‪ ،‬طالما توجد دول تستفيد منه في تعميق مشروعيتها‬

‫بدأ هيدغر ذات يوم أحد دروسه عن أرسطو قائلاً ‪:‬‬

‫الروحية‪ .‬قال العظم في مطلع الفصل األول من هذا الكتاب‪:‬‬

‫بأعماله وليس بسيرته الذاتية‪ .‬بل أكثر من ذلك أنّ الفيلسوف‬ ‫ليس له حياة يوميّة‪ّ ،‬‬ ‫وأنها بالتالي ال تعني من يؤرّخ لفكره‬

‫باعتباره ظاهرة روحية نقية وخالصة على نحو ما نجدها في‬

‫«لقد وُلد‪ ،‬وعمل‪ ،‬ومات»‪ .‬كان القصد هو أنّ علينا أن نهتمّ‬

‫بوصفه مقطعً ا من تاريخ العقل البشري أو من تاريخ حقيقة‬

‫‪104‬‬

‫هزيمة عام ‪1967‬م‪ ،‬وليس في نقد الدين بالمعنى المحصور؛‬ ‫لذلك فإنّ اتهامه باإللحاد كان ّاتهامً ا سياسيًّا‪ ،‬وليس عقديًّا‪.‬‬

‫الكينونة‪ .‬يأتي الفالسفة كي يقولوا كلمة واحدة لإلنسانية‬ ‫كما كان ير ّدد جبران‪ -‬ويذهبوا‪ ،‬إال أنّ المشكل الصامت هنا‬‫هو أنّ الثقافات ال تكون جاهزة بالقدر نفسه للقاء معهم‪ .‬وهم‬

‫يتقاسمون هذا القدر الخاص مع عظماء اإلنسانية اآلخرين في‬ ‫كون الحديث عنهم أو معاداتهم أو مصادقتهم‪ ..‬هو موضوع‬

‫يسيل لعاب العقل اليومي وكل من يقف وراءه‪ ،‬سواء أكان‬ ‫فقهاء الملة أو ّ‬ ‫موظفي الدولة الحديثة‪.‬‬ ‫في هذا السياق الدقيق تأتي تهمة «اإللحاد» التي تصاحب‬ ‫الفالسفة‪ ،‬وبخاصة ّ‬ ‫كل من أخذ ا ّدعاءات العقل البشري‬

‫«عندما أتكلم عن الدين في هذا البحث‪ ،‬ال أقصد الدين‬

‫حياة قلة ضئيلة من الناس كالقديسين والمتصوفين وبعض‬ ‫الفالسفة‪ ...‬إنّ بحثي يدور حول إنسان معاصر (اسمه س)‬

‫ورث اإلسالم بمعتقداته وقصصه وأساطيره ورواياته كجزء‬

‫جوهري من تكوينه النفسي والفكري‪ ..‬والسيد (س) ليس‬ ‫له وجود واقعي مئة بالمئة؛ ألنه يشكل حالة نموذجية‪،‬‬ ‫والنماذج نوع من التجريد‪ ،‬ولكن من جهة أخرى إن (س) هو‬ ‫–إلى حد ما وبدرجات متفاوتة‪ّ -‬‬ ‫كل واحد منا ولذلك ال بد وأن‬

‫يهمنا أمره للغاية»‪ .‬إنّ نقد الفكر الديني هو إذن «نقد للذات»‬

‫بالمعنى القوي للكلمة‪ ،‬وهو «نقد لإلنسان المعاصر» الذي‬ ‫هو ّ‬ ‫«كل واحد م ّنا» بدرجات متفاوتة‪ .‬هذا هو ّ‬ ‫لب الفلسفة؛ أن‬

‫ّ‬ ‫تفكر في اإلنسان بما هو إنسان‪ ،‬وإنْ كان ذلك سوف يتمّ دومً ا‬

‫ّ‬ ‫الجد‪ .‬اإللحاد ليس تهمة‬ ‫حول نفسه أو حول عالمه مأخذ‬

‫بوسائل ومشاكل ثقافة بعينها‪.‬‬

‫البشري في طبيعته التي جُ بل عليها‪ .‬هذا درس كانط الكبير‪.‬‬ ‫لكنّ الفلسفة ليست إلحا ًدا‪ .‬ومن فهمها أو يفهمها على هذا‬ ‫المسمّ ى هو ي ّتهم عقله ً‬ ‫سلفا‪ ،‬وال ي ّتهم ً‬ ‫أحدا‪.‬‬

‫طريق متسق وعميق‬

‫شخصية أليّ فيلسوف‪ ،‬بل هي إزعاج داخلي يحمله العقل‬

‫ُّاتهم صادق جالل العظم باإللحاد ّ‬ ‫مدة طويلة‪ ،‬وحوكم‬

‫بسبب كتاب «نقد الفكر الديني» (‪1969‬م)‪ .‬وفي الواقع إنّ‬

‫من كتاب «نقد الفكر الديني» (‪1969‬م) إلى تأييد الثورة‬

‫السورية (‪2016-2011‬م) يبدو لنا طريق الروح في كتابات العظم‬ ‫ً‬ ‫م ّت ً‬ ‫وعميقا‪ .‬طبعا علينا أن نتساءل للتوّ‪ :‬ما الرابط‬ ‫سقا‬ ‫النسقي واألخالقي بين عناوين «النقد الذاتي بعد الهزيمة»‬

‫موضوع هذا النقد لم يكن «الدين» في ماهيته الخاصة سواء‬

‫(‪1968‬م) أو «ذهنية التحريم» (‪1997‬م) حتى «الحب والحب‬ ‫العذري» (‪1981‬م)‪ ،‬وموقف المؤلف من الثورة السورية راه ًنا؟‬

‫فقط نقد لما سمّ اه «الذهنية الدينية» (نقد الفكر الديني‪.‬‬

‫وأخالقي عميق‪ .‬فمنذ عام ‪1968‬م (هزيمة الدولة القومية أمام‬

‫أكانت روحية أو ميتافيزيقية‪ .‬ال يحتوي الكتاب على مناظرة‬ ‫فقهية أو فلسفية مع علماء الدين أو فالسفة الدين‪ .‬بل هو‬

‫العظم) التي تشرعن لنمط معيّن من السلطة التي يدافع عنها‬ ‫واع ومتعمّ د» (نقد الفكر الديني)‪.‬‬ ‫ويؤقنمها «إنتاج فكري ديني ٍ‬ ‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬

‫لنقل بسرعة‪ :‬إنّ هذا الرابط ليس سياسيًّا‪ّ .‬إنه رابط فلسفي‬

‫عدوّها االستعماري) إلى عام ‪2011‬م (هزيمة الدولة األمنية أمام‬

‫شعوبها)‪ -‬من كتابه «النقد الذاتي بعد الهزيمة» (‪1968‬م)‬


‫إلى كتاباته األخيرة حول الثورة السورية (منذ ‪2011‬م)‪ّ ،‬‬ ‫ظل‬ ‫العظم يكتب كي يقاوم أو ينقد ً‬ ‫نمطا مع ّي ًنا ًّ‬ ‫جدا من السلطة‬

‫ظل صادق جالل العظم يكتب كي يقاوم‬ ‫ّ‬

‫العميقة؛ ّإنها السلطة التي تشرعن إهانة اإلنسان داخلنا وفق‬

‫معي ًنا ج ًّدا من السلطة‬ ‫نمطا‬ ‫أو ينقد‬ ‫ً‬ ‫ّ‬

‫دينيًّا أو سياسيًّا أو أخالقيًّا‪.‬‬

‫محدد‬ ‫إهانة اإلنسان داخلنا وفق منطق‬ ‫ّ‬

‫ّ‬ ‫محدد هو منطق االستبداد‪ .‬وال فرق إن كان االستبداد‬ ‫منطق‬ ‫في كتاب «النقد الذاتي بعد الهزيمة» ّ‬ ‫كل ما أثبته‬

‫العظم هو سؤال عميق عن المسؤولية‪ ،‬تحت عنوان «النقد‬ ‫الهادف»‪ ،‬أي نقد األوهام‪ ،‬وليس مص ّن ًفا ً‬ ‫بارعا في الهزيمة‪.‬‬ ‫هو كتاب في نقد المسؤولية‪ ،‬وبخاصة عندما تكون الهزيمة‬

‫هزيمة «اإلنسان المعاصر» فينا‪ .‬وعلى الرغم من اعتراف‬

‫المؤلف عام ‪2007‬م بأنّ «عالمات التسرّع واالرتباك ظاهرة في‬ ‫نص الكتاب»‪ّ ،‬‬ ‫وأنه ُ‬ ‫«كتب تحت ضغط احتقان نفسي شخصي‬ ‫وجماعي هائل»‪ ،‬فإنّ غرض الكتاب كان بالتحديد تسجيل‬

‫«األثر االنهياري المهول الذي تركه ذلك السقوط اللحظي‬ ‫ً‬ ‫أحيانا‪ -‬بأكمله»‬ ‫المريع في جيلنا‪ -‬جيل الستينيات كما يسمى‬ ‫(النقد الذاتي بعد الهزيمة‪ .‬العظم)‪ّ .‬‬ ‫ضد الدولة المهزومة عاد‬

‫العميقة؛ إ ّنها السلطة التي تُشرعن‬ ‫هو منطق االستبداد‪ .‬وال فرق إن كان‬ ‫االستبداد دين ًّيا أو سياس ًّيا أو أخالق ًّيا‬ ‫في ّ‬ ‫توقعاته بأنّ ما سوف يسود بعد ّ‬ ‫كل هذه المسألة هو‬

‫«مزاج التدين الشعبي السوري البسيط والسمح الذي عرفت‬ ‫به سوريا المعاصرة»‪ .‬هو علماني لك ّنه مع الثورة سواء‬ ‫َتعلمَ ْ‬ ‫نت أو َتأسلمت‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وبكلمة أخيرة‪ :‬ليس أقل بركة للثورة «إعادة الناس إلى‬ ‫السياسة»‪ ،‬كما قال‪ ،‬بل ً‬ ‫أيضا‪ّ :‬إنها إعادة صادق العظم إلى‬ ‫األفق الروحي لشعبه‪ :‬الثورة مطهرة من كل إلحاد‪.‬‬

‫العظم كي يكتب منذ اندالع الثورة السورية عام ‪2011‬م‪ ،‬وهو‬ ‫دفاعا عن فوضى الشعوب‪ ،‬بل ّ‬ ‫ً‬ ‫ضد النمط‬ ‫ال يكتب‬ ‫الدكتاتوري من السلطة‪ ،‬الذي صار منذ عام ‪2011‬م‬

‫ً‬ ‫فاقدا للشرعية سواء نجحت الشعوب في‬ ‫إسقاطه أم لم تنجح‪.‬‬

‫ضد اضطهاد الحرية‬

‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫كل‬ ‫يتطلب‬ ‫وكعادة الفالسفة‬

‫فهم دقيق ألفكار العظم أن ينصت‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫التلطفات التي‬ ‫بحدة وبخاصة إلى‬

‫يجريها التفكير الفلسفي على المسائل‬ ‫التي يعالجها‪ ،‬فكما ّأنه لم يكن ّ‬ ‫ضد الدين‬

‫بحد ذاته عام ‪1969/1968‬م هو ً‬ ‫أيضا ليس ّ‬ ‫ّ‬ ‫ضد‬ ‫الدولة الحديثة بما هي كذلك بعد عام ‪2001‬م؛ إنهّ‬

‫في المرّتين ّ‬ ‫ضد اضطهاد الحرية مهما كان شكل‬ ‫المعركة‪ّ .‬إنه مع الثورة بالمعنى المعاصر لك ّنه ال‬

‫يرى أي مستقبل للشرعنة الدينية لها‪ .‬هو ينقد التطرّف‬ ‫وذهنية التحريم لك ّنه يعتقد أنّ اإلسالم قادر على تحمّ ل‬ ‫نقد الفكر الديني ّ‬ ‫درس العلمانية واالنسجام معها‪َ .‬‬ ‫ألنه‬ ‫يخشى اإلسالم السياسي وأسلمة الثورات المدنية المفرطة‬ ‫والمتعمّ دة‪ ،‬لك ّنه وقف مع الثورات التي خرجت من المساجد‪.‬‬ ‫هو يؤمن أنّ الشعوب هي على ّ‬ ‫حق دائمً ا ّ‬ ‫ضد الطغاة‬ ‫ّ‬ ‫والمستبدين‪ّ .‬إنه فيلسوف تحمّ ل مسؤوليته‬

‫«النقدية» طيلة حياته‪ ،‬لك ّنه ال يتر ّدد‬

‫‪105‬‬


‫مقال‬

‫عبدالله ثابت‬ ‫شاعر وكاتب سعودي‬

‫الهوة‬ ‫مشاجرات‬ ‫ّ‬ ‫«السكوونك»‬ ‫ميلي أيتها الروح صوب النسيم المباغت‪ ،‬اعبري‬

‫ً‬ ‫عالقا‬ ‫هكذا تتشاكل روح الشاعر كجدول‪ ،‬تترك هياجً ا‬

‫الحياة‪ ،‬كأنك آخر جواد سيصهل ويقفز قبل القيامة‪.‬‬ ‫‪ -‬حس ًنا‪ ،‬كيف صرت بهذا الطريق؟‬

‫يرخي الشاعر عضالت قلبه؛ أريد لمحتي الخاطفة‪ ،‬أن‬

‫ت ّنورك الوجودي‪ ،‬ضعي قدميك الحافيتين على جمر‬

‫ تواطؤ الحياة‪.‬‬‫ ً‬‫إذا أردت دربًا وعلقت بآخر؟‬

‫‪106‬‬

‫‪ -‬علقت بالهباء‪.‬‬

‫يرمي الشاعر عينيه في الج ّو كالمأخوذ‪ ،‬يشعر أن‬

‫زوبعة تغلي في صدره‪ ،‬ال ليست زوبعة‪ ،‬بل أزل مبهم‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ويحك‬ ‫كوحش شديد الضراوة يربض داخله‪،‬‬ ‫شيءٌ‬ ‫ٍ‬

‫صدغيه في قلبه‪ .‬قلبه الذي يستحيل شي ًئا فشي ًئا جُ ح ًرا‬

‫لعقارب الحزن‪ .‬من يشبهه من‪ ،‬وكأنه خرج على الناس‬

‫كوكب مهمَ ل!‬ ‫من مقبرة‪ ،‬أو سقط من‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫يفكر الشاعر‪ :‬الله! لو أدري مِ مّ خلق السهاد!‬ ‫ً‬ ‫حياة كاملة‬ ‫من الشتائم‪ ،‬أم من الحِ دّ ة! أدري أن‬

‫في الوادي‪ ،‬ويومً ا ما ستنمو على فقدانه قرية‪.‬‬ ‫أتس ّرب في عتمة الفناء‪.‬‬

‫قل ما بنفسك‪ ،‬ال تستطيع‪ ،‬إنك في الجحيم‪ ،‬مليء‬

‫بالريبة واألعين التي تخافك وتخافها‪ .‬إنك في الجحيم‪.‬‬ ‫حيوان بورخيس‬

‫كتب مرة نزيه أبو عفش عن حيوان خورخي بورخيس‪،‬‬

‫نقلاً عن كتابه «حيوانات خرافية» كان يحكي عن حيوان‬

‫غريب‪ ،‬يدعى «السكوونك» حيوان خجول وعاطفي‪ ،‬حزين‬

‫وشديد االنطواء‪ ،‬له فرو نادر ودموع معطرة‪ ،‬وألنه خجول‬ ‫وحزين فهو يمضي حياته كلها مختب ًئا بين أغصان األشجار‪،‬‬ ‫ال يفعل شي ًئا غير أن يبكي ويبكي‪ ،‬وهكذا يتمكن الصيادون‬ ‫من تعقب آثار دموعه العطرة‪ ،‬تحت قمر الليل‪ ،‬وعندما‬

‫تؤلمني‪ ،‬تؤلمني في جسدي كله‪ِّ .‬‬ ‫أقلب عيني في‬ ‫ّ‬ ‫أهش العدم‪ ،‬أقفز في بِ ْركة الخفاء‪ ،‬فتنبت‬ ‫النواحي‪،‬‬

‫يذوّب نفسه إلى دموع‪ ،‬الشاعر هو ذلك الحيوان‪.‬‬

‫في عرائس ألبير كامو أنه «عندما تصوح زهور‬ ‫ّ‬ ‫العليق إلى اللون البني‪ ،‬األشياء‬ ‫الشاي‪ ،‬تتحول أزهار‬

‫إن الشاعر يبكي فقط من ضيق الخطوة‪ ،‬من ال ِق ّلة‪ ،‬من‬ ‫ً‬ ‫خربة‪ ،‬ال يدري كم بقي في حوزته‬ ‫األيام وهي تصير‬ ‫كومة ِ‬

‫ٌ‬ ‫زنبقة بجوار حائط‪.‬‬

‫جميعً ا تتبادل األماكن‪ ،‬وهناك دائمً ا ما يذهب‪ ،‬ودائمً ا‬ ‫ما يجيء‪ ،‬تختفي لتأتي في مرة أخرى في موسمها‪،‬‬

‫وحتى تلك األيام الرائعة المخيفة‪ ،‬حين تصفو الريح‬

‫الباردة خالل غابة الصنوبر‪ ،‬يكون حفيف األوراق‬ ‫ً‬ ‫متهالكا في الحديقة كلها‪ ،‬حينذاك تأتي‬ ‫المتساقطة‬ ‫أغنية أخرى‪ ،‬تجربة جديدة‪ ،‬حكاية»‪.‬‬ ‫ ماذا عن الزنابق‪ ،‬أهنّ ُشهْل؟‬‫‪ -‬الضواري شهباء‪.‬‬

‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬

‫يحاصرونه‪ ،‬وتغدو نجاته مستحيلة‪ ،‬فإنه يواصل البكاء حتى‬

‫من هِ ّزة‪ ،‬فيستغرق في اإلنصات والعدّ ‪ .‬ال يدري ما الذي‬ ‫بقي في ّ‬ ‫كف العالم ليعطيه إياه‪ ،‬لكنه يحدّ ق مليًّا في زنديه‬ ‫المقشع ّرين‪.‬‬

‫‪ -‬لم تتكيّف بعد؟‬

‫ لم أقبل العالم‪ ،‬ال فائدة مني‪ .‬صدري مرقط‪ ،‬وأعرف‬‫الغبَش‪ ،‬ال منتهى َ‬ ‫أنه ال طائل من هذا َ‬ ‫ألسَ اي‪ ،‬ووحشي الذي‬ ‫لم يُروّض ينهشني‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫شهيق هذا أم رائحة!‬ ‫‪ -‬أهو‬


‫كبيت لم يعد مأهولاً بغير‬ ‫ بل أضحك كطفل مخبول‪،‬‬‫ٍ‬ ‫ْ‬ ‫الخدوش في بابه والنوافذ‪ ،‬ومقاعد الخلب اليابس‪.‬‬ ‫يمشي الشاعر دونما جهة وهو يسأل هذه الهداهد‬

‫والينابيع والنسوة‪ ،‬ألي ساللة تعود؟ للشعر!‬

‫بحقل سقاه‪،‬‬ ‫يمشي ويمأل أواني ال تحصى‪ ،‬وكلما م ّر‬ ‫ٍ‬

‫وإذا ما تعب جلس على التل‪ ،‬وراح يتأوّه؛ لن يحزم الزمن‬ ‫ً‬ ‫مكانا ليذهب إليه‪ .‬سيبقى كاألبدية في قلب‬ ‫متاعه‪ ،‬لن يجد‬

‫صبي‬ ‫فتا ٍة كبرت‪ ،‬وهي ال تعرف كيف تلبس نعليها‪ .‬في روح‬ ‫ٍّ‬ ‫ُ‬ ‫يرمق قلبَه من بعيد‪.‬‬ ‫إذا مات الشاعر‬ ‫‪ -‬يموت الشاعر؟‬

‫‪ -‬يضع يديه في أكمامه بخجل‪ ،‬ثم يسكت لألبد‪.‬‬

‫خوزيه ساراماغو في كتابه «ذاكرة األشياء الصغيرة»‪،‬‬

‫ّ‬ ‫علق تحت صورته القديمة‪ ،‬وهو يقف واضعً ا يديه بداخل‬ ‫جيوبه‪« :‬جيوب البنطلون هي مخبأ الخجولين»‪.‬‬

‫حس ًنا‪ ،‬إذا مات شاع ٌر في مكان ما من هذا الوجود‪،‬‬

‫مكان آخر شجرة‪ ،‬وتساقطت أوراقها قبيل الفجر‪.‬‬ ‫ماتت في‬ ‫ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫إذا مات شاع ٌر انطفأت نجمة‪ ،‬وتخاصم حبيبان‪ ،‬وضاع‬

‫خاتمٌ ‪ ،‬وأصبحت الدنيا ّ‬ ‫أقل‪..‬‬ ‫إذا مات شاع ٌر أُوصدت نافذة‪ ،‬وبكت خلفها الفتاة‬ ‫ُ‬ ‫القهوة المواعيد‪،‬‬ ‫والسقف والوسادة‪ ،‬وإذا مات شاع ٌر تنسى‬

‫ّ‬ ‫الطل من الزهرة‪ ،‬وال يلتفت الصبح إلى وجه‬ ‫ويعتذر‬

‫الحمامة‪ ،‬والحمامة ال تقف على طرف السور‪ ،‬ويم ّر الغروب‬ ‫متثاقلاً ومقطبًا حاجبيه‪ ..‬وإذا مات شاع ٌر ّ‬ ‫غص بنغماته الناي‪،‬‬ ‫ويرجع الشتاء أشد كآبة!‬

‫في القرى‪ ..‬ال ينام الشاعر في الليل‪ ،‬يبقى كالظمأ‬

‫يحرس البئر والحزانى‪ ،‬ويقسم للجافلين أن لن يفزعهم‪ ،‬وأن‬

‫لن يحول ما بينهم وبين الدلو‪..‬‬ ‫ٌ‬ ‫وفي القرى َ‬ ‫أول ما يتمتم طفل باألغنيات والشعر تأتي‬

‫الغيمة‪ ،‬وتتمايل السنبلة‪ ،‬وترى النساء تلك الليلة أحالمً ا‬ ‫غريبة‪ ،‬ويستيقظن وفي أكفهنّ الح ّناء‪ .‬أول ما يولد الشاعر‪..‬‬ ‫تصيح الباخرة‪ ،‬وتتسع األرض أكثر‪ .‬وأول ما يولد شاع ٌر‪..‬‬ ‫تسهر الحقول ويفرح الكهول‪ ،‬أمّ ا ّ‬ ‫الظلمَ ة فيحدقون في‬ ‫وجوه بعضهم‪ ،‬وال يجدون في أفواههم ألسنة!‬

‫خائفات‪،‬‬ ‫في القرى إذا مات شاع ٌر‪ ..‬نامت الصغيرات‬ ‫ٍ‬

‫وصرخ الجفاء‪ ،‬وتقافز الجدب والكراهية‪ ،‬واشتكت الموسيقا‬

‫من الوحشة‪ ،‬وقالت الهموم في وجه الخالئق‪ :‬إنكم اآلن‬ ‫وحدكم!‬

‫الشعراء يذهبون واحدً ا واحدً ا دون أن يخبرونا ما هو‬

‫الشعر‪ ،‬دون أن يخرجوا من صدورهم الورقة األخيرة التي‬

‫الشاعر يبكي فقط من ضيق الخطوة‪،‬‬ ‫من القِ لّة‪ ،‬من األيام وهي تصير‬ ‫خربة‪ ،‬ال يدري كم بقي في‬ ‫كومةً ِ‬ ‫حوزته من ِ‬ ‫ه ّزة‪ ،‬فيستغرق في‬ ‫والعد‪ .‬ال يدري ما الذي بقي‬ ‫اإلنصات‬ ‫ّ‬

‫كف العالم ليعطيه إياه‪ ،‬لكنه‬ ‫في ّ‬ ‫المقشعرين‬ ‫يحدق مل ًّيا في زنديه‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫تركوا فيها الس ّر‪ ،‬وكيف كانوا يقولون الكالم‪ ..‬وما هو ذاك‬ ‫اإلشعاع الحا ّر الذي يلوّن الكلمات‪ ،‬ويضيئها كما تفعل‬

‫الكهرباء‪ ..‬يذهبون واحدً ا واحدً ا إلى هناك‪ ،‬حيث الموت‬

‫ّ‬ ‫نصهم الكبير‪ ،‬النص الذي يلقنوننا إياه‪ ،‬يرمونه على مالمحنا‪،‬‬

‫وحزن‪ ،‬قبيل الفجر دومً ا‪ ،‬كما يجدف‬ ‫ثم يخرجون بهدوءٍ‬ ‫ٍ‬

‫بصمت وجالل‪.‬‬ ‫الغريب الواقف على حافة القارب‬ ‫ٍ‬

‫أما شاعر أميركا الخارق بيلي كولنز فقد قال‪« :‬إن‬

‫األطفال يولدون شعراء بالفطرة‪ ،‬ولكن عندما يصلون سنّ‬

‫البلوغ فإنهم يفقدون الشعر‪ ،‬أو ينزع منهم ً‬ ‫نزعا‪ .‬األسوأ من‬ ‫ذلك؛ من يبدؤون في كتابته»‪.‬‬ ‫يا للسكوونك!‬

‫‪107‬‬


‫قضايا‬

‫أبرزت سخاءها للجميع وأعادت ترتيب المراكز التقليدية‬

‫الجوائز األدبية في العالم العربي‪..‬‬

‫شراء والءات أم بحث عن‬ ‫فعل ثقافي حقيقي؟‬ ‫صبحي موسى‬

‫‪108‬‬

‫القاهرة‬

‫لم تكن الثقافة العربية تعرف غير عدد محدود من الجوائز التي يتنافس عليها‬ ‫المبدعون العرب‪ ،‬فلكل دولة جوائزها القومية التي تمنحها لمبدعيها‪ ،‬وال يوجد غير‬ ‫جائزتي العويس والشيخ زايد اللتين كانتا في عداد مكافأة نهاية الخدمة‪ ،‬إذ تمنح للشيوخ‬ ‫على مشروعاتهم الثقافية التي استنفدت أعمارهم‪ ،‬سواء في الشعر أو الرواية أو الفكر‬ ‫بشكل عام‪ ،‬حتى إن «العويس» كانت تسمى نوبل العرب‪ ،‬أما جائزة الملك فيصل‬ ‫العالمية فكان الكثيرون يعدونها جائزة التيار المحافظ‪ ،‬أما «زايد» فقد كان الرهان عليها‬ ‫قليلاً ‪ ،‬ونادرًا ما كانت التغطيات اإلعالمية توفر مادة جيدة عن الفائز بها‪.‬‬

‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬


‫كانت جائزة نجيب محفوظ التي تمنح مرة لفائز مصري‬

‫يف ظل هذا السياق كان ال بد لـ«الفيصل» أن تتوقف أمام‬

‫فقد قررت ترجمة النص الفائز إىل اللغة اإلنجليزية‪ ،‬ومنح الفائز‬ ‫ً‬ ‫مبلغا رمزيًّا قيمته ألف دوالر تخصم من عائد مبيعات أعمال‬

‫تعامل النقاد واملبدعون معها‪ ،‬وكيف تركت آثارها بالسلب أو‬

‫وأخرى لفائز عربي هي أوىل الجوائز التي خرجت عن اإلقليمية‪،‬‬

‫ظاهرة الجوائز الثقافية العربية لنعرف ما لها وما عليها‪ ،‬وكيف‬ ‫اإليجاب عىل إبداعنا العربي‪ ،‬وهل األموال التي تغدق عليها‬

‫نجيب محفوظ املرتجمة‪ ،‬ويف يوم ميالد صاحب نوبل تقيم‬ ‫الجامعة األمريكية حفلاً ومؤتم ًرا صحفيًّا بحضور أمانة الجائزة‬

‫يف خلق فعل ثقايف حقيقي؟ أسئلة طرحتها «الفيصل» عىل‬

‫اسم الفائز ومنحه ميدالية نجيب محفوظ‪ .‬ظلت هذه الجائزة‬

‫فازوا بالجوائز أو تنافسوا ولم يحصلوا عىل يشء‪ ،‬أو شاركوا يف‬

‫وأعضاء تحكيمها وكبار املثقفني املصريني ليتم اإلعالن عن‬

‫رغم صغر قيمتها املالية هي الجائزة األبرز واألهم حتى ظهرت‬ ‫جائزة البوكر يف نسختها العربية‪ ،‬لتخطف األضواء واملبدعني‬ ‫أنفسهم‪ ،‬ففي حفل إعالمي كبري تتم تسمية الفائز ومنحه‬ ‫ستني ألف دوالر‪ ،‬ويمنح إىل جانبه كل من وصلوا إىل القائمة‬

‫من أجل شراء الوالءات السياسية للمثقف العربي‪ ،‬أم رغبة‬ ‫عدد من أدباء وكتاب من مختلف البلدان العربية‪ ،‬سواء ممن‬ ‫تحكيم بعضها‪ ،‬أو اكتفوا بالنقد والتعليق‪ ،‬سواء من الشباب‬ ‫أو الشيوخ‪ ،‬بقصد تعرف رؤية كل منهم وكيف يمكن الدفع‬ ‫بعجلة التطوير إىل األمام‪.‬‬

‫القصرية عشرة آالف دوالر‪ .‬هكذا عرف العالم العربي القائمة‬

‫أمير تاج السر‪:‬‬ ‫كثير من األعمال‬ ‫المقدمة للجوائز نيئة‬

‫كبري وقديم عرب منحها ثالث جوائز تخص ثالثة ملتقيات دولية‬

‫املفرتض أن يبدع الناس يف كل‬

‫الطويلة والقائمة القصرية‪ ،‬وأخذ الجميع يرتقب إعالن القوائم‬

‫واسم الفائز‪.‬‬

‫من جانبها حاولت القاهرة البقاء يف املنافسة كمركز ثقايف‬

‫كما هو متوقع‪ ،‬فإن من‬

‫للشعر والرواية والقصة القصرية‪ ،‬لكن جوائزها ظلت محكومة‬

‫املجاالت الفنية واإلنسانية‪ ،‬من‬

‫بأدائها الحكومي ورغبتها يف مراعاة أبعاد سياسية وجغرافية‪،‬‬ ‫ما أفقدها الربيق املطلوب للجوائز الكربى‪ .‬ثم ظهرت جائزة‬

‫دون أن ينتظروا جوائز أو تكريمً ا‬ ‫معي ًنا من أي جهة‪ ،‬وقد كان هذا التقليد‪ ،‬أي اإلبداع بال تطلعات‬

‫مادية‪ ،‬سائدً ا يف الوطن العربي حتى عهد قريب‪ ،‬إذ فجأة ظهرت‬

‫كتارا عرب سخاء غري مسبوق لتغطي عىل الجميع‪ ،‬فألول مرة‬ ‫يف تاريخ الجوائز الثقافية يف العالم العربي نجد عملاً روائيًّا يفوز‬

‫الجوائز األدبية‪ ،‬ظهرت يف البداية عىل استحياء ثم تكاثر عددها‪،‬‬

‫سينمايئ‪ .‬امللحوظ أن كل هذه الجوائز للنرث وليست للشعر‪ ،‬بما‬

‫تصيب جائزة ما‪ ،‬كتعويض بالنسبة للكتاب الكبار‪ ،‬وكبداية‬

‫بنحو ربع مليون دوالر‪ ،‬إضافة إىل ترجمته وتحويله إىل عمل‬

‫وهكذا أصبح للكتاب أمل جديد يف االعتماد عىل كتابتهم‪ ،‬حني‬

‫تساعد عىل امليض يف سكة الكتابة‪ ،‬بالنسبة للمبتدئني‪.‬‬

‫فيها جائزة امللتقى التي خصصتها الجامعة األمريكية بالكويت‬ ‫للقصة القصرية‪ .‬وامللحوظ ً‬ ‫أيضا أن التنافس بني الجوائز أصبح‬

‫ويف املقابل‪ ،‬سلبت كثريًا من القناعة‪ ،‬وأوجدت لهفة‬

‫من أبو ظبي‪ ،‬ونجيب محفوظ وجوائز ملتقيات الشعر والرواية‬

‫للحصول عىل جائزة‪ ،‬ولذلك قد تجد كثريًا من األعمال املقدمة‬

‫عىل مستوى العواصم واملدن‪ ،‬فالعويس والشيخ زايد والبوكر‬ ‫من القاهرة‪ ،‬وكتارا من الدوحة‪ ،‬وامللك فيصل من الرياض‪،‬‬ ‫وامللتقى من الكويت‪ ،‬والطيب صالح من الخرطوم‪.‬‬

‫جديدة لدى كل من يكتب‪ ،‬ومن يحاول أن يكتب‪ ،‬يف الركض‬ ‫للجوائز األدبية‪ ،‬حتى من كتاب كبار‪ ،‬نيئة‪ ،‬وبحاجة لتنضج‪،‬‬ ‫لكن ُنشرت لرتكض يف سباق الجائزة‪ً .‬‬ ‫أيضا نتجت كثري من الغرية‬

‫واملدهش أن دول الخليج أصبحت قبلة املبدعني العرب عرب‬

‫التي لم تكن موجودة حني كان األدب مجرد تميز طفيف‪ ،‬ال‬

‫العديد من املراكز الثقافية القديمة‪ ،‬كدمشق وبغداد والرباط‬

‫ً‬ ‫مبالغا فيها‪ ،‬وهناك جوائز ألنشطة كثرية يف الرياضة‪ ،‬والغناء‪،‬‬

‫ما أطلقته من جوائز كربى ماليًّا وإعالميًّا‪ ،‬وخرجت من املنافسة‬ ‫وتونس‪ ،‬عىل حني ما زالت القاهرة تصارع للبقاء يف مكانها عرب‬

‫آلياتها القديمة‪ .‬ويتضح أنه منذ بداية األلفية لم تعد الجوائز‬

‫تمنح بأسماء أمراء وال شيوخ‪ ،‬فقد حرصت كل جائزة عىل أن‬ ‫يكون لها مجلس أمناء ولجان تحكيم مستقلة‪ ،‬كما حرصت‬

‫عىل عقد مؤتمر صحفي تحضره قنوات اإلعالم ومشاهري الثقافة‬

‫والفن لتدشني اسم الفائز أمامهم جميعً ا‪ ،‬وعىل الرغم من أن‬

‫جوائز مثل البوكر وكتارا تقوم برتجمة األعمال الفائزة فإن أحدً ا‬ ‫ال يهتم وال يشعر بمردود لهذه الرتجمات‪.‬‬

‫عائد ماديًّا له‪ .‬بالنسبة للقيمة املادية للجوائز األدبية‪ ،‬فأنا ال أراها‬

‫واملوسيقا أعىل كثريًا من أعىل قيمة جائزة لدينا‪ ،‬وما دامت هناك‬

‫مؤسسات تقوم بالتمويل فلماذا نقول بأن القيمة مبالغ فيها؟‬ ‫نأيت ملسألة األعمال التي قد تفوز يف تلك الجوائز‪ ،‬وهي مسألة‬

‫معقدة خاصة للذي يعمل محكمًا فيها‪ .‬لذلك لن نقول بأن أي‬ ‫عمل حصل عىل جائزة‪ ،‬هو بالضرورة عمل جيد وينبغي اتخاذه‬

‫مرجعً ا‪ ،‬وأي عمل طرد من الجائزة هو بالضرورة عمل سيئ‬ ‫ّ‬ ‫الحط من قدره‪ .‬ودائمً ا عندي رأي أردده وهو أن الجوائز‬ ‫وينبغي‬

‫مكسب يف النهاية‪ ،‬ينبغي الحفاظ عليه‪ ،‬مهما كانت السلبيات‪.‬‬

‫‪109‬‬


‫قضايا‬

‫يحيى يخلف‪:‬‬ ‫الجائزة توفر للمبدع حياة كريمة‬

‫الجوائز نظام معمول به يف الدول‬

‫العربي‬ ‫للفنون اإلبداعيّة (شعر‪ ،‬رواية‪ ،‬قصة‪ ،‬رسم‪ )..‬يف العالم‬ ‫ّ‬ ‫عىل ّ‬ ‫قلتها تدار يف مناخ فاسد‪ ،‬وال أقصد إدارة أيّة جائزة بعينها‪،‬‬

‫للمبدعني يف مجاالت اآلداب والفنون‬

‫الثقافيّة العربيّة‪ ،‬البيئة التي هي جزء من بيئة أشمل تنتعش فسادًا‬

‫واملؤسسات األهلية‪ .‬الجوائز تكريم‬ ‫والعلوم‪ .‬الدول ممثلة بوزارات‬

‫بقدر ما أشري إىل البيئة الثقافيّة الفاسدة التي تنخر بنية املؤسّ سات‬

‫وإفسادًا‪ ،‬ذلك أنّ هناك من ك ّرس نفسه للشلليّة والتنفيع‪ ،‬يكون‬

‫إمّا هنا يف لجنة تحكيم أو هناك يف الئحة قصرية أو طويلة‪ ،‬يمنح‬

‫الثقافة تمنح جوائز ألدباء وفنانني‬ ‫ً‬ ‫اعرتافا‬ ‫عن مجمل أعمالهم أو مسريتهم‬

‫هنا تتويجً ا أو تصدي ًرا ليتسلم من هناك املقابل املطلوب‪ .‬وقد ال‬

‫وفنانني شباب جوائز تشجيعية‬

‫والتأكيد عىل االستقاللية والنزاهة والرباءة من التنفيعات والفساد‪.‬‬

‫بجهودهم وعطائهم‪ .‬كما تمنح ألدباء‬ ‫لتحفيزهم وتشجيعهم‪ .‬يحدث‬

‫ذلك يف دول عربية ويف دول العالم‪ .‬الجوائز العربية األكرث أهمية‬ ‫هي الجوائز التي تمنحها مؤسسات غري حكومية أو مستقلة ممولة‬

‫من حكومات أو رجال أعمال مثل جوائز البوكر‪ ،‬وكتارا‪ ،‬والشيخ‬ ‫زايد‪ ،‬والعويس‪ ،‬وامللك فيصل‪ ،‬ومؤسسه الفكر العربي‪ ...‬إلخ‪،‬‬

‫وهي جوائز تستحق التقدير وتلعب دورًا يف تكريم القامات‬ ‫العالية‪ ،‬وتحفيز إبداع الشباب‪ .‬الجوائز بشكل عام تفيد وال تضر‪.‬‬

‫إنها تكريم وتحفيز وقيمتها املادية توفر للمبدع حياة كريمة‪ .‬لنتذكر‬ ‫الشعر والشعراء يف تراثنا الذين كانوا يضطرون للتكسب يف بالط‬

‫‪110‬‬

‫بالفساد واإلفساد‪ .‬ال يمكن اإلغفال عن أنّ الجوائز ا ّ‬ ‫ملخصصة‬

‫الحكام عىل حساب كرامتهم‪ .‬التكسب قبيح لكن الجوائز مختلفة‪.‬‬

‫يخلو التتويج من إقحام اسم ما عىل سبيل التنويع وتبديد الشكوك‬

‫الفائزون بالجوائز يسبغون عليها نزاهة مطلقة‪ ،‬أمّا بعض املرشحني‬ ‫ّ‬ ‫الحظ فيبالغون يف ّاتهامهم لها باإلقصاء‬ ‫لها ممّن لم يحالفهم‬ ‫والتهميش وتصدير أسماء بعينها‪ .‬بالطبع ال توجد وثائق تدين‬ ‫الفاسدين يف الجوائز‪ ،‬لكن لدى املتابعني ما يمكن توصيفه بحدس‬

‫بما بني السطور‪.‬‬

‫ناصر عراق‪:‬‬ ‫لم تسلم جائزة من غمز‬ ‫حسب‬

‫علمي‬

‫لم‬

‫جائزة من الغمز واللمز من الذين‬

‫لم يحالفهم الحظ وينالوا‬

‫للجوائز لجان تحكيم ونظم داخلية ومعايري ال تمنح إال إذا توافرت‬ ‫ً‬ ‫أحيانا‬ ‫لها عناصر فنية‪ .‬وبالتايل تحفظ للمبدع كرامته‪ .‬صحيح أننا‬

‫فواكهها‪،‬‬

‫مستوى من ناحية القدرات أو الكفاءة‪ ،‬لكن معظم لجان التحكيم‬

‫شرسً ا من يوسف إدريس‬

‫نختلف مع لجان التحكيم؛ إما ألن بعض أعضائها ليسوا عىل‬

‫يتوافر بها حد معقول من النزاهة‪ .‬باختصار يستحق املبدع التكريم‬ ‫ويستحق أن يمنح جوائز كما هو معمول به يف كل دول العالم‪.‬‬

‫هيثم حسين‪:‬‬ ‫البيئة الثقافية الفاسدة ال تنتج إال جوائز‬ ‫فاسدة‬

‫تسلم‬

‫حتى‬

‫نجيب‬

‫محفوظ نفسه تلقى هجومً ا‬ ‫وآخرين واتهموه بأن مهادنته وتأييده للسالم مع إسرائيل هي‬

‫التي فرشت له طريق الورد إىل قطف نوبل‪ ...‬ويبدو يل أن غضب‬

‫الخاسرين يتصاعد كلما كانت قيمة الجائزة املالية مرتفعة‪.‬‬

‫بسبب الوضع االقتصادي املأزوم الذي يعيش يف كنفه أغلب‬ ‫املبدعني العرب بكل أسف‪ .‬فالجوائز السخية توفر قدرًا من‬

‫األمان املايل ملن يظفر بها‪ .‬فإذا خاصمتهم الجائزة هذه الدورة‬

‫حسن النيّة يفرتض التعاطي مع الجوائز‬

‫صبوا عليها اللعنات واتهموها بعدم النزاهة‪ .‬لكن سرعان ما‬

‫تقوم بتتويج املبدعني فيها‪ ،‬وتركيز‬

‫وأنا أتفهم هذا األمر جيدً ا‪ .‬وأتمنى لجميع زماليئ من الروائيني‬

‫ّ‬ ‫مخصصة لالحتفاء بالفنون التي‬ ‫لكونها‬

‫االهتمام عىل أعمالهم وعليهم‪ ،‬وتسليط‬

‫األضواء عىل مجاالتهم وتسويقهم‬ ‫وتقديمهم لشرائح عريضة من‬ ‫املتلقني‪ ،‬لكن كما يقال‪ :‬إنّ‬

‫سوء الظنّ من حسن الفطن‪،‬‬

‫فإنّ التعاطي ال يخلو دومًا من‬

‫تأويالت وبحث عن مقاصد خفيّة تكمن يف مضمون اختيار الفائزين‬ ‫وآليات التتويج امل ّتبعة التي ال تنجو من انتقادات تصل ح ّد ّ‬ ‫االتهامات‬ ‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬

‫يهرعون إىل تقديم رواياتهم للمشاركة يف الدورة املقبلة وهكذا‪.‬‬

‫والكتاب الفوز بجوائز مهمة‪ .‬أما هل كانت هناك أعمال تستحق‬ ‫الفوز فال أستطيع التأكيد‪َ .‬‬ ‫أل يِّن ال أعرف الروايات التي تقدمت‬ ‫للمشاركة‪ ،‬ولكني موقن أن املبدع العربي يتمتع بإمكانيات‬

‫مدهشة تجعله قادرًا عىل كتابة رواية مهمة وجديرة بثقة‬ ‫القارئ والناقد‪ .‬أعتقد أن آليات جائزتيَ ْ كتارا والبوكر معقولة‬ ‫جدًّ ا ً‬ ‫وفقا ملا أعلنته إدارة كل جائزة عن طريقة التحكيم وآلياته‪.‬‬ ‫وحبّذا لو أُصدِ رت ورقة تشرح حيثيات الفوز َّ‬ ‫موقعة من لجنة‬ ‫التحكيم‪ .‬هذا باختصار فيما أعتقد بشأن الجوائز‪.‬‬


‫الجوائز األدبية في العالم العربي‪ ..‬شراء والءات أم بحث عن فعل ثقافي حقيقي؟‬

‫مكاوي سعيد‪:‬‬ ‫مرحى بالجوائز وإن جانبها الصواب‬

‫يف اعتقادي أن الجوائز التي تمنح ألشكال اإلبداع‬

‫الثقايف كافة لها فوائد ومزايا جمة مهما اتفق أو اختلف‬

‫بعض املهتمني عليها‪ ،‬وبخاصة يف واقعنا العربي النامي‪،‬‬

‫فاملبدعون يعانون تر ِّدي الرواتب وقلة ساعات الفراغ‬ ‫التي يستقطعون منها بصعوبة وق ًتا يخصصونه لإلبداع‪،‬‬ ‫إضافة إىل رحلة البحث املضنية عن ناشر يتحمس‬ ‫إلبداعهم ويوافق عىل نشره‪ ،‬كما أنهم ال يحصلون عىل‬ ‫مقابل إلبداعهم إال نسبة قليلة يمنحهم الناشر مقابلها‬

‫بعض النسخ‪ .‬هذه الجوائز سواء ممنوحة من دول أو‬

‫مؤسسات خاصة أو رجال أعمال‪ ،‬فهي أمر حسن جدًّ ا‬

‫يدافع عن وجوه اإلبداع ضد خطر التقزم واالندثار‪ .‬الجوائز‬

‫يف غاية األهمية لدفع عملية اإلبداع ومساعدة الشباب‬

‫مكاوي سعيد‪ :‬الجانب‬ ‫السلبي في الجوائز‬ ‫دفع بالمتبارين‬ ‫القتحام مجاالت غير‬ ‫موهوبين فيها‪،‬‬ ‫كبعض الشعراء الذين اتجهوا للرواية‬ ‫من أجل القيمة المالية‬ ‫ً‬ ‫وأيضا مساعدتهم يف‬ ‫املوهوب يف تكملة طريقه اإلبداعي‪،‬‬

‫اقتحام مجاالت باتت مهجورة؛ ألن أغلب الجوائز صارت‬ ‫تعطى للرتجمات واألعمال الروائية (وهذا جانب سلبي‬

‫عزت القمحاوي‪:‬‬ ‫لجان التحكيم قد تنحرف بالجائزة وتجعلها عب ًئا‬ ‫األصل يف الجائزة األدبية أنها تقدير من املجتمع‬

‫لكاتب مجتهد‪ .‬قد تنوب الحكومة عن املجتمع يف تقديم‬ ‫هذه الجائزة‪ ،‬وقد تفعلها شركة أو يقدمها شخص‬ ‫يقدر الثقافة‪ .‬املهم أنها نوع من التقدير‪ ،‬نوع من املديح‬

‫الذي يرتدّ يف جزء منه عىل الجهة املتبنية للجائزة‪ .‬لكن‬ ‫لجان التحكيم قد تنحرف بالجائزة وتجعلها عب ًئا عىل‬

‫األدب والكتابة‪ ،‬عندما تتخىل عن االشرتاطات األدبية‬

‫لصالح اشرتاطات أخرى‪ ،‬سياسية كانت أو شخصية‪.‬‬ ‫هذا االنحراف يصيب العدالة يف مقتل ويؤثر عىل الكتابة‬

‫سلبًا؛ ألنه يغالط يف ترتيب أقدار األدباء‪ .‬عندما نتأمل‬

‫ً‬ ‫أنواعا من الجوائز‪ ،‬قليلها‬ ‫الساحة العربية حاليًّا نجد‬

‫ينتصر لألدب‪ ،‬والكثري منها ينتصر لقيم أخرى‪ ،‬مثل قيمة‬ ‫االحتفالية مثلاً ‪ ،‬وكأن أهم ما يف الجائزة هي اإلشارة إىل‬

‫لكنها قد تختار لجنة التحكيم التي ستخرج بنتائج ُتريض‬ ‫املجلس وال تحرجه مع مطلق الجائزة‪ .‬يختارون من‬ ‫يرونهم أقرب فكر ّيًا منهم‪ ،‬أو املتمرسني يف معرفة سقف‬ ‫الجائزة ومحظوراتها‪ .‬وهناك الكثري من املحظورات يف‬

‫الدول العربية‪ ،‬وال يمكن االحتفاء بكتاب يخرتق حدود‬ ‫ً‬ ‫سلفا‪،‬‬ ‫الحرية املعروفة‬ ‫سواء املتعلقة بقيود‬ ‫السياسة أو بما‬

‫يـ ـسـ ـمـ ــى أع ـ ــراف‬

‫وتقاليد املجتمع‬

‫والذوق العام‪.‬‬

‫الجهة املانحة ال التنويه بالعمل الفائز وصاحبه‪ .‬بعض‬ ‫الجوائز دأبت يف الرتويج للكتابة الخفيفة «األكرث مبيعً ا»‬ ‫وأصبح هذا مستق ًّرا فيها‪ .‬ولذلك‪ ،‬قد أخالفك‪ ،‬يف أن‬

‫بعض الجوائز تبدأ قوية ثم تضعف؛ فكل جائزة تقف من‬

‫البداية يف املكان الذي يريده لها مطلقها‪.‬‬

‫وإذا كانت لجان التحكيم تتغري يف كل عام‪ ،‬فإن هذا‬

‫التغيري بال جدوى؛ ألن مجالس األمناء أو مجالس إدارات‬

‫الجوائز ثابتة‪ .‬وهذه املجالس ال تصوّت عىل األعمال‪،‬‬

‫عزت القمحاوي‪ :‬عندما تتخلى الجائزة‬ ‫عن االشتراطات األدبية‪ ،‬فإنها تصيب‬ ‫العدالة في مقتل‬

‫‪111‬‬


‫قضايا‬

‫من الجوائز؛ ألنه يدفع باملتبارين القتحام مجاالت غري‬ ‫موهوبني فيها‪ .‬كبعض الشعراء الذين يتجهون للرواية من‬

‫أجل القيمة املالية) وقد انتبه بعض املهتمني لذلك فظهرت‬

‫بعض الجوائز التي تمنح للقصة القصرية‪ ،‬وأتمنى أن تكرث‬ ‫هذه الجوائز بالنسبة للقصة والشعر والكتابة املسرحية‬ ‫حتى نضخ دماء جديدة يف هذه الشرايني اإلبداعية‪.‬‬ ‫وبعض الذين يهاجمون هذه الجوائز (وبخاصة الكربى‬

‫منها) يتقدم لها سنويًّا ويثري اللغط نفسه بغية الضغط‬ ‫عىل لجان التحكيم يك تمنحهم الجائزة يف العام التايل‪.‬‬ ‫ًّ‬ ‫محقا ألن عدد املحكمني املعلن عنهم‬ ‫وبعضهم قد يكون‬

‫شريف صالح‪:‬‬ ‫نوبل نفسها لم يحصل عليها مبدعون كبار‬ ‫من املؤكد أن أي أديب يفوز بجائزة‬

‫مشفوعة بحفنة من الدوالرات لن‬

‫يشعر أن ثمة ضررًا‪ ،‬بل سيكون‬ ‫سعيدً ا للغاية‪ ،‬وسيتلقى التهاين‬

‫بأريحية وسيظل يشيد بنزاهة املانحني‪.‬‬

‫حتى الجوائز التي «عىل‬ ‫قد حالها» يتكالب عليها‬

‫الكثريون؛ لتأكيد جدارتهم‬

‫ال يكفي لفحص كل األعمال املقدمة‪ .‬وهذا جانب سلبي‬ ‫ً‬ ‫أيضا يف الجوائز يجب معالجته‪ .‬املهم يف هذا الصراع يف‬

‫عىل الفيسبوك‪ .‬ال أقول ذلك زاعمً ا أنني ال أشارك يف الجوائز‪.‬‬

‫يرضخ لنتائجها‪.‬‬

‫مادي بالغ البؤس‪ .‬فالجائزة هي تعويض مادي ومعنوي من‬

‫رأيي أن من ارتىض أن يدخل إىل هذه السباقات ال بد أن‬

‫هويدا صالح‪:‬‬ ‫معيارية التحكيم في الجوائز العربية‬

‫ًّ‬ ‫نصا يحصل عىل‬ ‫كلما قرأت‬

‫جائزة عربية وأجده أقل فنيًّا‬ ‫وجماليًّا من أن يصل إىل مستوى‬

‫‪112‬‬

‫جائزة كربى كنت أتساءل عن‬

‫معيارية التحكيم يف الجوائز‬

‫العربية‪ ،‬ثم جاءت جائزة نوبل‬ ‫التي منحت جائزتها ملغنٍّ ‪،‬‬ ‫عاودين التساؤل أليس ثمة‬ ‫معيارية أدبية يتمثلها‬ ‫مانحو الجوائز وهم‬ ‫يمنحونها؟‬

‫ومن خالل تجربتي يف تحكيم جوائز مصرية وعربية‬

‫أتحدث عن طريقتي مع النص الذي يجب تحكيمه‪ ،‬أنا‬ ‫شخصيًّا عند قراءة نص ما من أجل تحكيمه‪ ،‬وتبيان مدى‬ ‫استحقاقه لجائزة أم ال‪ ،‬أضع لنفيس معيارين أساسيني‬ ‫ال يمكن أن أحيد عنهما‪ :‬املعيار األول هو الخطاب الجمايل‬

‫ومدى تحقق األدبية والجمالية يف النص‪ ،‬واملعيار الثاين‬ ‫هو الخطاب الثقايف الذي يتضمنه النص‪ ،‬ومدى قبول‬

‫واستكمال وجاهتهم االجتماعية بتعليق شهادات التقدير‬

‫إنني بالفعل أشارك وأدرك أن «الكاتب العربي» يف وضع‬ ‫الصعب االستغناء عنه‪ .‬لكن إذا أعدنا صياغة السؤال «هل‬

‫تفيد الجائزة األدب نفسه؟» اإلجابة‪ :‬ليس بالضرورة‪ .‬بل ربما‬ ‫ً‬ ‫متوسطا عىل حساب‬ ‫تض ّر أكرث مما تفيد‪ .‬إذا عممت نموذجً ا‬

‫النموذج األكرث أصالة‪ .‬وليك تفيد جائزة األدب ال بد أن تتحىل‬

‫بمصداقية وشفافية عالية جدًّ ا‪ .‬وهو ما ال يتوافر يف معظم‬

‫الجوائز العربية‪ ،‬والنتائج والكواليس معروفة للجميع‪.‬‬

‫أحمد المديني‪:‬‬ ‫فقر المبدعين يدفعهم للتهافت‬ ‫على الجوائز‬ ‫عىل رغم تكرار الحديث عن قضية الجوائز يف حقل‬

‫الثقافة واإلبداع العربيني يف السنوات األخرية‪ ،‬فإنه‬

‫حديث يعرب عن حاجة فعلية يتبادلها املانحون والفائزون‬ ‫والناشرون‪ ،‬أعني السوق‪ .‬فاملانحون‪ ،‬أغلبهم اليوم من‬ ‫بلدان الخليج‪ ،‬ملا يتمتعون به من ريع مايل‪ ،‬اهتدوا إىل‬

‫هذا السبيل‪ ،‬بني ُسبُل أخرى‪ ،‬للفت نظر وترويج صيت‬ ‫ثقايف لبلدان ناشئة‪ ،‬ال بأس‪ ،‬ولإلحسان‪ ،‬عىل غرار‬

‫سلوك معهود يف حواضر وأزمنة‪ ،‬ال بأس كذلك‪.‬‬

‫هذا الخطاب من منطلق وعيي الفكري واأليديولوجي‪،‬‬

‫فإن تحقق للنص مستوى أدبي يريض قناعايت األدبية‬

‫أحمد المديني‪ :‬الناشرون هم الكاسب‬

‫نتمنى أن نجده يف مجتمعنا من خطاب يكرس لقيم املدنية‬

‫األكبر‪ ،‬ويكبر في أعينهم أردأ كاتب إذا‬ ‫ح َّلت عليه البركة‪ ،‬ودخل وليمة الجوائز‬

‫ومقواليت النقدية لكنه يحمل خطابًا ثقافيًّا ال يليق بما‬ ‫واملواطنة‪ ،‬ويتوافق مع منظومة القيم اإلنسانية العاملية‬

‫أرفض هذا النص فورًا‪.‬‬

‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬


‫الجوائز األدبية في العالم العربي‪ ..‬شراء والءات أم بحث عن فعل ثقافي حقيقي؟‬

‫إعتدال عثمان‪:‬‬ ‫الجوائز إما تتويج لمشروع أو تبشير‬ ‫بموهبة‬

‫إعتدال عثمان‪:‬‬

‫ال شك أن تعدد الجوائز الثقافية يف الساحة العربية‬ ‫مؤشر ّ‬ ‫دال عىل حراك ثقايف يسهم يف توجيه الثقافة‪ ،‬وتزويد‬

‫َّ‬ ‫منظم‬ ‫ال يوجد تخطيط‬ ‫على مستوى العالم‬

‫املجتمع بالزاد الفكري واإلبداعي املطلوب‪ .‬إننا نستطيع أن‬

‫العربي ينظر‬

‫نحيص أكرث من عشر جوائز ملؤسسات وهيئات مانحة‪،‬‬

‫إلى األعمال‬

‫اكتسب معظمها شهرة واسعة ومصداقية عالية؛ لكونها‬

‫الفائزة‬

‫تجمع بني التكريم املادي واملعنوي ألسماء لهم إسهاماتهم‬

‫البارزة يف اإلضافة إىل مجاالت تخصصهم‪ ،‬لذلك فإن فوزهم‬ ‫يعدّ تتويجً ا لرحلتهم‪ ،‬وحف ًزا لهم عىل مزيد من اإلبداع‬ ‫والتطوير والتأثري يف الساحة الثقافية‪ .‬كذلك ُت ِّ‬ ‫سلط الجوائز‬ ‫الضوء عىل أصحاب مواهب مغمورة‪ ،‬يمنحها الفوز بالجائزة‬ ‫فرصة الحضور واالعرتاف بمواهبهم وتقديرها حق قدرها‪،‬‬

‫وهذا مكسب كبري يضاف إىل تشجيع املبدعني الجدد لتطوير‬

‫أدواتهم‪ ،‬واالنطالق إىل آفاق واسعة‪ ،‬تتيح لهم الدخول‬ ‫بكفاءة يف حلبة املنافسة‪.‬‬

‫حضاريا يجب االعتناء به‬ ‫منتجا‬ ‫بوصفها‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬ ‫رعاية املشروع األدبي أو الفكري الفائز‪ ،‬وتهيئة املجال لنوع‬ ‫ً‬ ‫آفاقا أرحب يف الواقع‬ ‫من االستمرارية واملتابعة التي تفتح‬

‫الثقايف عن طريق عقد املؤتمرات‪ ،‬ونشر الدراسات حول‬

‫األعمال الفائزة‪ ،‬وتنظيم ندوات ومناقشات مفتوحة عىل‬

‫نطاق واسع‪ ،‬تحقق تواصل األجيال‪ ،‬وجذب شباب األدباء‬ ‫واملبدعني‪ ،‬إىل جانب الجمهور العادي من مختلف األعمار؛‬

‫ولكن امللحوظ ً‬ ‫أيضا تواري بعض األسماء الفائزة بعد‬

‫لذلك يظل هذا الحراك الثقايف محدود األثر يف الواقع‬

‫السلبية إىل أن الجهة املانحة غالبًا ما تنصرف عن مواصلة‬

‫مستوى زيادة أعداد القراء‪ ،‬وبالتايل التفاعل املجتمعي‬

‫انطفاء أنوار االحتفال‪ .‬ترجع بعض أسباب هذه الظاهرة‬

‫الفعيل‪ ،‬كما ال يحدث الرتاكم املطلوب لنقلة نوعية عىل‬

‫والفائزون‪ ،‬بني روائيني وشعراء وفنانني‪ ،‬أغلبهم من املعوزين‪ ،‬ممن وجدوا ضالتهم يف هذا األعطيات‬

‫ِّ‬ ‫لسد الع َوز أو لنيل شهرة يغفلون أن رأسمالها هو النصوص قبل صكوك املانحني‪،‬‬ ‫واإلكراميات‪ ،‬فتهافتوا عليها إما‬ ‫َّ‬ ‫فيختلط الحابل بالنابل‪ ،‬وتختل املقاييس‪ ،‬وقد اختلت‪.‬‬ ‫وأما الناشرون فهم أكرب الكاسبني‪ ،‬يجنون من البضاعة الكثري‪ ،‬وير ِّوجون‬

‫ويزايدون بالرخيص والنفيس‪ ،‬عىل حد سواء‪ ،‬سيكرب يف أعينهم أردأ‬ ‫غدا‪ ،‬شأن القراء تقريبًا؛ ألن البرَ َكة ّ‬ ‫كاتب ً‬ ‫حلت به‪ ،‬وسيباع‪ ،‬ومنهم من‬

‫يتطاوسون كأنهم يف بورصة‪ ،‬سريشحون هذا العمل لوليمة الجوائز‬ ‫أو هم ال يفعلون‪ ،‬والكتاب واملفكرون الجياع ُكرث عليهم يتهافتون‪،‬‬ ‫يتمسحون‪ ،‬وفوق هذا بعضهم ُ‬ ‫لكتبهم مم ِّولون‪ ،‬حتى إنه ال‬ ‫وبأعتابهم‬ ‫ّ‬ ‫ثقافة عربية اآلن‪ ،‬وال إبداع‪ ،‬إن لم تت َّوج بجائزة! حسن‪ .‬ليُعلم‪ ،‬بعد‬

‫هذا‪ ،‬أن ما العيب يف الجائزة‪ ،‬وال للغط أن يقوم عنها لذاتها مجردة‪ .‬إنه‬ ‫حول إطارها وشروطها وسياقها‪ ...‬أهلاً بالجوائز‪ ،‬شريطة أن تكون لغرض‬ ‫نبيل‪ ،‬ولها مُ ِّ‬ ‫حكمون ْ‬ ‫أكفاء‪ ،‬ويقتحمها النبغاء‪ ،‬ال سقط املتاع‬ ‫من كل قول‪ ،‬كأغلب روايات هذا الزمن األعور‪ ،‬وعىل الله‬

‫فليتوكل املتوكلون‪.‬‬

‫‪113‬‬


‫قضايا‬

‫املأمول‪ ،‬فيما تبقى الجوائز مناسبات احتفائية مرموقة‪،‬‬ ‫لكنها معزولة يف إطار موسمي‪.‬‬

‫من السلبيات التي ال بد من تداركها افتقاد تخطيط‬

‫منظم عىل مستوى العالم العربي‪ ،‬ينظر إىل األعمال الفائزة‬

‫بوصفها منتجً ا حضاريًّا عربيًّا يقتيض ً‬ ‫نوعا من التنسيق بني‬

‫الجهات املانحة لتدارس ما تكشف عنه األعمال الفائزة من‬

‫توجهات ومسارات واستشرافات فكرية وإبداعية‪ ،‬وارتباطها‬

‫باألوضاع السياسية واالقتصادية واالجتماعية يف املنطقة‪ .‬ومن‬

‫الضروري أن يمتد هذا التنسيق مع دور النشر لتسهيل زيادة‬ ‫اتساعا وتنظيمً ا‪ً .‬‬ ‫ً‬ ‫أيضا ينبغي‬ ‫مراكز التوزيع عىل نطاق أكرث‬

‫أال ننىس دور اإلعالم الثقايف يف التعريف باألعمال الفائزة‪،‬‬ ‫وتقريبها للجمهور العادي‪ ،‬وعدم اقتصار هذا الدور عىل إبراز‬

‫الحدث يف تغطيات صحفية سريعة‪ ،‬تهتم باإلخبار واالحتفاء‬

‫أكرث من اهتمامها بالقيمة األدبية الحقيقية لألعمال الفائزة‪.‬‬

‫شوقي عبداألمير‪:‬‬ ‫الجوائز أساءت للرواية وأسهمت في ابتذالها‬ ‫لقد أساءت الجوائز إساءة بالغة للرواية‪ ،‬وأسهمت‬

‫يف ابتذال قيمها؛ بسبب تحويلها إىل سوق رخيصة‪،‬‬

‫ويكفي قراءة النصوص ومقارنتها مع الجوائز العاملية التي‬

‫أعطيت لروائيني عرب كما حدث مؤخ ًرا يف باريس بجائزة‬ ‫الغونكور للرواية‪ ،‬وهي أرقى الجوائز؛ إذ منحت ثالثة من‬

‫العرب هم‪ :‬الطاهر بن جلون‪ ،‬وأمني معلوف‪ ،‬وأخريًا هذا‬

‫‪114‬‬

‫العام للمغربية ليىل سليماين‪ ،‬واملؤكد أنه ال يمكن رعاية‬ ‫الرواية الحديثة‪ ،‬إنما فقط محاولة شراء الروائيني‪ ،‬كمن‬

‫يتسوق بضائعه يف املوالت‪...‬‬

‫وال يمكن اعتبار أن القيمة املالية املرصودة للجائزة‬

‫هي مال سيايس أكرث منه ثقايف‪ ،‬فاألمر يعتمد عىل طريقة‬

‫التوظيف‪ ،‬ال عىل القيمة املالية مهما كانت مرتفعة‪،‬‬ ‫ومن ثم فأمر الجوائز يحتاج إىل ُّ‬ ‫ترفع وإيمان بدور األدب‬ ‫والفكر‪ ،‬ال باستغالله مباشرة‪ .‬وعىل البلدان املانحة للجوائز‬

‫الكربى واملهمة أن تختار األسماء يف شكل حيادي‪ ،‬وتشكل‬

‫لجنة تحكيم متوازنة‪ ،‬وتمنح الجائزة ملن يستحقها‪ ،‬حتى‬ ‫ً‬ ‫معارضا لسياستها‪ ،‬عند ذلك يبدأ العمل الجدي‬ ‫إن كان‬

‫شوقي عبداألمير‪ :‬الظاهرة البارزة‬ ‫في الجوائز العربية أن الفائز ال ُيذ َكر‬ ‫اسمه إال ساعة الفوز ثم يختفي‬ ‫كل الجوائز العربية تتهشم أمام صخرة الخطاب‬

‫العاملي‪ ،‬هذا الجانب مهم جدًّ ا‪ ،‬ولم يشتغلوا عليه‪.‬‬ ‫يعملون حفل عشاء وخطبًا إنشائية ومجامالت ويطبعون‬

‫كتبًا بورق «أملة»‪ ،‬يصرفون عليها آالف الدوالرات‪ ،‬وتبقى‬

‫والتأسيس الصحيح‪ .‬الظاهرة يف الجوائز العربية هو أن‬

‫مكدسة يف السراديب‪ ،‬ويعيدون الكرة كل عام من دون‬

‫عليها برتتيب ما ال عالقة له بالدور والحضور‪ ،‬ظروف‬

‫اإلصرار‪ .‬وبالطبع يختلف فوز بوب ديالن عما يحدث يف‬

‫الفائز ال يذكر إال ساعة الجائزة‪ ،‬ثم يختفي‪ ...‬ألنه حصل‬

‫مالية لشراء الوالءات‪.‬‬ ‫ثم إن هناك عملاً يف الخطاب اإلعالمي للجائزة‪،‬‬

‫نقد ذايت أو دراسة جدوى‪ ،...‬هدر أموال وجهل مع سبق‬ ‫جوائزنا الثقافية يف العالم العربي‪ ،‬ففوز بوب ديالن‬ ‫تطوير لنوبل؛ ذلك ألنها املرة األوىل التي ِّ‬ ‫تكرم فيها مغنيًا‬

‫الجائزة ليست مكافأة مالية فقط‪ ،‬إنها خطاب إعالمي‬ ‫للعالم‪ ،‬هذا الجانب ال ِّ‬ ‫تفكر فيه الجوائز العربية كلها؛‬

‫إىل جانب ديالن لفهم القفزة التي حققتها نوبل‪ ،‬والرسالة‬

‫صوت الفائز واسمه إىل العالم؟ هل فكروا بهذا؟‬

‫قبولنا أو رفضنا له‪.‬‬

‫ألنها تجهل مفردات وفلسفة الخطاب‪ ،‬كيف نوصل‬

‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬

‫وهي جائزة أدبية‪ ...‬يمكنك املقارنة عندما تضع اسم بيكت‬ ‫من وراء ذلك موضوع يطول الحديث عنه بغض النظر عن‬


‫نصوص‬

‫حين تصير خسارتنا‬ ‫ن ًّدا والعزيمة ندى‬ ‫سهير مقدادي‬

‫شاعرة فلسطينية‬

‫الغرفة تضيق‬

‫علي أن أخرج أعوامي كلها من جيب‬ ‫كان َّ‬

‫سري في خانة بطاقة خضراء أكره لونها‪،‬‬

‫وأعيد توزيعها بعدالة تليق بظلي وشمس‬ ‫ظهيرة صنعته‪.‬‬

‫العشرة األولى‬

‫ستكون من نصيب طفلة تفوقت بحصة التاريخ فهرمت‬

‫في الفسحة ما بين حصتين‪.‬‬

‫العشرة الثانية‬

‫حق المرأة في األربعين أعادت ك ّرة الحياة بحسبة خاطئة‬

‫لحمل ضعيف‪ ،‬والناتج متالزمة داون في وجه طفل أزرق‬ ‫العينين‪.‬‬

‫العشرة الثالثة‬

‫ضحكة لصبية زينت شعرها بدبابيس ملونة وخصالت مستعارة‬

‫من دمية تعثرت بها على باب مقهى ثقافي يقدم القهوة باردة شاحبة‬ ‫بنكهة العنب‪.‬‬

‫العشرة الرابعة‬

‫صورة باب ومزالج ويد جميلة تناست رائحة الزيت والليمون نكاية بأمل راودها عن‬ ‫نفسها وغادر دون اعتذار‪.‬‬

‫الغرفة تتسع‪ ..‬ومكاغاة طفل تشعل النور وتأتي بالشمس والقمر والمطر‬ ‫والفصول األربعة تصير بي ًتا‪.‬‬ ‫ورائحة حليب بنكهة ماء الزهر‪.‬‬

‫ملحوظة‪:‬‬ ‫لون غالف البطاقة الشخصية في مناطق السلطة الوطنية الفلسطينية هو األخضر‪.‬‬

‫‪115‬‬


‫حوار‬

‫األمين العام أكد سعي الجائزة إلى عقد عالقات ثقافية دولية‬

‫عبدالعزيز السبيل‪:‬‬ ‫إجراءات التحكيم في جائزة الملك فيصل العالمية‬ ‫تتم بكثير من الحذر والسرية والتجرد من األهواء‬ ‫حوار‪ :‬هدى الدغفق‬

‫‪116‬‬

‫الرياض‬

‫أوضح األمين العام لجائزة الملك فيصل العالمية الدكتور عبدالعزيز السبيل أن إجراءات‬ ‫الترشيح والتحكيم واالختيار في الجائزة‪ ،‬تتم بكثير من الحذر والسرية والتجرد من األهواء‪ ،‬مشيرًا‬ ‫إلى أن الترشيح للجائزة ال يقبل من األفراد واألحزاب السياسية‪ ،‬إنما من الجامعات والهيئات‬ ‫والمؤسسات العلمية‪ ،‬والمراكز البحثية‪ .‬وقال السبيل في حوار لـلفيصل‪ :‬إن الجائزة دشنت مرحلة‬ ‫مختلفة في تاريخها‪ ،‬مرحلة ميزها عقد عالقات ثقافية ومشاركات دولية للفائزين‪ ،‬شملت عد ًدا من‬ ‫العواصم العربية والعالمية‪ .‬إلى نص الحوار‪:‬‬ ‫ً‬ ‫أمينا ًّ‬ ‫عاما لجائزة امللك فيصل العاملية يتوقع‬ ‫● بتعيينك‬

‫املهتمون مرحلة جديدة تدشنونها‪ ،‬فما الجديد وما خططك‬ ‫للمستقبل؟‬

‫محمد عبداملطلب‪ ،‬الفائز بجائزة امللك فيصل العاملية (باالشرتاك)‬ ‫يف فرع اللغة العربية واألدب‪ ،‬حضرها عدد من العلماء واألدباء‬ ‫واألكاديميني واملثقفني‪ ،‬يف شهر إبريل ‪2016‬م‪ .‬كما تم التعاون مع‬

‫‪ -‬من الخطط الجديدة التي تم الشروع يف تنفيذها بعد إقرارها‬

‫جامعة محمد الخامس يف الرباط باململكة املغربية‪ ،‬ممثلة يف كلية‬

‫الجائزة يف إقامة عالقات ثقافية مع عدد من الجهات ذات العالقة‪.‬‬

‫الفائز بجائزة امللك فيصل العاملية (باالشرتاك) يف فرع اللغة العربية‬

‫من هيئة الجائزة مجموعة أنشطة علمية ثقافية‪ ،‬حيث شرعت أمانة‬ ‫فعىل سبيل املثال‪ ،‬نظمت أمانة الجائزة بالتعاون مع املجلس األعىل‬

‫للثقافة يف جمهورية مصر العربية لقاء علميًّا تكريمًا لألستاذ الدكتور‬

‫اآلداب يف إقامة حفل تكريمي لألستاذ الدكتور محمد مفتاح‪،‬‬ ‫واألدب‪ ،‬يف شهر نوفمرب ‪2016‬م‪ .‬وهناك تعاون علمي بني أمانة‬ ‫الجائزة والجامعة القاسمية يف إمارة الشارقة تمثل يف محاضرة‬

‫الفائزون بجائزة الملك فيصل العالمية للدورة العشرين‬ ‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬


‫ألقاها األستاذ الدكتور محمد عبداملطلب يف الجامعة القاسمية‬

‫إىل مكان‪ ،‬ومن بلد إىل بلد‪ ،‬وتعدها بعض الدول من مرتكزات القوة‬

‫مقر الجامعة يف مدينة الشارقة‪ .‬وقامت أمانة الجائزة‪ ،‬بالتعاون مع‬

‫املصاحبة لهذه املعارض‪ ،‬ومن هذا املنطلق فإن أمانة الجائزة عىل رغم‬ ‫حرصها عىل الحضور‪ ،‬فإنها تريد حضورًا فاعلاً ومؤث ًرا‪ ،‬وتويل هذه‬

‫بعنوان «سطوة الشعر» وذلك يف الخامس من ديسمرب ‪2016‬م يف‬ ‫مؤسسة عبدالحميد شومان‪ ،‬بتنظيم لقاء علمي لكل من األستاذ‬

‫الدكتور محمد عبداملطلب واألستاذ الدكتور محمد مفتاح يف مدينة‬

‫عمان باململكة األردنية يف شهر نوفمرب ‪2016‬م‪.‬‬

‫يضاف إىل ذلك مشاركة الجائزة يف االحتفال باليوم العاملي‬

‫للغة العربية الذي أقامته منظمة اليونسكو يف مقرها يف باريس‬ ‫يف الخامس عشر من ديسمرب ‪2016‬م‪ ،‬إذ شاركت الجائزة يف إقامة‬

‫الناعمة يف عالقاتها مع الشعوب من خالل األنشطة الثقافية املتعددة‬

‫املعارض وما يصاحبها من نشاط اهتمامًا كبريًا من خالل العمل عىل‬ ‫مشاركة الجائزة يف إقامة عدد من املحاضرات والندوات واللقاءات‬

‫العلمية للفائزين بها يف هذه املناسبات الثقافية عرب خريطة العالم‬ ‫العربي وخارجه‪.‬‬

‫ندوة علمية شارك فيها اثنان سبق أن فازا بالجائزة؛ وهما األستاذ‬

‫الدكتور رمزي بعلبيك‪ ،‬واألستاذ الدكتور محمد مفتاح‪ ،‬إضافة إىل‬

‫الدكتور ماجد الحمد‪ .‬وهناك أنشطة أخرى مستقبلية‪ ،‬منها خطة‬ ‫إلقامة لقاء علمي بالتعاون مع معهد العالم العربي يف باريس‪ .‬أما‬

‫الفائزون بجائزة الطب وجائزة العلوم‪ ،‬فقد تم التنسيق مع عدد‬

‫من املؤسسات واملراكز العلمية لتنظيم محاضرات ولقاءات علمية‪،‬‬ ‫يف كل من مدينة براغ‪ ،‬ويف جنوب إفريقيا‪ ،‬وجامعة كمربيدج‬

‫الربيطانية‪ ،‬وجامعة هارفارد األمريكية‪.‬‬

‫استخدام التقنية يف أعمال الجائزة‬

‫● جائزة امللك فيصل العاملية تكاد تكون الوحيدة يف العالم‬

‫العربي من ناحية توجهها إىل املبدعني يف العالم أجمع‪ ،‬لكنها‬

‫ال تحضر يف الذاكرة سوى عند اإلعالن عن الفائزين‪ ،‬أو يف حفل‬

‫توزيع الجائزة‪ .‬ونحن اليوم يف لحظة إعالمية بامتياز مع وسائل‬

‫التواصل االجتماعي والثورة يف اإلعالم املريئ‪ ،‬فهل ستفيد الجائزة‬

‫من هذه اللحظة إلعادة صياغة حضورها اإلعالمي؟‬

‫‪ -‬ال شك أن االتصال اليوم أصبح من أهم ضروريات اإلنسان؛‬

‫فقد فرض نفسه بقوة بفضل التطور التقني املذهل‪ ،‬ولقربه من‬

‫املتلقي ويسره‪ ،‬وارتباطه باحتياجات اإلنسان من تعليم وتواصل‬

‫وتنوير ودعاية‪ ،‬حيث نجد أن هذه الوسائل الحديثة مدت جسور‬ ‫الحوار الحضاري مع الثقافات األخرى‪ .‬والتعامل مع التقنيات‬ ‫الحديثة أصبح قضية ثقافية يف املقام األول‪ ،‬وهو ما تهدف إليه أمانة‬

‫الجائزة‪ ،‬إذ إن هناك توجهًا إىل استخ ــدام جميع التقنيات الحديثة يف‬ ‫أعمــال الجــائزة عــلم ــية كانـ ــت أو إعالمية؛ وهو ما سيجعل للجائزة‬

‫حضورًا إعالميًّا مستم ًّرا‪ .‬ولنا أمل كبري أن تصل رسالة الجائزة‬

‫وسمعتها إىل مصاف قريناتها يف العالم املتقدم‪.‬‬

‫● بعض الجوائز ذات القيمة املادية الكربى‪ ،‬والتي‬

‫تأسست يف األعوام األخرية‪ ،‬أصبح لها حضور وأجنحة يف‬ ‫معارض الكتب العربية والدولية‪ .‬فهــل سرنى ً‬ ‫شيئا من‬ ‫هذا القبيل تقوم به جائزة امللك فيصل العاملية؟‬

‫‪ -‬ال شك أن معارض الكتب لها أهمية كبرية‪،‬‬

‫وهي داللة عىل الوعي يتتبعها املثقفون من مكان‬

‫‪117‬‬


‫حوار‬

‫● كرث اللغط عن لجان التحكيم داخل الجوائز العربية‪ ،‬من‬

‫ناحية عدم جديتها يف تحكيم األعمال املقدمة للجوائز‪ ،‬ووقوعها‬ ‫يف أخطاء علمية‪ ،‬مثل قبول كتب مسروقة‪ ،‬واضطرار بعض‬

‫ومؤسساتهم األكاديمية‪ .‬وتكون درجتهم العلمية بمرتبة أستاذ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫رابعا‪ -‬لجان االختيار‪ :‬باستثناء جائزة خدمة اإلسالم‪ ،‬يتم‬

‫اللجان لالعتذار عن منح جوائز معينة وإعالن سحبها ألسباب‬ ‫ً‬ ‫انطالقا من ذلك‪ ،‬كيف تتعامل جائزة امللك فيصل العاملية‬ ‫مختلفة‪.‬‬

‫ألشخاصهم بناء عىل ترشيح من الجامعات واملؤسسات العلمية‬

‫‪ -‬إن إجراءات الرتشيح والتحكيم واالختيار‪ ،‬عىل بساطتها‪،‬‬

‫درجتهم العلمية عن مرتبة أستاذ‪ .‬وتتمثل مهام لجان االختيار يف‬

‫أمور ال تتحقق إال باليقظة الدائمة والعمل الصامت‪ ،‬واالعتماد عىل‬

‫عنهم‪ ،‬حيث تدرس اللجنة كل ذلك دراسة مستفيضة‪ ،‬وبعدهــا تقــرر‬

‫مع مسألة لجان التحكيم؟‬

‫تنطوي عىل كثري من الحذر والسرية والتجرد من األهواء‪ ،‬تلك‬ ‫الثقات من الرجال‪ .‬وملزيد من اإليضاح يمكن ذكر املراحل التي تمر بها‬

‫الرتشيحات‪ ،‬إذ تتمثل يف أربع مراحل‪:‬‬ ‫أولاً ‪ -‬الرتشيح‪ :‬الرتشيح للجائزة ال يقبل من األفراد واألحزاب‬

‫السياسية‪ ،‬إنما ال بد أن يكون الرتشيح من الجامعات والهيئات‬ ‫واملؤسسات العلمية‪ ،‬واملراكز البحثية‪ ،‬وهذا يعني أن هذه الجهات‬

‫العلمية قد أخضعت مرشحيها للفحص العلمي‪ ،‬واقتنعت‬

‫باستحقاقه الرتشيح للجائزة‪.‬‬

‫اختيار أعضاء لجان االختيار من ذوي االختصاص‪ ،‬يختارون‬ ‫ذات العالقة‪ .‬ويراعى يف ذلك تنوع اختصاصاتهم وتوازنها‪ ،‬وال تقل‬

‫القيام باالطالع عىل أعمال املرشحني‪ ،‬والتقارير التي أعدها املحكمون‬

‫اخــتيار فائــز أو أكثـر بالجائزة‪ ،‬أو حجبها‪ .‬وهذه اللجان تعمل بشكل‬ ‫مستقل ورأيها نهايئ‪.‬‬

‫● يف زمن مىض تبنت الجائزة يف فرع اللغة العربية واألدب‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫نشطا‪ ،‬مــثل النـثــر يف‬ ‫اهتماما‬ ‫موضوعات لم تعد تلقى رواجً ا أو‬

‫القــرن الثــالث الهج ــري‪ ،‬أو ما شابه ذلك‪ ،‬إذ ال يتجاوز املهتمون‬ ‫بهذا املوضوع بضعة مختصني‪ .‬كيف يمكن للجائزة أن تختار‬

‫موضوعات تشتبك براهن اللغة العربية وآدابها؟‬

‫ثانيًا‪ -‬الخرباء‪ :‬عند انتهاء املدة الزمنية املحددة للرتشح‪ ،‬تقوم‬

‫‪ -‬موضوع الجائزة يتم اختياره من لجنة االختيار املكونة من‬

‫يف تخصصهم‪ ،‬وذلك لدراسة الرتشيحات‪ ،‬والتأكد من ارتباطها‬

‫اختيار أعضاء اللجان ترسل لكل عضو قائمة باملوضوعات التي تم‬

‫األمانة العامة للجائزة بتعيني ثالثة خرباء من ذوي الكفاءات العالية‬

‫‪118‬‬

‫ضوء استحقاقهم الجائزة‪ ،‬ويراعى يف املحكمني تنوع جنسياتهم‬

‫بموضوع الجائزة‪ .‬ويتوىل الخرباء اختيار أفضل املرشحني‪ ،‬بحيث‬

‫عشرة أساتذة مختصني بفروع علوم اللغة العربية وآدابها‪ .‬عند‬

‫منح الجائزة فيها‪ ،‬ويطلب من العضو ترشيح ثالثة موضوعات عىل‬ ‫األقل‪ .‬وعند اجتماع اللجان يتم دراسة املوضوعات املقرتحة من جانب‬

‫يمثل هؤالء القائمة القصرية للمرشحني‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ثالثا‪ -‬الحكام‪ :‬تتواصل األمانة العامة مع الجامعات واملؤسسات‬

‫األعضاء‪ ،‬ويطلب من اللجنة الخروج بثالثة موضوعات‪ .‬وقد كونت‬

‫التشاور مع الخرباء واملستشارين يتم اختيار ثالثة محكمني‪ ،‬يقوم كل‬

‫يف هذه املوضوعات‪ ،‬وتختار املوضوع‪ .‬وجائزة اللغة العربية واألدب‬

‫العلمية من أجل ترشيح محكمني حسب موضوع الجائزة‪ .‬وبعد‬ ‫منهم بدراسة أعمال املرشحني يف القائمــة القصرية‪ ،‬وتقويمها وإعــداد‬ ‫تقــرير عن كل مــرشح‪ .‬ويتضمــن التقرير ترتيب أسماء املرشحني يف‬

‫نفذت أمانة الجائزة مجموعة من‬ ‫األنشطة العلمية‪ ،‬والعالقات الثقافية‬ ‫مع عدد من الجهات‏‪ ،‬يضاف إلى ذلك‬ ‫مشاركة الجائزة في االحتفال باليوم‬ ‫العالمي للغة‏العربية الذي أقامته‬ ‫منظمة اليونسكو في مقرها في باريس‬ ‫في الخامس‏عشر من ديسمبر ‪2016‬م‪.‬‬ ‫‏وتم التنسيق مع‏عدد من المؤسسات‬ ‫والمراكز العلمية لتنظيم محاضرات‬ ‫ولقاءات علمية‪،‬‏في كل من مدينة براغ‪،‬‬ ‫وفي جنوب إفريقيا‪ ،‬وجامعة كمبريدج‬ ‫البريطانية‪،‬‏وجامعة هارفارد األميركية‬

‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬

‫أمانة الجائزة هذا العام لجنة علمية من عدد من األكاديميني تنظر‬ ‫تتجه لتقدير املنجز األكاديمي يف أحد املوضوعات ذات الصلة باللغة‬ ‫العربية واألدب العربي‪ ،‬وتعمل الجائزة عىل تسليط الضوء عىل‬

‫بعض املوضوعات األدبية املعاصرة التي ُبذِ ل فيها جهد كبري لكنها لم‬ ‫تحظ بتقدير علمي‪.‬‬

‫جائزتان تتوجهان إىل اإلنسانية‬

‫● الجائزة مهتمة باملجاالت العلمية الدقيقة وتكرم املبدعني‬

‫فيها‪ ،‬ولذلك حصد كثري من العلماء الذين فازوا بها جائزة نوبل‬ ‫بعدها‪ .‬لكن املفارقة أن الجائزة تنطلق من منطقة عربية ليست‬ ‫نشطة علميًّا‪ ،‬ومع ذلك هي تحتفي بالرواد يف مجاالت علمية‬ ‫مرموقة‪ ،‬والذين هم أجانب يف األغلب‪ ،‬ترى متى تذهب هذه‬

‫الجوائز التي باتت حكرًا عىل األوربيني واألمريكان وبلدان غري عربية‬ ‫أخرى‪ ،‬إىل علماء عرب؟‬

‫‪ -‬تقصد يف هذا السؤال جائزة امللك فيصل العاملية يف فرع‬

‫الطب وفرع العلوم‪ .‬وهما جائزتان تتوجهان لإلنسانية بعامة ألن‬

‫منجزهما يهم البشرية‪ ،‬والجــائزة تهــدف إىل تكريم العــلم والعــلمــاء‪،‬‬ ‫بصــرف النظــر عن دينه ــم أو جنسهم‪ .‬لكني أود التذكري بأن الجائزة‬


‫األمين العام أكد سعي الجائزة إلى عقد عالقات ثقافية دولية‬

‫لم تكن حك ًرا عىل الغربيني؛ بل فاز بها علماء‬

‫نال الجائزة يف الكيمياء عام ‪1410‬هـ‪1990/‬م‪.‬‬

‫بالدهم‪ ،‬ويمكن أن أستشهد هنا ببعض العلماء‬

‫لبناين ويحمل الجنسية الربيطانية‪ ،‬وقد‬

‫عرب‪ ،‬وإن كانوا يعملون يف مراكز علمية خارج‬

‫والربوفيسور سمري زيك الذي هو من أصل‬

‫العرب الذين فازوا بالجائزة‪ ،‬وإن حملوا جنسيات‬ ‫أخرى‪ ،‬فمثلاً يف فرع الطب الربوفيسورة فرانسوا‬

‫‪1424‬هـ‪2004 /‬م‪ .‬وجميع هؤالء الفائزين تم‬

‫التونيس‪ .‬وقد نالت الجائزة يف موضوع نقص‬

‫ومراكز بحثية غربية‪.‬‬

‫نال الجائزة يف علم األحياء (البيولوجيا) عام‬

‫باري سنويس‪ ،‬الفرنسية الجنسية‪ ،‬ذات األصل‬

‫ترشيحهم من مؤسسات وهيئات علمية‪،‬‬ ‫● جوائز الدورة األخرية من الجائزة‬

‫املناعة املكتسب «اإليدز» عام ‪1413‬هـ‪1993/‬م‪ ،‬ثم‬ ‫نالت جوائز كبرية منها جائزة نوبل‪ .‬أما يف فرع‬

‫غلب عليها املناصفة‪ ،‬هل ذهاب جائزة‬

‫الجنسية‪ ،‬ذو األصل اللبناين‪ .‬وقد نالها يف الرياضيات عام ‪1407‬هـ‪/‬‬

‫الفرع الواحد إىل اثنني خيار ال بد منه‪ً ،‬‬ ‫علما‬ ‫أن بعضهم ال يحبذ املناصفة‪ ،‬وال يرى فيها تساو ًيا يف األبحاث‬

‫منح أكرث من عشرين جائزة دكتوراه فخرية يف العلوم‪ ،‬كما منح‬

‫ال ترقى إىل املستوى املطلوب‪ ،‬فيكون الفائز بحاجة إىل فائز رديف‪.‬‬

‫العلوم فقد فاز بها السري مايكل عطية‪ ،‬الربيطاين‬

‫‪1987‬م‪ ،‬والذي يُع ُّد أشهر عالم رياضيات يف القرن العشرين‪ .‬وقد‬

‫أحمد زويل‬

‫املرشحة من ناحية األهمية‪ ،‬وقد تدل املناصفة عىل أن األعمال‬

‫فما رأيكم؟‬

‫عدة جوائز مرموقة منها ميدالية أبيل (‪ ،)Abel Prize‬التي أنشئت‬ ‫للرياضيني خاصة ً‬ ‫عوضا عن جائزة نوبل‪.‬‬

‫‪ -‬اختيار الفائز بالجائزة باالنفراد أو االشرتاك أو حجب الجائزة‬

‫الذي أدَّت إبداعاته تقانات مذهلة إىل تأسيس فرع جديد من فروع‬

‫ولكن قد يكون السبب يف اشرتاك أكرث من فائز يف جائزة واحدة نتيجة‬

‫الربوفيسور أحمد زويل‪ ،‬املصري األصل‪ ،‬األمرييك الجنسية‪،‬‬

‫هو من مهام لجنة االختيار‪ ،‬وال تتدخل أمانة الجائزة يف عمل اللجان‪،‬‬

‫املعرفة هو كيمياء الفيمتو‪ ،‬وقد نال الجائزة عام ‪1409‬هـ‪1989/‬م يف‬

‫تقارب مستويات املرشحني‪ ،‬أو قناعة اللجان بعــدم رقــي واحد فقــط‬

‫بني الجوائز التي نالها جائزة نوبل عام ‪1419‬هـ‪1999/‬م‪ .‬والربوفيسور‬

‫اشرتك ثالثة فائزين يف فرع واحد من أفرع الجائزة‪ .‬وعليه أقول‪ :‬إن‬

‫الفيزياء‪ ،‬كما منح أكرث من مئة جائزة وميدالية ووسام‪ ،‬ومن‬ ‫مصطفى عمرو السيد‪ ،‬املصري األصل‪ ،‬األمرييك الجنسية‪ ،‬الذي‬

‫لالنفــراد به ــا‪ ،‬أو اختالف يف وجهات نظر أعضاء اللجان‪ .‬وقد سبق أن‬ ‫الحكم يف هذا هو للجنة االختيار‪.‬‬

‫عاما على انطالق الجائزة‬ ‫‪40‬‬ ‫ً‬

‫ُ‬ ‫أنشئت جائزة امللك فيصل العاملية قبل ما يقرب من أربعني عامً ا‪ ،‬وتشرفت‬

‫بحمل اسم ملك عظيم حمل هموم أمته العربية واإلسالمية‪ .‬وقد جاء إنشاؤها‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وتأكيدا لرسالة‬ ‫إيمانا بأهمية العلم يف فتح آفاق أوسع للبشرية يف جميع املجاالت‪،‬‬ ‫تحملها مؤسسة امللك فيصل الخريية إىل العالم‪ ،‬وهي رسالة تقوم عىل إشاعة‬

‫الخري‪ ،‬وبث األمل‪ ،‬واالعرتاف بجهود العلماء والعاملني‪ ،‬واملشاركة يف كل ما يعود‬ ‫َّ‬ ‫ولعل فوز مؤسسة امللك فيصل الخريية بجائزة‬ ‫عىل البشرية بالنماء واالزدهار‪.‬‬

‫العويس عام ‪2016‬م يف حقل اإلنجاز الثقايف والعلمي‪ ،‬لهو دليل عىل النجاح الذي‬

‫حالف هذه املؤسسة الخريية التي تعمل لصالح اإلنسانية جمعاء‪ .‬وقد مر عىل منح‬ ‫أول جائزة من جوائزها الخمس ثمانية وثالثون عامً ا‪ .‬تم منح الجائزة بفروعها الخمسة‪ ،‬منذ إنشائها‪ ،‬ملئتني وسبعة وأربعني فائزاً‬ ‫وفائزة ينتمون إىل أربع وأربعني دولة‪ .‬وحققت الجائزة جانبًا كبريًا من أهدافها‪ ،‬كما حققت ريادة واضحة يف تكريم نوابغ من العلماء‬ ‫والباحثني‪ .‬فقد حصل ثمانية عشر فائ ًزا بها يف فرعي الطب والعلوم – بعد فوزهم بها – عىل جائزة نوبل لإلنجازات العلمية الرائدة‪.‬‬

‫والجائزة ال يقتصر تكريمها عىل العلماء يف مختلف فروع املعرفة؛ بل يمتد إىل العاملني املخلصني‪ ،‬إذ وجه األمري خالد الفيصل‬

‫رئيس هيئة الجائزة بتكريم أمينها السابق األستاذ الدكتور عبدالله العثيمني ‪ -‬رحمه الله ‪ -‬الذي أمىض ثالثة عقود من العمل الدؤوب‪،‬‬

‫والجهد الكبري‪ ،‬وذلك يف حفل تسليم الجائزة الذي رعاه خادم الحرمني الشريفني امللك سلمان بن عبدالعزيز‪ .‬وامتد هذا التكريم‬ ‫ً‬ ‫مؤرخا وأديبًا»‪ ،‬التي نظمتها أمانة الجائزة يوم األربعاء ‪1438/3/15‬هـ‬ ‫بموافقة األمري خالد عىل إقامة الندوة العلمية «عبدالله العثيمني‬ ‫املوافق ‪2016/12/14‬م‪ ،‬بمشاركة نخبة من املؤرخني واألدباء واملثقفني من اململكة والوطن العربي‪.‬‬

‫‪119‬‬


‫بورتريه‬

‫‪120‬‬

‫وكرمته فرنسا بينما‬ ‫تبنى إسالم التنوير‬ ‫َّ‬ ‫اختزله العرب في كتب الحب والجنس‬

‫مالك شبل ‪..‬‬

‫في أفول العقل التنويري‬ ‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬


‫مالك شبل‪ ..‬في أفول العقل التنويري‬

‫عبدالحق بلعابد‬

‫باحث وأكاديمي جزائري‬

‫يعد المفكر الجزائري (مالك شبل‪2016-1953 :‬م)‪ ،‬من بين المفكرين القالئل الذين زاوجوا‬ ‫العلم بالعمل‪ ،‬والقول بالفعل‪ ،‬بانيًا بذلك هوية فكرية مفارقة للهويات الفكرية األخرى التي تبني‬ ‫جدارًا عاليًا بين ذاتها في الحياة‪ ،‬وذاتها مع الفكر‪ ،‬فقد وعى المفكر مبكرًا بهذه اإلحراج المعرفي‪،‬‬ ‫فقام بتذويب فكره‪ ،‬ليصبح فن العيش متسامحً ا مع اآلخر‪ ،‬وطريقه للتفكير الحر والمستنير في األنا‬ ‫متساك ًنا مع اآلخر‪ .‬والقارئ لسيرته الذاتية التي نقلتها عنه الروائية الفرنسية (جانين بواسار‪ ،‬مالك‪،‬‬ ‫ً‬ ‫سابقا‪ ،‬فهو الذي عاش ُيتم المجتمع‪ ،‬بعد‬ ‫قصة حقيقية‪ ،‬منشورات فايار ‪2008‬م)؛ سيدرك ما قلناه‬ ‫ً‬ ‫بعضا من هذا اليُتم‬ ‫فقدانه والده وممتلكاتهم بعد االستقالل‪ ،‬لوال وجود السند األمومي الذي عوضه‬ ‫القسري‪ ،‬لتنفتح ملكاته الوجودية على ُيتم آخر وهو في مركز األيتام‪ ،‬حيث كان يدافع عن نفسه‬ ‫وأخيه من تعنيف بعض األطفال في المركز‪ ،‬لتبدأ األسئلة الطفولية تكبر في عقل رجل المستقبل‪،‬‬ ‫متجاو ًزا بذلك أسئلة ُيتم المجتمع إلى أسئلة ُيتم المعرفة‪ :‬لماذا اإلنسان يتعدى على أخيه اإلنسان؟‬ ‫وعن الحرية المسلوبة؟ وعن الحب الضائع؟ وعن المستعمر القامع؟ وعن الدين المانع؟‬ ‫العقل الجريح ُيسمع هـنـ(ـا)ك‬

‫إسالم التنوير‪ ...‬هو السبيل للتعايش‬

‫لتكرب هذه األسئلة عنده يف سنوات دراسته الثانوية يف‬ ‫مدينة العلم قسنطينة‪ ،‬أين كان صوت املرأة خاف ًتا داخل‬

‫ملا أراد أن يعيد قراءة اإلسالم قراءة جديدة‪ ،‬قراءة جمعية‬

‫تسمع همساته وراء الجدران‪ .‬غري أن هذا املنع املجتمعي‪،‬‬

‫تركن للجاهز من األفكار‪ ،‬وال إىل األحكام السابقة‪ ،‬وال إىل‬

‫املجتمعات العربية‪ ،‬ومنها املجتمع الجزائري‪ ،‬والحب ال‬ ‫أضرم يف نفسه نورانية الشعر‪ ،‬ونارية املشاعر‪ ،‬وهو يتعرف‬ ‫إىل أوىل مغامرات الحب واستيهامات الجسد يف هذه‬ ‫املرحلة؛ هذه االستيهامات الشبابية سرعان ما تحولت إىل‬

‫هاجس وجودي قابل للتفكري‪ ،‬داخل أسوار الجامعة‪ ،‬إال أنها‬ ‫غري قابلة للتدبري العلمي‪ ،‬داخل السياق املجتمعي يف ذلك‬ ‫متنفسا ملا كان يريده إال بعد أن نال منحة‬ ‫الوقت‪ ،‬ولم يجد‬ ‫ً‬

‫دراسية إىل إحدى الجامعات الفرنسية؛ وهنا بدأت االنطالقة‬ ‫الفعلية للعقل‪ ،‬واندملت بعض جراحات هذا العقل‬ ‫الجريح‪ .‬فقد عكف شبل عىل دراسة علم النفس‪ ،‬وتحصل‬

‫عىل دكتوراه يف هذا التخصص‪ ،‬وأردفها بدكتوراه ثانية يف‬ ‫األنرثوبولوجيا‪ ،‬ورسالة أخرى يف العلوم‬ ‫السياسية‪ ،‬ليصبح هذا العقل الجريح يف‬ ‫وطنه‪ ،‬عقلاً يجرتح أفكارًا تنويرية جديدة‬

‫عن اإلسالم واملسلمني يف العالم‪ ،‬ويُسمع‬

‫صوت املسلم هنا وهناك‪ ،‬لتكون هذه بحق‬

‫ً‬ ‫موضوعا‬ ‫قصة حقيقية‪ ،‬ملفكر جعل حياته‬

‫للتفكري املعريف‪ ،‬وتفكريه آل للتدبري الحيايت‪.‬‬

‫إن مالك شبل مفكر شمويل كما يقول عن نفسه‪ ،‬فهو‬

‫شمولية‪ ،‬متسلحة بمنهجيات متعددة التخصصات‪ ،‬ال‬ ‫التصورات املتوارثة؛ فهو دائمً ا ما يعرض كل هذه املقوالت‬ ‫واألطروحات عىل محك النظر املعريف‪ ،‬ومقياس العقل‬

‫العلمي‪ ،‬لهذا كثريًا ما أخذ منه املفكرون األجانب الحذر‬ ‫‪ ،‬عىل الرغم من إعجابهم بفكره املستنري‪ ،‬وكثريًا ً‬ ‫أيضا ما‬ ‫ارتاب منه بعض املفكرين العرب إىل حد التهجم‪ ،‬من أجل‬ ‫أفكاره املغامرة يف تحليل مناطق يصعب عليهم التفكري فيها‬

‫أو مقاربتها مقاربة علمية (كالجنس والشهوة‪ ،‬واملثلية‪.)...‬‬ ‫فهو لم يتمكن من الحفر يف بنية العقل العربي اإلسالمي‪،‬‬ ‫إال من خالل هذه املنهجية العلمية الشمولية املتعددة‬

‫التخصصات‪ ،‬فهو سليل املدرسة الفكرية األركونية (نسبة‬

‫ملحمد أركون)‪ ،‬التي تدرس اإلسالميات يف شموليتها‪ ،‬وهذا‬

‫ما نجده يف العديد من كتبه ( الجسد يف اإلسالم ‪1984‬م‪،‬‬ ‫املخيال العربي اإلسالمي ‪1992‬م‪ ،‬قاموس الرموز اإلسالمية‬ ‫‪1995‬م‪ ،‬الذات يف اإلسالم ‪2002‬م‪ ،‬ال شعور اإلسالم‪ :‬تأمالت‬

‫حول الحظر‪ ،‬الخطيئة واالخرتاق ‪2015‬م)‪.‬‬

‫لهذا نجد مالك شبل ال يكتفي بالتنظري للظاهرة‪ ،‬بل‬

‫يشفعها بكثري من التطبيقات العملية‪ ،‬فالعديد من كتبه‬

‫‪121‬‬


‫بورتريه‬

‫تنطلق من السؤال املشروع‪ :‬كيف يمكن للعالم العربي‬ ‫أن يجعل من الحداثة النابعة من العقل مبدأ ملستقبله؟‬ ‫ألنه يرى ديننا عظيمً ا‪ ،‬ولكن املقاربات التي حللته ال ترقى‬

‫لعظمته‪ ،‬ألحادية مقارباتها‪ ،‬فهي ال تريد أن تؤقلم‬ ‫تحليالتها مع املنهجيات العلمية عقالنية كانت أو اجتماعية‪،‬‬

‫وأن تواجه اإلسالم بأسئلته الحقيقية كما جاء يف أحد كتبه‬

‫(اإلسالم أمام مئة سؤال‪2015 ،‬م)‪ ،‬فال يمكن اإلجابة عن كل‬

‫ذلك يف رأيه إال بفتح كليات ومعاهد تدرس هذه املنهجية‬ ‫املتعددة التخصصات لفهم األديان ومقارنتها ومقاربتها‪،‬‬

‫مراهنة عىل دعوى االنفتاح والتنوير‪ .‬وملا وجد مفكرنا بعض‬ ‫ّ‬ ‫الصد واملواجهة‪ ،‬حمل عىل عاتقه منذ ثالثني سنة‪ ،‬سؤال‬ ‫مشروعه الذي يهتم بتاريخ العقليات يف العالم العربي‪،‬‬

‫فاهمً ا لإلسالم بمقاربة أنرثوبولوجية‪ ،‬يحاور فيها بالتحليل‬ ‫موضوعات جديدة غري مفكر فيها‪ ،‬وإن كانت هي من أسهم‬ ‫يف تكوين العقل العربي‪ ،‬من قبيل‪ :‬الذات‪ ،‬والجسد‪،‬‬

‫والعشق‪ ،‬واملخيال‪ ،...‬وهذه املقاربة العقالنية األنرثوبولوجية‬ ‫بنية العقل اإلسالمي‪ ،‬هي التي ولدت مفهومه الذي أصبح‬

‫عالمة مسجلة باسم مالك شبل يف العالم الغربي قبل‬

‫‪122‬‬

‫العالم اإلسالمي وهو إسالم التنوير؛ ذلك اإلسالم ذو املنابع‬

‫الصافية‪ ،‬الذي يعلمنا مبادئ التسامح والتعايش مع اآلخر‬ ‫ً‬ ‫بعيدا من دعاوى العنف‪ ،‬وسلب الحريات‬ ‫يف اختالفيته‪،‬‬

‫الفردية‪ ،‬وإذكاء روح الكراهية لآلخرين‪.‬‬

‫وهذا ما دافع عنه شبل يف كتبه ولقاءاته‪ ،‬ففي كتابه‬

‫عن «تغيري اإلسالم‪ :‬قاموس املصلحني املسلمني إىل اليوم‪،‬‬

‫‪2013‬م»‪ ،‬يرجع بنا إىل أصل املسألة‪ ،‬وهو سؤال النهضة‪،‬‬ ‫الذي لم يجب عنه إىل اآلن‪ ،‬ودور املصلحني يف ذلك الوقت‪،‬‬

‫فعىل الرغم من جهودهم الكبرية‪ ،‬فإنهم لم يتمكنوا من‬ ‫دفع شبهة خطر اإلسالم عىل املسيحية‪ ،‬التي كان ينسجها‬ ‫املفكرون الغربيون يف مراكز دراساتهم داخل الوطن‬ ‫العربي يف الشام والقاهرة وقتئذ‪ ،‬ولم تجد من يرد عىل‬

‫مالك شبل من بين المفكرين القالئل‬ ‫الذين زاوجوا العلم بالعمل‪ ،‬والقول‬ ‫بانيا بذلك هوية فكرية‬ ‫بالفعل‪،‬‬ ‫ً‬ ‫مفارقة للهويات الفكرية األخرى‬ ‫عاليا بين ذاتها في‬ ‫جدارا‬ ‫التي تبني‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫الحياة‪ ،‬وذاتها مع الفكر‬

‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬

‫هذه الدعوى‪ ،‬لقصور اآللية التحليلية‪ ،‬والرؤية الحداثية‬ ‫لإلسالم‪ ،‬وهذا املبحث الدرايس املهم الذي خاض فيه شبل‬ ‫كثريًا ما تج َّنبَه الدارسون العرب‪.‬‬

‫ً‬ ‫وإيمانا من مفكرنا أن يُسمع صوته هـنا(ك) داخل‬

‫املجتمع الغربي عامة‪ ،‬واملجتمع الفرنيس عىل وجه‬ ‫التحديد‪ ،‬الحامل لهويته ً‬ ‫أيضا‪ ،‬فهو يتكلم اللسانني ويحمل‬ ‫الهويتني وال بد أن يدافع عن املجتمعني‪ ،‬فلهذا لم يتجاهل‬ ‫وضع اإلسالم يف املجتمع الفرنيس املمثل للمجتمع الغربي؛‬ ‫ألنه هو املتلقي الفعيل ألفكاره‪ ،‬وكتاباته التي تريد أن ترسخ‬

‫داخل هذا املجتمع فكرة «إسالم التنوير»‪ ،‬مقابل «إسالم‬ ‫الظالم»‪ ،‬ومحموالته املفاهيمية وبخاصة العنف واإلرهاب؛‬

‫وهذا ما ظهر جليًّا يف كتابات ومحاورات وندوات مالك‬ ‫شبل بعد أحداث ‪ 11‬سبتمرب‪ ،‬حني تعالت أصوات الكراهية‬ ‫ضد اإلسالم‪ ،‬والكتابات املعادية للمسلمني‪ ،‬فما كان من‬

‫هذا املفكر العقالين‪ ،‬إال أن يحارب ويدافع عن فكرة إسالم‬ ‫التنوير‪ ،‬ذلك الدين املتسامح واملتعايش مع كل الشعوب‪،‬‬

‫فكان من حكمته أن وجه خطابه عن اإلسالم التنويري منذ‬ ‫البداية لفئة الناشئة يف املجتمع الفرنيس؛ ألنها مستقبل‬

‫الشعوب واملجتمعات‪ ،‬فكان يحرص يف محاوراته الصحفية‬ ‫ولقاءاته التلفزيونية عىل أن يوجه خطابه لها‪ ،‬حتى أصبح‬

‫كتابه عن «القرآن للمبتدئني والناشئة‪2005 ،‬م»‪ ،‬من أكرث‬ ‫الكتب مبيعً ا عىل اإلطالق‪ ،‬وأعيدت طباعته العديد من‬

‫املرات بعد هجمات ‪ 11‬سبتمرب‪ ،‬إىل جانب كتابه الدال عىل‬ ‫سماحة اإلسالم «بيان من أجل إسالم التنوير‪2004 ،‬م»‪.‬‬ ‫ٍّ‬ ‫تحد واجهه فهو املسرية العلمية لرتسيخ فكرة‬ ‫أما أكرب‬

‫إسالم التنوير‪ ،‬وقىض فيها أكرث من عقدين من الزمن‪،‬‬ ‫لصعوبة مسالكها املعرفية‪ ،‬وتعقيد تركيباتها الرتجمية‪،‬‬


‫مالك شبل‪ ..‬في أفول العقل التنويري‬

‫«ترجمة القرآن الكريم‪2009،‬م»‪ ،‬فهو يرى أن الرتجمة املتكررة‬

‫للقرآن تغني معناه لدى قارئه‪ ،‬فكانت ترجمة مالك للقرآن‬ ‫ترجمة للمعاين ال للمباين؛ ألنه يريد أن يحافظ عىل روح‬ ‫النص األصيل‪ ،‬وهذا ما جعل ترجمته تختلف عن الرتجمات‬ ‫السابقة كما يذهب يف مقدمة ترجمته‪ ،‬وقد ساعده يف ذلك‬

‫معرفته الواسعة باللغة العربية وجمالياتها‪ ،‬واطالعه‬ ‫الواسع عىل تفاسري القرآن‪ ،‬وبخاصة اهتمامه البالغ بأسباب‬ ‫النزول‪ ،‬فنجد ترجمته كثرية الحوايش الشارحة‪ ،‬والهوامش‬

‫قاموسا تفصيليًّا لبعض كلماته‬ ‫املوضحة‪ ،‬وقد وضع‬ ‫ً‬

‫ورموزه‪ ،‬وهذا لتمكني القارئ من اتباع املسار التاريخي لآلية‬ ‫والسورة‪ ،‬وتنزيلها تنزيلاً خادمً ا لسياق العصر ومقتضياته‪،‬‬

‫ً‬ ‫محافظا يف كل ذلك عىل القيم اإلنسانية املوجودة يف سور‬

‫القرآن ألنه صالح لكل فرد يف كل زمان ومكان‪.‬‬

‫ولكننا نأسف أن القارئ العربي مفكرًا كان‪ ،‬أو‬

‫تسارع الغرب مفكرين وساسة‬ ‫لتكريمه بأرفع األوسمة والجوائز‪،‬‬ ‫نظير تعريفه بإسالم التنوير الذي‬ ‫يعايش الديمقراطية ويعززها‪ ،‬داعين‬ ‫إلى تبني أفكاره في مجتمعاتهم‬ ‫عرفه القارئ من خالله‪ ،‬وقرأه قراءة املستمتع‪ ،‬ال قراءة‬

‫املتدبر‪ ،‬وهو «الجنس والحريم‪ ،‬روح السراري‪ ،‬ترجمة‬ ‫‪2010‬م»‪ ،‬غري أن القارئ العربي نيس أن هذه الكتب هي ضمن‬

‫سلسلة فكرية تبحث يف بنيات العقل العربي املنتج عنده‬ ‫إلسالم التنوير‪.‬‬

‫مهتمًّ ا بالشأن اإلسالمي‪ ،‬لم يقرأ ملالك شبل سوى تلك‬ ‫االجتهادات املعرفية التي سجلها يف برنامجه الفكري وهو‬

‫يحفر يف عقليات الثقافة العربية اإلسالمية‪ ،‬وهو يالمس‬ ‫بحس املحلل النفيس الخبري بمكبوتات الذات العربية‪،‬‬ ‫واستيهاماتها النفسية‪ ،‬من مثل موضوعات «الجسد يف‬

‫اإلسالم‪1984 ،‬م»‪ ،‬والكشف عن رغبات الجسد الجامحة‪،‬‬ ‫وراء أسوار القصور والبيوتات‪ ،‬ليضع موسوعة خاصة‬

‫بالحب واملحبني «موسوعة الحب يف اإلسالم‪1995 ،‬م»‪،‬‬ ‫ً‬ ‫كاشفا عن العقل الشهواين بكل طقوسه السوية واملثلية‪،‬‬

‫وهذا ما ظهر جليًّا يف كتابه املرتجم للغة العربية والذي‬

‫العقل التنويري الجريح‪ ..‬مشروع لم يكتمل‬ ‫بعد طول تأمل يف مشروع مالك شبل التنويري‪ ،‬نجد أن هذا العقل التنويري ولد جريحً ا‪ ،‬وذهب عنا جريح‬

‫اليد والوجه واللسان‪ ،‬هو املفكر الذي قىض كل حياته مدافعً ا عن إسالم تنويري‪ ،‬خارج أرض اإلسالم‪ ،‬فتسلح بروح‬

‫املناظرة املتصالحة واملحاورة الحسنة؛ ليك يرسخ يف العقليات الغربية يف كل مكان يف أرقى الجامعات‪ ،‬وأكرب الندوات‪،‬‬

‫وأصعب الحوارات‪ ،‬أن اإلسالم إسالم تنوير وتسامح‪ ،‬وليس إسالم عنف‪ ،‬غري أن العالم العربي واجهه بتجاهل مطبق‬ ‫حيًّا ومي ًتا‪ ،‬والدليل عىل ذلك أن فكره يختزل عند القارئ العربي بكتب الحب والجنس فقط‪ ،‬متجاهلني أن مشروعه‬ ‫التنويري أكرب من ذلك؛ بدءً ا من مالك بن نبي وصولاً إىل مالك شبل اللذين دافعا عن اإلسالم بلغات متعددة‪،‬‬

‫ومقاربات متعددة ً‬ ‫أيضا‪ .‬أال يحق لهذا املفكر التنويري التفاتة من املؤسسات العلمية العربية تدرس فكره يف جامعاتها‪،‬‬

‫ومراكز الرتجمة‪ ،‬وأن تخرج للقارئ العربي مشروعه التنويري األصيل‪ ،‬فقد تسارع الغرب قبلنا مفكرين وساسة‬ ‫لتكريمه بأرفع األوسمة والجوائز‪ ،‬نظري تعريفه بإسالم التنوير الذي يعايش الديمقراطية ويعززها‪ ،‬داعني إىل تبني‬ ‫أفكاره يف مجتمعاتهم‪ ،‬فمن باب أوىل أن ندافع عن مفكرينا ومشروعاتهم‪ ،‬وأن نبقيهم أحياء بيننا فيما نقول ونعمل‪،‬‬

‫وهذا هو إسالم التنوير املصالح واملتسامح مع ذاته واآلخرين‪.‬‬

‫‪123‬‬


‫ثقافات‬

‫‪124‬‬

‫رسائل حب ملتهبة وممرات‬ ‫سرية للقاء المحبوبة‬

‫غراميات رؤساء‬ ‫فرنسا ونساء الظل‬ ‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬


‫شاكر نوري‬

‫روائي وصحافي عراقي‬

‫تكاد تكون قصص العشق والحب عند الرؤساء الفرنسيين جزءً ا من طقوسهم‬ ‫المعتادة التي يتقبلها المجتمع الفرنسي ويعدها جزءً ا من عاداته على عكس المجتمع‬ ‫األنغلوفوني الذي يعدها مسيئة لألخالق والعرف العام‪ .‬وقصص الحب هذه قديمة وتمتد‬ ‫جذورها إلى نابليون الثالث‪ ،‬إمبراطور الفرنسيين‪ ،‬الذي حكم فرنسا في المدة ‪ 1848‬ـ‬ ‫‪1852‬م حيث قام بإخفاء قصة عشقه خارج إطار الزوجية من خالل أوامره بحفر نفق سرّي‬ ‫من رواق قصر اإلليزيه إلى الفندق الذي يلتقي فيه عشيقته‪ ،‬لويز دي ميرسي آرجنتيو‪.‬‬ ‫وعىل الرغم من العرف السائد يف ازدواجية الزوجة‬

‫والرواية هي احتمال لوقوع غرام بني الرئيس الفرنيس‬

‫يزال لعبة يزاولها أهل السلطة بعيدً ا من أعني الرقابة؛ وذلك‬

‫والرئيس» ردود أفعال عديدة يف األوساط الثقافية‪ ،‬وتساءل‬

‫والعشيقة يف املجتمع الفرنيس لكن إخفاء العشيقة كان وال‬

‫متجانسا يف رؤيته للنظر إىل هذه‬ ‫ألن املجتمع الفرنيس ليس‬ ‫ً‬

‫واألمرية الربيطانية الراحلة‪ .‬وقد أثارت هذه الرواية أي «األمرية‬

‫املسألة التي تبقى محرجة للرأي العام‪ ،‬ولكنها ليست صادمة‬ ‫كما يف املجتمعات األوربية األخرى‪ .‬فكان من الطبيعي أن يظهر‬

‫الرئيس الفرنيس فرانسوا هوالند مع عشيقته يف اللقاءات‬

‫‪125‬‬

‫الرسمية رغم عدم قبولها لدى بعض البلدان التي رفضت‬ ‫استقباله مع عشيقته‪ .‬وقصص العشق تتكرر عرب التاريخ‪ .‬فهذا‬

‫هو رئيس مجلس الحكم إيميل كومب الذي حكم من ‪ 1902‬إىل‬ ‫‪1905‬م‪ ،‬وهو الزوج العاشق واملدافع املتحمّ س عن العلمانية‪،‬‬

‫لم يصمد أمام سحر فتاة يف الـ ‪ 34‬من عمرها وقتما كان عمره‬ ‫‪ 68‬عامً ا‪ .‬وقد أقام معها عالقة سرية وكتب مراسالت عشق‬

‫شهرية يؤرخ فيها هذه العالقة منذ أن قابلها يف برشلونة‪.‬‬

‫ووصل الحب درجة حامية بينهما حتى إنها قدمت له خصلة‬ ‫من شعرها كهدية رمزية‪ .‬أما إدغار فور الذي حكم فرنسا من‬ ‫‪ 1955‬إىل ‪1956‬م أثناء واليته يف الجمعية الوطنية‪ ،‬فقد شيد يف‬

‫مبنى الربملان الفرنيس بابًا سريًّا يف مبنى الساي من أجل مقابلة‬

‫عشيقته بسرية تامة حتى ال ينفضح أمره‪ .‬أما جاك شرياك‪،‬‬ ‫فقد أطلق عليه الفرنسيون دونجوان الفرنيس‪ ،‬وقد اشتهر‬

‫بعالقته مع النجمة اإليطالية الشهرية كلوديا كاردينايل‪ .‬وكاد‬ ‫يفرتق مع زوجته التاريخية بريناديت ليك يتزوج من الصحافية‬

‫التي تعمل يف صحيفة الفيغارو التي أصبحت عشيقته منذ‬ ‫نهاية السبعينيات‪.‬‬

‫«األمرية والرئيس» رواية جيسكار ديستان‬

‫كان الرئيس جيسكار ديستان مُ عجبًا باألمرية ديانا إىل‬

‫درجة أنه كتب عنها رواية‪ ،‬اختلطت فيها الوقائع بالخيال‪.‬‬

‫قام نابليون الثالث‪ ،‬إمبراطور‬ ‫الفرنسيين‪ ،‬بإخفاء قصة عشقه من‬ ‫خالل أوامره بحفر نفق سري من رواق‬ ‫قصر اإلليزيه إلى الفندق الذي يلتقي‬ ‫فيه عشيقته‪ ،‬لويز دي ميرسي آرجنتيو‬


‫ثقافات‬

‫الناس‪ :‬أين هي حدود الحقيقة والخيال؟ يُعرف عن الرئيس‬ ‫جيسكار ديستان‪ ،‬الذي حَ َكمَ فرنسا سبعَ سنوات‪ ،‬أنه صاحب‬

‫غراميات‪ ،‬وأنه ُ‬ ‫صدم بسيارته حينما كان عائدً ا من موعد س ّري‬

‫إبّان السبعينيات‪ .‬وقد حاول أن يعبرّ عن غرامه بالعشيقة‬

‫من خالل تجسيد عالقة خيالية مع األمرية ديانا‪ .‬وقد استعان‬

‫باألدب؛ ألنه انجذب إىل الرواية منذ صغره ويف أيام املقاعد‬ ‫الدراسية‪.‬‬

‫يؤمن الرئيس الفرنيس جيسكار ديستان بأنه ال توجد‬

‫روايات حول السلطة بل هناك مذكرات وذكريات‪« ،‬أردت أن‬ ‫أدعو القراء إىل قراءة رواية حول الحياة الحميمية والسلطة‪.‬‬

‫اشتغلت كثريًا عىل الديكورات الدقيقة‪ .‬ليس إلعطاء دليل‬ ‫للمتاحف الوطنية بقدر ما أجعل القراء يرون الديكورات التي‬

‫تجري فيها األحداث»‪ .‬يؤكد جيسكار ديستان أن شخصية‬ ‫الرئيس يف رواية «األمرية والرئيس» ليست شخصيته‪ .‬والرواية‬

‫هي احتمال وتوقع لرئيس فرنيس أن يقع يف غرام مع أمرية‬

‫بريطانية‪ .‬وال يعني ذلك أن الرواية خالية من األحداث‬

‫الواقعية‪ ،‬فهناك ذكرى اإلنزال البحريّ عىل الشواطئ‬ ‫الفرنسيّة‪ ،‬أيام الحرب العاملية الثانية التي أُقيمت عام ‪1984‬م‬

‫‪126‬‬

‫الرسمي‪.‬‬ ‫ورافق خاللها الرئيس األمرية يف القطار‬ ‫ّ‬ ‫هذه القصة هي من نسج خيال الرئيس‪« ،‬هذه الرواية‬ ‫التي تؤدي فيها األمرية ديانا الدور الرئيس‪ ،‬ما هي إال إعادة‬

‫إحياء لشخصيّة عرفتها بهذا الشكل»‪ .‬وأضاف‪« :‬ال نبالغ‬

‫باألمر‪ .‬لقد التقيتها لفرتات قصرية يف أجواء من الثقة كانت‬ ‫تتوق فيها إىل التواصل»‪ .‬وعندما ُقتلت األمرية يف باريس عام‬ ‫‪1997‬م كان الرئيس وقرينته أول من بادر بإرسال باقات الزهور‬

‫إىل املستشفى الذي كانت تعالج فيه‪ .‬وتثبت هذه الرواية أن‬ ‫العشق جزء من التقاليد الفرنسية وقد أقبل القراء عىل التهام‬

‫هذه الرواية‪ ،‬منطلقني من فكرة ازدواجية الزوجة والعشيقة‪.‬‬ ‫ساركوزي‪ ..‬املغامرة والحب‬

‫يف عام ‪1982‬م تزوج ساركوزي من ماري ـ دومنيك سيليويل‪،‬‬

‫وأنجبا ولدين‪ :‬بيري عام ‪1985‬م وجان عام ‪1986‬م‪ .‬انتخب حينها‬

‫عمدة لبلدية ضاحية نويي سور سني‪ .‬ولكنه ذات يوم اشتهى‬ ‫زوجة صديقه ومقدم الربامج جاك مارتان سيسيليا‪ ،‬وسطا‬ ‫عليها‪ ،‬ووقع يف غرامها‪ .‬وظلت عالقتهما سرية إىل أن ُفضحت‬ ‫يف عام ‪1986‬م ما أدى إىل طالقه من زوجته األوىل‪ ،‬والزواج‬ ‫من زوجة صديقه‪ .‬وأنجبت له اب ًنا هو لويس ‪1997‬م‪ .‬وبعد‬ ‫أحد عشر عامً ا من الزواج‪ .‬وبعد فوزه باالنتخابات الرئاسية‬ ‫يف ‪ 18‬أكتوبر ‪2007‬م‪ ،‬أعلن قصر اإلليزيه انفصالهما‪ .‬وتزوجت‬

‫طليقته من رجل األعمال املغربي ريتشارد عطية وتعيش معه‬

‫يف الواليات املتحدة اآلن‪ .‬بعد طالقه من سيسيليا‪ ،‬تعرف إىل‬ ‫عارضة األزياء واملطربة اإليطالية األصل النجمة كارال بروين‪،‬‬

‫وتزوج منها يف عام ‪2008‬م‪ .‬وقد اجتمع الزوجان يف اإلليزيه‬

‫أطلق الفرنسيون على جاك شيراك‬ ‫دونجوان فرنسا‪ ،‬واشتهر بعالقته مع‬ ‫النجمة اإليطالية الشهيرة كلوديا‬ ‫كاردينالي‬

‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬

‫واحتفال بانتخابه‪ .‬وبعد مرور أربعة أعوام أنجبت له بن ًتا‬ ‫سمياها غوليا‪ ،‬وأصبح ساركوزي الرئيس الفرنيس األول الذي‬

‫يصبح أبًا أثناء مدة واليته‪.‬‬

‫َمن املرأة األكرث تأثريًا يف حياة فرانسوا هوالند؟‬

‫مَ ن املرأة األكرث تأثريًا يف حياة الرئيس الفرنيس الحايل‬


‫غراميات رؤساء فرنسا ونساء الظل‬

‫فرانسوا هوالند‪ :‬سيغولني رويال أم فالريي ترايرويلري أم جويل‬

‫غاييه؟ املعروف عن هوالند أنه يغري النساء‪ ،‬بل يجعلهن‬ ‫ينخرطن يف حب مجنون معه‪ .‬لكن املحللني النفسيني يقولون‪:‬‬

‫إن املرأة األكرث تأثريًا يف حياته هي أمه نيكول التي توفيت عن‬

‫عمر ناهز الـ ‪ 82‬عامً ا‪.‬‬

‫عىل أية حال‪ ،‬التقى هوالند‪ ،‬سيغولني رويال عىل مقاعد‬

‫الجامعة‪ ،‬وبعد أن أنجبا أربعة أوالد انفصال يف عام ‪2007‬م من‬ ‫دون زواج طبعً ا؛ ألن الرئيس الفرنيس لم يتزوج يف حياته‬

‫رغم عالقاته النسائية الكثرية‪ .‬وبعد فشله أمام ساركوزي يف‬ ‫االنتخابات‪ ،‬طوى خيبته يف قصة حب صحافية اسمها فالريي‬

‫ترايرويلري‪ ،‬ووقفت معه يف انتخابات قصر اإلليزيه يف عام‬ ‫‪2012‬م‪ .‬وحرصت أن تطبع قبلة عىل فم الرئيس يف احتفالية فوزه‬

‫بانتخابات قصر اإلليزيه أمام املاليني؛ ليك تعطي عالقتهما‬ ‫طابعً ا رسميًّا‪ .‬واستمرت عالقتهما إىل أن نشرت مجلة الفضائح‬

‫«كلوسر» ‪ Closer‬يف عام ‪2014‬م صورًا للرئيس مع ممثلة شابة‬ ‫تدعى جويل غاييه‪.‬‬

‫وأدى هذا العدد من املجلة إىل مرض عشيقته فالريي‪،‬‬

‫الصحافية التي تعمل يف مجلة «باري ماتش» الشهرية‪،‬‬

‫وأمضت أيامً ا يف املستشفى من أثر الصدمة‪ .‬ويبقى الرئيس‬

‫‪127‬‬

‫الفرنيس هوالند أعزب بصورة رسمية يف الوقت الحاضر‪ ،‬لكنه‬ ‫ال يرغب يف أن يظهر مع سيدة فرنسا األوىل إىل العلن كما فعل‬ ‫مع عشيقته األوىل الصحافية فالريي‪ .‬وال ّ‬ ‫يفضل الحديث عن‬

‫عالقته األخرية مع املمثلة جويل‪ ،‬وهما يف وضع ال يحسدان‬ ‫عليه‪ ،‬لكن العشيقة الجديدة تلتزم بقواعد اللعبة‪ :‬أن تعيش‬

‫امرأة الظل مع الرئيس من دون ضجيج أو إعالن‪.‬‬ ‫لغط وجدل حول غراميات ميرتان‬

‫أثارت عالقات الرئيس الفرنيس الراحل فرانسوا ميرتان‬

‫فرانسوا ميتران اشتهر بالحب‬ ‫المتعدد‪ ،‬وهرب من األسر األلماني‬ ‫في الحرب العالمية الثانية‪ ،‬فقط‬

‫الغرامية الكثري من اللغط والجدل يف أوساط الفرنسيني‪ .‬ولم‬

‫ليلتقي عشيقته‬

‫واحدة‪ ،‬بل تعدى ذلك إىل عاشقات كثريات برزن يف السر‬

‫يف قصة عشق ميرتان‪ ،‬وقفنا عىل دراما حقيقية وبخاصة‬

‫يقتصر حب فرانسوا ميرتان عىل خيانة زوجته مع عشيقة‬ ‫والعلن‪ ،‬لكنه حاول عىل الدوام إخفاء عالقاته الغرامية التي‬ ‫شملت أسماء معروفة أمثال‪ :‬املمثلة الفرنسية ذات األصول‬

‫املصرية داليدا‪ ،‬والصحفية السويدية كريستينا فورسن‬ ‫وغريهما‪ .‬ظلت األوىل تجتمع به يف أماكن سرية وعلنية‪،‬‬ ‫واألخرى السويدية صرحت بذلك يف كتابها «قال يل فرانسوا»‬ ‫خالل إحدى املقابالت الصحفية التي أجرتها معه يف عام ‪1979‬م‬ ‫بعد أن قدمها رئيس الوزراء السويدي الراحل أولوف بالم‪،‬‬

‫ومدحها عىل أنها صحفية شابة متحمسة إلجراء لقاء صحفي‬

‫معه‪.‬‬

‫أثناء رحيله‪ ،‬فقد كانت دموع الوداع مشرتكة بني امرأتني‬ ‫غريمتني‪ ،‬الزوجة والعشيقة‪ ،‬جمعتهما جنازة هذا العاشق‬

‫رئيسا لواحدة من كربيات الدول وهي فرنسا‪ ،‬ولم‬ ‫الذي كان‬ ‫ً‬

‫يعلن فرانسوا ميرتان عن حبه السري وابنته غري الشرعية‬ ‫إال يف أيامه األخرية تحت ضغط حزبه االشرتايك وعائلته‪،‬‬

‫فكانت الصدمة التي أصابت الفرنسيني ال للعالقة بل إلخفاء‬ ‫هذه العالقة‪ .‬كانت زوجته دانييل‪ ،‬معروفة بني أروقة قصر‬

‫اإلليزيه‪ ،‬وآن بينجو‪ ،‬عشيقته التي عاشت يف الظل‪ ،‬ولم‬ ‫تتمكن من اإلفصاح عن حبها للرئيس‪ ،‬بل عاشت يف الظل‬


‫ثقافات‬

‫بعيدً ا من األضواء وحفالت قصر اإلليزيه‪.‬‬ ‫حب عن طريق املصادفة‬

‫سبقت نجاح أحالمه‪ ،‬لكنها سرعان ما أدركت أنها ستعيش‬

‫بدأت حكاية وقوع فرانسوا ميرتان يف حب دانييل يف عام‬

‫متوارية وراء ظل الرئيس‪ ،‬رغم صيت عائلتها السيايس‪ ،‬لكن‬ ‫زواجه بها سهّل عليه مهام تحقيق حلمه‪ ،‬وتسلق ّ‬ ‫سلم الحكم‬

‫شبابه‪ .‬وذلك عندما أبصر صورة ألختها الشابة معلقة يف صالة‬

‫من كل حدب وصوب‪ ،‬لكن زوجته تحملت كل ذلك‪ ،‬وعرفت‬

‫‪1944‬م أثناء زيارته لرفيقته كريستني كوز‪ ،‬شقيقة دانييل‪،‬‬ ‫يف إطار عمله يف الحزب االشرتايك الذي انتمى إليه منذ أيام‬ ‫الجلوس‪ ،‬فأبدى إعجابه بها‪ ،‬فما كان من رفيقته كريستني‬

‫سوى دعوة أختها للقاء بميرتان يف أحد مطاعم الحي الالتيني‪.‬‬ ‫وعىل الرغم من أنه كان يفكر بفتاة أخرى‪ ،‬لكنه تركها من‬ ‫أجل عيون أخت رفيقته‪ .‬وبعد استدعائه لخدمة الجيش يف‬

‫الحرب العاملية الثانية‪ ،‬وقع أسريًا يف يد األملان‪ ،‬وهرب من‬

‫األسر ليك يلتقي خطيبته‪ ،‬لكنه وجدها قد تزوجت‪ .‬وهذا‬ ‫ما جعله يحسم أمر حبه إىل دانييل‪ .‬وأخذ يرسل إليها من‬ ‫ً‬ ‫وأحيانا يكتب‬ ‫ثكنته العسكرية رسائل حب ملتهبة كل يوم‪،‬‬ ‫لها مرتني يف اليوم‪ ،‬بحيث تجمعت لديها أكرث من ثالثة آالف‬ ‫رسالة‪ .‬بعد ذلك بوقت قصري‪ ،‬تزوجها‪ ،‬رغم أنه مر بصعوبات‬

‫كبرية يف إقناعها يف بادئ األمر‪.‬‬

‫‪128‬‬

‫بلوغ سدة الحكم‪ ،‬أنه من الصعب عليها أن تعيش املراحل التي‬

‫زوجة الرئيس‬

‫لحظت زوجة ميرتان‪ ،‬عندما كان شابًّا متحمّ ًسا يتطلع إىل‬

‫هوالند يغري النساء ويجعلهن‬ ‫ينخرطن في حب مجنون معه‪ .‬لكن‬ ‫المحللين النفسيين يقولون‪ :‬إن المرأة‬ ‫تأثيرا في حياته هي أمه‬ ‫األكثر‬ ‫ً‬ ‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬

‫يف فرنسا‪ .‬ويف سنوات زواجه‪ ،‬كانت الفضائح الغرامية تحاصره‬ ‫مبك ًرا أن زوجها زير نساء حقيقي‪ ،‬حتى حقق حلمه يف عام‬ ‫‪1981‬م‪ .‬ومنذ ذلك التاريخ أي صعود زوجها إىل سدة الحكم‪،‬‬

‫لحظت ارتفاع نسبة النساء الاليت توظفن يف طاقم قصر‬ ‫الرئاسة‪ ،‬لكنها تغاضت عن ذلك من أجل إدامة زواجهما‪،‬‬

‫وقد أدرك فريق العمل مع الرئيس أن عليهم االلتزام بالسرية‬ ‫والكتمان حول حياة الرئيس العاطفية‪.‬‬

‫عاش الرئيس الفرنيس فرانسوا ميرتان ازدواجية عاطفية‬

‫السرية إال عندما كربت ابنته مازارين‪،‬‬ ‫دون أن يفصح عن حياته ّ‬

‫وفضحت كل ما كان مستورًا لسنوات طويلة‪ .‬ولم ترتدد زوجته‬ ‫أن تتحدث عن هذه االزدواجية التي عاشتها بنفسها ً‬ ‫أيضا يف‬

‫كتاب مذكراتها «كلمة كلمة»‪ ،‬بكل وضوح وصراحة‪ .‬ولم يكن‬ ‫السكوت عن مغامرات زوجها يعني الجهل بها‪ ،‬لكن صالبتها‬

‫كانت نابعة من حبها العميق لزوجها‪ ،‬وتفهم حاجاته الروحية‬ ‫عىل مدى أكرث من نصف قرن‪.‬‬


‫غراميات رؤساء فرنسا ونساء الظل‬

‫الرئيس جيسكار ديستان أعجب‬ ‫باألميرة ديانا وكتب عنها رواية‪.‬‬ ‫عائدا من‬ ‫وصدم بسيارته بينما كان‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫سري‬ ‫موعد ّ‬ ‫تعود قصة عالقته بعشيقته آن بينجو إىل بداية‬

‫الستينيات‪ ،‬حيث تعرف إليها يف أحد املتاحف الباريسية يف عام‬ ‫‪1964‬م‪ ،‬وتوطدت عالقتهما شي ًئا فشي ًئا إىل أن ُتوجت بإنجاب‬

‫وبعد تناول الفطور كانت أمي تذهب بالدراجة إىل املتحف‪،‬‬

‫وينطلق والدي بالسيارة إىل اإلليزيه أو إىل أطراف العالم وأنا‬ ‫إىل املدرسة يف س ّرية تامة دون أن نعرف بعضنا البعض إىل أن‬

‫طفلة منها‪ .‬وهذه البنت غري الشرعية مازارين‪ ،‬التي احتفظت‬

‫نلتقي مجددًا يف املساء وتحديدً ا يف الساعة الثامنة»‪.‬‬

‫ميرتان‪ .‬وقد تحدثت مازارين التي تزوجت فيما بعد بشاب‬

‫مما يعيش يف قصر اإلليزيه»‪ .‬أما زوجته دانييل فقد كشفت‬

‫باسم أمها بينجو لسنوات قبل أن يمنحها األب اسمه الشهري‬

‫مغربي‪ ،‬وأنجبت منه ثالثة أطفال‪ ،‬صرحت باسم أبيها للمرة‬ ‫األوىل يف كتابها «السر املكتوم» الذي صدر بباريس ‪2005‬م‪،‬‬

‫كما تقول فيه‪« :‬رسميًّا لم يكن يل أب‪ ،‬فرفاقي يف الصف لم‬ ‫يعلموا شي ًئا عن حيايت العائلية‪ ،‬كيف أميض أمسيايت وعطل‬ ‫نهاية األسبوع أو العطل األخرى‪ ،‬وإذا كانوا عىل علم فإنهم‬ ‫لم يقولوا يل شي ًئا‪ ،‬فعقدة الصمت عىل ما يبدو لم تكن قضية‬ ‫عائلية بل إن الجميع التزم بها‪ ،...‬كنت أعيش حياة غريبة‬

‫مزيجً ا من الكتمان اإللزامي ورابط العالقة الحنون‪ ،‬وبعد فوزه‬

‫يف االنتخابات الرئاسية أضحى بإمكاين رؤيته هناك‪ ،‬وكنت‬ ‫أدخل إىل القصر مختبئة تحت سرير مقعد السيارة الرسمية‬

‫تجنبًا الكتشايف‪ ،‬لكنني كنت أشعر باالرتياح مع الطباخني‬ ‫الشخصيني والسكرتريات أكرث من مكتب الرئيس نفسه الذي‬

‫كان يبذل حينها أقىص ما بوسعه إلخفاء وجودي عن العامة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ولعل ذلك كان يذ ّكرين باللحظات التي كان يزورنا فيها ببيت‬ ‫والديت آن بنيجو‪ ،‬حيث كان يأيت فيها متخفيًا ويذهب متخفيًا‪،‬‬

‫ثم تضيف‪« :‬كان والدي يعيش يف منزلنا مع والديت أكرث‬

‫أنها كانت تعرف الجانب الخفي يف حياة زوجها قائلة‪« :‬لقد‬

‫كنت أعرف عالقاته الغرامية املتعددة لكنني لم أكن أعلم أن‬ ‫لديه ابنة غري شرعية من إحداهن‪ ،...‬فالسكوت عن مغامراته‬ ‫ال يعني أنني كنت أجهل ما يجري وراء ظهري فقد كنت أعلم‬

‫جيدً ا أن هناك أسرة موازية ألسريت‪ ...‬فقد كان فرنسوا يحب‬

‫ابنته كثريًا وأنا كنت كذلك وأواصل مشاهدتها وهي كذلك‬

‫تلتقي أخويها‪ ،...‬لقد كانت مازارين قسمة عاطفية بالرضا‬ ‫والتسليم فيما بيننا‪ ،‬وأعرتف أن األمر كان يف البداية مؤملًا لكن‬ ‫العاصفة بدأت بالهدوء تدريجيًّا»‪.‬‬

‫كانت السيدة بينجو تسري برفقة ابنتها مازارين إىل جانب‬

‫دانييل أرملة الرئيس من دون أن يعلم الناس حينها حقيقة‬ ‫هذه السيدة التي أثارت ابنتها فضيحة سياسية عىل صفحات‬

‫مجلة «باري ماتش» الشهرية‪ ،‬وأفصحت للمرة األوىل بأنها‬ ‫ثمرة الخيانة الزوجية للرجل األول يف فرنسا آنذاك‪ ...‬هل‬

‫اعرتفت زوجته ووافقت عىل خيانة زوجها؟ قالت ذات مرة‪:‬‬

‫‪129‬‬


‫ثقافات‬

‫«أعرف جيدً ا أن باريس هي أم الشذوذ والغرائب كما يقال‪،‬‬

‫عىل مدى ‪ 33‬عامً ا‪ .‬إن كتابة هذا الكم من الرسائل جعلت علماء‬

‫لكنني لم أكن أتوقع بأن تأيت مثل هذه التصرفات من الشخص‬ ‫الذي كنت أعشقه وأتمنى مويت قبل موته»‪ .‬لكنها تقبلت ً‬ ‫أيضا‬

‫بل أعادت قضية ازدواجية الزوجة والعشيقة الجدل من جديد‪.‬‬

‫العاطفية معها بصورة صادمة‪ ،‬وقالت‪« :‬رغم تصريحات فورسن‬

‫والثقة اللذين يسكناين يعود فيهما الفضل لك أنت‪ .‬الثقة يف كرم‬

‫إعالن الصحفية السويدية فورسن عن حب ميرتان لها ومغامرته‬ ‫األخرية‪ ،‬لست متيقنة من عالقتها بزوجي الراحل‪ ،‬إنها تكذب‬

‫للوصول إىل الشهرة‪ ،‬ولو كانت عىل عالقتها به لكان حدثني‬ ‫بذلك كما فعل بالنسبة البنته مازارين‪ ،‬وأنا مثلكم فوجئت كثريًا‬

‫بما تدعيه هذه الصحفية»‪.‬‬

‫‪ 1200‬رسالة غرامية إىل عشيقته‬

‫كتب فرانسوا ميرتان أكرث من ‪ 1200‬رسالة حب إىل آن بينجو‬

‫تحليل الجنس والنفس يدرسون حالة الرئيس العاشق الكبري‪.‬‬ ‫يف إحدى الرسائل يقول‪« :‬لو تعلمني‪ ،‬يا آن العزيزة‪ ،‬إن االمتالء‬

‫الحياة‪ ،‬واالمتالء بقابليايت التي ازدهرت‪ ،‬ولم تكن لطافتك سوى‬ ‫تبادل العواطف بيننا‪.‬‬

‫إنها بالنسبة يل طريقة ألتعلم املزيد من الحياة‪ .‬لقاءاتنا‬

‫وجوالتنا ونزهاتنا وعواطفنا لم تكن سوى ذلك العشق الذي‬ ‫ّ‬ ‫لتعلم دروس الحياة‪ ،‬واألشياء‪،‬‬ ‫نتبادله‪ .‬كانت بالنسبة يل طريقة‬

‫والكائنات‪ ،‬والعمل‪ ،‬بطريقة ما‪ .‬ربما تجدين التعبري ساذجً ا ـ‬ ‫التعبري عن روحي‪ ،‬لكنك منحتني راحة البال والطمأنينة‪ .‬فقد‬

‫حبك سيجعل عزلة الموت أقل‬ ‫آن واحد‪ .‬وهذا املصطلح لصق بفرانسوا ميرتان‪،‬‬ ‫شاع مصطلح ‪ polyamoureux‬أي الحب املتعدد والقدرة عىل حب أكرث من امرأة يف ٍ‬

‫آن واحد‪ .‬لكن عالقته بعشيقته آن بينجو دامت نحو ثالثني‬ ‫وأصبح هو نموذجً ا له‪ .‬ما الحب املتعدد؟ هو القدرة عىل حب امرأتني أو أكرث يف ٍ‬

‫‪130‬‬

‫عامًا‪ ،‬وقد كشفت رسائله األخرية التي نشرتها عشيقته عن قدرة هائلة عىل إدارة حياته املتعددة‪ .‬كما كشفت عن الطاقة الشعرية التي كان‬

‫يتمتع بها الرئيس الفرنيس االشرتايك‪ .‬وظل يسري بني عاطفتني‪ ،‬وأبقى عىل زوجته دانييل التي سارت معه يف طريق صناعة التاريخ‪ ،‬رفيقة‬ ‫حياته من دون أن تتدخل يف حياته الخاصة‪ ،‬بل كانت تقف عىل مبعدة من عواطفه‪ .‬وال يوجد أبلغ من مشهد رحيله أثناء مراسيم دفنه‪:‬‬

‫آن واحد‪ ،‬إضافة إىل ابنته غري الشرعية‪ .‬ويف نفس كل امرأة يشء من روح هذا الرجل العظيم‪ .‬وقد وضع‬ ‫امرأتان تذرفان دموع الوداع يف ٍ‬ ‫ً‬ ‫الرئيس ميرتان املرأتني عىل املحك واالختيار بني االستمرارية أو القطيعة؛ لذا كانت كل امرأة تعرف دورها‪ ،‬وتعرف أيضا متى تظهر ومتى‬

‫في جنازة ميتيران آن بينجو العشيقة ودانييل الزوجة‬

‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬


‫غراميات رؤساء فرنسا ونساء الظل‬

‫تخلصت من جميع الحسابات‪ .‬ولم أعد أخضع ألي قانون ثابت‬ ‫يف الحب‪ .‬ومن أجل أن أحبك بطريقة أفضل‪ ،‬أخذت حذري ألاّ‬ ‫سواك‪ .‬يا سعاديت ويا حبي‪ ،‬ال أعتقد أنني كنت عىل تلك‬ ‫أحب‬ ‫ِ‬ ‫الدرجة من اإلخالص والجدية يف البحث عن العاطفة الحقيقية‬ ‫والتامة كما كنت معك»‪( .‬الجمعة يوم ‪ 21‬أغسطس ‪1964‬م)‪.‬‬

‫بالتأكيد يف هذا العام كان ميرتان متزوجً ا‪ ،‬وهو زواج لم‬

‫ينكره قط‪ ،‬كان يدعمه عىل الدوام‪ ،‬وزواج لم يشهد الطالق قط‪.‬‬ ‫من املعروف أن ميرتان كان ً‬ ‫أيضا منتص ًرا‪ .‬وكان يدير العاطفتني‬

‫بحس من املسؤولية‪ .‬وكانت زوجته كما أسلفنا‪ ،‬تعرف‬ ‫الحقيقة‪ ،‬حتى عشيقاته األخريات يعرفن ذلك‪ ،‬لكنه الرئيس‬

‫وصاحب السلطة والجاه يف نهاية املطاف‪ .‬وما يُسمح له ال يُسمح‬

‫لشخص آخر‪.‬‬

‫ً‬ ‫وحيدا يف فرنسا‪.‬‬ ‫تختفي‪ .‬وأكرث من ذلك فقد أصبح ميرتان صاحب الشهرة والريادة يف الحب املتعدد الذي يكاد يكون‬ ‫يف إحدى رسائله يخاطب ابنته قائلاً ‪« :‬عزيزيت مازارين‪ .‬أكتب للمرة األوىل هذا االسم‪ .‬إنني خجول أمام شخصيتك الجديدة التي‬

‫ً‬ ‫الحقا عندما تكربين وهذا يأيت بسرعة‪ .‬قريبًا ستفتحني عينيك‬ ‫دخلت العالم‪ .‬أنت تنامني‪ ،‬أنت تحلمني‪ .‬أنت تعيشني‪ .‬ستعرفيني‬

‫وترين الدهشة‪ .‬دهشة العالم! ستسألني عن هذا الشخص حتى النهاية‪( .‬باريس ‪ 7‬يناير ‪1975‬م) ولم تتعرف فرنسا إىل مازارين ابنة‬

‫الرئيس ميرتان إال مؤخرًا‪ .‬كان يختار ساعة هادئة ليك يكتب لعشيقته رسائله‪ ،‬وصفها اللغويون بأن لغة الرسائل تعود إىل الفرنسية‬

‫الكالسيكية؛ ألنها مكتوبة برشاقة يف أسلوبها وبالغتها‪.‬‬ ‫من العشيقة آن بينجو؟‬

‫ولدت آن بينجو يف ‪ 13‬مايو من عام ‪1943‬م يف مقاطعة كلريمون فرييه‪ ،‬وهي متخصصة يف تاريخ الفن وبالتحديد يف فن النحت‬

‫الفرنيس ومؤلفة لعدد من الكتب والكتالوغات الفنية‪ .‬وعملت يف قسم النحت يف متحف اللوفر الشهري ومتحف أوريس‪ .‬أما فرانسوا‬

‫ميرتان فقد ولد يف ‪ 26‬أكتوبر من عام ‪1916‬م‪ .‬وهو الذي حكم فرنسا يف أطول والية من عام ‪ 1981‬إىل ‪1995‬م‪ .‬إنها قصة حب جميلة‪ ،‬كما‬

‫يكتب عنها الجميع‪ ،‬فقد التقاها ميرتان عىل شاطئ منطقة «هوسيغور» عندما كان يف عمر الـ ‪ 46‬وهي يف عمر الـ ‪ 19‬عامً ا‪ .‬هناك فرق العمر‪.‬‬

‫واليشء الخطري يف هذه املرأة أنها ظلت طوال حياتها كاتمة لسر حبها مع ميرتان‪ .‬وهو نبل نادر من نوعه للنساء الرثثارات‪.‬‬ ‫كان ميرتان يف تلك املدة رجلاً مهمًّ ا فقد أصبح وزيرًا ملرات عديدة‪ .‬وكان سيناتورًا ملنطقة نيفري‪ ،‬ومتزوجً ا ً‬ ‫أيضا من دانييل غوز يف‬

‫عام ‪1944‬م‪ .‬وله ولدان مراهقان‪ :‬جان كريستتوف وجلبريت‪ .‬وكانت آن بينجو تسكن يف باريس يف قسم داخيل للفتيات‪ .‬أول رسالة كتبها‬ ‫لها كانت يف ‪ 19‬أكتوبر ‪1962‬م‪ .‬وقد تبع ذلك بكتابة ما يزيد عن ‪ 1200‬رسالة لم يكتشفها الفرنسيون إال مؤخرًا عندما نشرتها آن بينجو بعد‬

‫رحيل زوجته األوىل دانييل احرتامً ا للخصوصيات‪.‬‬

‫وقد أعجب ميرتان بذوقها الرفيع تجاه الفنون‪ ،‬وهو األديب املعروف برهافة أحاسيسه‪ .‬وقد اعرتف يف نهاية حياته وأثناء مرضه بأن‬

‫يتأسف ألنه أخفى شعلة الحب طيلة ثالثني عامً ا‪ ،‬ووصفها بـ«املرأة‪ ،‬والفتاة‪ ،‬والزهرة‪ ،‬والثمرة‪ ،‬والشمس الساطعة»‪ .‬وكتب يف نوفمرب‬ ‫ُ‬ ‫أحسست عىل الفور بأنني سأقوم برحلة طويلة معك‪ .‬أينما أذهب‪ ،‬أعرف عىل األقل بأنك تكونني معي‬ ‫«التقيتك وقد‬ ‫من عام ‪1964‬م قائلاً ‪:‬‬ ‫ِ‬

‫عىل الدوام‪ .‬أبارك هذا الوجه‪ ،‬أبارك ضويئ‪ .‬منذ أحببتك‪ ،‬لن تكون يل أية ليلة ظلماء‪ .‬وعزلة املوت ستصبح أقل عزلة‪ .‬آن‪ ،‬يا حبي»‪.‬‬ ‫وقد أطلق عليها كل أوصاف الحب‪« :‬قطتي الصغرية»‪ ،‬و«قلبي»‪ ،‬و«وخالقة سعاديت»‪ ،‬و«عاملي األليف»‪ ،‬و«آن الغالية»‪ ...‬وغريها من‬ ‫التعابري‪ .‬ولم تبعده كل مسؤولياته الجسيمة يف حكم فرنسا من حبه لهذه املرأة التي كتب لها يف يوليو ‪« :1967‬حبك يمنحني اإلحساس‬ ‫بالخلود‪ ،‬واملوت وحده يفصلني عنك»‪ .‬ويف الواقع‪ ،‬لم ينته هذا الحب إال بانتهاء كتابة آخر رسالة له يف ‪ 22‬سبتمرب من عام ‪1995‬م قائلاً ‪:‬‬

‫أحبك‪ ،‬أكرث فأكرث؟»‪.‬‬ ‫«أنت فرصتي األخرية يف الحياة؛ كيف ال‬ ‫ِ‬

‫‪131‬‬


‫ثقافات‬

‫أخالقيون يدعون إلى االلتزام ثم يخالفونه‬

‫الحياة السرية‬ ‫لمفكرين وفالسفة‪..‬‬ ‫صراعات وجنس ومثلية وخياالت مازوشية وهتك المقدس‬ ‫متعب القرني‬

‫‪132‬‬

‫أكاديمي ومترجم سعودي‬

‫حين كتب أبو حامد الغزالي (‪1111-1058‬م) كتابه «تهافت‬ ‫ّ‬ ‫وتحلت‬ ‫الفالسفة» لم تكن الفلسفة األخالقية حينها قد ظهرت‬ ‫بإهابها التحليلي الرصين‪ ،‬بل كانت أسيرة للمحاوالت األولى‬ ‫المهمومة بتعريفات الخير والشر والسلم والحرب‪ ،‬ثم سرعان ما‬ ‫كشفت القرون التالية عن حيازة األخالق مساحة بالغة األهمية من‬ ‫الخريطة الفلسفية العامة‪ ،‬بما فيها من جدليات وتنظيرات ساعية‬ ‫لبناء مجتمع مثالي متكامل‪ .‬كانت النتيجة بناء إطار نظري أخالقي‬ ‫لتحقيق العدالة والمساواة‪ ،‬ورفع معدل االنضباط والمسؤولية‪،‬‬ ‫ً‬ ‫فردية كانت أو‬ ‫وتقليل األضرار الناجمة عن التصرفات اإلنسانية‪،‬‬ ‫مجتمعية؛ فنجحت تلك الطروحات من الوجهة النظرية‪،‬‬ ‫في حين فشلت عن تحقيق مستويات أخالقية عالية من‬ ‫الوجهة التطبيقية‪ ،‬والمؤسف أنْ كان مؤشر التدني‬ ‫محسو ًبا على أقطاب الفلسفة الغربية أنفسهم‪.‬‬

‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬


‫روسو مع تيريز لوفاسير‬

‫فعىل رغم أن الفالسفة قدّ موا أنفسهم نماذج متصالحة‬

‫يف عام ‪1742‬م‪ ،‬كان عالم السياسة واالجتماع روسو‬ ‫مشغولاً بالخوض يف عالقات محرمة مع عدد من بائعات‬

‫املهني واالنحالل القيمي بممارسة ما هو غري متوقع‪ ،‬وما هو‬

‫معه سكرتريًا إبان إقامته يف فينيسيا بإيطاليا‪ .‬وبعدها بثالث‬

‫مع ذواتهم وصالحة ملجتمعاتهم‪ ،‬كان منهم نماذج شاذة‬

‫خرقت املواثيق واألعراف الوظيفية‪ ،‬وساهمت يف االعتالل‬ ‫غري معهود‪ ،‬فدفعتهم نزواتهم الجنسية إىل هتك العالقة‬

‫املقدسة‪ ،‬والعروة الوثقى بني املعلم والطالب‪ ،‬والطبيب‬ ‫واملريض‪ ،‬واملربي واالبن‪ .‬من هنا نسرب أغوار الحياة الجنسية‬

‫الصاخبة التي عاشها رموز ساطعة من أوربا‪ ،‬ونيضء تلك‬ ‫ً‬ ‫بداية بحياة روسو‬ ‫العتمات بالكشف الروايئ االستعرايض‪،‬‬ ‫املضطربة‪ ،‬ومرورًا بصراعات فرويد ويونغ‪ ،‬وصولاً ملغامرات‬ ‫سارتر ودي بوفوار‪ ،‬وانتهاءً بنماذج معاصرة ال تزال تميض‬

‫تائهة يف هذا املسلك الوعر‪.‬‬

‫روسو‪ :‬عالقات غرامية وأوالد غري شرعيني‬

‫كشف الكاتبان نايغل رودجرز وميل ثومبسون يف كتابهما‬

‫«جنون الفالسفة‪2004 ،‬م» منظومة التناقضات التي مر بها‬

‫الفيلسوف السويسري جان جاك روسو (‪1778-1712‬م)‪ ،‬إذ‬ ‫ً‬ ‫حياة مبتذلة ّ‬ ‫يحفها العهر والرذيلة‪ ،‬وخياالت االستمناء‬ ‫عاش‬

‫الصاخبة‪ .‬لقد ثبت من خالل استعراض تجارب روسو أنه‬ ‫عاىن يف حياته املازوشية‪ ،‬وهو اضطراب نفيس يتلذذ فيه الفرد‬ ‫ً‬ ‫عامة؛ إذ كان يثني عىل‬ ‫بتعذيب ذاته واإلحساس باالضطهاد‬

‫ّ‬ ‫السكري الذي عمل‬ ‫الهوى‪ ،‬كان يزوده بهن السفري الفرنيس‬

‫سنوات‪ ،‬انتقل إىل باريس لينزل يف أحد الفنادق‪ ،‬ويلتقي شابة‬ ‫غسلة‬ ‫بشعة تدعى ترييز لوفاسري (‪1801-1721‬م) كانت تعمل مُ ّ‬ ‫يف الفندق نفسه‪ ،‬وكان يتلذذ بإقامة عالقات معها من دون‬

‫حدود‪ ،‬مناشدً ا بذلك حالته املازوشية؛ إذ كانت بشاعتها‬

‫تخفف من شعوره العميق بالدونية االجتماعية‪ ،‬وكان يرى‬ ‫يف ذلك مصدرًا يسد حاجته للشعور بالتفوق واالمتياز‪ .‬دامت‬ ‫عالقة روسو مع ترييز طويلاً حتى أنجب منها خمسة أطفال يف‬

‫زيجة غري قانونية‪ ،‬وأصر عىل التخيل عنهم جميعً ا حتى مات‬ ‫معظمهم‪ ،‬قائلاً ‪« :‬نتج عن تلك اللقاءات الغرامية خمسة‬

‫أطفال‪ ،‬تم وضعهم جميعً ا يف مستشفى اللقطاء دون أن أفكر‬ ‫ً‬ ‫الحقا‪ ،‬إذ لم أحتفظ حتى بسجالت تواريخ ميالدهم…‬ ‫بهم‬

‫أنا متأكد من أن هؤالء األطفال كانوا سيكربون عىل كراهية‬ ‫والديهما‪ ،‬وربما خيانتهما»‪.‬‬

‫لم يكن هذا التصرف الغريب من روسو يف زيجته غري‬

‫القانونية ليمنعه من كتابة «رسائل يف األخالق‪1757 ،‬م»‪،‬‬ ‫والذي وعظ من خاللها بأهمية اإلخالص بني الزوجني‪ ،‬وتكليل‬

‫الحب بالزواج‪ ،‬كما لم يثنه تخليه عن أبنائه عن كتابة روايته‬

‫ذكريات تلقيه العقاب والضرب يف صغره من آنسة تدعى‬ ‫ً‬ ‫معرتفا يف كتابه «اعرتافات‪1782 ،‬م» بأنها ساهمت‬ ‫المربسري‪،‬‬

‫لرتبية األطفال‪ ،‬فقد كان يحيك قصة الفتى إميل الذي ترعرع‬

‫الزواج‪ ،‬كنت أجد لذة رائعة يف الجلوس تحت قدمي حبيبتي‬

‫املجتمع كأفضل الطرائق الرتبوية‪ ،‬مؤكدً ا عىل نظريته بأن‬

‫يف صياغة ذوقه الجنيس طويلاً «حتى بعد وصويل سن‬ ‫املتعجرفة‪ ،‬مطيعً ا أوامرها‪ ،‬طالبًا الغفران منها»‪.‬‬

‫الرتبوية «إميل‪1762 ،‬م»‪ ،‬وإرشاد قرائه إىل الطريقة السليمة‬ ‫يف الريف‪ ،‬وانعزل عن املدينة‪ ،‬وتلقى تعليمه بعيدً ا من فساد‬

‫طبيعة اإلنسان خيرّ ة‪ ،‬وال تفسد إال بالحضارة‪.‬‬

‫‪133‬‬


‫ثقافات‬

‫يمكن القول‪ :‬إن هذه األطروحة الرتبوية املوازية لرباءته‬ ‫الفعلية عن أبنائه (حتى مماتهم) تمثل ً‬ ‫ً‬ ‫صارخا يف حياة هذا‬ ‫نقضا‬ ‫الفيلسوف الشهري الذي عجز عن الخروج من مرحلة التعليق‬ ‫اً‬ ‫دخول يف مرحلة التطبيق والتنفيذ؛ غري أن من يسرب‬ ‫والتنظري‬

‫حياة روسو يُدرك محفزات هذه التناقضات الشخصية التي كان‬

‫يصارعها طيلة حياته‪ ،‬إذ كان يعيش وحده دون إخوة أو عالقات‬

‫أو أصدقاء أو مجتمع‪ ،‬كما كان يؤكد يف كتابه الرائد «اعرتافات»‬ ‫الذي ُنشر بعد وفاته عام ‪1782‬م‪ ،‬وأكد فيه «أن كشف كل يشء‪،‬‬

‫ً‬ ‫وقت مبكر‪ ،‬بعد أن‬ ‫منبوذا يف‬ ‫يغفر كل يشء»‪ .‬فقد عاش يتيمً ا‬ ‫ٍ‬ ‫توفيت والدته بعد والدته مباشرة‪ ،‬لتتوىل عمته رعايته‪ ،‬كما‬ ‫تخىل عنه والده املاجن وهو يف العاشرة من عمره‪ ،‬ليتوىل عمه‬ ‫ً‬ ‫نيابة عنه؛ وقد تكون هذه اللحظات القاسية من‬ ‫العناية به‬

‫حياة روسو هي ما مأل حياته الطويلة بالتناقضات‪.‬‬

‫لم تكن هذه التجاوزات يف العموم لتقلل من مكانته‬

‫الفلسفية‪ ،‬ومن أن يلقى اهتمام الجماهري برسائله يف السياسة‬ ‫اً‬ ‫مجهول يف‬ ‫واالجتماع‪ ،‬فقد ُنقل جثمانه بعد موته وحيدً ا‬

‫جزيرة إيل دي بوبليه بعد ‪ 16‬سنة من وفاته ليُعاد دفنه يف‬

‫احتفالية جماهريية حاشدة‪ ،‬وبطقوس رسمية فاخرة يف مقربة‬

‫البانثيون (مقربة عظماء فرنسا)‪ ،‬إىل جانب فولتري وفيكتور‬

‫‪134‬‬

‫هوغو وفالسفة آخرين‪.‬‬

‫صراعات فرويد ونزوات يونغ‬

‫كارل يونغ وزوجته إيما روشنباخ‬

‫كتابه «الطريقة األخطر‪1994 ،‬م» وجُ سدت يف عرض سينمايئ‬

‫باالسم نفسه عام ‪2011‬م‪.‬‬

‫كانت البداية عام ‪1904‬م حني افتتح كارل يونغ (‪ 29‬عامً ا)‬

‫عيادته النفسية يف زيورخ‪ ،‬وقد كان حينها متأث ًرا ومعجبًا‬

‫عىل أعتاب الحرب العاملية األوىل‪ ،‬كانت املدينتان زيورخ‬ ‫وفيي ّنا قطبني نشطني جاذبني لإلشكاالت النفسية الجنسية بني‬

‫بالعالم الكبري فرويد (‪ 48‬عامً ا) وطريقته يف «العالج بالكالم»‬

‫فرويد (‪1939-1856‬م)‪ ،‬والسويسري كارل يونغ (‪1961-1875‬م)‪،‬‬

‫أو ملجموعة من األفراد لعدة جلسات‪ .‬استقبل يونغ يف عيادته‬

‫عاملني من أبرز علماء النفس يف العالم‪ :‬النمساوي سيغموند‬

‫إذ كانت بداية الصراع األكاديمي والشخيص بينهما عىل فتاة‬ ‫روسية تدعى سابينا سبيلرين (‪1949-1885‬م)؛ وقد كشف عن‬

‫أستار هذا الصراع املؤلف األمرييك جون كري (‪2013-1931‬م) يف‬

‫قدموا‬ ‫على الرغم من أن الفالسفة ّ‬

‫وهي طريقة يقوم فيها املريض بالتعبري عن مشكالته لطبيبه‬ ‫فتاة روسية تدعى سابينا سبيلرين (‪ 19‬عامً ا) ليكتشف من خالل‬

‫عالجها بطريقة فرويد أنها تعاين الهسترييا بسبب معاناتها‬ ‫يف الطفولة وتعرضها ألزمات جنسية مع والدها‪ ،‬وهذا يؤيد‬

‫نظرية فرويد يف ارتباط الجنس باالضطرابات العاطفية‪ .‬هذه‬

‫الطريقة يف العالج‪ ،‬أي «العالج بالكالم»‪ ،‬هي التي يصفها‬

‫الكاتب يف عنوان كتابه بـ «الطريقة األخطر» إذ تستمد خطورتها‬

‫أنفسهم نماذج متصالحة مع ذواتهم‬

‫من كونها ستؤول إىل سقطات مدوية يف حياة يونغ املهنية‪.‬‬

‫نماذج شاذة خرقت المواثيق واألعراف‬

‫حالة سابينا طلبًا للنصح واالستشارة‪ ،‬وكان فرويد حينها‬

‫وصالحة لمجتمعاتهم‪ ،‬فإن منهم‬ ‫الوظيفية‪ ،‬ودفعتهم نزواتهم‬ ‫الجنسية إلى هتك العالقة المقدسة‬ ‫والعروة الوثقى بين المعلم والطالب‪،‬‬ ‫والطبيب والمريض‪ ،‬والمربي واالبن‬

‫يف عام ‪1907‬م‪ ،‬سافر يونغ لزيارة فرويد ونقاشه بخصوص‬

‫معجبًا بتحليالت يونغ لدرجة أن سمّ اه وريثه الشرعي األحق‬

‫بعرشه بعد وفاته‪ .‬وبسبب هذه الثقة بني الصديقني‪ ،‬قام‬

‫فرويد بإرسال طالبه أوتو غروس (‪1920-1877‬م) إىل يونغ ليقوم‬

‫بعالجه‪ ،‬وقد كان غروس منظ ًرا جيدً ا يف علم النفس عىل رغم‬ ‫ً‬ ‫الحقا بسبب‬ ‫انحالله الخلقي‪ ،‬وإدمانه املخدرات‪« ،‬وقد تويف‬ ‫املخدرات ووجد طريحً ا يف شوارع برلني»‪ .‬كان غروس ماه ًرا يف‬

‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬


‫الحياة السرية لمفكرين وفالسفة‪ ..‬صراعات وجنس ومثلية وخياالت مازوشية وهتك المقدس‬

‫تربير أهمية تعدد الزيجات‪ ،‬وعدم كبح الرغبات الجنسية حتى‬ ‫وإن آلت إىل عالقات محظورة‪ ،‬األمر الذي ّأثر يف يونغ ليجد‬

‫السطح فكانت بمثابة الصدمة للقراء عن حياة يونغ الجنسية‪،‬‬

‫الجنس مع مريضته سابينا بنية عالجها‪ ،‬محطمً ا بذلك املواثيق‬

‫نزواته ضد مرضاه‪ ،‬ال سيما أن عالقة يونغ مع سابينا لم تنتهِ‬

‫فيها مسوغات كافية للتخيل عن أخالقياته املهنية‪ ،‬وممارسة‬ ‫األخالقية بني الطبيب واملريض‪ ،‬متنك ًرا يف الوقت ذاته لقرانه‬

‫الطويل مع زوجته الكاتبة إيما روشنباخ (‪1955-1882‬م) التي‬ ‫أنجبت له أبناءه الثالثة‪ .‬انهار يونغ يف عالقات غرامية مع‬

‫مريضته بشكل دوري بال توقف‪ ،‬وكانت سابينا يف هذه األثناء‬ ‫سببًا كافيًا إلغرائه لالنفصال عن مدرسة فرويد‪ ،‬وممارسة‬ ‫النقد ضدها‪ ،‬إىل أن فسدت هذه الصداقة الطويلة بينهما‪.‬‬

‫ظلت عالقتها مع يونغ طي الكتمان‪ ،‬إىل أن طفت إىل‬

‫إذ كشفت عن هبوط العالِم أخالقيًّا‪ ،‬وعدم قدرته عىل كبح‬ ‫يف حينها‪ ،‬بل استمر يونغ يف هبوطه غري املهني بإقامة صداقة‬

‫غرامية أخرى مع عاملة النفس السويسرية توين وولف (‪-1888‬‬ ‫‪1953‬م) وذلك يف بواكري ‪1913‬م‪ ،‬لتستمر مدة طويلة كانت‬

‫كافية ليونغ ألن يصف وولف بـ «زوجته الثانية»‪.‬‬ ‫سادية سارتر ومثلية دي بوفوار‬

‫علمت إيما روشنباخ بما بني زوجها وسابينا من وصال‪،‬‬

‫يف عام ‪1929‬م‪ ،‬جمعت الفرصة طالبًا وطالبة من فرنسا‪،‬‬

‫ابنتها بيونغ‪ ،‬األمر الذي قوّض العالقة بينهما‪ ،‬فقامت سابينا‬

‫النهائية بتميّز‪ ،‬وهو ما جعل اللجنة تحتار يف تحديد األوىل‬

‫فقامت بإرسال رسالة مجهولة لوالدة سابينا تخربها عن عالقة‬ ‫بمهاجمته يف مكتبه وآذته جسديًّا‪ ،‬ثم سافرت لتكمل عالجها‬ ‫وتعليمها تحت إشراف فرويد‪ .‬دب القلق يف نفس يونغ‪ ،‬وبدأ‬

‫يبعث برسائل يائسة لفرويد مؤكدً ا له عدم صحة عالقاته‬

‫الجنسية املكشوفة مع سابينا‪ ،‬إلبقاء مهنيته وعيادته سليمة‬

‫من األذى والتشهري‪ ،‬وكان فرويد بدوره يؤهل ويدرب سابينا‬

‫لتعالج مرضاه‪ ،‬لتصبح بعد ذلك من أوائل عاملات النفس يف‬ ‫أوربا‪ .‬لقد أصبحت سابينا أول عاملة نفس تنشر أكرث من ‪35‬‬

‫ورقة متخصصة دفعت بعجلة علم النفس إىل األمام‪ ،‬إىل أن‬ ‫لقيت مصرعها مع طفلتيها يف محرقة الهولوكوست‪.‬‬

‫كالهما تخصص يف الفلسفة‪ ،‬وكالهما تجاوز االختبارات‬ ‫منهما باملركز األول‪ .‬خلصت اللجنة أخريًا ملنح املركز األول‬ ‫ً‬ ‫الحقا أعظم‬ ‫لجان بول سارتر (‪1980-1905‬م) الذي سيصبح‬ ‫عظماء الفلسفة الوجودية‪ ،‬لتأيت سيمون دي بوفوار (‪-1908‬‬

‫‪1986‬م) ثانيًا‪ ،‬التي ستكون من أعظم منظري الحركة النسوية‬

‫يف العالم‪ .‬هذه املصادفة املحضة قدحت شعلة التعارف بني‬

‫الطالبني‪ ،‬حتى توشجت بينهما آصرة غرامية شهرية دامت أكرث‬ ‫من خمسني سنة‪.‬‬

‫قىض سارتر حياته مع دي بوفوار يف وصال أشبه ما يكون‬

‫بالزواج‪ ،‬غري أنه لم يتكلل بالعقود القانونية أبدً ا‪ ،‬فقد كانت‬

‫سارتر ودي بوفوار‪ ،‬وبوريس فيان مع زوجته ميشال ليغليز‪-‬فيان‬

‫‪135‬‬


‫ثقافات‬

‫(‪1983-1915‬م) إحدى طالباتها (‪ 19‬عامً ا) إلقامة عالقة غرامية‬

‫معها‪ ،‬ثم تعمّ قت العالقة بني املعلمة والطالبة حتى كتبت دي‬

‫بوفوار روايتها األوىل «أتت لتمكث‪1943 ،‬م» لتدبّجها بإهداء‬ ‫خاص لكوساكيويتز‪ .‬تجاوزت دي بوفوار هذا االستدراج غري‬ ‫املهني بإشراك كوساكيويتز يف مُ ساكنة ثالثية مع حبيبها سارتر‬ ‫ُ‬ ‫وع ّشاق آخرين منهم الروايئ األمرييك الشهري نيلسون ألغرين‬ ‫(‪1981-1909‬م) الذي كانت تعاشره يف أثناء زيارتها لشيكاغو عام‬ ‫‪1947‬م‪ ،‬إضافة إىل الصحايف الفرنيس جاك لوران بوست (‪-1916‬‬

‫‪1990‬م) الذي تع ّرف بدوره إىل كوساكيويتز وتزوجها قانونيًّا‪.‬‬

‫مضت دي بوفوار يف هذه الخطط االستدراجية حتى تعرفت‬ ‫عام ‪1937‬م إىل طالبة أخرى (‪ 16‬عامً ا) ُتدعى بيانكا المبلني (‪-1921‬‬

‫‪2011‬م) فأقنعتها لتدخل يف عالقة غرامية مشرتكة مع سارتر‪،‬‬ ‫الذي كان ‪-‬فيما يبدو‪ -‬يهيئ نفسه للقاء أي ضحية تقع يف حبال‬

‫دي بوفوار‪ .‬كتبت المبلني مذكرات «عالقة مشينة‪1993 ،‬م»‬

‫واصفة هذه الغراميات الطويلة‪ ،‬شاكية من كونها استغلت‬ ‫استغاللاً شائ ًنا من جانب دي بوفوار وسارتر عىل السواء‪.‬‬ ‫تذكر المبلني أن سارتر مارس معها الجنس عام ‪1939‬م يف أحد‬

‫الفنادق الباريسية وكان يُظهر نزعات سادية؛ وقد يكون السبب‬ ‫وراء هذه النزعات اضطرابات العالقة العاطفية بني سارتر وأمه‬ ‫يف وقت مبكر من حياته‪ ،‬إذ تزوجت بعد وفاة والده من رجل‬

‫‪136‬‬

‫يُبغضه‪ ،‬وهذا جعله ال يحرتمها وال يدعو الناس الحرتامها‪ ،‬بل‬

‫يزعم أنه كان يتظاهر بالنوم يف أثناء تنويمه بأحد املستشفيات‬ ‫لرياقب أمه املرافقة له وهي تخلع مالبسها‪.‬‬

‫سيمون دي بوفوار مع أولغا سوساكويتز‪،‬‬ ‫وحبيب بوفوار نيلسون ألغرين (‪1981-1909‬م)‬

‫يف عام ‪1943‬م‪ ،‬مضت دي بوفوار يف تعرفها إىل الطالبات‬

‫لتلتقي هذه املرة طالبة (‪ 17‬عامً ا) تدعى ناتايل سوروكني‬

‫عالقة حرة ومفتوحة للطرفني‪ ،‬إذ يحق ألي طرف منهما‬

‫(‪1926‬م) وهي آخر العشيقات األحياء لدي بوفوار وسارتر‪ ،‬غري‬

‫الوقت الذي كان فيه سارتر يقيم غرامياته و«قاذوراته» مع‬

‫مالحظة تغري سلوكياتها برفع قضية تحرش ضد دي بوفوار‬

‫أن يعاشر شركاء آخرين دون تذمر واستياء من اآلخر‪ .‬ففي‬

‫العاهرات الفرنسيات بحسب توصيف سكرتريه الخاص بيني‬ ‫ليفي (‪2003-1945‬م)‪ ،‬كانت دي بوفوار تكرث من عالقاتها مع‬ ‫ً‬ ‫وإناثا‪ ،‬وكانت أكرث انجذابًا لإلناث‪ ،‬وقد يُفسر‬ ‫الجنسني‪ ،‬ذكورًا‬

‫هذا النزوع املثيل لديها وصف أبيها لها‪ ،‬إذ ثبت عنه أنه قال‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫املعلمة دي‬ ‫«إن ابنتي تفكر كرجل»‪ .‬ففي عام ‪1935‬م‪ ،‬خرقت‬ ‫بوفوار العقود الرتبوية‪ ،‬وقامت باستدراج أولغا كوساكيويتز‬

‫هذه السقطات الجنسية من فالسفة‬

‫أن من سوء حظ دي بوفوار هذه املرة أن قامت أم ناتايل بعد‬

‫آلت بعد التحقيقات لتجريم دي بوفوار وسحب رخصتها‬

‫التدريسية منها مدى الحياة‪ .‬كان هذا القرار بمثابة الصفعة‬ ‫لدي بوفوار‪ ،‬غري أنه لم يمنعها ‪-‬وهي املرأة املناضلة والجسورة‬

‫ من مواصلة حياتها الخاصة‪ ،‬إذ واصلت عالقاتها مع طالباتها‬‫ومع صديقات سارتر نفسه‪ ،‬كاملغنية الفرنسية جولييت غريكو‬

‫(‪ )1927‬التي أهدى لها سارتر أغنية مسرحيته «الغرفة املغلقة‪،‬‬ ‫‪1949‬م» وصديقة أمريكية أخرى تدعى دولوريس فانيتي‪ ،‬إىل‬

‫جانب الكاتبة األمريكية ميشيل ليغليز‪ -‬فيان التي كانت زوجة‬ ‫الروايئ الفرنيس بوريس فيان (‪1959-1920‬م) وكانت غراميات‬

‫األخالق هي حلقة واحدة في سلسلة‬

‫سارتر معها سببًا كافيًا إلفساد زواجهما وطالقها منه‪.‬‬

‫وتخالفه في الوقت ذاته‬

‫ملا يخرتقها من عالقات تداخلية من أطراف أخرى‪ ،‬وقد تكون‬

‫طويلة متناقضة تدعو إلى االلتزام‬

‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬

‫لقد كانت حياة سارتر ودي بوفوار مليئة بالصخب واإلثارة‬

‫هذه الحياة الحرة التي مر بها سارتر كافية لثنيه عن الدخول‬


‫الحياة السرية لمفكرين وفالسفة‪ ..‬صراعات وجنس ومثلية وخياالت مازوشية وهتك المقدس‬

‫يف االلتزامات املهنية العليا‪ ،‬إذ كان‬

‫يبتغي الخالص والحرية‪ ،‬ويرفض‬

‫الضوابط الرسمية لدرجة أن قام‬

‫برفض جائزة نوبل لآلداب عام‬ ‫‪1964‬م قائلاً ‪« :‬ال ينبغي للكاتب‬ ‫أن يسمح لنفسه أن تتحول إىل‬

‫مؤسسة»‪ .‬تويف سارتر عام ‪1980‬م‪،‬‬ ‫فلم ترتدد دي بوفوار يف أن تويص‬

‫قبل وفاتها بنشر رسائلها إىل سارتر‬

‫يف كتاب «رسائل إىل سارتر‪1990 ،‬م»‬

‫لتعرب عن كلفها وحبها له‪ ،‬وتحيك‬ ‫مغامراتها وغرامياتها معه‪ ،‬لتموت‬

‫كولن مكغين‬

‫توماس بوغي‬

‫أخريًا ُ‬ ‫وتقرب بجواره يف مقربة مونبارناس عام ‪1986‬م‪.‬‬

‫بعد توصيات مسؤويل الجامعة بسبب اشتعال قضيته إعالميًّا‪.‬‬

‫تحرشات كولن مكغني وتوماس بوغي‬

‫توماس بوغي (‪ )-1963‬يف قضية تحرش جنيس أخرى ضد طالبة‬

‫ويف عام ‪2014‬م‪ ،‬تورط الفيلسوف األملاين بجامعة ييل‬

‫لم تنقشع هذه السحابة السوداء من العالقات املحظورة‬

‫ً‬ ‫فرصا وظيفية يف الجامعة لقاء عالقات غرامية‪،‬‬ ‫عرض عليها‬

‫والعشرين لتخل بسمعة فالسفة معاصرين‪ ،‬إذ اضطر‬

‫تدعى فريناندا لوبيز عام ‪2010‬م‪ ،‬وقام بتهديدها بطردها من‬

‫مكغني (‪ )-1950‬لالستقالة عام ‪2013‬م من منصبه بجامعة ميامي‬

‫سبق وتحرش بطالبة أخرى عام ‪1990‬م إبان تدريسه يف جامعة‬

‫مونيكا موريسون‪ ،‬بعد أن قدمت إثباتات قاطعة من الرسائل‬

‫األخالق‪ ،‬وقد تخرج من جامعة هارفارد تحت إشراف فيلسوف‬

‫ومن زميله أستاذ الفلسفة إدوارد إروين‪ .‬لقد كان كولن مكغني‬

‫األخالقيني يف العالم‪ .‬وعىل رغم تلقي رئاسة الجامعة خطابات‬

‫من أعرق جامعات أمريكا‪ ،‬إال أنه وبعد استقالته من جامعة‬

‫بوغي املستمرة ويطالبون بفصله تأديبيًّا‪ ،‬فإن الجامعة ال ترغب‬ ‫يف فتح قضيته عل ًنا‪ ،‬ومن ثم التفريط بعقده التدرييس ألن‬

‫يف القرن العشرين‪ ،‬بل ألقت بظاللها عىل واقع القرن الحادي‬

‫ولم تكن األوىل‪ ،‬وقد ال تكون األخرية‪ ،‬إذ تحرش بطالبة أخرى‬

‫الفيلسوف الربيطاين الشهري واملختص يف فلسفة العقل كولن‬

‫برنامج «املساعدة الجامعية» إن هي تعرضت له قضائيًّا‪ ،‬كما‬

‫بعد أن تورط يف قضية تحرش جنيس رفعتها ضده طالبته‬

‫كولومبيا‪ .‬الغريب يف األمر أن بوغي فيلسوف مختص يف فلسفة‬

‫الورقية واإللكرتونية تشمل تحرشات واعتداءات صدرت منه‬

‫األخالق األمرييك جون رولز (‪2002-1921‬م)‪ ،‬ويعد اآلن من أبرز‬

‫مطلب غالب الجامعات‪ ،‬إذ عمل يف جامعة أوكسفورد وعدد‬

‫مفتوحة من جانب طالب وأساتذة بارزين يؤكدون تحرشات‬

‫ميامي عىل خلفية هذه الحادثة‪ ،‬وعىل رغم حصوله عىل مقعد‬ ‫سريع بجامعة شرق كاروالينا‪ ،‬سرعان ما سُ حب مقعده منه‬

‫االتهامات لم تثبت عليه قضائيًّا‪.‬‬

‫اإلنسان في جوهره كينونة منفصلة بذاتها‬ ‫بقي أن نقول‪ :‬إن مثل هذه السقطات الجنسية من فالسفة األخالق هي حلقة واحدة يف سلسلة طويلة متناقضة‬

‫تدعو إىل االلتزام وتخالفه يف الوقت ذاته‪ .‬وبقي أن نؤكد أن اإلنسان يف جوهره كينونة منفصلة بذاتها‪ ،‬وليست ره ًنا‬ ‫كالحيل التي تزين الذات البشرية العارية العاجزة عن صد النزوات‪ .‬وبقي أخريًا‬ ‫ملهنته‪ ،‬فاإلنسان ُكن ٌه واملهنة كن ٌه آخر‬ ‫ّ‬ ‫أن نتحوط يف التنبيه إىل أن هناك من يرى أن العالقة الجنسية ‪ -‬يف الجوهر ‪ -‬ال تمثل خطرًا أخالقيًّا إذا ما تمت بالرتايض‬

‫تنضو تحت القانون‪ ،‬وذلك بحسب النصوص الفلسفية الراهنة‪ ،‬إنما الخطر يكمن يف خرق األعراف‬ ‫بني األطراف‪ ،‬وإنْ لم‬ ‫ِ‬ ‫املهنية باملخالفات األخالقية‪ ،‬باالستدراج كأنموذج دي بوفوار وطالباتها‪ ،‬أو باالستغالل كأنموذج يونغ ومريضاته‪ ،‬أو‬ ‫بالتخيل عن املسؤولية الرتبوية كحالة روسو وأطفاله‪ ،‬يف الوقت الذي ينتج عنها مخاطر جسيمة قد تؤول أخريًا إىل‬

‫الوفاة‪ ،‬وهو الضرر األكرب أخالقيًّا كما حدث ألطفال روسو غري الشرعيني‪.‬‬

‫‪137‬‬


‫ثقافات‬

‫اشتغاالت أدبية بانشغاالت أخرى‬

‫«كاليمت فيكشن» نوع أدبي جديد‪...‬‬ ‫محوره المناخ والتغيرات البيئية‬

‫‪138‬‬

‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬


‫«كاليمت فيكشن» نوع أدبي جديد محوره المناخ والتغيرات البيئية‬

‫ُدنى غالي‬

‫روائية عراقية تقيم في الدانمارك‬

‫عندما قرُب موعد صدور روايتها الجديدة خطر ببال‬

‫الروائية الدنماركية شارلوته فايتزه أمر مهم ًّ‬ ‫جدا‪ ،‬فاتها أن تسأل‬ ‫محررها عنه‪ ،‬فاتصلت به في الحال لتسأله عن نوعية الورق‬ ‫الذي س ُتطبع عليه رواي ُتها التي حملت العنوان‪« :‬ما هو مقيت»‪،‬‬

‫إنْ كانت عجينة الورق لكتابها من أشجار مجازة القطع‪ ،‬وإال‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ونفاقا! إنها قلقة بشأن ذوبان‬ ‫مداهنة‬ ‫سيكون كل ما كتبته‬

‫الجليد في القارة القطبية‪ ،‬وارتفاع منسوب مياه البحار‪ .‬وروايتها‬ ‫ً‬ ‫حديثا تقع في صنف الرواية الذي يدعى «كالي‬ ‫التي صدرت‬ ‫فاي» مختصر «كاليمت فيكشن»‪ ،‬وهو األدب الذي يدور محوره‬

‫حول المناخ والتغيرات البيئية‪ ،‬وهو صنف حديث تم اشتقاقه‬

‫على غرار روايات الخيال العلمي «ساي فاي» مختصر «ساينس‬ ‫فيكشن»‪.‬‬

‫والروائية فايتزه كانت من أول الحاصلني عىل منحة‬

‫تمسنا ًّ‬ ‫حقا العناوين‬ ‫عن مسؤوليتك إزاء هذا الكوكب‪ ،‬هل‬ ‫ّ‬

‫لتقديم الدعم للمهتمني بشؤون البيئة من الباحثني‬

‫التي جعلناها متقلبة بشكل متطرف دون أن ندرك أنها‬

‫اإلقامة املمولة من منظمة «الكلمة الحرة لندن» املخصصة‬

‫والكتاب الذين يدرسون كيفية معالجة هذه القضايا عرب‬ ‫الفن واألدب‪ ،‬وقد صدرت الرواية بعد سلسلة من البحوث‬ ‫التي أجرتها‪ ،‬واملعارض التي زارتها‪ ،‬واملقابالت التي خصت‬

‫مشروع «أزمة املناخ»‪.‬‬

‫ً‬ ‫قلقا وهي تتحدث يف املقابلة عن‬ ‫كان صوتها ناعمً ا‬

‫هواجسها‪ ،‬لدرجة تشعر خاللها بالحرية‪ ،‬وال شك أن‬ ‫األسباب تعود لتلك الفوارق يف انشغاالت كتابنا عنها يف‬

‫هذه البقعة من األرض‪ .‬وهذا ال يعني انحسار األصناف‬ ‫األخرى‪ ،‬ولكن ألن مصطلح «كالي فاي» أخذ يرتدد كثريًا‬ ‫يف السنوات األخرية‪ ،‬ما يضطرك إىل اإلحساس أولاً بالتخيل‬

‫التي تتصدر عشرات املقاالت والبحوث حول حرارة األرض‬ ‫من فعل اإلنسان! ولعل أحدنا سيقول مدافعً ا عن نفسه‪:‬‬ ‫تكفينا همومنا من الحروب والقمع والنزوح واللجوء‬

‫واألنظمة القمعية لننشغل عنها أو لنوثقها أو نوظفها يف‬

‫أعمال إبداعية‪ ،‬ومن ناحية أخرى أال نشعر حقيقة بالعجز‬ ‫إزاء هذه التحوالت‪ ،‬وما الذي يمكن فعله؟‬ ‫ضد األدب السيايس‬

‫ولكننا نكتشف أن موضوع البيئة واملناخ الذي احتل‬

‫هذه املساحة يف األدب اليوم‪ ،‬ال يمكن إبعاده عن السياسة‪،‬‬

‫إن أتينا عىل ذكر خلفيات كل هذه التغريات! وإن لم تصل‬

‫‪139‬‬


‫ثقافات‬

‫احتجاجاتنا بشتى الوسائل إىل أصحاب القرارات يف العالم‬ ‫لن نستطيع إنقاذ أنفسنا‪ .‬الكتابة يف هذا املجال ليست سهلة‬ ‫كما تذكر فايتزه‪ ،‬كما أن اإليمان بها شرط ال يمكن مناقشته‬ ‫عىل الصعيد الشخيص‪ ،‬وإن كانت القرارات صعبة يف هذا‬ ‫املجال‪ .‬فعىل سبيل املثال‪ ،‬تذكر فايتزه‪ :‬إن كنت تريد أن‬

‫تستخدم الخاليا الشمسية يف بيتك كسلوك أخضر يحافظ‬ ‫عىل البيئة‪ ،‬عليك بالعمل بالطبع فهي مكلفة‪ ،‬وهل‬ ‫يمكنك االستغناء عن سيارتك إن كان مكان عملك بعيدً ا؟‬

‫وإن اضطررت إىل ذلك فستساهم بالتايل يف زيادة نسبة ثاين‬ ‫أوكسيد الكربون يف الجو‪.‬‬

‫يقول‪ :‬إنه ال يتوقع أن يغري العالم من خالل ربما ‪30‬‬ ‫مشرتيًا لن يستهلكوا شي ًئا خالل خمسة أيام‪« ،‬ولكني أشري‬

‫إىل االحتمالية التي تكمن يف فن سيايس مباشر»‪.‬‬ ‫كسر احتكار الرجل‬

‫كما استعرضنا املثالني السابقني يدفعنا املوضوع إىل‬

‫تناول أعمال أخرى تصب يف هذا املجال؛ إذ إن «بوالك‪:‬‬ ‫اسم مشروع دنماريك جديد يجري العمل فيه» يؤكد هو‬ ‫ً‬ ‫أيضا أن السياسة واألدب يظهران مرتافقني يف كثري من‬

‫هذا مثال بسيط عىل التوازنات التي علينا أخذها يف‬

‫األحيان‪« .‬بوالك» معني يف البحث يف موضوعه بمنطقة‬

‫‪-‬كما تقول‪ -‬هو يف توظيف كل هذه األفكار واملعلومات‬

‫مقتبل أعمارهن‪ ،‬نتاجهن جاد وظلهن خفيف‪ .‬سينطلقن يف‬

‫الحسبان لنؤدي الدور الذي يقع علينا يف كل هذا‪ .‬واألصعب‬ ‫واإلحصائيات أدبيًّا‪ .‬ولكنها تهدف مع ذلك إىل استخدام‬ ‫الفن للتحريض والتنبيه‪ ،‬ولكنها ضد األدب السيايس الذي‬

‫يعود إىل حقبة السبعينيات‪.‬‬

‫القطب الشمايل من خمس كاتبات دنماركيات محرتفات يف‬

‫صيف العام ‪2016‬م ليكتشفن هذا املكان األسطوري املتخيل‬

‫يف جانب منه‪ ،‬سيبحنث يف سر الصراع املستفحل اآلن بني‬ ‫الدول العظمى‪ :‬كندا‪ ،‬وأمريكا‪ ،‬وروسيا‪ ،‬حول الحدود‬

‫هذا ما يؤكده الشاعر الدنماريك املتمرد وعازف‬

‫التي تطالب كل دولة بها‪ ،‬وبعد أن قدمت الدنمارك‬ ‫مؤخ ًرا طلبًا ً‬ ‫أيضا يف حقها بالقاع تحت القطب! سيقفزن‪،‬‬

‫يشري إىل فعل سيايس‪ .‬عندما يخيب السياسيون آمالنا عىل‬

‫يصدر كتاب أدبي شعري‪ ،‬وفلم ومعرض فوتوغرايف عند‬

‫الساكسفون الرس سكيناباك الذي رفض باملقابل تسمية‬

‫ما يكتبه بالشعر السيايس كتعريف‪ ،‬عىل رغم أن ما يكتبه‬

‫‪140‬‬

‫املصطلح الذي أطلقه ناقد سويدي عىل نتاجه الشعري‪.‬‬

‫الشعراء أن يتقدموا‪ ،‬وأن يدعموا من خالل نصوصهم‬ ‫َ‬ ‫القارئ ليكون فاعلاً ‪ ،‬ذلك هو ما فعله سكيناباك حني أصدر‬

‫ينبطحن‪ ،‬يغنني ويصورن‪ ،‬ال يشء مستبعد‪ .‬الخطة أن‬

‫انتهاء البحث الذي اختلفت دوافعه؛ فجزء منه ينطلق من‬ ‫وعيهن املشرتك بأهمية هذه الثيمة‪ ،‬والسيما أن كلاًّ منهن‬

‫قبل بضع سنوات مجموعة شعرية «‪ »09-04‬أسماها بطبعتها‬

‫قد سبق أن كان لها نتاج بهذا الخصوص‪ ،‬وجزء آخر من‬

‫بطبعة أوىل محدودة تفرض عىل مشرتي الكتاب ‪-‬وفق شبه‬

‫ومن ثم الكتابة أدبيًّا عنه وبقلم نسايئ‪.‬‬

‫األوىل «تمارين ونصوص طقسية» وكتبها بخط يده‪ ،‬وصدرت‬ ‫ميثاق‪ -‬أال يفكر فيما ينفقه خمسة أيام سوى بـ»البيئة‪،‬‬ ‫واملناخ‪ ،‬والفقر‪ ،‬والنزعة االستهالكية‪ ،‬والرثوات امل ُ ْهدَ رة»‪.‬‬ ‫يقول يف لقاء له يف صحيفة «اإلنفورمشيون»‪ :‬الشاعر‬ ‫الذي ال يتناول خطر التغريات يف املناخ حاليًّا شأنه شأن من‬

‫يعزفون والباخرة تغرق‪ .‬إن الوقت قصري جدًّ ا لتاليف التدهور‬ ‫السريع الذي أخذ يدمر حياة شعوب بأكملها‪ .‬وهو يميل‬ ‫إىل تسمية شعره بـ»التظاهري» بديلاً للشعر السيايس‪ ،‬وهو‬

‫تمسنا ًّ‬ ‫حقا العناوين التي تتصدر‬ ‫هل‬ ‫ّ‬ ‫عشرات المقاالت والبحوث حول حرارة‬ ‫مدافعا‬ ‫األرض‪ ...‬لعل أحدنا سيقول‬ ‫ً‬ ‫عن نفسه‪ :‬تكفينا همومنا من الحروب‬ ‫والنزوح واللجوء واألنظمة القمعية‬

‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬

‫هذا املشروع هو يف كسر احتكار الرجل ملجال البحث الوعر‪،‬‬ ‫أما الكاتب الرنويجي األصل كيم الينه الذي درس يف‬

‫الدنمارك‪ ،‬وعمل يف غرين الند‪ ،‬وعاد بعدها ليستقر يف‬

‫الدنمارك‪ ،‬فستصدر له رواية دنماركية جديدة بعنوان‬ ‫«األرقون» تتحدث بدورها ً‬ ‫أيضا عن التغريات املناخية‪ ،‬وهي‬ ‫ِ‬ ‫من الخيال العلمي ً‬ ‫أيضا وتدور أحداثها يف غرين الند (بلدٌ‬

‫مُ نح الحكمَ الذايت من الدنمارك‪ ،‬وهو يقع بني القطب‬ ‫الشمايل واملحيط األطلنطي‪ ،‬شرق أرخبيل القطب الشمايل‬

‫الكندي)‪ .‬وتتحدث الرواية عن املستقبل القريب للبلد الذي‬ ‫ً‬ ‫إطالقا‪ ،‬فال‬ ‫يغمره الضوء األبدي حني ال تغيب الشمس‬

‫يستطيع الناس النوم حني يقتحم بيوتهم وأعينهم‪ ،‬ويحول‬ ‫دون خلودهم للراحة فيمرضون‪ ،‬يدورون ويعملون‪ ،‬ويف‬

‫املقابل هم بشوق إىل الليل والنوم‪ ،‬يذوب الثلج وتختفي‬ ‫الزالجات‪ ،‬وتتغري بالتايل طبيعة الحياة املميزة إجمالاً يف تلك‬

‫البقعة من األرض!‬

‫وألن ربطنا الفن بالسياسة والبيئة يف املجتمعات املتطورة‬

‫التي تكاد النزعة االستهالكية واملادية تجففها تمامً ا‪ ،‬فال بد‬


‫«كاليمت فيكشن» نوع أدبي جديد محوره المناخ والتغيرات البيئية‬

‫شارلوته فايتزه‬

‫للعلم من كلمة هنا‪« .‬القصة بأكملها‪ ،‬سرديات عن السحر‬ ‫ً‬ ‫حديثا ً‬ ‫أيضا‪ ،‬وهو ثمرة تعاون عىل‬ ‫والعلم» كتاب صدر‬ ‫ِ‬

‫واملوسيقي كريستيان ليت من‬ ‫مدى أربعة أعوام بني الشاعر‬ ‫ّ‬ ‫فرقة «وليم بليك»‪ ،‬والعالم الدنماريك الربوفيسور إيسيك‬ ‫ويالرسليف املعروف عامليًّا بتخصصه يف علم الـ«دي إن أي»‪.‬‬

‫يدور الكتاب يف بحثه حول الحدود ما بني العلم وكل ما ال‬

‫يمكن وزنه أو قياسه‪ :‬هل بإمكان عال ٍِم أن يُق ّر بوجود قوة‬ ‫غيبية ما قد تح ّرك جبالً؟! هذا أحد الجوانب التي تناولها‬ ‫الكتاب‪ ،‬وهو عبارة عن سلسلة من الحوارات التي دارت‬

‫حول البعد الروحي يف الثقافة الدنماركية‪ ،‬والعالقة بني‬

‫«تمارين ونصوص طقسية» مجموعة‬ ‫شعرية لشاعر دنماركي كتبها بخط‬ ‫يده‪ ،‬وصدرت بطبعة أولى محدودة‬ ‫تفرض على مشتري الكتاب وفق شبه‬ ‫ميثاق أال يفكر فيما ينفقه لخمسة‬ ‫أيام سوى بـ«البيئة‪ ،‬والمناخ‪ ،‬والفقر‪،‬‬ ‫والنزعة االستهالكية‪ ،‬والثروات‬ ‫المهدورة»‬

‫العلم والجانب الروحي يف الحياة عرب تاريخ البشرية‪ ،‬كما‬ ‫يعرج كذلك عىل السياسة الحالية يف العالم‪.‬‬

‫ويالرسليف جريء يف إعالن إيمانه بوجود الله أو «يشء‬

‫الروحي ال قيمة له‪ ،‬نحن نسعى ليك ننفصل عن الروحانية‬

‫احتياج البشر الروحي بال قيمة لقضت نظرية التطور عىل‬

‫رجال الدين عىل مر التاريخ‪ ،‬وهو ما أدى إىل أننا ال نتحدث‬

‫ما رباين يف األعىل»‪ ،‬مراجعه الداروينية تؤكد أنه لو كان‬

‫التعصب والتزمُّ ت منذ زمن بعيد‪ .‬من ناحية ثانية يرى‬

‫الشاعر ليت أن الدنماركيني –عىل خالف ما يعتقدون‪-‬‬

‫ليسوا بعلمانيني‪ ،‬والكثري من منطلقاتهم عقائدية‬ ‫وبروتستانتية‪ ،‬كما أن املتطرفني من بني املسلمني وغريهم‬ ‫من الذين ننتقدهم ونريد لهم أن يتبنوا الصورة التي نحن‬ ‫عليها‪« ،‬نحن كمجتمع متفقون عىل أن ما يسمى البعد‬

‫ألنها تذكرنا بقصص حقيقية مرعبة تم استخدامها من‬

‫عن يشء آخر سوى املادية أو األرقام؛ ألنها الحقيقة‬ ‫الوحيدة لدينا‪ .‬نحن نظن أننا ال نقوى عىل مواجهة املادية‪،‬‬ ‫وبالتايل نعتمد سياسة الضرورة‪ ،‬ولكنه موضع اخرتناه‬

‫بأنفسنا؛ ألننا نظن أننا ما بعد أيديولوجيني‪ ،‬نظن أننا‬ ‫تجاوزنا عصر الحكايات وال يمكننا لهذا أن نتحدث بلغة‬ ‫غري لغة املعلوماتية»‪.‬‬

‫‪141‬‬


‫إصدارات‬

‫الدولة في فكر الجماعات اإلسالمية في المغرب‬ ‫المؤلف‪ :‬محمد الشيخ بانن‬

‫الناشر‪ :‬مركز دراسات الوحدة العربية‪.‬‬

‫يعالج الكتاب موضوع الدولة في فكر الجماعات اإلسالمية في المغرب بوصفها‬ ‫مسألة مركزية في االجتماع السياسي‪ّ ،‬‬ ‫ً‬ ‫موضوعا للجدال الفكري والصراع‬ ‫مثلت وال تزال‬

‫السياسي بين مكونات الفعل السياسي المغربي منذ استقالل البالد حتى اليوم؛ فكانت‬

‫لتلك الجماعات مواقفها حيال الشكل الذي اتخذه مفهوم الدولة سواء على مستوى التراث‬

‫السياسي اإلسالمي أو على مستوى شكله السياسي والدستوري القائم‪.‬‬ ‫ويحتوي الكتاب اثني عشر فصلاً إلى جانب الخالصة والمقدمة والخاتمة‪.‬‬ ‫عرق الضفدع‬

‫المؤلف‪ :‬أكيرا كوروساورا‬

‫المترجم‪ :‬فجر يعقوب‬

‫الناشر‪ :‬منشورات المتوسط ـ إيطاليا‬

‫كوروساوا‪ ،‬إمبراطور السينما اليابانية وشاعرها األكبر دون منازع‪ ،‬يترك لنا في َ‬ ‫«ع َرق‬

‫الضفدع» ما يُشبه سيرة ذاتية‪ ،‬وأسرار أفالمه الالحقة‪ ،‬فالكتابة عنده غموض ياباني‪،‬‬ ‫تذ ّكره بالضفدع المتروك في علبة محاطة بداخلها بالمرايا التي تصوّر له تشوّهات صوره‪،‬‬

‫وتعددها‪ ،‬فيُفرز العَ َرق الذي يتحوّل إلى نقيع مغلي‪ ،‬يساعد على مداواة الجروح والحروق‪.‬‬ ‫المرايا كثيرة حول هذا المخرج اإلمبراطور الذي وقف في مواجهة «سوني ‪ -‬هيتاشي ‪ -‬سانيو‬

‫ النسر ‪ -‬مازدا ‪ -‬كاسيو»‪ ،‬وكل تلك القائمة الكبيرة من الماركات التجارية التي تعتصر‬‫ذاكرة اإلنسان المعاصر‪ ،‬فتخنقه‪ ،‬وال ين ّز منه َع َرق يجدي‪ ،‬أو ينفع‪.‬‬

‫‪142‬‬

‫سياسات الضيافة شذرات من خطاب في الغيرية‬ ‫المؤلف‪ :‬رشيد بوطيب‬

‫الناشر‪ :‬دار توبقال‬

‫إن المدينة األوربية الحديثة غير مضيافة‪ .‬وليس في هذا األمر جديد‪ .‬لكنها إزاء‬ ‫المسلمين هي ً‬ ‫أيضا غير عادلة‪ ،‬وفي غالب األحيان عنصرية‪ ،‬مسكونة بحقد مرضي‪ .‬إن‬

‫لألمر عالقة بالضعف الذي ينتاب المشروع الديمقراطي اليوم أمام الهيمنة الرأسمالية‪،‬‬ ‫ولكن لألمر عالقة ً‬ ‫أيضا بالسياسة الثقافية األوربية‪ ،‬التي تصمت على الدور التاريخي‬

‫والحضاري لإلسالم‪ ،‬إن لم تعمد إلى تزييفه‪ ،‬كما تفعل وسائل اإلعالم األلمانية‪ .‬نحتاج‬

‫في هذا السياق‪ ،‬وأمام هذه الحرب غير المعلنة ضد اإلسالم‪ ،‬إلى علمنة تتجاوز أشكال‬ ‫التمييز‪ ،‬إلى علمنة للعلمنة‪ ،‬تحررها من كل شكل من أشكال االنتماء‪.‬‬ ‫العا َلم وال ُبلدان‬

‫المؤلف‪ :‬أندريه ميكيل‬

‫المترجم‪ :‬محمد آيت حنا‬

‫الناشر‪ :‬مشروع كلمة ـ أبو ظبي‬

‫هذه ال ّنصوص هي نوع من نهضة يُقام بها على خلفية خسارة؛ ضوء مبهر يشعّ في‬ ‫َ‬ ‫أعمالهم رجال عظام‪ ،‬من موسوعيّين‬ ‫سماء محتلكة‪ .‬على خلفيّة األفول هذه‪ ،‬أنجز‬

‫َ‬ ‫لعالمها‬ ‫وجغرافيّن ورحّ الين أخذوا على عاتقهم تدوين حضارة بكاملها‪ ،‬وعكسوا تصوّرها‬ ‫ً‬ ‫خوفا عليها من ّ‬ ‫الضياع‪ .‬هي اندفاعة‬ ‫ولعوالم اآلخرين‪ ،‬ولمُ جمل العالم والكون‪ .‬قاموا بذلك‬ ‫ً‬ ‫قصوى‪ْ ،‬‬ ‫وثبة حيويّة خلاّ قة أحيت أجناسً ا قديمة وابتكرت صنوفا من الكتابة أخرى‪ .‬كانت‬

‫ّ‬ ‫يسلط ميكيل عليه ّ‬ ‫الضوء بألمعيّة وسخاء‪ ،‬ثقافة متكاملة يتضافر فيها األدب‬ ‫تلك‪ ،‬كما‬

‫وموسوعي ولغويّ وفنّ في الوصف رفيعٌ ودقيق‪.‬‬ ‫تاريخي‬ ‫الجغرافي مع انهمام‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬


‫والقانونية‬ ‫الكونفوشيوسية‬ ‫شيون تسي بين‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫المؤلف‪ :‬شيون كوانغ‬ ‫المترجم‪ :‬وانغ يويونغ‬

‫الناشر‪ :‬مؤسسة الفكر العربي‬

‫ّ‬ ‫المؤلفات الفكرية الكالسيكية الصينية التي تعود إلى أواخر‬ ‫يُعَ د الكتاب أحد أهمّ‬

‫عصر الدول الصينية المُ تحاربة‪ ،‬أي قبل الميالد بأكثر من مئتي عام؛ وهو يتكوّن من ‪32‬‬ ‫ّ‬ ‫المؤلف‬ ‫وعمق في األفكار‪ ،‬وقوّة ورصانة في األسلوب‪ .‬وقد استخلص‬ ‫فصلاً ‪ ،‬ويتميّز بسعةٍ‬ ‫ٍ‬ ‫جواهر المدارس الفكرية المتعدّ دة في تاريخ الصين القديم؛ كالمدرسة الكونفوشيوسية‪،‬‬ ‫والمدرسة التاوية‪ ،‬والمدرسة الموهية‪ ،‬والمدرسة الشرعية‪ ،‬واستوعب جواهر العلوم‬

‫المتنوّعة‪ ،‬كعلم الطبيعة وعلم السياسة وعلم االجتماع وعلم االقتصاد والفلسفة‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫المؤلف ِسف ًرا جامعً ا لبانوراما الحال الفكرية‬ ‫استحق أن يكون هذا‬ ‫والعسكرة واألدب‪ ،‬حتى‬ ‫والثقافية في أواخر عصر الدول المتحاربة في الصين‪.‬‬

‫نزهة عائلية‬

‫المؤلف‪ :‬بسام شمس الدين‬

‫الناشر‪ :‬دار الساقي‬

‫حس ً‬ ‫ونا‪ ،‬نقيب آل شهوان‪ ،‬يطلق النار على‬ ‫كان مأمون الجزار أمام حانوته حين شاهد ّ‬

‫مرتعب فيؤويه ويحول دون قتله‪ ،‬وهو ال‬ ‫أرحب‪ ،‬نقيب آل طعيم‪ ،‬فيُرديه‪ .‬يلجأ إليه فتى‬ ‫ٌ‬ ‫يدري أنه ه ّزام ابن المغدور‪ .‬مأمون من فئة ال َبيَع التي ال موقع لها بين القبائل‪ ،‬يجد نفسه‬ ‫ً‬ ‫متورطا في صراعات قبلية من دون أن يكون لديه من يحميه‪ .‬يق ّرر تسليم نفسه إلى آل‬

‫شهوان ظ ًّنا منه بأنهم سيرأفون بحاله‪ ،‬لكنهم احتجزوه سنوات وأذاقوه أصناف العذاب‬ ‫قبل أن يطلقوا سراحه‪ .‬عاد إلى منزله ليجده خرابًا‪ ،‬وليجد أنّ ه ّزامً ا أصبح صلب العود وق ّرر‬ ‫االنتقام لمقتل والده‪ .‬ومَ ن غير مأمون أدرى بمواطن آل شهوان وبالشعاب التي تقود إلى‬

‫ً‬ ‫وخصوصا بوجوه القتلة؟‬ ‫جبالهم العصية‬

‫فازت هذه الرواية بمنحة آفاق ضمن برنامج «آفاق لكتابة الرواية»‪ ،‬الدورة الثانية‪.‬‬

‫النظريات النقدية للعولمة‬ ‫العجيلي وباتريك هايدن‬ ‫المؤلف‪ :‬شمسي ُ‬ ‫ترجمة‪ :‬هيثم غالب الناهي‬

‫الناشر‪ :‬المنظمة العربية للترجمة‬

‫هذا الكتاب دليل للوصول إلى الغاية التي توفر مدخلاً إلى المناقشات النظرية الحالية‬ ‫في عالم يتجه نحو العولمة‪ ،‬بدءً ا من مدرسة فرانكفورت‪ ،‬وصولاً إلى ما بعد الحداثة‪.‬‬

‫يحدد هذا النص التفكير النقدي بشأن العولمة ومعالم كيفية التغلب على آثارها األكثر‬

‫إثارة للقلق‪ .‬تناول الكتاب األبعاد االقتصادية والسياسية والثقافية للعولمة‪ ،‬ورؤية حركات‬

‫العولمة البديلة للممارسات والمؤسسات المتحولة نحو العولمة‪ .‬بما في ذلك نصوص‬ ‫مربعات تسلط الضوء على قضية رئيسة‪ ،‬معتب ًرا النظريات النقدية في العولمة هي أداة ال‬ ‫تقدر بثمن للمهتم بالموضوع‪.‬‬

‫‪143‬‬


‫كتب‬

‫ـوا»‬ ‫«كـان هـذا سهـ ً‬ ‫فصوص غير منشورة‬ ‫ألُنسي الحاج‬ ‫صالح بوسريف‬

‫‪144‬‬

‫شاعر وكاتب مغربي‬

‫في كتابه ّ‬ ‫الصادر بعد رحيله «كان هذا سه ًوا»‪ ،‬بقدر‬ ‫ً‬ ‫ما كان أُنسي الحاج‪ ،‬شاعرًا‪ ،‬بقدر ما كان ُم ّ‬ ‫وناقدا‪،‬‬ ‫تأملاً ‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫يتعلق بشؤون ال ُو ُجود‪،‬‬ ‫وموقف‪ ،‬في ُك ّل ما‬ ‫رأي‬ ‫ٍ‬ ‫وصاحب ٍ‬ ‫ّ‬ ‫بالسماء‪ ،‬أو بالميتافيزيقا والدين‪ ،‬والموت‬ ‫وعالقة البشر‬ ‫وكأن الكتاب كان ً‬ ‫ّ‬ ‫نوعا من‬ ‫والحياة‪ ،‬والحب‪ ،‬والفن واألدب‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫تقييد الخواطر‪ ،‬أو ما ُ‬ ‫يم ُّر بذاكرة الشاعر وبخياله‪ ،‬أو بفكره‬ ‫ُ‬ ‫ور‪ ،‬بدا ُ‬ ‫له في بعض لحظات اإلشراق‪ ،‬أن‬ ‫باألحرى‪ ،‬من أ ُم ٍ‬ ‫يكتبها‪ ،‬أو ُيخرجها من العتمة إلى ُّ‬ ‫ُ‬ ‫النور‪ ،‬رغم ّ‬ ‫أن الحاج‪ ،‬لم‬ ‫ً‬ ‫وديعة في ّ‬ ‫ذمة ابنته‪،‬‬ ‫يرغب في نشرها في حياته‪ ،‬وتركها‬ ‫ّ‬ ‫بعد أن ّ‬ ‫ألحت في نشرها‪ ،‬أو في أن يقرأها الناس‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وكأن ُه يُسمّ ي‬ ‫يقول أُنيس الحاج‪ ،‬يف [ص ‪ ]186‬من الكتاب‪،‬‬

‫أحد ُشعراء الحداثة العربية املُعاصرة‪ ،‬الذين خرجُ وا عن «عمود‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫إضافة إىل كونه شاعر ما كان سمّ ا ُه هو‬ ‫الشعر» العربي القديم‪،‬‬

‫الحواس يف العتمة»‪ .‬فما كان ير ُد يف خاطر الحاج‪ ،‬أو ما يمُ ُّر‬

‫ّ‬ ‫«الشعر الحر»‪ ،‬عند‬ ‫القديمة التي كانت تتواتر ح ّتى يف بعض‬ ‫لاً‬ ‫السياب‪ ،‬من «الرُّواد»‪ ،‬مث ‪.‬‬ ‫نازك املالئكة‪ ،‬وبدر شاكر ّ‬

‫ٌ‬ ‫نوع‬ ‫ما كتبه‪ :‬إنّ هذه «الكتابات التأمُّ ل والشذرات»‪ ،‬هي‬

‫فلسف‪ ،‬كما يرى بعض املختصني‪ ،‬لك ّنها‪ ،‬يف ُعمقها‬ ‫من ال ّت ُ‬ ‫وجوهرها‪ ،‬هي «استنطاق البدايات ً‬ ‫بحثا عن ُنور‪ ،‬وهي تجُ وس‬

‫تعب‪ ،‬كان‬ ‫أمام عينيه من لحظات ضوءٍ ‪ ،‬رغم ما كان ألمّ به من‬ ‫ٍ‬ ‫يحرص عىل تقييدها وتدوينها‪ُ ،‬دون أن ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫يكون ما يكتبُه‪ ،‬شعرًا‬

‫ٌ‬ ‫ّ‬ ‫كتابة‬ ‫بالضرورة‪ ،‬فالخواطر ت ّتسم بالحُ رّية يف ال ّتجنيس‪ ،‬أو هي‬ ‫ٌ‬ ‫تتصادى مع ُك ّل أجناس الكتابة‪ ،‬فيما هي كتابة حُ ر ٌّة‪ ،‬مُ‬ ‫نطلقة‪،‬‬ ‫ال تتقي ُّد بقواعد‪ ،‬أو بقوانني مُ عيّنة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫إضافة إىل كونه‪ُ ،‬هنا‪ ،‬يف هذا العمل‪ ،‬كما‬ ‫فأُنيس الحاج‪،‬‬

‫السابقة‪ ،‬يك ُت ُ‬ ‫ب‪ ،‬كما يشاء‪ ،‬وفق فهمه‬ ‫يف غريه من خواتمه ّ‬ ‫للشذرة‪ ،‬أو الكتابة ال ّتأمُّ ليّة ذات ّ‬ ‫الخاص ّ‬ ‫ّ‬ ‫الطابع الفلسفي‪ ،‬فهو‬ ‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬

‫قدمة كتابه «لن» بـ«قصيدة النرث»‪ ،‬التي لم ُ‬ ‫نفسه يف مُ ّ‬ ‫تكن معنيّة‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬ ‫قط‪ ،‬ال بأوزان الشعر‪ ،‬وال بقوافيه‪ ،‬أو بطبيعة الصور البالغية‬

‫ُ‬ ‫تقع هذه الخواطر‪ ،‬يف «املابني»‪ ،‬ويعني الحاج‪ ،‬ما بني‬

‫ّ‬ ‫الشعر وال ّنرث‪ ،‬أي يف منطقة الربزخ‪ ،‬بال ّتعبري ُّ‬ ‫الصويف‪ ،‬الذي هو‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫حظة التي عندها يلتقي ال ّنهر بالبحر‪ ،‬فيما ُهما ينفصالن‪.‬‬ ‫الل‬ ‫وضع ملتبس‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫وفق هذا الوضع امللتبس‪ ،‬حيث ال ظلمة وال نور‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫نوع من‬ ‫كتب الحاج‪ ،‬أو اختار هذه األرض املُحايدة التي هي‬


‫صول الكتاب‪ ،‬أو ُف ُ‬ ‫«ال ّنومنسالند»‪ .‬ومن يقرأ ُف ُ‬ ‫صوصه باألحرى‪،‬‬ ‫تش ُّده إىل ّ‬ ‫سيجد نفسه يتأرجح بني كتابةٍ ُ‬ ‫ُ‬ ‫الشعر‪ ،‬وكتابة بقدر‬

‫ٌ‬ ‫يأخ ُذها ّ‬ ‫تنكتب ُ‬ ‫صرف‪ ،‬بقدر ما ُ‬ ‫ُ‬ ‫مأخوذة‬ ‫الشعر‪ ،‬أو هي‬ ‫ما هي نرث‬ ‫ّ‬ ‫بماء ّ‬ ‫ُ‬ ‫الشعر وبهوائه‪ ،‬أو بما تعوّدت عليه يد الشاعر من بلل‬ ‫ُّ‬ ‫اللغة‪ ،‬وانشراحها‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ري يف كتاب أنيس الحاج‪ ،‬هذا‪ ،‬هو تلك ّ‬ ‫الشذرات‬ ‫إنّ ما يُث ُ‬ ‫ُ‬ ‫الوتسو‪ ،‬أو حكم فالسفة ما قبل‬ ‫الحكميّة‪ ،‬التي تشبه حكم‬ ‫ُ‬

‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫خاصةٍ ‪ .‬وهي حكمٌ ‪،‬‬ ‫قرأهم نيتشه بعنايةٍ نقدية‬ ‫ُسقراط‪ ،‬الذين‬ ‫لم ُ‬ ‫ّ‬ ‫يتوخى من خاللها أن ُ‬ ‫يبدو نبيًّا يُديل بوصاياه‬ ‫يكن الحاج‬ ‫الدنيويّة التي ُ‬ ‫نوعا من ال ُّن ُبوّة ُّ‬ ‫لتابعيه‪ ،‬بل ّإنها كانت ً‬ ‫يبدو فيها‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫«الحكيم» خبريًا ُ‬ ‫بش ُؤون األرض‪ ،‬وخبريًا بشؤون الخلق‪ ،‬ممّ ن‬

‫يعيش ويحيا بينهُ م‪ ،‬وأنّ العالقة ّ‬ ‫ُ‬ ‫بالله‪ ،‬مثلاً ‪ ،‬هي عالقة ذات‬ ‫طبيعة ميتافيزيقية‪ ،‬فيها كثري من ُ‬ ‫الغموض وااللتباس‪ ،‬وكثري‬

‫ً‬ ‫الش ّد والجذب‪ً ،‬‬ ‫ّ‬ ‫من ّ‬ ‫«الشك»‪ ،‬أو‬ ‫وتارة لجهة‬ ‫تارة لجهة «اليقني»‬

‫ح ّتى الجُ حود‪ ،‬إن شئنا‪.‬‬

‫الت‪ ،‬أو هي حصيلة تأمُّ ٌ‬ ‫فهذه الحكم‪ ،‬هي تأمُّ ٌ‬ ‫الت‪ ،‬فيها‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫يتكلم‪ ،‬أو يك ُتب فيه‪ ،‬وفيها‬ ‫ومعرفة‪ ،‬بما اختار الحاج أن‬ ‫خربة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫كاملة‪ ،‬ليكرز بما‬ ‫كان يستجمع سهو ُه‪ ،‬كما كان يستجمع قوا ُه‬ ‫وكإنسان‪،‬‬ ‫بلغه من خمرية فكره‪ ،‬ومن خمرية تجربته‪ ،‬كشاعر‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫عاش ُعمُ رًا ملي ًئا بكثري من املُفارقات والجراح‪ ،‬كان الشعر فيها‪،‬‬

‫بال ّنسبة لهُ‪ ،‬هو البلسم‪ ،‬الذي به كان نكأ الكثري من هذه الجراح‪.‬‬ ‫الشذرات‪ ،‬أو ُ‬ ‫وض يف بعض هذه ّ‬ ‫وما ُ‬ ‫الف ُ‬ ‫صوص‪،‬‬ ‫يبدو من ُغمُ ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫كما أو ُّد أن أسمّ يها‪ُ ،‬هنا‪ ،‬فهو ناتجٌ عن طبيعة الغموض‪ ،‬أو‬

‫تزال ُ‬ ‫تل ُّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ف بعض ما لم يحسم الحاج نفسه‪ ،‬يف‬ ‫الضبابيّة التي ال‬ ‫ّ‬ ‫يتعل ُق بـ«ميتافيزيك ّ‬ ‫ً‬ ‫الدين»‪.‬‬ ‫صوصا ما‬ ‫فهمه‪ ،‬أو استيعابه‪ُ ،‬خ‬

‫ّ‬ ‫ً‬ ‫بدين بعينه‪ ،‬بل ّ‬ ‫فكرة‪ ،‬وكتابًا‪،‬‬ ‫بالدين‪ ،‬بوصفه‪،‬‬ ‫يتعل ُق األم ُر‬ ‫ال‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫يحصر أنيس هذه ال ّتأمُّ الت فيما يجري اليوم‬ ‫وأيضا اعتقا ًدا‪ .‬ال‬

‫بشأن ّ‬ ‫ؤسسة التي لها‬ ‫الدين‪ ،‬فهو يعُ و ُد إىل بعض مُ شكالته امل ُ ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫الفص‪ ،‬هو‬ ‫فالشذرة‪ ،‬أو‬ ‫امتداداتها يف الرّاهن‪ .‬ال تحليل يف األمر‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫واشتغال عىل الجوهر‪ .‬األمر نفسه ُ‬ ‫نجد ُه يف األبواب األخرى‬ ‫انتقاءٌ ‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫من الكتاب‪ ،‬ما تعلق منها‪ ،‬بالحُ ّ‬ ‫ب‪ ،‬أو ما تعلق منها بالفنّ ‪.‬‬

‫تأمال‪،‬‬ ‫ُأنسي الحاج‪،‬‬ ‫ً‬ ‫شاعرا‪ ،‬بقدر ما كان ُم ّ‬ ‫ٍ‬ ‫وموقف‪ ،‬في‬ ‫رأي‬ ‫وناقدا‪ ،‬وصاحب‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫الو ُجود‪ ،‬وعالقة‬ ‫كل ما يتعلّق بشؤون ُ‬ ‫بالسماء‪ ،‬أو بالميتافيزيقا والدين‪،‬‬ ‫البشر‬ ‫ّ‬ ‫والموت والحياة‪ ،‬والحب‪ ،‬والفن واألدب‪،‬‬

‫نوعا من تقييد الخواطر‪،‬‬ ‫وكأن الكتاب كان ً‬ ‫ّ‬ ‫يم ُّر بذاكرة ّ‬ ‫الشاعر وبخياله‬ ‫أو ما ُ‬

‫إنّ ُّ‬ ‫اللغة التي يك ُت ُ‬ ‫ب بها أُنيس الحاج‪ ،‬هي ُلغة أُنيس الحاج‪،‬‬ ‫هي أُنيس الحاج‪ ،‬اعتبارًا ملا جاء يف املثل الفرنيس املعرُوف‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫األسلوب نفسه‬ ‫«األسلوب هو الرّجُ ل»‪ ،‬أي ُهو ُهو‪ ،‬ال غريُه‪ .‬هو‬ ‫ّ‬ ‫ب به ح ّتى يف ّ‬ ‫الذي به كتب شعره‪ ،‬وكان يك ُت ُ‬ ‫ولعل‬ ‫الصحافة‪.‬‬ ‫الشعراء‪ ،‬وبعض ُ‬ ‫أهمّ ما ميّز بعض ُّ‬ ‫الك ّتاب الذين يك ُتبُون يف‬

‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫يتنازلوا عن دمهمُ‬ ‫عملوا يف الصحافة‪ ،‬هو ّأنهُ م لم‬ ‫الصحُ ف‪ ،‬أو‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫خيص‪ ،‬أعني عن أسلوبهم‪ ،‬وظلوا يك ُتبُون‪ ،‬ح ّتى فيما يجري‬ ‫الش‬ ‫ّ‬ ‫خارج األدب‪ ،‬أو ّ‬ ‫الشعر‪ ،‬بنفس الدم الذين تتميّز به فصيل ُتهُ م‪.‬‬ ‫مرارة الرحيل‬

‫الكتاب‪ ،‬مُ ٌ‬ ‫متع يف قراءته‪ ،‬ومُ ؤلمٌ يف اآلن ذاته‪ .‬فمن يقرأ‬ ‫ُ‬ ‫الكتاب‪ ،‬يجد يف كثري من فصوصه بعض األلم الذي كان الحاج‬

‫ً‬ ‫ُ‬ ‫إدراك ُه ملرارة الرّحيل‪ ،‬رغم ما يُبديه من جلدٍ يف‬ ‫وأيضا‬ ‫يبُوحُ به‪،‬‬

‫مواجهة هذا الرّحيل‪ ،‬واالستعداد لهُ‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫الكتاب‪ ،‬بهذا املعنى‪ ،‬هو كالم أنيس الحاج معنا‪ ،‬من‬ ‫أليس‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُهناك‪ ،‬أو هكذا تصوّر أن يكون كتابُه‪ ،‬الذي ال يخلو من مُ‬ ‫باغتات‪،‬‬ ‫ٍ‬

‫ُ‬ ‫لبعض من ُ‬ ‫وع ُزوفه عن أن ُ‬ ‫وعرفوا طباعه‪ُ ،‬‬ ‫يكون‬ ‫عرفوا الحاج‪،‬‬ ‫شاعرًا خارج رُؤيته هو ملفهُوم ّ‬ ‫الشاعر‪ ،‬الذي ال يستجدي الكون‪،‬‬ ‫بل إنّ الكون هو من عليه أن يستجدي ّ‬ ‫الشاعر‪ ،‬ويذهب إليه؟‬

‫‪145‬‬


‫كتب‬

‫لجبور الدويهي‬ ‫«طبع في بيروت» ّ‬ ‫العودة إلى الماضي والتفكير في المستقبل‬ ‫الفلم عمل عن صناعة األفالم‪ ،‬أو ميتا‪ -‬فلم‪ .‬تدور األحداث‬

‫يف سنة ‪1927‬م‪ ،‬جورج فالتني ممثل يؤدي أدوارًا باألفالم الصامتة‪،‬‬ ‫وبعد اخرتاع األفالم الصوتية تتقلص شعبيته بسبب رفضه التقنية‬ ‫لحظات تأمل وحنني‪ّ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ملسات‬ ‫تغلفها‬ ‫العمل يف‬ ‫الحديثة‪ .‬يدخلنا‬ ‫ِ‬

‫َ‬ ‫جمال عىل السينما‪ .‬هو رصدٌ ألهمية‬ ‫ملسة‬ ‫الوفاء لكل من أضاف‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫ناقوس‬ ‫يضرب‬ ‫وسطوعها كفنّ مستقل‪ .‬الفلم‬ ‫السينما أساسً ا‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬

‫وأسسه بعد أن يع ّري‬ ‫الخطر‪ ،‬وين ّبهُنا إىل قيم الجمال السينمايئ‬ ‫ِ‬

‫السينما من بهرجة الشكل والصوت‪.‬‬

‫أرى أنّ جبّور الدويهي يف عمله الجديد «طبع يف بريوت»‬ ‫ُ‬ ‫يفعل يف‬ ‫الصادر عن دار الساقي ‪2016‬م يكتب امليتا‪ -‬كتاب‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫يسلط الضوء‪ ،‬يوثق‬ ‫فلم الفنان يف السينما‪.‬‬ ‫فعل‬ ‫الطباع ِة‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ناقوس الخطر‪ .‬يروي جبور الدويهي ّ‬ ‫قصة‬ ‫ويدق‬ ‫ويحتفل وينبّه‬ ‫َ‬ ‫الجبيل النازح إىل بريوت للبحث عن‬ ‫فريد أبو َشعر ابن القرية‬ ‫ّ‬

‫‪146‬‬

‫دار تنشر مخطوطة دوّن فيها عصارة كيانه‪ّ .‬‬ ‫يتنقل البطل من‬

‫خيبة إىل أخرى ويصطدم بنحو عشرين «ال» مصدرها دُور نشر‬ ‫تجارية‪ .‬يجد فريد نفسه مصحّ حً ا للغة العربية يف مطبعة «كرم‬ ‫إخوان» العريقة التي يجعل منها جبّور الدويهي مرآة للبنان ّ‬ ‫بكل‬

‫بالل األرفه لي‬

‫باحث وكاتب لبناني‬

‫ُ‬ ‫عام ‪2011‬م احتفل الفلمُ‬ ‫الصامت (الفنان‬ ‫‪ )The Artist‬للمخرج ميشال هازانفيشيس‬ ‫بهوليوود‪ .‬وُصف الفلمُ عامَ ها ّ‬ ‫بأنه أثلجَ صدو َر‬

‫محبي السينما وأجهض غرورَها‪ .‬ما هذا؟ هو‬ ‫السؤال الذي سأله النقا ُد عامَ ها‪ .‬لماذا نحن‬ ‫اليوم بحاجة إلى مثل هذه السينما الهادئة؟ هل‬ ‫ًّ‬ ‫حقا ونحن في القرن الحادي والعشرين‪ ،‬زمن‬ ‫سينما اإلبهار البصري‪ ،‬وشاشات البعد الثالثي‪،‬‬ ‫الصوت المبهرة أصبحنا مفتونين‬ ‫وتقنيات‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫أحد‬ ‫بسينما صامتة باألبيض واألسود التي هي‬ ‫أبرز سمات فلم «الفنان»؟‬ ‫ِ‬ ‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬

‫مفارقاته‪ ،‬فالدار شهدت تأسيس دولة لبنان الكبري‪ ،‬ورافقت‬ ‫ً‬ ‫أحداثا تاريخيّة مفصليّة‪ ،‬ونشرت كتبًا جدلية يف الدين والتاريخ‬ ‫واألدب والسياسة‪ ،‬وطبعت فيها الجرائد والدستور اللبناين‬ ‫واألشعار املعارضة‪ .‬يرصد جبور الدويهي سرية الدار بصعودها‬

‫وخالف ورثتها فرتدّي أحوالها وتدحرجها إىل حافة اإلفالس‬ ‫وتراكم الديون وصولاً إىل تورّطها بتزوير عملة العشرين أورو‬ ‫الفنلندية‪ ،‬ومداهمة مخابرات األمن العام‪ ،‬فاحرتاقها املريب‪.‬‬

‫الرواية ّ‬ ‫قرن من الطباعة يف بريوت‪.‬‬ ‫قصة ٍ‬ ‫محاكاة ساخرة‬

‫يمكن أن نقرأ الرواية بوصفها محاكاة ساخرة لتاريخ لبنان‪ ،‬أو‬ ‫عىل ّأنها تأريخ للبنان من خالل املطبعة‪ ،‬أو عىل ّأنها تأريخ للطباعة‬ ‫يف بريوت صعودًا وازدهارًا وانهيارًا‪ .‬ويصعب فعلاً أن نبتعد من‬ ‫اإليحاءات السياسيّة يف هذه الرواية التي تتماهى مع فرتات‬ ‫سياسيّة مفصليّة يف تاريخ لبنان‪ ،‬لك ّني سأحاول أن أقرأ الرواية‬ ‫بوصفها تفكريًا يف جماليّات الطباعة ومستقبلها‪ .‬ففي الوقت الذي‬ ‫أشكال جديدة للكتابة‬ ‫نتحضر فيه لهجر الكتاب املطبوع واعتناق‬ ‫ٍ‬


‫والنشر والقراءة بما تستدعيه هذه األشكال من عادات وممارسات‬

‫الكتاب الواحد‪ .‬قتلت الطباعة تدريجيًّا مهنة نسخ الكتب‪ ،‬وكان ما‬

‫لبنان ورصدِ تطوُّرها وتحوّالتها وتاريخها‪ .‬هل كانت الطباعة ف ًّنا؟‬ ‫هل ما زالت ف ًّنا؟ هل كانت أصفى عند بدايتها؟ فاألشكال الطباعية‬ ‫ّ‬ ‫املختلفة فرضت نفسها ً‬ ‫ولكل منها عادات وممارسات وقيم‬ ‫تباعا‬

‫لتستوعب هذا التغيرّ ‪ ،‬فظهرت أشكال طباعيّة جديدة كالجرائد‬ ‫واملجلاّ ت والحوليّات‪.‬‬

‫وقيم جديدة‪ ،‬يدعونا جبور الدويهي إىل التفكري يف هذا االنتقال‪،‬‬ ‫جدواه‪ ،‬وما ىّ‬ ‫دخول الطباعة إىل‬ ‫زمن‬ ‫ِ‬ ‫يتأت عليه‪ ،‬عرب إعادتنا إىل ِ‬

‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫وآالت‪،‬‬ ‫وزخرفات‪،‬‬ ‫وأوراق وتجالي ُد‬ ‫وجماليّات؛ خطوط جديدة‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ومهنٌ‬ ‫جديدة‪ ،‬و َرقنٌ وتصفيف وضبط وتدقيق‪ ،‬وتجارة وتوزيع‪،‬‬

‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫أوقات ووضعيات معي ًن ًة‬ ‫شكل الكتاب يفرض‬ ‫والقائمة تمتدُّ‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫تختلف عن‬ ‫ولكل شكل جمهور‪ .‬فتجربة الكتاب املطبوع‬ ‫للقراءة‪.‬‬

‫تجربة الكتابَني‬ ‫تجربة الكتاب املخطوط‪ ،‬وهي‬ ‫بدورها تختلف عن ِ‬ ‫ِ‬

‫املسموع واإللكرتوين‪.‬‬

‫كان من انتشار غري مسبوق للحرف والكتابة والنصوص‪ .‬تضاعف‬ ‫عدد الكتب والق ّراء والك ّتاب‪ .‬وم ّرة أخرى تحوّلت الثقافة املعرفيّة‬

‫التحول يف الطباعة‬ ‫ّ‬ ‫واليوم‪ ،‬أين الطباعة؟ عدد الكتاب يف ازدياد وعدد الق ّراء‬ ‫يتضاءل‪ ،‬عىل ذمّة أصحاب دور النشر والك ّتاب‪ .‬يصف جبّور‬

‫الدويهي هذا التحوّل عىل لسان أحد الناشرين حني ر ّد مخطوطة‬

‫بطل الرواية فريد‪« :‬ما عادوا يستقبلون مخطوطات مكتوبة باليد‬ ‫منذ عشر سنوات عىل األقل‪ ،‬وتوقفوا‬

‫فعىل سبيل املثال أدّى انتشار‬

‫عن نشر دواوين الشعر‪ ،‬فاملستودع‬

‫الورقي الذي يمكن نسخه‬ ‫وازدهار الكتاب‬ ‫ّ‬

‫يرغب» وحني اعرتض الشاب بأنّ كتابه‬ ‫ّ‬ ‫«توقفنا عن نشر‬ ‫ليس شع ًرا ر ّد الناشر‪:‬‬

‫واإلسالمي يف‬ ‫العربي‬ ‫الوراقة يف العالم‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫القرون اإلسالميّة األوىل إىل انتشار الكتابة‬

‫ميلء بها وهم يعطونها باملجّ ان ملن‬

‫النرث ً‬ ‫أيضا»‪ .‬نسمع الناشرين يقولون‪:‬‬

‫وشراؤه وتداوله‪ .‬حتمًا أدّى هذا األمر‬

‫إنّ حرفة الطباعة قد ماتت‪ ،‬ولم يعد‬ ‫ّ‬ ‫مصفف لألحرف‪ .‬صارت‬ ‫هناك خطاط وال‬

‫إىل انحسار مهن تقليديّة كرواية األخبار‬ ‫واألشعار‪ ،‬لكنّ انتشار الوراقة بتقنياتها‬

‫ّ‬ ‫املختصة عىل‬ ‫التصاميم تجلب من املكاتب‬

‫الحديثة آنذاك ساهم يف نشوء أنواع أدبيّة‬

‫‪ USB‬وصار الك ّتاب يرسلون نصوصهم‬

‫جديدة‪ ،‬ومهن مستحدثة‪ ،‬وطرق جديدة‬

‫لتحصيل املعرفة‪ ،‬إضافة إىل جماليّات‬ ‫مبتكرة‪ .‬فرنى مثلاً أنّ توافر الكتب يف‬

‫بغداد إبّان القرن الثالث ع ّزز إمكانيّة أن‬

‫رقميًّا‪.‬‬

‫لك ّننا ومع موت الطباعة نستقبل‬ ‫جبور الدويهي‬ ‫ّ‬ ‫أشكالاً جديدة للنشر كالصحافة‬

‫ّ‬ ‫الذايت‪ .‬أدّى هذا التطوّر إىل‬ ‫يحصل الفرد ثقافته األدبيّة عرب التعليم‬ ‫ّ‬

‫الرقمي واملقروء‪ .‬م ّرة أخرى‬ ‫اإللكرتونيّة‪ ،‬واملدوّنات‪ ،‬والكتاب‬ ‫ّ‬ ‫خسرنا ما خسرنا من ّ‬ ‫لذة الكتابة باليد يف الكتاب وتصفح األوراق‬

‫هذا التغيرّ ورأى فيه خط ًرا عىل العلم والطرق التقليديّة وسلطة‬

‫ثوان‪ ،‬واستحضار الكتاب الذي نريده‬ ‫البحث يف مئات الكتب يف‬ ‫ٍ‬ ‫أينما ك ّنا‪ ،‬أو االستماع إىل الكتب بصوت أصحابها أو بصوت‬ ‫النص أو يؤوّلونه عىل ّ‬ ‫ّ‬ ‫أقل‬ ‫ممثلني محرتفني يفجّ رون املعاين يف‬

‫والسماعي للمعرفة‪،‬‬ ‫الشفاهي‬ ‫مواز يف االعتماد عىل النقل‬ ‫تراجع‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬

‫وإىل اعتماد متزايد عىل الكتب واملواد املكتوبة‪ .‬حتمًا ثمّة من هاجم‬ ‫املؤسّ سة التعليميّة وغري ذلك من املخاطر‪ ،‬وقد نقلت لنا كتب‬ ‫الشفاهي إىل املكتوب‬ ‫الرتاث جانبًا ال بأس به من هذا االنتقال من‬ ‫ّ‬

‫مع بعض النقاشات املحيطة به‪ .‬ولنعد إىل زمن دخول الطباعة‬ ‫العربي؟ ماذا فقدنا بدخولها؟ وكيف تغيرّ شكل كتابنا؟‬ ‫إىل عاملنا‬ ‫ّ‬ ‫بالطبع كان ابتعاد الكتاب املطبوع من الكتاب املخطوط تدريجيًّا‪.‬‬

‫فأوائل الكتب املطبوعة تشبه إىل ح ّد بعيد يف شكلها وجماليّاتها‬ ‫ً‬ ‫أحيانا دمجً ا بني الطباعة والنسخ يف‬ ‫الكتب املخطوطة‪ .‬وقد نرى‬

‫جبور الدويهي في «طبع في بيروت»‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يكتب الميتا‪ -‬كتاب‪ .‬يسلّط الضوء‪ ،‬يوثق‬ ‫ناقوس الخطر‬ ‫ويدق‬ ‫وينبه‬ ‫ويحتفل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬

‫ورصف الكتب عىل الرفوف وغري ذلك الكثري‪ .‬لكن أصبح بإمكاننا‬

‫تقدير‪ .‬صارت هناك أحرف تتح ّرك يف كتبنا‪ ،‬تركض وتظهر‬ ‫وتختفي وتتجمّع وتندثر ً‬ ‫وفقا للمعنى املراد‪ .‬ثمّة من يرفض هذا‬

‫التغيرّ ‪ ،‬وثمّة من ال يستطيع مجاراة العصر‪ ،‬تمامً ا كما حصل‬ ‫مع جورج فالتني بطل فلم الف ّنان‪ ،‬وكما حصل مع رواة األخبار‬ ‫اإلسالمي‪ .‬ماذا‬ ‫العربي‪-‬‬ ‫النساخ يف الرتاث‬ ‫واألشعار‪ ،‬ومن ثمّ مع ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫فقدنا بدخول الطباعة؟ وماذا كسبنا؟ العودة إىل املايض يف رواية‬ ‫«طبع يف بريوت» تفكري يف املستقبل‪ .‬ولكل زمان ُ‬ ‫أهله‪ .‬لن نوقف‬ ‫َ‬ ‫عجلة الزمن‪ ،‬وال ينبغي لنا‪ ،‬لكنّ التفكري يف القيم‬ ‫بتفكرينا هذا‬ ‫ِ‬

‫الجديدة التي يحملها الزمنُ الجدي ُد ضروريّ وواجب‪ .‬كيف نريد أن‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫تشكيلها بهذه‬ ‫الجماليات التي يمكننا‬ ‫وسائل خطابِنا؟ وما‬ ‫نشكل‬ ‫الوسائل الجديدة؟‬ ‫ِ‬

‫‪147‬‬


‫كتب‬

‫عبدالعزيز الصقعبي في‬ ‫«حارس النهر القديم»‬ ‫حكايات متدثرة بالطفولة والغياب وفتنة الصوت‬ ‫عن املعنى املعجمي كما هي الحال يف العناوين اآلتية‪ :‬قافلة‬

‫الكلمات‪ ،‬ورد حجري‪ ،‬بقعة صوت‪ .‬أما عنوان املجموعة «حارس‬ ‫َّ‬ ‫القصة العاشرة يف هذه املجموعة‪.‬‬ ‫النهر القديم» فهو عنوان‬

‫يف قراءيت األوىل والثانية لهذه املجموعة القصصية‪ ،‬وجدت‬

‫نفيس بإزاء كتابة دافئة يحدوها الحنني إىل عالم الطفولة؛ هذا‬

‫َّ‬ ‫القصة األوىل «جرح»‪،‬‬ ‫الحنني الذي سرعان ما نجده مسرودًا يف‬ ‫وهو عنوان بدا عاملاً سرديًّا ِّ‬ ‫َّ‬ ‫القصة الحكايئ‪ ،‬الجرح‬ ‫مولدً ا ملبنى‬ ‫الجسمي كما بدا جراء شج رأس طفل‪« :‬ماذا عساه أن يفعل‬

‫هذا الطفل ابن السابعة بحجر قذفه طفل آخر فشج رأسه‬ ‫وأدماه؟» (ص ‪.)9‬‬

‫هذا السؤال سيتواصل مع أثر الجرح يف الطفل واألب واألم‪،‬‬

‫‪148‬‬

‫َّ‬ ‫القصة‪،‬‬ ‫يف الراهن واملستقبل‪ ،‬وهي عوامل مُشاركة يف حكاية‬

‫سيتحوَّل الجرح الذي جاءت موجوديته كحادث يف مدينة الطائف‪،‬‬

‫سيتحوّل إىل «عالمة بالرأس بقيت سنوات طويلة» (ص ‪ ،)10‬لكنه‬ ‫سيتحوَّل ً‬ ‫أيضا إىل قيمة تأريخية‪ ،‬بل كونها دالة عىل أحداث‬

‫موضوعية تبدو أكرب من مج َّرد جرح جسمي ابتيل به رأس طفل‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫يف َّ‬ ‫الناص (‪ = )Textor‬عبدالعزيز‬ ‫قصة «شوق» يعود‬

‫رسول محمد رسول‬

‫ناقد عراقي‬

‫يف مجموعته القصصية التاسعة «حارس النهر‬ ‫القديم»‪ ،‬الصادرة عن منشورات ضفاف يف بريوت ومنشورات‬

‫االختالف يف الجزائر‪ ،‬يأخذنا الروايئ والقاص السعودي‬

‫«عبدالعزيز الصقعبي» إىل مسارات تسريد عوالم ما تعيشه‬ ‫الذوات البشرية يف حِ ّلها وترحالها‪ ،‬يف حضورها وغيابها‪ ،‬حضور‬ ‫اآلخرين فيها وغيابهم‪.‬‬

‫تضم هذه املجموعة التي تقع يف أربع وستني صفحة من‬ ‫ْ‬ ‫القطع املتوسط‪ ،‬أربعة عشر ًّ‬ ‫نصا قصصيًّا قصريًا‪ ،‬هي‪ :‬الباب‬

‫الصقعبي‪ ،‬إىل الطفولة ثانية حيث «ذاكريت تنبض بالطفولة» (ص‬ ‫ِّ‬ ‫املتكلم‪ ،‬وكذلك امللفوظ اإلخباري‪:‬‬ ‫‪ )11‬كما يقول الراوي بضمري‬ ‫ُ‬ ‫«كنت طفلاً وكانوا يتحدثون عن أجمل نساء الحيس» (ص ‪.)12‬‬ ‫ومرة أخرى يحضر عالم الطفولة يف ال َّنص ذاته حيث اسم املرأة‪،‬‬

‫موضوع الشوق‪ ،‬مكتوب بالذاكرة من دون أن يُمحى حتى يستعيد‬

‫وجوده بعد حني ليسأل الناص بضمري الغائب‪« :‬هل يتجرأ ذلك‬

‫الطفل ويقول لتلك املرأة‪ :‬كم أنت رائعة أيتها العزيزة؟» (ص ‪.)12‬‬

‫يف نص «ورد حجري» ترد الطفولة بملفوظات حكائية‬

‫َ‬ ‫«كنت أنت الطفل حينها‪( »..‬ص ‪ ،)18‬ومن ثم‪« :‬ذلك‬ ‫مسردة‪:‬‬ ‫ً‬ ‫الذي غادر أرضا وطئتها أقدام أطفال يلعبون» (ص ‪ .)18‬إن حضور‬ ‫الطفولة املسرودة تضفي عىل حكائية هذه املجموعة طابع الرباءة‪،‬‬ ‫لك ّنها الرباءة غري العابرة حتى لتبدو عالمة ثاوية يف نفس الناص‬

‫املوارب‪ ،‬جرح‪ ،‬شوق‪ ،‬غبار‪ ،‬قافلة الكلمات‪ ،‬ورد حجري‪ ،‬التنني‬

‫وذاكرته التي تموج بالكثري مما راح ينجيل مسرودًا بعد حني‪.‬‬

‫حكاية عشق‪ ،‬رغبة خاصة‪ ،‬سبات‪ ،‬هم‪ .‬وهي عنوانات تتأرجح بني‬

‫يف هذه املجموعة إىل استحضاره عرب استذكار بعض الصور املتعلقة‬

‫يحرتق من الداخل‪ ،‬بقعة صوت‪ ،‬تفاحة‪ ،‬حارس النهر القديم‪،‬‬ ‫معناها املعجمي والشعري‪ ،‬أو املركب بداللته الشعرية املنزاحة‬ ‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬

‫السرد‬ ‫يف عمق الطفولة يوجد الغياب الذي تسعى مسارات َّ‬

‫به‪ .‬يف «الباب املوارب» نجد األب ذلك الذي رحل (ص ‪ ،)7‬ويف‬


‫«جرح» نقرأ عن «الجرح القديم» (ص ‪ ،)10‬ويف «شوق» نقرأ عن‬

‫دالة عىل توليد الحدث يف بعض قصص هذه املجموعة‪ ،‬ومنها‬

‫الراوي الشريك يف الحيك بلسانه عن «الشوق الذي يكبلني من‬

‫العنوان عىل شعرية التسمية والعنونة والحدث‪ ،‬فيمكن أن يقال‬ ‫مثلاً «بقعة لون» أو «بقعة طني»‪ ،‬أما أن يقال بقعة صوت فذلك‬

‫«الذاكرة التي تنبض بالطفولة والتوق» (ص ‪ ،)11‬ومن ثم تساؤل‬ ‫ذاكريت ليتجه سنوات إىل الوراء‪( »..‬ص ‪ .)12‬ويف «حارس النهر‬

‫القديم» يتوق «أبو سيل» إىل نهره املتدفق وقد طمرته حداثة املدن‪،‬‬

‫يتوق إىل والديه اللذين جرفهما سيل النهر فماتا‪ ،‬وما حراسته‬ ‫للنهر املتهالك سوى استعادة للغائبني ربما وهمً ا لك ّنه االنتظار‬

‫املثقل باألىس‪ .‬ويف «رغبة خاصة» يستشعر الراوي العاشق غياب‬ ‫الحبيبة تحت سطوة األمنيات‪« :‬فقط‪ ..‬هي أمنيتي بأن نتحدَّث‪»..‬‬

‫(ص ‪ .)40‬ويف «ورد حجري» يخاطب الراوي ذاته مخاطبًا إياها عن‬

‫أمس مىض يف ظل سطوة الرغبة الجامعة بالتواصل مع اآلخر‬ ‫َ‬ ‫املفتقد إليه دومًا‪ ،‬وتلك عذابات الذات املنعزلة التي تستشعر‬ ‫الغياب بحساسية مفرطة الحضور‪.‬‬

‫َّ‬ ‫السردي لديه ابتداء من‬ ‫قصة «بقعة صوت» التي لعب املتخيل َّ‬

‫عدول معنوي وانزياح داليل مغاير‪ ،‬وتلك هي بعض جماليات‬

‫السردية يف لعبة القول اإلبداعي‪.‬‬ ‫الكتابة َّ‬

‫تحيك َّ‬ ‫قصة «بقعة صوت» تجربة مسافر من جدة السعودية‬

‫إىل الدار البيضاء املغربية‪ ،‬مسافر يزعجه صوت الكريس الذي‬

‫يجلس عليه يف رحلة طريان تستغرق سبع ساعات متواصلة‪،‬‬ ‫يتساءل الراوي قائلاً ‪َ :‬‬ ‫«لكمْ هو مزعج‪ ...‬هدير صوته يجعلني‬ ‫أترنح؟ ملاذا ال يصمت‪..‬؟» (ص ‪ .)23‬ومن ثم يشخص مكانية‬ ‫ً‬ ‫مطلقا يف زمن يحملني به إىل‬ ‫الصوت كحدث‪« :‬املقعد ال يغادرين‬ ‫هنا التي غالبًا ما تكون هناك‪( »..‬ص ‪.)23‬‬

‫تتضح الكتابة يف مجموعة «حارس‬

‫يف تلك األثناء‪ ،‬يتحوَّل الصوت إىل‬

‫موئل يدفعك إىل التوقف عنده؛ ففي «ورد‬

‫املزعجة التي يعمل الناص عىل تسريدها‪،‬‬

‫النهر القديم» مدارًا كثري التكرار‪ ،‬وذلك‬

‫موضوعة تأمل واستذكار لكل صور الصوت‬ ‫وهي تجربة ستجد صداها يف َّ‬ ‫قصة «رغبة‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫يتوغل الصقعبي فيها‪ ،‬نحو‬ ‫خاصة» التي‬

‫حجري» يخاطب الراوي ذاته عن أمس‬ ‫مىض‪ ،‬يخاطبها قائلاً ‪« :‬ها َ‬ ‫أنت أكتبك‪..‬‬

‫ألونك بألوان مسخت إىل الرمادي‪ ..‬كم أنت‬ ‫ِّ‬ ‫وأشكل منها‬ ‫مسحوق فدعني أمللم بقاياك‬

‫تفكيك بنية املالفظ الصوتية التي تضمُّها‬

‫كلمات قابعة يف ذات البطل املسرود بعمق‪،‬‬

‫مدينة حلم جديد» (ص ‪ .)18‬هذا يعني أن‬

‫إنها تجربة الصوت الوجودية‪ ،‬تجربة‬

‫الكتابة هنا هي تشكيل وجودي قد يستحضر‬ ‫املايض عىل نحو مبدع وخالق لك ّنه يبقى‬ ‫السرد‪ ،‬والذوات‬ ‫عبدالعزيز الصقعبي يُراد نطقها ضمن مسار َّ‬ ‫األثر الجديد الذي يمكن أن يكون معادلاً للغياب صوب الحضور البشرية‪ ،‬فاملعشوقة من جانب العاشق يف نأي تواصيل عنه‪،‬‬ ‫العالقة بني الحروف املنطوقة‪ ،‬أو التي‬

‫الذي يأمله الناص‪ /‬الراوي وهو يعيد ذاته عرب التذكر‪ ،‬ففي «ذات‬

‫وهنا غياب من نمط آخر‪ ،‬بل هو ضياع األنا من نمط مختلف‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫الناص عىل تسريده عرب ملفوظ «مرحبًا» الذي يتم ّنى‬ ‫أيضا حرص‬

‫تبدو الكتابة ههنا استعادة وجودية‪ ،‬ورغبة مأمولة‪ ،‬وهمًّا‬

‫التواصيل مع ذاته‪ ،‬لك َّنه يف النهاية يجلس مع املرأة املتبناة رغبة‬ ‫ً‬ ‫وعشقا‪ ،‬يجلس إىل جانبها‪:‬‬

‫ُ‬ ‫«حلمت بامرأة‪ ..‬تقرأ ًّ‬ ‫نصا كتبته‪ ..‬تسخر‬ ‫مساء»‪ ،‬يقول الراوي‪:‬‬

‫عيل مَقاطعَ شعرية‪ ..‬لها‪ ..‬لكل من أحب‪،‬‬ ‫من كلمة قلتها‪ ..‬تقرأ َّ‬ ‫امرأة‪ ..‬يل‪ ...‬لكل من غادرته النساء» (ص ‪.)20‬‬

‫وجوديًّا‪ ،‬فالراوي يف َّ‬ ‫قصة «بقعة صوت» يبحث‪ ،‬بحسب ما يقول‪:‬‬ ‫«عن كلمات قد أعرفها‪ ..‬قد تعرفني‪ ..‬قد أفهمها‪ ..‬قد تمتلكني‪»..‬‬

‫(ص ‪ .)24‬ويف «حكاية عشق» يروي العاشق تجربة قد تكون يومية‬ ‫يف مخاطبة الحبيبة التي يبحث عنها يوميًّا‪« :‬الواقع الذي يجعلك‬

‫تجهشني بالبكاء‪ ..‬وتبحثني عن رجل مثيل يجلس عىل كريس‬

‫وأمامه طاولة صغرية ليكتب عىل أوراق بيضاء هموم اآلخرين»‬ ‫(ص ‪ ،)34‬ومن ثم يخاطب الحبيبة الغائبة قائلاً ‪« :‬أوظف عددًا‬ ‫ًّ‬ ‫خاصا‪ ...‬أجند كل الكلمات‬ ‫من الكلمات وأجعل لكل كلمة موقعً ا‬ ‫لتعزف لح ًنا يوقظ نخوة الرجال‪ ...‬سأكتب بذلك الدم حكاية‬ ‫عشق لرجل أحب امرأة ذات يوم‪( »..‬ص ‪.)35‬‬

‫يف «حارس النهر القديم»‪ ،‬أبدى عبدالعزيز الصقعبي بوصفه‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫حرصا الف ًتا عىل تسريد «الصوت» كعالمة سيميائية‬ ‫ناصا‪ ،‬أبدى‬

‫البطل نطقه كصوت كامل يف مواجهة املحبوبة التي أسدلت أبواب‬ ‫ً‬ ‫مفككا هذا امللفوظ‬ ‫االستماع إىل هذه اللفظة‪ ،‬فيبقى يدور ويدور‬

‫«‪ -‬هي أمنيتي‪ ..‬بأن نتحدَّث‪.‬‬ ‫‪ -‬فقط‪.‬‬

‫ ال أدري‪ ..‬إذا كان هنالك يشء غري التحدث معك‪.‬‬‫‪ -‬كم تدفع؟!» (ص ‪.)40‬‬

‫إنها عوالم غري معتادة يروّدها عبدالعزيز الصقعبي يف‬

‫مجموعة قصصه «حارس النهر القديم»‪ ،‬ما يكشف عن تجربة‬ ‫ِّ‬ ‫السردي والحكايئ معً ا‪ ،‬وهي تجربة‬ ‫دافئة‬ ‫التلقي يف مبنييها؛ َّ‬ ‫استدرجت لغة توصيل سردي تفتح للقارئ آفاق القراءة‬

‫التأويلية‪ ،‬كون السرد فيها يالعب فراغات الحيك وبياضات‬

‫التدوين؛ ما جعل الكتابة لدى الصقعبي تمنح القارئ فضاءات‬ ‫للقراءة الجمالية مفتوحة األثر‪.‬‬

‫‪149‬‬


‫مقال‬

‫نهلة الشهال‬ ‫كاتبة لبنانية وأستاذ علم االجتماع السياسي‬

‫ماذا يعني انتخاب‬

‫دونالد ترمب؟‬

‫قيل‪ :‬إن هذا االختيار يُثبت كم أن أميركا ليست‬

‫مانهاتن أو بروكلين في نيويورك‪ ،‬وقيل كذلك‪ :‬إنه‬

‫يثبت عيوب الديمقراطية (وإنْ النسبية)‪ ،‬لكون منافِسة‬

‫ترمب‪ ،‬هيالري كلينتون‪ ،‬نالت مليوني صوت أكثر منه‪،‬‬

‫‪150‬‬

‫ً‬ ‫تطرفا في اليمينية من بين السياسيين‬ ‫نسبيًّا‪ ،‬واألكثر‬

‫األميركيين‪ ،‬كستيف بانون‪ ،‬أول من سمّ ى بعيد انتخابه‪،‬‬ ‫كمسؤول اإلستراتيجية (منصب جديد) وكناصحه األول‪.‬‬

‫ولكن طريقة هندسة االنتخابات على مرحلتين أفشلتها‪.‬‬

‫وهو المدير السابق لوكالة األنباء «بريتبارت» التي تقع في‬ ‫أقصى هذا التيار‪ ،‬وتمتاز من بين أشياء أخرى‪ ،‬بكونها ُتعبِّر‬

‫إلى درجة مناهضة اإلجراءات األكثر تقدمية للرئيس‬

‫معادية للسامية (والموقفان ليسا متناقضين)‪ .‬وبانون ذاك‬

‫وبالطبع قيل‪ :‬إن كلينتون القاسية والباردة واليمينية‬

‫عن أفكار شديدة الصهيونية ولو أنها‪ ،‬وفي الوقت نفسه‪،‬‬

‫المغا ِدر مثل ال ـ «أوباما كير» أو التغطية الصحية لألكثر‬ ‫ً‬ ‫نقيضا بالطبع‬ ‫كاف وال‬ ‫عو ًزا‪ .‬لم تكن بديلاً جذابًا بشكل ٍ‬

‫المؤسسات القائمة اليوم»‪ .‬وقد حاول ترمب تمويه ذكوريته‬

‫الجمهورية‪ ،‬حتى في نظام رئاسي كما الواليات المتحدة‪،‬‬

‫من أصول هندية مهاجرة‪ ،‬سفيرة في األمم المتحدة‪ ،‬وكانت‬

‫لمراعاة متطلبات وتوازنات عديدة وإرضائها‪ ،‬بل ألن‬

‫امرأة األعمال المليارديرة البيضاء والمنتمية للجناح األكثر‬ ‫َ‬ ‫ومحافظة في الحزب الجمهوري‪ ،‬وزيرة للتربية‪ ،‬وهو‬ ‫تقليدية‬

‫إذا ما قورنت بباراك أوباما‪ .‬وتذ ّكر الجميع أن رئيس‬

‫يبقى محدود الصالحيات‪ ،‬ليس فحسب الضطراره‬

‫الحاكم الفعلي هو الدولة العميقة‪ ،‬أي تلك المؤسسات‬ ‫السياسية والدبلوماسية والترستات المالية والصناعية‬

‫والعسكرية التي ال يمكن للفريق الحاكم التحكم بها تمامً ا‬ ‫ومهما كان؛ ألنها ُنسجت على مر السنين والعقود‪،‬‬ ‫كشبكات صلبة متغلغلة‪ .‬ورُدد بشيء من التعالم أن‬

‫«الرئيس هو بالضرورة مختلف عن المرشح»‪ ،‬لتهدئة‬

‫الصدمة وجعلها ملساء‪ ،‬وهي حكمة تصلح لكل زمان‬ ‫ومكان‪ ،‬لكونها مرتبطة بتعريف ممارسة السلطة‪ .‬لكن‬

‫كل ذلك‪ ،‬على صحته‪ ،‬يبقى بديهيات ابتدائية‪.‬‬

‫ومن جهة أخرى‪ ،‬يمكن ولو بصعوبة‪ ،‬التحرر من‬

‫االبتذال المقيت الذي يجسده شخص دونالد ترمب‪،‬‬ ‫وال سيما حين كان يخوض غمار معركته االنتخابية‪،‬‬

‫كما يمكن التحرر من االندهاش المتكرر حيال اختياراته‬ ‫لفريقه‪ ،‬المصبوغة بتعيين الرجال البيض‪ ،‬المسنين‬

‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬

‫يقول عن نفسه‪ :‬إنه لينيني؛ ألن هدفه هو «تدمير الدولة وكل‬ ‫البدائية وعنصريته البيضاء بتعيين نيكي هالي‪ ،‬السيدة الشابة‬ ‫من أشد معارضيه في الحزب الجمهوري‪ ،‬وبتسي ديفوس‪،‬‬

‫بالطبع موقع حساس للغاية‪ .‬لكن كل ذلك‪ ،‬على بشاعته‪،‬‬

‫يبقى متوقعً ا!‬

‫ذلك أن اختيار ترمب‪ ،‬الذي بدا ترشحه كمزحة ثقيلة الدم‬

‫في البداية‪ ،‬يقول الكثير عن حالة العالم وليس فحسب عن‬

‫الواليات المتحدة‪ .‬ترمب معجب بنيكسون الذي لم يعد ي ُْذكر‬ ‫منه سوى فضيحة ووترغيت (التي انتهت باإلطاحة به في عام‬

‫‪1974‬م بعد إعادة انتخابه في عام ‪1972‬م‪ ،‬وهي تتعلق بنصب‬

‫سماعات تجسس في مقر غريمه من الحزب الديمقراطي‪ ،‬ولو‬ ‫حدثت اليوم لكانت على األرجح ال تطيح بأحد!)‪ .‬نيكسون ذاك‬

‫كان يتبنى شعارًا في أثناء حملته االنتخابية الصعبة األولى في‬

‫عام ‪1968‬م‪ ،‬بعد قانون الحقوق المدنية عام ‪1964‬م الذي ألغى‬ ‫التمييز القانوني ضد السود‪ ،‬وأدخلهم كفاعل يُحسب حسابه‬

‫في توازنات البالد السياسية‪ .‬أعاد ترمب تبني الشعار عالنية‪،‬‬


‫قائال عن نفسه‪ :‬إنه مرشح القانون والنظام‪ ،‬معت ِب ًرا أن «البالد‬

‫تحتاج لرجل قوي لحمايتها وقيادتها في ظل الفوضى»‪ ،‬كما‬ ‫قال نيكسون في زمانه‪ .‬ما يُذ ِّكر‪ ،‬على الرغم من الفروقات‬

‫األيديولوجية والظروف‪ ،‬بنظرية إدارة التوحش التي قدّ مت بها‬ ‫حركة داعش نفسها!‬

‫فوضى العالم اليوم‬ ‫ليس تفصيلاً أن يتخلص ترمب من مرجعية ريغان‪ ،‬أبي‬

‫الليبرالية القصوى في االقتصاد‪ ،‬والبوريتانية في االجتماع‪،‬‬

‫وعراب العولمة بوصفها نيوليبرالية السوق على مستوى‬ ‫العالم‪ ،‬وبوصفها تجديدً ا لشباب ال ُّن ْظمة الرأسمالية‬

‫(‪ ،)System‬تمامً ا كما كانت تاتشر عرابتها‪ .‬تاتشر تلك التي‬ ‫ُت َ‬ ‫دفن اليوم مع الـ ــ«بريكسيت» في بريطانيا‪ ،‬فيما يسود الجنوح‬ ‫إلى االنعزال والتقوقع وتعزيز االنتماء الهوياتي في السياسة‪،‬‬ ‫والحمائية الجمركية في االقتصاد‪ .‬أي كل ما يخالف ما بُني‬

‫على مدى نصف قرن‪ ،‬منذ مطلع سبعينيات القرن الفائت‪،‬‬ ‫كأيديولوجيا فكرية وقيمية مُ هيمِ نة (مع العالم قرية واحدة‬

‫بحجة ثورة االتصاالت)‪ ،‬وكبحث عن التوضعات المالية (رأس‬

‫المال المالي بكتلته الهائلة‪ ،‬العابر للقارات والمعتمد على‬

‫المضاربات بكل صنوفها)‪ ،‬وعن اإلنتاجية المربحة في الصناعة‬

‫بغض النظر عن التوطين واألوطان‪ ،‬وهو ما جعل الصين‬

‫مصنع العالم‪ ،‬وأدى إلى موجات إفالس للمصانع في الواليات‬

‫اختيار ترمب‪ ،‬الذي بدا ترشحه كمزحة‬ ‫ثقيلة الدم في البداية‪ ،‬يقول الكثير‬ ‫عن حالة العالم وليس فحسب عن‬ ‫الواليات المتحدة‬

‫المتحدة وأوربا العجوز‪ .‬لم تعد نهاية التاريخ هي صرخة‬

‫النصر‪ ،‬مع انهيار االتحاد السوفييتي ومعسكره االشتراكي‪.‬‬ ‫يعني ذلك أن مرحلة العولمة انتهت‪ ،‬ومعها فكرة‬

‫أثناء حملته االنتخابية‪ .‬بل يمعن الرئيس الصيني بمناشدة‬

‫بأذية الرجل الغربي األبيض‪ ،‬وأطاحت به إلى البطالة أو العمل‬

‫ترمب بعدم االنغالق‪ ،‬ويؤكد أن بالده تتبنى مزيدً ا من االنفتاح‪.‬‬ ‫ً‬ ‫اتفاقا بديلاً للتبادل الحر (‪ )RCEP‬بين عشر‬ ‫ثم تقترح الصين‬

‫الذي ما زال مزده ًرا‪ ،‬سواء في قطاعات التقنية الجديدة أو في‬

‫نفسها واليابان‪ .‬ويستثني المشروع المقترح الواليات المتحدة‬

‫اإلمبراطورية الشاملة‪ .‬فقد خلصت هذه العولمة إلى التسبب‬

‫الهش‪ .‬والكتلة األساسية مِمَ ن ليسوا في قمة الهرم االقتصادي‬

‫التوظيفات المالية (التي تقلصت بعدما عرفت أزمتها المزلزلة‬

‫في عام ‪2008‬م)‪ ،‬يرون أمامهم أشباح روايات جون شتنبيك حتى‬

‫تشارلز ديكنز تعود إلى األفق‪ .‬وهذا تغيير في شروط حياتهم‪،‬‬ ‫وفي تصوراتهم عن أنفسهم‪ ،‬يطال قرنين من الزمان‪ ،‬ويطال‬ ‫معه مؤسسات اخ ُترعت لتالئم فرضيات التفوق والسيطرة‬ ‫واالزدهار‪.‬‬

‫من المواقف األكثر تعبي ًرا عن اللحظة (بمعناها‬

‫التاريخي)‪ ،‬أن يدافع رئيس الصين (التي ما زالت تقول‬

‫عن نفسها شيوعية!) عن اتفاق التبادل التجاري الحر في‬

‫دول أعضاء في تحالف آسيان وست أخرى‪ ،‬منها الصين‬

‫األميركية‪.‬‬

‫أعداء الرجل األبيض‬

‫يشخصن ترمب في المكسيكيين أعداء الرجل األبيض‬

‫المتوسط الخائف‪ ،‬أو ذاك الذي بات فقي ًرا وحتى من غير سقف‬

‫يؤويه‪ ،‬ومن غير عمل‪ .‬وهؤالء تعاظمت أعدادهم منذ ثمانينيات‬

‫القرن الماضي‪ ،‬مع قطع المساعدات االجتماعية في ظل حكم‬

‫رونالد ريغان وأبوته للنيوليبرالية‪ ،‬ثم قفزت ثالثة أضعاف منذ‬

‫عام ‪2008‬م‪ ،‬لتصبح أرقامً ا مرعبة‪ .‬نسبة البطالة الفعلية بحسب‬

‫الباسيفيكي ‪ TPP‬الموقع في عام ‪2015‬م مع الواليات المتحدة‪،‬‬

‫الدراسات االقتصادية تالمس ‪ %23‬ممن هم في سن العمل في‬

‫بتسرع‪ ،‬وقبل تسلمه منصبه‪ ،‬أنه ينوي إلغاءه كما وعد في‬

‫ً‬ ‫مليونا)‪ ،‬مع أن األرقام الرسمية ما زالت تضعها بحدود ‪،%7.4‬‬

‫ويخص ‪ 12‬بلدً ا في منطقة آسيا‪-‬الباسيفيكي‪ ،‬فيما يُعلن ترمب‬

‫عام ‪2015‬م‪ ،‬وقد تصل إلى ‪ 94‬مليون إنسان (من أصل نحو ‪320‬‬

‫‪151‬‬


‫مقال‬

‫وهناك للمدة نفسها ‪ 3.5‬إنسان بال مأوى‪ ،‬والجديد‬ ‫منذ مطلع األلفية الثالثة أن عدد العائالت ‪ -‬أي مع‬

‫أطفال ‪ -‬بال مأوى قد تعاظم‪ ،‬على حين أن الرقم الرسمي‬

‫تعيين القضاة األكثر رجعية فيها‪ .‬وكل هذا يجعل إمكان‬

‫عرقلته أضعف‪ ،‬على الرغم من وجود كثير من المعارضين له‬

‫يحددهم بأقل من ثالثة أرباع المليون‪ .‬وهذا يطرح إشكالية‬

‫في حزبه‪ ،‬ممن يخشون نتائج جموحه‪.‬‬

‫لالكتشاف لكثرة أعداد مراكز اإلحصاء الرسمية كذلك‪،‬‬

‫للتوقع) وجاهل‪ ،‬ولكن ما قاله أو فعله حتى اآلن يعطي‬

‫التزوير الذي تمارسه األرقام الرسمية‪ ،‬ولكنه تزوير قابل‬

‫صحيح أن الرجل زئبقي (يقول المهذبون‪ :‬غير قابل‬

‫ولكن المتخصصة بمجاالت بعينها‪ ،‬مثل مكتب إحصاء‬

‫مؤشرات‪ .‬فهو ينوي‪ ،‬بحسب تصريحاته‪ ،‬نقل سفارة بالده‬

‫وكذلك مراكز األبحاث الجادة‪ .‬وقد ارتفعت نسبة من‬

‫عاصمة إلسرائيل‪ ،‬بحسب رغبة قادتها اليوم‪ .‬ويكون في ذلك‬

‫العمل ‪ ، BLS‬أو التقرير السنوي عن عدد المشردين‪،‬‬

‫إلى القدس‪ ،‬فتكون واشنطن أول دولة في العالم تعترف بها‬

‫هم من البيض الفقراء‪ ،‬ويبقى السود هم السكان األكثر‬

‫مخالفة للقرارات الدولية في الشأن‪ .‬كما ينوي ترمب االعتراف‬

‫ومن المعلوم أنه بحلول عام ‪2050‬م سيصبح البيض أقل‬

‫بشأنها ويعده مفهومً ا خاط ًئا‪ .‬وهو أكثر قربًا من َ‬ ‫الطموح نفتالي‬

‫فق ًرا‪ .‬كما أن بين العاطلين عن العمل أو المشردين بال‬

‫مأوى نسبة قليلة جدًّا من المقيمين غير النظاميين‪.‬‬

‫عددًا من السود بين السكان‪ ،‬وهذا مصدر آخر للخوف‬

‫والتصلب المتعاظمين‪.‬‬

‫وي َِعد ترمب بحجز المكسيكيين داخل بالدهم‬

‫بواسطة سور كبير‪ ،‬وبطرد ‪ 12‬مليون مقيم غير شرعي‪.‬‬

‫ولكنه يعرف‪ ،‬أو أن مستشاريه يعرفون‪ ،‬أن تلك صورة‬

‫غير حقيقية عن الواقع‪ .‬تمامً ا كما يعرف ممثلو التيارات‬

‫‪150‬‬

‫الكونغرس بمجلسيه‪ ،‬إلى المحكمة العليا التي ينوي ترمب‬

‫اليمينية المتطرفة في أوربا كلها أن من يخطف خبز‬

‫العمال والكسبة الصغار من فم الرجال البيض األصليين‬

‫ليس البولوني المهاجر إلى بريطانيا‪ ،‬أو المغربي أو‬

‫اإلفريقي المهاجر إلى فرنسا‪ ،‬وكذلك ليسوا أبناء‬

‫الهجرات األخيرة من الالجئين بسبب الحروب أو الخراب‬ ‫البيئي لبالدهم‪ .‬وأن تعيين المشكلة على هذا النحو‬

‫يتناول جزءً ا صغي ًرا منها فحسب‪ ،‬وأنه تجارة ديماغوغية‬

‫بضم المستوطنات إلى إسرائيل على أساس أنه يرى أن حل‬ ‫الدولتين مستحيل‪ ،‬ويرفض استخدام صفة دولة مُ َّ‬ ‫حتلة‬

‫بينيت‪ ،‬وزير التربية الحالي ورئيس إسرائيل بيتنا‪ ،‬والممثل‬ ‫األبرز لكتلة المستوطنين‪ ،‬الذي جعل من نتنياهو يبدو معتدلاً‬ ‫قلقا من ّ‬ ‫بالمقارنة! وهذا األخير يبدو ً‬ ‫تسلم ترمب الرئاسة‪،‬‬

‫لقربه من غريمه الصاعد ذاك‪ ،‬وألنه كان ي ِّ‬ ‫ُفضل عليه كلينتون‬ ‫التي ال يشك في وفائها إلسرائيل ويعرفها جيدً ا جدًّ ا‪ ،‬ويعرف‬

‫كذلك مقدار استعدادها إلظهار قوة الواليات المتحدة (بما فيها‬

‫تلك العسكرية) في كل مكان‪.‬‬

‫وترمب يتبادل اإلعجاب مع بوتين‪ ،‬ويرى أنه ينبغي نسج‬

‫المبسط‬ ‫عالقات جيدة مع روسيا‪ ،‬وذلك كجزء من مفهومه‬ ‫َّ‬ ‫عن الصراعات في العالم‪ ،‬وكذلك كجزء من ميله للتقوقع‬

‫واالنسحاب من الميادين التي ال يرى فيها فائدة‪ ،‬بعكس‬ ‫موقفه مثلاً من الصين التي يعدها الخطر األكبر على بالده‪،‬‬ ‫وبعكس كلينتون التي هددت باستخدام القوة العسكرية‬

‫شعبوية‪ ،‬إلى آخر الصفات‪ .‬وأن غلق الحدود‪ ،‬سواء‬ ‫لاً‬ ‫بال«بريكسيت» أو بسواه قد يطيح باالتحاد األوربي مث ‪،‬‬

‫المشتعلين‪ ،‬أو حتى حيال الملف السوري الذي يشهد حضورًا‬

‫ال ينفي أنها مؤسسات بيروقراطية ومتعالية على شعوبها‬

‫النووي المبرم مع إيران‪ ،‬مع ما يعنيه ذلك من رفع منسوب‬

‫كما يتصوره ترمب يمكنه اإلطاحة بالبنك وصندوق النقد‬

‫عدوانية‪ .‬ولكن زئبقية الرجل تجعل من المتوقع منه كذلك‬

‫عام ‪1944‬م مع بدء انتهاء الحرب العالمية الثانية‪ ،‬وبروز‬

‫روسيا وإيران!‬

‫حساب أوربا‪ ،‬وهي االتفاقيات التي جعلت من الدوالر‬ ‫ّ‬ ‫مذاك الوقت العملة المرجعية في العالم‪.‬‬

‫األمن‪ ،‬وهو الجنرال المشهور باستخفافه باالنضباط‬

‫وبكل المؤسسات التي بُنيت في هذا اإلطار المشترك (ما‬ ‫ومليئة بالعيوب)‪ .‬كما أن غلق حدود الواليات المتحدة‬

‫الدوليين‪ ،‬وبكل ما نتج عن اتفاقيات بريتون وودز في‬ ‫الواليات المتحدة كالقوة الغربية األولى عالميًّا على‬

‫ترمب ونحن‬

‫ولكن ماذا عن قضايا المنطقة العربية؟ وعلى األخص‬

‫مع تركز كل الصالحيات في يد الحزب الجمهوري‪ ،‬من‬

‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬

‫مع روسيا لو لزم األمر‪ ،‬سواء حيال ملفي جورجيا وأوكرانيا‬

‫عسكريًّا وسياسيًّا روسيًّا حاسمً ا‪ .‬ويريد ترمب إلغاء االتفاق‬ ‫التوتر والصراع معها‪ ،‬ودفعها للعودة إلى سياسة أكثر‬

‫أن ينسحب من المنطقة ويتركها بالتالي ساحة مفتوحة أمام‬ ‫وقد عين ترمب مايكل فلين مستشاره القومي لشؤون‬

‫والمتباهي بتلك الصفة‪( ،‬وكان يحلو له نعت نفسه ورئيسه‬

‫أيام العراق‪ ،‬الجنرال ماك كريستل باألزعرين اإليرلنديين‪،‬‬

‫بالنظر إلى أصولهما)‪ .‬وقد كان األخير قائد وحدة سرية في‬ ‫الجيش األميركي‪ ،‬القيادة المشتركة للعمليات الخاصة‬

‫(‪ )JSOC‬في أفغانستان والعراق‪ ،‬وصرفه أوباما في ‪2010‬م‬


‫بسبب سخريته العلنية في الصحف من أعضاء في الفريق‬

‫الحاكم‪ .‬وبرز فلين ضابط استخبارات المعً ا‪ ،‬وزاد طرق عمل‬ ‫تلك الهيئة‪ ،‬فضاعف التجسس والخطف واالغتياالت لمن‬

‫يرى فيهم «إرهابيين» أو مقاتلين معادين في مناطق الحروب‪.‬‬ ‫وقد ُعين في عام ‪2012‬م إلدارة وكالة االستخبارات التابعة‬

‫للبنتاغون‪ ،‬لكنه أقيل في عام ‪2014‬م بسبب «أسلوبه في‬ ‫اإلدارة» الذي ُنعت بالمزعج أو المثير لالضطراب‪ .‬ولكن فلين‬

‫ً‬ ‫خصوصا نظريته عن الحرب العالمية التي تخوضها‬ ‫يمتلك‬ ‫ً‬ ‫سرطانا مستشريـًا‬ ‫بالده ضد «اإلسالميين» الذين يرى فيهم‬ ‫حتى في الواليات المتحدة‪ ،‬يجب استئصاله أينما كان‬

‫وبالقوة‪ ،‬ويعتقد لذلك بضرورة التحالف مع روسيا ضدهم‪.‬‬ ‫وهو اليوم يتسلم أعلى منصب في المجال العسكري‪.‬‬

‫وإزاء فلين‪ ،‬يشحب تمامً ا وليد فارس‪ ،‬مستشار ترمب‬

‫حاول ترمب تمويه ذكوريته البدائية‬ ‫وعنصريته البيضاء بتعيين نيكي هالي‪،‬‬ ‫السيدة الشابة من أصول هندية‬ ‫مهاجرة‪ ،‬سفيرة في األمم المتحدة‬

‫الصناعة في مواطنها األصلية (حيث ديترويت مثلاً في الواليات‬ ‫المتحدة‪ ،‬وهي رمز صناعة السيارات األميركية‪ ،‬تكاد تصبح‬

‫مدينة أشباح)‪ .‬ويدعو ترمب إلى العودة المكثفة الستخراج‬

‫الفحم كمادة للطاقة (ومعه النفط الصخري)‪ ،‬بغض النظر عن‬

‫اآلخر الذي عينه لشؤون اإلرهاب‪ .‬وفارس لبناني األصل وأحد‬

‫اغتيال الطبيعة بالتلوث‪ .‬لقد وصل األمر إلى حد تهديد الوجود‬

‫المتحدة في عام ‪1990‬م‪ ،‬وتحوله إلى خبير وأكاديمي‪ ،‬وإلى أحد‬

‫األيديولوجيا السائدة تبحث عن وسائل توفير أعلى معدالت‬

‫وأخي ًرا وليس آخ ًرا‪ ،‬فترمب‪ ،‬يرى (ربما كرجل أعمال!)‬ ‫أن على الدول الحليفة التي تحميها الواليات المتحدة أن ُت ِّ‬ ‫قدر‬ ‫ذلك‪ ،‬وتدفع مالاً مقابل الحماية فتكون بهذا العالقات متوازنة‬

‫األثمان المدفوعة‪ ،‬أو تميل بالمقابل إلى االنسحاب من السوق‬ ‫ً‬ ‫انطالقا من‬ ‫العالمية التي أنشأتها هي نفسها‪ ،‬واالنطواء‪،‬‬

‫الفرضية الوهمية القائمة على استعادة السيطرة (يقول هؤالء‬

‫ويخص بالذكر دول أوربا الغربية وحلف شمال األطلسي‪،‬‬

‫الوطنية!) على مجاالتها الحيوية بما فيها تلك الخاصة باإلنتاج‪،‬‬

‫قادة ميليشيا القوات اللبنانية حتى مغادرته إلى الواليات‬

‫مراجع فوكس نيوز بخصوص الشرق األوسط واإلسالم‪.‬‬

‫وباتجاهين‪ ،‬وأنها لو لم تفعل فسيتركها تتدبر أمرها بنفسها‪.‬‬

‫البشري نفسه على األرض‪ ،‬وبخطا متسارعة‪ ،‬على حين أن‬

‫للربح في ظل التنافس المنفلت من عقاله‪ ،‬بغض النظر عن‬

‫المحافظون من نمط جديد الصاعدون‪ :‬استعادة السيادة‬

‫وآسيا‪ ،‬ودول الخليج‪ ،‬والعراق! وهو يقول‪ :‬إنه لن يرسل قوات‬

‫التي َعصفت بها رياح العولمة النيوليبرالية‪.‬‬

‫سيكون بغاية النصر‪ .‬فهو رجل قوي‪ ،‬ويريد استعادة عظمة‬

‫الواطئة خالل السنوات القليلة المقبلة ألن المياه ستغمرها‪،‬‬ ‫على حين يعين ترمب مايرون إيبل‪ ،‬وهو من أبرز من ي َ‬ ‫ُطلق‬

‫أميركية إلى الخارج إال عند الضرورة القصوى‪ ،‬ولكن ذلك‬

‫أميركا‪ ،‬وهي تندرج عنده كأولوية مطلقة‪ ،‬كما يجعل أمن‬ ‫األميركيين أولوية‪.‬‬

‫وهمان عقيمان‬

‫خالصة‪ ..‬وهي مؤقتة بالضرورة‪ ،‬فكل تلك المجاالت‬

‫ستستمر في االتضاح قبل ‪ 20‬كانون الثاني‪ /‬يناير موعد دخول‬

‫سيضطر عشرات ماليين البنغاليين إلى ترك سهولهم‬

‫عليه منكرو األزمة البيئية على رأس وكالة حماية البيئة‬

‫األميركية (‪ .)EPA‬وسيصبح هؤالء البنغاليون مهاجرين بيئيين‬ ‫مثلهم مثل من يتركون قراهم في إفريقيا (مثلاً ‪ ،‬وفي غيرها‬ ‫كذلك) بسبب التصحر‪ ،‬أو بعدما استولت على أراضيهم‬

‫شركات عابرة للجنسيات‪ ،‬بحجة استئجارها واستصالحها‪.‬‬

‫ترمب إلى البيت األبيض‪ ،‬ثم بعد ذلك خالل الممارسة‪ .‬ولكن‬

‫وهو ما يحدث بالتواطؤ مع حكام محليين خاضعين تمامً ا‬

‫وبعضها اآلخر ساذج)‪.‬‬

‫حتى النخاع‪ .‬ويجري تحويل الزراعات إلى نمط ممكن يقرر‬

‫ذلك ال يمنع النظر إلى أبعد من الوقائع (وبعضها عنيف‬

‫وبالعودة إلى تقويم معنى اختيار ترمب لرئاسة أميركا‬

‫ودالالته (كما بريكسيت‪ ،‬وكما أمثلة أخرى في أكثر من بلد‬ ‫من أوربا وقعت أو يُتوقع وقوعها)‪ ،‬فما يبدو جليًّا هو أن‬

‫آفاق التحرر والعصرنة التي ُربِطت في الوعي السائد بعالم‬ ‫ماض غائم‪،‬‬ ‫المال‪ ،‬تنهار‪ ،‬في مقابل نداءات العودة إلى‬ ‫ٍ‬

‫والحلم باألمم القديمة‪ .‬لقد اصطدمت العولمة كما مورست‬

‫بحدودها‪ ،‬وانتهى بها المطاف إلى إنتاج نقائضها‪ :‬انهيار عالم‬

‫لسطوة تلك الشركات والدول الكبرى التي تدللها‪ ،‬وفاسدين‬ ‫بحسب حاجات التجارة العالمية‪ ،‬وال عالقة له بتوفير الغذاء‬

‫للسكان (ال المحليين وال المجاورين)‪ ،‬وإنما مهندس لتلبية‬ ‫ّ‬ ‫المعلبة أو منتجات أخرى‬ ‫تسيير عجلة الصناعات الغذائية‬

‫متنوعة‪ ،‬تتم في مكان آخر تمامً ا من الكرة األرضية‪ ،‬معز ًزا‬

‫بذلك سطوة رأس المال المالي الطائرة‪ ،‬والذي راحت تضيق به‬ ‫الكرة األرضية برمتها‪ ،‬ويقف‪ ،‬هو اآلخر أمام حدود الممكن‪،‬‬

‫ويبدأ بالتهام ذيله‪.‬‬

‫‪153‬‬


‫إعالم‬

‫كليات اإلعالم بين التكيف والخروج من الميدان‬

‫هل تعليم الصحافة‬ ‫في مأزق؟‬ ‫ترجمة‪ :‬عبدالله أبا الخيل‬

‫‪154‬‬

‫باحث سعودي في اإلعالم‬

‫مراجعة‪ :‬حسين القرني‬

‫الحديث عن تطوير كليات الصحافة ال يتوقف‪ ،‬والجدل حول أفكار التطوير يتنامى‪.‬‬ ‫بين إغالق كليات اإلعالم ودمجها مع تخصصات أخرى‪ ،‬وبين تغيير مناهجها‪ ،‬مناهج‬ ‫متشعبة للتطوير والتماشي مع التغير السريع في الصناعة اإلعالمية‪ .‬هذه الترجمة لملخص‬ ‫كتبه هاورد فينبيرغ لدراسة أصدرتها مؤسسة بوينتر المتخصصة في التعليم اإلعالمي عن‬ ‫حالة التعليم اإلعالمي‪ ،‬إضافة إلى ملخص نتيجة دراسة قامت بها المؤسسة في وقت الحق‬ ‫عن سمات صحفي المستقبل ومهاراته‪.‬‬

‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬


‫األمر املرعب يف حاالت االرتباك أنك ال تدري إىل أين تتجه‪.‬‬

‫لديهم رأي مختلف؛ إذ يرى (‪ )٪٥٧‬منهم أن الدرجة العلمية‬

‫سيقود إىل الحاسبات املحمولة أو الهواتف الذكية‪ .‬قبل‬

‫بفهم قيمة الصحافة‪ .‬وهذا ما لم يتغري عن نتائج استبانات‬

‫قبل أربعني سنة لم نكن ندرك أن ظهور أول هاتف محمول‬ ‫عشرين سنة لم نكن ندرك أن موقع أمازون سيغري عملية‬

‫البيع بالتجزئة‪ .‬قبل عشر سنوات لم يكن هناك فيس بوك أو‬ ‫تويرت‪ .‬هذا يجعلنا ال نعرف إىل أين ستقودنا هذه االبتكارات‪.‬‬

‫كل ما نعرفه هو أن مستقبل تعليم الصحافة يف موضع حرج‬

‫يف الصحافة (ضرورية جدًّ ا) إىل (حاسمة) حينما يتعلق األمر‬

‫العام الفائت (‪2012‬م)‪.‬‬

‫ً‬ ‫أيضا ما لم يتغري يف االستبانتني هي تلك الفجوة بني آراء‬

‫أساتذة اإلعالم والعاملني يف ميدان الصحافة حول أهمية‬

‫الدرجة العلمية يف الصحافة فيما يتعلق بالقدرة عىل جمع‬

‫لسببني‪:‬‬ ‫أولاً أن الوقت ينفد‪ :‬حاالت اإلرباك املنبعثة من االقتصاد‬

‫أساتذة اإلعالم (‪ ٪٩٨‬منهم) يرون أن الدرجة العلمية (مهمة‬

‫يف الجامعات‪ .‬ثانيًا أن التعليم الصحايف سيمر بتحوالت‬

‫أما (‪ )٪٥٩‬فقط من العاملني يف امليدان الصحفي فريون نفسه‪.‬‬

‫والتقنية إىل الجامعات تسري بشكل أسرع مما يدركه العاملون‬ ‫جوهرية‪ :‬فيما يتعلق بتدريس الصحافة ومن يدرسها‪ :‬أولئك‬

‫الذين ال يبتكرون يف الصفوف الدراسية ستتجاوزهم القافلة‪،‬‬ ‫تمامً ا كحال الذين يتوقفون عن االبتكار يف غرف األخبار‪.‬‬

‫طيلة عام ونيف والنقاش محتدم حول مستقبل التعليم‬

‫الصحايف؛ أكاديميون‪ ،‬وقادة مؤسسات‪ ،‬وصحافيون‬

‫عاملون‪ ،‬ال يزالون يتناقشون عن مستقبل التعليم الصحايف‬

‫وماذا سيكون عليه‪ ،‬كما نتناقش نحن عن مستقبله اآلن‪.‬‬

‫وقود هذه النقاشات جزئيًّا كان بسبب استبانة وزعتها‬

‫‪ Poynter’s News University‬يف ربيع ‪٢٠١٢‬م للتجهيز‬ ‫لحديث ألقيته يف مركز الصحافة األوربية‪ .‬أنا محبط‪ ،‬لكني‬ ‫لست متفاج ًئا بأن آراء املعلمني والعاملني يف الحقل الصحفي‬

‫األخبار وتحريرها وتقديمها‪ .‬كل املستجيبني –تقريبًا‪ -‬من‬ ‫جدًّ ا) إىل (حاسمة) حينما يتعلق األمر بمهارات جمع األخبار‪.‬‬ ‫يف املقابل واحد من كل خمسة من العاملني يف امليدان يرى‬

‫أن الدرجة العلمية يف الصحافة (غري مهمة عىل اإلطالق) يف‬ ‫اكتساب املهارات الصحفية‪ ،‬أو (مهمة قليلاً ) فيما يتعلق بجمع‬ ‫األخبار‪.‬‬

‫إذن‪ :‬هناك قطيعة واضحة بني الصحفيني ومجتمع‬

‫األكاديميني‪ .‬وعىل الرغم من ذلك فإن أساتذة اإلعالم قلقون‬ ‫ً‬ ‫أيضا من عدم مواكبة كليات الصحافة للتغريات يف املهنة‪.‬‬ ‫‪ ٪٣٩‬من أساتذة الصحافة يقولون‪ :‬إن كليات الصحافة‬

‫إما أنها قلما تواكب تغريات الصنعة اإلعالمية‪ ،‬أو أنها ال‬

‫تواكبها عىل اإلطالق‪ .‬قادة غرف األخبار والعاملون فيها كانوا‬ ‫أكرث حدة يف هذا؛ إذ يرى (‪ )٪٤٨‬منهم أن الدراسة األكاديمية‬

‫لم تتغري كثريًا بعد سنة من االستبانة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫الحقا (عام ‪2013‬م) بينت أن ال‬ ‫استبانة جديدة وزعت‬

‫أما حينما يتعلق األمر بأهمية الدرجة العلمية يف الصحافة‬

‫الصحايف‪ .‬من خالل استبانة وزعت بالتساوي بني املجموعتني‬

‫والعاملني يف امليدان أصغر؛ إذ يرى أكرث من نصف األساتذة‬

‫تغري يف مواقف املجموعتني من األساتذة والعاملني يف الحقل‬

‫وكان عدد املستجيبني ‪١٨٠٠‬؛ تبني أن هوة واسعة بمقدار ‪٤٠‬‬ ‫نقطة ال تزال تفصل بني آراء املجموعتني‪ .‬اليوم ‪ ٪٩٦‬من أولئك‬

‫الذين يصنفون أنفسهم عىل أنهم أساتذة يف الصحافة‪ ،‬ال‬ ‫يزالون يعتقدون أن الحصول عىل الدرجة العلمية يف الصحافة‬

‫(ضروري) إىل (حاسم جدًّ ا) حينما يتعلق األمر بفهم قيمة‬ ‫الصحافة‪ .‬ما لم يتغري ً‬ ‫أيضا أن العاملني يف املجال الصحايف‬

‫المؤسسات اإلعالمية التقليدية كانت‬ ‫بطيئة في إدراك أن طريقتها في‬ ‫سلبا بالتقنية‪ ،‬وكانت‬ ‫العمل ستتأثر‬ ‫ً‬ ‫بطيئة في إدراك أن اإلنترنت ستحول‬ ‫عملهم الثمين إلى شيء عديم‬ ‫القيمة أو قليلها‬

‫ال تتواكب مع الصناعة الصحفية‪.‬‬

‫للحصول عىل الوظيفة فإن الفجوة بني أساتذة اإلعالم‬ ‫(‪ )٪٥٣‬أن الدرجة العلمية يف الصحافة مهمة جدًّ ا للحصول‬

‫عىل وظيفة يف املجال ذاته‪ ،‬يف حني أن (‪ )٪٤١‬من العاملني يف‬

‫امليدان يشاركونهم الرأي‪.‬‬

‫غري أن (‪ )٪٣٨‬من أولئك الذين يصنفون أنفسهم عىل أنهم‬

‫من العاملني يف الصحافة لحسابهم الخاص يرون أن الدرجة‬

‫العلمية يف الصحافة مهمة للحصول عىل وظيفة يف املجال‬ ‫نفسه‪ .‬وهذا يعني أن مقارنة النتائج تشري إىل عدم تغري املواقف‬

‫يف االستبانتني؛ وعليه فنحن بحاجة ملضاعفة جهودنا يف إعادة‬

‫التفكري يف تعليم الصحافة‪.‬‬

‫«قلت يف العام املايض‪ :‬إن مهنة تعليم الصحافة ال تستطيع‬

‫أن تجد طريقها بنفسها إىل املستقبل‪ .‬هذا ال يزال صحيحً ا»‪.‬‬

‫املهم هنا أن الشهادات العلمية يف الصحافة أصبحت يف‬

‫خطر بأن ينظر إليها عىل أنها ال عالقة لها بالواقع‪ .‬يمكن إدراك‬ ‫ذلك من وجود توجه نحو إغالق برامج الصحافة الدراسية‬

‫أو دمجها يف برامج اتصالية أوسع؛ كما هي الحال يف عدد‬

‫‪155‬‬


‫إعالم‬

‫من الجامعات‪ .‬دعوين أؤكد عىل هذه النقطة املهمة‪ :‬أنا قلق‬ ‫عىل الدرجات العلمية يف الصحافة والربامج التعليمية ً‬ ‫أيضا‬

‫العوامل تمثل دورًا يف الحكم عىل قيمة االستثمار يف الدراسة‬

‫األمر املربك الذي تواجهه الكليات والجامعات أن قيمة‬

‫والدرجة العلمية ليست تذكرتك املوصلة إىل العمل»؛ هكذا‬

‫التعليم والتدريب مهمًّ ا ملستقبل األفراد‪ .‬يف املستقبل القريب‬

‫التعليمية يف صحيفة سان فرانسيسكو تشرونيكل‪« .‬توجد‬

‫أكرث من قلقي عىل مستقبل الصحافة وإىل حد ما التدريب‬

‫الصحفي‪.‬‬

‫الدرجات العلمية يف انخفاض‪ ،‬حتى يف الوقت الذي يبقى فيه‬

‫أعتقد أن مؤسساتنا التعليمية ستواجه تحديًا يف إقناع الطالب‬ ‫وآبائهم بأن التعليم التقليدي ال يزال ذا قيمة‪ .‬إدارات الكليات‬

‫كما نظرائها يف الصناعة اإلعالمية‪ -‬يواجهون معضلة واحدة‪.‬‬‫التعليم اإللكرتوين والرقمي املقدم بأسعار منافسة قد يكون‬

‫طريق النجاة الوحيد‪ .‬عىل أية حال هذه هي البداية فقط‪.‬‬ ‫اإلرباك‬

‫القوى التي تهدد الصناعة اإلعالمية حاليًا هي القوى نفسها‬

‫التي تهدد اقتصاد الجامعات الحكومية والخاصة‪ .‬املؤسسات‬

‫اإلعالمية التقليدية كانت بطيئة يف إدراك أن طريقتها يف العمل‬ ‫ستتأثر سلبًا بالتقنية‪ ،‬وكانت بطيئة يف إدراك أن اإلنرتنت‬

‫‪156‬‬

‫والتخصص الذي يختارونه‪ ،‬وإمكانية تخرجه‪ .‬كل هذه‬ ‫الجامعية‪.‬‬ ‫ً‬ ‫متجانسا (عند كل الطالب)‪،‬‬ ‫«الكلية ليست شيئا واحدً ا‬ ‫ً‬ ‫صرحت إيزابيل سوهيل من معهد بروكينغز ملحرر الشؤون‬

‫أنواع متعددة من التذاكر‪ ،‬بعض هذه التذاكر ال تأخذك إىل‬

‫أي مكان»‪.‬‬

‫العوامل سالفة الذكر تؤدي دورًا حتى عندما يكون‬

‫اإلقبال عىل االلتحاق بأقسام الصحافة واالتصال مرتفعً ا‬ ‫بشكل محرج‪ ،‬والتوظيف التقليدي يف املؤسسات الصحفية يف‬ ‫أدىن مستوياته‪ .‬حينما يتعلق األمر بقيمة االستثمار يف دراسة‬ ‫تخصص الصحافة فإن هذا التخصص أقل قيمة مما كان عليه‬ ‫ً‬ ‫سابقا‪.‬‬ ‫التحول التقني‬

‫ما ستفعله كليات الصحافة وبرامجها ملواجهة هذا‬

‫ستحول عملهم الثمني إىل يشء عديم القيمة أو قليلها‪ .‬كانت‬

‫التصور خالل األعوام املقبلة سيكون حاسمً ا‪ .‬الوقت ليس يف‬

‫الندرة يف األخبار إىل وفرة‪ .‬قدمت اإلنرتنت منافذ ومنصات‬

‫فالوقت والزخم يصبان يف مصلحته‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬ ‫َ‬ ‫املبتكر املربِك ‪ ،‬يف صناعة األخبار يعني أن الصحافة باتت‬

‫األخبار فيما مىض سلعة ثمينة لندرتها‪ .‬بفضل اإلنرتنت تحولت‬

‫جديدة للجمهور للحصول عىل األخبار واملعلومات‪ .‬األمر نفسه‬ ‫‪-‬كما أعتقد‪ -‬يحدث يف التعليم‪.‬‬

‫املزيد من اآلباء والطالب واملسؤولني الحكوميني‪ ،‬إضافة‬

‫إىل خرباء التعليم‪ ،‬يتساءلون عن الحكمة من إنفاق مئات‬ ‫األلوف عىل تعليم ال يمنح عائدً ا اقتصاديًّا واضحً ا‪ .‬هذا التحدي‬

‫ال يتعلق بالتعليم الصحفي وحده‪ ،‬بل بالفكرة الكربى‪ ،‬وهي‬ ‫مسألة الجدوى من التعليم الجامعي برمَّ ته‪ .‬يف املتوسط فإن‬

‫فوائد التعليم الجامعي تتجاوز تكلفته‪ ،‬لكنَّ تقري ًرا أصدره‬

‫معهد بروكينغز للدراسات يف شهر مايو عام ‪٢٠١٣‬م قال‪ :‬إن‬

‫االستثمار يف درجة البكالوريوس ال يعد استثمارًا ذكيًّا لكل‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫عدة تؤدي دورًا‬ ‫عوامل‬ ‫الطالب باختالف أحوالهم؛ ألن هناك‬

‫يف هذا االستثمار؛ منها‪ :‬تكلفة الدراسة‪ ،‬وشخصية الطالب‪،‬‬

‫األمر المربك الذي تواجهه الكليات‬ ‫والجامعات أن قيمة الدرجات العلمية‬ ‫في انخفاض‪ ،‬حتى في الوقت الذي‬ ‫مهما‬ ‫يبقى فيه التعليم والتدريب‬ ‫ًّ‬ ‫لمستقبل األفراد‬

‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬

‫صالح املؤسسات العريقة يف عصور االبتكار‪ ،‬أما املبتكر (املربك)‬

‫ُتصنع ُ‬ ‫وتوزع يف منصات جديدة عىل أيدي صحفيني مستقلني‪.‬‬ ‫ً‬ ‫أيضا أن الصحافة باتت ُتصنع خارج نموذج‬ ‫هذا يعني‬

‫مؤسسات الصحافة التقليدية ذات الطابع التجاري‪.‬‬

‫يجادل إيرك نيوتن من مؤسسة نايت بأنه‪« :‬لتدريس‬ ‫اإلعالم يف العصر الرقمي يجب عليك أن ُتدرِّس اإلعالم والعصر‬

‫الرقمي وكيفية استخدام األدوات الحديثة يف إنجاز األعمال‬ ‫اإلعالمية»‪ .‬يشري نيوتن ً‬ ‫أيضا إىل أن الكليات التي أخذت هذا‬

‫األمر بجدية باتت تكرب وال تتضاءل‪.‬‬

‫التعليم اإللكرتوين من أبرز خيارات طرق التدريس‬

‫الجديدة حتى يف كليات الصحافة ذات األبنية العتيقة‪ .‬يمكن‬ ‫لكليات اإلعالم تجربة طرق أخرى مثل‪:‬‬

‫● معامل االبتكارات كتلك التي توجد يف كلية والرت كرونكايت‬ ‫للصحافة ووسائل االتصال الجماهريي يف جامعة أريزونا‬

‫الحكومية‪.‬‬

‫● برامج التعليم التي تمزج بني التعليم اإللكرتوين والتعليم‬ ‫التقليدي داخل الصف‪.‬‬ ‫● الحصص التي ُت َ‬ ‫ناقش فيها مواد التدريب املوجودة عىل‬ ‫اإلنرتنت بدلاً من مناقشة املحاضرات‪.‬‬ ‫تحاول الكليات ً‬ ‫أيضا تجربة بعض االبتكارات األخرى التي‬


‫كليات اإلعالم بين التكيف والخروج من الميدان‬

‫قد ال تكون ناجحة‪ .‬تتبادر إىل الذهن طريقتان منها‪ :‬التعليم‬

‫دروسً ا قاسية حينما قامت بتدريس املواد بشراكة مع منصة‬

‫(‪ )Digital Badge‬الغالبية العظمى من أساتذة الصحافة‬ ‫اً‬ ‫قليل عن‬ ‫‪-‬أي ما يعادل (‪ )٪٨٤‬منهم‪ -‬يقولون‪ :‬إنهم يعرفون‬

‫تدريس مبادئ اإلحصاء‪ ،‬والجرب‪ ،‬ومقدمة يف الربمجة‪،‬‬ ‫والرياضيات األولية‪ ،‬إضافة إىل علم النفس‪ .‬وعىل الرغم من أن‬

‫يرون أنه ينبغي تدريس اإلعالم عرب هذه املنصات‪ .‬أكرث من هذه‬

‫تعرثوا يف اختبارات هذه املواد النهائية بنسب كبرية ترتاوح بني‬

‫الضخم املفتوح عىل اإلنرتنت (‪ ،)MOOCs‬والشارة الرقمية‬ ‫(‪)2‬‬

‫منصات التعليم املفتوح (‪ ،)MOOCs‬لكن (‪ )٪٢٢‬فقط منهم‬ ‫النسبة ‪-‬أي ما يقارب أكرث من الثلث‪ -‬من املبحوثني املشاركني‬

‫يف االستبانة قالوا‪ :‬إنهم يرغبون يف تدريس اإلعالم عرب منصات‬

‫التعليم املفتوح‪ ،‬فيما قالت نسبة مشابهة‪ :‬إنها غري متأكدة‬ ‫من رغبتها يف ذلك‪ ،‬وقال (‪ )٪٢٨‬منهم‪ :‬إنهم غري راغبني يف‬ ‫التدريس عرب هذه املنصات‪.‬‬ ‫أسئلة وشكوك‬

‫التعليم املفتوح (‪ )Udacity‬عرب هذه املنصة جربت الجامعة‬

‫نسبة إكمال هذه الدروس بلغت (‪ )٪٨٣‬إال أن غالبية الطالب‬ ‫(‪ ،٪٥٦‬و‪.)٪٧٦‬‬

‫وعىل الرغم من أن الجامعة أوقفت تجربة التعليم عرب‬

‫هذه املنصة إال أنني أعتقد أن الحكمة الحقيقية جاءت عىل‬

‫لسان سباستيان ثورن الرئيس التنفيذي ملنصة (‪)Udacity‬‬

‫الذي كتب يف مدونة الشركة ما نصه‪:‬‬

‫«يف تجربتنا َعلِقنا يف إطار التعليم التقليدي الذي يلتزم‬

‫ً‬ ‫أسبوعا للفصل الدرايس‪ ،‬بينما يمكن أن يكون‬ ‫بخمسة عشر‬

‫عدد من األسئلة الكبرية والشكوك تدور حول فاعلية هذا‬

‫ذلك مجديًا للطالب الذين يدرسون بدوام كامل داخل‬

‫ً‬ ‫وخصوصا أن نسب االنسحاب من‬ ‫قوة هذا النوع من التعليم‪،‬‬

‫دارس‪ .‬فكما وسّ عنا قاعدتنا يف استيعاب الطالب‪ ،‬فكذلك‬

‫النوع من التعليم عرب املنصات املفتوحة‪ .‬أنا شخصيًّا أشك يف‬ ‫املقررات يف هذه املنصات قد تصل إىل (‪ .)٪٩٠‬لكن يبدو أن هذه‬

‫النقطة ال تمثل مشكلة يف تدريس اإلعالم يف هذه املنصات‪.‬‬ ‫هذه الطرق يف التعليم مفتوحة للعامة ومجانية‪ ،‬ويف بعض‬

‫األحيان يود الناس معرفة ماذا يُدَ رَّس فقط‪ .‬طرق التعليم‬

‫املفتوح هذه (‪ )MOOCs‬قيّمة؛ ألنها تمنحنا الفرصة للتجربة‪.‬‬

‫هذه الطريقة يف إيصال املعلومة تساعدنا يف استكشاف طرق‬ ‫جديدة يف التعليم باستخدام التكنولوجيا‪ .‬نحن بحاجة إىل‬ ‫معرفة الطرق الناجحة يف ذلك وملاذا كانت كذلك‪.‬‬

‫جربت جامعة سان خوزيه األمريكية الحكومية طريقة‬

‫التعليم املفتوح (‪ )MOOC‬يف خمس مواد‪ ،‬وتعلمت منها‬

‫الجامعات‪ ،‬فإننا نعلم اآلن أن هذا ال يمكن أن يناسب كل‬ ‫يجب أن نوسع منظورنا فيما يكون عليه معنى الفصل‬ ‫الدرايس‪ .‬تخيل عاملًا يكون بمقدورك فيه أن تدرُس هذه املواد‬ ‫مؤجلة‪ ،‬بما يتناسب مع سرعتك وأوقات تسليم األعمال‬ ‫لديك وجداولك‪ ،‬أو يف األوقات التي يمكن أن تستخدم فيها‬

‫حاسوبك‪ ،‬أو بحسب جدول دراستك الثانوية»‪ .‬هذه هي روح‬

‫الشركات الناشئة‪ :‬إطالق‪ ،‬فشل‪ /‬تعلم‪ ،‬تكرار العملية وإعادة‬ ‫اإلطالق‪ ،‬وهكذا‪.‬‬

‫تغيري املهارات‪ ،‬وتغيري الصحفيني‬

‫كتب الكثري حول آالف الصحفيني املستقلني الذين‬

‫‪157‬‬


‫إعالم‬

‫ً‬ ‫وفرصا جديدة‪ .‬وكتبنا بشكل مكثف‬ ‫أنشؤوا منافذ إخبارية‬

‫حول األدوات التي يحتاج الصحفيون إىل استخدامها يف هذه‬ ‫البيئة املتغرية باستمرار‪ .‬عىل أية حال األمر املجهول نسبيًّا‬

‫‪158‬‬

‫ً‬ ‫ثالثا‪ :‬مهارات اإلنتاج اإلخباري‪.‬‬ ‫ً‬ ‫رابعا‪ :‬املهارات الفنية للوسائط املتعددة‪.‬‬

‫لم نكن نعرف ما الذي سنخرج به من هذه االستبانة قبل‬

‫هو الحاجات املحددة التي سيحتاج الصحفيون إليها ليكونوا‬ ‫ناجحني يف املستقبل‪ُ .‬ث ُلثا أساتذة الصحافة (‪ )٪٦٦‬الذين أجابوا‬

‫األفكار التي ستساعدنا عىل إعادة التفكري يف ماهية تعليم‬

‫املناهج‪ ،‬وهذه نتيجة مبهجة؛ ألن التعليم اإلعالمي يمكن أن‬

‫ابتكار مستقبلنا‪:‬‬

‫عن االستبانات يؤمنون أن كلياتهم وأقسامهم تتجاوب لتغيري‬

‫يكون ذا صلة بالواقع إذا أخذ زمام املبادرة يف التنبؤ باملهارات‬

‫التي ستكون مطلوبة‪ ،‬إضافة إىل التأكد من تعلم الطالب تلك‬ ‫املهارات‪.‬‬ ‫لاً‬ ‫لكن هذه النتيجة تطرح ً‬ ‫أيضا سؤا عن سبب غياب‬

‫التجارب؛ هل الكليات منفتحة عىل التغيري لكنها ال تعرف‬ ‫فعل ذلك؟‬

‫ظهور النتائج‪ ،‬لكني توقعت أننا عىل األقل سنخرج ببعض‬ ‫كاف لدفعنا نحو العمل عىل إعادة‬ ‫الصحافة‪ .‬أما ما نعرفه فهو ٍ‬ ‫● نحن نعرف أن التقنية مربكة للطريقة التي يُؤدَّى بها‬ ‫التعليم‪.‬‬

‫● نعرف أن التقنية مربكة القتصاديات التعليم‪.‬‬

‫● ونعرف أن الصحافة تتغري أسرع بكثري من التعليم‬ ‫الصحفي‪.‬‬

‫األمر ليس متأخ ًرا جدًّ ا عىل إعادة رسم تعليم اإلعالم‪ ،‬لكن‬

‫جزء من إعادة التفكري اإلسرتاتيجي يتمثل يف سد الهوة بني‬

‫الوقت ليس يف صالحنا‪ .‬أعرف أساتذة كثريين سيعانون من‬

‫فيما يُدرس يف الصفوف والتساؤل عن التعليم اإلعالمي‪ .‬وما‬

‫الفصول‪ ،‬كما أن آخرين سيعانون من تعلم تقنيات ومناهج‬

‫األساتذة واملهنيني‪ ،‬وهذا ربما يعني التخيل عن التفكري الحايل‬

‫املهارات واالستعدادات واملعارف التي تجعل الصحفي ناجحً ا‬

‫يف املستقبل؟ يمكننا جميعً ا تخمني ذلك‪ ،‬لكننا ال نملك كثريًا‬ ‫من البيانات التي يمكن النظر فيها ملساعدتنا‪ .‬لذا فقد قمت أنا‬

‫ومنتجة (‪ )NewsU‬لورين كلينغر بتصميم استبانة عن املهارات‬

‫الالزمة ملستقبل الصحافة‪ ،‬نطلب فيها من أساتذة اإلعالم‬

‫والصحفيني مساعدتنا يف إيجاد املهم يف أربعة مجاالت‪:‬‬ ‫اً‬ ‫أول‪ :‬املعرفة‪ ،‬واالستعدادات‪ ،‬والخصائص الشخصية‪،‬‬ ‫والقيم‪.‬‬

‫ثانيًا‪ :‬مهارات جمع األخبار‪.‬‬

‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬

‫فكرة التوقف عن جزء من يشء يحبونه مثل التدريس داخل‬ ‫جديدة ملهنة الصحافة‪ .‬التعاطي مع األمور املربكة يعني أننا إما‬

‫أن نبيك عىل املايض وإما أن نعمل معً ا لنعيد ابتكار املستقبل‪.‬‬

‫هوامش‪:‬‬ ‫(‪ -)1‬املبتكر املربك‪ ،‬يقصد به ذلك النوع من املبتكرات الذي يغري وجه السوق‬ ‫ً‬ ‫محدثا توجهًا جديدً ا أو تغيريًا جذريًّا فيه‪ .‬ترجمة املصطلح جاءت بعد‬

‫نقاش مع عدد من املهتمني يف هذا املوضوع‪.‬‬ ‫(‪ -)2‬الشارة الرقمية هي توجه عاملي لالستعاضة عن الشهادات األكاديمية‬ ‫بمجموعة من املهارات التي يحتاج إليها سوق العمل‪ ،‬ويحصل مَ نْ يتمكن‬ ‫منها عىل هذه الشارة»‪.‬‬


‫كليات اإلعالم بين التكيف والخروج من الميدان‬

‫الجداول التالية توضح نتائج الدراسة وترتب المهارات والسمات التي يجب أن تتوافر‬ ‫في صحفي المستقبل بحسب رأي الصحفيين وأساتذة اإلعالم‬ ‫جدول (‪ :)1‬املهارات األساسية لصحفي املستقبل‬ ‫بحسب أساتذة اإلعالم واملهنيني‬

‫البحث املتقدم عن املعلومات عىل‬ ‫اإلنرتنت‬

‫‪%91.63‬‬

‫‪%81.04‬‬

‫‪%80.90‬‬

‫التمكن من إجراء املقابالت‬ ‫وتقنياتها‬

‫‪%95.19‬‬

‫‪%80.39‬‬

‫‪%80.04‬‬

‫‪%79.82‬‬

‫‪%67.03‬‬

‫‪%61.69‬‬

‫‪%55.91‬‬

‫‪%55.78‬‬

‫‪%61.85‬‬

‫‪%58.97‬‬

‫املهنيون‬

‫املديرون‬

‫أساتذة‬ ‫اإلعالم‬

‫الفضول‬

‫‪%97.94‬‬

‫‪%94.18‬‬

‫‪%93.44‬‬

‫البحث عن األخبار والتحقق من‬ ‫املصادر دون استخدام اإلنرتنت‬

‫الدقة‬

‫‪%98.49 %98.97‬‬

‫‪%98.50‬‬

‫النظر إىل األخبار من منظور‬ ‫تاريخي‬

‫‪%70.42‬‬

‫حسن التعامل مع الضغوط واملواعيد النهائية ‪%92.56‬‬

‫‪%92.62‬‬

‫‪%93.31‬‬

‫حسن التعامل مع النقد‬

‫‪%87.11‬‬

‫‪%84.48‬‬

‫‪%86.27‬‬

‫تفسري البيانات والرسوم‬ ‫اإلحصائية‬

‫‪%79.63‬‬

‫وجود معرفة عامة واسعة‬

‫‪%89.60‬‬

‫‪%82.75‬‬

‫‪%80.49‬‬

‫وجود مهارات اجتماعية‬

‫‪%76.06‬‬

‫‪%80.17‬‬

‫‪%79.91‬‬

‫أن يحسن أن يكون عضوًا يف فريق‬

‫‪%70.82‬‬

‫‪%81.61‬‬

‫‪%80.22‬‬

‫االطالع عىل أخالقيات الصحافة‬

‫‪%96.23‬‬

‫‪%91.16‬‬

‫‪%89.90‬‬

‫معرفة الثقافات األخرى‬

‫‪%75.91‬‬

‫‪%51.84‬‬

‫‪%51.78‬‬

‫املعرفة‪ ،‬والسمات‪ ،‬والخصائص‬ ‫الشخصية‪ ،‬والقيم‬

‫جدول (‪ :)3‬املهارات األساسية لصحفي املستقبل بحسب‬ ‫أساتذة اإلعالم واملهنيني‬

‫مهارات اإلنتاج اإلخباري‬

‫أساتذة‬ ‫اإلعالم‬

‫املهنيون‬

‫املديرون‬

‫‪%85.07‬‬

‫‪%84.17‬‬

‫‪%89.43‬‬

‫‪%89.05‬‬

‫املعرفة باألنظمة الحكومية‬

‫‪%82.86‬‬

‫‪%68.82‬‬

‫‪%69.49‬‬

‫مهارة السرد اإلخباري‬

‫‪%93.24‬‬

‫الكتابة بأسلوب فصيح‬

‫‪%92.99‬‬

‫فهم املشهد اإلعالمي‬

‫‪%57.32 %77.91‬‬

‫‪%57.40‬‬

‫االلتزام بالقواعد الصحيحة للغة‬

‫‪%93.34 %93.33 %96.33‬‬

‫الدراية بحقوق النشر‬

‫‪%63.85 %74.32‬‬

‫‪%61.03‬‬

‫التمكن من أنواع الفنون اإلخبارية‬

‫‪%84.31‬‬

‫‪%70.11‬‬

‫‪%67.56‬‬

‫‪%69.12‬‬

‫‪%66.92‬‬

‫فهم توقعات الجمهور وحاجاتهم‬

‫‪%86.57‬‬

‫‪%81.07‬‬

‫‪%79.77‬‬

‫مهارات التحدث‬

‫‪%66.70‬‬

‫‪%57.97‬‬

‫‪%55.48‬‬

‫الدراية بقوانني اإلعالم‬

‫‪%84.36‬‬

‫معرفة الصناعة اإلعالمية‬

‫‪%37.53 %38.57 %60.73‬‬

‫القدرة الجيدة عىل الحكم عىل‬ ‫األخبار‬

‫‪%91.33‬‬

‫‪%91.83‬‬

‫‪%89.43 %95.32‬‬

‫‪%88.18‬‬

‫اختيار املعلومات عىل أسس دقيقة‬

‫‪%96.45‬‬

‫‪%92.44‬‬

‫‪%91.70‬‬

‫القدرة عىل قيادة فريق‬

‫‪%32.40 %38.64‬‬

‫‪%31.44‬‬

‫‪%89.44‬‬

‫‪%87.88‬‬

‫املعرفة باألحداث الجارية‬

‫‪%94.61‬‬

‫جدول (‪ :)4‬املهارات األساسية لصحفي املستقبل بحسب‬ ‫أساتذة اإلعالم واملهنيني‬

‫أساتذة‬ ‫املهارات الفنية للوسائط املتعددة‬ ‫اإلعالم‬

‫املهنيون‬

‫املديرون‬

‫‪%40.93‬‬

‫‪%28.45‬‬

‫‪%28.11‬‬

‫املهنيون‬

‫املديرون‬

‫‪%75.51‬‬

‫‪%50.54‬‬

‫‪%45.83‬‬

‫تصوير الصور الفوتوغرافية وتحريرها ‪%79.48‬‬

‫‪%60.56‬‬

‫‪%53.38‬‬

‫تحليل وجمع البيانات الكبرية‬

‫‪%72.63‬‬

‫‪%55.69‬‬

‫‪%55.03‬‬

‫‪%72.09‬‬

‫‪%41.72‬‬

‫‪%38.11‬‬

‫وجود شبكة مهارات‪ ،‬والقدرة عىل‬ ‫تكوين عالقات‪ ،‬وتطوير املصادر‬

‫‪%94.27‬‬

‫‪%92.04‬‬

‫‪%91.10‬‬

‫القدرة عىل االبتكار وقبول التغيري‬

‫‪%91.31‬‬

‫جدول (‪ :)2‬املهارات األساسية لصحفي املستقبل بحسب‬ ‫أساتذة اإلعالم واملهنيني‬

‫مهارات جمع األخبار‬

‫أساتذة‬ ‫اإلعالم‬

‫القدرة عىل العمل مع لغة ‪HTML‬‬

‫أو لغات الربمجة األخرى‬ ‫تصوير الفيديو وتحريره‬

‫التسجيل والتحرير الصويت‬

‫القدرة عىل السرد اإلخباري مع‬ ‫‪%51.55 %55.48 %79.88‬‬ ‫التصاميم والوسائل املرئية‬

‫‪159‬‬


‫مخطوطات‬

‫‪160‬‬

‫لوحة فنية للحرمين الشريفين من مخطوط‬ ‫«دالئل الخيرات وشوارق األنوار في ذكر الصالة على النبي المختار»‬

‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬


‫‪161‬‬

‫لمحمد بن سليمان الجزولي المتوفى سنة ‪870‬هـ ‪ ،‬والنسخة مكتوبة بإسطنبول سنة ‪1115‬هـ‪1703/‬م‪.‬‬ ‫من مقتنيات مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية‪.‬‬


‫مقال‬

‫أمل عبدالعزيز الهزاني‬ ‫كاتبة سعودية‬

‫ميشال عون‬ ‫وتعزيز سياسة النأي‬ ‫يعتقد المراقب للحال اللبنانية جازمً ا‪ ،‬أن ميشال‬

‫عون‪ ،‬الرئيس اللبناني المنتخب مؤخ ًرا‪ ،‬أعاد في‬

‫ذهنه شريط الذكريات فور تخطيه عتبة قصر بعبدا‬

‫لبنان حاليًّا‪ ،‬مردها توافق رؤى األطراف الدولية حول‬

‫المنفى في فرنسا‪ ،‬بقوة جبرية من الجيش السوري‬

‫العام‪ ،‬في بلد دائمً ا ما كان المطبخ السياسي الذي من‬

‫‪1989‬م)‪ .‬رحلة طويلة للضابط ميشال عون‪ ،‬واكبت‬ ‫ً‬ ‫أحداثا ساخنة وتهديدات على لبنان وعلى حياته‬

‫في المنطقة‪ ،‬وذلك بحكم تعدد المذاهب والطوائف‪ .‬أبرز‬

‫رئيسا للبنان‪ ،‬بعد ‪ 35‬عامً ا من خروجه منه إلى‬ ‫ً‬ ‫الذي كان يحتل لبنان إثر الحرب األهلية (‪-1975‬‬

‫‪162‬‬

‫مطبخ سياسي لتعزيز المواقف‬

‫ويعتقد بعض المحللين أن أجواء التفاؤل التي تسود‬

‫ضرورة إنهاء الشغور الرئاسي الذي دام عامين ونصف‬

‫خالله تسعى األطراف الدولية واإلقليمية لتعزيز مواقعها‬

‫هذه األطراف اإلقليمية هما السعودية وإيران‪ ،‬ومن األطراف‬ ‫الدولية فرنسا والواليات المتحدة‪ .‬إيران بداية ترى في‬

‫الشخصية‪ ،‬كلها مجتمعة لم تخفه؛ بل على العكس‬ ‫كانت تم ّنيه بتحقيق حلم الرئاسة‪ ،‬والعودة إلى قصر‬

‫لبنان معسك ًرا وغرفة عمليات ومراقبة‪ ،‬يقوم عليه ذراعها‬

‫اللبنانية‪ ،‬بال خصوم هذه المرة‪ ،‬وال أعداء متربصين‪.‬‬

‫دوره ونفوذه بدعم من نظام بشار األسد‪ ،‬من تعطيل‬

‫بعبدا مرفوع الرأس‪ ،‬مكرمً ا‪ ،‬مختارًا من كل األطياف‬

‫وقد أجاد فصل الخطاب‪ ،‬حينما توجه لكل اللبنانيين‬

‫العسكرية «حزب الله»‪ ،‬الذي لعب دورًا كبي ًرا لتعزيز‬

‫المجلس النيابي‪ ،‬حتى ارتكاب العمل المسلح كاغتيال‬

‫مؤكدً ا أنه رئيس الكل‪ ،‬أو كما يحلو للبنانيين تسميته‬

‫الرئيس رفيق الحريري‪ ،‬وسلسلة اغتياالت سياسية طالت‬

‫جامعة الدول العربية‪ ،‬وحريص على تعزيز عالقات‬

‫صيف عام ‪2006‬م‪ ،‬ثم احتالل بيروت في مايو ‪2008‬م‪ .‬في ظل‬

‫«بي الكل‪ -‬أي والد الكل»‪ ،‬وأنه متمسك بميثاق‬ ‫ّ‬

‫لبنان بما يخدم مصالحه‪ .‬خاتمة لحياة سياسية حافلة‬

‫وأي خاتمة‪.‬‬

‫فريق ‪ 14‬من آذار‪ ،‬وافتعال حرب ضروس مع إسرائيل في‬

‫هذا الجموح الشرس لحزب الله لتكريس نفوذه وإقصاء‬

‫خصومه‪ ،‬ظلت المملكة العربية السعودية متمسكة بالخيار‬

‫وحيث تحقق الحلم‪ ،‬بطي الماضي وصراعاته‬

‫السلمي في حماية حلفائها‪ ،‬وحماية لبنان من الوقوع في‬

‫المعقد؛ ملفات ثقيلة داخلية وخارجية‪ ،‬أهمها مهمة‬

‫بنظام صدام حسين‪ .‬حتى إنها تقدمت بثالثة مليارات دوالر‬

‫سعد الحريري‪ ،‬وال تزال مشاوراتها قائمة في محاولة‬

‫الدول تحميها جيوشها ال الميليشيات الطائفية‪ .‬هذا الخيار‬

‫وأحقاده‪ ،‬يتحتم على الرئيس أن يواجه الواقع‬

‫تشكيل الحكومة التي أنيطت برئيس تيار المستقبل‬ ‫للخروج بحكومة الرضا من كل األطياف‪ ،‬بتسوية‬

‫ً‬ ‫ونوعا‪.‬‬ ‫تقسم الحقائب الوزارية بين التيارات كمًّ ا‬ ‫ّ‬

‫تركة إيران العقارية‪ ،‬كما حصل في العراق بعد اإلطاحة‬

‫هبة لتجهيز الجيش اللبناني‪ ،‬وتذكير لميليشيا حزب الله أن‬

‫السلمي للمملكة على رغم ثمنه الباهظ‪ ،‬كان يهدف في‬

‫المقام األول إلى درء مواجهة مسلحة كانت ستقضي على‬

‫والمشاورات القائمة ليست هيّنة‪ ،‬كعادة كل حسم‬

‫لبنان الدولة‪ ،‬وتحيلها إلى خراب يعيد عقارب الساعة إلى‬

‫ورعاة دوليين يدفعون بسرعة تشكيل الحكومة‪،‬‬

‫الطوائف المتناحرة آنذاك‪.‬‬

‫سياسي في لبنان‪ ،‬لكنها تقام وسط مناخ مشجع‪،‬‬

‫وتجاوز الخالفات والمصالح الضيقة من أجل استقرار‬

‫تتوق له البالد‪ ،‬ويؤسس لمرحلة هادئة تمهد‬

‫النتخابات نيابية تحدد نتائجها شكل لبنان الجديد‪.‬‬

‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬

‫ما قبل اتفاق الطائف عام (‪1989‬م) الذي نزع فتيل الفتنة بين‬ ‫ماذا تقول الرياض عن بيروت اليوم؟ خالل مرحلة‬

‫الشغور الرئاسي الذي امتد ألكثر من عامين‪ ،‬خرجت‬

‫أقاويل عن نية السعودية الصد عن لبنان وتركه يواجه‬


‫مصيره‪ ،‬وبخاصة مع انطالق حرب اليمن‪ ،‬وتزايد تعقيدات‬

‫الوضع السوري‪ .‬في الواقع أن السعودية ال يمكنها التخلي‬ ‫عن لبنان الذي توسع فيه النفوذ اإليراني‪ ،‬في الوقت الذي‬

‫تقاوم فيه وقوع سوريا واليمن في خندق إيران‪ .‬لكن مرحلة‬

‫الخواء الرئاسي في لبنان كانت مرحلة ركود حتى في نشاط‬

‫حزب الله‪ ،‬ومع انكفاء اإلدارة األميركية وتراجع مواقفها‬

‫في دعم حلفائها‪ ،‬كان األفضل انتظار إدارة جديدة في‬

‫البيت األبيض تتيح فرصة لتفاهمات حول الملف األكثر‬

‫تعقيدً ا‪ ،‬وهو الملف السوري وتداعياته على دول المنطقة‬ ‫وأهمها لبنان‪.‬‬

‫هذا ما يفسر الرحلة السريعة التي قام بها وزير الدولة‬

‫السعودي لشؤون الخليج‪ ،‬ثامر السبهان إلى بيروت نهاية‬ ‫أكتوبر الماضي‪ ،‬ولقاءه القيادات اللبنانية في مسعى‬ ‫لحلحلة الوضع السياسي المتصلب‪ ،‬وتحريك مبادرة‬

‫ترشيح رئيس تكتل التغيير واإلصالح ميشال عون‪ ،‬وهو‬ ‫رئيسا للبنان‪ ،‬على أن توكل مهمة‬ ‫الحليف لحزب الله‪،‬‬ ‫ً‬

‫ميشال عون‬

‫تشكيل الحكومة إلى سعد الحريري‪ .‬تسوية مناسبة‬

‫في توقيت مناسب بالنسبة لبلد يعيش مستق ًّرا بفضل‬ ‫التسويات منذ اتفاق الطائف‪.‬‬ ‫التحرك السعودي‬

‫بعد فوز دونالد ترمب‪ ،‬الجمهوري‪ ،‬المعادي إليران‪،‬‬

‫بالبيت األبيض‪ ،‬أصبح جليًّا صحة التحرك السعودي‬

‫بتقديم المبادرة‪ ،‬وبخاصة أن الرئيس األميركي المنتخب‬

‫البعيد من عالم السياسة‪ ،‬سيبدأ بسبر أغوار منطقة الشرق‬

‫األوسط الساخنة من خالل التعرف إلى األطراف الفاعلة‬

‫ميشال عون الرئيس يختلف عن‬ ‫العماد‪ ،‬مسؤوليته وأهدافه اختلفت‪،‬‬ ‫جاهدا إثبات قدرته على‬ ‫سيحاول‬ ‫ً‬ ‫حل المعضالت الداخلية والخارجية‬ ‫اللبنانية‪ ،‬لن يقبل أن يكون إيميل‬ ‫لحود‪ ،‬ممثل بشار األسد في لبنان‪،‬‬ ‫لكنه لن يتصادم مع المحور اإليراني‬

‫التي يمكن من خالل توطيد العالقة معها التأثير في كثير‬

‫من القضايا‪ .‬ويبقى السؤال المهم عن مستقبل العالقات‬

‫السعودية اللبنانية في ظل رئاسة ميشال عون الموالي‬

‫لحزب الله‪ ،‬عون التزم أمام اللبنانيين في خطاب الفوز بأنه‬

‫الرياض‪ ،‬وهو المتوقع حصوله خالل مدة قريبة‪.‬‬

‫لسيرة الرجل خالل خمسين عامً ا‪ ،‬يلحظ التحوالت في‬

‫وأهدافه اختلفت‪ ،‬سيحاول جاهدً ا إثبات قدرته على حل‬

‫سيسعى إلى أن تكون بالدهم مستقرة مزدهرة‪ ،‬والمتتبع‬

‫ميشال عون الرئيس يختلف عن العماد‪ ،‬مسؤوليته‬

‫مواقفه بما يخدم موقعه وأهدافه‪ .‬هذه السمة البراغماتية‬

‫المعضالت الداخلية والخارجية اللبنانية‪ ،‬لن يقبل أن يكون‬

‫بالمملكة إلى إيفاد مستشار خادم الحرمين الشريفين‬

‫مع المحور اإليراني‪ .‬سيعزز سياسة النأي التي انتهجها‬

‫أحد أهم أسباب مبادرة الرياض لترشيحه‪ ،‬وهو ما عجّ ل‬

‫إيميل لحود‪ ،‬ممثل بشار األسد في لبنان‪ ،‬لكنه لن يتصادم‬

‫وأمير منطقة مكة المكرمة األمير خالد الفيصل إلى بيروت‬

‫لبنان في مواقفه تجاه الصراعات في المنطقة‪ ،‬سيكون‬

‫بالرئاسة‪ ،‬في خطوة عدها المحللون مؤش ًرا على عودة‬

‫متكافئة تجاه كل طرف‪ ،‬وسيتفهم جميع أصدقاء لبنان‬

‫بعد أيام قليلة من إعالن مجلس النواب اللبناني فوز عون‬

‫الحضور السعودي‪ ،‬وبخاصة أن الزيارة تخللها مع التهنئة‬

‫دعوة من العاهل السعودي للرئيس اللبناني الجديد لزيارة‬

‫الوجه المبتسم أمام كل المحاور‪ ،‬سيتقدم بخطوات‬

‫هذه السياسة‪ ،‬طالما أنها ال تميل وال ترجح كفة أمام‬

‫أخرى‪ ،‬وفي الوقت نفسه تترك لبنان سيدً ا لمصيره‪.‬‬

‫‪163‬‬


‫سينما‬

‫ناقد سينمائي أوضح أهمية أن يتواكب‬ ‫فتح دور سينما مع افتتاح معاهد متخصصة‬

‫فهد اليحيا‪:‬‬ ‫على السينما السعودية تناول مشكالت مجتمعها‬ ‫في سياق فني وإال تحولت إلى بروباغندا فجة‬ ‫حوار‪ :‬فواز السيحاني الفيصل‬

‫‪164‬‬

‫ليست السينما شاشة‪ ،‬وأجسا ًدا‪ ،‬ولغة تتحرك في مواقع مختلفة‪ ،‬إنها رؤية تصيب‬ ‫أغوار اإلنسان وقضاياه االجتماعية والنفسية والوجودية بأكثر الطرق تأثيرًا‪ .‬إنها شغف كاد‬ ‫يجعل الدكتور فهد اليحيا الذي يعمل في مجال الطب النفسي بصفته استشار ًّيا في المستشفى‬ ‫العسكري في الرياض أن يغير مسار تخصصه في أيام شبابه؛ ألنه وجد هناك عوالم مليئة‬ ‫بالدهشة والمتعة‪ .‬يتطرق اليحيا في حواره مع «الفيصل» إلى السينما في السعودية وصعوبات‬ ‫وناقدا إياها ً‬ ‫مشيدا بها ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫تارة أخرى‪ .‬شارك اليحيا في عدد من لجان التحكيم‪،‬‬ ‫تارة‪،‬‬ ‫صناعتها‪،‬‬ ‫وسافر إلى العديد من البالد األوربية لمراقبة تأثير أفالم سعودية عرضت هناك‪ .‬يقول اليحيا‪ :‬إن‬ ‫شرط العمل الفني األساس هو المتعة‪ ،‬إضافة إلى تناولها الظواهر االجتماعية في سياق قوانين‬ ‫العمل الفني؛ كي ال تتحول إلى بروباغندا فجة أو خطاب مباشر وجاف‪.‬‬

‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬


‫● بداية‪ ،‬طبيب نفيس ويف الوقت نفسه مهتم بالسينما‬ ‫وعالم األفالم‪ ،‬بل يتجاوز ذلك ويقدم دليلاً تأليفيًّا تحت‬ ‫ً‬ ‫تحديدا‬ ‫عنوان «مدخل إىل الفنون السينمائية» فلماذا السينما‬ ‫هي من وقع عليها شغفك؟‬

‫‪ -‬ال اختيار يف الشغف! هو قدر كما يقول شوقي‪« :‬يا الئمي‬

‫تلم»‪ .‬ويف‬ ‫يف هواه والهوى قد ٌر * لو شفك الوجد لم تعذل ولم ِ‬ ‫الكتاب الذي أشرت إليه يف سؤالك فصل بعنوان «السينما وأنا»‬

‫حكيت فيه عن طفولتي يف الطائف‪ ،‬ودخويل عالم مشاهدة األفالم‬

‫منذ نعومة أظفاري‪ ،‬واستمر ذلك يف الرياض حيث كانت منطقة‬ ‫تأجري األفالم وآالت السينما عامرة يف املربع‪ .‬كنت أقرأ بعض‬

‫الكتابات عن األفالم يف مجالت‪ :‬أسريت والنهضة والحوادث‪ ،‬بيد‬

‫أن معظمها كان مجرد عرض للفلم‪ ،‬ورؤية شخصية وليست‬

‫نقدً ا فعليًّا‪ .‬لكن عندما ذهبت إىل القاهرة لدراسة الطب اكتشفت‬

‫عالم النقد السينمايئ الحقيقي عىل يد رواد أذكر منهم سامي‬

‫السالموين‪ ،‬وخريية البشالوي‪ ،‬ويوسف شريف رزق الله‪ ،‬ورؤوف‬

‫توفيق‪ ،‬وسمري فريد وغريهم‪ .‬بل اكتشفت أن صناعة السينما‬ ‫عالم كامل‪ ،‬وكان انضمامي لنادي السينما نافذة لالطالع عىل‬

‫السينما العربية ‪-‬املغاربية تحديدً ا‪ -‬والعاملية عمومً ا‪.‬‬

‫فهد اليحيا‬

‫ردود فعل األوربيني‬

‫● شاركت يف لجان تحكيم‪ ،‬وقيّمت كثريًا من األفالم‬

‫يف السنة الثانية أو الثالثة فكرت يف هجر دراسة الطب‬

‫املحلية التي عرضت يف السفارات األجنبية‪ ،‬ومنها السفارة‬

‫يف‬ ‫أصدقايئ ممن كانوا يدرسون علوم السينما‪ ،‬وكانوا يحبون َّ‬ ‫هذا الشغف‪ ،‬ومنهم عادل عبداملطلوب‪ ،‬وبسام الذوادي املخرج‬

‫‪ -‬ردود أفعال األجانب من أوربيني وعرب أكرث احتفاء مما‬

‫والتوجه لدراسة السينما‪ ،‬لكن عارضني يف توجهي بعض‬

‫البحريني املعروف حاليًّا!‬

‫األملانية‪ ،‬فما ردود أفعالهم؟‬

‫نتوقع‪ ،‬وال ننىس أنهم تعودوا عىل دخول دور السينما منذ‬ ‫طفولتهم‪ ،‬لذا ذائقتهم الفنية بصورة عامة متميّزة عنا ومتقدمة‪.‬‬

‫حتى األفالم السعودية املوغلة يف الرمزية التي لم تعجب عددًا‬

‫● يف كتابك شرحت ما يتعلق باألدوات املختصة بصناعة‬

‫كبريًا من مشاهديها السعوديني مثل «فيما بني» (‪ 3:30‬د) ملحمد‬

‫األهم كما يقول كثري من املخرجني العامليني؟‬ ‫ً‬ ‫رؤية ما؛ اجتماعية أو فنية‬ ‫‪ -‬كل األفالم العظيمة تحمل‬

‫أثناء مهرجان السينما األوربية الذي يُقام سنويًّا‪ .‬وقد اقرتحته‬

‫عليهم ألن الفلم قد فاز ذلك الوقت بجائزة أحمد خضر لالمتياز‬

‫كاملوهبة‪ ،‬وال يتم تدريسها أو تعليمها! الكتاب املتواضع املشار إليه‬

‫املستقلة بفرنسا (إبريل ‪2015‬م)‪ .‬باملناسبة مهرجان الفلم األوربي‬

‫األفالم‪ ،‬لكنك لم تتطرق إىل ما يتعلق بجانب الرؤية وهو‬

‫أو أيديولوجية أو فلسفية‪ ...‬لكن الرؤية يشء مغروس يف الذات‬ ‫موجه للمبتدئني لتقديم مبادئ الحرفة بصورة مبسطة؛ هذه‬ ‫حدوده!‬

‫حصول الفلم السعودي على جوائز‬ ‫إنتاجا سخ ًّيا‪ ،‬ولغة سرد‬ ‫عالمية يتطلب‬ ‫ً‬ ‫سينمائية متميزة‪ ،‬وهذا ال يتوافر‬

‫السلمان لقي صدً ى كبريًا عند عرضه يف السفارة الفرنسية يف‬

‫يف صناعة الفلم العربي‪ ،‬وذلك ضمن مهرجان األفالم األوربية‬ ‫الذي تقوم به السفارات األوربية سنويًّا يقدم ‪ 14‬فلمً ا تقريبًا من‬

‫أنحاء أوربا‪ .‬وسأعمل عىل أن يعرض فلم سعودي قصري قبل‬ ‫عرض الفلم األوربي يف مهرجان ‪2017‬م‪ .‬ولكن هذه املرة لن أقوم‬ ‫بهذا بشكل فردي‪ ،‬بل سأشرك الجمعية السعودية للثقافة‬

‫والفنون لتكون املشاركة تحت مظلتها‪ ،‬وتتحمل نصيبًا من هذا‬ ‫العمل املرهق‪.‬‬

‫إال بوجود جهات إنتاج كريمة ال تنتظر‬

‫● يف ظل وجود ُكتاب مقاالت أصبحوا فجأة ُك ّتا ًبا‬

‫وتجريبا‬ ‫وممارسة‬ ‫ً‬

‫‪ -‬السيناريو هو الهيكل العظمي للفلم الذي ينسج فوقه‬

‫كبيرا‪ ،‬ويتطلب دراسة‬ ‫مردودا مال ًّيا‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫للسيناريوهات الدرامية‪ ،‬فكيف تقيم السينما السعودية؟‬

‫اللحم والشحم‪ ،‬وتزرع فيه األعصاب‪ ،‬وتجري يف عروقه الدماء‬

‫‪165‬‬


‫سينما‬

‫السينمائية‪ ،‬واألغلبية العظمى من األفالم الشهرية والناجحة‬

‫وقت ما‬ ‫إنما قامت عىل سيناريو متقن‪ .‬ومعظم الناس ظنّ يف‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫قصاصا أو روائيًّا‪ ،‬وربما رسامً ا‪،‬‬ ‫من عمره أنه سيصبح شاع ًرا أو‬

‫اآلن أضف إليها اإلخراج والسيناريو‪ ،‬وهذا أم ٌر مشروع‪ ،‬وهناك‬ ‫من استمر‪ ،‬وكثريون تغريت وجهتهم‪ ،‬أو تخلوا بصورة واقعية‬ ‫عن أحالم بداية الشباب‪ .‬أقصد من يجد عنده الرغبة يف الكتابة‪،‬‬

‫ويتوسم يف ذاته القدرة‪ ،‬فيجب أن نساعده للقيام باملحاولة‪،‬‬ ‫فربما نشهد مولد كاتب سيناريو بارع يصقل موهبته بالتدريب‬

‫والتعليم واملران‪ .‬من ناحية ثانية الريبورتاج الصحايف شبيه جدًّا‬

‫بالفلم الوثائقي‪ ،‬إال أن األخري يختلف عنه يف الصورة والحركة‬ ‫والصوت‪ ،‬وقدرات الفلم التعبريية الجبارة يف يد مخرج قدير‪.‬‬ ‫ً‬ ‫قصة أو قصيدة‪ ،‬ولكنها تحمل‬ ‫كذلك املقالة الصحافية ليست‬

‫رؤية ما لكاتبها عن قضية معينة أو موضوع يتناوله من زاويته‬ ‫الخاصة‪ ،‬وهذا أمر شبيه بالسينما؛ فالسيناريو ليس عملاً أدبيًّا‪،‬‬ ‫وال يصنف ضمن القصص أو الروايات أو املسرحيات‪ ،‬إنه عمل‬

‫فني مستقل بذاته‪ ،‬وال يخلو من الجفاف!‬

‫‪166‬‬

‫التنوع الجغرافي الباذخ في ربوع‬ ‫المملكة يجعل منها مواقع تصوير‬ ‫عبقرية! جغرافيتنا من الساحل إلى‬ ‫السهل فقمم الجبال فالصحراء‬ ‫والواحات‪ .‬هناك أماكن تصلح أن تكون‬ ‫مواقع لتصوير أفالم خيالية عن غزو‬ ‫الفضاء والعيش في الكواكب األخرى‬ ‫ً‬ ‫أحيانا تكون املحلية عاملية‬ ‫املتعة تحول إىل خطاب وعظي مباشر‪.‬‬ ‫يف جوهرها اإلنساين إذا كانت خربة نفسية عامة‪ ،‬عرضها هو‬ ‫ما يحدد‪ ،‬فالطائفية‪ ،‬وحقوق املرأة‪ ،‬واإلرهاب‪ ،‬قضايا عاملية‪،‬‬

‫زمن ما‪.‬‬ ‫وعاناها كل مجتمع يف ٍ‬ ‫خطاب مباشر وجاف‬

‫● هل تعتقد أنه من املمكن أن تعالج السينما يف اململكة‬

‫● محليًّا ما نقدمه عىل الشاشة غالبًا ما يغرق يف القضايا‬

‫بعض الظواهر االجتماعية واألمنية التي يتعرض لها املجتمع‬ ‫كاإلرهاب مثلاً ‪ ،‬وما تقويمك لبعض األعمال التي حاولت‬

‫‪ -‬هناك املوضوع وهناك الشكل! قد يُتناول ذات املوضوع‬

‫ الدراما تكون يف املسرح والفلم والتمثيلية التلفزيونية‪.‬‬‫ً‬ ‫موفقا إىل حد كبري‪ .‬وسؤالك‬ ‫و«سيلفي» كان عملاً دراميًّا‬

‫وبعدها تأيت القضايا األخرى! فإن لم يحقق األسلوب الفني شرط‬

‫األساس هو املتعة‪ ،‬وأحد موضوعات السينما ‪ -‬كما موضوعات‬

‫املحلية‪ ،‬كالطائفية‪ ،‬أو حقوق املرأة‪ ،‬أو اإلرهاب؛ أال تعتقد أن‬ ‫ً‬ ‫عمقا من ذلك؟‬ ‫السينما أكرث‬

‫يف قصة أو رواية أو فلم‪ .‬الشكل هو األسلوب الخاص لعرض‬ ‫املوضوع بشروطه الفنية الخاصة! أهم شرط للفن هو املتعة‪،‬‬

‫الخوض يف هذا الجانب‪ :‬عىل سبيل املثال «سيلفي»؟‬

‫هذا يعيدنا إىل السؤال السابق وجوابه! شرط العمل الفني‬

‫مشهد من فلم وجدة‬ ‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬


‫ناقد سينمائي أوضح أهمية أن يتواكب فتح دور سينما مع افتتاح معاهد متخصصة‬

‫الشعر والقصة ‪ -‬هو تناول املشكالت والظواهر‬ ‫االجتماعية! ولكنه ليس موضوعها الوحيد‪.‬‬

‫ويجب أن تكون خاضعة لشروط العمل الفني يك‬

‫ال تتحول إىل بروباغندا فجة‪ ،‬أو خطاب مباشر‬ ‫وجاف‪.‬‬

‫● الفلم السعودي هل سيصل قريبًا إىل‬

‫الجوائز العاملية‪ ،‬وما الذي ينقصه لبلوغ ذلك؟‬

‫‪ -‬قبول فلم ما يف املسابقة الرسمية يُعد إنجا ًزا‬

‫بحد ذاته‪ .‬فلم «وجدة» و«بركة يقابل بركة» قبال يف‬

‫مسابقات دولية عدة‪ ،‬وفازا بجوائز‪ .‬فلم «حرمة»‬ ‫ُقبل يف مهرجان برلني‪ .‬وسبق أن ذكرت الفلم‬

‫القصري «فيما بني»؛ الحصول عىل جوائز عاملية‬ ‫يتطلب إنتاجً ا سخيًّا‪ ،‬ولغة سرد سينمائية متميزة‪،‬‬

‫وهذا ال يتوافر إال بوجود جهات إنتاج كريمة ال‬ ‫تنتظر مردودًا ماليًّا كبريًا‪ ،‬مع أن هذا قد يحدث‪،‬‬

‫ويتطلب دراسة وممارسة وتجريبًا‪ ،‬لكن عندي أمل‬

‫يشبه اليقني أن فلمً ا ما سيصل قريبًا إىل العاملية!‬

‫األفالم السعودية‬ ‫لن تسود‬ ‫يرى الدكتور فهد اليحيا أن وجود دور عرض «سيؤدي إىل التسريع يف صناعة السينما‪ ،‬فالسينما يف كثري من البلدان بدأت‬

‫بصاالت عرض قبل أن تظهر فيها حركة سينمائية أو صناعة وتعليم وتدريب‪ .‬يف مصر وهي رائدة صناعة السينما يف العالم العربي‬ ‫عرب متمصرين أو أجانب‪ ،‬وعمل أبناء البلد مساعدين أو يف مهام ثانوية‪ .‬بالطبع هناك استثناءات يف البدايات‬ ‫كانت البدايات عىل يد ٍ‬

‫مثل محمد كريم وعزيزة أمري‪ .‬لكن ليس هذا كل يشء‪ ،‬فمنطق التطور ليس البدء من حيث بدأ اآلخرون‪ ،‬ولكن من حيث انتهوا»‪.‬‬

‫ولفت إىل أنه من املهم أن يتواكب مع فتح دور عرض سينمائية افتتاح معاهد وكليات متخصصة‪« ،‬بل تأسيس بنية تحتية ليتم‬

‫تصوير عدد من األفالم العاملية عندنا‪ .‬هذا ليس حلمًا أجوف‪ ،‬ولكن التنوع الجغرايف الباذخ يف ربوع اململكة يجعل منها مواقع تصوير‬ ‫عبقرية‪ .‬جغرافيتنا من الساحل إىل السهل‪ ،‬فقمم الجبال‪ ،‬فالصحراء والواحات‪ .‬هناك أماكن تصلح أن تكون مواقع لتصوير أفالم‬

‫أسس لصناعة سينمائية ودعمها‬ ‫خيالية عن غزو الفضاء‪ ،‬والعيش يف الكواكب األخرى‪ .‬لكن هنا مالحظة نضعها يف الحسبان‪ :‬وضع‬ ‫ٍ‬ ‫من ناحية‪ ،‬وإفتتاح دور عرض من ناحية أخرى ال يعني أن األفالم السعودية ستسود‪ ،‬فكل الدول التي سبقتنا سواء بزمن كبري مثل‬

‫شمال إفريقيا وسوريا‪ ،‬وبزمن متوسط مثل الكويت‪ ،‬أو زمن قريب مثل البحرين ودول الخليج األخرى؛ كل هذه الدول ما زالت‬ ‫السيادة لألفالم األمريكية واألوربية»‪.‬‬

‫وقال‪ :‬إن السينما وسيلة تعبري فني «شأنها شأن املسرح والشعر والتشكيل والرواية! لها لغتها وخطاباتها السردية الخاصة‬

‫وكذلك أدواتها! وميزتها أنها ال تشرتط معرفة القراءة والكتابة‪ ،‬يف غري األفالم املرتجمة؛ بل هي تخاطب املتفرج بالرؤية والسمع‪:‬‬ ‫عني وأذن! وكما نجد يف األدب واملسرح والتشكيل مدارس مختلفة من الواقعية والرمزية والسوريالية! نجد هذا يف السينما‪ .‬ومع‬

‫إيماين بحق كل زهرة أن تتفتح‪ ،‬بل من واجبنا توفري املناخ لها واالحتفاء بها؛ إال أين أنظر إىل أن عىل السينما ‪ -‬يف العالم النامي – دورًا‬ ‫اجتماعيًّا‪ .‬أقصد أن حصيلة األفالم سهلة الهضم ‪ -‬مع توافر الشروط الفنية الراقية ‪ -‬والتي تنطلق من قضايا املجتمع يجب أن تكون‬ ‫األكرب‪ .‬من ينظر إىل السينما عىل أنها مجرد ترف يف تقديري قاصر الرؤية‪ ،‬ويجب أن ينسحب رأيه ً‬ ‫إذا عىل كل الفنون»‪.‬‬

‫‪167‬‬


‫سينما‬

‫‪168‬‬

‫فلم جزيرة الدكتور مورو‬ ‫كائنات شبه بشرية تتمرد على مبتكرها‬ ‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬


‫منصور الصويم‬

‫روائي وكاتب سوداني‬

‫قبل الثورة العلمية الجينية في األزمنة الحديثة‪ّ ،‬‬ ‫خصب الروائي اإلنجليزي آتش جي ويلز‪،‬‬ ‫سرد ًّيا‪ ،‬كائنات مهجنة وراثيًّا في حالة وسطية ما بين اإلنسان والحيوان‪ ،‬كان ذلك في عام ‪1896‬م‪،‬‬ ‫وقد تحولت أحداث رواية ويلز إلى وقائع درامية في فلم سينمائي أنتج عام ‪1996‬م‪ ،‬أي بعد قرن‬ ‫كامل من كتابة الرواية‪.‬‬ ‫كثيرًا ما تقترف السينما من سرديات الخيال العلمي‪ ،‬المبنية أحداثها على فرضية كشف‬ ‫علمي يتوقع منه إحداث تغيير جذري في مسيرة البشرية‪ ،‬كما تستند السينما في أحيان كثيرة‬ ‫على االختراقات العلمية الحقيقية التي يحققها العلماء والمكتشفون بين الحين واآلخر سواء‬ ‫في الفيزياء والفضاء أو فيما يتعلق بالبحوث الطبية «األحياء كيمائية» ال سيما ما يتعلق بثورة‬ ‫«الجينوم» التي غيرت كثيرًا في المفاهيم والنظريات الطبية‪ .‬وقد تسبق المخيلة السينما إلى‬ ‫االكتشاف العلمي‪ ،‬وتتجاوز سرديات وروايات الخيال العلمي‪ ،‬بما تنتجه من أفالم تتخطى حدود‬ ‫ً‬ ‫بعيدا في عمق اإلمكان البشري‪.‬‬ ‫الخيال‪ ،‬وتضرب‬ ‫وكثرية هي األفالم التي أبدع مخرجوها وكتابها يف‬

‫يسعى من وراء تجاربه العلمية الغريبة وغري املفهومة‬

‫وتحلق منطلقة مع الفن‪ ،‬وإن ارتبطت جذريًّا بحقائق علمية‬

‫نيتشه عن اإلنسان األعىل‪ -‬اعتمادًا عىل تجاربه التي يجريها‬

‫اجرتاح أزمنة درامية «علم خيالية» تتحدى املنطق والثوابت‪،‬‬

‫قيد البحث أو يف طي الكتمان الكشفي‪ ،‬أذكر منها أفالم‬

‫«الجزيرة‪ ،‬أكس مِ ن‪ ،‬أفاتار‪ ،‬املريخي‪ ،‬إي يت‪ ،‬ماتريكس‪..‬‬

‫إلخ»‪ ،‬والفلم الذي نتناول أحداثه هنا‪.‬‬ ‫إنسان متوحد‬

‫ملجايليه‪ ،‬إىل إيجاد نموذج بشري مثايل –ربما تأث ًرا بمفهوم‬

‫عىل مجموعة من الحيوانات املفرتسة التي وجدها يف هذه‬ ‫الجزيرة املعزولة‪ ،‬تحيا حياتها الطبيعية قبل أن يخربها‬

‫ويدمرها‪ ،‬ويحدث ذلك حني ينجح يف «كسر الرتاكيب‬ ‫الوراثية» لها ويتوصل إىل صبغة جينية‪ /‬وراثية تحولها من‬

‫حيوانات غابية متوحشة إىل كائنات قابلة للتشكل البشري‪،‬‬

‫جزيرة غابية معزولة وغري مكتشفة ذلك هو مسرح‬

‫واالنتقال الكامل من خانة الدونية الحيوانية إىل حيز االرتقاء‬

‫بدايئ‪ ،‬يسكنه إنسان متوحد هو الدكتور مورو (مارلون‬

‫تخصيب وتهجني «لبؤة» بمولود بشري تمامً ا وهي ابنته‬

‫أحداث فلم «جزيرة الدكتور مورو»‪ ،‬مكان استوايئ فطري‬

‫براندو)‪ ،‬ويشاركه يف هذه العزلة مساعده مونتغمري (فال‬ ‫كيلمر)‪ .‬الدكتور مورو‪ ،‬عالم وطبيب طريد ومنفي‪ ،‬ومهووس‬

‫بتجارب املزج والتشطري الورايث والتخليق الجيني‪ ،‬وما يقرتب‬ ‫من عملية االستنساخ البيولوجي التي عرفها العالم بعد زمنه‬

‫بوقت طويل‪.‬‬

‫نتعرف في فلم جزيرة الدكتور مورو‬ ‫قدرات إخراجية متفردة للمخرج (جون‬ ‫فرانكينهايمر)‪ ،‬تحقق درجة عالية من‬ ‫استهامية سينما الخيال العلمي‬

‫اإلنساين‪ ،‬كما يعتقد ويصرح بذلك‪ ،‬وقد نجح فعليًّا يف‬

‫الجميلة إيسا (فايروزا بالك)‪.‬‬ ‫مسوخ مورو‬

‫غرائبية شخصية الدكتور مورو وطرائقه الصارمة يف‬

‫التعامل مع هذه الكائنات نصف البشرية‪ ،‬ومحاوالته‬

‫الدؤوبة لتهجينها حتى عىل املستويني النفيس والعقيل؛‬ ‫ً‬ ‫وفقا ملا يتصوره من مثالية بشرية‪ ،‬تجعله يبدو‬ ‫ليك تتخلق‬

‫أمام هذه الكائنات املسخية أقرب إىل اإلله‪ ،‬فتدين له بوالء‬ ‫غريب ملتزمة بقوانينه الخاصة التي س َّنها للسيطرة عليها‬

‫«أكل اللحوم ممنوع‪ ،‬امليش عىل أربع ممنوع‪ ،‬قتل اآلخرين‬ ‫ممنوع» وكل ما ينأى بها عن حياة القطيع والحيوانية‬

‫‪169‬‬


‫سينما‬

‫السابقة‪ .‬تتصاعد األحداث الدرامية يف الفلم حني يصل‬

‫األداء الدرامي‪ ،‬واملكياج التحوييل‪ ،‬واملوسيقا‪ ،‬واملكان‪ ،‬وبناء‬

‫بعد غرق السفينة التي كان يستقلها يف املحيط‪ ،‬فوجوده‬

‫اآلثار التي يمكن أن ترتتب عىل البحوث والتجارب العلمية‬

‫إدوارد بريدنيك (ديفيد ثيوليس) إىل جزيرة الدكتور مورو‬ ‫يف املكان يضخ طاقة جديدة بني الكائنات شبه البشرية‪،‬‬

‫املتعلقة بـ«بيولوجيا املوروثات والتحول الجيني»‪ ،‬والعبث‬

‫ويدفعها إىل التمرد عىل محوِّلها ومهجنها –الدكتور مورو–‬ ‫فيلجأ األخري إىل محاولة عكس تجاربه الجينية بحيث ُتطبَّق‬

‫مهووسني أو غري أخالقيني عىل شاكلة الدكتور مورو‪ ،‬كما‬

‫«التبادلية الداروينية» مع كائنات الجزيرة الهجينة‪ ،‬بيد أن‬

‫يف أفالم الخيال العلمي‪ ،‬والتوق إىل الحرية والتمرد عىل‬

‫عىل إدوارد‪ ،‬وبالتايل تحويله من إنسان إىل حيوان فيما يشبه‬

‫االبنة الجميلة (هجني الجينات) تتحالف مع الوافد إدوارد‬ ‫ضد والدها الجيني وتشارك يف الثورة عليه‪ ،‬حتى تتمكن‬

‫من مساعدته عىل الهرب من الجزيرة‪ ،‬والتخلص من آثار‬ ‫عملية التهجني التخليقي التي ج ّربها عىل جسده والدها‬

‫الدكتور‪ ،‬يف حني تقود ثورة الكائنات إىل قتل الدكتور مورو‬ ‫ومساعده‪ ،‬وتدمري معمله وحرقه قبل أن تنطلق متحررة يف‬

‫حسها القطيعي‪ ،‬يف إشارة‬ ‫فضاء الجزيرة الغابي مستعيدة ّ‬ ‫إىل عودتها إىل أصلها الحيواين!‬ ‫أبعاد الفلم‬

‫‪170‬‬

‫الشخوص‪ ،‬والتصوير‪ ...‬إلخ‪ .‬البعد الثاين للفلم هو مناقشة‬

‫الذي يمكن أن ينتج عن هذا يف حال تحققه عىل أيدي علماء‬

‫يتناول الفلم يف بعد ثالث قيمة الثورة‪ ،‬وهي ثيمة مركزية‬ ‫الدكتاتور‪ /‬األب‪ ،‬وكسر القوانني‪ /‬النظام‪ ،‬واختيار الحياة‬ ‫التي تالئم الطبيعة «البشرية – الحيوانية – ومخلوقات مورو‬

‫الهجني يف الفلم»‪.‬‬

‫الفلم نجح إىل حد بعيد يف تقديم األبعاد الثالثة‪ ،‬ونصل‬

‫إىل هذه النتيجة حني نمزج هذه األبعاد لنخرج ببعد واحد‪،‬‬ ‫نستخلص من خالله ذلك اإلحساس بالخوف والرعب يف‬ ‫حال نجحت مثل هذه التجارب العبثية عىل أرض الواقع‪،‬‬

‫كما نجح الفلم يف ج ّرنا إىل التعاطف مع الكائنات املهجنة‬

‫واملش َّوهة‪ ،‬واملراهنة عىل ثورتها عىل الدكتور مورو‪ ،‬وأحقيتها‬

‫يف اختيار الحياة التي تناسبها بالتمرد عىل قوانني «الدكتاتور‪-‬‬

‫فلم جزيرة الدكتور مورو يتشكل من أكرث من بعد‬

‫السلطة الظاملة»‪ ،‬وهو انحياز من جانبنا يرمز إىل ميلنا إىل قيم‬ ‫ً‬ ‫إطالقا‪ ،‬ورفض كل محاولة للسيطرة وتفريغ اإلنسان‬ ‫الثورة‬

‫عالية من استهامية سينما الخيال العلمي‪ ،‬كما أن إدارته‬

‫صناعي‪ ،‬كما تقدمه أفالم أخرى سنتناولها يف قراءات قادمة‪.‬‬

‫تحلييل‪ ،‬فالبعد الجمايل والفني نتعرف من خالله قدرات‬

‫إخراجية متفردة للمخرج (جون فرانكينهايمر)‪ ،‬تحقق درجة‬ ‫الحرفية العالية لفريق العمل يف كل جوانبه تجعل مشاهد‬

‫الفلم تتماهى مع أحداثه املتحوّلة واملتسارعة لحظة بلحظة‬

‫من دون حدوث أي فراغات تتابعية أو شروخ فنية؛ من حيث‬

‫من إنسانيته‪ ،‬وتحويله إىل مجرد كائن بيولوجي أو إلكرتوين –‬

‫«جزيرة الدكتور مورو» أنتج كفلم أكرث من مرة؛ أولها كان يف‬ ‫عام ‪1977‬م‪ ،‬وهذا يدل عىل القيمة السردية والدرامية للرواية‬ ‫التي يستند عليها‪.‬‬

‫مشهد من فلم الدكتور مورو‬ ‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬


‫معارض‬

‫‪171‬‬

‫«عين بودلير»‪..‬‬ ‫وجوها أخرى للشاعر‬ ‫معرض يكشف‬ ‫ً‬ ‫الشر»‬ ‫غير التي اختزلها «أزهار‬ ‫ّ‬


‫معارض‬

‫أوراس زيباوي‬

‫باريس‬

‫ارتبط اسم الشاعر الفرنسي شارل بودلير بمدينة باريس‪ ،‬وكان أحد نجومها األساسيين‬ ‫في القرن التاسع عشر‫‪ ،‬بل هو أحد الذين أطلقوا الحداثة في سمائها‪ ،‬ومنها إلى أماكن ّ‬ ‫عدة في‬ ‫ً‬ ‫معروفا بصفته شاعرًا‪ ،‬فهو ً‬ ‫أيضا مارس النقد الفني وجعل‬ ‫العالم‪ .‬وإذا كان كاتب «أزهار الشرّ»‬ ‫منه ً‬ ‫نوعا أدبيًّا قائمً ا بذاته‪ ،‬وعبّر عن رؤية فنية عميقة جعلت منه أحد الذين أرسوا األسس‬ ‫األولى للنقد الفني في فرنسا‪ .‬وهذا ما يكشف عنه المعرض المقام حاليًّا في باريس وعنوانه‪:‬‬ ‫«‬عين بودلير‫»‪ ‬.‬ولقد امتألت شوارع المدينة بملصقات تحمل صورته ونظرته الجانبية النافذة‬ ‫ً‬ ‫ملغية الفاصل الزمني الذي يفصلنا عنها‫‪ ‬ .‬‫ ‬‬ ‫«عني بودلري» ليس أول معرض يخصصه متحف فرنيس‬ ‫ً‬ ‫معرضا‬ ‫للشاعر‪ .‬ففي عام ‪1968‬م أقام «متحف القصر الصغري»‬

‫باختصار‪ ،‬يتيح املعرض لزواره االطالع عىل األعمال الفنية‬

‫وقد كشف وفرة الكتابات التي تناولت الشاعر ونتاجه الشعري‬

‫بانوراما عن أحوال الثقافة يف زمن تأسست فيه مفاهيم جديدة‬

‫بعنوان‪« :‬شارل بودلري» بمناسبة مرور مئة عام عىل وفاته‪،‬‬

‫والنقدي عىل السواء‪ ،‬وتحمل تواقيع باحثني رصدوا أعمال‬ ‫بودلري وآراءه يف األدب والفنّ ‪ ،‬ودوره البارز عىل الساحة‬

‫‪172‬‬

‫األدبية والفنية يف عصره‪ .‬كذلك أقامت بلدية باريس يف مرحلة‬

‫التسعينيات من القرن املايض ومطلع هذا القرن مجموعة من‬

‫النشاطات التي تربز وجه الشاعر الناقد‪ ،‬ومنها معرض بعنوان‪:‬‬ ‫« بودلري‪ ،‬باريس بال نهاية» الذي تناول عالقة بودلري الفريدة‬

‫بمدينته باريس حيث ولد عام ‪1821‬م وتويف عام ‪1867‬م‪.‬‬

‫يعرف بالحداثة ومنهم إدوارد مانيه‪.‬‬

‫التي تأملها وكتب عنها الشاعر‪ ،‬ويذهب أبعد من ذلك فيقدم‬ ‫عن الجمال واإلبداع قلبت رأسً ا عىل عقب املفاهيم الكالسيكية‬

‫املتوارثة منذ عصر النهضة اإليطالية يف القرن السادس عشر التي‬

‫التزم بها الفنانون بصورة عامة طوال قرون‪.‬‬ ‫روح دوالكروا‬

‫لقد توقف بودلري عند الفنانني الفرنسيني املجددين‬

‫والتقليديني املعاصرين له‪ ،‬فكتب عنهم وعبرّ عن إعجابه‬

‫يأيت املعرض الحايل يف «متحف الحياة الرومانسية» ليتوّج‬

‫ببعضهم‪ ،‬وعدم رضاه عن بعضهم اآلخر‪ .‬وكان ألوجني‬

‫مئة وخمسني عامً ا عىل وفاة الشاعر‪ ،‬وقد أشرف عىل تنظيمه‬

‫كما هو معروف‪ ،‬من أبرز ممثيل التيار الرومانيس واالستشراقي‬

‫سلسلة من املعارض والنشاطات‪ ،‬وهو يقام بمناسبة مرور‬ ‫وكتابة الكاتالوغ املخصص له مجموعة من املتخصصني الكبار يف‬

‫نتاج بودلري وأدب القرن التاسع عشر وفنونه‪.‬‬

‫دوالكروا ‪1863-1798‬م مكانة خاصة يف قلبه ونتاجه‪ .‬هذا األخري‪،‬‬

‫يف الفن‪ ،‬وهذا ما ينعكس يف لوحاته الشهرية يف متحف‬ ‫«اللوفر» ومنها «الحرية التي تقود الشعب» التي رسمها عام‬

‫يضم املعرض نحو مئة لوحة ومنحوتة ورسم محفور‬

‫‪1830‬م‪ ،‬ولوحة «نساء الجزائر» التي رسمها عام ‪1834‬م‪ .‬أعجب‬

‫األوىل له يف عالم النشر ويف املشهد الثقايف البارييس كانت يف‬

‫عىل أعماله‪ ،‬وتحدّث عن تفجّ ر األلوان عنده كما يف لوحة «صيد‬

‫شاهدها بودلري يف بداياته وكتب عنها‪ ،‬ويبينّ كيف أن اإلطاللة‬ ‫مرحلة األربعينيات يف القرن التاسع عشر‪ .‬يف تلك السنوات‪،‬‬ ‫كتب مجموعة من املقاالت والنصوص النقدية عن املعارض‬

‫الفنية السنوية الكربى التي كانت تقيمها «أكاديمية الفنون‬ ‫الجميلة» يف باريس وتعرف بالصالونات‪ ،‬وأولها صالون عام‬ ‫‪1845‬م‪ ،‬وكان الشاعر آنئذ يف الرابعة والعشرين من عمره‪ .‬وال‬

‫بد من اإلشارة إىل أن املرحلة التي امتدت من عام ‪ 1845‬حتى عام‬ ‫‪1863‬م التي عايشها بودلري عن كثب وكتب فيها كناقد شهدت‬ ‫تحوالت كبرية يف املشهد الفني الفرنيس‪ ،‬ومنها أفول الحركة‬

‫الرومانسية وصعود الواقعية وظهور الفنانني الذين مهدوا ملا‬ ‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬

‫بودلري بروح دوالكروا وأجواء الدراما والحلم والوله املهيمنة‬ ‫األسود» املنجزة عام ‪1854‬م‪ ،‬حتى إن هذه األلوان تسربت إىل‬

‫قصائده فلم تعد األلوان محصورة يف اللوحات بل حاضرة يف‬ ‫القصائد ً‬ ‫أيضا‪ .‬ألم يقل‪« :‬قط لم تدخل يف النفس‪ ،‬عرب قنوات‬ ‫العيون‪ ،‬ألوان بهذا الجمال وبهذه الكثافة»؟‬

‫أراد بودلري أن يكون دوالكروا شقيقه الروحي‪ ،‬كما أراد أن‬

‫يحتل يف املشهد األدبي املكانة التي احتلها دوالكروا يف املشهد‬

‫الفني‪ .‬فهذا الفنان‪ ،‬بحسب تعبريه‪ ،‬هو «زعيم املدرسة الحديثة‬ ‫يف الرسم‪ ،‬وهو الفنان األكرث خصوصية يف األزمنة القديمة‬ ‫واألزمنة املعاصرة»‪.‬‬


‫الشر»‬ ‫وجوها أخرى للشاعر غير التي اختزلها «أزهار‬ ‫«عين بودلير»‪ ..‬معرض يكشف‬ ‫ً‬ ‫ّ‬

‫من الجوانب التي يكشفها املعرض‬

‫ً‬ ‫أيضا اهتمام بودلري بفناين الكاريكاتري‬ ‫الذين عكسوا برسومهم الساخرة‬

‫الهموم املعاصرة وأزمات مجتمعاتهم‪،‬‬ ‫وكانوا لسان حال املظلومني والبؤساء‬ ‫يف صراعهم ضد الطغاة والفاسدين‪.‬‬

‫منذ عام ‪1845‬م‪ ،‬بدأ بودلري بكتابة‬ ‫نص عن فن الكاريكاتري وقد صدر يف‬

‫ثان‬ ‫كتاب عام ‪1855‬م‪ ،‬ثم تبعه كتاب ٍ‬ ‫عام ‪1857‬م‪ ،‬وهو العام الذي صدر‬

‫فيه ديوانه «أزهار الشر»‪ .‬كتابان عن‬ ‫فناين الكاريكاتري يف فرنسا ويف إسبانيا‪،‬‬

‫ومنهم الفنان اإلسباين غويا والفرنيس‬

‫أونوريه دومييه‪ .‬ونشاهد لهذا األخري‬ ‫يف املعرض لوحة أنجزت عام ‪1850‬م‪،‬‬ ‫وتمثل مجموعة من القضاة واملحامني‬

‫بالقرب من قصر العدل وهم عىل شكل شخصيات سوداء‬

‫بشعة تضع أقنعة عىل وجوهها‪ .‬يف هذا اإلطار‪ ،‬يحيّي بودلري‬

‫الفنان دومييه الذي سخر برسومه من الشخصيات السياسية‬ ‫التي تخدع الشعب املسكني وتستغله‪.‬‬

‫شارل بودلير بريشة الفنان غوربات غوستاف‬

‫الكريهة واحتضانها الثورات الشعبية‪ .‬استبدلت بالشوارع‬ ‫الضيقة والصغرية جادّات واسعة ومضاءة ونظيفة‪ ،‬وشيّدت‬ ‫األبنية الفخمة من الحجر األبيض‪ُ ،‬‬ ‫وفتحت الحدائق العامة‪.‬‬ ‫باإلضافة إىل ذلك‪ ،‬جُ هّزت باريس بنظام صرف صحي‪ ،‬و ُزرعت‬ ‫فيها األشجار عىل طول الشوارع والجادّات‪.‬‬

‫راض‬ ‫بودلري غري ٍ‬ ‫عاش بودلري يف مدينته باريس الجزء األكرب من حياته‬

‫وسياسية ومدنية أعادت تشكيل فضائها وتكوين مخيلتها‪ .‬وقد‬

‫املدينة البارون جورج أوجني أوسمان يف زمن اإلمرباطور نابليون‬

‫باريس القديمة لم تعد موجودة»‪ .‬ومن مدينته استوحى الشاعر‬

‫راض عن التحوالت الكبرية التي عرفتها‬ ‫القصرية‪ ،‬وكان غري ٍ‬ ‫املدينة؛ بسبب الثورة الصناعية‪ ،‬واألشغال التي قام بها محافظ‬ ‫الثالث‪ .‬لقد هدمت أحياء بكاملها بسبب عدم نظافتها ورائحتها‬

‫يتيح المعرض لزواره االطالع على‬ ‫األعمال الفنية التي تأملها وكتب‬

‫لقد شهدت املدينة يف ذلك الزمن تطورات اجتماعية‬

‫عبرّ بودلري يف كتاباته عن جدلية الهدم والبناء‪ ،‬فهو عايش‬ ‫تشييد املدينة الحديثة وأفول املدينة القروسطية‪ .‬كتب قائلاً ‪« :‬إنّ‬ ‫ديوانه «سأم باريس» ذلك أنّ الحياة الباريسية‪ ،‬بالنسبة إليه‪،‬‬

‫غنية باملوضوعات الشعرية الرائعة‪ ،‬وهو تارة يعرب عن إعجابه‬ ‫بالتطور التقني ومظاهر الحداثة‪ ،‬وتارة أخرى يعبرّ عن كرهه‬

‫لها‪ .‬أي أن موقفه عكس تناقضاته الشخصية العميقة الحاضرة‬ ‫ّ‬ ‫وتمثل تناقضات النفس‬ ‫يف شعره التي تتكامل فيما بينها‪،‬‬

‫عنها الشاعر‪ ،‬ويذهب أبعد من ذلك‬

‫البشرية ذاتها‪.‬‬

‫في زمن تأسست فيه مفاهيم جديدة‬

‫أنه يكشف عن وجوه أخرى للشاعر غري التي اختزلته يف ديوانه‬

‫فيقدم بانوراما عن أحوال الثقافة‬ ‫رأسا على‬ ‫عن الجمال واإلبداع قلبت ً‬ ‫عقب المفاهيم الكالسيكية المتوارثة‬ ‫منذ عصر النهضة اإليطالية في‬ ‫القرن السادس عشر التي التزم بها‬ ‫الفنانون بصورة عامة طوال قرون‬

‫أهمية معرض بودلري يف العاصمة الفرنسية اليوم ً‬ ‫أيضا‬

‫الشهري «أزهار الش ّر»‪ ،‬ال سيّما أنه مبدع لنتاج أوسع مفتوح عىل‬

‫الحداثة التي مهّدت لها مجموعته الشعرية «سأم باريس» التي‬ ‫ً‬ ‫وخصوصا مواقفه النقدية التي تقدّ م صورة‬ ‫ُطبعت بعد رحيله‪،‬‬

‫رائدة لنتاجات عصره األدبية والفنية واملوسيقية‪ ،‬هو الذي كان‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ممثيل‬ ‫مسكونا بِـ«فرح االحتفاء بالحدث الجديد»‪ ،‬وهو أحد‬

‫مرحلة تاريخية آفلة لكنها تبقى‪ ،‬حتى يومنا هذا‪ ،‬التعبري األنقى‬ ‫للحداثة‪.‬‬

‫‪173‬‬


‫معارض‬

‫معرض يستعيد تراث الرواد ‪1965-1938‬م‬

‫السورياليون المصريون‪:‬‬ ‫حين يكون الفن حرية‬

‫‪174‬‬

‫«الدمى والطائر والناري» ألحمد مصطفى‬ ‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬


‫القاهرة‬

‫لم تكن السوريالية مجرد مدرسة فنية ظهرت في النصف األول من القرن العشرين‪ ،‬لكنها‬ ‫كانت حركة احتجاج فكري وفلسفي وفني وأدبي على ما انتاب العالم من ركود وتصورات ثابتة‬ ‫أدت به إلى الحرب العالمية األولى‪ ،‬وأخذته إلى الحرب العالمية الثانية‪ ،‬ومن ثم كان بيان مؤسس‬ ‫السوريالية أندريه بريتون مبنيًّا على تصورات عالم النفس سيغموند فرويد الذي اهتم برمزية األحالم‪،‬‬ ‫والبحث في مكنونات العقل الباطن‪ ،‬وتصوراته عن الجسد‪ ،‬وكيفية انطالق رغباته المكبوتة في‬ ‫منطقة بين الوعي والالوعي‪ ،‬فضلاً عن االنحياز الواضح للطموح الشيوعي‪ ،‬ورغبته في بناء عالم‬ ‫بديل للهيمنة الرأسمالية وسدها ألفق األحالم‪ ،‬ومن ثم كان لفرويد وتروتسكي حضورهما القوي في‬ ‫مخيلة بريتون وهو يضع في باريس بيانه األول عام ‪1927‬م‪ ،‬ليصبح البيان التأسيسي لحركة الرفض‬ ‫العظمى المسماة بالسوريالية‪.‬‬ ‫عىل الجانب اآلخر من البحر املتوسط كان جورج صادق‬

‫كان من أعضائها كامل التلمساين‪ ،‬ورمسيس يونان‪ ،‬وأنغلو‬

‫يفكر مع والدته اإليطالية يف الذهاب إىل فرنسا إلكمال تعليمه‬

‫‪1938‬م أصدر ديوان «ال معقولية الوجود»‪ ،‬ويف العام نفسه‬

‫حنني‪ ،‬ابن الدبلومايس املصري صادق حنني‪ ،‬املولود عام ‪1914‬م‬

‫هناك‪ ،‬فحصل عىل الشهادة املؤهلة للجامعة من باريس‪،‬‬ ‫والتحق بالسوربون حاصلاً عىل ثالث شهادات يف القانون واآلداب‬

‫دي ريز‪ ،‬وإدمون جابس‪ ،‬وإيميل سيمون وغريهم‪ ،‬ويف عام‬

‫وصف أدولف هتلر الفن الحديث بأنه فن منحط‪ ،‬فأصدر حنني‬

‫بيانه «يف مديح الفن املنحط»‪ ،‬والذي وقع عليه شعراء وكتاب‬

‫والتاريخ‪ ،‬ومتابعً ا ملختلف األفكار التي تجتاح أوربا يف ذلك الوقت‪،‬‬ ‫بدءً ا من الشيوعية‪ ،‬وصولاً إىل الدادية التي لم تستمر طويلاً ‪،‬‬

‫وإدوارد بوالك‪ ،‬وإدوارد ليفي‪ ،‬وإرمان أنتيس‪ ،‬وألبري إسرائيل‪،‬‬

‫جماعة «محاولني» ناش ًرا مقاله األول تحت عنوان «العالم بال‬

‫سيمون‪ ،‬وأنغلو بولو‪ ،‬وأنغلو دريز‪ ،‬وأنور كامل‪ ،‬وأنيت فديدا‪،‬‬

‫لكن من رحمها جاءت السوريالية‪ ،‬ففي عام ‪1933‬م انضم إىل‬

‫روح» يف مجلتهم «آن إيفور»‪ ،‬ويف عام ‪1935‬م أصدر بيانه «من‬ ‫الالواقعية»‪ ،‬ويف هذا العام تعرف إىل رواد الحركة السوريالية‪،‬‬ ‫وأرسل خطابه األول ألندريه بريتون‪ ،‬ويف عام ‪1936‬م نشر يف‬

‫مصر بمجلة «لو رينت» مقالته «السوريالية يف امليزان»‪ ،‬وهي‬ ‫أول تأسيس معريف للسوريالية لدى املثقفني املصريني واألجانب‬

‫املقيمني بها‪ .‬ويف عام ‪1937‬م كون جماعة «الفن والحرية» التي‬

‫وفنانون وصحفيون من بينهم‪ :‬إبراهيم واسييل‪ ،‬وأحمد فهمي‪،‬‬ ‫وألبري قصريي‪ ،‬والتلمساين‪ ،‬وألكسندرا ميتشكويفسكا‪ ،‬وإيميل‬

‫وبوليتس‪ ،‬وكانتي‪ ،‬وجرمني إسرائيل‪ ،‬وجورج حنني‪ ،‬وحسن‬ ‫صبحي‪ ،‬ورافو‪ ،‬وزكريا العزوين عضو نقابة املحامني‪ ،‬وسامي‬

‫رياض‪ ،‬وسامي هانوكا‪ ،‬وإسكاليت عبدالخالق العزوين‪ ،‬وفاطمة‬

‫نعمت راشد‪ ،‬وسيف الدين‪ ،‬ومحمد نور‪ ،‬ونداف سيلري‪،‬‬ ‫وهاسيا‪ ،‬وهرني دوماين‪.‬‬

‫التجيل األعىل للتواصل مع العالم‬

‫تعرف جورج حنين إلى رواد الحركة‬

‫تأسست السوريالية يف مصر‪ ،‬بوصفها التجيل األعىل‬ ‫للتواصل مع العالم فنيًّا وفكريًّا‪ ،‬فضلاً عن الرغبة يف الثورة‪،‬‬

‫ألندريه بريتون‪ ،‬وفي عام ‪1936‬م نشر‬

‫املتوحشة‪ ،‬واإلقطاع املستوطن ربوع الريف‪ ،‬ولكن الثورة عىل كل‬

‫السوريالية‪ ،‬وأرسل خطابه األول‬ ‫في مصر بمجلة «لو رينت» مقالته‬ ‫«السوريالية في الميزان»‪ ،‬وهي‬

‫ليس فقط عىل االحتالل‪ ،‬والقوى العظمى‪ ،‬والرأسمالية‬ ‫ما هو ثابت ومعتاد ومستقر‪ .‬وعىل رغم أن جماعة الفن والحرية‬ ‫لم تعمر طويلاً ‪ ،‬فإنها تركت أثرها يف خيال كثري من املبدعني‬ ‫املصريني وفكرهم‪ ،‬فعىل غرارها جاءت العديد من الجماعات‪،‬‬

‫أول تأسيس معرفي عن السوريالية‬

‫كان من أبرزها يف الخمسينيات والستينيات جماعة الفن املعاصر‪.‬‬

‫المقيمين بها‬

‫فقد انتهت يف أعقاب الحرب العاملية الثانية‪ ،‬إال أنها بمغازلتها‬

‫لدى المثقفين المصريين واألجانب‬

‫وبالرغم من أن السوريالية كمدرسة فنية لم تعمر مدة طويلة‪،‬‬

‫األجواء النفسية الباطنية‪ ،‬وما يمثله الحلم من قيمة نفسية‪،‬‬

‫‪175‬‬


‫معارض‬

‫فقد ظلت ممتدة من ثالثينيات‬

‫القرن حتى الستينيات‪ ،‬كما ظلت‬

‫آثارها يف العديد من الفنانني‬ ‫املصريني كأحمد مصطفى‪ ،‬وذلك‬

‫يف مقتنياته القليلة يف السبعينيات‪،‬‬

‫قبل أن يغادر مصر ويتحول إىل أبرع‬ ‫فناين الخط يف العالم‪.‬‬

‫يف محاولة الستعادة تراث‬

‫السورياليني املصريني‪ ،‬وعرضه لرواد‬ ‫الفن ومحبيه يف كثري من البلدان‬ ‫العربية‪ ،‬جاءت فكرة معرض «حني‬ ‫يصبح الفن حرية‪ :‬السورياليون‬

‫املصريون ‪1938‬ـ ‪1965‬م» الذي افتتحت‬

‫الحلقة األوىل منه يف قصر الفنون‬

‫بدار األوبرا املصرية بحي الزمالك‪ ،‬يف املدة من ‪ 28‬سبتمرب حتى‬ ‫‪ 28‬أكتوبر ‪2016‬م‪ ،‬واملقرر له أن ينتقل إىل عدد من العواصم واملدن‬

‫قبل أن يختتم جولته يف املباين الفنية ملؤسسة الشارقة للفنون‬

‫‪176‬‬

‫«الحلم» لفؤاد كامل‬

‫متحف الفن املصري الحديث‪ ،‬ومتحف إنجي أفالطون‪،‬‬ ‫ومتحف اإلسكندرية للفنون الجميلة‪ ،‬ومتحف اإلسكندرية‬

‫عام ‪2018‬م‪.‬‬ ‫لاً‬ ‫ضم املعرض أكرث من مئة وخمسني عم لكل من‪:‬‬

‫للفن الحديث‪ ،‬ومتحف محمود سعيد‪ ،‬ومؤسسة بارجيل‬ ‫للفنون بإمارة الشارقة‪ ،‬فضلاً عن مقتنيات خمس أسر مصرية‪.‬‬

‫وكامل التلمساين‪ ،‬وفؤاد كامل‪ ،‬وإنجي أفالطون‪ ،‬ومحمود‬

‫والشيخة حور القاسمي رئيسة مؤسسة الشارقة للفنون‪،‬‬

‫رمسيس يونان‪ ،‬وراتب صديق‪ ،‬وسمري رافع‪ ،‬وحسني فوزي‪،‬‬ ‫سعيد‪ ،‬وكمال يوسف‪ ،‬وإيمي نمر‪ ،‬وحامد ندا‪ ،‬ومنري‬

‫كنعان‪ ،‬وأحمد مريس‪ ،‬وعبدالهادي الوشاحي‪ ،‬وعبدالهادي‬

‫وقد افتتح املعرض كل من وزير الثقافة املصري حلمي النمنم‪،‬‬ ‫وكان من املفرتض أن تصدر مع املعرض عدة أعمال توثيقية‬

‫الجزار‪ ،‬وإبراهيم مسعودة‪ ،‬وأحمد مصطفى‪ ،‬وصالح طاهر‪،‬‬ ‫وإسماعيل محمد‪ ،‬وعطية حسني‪ ،‬ومحمد رياض سعيد‪،‬‬

‫ومحمد القباين‪ ،‬وسالم عبدالله الحبيش‪ ،‬وباروخ‪ ،‬وكارلو‬ ‫ديس ديرو‪ ،‬وأريستد بابا جورج‪.‬‬

‫وجاء هذا املعرض كثمرة تعاون بني وزارة الثقافة املصرية‬

‫ومؤسسة الشارقة للفنون والجامعة األمريكية يف مصر‪ ،‬وذلك‬ ‫بعدما عقدت الجامعة األمريكية عام ‪2015‬م مؤتم ًرا دوليًّا عن‬

‫السورياليني املصريني بعنوان «السورياليون املصريون من‬

‫منظور عاملي»‪ ،‬ومن ثم طرحت مؤسسة الشارقة فكرة إقامة‬ ‫معرض متجول للسورياليني املصريني ووافقت عليه وزارة‬ ‫الثقافة‪ ،‬ومن ثم اختريت اللوحات املعروضة من بني مقتنيات‬

‫على رغم أن جماعة الفن والحرية‬ ‫لم تعمر طويال‪ ،‬فإنها تركت أثرها‬ ‫في خيال كثير من المبدعين‬ ‫المصريين وفكرهم‬ ‫«الرجل والقط» للجزار‬

‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬


‫السورياليون المصريون‪ :‬حين يكون الفن حرية‬

‫كصور وملصقات وكتالوجات ملعارض ومقتطفات من صحف‬ ‫ومجالت وبيانات موثقة‪ ،‬فضلاً عن طبعة جديدة ومرتجمة‬

‫منظمي املعرض يضربون بعنوانه «السورياليون املصريون من‬ ‫‪1938‬م حتى ‪1965‬م» عرض الحائط‪ ،‬عارضني أعمالاً لفنانني يف‬

‫لكن ذلك لم يحدث‪.‬‬

‫مع السوريالية‪ ،‬لكنهم ليسوا سورياليني‪ ،‬كمنري كنعان‪،‬‬

‫إىل اإلنجليزية من كتاب سمري غريب «السوريالية يف مصر»‪،‬‬

‫انتقادات‬

‫أزمنة الحقة‪ ،‬فضلاً عن عرضهم أعمالاً لفنانني تالقت أفكارهم‬ ‫وعبدالهادي الوشاحي‪ ،‬وغريهما‪.‬‬

‫يف الجانب اآلخر ذهب أستاذ الفن يف جامعة غولدوين‬

‫لم يكن عدم صدور املطبوعات املصاحبة للمعرض هو‬

‫سميث الدكتور صالح حسن الذي حضر وشارك يف التنظيم‬

‫الناقدة التشكيلية فاطمة عيل عن دور النقاد والفنانني املصريني‬

‫االهتمام بالسوريالية املصرية وتراثها‪ ،‬وأن املعرض «يمكننا من‬

‫االنتقاد الوحيد الذي وجه للقائمني عىل التنظيم‪ ،‬فقد تساءلت‬ ‫يف التنظيم الذي استأثرت به مؤسسة الشارقة‪ ،‬رافضة فكرة أن‬ ‫تتيح مصر كنوزها الفنية يك تتجول يف الخارج‪ ،‬كما رفضت‬

‫تربير رئيس قطاع الفنون التشكيلية الدكتور خالد سرور بعرض‬

‫كل هذا العدد من اللوحات واألعمال الفنية عالية القيمة خارج‬ ‫مصر يف معرض متجول بأن ذلك أفضل من تركها يف املتاحف‬ ‫رئيسا للقطاع «يف ترك متاحفنا‬ ‫املغلقة‪ ،‬متسائلة عن وظيفته‬ ‫ً‬

‫مغلقة‪ ،‬وهل يجوز أن يكون البديل هو الدخول يف شراكة غري‬ ‫عادلة مع مؤسسة الشارقة التي قامت باالختيار والتنظيم‬ ‫واإلعداد للعرض‪ ،‬حتى إننا ال نعرف األماكن أو القاعات‬ ‫التي سيعرض بها‪ ،‬وال ما إذا كانت مجهزة ومؤمنة لعرض‬

‫مثل هذه الكنوز أم ال؟»‪ .‬وتساءلت عن األسباب التي جعلت‬

‫واالفتتاح إىل أن هذا املعرض يجيء بالتزامن مع تصاعد‬

‫التأكيد عىل مفهوم الحداثة والطرق املختلفة للتعبري عنها‪،‬‬ ‫وعىل صيغ التعدد والتجاور بدلاً من نفي الحداثة التي أنتجت‬ ‫خارج املركزية األوربية»‪ .‬ويذهب حسن إىل أن السوريالية‬ ‫املصرية بدأت بجماعة الفن والحرية‪ ،‬ومن بني أعضائها كامل‬

‫التلمساين‪ ،‬وفؤاد كامل‪ ،‬وإبراهيم واسييل‪ ،‬وسامي رياض‬

‫وغريهم‪ ،‬هذه التجربة قصرية األمد التي تركت أثرها الواضح‬ ‫يف كثري من الفنانني املصريني حتى ظهرت جماعات أخرى‪،‬‬

‫مثل جماعة الفن املعاصر يف الخمسينيات والستينيات‪ ،‬ومن‬

‫بني أعضائها عبدالهادي الجزار‪ ،‬وكمال يوسف‪ ،‬وحامد ندا‪،‬‬ ‫وماهر رائف‪ ،‬ومنري كنعان‪ ،‬وسالم الحبيش‪ ،‬وسمري رافع‪،‬‬

‫وإبراهيم مسعودة‪ ،‬وحسني يوسف أمني‪.‬‬

‫«مشهد طوطمي» لرمسيس يونان‬

‫‪177‬‬


‫مسرح‬

‫االتجاه الوثائقي‬ ‫في المسارح األوربية‬ ‫فضاء لعالقة جديدة بين السياسي والفني‬ ‫نورا أمين‬

‫كاتبة وفنانة مصرية‬

‫عندما قدم المخرج المسرحي السويسري ميلو راو عمله األشهر «محاكمات موسكو»‬ ‫في عام ‪2013‬م‪ ،‬كان يفتتح بذلك موجة جديدة من الشهية األوربية للمسرح التوثيقي‪ .‬فعلى‬ ‫الرغم من امتداد نزعة المسرح التوثيقي بمختلف أساليبه في أوربا منذ قرابة منتصف القرن‬ ‫العشرين حتى اآلن‪ ،‬فإن تلك الشهية الجديدة قد وضعت هذا التيار في قلب االهتمام‬ ‫المسرحي‪ ،‬وربطته بدينامية جديدة في العالقة بين ما هو سياسي وما هو فني‪.‬‬

‫‪178‬‬

‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬


‫«محاكمات موسكو» هي تجربة فريدة يف مسرحة حدث كان‬

‫قد وقع بالفعل يف موسكو‪ ،‬وإعادة تجسيده مسرحيًّا‪ ،‬مع االحتفاظ‬ ‫بمساحات كبرية من حرية الحدث الفوري‪ ،‬ومن استجابات املشاركني‬

‫وتفاعالتهم‪ .‬أما الحدث األصيل الذي كان قد وقع بالفعل فقد كان‬ ‫يف عام ‪2003‬م‪ ،‬عندما تعرض املعرض الفني ‪Caution! Religion‬‬

‫إىل املنع‪ ،‬حوكم فنانوه‪ ،‬وما لبث أن حل عام ‪2006‬م‪ ،‬حتى تعرض‬ ‫معرض فني آخر بعنوان ‪ Forbidden Art‬إىل مصري مماثل لسابقه‪،‬‬

‫ويف الحالتني صادرت الدولة محتويات املعرض‪ ،‬أو ُدمِّرت‪ ،‬ثم أخيل‬

‫سبيل الفنانني بكفالة بعدها‪ .‬أما الحدث األقرب زمنيًّا فهو الدقيقة‬ ‫التي قضتها ثالث فتيات من النشء يف الغناء وعزف املوسيقا داخل‬ ‫كاتدرائية املسيح املخلص بموسكو‪ ،‬وهو ما أدى إىل القبض عليهن‬ ‫ومحاكمتهن وترحيل اثنتني منهن إىل معسكر تأديبي‪ ،‬وأُخيل سبيل‬ ‫واحدة فقط‪ ،‬وذلك يف عام ‪2012‬م‪.‬‬

‫تنتفض أجساد الراقصين لتقبض على‬ ‫األلم والعذاب والتعذيب‪ ،‬فنرى‬ ‫أمامنا شهادة األجساد التي تصدم‬ ‫وعينا بقسوة نادرة‪ ،‬فتقدم جوهر‬ ‫تلك الوثيقة‪ ،‬أي العذاب والفجيعة‬ ‫والهول‪ ،‬وهو الجوهر الذي ال يمكن‬ ‫أن تنقله اللغة الكالمية فحسب‪ ،‬وال‬ ‫تكتمل الوثيقة بدونه‬ ‫الحقيقية‪ ،‬فهم ليسوا ممثلني‪ ،‬بل هم فعلاً من أصحاب تلك املهن‬

‫القانونية والقضائية يف الواقع‪ .‬كذلك اختريت هيئة املحلفني بدقة‬

‫وأما تجربة املسرحة فهي مغامرة ميلو راو التي خاضها عىل مدار‬

‫بالغة‪ ،‬وبتنوع ال يقل عما يجري يف املحاكمات الحقيقية‪ .‬كان هناك‬ ‫شهود اس ُتدعوا للشهادة‪ ،‬وكان هناك فنانون وشخصيات عامة من‬

‫ومحام‬ ‫قاض‬ ‫االفرتاضية كل أعضاء الهيئة الطبيعية للمحكمة من ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ومدعي الحق العام وهيئة املحلفني‪ ،‬وكانوا كلهم يؤدون أدوارهم‬

‫املبادئ العامة للحدث املسرحي عىل مدار ثالثة األيام‪ ،‬فكان ذلك هو‬

‫ثالثة أيام متتالية يف متحف ساخاروف بموسكو يف عام ‪2013‬م بعقد‬

‫محاكمة افرتاضية ملصري تلك األعمال الفنية‪ ،‬وضمت تلك املحاكمة‬

‫اليمني ومن اليسار‪ .‬قام ميلو راو بتجميع تلك الشخصيات وبوضع‬ ‫بمنزلة إخراجه للحدث‪ ،‬أو وضعه لدراماتورجيته‪.‬‬ ‫حالة وثائقية بامتياز‬

‫لقد قدم ميلو راو أسلوبًا جديدًا للمسرح التوثيقي يتعدى‬

‫املفهوم التقليدي للوثيقة املسرحية‪ ،‬أو إلعادة تجسيد الحدث‬ ‫ومسرحته‪ ،‬أو عرض لقطات أرشيفية وشهادات من الحدث نفسه‪،‬‬

‫فقد أسس لحالة وثائقية بامتياز بمجرد اختياره مشاركة أشخاص‬

‫بصفتهم املهنية الحقيقية‪ ،‬أو بهوياتهم األصلية‪ ،‬فهذا املبدأ يف حد‬ ‫ذاته هو بوابة خاصة جدًّا لطابع وثائقي جديد‪ .‬وإىل جانب هذا املبدأ‬

‫األساس نجد االختيار الثاين الشائك أكرث‪ ،‬أال وهو ترك الحرية لهؤالء‬ ‫يك يقولوا ما يريدونه‪ ،‬ويتفاعلوا معً ا دون سيناريو سابق‪ ،‬ولهذا‬ ‫االختيار مرتتبات يف غاية الرثاء تقوم يف معظمها عىل فكرة األصالة‬

‫يف الفعل وفورية الحدث‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ومع ذلك كله كان الجميع يسري وفقا ملبادئ وضعها ً‬ ‫أيضا ميلو‬ ‫راو‪ ،‬سواء من ناحية ترتيب املداخالت‪ ،‬أو مدة كل مداخلة‪ ،‬أو البنية‬

‫العامة للحدث التي تحايك البنية الحقيقية للمحاكمة‪ .‬وقد قدم‬ ‫ميلو راو أعمالاً تالية يف هذا األسلوب نفسه‪ ،‬وبما يثبت أنه قد أصبح‬ ‫صاحب أسلوب خاص يف املسرح التوثيقي األوربي‪ ،‬إنه األسلوب‬

‫الذي يعيد املسرح إىل وضعه كفضاء مواجهة وتفاوض وتفويض‪،‬‬ ‫من داخل البنية الدرامية الطبيعية للمحاكمة‪ ،‬أما فورية الحدث‬

‫وراهنيته وتفاعليته فتضفي عىل ذلك الفضاء طابع الوثيقة الحية‬ ‫املتولدة من جميع املشاركني‪ ،‬التي يؤدي فيها املخرج دور القابلة‪.‬‬

‫عىل الجانب اآلخر من أسلوب ميلو راو يف املسرح التوثيقي‪،‬‬

‫مشهد من مسرحية كي ال ننسى‬

‫ظهرت مبادرات مؤخ ًرا تقوم عىل دمج الثقافات ومقارباتها املختلفة‬

‫‪179‬‬


‫مسرح‬

‫مشهد من مسرحية محاكمات موسكو‬

‫ملا هو توثيقي أو سريي‪ .‬من تلك املبادرات مشروع املسرح األملاين‬

‫والعذاب والتعذيب‪ ،‬فرنى أمامنا شهادة األجساد التي تصدم وعينا‬

‫النيجريي ومصمم الرقص عبدالقدوس أونيكوكو‪ ،‬لتقديم عرضه عن‬

‫والهول‪ ،‬وهو الجوهر الذي ال يمكن أن تنقله اللغة الكالمية‬

‫‪ Ballhaus Naunystrasse‬يف برلني عام ‪2016‬م للتعاون مع املخرج‬

‫اإلبادة الجماعية كجريمة متعددة الوجوه‪ ،‬وليست خاصة بثقافة‬

‫بعينها‪ .‬والالفت للنظر هنا أن املؤسسات املسرحية األوربية تتمكن‬

‫‪180‬‬

‫من االحتفاء بالتجارب األوربية الطليعية الخالصة‪ ،‬مثل تجربة‬

‫السويسري ميلو راو‪ ،‬لكنها ال تجعل االحتفاء حك ًرا عىل فنان أو حتى‬ ‫عىل ثقافة‪ ،‬حيث يتسع أفق اإلنتاج والعرض األوربي لتقدير املبادرات‬

‫األخرى‪ ،‬حتى إن كانت عىل طرف النقيض فنيًّا من التجربة األوربية‪.‬‬ ‫يك ال ننىس‬

‫بقسوة نادرة‪ ،‬فتقدم جوهر تلك الوثيقة‪ ،‬أي العذاب والفجيعة‬

‫فحسب‪ ،‬وال تكتمل الوثيقة بدونه‪.‬‬

‫املقارنة السريعة بني «محاكمات موسكو» و«يك ال ننىس» تفيد‬

‫بعدة ملحوظات حيوية‪ ،‬أولها هو غياب جانب العاطفة أو التأثري‬

‫الشعوري أو الوثاق ‪-‬الذي عادة ما يحدث بني املتفرج والعرض‬ ‫أو الحدث املسرحي‪ -‬يف تجربة ميلو راو‪ ،‬فالتجربة تركيبة ذهنية‬ ‫بالدرجة األوىل‪ ،‬أما عرض عبدالقدوس فيثمن التأثري العاطفي‪ ،‬بل‬

‫يسعى بأدواته إلحداث ذلك الوثاق الذي يشعر املتفرج من خالله‬ ‫بأن الواقعة األصلية تمر من خالل حواسه‪ ،‬ويتوحد مع أبطالها ولو‬

‫يف هذا السياق يبدو العرض الراقص لعبدالقدوس «يك ال‬

‫كانوا مجهولني له‪ .‬أما امللحوظة الثانية فتكمن يف الهوة الكبرية بني‬

‫جسدية ألن عرضه راقص‪ ،‬ومن ناحية أخرى هي وثيقة مصممة‬

‫اإلبادة الجماعية التي تهدد اإلنسانية‪ ،‬وتتأسس عىل محو لقيمة‬

‫ننىس» كوثيقة حية من نوع خاص جدًّا‪ ،‬فهي من ناحية وثيقة‬ ‫بالكامل ال تدع أي مجال لالرتجال أو التفاعل الحي‪ ،‬أو تدخل‬

‫املتفرجني‪ .‬إنها إذن وثيقة جسدية راقصة‪ ،‬يقدمها الراقصون يف‬ ‫حالة مسرحية مكتملة بمصاحبة شهادات حقيقية ُت َسرد من جانب‬ ‫ً‬ ‫أحيانا بالغناء وبالصوتيات‪ .‬تصاحبنا تلك الشهادات‬ ‫ممثلة تقوم‬

‫لضحايا اإلبادات الجماعية كصوت شاهد حي‪ ،‬شاهد عيان هو‬ ‫ضحية وبطل‪ ،‬أما أجساد الراقصني فتنتفض لتقبض عىل األلم‬

‫تجارب تراوح بين موضوع حرية التعبير‬

‫املوضوعني؛ موضوع حرية التعبري ومحاكمته قانونيًّا‪ ،‬وموضوع‬ ‫اإلنسان‪ ،‬وعىل هيمنة الوحش البشري‪.‬‬ ‫يف ظني أن كلاًّ من املوضوعني يف غاية األهمية لصانعه‪،‬‬

‫لكن الصانع األوربي يجد همه الفني السيايس يف الدفاع عن حرية‬

‫التعبري‪ ،‬أما الصانع اإلفريقي فيجده يف الدفاع عن الحق يف الحياة‪.‬‬ ‫ثم يوضع العمالن يف السوق املسرحي األوربي‪ ،‬ويخلفان تساؤلاً‬

‫جوهريًّا حول التصنيف الذي يناله كل من العملني‪ ،‬فهل تتبع أوربا‬ ‫التصنيف السيايس فتعد عمل عبدالقدوس صرخة ضد أنظمة القهر‬

‫يف العالم؟ أم تصنفه يف خانة كفاح إفريقيا العجوز من أجل مداواة‬ ‫مصائبها التي ال تمت بصلة ألوربا‪ ،‬وليس للغرب أي يد فيها؟ وهل‬

‫ومحاكمته قانون ًّيا‪ ،‬وموضوع اإلبادة‬

‫تصنف عرض ميلو راو بوصفه نقدًا للمجتمع الرويس وحسب‪ ،‬أم‬

‫وتتأسس على هيمنة الوحش البشري‬

‫الجديدة بني ما هو سيايس وما هو مسرحي‪ ،‬وهي الدينامية التي‬

‫الجماعية التي تهدد اإلنسانية‬

‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬

‫بوصفه نقدًا لليمني األوربي الصاعد؟ تلك تساؤالت تؤكد الدينامية‬ ‫يحتل محورها املسرح الوثائقي اآلن‪.‬‬


‫نصوص‬

‫أنثى أنا‬ ‫إبراهيم العواجي‬ ‫دعني‬

‫أسافر في‬

‫ت‬ ‫ِ‬ ‫كهوف الصمْ ِ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫الصمت‬ ‫عل‬

‫شاعر سعودي‬

‫ْ‬ ‫وألف ْ‬ ‫مث َ‬ ‫لك‬ ‫قد يقول‬ ‫لك َّنني‬ ‫وحدي‬ ‫أُ ُ‬ ‫فتش‬

‫يمنحُ ني‬ ‫ً‬ ‫للهروب‬ ‫طريقا‬ ‫ْ‬

‫عن ضياءٍ‬

‫فأنا‬ ‫ْ‬ ‫ت ْ‬ ‫الركضَ‬ ‫ملل ُ‬ ‫ً‬ ‫حافية‬

‫ُ‬ ‫عدت‬ ‫ما‬ ‫ُ‬ ‫أَحْ ِفل بالمديح‬

‫الدروب‬ ‫ْ‬

‫ْ‬ ‫األثيرة‬ ‫إني‬

‫َ‬ ‫تقاذ ُفني‬

‫موج َ‬ ‫ك‬ ‫ما بين‬ ‫ِ‬ ‫هادرًا‬

‫يؤوب‬ ‫ال‬ ‫ْ‬

‫فال َت ُق ْل‬

‫ْ‬ ‫دعني‬ ‫بربّكَ‬

‫ْ‬ ‫أخ ْ‬ ‫تبئ‬

‫أحسبُها‬ ‫النحيب‬ ‫تباد ُِلني‬ ‫ْ‬

‫ت‬ ‫في غابة الصمْ ِ‬

‫والتي ُه‬

‫حتى‬

‫يسكنُ داخلي‬

‫ويكا ُد‬ ‫يسلبني اإلرادةْ‬ ‫كيال‬ ‫أُسائلَ‬ ‫جيب‬ ‫أ ْو أُ ْ‬ ‫أُنثى أنا‬

‫ْ‬ ‫تقول؟‬ ‫أكذا‬

‫الرحيم‬

‫المشيب‬ ‫يداهمَ ني‬ ‫ْ‬

‫‪181‬‬


‫نصوص‬

‫على الرصيف قري ًبا من سور المدينة‬ ‫محمود شقير‬

‫كاتب فلسطيني‬

‫لقاء‬

‫ُ‬ ‫انتظرت ليلى ساعتين‪.‬‬

‫رأيناهما معً ا‪ ،‬هو والمرأة‪ .‬في يده دفتر سميك‪ ،‬وهي تسير‬

‫ً‬ ‫بحثا عن سالح ناريّ أو‬ ‫ف ّتشني الجنود عند باب الخليل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الخطاب الذي يعجّ بالسيّاح‬ ‫سكين‪ .‬دخلت ميدان عمر بن‬

‫إلى جواره بخطوات واثقة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫متأك ًدا من ذلك‬ ‫قلت‪ :‬أظنّ ّأنني أعرفهما‪ ،‬لك ّنني لست‬

‫األمكنة‪ ،‬والقدس تتسربل بغموض ما‪ .‬انتظرتها في‬

‫وقلت‪ :‬دفتره مثير للفضول‪.‬‬

‫وبأعداد من المستوطنين‪ .‬كان المساء ينشر ّ‬ ‫ظله على‬

‫المقهى الذي يتر ّدد عليه السيّاح‪ .‬هنا لن ترانا عيون‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫تشاغلت‪ ،‬وأنا أنتظرها‪ ،‬في تأمّ ل حيطان‬ ‫المتلصصين‪.‬‬

‫المقهى‪ ،‬حيطان قديمة جرى ترميمها لتقاوم وطأة الزمن‪.‬‬ ‫على صدر الحائط صورة لألب الكبير‪ ،‬صاحب المقهى‬

‫األوّل‪ ،‬والد إميل‪ .‬وثمّ ة صورة للميدان يعود تاريخها‬

‫‪182‬‬

‫دفتر سميك‬

‫إلى عام ‪1920‬م‪ ،‬يظهر فيها عدد من الجنود البريطانيين‬ ‫ّ‬ ‫احتلوا فلسطين‪ .‬جاءت ليلى واعتذرت ّ‬ ‫ألنها ّ‬ ‫تأخرت‬ ‫الذين‬ ‫في الوصول‪ .‬قالت‪ :‬طوّق الجنود اإلسرائيليّون حيّنا‪،‬‬ ‫ف ّتشوا البيوت ً‬ ‫بحثا عن شباب مطلوبين‪ .‬ولم يسمحوا لنا‬

‫بالخروج إال بعد انتهاء التفتيش‪ .‬كان في عينيها ٌ‬ ‫فزع ما‪.‬‬ ‫اقترب م ّنا إميل‪ .‬طلبنا فنجانين من القهوة‪ .‬خلعت ليلى‬

‫اآلن‪.‬‬

‫قالت ليلى‪ :‬نعم‪ ،‬صحيح‪.‬‬

‫دخال المقهى الذي اعتدنا الجلوس فيه‪ .‬فتح الدفتر وراح‬ ‫يكتب والمرأة ترمقه بإعجاب‪.‬‬

‫واصلنا‪ ،‬أنا وليلى‪ ،‬حلمنا‪ ،‬وكان دفتره السميك على‬ ‫مسافة حلم م ّنا أو حلمين‪ .‬غافلتها‪ ،‬وانفردت بنفسي‬ ‫ّ‬ ‫أتذكر أين قابلت هذا الرجل وهذه‬ ‫في حلم خاص‪ ،‬ورحت‬

‫المرأة! ولم تسعفني الذاكرة‪ .‬غضبت من حلمي الذي‬ ‫يجعلني غير قادر على تحديد األسماء وتمييز األشخاص‪.‬‬ ‫وكنت معنيًّا بأال تعرف ليلى ما أحلم به‪ .‬لك ّنها فاجأتني‬ ‫ّ‬ ‫تتذكرهما أخبرني من هما على وجه التحديد‪.‬‬ ‫وقالت‪ :‬حين‬

‫أومأت لها باإليجاب‪ ،‬وكانت السماء تنذر بمطر غزير‪.‬‬

‫المنديل‪ ،‬فانسرح شعرها مثل طيور خرجت من قفص‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫فكت أزرار الجلباب‪ ،‬فاندلع اللون الورديّ البهيج لفستانها‬

‫صباح الشغل‬

‫شهي لندخل في‬ ‫أمضينا ساعة ونحن نخرج من حديث‬ ‫ّ‬ ‫حديث آخ َر شهي‪.‬‬

‫ارتديت مالبسي‪ ،‬شربت القهوة وغادرت البيت‪ .‬فتحت‬

‫الخفيف‪.‬‬

‫تذكرت ً‬ ‫ّ‬ ‫المبكر‪ّ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫نتفا من أحالمي الليليّة‬ ‫نهضت في الصباح‬ ‫ثمّ اتجهت إلى الحمّ ام‪ .‬اغتسلت كعادتي ّ‬ ‫كل صباح‪،‬‬

‫باب السيّارة وجلست خلف عجلة القيادة‪ ،‬وذهبت من‬ ‫رأس النبع إلى باب العمود‪ .‬هناك انتظرت ّ‬ ‫الركاب‪ ،‬وكنت‬ ‫بين الحين واآلخر أتبادل أحاديث عابرة مع زميلي رهوان‬

‫وزمالء آخرين‪ ،‬وأتأمّ ل في الوقت نفسه المدينة التي‬ ‫تعجّ بالخلق‪ ،‬وال ّ‬ ‫يعكر صفوها سوى الجنود‪ ،‬في أيديهم‬

‫معادن صقيلة لسفك الدماء‪ .‬وثمّ ة على األرصفة واألدراج‬ ‫رجال حذرون‪ ،‬أو هكذا ُخيّل لي‪ .‬وثمّ ة بنات وأوالد ذاهبون‬ ‫إلى مدارسهم‪ ،‬ونساء م ّتجهات إلى داخل البلدة القديمة‬

‫للتسوّق أو لاللتحاق بوظائفهن‪ .‬وال يحلو لي الصباح‬

‫إال حين أرى ليلى وهي قادمة بمشيتها الرشيقة فوق‬ ‫العددان ‪ 484 - 483‬ربيع اآلخر ‪ -‬جمادى األولى ‪1438‬هـ ‪ /‬يناير ‪ -‬فبراير ‪2017‬م‬


‫الرصيف‪ ،‬ثمّ وهي تضع قدمها على أوّل الدرج النازل إلى‬ ‫باب العمود‪ ،‬في طريقها إلى المدرسة التي ُتمضي فيها‬ ‫نهارها وهي ّ‬ ‫تعلم البنات واألوالد‪.‬‬

‫هذا الصباح رأيتها‪ .‬نظرت نحوها بحذر‪ ،‬وهي نظرت نحوي‬ ‫ّ‬ ‫الخاصة تحيّة‬ ‫بحذر‪ ،‬وك ّنا كما لو ّأننا نتبادل بطريقتنا‬

‫الصباح‪ .‬قلت لنفسي‪ :‬حين أرى ليلى وتراني يكون صباحي‬ ‫وصباحها أبهى وأجمل‪.‬‬ ‫الدفتر‬

‫دخل الرجل حلمنا‪ ،‬فلم ُنظهر أيّ استياء‪ .‬وكانت المرأة‬ ‫مالزمة له مثل ّ‬ ‫ّ‬ ‫وانكب عليه يكتب‬ ‫ظله‪ .‬فتح دفتره السميك‬ ‫تسللت مثل ّ‬ ‫ُ‬ ‫قط رشيق ح ّتى اقتربت منه‪ ،‬ورحت‬ ‫فيه‪.‬‬

‫أسترق النظر إلى ما يكتبه‪ .‬كانت المرأة تجلس إلى جواره‬ ‫وهي تقرأ في كتاب‪ّ .‬‬ ‫دققت النظر في صفحة الدفتر‪ ،‬ولم‬

‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تخطه يده‪ .‬كانت الكلمات تنداح من‬ ‫أتمكن من قراءة ما‬ ‫عيني ّ‬ ‫لعلني أستطيع القراءة‬ ‫قلمه مثل ماء جدول‪ .‬فركت‬ ‫ّ‬

‫ّ‬ ‫تحدق‬ ‫ولكن من دون جدوى‪ .‬اقتربت منه ليلى‪ ،‬وراحت‬ ‫في صفحة الدفتر‪ ،‬ولم تستطع القراءة‪ُ .‬لمنا حلمنا ولم‬

‫نستطع تبديله بحلم آخر مطواع‪ .‬بعد وقت‪ ،‬نهض الرجل‬ ‫ونهضت المرأة‪ ،‬وضع يدها في يده وسارا معً ا‪ ،‬ربّما إلى‬

‫للسيّارة وجلست وقالت‪ :‬خذني إلى البيت إنْ سمحت‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫شغلت المحرّك وانطلقت السيّارة في الشارع الرئيس نحو‬

‫بيتها‪ .‬في الطريق‪ ،‬تمازحنا كما لو ّأننا في حلم‪ ،‬مددت‬

‫ْ‬ ‫نظرت ليلى‬ ‫يدي إلى الخلف لتلمس يدها‪ .‬تعانقت يدانا‪.‬‬

‫نحو الخارج ثم ّ‬ ‫ارتد بصرها نحوي وقالت‪ :‬الخوف يتربّص‬ ‫بي في ّ‬ ‫كل مكان‪.‬‬

‫تأمّ لت وجهها عبر المرآة وقلت‪ :‬أرجوك‪ ،‬ال تذكري الخوف‬

‫اآلن‪ .‬ثمّ أوقفت السيّارة قريبًا من البيت‪.‬‬ ‫من بين األسطر‬

‫البيت‪ ،‬أو إلى مطعم‪ ،‬أو إلى نزهة في شوارع المدينة‪.‬‬

‫ُ‬ ‫فرحت حين التقيتها‪ ،‬ولم يكن هناك رقيب‪ .‬اقتربت م ّني‬

‫مدينة ينام أهلها في النهار ويقضون ليلهم ساهرين‪.‬‬

‫قميص النوم‪ ،‬وشعرها منعوف على وجهها وعلى صدرها‬

‫أقلعت عن النظر إليهما‪ ،‬وقدت ليلى من يدها ودخلنا‬

‫ووقفنا أمام الشبّاك‪ .‬بياض جسدها يتالمح من تحت‬

‫نهار ٌبهيج‬

‫من دون ارتباك‪ .‬قالت بخيالء‪ :‬أنا ال أخاف‪ .‬قلت‪ :‬وأنا‬ ‫ً‬ ‫أيضا ال أخاف‪ .‬خيّم علينا صمت‪ ،‬وفي األثناء‪ ،‬رأيناه يفتح‬

‫ُ‬ ‫جلست خلف عجلة القيادة‪ ،‬قريبًا من باب العمود‪ ،‬في‬

‫انتظار راكب أو راكبة‪ .‬أخرجت كتابًا كنت وضعته في جيب‬ ‫السيّارة لكي أقرأ فيه ّ‬ ‫كلما وجدت وق ًتا لذلك‪ ،‬لم يكن‬ ‫زمالئي معجبين بقراءتي للكتب‪ ،‬ولم آبه لهم‪ .‬انهمكت‬

‫دفتره السميك‪ ،‬يكتب فيه بضعة أسطر‪ ،‬تندلع من بين‬ ‫األسطر صيحة ممطوطة لرجل ّ‬ ‫يتألم مثل حيوان جريح‪.‬‬

‫تمأل صيحاته فضاء حلمنا‪ .‬ارتعش جسدي‪ ،‬وبدا جسد‬ ‫ليلى كما لو ّأنه تعرّض النتهاك‪ .‬حين انتهى من الكتابة‪،‬‬

‫عيني عن الكتاب‪ ،‬وكانت حركة‬ ‫في القراءة‪ ،‬ثمّ رفعت‬ ‫ّ‬ ‫الناس فوق األرصفة على ّ‬ ‫أشدها‪ .‬أعدت الكتاب إلى مكانه‪،‬‬

‫تقرأ في كتاب‪.‬‬

‫فجأة‪ ،‬ظهرت ليلى وهي تسير نحوي على الرصيف‪ ،‬ولم‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وتغطي‬ ‫عيني للوهلة األولى‪ .‬كانت ترتدي جلبابها‪،‬‬ ‫أصدق‬ ‫ّ‬

‫قلت‪ :‬ربّما‪.‬‬ ‫وقلت‪ّ :‬‬ ‫كأنني سمعت هذه الصيحات من قبل‪.‬‬

‫وتأمّ لت ما حولي بانتباه‪.‬‬

‫كعادتها شعر رأسها بمنديل‪ .‬فتحت الباب الخلفي‬

‫أغلق دفتره وتأمّ ل وجه المرأة الجالسة إلى جواره وهي‬

‫قالت ليلى‪ّ :‬‬ ‫كأنه يكتب عن مأساة‪.‬‬

‫ّ‬ ‫أتمكن من ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫تذكر أيّ شيء‪.‬‬ ‫أتذكر أين سمعتها‪ ،‬ولم‬ ‫رحت‬

‫‪183‬‬


‫مقال‬

‫أمجد ناصر‬ ‫شاعر وكاتب أردني‬

‫الطريق إلى حلب‬ ‫ال يعرف الطيارون الذين يلقون الصواريخ والبراميل‬

‫المتفجِّ رة على قلب حلب وأطرافها أيَّ وقع السم هذه المدينة‬

‫في المتخيل والوجدان العربيين‪ .‬مدن قليلة في عالمنا العربي‬ ‫تحتفظ برنين َّ‬ ‫الذهب الذي لحلب‪ .‬أقدم مدينة مأهولة على وجه‬

‫األرض (األلفية السادسة ق‪ .‬م)‪ .‬أخت الشام وجارة الموصل‪.‬‬ ‫ثالث أكبر مدن السلطنة العثمانية بعد إسطنبول والقاهرة‪.‬‬

‫الشهباء‪ .‬همزة الوصل الحضارية بين المتوسط وبالد الرافدين‪.‬‬ ‫نهاية طريق الحرير‪ .‬مقصد الشعراء والمتصوفة‪ .‬ال أعرف كيف‬

‫تلفظ حلب بالروسية‪ .‬ربما مثل اإلنجليزية‪ :‬ألبّو‪ .‬لكن هل ألبّو‬ ‫مثل حلب؟ هذا الحرف الحلقي المهموس الذي يبدأ به اسم‬

‫‪184‬‬

‫المدينة‪ .‬حلب ليست ألبّو؛ ألنها في هذا االسم تتجرد من آالف‬

‫بشريًّا من قومهم‪ ،‬أو الموالين لهم‪ ،‬في ركابهم‪ .‬إنهم ال يكتفون‬

‫باالحتالل العسكري بل يدعمونه باالستيطان‪.‬‬

‫ليس هناك شاعر عربي تلقاه أمامك عندما تتحرك في‬

‫الجغرافيا العربية مثل المتنبي‪ .‬فإن كنت في الكوفة تجده‬

‫يتح ّدر من هناك‪ ،‬وعندما تذهب إلى حلب يكون قد سبقك‬

‫إلى مجلس سيف الدولة الحمداني‪ ،‬وإذا ع َّرجت على لبنان‬ ‫ففلسطين وصولاً إلى الفسطاط (القاهرة) تسمع صوته يمدح‬

‫ويهجو ويذم الزمان ويعلل نفسه باألماني‪ ،‬بل يرفعها فوق‬

‫العالمين الذين يسألونه‪« :‬ما أنت في ِّ‬ ‫كل بلدةٍ‪ ،‬وما تبتغي؟ وما‬ ‫أَبتغي جَ َّل أن ي ُْسمَى»‪.‬‬

‫األغاني والقصائد والقدود واآلهات التي تصعد‪ ،‬في هذه الحال‪،‬‬

‫من القلب ال من الحلق‪ .‬لم يتغير اسم حلب كثي ًرا في نطق‬

‫األقوام التي سكنت هذه الحاضرة وكتابتها‪ ،‬فهو عند السومريين‬ ‫واألموريين حالبا‪ ،‬وعند اآلشوريين حلبا‪ ،‬وعند الحيثيين‬

‫حلباس‪ ،‬وعند المصريين حرب (الراء في الهيروغليفية قد ُتقرأ‬

‫مدن قليلة تحتفظ برنين الذَّهب الذي‬ ‫لحلب‪ .‬أقدم مدينة مأهولة على وجه‬ ‫األرض‪ .‬أخت الشام وجارة الموصل‬

‫المً ا) ُ‬ ‫وعرفت عند السلوقيين بيروا‪ ،‬والرومان بيرويا‪ .‬ويبدو أن‬ ‫خلفاء اإلسكندر المقدوني أطلقوا عليها هذا االسم تيم ًنا بمسقط‬ ‫رأس والد قائدهم في بالد اليونان‪ ،‬فيما قام الرومان بتغيير‬ ‫نطقه قليلاً ‪ .‬أما ألبّو‪ ،‬النطق السائد اليوم‪ ،‬في اإلنجليزية‪ ،‬فقد‬

‫ُخلِع على المدينة أيام االنتداب الفرنسي‪.‬‬

‫ورغم تقلب الغزاة واألطوار الحضارية التي عرفتها المدينة‬

‫ً‬ ‫انقطاعا ظلت األقوام التي‬ ‫عبر تاريخها الطويل الذي لم يشهد‬ ‫سكنتها تناديها باسمها‪ ،‬حتى عندما غيرته تمامً ا‪ ،‬كما حدث‬

‫االسم الذي كان في ذهني عندما زرت حلب‪ ،‬المرة األولى‪،‬‬

‫مدرسي تتلقاه‬ ‫في الثامنة عشرة من عمري هو المتنبي‪ .‬فهو اسم‬ ‫ٌّ‬

‫على مقاعد الدرس‪ .‬أما سيف الدولة فتراه في معالم المدينة‪،‬‬ ‫حديقتها الشهيرة‪ ،‬وفي مواقف حافالت‪ ،‬ومكتبات‪ ،‬وبقاليات‬

‫ً‬ ‫شيوعا في المدينة الحاضرة‪ .‬كأنَّ حلب ال‬ ‫إلخ‪ .‬إنه أكثر األسماء‬

‫في العهود اليونانية والرومانية والبيزنطية‪ ،‬عادت المدينة إلى‬

‫تزال في حوزة الحمدانيين‪ ،‬فإلى جانب حلب الشهباء يقترن‬ ‫اسم حلب بسيف الدولة‪ ،‬ومع هذا االسم يحضر‪ ،‬حُ ْكمً ا‪،‬‬

‫لخلفاء اإلسكندر السلوقيين سببهم في تسمية المدينة باسم‬

‫الفارس‪ ،‬والشاعر صاحب القصيدة الغزلية الشهيرة «أراك عصي‬

‫اسمها األول مرة أخرى‪ ،‬مثلما هي الحال مع العرب الذين‬

‫يشاطرون أقوامها «السامية» السابقة جذورًا إثنية ولغوية‪.‬‬

‫من بالدهم‪ .‬إنها العادة التي يدأب عليها المستوطنون‪ ،‬في‬

‫أماكن بعيدة من أوطانهم األولى‪ ،‬إلى تسمية هذه األماكن‬

‫بأسماء مدنهم السابقة‪ ..‬هذا إضافة إلى عامل آخر يتعلق‬ ‫بالسلوقيين الذين تميزوا من الغزاة اآلخرين بجلبهم استيطاناً‬ ‫العددان ‪ 482 - 481‬صفر ‪ -‬ربيع األول ‪1438‬هـ ‪ /‬نوفمبر ‪ -‬ديسمبر ‪2016‬م‬

‫المتنبي وأبو فراس‪ ،‬الشاعر الكبير‪ ،‬جوال اآلفاق‪ ،‬وغريمه‬

‫الدمع»‪ ،‬وحاكم مدينة منبج في عهد ابن عمه سيف الدولة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫المتعلقة بها‪ ،‬على مدار ألفياتها الست‪،‬‬ ‫األعالم في حلب أو‬ ‫يستحيل أن تحصى‪ .‬ما بقي منها في أسفار التاريخ يحتاج إلى‬ ‫حصر وتعداد طويلين‪.‬‬



King Faisal Foundation

                              

P.O.Box 352 Riyadh 11411 Kingdom of Saudi Arabia Tel: (+966 11) 4652255 Fax: (+966 11) 4656524

www.kff.com


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.