اﻟﻌﺪدان ٤٨٤ - ٤٨٣رﺑﻴﻊ اﻵﺧﺮ -ﺟﻤﺎدى اﻷوﻟﻰ ١٤٣٨ﻫـ ﻳﻨﺎﻳﺮ -ﻓﺒﺮاﻳﺮ ٢٠١٧م
ﻣﻦ اﻻﺳﺘﻐﻼل اﻟﺴﻴﺎﺳﻲ إﻟﻰ اﻟﻌﻨﻒ واﻟﺘﻬﻤﻴﺶ
ﺑﻼد اﻷﻗﻠﻴﺎت اﻟﻬﺎﺋﻠﺔ
ﻏﺮاﻣﻴﺎت رؤﺳﺎء ﻓﺮﻧﺴﺎ ﻓﻬﻤﻲ ﺟﺪﻋﺎن :اﻟﻔﻘﻬﺎء ﻫﻢ اﻟﺬﻳﻦ ﺷﻜﻠﻮا )اﻟﻌﻘﻞ اﻹﺳﻼﻣﻲ(
اﻟﺜﺒﻴﺘﻲ واﺑﺘﻜﺎر ﻣﺎ ﺑﻌﺪ اﻟﻨﻔﻄﻲ www.alfaisalmag.com
اﻟﺤﻴﺎة اﻟﺴﺮﻳﺔ ﻟﻤﻔﻜﺮﻳﻦ وﻓﻼﺳﻔﺔ
www.kfcris.com
اﻟﺒﺤﻮث واﻟﺪراﺳﺎت
اﻟﻤﺤﺎﺿﺮات واﻟﻨﺪوات
kfcris@kfcris.com
@kfcris_sa
اﻟﻤﻜﺘﺒﺔ
اﻟﻤﺘﺎﺣﻒ
kfcris_sa
KFCRISKSA
اﻟﺘﺪرﻳﺐ
KFCRIS
اﻟﻜﺘﺐ واﻹﺻﺪارات
ص ب ٥١٠٤٩ :اﻟﺮﻳﺎض ١١٥٤٣اﳌﻤﻠﻜﺔ اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ اﻟﺴﻌﻮدﻳﺔ ﻫﺎﺗﻒ ٠٠٩٦٦ ١١ ٤٦٥٢٢٥٥ :ﻓﺎﻛﺲ٠٠٩٦٦ ١١ ٤٦٥٩٩٩٣ : Fax: 00966 11 4659993
Tel: 00966 11 4652255
P.O. Box 51049 Riyadh 11543 Kingdom of Saudi Arabia
اﻟﺸﺆون اﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ
يصدرها
أسسها عام 1397هـ1977/م
األمير خالد الفيصل
العددان
484-483
كتاب الفيصل 14
2 الملف
بالد األقليات الهائلة
70 18
حدين) حسين قبيسي (األقليات سالح ذو ّ مهدي حميش (المسألة الطائفية) (األقليات في مصر) سامر إسماعيل (األقليات السورية) نزهة صادق (أمازيغ المغرب) خاليد فؤاد طحطح (يهود المغرب) سهام صالح (اليهود في السودان) جمال حسن (الحوثيون) فتحي أبو النصر (يهود اليمن) حسن جوان (ما بين النهرين) جعفر العقيلي (األقليات في األردن) أحمد أبو خنيجر (العنصرية والعنصرية المضادة)
العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
الناشر
رئيس مجلس اإلدارة
األمير تركي الفيصل
رئيس التحرير
الثقافية
دار
دراسات
ماجد الحجيالن
editorinchief@alfaisalmag.com
مسرح
محمد العلي داخل خنادق الحداثة (علي الدميني)
المسرح الوثائقي فضاء
74
منذ أن غادر محمد العلي طريق متابعته لدراسة المنهج الديني ،وسلك طريق التعليم المدني -رمزيًّا وثقافيًّا -فقد خلع عباءة «رجل الدين» وعمامته ،واختار طريق «طالب المعرفة» ،متخليًا عن مسار «العقل التقليدي» ومنحا ًزا إلى فضاء بناء «العقل النقدي» ،وإلى فكر السؤال والنقد والعقالنية.
178
للسياسي والفني (نورا أمين)
عندما قدم المخرج المسرحي ميلو راو عمله األشهر «محاكمات موسكو» ،كان يفتتح بذلك موجة جديدة من الشهية األوربية للمسرح التوثيقي .فعلى الرغم من امتداد نزعة المسرح التوثيقي بمختلف أساليبه في أوربا ،فإن تلك الشهية الجديدة قد وضعت هذا التيار في قلب االهتمام المسرحي.
بورتريه
ثقافات
مالك شبل..في أفول العقل التنويري (عبدالحق بلعابد)
الحياة السرية لمفكرين وفالسفة
120
يعد المفكر الجزائري مالك شبل ،من بين المفكرين القالئل الذين زاوجوا العلم بالعمل ،والقول بالفعل ،بانيًا بذلك هوية فكرية مفارقة للهويات الفكرية األخرى التي تبني جدارًا عاليًا بين ذاتها في الحياة ،وذاتها مع الفكر ،فقد وعى المفكر مبك ًرا بهذه اإلحراج المعرفي ،ليصبح فن العيش متسامحً ا مع اآلخر.
132
صراعات وجنس (متعب القرني)
حين كتب الغزالي كتابه «تهافت الفالسفة» لم تكن الفلسفة ّ وتحلت بإهابها التحليلي الرصين، األخالقية حينها قد ظهرت بل كانت أسيرة للمحاوالت األولى المهمومة بتعريفات الخير والشر والسلم والحرب ،ثم سرعان ما كشفت القرون التالية عن حيازة األخالق مساحة بالغة األهمية من الخريطة الفلسفية العامة.
3
كتب
معارض
السورياليون المصريون: حين يكون الفن حرية
سهــوا» فصوص «كـان هـذا ً
174
تعرف جورج حنين إلى رواد الحركة السوريالية ،وأرسل خطابه األول ألندريه بريتون ،وفي عام 1936م نشر في مصر بمجلة «لو رينت» مقالته «السوريالية في الميزان» ،وهي أول تأسيس معرفي عن السوريالية لدى المثقفين المصريين واألجانب المقيمين بها.
4
144
غير منشورة ُ ألنسي الحاج (صالح بوسريف)
في كتابه الصادر بعد رحيله «كان هذا سهوًا» ،بقدر ما كان أُنسي الحاج ،شاع ًرا ،بقدر ما كان مُ تأملاً ،وناقدً ا ،وصاحب ّ يتعلق بشؤون الوُجُ ود ،وعالقة وموقف ،في ُك ّل ما رأي ٍ ٍ البشر بالسماء ،أو بالميتافيزيقا والدين ،والموت والحياة، والحب ،والفن واألدب.
مقاالت حوار
سعدي يوسف فيديل كاسترو واستقاللية القرار
عبدالعزيز السبيل: إجراءات التحكيم في جائزة الملك فيصل العالمية
94
تتم بكثير من الحذر والسرية والتجرد من األهواء
فتحي المسكيني صادق العظم ..نقد الذات أقوى من االنتماء
104 عبدالله ثابت الهوة «السكوونك» مشاجرات ّ
106 نهلة الشهال ماذا يعني انتخاب ترمب؟
150 أمجد ناصر الطريق إلى حلب
116 العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
184
نصوص
72 115 181 183
عاشور الطويبي مختارات من قصائد التانكا سهير مقدادي
مدير التحرير
حين تصير خسارتنا ن ًّدا
أحمد زين
إبراهيم العواجي أنثى أنا
اإلخراج
ينال إسحق
محمود شقير على الرصيف
التنفيذ
رياض دفدوف مبارك علي في هذا العدد
82 بنيس ..الكتابة بتاريخيتها (عزالدين الشنتوف)88 ................... الجوائز األدبية في العالم العربي (صبحي موسى)108 ....... (دنى غالي)138 ................................................. كاليمت فيكشن ُ لي).......................................... األرفه (بالل طبع في بيروت 146 حارس النهر القديم (رسول محمد رسول)148 .......................... هل تعليم الصحافة في مأزق؟ (عبدالله أبا الخيل)154 .......... عون وتعزيز سياسة النأي (أمل الهزاني) 162 ......................... فهد اليحيا والسينما السعودية (فواز السيحاني)164 .......... فلم جزيرة الدكتور مورو (منصور الصويم)168 ........................ عين بودلير (أوراس زيباوي)171 .................................................. الثبيتي :إحياء ما قبل النفطي (حاتم الزهراني) .............
الموقع اإللكتروني
معتز عبدالماجد التدقيق والمراجعة اللغوية
عبدالله الدوسري محمد نصير سيد االشتراكات والتوزيع
جعفر عبدالرحمن -)+966(11٤٦٥٢٢٥٥تحويلة6640 : subscriptions@alfaisalmag.com
مراسالت التحرير editorial@alfaisalmag.com االشتراك السنوي 100ريالاً سعوديًّا لألفراد 250 ،ريالاً سعوديًّا للمؤسسات ،أو ما يعادلهما بالــدوالر األمـيـركــي خـــارج المملـكــة العربية السعودية. السعر اإلفرادي :السعــوديـــة 10ريـــاالت ،اإلمــــارات 10دراهم ،قطر 10رياالت ،البحرين دينار فلسا ،مصر 4جنيهات ،المغرب 10دراهم. واحد ،األردن 750 ً الموزعون مصر ،مؤسسة توزيع األهرام ،شارع الجالء ،هاتف ،7704365 - 5796997 :فاكس: ،00202 7703196قطـر ،دار الشرق للطباعة والنشر والتوزيع ،ص.ب ،3488هاتف ،44557809فاكس ،00974 44557819 :األردن ،شركة وكالة التوزيع األردنية ،ص.ب ،3371 هاتف ،65358855 :فاكس ،00962 65337733 :البحرين ،مؤسسة الهالل لتوزيع الصحف، ص .ب ،8005هاتف ،17480800 :فاكس ،00973 17480818 :اإلمارات العربية المتحدة ،مكتبة دار الحكمة ،ص.ب ،2007هاتف ،42665396 :فاكس ،00971 42669827 :المغرب ،الشركة الشريفية لتوزيع الصحف ،ص.ب ،13683هاتف ،2400223 :فاكس00212 2246249 : التوزيع داخل المملكة الشركة الوطنية الموحدة للتوزيع هاتـــــف )011( 4871414 :فاكس)011( 4871460 :
مراسالت اإلدارة ص.ب ( )3الرياض 11411 المملكة العربية السعودية هاتف المجلة )+966( 11٤٦٥3027: فاكس)+966( 11٤٦٤٧٨٥١ : contact@alfaisalmag.com اإلعالنات هاتف)+966( 11٤٦٤٧٨٥١ : advertising@alfaisalmag.com
5
المركز
األمير تركي الفيصل.. رئيسا للجنة الحكماء العرب ً بجامعة الدول العربية اختارت األمانة العامة لجامعة الدول العربية األمير تركي
رئيسا للجنة الحكماء العرب الفيصل -رئيس مجلس إدارة المركزً - ّ التسلح وعدم االنتشار النووي التابعة للجامعة. المعنية بقضايا وترأس األمير تركي الفيصل أعمال االجتماع األول للجنة الذي
ُعقد في العاصمة المصرية القاهرة يوم الخميس 9ربيع األول 1438هـ 8 /ديسمبر 2016م .وتضمّ اللجنة في عضويتها ثماني
شخصيات عربية بارزة من دبلوماسيين وسياسيين وقانونيين
وباحثين مشهود لهم بالكفاءة ،اختيروا بصفتهم الشخصية ،وبما يحافظ على التمثيل الجغرافي للدول العربية .وتهدف اللجنة إلى تقديم تقرير إلى األمين العام لجامعة الدول العربية حول مجمل السياسات العربية في مجاالت ضبط التسلح وعدم االنتشار النووي ونزع السالح ،يتضمّ ن توصيات محدّ دة ُتعرض في مجلس جامعة الدول العربية على المستوى الوزاري في دورة مارس عام 2017م ،وذلك في إطار دعم جامعة الدول العربية جهود نزع السالح من أجل تعزيز االستقرار
واألمن والسلم في المنطقة العربية.
6
خاص بالمركز في جناح ّ ملتقى ألوان السعودية 2016م ّ خاص في الدورة شارك المركز بجناح
الخامسة من ملتقى ألوان السعودية 2016م في المدة « 18-12ربيع األول سنة 1438هـ/
17-11ديسمبر 2016م» بمركز الرياض الدولي ّ ّ كل تنظمه للمؤتمرات والمعارض ،الذي
عام الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني. ً مجموعة من إصداراته وتضمّ ن جناح المركز
ودورياته الثقافية والعلمية التي تتناول مختلف الموضوعات الفكرية والقضايا التي تشغل
الرأي العام.
وشارك في ملتقى ألوان السعودية هذا
العام عدد كبير من المصوّرين المحترفين
والهواة من المملكة ودول الخليج العربي، ً ّ متخصصة عارضا من جهات وأكثر من 80 وشركات تكنولوجيا التصوير ومحترفي وص ّناع
األفالم ،وضمّ برنامج الملتقى أكثر من 30ورشة ّ متخصصة. عمل
العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
سعود السرحان.. عاما لمركز الملك فيصل أمينًا ًّ أصدر األمير تركي الفيصل رئيس مجلس إدارة مركز الملك فيصل
للبحوث والدراسات اإلسالمية قرارًا بتعيين الدكتور سعود بن صالح السرحان
أمي ًنا عامًّ ا للمركز.
وكان السرحان قد شغل منصب مدير إدارة البحوث والباحث الرئيس في وحدة الفكر السياسي المعاصر بالمركز ،ثم ُك ِّلف بأعمال األمين العام قبل
تعيينه في الثاني من المح َّرم سنة 1438هـ أمي ًنا عامًّ ا للمركز.
ُ وعرف الدكتور سعود السرحان الذي نال درجة الماجستير في القانون
من جامعة سنترال النكشير والدكتوراه من جامعة إكستر البريطانية
باهتماماته البحثية وكتاباته المتخصصة في الشأنين العربي والسعودي ،ومن مؤلفاته« :إعادة بناء اليمن :التحديات السياسية واالقتصادية واالجتماعية» ،و«السعوديون وإدارة الحج» ،و«مسائل أحمد بن حنبل ونشأة الحنبلية»،
و«الصراع على الشرعية :الحركات السلفية الجهادية في السعودية» ،و«الرسائل العقدية المنسوبة إلى أحمد بن حنبل» ،و«اإلصالحيون الجدد :خطاب إسالمي ديمقراطي جديد» ،كما ساهم وأشرف على عدد من الدراسات العلمية
والمشاريع اإلستراتيجية؛ عن كل من اليمن وسوريا والعراق والصين ،وأدار السرحان برنامج «الباحث الزائر» الذي ً باحثا من 55دولة وأثمر مجموعة متميزة من البحوث العلمية المتخصصة. استقطب ما يزيد على 260 ويعدّ األمين العام للمركز أول باحث خليجي يُستك َتب في دائرة المعارف اإلسالمية ،وهو زميل فخري في جامعة
إكستر بالمملكة المتحدة ،وعضو مؤسس في المجلس الخليجي األوربي–لندن ،وباحث متميّز في الشؤون الخارجية بالمجلس القومي للعالقات العربية في واشنطن.
عبدالله العثيمين ..مؤرخً ا وأدي ًبا عقدت األمانة العامة لجائزة الملك فيصل العالمية
ندوة علمية يوم األربعاء 15ربيع األول 1438هـ الموافق 14
ديسمبر 2016م في قاعة المحاضرات بمبنى مؤسسة الملك ً مؤرخا وأديبًا». فيصل الخيرية بعنوان« :عبدالله العثيمين
تضمن برنامج الندوة ثالث جلسات حول الفقيد والشاعر واألديب والمؤرخ الدكتور عبدالله العثيمين.
يذكر أن الدكتور عبدالله العثيمين قد نال درجة ً أستاذا في الدكتوراه من جامعة إدنبره عام 1972م ،وعمل التاريخ بكلية اآلداب ،جامعة الملك سعود ،مدة ثالثة ّ وتقلد منصب األمين العام لجائزة الملك فيصل عقود،
العالمية منذ سنة 1407هـ 1987 /م ،ويُعَ ّد أحد روّاد الدراسات التاريخية في التاريخ السعودي المعاصر ،وتوفي الفقيد عن
عمر ناهز ثمانين عامً ا وقد أثرى المكتبة العربية بالعديد من المؤلفات التاريخية واألدبية والدواوين الشعرية ،إضافة إلى
تحقيقاته العلمية ومحاضراته وترجماته عن اإلنجليزية.
7
المركز
حلقة نقاش عن أوضاع المنطقة مع المجلس األوربي للعالقات الخارجية
8 احتضنت قاعة معهد الفيصل بالمركز يوم االثنين 13ربيع
بيلدت نائب رئيس المجلس ورئيس الوزراء ووزير الخارجية
مسؤولي المجلس األوربي للعالقات الخارجية ،تضمّ نت ثالثة
المجلس والمساعد السابق لوزيرة الخارجية األميركية هيالري
األول 1438هـ 12 /ديسمبر 2016م حلقة نقاش مع وفد من كبار
محاور ،هي :الدور السعودي في المنطقة :دور مبادر وحازم، والتعاون اإلقليمي السعودي األوربي :من الدبلوماسية إلى
الدعم العسكري ،والوضع األمني في المنطقة :الطموح
والقدرات والطريق نحو االستقرار.
السويدي السابق ،وجيرمي شابيرو رئيس وحدة األبحاث في كلينتون ،وإيلي جيرانميه الباحثة السياسية في المجلس، وألكسندر ستوب رئيس الوزراء ووزير الخارجية الفنلندي
السابق وعضو البرلمان األوربي ،وجوزيف مفسود مدير أكاديمية لندن الدبلوماسية ،وأرنود دانجين عضو البرلمان
وانطلقت فعاليات حلقة النقاش في تمام الساعة العاشرة
األوربي ورئيس لجنة األمن والدفاع في المجلس ،وجوليان
المركز ،رحّ ب فيها بوفد المجلس األوربي للعالقات الخارجية
من برنامج شؤون الشرق األوسط وشمال إفريقيا في المجلس.
ّ تحدث األمير وأساتذة العلوم السياسية السعوديين .كما
األوربية ،منهم :السفير اإليطالي لوكا فيراري ،والسفير
صباحً ا بكلمةٍ من األمير تركي الفيصل رئيس مجلس إدارة
والحضور من السفراء األوربيين واألكاديميين والباحثين تركي بن عبدالله بن عبدالعزيز -الرئيس التنفيذي لمؤسسة الملك عبدالله العالمية لألعمال اإلنسانية -عن تميّز العالقات
السعودية األوربية على مدار تاريخها. ّ ومثل المجلس األوربي للعالقات الخارجية في حلقة وفد من كبار مسؤولي المجلس ضمّ اًّ النقاش ٌ كل من :كارل العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
بارنس ديسي الرئيس المؤقت لبرنامج ،MENAوماتيا توالدو وحضر حلقة النقاش عدد من سفراء ودبلوماسيي الدول
الفنلندي بيكا فوتيالينين ،والسفير السويدي جان كانتسون، والسفير النرويجي رالف ويلي هانسن ،والسفير الدانماركي
أوليه فريجس مادسين ،والسفير القبرصي نيكوس بانيي،
والمستشار األول في السفارة الفرنسية إريك جيرو تيلم نائبًا عن السفير الفرنسي.
9
كاريكاتير
فعاليات
في حلقة نقاش نظمها المركز عن أمن الشرق األوسط:
إيران ترى األقليات الشيعية أحد أسلحتها
جاك كارافالي ،وسيباستيان ماير ،وماثيو ليفيت
10
عقد مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية حلقة
في القيام بأعمال تخريبية ،والتآمر الرتكاب جرائم في مناطق حيوية،
نقاش مشتركة تحت عنوان« :سياسة وأمن الشرق األوسط» قدَّمها ٌّ كل من الدكتور «ماثيو ليفيت» مدير برنامج ستاين لمكافحة اإلرهاب
وللقيام بأعمال تخريبية يتكرر كثي ًرا حيث إنه في غضون ثالث سنوات
األستاذ الزائر بأكاديمية الدفاع في المملكة المتحدة وصاحب كتاب
بتهمة التخطيط لتنفيذ هجمات إرهابية ،موضحً ا أن آخر المخططات
بمعهد واشنطن لسياسة الشرق األدنى ،والدكتور «جاك كارافالي»
«عصر الكراهية :داعش وإيران والشرق األوسط الجديد» ،وبمشاركة الباحث السعودي كامل الخطي وحضور لفيف من الباحثين
والمهتمين.
في البداية أوضح الدكتور «ليفيت» أنه في يوليو قبل قرابة ثالث سنوات أو تزيد قليلاً ،قام «حزب الله» بتفجير حافلة للسياح في بلغاريا ،أعقبها قيام االتحاد األوربي بحظر نشاطاته بمختلف
صنوفها وأنواعها ،لكن على الرغم من إدراجه على القائمة السوداء
لالتحاد األوربي وانخراطه بشدة في الحرب السورية المندلعة حاليًّا ومنذ سنوات ،فما زال «حزب الله» يخطط لتنفيذ هجمات في جميع أنحاء العالم وكأنه ال يأبه ليس بالشرق األوسط وحده بل بأوربا ً أيضا،
إضافة إلى الكشف عن مخططات إجرامية مؤخ ًرا لـ «حزب الله» في أماكن بعيدة مثل :بيرو ،وتايالند ،وكندا ،واليونان؛ علمًا بأن آخر مخطط أُح ِبط كان في قبرص ،حيث خ ّزن المواطن الكندي من أصول
كما أكد «ليفيت» أن ما يقوم به حزب الله من محاوالت للتفجير حكمت محكمة قبرص على عناصر كثر من «حزب الله» بالسجن
اإلرهابية كانت مختلفة كليًّا من حيث القدرات وكون حزب الله لم يعد
يأبه بإنذارات وتحذيرات االتحاد األوربي له في التحرك على األراضي
األوربية وأصبح متماديًا إلى ح ّد مخيف جدًّا.
أموال غير مشروعة ووثائق مزورة لنشر الفوضى في العالم
وأضاف «ماثيو ليفيت» أن حزب الله ال يزال مستم ًّرا في عمليات
شراء األسلحة والتكنولوجيا ذات األهداف التخريبية في أوربا، مستشهدًا بأنه في يوليو عام 2014م ،أدرجت وزارة الخزانة األميركية
شركة اإللكترونيات االستهالكية اللبنانية التي تسمى بــ«ستارز غروب هولدنغ» ،ومالكيها ،والشركات التابعة لها ،على القائمة السوداء، إضافة إلى «بعض المديرين واألفراد الذين يدعمون األنشطة غير المشروعة للشركة والشركات التابعة لها والمالكين .وكانوا جميعً ا
يشكلون شبكة مشتريات رئيسة تحت أوامر «حزب الله»؛ تهدف هذه الشبكة إلى شراء كل ما يساهم في تطوير الذراع العسكرية
لبنانية -ويدعى حسين بسام عبدالله -قرابة 8.2أطنان من مادة نترات ً ومعترفا بعد األمونيوم المستخدمة كثي ًرا في صنع المتفجرات ،مُق ًّرا
لهذا الحزب من مختلف بقاع العالم وتطوير الطائرات من دون طيار
انتسابه إلى منظمة حزب الله اإلرهابية ،وحيازة متفجرات ،ورغبته
أعضاء يحملون جوازات سفر مزورة كما حدث مع أحد المنتمين له
محاكمته بأن التهم التي وجهت له جميعها صحيح ،وكان من ضمنها:
العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
التي يرسلها إلى األجواء اإلسرائيلية والسورية ،ويكون ذلك عن طريق
وهو «حسين بسام عبدالله» المتخصص أكاديميًّا في الكيمياء؛ إذ
الحصول على أغلبية موالية ،لكن طبيعة األمور في الظاهر ال تسير وفق الواقع الذي قد ّ تشخصه الدراسة واإلحصاء ،فالدراسة واإلحصاء
بتزويد العاملين معه ببطاقات هوية بريطانية مزورة وأموال ضخمة؛
سطوة أقليات منظمة تمتلك أدوات توجيه وأدوات تعبير تبدو من
كانت مهمته العثور على مستودع لتخزين المواد المتفجرة ،ونقلها
بعد ذلك بحزمات صغيرة إلى أوربا بعد أن قامت قيادات «حزب الله» الستخدامها محليًّا في قبرص واستئجار هذا المستودع .وقد يكون هذا األمر هو الذي أدى إلى كشفه ً الحقا؛ مما جعل حزب الله حاليًّا يفضل
استخدام وثائق السفر بمستندات أصلية لكن باستخدام بطاقات ائتمانية مزورة إلجراء أعمال احتيالية محلية ال تتعلق باإلجراءات الحكوميةَّ . وعلل «ليفيت» ذلك بقوله« :لو لم يستخدم بطاقة الهوية
ّ تشك السلطات في الشحنات .مشي ًرا المزورة ،لكان من المحتمل أال إلى أنه ً وفقا للتقارير فإن الحزب يستخدم شركات تجارية وهمية
بشكل سري جدًّا بعضها في مناطق بعيدة مثل الصين ودبي لشحن
قد ُينطِ قان صمت األغلبية ،على حين أن المشهد الظاهر يقع تحت خاللها للعين المجردة ،كأنها ممثل شرعي للغالبية ،وهذا األمر يجلب
معه تبعات ،أخطرها على اإلطالق تعميق أزمة الثقة ،وتعزيز الشكوك في الوالء الوطني ،وإدامة قلق ازدواج الهوية».
وأكد أن إيران «استثمرت في عامل التمييز الذي أض ّر األقليات
الشيعية العربية ،وشاركها في استثمارها طيف من اليسار واليسار
معارض القومي خابت آماله بفشل مشروعه السياسي ،ما حوله إلى ِ لألنظمة القائمة من دون مشروع نهضوي واضح السمات».
مواد كيميائية ذات استخدام مزدوج لصنع المتفجرات ،كما أن مكتب
االتفاق النووي سيجعل إيران تطور مفاعالتها العسكرية
على تورط حزب الله في أعمال بشعة وأموال غير شرعية ،إضافة إلى
في المملكة المتحدة أهم النتائج التي توصل لها في آخر كتبه الذي
التحقيقات الفيدرالية لديه كثير من الوثائق والمستندات التي تدل
أنه منظمة عسكرية تكنّ لمنطقة الخليج الكره الكثير الذي يتجاوز كره
العرب إلسرائيل.
كوادر حزب الله هم األكثر تدريبًا
كما قدّم الدكتور «جاك كارافالي» األستاذ الزائر بأكاديمية الدفاع
كان بعنوان« :عصر الكراهية :داعش وإيران والشرق األوسط الجديد»
ومن أهمها أن حزب الله يساعد إيران في تنفيذ عملياتها ،إضافة إلى تنامي النفوذ اإليراني في المنطقة ،وبخاصة بعد تنفيذ االتفاق النووي
عام 2015م الذي ينظر إليه على أنه اتفاق سيئ وحسن في الوقت نفسه،
من جهته أوضح الباحث كامل الخطي أن «حزب الله» يشكل
فقد استطاع المفاوض الغربي إقناع إيران ببعض األمور التي من
فكوادره هم األكثر تدريبًا واألحسن إعدادًا بين منتسبي التيار العريض
تستطيع اآلن تحسين منشآتها النووية والبنية التحتية فيها ،وربما
النخبة في حركة «السائرون على نهج اإلمام» أو «خط اإلمام»،
الذي يُع َرف باسم «السائرون على نهج اإلمام» ،مؤكدًا أهمية الدور الذي تلعبه الحركة وخطورته.
ورأى الخطي أن إيران الثورة لم تتوانَ ،في الصراع السياسي
والحرب الباردة الناتجة عنه في منطقتنا ،عن استخدام األقليات
الشيعية العربية كأحد أسلحتها في إدارة الحرب من جانبها؛ إذ اعتمدت على ُنخب مج ّندة؛ لكي تعمل رأس حربة لها في توجيه الرأي والمزاج السياسي العام للدفاع عن مواقفها ومواقف الفصائل المحسوبة عليها عل ًنا في األوساط
المستحيل أن تم ّر في السابق ،وفيما يتعلق بالجانب السيئ فإن إيران تقوم إيران بتطوير أبحاثها في هذا المجال ،ومع مرور الوقت تطور
قدراتها الحربية وتتفاقم األمور بشكل أسوأ ،ويعتقد الدكتور كارافالي أن الشرق األوسط يشهد تحولاً وتغيرات متسارعة ،وهناك من يريد أن
تسود الوحشية والتدمير ،وهناك من يريد االستقرار واألمن ،ويجب الوقوف مع من يريد السالم واألمن ،والتماس الفرص في هذا العالم المليء بالمشكالت من أجل الغد الذي ال بد من اإلعداد له ،وذلك
بالتوجه إلى جيل الشباب وتطويره؛ ألنه يمثل القادة والمستقبل.
الشيعية العربية.
الوالء الوطني واالستثمار في
عامل التمييز
يضيف الخطي قائلاً « :أزعم أنه
لو د ُِرست خارطة توزيع الوالءات السياسية في المجتمعات الشيعية
في دول الخليج العربية بدقة ،فلن تظهر نتيجة إحصائية لصالح إيران، وربما لن تظهر أي نتيجة إحصائية تدل على قدرة أي فصيل من فصائل
اإلسالم السياسي الشيعي ،على
جانب من الحضور
11
فعاليات
المؤتمر السنوي للفكر السياسي اإلسالمي:
باحثون يعالجون فكر «الموا َدعة» في الفقه اإلسالمي
12
من جلسات المؤتمر
ُعقد في قاعة معهد الفيصل بالمركز يوم الثالثاء 7
ما بعد العصر األموي في األندلس» ،وتناول راينر برونر -من
ربيع األول 1438هـ 6 /ديسمبر 2016م المؤتمر السنوي للفكر
المركز الوطني للبحوث العلمية في باريس« -اإلسالم الشيعي
السنة والشيعة والصوفية في العصور الكالسيكية اإلسالمية
المعاصرة» ،واستعرض جيريمي كاليدوستي -من أكاديمية
السياسي اإلسالمي بعنوان« :المُ وادَعة السياسية في فقه
والمعاصرة».
بدأت فعاليات المؤتمر ،التي استم ّرت يومين ،بمحاضرة
افتتاحية لكريستوفر ميلشرت -أستاذ اللغة العربية والدراسات اإلسالمية في كلية برمبروك بجامعة أكسفورد-
بعنوان« :الخلفاء الراشدون :اآلراء المتعددة المحفوظة في
الحديث» ،أعقبتها حلقة النقاش األولى بعنوان« :مفهوم الموادعة في الفكر اإلسالمي» ،تحدّث خاللها جان بيتر هارتونغ -األستاذ في دراسة اإلسالم بجامعة سواس في لندن-
عن «استقراء تحليلي لمفهوم الموادعة السياسية» ،وديفيد
أوين -من جامعة هارفارد -عن «الخالفة والشرعية الروحية،
والموادعة الفلسفية ،ومشكلة األنظمة القاصرة في مرحلة العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
المُ وادِع في العصور الكالسيكية والحديثة :بعض الملحوظات فنلندا« -الدستورية بوصفها إستراتيجية موادعة :الحالة
التونسية».
ودارت حلقة النقاش الثانية حول «الموادعة السياسية
والحركات االجتماعية السياسية» ،وقدّ مت فيها والء قويسي -من جامعة أكسفورد -ورقة عمل بعنوان« :الموادعة
السياسية في خطاب التقليديين الجُ دد :العائق المعرفي ً متطرقة إلى الموادعة السياسية أمام تجزئة الحداثة للسلطة» ً ومتخذة من عبدالحكيم واد نموذجً ا في خطاب التقليديين، ً ومعتبرة أنه هو الذي شكل سردًا واضحً ا للدارسين لذلك،
فيما يتعلق بالعواقب الروحية التي يواجهها التقليديون الجدد والناقمون بشكل نقدي للحداثات اإلسالمية التي ُع ِرضت
ُ وتط ِّرق إليها إبان تلك الحقبة؛ إذ إنهم -كما تذكر المتحدثة-
يرفضون بكل صراحة تلك الحقبة ،ويرون أننا جميعً ا فقدنا شي ًئا من الماضي ومُ ِّزق الدين والسياسة والجهاد على حين أننا بكل أسف تجاهلنا الحقيقة الداخلية للجهاد؛ مما َ أدخل اإلسالم ،نتيجة عدم وجود قراءات جديدة ،في دوامة الحداثة السائلة التي جعلت العالم الغربي مستم ًّرا في المعاناة األخالقية والمالية ،وإقصاء كثير من التصورات اإلسالمية،
والمفاهيم المهمة؛ كالمقاومة واالستشهاد ،واستبدل بها
مفاهيم أخرى كالربح والمصلحة والحرية الذاتية وتحقيق
الذات ،وإقصاء المفاهيم االجتماعية المهمة كالجماعة والوالء والتضحية؛ ألنها تعُ دّ من يتصرف خارج مفاهيم ً شخصا غير عقالني وال يسير على الطريق الحداثة السائلة
الصحيح.
وتحدث الخبير فؤاد علييف -من جامعة أذربيجان
الوطنية -عن «حركة غولن في أذربيجان :موادعة سياسية أم ً منطلقا أساسيًّا تقيّة؟» طارحً ا من خالل حديثه سؤالاً يشكل
لبحثه وهو :هل نعدّ حركة غولن موادعة سياسية في أذربيجان أم ال؟ مجيبًا عن ذلك بأن حركة غولن ظاهريًّا تتب ّنى مفهومً ا
غير مُ سيّس للدين؛ إذ إن تلك الجماعة تؤمن أن اإلسالم ليس أيديولوجية سياسية أو نظام حكم أو شكلاً للدولة ،وهي جماعة فوق السياسية ،لكنها وبشكل باطني رغم أنها تبتعد
من العمل السياسي الحزبي؛ فإنها تنهمك في التحالف مع األحزاب السياسية في مقابل الدعم واالمتيازات التي تريد أن ّ تتلقاها منها ،وتعمل ً أيضا على التغلغل في مؤسسات الدولة والتقدم في المناصب المهمة؛ لهذا تتخذ من الخدمات ً وسيلة للنفوذ والتغلغل في أجهزة االجتماعية التي تقدمها
الدولة ومؤسساتها الصلبة كوسيلة للوصول لمرحلة تسمى
ما بعد التمكين؛ فبسبب ذلك يرى بعض المختصين أن الجماعة تمارس ما يسمى بــ«التقية السياسية»؛ للوصول إلى المناطق الحساسة في مفاصل الدولة وإن اضطر أفرادها إلى
إخفاء مشاعرهم ،وفيما يتعلق بما تمارسه تلك الحركة في
أذربيجان فقد أشار الباحث إلى أن حركة فتح الله غولن وما ً خصوصا ما بعد االتحاد السوفييتي م ّرت تمارسه من الدعوة ً ممنوعا بكثير من المراحل وحاولت تجديد اإلسالم الذي كان
تحت السلطة السوفييتية؛ لهذا فإنها كانت مختلفة في أولى سنوات االستقالل مقارنة بالحركات اإلسالمية األخرى ذات الطابع الديني ،إذ إن كثي ًرا من الناشطين اإلسالميين حاليًّا يصفون حركة غولن بأنها مؤامرة ولها أهدافها السياسية،
وعن األيديولوجيات التي استمدت منها جماعة غولن منهجها
ورؤيتها فقد أشار إلى أنها أخذت أفكارها من النورسية المنسوبة إلى سعيد النورسي ،واختتم الباحث حديثه بأن
جانب من الحضور
حركة غولن هي حركة اجتماعية تندمج في المجتمع بهدف
اإلصالح ،وبالتدرج تعادي النظام القائم بطرائق ملتوية، ً خصوصا بعد االنقالب الذي وفيما يتعلق بمحاربتها من تركيا حدث مؤخ ًرا ،فقد قام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بزيارة أذربيجان مطالبًا القيادات هناك بإغالق المدارس
والمنشآت التي يمتلكها غولن وتسليمها للسلطة؛ ألن لديهم ً أهدافا باطنية توسعية ،وهذا ما شعرت به حكومة أذربيجان. وتناول الباحث السيد علي الموسى «اإلخباريون الشيعة
ومنهجهم المتصالح مع الواقع السياسي الحاكم :علماء ً متحدثا في بداية األمر عن نشوء المدرسة البحرين نموذجً ا»
اإلخبارية وارتباطها باسم «اإلخباريون» وهم الذين يشتغلون بالتاريخ ،وعندما جاء اإلسالم ارتبطت تسميتهم بمن ينقل
الحديث النبوي ،وهكذا ُعرف هذا العلم بعلم األخبارُ ، وعرف عنه اعتماد نقله عن الرواة والمحدثين أو اإلخباريين .وكان
قدماء اإلخباريين يسمّ ون بأصحاب الحديث ،وكانوا موجودين ّ ولعل أقدم نص يتحدّث لدى أهل الس ّنة والشيعة على السواء. عن اإلخبارية بوصفها فرقة قائمة ضمن المذهب الشيعي
اإلمامي هو ما ذكره الشهرستاني في كتابه الشهير «الملل
والنحل»؛ إذ وصفها بأنها طائفة تأخذ بظاهر الرواية وصريح لفظها من دون تأويل أو استنباط ،واستخدم اإلخباريون ُ َ بعض األساليب الشيعة بعد الغيبة الكبرى -كما يذكر الباحث-
السنية .وعلل أسباب نشوء المدرسية اإلخبارية بردّة الفعل القوية أمام فتح الباب لالستنباط وقبول الخبر والتسامح في اإلسناد ،كما أن المنهج اإلخباري أصبح يعتمد متأخ ًرا على
الكتب اإلخبارية األربعة كالكافي والتهذيب وغيرهما من الكتب الشيعية الشهيرة .وفيما يتعلق بالتسامح السياسي ومنهج التصالح مع واقع السلطة في البحرين فإنهم أثبتوا إيمانهم ً انطالقا من رواية الكاظمي« :ال تذلوا رقابكم بضرورة التعايش بترك سلطانكم» وما م ّرت به البحرين من حكومات مختلفة
13
فعاليات
واتحاد الموقف الشيعي المتسامح حولها أكبر دليل ،ولنا في
تجربة سليمان المدني عام 1421م والخطبة التي ألقاها في يوم
14
الجمعة إبان تلك الحقبة خير دليل وبرهان.
بخاري «فقه اإلمام سعيد النورسي في التعامل مع الحاكم
الجائر» ،وقدّ م بومدين بوزيد -وكيل وزارة الثقافة اإلسالمية
في وزارة األوقاف والشؤون اإلسالمية بالجزائر -ورقة عمل
ورصد محمد غزبوالييف -من األكاديمية الروسية
عن «الجزائر التصوّف :بين التوظيف السياسي والتأويل
انهيار إمامة شامل :الرسالة الشريفة التي كتبها العالمة الداغستاني عبدالرحمن الثغوري» إذ إنه في عام 1861م أُعدم
القومي في أفغانستان« -العودة إلى الموادعة في مقابل اإلسالم السياسي :حالة آية الله محمد إسحاق فياض».
هجرات كثيرة من شرق القوقاز إلى شمالها ،ثم عادت األمور
من مفهوم الموادعة السياسية» ،وقدّ مت فيها الباحثة
للعلوم« -النقاشات الفقهية حول الهجرة في القوقاز بعد
كثير من اإلسالميين في شمال القوقاز؛ مما أدى إلى حدوث ً خصوصا مع عبدالرحمن الصخوري ،وبدأ يتكون إلى الهدوء
ما يسمى بالحوار اإلسالمي لكن ما كتبه رجب محمد اإلمام في بحثه «إقامة البرهان على ارتداد البرهان والمجتمعات
التقليدية» المتضمن أن على كل مسلم أن يهاجر بعيدً ا من الحكم الشامل؛ أدى إلى نشأة حركات مهمة في داغستان، لعل أبرزها تلك التي قادها عبدالرحمن السفوري.
الثقافي» ،وتناول قيوم سروش -من مكتب مجلس األمن
وحملت حلقة النقاش الرابعة عنوان« :ظواهر مستمدّ ة
تبسم بارفين -من جامعة الملة اإلسالمية في الهند -ورقة عمل «السلفيون والموادعة السياسية في الماضي والحاضر»
تناولت فيها السلفيين والموادعة السياسية في الماضي ً ّ مستهل حديثها إلى أن توحيد الربوبية متطرقة في والحاضر،
واأللوهية لدى السلفيين ال بد أن يكون على نهج اإلسالميين األوائل وتطبيق أعمالهم ألنهم يطبقونها عن رسول الله وخاتم
واستؤنفت فعاليات المؤتمر في اليوم الثاني بمحاضرة
األنبياء واصفين بذلك أي خالف للمنهج الصحيح بالبدعة،
إكستر البريطانية -عن «الموادعة والشرعية السياسية :اآلراء
بالطريقة الصحيحة على حين أن هناك تيارات حاليًّا تنتسب
افتتاحية لروبرت غليف -أستاذ الدراسات العربية في جامعة الشيعية في السياق اإلسالمي على النطاق األوسع» ،وتحدّ ث
وأن السلفيين –وفق تعبيرها -تعاملوا مع الدعوة اإلسالمية
للسلفية ال تطبق الدعوة السلفية تمامً ا ،ولها أطماع خفية،
الدكتور سعود بن صالح السرحان -األمين العام للمركز- ّ والمفكرون» ،ثم بدأت فعاليات حلقة عن« :الفكر المُ وادِع
إيران وثورة الخميني المشهورة ،وتحدث أليساندرو كانشيان
«الصبر على ما نحن فيه خير من الفتن :نشأة الموادعة السياسية في الفكر الس ّني» ،وشرح الباحث منصور
ُ «لست سوى مزارع قرويّ ودرويش ..بين الموادعة السياسية ّ المبكر وتحدي الحداثة»، والقيادة الروحية :التصوف الشيعي
النقاش الثالثة ،وتحدّ ث فيها الدكتور سعود السرحان عن
العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
وتريد الوصول إلى السلطة تحت شرعية الدين كما حدث مع -الباحث في معهد الدراسات اإلسماعيلية في لندن -عن
وتناولت ليلى مقبول -الباحثة في جامعة أوسلو بالنرويج- ً مشيرة «التقوى وسياسة الوعظ بين الداعيات السعوديات»
برؤاهن وتطلعاتهن من دون فرضها معتمدات على رأس
وتناقشت معهن حول تجنبهن القضايا السياسية؛ لتجيب
حبيب -من جامعة حامية الهور في الهند« -الحوار الداخلي
إلى أنها اجتمعت مع مجموعة من الداعيات السعوديات،
إحداهنّ عن ذلك بأنها تحاول أن تركز على القضايا االجتماعية ً ومعتبرة أن السياسة هي عالم ذات الفوائد األكثر أهمية، الرجال ،وأنه -وفق الباحثة مقبول -قد نشأ أسلوب جديد
للداعيات السعوديات ،وهو ما يسمى «بالداعيات المثقفات»
إذ إنهن –أي الداعيات -متضامنات مع رؤى المملكة وسياساتها
إال أنهن في الوقت نفسه يشاركن في المسائل السياسية مالهن الفكري والمالي الشرعي ،واستعرض محمد شهيد بين المُ وادعين وغير الموادعين من المنظور الفقهي السني
والصوفي والشيعي».
ويُذكر أن إدارة البحوث في مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية س ُتصدر كتابًا يتضمن أوراق هذا المؤتمر
السنوي.
وفد رفيع من مؤسسة راند األميركية يزور المركز
15
استقبل األمير تركي الفيصل -رئيس مجلس اإلدارة -في مكتبه بالمركز يوم األحد 5ربيع األول سنة 1438هـ 4 /ديسمبر
2016م وفدً ا رفيعً ا من مؤسسة راند RANDاألميركية ،برئاسة مايكل دي ريتش الرئيس والمدير التنفيذي للمؤسسة .وجرى خالل اللقاء مناقشة بعض الموضوعات التي تشغل العالم في الوقت الراهن ،وتناوُل عد ٍد من األفكار التي ُتسهم في
تحسين السياسات ومواجهة التحديات عبر البحث والتحليل لدعم اتخاذ القرار المناسب. وأ ّكد األمير تركي الفيصل خالل استقباله وفد المؤسسة أن الدول والجهات الحكومية والخاصة باتت بحاجة ماسّ ة
في هذا العصر إلى االعتماد على بيوت الخبرة والبحث في العالم ،مشي ًرا إلى أهمية الخبرة والبحث والتحليل في الخروج بأفكار خلاّ قة غير تقليدية تقوم على األدلة في بيئة صناعة القرار في ّ ظل األزمات السياسية واالقتصادية والعسكرية التي يعيشها العالم.
وتأتي مثل هذه الزيارات في إطار سعي المركز إلى توثيق أوجه التعاون والعالقات الثنائية مع مختلف المؤسسات
والمنظمات المحلية واإلقليمية والدولية العاملة في مجاالت البحوث والدراسات اإلستراتيجية. ً ً بحثية غير ربحية ،تساعد على تحسين السياسات منظمة وتعدّ مؤسسة راند األميركية ،التي تأسّ ست عام 1948م، بتكليف من الجهات ودعم ّاتخاذ القرار من خالل البحث والتحليل ،وتقوم بعمل بحوثها -على مدار سبعة عقود تقريبًا- ٍ
ّ الخاصة ،واقترن اسمها بالبحث والتحليل الموضوعي في أهم القضايا؛ مثل: الحكومية والمنظمات والمؤسسات الدولية
الطاقة ،والتعليم ،والصحة ،واالستدامة ،والنمو ،والتطوير ،واألمن ،والعدالة ،والبيئة ،والشؤون العسكرية ،للمساعدة ً ً صحة وازدهارًا. وسالمة ،والناس أكثر على جعل العالم أكثر أم ًنا
مقال
ماجد الحجيالن رئيس التحرير
ـاما 40ع ـ ً
بحلول هذا العام الميالدي تبلغ «الفيصل» عامها
األربعين؛ إذ تستكمل أربعة عقود منذ إصدارها
األول عام 1977م ..سنوات طويلة مرت اعترى خاللها
وقد نشرت المجلة خالل العام المنصرم عددًا كبي ًرا من
السياسة والثقافة والصحافة ما اعتراها مما يعرفه كل
المقاالت والدراسات والتحقيقات والنصوص والترجمات
تتفاعل مع المتغير وثابتها الوحيد خدمة القارئ
كل عدد هي عنوان المجلة األول؛ إذ تختار هيئة التحرير
متابع وقارئ .وظلت المجلة وفيّة لموعدها الشهري،
16
الجديدة انفتاحً ا على كل ما هو ثقافي ،كما واكبت المجلة ً أحداثا ال غنى لقارئ اليوم عن مطالعتها والتفاعل معها.
العربي حيث كان.
التي انفردت بها ،وكانت الملفات الثقافية الكبرى في
ً موضوعا ثقافيًّا آنيًّا وتستكتب له أبرز المعنيين ،بما يقدم
ففي الوقت الذي يتوقف فيه عدد من الصحف
للقارئ جرعة معرفية غنية في موضوع واحد من زوايا
ومركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية
وكما تعتز المجلة بما تلقته من قرائها وكتابها من
والمجالت التزمت مؤسسة الملك فيصل الخيرية
متعددة وآراء مختلفة.
برسالة الفيصل .وظل الق ّراء وعشاق المجالت الثقافية
ثناء على ما تنشره؛ فإننا نثمن عاليًّا ما طالعناه من نقد
القائمين عليها ،ومبعث حرصهم على االستمرار
وفي الحالين فإن المجلة تعتذر عن عدم نشر هذه الرسائل
هم عمادها األول ،وكان وفاؤهم للمجلة مصدر اعتزاز
نثق أن مر ّده حرص القارئ على إيصال صوته إلى مجلته،
وتجاوز العقبات التي تعتري صحافة اليوم؛ من تعثر
على صفحاتها التزامً ا من هيئة التحرير بالخط المهني
والطباعة ،وأخي ًرا هجرة جماعية للقراء من المطبوع
مثقفون في منابرهم الخاصة تجاه الفيصل.
التوزيع ،وقلة التمويل اإلعالني ،وتكاليف الورق
إلى اإللكتروني.
قبل عام من اآلن أعلنت الفيصل عن رؤية جديدة
للمجلة صدر منها حتى اآلن خمسة أعداد مزدوجة
الذي اعتمدته للمجلة ،غير أننا جميعً ا نسعد بما عبر عنه وبهذه المناسبة األربعينية فإن الفيصل ستعمل على
ملف خاص بمسيرة المجلة ،تستعيد فيه بعض تاريخها
وتتناول حاضرها ،وترحب المجلة بمشاركات القراء ممن
هذا سادسها ،غيرت المجلة حجمها الورقي ،وزادت
قرأها وعرفها قبل عقود ،أو ممن انضم إلى قرائها اليوم،
وحسابات إعالم اجتماعي ،وأضافت (كتاب الفيصل)
ذكرى ،كل موقف مع الفيصل سننشره في هذا الملف
عدد صفحاتها وموادها ،وأنشأت موقعً ا إلكترونيًّا
ليكون هديتها لقرائها مع كل عدد ،وشملت الرؤية
العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
من ك ّتاب المجلة وممن عمل فيها أو تعاون معها .كل
المقبل ،وبين العدد الورقي واإللكتروني سيطالع القارئ
شي ًئا من تاريخ المجلة وأثرها الذي صنعته في الحياة
الثقافية لمتابعيها.
كل شيء تغير في الظروف المحيطة بالصحافة
الثقافية ،غير أن الثوابت األساسية بقيت كما هي ،فالثابت
هو المادة الثقافية الرصينة ،والمتغير هو موضوعها وآلية نشرها وإخراجها.
لقد بلغتنا مشاعر عدد من متابعي المجلة ممن يذكر
17
أن أول مادة صحافية نشرها في شبابه كانت في الفيصل،
فقد اتسعت صفحاتها في ذلك الحين لمشاركات الشباب وعشاق األدب والشعر والفنون من الجيل الغض ،وكان
ذاك منهج معظم الصحف والمجالت ،أما المتغير اليوم
فلم تعد الصحف والمجالت هي المنبر الوحيد الذي
يستطيع فيه الجيل الناشئ أن يعبر عن نفسه وأن يطور
مواهبه الكتابية ،فقد أتاحت وسائل االتصال الجديدة لكل
مبدع مهما بلغت سنه وخبرته أن يكتب وينشر ويتفاعل مع
قرائه من دون الحاجة إلى وسيط صحافي يراقبه ويقيمه.
وال بد من تحية يقدمها الفريق العامل على إعداد مجلة
ً حريصا على اقتنائها الفيصل لكل قارئ ظل وفيًّا لمجلته
في مكتبته ،وشكر خاص لكل من عمل في هذه المجلة من الزمالء الذين غادروا إلى مواقع أخرى ،وللمئات من الكتاب
والصحافيين الذين راسلوا المجلة ونشروا فيها أعمالهم،
وستبقى الفيصل بدورها على العهد في خدمة القارئ العربي لتواصل رسالتها الثقافية.
ترحب المجلة بمشاركات القراء ممن قرأها وعرفها قبل عقود ،أو ممن انضم إلى قرائها اليوم ،من كتّاب المجلة ومن عمل فيها أو تعاون معها .كل ذكرى، كل موقف مع الفيصل سننشره في هذا الملف المقبل
الملف
من االستغالل السياسي إلى العنف والتهميش
بالد األقليات الهائلة 18
العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
فور اإلطاحة بصدام حسين في العراق قبل أكثر من عقد نبّه باحثون إلى احتمال عودة
البالد إلى «مكوناتها األساسية» ذلك أن الدكتاتوريات ،ولطبع أصيل فيها ،تطحن الهويات
الفرعية واالنتماءات بجميع أشكالها لتصهرها في شخص الزعيم وحزبه .وفور االنفكاك من ربقة االستبداد تظهر على السطح أشكال جديدة من الوالءات واالنتماءات بما يعكس نسيج
المجتمع الحقيقي .ولمّ ا كانت السلطة قد أخفقت على مدى عقود في إيجاد هوية وطنية
جامعة تتسع لجميع األطياف؛ انبجست هذه الهويات الفرعية في صورة «هويات قاتلة» على ما يصفها أمين معلوف في كتابه الشهير.
ّ تشظي الدولة وقد كان ما كان في العراق الذي زالت سلطته المركزية حينها ،وتبين أن
العربية احتمال حاضر ال يمنعه إال القوة القاهرة ،وحيثما وجّ َ هت بصرك في المنطقة العربية َ ً صراعا منفجرًا في شكل حروب متناسلة ال حرب واحدة بجبهة واحدة وفريقين وجدت اليوم ككتلة صماء ،فإن لم تجد فاألرجح أن بذرة الصراع موجودة وكامنة بانتظار اللحظة المناسبة. ً ً وأحيانا ما هو أكثر من ذلك.. اعترافا بكيانها هذه البذرة تكمن في االختالف ..وجود أقلية تريد
أقليات لها خصائص مختلفة ال بد أن تعلن عن نفسها في لحظة ما ،وهنا يلتقط السياسي
الغربي أو الشرقي فرصة التدخل بذرائع ال ّ حد لها.
إنها أقليات فريدة في منطقة هي أقدم بقاع األرض وأغناها بالحضارات ،أقليات قد تكون
محدودة العدد لكن هائلة التأثير.
ويبقى السؤال األكبر :هل هذه المقاربة الرمادية هي اآللية الوحيدة لتناول موضوع
«األقليات» في المنطقة العربية؟ أليس التنوع والتعدد ثراء؟ ألم يكن المجتمع العربي
واإلسالمي منذ فجره األول غنيًّا باألعراق واللغات واألديان؟ أال تغتني المكتبات العربية بنتاج أفراد ينتمون إلى أقليات؟ ألم يسهم هؤالء في المنجز الحضاري العربي من قيادة الجيوش
إلى ريادة العلوم الطبيعية؟ ُتخصص الفيصل ملف هذا العدد لتناول موضوع األقليات في العالم العربي ،وتختار ً ً غالفا معبرًا عن ثراء هذا التنوع وجماله كما تعكسه األزياء ،وكما يصوّره تراث كل عامدة أقلية في المنطقة العربية على اتساعها ،إنها محاولة إلبراز المسكوت عنه في معنى التعددية ً خالقا لإلبداع اإلنساني وحيوية االختالف ،وكيف يمكن أن تكون االنتماءات والهويات مصدرًا
ً مبعثا للشقاق والتناحر. ال قياسا إلى ضخامة موضوع األقليات وتنوعها إلى ويمثل هذا الملف تناولاً صحافيًّا موج ًزا ً عرقية ودينية ومذهبية ،فضلاً عن السجال الكبير حول ما يمكن أن يصنف أقلية أو أكثرية من
حيث اإلحصاء أو التاريخ ...إنها ومضة من الضوء على ملف واسع نضعها بين يدي القارئ.
19
الملف
سؤال الهوية
األقليات في الوطن حدين العربي سالح ذو ّ 20
العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
حسين جواد قبيسي
كاتب وباحث لبناني
ً حرارة طاغية ،وأهمية استثنائية بعدما تكتسب موضوعة األقليات في المنطقة العربية باتت في قلب األحداث الساخنة ،بل الملتهبة في المنطقة العربية ،وهي أحداث شبيهة بحرب ً ً ً ووجوها مختلفة، مختلفا طابعا عالمية تختلف عن الحربين العالميتين السابقتين ،باتخاذها
وأبرز هذه الوجوه الحرب التي تشنها المنظمات اإلرهابية على األقليات في الدول العربية المكتوية بلظاها .غير أن أسئلة كثيرة تحيط بمسألة األقليات في الوطن العربي :لماذا يكون التعدد الثقافي في نسيج الدول االجتماعي أمرًا إيجابيًّا ،ودليلاً على الديمقراطية يستحق الثناء في المجتمعات ً ومدعاة للرثاء ،ويستوجب التقسيم بجعل هوية سياسية مستقلة الغربية ،ويصبح أمرًا سلبيًّا لكل أقلية ،يتشكل منها نسيج الوطن العربي االجتماعي؟ وقبل ذلك ،ما معنى أقليات؟ وكيف يكون لكل منها هوية ثقافية ،حتى يستوجب األمر الكالم على هوية سياسية؟ قبل الحرب الداعشية ،كانت موضوعة األقليات موضع
حوار ومناقشات بني املفكرين والسياسيني واملثقفني والباحثني، تجري عىل صفحات املجالت والجرائد ،ويف سجال يحتدّ حي ًنا ويخفت ،وكان يف جميع األحيان يستند إىل نظريات ومبادئ
فكرية استمدها العائدون من املعاهد والجامعات األوربية
واألمريكية؛ فالدولة/األمة الحديثة التي تكوّنت يف الغرب ،قامت
عىل أساس من تطابق الهوية السياسية مع الهوية الثقافية كما نادى به فالسفة السياسة واالجتماع منذ عصر األنوار .لكن
بقيت هناك خالفات بني املدرستني الفرنسية واألمريكية حول تعريف الهوية الثقافية الناشئة عن االختالف يف تعريف مفهوم
الثقافة نفسه .هذا االختالف كثري التشعب ،ويحتاج إىل دراسة ال يتسع لها املجال هنا واآلن .ونكتفي بذكر ما هو مشرتَك بني
املدرستني ،وهو توافر معايري عدّ ة يف الهوية الثقافية لقوم من األقوامُّ ، أقلها لغة مشرتكة ،ودين مشرتك ،وتاريخ مشرتك،
وطموح مشرتك .إذ تتداخل علومٌ كثرية يف دراسة األقليات
كالسوسيولوجيا السياسية ،واألنرثوبولوجيا الثقافية ،وتاريخ الحضارات ،وعلم الوراثة .فهذه املوضوعة القديمة الجديدة
تتجدد مع التغريات االجتماعية واالقتصادية والثقافية التي
تحدث يف الحقب التاريخية املختلفة ،كما تنطوي عىل صراعات سياسية واجتماعية واقتصادية تتخذ شكل صراعات عرقية
إثنية ،أو دينية مذهبية.
التواطؤ مع اإلمربيالية
ومع أنه يجب أن يُنظر إىل تصنيف األقليات الدينية
واإلثنية واللغوية يف ضوء هذه العلوم ،فإن النخب الفكرية
21
الملف
كان نظام الحكم العثماين يق ُّر بها ،ولكن منضوية تحت حكم
والسياسية يف الوطن العربي ّ َ مخافة قلما تتناولها، ّاتهامها بالتواطؤ مع القوى الغربية واإلمربيالية
حتى الصهيونية الساعية إىل تفتيت املنطقة العربية
وتقسيمها ،إذ ال بد أن نلحظ أن مسألة األقليات كانت موضع اهتمام الدول الخارجية الستخدامها يف
مشروعات االحتالل والهيمنة والتقسيم؛ فقد كانت الدولة العثمانية يف مرحلة صعودها وقوتها ،تميز بني
الطبقة الحاكمة والرعايا ،وتقسم الرعايا عىل أساس نظام امللل العثماين الذي أعطى لكل طائفة حق إدارة شؤونها الدينية بنفسها ،وبناء مؤسساتها الرتبوية، والثقافية ،واالجتماعية ،وإدارة أوقافها عرب مجلس لكل منها دون تدخل مباشر من جانب الدولة ،ثم ما
لبث نظام امللل العثماين الذي استم ّر العمل فيه طوال القرنني السادس عشر والسابع عشر ،أن تحول يف
لتفسخها مرحلة انحدار السلطنة وضعفها ،إىل سبب ُّ من الداخل بعد هزائمها العسكرية منذ أواسط القرن
الثامن عشر ،أمام هجمات الدول األوربية ،وبخاصة
22
مع حملة نابوليون بونابرت يف أواخر ذلك القرن من
أجل احتالل مصر وبالد الشام تمهيدً ا الحتالل األستانة
وإنهاء الدولة العثمانية ،مستخدمً ا أسلوب التعاطف
السلطان وسلطته املطلقة .هذه امللل هي التي أصبحت فيما ً خليطا من العرب والكرد واألرمن بعد ُتدعى أقليات ،وكانت
والشركس والسريان واملسيحيني بطوائفهم املختلفة ،واليهود ً عالوة بطبيعة الحال عىل الرتك واملسلمني بمذاهبهم املتعددة، وغريهم ..والحق أن مجموع هذه األقليات أو امللل كان يكوّن ٌ خليط النسيج االجتماعي الفسيفسايئ املتنوع واملتعدد ،فهو
من األقوام والقبائل واألديان واملذاهب واألعراق واأللسن.
قبل الحكم العثماين وقبل املسألة الشرقية ،كان هناك ما ّ يستقلون يف مساحة ُع ِرف بعصر الدويالت حينما كان الحكام
جغرافية يسمونها باسم القبيلة التي ينتمون إليها ،كدولة بني حمدان ،ودولة بني بويه ...تمامً ا مثلما كانت الدول اإلسالمية
نفسها تتسمّ ى باسم جد القبيلة ،كدولة بني أمية (الدولة األموية) ،ودولة بني العباس (الدولة العباسية) ،والدولة
الفاطمية ،والدولة األيوبية .حتى الدولة العثمانية نفسها تسمّ ت باسم جد القبيلة الرتكية عثمان. معان سلبية وإيجابية
ومع أن الدول التي تخلو من األقليات نادرة جدًّ ا،
فإن مفهوم األقليات يف بالدنا بات يحتمل كثريًا من املعاين السلبية واإليجابية ،يف ظل مشروعات تفكيك األرض والهوية
والشعب ،إذ تصبح هويات األقليات من دون هوية جامعة،
مع طوائف بالد الشام ومصر ،واستمالة زعماء األقليات
ويطغى فيها الخاص دومً ا عىل العام :إذا كانت الهوية
أنظمة ديمقراطية عىل النمط الغربي ،وإنقاذهم من
والؤهم للوطن ،من دون أن ينتفي وجود أقليات ذات
الدينية والعرقية واللغوية ،ومساعدتهم عىل إقامة
الحكم العثماين االستبدادي .وعىل الرغم من فشل
الجامعة هي الوطن يصبح املواطنون جميعً ا أكرثية مطلقة، انتماءات ثقافية مختلفة؛ أما إذا انتفت الهوية الجامعة انفتح باب هويات األقليات عىل مصراعيه ،وانتفى الوالء للوطن
مشروعه السيايس والعسكري ،فإن الدولة العثمانية واجهت مطالب تلك األقليات التي ُع ِر َفت بالـمسألة الشرقية باملزيد من القمع واإلرهاب من جهة أوىل،
يف الكالم عىل األقليات يف العالم العربي هو السعي إىل إلباس
من الخارج األوربي من جهة ثانية .لكن تلك التدابري ً ضعفا وباتت ُتسمّ ى الرجل املريض ،والجثة شبه زادتها
لماذا يكون التعدد الثقافي في نسيج
والقبول ببعض اإلصالحات والتنظيمات املفروضة
املهرتئة ،فخسرت كثريًا من والياتها البلقانية والعربية،
وتحولت مسألة األقليات الدينية ،والعرقية ،والقومية، واللغوية ،والجماعات القبلية والعشائرية ،إىل منطلق
لتدمري الدولة من الداخل ،وقيام أنظمة من الحكم املحيل تحت السيطرة األوربية.
كانت ملسألة األقليات يف الشرق األوسط تسمية
أخرى يف القرنني الثامن عشر والتاسع عشر وهي :املسألة
الشرقية ،وقد أطلقت الدول الكربى آنذاك (بروسيا، وروسيا ،وفرنسا ،وبريطانيا) هذه التسمية عىل امللل التي
الجامع ،واستأثر االنتماء الثقايف وحده بهذا الوالء .فأسوأ ما
هذه األقليات لبوسً ا سياسيًّا يؤدي إىل إقامة كيانات سياسية
أمرا إيجاب ًّيا ودليال الدول االجتماعي ً على الديمقراطية يستحق الثناء في أمرا سلب ًّيا المجتمعات الغربية ،ويصبح ً ومدعاةً للرثاء ،ويستوجب التقسيم بجعل هوية سياسية مستقلة لكل أقلية يتشكل منها نسيج الوطن العربي االجتماعي؟
العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
بعدد الكيانات الثقافية ،وتذرير العالم العربي إىل أقىص حدّ ؛
هذه املذاهب .وإذا اعتمدنا األعراق واللغات تحصلت لدينا
حقوقها الثقافية يف إطار وحدة سياسية جامعة ،إذ يذهب
كرد ،وفرس ،وترك ،وتركمان ،وشركس ،وشيشان،
وأفضل ما يف الكالم عىل أقليات العالم العربي هو إحقاق كثري من الدراسات إىل أن الغالبية العظمى من سكان الوطن
العربي ( )% 80يتحدثون اللغة العربية كلغة أصلية ،ويدينون باإلسالم ،وينتمون سالليًّا إىل العنصر السامي الحامي ،وأن
األقليات اإلثنية يف املجتمع العربي تختلف عن األغلبية يف أحد املتغريات األربعة اآلتية :اللغة ،والدين ،والعرق ،والعادات والتقاليد والسلوك ،أو ما يُع َرف يف علم أنرثوبولوجيا الثقافة بالـعقلية .السؤال البديهي الذي يطرح نفسه يف سياق الكالم
عىل حقوق األقليات هو :ماذا عن حقوق األكرثية؟
األقليات اآلتية واملوزعة عىل مختلف املجتمعات العربية: وهنود ،وبلوش ،وأفغان ،ويونان ،وأرمن ،وبربر ،أو أمازيغ (وفيهم شاوية ،وقبائلية ،وشلوح ،ومزابيون) وغجر ،ونور،
وطوارق ،ونوبيون بجا (ومنهم البشارية) وسيويون ،وهوسا،
وقبائل صحراوية ،وقبائل نهرية وشبه نهرية ،وبدو ،ورُحَّ ل، ّ ومولدون (يف موريتانيا) أحباش، وبانتو ،وأفارقة وزنج، وباكستانيون ،وفيلبينيون.
فإذا كان الوطن العربي موطن األقليات ألنه مهد
الحضارات القديمة ،وقلب العاملني املسيحي واإلسالمي ،فإن
كانت للدين يف منطقة الشرق األوسط أهمية فائقة يف
مسألة األقليات ليست عربية فقط ،بل هي ظاهرة عاملية؛ فمع
هذه املنطقة غري متحدرة من األديان التوحيدية الثالثة ،بل هي من أديان أخرى .فمن املهم ً إذا من الناحية التاريخية والثقافية
يف النصف الثاين من القرن العشرين أصبح من الصعب إنكار
الحضارات املختلفة التي سادتها .وهناك أديان ومذاهب يف
ظهور أفكار الديمقراطية وحقوق اإلنسان وحق تقرير املصري حق األقليات العرقية أو الدينية يف املساواة .يف القرن املايض
النظر إىل هذه املنطقة عىل أنها ملتقى الديانات ،والبوتقة التي
كانت عملية التخيل عن هوية األقلية لصالح هوية األغلبية أم ًرا
وإفريقيا وأوربا .فإذا اعتمدنا الدين معيارًا وجدنا أن هناك
وال سيّما تلك الناشئة عن الهجرة ،سواء كانت طواعية بدوافع
انصهرت فيها االنتماءات الدينية والعرقية املختلفة بني آسيا
ومجوسا ،وصابئة وثنيني ومسلمني ومسيحيني ويهودًا ً وأزيديني وعبدَ ة الشيطان ..وإذا اعتمدنا املذاهب الدينية معيارًا وجدنا مسيحيني عربًا (روم كاثوليك ،وروم أرثوذكس،
ً وأقباطا ،وبروتستانت ،وإنجيليني ،وفرنسيسكان، وموارنة،
ومريميني) ،ومسيحيني غري عرب (أشوريني ،وسريان، وكلدان) وس ّنة (مالكية ،وشافعية ،وحنفية ،وحنبلية) وشيعة (جعفرية وإثني عشرية ،وسبعية ،وعلويني ،ودرو ًزا، ً وفرقا مختلفة داخل وإسماعيليني ،وأباضيني ،وزيديني)
شائعً ا ،لكن األقليات ترفض اليوم التخيل عن هويتها الثقافية،
اقتصادية أو اجتماعية ،مثل هجرة األتراك للعمل يف أملانيا، وهجرة الهنود والباكستانيني وغريهم إىل دول الخليج العربي،
وهجرة أبناء مستعمرات آسيوية وإفريقية سابقة إىل بلدان االستعمار السابقة (اململكة املتحدة ،وفرنسا وهولندا) ،أم
كانت قسرية (تهجري) ،حني يُطرد سكان من ديارهم بالقوة إىل مكان آخر يصبحون فيه أقلية ،مثل تهجري األرمن من شرقي
األناضول ،والشركس من القفقاس الشمايل ،واملسلمني من مينمار (بورما) إىل بنغالدش ،واملسيحيني إىل تايالند .وهناك
23
الملف ً أيضا األقليات الناشئة عن الغزو واالحتالل واالستعمار االستيطاين ،كالغزو االستيطاين الصهيوين لفلسطني؛
إذ كان اليهود أقلية بني العرب ،الذين تحولوا بعد قيام الكيان الصهيوين إىل أقلية يف بحر املستوطنني
الصهاينة .كما تحوّل سكان أمريكا األصليون من أكرثية مطلقة إىل أقلية تكاد تنقرض بعدما احتل األوربيون أرضهم ،وأبادوا معظمهم .والواليات املتحدة نفسها
هي خليط من األقليات ،ففيها ممثلون لجميع أعراق العالم تقريبًا .كما تضم أجناسً ا وفئات مختلفة الهويات
اإلثنية .وفيها أكرث من 250طائفة دينية مذهبية مسيحية إضافة إىل األقلية اليهودية ( )% 1٫8واإلسالمية، والسيخية ،والبهائية ،والبوذية ،وغريها .وتعد مسألة
التمييز العرقي بني البيض األوربيني والسود واألفارقة
بني جماعات الحيوان من صراع وتوحش وتنابذ .والحضارات اإلنسانية هي بالضبط ثمرة هذا التعايش والتالقح الفكري الذي سهم فيه جميع الجماعات والشعوب واألقوام عىل م ّر تاريخ ُت ِ التعايش فيما بينها .وبمقدار نجاح إدارة االختالف بني األقوام والشعوب يُقاس مدى الرقي اإلنساين وتطوّر األمم؛ فالصراع بني األقوام املختلفة هو موروث عصور بائدة من االجتماع البشري.
وإذا كانت األمم املتحدة هي الشكل الذي تصبو إليه يف
طريق تقدمها الحضاري ،فإن األمم املتحدة ما زالت دون
املستوى الذي تطمح إليه اإلنسانية ،وهو أعىل سقف جامع، وتوجد دونه سقوف جامعة أخرى ،كسقف االتحاد األوربي
الذي صنع هوية مشرتكة ألوطان خاضت فيما بينها أعتى وأعنف حربني متتاليتني يف النصف األول من القرن املايض ،ثم
انضوت تحت هوية واحدة .ويسعى أقوام آخرون يف أماكن من
واملكسيكيني من أهم املشكالت يف الواليات املتحدة. ً عالوة عىل األقليات كذلك تضم الصني 55أقلية قومية،
العالم إىل خوض التجربة نفسها يف االتحاد اإلفريقي واالتحاد
التبتية ،واملسيحية واإلسالمية .كما يضم االتحاد الرويس
جامعة هي الهوية الوطنية التي تعرتف لجميع مواطنيها
الدينية كالبوذية والكونفوشية والطاوية والالمية -
24
والقوانني ُت ِق ُّر هذا الحق يف أول ّ سلم اإلنسان .وهذا ما يجعل التعايش ممك ًنا ،بل سببًا للرقي والتحضر والتقدم ،بالتفاعل ً خالفا ملا هو قائم بني الجماعات البشرية ،وتبادل خرباتها،
أقليات قومية عرقية يصل عددها إىل أكرث من 128أقلية
كالتتار واألوكرانيني والتشوفاش والبشكري والروس
البيض واملوردوف واألملان ،ومن الداغستان والشيشان
واألوسيت واألديغة والشركس .ويف تركيا أقليات عرقية تصل نسبتها إىل أكرث من % 30من السكان .ويف اململكة املتحدة وكذلك يف فرنسا ،أقليات أوربية وأخرى
وافدة من مستعمراتهما السابقة ،كالعرب والهنود واألتراك وغريهم ،إضافة إىل عشرات الطوائف املذهبية
والعرقية األخرى .وقد حصل الويلزيون واألسكتلنديون
الرويس واالتحاد األمرييك .ودون هذا السقف هوية أخرى بحق املعتقد الديني وبحق التعبري واالنتماء ،شريطة أن يبقى
الوالء لهذه االنتماءات دون الوالء للهوية الجامعة ،وأن يبقى
االلتزام بواجباتها تحت سقف االلتزام بالقانون الجامع.
بمقدار نجاح إدارة االختالف بين األقوام والشعوب ُيقاس مدى الرقي اإلنساني وتطور األمم ّ
عىل حكم ذايت ،وأصبحت لهم برملاناتهم الخاصة بهم. ً ضغوطا ملنح الربيتانيني وتواجه فرنسا
والكورسيكيني
حقوقهم
الثقافية.
كذلك يطلق الكاتالونيون يف إسبانيا
اسم الدولة عىل إقليم كاتالونيا .ويف تركيا أقليات تصل نسبتها إىل أكرث من
%30من السكان.
حق اختالف البشر
فإذا كان هذا االختالف بني
الجماعات طبيعيًّا ،فمن الطبيعي ً إذا أن يكون االعرتاف بحق اختالف
البشر طبيعيًّا ً أيضا ،ولذا فإن الدساتري العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
يف األوطان االتحادية أو الوحدوية ذات السقف العايل يف ً حقوقا هويتها الجامعة التي تو ّزع عىل جميع املنضوين تحتها
متساوية وواجبات متساوية ،تنضوي هويات أخرى كثرية جماعية وفردية ،ال تخرج عىل الهوية الجامعة ،وال يكون
لها أي تأثري سلبي فيها ،ما دام الجميع متساوين يف الخضوع لقانون واحد ،يرعى حقوقهم وواجباتهم جميعً ا ،ويصونها
من دون تمييز .هذا القانون يتصف بصفات هي خالصة
الفلسفات السياسية التي نمت وتطورت منذ عصر األنوار ّ وتلخصت يف تسميات تستحق الشرح والتفسري: األوربي،
املواطنة والعلمانية والديمقراطية؛ فهذه جميعً ا تهدف إىل صون الهوية الجامعة ،وعدم السماح للهويات املتنوعة التي تنضوي تحتها بأن تخرج عىل القانون الذي يرعاها .والخروج
عىل هذا القانون الوطني الجامع لجميع الهويات يُفيض إىل تم ّزق الوطن الجامع ،وإىل ما بات يسمّ ى بالبلقنة أو باللبننة بالنظر إىل ما حدث يف البلقان من صراعات أدّت إىل تقسيمها إىل دول تبعً ا لالنتماءات الدينية واملذهبية والعرقية ،وكذلك بالنظر إىل االنقسامات الطائفية واملذهبية التي حصلت يف لبنان
يف أثناء الحرب األهلية من دون أن تؤدي إىل تقسيمه.
مشروعان سياسيان في المنطقة العربية يف بداية القرن العشرين سار مشروعان سياسيان يف املنطقة العربية جنبًا إىل جنب ،وكل منهما نقيض اآلخر :مشروع كيان سيايس لألقلية اليهودية ،ومشروع الكيان السيايس لألكرثية العربية .ومعلومٌ كيف دُعم املشروع األول وأُخفق املشروع
الثاين من الدول الظافرة يف الحربني العامليتني بعد دحر الدولة العثمانية عن سائر املنطقة العربية .فاألقلية اليهودية التي أقامت ً كيانا سياسيًّا لها يف إسرائيل هيمنت ،إىل هذا الحدّ أو ذاك ،عىل املنطقة العربية عسكريًّا ودبلوماسيًّا .إذ لم يُنئش َ دولة إسرائيل فقط يف املنطقة العربية؛ بل رسم ً أيضا لهذه املنطقة انتصار املشروع القومي اليهودي وتحقيق وعد بلفور ترسيمات وحدودًا ودولاً عربية بموجب اتفاقيات بني الحليفني الظاف َرين ،كان أبرزها االتفاقية املعروفة باسم سايكس بيكو
التي استبدلت بتسمية املنطقة باملنطقة العربية تسمية أخرى هي منطقة الشرق األوسط التي سادت يف األدبيات السياسية
واإلسرتاتيجية الدولية .وثمة فارق كبري بني النظر إىل األقليات من زاوية الشرق األوسط ،والنظر إليها من زاوية املنطقة العربية؛ ذلك أن كال املنظورين ينطوي عىل منطلقات وأهداف مختلفة :فاملنظور األول يعد األقلية اليهودية يف الشرق األوسط
صاحبة حق يف إقامة دولة تهيمن عىل املنطقة العربية لتحوّلها إىل دويالت أقوام وجماعات .أما املنظور الثاين فيعدها جزءً ا من نسيج املنطقة يتساوى مع أجزائه ومكوّناته األخرى تحت سقف هوية عروبية جامعة وسيادية تعرتف لها بحقوقها ً خالفا للمشروع الصهيوين الذي ينبذ خارج النسيج الثقافية ،وفق القوانني الدولية ،فاملشروع العروبي علماين الوجهة االجتماعي والوطني كل االنتماءات الثقافية األخرى املغايرة لالنتماء الديني اليهودي .كذلك ،فإن منظور داعش يحل محل القانون الوطني الجامع قانون فئة أو فرقة تضعه لنفسها بنفسها ،وتسعى إىل فرضه عىل الجميع ،ويصبح كل ما عداها من فئات وجماعات أقليات تستحق االضطهاد ألنها ال تخضع لقانونها .أقليات الشرق األوسط هي مشروعات دويالت ،وأقليات
املنطقة العربية نسيج اجتماعي تعددي وحضاري .ولو أن النجاح كان حليف املشروع القومي العربي يف بداية انطالقته عندما ّ انحلت الدولة العثمانية وتفككت أمام انتصار الحلفاء ،ملا رأى املنظور الثاين النور ،وملا ظهر إىل الوجود؛ غري أن انتصار
فرنسا وبريطانيا ،وانتصار مشروعاتهما االستعمارية والتقسيمية للمنطقة العربية ،أخرج إىل حيّز الوجود والتداول تقسيمً ا أمل بمشروع عربي جيوبوليتيكيًّا جديدً ا تسمية الشرق األوسط لطمس التسمية العربية للمنطقة ،والحيلولة دون انبعاث ٍ
قومي أو وحدوي أو ما شابه.
قد يكون تصنيف النسيج االجتماعي يف أقليات وجماعات ثقافية من باب الفرز والتقسيم يف مجتمع متعدد ثقافيًّا
بغية إنشاء كيانات سياسية لكل مكوّن من مكوّناته الثقافية ،وقد يكون من باب الضم والتوحيد يف سياق االعرتاف بفضيلة التعددية الثقافية يف إطار الوحدة السياسية التي تضمّ ها جميعً ا .فالتعدد الثقايف يف إطار وحدة سياسية جامعة هو موضع
إشادة وتقدير؛ إذ تتغ ّنى به مجتمعات متقدمة يف العالم كاملجتمع الفرنيس ،أنموذج صهر األقليات وذوبانها ()integration يف ثقافة املجتمع الفرنيس ،واملجتمع األمرييك أنموذج التعايش بني الكتل الثقافية املختلفة ( )multing potيف إطار وحدة
أمريكية جامعة .فأين يصبح التغني بالتعدد الثقايف يف املنطقة العربية إذا شاء الشروع السيايس العروبي أن يضم جميع
أقلياته الثقافية ضمن مشروع سيايس توحيدي جامع؟
25
الملف
نحو مجتمع يرفض التقسيم العمودي ألطيافه
قراءة في كتاب المسألة الطائفية ومشكلة األقليات لبرهان غليون
26
العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
مهدي حميش
كاتب مغربي
يعيد المفكر برهان غليون في كتابه «المسألة الطائفية ومشكلة األقليات» (الذي كان قد نشر
عام 1979م عن دار الطليعة ،في نسخة صادرة عن المركز العربي لألبحاث ودراسة السياسات) قراءة الواقع الطائفي ،وكيف كانت وما زالت مسألة التطاحن الطائفي بما تفرزها من تفاعالت ،تؤثر سلبًا
ً وخصوصا العربية أو القريبة من العربية ،بما في ذلك ما تعانيه األقليات في لحمة المجتمعات فيها ،بدءً ا من مشكالت كعنصرية مصطلح «أقلية» ،ومرورًا وختامً ا بعدد من الجزئيات التي قد
ال تغادر إشراك فئة «األقلية» في سلطة الدولة ،وكذلك تذويبها ثقافيًّا وفكريًّا في إطار «األغلبية». يرى املؤلف أن مشكلة األقليات يف املنطقة العربية ال تقتصر فقط
عن نفسها ينجرف إىل محاربة إسالمية الدول وحتى عربيتها ،قبل أن
األقوامية كذلك ،بل تزداد سُ وءًا عندما تصبح هذه األقليات دينية
الذاتية عنها كما حدث لدى األقليات ،وهو ما جعل مشكلة األقليات ً ارتباطا ً وثيقا باملسألة السياسية ،بعدما كانت يف األصل مسألة ترتبط
عىل كون هذه األقليات دينية فقط؛ ألن املشكلة تمتد إىل األقليات
وأقوامية وثقافية يف الوقت نفسه ،وهو ما يدفع بتلك األقليات إىل مسألة «تأكيد الذاتية» ،وهو ما يدفع ً أيضا ببعض هذه األقليات التي
تبتكر الدولة لنفسها مفهوم الدولة العلمانية ،علها تنجح يف نفي
ذاتية ،منحصرة يف إنكار تمايز الجماعة الكربى ،وجماعة األقلية.
استطاعت توثيق تمايزها الذايت ،إىل االنصهار يف الجماعة الكربى،
لقد أدى هذا األسلوب يف معالجة قضية األقليات حسب املؤلف
لكن يف املقابل ،وعندما تفشل جماعة أقلية يف تثبيت تمايزها
الثقافية ،ما جعل هذه الذاتية الثقافية قاعدة يف اللعبة السياسية
يف املشكل ،الذي ينهل يف الغالب من نظرية القومية التي أفرزتها
املتنافسني عىل ذاتيتهم ،وضرب الذاتية الثقافية لآلخر ،وهو ما جعل
واألرمن والشركس هنا أصدق مثال.
الذايت ،فإن القضية قد تنحرف إىل قضية قومية يصعب معها التحكم الحالة األوربية يف القرنني الثامن العشر والتاسع عشر.
يستعرض غليون يف الفصل األول من كتابه املعنون بـ«األمة:
األقلية واألغلبية» جملة من األفكار والتحليالت املعتمدة عىل البحث يف العمق التاريخي ملشكلة األقليات يف الوطن العربي ،وينبه إىل أنه من غري الصواب الخلط بني «األقليات الدينية» و«األقليات
األقوامية الكربى» ،حيث يرى أن الفئة األوىل أكرث صعوبة يف تناول
خصوصيتها ،ويستدل عىل ذلك بتاريخ الحروب التي نشبت يف عدد من املحطات بني طوائف دينية عربية ،أو حتى بني دول عربية وبعض أقاليمها ،أما الفئة الثانية فتبقى مشكالتها غالبًا حبيسة «املفهوم
السائد لألمة وللقومية».
تكون أساسات املشكلة
غليون ،إىل استهانة كربى من طرف املمارسة السياسية بالذاتية بني األطراف ،فصار إثبات القوة يف املمارسة السياسية مبنيًّا عىل حفاظ السياسة املحلية مبنية حسب توصيف الكاتب عىل «غش متبادل»، ما دفع باألغلبية واألقلية عىل حد سواء إىل إنتاج ردود فعل عنيفة
لحظة اإلحساس بأنها قد خدعت ،وهو ما يجعل الوطن الواحد الذي ً مهب قضية قومية تهدد نكرانا متبادلاً للذاتية ،يف اختار أعضاؤه ّ سالمة البلد واستقراره سياسيًّا ،وكذلك وحدته التي تنعدم قيمتها
فيما بعد ،لتصري شكلية ليس إال« ،مضمونها تخيل الجماعة عن كل
هوية قومية» .وهذا الصراع هو ما يخلف اليوم حسب املؤلف استالبًا
وتقديسا لثقافته من أجل ملء الفراغ الذي يشكله الصراع للغرب ً ً الذايت ،ليصبح الجميع يف الوطن الواحد متعلقا بالثقافة األجنبية وباللغة األجنبية السائدة ،التي أضحت لغة النخبة والدولة واإلدارة.
وأمام كل ما سبق ،تطفو عىل السطح دعوات -بحسب غليون-
إىل العودة إىل الهوية القومية ،لكنها ال تنجح بسبب تكوّن نظرة
ويستمر الباحث يف عرض أساسات تكون مشكلة األقليات
ً خصوصا عندما تشعر الرجعية والنكوص حولها داخل املجتمع،
األمر لم يكن سوى «تحويل املوضوع إىل محرمات يمنع الحديث
إىل الذاتية اإلسالمية املوسومة دائمًا بالسلفية ،ستهدد املكتسبات
ً وخصوصا الدينية يف الفضاء العربي ،حيث يرى أن ما زاد من تفاقم
عنها» ،إضافة إىل تأطريها ومحاصرتها ،حتى يتم تناولها فقط من خالل ما أسماها الكاتب «مرآة الصراع السيايس» ،بعيدًا عن أي نقاش
يحللها من وجهة نظر فكرية ثقافية ،وهو األمر الذي ذهب بالقضية إىل غياهب عميقة أصبح فيها الصراع محصورًا بني الحداثة والتقليد، أو بني دولة علمانية وأخرى دينية ،وهو ما جعل كذلك دفاع األقليات
أقليات دينية داخل املجتمع الواحد بأن العودة الكثيفة لدى األغلبية
العصرية العلمانية للدولة الحديثة ،فتلجأ ملواجهتها باملعتقدية
العلمانوية التي تنادي بنزع الدين عن الدولة ،ما يسهم يف تأجج التحدي والصراع والتعصب ورفض الحوار بني أطراف املجتمع. ً تبسيطا للفكرة ،أنه حتى األقليات الدينية التي باتت ويضيف الكاتب تميل ملسألة االنتصار للدولة العلمانية ،باتت ترى أن هذه األخرية
27
الملف
للنظام االجتماعي ،ويعتمد باألساس يف تشكله عىل االقرتاب
ليست دولة مساواة بني األديان ،وحتى لو كانت هناك مساواة فإنها تبقى شكلية يف مضمونها ،وال تؤدي أي دور سيايس يف تحديد مكانة الجماعات واألفراد اجتماعيًّا ،ويف أفضل حاالتها فإنها تبقى كبديل ثقايف للذاتية الدينية أي مجرد نفي للذاتية
القومية.
لقد ساهم هذا الصراع ،حسب املؤلف غليون ،يف التمكني لإلسالم املُستعاد من أن يدخل الحلبة السياسية العصرية
كمقاتل من أجل الديمقراطية واملساواة الغائبة عن نموذج
الدولة العلمانية ،وهو ما ساهم بالتايل بزيادة تعقيد الوضع، ً خصوصا عندما يظهر هناك توافق بني سعي األقليات لدعم دولة علمانية ،ورغبة النخبة يف إبعاد الجمهور عن السياسة
والسلطة ،وهو ما تتهم فيه األغلبية الدينية داخل الوطن األقليات بالتحالف مع الخارج أو مع السلطة العصرية املحلية. ِ ً يستعرض غليون أيضا يف كتابه مفهومًا آخر عن األقلية، وهو ذلك الذي يتأثر وينتج من التوسع االقتصادي والثقايف
دفاع األقليات عن نفسها انجرف
28
إلى محاربة إسالمية الدول وحتى عربيتها ،قبل أن تبتكر الدولة لنفسها مفهوم الدولة العلمانية، ما جعل مشكلة األقليات ترتبط ارتباطا وثيقً ا بالمسألة السياسية ً
التدريجي نحو نموذج حياة واحدة لدى مختلف الجماعات ،أقليات
وأغلبيات ،حيث مع بدء فقدانها لتاريخيتها وتضامناتها الذاتية،
تنشأ هناك عملية إعادة تقسيم املجتمع تقسيمًا أفقيًّا يجعل املطالب
ترتكز حول تعديل الفروقات االجتماعية وتعميم النموذج السائد لدى الطبقة العليا ،بخالف ما كانت عليه املطالب الثقافية الذاتية،
التي هي تقسيمات عمودية تأخذ صيغ صراعات عصبوية طائفية أو
إقليمية أو أجناسية ،ما يساهم بالتايل يف تأسيس نظام مستقر يسمح ببداية االندماج االجتماعي املوسع داخل الوطن الواحد. مشكلة األغلبية
ال يخفي برهان غليون يف كتابه أن مشكلة األقليات يف درجة
أوىل ،مشكلة متعلقة باألغلبية قبل أن تكون مشكلة لدى األقليات
نفسها ،من أجل تحقيق ذاتيتها وتمايزها؛ ألن هذا املطلب لدى األقليات هو طموح تاريخي ومنطقي بالنهاية ،غري أنه باملقابل وعندما
تصبح تلك األقلية «قناة للسلطة» ،فإن األغلبية تتجه لرفض تلك
الجماعة وتمايزها بدواعي النتائج السياسية التي تفرزها األقلية،
متهمة إياها بالتحالف مع الخارج لإلطاحة باألغلبية.
يرى املؤلف أن أهم الحلول التي يمكنها أن تحل مشكلة األقليات
يف الوطن العربي ،ال تغادر مسألة التخيل عن االعتقاد السائد الذي
يرجع الطائفية إىل التمايز الثقايف أو الديني يف املجتمع؛ ألن هذا
التمايز حسب غليون ،والذي يوجد يف كل بلد ،لو حسن توظيفه إيجابيًّا صار أساسً ا للغنى الثقايف واالنصهار ،بخالف لو أُخذ بمنظور
ذايت منفصل ،فسيصبح معول هدم ينخر املجتمعات بدافع االنتصار الشخيص لذاتية الطائفة ،وهويتها القومية املنفصلة عن األخرى.
األقليات خارج العلمانية والدين
يويص برهان غليون يف كتابه ً أيضا ،بعدم االنصياع وراء فكرة ضرورة سري
كل مجتمعاتنا يف الطريق التي سارت عليها املجتمعات الغربية ،إلنهاء مشكلة االنقسام الطائفي واألقليات؛ ألن االعتقاد بأن هناك ًّ ً واحدا للتاريخ يسري خطا
بالجماعات من العبودية إىل اإلقطاع إىل الرأسمالية إىل العقالنية إىل الحرية وإىل الديمقراطية والحرية ،سيأخذنا إىل الفشل يف الوصول إىل إجماع قومي وإىل وحدة قومية من أي نوع كانت .ويضيف غليون ،أنه ال يمكن البحث عن حل للنزاعات
الطائفية يف الدعوة العلمانية التي تدعو للمساواة ،أو يف الدعوة الدينية التي تؤكد
برهان غليون
التسامح ،وال حتى يف القوانني التي تحدد الحقوق والواجبات؛ ألن كل هذه الوصفات استعملت وما زالت من دون نتائج
مبهرة ،وذلك ألن القضية ببساطة ليست متجسدة ال يف دعوة وال يف قضية أيديولوجية شكلية ،إنما هي قضية سلطة متجسدة يف عالقة األفراد بالدولة ،أضف إىل ذلك أن الواقع يفرض اليوم عىل املفكر العربي أن يجهد يف سبيل توضيح
األفكار واملفاهيم ،ويف نقد املمارسات السائدة ،حتى يزول التشويش الذهني الذي يمنع فهم حقيقة الخالف وجوهره، ويعيق بذلك إمكانية الوصول إىل إجماع سيايس يتجاوز الخالفات املذهبية من دون أن يلغيها.
العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
29
الملف
األقليات في مصر..
التجانس التاريخي تحول إلى فتنة
30
العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
القاهرة
تبدو مصر للوهلة األولى ً بلدا خاليًا من األقليات ،فالتجانس التاريخي الذي عاشه الجميع في ظل دول مركزية متعاقبة جعلهم ينتمون إلى المكان أكثر من انتمائهم إلى الدين أو العرق ،لكن مع توالي سنوات الضعف ،وظهور االستعمار أخذت الفتنة تطل برأسها ،سواء بين أغلبية مسلمة وأقلية مسيحية، أو أغلبية سنية وأقلية شيعية ،وتسارع الجميع في اإلعالن عن كونه أقلية تحتاج إلى مزيد من االهتمام في ظل سعي القوى الغربية لتفتيت المنطقة على أسس دينية وعرقية ،وتشجيع الخالفات الطائفية واإلثنية ،حتى إنه بات من الممكن القول :إن مصر بها نوعان من األقلية؛ األول ديني ،والثاني عرقي. أولاً -أقليات دينية
قانون دور العبادة الجديد الذي منحهم الحق يف بناء كنائس جديدة
يعرف املسيحيون املصريون باسم األقباط ،وهم أصحاب املذهب
أخرى بنحو ثمانية ماليني مواطن ،أي أن املسيحيني يف مصر يشكلون
-1األقباط
األرثوذكيس ،وهو أقدم املذاهب املسيحية ،تعود نشأته إىل الخالف
الالهويت القديم حول طبيعة املسيح؛ إذ قالت كنيسة اإلسكندرية
بالطبيعة الواحدة ،وقالت الكنيسة النسطورية وكنيسة روما بالطبيعتني ،وقد تحمل األقباط املصريون ضريبة هذا الخالف لسنوات طويلة ،إذ عانوا اضطهاد األباطرة الرومان لهم بسبب خالفهم املذهبي معهم ،ولم تنته معاناتهم إال بمجيء الفتح العربي ،لكن حسب
رؤى األقباط فإنهم قد عانوا يف ظل هذا الفتح ،حتى قامت أشهر ثورة لألقباط يف عهد املأمون وهي ثورة البشموريني يف مصر ،التي انتهت
بالسحق التا ّم ،ومنذ هذا التاريخ والوجود املسيحي يف حالة تناقص
نظ ًرا لدخول أغلب أبنائه يف اإلسالم.
بمقدار زيادتهم السكانية ،ويقدر املسيحيون سواء أقباط أو من مذاهب ما يقرب من %10من املجتمع. -2الشيعة
يعود الوجود الشيعي يف مصر إىل الدولة الفاطمية التي استمرت
ألكرث من قرنني من الزمان ،وهي الدولة التي وضعت حجر األساس ّ اختطها وبناها جوهر الصقيل قائد املعز ملا يعرف اآلن بالقاهرة ،حيث
لدين الله ،وقد تركت العديد من اآلثار املهمة ،بداية من الجامع األزهر ،ومسجد الحسني ،ومسجد السيدة نفيسة ،ومسجد السيدة زينب ،وسور مجرى العيون وغريها ،ويف ظلها انتشر مذهب الشيعة
اإلثني عشرية ،وتكاد تكون مصر كلها يف ذلك الوقت شيعية ،حتى
ويعتقد األقباط أنهم أصحاب مصر ،وأهلها ،وأن الوجود اإلسالمي
جاءها صالح الدين األيوبي فأغلق األزهر وطارد الشيعة ومذهبهم ،ورد
الفتح ،ورغم أن اإلحساس بفكرة األقلية لم يكن موجودًا لدى األقباط
جاء املماليك وأعادوا فتح األزهر عىل أن يكون قبلة للجميع ،وبدأ
وافد عليهم ،ويذهب بعضهم إىل االعتقاد أنه نوع من االحتالل وليس فإن االحتالل الربيطاين لعب عىل شطر األمة إىل نصفني ،فرفعت ثورة 1919م ألول مرة شعار يحيا الهالل مع الصليب ،وهو ما لم يكن موجودًا
ال يف ثوريت القاهرة أثناء مقاومة االحتالل الفرنيس ،وال يف ثورة عرابي، وقد تزايدت الهوة مع زواج األمرية فريال شقيقة امللك فاروق من رجل قبطي يدعى رياض غايل ،ومع صعود التيارات الدينية يف السبعينيات شهدت مصر عددًا من حوادث الفتنة ،كان أشهرها حادث الدرب
األحمر الذي تحدث عنه الرئيس أنور السادات يف خطاب شهري ،ومع ضعف الدولة تحولت الكنيسة إىل الحضن الواسع لألقباط ،وحدث
الصدام الشهري بني السادات واألنبا شنودة ،ورغم هدوء األمور عقب رحيل السادات فإن التيارات السلفية أخذت يف التزايد ،فطالب بعضها
بأن يدفع األقباط الجزية ،وقد ظهر ما يعرف بأقباط املهجر كلوبي يف املجتمع الخارجي يمارس ضغوطه لصالح األقباط يف الداخل ،لكن
دستور 2014م أق ّر للمسيحيني بحقوقهم الكاملة ،كما صدر مؤخ ًرا
الدعاء للخليفة العبايس السني يف بغداد ،لكن بانقضاء الدولة األيوبية
عصر التسامح مع الشيعة وغريهم ،لكن القاهرة لم تعد إىل املذهب
الشيعي ،وظلت عىل مذاهبها السنية.
ال توجد إحصائيات واضحة للوجود الشيعي يف مصر ،لكن أفضل
التقديرات ال تذهب به إىل أبعد من 15ألف مواطن ،ينتشرون يف العديد
من املحافظات وال يتمركزون يف مكان واحد ،ولم يكن لوجودهم حضور يذكر حتى قيام الثورة اإلسالمية يف إيران عام 1979م ،التي ً موقفا عدائيًّا منها ،ويف عام 1987م رُصد تنظيم يضم اتخذ السادات
العشرات من املتشيعني الذين حاولوا نشر مذهبهم يف عدد من قرى الدلتا ،ويف عام 1988م ُقبض عىل أربعة عراقيني وكويتيني وبحريني ولبناين وفلسطيني وباكستاين بتهمة الدعوة للشيعة ،وأُغلقت دار نشر البداية التي كانت تنشر كتبًا شيعية ،ووُجهت إليها تهمة تمويل من إيران ،وكذلك أُغلق فرع لدار نشر لبنانية تسمى البالغة عام 1996م، و ُكشف عن تنظيم يضم 55عضوًا يف 5محافظات ،ويف عام 2002م
31
الملف ُقبض عىل تنظيم بزعامة مدرّس يف محافظة الشرقية بتهمة
الدعوة للمذهب الشيعي ،وبعد ثورة 25يناير هوجم بيت لرجل
شيعي كان يمارس فيه هو وأصدقاء له طقوس التطبري ،وذلك من جانب جريانه السنة .ويطالب الشيعة يف السنوات األخرية باحرتام طقوسهم ،والسماح لهم بممارستها عل ًنا. -3البهائيون
هم أتباع حسني عيل النوري املعروف يف إيران باسم بهاء
الله ،وقد دخل مذهبه أو طريقته البهائية إىل مصر يف منتصف القرن التاسع عشر مع تجار السجاد اإليرانيني ،وال توجد
تقديرات رسمية حول عدد البهائيني يف مصر ،حيث إنها تع ّد ديانة غري معرتف بها من الشارع واملش ِّرع املصري ،فقد صدرت
عام 1925م فتوى من املحكمة الشرعية بأن البهائية إلحاد،
وأمر القايض بتفريق ثالثة بهائيني عن أزواجهم ،ورغم ذلك استطاع البهائيون أن يؤسسوا عددًا من املحافل واملراكز الخاصة
بهم ،وهو ما استدعى صدور قرار جمهوري عام 1960م بإغالق محافلهم ،وذلك بعد دعوى اتهمت عددًا من البهائيني بنشر
32
حسين علي النوري
يهود مصر ..تاريخ طويل على حافة االنقراض لم يبتعد كثريًا مسلسل «حارة اليهود» عن الواقع يف
إظهاره اليهود جزءً ا من املجتمع املصري ،وأن ثمة عالقات طيبة كانت تجمع أبناء الديانات الثالث يف مصر؛ فاليهود
كانوا جزءً ا من نسيج الواقع االجتماعي ،حتى أنهم لم
يكونوا متمركزين يف مكان بعينه يك نتحدث عن ثقافة الجيتو ،ولم يحدث ارتباك يف هذا النسيج إال مع ظهور
الصهيونية ،ووقوع نكبة 1948م .وهو ما سعى املسلسل الذي عرض مؤخ ًرا للتعبري عنه ،وقد القى قبولاً واسعً ا لدى األوساط الشعبية ،ربما لشهرة اسم «حارة اليهود»،
وربما لنعومة األحداث وجماليات التصوير ،لكن النخب لم تستطع قبوله ،فقد وصفه ألبري أريه (يهودي مصري)
يف حوار معه بأنه مسلسل لالستهالك اإلعالمي ،ووصفه املؤرخ الدكتور قاسم عبده قاسم بأنه مجرد تأليف من الخيال .وبعيدً ا عما أثاره املسلسل من جدل فإن اليهود
يف مصر يكادون ينقرضون ،فحسبما قالت رئيسة الجالية ماجدة هارون :إنهم ال يستطيعون إقامة الصلوات يف املعبد، ألن الصالة تحتاج إىل عشرة رجال عىل األقل ،وكل اليهود املصريني اآلن عشرون سيدة ،فما الذي حدث؟
يرى قاسم عبده قاسم أن الهجرات التي حدثت يف القرن
الثالث عشر سواء من املشرق العربي بسبب الغزو املغويل ،أو املغرب العربي بسبب سقوط األندلس ،زاد من هجرات اليهود
إىل مصر ،وبعدما كان تعدادهم ال يصل إىل عشرة آالف أصبح عشرين ً ألفا مع بداية الدولة اململوكية ،وقال :إن املصادر التاريخية حددت تعداد اليهود قبل اإلسالم يف مصر بنحو
العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
دعوتهم يف مصر ،منذ ذلك التاريخ والبهائية تكاد تكون جماعة سرية
يتوازى وجود النوبي مع الوجود املصري القديم ،حيث عصر
عن حرية العقيدة ،مطالبني بإثبات البهائية يف خانة الديانة ،أو رفع
كانوا نوبيني ،نظ ًرا لتطابق البشرة السمراء واملالمح الزنجية والشعر
ال يسمع بها الكثريون ،لكن مع ثورة 25يناير ظهر العديد من املدافعني
خانة الديانة من بطاقة الهوية للجميع ،وهو ما رفضته املحكمة، لكنها أقرت بأنه يحق للشخص البهايئ أن يضع شرطة ( )-أمام خانة الديانة ،لكن األزهر ما زال ً رافضا للبهائية ،ويرى أنها خروج عىل امللة، رغم أن لجنة صياغة الدستور عام 2013م قدمت دعوة رسمية لوفد من
البهائيني مستمعة إىل مطالبهم الدستورية.
الفراعنة ،هذا الذي تذهب بعض الدراسات إىل أن عددًا من ملوكه
واألنف مع املالمح النوبية ،ويتحدث أبناء الشمال منهم الكنزية ،عىل حني يتحدث أبناء الجنوب الفاديجا.
وحتى بداية القرن العشرين لم تكن هناك إشكالية خاصة
بالنوبيني ،فقد كانوا جزءًا من نسيج املجتمع الذي ضم الدولتني
السودانية واملصرية تحت تاج واحد ،لكن حني فكرت مصر يف بناء خزان أسوان عام 1933م ظهرت املشكلة؛ إذ إن املياه التي حجزها
ثانيًا -أقليات عرقية
الخزان خلفه جاءت عىل حساب القرى النوبية ،لكن األمر لم يكن
النوبيون هم مجموعة من القبائل التي تسكن يف شمال السودان
الدولة املصرية طالبت النوبيني بالخروج من أرضهم ،وقامت بتجهيز
الكوشية ،وكانت يف ثالث ممالك هي :نبتة ،وكرمة ،ومروى .ويتحدث
يصعد إىل أعايل الجبال عىل أمل انحسار الفيضان ،لكن ذلك لم
-1النوبة
وجنوب مصر ،وقد كانت لهم حضارة عريقة عرفت بالحضارة النوبية النوبيون اللغة النوبية ،وهي تنقسم إىل قسمني أساسيني؛ الكنزية
والفاديجية ،وتتفرع إىل خمس لهجات أو أكرث يف مناطق مختلفة ما بني مصر والسودان .ويتحدث السكان الحاليون بجانب اللغة
النوبية اللغة العربية بطالقة مع لغات أخرى كاإلنجليزية والفرنسية واإليطالية بحكم اختالطهم بالسائحني والزوار األجانب.
بقوة ما حدث بعد بناء السد العايل يف ستينيات القرن املايض ،ورغم أن أماكن إلقامتهم يف أسوان ،فإن بعضهم رفض الخروج ،وفضل أن يحدث ،ومن ثم انتقلوا جميعً ا إىل قرى يف الشمال ،وبعضهم تفرق
يف مدن وبلدان كثرية .ومن النوبة رموز مهمة يف الفنون واآلداب ،من بينها املطرب الشهري محمد منري امللقب بامللك ،والكاتب الكبري محمد
خليل قاسم صاحب رواية «الشمندورة» ،وغريهما.
ويف نهايات عصر مبارك غازلت الضغوط الخارجية بعض أبناء
ً 70 ألفا ،لكن هذا الرقم تناقص بعد اإلسالم يف ظل عصر الوالة
وأدى آخرون دورًا بار ًزا يف الثقافة املصرية ،كيعقوب صنوع
وذلك إما للدخول يف اإلسالم ،أو للهجرة إىل عواصم الخالفة
وحني نفاه الخديوي إسماعيل إىل باريس ظل يدافع عن حرية
ودولتي طولون واإلخشيد حتى وصل إىل %1من تعداد السكان،
سواء يف دمشق أو بغداد أو حتى األندلس ،وال توجد إحصائيات
امللقب برائد املسرح املصري ،الذي أسس جريدة «أبو نضارة»، مصر من هناك .وكان املخرج توجو مزراحي من أهم املخرجني
واضحة لهذه الحقبة حتى مجيء الدولة الفاطمية ،حيث نشطت فيها التجارة بشكل ملحوظ ،فضلاً عن كونها صارت عاصمة
املصرية شخصيات يهودية شهرية من النساء ،من بينها ليليان
ذكر املقريزي أن القاهرة يف أيامه كان بها خمسة معابد ،اثنان
عرفت باسم راقية إبراهيم ،واملمثلة نجمة إبراهيم التي مثلت
خالفة جديدة ،وهذا رفع التعداد إىل نحو مئة ألف يهودي ،وقد
لطائفة الربانيني ،واثنان للقرائني ،وواحد لطائفة السامرة، وذهب قاسم إىل أن األسرة اليهودية لم تكن تزيد عىل أربعة أبناء،
وأن عامل الهجرات كان املؤثر األول يف زيادة تعداد اليهود أو قلته، فضلاً عما كان يقع عىل املصريني جميعً ا من أوبئة ومجاعات. يف العصر الحديث
كانت الثالثينيات واألربعينيات هي مرحلة االزدهار للوجود
اليهودي حسبما يقول الدكتور محمد عفيفي ،فقد أدى اليهود
بجالياتهم املختلفة وانتماءاتهم األوربية دورًا يف ربط االقتصاد املصري باالقتصاد العاملي ،وكانت لهم محالت شهرية من بينها
شيكوريل ،و شمال ،وعدس ،وإريكو ،و بنزايون ،وقد كان لبعضهم دور مهم يف السياسة املصرية ،مثل قطاوي باشا،
يف مصر ،وهو أحد املؤسسني للسينما املصرية ،وعرفت السينما ليفي التي اشتهرت باسم كاميليا ،وراشيل إبراهام ليفي التي
مسرحيات تربعت هي واملمثلة نجمة إبراهيم بدخلها للجيش
املصري ،ونظرية موىس شحاته التي عرفت باسم نجوى سالم، التي حصلت عىل درع الجهاد املقدس لدورها الوطني يف حرب االستنزاف ،واملغنية الشهرية ليىل مراد ،وكان يف بداية السينما
املصرية شخصية يهودية تدعى «شالوم» ،كان أول من قدم
سلسلة أفالم بهذا االسم ،لكنه اختفى. حارة اليهود
تقع حارة اليهود الشهرية عىل مقربة من شارع املوسيك يف
القاهرة ،وهي تتبع إداريًّا حي الجمالية ،وهي بمثابة حي كامل يضم 360حارة ،وكانت مقسمة إىل شياختني إحداهما لليهود
الربانيني ،والثانية لليهود القرائني ،وكانت تشتمل عىل 13معبدًا
33
الملف
التاريخ جامع بني العناصر املقيمة عىل األرض يف هذا املكان ،ويرجع بعض األمازيع تقويمهم إىل اليوم الذي دخل فيه ملكهم شيشنق
النوبة يك يطالبوا بالعودة إىل أرضهم القديمة ،بدعوى أنهم
أرض مصر واعتىل عرشها ،ويقدر تعداد األمازيغ املقيمني يف سيوة وما حولها بنحو ً 25 ألفا ،لكن ذلك ال ينفي وجود أمازيغ انتشروا يف
الحكومة املصرية بحزم ،فمثلما سمحت بوجود تمثيل نوبي جيد
مصر كيانان يهتمان بالشأن األمازيغي ،هما« :الشبكة املصرية من أجل
حضارة منفصلة ،لها أرض ولغة وتاريخ منفصل ،وذهب بعضهم إىل املطالبة بتكوين وطن منفصل ،وهو ما تعاملت معه
يف الثقافة والفن ،فإنها لم تسمح بهذا التمثيل السيايس ،وما زالت حتى اآلن بعض األصوات تطالب بحق العودة إىل الديار التي خرجوا منها؛ بسبب تعلية خزان أسوان أو بناء السد العايل. -2األمازيغ
جنوب البالد وشمالها بحكم الهجرات الداخلية ً بحثا عن الرزق ،ويف
األمازيغ» ،ومركز «ميزران للثقافات املحلية» ،أسستهما الناشطة أماين
الوشاحي ،وهي مستشار رئيس منظمة الكونغرس العاملي األمازيغي. وقد استمعت إليها لجنة إعداد الدستور عام 2013م؛ إذ طالبت بتعيني
عضو يف مجلس النواب عن األمازيغ وثقافتهم. -3الغجر
لم يكن املصريون يعرفون أن يف بالدهم أمازيغ ،وكانوا
ينظرون طيلة الوقت إليهم بوصفهم عربًا أو بدوًا ،لكن مع
الصحوة التي قام بها األمازيغ يف بلدان املغرب العربي ،وظهور
رغم أن بعض املراجع ترجع وجود الغجر يف مصر إىل ما بني عامي
أو الجزائر أو ليبيا ،فقد أثر ذلك يف املجموعات القليلة املقيمة
سالم؛ إذ ذهبت إىل أنهم عرب جساس الذين لقوا الهزيمة عىل يد
الحركات املطالبة باالنفصال عن البلدان القديمة سواء يف املغرب
يف مصر ،وبخاصة يف منطقة واحة سيوة ،حيث تعد االمتداد
الطبيعي لألمازيغ املقيمني يف الصحراء الليبية ،واألمازيغ ال ينفصلون عن الكيان املصري ،مثلهم مثل النوبة ،فعمق
34
ً معروفا عىل وجه التحديد تاريخ ارتباط الغجر بمصر، ليس
1546و1549م ،عىل حني ربطتهم مصادر أخرى بقصة جساس والزير الزير سالم ،فتفرقوا يف البالد وأقاموا عىل هوامش املدن والقرى ...وقد اعتاد الناس عىل اتهامهم بالسرقة وتسميتهم بال َّنوَر ،وهم يقيمون يف
أماكن متواضعة ،مع أغنامهم وماشيتهم ،ويحتكمون إىل مجلس
لليهود ،لم يبق منهم إال معبد موىس بن ميمون ،ومعبد أبو
بعد التأميم عامي 1962 ،1961م .وأكد الدكتور محمد عفيفي
الغار صاحب كتاب «يهود مصر من االزدهار إىل الشتات» :إن
ظل األوضاع الحالية؛ فالحياة االجتماعية واالقتصادية املصرية
حاييم كابويس ،ومعبد بار يوحاي .ويقول الدكتور محمد أبو
الحارة لم تكن تقتصر عىل اليهود فقط ،فسكانها كانوا من اليهود واملسلمني واألقباط ،ولم يكن هناك حي مقتصر عىل اليهود فقط ،وإن كان قد وجد يف هذا املكان عدد أكرث كثافة
عن غريه من اليهود ،لقرب الحارة من شارع الحرفيني ،حيث كان اليهود يعملون يف الحرف ،ما جعلها عىل مقربة من
مصدر رزقهم ،وعندما كانت حالتهم االقتصادية تصبح أفضل
كانوا يرتكون الحارة ليقيموا يف باب الشعرية ،أو باب اللوق، أو العباسية ،أو مصر الجديدة. الخروج من مصر.
عىل أنه من الصعب القول بعودة اليهود مرة أخرى إىل مصر يف
ال تمثل لهم اآلن أي عامل من عوامل الجذب عىل اإلطالق. طوائف وخالفات
يوضح أستاذ التاريخ بجامعة القاهرة الدكتور محمد
عفيفي أن يهود مصر كانوا من أكبر الطوائف ،وأن التركيبة السكانية األساسية لهم تتكون من الناطقين بالعربية وهم
الربانيون والقراؤون ،ومن انضم إليهم من السفارديم القادمين من األندلس ،ثم األشكناز الذين جاؤوا من أوربا في أعقاب المذابح التي دبرت لليهود في نهايات القرن التاسع عشر .وذهب عفيفي إلى أن اليهود عملوا في مختلف الحرف
تعددت أسباب خروج اليهود من مصر ،لكن ليس من
وشتى أنواع التجارة ،لكنهم لم يكونوا مزارعين ،ولم يعملوا
قاسم أنهم خرجوا عىل مراحل ،املرحلة األوىل مع النكبة
تمتعوا بمختلف االمتيازات ،بخاصة أن كثيرين منهم كانوا
بينها اإلجبار بحال من األحوال؛ إذ يرى الدكتور قاسم عبده
وقيام دولة إسرائيل ،والثانية مع العدوان الثاليث الذي جاء بعد عملية سوزانا التي اشتهرت باسم فضيحة الفون ،والتي
قبض فيها عىل عدد من اليهود بتهمة التجسس والقيام بأعمال تخريبية ،واملرحلة الثالثة وكانت الضربة القاضية والتي كانت
ً ضياعا وعزبًا .وأضاف أنهم بالزراعة حتى وإن امتلك أثرياؤهم يحملون جنسيات أخرى ،فقدر عدد اليهود من أصول مصرية بنحو ً 11 ألفا ،واليهود المصريين الذين يحملون جنسيات
أخرى بنحو ً 75 ألفا ،واليهود األجانب المقيمين في مصر بنحو ً 40 ألفا .وذلك في حقبة الثالثينيات واألربعينيات.
العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
يسمى بمجلس املغارمة ،وهو مكون من كبري يعاونه ثالثة من رجاله،
العيون ،وقرى سنباط واملقطم وأبو النمرس ومنشية ناصر ،ويقيم
الغجر ولم يتزوجوهن ،وتعد املرأة هي العائل األول لألسرة؛ لذا فمهرها
بطلخا نحو 1500غجري ،ويف املنصورة نحو 500غجري ،إال أنه ال
وال يتزوجون من الغرباء ،وأغلب أغنياتهم تدور عن الذين عشقوا من
غال ،وتقام األفراح حني تولد أنثى يف بيت غجري ،ويعد لون الشعر ٍ األصفر من عالمات الجمال لديهم؛ لذا فأغلبهن تقمن بصبغه ،ويرتكز
وجود الغجر يف بعض املناطق مثل :حي غربيال باإلسكندرية ،وقرى
طهواي بالدقهلية ،وكفر الغجر بالشرقية ،وحوش الغجر بسور مجرى
يف الدقهلية وحدها نحو أربعة آالف غجري ،ويف قرية العصيا
يوجد تعداد واضح وشامل للغجر املقيمني يف مصر حتى اآلن،
ربما لرتحالهم الدائم ،وربما ألنهم ينكرون هويتهم وال يرغبون يف إثباتها ،وهم يف العموم ليست لهم أية مطالب سياسية ،وال يشكلون ً مأزقا للدولة وال للمجتمع املصري.
35 وتكونت الجماعة اليهودية في مصر والعالم العربي من ثالثة
يهود آخرين محلهم ،وكانت مدينة السامرة هي عاصمة مملكة
األكثر عددًا ،ومن ثم كان غالبًا ما يكون رئيس الجالية اليهودية
وقد بنى فيها اليهود الجدد هيكلهم على جبل جزريم ،وحين أمر
أطياف ،هم الربانيون والقراؤون والسامرة ،وكان الربانيون هم من بينهم ،وتعود التسمية إلى كلمة رباني أو أوريانيم التي تعني
اإلمام أو الحبر أو الفقيه ،وهم يؤمنون بالتوراة والتلمود ،أما
القراؤون فهم أقل عددًا من الربانيين ،لكنهم كانوا أكثر غنى، ومن ثم كانوا في المناصب والوظائف العليا ،وتأتي تسميتهم من
كلمة قرأ ،أي نادى ودعا ،وهم ال يعترفون بالتلمود ،وال يؤمنون إال بما جاء في النص التوراتي فقط ،ويعرفون باسم أهل الدعوة ألنهم يدعون إلى طريقتهم .ويرجع بعض الباحثين ظهورهم إلى زمن أبي جعفر المنصور ،إذ تأثر زعيمهم عنان بن داود بأفكار
المعتزلة الذين رفضوا جعل الحديث النبوي من مصادر التشريع، وتشككوا في التراث الشفوي اإلسالمي ،ومن ثم رفض عنان
وطائفته اإليمان بالتلمود وما جاء فيه ،وزاد الخالف بين الفريقين
إلى درجة تحريم الزواج واالختالف في كثير من الطقوس واألعياد. أما الطائفة الثالثة فهي السامرة ،وهم أقلية ،وال يعدهم الربانيون
وال القراؤون طائفة ،لكن المصريين حكامًا ومحكومين تعاملوا
معهم على أنهم طائفة ،و تعود نشأتهم إلى زمن السبي البابلي، حيث تم نقل يهود القدس وفلسطين إلى شمال إيران ،وإحالل
داود وسليمان ،وهي المدينة القديمة التي تسمى اآلن «نابلس»،
قورش بعودة اليهود الذين كانوا في السبي سعى هؤالء المقيمون في السامرة إلى تعطيل عودتهم ،كما سعوا إلى تعطيل ترميمهم
لهيكلهم القديم في القدس ،فنشب الخالف بين الطائفتين ،وهم
ال يؤمنون إال باألسفار الخمسة إلى جانب سفر يوشع والقضاة، وال يؤمنون إال بنبوة موسى وهارون ويوشع ،ويخالفون الربانيين والقرائين في القبلة؛ إذ يتوجهون إلى جبل جزريم ،أما اآلخرون
فيتوجهون إلى القدس. ً وعرفت مصر الطوائف الثالث ،وكانت مركزا مهمًّا لجذب
الكثيرين ،لكن القيادة الروحية لهم كانت في العراق وفلسطين، حيث مدارس التلمود هناك ،وكان مبارك بن سعديا أول رئيس
للطائفة اليهودية في مصر عام 1056م ،وخلفه ابنه موسى ،وكان
اختيار رئيس اليهود يسمى الناجد ،ويتم اختياره من السلطان أو الخليفة ،ويعهد إليه بتدبير شؤون الطوائف الثالث في فصل
المنازعات والقضاء ،وكان لكل طائفة رئيس يخصها ،لكننا ال نعرف على أي أساس يتم االختيار سوى أن صاحبه يكون متقاطعً ا
مع بالط الحاكم.
الملف
األقليات السورية في مرايا األدب: في نقد سيكولوجيا الضحية!
36
العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
سامر إسماعيل
دمشق
ما يصح في السياسة قد ال تقبله الثقافة بمعناها المعرفي الواسع ،فالتعدد الثقافي اإلثني والمذهبي والطائفي في بالد مثل سوريا كان على الدوام أحد أغزر المنابع الثقافية وأكثرها ثراءً وسط جغرافية تمتد بين بادية الشام مرورًا بالجزيرة السورية وصولاً إلى ساحل البحر المتوسط، ومن عين ديوار في أقصى شمال شرق سوريا إلى سهول حوران وجبل العرب جنو ًبا .فال السنة علب سردين مصفوفة بعضها فوق بعض ،وال الشيعة علب كبريت مصطفة بعضها فوق بعض ،وال المسيحي أو الدرزي عبوات كوكاكوال متناظرة في حجومها. إن الخصومات التي مهدت لها النخب الحاكمة يف املدن
روايته «الوباء» التي اعتمد فيها (الراهب) عىل تفكيك البنى القائمة
كون معظم هذه النخب شكلت ما بعد االستقالل عام 1946م نواة
الفقراء يف الثقافات الفرعية ،والتي برأيه «تتعارض مع قيم الطبقة املتوسطة التي اكتسبها الفالحون والعمال وصغار الكسبة» متنب ًئا
الرئيسة السورية ،كانت عىل الدوام هي بذرة كل ما يحدث اليوم، لربجوازية وطنية جمعت أموالها من سرقة مواسم القمح والقطن
يوم أن كانت ال تزال تمثل السلطة اإلقطاعية الرسمية ...هذا يحيلنا ً مباشرة إىل طبيعة النص الذي أفرزته تلك النخب الهاربة ،التي تركت الحبل عىل غاربه لنشوء برجوازية عسكرية عملت فيما بعد وعرب
العديد من االنقالبات عىل تقليد سلفها الربجوازي ،لكن هذه املرة عرب سرقة املال العام والهيمنة عىل امتيازات اقتصادية عمالقة داخل
جسم الدولة .هذا النمط االقتصادي من مراكمة الرثوات جعل الصراع يف سوريا دائمً ا هو صراع بني الفقراء والفقراء .حرب يمولها
األغنياء بغض النظر عن الطائفة واملذهب والقومية .عائالت بعينها تسيطر عىل مقدرات البالد ،وتعمل ليل نهار عىل استنساب وريث
دائم لرثواتها املنهوبة من قوت الجياع واملستضعفني واملغلوبني عىل
أمرهم ،واألهم من هذا وذاك هو استقواء هذه النخب االقتصادية بالعائلة كمرجع نهايئ ّ يبت يف أمور التجارة والصناعة وتحالفاتها
مع شركات عابرة للجنسية والحدود الدولية ،لصوص بال حدود ّ مصاف األباطرة واملعصومني. ترفعهم العائلة إىل
ً إشارة قوية عىل عكس هذا من هنا كانت الرواية السورية
الخراب العميم يف إصداراتها .أقليات غنية مدعومة بعائالت أبدية يف مواجهة أكرثية منكوبة ومحتقرة .لقد أسس هاين الراهب لهذه املفارقة يف روايته «بلد واحد اسمه العالم» تمامً ا كما هي الحال يف
يوما كتلة الشعب السوري لم يكن ً متجانسة ومتماسكة .فالشعب الواحد مقولة فارغة من أي معنى ،أو محتوى، بعيدا من وعي المواطنة في إطار ً الدولة الوطنية الديمقراطية العلمانية
ماركسيًّا يف جدلية الدولة والعنف ،مشرحً ا القيم التي نشأ عليها
بـ«مئة سنة قادمة ستكون عصر العنف ،فضغط الدولة يف العالم ً مادة سيزداد ،والخائفون سيخرجون من جلودهم ويصريون
للعنف .العنف الشامل وطغيان الدولة سيلغي القانون نهائيًّا، ويعيد الفقراء إىل وضع همجي ،تفكك وانحالل ،لكل قيمة وبنية
وعالقة»؟
نزاعات جانبية
هذه النبوءة هي ما دفعت فيما بعد الكاتب سعد الله ونوس
(1997 -1941م) لقراءة املدينة العربية املعاصرة من موقع الفقراء
نفسه والشعور بغطرسة املركز عىل األطراف ،فنصوصه التي ً وخصوصا كتاب الليايل العربية استلهمها من الرتاث العربي، «ألف ليلة وليلة» كانت جميعها تدور أحداثها يف مدينة بغداد،
عىل نحو «مغامرة رأس اململوك جابر» و«امللك هو امللك» حيث تحضر املدينة كفضاء للدسائس وحفالت التنكر ،وسقوط األقنعة، وقطع الرؤوس ،يف حقبة تاريخية وصفها املؤرخون بزمن «الشطار
والعيارين» وتحالف السلطة مع عيونها وأصحاب شرطتها وجالديها ُّ تحضر دمشق كمدينة تتألف يف عىل الشعب ومصايره؛ فيما نصوص صاحب مقولة «محكومون باألمل» من سجون ومواخري
وأسواق وقالع كما يف مسرحيته «طقوس اإلشارات والتحوالت». ليصل الصراع إىل أشده يف مسرحيته «سهرة مع أبي خليل القباين»
النص الذي يع ّد مجابهة صادمة بني العقلية الرجعية وفن
املسرح ...مجابهة وضعت إشارات استفهام كثرية عىل دور املدينة
ملسؤولياتها الحضارية ،لكنها ال تخلو من حزازات نخبوية مضمرة، تعلن انتماءها لقيم اجتماعية مرموقة ،لكنها مواربة يف تحديد
موقفها من تطاحن «أكرثيات ريفية فقرية» و«أقليات مدن غنية»، وأسبقية سكان الثانية عىل األوىلً . إذا ليست األقليات وال األكرثية،
37
الملف
ال الغالبية املذهبية بل الغالبية السياسية التي تقهقرت عامً ا
و(محكمة املشايخ) لدى الدروز .يُفرتض بأتباع هذه الديانات وامل ِلل
ولتظهر فروقات هائلة بني عائالت ريفية وأخرى مدينية ،أو
املسماة محاكم؛ ألنهم يف معظمهم يمارسون (ظلمني) ظلم الدين وظلم رجاله ،فضلاً عن الظلم املكتسب لدى البشر .وعدم اللجوء
بعد عام ،لتجد النزاعات الجانبية ثغرات يف هذا الجدار،
38
انتمت إىل املدينة وتقمصت (الدمشقة) يف سلوكها الحيايت ومظاهرها العامة ،وصولاً إىل سيادة أخالق السوق ،وانهيار
كبري للطبقة الوسطى يف املجتمع السوري التي كانت تخفف من الغلواء بني جانبي الصراع ،ما ظهر جليًّا يف ازدياد أحزمة
الفقر حول املدن الكربى ،من أحياء عشوائية يقعي فيها حطام هذه الطبقة املتوسطة السورية من متعلمني وحرفيني
ومثقفني وعمال وموظفني حكوميني.
واقع معقد عكس صورة تحت مدينية يف شؤون عديدة
اختص بالقضاء واملحاكم الشرعية واألحوال الشخصية، ليدفع الكاتبة واألديبة روعة يونس إىل القول« :أبناء األقليات
أو املذاهب الذين يفضلون تبعية شؤونهم القضائية إىل غري
القضاء الرسمي -وزارة العدل .أقصد تحديدًا :املسيحيني والشيعة والدروز ،الذين يقصدون يف تخاصمهم (املحكمة
الروحية) لدى املسيحيني .و(املحكمة الجعفرية) لدى الشيعة.
أن يوجّ هوا ضرباتهم القاضية لرجال الدين -القضاة يف تلك (املزارع)
إليهم للتخاصم واالحتكام لديهم» .إن شئتم بعض الجرأة ،ولتكن
وقاحة -تتابع يونس« :إن ظلم املؤسسة القضائية املتمثلة بوزارة ّ أخف وقعً ا عىل النفس من ظلم من يخربك أنه العدل ومحاكمها
ممثل املسيح ،وممثل اإلمام املهدي ،وممثل الحاكم بأمره عىل
األرض».
األقليات واألكرثية ومآالتها
باستشهاد طويل لصبحي العمري ،أحد الضباط الذين
خاضوا ِغمار الثورة ضد العثمانيني وشهد معركة ميسلون ضد
الفرنسيني ،يعكس فيه مسألة األقليات واألكرثية ومآالتها مع
رحيل العثمانيني .إذ يقول العمري« :خرجنا من الحكم الرتيك ونحن متفرقون ّ مفككون إىل مسلم ،ومسيحي ،وشيعي ،وسني، وإسماعييل ،ونصريي ،ودرزي… ومن القوميات األخرى :تريك،
وتركماين ،وشركيس ،وكردي ،وألباين ،وأرمني… وجميع هذه
الديانات واملذاهب والقوميات مختلفة مع بعضها ،كل منها تعترب
كانت الرواية السورية إشارةً قوية على عكس هذا الخراب العميم :أقليات غنية مدعومة بعائالت أبدية في مواجهة أكثرية منكوبة ومحتقرة
نفسها غريبة عن اآلخرين ،وتعتقد أنها مغبونة مهضومة الحقوق. فلقد كان املسيحيون بصورة عامة ال يزالون تحت تأثري املايض .لقد كان املسيحي يف العهد العثماين مواط ًنا من الدرجة الثالثة ،ال يشعر أنه مواطن له حقوق وعليه واجبات ،فال يعقل أن ينقلبوا
بمجرد خروج األتراك قوميني عربًا ،وينسوا كل ما م ّر بهم من
مظالم وإهانات خالل تلك القرون الطويلة ،وهكذا كانت أكرثية املسيحيني ،غري مرتاحة للحكم الوطني ،فبقوا أصدقاء لفرنسا؛
العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
أما اليهود فهم شعب عد ّو لكل ما هو غري يهودي ،يفضلون أن يكونوا تابعني ألي حكم أجنبي؛ والشيعة يف حيّهم منكمشون
يشعرون بغربتهم عن األكرثية السنية ،وقد لجأ عدد غري قليل منهم للحصول عىل الجنسية اإليرانية لتحميه من ظلم الدولة؛ والنصريية يف جبالهم منعزلني تحت وطأة الفقر والجهل واإلهمال،
ال يعرفون عن الحكم سوى أنه ضريبة إىل الجابي يف يد الجندرمة (الدرَك)؛ وهكذا اإلسماعيليون املرتبطون مذهبيًّا واجتماع ًّيا بآغا
خان؛ والدروز يف مناطقهم الجبلية يشعرون بغربتهم عن جميع من يحيط بهم ،وهم دائمًا يف ريبة وعدم اطمئنان ،والحكومة
يف نظرهم عدو مرتبص بهم .أما األقليات العنصرية ،كاألتراك والشراكسة والرتكمان وغريهم ،فبقي والؤهم لألتراك ،يعتربون أن حركة القومية العربية ،التي فصلتهم عن األتراك املسلمني بالتعاون
مع اإلنكليز الكفار ،حركة خائنة ،ويتفق معهم بهذه الفكرة أكرثية
رجال الدين املسلمني ،والكثري من العامة».
ممدوح عزام
سمر يزبك
السورية عام 1998وقال البيان :إن الرواية والراوي عىل السواء شوَّها
أبطال التحرير األسطوريني أمثال (سلطان باشا األطرش).
تجاهل اإلعالم السوري وقتها هذا البيان وردود األفعال األخرى
عليه ،مثل بيان املثقفني للتضامن مع الكاتب .عىل حني غض النظر
اتحاد الكتاب العرب آنذاك عن هذا الحدث ،ولم يتضامن مع
الكاتب ،بل دعاه إىل طلب الغفران والرتاجع عما فعل ومصالحة شيوخ طائفته .مازن عرفة يف روايته «وصايا الغبار» يذهب ً أيضا إىل
يف روايته «قصر املطر» يتعرض ممدوح عزام لهذا املوضوع
استعراض واقع عيش األقليات من خالل قصة حب يرويها بني شاب
دفع بعض املشايخ يف الطائفة الدرزية التي ينتمي إليها الكاتب
قصة العاشقني بزواج الفتاة من رجل ينتمي إىل طائفتها .الواقع
راصدًا ألنماط عقائدية يف محافظته السويداء -جبل العرب ،مما السوري عزام ،إىل إصدار بيان بإهدار دمه بحجة أن «قصر املطر»
دمشقي من الطائفة السنية وبني فتاة من الطائفة الدرزية ،تنتهي
الفني األدبي للرواية السورية يزخر بهذه األمثلة ،ومنها روايات كل من روزا ياسني حسن «أبنوس» ورواية سمر يزبك «طفلة السماء»
أساءت إىل املجتمع الدرزي وأخالقه ،وشوهت عاداته وتقاليده ومقدساته وأبطاله األسطوريني .طالب هذا البيان الذي ّ وقعه
ورواية «تجليات جدي الشيخ املهاجر» لحسيبة عبدالرحمن؛ إذ
وسحبها من األسواق ،علمًا بأن الرواية صادرة عن وزارة الثقافة
عند الطائفة العلوية.
مشايخ طائفة عقل الدرزية الحكومة السورية بمنع تداول روايته
تناقش كل من الروائيات السالفة الذكر موضوع التقمص والدين
حق منح الهوية الوطنية لألقليات «واحد واحد واحد ...الشعب السوري واحد» أظنه شعارًا كشف وحشية وال إنسانيّة الحرب السورية ،وهو من أكرث الشعارات
يعن هذا الشعار سوى إعالن أكرثية عن ملكيتها افرتاء عىل الحقيقة والواقع ،يقول الكاتب والناقد ياسر إسكيف ويتابع« :لم ِ
الحصرية لحق منح الهوية الوطنية لألقليات .فالشعب السوري لم يكن يومً ا كتلة متجانسة ومتماسكة .فالشعب الواحد مقولة ً بعيدا من وعي املواطنة يف إطار الدولة الوطنية الديمقراطية العلمانية .وهذا ما لم يعرفه ،أو فارغة من أي معنى ،أو محتوى، ّات دينيّة ،وقومية ،ومذهبيّة ،تتعايش يختربه ،السوريون يومً ا .وكان املجتمع السوري ،تاريخيًّا ،أكرثيّة عربية مُ سلمة (سنيّة) ،وأقلي ٍ
ركبة ومُ ّ فيما بينها وفق عالقة ،أو عالقات ،مُ ّ عقدة .حيث تتقاطع هذه األكرثية قوميًّا مع األقلية املسيحية العربية ،ومع األقليات
املذهبية اإلسالمية .بينما تتقاطع إسالميًّا مع أقليات أخرى (أكراد ،وتركمان ،وشركس) وتتباعد ،أو تتناقض ،كما يف حالة األكراد، قوميًّا».
إن الخصوصيات الثقافية هي الطاغية يف التمييز بني األكرثية واألقليات السورية ،إذ لم تتوقف تلك األقليات عن إنتاج مجموعتها الخاصة من القيم واملعايري ،كما األعراف والتقاليد والطقوس ،وتجىل هذا بشكل شديد الوضوح يف النتاجات اإلبداعية (أدبًا وف ًّنا)
التي عكست فضاء الحريّة الذي تمنحه تلك األقليات ألفرادها ،من ناحية أنها باألساس تكوّنت عىل املُفارقة واالختالف والتمايز .ومن الالفت بهذا الخصوص حجم املُكابدة التي عانتها اللغة يف الخروج من استنقاعها وتخثرّ ها لتتمكن من قبول واحتواء املُختلف من التصوّرات ،والرؤى ،واملشاعر ،واألحاسيس ،حتى بدت يف أحيان كثرية غريبة عن نفسها ،أو مُ ختطفة منها ،حتى إن بعضهم قد
رأى يف هذا تخريبًا للغة ،أو أن اللغة ذاتها قد تواطأت مع خرابها وسعت إليه .وبالتايل ال أظنها مصادفة أن يكون ،عىل سبيل املثال ال الحصر كل من أدونيس ،وحنا مينة ،وسعد الله ونوس ،وسليم بركات ،وممدوح عدوان ،ممن ولدوا يف بيئات تعود لألقليات.
39
الملف
أمازيغ المغرب.. هل هم أقلية؟
40
العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
نزهة صادق
باحثة مغربية
ً أساسا من مكونات الحضارة المغربية ،وقد أثروا فيها سلبًا وإيجا ًبا ،في مكونا يشكل األمازيغ ً ظل أوضاع سياسية واجتماعية ودينية عرفت تحوالت متعددة ،ومكنت من خالل تنوعها من بناء حضارة وعلم وتاريخ ودين ومدن قديمة ،شكلت هوية مغرب اليوم التي تتميز بالتنوع والتعدد واالختالف. وتعد القضية األمازيغية في المغرب مسألة في غاية التعقيد؛ إذ تتم مقاربتها من خالل أوجه عديدة، كما تشوبها خلفيات سياسية واجتماعية وثقافية ،تنطلق من تعقيد طرح االسم ،إلى تحديد المجال الجغرافي ،وصولاً إلى األصول. وقد عرف املسار التاريخي لألمازيغ تغريات جذرية
وبخاصة بعد الفتح اإلسالمي واعتناق األمازيغ اإلسالم ،ما شكل تجاذبًا مهمًّ ا بني باحثني وجدوا الدين الجديد عنص ًرا أقىص هويتهم وطمسها ،وبني آخرين رأوا أن الدين
الجديد شكل نقلة ثورية وحدت املماليك األمازيغية،
وأسهم يف بناء الحضارة اإلسالمية ،وكما قال املفكر اإلسالمي طارق السويدان« :فلوال عظماء األمازيغ ما
كانت حضارة اإلسالم يف األندلس وشمال إفريقيا»، ما يضع الراغب يف الغوص يف تركيبة األمازيغ أمام
حقائق أوضحت عمق الحضارة األمازيغية، وانفتاحها عىل انتقاالت ثورية نسجت للشعب املغربي هوية مركبة بني أمازيغ ُع ّربوا ،وعرب
مُ ّزغوا ،وهو ما شكل نسيجً ا هوياتيًّا يتميز
بالتنوع والتماسك والتعقيد. حضور ثقايف عريق
ووضع سيايس جديد
وردت كلمة أمازيغ يف نقوش املصريني
القدماء ،وعند كتاب اليونان والرومان وغريهم
من الشعوب القديمة التي عاصرت األمازيغيني،
وبصم األمازيغ التاريخ السيايس لشمال إفريقيا ،كما
أسهموا يف بلورته ،ويف تطوير املجال الحضاري من خالل
املساهمة الفعالة يف ظهور الحضارة والتمدن ،فنبغ منهم الفالسفة واملفكرون أمثال لوكيوس أبوليس (125- 120م)
وهو خطيب أمازيغي ،وفيلسوف وعالم طبيعي، وكاتب أخالقي ،وصاحب روايات التحوالت
والتغريات ،وقد كتبها يف 11جزءً ا ،أما يف
ميدان األدب فقد ظهر ماركوس ماتيولوس،
وهو شاعر وعالم فلك( .د.محمد بن لحسن ،األمازيغ أضواء جديدة عىل املسرية الحضارية عرب التاريخ ،مطابع الرباط نت2015 ،م ،ص.)11: تعددت
النظريات
حول
األمازيغ
وأصولهم،
ويرى التيار األول أن أصل األمازيغ يرجع إىل الدول اإلسكندنافية يف شمال أوربا؛ إذ اجتازت مجموعة من القبائل الهمجية تدعى قبائل الفاندال أوربا، واستقر جزء منها يف كل من فرنسا وإسبانيا، عىل حني عرب بعضها اآلخر البحر األبيض املتوسط جنوبًا حتى استقر يف املغرب.
ويربط التيار الثاين أصل األمازيغ
بسكان املغرب األقدمني باملشرق، إذ يرى أن أصول األمازيغ تعود إىل الكنعانيني الذين طردوا من فلسطني بعد قتل النبي داود لجالوت ،وهو الرأي الذي انحاز
إليه ابن خلدون ،كما ذهب
آخرون إىل أن أصل األمازيغ من
اليمن ،أي من العرب العاربة الذين
هاجروا بعد سيل العرم ،واختلطوا
بالقبط املصريني يف أثناء هجرتهم غربًا.
(سيل العرم ،هو السيل الذي ال يطاق ،والذي
خرب وفرق أهل اليمن ،وقد ذكر يف سورة سبأ).
أما التيار الثالث -الذي يمثله الباحثون األمازيغيون- فريى أن جذور األمازيغ محلية ،وأنهم لم يأتوا من أي مكان آخر ،بل هم أصحاب األرض واملكان، والدليل عىل ذلك أن مجموعة من علماء
التاريخ قد كذبوا أسطورة كون أصل األمازيغ من
41
الملف
نسيج خصب للتاريخ املغربي ،وعىل حد تعبري العالم
ً انطالقا من الحفريات وعلم اليمن ،وقد ردوا كالمهم
والرجل اليسرى بالنسبة ألي شخص عادي ،إذا فقد أي
ويف السياق نفسه فقد أثبتت الوراثة أن بصمة األمازيغ
وباألحرى القدرة عىل السري بالسرعة والوترية التي تتطلبها
الجينات الذي فند أسطورة قدوم األمازيغ من اليمن،
واحدة منهما فلن تكون له القدرة عىل امليش بشكل عادي،
تختلف جذريًّا عن البصمة الوراثية للعرب. إجمالاً ،األمازيغ شعوب سكنت صحراء شمال
تقلبات التاريخ املعاصر .لنقل كما قال كانط يف إطار آخر :إن
املجتمع املغربي بدون نمو اللغة العربية أعور ،وبدون نمو
من أوربا ،وهي قبائل الفاندال نسبة إىل مدينة فاندال
وعىل الرغم من استغالل بعض الجهات املشبوهة
ً تنوعا عىل مستوى وسكان السودان ،وهو ما منحها
واألمازيغ ،وزرع الفتنة بينهما ،فإن التعاطي الرسمي مع
إفريقيا ،وتميزت بمزيج هويايت جمع بني قبائل جاءت
الثقافة واللغة األمازيغية أعمى».
السويدية ،وقبائل أخرى من املشرق كعرب اليمن،
داخليًّا وخارجيًّا لدق إسفني الفرقة والتعصب بني العرب
األعراق واأللوان.
األمازيغية غري هذا املسار ،وجعل األمازيغ ثقافة وشعبًا من
هل األمازيغ أقلية يف املغرب؟
أولويات البلد؛ إذ لم يقتصر فقط عىل االستيعاب والتفهم، بل انتقل إىل مستويات أهم ،وهي تنظيم برامج لتعليم اللغة
ال يمكن أن يكون األمازيغ أقلية يف املغرب، فباإلضافة إىل أنهم يشكلون ثقلاً بشريًّا مهمًّ ا يصل إىل
ترعى هذه الثقافة عرب أنشطة ثقافية وأبحاث تسعى إىل
املغرب يف مرحلة ما قبل اإلسالم .كما أن معظم
للحضارة املغربية ،كاملعهد املليك للثقافة األمازيغية الذي
،%60فإنهم يعدون أهم وأول عنصر بشري استوطن
42
السوسيولوجي محمد جسوس« :هما كالرجل اليمنى
املعطيات التاريخية أثبتت أن اإلسالم أسهم يف بلورة
األمازيغية يف املدارس االبتدائية ،كما بنى للغة مؤسسات التعريف بالدور التاريخي واملهم لألمازيغية كلبنة أساسية
الثقافة األمازيغية ،وصياغة هوية األمازيغ ،وكان فاعلاً مساهمً ا يف تشكيل الوعي الجمعي ،وقيادة التحوالت الكربى يف التاريخ املغربي ،كما كان أداة
فعالة ونقطة ارتكاز لتذويب الروح القبلية ،وظل حضوره مستم ًّرا طوال أربعة عشر ً قرنا بالرغم من
التقلبات والحروب ،وهو ما جعل من الشق الهويايت للمغرب مركبًا ال يمكن فصل أحد عناصره عن اآلخر،
والدليل عىل ذلك كون األمازيغية والعربية تشكالن
مرتكزات أساسية لغوية وهوياتية أسهمت يف بناء
تعد القضية األمازيغية في المغرب مسألة في غاية التعقيد؛ إذ تتم مقاربتها من خالل أوجه عديدة ،كما تشوبها خلفيات سياسية واجتماعية وثقافية تنطلق من تعقيد طرح االسم ،إلى تحديد المجال الجغرافي ،وصوال إلى األصول
العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
43 أُردف إنشاؤه بصدور ظهري مليك يحدد األبعاد املؤسساتية
تنظيم الدولة عىل النموذج اإلغريقي ،حيث طوروا آليات
الدستورية للمملكة ،اليشء الذي جعل من كل األطراف
توحيد القبائل األمازيغية يف الشمال اإلفريقي ،وتمدين
للحضور األمازيغي يف املغرب دون أن يطال الخصوصية املتنازعة حول القضية األمازيغية تفوز. بلد التعددية
الحكم السيايس والتنظيم االقتصادي .وقد حاول بطليموس مملكته حضاريًّا وثقافيًّا وعلميًّا ،وتزيينها عمرانيًّا وهندسيًّا
بالطريقة الجمالية اليونانية والرومانية واألمازيغية، وتوسيعها خارج النطاق املرسوم له من الحكومة الرومانية،
يتميز املغرب بتاريخ عريق؛ إذ مرت عىل أرضه أجناس
وهو ما أدى إىل اغتياله من اإلمرباطور كاليغوال ،وذلك للحد
منه بلد التنوع بامتياز ،فالتعددية يف بلد املغرب ثروة
بن فرناس ،وابن بطوطة ،وعبدالكريم الخطابي ،وهم
مختلفة ومتنوعة ،واختلط شعبه بأعراق متعددة جعلت
روحية وفكرية ،جعلت من املغرب شعبًا منفتحً ا عىل
أساسا العالم .ومحبًّا لهويته يف تعددها ،ويف كونها عنص ًرا ً
من طموحاته التوسعية .كما أن طارق بن زياد ،وعباس
رموز أمازيغية ،لهم بصمتهم يف التاريخ املغربي خاصة، والعربي عامة( .د.محمد بن لحسن ،األمازيغ أضواء جديدة
جعل من وعيه لذاته الثقافية واالجتماعية وعيًا يعيل من
عىل املسرية الحضارية عرب التاريخ ،مطابع الرباط نت،
وجمعهم وطن يحتوي سمات وخصائص مشرتكة تميز
ويف نهاية الطرح يمكن القول :إن األمازيع ال يمكن
شأن األفراد الذين تعددت لغتهم وحضارتهم وتاريخهم،
املجتمع املغربي بأمازيغه وعربه.
وال أحد ينكر أن املغرب عرف ازدهارًا كبريًا مع كبار ملوك
األمازيغ ،أمثال يوبا األول ،وبوكوس األول ،ويوبا الثاين، وبطليموس .وقد تمكن هؤالء من توسيع مملكتهم ،ومن
2015ص.)13:
جعلهم بسهولة أقلية ،فهم كما سبق الذكر أغلبية عرقية، تعرب لسان جزء منهم بسبب اختالطهم باملدن ذات الوجود
العربي ،عىل حني بقيت الدواخل محافظة عىل أمازيغيتها اللسانية ،مع االنتماء إىل اإلسالم حضاريًّا.
الملف
يهود المغرب.. وحديث الذاكرة
44
العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
خاليد فؤاد طحطح
باحث مغربي
صدر في اآلونة األخيرة عن منشورات كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية بالرباط كتاب «يهود
المغرب وحديث الذاكرة» ،وهو من تأليف الباحث عمر بوم ،أستاذ األنثروبولوجيا والتاريخ بجامعة كاليفورنيا ،ومن ترجمة خالد بن الصغير أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة محمد الخامس
بالرباط .تتمركز أعمال الباحث عمر بوم واهتماماته األكاديمية حول موضوعات األقليات الدينية والعرقية في شمال إفريقيا والعالم العربي .وكتابه األخير عن يهود المغرب هو في أصله أطروحة
لنيل دكتوراه في التاريخ واألنثروبولوجيا ،ناقشها بجامعة أريزونا سنة 2006م .واستغرقت مدة
إنجاز الموضوع منه عشر سنوات من البحث الوثائقي واإلثنوغرافي. صدر كتاب يهود املغرب وحديث الذاكرة ألول مرة
باللغة اإلنجليزية سنة 2013م ،بعنوانMemories of : Absence How Muslims remember Jews in
Moroccoعن منشورات جامعة ستانفورد بكاليفورنيا، وألهمية هذا العمل قام املؤرخ الجامعي خالد بن الصغري
برتجمته ،وقد عرف طريقه للنشر ضمن سلسلة نصوص
45
وأعمال مرتجمة لكلية اآلداب والعلوم اإلنسانية بالرباط
(موسم 2015م) .وحاز جائزة املغرب للكتاب لسنة 2016م يف
صنف الرتجمة مناصفة مع رجاء بومدين املثنى عن ترجمتها إىل اإلسبانية كتاب مجنون الورد ،El Loco de Las Rosas ملحمد شكري.
سبق للمؤرخ خالد بن الصغري أن ترجم كتابًا آخر عن
يهود املغرب خالل القرن التاسع عشر ،والذي يرصد فيه
الذاكرة والتاريخ
تتناول الدراسة الجديدة لعمر بوم ،عن اليهود املغاربة
مؤلفه دانييل شروتر سرية أسرة آل مقنني ،وهي من بني أكرث األسر التجارية اليهودية ُشهرة يف املغرب أواخر القرن
وحديث الذاكرة ،التي تتخذ من القرن العشرين إطارًا زمنيًّا
السياسة التي نهجها السالطني العلويون ،بدءً ا من املوىل
الصحراء املوجودين يف أقا عىل وجه الخصوص) من خالل
الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر ،وقد استفادت من
محمد بن عبدالله ،يف االعتماد عىل اليهود لتمتني األواصر بني بلدهم املغرب والعالم األوربي .والكتاب صدر ً أيضا عن منشورات كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية بالرباط سنة 2011م
لها ،إشكالية األقلية الدينية اليهودية يف املغرب (يهود إبراز التقاطعات املوجودة بني الذاكرة والتاريخ ،وذلك
عرب إبراز العوامل الرئيسة املتحكمة يف ذكريات املسلمني املغاربة حول اليهود الغائبني اليوم بعد هجرة معظمهم بعد استقالل املغرب سنة 1956م ،متأثرين يف ذلك بدعاية
بعنوان « َيهُو ِديُّ السلطان :املغرب وعالم اليهود السفرد». كما أن هناك أعمالاً يف غاية األهمية لباحثني مغاربة أنجزوها
الحركات الصهيونية التي شجعت آنذاك اليهود عىل الرحيل
كتاب يهود املغرب 1912-1948م ملحمد كنبيب (1998م)،
هذه الدعوات صدى لدى اليهود املغاربة الذين توجسوا
عن يهود املغرب ،ونذكر منها عىل سبيل املثال ال الحصر: ترجمه عن اللغة الفرنسية إدريس بنسعيد .وكتاب اليهود املغاربة من منبت األصول إىل رياح الفرقة :قراءة يف املوروث واألحداث (2009م) ألحمد شحالن.
إلقامة دولة قومية لهم يف أرض فلسطني ،حيث وجدت خيفة من تبني الحكومة املغربية األوىل بعد االستقالل
النزعة العربية اإلسالمية القائمة عىل تفعيل برنامج وطني للتعريب ،وشرعوا تدريجيًّا يف مغادرة الرتاب املغربي.
الملف ومن املعلوم أن الخالف اشتد بشأن رحيل اليهود
املغاربة إىل األرايض الفلسطينية مع بداية الستينيات من القرن املايض ،فقد رفض حزب االتحاد الوطني
للقوات الشعبية ذلك ،وانتقد مواقف الحكومة التي غضت الطرف عن هذه الهجرة ،بينما هي تكرر
يف كل لحظة شعاراتها بشأن التضامن العربي .عىل حني صدرت تصريحات مضادة عىل لسان زعيم حزب
االستقالل عالل الفايس ،إذ عبرَّ عن موافقته عىل هجرة اليهود شريطة عدم السماح لهم بالعودة مجددًا إىل البالد .ويف ظل هذه األجواء املتوترة ازداد االحتقان
السيايس إثر اإلعالن عن طريق اإلذاعة والتلفزة بدء
الحملة للتصويت عىل مشروع الدستور يوم 7ديسمرب 1962م .وكان الف ًتا موقف الجالية اليهودية التي دعت
إىل التصويت بنعم عىل املقرتح استجابة منها للنداء املليك الذي أطلقه الراحل الحسن الثاين ،وقد أشيع آنذاك بأن ضغوطات مورست عىل املسؤولني اليهود
46
للتصويت إيجابيًّا مقابل الحصول عىل جوازات سفر
ملغادرة املغرب.
يستحضر كبار السن من األجداد ،ممن عايشوا اليهود كجيران لهم ،بكثير من الحزن المشوب بالحنين جراء غياب جسديا ،وعدم وجودهم اليهود ًّ في أرض المغرب ،على حين نجد أن من هم أصغر س ًّنا ال يترددون في استعمال قاموس ينهل من أساليب الفكاهة والتنكيت والتلويح بعبارات السخرية واالستهزاء ،كطريقة تعبر عن احتجاجهم اليوم على اإلسرائيليين واليهود بصفة عامة الصراع العربي اإلسرائييل ،هي التي تشكل اآلراء واملواقف
من اليهود وعالقتهم باملسلمني؟ رحلة إثنوغرافية
لإلجابة عن هذه التساؤالت ينطلق الباحث عمر بوم
اليوم ،وقد أصبح الوجود اليهودي املكثف باملغرب
يف رحلة إثنوغرافية تاريخية للكشف عن الذكريات الخاصة
املسلمني عن هؤالء؟ هل هو سرد األجيال السابقة
باألمس من اليهود يف املجتمعات الهامشية املوجودة
يف خرب كان ،ما العامل املهم املتحكم يف تشكيل ذاكرة لتجاربهم املشرتكة مع اليهود يف السابق؟ أم أن
األحداث الجارية حاليًّا بالشرق األوسط ،وبخاصة
بأربعة أجيال متعاقبة من املسلمني املغاربة ،حول جريانهم بمناطق املغرب الجنوبية الشرقية – إقليم طاطا تحديدً ا- ليكشف لنا حجم التنافر والتناقض املوجود يف مواقف
العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
هؤالء بشأن اليهود ،فعىل حني يستحضر كبار السن من
لم يعتمد الباحث عمر بوم الرواية الشفوية وحدها،
الحزن املشوب بالحنني جراء غياب اليهود جسديًّا ،وعدم وجودهم يف أرض املغرب ،نجد أن من هم أصغر س ًّنا ال
املخطوطات املحلية ،والرسائل والرسوم العدلية ،ونصوص
الرحالت الفرنسية األوىل إىل املغرب قبل االستعمار ،ومنها
والتنكيت والتلويح بعبارات السخرية واالستهزاء ،كطريقة
،)du Marocالذي قدم إىل املغرب سنة 1884-1883م،
األجداد ،ممن عايشوا اليهود كجريان لهم ،بكثري من
يرتددون يف استعمال قاموس ينهل من أساليب الفكاهة
تعرب عن احتجاجهم اليوم عىل اإلسرائيليني واليهود بصفة
عامة ،والتعبري بذلك ضمنيًّا عىل مقاومتهم إىل أبعد حدود
بوصفهم أعداء للفلسطينيني .وهؤالء لم يسبق لهم أن التقوا أحدً ا من اليهود يف الداخل املغربي ،لكنهم استأنسوا
وإنما استثمر مجموعة من املصادر األخرى األساسية ،ومنها
باألخص :رحلة شارل دوفوكو (Reconnaissance متنك ًرا يف زي يهودي ،ليتمكن بذلك من زيارة غالبية املناطق املغربية ،وقد احتفظ لنا بمعطيات مهمة عن
الطائفة اليهودية باملغرب .كما قدم رؤى عن نظرة األجيال
السابقة يف املغرب لليهود ،وهي املعلومات التي تحتاج
بوجودهم يف فلسطني من خالل تغطية وسائل اإلعالم
إىل دراسة نقدية مستقلة مبنية عىل أن دوفوكو (رجل
ومشاهدتهم املتكررة ملعاناة فلسطينيي الداخل والشتات، كوَّنوا صورة أخرى مختلفة عن صورة املس ِّنني من األجداد
الثقافة املعادية للسامية التي استشرت آنذاك يف األوساط
املختلفة ،فعرب متابعتهم ألطوار النزاع العربي اإلسرائييل،
املغاربة ،وهي ناتجة عن الخلط الواقع يف ذهنهم بني اليهود
املغاربة ،وسياسات الكيان الصهيوين يف الشرق األوسط.
منغمسا حتى أخمص قدميه يف الدين املسيحي) كان ً الدينية والعسكرية الفرنسية .كما كان مناص ًرا للسياسة
االستعمارية الكولونيالية لبالده.
إن دراسة الثابت واملتغري يف الصور َ املخ َّزنة يف ذاكرة
يحمل الجيل الجديد صورة مختلفة وناقصة عن اليهود
األفراد املغاربة عن اليهود املحليني تمكننا من رصد وتتبع
اليهود يف املايض ،واختالف التمثالت التي استقاها الباحث
فمواقف األجيال املسلمة املعاصرة تجاه اليهود املنحدرين
الدقيقة (األجداد الكبار -األجداد -اآلباء -األبناء) ،تمكننا
أكرث من ارتباطها بالسياقات املحلية والوطنية ،وهو أمر
املغاربة بخالف أجدادهم ممن عاشوا جنبًا إىل جنب مع
عمر بوم من ألسنة العيِّنات األربع موضوع االستجوابات من مالمسة التقاطعات بني الذاكرة املشرتكة لألجيال املختلفة ،ويف الوقت نفسه تربز لنا حجم االختالفات الناتجة
عن املؤثرات الجديدة الطارئة.
التحوالت التي عرفها املجتمع املغربي يف صريورته التاريخية، من أصل مغربي ،مرتبطة بشكل كبري بالسياقات الدولية
يختلف عن مواقف الجيل السابق ممن عايش الحضور اليهودي يف قرى مختلفة يف أنحاء متعددة من جنوب شرق املغرب ،وكذلك يف باقي املناطق األخرى من اململكة.
47
الملف
اليهود في السودان..
ٍ ماض لن ينسى
48
طلبة كلية كمبوني الخرطوم خليط من طلبة يهود وأقباط وأرمن وسودانيين
زواج عائلة يهودية في الخرطوم عام 1930م
يوفوني كوهين ملكة جمال الخرطوم عام 1956م
محراب المعبد اليهودي في الخرطوم مصدر الصور :مجموعة صور السودان القديمة على فيسبوك
العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
سهام صالح
الخرطوم
«البنيامين» هو االسم الذي يطلق على اليهود في السودان؛ حيث جاؤوا الجئين في أكبر
موجة هجرة يهودية في نهايات القرن التاسع عشر ،واستوطنوا مدينة أم درمان ،إحدى مدن العاصمة
ً تحديدا في حي المسالمة ،وقاموا ببناء أول معبد يهودي في السودان عام 1889م ،وجرى السودانية، تكوين رابطة للجالية اليهودية حينها برئاسة «بن كوستي» ابن حاخام يهودي تعود أصوله إلى إسبانيا. بلغ عدد أفراد الجالية اليهودية في ذلك الوقت نحو ألف نسمة موزعين ما بين مدن العاصمة
المثلثة :الخرطوم ،والخرطوم بحري ،وأم درمان ،لكن بعضهم فضل أن يعيش في مدن سودانية
أخرى مثل :نوري ،ومروي ،والدبة ،وبورسودان ،وود مدني. يعرف اليهود الذين قدموا إىل السودان بـ«السفارديم»
الذين ينحدرون من سالالت يهودية كانت تعيش يف إسبانيا، لكن ُن ِّكل بهم ُ وطردوا بعد سقوط غرناطة الشهري ،فاتجهوا إىل
ٍّ كل من :دول الشمال اإلفريقي ،ثم إىل السودان. َّ يتخفون وراء أسماء عربية
أطفال يف بقعة املهدي
يف العهد املهدوي يف السودان استعان الخليفة عبدالله
باليهودي «بن كوستي» للتجارة بني مصر والسودان ،وغيرّ اسمه إىل عبدالقادر البستنيني .بعد ذلك أَجرب الخليفة عبدالله التعاييش األقباط واليهود عىل الدخول يف اإلسالم؛ لذلك قام يهود السودان باستقدام حاخام يدعى «سلمون
اندمج اليهود «السفارديم» يف املجتمع السوداين من خالل
ملكا» من أجل إقامة الصلوات وتعليم الصغار الشعائ َر الدينية
كان يخىش إظهار يهوديته ،وبخاصة كبار السن ،وشاهدُ ذلك
يف رجوع عدد كبري منهم إىل اليهودية ،بعدها أصبح «ملكا»
ممارسة األنشطة التجارية واألنشطة االجتماعية ،لكن بعضهم
أنهم لم يكونوا يحملون أسماء تشري أو تدل عىل أصولهم اليهودية؛ فكانوا يحملون أسماء عربية مثل :املغربي، البغدادي ،اإلستانبويل ،وهي أسماء تدل عىل األماكن التي
جاؤوا منها أو عاش بها أجدادهم أو آباؤهم يف حقبة معينة
من حياتهم ،وبطبيعة الحال فإنهم كانوا يتحدثون اللغة العربية باللهجة السودانية أو املصرية ويتحدثون اإلنجليزية
بطالقة وبعض اللغات األخرى كالفرنسية واإلسبانية.
اشتغل يهود السودان بتأسيس أعمال تجارية ضخمة؛
مثل العمل يف مجال االسترياد والتصدير وبخاصة للمنتجات الزراعية ويف تجارة الجلود أو ما يعرف بـ«الدباغة» ،وسيطروا عىل هذا املجال وأثروا ثراء واضحً ا ،واستغلوا الفرص كافة
وأسسوا مجموعة شركات عاملية يف جميع املجاالت املالية ّ مستغلني بذلك خربتهم واإلنشائية والفنادق واألدوية،
كنيسا يف منزله بحي املساملة وأسهم اليهودية؛ حيث أقام لهم ً رئيسا للجالية اليهودية وأعلن عن تكوين جالية بشكل رسمي ً يف عام 1908م ،بعد عشر سنوات من هذا التاريخ حولت الجالية
اليهودية مركزها من أم درمان إىل الخرطوم ،يف هذه الحقبة أٌ ِّلفت كتب عدة عن الجالية اليهودية يف السودان كان أشهرها ً وأيضا كتاب «أطفال يف كتاب «بنو إسرائيل يف أرض املهدي»،
بقعة املهدي».
بعد توغل اليهود السودانيني يف الحياة السودانية قاموا
ببناء نا ٍد ريايض ترفيهي وأطلقوا عليه «النادي اليهودي ً فريقا رياضيًّا بالخرطوم» ،أو ما يعرف باسم «مكابي» وأسسوا
يحمل االسم نفسه ،وشيَّدوا ً أيضا ملعبًا للتنس .وأصبحت ً دائرة بني العمل والنادي اليهودي يف حياة يهود السودان
الخرطوم للقاء العائالت اليهودية وقضاء أوقات ممتعة. بعدها شيدوا مسرحً ا خلف النادي وقاموا بشراء قطعة أرض
وتجاربهم يف مجال األعمال التجارية ،إضافة إىل أن السودان ً مالذا آم ًنا يتصف بالتسامح املجتمعي والبعد عن التطرف كان
«كلوزيوم».
يف األسواق ويف مناسباتهم االجتماعية من دون خوف .ومن
من املجتمع ،لكن يف عام 1948م ظهرت مشاعر العداء لهم،
الديني؛ ما جعل كثريًا من اليهود يعتمرون طاقيتهم الصغرية
أشهر التجار اليهود يف السودان «أوالد مراد إسرائيل ،وحبيب
كوهني ،وليون تمام وإخوانه ،واإلخوة سريوريس ،وفيكتور شالوم ،وآل عبودي» وهم معروفون بتجارة التجزئة.
أنشؤوا عليها سينما معروفة لكل السودانيني هي سينما كان اليهود يف السودان يُعَ دُّ ون من األقلية املستوعبة
وبخاصة بعد إعالن قيام دولة إسرائيل والعدوان الثاليث عىل ضعْ ُ مصرَ .ت َ ضعُ الثقة بني اليهود السودانيني وبني املجتمع
أدى إىل خروجهم من السودان واستقرارهم يف بلدان إفريقية
49
الملف مثل «عائلة عدس» الذين هاجروا إىل نيجرييا ،لكن غالبية العائالت اليهودية هاجرت مرة أخرى إىل أوربا ْ آثرت بعض وأمريكا وعودة بعضهم إىل إسرائيل.
العائالت اليهودية البقاء يف السودان ،وبمرور الزمن
اعتنقوا اإلسالم وتزوجوا بسودانيات مسلمات ،لكن بعضهم بقي عىل يهوديته؛ أمثال عائلة «الدويك» من يهود الشام املتشددين وكانوا يعملون يف مجال تجارة
األقشمة.
نعش الوجود اليهودي بعدها د َُّق آخ ُر مسمار يف نعش الوجود اليهودي
يف السودان ،إثر قيام العقيد آنذاك «جعفر النمريي» تأميم ومصادرة واسعة ملمتلكات اليهود، بحركةِ ٍ وبخاصة شركات الحاخام اليهودي «سلمون ملكا» التي كانت باسم «جالتيل هانيك» .ولم يقتصر التأميم
عىل الشركات فقط بل عىل مستوى بيت العائلة ،الذي أصبح يف العهد املايوي مق ًّرا لالتحاد االشرتايك ،فمق ًّرا
50
لوزارة الخارجية السودانية .ويف عام 1987م هُ دم املعبد اليهودي يف الخرطوم ،وبيعت األرض ملصلحة أحد البنوك السودانية.
املصادرة ملمتلكات اليهود لم تشمل مقابر اليهود
املوجودة اآلن يف وسط منطقة تجارية يف منطقة السوق ً أرضا فضاءً ،وكثريون من العربي؛ حيث ال تزال
السودانيني ال يعرفون أنها مقابر اليهود.
اندمج اليهود «السفارديم» في المجتمع السوداني من خالل ممارسة األنشطة التجارية واألنشطة االجتماعية ،لكن بعضهم كان يخشى إظهار يهوديته ،وبخاصة كبار السن ،وشاهد ذلك أنهم لم يكونوا يحملون أسماء تشير أو تدل على أصولهم اليهودية ،فكانوا يحملون أسماء عربية مثل :المغربي، البغدادي ،اإلستانبولي ينس اليهود أموالهم املوجودة التي إما أُمِّ مت ،أو تركوها لم َ ً وهربوا خوفا عىل أرواحهم إثر تنامي وتصاعد الصراع العربي–
اإلسرائييل؛ لذلك تقود اآلن إدارة األمالك بوزارة الخارجية اإلسرائيلية حملة دبلوماسية الستعادة ممتلكات اليهود البالغ عددهم 850ألف يهودي كانوا يعيشون يف السودان ،ومصر،
واملغرب ،وموريتانيا ،وتونس ،وليبيا ،والجزائر ،وسوريا، والعراق ،ولبنان ،واألردن ،والبحرينَ . وقدرت وزارة الخارجية
اإلسرائيلية حجم التعويضات بــ« »300مليار دوالر أمرييك حسب تقريرها الذي ُقدم للكنيست اإلسرائييل. يهود السودان والحياة السياسية
من أبرز اليهود السودانيني الذين أقاموا يف السودان ولهم
دور يف الحياة السياسية« :بنيامني نتنياهو» رئيس الوزراء
اإلسرائييل الذي ينتمي إىل عائلة «شاؤول الياهو» املقيمة
يف منطقة نوري–مروي .وكذلك عائلة «آل ساسون» الذين عاشوا يف منطقة «كردفان» ،ثم هاجروا إىل الخرطوم ،فكان
سفري لدولة إسرائيل يف مصر أحد أبناء هذه العائلة بعد أول ٍ
«اتفاقية كامب ديفيد» يف عهد الرئيس أنور السادات.
ويبدو أن الجالية اليهودية بالسودان لم تنقطع صلتها
بدوائر صنع القرار اليهودية؛ فلقد تقلد «إبراهيم جوزيف
عبودي» رئاسة الجمعية اليهودية يف الواليات املتحدة األمريكية ،وهو ينتمي إىل أشهر عائالت اليهود السودانيني
املعروفني بـ«آل عبودي» الذين عاشوا يف «الخرطوم بحري».
تجدر اإلشارة إىل أن يهود السودان أتوا إليه معدمني
ليخرجوا منه وقد أصبحوا من أثرياء العالم؛ إذ يمتلكون (حاليا) مقبرة اليهود في الخرطوم ً
شركات ومستشفيات ودور محاماة عاملية.
العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
51
www.research.kfcris.org research@kfcris.com
الملف
الحوثيون من المظلومية إلى االستبداد
52
العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
جمال حسن
صحافي يمني
منذ ظهر الحوثيون كحركة متمردة في اليمن ،استخدم مناصروهم تعريف أقلية لهم ضمن فكرتين ،األولى :منحهم حق التمايز عن اآلخرين ،وفي الثانية :إثارة مجال متعاطف كاف لمنح حروبهم شكلاً ً مشروعا؟ وأي نوع من األقلية هم؟ هكذا حاول معهم .لكن هل هذا ٍ الخطاب المتعاطف ،عبر استخدام مصطلح أقلية ،نقل مشروع الحوثي السياسي من مستوى العنف إلى قضية حقوقية فيها كثير من التضليل. إذن يمكن التعامل معهم بوصفهم أقلية يف سياق النسبة
استفاد الحويث من التعميم الذي فرضه مفهوم األقلية،
تشغله مبادئ عامة عن حقوق األقليات .لكن عىل مستوى التعريف
وبالتايل ديمومة استعدادهم القتايل .ويف الوقت نفسه إنتاج
ملتبسا ضمن احتجاج سيايس السكانية ،وإن ظل هذا التعريف ً النظري ال يمكن حجب االلتباس إذا أردنا تعريف الحويث كهوية
سياسية ،أو سكانية ،أو حتى إنسانية .والحويث حرص عىل إثارة املوضوع الطائفي ،عىل أساس أنه يمثل فئة أو هوية مختلفة،
ليس فقط عرب رمزية طقوسية واحتفالية ميزتها أقمشة خضراء، وشعارات كرست التلويث البصري بقدر ما كرس مسلحوه تعكريًا للسلم العام ،بل ً أيضا يف خطاب وممارسات عرّفت اليمن ضمن
هويات مقسمة .فعندما بدأت ميليشياته بحصار صنعاء ،استدعى الحويث التقسيم املناطقي ،فكان يخاطب أبناء الجنوب ،وأبناء تعز، لكنه ً أيضا غازل توجهًا عامليًّا حضرت حسابات مصالحه السياسية يف املنطقة تحت مظلة الحرب عىل اإلرهاب.
عند احتفال مناصريه يوم 22سبتمرب بعد سقوط صنعاء يف عام
2014م ،وجه الحويث تحذيرًا إىل مأرب والبيضاء بأنه سيقوم بمالحقة القاعدة وداعش هناك .وكان املسرح جاه ًزا لتفسري حروب غرضها
فهو عىل مستوى مناصريه يضمن تحفيزهم لوجود عدو دائم، ثقافة املظلومية الحاضرة يف تراث عقائدي عميق .حتى إن أي حرب
سيخوضونها هي دائمً ا نحو عدو أمرييك ،وآخر محيل داعيش
صنعه هذا العدو .فحربهم ضد القاعدة هي دائمً ا ضد أمريكا، يعززها شعار أو مقولة مؤسس الجماعة حسني الحويث« :القاعدة
صناعة أمريكية» .هذا بالنسبة للخطاب املوجه ملناصريه .وعىل ً تعاطفا محليًّا وآخر دوليًّا متناغمً ا مستوى حقوق األقليات ،يضمن
مع أكالشيهات خطاب املنظمات الحقوقية .أنتج ذلك مستوى ً واحدا ،بصفتهم أقلية مضطهدة .وذلك صاغ تعريفيًّا ،يكاد يكون إىل حد كبري ،مشروعية العنف الذي دشن به الحوثيون ظهورهم
املعلن عىل الساحة اليمنية.
تعميمات دينية وسياسية
منذ البداية تهر ََّب الخطاب الحويث من إعالن أجندة سياسية
شرعنة استيالئه عىل السلطة ،أو انقالبه .إذن لم تعد املسألة صورة
واضحة .كان دائمً ا يغلف خطابه وراء تعميمات دينية وسياسية.
العدوان .والدعشنة كان املصطلح الجديد الذي ارتداه الحويث بعد
من عمران ،ظل الحويث يدعي أنها حروب دفاعية .ضد من؟ إنه
الطائفية يف العراق تكوين ميليشيا الحشد الشعبي الشيعية يف
وأين ستتوقف تلك الحروب الدفاعية؟ فبوصفهم أقلية سيكونون مُ طالبني ً أيضا بتقديم إيضاحات عامة عن مطالب سياسية .لكنه
أقلية تواجه فضاء عامًّ ا معاديًا؛ بل ميليشيا منحت نفسها حق
سنوات من ادعاء املظلومية .وهو املبدأ الذي شرعنت عربه الحكومة العراق تحت ذريعة مواجهة داعش ،ومارست التنكيل بأبناء السنة. مشروع ممنهج البتالع األكرثية
وعندما كان مسرح وجوده املسلح مقتصرًا عىل صعدة وأجزاء مجال غري واضح أو محدد .ضد أمريكا وإسرائيل ،ضد التكفرييني.
خطاب يضمر طموحً ا باالستيالء الكامل عىل الحكم .مع توسع سيطرة املسلحني الحوثيني ،تغريت النربة الخطابية ،لم تعد حروبًا
منذ اللحظة األوىل كان خطاب الحويث يضمر طموحه السيايس
دفاعية ،بل صارت ذات نربة خمينية «مناصرة املستضعفني» ،ما يعني ً أرضا مفتوحة .كما أنه بعد طرد «سلفيي دماج» ظل يعلن
داخليًّا ،أرسل مسلحيه للسيطرة عىل املدن ،ويف الوقت نفسه ً حليفا ممك ًنا ألمريكا يف حربها ضد داعش والقاعدة .هنا بوصفه
يثري الصراعات ذات البعد الطائفي .اعتقد بعض املراقبني أن الحرب
عرب ادعاءين :املظلومية ،وشعاراته ذات الطابع الديني واملعادي ً حليفا ألمريكا وإسرائيل .وعندما أتيحت له الدولة ،حتى بوصفه
أنه سيقوم بتطهري البالد من التكفرييني .كان لهذا االستدعاء حافز يف الجغرافية القبلية جهوية خالصة .وهو املجال الذي منح الحويث
ً ً مشروعا يالحق مشروعا ممنهجً ا البتالع األكرثية، تصبح األقلية
فضا ًء يراوغ فيه ،ومكنه من إسقاط املدن ،أي أن تفتت املضمون
اإلمام يف القرون املاضية.
كل مقومات البقاء.
إرثه السيايس القائم عىل تغليف اليمن بالعمامة البالية التي مثلها
الوطني يف اليمن أسهم يف تصاعد تلك الجماعة ،وسيظل يمنحها
53
الملف
وال يمكن تصنيف جماعة الحويث بوصفها جماعة
اإلمامة الزيدية ،ي ََّد ِعي لنفسه ،أو لفئته ،الحق الوحيد بالحكم،
تحاول بناء هذا االدعاء العرقي ،فعندما سقطت إحدى قرى
والقسر ،واالستيالء عىل مصادر الرثوة والسلطة .إن طبيعة هذا
عرقية ،أو لغوية ،أو قومية مختلفة بالنسبة لليمنيني .لكنها
جبل صرب يف تعز يف يد املقاومة ،كانت تحت سيطرة مسلحي الحويث ،روج إعالمهم وأشاع عن حدوث تطهري عرقي هناك.
54
مع هذا ،لم يعرتف الحويث بحقوق أي جماعات مختلفة.
فعند سيطرته عىل صعدة قام بطرد ما تبقى من اليهود .ثم
إنه مارس كل أشكال القهر والقسوة ضد خصومه ،فقام مسلحوه بتفجري مساجدهم ومنازلهم.
ادعاء متعجرف ال يريد مساواة مع اآلخرين
وما يمنحه حق التحكم باألكرثية ،ويشرع له كل أشكال االضطهاد االنتساب ال يمكن إدراجه يف مستوى واحد مع حقوق األقليات،
إال يف شروط سياسية منحرفة .وهي كفكرة تكشف تمايز مركب داخل الحركة نفسها ،بما أنه يعتمد عىل كيان واسع من أبناء
القبائل ووجاهاتها.
يلعب الحويث عىل فضاء املوروث السيايس الذي هيمنت
عليه جغرافية قبلية محددة يف اليمن ،استطاعت اإلمامة الهادوية توحيدها يف اإلطار الزيدي .وهو اإلطار الذي سيحاول الحويث إعادة
تشكيله يف مضمون يستدعي النموذج الخميني ،وإن بصيغة زيدية.
يعتقد الحويث أنه أقلية متمايزة من غريها ،بمعنى أنه
يف ثمانينيات القرن املايض ،ابتدع بدر الدين الحويث والد حسني
شريك أو منازع .وهذا االدعاء املتعجرف ال يريد مساواته
بني الزيدية والخمينية ،ومنه نسج تقاربًا يضمن إليران موطئ قدم
يندرج ضمن مفهوم سيطرة األقلية ،وهيمنتها الكلية دون مع اآلخرين ،لزعمه أنه ينتسب إىل النبي محمد ﷺ من
ابنته فاطمة ،أي الهاشمية .ووفق ادعاء مذهبي كرسته
اعتقد بعض المراقبين أن الحرب في الجغرافية القبلية جهوية خالصة. وهو المجال الذي منح الحوثي
مؤسس الجماعة الحوثية وعبدامللك الزعيم الحايل ،تقاربًا عقائديًّا يف اليمن .لكن هذا التقارب ال يحظى بقبول معظم املجتمع الزيدي،
إال يف حال استدراجه داخل تحوالت سياسية تضمن للحويث أن يكون حيزه الضيق والوحيد.
يتطابق مفهوم األقلية ،مع خطاب املظلومية الذي يستند إليه
الحويث راديكاليًّا .لكن عرب احتكاره السلطة يمارس القسر واإللغاء ضد مجتمع تمثله أكرثية سنية ،وهو ما جسدته ممارسات الحويث
بعد انقالب 21سبتمرب .ويمكن أن يكون الحويث أكرثية عىل املستوى
فضاء يراوغ فيه ،ومكنه من إسقاط
العصبوي واملتضامن؛ ألنه ال يوجد يف اليمن فضاء سني واحد متضامن ،وحتى مناطقيًّا ،ال يشكل الجنوب ً ً واحدا ،أو حتى كيانا
تصاعد تلك الجماعة ،وسيظل
«حافظ عىل أن تكون أكرثية عرب تشتيت العدو» .وهو ما سعى إليه
المدن ،أي أن تفتت المضمون الوطني في اليمن أسهم في يمنحها كل مقومات البقاء
تعز .وبالعودة إىل نصيحة الصيني تزو يف كتابه فن الحرب ،يقول: الحويث يف خطابه عرب تعامله مع اليمن كهويات منقسمة ،تضمن تفوق مجاله العصبوي .وهكذا يتاح لألقلية ابتالع األكرثية املشتتة.
العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
يهود اليمن..
أقلية يكتنفها الغموض وتاريخها ملتبس
55
الملف فتحي أبو النصر
صنعاء
ال تتوقف محنة أقلية اليهود في اليمن ،التي ال يتجاوز عدد أفرادها اليوم 200نسمة؛ فمنذ بضعة أسابيع وجماعة «أنصار الله -الحوثيين» تحتجز الحاخام يحيى يوسف؛ حاخام اليهود اليمنيين للتحقيق معه ،تحت مسوّغ تهريب مخطوط قديم للتوراة إلى إسرائيل قبل أشهر .وكانت سلطات دولة االحتالل اإلسرائيلية أعلنت في مارس الماضي ،أنها نقلت 19يهود ًّيا من اليمن إلى األراضي المحتلة ،ضمن ما أسمتها بـ«عملية سرّية ومعقدة» قامت بها «الوكالة اليهودية» شبه الحكومية، معلنة أنها بهذه العملية تختتم «المهمة التاريخية» المستمرة إلحضار يهود اليمن إلى هناك .وحينها كان الف ًتا بالطبع ظهور رئيس الوزراء اإلسرائيلي بنيامين نتنياهو وهو يستقبل بحفاوة آخر القادمين إلى تل أبيب من أقلية يهود اليمن ،كما استعرض ما جلبوه معهم من لفائف توراة ُيعتقد أن عمرها يراوح بين 500و 800عام ،على حين يرى متخصصون أن عمرها أبعد من ذلك بكثير ،وأما بحسب مهتمين بتراث وتاريخ اليهودية في اليمن؛ فإن أقلية يهود اليمن تفضح كثيرًا مغالطات صهيونية، إضافة إلى التباسات جغرافيا التاريخ اليهودي نفسه ،التي ال تزال محيّرة وملغزة حتى اللحظة.
56
لقد دانت اليمن باليهودية مبك ًرا ،وتع ّد من أعرق
ديانة توحيد حكمت اليمن يف الدولة الحمريية الثالثة ،وظل
معنى التوحيد ،وبالتأكيد تحوي أسرارًا توراتية لم تتعرض
لكن «تهجري اليهود العرب يف البلدان العربية قد أسهم يف
البلدان التي عرفت األديان السماوية الثالثة التي قامت عىل للتحريف بعد ،أما مخطوطة التوراة الغامضة التي كانت
يف حوزة املغادرين إىل إسرائيل مؤخ ًرا ،فهي بالتأكيد ركن من أركان املسألة اليهودية يف مهد العرب األول؛ فما بالكم
باألطروحات التي تع ّد اليمن هي« مهد اليهودية» ولم تهدأ
منذ زمن املؤرخ الكبري كمال الصليبي ،الذي زلزل الكثري من املعتقدات الراسخة يف املسألة اليهودية ومسرحها الوهمي الذي ُك ِّرس ُزورًا؛ يف رأيه .والحال أن املصادر املوثوقة أفادت
بأن سلطات األمر الواقع االنقالبية يف صنعاء ،ال تزال َتعتقل عىل خلفية تلك العملية ً أيضا عددًا من موظفي املطار.
بيان لهم حول الحادثة ويؤكد مثقفون يمنيون يف ٍ أن «الحاخام اليمني اليهودي قد عاىن كأبناء دينه فرض
اإلقامة الجربية والتهديد باملوت من ميليشيا أنصار الله، ويُحَ قق اآلن معه ،وهو رهن االعتقال؛ ألنه يرفض مغادرة وطنه اليمن».
بحسب البيان« :جرى –ويجري -التنكيل منذ
أزمنة متطاولة باليهود اليمنيني يف عهود الظالم
والقهر ..كما رفع األنصار شعار «املوت ألمريكا واملوت
إلسرائيل ..اللعنة عىل اليهود»؛ وهو الشعار املنقول
حرفيًّا من الحرس الثوري اإليراين ،وال ينطبق بحال
عىل الوضع اليمني» .وهؤالء يتفقون عىل أن «اليهودية
اليهود عرضة لإلذالل واإلهانة والتمييز يف فرتات مختلفة»،
تحقيق املؤامرة االستعمارية ،ورفد الحركة الصهيونية بطاقات
ومربرات ودعاوى ال يزال النظام العربي والتمييز واالستعالء ّ يغذيها يف املشرق العربي كله ،ويستفيد الصهاينة -قادة التمييز العنصري يف فلسطني -من هذه املمارسات القبيحة. أقلية كتومة بتاريخ ملتبس
معلوم أن يهود اليمن أقلية تكاد تتالىش نهائيًّا؛ فعددهم اآلن ال يتجاوز مئ َت ْي فرد كما أسلفنا .عىل أن لهم خصوصية
ثقافية تتمايز من بقية اليهود حول العالم .والثابت أن خطة البساط السحري التي نفذت يف نهاية أربعينيات القرن
املايض؛ مثلت أعىل تجليات عمليات التهجري املنظمة من شمال ً سابقا .أما يف الجنوب فقد «أشعل متظاهرون ضد قيام اليمن إسرائيل النا َر يف مساكن اليهود ومحالتهم التجارية ووكاالتهم
يف عدن يف تلك الفرتة ،تحت سمع وبصر االستعمار الربيطاين الضالع يف مخطط التهجري للوفاء بوعد بلفور».
اليوم يمكن القول :إن اإلسرائيليني يدركون أن تراث أقلية
يهود اليمن الديني والثقايف أشد أصالة من أي جماعة يهودية
أخرى يف العالم؛ إذ إنهم موجودون يف اليمن منذ ما قبل امليالد ،ورغم صنوف التداعيات التاريخية املختلفة حافظوا عىل
خصوصيتهم عىل نحو مدهش.
العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
وفدا من يهود اليمن بنيامين نتنياهو عند استقباله ً
ً تدينا! أكرث اليهود
يف عام 2002م قام معهد الدراسات السامية ٌّ وكل من شركة
كارنجي وقسم الدراسات الشرقية يف جامعة بريستون ،برعاية ً مشاركا من أجل تقييم حالة العالقات العربية ندوة بحضور 250
اإلسالمية -اليهودية يف اليمن ،ومن ثم التوصل إىل تقييم
العالقات العربية اإلسالمية عىل العموم مع اليهود ،سواء يف القرون املاضية أم يف العصر الحاضر ،حضر الندوة ممثلون عن: املعهد اليمني للديمقراطية ،ومركز الرتاث واألبحاث اليمني،
ومركز اإلسالم والديمقراطية ،ومتحف اليهود اليمنيني، ومركز شلوم لألبحاث ،وكذلك علماء ومفكرون من :جامعة
بريستون ،والجامعة املفتوحة بإسرائيل ،وجامعة كولون بأملانيا ،وجامعة نيويورك ،وجامعة صنعاء .الندوة تطرقت
للعالقات العربية– اليهودية يف اليمن عرب مختلف املجاالت؛ من التفاعل السيايس ،وجملة التقاليد والعادات -يف الغناء
والرقص والعمارة واملهن املختلفة -يف املوروث اليمني.
وبحسب الباحث أفرايم أيزاك -وفق دراسة له عن
مركز الجزيرة للدراسات -فإنه« :إذا كان املسلمون اليمنيون
سرعان ما اصطدم يهود اليمن بالتمييز مثل بقية اليهود الشرقيين المرزاحيين، وال يزالون يشكون تعرضهم لالضطهاد من األغلبية األشكنازية «اليهود الغربيين»
أكرث املسلمني تدي ًنا ،فإن اليهود اليمنيني أكرث اليهود تدي ًنا». وكذلك تبقى «اليمن مادة قيمة للدراسة حيث نأخذ منها
الدروس والعرب عن الجهود التاريخية لليهود واملسلمني يف السعي لتحقيق توازن جزيئ لتعايش ثقافتني مختلفتني من
خالل االحرتام والتفاهم املتبادل بالرغم من وجود الحواجز َ «اتصاف يهود الثيوقراطية» .هذا الباحث يؤكد يف دراسته اليمن بأنهم أناس عصاميون كادحون استطاعوا أن يحافظوا
عىل الرتاث اليهودي عرب العصور حتى يف أحلك الظروف،
كما أنهم كانوا حرفيني مهرة؛ مما أكسبهم إعجاب وتقدير املسلمني» .ويف رأيه« :مثلت اليمن وإثيوبيا األرض املقدسة
األسطورية ململكة سبأ ،وتشهد عىل ذلك آالف النقوش
والتماثيل واألعمدة والجدران العتيقة ،واملدن املبنية بأسلوب مذهل ،واملعابد والحصون والسدود ،مما يدل عىل غنى املوروث الثقايف واالقتصادي لحضارة ما قبل اإلسالم».
بل «يتفرد اليهود اليمنيون بأشياء عديدة ،فهم يمثلون
أنموذجً ا مصغ ًرا لليهود العرب يف الشرق األوسط بقيمهم
وثقافتهم التي تتجىل يف ملبسهم ومأكلهم وتقاليد الزواج واملوسيقا والعديد من أنماط الحياة الدينية والعامة التي
تشابه نمط الحياة العربية .وكأغلب الجماعات اليهودية األخرى حافظ اليهود اليمنيون عىل أدق تفاصيل الشريعة والتعاليم اليهودية القديمة ،بل إنهم الفئة اليهودية الوحيدة
يف العالم التي تقرأ الكتاب املقدس لليهود مع تالوة مسموعة ً وفقا لتقاليد الكنيس اليهودي القديم للرتجومة اآلرامية
57
الملف
بينما لم يكن سوى اليهود من ي ُْقدِ مون عليه؛ مما جعلهم
وكما وردت يف التلمود؛ يتلو أوالدهم الكتاب املقدس
من ناحية أخرى :لعل أشهر يهودي ذاع صيته من الناحية
السن عن ظهر قلب .وتتميز تالوتهم بأن نطقهم يرجع
بسالم الشبزي ،الذي سكن مدينة تعز يف القرن السابع عشر،
يف أربعة اتجاهات يف محيط دائري ،بينما يتلوه كبار عىل األقل إىل عهد العصور الوسطى؛ فبحسب علماء األصوات الذين درسوا أصواتهم فإن أسلوبهم الخاص يف
النشيد واتساق أصواتهم تعود إىل عهد موسيقا الكنيسة القديمة وكرتنيمة «جريجوريان» ،وكلتاهما متأصلة يف موسيقا الشعائر القديمة للهيكل يف القدس». إبداعات األقلية
الثقافية والفكرية الشاعر والحاخام موري شالوم شابازي الشهري وكان يحرتمه املسلمون قبل اليهود حتى أصبح اسمه كاألسطورة
يف عموم اليمن ،رغم ذلك ال تزال الكثري من أفكاره مبهمة بحيث
لم تدون ولم تصل للقراء ،كما التصقت به سمعة الربكات اإللهية ً وخصوصا االستشفاء من األمراض ،لكنه كان يسعى للتعايش
أغان ،وتميز كاتب الخالق بني اإلسالم واليهودية ،كما كان َ ٍ بالشعر الشعبي باللغتني العربية والعربية .ويؤكد مهاجرون أن مخطوطات أعماله ُنقلت إىل إسرائيل .وهو اليوم من أهم الرموز
الشاهد أن يهود اليمن برعوا وتفننوا يف صناعة
هناك ،حتى إن إسرائيل أطلقت اسمه عىل أحد الشوارع ،كما
النظري يف صياغة الفضة والذهب والتطريز واألزياء،
توافق .وأما أول امرأة يُعمل لها نصب تذكاري يف إسرائيل فهي
الخنجر اليماين الشهري بـ«الجنبية» ،ويف اإلبداع منقطع وفنون الحدادة والنجارة والعمارة واإليقاعات وصك
العملة قديمً ا .بل إن األكرثية املسلمة ال تضاهي إبداعات أقلية اليهود يف هذا الجانب .وعىل وجه التحديد يعدّ
58
أشد الذين صانوه من االندثار.
اليهود الذين من أسر يمنية أبرع املوسيقيني واملطربني ً حفاظا عىل خصوصيتهم الثقافية يف إسرائيل واألكرث اليمنية يف اإليقاعات واأللحان.
يرتدد بشدة أنها أرادت نقل رُفاته إليها لكن السلطات اليمنية لم
الفنانة اليمنية اليهودية الكبرية عفراء هزاع.
عربية مختلفة عن بقية يهود العالم
إنهم ريفيون بوعي مسالم ومتسامح ،يمضغون القات
كبقية اليمنيني ،وهم أهل ذمة يف حماية القبائل بحسب العرف
والواقع أن اليهود تركوا بصمة تأثريية قوية يف فن
الغناء اليمني ،بينما يعد الرتاث الغنايئ هو األساس الفعيل لتعايش اليمنيني جميعً ا عىل رغم الهويات
الدينية املتشابكة .ثم إن املوسيقا عابرة للديانات ..إال أن ً جاهدة لتقديم اإلشكالية تكمن يف أن إسرائيل تعمل املوسيقا اليمنية عىل أنها تراث يهودي ،مع أنها نتاج بيئتها االجتماعية الثقافية «اليمن» .والحاصل أن غالبية
يهود اليمن يف إسرائيل يصرون عىل االعتزاز بتكوينهم
اليمني وهويتهم املرتاكمة؛ فهم يقيمون متاحف
للموروثات الشعبية اليمنية العريقة ،كما يحافظون عىل تقاليد اليمن وثقافتها الشعبية واألكالت واألزياء ذات املزاج اليمني يف غالب مناسباتهم داخل إسرائيل.
وتنتشر يف اليمن األغاين الرتاثية التي يؤديها
الفنانون اليمنيون اليهود بطرق حديثة عىل رغم الحظر
الرسمي ،كما تنعكس يف أدائهم األحاسيس االستثنائية باإليقاعات اليمنية بما يؤكد متانة ذاكرتهم الجماعية
ولوعتهم الدرامية االغرتابية لفراق الوطن ،بل إن بعضهم يشارك يف مسابقات فنية عاملية حاملاً علمَ اليمن وليس علم إسرائيل .وعىل مدى قرون لطاملا منع
األئمة الذين تناوبوا عىل حكم الشمال الغناءَ والطرب، العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
العشائري والديني ،ال يتحملون أي أعباء كالحروب وغريها، ً جماعة محمية عند وقوع النزاعات ،وخصالت كما يُصنفون
َشعرهم هي ما يميزهم من املسلمني ،وهم محافظون
بحسب الحياة الريفية اليمنية شديدة الشرقية وااللتزام .عىل أن األطفال منهم يتعلمون العربية والتوراة وال َّزبور فقط منذ
ُّ تشكل تاريخهم يف البالد .وللتذكري من جانبهم تسرد كيفية
أقول :إنه مع بداية ظهور جماعة الحويث ،وتصاعد ثقافة الكراهية التي حملتها لليهود وإسرائيل ،بات وجود يهود آل
سالم هناك أكرث خطورة يومً ا بعد يوم ،ثم مع تصاعد شعار َ عبارة« :اللعنة عىل اليهود» ،إضافة إىل الحوثيني املتضمن
وقت مبكر ،بينما يقف مستواهم التعليمي عند هذا الحد؛
سيطرة الجماعة عسكريًّا يف املحافظة بعد حروب عدة أقدموا
من جمعيات ومنظمات يهودية مهتمة بأحوالهم وأوضاعهم
والواقع اليوم أنهم يعانون انتقاص مواطنتهم؛ فقبل أعوام ُقتل يهودي عىل يد مواطنه املسلم املتطرف الذي
إذ ال يحبذون التعليم الرسمي املتضمن ملواد إسالمية ،إال أن ً بعضا من شباب األقلية اليهودية يحصلون عىل فرص تعليم البائسة ،وغالبًا يهاجرون إىل أمريكا لذلك الغرض.
يقول متخصصون :إن لهجتهم العربية مختلفة عن
بقية يهود العالم ،ولهم تراتيل مختلفة عن اليهود املزراحيني واألشكيناز ً أيضا .وبحسب متخصصني ال توجد رؤى علمية
يهود اليمن الفئة اليهودية الوحيدة في العالم التي تقرأ الكتاب المقدس لليهود مرفقً ا بتالوة مسموعة للترجومة اآلرامية وفقً ا لتقاليد الكنيس اليهودي القديم وكما وردت في التلمود
يف عام 2007م عىل ترحيل أقلية يهود آل سالم الذين ال يتجاوز عددهم 80مواط ًنا ومواطنة من صعدة إىل العاصمة صنعاء.
أق َّر بجريمته تق ُّربًا إىل الله؛ ألن اليهودي رفض الدخول يف اإلسالم .وقبل أعوام ً أيضا حاول يهودي ترشيح نفسه يف االنتخابات املحلية فوجدوه مي ًتا يف حادث غامض .واملؤكد أن عددًا من نسل اليهود املهاجرين يزورون اليمن كسياح
بجوازات سفر أوربية أو أمريكية -حسب معلومات موثوقة- تهربًّا من التحريض القائم ضدهم واملواقف الرافضة للتطبيع
مع إسرائيل .جدير بالذكر أن موقف أقلية اليهود يف اليمن من
االحتالل الصهيوين واضح وحاسم بحيث يتمسكون بتعاطفهم مع فلسطني ،بل إن بعضهم يؤمنون ببطالن قيام إسرائيل
أساسً ا ،ولذلك لم يفضلوا الهجرة رغم ظروفهم الصعبة.
59
الملف
ما بين النهرين.. بالد األقليات الهائلة
60
العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
حسن جوان
كاتب عراقي
واضح أن األعمال العسكرية ،والتغييرات السياسيّة في البلدان العربية ،قد أحدثت ه ّزات المجتمعي .وفي الغالب ،إن ّ الصدمة األولى التي حرّكت صفائح عميقة في البنى المُ كوّنة للنسيج ّ عديدة ،كانت ُت ّ عد فيما مضى ،مُ رتكزات اعتمد عليها التمازح المدني والوطني في المنطقة ،كانت من نصيب العراق «بالد ما بين النهرين» ،حجر زاوية هذا التداعي المتتالي .فما كان يعد مثالاً تاريخيًّا ّ يني لعدة مئات من السنين ،بل إن إحدى عالمات ازدهاره حضار ًّيا اإلثني لالندماج والتالقح والد ّ ّ في حقب مضيئة من تأريخه ،هو ّأنه ّ الثقافي ..أصبح مَ صدرًا لنقيض مثل نموذجً ا سلميًّا للتنوّع ّ هذا التصوّر في تقبل اآلخر وتنوّعه .هذا التنوع الذي انقلب وبالاً فيما بعد ،ليتحوّل به سحر التنوّع وتنازع باعتبار النوع .وبهذا اختفى تفاصل كعنصر تقوم عليه غالب النهضات المدنية والحضرية ،إلى ٍ ٍ ّ ليحل مفهوما «األنا» و«الهُ م». متصاعد مفهوم الـ«نحن» بشكل ٍ ٍ َب هذا الفايروس املُج ِّزئ للكتلة الوطنية بمفهومها وما أن د ّ
متسلسل مرعب ،حتى الحاضن ،نحو مفاصل تف ّرعت كتفاعل ٍ والعرق واملناطقيّة الطائفة وُلدت أجزاء أخرى ،اتخذت من ِ ٌ منطق جديد بدأ يسود املشهد ،ومن والعائليّة نماذج للوالء املُطلق. ثمّ تنامى بشراهة ،ليُصبح املنطق األشمل الذي يمكن عربه وحده، تفسري الواقع الجديد .وإذا كانت هنالك حواضن سابقة ،احتمت فيها مكونات أطلق عليها اصطالح ّ «أقلية» كتصنيف عددي استثنايئ من الغالبية املُهيمنة ،فإن تلك األقليّات كانت تحظى بمشاركة
قانونيّة وحماية يف إطار الدولة .لكنّ تفاقم العُ زلة ،وتوايل التعمية ُ كثري من تلك املُكوّنات ،أدّى يف والغنب االجتماعي ّ والحقوقي ،لدى ٍ
داخيل لديها، حس العديد من الدول إىل نشوء ٍّ ّ عىل أنها ال ينظر إليها باعتبارها جزءًا من هذه
البالد أو ال ّدولة ،وبالتايل صارت تبحث يف هُ ويّتها
الداخلية ،وعن خالصها التاريخي. ً انفالتا وتط ّر ًفا يف السنوات ما زاد األمر األخرية ،هو االستهداف املُفجع من اإلرهاب لتلك األقليّات ،واإليغال يف ترويعهم وإبادتهم جماع ًّيا ،كما حدث يف صفحات سنجار املنكوبة
شمال غرب العراق .تورّط كثري من األطراف
الدّاخلية والخارجيّة يف هذا امللف اإلقليمي يف الوقت الحاضر ،يقتيض
هل يمكننا إذن ،اعتبار أن الحروب التي تندلع اليوم ،كانت
األقليّات أهمّ أسبابها؟ ولو كانت هناك أنظمة عربية تؤمن باملساواة
والعدالة االجتماعيّة ،هل كانت شعرت األقليّات بأنها أقليّات؟ هل كانت مساعي الغرب اإلفادة من هذا االحتقان لدى األقليّات وتغذيته ،وسيلة ّ للذهاب إىل تمزيق املنطقة عىل هذا األساس؟ كيف
السيايس مع األقليّات يف العراق؟ ما الخطورة كان تعامل القرار ّ ً ّ ضغطا عىل يشكلوا يف بقائهم كأقليّات ،وإىل أيّ ح ّد يمكن أن الحكومة؟
توظيف حماية األقليات للتدخل يف شؤون املنطقة
يف هذا الفضاء ،طرحنا هذه التساؤالت
ّ متخصصني يف شؤون األقليّات ،عىل عىل باحثني
أمل الوصول إىل بعض التصوّرات واملعالجات،
التي نسعى إىل اإلفادة منها ،من واقع تجربة ميدانية وإحصائية ،تتعلق بالتجربة العراقيّة. سعد ّ سلوم ..الخبري يف األقليّات العراقيّة، وعضو املجلس العراقي لحوار األديان ،يبسط ها هنا تشخيصاته املستندة إىل رؤية عريضة يف
سعد سلّوم قراءة املشهد ،حيث يستعري تطبيقات عاملية يف فهم جزئيات الحدث واآلليات التي يتحرك يف فضائها .يرى ّ سلوم أنّ
ّ للتدخل يف شؤون املنطقة إسرتاتيجية قديمة «توظيف حماية األقليّات
وضعه عىل الطاولة وتسمية األشياء بوضوح ،إذا كان ثمّة من يبحث عن رَتق الجراح ،ومعالجة ّ الشقوق الخطرية اآلخذة باالتساع .وما
وخبيثة ،باألمس أعلنت فرنسا حماية الكاثوليك واملوارنة ،واتجهت
فمن املناسب أن نسعى إىل مناقشة عدد من التساؤالت املحدّدة حول واقع ّ األقليات هنا ،عىل سبيل تشخيص بعض الظواهر واملعالجات
حمايتها للربوتستانت ،وروسيا قامت بحماية األرثوذكس ،قبل أن تدخل الواليات املتحدة عىل ّ خط ّ اللعبة يف منتصف القرن العشرين.
دمنا نتحدث هنا يف إطار التجربة العراقيّة يف التعاطي مع هذا امللف،
املجتمعية والحكومية بهذا الشأن .وعىل ذلك ،فإنّ طرح تساؤالت
عدة يف هذا التوقيت تصبح مشروعة وضروريّة.
النمسا وإيطاليا لحماية مصالح الروم الكاثوليك ،وأعلنت بريطانيا
ولكن ما كان لهذه القوى ال ّدولية أن تستخدم األقليّات كحصان ّ للتدخل يف شؤون املنطقة ،لوال استثمارها يف نقطة ضعف طروادة
61
الملف العربي ،التي كانت دولة قائمة عىل ال ّدولة الوطنيّة يف العالم ّ
مناطق صافية إثنيًّا َتسهُل السيطرة عليها وتمزيقها؛ لذا ،يُع ّد منح
أنموذج هُ ويّة أحاديّ طار ٍد لالختالف والتنوّع .إنّ عدم املساواة
األقليّات حقوقها ،إسرتاتيجية للحفاظ عىل الوحدة الوطنية لدول
منذ االستقالل عن االستعمار ،والتمييز االجتماعي والسيايس
بح ّد ذاته اليوم أنبوبة اختبار لشكل العالم املقبل ،ويف هذا السياق تستخدم الطائفية كإسرتاتيجية تعبئةّ ، واللعب عىل وتر االختالف
وانعدام العدالة االجتماعية بسبب سياسات حكومات املنطقة
املنطقة ،واستقرار الشرق األوسط بشكل عام .يصبح الشرق األوسط
وعىل جميع املستويات ،وعدم توزيع الدّخل بعدالة ،وضعف مستويات املشاركة السياسيّة لألقليّات ،جميعها عوامل ع ّززت الدويل لحماية األقليّات يف املنطقة ،فضلاً ّ التدخل من إمكانية ّ
استثمار يف الهُويّات املتخيّلة ،سيؤدي إىل تفكيك الشرق األوسط إىل
املسلمة خاصة بالتهديد؛ بسبب النظر إليها من خالل منظور
ترتيب العالقة بني األغلبية واألقليّات ،والعالقة بني الدولة والدّين،
عن سيادة ثقافة إلغاء اآلخر ،وإحساس أفراد األقليّات غري قروسطي عن اآلخر الذم ّّي والكافر. ّ
للتدخل األقليات توظيف حماية ّ ّ
في شؤون المنطقة إستراتيجية قديمة وخبيثة ،باألمس أعلنت
62
الديني الغني ال يمكن تدمري تراث الشرق األوسط بتنوّعه ّ ّ واللغويّ دون تهجري األقليّات ،ومن خالل تهجريها ُت َ واإلثني ّ خلق ّ
ني ّ يعي ،ليس سوى ّيني اإلسالمي املسيحي أو املذهبي ّ الش ّ الس ّ الد ّ العربي ،يُعاد األبد ،بعد انهيار أنموذج الدولة الوطنية يف العالم ّ
ومكانة املرأة ،ودور الشريعة ،وحقوق األقليّات ،عىل نحو قد يؤدي إىل انتهاكات جديدة لحقوق اإلنسان يف أعقاب انهيار األنموذج
القديم إلدارة الدولة. ّ ويقول الباحث سعد :إنّ علينا جميعً ا «أن نفكر يف نموذج
جديد لدولة مواطنة يتساوى يف ظله الجميع ويتقبلون االختالف عىل
أنه مصدر غنى .ال يعني دفاعنا عن التعدديّة عدم تشبثنا بالهُويّة
فرنسا حماية الكاثوليك والموارنة،
الجامعة ،أو رفضنا لها ،بل إننا نسوق التنوّع بوصفه فكرة حامية
مصالح الروم الكاثوليك ،وأعلنت
البالد واختالطها ببقية الجماعات ،صمام أمان من تفكك البالد إىل
واتجهت النمسا وإيطاليا لحماية
للهوية الجامعة من التقسيم وانفراط عقدها ،فبقاء األقليّات يف
بريطانيا حمايتها للبروتستانت،
هويّات كربى متصارعة عىل الحيّز املكاين والسلطة والرثوة .يفتح
وروسيا قامت بحماية األرثوذكس
الدفاع عن الحقوق الضامنة للتنوع واالختالف فرصة لتجاوز الشعور باالستضعاف ً وفقا ملنطق العدد واملقياس الكمّي األعمى ،فرتسيخ
سياسات تعزز عدم قبول اآلخر وحل النزاعات بجامعة دهوك ّأنه ً ّ وفقا السالم ويف تناول غري بعيد ،يرى الباحث خضر دوميل عضو مركز دراسات ّ ٍ للواقع ومعطياته «فإنّ عامل تهميش األقليّات ي ّ ُعد دائمً ا عنصرًا لحدوث النزاعات ،ولكن الحروب التي تشهدها املنطقة
اآلن ليست أسبابها األقليّات ،فأسباب الحروب الحالية تندرج ضمن عدم وجود العدالة االجتماعية ،وتشريعات تضمن حقوق املواطنني واملشاركة الفاعلة يف القرار السيايس ،وتلحق بها سياسات تع ّزز عدم قبول اآلخر املختلف ،ومصادرة حقوق وح ّريّات الناس ،وفرض األفكار والرؤى الدينيّة عليهم رُغمً ا عن إرادتهم .كما أنّ أحد األسباب الرئيسة للحروب
الحالية هي شكل األنظمة الحاكمة وعدم إيمانها بالتعدديّة ،وعدم وجود رؤية لديها يف تعزيز التنوع ،بل استخدام
التنوع كعامل خوف للغالبية بأن اإلقرار بحقوق -لألقليّات -سيقلل من مكانة الدولة والحكومة التي توظف الطابع الديني ملزيد من استغالل السلطة.
إن عدم إيمان األنظمة يف الشرق األوسط بحقوق اآلخرين – األقليّة ،يف العيش بكرامة ،ي ّ ُعد ،يف رأي دوميل ،سببًا
رئيسا ملا يحصل اليوم من انتهاكات وتجاوزات واعتداءات عىل األقليّات« ،وصلت إىل جرائم اإلبادة الجماعية كما حصل ً من تنظيم داعش ضد اإليزيدية يف سنجار أغسطس عام 2014م من جرائم سبي النساء والقتل الجماعي وتدمري البنية التحتية وتدمري الهُوية الحضارية والدينية والرتاثية ،وهو ما حصل للمسيحيني ً أيضا يف املوصل وسهل نينوى والكاكائية
رئيسا السلطة تصادر حقوقهم أو ال تدافع عنهم ،يكون سببًا ً أو الشبَك والرتكمان الشيعة .لذلك فإن شعور األقليّات بأن ّ ً ووفقا للمتابعات املستمرة ليك يهجروا البلد؛ ألنهم يشعرون بأن القانون ال يطبّق لصالحهم ،وأبرز دليل عىل ذلك مثلاً ،
العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
عائلة إيزيدية في أحد مخيمات اللجوء
التمييز اإليجابي يجعل من األقليات تتص ّرف كأغلبية؛ أي بشعور
مواطنة كامل ،وهو ما يشيع أجوا ًء إيجابية ونفسية تدفع للتمسك
بالهوية الوطنية ،وبالكيان األوسع». ّ القومي يخص تجربة بلد ثريّ بتنوّعه ويضيف قائلاً « :فيما ّ ّيني ّ واللغويّ مثل العراق ،فإن تقسيم املنطقة عىل أساس والد ّ الجغرافيا اإلثنوطائفية سيكون الخاسر األكرب فيه األقليات
الصغرى؛ مثل املسيحيني ،واملندائيني ،واإليزيديني ،والشبك، والكاكائيني ...وغريهم ،ويؤسس ملناطق بيوريتانية الهُويّة ،ومثليّة
شيعي ،يستبعد األقليات الثقافة؛ كيان كرديّ ،وكيان سُ ّني ،وكيان ّ الصغرى ،أو يذوّب هوياتها .يؤسس االنتقال إىل ديمقراطية
مستق ّرة يف العراق ،ودول املنطقة عىل االعرتاف بأهمّية التعددية والتفكري بمعاين وإيجابيات التنوع الثقايف لخلق دولة تعرتف بحقوق
مكوناتها ،وحق مختلف الثقافات يف حفظ هويتها وتراثها وتميّزها ً حقوقا محميّة عىل صعيد االتفاقيات عن ثقافة األغلبية بوصفها الدولية والدساتري الوطنية ،وهو ما يمكن أن نطلق عليه تسمية
أنموذج دولة مواطنة حاضنة للتنوّع الثقايف».
أنه يف السنوات العشر 2014 – 2005م رغم حصول عشرات االنتهاكات واالستهداف املستمر لألقليات يف وسط العراق وجنوبه ،فإنه لم ُتحرَّك أيّة دعوى قضائية ضد امل ّتهمني ،حتى إنّ بعض الذين ارتكبوا تلك الجرائم كانوا معروفني للضحايا».
ويوضح خضر دوميل أنّ ربط موضوع األقليّات بالسيطرة الغربية عىل املنطقة «ديدن
األنظمة الفاشلة يف سبيل تأجيج األوضاع وزرع الفتنة حتى تبقى ملدة أطول يف الحكم. ولذلك فإنّ التحرّك الغربي واضح دائمً ا يف دعم األقليات يف مواقع سكنها .ولكن يف حال
عدم استعداد األنظمة والسلطات لتحقيق هذا التوجّ ه ،يتحول نمط الصراع إىل فرض اإلرادة عىل أنظمة الحكم وقد تتحول إىل فرض نظم سياسة جديدة من خالل نظام فرض
الحماية الدولية لحماية األقليّات ،وال يُستبعد أن يتحقق هذا األمر يف العراق بالنسبة
خضر دوملي
للمسيحيني واإليزيدية» .وحول فرصة املشاركة السياسية لألقليات يف العراق ،يشري دوميل إىل أنها لو استمرت مشاركة شكلية
والسماح ألن تكون األقليّات شركاء السلطات مطالبة «بتغيري هذا النهج، ّ فإنها ال تحقق كثريًا من الضمانة لبقائهم .لذلك فإنّ ّ لاً ً فعليني يف إدارة الحكم والرتبية والتوجيه للمجتمع؛ والقبول بهذا األمر سيكون عام مساعدا ملزيد من االستقرار يف املجتمع».
ويف الرؤية الخاتمة فإن األفق الحايل ملوضوع األقليات ضمن املشهد الحايل ينذر بأنّ «بقاءهم كأقليات حقوقهم ليست
ضامنة بالشكل أو باملستوى الالئق سيستمر مدة أطول .وعىل ما تقدم ..فإن تفكري السلطة ،يف أنّ التعامل بهذه ّ الصورة مع األقليّات سيجدي نفعً ا ،أم ٌر خاطئ .فدون ضمانة حقوق األقليات وتعزيز تلك الحقوق ومكانتها يف املجتمع لن تشهد املنطقة االستقرار ،ولن تتوقف النزاعات».
63
الملف
األقليات في األردن: يحرسون الملك ومنهم رؤساء حكومات ووزراء وفنانون ورواد في األدب ّ 64
الملكة رانيا مع الحرس الملكي األردني في الزي الشركسي
العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
جعفر العقيلي
َع َّمان
تبدو األقليات في األردن مختلفة عنها في أنحاء من الوطن العربي ،فكثير ممن ينتمون إلى ً عميقا وجذر ًّيا في مختلف مؤسسات الدولة ،من دون أن يثير أحد هؤالء أي األقليات كان إسهامهم أسئلة من أي نوع .إذ إن من المعروف أن رشيد طليع هو أول رئيس للوزراء في إمارة شرقي األردن (1921م) ،لكنّ ّ قل ًة من األردنيين يعرفون أنه درزيّ ،فمثل هذه المعلومة قد تبدو ثانوية ،وخارج األصل) عروبيًّا وذا نزعة وطنية واستقاللية. لبناني اهتمام الناس ما دام الرجل (وهو ُّ ِ عندما تولىّ سعيد املفتي رئاسة الحكومة عام 1952م ،لم يلتفت
وانصب أحد إىل كونه شركسيًّا ينتمي إىل عائل ٍة مهاجرة من روسيا، ّ رجل دولة نجح يف نيل موافقة مجلس الرتكيز بدلاً من ذلك عىل ِ األمة باإلجماع عىل وحدة الضفتني ،ولم يكن مستغ َربًا إسناد هذا
املنصب له ثالث مرات أخرى من دون أن يؤثر هذا يف تقديمه بوصفه زعي ًما للشركس .أما سعد جمعة الذي تولىّ رئاسة الحكومة عام
1967م مرتني ،وذلك يف مرحلة عصيبة شهدت اضطرابات متتالية
سعيد مفتي
سعد جمعة
أصل يف تاريخ األردن املعاصر ،فكان الكثريون ال يعرفون أنه من ٍ وحسبُهم أنه أول رئيس وزراء يحصل عىل الثقة باإلجماع كرديّ ، ْ
من دون أن يواجهوا مشكالت الهوية املر ّكبة ،أو تعدّد الوالءات،
العرق ،أو القومية ،أو الدين ،هي التي جعلت تعبريًا مثل األقلية،
املشهد ،وبما يحقق املثاقفة مع بقية املكونات.
من مجلس النواب.
هذه النظرة التي ال تف ّرق بني مواطن وآخر بسبب املذهب ،أو
وصفي يشري إىل العدد ونسبته ،وال تعبري يبدو إىل ح ّد كبري محض ٍّ ٍ
عالقة له بالحقوق أو الواجبات من قريب أو بعيد ،فاألردنيون أمام القانون سواءٌ .ويق َّدر عدد سكان األردن بنحو ثمانية ماليني نسمة،
أو ازدواجيتها ،وتشارك فِرقهم الفولكلورية يف املهرجانات الثقافية إطار من الخصوصية التي ُتغني والفنية ،لتعبرّ عن موروثهم يف ٍ
فنانون وشخصيات اعتبارية
معظمهم من العرب املنحدرين من قبائل هاجرت إىل املنطقة عىل
دمج املكونات املختلفة ،وصهرها لتصل إىل هذا الوعي بأهمية ِ الدرجة الكافية من االتفاق مع محيطها املتنوع ،بدأ مبك ًرا ،ويكفي ً ً محاطا بالحرس الخاص للقصور صورة ألحد ملوك األردن أن تتأمل
التاسع عشر ،وهناك الشيشان الذين يشكلون مجموعة أصغر مقارنة
الحرس من الشركس ،بالنظر إىل ما ُعرف عن هؤالء من والءٍ ،وما
مر السنني ،إضافة إىل ذلك ،هناك الشركس الذين هم من أحفاد الالجئني املسلمني من جراء الغزو القيصري الرويس للقوقاز يف القرن
بالشركس .وثمة أعداد قليلة من األكراد والدروز واألرمن والبهائيني.
دول التهمتها نريانُ النزاعات والحروب األهلية، عند الحديث عن ٍ حالة متقدمةً ً يشار إىل األردن الذي يشهد تنو ًعا عرقيًّا ودينيًّا ،بوصفه
يف تجانس الرتكيبة االجتماعية ،وصهر الفوارق يف مكوّناتها ،دون
مس بحرية العقيدة الدينية ،أو حرية تكوين الجمعيات ،أو حرية ٍّ التعليم أو الحق بالعمل .فأبناء ّ األقليات ،يتحركون يف الفضاء العام
أبناء األقلّيات ،يتحركون في الفضاء العام من دون أن يواجهوا مشكالت تعدد الوالءات أو الهوية المر ّكبة أو ّ ازدواجيتها
امللكية لتتأكد من هذا .فقد جرت العادة أن يُختار معظم أفراد هذا
يتمتعون به من أمانة ،بل إن الزيّ الخاص بالحرس املليك هو زيّ فولكلوريّ شركيس! واش ُتهر أفراد يف العائلة املالكة بعالقتهم الوثيقة
بالشركس ،وبخاصة األمري عيل الذي ما زال الناس يتداولون مقطعَ فيديو يَظهر فيه وهو يشارك الشركس إحدى رقصاتهم الفولكلورية.
ويسهل عىل املرء استذكار عشرات الشخصيات االعتبارية
من الشركس ،مثل :الفنان املسرحي الرائد أشرف أباظة ،وشكيب الداغستاين الذي كان من أوائل ا ّ ملعلمني يف مدرسة السلط الثانوية، والكاتبة زهرة عمر صاحبة الرواية الشهرية «الخروج من سوسروقة»، واألكاديمية النا مامكغ التي ّ تولت وزارة الثقافة ،وإحسان شقم الذي عمل مدي ًرا عامًّا لإلذاعة والتلفزيون ،والشاعر فيصل قات ،والكاتب الصحفي املعروف باتر وردم ،والروايئ واملخرج السينمايئ العاملي
محيي الدين قندور ،والروايئ محمد عمر أزوقة ،ونانيس باكري التي ّ تولت وزارة الثقافة ومنصب األمني العام املساعد لجامعة الدول
65
الملف
محيي الدين قندور
محمد عمر أزوقة
العربية ،وعلياء حاتوغ التي تولت وزاريت السياحة والبيئة،
باحتالل والية قوصوة ،حيث استقر قسم منهم يف فلسطني وبعد
وللبلقان حضو ٌر رمزيٌّ بني األقليات يف األردن كما يقول
بكنية تميّزهم هي األرناؤوط .وقد برزت منهم شخصيات معروفة
ونبيه شقم وزير الثقافة الحايل.
الدكتور محمد األرناؤوط ،أستاذ التاريخ يف جامعة العلوم
اإلسالمية العاملية بعمّان ،فهناك جزء من الشركس استقروا
يف والية قوصوة (جنوب صربيا وجمهورية كوسوفو الحالية) وبنوا نحو خمسني قرية جديدة بعد هجرتهم من موطنهم
األصيل ،ولكن مع اندالع الحرب الروسية العثمانية (1877م) وقيام القوات الصربية بتجريف املنطقة هاجروا من جديد إىل آسيا الصغرى وبالد الشام ،واستقر بعضهم يف شرق األردن
حيث ُعرفوا باسم شراكسة قوصوة ،وكان من أبرزهم اللواء
66
نانسي باكير
النا مامكغ
مريزا وصفي الذي أصبح قائدًا لسالح الفرسان يف إمارة شرق األردن .وعندما قامت النمسا باحتالل البوسنة سنة 1878م
هاجر مئات األلوف من املسلمني إىل داخل الدولة العثمانية التي و ّزعتهم عىل والياتها ،فقدم بعضهم إىل فلسطني وأصبح بعد عام 1948م جزءًا من األردن ،حيث تميَّز بكنية «بشناق»
التي تدل عىل موطنه األصيل .وقد أعاد بعض هؤالء تواصله مع املوطن األصيل بعد استقالل البوسنة .ومن أبناء البشناق
الذين ُعرفوا يف مجاالت الثقافة واإلدارة عبدالرحمن بشناق
(1999-1913م) عضو مجمع اللغة العربية األردين ،واملدير العام
السابق ملؤسسة عبدالحميد شومان.
وإىل جانب هؤالء املئات من البشناق ،يلفت األرناؤوط إىل أقلية صغرية ً أيضا ُتع ّد باملئات من األلبان الذين هاجروا من
موطنهم بعد حرب البلقان (1913/1912م) وبعد قيام صربيا
عام 1948م أصبحوا جزءًا من األردن .وأسوة بالبشناق ُعرف هؤالء يف اإلدارة والطب والتعليم ،مثل نوري شفيق وزير الرتبية األسبق، ّ السكري محمد األرناؤوط. والطبيب املعروف املختص بالغدد وأمراض
أما الشيشان فقد هاجروا لألردن من غروزين ـ القوقاز يف أواخر
القرن التاسع عشر .ويُعزى إليهم بناء مدينة الزرقاء يف التاريخ املعاصر ،ويبلغ عددهم نحو عشرة آالف نسمة .وقد اندمجوا يف
املجتمع والتزموا بمنظومة التقاليد العربية واإلسالمية مع حفاظهم يتمسكون عىل لغتهم األم «ناخ» أو «ناخ داغستان» ،وما زالوا ّ
بعاداتهم وتقاليدهم التي تعكس هويتهم وشخصيتهم واعتزازهم بقوميتهم ،مثل تقليد خطف العروس برضاها وضد إرادة أسرتها، وهو التقليد الذي يمارسونه إىل اليوم تمثيلاً ،بوصفه تعبريًا عن
الفروسية والرجولة والشجاعة.
ومن أبرز الشخصيات الشيشانية يف األردن :بهاء الدين الشيشاين، س بلدية وهو أول رئيس لبلدية الزرقاء (1928م) ،وقاسم بوالد الذي رَأَ َ الزرقاء ً أيضا ،وان ُتخب عضوًا يف الربملان ،وسعيد بينو الذي ُعني وزي ًرا
لألشغال العامة وأصدر كتابًا مرجعيًّا عن الشيشان ،ومحمد بشري إسماعيل الشيشاين الذي ُعني وزي ًرا للزراعة وأمي ًنا للعاصمة ،وسميح بينو الذي تولىّ منصبًا وزاريًّا ،وان ُتخب يف مجلس النواب ،واختري يف مجلس امللك (األعيان) وكان أول مدير لهيئة مكافحة الفساد. زهد يف املشاركة السياسية
وبما يخص البهائيني ،فقد استق ّروا يف األردن منذ أواخر القرن
التاسع عشر (1890م) ،بعدما ف ّروا من االضطهاد اإليراين القاجاري، وعىل الرغم من أن الغالبية العظمى منهم تنتمي إىل أصول إيرانية،
نيران دول التهمتها عند الحديث عن ٍ ُ النزاعات والحروب األهلية ،يشار
فإنها ال تعبرّ عن ثقافة فرعية خاصة بها ،وال تع ّد نفسها مجموعة
تنوعا عرق ًّيا إلى األردن الذي يشهد ً
فولكلوري يميزها من سواها.
تجانس التركيبة االجتماعية وصهر
بنحو 1000شخص ،وقد خصصت بلدية إربد يف الخمسينيات من
ودين ًّيا ،بوصفه حالةً متقدمةً في مكوناتها الفوارق في ّ
إثنية ،بل جزءًا من نسيج املجتمع األردين ،حتى إنه ليس لها زيّ
ويق ّدر عدد البهائيني الذين يتوزعون يف جميع أنحاء البالد،
القرن املايض ،جزءًا من املقربة اإلسالمية لهم ،وكانوا قد بنوا يف ذلك
ً ومكانا لالجتماع والعبادة يف العدسية يسمّونه حظرية الوقت مدرسة
العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
القدس ،قبل أن يشيدوا بنا ًء مماثلاً يف عمّان ،ثم بنا ًء ً ثالثا يف إربد يف مطلع الثمانينيات .ولهم كذلك مقابر يف منطقتي طرببور (عمّان)
والعدسية (األغوار) ،وهو ما يشري إىل اعرتاف واضح بهذه الطائفة، وبحريتها يف التعبري عن معتقدها.
من دمشق بعد انتهاء الحكم الفيصيل؛ فؤاد سليم الذي شغل
منصب رئيس هيئة أركان الجيش ،واألمري عادل أرسالن الذي ُعني ً مؤرخا وأديبًا رئيسا للديوان األمريي ،وعجّ اج نويهض الذي كان ً لىّ ومرتجمًا تو إدارة اإلذاعة العربية يف القدس يف أثناء الحرب
ً ووفقا للباحثة واألكاديمية نسرين أخرتخاوري ،فإن البهائيني
العاملية الثانية ،ثم إدارة املطبوعات والنشر باألردن ،والذي نال
وينصب اهتمامهم عىل تحفيز الشباب وقضايا املجتمع املدين، ّ
الدروز بوصفها جماعة يف األردن بدأ يف عام 1918م عندما وصلت
يزهدون يف املشاركة السياسية ،لكنهم فاعلون يف الشؤون العامة والناشئة عىل االنخراط يف خدمة مجتمعاتهم املحلية.
كتابه «بروتوكوالت حكماء صهيون» شهرة كبرية .وكان استقرار 22عائلة درزية من جبل العرب بعد خروج األتراك من املنطقة،
ويرت ّكز وجود البهائيني يف منطقة العدسية ،ويعود لهم الفضل
وسكنت القص َر األموي يف واحة األزرق ،قبل أن يتوجه أبناؤها
آليات وطرق زراعية حديثة ،إىل جانب إدخالهم عددًا من املحصوالت
وكان استخراج ملح الطعام وتكريره من أهم مصادر دخلهم،
يف تطويرها عرب استصالح مساحات واسعة من األرايض ،واستخدام
التي لم تكن معروفة يف املنطقة ،مثل املوز والحمضيات والباذنجان الذي يسمى العجمي نسبة إليهم.
لتشييد مساكنهم حول القصر.
وقد نشطوا يف تأسيس الجمعيات الخريية والتعاونية والنوادي
الثقافية والرياضية ،ومن أبرزها منتدى األزرق الثقايف الذي ينظم
وبرز من بني معلمي مدرسة السلط الثانوية «أم املدارس يف
مهرجان األزرق للثقافة والفنون سنويًّا يف قلعة األزرق األثرية .أما
املدرسية ،وكان عىل عالقة طيبة بامللك عبدالله األول .كما أن محمود
باملسيحية ،وينتمي معظمهم إىل كنيسة األرمن األرثوذكس ،كما
األردن» حسني روحي ،وعيل روحي الذي أسهم يف تطوير املناهج سيف الدين اإليراين ،رائد القصة القصرية يف فلسطني واألردن
«صدرت مجموعته األدبية األوىل أوّل الشوط سنة 1937م» كان بهائيًّا .ومن الشخصيات البهائية املشهورة ً أيضا د .نسرين أخرتخاوري
التي تقيم اآلن يف الواليات املتحدة األمريكية ،حيث تعمل يف إحدى الجامعات هناك وتتوىل التعريف باألدب العربي عرب استضافة ك ّتاب عرب وترجمة أعمالهم.
بروتوكوالت حكماء صهيون
وفيما يتصل بالدروز (بنو معروف) ،فمن أهم رجاالتهم الذين
كانوا أعضاء يف حزب االستقالل والذين وفدوا إىل األردن قادمني
األرمن فيبلغ عددهم يف األردن نحو ثالثة آالف نسمة ،وهم يدينون حي يحافظون عىل لغتهم األم ،إىل جانب تحدثهم بالعربية .ولهم ٌّ باسمهم يف جبل األشرفيّة بالعاصمة. يف ضوء ما سبق ،يمكن القول :إن الثقافة العربية واإلسالمية
ال تزال هي السائدة واملسيطرة ،وهي التي تمنح املجتمع األردين
الصبغة الغالبة يف تقديم نفسه للعالم بالرغم من التنوع الغريب
والعشوايئ يف تشكيلته ،وبموازاة ذلك ،ال ترتدد األقليات يف التعبري عن نفسها يف مناسباتها املختلفة ،من خالل التمسك
بالزي الفولكلوري ،وممارسة طقوسها املتوارثة يف األفراح واألتراح، واستخدام لغاتها القومية يف التواصل بني أفرادها ،وإحياء عاداتها
وتقاليدها يف مهرجاناتها الفنية والثقافية.
67
الملف
النوبة في أعمال إدريس علي:
العنصرية والعنصرية المضادة
68
العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
أحمد أبو خنيجر
كاتب مصري
في أواخر الثمانينيات من القرن المنصرم ظهرت مجموعة من التجليات اإلبداعية ،ذات الصوت المميز والمختلف عما هو سائد في حقل السرد المصري والعربي آنذاك ،جاعلة من النوبة في جنوب مصر فضاءها السردي والتعبيري، منشغلة بهموم النوبة وأحالمها ،وأزمة الهوية التي تمثل العصب الرئيس في ذلك ً بعيدا عن االهتمام من العاصمة المركزية المجتمع المنعزل ،والقابع في الجنوب القاهرة ،فجاءت كتابات :إبراهيم فهمي ،ويحيى مختار ،وإدريس علي ،وحسن نور ،وحجاج حسن أدول ،متابعة لما كان استهله محمد خليل قاسم في روايته الرائدة في تاريخ السرد العربي :الشمندورة .التي نشرت في عام 1968م. إذ بدت الرواية «الشمندورة» صرخة مبكرة ملا حاق بأهل النوبة
من غرق وتهجري وترك للوطن عقب تعلية الخزان الثانية يف عام 1932م .ربما كانت تداعيات ذلك التهجري القسري الذي طال بعض
القرى النوبية يف ذلك الزمن البعيد مستمدة من حالة التهجري
الثانية مع بناء السد العايل جنوب مدينة أسوان يف عام 1964م .التي عاصرها وعايشها الكاتب ،التي ستطول كل القرى النوبية؛ لكن
كتابنا الجدد ربما كان بعضهم بدايات شبابه يف زمن التهجري الثاين،
وهو ما جعل توجهات الكتابة مختلفة ،وإن لم تبتعد كثيرً ا من الهم العام ألهايل النوبة. أقلية عرقية
تمثل النوبة أقلية عرقية وثقافية داخل املجتمع املصري ،وذلك
من حيث منظومة القيم التي تتبناها الجماعة النوبية ،ويبدو ذلك واضحً ا وجليًّا يف املالمح والسمات للشخصية النوبية من حيث اللون
وامتالك لغة خاصة ،هي اللغة النوبية ،وغري ذلك من املحددات؛ فجاءت واقعة التهجري ،وغرق أرايض النوبة عند بناء السد العايل
كنكبة حاقت باملجتمع النوبي ،لتصري تلك الواقعة هي النقطة
املركزية التي تتمحور حولها أغلب الكتابات األدبية التي أنتجها أبناء ً سابقا ،فواقعة الغرق وحلم العودة لذلك النوبة الذين أشرنا إليهم الفردوس املفقود ،كما يراه أبناء النوبة ،والحنني للبالد البعيدة
الضائعة تحت مياه بحرية السد العايل ستكون أكرث النغمات ترددًا داخل لحن الكتابة النوبية ،يف محاولة جادة منها للتمسك بالهوية
النوبية ،ومقاومة االندثار والذوبان داخل املجتمع املصري ،وهو ما
دفع بعضهم التهامات تصل للعنصرية ومرتادفاتها املتعددة .وعىل رغم وجاهة القضية وجدارتها بالعرض والتحليل ،وهو ما فعله ً موقفا مغاي ًرا من أغلب الكتاب النوبيني ،إال أن إدريس عيل وقف
كل الكتابات التي اتخذت من النوبة مسرحً ا لها ،إذ بدت عينه تنظر إىل بنية هذا املجتمع املغلق ،وترى معوقاته الداخلية ،قبل أن يصب
69
الملف
جماعة مختلفة ،فقط بسبب ظروف خاصة مرت بتجربة مختلفة،
اللوم عىل الخارج الشمال ،وهو ما جلب له كثريًا من املصاعب واملتاعب ،كما أنه هو السبب نفسه الذي جلب له الشهرة
والذيوع ،وترجمة أعماله األدبية ،ونيل الجوائز املرموقة عنها.
بدأ إدريس كتاباته القصصية بعيدًا من حقل النوبة
قبل أن يتحول كلية للكتابة عنها ،فكانت :املبعدون ،وواحد
ضد الجميع .تأمل العنوان ،لتدرك ما هو
لكن حول االدعاءات العرقية والعصبية ،فهو ضدها عىل طول الخط. اللعب فوق جبال النوبة
يف رواية «اللعب فوق جبال النوبة» يعكس إدريس عيل اللعبة
الروائية ،فغادة الشابة املولدة من أب نوبي وأم قاهرية يرسلها والدها إىل الجنوب ،قريته النوبية القابعة يف حضن الجبل متسربلة بعاداتها وتقاليدها القديمة ،تلك القرية الهاجعة التي ال يحرك ركودها سوى مركب البوسطة كل أسبوعني،
قادم من أعمال ،وما سيكون بمنزلة النغمة
تصل غادة للقرية مبعدة من القاهرة ذات األفق
املحورية التي تقود اللحن ،فقط تنويعات هنا
املفتوح والحياة السريعة وشديدة التبدل ،يرسلها
وهناك ،بشكل مختلف تأخذ قالبها لتصري عملاً جديدًا؛ إن فكرة اإلبعاد والتهميش
والدها كعقاب لها عىل حبها أحد شباب الحارة التي
تقطنها أسرة ذلك النوبي الذي هاجر للشمال يف حياته الباكرة ً بحثا عن الرزق ولقمة العيش ،وهناك
داخل نسق الحياة ،ألي سبب ،وجعلك هامشيًّا وغري مرغوب فيك يف أغلب األوقات،
هو أن تقف وحدك ،مع روحك وذاتك ،ضد
العوامل التي تعمل عىل إبعاد اإلنسان وتهميشه ،بدءًا من األفكار العنصرية األوىل للقبيلة والجماعة ،واألفكار الطبقية بكل تجلياتها ،والنفي املتعمد داخل الوطن وخارجه ،ضد
القيم السلبية التي يجري التكريس لها ،وجعل قانونها هو
70
السائد ،بكلمات أقل :أن تقف بعيدًا ،خارج الصف ،والسطر والطابور ،فأنت تحديدًا مبعد ضد الجميع يف الوقت نفسه.
استهل إدريس عيل رواياته النوبية بالرواية الفاتنة
إدريس علي تزوج من أم غادة ،لكنه كنوبي أصيل سريفض أن تتزوج ابنته من رجل ليس نوبيًّا ،فالنوبية ال تتزوج إال من نوبي،
هكذا العادات ،أما الرجل فيحق له أن يتزوج من غري النوبيات، ً مجحفا وتميي ًزا ضدها ،مجربة تبعد وهو ما تراه غادة ،ابنة املدينة، للجنوب ،لتقلب سكون القرية البعيدة واملنسية واملهملة رأسً ا عىل
عقب ،وهو ما سوف يستفز حراس الجمود والتقاليد البالية ،والويل
كل الويل ملن يحاول أن يغري من تلك العادات أو يخرتقها ،ستكون حياته هي ثمن جرأته هذه ،كما حدث مع غادة.
وإذا كان مربرًا بعض اليشء قبول تلك العنصرية التي يكاد يكون
«دنقلة» يف عام 1994م ،وبقدر ما ج ّرت عليه هذه الرواية من مشكالت وتهديدات عصبية بالقتل ،لكنها ً أيضا جاءت
مفهوم مربراتها والتي يعاين منها املجتمع النوبي،
من التعويض النفيس واملعنوي ،فآخر ما كان
عيل يضرب بعيدًا حيث العنصرية جزء أصيل من
بالشهرة والجوائز والرتجمة ،وهو ما بدا نو ًعا
ونظرة الناس له وطريقة التعامل معه ،لكن إدريس كيان اإلنسان أيما كان لونه أو دينه ووعيه وثقافته؛
يبتغيه إدريس عيل هو الفضائحية ،لكنه كان
فاملجتمع الذي يعاين العنصرية الخارجية ،هو يف
يشري إىل مواطن الخلل ،ويحث عىل التبصر
حقيقة األمر أشد عنصرية ،فنظرة القرية لغادة
باألخطاء العنصرية لدى الجماعة ،التي تتصور
الجميلة هي يف نظرهم «نصف بغلة» ،ذلك أن أمها
أنها نقية وخالية من العيوب ،حتى إن وجدت
غري نوبية ،ومن ثم وحسب هذا التصنيف تصبح أقل
هذه العيوب الراسخة يف الطبيعة اإلنسانية،
درجة منهم ،وال يحق لها أن تتمتع بجميع الحقوق
فيجب عليه -هكذا تتصور القبيلة والجماعة –
التي يتمتع بها غريها ،يف الوقت نفسه ال يمكنها أن
أن يقوم بسرتها ،وعدم التعرض لها ،وهو ما
كان يراه نو ًعا من الهشاشة وعدم الفهم وقبول
تتزوج بعيدًا من الحقل النوبي ،وبطبيعة الحال ال
النقد الذايت ،بل اإلصرار عىل بقاء حالة النقاء املزعومة ،وعدم
يمكنها أن تمارس الحرية التي كانت تمارسها يف املدينة ،حقها يف
األخطاء عقب التعرف واإلقرار بوجودها وعدم التنكر لها؛ ذلك ما سوف يكمله ً أيضا يف متتالياته النوبية :النوبي ،واللعب فوق جبال النوبة ،وتحت خط الفقر .يف كل مرة يرفع الغطاء قليلاً
لو جهرت برأيها أو فعلها كما كانت تفعل ذلك يف املكان الذي قدمت صاغ بها عالم الرواية من خالل عني الصبي الذي كأنه الكاتب يف زمن
تخص الجماعة ،وهو ما ال يرضاه إدريس عيل ،فهو ال يرى أنها
السد بعد مدة من الزمن.
االعرتاف حتى لو بني الجماعة أنفسهم ،بأنه يمكن معالجة
عما هو مسكوت عنه ومتواطأ عليه ،وجعله من األسرار التي
االختيار واالنتقاء للشخص الذي سيتزوج بها ،األدهى من كل هذا منه؛ يحسب إلدريس عيل تلك اللغة البسيطة الدالة واملوحية التي بعيد يف تلك القرية البعيدة واملهملة ،وسوف تغرقها مياه بحرية
العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
71
نصوص
مختارات من قصائد
التانكا اليابانية الحديثة ترجمة :عاشور الطويبي
شاعر ومترجم ليبي
قصيدة التانكا ،شكل من أشكال القصيدة اليابانية القصيرة ،ظهرت منذ القرن الثامن ً مقطعا صوتيًّا يابانيًّا: الميالدي .قصيدة التانكا ،تتكون من 31 لاً 5-7-5-7-7من اليسار إلى اليمين .وقد تزيد أو تنقص قلي .وعادة ما يكون في منتصف التانكا (بين 5-7-5و )7-7كسر أو قطع بين الجزء العلوي والجزء السفلي سواء كان ذلك في المعنى أو اإليقاع أو االثنين ً معا .وفي العقود الثالثة األخيرة حازت قصيدة التانكا على شهرة كبيرة في كثير من اللغات. هذه القصائد ترجمت عن اإلنجليزية. ّ تيكان يوسانو 1935-1873م كأنك
برشاقةِ ُ السديم يحيط بك ٌ حركة
ميوكو غوتو 1978-1898م
تنتقدين عالقتي العاطفية؟
سيمفونية تخط ُر على بالي
ُ وجه ِطفلي األزهار،
يوشيكو ميكاجيما 1927-1886م
كونيو تاكاياسو 1984-1913م
شديد البرودة ،يمكنني
تسألين القرمزيّ
72
يوشيمي كوندو 2006-1913م
ّ في ويحد ُق َّ المضي أكثر ال أقد ُر على ّ
لماذا أنت قرمزيّ ؟ يا للغباء ،كيف
يوم واحدٍ في ٍ ّ أت ُ حد مع طفلتي أُصلحُ الطيّات المفتوحة لكيمونها
وهي ترتديه
ساموي ميكاوا 1990-1903م
ُ أذهب في رحلة
بيْد ّ باق أن األلم ٍ يا جبالُ ُ حقول وأنتم جميعكم يا ً بعيدا! تالشوا! امضوا
أكيكو يوسانو 1942-1878م ُ النجوم
ليل الشتاء أنت في ِ ال أقول نجمة واحدة فقط ّ كلها أنت
ٌ باذخة من
ال ّ بد ّ أن
الطفل ٌ نائم بجانب أمه فوق الحقول
القم ُر أزرق ٌ عائد أنا إلى البيت
فوميكو ناكاجو 1954-1922م تلك الهضاب ُت ُ شبه تزيي المفقودين في الشتاء ستكون مبرقشةً باألزهار الذابلة
تورو مائيدا 1984-1914م وهو ّ يتلقى
ُ ّ الطفل المقدس، الماء يرتعش
العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
بين
الميت
االحتفاظ بهذه البرودة مدى الحياة
نوبو أونو 1984-1914م طرات بمِ ْم ٍ ٌ نسوة ينتظرن ّ المحطة عند
ٌ في المساء ،ثلجٌ خفيف قد ّ يغل ّ فهن
هيروهيكو أوكانو -1924 كل ّواحدٍ منا ٌ حافظة ً أسى
رأسي يتدلى إلى أسفل ،وعقلي هائم في قطار ّ ٌ الليل
فومي ساييتو 2002-1909م عندما تضاء
من جهة الموت
أكيد الحياة تسطع
حمراء براقة ّ بكل ّ قوتها
سومي كون نو -1952 شهر مايو ذاك
إلى ضوء الشمس األخضر أُس ِق ْط ُ ت،
يوكو ناغاي 2000-1951م
ٌ حياة سقطت
أعواد الخيزران المتشابكة تخشخش
نوريو توكيتا -1946
ّ كل ليلة ،ليلةٍ بعد ليلةٍ
ألف قرعة
ماساكو تسويجي 2006-1920م
ُ رجعت فوق المقطورة، لاً عبر الحقول مبلو بالضباب
على الطاولة
ماتشي تاوارا -1962
ر ّبما ليس الحزن الذي أُ ّ حس به في حُ ّ ب أحدٍ ماّ ،إنما خفيضة
أدحرجُ
ً بيضة في ّ الضوء وألعب
ال تلمسني
هيديوكي كوناكا 2001-1937م
من ّ أمي
ّ حملنا
أنا وزوجتي
ٌ صقيع ،أليس كذلك
أسألك وتجيب ٌ صقيع ،أليس كذلك؟ أنا َد ِف ٌ ئة َ بك
ُ اعتقدت ّ ُ ثلج أني لمست قطعة ٍ
إي تايا 2013-1917م
هل اختارني
شيء منفر ٌد
ثم استيقظت
الحُ ّ ب
الله ألمرض؟
أرى
إي أكيتسو -1950
على شاطئ البحر
ستلدين
هيروشي إشيدا 2011-1930م
كنت لو ِ
أنجبي العالم
في الغابات اليافعة
الخضراء المليئة بالبراعم
هوداي يامازاكي 1985-1914م مرّة واحدة فقط
كانت لي قصة حب حقيقية ُ التوت ُ يعلم
بذلك
شخصين يلعبان
ً وحيدا في حانة
في مساء ربيعي، ساكي أرتشف َ آمل أن يأتي ٌ أحد أريد ً ال ،ال ُ أحدا
كازوكو أوتاكي -1958 أخطو في
صندل أزرق ُ أقف
أشعر بالزهو ّ كأني َخ ُ لقت مجرّة
هيروشي يوشيكاوا -1969 ٌ شخص سوف يموت ّ وهو يفكر بالموت
زهور الباذنجان ّ متفتحة
في سكينة ضوء الشمس
يوكو كاوانو 2010-1946م إنْ ُّ مت اآلن
حان عامي األخير
طيور البوبشير شكل ًّ ُت ّ خطا
في الشمس الغاربة
73
دراسات
74
الصوت ..واألجراس
محمد العلي
على طريق الحداثة وداخل خنادقها العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
علي الدميني
شاعر وكاتب سعودي
«ليست هنالك استقاللية عن شرط الحرية ،ولكن الكتابة المقموعة تخلق لنفسها درو ًبا تحقق بها شرط الحرية ...إن انعدام الحرية ال يوقف الكتابة ...إنه فقط محمد العلي يوقف ازدهارها وتفتحها»
قطيعة وتجاوز
كما انحاز إىل كتابة شعر التفعيلة وفق رؤية إبداعية وفكرية
منذ أن غادر محمد العيل طريق متابعته لدراسة املنهج
متميزة ،تطورت خالل مرحلة قصرية لتتجاوز ما أبدعه
خلع عباءة «رجل الدين» وعمامته ،واختار طريق «طالب املعرفة» ،متخليًا عن مسار «العقل التقليدي» ومنحا ًزا
حسن القريش ،وسعد البواردي ،وغازي القصيبي ،ومحمد
املنصور ،والرميح ،وناصر أبوحيمد ،ومحمد العثيمني
والعقالنية ،وإىل حلم التقدم اإلنساين الذي يتغيا حرية
الحر خيارهم الشعري منذ البدء ،مثل سعد الحميدين،
الديني ،وسلك طريق التعليم املدين -رمزيًّا وثقافيًّا -فقد
إىل فضاء بناء «العقل النقدي» ،وإىل فكر السؤال والنقد
اإلنسان وسعادته ،وذلك من خالل اإلسهام يف إنتاج القيم الحديثة املرتبطة بضرورات العصر ،واالنخراط يف املمارسة الفاعلة لصياغة رؤية مختلفة لحيا ٍة جديدة .وهنا نراه وقد
انتقل منذ مطلع ستينيات القرن املنصرم من ضفة سيادة
سلطة النمط والتقليد واألنساق الرتاثية املهيمنة عىل الفكر
واإلبداع والحياة ،إىل ضفاف تيارات التنوير والتقدم الحضاري يف العالم العربي ،وهي العالمات البارزة للسري عىل الطريق
إىل الحداثة.
شعراء اململكة يف تلك املرحلة وما قبلها ،من العواد إىل
وسواهم ،وما قدمه الشعراء الشباب الذين جعلوا الشعر وأحمد الصالح ،وعيل الدميني ،وغريهم.
وقد غدت قصائده مثل «العيد والخليج ،ال ماء يف املاء،
آ ٍه متى أتغ ّزل ،وغريها» ،كمرتكزات للقصيدة الحداثية يف
اململكة يف أبعادها الجمالية والداللية ،يف عقد السبعينيات من تلك املرحلة.
وباملوقف الحاسم والقاطع نفسه مع الرؤية التقليدية، ّ ً كيانا شخصيًّا مستقلاًّ عىل مستوى البعد الثقايف شكل الواقعي والرمزي ،للمثقف الحر والصادق مع ذاته ،ومع
يف حوار ملحطة ( )LBCاللبنانية مع محمد العيل قال:
قراء كتاباته الصحفية منذ بدأها يف جريدة اليوم حتى
أن النجف مدينة إما أن تدفعك إىل الخمول واالستسالم الذي
ينحني لجني صفقات األرباح بالتكيف مع أدوات أو مغريات التهجني املؤسساتية ،مثلما لم يكتب مجاملاً مؤسسة أو
«إن شهادة السطوع التي حصلت عليها حني تخرجت من ً مضيفا، املعاهد الدينية يف النجف ،قد خلقت مني متمردًا! ليس بعده صحو ،أو تدفعك إىل التمرد»(.)1
هذه اللحظة ،فلم يرضخ لضرورات السري مع القطيع ،أو
ً صديقا أو كاتبًا ،وأخلص فقط لتدوين ما يؤمن مسؤولاً أو
ويف عام 1963م عاد العيل مع عائلته إىل الدمام التي
به تمامً ا ،وضمن أفق رؤيته النقدية ،عىل رغم ضيق الحيز
فيها ،تجاوز العيل محاضرته األوىل التي قدمها يف الرياض
وطيلة عمره املكلل بالعطاء املستمر ،لم يشأ العيل
كانت تنمو كحاضرة للمنطقة الشرقية ،وعرب أربعة أعوام عام 1964م ،باشتغاله عىل تطوير رؤيته وتعميق مرتكزاتها
الفكرية واألدبية واالجتماعية ،وتوّج ذلك بكتابة مقالة أسبوعية يف جريدة اليوم أضحت مع الزمن مضمارًا ومنربًا
لصوته وأجراس حراكه الثقايف ،وقدم خالل عقد السبعينيات عددًا من املحاضرات املهتمة بحقل األدب والفكر االجتماعي،
املتاح للتعبري الثقايف الح ّر يف صحافتنا ،وإكراهاته املستبدة.
جمع قصائده ومقاالته يف كتاب ،ألسباب كثرية ،وقف عليها
الناقد أحمد بوقري حني قال« :أشار عيل الدميني يف كتابه
(أمام مرآة محمد العيل) إىل أسباب متفرقة أو مجتمعة
كالزهد يف األضواء ،أو القناعة الناقصة ألهمية ما كتب، أو السأم الوجودي ...أو لعطالة املناخ الثقايف القادر عىل
75
دراسات
االستقبال والحوار والتحريض ،وقد أزيد عليه وأقول :إنها ربما راجعة إىل الحس السقراطي الفلسفي ،الذي انطوت عليه شخصية محمد
العيل .فهذه الشخصية يف إهابها تهوى طرح األسئلة وال تبحث عن األجوبة اآلنية ،بل
تحث اآلخرين عىل املشاركة الدؤوبة يف البحث
عن املعنى ،وخلق الدالالت والتأويالت .إنها الشخصية السقراطية التي ال تجد نفسها
بني دفتي كتاب ،قدر ما تجدها يف حضورها ّ «املشاء» يف الفيزيقي والصويت والحريك ،وكأنه
غياب فاعل ،ال يتحقق حضوره إال يف األثر الذي يرتكه ويطبع بميسمه أفق التحول ،وصريورة التجدّ د اإلبداعي»(.)2 عتبات املشروع الثقايف
مهمومً ا بسؤال املعنى ..معنى الوجود اإلنساين ،وبدأب ً باحثا عن أفق الحياة التي تنعم متواصل ،يميض العيل
بمثاالت العدالة والكرامة والحرية ،خارج أثقال األساطري
76
والرتاكمات الثقافية وسلطاتها الكثرية ،ليقود خطواته نحو وإبداعا ،تساؤلاً ً ً ونقضا، تشييد معمار مشروع ثقايف ،فك ًرا هدمً ا وبناءً .
وعىل رغم أنه لم يشر يف أي كتابة أو حوار إىل أنه صاحب
مشروع ،وال سيما وهو لم يعمد إىل نشر نتاجاته يف كتب،
إال أننا وقد تجمعت بني أيدينا معظم كتاباته يف مجلدات
عديدة قام بها محبوه ،لن نعدو طريق الصواب حني نقول: إننا أمام عتبات مشروع ثقايف الفت ينهض عىل املقومات
اآلتية :عدة معرفية ،وعني نقدية قارئة للرتاث العربي
والثقافة املعاصرة ،ومنفتحة عىل الحداثة .رؤية جدلية
لتحليل الواقع ،ورؤيا متشوفة آلفاق املستقبل .ملكة ثقافية
قدر كبري من فاعلية الشك املعريف ،وعىل نقدية تنطوي عىل ٍ
الشجاعة الكافية للتعبري عنها ،مثلما تستطيع موضعة ذاتها
بقدر من الحيادية «اإلبستمولوجية» ،حيال اإلشكاليات التي تتناولها.
ويف عجالة يقتضيها مقام هذه املقالة ،سأقف عىل بعض
تجليات مشروعه وفق املحاور اآلتية: أولاً :املنحى اإلبستمولوجي
وهو منحى نقدي يروم الوقوف عىل األسس املعرفية
املكرسة بفعل السلطات املختلفة عرب الزمن ،والحوار مع مرتكزاتها ،إما لتأكيد مصداقيتها ،أو لطرح األسئلة حولها العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
سعد الحميدين
غازي القصيبي
ونقضها ،وهو ما يصب يف موضوعة «نسبية الحقيقة» .ولذا نقف يف كتاباته عىل اهتمام عميق ومستمر بتحديد «املفاهيم»
وتطورها عرب الزمن ،سواء يف مقاالته القصرية أو الطويلة أو
يف محاضراته ،وقد خصص الشاعر أحمد العيل القائم عىل
نشر نتاجه كتابًا ضخمً ا بعنوان «نمو املفاهيم» ،وقف فيه
عىل موضوعات ومفاهيم كثرية منها :الشك واليقني ،مفهوم الرتاث ،نمو املفاهيم ،ما هو التاريخ ،الفرق بني الرؤية
واملوقف ،عن الثقافة ومكوناتها ،املثقف واأليديولوجيا، مفهوم الوطن».
كما نقرأ يف كتابه اآلخر «درس البحر» مقاربات معرفية معمقة ً أيضا عن إشكاالت وظواهر ثقافية واجتماعية قارب فيها كثريًا من االهتمامات مثل« :ما هو املجتمع ،ما هو
املفهوم ،التفكري الحضاري ،كيف نقرأ املايض ،كيف نقرأ
الحاضر ،التخلف ،ثقوب الوعي ،قتل العرب ،العدالة، وسواها من عشرات العناوين املختلفة يف النقد والشعر والفكر واالجتماع».
ولعل هذه الفقرة من كتابه «نمو املفاهيم» تأخذنا بكل
وضوح صوب الجوهر الثقايف املحرك لفاعلية مشاغل العيل وضمريه ،املنبثة يف كل كتاباته وقصائده ،حيث يقول« :إن
أول اشتياقات اإلنسان الروحية هو البحث عن املعنى ...إن
الوصول إىل معنى الوجود اإلنساين وإىل معارفه وتصوراته وقيمه ومواقفه وحاجاته الروحية والبدنية ،هو هدف اإلنسان األول ..ألنه بهذا الوصول إىل بلورة معنى األشياء
يصل إىل االطمئنان الروحي ،ويتخلص من كالم املجهول
والتخبط يف التفسري» . ()3
ثانيًا :منحى النقد الثقايف
تنحو قراءات العيل يف الحقل الثقايف الستخدام مكوناته
املعرفية املتصلة بحقول علوم االجتماع والفلسفة والتاريخ
محمد العلي ،على طريق الحداثة وداخل خنادقها
واألدب ،ملقاربة العديد من الظواهر وأنساقها املضمرة يف
يمشون حتى يف املدرجات كالطواويس».
النقدية لألدب عىل التشكيل الجمايل للنص ،وعىل دالالته كقيمة ومحرك اجتماعي ،مثلما يشري ً أيضا إىل جماليات
إنها عارية تمامً ا من األقنعة والرموز وضباب املايض».
مكونات الثقافة والواقع االجتماعي ،كما يقف يف مقارباته
الثقافة الشفوية وتمثالتها يف الشعر واملثل والنكتة واللعب والضحك.
«إنها لغة ال يمكنك فيها أن تكذب مثل لغة األفكار..« -إنك (وهذا هو الجوهر) تستطيع التعبري فيها عن
نفسك ،أما لغة األفكار فهناك سيوف صقيلة تمنعك من هذا الحق البسيط يف التعبري عن النفس» . ()5
ولذا نراه يشتغل عىل الثقافة لكونها «كل طريقة للحياة
ب -وضمن هذا املحور ،تحتفي إحدى سلسلة مقاالته
أن «الثقافة تعد مسرحً ا تشتبك فيه قضايا سياسية وعقائدية
كتعبري عفوي وكحاجة نفسية ،وكحكاية دالة يف مدوناتها،
يعيشها الناس» ،وبما قال عنها غراميش وإدوارد سعيد من مختلفة ،وأن كل ثقافة تولد ثقافة مغايرة ومضادة»(.)4
بحالة «الضحك» ،ذاهبًا يف البحث عن جذورها اإلنسانية من الجاحظ إىل هرني برجسون ،ومن املايض إىل لحظة انتظار
وإذا كانت جهوده الكتابية يف محاضراته ومقاالته
شاعر لشاعرة يف مقهى لتقرأ عليه قصيدتها الجديدة ،حيث ً صديقا آخر ثقيل الوزن خصص لها مقعدً ا بجواره ،ولكن
مقاالته التي يمكن أن يغلب عليها طابع التفاعل اليومي مع
ويستمر يف التنقيب عن حاالت «الضحك» ودالالته،
املتسلسلة الطويلة ،قد اعتنت بجوانب فكرية وفلسفية
وأدبية واجتماعية ،فإننا سنكتفي هنا بأن نعرض لبعض األحداث أو اآلراء التي يناقشها كجزء من االنشغال بالنقد
الثقايف:
أ -كتب عن لعبة «البلوت» ،واألسهم ،وذهنية التحريم،
وقارب لعبة كرة القدم يف مباريات كأس العالم يف عام 1996م
يف عدة مقاالت نختصر هنا بعض مرئياتها:
« -بعض األقدام تجاوزت صراع األفكار بني الروح
والجسد ..ألنها متأكدة من أن الروح والجسد يشء واحد..
فالهدف ال يحرزه الجسد وحده وال الروح وحدها ..يحرزه
اإلنسان بال أجزاء» (ولنلحظ التورية الكامنة يف كلمة الهدف). «أحب كرة القدم؛ ألنها ال تحمل أحكامً ا مسبقة، ُّ
والدم يهبط عليه فجأة ويحتل ذلك الكريس!!
باإلشارة إىل ما أورده الفقيه ابن الجوزي يف كتابه أخبار الحمقى واملغفلني ،من قيام معلم بإدخال سورة عىل سورة، وهو ّ ّ يفك يعلم أحد الصبيان الفقراء ،ألن والد الصبي ال الحرف وال يملك مالاً لدفعه للمعلم ،بقوله« :حني سكنت
عجب موجة الضحك يف داخيل بعد قراءة هذه النكتة ،أخذين ٌ من نوع آخر ،هو أن راويها رجل فقيه يوصف بأنه إمام ،وكان
عجبي عن مدى التسامح الذي يملكه هذا الرجل» . لاً ج -يأخذ حديثه عن النظام العاملي الجديد شك من ()6
أشكال النقد الثقايف ،حيث يحضر ذلك الشبح املرعب الذي ّ تشكل كأنساق ثقافية وسياسية وأخالقية مهيمنة منذ
فاألحكام املسبقة هي التي أعاقت وتعيق البشر ،أو
تم تداوله يف مطلع التسعينيات من القرن املنصرم ،وغدا
وموضوعية».
الثقايف والتغري يف القيم ،حيث يقول« :منذ زمن وأنا أكتب
معظمهم عن رؤية الواقع ،وعن قراءة التاريخ قراءة ناقدة « -حكام املباريات يشغلون مهنة من أصعب املهن
وأعسرها ..يركضون ويتابعون ويحكمون بالقانون ،ومع هذا ّ (حكام الدول) ..فإنهم تالحقهم لعنات النقاد والجماهري! أما
مهموما بسؤال المعنى ..معنى ً الوجود اإلنساني ،وبدأب متواصل، يمضي العلي باح ًثا عن أفق الحياة التي تنعم بمثاالت العدالة والكرامة والحرية ،خارج أثقال األساطير والتراكمات الثقافية وسلطاتها الكثيرة
كأطياف ال تفارق مقاربات العيل ،للمثقف ودوره ،وللتكوين
77
دراسات
عن املثقف ،ما هو تعريفه؟ ....املوضوع يؤرقني فعلاً ....ملاذا؟ ألن املثقف مثل أي يشء يف ظل النظام العاملي الجديد ،دخل
يف متاهة الالتحديد ،وتخىل عن أن يكون ضمريًا»(.)7 ً ثالثا :منحى القراءة الحوارية
«هذه الرؤية املشرقة لحازم القرطاجني ،الذي تفصلنا عنه عدة ً حداثة من رؤوس لفيف يرتبّع عىل كرايس قرون ،أليست أكرث الجامعات عندنا اآلن؟» .وهنا ،وبعد تلك الرحلة الحوارية
الطويلة بني العديد من اآلراء والرؤى يقول :نعم إنها لكذلك،
ينتظم البعد الحواري جل نتاجات العيل ،حيث تأخذ
يقصد رؤية حازم ،ومن ثم يقوم بمحاورة زيك نجيب محمود وأدونيس حول مفهوم الرتاث( .)8ويمكن لنا ً أيضا أن نتأمل
عناصر املقابلة واملقارنة والتضاد واملفارقة شديدة الحضور،
لقراءة عدد كبري من الكتب التي عنيت بتطور الفلسفة أو
أقوال أو آراء أو تصريحات أطراف متعددة ومتناقضة حول
املوضوع نفسه موقعها يف القراءة أو البحث .وبذلك تصبح فتفتح أبواب الشك والتساؤل مساراتها من أجل تعميق
مضمار األسئلة املستفزة واملحفزة عىل التأمل والتفكري ،قبل
أن يضع رأيه أو يلمّ ح إليه،كأحد اآلراء املمكنة ،ضمن هذا األفق الحواري الخصب.
البعد الحواري يف متون مقاالته املتسلسلة والتي خصصها الحضارة عند ديوارنت ،وتلك التي اهتمت بقراءة ثقافة املايض، أو غريها من الكتب التي بحثت يف نقد ثقافة الحاضر والرنو
صوب مالمح املستقبل ،حيث يعرض لألفكار واآلراء ويعارضها أو ينقضها أو يوسع من مدى رؤيتها ،من خالل ما كتبه آخرون
وتنبني معظم محاضراته ومقاالته الطويلة عىل هذا
عن اإلشكالية أو الفكرة نفسها ،ثم يطرح بعد ذلك آراءه
الضوء ،البرئ املستحيلة .ويمكننا يف هذا املجال أن نشري إىل
أما مقاالته القصرية ،فإنها تتشكل عىل هيئة كبسوالت ً لغة وداللة ،اعتصر فيها جوهر الفكرة صغرية ،مكثفة
النسق .انظر كتبه :نمو املفاهيم ،درس البحر ،هموم محاضرته املوسومة بـ «مفهوم الرتاث» لرنى تبديات تلك
الحوارية املتعددة األصوات ،سواء يف تعدد محاورها أو تعدد
78
عن الشعر والشعرية ،حتى يطرح التساؤل العريض اآليت:
آراء الكتاب الذين استشهدت بهم ،مثلما نجده يف ابتعاد الكاتب عن اليقينية أو اإلطالقية أو الوعظية الدوغمائية.
ولنقف معه عىل املحور الذي تحدث فيه عن النقد األدبي
لكونه أحد مكونات الرتاث األدبي العربي ،فرناه يورد تعريف محمد مندور للنقد األدبي يف كتابه النقد املنهجي عند العرب،
وما تبعه -كما قال -من تعاريف ال حصر لها ،حتى يأيت إىل
ضرورة نقد تلك التعريفات ،متك ًئا عىل محاضرة املسدي يف هذا الصدد ،والتي ر ّكزت عىل أهمية نقد النقد .وبعد تفتيق األسئلة حول «كيف يولد النص؟ وما هي قسماته؟ هل هي
فردية أم اجتماعية؟ ما هي عالقته
بسياقه؟
ما
هي
إضافته؟ عىل أي منهج يمكن
قراءته؟» يذهب إىل اإلشكاليات
التي تطرحها هذه األسئلة يف
ضوء استحضار كالم الجابري
عن تداخل األزمنة الثقافية يف
تراثنا العربي وحاضرنا اليوم،
ويأيت بما يعضدها عند إحسان
عباس يف كتابه تاريخ النقد األدبي
عند العرب ،ليستحضر بعد ذلك
الناقد حازم القرطاجني مثب ًتا ما قاله العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
وملحوظاته حولها .انظر كتابه :هموم الضوء.
ّ وشكلها بطريقة تنبني عىل املفارقة الكامنة يف اختالف رؤيتني
أو هدفني ،ويعمقها ،للتلميح إىل رؤيته ،بفاعلية السخرية الضمنية وحرقة األسئلة ،حيث إنه غالبًا ما يطرح عىل قارئه ً ومنطلقا تساؤلاً يف آخر املقالة ،ليبقي أفق الحوارية مفتوحً ا
من القارئ نفسه إىل ذاته وإىل واقعه وفكره ومواقفه هو!! ً رابعا :مفهوم الحداثة عند محمد العيل
العقل الدينامييك والعقالنية النقدية يشكالن رافعة
فاعلية اإلنسان يف واقعه ،من أجل تجاوز حموالت االستبداد الثقافية والسياسية املتعاضدة عرب األزمنة؛ ليك يبلغ زمن
محمد العلي ،على طريق الحداثة وداخل خنادقها
الحرية وإعالء قيمة اإلنسان وذاته ،وهي الرافعة الرئيسة لثقافة عصور النهضة والتنوير التي ّ دشنت يف الغرب زمن الحداثة والحرية والديمقراطية وحقوق اإلنسان ،والتي تمثل
يف نسبيتها– أفضل تجليات تحقق النزوع التاريخي للبشريةصوب حياة جديدة ومختلفة.
بيد أن هذه الديناميكية العقالنية والنقدية مشروطة
بظروفها الزمانية واملكانية ،التي تجعل من مفهوم الحداثة ّ تشكل مقدماته وأولوياته ،ويف تحقيق مفهومً ا نسبيًّا ،يف مستوياته املختلفة يف الواقع .ولذلك فإن العيل يأخذ كغريه
من املفكرين العرب بمفهوم الحداثة التاريخانية ،حيث يرى محمد عابد الجابري بأن الحداثة «ظاهرة تاريخية، وهي ككل الظواهر التاريخية مشروطة بظروفها ،محدودة
بحدود زمنية ترسمها الصريورة عىل خط التطور»( .)9أو كما يرى الباحث التونيس الدكتور حمادي بن جاء بالله «بأن
حداثة عصرنا نتاج مطاف تاريخي فكري حلمت به اإلنسانية منذ أقدم العهود ،وعبرّ ت عنه األساطري واألديان والفنون؛ إذ ليس من ثقافة إنسانية مهما كانت درجة وعيها بذاتها
ثاو يف أعماقها .وما أنجزه العصر الحديث إال وحلم الحرية ٍ
حقق جوانب من ذلك الحلم ال يستهان بها بعد أن تهيأ، بتوسط العقالنية اليونانية – العربية -األوربية -الالتينية،
وبفضلها»()10؛ فالحداثة عند محمد العيل تنبثق من تلك
االنفكاك من القيود التي تكبّل وصول اإلنسان إىل السعادة،
تسمى :حرية»( .)12ويف حوار ثقايف مع العيل يف النادي األدبي بجدة يقول ً أيضا :إن «الحداثة مفهوم يتغري ،بمعنى أنها
صريورة تتطور ،واملعنى اآلخر للحداثة هو تجدّ د املعنى، فحينما يتجدد املعنى ألي يشء ...يتجدّ د املفهوم ...وهذا ّ ليحل غريه يعني أن يكون ما يف أذهاننا مستعدًّ ا ألن يهبط محله ،و تلك هي الحداثة» . ()13
ويوضح ذلك يف كتابه «هموم الضوء» حني يقول:
«والخروج من نظام تفكرينا الراهن -ليصبح تفكريًا يف
العقل وليس بالعقل وحسب – إىل نظام آخر يستوعب ثمار العصر ومنعطفاته ...ليس سهلاً ،فهو يستلزم شي ًئا يسمونه ً (الحداثة) التي هي ليست شكلاً بل مضمونا» .ويؤكد يف ()14
كتاب جديد يصدر قريبًا عن دار الساقي ،عىل هذا املعنى
للحداثة بقوله« :الحداثة قفزة يف القيم واملفاهيم .قفزة يف
تبلور الذهنيات وكل ما يتميز به الحاضر عن املايض .الحداثة هي انتقال املجتمع ،ال األفراد من مستوى ذهني إىل مستوى أرفع منه».
ً خامسا :املوقف من الرتاث والحداثة
ال يتفق العيل – ضمن رؤيته التاريخانية للحداثة – مع
من يرى يف الحداثة قطيعة كلية مع الرتاث ،حيث يرى يف
الرؤية التاريخانية التي ترى أنها رؤية للكون والحياة
الرتاث ما يبقى وما ال بد أن يموت ،فيقول يف هذا السياق:
وأن عمادها العقالنية والحرية ،حيث يقول عن األوىل: ّ التحضر عىل دعائم كثرية من أهمها العقالنية... «يقوم
إىل أين نتجه» .أما يف تعقيبه عىل ما قاله الدكتور برهان
املادية واالجتماعية والنفسية واألدبية والفنية جميعً ا.)11(»...
التخيل عن هذه الثقافة لغريها» ،فإنه يؤيد الرؤية ،ويعدد
ولإلنسان وللمستقبل؛ وأنها تعني «أال يسبقك الزمن»،
والعقالنية هي االستناد إىل الرتابط السببي يف تفسري الظواهر كما يقول عن الحرية« :هناك أحالم تشرتك فيها اإلنسانية
جمعاء ...حددتها الفلسفة القديمة بثالث قيم هي :الحق والخري والجمال .أما الفكر الحديث فيحددها يف ثالث قيم
هي :الحرية والعدل والسالم .ونقصد بالحرية هنا معناها
الفلسفي ال السيايس؛ فالتخلص من الفقر حرية ،والخروج من الجهل حرية ،والشفاء من األمراض حرية ،وكل أنواع
تجربة العلي ،تعد إحدى التجارب المؤسسة للحداثة الشعرية في المملكة ،بما توافرت عليه من رؤية تنويرية وموقف تقدمي
«يحتاج املايض إىل قراءة ،لنعرف ما غرسه فينا من أشجار مثمرة ،ومن أشواك ً أيضا ،ويحتاج الحاضر إىل قراءة لنعرف ()15
غليون حول الرتاث والحداثة ،من أنه «ليس من املمكن
أسباب قناعته بها ،بقوله« :ألن طرق السلوك والتفكري
وتحرك الوجدان مصاغة حسب هذه الثقافة ،فهي البنيان الداخيل بكامله ،وحني نلغيها نكون قد ألغينا يف الوقت
نفسه الذاكرة والوجدان» .ويف حوار مجلة النص الجديد ()16
معه قال« :الحداثة ،كما أفهمها ،مصطلح عربي تليد قبل أن يكون غربيًّا .الغرب ابتكر أسلوب حداثته وفق مقاييسه
ومسار تطوره وحدودها .ولكننا نحن ورثنا مقاييسها، وأدخلنا عليها مفهومً ا غريبًا أحالها إىل شبح مخيف بالنسبة
للغالبية من مثقفينا وقرائنا .هذا املفهوم هو أن كل حداثة ّ ومضلل. تبدأ من القطيعة مع الرتاث! هذا املفهوم خاطئ إن الحداثة ليست شي ًئا سوى (التطور واالرتقاء عىل الذات،
وانتقاء اإليجابيات يف الرتاث وتعميقها إلغناء الحاضر»(.)17
79
دراسات
ً سادسا :حداثة القصيدة عند العيل
()18
تجربة العيل تعد إحدى التجارب املؤسسة للحداثة
الصورة الشعرية (يف صياغة الجملة ،ويف تشكيل البنية
وموقف تقدمي ،وبما نهضت عليه من عدة إبداعية تميزت:
-املفارقة الحاملة ألبعاد تراجيدية السخرية( ،عرب
الشعرية يف اململكة ،بما توافرت عليه من رؤية تنويرية بالعذوبة اللغوية ،وأناقة بناء الصورة وتفردها ،وكثافة التعبري يف بناء الجملة الشعرية ،والنص الذي يجمع بني
البساطة والعمق ،والوضوح والغموض الشفاف ،وكذلك باإلفادة من معرفته املوسوعية بالرتاث الشعري واإلبداع
املعاصر ،إلنتاج نص خاص ومتفرد يف رؤيته وتعبريه ،بكل املقاييس النقدية وبكل ممكنات االستقبال الجمايل. كسر الغنائية يف نصه الشعري
الكلية للنص).
توظيف الدوال املتباعدة إلنتاج دال آخر) ،بحسب الدكتور محمد الشنطي.
تعد قصائده من النماذج البارزة عىل مفهوم االنزياحالتي نظر لها نقاد الحداثة (جان كوهني مثلاً ) ،والتي تقوم عىل فاعلية االنتقال من مجاز املفردة إىل مجاز القصيدة،
وتحويل كنائية الكلمات والجمل إىل فضاء استعاري كيل
للنص ،ينهض بمهمة التعبري املنتج لدواله الجديدة خارج الحموالت الجاهزة أو املرجعيات التقريرية املباشرة.
قد يذهب النقد الحدايث إىل توصيف العيل بالشاعر
-استثمار فاعلية التناص مع الرتاث ،وتوظيفه بشكل
كذات بؤرة انعكاس التجربة ومنبعها يف نصه اإلبداعي، ٍ
العيل شاعر تجربة غنية بمذخورها املعريف والفنيً وموقفا ،ويتبدى فيها صراعه الحضاري من والحيايت ،فك ًرا
الغنايئ ،نظ ًرا لحضور ذات الشاعر يف كليّة النص ،لكونها
خالق يف إثراء جماليات النص وبؤره الداللية.
رومانسية تنشد الحرية الفردية ،وتتمرد عىل جميع األنظمة ّ وتتولع بالتغ ّرب والتغريب ،والفرار والقوانني االجتماعية،
أجل استيالد الجديد ،لذلك تغدو تجربته الشعرية أنموذجً ا
قصائد العيل سيقف حتمً ا أمام روحه املتشبثة بالحرية،
حدايث متجاوز ،يقوم عىل فاعلية ما أسماه الدكتور كمال أبو
إىل عوالم جديدة متخيلة ،متدثرة بالكآبة والحزن .لكن قارئ
80
-الحساسية اللغوية العالية وتجليها يف رهافة وأناقة
وإعالء قيمة الفرد ،مثلما سريى غابة من الحزن الشفيف تطبع كثريًا من نتاجه الشعري ،البتعاد األحالم عن التحقق،
ولكن جدل هذين املكونني سيتضافران يف تشكيل جمالية بنية نصيّة ،تخرج القصيدة من غنائيتها التقليدية أو نزوعها
لتجادل املعريف والجمايل مع الواقع ،من أجل إنتاج بنية نص ديب «الفجوة مسافة التوتر» يف جل قصائده.
-يعمل عىل إخراج نصه من السمة الغنائية إىل التأملية
الدرامية ،عرب تشكيل حالة النموذج الفني التي ال يستخدم فيها تقنية القناع أو التوظيف الرمزي األسطوري أو التاريخي،
الرومانيس ،إىل أفق مغاير ينبني عىل امتزاج الخاص بالعام،
إنما يقوم بإنتاج رموزه الخاصة وأساطريه الصغرية املختلفة،
ويمكن أن نلخص أبرز خصائص شعرية العيل يف النقاط
ولعل أجمل ما قيل عن مالمح النموذج الفني ،وتشكيل
والذايت باملوضوعي ،والفردي باالجتماعي ،والداخل بالخارج.
اآلتية:
وتفتيق ثنايا النص باألسئلة والحوار.
الصورة الشعرية يف تجربة العيل ما كتبه الدكتور محمد الشنطي ،إذ يرى أن بنية النص الشعري عند ()19
شاعرنا ،تنهض غالبًا عىل املزاوجة بني خصوصية الداللة
وعمومية
التجربة،
واستخدام
الثنائيات لتفجري املفارقة ،ويف تجاوز املستوى الغنايئ والتقرير الحيس ،إىل توظيف فاعلية التداخل النصويص ،أو التضمني باالستعارة ،واستدعاء النماذج الرتاثية، واإلفادة من آليات السرد والتحول، وبناء درامية النص حول الجدل والحوار
واالستهالل
بالسؤال
واالفرتاض ،ليبتعد النص عن
املوقف الرومانيس والنربة الغنائية. العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
محمد العلي ،على طريق الحداثة وداخل خنادقها
-يتميز بالقدرة عىل اإليجاز واالختزال ،والعمل عىل
بمقدرتها عىل التجادل مع الجملة األوىل يف النص والتي
هو أبعد من اللغة ،بحسب تعبري صبحي حديدي عن أحد
-يتئك عىل ذاته يف ابتكار أساطريه ورموزه الخاصة ،حيث
إبراء الشعر من اللغو ،حيث يبدو كمن يجر اللغة إىل ما الشعراء .لذلك نلحظ قصر نصه الشعري وكثافته ،حتى وإن تعددت مقاطعه وبؤره الداللية ،وغالبًا ما يتكون العنوان من
كلمة واحدة تحمل أبعادها اإليحائية الشاسعة ،مشحونة
تحمل بؤرة النص وإمكانيات تنميته.
ال يعتمد يف شعره عىل توظيف أي معطى جاهز يتمثل يف األساطري املعروفة ،أو الرموز األسطورية أو التاريخية ،أو تلك
التي ترمّ زها الحياة.
الصوت ...واألجراس يف الختام ،هدفت هذه القراءات «الصوت ...واألجراس» إىل القول بأن النزوع إىل الحداثة ظاهرة تاريخية تعمقت
عرب مراحل النهضة والتنوير يف أوربا التي وضعت العالم عىل بوابة الواقع املنبني عىل العقالنية والتجريب العلمي والحرية وحقوق اإلنسان ،واملتحققة يف نسبيتها يف الحداثة كمفهوم متعدد األبعاد يف مختلف الحقول االجتماعية ُ حاولت إلقاء الضوء عىل مقومات وفواعل ذلك النزوع والتشوف والثقافية والسياسية ،وليس يف اإلبداع وحده .وقد
الحارق للحداثة لدى بعض آبائنا من األدباء يف اململكة ،عرب ما أنتجوه ،من محمد حسن عواد إىل محمد العيل.
وإذا كانت األجراس التي دقوا نواقيسها ،وأحدثوا أصواتها يف فضائنا االجتماعي والثقايف ،لم تكن مؤثرة بالشكل
الذي حلموا به ،أو لم تعمل كما ينبغي عىل ترابط األجيال ،وتكامل الفعل الثقايف املؤثر يف الطريق إىل الحداثة ،التي نشهد اليوم خصوبة عطائها وبخاصة يف الحقل األدبي يف اململكة ،إال أن تلك األصوات قد أسهمت يف تعميق الجرأة لدى
الكتاب واملبدعني عىل اجرتاح التعبري عن تطلعاتهم نحو التقدم والحداثة .كما أنها قد هيأت املناخ -وإن بشكل جنيني- لخوض املغامرة الفردية مثلما فعل هؤالء اآلباء ،عىل رغم إكراهات األنساق الثقافية واالجتماعية واملؤسسية املحافظة.
ولعلنا لن نجاوز الحق والحقيقة إن ذهبنا إىل أن محمد العيل -بحكم الزمن واملتغريات – يعد اليوم أكرثهم فاعلية وحضورًا وتأثريًا يف حياتنا الثقافية ،عرب كتاباته املستمرة ،وإبداعه ومواقفه الثقافية والنضالية خالل ما يقارب الخمسني
عامً ا ،وأنه هو األكرث قربًا إىل الفاعلية األعمق ملفهوم الحداثة من كل رصفائه الشيوخ ،ومن أدبائنا الشباب يف اململكة. المراجع:
( )1حوار على محطة LBCأجراه معه أحمد عدنان www.youtube.com
( )2الطريق إلى أبواب القصيدة – كتاب عن تجربة علي الدميني الثقافية واإلبداعية – النادي األدبي بالمنطقة الشرقية – 2014م – ص .166 ،165 ( )3نمو المفاهيم – دار االنتشار العربي والنادي األدبي بالرياض – 2012م – ص .10
( )4سحر كاظم حمزة الشحيري – مجلة جامعة بابل – مجلد – 122العدد 2014 – 1م. ( )5كلمات مائية – دار االنتشار العربي – 2009م -ص .171-163 ( )6درس البحر – دار الجمل ودار طوى – -2012ص .346
( )7حلقات أولمبية – دار مدارك ونادي تبوك األدبي 2013م -ص.58
( )8انظر محاضرة «مفهوم التراث» -ص 73و ما بعدها ،في كتاب «نمو المفاهيم» -مصدر سابق ( )9نحن والتراث -المركز الثقافي العربي1991-م -ص .17
( )10الحداثة – جدل الكونية والخصوصية – المركز الثقافي العربي – بيروت 2014م – حوار مع د.حمادي جاء بالله. ( )11درس البحر – مصدر سابق -ص .203
( )12درس البحر – مصدر سابق – ص .168
ً ملخصا للحوار أعده صالح الخزمري – العدد 2008\11\21 – 13203م). ( )13نشرت جريدة الجزيرة ( )14هموم الضوء – دار الجمل ودار طوى – 2013م -ص.340
( )15درس البحر – – 234مصدر سابق.
( )16هموم الضوء – ص – 338مصدر سابق.
( 17مجلة النص الجديد – العدد األول – 1993م ص.45-44
(( )18اتكأت في هذه الفقرة على كتابي « أمام مرآة محمد العلي» دار االنتشار العربي2012 -م -ص 132وما بعدها). ( )19من كتاب عزيزة فتح الله -محمد العلي /دراسات وشهادات – دار المريخ 2005م -ص .140
81
دراسات
«موقف الرمال -موقف الجناس»
محمد الثبيتي إحياء ما قبل النفطي من أجل ابتكار ما بعد النفطي
82
حاتم الزهراني
شاعر وناقد سعودي ـ واشنطن
يمكن مقاربة المشروع الجمالي للشاعر السعودي محمد الثبيتي (2011—1952م) بتحليل نصوص «الذروة الشعرية» في ديوانه ،وهي النصوص التي أحدثت اختراقات فنية
ألهمت
تجربة
الطليعة
الشعرية،
وشغلت اهتمام الخطاب النقدي ،وجمهور
الشعر على حد سواء ،إلى أن أصبحت عالمة
على التجربة الثبيتية ،وشعر الحداثة في الجزيرة العربية،
ومن المعالم الرئيسة للحركة الشعرية الحداثية في العالم ٌ تاريخ منزوع العقد واألساطير، العربي ،حين ُيكتب لهذه الحركة
يقيها من تجمدها في لحظات تف ِّو ٍق فوق تاريخية ،من شأنها أن تعزز
َ مركزيات موهومً ا .تجادل هذه المقالة بأن إيجاد موقع مستحق خطاب ٍ
للذات في سردية قاهرة تعميمية وتنميطية هو بالضبط «الحدث الشعري»،
بتعبير جوديث بالسو ،الذي يؤسسه مشروع الثبيتي والذي تم تكثيفه في آخر الثبيتيات الكبرى( :موقف الرمال ـ موقف الجناس).
العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
شكل ثنايئ هوية ممتدة
رئيسني يرمز لهما تتكون القصيدة من قسمني َ
الديوان املطبوع برقمي ( )1و ( ،)2ما يشري إىل
تمايز ما يف الرؤية بينهما. وعي الشاعر بوجود ٍ من هنا يمكن اعتبا ُر دالل ِة هذا التقسيم جزءً ا
ال يتجزأ من الداللة الكلية للنص .ويعضد هذا إيقاعي؛ فالقسم األول يحتوي التماي َز البصريَّ تماي ٌز ٌّ
عىل نقالت إيقاعية متعددة ،حتى داخل البيت الواحد،
ويكتفي القسم الثاين بتفعيلة (متفاعلن) وحدها ،وبحرف روي
واحد هو امليم .إن هذا يعزز فكرة النظر إىل القصيدة بوصفها ً «حدثا شعريًا» يتمرحل يف لحظتني اثنتني ،تتوزعان عىل قسمي
ا لد جى » .
جوانب الحدث الكلية.
تتقاطع،
القصيدة اللذين يتنوعان بصورة سيكون لها دور كبري يف تشكيل وإضافة إىل ذلك ،يركز القسم األول ( )20—11عىل عالقة
الشاعر بالنخلة ،بوصفهما ماهيتني متمايزتني ،ويعقد سلسلة طويلة من املقارنات بينهما مصدرها «مقوالت» من صوت
يخاطب الشاعر ،يف حني يفرد القسم الثاين ()30—21 خارجي ُ فضاءه الصويت كاملاً لصوت الشاعر ،ويجسد حالة التماهي
ولكن الطرقات
ويستمر
السفر ألنه ليس هنالك
يمٌّ يلمُّ شتات أشرعة الشاعر،
وألن نجم سهيل الذي كان العرب يستبشرون به ،ترك املكان َّ فحل ظل الشاعر أمامه كناية عن ال نهائية السفر. ووىل،
بينه وبني النخلة .عشر صفحات لكل قسم تمنح املساحة
للحظتي إذن :أذهب إىل القول بأن هذا التقسيم الثنايئ ْ ً داللة رمزية تسهم يف إرساء الهوية يف «موقف الرمال» يأخذ
ولحظة الذات. يمكن ً أيضا لدارس الشعر القديم أن يقرأ التقسيم الثنايئ
يعزز من حالة النوستالجيا التي يثريها املعجم ما قبل النفطي للقصيدة .هذه امليتاشعرية اإلحالية إىل الرتاث الشعري ،متمثلاً
الطباعية الظاهرة عىل الورقة داللة املوازنة بني لحظة اآلخر
لـ(موقف الرمال) يف ضوء البناء الثنايئ للقصيدة الكالسيكية،
كما يتجسد يف بعض القصائد الجاهلية ،أو يف مرحلة القصيدة العباسية كما درسها شتيفان شبريل يف مقالته الرائدة حول
امللكية اإلسالمية وشعر املديح يف بدايات القرن التاسع امليالدي. وعند شاعر منغمس يف الرتاث الشعري كالثبيتي ،تسعنا
املقارنة بني اللحظة األوىل يف الحدث الشعري لـ«موقف الرمال»
وقسم النسيب الكالسييك ،ولكنَّ االختالف هنا هو أن الذي يقف ويستوقف يف نص الثبيتي هو الصوت الخارجي الذي يقدم
ميناء ثقايف يتأسس عىل التجربة الرتاثية للهوية الشعرية ،ما
هنا يف روح البناء الثنايئ للقصيدة الكالسيكية ،تستمر يف
اإلفصاح عن مصادر فنية كالسيكية أخرى تحيل إليها. النفري والثبيتي :بني السلطوية والتفاوضية
اللحظة األوىل من القصيدة تستشف روح كتاب «املواقف»
للصويف محمد النفري (ت 354هـ 965م) ،إذ تبدأ بالعبارة
أبواب كتابه هذا« :أوقفني ...وقال» .يف التي يفتتح بها النفري َ كل مقطع «يقول» هذا الصوت شي ًئا عن العالقة بني الشاعر والنخلة ،وهذه املقوالت وما يتفرع عنها من أصوات جانبية
للذات تعريفاتها ،ويذكرها بهويتها املفقودة .ومن هنا فعبارات من مثل «أنت بعيدٌ َّ كأنك ماء السماء» و «يا طاع ًنا يف النأي»
تشكل أجزاء القسم األول .وعىل رغم أن القصيدة قد تحيل
قسم النسيب .أما اللحظة الثانية ،والتي تتحدث فيها الذات عن
إىل دور اللغة ،ممثلة يف كلمة «اقرأ» ،يف إيجاد هوية جديدة
ابتهاالت الشاعر الكالسييك بني يدي تستدعي إىل الذاكرة املدربة ِ نفسها ،فيمكن الزعم بأنها تعادل قسم الرحلة الكالسييك؛
فباإلضافة إىل الفكرة املركزية لهذه اللحظة واملتمثلة يف البحث
الدائم عن القصيدة ،يدعم املعجم الشعري ،املبني بشكل تامٍّ
تقريبًا عىل فكرة الرحيل ،هذا الزعم :يبدأ القسم بـ«أميض إىل
يف عبارة «ضمّ ني» إىل حادثة نزول الوحي لتلتقط منها ما يشري
للجماعات املتخيلة ،كما حدث للجماعة العربية بعد نزول القرآن الكريم ،إال أن «مواقف» النفري تظل أكرث قربًا ملعجم
القصيدة وأسلوب الحوار فيها .هذا التشابه ،عىل أية حال، ً اختالفا جوهريًا بني (مقوالت) النفري ومقوالت (موقف يخفي
املعنى» ثم «وأمر ما بني املسالك واملهالك» والتي ترجِّ ع صدى
الرمال) .يتأسس هذا االختالف عىل أمرين رئيسني:
الكالسييك ،ثم «أميض إىل املعنى» مرة أخرى« ،وأجوب بيداء
غري مجسد ٍة يف (مقوالت) النفري تجريدي ،عبارة عن مفاهيمَ ِ
فكرة املهالك التي يتكبد مشاقها الشاعر يف قسم الرحيل
)1الفيزيائية (الثبيتي) التجريدية (النفري) :املكان يف
83
دراسات
الواقع .هذه عينة من مواقف النفري التي يوقفه فيها الصوت
هنا يبدو أن الثبيتي قد أخذ بنصيحة واالس ستيفينز وهو يقرر
اقشعرار الجلود ،واالصطفاء) ،وهي املواقف التجريدية ذاتها
كتابة «قصائد أرض عظيمة» ،أي قصائد عن هذا العالم الذي
قبل أن يخاطبه( :العز ،الكربياء ،األمر ،الصفح والكرم ،القوة، التي نجدها عند بعض شعراء الحداثة العربية الذين استلهموا
مواقف النفري .أما الثبيتي فمكانه جغرايف محدد هو الرمال،
وهو ال يظهر إال يف افتتاح القصيدة ثم يغيب تمامً ا .إن جغرافية
مكان الثبيتي تدعم فكرة هوية محلية وطبيعية ،ألنها تجسد املوقف يف حيز جغرايف معني متصل بأبعاد ثقافية متميزة.
)2التفاوضية (الثبيتي) السلطوية (النفري) :الحوار يف
(مقوالت) النفري يسري يف اتجاه واحد :من الصوت الخفي إىل النفري ،وهذا الصوت ال يتحدث غالبًا إال عن نفسه« :أوقفني...
وقال :ال يستقل به من دوين يشء»« .أوقفني ...وقال :ما مني يشء أبعد من يشء»« .أوقفني ...وقال :أنا مظهر األظهار» .يف
بعض املناسبات يوجه الصوت كالمه إىل الطرف الثاين ،ولكن
فقط لتوجيه أوامر وتعليمات معينة من قبيل« :اجعل الحرف وراءك» .هنا ،إذن ،تسيطر ذات الصوت الخفي ،وتفرض رؤيتها عىل اآلخر املتلقي والسلبي دائمً ا.
عىل العكس من ذلك يظهر الصوت املتحدث يف مقوالت
84
الثبيتي؛ حيث يتوجه بالحديث إىل اآلخر« :أنت قريب»« ،أنت َ ً ً ٌ مستندة عىل إنشائية خربية وليست جمله بعيد» ،كما أن صيغة أفعال األمر .إضافة إىل ذلك ،يشرتك الصوتان يف تكوين
حوارات تفاوضية .إن النص ،فهو ليس خطابًا سلطويًا ،بل ٍ
هذا يتفق تمامً ا مع الحدث الكيل للقصيدة كما اقرتحته هذه القراءة أعاله ،وهو ابتكار هوية بديلة للشاعر بوصفه رم ًزا إبداعيًا للجماعة .هذا االبتكار يتم عن طريق التفاوض حول
تعريفات مقرتحة للشاعر تربطه بعناصر املكان الطبيعية
أن «قصيدة الجنة والنار قد كتبت» ،ومهمة الشعر اليوم هي
نعيشه.
تنوع اإليقاع ثراء الهوية
إن تنوع األصوات يف قصيدة الثبيتي يرفِده تنوع آخر يسهم
يف إضفاء حيوية عىل النص ،ومن ثم عىل األصوات املشرتكة يف
صنعه .يتمثل ذلك يف تنوع اإليقاع يف القسم األول ،كما أشارت املقالة أعاله .يبدأ القسم بتفعيلة (فاعلن) ،وسرعان ما يدمج َ تفعيلة (متفاعلن) ،إىل أن يضيف مقطعً ا بها ،يف مقطع واحد، قصريًا مستقلاً عىل تفعيلة (مفاعلن) ،قبل أن يعود إىل حالة
الدمج بني (فاعلن) و(متفاعلن) مرة أخرى .يعطي هذا التنوع
اإليقاعي حركية للنص تبعده عن الرتابة املوسيقية ،كما يتسق مع التطور الدرامي لحركة األفكار داخل القصيدة.
يمكن التمثيل عىل ذلك باملقطعني األخريين يف القسم
األول؛ حيث تنحصر تفعيلة (فاعلن) يف عبارة« :قال يا أيها
النخل» يف افتتاحية كال املقطعني وحسب ،وتأيت بقية أبيات
املقطع عىل تفعيلة (متفاعلن) التي تسمح بورود جمل أطول ال تقطعها القافية .يعرب امتداد الجمل وقلة القوايف هنا عن تآلف
ينمو بني طريف عملية القول ،ما يجعل الدخول يف التفاصيل املطولة أم ًرا ممك ًنا ،وال يعسر االستنتاج بأن الجمل القصرية ْ بشفرات سرية بني واملقفاة فورًا يف املقاطع األوىل تبدو أشبه
غري متآلفني تمامً ا. طرفني ِ إن تنوع اإليقاع هنا يمكن قراءته ً أيضا بوصفه إحالة إىل اإليقاع الكالسييك املكوِّن للهوية الشعرية الرتاثية .هذا يشري
والثقافية املعروفة ،دون افرتاض سلطوية متعالية له نابع ٍة
إىل تنوع روافد الهوية املحلية ،ويمنح القصيدة هوية فنية غري
إن القصيدة توظف النفري بشكل رمزي فقط ،منذ أن
نص يقوم عىل إبراز هوية بديلة يصبح تنوع الثقافة املحلية عنصر
الشعري الحدايث لتدعيم التصور القائل بوجود كتابة شعرية
الثبيتي النفريَّ لالختالف عنه ،وكما استخدم وكما وظف ُّ
من تجريدية مصدر مقوالته.
شاع االستشهاد ببعض نصوصه من لدن ثلة من رموز الخطاب تراثية ،ال ترتهن لشروط الوزن التقليدية ،بل تستند أساسً ا
عىل مبدأ التكثيف اللغوي ،حتى ذهب بعض النقاد إىل حد املقارنة بني النص النفري والنص السوريايل املعاصر! يتشابه ُ الثبيتي النفريَّ مع توظيف الشعراء العباسيني رمو َز توظيف ِّ َ البعيدة عن تجربتهم الحياتيةِ ،من أجل الشعر الجاهيل موقع ملدونتهم الشعرية ضمن استمرارية شعرية أكرب حفظ ٍ وأشمل .هنا تحيل القصيدة إىل التجربة الصوفية فقط من أجل
أن تمأل فضاءها التجريدي بعناصر املكان الثقافية .إنه توظيف وعي بالذات ،وبتاريخيتها، من أجل التجاوز ،وهو ينطلق من ٍ
وبقدرتها عىل التجديد املتأسس عىل العناصر الثقافية للمكان. العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
ضيقة تؤهلها ،من ثــمّ ،لجدارة اقرتاح هوية ثقافية منفتحة .ويف
مقاومة لواحدية ونمطية الهوية الصناعية النفطية املعوملة.
نظام التفعيالت يف الشعر الكالسييك البتكار حيوية إيقاعية
لقصيدته ،سوف نرى اآلن كيف يستخدم إحدى أهم األدوات الفنية للرتاث الشعري ،أعني الجناس ،البتكار الجديد من املكرور واملختلف من الشبيه من أجل تعزيز «الحدث الشعري»
للقصيدة واملتمثل يف إعادة إحياء هوية ثقافية ما قبل نفطية تتميز بالتنوع والرثاء واالرتباط باملكان.
الرمل والجناس :الفريد من املتجانس
ً تنوعا إيقاعيًا وشهدت اللحظة األوىل لـ«الحدث الشعري»
نابعً ا من تعدد األصوات والشخصيات (الشاعر والنخلة)،
«موقف الرمال -موقف الجناس» محمد الثبيتي ..إحياء ما قبل النفطي من أجل ابتكار ما بعد النفطي
ُ استعذبت ماءَ بكايئ» .فرد عليه أبو تمام صب قد فإنني ... ٌّ ً إحالة إىل اآلية القرآنية الكريمة: بطلب ريشة من جناح الذل،
«واخفض لهما جناح الذل من الرحمة» .يمثل أبو تمام هنا األب الفني للهوية الشعرية املحتفية باملعنى ،وبأشكال الفنون
اللغوية التي يمثلها الجناس يف هذه القصيدة.
لقد كان أبو تمام ،بحسب سوزان ستيتكيفيتش يف كتابها َ البديعية عن أبي تمام والشعرية العباسية ،يوظف األشكال بشكل ميتاشعري لتشفري املمارسة الشعرية الجاهلية،
بشكل تستوعبه الحاضرة العباسية الجديدة ،كما ولتأويلها ٍ يؤهلها ألداء دورها األسطوري الذي يحفظ لها استمراريتها
ضمن التقليد الشعري الرتايث .ويف «موقف الرمال موقف
الجناس» توفر عبارة «ماء املالم» للتقنية البديعية املتمثلة يف الجناس َ قوة تشفري شعرية أبي تمام الحداثية فنيًا ،فتدخل قصيدة الثبيتي يف حالة حوارية إليوتية طرفاها املوهبة الفردية
والرتاث ،يف الوقت الذي تحافظ فيه عىل استمراريتها يف التقليد ً مؤكدة عىل عالقة تشابه بينها وبني سابقاتها، الشعري،
حدث ٌ نوع من التماهي بينهما يف األسطر األخرية لهذا القسم
تتأسس عىل فلسفة الجناس التي تنتج املعنى الجديد من اللفظ املكرور ،واملتفرد من املقلَّــد.
حني قال الصوت للــشاعر« :أنت والنخل سيان» .هنا بدأت
إن إحالة «موقف الرمال» إىل أبي تمام تندرج ضمن
هذه الجملة عن النخلة ،وحان الوقت اآلن ليك تعرب الذات عن
امليتاشعرية كان التقنية البارزة التي وظفها الشاعر العبايس
القصيدة تتحول إىل شخصية واحدة ،فعربت ثالثة مقاطع بعد
نفسها يف القسم الثاين.
ميتاشعرية إحالية أكرب يتأسس عليها النص ،وهذا النوع من إلبراز حداثة نصه الشعريّ ،كما تقرتح هدى فخرالدين
أهم ما يلحظ يف القسم الثاين هو أن «الذات» ،وقد
يف كتابها الصادر مؤخ ًرا Metapoesis in the Arabic
نفسها بضمري املتكلم .يبدأ «الشاعر» تعريف نفسه بهذا املقطع: وأمتص الرحيق من الحريق /فأرتوي ُ ُّ وأع ُّـل «أميض إىل املعنى/
يحوِّل الفعل اإلبداعي إىل عملية قراءة تأويلية .يف نص الثبيتي،
اكتملت عملية التفاوض عىل الهوية البديلة ،تتحدث عن
.Traditionهنا يتبدى الوسط الفني للقصيدة بحد ذاته تعبريًا ميتاشعريًا وترمي ًزا لحالة حوارية بني الشاعر وسابقيه ،وهذا
املالم». من ماء ِ إن قصيدة يطغى عليها الجناس إىل درجة كبرية كهذه
نص أبي تمام ،فهو بالتايل يمثل نص امليتاشعرية املزدوجة.
وزخرفيًا للوهلة األوىل ،تعد املعنى مقصدها الفني الذي تميض
يف رمزه اإلبداعي :الشاعر ،وبهذا يحقق لهذه الهوية عمقها
القصيدة عليها أن تلفت االنتباه إىل أنها ،يف ما يبدو لفظيًا
نحن بصدد ميتاشعرية إحالية إىل ميتاشعرية إحالية أخرى هي إن النص يوظف عناصر من الرتاث لتعريف هويته ممثلة
إليه فال تفصل بني الشكل واملضمون ،ولذا فليس بال دالل ٍة أن
التاريخي .ويف تأسسه عىل الجناس تحديدً ا ،يفصح النص عن
يف تأكيد تأسسها عىل عناصر ثقافية غري مصطنعة (محلية أو
املبدع إمكانية اكتشاف الصقيل يف املطمور والفريد يف املتجانس؛
تتكرر جملة «أميض إىل املعنى» ثالث مرات .وعىل عادة القصيدة تاريخية) ،تلجأ هنا إىل استخدام عبارة «ماء املالم» لتفتح من خاللها نافذة تحيل إىل املدونة الشعرية األكرث تمثيلاً لفكرة امتزاج الشكيل باملعنوي :مدونة أبي تمام.
إن القصيدة هنا تحيل ،يف لقطة فنية سريعة ،إىل قصة
أبي تمام ( 231أو 232هـ 845 /أو 846م) املشهور ِة يف كتب الرتاث ،حينما أرسل إليه أحدهم كأسً ا يطلب فيها شي ًئا من «ماء املالم» ،كناية عن استنكار األسلوب «املحدَث» الذي كان أبو تمام ينسج عىل منواله يف مثل قوله« :ال تسقني ماء املالم
«موقف» من الوجود (لنتذكر العنوان« :موقف» الرمال) يمنح
فمثلما يمكن أن تولد تجربة شعرية جديدة من االحتماليات
بشكل يعيد إحياء الفنية التي لم تزل كامنة يف الجناس ٍ «اإلبداعي» يف «البديع» عىل رغم انطماره تحت ركام التقليد، فكذلك يمكن أن تتولد الرمال ،التي تبدو متشابهة ظاهريًا
كتشاب ِه الكلمات املتجانسة ،عن ممكنات أخرى غري النفط، تتميز بالتواصل مع التجربة التاريخية للجماعة املتخيلة،
وبالقدرة عىل اإلبداع من داخل هذه التجربة.
ولكن :كيف يقوم الجناس بإنتاج املعنى هنا؟
85
دراسات
النخلة والشاعر :الجناس املفهومي
ما املقصود هنا بالجناس املفهومي عىل أية حال؟ إن النص
يقوم عىل استعارة كربى يمكن اختصارها يف عبارة «الشاعر هو نخلة» .هذه االستعارة ليست لفظية بل مفهومية تنقل
كامل مجال النخلة املفهومي إىل الشاعر والعكس .لقد تطورت فكرة االستعارة املفهومية ابتداءً من نشر جورج الكوف ومارك جونسون لعملهما الريادي .Metaphors We Live Byيقوم عملهما عىل فكرة مركزية تقول بأن االستعارة ليست ظاهرة لفظية/لغوية ،بل هي عملية ذهنية تقوم عىل أساس إبدال
مجال مفهومي بآخر ،وهي موجودة يف لغة الكالم العادي أساسً ا .أدت هذه الفكرة إىل تطورات مماثلة يف النظر إىل االستعارة األدبية تكفلت بها تحديدً ا الشعريات اإلدراكية التي
تأسست عىل العمل الرئيس لروفن تسور : Reuven Tsurما الشعريات اإلدراكية؟ ?.What Is Cognitive Poetics
فيما يتعلق بنص الثبيتي ،يمكن القول بأنه نتيجة للرتكيز
عىل االستعارة املفهومية «الشاعر هو نخلة» ،أصبحت فكرة
التشابه الفيزيايئ التام بني العنصرين «الشاعر والنخلة» مركز جذب أسلوبي يف النص ،ومن هنا كان ال بد أن تظهر «مالمحُ » ٍ شكلية تجسد هذا التشابه بينهما .جاء الجناس هنا ليكون
86
بمثابة مالمح الوجه التي تظهر عىل املساحة الطباعية ،لتؤكد
بشكل ظاهري ملموس مدى التشابه بني «الطفلني» الشاعر
والنخلة ،كما تعرب القصيدة .وألنه نابع من استعارة مفهومية فيمكن تسميته بالجناس املفهومي. وحتى يهيئ النص لفكرة اعتبار الجناس يف األلفاظ معادلاً
شعريًا للتشابه الجسدي بني الفاعل الرئيس يف النص وبني «الطفل» اآلخر ،أي النخلة ،اف ُتـتحت القصيدة بإعطاء هذا الفاعل نفسه هوية قائمة عىل األحرف املتفرقة: «ضمني ْ الرمال ثم أوقفني يف
ْ بميم وحا ٍء وميمْ ودال». ودعاين: ِ
إن األحرف املتفرقة هذه دليل عىل أن هوية الذات تتشكل
لغويًا ،وبالتايل يكون التشابه يف األحرف بني صفاتها وصفات النخلة عن طريق الجناس دليلاً عىل تشابه الهوية بينهما، كما أن مساءلة تكوين القصيدة عن طريق األحرف املتفرقة
والجناس تعادل مساءلة تكوين صورة الهوية.
يمتد الجناس من هذه البداية حتى نهاية القسم األول،
ويظهر بشكل جزيئ يف القسم الثاين ،حني انتهت عالقات التشابه وأصبح الشاعر والنخلة سيان .هذه عينة ملواضع الجناس الكربى الرئيسة:
فرعان «أنت والنخل ِ أنت افرتعت بنات النوى
العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
إن تنوع األصوات في قصيدة الثبيتي يرفِ ده تنوع آخر يسهم في إضفاء حيوية على النص ومن ثم على األصوات المشتركة في صنعه ورفعت النواقيسَّ ، هن اعرتفن بسر النوى وعرفن النواميس»
ُ النياشني صنوان :هذا الذي تدعيه «أنت والنخل ِ
ذاك الذي تشتهيه البساتني
هذا الذي :دخلت إىل أفالكه العذراء
ذاك الذي :خلدت إىل أكفاله العذراء» ٌ ً شاهدا يف الرجال طفل قىض طفالن: «أنت والنخل ِ ٌ ْ وطفل مىض شاهرًا للجمال»
ونتيجة لدور الجناس يف ترسيخ التشابه بني الشاعر والنخلة ،انتهى القسم األول بالتماهي بينهما ،فأصبحا شي ًئا واحدً ا:
ْ َّ يداك وهن ـان :قد صرت ديدنهن، «أنت والنخل ِسـ َّي ِ وصرت ِس ً ْ َ ـماكا عىل سـمْـكِـهـِ َّـن ،وهـُ َّـن سـَـماك»
أما القسم الثاين فإنه يختتم بالشاعر وهو يتربم من املكان النفطي ممثلاً بالبارجة ،التي قد تكون ناقلة برتولية ،أو بارجة حربية أجنبية تحميها ،كما يتربم من الصورة الثقافية النمطية
لهذا املكان ممثلة بمن يسميهم النص :الخوارج .تجانس بني «البوارج» و«الخوارج» يطرح عديد األسئلة عىل رؤية النص
لنوعية العالقة بينهما:
العرثات «يف ساحة ِ
ما بني الخوارج والبوارج
ضج بي صربي وأقلقني مقامي»...
وحتى يقاوم هذه السردية النمطية املشوهة للمكان ،يعمد
النص إىل تقديم تعريفات جديدة للهوية عن طريقة اقرتاح
تسميات للحبيبة ،أو للقصيدة بما هي األساس األبرز لثقافة املكان ،بل هي الوطن ،مذ كانت التسمية هي أول ما تعلمه آدم
لتتحقق له هويته اإلنسانية:
«فمضيت للمعنى :أحدق يف أسارير الحبيبة يك أسميها فــضاقت عن سجاياها األسامي!
ألفيتها وطني
وبهجة صوتها شجني
ومجد حضورها الضايف مناي وريقها الصايف مدامي»
بعد ذلك ،يصل الحدث الشعري إىل ذروة اكتماله حني
«موقف الرمال -موقف الجناس» محمد الثبيتي ..إحياء ما قبل النفطي من أجل ابتكار ما بعد النفطي
تنشق السماء عن مطر من غمام الشاعر ،أي عن قصائد،
وتتكثف رموز العالم الطبيعي/الثقايف يف مقطع واحد يهطل عليه هذا املطر ليخلق العالم الجديد املحتفل بثقافة املكان .هذا هو املعادل الفني لفكرة إعادة إحياء الهوية املفقودة عرب الفن
الشعري ،أو كما يسميها الشاعر« :نشر ما انطوى» من رموز
الهوية:
ُ «ونظرت يف عني السما فخبت شرارات الظما
مطر غمامي. وانشق عن ٍ للبائتني عىل الطوى
والناشرين ملا انطوى
األمام. والناظرين إىل ِ
للنخل
للكثبان
الشمايل للشيح ّ وللنفحات من ريح الصبا للطري يف خضر الربى للشمس ِ ِّ الحجازي للجبل ِّ وللبحر التهامي»
مرة أخرى ،تأيت النخلة يف صدارة رموز الهوية البديلة،
وهي رموز طبيعية يعززها الحدث الشعري ليس من أجل االحتماء بها من املستقبل املجهول ،بل من أجل الذهاب إىل املستقبل دون التفريط بها ،ولهذا تؤكد القصيدة أنها ل ـ«ـناظرين
األمام». إىل ِ
تكثيف ختامي :من ما قبل النفطي إلى ما بعده أخي ًرا ،إن اعتماد مفهوم (الحدث الشعري) في تحليل نص الثبيتي ،وبعض النصوص األخرى المجاورة تاريخيًا وجغرافيًا، ً إقناعا لمركزية رموز العالم الطبيعي بالنسبة للرؤية الشعرية لتلك النصوص ،ولمحورية األدوات يجدر به أن يوفر تفسيرات أكثر الكالسيكية فيما يتعلق بشكلها الفني ،مع التأكيد على أن الفصل بين الشكل والرؤية هنا هو فصل تقني بحت لغرض الدراسة
النقدية .إن الحدث الشعري يقف على المسافة الفاصلة بين الواقع والخيال ،يأخذ مادته منهما ليبني عالمه الخاص المتأسس على منطق وجودي مختلف عن ٍّ أي منهما يتبدى في المنتج الشكلي النهائي .إن نص الثبيتي ومجايليه ال يعبر عما سمي بـ«ثقافة ً الصحراء» كما اقترحت بعض القراءات التي قد يفهم أنها تتأسس على رؤية جوهرانية لألشياء ،بل هو نص يصمم حدثا شعريًا ً واحدا منها ،من أجل هو حدث إعادة إحياء رموز المكان الثقافية ما قبل النفطية ،والتي ال تشكل الصحراء (الكثبان هنا) إال جزءًا
األمام» :إحياء ما قبل النفطي من أجل ابتكار ما بعد النفطي. االنطالق بها مع «الناظرين إلى ِ
وبالنسبة لـ«ـموقف الرمال» بشكل خاص ،فلقد أسهم اعتماد الحدث الشعري على الجناس في توفير مساحة نصية للتجسيد الفيزيائي الملموس للهوية الشعرية البديلة الملتحمة بالطبيعي ممثلاً ً إحالة إلى سمة فنية أساسا بالنخلة ،كما وفر ً
تعد عالمة على الشعرية الكالسيكية في عصرها الذهبي. لم تعد النخلة مرك ًزا للهوية البديلة فحسب ،بل أصبحت التجسيد الطبيعي لها ،مثلما أصبح الجناس التجسيد األسلوبي للتماهي بينهما؛ وبسبب هذا التماهي لم تذكر النخلة في العنوان ،بل ذكر الجناس بوصفه العنص َر المتماهي معها .وبتوظيفه للتراث الشعري ممثلاً في الشكل الثنائي للقصيدة الثقافي َ َ
الكالسيكية والتجربة البديعية ألبي تمام ،والتراث الروحي ممثلاً في حادثة نزول الوحي ً ممثلة في تنويعات والمواقف الصوفية للنفري ،وبإحالته إلى األدوات الفنية الكالسيكية التفعيالت العروضية والجناس ،عمّ ق النص من جذور الهوية الثقافية البديلة ،في الوقت الذي مارس فيه االختالف اإلبداعي عنها .لقد قام النص بتفريغ طاقات المكان الثقافية على امتداد مساحة الورقة ،فكثفها في لغة شعرية تسهم في حث الجماعة المتخيلة على «نشر ما انطوى» من ذاكرة المكان الثقافية التي تتأسس عليها هويتها ما قبل النفطية.
لقد كان الشاعر محورًا لقصيدة أصبحت عالمة على الشاعر ،حين ضاقت به الطرقات
فلجأ إلى اللغة القتراح تسمية جديدة للقصيدة ،أو قل القتراح هوية جديدة أساسها المكاني هو النخلة ،وأساسها الثقافي ـ الفلسفي هو الجناس.
٭ تشكل هذه المقالة إعادة كتابة مكثفة لورقة شارك بها الكاتب في (مؤتمر جامعة جورجتاون للشعر العربي الحديث) في أكتوبر ٢٠١٥م .
87
دراسات
88
محمد بنيس
الكتابة بتاريخيتها العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
عزالدين الشنتوف
ناقد مغربي
يتطلب التعامل مع شعر محمد بنيس زا ًدا نظريًّا واستبصارًا باألوضاع النصية التي ُ النصي الذي يبدأ مع ديوانه األول «ما تاريخه تستقبل تلك المعرفة وتتحاور معها .ولهذا الحوار ُّ قبل الكالم» (1969م) ،من حيث طبيعة االختيار الشعري ،ذات الصلة بأوضاع التجارب المغربية والعربية في مطلع السبعينيات .وبتقدم الممارسة نحو سؤالها الخاص ،ضمن تلك األوضاع، ً كان التعدد ً متواز، وسمة تميز كتابة هذا الشاعر الذي ربط بين الممارسة والتنظير كفعل أفقا ٍ له إستراتيجيته المعرفية المتواشجة مع الجغرافيات الشعرية في العالم .ويبدو أن ما نشره من نصوص في مجلة «مواقف» سنة 1969م ،لم يكن من قبيل االستثناء االعتباطي أو العرضي الذي رافق المشهد الشعري المغربي باألفق التقليدي في بعض المراكز المشرقية األخرى ،وإنما كان ً مغامرة عمقت الوعي عنده بمرحلة السبعينيات ،من حيث هي حالة فارقة في الثقافة المغربية، من أجل معرفة طموحاتها ،وحاجاتها ،ومستوى قدرتها على اقتراح ثقافة جديدة في الشعر وغيره .وال شك أن البحث المتقدم عن األسئلة العميقة ،وبخاصة بعد اللقاء مع نتائج ثورة الطالب بفرنسا سنة 1968م ،كان عاملاً في إغناء االختيار الشعري عند بنيس(.)1 ومع نتائج أطروحته الجامعية «ظاهرة الشعر المعاصر
مع جيل الثمانينيات ،من خالل اإلنصات إلى رؤي ٍة مختلفة تقرأ
بالمغرب» ( ،)1978وما خلقته من ردود أفعال متباينة ،كان ً الوعي أبنية في اللغة والخط والصفحة ،فتعمق نصه يختبر ُ
اآلراء موضع تساؤل ،بدءً ا من عملية توثيق النصوص ،وإعداد
األسئلة األيديولوجية التي وسمت نقد الشعر بالمغرب .ومن
سؤال وضعه بنيس هو« :ماذا نعني بالشعر المغربي الحديث
بضرورة استئناف المغامرة بقيم وأسئلة شعرية تزيد من تأزيم الالفت للنظر أن اشتغاله بالتركيب وبناء
اآلية ،في الثمانينيات ،أفسح المجال أمام
شعراء آخرين اللتماس مبدأ حرية االقتراب
من المختلف والمتعدد ،رغم محدودية ذلك
المطلب وقدرتهم على الصوغ المفهومي لذلك
المنجز .وقد كان لـ»بيان الكتابة» الصادر سنة
1981م بمجلة الثقافة الجديدة ،األث ُر العميق في
فهم وضع الشعر المغربي الحديث والمعاصر،
ورفع االلتباس عن أوجه التحديث التي اختلط فيها
السياسي والثقافي ،وهيمن على آفاقه وأسئلته التي
كان من المفترض أن تجد مسوغها اإلبداعي منذ
الخمسينيات ،بعيدً ا عن المؤسسة وأيديولوجياتها المتكررة. ولم يكن نقل هذا السؤال إلى الدرس الجامعي ه ِّي ًنا ،بل واكب ْته إشكاالت عديدة ،أبرزها صعوبة الحديث عن شعر
مغربي معاصر ال يزال في طور التشكل والبحث عن هوية َ موضوع ممكنة بخصائص غير معلومة ومحددة؛ كي يكون درس أكاديمي في مختلف المسالك .وقد تبلور الحوار األكاديمي ٍ
المنجز المغربي الحديث بوسائل منهجية جديدة ،وتضع كل
ترجمات للشعراء ،ثم وضع األسئلة الممكنة للدراسة .وأول والمعاصر؟ وأين هي نصوصه الدالة عليه؟»؛ لكي ينجز المقدمات األولى لحفريات الشعر المغربي .ولذلك كان هذا العمل من صميم اهتمامه بوضع الكتابة؛ ألن الرؤية المختلفة التي شيدها عن هذا الدرس لم تكن تجاو ًزا للبيداغوجيات السائدة ،بل كانت عملاً
آخ َر ذا توجه نقديَّ ، مكن الطالب/القارئ من مقاربة نسقية ومنهجية ،في غياب اهتمام الجامعة بدراسة الشعر
المغربي الحديث قبل السبعينيات،
اللهم ما تناثر من كتابات تهم تاريخ األدب.
وبقدر ما انشغل محمد بنيس بحفريات الشعريات
َس ِم نصه الشعري العالمية، َّ انكب -في هذه المرحلة -على و ْ بإيقاع اللغة والبياض والصفحة المتعددة ،فكان ديوان «مواسم
الشرق» وديوان «ورقة البهاء» عملين مؤرِّخين لمشروع الكتابة، ٌ إبدال واضحُ العناصر في التصور والبناء النصي. من حيث هو ُ َ سؤال الترجمة من جهة توسيع انفتاح المشروع ورافق هذا
89
دراسات
الشعرية العربية على ما هو كوني في التاريخ والذات واللغة ً رهانا ثقافيًّا وإبداعيًّا ،كان والمجتمع .ولما كانت الترجمة ً ً قيمة مضافة لفهم خاصية اللغة المترجَ م التماس شرط اإلبداع ُ
إليها ،سواء أكانت اللغة العربية أم غيرها .وللفعل الترجمي ً تاريخه الشعري الذي أنتج ًّ باذخا بإقدامه على ترجمة قصيدة نصا
«رمية نرد» للشاعر مالرمي؛ تلك القصيدة التي عاشت مع َ سؤالي الكتابة والترجمة ألكثر من عشرين سنة، مشروع بنيس
اقترن خاللها نص محمد بنيس بالفرنسية والتركية واإلسبانية ً إقامة في المسكن الحر ،مع مترجمين واأللمانية وغيرها،
شعراء وباحثين -من أجل قصيدة للعبور بين اللغات .هكذا عبرديوان «كتاب الحب» وديوان «المكان الوثني» وديوان «نهر بين س الكتابة وهي تحتمي بنقصانها وقلقها. جنازتين» ب َن َف ِ الكتابة والتأريخ
َ ِّ بعض االعتبارات أقدم ،في مقاربة هذا الموضوع، ُ المنهجية التي تسيِّجُ الوضع اإلبستمولوجي الوارد في صيغة الكتابة والتأريخ ،وأختار مقدمتين متصلتين كما يلي:
-1ال تنظر الكتابة ،في شعرية محمد بنيس ،إلى تاريخها من حيث هو م ً ُعطى ،بل تسعى إلى المعرفة التأثيلية ،وتترك
90
ُ المعرفة التحصيلية به؛ وبهذا تكونُ الكتابة نفيًا ألي سلطة كيفما كانت.
-2وبتحقيقها لهذا الشرط تغدو موردًا إلنتاج السؤال في الممارسة والتنظير معً ا؛ وبهذا تكونُ فعلاً نقديًّا. وفي ضوء الصلة القائمة بين النظر
والصوغ البنائي لفعل تأمل الكتابة ،تضطلع
أسئلة بنيس الكبرى بوضع هذه الكتابة
ُ الذات ضمن مجال معرفي ،ال تنفصل فيه
عن المجتمع وعن التاريخ؛ وذلك هو مجال
نقد منظومة المتعاليات في كليتها .ونقطة
االنطالق هي بيان الكتابة ،بما هو إعالنٌ كشف
التخلف المضاعف لمختلف األنظمة الثقافية، واالجتماعية ،والسياسية.
الدرس مرة أخرى ،بعد خمس وثالثين يتعمق ُ
سنة من تجميع الشعرية المغربية ألعطابها؛ فيما
الحاجة إلى سؤال تمثيل البيان في الثقافة العربية محسومة
من الالفت للنظر أن اشتغال محمد بنيس بالتركيب وبناء اآلية ،في الثمانينيات، أفسح المجال أمام شعراء آخرين اللتماس مبدأ حرية االقتراب من المختلف والمتعدد
العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
بتغيير جهة النظر ،عندما نعلم أن ال شيء تغ َّي َر في المشاريع المجتمعية والثقافية ،بل ال تزال األنظمة الفكرية مقتنعة
بتحيين المشاريع في غير زمنها .لم يكن سؤال الوعي بالزمن َ ً وجوب لممارسة الحرية شرط شرطا أخالقيًّا بقدر ما كان ٍ
والمغايرة واالختالف ،وبه يمتلك الشاع ُر ُل َغ َتهُ ،تلك التي تتكلم عن اللغة ،وتبينُ ما يفعل ويصنع بها الشاع ُر؛ كي يغد َو هو
وغي ُره محتوى هذه اللغة .وبهذا المحتوى يفك بيان الكتابة
االرتباط بفكرة البداهة واالرتجال .ولم تتغير ردو ُد األفعال، ولم تزد على ثالثة مواقف :موقف يقوم على منطق التجريب
وال يستوعب مفهوم اإلبدال فينتج فكرة التعطيل ،وموقف
يقوم على استعادة التاريخ وال يستوعب حركية التاريخ فينتج فكرة عودة الماضي إلى ماضيه ،وموقف يقوم على الحاجة إلى التنظير وال يستوعب آلية االنتقال من اللغة إلى الخطاب فينتج
وهم التماثل بشروط مغايرة. ً ُ أهمية بيان الكتابة ماثلة في وضع سؤال وإذا كانت الوعي المعرفة داخل حركة التاريخ وليس على هامشها ،فإن َ الذي استقبله كان وعيًا في حال اشتباه؛ ألن الممارسة النصية ٌ مشروطة بوعيها بالزمن من حيث ُ كونه محر ًكا لفعل اإلبداع
بالمعنى الحداثي .وفي هذا المعنى يتأسس االختالف الذي يجلبه َ فاعلية التحديث، البيانُ إلى مختلف الخطابات ،عبر إعطائه
وعبر إدخاله إلى دائرة الحوار .ولكن هذه الخطابات حدست َ الكثرة بدل التعدد. تهديد البيان لمركزيتها ،فأنتجت ً توصيفا أو لم تكن تاريخية الممارسة ،في وضع الكتابة، ً حركة تتفاعل بها في الزمن والتاريخ؛ استقراءً ،بل وهو ما يفيد أن الكتابة ،منذ البيان ،غير معزولة عن التمثالت الفكرية ،والتأويالت المرافقة لها ،في امتدادها الذي يجعلها ً قوة معرفية أساسً ا .ولذلك فهي قارئة يقظة تجاه ذرائعية الوقائع في التاريخ ،والبحث عن شرعية وهمية .وما لم ينتبه إليه نقد الشعر بالمغرب وغيره ،هو أن الحقيقة
في البيان هي االنفتاح الذي ال يعني
االستدراك والحاشية بمسمى الحوار
والنقد والتوسيع .ولما كان فعل التنظير وفعل الممارسة متالزمين في مشروع بنيس ،أمكن النظر إلى االنفتاح ً أفقا نصيًّا
تحتفل به القصيدة عبورًا للغة في الجسد ،وللتاريخ في الممكن واحتماالته في الخطاب.
يمكن أن نالمس ثالث حركات كبرى في شعرية بنيس.
وأستعمل الحركة هنا بالمعنى الذي يقدمه جيل دولوز ،أي
الحركة في الطية؛ حيث ال وجود لمقاطع ثابثة ،وال إعادة تشكيل الحركة مرة ثانية( .)2ويبدو أن هذه الحركات هي:
محمد بنيس ..الكتابة بتاريخيتها
تفضية الكتابة -إعادة الكتابة -مادية الكتابة؛ وهي حركات
ٌ قول .تفيدنا كلمة ليفناس هذه في تعرف الكتابة عدا الشعر
مؤطرة هي :النقصان ،والمحو ،والحبسة ،بحيث تصير تجاذبًا نصيًّاّ ، يجليه البناء وإنتاج الداللية .وعلى الرغم من أن مصطلح
االختالف إلى دائرة اآلخر كي تتحقق صيغة االستضافة .فمثلما
غير منفصلة عن بعضها ،بل متداخلة وفق مفاهيم إبداعية
َسمً ا القصيدة أضحى يضيق عما بدأه بنيس في التماس الكتابة و ْ ً مغامرة لمستمر لممارسته النصية ،فإن هجرة النصوص كانت اإليقاع وممكنه؛ ألنه مستم ٌّر يضع تاريخية الكتابة ً ذاتا تفكر
ير القلق باللغة وفي اللغة ،ولذلك تسم هذه الهجرة في مَ ِس ِ فعل القراءة من جهة تقريب النصوص من بعضها مع مراعاة اختالفها في البناء.
تقوم الكتابة ،إذن ،على تجربة الفعل؛ إذ
تتب َّنى اللغة ما يحدث أثناء الكتابة ،وخاصة
المفاجئ وغير المتوقع الذي يقتحم هذا
خارج القول ،أي خارج المشابهة والمعارضة اللتين تمثالن ً صيغة من صيغ مقاومة دخول اآلخر إليها .ولكن الكتابة تحمل
استضاف بنيس نبيذ أبي نواس ،استضاف نبيذ أبولينير ،ونبيذ ٌ وأفق لحياة اللغة بوردو وبغداد؛ إنه مبدأ الكتابة بماديتها، العربية التي عاشت في النص رحلة دانتي ،ورمية مالرمي، َ ُ حركة اإلحال ِة نحو يعترض النص وأناشيد عزرا باوند .فحينما
ُّ تكف الكلمات عن االنمحاء أمام األشياء ،فتغدو اإلظهار، ُ ُ كلمات لِذاتها .وعندما تبدأ اليدُ في خط أول المكتوبة الكلمات ٍ
حرف ،وتتضامن بما يسري وبما يصنع الحدث، ُ الكتابة بممارسة المجاورة ،مجاورة النقطة تقوم
العمياء ،والنقطة الخرساء ،وتقوم بمجاورة آثارهما .فبنيس يهيئ تجربة العمى كي ال تتعينَ
الحدوث .ويأتي المفاجئ من عوالم ،ومن
فضاءات ،ومن فنون مختلفة في آليات البناء والعرض ،سواء أكان تشكيلاً ،أم موسيقى،
األشياءُ في حيز االستعارة فقط ،بل بالتركيب
من حيث هو محاورة ومجاورة لألشياء في تماس وغيريّ ِتها .إن الغيري ََّة تناقضاتها ٌ ِ
أم وثيقة ...ولهذا االنفتاح لغته الثانية :لغة
في الكتابة يراهنُ عليها محمد بنيس ٌ َ رائية تجعلك تراها من حيث هي كي
النصي إيقاع شخصي يحيا الحواس؛ حيث الدال ّ
في مناطق النسيان ،ويتجاوب مع ما تتذكره العين
أيضا ،لتملك الكتابة ً ً قارئا بوجهة نظر.
واألذن واألدمة في غفلة عما تخطه يد الشاعر.
ويتم صوغ هذا التقريب في مختلف دواوينه بدءً ا
من ديوان «وجه متوهج عبر امتداد الزمن» ،علمً ا
رهانٌ
ِّ يعد ُد
صيغ
المساءلة،
فتعددت أنماط االمتالك؛ ومن أفق تداول السؤال بين القراءة
بأن مقامات التقريب غير متماثلة وغير متشابهة ،فقد تلتقي
ٌ إنصات وتعلمٌ دائمان: والنظر ،تحمي الكتابة تاريخيتها؛ ألنها ُ تتعرف بها مكانَ القدام ِة وحدودها ،ومغامرة اللغة في متغير
مع موال جبلي أو أمازيغي في مكان وثني يحتفل بجنازة الذات
الطريق. ومنعقد أهوال العثور على الطريق نحو ِ
نوبة أندلسية مع لوحة فان جوخ ،أو فيرير ،وقد تلتقي صيرورة
حجر مع سكون الفراغ في صفحة متعددة ،وقد يلتقي صوت وجنازة اللغة.
ال شك أن مادية الكتابة ليست صيغة تجريدية لممارسة عرضا يُحْ م ُ ً َل على فعل الكتابة نصية ،إنها تنأى عن أن تكون نفسه؛ فهي إبدال مستمر وفاعل في مجال تاريخية الشعر. ويعني ذلك أن مادية الكتابة تستوعب إعادة الكتابة وال تنفيها،
صوغ مغاير؛ كي تتيح للقراءة عناصر نظرية إنها تصحبها إلى ٍ
خاصة بها ،تسمي ذاتيتها .ثم إن مادية الكتابة ،بعدُ ،هي في وضع حيا ٍد مع التمثيل مهما تكن ص َو ُر ُه وأشكاله؛ ألن مادية ٌ قائمة على االختبار الموسوم بالمحو؛ الكتابة في أعمال بنيس أما التمثيل( )3فقائم على تمجيد االستضافة؛ استضاف ِة اآلخر، والغريب ،وتاريخه ولغته بالعربية وأفقها.
وبما أن مقول الفكر ال يعثر على وجوده إال إذا صار عاج ًزا َ الكتابة عن قول ما يجب أن يبقى متعاليًا على الكالم ،فإن طاقة فاعلةً ً َ ٌ تجعل منه وتأمل في هذا العجز ،لكي تفكي ٌر
بس ُة محمد بنيس؛ ألن كل شيء أمام األشياء؛ وتلك هي حُ َ
نسق اشتغالها ،ومكان الحداثة وممكن اإلقامة في المستقبل، ُ الكتابة ُ بم ْم ِك ِنها
ممكن النص من حيث هو مختب ٌر ممكنُ الكتابة من ِ ٌ جهة يتع َّينُ منفتحٌ على إيقاعه المتبدل .وليس لهذا الممكن ٌّ بها ،أو عنص ٌر يحتمي به في البناء ،وإنما هو دال في اللغة
ُ الكتابة نح َو الشعر، وما يحيط بها أثناء الكتابة .وحينما تختبر ُ مجهول فكر الشعر أي باالنتقال من اللغة إلى الخطاب ،يغدو
يكتب محمد بنيس هذا السف َر بما تقدمه أحدَ ممكناتها. ُ ُ ً ُ تضيق عن هذا االصطالح متجهة نحو الكتابة- القصيدة -وهي من استشراف ألهوال الحواس:
ُ سافرت في ليل القصيدة أنا الذي وابتهاج المح ْو َ الخطوط لمجدِ هاوي ٍة أدعو
لها الهذيانُ والهذيانْ
()4
91
دراسات
سؤال الشعر سؤال كوني
ال يرتبط الشعر بالهويات والوطنيات ،وإنما يشتغل بما
هو إنساني وكوني ،كي يغد َو لسؤاله الحيوي معنى .ويبدو أن الكوني في مجاالت معرفية وإبداعية القرن الماضي دشن عهد ِّ
مختلفة ،من الفلسفة والعلوم المعرفية ،إلى التشكيل والنحت والموسيقى .وما يقوم به محمد بنيس من حوار مع الشعريات وتقريب لوضع العالمية ،هو توسيعٌ لمداخل هذا السؤال، ٌ
اللغة العربية من مبدأ االنفتاح واالستضافة .ولم تكن استضافة دانتي ،ومالرمي ،وعزرا باوند ،من قبيل االستعارة ،بل قراءة
واعية لمعنى الحداثة في الثقافات واللغات ،من حيث هي مطلب إنساني يستجيب إلبداالت الزمن والذات والتاريخ .ولما ٌ كانت «حداثة السؤال» اختيارًا شعريًّا ،يروم تغيي َر وجهات
النظر ،أصبح مبدأ حرية الكتابة ُ عض َد السؤال وقوامَه في صوغ ُ اللغة العربية من إمكانات وآفاق، طرائق الكتابة ،بما تتيحه ً وتوقا نحو وضع البدهيات بدءً ا من محاورة تاريخها وأوضاعه،
والمتعاليات ضمن السيرورة التاريخية لإلبداع ،من حيث هو ممارسة قبل كل شيء.
92
لغة الكتابة نمط حياة ليست ُ لغة الكتابة هي المكتوب فحسب،
تنظيم للمبدأ المحرك للتركيب بل هي صيرورة ٍ
والمعجم والبناء؛ لذلك تكون هذه اللغة
ً مشروعا يتنامى في االختالف والتعدد .وإذا كانت ً ً اللغة ممارسة خاصة لإليقاع ،بما هي ممارسة
خاصة للذات ،فإن الكتابة ،لدى الشاعر بنيس، ٌ معرفة تضطلعُ بمهمة الحفر خارج «التعبيرية»
وبعيدًا عنها ،أي ضد التصور الرومانسي بكل تجلياته. وأن تكون اللغة َ نمط حياة ،هو أن تعيش زمنها مستشرفةً َ مستقبلها ،بما يؤهلها وضعُ ها االعتباري واالختباري إلعادة
ً متعلقا بالصياغة النظر في كل ما يأسرها ويحنطها ،سواء أكان والبناء ،أم بالمحموالت التي َت ْث ِوي بداخلها .وقد كانت المقدمة
ً دالة على نمط الحياة التي وضعها بنيس ألعماله الشعرية َ اللغة بالشخصي وغير الشخصي في الممارسة الذي ال يُق ِّي ُد
ٌ حياة للكتابة النصية .ومن الجلي أن «حياة في القصيدة» هي َ ً لغات تدَّعي الوحدة في ممارسة للنقد تجاه التي ترى في اللغة ٍ منظومة كلية .وبهذا تكون مصاحبة القصيدة غير منفصلة عن ٌ ٌ متكامل للبحث عن الكتابة والذات فعل تجربته التنظيرية؛ فهي
أمكنة ِّ ٌ َ سؤال المعرفة .وبقدر ما تمس تول ُد والعالم ،بما هي َ َ «حياة في القصيدة» حياة الشاعر ،تمس حياة القصيدة ً أيضا، ً ً وأسئلة .إنها ورغبات، ولغة، من حيث هي كائنٌ يتبدَّل جسدً ا، ٍ
تحيا إذ تسكنها قصائ ُد أخرى ،بلغات أخرى تهاجر فيها.
العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
أولاً :تتبنى سؤالها خارج التجريب؛ ألنها مرتبطة بالمعرفة ٌ منطق الشعرية التي تنتجها ال التي تستدعيها .إن منطق التجريب ً التجريب مرتهنة به ،ويغدو هذا أحادي؛ ألن الممارسة تظل ُ َ موضوعها بوعي أو بدون وعي .وعندما اختارت ممارسة بنيس َ ً صوغا بنائيًّا في اللغة والذات والتاريخ ،فإنما اختارته اإلبدال ً ً شعرية باألساس؛ فارتبط النص بسؤاله في أوضاع معرفة
مغايرة ،وأماكن نظرية تنبع من داخله .ومن الصعب الحديث عن استدعاء لمعرفة تجريبية خارج نصية؛ ألن أي مقاربة ترومُ
فصل الممارسة عن التنظير ،لن تقوى على فهم حوارية النص
بمعرفته ،إزاء مبدأ التقريب الشعري الذي يسوغ ،لدى بنيس، ً شرطا ماديًّا مبدأَي الضيافة والحوار .أما التداخل النصي فليس ٌ صيغة من صيغ التقريب إلنتاج شعرية العمل -األعمال ،إنما هو ليس غير .ولكن حينما يتحول إلى فعل إعادة الكتابة ،فإنه
آن. يتلبس سؤالها بالنص وبأفقه الشعري في ٍ
ثانيًا :تبرز فاعليتها في القيمة والتداول من خالل لغتها، ُّ التلفظي .وهذا الفعل دون أن تنفصل عنها في ذاكرتها وفي أفقها ُ دعوته بذاتية الكتابة ،من حيث هو توقيع الشعري هو ما شخصي يمس كلية العمل؛ ألن ُّ تحقق تلك الذاتية تسمي ليس سمة إضافية تلحق بالنصوص لكي َ ٌ ً ديوانا دون غيره ،بل هي قيمة وتداول في عملاً أو تاريخية البناء الشعري لشعرية محمد بنيس؛ ففي اللغة يكون سؤال الكتابة اختبارًا لهذه َ الكتابة هي ٌّ كل ال يظهر في المعرفة ،أي أن
اللغة ويحضر من لدن الذات حضورًا غي َر
مسبوق؛ لذلك تتضمن ممارسة بنيس َ شرط تجددها في بناء النصوص .ولم تكن
هذه المغامرة تجريبًا ألشكال وأدوات نصية ،بقدر ما كانت
ممارسة ذات توقيع شخصي يتميز بقوة الفعل واألثر في المعرفة الشعرية وإمكاناتها أثناء تتبع القارئ لها .وبقراءته للمتن ال
يحس بالمختلف ،بل يعيه ،وذلك هو رهان شعرية بنيس. ً ثالثا :ال تنجذب ،في الممارسة النصية ،إلى المقوالت، ُ يتعارض بل تخلق وتبني باستمرار ِصيَغاً لما يمكن أن يُكتب .قد
الممكنُ النصي مع تلك المقوالت ،سواءٌ أكانت فلسفية أم ُّ
موضوعا الكتابة لدى بنيس ليست ً موج ًبا مباشرا في نصوصه ،وليست تمثيال ِ ً سمى م تحت موضوعاتي تصنيف ألي ُ َّ متجدد الحضور من سياق التجربة ،ولكنها ٌ ُ خالل نصوص متجاورة ومتحاورة ومهاجرة بين مختلف الدواوين
محمد بنيس ..الكتابة بتاريخيتها
شعرية أم جامعة بينهما؛ إذ تغدو -في هذه الحال -متعالية نفسها ،فتلغي فاعلي َتها التي حفرتها بلغتها على جوهر الكتابة ِ
ٌ ٌ مراجعة ،بالقصيدة ومآلها، فعل ،فهي وبما أن الكتابة ً ً شعرية في باعتبارات قد ال تكون مسكونا لهذا التاريخ الذي يظل ٍ
وغير متعين بشكل أو صيغة ،وإنما يتخذ من الصيغ ذلك ُ المستم َّر الذي َّ والحركات الثالث التي يتأص ُل في المحو والنقصان.
في النظر أم في الممارسة؛ ويعني ذلك أنها في غنى عن أي تبرير
الخاصة .ولهذا السبب كان الممكن ،في ممارسة بنيس ،متعددًا
تحدَّثنا عنها ً آنفا :تفضية الكتابة ،وإعادة الكتابة ،ومادية الكتابة، ٌ نابعة من روح اإلبدال الذي تخلقه النصوص أثناء البناء ،بطريقة متداخلة ومتفاعلة مع بعضها؛ فكل حركة تفضي إلى األخرى من
غير أن يكون إلحداها األسبقية أو األولوية على األخريين. ٌ فعل وليست ر َّد فعل هي
نفي أليِّ سلطة كيفما كانت طبيعتها؛ وال وهذا ما يفسر أنها ٌ يأتي هذا النفي َت َبعً ا أو ر َّد فعل بعدي لما يمكن أن تمارسَ ه تلك
ٌ وثابت ،يتحرك بهذا األفق كلما كانت السلطة ،بل هو مبدأ جوه ٌر ً مهيأة لتخريب أداة من أدواتها المنتجة. السلطة ً ُ َ خطاب وذات خطاب يناقض شعرية السلطة وقد تكون هذه َ
الكتابة من جهة النظر إلى الشعر في طبيعته ومآله ،وإلى اعتباره ً َ سلطة سؤال حياة حديثة وحداثية .ولذلك فهي تشرعن االنفتاحَ ٌ وفعل مثب ٌ َت في للشعر ،بما هو حوا ٌر له تاريخيته الكونية، النصوص القديمة والحديثة.
أصلها ،ومن الطبيعي أال تكون ر َّد فعل تجاه بنية َقبْلية ،سواء يمس أفق اختيارها إزاء بنية شعرية كالتقليدية أو الرومانسية؛ فقد تكون مناقضة لهما في التصور والبناء لكنها ليست ر َّد فعل تجاههما سلبًا أو إيجابًا؛ ألنها تروم سؤالاً ً مختلفا ال يوجد في لتبني فعلها البنيتين معً ا .وبهذا االختالف تنأى عن مسيرهما َ الخاص دون إي إلغاء. الهوامش:
( )1عز الدين الشنتوف :شعرية محمد بنيس :الذاتية والكتابة ،دار توبقال للنشر ،ط ،2014 ،1ص.99 (2) Gilles Deleuze, L’image-Mouvement, éd.Minuit, Paris, 1983, P9 ( )3ال نقصد بالتمثيل االصطالح البالغي الفج ،بل نقصد به: ،représentation inconditionnéeكما صاغه بول ريكور في
كتابهla métaphore vive :؛ أي ما تنتجه النصوص من إمكانات خاصة بها ،في المعجم والتركيب والخطاب؛ التماسً ا لخصيصة الكتابة .وقد أكدنا في نهاية المقال على غياب التمثيل بالمعنى األول. ( )4محمد بنيس ،األعمال الشعرية ،ورقة البهاء ،ج ،1ص .24
حوار الكتابة والنأي عن التعبيرية ُ َ تضاعف ُ ٌ َّ يتقصى النظريات بحث ال بحثها عن ممكنها؛ غير أنه الكتابة شعري َتها في األبنية النصية، كلما اختبرت ويسقطها قس ًرا على النصوص ،بل يكشف العناصر النظرية من داخلها عبر الحوار والمراجعة والتقريب .ذلك هو مناطُ
ً عميقا مع المتغيرات النظرية في الشعريات العالمية ،سواء تلك التي سؤال الكتابة عن ذاتها لدى بنيس ،الذي أقام َ َ ً ًّ جنسا في الشعر والنثر خاصا بإمكانه أن يغد َو الكتابة بديلاً مفهوميًّا عن األدب ،أم تلك التي رأت الكتابة نسقا اختارت ً
على السواء .وباالبتعاد عن التعبيرية أصبح «االنكتاب» ً أفقا نصيًّا يضاعف احتماالت التركيب بكل تجاوباته إلنتاج الداللية. وبهذه الصيغة توافقت «اليد الثالثة» ،التي استشعرها بنيس في ممارسته ،مع مجهول موريس بالنشو ،ومع محتمل ٌ توافق يحتمي باللغة العربية ،باعتبارها عنص َر حوار يمجدُ ماء الكتابة عبر إعادة قراءة نيتشه ،وغائب جورج باطاي .ولكنه
تاريخ منجزها الشعري وغير الشعري.
ومن الالفت للنظر أن النص المتعدد لدى بنيس ،بعيدٌ كل البعد عن أي تمثيل كيفما كانت موارده وصيَغه .ويعني موضوعا مباش ًرا في نصوصه ،وليست تمثيلاً ً موجبًا ألي تصنيف موضوعاتي تحت مُ سمَّ ى التجربة، ذلك أن الكتابة ليست ِ ٌ نصوص متجاورة ومتحاورة ومهاجرة بين مختلف الدواوين ،ال تقف عند وضع خالل من الحضور سياق متجد ُد ولكنها ٍ
واحد أو عنصر واحد ضمن آلية المشابهة .إنها بعيدة ،في اآلن نفسه ،عن الترميز بحكم ماديتها التي َتحُ ُ ول دون المجاز، َ المحمولة بالقول؛ ولهذا يفرق محمد بنيس بين القول والكتابة؛ التماسً ا لذاكرة الحواس علمً ا بأنها تستدعيه لتبينَ حدود ُه
في حيويتها ،بعيدً ا عن قصيدة الذاكرة ،وقصيدة المعادل الموضوعي والقناع وغيرها. ٌ ذاتية تتشكل أثناء البناء ،ال قبله وال بعده .وفيه يجد محمد هذه بعض عناصر االقتراب من مادية الكتابة ،بما هي
بنيس تاريخية ممارسته الشعرية بالحوار مع السالالت الشعرية الباذخة ،عبورًا بين جنازة الذات وجنازة اللغة؛ حيث يس ُطره المستقبل. يرتفع نداء المنافي إلى بذرة المجهول وماء الكتابة في كتاب ْ
93
مقال
فيديل كاسترو واستقاللية القرار سعدي يوسف
شاعر عراقي
ً فلسفة في تأسيس الدوَل التي ّاتخذت االشتراكية
ً ُ التاريخ إلى معاينة أنموذجَ ين وتطبيقا ،سوف يأخذنا متف ِّر َدين:
الصين
كوبا
94
وأعتقد أنّ لهذا التف ُّر ِد َ ُ اليد الطولى في ديمومة الخيار منظومة كاملةٌ ٌ َ البلدين ،بينما انهارت االشتراكي ،في هذين ّ االشتراكي ،وعلى رأسه (كما كان لما كان يُسمى المعسكر ّ
يقال) االتحاد السوفييتي.
٭٭٭ أهميّة فيديل كاسترو ،النظرية ،والتنظيمية ،هي في أنه ّ ب على ما ُّ تغل َ مستحيل ،في التوفيق أعده ِشبْه ٍ ّ بات السوفييتيّة ،والخصائص المحليّة للثورة بين المتطل ِ
الكوبيّة. َ العنان لتشي غيفارا في القارة الالتينية. لقد أطلق ِ َ ّ ً ً ً وحافظ ،هو ،على كوبا ،حرّة ،مستقلة ،اشتراكيّة حتى
هذه اللحظة!
٭٭٭
ما السبب؟
الصينيّون اختاروا سبيلهم في تطبيق نظرية ماركس، ّ محليّةٍ : أي أنهم أخضعوا ماركس لقراء ٍة بدلاً من الطبقة العاملة ،جاء الفالّحون. الفالّحون هم الذين ّ شكلوا الجسمَ األساس لمسيرة َ
ماو الكبرى. ٌ َ والسبب بسيط :لم تكن الصين ذات طبقة عامل ٍة يُعت ُّد بها. انتفاضة شانغهاي (الكالسيكية) في الثالثينيّاتُ ،قمِ عَ ْ ت
بليغا ّ درسا ً تعلم منه الشيوعيّون الصينيّون بسهولةٍ ،لتكون ً
الكثيرَ( .انظر « الوضع البشري » ألندريه مالرو).
٭٭٭ في كوبا يكاد الوضع ،من الناحية النظرية ،يتماثل مع الصيني في المَ ْـلمح العام. الخيار ّ
أعني فيما ّات َ صل بالطبقة العاملة. شكل الفالّحون ،ال العمّ ُ في كوبا ،كما في الصينّ ، ال،
بِ ْن َ ية الحركة الثوريّة ،التي تب ّن ْ ت فيما بَعْ ُد ،تسمية «الحزب رفاقي من السوفييت. بضغط الكوبي» ،ربّما الشيوعي ٍ ٍّ ّ ّ
العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
على أن هذاّ ، الرجل ّ َ حقه. كله ،لن يفي
َ يحفظ للشعب في زعمي أن فيديل كاسترو نجحَ في أن الكوبيَ ، كيانه ،وفي أن هذا الكيان ال يقوم على األيديولوجيا ّ ُ َ تعصف بها ريحٌ ما ،وإنْ لم تكنْ هذه الريح وحدها ،التي قد ً عاتية. ُ فضل إرسائه الراسخ، الكيانُ الذي كان لفيديل كاسترو
ُ عاديات الدهر. تخض َدها مات ليس من اليسير أن ِ هو ذو مق ِّو ٍ من هذه المق ِّومات ،تقويم الشخصية الكوبيّة ،أي
االنتقال بها من شخصية التابع إلى شخصية الحُ رّ. ٌ معروف أن كوبا الجزيرة ،كانت ،قبل كاسترو ،مَ ْقصفاً وملهً ى ،ومُ رتب ََع ما َخ ّد َر وأسكرَ.
مات .أمّ ا ُ كانت َ َ أهلها ،فهم ضحايا، خدم أرض وخد ٍ ٍ تات ،ضحايا يجهلون في أيّ ُسعَ داءُ بما يُلقى عليهم من ُف ٍ مباء ٍة هم.
الناس كرام َتهم. كاسترو ،أعا َد إلى ِ ليس عن طريق ُ ب العصماءِ ،مع أن فيديل كاسترو الخ َط ِ
َ ُ مخاطبيه. يستحوذ بسهولةٍ على كان خطيبًا مفو ًّها،
الملموس: الناس كرام َتهم ،بالمنجَ ز كاسترو أعا َد إلى ِ ِ توفير العمل الشريف.
اني. توفير التعليم الشامل المجّ ّ
توفير الخدمات الصحيّة المتقدمة.
٭٭٭
َ الكوبي ذا شخصيةٍ مرموقةٍ ،هو جعل الفر َد إلاّ أن ما ّ
ّ يتحدى: شعوره بأنه في ِ َ ّ يتحدى الشظف. ّ ّ المشقة. يتحدى يتحدى الع َوزَ. ّ
خطيبا مع أن فيديل كاسترو كان ً الخ َط ِب ها فليس عن طريق ُ مفو ً ّ ٍ بسهولة على العصماءِ استحوذ ِ الناس أعاد إلى مخاطبيه .كاسترو َ َ ِ الملموس :توفير بالمنجز كرامتَهم، َ العمل الشريف .توفير التعليم اني .توفير الخدمات الشامل المج ّ ّ الصحية المتقدمة ّ
ّ يتحدى ،في جزيرته لكنْ ،قبل ذلك كله ،شعورُه بأنه ً الصغيرة ،وبوسائله المحدودة ،مقايَسة ،أعتى ُ تبعد عنه أكثر من مئة قوّة استعماريّة ،ال
ميل! ٍ
٭٭٭ سوف تظل حياة
الرجل ،فيديل كاسترو، َ موضع طويل، وألمدٍ ٍ وأمل! تأمُّ ٍل ٍ
لكنّ للدهر أحكامَ ه... ْ إذ ذك َر مَ ن زاروا كوبا ،أعني
العارفينَ منهم ،زمنَ راؤول
كاسترو ،أن األمو َر تعود،
تدريجيًّاَ ،س ِج ّي َتها األولى ،أي
قبل 1959م؛ سياحة ،بغاء...، إلخ
اآلن ،مع رحيل فيديل،
ومجيء ترمب... َ هل سيعو ُد العالمُ القديمُ إلى جزيرة الحرية؟
لندن في
2016/11/26م
9595
حوار
المفكر العربي أكد أنه ليس «أيديولوج ًّيا» وال يرغب في أن يكون داعية
فهمي جدعان: تحليل الواقع يعتمد على قول المفكر ال على رغبة المثقف
96
العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
حاوره :موسى برهومة كاتب وأكاديمي أردني -الجامعة األمريكية في دبي
ّ والتمثالت الفلسفيّة في مشاغله كافة يربط المفكر العربي الدكتور فهمي جدعان األفكار ّ المحددات التي يعوّل عليها من بمعين الوجدان ،ونهر الحياة ،وقوة األمل ،فهذه في نظره من أجل تعبيد السبيل أمام األجيال القادمة ،والحيلولة دون إنتاج المزيد من اآلفاق المسدودة. ّ ويحلله ويوجهه ،إلى المفكر وأدواته العلميّة ويعتقد جدعان أنّ المثقف يحتاج ،كي يفهم الواقع والفلسفيّة المنضبطة والضابطة؛ ألنّ التعويل يكون على «قول» المفكر ،ال على «رغبة» المثقف. ويدافع جدعان ،المولود في قرية عين غزال بفلسطين المحتلة ،عن حتميّة البرمجة الوجدانيّة ً وغدا ،ففي نظره أنّ غياب هذه القيم والمبادئ ،التي «الصحيّة» ،النبيلة ،ال ّنزيهة ألبنائنا ،اليوم ّ التدلي والتخلف والعقم الذي ّ ّ يغلف يفسر ينبغي أن تقترن بها التربية الوجدانيّة المبكرة ،هو الذي ّ ويتلبّس هذه األجيال المتأخرة من شعوبنا العربيّة. ويدعو يف مجمل نتاجه الفكري ،وبخاصة كتبه األخرية، ّ والتمثالت واملواقف التي تفسد إىل تحرير اإلسالم من التصوّرات
وتيسر إصابته واإلساءة إليه ،وربما ً أيضا صورته وتجور عليها، ّ ً ّ يحث أيضا عىل إقرار مبدأ الحي .كما إقصاءه من لوح الوجود ّ لاً «التأويل» القرآين -باملعنى العقالين -بدي ملبدأ القراءة الظاهريّة للنصوص ،وهو ما يأذن بالتحوّل من سياسة «العنف» إىل سياسة «السلم» و«العدل» القرآنية .ويعتقد صاحب «يف الخالص النهايئ» ِّ
أنّ الحركات الدينيّة -السياسيّة الحديثة تريد أن تجعل «زمن التاريخي زم ًنا أبديًّا ،وأن تكون العالقة بني اإلسالم وبني الصراع» ّ املخالفني أو املختلفني عالقة «صراعيّة» دائمة ،حتى بعد أن استق ّر إنساين أخالقي دينُ اإلسالم يف العالم وبني البشر بما هو دين ّ ّ
حضاريّ . ّ ويف ضوء الشقاق والصراع واالختالف يف فهم وتمثل القيم
الدينيّة ،يصبح الذهاب إىل نظريّة «إنسانيّة» كونيّة يف األخالق أم ًرا
ال مف ّر منه ،كما يقول جدعان الذي يشدّد يف حواره مع «الفيصل»
عىل أنّ الغائيّة األساسيّة لدين اإلسالم تكمن يف مبدأ (العدالة)، ُ شرع الله». وإنه «حيثما ظهرت أمارات العدل فثمّ ودارت مشاغل جدعان ،الذي حاز الدكتوراه من جامعة
السوربون بباريس ،عىل تكريس هذه املفاهيم وتجذيرها منذ كتابة
«أسس التقدّم عند مفكري اإلسالم يف العالم العربي الحديث» الذي تبعه مؤلفات عدّة من بينها «نظرية الرتاث» و«املحنة» و«الطريق إىل املستقبل» و«املايض يف الحاضر» و«رياح العصر» و«يف
الخالص النهايئ» و«املقدّس والحرية» و«خارج السرب» ،إضافة
إىل كتابيه األخريين «تحرير اإلسالم» و«مرافعة للمستقبالت
العربية املمكنة» اللذيْن سألناه عن بعض القضايا املستبطنة فيهما. هنا ّ نص الحوار:
● ترى ّ أن الحركات اإلسالميّة الثور ّية الراديكاليّة كـ«القاعدة»
و«داعش» تنهل من مرجعيّة نصيّة دينيّة .هل يعني ذلك ّ أن أفعالها «شرعيّة» أم ّ نزعات التأسييس الديني أن يف النص ٍ ّ ّ «عنفيّة» .وما السبيل إىل الخروج من هذا املأزق؟ -قلت وأقول دومًا ،وأكرر أنّ العقدة األساسيّة؛ العقدة
البنيويّة يف مشكل الحركات اإلسالميّة السياسيّة ،سوا ٌء أكانت
اإلبيستيمولوجي الذي ثوريّة راديكاليّة ،أم غري ذلك ،تكمن يف املنهج ّ يحكم عالقة ّ ّ الديني ،أعني يف طريقة بالنص منظري هذه الحركات ّ
فهمهم للمعطيات الدينيّة أو للمعطيات التاريخيّة ذات العالقة
بأصول دينيّة.
ّ املسلمات التالية: يقوم هذا املنهج ،عند هذه الحركات ،عىل هي أولاً ذات نزعة «ذريّة» ،بمعنى أنها تجتزئ بال ّنصوص املفردة
وبالوقائع الجزئية ،وتقوم بعملية تجريد وتعميم يخرتقان ويتجاوزان املكان والزمان والتاريخ ،وال تلتفت إىل الوجوه العالئقيّة
«الهولستي» التي تربط بني الجزيئ وبني الكيل ،أو بني «الذريّ » وبني ّ الشمويل .وهي ثانيًا ال تأبه بتاريخية ال ّنصوص التي تيسء بها أو ّ ً عىل األقل «أسباب النزول» .وهي ثالثا تتعلق براديكاليّة مسرفة يف
القراءة «الظاهريّة» للنصوص الدينيّة ،وال تعرتف بأنّ يف النصوص ً نصوصا ال يمكن ،وال يجوز أن ُتفهم عىل ظاهرها ،وأنّ فهمها الدينيّة
اإلسالمي ،حتى الديني عىل الظاهر يُلحق إساءات بالغة باالعتقاد ّ ّ عندما ترفض قراءة آية املحكم واملتشابه والظاهر واملؤوّل قراءة
قائمة عىل مبدأ العطف ،ال االستئناف ،أعني القراءة االعتزاليّة والرشديّة التي تجعل «التأويل» لله وللراسخني يف العلمً . عطفا عىل
ً نصوصا يف القتال والجهاد التأسييس الديني هذا أقول :إن يف ال ّنص ّ ّ ّ ويف التقابل «العنيف» الذي ييش كله ،يف ظاهر النص ويف الواقع املشخص ،بهذا الذي ينسب إىل «نزعات عنفيّة» .لكنّ الحقيقة هي
97
حوار
أننا لسنا بإزاء «نزعة» بقدر ما نحن بإزاء وقائع تفرض «العنف»، لكنه العنف املتبادل الذي يفرضه «الصراع»؛ ألنّ ّ كل النصوص التي
تيش بمظاهر العنف مقرتنة بحالة «الصراع» التاريخي التي تبلورت
والتاريخي الذي نجم بسبب هذا التقابل بني «األوضاع القائمة» وبني ّ
متفاوتة ،ال ّ يسلم باألفهام نفسها لهذه القيمة أو تلك ،فيحدث من «إنساين» ذلك التضاد والتقابل واالختالف .ويصبح اللجوء إىل سُ ّلم ّ
تريد الحركات الدينية -السياسية الحديثة أن تجعل «زمن التاريخي زم ًنا أبديًّا ،وأن تكون العالقة بني اإلسالم وبني الصراع» ّ
الديني» الذي ّ تتمثله الحركات الدينيّة -السياسيّة تعتقد أنّ «اآلمر ّ
غداة انبعاث الرسالة اإلسالميّة ،ويف أعطاف «التناقض» الوجوديّ «األوضاع املستجدة».
املخالفني أو املختلفني عالقة «صراعيّة» دائمة ،حتى بعد أن استق ّر إنساين أخالقي دينُ اإلسالم يف العالم وبني البشر بما هو دين ّ ّ يتطلب حلاًّ ّ وكاريث .لذلك هو حضاريّ .هذا خِ يار ،لكنه خِ يار بائس ّ تجاوزيًّا ،وهذا الحل يكمن عندي يف ثالثة أمور:
األول :الدفاع عن إسرتاتيجيّات معرفيّة تع ّزز مبدأ «تاريخيّة»
النصوص الدينيّة «الصراعيّة» ،وما يقاربها من نصوص «مربكة»
ُ الدراسات التاريخية واملفهومية املعمّقة توجي َه فهمهما تتطلب توجيهًا سديدًا.
«الجزيئ» أو ّ «الذريّ » املنهجي املستند إىل ر ّد الثاين :تعزيز الفهم ّ ّ
«الكيل» أو «العام» أو «الهولستي» أي املقاصديّ . إىل ّ لاً الثالث :إقرار مبدأ «التأويل» القرآين -باملعنى العقالين -بدي ملبدأ
98
الدين ،تاريخيًّا ،ليشري إىل سُ ّلمه الخاص يف القيم .لكنّ قراءة األفكار و«ال ّنصوص» يف الديانات املختلفة تتفاوت يف شأن هذه القيم .وهي، باألغلبي من هذه القيم ،لكنّ بعضها ،يف قراءات يف جملتهاُ ،ت ْزهى ّ
القراءة الظاهريّة للنصوص .هذه املبادئ تأذن ،بصراحة ،بالتحوّل «السلم» و«العدل» القرآنية. من سياسة «العنف» إىل سياسة ِّ
● يف ضوء ذلك ،هل يحتاج اإلنسان املسلم يف هذه القنطرة الحضار ّية امللتبسة إىل نظرية أخالق جديدة تنهل الديني؟ اإلنساين أكرث مما تنهل من من ّ ّ
َأنت تعلم أنني لست «داعية إسالميًّا»،
إنساين لذا فإنني ال أوحّ د ،بالضرورة ،بني ما هو ّ ديني .وال أعتقد أنّ املرء ينبغي أن يكون، وما هو ّ بالضرورة« ،متد ّي ًنا» أو «ذا دين» محدّد ليك يكون «أخالقيًّا» .ثمة ثلة من القيم «املطلقة» التي يتبيّنها
اإلنساين وتطلبها الطبيعة اإلنسانية «املكوَّنة» العقل ّ ّ ّ ّ اجتماع ًيا وثقاف ًيا .هذه القيم ال مف ّر منها لكل البشر: العدل ،والحرية ،والتواصل ،والكرامة ،والخري،
والسعادة ،والفضيلة ،والنزاهة ،واملحبّة ...كلها
ابتدا ًء ذات طبيعة «إنسانيّة» سابقة للدين .ثم يأيت
األساسية في مشكل الحركات العقدة ّ
السياسية ،تكمن في المنهج اإلسالمية ّ ّ
اإلبيستيمولوجي الذي يحكم عالقة ّ الديني بالنص منظري هذه الحركات ّ ّ ّ
العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
َ متوافق عليه كونيًّا ،أم ًرا حتميًّا وضرور ًّياْ . العربي الراهن، خذ زمننا ّ ْ وما أحَ ل َت إليه من أمر «هذه القنطرة الحضارية امللتبسة» ..هل
اإلسالميّة اليوم -وهو اآلمر املستند إىل مبدأ «الثورة العنيفة» واالقتتال الذايت والتقابل الذي ال يرحم -يصلح ألن يكون مبدأً ّ ألخالق «إنسانيّة» حقيقيّة سعيدة ،فضلاً عن أن يكون مبدأً ألخالق دينية «رحيمة» و«عادلة»؟!
ّ وتمثل القيم يف ضوء الشقاق والصراع واالختالف يف فهم
الدينيّة ،يصبح الذهاب إىل نظريّة «إنسانيّة» كونيّة يف األخالق أم ًرا ال
مف ّر منه .هذا ال يعني أننا نحن يف اإلسالم نضادّ ،بالضرورة ،مثل هذه ً ّ ّ املتصلبة التمثالت املعاصرة خالفا ملا تجري عليه النظريّة .أنا أعتقد، لدين اإلسالم ،أنّ هذا الدين الرحيم يحمل يف «أصوله البذريّة» ويف معطياته املُحكمة ،ما يوافق نظرية إنسانيّة كونيّة يف األخالق .لكنّ
تأوييل لل ّنصوص الدينيّة هذه النظرية ال تستقيم إال يف حدود منهج ّ
«املتشابهة» .وأنا أعتقد أنّ القيم األخالقيّة العليا التي ينطوي عليها الديني) ُتوافق القيم اإلنسانية العليا ،وال تضادّها. (ال ّنص ّ سقوط األيديولوجيا بدعة ● لعل هذا األمر ُيحيلنا إىل النظر يف
األيديولوجيا .فهل ما زال لأليديولوجيا مكان يف العالم املعاصر .هل ّ تفككت املنظومات األيديولوجيّة ،أم أنها أعادت تموضعها،
وإنتاج مقوالتها بشكل عنيف .وهل العنف
أيديولوجيا ،أم هو محض شظايا لتطاير األفكار عىل نحو فوضويّ عاصف؟
-الدعوى الزاعمة بسقوط األيديولوجيا
«بدعة» اخرتعتها الرأسمالية الغربيّة الظافرة السوفييتي وأيديولوجيته غداة انهيار االتحاد ّ املاركسيّة؛ أي غداة انهيار الشيوعيّة .لكن كيف
يقال :إن األيديولوجيا قد انحسرت من العالم ّ ً عميقا لليرباليّة وتجذرًا املعاصر ،ونحن نشهد صعودًا وانتشارًا
الجديدة (النيو -ليرباليّة)؟ أليست (الليرباليّة الجديدة) -وهي النقيض
الجذريّ للشيوعيّة واملاركسيّة -أيديولوجيا؟ والعلمانيّة الراديكاليّة
السيايس» أليس أيديولوجيا؟ أليست أيديولوجيا؟ و«اإلسالم ّ الحقيقة أنّ ما ّ تفكك وتراجع ،يف حدود ،هو ما يسميه فالسفة
(ما بعد الحداثة) «السردي ُ ّات الكربى» كالعقل ،والعلم ،واليقني.
فهمي جدعان :تحليل الواقع يعتمد على قول المفكر ال على رغبة المثقف
مثلاً ،مثلما يقول الشيخ القرضاوي ،دولة مدنيّة بمرجعية إسالمية!
سيايس- اجتماعي- شمويل فكريّ - أما األيديولوجيا ،بما هي نظام ّ ّ ّ أخالقي ،فإنها ما زالت حية ترتع ،وبشدة وعنف ال يقلاّ ن اقتصاديّ - ّ عن شدة األيديولوجيّات اآلفلة وعنفها .هل العنف أيديولوجيا؟
الدينيّة ،أعني الدولة التي تستقي قوانينها وشرائعها وسياساتها
من ارتكاسات الغضب واالحتجاج أو الرفض أو القهر أو الخلل يف
االعرتاف بأنّ «الدولة املدنيّة» الحديثة ،أي الدولة الغربيّة ،دولة ال
ال ،العنف ليس أيديولوجيا؛ ألنه مج ّرد «موقف» أو «ارتكاسة» «الربمجة الوجدانيّة» للعنيف ،وهو ليس «منظومة فكريّة» شمولية وجامعة لكل األنشطة اإلنسانية املوجّ هة لرؤية شاملة للفرد
واملجتمع والدولة.
بمعنى آخر ،الدولة املدنيّة دولة تقال عىل الدولة املضادة للدولة
النظريّة والعمليّة من الدين نفسه ،بما هو وحي .وبهذا املعنى ينبغي تقبل بتطبيق أحكام الشريعة مثلما يريد دعاة مبدأ «الحاكميّة» .لك
أن تسميها دولة علمانية .هذه التسمية مطابقة تمام املطابقة حني يتعلق األمر بالعلمانيّة الراديكاليّة« ،علمانيّة الفصل» التي ُتقيص الدين وأحكامه من املجال
● تحدثت عن مبدأ «التأويل» القرآين – باملعنى
والقانوين .لكنّ األمر يختلف بعض السيايس ّ ّ ّ االختالف حني نتكلم عىل «علمانيّة الحياد»،
العقالين .فهل يحتاج املسلمون اآلن إىل «مارتن
لوثر» عىل غرار ما جرى يف التجربة األوربيّة .أم ّ أن
التي ال تضا ّد الدين مثلما تفعل العلمانيّة
عوائق كأداء تحول دون ذلك؟
الراديكاليّة ،وترتك املجال مفتوحً ا للحياة
ً انشقاقا ( -مارتن لوثر) و(جان كالفان) أحدثا
الدينيّة واألنشطة الدينيّة ،أي أنها تحافظ أو
الديني» لم ُتصلح بتعبري آخر «حركة اإلصالح ّ ً انشقاقا فيها :بروتستانتيّة املسيحية بقدر ما أحدثت
تتمسك باالعتقاد بأنّ تشريعات الدولة ينبغي ّ
تحفظ للمؤمنني حقوقهم الدينيّة ،بل إنها تقدّم املساعدات املاديّة للمؤسسات الدينيّة ،لك ّنها
يف املسيحية ،و(حركة اإلصالح) هي عنوان هذا االنشقاق الذي ّ جذر «االختالف» يف هذه الديانة.
أن تكون «إنسانيّة» .أيهما أقرب إىل الصواب؟
املسألة مسألة «اختيار» ال مسألة صواب وصدق ّ تتدخل وحقيقة .أعتقد أنّ الظروف التاريخية
من طرف ،وكاثوليكيّة من طرف آخر .هذا االنشقاق
حاصل عندنا يف اإلسالم منذ زمن بعيد ،وهو ماثل يف التقابل ّ يتعذر إصالحه عىل املدى املنظور، الشيعي .وهو تقابل الس ّن ّي – ّ وبخاصة أنه بات يتخذ طابعً ا سياس ًّيا حا ًّدا ،عىل الرغم من أنه أصلاً السني عىل وجه ذو بذور وعوارض سياسيّة .املشكل يف اإلسالم ّ الخصوص هو أنّ «النواة القاعديّة» العقدية فيه لم تستجب لجهود
اإلصالح التي بدأت منذ محمد عبده ،وأنّ «الرؤية االتباعية» صلبة ال
ً صيغا متفاوتة يف قبالة هذا املشكل .وفيما يتعلق بنا نحن، وتفرض
وبدين اإلسالم ،اليوم ،نالحظ أنّ الدين ،يُوجَّ ه إىل صيغة أيديولوجية ّ أتمثله أنا شخصيًّا لهذا سياسيّة راديكاليّة ،تضاد التصوّر الذي
الدين بما هو منظومة اعتقاديّة ،أي إيمانيّة ،ذات ماهيّة إنسانيّة، وأخالقيّة ،وحضاريّة ،وجماليّة ،تتوافق مع «علمانيّة الحياد» ال مع
«علمانيّة الفصل» .أي مع «دولة مدنيّة» تصون الدين من التعدّيات
تتقبّل «االجتهادات» الجديدة ،وال تطيق مقاربة «الرؤية اإلسالميّة» ّ التقليدية مقاربة إبداعيّة .العوائق كأداء ّ ويجذر من بكل تأكيد،
واإلساءات ،وتحفظ ألهله الحريّة والكرامة والعدل التي هي قيم
األقىص .ثم إنني أعتقد أنّ اقرتان الحداثة بالحركة االستعماريّة الغربيّة قد ّ قلص فرص التأثريات اإليجابيّة التي يمكن للحداثة أن
● يف سياق متصل ،تقول يف كتابك األخري «مرافعة
الصعوبات فيها أنّ اإلنكار والرفض أصبحا مقرتنينْ بالتكفري والعنف
تجريها يف النزعات االجتهاديّة اإلسالميّة .وهذه نقطة خطرية لم يتنبّه إليها دارسو هذه النزعات.
مشرتكة بني الدين وبني الدولة اإلنسانيّة العادلة.
للمستقبالت العربيّة املمكنة»ّ : إن «الدولة العربيّة الحديثة ال تستطيع أن تستمر يف التشبّث بالقيم الدارسة يف الحكم ،أو أن
تتجاهل عىل الدوام الحقائق الثاوية وراء ّ تقدم العالم الحديث
● يثار بني الفينة واألخرى حديث عن الدولة املدنيّة .ثمة من
وظفر الحداثة وأهلها» وتنبّه الستمرار االرتهان إىل مبدأ السيّد
إىل ّ أن الدين والدولة املدنيّة ليسا متعارضنيَ .من مِن الطرفني يف
إىل منظومة األخالق والقوانني أكرث من استناده إىل التص ّورات
علماين ،وهناك من يذهب يرى أنها ال تتحقق إال يف ظل نظام ّ
ظنك أقرب إىل الصواب ومعقوليّة التطبيق؟
-ال ينبغي أن نخدع أنفسنا .الدولة املدنيّة دولة تحتكم إىل
اإلنساين ،إىل الخربة اإلنسانيّة، االجتهادات البشريّة ،إىل العقل ّ ّ ال إىل «الشرائع الدينيّة» الوَحْ يية عىل النحو الذي يتمثله القائلون بالدولة الدينيّة ،أو الدولة «ذات املرجعيّة الدينيّة» أو اإلسالميّة
والعبد يف عالقته مع املواطنني ،أليس هذا أمرًا دنيويًّا يستند الدينيّة؟
هذا التقدير صحيح .أعني أنّ منظومة القيم واملبادئ التيّ مسلمات تحكم املجتمع والدولة ينبغي أن تكون ابتدا ًء مستقاة من
العقل اإلنساين ،ومن مقتضيات وضرورات الواقع الدنيويّ ّ التاريخي ،ومن الخربة البشريّة التي تحتكم ملبادئ العدالة .لكن ّ
99
حوار
ّ للمسلمات ليس معنى ذلك أنّ هذه املنظومة هي بالضرورة مضادة
الدينيّة البديهيّة ،وبخاصة حني أقول ،يف أمر دين اإلسالم بالذات:
إنّ الغائيّة األساسيّة لهذا الدين تكمن يف مبدأ (العدالة) ،وإنه ُ شرع الله» ،وأضيف أنّ القيم «حيثما ظهرت أمارات العدل فثمّ العليا اإلنسانية كامنة يف «األصول البذريّة» والنصوص «امل ُ َ حكمة»
ّ الديني) الذي هو عندي ذو ماهيّة إنسانيّة (النص لهذه القيم يف ّ أخالقيّة أولاً وآخ ًرا ،وأنّ فهم جميع ال ّنصوص ينبغي أن يوجّ ه هذه الوجهة استنادًا إىل مبدأَ ِي املُحكم واملؤوّل. َ سألت نفسك ،يف حوار سابق :إن كان اإلسالم نفسه ،بما ● هو رؤية أنطولوجيّة عقد ّية تد ُّينيّة حضار ّية ،يتقبّل الديمقراطيّة
َ والعلمانيّة الحياد ّية التمثيليّة ،والليرباليّة االجتماعيّة، الليرباليّة ،ال علمانيّة الفصل الجذر ّية .وسألت ً أيضاَ :م ْن هم
املسلمون الذين يمكن أن «يتكيّفوا» أو «يتوافقوا» مع هذه املبادئ؟
ُ سألت هذا السؤال يف (املرافعة ،)..وسواه ،يف أكرث من نعم،ً إيجابي؛ ألنني أعتقد يقينا أنّ اإلسالم هو قبل كل يشء حوار ،عىل نحو ّ آخر «دين» ،أي أنه منظومة من العقائد األنطولوجيّة وامليتافيزيقيّة
اإللهيّة -أو الالهوتيّة -املسيّجة بمنظومة من القيم األخالقية الرفيعة
القمينة بأن تحوّل اإلنسان من «حالة الطبيعة» إىل «حالة الثقافة»،
100
وإنساين أخالقي قائم عىل العدل والرحمة يف حدود نسق حضاريّ ّ واملساواة والفضيلة والحرية .وقلت :إنّ «إسالم األغلبيّة» إسالم «التيّار العام» أو الـ ( -)main streamال اإلسالم
يتقبّل العلمانيّة الحياديّة الليرباليّة؛ ألنه ال يطلب إال ممارسة حياته االعتقاديّة الدينيّة بدون قسر أو قهر ،وأنّ هذه الصيغة من العلمانيّة
االجتماعي. الحياديّة تحرص عىل «حفظ الدين» ودعمه يف الفضاء ّ
صحيح أنها ال تقبل بمبدأ «الحاكميّة» الذي يميّز الحركات
الدينيّة -السياسيّة الراديكاليّة ،لكنّ املؤمن يف حياته املجتمعيّة ال يطلب أكرث من أن ُتصان له حريته ودينه ومعتقداته وشعائره ،مما
يدخل يف وظيفة «الدولة العادلة» .وأنا أعتقد أنّ عنصر اإلشكال ال يكمن يف املضمون ،إنما يف الذيول واألطياف السلبيّة التي تتلبّس
مصطلح «العلمانيّة».
املشكل يكمن يف املصطلح ً وتحديدا يف كتابك «تحرير اإلسالم ورسائل ● ألهذا تعتقد،
زمن التحوالت» ،أنه من األجدى أن ندعو إىل «إسالم متصالح ً عوضا عن «إسالم مع العلمانيّة ،أو «علمانيّة موافقة لإلسالم»، علماين» .وتأمل أن يفيض املستقبل بعصر آخر يتقبّل املفهوم ّ ويهضمه .أهو «رهاب العلمانيّة»؟!
أك ّرر ما قلته قبل قليل .املشكل يكمن يف املصطلح ،ويفالعربي املعاصر ،إذ ّ تمكنت الحركات السلبي يف العالم تاريخه ّ ّ الدينيّة التقليديّة واألصوليّة من «شيطنة املصطلح» .وأسهم كثري من العلمانيني يف تعزيز هذه الشيطنة؛ ألنهم تمرتسوا دومًا وراء
املفهوم الفرنيس للعلمانيّة ،أعني «علمانيّة الفصل» املناهضة لكل
دعوى أو رؤية دينيّة ،وذهب فريق منهم إىل تقديم هذا املصطلح بما هو قرينٌ لإللحادّ ، ُ لست فولد ذلك ما أسمي َته «رهاب العلمانية»! أنا
السيايس الذي هو محض «أيديولوجيا» ّ تمتح من امليكافيليّة والخداع ونشدان
«أيديولوجيًّا» عىل الرغم من جنوحي إىل هذه الصيغة أو تلك يف
الديمقراطيّة التمثيليّة؛ ألنها تعبري
«داعية» لهذه الصيغة أو تلك من العلمانيّة ،وأتوق إىل تجاوز هذه
املنفعة الخالصة والسيطرة -يتقبّل عن اإلرادة العامة للشعب أو األمة ،وهذا يُوافق صريح النصوص الدينيّة .وأنّ (إسالم التيار
األغلبي) يتقبّل العمومي أو ّ ّ الليرباليّة االجتماعيّة؛ ألنّ
هذه الليرباليّة تعني الحريّة
لجميع أفراد املجتمع والعدالة واملساواة لكل املواطنني ،وهذا ً أيضا يُوافق صريح ال ّنصوص الدينية ،وأنّ األغلبي) العمومي أو (إسالم التيار ّ ّ
مجال األفكار والنظم االجتماعية -السياسية .وال أرغب يف أن أكون
املصطلحات التي باتت «صدئة» .ما أطلبه اليوم وغدًا هو أن يحمل
املستقبل لشعوبنا العربيّة وألجيالنا القادمة ،عىل وجه التحديد،
العربي العدالة والحريّة «الدولة العادلة» ،التي تكفل للمواطن ّ والرفاهيّة واالستقالل واإلرادة وال ّنزاهة والطمأنينة ،وما أسماه أبو الحسن املاوردي قديمًا «األمل الفسيح». ُ بعض التحليالت االجتماعيّة والنفسيّة إىل تص ّور ● تميل تاريخي لثقافتهم، تاريخي لألفراد ،بمعنى أنهم امتداد كيان ّ ّ
شمولي األيديولوجيا ،بما هي نظام ّ اقتصادي- سياسي- اجتماعي- فكري- ّ ّ ّ ّ أخالقي ،ما زالت حية ترتع ،وبشدة ّ األيديولوجيات وعنف ال يقالن عن شدة ّ اآلفلة وعنفها
العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
فهمي جدعان :تحليل الواقع يعتمد على قول المفكر ال على رغبة المثقف
َّ املؤسسة عىل العنف ،وتسويغ اإلذعان ونتاج لها .فالثقافة ً طريقا إىل العفة ،هي التي بوصفه طاعة ،وقهر النساء بوصفه
ُتنجب أدبيّات دينيّة تمجّ د العنف ،وتدعو إىل إحراق املخالفني وسوْمهم سوء العذاب .ولنا يف تراثنا ّ أدلة كثرية عىل ذلكَ . َ فلم
العجبً ، إذا ،من شيوع «الداعشيّة» يف املمارسة والسلوك،
العربي يف هذه اللحظة املرتبكة؟ وهيمنتها عىل خيارات الفرد ّ
ال عجب أبدًا؛ ألنه ال شك عىل اإلطالق يف أمرين :األولالتاريخيّة الثقافيّة للفرد ،والثاين «الربمجة الوجدانيّة» ّ املبكرة .يف
الحالة األوىل تنتج الثقافة التاريخيّة أبناءها ،ومن بني هؤالء من ّ «حظه» أو «ظروفه» إىل الوقوع يف براثن أفراد أو دعاة أو يوجّ هه أحزاب أو جماعات أو أسرة «أبويّة» ّ تمثلت التجربة التاريخية بعيون
العنف ،فيذهب هؤالء يف هذه الطريق أو تلك .ويف الحالة الثانية تقوم «الربمجة الوجدانيّة» ّ املبكرة بتشكيل الشخصيّة وتوجيهها يف
هذه الطريق أو تلك .ليس ثمة أخطر من مرحلة الطفولة والفتوّة، ّ تتشكل الشخصيّة الفرديّة و(األنا) العميقة ،وفيها أو الصبا .فيها تتحدّد النزعات االنفعاليّة والعاطفيّة األساسيّة التي تحكم
ملموسة .وعىل الرغم من أنّ «الثقافة الكونيّة» ()global culture
املقرتنة بـ(العوملة) تسهم يف التغيريات الحداثيّة ،فإنّ هذه الثقافة تحمل ً أيضا عناصر مضادة للحداثة الحقيقيّة .ويف جميع األحوال
ّ التحكم ال مف ّر من هذه التغيريات ،لكنّ املشكل يكمن يف قدرتنا عىل فيها وضبطها والسيطرة عليها .يف ّ ظل األوضاع الكارثيّة والفوىض
الضاربة يف ّ كل مكان ،ليس لديّ القدرة عىل «التكهّن» والتنبّؤ». دائرة اإلفتاء غري مغلقة
● ربما ينتسب إىل هذه الفوىض العارمة ،ما نب َ ّهت إليه يف
كتابك «تحرير اإلسالم ،ورسائل زمن التحوالت» من هيمنة األساطري والخرافات التي تش ّوه صورة اإلسالم ،كما يتجلىّ ذلك
ً «دينا يف فضائيّات ووسائل إعالم ُتشيع أفكارًا تجعل اإلسالم ً خرافيًّا» .أال تعتقد ّ إسرافا يف إصدار أن بموازاة هذه الصورة املفزعة
الفتاوى التي تسجن الكائن يف زنزانة الحرام والحالل ،وتنزع عنه قدرته عىل التفكري بعقل مقاصديّ ُي ّ صدع سلطة هؤالء الفقهاء، وال يقيم ً وزنا لها؟
املستقبل ،ال الفرديّ فقط ،إنما ً الجمعي؛ لذا كانت «الرتبية أيضا ّ ّ املبكرة» و«الثقافة القاعديّة» الصحيّة التداوليّة هي الضامن األساس
بكل تأكيد .وبخاصة أنّ دائرة اإلفتاء «غري مغلقة» ،وأنّ الذينيتصدّون لإلفتاء يأتون من كل حدب وصوب ،تتو ّزعهم املذاهب واألهواء والقيود ،وتصدر عنهم آراء «خارقة» ،فضلاً عن أنهم
● هذا األمر يقودنا إىل ّ السجال املندلع يف غري ما مكان يف
الهولستيّة ،الشموليّة ،وإىل اإلحاطة بالعلوم
داعيش». و«طبيعي»« ،غري لنم ّو سليم ّ ّ
َ العالم وتطوّراته الجوهريّة ،ويفتقرون إىل الرؤية غرباء عن حركة
العالم العربي حول تطوير املناهج املدرسيّة
اإلنسانيّة واالجتماعيّة الدقيقة .أعتقد أنّ قضية
والعقالين العلمي وتحديثها ،وحقنها بالفكر ّ ّ والتنويريّ .هل ترى ّ أن ذلك ممكن يف ظل «انسداد
«اإلفتاء» واحدة من القضايا املربكة والعويصة ّ تتطلب «رؤية يف النظام الديني اإلسالمي ،وأنها
اآلفاق» ،ال سيما إذا علمنا ّ أن تعديل املناهج لن ُيثمر ما نتمناه ما دام ّ أن ثمة «منهجً ا خفيًّا» ّ ّ يتمثل يف املدرسني الذين ينتسبون ،يف جلهم ،إىل
لكنّ الخوض يف شعابها ويف تقنيّاتها ال يدخل يف
-أعلم جيدًا أنّ «الصعوبة» خارقة ،وأنّ ما
● تدعو ً أيضا يف «تحرير اإلسالم »..وأنت
راديكالية» .أنا أنبّه فقط إىل عقابيلها ومخاطرها، مجال كفايتي واهتمامي.
ُّ التزمت والخرافة؟ أيديولوجيا
تتأمل يف حال اإلسالم اليوم ،إىل التح ّول عن
املنطقي» يتلبّس املشكل :نريد تحديث يشبه «الدور ّ الرتبية بأدوات «غري حديثة»! كيف نستبدل ما هو ّ واملعلمني- خري بما هو أدىن؟ من أين نأيت باملربّني
العلميّني ،العقالنيني ،التنويريني ،يف مؤسسات ّ والخرايف؟ وأين «الدولة الحكيمة» والعقيل تنضح بالتخلف الفكريّ ّ ّ
منهج قياس الغائب عىل الشاهد ،والذهاب إىل معطيات الواقع املباشرة واشتقاق
املبادئ منها .عىل من تقع هذه املهمة؛ عىل ً خوفا من سلطة «اإليمان الشعبي» املفكرين ال َوجلني املرتعدين وغلوائه ،أم عىل «الفقهاء» املرتبطني بمصالح السلطات
التي تتبنى سياسات تتوافر فيها هذه الشروط يف قبالة قوى ومؤسّ سات رافضة؟ لن ّ أتكلم من جديد عىل «اآلفاق املسدودة»..
الحاكمة والناطقني باسمها؟ أليس هؤالء هم األوىل بالتحرير..
الدعوة والدفاع عن «مبادئ الحداثة» ،من خالل الجهود املتضافرة
-التحرير يجب أن يطال الجميع .العيوب والتقصري ماثالن يف
وبصراحة ال أكاد أرى من طريق للعبور والخروج إال بمزيد من
التي يبذلها املثقفون املستنريون ،واملفكرون ،ومنابر الرأي، واملؤسسات الثقافيّة الحديثة ،والضغط املستمر عىل الدولة من أجل
إحداث التطويرات الضروريّة .نحتاج إىل أزمنة ممتدّة إلدراك نتائج
والتطهري؟!
ّ حي ومجال .منهجيًّا ُ قلت دومًا :إن نقطة االنطالق ينبغي أن تكون كل ّ
هي املعطيات املباشرة للواقع املعيش .واملبادرات «النقديّة» ينبغي اإلسالمي نحن نعلم الديني أن توجّ ه إىل كل القطاعات .ويف املجال ّ ّ
101
حوار
أنّ الفقهاء هم الذين ّ شكلوا «العقل اإلسالمي» وأسهموا ،بالتايل،
وتدويلها ،ودخلت (داعش) و(القاعدة) عىل الخط ،ولم يعد الربيع ربيعً ا .وبعد أن قلت :إنّ للتاريخ حِ َ يله ،وإنّ الجدليّات االجتماعيّة «ولاّ دة» ،قلت ما قاله أرسطو وك ّرره آخرون« :إنّ
عن مدى ما أصاب دين اإلسالم من اجتهاداتهم امللتبسة أو املربكة. «املتكلمني» وافرتاقهم ً ّ ال شك ً فرقا ومذاهب قد أيضا يف أنّ تناقضات
قد نجم -وال داعي لإلنكار -وأنّ الحدث قد فقد «براءته األوىل»
يف الفوىض العمليّة يف الحياة اإلسالمية املشخصة ،وذلك بسبب اختالفاتهم التي لم تكن رحيمة دومًا ،وبسبب ما صدر عنهم من أحكام ومن فتاوى وتقديرات يكشف التحليل و«التفكيك» الدقيقان
«السيايس» فاقمت من فوىض «االعتقاد» يف اإلسالم .كما أنّ استبداد ّ ـ«الديني» قد أسهم يف هذه الفوىض ويف «الجوْر» الذي لحق بدين ب ّ اإلسالم .فالتطهري والتحريرً ،إذا ،مطلوبان يف جميع القطاعات املعرفيّة والعمليّة الدينيّة ،وليس فقط يف «عقل العامة» الغارقة يف
ّ التعصب والخرافة والجهل .املشكل عميق ،وشامل ،ويزداد اتسا ًعا وشدّة يومًا بعد يوم.
● تصف «الربيع العربي» ووعوده ،بـ«الربيع الكاذب»ّ . لكنك
يف أكرث كتبك وأبحاثك تراهن عىل انبعاث اإلرادة العربيّة من رماد ّ والتخلف واالستعباد .أال يمكن أن نكون عىل موعد قادم القهر
حقيقي» يفي بوعوده الجماليّة ،وال سيما أن مربّرات مع «ربيع ّ ودواعي هذا الربيع «االنفجاريّ » ال تزال شاخصة؟
-لم يكن لسعاديت حدود حني انفجر الحدث األول والثاين
102
والثالث ،وحني خرجت الجموع تصدح بالحرية وبالعدالة ُ عقدت آمالاً خارقة وبقهر االستبداد وبالعيش الكريم .وقد عىل املستقبل .واعتقدت أنّ تلك كانت فعلاً ً «أعراضا ربيعيّة»، تطل كثريًا؛ إذ تمّت َ ْ أقلمة الظاهرة لكنّ «املرحلة الربيعيّة» لم
طائر سنونو واحدً ا ال يصنع الربيع»! من املؤكد أنّ خللاً عظيمً ا
ومجده العظيم ،وأنّ التصوّرات الكارثيّة التي جرت وتجري ليست هي ما نطلبه من أجل الخروج من النفق .هل يتعارض
ُ جريت عليه يف جملة أعمايل؟ أبدً ا .ألنني هذا التقدير لألمور مع ما ّ متعل ًقا بأنّ التاريخ «ولاّ د» ،وبأنّ له «حِ يَله»، ما زلت وسأظل ً صادقا ،نزيهًا ،جميلاً .. وأنّ علينا أن ننتظر ربيعً ا قادمً ا ،حقيقيًّا،
بديهي ،وهو كما تقول :إنّ مسوّغات ودواعي هذا لسبب بينّ ، ّ
«الربيع االنفجاريّ » ال تزال شاخصة تطلب حقوقها ،وتطلب هذه
الحقوق بقوة.
الفقهاء هم الذين ش ّكلوا «العقل اإلسالمي» وأسهموا ،بالتالي ،في العملية في الحياة اإلسالمية الفوضى ّ المشخصة ،وذلك بسبب اختالفاتهم
دوما ،وبسبب ما التي لم تكن رحيمة ً صدر عنهم من أحكام ومن فتاوى وتقديرات
أنا في وضع «سيزيف».. أتحمل وأطيق وأصبر وأقع وأقوم ُ ّ التقدم عند مفكري اإلسالم يف العالم العربي الحديث» حتى «مرافعة للمستقبالت العربيّة ● منذ «أسس أن الواقع يخون والعقل يخون واإلرادة ّ املمكنة» وأنت ّ ّ وتعد اليأس خيانة ،مع ّ تتنكب ُ ترتنح .هل تحمي، سبل األمل، ّ ّ يكف عن املفكر من التساقط يف هوة العدميّة ،أم أنك تتمثل هيئة «سيزيف» الذي ال يف رهاناتك املتفائلة هذه ،صورة
رفع الصخرة إىل أعىل الجبل كلما تقهقرت إىل قاع الوادي السحيق؟! ـ ـ ـ ـ ـ ـ «الوضع الوجودي الذي ّ عيل دومً ا أن أتحمّ ل وأطيق وأصرب وأكافح.. أتقلب فيه منذ (الخروج) هو الوضع الرواقي .كان ّ أقع وأقوم ،ككثريين من أبناء جييل ووطني .بهذا املعنى أنا يف وضع «سيزيف» .لكن من ناحية أخرى ،مقرتنة بالوضع نفسه، أنا ال أطيق العدميّة ،وال أطيق «الخيانة» .وبني العدميّة من طرف ،واألمل من طرف آخر ،أختار األمل ..ألنه ما الذي ّ يتبقى
حني نفقد األمل؟!
● تحدثت عن العقل الوجداين أو الرتبية الوجدانية أو إعادة الربمجة الوجدانيّة لإلنسان .أنت تراهن كثريًا عىل َ ً جنيت شخصا ومفك ًرا .ماذا «الوجدان» وتراه رافعة أساسيّة لتحقيق النزاهة .ودعني أقول :إن «النزاهة» جز ٌء منك
من النزاهة .وهل جنت عليك؟!
العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
فهمي جدعان :تحليل الواقع يعتمد على قول المفكر ال على رغبة المثقف
● ُتميّز بني «املفكر» و«املثقف» ُ فتعيل من شأن األول ،العتقادك
الصارم ،كما تقول ،بأن «الكلمة الوثقى هي لقول املفكر ،ال لرغبة املثقف» .أال يكتنف هذه املراتبيّة استعال ٌء من نوع ما؟
-هذا التمييز ضروريّ ،وهو يخفى عىل الجميع .وليس املقصود
«الوظيفي» لكل منه اصطناع تراتبيّة أو طبقيّة ،إنما املقصود التحديد ّ ّ ُ ذهبت فيه إىل أنّ منهما .كان يل قول ّ «املفكر» مفصل يف هذه املسألة،
ّ مبسط ومثري .هل يدهشك هذا األمر. كتبها معروضة بشكل
َ وإالم تحيله؟ لاً ال .ال يدهشني أبدًا .أستحضر قو ألرسطو يف مطلع (مابعد الطبيعة) هو أنّ ّ كل الناس ينشدون بصورة طبيعيّة املعرفة،
وبخاصة املعرفة املن ّزهة عن املنفعة .الذي يحدث يف الغالب األعمّ
هو أنّ الناس ينفرون من الفلسفة بسبب التجريد الذي يتلبّس أعمال الفالسفة ،لكن إذا ُقدّمت الفلسفة لهم بلغة وأسلوب
يتميّز باملرجعيّة العقليّة ،والفلسفيّة والعلميّة ،واملوضوعيّة -بقدر اإلمكان -وال ّنزاهة ،والتح ّرر -بقدر اإلمكان -من الذرائعيّة والنفعيّة
مبسطني فإنهم سيُقبلون عليها؛ ألنهم يريدون مكافحة «الجهل» ّ
ّ «التدخل املباشر املشخص» والجنوح الشديد إىل ويلجأ يف ذلك إىل
«الفلسفة العمليّة» -أعني الفلسفة السياسيّة والفلسفة األخالقيّة-
والهوى أو «الرغبة» ،وغائيته األساسيّة التحليل والتنوير والنقد واالقرتاح .أما ّ املثقف فإنه يطلب بالدرجة األوىل «تغيري الواقع»، األدلة «الخطابيّة» أو «الشعريّة» أو «االحتماليّة» املقرتنة بالرغبة
يقيني «معقول» يف كثري من األحيان .لكنني التي تتجاوز ما هو ّ ً أضفت أنّ ّ «مثقفا» يطلب التغيريّ ، املفكر يمكن أن يكون ً ومثلت أيضا
الذي يهاجمهم ،ويريدون أن يفهموا العالم والعصر اللذيْن يزدادان ً غموضا وتعقيدًا .ومع ذلك ،فإنّ الذي يبدو يل هو أنّ حولهم هي التي تثري اليوم االهتمام األكرب لدى الجمهرة من الناس.
لذلك بإدوارد سعيد .ويف جميع األحوال ،املثقف يحتاج حاجة ماسّ ة
إىل املفكر وأدواته العلميّة والفلسفيّة املنضبطة والضابطة .ويف أمر
فهم الواقع وتحليله وتوجيهه ينبغي ،يف رأيي ،التعويل عىل «قول»
املفكر ،ال عىل «رغبة» املثقف .و«القول» يُحيل إىل العقل والعلم، و«الرغبة» ُتحيل إىل الظنّ والشهوة. ً ُ ُ الناس من محبّي مرموقا عما يرغب سألت ناشرًا عربيًّا ●
املعرفة يف قراءته ،فلفت انتباهي إىل أمر أدهشني يتمثل يف
إقبال عدد كبري من القراء عىل الفلسفة ،وال سيما إذا كانت ً كنت يف أيّ يوم مىض أشدّ ُ اقتناعا وأصلب عودًا يف الدفاع عن حتميّة الربمجة ـ ـ ـ ـ ـ ـ كالم جميل! لك ّنني اليوم ،أكرث مما
الوجدانية «الصحيّة» ،النبيلة ،النزيهة ألبنائنا ،اليوم وغدً ا؛ ألنّ غياب هذه القيم واملبادئ التي ينبغي أن تقرتن بها الرتبية يفسر التدليّ والتخلف والعقم الذي ّ الوجدانيّة ّ يغلف ويتلبّس هذه األجيال املتأخرة من شعوبنا العربيّة ومن املبكرة هو الذي ّ
ّ «املهذبة» عىل وصفه .وأنا شخصيًّا سعيد جدًّ ا ألنك تنسبني إىل ال ّنزاهة ،وأنا العربي الغارق اليوم فيما ال تقدر لغتي إنساننا ّ ًّ ّ ُ ْ عيل؟ أنا أسألك! هل كنت أتصف بها حقا .تسألني :ما الذي جنيته من هذه النزاهة؟ وهل سعيد جدًّ ا بهذه النزاهة إن جنت ّ ُ َ استسلمت لإلغراءات غري النبيلة التي عرضت يل؟ هل كنت سأكون نبيلاً لو أنني كنت ستعتقد أنني سأكون أفضل لو أنني ُ ُ وبعت نفيس للشيطان؟ هل سيكون ضمريي مرتاحً ا لو أنني فعلت ،مثلما يفعل كثري من املثقفني و«املفكرين» األدعياء، ُ ُ ورضيت أن أتحوّل إىل «مرافق ذليل» أو مستشار تافه لرجل دولة أو مال أو جاه؟! تنازلت عن كرامتي،
كنت سأكون أسمى وأعظم وأخطر لو ُ هل ُ كنت وزي ًرا أو رئيس جامعة ،أو صاحب مُ لك أو مال وضيع؟! صدّ قني ..النزاهة
ُ ً شخصا ومفك ًرا ،كما تقول .وعىل األقل هي منحتني الرضا الداخيل، جنيت منها ..جنيت منها كثريًا عيل ..أنا الذي لم تجن ّ ِ
والنبل ،والثقة بالنفس ،واالعتزاز بالذات ،واحرتام اآلخرين يل ،واحرتامي لنفيس .ويكفيني أنك َ أنت ومن يقاربك يف الفهم ً والخسة ذيوعا وانتشارًا وتأثريًا إىل النذالة والتقدير تنسبونني إىل هذه القيمة النبيلة ،يف الوقت الذي تنسبون أكرب األسماء ّ
ُ الطبيعي أن أجنح إىل دافعت دومً ا عن القيم ،وجعلتها املبدأ الرئيس لكل إصالح وتقدّ م .لذا كان من والكذب والنفاق! لقد ّ لاً ً ال ّنزاهة والنبل واالستقامة ،وأن يُقال بعد مغادريت هذا العالم :كان نبي ،نزيهًا ،شريفا ،ولم يطلب ما يطلبه اآلخرون الذين ّ والذل. يرفلون بثياب الع ّز والنذالة
103
مقال
صادق جالل العظم.. نقد الذات أقوى من كل انتماء كان «نقد الفكر الديني» كتابًا في نقد السلطة بعد
فتحي المسكيني
كاتب تونسي
وهو نوع من تزييف النقاش حول الدين في ثقافتنا ال يزال ًّ ممتدا ،طالما توجد دول تستفيد منه في تعميق مشروعيتها
بدأ هيدغر ذات يوم أحد دروسه عن أرسطو قائلاً :
الروحية .قال العظم في مطلع الفصل األول من هذا الكتاب:
بأعماله وليس بسيرته الذاتية .بل أكثر من ذلك أنّ الفيلسوف ليس له حياة يوميّةّ ، وأنها بالتالي ال تعني من يؤرّخ لفكره
باعتباره ظاهرة روحية نقية وخالصة على نحو ما نجدها في
«لقد وُلد ،وعمل ،ومات» .كان القصد هو أنّ علينا أن نهتمّ
بوصفه مقطعً ا من تاريخ العقل البشري أو من تاريخ حقيقة
104
هزيمة عام 1967م ،وليس في نقد الدين بالمعنى المحصور؛ لذلك فإنّ اتهامه باإللحاد كان ّاتهامً ا سياسيًّا ،وليس عقديًّا.
الكينونة .يأتي الفالسفة كي يقولوا كلمة واحدة لإلنسانية كما كان ير ّدد جبران -ويذهبوا ،إال أنّ المشكل الصامت هناهو أنّ الثقافات ال تكون جاهزة بالقدر نفسه للقاء معهم .وهم
يتقاسمون هذا القدر الخاص مع عظماء اإلنسانية اآلخرين في كون الحديث عنهم أو معاداتهم أو مصادقتهم ..هو موضوع
يسيل لعاب العقل اليومي وكل من يقف وراءه ،سواء أكان فقهاء الملة أو ّ موظفي الدولة الحديثة. في هذا السياق الدقيق تأتي تهمة «اإللحاد» التي تصاحب الفالسفة ،وبخاصة ّ كل من أخذ ا ّدعاءات العقل البشري
«عندما أتكلم عن الدين في هذا البحث ،ال أقصد الدين
حياة قلة ضئيلة من الناس كالقديسين والمتصوفين وبعض الفالسفة ...إنّ بحثي يدور حول إنسان معاصر (اسمه س)
ورث اإلسالم بمعتقداته وقصصه وأساطيره ورواياته كجزء
جوهري من تكوينه النفسي والفكري ..والسيد (س) ليس له وجود واقعي مئة بالمئة؛ ألنه يشكل حالة نموذجية، والنماذج نوع من التجريد ،ولكن من جهة أخرى إن (س) هو –إلى حد ما وبدرجات متفاوتةّ - كل واحد منا ولذلك ال بد وأن
يهمنا أمره للغاية» .إنّ نقد الفكر الديني هو إذن «نقد للذات»
بالمعنى القوي للكلمة ،وهو «نقد لإلنسان المعاصر» الذي هو ّ «كل واحد م ّنا» بدرجات متفاوتة .هذا هو ّ لب الفلسفة؛ أن
ّ تفكر في اإلنسان بما هو إنسان ،وإنْ كان ذلك سوف يتمّ دومً ا
ّ الجد .اإللحاد ليس تهمة حول نفسه أو حول عالمه مأخذ
بوسائل ومشاكل ثقافة بعينها.
البشري في طبيعته التي جُ بل عليها .هذا درس كانط الكبير. لكنّ الفلسفة ليست إلحا ًدا .ومن فهمها أو يفهمها على هذا المسمّ ى هو ي ّتهم عقله ً سلفا ،وال ي ّتهم ً أحدا.
طريق متسق وعميق
شخصية أليّ فيلسوف ،بل هي إزعاج داخلي يحمله العقل
ُّاتهم صادق جالل العظم باإللحاد ّ مدة طويلة ،وحوكم
بسبب كتاب «نقد الفكر الديني» (1969م) .وفي الواقع إنّ
من كتاب «نقد الفكر الديني» (1969م) إلى تأييد الثورة
السورية (2016-2011م) يبدو لنا طريق الروح في كتابات العظم ً م ّت ً وعميقا .طبعا علينا أن نتساءل للتوّ :ما الرابط سقا النسقي واألخالقي بين عناوين «النقد الذاتي بعد الهزيمة»
موضوع هذا النقد لم يكن «الدين» في ماهيته الخاصة سواء
(1968م) أو «ذهنية التحريم» (1997م) حتى «الحب والحب العذري» (1981م) ،وموقف المؤلف من الثورة السورية راه ًنا؟
فقط نقد لما سمّ اه «الذهنية الدينية» (نقد الفكر الديني.
وأخالقي عميق .فمنذ عام 1968م (هزيمة الدولة القومية أمام
أكانت روحية أو ميتافيزيقية .ال يحتوي الكتاب على مناظرة فقهية أو فلسفية مع علماء الدين أو فالسفة الدين .بل هو
العظم) التي تشرعن لنمط معيّن من السلطة التي يدافع عنها واع ومتعمّ د» (نقد الفكر الديني). ويؤقنمها «إنتاج فكري ديني ٍ العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
لنقل بسرعة :إنّ هذا الرابط ليس سياسيًّاّ .إنه رابط فلسفي
عدوّها االستعماري) إلى عام 2011م (هزيمة الدولة األمنية أمام
شعوبها) -من كتابه «النقد الذاتي بعد الهزيمة» (1968م)
إلى كتاباته األخيرة حول الثورة السورية (منذ 2011م)ّ ، ظل العظم يكتب كي يقاوم أو ينقد ً نمطا مع ّي ًنا ًّ جدا من السلطة
ظل صادق جالل العظم يكتب كي يقاوم ّ
العميقة؛ ّإنها السلطة التي تشرعن إهانة اإلنسان داخلنا وفق
معي ًنا ج ًّدا من السلطة نمطا أو ينقد ً ّ
دينيًّا أو سياسيًّا أو أخالقيًّا.
محدد إهانة اإلنسان داخلنا وفق منطق ّ
ّ محدد هو منطق االستبداد .وال فرق إن كان االستبداد منطق في كتاب «النقد الذاتي بعد الهزيمة» ّ كل ما أثبته
العظم هو سؤال عميق عن المسؤولية ،تحت عنوان «النقد الهادف» ،أي نقد األوهام ،وليس مص ّن ًفا ً بارعا في الهزيمة. هو كتاب في نقد المسؤولية ،وبخاصة عندما تكون الهزيمة
هزيمة «اإلنسان المعاصر» فينا .وعلى الرغم من اعتراف
المؤلف عام 2007م بأنّ «عالمات التسرّع واالرتباك ظاهرة في نص الكتاب»ّ ، وأنه ُ «كتب تحت ضغط احتقان نفسي شخصي وجماعي هائل» ،فإنّ غرض الكتاب كان بالتحديد تسجيل
«األثر االنهياري المهول الذي تركه ذلك السقوط اللحظي ً أحيانا -بأكمله» المريع في جيلنا -جيل الستينيات كما يسمى (النقد الذاتي بعد الهزيمة .العظم)ّ . ضد الدولة المهزومة عاد
العميقة؛ إ ّنها السلطة التي تُشرعن هو منطق االستبداد .وال فرق إن كان االستبداد دين ًّيا أو سياس ًّيا أو أخالق ًّيا في ّ توقعاته بأنّ ما سوف يسود بعد ّ كل هذه المسألة هو
«مزاج التدين الشعبي السوري البسيط والسمح الذي عرفت به سوريا المعاصرة» .هو علماني لك ّنه مع الثورة سواء َتعلمَ ْ نت أو َتأسلمت. ّ وبكلمة أخيرة :ليس أقل بركة للثورة «إعادة الناس إلى السياسة» ،كما قال ،بل ً أيضاّ :إنها إعادة صادق العظم إلى األفق الروحي لشعبه :الثورة مطهرة من كل إلحاد.
العظم كي يكتب منذ اندالع الثورة السورية عام 2011م ،وهو دفاعا عن فوضى الشعوب ،بل ّ ً ضد النمط ال يكتب الدكتاتوري من السلطة ،الذي صار منذ عام 2011م
ً فاقدا للشرعية سواء نجحت الشعوب في إسقاطه أم لم تنجح.
ضد اضطهاد الحرية
ّ ّ كل يتطلب وكعادة الفالسفة
فهم دقيق ألفكار العظم أن ينصت ّ ّ التلطفات التي بحدة وبخاصة إلى
يجريها التفكير الفلسفي على المسائل التي يعالجها ،فكما ّأنه لم يكن ّ ضد الدين
بحد ذاته عام 1969/1968م هو ً أيضا ليس ّ ّ ضد الدولة الحديثة بما هي كذلك بعد عام 2001م؛ إنهّ
في المرّتين ّ ضد اضطهاد الحرية مهما كان شكل المعركةّ .إنه مع الثورة بالمعنى المعاصر لك ّنه ال
يرى أي مستقبل للشرعنة الدينية لها .هو ينقد التطرّف وذهنية التحريم لك ّنه يعتقد أنّ اإلسالم قادر على تحمّ ل نقد الفكر الديني ّ درس العلمانية واالنسجام معهاَ . ألنه يخشى اإلسالم السياسي وأسلمة الثورات المدنية المفرطة والمتعمّ دة ،لك ّنه وقف مع الثورات التي خرجت من المساجد. هو يؤمن أنّ الشعوب هي على ّ حق دائمً ا ّ ضد الطغاة ّ والمستبدينّ .إنه فيلسوف تحمّ ل مسؤوليته
«النقدية» طيلة حياته ،لك ّنه ال يتر ّدد
105
مقال
عبدالله ثابت شاعر وكاتب سعودي
الهوة مشاجرات ّ «السكوونك» ميلي أيتها الروح صوب النسيم المباغت ،اعبري
ً عالقا هكذا تتشاكل روح الشاعر كجدول ،تترك هياجً ا
الحياة ،كأنك آخر جواد سيصهل ويقفز قبل القيامة. -حس ًنا ،كيف صرت بهذا الطريق؟
يرخي الشاعر عضالت قلبه؛ أريد لمحتي الخاطفة ،أن
ت ّنورك الوجودي ،ضعي قدميك الحافيتين على جمر
تواطؤ الحياة. ًإذا أردت دربًا وعلقت بآخر؟
106
-علقت بالهباء.
يرمي الشاعر عينيه في الج ّو كالمأخوذ ،يشعر أن
زوبعة تغلي في صدره ،ال ليست زوبعة ،بل أزل مبهم، ّ ويحك كوحش شديد الضراوة يربض داخله، شيءٌ ٍ
صدغيه في قلبه .قلبه الذي يستحيل شي ًئا فشي ًئا جُ ح ًرا
لعقارب الحزن .من يشبهه من ،وكأنه خرج على الناس
كوكب مهمَ ل! من مقبرة ،أو سقط من ٍ ُ يفكر الشاعر :الله! لو أدري مِ مّ خلق السهاد! ً حياة كاملة من الشتائم ،أم من الحِ دّ ة! أدري أن
في الوادي ،ويومً ا ما ستنمو على فقدانه قرية. أتس ّرب في عتمة الفناء.
قل ما بنفسك ،ال تستطيع ،إنك في الجحيم ،مليء
بالريبة واألعين التي تخافك وتخافها .إنك في الجحيم. حيوان بورخيس
كتب مرة نزيه أبو عفش عن حيوان خورخي بورخيس،
نقلاً عن كتابه «حيوانات خرافية» كان يحكي عن حيوان
غريب ،يدعى «السكوونك» حيوان خجول وعاطفي ،حزين
وشديد االنطواء ،له فرو نادر ودموع معطرة ،وألنه خجول وحزين فهو يمضي حياته كلها مختب ًئا بين أغصان األشجار، ال يفعل شي ًئا غير أن يبكي ويبكي ،وهكذا يتمكن الصيادون من تعقب آثار دموعه العطرة ،تحت قمر الليل ،وعندما
تؤلمني ،تؤلمني في جسدي كلهِّ . أقلب عيني في ّ أهش العدم ،أقفز في بِ ْركة الخفاء ،فتنبت النواحي،
يذوّب نفسه إلى دموع ،الشاعر هو ذلك الحيوان.
في عرائس ألبير كامو أنه «عندما تصوح زهور ّ العليق إلى اللون البني ،األشياء الشاي ،تتحول أزهار
إن الشاعر يبكي فقط من ضيق الخطوة ،من ال ِق ّلة ،من ً خربة ،ال يدري كم بقي في حوزته األيام وهي تصير كومة ِ
ٌ زنبقة بجوار حائط.
جميعً ا تتبادل األماكن ،وهناك دائمً ا ما يذهب ،ودائمً ا ما يجيء ،تختفي لتأتي في مرة أخرى في موسمها،
وحتى تلك األيام الرائعة المخيفة ،حين تصفو الريح
الباردة خالل غابة الصنوبر ،يكون حفيف األوراق ً متهالكا في الحديقة كلها ،حينذاك تأتي المتساقطة أغنية أخرى ،تجربة جديدة ،حكاية». ماذا عن الزنابق ،أهنّ ُشهْل؟ -الضواري شهباء.
العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
يحاصرونه ،وتغدو نجاته مستحيلة ،فإنه يواصل البكاء حتى
من هِ ّزة ،فيستغرق في اإلنصات والعدّ .ال يدري ما الذي بقي في ّ كف العالم ليعطيه إياه ،لكنه يحدّ ق مليًّا في زنديه المقشع ّرين.
-لم تتكيّف بعد؟
لم أقبل العالم ،ال فائدة مني .صدري مرقط ،وأعرفالغبَش ،ال منتهى َ أنه ال طائل من هذا َ ألسَ اي ،ووحشي الذي لم يُروّض ينهشني. ٌ شهيق هذا أم رائحة! -أهو
كبيت لم يعد مأهولاً بغير بل أضحك كطفل مخبول،ٍ ْ الخدوش في بابه والنوافذ ،ومقاعد الخلب اليابس. يمشي الشاعر دونما جهة وهو يسأل هذه الهداهد
والينابيع والنسوة ،ألي ساللة تعود؟ للشعر!
بحقل سقاه، يمشي ويمأل أواني ال تحصى ،وكلما م ّر ٍ
وإذا ما تعب جلس على التل ،وراح يتأوّه؛ لن يحزم الزمن ً مكانا ليذهب إليه .سيبقى كاألبدية في قلب متاعه ،لن يجد
صبي فتا ٍة كبرت ،وهي ال تعرف كيف تلبس نعليها .في روح ٍّ ُ يرمق قلبَه من بعيد. إذا مات الشاعر -يموت الشاعر؟
-يضع يديه في أكمامه بخجل ،ثم يسكت لألبد.
خوزيه ساراماغو في كتابه «ذاكرة األشياء الصغيرة»،
ّ علق تحت صورته القديمة ،وهو يقف واضعً ا يديه بداخل جيوبه« :جيوب البنطلون هي مخبأ الخجولين».
حس ًنا ،إذا مات شاع ٌر في مكان ما من هذا الوجود،
مكان آخر شجرة ،وتساقطت أوراقها قبيل الفجر. ماتت في ٍ ٌ إذا مات شاع ٌر انطفأت نجمة ،وتخاصم حبيبان ،وضاع
خاتمٌ ،وأصبحت الدنيا ّ أقل.. إذا مات شاع ٌر أُوصدت نافذة ،وبكت خلفها الفتاة ُ القهوة المواعيد، والسقف والوسادة ،وإذا مات شاع ٌر تنسى
ّ الطل من الزهرة ،وال يلتفت الصبح إلى وجه ويعتذر
الحمامة ،والحمامة ال تقف على طرف السور ،ويم ّر الغروب متثاقلاً ومقطبًا حاجبيه ..وإذا مات شاع ٌر ّ غص بنغماته الناي، ويرجع الشتاء أشد كآبة!
في القرى ..ال ينام الشاعر في الليل ،يبقى كالظمأ
يحرس البئر والحزانى ،ويقسم للجافلين أن لن يفزعهم ،وأن
لن يحول ما بينهم وبين الدلو.. ٌ وفي القرى َ أول ما يتمتم طفل باألغنيات والشعر تأتي
الغيمة ،وتتمايل السنبلة ،وترى النساء تلك الليلة أحالمً ا غريبة ،ويستيقظن وفي أكفهنّ الح ّناء .أول ما يولد الشاعر.. تصيح الباخرة ،وتتسع األرض أكثر .وأول ما يولد شاع ٌر.. تسهر الحقول ويفرح الكهول ،أمّ ا ّ الظلمَ ة فيحدقون في وجوه بعضهم ،وال يجدون في أفواههم ألسنة!
خائفات، في القرى إذا مات شاع ٌر ..نامت الصغيرات ٍ
وصرخ الجفاء ،وتقافز الجدب والكراهية ،واشتكت الموسيقا
من الوحشة ،وقالت الهموم في وجه الخالئق :إنكم اآلن وحدكم!
الشعراء يذهبون واحدً ا واحدً ا دون أن يخبرونا ما هو
الشعر ،دون أن يخرجوا من صدورهم الورقة األخيرة التي
الشاعر يبكي فقط من ضيق الخطوة، من القِ لّة ،من األيام وهي تصير خربة ،ال يدري كم بقي في كومةً ِ حوزته من ِ ه ّزة ،فيستغرق في والعد .ال يدري ما الذي بقي اإلنصات ّ
كف العالم ليعطيه إياه ،لكنه في ّ المقشعرين يحدق مل ًّيا في زنديه ّ ّ
تركوا فيها الس ّر ،وكيف كانوا يقولون الكالم ..وما هو ذاك اإلشعاع الحا ّر الذي يلوّن الكلمات ،ويضيئها كما تفعل
الكهرباء ..يذهبون واحدً ا واحدً ا إلى هناك ،حيث الموت
ّ نصهم الكبير ،النص الذي يلقنوننا إياه ،يرمونه على مالمحنا،
وحزن ،قبيل الفجر دومً ا ،كما يجدف ثم يخرجون بهدوءٍ ٍ
بصمت وجالل. الغريب الواقف على حافة القارب ٍ
أما شاعر أميركا الخارق بيلي كولنز فقد قال« :إن
األطفال يولدون شعراء بالفطرة ،ولكن عندما يصلون سنّ
البلوغ فإنهم يفقدون الشعر ،أو ينزع منهم ً نزعا .األسوأ من ذلك؛ من يبدؤون في كتابته». يا للسكوونك!
107
قضايا
أبرزت سخاءها للجميع وأعادت ترتيب المراكز التقليدية
الجوائز األدبية في العالم العربي..
شراء والءات أم بحث عن فعل ثقافي حقيقي؟ صبحي موسى
108
القاهرة
لم تكن الثقافة العربية تعرف غير عدد محدود من الجوائز التي يتنافس عليها المبدعون العرب ،فلكل دولة جوائزها القومية التي تمنحها لمبدعيها ،وال يوجد غير جائزتي العويس والشيخ زايد اللتين كانتا في عداد مكافأة نهاية الخدمة ،إذ تمنح للشيوخ على مشروعاتهم الثقافية التي استنفدت أعمارهم ،سواء في الشعر أو الرواية أو الفكر بشكل عام ،حتى إن «العويس» كانت تسمى نوبل العرب ،أما جائزة الملك فيصل العالمية فكان الكثيرون يعدونها جائزة التيار المحافظ ،أما «زايد» فقد كان الرهان عليها قليلاً ،ونادرًا ما كانت التغطيات اإلعالمية توفر مادة جيدة عن الفائز بها.
العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
كانت جائزة نجيب محفوظ التي تمنح مرة لفائز مصري
يف ظل هذا السياق كان ال بد لـ«الفيصل» أن تتوقف أمام
فقد قررت ترجمة النص الفائز إىل اللغة اإلنجليزية ،ومنح الفائز ً مبلغا رمزيًّا قيمته ألف دوالر تخصم من عائد مبيعات أعمال
تعامل النقاد واملبدعون معها ،وكيف تركت آثارها بالسلب أو
وأخرى لفائز عربي هي أوىل الجوائز التي خرجت عن اإلقليمية،
ظاهرة الجوائز الثقافية العربية لنعرف ما لها وما عليها ،وكيف اإليجاب عىل إبداعنا العربي ،وهل األموال التي تغدق عليها
نجيب محفوظ املرتجمة ،ويف يوم ميالد صاحب نوبل تقيم الجامعة األمريكية حفلاً ومؤتم ًرا صحفيًّا بحضور أمانة الجائزة
يف خلق فعل ثقايف حقيقي؟ أسئلة طرحتها «الفيصل» عىل
اسم الفائز ومنحه ميدالية نجيب محفوظ .ظلت هذه الجائزة
فازوا بالجوائز أو تنافسوا ولم يحصلوا عىل يشء ،أو شاركوا يف
وأعضاء تحكيمها وكبار املثقفني املصريني ليتم اإلعالن عن
رغم صغر قيمتها املالية هي الجائزة األبرز واألهم حتى ظهرت جائزة البوكر يف نسختها العربية ،لتخطف األضواء واملبدعني أنفسهم ،ففي حفل إعالمي كبري تتم تسمية الفائز ومنحه ستني ألف دوالر ،ويمنح إىل جانبه كل من وصلوا إىل القائمة
من أجل شراء الوالءات السياسية للمثقف العربي ،أم رغبة عدد من أدباء وكتاب من مختلف البلدان العربية ،سواء ممن تحكيم بعضها ،أو اكتفوا بالنقد والتعليق ،سواء من الشباب أو الشيوخ ،بقصد تعرف رؤية كل منهم وكيف يمكن الدفع بعجلة التطوير إىل األمام.
القصرية عشرة آالف دوالر .هكذا عرف العالم العربي القائمة
أمير تاج السر: كثير من األعمال المقدمة للجوائز نيئة
كبري وقديم عرب منحها ثالث جوائز تخص ثالثة ملتقيات دولية
املفرتض أن يبدع الناس يف كل
الطويلة والقائمة القصرية ،وأخذ الجميع يرتقب إعالن القوائم
واسم الفائز.
من جانبها حاولت القاهرة البقاء يف املنافسة كمركز ثقايف
كما هو متوقع ،فإن من
للشعر والرواية والقصة القصرية ،لكن جوائزها ظلت محكومة
املجاالت الفنية واإلنسانية ،من
بأدائها الحكومي ورغبتها يف مراعاة أبعاد سياسية وجغرافية، ما أفقدها الربيق املطلوب للجوائز الكربى .ثم ظهرت جائزة
دون أن ينتظروا جوائز أو تكريمً ا معي ًنا من أي جهة ،وقد كان هذا التقليد ،أي اإلبداع بال تطلعات
مادية ،سائدً ا يف الوطن العربي حتى عهد قريب ،إذ فجأة ظهرت
كتارا عرب سخاء غري مسبوق لتغطي عىل الجميع ،فألول مرة يف تاريخ الجوائز الثقافية يف العالم العربي نجد عملاً روائيًّا يفوز
الجوائز األدبية ،ظهرت يف البداية عىل استحياء ثم تكاثر عددها،
سينمايئ .امللحوظ أن كل هذه الجوائز للنرث وليست للشعر ،بما
تصيب جائزة ما ،كتعويض بالنسبة للكتاب الكبار ،وكبداية
بنحو ربع مليون دوالر ،إضافة إىل ترجمته وتحويله إىل عمل
وهكذا أصبح للكتاب أمل جديد يف االعتماد عىل كتابتهم ،حني
تساعد عىل امليض يف سكة الكتابة ،بالنسبة للمبتدئني.
فيها جائزة امللتقى التي خصصتها الجامعة األمريكية بالكويت للقصة القصرية .وامللحوظ ً أيضا أن التنافس بني الجوائز أصبح
ويف املقابل ،سلبت كثريًا من القناعة ،وأوجدت لهفة
من أبو ظبي ،ونجيب محفوظ وجوائز ملتقيات الشعر والرواية
للحصول عىل جائزة ،ولذلك قد تجد كثريًا من األعمال املقدمة
عىل مستوى العواصم واملدن ،فالعويس والشيخ زايد والبوكر من القاهرة ،وكتارا من الدوحة ،وامللك فيصل من الرياض، وامللتقى من الكويت ،والطيب صالح من الخرطوم.
جديدة لدى كل من يكتب ،ومن يحاول أن يكتب ،يف الركض للجوائز األدبية ،حتى من كتاب كبار ،نيئة ،وبحاجة لتنضج، لكن ُنشرت لرتكض يف سباق الجائزةً . أيضا نتجت كثري من الغرية
واملدهش أن دول الخليج أصبحت قبلة املبدعني العرب عرب
التي لم تكن موجودة حني كان األدب مجرد تميز طفيف ،ال
العديد من املراكز الثقافية القديمة ،كدمشق وبغداد والرباط
ً مبالغا فيها ،وهناك جوائز ألنشطة كثرية يف الرياضة ،والغناء،
ما أطلقته من جوائز كربى ماليًّا وإعالميًّا ،وخرجت من املنافسة وتونس ،عىل حني ما زالت القاهرة تصارع للبقاء يف مكانها عرب
آلياتها القديمة .ويتضح أنه منذ بداية األلفية لم تعد الجوائز
تمنح بأسماء أمراء وال شيوخ ،فقد حرصت كل جائزة عىل أن يكون لها مجلس أمناء ولجان تحكيم مستقلة ،كما حرصت
عىل عقد مؤتمر صحفي تحضره قنوات اإلعالم ومشاهري الثقافة
والفن لتدشني اسم الفائز أمامهم جميعً ا ،وعىل الرغم من أن
جوائز مثل البوكر وكتارا تقوم برتجمة األعمال الفائزة فإن أحدً ا ال يهتم وال يشعر بمردود لهذه الرتجمات.
عائد ماديًّا له .بالنسبة للقيمة املادية للجوائز األدبية ،فأنا ال أراها
واملوسيقا أعىل كثريًا من أعىل قيمة جائزة لدينا ،وما دامت هناك
مؤسسات تقوم بالتمويل فلماذا نقول بأن القيمة مبالغ فيها؟ نأيت ملسألة األعمال التي قد تفوز يف تلك الجوائز ،وهي مسألة
معقدة خاصة للذي يعمل محكمًا فيها .لذلك لن نقول بأن أي عمل حصل عىل جائزة ،هو بالضرورة عمل جيد وينبغي اتخاذه
مرجعً ا ،وأي عمل طرد من الجائزة هو بالضرورة عمل سيئ ّ الحط من قدره .ودائمً ا عندي رأي أردده وهو أن الجوائز وينبغي
مكسب يف النهاية ،ينبغي الحفاظ عليه ،مهما كانت السلبيات.
109
قضايا
يحيى يخلف: الجائزة توفر للمبدع حياة كريمة
الجوائز نظام معمول به يف الدول
العربي للفنون اإلبداعيّة (شعر ،رواية ،قصة ،رسم )..يف العالم ّ عىل ّ قلتها تدار يف مناخ فاسد ،وال أقصد إدارة أيّة جائزة بعينها،
للمبدعني يف مجاالت اآلداب والفنون
الثقافيّة العربيّة ،البيئة التي هي جزء من بيئة أشمل تنتعش فسادًا
واملؤسسات األهلية .الجوائز تكريم والعلوم .الدول ممثلة بوزارات
بقدر ما أشري إىل البيئة الثقافيّة الفاسدة التي تنخر بنية املؤسّ سات
وإفسادًا ،ذلك أنّ هناك من ك ّرس نفسه للشلليّة والتنفيع ،يكون
إمّا هنا يف لجنة تحكيم أو هناك يف الئحة قصرية أو طويلة ،يمنح
الثقافة تمنح جوائز ألدباء وفنانني ً اعرتافا عن مجمل أعمالهم أو مسريتهم
هنا تتويجً ا أو تصدي ًرا ليتسلم من هناك املقابل املطلوب .وقد ال
وفنانني شباب جوائز تشجيعية
والتأكيد عىل االستقاللية والنزاهة والرباءة من التنفيعات والفساد.
بجهودهم وعطائهم .كما تمنح ألدباء لتحفيزهم وتشجيعهم .يحدث
ذلك يف دول عربية ويف دول العالم .الجوائز العربية األكرث أهمية هي الجوائز التي تمنحها مؤسسات غري حكومية أو مستقلة ممولة
من حكومات أو رجال أعمال مثل جوائز البوكر ،وكتارا ،والشيخ زايد ،والعويس ،وامللك فيصل ،ومؤسسه الفكر العربي ...إلخ،
وهي جوائز تستحق التقدير وتلعب دورًا يف تكريم القامات العالية ،وتحفيز إبداع الشباب .الجوائز بشكل عام تفيد وال تضر.
إنها تكريم وتحفيز وقيمتها املادية توفر للمبدع حياة كريمة .لنتذكر الشعر والشعراء يف تراثنا الذين كانوا يضطرون للتكسب يف بالط
110
بالفساد واإلفساد .ال يمكن اإلغفال عن أنّ الجوائز ا ّ ملخصصة
الحكام عىل حساب كرامتهم .التكسب قبيح لكن الجوائز مختلفة.
يخلو التتويج من إقحام اسم ما عىل سبيل التنويع وتبديد الشكوك
الفائزون بالجوائز يسبغون عليها نزاهة مطلقة ،أمّا بعض املرشحني ّ الحظ فيبالغون يف ّاتهامهم لها باإلقصاء لها ممّن لم يحالفهم والتهميش وتصدير أسماء بعينها .بالطبع ال توجد وثائق تدين الفاسدين يف الجوائز ،لكن لدى املتابعني ما يمكن توصيفه بحدس
بما بني السطور.
ناصر عراق: لم تسلم جائزة من غمز حسب
علمي
لم
جائزة من الغمز واللمز من الذين
لم يحالفهم الحظ وينالوا
للجوائز لجان تحكيم ونظم داخلية ومعايري ال تمنح إال إذا توافرت ً أحيانا لها عناصر فنية .وبالتايل تحفظ للمبدع كرامته .صحيح أننا
فواكهها،
مستوى من ناحية القدرات أو الكفاءة ،لكن معظم لجان التحكيم
شرسً ا من يوسف إدريس
نختلف مع لجان التحكيم؛ إما ألن بعض أعضائها ليسوا عىل
يتوافر بها حد معقول من النزاهة .باختصار يستحق املبدع التكريم ويستحق أن يمنح جوائز كما هو معمول به يف كل دول العالم.
هيثم حسين: البيئة الثقافية الفاسدة ال تنتج إال جوائز فاسدة
تسلم
حتى
نجيب
محفوظ نفسه تلقى هجومً ا وآخرين واتهموه بأن مهادنته وتأييده للسالم مع إسرائيل هي
التي فرشت له طريق الورد إىل قطف نوبل ...ويبدو يل أن غضب
الخاسرين يتصاعد كلما كانت قيمة الجائزة املالية مرتفعة.
بسبب الوضع االقتصادي املأزوم الذي يعيش يف كنفه أغلب املبدعني العرب بكل أسف .فالجوائز السخية توفر قدرًا من
األمان املايل ملن يظفر بها .فإذا خاصمتهم الجائزة هذه الدورة
حسن النيّة يفرتض التعاطي مع الجوائز
صبوا عليها اللعنات واتهموها بعدم النزاهة .لكن سرعان ما
تقوم بتتويج املبدعني فيها ،وتركيز
وأنا أتفهم هذا األمر جيدً ا .وأتمنى لجميع زماليئ من الروائيني
ّ مخصصة لالحتفاء بالفنون التي لكونها
االهتمام عىل أعمالهم وعليهم ،وتسليط
األضواء عىل مجاالتهم وتسويقهم وتقديمهم لشرائح عريضة من املتلقني ،لكن كما يقال :إنّ
سوء الظنّ من حسن الفطن،
فإنّ التعاطي ال يخلو دومًا من
تأويالت وبحث عن مقاصد خفيّة تكمن يف مضمون اختيار الفائزين وآليات التتويج امل ّتبعة التي ال تنجو من انتقادات تصل ح ّد ّ االتهامات العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
يهرعون إىل تقديم رواياتهم للمشاركة يف الدورة املقبلة وهكذا.
والكتاب الفوز بجوائز مهمة .أما هل كانت هناك أعمال تستحق الفوز فال أستطيع التأكيدَ . أل يِّن ال أعرف الروايات التي تقدمت للمشاركة ،ولكني موقن أن املبدع العربي يتمتع بإمكانيات
مدهشة تجعله قادرًا عىل كتابة رواية مهمة وجديرة بثقة القارئ والناقد .أعتقد أن آليات جائزتيَ ْ كتارا والبوكر معقولة جدًّ ا ً وفقا ملا أعلنته إدارة كل جائزة عن طريقة التحكيم وآلياته. وحبّذا لو أُصدِ رت ورقة تشرح حيثيات الفوز َّ موقعة من لجنة التحكيم .هذا باختصار فيما أعتقد بشأن الجوائز.
الجوائز األدبية في العالم العربي ..شراء والءات أم بحث عن فعل ثقافي حقيقي؟
مكاوي سعيد: مرحى بالجوائز وإن جانبها الصواب
يف اعتقادي أن الجوائز التي تمنح ألشكال اإلبداع
الثقايف كافة لها فوائد ومزايا جمة مهما اتفق أو اختلف
بعض املهتمني عليها ،وبخاصة يف واقعنا العربي النامي،
فاملبدعون يعانون تر ِّدي الرواتب وقلة ساعات الفراغ التي يستقطعون منها بصعوبة وق ًتا يخصصونه لإلبداع، إضافة إىل رحلة البحث املضنية عن ناشر يتحمس إلبداعهم ويوافق عىل نشره ،كما أنهم ال يحصلون عىل مقابل إلبداعهم إال نسبة قليلة يمنحهم الناشر مقابلها
بعض النسخ .هذه الجوائز سواء ممنوحة من دول أو
مؤسسات خاصة أو رجال أعمال ،فهي أمر حسن جدًّ ا
يدافع عن وجوه اإلبداع ضد خطر التقزم واالندثار .الجوائز
يف غاية األهمية لدفع عملية اإلبداع ومساعدة الشباب
مكاوي سعيد :الجانب السلبي في الجوائز دفع بالمتبارين القتحام مجاالت غير موهوبين فيها، كبعض الشعراء الذين اتجهوا للرواية من أجل القيمة المالية ً وأيضا مساعدتهم يف املوهوب يف تكملة طريقه اإلبداعي،
اقتحام مجاالت باتت مهجورة؛ ألن أغلب الجوائز صارت تعطى للرتجمات واألعمال الروائية (وهذا جانب سلبي
عزت القمحاوي: لجان التحكيم قد تنحرف بالجائزة وتجعلها عب ًئا األصل يف الجائزة األدبية أنها تقدير من املجتمع
لكاتب مجتهد .قد تنوب الحكومة عن املجتمع يف تقديم هذه الجائزة ،وقد تفعلها شركة أو يقدمها شخص يقدر الثقافة .املهم أنها نوع من التقدير ،نوع من املديح
الذي يرتدّ يف جزء منه عىل الجهة املتبنية للجائزة .لكن لجان التحكيم قد تنحرف بالجائزة وتجعلها عب ًئا عىل
األدب والكتابة ،عندما تتخىل عن االشرتاطات األدبية
لصالح اشرتاطات أخرى ،سياسية كانت أو شخصية. هذا االنحراف يصيب العدالة يف مقتل ويؤثر عىل الكتابة
سلبًا؛ ألنه يغالط يف ترتيب أقدار األدباء .عندما نتأمل
ً أنواعا من الجوائز ،قليلها الساحة العربية حاليًّا نجد
ينتصر لألدب ،والكثري منها ينتصر لقيم أخرى ،مثل قيمة االحتفالية مثلاً ،وكأن أهم ما يف الجائزة هي اإلشارة إىل
لكنها قد تختار لجنة التحكيم التي ستخرج بنتائج ُتريض املجلس وال تحرجه مع مطلق الجائزة .يختارون من يرونهم أقرب فكر ّيًا منهم ،أو املتمرسني يف معرفة سقف الجائزة ومحظوراتها .وهناك الكثري من املحظورات يف
الدول العربية ،وال يمكن االحتفاء بكتاب يخرتق حدود ً سلفا، الحرية املعروفة سواء املتعلقة بقيود السياسة أو بما
يـ ـسـ ـمـ ــى أع ـ ــراف
وتقاليد املجتمع
والذوق العام.
الجهة املانحة ال التنويه بالعمل الفائز وصاحبه .بعض الجوائز دأبت يف الرتويج للكتابة الخفيفة «األكرث مبيعً ا» وأصبح هذا مستق ًّرا فيها .ولذلك ،قد أخالفك ،يف أن
بعض الجوائز تبدأ قوية ثم تضعف؛ فكل جائزة تقف من
البداية يف املكان الذي يريده لها مطلقها.
وإذا كانت لجان التحكيم تتغري يف كل عام ،فإن هذا
التغيري بال جدوى؛ ألن مجالس األمناء أو مجالس إدارات
الجوائز ثابتة .وهذه املجالس ال تصوّت عىل األعمال،
عزت القمحاوي :عندما تتخلى الجائزة عن االشتراطات األدبية ،فإنها تصيب العدالة في مقتل
111
قضايا
من الجوائز؛ ألنه يدفع باملتبارين القتحام مجاالت غري موهوبني فيها .كبعض الشعراء الذين يتجهون للرواية من
أجل القيمة املالية) وقد انتبه بعض املهتمني لذلك فظهرت
بعض الجوائز التي تمنح للقصة القصرية ،وأتمنى أن تكرث هذه الجوائز بالنسبة للقصة والشعر والكتابة املسرحية حتى نضخ دماء جديدة يف هذه الشرايني اإلبداعية. وبعض الذين يهاجمون هذه الجوائز (وبخاصة الكربى
منها) يتقدم لها سنويًّا ويثري اللغط نفسه بغية الضغط عىل لجان التحكيم يك تمنحهم الجائزة يف العام التايل. ًّ محقا ألن عدد املحكمني املعلن عنهم وبعضهم قد يكون
شريف صالح: نوبل نفسها لم يحصل عليها مبدعون كبار من املؤكد أن أي أديب يفوز بجائزة
مشفوعة بحفنة من الدوالرات لن
يشعر أن ثمة ضررًا ،بل سيكون سعيدً ا للغاية ،وسيتلقى التهاين
بأريحية وسيظل يشيد بنزاهة املانحني.
حتى الجوائز التي «عىل قد حالها» يتكالب عليها
الكثريون؛ لتأكيد جدارتهم
ال يكفي لفحص كل األعمال املقدمة .وهذا جانب سلبي ً أيضا يف الجوائز يجب معالجته .املهم يف هذا الصراع يف
عىل الفيسبوك .ال أقول ذلك زاعمً ا أنني ال أشارك يف الجوائز.
يرضخ لنتائجها.
مادي بالغ البؤس .فالجائزة هي تعويض مادي ومعنوي من
رأيي أن من ارتىض أن يدخل إىل هذه السباقات ال بد أن
هويدا صالح: معيارية التحكيم في الجوائز العربية
ًّ نصا يحصل عىل كلما قرأت
جائزة عربية وأجده أقل فنيًّا وجماليًّا من أن يصل إىل مستوى
112
جائزة كربى كنت أتساءل عن
معيارية التحكيم يف الجوائز
العربية ،ثم جاءت جائزة نوبل التي منحت جائزتها ملغنٍّ ، عاودين التساؤل أليس ثمة معيارية أدبية يتمثلها مانحو الجوائز وهم يمنحونها؟
ومن خالل تجربتي يف تحكيم جوائز مصرية وعربية
أتحدث عن طريقتي مع النص الذي يجب تحكيمه ،أنا شخصيًّا عند قراءة نص ما من أجل تحكيمه ،وتبيان مدى استحقاقه لجائزة أم ال ،أضع لنفيس معيارين أساسيني ال يمكن أن أحيد عنهما :املعيار األول هو الخطاب الجمايل
ومدى تحقق األدبية والجمالية يف النص ،واملعيار الثاين هو الخطاب الثقايف الذي يتضمنه النص ،ومدى قبول
واستكمال وجاهتهم االجتماعية بتعليق شهادات التقدير
إنني بالفعل أشارك وأدرك أن «الكاتب العربي» يف وضع الصعب االستغناء عنه .لكن إذا أعدنا صياغة السؤال «هل
تفيد الجائزة األدب نفسه؟» اإلجابة :ليس بالضرورة .بل ربما ً متوسطا عىل حساب تض ّر أكرث مما تفيد .إذا عممت نموذجً ا
النموذج األكرث أصالة .وليك تفيد جائزة األدب ال بد أن تتحىل
بمصداقية وشفافية عالية جدًّ ا .وهو ما ال يتوافر يف معظم
الجوائز العربية ،والنتائج والكواليس معروفة للجميع.
أحمد المديني: فقر المبدعين يدفعهم للتهافت على الجوائز عىل رغم تكرار الحديث عن قضية الجوائز يف حقل
الثقافة واإلبداع العربيني يف السنوات األخرية ،فإنه
حديث يعرب عن حاجة فعلية يتبادلها املانحون والفائزون والناشرون ،أعني السوق .فاملانحون ،أغلبهم اليوم من بلدان الخليج ،ملا يتمتعون به من ريع مايل ،اهتدوا إىل
هذا السبيل ،بني ُسبُل أخرى ،للفت نظر وترويج صيت ثقايف لبلدان ناشئة ،ال بأس ،ولإلحسان ،عىل غرار
سلوك معهود يف حواضر وأزمنة ،ال بأس كذلك.
هذا الخطاب من منطلق وعيي الفكري واأليديولوجي،
فإن تحقق للنص مستوى أدبي يريض قناعايت األدبية
أحمد المديني :الناشرون هم الكاسب
نتمنى أن نجده يف مجتمعنا من خطاب يكرس لقيم املدنية
األكبر ،ويكبر في أعينهم أردأ كاتب إذا ح َّلت عليه البركة ،ودخل وليمة الجوائز
ومقواليت النقدية لكنه يحمل خطابًا ثقافيًّا ال يليق بما واملواطنة ،ويتوافق مع منظومة القيم اإلنسانية العاملية
أرفض هذا النص فورًا.
العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
الجوائز األدبية في العالم العربي ..شراء والءات أم بحث عن فعل ثقافي حقيقي؟
إعتدال عثمان: الجوائز إما تتويج لمشروع أو تبشير بموهبة
إعتدال عثمان:
ال شك أن تعدد الجوائز الثقافية يف الساحة العربية مؤشر ّ دال عىل حراك ثقايف يسهم يف توجيه الثقافة ،وتزويد
َّ منظم ال يوجد تخطيط على مستوى العالم
املجتمع بالزاد الفكري واإلبداعي املطلوب .إننا نستطيع أن
العربي ينظر
نحيص أكرث من عشر جوائز ملؤسسات وهيئات مانحة،
إلى األعمال
اكتسب معظمها شهرة واسعة ومصداقية عالية؛ لكونها
الفائزة
تجمع بني التكريم املادي واملعنوي ألسماء لهم إسهاماتهم
البارزة يف اإلضافة إىل مجاالت تخصصهم ،لذلك فإن فوزهم يعدّ تتويجً ا لرحلتهم ،وحف ًزا لهم عىل مزيد من اإلبداع والتطوير والتأثري يف الساحة الثقافية .كذلك ُت ِّ سلط الجوائز الضوء عىل أصحاب مواهب مغمورة ،يمنحها الفوز بالجائزة فرصة الحضور واالعرتاف بمواهبهم وتقديرها حق قدرها،
وهذا مكسب كبري يضاف إىل تشجيع املبدعني الجدد لتطوير
أدواتهم ،واالنطالق إىل آفاق واسعة ،تتيح لهم الدخول بكفاءة يف حلبة املنافسة.
حضاريا يجب االعتناء به منتجا بوصفها ًّ ً رعاية املشروع األدبي أو الفكري الفائز ،وتهيئة املجال لنوع ً آفاقا أرحب يف الواقع من االستمرارية واملتابعة التي تفتح
الثقايف عن طريق عقد املؤتمرات ،ونشر الدراسات حول
األعمال الفائزة ،وتنظيم ندوات ومناقشات مفتوحة عىل
نطاق واسع ،تحقق تواصل األجيال ،وجذب شباب األدباء واملبدعني ،إىل جانب الجمهور العادي من مختلف األعمار؛
ولكن امللحوظ ً أيضا تواري بعض األسماء الفائزة بعد
لذلك يظل هذا الحراك الثقايف محدود األثر يف الواقع
السلبية إىل أن الجهة املانحة غالبًا ما تنصرف عن مواصلة
مستوى زيادة أعداد القراء ،وبالتايل التفاعل املجتمعي
انطفاء أنوار االحتفال .ترجع بعض أسباب هذه الظاهرة
الفعيل ،كما ال يحدث الرتاكم املطلوب لنقلة نوعية عىل
والفائزون ،بني روائيني وشعراء وفنانني ،أغلبهم من املعوزين ،ممن وجدوا ضالتهم يف هذا األعطيات
ِّ لسد الع َوز أو لنيل شهرة يغفلون أن رأسمالها هو النصوص قبل صكوك املانحني، واإلكراميات ،فتهافتوا عليها إما َّ فيختلط الحابل بالنابل ،وتختل املقاييس ،وقد اختلت. وأما الناشرون فهم أكرب الكاسبني ،يجنون من البضاعة الكثري ،وير ِّوجون
ويزايدون بالرخيص والنفيس ،عىل حد سواء ،سيكرب يف أعينهم أردأ غدا ،شأن القراء تقريبًا؛ ألن البرَ َكة ّ كاتب ً حلت به ،وسيباع ،ومنهم من
يتطاوسون كأنهم يف بورصة ،سريشحون هذا العمل لوليمة الجوائز أو هم ال يفعلون ،والكتاب واملفكرون الجياع ُكرث عليهم يتهافتون، يتمسحون ،وفوق هذا بعضهم ُ لكتبهم مم ِّولون ،حتى إنه ال وبأعتابهم ّ ثقافة عربية اآلن ،وال إبداع ،إن لم تت َّوج بجائزة! حسن .ليُعلم ،بعد
هذا ،أن ما العيب يف الجائزة ،وال للغط أن يقوم عنها لذاتها مجردة .إنه حول إطارها وشروطها وسياقها ...أهلاً بالجوائز ،شريطة أن تكون لغرض نبيل ،ولها مُ ِّ حكمون ْ أكفاء ،ويقتحمها النبغاء ،ال سقط املتاع من كل قول ،كأغلب روايات هذا الزمن األعور ،وعىل الله
فليتوكل املتوكلون.
113
قضايا
املأمول ،فيما تبقى الجوائز مناسبات احتفائية مرموقة، لكنها معزولة يف إطار موسمي.
من السلبيات التي ال بد من تداركها افتقاد تخطيط
منظم عىل مستوى العالم العربي ،ينظر إىل األعمال الفائزة
بوصفها منتجً ا حضاريًّا عربيًّا يقتيض ً نوعا من التنسيق بني
الجهات املانحة لتدارس ما تكشف عنه األعمال الفائزة من
توجهات ومسارات واستشرافات فكرية وإبداعية ،وارتباطها
باألوضاع السياسية واالقتصادية واالجتماعية يف املنطقة .ومن
الضروري أن يمتد هذا التنسيق مع دور النشر لتسهيل زيادة اتساعا وتنظيمً اً . ً أيضا ينبغي مراكز التوزيع عىل نطاق أكرث
أال ننىس دور اإلعالم الثقايف يف التعريف باألعمال الفائزة، وتقريبها للجمهور العادي ،وعدم اقتصار هذا الدور عىل إبراز
الحدث يف تغطيات صحفية سريعة ،تهتم باإلخبار واالحتفاء
أكرث من اهتمامها بالقيمة األدبية الحقيقية لألعمال الفائزة.
شوقي عبداألمير: الجوائز أساءت للرواية وأسهمت في ابتذالها لقد أساءت الجوائز إساءة بالغة للرواية ،وأسهمت
يف ابتذال قيمها؛ بسبب تحويلها إىل سوق رخيصة،
ويكفي قراءة النصوص ومقارنتها مع الجوائز العاملية التي
أعطيت لروائيني عرب كما حدث مؤخ ًرا يف باريس بجائزة الغونكور للرواية ،وهي أرقى الجوائز؛ إذ منحت ثالثة من
العرب هم :الطاهر بن جلون ،وأمني معلوف ،وأخريًا هذا
114
العام للمغربية ليىل سليماين ،واملؤكد أنه ال يمكن رعاية الرواية الحديثة ،إنما فقط محاولة شراء الروائيني ،كمن
يتسوق بضائعه يف املوالت...
وال يمكن اعتبار أن القيمة املالية املرصودة للجائزة
هي مال سيايس أكرث منه ثقايف ،فاألمر يعتمد عىل طريقة
التوظيف ،ال عىل القيمة املالية مهما كانت مرتفعة، ومن ثم فأمر الجوائز يحتاج إىل ُّ ترفع وإيمان بدور األدب والفكر ،ال باستغالله مباشرة .وعىل البلدان املانحة للجوائز
الكربى واملهمة أن تختار األسماء يف شكل حيادي ،وتشكل
لجنة تحكيم متوازنة ،وتمنح الجائزة ملن يستحقها ،حتى ً معارضا لسياستها ،عند ذلك يبدأ العمل الجدي إن كان
شوقي عبداألمير :الظاهرة البارزة في الجوائز العربية أن الفائز ال ُيذ َكر اسمه إال ساعة الفوز ثم يختفي كل الجوائز العربية تتهشم أمام صخرة الخطاب
العاملي ،هذا الجانب مهم جدًّ ا ،ولم يشتغلوا عليه. يعملون حفل عشاء وخطبًا إنشائية ومجامالت ويطبعون
كتبًا بورق «أملة» ،يصرفون عليها آالف الدوالرات ،وتبقى
والتأسيس الصحيح .الظاهرة يف الجوائز العربية هو أن
مكدسة يف السراديب ،ويعيدون الكرة كل عام من دون
عليها برتتيب ما ال عالقة له بالدور والحضور ،ظروف
اإلصرار .وبالطبع يختلف فوز بوب ديالن عما يحدث يف
الفائز ال يذكر إال ساعة الجائزة ،ثم يختفي ...ألنه حصل
مالية لشراء الوالءات. ثم إن هناك عملاً يف الخطاب اإلعالمي للجائزة،
نقد ذايت أو دراسة جدوى ،...هدر أموال وجهل مع سبق جوائزنا الثقافية يف العالم العربي ،ففوز بوب ديالن تطوير لنوبل؛ ذلك ألنها املرة األوىل التي ِّ تكرم فيها مغنيًا
الجائزة ليست مكافأة مالية فقط ،إنها خطاب إعالمي للعالم ،هذا الجانب ال ِّ تفكر فيه الجوائز العربية كلها؛
إىل جانب ديالن لفهم القفزة التي حققتها نوبل ،والرسالة
صوت الفائز واسمه إىل العالم؟ هل فكروا بهذا؟
قبولنا أو رفضنا له.
ألنها تجهل مفردات وفلسفة الخطاب ،كيف نوصل
العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
وهي جائزة أدبية ...يمكنك املقارنة عندما تضع اسم بيكت من وراء ذلك موضوع يطول الحديث عنه بغض النظر عن
نصوص
حين تصير خسارتنا ن ًّدا والعزيمة ندى سهير مقدادي
شاعرة فلسطينية
الغرفة تضيق
علي أن أخرج أعوامي كلها من جيب كان َّ
سري في خانة بطاقة خضراء أكره لونها،
وأعيد توزيعها بعدالة تليق بظلي وشمس ظهيرة صنعته.
العشرة األولى
ستكون من نصيب طفلة تفوقت بحصة التاريخ فهرمت
في الفسحة ما بين حصتين.
العشرة الثانية
حق المرأة في األربعين أعادت ك ّرة الحياة بحسبة خاطئة
لحمل ضعيف ،والناتج متالزمة داون في وجه طفل أزرق العينين.
العشرة الثالثة
ضحكة لصبية زينت شعرها بدبابيس ملونة وخصالت مستعارة
من دمية تعثرت بها على باب مقهى ثقافي يقدم القهوة باردة شاحبة بنكهة العنب.
العشرة الرابعة
صورة باب ومزالج ويد جميلة تناست رائحة الزيت والليمون نكاية بأمل راودها عن نفسها وغادر دون اعتذار.
الغرفة تتسع ..ومكاغاة طفل تشعل النور وتأتي بالشمس والقمر والمطر والفصول األربعة تصير بي ًتا. ورائحة حليب بنكهة ماء الزهر.
ملحوظة: لون غالف البطاقة الشخصية في مناطق السلطة الوطنية الفلسطينية هو األخضر.
115
حوار
األمين العام أكد سعي الجائزة إلى عقد عالقات ثقافية دولية
عبدالعزيز السبيل: إجراءات التحكيم في جائزة الملك فيصل العالمية تتم بكثير من الحذر والسرية والتجرد من األهواء حوار :هدى الدغفق
116
الرياض
أوضح األمين العام لجائزة الملك فيصل العالمية الدكتور عبدالعزيز السبيل أن إجراءات الترشيح والتحكيم واالختيار في الجائزة ،تتم بكثير من الحذر والسرية والتجرد من األهواء ،مشيرًا إلى أن الترشيح للجائزة ال يقبل من األفراد واألحزاب السياسية ،إنما من الجامعات والهيئات والمؤسسات العلمية ،والمراكز البحثية .وقال السبيل في حوار لـلفيصل :إن الجائزة دشنت مرحلة مختلفة في تاريخها ،مرحلة ميزها عقد عالقات ثقافية ومشاركات دولية للفائزين ،شملت عد ًدا من العواصم العربية والعالمية .إلى نص الحوار: ً أمينا ًّ عاما لجائزة امللك فيصل العاملية يتوقع ● بتعيينك
املهتمون مرحلة جديدة تدشنونها ،فما الجديد وما خططك للمستقبل؟
محمد عبداملطلب ،الفائز بجائزة امللك فيصل العاملية (باالشرتاك) يف فرع اللغة العربية واألدب ،حضرها عدد من العلماء واألدباء واألكاديميني واملثقفني ،يف شهر إبريل 2016م .كما تم التعاون مع
-من الخطط الجديدة التي تم الشروع يف تنفيذها بعد إقرارها
جامعة محمد الخامس يف الرباط باململكة املغربية ،ممثلة يف كلية
الجائزة يف إقامة عالقات ثقافية مع عدد من الجهات ذات العالقة.
الفائز بجائزة امللك فيصل العاملية (باالشرتاك) يف فرع اللغة العربية
من هيئة الجائزة مجموعة أنشطة علمية ثقافية ،حيث شرعت أمانة فعىل سبيل املثال ،نظمت أمانة الجائزة بالتعاون مع املجلس األعىل
للثقافة يف جمهورية مصر العربية لقاء علميًّا تكريمًا لألستاذ الدكتور
اآلداب يف إقامة حفل تكريمي لألستاذ الدكتور محمد مفتاح، واألدب ،يف شهر نوفمرب 2016م .وهناك تعاون علمي بني أمانة الجائزة والجامعة القاسمية يف إمارة الشارقة تمثل يف محاضرة
الفائزون بجائزة الملك فيصل العالمية للدورة العشرين العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
ألقاها األستاذ الدكتور محمد عبداملطلب يف الجامعة القاسمية
إىل مكان ،ومن بلد إىل بلد ،وتعدها بعض الدول من مرتكزات القوة
مقر الجامعة يف مدينة الشارقة .وقامت أمانة الجائزة ،بالتعاون مع
املصاحبة لهذه املعارض ،ومن هذا املنطلق فإن أمانة الجائزة عىل رغم حرصها عىل الحضور ،فإنها تريد حضورًا فاعلاً ومؤث ًرا ،وتويل هذه
بعنوان «سطوة الشعر» وذلك يف الخامس من ديسمرب 2016م يف مؤسسة عبدالحميد شومان ،بتنظيم لقاء علمي لكل من األستاذ
الدكتور محمد عبداملطلب واألستاذ الدكتور محمد مفتاح يف مدينة
عمان باململكة األردنية يف شهر نوفمرب 2016م.
يضاف إىل ذلك مشاركة الجائزة يف االحتفال باليوم العاملي
للغة العربية الذي أقامته منظمة اليونسكو يف مقرها يف باريس يف الخامس عشر من ديسمرب 2016م ،إذ شاركت الجائزة يف إقامة
الناعمة يف عالقاتها مع الشعوب من خالل األنشطة الثقافية املتعددة
املعارض وما يصاحبها من نشاط اهتمامًا كبريًا من خالل العمل عىل مشاركة الجائزة يف إقامة عدد من املحاضرات والندوات واللقاءات
العلمية للفائزين بها يف هذه املناسبات الثقافية عرب خريطة العالم العربي وخارجه.
ندوة علمية شارك فيها اثنان سبق أن فازا بالجائزة؛ وهما األستاذ
الدكتور رمزي بعلبيك ،واألستاذ الدكتور محمد مفتاح ،إضافة إىل
الدكتور ماجد الحمد .وهناك أنشطة أخرى مستقبلية ،منها خطة إلقامة لقاء علمي بالتعاون مع معهد العالم العربي يف باريس .أما
الفائزون بجائزة الطب وجائزة العلوم ،فقد تم التنسيق مع عدد
من املؤسسات واملراكز العلمية لتنظيم محاضرات ولقاءات علمية، يف كل من مدينة براغ ،ويف جنوب إفريقيا ،وجامعة كمربيدج
الربيطانية ،وجامعة هارفارد األمريكية.
استخدام التقنية يف أعمال الجائزة
● جائزة امللك فيصل العاملية تكاد تكون الوحيدة يف العالم
العربي من ناحية توجهها إىل املبدعني يف العالم أجمع ،لكنها
ال تحضر يف الذاكرة سوى عند اإلعالن عن الفائزين ،أو يف حفل
توزيع الجائزة .ونحن اليوم يف لحظة إعالمية بامتياز مع وسائل
التواصل االجتماعي والثورة يف اإلعالم املريئ ،فهل ستفيد الجائزة
من هذه اللحظة إلعادة صياغة حضورها اإلعالمي؟
-ال شك أن االتصال اليوم أصبح من أهم ضروريات اإلنسان؛
فقد فرض نفسه بقوة بفضل التطور التقني املذهل ،ولقربه من
املتلقي ويسره ،وارتباطه باحتياجات اإلنسان من تعليم وتواصل
وتنوير ودعاية ،حيث نجد أن هذه الوسائل الحديثة مدت جسور الحوار الحضاري مع الثقافات األخرى .والتعامل مع التقنيات الحديثة أصبح قضية ثقافية يف املقام األول ،وهو ما تهدف إليه أمانة
الجائزة ،إذ إن هناك توجهًا إىل استخ ــدام جميع التقنيات الحديثة يف أعمــال الجــائزة عــلم ــية كانـ ــت أو إعالمية؛ وهو ما سيجعل للجائزة
حضورًا إعالميًّا مستم ًّرا .ولنا أمل كبري أن تصل رسالة الجائزة
وسمعتها إىل مصاف قريناتها يف العالم املتقدم.
● بعض الجوائز ذات القيمة املادية الكربى ،والتي
تأسست يف األعوام األخرية ،أصبح لها حضور وأجنحة يف معارض الكتب العربية والدولية .فهــل سرنى ً شيئا من هذا القبيل تقوم به جائزة امللك فيصل العاملية؟
-ال شك أن معارض الكتب لها أهمية كبرية،
وهي داللة عىل الوعي يتتبعها املثقفون من مكان
117
حوار
● كرث اللغط عن لجان التحكيم داخل الجوائز العربية ،من
ناحية عدم جديتها يف تحكيم األعمال املقدمة للجوائز ،ووقوعها يف أخطاء علمية ،مثل قبول كتب مسروقة ،واضطرار بعض
ومؤسساتهم األكاديمية .وتكون درجتهم العلمية بمرتبة أستاذ. ً رابعا -لجان االختيار :باستثناء جائزة خدمة اإلسالم ،يتم
اللجان لالعتذار عن منح جوائز معينة وإعالن سحبها ألسباب ً انطالقا من ذلك ،كيف تتعامل جائزة امللك فيصل العاملية مختلفة.
ألشخاصهم بناء عىل ترشيح من الجامعات واملؤسسات العلمية
-إن إجراءات الرتشيح والتحكيم واالختيار ،عىل بساطتها،
درجتهم العلمية عن مرتبة أستاذ .وتتمثل مهام لجان االختيار يف
أمور ال تتحقق إال باليقظة الدائمة والعمل الصامت ،واالعتماد عىل
عنهم ،حيث تدرس اللجنة كل ذلك دراسة مستفيضة ،وبعدهــا تقــرر
مع مسألة لجان التحكيم؟
تنطوي عىل كثري من الحذر والسرية والتجرد من األهواء ،تلك الثقات من الرجال .وملزيد من اإليضاح يمكن ذكر املراحل التي تمر بها
الرتشيحات ،إذ تتمثل يف أربع مراحل: أولاً -الرتشيح :الرتشيح للجائزة ال يقبل من األفراد واألحزاب
السياسية ،إنما ال بد أن يكون الرتشيح من الجامعات والهيئات واملؤسسات العلمية ،واملراكز البحثية ،وهذا يعني أن هذه الجهات
العلمية قد أخضعت مرشحيها للفحص العلمي ،واقتنعت
باستحقاقه الرتشيح للجائزة.
اختيار أعضاء لجان االختيار من ذوي االختصاص ،يختارون ذات العالقة .ويراعى يف ذلك تنوع اختصاصاتهم وتوازنها ،وال تقل
القيام باالطالع عىل أعمال املرشحني ،والتقارير التي أعدها املحكمون
اخــتيار فائــز أو أكثـر بالجائزة ،أو حجبها .وهذه اللجان تعمل بشكل مستقل ورأيها نهايئ.
● يف زمن مىض تبنت الجائزة يف فرع اللغة العربية واألدب ً ً نشطا ،مــثل النـثــر يف اهتماما موضوعات لم تعد تلقى رواجً ا أو
القــرن الثــالث الهج ــري ،أو ما شابه ذلك ،إذ ال يتجاوز املهتمون بهذا املوضوع بضعة مختصني .كيف يمكن للجائزة أن تختار
موضوعات تشتبك براهن اللغة العربية وآدابها؟
ثانيًا -الخرباء :عند انتهاء املدة الزمنية املحددة للرتشح ،تقوم
-موضوع الجائزة يتم اختياره من لجنة االختيار املكونة من
يف تخصصهم ،وذلك لدراسة الرتشيحات ،والتأكد من ارتباطها
اختيار أعضاء اللجان ترسل لكل عضو قائمة باملوضوعات التي تم
األمانة العامة للجائزة بتعيني ثالثة خرباء من ذوي الكفاءات العالية
118
ضوء استحقاقهم الجائزة ،ويراعى يف املحكمني تنوع جنسياتهم
بموضوع الجائزة .ويتوىل الخرباء اختيار أفضل املرشحني ،بحيث
عشرة أساتذة مختصني بفروع علوم اللغة العربية وآدابها .عند
منح الجائزة فيها ،ويطلب من العضو ترشيح ثالثة موضوعات عىل األقل .وعند اجتماع اللجان يتم دراسة املوضوعات املقرتحة من جانب
يمثل هؤالء القائمة القصرية للمرشحني. ً ثالثا -الحكام :تتواصل األمانة العامة مع الجامعات واملؤسسات
األعضاء ،ويطلب من اللجنة الخروج بثالثة موضوعات .وقد كونت
التشاور مع الخرباء واملستشارين يتم اختيار ثالثة محكمني ،يقوم كل
يف هذه املوضوعات ،وتختار املوضوع .وجائزة اللغة العربية واألدب
العلمية من أجل ترشيح محكمني حسب موضوع الجائزة .وبعد منهم بدراسة أعمال املرشحني يف القائمــة القصرية ،وتقويمها وإعــداد تقــرير عن كل مــرشح .ويتضمــن التقرير ترتيب أسماء املرشحني يف
نفذت أمانة الجائزة مجموعة من األنشطة العلمية ،والعالقات الثقافية مع عدد من الجهات ،يضاف إلى ذلك مشاركة الجائزة في االحتفال باليوم العالمي للغةالعربية الذي أقامته منظمة اليونسكو في مقرها في باريس في الخامسعشر من ديسمبر 2016م. وتم التنسيق مععدد من المؤسسات والمراكز العلمية لتنظيم محاضرات ولقاءات علمية،في كل من مدينة براغ، وفي جنوب إفريقيا ،وجامعة كمبريدج البريطانية،وجامعة هارفارد األميركية
العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
أمانة الجائزة هذا العام لجنة علمية من عدد من األكاديميني تنظر تتجه لتقدير املنجز األكاديمي يف أحد املوضوعات ذات الصلة باللغة العربية واألدب العربي ،وتعمل الجائزة عىل تسليط الضوء عىل
بعض املوضوعات األدبية املعاصرة التي ُبذِ ل فيها جهد كبري لكنها لم تحظ بتقدير علمي.
جائزتان تتوجهان إىل اإلنسانية
● الجائزة مهتمة باملجاالت العلمية الدقيقة وتكرم املبدعني
فيها ،ولذلك حصد كثري من العلماء الذين فازوا بها جائزة نوبل بعدها .لكن املفارقة أن الجائزة تنطلق من منطقة عربية ليست نشطة علميًّا ،ومع ذلك هي تحتفي بالرواد يف مجاالت علمية مرموقة ،والذين هم أجانب يف األغلب ،ترى متى تذهب هذه
الجوائز التي باتت حكرًا عىل األوربيني واألمريكان وبلدان غري عربية أخرى ،إىل علماء عرب؟
-تقصد يف هذا السؤال جائزة امللك فيصل العاملية يف فرع
الطب وفرع العلوم .وهما جائزتان تتوجهان لإلنسانية بعامة ألن
منجزهما يهم البشرية ،والجــائزة تهــدف إىل تكريم العــلم والعــلمــاء، بصــرف النظــر عن دينه ــم أو جنسهم .لكني أود التذكري بأن الجائزة
األمين العام أكد سعي الجائزة إلى عقد عالقات ثقافية دولية
لم تكن حك ًرا عىل الغربيني؛ بل فاز بها علماء
نال الجائزة يف الكيمياء عام 1410هـ1990/م.
بالدهم ،ويمكن أن أستشهد هنا ببعض العلماء
لبناين ويحمل الجنسية الربيطانية ،وقد
عرب ،وإن كانوا يعملون يف مراكز علمية خارج
والربوفيسور سمري زيك الذي هو من أصل
العرب الذين فازوا بالجائزة ،وإن حملوا جنسيات أخرى ،فمثلاً يف فرع الطب الربوفيسورة فرانسوا
1424هـ2004 /م .وجميع هؤالء الفائزين تم
التونيس .وقد نالت الجائزة يف موضوع نقص
ومراكز بحثية غربية.
نال الجائزة يف علم األحياء (البيولوجيا) عام
باري سنويس ،الفرنسية الجنسية ،ذات األصل
ترشيحهم من مؤسسات وهيئات علمية، ● جوائز الدورة األخرية من الجائزة
املناعة املكتسب «اإليدز» عام 1413هـ1993/م ،ثم نالت جوائز كبرية منها جائزة نوبل .أما يف فرع
غلب عليها املناصفة ،هل ذهاب جائزة
الجنسية ،ذو األصل اللبناين .وقد نالها يف الرياضيات عام 1407هـ/
الفرع الواحد إىل اثنني خيار ال بد منهً ، علما أن بعضهم ال يحبذ املناصفة ،وال يرى فيها تساو ًيا يف األبحاث
منح أكرث من عشرين جائزة دكتوراه فخرية يف العلوم ،كما منح
ال ترقى إىل املستوى املطلوب ،فيكون الفائز بحاجة إىل فائز رديف.
العلوم فقد فاز بها السري مايكل عطية ،الربيطاين
1987م ،والذي يُع ُّد أشهر عالم رياضيات يف القرن العشرين .وقد
أحمد زويل
املرشحة من ناحية األهمية ،وقد تدل املناصفة عىل أن األعمال
فما رأيكم؟
عدة جوائز مرموقة منها ميدالية أبيل ( ،)Abel Prizeالتي أنشئت للرياضيني خاصة ً عوضا عن جائزة نوبل.
-اختيار الفائز بالجائزة باالنفراد أو االشرتاك أو حجب الجائزة
الذي أدَّت إبداعاته تقانات مذهلة إىل تأسيس فرع جديد من فروع
ولكن قد يكون السبب يف اشرتاك أكرث من فائز يف جائزة واحدة نتيجة
الربوفيسور أحمد زويل ،املصري األصل ،األمرييك الجنسية،
هو من مهام لجنة االختيار ،وال تتدخل أمانة الجائزة يف عمل اللجان،
املعرفة هو كيمياء الفيمتو ،وقد نال الجائزة عام 1409هـ1989/م يف
تقارب مستويات املرشحني ،أو قناعة اللجان بعــدم رقــي واحد فقــط
بني الجوائز التي نالها جائزة نوبل عام 1419هـ1999/م .والربوفيسور
اشرتك ثالثة فائزين يف فرع واحد من أفرع الجائزة .وعليه أقول :إن
الفيزياء ،كما منح أكرث من مئة جائزة وميدالية ووسام ،ومن مصطفى عمرو السيد ،املصري األصل ،األمرييك الجنسية ،الذي
لالنفــراد به ــا ،أو اختالف يف وجهات نظر أعضاء اللجان .وقد سبق أن الحكم يف هذا هو للجنة االختيار.
عاما على انطالق الجائزة 40 ً
ُ أنشئت جائزة امللك فيصل العاملية قبل ما يقرب من أربعني عامً ا ،وتشرفت
بحمل اسم ملك عظيم حمل هموم أمته العربية واإلسالمية .وقد جاء إنشاؤها ً ً وتأكيدا لرسالة إيمانا بأهمية العلم يف فتح آفاق أوسع للبشرية يف جميع املجاالت، تحملها مؤسسة امللك فيصل الخريية إىل العالم ،وهي رسالة تقوم عىل إشاعة
الخري ،وبث األمل ،واالعرتاف بجهود العلماء والعاملني ،واملشاركة يف كل ما يعود َّ ولعل فوز مؤسسة امللك فيصل الخريية بجائزة عىل البشرية بالنماء واالزدهار.
العويس عام 2016م يف حقل اإلنجاز الثقايف والعلمي ،لهو دليل عىل النجاح الذي
حالف هذه املؤسسة الخريية التي تعمل لصالح اإلنسانية جمعاء .وقد مر عىل منح أول جائزة من جوائزها الخمس ثمانية وثالثون عامً ا .تم منح الجائزة بفروعها الخمسة ،منذ إنشائها ،ملئتني وسبعة وأربعني فائزاً وفائزة ينتمون إىل أربع وأربعني دولة .وحققت الجائزة جانبًا كبريًا من أهدافها ،كما حققت ريادة واضحة يف تكريم نوابغ من العلماء والباحثني .فقد حصل ثمانية عشر فائ ًزا بها يف فرعي الطب والعلوم – بعد فوزهم بها – عىل جائزة نوبل لإلنجازات العلمية الرائدة.
والجائزة ال يقتصر تكريمها عىل العلماء يف مختلف فروع املعرفة؛ بل يمتد إىل العاملني املخلصني ،إذ وجه األمري خالد الفيصل
رئيس هيئة الجائزة بتكريم أمينها السابق األستاذ الدكتور عبدالله العثيمني -رحمه الله -الذي أمىض ثالثة عقود من العمل الدؤوب،
والجهد الكبري ،وذلك يف حفل تسليم الجائزة الذي رعاه خادم الحرمني الشريفني امللك سلمان بن عبدالعزيز .وامتد هذا التكريم ً مؤرخا وأديبًا» ،التي نظمتها أمانة الجائزة يوم األربعاء 1438/3/15هـ بموافقة األمري خالد عىل إقامة الندوة العلمية «عبدالله العثيمني املوافق 2016/12/14م ،بمشاركة نخبة من املؤرخني واألدباء واملثقفني من اململكة والوطن العربي.
119
بورتريه
120
وكرمته فرنسا بينما تبنى إسالم التنوير َّ اختزله العرب في كتب الحب والجنس
مالك شبل ..
في أفول العقل التنويري العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
مالك شبل ..في أفول العقل التنويري
عبدالحق بلعابد
باحث وأكاديمي جزائري
يعد المفكر الجزائري (مالك شبل2016-1953 :م) ،من بين المفكرين القالئل الذين زاوجوا العلم بالعمل ،والقول بالفعل ،بانيًا بذلك هوية فكرية مفارقة للهويات الفكرية األخرى التي تبني جدارًا عاليًا بين ذاتها في الحياة ،وذاتها مع الفكر ،فقد وعى المفكر مبكرًا بهذه اإلحراج المعرفي، فقام بتذويب فكره ،ليصبح فن العيش متسامحً ا مع اآلخر ،وطريقه للتفكير الحر والمستنير في األنا متساك ًنا مع اآلخر .والقارئ لسيرته الذاتية التي نقلتها عنه الروائية الفرنسية (جانين بواسار ،مالك، ً سابقا ،فهو الذي عاش ُيتم المجتمع ،بعد قصة حقيقية ،منشورات فايار 2008م)؛ سيدرك ما قلناه ً بعضا من هذا اليُتم فقدانه والده وممتلكاتهم بعد االستقالل ،لوال وجود السند األمومي الذي عوضه القسري ،لتنفتح ملكاته الوجودية على ُيتم آخر وهو في مركز األيتام ،حيث كان يدافع عن نفسه وأخيه من تعنيف بعض األطفال في المركز ،لتبدأ األسئلة الطفولية تكبر في عقل رجل المستقبل، متجاو ًزا بذلك أسئلة ُيتم المجتمع إلى أسئلة ُيتم المعرفة :لماذا اإلنسان يتعدى على أخيه اإلنسان؟ وعن الحرية المسلوبة؟ وعن الحب الضائع؟ وعن المستعمر القامع؟ وعن الدين المانع؟ العقل الجريح ُيسمع هـنـ(ـا)ك
إسالم التنوير ...هو السبيل للتعايش
لتكرب هذه األسئلة عنده يف سنوات دراسته الثانوية يف مدينة العلم قسنطينة ،أين كان صوت املرأة خاف ًتا داخل
ملا أراد أن يعيد قراءة اإلسالم قراءة جديدة ،قراءة جمعية
تسمع همساته وراء الجدران .غري أن هذا املنع املجتمعي،
تركن للجاهز من األفكار ،وال إىل األحكام السابقة ،وال إىل
املجتمعات العربية ،ومنها املجتمع الجزائري ،والحب ال أضرم يف نفسه نورانية الشعر ،ونارية املشاعر ،وهو يتعرف إىل أوىل مغامرات الحب واستيهامات الجسد يف هذه املرحلة؛ هذه االستيهامات الشبابية سرعان ما تحولت إىل
هاجس وجودي قابل للتفكري ،داخل أسوار الجامعة ،إال أنها غري قابلة للتدبري العلمي ،داخل السياق املجتمعي يف ذلك متنفسا ملا كان يريده إال بعد أن نال منحة الوقت ،ولم يجد ً
دراسية إىل إحدى الجامعات الفرنسية؛ وهنا بدأت االنطالقة الفعلية للعقل ،واندملت بعض جراحات هذا العقل الجريح .فقد عكف شبل عىل دراسة علم النفس ،وتحصل
عىل دكتوراه يف هذا التخصص ،وأردفها بدكتوراه ثانية يف األنرثوبولوجيا ،ورسالة أخرى يف العلوم السياسية ،ليصبح هذا العقل الجريح يف وطنه ،عقلاً يجرتح أفكارًا تنويرية جديدة
عن اإلسالم واملسلمني يف العالم ،ويُسمع
صوت املسلم هنا وهناك ،لتكون هذه بحق
ً موضوعا قصة حقيقية ،ملفكر جعل حياته
للتفكري املعريف ،وتفكريه آل للتدبري الحيايت.
إن مالك شبل مفكر شمويل كما يقول عن نفسه ،فهو
شمولية ،متسلحة بمنهجيات متعددة التخصصات ،ال التصورات املتوارثة؛ فهو دائمً ا ما يعرض كل هذه املقوالت واألطروحات عىل محك النظر املعريف ،ومقياس العقل
العلمي ،لهذا كثريًا ما أخذ منه املفكرون األجانب الحذر ،عىل الرغم من إعجابهم بفكره املستنري ،وكثريًا ً أيضا ما ارتاب منه بعض املفكرين العرب إىل حد التهجم ،من أجل أفكاره املغامرة يف تحليل مناطق يصعب عليهم التفكري فيها
أو مقاربتها مقاربة علمية (كالجنس والشهوة ،واملثلية.)... فهو لم يتمكن من الحفر يف بنية العقل العربي اإلسالمي، إال من خالل هذه املنهجية العلمية الشمولية املتعددة
التخصصات ،فهو سليل املدرسة الفكرية األركونية (نسبة
ملحمد أركون) ،التي تدرس اإلسالميات يف شموليتها ،وهذا
ما نجده يف العديد من كتبه ( الجسد يف اإلسالم 1984م، املخيال العربي اإلسالمي 1992م ،قاموس الرموز اإلسالمية 1995م ،الذات يف اإلسالم 2002م ،ال شعور اإلسالم :تأمالت
حول الحظر ،الخطيئة واالخرتاق 2015م).
لهذا نجد مالك شبل ال يكتفي بالتنظري للظاهرة ،بل
يشفعها بكثري من التطبيقات العملية ،فالعديد من كتبه
121
بورتريه
تنطلق من السؤال املشروع :كيف يمكن للعالم العربي أن يجعل من الحداثة النابعة من العقل مبدأ ملستقبله؟ ألنه يرى ديننا عظيمً ا ،ولكن املقاربات التي حللته ال ترقى
لعظمته ،ألحادية مقارباتها ،فهي ال تريد أن تؤقلم تحليالتها مع املنهجيات العلمية عقالنية كانت أو اجتماعية،
وأن تواجه اإلسالم بأسئلته الحقيقية كما جاء يف أحد كتبه
(اإلسالم أمام مئة سؤال2015 ،م) ،فال يمكن اإلجابة عن كل
ذلك يف رأيه إال بفتح كليات ومعاهد تدرس هذه املنهجية املتعددة التخصصات لفهم األديان ومقارنتها ومقاربتها،
مراهنة عىل دعوى االنفتاح والتنوير .وملا وجد مفكرنا بعض ّ الصد واملواجهة ،حمل عىل عاتقه منذ ثالثني سنة ،سؤال مشروعه الذي يهتم بتاريخ العقليات يف العالم العربي،
فاهمً ا لإلسالم بمقاربة أنرثوبولوجية ،يحاور فيها بالتحليل موضوعات جديدة غري مفكر فيها ،وإن كانت هي من أسهم يف تكوين العقل العربي ،من قبيل :الذات ،والجسد،
والعشق ،واملخيال ،...وهذه املقاربة العقالنية األنرثوبولوجية بنية العقل اإلسالمي ،هي التي ولدت مفهومه الذي أصبح
عالمة مسجلة باسم مالك شبل يف العالم الغربي قبل
122
العالم اإلسالمي وهو إسالم التنوير؛ ذلك اإلسالم ذو املنابع
الصافية ،الذي يعلمنا مبادئ التسامح والتعايش مع اآلخر ً بعيدا من دعاوى العنف ،وسلب الحريات يف اختالفيته،
الفردية ،وإذكاء روح الكراهية لآلخرين.
وهذا ما دافع عنه شبل يف كتبه ولقاءاته ،ففي كتابه
عن «تغيري اإلسالم :قاموس املصلحني املسلمني إىل اليوم،
2013م» ،يرجع بنا إىل أصل املسألة ،وهو سؤال النهضة، الذي لم يجب عنه إىل اآلن ،ودور املصلحني يف ذلك الوقت،
فعىل الرغم من جهودهم الكبرية ،فإنهم لم يتمكنوا من دفع شبهة خطر اإلسالم عىل املسيحية ،التي كان ينسجها املفكرون الغربيون يف مراكز دراساتهم داخل الوطن العربي يف الشام والقاهرة وقتئذ ،ولم تجد من يرد عىل
مالك شبل من بين المفكرين القالئل الذين زاوجوا العلم بالعمل ،والقول بانيا بذلك هوية فكرية بالفعل، ً مفارقة للهويات الفكرية األخرى عاليا بين ذاتها في جدارا التي تبني ً ً الحياة ،وذاتها مع الفكر
العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
هذه الدعوى ،لقصور اآللية التحليلية ،والرؤية الحداثية لإلسالم ،وهذا املبحث الدرايس املهم الذي خاض فيه شبل كثريًا ما تج َّنبَه الدارسون العرب.
ً وإيمانا من مفكرنا أن يُسمع صوته هـنا(ك) داخل
املجتمع الغربي عامة ،واملجتمع الفرنيس عىل وجه التحديد ،الحامل لهويته ً أيضا ،فهو يتكلم اللسانني ويحمل الهويتني وال بد أن يدافع عن املجتمعني ،فلهذا لم يتجاهل وضع اإلسالم يف املجتمع الفرنيس املمثل للمجتمع الغربي؛ ألنه هو املتلقي الفعيل ألفكاره ،وكتاباته التي تريد أن ترسخ
داخل هذا املجتمع فكرة «إسالم التنوير» ،مقابل «إسالم الظالم» ،ومحموالته املفاهيمية وبخاصة العنف واإلرهاب؛
وهذا ما ظهر جليًّا يف كتابات ومحاورات وندوات مالك شبل بعد أحداث 11سبتمرب ،حني تعالت أصوات الكراهية ضد اإلسالم ،والكتابات املعادية للمسلمني ،فما كان من
هذا املفكر العقالين ،إال أن يحارب ويدافع عن فكرة إسالم التنوير ،ذلك الدين املتسامح واملتعايش مع كل الشعوب،
فكان من حكمته أن وجه خطابه عن اإلسالم التنويري منذ البداية لفئة الناشئة يف املجتمع الفرنيس؛ ألنها مستقبل
الشعوب واملجتمعات ،فكان يحرص يف محاوراته الصحفية ولقاءاته التلفزيونية عىل أن يوجه خطابه لها ،حتى أصبح
كتابه عن «القرآن للمبتدئني والناشئة2005 ،م» ،من أكرث الكتب مبيعً ا عىل اإلطالق ،وأعيدت طباعته العديد من
املرات بعد هجمات 11سبتمرب ،إىل جانب كتابه الدال عىل سماحة اإلسالم «بيان من أجل إسالم التنوير2004 ،م». ٍّ تحد واجهه فهو املسرية العلمية لرتسيخ فكرة أما أكرب
إسالم التنوير ،وقىض فيها أكرث من عقدين من الزمن، لصعوبة مسالكها املعرفية ،وتعقيد تركيباتها الرتجمية،
مالك شبل ..في أفول العقل التنويري
«ترجمة القرآن الكريم2009،م» ،فهو يرى أن الرتجمة املتكررة
للقرآن تغني معناه لدى قارئه ،فكانت ترجمة مالك للقرآن ترجمة للمعاين ال للمباين؛ ألنه يريد أن يحافظ عىل روح النص األصيل ،وهذا ما جعل ترجمته تختلف عن الرتجمات السابقة كما يذهب يف مقدمة ترجمته ،وقد ساعده يف ذلك
معرفته الواسعة باللغة العربية وجمالياتها ،واطالعه الواسع عىل تفاسري القرآن ،وبخاصة اهتمامه البالغ بأسباب النزول ،فنجد ترجمته كثرية الحوايش الشارحة ،والهوامش
قاموسا تفصيليًّا لبعض كلماته املوضحة ،وقد وضع ً
ورموزه ،وهذا لتمكني القارئ من اتباع املسار التاريخي لآلية والسورة ،وتنزيلها تنزيلاً خادمً ا لسياق العصر ومقتضياته،
ً محافظا يف كل ذلك عىل القيم اإلنسانية املوجودة يف سور
القرآن ألنه صالح لكل فرد يف كل زمان ومكان.
ولكننا نأسف أن القارئ العربي مفكرًا كان ،أو
تسارع الغرب مفكرين وساسة لتكريمه بأرفع األوسمة والجوائز، نظير تعريفه بإسالم التنوير الذي يعايش الديمقراطية ويعززها ،داعين إلى تبني أفكاره في مجتمعاتهم عرفه القارئ من خالله ،وقرأه قراءة املستمتع ،ال قراءة
املتدبر ،وهو «الجنس والحريم ،روح السراري ،ترجمة 2010م» ،غري أن القارئ العربي نيس أن هذه الكتب هي ضمن
سلسلة فكرية تبحث يف بنيات العقل العربي املنتج عنده إلسالم التنوير.
مهتمًّ ا بالشأن اإلسالمي ،لم يقرأ ملالك شبل سوى تلك االجتهادات املعرفية التي سجلها يف برنامجه الفكري وهو
يحفر يف عقليات الثقافة العربية اإلسالمية ،وهو يالمس بحس املحلل النفيس الخبري بمكبوتات الذات العربية، واستيهاماتها النفسية ،من مثل موضوعات «الجسد يف
اإلسالم1984 ،م» ،والكشف عن رغبات الجسد الجامحة، وراء أسوار القصور والبيوتات ،ليضع موسوعة خاصة
بالحب واملحبني «موسوعة الحب يف اإلسالم1995 ،م»، ً كاشفا عن العقل الشهواين بكل طقوسه السوية واملثلية،
وهذا ما ظهر جليًّا يف كتابه املرتجم للغة العربية والذي
العقل التنويري الجريح ..مشروع لم يكتمل بعد طول تأمل يف مشروع مالك شبل التنويري ،نجد أن هذا العقل التنويري ولد جريحً ا ،وذهب عنا جريح
اليد والوجه واللسان ،هو املفكر الذي قىض كل حياته مدافعً ا عن إسالم تنويري ،خارج أرض اإلسالم ،فتسلح بروح
املناظرة املتصالحة واملحاورة الحسنة؛ ليك يرسخ يف العقليات الغربية يف كل مكان يف أرقى الجامعات ،وأكرب الندوات،
وأصعب الحوارات ،أن اإلسالم إسالم تنوير وتسامح ،وليس إسالم عنف ،غري أن العالم العربي واجهه بتجاهل مطبق حيًّا ومي ًتا ،والدليل عىل ذلك أن فكره يختزل عند القارئ العربي بكتب الحب والجنس فقط ،متجاهلني أن مشروعه التنويري أكرب من ذلك؛ بدءً ا من مالك بن نبي وصولاً إىل مالك شبل اللذين دافعا عن اإلسالم بلغات متعددة،
ومقاربات متعددة ً أيضا .أال يحق لهذا املفكر التنويري التفاتة من املؤسسات العلمية العربية تدرس فكره يف جامعاتها،
ومراكز الرتجمة ،وأن تخرج للقارئ العربي مشروعه التنويري األصيل ،فقد تسارع الغرب قبلنا مفكرين وساسة لتكريمه بأرفع األوسمة والجوائز ،نظري تعريفه بإسالم التنوير الذي يعايش الديمقراطية ويعززها ،داعني إىل تبني أفكاره يف مجتمعاتهم ،فمن باب أوىل أن ندافع عن مفكرينا ومشروعاتهم ،وأن نبقيهم أحياء بيننا فيما نقول ونعمل،
وهذا هو إسالم التنوير املصالح واملتسامح مع ذاته واآلخرين.
123
ثقافات
124
رسائل حب ملتهبة وممرات سرية للقاء المحبوبة
غراميات رؤساء فرنسا ونساء الظل العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
شاكر نوري
روائي وصحافي عراقي
تكاد تكون قصص العشق والحب عند الرؤساء الفرنسيين جزءً ا من طقوسهم المعتادة التي يتقبلها المجتمع الفرنسي ويعدها جزءً ا من عاداته على عكس المجتمع األنغلوفوني الذي يعدها مسيئة لألخالق والعرف العام .وقصص الحب هذه قديمة وتمتد جذورها إلى نابليون الثالث ،إمبراطور الفرنسيين ،الذي حكم فرنسا في المدة 1848ـ 1852م حيث قام بإخفاء قصة عشقه خارج إطار الزوجية من خالل أوامره بحفر نفق سرّي من رواق قصر اإلليزيه إلى الفندق الذي يلتقي فيه عشيقته ،لويز دي ميرسي آرجنتيو. وعىل الرغم من العرف السائد يف ازدواجية الزوجة
والرواية هي احتمال لوقوع غرام بني الرئيس الفرنيس
يزال لعبة يزاولها أهل السلطة بعيدً ا من أعني الرقابة؛ وذلك
والرئيس» ردود أفعال عديدة يف األوساط الثقافية ،وتساءل
والعشيقة يف املجتمع الفرنيس لكن إخفاء العشيقة كان وال
متجانسا يف رؤيته للنظر إىل هذه ألن املجتمع الفرنيس ليس ً
واألمرية الربيطانية الراحلة .وقد أثارت هذه الرواية أي «األمرية
املسألة التي تبقى محرجة للرأي العام ،ولكنها ليست صادمة كما يف املجتمعات األوربية األخرى .فكان من الطبيعي أن يظهر
الرئيس الفرنيس فرانسوا هوالند مع عشيقته يف اللقاءات
125
الرسمية رغم عدم قبولها لدى بعض البلدان التي رفضت استقباله مع عشيقته .وقصص العشق تتكرر عرب التاريخ .فهذا
هو رئيس مجلس الحكم إيميل كومب الذي حكم من 1902إىل 1905م ،وهو الزوج العاشق واملدافع املتحمّ س عن العلمانية،
لم يصمد أمام سحر فتاة يف الـ 34من عمرها وقتما كان عمره 68عامً ا .وقد أقام معها عالقة سرية وكتب مراسالت عشق
شهرية يؤرخ فيها هذه العالقة منذ أن قابلها يف برشلونة.
ووصل الحب درجة حامية بينهما حتى إنها قدمت له خصلة من شعرها كهدية رمزية .أما إدغار فور الذي حكم فرنسا من 1955إىل 1956م أثناء واليته يف الجمعية الوطنية ،فقد شيد يف
مبنى الربملان الفرنيس بابًا سريًّا يف مبنى الساي من أجل مقابلة
عشيقته بسرية تامة حتى ال ينفضح أمره .أما جاك شرياك، فقد أطلق عليه الفرنسيون دونجوان الفرنيس ،وقد اشتهر
بعالقته مع النجمة اإليطالية الشهرية كلوديا كاردينايل .وكاد يفرتق مع زوجته التاريخية بريناديت ليك يتزوج من الصحافية
التي تعمل يف صحيفة الفيغارو التي أصبحت عشيقته منذ نهاية السبعينيات.
«األمرية والرئيس» رواية جيسكار ديستان
كان الرئيس جيسكار ديستان مُ عجبًا باألمرية ديانا إىل
درجة أنه كتب عنها رواية ،اختلطت فيها الوقائع بالخيال.
قام نابليون الثالث ،إمبراطور الفرنسيين ،بإخفاء قصة عشقه من خالل أوامره بحفر نفق سري من رواق قصر اإلليزيه إلى الفندق الذي يلتقي فيه عشيقته ،لويز دي ميرسي آرجنتيو
ثقافات
الناس :أين هي حدود الحقيقة والخيال؟ يُعرف عن الرئيس جيسكار ديستان ،الذي حَ َكمَ فرنسا سبعَ سنوات ،أنه صاحب
غراميات ،وأنه ُ صدم بسيارته حينما كان عائدً ا من موعد س ّري
إبّان السبعينيات .وقد حاول أن يعبرّ عن غرامه بالعشيقة
من خالل تجسيد عالقة خيالية مع األمرية ديانا .وقد استعان
باألدب؛ ألنه انجذب إىل الرواية منذ صغره ويف أيام املقاعد الدراسية.
يؤمن الرئيس الفرنيس جيسكار ديستان بأنه ال توجد
روايات حول السلطة بل هناك مذكرات وذكريات« ،أردت أن أدعو القراء إىل قراءة رواية حول الحياة الحميمية والسلطة.
اشتغلت كثريًا عىل الديكورات الدقيقة .ليس إلعطاء دليل للمتاحف الوطنية بقدر ما أجعل القراء يرون الديكورات التي
تجري فيها األحداث» .يؤكد جيسكار ديستان أن شخصية الرئيس يف رواية «األمرية والرئيس» ليست شخصيته .والرواية
هي احتمال وتوقع لرئيس فرنيس أن يقع يف غرام مع أمرية
بريطانية .وال يعني ذلك أن الرواية خالية من األحداث
الواقعية ،فهناك ذكرى اإلنزال البحريّ عىل الشواطئ الفرنسيّة ،أيام الحرب العاملية الثانية التي أُقيمت عام 1984م
126
الرسمي. ورافق خاللها الرئيس األمرية يف القطار ّ هذه القصة هي من نسج خيال الرئيس« ،هذه الرواية التي تؤدي فيها األمرية ديانا الدور الرئيس ،ما هي إال إعادة
إحياء لشخصيّة عرفتها بهذا الشكل» .وأضاف« :ال نبالغ
باألمر .لقد التقيتها لفرتات قصرية يف أجواء من الثقة كانت تتوق فيها إىل التواصل» .وعندما ُقتلت األمرية يف باريس عام 1997م كان الرئيس وقرينته أول من بادر بإرسال باقات الزهور
إىل املستشفى الذي كانت تعالج فيه .وتثبت هذه الرواية أن العشق جزء من التقاليد الفرنسية وقد أقبل القراء عىل التهام
هذه الرواية ،منطلقني من فكرة ازدواجية الزوجة والعشيقة. ساركوزي ..املغامرة والحب
يف عام 1982م تزوج ساركوزي من ماري ـ دومنيك سيليويل،
وأنجبا ولدين :بيري عام 1985م وجان عام 1986م .انتخب حينها
عمدة لبلدية ضاحية نويي سور سني .ولكنه ذات يوم اشتهى زوجة صديقه ومقدم الربامج جاك مارتان سيسيليا ،وسطا عليها ،ووقع يف غرامها .وظلت عالقتهما سرية إىل أن ُفضحت يف عام 1986م ما أدى إىل طالقه من زوجته األوىل ،والزواج من زوجة صديقه .وأنجبت له اب ًنا هو لويس 1997م .وبعد أحد عشر عامً ا من الزواج .وبعد فوزه باالنتخابات الرئاسية يف 18أكتوبر 2007م ،أعلن قصر اإلليزيه انفصالهما .وتزوجت
طليقته من رجل األعمال املغربي ريتشارد عطية وتعيش معه
يف الواليات املتحدة اآلن .بعد طالقه من سيسيليا ،تعرف إىل عارضة األزياء واملطربة اإليطالية األصل النجمة كارال بروين،
وتزوج منها يف عام 2008م .وقد اجتمع الزوجان يف اإلليزيه
أطلق الفرنسيون على جاك شيراك دونجوان فرنسا ،واشتهر بعالقته مع النجمة اإليطالية الشهيرة كلوديا كاردينالي
العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
واحتفال بانتخابه .وبعد مرور أربعة أعوام أنجبت له بن ًتا سمياها غوليا ،وأصبح ساركوزي الرئيس الفرنيس األول الذي
يصبح أبًا أثناء مدة واليته.
َمن املرأة األكرث تأثريًا يف حياة فرانسوا هوالند؟
مَ ن املرأة األكرث تأثريًا يف حياة الرئيس الفرنيس الحايل
غراميات رؤساء فرنسا ونساء الظل
فرانسوا هوالند :سيغولني رويال أم فالريي ترايرويلري أم جويل
غاييه؟ املعروف عن هوالند أنه يغري النساء ،بل يجعلهن ينخرطن يف حب مجنون معه .لكن املحللني النفسيني يقولون:
إن املرأة األكرث تأثريًا يف حياته هي أمه نيكول التي توفيت عن
عمر ناهز الـ 82عامً ا.
عىل أية حال ،التقى هوالند ،سيغولني رويال عىل مقاعد
الجامعة ،وبعد أن أنجبا أربعة أوالد انفصال يف عام 2007م من دون زواج طبعً ا؛ ألن الرئيس الفرنيس لم يتزوج يف حياته
رغم عالقاته النسائية الكثرية .وبعد فشله أمام ساركوزي يف االنتخابات ،طوى خيبته يف قصة حب صحافية اسمها فالريي
ترايرويلري ،ووقفت معه يف انتخابات قصر اإلليزيه يف عام 2012م .وحرصت أن تطبع قبلة عىل فم الرئيس يف احتفالية فوزه
بانتخابات قصر اإلليزيه أمام املاليني؛ ليك تعطي عالقتهما طابعً ا رسميًّا .واستمرت عالقتهما إىل أن نشرت مجلة الفضائح
«كلوسر» Closerيف عام 2014م صورًا للرئيس مع ممثلة شابة تدعى جويل غاييه.
وأدى هذا العدد من املجلة إىل مرض عشيقته فالريي،
الصحافية التي تعمل يف مجلة «باري ماتش» الشهرية،
وأمضت أيامً ا يف املستشفى من أثر الصدمة .ويبقى الرئيس
127
الفرنيس هوالند أعزب بصورة رسمية يف الوقت الحاضر ،لكنه ال يرغب يف أن يظهر مع سيدة فرنسا األوىل إىل العلن كما فعل مع عشيقته األوىل الصحافية فالريي .وال ّ يفضل الحديث عن
عالقته األخرية مع املمثلة جويل ،وهما يف وضع ال يحسدان عليه ،لكن العشيقة الجديدة تلتزم بقواعد اللعبة :أن تعيش
امرأة الظل مع الرئيس من دون ضجيج أو إعالن. لغط وجدل حول غراميات ميرتان
أثارت عالقات الرئيس الفرنيس الراحل فرانسوا ميرتان
فرانسوا ميتران اشتهر بالحب المتعدد ،وهرب من األسر األلماني في الحرب العالمية الثانية ،فقط
الغرامية الكثري من اللغط والجدل يف أوساط الفرنسيني .ولم
ليلتقي عشيقته
واحدة ،بل تعدى ذلك إىل عاشقات كثريات برزن يف السر
يف قصة عشق ميرتان ،وقفنا عىل دراما حقيقية وبخاصة
يقتصر حب فرانسوا ميرتان عىل خيانة زوجته مع عشيقة والعلن ،لكنه حاول عىل الدوام إخفاء عالقاته الغرامية التي شملت أسماء معروفة أمثال :املمثلة الفرنسية ذات األصول
املصرية داليدا ،والصحفية السويدية كريستينا فورسن وغريهما .ظلت األوىل تجتمع به يف أماكن سرية وعلنية، واألخرى السويدية صرحت بذلك يف كتابها «قال يل فرانسوا» خالل إحدى املقابالت الصحفية التي أجرتها معه يف عام 1979م بعد أن قدمها رئيس الوزراء السويدي الراحل أولوف بالم،
ومدحها عىل أنها صحفية شابة متحمسة إلجراء لقاء صحفي
معه.
أثناء رحيله ،فقد كانت دموع الوداع مشرتكة بني امرأتني غريمتني ،الزوجة والعشيقة ،جمعتهما جنازة هذا العاشق
رئيسا لواحدة من كربيات الدول وهي فرنسا ،ولم الذي كان ً
يعلن فرانسوا ميرتان عن حبه السري وابنته غري الشرعية إال يف أيامه األخرية تحت ضغط حزبه االشرتايك وعائلته،
فكانت الصدمة التي أصابت الفرنسيني ال للعالقة بل إلخفاء هذه العالقة .كانت زوجته دانييل ،معروفة بني أروقة قصر
اإلليزيه ،وآن بينجو ،عشيقته التي عاشت يف الظل ،ولم تتمكن من اإلفصاح عن حبها للرئيس ،بل عاشت يف الظل
ثقافات
بعيدً ا من األضواء وحفالت قصر اإلليزيه. حب عن طريق املصادفة
سبقت نجاح أحالمه ،لكنها سرعان ما أدركت أنها ستعيش
بدأت حكاية وقوع فرانسوا ميرتان يف حب دانييل يف عام
متوارية وراء ظل الرئيس ،رغم صيت عائلتها السيايس ،لكن زواجه بها سهّل عليه مهام تحقيق حلمه ،وتسلق ّ سلم الحكم
شبابه .وذلك عندما أبصر صورة ألختها الشابة معلقة يف صالة
من كل حدب وصوب ،لكن زوجته تحملت كل ذلك ،وعرفت
1944م أثناء زيارته لرفيقته كريستني كوز ،شقيقة دانييل، يف إطار عمله يف الحزب االشرتايك الذي انتمى إليه منذ أيام الجلوس ،فأبدى إعجابه بها ،فما كان من رفيقته كريستني
سوى دعوة أختها للقاء بميرتان يف أحد مطاعم الحي الالتيني. وعىل الرغم من أنه كان يفكر بفتاة أخرى ،لكنه تركها من أجل عيون أخت رفيقته .وبعد استدعائه لخدمة الجيش يف
الحرب العاملية الثانية ،وقع أسريًا يف يد األملان ،وهرب من
األسر ليك يلتقي خطيبته ،لكنه وجدها قد تزوجت .وهذا ما جعله يحسم أمر حبه إىل دانييل .وأخذ يرسل إليها من ً وأحيانا يكتب ثكنته العسكرية رسائل حب ملتهبة كل يوم، لها مرتني يف اليوم ،بحيث تجمعت لديها أكرث من ثالثة آالف رسالة .بعد ذلك بوقت قصري ،تزوجها ،رغم أنه مر بصعوبات
كبرية يف إقناعها يف بادئ األمر.
128
بلوغ سدة الحكم ،أنه من الصعب عليها أن تعيش املراحل التي
زوجة الرئيس
لحظت زوجة ميرتان ،عندما كان شابًّا متحمّ ًسا يتطلع إىل
هوالند يغري النساء ويجعلهن ينخرطن في حب مجنون معه .لكن المحللين النفسيين يقولون :إن المرأة تأثيرا في حياته هي أمه األكثر ً العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
يف فرنسا .ويف سنوات زواجه ،كانت الفضائح الغرامية تحاصره مبك ًرا أن زوجها زير نساء حقيقي ،حتى حقق حلمه يف عام 1981م .ومنذ ذلك التاريخ أي صعود زوجها إىل سدة الحكم،
لحظت ارتفاع نسبة النساء الاليت توظفن يف طاقم قصر الرئاسة ،لكنها تغاضت عن ذلك من أجل إدامة زواجهما،
وقد أدرك فريق العمل مع الرئيس أن عليهم االلتزام بالسرية والكتمان حول حياة الرئيس العاطفية.
عاش الرئيس الفرنيس فرانسوا ميرتان ازدواجية عاطفية
السرية إال عندما كربت ابنته مازارين، دون أن يفصح عن حياته ّ
وفضحت كل ما كان مستورًا لسنوات طويلة .ولم ترتدد زوجته أن تتحدث عن هذه االزدواجية التي عاشتها بنفسها ً أيضا يف
كتاب مذكراتها «كلمة كلمة» ،بكل وضوح وصراحة .ولم يكن السكوت عن مغامرات زوجها يعني الجهل بها ،لكن صالبتها
كانت نابعة من حبها العميق لزوجها ،وتفهم حاجاته الروحية عىل مدى أكرث من نصف قرن.
غراميات رؤساء فرنسا ونساء الظل
الرئيس جيسكار ديستان أعجب باألميرة ديانا وكتب عنها رواية. عائدا من وصدم بسيارته بينما كان ً ُ سري موعد ّ تعود قصة عالقته بعشيقته آن بينجو إىل بداية
الستينيات ،حيث تعرف إليها يف أحد املتاحف الباريسية يف عام 1964م ،وتوطدت عالقتهما شي ًئا فشي ًئا إىل أن ُتوجت بإنجاب
وبعد تناول الفطور كانت أمي تذهب بالدراجة إىل املتحف،
وينطلق والدي بالسيارة إىل اإلليزيه أو إىل أطراف العالم وأنا إىل املدرسة يف س ّرية تامة دون أن نعرف بعضنا البعض إىل أن
طفلة منها .وهذه البنت غري الشرعية مازارين ،التي احتفظت
نلتقي مجددًا يف املساء وتحديدً ا يف الساعة الثامنة».
ميرتان .وقد تحدثت مازارين التي تزوجت فيما بعد بشاب
مما يعيش يف قصر اإلليزيه» .أما زوجته دانييل فقد كشفت
باسم أمها بينجو لسنوات قبل أن يمنحها األب اسمه الشهري
مغربي ،وأنجبت منه ثالثة أطفال ،صرحت باسم أبيها للمرة األوىل يف كتابها «السر املكتوم» الذي صدر بباريس 2005م،
كما تقول فيه« :رسميًّا لم يكن يل أب ،فرفاقي يف الصف لم يعلموا شي ًئا عن حيايت العائلية ،كيف أميض أمسيايت وعطل نهاية األسبوع أو العطل األخرى ،وإذا كانوا عىل علم فإنهم لم يقولوا يل شي ًئا ،فعقدة الصمت عىل ما يبدو لم تكن قضية عائلية بل إن الجميع التزم بها ،...كنت أعيش حياة غريبة
مزيجً ا من الكتمان اإللزامي ورابط العالقة الحنون ،وبعد فوزه
يف االنتخابات الرئاسية أضحى بإمكاين رؤيته هناك ،وكنت أدخل إىل القصر مختبئة تحت سرير مقعد السيارة الرسمية
تجنبًا الكتشايف ،لكنني كنت أشعر باالرتياح مع الطباخني الشخصيني والسكرتريات أكرث من مكتب الرئيس نفسه الذي
كان يبذل حينها أقىص ما بوسعه إلخفاء وجودي عن العامة، ّ ولعل ذلك كان يذ ّكرين باللحظات التي كان يزورنا فيها ببيت والديت آن بنيجو ،حيث كان يأيت فيها متخفيًا ويذهب متخفيًا،
ثم تضيف« :كان والدي يعيش يف منزلنا مع والديت أكرث
أنها كانت تعرف الجانب الخفي يف حياة زوجها قائلة« :لقد
كنت أعرف عالقاته الغرامية املتعددة لكنني لم أكن أعلم أن لديه ابنة غري شرعية من إحداهن ،...فالسكوت عن مغامراته ال يعني أنني كنت أجهل ما يجري وراء ظهري فقد كنت أعلم
جيدً ا أن هناك أسرة موازية ألسريت ...فقد كان فرنسوا يحب
ابنته كثريًا وأنا كنت كذلك وأواصل مشاهدتها وهي كذلك
تلتقي أخويها ،...لقد كانت مازارين قسمة عاطفية بالرضا والتسليم فيما بيننا ،وأعرتف أن األمر كان يف البداية مؤملًا لكن العاصفة بدأت بالهدوء تدريجيًّا».
كانت السيدة بينجو تسري برفقة ابنتها مازارين إىل جانب
دانييل أرملة الرئيس من دون أن يعلم الناس حينها حقيقة هذه السيدة التي أثارت ابنتها فضيحة سياسية عىل صفحات
مجلة «باري ماتش» الشهرية ،وأفصحت للمرة األوىل بأنها ثمرة الخيانة الزوجية للرجل األول يف فرنسا آنذاك ...هل
اعرتفت زوجته ووافقت عىل خيانة زوجها؟ قالت ذات مرة:
129
ثقافات
«أعرف جيدً ا أن باريس هي أم الشذوذ والغرائب كما يقال،
عىل مدى 33عامً ا .إن كتابة هذا الكم من الرسائل جعلت علماء
لكنني لم أكن أتوقع بأن تأيت مثل هذه التصرفات من الشخص الذي كنت أعشقه وأتمنى مويت قبل موته» .لكنها تقبلت ً أيضا
بل أعادت قضية ازدواجية الزوجة والعشيقة الجدل من جديد.
العاطفية معها بصورة صادمة ،وقالت« :رغم تصريحات فورسن
والثقة اللذين يسكناين يعود فيهما الفضل لك أنت .الثقة يف كرم
إعالن الصحفية السويدية فورسن عن حب ميرتان لها ومغامرته األخرية ،لست متيقنة من عالقتها بزوجي الراحل ،إنها تكذب
للوصول إىل الشهرة ،ولو كانت عىل عالقتها به لكان حدثني بذلك كما فعل بالنسبة البنته مازارين ،وأنا مثلكم فوجئت كثريًا
بما تدعيه هذه الصحفية».
1200رسالة غرامية إىل عشيقته
كتب فرانسوا ميرتان أكرث من 1200رسالة حب إىل آن بينجو
تحليل الجنس والنفس يدرسون حالة الرئيس العاشق الكبري. يف إحدى الرسائل يقول« :لو تعلمني ،يا آن العزيزة ،إن االمتالء
الحياة ،واالمتالء بقابليايت التي ازدهرت ،ولم تكن لطافتك سوى تبادل العواطف بيننا.
إنها بالنسبة يل طريقة ألتعلم املزيد من الحياة .لقاءاتنا
وجوالتنا ونزهاتنا وعواطفنا لم تكن سوى ذلك العشق الذي ّ لتعلم دروس الحياة ،واألشياء، نتبادله .كانت بالنسبة يل طريقة
والكائنات ،والعمل ،بطريقة ما .ربما تجدين التعبري ساذجً ا ـ التعبري عن روحي ،لكنك منحتني راحة البال والطمأنينة .فقد
حبك سيجعل عزلة الموت أقل آن واحد .وهذا املصطلح لصق بفرانسوا ميرتان، شاع مصطلح polyamoureuxأي الحب املتعدد والقدرة عىل حب أكرث من امرأة يف ٍ
آن واحد .لكن عالقته بعشيقته آن بينجو دامت نحو ثالثني وأصبح هو نموذجً ا له .ما الحب املتعدد؟ هو القدرة عىل حب امرأتني أو أكرث يف ٍ
130
عامًا ،وقد كشفت رسائله األخرية التي نشرتها عشيقته عن قدرة هائلة عىل إدارة حياته املتعددة .كما كشفت عن الطاقة الشعرية التي كان
يتمتع بها الرئيس الفرنيس االشرتايك .وظل يسري بني عاطفتني ،وأبقى عىل زوجته دانييل التي سارت معه يف طريق صناعة التاريخ ،رفيقة حياته من دون أن تتدخل يف حياته الخاصة ،بل كانت تقف عىل مبعدة من عواطفه .وال يوجد أبلغ من مشهد رحيله أثناء مراسيم دفنه:
آن واحد ،إضافة إىل ابنته غري الشرعية .ويف نفس كل امرأة يشء من روح هذا الرجل العظيم .وقد وضع امرأتان تذرفان دموع الوداع يف ٍ ً الرئيس ميرتان املرأتني عىل املحك واالختيار بني االستمرارية أو القطيعة؛ لذا كانت كل امرأة تعرف دورها ،وتعرف أيضا متى تظهر ومتى
في جنازة ميتيران آن بينجو العشيقة ودانييل الزوجة
العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
غراميات رؤساء فرنسا ونساء الظل
تخلصت من جميع الحسابات .ولم أعد أخضع ألي قانون ثابت يف الحب .ومن أجل أن أحبك بطريقة أفضل ،أخذت حذري ألاّ سواك .يا سعاديت ويا حبي ،ال أعتقد أنني كنت عىل تلك أحب ِ الدرجة من اإلخالص والجدية يف البحث عن العاطفة الحقيقية والتامة كما كنت معك»( .الجمعة يوم 21أغسطس 1964م).
بالتأكيد يف هذا العام كان ميرتان متزوجً ا ،وهو زواج لم
ينكره قط ،كان يدعمه عىل الدوام ،وزواج لم يشهد الطالق قط. من املعروف أن ميرتان كان ً أيضا منتص ًرا .وكان يدير العاطفتني
بحس من املسؤولية .وكانت زوجته كما أسلفنا ،تعرف الحقيقة ،حتى عشيقاته األخريات يعرفن ذلك ،لكنه الرئيس
وصاحب السلطة والجاه يف نهاية املطاف .وما يُسمح له ال يُسمح
لشخص آخر.
ً وحيدا يف فرنسا. تختفي .وأكرث من ذلك فقد أصبح ميرتان صاحب الشهرة والريادة يف الحب املتعدد الذي يكاد يكون يف إحدى رسائله يخاطب ابنته قائلاً « :عزيزيت مازارين .أكتب للمرة األوىل هذا االسم .إنني خجول أمام شخصيتك الجديدة التي
ً الحقا عندما تكربين وهذا يأيت بسرعة .قريبًا ستفتحني عينيك دخلت العالم .أنت تنامني ،أنت تحلمني .أنت تعيشني .ستعرفيني
وترين الدهشة .دهشة العالم! ستسألني عن هذا الشخص حتى النهاية( .باريس 7يناير 1975م) ولم تتعرف فرنسا إىل مازارين ابنة
الرئيس ميرتان إال مؤخرًا .كان يختار ساعة هادئة ليك يكتب لعشيقته رسائله ،وصفها اللغويون بأن لغة الرسائل تعود إىل الفرنسية
الكالسيكية؛ ألنها مكتوبة برشاقة يف أسلوبها وبالغتها. من العشيقة آن بينجو؟
ولدت آن بينجو يف 13مايو من عام 1943م يف مقاطعة كلريمون فرييه ،وهي متخصصة يف تاريخ الفن وبالتحديد يف فن النحت
الفرنيس ومؤلفة لعدد من الكتب والكتالوغات الفنية .وعملت يف قسم النحت يف متحف اللوفر الشهري ومتحف أوريس .أما فرانسوا
ميرتان فقد ولد يف 26أكتوبر من عام 1916م .وهو الذي حكم فرنسا يف أطول والية من عام 1981إىل 1995م .إنها قصة حب جميلة ،كما
يكتب عنها الجميع ،فقد التقاها ميرتان عىل شاطئ منطقة «هوسيغور» عندما كان يف عمر الـ 46وهي يف عمر الـ 19عامً ا .هناك فرق العمر.
واليشء الخطري يف هذه املرأة أنها ظلت طوال حياتها كاتمة لسر حبها مع ميرتان .وهو نبل نادر من نوعه للنساء الرثثارات. كان ميرتان يف تلك املدة رجلاً مهمًّ ا فقد أصبح وزيرًا ملرات عديدة .وكان سيناتورًا ملنطقة نيفري ،ومتزوجً ا ً أيضا من دانييل غوز يف
عام 1944م .وله ولدان مراهقان :جان كريستتوف وجلبريت .وكانت آن بينجو تسكن يف باريس يف قسم داخيل للفتيات .أول رسالة كتبها لها كانت يف 19أكتوبر 1962م .وقد تبع ذلك بكتابة ما يزيد عن 1200رسالة لم يكتشفها الفرنسيون إال مؤخرًا عندما نشرتها آن بينجو بعد
رحيل زوجته األوىل دانييل احرتامً ا للخصوصيات.
وقد أعجب ميرتان بذوقها الرفيع تجاه الفنون ،وهو األديب املعروف برهافة أحاسيسه .وقد اعرتف يف نهاية حياته وأثناء مرضه بأن
يتأسف ألنه أخفى شعلة الحب طيلة ثالثني عامً ا ،ووصفها بـ«املرأة ،والفتاة ،والزهرة ،والثمرة ،والشمس الساطعة» .وكتب يف نوفمرب ُ أحسست عىل الفور بأنني سأقوم برحلة طويلة معك .أينما أذهب ،أعرف عىل األقل بأنك تكونني معي «التقيتك وقد من عام 1964م قائلاً : ِ
عىل الدوام .أبارك هذا الوجه ،أبارك ضويئ .منذ أحببتك ،لن تكون يل أية ليلة ظلماء .وعزلة املوت ستصبح أقل عزلة .آن ،يا حبي». وقد أطلق عليها كل أوصاف الحب« :قطتي الصغرية» ،و«قلبي» ،و«وخالقة سعاديت» ،و«عاملي األليف» ،و«آن الغالية» ...وغريها من التعابري .ولم تبعده كل مسؤولياته الجسيمة يف حكم فرنسا من حبه لهذه املرأة التي كتب لها يف يوليو « :1967حبك يمنحني اإلحساس بالخلود ،واملوت وحده يفصلني عنك» .ويف الواقع ،لم ينته هذا الحب إال بانتهاء كتابة آخر رسالة له يف 22سبتمرب من عام 1995م قائلاً :
أحبك ،أكرث فأكرث؟». «أنت فرصتي األخرية يف الحياة؛ كيف ال ِ
131
ثقافات
أخالقيون يدعون إلى االلتزام ثم يخالفونه
الحياة السرية لمفكرين وفالسفة.. صراعات وجنس ومثلية وخياالت مازوشية وهتك المقدس متعب القرني
132
أكاديمي ومترجم سعودي
حين كتب أبو حامد الغزالي (1111-1058م) كتابه «تهافت ّ وتحلت الفالسفة» لم تكن الفلسفة األخالقية حينها قد ظهرت بإهابها التحليلي الرصين ،بل كانت أسيرة للمحاوالت األولى المهمومة بتعريفات الخير والشر والسلم والحرب ،ثم سرعان ما كشفت القرون التالية عن حيازة األخالق مساحة بالغة األهمية من الخريطة الفلسفية العامة ،بما فيها من جدليات وتنظيرات ساعية لبناء مجتمع مثالي متكامل .كانت النتيجة بناء إطار نظري أخالقي لتحقيق العدالة والمساواة ،ورفع معدل االنضباط والمسؤولية، ً فردية كانت أو وتقليل األضرار الناجمة عن التصرفات اإلنسانية، مجتمعية؛ فنجحت تلك الطروحات من الوجهة النظرية، في حين فشلت عن تحقيق مستويات أخالقية عالية من الوجهة التطبيقية ،والمؤسف أنْ كان مؤشر التدني محسو ًبا على أقطاب الفلسفة الغربية أنفسهم.
العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
روسو مع تيريز لوفاسير
فعىل رغم أن الفالسفة قدّ موا أنفسهم نماذج متصالحة
يف عام 1742م ،كان عالم السياسة واالجتماع روسو مشغولاً بالخوض يف عالقات محرمة مع عدد من بائعات
املهني واالنحالل القيمي بممارسة ما هو غري متوقع ،وما هو
معه سكرتريًا إبان إقامته يف فينيسيا بإيطاليا .وبعدها بثالث
مع ذواتهم وصالحة ملجتمعاتهم ،كان منهم نماذج شاذة
خرقت املواثيق واألعراف الوظيفية ،وساهمت يف االعتالل غري معهود ،فدفعتهم نزواتهم الجنسية إىل هتك العالقة
املقدسة ،والعروة الوثقى بني املعلم والطالب ،والطبيب واملريض ،واملربي واالبن .من هنا نسرب أغوار الحياة الجنسية
الصاخبة التي عاشها رموز ساطعة من أوربا ،ونيضء تلك ً بداية بحياة روسو العتمات بالكشف الروايئ االستعرايض، املضطربة ،ومرورًا بصراعات فرويد ويونغ ،وصولاً ملغامرات سارتر ودي بوفوار ،وانتهاءً بنماذج معاصرة ال تزال تميض
تائهة يف هذا املسلك الوعر.
روسو :عالقات غرامية وأوالد غري شرعيني
كشف الكاتبان نايغل رودجرز وميل ثومبسون يف كتابهما
«جنون الفالسفة2004 ،م» منظومة التناقضات التي مر بها
الفيلسوف السويسري جان جاك روسو (1778-1712م) ،إذ ً حياة مبتذلة ّ يحفها العهر والرذيلة ،وخياالت االستمناء عاش
الصاخبة .لقد ثبت من خالل استعراض تجارب روسو أنه عاىن يف حياته املازوشية ،وهو اضطراب نفيس يتلذذ فيه الفرد ً عامة؛ إذ كان يثني عىل بتعذيب ذاته واإلحساس باالضطهاد
ّ السكري الذي عمل الهوى ،كان يزوده بهن السفري الفرنيس
سنوات ،انتقل إىل باريس لينزل يف أحد الفنادق ،ويلتقي شابة غسلة بشعة تدعى ترييز لوفاسري (1801-1721م) كانت تعمل مُ ّ يف الفندق نفسه ،وكان يتلذذ بإقامة عالقات معها من دون
حدود ،مناشدً ا بذلك حالته املازوشية؛ إذ كانت بشاعتها
تخفف من شعوره العميق بالدونية االجتماعية ،وكان يرى يف ذلك مصدرًا يسد حاجته للشعور بالتفوق واالمتياز .دامت عالقة روسو مع ترييز طويلاً حتى أنجب منها خمسة أطفال يف
زيجة غري قانونية ،وأصر عىل التخيل عنهم جميعً ا حتى مات معظمهم ،قائلاً « :نتج عن تلك اللقاءات الغرامية خمسة
أطفال ،تم وضعهم جميعً ا يف مستشفى اللقطاء دون أن أفكر ً الحقا ،إذ لم أحتفظ حتى بسجالت تواريخ ميالدهم… بهم
أنا متأكد من أن هؤالء األطفال كانوا سيكربون عىل كراهية والديهما ،وربما خيانتهما».
لم يكن هذا التصرف الغريب من روسو يف زيجته غري
القانونية ليمنعه من كتابة «رسائل يف األخالق1757 ،م»، والذي وعظ من خاللها بأهمية اإلخالص بني الزوجني ،وتكليل
الحب بالزواج ،كما لم يثنه تخليه عن أبنائه عن كتابة روايته
ذكريات تلقيه العقاب والضرب يف صغره من آنسة تدعى ً معرتفا يف كتابه «اعرتافات1782 ،م» بأنها ساهمت المربسري،
لرتبية األطفال ،فقد كان يحيك قصة الفتى إميل الذي ترعرع
الزواج ،كنت أجد لذة رائعة يف الجلوس تحت قدمي حبيبتي
املجتمع كأفضل الطرائق الرتبوية ،مؤكدً ا عىل نظريته بأن
يف صياغة ذوقه الجنيس طويلاً «حتى بعد وصويل سن املتعجرفة ،مطيعً ا أوامرها ،طالبًا الغفران منها».
الرتبوية «إميل1762 ،م» ،وإرشاد قرائه إىل الطريقة السليمة يف الريف ،وانعزل عن املدينة ،وتلقى تعليمه بعيدً ا من فساد
طبيعة اإلنسان خيرّ ة ،وال تفسد إال بالحضارة.
133
ثقافات
يمكن القول :إن هذه األطروحة الرتبوية املوازية لرباءته الفعلية عن أبنائه (حتى مماتهم) تمثل ً ً صارخا يف حياة هذا نقضا الفيلسوف الشهري الذي عجز عن الخروج من مرحلة التعليق اً دخول يف مرحلة التطبيق والتنفيذ؛ غري أن من يسرب والتنظري
حياة روسو يُدرك محفزات هذه التناقضات الشخصية التي كان
يصارعها طيلة حياته ،إذ كان يعيش وحده دون إخوة أو عالقات
أو أصدقاء أو مجتمع ،كما كان يؤكد يف كتابه الرائد «اعرتافات» الذي ُنشر بعد وفاته عام 1782م ،وأكد فيه «أن كشف كل يشء،
ً وقت مبكر ،بعد أن منبوذا يف يغفر كل يشء» .فقد عاش يتيمً ا ٍ توفيت والدته بعد والدته مباشرة ،لتتوىل عمته رعايته ،كما تخىل عنه والده املاجن وهو يف العاشرة من عمره ،ليتوىل عمه ً نيابة عنه؛ وقد تكون هذه اللحظات القاسية من العناية به
حياة روسو هي ما مأل حياته الطويلة بالتناقضات.
لم تكن هذه التجاوزات يف العموم لتقلل من مكانته
الفلسفية ،ومن أن يلقى اهتمام الجماهري برسائله يف السياسة اً مجهول يف واالجتماع ،فقد ُنقل جثمانه بعد موته وحيدً ا
جزيرة إيل دي بوبليه بعد 16سنة من وفاته ليُعاد دفنه يف
احتفالية جماهريية حاشدة ،وبطقوس رسمية فاخرة يف مقربة
البانثيون (مقربة عظماء فرنسا) ،إىل جانب فولتري وفيكتور
134
هوغو وفالسفة آخرين.
صراعات فرويد ونزوات يونغ
كارل يونغ وزوجته إيما روشنباخ
كتابه «الطريقة األخطر1994 ،م» وجُ سدت يف عرض سينمايئ
باالسم نفسه عام 2011م.
كانت البداية عام 1904م حني افتتح كارل يونغ ( 29عامً ا)
عيادته النفسية يف زيورخ ،وقد كان حينها متأث ًرا ومعجبًا
عىل أعتاب الحرب العاملية األوىل ،كانت املدينتان زيورخ وفيي ّنا قطبني نشطني جاذبني لإلشكاالت النفسية الجنسية بني
بالعالم الكبري فرويد ( 48عامً ا) وطريقته يف «العالج بالكالم»
فرويد (1939-1856م) ،والسويسري كارل يونغ (1961-1875م)،
أو ملجموعة من األفراد لعدة جلسات .استقبل يونغ يف عيادته
عاملني من أبرز علماء النفس يف العالم :النمساوي سيغموند
إذ كانت بداية الصراع األكاديمي والشخيص بينهما عىل فتاة روسية تدعى سابينا سبيلرين (1949-1885م)؛ وقد كشف عن
أستار هذا الصراع املؤلف األمرييك جون كري (2013-1931م) يف
قدموا على الرغم من أن الفالسفة ّ
وهي طريقة يقوم فيها املريض بالتعبري عن مشكالته لطبيبه فتاة روسية تدعى سابينا سبيلرين ( 19عامً ا) ليكتشف من خالل
عالجها بطريقة فرويد أنها تعاين الهسترييا بسبب معاناتها يف الطفولة وتعرضها ألزمات جنسية مع والدها ،وهذا يؤيد
نظرية فرويد يف ارتباط الجنس باالضطرابات العاطفية .هذه
الطريقة يف العالج ،أي «العالج بالكالم» ،هي التي يصفها
الكاتب يف عنوان كتابه بـ «الطريقة األخطر» إذ تستمد خطورتها
أنفسهم نماذج متصالحة مع ذواتهم
من كونها ستؤول إىل سقطات مدوية يف حياة يونغ املهنية.
نماذج شاذة خرقت المواثيق واألعراف
حالة سابينا طلبًا للنصح واالستشارة ،وكان فرويد حينها
وصالحة لمجتمعاتهم ،فإن منهم الوظيفية ،ودفعتهم نزواتهم الجنسية إلى هتك العالقة المقدسة والعروة الوثقى بين المعلم والطالب، والطبيب والمريض ،والمربي واالبن
يف عام 1907م ،سافر يونغ لزيارة فرويد ونقاشه بخصوص
معجبًا بتحليالت يونغ لدرجة أن سمّ اه وريثه الشرعي األحق
بعرشه بعد وفاته .وبسبب هذه الثقة بني الصديقني ،قام
فرويد بإرسال طالبه أوتو غروس (1920-1877م) إىل يونغ ليقوم
بعالجه ،وقد كان غروس منظ ًرا جيدً ا يف علم النفس عىل رغم ً الحقا بسبب انحالله الخلقي ،وإدمانه املخدرات« ،وقد تويف املخدرات ووجد طريحً ا يف شوارع برلني» .كان غروس ماه ًرا يف
العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
الحياة السرية لمفكرين وفالسفة ..صراعات وجنس ومثلية وخياالت مازوشية وهتك المقدس
تربير أهمية تعدد الزيجات ،وعدم كبح الرغبات الجنسية حتى وإن آلت إىل عالقات محظورة ،األمر الذي ّأثر يف يونغ ليجد
السطح فكانت بمثابة الصدمة للقراء عن حياة يونغ الجنسية،
الجنس مع مريضته سابينا بنية عالجها ،محطمً ا بذلك املواثيق
نزواته ضد مرضاه ،ال سيما أن عالقة يونغ مع سابينا لم تنتهِ
فيها مسوغات كافية للتخيل عن أخالقياته املهنية ،وممارسة األخالقية بني الطبيب واملريض ،متنك ًرا يف الوقت ذاته لقرانه
الطويل مع زوجته الكاتبة إيما روشنباخ (1955-1882م) التي أنجبت له أبناءه الثالثة .انهار يونغ يف عالقات غرامية مع
مريضته بشكل دوري بال توقف ،وكانت سابينا يف هذه األثناء سببًا كافيًا إلغرائه لالنفصال عن مدرسة فرويد ،وممارسة النقد ضدها ،إىل أن فسدت هذه الصداقة الطويلة بينهما.
ظلت عالقتها مع يونغ طي الكتمان ،إىل أن طفت إىل
إذ كشفت عن هبوط العالِم أخالقيًّا ،وعدم قدرته عىل كبح يف حينها ،بل استمر يونغ يف هبوطه غري املهني بإقامة صداقة
غرامية أخرى مع عاملة النفس السويسرية توين وولف (-1888 1953م) وذلك يف بواكري 1913م ،لتستمر مدة طويلة كانت
كافية ليونغ ألن يصف وولف بـ «زوجته الثانية». سادية سارتر ومثلية دي بوفوار
علمت إيما روشنباخ بما بني زوجها وسابينا من وصال،
يف عام 1929م ،جمعت الفرصة طالبًا وطالبة من فرنسا،
ابنتها بيونغ ،األمر الذي قوّض العالقة بينهما ،فقامت سابينا
النهائية بتميّز ،وهو ما جعل اللجنة تحتار يف تحديد األوىل
فقامت بإرسال رسالة مجهولة لوالدة سابينا تخربها عن عالقة بمهاجمته يف مكتبه وآذته جسديًّا ،ثم سافرت لتكمل عالجها وتعليمها تحت إشراف فرويد .دب القلق يف نفس يونغ ،وبدأ
يبعث برسائل يائسة لفرويد مؤكدً ا له عدم صحة عالقاته
الجنسية املكشوفة مع سابينا ،إلبقاء مهنيته وعيادته سليمة
من األذى والتشهري ،وكان فرويد بدوره يؤهل ويدرب سابينا
لتعالج مرضاه ،لتصبح بعد ذلك من أوائل عاملات النفس يف أوربا .لقد أصبحت سابينا أول عاملة نفس تنشر أكرث من 35
ورقة متخصصة دفعت بعجلة علم النفس إىل األمام ،إىل أن لقيت مصرعها مع طفلتيها يف محرقة الهولوكوست.
كالهما تخصص يف الفلسفة ،وكالهما تجاوز االختبارات منهما باملركز األول .خلصت اللجنة أخريًا ملنح املركز األول ً الحقا أعظم لجان بول سارتر (1980-1905م) الذي سيصبح عظماء الفلسفة الوجودية ،لتأيت سيمون دي بوفوار (-1908
1986م) ثانيًا ،التي ستكون من أعظم منظري الحركة النسوية
يف العالم .هذه املصادفة املحضة قدحت شعلة التعارف بني
الطالبني ،حتى توشجت بينهما آصرة غرامية شهرية دامت أكرث من خمسني سنة.
قىض سارتر حياته مع دي بوفوار يف وصال أشبه ما يكون
بالزواج ،غري أنه لم يتكلل بالعقود القانونية أبدً ا ،فقد كانت
سارتر ودي بوفوار ،وبوريس فيان مع زوجته ميشال ليغليز-فيان
135
ثقافات
(1983-1915م) إحدى طالباتها ( 19عامً ا) إلقامة عالقة غرامية
معها ،ثم تعمّ قت العالقة بني املعلمة والطالبة حتى كتبت دي
بوفوار روايتها األوىل «أتت لتمكث1943 ،م» لتدبّجها بإهداء خاص لكوساكيويتز .تجاوزت دي بوفوار هذا االستدراج غري املهني بإشراك كوساكيويتز يف مُ ساكنة ثالثية مع حبيبها سارتر ُ وع ّشاق آخرين منهم الروايئ األمرييك الشهري نيلسون ألغرين (1981-1909م) الذي كانت تعاشره يف أثناء زيارتها لشيكاغو عام 1947م ،إضافة إىل الصحايف الفرنيس جاك لوران بوست (-1916
1990م) الذي تع ّرف بدوره إىل كوساكيويتز وتزوجها قانونيًّا.
مضت دي بوفوار يف هذه الخطط االستدراجية حتى تعرفت عام 1937م إىل طالبة أخرى ( 16عامً ا) ُتدعى بيانكا المبلني (-1921
2011م) فأقنعتها لتدخل يف عالقة غرامية مشرتكة مع سارتر، الذي كان -فيما يبدو -يهيئ نفسه للقاء أي ضحية تقع يف حبال
دي بوفوار .كتبت المبلني مذكرات «عالقة مشينة1993 ،م»
واصفة هذه الغراميات الطويلة ،شاكية من كونها استغلت استغاللاً شائ ًنا من جانب دي بوفوار وسارتر عىل السواء. تذكر المبلني أن سارتر مارس معها الجنس عام 1939م يف أحد
الفنادق الباريسية وكان يُظهر نزعات سادية؛ وقد يكون السبب وراء هذه النزعات اضطرابات العالقة العاطفية بني سارتر وأمه يف وقت مبكر من حياته ،إذ تزوجت بعد وفاة والده من رجل
136
يُبغضه ،وهذا جعله ال يحرتمها وال يدعو الناس الحرتامها ،بل
يزعم أنه كان يتظاهر بالنوم يف أثناء تنويمه بأحد املستشفيات لرياقب أمه املرافقة له وهي تخلع مالبسها.
سيمون دي بوفوار مع أولغا سوساكويتز، وحبيب بوفوار نيلسون ألغرين (1981-1909م)
يف عام 1943م ،مضت دي بوفوار يف تعرفها إىل الطالبات
لتلتقي هذه املرة طالبة ( 17عامً ا) تدعى ناتايل سوروكني
عالقة حرة ومفتوحة للطرفني ،إذ يحق ألي طرف منهما
(1926م) وهي آخر العشيقات األحياء لدي بوفوار وسارتر ،غري
الوقت الذي كان فيه سارتر يقيم غرامياته و«قاذوراته» مع
مالحظة تغري سلوكياتها برفع قضية تحرش ضد دي بوفوار
أن يعاشر شركاء آخرين دون تذمر واستياء من اآلخر .ففي
العاهرات الفرنسيات بحسب توصيف سكرتريه الخاص بيني ليفي (2003-1945م) ،كانت دي بوفوار تكرث من عالقاتها مع ً وإناثا ،وكانت أكرث انجذابًا لإلناث ،وقد يُفسر الجنسني ،ذكورًا
هذا النزوع املثيل لديها وصف أبيها لها ،إذ ثبت عنه أنه قال: ّ املعلمة دي «إن ابنتي تفكر كرجل» .ففي عام 1935م ،خرقت بوفوار العقود الرتبوية ،وقامت باستدراج أولغا كوساكيويتز
هذه السقطات الجنسية من فالسفة
أن من سوء حظ دي بوفوار هذه املرة أن قامت أم ناتايل بعد
آلت بعد التحقيقات لتجريم دي بوفوار وسحب رخصتها
التدريسية منها مدى الحياة .كان هذا القرار بمثابة الصفعة لدي بوفوار ،غري أنه لم يمنعها -وهي املرأة املناضلة والجسورة
من مواصلة حياتها الخاصة ،إذ واصلت عالقاتها مع طالباتهاومع صديقات سارتر نفسه ،كاملغنية الفرنسية جولييت غريكو
( )1927التي أهدى لها سارتر أغنية مسرحيته «الغرفة املغلقة، 1949م» وصديقة أمريكية أخرى تدعى دولوريس فانيتي ،إىل
جانب الكاتبة األمريكية ميشيل ليغليز -فيان التي كانت زوجة الروايئ الفرنيس بوريس فيان (1959-1920م) وكانت غراميات
األخالق هي حلقة واحدة في سلسلة
سارتر معها سببًا كافيًا إلفساد زواجهما وطالقها منه.
وتخالفه في الوقت ذاته
ملا يخرتقها من عالقات تداخلية من أطراف أخرى ،وقد تكون
طويلة متناقضة تدعو إلى االلتزام
العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
لقد كانت حياة سارتر ودي بوفوار مليئة بالصخب واإلثارة
هذه الحياة الحرة التي مر بها سارتر كافية لثنيه عن الدخول
الحياة السرية لمفكرين وفالسفة ..صراعات وجنس ومثلية وخياالت مازوشية وهتك المقدس
يف االلتزامات املهنية العليا ،إذ كان
يبتغي الخالص والحرية ،ويرفض
الضوابط الرسمية لدرجة أن قام
برفض جائزة نوبل لآلداب عام 1964م قائلاً « :ال ينبغي للكاتب أن يسمح لنفسه أن تتحول إىل
مؤسسة» .تويف سارتر عام 1980م، فلم ترتدد دي بوفوار يف أن تويص
قبل وفاتها بنشر رسائلها إىل سارتر
يف كتاب «رسائل إىل سارتر1990 ،م»
لتعرب عن كلفها وحبها له ،وتحيك مغامراتها وغرامياتها معه ،لتموت
كولن مكغين
توماس بوغي
أخريًا ُ وتقرب بجواره يف مقربة مونبارناس عام 1986م.
بعد توصيات مسؤويل الجامعة بسبب اشتعال قضيته إعالميًّا.
تحرشات كولن مكغني وتوماس بوغي
توماس بوغي ( )-1963يف قضية تحرش جنيس أخرى ضد طالبة
ويف عام 2014م ،تورط الفيلسوف األملاين بجامعة ييل
لم تنقشع هذه السحابة السوداء من العالقات املحظورة
ً فرصا وظيفية يف الجامعة لقاء عالقات غرامية، عرض عليها
والعشرين لتخل بسمعة فالسفة معاصرين ،إذ اضطر
تدعى فريناندا لوبيز عام 2010م ،وقام بتهديدها بطردها من
مكغني ( )-1950لالستقالة عام 2013م من منصبه بجامعة ميامي
سبق وتحرش بطالبة أخرى عام 1990م إبان تدريسه يف جامعة
مونيكا موريسون ،بعد أن قدمت إثباتات قاطعة من الرسائل
األخالق ،وقد تخرج من جامعة هارفارد تحت إشراف فيلسوف
ومن زميله أستاذ الفلسفة إدوارد إروين .لقد كان كولن مكغني
األخالقيني يف العالم .وعىل رغم تلقي رئاسة الجامعة خطابات
من أعرق جامعات أمريكا ،إال أنه وبعد استقالته من جامعة
بوغي املستمرة ويطالبون بفصله تأديبيًّا ،فإن الجامعة ال ترغب يف فتح قضيته عل ًنا ،ومن ثم التفريط بعقده التدرييس ألن
يف القرن العشرين ،بل ألقت بظاللها عىل واقع القرن الحادي
ولم تكن األوىل ،وقد ال تكون األخرية ،إذ تحرش بطالبة أخرى
الفيلسوف الربيطاين الشهري واملختص يف فلسفة العقل كولن
برنامج «املساعدة الجامعية» إن هي تعرضت له قضائيًّا ،كما
بعد أن تورط يف قضية تحرش جنيس رفعتها ضده طالبته
كولومبيا .الغريب يف األمر أن بوغي فيلسوف مختص يف فلسفة
الورقية واإللكرتونية تشمل تحرشات واعتداءات صدرت منه
األخالق األمرييك جون رولز (2002-1921م) ،ويعد اآلن من أبرز
مطلب غالب الجامعات ،إذ عمل يف جامعة أوكسفورد وعدد
مفتوحة من جانب طالب وأساتذة بارزين يؤكدون تحرشات
ميامي عىل خلفية هذه الحادثة ،وعىل رغم حصوله عىل مقعد سريع بجامعة شرق كاروالينا ،سرعان ما سُ حب مقعده منه
االتهامات لم تثبت عليه قضائيًّا.
اإلنسان في جوهره كينونة منفصلة بذاتها بقي أن نقول :إن مثل هذه السقطات الجنسية من فالسفة األخالق هي حلقة واحدة يف سلسلة طويلة متناقضة
تدعو إىل االلتزام وتخالفه يف الوقت ذاته .وبقي أن نؤكد أن اإلنسان يف جوهره كينونة منفصلة بذاتها ،وليست ره ًنا كالحيل التي تزين الذات البشرية العارية العاجزة عن صد النزوات .وبقي أخريًا ملهنته ،فاإلنسان ُكن ٌه واملهنة كن ٌه آخر ّ أن نتحوط يف التنبيه إىل أن هناك من يرى أن العالقة الجنسية -يف الجوهر -ال تمثل خطرًا أخالقيًّا إذا ما تمت بالرتايض
تنضو تحت القانون ،وذلك بحسب النصوص الفلسفية الراهنة ،إنما الخطر يكمن يف خرق األعراف بني األطراف ،وإنْ لم ِ املهنية باملخالفات األخالقية ،باالستدراج كأنموذج دي بوفوار وطالباتها ،أو باالستغالل كأنموذج يونغ ومريضاته ،أو بالتخيل عن املسؤولية الرتبوية كحالة روسو وأطفاله ،يف الوقت الذي ينتج عنها مخاطر جسيمة قد تؤول أخريًا إىل
الوفاة ،وهو الضرر األكرب أخالقيًّا كما حدث ألطفال روسو غري الشرعيني.
137
ثقافات
اشتغاالت أدبية بانشغاالت أخرى
«كاليمت فيكشن» نوع أدبي جديد... محوره المناخ والتغيرات البيئية
138
العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
«كاليمت فيكشن» نوع أدبي جديد محوره المناخ والتغيرات البيئية
ُدنى غالي
روائية عراقية تقيم في الدانمارك
عندما قرُب موعد صدور روايتها الجديدة خطر ببال
الروائية الدنماركية شارلوته فايتزه أمر مهم ًّ جدا ،فاتها أن تسأل محررها عنه ،فاتصلت به في الحال لتسأله عن نوعية الورق الذي س ُتطبع عليه رواي ُتها التي حملت العنوان« :ما هو مقيت»،
إنْ كانت عجينة الورق لكتابها من أشجار مجازة القطع ،وإال ً ً ونفاقا! إنها قلقة بشأن ذوبان مداهنة سيكون كل ما كتبته
الجليد في القارة القطبية ،وارتفاع منسوب مياه البحار .وروايتها ً حديثا تقع في صنف الرواية الذي يدعى «كالي التي صدرت فاي» مختصر «كاليمت فيكشن» ،وهو األدب الذي يدور محوره
حول المناخ والتغيرات البيئية ،وهو صنف حديث تم اشتقاقه
على غرار روايات الخيال العلمي «ساي فاي» مختصر «ساينس فيكشن».
والروائية فايتزه كانت من أول الحاصلني عىل منحة
تمسنا ًّ حقا العناوين عن مسؤوليتك إزاء هذا الكوكب ،هل ّ
لتقديم الدعم للمهتمني بشؤون البيئة من الباحثني
التي جعلناها متقلبة بشكل متطرف دون أن ندرك أنها
اإلقامة املمولة من منظمة «الكلمة الحرة لندن» املخصصة
والكتاب الذين يدرسون كيفية معالجة هذه القضايا عرب الفن واألدب ،وقد صدرت الرواية بعد سلسلة من البحوث التي أجرتها ،واملعارض التي زارتها ،واملقابالت التي خصت
مشروع «أزمة املناخ».
ً قلقا وهي تتحدث يف املقابلة عن كان صوتها ناعمً ا
هواجسها ،لدرجة تشعر خاللها بالحرية ،وال شك أن األسباب تعود لتلك الفوارق يف انشغاالت كتابنا عنها يف
هذه البقعة من األرض .وهذا ال يعني انحسار األصناف األخرى ،ولكن ألن مصطلح «كالي فاي» أخذ يرتدد كثريًا يف السنوات األخرية ،ما يضطرك إىل اإلحساس أولاً بالتخيل
التي تتصدر عشرات املقاالت والبحوث حول حرارة األرض من فعل اإلنسان! ولعل أحدنا سيقول مدافعً ا عن نفسه: تكفينا همومنا من الحروب والقمع والنزوح واللجوء
واألنظمة القمعية لننشغل عنها أو لنوثقها أو نوظفها يف
أعمال إبداعية ،ومن ناحية أخرى أال نشعر حقيقة بالعجز إزاء هذه التحوالت ،وما الذي يمكن فعله؟ ضد األدب السيايس
ولكننا نكتشف أن موضوع البيئة واملناخ الذي احتل
هذه املساحة يف األدب اليوم ،ال يمكن إبعاده عن السياسة،
إن أتينا عىل ذكر خلفيات كل هذه التغريات! وإن لم تصل
139
ثقافات
احتجاجاتنا بشتى الوسائل إىل أصحاب القرارات يف العالم لن نستطيع إنقاذ أنفسنا .الكتابة يف هذا املجال ليست سهلة كما تذكر فايتزه ،كما أن اإليمان بها شرط ال يمكن مناقشته عىل الصعيد الشخيص ،وإن كانت القرارات صعبة يف هذا املجال .فعىل سبيل املثال ،تذكر فايتزه :إن كنت تريد أن
تستخدم الخاليا الشمسية يف بيتك كسلوك أخضر يحافظ عىل البيئة ،عليك بالعمل بالطبع فهي مكلفة ،وهل يمكنك االستغناء عن سيارتك إن كان مكان عملك بعيدً ا؟
وإن اضطررت إىل ذلك فستساهم بالتايل يف زيادة نسبة ثاين أوكسيد الكربون يف الجو.
يقول :إنه ال يتوقع أن يغري العالم من خالل ربما 30 مشرتيًا لن يستهلكوا شي ًئا خالل خمسة أيام« ،ولكني أشري
إىل االحتمالية التي تكمن يف فن سيايس مباشر». كسر احتكار الرجل
كما استعرضنا املثالني السابقني يدفعنا املوضوع إىل
تناول أعمال أخرى تصب يف هذا املجال؛ إذ إن «بوالك: اسم مشروع دنماريك جديد يجري العمل فيه» يؤكد هو ً أيضا أن السياسة واألدب يظهران مرتافقني يف كثري من
هذا مثال بسيط عىل التوازنات التي علينا أخذها يف
األحيان« .بوالك» معني يف البحث يف موضوعه بمنطقة
-كما تقول -هو يف توظيف كل هذه األفكار واملعلومات
مقتبل أعمارهن ،نتاجهن جاد وظلهن خفيف .سينطلقن يف
الحسبان لنؤدي الدور الذي يقع علينا يف كل هذا .واألصعب واإلحصائيات أدبيًّا .ولكنها تهدف مع ذلك إىل استخدام الفن للتحريض والتنبيه ،ولكنها ضد األدب السيايس الذي
يعود إىل حقبة السبعينيات.
القطب الشمايل من خمس كاتبات دنماركيات محرتفات يف
صيف العام 2016م ليكتشفن هذا املكان األسطوري املتخيل
يف جانب منه ،سيبحنث يف سر الصراع املستفحل اآلن بني الدول العظمى :كندا ،وأمريكا ،وروسيا ،حول الحدود
هذا ما يؤكده الشاعر الدنماريك املتمرد وعازف
التي تطالب كل دولة بها ،وبعد أن قدمت الدنمارك مؤخ ًرا طلبًا ً أيضا يف حقها بالقاع تحت القطب! سيقفزن،
يشري إىل فعل سيايس .عندما يخيب السياسيون آمالنا عىل
يصدر كتاب أدبي شعري ،وفلم ومعرض فوتوغرايف عند
الساكسفون الرس سكيناباك الذي رفض باملقابل تسمية
ما يكتبه بالشعر السيايس كتعريف ،عىل رغم أن ما يكتبه
140
املصطلح الذي أطلقه ناقد سويدي عىل نتاجه الشعري.
الشعراء أن يتقدموا ،وأن يدعموا من خالل نصوصهم َ القارئ ليكون فاعلاً ،ذلك هو ما فعله سكيناباك حني أصدر
ينبطحن ،يغنني ويصورن ،ال يشء مستبعد .الخطة أن
انتهاء البحث الذي اختلفت دوافعه؛ فجزء منه ينطلق من وعيهن املشرتك بأهمية هذه الثيمة ،والسيما أن كلاًّ منهن
قبل بضع سنوات مجموعة شعرية « »09-04أسماها بطبعتها
قد سبق أن كان لها نتاج بهذا الخصوص ،وجزء آخر من
بطبعة أوىل محدودة تفرض عىل مشرتي الكتاب -وفق شبه
ومن ثم الكتابة أدبيًّا عنه وبقلم نسايئ.
األوىل «تمارين ونصوص طقسية» وكتبها بخط يده ،وصدرت ميثاق -أال يفكر فيما ينفقه خمسة أيام سوى بـ»البيئة، واملناخ ،والفقر ،والنزعة االستهالكية ،والرثوات امل ُ ْهدَ رة». يقول يف لقاء له يف صحيفة «اإلنفورمشيون» :الشاعر الذي ال يتناول خطر التغريات يف املناخ حاليًّا شأنه شأن من
يعزفون والباخرة تغرق .إن الوقت قصري جدًّ ا لتاليف التدهور السريع الذي أخذ يدمر حياة شعوب بأكملها .وهو يميل إىل تسمية شعره بـ»التظاهري» بديلاً للشعر السيايس ،وهو
تمسنا ًّ حقا العناوين التي تتصدر هل ّ عشرات المقاالت والبحوث حول حرارة مدافعا األرض ...لعل أحدنا سيقول ً عن نفسه :تكفينا همومنا من الحروب والنزوح واللجوء واألنظمة القمعية
العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
هذا املشروع هو يف كسر احتكار الرجل ملجال البحث الوعر، أما الكاتب الرنويجي األصل كيم الينه الذي درس يف
الدنمارك ،وعمل يف غرين الند ،وعاد بعدها ليستقر يف
الدنمارك ،فستصدر له رواية دنماركية جديدة بعنوان «األرقون» تتحدث بدورها ً أيضا عن التغريات املناخية ،وهي ِ من الخيال العلمي ً أيضا وتدور أحداثها يف غرين الند (بلدٌ
مُ نح الحكمَ الذايت من الدنمارك ،وهو يقع بني القطب الشمايل واملحيط األطلنطي ،شرق أرخبيل القطب الشمايل
الكندي) .وتتحدث الرواية عن املستقبل القريب للبلد الذي ً إطالقا ،فال يغمره الضوء األبدي حني ال تغيب الشمس
يستطيع الناس النوم حني يقتحم بيوتهم وأعينهم ،ويحول دون خلودهم للراحة فيمرضون ،يدورون ويعملون ،ويف
املقابل هم بشوق إىل الليل والنوم ،يذوب الثلج وتختفي الزالجات ،وتتغري بالتايل طبيعة الحياة املميزة إجمالاً يف تلك
البقعة من األرض!
وألن ربطنا الفن بالسياسة والبيئة يف املجتمعات املتطورة
التي تكاد النزعة االستهالكية واملادية تجففها تمامً ا ،فال بد
«كاليمت فيكشن» نوع أدبي جديد محوره المناخ والتغيرات البيئية
شارلوته فايتزه
للعلم من كلمة هنا« .القصة بأكملها ،سرديات عن السحر ً حديثا ً أيضا ،وهو ثمرة تعاون عىل والعلم» كتاب صدر ِ
واملوسيقي كريستيان ليت من مدى أربعة أعوام بني الشاعر ّ فرقة «وليم بليك» ،والعالم الدنماريك الربوفيسور إيسيك ويالرسليف املعروف عامليًّا بتخصصه يف علم الـ«دي إن أي».
يدور الكتاب يف بحثه حول الحدود ما بني العلم وكل ما ال
يمكن وزنه أو قياسه :هل بإمكان عال ٍِم أن يُق ّر بوجود قوة غيبية ما قد تح ّرك جبالً؟! هذا أحد الجوانب التي تناولها الكتاب ،وهو عبارة عن سلسلة من الحوارات التي دارت
حول البعد الروحي يف الثقافة الدنماركية ،والعالقة بني
«تمارين ونصوص طقسية» مجموعة شعرية لشاعر دنماركي كتبها بخط يده ،وصدرت بطبعة أولى محدودة تفرض على مشتري الكتاب وفق شبه ميثاق أال يفكر فيما ينفقه لخمسة أيام سوى بـ«البيئة ،والمناخ ،والفقر، والنزعة االستهالكية ،والثروات المهدورة»
العلم والجانب الروحي يف الحياة عرب تاريخ البشرية ،كما يعرج كذلك عىل السياسة الحالية يف العالم.
ويالرسليف جريء يف إعالن إيمانه بوجود الله أو «يشء
الروحي ال قيمة له ،نحن نسعى ليك ننفصل عن الروحانية
احتياج البشر الروحي بال قيمة لقضت نظرية التطور عىل
رجال الدين عىل مر التاريخ ،وهو ما أدى إىل أننا ال نتحدث
ما رباين يف األعىل» ،مراجعه الداروينية تؤكد أنه لو كان
التعصب والتزمُّ ت منذ زمن بعيد .من ناحية ثانية يرى
الشاعر ليت أن الدنماركيني –عىل خالف ما يعتقدون-
ليسوا بعلمانيني ،والكثري من منطلقاتهم عقائدية وبروتستانتية ،كما أن املتطرفني من بني املسلمني وغريهم من الذين ننتقدهم ونريد لهم أن يتبنوا الصورة التي نحن عليها« ،نحن كمجتمع متفقون عىل أن ما يسمى البعد
ألنها تذكرنا بقصص حقيقية مرعبة تم استخدامها من
عن يشء آخر سوى املادية أو األرقام؛ ألنها الحقيقة الوحيدة لدينا .نحن نظن أننا ال نقوى عىل مواجهة املادية، وبالتايل نعتمد سياسة الضرورة ،ولكنه موضع اخرتناه
بأنفسنا؛ ألننا نظن أننا ما بعد أيديولوجيني ،نظن أننا تجاوزنا عصر الحكايات وال يمكننا لهذا أن نتحدث بلغة غري لغة املعلوماتية».
141
إصدارات
الدولة في فكر الجماعات اإلسالمية في المغرب المؤلف :محمد الشيخ بانن
الناشر :مركز دراسات الوحدة العربية.
يعالج الكتاب موضوع الدولة في فكر الجماعات اإلسالمية في المغرب بوصفها مسألة مركزية في االجتماع السياسيّ ، ً موضوعا للجدال الفكري والصراع مثلت وال تزال
السياسي بين مكونات الفعل السياسي المغربي منذ استقالل البالد حتى اليوم؛ فكانت
لتلك الجماعات مواقفها حيال الشكل الذي اتخذه مفهوم الدولة سواء على مستوى التراث
السياسي اإلسالمي أو على مستوى شكله السياسي والدستوري القائم. ويحتوي الكتاب اثني عشر فصلاً إلى جانب الخالصة والمقدمة والخاتمة. عرق الضفدع
المؤلف :أكيرا كوروساورا
المترجم :فجر يعقوب
الناشر :منشورات المتوسط ـ إيطاليا
كوروساوا ،إمبراطور السينما اليابانية وشاعرها األكبر دون منازع ،يترك لنا في َ «ع َرق
الضفدع» ما يُشبه سيرة ذاتية ،وأسرار أفالمه الالحقة ،فالكتابة عنده غموض ياباني، تذ ّكره بالضفدع المتروك في علبة محاطة بداخلها بالمرايا التي تصوّر له تشوّهات صوره،
وتعددها ،فيُفرز العَ َرق الذي يتحوّل إلى نقيع مغلي ،يساعد على مداواة الجروح والحروق. المرايا كثيرة حول هذا المخرج اإلمبراطور الذي وقف في مواجهة «سوني -هيتاشي -سانيو
النسر -مازدا -كاسيو» ،وكل تلك القائمة الكبيرة من الماركات التجارية التي تعتصرذاكرة اإلنسان المعاصر ،فتخنقه ،وال ين ّز منه َع َرق يجدي ،أو ينفع.
142
سياسات الضيافة شذرات من خطاب في الغيرية المؤلف :رشيد بوطيب
الناشر :دار توبقال
إن المدينة األوربية الحديثة غير مضيافة .وليس في هذا األمر جديد .لكنها إزاء المسلمين هي ً أيضا غير عادلة ،وفي غالب األحيان عنصرية ،مسكونة بحقد مرضي .إن
لألمر عالقة بالضعف الذي ينتاب المشروع الديمقراطي اليوم أمام الهيمنة الرأسمالية، ولكن لألمر عالقة ً أيضا بالسياسة الثقافية األوربية ،التي تصمت على الدور التاريخي
والحضاري لإلسالم ،إن لم تعمد إلى تزييفه ،كما تفعل وسائل اإلعالم األلمانية .نحتاج
في هذا السياق ،وأمام هذه الحرب غير المعلنة ضد اإلسالم ،إلى علمنة تتجاوز أشكال التمييز ،إلى علمنة للعلمنة ،تحررها من كل شكل من أشكال االنتماء. العا َلم وال ُبلدان
المؤلف :أندريه ميكيل
المترجم :محمد آيت حنا
الناشر :مشروع كلمة ـ أبو ظبي
هذه ال ّنصوص هي نوع من نهضة يُقام بها على خلفية خسارة؛ ضوء مبهر يشعّ في َ أعمالهم رجال عظام ،من موسوعيّين سماء محتلكة .على خلفيّة األفول هذه ،أنجز
َ لعالمها وجغرافيّن ورحّ الين أخذوا على عاتقهم تدوين حضارة بكاملها ،وعكسوا تصوّرها ً خوفا عليها من ّ الضياع .هي اندفاعة ولعوالم اآلخرين ،ولمُ جمل العالم والكون .قاموا بذلك ً قصوىْ ، وثبة حيويّة خلاّ قة أحيت أجناسً ا قديمة وابتكرت صنوفا من الكتابة أخرى .كانت
ّ يسلط ميكيل عليه ّ الضوء بألمعيّة وسخاء ،ثقافة متكاملة يتضافر فيها األدب تلك ،كما
وموسوعي ولغويّ وفنّ في الوصف رفيعٌ ودقيق. تاريخي الجغرافي مع انهمام ّ ّ ّ العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
والقانونية الكونفوشيوسية شيون تسي بين ّ ّ المؤلف :شيون كوانغ المترجم :وانغ يويونغ
الناشر :مؤسسة الفكر العربي
ّ المؤلفات الفكرية الكالسيكية الصينية التي تعود إلى أواخر يُعَ د الكتاب أحد أهمّ
عصر الدول الصينية المُ تحاربة ،أي قبل الميالد بأكثر من مئتي عام؛ وهو يتكوّن من 32 ّ المؤلف وعمق في األفكار ،وقوّة ورصانة في األسلوب .وقد استخلص فصلاً ،ويتميّز بسعةٍ ٍ جواهر المدارس الفكرية المتعدّ دة في تاريخ الصين القديم؛ كالمدرسة الكونفوشيوسية، والمدرسة التاوية ،والمدرسة الموهية ،والمدرسة الشرعية ،واستوعب جواهر العلوم
المتنوّعة ،كعلم الطبيعة وعلم السياسة وعلم االجتماع وعلم االقتصاد والفلسفة َّ ّ المؤلف ِسف ًرا جامعً ا لبانوراما الحال الفكرية استحق أن يكون هذا والعسكرة واألدب ،حتى والثقافية في أواخر عصر الدول المتحاربة في الصين.
نزهة عائلية
المؤلف :بسام شمس الدين
الناشر :دار الساقي
حس ً ونا ،نقيب آل شهوان ،يطلق النار على كان مأمون الجزار أمام حانوته حين شاهد ّ
مرتعب فيؤويه ويحول دون قتله ،وهو ال أرحب ،نقيب آل طعيم ،فيُرديه .يلجأ إليه فتى ٌ يدري أنه ه ّزام ابن المغدور .مأمون من فئة ال َبيَع التي ال موقع لها بين القبائل ،يجد نفسه ً متورطا في صراعات قبلية من دون أن يكون لديه من يحميه .يق ّرر تسليم نفسه إلى آل
شهوان ظ ًّنا منه بأنهم سيرأفون بحاله ،لكنهم احتجزوه سنوات وأذاقوه أصناف العذاب قبل أن يطلقوا سراحه .عاد إلى منزله ليجده خرابًا ،وليجد أنّ ه ّزامً ا أصبح صلب العود وق ّرر االنتقام لمقتل والده .ومَ ن غير مأمون أدرى بمواطن آل شهوان وبالشعاب التي تقود إلى
ً وخصوصا بوجوه القتلة؟ جبالهم العصية
فازت هذه الرواية بمنحة آفاق ضمن برنامج «آفاق لكتابة الرواية» ،الدورة الثانية.
النظريات النقدية للعولمة العجيلي وباتريك هايدن المؤلف :شمسي ُ ترجمة :هيثم غالب الناهي
الناشر :المنظمة العربية للترجمة
هذا الكتاب دليل للوصول إلى الغاية التي توفر مدخلاً إلى المناقشات النظرية الحالية في عالم يتجه نحو العولمة ،بدءً ا من مدرسة فرانكفورت ،وصولاً إلى ما بعد الحداثة.
يحدد هذا النص التفكير النقدي بشأن العولمة ومعالم كيفية التغلب على آثارها األكثر
إثارة للقلق .تناول الكتاب األبعاد االقتصادية والسياسية والثقافية للعولمة ،ورؤية حركات
العولمة البديلة للممارسات والمؤسسات المتحولة نحو العولمة .بما في ذلك نصوص مربعات تسلط الضوء على قضية رئيسة ،معتب ًرا النظريات النقدية في العولمة هي أداة ال تقدر بثمن للمهتم بالموضوع.
143
كتب
ـوا» «كـان هـذا سهـ ً فصوص غير منشورة ألُنسي الحاج صالح بوسريف
144
شاعر وكاتب مغربي
في كتابه ّ الصادر بعد رحيله «كان هذا سه ًوا» ،بقدر ً ما كان أُنسي الحاج ،شاعرًا ،بقدر ما كان ُم ّ وناقدا، تأملاً ، ّ يتعلق بشؤون ال ُو ُجود، وموقف ،في ُك ّل ما رأي ٍ وصاحب ٍ ّ بالسماء ،أو بالميتافيزيقا والدين ،والموت وعالقة البشر وكأن الكتاب كان ً ّ نوعا من والحياة ،والحب ،والفن واألدب، ّ تقييد الخواطر ،أو ما ُ يم ُّر بذاكرة الشاعر وبخياله ،أو بفكره ُ ور ،بدا ُ له في بعض لحظات اإلشراق ،أن باألحرى ،من أ ُم ٍ يكتبها ،أو ُيخرجها من العتمة إلى ُّ ُ النور ،رغم ّ أن الحاج ،لم ً وديعة في ّ ذمة ابنته، يرغب في نشرها في حياته ،وتركها ّ بعد أن ّ ألحت في نشرها ،أو في أن يقرأها الناس. ّ وكأن ُه يُسمّ ي يقول أُنيس الحاج ،يف [ص ]186من الكتاب،
أحد ُشعراء الحداثة العربية املُعاصرة ،الذين خرجُ وا عن «عمود ً ّ إضافة إىل كونه شاعر ما كان سمّ ا ُه هو الشعر» العربي القديم،
الحواس يف العتمة» .فما كان ير ُد يف خاطر الحاج ،أو ما يمُ ُّر
ّ «الشعر الحر» ،عند القديمة التي كانت تتواتر ح ّتى يف بعض لاً السياب ،من «الرُّواد» ،مث . نازك املالئكة ،وبدر شاكر ّ
ٌ نوع ما كتبه :إنّ هذه «الكتابات التأمُّ ل والشذرات» ،هي
فلسف ،كما يرى بعض املختصني ،لك ّنها ،يف ُعمقها من ال ّت ُ وجوهرها ،هي «استنطاق البدايات ً بحثا عن ُنور ،وهي تجُ وس
تعب ،كان أمام عينيه من لحظات ضوءٍ ،رغم ما كان ألمّ به من ٍ يحرص عىل تقييدها وتدوينهاُ ،دون أن ُ ُ ُ يكون ما يكتبُه ،شعرًا
ٌ ّ كتابة بالضرورة ،فالخواطر ت ّتسم بالحُ رّية يف ال ّتجنيس ،أو هي ٌ تتصادى مع ُك ّل أجناس الكتابة ،فيما هي كتابة حُ ر ٌّة ،مُ نطلقة، ال تتقي ُّد بقواعد ،أو بقوانني مُ عيّنة. ً إضافة إىل كونهُ ،هنا ،يف هذا العمل ،كما فأُنيس الحاج،
السابقة ،يك ُت ُ ب ،كما يشاء ،وفق فهمه يف غريه من خواتمه ّ للشذرة ،أو الكتابة ال ّتأمُّ ليّة ذات ّ الخاص ّ ّ الطابع الفلسفي ،فهو العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
قدمة كتابه «لن» بـ«قصيدة النرث» ،التي لم ُ نفسه يف مُ ّ تكن معنيّة ُ ّ ُّ قط ،ال بأوزان الشعر ،وال بقوافيه ،أو بطبيعة الصور البالغية
ُ تقع هذه الخواطر ،يف «املابني» ،ويعني الحاج ،ما بني
ّ الشعر وال ّنرث ،أي يف منطقة الربزخ ،بال ّتعبري ُّ الصويف ،الذي هو ّ ُ حظة التي عندها يلتقي ال ّنهر بالبحر ،فيما ُهما ينفصالن. الل وضع ملتبس ُ ُ ُ وفق هذا الوضع امللتبس ،حيث ال ظلمة وال نور، ٌ نوع من كتب الحاج ،أو اختار هذه األرض املُحايدة التي هي
صول الكتاب ،أو ُف ُ «ال ّنومنسالند» .ومن يقرأ ُف ُ صوصه باألحرى، تش ُّده إىل ّ سيجد نفسه يتأرجح بني كتابةٍ ُ ُ الشعر ،وكتابة بقدر
ٌ يأخ ُذها ّ تنكتب ُ صرف ،بقدر ما ُ ُ مأخوذة الشعر ،أو هي ما هي نرث ّ بماء ّ ُ الشعر وبهوائه ،أو بما تعوّدت عليه يد الشاعر من بلل ُّ اللغة ،وانشراحها. ُ ري يف كتاب أنيس الحاج ،هذا ،هو تلك ّ الشذرات إنّ ما يُث ُ ُ الوتسو ،أو حكم فالسفة ما قبل الحكميّة ،التي تشبه حكم ُ
ُ ّ خاصةٍ .وهي حكمٌ ، قرأهم نيتشه بعنايةٍ نقدية ُسقراط ،الذين لم ُ ّ يتوخى من خاللها أن ُ يبدو نبيًّا يُديل بوصاياه يكن الحاج الدنيويّة التي ُ نوعا من ال ُّن ُبوّة ُّ لتابعيه ،بل ّإنها كانت ً يبدو فيها ُ ُ «الحكيم» خبريًا ُ بش ُؤون األرض ،وخبريًا بشؤون الخلق ،ممّ ن
يعيش ويحيا بينهُ م ،وأنّ العالقة ّ ُ بالله ،مثلاً ،هي عالقة ذات طبيعة ميتافيزيقية ،فيها كثري من ُ الغموض وااللتباس ،وكثري
ً الش ّد والجذبً ، ّ من ّ «الشك» ،أو وتارة لجهة تارة لجهة «اليقني»
ح ّتى الجُ حود ،إن شئنا.
الت ،أو هي حصيلة تأمُّ ٌ فهذه الحكم ،هي تأمُّ ٌ الت ،فيها ّ ٌ ٌ يتكلم ،أو يك ُتب فيه ،وفيها ومعرفة ،بما اختار الحاج أن خربة، ً كاملة ،ليكرز بما كان يستجمع سهو ُه ،كما كان يستجمع قوا ُه وكإنسان، بلغه من خمرية فكره ،ومن خمرية تجربته ،كشاعر، ٍ ّ عاش ُعمُ رًا ملي ًئا بكثري من املُفارقات والجراح ،كان الشعر فيها،
بال ّنسبة لهُ ،هو البلسم ،الذي به كان نكأ الكثري من هذه الجراح. الشذرات ،أو ُ وض يف بعض هذه ّ وما ُ الف ُ صوص، يبدو من ُغمُ ٍ ُ ُ كما أو ُّد أن أسمّ يهاُ ،هنا ،فهو ناتجٌ عن طبيعة الغموض ،أو
تزال ُ تل ُّ ُ ّ ف بعض ما لم يحسم الحاج نفسه ،يف الضبابيّة التي ال ّ يتعل ُق بـ«ميتافيزيك ّ ً الدين». صوصا ما فهمه ،أو استيعابهُ ،خ
ّ ً بدين بعينه ،بل ّ فكرة ،وكتابًا، بالدين ،بوصفه، يتعل ُق األم ُر ال ٍ ُ ً ُ يحصر أنيس هذه ال ّتأمُّ الت فيما يجري اليوم وأيضا اعتقا ًدا .ال
بشأن ّ ؤسسة التي لها الدين ،فهو يعُ و ُد إىل بعض مُ شكالته امل ُ ّ ُ ُ ُّ الفص ،هو فالشذرة ،أو امتداداتها يف الرّاهن .ال تحليل يف األمر، ٌ واشتغال عىل الجوهر .األمر نفسه ُ نجد ُه يف األبواب األخرى انتقاءٌ ، ّ ّ من الكتاب ،ما تعلق منها ،بالحُ ّ ب ،أو ما تعلق منها بالفنّ .
تأمال، ُأنسي الحاج، ً شاعرا ،بقدر ما كان ُم ّ ٍ وموقف ،في رأي وناقدا ،وصاحب ٍ ً الو ُجود ،وعالقة كل ما يتعلّق بشؤون ُ بالسماء ،أو بالميتافيزيقا والدين، البشر ّ والموت والحياة ،والحب ،والفن واألدب،
نوعا من تقييد الخواطر، وكأن الكتاب كان ً ّ يم ُّر بذاكرة ّ الشاعر وبخياله أو ما ُ
إنّ ُّ اللغة التي يك ُت ُ ب بها أُنيس الحاج ،هي ُلغة أُنيس الحاج، هي أُنيس الحاج ،اعتبارًا ملا جاء يف املثل الفرنيس املعرُوف ُ ُ األسلوب نفسه «األسلوب هو الرّجُ ل» ،أي ُهو ُهو ،ال غريُه .هو ّ ب به ح ّتى يف ّ الذي به كتب شعره ،وكان يك ُت ُ ولعل الصحافة. الشعراء ،وبعض ُ أهمّ ما ميّز بعض ُّ الك ّتاب الذين يك ُتبُون يف
ُ ُ ُّ يتنازلوا عن دمهمُ عملوا يف الصحافة ،هو ّأنهُ م لم الصحُ ف ،أو ُّ ّ خيص ،أعني عن أسلوبهم ،وظلوا يك ُتبُون ،ح ّتى فيما يجري الش ّ خارج األدب ،أو ّ الشعر ،بنفس الدم الذين تتميّز به فصيل ُتهُ م. مرارة الرحيل
الكتاب ،مُ ٌ متع يف قراءته ،ومُ ؤلمٌ يف اآلن ذاته .فمن يقرأ ُ الكتاب ،يجد يف كثري من فصوصه بعض األلم الذي كان الحاج
ً ُ إدراك ُه ملرارة الرّحيل ،رغم ما يُبديه من جلدٍ يف وأيضا يبُوحُ به،
مواجهة هذا الرّحيل ،واالستعداد لهُ. ُ ُ الكتاب ،بهذا املعنى ،هو كالم أنيس الحاج معنا ،من أليس ُ ُ ُهناك ،أو هكذا تصوّر أن يكون كتابُه ،الذي ال يخلو من مُ باغتات، ٍ
ُ لبعض من ُ وع ُزوفه عن أن ُ وعرفوا طباعهُ ، يكون عرفوا الحاج، شاعرًا خارج رُؤيته هو ملفهُوم ّ الشاعر ،الذي ال يستجدي الكون، بل إنّ الكون هو من عليه أن يستجدي ّ الشاعر ،ويذهب إليه؟
145
كتب
لجبور الدويهي «طبع في بيروت» ّ العودة إلى الماضي والتفكير في المستقبل الفلم عمل عن صناعة األفالم ،أو ميتا -فلم .تدور األحداث
يف سنة 1927م ،جورج فالتني ممثل يؤدي أدوارًا باألفالم الصامتة، وبعد اخرتاع األفالم الصوتية تتقلص شعبيته بسبب رفضه التقنية لحظات تأمل وحننيّ ، ُ ُ ملسات تغلفها العمل يف الحديثة .يدخلنا ِ
َ جمال عىل السينما .هو رصدٌ ألهمية ملسة الوفاء لكل من أضاف ٍ ّ ناقوس يضرب وسطوعها كفنّ مستقل .الفلم السينما أساسً ا ُ َ ِ
وأسسه بعد أن يع ّري الخطر ،وين ّبهُنا إىل قيم الجمال السينمايئ ِ
السينما من بهرجة الشكل والصوت.
أرى أنّ جبّور الدويهي يف عمله الجديد «طبع يف بريوت» ُ يفعل يف الصادر عن دار الساقي 2016م يكتب امليتا -كتاب. ّ ّ َ يسلط الضوء ،يوثق فلم الفنان يف السينما. فعل الطباع ِة ِ ّ ناقوس الخطر .يروي جبور الدويهي ّ قصة ويدق ويحتفل وينبّه َ الجبيل النازح إىل بريوت للبحث عن فريد أبو َشعر ابن القرية ّ
146
دار تنشر مخطوطة دوّن فيها عصارة كيانهّ . يتنقل البطل من
خيبة إىل أخرى ويصطدم بنحو عشرين «ال» مصدرها دُور نشر تجارية .يجد فريد نفسه مصحّ حً ا للغة العربية يف مطبعة «كرم إخوان» العريقة التي يجعل منها جبّور الدويهي مرآة للبنان ّ بكل
بالل األرفه لي
باحث وكاتب لبناني
ُ عام 2011م احتفل الفلمُ الصامت (الفنان )The Artistللمخرج ميشال هازانفيشيس بهوليوود .وُصف الفلمُ عامَ ها ّ بأنه أثلجَ صدو َر
محبي السينما وأجهض غرورَها .ما هذا؟ هو السؤال الذي سأله النقا ُد عامَ ها .لماذا نحن اليوم بحاجة إلى مثل هذه السينما الهادئة؟ هل ًّ حقا ونحن في القرن الحادي والعشرين ،زمن سينما اإلبهار البصري ،وشاشات البعد الثالثي، الصوت المبهرة أصبحنا مفتونين وتقنيات ِ ُ أحد بسينما صامتة باألبيض واألسود التي هي أبرز سمات فلم «الفنان»؟ ِ العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
مفارقاته ،فالدار شهدت تأسيس دولة لبنان الكبري ،ورافقت ً أحداثا تاريخيّة مفصليّة ،ونشرت كتبًا جدلية يف الدين والتاريخ واألدب والسياسة ،وطبعت فيها الجرائد والدستور اللبناين واألشعار املعارضة .يرصد جبور الدويهي سرية الدار بصعودها
وخالف ورثتها فرتدّي أحوالها وتدحرجها إىل حافة اإلفالس وتراكم الديون وصولاً إىل تورّطها بتزوير عملة العشرين أورو الفنلندية ،ومداهمة مخابرات األمن العام ،فاحرتاقها املريب.
الرواية ّ قرن من الطباعة يف بريوت. قصة ٍ محاكاة ساخرة
يمكن أن نقرأ الرواية بوصفها محاكاة ساخرة لتاريخ لبنان ،أو عىل ّأنها تأريخ للبنان من خالل املطبعة ،أو عىل ّأنها تأريخ للطباعة يف بريوت صعودًا وازدهارًا وانهيارًا .ويصعب فعلاً أن نبتعد من اإليحاءات السياسيّة يف هذه الرواية التي تتماهى مع فرتات سياسيّة مفصليّة يف تاريخ لبنان ،لك ّني سأحاول أن أقرأ الرواية بوصفها تفكريًا يف جماليّات الطباعة ومستقبلها .ففي الوقت الذي أشكال جديدة للكتابة نتحضر فيه لهجر الكتاب املطبوع واعتناق ٍ
والنشر والقراءة بما تستدعيه هذه األشكال من عادات وممارسات
الكتاب الواحد .قتلت الطباعة تدريجيًّا مهنة نسخ الكتب ،وكان ما
لبنان ورصدِ تطوُّرها وتحوّالتها وتاريخها .هل كانت الطباعة ف ًّنا؟ هل ما زالت ف ًّنا؟ هل كانت أصفى عند بدايتها؟ فاألشكال الطباعية ّ املختلفة فرضت نفسها ً ولكل منها عادات وممارسات وقيم تباعا
لتستوعب هذا التغيرّ ،فظهرت أشكال طباعيّة جديدة كالجرائد واملجلاّ ت والحوليّات.
وقيم جديدة ،يدعونا جبور الدويهي إىل التفكري يف هذا االنتقال، جدواه ،وما ىّ دخول الطباعة إىل زمن ِ يتأت عليه ،عرب إعادتنا إىل ِ
ٌ ٌ ٌ وآالت، وزخرفات، وأوراق وتجالي ُد وجماليّات؛ خطوط جديدة، ٌ ٌ ٌ ٌ ومهنٌ جديدة ،و َرقنٌ وتصفيف وضبط وتدقيق ،وتجارة وتوزيع،
ُ ُ أوقات ووضعيات معي ًن ًة شكل الكتاب يفرض والقائمة تمتدُّ. ٍ ُ ّ تختلف عن ولكل شكل جمهور .فتجربة الكتاب املطبوع للقراءة.
تجربة الكتابَني تجربة الكتاب املخطوط ،وهي بدورها تختلف عن ِ ِ
املسموع واإللكرتوين.
كان من انتشار غري مسبوق للحرف والكتابة والنصوص .تضاعف عدد الكتب والق ّراء والك ّتاب .وم ّرة أخرى تحوّلت الثقافة املعرفيّة
التحول يف الطباعة ّ واليوم ،أين الطباعة؟ عدد الكتاب يف ازدياد وعدد الق ّراء يتضاءل ،عىل ذمّة أصحاب دور النشر والك ّتاب .يصف جبّور
الدويهي هذا التحوّل عىل لسان أحد الناشرين حني ر ّد مخطوطة
بطل الرواية فريد« :ما عادوا يستقبلون مخطوطات مكتوبة باليد منذ عشر سنوات عىل األقل ،وتوقفوا
فعىل سبيل املثال أدّى انتشار
عن نشر دواوين الشعر ،فاملستودع
الورقي الذي يمكن نسخه وازدهار الكتاب ّ
يرغب» وحني اعرتض الشاب بأنّ كتابه ّ «توقفنا عن نشر ليس شع ًرا ر ّد الناشر:
واإلسالمي يف العربي الوراقة يف العالم ّ ّ القرون اإلسالميّة األوىل إىل انتشار الكتابة
ميلء بها وهم يعطونها باملجّ ان ملن
النرث ً أيضا» .نسمع الناشرين يقولون:
وشراؤه وتداوله .حتمًا أدّى هذا األمر
إنّ حرفة الطباعة قد ماتت ،ولم يعد ّ مصفف لألحرف .صارت هناك خطاط وال
إىل انحسار مهن تقليديّة كرواية األخبار واألشعار ،لكنّ انتشار الوراقة بتقنياتها
ّ املختصة عىل التصاميم تجلب من املكاتب
الحديثة آنذاك ساهم يف نشوء أنواع أدبيّة
USBوصار الك ّتاب يرسلون نصوصهم
جديدة ،ومهن مستحدثة ،وطرق جديدة
لتحصيل املعرفة ،إضافة إىل جماليّات مبتكرة .فرنى مثلاً أنّ توافر الكتب يف
بغداد إبّان القرن الثالث ع ّزز إمكانيّة أن
رقميًّا.
لك ّننا ومع موت الطباعة نستقبل جبور الدويهي ّ أشكالاً جديدة للنشر كالصحافة
ّ الذايت .أدّى هذا التطوّر إىل يحصل الفرد ثقافته األدبيّة عرب التعليم ّ
الرقمي واملقروء .م ّرة أخرى اإللكرتونيّة ،واملدوّنات ،والكتاب ّ خسرنا ما خسرنا من ّ لذة الكتابة باليد يف الكتاب وتصفح األوراق
هذا التغيرّ ورأى فيه خط ًرا عىل العلم والطرق التقليديّة وسلطة
ثوان ،واستحضار الكتاب الذي نريده البحث يف مئات الكتب يف ٍ أينما ك ّنا ،أو االستماع إىل الكتب بصوت أصحابها أو بصوت النص أو يؤوّلونه عىل ّ ّ أقل ممثلني محرتفني يفجّ رون املعاين يف
والسماعي للمعرفة، الشفاهي مواز يف االعتماد عىل النقل تراجع ّ ّ ٍ
وإىل اعتماد متزايد عىل الكتب واملواد املكتوبة .حتمًا ثمّة من هاجم املؤسّ سة التعليميّة وغري ذلك من املخاطر ،وقد نقلت لنا كتب الشفاهي إىل املكتوب الرتاث جانبًا ال بأس به من هذا االنتقال من ّ
مع بعض النقاشات املحيطة به .ولنعد إىل زمن دخول الطباعة العربي؟ ماذا فقدنا بدخولها؟ وكيف تغيرّ شكل كتابنا؟ إىل عاملنا ّ بالطبع كان ابتعاد الكتاب املطبوع من الكتاب املخطوط تدريجيًّا.
فأوائل الكتب املطبوعة تشبه إىل ح ّد بعيد يف شكلها وجماليّاتها ً أحيانا دمجً ا بني الطباعة والنسخ يف الكتب املخطوطة .وقد نرى
جبور الدويهي في «طبع في بيروت» ّ ّ يكتب الميتا -كتاب .يسلّط الضوء ،يوثق ناقوس الخطر ويدق وينبه ويحتفل ّ ّ َ
ورصف الكتب عىل الرفوف وغري ذلك الكثري .لكن أصبح بإمكاننا
تقدير .صارت هناك أحرف تتح ّرك يف كتبنا ،تركض وتظهر وتختفي وتتجمّع وتندثر ً وفقا للمعنى املراد .ثمّة من يرفض هذا
التغيرّ ،وثمّة من ال يستطيع مجاراة العصر ،تمامً ا كما حصل مع جورج فالتني بطل فلم الف ّنان ،وكما حصل مع رواة األخبار اإلسالمي .ماذا العربي- النساخ يف الرتاث واألشعار ،ومن ثمّ مع ّ ّ ّ
فقدنا بدخول الطباعة؟ وماذا كسبنا؟ العودة إىل املايض يف رواية «طبع يف بريوت» تفكري يف املستقبل .ولكل زمان ُ أهله .لن نوقف َ عجلة الزمن ،وال ينبغي لنا ،لكنّ التفكري يف القيم بتفكرينا هذا ِ
الجديدة التي يحملها الزمنُ الجدي ُد ضروريّ وواجب .كيف نريد أن ُ َ ّ ُ تشكيلها بهذه الجماليات التي يمكننا وسائل خطابِنا؟ وما نشكل الوسائل الجديدة؟ ِ
147
كتب
عبدالعزيز الصقعبي في «حارس النهر القديم» حكايات متدثرة بالطفولة والغياب وفتنة الصوت عن املعنى املعجمي كما هي الحال يف العناوين اآلتية :قافلة
الكلمات ،ورد حجري ،بقعة صوت .أما عنوان املجموعة «حارس َّ القصة العاشرة يف هذه املجموعة. النهر القديم» فهو عنوان
يف قراءيت األوىل والثانية لهذه املجموعة القصصية ،وجدت
نفيس بإزاء كتابة دافئة يحدوها الحنني إىل عالم الطفولة؛ هذا
َّ القصة األوىل «جرح»، الحنني الذي سرعان ما نجده مسرودًا يف وهو عنوان بدا عاملاً سرديًّا ِّ َّ القصة الحكايئ ،الجرح مولدً ا ملبنى الجسمي كما بدا جراء شج رأس طفل« :ماذا عساه أن يفعل
هذا الطفل ابن السابعة بحجر قذفه طفل آخر فشج رأسه وأدماه؟» (ص .)9
هذا السؤال سيتواصل مع أثر الجرح يف الطفل واألب واألم،
148
َّ القصة، يف الراهن واملستقبل ،وهي عوامل مُشاركة يف حكاية
سيتحوَّل الجرح الذي جاءت موجوديته كحادث يف مدينة الطائف،
سيتحوّل إىل «عالمة بالرأس بقيت سنوات طويلة» (ص ،)10لكنه سيتحوَّل ً أيضا إىل قيمة تأريخية ،بل كونها دالة عىل أحداث
موضوعية تبدو أكرب من مج َّرد جرح جسمي ابتيل به رأس طفل. ّ يف َّ الناص ( = )Textorعبدالعزيز قصة «شوق» يعود
رسول محمد رسول
ناقد عراقي
يف مجموعته القصصية التاسعة «حارس النهر القديم» ،الصادرة عن منشورات ضفاف يف بريوت ومنشورات
االختالف يف الجزائر ،يأخذنا الروايئ والقاص السعودي
«عبدالعزيز الصقعبي» إىل مسارات تسريد عوالم ما تعيشه الذوات البشرية يف حِ ّلها وترحالها ،يف حضورها وغيابها ،حضور اآلخرين فيها وغيابهم.
تضم هذه املجموعة التي تقع يف أربع وستني صفحة من ْ القطع املتوسط ،أربعة عشر ًّ نصا قصصيًّا قصريًا ،هي :الباب
الصقعبي ،إىل الطفولة ثانية حيث «ذاكريت تنبض بالطفولة» (ص ِّ املتكلم ،وكذلك امللفوظ اإلخباري: )11كما يقول الراوي بضمري ُ «كنت طفلاً وكانوا يتحدثون عن أجمل نساء الحيس» (ص .)12 ومرة أخرى يحضر عالم الطفولة يف ال َّنص ذاته حيث اسم املرأة،
موضوع الشوق ،مكتوب بالذاكرة من دون أن يُمحى حتى يستعيد
وجوده بعد حني ليسأل الناص بضمري الغائب« :هل يتجرأ ذلك
الطفل ويقول لتلك املرأة :كم أنت رائعة أيتها العزيزة؟» (ص .)12
يف نص «ورد حجري» ترد الطفولة بملفوظات حكائية
َ «كنت أنت الطفل حينها( »..ص ،)18ومن ثم« :ذلك مسردة: ً الذي غادر أرضا وطئتها أقدام أطفال يلعبون» (ص .)18إن حضور الطفولة املسرودة تضفي عىل حكائية هذه املجموعة طابع الرباءة، لك ّنها الرباءة غري العابرة حتى لتبدو عالمة ثاوية يف نفس الناص
املوارب ،جرح ،شوق ،غبار ،قافلة الكلمات ،ورد حجري ،التنني
وذاكرته التي تموج بالكثري مما راح ينجيل مسرودًا بعد حني.
حكاية عشق ،رغبة خاصة ،سبات ،هم .وهي عنوانات تتأرجح بني
يف هذه املجموعة إىل استحضاره عرب استذكار بعض الصور املتعلقة
يحرتق من الداخل ،بقعة صوت ،تفاحة ،حارس النهر القديم، معناها املعجمي والشعري ،أو املركب بداللته الشعرية املنزاحة العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
السرد يف عمق الطفولة يوجد الغياب الذي تسعى مسارات َّ
به .يف «الباب املوارب» نجد األب ذلك الذي رحل (ص ،)7ويف
«جرح» نقرأ عن «الجرح القديم» (ص ،)10ويف «شوق» نقرأ عن
دالة عىل توليد الحدث يف بعض قصص هذه املجموعة ،ومنها
الراوي الشريك يف الحيك بلسانه عن «الشوق الذي يكبلني من
العنوان عىل شعرية التسمية والعنونة والحدث ،فيمكن أن يقال مثلاً «بقعة لون» أو «بقعة طني» ،أما أن يقال بقعة صوت فذلك
«الذاكرة التي تنبض بالطفولة والتوق» (ص ،)11ومن ثم تساؤل ذاكريت ليتجه سنوات إىل الوراء( »..ص .)12ويف «حارس النهر
القديم» يتوق «أبو سيل» إىل نهره املتدفق وقد طمرته حداثة املدن،
يتوق إىل والديه اللذين جرفهما سيل النهر فماتا ،وما حراسته للنهر املتهالك سوى استعادة للغائبني ربما وهمً ا لك ّنه االنتظار
املثقل باألىس .ويف «رغبة خاصة» يستشعر الراوي العاشق غياب الحبيبة تحت سطوة األمنيات« :فقط ..هي أمنيتي بأن نتحدَّث»..
(ص .)40ويف «ورد حجري» يخاطب الراوي ذاته مخاطبًا إياها عن
أمس مىض يف ظل سطوة الرغبة الجامعة بالتواصل مع اآلخر َ املفتقد إليه دومًا ،وتلك عذابات الذات املنعزلة التي تستشعر الغياب بحساسية مفرطة الحضور.
َّ السردي لديه ابتداء من قصة «بقعة صوت» التي لعب املتخيل َّ
عدول معنوي وانزياح داليل مغاير ،وتلك هي بعض جماليات
السردية يف لعبة القول اإلبداعي. الكتابة َّ
تحيك َّ قصة «بقعة صوت» تجربة مسافر من جدة السعودية
إىل الدار البيضاء املغربية ،مسافر يزعجه صوت الكريس الذي
يجلس عليه يف رحلة طريان تستغرق سبع ساعات متواصلة، يتساءل الراوي قائلاً َ : «لكمْ هو مزعج ...هدير صوته يجعلني أترنح؟ ملاذا ال يصمت..؟» (ص .)23ومن ثم يشخص مكانية ً مطلقا يف زمن يحملني به إىل الصوت كحدث« :املقعد ال يغادرين هنا التي غالبًا ما تكون هناك( »..ص .)23
تتضح الكتابة يف مجموعة «حارس
يف تلك األثناء ،يتحوَّل الصوت إىل
موئل يدفعك إىل التوقف عنده؛ ففي «ورد
املزعجة التي يعمل الناص عىل تسريدها،
النهر القديم» مدارًا كثري التكرار ،وذلك
موضوعة تأمل واستذكار لكل صور الصوت وهي تجربة ستجد صداها يف َّ قصة «رغبة َّ َّ يتوغل الصقعبي فيها ،نحو خاصة» التي
حجري» يخاطب الراوي ذاته عن أمس مىض ،يخاطبها قائلاً « :ها َ أنت أكتبك..
ألونك بألوان مسخت إىل الرمادي ..كم أنت ِّ وأشكل منها مسحوق فدعني أمللم بقاياك
تفكيك بنية املالفظ الصوتية التي تضمُّها
كلمات قابعة يف ذات البطل املسرود بعمق،
مدينة حلم جديد» (ص .)18هذا يعني أن
إنها تجربة الصوت الوجودية ،تجربة
الكتابة هنا هي تشكيل وجودي قد يستحضر املايض عىل نحو مبدع وخالق لك ّنه يبقى السرد ،والذوات عبدالعزيز الصقعبي يُراد نطقها ضمن مسار َّ األثر الجديد الذي يمكن أن يكون معادلاً للغياب صوب الحضور البشرية ،فاملعشوقة من جانب العاشق يف نأي تواصيل عنه، العالقة بني الحروف املنطوقة ،أو التي
الذي يأمله الناص /الراوي وهو يعيد ذاته عرب التذكر ،ففي «ذات
وهنا غياب من نمط آخر ،بل هو ضياع األنا من نمط مختلف ً ّ الناص عىل تسريده عرب ملفوظ «مرحبًا» الذي يتم ّنى أيضا حرص
تبدو الكتابة ههنا استعادة وجودية ،ورغبة مأمولة ،وهمًّا
التواصيل مع ذاته ،لك َّنه يف النهاية يجلس مع املرأة املتبناة رغبة ً وعشقا ،يجلس إىل جانبها:
ُ «حلمت بامرأة ..تقرأ ًّ نصا كتبته ..تسخر مساء» ،يقول الراوي:
عيل مَقاطعَ شعرية ..لها ..لكل من أحب، من كلمة قلتها ..تقرأ َّ امرأة ..يل ...لكل من غادرته النساء» (ص .)20
وجوديًّا ،فالراوي يف َّ قصة «بقعة صوت» يبحث ،بحسب ما يقول: «عن كلمات قد أعرفها ..قد تعرفني ..قد أفهمها ..قد تمتلكني»..
(ص .)24ويف «حكاية عشق» يروي العاشق تجربة قد تكون يومية يف مخاطبة الحبيبة التي يبحث عنها يوميًّا« :الواقع الذي يجعلك
تجهشني بالبكاء ..وتبحثني عن رجل مثيل يجلس عىل كريس
وأمامه طاولة صغرية ليكتب عىل أوراق بيضاء هموم اآلخرين» (ص ،)34ومن ثم يخاطب الحبيبة الغائبة قائلاً « :أوظف عددًا ًّ خاصا ...أجند كل الكلمات من الكلمات وأجعل لكل كلمة موقعً ا لتعزف لح ًنا يوقظ نخوة الرجال ...سأكتب بذلك الدم حكاية عشق لرجل أحب امرأة ذات يوم( »..ص .)35
يف «حارس النهر القديم» ،أبدى عبدالعزيز الصقعبي بوصفه ً ًّ حرصا الف ًتا عىل تسريد «الصوت» كعالمة سيميائية ناصا ،أبدى
البطل نطقه كصوت كامل يف مواجهة املحبوبة التي أسدلت أبواب ً مفككا هذا امللفوظ االستماع إىل هذه اللفظة ،فيبقى يدور ويدور
« -هي أمنيتي ..بأن نتحدَّث. -فقط.
ال أدري ..إذا كان هنالك يشء غري التحدث معك. -كم تدفع؟!» (ص .)40
إنها عوالم غري معتادة يروّدها عبدالعزيز الصقعبي يف
مجموعة قصصه «حارس النهر القديم» ،ما يكشف عن تجربة ِّ السردي والحكايئ معً ا ،وهي تجربة دافئة التلقي يف مبنييها؛ َّ استدرجت لغة توصيل سردي تفتح للقارئ آفاق القراءة
التأويلية ،كون السرد فيها يالعب فراغات الحيك وبياضات
التدوين؛ ما جعل الكتابة لدى الصقعبي تمنح القارئ فضاءات للقراءة الجمالية مفتوحة األثر.
149
مقال
نهلة الشهال كاتبة لبنانية وأستاذ علم االجتماع السياسي
ماذا يعني انتخاب
دونالد ترمب؟
قيل :إن هذا االختيار يُثبت كم أن أميركا ليست
مانهاتن أو بروكلين في نيويورك ،وقيل كذلك :إنه
يثبت عيوب الديمقراطية (وإنْ النسبية) ،لكون منافِسة
ترمب ،هيالري كلينتون ،نالت مليوني صوت أكثر منه،
150
ً تطرفا في اليمينية من بين السياسيين نسبيًّا ،واألكثر
األميركيين ،كستيف بانون ،أول من سمّ ى بعيد انتخابه، كمسؤول اإلستراتيجية (منصب جديد) وكناصحه األول.
ولكن طريقة هندسة االنتخابات على مرحلتين أفشلتها.
وهو المدير السابق لوكالة األنباء «بريتبارت» التي تقع في أقصى هذا التيار ،وتمتاز من بين أشياء أخرى ،بكونها ُتعبِّر
إلى درجة مناهضة اإلجراءات األكثر تقدمية للرئيس
معادية للسامية (والموقفان ليسا متناقضين) .وبانون ذاك
وبالطبع قيل :إن كلينتون القاسية والباردة واليمينية
عن أفكار شديدة الصهيونية ولو أنها ،وفي الوقت نفسه،
المغا ِدر مثل ال ـ «أوباما كير» أو التغطية الصحية لألكثر ً نقيضا بالطبع كاف وال عو ًزا .لم تكن بديلاً جذابًا بشكل ٍ
المؤسسات القائمة اليوم» .وقد حاول ترمب تمويه ذكوريته
الجمهورية ،حتى في نظام رئاسي كما الواليات المتحدة،
من أصول هندية مهاجرة ،سفيرة في األمم المتحدة ،وكانت
لمراعاة متطلبات وتوازنات عديدة وإرضائها ،بل ألن
امرأة األعمال المليارديرة البيضاء والمنتمية للجناح األكثر َ ومحافظة في الحزب الجمهوري ،وزيرة للتربية ،وهو تقليدية
إذا ما قورنت بباراك أوباما .وتذ ّكر الجميع أن رئيس
يبقى محدود الصالحيات ،ليس فحسب الضطراره
الحاكم الفعلي هو الدولة العميقة ،أي تلك المؤسسات السياسية والدبلوماسية والترستات المالية والصناعية
والعسكرية التي ال يمكن للفريق الحاكم التحكم بها تمامً ا ومهما كان؛ ألنها ُنسجت على مر السنين والعقود، كشبكات صلبة متغلغلة .ورُدد بشيء من التعالم أن
«الرئيس هو بالضرورة مختلف عن المرشح» ،لتهدئة
الصدمة وجعلها ملساء ،وهي حكمة تصلح لكل زمان ومكان ،لكونها مرتبطة بتعريف ممارسة السلطة .لكن
كل ذلك ،على صحته ،يبقى بديهيات ابتدائية.
ومن جهة أخرى ،يمكن ولو بصعوبة ،التحرر من
االبتذال المقيت الذي يجسده شخص دونالد ترمب، وال سيما حين كان يخوض غمار معركته االنتخابية،
كما يمكن التحرر من االندهاش المتكرر حيال اختياراته لفريقه ،المصبوغة بتعيين الرجال البيض ،المسنين
العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
يقول عن نفسه :إنه لينيني؛ ألن هدفه هو «تدمير الدولة وكل البدائية وعنصريته البيضاء بتعيين نيكي هالي ،السيدة الشابة من أشد معارضيه في الحزب الجمهوري ،وبتسي ديفوس،
بالطبع موقع حساس للغاية .لكن كل ذلك ،على بشاعته،
يبقى متوقعً ا!
ذلك أن اختيار ترمب ،الذي بدا ترشحه كمزحة ثقيلة الدم
في البداية ،يقول الكثير عن حالة العالم وليس فحسب عن
الواليات المتحدة .ترمب معجب بنيكسون الذي لم يعد ي ُْذكر منه سوى فضيحة ووترغيت (التي انتهت باإلطاحة به في عام
1974م بعد إعادة انتخابه في عام 1972م ،وهي تتعلق بنصب
سماعات تجسس في مقر غريمه من الحزب الديمقراطي ،ولو حدثت اليوم لكانت على األرجح ال تطيح بأحد!) .نيكسون ذاك
كان يتبنى شعارًا في أثناء حملته االنتخابية الصعبة األولى في
عام 1968م ،بعد قانون الحقوق المدنية عام 1964م الذي ألغى التمييز القانوني ضد السود ،وأدخلهم كفاعل يُحسب حسابه
في توازنات البالد السياسية .أعاد ترمب تبني الشعار عالنية،
قائال عن نفسه :إنه مرشح القانون والنظام ،معت ِب ًرا أن «البالد
تحتاج لرجل قوي لحمايتها وقيادتها في ظل الفوضى» ،كما قال نيكسون في زمانه .ما يُذ ِّكر ،على الرغم من الفروقات
األيديولوجية والظروف ،بنظرية إدارة التوحش التي قدّ مت بها حركة داعش نفسها!
فوضى العالم اليوم ليس تفصيلاً أن يتخلص ترمب من مرجعية ريغان ،أبي
الليبرالية القصوى في االقتصاد ،والبوريتانية في االجتماع،
وعراب العولمة بوصفها نيوليبرالية السوق على مستوى العالم ،وبوصفها تجديدً ا لشباب ال ُّن ْظمة الرأسمالية
( ،)Systemتمامً ا كما كانت تاتشر عرابتها .تاتشر تلك التي ُت َ دفن اليوم مع الـ ــ«بريكسيت» في بريطانيا ،فيما يسود الجنوح إلى االنعزال والتقوقع وتعزيز االنتماء الهوياتي في السياسة، والحمائية الجمركية في االقتصاد .أي كل ما يخالف ما بُني
على مدى نصف قرن ،منذ مطلع سبعينيات القرن الفائت، كأيديولوجيا فكرية وقيمية مُ هيمِ نة (مع العالم قرية واحدة
بحجة ثورة االتصاالت) ،وكبحث عن التوضعات المالية (رأس
المال المالي بكتلته الهائلة ،العابر للقارات والمعتمد على
المضاربات بكل صنوفها) ،وعن اإلنتاجية المربحة في الصناعة
بغض النظر عن التوطين واألوطان ،وهو ما جعل الصين
مصنع العالم ،وأدى إلى موجات إفالس للمصانع في الواليات
اختيار ترمب ،الذي بدا ترشحه كمزحة ثقيلة الدم في البداية ،يقول الكثير عن حالة العالم وليس فحسب عن الواليات المتحدة
المتحدة وأوربا العجوز .لم تعد نهاية التاريخ هي صرخة
النصر ،مع انهيار االتحاد السوفييتي ومعسكره االشتراكي. يعني ذلك أن مرحلة العولمة انتهت ،ومعها فكرة
أثناء حملته االنتخابية .بل يمعن الرئيس الصيني بمناشدة
بأذية الرجل الغربي األبيض ،وأطاحت به إلى البطالة أو العمل
ترمب بعدم االنغالق ،ويؤكد أن بالده تتبنى مزيدً ا من االنفتاح. ً اتفاقا بديلاً للتبادل الحر ( )RCEPبين عشر ثم تقترح الصين
الذي ما زال مزده ًرا ،سواء في قطاعات التقنية الجديدة أو في
نفسها واليابان .ويستثني المشروع المقترح الواليات المتحدة
اإلمبراطورية الشاملة .فقد خلصت هذه العولمة إلى التسبب
الهش .والكتلة األساسية مِمَ ن ليسوا في قمة الهرم االقتصادي
التوظيفات المالية (التي تقلصت بعدما عرفت أزمتها المزلزلة
في عام 2008م) ،يرون أمامهم أشباح روايات جون شتنبيك حتى
تشارلز ديكنز تعود إلى األفق .وهذا تغيير في شروط حياتهم، وفي تصوراتهم عن أنفسهم ،يطال قرنين من الزمان ،ويطال معه مؤسسات اخ ُترعت لتالئم فرضيات التفوق والسيطرة واالزدهار.
من المواقف األكثر تعبي ًرا عن اللحظة (بمعناها
التاريخي) ،أن يدافع رئيس الصين (التي ما زالت تقول
عن نفسها شيوعية!) عن اتفاق التبادل التجاري الحر في
دول أعضاء في تحالف آسيان وست أخرى ،منها الصين
األميركية.
أعداء الرجل األبيض
يشخصن ترمب في المكسيكيين أعداء الرجل األبيض
المتوسط الخائف ،أو ذاك الذي بات فقي ًرا وحتى من غير سقف
يؤويه ،ومن غير عمل .وهؤالء تعاظمت أعدادهم منذ ثمانينيات
القرن الماضي ،مع قطع المساعدات االجتماعية في ظل حكم
رونالد ريغان وأبوته للنيوليبرالية ،ثم قفزت ثالثة أضعاف منذ
عام 2008م ،لتصبح أرقامً ا مرعبة .نسبة البطالة الفعلية بحسب
الباسيفيكي TPPالموقع في عام 2015م مع الواليات المتحدة،
الدراسات االقتصادية تالمس %23ممن هم في سن العمل في
بتسرع ،وقبل تسلمه منصبه ،أنه ينوي إلغاءه كما وعد في
ً مليونا) ،مع أن األرقام الرسمية ما زالت تضعها بحدود ،%7.4
ويخص 12بلدً ا في منطقة آسيا-الباسيفيكي ،فيما يُعلن ترمب
عام 2015م ،وقد تصل إلى 94مليون إنسان (من أصل نحو 320
151
مقال
وهناك للمدة نفسها 3.5إنسان بال مأوى ،والجديد منذ مطلع األلفية الثالثة أن عدد العائالت -أي مع
أطفال -بال مأوى قد تعاظم ،على حين أن الرقم الرسمي
تعيين القضاة األكثر رجعية فيها .وكل هذا يجعل إمكان
عرقلته أضعف ،على الرغم من وجود كثير من المعارضين له
يحددهم بأقل من ثالثة أرباع المليون .وهذا يطرح إشكالية
في حزبه ،ممن يخشون نتائج جموحه.
لالكتشاف لكثرة أعداد مراكز اإلحصاء الرسمية كذلك،
للتوقع) وجاهل ،ولكن ما قاله أو فعله حتى اآلن يعطي
التزوير الذي تمارسه األرقام الرسمية ،ولكنه تزوير قابل
صحيح أن الرجل زئبقي (يقول المهذبون :غير قابل
ولكن المتخصصة بمجاالت بعينها ،مثل مكتب إحصاء
مؤشرات .فهو ينوي ،بحسب تصريحاته ،نقل سفارة بالده
وكذلك مراكز األبحاث الجادة .وقد ارتفعت نسبة من
عاصمة إلسرائيل ،بحسب رغبة قادتها اليوم .ويكون في ذلك
العمل ، BLSأو التقرير السنوي عن عدد المشردين،
إلى القدس ،فتكون واشنطن أول دولة في العالم تعترف بها
هم من البيض الفقراء ،ويبقى السود هم السكان األكثر
مخالفة للقرارات الدولية في الشأن .كما ينوي ترمب االعتراف
ومن المعلوم أنه بحلول عام 2050م سيصبح البيض أقل
بشأنها ويعده مفهومً ا خاط ًئا .وهو أكثر قربًا من َ الطموح نفتالي
فق ًرا .كما أن بين العاطلين عن العمل أو المشردين بال
مأوى نسبة قليلة جدًّا من المقيمين غير النظاميين.
عددًا من السود بين السكان ،وهذا مصدر آخر للخوف
والتصلب المتعاظمين.
وي َِعد ترمب بحجز المكسيكيين داخل بالدهم
بواسطة سور كبير ،وبطرد 12مليون مقيم غير شرعي.
ولكنه يعرف ،أو أن مستشاريه يعرفون ،أن تلك صورة
غير حقيقية عن الواقع .تمامً ا كما يعرف ممثلو التيارات
150
الكونغرس بمجلسيه ،إلى المحكمة العليا التي ينوي ترمب
اليمينية المتطرفة في أوربا كلها أن من يخطف خبز
العمال والكسبة الصغار من فم الرجال البيض األصليين
ليس البولوني المهاجر إلى بريطانيا ،أو المغربي أو
اإلفريقي المهاجر إلى فرنسا ،وكذلك ليسوا أبناء
الهجرات األخيرة من الالجئين بسبب الحروب أو الخراب البيئي لبالدهم .وأن تعيين المشكلة على هذا النحو
يتناول جزءً ا صغي ًرا منها فحسب ،وأنه تجارة ديماغوغية
بضم المستوطنات إلى إسرائيل على أساس أنه يرى أن حل الدولتين مستحيل ،ويرفض استخدام صفة دولة مُ َّ حتلة
بينيت ،وزير التربية الحالي ورئيس إسرائيل بيتنا ،والممثل األبرز لكتلة المستوطنين ،الذي جعل من نتنياهو يبدو معتدلاً قلقا من ّ بالمقارنة! وهذا األخير يبدو ً تسلم ترمب الرئاسة،
لقربه من غريمه الصاعد ذاك ،وألنه كان ي ِّ ُفضل عليه كلينتون التي ال يشك في وفائها إلسرائيل ويعرفها جيدً ا جدًّ ا ،ويعرف
كذلك مقدار استعدادها إلظهار قوة الواليات المتحدة (بما فيها
تلك العسكرية) في كل مكان.
وترمب يتبادل اإلعجاب مع بوتين ،ويرى أنه ينبغي نسج
المبسط عالقات جيدة مع روسيا ،وذلك كجزء من مفهومه َّ عن الصراعات في العالم ،وكذلك كجزء من ميله للتقوقع
واالنسحاب من الميادين التي ال يرى فيها فائدة ،بعكس موقفه مثلاً من الصين التي يعدها الخطر األكبر على بالده، وبعكس كلينتون التي هددت باستخدام القوة العسكرية
شعبوية ،إلى آخر الصفات .وأن غلق الحدود ،سواء لاً بال«بريكسيت» أو بسواه قد يطيح باالتحاد األوربي مث ،
المشتعلين ،أو حتى حيال الملف السوري الذي يشهد حضورًا
ال ينفي أنها مؤسسات بيروقراطية ومتعالية على شعوبها
النووي المبرم مع إيران ،مع ما يعنيه ذلك من رفع منسوب
كما يتصوره ترمب يمكنه اإلطاحة بالبنك وصندوق النقد
عدوانية .ولكن زئبقية الرجل تجعل من المتوقع منه كذلك
عام 1944م مع بدء انتهاء الحرب العالمية الثانية ،وبروز
روسيا وإيران!
حساب أوربا ،وهي االتفاقيات التي جعلت من الدوالر ّ مذاك الوقت العملة المرجعية في العالم.
األمن ،وهو الجنرال المشهور باستخفافه باالنضباط
وبكل المؤسسات التي بُنيت في هذا اإلطار المشترك (ما ومليئة بالعيوب) .كما أن غلق حدود الواليات المتحدة
الدوليين ،وبكل ما نتج عن اتفاقيات بريتون وودز في الواليات المتحدة كالقوة الغربية األولى عالميًّا على
ترمب ونحن
ولكن ماذا عن قضايا المنطقة العربية؟ وعلى األخص
مع تركز كل الصالحيات في يد الحزب الجمهوري ،من
العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
مع روسيا لو لزم األمر ،سواء حيال ملفي جورجيا وأوكرانيا
عسكريًّا وسياسيًّا روسيًّا حاسمً ا .ويريد ترمب إلغاء االتفاق التوتر والصراع معها ،ودفعها للعودة إلى سياسة أكثر
أن ينسحب من المنطقة ويتركها بالتالي ساحة مفتوحة أمام وقد عين ترمب مايكل فلين مستشاره القومي لشؤون
والمتباهي بتلك الصفة( ،وكان يحلو له نعت نفسه ورئيسه
أيام العراق ،الجنرال ماك كريستل باألزعرين اإليرلنديين،
بالنظر إلى أصولهما) .وقد كان األخير قائد وحدة سرية في الجيش األميركي ،القيادة المشتركة للعمليات الخاصة
( )JSOCفي أفغانستان والعراق ،وصرفه أوباما في 2010م
بسبب سخريته العلنية في الصحف من أعضاء في الفريق
الحاكم .وبرز فلين ضابط استخبارات المعً ا ،وزاد طرق عمل تلك الهيئة ،فضاعف التجسس والخطف واالغتياالت لمن
يرى فيهم «إرهابيين» أو مقاتلين معادين في مناطق الحروب. وقد ُعين في عام 2012م إلدارة وكالة االستخبارات التابعة
للبنتاغون ،لكنه أقيل في عام 2014م بسبب «أسلوبه في اإلدارة» الذي ُنعت بالمزعج أو المثير لالضطراب .ولكن فلين
ً خصوصا نظريته عن الحرب العالمية التي تخوضها يمتلك ً سرطانا مستشريـًا بالده ضد «اإلسالميين» الذين يرى فيهم حتى في الواليات المتحدة ،يجب استئصاله أينما كان
وبالقوة ،ويعتقد لذلك بضرورة التحالف مع روسيا ضدهم. وهو اليوم يتسلم أعلى منصب في المجال العسكري.
وإزاء فلين ،يشحب تمامً ا وليد فارس ،مستشار ترمب
حاول ترمب تمويه ذكوريته البدائية وعنصريته البيضاء بتعيين نيكي هالي، السيدة الشابة من أصول هندية مهاجرة ،سفيرة في األمم المتحدة
الصناعة في مواطنها األصلية (حيث ديترويت مثلاً في الواليات المتحدة ،وهي رمز صناعة السيارات األميركية ،تكاد تصبح
مدينة أشباح) .ويدعو ترمب إلى العودة المكثفة الستخراج
الفحم كمادة للطاقة (ومعه النفط الصخري) ،بغض النظر عن
اآلخر الذي عينه لشؤون اإلرهاب .وفارس لبناني األصل وأحد
اغتيال الطبيعة بالتلوث .لقد وصل األمر إلى حد تهديد الوجود
المتحدة في عام 1990م ،وتحوله إلى خبير وأكاديمي ،وإلى أحد
األيديولوجيا السائدة تبحث عن وسائل توفير أعلى معدالت
وأخي ًرا وليس آخ ًرا ،فترمب ،يرى (ربما كرجل أعمال!) أن على الدول الحليفة التي تحميها الواليات المتحدة أن ُت ِّ قدر ذلك ،وتدفع مالاً مقابل الحماية فتكون بهذا العالقات متوازنة
األثمان المدفوعة ،أو تميل بالمقابل إلى االنسحاب من السوق ً انطالقا من العالمية التي أنشأتها هي نفسها ،واالنطواء،
الفرضية الوهمية القائمة على استعادة السيطرة (يقول هؤالء
ويخص بالذكر دول أوربا الغربية وحلف شمال األطلسي،
الوطنية!) على مجاالتها الحيوية بما فيها تلك الخاصة باإلنتاج،
قادة ميليشيا القوات اللبنانية حتى مغادرته إلى الواليات
مراجع فوكس نيوز بخصوص الشرق األوسط واإلسالم.
وباتجاهين ،وأنها لو لم تفعل فسيتركها تتدبر أمرها بنفسها.
البشري نفسه على األرض ،وبخطا متسارعة ،على حين أن
للربح في ظل التنافس المنفلت من عقاله ،بغض النظر عن
المحافظون من نمط جديد الصاعدون :استعادة السيادة
وآسيا ،ودول الخليج ،والعراق! وهو يقول :إنه لن يرسل قوات
التي َعصفت بها رياح العولمة النيوليبرالية.
سيكون بغاية النصر .فهو رجل قوي ،ويريد استعادة عظمة
الواطئة خالل السنوات القليلة المقبلة ألن المياه ستغمرها، على حين يعين ترمب مايرون إيبل ،وهو من أبرز من ي َ ُطلق
أميركية إلى الخارج إال عند الضرورة القصوى ،ولكن ذلك
أميركا ،وهي تندرج عنده كأولوية مطلقة ،كما يجعل أمن األميركيين أولوية.
وهمان عقيمان
خالصة ..وهي مؤقتة بالضرورة ،فكل تلك المجاالت
ستستمر في االتضاح قبل 20كانون الثاني /يناير موعد دخول
سيضطر عشرات ماليين البنغاليين إلى ترك سهولهم
عليه منكرو األزمة البيئية على رأس وكالة حماية البيئة
األميركية ( .)EPAوسيصبح هؤالء البنغاليون مهاجرين بيئيين مثلهم مثل من يتركون قراهم في إفريقيا (مثلاً ،وفي غيرها كذلك) بسبب التصحر ،أو بعدما استولت على أراضيهم
شركات عابرة للجنسيات ،بحجة استئجارها واستصالحها.
ترمب إلى البيت األبيض ،ثم بعد ذلك خالل الممارسة .ولكن
وهو ما يحدث بالتواطؤ مع حكام محليين خاضعين تمامً ا
وبعضها اآلخر ساذج).
حتى النخاع .ويجري تحويل الزراعات إلى نمط ممكن يقرر
ذلك ال يمنع النظر إلى أبعد من الوقائع (وبعضها عنيف
وبالعودة إلى تقويم معنى اختيار ترمب لرئاسة أميركا
ودالالته (كما بريكسيت ،وكما أمثلة أخرى في أكثر من بلد من أوربا وقعت أو يُتوقع وقوعها) ،فما يبدو جليًّا هو أن
آفاق التحرر والعصرنة التي ُربِطت في الوعي السائد بعالم ماض غائم، المال ،تنهار ،في مقابل نداءات العودة إلى ٍ
والحلم باألمم القديمة .لقد اصطدمت العولمة كما مورست
بحدودها ،وانتهى بها المطاف إلى إنتاج نقائضها :انهيار عالم
لسطوة تلك الشركات والدول الكبرى التي تدللها ،وفاسدين بحسب حاجات التجارة العالمية ،وال عالقة له بتوفير الغذاء
للسكان (ال المحليين وال المجاورين) ،وإنما مهندس لتلبية ّ المعلبة أو منتجات أخرى تسيير عجلة الصناعات الغذائية
متنوعة ،تتم في مكان آخر تمامً ا من الكرة األرضية ،معز ًزا
بذلك سطوة رأس المال المالي الطائرة ،والذي راحت تضيق به الكرة األرضية برمتها ،ويقف ،هو اآلخر أمام حدود الممكن،
ويبدأ بالتهام ذيله.
153
إعالم
كليات اإلعالم بين التكيف والخروج من الميدان
هل تعليم الصحافة في مأزق؟ ترجمة :عبدالله أبا الخيل
154
باحث سعودي في اإلعالم
مراجعة :حسين القرني
الحديث عن تطوير كليات الصحافة ال يتوقف ،والجدل حول أفكار التطوير يتنامى. بين إغالق كليات اإلعالم ودمجها مع تخصصات أخرى ،وبين تغيير مناهجها ،مناهج متشعبة للتطوير والتماشي مع التغير السريع في الصناعة اإلعالمية .هذه الترجمة لملخص كتبه هاورد فينبيرغ لدراسة أصدرتها مؤسسة بوينتر المتخصصة في التعليم اإلعالمي عن حالة التعليم اإلعالمي ،إضافة إلى ملخص نتيجة دراسة قامت بها المؤسسة في وقت الحق عن سمات صحفي المستقبل ومهاراته.
العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
األمر املرعب يف حاالت االرتباك أنك ال تدري إىل أين تتجه.
لديهم رأي مختلف؛ إذ يرى ( )٪٥٧منهم أن الدرجة العلمية
سيقود إىل الحاسبات املحمولة أو الهواتف الذكية .قبل
بفهم قيمة الصحافة .وهذا ما لم يتغري عن نتائج استبانات
قبل أربعني سنة لم نكن ندرك أن ظهور أول هاتف محمول عشرين سنة لم نكن ندرك أن موقع أمازون سيغري عملية
البيع بالتجزئة .قبل عشر سنوات لم يكن هناك فيس بوك أو تويرت .هذا يجعلنا ال نعرف إىل أين ستقودنا هذه االبتكارات.
كل ما نعرفه هو أن مستقبل تعليم الصحافة يف موضع حرج
يف الصحافة (ضرورية جدًّ ا) إىل (حاسمة) حينما يتعلق األمر
العام الفائت (2012م).
ً أيضا ما لم يتغري يف االستبانتني هي تلك الفجوة بني آراء
أساتذة اإلعالم والعاملني يف ميدان الصحافة حول أهمية
الدرجة العلمية يف الصحافة فيما يتعلق بالقدرة عىل جمع
لسببني: أولاً أن الوقت ينفد :حاالت اإلرباك املنبعثة من االقتصاد
أساتذة اإلعالم ( ٪٩٨منهم) يرون أن الدرجة العلمية (مهمة
يف الجامعات .ثانيًا أن التعليم الصحايف سيمر بتحوالت
أما ( )٪٥٩فقط من العاملني يف امليدان الصحفي فريون نفسه.
والتقنية إىل الجامعات تسري بشكل أسرع مما يدركه العاملون جوهرية :فيما يتعلق بتدريس الصحافة ومن يدرسها :أولئك
الذين ال يبتكرون يف الصفوف الدراسية ستتجاوزهم القافلة، تمامً ا كحال الذين يتوقفون عن االبتكار يف غرف األخبار.
طيلة عام ونيف والنقاش محتدم حول مستقبل التعليم
الصحايف؛ أكاديميون ،وقادة مؤسسات ،وصحافيون
عاملون ،ال يزالون يتناقشون عن مستقبل التعليم الصحايف
وماذا سيكون عليه ،كما نتناقش نحن عن مستقبله اآلن.
وقود هذه النقاشات جزئيًّا كان بسبب استبانة وزعتها
Poynter’s News Universityيف ربيع ٢٠١٢م للتجهيز لحديث ألقيته يف مركز الصحافة األوربية .أنا محبط ،لكني لست متفاج ًئا بأن آراء املعلمني والعاملني يف الحقل الصحفي
األخبار وتحريرها وتقديمها .كل املستجيبني –تقريبًا -من جدًّ ا) إىل (حاسمة) حينما يتعلق األمر بمهارات جمع األخبار. يف املقابل واحد من كل خمسة من العاملني يف امليدان يرى
أن الدرجة العلمية يف الصحافة (غري مهمة عىل اإلطالق) يف اكتساب املهارات الصحفية ،أو (مهمة قليلاً ) فيما يتعلق بجمع األخبار.
إذن :هناك قطيعة واضحة بني الصحفيني ومجتمع
األكاديميني .وعىل الرغم من ذلك فإن أساتذة اإلعالم قلقون ً أيضا من عدم مواكبة كليات الصحافة للتغريات يف املهنة. ٪٣٩من أساتذة الصحافة يقولون :إن كليات الصحافة
إما أنها قلما تواكب تغريات الصنعة اإلعالمية ،أو أنها ال
تواكبها عىل اإلطالق .قادة غرف األخبار والعاملون فيها كانوا أكرث حدة يف هذا؛ إذ يرى ( )٪٤٨منهم أن الدراسة األكاديمية
لم تتغري كثريًا بعد سنة من االستبانة. ً الحقا (عام 2013م) بينت أن ال استبانة جديدة وزعت
أما حينما يتعلق األمر بأهمية الدرجة العلمية يف الصحافة
الصحايف .من خالل استبانة وزعت بالتساوي بني املجموعتني
والعاملني يف امليدان أصغر؛ إذ يرى أكرث من نصف األساتذة
تغري يف مواقف املجموعتني من األساتذة والعاملني يف الحقل
وكان عدد املستجيبني ١٨٠٠؛ تبني أن هوة واسعة بمقدار ٤٠ نقطة ال تزال تفصل بني آراء املجموعتني .اليوم ٪٩٦من أولئك
الذين يصنفون أنفسهم عىل أنهم أساتذة يف الصحافة ،ال يزالون يعتقدون أن الحصول عىل الدرجة العلمية يف الصحافة
(ضروري) إىل (حاسم جدًّ ا) حينما يتعلق األمر بفهم قيمة الصحافة .ما لم يتغري ً أيضا أن العاملني يف املجال الصحايف
المؤسسات اإلعالمية التقليدية كانت بطيئة في إدراك أن طريقتها في سلبا بالتقنية ،وكانت العمل ستتأثر ً بطيئة في إدراك أن اإلنترنت ستحول عملهم الثمين إلى شيء عديم القيمة أو قليلها
ال تتواكب مع الصناعة الصحفية.
للحصول عىل الوظيفة فإن الفجوة بني أساتذة اإلعالم ( )٪٥٣أن الدرجة العلمية يف الصحافة مهمة جدًّ ا للحصول
عىل وظيفة يف املجال ذاته ،يف حني أن ( )٪٤١من العاملني يف
امليدان يشاركونهم الرأي.
غري أن ( )٪٣٨من أولئك الذين يصنفون أنفسهم عىل أنهم
من العاملني يف الصحافة لحسابهم الخاص يرون أن الدرجة
العلمية يف الصحافة مهمة للحصول عىل وظيفة يف املجال نفسه .وهذا يعني أن مقارنة النتائج تشري إىل عدم تغري املواقف
يف االستبانتني؛ وعليه فنحن بحاجة ملضاعفة جهودنا يف إعادة
التفكري يف تعليم الصحافة.
«قلت يف العام املايض :إن مهنة تعليم الصحافة ال تستطيع
أن تجد طريقها بنفسها إىل املستقبل .هذا ال يزال صحيحً ا».
املهم هنا أن الشهادات العلمية يف الصحافة أصبحت يف
خطر بأن ينظر إليها عىل أنها ال عالقة لها بالواقع .يمكن إدراك ذلك من وجود توجه نحو إغالق برامج الصحافة الدراسية
أو دمجها يف برامج اتصالية أوسع؛ كما هي الحال يف عدد
155
إعالم
من الجامعات .دعوين أؤكد عىل هذه النقطة املهمة :أنا قلق عىل الدرجات العلمية يف الصحافة والربامج التعليمية ً أيضا
العوامل تمثل دورًا يف الحكم عىل قيمة االستثمار يف الدراسة
األمر املربك الذي تواجهه الكليات والجامعات أن قيمة
والدرجة العلمية ليست تذكرتك املوصلة إىل العمل»؛ هكذا
التعليم والتدريب مهمًّ ا ملستقبل األفراد .يف املستقبل القريب
التعليمية يف صحيفة سان فرانسيسكو تشرونيكل« .توجد
أكرث من قلقي عىل مستقبل الصحافة وإىل حد ما التدريب
الصحفي.
الدرجات العلمية يف انخفاض ،حتى يف الوقت الذي يبقى فيه
أعتقد أن مؤسساتنا التعليمية ستواجه تحديًا يف إقناع الطالب وآبائهم بأن التعليم التقليدي ال يزال ذا قيمة .إدارات الكليات
كما نظرائها يف الصناعة اإلعالمية -يواجهون معضلة واحدة.التعليم اإللكرتوين والرقمي املقدم بأسعار منافسة قد يكون
طريق النجاة الوحيد .عىل أية حال هذه هي البداية فقط. اإلرباك
القوى التي تهدد الصناعة اإلعالمية حاليًا هي القوى نفسها
التي تهدد اقتصاد الجامعات الحكومية والخاصة .املؤسسات
اإلعالمية التقليدية كانت بطيئة يف إدراك أن طريقتها يف العمل ستتأثر سلبًا بالتقنية ،وكانت بطيئة يف إدراك أن اإلنرتنت
156
والتخصص الذي يختارونه ،وإمكانية تخرجه .كل هذه الجامعية. ً متجانسا (عند كل الطالب)، «الكلية ليست شيئا واحدً ا ً صرحت إيزابيل سوهيل من معهد بروكينغز ملحرر الشؤون
أنواع متعددة من التذاكر ،بعض هذه التذاكر ال تأخذك إىل
أي مكان».
العوامل سالفة الذكر تؤدي دورًا حتى عندما يكون
اإلقبال عىل االلتحاق بأقسام الصحافة واالتصال مرتفعً ا بشكل محرج ،والتوظيف التقليدي يف املؤسسات الصحفية يف أدىن مستوياته .حينما يتعلق األمر بقيمة االستثمار يف دراسة تخصص الصحافة فإن هذا التخصص أقل قيمة مما كان عليه ً سابقا. التحول التقني
ما ستفعله كليات الصحافة وبرامجها ملواجهة هذا
ستحول عملهم الثمني إىل يشء عديم القيمة أو قليلها .كانت
التصور خالل األعوام املقبلة سيكون حاسمً ا .الوقت ليس يف
الندرة يف األخبار إىل وفرة .قدمت اإلنرتنت منافذ ومنصات
فالوقت والزخم يصبان يف مصلحته. ()1 َ املبتكر املربِك ،يف صناعة األخبار يعني أن الصحافة باتت
األخبار فيما مىض سلعة ثمينة لندرتها .بفضل اإلنرتنت تحولت
جديدة للجمهور للحصول عىل األخبار واملعلومات .األمر نفسه -كما أعتقد -يحدث يف التعليم.
املزيد من اآلباء والطالب واملسؤولني الحكوميني ،إضافة
إىل خرباء التعليم ،يتساءلون عن الحكمة من إنفاق مئات األلوف عىل تعليم ال يمنح عائدً ا اقتصاديًّا واضحً ا .هذا التحدي
ال يتعلق بالتعليم الصحفي وحده ،بل بالفكرة الكربى ،وهي مسألة الجدوى من التعليم الجامعي برمَّ ته .يف املتوسط فإن
فوائد التعليم الجامعي تتجاوز تكلفته ،لكنَّ تقري ًرا أصدره
معهد بروكينغز للدراسات يف شهر مايو عام ٢٠١٣م قال :إن
االستثمار يف درجة البكالوريوس ال يعد استثمارًا ذكيًّا لكل ً َ عدة تؤدي دورًا عوامل الطالب باختالف أحوالهم؛ ألن هناك
يف هذا االستثمار؛ منها :تكلفة الدراسة ،وشخصية الطالب،
األمر المربك الذي تواجهه الكليات والجامعات أن قيمة الدرجات العلمية في انخفاض ،حتى في الوقت الذي مهما يبقى فيه التعليم والتدريب ًّ لمستقبل األفراد
العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
صالح املؤسسات العريقة يف عصور االبتكار ،أما املبتكر (املربك)
ُتصنع ُ وتوزع يف منصات جديدة عىل أيدي صحفيني مستقلني. ً أيضا أن الصحافة باتت ُتصنع خارج نموذج هذا يعني
مؤسسات الصحافة التقليدية ذات الطابع التجاري.
يجادل إيرك نيوتن من مؤسسة نايت بأنه« :لتدريس اإلعالم يف العصر الرقمي يجب عليك أن ُتدرِّس اإلعالم والعصر
الرقمي وكيفية استخدام األدوات الحديثة يف إنجاز األعمال اإلعالمية» .يشري نيوتن ً أيضا إىل أن الكليات التي أخذت هذا
األمر بجدية باتت تكرب وال تتضاءل.
التعليم اإللكرتوين من أبرز خيارات طرق التدريس
الجديدة حتى يف كليات الصحافة ذات األبنية العتيقة .يمكن لكليات اإلعالم تجربة طرق أخرى مثل:
● معامل االبتكارات كتلك التي توجد يف كلية والرت كرونكايت للصحافة ووسائل االتصال الجماهريي يف جامعة أريزونا
الحكومية.
● برامج التعليم التي تمزج بني التعليم اإللكرتوين والتعليم التقليدي داخل الصف. ● الحصص التي ُت َ ناقش فيها مواد التدريب املوجودة عىل اإلنرتنت بدلاً من مناقشة املحاضرات. تحاول الكليات ً أيضا تجربة بعض االبتكارات األخرى التي
كليات اإلعالم بين التكيف والخروج من الميدان
قد ال تكون ناجحة .تتبادر إىل الذهن طريقتان منها :التعليم
دروسً ا قاسية حينما قامت بتدريس املواد بشراكة مع منصة
( )Digital Badgeالغالبية العظمى من أساتذة الصحافة اً قليل عن -أي ما يعادل ( )٪٨٤منهم -يقولون :إنهم يعرفون
تدريس مبادئ اإلحصاء ،والجرب ،ومقدمة يف الربمجة، والرياضيات األولية ،إضافة إىل علم النفس .وعىل الرغم من أن
يرون أنه ينبغي تدريس اإلعالم عرب هذه املنصات .أكرث من هذه
تعرثوا يف اختبارات هذه املواد النهائية بنسب كبرية ترتاوح بني
الضخم املفتوح عىل اإلنرتنت ( ،)MOOCsوالشارة الرقمية ()2
منصات التعليم املفتوح ( ،)MOOCsلكن ( )٪٢٢فقط منهم النسبة -أي ما يقارب أكرث من الثلث -من املبحوثني املشاركني
يف االستبانة قالوا :إنهم يرغبون يف تدريس اإلعالم عرب منصات
التعليم املفتوح ،فيما قالت نسبة مشابهة :إنها غري متأكدة من رغبتها يف ذلك ،وقال ( )٪٢٨منهم :إنهم غري راغبني يف التدريس عرب هذه املنصات. أسئلة وشكوك
التعليم املفتوح ( )Udacityعرب هذه املنصة جربت الجامعة
نسبة إكمال هذه الدروس بلغت ( )٪٨٣إال أن غالبية الطالب ( ،٪٥٦و.)٪٧٦
وعىل الرغم من أن الجامعة أوقفت تجربة التعليم عرب
هذه املنصة إال أنني أعتقد أن الحكمة الحقيقية جاءت عىل
لسان سباستيان ثورن الرئيس التنفيذي ملنصة ()Udacity
الذي كتب يف مدونة الشركة ما نصه:
«يف تجربتنا َعلِقنا يف إطار التعليم التقليدي الذي يلتزم
ً أسبوعا للفصل الدرايس ،بينما يمكن أن يكون بخمسة عشر
عدد من األسئلة الكبرية والشكوك تدور حول فاعلية هذا
ذلك مجديًا للطالب الذين يدرسون بدوام كامل داخل
ً وخصوصا أن نسب االنسحاب من قوة هذا النوع من التعليم،
دارس .فكما وسّ عنا قاعدتنا يف استيعاب الطالب ،فكذلك
النوع من التعليم عرب املنصات املفتوحة .أنا شخصيًّا أشك يف املقررات يف هذه املنصات قد تصل إىل ( .)٪٩٠لكن يبدو أن هذه
النقطة ال تمثل مشكلة يف تدريس اإلعالم يف هذه املنصات. هذه الطرق يف التعليم مفتوحة للعامة ومجانية ،ويف بعض
األحيان يود الناس معرفة ماذا يُدَ رَّس فقط .طرق التعليم
املفتوح هذه ( )MOOCsقيّمة؛ ألنها تمنحنا الفرصة للتجربة.
هذه الطريقة يف إيصال املعلومة تساعدنا يف استكشاف طرق جديدة يف التعليم باستخدام التكنولوجيا .نحن بحاجة إىل معرفة الطرق الناجحة يف ذلك وملاذا كانت كذلك.
جربت جامعة سان خوزيه األمريكية الحكومية طريقة
التعليم املفتوح ( )MOOCيف خمس مواد ،وتعلمت منها
الجامعات ،فإننا نعلم اآلن أن هذا ال يمكن أن يناسب كل يجب أن نوسع منظورنا فيما يكون عليه معنى الفصل الدرايس .تخيل عاملًا يكون بمقدورك فيه أن تدرُس هذه املواد مؤجلة ،بما يتناسب مع سرعتك وأوقات تسليم األعمال لديك وجداولك ،أو يف األوقات التي يمكن أن تستخدم فيها
حاسوبك ،أو بحسب جدول دراستك الثانوية» .هذه هي روح
الشركات الناشئة :إطالق ،فشل /تعلم ،تكرار العملية وإعادة اإلطالق ،وهكذا.
تغيري املهارات ،وتغيري الصحفيني
كتب الكثري حول آالف الصحفيني املستقلني الذين
157
إعالم
ً وفرصا جديدة .وكتبنا بشكل مكثف أنشؤوا منافذ إخبارية
حول األدوات التي يحتاج الصحفيون إىل استخدامها يف هذه البيئة املتغرية باستمرار .عىل أية حال األمر املجهول نسبيًّا
158
ً ثالثا :مهارات اإلنتاج اإلخباري. ً رابعا :املهارات الفنية للوسائط املتعددة.
لم نكن نعرف ما الذي سنخرج به من هذه االستبانة قبل
هو الحاجات املحددة التي سيحتاج الصحفيون إليها ليكونوا ناجحني يف املستقبلُ .ث ُلثا أساتذة الصحافة ( )٪٦٦الذين أجابوا
األفكار التي ستساعدنا عىل إعادة التفكري يف ماهية تعليم
املناهج ،وهذه نتيجة مبهجة؛ ألن التعليم اإلعالمي يمكن أن
ابتكار مستقبلنا:
عن االستبانات يؤمنون أن كلياتهم وأقسامهم تتجاوب لتغيري
يكون ذا صلة بالواقع إذا أخذ زمام املبادرة يف التنبؤ باملهارات
التي ستكون مطلوبة ،إضافة إىل التأكد من تعلم الطالب تلك املهارات. لاً لكن هذه النتيجة تطرح ً أيضا سؤا عن سبب غياب
التجارب؛ هل الكليات منفتحة عىل التغيري لكنها ال تعرف فعل ذلك؟
ظهور النتائج ،لكني توقعت أننا عىل األقل سنخرج ببعض كاف لدفعنا نحو العمل عىل إعادة الصحافة .أما ما نعرفه فهو ٍ ● نحن نعرف أن التقنية مربكة للطريقة التي يُؤدَّى بها التعليم.
● نعرف أن التقنية مربكة القتصاديات التعليم.
● ونعرف أن الصحافة تتغري أسرع بكثري من التعليم الصحفي.
األمر ليس متأخ ًرا جدًّ ا عىل إعادة رسم تعليم اإلعالم ،لكن
جزء من إعادة التفكري اإلسرتاتيجي يتمثل يف سد الهوة بني
الوقت ليس يف صالحنا .أعرف أساتذة كثريين سيعانون من
فيما يُدرس يف الصفوف والتساؤل عن التعليم اإلعالمي .وما
الفصول ،كما أن آخرين سيعانون من تعلم تقنيات ومناهج
األساتذة واملهنيني ،وهذا ربما يعني التخيل عن التفكري الحايل
املهارات واالستعدادات واملعارف التي تجعل الصحفي ناجحً ا
يف املستقبل؟ يمكننا جميعً ا تخمني ذلك ،لكننا ال نملك كثريًا من البيانات التي يمكن النظر فيها ملساعدتنا .لذا فقد قمت أنا
ومنتجة ( )NewsUلورين كلينغر بتصميم استبانة عن املهارات
الالزمة ملستقبل الصحافة ،نطلب فيها من أساتذة اإلعالم
والصحفيني مساعدتنا يف إيجاد املهم يف أربعة مجاالت: اً أول :املعرفة ،واالستعدادات ،والخصائص الشخصية، والقيم.
ثانيًا :مهارات جمع األخبار.
العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
فكرة التوقف عن جزء من يشء يحبونه مثل التدريس داخل جديدة ملهنة الصحافة .التعاطي مع األمور املربكة يعني أننا إما
أن نبيك عىل املايض وإما أن نعمل معً ا لنعيد ابتكار املستقبل.
هوامش: ( -)1املبتكر املربك ،يقصد به ذلك النوع من املبتكرات الذي يغري وجه السوق ً محدثا توجهًا جديدً ا أو تغيريًا جذريًّا فيه .ترجمة املصطلح جاءت بعد
نقاش مع عدد من املهتمني يف هذا املوضوع. ( -)2الشارة الرقمية هي توجه عاملي لالستعاضة عن الشهادات األكاديمية بمجموعة من املهارات التي يحتاج إليها سوق العمل ،ويحصل مَ نْ يتمكن منها عىل هذه الشارة».
كليات اإلعالم بين التكيف والخروج من الميدان
الجداول التالية توضح نتائج الدراسة وترتب المهارات والسمات التي يجب أن تتوافر في صحفي المستقبل بحسب رأي الصحفيين وأساتذة اإلعالم جدول ( :)1املهارات األساسية لصحفي املستقبل بحسب أساتذة اإلعالم واملهنيني
البحث املتقدم عن املعلومات عىل اإلنرتنت
%91.63
%81.04
%80.90
التمكن من إجراء املقابالت وتقنياتها
%95.19
%80.39
%80.04
%79.82
%67.03
%61.69
%55.91
%55.78
%61.85
%58.97
املهنيون
املديرون
أساتذة اإلعالم
الفضول
%97.94
%94.18
%93.44
البحث عن األخبار والتحقق من املصادر دون استخدام اإلنرتنت
الدقة
%98.49 %98.97
%98.50
النظر إىل األخبار من منظور تاريخي
%70.42
حسن التعامل مع الضغوط واملواعيد النهائية %92.56
%92.62
%93.31
حسن التعامل مع النقد
%87.11
%84.48
%86.27
تفسري البيانات والرسوم اإلحصائية
%79.63
وجود معرفة عامة واسعة
%89.60
%82.75
%80.49
وجود مهارات اجتماعية
%76.06
%80.17
%79.91
أن يحسن أن يكون عضوًا يف فريق
%70.82
%81.61
%80.22
االطالع عىل أخالقيات الصحافة
%96.23
%91.16
%89.90
معرفة الثقافات األخرى
%75.91
%51.84
%51.78
املعرفة ،والسمات ،والخصائص الشخصية ،والقيم
جدول ( :)3املهارات األساسية لصحفي املستقبل بحسب أساتذة اإلعالم واملهنيني
مهارات اإلنتاج اإلخباري
أساتذة اإلعالم
املهنيون
املديرون
%85.07
%84.17
%89.43
%89.05
املعرفة باألنظمة الحكومية
%82.86
%68.82
%69.49
مهارة السرد اإلخباري
%93.24
الكتابة بأسلوب فصيح
%92.99
فهم املشهد اإلعالمي
%57.32 %77.91
%57.40
االلتزام بالقواعد الصحيحة للغة
%93.34 %93.33 %96.33
الدراية بحقوق النشر
%63.85 %74.32
%61.03
التمكن من أنواع الفنون اإلخبارية
%84.31
%70.11
%67.56
%69.12
%66.92
فهم توقعات الجمهور وحاجاتهم
%86.57
%81.07
%79.77
مهارات التحدث
%66.70
%57.97
%55.48
الدراية بقوانني اإلعالم
%84.36
معرفة الصناعة اإلعالمية
%37.53 %38.57 %60.73
القدرة الجيدة عىل الحكم عىل األخبار
%91.33
%91.83
%89.43 %95.32
%88.18
اختيار املعلومات عىل أسس دقيقة
%96.45
%92.44
%91.70
القدرة عىل قيادة فريق
%32.40 %38.64
%31.44
%89.44
%87.88
املعرفة باألحداث الجارية
%94.61
جدول ( :)4املهارات األساسية لصحفي املستقبل بحسب أساتذة اإلعالم واملهنيني
أساتذة املهارات الفنية للوسائط املتعددة اإلعالم
املهنيون
املديرون
%40.93
%28.45
%28.11
املهنيون
املديرون
%75.51
%50.54
%45.83
تصوير الصور الفوتوغرافية وتحريرها %79.48
%60.56
%53.38
تحليل وجمع البيانات الكبرية
%72.63
%55.69
%55.03
%72.09
%41.72
%38.11
وجود شبكة مهارات ،والقدرة عىل تكوين عالقات ،وتطوير املصادر
%94.27
%92.04
%91.10
القدرة عىل االبتكار وقبول التغيري
%91.31
جدول ( :)2املهارات األساسية لصحفي املستقبل بحسب أساتذة اإلعالم واملهنيني
مهارات جمع األخبار
أساتذة اإلعالم
القدرة عىل العمل مع لغة HTML
أو لغات الربمجة األخرى تصوير الفيديو وتحريره
التسجيل والتحرير الصويت
القدرة عىل السرد اإلخباري مع %51.55 %55.48 %79.88 التصاميم والوسائل املرئية
159
مخطوطات
160
لوحة فنية للحرمين الشريفين من مخطوط «دالئل الخيرات وشوارق األنوار في ذكر الصالة على النبي المختار»
العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
161
لمحمد بن سليمان الجزولي المتوفى سنة 870هـ ،والنسخة مكتوبة بإسطنبول سنة 1115هـ1703/م. من مقتنيات مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية.
مقال
أمل عبدالعزيز الهزاني كاتبة سعودية
ميشال عون وتعزيز سياسة النأي يعتقد المراقب للحال اللبنانية جازمً ا ،أن ميشال
عون ،الرئيس اللبناني المنتخب مؤخ ًرا ،أعاد في
ذهنه شريط الذكريات فور تخطيه عتبة قصر بعبدا
لبنان حاليًّا ،مردها توافق رؤى األطراف الدولية حول
المنفى في فرنسا ،بقوة جبرية من الجيش السوري
العام ،في بلد دائمً ا ما كان المطبخ السياسي الذي من
1989م) .رحلة طويلة للضابط ميشال عون ،واكبت ً أحداثا ساخنة وتهديدات على لبنان وعلى حياته
في المنطقة ،وذلك بحكم تعدد المذاهب والطوائف .أبرز
رئيسا للبنان ،بعد 35عامً ا من خروجه منه إلى ً الذي كان يحتل لبنان إثر الحرب األهلية (-1975
162
مطبخ سياسي لتعزيز المواقف
ويعتقد بعض المحللين أن أجواء التفاؤل التي تسود
ضرورة إنهاء الشغور الرئاسي الذي دام عامين ونصف
خالله تسعى األطراف الدولية واإلقليمية لتعزيز مواقعها
هذه األطراف اإلقليمية هما السعودية وإيران ،ومن األطراف الدولية فرنسا والواليات المتحدة .إيران بداية ترى في
الشخصية ،كلها مجتمعة لم تخفه؛ بل على العكس كانت تم ّنيه بتحقيق حلم الرئاسة ،والعودة إلى قصر
لبنان معسك ًرا وغرفة عمليات ومراقبة ،يقوم عليه ذراعها
اللبنانية ،بال خصوم هذه المرة ،وال أعداء متربصين.
دوره ونفوذه بدعم من نظام بشار األسد ،من تعطيل
بعبدا مرفوع الرأس ،مكرمً ا ،مختارًا من كل األطياف
وقد أجاد فصل الخطاب ،حينما توجه لكل اللبنانيين
العسكرية «حزب الله» ،الذي لعب دورًا كبي ًرا لتعزيز
المجلس النيابي ،حتى ارتكاب العمل المسلح كاغتيال
مؤكدً ا أنه رئيس الكل ،أو كما يحلو للبنانيين تسميته
الرئيس رفيق الحريري ،وسلسلة اغتياالت سياسية طالت
جامعة الدول العربية ،وحريص على تعزيز عالقات
صيف عام 2006م ،ثم احتالل بيروت في مايو 2008م .في ظل
«بي الكل -أي والد الكل» ،وأنه متمسك بميثاق ّ
لبنان بما يخدم مصالحه .خاتمة لحياة سياسية حافلة
وأي خاتمة.
فريق 14من آذار ،وافتعال حرب ضروس مع إسرائيل في
هذا الجموح الشرس لحزب الله لتكريس نفوذه وإقصاء
خصومه ،ظلت المملكة العربية السعودية متمسكة بالخيار
وحيث تحقق الحلم ،بطي الماضي وصراعاته
السلمي في حماية حلفائها ،وحماية لبنان من الوقوع في
المعقد؛ ملفات ثقيلة داخلية وخارجية ،أهمها مهمة
بنظام صدام حسين .حتى إنها تقدمت بثالثة مليارات دوالر
سعد الحريري ،وال تزال مشاوراتها قائمة في محاولة
الدول تحميها جيوشها ال الميليشيات الطائفية .هذا الخيار
وأحقاده ،يتحتم على الرئيس أن يواجه الواقع
تشكيل الحكومة التي أنيطت برئيس تيار المستقبل للخروج بحكومة الرضا من كل األطياف ،بتسوية
ً ونوعا. تقسم الحقائب الوزارية بين التيارات كمًّ ا ّ
تركة إيران العقارية ،كما حصل في العراق بعد اإلطاحة
هبة لتجهيز الجيش اللبناني ،وتذكير لميليشيا حزب الله أن
السلمي للمملكة على رغم ثمنه الباهظ ،كان يهدف في
المقام األول إلى درء مواجهة مسلحة كانت ستقضي على
والمشاورات القائمة ليست هيّنة ،كعادة كل حسم
لبنان الدولة ،وتحيلها إلى خراب يعيد عقارب الساعة إلى
ورعاة دوليين يدفعون بسرعة تشكيل الحكومة،
الطوائف المتناحرة آنذاك.
سياسي في لبنان ،لكنها تقام وسط مناخ مشجع،
وتجاوز الخالفات والمصالح الضيقة من أجل استقرار
تتوق له البالد ،ويؤسس لمرحلة هادئة تمهد
النتخابات نيابية تحدد نتائجها شكل لبنان الجديد.
العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
ما قبل اتفاق الطائف عام (1989م) الذي نزع فتيل الفتنة بين ماذا تقول الرياض عن بيروت اليوم؟ خالل مرحلة
الشغور الرئاسي الذي امتد ألكثر من عامين ،خرجت
أقاويل عن نية السعودية الصد عن لبنان وتركه يواجه
مصيره ،وبخاصة مع انطالق حرب اليمن ،وتزايد تعقيدات
الوضع السوري .في الواقع أن السعودية ال يمكنها التخلي عن لبنان الذي توسع فيه النفوذ اإليراني ،في الوقت الذي
تقاوم فيه وقوع سوريا واليمن في خندق إيران .لكن مرحلة
الخواء الرئاسي في لبنان كانت مرحلة ركود حتى في نشاط
حزب الله ،ومع انكفاء اإلدارة األميركية وتراجع مواقفها
في دعم حلفائها ،كان األفضل انتظار إدارة جديدة في
البيت األبيض تتيح فرصة لتفاهمات حول الملف األكثر
تعقيدً ا ،وهو الملف السوري وتداعياته على دول المنطقة وأهمها لبنان.
هذا ما يفسر الرحلة السريعة التي قام بها وزير الدولة
السعودي لشؤون الخليج ،ثامر السبهان إلى بيروت نهاية أكتوبر الماضي ،ولقاءه القيادات اللبنانية في مسعى لحلحلة الوضع السياسي المتصلب ،وتحريك مبادرة
ترشيح رئيس تكتل التغيير واإلصالح ميشال عون ،وهو رئيسا للبنان ،على أن توكل مهمة الحليف لحزب الله، ً
ميشال عون
تشكيل الحكومة إلى سعد الحريري .تسوية مناسبة
في توقيت مناسب بالنسبة لبلد يعيش مستق ًّرا بفضل التسويات منذ اتفاق الطائف. التحرك السعودي
بعد فوز دونالد ترمب ،الجمهوري ،المعادي إليران،
بالبيت األبيض ،أصبح جليًّا صحة التحرك السعودي
بتقديم المبادرة ،وبخاصة أن الرئيس األميركي المنتخب
البعيد من عالم السياسة ،سيبدأ بسبر أغوار منطقة الشرق
األوسط الساخنة من خالل التعرف إلى األطراف الفاعلة
ميشال عون الرئيس يختلف عن العماد ،مسؤوليته وأهدافه اختلفت، جاهدا إثبات قدرته على سيحاول ً حل المعضالت الداخلية والخارجية اللبنانية ،لن يقبل أن يكون إيميل لحود ،ممثل بشار األسد في لبنان، لكنه لن يتصادم مع المحور اإليراني
التي يمكن من خالل توطيد العالقة معها التأثير في كثير
من القضايا .ويبقى السؤال المهم عن مستقبل العالقات
السعودية اللبنانية في ظل رئاسة ميشال عون الموالي
لحزب الله ،عون التزم أمام اللبنانيين في خطاب الفوز بأنه
الرياض ،وهو المتوقع حصوله خالل مدة قريبة.
لسيرة الرجل خالل خمسين عامً ا ،يلحظ التحوالت في
وأهدافه اختلفت ،سيحاول جاهدً ا إثبات قدرته على حل
سيسعى إلى أن تكون بالدهم مستقرة مزدهرة ،والمتتبع
ميشال عون الرئيس يختلف عن العماد ،مسؤوليته
مواقفه بما يخدم موقعه وأهدافه .هذه السمة البراغماتية
المعضالت الداخلية والخارجية اللبنانية ،لن يقبل أن يكون
بالمملكة إلى إيفاد مستشار خادم الحرمين الشريفين
مع المحور اإليراني .سيعزز سياسة النأي التي انتهجها
أحد أهم أسباب مبادرة الرياض لترشيحه ،وهو ما عجّ ل
إيميل لحود ،ممثل بشار األسد في لبنان ،لكنه لن يتصادم
وأمير منطقة مكة المكرمة األمير خالد الفيصل إلى بيروت
لبنان في مواقفه تجاه الصراعات في المنطقة ،سيكون
بالرئاسة ،في خطوة عدها المحللون مؤش ًرا على عودة
متكافئة تجاه كل طرف ،وسيتفهم جميع أصدقاء لبنان
بعد أيام قليلة من إعالن مجلس النواب اللبناني فوز عون
الحضور السعودي ،وبخاصة أن الزيارة تخللها مع التهنئة
دعوة من العاهل السعودي للرئيس اللبناني الجديد لزيارة
الوجه المبتسم أمام كل المحاور ،سيتقدم بخطوات
هذه السياسة ،طالما أنها ال تميل وال ترجح كفة أمام
أخرى ،وفي الوقت نفسه تترك لبنان سيدً ا لمصيره.
163
سينما
ناقد سينمائي أوضح أهمية أن يتواكب فتح دور سينما مع افتتاح معاهد متخصصة
فهد اليحيا: على السينما السعودية تناول مشكالت مجتمعها في سياق فني وإال تحولت إلى بروباغندا فجة حوار :فواز السيحاني الفيصل
164
ليست السينما شاشة ،وأجسا ًدا ،ولغة تتحرك في مواقع مختلفة ،إنها رؤية تصيب أغوار اإلنسان وقضاياه االجتماعية والنفسية والوجودية بأكثر الطرق تأثيرًا .إنها شغف كاد يجعل الدكتور فهد اليحيا الذي يعمل في مجال الطب النفسي بصفته استشار ًّيا في المستشفى العسكري في الرياض أن يغير مسار تخصصه في أيام شبابه؛ ألنه وجد هناك عوالم مليئة بالدهشة والمتعة .يتطرق اليحيا في حواره مع «الفيصل» إلى السينما في السعودية وصعوبات وناقدا إياها ً مشيدا بها ً ً ً تارة أخرى .شارك اليحيا في عدد من لجان التحكيم، تارة، صناعتها، وسافر إلى العديد من البالد األوربية لمراقبة تأثير أفالم سعودية عرضت هناك .يقول اليحيا :إن شرط العمل الفني األساس هو المتعة ،إضافة إلى تناولها الظواهر االجتماعية في سياق قوانين العمل الفني؛ كي ال تتحول إلى بروباغندا فجة أو خطاب مباشر وجاف.
العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
● بداية ،طبيب نفيس ويف الوقت نفسه مهتم بالسينما وعالم األفالم ،بل يتجاوز ذلك ويقدم دليلاً تأليفيًّا تحت ً تحديدا عنوان «مدخل إىل الفنون السينمائية» فلماذا السينما هي من وقع عليها شغفك؟
-ال اختيار يف الشغف! هو قدر كما يقول شوقي« :يا الئمي
تلم» .ويف يف هواه والهوى قد ٌر * لو شفك الوجد لم تعذل ولم ِ الكتاب الذي أشرت إليه يف سؤالك فصل بعنوان «السينما وأنا»
حكيت فيه عن طفولتي يف الطائف ،ودخويل عالم مشاهدة األفالم
منذ نعومة أظفاري ،واستمر ذلك يف الرياض حيث كانت منطقة تأجري األفالم وآالت السينما عامرة يف املربع .كنت أقرأ بعض
الكتابات عن األفالم يف مجالت :أسريت والنهضة والحوادث ،بيد
أن معظمها كان مجرد عرض للفلم ،ورؤية شخصية وليست
نقدً ا فعليًّا .لكن عندما ذهبت إىل القاهرة لدراسة الطب اكتشفت
عالم النقد السينمايئ الحقيقي عىل يد رواد أذكر منهم سامي
السالموين ،وخريية البشالوي ،ويوسف شريف رزق الله ،ورؤوف
توفيق ،وسمري فريد وغريهم .بل اكتشفت أن صناعة السينما عالم كامل ،وكان انضمامي لنادي السينما نافذة لالطالع عىل
السينما العربية -املغاربية تحديدً ا -والعاملية عمومً ا.
فهد اليحيا
ردود فعل األوربيني
● شاركت يف لجان تحكيم ،وقيّمت كثريًا من األفالم
يف السنة الثانية أو الثالثة فكرت يف هجر دراسة الطب
املحلية التي عرضت يف السفارات األجنبية ،ومنها السفارة
يف أصدقايئ ممن كانوا يدرسون علوم السينما ،وكانوا يحبون َّ هذا الشغف ،ومنهم عادل عبداملطلوب ،وبسام الذوادي املخرج
-ردود أفعال األجانب من أوربيني وعرب أكرث احتفاء مما
والتوجه لدراسة السينما ،لكن عارضني يف توجهي بعض
البحريني املعروف حاليًّا!
األملانية ،فما ردود أفعالهم؟
نتوقع ،وال ننىس أنهم تعودوا عىل دخول دور السينما منذ طفولتهم ،لذا ذائقتهم الفنية بصورة عامة متميّزة عنا ومتقدمة.
حتى األفالم السعودية املوغلة يف الرمزية التي لم تعجب عددًا
● يف كتابك شرحت ما يتعلق باألدوات املختصة بصناعة
كبريًا من مشاهديها السعوديني مثل «فيما بني» ( 3:30د) ملحمد
األهم كما يقول كثري من املخرجني العامليني؟ ً رؤية ما؛ اجتماعية أو فنية -كل األفالم العظيمة تحمل
أثناء مهرجان السينما األوربية الذي يُقام سنويًّا .وقد اقرتحته
عليهم ألن الفلم قد فاز ذلك الوقت بجائزة أحمد خضر لالمتياز
كاملوهبة ،وال يتم تدريسها أو تعليمها! الكتاب املتواضع املشار إليه
املستقلة بفرنسا (إبريل 2015م) .باملناسبة مهرجان الفلم األوربي
األفالم ،لكنك لم تتطرق إىل ما يتعلق بجانب الرؤية وهو
أو أيديولوجية أو فلسفية ...لكن الرؤية يشء مغروس يف الذات موجه للمبتدئني لتقديم مبادئ الحرفة بصورة مبسطة؛ هذه حدوده!
حصول الفلم السعودي على جوائز إنتاجا سخ ًّيا ،ولغة سرد عالمية يتطلب ً سينمائية متميزة ،وهذا ال يتوافر
السلمان لقي صدً ى كبريًا عند عرضه يف السفارة الفرنسية يف
يف صناعة الفلم العربي ،وذلك ضمن مهرجان األفالم األوربية الذي تقوم به السفارات األوربية سنويًّا يقدم 14فلمً ا تقريبًا من
أنحاء أوربا .وسأعمل عىل أن يعرض فلم سعودي قصري قبل عرض الفلم األوربي يف مهرجان 2017م .ولكن هذه املرة لن أقوم بهذا بشكل فردي ،بل سأشرك الجمعية السعودية للثقافة
والفنون لتكون املشاركة تحت مظلتها ،وتتحمل نصيبًا من هذا العمل املرهق.
إال بوجود جهات إنتاج كريمة ال تنتظر
● يف ظل وجود ُكتاب مقاالت أصبحوا فجأة ُك ّتا ًبا
وتجريبا وممارسة ً
-السيناريو هو الهيكل العظمي للفلم الذي ينسج فوقه
كبيرا ،ويتطلب دراسة مردودا مال ًّيا ً ً
للسيناريوهات الدرامية ،فكيف تقيم السينما السعودية؟
اللحم والشحم ،وتزرع فيه األعصاب ،وتجري يف عروقه الدماء
165
سينما
السينمائية ،واألغلبية العظمى من األفالم الشهرية والناجحة
وقت ما إنما قامت عىل سيناريو متقن .ومعظم الناس ظنّ يف ٍ ً قصاصا أو روائيًّا ،وربما رسامً ا، من عمره أنه سيصبح شاع ًرا أو
اآلن أضف إليها اإلخراج والسيناريو ،وهذا أم ٌر مشروع ،وهناك من استمر ،وكثريون تغريت وجهتهم ،أو تخلوا بصورة واقعية عن أحالم بداية الشباب .أقصد من يجد عنده الرغبة يف الكتابة،
ويتوسم يف ذاته القدرة ،فيجب أن نساعده للقيام باملحاولة، فربما نشهد مولد كاتب سيناريو بارع يصقل موهبته بالتدريب
والتعليم واملران .من ناحية ثانية الريبورتاج الصحايف شبيه جدًّا
بالفلم الوثائقي ،إال أن األخري يختلف عنه يف الصورة والحركة والصوت ،وقدرات الفلم التعبريية الجبارة يف يد مخرج قدير. ً قصة أو قصيدة ،ولكنها تحمل كذلك املقالة الصحافية ليست
رؤية ما لكاتبها عن قضية معينة أو موضوع يتناوله من زاويته الخاصة ،وهذا أمر شبيه بالسينما؛ فالسيناريو ليس عملاً أدبيًّا، وال يصنف ضمن القصص أو الروايات أو املسرحيات ،إنه عمل
فني مستقل بذاته ،وال يخلو من الجفاف!
166
التنوع الجغرافي الباذخ في ربوع المملكة يجعل منها مواقع تصوير عبقرية! جغرافيتنا من الساحل إلى السهل فقمم الجبال فالصحراء والواحات .هناك أماكن تصلح أن تكون مواقع لتصوير أفالم خيالية عن غزو الفضاء والعيش في الكواكب األخرى ً أحيانا تكون املحلية عاملية املتعة تحول إىل خطاب وعظي مباشر. يف جوهرها اإلنساين إذا كانت خربة نفسية عامة ،عرضها هو ما يحدد ،فالطائفية ،وحقوق املرأة ،واإلرهاب ،قضايا عاملية،
زمن ما. وعاناها كل مجتمع يف ٍ خطاب مباشر وجاف
● هل تعتقد أنه من املمكن أن تعالج السينما يف اململكة
● محليًّا ما نقدمه عىل الشاشة غالبًا ما يغرق يف القضايا
بعض الظواهر االجتماعية واألمنية التي يتعرض لها املجتمع كاإلرهاب مثلاً ،وما تقويمك لبعض األعمال التي حاولت
-هناك املوضوع وهناك الشكل! قد يُتناول ذات املوضوع
الدراما تكون يف املسرح والفلم والتمثيلية التلفزيونية.ً موفقا إىل حد كبري .وسؤالك و«سيلفي» كان عملاً دراميًّا
وبعدها تأيت القضايا األخرى! فإن لم يحقق األسلوب الفني شرط
األساس هو املتعة ،وأحد موضوعات السينما -كما موضوعات
املحلية ،كالطائفية ،أو حقوق املرأة ،أو اإلرهاب؛ أال تعتقد أن ً عمقا من ذلك؟ السينما أكرث
يف قصة أو رواية أو فلم .الشكل هو األسلوب الخاص لعرض املوضوع بشروطه الفنية الخاصة! أهم شرط للفن هو املتعة،
الخوض يف هذا الجانب :عىل سبيل املثال «سيلفي»؟
هذا يعيدنا إىل السؤال السابق وجوابه! شرط العمل الفني
مشهد من فلم وجدة العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
ناقد سينمائي أوضح أهمية أن يتواكب فتح دور سينما مع افتتاح معاهد متخصصة
الشعر والقصة -هو تناول املشكالت والظواهر االجتماعية! ولكنه ليس موضوعها الوحيد.
ويجب أن تكون خاضعة لشروط العمل الفني يك
ال تتحول إىل بروباغندا فجة ،أو خطاب مباشر وجاف.
● الفلم السعودي هل سيصل قريبًا إىل
الجوائز العاملية ،وما الذي ينقصه لبلوغ ذلك؟
-قبول فلم ما يف املسابقة الرسمية يُعد إنجا ًزا
بحد ذاته .فلم «وجدة» و«بركة يقابل بركة» قبال يف
مسابقات دولية عدة ،وفازا بجوائز .فلم «حرمة» ُقبل يف مهرجان برلني .وسبق أن ذكرت الفلم
القصري «فيما بني»؛ الحصول عىل جوائز عاملية يتطلب إنتاجً ا سخيًّا ،ولغة سرد سينمائية متميزة،
وهذا ال يتوافر إال بوجود جهات إنتاج كريمة ال تنتظر مردودًا ماليًّا كبريًا ،مع أن هذا قد يحدث،
ويتطلب دراسة وممارسة وتجريبًا ،لكن عندي أمل
يشبه اليقني أن فلمً ا ما سيصل قريبًا إىل العاملية!
األفالم السعودية لن تسود يرى الدكتور فهد اليحيا أن وجود دور عرض «سيؤدي إىل التسريع يف صناعة السينما ،فالسينما يف كثري من البلدان بدأت
بصاالت عرض قبل أن تظهر فيها حركة سينمائية أو صناعة وتعليم وتدريب .يف مصر وهي رائدة صناعة السينما يف العالم العربي عرب متمصرين أو أجانب ،وعمل أبناء البلد مساعدين أو يف مهام ثانوية .بالطبع هناك استثناءات يف البدايات كانت البدايات عىل يد ٍ
مثل محمد كريم وعزيزة أمري .لكن ليس هذا كل يشء ،فمنطق التطور ليس البدء من حيث بدأ اآلخرون ،ولكن من حيث انتهوا».
ولفت إىل أنه من املهم أن يتواكب مع فتح دور عرض سينمائية افتتاح معاهد وكليات متخصصة« ،بل تأسيس بنية تحتية ليتم
تصوير عدد من األفالم العاملية عندنا .هذا ليس حلمًا أجوف ،ولكن التنوع الجغرايف الباذخ يف ربوع اململكة يجعل منها مواقع تصوير عبقرية .جغرافيتنا من الساحل إىل السهل ،فقمم الجبال ،فالصحراء والواحات .هناك أماكن تصلح أن تكون مواقع لتصوير أفالم
أسس لصناعة سينمائية ودعمها خيالية عن غزو الفضاء ،والعيش يف الكواكب األخرى .لكن هنا مالحظة نضعها يف الحسبان :وضع ٍ من ناحية ،وإفتتاح دور عرض من ناحية أخرى ال يعني أن األفالم السعودية ستسود ،فكل الدول التي سبقتنا سواء بزمن كبري مثل
شمال إفريقيا وسوريا ،وبزمن متوسط مثل الكويت ،أو زمن قريب مثل البحرين ودول الخليج األخرى؛ كل هذه الدول ما زالت السيادة لألفالم األمريكية واألوربية».
وقال :إن السينما وسيلة تعبري فني «شأنها شأن املسرح والشعر والتشكيل والرواية! لها لغتها وخطاباتها السردية الخاصة
وكذلك أدواتها! وميزتها أنها ال تشرتط معرفة القراءة والكتابة ،يف غري األفالم املرتجمة؛ بل هي تخاطب املتفرج بالرؤية والسمع: عني وأذن! وكما نجد يف األدب واملسرح والتشكيل مدارس مختلفة من الواقعية والرمزية والسوريالية! نجد هذا يف السينما .ومع
إيماين بحق كل زهرة أن تتفتح ،بل من واجبنا توفري املناخ لها واالحتفاء بها؛ إال أين أنظر إىل أن عىل السينما -يف العالم النامي – دورًا اجتماعيًّا .أقصد أن حصيلة األفالم سهلة الهضم -مع توافر الشروط الفنية الراقية -والتي تنطلق من قضايا املجتمع يجب أن تكون األكرب .من ينظر إىل السينما عىل أنها مجرد ترف يف تقديري قاصر الرؤية ،ويجب أن ينسحب رأيه ً إذا عىل كل الفنون».
167
سينما
168
فلم جزيرة الدكتور مورو كائنات شبه بشرية تتمرد على مبتكرها العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
منصور الصويم
روائي وكاتب سوداني
قبل الثورة العلمية الجينية في األزمنة الحديثةّ ، خصب الروائي اإلنجليزي آتش جي ويلز، سرد ًّيا ،كائنات مهجنة وراثيًّا في حالة وسطية ما بين اإلنسان والحيوان ،كان ذلك في عام 1896م، وقد تحولت أحداث رواية ويلز إلى وقائع درامية في فلم سينمائي أنتج عام 1996م ،أي بعد قرن كامل من كتابة الرواية. كثيرًا ما تقترف السينما من سرديات الخيال العلمي ،المبنية أحداثها على فرضية كشف علمي يتوقع منه إحداث تغيير جذري في مسيرة البشرية ،كما تستند السينما في أحيان كثيرة على االختراقات العلمية الحقيقية التي يحققها العلماء والمكتشفون بين الحين واآلخر سواء في الفيزياء والفضاء أو فيما يتعلق بالبحوث الطبية «األحياء كيمائية» ال سيما ما يتعلق بثورة «الجينوم» التي غيرت كثيرًا في المفاهيم والنظريات الطبية .وقد تسبق المخيلة السينما إلى االكتشاف العلمي ،وتتجاوز سرديات وروايات الخيال العلمي ،بما تنتجه من أفالم تتخطى حدود ً بعيدا في عمق اإلمكان البشري. الخيال ،وتضرب وكثرية هي األفالم التي أبدع مخرجوها وكتابها يف
يسعى من وراء تجاربه العلمية الغريبة وغري املفهومة
وتحلق منطلقة مع الفن ،وإن ارتبطت جذريًّا بحقائق علمية
نيتشه عن اإلنسان األعىل -اعتمادًا عىل تجاربه التي يجريها
اجرتاح أزمنة درامية «علم خيالية» تتحدى املنطق والثوابت،
قيد البحث أو يف طي الكتمان الكشفي ،أذكر منها أفالم
«الجزيرة ،أكس مِ ن ،أفاتار ،املريخي ،إي يت ،ماتريكس..
إلخ» ،والفلم الذي نتناول أحداثه هنا. إنسان متوحد
ملجايليه ،إىل إيجاد نموذج بشري مثايل –ربما تأث ًرا بمفهوم
عىل مجموعة من الحيوانات املفرتسة التي وجدها يف هذه الجزيرة املعزولة ،تحيا حياتها الطبيعية قبل أن يخربها
ويدمرها ،ويحدث ذلك حني ينجح يف «كسر الرتاكيب الوراثية» لها ويتوصل إىل صبغة جينية /وراثية تحولها من
حيوانات غابية متوحشة إىل كائنات قابلة للتشكل البشري،
جزيرة غابية معزولة وغري مكتشفة ذلك هو مسرح
واالنتقال الكامل من خانة الدونية الحيوانية إىل حيز االرتقاء
بدايئ ،يسكنه إنسان متوحد هو الدكتور مورو (مارلون
تخصيب وتهجني «لبؤة» بمولود بشري تمامً ا وهي ابنته
أحداث فلم «جزيرة الدكتور مورو» ،مكان استوايئ فطري
براندو) ،ويشاركه يف هذه العزلة مساعده مونتغمري (فال كيلمر) .الدكتور مورو ،عالم وطبيب طريد ومنفي ،ومهووس
بتجارب املزج والتشطري الورايث والتخليق الجيني ،وما يقرتب من عملية االستنساخ البيولوجي التي عرفها العالم بعد زمنه
بوقت طويل.
نتعرف في فلم جزيرة الدكتور مورو قدرات إخراجية متفردة للمخرج (جون فرانكينهايمر) ،تحقق درجة عالية من استهامية سينما الخيال العلمي
اإلنساين ،كما يعتقد ويصرح بذلك ،وقد نجح فعليًّا يف
الجميلة إيسا (فايروزا بالك). مسوخ مورو
غرائبية شخصية الدكتور مورو وطرائقه الصارمة يف
التعامل مع هذه الكائنات نصف البشرية ،ومحاوالته
الدؤوبة لتهجينها حتى عىل املستويني النفيس والعقيل؛ ً وفقا ملا يتصوره من مثالية بشرية ،تجعله يبدو ليك تتخلق
أمام هذه الكائنات املسخية أقرب إىل اإلله ،فتدين له بوالء غريب ملتزمة بقوانينه الخاصة التي س َّنها للسيطرة عليها
«أكل اللحوم ممنوع ،امليش عىل أربع ممنوع ،قتل اآلخرين ممنوع» وكل ما ينأى بها عن حياة القطيع والحيوانية
169
سينما
السابقة .تتصاعد األحداث الدرامية يف الفلم حني يصل
األداء الدرامي ،واملكياج التحوييل ،واملوسيقا ،واملكان ،وبناء
بعد غرق السفينة التي كان يستقلها يف املحيط ،فوجوده
اآلثار التي يمكن أن ترتتب عىل البحوث والتجارب العلمية
إدوارد بريدنيك (ديفيد ثيوليس) إىل جزيرة الدكتور مورو يف املكان يضخ طاقة جديدة بني الكائنات شبه البشرية،
املتعلقة بـ«بيولوجيا املوروثات والتحول الجيني» ،والعبث
ويدفعها إىل التمرد عىل محوِّلها ومهجنها –الدكتور مورو– فيلجأ األخري إىل محاولة عكس تجاربه الجينية بحيث ُتطبَّق
مهووسني أو غري أخالقيني عىل شاكلة الدكتور مورو ،كما
«التبادلية الداروينية» مع كائنات الجزيرة الهجينة ،بيد أن
يف أفالم الخيال العلمي ،والتوق إىل الحرية والتمرد عىل
عىل إدوارد ،وبالتايل تحويله من إنسان إىل حيوان فيما يشبه
االبنة الجميلة (هجني الجينات) تتحالف مع الوافد إدوارد ضد والدها الجيني وتشارك يف الثورة عليه ،حتى تتمكن
من مساعدته عىل الهرب من الجزيرة ،والتخلص من آثار عملية التهجني التخليقي التي ج ّربها عىل جسده والدها
الدكتور ،يف حني تقود ثورة الكائنات إىل قتل الدكتور مورو ومساعده ،وتدمري معمله وحرقه قبل أن تنطلق متحررة يف
حسها القطيعي ،يف إشارة فضاء الجزيرة الغابي مستعيدة ّ إىل عودتها إىل أصلها الحيواين! أبعاد الفلم
170
الشخوص ،والتصوير ...إلخ .البعد الثاين للفلم هو مناقشة
الذي يمكن أن ينتج عن هذا يف حال تحققه عىل أيدي علماء
يتناول الفلم يف بعد ثالث قيمة الثورة ،وهي ثيمة مركزية الدكتاتور /األب ،وكسر القوانني /النظام ،واختيار الحياة التي تالئم الطبيعة «البشرية – الحيوانية – ومخلوقات مورو
الهجني يف الفلم».
الفلم نجح إىل حد بعيد يف تقديم األبعاد الثالثة ،ونصل
إىل هذه النتيجة حني نمزج هذه األبعاد لنخرج ببعد واحد، نستخلص من خالله ذلك اإلحساس بالخوف والرعب يف حال نجحت مثل هذه التجارب العبثية عىل أرض الواقع،
كما نجح الفلم يف ج ّرنا إىل التعاطف مع الكائنات املهجنة
واملش َّوهة ،واملراهنة عىل ثورتها عىل الدكتور مورو ،وأحقيتها
يف اختيار الحياة التي تناسبها بالتمرد عىل قوانني «الدكتاتور-
فلم جزيرة الدكتور مورو يتشكل من أكرث من بعد
السلطة الظاملة» ،وهو انحياز من جانبنا يرمز إىل ميلنا إىل قيم ً إطالقا ،ورفض كل محاولة للسيطرة وتفريغ اإلنسان الثورة
عالية من استهامية سينما الخيال العلمي ،كما أن إدارته
صناعي ،كما تقدمه أفالم أخرى سنتناولها يف قراءات قادمة.
تحلييل ،فالبعد الجمايل والفني نتعرف من خالله قدرات
إخراجية متفردة للمخرج (جون فرانكينهايمر) ،تحقق درجة الحرفية العالية لفريق العمل يف كل جوانبه تجعل مشاهد
الفلم تتماهى مع أحداثه املتحوّلة واملتسارعة لحظة بلحظة
من دون حدوث أي فراغات تتابعية أو شروخ فنية؛ من حيث
من إنسانيته ،وتحويله إىل مجرد كائن بيولوجي أو إلكرتوين –
«جزيرة الدكتور مورو» أنتج كفلم أكرث من مرة؛ أولها كان يف عام 1977م ،وهذا يدل عىل القيمة السردية والدرامية للرواية التي يستند عليها.
مشهد من فلم الدكتور مورو العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
معارض
171
«عين بودلير».. وجوها أخرى للشاعر معرض يكشف ً الشر» غير التي اختزلها «أزهار ّ
معارض
أوراس زيباوي
باريس
ارتبط اسم الشاعر الفرنسي شارل بودلير بمدينة باريس ،وكان أحد نجومها األساسيين في القرن التاسع عشر ،بل هو أحد الذين أطلقوا الحداثة في سمائها ،ومنها إلى أماكن ّ عدة في ً معروفا بصفته شاعرًا ،فهو ً أيضا مارس النقد الفني وجعل العالم .وإذا كان كاتب «أزهار الشرّ» منه ً نوعا أدبيًّا قائمً ا بذاته ،وعبّر عن رؤية فنية عميقة جعلت منه أحد الذين أرسوا األسس األولى للنقد الفني في فرنسا .وهذا ما يكشف عنه المعرض المقام حاليًّا في باريس وعنوانه: «عين بودلير» .ولقد امتألت شوارع المدينة بملصقات تحمل صورته ونظرته الجانبية النافذة ً ملغية الفاصل الزمني الذي يفصلنا عنها . «عني بودلري» ليس أول معرض يخصصه متحف فرنيس ً معرضا للشاعر .ففي عام 1968م أقام «متحف القصر الصغري»
باختصار ،يتيح املعرض لزواره االطالع عىل األعمال الفنية
وقد كشف وفرة الكتابات التي تناولت الشاعر ونتاجه الشعري
بانوراما عن أحوال الثقافة يف زمن تأسست فيه مفاهيم جديدة
بعنوان« :شارل بودلري» بمناسبة مرور مئة عام عىل وفاته،
والنقدي عىل السواء ،وتحمل تواقيع باحثني رصدوا أعمال بودلري وآراءه يف األدب والفنّ ،ودوره البارز عىل الساحة
172
األدبية والفنية يف عصره .كذلك أقامت بلدية باريس يف مرحلة
التسعينيات من القرن املايض ومطلع هذا القرن مجموعة من
النشاطات التي تربز وجه الشاعر الناقد ،ومنها معرض بعنوان: « بودلري ،باريس بال نهاية» الذي تناول عالقة بودلري الفريدة
بمدينته باريس حيث ولد عام 1821م وتويف عام 1867م.
يعرف بالحداثة ومنهم إدوارد مانيه.
التي تأملها وكتب عنها الشاعر ،ويذهب أبعد من ذلك فيقدم عن الجمال واإلبداع قلبت رأسً ا عىل عقب املفاهيم الكالسيكية
املتوارثة منذ عصر النهضة اإليطالية يف القرن السادس عشر التي
التزم بها الفنانون بصورة عامة طوال قرون. روح دوالكروا
لقد توقف بودلري عند الفنانني الفرنسيني املجددين
والتقليديني املعاصرين له ،فكتب عنهم وعبرّ عن إعجابه
يأيت املعرض الحايل يف «متحف الحياة الرومانسية» ليتوّج
ببعضهم ،وعدم رضاه عن بعضهم اآلخر .وكان ألوجني
مئة وخمسني عامً ا عىل وفاة الشاعر ،وقد أشرف عىل تنظيمه
كما هو معروف ،من أبرز ممثيل التيار الرومانيس واالستشراقي
سلسلة من املعارض والنشاطات ،وهو يقام بمناسبة مرور وكتابة الكاتالوغ املخصص له مجموعة من املتخصصني الكبار يف
نتاج بودلري وأدب القرن التاسع عشر وفنونه.
دوالكروا 1863-1798م مكانة خاصة يف قلبه ونتاجه .هذا األخري،
يف الفن ،وهذا ما ينعكس يف لوحاته الشهرية يف متحف «اللوفر» ومنها «الحرية التي تقود الشعب» التي رسمها عام
يضم املعرض نحو مئة لوحة ومنحوتة ورسم محفور
1830م ،ولوحة «نساء الجزائر» التي رسمها عام 1834م .أعجب
األوىل له يف عالم النشر ويف املشهد الثقايف البارييس كانت يف
عىل أعماله ،وتحدّث عن تفجّ ر األلوان عنده كما يف لوحة «صيد
شاهدها بودلري يف بداياته وكتب عنها ،ويبينّ كيف أن اإلطاللة مرحلة األربعينيات يف القرن التاسع عشر .يف تلك السنوات، كتب مجموعة من املقاالت والنصوص النقدية عن املعارض
الفنية السنوية الكربى التي كانت تقيمها «أكاديمية الفنون الجميلة» يف باريس وتعرف بالصالونات ،وأولها صالون عام 1845م ،وكان الشاعر آنئذ يف الرابعة والعشرين من عمره .وال
بد من اإلشارة إىل أن املرحلة التي امتدت من عام 1845حتى عام 1863م التي عايشها بودلري عن كثب وكتب فيها كناقد شهدت تحوالت كبرية يف املشهد الفني الفرنيس ،ومنها أفول الحركة
الرومانسية وصعود الواقعية وظهور الفنانني الذين مهدوا ملا العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
بودلري بروح دوالكروا وأجواء الدراما والحلم والوله املهيمنة األسود» املنجزة عام 1854م ،حتى إن هذه األلوان تسربت إىل
قصائده فلم تعد األلوان محصورة يف اللوحات بل حاضرة يف القصائد ً أيضا .ألم يقل« :قط لم تدخل يف النفس ،عرب قنوات العيون ،ألوان بهذا الجمال وبهذه الكثافة»؟
أراد بودلري أن يكون دوالكروا شقيقه الروحي ،كما أراد أن
يحتل يف املشهد األدبي املكانة التي احتلها دوالكروا يف املشهد
الفني .فهذا الفنان ،بحسب تعبريه ،هو «زعيم املدرسة الحديثة يف الرسم ،وهو الفنان األكرث خصوصية يف األزمنة القديمة واألزمنة املعاصرة».
الشر» وجوها أخرى للشاعر غير التي اختزلها «أزهار «عين بودلير» ..معرض يكشف ً ّ
من الجوانب التي يكشفها املعرض
ً أيضا اهتمام بودلري بفناين الكاريكاتري الذين عكسوا برسومهم الساخرة
الهموم املعاصرة وأزمات مجتمعاتهم، وكانوا لسان حال املظلومني والبؤساء يف صراعهم ضد الطغاة والفاسدين.
منذ عام 1845م ،بدأ بودلري بكتابة نص عن فن الكاريكاتري وقد صدر يف
ثان كتاب عام 1855م ،ثم تبعه كتاب ٍ عام 1857م ،وهو العام الذي صدر
فيه ديوانه «أزهار الشر» .كتابان عن فناين الكاريكاتري يف فرنسا ويف إسبانيا،
ومنهم الفنان اإلسباين غويا والفرنيس
أونوريه دومييه .ونشاهد لهذا األخري يف املعرض لوحة أنجزت عام 1850م، وتمثل مجموعة من القضاة واملحامني
بالقرب من قصر العدل وهم عىل شكل شخصيات سوداء
بشعة تضع أقنعة عىل وجوهها .يف هذا اإلطار ،يحيّي بودلري
الفنان دومييه الذي سخر برسومه من الشخصيات السياسية التي تخدع الشعب املسكني وتستغله.
شارل بودلير بريشة الفنان غوربات غوستاف
الكريهة واحتضانها الثورات الشعبية .استبدلت بالشوارع الضيقة والصغرية جادّات واسعة ومضاءة ونظيفة ،وشيّدت األبنية الفخمة من الحجر األبيضُ ، وفتحت الحدائق العامة. باإلضافة إىل ذلك ،جُ هّزت باريس بنظام صرف صحي ،و ُزرعت فيها األشجار عىل طول الشوارع والجادّات.
راض بودلري غري ٍ عاش بودلري يف مدينته باريس الجزء األكرب من حياته
وسياسية ومدنية أعادت تشكيل فضائها وتكوين مخيلتها .وقد
املدينة البارون جورج أوجني أوسمان يف زمن اإلمرباطور نابليون
باريس القديمة لم تعد موجودة» .ومن مدينته استوحى الشاعر
راض عن التحوالت الكبرية التي عرفتها القصرية ،وكان غري ٍ املدينة؛ بسبب الثورة الصناعية ،واألشغال التي قام بها محافظ الثالث .لقد هدمت أحياء بكاملها بسبب عدم نظافتها ورائحتها
يتيح المعرض لزواره االطالع على األعمال الفنية التي تأملها وكتب
لقد شهدت املدينة يف ذلك الزمن تطورات اجتماعية
عبرّ بودلري يف كتاباته عن جدلية الهدم والبناء ،فهو عايش تشييد املدينة الحديثة وأفول املدينة القروسطية .كتب قائلاً « :إنّ ديوانه «سأم باريس» ذلك أنّ الحياة الباريسية ،بالنسبة إليه،
غنية باملوضوعات الشعرية الرائعة ،وهو تارة يعرب عن إعجابه بالتطور التقني ومظاهر الحداثة ،وتارة أخرى يعبرّ عن كرهه
لها .أي أن موقفه عكس تناقضاته الشخصية العميقة الحاضرة ّ وتمثل تناقضات النفس يف شعره التي تتكامل فيما بينها،
عنها الشاعر ،ويذهب أبعد من ذلك
البشرية ذاتها.
في زمن تأسست فيه مفاهيم جديدة
أنه يكشف عن وجوه أخرى للشاعر غري التي اختزلته يف ديوانه
فيقدم بانوراما عن أحوال الثقافة رأسا على عن الجمال واإلبداع قلبت ً عقب المفاهيم الكالسيكية المتوارثة منذ عصر النهضة اإليطالية في القرن السادس عشر التي التزم بها الفنانون بصورة عامة طوال قرون
أهمية معرض بودلري يف العاصمة الفرنسية اليوم ً أيضا
الشهري «أزهار الش ّر» ،ال سيّما أنه مبدع لنتاج أوسع مفتوح عىل
الحداثة التي مهّدت لها مجموعته الشعرية «سأم باريس» التي ً وخصوصا مواقفه النقدية التي تقدّ م صورة ُطبعت بعد رحيله،
رائدة لنتاجات عصره األدبية والفنية واملوسيقية ،هو الذي كان ّ ً ممثيل مسكونا بِـ«فرح االحتفاء بالحدث الجديد» ،وهو أحد
مرحلة تاريخية آفلة لكنها تبقى ،حتى يومنا هذا ،التعبري األنقى للحداثة.
173
معارض
معرض يستعيد تراث الرواد 1965-1938م
السورياليون المصريون: حين يكون الفن حرية
174
«الدمى والطائر والناري» ألحمد مصطفى العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
القاهرة
لم تكن السوريالية مجرد مدرسة فنية ظهرت في النصف األول من القرن العشرين ،لكنها كانت حركة احتجاج فكري وفلسفي وفني وأدبي على ما انتاب العالم من ركود وتصورات ثابتة أدت به إلى الحرب العالمية األولى ،وأخذته إلى الحرب العالمية الثانية ،ومن ثم كان بيان مؤسس السوريالية أندريه بريتون مبنيًّا على تصورات عالم النفس سيغموند فرويد الذي اهتم برمزية األحالم، والبحث في مكنونات العقل الباطن ،وتصوراته عن الجسد ،وكيفية انطالق رغباته المكبوتة في منطقة بين الوعي والالوعي ،فضلاً عن االنحياز الواضح للطموح الشيوعي ،ورغبته في بناء عالم بديل للهيمنة الرأسمالية وسدها ألفق األحالم ،ومن ثم كان لفرويد وتروتسكي حضورهما القوي في مخيلة بريتون وهو يضع في باريس بيانه األول عام 1927م ،ليصبح البيان التأسيسي لحركة الرفض العظمى المسماة بالسوريالية. عىل الجانب اآلخر من البحر املتوسط كان جورج صادق
كان من أعضائها كامل التلمساين ،ورمسيس يونان ،وأنغلو
يفكر مع والدته اإليطالية يف الذهاب إىل فرنسا إلكمال تعليمه
1938م أصدر ديوان «ال معقولية الوجود» ،ويف العام نفسه
حنني ،ابن الدبلومايس املصري صادق حنني ،املولود عام 1914م
هناك ،فحصل عىل الشهادة املؤهلة للجامعة من باريس، والتحق بالسوربون حاصلاً عىل ثالث شهادات يف القانون واآلداب
دي ريز ،وإدمون جابس ،وإيميل سيمون وغريهم ،ويف عام
وصف أدولف هتلر الفن الحديث بأنه فن منحط ،فأصدر حنني
بيانه «يف مديح الفن املنحط» ،والذي وقع عليه شعراء وكتاب
والتاريخ ،ومتابعً ا ملختلف األفكار التي تجتاح أوربا يف ذلك الوقت، بدءً ا من الشيوعية ،وصولاً إىل الدادية التي لم تستمر طويلاً ،
وإدوارد بوالك ،وإدوارد ليفي ،وإرمان أنتيس ،وألبري إسرائيل،
جماعة «محاولني» ناش ًرا مقاله األول تحت عنوان «العالم بال
سيمون ،وأنغلو بولو ،وأنغلو دريز ،وأنور كامل ،وأنيت فديدا،
لكن من رحمها جاءت السوريالية ،ففي عام 1933م انضم إىل
روح» يف مجلتهم «آن إيفور» ،ويف عام 1935م أصدر بيانه «من الالواقعية» ،ويف هذا العام تعرف إىل رواد الحركة السوريالية، وأرسل خطابه األول ألندريه بريتون ،ويف عام 1936م نشر يف
مصر بمجلة «لو رينت» مقالته «السوريالية يف امليزان» ،وهي أول تأسيس معريف للسوريالية لدى املثقفني املصريني واألجانب
املقيمني بها .ويف عام 1937م كون جماعة «الفن والحرية» التي
وفنانون وصحفيون من بينهم :إبراهيم واسييل ،وأحمد فهمي، وألبري قصريي ،والتلمساين ،وألكسندرا ميتشكويفسكا ،وإيميل
وبوليتس ،وكانتي ،وجرمني إسرائيل ،وجورج حنني ،وحسن صبحي ،ورافو ،وزكريا العزوين عضو نقابة املحامني ،وسامي
رياض ،وسامي هانوكا ،وإسكاليت عبدالخالق العزوين ،وفاطمة
نعمت راشد ،وسيف الدين ،ومحمد نور ،ونداف سيلري، وهاسيا ،وهرني دوماين.
التجيل األعىل للتواصل مع العالم
تعرف جورج حنين إلى رواد الحركة
تأسست السوريالية يف مصر ،بوصفها التجيل األعىل للتواصل مع العالم فنيًّا وفكريًّا ،فضلاً عن الرغبة يف الثورة،
ألندريه بريتون ،وفي عام 1936م نشر
املتوحشة ،واإلقطاع املستوطن ربوع الريف ،ولكن الثورة عىل كل
السوريالية ،وأرسل خطابه األول في مصر بمجلة «لو رينت» مقالته «السوريالية في الميزان» ،وهي
ليس فقط عىل االحتالل ،والقوى العظمى ،والرأسمالية ما هو ثابت ومعتاد ومستقر .وعىل رغم أن جماعة الفن والحرية لم تعمر طويلاً ،فإنها تركت أثرها يف خيال كثري من املبدعني املصريني وفكرهم ،فعىل غرارها جاءت العديد من الجماعات،
أول تأسيس معرفي عن السوريالية
كان من أبرزها يف الخمسينيات والستينيات جماعة الفن املعاصر.
المقيمين بها
فقد انتهت يف أعقاب الحرب العاملية الثانية ،إال أنها بمغازلتها
لدى المثقفين المصريين واألجانب
وبالرغم من أن السوريالية كمدرسة فنية لم تعمر مدة طويلة،
األجواء النفسية الباطنية ،وما يمثله الحلم من قيمة نفسية،
175
معارض
فقد ظلت ممتدة من ثالثينيات
القرن حتى الستينيات ،كما ظلت
آثارها يف العديد من الفنانني املصريني كأحمد مصطفى ،وذلك
يف مقتنياته القليلة يف السبعينيات،
قبل أن يغادر مصر ويتحول إىل أبرع فناين الخط يف العالم.
يف محاولة الستعادة تراث
السورياليني املصريني ،وعرضه لرواد الفن ومحبيه يف كثري من البلدان العربية ،جاءت فكرة معرض «حني يصبح الفن حرية :السورياليون
املصريون 1938ـ 1965م» الذي افتتحت
الحلقة األوىل منه يف قصر الفنون
بدار األوبرا املصرية بحي الزمالك ،يف املدة من 28سبتمرب حتى 28أكتوبر 2016م ،واملقرر له أن ينتقل إىل عدد من العواصم واملدن
قبل أن يختتم جولته يف املباين الفنية ملؤسسة الشارقة للفنون
176
«الحلم» لفؤاد كامل
متحف الفن املصري الحديث ،ومتحف إنجي أفالطون، ومتحف اإلسكندرية للفنون الجميلة ،ومتحف اإلسكندرية
عام 2018م. لاً ضم املعرض أكرث من مئة وخمسني عم لكل من:
للفن الحديث ،ومتحف محمود سعيد ،ومؤسسة بارجيل للفنون بإمارة الشارقة ،فضلاً عن مقتنيات خمس أسر مصرية.
وكامل التلمساين ،وفؤاد كامل ،وإنجي أفالطون ،ومحمود
والشيخة حور القاسمي رئيسة مؤسسة الشارقة للفنون،
رمسيس يونان ،وراتب صديق ،وسمري رافع ،وحسني فوزي، سعيد ،وكمال يوسف ،وإيمي نمر ،وحامد ندا ،ومنري
كنعان ،وأحمد مريس ،وعبدالهادي الوشاحي ،وعبدالهادي
وقد افتتح املعرض كل من وزير الثقافة املصري حلمي النمنم، وكان من املفرتض أن تصدر مع املعرض عدة أعمال توثيقية
الجزار ،وإبراهيم مسعودة ،وأحمد مصطفى ،وصالح طاهر، وإسماعيل محمد ،وعطية حسني ،ومحمد رياض سعيد،
ومحمد القباين ،وسالم عبدالله الحبيش ،وباروخ ،وكارلو ديس ديرو ،وأريستد بابا جورج.
وجاء هذا املعرض كثمرة تعاون بني وزارة الثقافة املصرية
ومؤسسة الشارقة للفنون والجامعة األمريكية يف مصر ،وذلك بعدما عقدت الجامعة األمريكية عام 2015م مؤتم ًرا دوليًّا عن
السورياليني املصريني بعنوان «السورياليون املصريون من
منظور عاملي» ،ومن ثم طرحت مؤسسة الشارقة فكرة إقامة معرض متجول للسورياليني املصريني ووافقت عليه وزارة الثقافة ،ومن ثم اختريت اللوحات املعروضة من بني مقتنيات
على رغم أن جماعة الفن والحرية لم تعمر طويال ،فإنها تركت أثرها في خيال كثير من المبدعين المصريين وفكرهم «الرجل والقط» للجزار
العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
السورياليون المصريون :حين يكون الفن حرية
كصور وملصقات وكتالوجات ملعارض ومقتطفات من صحف ومجالت وبيانات موثقة ،فضلاً عن طبعة جديدة ومرتجمة
منظمي املعرض يضربون بعنوانه «السورياليون املصريون من 1938م حتى 1965م» عرض الحائط ،عارضني أعمالاً لفنانني يف
لكن ذلك لم يحدث.
مع السوريالية ،لكنهم ليسوا سورياليني ،كمنري كنعان،
إىل اإلنجليزية من كتاب سمري غريب «السوريالية يف مصر»،
انتقادات
أزمنة الحقة ،فضلاً عن عرضهم أعمالاً لفنانني تالقت أفكارهم وعبدالهادي الوشاحي ،وغريهما.
يف الجانب اآلخر ذهب أستاذ الفن يف جامعة غولدوين
لم يكن عدم صدور املطبوعات املصاحبة للمعرض هو
سميث الدكتور صالح حسن الذي حضر وشارك يف التنظيم
الناقدة التشكيلية فاطمة عيل عن دور النقاد والفنانني املصريني
االهتمام بالسوريالية املصرية وتراثها ،وأن املعرض «يمكننا من
االنتقاد الوحيد الذي وجه للقائمني عىل التنظيم ،فقد تساءلت يف التنظيم الذي استأثرت به مؤسسة الشارقة ،رافضة فكرة أن تتيح مصر كنوزها الفنية يك تتجول يف الخارج ،كما رفضت
تربير رئيس قطاع الفنون التشكيلية الدكتور خالد سرور بعرض
كل هذا العدد من اللوحات واألعمال الفنية عالية القيمة خارج مصر يف معرض متجول بأن ذلك أفضل من تركها يف املتاحف رئيسا للقطاع «يف ترك متاحفنا املغلقة ،متسائلة عن وظيفته ً
مغلقة ،وهل يجوز أن يكون البديل هو الدخول يف شراكة غري عادلة مع مؤسسة الشارقة التي قامت باالختيار والتنظيم واإلعداد للعرض ،حتى إننا ال نعرف األماكن أو القاعات التي سيعرض بها ،وال ما إذا كانت مجهزة ومؤمنة لعرض
مثل هذه الكنوز أم ال؟» .وتساءلت عن األسباب التي جعلت
واالفتتاح إىل أن هذا املعرض يجيء بالتزامن مع تصاعد
التأكيد عىل مفهوم الحداثة والطرق املختلفة للتعبري عنها، وعىل صيغ التعدد والتجاور بدلاً من نفي الحداثة التي أنتجت خارج املركزية األوربية» .ويذهب حسن إىل أن السوريالية املصرية بدأت بجماعة الفن والحرية ،ومن بني أعضائها كامل
التلمساين ،وفؤاد كامل ،وإبراهيم واسييل ،وسامي رياض
وغريهم ،هذه التجربة قصرية األمد التي تركت أثرها الواضح يف كثري من الفنانني املصريني حتى ظهرت جماعات أخرى،
مثل جماعة الفن املعاصر يف الخمسينيات والستينيات ،ومن
بني أعضائها عبدالهادي الجزار ،وكمال يوسف ،وحامد ندا، وماهر رائف ،ومنري كنعان ،وسالم الحبيش ،وسمري رافع،
وإبراهيم مسعودة ،وحسني يوسف أمني.
«مشهد طوطمي» لرمسيس يونان
177
مسرح
االتجاه الوثائقي في المسارح األوربية فضاء لعالقة جديدة بين السياسي والفني نورا أمين
كاتبة وفنانة مصرية
عندما قدم المخرج المسرحي السويسري ميلو راو عمله األشهر «محاكمات موسكو» في عام 2013م ،كان يفتتح بذلك موجة جديدة من الشهية األوربية للمسرح التوثيقي .فعلى الرغم من امتداد نزعة المسرح التوثيقي بمختلف أساليبه في أوربا منذ قرابة منتصف القرن العشرين حتى اآلن ،فإن تلك الشهية الجديدة قد وضعت هذا التيار في قلب االهتمام المسرحي ،وربطته بدينامية جديدة في العالقة بين ما هو سياسي وما هو فني.
178
العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
«محاكمات موسكو» هي تجربة فريدة يف مسرحة حدث كان
قد وقع بالفعل يف موسكو ،وإعادة تجسيده مسرحيًّا ،مع االحتفاظ بمساحات كبرية من حرية الحدث الفوري ،ومن استجابات املشاركني
وتفاعالتهم .أما الحدث األصيل الذي كان قد وقع بالفعل فقد كان يف عام 2003م ،عندما تعرض املعرض الفني Caution! Religion
إىل املنع ،حوكم فنانوه ،وما لبث أن حل عام 2006م ،حتى تعرض معرض فني آخر بعنوان Forbidden Artإىل مصري مماثل لسابقه،
ويف الحالتني صادرت الدولة محتويات املعرض ،أو ُدمِّرت ،ثم أخيل
سبيل الفنانني بكفالة بعدها .أما الحدث األقرب زمنيًّا فهو الدقيقة التي قضتها ثالث فتيات من النشء يف الغناء وعزف املوسيقا داخل كاتدرائية املسيح املخلص بموسكو ،وهو ما أدى إىل القبض عليهن ومحاكمتهن وترحيل اثنتني منهن إىل معسكر تأديبي ،وأُخيل سبيل واحدة فقط ،وذلك يف عام 2012م.
تنتفض أجساد الراقصين لتقبض على األلم والعذاب والتعذيب ،فنرى أمامنا شهادة األجساد التي تصدم وعينا بقسوة نادرة ،فتقدم جوهر تلك الوثيقة ،أي العذاب والفجيعة والهول ،وهو الجوهر الذي ال يمكن أن تنقله اللغة الكالمية فحسب ،وال تكتمل الوثيقة بدونه الحقيقية ،فهم ليسوا ممثلني ،بل هم فعلاً من أصحاب تلك املهن
القانونية والقضائية يف الواقع .كذلك اختريت هيئة املحلفني بدقة
وأما تجربة املسرحة فهي مغامرة ميلو راو التي خاضها عىل مدار
بالغة ،وبتنوع ال يقل عما يجري يف املحاكمات الحقيقية .كان هناك شهود اس ُتدعوا للشهادة ،وكان هناك فنانون وشخصيات عامة من
ومحام قاض االفرتاضية كل أعضاء الهيئة الطبيعية للمحكمة من ٍ ٍ ومدعي الحق العام وهيئة املحلفني ،وكانوا كلهم يؤدون أدوارهم
املبادئ العامة للحدث املسرحي عىل مدار ثالثة األيام ،فكان ذلك هو
ثالثة أيام متتالية يف متحف ساخاروف بموسكو يف عام 2013م بعقد
محاكمة افرتاضية ملصري تلك األعمال الفنية ،وضمت تلك املحاكمة
اليمني ومن اليسار .قام ميلو راو بتجميع تلك الشخصيات وبوضع بمنزلة إخراجه للحدث ،أو وضعه لدراماتورجيته. حالة وثائقية بامتياز
لقد قدم ميلو راو أسلوبًا جديدًا للمسرح التوثيقي يتعدى
املفهوم التقليدي للوثيقة املسرحية ،أو إلعادة تجسيد الحدث ومسرحته ،أو عرض لقطات أرشيفية وشهادات من الحدث نفسه،
فقد أسس لحالة وثائقية بامتياز بمجرد اختياره مشاركة أشخاص
بصفتهم املهنية الحقيقية ،أو بهوياتهم األصلية ،فهذا املبدأ يف حد ذاته هو بوابة خاصة جدًّا لطابع وثائقي جديد .وإىل جانب هذا املبدأ
األساس نجد االختيار الثاين الشائك أكرث ،أال وهو ترك الحرية لهؤالء يك يقولوا ما يريدونه ،ويتفاعلوا معً ا دون سيناريو سابق ،ولهذا االختيار مرتتبات يف غاية الرثاء تقوم يف معظمها عىل فكرة األصالة
يف الفعل وفورية الحدث. ً ومع ذلك كله كان الجميع يسري وفقا ملبادئ وضعها ً أيضا ميلو راو ،سواء من ناحية ترتيب املداخالت ،أو مدة كل مداخلة ،أو البنية
العامة للحدث التي تحايك البنية الحقيقية للمحاكمة .وقد قدم ميلو راو أعمالاً تالية يف هذا األسلوب نفسه ،وبما يثبت أنه قد أصبح صاحب أسلوب خاص يف املسرح التوثيقي األوربي ،إنه األسلوب
الذي يعيد املسرح إىل وضعه كفضاء مواجهة وتفاوض وتفويض، من داخل البنية الدرامية الطبيعية للمحاكمة ،أما فورية الحدث
وراهنيته وتفاعليته فتضفي عىل ذلك الفضاء طابع الوثيقة الحية املتولدة من جميع املشاركني ،التي يؤدي فيها املخرج دور القابلة.
عىل الجانب اآلخر من أسلوب ميلو راو يف املسرح التوثيقي،
مشهد من مسرحية كي ال ننسى
ظهرت مبادرات مؤخ ًرا تقوم عىل دمج الثقافات ومقارباتها املختلفة
179
مسرح
مشهد من مسرحية محاكمات موسكو
ملا هو توثيقي أو سريي .من تلك املبادرات مشروع املسرح األملاين
والعذاب والتعذيب ،فرنى أمامنا شهادة األجساد التي تصدم وعينا
النيجريي ومصمم الرقص عبدالقدوس أونيكوكو ،لتقديم عرضه عن
والهول ،وهو الجوهر الذي ال يمكن أن تنقله اللغة الكالمية
Ballhaus Naunystrasseيف برلني عام 2016م للتعاون مع املخرج
اإلبادة الجماعية كجريمة متعددة الوجوه ،وليست خاصة بثقافة
بعينها .والالفت للنظر هنا أن املؤسسات املسرحية األوربية تتمكن
180
من االحتفاء بالتجارب األوربية الطليعية الخالصة ،مثل تجربة
السويسري ميلو راو ،لكنها ال تجعل االحتفاء حك ًرا عىل فنان أو حتى عىل ثقافة ،حيث يتسع أفق اإلنتاج والعرض األوربي لتقدير املبادرات
األخرى ،حتى إن كانت عىل طرف النقيض فنيًّا من التجربة األوربية. يك ال ننىس
بقسوة نادرة ،فتقدم جوهر تلك الوثيقة ،أي العذاب والفجيعة
فحسب ،وال تكتمل الوثيقة بدونه.
املقارنة السريعة بني «محاكمات موسكو» و«يك ال ننىس» تفيد
بعدة ملحوظات حيوية ،أولها هو غياب جانب العاطفة أو التأثري
الشعوري أو الوثاق -الذي عادة ما يحدث بني املتفرج والعرض أو الحدث املسرحي -يف تجربة ميلو راو ،فالتجربة تركيبة ذهنية بالدرجة األوىل ،أما عرض عبدالقدوس فيثمن التأثري العاطفي ،بل
يسعى بأدواته إلحداث ذلك الوثاق الذي يشعر املتفرج من خالله بأن الواقعة األصلية تمر من خالل حواسه ،ويتوحد مع أبطالها ولو
يف هذا السياق يبدو العرض الراقص لعبدالقدوس «يك ال
كانوا مجهولني له .أما امللحوظة الثانية فتكمن يف الهوة الكبرية بني
جسدية ألن عرضه راقص ،ومن ناحية أخرى هي وثيقة مصممة
اإلبادة الجماعية التي تهدد اإلنسانية ،وتتأسس عىل محو لقيمة
ننىس» كوثيقة حية من نوع خاص جدًّا ،فهي من ناحية وثيقة بالكامل ال تدع أي مجال لالرتجال أو التفاعل الحي ،أو تدخل
املتفرجني .إنها إذن وثيقة جسدية راقصة ،يقدمها الراقصون يف حالة مسرحية مكتملة بمصاحبة شهادات حقيقية ُت َسرد من جانب ً أحيانا بالغناء وبالصوتيات .تصاحبنا تلك الشهادات ممثلة تقوم
لضحايا اإلبادات الجماعية كصوت شاهد حي ،شاهد عيان هو ضحية وبطل ،أما أجساد الراقصني فتنتفض لتقبض عىل األلم
تجارب تراوح بين موضوع حرية التعبير
املوضوعني؛ موضوع حرية التعبري ومحاكمته قانونيًّا ،وموضوع اإلنسان ،وعىل هيمنة الوحش البشري. يف ظني أن كلاًّ من املوضوعني يف غاية األهمية لصانعه،
لكن الصانع األوربي يجد همه الفني السيايس يف الدفاع عن حرية
التعبري ،أما الصانع اإلفريقي فيجده يف الدفاع عن الحق يف الحياة. ثم يوضع العمالن يف السوق املسرحي األوربي ،ويخلفان تساؤلاً
جوهريًّا حول التصنيف الذي يناله كل من العملني ،فهل تتبع أوربا التصنيف السيايس فتعد عمل عبدالقدوس صرخة ضد أنظمة القهر
يف العالم؟ أم تصنفه يف خانة كفاح إفريقيا العجوز من أجل مداواة مصائبها التي ال تمت بصلة ألوربا ،وليس للغرب أي يد فيها؟ وهل
ومحاكمته قانون ًّيا ،وموضوع اإلبادة
تصنف عرض ميلو راو بوصفه نقدًا للمجتمع الرويس وحسب ،أم
وتتأسس على هيمنة الوحش البشري
الجديدة بني ما هو سيايس وما هو مسرحي ،وهي الدينامية التي
الجماعية التي تهدد اإلنسانية
العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
بوصفه نقدًا لليمني األوربي الصاعد؟ تلك تساؤالت تؤكد الدينامية يحتل محورها املسرح الوثائقي اآلن.
نصوص
أنثى أنا إبراهيم العواجي دعني
أسافر في
ت ِ كهوف الصمْ ِ َّ َ الصمت عل
شاعر سعودي
ْ وألف ْ مث َ لك قد يقول لك َّنني وحدي أُ ُ فتش
يمنحُ ني ً للهروب طريقا ْ
عن ضياءٍ
فأنا ْ ت ْ الركضَ ملل ُ ً حافية
ُ عدت ما ُ أَحْ ِفل بالمديح
الدروب ْ
ْ األثيرة إني
َ تقاذ ُفني
موج َ ك ما بين ِ هادرًا
يؤوب ال ْ
فال َت ُق ْل
ْ دعني بربّكَ
ْ أخ ْ تبئ
أحسبُها النحيب تباد ُِلني ْ
ت في غابة الصمْ ِ
والتي ُه
حتى
يسكنُ داخلي
ويكا ُد يسلبني اإلرادةْ كيال أُسائلَ جيب أ ْو أُ ْ أُنثى أنا
ْ تقول؟ أكذا
الرحيم
المشيب يداهمَ ني ْ
181
نصوص
على الرصيف قري ًبا من سور المدينة محمود شقير
كاتب فلسطيني
لقاء
ُ انتظرت ليلى ساعتين.
رأيناهما معً ا ،هو والمرأة .في يده دفتر سميك ،وهي تسير
ً بحثا عن سالح ناريّ أو ف ّتشني الجنود عند باب الخليل ّ ّ الخطاب الذي يعجّ بالسيّاح سكين .دخلت ميدان عمر بن
إلى جواره بخطوات واثقة. ّ متأك ًدا من ذلك قلت :أظنّ ّأنني أعرفهما ،لك ّنني لست
األمكنة ،والقدس تتسربل بغموض ما .انتظرتها في
وقلت :دفتره مثير للفضول.
وبأعداد من المستوطنين .كان المساء ينشر ّ ظله على
المقهى الذي يتر ّدد عليه السيّاح .هنا لن ترانا عيون ُ ّ تشاغلت ،وأنا أنتظرها ،في تأمّ ل حيطان المتلصصين.
المقهى ،حيطان قديمة جرى ترميمها لتقاوم وطأة الزمن. على صدر الحائط صورة لألب الكبير ،صاحب المقهى
األوّل ،والد إميل .وثمّ ة صورة للميدان يعود تاريخها
182
دفتر سميك
إلى عام 1920م ،يظهر فيها عدد من الجنود البريطانيين ّ احتلوا فلسطين .جاءت ليلى واعتذرت ّ ألنها ّ تأخرت الذين في الوصول .قالت :طوّق الجنود اإلسرائيليّون حيّنا، ف ّتشوا البيوت ً بحثا عن شباب مطلوبين .ولم يسمحوا لنا
بالخروج إال بعد انتهاء التفتيش .كان في عينيها ٌ فزع ما. اقترب م ّنا إميل .طلبنا فنجانين من القهوة .خلعت ليلى
اآلن.
قالت ليلى :نعم ،صحيح.
دخال المقهى الذي اعتدنا الجلوس فيه .فتح الدفتر وراح يكتب والمرأة ترمقه بإعجاب.
واصلنا ،أنا وليلى ،حلمنا ،وكان دفتره السميك على مسافة حلم م ّنا أو حلمين .غافلتها ،وانفردت بنفسي ّ أتذكر أين قابلت هذا الرجل وهذه في حلم خاص ،ورحت
المرأة! ولم تسعفني الذاكرة .غضبت من حلمي الذي يجعلني غير قادر على تحديد األسماء وتمييز األشخاص. وكنت معنيًّا بأال تعرف ليلى ما أحلم به .لك ّنها فاجأتني ّ تتذكرهما أخبرني من هما على وجه التحديد. وقالت :حين
أومأت لها باإليجاب ،وكانت السماء تنذر بمطر غزير.
المنديل ،فانسرح شعرها مثل طيور خرجت من قفص. ّ فكت أزرار الجلباب ،فاندلع اللون الورديّ البهيج لفستانها
صباح الشغل
شهي لندخل في أمضينا ساعة ونحن نخرج من حديث ّ حديث آخ َر شهي.
ارتديت مالبسي ،شربت القهوة وغادرت البيت .فتحت
الخفيف.
تذكرت ً ّ المبكرّ ، ُ نتفا من أحالمي الليليّة نهضت في الصباح ثمّ اتجهت إلى الحمّ ام .اغتسلت كعادتي ّ كل صباح،
باب السيّارة وجلست خلف عجلة القيادة ،وذهبت من رأس النبع إلى باب العمود .هناك انتظرت ّ الركاب ،وكنت بين الحين واآلخر أتبادل أحاديث عابرة مع زميلي رهوان
وزمالء آخرين ،وأتأمّ ل في الوقت نفسه المدينة التي تعجّ بالخلق ،وال ّ يعكر صفوها سوى الجنود ،في أيديهم
معادن صقيلة لسفك الدماء .وثمّ ة على األرصفة واألدراج رجال حذرون ،أو هكذا ُخيّل لي .وثمّ ة بنات وأوالد ذاهبون إلى مدارسهم ،ونساء م ّتجهات إلى داخل البلدة القديمة
للتسوّق أو لاللتحاق بوظائفهن .وال يحلو لي الصباح
إال حين أرى ليلى وهي قادمة بمشيتها الرشيقة فوق العددان 484 - 483ربيع اآلخر -جمادى األولى 1438هـ /يناير -فبراير 2017م
الرصيف ،ثمّ وهي تضع قدمها على أوّل الدرج النازل إلى باب العمود ،في طريقها إلى المدرسة التي ُتمضي فيها نهارها وهي ّ تعلم البنات واألوالد.
هذا الصباح رأيتها .نظرت نحوها بحذر ،وهي نظرت نحوي ّ الخاصة تحيّة بحذر ،وك ّنا كما لو ّأننا نتبادل بطريقتنا
الصباح .قلت لنفسي :حين أرى ليلى وتراني يكون صباحي وصباحها أبهى وأجمل. الدفتر
دخل الرجل حلمنا ،فلم ُنظهر أيّ استياء .وكانت المرأة مالزمة له مثل ّ ّ وانكب عليه يكتب ظله .فتح دفتره السميك تسللت مثل ّ ُ قط رشيق ح ّتى اقتربت منه ،ورحت فيه.
أسترق النظر إلى ما يكتبه .كانت المرأة تجلس إلى جواره وهي تقرأ في كتابّ . دققت النظر في صفحة الدفتر ،ولم
ّ ّ تخطه يده .كانت الكلمات تنداح من أتمكن من قراءة ما عيني ّ لعلني أستطيع القراءة قلمه مثل ماء جدول .فركت ّ
ّ تحدق ولكن من دون جدوى .اقتربت منه ليلى ،وراحت في صفحة الدفتر ،ولم تستطع القراءةُ .لمنا حلمنا ولم
نستطع تبديله بحلم آخر مطواع .بعد وقت ،نهض الرجل ونهضت المرأة ،وضع يدها في يده وسارا معً ا ،ربّما إلى
للسيّارة وجلست وقالت :خذني إلى البيت إنْ سمحت. ّ شغلت المحرّك وانطلقت السيّارة في الشارع الرئيس نحو
بيتها .في الطريق ،تمازحنا كما لو ّأننا في حلم ،مددت
ْ نظرت ليلى يدي إلى الخلف لتلمس يدها .تعانقت يدانا.
نحو الخارج ثم ّ ارتد بصرها نحوي وقالت :الخوف يتربّص بي في ّ كل مكان.
تأمّ لت وجهها عبر المرآة وقلت :أرجوك ،ال تذكري الخوف
اآلن .ثمّ أوقفت السيّارة قريبًا من البيت. من بين األسطر
البيت ،أو إلى مطعم ،أو إلى نزهة في شوارع المدينة.
ُ فرحت حين التقيتها ،ولم يكن هناك رقيب .اقتربت م ّني
مدينة ينام أهلها في النهار ويقضون ليلهم ساهرين.
قميص النوم ،وشعرها منعوف على وجهها وعلى صدرها
أقلعت عن النظر إليهما ،وقدت ليلى من يدها ودخلنا
ووقفنا أمام الشبّاك .بياض جسدها يتالمح من تحت
نهار ٌبهيج
من دون ارتباك .قالت بخيالء :أنا ال أخاف .قلت :وأنا ً أيضا ال أخاف .خيّم علينا صمت ،وفي األثناء ،رأيناه يفتح
ُ جلست خلف عجلة القيادة ،قريبًا من باب العمود ،في
انتظار راكب أو راكبة .أخرجت كتابًا كنت وضعته في جيب السيّارة لكي أقرأ فيه ّ كلما وجدت وق ًتا لذلك ،لم يكن زمالئي معجبين بقراءتي للكتب ،ولم آبه لهم .انهمكت
دفتره السميك ،يكتب فيه بضعة أسطر ،تندلع من بين األسطر صيحة ممطوطة لرجل ّ يتألم مثل حيوان جريح.
تمأل صيحاته فضاء حلمنا .ارتعش جسدي ،وبدا جسد ليلى كما لو ّأنه تعرّض النتهاك .حين انتهى من الكتابة،
عيني عن الكتاب ،وكانت حركة في القراءة ،ثمّ رفعت ّ الناس فوق األرصفة على ّ أشدها .أعدت الكتاب إلى مكانه،
تقرأ في كتاب.
فجأة ،ظهرت ليلى وهي تسير نحوي على الرصيف ،ولم ّ ّ وتغطي عيني للوهلة األولى .كانت ترتدي جلبابها، أصدق ّ
قلت :ربّما. وقلتّ : كأنني سمعت هذه الصيحات من قبل.
وتأمّ لت ما حولي بانتباه.
كعادتها شعر رأسها بمنديل .فتحت الباب الخلفي
أغلق دفتره وتأمّ ل وجه المرأة الجالسة إلى جواره وهي
قالت ليلىّ : كأنه يكتب عن مأساة.
ّ أتمكن من ّ ّ ُ تذكر أيّ شيء. أتذكر أين سمعتها ،ولم رحت
183
مقال
أمجد ناصر شاعر وكاتب أردني
الطريق إلى حلب ال يعرف الطيارون الذين يلقون الصواريخ والبراميل
المتفجِّ رة على قلب حلب وأطرافها أيَّ وقع السم هذه المدينة
في المتخيل والوجدان العربيين .مدن قليلة في عالمنا العربي تحتفظ برنين َّ الذهب الذي لحلب .أقدم مدينة مأهولة على وجه
األرض (األلفية السادسة ق .م) .أخت الشام وجارة الموصل. ثالث أكبر مدن السلطنة العثمانية بعد إسطنبول والقاهرة.
الشهباء .همزة الوصل الحضارية بين المتوسط وبالد الرافدين. نهاية طريق الحرير .مقصد الشعراء والمتصوفة .ال أعرف كيف
تلفظ حلب بالروسية .ربما مثل اإلنجليزية :ألبّو .لكن هل ألبّو مثل حلب؟ هذا الحرف الحلقي المهموس الذي يبدأ به اسم
184
المدينة .حلب ليست ألبّو؛ ألنها في هذا االسم تتجرد من آالف
بشريًّا من قومهم ،أو الموالين لهم ،في ركابهم .إنهم ال يكتفون
باالحتالل العسكري بل يدعمونه باالستيطان.
ليس هناك شاعر عربي تلقاه أمامك عندما تتحرك في
الجغرافيا العربية مثل المتنبي .فإن كنت في الكوفة تجده
يتح ّدر من هناك ،وعندما تذهب إلى حلب يكون قد سبقك
إلى مجلس سيف الدولة الحمداني ،وإذا ع َّرجت على لبنان ففلسطين وصولاً إلى الفسطاط (القاهرة) تسمع صوته يمدح
ويهجو ويذم الزمان ويعلل نفسه باألماني ،بل يرفعها فوق
العالمين الذين يسألونه« :ما أنت في ِّ كل بلدةٍ ،وما تبتغي؟ وما أَبتغي جَ َّل أن ي ُْسمَى».
األغاني والقصائد والقدود واآلهات التي تصعد ،في هذه الحال،
من القلب ال من الحلق .لم يتغير اسم حلب كثي ًرا في نطق
األقوام التي سكنت هذه الحاضرة وكتابتها ،فهو عند السومريين واألموريين حالبا ،وعند اآلشوريين حلبا ،وعند الحيثيين
حلباس ،وعند المصريين حرب (الراء في الهيروغليفية قد ُتقرأ
مدن قليلة تحتفظ برنين الذَّهب الذي لحلب .أقدم مدينة مأهولة على وجه األرض .أخت الشام وجارة الموصل
المً ا) ُ وعرفت عند السلوقيين بيروا ،والرومان بيرويا .ويبدو أن خلفاء اإلسكندر المقدوني أطلقوا عليها هذا االسم تيم ًنا بمسقط رأس والد قائدهم في بالد اليونان ،فيما قام الرومان بتغيير نطقه قليلاً .أما ألبّو ،النطق السائد اليوم ،في اإلنجليزية ،فقد
ُخلِع على المدينة أيام االنتداب الفرنسي.
ورغم تقلب الغزاة واألطوار الحضارية التي عرفتها المدينة
ً انقطاعا ظلت األقوام التي عبر تاريخها الطويل الذي لم يشهد سكنتها تناديها باسمها ،حتى عندما غيرته تمامً ا ،كما حدث
االسم الذي كان في ذهني عندما زرت حلب ،المرة األولى،
مدرسي تتلقاه في الثامنة عشرة من عمري هو المتنبي .فهو اسم ٌّ
على مقاعد الدرس .أما سيف الدولة فتراه في معالم المدينة، حديقتها الشهيرة ،وفي مواقف حافالت ،ومكتبات ،وبقاليات
ً شيوعا في المدينة الحاضرة .كأنَّ حلب ال إلخ .إنه أكثر األسماء
في العهود اليونانية والرومانية والبيزنطية ،عادت المدينة إلى
تزال في حوزة الحمدانيين ،فإلى جانب حلب الشهباء يقترن اسم حلب بسيف الدولة ،ومع هذا االسم يحضر ،حُ ْكمً ا،
لخلفاء اإلسكندر السلوقيين سببهم في تسمية المدينة باسم
الفارس ،والشاعر صاحب القصيدة الغزلية الشهيرة «أراك عصي
اسمها األول مرة أخرى ،مثلما هي الحال مع العرب الذين
يشاطرون أقوامها «السامية» السابقة جذورًا إثنية ولغوية.
من بالدهم .إنها العادة التي يدأب عليها المستوطنون ،في
أماكن بعيدة من أوطانهم األولى ،إلى تسمية هذه األماكن
بأسماء مدنهم السابقة ..هذا إضافة إلى عامل آخر يتعلق بالسلوقيين الذين تميزوا من الغزاة اآلخرين بجلبهم استيطاناً العددان 482 - 481صفر -ربيع األول 1438هـ /نوفمبر -ديسمبر 2016م
المتنبي وأبو فراس ،الشاعر الكبير ،جوال اآلفاق ،وغريمه
الدمع» ،وحاكم مدينة منبج في عهد ابن عمه سيف الدولة. ّ المتعلقة بها ،على مدار ألفياتها الست، األعالم في حلب أو يستحيل أن تحصى .ما بقي منها في أسفار التاريخ يحتاج إلى حصر وتعداد طويلين.
King Faisal Foundation
P.O.Box 352 Riyadh 11411 Kingdom of Saudi Arabia Tel: (+966 11) 4652255 Fax: (+966 11) 4656524
www.kff.com